الإمام محمد الجواد(عليه السلام) شبيه عيسى ويحيى وسليمان(عليهم السلام)

هوية الكتاب

الإمام محمد الجواد(عليه السلام)

شبيه عيسى ويحيى وسليمان(عليهم السلام)

بقلم علي الكوراني العاملي

الطبعة الأولى: 1433- 2012

ص: 1

اشارة

ص: 2

مقدمة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم السلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين .

هل يمكن أن يكون طفلٌ صغيرٌ نبياً ؟

نعم ، حدث ذلك عندما جاءت مريم تحمل طفلها عيسى(عليه السلام) فثارت في وجهها نساء بني إسرائيل ورجالهم ، واتهموها ووبخوها ، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً . قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتَانِىَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً . فأنطقه اللّه تعالى بلسان فصيح ، وقول بليغ ، فبُهِتَ المفترون ، وأسقط في أيديهم!

وبعد عيسى(عليه السلام) بمدة وجيزة ، أرسل اللّه طفلاً آخر نبياً هو يحيى بن زكريا(عليه السلام) !

وقبل عيسى ويحيى(عليهما السلام) جعل اللّه سليمان بن داود(عليه السلام) نبياً ورسولاً ، وحاكماً بعد أبيه ، وهو ابن عشر سنين ! فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا .

وهل يمكن أن يكون طفلٌ صغيرٌ إماماً ؟

نعم، وقد حدث ذلك وأحضره المأمون وتحدى به العباسيين ، وفقهاء الخلافة !

قال لهم: (ويحكم إن أهل هذا البيت خِلْوٌ (غير) من هذا الخلق ! أوَمَا علمتم أن رسول اللّه بايع الحسن والحسين وهما صبيان غير بالغين ولم يبايع طفلاً غيرهما ! أَوَمَا علمتم أن علياً آمن بالنبي وهو ابن عشر سنين، فقبل اللّه ورسوله منه إيمانه

ص: 3

ولم يقبل من طفل غيره ، ولا دعا النبي طفلاً غيره إلى الإيمان ! أوَمَا علمتم أنها ذرية بعضها من بعض ، يجري لآخرهم ما يجري لأولهم ) ! ( الإختصاص/98).

فكان الإمام الجواد أول إمام من أهل البيت(عليهم السلام) يتحمل الإمامة وعمره سبع سنين ، أما علي والحسنان(عليهم السلام) فكانوا أئمة وهم صغار ، لكن في ظل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وبعد الإمام الجواد تحمل الإمامة ابنه علي الهادي(عليه السلام) وكان عمره سبع سنين أيضاً ، فكان الإمام الثاني صغير السن .

أما الثالث فكان الإمام المهدي(عليه السلام) الذي توفي أبوه وعمره خمس سنين ، فكان أصغر الأئمة سناً ، ولكنه أكبرهم أثراً في الحياة ، كما أخبر جده المصطفى(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً !

لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ، وهذه قصة واحد منهم هو الإمام محمد الجواد(عليه السلام) .

وقد كتب عنه علماء أجلاء ماضون ومعاصرون منهم: سماحة الشيخ محمد حسن آل ياسين ، والسيد محمد كاظم القزويني ، والشيخ باقر القرشي ، والدكتور محمد حسين الصغير ، وقد قرأت الأخير منها ، وكل كتاب منها لونٌ وجهدٌ مشكور، ومحاولةٌ لتقديم صورة عن هذا الإمام الطفل المعجزة(عليه السلام) .

وهذا الكتاب لونٌ ومحاولة ، أقدمه الى سيدي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لأنه تعريف بأحد أنوار عترته ، والأئمة الإثني عشر الربانيين الذين بَشَّرَبهم أمته ، وبَشَّرَهَا أن إنقاذها من ضلالها سيكون على يد خاتمهم ، صلوات اللّه عليهم .

كتبه بقم المشرفة في منتصف جمادى الأولى1433

علي الكَوْراني العاملي عامله اللّه بلطفه

ص: 4

الفصل الأول: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا

(1) الأنبياء الأطفال ثلاثة ، والأئمة الأطفال ثلاثة(عليهم السلام) !

قضت حكمة اللّه عز وجل أن يعطي النبوة لثلاثة أنبياء وهم أطفال ، وهم سليمان(عليه السلام) وكان عمره عشر سنين، وعيسى(عليه السلام) أعطي النبوة وهو في المهد ، ويحيى(عليه السلام) أعطي النبوة وهو صبي !

كما أعطى اللّه الإمامة لثلاثة أوصياء وهم أطفال ، وأولهم الإمام الجواد(عليه السلام) ، وكان عمره سبع سنوات ، وابنه الإمام الهادي(عليه السلام) وكان عمره نحو سبع سنوات أيضاً . والإمام المهدي ، وكان عمره عند شهادة أبيه(عليهما السلام) خمس سنوات .

وقد ثبتت هذه المنقبة لعلي(عليه السلام) ، لأن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) دعاه الى الإسلام قبل بلوغه ، ولم يدع صبياً غيره ، بل لا تصح دعوة الصبيان ، فدل ذلك على أنه كبير .

كما ثبت ذلك للحسن والحسين(عليهما السلام) لأن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بايعهما على الإسلام وهما صبيان ، ولم يبايع صبياً غيرهما وغير أبيهما .

لكن كلامنا فيمن كان حجةً وحده ، وقد كان علي والحسنان في ظل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

روى في الكافي (1/382) بسند صحيح ، عن يزيد الكناسي قال:(سألت أبا جعفر (عليه السلام) أكان عيسى بن مريم(عليه السلام) حين تكلم في المهد حجة للّه على أهل زمانه؟ فقال:

ص: 5

كان يومئذ نبياً حجة للّه غير مرسل . أما تسمع لقوله حين قال: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتَانِىَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا. وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُوَأَوْصَانِى بِالصَّلاةِ وَالزَّكَوةِ مَا دُمْتُ حَيًّا .قلت: فكان يومئذ حجة للّه على زكريا في تلك الحال وهو في المهد؟ فقال: كان عيسى في تلك الحال آية للناس ورحمة من اللّه لمريم حين تكلم فعبَّر عنها ، وكان نبياً حجة على من سمع كلامه في تلك الحال ، ثم صمت فلم يتكلم حتى مضت له سنتان . وكان زكريا(عليه السلام) الحجة للّه عز وجل على الناس بعد صمت عيسى بسنتين . ثم مات زكريا فورثه ابنه يحيى الكتاب والحكمة وهو صبي صغير، أما تسمع لقوله عز وجل: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا . فلما بلغ عيسى(عليه السلام) سبع سنين تكلم بالنبوة والرسالة ، حين أوحى اللّه تعالى إليه ، فكان عيسى الحجة على يحيى وعلى الناس أجمعين .

وليس تبقى الأرض يا أبا خالد يوماً واحداً بغير حجة للّه على الناس ، منذ يوم خلق اللّه آدم (عليه السلام) وأسكنه الأرض .

فقلت: جعلت فداك أكان علي(عليه السلام) حجة من اللّه ورسوله على هذه الأمة في حياة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟ فقال: نعم يوم أقامه للناس ونصبه علماً ودعاهم إلى ولايته وأمرهم بطاعته .قلت: وكانت طاعة علي(عليه السلام) واجبة على الناس في حياة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبعد وفاته ؟ فقال: نعم ولكنه صمت فلم يتكلم مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكانت الطاعة لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على أمته وعلى علي(عليه السلام) في حياة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكانت الطاعة من اللّه ومن رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على الناس كلهم لعلي(عليه السلام) بعد وفاة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) . وكان علي(عليه السلام) حكيماً عالماً ).

ص: 6

وفي الصراط المستقيم (1/330) في قوله تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا: (وقد كان حينئذ ابن أحد عشر سنة).

وفي المختصر لأبي الفداء (1/25): (ولما صار لداود سبعون سنة توفي.. وأوصى داود قبل موته بالملك إلى سليمان ولده ، وأوصاه بعمارة بيت المقدس ، فلما مات داود ملك سليمان ، وعمره اثنتا عشرة سنة ).

وفي قصص الأنبياء للراوندي/269، بسند صحيح ، أن الإمام الصادق(عليه السلام) سئل: (هل كان عيسى يصيبه ما يصيب ولد آدم ؟ قال: نعم . ولقد كان يصيبه وجع الكبار في صغره ، ويصيبه وجع الصغار في كبره ويصيبه المرض ، وكان إذا مسَّه وجع الخاصرة في صغره وهو من علل الكبار ، قال لأمه: إبغي لي عسلاً وشونيزاً وزيتاً فَتَعَجَّنِي به ثم ائتيني به ، فأتته به فكرهه ، فتقول: لمَ تكرهه وقد طلبته ! فقال: هاتيه ، نعتُّهُ لك بعلم النبوة ، وكرهته لجزع الصبا ! ويشم الدواء ، ثم يشربه بعد ذلك .

وعن الصادق(عليه السلام) : إن عيسى بن مريم(عليه السلام) كان يبكى بكاءً شديداً ، فلما أعيت مريم(عليها السلام) كثرة بكائه قال لها: خذي من لِحَاء هذه الشجرة فاجعليه وُجُوراً ، ثم اسقينيه ، فإذا سُقيّ بكى بكاءً شديداً ، فتقول مريم(عليها السلام) : أنت أمرتني! فيقول: يا أُمَّاهْ علم النبوة وضعف الصبا ) !

وفي تفسير العياشي (1/174): (مكث عيسى(عليه السلام) حتى بلغ سبع سنين أو ثمان سنين ، فجعل يخبرهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم ، فأقام بين أظهرهم

ص: 7

يحيى الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ، ويعلمهم التوراة ، وأنزل اللّه عليه الإنجيل لما أراد اللّه عليهم حجة ) .

وفي مكارم الأخلاق/448، عن ابن مسعود ، قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : (وإن شئت نبأتك بأمر يحيى(عليه السلام) ، كان لباسه الليف ، وكان يأكل ورق الشجر .

وإن شئت نبأتك بأمر عيسى بن مريم(عليه السلام) فهو العجب ، كان يقول: إدامي الجوع ، وشعاري الخوف ، ولباسي الصوف ، ودابتي رجلاي ، وسراجي بالليل القمر ، واصطلائي في الشتاء مشارق الشمس ، وفاكهتي وريحانتي بُقُول الأرض مما تأكل الوحوش والأنعام . أبيتُ وليس لي شئ ، وأصبح وليس لي شئ ، وليس على وجه الأرض أحد أغنى مني ) !

وفي تفسير الإمام العسكري/661: (قال له الصبيان (ليحيى(عليه السلام) ): هلمَّ نلعب . فقال: أوه ، واللّه ما للعب خلقنا ، وإنما خلقنا للجد لأمر عظيم ).

أقول: يدل ذلك على أن طفولة هؤلاء الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) تختلف عن غيرهم ، ويكفي أنهم يعيشون مع الروح القدس الموكل بهم .

وفي صحيح الكافي (1/311): (عن صفوان الجمال قال: سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن صاحب هذا الأمر؟ فقال: إن صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب . وأقبل أبو الحسن موسى، وهو صغير ومعه عناق (سخلة) مكية وهو يقول لها: أسجدي لربك ! فأخذه أبو عبد اللّه(عليه السلام) وضمه إليه وقال: بأبي وأمي من لا يلهو ولا يلعب ) .

ص: 8

وقد تصور بعض الرواة الثقات أنه لا مانع أن يلعب الإمام الطفل كما يلعب الصبيان ولذلك أخذ هدية للإمام الجواد(عليه السلام) فيها لعب فضية وغير فضية ! فكرهها الإمام(عليه السلام) وأجابه بما أجاب به يحيى الصبيان الذين دعوه الى اللعب . وكان ذلك عند وفاة الإمام الرضا ، وعمر الإمام الجواد(عليه السلام) يومها سبع سنوات .

روى الطبري في دلائل الإمامة/402: (كان ممن خرج مع الجماعة علي بن حسان الواسطي المعروف بالعمش، قال: حملت معي إليه(عليه السلام) من الآلة التي للصبيان بعضها من فضة ، وقلت: أُتحف مولاي أبا جعفر بها . فلما تفرق الناس عنه عن جواب لجميعهم ، قام فمضى إلى صريا واتبعته ، فلقيت موفقاً فقلت: إستأذن لي على أبي جعفر ، فدخلت فسلمت فرد عليَّ السلام وفي وجهه الكراهة، ولم يأمرني بالجلوس ، فدنوت منه وفرَّغت ما كان في كمي بين يديه ، فنظر إليَّ نظر مغضب ثم رمى يميناً وشمالاً ، ثم قال: ما لهذا خلقني اللّه ، ما أنا واللعب ! فاستعفيته فعفا عني ، فأخذتها فخرجت ) .

أما الإمام الهادي(عليه السلام) فكان عمره عندما توفي أبوه الإمام الجواد(عليه السلام) سبع سنين أيضاً ، وظهرت منه المعجزات كما ظهرت من أبيه(عليهما السلام) ، وسيأتي ذكر بعضها في هذا الكتاب .

أما طفولة الإمام المهدي فظهرت فيها العجائب في حياة أبيه وبعده (عليهما السلام) . ونحيل القارئ في ذلك الى معجم أحاديثه(عليه السلام) ، حتى لا نخرج عن غرض الكتاب .

ص: 9

(2) صغر السن لا يضر مع وجود المعجزة

في الكافي (1/383): (عن أبي جعفر الثاني(عليه السلام) ، قلت له: إنهم يقولون في حداثة سنك ، فقال: إن اللّه تعالى أوحى إلى داود أن يستخلف سليمان(عليه السلام) وهو صبي يرعى الغنم ، فأنكر ذلك عباد بني إسرائيل وعلماؤهم ، فأوحى اللّه إلى داود(عليه السلام) أن خذ عصا المتكلمين وعصا سليمان واجعلها في بيت واختم عليها بخواتيم القوم ، فإذا كان من الغد ، فمن كانت عصاه قد أورقت وأثمرت فهو الخليفة ، فأخبرهم داود ، فقالوا: قد رضينا وسلمنا).

وفي الكافي (1/384): ( قال علي بن حسان لأبي جعفر(عليه السلام) : يا سيدي إن الناس ينكرون عليك حداثة سنك ، فقال: وما ينكرون من ذلك قول اللّه عز وجل، لقد قال اللّه عز وجل لنبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى ، فواللّه ما تبعه إلا علي(عليه السلام) وله تسع سنين ، وأنا ابن تسع سنين).

الكافي (1/320): ( عن محمد بن عيسى قال: دخلت على أبي جعفر الثاني(عليه السلام) فناظرني في أشياء ، ثم قال لي: يا أبا علي ، ارتفع الشك ما لأبي غيري ) .

وفي رواية الخرائج (1/385): (عن علي بن أسباط قال: خرج علي أبو جعفر(عليه السلام) فجعلت أنظر إليه وإلى رأسه ورجليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر، فلما جلس قال: يا علي إن اللّه احتج في الإمامة بمثل ما احتج في النبوة ، قال اللّه تعالى: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا. وقال: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً . فقد يجوز أن يؤتى الحكم صبياً ، ويجوز أن يعطى وهو ابن أربعين سنة ).

ص: 10

(3)الإمامة في ذرية الحسين(عليه السلام)

قام مذهبنا على اتباع النص النبوي والتقيد به حرفياً ، فهذا معنى طاعة اللّه تعالى وطاعة رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، بل نعتقد أن توحيد المسلم لا يكتمل عملياً إلا بطاعة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، مهما كانت النتائج المترتبة على ذلك .

أما مذاهب الخلافة القرشية فافترضت عدم وجود نص على خلافة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، واتبعت الإستنساب ، والمنطق القبلي السائد يومها .

على أنهم اعترفوا بنص النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على علي(عليه السلام) ، ومعه أحد عشر إماماً من عترته(عليهم السلام) لكنهم تأولوا ذلك بأنه لايقصد به الخلافة !

وتمسكنا نحن بالإثني عشرالذين نص عليهم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : علي والحسن والحسين وتسعة من ذرية الحسين خاتمهم الإمام المهدي(عليهم السلام) .(كفاية الأثر/176).

قال الإمام الصادق(عليه السلام) (الكافي:1/286): (لا تعود الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين أبداً ، إنما جرت من علي بن الحسين كما قال اللّه تبارك وتعالى: وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ . فلا تكون بعد علي بن الحسين إلا في الأعقاب ، وأعقاب الأعقاب ).

وعلى ذلك جرى أمر الإمامة ، فنص الحسين على ابنه الإمام زين العابدين ، ونص على ابنه الإمام محمد الباقر، ونص على ابنه الإمام جعفر الصادق ، ونص على ابنه موسى الكاظم ، ونص على ابنه الإمام علي بن موسى الرضا(عليهم السلام) .. الخ.

ص: 11

(4) الإمامة عهد معهود من اللّه تعالى

في الكافي(1/278):(عن عمرو بن الأشعث قال: سمعت أبا عبد اللّه(عليه السلام) يقول: أترون الموصي منا يوصي إلى من يريد؟! لا واللّه ، ولكن عهد من اللّه ورسوله لرجل فرجل ، حتى ينتهي الأمر إلى صاحبه..

وروى عن معاوية بن عمار ، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ. فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْماً . (الأنبياء:78-79). قال: إن الإمامة عهد من اللّه عز وجل معهود لرجال مُسَمَّيْنَ ، ليس للامام أن يزويها عن الذي يكون من بعده . إن اللّه تبارك وتعالى أوحى إلى داود(عليه السلام) أن اتخذ وصياً من أهلك ، فإنه قد سبق في علمي أن لا أبعث نبياً إلا وله وصي من أهله. وكان لداود أولاد عدة وفيهم غلام كانت أمه عند داود وكان لها محباً ، فدخل داود عليها حين أتاه الوحي فقال لها: إن اللّه عز وجل أوحى إليَّ يأمرني أن أتخذ وصياً من أهلي ، فقالت له امرأته: فليكن ابني؟ قال: ذلك أريد . وكان السابق في علم اللّه المحتوم عنده أنه سليمان ، فأوحى اللّه تبارك وتعالى إلى داود: أن لا تعجل دون أن يأتيك أمري ، فلم يلبث داود أن ورد عليه رجلان يختصمان في الغَنَم والكَرْم ، فأوحى اللّه عز وجل إلى داود أن أجمع ولدك ، فمن قضى بهذه القضية فأصاب فهو وصيك من بعدك ، فجمع داود ولده ، فلما أن قص الخصمان قال سليمان: يا صاحب الكرم متى دخلت غنم هذا الرجل كرمك؟ قال: دخلته ليلاً. قال:

ص: 12

قضيت عليك يا صاحب الغنم بأولاد غنمك وأصوافها في عامك هذا . ثم قال له داود: فكيف لم تقض برقاب الغنم وقد قَوَّمَ ذلك علماء بني إسرائيل ، وكان ثمن الكرم قيمة الغنم؟ فقال سليمان: إن الكرم لم يجتث من أصله ، وإنما أكل حمله وهو عائد في قابل ، فأوحى اللّه عز وجل إلى داود: إن القضاء في هذه القضية ما قضى سليمان به . يا داود أردت أمراً ، وأردنا أمراً غيره .

فدخل داود على امرأته فقال: أردنا أمراً وأراد اللّه عز وجل أمراً غيره ، ولم يكن إلا ما أراد اللّه عز وجل ، فقد رضينا بأمر اللّه عز وجل وسلمنا.

وكذلك الأوصياء ليس لهم أن يتعدوا بهذا الأمرفيجاوزون صاحبه إلى غيره).

وفي الكافي (1/279): (عن معاذ بن كثير ، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: إن الوصية نزلت من السماء على محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كتاباً. لم ينزل على محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كتاب مختوم إلا الوصية ، فقال جبرئيل: يا محمد هذه وصيتك في أمتك عند أهل بيتك ، فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أي أهل بيتي يا جبرئيل؟ قال: نجيب اللّه منهم ، وذريته، ليرثك علم النبوة كما ورَّثه إبراهيم. وميراثه لعلي وذريتك من صلبه ، قال: وكان عليها خواتيم، قال: ففتح علي(عليه السلام) الخاتم الأول ومضى لما فيها. ثم فتح الحسن(عليه السلام) الخاتم الثاني ومضى لما أمر به فيها . فلما توفي الحسن ومضى فتح الحسين(عليه السلام) الخاتم الثالث فوجد فيها أن قاتل فاقتل وتُقتل ، واخرج بأقوام للشهادة ، لا شهادة لهم إلا معك ، قال ففعل .

ص: 13

فلما مضى دفعها إلى علي بن الحسين(عليه السلام) قبل ذلك ، ففتح الخاتم الرابع فوجد فيها أن أصمت وأطرق لما حجب العلم ، فلما توفي ومضى دفعها إلى محمد بن علي (عليه السلام) ، ففتح الخاتم الخامس فوجد فيها أن فسر كتاب اللّه تعالى ، وصدق أباك ، وورث ابنك ، واصطنع الأمة ، وقم بحق اللّه عز وجل ، وقل الحق في الخوف والأمن ، ولا تخش إلا اللّه ، ففعل . ثم دفعها إلى الذي يليه . قال قلت له: جعلت فداك ، فأنت هو؟ قال: فقال: ما بي إلا أن تذهب يامعاذ فتروي عليَّ ! قال فقلت: أسأل اللّه الذي رزقك من آبائك هذه المنزلة أن يرزقك من عقبك مثلها قبل الممات . قال: قد فعل اللّه ذلك يا معاذ ، قال: فقلت: فمن هو جعلت فداك؟ قال: هذا الراقد، وأشار بيده إلى العبد الصالح ).أي الإمام الكاظم(عليه السلام) .

وفي الكافي(1/283): ( عن حريز قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام) : جعلت فداك ما أقل بقاء كم أهل البيت ، وأقرب آجالكم بعضها من بعض ، مع حاجة الناس إليكم؟ فقال: إن لكل واحد منا صحيفة فيها ما يحتاج إليه أن يعمل به في مدته ، فإذا انقضى ما فيها مما أمر به عرف أن أجله قد حضر ، فأتاه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ينعى إليه نفسه ، وأخبره بما له عند اللّه ).

وكان الأئمة الذين نص عليهم آباؤهم(عليهم السلام) شباناً ، أو كهولاً ، معروفين بالعلم والتقوى من زمن آبائهم . حتى كانت إمامة الرضا(عليه السلام) ، فكان الناس يسألونه لمن الأمر بعده فيقول: الى ولدي ، ولم يكن عنده ولد ! فكان ذلك آيةً للشيعة .

وبعد الخمسين من عمره رزقه اللّه ولداً ، فكان يرشد الشيعة اليه ويقول إن صغر السن لا يمنع من الإمامة ، كما لم يمنع من نبوة عيسى ويحيى وسليمان(عليهم السلام) .

ص: 14

(5)الإمام الصادق هيأ الشيعة لإمامة الجواد(عليهما السلام)

كان الإمام الصادق(عليه السلام) يهيئ الشيعة لقبول الإمام ولو كان صغير السن ، فقد قال أحد أصحابه الخاصين ، أبو بصير: ( دخلت إليه ومعي غلام يقودني ، خماسي لم يبلغ ، فقال لي: كيف أنتم إذا احْتُجَّ عليكم بمثل سِنِّه ). (الكافي:1/383).

وفي بصائر الدرجات/485، والغيبة للنعماني/339: (عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام) : يكون أن يفضى هذا الأمر إلى من لم يبلغ؟ قال: نعم سيكون ذلك. قلت: ما يصنع؟ قال: يُورَثُ كتباً ، ولا يكله اللّه إلى نفسه ) .

وفي رواية إثبات الوصية للمسعودي/193: (قال: نعم وأقل من سبع سنين ، كما كان عيسى(عليه السلام) ) .

(6)استبشر به والده(عليهما السلام) ، وبشر به الشيعة

سأل محمد بن إسماعيل بن بزيع الإمام الرضا(عليه السلام) :( أتكون الإمامة في عمٍّ أو خال؟ فقال: لا، فقلت: ففي أخٍ ؟ قال: لا. قلت: ففي مَن؟قال: في وُلدي ، وهو يومئذ لا وَلَدَ له) ! (الكافي:1/286).

وفي الكافي(1/320): (قال: كتب ابن قياما إلى أبي الحسن(عليه السلام) كتاباً يقول فيه:كيف تكون إماماً وليس لك ولد؟ فأجابه أبو الحسن الرضا(عليه السلام) شبه المغضب: وما علمك أنه لا يكون لي ولد ، واللّه لا تمضي الأيام والليالي حتى يرزقني اللّه ولداً

ص: 15

ذكراً يُفَرِّقُ به بين الحق والباطل..وفي رواية: واللّه ليجعلن اللّه مني ما يُثَبِّتُ به الحق وأهله ، ويمحق به الباطل وأهله ، فولد له بعد سنة أبو جعفر(عليه السلام) ).

وروى في عيون المعجزات/108: (عن كلثم بن عمران قال: قلت للرضا(عليه السلام) : أدع اللّه أن يرزقك ولداً . فقال: إنما أرزق ولداً واحداً وهو يرثني .

فلما ولد أبو جعفر(عليه السلام) قال الرضا(عليه السلام) لأصحابه: قد ولد لي شبيه موسى بن عمران(عليه السلام) ، فالق البحار ، وشبيه عيسى بن مريم(عليه السلام) ، قُدِّسَتْ أمٌّ ولدته .

فلما ولدته طاهراً مطهراً قال الرضا(عليه السلام) : يُقتل غصباً ، فيبكي له وعليه أهل السماء ، ويغضب اللّه تعالى على عدوه وظالمه ، فلا يلبث إلا يسيراًحتى يحل اللّه به إلى عذابه الأليم وعقابه الشديد . وكان طول ليله يناغيه في مهده ).

وفي إثبات الوصية/217: (كان طول ليلته يناغيه في مهده ، فلما طال ذلك عدة ليال . قلت له: جعلت فداك، قد ولد للناس أولاد قبل هذا ، فكل هذا تُعَوِّذُهُ؟ فقال: ويحك ! ليس هذا عوذة ، إنما أغره بالعلم غراً). أي: أزقه زقاً،كما يزق الطائر.

وروى في مناقب آل أبي طالب (3/499): (عن حكيمة بنت أبي الحسن موسى بن جعفر(عليه السلام) قالت:

لما حضرت ولادة الخيزران أم أبي جعفر ، دعاني الرضا(عليه السلام) فقال لي: يا حكيمة أحضري ولادتها وادخلي وإياها والقابلة بيتاً ، ووضع لنا مصباحاً وأغلق الباب علينا ، فلما أخذها الطلق طفئ المصباح، وبين يديها طست فاغتممت بطفي المصباح ، فبينا نحن كذلك إذ بدر أبو جعفر(عليه السلام) في الطست وإذا عليه شئ رقيق كهيئة الثوب يسطع نوره حتى أضاء البيت فأبصرناه فأخذته

ص: 16

فوضعته في حجري ، ونزعت عنه ذلك الغشاء ، فجاء الرضا ففتح الباب وقد فرغنا من أمره ، فأخذه فوضعه في المهد ، وقال لي: يا حكيمة إلزمي مهده . قالت: فلما كان في اليوم الثالث رفع بصره إلى السماء ثم نظر يمينه ويساره ثم قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً رسول اللّه ! فقمت ذعرة فزعة فأتيت أبا الحسن(عليه السلام) فقلت له: لقد سمعت من هذا الصبي عجباً ! فقال: وما ذاك ؟ فأخبرته الخبر ، فقال: يا حكيمة ما ترون من عجائبه أكثر ) .

وفي كشف الغمة (3/95): (وعن حنان بن سدير قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) أيكون إمام ليس له عقب؟ فقال أبو الحسن(عليه السلام) : أما إنه لا يولد لي إلا واحد ولكن اللّه منشئ منه ذرية كثيرة !

قال أبو خداش: سمعت هذا الحديث منذ ثلاثين سنة).

وفي الكافي (1/492): (ولد(عليه السلام) في شهر رمضان من سنة خمس وتسعين ومائة ، وقبض سنة عشرين ومائتين ، في آخر ذي القعدة ، وهو ابن خمس وعشرين سنة وشهرين وثمانية عشر يوماً ودفن ببغداد في مقابر قريش عند قبر جده موسى(عليهما السلام) .

وقد كان المعتصم أشخصه إلى بغداد في أول هذه السنة التي توفي فيها .

وأمه أم ولد يقال لها سبيكة ، نوبية ، وقيل أيضاً إن اسمها كان خيزران . وروي أنها كانت من أهل بيت مارية أم إبراهيم ابن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ) .

وفي عيون المعجزات/108: (عن صفوان بن يحيى قال: قلت للرضا(عليه السلام) قد كنا نسألك عن الإمام بعدك قبل أن يهب اللّه لك أبا جعفر ، وكنت تقول: يهب اللّه

ص: 17

لي غلاماً، وقد وهب اللّه لك وأقر عيوننا. ولا أرانا اللّه يومك ، فإن كانت الحادثة فإلى من نفزع ؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر وهو قائم بين يديه. فقلت: جعلت فداك ، وهو ابن ثلاث سنين؟! فقال: وما يضره ذلك ، قد قام عيسى(عليه السلام) بالحجة وهو ابن سنتين ).

وفي الكافي (1/322): (عن الخيراني قال: كنت واقفاً بين يدي أبي الحسن(عليه السلام) بخراسان ، فقال له قائل: يا سيدي إن كان كَوْنٌ فإلى من؟ قال: إلى أبي جعفر ابني . فكأن القائل استصغر سن أبي جعفر ، فقال أبو الحسن (عليه السلام) : إن اللّه تبارك وتعالى بعث عيسى بن مريم رسولاً نبياً ، صاحب شريعة مبتدأة ، في أصغر من السن الذي فيه أبو جعفر ).

وفي الكافي:1/320: (هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيرته مكاني ، وقال: إنا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا ، القُذَّةَ بالقذة .

عن يحيى بن حبيب الزيات قال: أخبرني من كان عند أبي الحسن الرضا(عليه السلام) جالساً ، فلما نهضوا قال لهم: إِلْقَوْا أبا جعفر فسلموا عليه وأحدثوا به عهداً . فلما نهض القوم التفت إلي فقال: يرحم اللّه المفضل ، إنه كان ليقنع بدون هذا ).

وفي الكافي (1/321): (عن معمر بن خلاد قال: سمعت إسماعيل بن إبراهيم يقول للرضا(عليه السلام) : إن ابني في لسانه ثقل ، فأنا أبعث به إليك غداً تمسح على رأسه وتدعو له ، فإنه مولاك . فقال: هو مولى أبي جعفر ، فابعث به غداً إليه).

ص: 18

وفي كمال الدين/372: (عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: سمعت دعبل بن علي الخزاعي يقول:أنشدت مولاي الرضا علي بن موسى قصيدتي التي أولها:

مدارسُ آياتٍ خَلَتْ من تلاوةٍ *** ومنزلُ وحيٍ مقفر العرصاتِ

فلما انتهيت إلى قولي :

خروجُ إمامٍ لا محالةَ خارجٌ *** يقوم على اسم اللّه والبركات

يُمَيِّزُ فينا كل حقٍّ وباطل *** ويجزي على النعماء والنقِمات

بكى الرضا(عليه السلام) بكاء شديداً ، ثم رفع رأسه إليَّ فقال لي: يا خزاعي نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين ، فهل تدري من هذا الإمام ومتى يقوم؟ فقلت: لا يا مولاي إلا أني سمعت بخروج إمام منكم يطهر الأرض من الفساد ويملأها عدلاً كما ملئت جوراً .

فقال: يا دعبل الإمام بعدي محمد ابني ، وبعد محمد ابنه علي ، وبعد علي ابنه الحسن ، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته ، المطاع في ظهوره .

لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول اللّه عز وجل ذلك اليوم حتى يخرج فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً .

وأما متى ، فإخبار عن الوقت ، فقد حدثني أبي ، عن أبيه عن آبائه(عليهم السلام) أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قيل له: يا رسول اللّه متى يخرج القائم من ذريتك ؟ فقال: مثله مثل الساعة التي: لايُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً).

ص: 19

وفي مناقب آل أبي طالب(3/494): (بنان بن نافع قال: سألت علي بن موسى الرضا(عليه السلام) فقلت: جعلت فداك من صاحب الأمر بعدك ؟ فقال لي: يا ابن نافع يدخل عليك من هذا الباب من ورث ما ورثته ممن قبلي، وهو حجة اللّه تعالى من بعدي ، فبينا أنا كذلك إذ دخل علينا محمد بن علي(عليه السلام) فلما بصر بي قال لي: يا ابن نافع ألا أحدثك بحديث: إنا معاشر الأئمة إذا حملته أمه يسمع الصوت من بطن أمه أربعين يوماً ، فإذا أتى له في بطن أمه أربعة أشهر ، رفع اللّه تعالى له أعلام الأرض فقرب له ما بعد عنه ، حتى لا يعزب عنه حلول قطرة غيث نافعة ولا ضارة . وإن قولك لأبي الحسن من حجة الدهر والزمان من بعده؟ فالذي حدثك أبو الحسن ما سألت عنه هو الحجة عليك ، فقلت: أنا أول العابدين .

ثم دخل علينا أبو الحسن فقال لي: يا ابن نافع سَلِّمْ وأذعن له بالطاعة ، فروحه وروحي روح رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ).

وفي عيون أخبار الرضا(عليه السلام) (2/279): (يقول له الرضا(عليه السلام) : الصادق ، والصابر والفاضل ، وقرة أعين المؤمنين ، وغيظ الملحدين ).

(7) والدته خيزران من عائلة مارية القبطيةأخبر الإمام الكاظم(عليه السلام) بمولد حفيده الإمام الجواد ، وأن أمه جارية من أهل بيت مارية القبطية ، يأتون بها أمةً من مصر ، فيشتريها الإمام الرضا(عليه السلام) .

فقد روى في الكافي (1/313) بسنده عن يزيد بن سليط الزيدي قال: (لقيت أبا إبراهيم(عليه السلام) ونحن نريد العمرة في بعض الطريق، فقلت: جعلت فداك هل تثبت

ص: 20

هذا الموضع الذي نحن فيه؟ قال: نعم فهل تثبته أنت ؟ قلت: نعم إني أنا وأبي لقيناك هاهنا وأنت مع أبي عبد اللّه(عليه السلام) ومعه إخوتك ، فقال له أبي: بأبي أنت وأمي أنتم كلكم أئمة مطهرون ، والموت لا يعرى منه أحد ، فأحدث إلي شيئاً أحدث به من يخلفني من بعدي فلا يضل ، قال: نعم يا أبا عبد اللّه هؤلاء ولدي وهذا سيدهم ، وأشار إليك ، وقد علم الحكم والفهم والسخاء ، والمعرفة بما يحتاج إليه الناس ، وما اختلفوا فيه من أمر دينهم ودنياهم وفيه حسن الخلق وحسن الجواب ، وهو باب من أبواب اللّه عز وجل ، وفيه أخرى خير من هذا كله . فقال له أبي: وما هي بأبي أنت وأمي؟ قال(عليه السلام) : يخرج اللّه عز وجل منه غوث هذه الأمة وغياثها وعلمها ونورها وفضلها وحكمتها ، خير مولد وخير ناشئ ، يحقن اللّه عز وجل به الدماء ، ويصلح به ذات البين ، ويلم به الشعث ، ويشعب به الصدع ، ويكسو به العاري ، ويشبع به الجائع ، ويؤمن به الخائف ، وينزل اللّه به القطر ، ويرحم به العباد ، خير كهل وخير ناشئ قوله حكم وصمته علم ، يبين للناس ما يختلفون فيه ، ويسود عشيرته من قبل أوان حلمه ، فقال له أبي: بأبي أنت وأمي وهل ولد ؟ قال: نعم ومرت به سنون ، قال يزيد: فجاءنا من لم نستطع معه كلاماً .

قال يزيد: فقلت لأبي إبراهيم(عليه السلام) : فأخبرني أنت بمثل ما أخبرني به أبوك(عليه السلام) ، فقال لي: نعم إن أبي كان في زمان ليس هذا زمانه ، فقلت له: فمن يرضى منك بهذا فعليه لعنة اللّه ، قال: فضحك أبو إبراهيم ضحكاً شديداً ! ثم قال...إني

ص: 21

أؤخذ في هذه السنة والأمر هو إلى ابني علي سميِّ عليٍّ وعلي: فأما علي الأول فعلي بن أبي طالب ، وأما الآخر فعلي بن الحسين ، أعطي فهم الأول وحلمه ونصره ووده ودينه ومحنته ، ومحنة الآخر وصبره على ما يكره ، وليس له أن يتكلم إلا بعد موت هارون بأربع سنين .

ثم قال لي: يا يزيد ، وإذا مررت بهذا الموضع ولقيته وستلقاه ، فبشره أنه سيولد له غلام ، أمين ، مأمون ، مبارك وسيعلمك أنك قد لقيتني ، فأخبره عند ذلك أن الجارية التي يكون منها هذا الغلام جارية من أهلبيت مارية ، جارية رسول اللّه أم إبراهيم ، فإن قدرت أن تبلغها مني السلام فافعل .

قال يزيد: فلقيت بعد مضي أبي إبراهيم علياً(عليهما السلام) فبدأني ، فقال لي: يا يزيد ما تقول في العمرة؟فقلت: بأبي أنت وأمي ذلك إليك وما عندي نفقة ، فقال: سبحان اللّه ما كنا نكلفك ولا نكفيك ، فخرجنا حتى انتهينا إلى ذلك الموضع فابتدأني فقال: يا يزيد إن هذا الموضع كثيراً ما لقيت فيه جيرتك وعمومتك ، قلت: نعم ثم قصصت عليه الخبر ، فقال لي: أما الجارية فلم تجئ بعد ، فإذا جاءت بلغتها منه السلام ، فانطلقنا إلى مكة فاشتراها في تلك السنة ، فلم تلبث إلاقليلاً حتى حملت فولدت ذلك الغلام . قال يزيد: وكان إخوة علي يرجون أن يرثوه فعادوني إخوته من غير ذنب ، فقال لهم إسحاق بن جعفر: واللّه لقد رأيته وإنه ليقعد من أبي إبراهيم بالمجلس الذي لا أجلس فيه أنا ) .

ص: 22

وفي مناقب آل أبي طالب(3/487): ( وأمه أم ولد تدعى درة ، وكانت مريسية ، ثم سماها الرضا(عليه السلام) خيزران ، وكانت من أهل بيت مارية القبطية ، ويقال إنها سبيكة وكانت نوبية . ويقال ريحانة وتكنى أم الحسن ).

ومَرِيسِيَّة بفتح الميم: نسبة الى مَريس بصعيد مصر ، وهي قرية مارية رضي اللّه عنها .

وفي التهذيب للشيخ الطوسي(6/90): (ولد بالمدينة في شهر رمضان سنة خمس وتسعين ومائة من الهجرة ، وقبض ببغداد آخر ذي القعدة سنة عشرين ومائتين ، وله يومئذ خمس وعشرون سنة ، وأمه أم ولد يقال لها الخيزران وكانت من أهل بيت مارية القبطية رحمة اللّه عليها ، ودفن ببغداد في مقابر قريش في ظهر (قبر) جده موسى). ونحوه في المقنعة للمفيد/483، وفي الوافي:2/365.

(8) الإمام الجواد(عليه السلام) أسمر حلوالسمرة

وصف بعضهم الإمام الجواد(عليه السلام) بأنه أسمر ، ووصفه حاسدوه بأنه حائل اللون ، أو أسود ، لأن أمه سوداء . لكنهم قالوا إنها من أهل بيت مارية القبطية رضي اللّه عنها ، وقد ورد في وصف مارية: ( كانت بيضاء جعدة جميلة ). (ابن سعد:1/134).

وهذا يوجب الشك في وصفهم الإمام(عليه السلام) بالأسود ، ويؤيده قول ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة/1038:(وأما أُمه أُم ولد يقال لها سبيكة النوبية وقيل: المريسية. وأما كنيته فأبو جعفر ، كنية جده محمد الباقر . وأما ألقابه: فالجواد ، والقانع ، والمرتضى، وأشهرها الجواد . صفته: أبيض معتدل . شاعره: حماد . بابه: عمرو بن الفرات . نقش خاتمه: نعم القادر اللّه . معاصره: المأمون والمعتصم ).

ص: 23

ويؤيد ذلك أن النساء أكبرن جماله(عليه السلام) عندما أدخلته عليهن زبيدة ، فتلى قوله تعالى: فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ . وقالت زوجته لزبيدة ، كما في مشارق الأنوار/152: (واللّه يا عمة إنه لما طلع عليَّ جماله حدث لي ما يحدث للنساء.. والآن لما دخل رأيت في وجهه نوراً أخذ بمجامع قلبي وبصري ). وسيأتي ذلك .

فقد كان الجواد سلام اللّه عليه أسمر جميلاً ، وسمرته من خؤولته من بلاد النوبة في السودان ، فقد وصفت أمه بأنها نوبية ، فهي سمراء أو سوداء .

وقال أحمد بن صالح ، كما في دلائل الإمامة/404: (دخلت عليه وهو جالس في وسط إيوان له يكون عشرة أذرع ، قال: فوقفت بباب الإيوان ، وقلت في نفسي: يا سبحان اللّه ، ما أشد سمرة مولاي ، وأضوأ جسده ) !

(9) عُرف بأبي جعفر الثاني وابن الرضا

عرف الإمام الجواد(عليه السلام) بأبي جعفر الثاني، تمييزاً عن جده الإمام الباقر(عليه السلام) الذي هو أبوجعفر . كما عرف الإمام أمير المؤمنين بأبي الحسن الأول ، والإمام الرضا بأبي الحسن الثاني ، والإمام الهادي بأبي الحسن الثالث(عليهم السلام) .

وفي مناقب آل أبي طالب (3/486): ( إسمه محمد ، وكنيته أبو جعفر ، والخاص، أبو علي . وألقابه: المختار ، والمرضي ، والمتوكل ، والمتقي ، والزكي ، والتقي ، والمنتجب والمرتضى ، والقانع ، والجواد ، والعالم الرباني ، ظاهر المعاني ، قليل التوانى ، المعروف بأبي جعفر الثاني ).

ص: 24

(10) أبقاه الإمام الرضا(عليه السلام) في المدينة

عندما أحضر المأمون الإمام الرضا(عليه السلام) الى خراسان ، كتب له أن يأتي معه بأهل بيته ، لكن الإمام أبقي ابنه الجواد(عليهما السلام) في المدينة .

ففي عيون أخبار الرضا(عليه السلام) (2/19): (عن أحمد بن موسى بن سعد عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) قال: كنت معه في الطواف ، فلما صرنا معه بحذاء الركن اليماني قام فرفع يديه ثم قال: يا اللّه يا وليَّ العافية ويا خالق العافية ويا رازق العافية والمنعم بالعافية والمنان بالعافية والمتفضل بالعافية. ويا خالق العافية ويا رازق العافية والمنعم بالعافية والمانُّ بالعافية والمتفضل بالعافية عليَّ وعلى جميع خلقك. يارحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، صل على محمد وآل محمد ، وارزقنا العافية ودوام العافية ، وتمام العافية ، وشكر العافية ، في الدنيا والآخرة . يا أرحم الراحمين).

وروى في البحار(49/120) عن دلائل الحميري ، عن أمية بن علي قال: (كنت مع أبي الحسن(عليه السلام) بمكة في السنة التي حج فيها ، ثم صار إلى خراسان ومعه أبو جعفر(عليه السلام) ،وأبو الحسن يودع البيت، فلما قضى طوافه عدل إلى المقام فصلى عنده فصار أبو جعفر(عليه السلام) على عنق موفق (الخادم) يطوف به ، فصار أبو جعفر إلى الحِجر فجلس فيه فأطال ، فقال له موفق: قم جعلت فداك ! فقال: ما أريد أن أبرح من مكاني هذا إلا أن يشاء اللّه ! واستبان في وجهه الغم .

فأتى موفق أبا الحسن(عليه السلام) فقال له: جعلت فداك ، قد جلس أبو جعفر في الحِجر وهو يأبى أن يقوم . فقام أبو الحسن فأتى أبا جعفر، فقال: قم يا حبيبي ! فقال:

ص: 25

ما أريد أن أبرح من مكاني هذا . قال: بلى يا حبيبي. ثم قال: كيف أقوم وقد ودعت البيت وداعاً لا ترجع إليه ! فقال له: قم يا حبيبي ، فقام معه).

وفي دلائل الإمامة/349: (عن الرضا(عليه السلام) قال:لما أردت الخروج من المدينة جمعت عيالي وأمرتهم أن يبكوا عليَّ حتى أسمع بكاءهم ، ثم فرقت فيهم اثني عشر ألف دينار ، ثم قلت لهم: إني لا أرجع إلى عيالي أبداً .

ثم أخذت أبا جعفر فأدخلته المسجد ، ووضعت يده على حافة القبر وألصقته به واستحفظته رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فالتفت أبو جعفر فقال لي: بأبي أنت وأمي، واللّه تذهب إلى عادية ! (حادثة خطيرة) وأمرت جميع وكلائي وحشمي له بالسمع والطاعة وترك مخالفته ، والمصير إليه عند وفاتي ، وعرفتهم أنه القَيِّم مقامي).

(11) كان الإمام الرضا(عليه السلام) يراسله ، ويعظمه

في عيون أخبار الرضا(2/266): (عن محمد بن أبي عباد ، وكان يكتب للرضا ضمه إليه الفضل بن سهل ، قال: ما كان يذكرمحمداً ابنه إلا بكنيته يقول: كتب إليَّ أبو جعفر، وكنت أكتب إلى أبي جعفر وهو صبي بالمدينة ، فيخاطبه بالتعظيم وترد كتب أبي جعفر(عليه السلام) في نهاية البلاغة والحسن ، فسمعته يقول: أبو جعفر وصيي وخليفتي في أهلي من بعدي ) .

وفي الكافي (4/43): (عن ابن أبي نصر قال: قرأت في كتاب أبي الحسن الرضا إلى أبي جعفر(عليهما السلام) : يا أبا جعفر بلغني أن الموالي إذا ركبتَ أخرجوك من الباب

ص: 26

الصغير ، فإنما ذلك من بخل منهم لئلا ينال منك أحد خيراً . وأسألك بحقي عليك لا يكن مدخلك ومخرجك إلا من الباب الكبير ، فإذا ركبت فليكن معك ذهب وفضة ، ثم لا يسألك أحد شيئاً إلا أعطيته . ومن سألك من عمومتك أن تبره فلا تعطه أقل من خمسين ديناراً والكثير إليك . ومن سألك من عماتك فلا تعطها أقل من خمسة وعشرين ديناراً ، والكثير إليك . إني إنما أريد بذلك أن يرفعك اللّه ، فأنفق ولا تخش من ذي العرش إقتاراً ).

(12) وكان الذين يعرفونه يقدسونه

في رجال الكشي(2/849): (عن محمد بن سنان ، قال: شكوت إلى الرضا(عليه السلام) وجع العين ، فأخذ قرطاساً فكتب إلى أبي جعفر(عليه السلام) وهو أول ما بدا ، فدفع الكتاب إلى الخادم وأمرني أن أذهب معه وقال: أكتم ، فأتيناه وخادم قد حمله ، قال ففتح الخادم الكتاب بين يدي أبي جعفر(عليه السلام) فجعل أبو جعفر ينظر في الكتاب ويرفع رأسه إلى السماء ، ويقول: ناج ، ففعل ذلك مراراً ، فذهب كل وجع في عيني ، وأبصرت بصراً لا يبصره أحد .

قال: فقلت لأبي جعفر(عليه السلام) : جعلك اللّه شيخاً على هذه الأمة ، كما جعل عيسى بن مريم شيخاً على بني إسرائيل . قال: ثم قلت له: يا شبيه صاحب فطرس .

قال: وانصرفت وقد أمرني الرضا(عليه السلام) أن أكتم ، فما زلت صحيح البصر حتى أذعت ما كان من أبي جعفر(عليه السلام) في أمر عيني ، فعاودني الوجع ).

ص: 27

ومعنى أول ما بدا: أول ما مشى ، كما في بعض النسخ ، وفي بعضها أول شئ ، وفي بعضها أقل من يدي ، وهو من اجتهاد النساخ في الكلمة .

وصاحب فطرس هو الحسين(عليه السلام) ، فقد روي أن اللّه عز وجل عاقب ملكاً إسمه فطرس ، فعطل جناحه وحبسه في جزيرة في الأرض . فرأى فطرس جبرئيل(عليه السلام) وهو ذاهبٌ ليهنئ النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بولادة الحسين (عليه السلام) ، فطلب منه أن يأخذه معه الى النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأخذه وتمسح بمهد الحسين(عليه السلام) فدعا له النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأعاد اللّه له جناحه ، ورجع الى مكانه .

وهذا يدل على أن بعض الملائكة(عليهم السلام) تصدر منهم مخالفات بحسبهم،ويعاقبون عليها.

وفي الثاقب في المناقب/525: (عن محمد بن ميمون ، قال: كنت مع الرضا(عليه السلام) بمكة قبل خروجه إلى خراسان ، قال: فقلت له: إني أريد أن أتقدم إلى المدينة ، فاكتب معي كتاباً إلى أبي جعفر(عليه السلام) فتبسم وكتب . وحضرت إلى المدينة وقد كان ذهب بصري ، فأخرج الخادم أبا جعفر(عليه السلام) إلينا فحمله من المهد ، فتناول الكتاب وقال لموفق الخادم: فضه وانشره ، ففضه ونشره بين يديه ، فنظر فيه ثم قال: يا محمد ما حال بصرك؟ قلت: يا ابن رسول اللّه ، اعتلت عيناي فذهب بصري كما ترى . قال: فمد يده ومسح بها على عيني ، فعاد بصري إلي كأصح ما كان ، فقبلت يده ورجله ، وانصرفت من عنده وأنا بصير ، والمنة للّه).

ومحمد بن ميمون من أصحاب الصادق(عليه السلام) ، ويظهر أنه رأى الإمام الرضا في مكة بعد أن رزق بالجواد(عليهما السلام) ، ولم يكن الجواد معه .

ص: 28

وكان ابن ميمون يريد الرجوع الى المدينة قبل الإمام(عليه السلام) فطلب منه أن يكتب الى ابنه الجواد ليكرمه . وقد يكون سبب تبسم الإمام(عليه السلام) أنه أكرمه ويريد منه رسالة الى ولده ليكرمه أيضاً . أو لسبب آخر غاب عنا . وستعرف المزيد من تعظيم الشيعة له(عليه السلام) .

(13) علي بن جعفر الصادق(عليه السلام) قدوةٌ للمؤمنين

علي بن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) من كبار العلماء ، وأجلاء أبناء الأئمة(عليهم السلام) . وهو المعروف بالعُرَيْضي لأنه سكن محلةً في المدينة تُسمى العُرَيْض. وهوجَدُّ السادة العريضة أو الحضارمة الذين أسلمت أندونوسيا بأيديهم ، ولأجدادهم مكانة مقدسة في نفوس الشعب الأندونيسي ، وقبورهم فيها مشاهد تُزار .

كان علي بن جعفر رضي اللّه عنه غلاماً عند وفاة أبيه الإمام الصادق(عليه السلام) ، وروى نصه على إمامة أخيه الكاظم(عليه السلام) ، قال: (سمعت أبي جعفر بن محمد(عليه السلام) يقول لجماعة من خاصة أصحابه: إستوصوا بموسى ابني خيراً ، فإنه أفضل ولدي ، ومن أخلف من بعدي . وهو القائم مقامي ، والحجة للّه عز وجل ، على كافة خلقه من بعدي ) .

فاتبع أخاه الإمام الكاظم(عليه السلام) ولازمه ، وألف كتاباً جمع فيه مسائله له ، وهو الكتاب الفقهي الغني ، المعروف بمسائل علي بن جعفر .

ثم عاش حتى أدرك ابن أخيه الإمام الرضا(عليه السلام) واعترف بإمامته ، قال: ( كنت عند أخي موسى بن جعفر ، فكان واللّه حجة في الأرض بعد أبي ، إذ طلع ابنه علي فقال لي: يا علي ، هذا صاحبك وهو مني بمنزلتي من أبي ، فثبتك اللّه على دينه .

ص: 29

فبكيت وقلت في نفسي: نعى واللّه إليَّ نفسه. فقال: يا علي، لا بد من أن تمضي مقادير اللّه فيَّ، ولي برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسوة وبأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام) .وكان هذا قبل أن يحمله هارون الرشيد في المرة الثانية بثلاثة أيام).

وكان في زمن ابن أخيه الإمام الرضا(عليه السلام) في الستينات من عمره فقيهاً معروفاً محترماً ، له مجلس في المسجد النبوي ، ويقصده الفقهاء والناس ويأخذون عنه .

وقد سمع من الإمام الرضا النص على إمامة ولده الجواد(عليهما السلام) ، وهو طفل في المدينة ، فآمن بإمامته من زمن أبيه الرضا(عليه السلام) .

وكان إذا دخل الجواد الى المسجد ترك حلقته وأسرع اليه ، وقبل يده ووقف في خدمته ولم يعد الى حلقته وتلاميذه حتى يُلزمه بذلك الجواد(عليه السلام) .

(فقام له قائماً وأجلسه في موضعه ، ولم يتكلم حتى قام . فقال له أصحاب مجلسه: أتفعل هذا مع أبي جعفر وأنت عم أبيه؟! فضرب بيده على لحيته ، وقال: إذا لم يَرَ اللّه هذه الشيبة أهلاَ للإمامة ، أراها أنا أهلاً للنار ) !

وفي الكافي (1/321): (عن محمد بن الحسن بن عمار ، قال: كنت عند علي بن جعفر بن محمد جالساً بالمدينة ، وكنت أقمت عنده سنتين أكتب عنه ما يسمع من أخيه (الكاظم(عليه السلام) ) إذ دخل عليه أبو جعفر محمد بن علي الرضا(عليه السلام) المسجد مسجد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فوثب علي بن جعفر بلا حذاء ولا رداء ، فقبل يده وعظمه فقال له أبو جعفر: يا عم أجلس رحمك اللّه ، فقال: يا سيدي كيف أجلس وأنت قائم ! فلما رجع علي بن جعفر إلى مجلسه جعل أصحابه يوبخونه ويقولون: أنت

ص: 30

عم أبيه ، وأنت تفعل به هذا الفعل؟! فقال: أسكتوا ! إذا كان اللّه عز وجل ، وقبض على لحيته ، لم يُؤَهِّلْ هذه الشيبة وأَهَّلَ هذا الفتى ووضعه حيث وضعه ، أنكرُ فضله ؟! نعوذ باللّه مما تقولون ، بل أنا له عبد ) !

كما روى الكشي (2/728) بسند

صحيح حوارات علي بن جعفر رضي اللّه عنه مع بعض الناس في إمامة الرضا والجواد(عليهما السلام) ، قال: (قال لي رجل أحسبه من الواقفة: ما فعل أخوك أبو الحسن؟ قلت: قد مات . قال: وما يدريك بذاك ؟ قلت: أقتسمت أمواله وأنكحت نساؤه ، ونطق الناطق من بعده . قال: ومن الناطق من بعده؟ قلت: ابنه علي ، قال: فما فعل؟ قلت له: مات . قال: وما يدريك أنه مات ؟ قلت: قسمت أمواله ونكحت نسائه ، ونطق الناطق من بعده. قال: ومن الناطق من بعده؟ قلت: أبو جعفر ابنه . قال فقال له: أنت في سنك وقدرك وابن جعفر بن محمد ، تقول هذا القول في هذا الغلام !

قال ، قلت: ما أراك إلا شيطاناً ، قال: ثم أخذ بلحيته فرفعها إلى السماء ثم قال: فما حيلتي إن كان اللّه رآه أهلاً لهذا ، ولم ير هذه الشيبة لهذا أهلاً ) !

والواقفة:الذين قالوا إن الإمام الكاظم(عليه السلام) غاب وسيرجع ، ووقفوا في الإمامة عليه.

ثم روى الكشي أن علي بن جعفر كان يوماً يزور الجواد(عليه السلام) وأعرابي من أهل المدينة جالس ، فقال له الأعرابي: من هذا الفتى؟وأشار بيده إلى أبي جعفر(عليه السلام) ؟

فقال له: هذا وصي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم). فقال: يا سبحان اللّه ، رسول اللّه قد مات منذ مائتي سنة، وكذا وكذا سنة وهذا حدث، كيف يكون هذا !

ص: 31

قال:هذا وصي علي بن موسى، وعلي وصي موسى بن جعفر، وموسى وصي جعفر بن محمد ، وجعفر وصي محمد بن علي ، ومحمد وصي علي بن الحسين ، وعلي ، وصي الحسين ، والحسين وصي الحسن ،والحسن وصي علي بن أبي طالب، وعلي وصي رسول اللّه ، صلوات اللّه عليهم أجمعين .

ودنا الطبيب ليقطع له العرق فقام علي بن جعفر فقال: يا سيدي، يبدؤني لتكون حدة الحديد بي قبلك . قال قلت: يهنئك ، هذا عم أبيه ! قال: فقطع له العرق ، ثم أراد أبو جعفر النهوض ، فقام علي بن جعفر فسوى له نعليه حتى لبسهما) !

(راجع ترجمته في كتابه مسائل علي بن جعفر رضي اللّه عنه ، وخلاصة الأقوال للعلامة الحلي/175، ومعجم رجال الحديث للسيد الخوئي:12/310 ).

وقد امتد العمر بعلي بن جعفر رضي اللّه عنه ، فعاش أكثر من ثمانين سنة ، وأدرك إمامة الإمام الهادي(عليه السلام) أي ابن ابن أخيه الكاظم(عليه السلام) ، وقال بإمامته وروى عنه ! ولذلك كان قدوة للمؤمنين بعدم حسد الإمام الرباني ، والإعتراف له بما خصه اللّه تعالى ، مهما كان صغيراً .

هذا ، وقد ترجم علماء الجرح والتعديل المخالفين لعلي بن جعفر رضي اللّه عنه ووثقوه لكنهم لم يرووا فقهه ، وقد أفلت في مصادرهم حديث رووه عنه ، وقد حَيَّرهم فصححه بعضهم واستنكره بعض المتعصبين !

ففي مسند أحمد (1/77) عنه عن أخيه الكاظم عن آبائه عن الحسين(عليهم السلام) قال: (إن رسول اللّه أخذ بيد حسن وحسين رضي اللّه عنهما فقال: من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما ، كان معي في درجتي يوم القيامة). ورواه الترمذي:5/305 ، وحسنه ،

ص: 32

والطبراني في المعجم الكبير:3/50 والصغير:2/70 ، والخطيب في الإكمال/173، وقال: والحديث صحيح بشواهده . وتاريخ دمشق:13/196، وأسد الغابة:4/29.

ورواه في تهذيب الكمال (29/360) وقال: (قال عبد اللّه بن أحمد: لما حدث نصر بن علي بهذا الحديث ، أمر المتوكل بضربه ألف سوط ! فكلمه جعفر بن عبد الواحد وجعل يقول له: هذا الرجل من أهل السنة ، ولم يزل به حتى تركه) !

وأراد الذهبي وهو في القرن الثامن أن يضعف هذا الحديث بالصُّراخ ، فقال: إسناده ضعيف ، والمتن منكر! ( سير الذهبي:3/254) .

وساعده الألباني في عصرنا، فضعفه ( ضعيف الترمذي/504) لكن لا حجة لهما في تضعيف سنده إلا التعصب ، وهما متأخران قروناً عمن صححوه منهم .

ولا بد أن يكون معنى قوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) :( من أحبَّني وأحب هذين وأباهما وأمهما ) نوعاً خاصاً من الحب ، وهو طاعتهم والإقتداء بهم ، ونصرتهم في مقابل منخالفهم . وإلا فإن كل الأمة تحبهم بالمعنى العام ، لكنها لا تكون بذلك في درجة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فهي درجة خاصة لمن يحبونه وأهل بيته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذلك الحب الخاص . ولا يوجد من ينطبق عليه هذا الوصف إلا شيعتهم الذين ناصروهم بعد وفاة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتحملوا في نصرتهم الإضطهاد ، والتقتيل ، والعداء ، من الحكومات وأتباعها الى يومنا هذا !

ومعنى قوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : (كان معي في درجتي) أنه يكون من أهل جنة الفردوس وفي درجة الوسيلة التي هي أعلى درجاتها . وهذا يدل على أن درجة الوسيلة تتسع لملايين البشر !

وقد روى الحديث من مصادرنا: كامل الزيارة/117، بسند صحيح، وأمالي الصدوق/299 .

ص: 33

(14) موقف أعمام الجواد(عليه السلام) الطامعين بالإرث

أوقف النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سبعة بساتين وجعل ولايتها للزهراء(عليها السلام) .

كما أوقف أمير المؤمنين(عليه السلام) نحو مئة عين في ينبع ، وجعل ولايتها لأبناء الزهراء خاصة(عليهم السلام) فكانت الأوقاف مصدراً مالياً كبيراً في ذلك الوقت ، وطمع فيها عمر بن علي بن أبي طالب(عليه السلام) فطلب من الحجاج ، ثم من عبد الملك بن مروان ، أن يشركه في ولايتها مع الإمام زين العابدين(عليه السلام) .

وفي زمن الإمام الرضا(عليه السلام) فرح إخوته بأنه ليس له ولد، وطمعوا بوراثة ولاية الأوقاف . وعندما شارف الإمام الرضا(عليه السلام) على الخمسين رزق بولد ، وكان لونه أسمر ، فدفعت السلطة إخوة الإمام الرضا الى إنكار بنوة الإمام الجواد(عليه السلام) ، والإفتراء على والدته الطاهرة رضي اللّه عنها . وطلبوا من الإمام الرضا(عليه السلام) أن يقبل بالقَافَة ، أي الخبراء بالشَّبَه ، وكان موقف علي بن جعفر الى جانب الإمام الرضا(عليه السلام) :

قال زكريا بن يحيى بن النعمان الصيرفي ،كما في الكافي:1/322، والإرشاد:2/276: (سمعت علي بن جعفر يحدث الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين فقال: واللّه لقد نصر اللّه أبا الحسن الرضا(عليه السلام) . فقال له الحسن: إي واللّه جعلت فداك ، لقد بغى عليه إخوته ، فقال علي بن جعفر: إي واللّه ونحن عمومته بغينا عليه ، فقال له الحسن: جعلت فداك كيف صنعتم فإني لم أحضركم ؟ قال: قال له إخوته ونحن أيضاً: ما كان فينا إمام قط حائل اللون! فقال لهم الرضا(عليه السلام) هو ابني، قالوا: فإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد قضى بالقافة ، فبيننا وبينك القافة .

ص: 34

قال: إبعثوا أنتم إليهم فأما أنا فلا ، ولا تعلموهم لما دعوتموهم ، ولتكونوا في بيوتكم . فلما جاؤوا أقعدونا في البستان ، واصطف عمومته وإخوته وأخواته ، وأخذوا الرضا(عليه السلام) وألبسوه جبة صوف وقلنسوة منها ، ووضعوا على عنقه مسحاة وقالوا له: أدخل البستان كأنك تعمل فيه ، ثم جاؤوا بأبي جعفر(عليه السلام) فقالوا: ألحقوا هذا الغلام بأبيه ، فقالوا: ليس له هاهنا أب ، ولكن هذا عم أبيه وهذا عم أبيه ، وهذا عمه ، وهذه عمته ، وإن يكن له ههنا أب فهو صاحب البستان ، فإن قدميه وقدميه واحدة . فلما رجع أبو الحسن(عليه السلام) قالوا: هذا أبوه ! قال علي بن جعفر: فقمت فمصصت ريق أبي جعفر(عليه السلام) (أي قبل الطفل في فمه)ثم قلت له: أشهد أنك إمامي عند اللّه . فبكى الرضا(عليه السلام) ثم قال: يا عم ! ألم تسمع أبي وهو يقول: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : بأبي ابن خيرة الإماء ابن النوبية ، الطيبة الفم ، المنتجبة الرحم . وَيْلَهُمْ ، لعن اللّه الأعيبس وذريته ، صاحب الفتنة . يكون من وُلْدِه الطريد الشريد ، الموتور بأبيه وجده ، يقتلهم سنين وشهوراً وأياماً ، يسومهم خسفاً ، ويسقيهم كأساً مصبرة ، وهو الطريد الشريد ، الموتور بأبيه وجده صاحب الغيبة ، يقال: مات أو هلك ، أي واد سلك؟! أفيكون هذا يا عم إلا مني ، فقلت: صدقت جعلت فداك ).

ويدل قول الإمام الرضا(عليه السلام) : (لعن اللّه الأعيبس وذريته صاحب الفتنة) على أن الوالي العباسي في المدينة كان وراء دعوى إخوة الرضا(عليه السلام) وأعمامه للطعن في زوجته الطاهرة ، من أجل نفي ولده ووراثته !

ص: 35

أما قول أعمام الجواد(عليه السلام) : (ما كان فينا إمام قط حائل اللون) فيقصدون به أن الإمام الجواد ليس ابن الرضا(عليهما السلام) لأنه أسمر اللون .

لكن ورد في صفته أنه أبيض اللون معتدل ، فقد يكون حنطياً شديد السمرة ، وجاءه ذلك من والدته ،وهي من عائلة مارية القبطية ، وقد ورد أن مارية (كانت بيضاء جعدة جميلة) (ابن سعد:1/134). فقد يكون والد أم الإمام الجواد(عليه السلام) هاجر من مصر الى النوبة وتكون أمها نوبية ، فكانت سمراء أو سوداء ، وكانت سمرة الجواد(عليه السلام) منها.

وقد ورد تعبير ( ابن خيرة الإماء ) عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حق الإمام المهدي وفي حق جده الإمام الجواد(عليهما السلام) . وأم الجواد(عليه السلام) سبيكة أو خيزران ، أمَةٌ وصفت بأنها نوبية ، وأم الإمام المهدي(عليه السلام) نرجس وهي أمةٌ رومية بيضاء .

فالجواد ابن خيرة الإماء ، وولده المهدي ابن خيرة الإماء ، وهو المعني بقوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنه المنتقم من خط الضلال ، الذي أسسه بنو أمية وسار عليه أبناء الأعيبس ، أي العباس .

أما القَافَة فهم الخبراء الذين يَقْفُونَ الأثر ويعرفون الشَّبَه ، وقد بحث الفقهاء الحكم بقولهم في نسبة الولد أو نفيه ، وإذا صح أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حكم بقولهم ، فلا بد أن يكونوا من المجربين الذين كانوا في العصور الأولى للإسلام ، ولهم قصص عجيبة . وقد حكم القافة ببنوة الإمام الجواد للإمام الرضا(عليه السلام) وأفشل اللّه خطة أعمامه والوالي العباسي.

هذا ، وقد روى الطبري في دلائل الإمامة/384 ، و مناقب آل أبي طالب:3/493، خبراً يدل على أن أعمام الجواد(عليه السلام) جاؤوا بالقافة في مكة في غياب الإمام الرضا(عليه السلام) .

فإن صحت الرواية فهي محاولة ثانية منهم لنفيه عن أبيه(عليهما السلام) !

ص: 36

وقالت الرواية إنه لما بلغ ذلك الإمام الرضا(عليه السلام) قصَّ عليهم محاولة قريش نفي إبراهيم عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفريتهم على أمه مارية القبطية رضي اللّه عنها، وقال(عليه السلام) : ( الحمد للّه الذي جعل فيَّ وفي ابني محمد أسوةً برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وابنه إبراهيم(عليه السلام) ) .

وتميزت هذه الرواية ، بأن الإمام الجواد(عليه السلام) تكلم على صغر سنه بلسان فصيح فقال: (الحمد للّه الذي خلقنا من نوره واصطفانا من بريته ، وجعلنا أمناء على خلقه ووحيه ، معاشر الناس ، أنا محمد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي سيد العابدين بن الحسين الشهيد بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابن فاطمة الزهراء بنت محمد المصطفى(عليهم السلام) . أفي مثلي يشك ، وعلى اللّه تبارك وتعالى وعلى جدي يفترى وأعرض على القافة !

إني واللّه لأعلم ما في سرائرهم وخواطرهم ، وإني واللّه لأعلم الناس أجمع بما هم إليه صائرون ، أقول حقاً وأظهر صدقاً ، علماً قد نبأه اللّه تبارك وتعالى قبل الخلق أجمعين وقبل بناء السماوات والأرضين ، وأيم اللّه لولا تظاهر الباطل علينا وغواية ذرية الكفر ، وتوثب أهل الشرك والشك والشقاق علينا ، لقلت قولاً يعجب منه الأولون والآخرون . ثم وضع يده على فيه ثم قال: يا محمد ، أصمت كما صمت آباؤك ، فَاصْبِرْ

كَمَا صَبَرَ أُولُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ. ثم أتى إلىرجل بجانبه فقبض على يده ، فما زال يمشي يتخطى رقاب الناس وهم يفرجون له ، قال: فرأيت مشيخة أجلاءهم ينظرون إليه ويقولون: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ).

ص: 37

ثم ذكرت الرواية أنه لما بلغ ذلك الإمام الرضا(عليه السلام) في خراسان ، حكى لهم قصة مارية القبطية واتهام بعض أزواج النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لها بخادم قبطي كبير السن إسمه جريح ، وكيف كشف اللّه تعالى ذلك وبرأ رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وتبين أن جريحاً ممسوح ليس له ما للرجال !

وهو حديث يكشف قصة الإفك وآية براءة زوجة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولا يتسع لها المجال .

لكن في هذه الرواية نقطة ضعف أنها جعلت عمر الإمام الجواد(عليه السلام) سنتين عندما كان أبوه(عليه السلام) في طوس ، بينما كان أكثر من أربع سنوات . فقد يكون الراوي اشتبه في عمر الإمام الجواد(عليه السلام) يومها .

كما لا بد من نسبة هذه المحاولة الى المأمون ، لأن إخوة الإمام الرضا(عليه السلام) لم يكونوا ليجرؤوا على اتهام زوجة الإمام(عليه السلام) إلا بتحريك المأمون !

(15) الإمام الرضا(عليه السلام) يهيئ الشيعة للإمتحانات

لم يكن امتحان الشيعة بأن أم الإمام الجواد(عليه السلام) جارية ، امتحاناً صعباً ، فقد كانت أمهات آبائه السجاد والكاظم والرضا(عليهم السلام) أيضاً جواري من غير العرب .

وبعض الجواري أفضل من الحرائر، وأمهات الأئمة(عليهم السلام) مصونات بلطف اللّه تعالى قال الإمام الصادق(عليه السلام) عن زوجته أم الإمام الكاظم(عليه السلام) : ( حميدة مصفاة من الأدناس كسبيكة الذهب ، ما زالت الأملاك تحرسها حتى أُدِّيَت إليَّ ، كرامةً من اللّه لي والحجة من بعدي). (الكافي:1/477). وكذا كل أمهات الأئمة طاهرات مطهرات .

لكن الإمتحان الإلهي الصعب كان صغر سن الإمام الجواد(عليه السلام) ، فهو أول الأئمة الذين أوتوا الإمامة من صغرهم . وقد أخبر الإمام الرضا(عليه السلام) بأنهم سيمتحنون بأشد منه.

ص: 38

روى النعماني/186، عن البلخي قال:(سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول: إنكم ستبتلون بما هو أشد وأكبر! تبتلون بالجنين في بطن أمه ، والرضيع حتى يقال: غاب ومات، ويقولون:لا إمام. وقد غاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وغاب وغاب . وها أنا ذا أموت).

وفي أمالي الصدوق/164: (قال علقمة: فقلت للصادق(عليه السلام) : يا ابن رسول اللّه ، إن الناس ينسبوننا إلى عظائم الأمور وقد ضاقت بذلك صدورنا !فقال(عليه السلام) : يا علقمة ، إن رضا الناس لا يملك ، وألسنتهم لاتضبط ! فكيف تَسْلَمُون مما لم يسلم منه أنبياء اللّه ورسله وحججه(عليهم السلام) ؟

ألم ينسبوا يوسف(عليه السلام) إلى أنه هم بالزنا؟ ألم ينسبوا أيوب(عليه السلام) إلى أنه ابتلى بذنوبه؟

ألم ينسبوا داود(عليه السلام) إلى أنه تبع الطير حتى نظر إلى امرأة أوريا فهواها، وأنه قدم زوجها أمام التابوت حتى قتل ثم تزوج بها ! ألم ينسبوا موسى(عليه السلام) إلى أنه عنين وآذوه حتى برأه اللّه مما قالوا ، وكان عند اللّه وجيها ؟

ألم ينسبوا جميع أنبياء اللّه(عليهم السلام) إلى أنهم سَحَرَة طلبةُ الدنيا؟ألم ينسبوا مريم بنت عمران (عليهما السلام) إلى أنها حملت بعيسى من رجل نجار إسمه يوسف ؟

ألم ينسبوا نبينا محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أنه شاعر مجنون ؟ ألم ينسبوه إلى أنه هويَ امرأة زيد بن حارثة فلم يزل بها حتى استخلصها لنفسه؟!

ألم ينسبوه يوم بدر إلى أنه أخذ لنفسه من المغنم قطيفة حمراء، حتى أظهره اللّه عز وجل على القطيفة وبرأ نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الخيانة ، وأنزل بذلك في كتابه: وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ !

ص: 39

ألم ينسبوه إلى أنه ينطق عن الهوى في ابن عمه علي حتى كذبهم اللّه عز وجل فقال سبحانه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَإِلا وَحْىٌ يُوحَى .

ألم ينسبوه إلى الكذب في قوله إنه رسول من اللّه إليهم ، حتى أنزل اللّه عز وجل عليه:وَلَقَدْكُذِّبَتْ

رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا!

ولقد قال يوماً:عرج بي البارحة إلى السماء.فقيل واللّه ما فارق فراشه طول ليلته!

وما قالوا في الأوصياء(عليهم السلام) أكثر من ذلك ، ألم ينسبوا سيد الأوصياء(عليه السلام) إلى أنه كان يطلب الدنيا والملك ، وأنه كان يؤثر الفتنة على السكون ، وأنه يسفك دماء المسلمين بغير حلها ، وأنه لو كان فيه خير ما أمر خالد بن الوليد بضرب عنقه؟

ألم ينسبوه إلى أنه أراد أن يتزوج ابنة أبي جهل على فاطمة(عليها السلام) وأن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) شكاه على المنبر إلى المسلمين فقال: إن علياً يريد أن يتزوج ابنة عدو اللّه على ابنة نبي اللّه ، ألا إن فاطمة بضعة مني فمن آذاها فقد آذاني ، ومن سرها فقد سرني ، ومن غاظها فقد غاظني؟

ثم قال الصادق(عليه السلام) : يا علقمة ، ما أعجب أقاويل الناس في علي(عليه السلام) ! كم بين من يقول: إنه رب معبود ، وبين من يقول: إنه عبد عاص للمعبود ! ولقد كان قول من ينسبه إلى العصيان أهون عليه من قول من ينسبه إلى الربوبية .

يا علقمة ، ألم يقولوا للّه عز وجل: إنه ثالث ثلاثة؟ ألم يشبهوه بخلقه؟ ألم يقولوا إنه الدهر؟ ألم يقولوا إنه الفلك ؟ ألم يقولوا إنه جسم ؟ ألم يقولوا إنه صورة ؟ تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً .

ص: 40

يا علقمة ، إن الألسنة التي تتناول ذات اللّه تعالى ذكره بما لا يليق بذاته ، كيف تحبس عن تناولكم بما تكرهونه ! ف اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. فإن بني إسرائيل قالوا لموسى(عليه السلام) :أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَاتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا . فقال اللّه عز وجل: قل لهم يا موسى:عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).

(16) كيف تنتقل الإمامة عند موت الإمام ؟

روى في بصائر الدرجات/498، عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: ( يعرف الإمام الذي بعده علم من كان قبله ، في آخر دقيقة تبقى من روحه..

عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليه السلام) ..أفيسع الناس إذا مات العالم أن لا يعرفوا الذي بعده؟ فقال: أما أهل البلدة فلا ، يعني المدينة ، وأما غيرهم من البلدان فقدر مسيرهم ، إن اللّه يقول: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ . قال قلت: أرأيت من مات في ذلك؟ فقال: هو بمنزلة: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ).

وفي بصائر الدرجات/475، عن الصادق(عليه السلام) قال: ( في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح: روح البدن وروح القدس وروح القوة وروح الشهوة وروح الإيمان . وفى المؤمنين أربعة أرواح: روح البدن وروح الشهوة وروح الإيمان . وفى الكفار ثلاثة أرواح: روح البدن وروح القوة وروح الشهوة . ثم قال: روح الإيمان يلازم الجسد ما لم يعمل بكبيرة ، فإذا عمل كبيرة فارقه الروح . وروح القدس من سكن فيه فإنه لا يعمل بكبيرة أبداً ).

ص: 41

وفي الكافي (1/272) عنه(عليه السلام) قال:( إن اللّه تبارك وتعالى جعل في النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خمسة أرواح: روح الحياة فبه دب ودرج ، وروح القوة فبه نهض وجاهد ، وروح الشهوة فبه أكل وشرب وأتى النساء من الحلال ،وروح الإيمان فبه آمن وعدل ، وروح القدس فبه حمل النبوة . فإذا قبض النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) انتقل روح القدس فصار إلى الإمام ، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو والأربعة الأرواح تنام وتغفل وتزهو وتلهو . وروح

القدس كان يرى به) .

أي يرى به ما بَعُد ، من الأرض والسماء ، ويرى به الرؤيا في المنام .

**

ص: 42

الفصل الثاني: إجماع الشيعة على إمامة الجواد(عليه السلام)

(1) أعلن الشيعة إمامة الجواد(عليه السلام) فخرس خصومهم !

عرف عامة الشيعة إمامة الجواد(عليه السلام) من زمن أبيه الرضا(عليه السلام) ، لأنه نص عليه بالإمامة ، وأظهر لهم كرامته على اللّه تعالى .

وبعد وفاة أبيه أجمع فقهاء الشيعة في كل البلاد على إمامته(عليه السلام) ، لأنهم رأوا علمه وإجاباته على المسائل التي عجز عنها غيره ، وشاهدوا معجزاته ، من شفاء المرضى ، واستجابة الدعاء ، ومعرفة النوايا .

ومن الظواهر الملفتة أن خصوم الشيعة خرسوا تماماً أمام هذا الحدث الفريد ، ولم يُشَنِّعْ أحدٌ منهم على الشيعة بأنهم يأتمون بصبي ابن سبع سنوات !

وسبب سكوتهم أنهم لايريدون الحديث عنه حتى لا يعرفه المسلمون ويؤمنون به ، خاصة أن المأمون أعلن ذلك وحدث به الناس وعقد له على ابنته !

قال المأمون: (ويحكم ، إن أهل هذا البيت خصوا من الخلق بما ترون من الفضل وإن صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال . أمَا علمتم أن رسول اللّه افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو ابن عشر سنين ، وقَبِلَ منه

ص: 43

الإسلام وحكم له به ، ولم يَدْعُ أحداً في سنه غيره . وبايع الحسن والحسين وهما ابنا دون الست سنين ، ولم يبايع صبياً غيرهما ، أفلا تعلمون الآن ما اختص اللّه به هؤلاء القوم ، وأنهم ذرية بعضها من بعض، يجري لآخرهم ما يجري لأولهم).

(فقال المأمون: ويحكم إني أعرف به منكم وإن أهل هذا البيت علمهم من اللّه ومواده وإلهامه ، فإن شئتم فامتحنوه) ! (الإرشاد:2/287، والمناقب:3/488).

وقد انتشر ذلك في البلاد ، فافتخر بإمامته الفقهاء ، وأنشد فيه الشعراء ، كالشاعر أبي الغوث الطهوي واسمه أسلم بن مهوز ، والذي كان معاصراً للبحتري ، وكلاهما من منبج قرب حلب ، قال في مدحه:

(إذا ما بلغتَ الصادقينَ بني الرضا *** فحسبُك من هادٍ يُشير إلى هاد

مقاويلُ إن قالوا بهاليلُ إن دعوا *** وُفَاةٌ بميعادٍ كُفَاةٌ لمرتاد

ذا أوعدوا أعْفَوْا وإن وعدوا وفَوْا *** فهم أهل فضلٍ عند وَعْدٍ وإيعَادِ

كرامٌ إذا ما أنفقوا المالَ أنفدوا *** وليس لعلمٍ أنفقوه بإنفاد

ينابيعُ علمِ اللّه أطوادُ دينه *** فهل من نفادٍ إن علمتَ لأطواد

نجومٌ متى نجمٌ خبا مثله بدا *** فصلى على الخابي المهمينُ والبادي

عبادٌ لمولاهم موالي عباده *** شهودٌ عليهم يوم حَشْرٍ وإشهاد

همُ حجج اللّه اثنتا عشرةٍ متى *** عددتَ فثاني عشرهم خلفُ الهادي

بميلاده الأنباءُ جاءت شهيرةً *** فأعظم بمولود وأكرم بميلاد)

ص: 44

أورد ذلك في أعيان الشيعة (1/181). وقال عنها الجوهري في مقتضب الأثر/50: (وهي طويلة كتبنا منها موضع الحاجة إلى الشاهد) .

وأورد الجوهري مقطوعة أخرى من قصيدة للشاعر البصري عبد اللّه بن أيوب الخريبي ، يخاطب الإمام الجواد(عليه السلام) :

يا ابن الذبيح ويا ابن أعراق الثرى *** طابت أُرومته وطاب عُروقا

يا ابن الوصيِّ وصيِّ أفضلِ مرسلٍ *** أعني النبيَّ الصادقَ المصدوقا

مالُفَّ في خِرَقِ القَوَابلِ مثلُهُ *** أسدٌ يَلُفُّ مع الحريق حريقا

يا أيها الحبل المتين متى أعذْ *** يوماً بعَقْوَتِهَ أجدهُ وثيقا

أنا عائذٌ بك في القيامة لائذٌ *** أبغي لديك من النجاة طريقا

لا يَسْبِقَنِّي في شفاعتكم غداً *** حدٌ فلست بحبكم مسبوقا

يا ابن الثمانية الأئمة غربوا *** وأبا الثلاثة شرقوا تشريقا

إن المشارق والمغارب أنتمُ *** جاء الكتاب بذلكم تصديقا).

(2) إخبارالجواد بشهادة أبيه(عليهما السلام) وحضوره الى خراسان

وعندما توفي الإمام الرضا(عليه السلام) في طوس، كان الإمام الجواد(عليه السلام) في المدينة فأخبر الناس بوفاته ، وأمر عائلته بإقامة المأتم ، وذهب بنحو الإعجاز الى طوس ، فقام بتجهيزه والصلاة عليه ، ورجع الى المدينة في ذلك اليوم !

روى في الإمامة والتبصرة/85: (عن مؤدب كان لأبي جعفر(عليه السلام) أنه قال: كان بين يدي يوماً يقرأ في اللوح ، إذ رمى اللوح من يده وقام فزعاً وهو يقول: إنا للّه وإنا

ص: 45

إليه راجعون ، مضى واللّه أبي(عليه السلام) . فقلت: من أينعلمت ؟ قال: دخلني من إجلال اللّه وعظمته شئ لم أعهده . فقلت: وقد مضى؟ فقال: دع عنك ذا ، إئذن لي أن أدخل البيت وأخرج إليك واستعرضني أي القرآن شئت أفِ لك بحفظه . فدخل البيت ، فقمت ودخلت في طلبه إشفاقاً مني عليه ، فسألت عنه فقيل: دخل هذا البيت ورد الباب دونه وقال: لا تؤذنوا عليَّ أحداً حتى أخرج إليكم. فخرج مغبراً وهو يقول: إنا للّه وإنا إليه راجعون، مضى واللّه أبي . فقلت: جعلت فداك وقد مضى؟ فقال: نعم ووليت غسله وتكفينه ، وما كان ذلك ليلي منه غيري . ثم قال لي: دع عنك هذا ، إستعرضني أي القرآن شئت أفِ لك بحفظه . فقلت: الأعراف. فاستعاذ باللّه من الشيطان الرجيم ثم قرأ: بسم اللّه الرحمن الرحيم...وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ .

فقلت: أ.ل. م. ص، فقال: هذا أول السورة . وهذا ناسخ ، وهذا منسوخ ، وهذا محكم ، وهذا متشابه ، وهذا خاص ، وهذا عام ، وهذا ما غلط به الكتاب ، وهذا ما اشتبه على الناس ) .

وروى في عيون أخبار الرضا(عليه السلام) (2/271): (عن أبي الصلت الهروي ، قال: بينا أنا واقف بين يدي أبي الحسن علي بن موسى الرضا(عليه السلام) إذ قال لي: يا أبا الصلت أدخل هذه القبة التي فيها قبر هارون ، وائتني بتراب من أر بعة جوانبها .

قال: فمضيت فأتيت به ، فلما مَثُلت بين يديه فقال لي: ناولني هذا التراب وهو من عند الباب ، فناولته فأخذه وشمه ثم رمى به ، ثم قال: سيحفر لي هاهنا

ص: 46

فتظهر صخرة لو جمع عليها كل معول بخراسان لم يتهيأ قلعها . ثم قال في الذي عند الرجل ، والذي عند الرأس مثل ذلك ، ثم قال: ناولني هذا التراب فهو من تربتي . ثم قال: سيحفر لي في هذا الموضع فتأمرهم أن يحفروا لي سبع مراقي إلى أسفل ، وأن يشق لي ضريحةٌ ، فإن أبوا إلا أن يلحدوا فتأمرهم أن يجعلوا اللحد ذراعين وشبراً ، فإن اللّه سيوسعه ما يشاء . فإذا فعلوا ذلك فإنك ترى عند رأسي نداوة ، فتكلم بالكلام الذي أعلمك فإنه ينبع الماء حتى يمتلئ اللحد ، وترى فيه حيتاناً صغاراً ، فَفُتَّ لها الخبز الذي أعطيك فإنها تلتقطه ، فإذا لم يبق منه شئ خرجت منه حوتة كبيرة فالتقطت الحيتان الصغار حتى لا يبقىمنها شئ ، ثم تغيب فإذا غابت فضع يدك على الماء ثم تكلم بالكلام الذي أعلمك فإنه ينضب الماء ، ولا يبقى منه ولاتفعل إلا بحضرة المأمون .

ثم قال(عليه السلام) : يا أبا الصلت غداً أَدْخُلُ على هذا الفاجر فإن أنا خرجت وأنا مكشوف الرأس فتكلم أكلمك، وإن أنا خرجت وأنا مغطى الرأس فلاتكلمني!

قال أبو الصلت: فلما أصبحنا من الغد لبس ثيابه وجلس ، فجعل في محرابه ينتظر ، فبينما هو كذلك إذ دخل عليه غلام المأمون فقال له: أجب أمير المؤمنين فلبس نعله ورداءه وقام يمشي وأنا أتبعه ، حتى دخل على المأمون وبين يديه طبق عليه عنب وأطباق فاكهة ، وبيده عنقود عنب قد أكل بعضه وبقي بعضه ، فلما أبصر بالرضا(عليه السلام) وثب إليه فعانقه وقبل ما بين عينيه وأجلسه معه ، ثم ناوله العنقود وقال: يا ابن رسول اللّه ما رأيت عنباً أحسن من هذا !

ص: 47

فقال الرضا(عليه السلام) : ربما كان عنباً حسناً يكون من الجنة . فقال له: كل منه فقال له الرضا(عليه السلام) : تعفيني منه . فقال: لا بد من ذلك ! وما يمنعك منه لعلك تتهمنا بشئ ! فتناول العنقود فأكل منه ، ثم ناوله فأكل منه الرضا(عليه السلام) ثلاث حبات ، ثم رمى به وقام ! فقال المأمون: إلى أين ؟ فقال: إلى حيث وجهتني !

فخرج(عليه السلام) مغطى الرأس فلم أكلمه حتى دخل الدار ، فأمر أن يغلق الباب فغلق ثم نام(عليه السلام) على فراشه ، ومكثت واقفاً في صحن الدار مهموماً محزوناً .

فبينما أنا كذلك إذ دخل عليَّ شاب حسن الوجه قطط الشعر أشبه الناس بالرضا (عليه السلام) فبادرت إليه فقلت له: من أين دخلت والباب مغلق؟ فقال: الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت هو الذي أدخلني الدار والباب مغلق ؟ فقلت له: ومن أنت ؟ فقال لي: أنا حجة اللّه عليك يا أبا الصلت ! أنا محمد بن علي .

ثم مضى نحو أبيه(عليهما السلام) فدخل وأمرني بالدخول معه فلما نظر إليه الرضا(عليه السلام) وثب إليه فعانقه وضمه إلى صدره وقبل ما بين عينيه ، ثم سحبه سحباً إلى فراشه وأكب عليه محمد بن علي(عليه السلام) يقبله ويُسَارُّه بشئ أفهمه ، ورأيت على شفتي الرضا(عليه السلام) زبدا أشد بياضاً من الثلج ، ورأيت أبا جعفر(عليه السلام) يلحسه بلسانه ، ثم أدخل يده بين ثوبيه وصدره فاستخرج منه شيئاً شبيهاً بالعصفور ، فابتلعه أبو جعفر(عليه السلام) ومضى الرضا(عليه السلام) .

فقال أبو جعفر(عليه السلام) : قم يا أبا الصلت ، إئتني بالمغتسل والماء من الخزانة ، فقلت: ما في الخزانة مغتسل ولا ماء . وقال لي: ائته إليَّ ما آمرك به . فدخلت

ص: 48

الخزانة فإذا فيها مغتسل وماء فأخرجته وشمرت ثيابي لأغسله ، فقال لي: تنح يا أبا الصلت ، فإن لي من يعينني غيرك . فغسله ثم قال لي: أدخل الخزانة فأخرج إليَّ السفط الذي فيه كفنه وحنوطه ، فدخلت فإذا أنا بسفط لم أره في تلك الخزانة قط فحملته إليه . فكفنه وصلى عليه ، ثم قال لي: إئتني بالتابوت، فقلت: أمضي إلى النجار حتى يصلح التابوت . قال: قم فإن في الخزانة تابوتاً ، فدخلت الخزانة فوجدت تابوتاً لم أره قط ، فأتيته به ، فأخذ الرضا(عليه السلام) بعد ما صلى عليه فوضعه في التابوت ، وصف قدميه وصلى ركعتين لم يفرغ منهما حتى علا التابوت ، وانشق السقف فخرج منه التابوت ومضى .

فقلت: يا بن رسول اللّه الساعة يجيؤنا المأمون ويطالبنا بالرضا(عليه السلام) فما نصنع؟ فقال لي: أسكت فإنه سيعود . يا أبا الصلت ، ما من نبي يموت بالمشرق ويموت وصيه بالمغرب إلا جمع اللّه بين أرواحهما وأجسادهما . وما أتم الحديث حتى انشق السقف ونزل التابوت فقام(عليه السلام) فاستخرج الرضا(عليه السلام) من التابوت ووضعه على فراشه كأنه لم يغسل ولم يكفن ، ثم قال لي: يا أبا الصلت ، قم فافتح الباب للمأمون ففتحت الباب ، فإذا المأمون والغلمان بالباب ، فدخل باكياً حزيناً قد شق جيبه ولطم رأسه ، وهو يقول: يا سيداه فُجِعْتُ بك يا سيدي! ثم دخل فجلس عند رأسه وقال: خذوا في تجهيزه ، فأمر بحفر القبر فحفرتُ الموضع فظهر كل شئ على ما وصفه الرضا(عليه السلام) ، فقال له بعض جلسائه: ألست تزعم إنه إمام؟ فقال: بلى لا يكون الإمام إلا مقدم الناس ، فأمر أن يحفر له في القبلة فقلت

ص: 49

له: أمرني أن يحفر له سبع مراقي وأن أشق له ضريحه ، فقال: انتهوا إلى ما يأمر به أبو الصلت سوى الضريح ، ولكن يحفر له ويلحد .

فلما رأى ما ظهر له من النداوة والحيتان وغير ذلك ، قال المأمون: لم يزل الرضا (عليه السلام) يرينا عجائبه في حياته ، حتى أراناها بعد وفاته أيضاً.

فقال له وزير كان معه: أتدري ما أخبرك به الرضا(عليه السلام) ؟ قال: لا. قال: إنه قد أخبرك إن ملككم يا بني العباس مع كثرتكم وطول مدتكم ، مثل هذه الحيتان حتى إذا فنيت آجالكم وانقطعت آثاركم وذهبت دولتكم ، سلط اللّه تعالى عليكم رجلاً منا فأفناكم عن آخركم! قال له: صدقت ، ثم قال لي: ياأبا الصلت علمني الكلام الذي تكلمت به ، قلت: واللّه لقد نسيت الكلام من ساعتي ، وقد كنت صدقت ، فأمر بحبسي.

ودفن الرضا(عليه السلام) فحبست سنة فضاق علي الحبس ، وسهرت الليلة ودعوت اللّه تبارك وتعالى بدعاء ذكرت فيه محمداً وآل محمد صلوات اللّه عليهم ، وسألت اللّه بحقهم أن يفرج عني ، فما استتم دعائي حتى دخل عليَّ أبو جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) فقال لي: يا أبا الصلت ضاق صدرك؟ فقلت: أي واللّه قال: قم فأخرجني ثم ضرب يده إلى القيود التي كانت علي ففكها وأخذ بيدي وأخرجني من الدار والحرسة والغلمان يرونني فلم يستطيعوا أن يكلموني !

وخرجت من باب الدار ، ثم قال لي إمض في ودائع اللّه ، فإنك لن تصل إليه ولا يصل إليك أبداً ! فقال أبو الصلت: فلم ألتق المأمون إلى هذا الوقت ).

ص: 50

أقول: هذه رواية أبي الصلت الهروي(رحمه اللّه) في شهادة الإمام الرضا وحضور الإمام الجواد(عليهما السلام) لتجهيزه .

وهناك رواية أخرى تصف حضور الجواد(عليه السلام) ، وهي عن عبد الرحمن بن يحيى قال: (كنت يوماً بين يدي مولاي الرضا(عليه السلام) في علته التي مضى فيها...ولم أزل بين يدي سيدي إلى أن انفجر عمود الصبح ، فإذا أنا بالمأمون قد أقبل في خلق كثير ، فمنعتني هيبته أن أبدأ بالكلام . فقال: يا عبد الرحمن بن يحيى ما أكذبكم! ألستم تزعمون أنه ما من إمام يمضي إلا وولده القائم مكانه يلي أمره ! هذا علي بن موسى بخراسان ، ومحمد ابنه بالمدينة .

قال فقلت: يا أمير المؤمنين ! أما إذا ابتدأتني فاسمع ، إنه لما كان أمس قال لي سيدي كذا وكذا ، فواللّه ما حضرت صلاة المغرب حتى قضى فدنوت منه . فإذا قائل من خلفي يقول: مه يا عبد الرحمن .. وحدثته الحديث . فقال: صفه لي فوصفته له بحليته ولباسه ، وأريته الحائط الذي خرج منه ، فرمى بنفسه إلى الأرض ، وأقبل يخور كما يخور الثور ، وهو يقول: ويلك يا مأمون ! ما حالك وعلى ما أقدمت ! لعن اللّه فلاناً وفلاناً ، فإنهما أشارا عليَّ بما فعلت ) .

وروى ابن حمزة(رحمه اللّه) في الثاقب/517، عن محمد بن أبي القاسم ، وعامة أهل المدينة: (إن الرضا(عليه السلام) كتب في أحمال له تحمل إليه من المتاع وغير ذلك ، فلما توجهت وكان يوماً من الأيام أرسل أبوجعفر(عليه السلام) رسلاً يردونها ، فلم يُدْرَ لم ذلك ، ثم حُسٍبَ ذلك اليوم في ذلك الشهر ، فوُجد يوم مات فيه الرضا(عليه السلام) ) .

ص: 51

(3) مؤتمر علماء الشيعة على أثر وفاة الإمام الرضا(عليه السلام)

وصفت مصادرنا اجتماعاً في بغداد لعدد من علماء الشيعة وزعمائهم ، بعد وفاة الإمام الرضا(عليه السلام) ، للتشاور في إمامة الجواد(عليه السلام) ، واتخاذ الموقف اللازم:

قال الطبري الشيعي في دلائل الإمامة/389: (فلما مضى الرضا(عليه السلام) وذلك في سنة اثنتين ومائتين ، وسِنُّ أبي جعفر(عليه السلام) ستُّ سنين وشهور واختلف الناس في جميع الأمصار، اجتمع الريان بن الصلت ، وصفوان بن يحيى، ومحمد بن حكيم، وعبد الرحمن بن الحجاج، ويونس بن عبد الرحمن، وجماعة من وجوه العصابة ، في دار عبد الرحمن بن الحجاج، في بركة زلزل يبكون ويتوجعون من المصيبة ، فقال لهم يونس: دعوا البكاء مَن لهذا الأمر يفتي بالمسائل إلى أن يكبر هذا الصبي يعني أبا جعفر(عليه السلام) ، وكان له ست سنين وشهور ، ثم قال: أنا ومَن مثلي !

فقام إليه الريان بن الصلت فوضع يده في حلقه، ولم يزل يلطم وجهه ويضرب رأسه ، ثم قال له: يا ابن الفاعلة ، إن كان أمر من اللّه جل وعلا، فابن يومين مثل ابن مائة سنة ، وإن لم يكن من عند اللّه ، فلو عمر الواحد من الناس خمسة آلاف سنة ما كان يأتي بمثل ما يأتي به السادة(عليهم السلام) أو ببعضه ، أوَهَذا مما ينبغي أن ينظر فيه ؟وأقبلت العصابة على يونس تَعْذله !

وقَرُبَ الحج ، واجتمع من فقهاء بغداد والأمصار وعلماؤهم ثمانون رجلاً ، وخرجوا إلى المدينة ، وأتوا دار أبي عبد اللّه(عليه السلام) فدخلوها ، وبُسط لهم بساط أحمر وخرج إليهم عبد اللّه بن موسى ، فجلس في صدر المجلس ، وقام مناد فنادى:

ص: 52

هذا ابن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فمن أراد السؤال فليسأل . فقام إليه رجل من القوم فقال له: ما تقول في رجل قال لامرأته: أنت طالق عدد نجوم السماء ؟ قال: طلقت ثلاثاً دون الجوزاء ! فورد على الشيعة ما زاد في غمهم وحزنهم .

ثم قام إليه رجل آخر فقال: ما تقول في رجل أتى بهيمة ؟ قال: تقطع يده ، ويجلد مائة جلدة وينفى . فضج الناس بالبكاء .

وكان قد اجتمع فقهاء الأمصار، فهم في ذلك إذ فتح باب من صدر المجلس ، وخرج موفق (الخادم) ثم خرج أبو جعفر(عليه السلام) وعليه قميصان وإزار وعمامة بذؤابتين ، إحداهما من قدام ، والأخرى من خلف ، ونعل بقبالين ، فجلس وأمسك الناس كلهم ، ثم قام إليه صاحب المسألة الأولى ، فقال:

يا ابن رسول اللّه ، ما تقول فيمن قال لامرأته: أنت طالق عدد نجوم السماء؟ فقال له: يا هذا ، إقرأ كتاب اللّه ، قال اللّه تبارك وتعالى: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ .. في الثالثة . قال: فإن عمك أفتاني بكَيْتَ وكيْت . فقال له: يا عم ، إتق اللّه ، ولا تفت وفي الأمة من هو أعلم منك .

فقام إليه صاحب المسألة الثانية ، فقال له: يا ابن رسول اللّه ، ما تقول في رجل أتى بهيمة ؟ فقال: يعزر ويحمى ظهر البهيمة ، وتخرج من البلد ، لا يبقى على الرجل عارها . فقال: إن عمك أفتاني بكيت وكيت . فالتفت وقال بأعلى صوته: لا إله إلا اللّه ، يا عبد اللّه إنه عظيم عند اللّه أن تقف غداً بين يدي اللّه فيقول لك:

ص: 53

لم أفتيت عبادي بما لا تعلم ، وفي الأمة من هو أعلم منك ! فقال له عبد اللّه بن موسى: رأيت أخي الرضا(عليه السلام) وقد أجاب في هذه المسألة بهذا الجواب .

فقال له أبو جعفر(عليه السلام) : إنما سئل الرضا(عليه السلام) عن نباش نبش قبر امرأة ففجر بها ، وأخذ ثيابها ، فأمر بقطعه للسرقة ، وجلده للزنا، ونفيه للمثلة . ففرح القوم ).

ورواه الحسين بن عبد الوهاب في عيون المعجزات/109، مع فروقات ، فليس فيه شتم الريان ليونس بن عبد الرحمن ، وفيه: (وكان وقت الموسم فاجتمع من فقهاء بغداد والأمصار وعلمائهم ثمانون رجلاً ، فخرجوا إلى الحج وقصدوا المدينة ليشاهدوا أبا جعفر(عليه السلام) فلما وافوا أتوا دار أبي جعفر الصادق لأنها كانت فارغة.. فدخل(عليه السلام) وعليه قميصان وعمامة بذؤابتين وفي رجليه نعلان . وأمسك الناس كلهم فقام صاحب المسألة فسأله عن مسائله فأجاب عنها بالحق ففرحوا... وكان إسحاق بن إسماعيل ممن حج في جملتهم في تلك السنة قال إسحاق: فأعددت له في رقعة عشر مسائل، وكان لي حمل فقلت في نفسي: إن أجابني عن مسائلي سألته أن يدعو اللّه أن يجعله ذكراً ، فلما ألح عليه الناس بالمسائل وكان يفتي بالواجب ، فقمت لأخفف والرقعة معي لأساله فيغد عن مسائلي ، فلما نظر إليَّ قال: يا إسحاق قد استجاب اللّه دعائي فسمه أحمد ، فقلت: الحمد للّه هذا هو الحجة البالغة ، وانصرف إلى بلده فولد له ذكرٌ فسماه أحمد ).

ص: 54

(4)ملاحظات على هذه الروايات

1.نلاحظ أن الشيعة في ذلك الوقت وجودٌ وازنٌ في بغداد ، وقد بينا ذلك في سيرة الإمام الكاظم(عليه السلام) . وعبد الرحمن بن الحجاج البجلي الذي اجتمعوا في داره ، من كبار علماء الشيعة البغداديين ، وهو من أصحاب الأئمة الصادق والكاظم والرضا(عليهم السلام) ، وشهد له الإمام الكاظم(عليه السلام) بالجنة .

2. قال الحموي في معجم البلدان(1/402): (بركة زلزل: ببغداد بين الكرخ والسراة وباب المحول وسويقة أبي الورد..وكان غلاماً لعيسى بن جعفر بن المنصور ، وكان في موضع البركة قرية يقال لها سال بقباء ، إلى قصر الوضاح ، فحفر هناك بركة ووقفها على المسلمين ، ونسبت المحلة بأسرها إليه ، فقال نفطويه النحوي في ذلك:

لوَ أن زهيراً وامرأ القيس أبصرا *** مَلاحة ما تحويه بركة زلزلِ

لما وصفا سلمى ولا أمَّ جُنْدُبٍ *** ولا أكثرا ذكر الدَّخُول وحَوْمَلِ)

3. عبد الرحمن بن الحجاج ، ويونس بن عبد الرحمن ، كلاهما من كبار أصحاب الأئمة(عليهم السلام) ، والكلام الذي نسبته الرواية الى يونس لايتفق مع عقيدته الثابتة في إمامة الأئمة(عليهم السلام) ولا مع جلالة قدره ، فقد أرشد الإمام الرضا(عليه السلام) أحدهم أن يأخذ منه معالم دينه . وكذا الشتم الذي نسبته الى عبد الرحمن بن الحجاج لايتناسب مع جلالته وشهادة الأئمة(عليهم السلام) له بأنه من أهل الجنة .

ص: 55

فيحتمل أن الراوي اختلط عليه الإسم ، أو بالغ في نقل القصة ، أو أن يونس طرح تساؤله في المجلس لمن يرجعون حتى يكبر الإمام الجواد(عليه السلام) لأنه يوجد في المجلس من عنده هذا السؤال ، وهو يعلم أن كبار علماء الطائفة سيجيبونه ويستنكرون هذا الكلام .

4.ردَّ السيد الخوئي في معجمه (21/226) هذه الرواية بحجة أنها مرسلة وبحجة عدم صحة ما نسبته الى يونس بن عبد الرحمن(رحمه اللّه)فقال:(هذه الرواية أولاً مرسلة غير قابلة للإعتماد عليها ، على أنها معلومة الكذب وذلك فإن يونس بن عبد الرحمن كان من المشاهير ، فلو أنه تكلم بمثل هذا الكلام في جماعة من وجوه الشيعة وثقاتهم ، لشاع الخبر وذاع ).

أقول: الرواية ليست مرسلة فقد رواها الطبري في دلائل الإمامة بنفس سند الرواية التي قبلها وهو: (حدثني

أبو المفضل محمد بن عبد اللّه قال: حدثني أبو النجم بدر بن عمار الطبرستاني قال: حدثني أبو جعفر محمد بن علي قال: روى محمد بن المحمودي ، عن أبيه ، قال..). ورواها في عيون المعجزات كما تقدم ، وتلقاها المفيد بالقبول .

مضافاً الى أن هذا الإشكال في الرواية لايسقطها من الإعتبار ، لما بيناه .

(5) توافد علماء الشيعة الى المدينة

مضافاً الى وفد الشيعة من العراق لرؤية الإمام الجواد(عليه السلام) ، فقد توافد علماء ووجهاء من بلاد أخرى الى المدينة المنورة لمشاهدته(عليه السلام) ، وقصدوا قرية صِرْيَا التي هي مزرعة للإمام الكاظم(عليه السلام) في ضاحية المدينة .

ص: 56

ففي مناقب آل أبي طالب (3/489): ( لما مضى الرضا(عليه السلام) جاء محمد بن جمهور القمي، والحسن بن راشد ، وعلي بن مدرك ، وعلي بن مهزيار ، وخلق كثير من سائر البلدان إلى المدينة ، وسألوا عن الخلف بعد الرضا فقالوا: بِصِرْيَا وهي قرية أسسها موسى بن جعفر(عليه السلام) على ثلاثة أميال من المدينة ، فجئنا ودخلنا القصر فإذا الناس فيه متكابسون(مزدحمون) فجلسنا معهم ، إذ خرج علينا عبد اللّه بن موسى وهو شيخ فقال الناس: هذا صاحبنا ، فقال الفقهاء: قد روينا عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه(عليهما السلام) أنه لا تجتمع الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين(عليهما السلام) وليس هذا صاحبنا ، فجاء حتى جلس في صدر المجلس فقال رجل: ما تقول أعزك اللّه في رجل طلق امرأته عدد نجوم السماء؟ قال: بانت منه بصدر الجوزاء والنسر الطائر والنسر الواقع !

فتحيرنا في جرأته على الخطأ ، إذ خرج علينا أبو جعفر وهو ابن ثمان سنين ، فقمنا إليه فسلم على الناس ، وقام عبد اللّه بن موسى من مجلسه فجلس بين يديه ، وجلس أبو جعفر في صدر المجلس ثم قال: سلوا رحمكم اللّه ، فقام إليه الرجل الأول وقال: ما تقول أصلحك اللّه في رجل أتى حمارة ؟ قال: يضرب دون الحد ويغرم ثمنها ويحرم ظهرها ونتاجها ، وتخرج إلى البرية حتى تأتي عليها منيتها سبع أكلها ذئب أكلها ، ثم قال بعد كلام: يا هذا ذاك الرجل ينبش عن مَيِّتة فيسرق كفنها ويفجر بها ، يوجب عليه القطع بالسرق والحد بالزناوالنفي ، إذا كان عزباً ، فلو كان محصناً لوجب عليه القتل والرجم . فقال الرجل الثاني: يا ابن رسول اللّه ، ما تقول في رجل طلق امرأته عدد نجوم السماء؟ قال: تقرأ القرآن؟ قال: نعم. قال: إقرأ سورة الطلاق إلى قوله: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للَّهِ . يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ

ص: 57

مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِى لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا . فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للَّهِ

. يا هذا لاطلاق إلا بخمس: شهادة شاهدين عدلين ، في طهر ، من غير جماع ، بإرادة عزم ، ثم قال بعد كلام: يا هذا هل ترى في القرآن عدد نجوم السماء ؟ قال: لا.. الخبر) .

ولم نجد تكملة الخبر لكنه غنيٌّ بالدلالة على تَثَبُّت الشيعة وإجماعهم على إمامة الإمام الجواد صلوات اللّه عليه ، لعلمه ومعجزاته ، على صغر سنه .

**

ص: 58

الفصل الثالث: الإمام الجواد في عصرالمأمون

(1)الإمام الرضا(عليه السلام) والمأمون

كان هارون (الرشيد) أوصى بالخلافة الى ابنه الأمين بن زبيدة بنت أبي جعفر المنصور ، ثم الى المأمون ، وأمه فارسية من هراة . ومات هارون في خراسان ، حيث كان في جولة في إيران ومعه المأمون ، ودفن في طوس .

وبايع العباسيون في بغداد ولي عهده الأمين فصار الخليفة ، وكان المفروض أن يجعل أخاه المأمون ولي عهده حسب وصية أبيه ، لكنه عزله وجعل مكانه ابنه موسى ، فثارت ثائرة المأمون ، وشجعه قادة الفرس فأعلن نفسه خليفة وعزل الأمين ، وقادوا له جيشاً ، وكانت بينه وبين أخيه الأمين حروب ، حتى انتصر

ودخل جيشه بغداد، وقتل أخاه الأمين وحملوا اليه رأسه , فبايعه العباسيون.

وبقي المأمون في خراسان ، وأخذ يرتب وضع الأمبراطورية إدارياً وسياسياً . وانتقم من العباسيين ، فجعل ولاية عهده للإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) مظهراً بذلك أنه نقل الخلافة منهم الى العلويين !

ص: 59

وكان غرضه أيضاً أن يتألف العلويين ويُسَكِّت ثوراتهم ، التي كانت تظهر في هذا البلد وذاك .

وكان الإمام الرضا(عليه السلام) يعرف هدف المأمون فرفض ولاية عهده ، حتى هدده وأجبره على ذلك ، فشرط عليه ، أن لا ينصب أحداً ولا يعزل ، ولا يتدخل في شئ من أمر الدولة ، فقبل المأمون .

وذات مرة قال له المأمون: (يا أبا الحسن أنظر بعض من تثق به نوليه هذه البلدان التي قد فسدت علينا ، فقلت له: تفي لي وأوفي لك ، فإني إنما دخلت فيما دخلت على أن لا آمر فيه ولا أنهى ، ولا أعزل ، ولا أولي ، ولا أشير ، حتى يقدمني اللّه قبلك . فواللّه إن الخلافة لشئ ماحدثت به نفسي ، ولقد كنت بالمدينة أتردد في طرقها على دابتي ، وإن أهلها وغيرهم يسألوني الحوائج فأقضيها لهم ، فيصيرون كالأعمام لي ، وإن كتبي لنافذة في الأمصار ، وما زدتني من نعمة ، هي علي من ربي . فقال له: أفي لك ). (عيون أخبار الرضا(عليه السلام) :2/177).

وبقي الإمام(عليه السلام) في ولاية عهد المأمون نحو سنتين ، وفي هذه المدة القصيرة ظهرت منه علوم ومعجزات . راجع: كتاب عيون أخبار الرضا(عليه السلام) للصدوق .

ولم يستسلم العباسيون للمأمون رغم أنهم بايعوه مجبرين ، فخلعوه وبايعوا عمه إبراهيم بن المهدي ، وكان أسود مغنياً ، وواصلوا حربهم لجيش المأمون .

ص: 60

وكان حاكم العراق الفضل بن سهل يستر على المأمون وضع بغداد ، خوفاً من أن يعزله ويعين غيره ! فأخبر الإمام الرضا(عليه السلام) المأمون بمؤامرة الفضل ونصحه بأن يرجع الى بغداد ويرضي العباسيين .

قال الطبري (7/147): (ذكر أن علي بن موسى بن جعفر بن محمد العلوي ، أخبر المأمون بما فيه الناس من الفتنة والقتال منذ قُتل أخوه ، وبما كان الفضل بن سهل يستر عنه من الأخبار ، وأن أهل بيته والناس قد نقموا عليه أشياء ، وأنهم يقولون إنه مسحور مجنون ، وأنهم لما رأوا ذلك بايعوا لعمه إبراهيم بن المهدى بالخلافة ، فقال المأمون إنهم لم يبايعوا له بالخلافة ، وإنما صيروه أميراً يقوم بأمرهم على ما أخبره به الفضل ، فأعلمه أن الفضل قد كذبه وغشه ، وأن الحرب قائمة بين إبراهيم والحسن بن سهل ، وأن الناس ينقمون عليك مكانه ومكان أخيه ومكاني ومكان بيعتك لي من بعدك !

فقال ومن يعلم هذا من أهل عسكري؟فقال له: يحيى بن معاذ ، وعبد العزيز بن عمران وعدة من وجوه أهل العسكر ، فقال له أدخلهم عليَّ حتى أسائلهم عما ذكرت ، فأدخلهم عليه ، وهم يحيى بن معاذ ، وعبد العزيز بن عمران ، وموسى وعلي بن أبي سعيد ، وهو ابن أخت الفضل ، وخلف المصري . فسألهم عما أخبره فأبوا أن يخبروه حتى يجعل لهم الأمان من الفضل بن سهل ألا يعرض لهم فضمن ذلك لهم وكتب لكل رجل منهم كتاباً بخطه ودفعه إليهم ، فأخبروه بما فيه الناس من الفتن ، وبينوا ذلك له وأخبروه بغضب أهل بيته ومواليه

ص: 61

وقواده عليه في أشياءكثيرة ، وبما موه عليه الفضل من أمر هرثمة ، وأن هرثمة إنما جاء لينصحه وليبين له ما يعمل عليه... )

وعندما تأكد المأمون من خطورة الوضع في العراق وأنه كما أخبره الإمام الرضا(عليه السلام) ، قرر أن يتخلص من وزيره الفضل بن سهل ، فقتله ثم قتل قاتليه وبكي عليه !

ثم قام بسُمِّ الإمام الرضا(عليه السلام) وأقام عليه العزاء وبكى عليه ، ورجع الى بغداد ، فاسترضى بني العباس !

روى في عيون أخبار الرضا(عليه السلام) (2/265) عن أحمد بن علي الأنصاري، قال: (سألت أبا الصلت الهروي فقلت له: كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا(عليه السلام) مع إكرامه ومحبته له وما جعل له من ولاية العهد بعده ؟

فقال: إن المأمون إنما كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله ، وجعل له ولاية العهد من بعده ليرى الناس أنه راغب في الدنيا فيسقط محله من نفوسهم ، فلما لم يظهر منه في ذلك للناس إلاّ ما ازداد به فضلاً عندهم ومحلاً في نفوسهم ، جلب عليه المتكلمين من البلدان طمعاً في أن يقطعه واحد منهم ، فيسقط محله عند العلماء بسببهم ، ويشتهر نقصه عند العامة . فكان لا يكلمه خصم من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والبراهمة والملحدين والدهرية ، ولا خصم من فرق المسلمين المخالفين إلا قطعه وألزمه الحجة . وكان الناس يقولون: واللّه إنه أولى بالخلافة من المأمون !

وكان أصحاب الأخبار يرفعون ذلك إليه ، فيغتاظ من ذلك ويشتد حسده له ، وكان الرضا(عليه السلام) لا يحابي المأمون في حق وكان يجيبه بما يكره في أكثر أحواله ، فيغيظه ذلك ويحقده عليه ولا يظهره له ، فلما أعيته الحيلة في أمره اغتاله ، فقتله بالسُّم ) !

ص: 62

(2) كان المأمون يعرف الإمام الجواد(عليه السلام) جيداً

كان المأمون يعرف أن الإمام الرضا(عليه السلام) إمامٌ رباني منصوص عليه من جده رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) . وأنه نص على إمامة ابنه محمد الجواد(عليه السلام) من بعده , وأنه يراسله بتعظيم ، وتظهر له كرامات رغم صغر سنه !

وقد زوج المأمون أخته للإمام الرضا(عليه السلام) ، وسمى ابنته لولده الإمام الجواد(عليه السلام) ورويَ أن المأمون راسل الإمام الجواد(عليه السلام) من طوس .

وقد يكون المأمون راسله معزياً بأبيه الرضا(عليهما السلام) ، لأنه بالغ في إظهار الجزع وكرر مدائحه للإمام الرضا(عليه السلام)، ليبعد عن نفسه جريمة قتله !

وكان (المخبرون) يوصلون الى المأمون أخبار الإمام الجواد(عليه السلام) وتوافد علماء الشيعة وزعمائهم الى المدينة ولقائهم به ، ومشاهدتهم علمه ومعجزاته ، وإجماعهم على إمامته ، وهو في السابعة من عمره .

وعندما رجع المأمون الى بغداد سنة 204، أي بعد أن قتل الإمام الرضا(عليه السلام) بسنتين ، كان عمر الإمام الجواد(عليه السلام) نحو تسع سنين .

وقد أحضره المأمون الى بغداد وهو في سن التاسعة ، كما روى الريان بن شبيب (رحمه اللّه) وليس

في سن السادسة عشرة ، كما ذكرت رواية أخرى .

وهذا يتناسب مع حاجة المأمون الفورية لأن يتحدى به العباسيين ، ويعلن أنه صهره ويعقد له على ابنته، ليهددهم بنقل الخلافة منهم الى آل علي(عليه السلام) .

ص: 63

(3) تزويج المأمون ابنته للإمام الجواد(عليه السلام)

وقد استفاضت رواية مجلس العقد التاريخي ، ففي الصحيح عن الريان بن شبيب (الإرشاد:2/281) قال:(روى الحسن بن محمد بن سليمان ، عن علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن الريان بن شبيب قال: لما أراد المأمون أن يزوج ابنته أم الفضل أبا جعفر محمد بن علي(عليهما السلام) بلغ ذلك العباسيين فغلظ عليهم واستكبروه ، وخافوا أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع الرضا(عليه السلام) فخاضوا في ذلك ، واجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه فقالوا له: ننشدك اللّه يا أمير المؤمنين أن تقيم على هذا الأمر الذي قد عزمت عليه من تزويج ابن الرضا ، فإنا نخاف أن يخرج به عنا أمرٌ قد ملكناه اللّه ، ويُنزع منا عزٌّ قد ألبسناه اللّه ، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً ، وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم ، وقد كنا في وهلة من عملك مع الرضا ما عملت حتى كفانا اللّه المهم من ذلك ، فاللّه اللّه أن تردنا إلى غم قد انحسر عنا ، واصرف رأيك عن ابن الرضا واعدل إلى من تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره .

فقال لهم المأمون: أما ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه ، ولو أنصفتم القوم لكان أولى بكم ، وأما ما كان يفعله من كان قبلي بهم ، فقد كان قاطعاً للرحم ، أعوذ باللّه من ذلك ، وواللّه ما ندمت على ما كان مني من استخلاف الرضا ، ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه عن نفسيفأبى ، وكان أمر اللّه قدراً مقدوراً . وأما أبو جعفر محمد بن علي فقد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم والفضل مع صغر سنه ، والأعجوبة فيه بذلك .

ص: 64

وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه فيعلموا أن الرأي ما رأيت فيه . فقالوا: إن هذا الصبي وإن راقك منه هديه ، فإنه صبي لا معرفة له ولا فقه ، فأمهله ليتأدب ويتفقه في الدين ، ثم اصنع ما تراه بعد ذلك .

فقال لهم: ويحكم إنني أعرف بهذا الفتى منكم ، وإن هذا من أهل بيتٍ علمهم من اللّه ومواده وإلهامه ، لم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حد الكمال ، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبين به ما وصفت من حاله .

قالوا له: قد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولأنفسنا بامتحانه ، فخل بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شئ من فقه الشريعة ، فإن أصاب في الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في أمره ، وظهر للخاصة والعامة سديد رأي أمير المؤمنين ، وإن عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب في معناه .

فقال لهم المأمون: شأنكم وذاك متى أردتم .

فخرجوا من عنده وأجمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم ، وهو يومئذ قاضي القضاة ، على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها ، ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك ، وعادوا إلى المأمون فسألوه أن يختار لهم يوماً للإجتماع ، فأجابهم إلى ذلك.

واجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه ، وحضر معهم يحيى بن أكثم وأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر(عليه السلام) دست (مثل المنصة) وتجعل له فيه مسورتان (متكآن) ففعلوا ذلك ، وخرج أبو جعفر(عليه السلام) وهو يومئذ ابن تسع سنين وأشهر ، فجلس بين المسورتين وجلس يحيى بن أكثم بين يديه ، وقام الناس في مراتبهم والمأمون جالس في دست متصل بدست أبي جعفر(عليه السلام) .

ص: 65

فقال يحيى بن أكثم للمأمون: يأذن لي أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر؟

فقال له المأمون: إستأذنه في ذلك ، فأقبل عليه يحيى بن أكثم فقال: أتأذن لي جعلت فداك في مسألة ؟ فقال له أبو جعفر(عليه السلام) : سل إن شئت .

قال يحيى: ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيداً ؟فقال له أبو جعفر: قتله في حل أو حرم ؟ عالماً كان المحرم أم جاهلاً ؟ قتله عمداً أو خطأ ؟ حراً كان المحرم أم عبداً ؟ صغيراً كان أم كبيراً ؟ مبتدئاً بالقتل أم معيداً ؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها ؟ من صغار الصيد كان أم كبارها ؟ مصراً على ما فعل أو نادماً ؟ في الليل كان قتله للصيد أم نهاراً ؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرماً ؟

فتحير يحيى بن أكثم ، وبان في وجهه العجز والإنقطاع ، ولجلج حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره !

فقال المأمون: الحمد للّه على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي . ثم نظر إلى أهل بيته وقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه ! ثم أقبل على أبي جعفر(عليه السلام) فقال له: أتخطب يا أبا جعفر ؟

قال: نعم يا أمير المؤمنين ، فقال له المأمون: أخطب ، جعلت فداك لنفسك ، فقد رضيتك لنفسي وأنا مزوجك أم الفضل ابنتي ، وإن رغم قوم لذلك .

فقال أبو جعفر(عليه السلام) : الحمد للّه إقراراً بنعمته ، ولا إله إلا اللّه إخلاصاً لوحدانيته وصلى اللّه على محمد سيد بريته ، والأصفياء من عترته .

ص: 66

أما بعد: فقد كان من فضل اللّه على الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام ، فقال سبحانه: وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ، ثم إن محمد بن علي بن موسى يخطب أم الفضل بنت عبد اللّه المأمون ، وقد بذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو خمس مائة درهم جياداً ، فهل زوجته يا أمير المؤمنين بها على هذا الصداق المذكور؟

قال المأمون: نعم ، قد زوجتك أبا جعفر أم الفضل ابنتي على هذا الصداق المذكور ، فهل قبلت النكاح؟ قال أبو جعفر: قد قبلت ذلك ورضيت به .

فأمر المأمون أن يقعد الناس على مراتبهم في الخاصة والعامة . قال الريان: ولم نلبث أن سمعنا أصواتاً تشبه أصوات الملاحين في محاوراتهم ، فإذا الخدم يجرون سفينة مصنوعة من فضة ، مشدودة بالحبال من الإبريسم ، على عجل مملوءة من الغالية (العطر) فأمر المأمون أن تخضب لحى الخاصة من تلك الغالية ، ثم مدت إلى دار العامة فطيبوا منها ، ووضعت الموائد فأكل الناس ، وخرجت الجوائز إلى كل قوم على قدرهم.

فلما تفرق الناس وبقي من الخاصة من بقي ، قال المأمون لأبي جعفر: إن رأيت جعلت فداك أن تذكر الفقه فيما فصلته من وجوه قتل المحرم الصيد ، لنعلمه ونستفيده . فقال أبو جعفر(عليه السلام) : نعم ، إن المحرم إذا قتل صيداً في الحل وكان الصيد من ذوات الطير ، وكان من كبارها فعليه شاة ، فإن كان أصابه في الحرم

ص: 67

فعليه الجزاء مضاعفاً ، وإذا قتل فرخاً في الحل فعليه حمل قد فطم من اللبن ، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ .

وإن كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة ، وإن كان نعامة فعليه بدنة ، وإن كان ظبياً فعليه شاة ، فإن قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة ، وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه للحج نحره بمنى ، وإن كان إحرامه للعمرة نحره بمكة .

وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء، وفي العمد له المأثم ، وهو موضوع عنه في الخطأ ، والكفارة على الحر في نفسه ، وعلى السيد في عبده ، والصغير لا كفارة عليه ، وهي على الكبير واجبة ، والنادم يسقط بندمه عنه عقاب الآخرة ، والمصرُّ يجب عليه العقاب في الآخرة .

فقال له المأمون: أحسنت أبا جعفر أحسن اللّه إليك ، فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك . فقال أبو جعفر ليحيى: أسألك ؟ قال: ذلك إليك جعلت فداك ، فإن عرفت جواب ما تسألني عنه ، وإلا استفدته منك .

فقال له أبو جعفر(عليه السلام) : خبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أول النهار فكان نظره إليها حراماً عليه ، فلما ارتفع النهار حلت له ، فلما زالت الشمس حرمت عليه ، فلما كان وقت العصر حلت له ، فلما غربت الشمس حرمت عليه ، فلما دخل عليه وقت العشاء الآخرة حلت له ، فلما كان انتصاف الليل حرمت عليه ، فلما طلع الفجر حلت له ، ما حال هذه المرأة وبماذا حلت له وحرمت عليه ؟

ص: 68

فقال له يحيى بن أكثم: لا واللّه ما أهتدي إلى جواب هذا السؤال ، ولا أعرف الوجه فيه ، فإن رأيت أن تفيدناه .

فقال له أبو جعفر(عليه السلام) :هذه أمة لرجل من الناس نظر إليها أجنبي في أول النهار فكان نظره إليها حراماً عليه ، فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلت له ، فلما كان الظهر أعتقها فحرمت عليه ، فلما كان وقت العصر تزوجها فحلت له ، فلما كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمتعليه ، فلما كان وقت العشاء الآخرة كفر عن الظهار فحلت له ، فلما كان نصف الليل طلقها واحدة فحرمت عليه ، فلما كان عند الفجر راجعها فحلت له .

قال: فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم: هل فيكم أحد يجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب ، أو يعرف القول فيما تقدم من السؤال ؟!

قالوا: لا واللّه ، إن أمير المؤمنين أعلم وما رأى .

فقال لهم: ويحكم ، إن أهل هذا البيت خصوا من الخلق بما ترون من الفضل ، وإن صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال .

أما علمتم أن رسول اللّه افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو

ابن عشر سنين ، وقبل منه الإسلام وحكم له به ، ولم يَدْعُ أحداً في سنه غيره . وبايع الحسن والحسين وهما ابنا دون الست سنين ، ولم يبايع صبياً غيرهما ، أفلا تعلمون الآن ما اختص اللّه به هؤلاء القوم ، وأنهم ذرية بعضها من بعض ، يجري لآخرهم ما يجري لأولهم؟! قالوا: صدقت يا أمير المؤمنين ثم نهض القوم.

ص: 69

فلما كان من الغد أحضر الناس وحضر أبو جعفر(عليه السلام) ، وصار القواد والحجاب والخاصة والعمال لتهنئة المأمون وأبي جعفر(عليه السلام) ، فأخرجت ثلاثة أطباق من الفضة فيها بنادق مسك ، وزعفران معجون ، في أجواف تلك البنادق رقاع مكتوبة بأموال جزيلة وعطايا سنية وإقطاعات ، فأمر المأمون بنثرها على القوم من خاصته ، فكان كل من وقع في يده بندقة ، أخرج الرقعة التي فيها والتمسه فأطلق له . ووضعت البدر ، فنثر ما فيها على القواد وغيرهم ، وانصرف الناس وهم أغنياء بالجوائز والعطايا. وتقدم المأمون بالصدقة على كافة المساكين. ولم يزل مكرماً لأبي جعفر(عليه السلام) معظماً لقدره مدة حياته ، يؤثره على ولده وجماعة أهل بيته).

ورواه المفيد في

الإختصاص/98، ورواه تفسير القمي (1/182) , بتفاوت يسير ، وفيه: (فأمر المأمون أن يكتب ذلك ، ثم دعا أهل بيته فقرأ عليهم ذلك وقال لهم: هل فيكم أحد يجيب بمثل هذا الجواب ، قالوا: لا واللّه ، ولا القاضي !

ثم قال: ويحكم إن أهل هذا البيت خِلْوٌ (غير) من هذا الخلق ! أوَمَا علمتم أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بايع

الحسن والحسين(عليهما السلام) وهما صبيان غير بالغين ،ولم يبايع طفلاً غيرهما ! أوما علمتم أن علياً آمن بالنبي وهو ابن عشر سنين ، فقبل اللّه ورسوله منه إيمانه ، ولم يقبل من طفل غيره ، ولا دعا النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) طفلاً غيره إلى الإيمان ! أوَمَا علمتم أنها ذرية بعضها من بعض ، يجري لآخرهم ما يجري لأولهم !

قال: ثم أمر المأمون أن ينثر على أبي جعفر(عليه السلام) ثلاثة أطباق بنادق زعفران ومسك معجون بماء الورد في جوفهما رقاع .على طَبَقٍ رقاع عمالات ، والثاني

ص: 70

ضِياع ، طُعْمَةٌ لمن أخذها ، والثالث فيه بِدَر(جمع بدرة، أي: صُرَر ) ثم أمر أن يفرق طَبق العمالات على بني هاشم خاصة ، والذي عليه ضياع طعمة على الوزراء ، والذي عليه البدر على القواد . وما زال مكرماً لأبي جعفر(عليه السلام) أيام حياته ، حتى كان يقدمه على ولده ).

(4) ملاحظات على هذه الرواية

1. يتعجب الإنسان من المأمون كيف يعتقد بإمامة علي والأئمة(عليهم السلام) إمامةً ربانية ، ويحتج في هذا المجلس وغيره ، على بني العباس وكبار الفقهاء والعلماء ، ويشهد بحقهم وأنهم أهل وصية النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل الحق الإلهي في إمامة الأمة وحكمها .

ثم يغصب حقهم ويجلس في مجلسهم ؟ ثم يعاديهم ويقتلهم ؟!

وقد اعترف المأمون على أبيه بذلك أيضاً ، فقال يوماً:

( أتدرون من علمني التشيع ؟ فقال القوم: لا واللّه ما نعلم ذلك . قال: علمنيه الرشيد ! قيل له: وكيف ذلك ، والرشيد يقتل أهل البيت ؟! قال: كان الرشيد يقتلهم على الملك ، لأن الملك عقيم ، ثم قال: إنه دخل موسى بن جعفر عليهما السلام على الرشيد يوماً فقام إليه ، واستقبله وأجلسه في الصدر وقعد بين يديه ، وجرى بينهما أشياء ، ثم قال موسى بن جعفر(عليه السلام) لأبي :يا أمير المؤمنين إن اللّه عز وجل قد فرض على الولاة عهده: أن ينعشوا فقراء هذه الأمة ، ويقضوا عن الغارمين ، ويؤدوا عن المثقل ، ويكسوا العاري ويحسنوا إلى العاني، وأنت أولى من يفعل ذلك . فقال: أفعل يا أبا الحسن . ثم قام فقام الرشيد لقيامه ، وقبل بين

ص: 71

عينيه ووجهه ، ثم أقبل علي وعلى الأمين والمؤتمن فقال: يا عبد اللّه ! ويا محمد ! ويا إبراهيم ! امشوا بين يدي ابن عمكم وسيدكم ، خذوا بركابه وسووا عليه ثيابه وشيعوه إلى منزله ، فأقبل إلي أبو الحسن موسى بنجعفر سراً بيني وبينه فبشرني بالخلافة . وقال لي: إذا ملكت هذا الأمر فأحسن إلى ولدي .

ثم انصرفنا وكنت أجرأ ولد أبي عليه ، فلما خلا المجلس قلت: يا أمير المؤمنين ومن هذا الرجل الذي أعظمته وأجللته ، وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته ، وأقعدته في صدر المجلس ، وجلست دونه ، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له ؟

قال: هذا إمام الناس ، وحجة اللّه على خلقه ، وخليفته على عباده .

فقلت: يا أمير المؤمنين أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك ؟

فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر ، وموسى بن جعفر إمام حق ، واللّه يا بني أنه لأحق بمقام رسول اللّه مني ومن الخلق جميعاً ، وواللّه لو نازعتني في هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك ، لأن الملك عقيم .

فلما أراد الرحيل من المدينة إلى مكة أمر بصرة سوداء فيها مائتا دينار ، ثم أقبل على الفضل فقال له: إذهب إلى موسى بن جعفر وقل له: يقول لك أمير المؤمنين نحن في ضيقة وسيأتيك برنا بعد هذا الوقت . فقمت في وجهه فقلت: يا أمير المؤمنين ! تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وسائر قريش وبني هاشم ومن لا تعرف حسبه ونسبه: خمسة آلاف دينار إلى ما دونها . وتعطي موسى بن جعفر وقد عظمته وأجللته مائتي دينار ، وأخس عطية أعطيتها أحداً من الناس؟

ص: 72

فقال: أسكت لا أم لك ! فإني لو أعطيته هذا ما ضمنته له ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غداً بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه . فَقْرُ هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وإغنائهم).(الإحتجاج:2/165).

2. كل عصبية لا بد أن تنتهي الى حب الذات وعبادتها ! فالمأمون يتعصب لعشيرته العباسيين ضد بني هاشم . ويتعصب لأبناء هارون ضد غيرهم من العباسيين . ويتعصب لنفسه ضد إخوته أبناء هارون ، حتى أنه حارب أخاه الأمين وقتله شر قتله . وذلك من أجل نفسه ، وتسلطه وشهوته !

3. هدف المأمون من تزويج الإمام الجواد(عليه السلام) أن يهدد بني العباس بنقل الخلافة عنهم الى أبناء علي(عليه السلام) فيقبلوا جعل ابنه ولي عهده ، ويقبلوا تغييراته في مذهب بني العباس . وهدفه من جهة أخرى أن يخضع الإمام الجواد(عليه السلام) لرقابته وسيطرته ، ويفصله عن جمهور الناس ، حتى لا يثور عليه يوماً ما .

4. عندما أقدم المأمون على جريمة سم الإمام الرضا حذره الإمام(عليه السلام) من قتل ولده الجواد(عليه السلام) ، وقال له حافظ على حياته لأن عمرك ينتهي مع عمره !

ففي عيون أخبار الرضا(عليه السلام) (2/270): (وجاء المأمون حافياً حاسراً يضرب على رأسه ويقبض على لحيته ويتأسف ويبكي وتسيل دموعه على خديه فوقف على الرضا(عليه السلام) وقد أفاق فقال: يا سيدي واللّه ما أدري أي المصيبتين أعظم علي ؟ فقدي لك وفراقي إياك ؟ أو تهمة الناس لي إني اغتلتك وقتلتك! قال: فرفع

ص: 73

طرفه إليه ، ثم قال: أحسن يا أمير المؤمنين معاشرة أبي جعفر ، فإن عمرك وعمره هكذا . وجمع بين سبابتيه) !

والظاهر أن المأمون اكتفى بدم الإمام الرضا(عليه السلام) فلم يقتل الإمام الجواد(عليه السلام) ، وكان مرناً معه ، فسمح له أن يسكن في المدينة ، ويترك زوجته بنت المأمون في بغداد .

وسيأتي أن المأمون حاول وهو سكران أن يقتل الإمام الجواد(عليه السلام) وندم على ذلك .

(5)الإمام الجواد(عليه السلام) يكره حياة قصورالخلافة

صرح الإمام(عليه السلام) بأنه يكره حياة قصور الخلافة ، وأنه كان مجبراً على البقاء فيها . ففي الخرائج/383: ( عن الحسين المكاري قال: دخلت على أبي جعفر ببغداد وهو على ما كان من أمره، فقلت في نفسي: هذا الرجل لا يرجع إلى موطنه أبداً ، وما أعرف مطعمه . قال: فأطرق رأسه ، ثم رفعه وقد اصفر لونه فقال: يا حسين خبز شعير ، وملح جريش في حرم جدي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أحب إلي مما تراني فيه).

وقد دعاه أحد أعوان المعتصم يوماً: ( فأبى أن يجيبه وقال: قد علمت أني لا أحضر مجالسكم . فقال: إني إنما أدعوك إلى الطعام ، وأحب أن تطأ ثيابي ، وتدخل منزلي فأتبرك بذلك ). (تفسير العياشي:1/320).

أما زوجته أم الفضل فكانت كبقية نساء القصور العباسية ، المعروفة بالترف .

كان الإمام(عليه السلام) في التاسعة من عمره عندما عُقد زواجه على بنت المأمون ، وقد يكون التقى بها يومها لكنه لم يدخل بها وعاد الى المدينة وبقي فيها .

ص: 74

وفي السادسة عشرة من عمره تزوج الإمام(عليه السلام) بجارية مغربية هي السيدة سمانة رضي اللّه عنها ، وبعد سنة ، أي سنة212، رزقه اللّه منها ابنه الإمامعلي الهادي(عليه السلام) . ثم رزق بابنه موسى وبثلاث بنات: خديجة وحكيمة وأم كلثوم . (دلائل الإمامة/397) .

وقد يكون زار بغداد أو أحضره المأمون بعد عقد زواجه مرة أو مرات ، لكن المؤكد أنه لم يدخل على أم الفضل الى سنة 215 ، عندما توجه المأمون الى بلاد الشام والروم ، فقد نص المؤرخون ، ومنهم الطبري ، والذهبي ، وابن كثير ، أنه لقي المأمون بتكريت ، وأمره المأمون أن يدخل بزوجته أم الفضل .

(6) زفوا له بنت المأمون ولعله لم يمسها !

قال الطبري (7/189): (ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائتين.. شَخَص المأمون من مدينة السلام لغزو الروم ، وذلك يوم السبت فيما قيل لثلاث بقين من المحرم وقيل كان ارتحاله من الشماسية إلى البردان يوم الخميس بعد صلاة الظهر لِسِتٍّ بقين من المحرم سنة 215، واستخلف حين رحل عن مدينة السلام عليها إسحاق بن إبراهيم بن مصعب ، وولى مع ذلك السواد وحلوان وكور دجلة ، فلما صار المأمون بتكريت قدم عليه محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، من المدينة في صفر ليلة الجمعة من هذه السنة ولقيه بها ، فأجازه وأمره أن يدخل بابنته أم الفضل وكان زَوَّجَهَا منه، فأدخلت عليه في دار أحمد بن يوسف التي على شاطئ دجلة فأقام بها ، فلما كان أيام الحج خرج بأهله وعياله حتى أتى مكة ، ثم أتى منزله بالمدينة فأقام بها ).

ص: 75

وقال ابن كثير في النهاية (10/295): (فلما كان بتكريت تلقاه محمد بن علي بن موسى بن جعفر.. من المدينة النبوية ، فأذن له المأمون في الدخول على ابنته أم الفضل بنت المأمون . وكان معقود العقد عليها في حياة أبيه علي بن موسى ، فدخل بها وأخذها معه إلى بلاد الحجاز ).

وهذا يعني أن الإمام(عليه السلام) في تلك المدة ترك زوجته أم الفضل ولم يدخل بها ، وتزوج غيرها ورزق بأولاد ، ثم جاء بعد بضع عشرة سنة ، فأمره المأمون أن يدخل بزوجته !

وقد يكون السبب أن الإمام لا يرتضي سلوك زوجته وينتظر أن تطلب منه الطلاق .

أو أنها كانت من صغرها مصابة بسرطان في موضع حساس ، فقد قال لها عندما سمته ، كما في عيون المعجزات/118: ( واللّه ليضربنك اللّه بفقر لاينجبر ، وبلاء لا ينستر ! فماتت بعلة في أغمض المواضع من جوارحها صارت ناصوراً ، فأنفقت مالها وجميع ملكها على تلك العلة حتى احتاجت إلى الإسترفاد . وروي أن الناصور كان في فرجها ) .

لكنهم قالوا إن عرس الإمام(عليه السلام) كان طبيعياً، فقد وصف علي بن محمد الحسني زيارته للإمام الجواد(عليه السلام) صبيحة عرسه ، فقال كما في الخرائج (1/379 ): (دخلت على أبي جعفر صبيحة عرسه بأم الفضل بنت المأمون، وكنت تناولت من الليل دواء فقعدت إليه فأصابني العطش فكرهت أن أدعو بالماء ، فنظر أبو جعفر في وجهي وقال: أراك عطشاناً، قلت: أجل . قال: يا غلام إسقنا ماء . قلت في نفسي الساعة يأتون بماء مسموم واغتممت لذلك! فأقبل الغلام ومعه الماء .

ص: 76

فتبسم أبو جعفر في وجهي ، ثم قال للغلام: ناولني الماء ، فتناوله فشرب ظاهراً ثم ناولني فشربت . وأطلت المقام والجلوس عنده ، فعطشت فدعا بالماء ، ففعل كما فعل في الأول فشرب ثم ناولني وتبسم . قال محمد بن حمزة: قال لي محمد بن علي الهاشمي: واللّه إني أظن أن أبا جعفر يعلم ما في النفوس كما تقول الرافضة)!

وفي الهداية الكبرى/301: (دخلت على أبي جعفر في صبيحة عرسه بأم الفضل بنت المأمون ، وكنت أول من دخل عليه في ذلك اليوم ، فدنوت منه وقعدت فوجدت عطشاً شديداً فجللته أن أطلب الماء ، فنظر إليَّ وقال يا علي: شربت الدواء بالليل وتغديت على بكرة فأصبت العطش ، واستحييت تطلب الماء مني! فقلت: واللّه يا سيدي هذه صفتي ، ما غادرت منها حرفاً، فصاح في نفسه: يا غلام تسقيني. فقلت في نفسي: يا ليت لا يسقى الماء ، واغتممت . فأقبل الغلام ومعه الماء ، فنظر إلى الماء والي وتبسم ، وأخذ الماء وشرب منه وسقاني . فمكث قليلاً وعاودني العطش ، فاستحييت أن أطلب الماء فصاح بالخادم وقال: تسقيني ماءً ، فقلت في نفسي مثل ذلك القول الأول ، وأقبل الخادم بالماء ، فأخذه وشرب منه وسقاني ، فقلت: لا إله إلا اللّه أي دليل أدلُّ على إمامته من علمه ما أُسِرُّه في نفسي ، فقال: يا علي واللّه نحن كما قال تعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ. فقمت وقلت لمن كان معي: هذه ثلاث براهين رأيتها من أبي جعفر في مجلسي هذا ، فقال: من لا علم له بفضله: إني

ص: 77

لأحسب هذا الهاشمي كمايقال إنه يعلم الغيب ، فنظرت إليه وحمدت اللّه على معرفة سيدي لجهل الرجل به) .

وتدل الروايتان على الجو المحيط بالإمام(عليه السلام) وأن زائره الحسني غير الشيعي كان يتخوف عليه من أن يسموه بماء الشرب في قصر ابن يوسف !

كما تدل على أن إكرام اللّه للإمام(عليه السلام) بالإطلاع على بعض غيبه ، كان مشهوراً عند الناس . فكان خصومه يقولون إن إمام الرافضة يعلم الغيب .

وذكرت المصادر أن الإمام(عليه السلام) بقي في قصر ابن يوسف شهوراً ، الى موسم الحج.

ففي الثاقب لابن حمزة/518: (حدثني بعض المدينيين أنهم كانوا يدخلون على أبي جعفر(عليه السلام) وهو نازل في قصر أحمد بن يوسف ، يقولون له: يا أبا جعفر، جعلنا فداك ، قد تهيأنا وتجهزنا ولا نراك تهم بذلك ! قال لهم: لستم بخارجين حتى تغترفوا الماء بأيديكم من هذه الأبواب التي ترونها ! فتعجبوا من ذلك أن يأتي الماء من تلك المكثرة ، فما خرجوا حتى اغترفوا بأيديهم منها ).

ورووا أن الإمام(عليه السلام) عندما عاد الى المدينة بزوجته بنت المأمون ، وكان الناس في وداعه رأوا منه معجزة ، فعندما حان وقت الصلاة دخل الى مسجد المسيب وتوضأ عند سدرة يابسة ، فاخضرت وأثمرت وأكل الناس من ثمرها ، كما يأتي !

كما ذكرت الرواية أن الإمام(عليه السلام) جاء الى بغداد لاستقبال المأمون من عودته من الشام ، فقد تكون عودته من سفرته تلك .

ص: 78

ففي الهداية الكبرى/300: (عن صالح بن محمد بن داود اليعقوبي، قال: لما توجه أبو جعفر(عليه السلام) لاستقبال المأمون ، وقد أقبل من نواحي الشام ، وأمر أن يُعقد ذنب دابته وذلك في يومٍ صائف شديد الحر وطريقٍ لا يوجد فيه الماء ! فقال بعض من كان معنا: لاعهد له بركوب الدواب ! فإن موضع عقد ذنب البرذون غير هذا . فما سرنا إلا يسيراً حتى وردنا أرض ماء ووحل كثير ، وفسدت ثيابنا وما معنا ، ولم يصبه شئ من ذلك !

قال صالح: وقال لنا يوماً ونحن في ذلك الوجه: إعلموا أنكم ستضلون عن الطريق قبل المنزل الأول الذي يلقاكم الليلة ، وترجعون إليه في المنزل بعدما يذهب من الليل سبع ساعات ! فقال بعض من فينا: لا عهد له بهذه الطريق ولا يعرفه ولم يسلكه قط ! قال صالح: فضللنا عن الطريق قبل المنزل الذي كان يلقانا ، وسرنا بالليل حتى تنصف وهو يسير بين أيدينا ونحن نتبعه حتىصرنا في المنزل الثاني على الطريق ، فقال أنظروا كم ساعة مضى من الليل ، فإنها سبع ساعات ! فنظرنا فإذا هي كما قال ) !

وبعد مشاركته في استقبال المأمون ، تخلص الإمام(عليه السلام) منه كعادته ، وعاد الى المدينة .

والظاهر أن هذه ذلك كان سنة 216، ففي الطبري (7/191) أن المأمون (لم يزل مقيماً فيها (أرض الروم) إلى النصف من شعبان ).

ص: 79

(7)المأمون يناظرالفقهاء والعلماء لإثبات التشيع !

اشارة

روى الصدوق في عيون أخبار الرضا(عليه السلام) (2/199) بسنده عن إسحاق بن حماد ، قال: (كان المأمون يعقد مجالس النظر ، ويجمع المخالفين لأهل البيت، ويكلمهم في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وتفضيله على جميع الصحابة ، تقرباً إلى أبي الحسن علي بن موسى الرضا.

وكان الرضا يقول لأصحابه الذين يثق بهم: لا تغتروا منه بقوله ، فما يقتلني واللّه غيره ، ولكنه لا بد لي من الصبر حتى يبلغ الكتاب أجله ).

أقول: المأمون شخص متناقض ، فهو يعقد مجالس المناظرة في قصره ، لإثبات إمامة علي(عليه السلام) والأئمة من أبنائه ، ثم يرتكب جريمة قتلهم !

وقد وصفه حديث اللوح الذي جاء به جبرئيل من اللّه تعالى هدية للزهراء(عليها السلام) وفيه أسماء الأئمة من أبنائها، فقال عن الثامن منهم: ( يقتله عفريت مستكبر ، يدفن في المدينة التي بناها العبد الصالح (ذو القرنين) إلى

جنب شر خلقي . حق القول مني لأسرنه بمحمد ابنه وخليفته من بعده ووارث علمه ). ( الكافي:1/527).

ويظهر أن المأمون بقي كل عمره يناظر في إثبات مذهب التشيع ! فقد ورد أن بعض المناظرات كانت على أثر تزويجه ابنته للإمام الجواد(عليه السلام) سنة 204، وكان عمر الإمام(عليه السلام) نحو تسع سنوات . وجاء في بعض المناظرات أن الفقهاء لم يروا المأمون بعدها حتى مات ، ومعناه أن وقتها كان قريباً من موت المأمون سنة 218.

وذكر بعضها أنه خاطب الفضل بن سهل ، وقد قتله المأمون سنة 202. وقد يكون إسمه تصحيفاً بأخيه الحسن بن سهل ، الذي تزوج المأمون ابنته بوران سنة 210.

ص: 80

روى في الإحتجاج (2/245): ( أن المأمون بعدما زوج ابنته أم الفضل أبا جعفر كان في مجلس ، وعنده أبو جعفر(عليه السلام) ويحيى بن أكثم وجماعة كثيرة .

فقال له يحيى بن أكثم: ما تقول يا ابن رسول اللّه في الخبر الذي روي: أنه نزل جبرئيل على رسول اللّه وقال: يا محمد إن اللّه عز وجل يقرؤك السلام ، ويقول لك: سل أبا بكر هل هو عني راض فإني عنه راض .

فقال أبو جعفر(عليه السلام) : لست بمنكر فضل أبي بكر (لست في مقام ذلك) ولكن يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حجة الوداع: قد كثرت عليَّ الكذابة وستكثر بعدي ، فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ، فإذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب اللّه وسنتي ، فما وافق كتاب اللّه وسنتي فخذوا به ، وما خالف كتاب اللّه وسنتي فلا تأخذوا به . وليس يوافق هذا الخبر كتاب اللّه ، قال اللّه تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الآنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ، فاللّه عز وجل خفي عليه رضاء أبي بكر من سخطه حتى سأل عن مكنون سره ، هذا مستحيل في العقول !

ثم قال يحيى بن أكثم: وقد روي أن مَثَل أبي بكر وعمر في الأرض كمثل جبرئيل وميكائيل(عليهما السلام) في السماء .

فقال: وهذا أيضاً يجب أن ينظر فيه ، لأن جبرئيل وميكائيل ملكان مقربان لم يعصيا اللّه قط ، ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة ، وهما قد أشركا باللّه عز وجل وإن أسلما بعد الشرك . فكان أكثر أيامهما الشرك باللّه ، فمحال أن يشبههما بهما .

ص: 81

قال يحيى: وقد روي أيضاً أنهما سيدا كهول أهل الجنة ، فما تقول فيه ؟

فقال(عليه السلام) : وهذا الخبر محال أيضاً ، لأن أهل الجنة كلهم يكونون شباباً، ولا يكون فيهم كهل ، وهذا الخبر وضعه بنو أمية لمضادة الخبر الذي قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الحسن والحسين(عليهما السلام) إنهما سيدا شباب أهل الجنة .

فقال يحيى بن أكثم: وروي أن عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة .

فقال(عليه السلام) : وهذا أيضاً محال ، لأن في الجنة ملائكة اللّه المقربين ، وآدم ، ومحمد ، وجميع الأنبياء والمرسلين(عليهم السلام) ، لا تضئ الجنة بأنوارهم حتى تضئ بنور عمر !

فقال يحيى: وقد روي أن السكينة تنطق على لسان عمر .

فقال(عليه السلام) : لست بمنكر فضل عمر (لست في مقام ذلك) ولكن أبا بكر أفضل من عمر ، وقال على رأس المنبر إن لي شيطاناً يعتريني ، فإذا ملتُ فسددوني .

فقال يحيى: وقد روي أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: لو لم أبعث لبعث عمر .

فقال(عليه السلام) : كتاب اللّه أصدق من هذا الحديث ، يقول اللّه في كتابه: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ .

فقد أخذ اللّه ميثاق النبيين فكيف يمكن أن يبدل ميثاقه . وكل الأنبياء(عليهم السلام) لم يشركوا باللّه طرفة عين ، فكيف يبعث بالنبوة من أشرك ، وكان أكثر أيامه مع الشرك باللّه . وقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : نبئت وآدم بين الروح والجسد .

ص: 82

فقال يحيى بن أكثم: وقد روي أيضاً أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: ما احتبس عني الوحي قط إلا ظننته قد نزل على آل الخطاب .

فقال(عليه السلام) : وهذا محال أيضاً ، لأنه لا يجوز أن يشك النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في نبوته .

قال اللّه تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ. فكيف يمكن أن ينقل النبوة ممن اصطفاه اللّه تعالى إلى من أشرك به .

قال يحيى: روي أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: لو نزل العذاب لما نجا منه إلا عمر .

فقال(عليه السلام) : وهذا محال أيضاً ، لأن اللّه تعالى يقول: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ . فأخبر سبحانه أنه لا يعذب أحداً ما دام فيهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وما داموا يستغفرون ).

أقول: لا بد أن أسئلة قاضي القضاة كانت بأمر المأمون ، خاصة أنه طرحها في حضوره ، وهي أسئلة مقصودة لكشف المكذوبات في فضائل أبي بكر وعمر!

وقد صحت الرواية بأن المأمون ناظر العلماء مرات في فضل أمير المؤمنين(عليه السلام) ، وأنه خليفة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المنصوص عليه بنصوص لا تقبل التأويل .كما ناظرهم في إبطال ما ادعي من فضائل لأبي بكر وعمر ! واشتهر منها مجلس رواه ابن عبد ربه في العقد الفريد ، ورواه بنحو أدق الصدوق في عيون أخبار الرضا(عليه السلام) .

قال في العقد الفريد (2/240): (احتجاج المأمون على الفقهاء في فضل علي.. إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل ، عن حماد بن زيد قال: بعث إليَّ يحيى بن أكثم وإلى عدة من أصحابي ، وهو يومئذ قاضيِ القضاة ، فقال: إن أميرَ المؤمنين أمرني

ص: 83

أن أحضر معي غداً مع الفجر أربعين رجلاً كلهم فقيه ، يَفْقَه ما يُقال له ويُحسن الجواب ، فسمُّوا من تَظنونه يَصلُح لما يطلبُ أمير المؤمنين .

فسمَّينا له عِدة وذكر هو عِدة حتى تمَّ العددُ الذي أراد ، وكتب تسمية القوم ، وأمر بالبُكور في السَّحر ، وبعث إلى من لم يحضرُ فأمره بذلك ، فغدونا عليه قبلَ طلوع الفجر ، فوجدناه قد لبس ثيابَه وهو جالس ينتظرنا ، فركب وركبنا معه حتى صرنا إلى الباب فإذا بخادم واقف ، فلما نَظر إلينا قال: يا أبا محمد ، أمير المؤمنين يَنتظرك . فأدخلنا فأَمرنا بالصلاة فأخذنا فيها فلم نستتمها حتى خرج الرسول فقال: أدخلوا فدَخلنا ، فإذا أميرُ المؤمنين جالس على فراشه وعليه سَوادُه وطَيلسانه والطويلة وعمامته، فوقفنا وسلمنا فرد السلام وأمرنا بالجلوس فلما استقر بنا المجلسُ تحدر عن فراشه ونَزع عمامته وطيلسانه ووضع قَلنسوته ، ثم أقبل علينا فقال: إنما فعلتُ ما رأيتم لتفعلوا مثلَ ذلك ، وأما الخُف فما مِن خَلْعه علة ، من قد عرفها منكم فقد عَرفها ومن لم يَعْرِفها فسأعرِّفُه بها ومد رجلَه ثم قال: إنزعوا قَلانسكم وخفافكم وطَيالسكم .

قال: فأمسكنا، فقال لنا يحيى: إنتهوا إلى ما أمركم به أميرُ المؤمنين . فتعجبنا فنزعنا أخفافنا وطيالسنا وقلانسنا ورجعنا .

فلما استقر بنا المجلس قال: إنما بعثتُ إليكم معشَر القوم في المُناظرة ، فمن كان به شئ من الأخْبثين لم ينتفع بنفسه ولم يَفقه ما يقول: فمن أراد منكم الخلاءَ فهناك وأشار بيده ، فدعونا له .

ص: 84

ثم ألقى مسألة من الفقه فقال: يا أبا محمد ، قل ولْيقل القومُ من بعدك . فأجابه يحيى ثم الذي يلي يحيى ثم الذي يليه ، حتى أجاب آخرُنا في العلَة وعلة العلة ، وهو مُطرق لا يتكلم . حتى إذا انقطع الكلام التفت إلى يحيى فقال: يا أبا محمد ، أصبتَ الجواب وتركت الصواب في العِلَّة . ثم لم يزليَرد على كل واحد منا مقالتَه ويخطئ بعضنا ويصوّب بعضنا حتى أتى على آخرنا .

ثم قال: إني لم أبعث فيكم لهذا ، ولكنني أحببتُ أن أًنبئكم أن أمير المؤمنين أراد مُناظرتكم في مَذهبه الذي هو عليه ، ودينه الذي يَدين اللّه به .

قلنا: فليَفعل أمير المؤمنين وفقه اللّه . فقال: إن أمير المؤمنين يَدين اللّه على أن عليّ بن أبي طالب خيرُ خلق اللّه بعد رسوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأولى الناس بالخلافة .

قال إسحاق: قلت: يا أمير المؤمنين إن فينا من لا يعرف ما ذكر أمير المؤمنين في عليّ ، وقد دعانا أمير المؤمنين للمُناظرة .

فقال: يا إسحاق ، اختر إن شئت أن أسألك وإن شئت أن تسأل .

قال إسحاق: فاغتنمتها منه ، فقلت: بل أسألك يا أمير المؤمنين . قال: سَل . قلت: من أين قال أَميرُ المؤمنين إن عليَّ بن أبي طالب أفضلُ الناس بعد رسول اللّه وأحقُّهم بالخلافة بعده ؟

قال: يا إسحاق ، خبِّرني عن الناس بم يتفاضلون حتى يُقال فلان أفضل من فلان؟ قلت: بالأعمال الصالحة . قال: صدقت . قال: فأخبرني عمَّن فَضُلَ

ص: 85

صاحبَه على عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم إن المفضول عَمل بعد وفاة رسول اللّه بأفضل من عمل الفاضل على عهد رسول اللّه ، أَيَلحق به ؟

قال: فأطرقت . فقال لي: يا إسحاق لا تقل نعم ، فإنك إن قلتَ نعم أوجدتك في دهرنا هذا مَن هو أكثر منه جهاداً وحجاً وصياماً وصلاة وصَدقة .

قلت: أجل يا أمير المؤمنين ، لا يلحق المفضولُ على عهد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الفاضلَ أبداً .

قال: يا إسحاق:فانظر ما رواه لك أصحابُك ومَن أخذتَ عنهم دينك وجعلتَهم قُدوتك ، من فضائل علي بن أبي طالب ، فقِسْ عليها ما أَتوك به من فضائل أبي بكر ، فإن رأيتَ فضائل أبي بكر تُشاكل فضائلَ عليٍّ ، فقل إنه أفضل منه . لا، واللّه . ولكن فقِسْ إلى فضائله ما رُوي لك من فضائل أبي بكر وعمر ، فإن وجدت لهما من الفضائل ما لعليٍّ وحدَه فقُل إنهما أفضلُ منه . لا، واللّه . ولكن قِسْ إلى فضائله فضائل أبي بكر وعمر وعثمان ، فإن وجدتَها مثل فضائل عليّ فقُل إنهم أفضل منه . لا، واللّه .ولكن قِس إلى فضائله فضائلَ العشرة الذين شَهد لهم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالجنة فإِن وجدتها تُشاكل فضائلَه فقل إنهم أفضل منه.

ثم قال: يا إسحاق ، أي الأعمال كانت أفضلَ يوم بَعث اللّه رسولَه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟

قلت: الإخلاص بالشهادة كانت أفضلَ يوم بَعث اللّه رسولَه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟

ص: 86

قال: أليس السَّبْق إلى الإسلام؟ قلت: نعم . قال: إقرأ ذلك في كتاب اللّه تعالى يقول:والسَّابقون السَّابقون أُولئك المُقَرّبون . إنما عنىَ مَن سَبق إلى الإسلام ، فهل علمتَ أحداً سَبق علياً إلى الإسلام ؟

قلت: يا أمير المؤمنين ، إن علياً أسلم وهو حَدث السن لا يجوز عليه الحُكم ، وأبو بكر أسلم وهو مُستكمل يجوز عليه الحكم .

قال: أخبرني أيهما أسلم قبل؟ ثم أناظرك من بعده في الحداثة والكمال .

قلت: علي أسلم قبل أبي بكْر على هذه الشًريطة . فقال: نعم ، فأخبرني عن إسلام عليٍّ حين أسلم لا يخلو من أن يكون رسولُ اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) دعاه إلى الإسلام أو يكونَ إلهاماً من اللّه؟ قال: فأطرقت .

فقال لي: يا إسحاق ، لا تقل إلهاماً فتُقدمه على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لأن رسول اللّه لم يعرف الإسلام حتى أتاه جبريل عن اللّه تعالى .

قلت: أجل ، بل دعاه رسولُ اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الإسلام .

قال: يا إسحاق ، فهل يخلو رسولُ اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين دعاه إلى الإسلام من أن يكون دعاه بأمر اللّه أو تَكلَّف ذلك من نفسه ؟ قال: فأطرقت: فقال: يا إسحاق ، لا تَنسب رسول اللّه إلى التكلُّف ، فإنّ اللّه يقول:وما أنا من المُتَكلفِّين !

قلت: أجل يا أمير المؤمنين ، بل دعاه بأمر اللّه. قال: فهل من صِفة الجبار جل ذكره أن يُكلِّف رسله دُعاء مَن لا يجوز عليه حُكم ؟

ص: 87

قلت أعوذ باللّه ! فقال: أفتُراه في قياس قولك يا إسحاق إن علياً أسلم صبياً لا يجوز عليه الحُكم ، وقد كُلِّف رسولُ اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) دُعاء الصِّبيان إلى ما لا يُطيقونه ، فهو يدعوهم الساعة ويرتدون بعد ساعة ، فلا يجب عليهم في ارتدادهم شئ، ولا يجوز عليهم حُكم الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أتَرى هذا جائزاً عندك أن تنسْبه إلى اللّه عز وجلَّ ؟ قلت أعوذ باللّه .

قال: يا إسحاق ، فأراك إنما قصدت لفضيلة فضل بها رسولُ اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) علياً على هذا الخلق إبانَةً بها منهم ليُعرف مكانه وفضله ولو كان اللّه تبارك وتعالى أمره بدُعاء الصبيان لدَعاهم كما دعا علياً ؟ قلت: بلى .

قال: فهل بلغك أنّ الرَّسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) دعا أحداً من الصبيان من أهله وقرابته ، لئلاّ تقول إن علياً ابنُ عمه ؟ قلت: لا أعلم ، ولا أدري فَعل أو لم يفعل .

قال يا إسحاق ، رأيت ما لم تَدْره ولم تَعلمه هل تُسأل عنه ؟ قلتُ: لا . قال: فدَع ما قد وضعه اللّه عنا وعنك .

ثم قال: أي الأعمال كانت أفضلَ بعد السَّبق إلى الإِسلام ؟ قلت: الجهاد في سبيل اللّهّ . قالت صدقت ، فهل تجد لأحدٍ من أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما تجد لعليّ في الجهاد ؟ قلت: في أي وقت ؟ قال ؟ في أي الأوقات شئتَ ؟

قلت: بدر . قال: لا أريد غيرها ، فهل تجد لأحد إلا دون ما تجد لعلي يوم بدر، أخبرني كم قَتْلى بدر؟ قلت: نَيِّف وستون رجلاً من المشركين .

ص: 88

قال: فكم قَتل عليٌّ وحدَه ؟ قلت: لا أدري . قال: ثلاثة وعشرين ، أو اثنين وعشرين ، والأربعون لسائر الناس .

قلت: يا أمير المؤمنين ، كان أبو بكر مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في عَريشه ، قال: يَصنع ماذا؟ قلت: يدبِّر . قال: ويحك ! يدبر دون رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو معه ، شريِكاً أم افتقاراً من رسول اللّه إلى رأيه ؟ أي الثلاث أحب إليك ؟

قلت: أعوذ باللّه أن يدبِّر أبو بكر دون رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أو أن يكون معه شريكاً ، أو أن يكون برسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) افتقَارٌ إلى رأيه .

قال: فما الفضيلة بالعريش إذ كان الأمر كذلك ؟ أليس من ضَرب بسيفه بين يدي رسول اللّه أفضلَ ممن هو جالسه ؟

قلت: يا أمير المؤمنين ، كل الجيش كان مجاهداً . قال صدقتَ كلٌّ مجاهد ، ولكنَّ الضارب بالسيف المحامي عنِ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعن الجالس أفضلُ من الجالس ، أما قرأتَ في كتاب اللّه: لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا . قلت: وكان أبو بكر وعمر مُجاهدين. قال: فهل كان لأبي بكر وعُمر فضلٌ على من لم يَشهد ذلك المشهد ؟ قلت: نعم .

قال: فكذلك سَبق الباذل نفسه فَضل أبي بكر وعمر . قلت: أجل .

قال: يا إسحاق ، هل تقرأ القرآن ؟ قلت: نعم . قال: إقرأ عليَّ: هَلْ أَتَى عَلَى الآنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا . فقرأت منها حتى بلغت:

ص: 89

يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا إلى قوله: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِمِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا. قال: على رِسْلك ، فيمن أنزلت هذه الآيات ؟ قلتُ: في علي . قال: فهل بلغك أن علياً حين أطعم المسكين واليتيم والأسير قال: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ؟ قلت: أجل. قال: وهل سمعتَ اللّه وصفَ في كتابه أحداً بمثل ما وصفَ به عليّاً؟قلت:لا. قال: صدقت لأن اللَه جلَّ ثناؤه عرف سريرته.

يا إسحاق ، ألستَ تَشهد أن العَشرة في الجنة ؟ قلت: بلى يا أمير المؤمنين . قال: أرأيت لو أن رجلاً قال: واللّه ما أدري هذا الحديث صحيح أم لا ؟ ولا أدري إن كان رسولُ اللّه قاله أم لم يقُله ، أكان عندك كافراً ؟

قلت: أعوذ باللّه . قال: أرأيت لو أنه قال: ما أدري هذه السُّورة من كتاب اللّه أم لا ، أكان كافراً ؟ قلت: نعم . قال: يا إسحاق ، أرى بينهما فرقاً .

يا إسحاقَ ، أتروي الحديث ؟ قلت: نعم . قال:فهل تعرف حديث الطير؟ قلت: نعم . قال: فحدثني به . قال: حدثته الحديث . فقال: يا إسحاق ، إني كنتُ أكلمك وأنا أظنك غيرَ معاند للحقِّ ، فأما الآن فقد بان لي عنادُك ، إنك تُوافق على أنَّ هذا الحديث صحيح ؟ قلت: نعم ، رواه من لا يُمكنني ردُّه .

قال: أفرأيتَ أنَّ مَن أيقن أن هذا الحديث صحيح ، ثم زعم أن أحداً أفضلُ من عليٍّ ، لا يخلو من إحدى ثلاثة: مِن أن تكون دعوة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنده مردودة عليه ، أو أن يقول: إن اللّه عز وجل عرف الفاضلَ من خَلقه وكان المَفضولُ أحب إليه ، أو أن يقول: إن اللّه عزَّ وجلَّ لم يعرف الفاضلَ من المَفضول !

ص: 90

فأي الثلاثة أحبُّ إليك أن تقول ؟ فأطرقت .

ثم قال: يا إسحاق ، لا تقل منها شيئاً ، فإنك إن قلتَ منها شيئاً استتبتُك ، وإن كان للحديث عندك تأويل غيرُ هذه الثلاثة الأوجه فقُله .

قلت لا أعلم ، وإنَّ لأبي بكر فضلاً .

قال: أجل ، لولا أن له فضلاً لما قيل إن علياً أفضلُ منه ، فما فضلُه الذي قصدتَ إليه الساعة ؟ قلت: قول اللّه عزِّ وجل: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ، فنَسبه إلى صحبته .

قال: يا إِسحاق ، أمَا إني لا أحملك على الوَعر من طريقك ، إني وجدتُ اللّه تعالى نَسب إلى صُحبة مَن رَضيه ورَضي عنه كافراً ، وهو قوله: قَالَلَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَاكَ رَجُلاً. لَكِنَّا هُوَ اللّهُ رَبِّى وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَدًا.

قلت:إن ذلك صاحب كان كافراً ، وأبو بكر مؤمن .

قال: فإذا جاز أن يَنسب إلى صُحبة نبيه مُؤمناً ، وليس بأفضل المؤمنين ولا الثاني ولا الثالث ، قلت: يا أمير المؤمنين ، إن قَدْر الآية عظيم ، إن اللّه يقول: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا .

قال: يا إسحاق ، تأبَى الآن إلا أن أُخرجَك إلى الإستقصاءِ عليك ، أَخبرني عن حُزن أبي بكر أكان رِضاً أم سُخطاً؟ قلت: إن أبا بكر إنما حَزن من أجل رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خوفاً عليه ، وغماً أن يصل إلى رسول اللّه شئ من المكروه .

ص: 91

قال: ليس هذا جَوابي ، إنما كان جوابي أن تقول: رضى أم سُخط ؟ قلت: بل رضاً للّه . قال: فكأن اللّه جلَّ ذكرُه بَعث إلينا رسولاً ينهى عن رضا اللّه عز وجل وعن طاعته. قلت: أعوذ باللّه.قال: أوَلَيس قد زعمتَ أن حزن أبي بكر رضا للّه؟ قُلت: بلى . قال أوَلَم تَجد أنَّ القرآن يشهد أن رسولَ اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال له:لا تحزن نهياً له عن الحزن . قلت: أعوذ باللّه .

قال: يا إسحاق ، إنَّ مذهبي الرفقُ بك لعلَّ اللّه يردّك إلى الحق ، ويَعْدِل بك عن الباطل لكثرة ما تستعيذ به . وحدِّثني عن قول اللّه: فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ، مَن عنى بذلك: رسولَ اللّه أم أبا بكر ؟ قلت: بل رسول اللّه . قال: صدقْت . قال: فحدِّثني عن قول اللّه عزِّ وجل: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ.ثُمَّ أَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ. أتعلم مَن المُؤمنين الذين أراد اللّه في هذا الموضع ؟ قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين . قال: الناس جميعاً انهزموا يومَ حُنين ، فلم يبق مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلا سبعةُ نفر من بني هاشم: عليٌّ يضرب بسيفه بين يدي رسول اللّه ، والعبَّاس أخذٌ بِلجام بغلة رسول اللّه ، والخمسة مُحدقون به خوفاً من أن يناله من جراح القوم شئ ، حتى أعطى اللّه لرسوله الظفرَ ، فالمؤمنون في هذا الموضع عليٌّ خاصة ، ثم من حَضره من بني هاشم .

قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين .

قال: فمن أفضلُ: من كان مع رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ذلك الوقت ، أم مَن انهزم عنه ولم يَره اللّه موضعاً لينزلَها عليه ؟ قلت: بل من أنزلت عليه السكينةُ ؟

ص: 92

قال: يا إسحاق ، من أفضل: مَن كان معه في الغار أو من نام على فِراشه ووقاه بنفسه ، حتى تمَّ لرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما أراد من الهجرة؟

إن اللّه تبارك وتعالى أمر رسولَه أن يأمر عليّاً بالنوم على فِراشه وأن يقي رسولَ اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بنفسه ، فأمره رسولُ اللّه بذلك ، فبكى عليٌّ رضي اللّه عنه فقال له رسولُ اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ما يُبكيك يا عليّ أجَزَعاً من الموت؟ قال: لا ، والذي بعثك بالحق يا رسول اللّه ولكن خوفاً عليك ، أَفتَسْلم يا رسول اللّه؟ قال: نعم . قال: سمعاً وطاعة وطيِّبة نفسي بالفداء لك يا رسول اللّه ، ثم أتى مضجَعه واضطجع وتسجَّى بثوبه ، وجاء المشركون من قُريش فحفّوا به لا يشكّون أنه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد أجمعوا أن يضربَه من كل بَطن من بُطون قريش رجلٌ ضربة بالسيف لئلا يَطلبَ الهاشميون من البطون بطناً بدمه ، وعليٌّ يسمع ما القوم فيه مِن تَلَف نفسه ، ولم يَدْعه ذلك إلى الجَزع كما جَزع صاحبُه في الغار ، ولم يَزل عليٌّ صابراً مُحتسباً، فبعث اللّه ملائكتَه فمنعته من مُشركي قريش حتى أصبح ، فلما أصبحِ قام فنظر القومُ إليه فقالوا: أين محمد ؟ قال: وما عِلْمي بمحمد أين هو؟ قالوا: فلا نراك إلا كُنت مُغررِّاً بنفسك منذ ليلتنا ، فلم يَزل عليٌّ أفضلُ ما بدأ به يزيدُ ولا يَنقص حتى قبضه اللّه إليه .

يا إسحاق، هل تروي حديث الولاية ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين . قال: إروِه . ففعلتُ . قال: يا إسحاق ، أرأيت هذا الحديث هل أوجب على أبي بكر وعمَر ما لم يُوجب لهما عليه؟ قلت: إن الناس ذكروا أن الحديث إنما كان بسبب زيد بن

ص: 93

حارثة لشئ جَرى بينه وبين علي ، وأنكر ولاء علي فقال رسولُ اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه ، اللّهم وال مَن ولاه ، وعاد من عاداه .

قال: وفي أي موضع قال هذا ؟ أليس بعد مُنصرفه من حِجِّة الوداع ؟

قلت: أجل . قال: فإن قَتْل زيد بن حارثة قبل الغَدير ! كيف رضيت لنفسك بهذا ؟ أخبرني لو رأيتَ ابناً لك قد أتت عليه خمس عشرة سنة يقول: مولاي مولى ابن عمي ، أيها الناس فاعلموا ذلك . أكنتَ مُنكراً عليه تعريفَه الناس ما لا يُنكرون ولا يَجهلون ؟

فقلتُ: اللّهم نعم . قال: يا إسحاق ، أفتنزه ابنك عما لا تنزه عنه رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ! ويُحْكم! لا تجعلوا فقهاءكم أربابكم، إن اللّه جَل ذكره قال في كتابه: إِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ . ولم يصلُّوا لهم ولا صاموا ولا زَعموا أنهم أرباب ، ولكن أمروهم فأطاعوا أمرَهم .

يا إسحاق ، أتروي حديث: أنت مني بمنزلة هارون من موسى؟

قلت: نعم يا أمير المؤمنين ، قد سمعتهُ وسمعتُ من صحَّحَهَ وجَحده .

قال: فمن أوثق عندك: مَن سمعتَ منه فصححه ، أو مَن جحده ؟ قلت: مَن صحَحه . قال: فهل يمكن أن يكون الرسولُ(صلی اللّه عليه وآله وسلم) مزح بهذا القول ؟

قلت: أعوذ باللّه . قال: فقال قولاً لا معنى له فلا يُوقف عليه ؟

قلت: أعوذ باللّه . قال: أفما تعلم أن هارون كان أخَ موسى لأبيه وأمه؟

قلت: بلى . قال: فعليٌّ أخو رسول اللّه لأبيه وأمه؟ قلت: لا .

ص: 94

قال: أوليس هارون كان نبياً وعليٌّ غير نبيّ؟ قلت: بلى .

قال: فهذان الحالان مَعدومان في عليّ وقد كانا في هارون ، فما معنى قوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى؟ قلت له: إنما أراد أن يُطيِّب بذلك نفسَ عليّ لما قال المنافقون إنه خلَّفه استثقالاً له .

قال: فأراد أن يُطيب نفسه بقول لا معنى له ؟ قال: فأطرقتُ .

قال: يا إسحاق ، له معنى في كتاب اللّه بيِّن . قلت: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: قولُه عزَ وجل حكايةً عن موسى إنه قال لأخيه هارون: أُخْلُفْنِى فِي قَوْميى وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ .

قلت: يا أمير المؤمنين إِن موسى خَلَّف هارون في قومه وهو حيٌّ ومَضى إلى ربه ، وإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) خَلَّف علياً كذلك حين خرج إِلى غَزاته .

قال: كلا ليس كما قلت . أخبِرْني عن موسى حين خَلف هارون ، هل كان معه حين ذَهب إلى ربه أحدٌ من أصحابه أو أحد من بني إسرائيل؟ قلت: لا . قال: أو ليس استخلفه على جماعتهم ؟ قلت: نعم . قال: فأخبرني عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين خرج إِلى غزاته ، هل خلَّف إِلا الضُعفاء والنساءَ والصبيان؟ فأنى يكون مثلَ ذلك؟ وله عندي تأويلِ آخر من كتاب اللّه يدل على استخلافه إياه لا يَقدر أحدٌ أن يحتج فيه ، ولا أعلم أحداً احتج به وأرجو أن يكون توفيقاً من اللّه . قلت: وما هو يا أمير المؤمنين ؟ قال: قولُه عز وجل حين حَكى عن موسى قوله: اجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي. هَارُونَ أَخِى. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِى. كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا. وَنَذْكُرَكَكَثِيرًا . إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا. فأنت مني يا عليُّ بمنزلة

ص: 95

هارون من موسى ، وزيري منِ أهلي وأخي أشدُّ به أزري ، وأُشرِكُهُ في أمري ، كي نُسَبِّحَ اللّه كثيراً ونذكره كثيراً.فهل يقدر أحد أن يُدخل في هذا شيئاً غير هذا؟ ولم يكن ليبطل قول النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأن يكون لا معنى له .

قال: فطال المجلسُ وارتفع النهار . فقال يحيى بن أكثم القاضي: يا أمير المؤمنين قد أوضحتَ الحقّ لمن أراد اللّه به الخير ، وأثبتَّ ما لا يَقدر أحدٌ أن يَدفعه .

قال إسحاق: فأقبل علينا وقال: ما تقولون؟ فقلنا: كلنا نقول بقول أمير المؤمنين أعزَّه اللّه . فقال: و اللّه لولا أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال:إقبلوا القول من الناس ما كنت لأقبل منكم القول . اللّهم قد نصحت لهم القول ، اللّهم إني قد أخرجْت الأمر من عُنقِي ، اللّهم إني أدينك بالتقرب إليك بحب عليٍّ وولايته ).

أقول: أورد ابن عبد ربه وامثاله هذه المناظرة وأمثالها ، ولم يعلقوا عليها !

ص: 96

مناظرة المأمون برواية الصدوق

روى الصدوق (قدس سرّه) هذه المناظرة بسند أصح من سند ابن عبد ربه ، وبتفصيل أكثر عن إسحاق بن حماد بن زيد أيضاً ، ويظهر بمقارنتها أن ابن عبد ربه أخذ قسماً من وسطها ، وحذف من أولها نقد المأمون لأحاديث فضائل أبي بكر وعمر ، وحذف من آخرها نقد المأمون للسقيفة ، وإثباته نص النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) المحكم على إمامة علي(عليه السلام) .

قال الصدوق في عيون أخبار الرضا(عليه السلام) (2/199): (حدثنا أبي ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي اللّه عنهما ، قالا: حدثنا محمد بن يحيى العطار وأحمد بن إدريس جميعاً قالا: حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى بنعمران الأشعري قال: حدثني أبو الحسين صالح بن أبي حماد الرازي ، عن إسحاق بن حماد بن زيد قال: جمعنا يحيى بن أكثم القاضي ، قال أمرني المأمون بإحضار جماعة من أهل الحديث وجماعة من أهل الكلام ، والنظر فجمعت له من الصنفين زهاء أربعين رجلاً ثم مضيت بهم ، فأمرتهم بالكينونة في مجلس الحاجب لأعلمه بمكانهم ففعلوا ، فأعلمته فأمرني بإدخالهم فدخلوا ، فسلموا فحدثهم ساعة وآنسهم ثم قال:

إني أريد أن أجعلكم بيني وبين اللّه تبارك وتعالى في يومي هذا حجة ، فمن كان حاقناً أو له حاجة فليقم إلى قضاء حاجته ، وانْبَسٍطُوا وسِلُّوا خفافكم ، وضعوا أرديتكم ، ففعلوا ما أمروا به فقال:

يا أيها القوم إنما استحضرتكم لأحتج بكم عند اللّه تعالى ، فاتقوا اللّه وانظروا لأنفسكم وإمامكم ، ولا يمنعكم جلالتي ومكاني من قول الحق حيث كان ،

ص: 97

ورد الباطل على من أتى به ، وأشفقوا على أنفسكم من النار ، وتقربوا إلى اللّه تعالى برضوانه وإيثار طاعته ، فما أحد تقرب إلى مخلوق بمعصية الخالق إلا سلطه عليه ، فناظروني بجميع عقولكم . إني رجل أزعم أن علياً خير البشر بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإن كنت مصيباً فصوبوا قولي ، وإن كنت مخطئاً فردوا عليَّ .

وهلموا ، فإن شئتم سألتكم وإن شئتم سألتموني . فقال له الذين يقولون بالحديث: بل نسألك ، فقال: هاتوا وقلدوا كلامكم رجلاً واحداً منكم ، فإذا تكلم فإن كان عند أحدكم زيادة فليزد ، وإن أتى بخلل فسددوه .

فقال قائل منهم: إنما نحن نزعم أن خير الناس بعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أبو بكر من قبل أن الرواية المجمع عليها ، جاءت عن الرسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: إقتدوا باللذين من بعدي أبو بكر وعمر ، فلما أمر نبي الرحمة بالإقتداء بهما علمنا أنه لم يأمر بالإقتداء إلا بخير الناس .

فقال المأمون: الروايات كثيرة ، ولا بد من أن تكون كلها حقاً ، أو كلها باطلاً ، أو بعضها حقاً أو بعضها باطلاً . فلو كانت كلها حقاً كانت كلها باطلاً ، من قبل أن بعضها ينقض بعضاً ، ولو كانت كلها باطلاً ، كان في بطلانها بطلان الدين ودروس الشريعة ، فلما بطل الوجهان ثبت الثالث بالإضطرار ، وهو بعضها حق وبعضها باطل . فإذا كان كذلك ، فلا بد من دليل على ما يحق منها ليعتقد وينفي خلافه ، فإذا كان دليل الخبر في نفسه حقاً ، كان أولى ما اعتقده وأخذ به . وروايتك هذه من الأخبار التي أدلتها باطلة في نفسها ، وذلك أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 98

أحكم الحكماء وأولىالخلق بالصدق ، وأبعد الناس من الأمر بالمحال ، وحمل الناس على التدين بالخلاف ، وذلك أن هذين الرجلين لا يخلو من أن يكونا متفقين من كل جهة ، أو مختلفين فإن كانا متفقين من كل جهة كانا واحداً في العدد والصفة والصورة والجسم ، وهذا معدوم أن يكون اثنان بمعنى واحد من كل جهة ، وإن كانا مختلفين فكيف يجوز الإقتداء بهما ، وهذا تكليف ما لا يطاق ، لأنك إذا اقتديت لواحد خالفت الآخر .

والدليل على اختلافهما أن أبا بكر سبا أهل الردة وردهم عمر أحراراً ، وأشار إلى أبي بكر بعزل خالد وبقتله بمالك بن نويرة ، فأبى أبو بكر عليه. وحرم عمر المتعتين ولم يفعل ذلك أبو بكر . ووضع عمر ديوان العطية ولم يفعله أبو بكر. واستخلف أبو بكر ولم يفعل ذلك عمر . ولهذا نظائر كثيرة .

قال مصنف هذا الكتاب رضي اللّه عنه: في هذا فصل لم يذكره المأمون لخصمه وهو أنهم لم يرووا أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ، وإنما رووا أبو بكر وعمر ، ومنهم من روى أبا بكر وعمر ، فلو كانت الرواية صحيحة لكان معنى قوله بالنصب إقتدوا باللذين من بعدي كتاب اللّه والعترة يا أبا بكر وعمر . ومعنى قوله بالرفع: إقتدوا أيها الناس وأبو بكر وعمر باللذين من بعدي كتاب اللّه والعترة .

رجعنا إلى حديث المأمون: فقال آخر من أصحاب الحديث فإن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً .

ص: 99

فقال المأمون: هذا مستحيل من قِبَل أن رواياتكم أنه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) آخى بين أصحابه وأخر علياً ، فقال له في ذلك؟ فقال: وما أخرتك إلا لنفسي ! فأي الروايتين ثبتت بطلت الأخرى؟

قال آخر: إن علياً قال: على المنبر خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر .

قال المأمون: هذا مستحيل من قبل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لو علم إنهما أفضل ما ولى عليهما مرة عمرو بن العاص ، ومرة أسامة بن زيد !

ومما يكذب هذه الرواية قول علي: لما قبض النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : وأنا أولى بمجلسه مني بقميصي ، ولكني أشفقت أن يرجع الناس كفاراً .

وقوله: أنى يكونان خيراً مني وقد عبدت اللّه تعالى قبلهما ، وعبدته بعدهما؟قال آخر: فإن أبا بكر أغلق بابه وقال: هل من مستقيل فأقيله ؟ فقال علي: قدمك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فمن ذا يؤخرك ؟

فقال المأمون: هذا باطل من قبل أن علياً قعد عن بيعة أبي بكر ، ورويتم أنه قعد عنها حتى قبضت فاطمة(عليها السلام) وأنها أوصت أن تدفن ليلاً لئلا يشهدا جنازتها .

ووجه آخر وهو إنه إن كان النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) استخلفه ، فكيف كان له أن يستقيل وهو يقول للأنصار: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أبا عبيدة .

وقال آخر: إن عمرو بن العاص قال: يا نبي اللّه ، من أحب الناس إليك من النساء ؟ قال: عائشة . قال: ومن الرجال ؟ فقال: أبوها .

ص: 100

فقال المأمون: هذا باطل من قبل أنكم رويتم: أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وُضع بين يديه طائر مشوي فقال: اللّهم اتني بأحب خلقك إليك . فكان علياً. فأي روايتكم تقبل؟

فقال آخر: فإن علياً قال: من فضلني على أبي بكر وعمر جلدته حد المفتري !

قال المأمون: كيف يجوز أن يقول علي: أجلد الحد على من لا يجب حد عليه فيكون متعدياً لحدود اللّه عز وجل ، عاملاً بخلاف أمره ، وليس تفضيل من فضله عليهما فرية ، وقد رويتم عن إمامكم أنه قال: وليتكم ولست بخيركم ، فأي الرجلين أصدق عندكم: أبو بكر على نفسه ، أو علي على أبي بكر !

مع تناقض الحديث في نفسه؟ولا بد له في قوله من أن يكون صادقاً أو كاذباً ، فإن كان صادقاً ، فإن عرف ذلك بوحي؟ فالوحي منقطع أو بالتظني فالمتظني متحير ، أو بالنظر فالنظر مبحث ، وإن كان غير صادق فمن المحال أن يلي أمر المسلمين ويقوم بأحكامهم ويقيم حدودهم كذاب .

قال آخر: جاء أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة .

قال المأمون: هذا الحديث محال لأنه لا يكون في الجنة كهل ويروى أن أشجعيةً كانت عند النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: لا يدخل الجنة عجوز فبكت ، فقال لها النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إن اللّه تعالى يقول: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً. فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا. عُرُبًا أَتْرَابًا. فإن زعمتم إن أبا بكر ينشأ شاباً إذا دخل الجنة فقد رويتم أنالنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال للحسن والحسين: إنهما سيدا شباب أهل الجنة من الأولين والآخرين، وأبوهما خير منهما.

قال آخر: فقد جاء أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: لو لم أكن أبعث فيكم لبعث عمر .

ص: 101

قال المأمون: هذا محال لأن اللّه تعالى يقول: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ . وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ . فهل يجوز أن يكون من لم يؤخذ ميثاقه على النبوة مبعوثاً ، ومن أخذ ميثاقه على النبوة مؤخراً ؟!

قال آخر: إن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نظر إلى عمر يوم عرفة فتبسم فقال: إن اللّه تبارك وتعالى باهى بعباده عامة ، وبعمر خاصة .

فقال المأمون: هذا مستحيل من قبل أن اللّه تبارك وتعالى لم يكن ليباهي بعمر ويدع نبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيكون عمر في الخاصة ، والنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في العامة، وليست هذه الروايات بأعجب من روايتكم: أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: دخلت الجنة فسمعت خفق نعلين ، فإذا بلال مولى أبي بكر سبقني إلى الجنة . وإنما قالت الشيعة: علي خير من أبي بكر فقلتم عبد أبي بكر خير من الرسول ! لأن السابق أفضل من المسبوق !

وكما رويتم أن الشيطان يفر من ظل عمر . وأنه ألقيَ على لسان نبي اللّه: وأنهن الغرانيق العلى !

قال آخر: قد قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لو نزل العذاب ما نجا إلا عمر بن الخطاب .

قال المأمون: هذا خلاف الكتاب أيضاً ، لأن اللّه تعالى يقول لنبيه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ . فجعلتم عمر مثل الرسول !

قال آخر: فقد شهد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعمر بالجنة في عشرة من الصحابة .

ص: 102

فقال المأمون: لو كان هذا كما زعمتم لكان عمر لا يقول لحذيفة: نشدتك باللّه أمن المنافقين أنا ؟ فإن كان قد قال له النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أنت من أهل الجنة ولم يصدقه حتى زكاه حذيفة فصدَّق حذيفة ولم يصدق النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهذا على غير الإسلام! وإن كان قد صدق النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلمَ سأل حذيفة ؟

وهذان الخبران متناقضان في أنفسهما !

قال آخر: قال النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : وضعت في كفة الميزان ووضعت أمتي في كفة أخرى فرجحت بهم ، ثم وضع مكاني أبو بكر فرجح بهم ، ثم عمر فرجح بهم ، ثم رفع الميزان !

فقال المأمون: هذا محال من قبل أنه لا يخلو من أن يكون أجسامهما ، أو أعمالهما فإن كانت الأجسام ، فلا يخفى على ذي روح أنه محال ، لأنه لا يرجح أجسامهما بأجسام الأمة . وإن كانت أفعالهما فلم تكن بعد ، فكيف ترجح بما ليس ! فأخبروني بمَ يتفاضل الناس؟ فقال بعضهم: بالأعمال الصالحة . قال: فأخبروني فممن فضل صاحبه على عهد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم إن المفضول عمل بعد وفاة رسول اللّه بأكثر من عمل الفاضل على عهد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيلحق به ؟

فإن قلتم: نعم أوجدتكم في عصرنا هذا من هو أكثر جهاداً وحجاً وصوماً وصلاةً وصدقةً ، من أحدهم !

قالوا: صدقت لا يلحق فاضل دهرنا لفاضل عصر النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ص: 103

قال المأمون: فانظروا فيما روت أئمتكم الذين أخذتم عنهم أديانكم في فضائل علي ، وقيسوا إليها ما رووا في فضائل تمام العشرة الذين شهدوا لهم بالجنة ، فإن كانت جزءً من أجزاء كثيرة ، فالقول قولكم .

وإن كانوا قد رووا في فضائل علي أكثر فخذوا عن أئمتكم ما رووا ولا تعدوه .

قال: فأطرق القوم جميعاً ، فقال المأمون: ما لكم سكتم ؟

قالوا: قد استقصينا .

قال المأمون: فإني أسألكم: خبروني أي الأعمال كان أفضل يوم بعث اللّه نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟ قالوا: السبق إلى الإسلام... ثم روى الصدوق نحو ما رواه ابن عبد ربه ، وفي روايته دقائق حذفها ابن عبد ربه ، لكن لا نعيدها ، ثم قالت رواية الصدوق:

ثم أقبل على أصحاب النظر والكلام فقال: أسألكم أو تسألوني ؟

فقالوا: بل نسألك . قال: قولوا . فقال قائل منهم: أليست إمامة علي من قبل اللّه عز وجل ، نقل ذلك عن رسول اللّه من نقل ، الفرض مثل الظهر أربع ركعات ، وفي مأتي درهم خمسة دراهم ، والحج إلى مكة ؟ فقال: بلى . قال: فما بالهم لم يختلفوا في جميع الفرض ، واختلفوا في خلافة علي وحدها ؟

قال المأمون:لأن جميع الفرض لا يقع فيه من التنافس والرغبة مايقع في الخلافة.

فقال آخر: ما أنكرت أن يكون النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمرهم باختيار رجل منهم يقوم مقامه رأفة بهم ورقة عليهم ، من غير أن يستخلف هو بنفسه فيُعصى خليفته ، فينزل بهم العذاب ؟

ص: 104

فقال: أنكرتُ ذلك من قِبَل أن اللّه تعالى أرأف بخلقه من النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد بعث نبيه إليهم وهو يعلم أن فيهم عاص ومطيع ، فلم يمنعه تعالى ذلك من إرساله !

وعلة أخرى: ولو أمرهم باختيار رجل منهم كان لا يخلو من أن يأمرهم كلهم أو بعضهم ، فلو أمر الكل من كان المختار؟ ولو أمر بعضاً دون بعض كان لا يخلو من أن يكون على هذا البعض علامة ، فإن قلت: الفقهاء ، فلا بد من تحديد الفقيه وسمته .

قال آخر: فقد روي أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: ما رآه المسلمون حسناً فهو عند اللّه تعالى حسن ، وما رأوه قبيحاً فهو عند اللّه قبيح .

فقال: هذا القول لا بد من أن يكون يريد كل المؤمنين ، أو البعض ، فإن أراد الكل فهذا مفقود ، لأن الكل لا يمكن اجتماعهم ، وإن كان البعض فقد روى كل في صاحبه حسناً مثل رواية الشيعة في علي ورواية الحشوية في غيره ، فمتى يثبت ما تريدون من الإمامة؟!

قال آخر: فيجوز أن تزعم أن أصحاب محمد أخطأوا .

قال: كيف نزعم أنهم أخطأوا واجتمعوا على ضلالة ، وهم لم يعلموا فرضاً ولا سنة ، لأنك تزعم أن الإمامة لا فرض من اللّه تعالى ولا سنة من الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فكيف يكون فيما ليس عندك بفرض ولا سنة خطأ ؟

قال آخر: إن كنت تدعي لعلي من الإمامة دون غيره فهات بينتك على ماتدعي.

ص: 105

فقال: ما أنا بمدع ولكني مقر ، ولا بينة على مقر والمدعي من يزعم أن إليه التولية والعزل ، وأن إليه الإختيار والبينة ! ولا تعرى من أن تكون من شركائه فهم خصماء ، أو تكون من غيرهم والغير معدوم ، فكيف يؤتى بالبينة على هذا ؟

قال آخر: فما كان الواجب على علي بعد مضي رسول اللّه ؟

قال: ما فعله . قال: أفما وجب عليه أن يعلم الناس إنه إمام ؟فقال: إن الإمامة لا تكون بفعل منه في نفسه ولا بفعل من الناس فيه من اختيار أو تفضيل أو غير ذلك ، وإنها يكون بفعل من اللّه تعالى فيه ، كما قال لإبراهيم(عليه السلام) : إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا. وكما قال تعالى لداود(عليه السلام) : يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ. وكما قال عز وجل للملائكة في آدم: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً . فالإمام إنما يكون إماماً من قبل اللّه تعالى ، وباختياره إياه في بدء الصنيعة ، والتشريف في النسب ، والطهارة في المنشأ ، والعصمة في المستقبل .

ولو كانت بفعل منه في نفسه كان من فعل ذلك الفعل مستحقاً للإمامة ، وإذا عمل خلافها اعتزل ، فيكون خليفة من قِبل أفعاله.

قال آخر: فلم أوجبت الإمامة لعلي بعد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟

فقال: لخروجه من الطفولية إلى الإيمان كخروج النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الطفولية إلى الإيمان ، والبراءة من ضلالة قومه عن الحجة ، واجتنابه الشرك كبراءة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الضلالة ، وإجتنابه للشرك ، لأن الشرك ظلم ، ولا يكون الظالم إماماً ، ولا

ص: 106

من عبد وثناً . ومن شرك فقد حل من اللّه تعالى محل أعدائه ، فالحكم فيه الشهادة عليه بما اجتمعت عليه الأمة ، حتى يجئ إجماع آخر مثله .

ولأن من حكم عليه مرة فلا يجوز أن يكون حاكماً ، فيكون الحاكم محكوماً عليه فلا يكون حينئذ فرق بين الحاكم والمحكوم عليه .

قال آخر: فلمَ لم يقاتل علي أبا بكر وعمر ، كما قاتل معاوية ؟

فقال: المسألة محال لأن لمَ اقتضاء ، ولم يفعل نفي والنفي لا يكون له علة ، إنما العلة للإثبات . وإنما يجب أن ينظر في أمر علي ، أمن قبل اللّه أم من قبل غيره ، فإن صح أنه من قبل اللّه تعالى ، فالشك في تدبيره كفر لقوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا . فأفعال الفاعل تبعٌ لأصله ، فإن كان قيامه عن اللّه تعالى ، فأفعاله عنه ، وعلى الناس الرضا والتسليم ، وقد ترك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) القتال يوم الحديبية ، يوم صد المشركون هديه عن البيت ، فلما وجد الأعوان وقويَ حارب كما قال اللّه تعالى في الأول: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ، ثم قال عز وجل: فَاقْتُلُوا

الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ .

قال آخر: إذا زعمت أن إمامة علي من قبل اللّه تعالى وإنه مفترض الطاعة ، فلمَ لم يجز إلا التبليغ والدعاء للأنبياء(عليهم السلام) ، وجاز لعلي أن يترك ما أمر به من دعوة الناس إلى طاعته ؟

ص: 107

فقال: من قبل أنا لم نزعم إن علياً أمر بالتبليغ فيكون رسولاً ، ولكنه وضع عَلَماً بين اللّه تعالى وبين خلقه ، فمن تبعه كان مطيعاً، ومن خالفه كان عاصياً ، فإن وجد أعواناً يتقوى بهم جاهد ، وإن لم يجد أعواناً فاللوم عليهم لا عليه ، لأنهم أمروا بطاعته على كل حال ، ولم يؤمر هو بمجاهدتهم إلا بقوة ، وهو بمنزلة البيت على الناس الحج إليه ، فإذا حجوا أدوا ما عليهم ، وإذا لم يفعلوا كانت اللائمة عليهم لا على البيت .

وقال آخر: إذا وجب أنه لا بد من إمام مفترض الطاعة بالإضطرار ، كيف يجب بالإضطرار أنه علي ، دون غيره ؟

فقال: من قبل أن اللّه تعالى لا يفرض مجهولاً، ولا يكون المفروض ممتنعاً، إذ المجهول ممتنع، فلا بد من دلالة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) على الفرض ليقطع العذر بين اللّه عز وجل وبين عباده . أرأيت لو فرض اللّه تعالى على الناس صوم شهر، فلم يعلم الناس أي شهر هو؟ ولم يوسم بوسم ، وكان على الناس استخراج ذلك بعقولهم حتى يصيبوا ما أراد اللّه تعالى ، فيكون الناس حينئذ مستغنين عن الرسول المبين لهم ، وعن الإمام الناقل خبر الرسول إليهم !

وقال آخر: من أين أوجبت أن علياً كان بالغاً حين دعاه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فإن الناس يزعمون إنه كان صبياً حين دُعِيَ ، ولم يكن جاز عليه الحكم ، ولا بلغ مبلغ الرجال .

ص: 108

فقال: من قبل أنه لا يعرى في ذلك الوقت من أن يكون ممن أرسل إليه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليدعوه ، فإن كان كذلك فهو محتمل التكليف ، قويٌّ على أداء الفرائض . وإن كان ممن لم يرسل إليه فقد لزم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قول اللّه عز وجل: وَلَوْ تَقَوَلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ . لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ . ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ . وكان مع ذلك كلف النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عباد اللّه ما لا يطيقون عن اللّه تبارك وتعالى ، وهذا من المحال الذي يمتنع كونه ، ولا يأمر به حكيم ، ولا يدل عليه الرسول .

تعالى اللّه عن أن يأمر بالمحال ، وجل الرسول من أن يأمر بخلاف ما يمكن كونه في حكمة الحكيم . فسكت القوم عند ذلك جميعاً .

فقال المأمون: قد سألتموني ونقضتم عليَّ ، أفأسألكم ؟

قالوا: نعم ، قال: أليس قد روت الأمة بإجماع أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ؟ قالوا: بلى .

قال: ورووا عنه أنه قال: من عصى اللّه بمعصية صغرت أو كبرت ، ثم اتخذها ديناً ومضى مصرّاً عليها فهو مخلد بين أطباق الجحيم؟ قالوا: بلى.

قال: فخبروني عن رجل تختاره الأمة فتنصبه خليفة ، هل يجوز أن يقال له خليفة رسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن قِبَل اللّه عز وجل ، ولم يستخلفه الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) !

فإن قلتم: نعم ، فقد كابرتم . وإن قلتم: لا ، وجب أن أبا بكر لم يكن خليفة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا كان من قبل اللّه عز وجل ، وأنكم تكذبون على نبي اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإنكم متعرضون لأن تكونوا ممن وسمه النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بدخول

النار !

ص: 109

وخبروني في أي قوليكم صدقتم؟ أفي قولكم مضى رسول اللّه ولم يستخلف ، أو في قولكم لأبي بكر يا خليفة رسول اللّه ؟! فإن كنتم صدقتم في القولين فهذا ما لا يمكن كونه ، إذ كان متناقضاً ! وإن كنتم صدقتم في أحدهما ، بطل الآخر !

فاتقوا اللّه وانظروا لأنفسكم ، ودعوا التقليد ، وتجنبوا الشبهات ، فواللّه ما يقبل اللّه تعالى إلا من عبد لا يأتي إلا بما يعقل ، ولا يدخل إلا فيما يعلم أنه حق . والريب شك ، وإدمان الشك كفر باللّه تعالى ، وصاحبه في النار !

وخبروني هل يجوز أن يبتاع أحدكم عبداً ، فإذا ابتاعه صار مولاه ، وصار المشتري عبده ؟ قالوا: لا.

قال: فكيف جاز أن يكون من اجتمعتم عليه أنتم لهواكم ، واستخلفتموه صار خليفة عليكم ، وأنتم وليتموه ؟ ألا كنتم أنتم الخلفاء عليه ! بل تُولون خليفة وتقولون إنه خليفة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ثم إذا سخطتم عليه قتلتموه ، كما فُعل بعثمان بن عفان ؟

فقال قائل منهم: لأن الإمام وكيل المسلمين ، إذا رضوا عنه ، ولوه وإذا سخطوا عليه عزلوه .

قال: فلمن المسلمون والعباد والبلاد ؟ قالوا: للّه تعالى.

قال: فاللّه أولى أن يوكل على عباده وبلاده من غيره ، لأن من إجماع الأمة أنه من أحدث حدثاً في ملك غيره فهو ضامن وليس له أن يحدث ، فإن فعل فآثم غارم .

ثم قال: خبروني عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هل استخلف حين مضى أم لا؟

ص: 110

فقالوا: لم يستخلف . قال: فتركه ذلك هدىً أم ضلال ؟ قالوا: هدى .

قال: فعلى الناس أن يتبعوا الهدى ، ويتركوا الباطل ويتنكبوا الضلال !

قالوا: قد فعلوا ذلك . قال: فلم استخلف الناس بعده وقد تركه هو؟ فترك فعله ضلال ، ومحال أن يكون خلاف الهدى هدى ! وإذا كان ترك الإستخلاف هدى، فلمَ استخلف أبو بكر ولم يفعله النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟ ولمَ جعل عمر الأمر بعده شورى بين المسلمين خلافاً على صاحبه؟ لأنكم زعمتم أن النبي لم يستخلف ، وأن أبا بكر استخلف، وعمر لم يترك الإستخلاف كما تركه النبي بزعمكم ، ولم يستخلف كما فعل أبو بكر ، وجاء بمعنى ثالث !

فخبروني أي ذلك ترونه صواباً ؟ فإن رأيتم فعل النبي صواباً ، فقد خطأتم أبا بكر ، وكذلك القول في بقية الأقاويل !

وخبروني أيهما أفضل ما فعله النبي بزعمكم ، من ترك الإستخلاف ، أو ما صنعت طائفة من الإستخلاف ؟

وخبروني هل يجوز أن يكون تركه من الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) هدى وفعله من غيره هدى فيكون هدى ضد هدى ؟ فأين الضلال حينئذ ؟

وخبروني هل وليَ أحد بعد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) باختيار الصحابة ، منذ قبض النبي إلى اليوم ؟ فإن قلتم: لا ، فقد أوجبتم أن الناس كلهم عملوا ضلالة بعد النبي ! وإن قلتم: نعم ، كذبتم الأمة ، وأبطل قولكم الوجود الذي لا يدفع !

ص: 111

وخبروني عن قول اللّه عز وجل: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ . أصدق هذا أم كذب ؟ قالوا: صدق قال: أفليس ما سوى اللّه للّه ، إذ كان مُحْدِثه ومالكه ؟ قالوا: نعم. قال: ففي هذا بطلان ما أوجبتم اختياركم خليفة ، تفترضون طاعته وتسمونه خليفة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنتم استخلفتموه ، وهو معزول عنكم إذا غضبتم عليه وعمل بخلاف محبتكم،ومقتول إذا أبى الاعتزال.ويلكم ! لا تفتروا على اللّه كذباً، فتلقوا وبال ذلك غداً إذا قمتم بين يدي اللّه تعالى ! وإذا وردتم على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد كذبتم عليه متعمدين ، وقد قال: من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار !

ثم استقبل القبلة ورفع يديه وقال: اللّهم إني قد أرشدتهم !

اللّهم إني قد أخرجت ما وجب علي إخراجه من عنقي !

اللّهم إني لم أدعهم في ريب ولا في شك !

اللّهم إني أدين بالتقرب إليك بتقديم علي على الخلق بعد نبيك محمد ، كما أمرنا به رسولك(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ! قال: ثم افترقنا فلم نجتمع بعد ذلك حتى قبض المأمون !

قال محمد بن يحيى بن عمران الأشعري: وفي حديث آخر، قال: فسكت القوم فقال لهم: لم سكتم؟ قالوا: لا ندري ما تقول؟ قال: تكفيني هذه الحجة عليكم . ثم أمر بإخراجهم قال: فخرجنا متحيرين خجلين .

ثم نظر المأمون إلى الفضل بن سهل فقال: هذا أقصى ما عند القوم ، فلا يظن ظان أن جلالتي منعتهم من النقض عليَّ ) .

ص: 112

(8) ملاحظات على مناظرات المأمون

1. في مناظرات المأمون مباحث عديدة ، ودلالات مهمة ، لكن الإفاضة فيها تخرجنا عن غرض الكتاب. لكن السؤال الملحَّ فيها عن هدف المأمون منها، وعن صدقه فيها ؟ وقد عرفنا أن هدفه تهديد العباسيين بنقل الخلافة الى العلويين ، لأنهم أصحابها الشرعيون ، وهو تهديد شكلي وليس حقيقياً ، ليضمن بذلك طاعة العباسيين له ، ولمن يريد أن يجعله ولي عهده . فهو عمل سياسي لغرضٍ داخل العائلة المالكة .

2. أما صدقه فيها ، فيظهر أن خطته كانت إقامة الحجة على الفقهاء والعلماء ، ليقنعهم بمذهبه فينشروه في الناس , ويتحول الحكم الى نظام عباسي بمذهب شيعي علوي ! وهو صادقٌ في هذا الهدف ، فقد قام بخطوات عمليه في هذا الإتجاه ، فكتب منشوراً في البراءة من معاوية ، لكنه تراجع عنه خوفاً من العامة ، وبقي المنشور تاريخاً ، حتى نشره الخليفة المعتضد العباسي .

كما طارد المجسمة الذين يقولون إن القرآن جزءٌ من ذات اللّه تعالى ! لكنه أساء أسلوب تنفيذه ، فقاومه قسم من الفقهاء والعامة ، واستمرخطه هذا في زمن أخيه المعتصم والواثق ، حتى جاء المتوكل فنقضه وقرَّب مجسمة الحنابلة ، وأسس لهم ميليشا تقاوم الشيعة .

3. على أن الإشكال الأساسي على المأمون ، أنك قبل أن تقيم الحجة على فقهاء دولتك ، وتنصحهم باعتقاد الحق وتحذرهم من عقوبة الآخرة..

ص: 113

فانصح نفسك ، واخرج من جريمة غصب الحق من أهله ! فأنت تقول إن الخلافة حق إلهي لعلي وأبنائه الأئمة(عليهم السلام) ، لأنهم نوعٌ راق من البشر ، فسلم الخلافة لأصحابها . ولعل بعض الفقهاء واجهه بهذه الحجة ولم ينقلها الرواة !

4. حديث الطير الذي احتج به المأمون على أن علياً(عليه السلام) أفضل الخلق بعد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، رواه الحاكم في المستدرك (3/131): (عن أنس بن مالك قال: كنت أخدم رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقدم لرسول اللّه فرخ مشوي ، فقال: اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير . قال فقلت: اللّهم اجعله رجلاً من الأنصار ! فجاء علي رضي اللّه عنه فقلت: إن رسول اللّه على حاجة . ثم جاء فقلت: إن رسول اللّه على حاجة . ثم جاء فقال رسول اللّه: إفتح ، فدخل فقال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ما حبسك عليَّ؟ فقال: إن هذه آخر ثلاث كرات ، يردني أنس، يزعم أنك على حاجة . فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقلت: يا رسول اللّه سمعت دعاءك ، فأحببت أن يكون رجلاً من قومي! فقال رسول اللّه: إن الرجل قد يحب قومه ! هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه).

5. تفاوتت حالة خلفاء بني العباس في مستواهم الفكري والعلمي ، وفي موقفهم من علي(عليه السلام) وأبنائه الأئمة(عليهم السلام) . فكان منهم الشيعي نظرياً ، لكنه عدوٌّ لأئمة العترة وشيعتهم عملياً ، كالمأمون .

ص: 114

ومنهم من أعلن تشيعه كاملاً كالناصر لدين اللّه العباسي ، أحمد بن المستضئ، الذي دامت خلافته46سنة ، وتوفي سنة622، وله أخبار وقصص ، وتجد إسمه على الباب الخشبي في سرداب بيت الإمام المهدي(عليه السلام) المسمى سرداب الغيبة .

وقد أعاد الناصر الهيبة المفقودة للخلافة العباسية ، واسترجع في عصره بيت المقدس وما كان أخذه الصليبيون من ساحل لبنان وسوريا .وقد اهتم بمشاهد الأئمة(عليهم السلام) وجعل مشهد الإمام الكاظم(عليه السلام) حمىً وملاذاً لمن لجأ اليه فكان يعفو عنهم ، ويصلح بينهم وبين خصومهم . وأعدَّ لنفسه قبراً عند قبر الإمام الكاظم(عليه السلام) عند رجليه ، لكن المتعصبين العباسيين غلبوا على جنازته ولم يدفنوه فيه ، فدفن فيه بعد نحو سبعين سنة المرجع نصير الدين الطوسي (قدس سرّه) .

(9) مبالغة رواة السلطة في عطاء المأمون للإمام الجواد(عليه السلام)

قال ابن الجوزي في المنتظم (11/62): (محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان اللّه عليهم، ولد سنة مائة وخمس وتسعين ، وقدم من المدينة إلى بغداد وافداً على المعتصم ومعه أم الفضل بنت المأمون ، وكان المأمون قد زوجه إياها وأعطاه مالاً عظيماً ، وكذلك الرشيد كان يجري على علي بن موسى بن جعفر في كل سنة ثلاث مائة ألف درهم ، ولنزله ألف درهم في كل شهر . فقال المأمون لمحمد بن علي بن موسى لأزيدنك على مرتبة جدك ، فأجرى له ذلك ووصله بألف ألف درهم .

ص: 115

وقدم بغداد فتوفي بها يوم الثلاثاء لليال خلون من ذي الحجة في هذه السنة ، وركب هارون بن المعتصم وصلى عليه ، ثم حمل ودفن في مقابر قريش عند جده موسى بن جعفر ، وهو ابن خمس وعشرين سنة وثلاثة أشهر واثني عشر يوماً . وحملت امرأته إلى قصر المعتصم فجعلت في جملة الحرم ).

أقول: يريد علماء السلطة أن يغطوا قتل هارون للإمام الكاظم(عليه السلام) ، وقتل المأمون للإمام الرضا(عليه السلام) ، وقتل المعتصم للإمام الجواد(عليه السلام) ، بأنهم كانوا يحترمونهم ويعطونهم الأموال الوفيرة ! وزاد ابن الجوزي مدح الإمام الجواد(عليه السلام) بأنه كان سخياً ، وأنه أعطى شخصاً قصراً وبستاناً وجارية !

قال في المنتظم (11/62): ( وبلغنا عن بعض العلويين أنه قال: كنت أهوى جارية بالمدينة ، وتقصر يدي عن ثمنها ، فشكوت ذلك إلى محمد بن علي بن موسى الرضا ، فبعث فاشتراها سراً، فلما بلغني أنها بيعت ولم أعلم أنه اشتراها ، زاد قلقي فأتيته فأخبرته ببيعها فقال: من اشتراها؟ قلت: لا أعلم، قال: فهل لك في الفرجة؟ قلت: نعم . فخرجنا إلى قصر له عنده ضيعة فيها نخل وشجر ، وقد قدم (أرسل) إليه فرشاً وطعاماً ، فلما صرنا إلى الضيعة أخذ بيدي ودخلنا، ومنع أصحابه من الدخولوأقبل يقول لي: بيعت فلانة ولا تدري من اشتراها؟ فأقول: نعم وأبكي ، حتى انتهى إلى بيت على بابه ستر ، وفيه جارية جالسة على فرض له قيمة ، فتراجعت فقال: واللّه لتدخلن ، فدخلت ، فإذا الجارية التي كنت أحبها بعينها ، فَبُهِتُّ وتحيرتُ فقال: أفتعرفها ؟ قلت: نعم قال: هي لك

ص: 116

مع الفرض والقصر والضيعة والغلة والطعام ، وأقم بحياتي معها ، وأبلغ وطرك في التمتع بها ، وخرج إلى أصحابه فقال: أما طعامنا فقد صار لغيرنا فجددوا لنا طعاماً ، ثم دعا الأكار(الفلاح) فعوضه عن حقه من الغلة حتى صارت لي تامة ، ثم مضى ).

أقول: كان الوضع المالي للإمام الجواد(عليه السلام) متوسطاً ، ولا أظن أنه يسمح بمثل هذا السخاء على شخص لم يسمه ، خاصة مع وجود فقراء ومستحقين كثيرين في المدينة . وقد يكون غرضها اتهام الإمام الجواد(عليه السلام) بالإسراف ، فقد كان معاوية يشيع أن بني هاشم أسخياء لكنهم مسرفون مبذرون !

(10) قصة الباز الذي صاد سمكة من الجو

رووا قصة للمأمون مع الإمام الجواد(عليه السلام) وهو في عمر التاسعة ، وأن المأمون كان ذاهباً الى الصيد فمر بأولاد يلعبون بينهم الإمام الجواد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهربوا منه ، وبقي الإمام(عليه السلام) فسأله المأمون عن إسمه ولماذا لم يهرب معهم .

ثم صادف المأمون حادثة غريبة ، هي أن الباز الذي كان يصيد به طار في الجو فصاد حية أو سمكة ، فتعجب وسأل الإمام(عليه السلام) فأخبره بأنه يوجد بحر في الجو .

وقد رواها في مناقب آل أبي طالب (3/494) مرسلة ، فقال: (اجتاز المأمون بابن الرضا(عليه السلام) وهو بين صبيان فهربوا سواه فقال: عليَّ به ، فقال له: مالك ما هربت في جملة الصبيان؟ قال: مالي ذنب فأفر ، ولا الطريق ضيق فأوسعه عليك ، تمر

ص: 117

من حيث شئت. فقال: من تكون؟ قال: أنا محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، فقال ما تعرف من العلوم؟

قال: سلني عن اخبار السماوات ، فودعه ومضى وعلى يده باز أشهب يطلب به الصيد ، فلما بعد عنه نهض عن يده الباز ، فنظر يمينه وشماله لم ير صيداً والباز يثب عن يده ، فأرسله وطار يطلب الأفق حتى غاب عن ناظره ساعة ، ثم عاد إليه وقد صاد حية ، فوضع الحية في بيتالطعم ، وقال لأصحابه: قد دنا حتف ذلك الصبي في هذا اليوم على يدي ، ثم عاد وابن الرضا في جمله الصبيان فقال: ما عندك من أخبار السماوات؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين حدثني أبي عن آبائه عن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن جبرئيل عن رب العالمين ، أنه قال: بين السماء والهواء بحر عجاج يتلاطم به الأمواج فيه حَيَّاتٌ خضر البطون رقط الظهور ، يصيدها الملوك بالبزاة الشهب يمتحن بها العلماء . فقال: صدقت وصدق آباؤك وصدق جدك وصدق ربك ، فأركبه ، ثم زوجه أم الفضل ).

ورواها ابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول في مناقب آل الرسول/468، بصيغة أخرى ، قال: (لما توفى والده علي الرضا وقدم الخليفة المأمون إلى بغداد بعد وفاته بسنة ، اتفق أنه بعد ذلك خرج يوماً يتصيد ، فاجتاز بطرف البلد في طريقه والصبيان يلعبون ومحمد واقف معهم ، وكان عمره يومئذ إحدى عشرة سنة فما حولها ، فلما أقبل الخليفة المأمون انصرف الصبيان هاربين ، ووقف أبو جعفر محمد فلم يبرح مكانه ، فقرب منه الخليفة فنظر إليه ، وكان اللّه عز وجل قد ألقى

ص: 118

عليه مسحة من قبول، فوقف الخليفة وقال له: يا غلام ما منعك من الإنصراف مع الصبيان؟فقال له محمد مسرعاً: يا أمير المؤمنين لم يكن بالطريق ضيق لأوسعه عليك بذهابي ، ولم تكن لي جريمة فأخشاها ، وظني بك حسن أنك لا تضر من لا ذنب له ، فوقفت . فأعجبه كلامه ووجهه فقال له: ما اسمك؟ فقال: محمد . فقال: ابن من أنت؟ فقال: يا أمير المؤمنين أنا ابن علي . فترحم على أبيه وساق إلى وجهته ، وكان معه بُزَاة ، فلما بعد عن العمارة أخذ بازاً فأرسله على دراجة ، فغاب عن عينه طويلاً ، ثم عاد من الجو وفي منقاره سمكة صغيرة وبها بقايا الحياة ، فأعجب الخليفة من ذلك غاية العجب ، ثم أخذها في يده وعاد إلى داره في الطريق الذي أقبل منه ، فلما وصل إلى ذلك المكان وجد الصبيان على حالهم فانصرفوا كما فعلوا أول مرة ، وأبو جعفر لم ينصرف ووقف كما وقف أولاً فلما قرب منه الخليفة قال له: يا محمد . قال: لبيك يا أمير المؤمنين . قال له: ما في يدي؟ فألهمه اللّه عز وجل أن قال: يا أمير المؤمنين إن اللّه تعالى خلق بمشيئته في بحر قدرته سمكاً صغاراً ، تصيدها بزاة الملوك والخلفاء ، فيختبرون بها سلالة أهل النبوة . فلما سمع المأمون كلامه عجب وجعل يطيل نظره إليه وقال: أنت ابن الرضا حقاً . وضاعف إحسانه إليه ).

ورواه بنحوه ابن الصباع المالكي في الفصول المهمة (2/1040) ، وفي آخرها: (قال: أنت ابن الرضا حقاً ومن بيت المصطفى صدقاً ، وأخذه معه وأحسن إليه ، وقربه وبالغ في إكرامه وإجلاله وإعظامه ، فلم يزل مشغفاً به لما ظهر له أيضاً بعد

ص: 119

ذلك من بركاته ومكاشفاته وكراماته وفضله وعلمه ، وكمال عقله وظهور برهانه مع صغر سنه . ولم يزل المأمون متوفراً على تبجيله وإعظامه وإجلاله وإكرامه إلى أن عزم على أن يزوجه ابنته أُم الفضل وصمم على ذلك ، فبلغ ذلك العبّاسيين فغلظ عليهم واستكبروه وخافوا أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع أبيه الرضا، فاجتمع الأكابر من العباسيين..الخ.).

(11) ملاحظات على هذه الرواية

1.يَرِدُ عليها أنها مرسلة ، لكن الإرسال يوجب التوقف فيها ، ولا يوجب ردها.

2. ويَرِدُ عليها أنها تفرض أن المأمون لم يكن يعرف الإمام الجواد(عليه السلام) ، مع أنه كان يعرفه جيداً ، وقد سمى له ابنته في حياة أبيه وهو طفل ، ثم أحضره الى بغداد وتحدى به العباسيين وناظرهم ، وأقام له مراسم تاريخية لعقد زواجه .

قال ابن كثير في النهاية (10/295) وهو المتعصب على أهل البيت(عليهم السلام) : (فلما كان (المأمون) بتكريت تلقاه محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب من المدينة النبوية ، فأذن له المأمون في الدخول على ابنته أم الفضل بنت المأمون . وكان معقود العقد عليها في حياة أبيه علي بن موسى ، فدخل بها وأخذها معه إلى بلاد الحجاز ).

3. أما صيد البزاة سمكاً حياً وميتاً من الهواء ، فتفسيره أن عواصف الهواء تحمل الماء والسمك من البحر ، وقد تلقيه على بعد مئات الكيلو مترات .

وقد قرأت ذلك في مصادر التاريخ ، وفي عصرنا صوروا عنه أفلاماً، لاحظ:

http://www.uobabylon.edu.iq/uobcoleges/action_lect.aspx?fid=10(ه) depid=6(ه) lcid=23246

ص: 120

وقد يكون المأمون سأل الإمام الجواد(عليه السلام) عن حادثة غريبة حدثت له في الصيد ، فأخبره الإمام بإمكان وجود ماء البحر والسمك في السماء أحياناً .

فكانت كرامة له أنه عرف ما حدث للمأمون وفسره له ، لكن الراوي لم يتقن رواية الحادثة ، أو زاد فيها .

4. ويَرِد على الرواية أنها نسبت الى الإمام الجواد(عليه السلام) اللعب مع الصبيان ، والمعصوم لا يلعب ولا يلهو . وقد بحثنا ذلك في طفولة الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) .

5. ذكرت الرواية أن مكان القصة بغداد ، ولعله كان المدينة ، لأن الإمام الجواد لم يسكن في بغداد وهو صبي .

(12) كان المأمون مرناً مع الإمام الجواد(عليه السلام)

كانت سياسة المأمون لينة الظاهر مع الإمام الجواد(عليه السلام) طوال حياته ، ولم يحاول قتله أو التضييق عليه بشكل علني . ولم تكن هذه السياسة بسبب أن المأمون اكتفى بسفك دم أبيه الرضا(عليه السلام) ، بل لخوفه أن ينتهي عمره هو ، لأن الإمام الرضا(عليه السلام) قال له: (أحسن يا أمير المؤمنين معاشرة أبي جعفر ، فإن عمرك وعمره هكذا . وجمع بين سبابتيه) ! (عيون أخبار الرضا(عليه السلام) :2/270).

(13) محاولة المأمون تشويه سمعة الإمام(عليه السلام)

لكن مرونة المأمون لم تمنعه من محاولة أن يجر الإمام الجواد(عليه السلام) الى مجالس الغناء والخمر ليشوه سمعته عند المسلمين عامة ، وشيعته خاصة !

ص: 121

روى في الكافي (1/495): (عن محمد بن الريان قال: احتال المأمون على أبي جعفر(عليه السلام) بكل حيلة فلم يمكنه فيه شئ ، فلما اعتل وأراد أن يبنى عليه ابنته، دفع إلى مائتي وصيفة من أجمل ما يكون ، إلى كل واحدة منهن جاماً فيه جوهر يستقبلن أبا جعفر(عليه السلام) إذا قعد في موضع الأخيار ، فلم يلتفت إليهن !

وكان رجل يقال له: مخارق ، صاحب صوت وعود وضرب ، طويل اللحية ، فدعاه المأمون فقال: يا أمير المؤمنين إن كان في شئ من أمر الدنيا ، فأنا أكفيك أمره ، فقعد بين يدي أبي جعفر(عليه السلام) فشهق مخارق شهقةً اجتمع عليه أهل الدار وجعل يضرب بعوده ويغني ، فلما فعل ساعة ، وإذا أبو جعفر لا يلتفت إليه لا يميناً ولا شمالاً ، ثم رفع إليه رأسه وقال: إتق اللّه يا ذا العثنون (وصف للحيته) قال: فسقط المضراب من يده والعود ، فلم ينتفع بيديه إلى أن مات ! قال: فسأله المأمون عن حاله قال: لما صاح بي أبو جعفر فزعت فزعة لا أفيق منها أبداً ) .

أقول: لو كانت شخصية المأمون وأهل مجلس سوية ، لخشعوا وخضعوا لهذه الآية ، واستغفروا اللّه واعتذروا من الإمام(عليه السلام) وسلموا له. ولكنهممتكبرون لا تنفعهم الآيات وقد قال اللّه تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِىَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً.

ص: 122

(14) حديت أم الفضل عن محاولة أبيها قتل الإمام

روى المؤرخون أن المأمون كان سكراناً فأقدم على قتل الإمام الجواد(عليه السلام) فلم يمت ، وظهرت له كرامة من اللّه تعالى .

وقد روى ذلك في عيون المعجزات/113، بسند صحيح ، عن حكيمة بنت أبي الحسن القرشي ، قالت: (لما قبض أبو جعفر محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام) ، أتيت أم الفضل بنت المأمون أو قالت أم عيسى بنت المأمون ، فعزيتها فوجدتها شديدة الحزن والجزع تقتل بنفسها بالبكاء والعويل ، فخفت عليها تتصدع مرارتها .

فبينما نحن في حديث كرمه ووصف خلقه وما أعطاه اللّه من العز والإخلاص، ومنحه من الشرف والكرامة ، إذ قالت زوجته ابنة المأمون: ألا أخبرك عنه بشئ عجيب وأمر جليل فوق الوصف والمقدار؟ قلت: وما ذاك؟ قالت: كنت أغار عليه كثيراً وأرقبه أبداً ، وربما كان يُسمعني الكلام فأشكو ذلك إلى أبي فيقول: يا بنته احتمليه فإنه بضعة من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فبينما أنا جالسة ذات يوم إذ دخلت علي جارية فسلمت فقلت: من أنت؟ فقالت: أنا جارية من ولد عمار بن ياسر ، وأنا زوجة أبي جعفر محمد بن علي زوجك ! فدخلني من الغيرة ما لم أقدر على احتماله، وهممت أن أخرج وأسيح في البلاد ، وكاد الشيطان يحملني على الإسائة بها ، فكظمت غيظي وأحسنت رفدها وكسوتها . فلما خرجت عني لم أتمالك أن نهضت ودخلت على أبي فأخبرته بذلك وكان سكراناً لا يعقل ، فقال: يا غلام

ص: 123

عليَّ بالسيف فأتى به ، ثم ركب وقال: واللّه لأقطعنه ! فلما رأيت ذلك قلت إنا للّه وإنا إليه راجعون ، ما صنعت بنفسي وزوجي! وجعلت ألطم وجهي فدخل عليه أبي وما زال يضربه بالسيف حتى قَطَّعَهُ ! ثم خرج وخرجت هاربة خلفه ، ولم أرقد ليلتي غماً وقلقاً . فلما أصبحت أتيت أبي وقلت له أتدري ما صنعت البارحة؟ قال: وما صنعت؟ قلت: قتلت ابن الرضا ! فبرقت عيناه وغُشي عليه ، فلما أفاق من غشوته قال: ويحك ما تقولين؟ قلت: نعم واللّه يا أبت ، دخلت عليه ولمتزل تضربه بالسيف حتى قطعته! فاضطرب من ذلك اضطراباً شديداً ، ثم قال: عليَّ بياسر الخادم ، فلما أُتيَ به قال: ما هذا الذي تقول هذه؟ قال ياسر: صدقت يا أمير المؤمنين ! فضرب أبي بيده على صدره وخده وقال: إنا للّه وإنا إليه راجعون هلكنا واللّه ، وأعطبنا وافتضحنا إلى آخر الأبد ! إذهب ويلك وانظر ما القصة وعجل عليَّ بالخبر ، فإن نفسي تكاد تخرج الساعة !

فخرج ياسر وأنا الطم خدي ووجهي ، فما كان بأسرع ما رجع وقال: البشرى يا أمير المؤمنين! فقال: لك البشرى مالك؟ قال: دخلت إليه وإذا هو جالس وعليه قميص ، وقد اشتمل بدراج وهو يستاك ، فسلمت عليه وقلت: يا ابن رسول اللّه أحب أن تهب لي قميصك هذا أصلي فيه وأتبرك به ، وإنما أردت أن أنظر إلى جسده هل فيه جراحة أو أثر سيف . فقال: بل أكسوك خيراً منه . قلت: لست أريد غير هذا القميص فخلعه ، فنظرت إلى جسده ما به أثر سيف !

ص: 124

فبكى المأمون بكاءً شديداً وقال: ما بقي بعد هذا شئ ، إن ذلك واللّه لعبرة للأولين والآخرين . ثم قال المأمون: يا ياسر أما ركوبي إليه وأخذ السيف والدخول عليه ، فإني ذاكره وخروجي منه وما فعلته فلست أذكر شيئاً منه ، ولا أذكر أيضاً انصرافي إلى مجلسي ، وكيف كان أمري وذهابي . لعن اللّه هذه الإبنة لعناً وبيلاً ! تقدم إليها وقل لها: يقول لك أبوك لئن جئت بعد هذا اليوم وشكوت منه أو خرجت بغير إذنه لأنتقمن له منك ، ثم صر إليه يا ياسر وأبلغه عني السلام واحمل إليه عشرين ألف دينار ، وقُد إليه الشهري الذي ركبته البارحة ، ومر الهاشميين والقواد بأن يركبوا إليه ويسلموا عليه .

قال ياسر: خرجت إلى الهاشميين والقواد فأعلمتهم ذلك ، وحملت المال وقدت الشهري وصرت إليه ، ودخلت عليه وأبلغته السلام ووضعت المال بين يديه وعرضت عليه الشهري فنظر إليه ساعة ثم تبسم وقال: يا ياسر هكذا كان العهد بيني وبينه ! فقلت: يا سيدي دع عنك العتاب فواللّه وحق جدك محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما كان يعقل من أمره شيئاً وما علم أين هو في أرض اللّه ، وقد نذر للّه نذراً وحلف أن لا يسكر أبداً . ولا تذكر له شيئا ، ولا تعاتبه على ما كان منه . فقال: هكذا كان عزمي ورأيي .

فقلت إن الجماعة من بني هاشم والقواد بالباب ، بعثهم ليسلموا عليك ويكونوا معك إذا ركبت، فقال: أدخل بني هاشم والقواد ما خلا عبدالرحمن بن الحسن وحمزة بن الحسن ، فخرجت وأدخلتهم فسلموا وخدموا ، فدعا بالثياب ولبس

ص: 125

ونهض وركب معه الناس حتى دخلوا على المأمون ، فلما رآه قام إليه وضمه إلى صدره ورحب به ، ولم يأذن لأحد بالدخول عليه ، ولم يزل يحدثه ويساره .

فلما انقضى ذلك قال له أبو جعفر: يا أمير المؤمنين ، فقال له المأمون: لبيك وسعديك . قال: لك نصيحة فاقبلها . فقال المأمون: فحمداً وشكراً ، فما ذلك؟ فقال: أحب أن لا تخرج بالليل ، فإني لست آمن عليك من هذا الخلق المنكوس وعندي حرز تحصن به نفسك وتحترز من الشرور والبلايا والمكاره والآفات والعاهات ، كما أنقذني اللّه منك البارحة ، ولو لقيت به جيوش الروم أو أكثر أو اجتمع عليك وعلى غلبتك أهل الأرض جميعاً ، ما تهيأ لهم فيك شئ بقدرة اللّه تعالى وجبروته . ومن مردة الشياطين الجن والإنس .

فإن أحببت بعثت به إليك تحرز به نفسك من جميع ما ذكرته وما تحذره ، مجرب فوق الحد والمقدار من التجربة .

فقال المأمون: تكتب ذلك بخطك وتبعث به إلي لأنتهي فيه إلى ما ذكرته .

فقال: حباً وكرامة . فقال له المأمون: فداك عمك ، إن كنت تجد عليَّ شيئاً مما قد رصد مني فاعف واصفح . فقال: لا أجد شيئاً ولم يكن إلا خيراً.

فقال المأمون: واللّه لأتقربن إلى اللّه تعالى بخراج الشرق والغرب ولأغدون غداً وأنفق فيه ما أملك ، كفارةً لما سلف .

ص: 126

ثم قال: يا غلام الوضوء والغداء ، وأدخل بني هاشم ، فدخلوا وأكلوا معه وأمر لهم بالخلع والجوائز على الأقدار . ثم قال لأبي جعفر: إنصرف في كلاءة اللّه عز اسمه وحفظه ، فإذا كان في الغد فابعث إليَّ بالحرز .

فقام وركب وأمر القواد أن يركبوا معه حتى يأتي منزله .

قال ياسر الخادم: فلما أصبح أبو جعفر بعث إلي ودعاني ودعا بجلد ظبي من رق ثم كتب فيه بخطه الحرز ( وهو معروف ونسخته عند أكثر الشيعة وليس هذا موضعه وكنت أثبته) .

ثم قال(عليه السلام) : يا ياسر إحمله إلى أمير المؤمنين وقل له يصنع له قصبة من فضة ، فإذا أراد شده في عضده الأيمن فيتوضأ وضوءً حسناً سابغاً ، وليصل أربع ركعات يقرؤ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسبع مرات آيةالكرسي وسبع مرات: شهد اللّه. وسبع مرات والشمس، وسبع مرات والليل . وسبع مرات: قل هو اللّه.ثم يشده على عضده عند النوائب يسلم بحول اللّه وقوته من كل شئ يخافه ويحذره). ورواها ابن حمزة في الثاقب في المناقب/219 .

ورواها في كشف الغمة (3/157) بتفاوت: (عن حكيمة بنت الرضا(عليه السلام) قالت: لما توفي أخي محمد بن الرضا صرت يوماً إلى امرأته أم الفضل لسبب احتجت إليها فيه ، قالت: فبينا نحن نتذاكر فضل محمد وكرمه وما أعطاه اللّه من العلم والحكمة ، إذ قالت امرأته أم الفضل: أخبرك عن أبي جعفر بعجيبة لم يسمع بمثلها ! قلت: وما ذاك؟ قالت: إنه ربما كان أغارني مرة بجارية ومرة بتزويج ، فكنت أشكوه إلى المأمون فيقول يا بنية احتملي فإنه ابن رسول اللّه ، فبينا أنا ذات

ص: 127

ليلة جالسة إذ أتت امرأة كأنها قضيب بان أو غصن خيزران فقلت من أنت؟ فقالت: أنا زوجة أبي جعفر بن الرضا ، وأنا امرأة من ولد عمار بن ياسر. قالت: فدخل عليَّ من الغيرة ما لم أملك نفسي ، فنهضت من ساعتي فدخلت إلى المأمون وكان تملى من الشراب وقد مضى من الليل ساعات فأخبرته بحالي وقلت إنه يشتمك ويشتمني ويشتم العباس وولده !

قالت: وقلت ما لم يكن ، فغاظه ذلك ! فقام وتبعتُه ومعه خادم وجاء إلى أبي جعفر وهو نائم فضربه بالسيف حتى قطعه إرباً إرباً وذبحه وعاد . فلما أصبح عَرَّفناه ما كان بدا منه ، وأنفذ الخادم فوجد أبا جعفر قائماً يصلي ولا أثر فيه ! فأخبره أنه سالم ففرح وأعطى الخادم ألف دينار ، وحمل إليه عشرة آلاف دينار، واجتمعا واعتذر إليه بالسكر ، وأشار عليه بترك الشراب فقبل ).

وشكك الإربلي في الرواية لأن الإمام(عليه السلام) لم يكن يتسرى في بغداد لتشكوه زوجته.

ورواها الحضيني في الهداية الكبرى/304 ، بصيغة أخرى ، عن محمد بن موسى النوفلي ، قال: ( دخلت على سيدي أبي جعفر(عليه السلام) يوم الجمعة عشياً فوجدت بين يديه أبا هاشم داود بن القاسم الجعفري ، وعينا أبي هاشم تهملان ، ورأيت سيدي أبا جعفر مطرقاً ، فقلت لأبي هاشم: ما يبكيك يا ابن العم؟ قال أبو جعفر(عليه السلام) : من جرأة هذا الطاغي المأمون على اللّه وعلى دمائنا ! بالأمس قتل الرضا والآن يريد قتلي ! فبكيت وقلت: ياسيدي هذا مع إظهاره فيك ما يظهره قال: ويحك يا ابن العم الذي أظهره في أبي أكثر .

ص: 128

فقلت: واللّه يا سيدي إنك لتعلم ما علمه جدك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد علم ما علمه المسيح وسائر النبيين ، وليس لنا حكم ، والحكم والأمر لك ، فإن تستكفي شره فإنه يكفيك . فقال: ويحك يا ابن العم ، فمن يركب إلي الليلة في خَدَمه بالساعة الثامنة من الليل وقد واصل الشرب والطرب إلى ذلك الوقت ، وأظهر شوقه إلى أم الفضل فيركب ويدخل إلي ويقصد إلى ابنته أم الفضل ، وقد وعدها أنها تبات في الحجرة الفلانية بعد مرقدي بحجرة نومي ، فإذا دخل داري عدل إليها ، وعهد الى الخدم ليدخلوا إلى مرقدي فيقولون إن مولانا المأمون منا ! ويشهروا سيوفهم ويحلفوا أنه لا بد نقتله فأين يهرب منا ، وينظرون إلي ويكون هذا الكلام شعارهم فيضعون سيوفهم على مرقدي ويفعلون كفعل غيلانه في أبي ، فلا يضرني ذلك ولا تصل أيديهم إلي ، ويخيل لهم أنه فعل حق وهو باطل .

ويخرجون مخضبين الثياب قاطرة سيوفهم دماً كذباً ، ويدخلون على المأمون وهو عند ابنته في داري فيقول: ما وراءكم فيروه أسيافهم تقطر دماً وثيابهم وأيديهم مضرجة بالدم ، فتقول أم الفضل: أين قتلتموه؟ فيقولون لها: في مرقده. فتقول لهم: ما علامة مرقده ، فيصفون لها فتقول: إي واللّه هو .

فتقوم إلى رأس أبيها فتقبله وتقول: الحمد للّه الذي أراحك من هذا الساحر الكذاب ! فيقول لها: يا ابنة لا تعجلي ، فقد كان لأبيه علي بن موسى هذا الفعل فأمرت تفتح الأبواب وقعدت للتعزية ، ولقد قتله خدمي أشد من هذه القتلة ، ثم ثاب إليَّ عقلي ، فبعثت ثقة خدمي صبيح الديلمي فعاد إلي وقال: إنه في محرابه

ص: 129

يسبح اللّه ، فتغلق الأبواب ثم تظهر أنها كانت غشية وفاقت الساعة ، فاصبري يا بنية لا تكون هذه القتلة مثل تلك القتلة !

فقالت: يا أبي هذا يكون؟ قال: نعم، فإذا رجعت إلى داري وراق الصبح فابعثي استأذني عليه فان وجدتيه حياً فادخلي عليه وقولي له: إن أمير المؤمنين شغب عليه خدمه ، وأرادوا قتله فهرب منهم إلى أن سكنوا فرجع ، وإن وجدتيه مقتولاً فلا تحدثي أحداً حتى أجيئك .

وينصرف إلى داره ترتقب ابنته الصبح فإذا اعترض تبعث إليَّ خادماً ، فيجدني في الصلاة قائماً فيرجع إليها بالخبر ، فتجئ وتدخل عليَّ وتفعلما قال أبوها وتقول: ما منعني أن أجيئك بليلتي إلا أمير المؤمنين ، إلى أن أقول: واللّه الموفق ها هنا من هذا الموضع يقول: إنصرف . وتبعث له . وهذا خبر المأمون بالتمام) .

أقول: من الواضح أن في نسخة الحضيني خللاً ، وأنها تقول إن محاولة قتل المأمون للإمام(عليه السلام) كانت خطة عن عمد ، ولم تكن انفعالاً عن سكر .

وهذه الروايات الثلاث تتفق مع نمط تفكير المأمون ، وخططه مع وزرائه وقادته وإخوته . لكن لا يمكن الجزم بهما ، فتبقى في دائرة الإحتمال ، لكنه معتد به .

ص: 130

(15)الوجه الآخر للمأمون

نورد هنا نصوصاً عن الوجه الآخر لشخصية المأمون ، لتكتمل صورته عند القارئ: قال الطبري في تاريخه (7/157): (وكان يحجب المأمون على النبيذ فتح الخادم ، وياسر يتولى الخلع ، وحسين يسقي ، وأبو مريم غلام سعيد الجوهري يختلف في الحوائج . فركب طاهر إلى الدار فدخل فتح فقال: طاهر بالباب . فقال: إنه ليس من أوقاته ، إئذن له . فدخل طاهر فسلم عليه فرد (عليه السلام) وقال: إسقوه رطلاً ، فأخذه في يده اليمنى وقال له: أجلس ، فخرج فشربه ثم عاد وقد شرب المأمون رطلاً آخر ، فقال: إسقوه ثانياً ، ففعل كفعله الأول ، ثم دخل فقال له المأمون: أجلس ، فقال: يا أمير المؤمنين ليس لصاحب الشرطة أن يجلس بين يدي سيده ، فقال له المأمون: ذلك في مجلس العامة ، فأما مجلس الخاصة فطِلْق ).

وفي الأغاني (10/314):(عن أبي أحمد بن الرشيد قال:كنت يوماً بحضرة المأمون وهو يشرب ، فدعا بياسر وأدخله فسارَّه بشئ ومضى وعاد . فقام المأمون وقال لي: قم ، فدخل دار الحرم ودخلت معه فسمعت غناء أذهل عقلي ، ولم أقدر أن أتقدم ولا أتأخر . وفطن المأمون لما بي فضحك ثم قال: هذه عمتك عُلَية تطارح عمَّك إبراهيم ). وعُلَيَّه وإبراهيم أولاد الخليفة المهدي ، وهما مغنيان خماران !

وفي الأغاني (10/332): (دخل الحسن بن سهل على المأمون وهو يشرب فقال له: بحياتي وبحقي عليك يا أبا محمد إلَّا شربت معي قدحاً ، وصب له من نبيذه

ص: 131

قدحاً ، فأخذه بيده وقال له: من تحبُّ أن يُغَنِّيك ؟ فأومأ إلى إبراهيم بن المهدي فقال له المأمون: غنه يا عم ، فغناه..).

وفي الوافي للصفدي (17/345): (وقال محمد بن حبيب: كان عبد اللّه بن موسى الهادي معربداً ، وكان قد أعضل المأمون مما يعربد عليه إذا شرب معه ، فأمر به أن يجلس في بيته فلا يخرج منه ، وأقعد على بابه حرساً ).

وفي الأغاني (17/56): (وذكر أحمد بن أبي طاهر أن محمد بن علي بن طاهر بن الحسين حدثه أن المأمون كان يوماً قاعداً يشرب وبيده قدح ، إذ غنت بَذْل: ألا لا أرى شيئاً ألذُّ من الوعد . فجعلته: ألا لا أرى شيئاً ألذ من السَّحق ! فوضع المأمون القدح من يده والتفت إليها، وقال: بلى يا بذل(....) ألذُّ من السحق ، فتشورت(خجلت)وخافت غضبه فأخذ قدحه ثم قال: أتِمِّي صوتك).

وفي الأغاني (7/215): (كان سبب موت بذل هذه ، أنها كانت ذات يوم جالسة عند المأمون فغنته ، وكان حاضراً في ذلك المجلس مُوَسْوَس(مجنون) يكنى بأبي الكركدن ، من أهل طبرستان ، يضحك منه المأمون ، فعبثوا به فوثب عليهم وهرب الناس من بين يديه فلم يبق أحد حتى هرب المأمون ، وبقيت بذل جالسة والعود في حجرها ، فأخذ العود من يدها وضرب به رأسها فشجها في شابورتها اليمنى فانصرفت وحُمَّت ، وكان سبب موتها ).

والشابورة كما ذكر اللغويون: كلمة عبرية بمعنى القطعة الطويلة ، لكنها هنا بمعنى جزء من رأسها . ويظهر أنها كانت مستعملة في بغداد في القرن الثالث !

ص: 132

وفي تاريخ دمشق (69/267): (عَريب المأمونية: قيل إنها ابنة جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي ، لما انتهت دولة البرامكة سرقت وهي صغيرة وبيعت ، واشتراها الأمين ، ثم اشتراها المأمون ، وكانت شاعرة مجيدة ، ومغنية محسنة ، وقدمت دمشق مع المأمون ).

وفي الأغاني (20/380) قال اليزيدي: ( دخلت على المأمون وهو يشرب، وعنده عريب ومحمد بن الحارث بن بسخنر، يغنيانه ، فقال: أطعموا محمداً شيئاً ، فقلت: قد بدأت بذلك في دار أمير المؤمنين ، فقال: أما ترى كيف عُتِّقَ هذا الشراب حتى لم يبق إلَّا أقلُّه ، ما أحسن ما قيل فيقديم الشراب... ثم قال: إسقوا محمداً رطلين ، وأعطوه عشرين ألف درهم ).

وفي نهاية الإرب (22/224): (فأخذت العود وغنت فشربنا عليه رطلاً، ثم ثانياً وثالثاً ، فلما شرب المأمون ثلاثة أرطال ، ارتاح وطرب ).

وذكر في الأغاني (21/46): كيف احتال المأمون لشراء المغنية عَريب ، وأنها كانت أمةً لمراكبي، أي صاحب سفن وهربت منه إلى محمد بن حامد الخاقاني المعروف بالخشن أحد قواد خراسان، وكان أشقر أصهب الشعر أزرق ...فشكى المراكبي للمأمون فأنكر ابن حامد ، فأمر المأمون صاحب الشرطة أن يضرب المراكبي ، فجاءت عريب وهي تصيح: أنا عريب ، إن كنت مملوكة فليبعني، وإن كنت حرة فلا سبيل له عليَّ ، فأمر المأمون بدفعها إلى محمد بن عمر الواقدي وكان قد ولَّاه

ص: 133

القضاء بالجانب الشرقي ، فأخذها من قتيبة بن زياد ، فأمر ببيعها ، فاشتراها المأمون بخمسين ألف درهم) !

وفي الأغاني (21/48): (قال ابن المعتز: فأخبرني ابن عبد الملك البصري أنها لما صارت في دار المأمون احتالت حتى وصلت إلى محمد بن حامد ، وكانت قد عشقته وكاتبته بصوت قالته ، ثم احتالت في الخروج إليه ، وكانت تلقاه في الوقت بعد الوقت ).

وفي الأغاني(21/40): (ما رأيت امرأة أضرب من عُرَيْب ، ولا أحسن صنعة ولا أحسن وجهاً ، ولا أخف روحاً ، ولا أحسن خطاباً ، ولا أسرع جواباً ، ولا ألعب بالشّطرنج والنّرد ، ولا أجمع لخصلة حسنة لم أر مثلها في امرأة غيرها . قال حمّاد:فذكرت ذلك ليحيى بن أكثم في حياة أبي ، فقال: صدق أبو محمد ، هي كذلك ، قلت:أفسمعتها ؟ قال:نعم هناك ، يعني في دار المأمون ).

وفي الأغاني (21/49): (حدثني إبراهيم بن رباح قال: كنت أتولَّى نفقات المأمون فوصف له إسحاق بن إبراهيم الموصلي عريب فأمره أن يشتريها ، فاشتراها بمائة ألف درهم ، فأمرني المأمون بحملها ، وأن أحمل إلى إسحاق مائة ألف درهم أخرى ، ففعلت ذلك ، ولم أدر كيف أثبتها ، فحكيت في الديوان أن المائة الألف خرجت في ثمن جوهرة ، والمائة الألف الأخرى خرجت لصائغها ودلَّالها ، فجاء الفضل بن مروانإلى المأمون، وقد رأى ذلك فأنكره وسألني عنه ، فقلت: نعم هو ما رأيت ، فسأل المأمون عن ذلك ، وقال: أوجب وهب لدلَّال وصائغ

ص: 134

مائة ألف درهم ، وغلَّظ القصة ، فأنكرها المأمون فدعاني ودنوت إليه ، وأخبرته أنه المال الذي خرج في ثمن عريب وصلة إسحاق ، وقلت: أيما أصوب يا أمير المؤمنين: ما فعلت أو أثبت في الديوان أنها خرجت في صلة مغن وثمن مغنية؟ فضحك المأمون وقال: الذي فعلت أصوب ، ثم قال للفضل بن مروان: يا نبطىّ لا تعترض على كاتبي هذا في شئ ) !

وفي الأغاني (21/57): (عتب المأمون على عريب فهجرها أياماً ، ثم اعتلَّت فعادها فقال لها: كيف وجدت طعم الهجر؟ فقالت: يا أمير المؤمنين ، لو لا مرارة الهجر ما عرفت حلاوة الوصل ، ومن ذم بدء الغضب أحمد عاقبة الرضا ، قال: فخرج المأمون إلى جلسائه ، فحدثهم بالقصة ثم قال: أترى هذا لو كان من كلام النَّظَّام ألم يكن كبيراً ) . والنظَّام من أئمة المعتزلة والفلسفة مات 231.

وفي الأغاني (21/48): (قال ابن المعتز: ولقد حدثني علي بن يحيى المنجم أن المأمون قبل في بعض الأيام رجلها ! قال: فلما مات المأمون بيعت في ميراثه ، ولم يبع له عبد ولا أمة غيرها ، فاشتراها المعتصم بمائة ألف درهم...

وفي الأغاني (21/57): (قال لي الفضل بن العباس بن المأمون: زارتني عريب يوماً ومعها عدة من جواريها ، فوافتنا ونحن على شرابنا فتحادثنا ساعة . وسألتها أن تقيم عندي ، فأبت وقالت: دعاني جماعة من إخواني من أهل الأدب والظَّرَف ، وهم مجتمعون في جزيرة المؤيد ، فيهم إبراهيم بن المدبر وسعيد بن حميد ، ويحيى بن عيسى بن منارة ، وقد عزمت على المسير إليهم .

ص: 135

فحلفت عليها فأقامت عندنا ، ودعت بدواة وقرطاس فكتبت: بسم اللّه الرحمن الرحيم وكتبت بعد ذلك في سطر واحد ثلاثة أحرف متفرقة لم تزد عليها وهي: أردت ، ولو لا ، ولعلي . ووجهت به إليهم ، فلما وصلت الرقعة عيوا بجوابها ، فأخذ إبراهيم بن المدبر الرقعة فكتب تحت أردت: ليت ، وتحت لولا: ماذا ، وتحت لعلي: أرجو. ووجهوا بالرقعة فصفقت ونعرت وشربت رطلاً وقالت لنا: أأترك هؤلاء وأقعد عندكم؟ إذا تركني اللّه من يديه ، ولكني أخلَّف عندكم من جواريَّ من يكفيكم وأقومإليهم ، ففعلت ذلك وخلَّفت عندنا بعض جواريها ، وأخذت معها بعضهن وانصرفت ).

وفي الأغاني (21/60): (قال ابن المعتز: وحدثني أبو الخطَّاب العباس بن أحمد بن الفرات قال: حدّثني أبي قال: كنا يوماً عند جعفر بن المأمون نشرب ، وعريب حاضرة ، إذ غنى بعض من كان هناك:

يا بدر إنّك قد كُسِيتَ مشابهاً *** من وجه ذاك المستنير الَّلائح...

فضحكت عريب وصفقت وقالت: ما على وجه الأرض أحد يعرف خبر هذا الصّوت غيري ، فلم يقدم أحد منا على مسألتها عنه غيري ، فسألتها فقالت: أنا أخبركم بقصته ، ولو لا أن صاحب القصة قد ماتت لما أخبرتكم ، إن أبا محلَّم قدم بغداد ، فنزل بقرب دار صالح المسكين في خان هناك ، فاطَّلعت أم محمد

ابنة صالح يوماً فرأته يبول فأعجبها متاعه ، وأحبت مواصلته ، فجعلت لذلك علَّة بأن وجهت إليه تقترض منه مالاً ، وتعلمه أنّها في ضيقة ، وأنها ترده إليه بعد

ص: 136

جمعة ، فبعث إليها عشرة آلاف درهم ، وحلف أنه لو ملك غيرها لبعث به ، فاستحسنت ذلك وواصلته ، وجعلت القرض سبباً للوصلة ، فكانت تدخله إليها ليلاً ، وكنت أنا أغني لهم ، فشربنا ليلة في القمر وجعل أبو محلَّم ينظر إليه ، ثم دعا بدواة ورقعة ، وكتب فيها قوله:

يا بدر إنك قد كُسِيتَ مشابهاً *** من وجه أم محمد ابنةِ صالحِ ).

أقول: تدل الرواية على عدم خوف عريب من التشهير بزوجة هارون . وتدل على الفساد المفرط في زوجات الخلفاء ونساء القصور ، فأم محمد هي زوجة هارون ، وأبو محلم الشيباني أعرابي يحفظ من شعر العرب وقصصهم . (الأعلام:7/131).

وفي الأغاني (21/57) عن حمدون قال: (كنت حاضراً مجلس المأمون ببلاد الروم بعد صلاة العشاء الآخرة في ليلة ظلماء ذات رعود وبروق، فقال لي المأمون: إركب الساعة فرس النوبة وسر إلى عسكر أبي إسحاق يعني المعتصم ، فأد إليه رسالتي في كيت وكيت ، قال: فركبت ولم تثبت معي شمعة ، وسمعت وقع حافر دابة فرهبت ذلك وجعلت أتوقاه ، حتى صكَّ ركابي ركاب تلك الدابة ، وبرقت بارقة فأضاءت وجه الراكب ، فإذا عريب فقلت: عريب؟ قالت: نعم ، حمدون؟ قلت: نعم . ثم قلت: من أين أقبلت في هذا الوقت؟ قالت: من عند محمد بن حامد ، قلت:وما صنعت عنده؟ قالت عريب: يا تكش ، عريب تجئ من عند محمد بن حامد في هذا الوقت خارجة من مضرب الخليفة وراجعة إليه ، تقول لها: أي شئ عملت عنده؟ صلَّيت معه التراويح ! أو قرأت عليه أجزاء من

ص: 137

القرآن ، أو دارسته شيئاً من الفقه ! يا أحمق ، تعاتبنا وتحادثنا واصطلحنا ، ولعبنا وشربنا وغنينا ، وتنايكنا ، وانصرفنا ، فأخجلتني وغاظتني ، وافترقنا ، ومضيت فأدّيت الرّسالة ، ثم عدت إلى المأمون وأخذنا في الحديث وتناشد الأشعار ، وهممت واللَّه أن أحدّثه حديثها ، ثم هبته فقلت: أقدّم قبل ذلك تعريضا بشئ من الشعر فأنشدته: ألا حيّ أطلالا لواسعة الحبل..).

وتكش: إسم مغولي . ومعنى كلام عريب: أيها الغلام المغولي الذي لايعرف !

وفي الأغاني (21/75) قال ابن اليزيدي:(خرجنا مع المأمون في خروجه إلى بلد الروم ، فرأيت عريب في هودج ، فلما رأتني قالت لي: يا يزيدي أنشدني شعراً قلته حتى أصنع فيه لحناً ، فأنشدتها:

ماذا بقلبي من دوام الخفقِ *** إذا رأيتُ لمعانَ البرقِ..

قال: فتنفست تنفساً ظننت أن ضلوعها قد تقصفت منه، فقلت: هذا واللّه تنفس عاشق، فقالت: أسكت يا عاجز، أنا أعشق ! واللّه لقد نظرت نظرة مريبة في مجلس ، فادَّعاها من أهل المجلس عشرون رئيساً ، طريقاً ) .

أي غمزت بعينها في مجلسهم ، فتصور عشرون شخصاً ، كل واحد أنها تريده !

وفي الأغاني (21/52):(حدثني أبو الحسن عليّ بن محمد بن الفرات قال: كنت يوماً عند أخي أبي العباس ، وعنده عريب جالسة على دست مفرد لها ، وجواريها يُغَنِّينَ بين يدينا وخلف ستارتنا ، فقلت لأخي وقد جرى ذكر الخلفاء: قالت لي عريب: (كلمة صريحة نزهنا كتابنا عنها) منهم ثمانية ، ما اشتهيت منهم أحداً إلا المعتز ، فإنه كان يشبه أبا

ص: 138

عيسى بن الرشيد ! قال ابن الفرات: فأصغيت إلى بعض بني أخي فقلت له: فكيف ترى شهوتها الساعة؟ فضحك ، ولمحتْهُ فقالت: أيَّ شئ قلتم؟فجحدتها. فقالت لجواريها: أمسكن ففعلن ، فقالت: هنَّ حرائر لئن لم تخبراني بما قلتما لينصرفن جميعاً وهن حرائر ، إن حردتُ (غضبت) من شئ جرى ولو أنها تسفيل ! فَصَدَقتها . فقالت: وأي شئ في هذا ؟ أما الشهوة فبحالها ، ولكن الآلة قد بطلت . أو قالت: قد كلَّت . عودوا إلى ما كنتم فيه ).

أي قالت له: قل ما تحدثتما به ولو كان عليَّ ، وإمائي حرائر إن غضبت منكم !

وكانت عريب تربي مغنيات ، ففي المنتظم لابن الجوزي (13/152): (بِدعة: جارية عريب مولاة المأمون: كانت مغنية ، وقد كان إسحاق بن أيوب بذل لمولاتها في ثمنها مائة ألف دينار، وللسفير بينهما عشرين ألف دينار ، فدعتها فأخبرتها بالحال فلم تؤثر البيع فأعتقتها من وقتها، وماتت لست بقين من ذي الحجة من هذه السنة وصلى عليها أبو بكر بن المهتدي ، وخلفت مالاً كثيراً وضياعاً ).

وفي الطبري (7/222): (دعا بنا (المأمون) فلما أخذ فيه النبيذ قال: غنوني ، فسبقني مخارق فاندفع فغنى صوتاً لا بن سريج ، في شعر جرير..

الحينُ ساق إلى دمشقَ وما *** كانت دمشقُ لأهلها بلداً

فضرب بالقدح الأرض وقال: مالك عليك لعنة اللّه ! ثم قال: يا غلام أعط مخارقاً ثلاثة آلاف درهم ، وأخذ بيدي فأقمته وعيناه تدمعان ، وهو يقول للمعتصم: هو واللّه آخر خروج ، ولا أحسبني أن أرى العراق أبداً . قال: فكان واللّه آخر عهده بالعراق ) .

ص: 139

وفي الأغاني (5/224): ( قال لي صالح بن الرشيد:كنا أمس عند أمير المؤمنين المأمون وعنده جماعة من المغنّين ، فيهم إسحاق وعَلُّويَه ومخارق وعمرو بن بانة ، فغنى مخارق...فقال له المأمون: لمن هذا اللحن ؟ قال: لهذا الهزبر الجالس يعني إسحاق ، فقال المأمون لمخارق: قم فاقعد بين يديَّ وأعد الصوت ، فقام فجلس بين يديه وأعاده فأجاده ، وشرب المأمون عليه رطلاً . ثم التفت إلى إسحاق فقال له: غن هذا الصوت ، فغناه فلم يستحسنه كما استحسنه من مخارق ).

وفي الأغاني (7/217): (سمع علي بن هشام قدام المأمون من قلم جارية زبيدة صوتاً عجيباً ، فرشى لمن أخرجه من دار زبيدة بمائة ألف دينار ، حتى صار إلى داره وطرح الصوت على جواريه . ولو علمت بذلك زبيدة لاشتد عليها ، ولو سألها أن توجه به ما فعلت).وعلي بن هشام المروزي نديم المأمون وقائد في جيشه .

(16) عرس المأمون الكسروي على بوران !

أقام المأمون مراسم كسروية لعرسه على بوران بنت الحسن بن سهل ، قبل وفاته بثمان سنوات وأنفق فيه ملايين ، وفي المسلمين من يعيش الجوعوالعري ويحتاج الى الدرهم ! وتقدم أن زبيدة وحدها أنفقت في عرسه بضعة وثلاثين مليون درهم !

وفي مآثر الإنافة في معالم الخلافة (3/365): ( ولما عملت دعوة المأمون حين تزوج بوران بنت الحسن بن سهل ، أقام أبوها للمأمون ولجميع قواده وأصحابه بفم الصلح ، إنزالهم أربعين يوماً ، واحتفل بما لم ير مثله نفاسة وكثرة .

ص: 140

قال المبرد: سمعت الحسن بن بغا يقول: كنا نجري أيام مقام المأمون عند الحسن على ستة وعشرين ألف ملاح . ولما كانت ليلة البناء وجليت بوران على المأمون فُرش حصير من ذهب ، وجئ بمكتل مرصع فيه درٌّ كبار فنثرت على من حضر من النساء ، وفيهن أم جعفر وحمدونة بنت الرشيد ، فما مس من حضر من الدر شيئاً، فقال المأمون: شرفن أبا محمد وأكرمنها ، فمدت كل واحدة يدها ، فأخذت درة ، وبقيت سائر الدرر تلوح على حصير الذهب ، فقال المأمون: قاتل اللّه الحسن بن هانئ ، كأنه قد رأى هذا حيث يقول:

كأن صغرى وكبرى من فواقعها *** حصباء در على أرض من الذهب

وكان في المجلس شمعة عنبر فيها مائتا رطل ، فضج المأمون من دخانها فعملت له مُثُلٌ من الشمع ، فكان الليل مدة مقامه مثل النهار .

ولما كانت دعوة القواد نثرت عليهم رقاع فيها أسماء ضياع ، فمن وقعت في يده رقعة بضيعة أشهد له الحسن بها . ويقال إنه أنفق في هذه الدعوة أربعة آلاف ألف دينار ، فلما أراد المأمون أن يصعد أمر له بألف ألف دينار ، وأقطعه الصلح وعتبه على احتفاله ذلك الإحتفال وحمله على نفسه . فقال له يا أمير المؤمنين أيظن ذلك من مال سهل ، واللّه ما هو إلا مالك رد إليك ، وأردت أن يفضل اللّه أيامك ونكاحك ، كما فضلك على جميع خلقه) !

ص: 141

(17) أم الفضل بنت المأمون: إسم كبير وواقع بائس !

عرفت باسم أم الفضل بنت المأمون ، وورد إسمها على لسان زبيدة: أم الخير ، عندما طلبت من الإمام الجواد(عليه السلام) الدخول على عروسه ، قالت: (يا سيدي إني لأحب أن أراك وأم الخير بموضع واحد لتقر عيني وأفرح ، وأُعَرِّف أمير المؤمنين اجتماعكما فيفرح) . (الهداية الكبرى/304).

وورد إسمها أم عيسى في حديث حكيمة بنت أبي الحسن القرشي ، وقد تقدم. وورد إسمها زينب على لسان أبيها المأمون في خطبة العقد ، كما فيمناقب آل أبي طالب (3/489):(قد زوجت زينب ابنتي من محمد بن علي بن موسى الرضا ) .

كانت أم الفضل معجبة بزوجها الإمام الجواد صلوات اللّه عليه ، وفي نفس الوقت كانت تدعو على أبيها أحياناً لأنه زوجها إياه ، وتصفه بأنه ساحر ، لأنه يعلم بكل أسرارها ، ومجالس خمرها ولهوها !

كانت ترى أن زوجها بدل أن يشكر نعمة مصاهرة الخليفة ، ويعيش معها في قصر من قصور الخلافة ، وينعم بما لذ وطاب من الطعام ، ويستمتع بمجالس غناء جاريات أبيها الحسان عريب ومؤنسة وشارية وعلية العباسية.. وكبار أساتذة الغناء واللحن والطرب: مخارق ، وابراهيم بن المهدي ، وأبو حشيشة..

ويشارك بحيوية في مجالس الخليفة فيشرب رطلين وثلاثة من ألذ خمور العراق وسوريا وإيران ، ويكون له منصب من أكبر مناصب الدولة الأمبراطورية..

ص: 142

بدل ذلك تراه يتهرب منها ومن بغداد ، ليسكن في المدينة التي هي قرية متخلفة في نظرها ، ويكون إماماً لشيعة أبيه وأجداده ، يستفتونه في أمور دينهم ، ويحملون اليه أخماساً ، لا تكاد تسد رمق المحتاجين حوله !

وكانت ترى أنه لايحبها ، فقد عقدا زواجهما وعمره نحو عشر سنين ، ورأته وأحبته ورآها ولم يحبها ، وتركها وذهب الى المدينة .

كانت تفكر أن الإمام الجواد(عليه السلام) قد يكون معذوراً يومها بأنه صغير السن ، لكن ما عذره بعد أن صار شاباً ولم يأت الى بغداد ، ثم تزوج غيرها وأنجب أولاداً ، وكأنه ليس عنده زوجة هي بنت الخليفة العظيم !

قالت أم الفضل: (كان يشدد عليَّ القول ، وكنت أشكو ذلك إلى والدي فيقول والدي: يا بنية إحتمليه ، فإنه بضعة من رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ). (المناقب(3/499).

وقال الشيخ المفيد في الإرشاد (2/288): (وقد روى الناس: أن أم الفضل كتبت إلى أبيها من المدينة تشكو أبا جعفر(عليه السلام) وتقول: إنه يتسرَّى علي ويُغيرني . فكتب إليها المأمون: يا بنية إنا لم نزوجك أبا جعفر لنحرم عليه حلالاً ، فلا تعاودي لذكر ما ذكرت بعدها) . وتعبيره بروى الناس ، يشير الى أنه لم يتأكد من صحة ذلك .

ولا بد أنها عندما طلبت من أبيها إحضاره لإكمال الزواج ، كانت تريد إلزامه بالعيش في بغداد ، فلم ينفع معه وتخلص وعاد الى المدينة .

ففي سنة 215، أراد المأمون أن يذهب الى غزو الروم فأصرت عليه ، فألزمه بالحضور، وكان الجواد(عليه السلام) في العشرين من عمره وأكثر ، فوافاه وهو في تكريت فأمره كما يقول

ص: 143

الطبري أن يدخل بزوجته ، وأرسله الى بغداد: (فلما صار المأمون بتكريت قدم عليه محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(رحمه اللّه) من المدينة في صفر ليلة الجمعة من هذه السنة ، ولقيه بها فأجازه ، وأمره أن يدخل بابنته أم الفضل ، وكان زَوَّجَهَا منه ، فأدخلت عليه في دار أحمد بن يوسف التي على شاطئ دجلة ، فأقام بها ، فلما كان أيام الحج خرج بأهله وعياله حتى أتى مكة ، ثم أتى منزله بالمدينة فأقام بها). (الطبري:7/190).

لكن مما يوجب الشك في أن الإمام(عليه السلام) دخل بزوجته أنها قد تكون شكته الى سيدة القصور زبيدة ، أو كلفها المأمون بأن تجمع بين الإمام الجواد(عليه السلام) وزوجته أم الفضل !

فقد روى البرسي في مشارق الأنوار/152، عن أبي جعفر الهاشمي قال: ( كنت عند أبي جعفر الثاني ببغداد فدخل عليه ياسر الخادم يوماً وقال: يا سيدنا إن سيدتنا أم جعفر تستأذنك أن تصير إليها ، فقال للخادم: إرجع فإني في الأثر ، ثم قام وركب البغلة وأقبل حتى قدم الباب ، فخرجت أم جعفر فسلمت عليه ، وسألته الدخول على أم الفضل بنت المأمون ، وقالت: يا سيدي أحب أن أراك مع ابنتي في موضع واحد فتقر عيني، قال: فدخل والستور تشال بين يديه ، فما لبث أن خرج راجعاً وهو يقول:فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ. قال: ثم جلس !

فخرجت أم جعفر تعثر ذيولها، فقالت: يا سيدي أنعمت عليَّ بنعمة فلم تتمها ، فقال لها: أتى أمر اللّه فلا تستعجلوا ، إنه قد حدث ما لم يحسن إعادته ، فارجعي إلى أم الفضل فاستخبريها عنه . فرجعت أم جعفر فعادت عليها ما قال فقالت:

ص: 144

يا عمة وما أعلمه بذاك عني ، ثم قالت: كيف لا أدعو على أبي وقد زوجني ساحراً ، ثم قالت: واللّه يا عمة إنه لما طلع عليَّ جماله حدث لي ما يحدث للنساء ، فضربت يدي إلى أثوابي فضممتها . فبهتت أم جعفر من قولها ثم خرجت مذعورة وقالت: يا سيدي وما حدث لها؟ قال: هو من أسرار النساء . فقالت: يا سيدي أتعلم الغيب ؟ قال: لا. قالت: فنزل إليك الوحي؟ قال: لا. قالت: فمن أين لك علم ما لا يعلمه إلا اللّه وهي؟ فقال: وأنا أيضاً أعلمه من علم اللّه .

قال: فلما رجعت أم جعفر قلتُ له: يا سيدي وما كان إكبار النسوة ؟ قال: هو ما حصل لأم الفضل ).

ورواه الحضيني في الهداية الكبرى/303 ، بسنده عن داود بن القاسم الجعفري ، وفيه: (فأعادت أم جعفر على أم الخير ما قاله(عليه السلام) .. فقالت أم الخير: كيف لا أدعو على أبي وقد زوجني ساحراً ! فقالت لها: يا بنية لا تقولي هذا في أبيك ولا فيه ، أريني فما الذي حدث؟ قالت: يا عمة واللّه ما هو طلع حقاً ، إلا حدث مني ما يحدث من النساء ، فضربت يدي إلى أثوابي وضممتها !

فخرجت أم جعفر إليه ، وقالت: يا سيدي أنت تعلم الغيب؟ قال: لا. قالت من أين لك أن تعلم ما حدث من أم الخير مما لا يعلمه إلا اللّه وهي في الوقت؟ فقال لها: نحن من علم اللّه علمنا وعن اللّه نخبر. قالت له: ينزل عليك الوحي؟ قال: لا. قالت: من أين لك علم ذلك ، قال: من حيث لا تعلمين ، وسترجعين إلى من تخبرينه بما كان فيقول لك: لا تعجبي فإن فضله وعلمه فوق ما تظنين)!

ص: 145

أقول: هكذا كانت أم الفضل تنظر الى الأمور ، وقد أبت أن تفهم الحق والتُّقَى من زوجها الإمام الجواد(عليه السلام) ، رغم أنها تحبه ، فعقليتها مصبوبة بقالب دار الخلافة ، ولا تريد عنه بديلاً ، وهي تحب الإمام(عليه السلام) لكن بشرط أن يكون طوع يديها ورغباتها !

وأم جعفر هذه زبيدة ، ويقال لها سيدتنا على الإطلاق ، وقد تصور بعضهم أنها أخت المأمون ، لكن تعبير سيدتنا بأم جعفر على الإطلاق يتبادر الى زبيدة.

أما الإمام الجواد صلوات اللّه عليه ، فكان يرى أن الخلافة العباسية لا تختلف في جوهرها عن ملوكية كسرى، لا في تفكير الخليفة وتجبره على المسلمين ، ولا في قصوره وقضاته ووزرائه ، ولا في أولاده ونسائه ، ومجالس لهوه وخموره !

فقد نسخ المنصور أفكار كسرى وسياسته وقصوره نسخاً ، وبناها في بغداد بيد نفس المهندسين والمعمارين والوزراء الفرس ، وثقافة الملوك الجبابرة !

وعلى نهجه سار خلفاء بني العباس ، ومنهم هارون والمأمون ، فهم برأيه جائرون يحكمون بالظلم والقمع والتجبر الكسروي، وبالبذخ والإسراف من أقوات المسلمين !وكل ذلك باسم الإسلام ، وأموال الفقراء ، وغطاء قرابة العباسيين من النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) !

كان الإمام يرى أن حياة قصور الخليفة يبغضها اللّه تعالى ، لأنها بنيت بمال حرام ، ولأنها مظهر للتجبر ، ولأنها ترتكب فيها مظالم العباد ، وأنواع الفسق والمعاصي، فالشياطين فيها معششة ، والملائكة عنها بعيدة .

وكان يرى أنه قد أجبر على الزواج ببنت المأمون ، التي هي واحدة من نساء هذه القصور ، وأنه لا يمكن إنقاذها لأنها لا تريد الهداية ، فهي مصرةٌ على اتباع أخيها الشقيق جعفر ، وهو غارق في الخمر والفساد .

ص: 146

(18) قتلت زوجها الإمام(عليه السلام) فدعا عليها !

كانت تعيش عالمها في قصور الخلافة ، ولا تحب أن تفهم شيئاً من زوجها ، ولا أن تدخل في أجوائه القدسية ، ولا عرفت قيمته إلا بعد أن قتلته بالسم !

كان(عليه السلام) يوجهها لمصلحتها وخير دنياها وآخرتها ، وينهاها عن بعض ما لايناسبها فتقول: إنه يسمعني الكلام ! وكان يخبرها عن بعض أسرارها فتقول: كيف لا أدعو على أبي وقد زوجني ساحراً ! (مشارق أنوار اليقين/151، والهداية الكبرى/304).

قال الحسين بن عبد الوهاب في عيون المعجزات/118: ( ثم إن المعتصم جعل يعمل الحيلة في قتل أبي جعفر(عليه السلام) وأشار إلى ابنة المأمون زوجته ، بأنها تسمه لأنه وقف على انحرافها عن أبي جعفر ، وشدة غيرتها عليه ، لتفضيله أم أبي الحسن ابنه عليها ، ولأنه لم يرزق منها ولد ، فأجابته إلى ذلك ، وجعلت سماً في عنب رازقي ووضعته بين يديه(عليه السلام) ، فلما أكل منه ندمت وجعلت تبكي فقال(عليه السلام) ما بكاؤك! واللّه ليضربنك اللّه بفقر لا ينجبر وبلاء لا ينستر ! فماتت بعلة في أغمض المواضع من جوارحها صارت ناصوراً ، فأنفقت مالها وجميع ملكها على تلك العلة حتى احتاجت إلى الإسترفاد . وروي أن الناصور كان في فرجها ) .

وفي المناقب/487:(قال ابن بابويه: سم المعتصم محمد بن علي . وأولاده: علي الإمام ، وموسى ، وحكيمة ، وخديجة ، وأم كلثوم . وقال أبو عبد اللّه الحارثي: خلف فاطمة وأمامة فقط ، وقد كان زوجه المأمون ابنته ولم يكن له منها ولد .

ص: 147

وقال الطبري في دلائل الإمامة/395: (وكان سبب وفاته أن أم الفضل بنت المأمون لما تَسَرَّى ورزقه اللّه الولد من غيرها انحرفت عنه وسَمَّتْهُ فيعنب وكان تسعة عشر عنبة ، وكان يحب العنب ، فلما أكله بكت فقال لها: مِمَّ بكاؤك ! واللّه ليضربنك اللّه بفقر لاينجبر ، وببلاء لا ينستر! فبليت بعده بعلة في أغمض المواضع ، أنفقت عليها جميع ملكها حتى احتاجت إلى رفد الناس . ويقال: إنها سمته بمنديل يمسح به عند الملامسة ، فلما أحس بذلك قال لها: أبلاك اللّه بداءٍ لا دواءَ له . فوقعت الأَكَلة في فرجها ، فكانت تنكشف للطبيب ينظرون إليها ، ويشيرون عليها بالدواء فلا ينفع ذلك شيئاً ، حتى ماتت في علتها) .

وهكذا كانت بنت المأمون تبكي بعده وتصرخ ، وتمدح الجواد(عليه السلام) وتتحدث بمعجزاته ! ولا نظن أن ذلك كان توبة ويقظة ضمير منها ، بقدر ما هو شعور بالخسارة لزوجها ، بعد أن مات أبوها ، وأخذ عمها الخلافة وقتل أخاها ولي العهد ، وأخرجوا من قصور الخلافة .

لقد وجدت نفسها أرملة مريضة بمرض ينفر الأزواج منها ، ثم سمح لها عمها المعتصم بان تسكن في قصره ، لكن النساء تنفر منها !

فعاشت في عقدة مما صنعت بنفسها ، وعاشت ماتت في عذاب ، بما كسبت يدها !

ص: 148

(19) جعفر بن المأمون شريك في قتل الإمام(عليه السلام)

أولاد المأمون:

في جمهرة أنساب العرب/24: (وَلَدَ المأمون أمير المؤمنين: محمد الأكبر، والعباس، قتله عمه المعتصم ، وأحمد ، وهارون الأكبر ، وعيسى ، وهارون الأصغر، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وعلي، والحسن، والحسين، وجعفر ، لأمهات أولاد ، ومحمد الأصغر ، وعبد اللّه ، أمهما أم عيسى بنت الهادي .

وبنات ، تزوج إحداهن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب ، ونقلها إلى المدينة ، وإسمها أم الفضل ، وأخرى تزوجها الواثق ، وأخرى تزوجها المتوكَّل ) .

وفي المحَبَّر/61: (محمد بن المعتصم ، كانت عنده عائشة بنت المأمون . والواثق هارون بن المعتصم تزوج أسماء بنت المأمون ولم يدخل بها . والمتوكل بن المعتصم كانت عنده نامية بنت المأمون فتوفيت عنده . وعبد اللّه بن منصور بن المهدي كانت عنده أمينة بنت المأمون . ومحمدبن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، كانت عنده أم الفضل بنت المأمون ).

وذكر في نهاية الأرب(22/241) أن المأمون كان له عشر بنات .

وفي تاريخ بغداد (10/187): (حدثنا أبو الفضل الربعي قال: لما ولد جعفر بن المأمون المعروف بابن بَخَّة ، دخل المهنئون على المأمون فهنوه...).

ص: 149

وفي الأغاني (20/388) قال اليزيدي: (كنت عند جعفر بن المأمون مقيماً ، فلما أردت الإنصراف منعني فبتُّ عنده، وزارته لما أصبحنا عريب في جواريها وبتُّ ، فاحتبسها من غد ، فاستطبت المقام أيضاً فأقمت ، فكتب إليَّ عمي إبراهيم بن محمد اليزيدي: شردت يا هذا شرود البعير. وطالت الغيبة عند الأمير..).

وفي الأغاني (14/395) عن ابن حمدون، قال:(كنا يوماً مجتمعين في منزل أبي عيسى بن المتوكَّل، وقد عزمنا على الصبوح ومعنا جعفر بن المأمون، وسليمان بن وهب وإبراهيم بن المدبر ، وحضرت عريب وشارية وجواريهما ، ونحن في أتم سرور فغنت بدعة جارية عريب... وغنَّت عرفان... وكان أهل الظَّرف والمتعانون في ذلك الوقت صنفين: عريبية وشاريَّة ، فمال كل حزب إلى من يتعصب له منهما من الإستحسان والطرب والإقتراح ).

وكان جو المأمون وأولاده سيئاً ، وقد رووا الكثير عن ابنه جعفر كما رأيت ، ورووا عن بنته خديجة (الأغاني:16/279، والوافي:13/184) عن مِلَح العطارة قالت: (غنت شاريَّة يوماً بين يدي المتوكل ، وأنا واقفة مع الجواري:

باللَّه قولوا لي لمن ذا الرشا *** المثقل الردف الهضيم الحشا

أظرف ما كان إذا ما صحا *** وأملح الناس إذا ما انتشى

وقد بنى برج حمام له *** أرسل فيه طائراً مرعشا

يا ليتني كنت حماماً له *** أو باشقاً يفعل بي ما يشا

لو لبس القوهيَّ من رقة *** أوجعه القوهيُّ أو خَدَّشَا

ص: 150

فطرب المتوكل وقال لشاريَّة: لمن هذا الغناء؟ فقالت: أخذته من دار المأمون ولا أدري لمن هو . فقلت له أنا أعلم لمن هو . فقال: لمن هو يا ملح؟ فقلت: أقوله لك سراً . قال: أنا في دار النساء ، وليس يحضرني إلا حرمي فقوليه . فقلت: الشعر والغناء جميعاً لخديجة بنت المأمون ، قالته في خادم لأبيها كانت تهواه ، وغنت فيه هذا اللحن ! فأطرق طويلاً ، ثم قال: لا يسمع هذا منك أحد) !

أقول: في هذا الجو المتحلل كانت أم الفضل تعيش ، وتفضله على جو التُّقى والعبادة والطهر ، الذي يعيش فيه الإمام الجواد(عليه السلام) . وكان لها أخت مثلها في البيت ، لم تزف الى زوجها .

قال ابن حبيب في المحبر/61:(محمد بن المعتصم كانت عنده عائشة بنت المأمون. والواثق هارون بن المعتصم تزوج أسماء بنت المأمون ، ولم يدخل بها ) .

جعفر بن المأمون دفع أخته لقتل الإمام الجواد(عليه السلام) :

قال المسعودي في إثبات الوصية/227: ( وبويع للمعتصم أبي إسحاق محمد بن هارون في شعبان سنة ثماني عشرة ومائتين . فلما انصرف أبو جعفر(عليه السلام) إلى العراق لم يزل المعتصم وجعفر بن المأمون يدبرون ويعملون الحيلة في قتله ، فقال جعفر لأخته أم الفضل وكانت لأمه وأبيه في ذلك ، لأنه وقف على انحرافها عنه وغيرتها عليه ، لتفضيله أم أبي الحسن ابنه عليها مع شدة محبتها له ، ولأنها لم ترزق منه ولد ، فأجابت أخاها جعفراً ، وجعلوا سمُاً في شئ من عنب رازقي ، وكان يعجبه العنب الرازقي ، فلما أكل منه ندمت وجعلت تبكي، فقال لها: ما

ص: 151

بكاؤك؟واللّه ليضربنك اللّه بفقر لا ينجى وبلاء لا ينستر . فبليت بعلة في أغمض المواضع من جوارحها ، صارت ناسوراً ينتقض عليها في كل وقت ، فأنفقت مالها وجميع ملكها على تلك العلة حتى احتاجت إلى رفد الناس ، ويروى أن الناسور كان في فرجها . وتردى جعفر بن المأمون في بئر فأخرج ميتاً، وكان سكراناً) . (موسوعة الإمام الجواد:1/89).

ولا يبعد أن يكون الإمام الجواد(عليه السلام) دعا على الفاسق الخمار جعفر بن المأمون ، كما دعا على أخته أم الفضل ، فوقع في بئر وهو سكران ، فأهلكه اللّه تعالى .

وقد كانت جريمة سُم الإمام(عليه السلام) من المعتصم ، بعد محاولتين معاديتين فاشلتين:

أولاهما:أنه اتهم الإمام الجواد(عليه السلام) بأنه يهيئ للثورة على العباسيين .

والثانية:حاول جرَّ الإمام(عليه السلام) الى مجالس شرابهم وخمرهم لإسقاطه في أعين المسلمين ، خاصة من شيعته !

(20) كان قاضي القضاة ابن أكثم يؤمن بالإمام الجواد(عليه السلام)

فقد أعلن أنه يؤمن بالإمام الجواد(عليه السلام) وأنه من أهل بيت يعطيهم اللّه العلم من لدنه ، فلا يحتاجون الى معلم . وكان يجلس بين يديه جلسة التلميذ المؤدب الذي يحترم أستاذه ، ويحب أن يتعلم منه !

كان ذلك والإمام الجواد(عليه السلام) ابن تسع سنين ، ويحيى بن أكثم قاضي قضاة الأمبراطورية الإسلامية ، وكبير علمائها ، وصاحب الكلام النافذ عند المأمون !

لكن إيمانه بالإمام(عليه السلام) كان كإيمان سيده المأمون نظرياً وليس عملياً ، إلا ما ندر !

ص: 152

وقد وصل الى هذا الإيمان بعد أن اصطدم بالإمام(عليه السلام) ورأى منه ما أدهشه !

وقد تقدم أن المأمون لما أراد تزويج ابنته للجواد(عليه السلام) عارضه العباسيون، ثم قبلوا أن يمتحنوه: (وأجمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم ، وهو يومئذ قاضي القضاة ، على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها ، ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك ، وعادوا إلى المأمون فسألوه أن يختار لهم يوماً للإجتماع ، فأجابهم إلى ذلك.

واجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه ، وحضر معهم يحيى بن أكثم...فقال يحيى بن أكثم للمأمون: يأذن لي أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر؟

فقال له المأمون: إستأذنه في ذلك فأقبل عليه يحيى بن أكثم فقال: أتأذن لي جعلت فداك في مسألة ؟ فقال له أبو جعفر(عليه السلام) : سل إن شئت .

قال يحيى: ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيداً ؟

فقال له أبو جعفر: قتله في حل أو حرم؟ عالماً كان المحرم أم جاهلاً ؟ قتله عمداً أو خطأ؟حراً كان المحرم أم عبداً؟ صغيراً كان أم كبيراً ؟مبتدئاً بالقتل أم معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصيد كان أم كبارها؟ مصراً على ما فعل أو نادماً؟ في الليل كان قتله للصيد أم نهاراً؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرماً؟فتحير يحيى بن أكثم ، وبان في وجهه العجز) !

وفي تحف العقول لابن شعبة الحراني/454: (قال المأمون ليحيى بن أكثم: إطرح على أبي جعفر مسألة تقطعه فيها . فقال: يا أبا جعفر ، ما تقول في رجل نكح امرأة على زنا أيحل أن يتزوجها؟ فقال(عليه السلام) : يدعها حتى يستبرئها من نطفته

ص: 153

ونطفة غيره ، إذ لا يؤمن منها أن تكون قد أحدثتمع غيره حدثاً ، كما أحدثت معه . ثم يتزوج بها إن أراد ، فإنما مثلها مثل نخلة أكل رجل منها حراماً ، ثم اشتراها فأكل منها حلالاً . فانقطع يحيى .

فقال له أبو جعفر(عليه السلام) : يا أبا محمد ، ما تقول في رجل حرمت عليه امرأة بالغداة وحلت له ارتفاع النهار ، وحرمت عليه نصف النهار ، ثم حلت له الظهر ، ثم حرمت عليه العصر ، ثم حلت له المغرب ، ثم حرمت عليه نصف الليل ، ثم حلت له الفجر ، ثم حرمت عليها ارتفاع النهار ، ثم حلت له نصف النهار؟

فبقي يحيى والفقهاء بُلْساً خُرْساً ! (أي مبهوتين ساكتين ).

فقال المأمون: يا أبا جعفر أعزك اللّه بين لنا هذا . قال(عليه السلام) : هذا رجل نظر إلى مملوكة لا تحل له ، ثم اشتراها فحلت له . ثم أعتقها فحرمت عليه ، ثم تزوجها فحلت له ، فظاهرَ منها فحرمت عليه ، فكفر الظهار فحلت له ، ثم طلقها تطليقة فحرمت عليه ، ثم راجعها فحلت له ، فارتد عن الإسلام فحرمت عليه . فتاب ورجع إلى الإسلام فحلت له بالنكاح الأول ، كما أقر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) نكاح زينب مع أبي العاص بن الربيع حيث أسلم ، على النكاح الأول ) !

هذا ، وستأتي ترجمة يحيى بن أكثم في الشخصيات التي عاصرها الإمام(عليه السلام) .

**

ص: 154

الفصل الرابع: الإمام الجواد(عليه السلام) في عصرالمعتصم

(1) موت المأمون وخلافة المعتصم

ذهب المأمون الى الشام سنة 218، لقتال الروم ، ومات هناك على نهر البدندون الذي يعرف بنهر البردان ، على نحو مئة كيلومتر من طرسوس في الساحل السوري ، وعاش تسعاً وأربعين سنة ، وحكم أكثر من عشرين سنة .

روى الطبري(7/207) عن سعيد العلاف القارئ: (فجئت فوجدته جالساً على شاطئ البدندون ، وأبو إسحاق المعتصم جالس عن يمينه ، فأمرني فجلست نحوه منه فإذا هو وأبو إسحاق مدليان أرجلهما في ماء البدندون ، فقال: يا سعيد دلِّ رجليك في هذا الماء وذقه ، فما رأيت ماء قط أشد برداً ولا أعذب ولا أصفى صفاء منه . ففعلت وقلت: يا أمير المؤمنين ما رأيت مثل هذا قط . قال: أي شئ يطيب أن يؤكل ويشرب هذا الماء عليه؟ فقلت: أمير المؤمنين أعلم . فقال: رطب الآزاذ (من رطب البصرة- البلدان/203) فبينا هو يقول هذا إذ سمع وقع لجم البريد ، فالتفت فنظر فإذا بغال من بغال البريد على أعجازها حقائب فيها الألطاف ، فقال لخادم له: إذهب فانظر هل في هذه الألطاف رطب ، فانظر فإن كان آزاذ فأت به ، فجاء يسعى بسلتين فيهما رطب آزاذ كأنما جُنِيَ من النخل تلك الساعة

ص: 155

فأظهر شكراً للّه تعالى وكثر تعجبي منه، فقال: أدن فكل ، فأكل هو وأبو إسحاق وأكلت معهما وشربنا جميعاً من ذلك الماء ، فما قام منا أحد إلا وهو محموم ، فكانت منية المأمون من تلك العلة ، ولم يزل المعتصم عليلاً حتى دخل العراق ).

أقول: يظهر أن ذلك الرطب كان مسموماً ، فقد كتب اللّه عز وجل أن تكون منية المأمون بنفس الرطب المسموم الذي قتل به الإمام الرضا(عليه السلام) .

قال الدينوري في الأخبار الطوال/401: (وقد كان بايع لابنه العباس بن المأمون بولاية العهد من بعده . وخلفه بالعراق . فلما مات هو على نهر البذندون ، جمع أخوه أبو إسحاق محمد بن هارون المعتصم باللّه إليه وجوه القواد والأجناد ، فدعاهم إلى بيعته فبايعوه . فسار من طرسوس حتى وافى مدينة السلام فدخلها وخلع العباس بن المأمون عنها وغلبه عليها ، وبايعه الناس بها . وكان قدومه بغداد مستهل شهر رمضان سنة ثمان عشرة ومائتين ).

وكان المعتصم أقوى شخصية وأشجع من العباس بن المأمون ، وذكر الطبري (7/223) أن الناس خافوا من خلاف العباس والمعتصم ، فقبل العباس بخلع نفسه.

وفي أول خلافته أحضر المعتصم الإمام الجواد(عليه السلام) الى بغداد ، وقد تكون زوجته عادت قبله. واستطاع الإمام(عليه السلام) أن يتخلص في هذه المرة ، ورجع الى مدينة جده(صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ثم استدعاه المعتصم ثانية ، وحاول قتله مرات ، حتى دبر قتله بالسم على يد زوجته أم الفضل وأخيها جعفر .

ص: 156

فالمدة التي قضاها الإمام(عليه السلام) في بغداد كانت فترات قصيرة ، أولها عندما أحضره المأمون بعد مجيئه الى بغداد سنة 204، وكان(عليه السلام) في التاسعة من عمره ، وعقد على ابنة المأمون . ويظهر أن قصة الباز الأشهب كانت في هذه السفرة .

وقد يكون الإمام(عليه السلام) جاء بعدها الى بغداد وتخلص من المأمون وعاد الى المدينة . لكن المؤكد كما ذكروا أنه جاء اليها سنة 215، أيام سفر المأمون لغزو الروم ، فبنى بزوجته حسب رواية الطبري بعد إحدى عشرة سنة من عقد زواجهما ، وبقي في بغداد مدةً ، ثم جاء بزوجته الى الحج ، وسكن في المدينة .

ثم جاء لاستقبال المأمون من سفرته سنة 216.

ثم كانت خلافة المعتصم ، فأحضره الى بغداد مرتين ، وتخلص منه في السفرة الأولى ، ثم ارتكب المعتصم جريمة قتله بالسم في السفرة الثانية !

(2) عُرف المعتصم في تاريخنا بالغيرة والجهاد

1. (إسمه محمد بن هارون الرشيد.. وأمه أم ولد من مولدات الكوفة تسمى ماردة ، لم تدرك خلافته ، وكانت أحظى النساء عند الرشيد . وكان أبيض أصهب اللحية طويلها ، مربوعاً مشرب اللون ، حسن العينين). (المنتظم:11/25). وذكروا في صفته أنه كان قوي البدن يميل الى الفروسية والطرب والشراب ، ولا يهتم بالعلم والأمور الفكرية كالمأمون ، ولا بتشييد المباني كغيره من خلفاء بني العباس.

( كان مع المعتصم غلامٌ يتعلم معه في الكُتَّاب فمات الغلام ، فقال له الرشيد: يا محمد ، مات غلامك . قال: نعم يا سيدي ، واستراح من الكُتَّاب ! قال الرشيد:

ص: 157

وإن الكُتَّاب ليبلغ منك هذا المبلغ ؟ دعوه إلى حيث انتهى لا تعلموه شيئاً ، وكان يكتب كتاباً ضعيفاً ، ويقرأ قراءة ضعيفة ) . (تاريخ بغداد:4/112، والمنتظم:11/27).

وقد بدأ حكم المعتصم في آخر سنة 218، واستمر ثمان سنوات الى سنة 227. وأحضر الإمام الجواد(عليه السلام) الى بغداد مرتين ، وقتله بالسم سنة220، واتهمه في المرة الأولى بأنه يدبر للثورة عليه ، فلم يثبت عليه ذلك ، ثم عمل على إسقاطه في نفوس فعجز ، ثم قام بسُمِّهِ على يد بنت أخيه أم الفضل.ولعله بقي في بغداد بعد سفرته الثانية سنة أو أكثر ، في الإقامة الجبرية في قصور الخلافة ، ليفصلوه عن جمهور شيعته .

2. روى المؤرخون أن الروم هاجموا مدينة صغيرة للمسلمين على حدودهم إسمها زبطرة ، وهي في تركيا من جهة سوريا .

فوصل الخبر الى المعتصم وكان يشرب الخمر ، فوضع الكأس من يده وأمر بالنفير لرد عدوانهم . ودخل بجيشه من جهة سوريا وكان ثمانين ألفاً ، وهاجم عمورية وهي مدينة قريبة من زبطرة ، وانتصر عليهم ، ونهبها وأحرقها ، وأحرق عدداً من حصونهم ومنشآتهم ، ورجع بجيشه الى ساحل الشام .

وبعد أن مشى من عمورية يوماً اكتشف أن ابن أخيه العباس بن المأمون ، دبَّرَ مع بعض القادة قتل المعتصم وأخذ البيعة لنفسه ، لأنه كان ولي عهد أبيه !

فقبض عليه المعتصم وعلى القادة الذين شجعوه ، وأمر الجيش بلعن ابن أخيه فلعنوه ، ووزع عليهم ما كان يحمل من مال ، وعاد الى سامراء .

ص: 158

كانت هذه الغزوة للروم مثل غيرها من الغزوات الكثيرة ، لكن الرواة المسلمين خلدوها ، لأنه وقع فيها حادثة أو اخترعت لها ! وهي أن الروم عندما هاجموا زبطرة أخذوا من المسلمين أسرى ، وكانوا يضربون إحدى الأسيرات وكانت علوية من ذرية فاطمة الزهراء(عليها السلام) فصاحت: وامحمداه وامعتصماه ، فبلغت استغاثتها به ، فأخذته الغيرة والحمية ، وترك كأس خمره ونهض ، وقاد جيشه وثأر للمسلمة الأسيرة ، فصار نموذجاً للغيرة والحمية وهما قيم إسلامية مهمة.

3. بقطع النظر عن صحة استغاثة المرأة المسلمة وعدم صحتها ، لا يملك الإنسان إلا أن يُمَجِّد قيمة الغيرة الإسلامية ، ويسجل الشكر للمعتصم على هذه الوثبة ، مهما كان رأيه بسلوكه وشخصيته .

وقد تحدث أمير المؤمنين علي(عليه السلام) عن هذه الغيرة ، وذم جيشه لعدم استجابته لاستغاثة المسلمات والمسيحيات من سكان الأنبار، فقال كما في الإرشاد(1/282): (يا أهل الكوفة ، قد أتاني الصريخ يخبرني أن أخا غامد ، قد نزل الأنبار على أهلها ليلاً في أربعة آلاف ، فأغار عليهم كما يغار على الروموالخزر ، فقتل بها عاملي ابن حسان ، وقتل معه رجالاً صالحين ذوي فضل وعبادة ونجدة ، بوأ اللّه لهم جنات النعيم وأباحها. ولقد بلغني أن العصبة من أهل الشام كانوا يدخلون على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة ، فيهتكون سترها ، ويأخذون القناع من رأسها ، والخرص من أذنها، والأوضاح من يديها ورجليها وعضديها ، والخلخال والمئزر من سوقها ، فما تمتنع إلا بالإسترجاع والنداء: يا للمسلمين ،

ص: 159

فلا يغيثها مغيث ، ولا ينصرها ناصر ! فلو أن مؤمناً مات من دون هذا أسفاً ما كان عندي ملوماً ، بل كان عندي باراً محسناً ! واعجباً كل العجب ، من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم ، وفشلكم عن حقكم ! قد صرتم غرضاً يرمى ولا ترمُون ، وتُغزون ولا تَغزون ، ويُعصى اللّه وتَرضون ! تربت أيديكم ، يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها ، كلما اجتمعت من جانب تفرقت من جانب ).

4. سجل الشعراء منقبة المعتصم هذه ، وكان أولهم أبو تمام الطائي فقال كما في أعيان الشيعة(4/454) (قصيدة يمدحه ويذكر كذب المنجمين وفتح عمورية ، وهي نحو من سبعين بيتاً ويقال إنه أجازه على كل بيت منها بألف درهم).وهذه أبياتٌ منها:

السيفُ أصدقُ أنباءً من الكتب *** في حَدِّهِ الحدُّ بين الِجدِّ واللعب

بيضُ الصفائح لا سودُ الصحائف في *** متونهنَّ جلاءُ الشك والريب

والعلم في شهب الأرماح لامعة *** بين الخميسين لا في السبعة الشهب

أين الرواية بل أين النجوم وما *** صاغوه من زخرفٍ فيها ومن كذب

تخرصاً وأحاديثاً ملفقة *** ليست بنبع إذا عدت ولا غرب

عجائباً زعموا الأيام مجفلة *** عنهن في صفر الأصفار أو رجب

وخوفوا الناس من دهياء مظلمة *** إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب

فتحُ الفتوح تعالى أن يحيط به *** نظمٌ من الشعر أو نثرٌ من الخطب

يا يوم وقعة عَمُّوريَّةَ انصرفت *** عنك المنى حُفَّلاً معسولةَ الحَلَب

أبقيت جِدَّ بني الإسلام في صَعَدٍ *** والمشركين ودار الشرك في صَبَبِ

ص: 160

لقد تركتَ أمير المؤمنين بها *** للنار يوماً وكيل الصخر والخشب

فالشمس طالعة من ذا وقد أفلت *** والشمس واجبةٌ من ذا ولم تجب

غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحى *** يشله وسطها صبح من اللّهب

تدبيُر معتصمٍ باللّه منتقم *** للّه مرتقب في اللّه مرتهب

رمى بك اللّه برجيها فهدمها *** ولو رمى بك غير اللّه لم يصب

لبَّيْتَ صوتاً زبطرياً هرقت له *** كأس الكرى ورضاب الخُرَّدِ العُرُب

أجبته معلناً بالسيف منصلتاً *** ولو أجبت بغير السيف لم تُجب

لما رأى الحرب رأى العين توفلسٍ *** والحرب مشتقة المعنى من الحرب

غدا يصرف بالأموال خزيتها *** فعزه البحر ذو التيار والعبب

هيهات زعزعت الأرض الوقور به *** عن غزو محتسب لا غزو مكتسب

إن الأسود أسود الغاب همتها *** يوم الكريهة في المسلوب لا السلب

تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت *** جلودهم قبل نضج التين والعنب

كم أحرزت قُضُبُ الهندي مصلتة *** تهتز من قضب تهتز في كثب

إن كان بين صروف الدهر من رحم *** موصولة أو ذمام غير منقضب

فبين أيامك اللاتي نُصرت بها *** وبين أيام بدر أقرب النسب

أبقت بني الأصفر المصفرِّ إستُهُمُ *** صُفْرَ الوجوه وجلت أوجهُ العرب

وأشهر من مَجَّدَ نَخْوَةَ المعتصم من الشعراء المعاصرين: الشاعر عمر أبو ريشة ، قال:

أمتي هل لك بين الأممِ *** منبرٌ للسيف أو للقلمِ

ص: 161

أتلقاك وطرفي مطرقٌ *** خجلاً من أمْسِكِ المنصرم

ويكاد الدمع يهمي عابثاً *** ببقايا كبرياء الألم

أمتي كم غصة دامية *** خنقت نجوى علاك في فمي

أي جرح في إبائي راعفٍ *** فاته الآسي فلم يلتئم

ألإسرائيلَ تعلو رايةٌ *** في حمى المهد وظل الحرم

كيف أغضيت على الذل ولم *** تنفضي عنك غبار التهم

أوما كنت إذا البغي اعتدى *** موجة من لهب أو من دم

كيف أقدمت وأحجمت ولم *** يشتف الثأر ولم تنتقمي

إسمعي نوح الحزانى واطربي *** وانظري دمع اليتامى وابسمي

ودعي القادة في أهوائها *** تتفانى في خسيس المغنم

رب وامعتصماهُ انطلقتْ *** ملءَ أفواه البنات اليُتَّمِ

لامست أسماعهم لكنها *** لم تلامس نخوةَ المعتصم

أمتي كم صنم مجدته *** لم يكن يحمل طهر الصنم

لايلام الذئب في عدوانه *** إن يك الراعي عدوَّ الغنم

فاحبسي الشكوى فلولاك لما *** كان في الحكم عبيدُ الدرهم

أيها الجندي يا كبش الفدا *** يا شعاع الأمل المبتسم

ما عرفت البخل بالروح إذا *** طلبتْهَا غصصُ المجد الظمي

بورك الجرح الذي تحمله *** شرفاً تحت ظلال العلم

ص: 162

5. لعل أدق نص في غزوة عمورية ، ما كتبه المؤرخ الثبت ابن واضح اليعقوبي ، قال في تاريخه (2/475): (ودخلت الروم زبطرة سنة 223، فقتلوا وأسروا كل من فيها وأخرجوهم ، فلما انتهى الخبر إلى المعتصم قام من مجلسه نافراً ، حتى جلس على الأرض وندب الناس للخروج ووضع العطاء ، وعسكر من يومه بموضع يعرف بالعيون من غربي دجلة ، وقدم أشناس التركي على مقدمته ، وخرج يوم الخميس لست خلون من جمادى الأولى سنة223 ، ودخل أرض الروم ، فقصد أرض عمورية ، وكانت من أعظم مدائنهم ، وأكثرها عدةً ورجالاً فحاصرها حصاراً شديداً .

وبلغ طاغية الروم فزحف في خلق عظيم ، فلما دنا وجَّهَ المعتصم بالأفشين في جيش عظيم ، فلقي الطاغية وأوقع به وهزمه ، وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة ، فأوفد طاغية الروم من قبله وفداً إلى المعتصم يقول: إن الذين فعلوا بزبطرة ما فعلوا ، تعدوا أمري ، وأنا أبنيها بمالي ورجالي ، وأرد من أخذ من أهلها ، وأخلي جملة مَن في بلد الروم من الأسارى ، وأبعث إليك بالقوم الذين فعلوا بزبطرة على رقاب البطارقة . وفتحت عمورية يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة223 فقتل وسبى جميع من فيها ، وأخذ ياطس خال ملك الروم ، وأخرب وأحرق كل ما اجتاز به من بلادهم) .

6. استغل العباس بن المأمون سفر المعتصم الى عمورية ، واتفق مع عدد من قادة الجيش أن يقتلوا المعتصم ، ويبايعوه بدله .

ص: 163

قال اليعقوبي(2/475): (وانصرف (المعتصم) فلما صار بأذنة (أضنة الحالية) حبس العباس ابن المأمون ، لما كان بلغه من المعصية والخلاف واجتماع من اجتمع إليه من القواد ، ووجد له مائة ألف وستة عشر ألف دينار ، فأمر أن تفرق على الجند ويؤمروا أن يلعنوه . فأحصوا فوجدوا ثمانين ألف مرتزق فدفع إليهم دينارين دينارين وتمم ذلك المعتصم من عنده ، ودفع العباس إلى الأفشين مقيداً ليسيره ، فلما صار بحبد رأس توفي ، وقيل إن الافشين أطعمه طعاماً كثير الملح في يوم شديد الحر، ومنعه الماء فحمل إلى منبج فدفن بها . وسخط المعتصم على عجيف ابن عنبسة ، لأنه كان سبب معصيته ، وحمله من أذنة(أضنة) في الحديدالثقيل ، في فيه لبود قد خيطت عليه وفي عنقه غل عظيم ، فلما صار بموضع يقال له باعيناثا على مرحلة من نصيبين ، مات ودفن بها ، وسأل ابنه صالح بن عجيف أن لا ينسب إليه ، وأن يدعى صالحاً المعتصمي ولعنه وبرئ منه) !

وفي الكامل لابن الأثير (6/492): (وأحضر المعتصم العباس بن المأمون وسقاه حتى سكر ، وحلفه أنه لا يكتمه من أمره شيئاً ، فشرح له أمره كله ، مثلما شرح الحارث ، فأخذه وقيده وسلمه إلى الأفشين فحبسه عنده . وتتبع المعتصم أولئك القواد وكانوا يحملون في الطريق على بغال بأكُف بلا وطاء . وأخذ أيضاً الشاه بن سهل وهو من أهل خراسان فقال له المعتصم: يا ابن الزانية أحسنت إليك فلم تشكر. فقال: ابن الزانية هذا وأومأ إلى العباس وكان حاضراً ، لو تركني ما

ص: 164

كنتَ الساعة تقدر أن تجلس هذا المجلس وتقول هذا الكلام ! فأمر به فضربت عنقه ، وهو أول من قتل منهم ).

أقول: هكذا كانت سياسة العباسيين ، فهي في أحسن حالاتها أن يستفيق الخليفة وتتحرك حميته ، فيترك خمره ويذهب الى دفع عدوه ، ويجلس في مكان بعيد عن المعركة ويبعث جيشه فيقاتل فينصرهم اللّه تعالى .

ثم لا يقبل الخليفة من عدوه الإعتذار ولا الصلح ، ويتجبر ويقتل ويحرق الحصون والقرى والدور والأشجار والحيوانات ، بل والناس !

وفي عودته يتآمر عليه ابن أخيه ، أو يزعم أنه تآمر عليه ، كما تآمر هو من قبل عليه وعلى أبيه ، فيقتله ابن أخيه ومؤيديه ، شرَّ قتلة !

7. قال السيوطي في تاريخ الخلفاء/362: (وفتح عمورية بالسيف ، وقتل منها ثلاثين ألفاً ، وسبى مثلهم ).

وروى لنا الطبري(7/272) كيف أحرق المعتصم الأسرى فقال: (ثم أقبل الناس بالأسرى والسبي من كل وجه ، حتى امتلأ العسكر ، فأمر المعتصم بَسيلَ الترجمان ، أن يميز الأسرى ، فيعزل منهم أهل الشرف والقدر من الروم في ناحية ، ويعزل الباقين في ناحية ، ففعل ذلك بَسيل.

ثم أمر المعتصم فوكل بالمقاسم قواده ، ووكل أشناس بما يخرج من ناحيته وأمره أن ينادي عليه ، ووكل الأفشين بما يخرج من ناحيته وأمره أن ينادي ويبيع.

ص: 165

وأمر إيتاخ بناحيته مثل ذلك ، وجعفر الخياطبمثل ذلك في ناحيته ، ووكل مع كل قائد من هؤلاء رجلاً من قبل أحمد بن أبي دؤاد ، يحصى عليه .

فبيعت المقاسم في خمسة أيام ، بيع منها ما استباع ، وأمر بالباقي فضُرِب بالنار! وارتحل المعتصم منصرفاً إلى أرض طرسوس...

فلما كان من الغد أمر ألا ينادى على السبى إلا ثلاثة أصوات ليتروج البيع ، فمن زاد بعد ثلاثة أصوات ، وإلا بيع العلق فكان يفعل ذلك في اليوم الخامس ، فكان ينادى على الرقيق خمسة خمسة وعشرة عشرة ، والمتاع الكثير جملة واحدة...

وفي رواية: وانصرف المعتصم يريد الثغور ، وذلك أنه بلغه أن ملك الروم يريد الخروج في أثره أو يريد التعبث بالعسكر ، فمضى في طريق الجادة مرحلة ، ثم رجع إلى عمورية وأمر الناس بالرجوع ، ثم عدل عن طريق الجادة إلى طريق وادى الجور، ففرق الأسرى على القواد ودفع إلى كل قائد من القواد طائفة منهم يحفظهم ، ففرقهم القواد على أصحابهم ، فساروا في طريق نحواً من أربعين ميلاً ليس فيه ماء ، فكان كل من امتنع من الأسرى أن يمشى معهم لشدة العطش الذي أصابهم ضربوا عنقه! فدخل الناس في البرية في طريق وادى الجور ، فأصابهم العطش فتساقط الناس والدواب ، وقَتَل بعض الأسرى بعض الجند وهرب ، وكان المعتصم قد تقدم العسكر فاستقبل الناس ومعه الماء قد حمله من الموضع الذي نزله ، وهلك الناس في هذا الوادي من العطش ، وقال الناس للمعتصم: إن هؤلاء الأسرى قد قتلوا بعض جندنا ، فأمر عند ذلك بسيل

ص: 166

الرومي بتمييز من له القدر منهم ، فعزلوا ناحية ثم أمر بالباقين فأصعدوا إلى الجبال وأنزلوا إلى الأودية فضربت أعناقهم جميعاً ، وهم مقدار ستة آلاف رجل قتلوا في موضعين بوادي الجور وموضع آخر ، ورحل المعتصم من ذلك الموضع يريد الثغر حتى دخل طرسوس ).

ومعناه أن من يدعي أنه خليفة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عزل شخصيات الأسرى وقد يكونون مئتين أو ثلاث مئة من ألوف الأسرى ، ثم وكل كل قائد ببيع أسراه لمن أراد الشراء من الجيش ، وكان مندوب قاضي القضاة حاضراً ليحصي مبلغ البيع فيأخذها للخليفة ، وقد يعطي منها قسماً الى القائد ، فاشترى الجيش قسماً من الأسرى وبقي قسم لا يوجد له مشترٍ هناك. فأمر أن يضربوهم بالنار ، أي يحرقوهم ! أو يضربوا أعناقهم !

ولا تعترض ، لأن الخليفة وقاضي القضاة أتقى الأتقياء ، ينفذون حكم الإسلام، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا !

(3)المعتصم ينهي الثورات المضادة للعباسيين

1. قال في تاريخ بغداد:4/112: (كان في المعتصم مناقب: منها، أنه كان ثامن الخلفاء من بنى العباس، وثامن أمراء المؤمنين من ولد عبد المطلب ، وملك ثماني سنين وثمانية أشهر، وفتح ثمانية فتوح: بلاد بابك على يد الأفشين . وفتح عمورية بنفسه . والزط بعجيف . وبحر البصرة . وقلعة الأحراف . وأعراب ديار ربيعة . والشاري . وفتح مصر . وقتل ثمانية أعداء . بابك . ومازيار . وباطس ، ورئيس الزنادقة ، والأفشين ، وعجيفا ، وقارن ، وقائد الرافضة ).

ص: 167

وقال ابن الجوزي في المنتظم (11/26) : ( وحكى الصولي أنه لم تجتمع الملوك بباب أحد قط اجتماعها بباب المعتصم ، ولا ظفر ملك كظفره. أسر بابك ملك أذربيجان ، والمازيار ملك طبرستان ، وباطس ملك عمُّورية ، والأفشين ملك أشروسنة ، وعجيفا وهو ملك ، وصار إلى بابه ملك فرغانة ، وملك اسيشاب ، وملك طخارستان ، وملك أصبهان ، وملك الصغد ، وملك كابل وباطيس ، ورئيس الزنادقة ، والأفشين، وعجيفا ، وقارن، وقائد الرافضة ).

2. كانت ثورة بابك الخرمي في آذربيجان ثورة مجوسية قوية ، وكان بابك داهية شجاعاً، ساعدته جغرافية منطقة آذربيجان وشمال إيران الجبلية ، وقد بدأ ثورته من زمن المأمون سنة 201، واستمر يقاتل جيوش الخلافة العباسية أكثر من عشرين سنة ، وهزمها مرات وانهزم هو مرات ، وكان يفلت الى الجبال أو الغابات ، حتى قبض عليه بطريق مسيحي سنة 222.

وقال الصفدي في الوافي (10/39): (كان ظهور بابك سنة إحدى ومائتين بناحية أذربيجان ، وتبعه خلق عظيم على رأيه فأقام عشرين سنة يهزم جيوش المأمون والمعتصم ، فيقال إنه قتل مائة ألف وخمسين ألفاً وخمس مائة إنسان .

كان المعتصم بعث نفقات الجيوش بسبب بابك في أول السنة المذكورة (222) ثلاثين ألف ألف درهم . وجعل المعتصم لمن أتى به حياً ألفي ألفدرهم ، ولمن جاء برأسه ألف ألف درهم . وكان بابك قد هرب واختفى في غيضة ، ثم خرج منها ، فالتقاه سهل البطريق فبعث به إلى الأفشين بعدما خبأه عنده ، فجاء

ص: 168

أصحاب الأفشين وأحدقوا به وأخذوه ، فأعطى المعتصم لسهل البطريق ألفي ألف درهم ، وحط عنه خراج عشرين سنة .

ولما قتله المعتصم وفتح الأفشين مدينته وجد فيها سبعة آلاف وست مائة امرأة مسلمة . ولما صلبت جثته جعلت إلى جانب جثة المازيار ، صاحب طبرستان.. ومدح المعتصم عند ذلك أبو تمام بقصيدته التي أولها:

الحق أبلجُ والسيوف عوارِ *** فحذار من أسد العرين حذارِ

ما زال سرُّ الكفر بين ضلوعه *** حتى اصطلى سر الزناد الواري

ولقد شفيتُ القلب من برحائه *** أن صار بابك جار مازيار

كادوا النبوة والهدى فتقطعت *** أعناقهم في ذلك المضمار

وإنما قيل له بابك الخرمي ، لأنه دعا الناس إلى مقالة الخرمية ، وهو لفظ أعجمي ينبئ عن الشئ المستطاب المستلذ ، لأنهم يعتقدون إباحة الأشياء ، وهو راجع إلى عدم التكليف والتسلط على اتباع الشهوات ، وهذا اللقب كان للمزدكية وهم أهل الإباحة من المجوس أتباع مزدك ، الذي نبغ في أيام قباذ والد أنو شروان ودعا مزدك قباذا إلى مذهبه فأجابه ، ثم اطلع على حاله فقتله .

وكان مزدك يقول النور والظلمة قديمان أزليان ، فالنور سميع بصير حساس يفعل بالقصد والإختيار. والظلمة جاهلة عمياء ، تفعل عن الخبط والإتفاق).

ص: 169

قال الذهبي في تاريخه (16/13): (وجدت بخط رفيقنا ابن جماعة الكناني أنه وجد بخط ابن الصلاح قال: اجتمع قومٌ من الأدباء ، فأحصوا أنّ أبا مسلم قتل ألفي ألف ، وأن قتلى بابك بلغوا ألف ألف وخمس مائة ألف).

3. من جهة أخرى توالت ثورات العلويين على العباسيين ، فكانت ثورة إبراهيم بن طباطبا في الكوفة سنة 199، وسيطر على الكوفة وحكم لفترة . ثم ثار إبراهيم بن موسى بن جعفر(عليه السلام) في اليمن. ومحمد بن جعفر الصادق(عليه السلام) في مكة.

وفي سنة مئتين وسبع خرج:(عبد الرحمن بن أحمد بن عبد اللّه بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب ببلاد عك من اليمن يدعو إلى الرضا من آل محمد) (الطبري:7/168). وفي سنة210 ، ثار أهل قم الشيعة على واليهم بسبب عسفه في الخراج ، وطالبوا بتخفيضه عنهم أسوة بأهل الري .

وفي سنة 219 ظهر في جبال الطالقان في إيران: (محمد بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب بالطالقان من خراسان يدعو إلى الرضا من آل محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاجتمع إليه بها ناس كثير وكانت بينه وبين قواد عبد اللّه بن طاهر وقعات بناحية الطالقان جبالها ، فهزم هو وأصحابه فخرج هارباً يريد بعض كور خراسان ، كان أهله كاتبوه ، فلما صار بنسا وبها والد لبعض من معه ، مضى الرجل معه من أهل نسا إلى والده ليسلم عليه ، فلما لقى أباه سأله عن الخبر فأخبره بأمرهم ، وأنهم يقصدون كورة كذا ، فمضى أبو ذلك الرجل إلى عامل نسا فأخبره بأمر محمد بن القاسم ، فذكر أن العامل بذل له عشرة آلاف درهم

ص: 170

على دلالته عليه فدله عليه ، فجاء العامل إلى محمد بن القاسم فأخذه ، واستوثق منه وبعث به إلى عبد اللّه بن طاهر ، فبعث به عبد اللّه بن طاهر إلى المعتصم ، فقدم به عليه يوم الإثنين لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر ، فحبس فيما ذكر بسامرا عند مسرور الخادم الكبير، في محبس ضيق يكون قدر ثلاث أذرع في ذراعين ، فمكث فيه ثلاثة أيام ثم حول إلى موضع أوسع من ذلك وأجرى عليه طعام ، ووكل به قوم يحفظونه ، فلما كان ليلة الفطر واشتغل الناس بالعيد والتهنئة احتال للخروج . ذكر أنه هرب من الحبس بالليل وأنه دلى إليه حبل من كوة كانت في أعلى البيت يدخل عليه منها الضوء ، فلما أصبحوا أتوا بالطعام للغداء ففقد ، فذكر أنه جعل لمن دل عليه مائة ألف درهم ، وصاح بذلك الصائح فلم يعرف له خبر) . (الطبري:7/223).

(4)المعتصم يتهم الإمام الجواد(عليه السلام) بالإعداد للثورة !

في أجواء ثورات العلويين وغيرهم ، وتصفية المعتصم لهم واحدة بعد الأخرى ، قرر أن يُحضر الإمام الجواد(عليه السلام) الى بغداد ، فأحضره مرتين .

ولا بد أن الذي دبر إحضار الإمام(عليه السلام) هو ابن أبي دؤاد مدبر خلافة المعتصم ، فقد تأكدت علاقته مع المعتصم من يوم جعل المأمون ابنه العباس ولي عهدهوبعث أخاه المعتصم الى مصر ليبعده عن ولاية العهد ، وكان معه ابن أبي دؤاد ، فأطمعه بالخلافة ، ووجهه في مراحل عمله ، حتى غلب ابن أخيه وأخذ منه الخلافة .

فكان ابن أبي دؤاد نديمه ، وقاضي قضاته ، ووزيره الأول ، ومدبر مملكته !

ص: 171

قال إسماعيل بن مهران: (لما خرج أبو جعفر(عليه السلام) من المدينة إلى بغداد في الدفعة الأولى من خرجتيه، قلت له عند خروجه: جعلت فداك إني أخاف عليك في هذا الوجه فإلى من الأمر بعدك؟ فكرَّ بوجهه إلي ضاحكاً وقال:ليس الغيبة حيث ظننت في هذه السنة. فلما أخرج به الثانية إلى المعتصم صرت إليه فقلت له: جعلت فداك أنت خارج فإلى من هذا الأمر من بعدك؟ فبكى حتى اخضلت لحيته ثم التفت إليَّ فقال: عند هذه يخاف عليَّ ، الأمر من بعدي إلى ابني علي). (الكافي: 1/323 ).

وفي كشف الغمة (3/155): (وعن ابن بزيع العطار قال: قال أبو جعفر(عليه السلام) : الفرج بعد المأمون بثلاثين شهراً. قال: فنظرنا فمات بعد ثلاثين شهراً ).

أقول: مقصوده(عليه السلام) الفرج عليه بانتهاء امتحانه في الدنيا على يد الطاغية المعتصم .فلا بد أن يكون سياق الحديث عن خوفهم على حياة الإمام صلوات اللّه عليه .

وفي هذه الثلاثين شهراً أحضره المعتصم الى بغداد مرتين: اتهمه في المرة الأولى بالإعداد للثورة عليه ، فنفى الإمام(عليه السلام) ذلك ودعا على شهود الزور، فظهرت آية وبهت المعتصم وتركه . ثم أحضره في المرة الثانية ، وتمكن من قتله بالسم ، بيد زوجته وأخيها !

(5) يحترم الإمام الجواد(عليه السلام) بالظاهر ويدبر قتله !

في مناقب آل أبي طالب (3/491): (ولما بويع المعتصم جعل يتفقد أحواله فكتب إلى عبد الملك الزيات أن ينفذ إليه التقي وأم الفضل ، فأنفذ ابن الزيات علي بن

ص: 172

يقطين إليه ، فتجهز وخرج إلى بغداد ، فأكرمه وعظمه ، وأنفذ أشناس بالتحف إليه وإلى أم الفضل ).

وتدل الرواية على أسلوب المعتصم في احترام الإمام الجواد(عليه السلام) في الظاهر، وستأتي تكملتها وفيها محاولته دس السم للإمام في شراب مختوم بختم الخلافة !

وعند حضور الإمام(عليه السلام) الى بغداد وجه اليه المعتصم تهمة بأنه يهيئ للثورة عليه. والمرجح أن قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد دبر إحضار الإمام الجواد(عليه السلام) واتهامه بمراسلة شيعته للثورة على المعتصم . فقد صرَّح بأنه يحمل حقداً عميقاً على الإمام الجواد(عليه السلام) كما يأتي ، لكنه فشل في اتهام الإمام الجواد(عليه السلام) ، وظهرت له آية !

فقد روى القطب الراوندي في الخرائج (2/670) ، وابن حمزة في الثاقب/524: (عن ابن أرومة قال: إن المعتصم دعا جماعة من وزرائه وقال: إشهدوا لي على محمد بن علي بن موسى الرضا زوراً ، واكتبوا بأنه أراد أن يخرج ! ثم دعاه فقال: إنك أردت أن تخرج عليَّ . فقال: واللّه ما فعلت شيئاً من ذلك .

قال: إن فلاناً وفلاناً شهدوا عليك ! وأُحضروا فقالوا: نعم ، هذه الكتب أخذناها من بعض غلمانك ! قال: وكان جالساً في بَهْوٍ ، فرفع أبو جعفر(عليه السلام) يده وقال: اللّهم إن كانوا كذبوا عليَّ فخذهم .

قال: فنظرنا إلى ذلك البهو يرجف ويذهب ويجئ ، وكلما قام واحد وقع ! فقال المعتصم: يا ابن رسول اللّه ، تُبْتُ مما قلت فادع ربك أن يُسَكِّنَهُ . فقال: اللّهم سكنه ، وإنك تعلم بأنهم أعداؤك وأعدائي ) .

ص: 173

أقول: لقد كان في ذلك آيةٌ للمعتصم وجماعته لو كانوا يعقلون . لكنهم شاهدوا آياتٍ كثيرة للإمام(عليه السلام) وقبله لأبيه الرضا(عليهما السلام) ، فلم يزدهم ذلك إلا عناداً !

كانوا يرون أنهم إن آمنوا به فقد اعترفوا على أنفسهم بأنه ولي اللّه وحجته ، وإمام الأمة وأنهم غاصبون لمقامه ! فالحل عندهم أن ينكروا آياته ، ويدبروا طريقة لقتله !

(6) إحضار المعتصم للإمام(عليه السلام) ثانيةً

خطط المعتصم مع ابن أبي دؤاد لقتل الإمام الجواد(عليه السلام) ، أما زوجته أم الفضل فيبدو أنها قبلت السكنى في المدينة ، بعد أن مات أبوها المأمون ، وانهزم أخوها العباس وخسر الخلافة وحبسه المعتصم وأمر بلعنه ثم قتله ، وانطفأ بيتهم .

ويظهر أن المعتصم وعدها أن تكون في بيته مع بناته بعد قتل الإمام الجواد(عليه السلام) ، لأن الروايات نصت على أنهم حولوها بعد قتله الى قصر المعتصم !

لا حظ هذا النص في مروج الذهب للمسعودي (3/464) قال: (وفي هذه السنة ، وهي سنة تسع عشرة ومائتين ، قبض محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وذلك لخمس خلون من ذي الحجة ، ودفن ببغداد في الجانب الغربي من مقابر قريش ، مع جده موسى بن جعفر ، وصلى عليه الواثق . وقبض وهو ابن خمس وعشرين سنة ، وقبض أبوه علي بن موسى الرضا ومحمد بن سبع سنين وثمانية أشهر ، وقيل غير ذلك .

وقيل إن أم الفضل بنت المأمون لما قدمت معه من المدينة الى المعتصم سمَّتْه.

ص: 174

وإنما ذكرنا من أمره ما وصفنا ، لأن أهل الإمامة اختلفوا في مقدار سنه عند وفاة أبيه ، وقد أتينا على ما قيل في ذلك في رسالة: البيان في أسماء الأئمة ، وما قالت في ذلك الشيعةُ القطعية ). أي الذين قطعوا بإمامة الإثني عشر(عليهم السلام) .

وقد جعل المسعودي شهادة الإمام(عليه السلام) سنة مئتين وتسعة عشر ، والمشهور أنها سنة عشرين . وسبب الإختلاف أنها كانت في ذي الحجة آخر السنة .

وتدل عبارته على أن أم الفضل كانت مع الإمام(عليه السلام) في المدينة عندما أحضره المعتصم في المرة الثانية ، وأن جائزتها بعد سمها الإمام(عليه السلام) أنها نقلت الى قصر عمها المعتصم !

قال الخطيب في تاريخ بغداد (3/266): ( قدم من مدينة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى بغداد وافداً على أبي إسحاق المعتصم ، ومعه امرأته أم الفضل بنت المأمون ، فتوفي في بغداد ، ودفن في مقابر قريش عند جده موسى بن جعفر ، وحملت امرأته أم الفضل بنت المأمون إلى قصر المعتصم ، فجعلت مع الحرم ) .

(7) محاولة المعتصم تشويه سمعةالجواد(عليه السلام) !

قال الكشي في رجاله (2/833): (محمد بن مسعود قال: حدثني المحمودي أنه دخل على ابن أبي دؤاد وهو في مجلسه وحوله أصحابه ، فقال لهم ابن أبي دؤاد: يا هؤلاء ما تقولون في شئ قاله الخليفة البارحة؟ فقالوا: وما ذلك؟ قال: قال الخليفة: ماترى العلائية (أي الشيعةنسبة الى علي(عليه السلام) )تصنع إن أخرجنا إليهم أبا جعفر سكران يُنشى مضمخاً بالخلوق! قالوا: إذاً تبطل حجتهم ويبطل مقالهم .

ص: 175

قلت: إن العلائية يخالطوني كثيراً ، ويُفْضُونَ إليَّ بسرِّ مقالتهم ، وليس يَلزمهم هذا الذي جرى ، فقال: ومن أين قلت؟

قلت: إنهم يقولون لابد في كل زمان وعلى كل حال للّه في أرضه من حجة ، يقطع العذر بينه وبين خلقه . قلت: فإن كان في زمان الحجة من هو مثله ، أو فوقه في النسب والشرف ، كان أدل الدلائل على الحجة ، لصلة السلطان من بين أهله وولوعه به . قال: فعرض ابن أبي داود هذا الكلام على الخليفة فقال: ليس إلى هؤلاء القوم حيلة . لا تؤذوا أبا جعفر).

أقول: هذا يدل على انشغال أعلى مراكز القرار في الخلافة ، في ابتكار طريقة للتأثير على تقديس الأمة للإمام الجواد(عليه السلام) ، وتشويه سمعته في نظرها !

فقد كان المعتصم كأبيه هارون يرى أنه لايمكن للخليفة العباسي التعايش مع إمام علمه من اللّه تعالى ، والأمة تقدسه وتتحدث عن معجزاته ، ويمكن أن يأمرها بالخروج على الخليفة في أي وقت ! ولذلك طرح خطة سقي الإمام الجواد(عليه السلام) الخمر بأي طريقة وإخراجه سكران يتهادى ليراه الناس ويسقط في أعينهم، ويرجعوا عن القول بإمامته !

وتبنى قاضي القضاة التقي هذه الخطة ، وطرحها مع كبار رجال الخلافة للدراسة !

فقال له أحدهم: هذا لاينفع حتى لو استطعتم أن تخرجوه للناس سكراناً ! فأنا أعرف عقيدة الشيعة ونمط تفكيرهم ، إنهم يقولون إنه لابد من وجود حجة للّه تعالى من العترة النبوية في كل زمان ، ولو لم يكن الجواد هو الحجة لما تولعت به السلطة وحاولت تشويه سمعته ، وتركت من هو أكبر منه سناً من العترة النبوية ، فلا يزيدهم ما تحاوله السلطة فيه إلا إيماناً بإمامته !

ص: 176

فذهب قاضي القضاة وأخبر المعتصم بنتيجة التشاور ، فاعترف بعدم فائدة محاولة جر الإمام(عليه السلام) الى مجالس خمرهم وطربهم حتى لو نجحت ! ومعناه أنه لا بد من قتله !

ولست هذه المحاولة الأولى لتشويه سمعة المعصوم(عليه السلام) ، ولكنها لاتنجح لأن اللّه تعالى طهر أئمة العترة الطاهرين عن رجس هذه الأقذار وأهلها ، فمن المحال أن يقبل أي إمام منهم(عليهم السلام) أن يتلوث فيها .

وقد حاول قبله المأمون مع الجواد ومع أبيه الرضا(عليهما السلام) ، فعجز ، ثم حاول المتوكل مع الإمام الهادي(عليه السلام) فأعلن عجزه وقال: أعياني ابن الرضا !

وقد علق السيد الأمين في أعيان الشيعة (2/582) على هذه الرواية بأن عبارة الراوي المحمودي مغلقة ، والأمر كما قاله(رحمه اللّه) ، لكن المعنى المقصود مفهوم .

ص: 177

(8) الوجه الآخر للمعتصم

قال الدكتور محمد حسين الصغير في كتابه الإمام الجواد/81: (كان المعتصم متصفاً بالحماقة وشدة الغضب ، حتى عرف عنه أنه إذا غضب لا يبالي من قتل وما فعل.. وكان أمياً أو شبه أمي ، وكان له وزير عامي ، وقد بليت بهما الأمة ووصفهما أحمد بن عامر بقوله: خليفةٌ أمِّيّ ووزيرٌ عامي .

وكان شديد الكراهية للعرب وعمد الى الإستهانة بهم ، وأخرجهم من الديوان وأسقط أسماءهم منه ، ومنعهم من العطاء كما منعهم من الولايات .

وفي قبال هذا ، كان مغرماً بحب الأتراك (يقصد غلمانه وجنوده) متزلفاً لهم بسبب خؤولتهم له ، فأمه ماردة تركية النسب ، ونشأ محاكياً للأترك في نزواتهم النفسية وطبائعهم الخلقية ، وأطلق لهم العنان في الدولة وتصريف الشؤون ، واستكثر منهم ، وبعث في طلبهم من فرغانة وأشروسة ).

وقد وثق الدكتور الصغير فقرات كلامه ، وراجعت في المصادر حمق المعتصم وأنه إذا غضب لا يفقه ما يفعل ولا يبالي من يقتل ! فوجدت مصادره كثيرة ، منها الطبري (7/316) وفيه: (إذا غضب لا يبالي من قتل ولا ما فعل) وأبو الفدا(2/35، والسيوطي في تاريخ الخلفاء/361، وابن كثير في النهاية:10/325، وابن خلكان في الوفيات:5/94.

وقال الذهبي في سيره (10/302): (خلف من الذهب ثمانية آلاف ألف دينار ، وثمانية عشر ألف ألف درهم ، وثمانين ألف فرس ، وثمانية آلاف مملوك ، وثمانية آلاف جارية ، وبنى ثمانية قصور ، وقيل بلغ مماليكه ثمانية عشر ألفاً . وكان ذا سطوة إذا غضب لا يبالي من قتل ) !

ص: 178

(9) شرب المعتصم مرةً تسعة أرطال خمر !

في تاريخ دمشق (69/270): (كان المعتصم يطرق عَريب كثيراً، فشُغل أياماً عنها وكانت تتعشق فتى فأحضرته ذات يوم ، وقعدت تسقيه وتشرب معه ، وتغنيه ، إذ أقبل أمير المؤمنين المعتصم فأدخلته بعض المجالس ، ووافى المعتصم فرأى من الآلة والزي ما أنكره وقال لها: ما هذا؟ قالت: جفاني أمير المؤمنين هذه الأيام واشتد شوقي إليه وعيل صبري ، فتمثلت مجلس أمير المؤمنين إذا طرقني وأحضرت من الآلة ماكنت أحضره إذا زارني وأكرمني ، ونصبت له شرابه بين يديه كما كنت أفعل ، وجعلت شرابي بين يدي كما كنت أصنع ، ثم غنيت لأمير المؤمنين صوته وشربت كأسه ، وغنيت صوتي وشربت كأسي !

فهذه حالي إلى أن دخل سيدي أمير المؤمنين فصح فالي ، فقعد المعتصم وشرب وفرح وسكر ، فلما انصرف أخرجت الفتى ، فما زالا في أمرهما إلى الصبح ) !.

وفي الأغاني (17/477)، قال ابن إسحاق المغني: (ناظر أبي بعض المغنين ذات ليلة بين يدي المعتصم ، وطال تلاحيهما في الغناء ، فقال إسحاق للمعتصم: يا أمير المؤمنين ، من شاء منهم فليغنّ عشرة أصوات لا أعرف منها ثلاثة ، وأنا أغني عشرة وعشرة وعشرة ، لا يعرف أحد منهم صوتاً منها . فقال إسحاق: صدق يا أمير المؤمنين . واتبعه ابن بسخنّر وعَلُّويَه ، فقالا: صدق يا أمير المؤمنين إسحاق فيما يقوله . فأمر له بعشرين ألف درهم .

قال محمد: ثم عاد ذلك الرجل إلى مماظَّته يوماً فقال له: قد دعوتك إلى النَّصَفَة ، فلم تقبل، وأنا أدعوك وأبدأ بما دعوتك إليه ، فاندفع فغنى عشرة أصوات ، فلم يعرف أحد منهم منها صوتاً واحداً ، كلها من الغناء القديم ، والغناء اللاحق به

ص: 179

من صنعة المكَّيين الحذَّاق الخاملي الذكر، فاستحسن المعتصم منها صوتاً وأسكت المغنين له ، واستعاده مرات عدة ، ولم يزل يشرب عليه سحابة يومه ، وأمر ألا يراجع أحداً من المغنين كلاماً ولا يعارضه أحد منهم ، إذ كان قد أبزَّ عليهم ، وأوضح الحجة في انقطاعهم ، وإدحاض حججهم).

وفي نهاية الإرب (4/232): (وفَصَدَ الواثق فأتاه أبو دلف ، وأتته رسل الخليفة بالهدايا ، فأعلمهم الواثق حصول أبي دلف عنده...فلم يلبث أن أقبل الخدم يقولون: قد جاء الخليفة ! فقام الواثق وكل من كان عنده حتى تلقوه وجاء حتى جلس.. وأقبل الواثق على أبي دلف فقال: يا قاسم غَنِّ أمير المؤمنين.. فغنى، فقال المعتصم: أحسن أحسن ، ثلاثاً ، وشرب رطلاً ، ولم يزل يستعيده حتى شرب تسعة أرطال ! ثم دعا بحمار فركبه ، وأمر أبا دلف أن ينصرف معه ، فخرج معه فثبته في ندمائه ، وأمر له بعشرين ألف دينار).

أقول: هذا غيضٌ من فيضٍ من ركاكة شخصية المعتصم ، وهو صفةٌ عامةٌ للخلفاء وسكان قصورهم . والرطل العراقي تقريباً ثلث كيلو غرام ، لأن الكر الذي هو ألف ومئتا رطل ، نحو أربع مئة كيلو. فيكون المعتصم شرب فيمجلس واحد ثلاث كيلوات من الخمر ! (راجع الأوزان والمقادير/64و97، وكلمة التقوى لزين الدين:1/9).

(10) المعتصم شاذ جنسياً كأكثر خلفاء بني العباس !

روى السيوطي في تاريخ الخلفاء/364: (عن محمد بن عمر الرومي ، قال: كان للمعتصم غلام يقال له عجيب ، لم ير الناس مثله قط ، وكان مشغوفاً به ، فعمل فيه أبياتاً ثم دعاني وقال: قد علمت أني دون إخوتي في الأدب ، لحب أمير

ص: 180

المؤمنين لي وميلي إلى اللعب وأنا حدث ، فلم أنل ما نالوا . وقد عملت في عجيب أبياتاً ، فإن كانت حسنة وإلا فأصدقني حتى أكتمها ، ثم أنشد شعراً:

لقد رأيت عجيبا *** يحكى الغزال الربيبا

الوجه منه كبدر *** والقد يحكى القضيبا

طبيب ما بي من الحب *** فلا عدمت الطبيبا

إني هويت عجيبا *** هوى أراه عجيبا

فحلفت له بأيمان البيعة ، أنه شعر مليح من أشعار الخلفاء الذين ليسوا بشعراء ، فطابت نفسه ، وأمر لي بخمسين ألف درهم).

(11) قال دعبل إن المسلمين لم يحزنوا لموت المعتصم !

في تاريخ بغداد (14/17): (ولما مات المعتصم وتولى الواثق الخلافة كتب دعبل ابن علي الخزاعي أبياتاً ثم أتى بها الحاجب فقال: أبلغ أمير المؤمنين السلام وقل: مديح لدعبل، قال: فأخذ الحاجب الطومار فأدخله إلى الواثق ، ففضه فإذا فيه:

الحمد للّه لا صبرٌ ولا جلدُ *** ولا رقادٌ إذا أهل الهوى رقدوا

خليفةٌ ماتَ لم يحزن له أحدٌ *** وآخرٌ قام لم يفرح به أحدُ

فمرَّ هذا ومرَّ الشؤمُ يتبعه *** وقام هذا وقام الويلُ والنكد

فطُلِب فلم يُوجَد ، حتى هلك الواثق ).

ص: 181

وفي رواية أن الواثق أخذ الحاجب الذي جاءه بالطومار، فقال: لا أعرف ما فيه فقد قال لي رجل أعط هذا للخليفة وقل مديحٌ من دعبل، ولك نصف الجائزة . فقال الواثق: أعطوه نصف الجائزة ألف سوط ، فلو جاءنا دعبل لضربناه ألفي سوط !

لكن دعبلاً ضرب الخليفة بأكثر من ألفي سوط فقال كما في تاريخ دمشق (17/264):

ملوكُ بني العباس في الكتب سبعةٌ *** ولم تأتنا في ثامنٍ منهمُ الكُتْبُ

كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة *** عداةٌ ثووا فيه وثامنهم كلب

وإني لأُزهي كلبهم عنك رغبةً *** لأنك ذو ذنب وليس لهم ذنب

كأنك إذ ملكتنا لشقائنا *** عجوزٌ عليها التاج والعقد والإتب

فقد ضاع أمر الناس حين يسوسهم *** وصيفٌ وأشناسٌ وقد عظم الخطب

وفضل بن مروان سيثلم ثلمة *** يظل لها الإسلام ليس له شعب

وهمك تركيٌّ عليه مهانةٌ *** فأنت له أمٌّ وأنت له أبُّ

وإني لأرجو أن يُرى من مغيبها *** مطالع شمس قد يغص بها الشرب

ومعنى كلامه الأخير: أرجو أن تطلع شمس أهل البيت(عليهم السلام) من مغربها ، فتنهيكم .

**

ص: 182

الفصل الخامس: شهادة الإمام الجواد(عليه السلام) بيد المعتصم

(1) حقد ابن أبي دؤاد على الإمام الجواد(عليه السلام) !

إذا غضب أحمد بن أبي دؤاد على أحد ، تقع عليه الكارثة من المعتصم ! فابن أبي دؤاد سوداوي حقود ، والمعتصم لا يرد له طلباً ، لأنه عراب خلافته ونديمه . ولا يشفع لمن غضب عليه أن يكون صاحب فضل على الخليفة وكل الخلافة !

فقد وقعت الكارثة على القائد التركي الشجاع المسمى الأفشين ، الذي قطف النصر للمسلمين على بابك الخرمي قائد الثورة المجوسية ، وهزم ملك الروم وَفَتَحَ عمورية ، ثم انخنس المعتصم على بعد عشرين كيلو متراً عن المعركة .

كان الأفشين قائد جيش المعتصم ، فبلغ قاضي القضاة المحترم أنه تكلم عليه ، فأشار على المعتصم أن ينزل رتبته ، فجعله قائد نصف الجيش ،وعين شخصاً للنصف الآخر ، ثم لم يشف ذلك حقد القاضي ، فطلب منه أن يقتله ، فقتله !

قال الدينوري في الأخبار الطوال/405: (ثم إن أحمد بن أبي داود وَجَدَ على الأفشين لكلام بلغه عنه ، فأشار على المعتصم أن يجعل الجيش نصفين ، نصفاً مع

ص: 183

الأفشين ونصفاً مع أشناس ، ففعل المعتصم ذلك . فوجد الأفشين منه وطال حزنه واشتد حقده ، فقال أحمد بن أبي دؤاد للمعتصم: يا أمير المؤمنين إن أبا جعفر المنصور استشار أنصح الناس عنده في أمر أبي مسلم فكان من جوابه أن قال: يا أمير المؤمنين إن اللّه تعالى يقول: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ، فقال له المنصور: حسبك ، ثم قتل أبا مسلم . فقال له المعتصم: أنت أيضاً حسبك يا أبا عبد اللّه ! ثم وجه إلى الأفشين ، فقتله)!

وقد وصف ابن كثير (النهاية:10/313) تكريم المعتصم للأفشين عندما انتصر على بابك الخرمي فقال: ( توج الأفشين وقلده وشاحين من جوهر ، وأطلق له عشرين ألف ألف درهم ، وكتب له بولاية السند ، وأمر الشعراء أن يدخلوا عليه فيمدحوه على ما فعل من الخير إلى المسلمين ، وعلى تخريبه بلاد بابك التي يقال لها البذ وتركه إياها قيعاناً وخراباً . فقالوا في ذلك فأحسنوا ، وكان من جملتهم أبو تمام الطائي ، وقد أورد قصيدته بتمامها ابن جرير..).

أما حقد قاضي القضاة على الإمام الجواد(عليه السلام) ، فقد اعترف هو أنه بلغ أعلى درجة للغليان في حياته ، ليس لأنه بلغه عنه كلام ، بل لأن الجواد(عليه السلام) أظهر فقه الإسلام وشريعته ، وكشف أن هذا القاضي وأمثاله جهلة ، لا فقه لهم !

روى العياشي في تفسيره (1/314): (عن أحمد بن الفضل الخاقاني من آل رزين قال: قُطع الطريق بجلولاء على السابلة من الحجاج وغيرهم ، وأفلت القُطَّاع ، فبلغ الخبر المعتصم فكتب إلى عامل له كان بها: تؤمن على الطريق فيُقطع على

ص: 184

طرف إذن أمير المؤمنين ، ثم ينفلت القطاع ! فإن أنت طلبت هؤلاء وظفرت بهم وإلا أمرت بأن تضرب ألف سوط ثم تصلب بحيث قطع الطريق!

قال: فطلبهم العامل حتى ظفر بهم واستوثق منهم ، ثم كتب بذلك إلى المعتصم فجمع الفقهاء وابن أبي دؤاد ثم سأل الآخرين عن الحكم فيهم ، وكان أبو جعفر محمد بن علي الرضا(عليه السلام) حاضراً ، فقالوا: قد سبقحكم اللّه فيهم في قوله إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ .ولأمير المؤمنين أن يحكم بأي ذلك شاء فيهم .

قال: فالتفت إلى أبي جعفر(عليه السلام) فقال له: ما تقول فيما أجابوا فيه؟ فقال قد تكلم هؤلاء الفقهاء والقاضي بما سمع أمير المؤمنين . قال: أخبرني بما عندك ، قال: إنهم قد أضلوا فيما أفتوا به ! والذي يجب في ذلك أن ينظر أمير المؤمنين في هؤلاء الذين قطعوا الطريق ، فإن كانوا أخافوا السبيل فقط ولم يقتلوا أحداً ولم يأخذوا مالاً ، أمر بايداعهم الحبس ، فإن ذلك معنى نفيهم من الأرض بإخافتهم السبيل وان كانوا أخافوا السبيل وقتلوا النفس أمر بقتلهم ، وإن كانوا أخافوا السبيل وقتلوا النفس وأخذوا المال ، أمر بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبهم بعد ذلك ، قال: فكتب إلى العامل بأن يمتثل ذلك فيهم).

أقول: هذا مثلٌ من كشف الإمام(عليه السلام) لقاضي القضاة وجماعته الذين يزعمون أنهم فقهاء الأمة ! وقد استوعب ذلك المعتصم فأمر بتنفيذ قول الإمام الجواد(عليه السلام) ، ولم

ص: 185

يستشر ابن أبي دؤاد . وكان هذا من المرات القليلة التي يخالف فيها رأي قاضي قضاته وعراب خلافته . وذكرت بعض الروايات أن القصة وقعت سنة 219.

ولا بد أن عدداً من أمثالها وقع قبلها في مجلس الخليفة .

أما قاصمة الظهر للقاضي الحقود ، فكانت عندما أقنع الإمام الجواد(عليه السلام) المعتصم بأنَّ قطع يد السارق بعد تمام الشروط ، إنما يكون من أصول الأصابع وليس من الزند .

روى العياشي (1/319): (عن زرقان صاحب ابن أبي داود وصديقه بشدة قال: رجع ابن أبي داود ذات يوم من عند المعتصم وهو مغتم ، فقلت له في ذلك فقال: وددت اليوم أني قد مِتُّ منذ عشرين سنة ! قال قلت له: ولم ذاك ؟ قال: لما كان من هذا الأسود أبا جعفر محمد بن علي بن موسى اليوم ، بين يدي أمير المؤمنين المعتصم ! قال قلت له: وكيف كان ذلك ؟

قال: إن سارقاً أقر على نفسه بالسرقة وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحد عليه ، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه وقد أحضر محمد بن علي، فسألنا عن القطع في أيموضع يجب أن يقطع؟ قال: فقلت من الكرسوع. قال: وما الحجة في ذلك؟ قال قلت:لأن اليد هي الأصابع والكف إلى الكرسوع . لقول اللّه في التيمم: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ . واتفق معي على ذلك قوم .

وقال آخرون: بل يجب القطع من المرفق. قال وما الدليل على ذلك؟ قالوا: لأن اللّه لما قال: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ، في الغسل، دل ذلك على أن حد اليد هو المرفق قال: فالتفت إلى محمد بن علي فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟

ص: 186

فقال: قد تكلم القوم فيه يا أمير المؤمنين . قال دعني مما تكلموا به ، أي شئ عندك ؟ قال أعفني عن هذا يا أمير المؤمنين . قال: أقسمت عليك باللّه لما أخبرت بما عندك فيه . فقال: أما إذا أقسمت عليَّ باللّه ، إني أقول: إنهم أخطأوا فيه السنة فإن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع ، فيترك الكف .

قال: وما الحجة في ذلك؟ قال: قول رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) السجود على سبعة أعضاء الوجه واليدين والركبتين والرجلين . فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها . وقال اللّه تبارك وتعالى:

وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للَّهِ ، يعنى به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها، فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَدًا، وما كان للّه لم يقطع. قال: فأعجب المعتصم ذلك ، وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع ، دون الكف . قال ابن أبي داود: قامت قيامتي وتمنيت أني لم أك حياً !

قال زرقان: إن ابن أبي داود قال: صرت إلى المعتصم بعد ثالثة ، فقلت: إن نصيحة أمير المؤمنين عليَّ واجبة ، وأنا أكلمه بما أعلم أني أدخل به النار !

قال: وما هو؟ قلت: إذا جمع أمير المؤمنين من مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لأمر واقع من أمور الدين ، فسألهم عن الحكم فيه ، فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك ، وقد حضر المجلس أهل بيته وقواده ووزرائه وكتابه ، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه ، ثم يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل يقول شطر هذه الأمة بإمامته ، ويدعون أنه أولى منه بمقامه ، ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء؟!

قال: فتغير لونه ، وانتبه لما نبهته له وقال: جزاك اللّه عن نصيحتك خيراً .

ص: 187

قال: فأمر اليوم الرابع فلاناً من كتاب وزرائه بأن يدعوه إلى منزله فدعاه ، فأبى أن يجيبه ، وقال: قد علمتَ أني لا أحضر مجالسكم . فقال: إني إنما أدعوك إلى الطعام ، وأحب أن تطأ ثيابي وتدخل منزلي فأتبرك بذلك . وقد أحب فلان بن فلان من وزراء الخليفة لقاءك .

فصار إليه ، فلما أطعم منها أحس السم ، فدعا بدابته فسأله رب المنزل أن يقيم ، قال:خروجي من دارك خير لك ، فلم يزل يومه ذلك وليله في خَلْفَة (هيضة واستفراغ) حتى قبض . صلوات اللّه عليه ).

أقول: من يعرف جو بلاط المعتصم ، ونفسية أحمد بن أبي دؤاد المريضة ، وحقده على الإمام الجواد(عليه السلام) وتأثيره على المتعصم ، يستقرب أن يكون هو الذي أصر عليه أن يدس له السُّم ويتخلص منه .

وقول ابن أبي دؤاد: (ثم يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل يقول شطر هذه الأمة بإمامته، ويَدَّعُون أنه أولى منه بمقامه) .

يدل على أن الشيعة كانوا شطر الأمة يومها، وأن عقيدة الإمامة تعني أن الإمام الجواد (عليه السلام) هو صاحب الحق الشرعي، والمعتصم غاصب .

أما قصة السم في هذه الرواية ، فهي إحدى المرات العديدة التي أقدم فيها المعتصم على سُمِّ الإمام (عليه السلام) ، ولعل آخرها كانت على يد زوجته وأخيها جعفر بن المأمون .

ص: 188

(2) محاولاتهم المتكررة أن يسموا الإمام الجواد(عليه السلام) !

1. نقرأ في سيرة الإمام الجواد(عليه السلام) عدة محاولات لقتله بالسُّم ! وكان القتل بالسم شائعاً عند الملوك والخلفاء والطبقة السياسية في كل العصور ، وكان الأمر سهلاً عندما يكون الضحية ضيفاً في قصور الخلافة !

وقد تقدم قول علي بن محمد الحسني عندما زار الإمام الجواد(عليه السلام) صبيحة عرسه كما في الخرائج:1/379: (قلت في نفسي الساعة يأتون بماء مسموم واغتممت لذلك ! فأقبل الغلام ومعه الماء ، فتبسم أبو جعفر في وجهي ، ثم قال للغلام: ناولني الماء فتناوله فشرب ظاهراً ثم ناولني فشربت... قال: واللّه إني أظن أن أبا جعفر يعلم ما في النفوس ، كما تقول الرافضة ).

وفي المدة التي قضاها الإمام الجواد(عليه السلام) في قصور الخلافة ، كان له برنامجه الخاص ، فلم يكن يحضر مجالس لهوهم ولا يجيب دعواتهم ، إلا إذا اضطر للحضور عند الخليفة .

وتقدم قوله لأحدهم: (علمتَ أني لا أحضر مجالسكم. فقال: إني إنما أدعوك إلى الطعام..وتدخل منزلي فأتبرك بذلك ). (تفسير العياشي:1/320).

وهذا الوزير لا يريد بركة الإمام(عليه السلام) ، بل يريد أن يسقيه سُماً بأمر سيده المعتصم !

2. قال وزير المعتصم عمر بن الفرج الرخجي (الثاقب/517): ( سمعت من أبي جعفر شيئاً لو رآه محمد أخي لكفر . فقلت: وما هو أصلحك اللّه ؟قال: إني كنت معه يوماً بالمدينة إذ قُرِّب الطعام فقال: أمسكوا . فقلت: فداك أبي ، قد جاءكم

ص: 189

الغيب ؟فقال: عليَّ بالخبَّاز ، فجئ به فعاتبه وقال: من أمرك أن تسمني في هذا الطعام ؟ فقال له: جعلت فداك ، فلان ! ثم أمر بالطعام فرفع ، وأتي بغيره) !

أقول: كان عمر بن الفرج وزيراً مقرباً من المعتصم ناصبياً ، وقد ترجمنا له . وكان أخوه محمد بن الفرج شيعياً مقرباً عند الإمام الكاظم والرضا والجواد(عليهم السلام) .

ومعنى كلام عمر أن أخي محمد لو رأى المعجزة التي رأيتها من الجواد ، لصار من الغلاة فيه وكفر! ثم ذكر أن الإمام(عليه السلام) كشف محاولة قتله بالسم !

وقد نصت الرواية على أن الحادثة كانت في المدينة ، وكان عمر بن الفرج والي مكة والمدينة من قبل المعتصم ، فلا بد أن يكون هو وراء محاولة اغتيال الإمام الجواد(عليه السلام) !

والعجيب مكابرته بعد أن رأى معجزة الإمام(عليه السلام) لكن عينه لم تنكسر ! بل اتهم أخاه محمداً رضي اللّه عنه بأنه مغال في الإمام ، بل اتهمه بالكفر لأنه يعتقد أن الإمام الجواد(عليه السلام) يعلم الغيب مما علمه اللّه تعالى .

وتفكير عمر الرخجي هو نفس تفكير المعتصم ووزرائه ، فهم غير معنيين بالإيمان بالمعجزات التي يشاهدونها من الإمام(عليه السلام) ولا بمجرد تفسيرها ! فالمهم عندهم التخلص من صاحب المعجزة ، حتى لا يفتتن به الناس ويتبعوه ، ويتركوهم !

3. في مناقب آل أبي طالب (3/491): (ولما بويع المعتصم جعل يتفقد أحواله فكتب إلى عبد الملك الزيات أن ينفذ إليه التقي وأم الفضل ، فأنفذابن الزيات علي بن يقطين إليه فتجهز وخرج إلى بغداد ، فأكرمه وعظمه ، وأنفذ أشناس بالتحف إليه وإلى أم الفضل ، ثم أنفذ إليه شراب حماض الأترج تحت ختمه على

ص: 190

يد أشناس وقال: إن أمير المؤمنين ذاقه قبل أحمد بن أبي داود وسعد بن الخصيب وجماعة من المعروفين ، ويأمرك أن تشرب منها بماء الثلج وصنع في الحال. فقال: أشربها بالليل، قال: إنه ينفع بارداً وقد ذاب الثلج ، وأصر على ذلك فشربها عالماً بفعلهم ! وروي من وجه آخر ، سنذكره في فصل معجزاته إن شاء اللّه تعالى ).

أقول: اختصرت هذه الرواية إحضار المعتصم للجواد(عليه السلام) مرتين ، وتحدثت عن سُمِّ المعتصم له على يد قائد حرسه وجيشه أشناس ، وطوت محاولات أخرى للمعتصم ، وأحداثاً ذكرتها الروايات الأخرى .

ولعلها تتحدث عن المرة الأولى التي أحضره فيها . ومحاولة سمه بشراب مثلج مختوم بختم الخليفة من المرات التي لم تنجح حتى نجح آخرها على يد زوجته وأخيها جعفر !

ومعنى قوله أن الشراب كان تحت ختمه ، أي كان إناؤه في ظرف مختوم بختم الخليفة كدليل على أنه خال من السم !

وهذا يدل على أن جو القتل بالسم كان سائداً في قصور الخليفة وعمله ، وأن المعتصم كان حريصاً على قتل الإمام(عليه السلام) ولو بالسم بإسمه !

4. قال الحسين بن عبد الوهاب في عيون المعجزات/118: ( ثم إن المعتصم جعل يعمل الحيلة في قتل أبي جعفر(عليه السلام) وأشار إلى ابنة المأمون زوجته ، بأنها تسمه لأنه وقف على انحرافها عن أبي جعفر ، وشدة غيرتها عليه ، لتفضيله أم أبي الحسن ابنه عليها ، ولأنه لم يرزق منها ولد ، فأجابته إلى ذلك وجعلت سماً في عنب رازقي ووضعته بين يديه(عليه السلام) ، فلما أكل منه ندمت وجعلت تبكي ، فقال: ما

ص: 191

بكاؤك! واللّه ليضربنك اللّه بفقر لا ينجبر وبلاء لا ينستر ! فماتت بعلة في أغمض المواضع من جوارحها صارت ناصوراً ، فأنفقت مالها وجميع ملكها على تلك العلة ، حتى احتاجت إلى الإسترفاد . وروي أن الناصور كان في فرجها ) .

وروى الطبري في دلائل الإمامة/395: (وكان سبب وفاته أن أم الفضل بنت المأمون لما تَسَرَّى ورزقه اللّه الولد من غيرها انحرفت عنه وسَمَّتْهُ في عنب وكان تسعة عشر عنبة ، وكان يحب العنب ، فلما أكله بكت فقال لها: مِمَّ بكاؤك ! واللّه ليضربنك اللّه بفقر لا ينجبر وببلاء لا ينستر!فبليتبعده بعلة في أغمض المواضع أنفقت عليها جميع ملكها ، حتى احتاجت إلى رفد الناس . ويقال: إنها سمته بمنديل يمسح به عند الملامسة ، فلما أحس بذلك قال لها: أبلاك اللّه بداءٍ لا دواءَ له . فوقعت الأَكَلة في فرجها، فكانت تنكشف للطبيب ينظرون إليها ، ويشيرون عليها بالدواء فلا ينفع ذلك شيئاً ، حتى ماتت في علتها) .

أقول: لا شك أن لزوجته الخبيثة دوراً أساسياً في سمه(عليه السلام) ، لكن لا يصح تعليل فعلها بغيرة النساء لأنه تزوج عليها ! لأن زواجه(عليه السلام) بها كان في سنة 204 عندما رجع المأمون من طوس ، وكان عمر الإمام الجواد(عليه السلام) تسع سنوات كما نصت رواية المفيد . وبعد العقد ذهب الإمام(عليه السلام) الى المدينة وبقيت هي في بغداد ، وعاش الإمام في المدينة وكبر وتزوج ، وفي السابعة عشرة رزق بولده علي الهادي(عليه السلام) ، ثم رزق بولد وبنتين ، وكانت طوال هذه المدة في بيت أبيها ببغداد .

ص: 192

وفي سنة 215 عندما أراد المأمون السفر الى الشام ، وافاه الإمام الجواد(عليه السلام) في تكريت ، فطلب منه ، أو أمره حسب رواية الطبري أن يدخل بزوجته ، قال: (وأمره أن يدخل بابنته أم الفضل ، وكان زَوَّجَهَا منه ، فأدخلت عليه في دار أحمد بن يوسف التي على شاطئ دجلة ، فأقام بها ، فلما كان أيام الحج خرج بأهله وعياله حتى أتى مكة ، ثم أتى منزله بالمدينة فأقام بها). (الطبري:7/190).

فلا يصح تصورهم أن زوجته كانت تعيش معه وغارت منه ، أو أنها غارت من الولية الصالحة سمانة أم الإمام علي الهادي(عليه السلام) .

ولعل هذا سبب تحفظ المفيد(رحمه اللّه) على رواية أنها كانت تشكو الجواد(عليه السلام) لأبيها لأنه تزوج عليها ، لأنها لم تسكن معه في المدينة إلا بعد موت المأمون وذهاب الخلافة منهم وفقدها بذخ القصور وترفها ! ولما جاءت مع الإمام(عليه السلام) كان عنده زوجته وأولاده .

كما نستبعد أنها سمته بخرقة يمسح بها فرجه ، فكأنها مقولةٌ لتبرير دعائه عليها بأن تصاب بعلة في فرجها . لكن قد يكون سبب دعائه(عليه السلام) بذلك أمرٌ آخر من سلوكها .

والنتيجة: أن محاولاتهم قتل الإمام الجواد(عليه السلام) بالسم كانت متعددة ، حتى عندما كان في المدينة ، وكانت تتواصل وتشتد عندما يحضرونه الى بغداد ، وقد تكون عشر مرات ، وكانت زوجته شريكة في سُمِّه مرةً أو أكثر ، وكانت تدبر ذلك مع أخيها جعفر !

ص: 193

(3)الأماكن التي سكن فيها الإمام الجواد(عليه السلام) في بغداد

1. سكن الإمام الجواد(عليه السلام) في بغداد ، في ثلاثة أمكنة على الأقل: فعندما جاء به المأمون ليعقد له على ابنته ، أنزله كما يظهر في أحد قصور الخلافة ، وبقي في بغداد فترة قصيرة ، ثم رجع الى المدينة .

أما عندما كان يأتي هو لمناسبة كاستقبال المأمون من عودته من الشام ، فالمرجح أنه كان ينزل خارج قصور الخلافة ، وكان يبقى مدة ثم يرجع الى المدينة .

وفي رواية المسعودي في إثبات الوصية/216: (فحمله (المأمون) وأنزله بالقرب من داره ودخل عليه حسين المكاري فلما رأى طيب حاله قال في نفسه: لا يرجع أبداً إلى موطنه فقال: خبز شعير وملح جريش وحرم الرسول أحبّ إليَّ مما ترى).

وقوله أنزله بالقرب من داره يدل على أنه أنزله في أحد قصور الخلافة . وقد اهتم بتكريمه ، لكن الإمام(عليه السلام) لم يكن مرتاحاً لذلك .

2. وأما عندما أحضره المأمون سنة215، وأمره أن يدخل بزوجته ، فقد أعدوا له دار أحمد بن يوسف ، وهو على شاطئ دجلة ، كما نص عليه الطبري:7/189.

وعبَّرت عنه رواية ابن حمزة في الثاقب/518، بقصر أحمد بن يوسف ، قال: (حدثني بعض المدينيين أنهم كانوا يدخلون على أبي جعفر(عليه السلام) وهو نازل في قصر أحمد بن يوسف ، يقولون له: يا أبا جعفر، جعلنا فداك ، قد تهيأنا وتجهزنا ولانراك تَهِمُّ ).

وتعبيرهم بالقصر صحيح ، لأن أحمد بن يوسف بن القاسم بن صبيح العجلي بالولاء ، كان ولي ديوان الرسائل للمأمون ، برتبة وزير . ( الأعلام:1/272).

ص: 194

وقد وصفت رواية معجم الأدباء (5/165) كرمه وقصره فقالت: (لما خرج عبد اللّه بن طاهر من بغداد إلى خراسان ، قال لابنه محمد: إن عاشرت أحداً بمدينة السلام ، فعليك بأحمد بن يوسف الكاتب ، فإن له مروءة ، فما عرج محمد حين انصرف من توديع أبيه على شئ حتى هجم على أحمد بن يوسف في داره فأطال عنده ، ففطن له أحمد فقال: يا جارية غدينا ، فأحضرت طبقاً وأرغفة نقية وقدمت ألواناً يسيرة وحلاوةً ، وأعقب ذلك بأنواع من الأشربة في زجاج فاخر وآلة حسنة ، وقال:يتناول الأمير من أيها شاء . ثم قال له: إن رأى الأمير أن يشرف عبده ويجيئه في غد فأنعم بذلك . فنهض وهو متعجب من وصف أبيه له وأراد فضيحته ، فلم يترك قائداً جليلاً ولا رجلاً مذكوراً من أصحابه ، إلا عرفهم أنه في دعوة أحمد بن يوسف ، وأمرهم بالغدو معه ، فلما أصبحوا قصدوا دار أحمد بن يوسف ، وقد أخذ أهبته وأظهر مروءته ، فرأى محمد من النضائد والفرش والستور والغلمان والوصائف ما أدهشه ، وكان قد نصب ثلاث مائة مائدة ، وقد حفت بثلاث مائة وصيفة ، ونقل إلى كل مائدة ثلاث مائة لون في صحاف الذهب والفضة ، ومثارد الصين .

فلما رفعت الموائد قال ابن طاهر: هل أكل من بالباب ، فنظروا فإذا جميع من بالباب قد نصبت لهم الموائد فأكلوا ، فقال: شتان بين يوميك يا أبا الحسن ).

أقول: اختارالمأمون هذا القصر لعرس الإمام الجواد(عليه السلام) ، وكان أحمد بن يوسف توفي سنة213 (الأعلام:1/272) أي قبل ذلك بسنتين . فقد يكون قصره يومها بيد أولاده ،

ص: 195

أو بيد المأمون . وبقي الإمام(عليه السلام) فيه شهوراً حتى ذهب الى الحج ، ومعه زوجته أم الفضل ، ثم سكن في المدينة .

3. أما عندما استقدمه المعتصم مرتين ، وأبقاه في الثانية في بغداد حتى قتله ، فيظهر أنه سكن مع زوجته في منزل اشتراه أو استأجره في شرق بغداد ، في رحبة أسوار بن ميمون ، قرب قنطرة البردان . وفي هذا المنزل وردت الرواية أنه استشهد صلوات اللّه عليه ، وعنده صلى عليه الواثق ولي عهد المعتصم .

قال الحافظ في تاريخ بغداد (3/267): (فتوفي فيها (بغداد) يوم الثلاثاء لخمس ليال خلون من ذي الحجة ، وركب هارون بن أبي إسحاق فصلى عليه عند منزله في رحبة أسوار بن ميمون ، ناحية قنطرة البردان ، ثم حمل ودفن في مقابر قريش).

فقوله: (فصلى عليه عند منزله) يدل على أن صلاته كانت في ساحة أو فسحة عند منزل الإمام الجواد(عليه السلام) الذي توفي فيه . وفيه إشارة الى أن الوقت كان صيفاً أو صحواً ، يسمح بالصلاة على الجنازة في الفضاء .ويفهم من الأشخاص الذين نُسبوا الى قنطرة البردان ورحبة أسوار ، أنهاكانت محلة يسكنها كبار الرواة والعلماء ، وبعيدة نسبياً عن قصور الخلافة .

ثم حملت جنازته(عليه السلام) الى مقابر قريش في غربي بغداد ، وهي الكاظمية الفعلية .

ومما يؤكد أن الإمام الجواد(عليه السلام) توفي في بيته المذكور وليس في القصر، ما رواه في بصائر الدرجات/501، بسند صحيح عن علي بن مهزيار عن أبي مسافر قال: (قال لي أبو جعفر(عليه السلام) في العشية التي اعتل فيها من ليلتها العلة التي توفي فيها: يا عبد اللّه ما

ص: 196

أرسل اللّه نبياً من أنبيائه إلى أحد حتى يأخذ عليه ثلاثة أشياء . قلت: وأي شئ هو يا سيدي؟ قال: الإقرار باللّه بالعبودية والوحدانية ، وأن اللّه يقدم ما يشاء. ونحن قوم أو نحن معشر إذا لم يرض اللّه لأحدنا الدنيا نقلنا إليه ).

4. وهناك مكان آخر شهد معجزة للإمام الجواد(عليه السلام) ، وهو مسجد المسيب ، ففي الكافي (1/497): (قال: صليت مع أبي جعفر(عليه السلام) في مسجد المسيب ، وصلى بنا في موضع القبلة سواء . وذكر أن السدرة التي في المسجد كانت يابسة ليس عليها ورق ، فدعا بماء وتهيأ (توضأ) تحت السدرة ، فعاشت السدرة وأورقت وحملت من عامها ).

وفي المستجاد من الإرشاد/213، والثاقب في المناقب/512: (وقد روى أكثر الناس أنه لما توجه أبو جعفر(عليه السلام) من بغداد منصرفاً من عند المأمون ، ومعه أم الفضل ابنة المأمون قاصداً بها المدينة ، صار إلى شارع باب الكوفة ومعه الناس يشيعونه فانتهى إلى دار المسيب عند مغيب الشمس، فنزل ودخل المسجد وكان في صحنه نبقة لم تحمل بعد ، فدعا بكوز فيه ماء فتوضأ في أصل النبقة ، وقام وصلى بالناس صلاة المغرب فقرأ في الأولى منها الحمد وإذا جاء نصر اللّه ، وقرأ في الثانية الحمد وقل هو اللّه ، وقنت قبل ركوعه فيها وصل الثالثة وتشهد وسلم ، ثم جلس هنيهة يذكر اللّه جل اسمه ، وقام من غير أن يعقب فصلى النوافل أربع ركعات وعقب تعقيبها ، وسجد سجدتي الشكر ثم خرج ، فلما انتهى إلى النبقة رآها

ص: 197

الناس وقد حملت حملاً حسناً ! فتعجبوا من ذلك وأكلوا منها فوجدوها نبقاً حلواً لا عجم له ! وودعوه ومضى من وقته إلى المدينة).

وفي المناقب (3/496): ( فلما انتهى إلى النبقة رآها الناس وقد حملت حملاً حسناً ، فتعجبوا من ذاك وأكلوا منها ، فوجدوا نبقاً حلواً لاعجم له ، وودعوه ومضى إلى المدينة . قال الشيخ المفيد: وقد أكلت من ثمرها وكان لا عجم له ).

أقول: مسجد المسيب كما دلت رواية ابن السكيت ملاصق لسجن السندي بن شاهك الذي توفي فيه الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) ، ويقع غربي بغداد في باب الكوفة .

قال في عيون المعجزات/81: ( إن موسى بن جعفر(عليه السلام) كان في حبس هارون الرشيد ، وهو في المسجد المعروف بمسجد المسيب ، من جانب الغربي بباب الكوفة ، لأنه قد نقل الموضع إليه من دار السندي بن شاهك ، وهي الدار المعروفة بدار أبي عمرويه ) . ونحوه في مناقب آل أبي طالب:3/438 .

(4) كانت إمامة الجواد في السابعة من عمره ظاهرة جديدة !

صار التشيع في القرن الثاني بجهود أئمة أهل البيت(عليهم السلام) تياراً قوياً في الأمة ، حتى أنه أحدث هزة سياسية اقتلعت الحكم الأموي من جذوره ، وقام بعده الحكم العباسي باسم أهل البيت(عليهم السلام) .

وفي أواخر القرن الثاني كان التشيع لأهل البيت(عليهم السلام) فخراً ، وكان الخليفة المأمون يعلن أنه شيعي المذهب ، ويناظر الفقهاء والمتكلمين في إثبات التشيع .

ص: 198

وقد تأكد للناس ذلك عندما جعل المأمون ولاية عهده للإمام الرضا(عليه السلام) ، وهو الإمام الثامن في سلسلة الأئمة الإثني عشر عند الشيعة .

لذا يمكن القول إن عصر الإمام الرضا(عليه السلام) كان عصر المد الفكري للتشيع .

وقد حدث أمرٌ بوفاة الإمام الرضا(عليه السلام) كان جديداً على الشيعة ، وغريباً على غيرهم ، هو أن الإمام الرضا(عليه السلام) كان أعلن أن الإمام بعده والحجة للّه على الناس ابنه محمد الجواد(عليه السلام) ، فلما توفي كان عمر الإمام الجواد(عليه السلام) نحو سبع سنين !

أما الشيعة فكان كثيرٌ منهم قالوا بإمامته من حياة أبيه بمجرد أن سمعوا منه النص على إمامته ، وبعضهم كانوا مستعدين لقبول ذلك لأنالأئمة الماضين وخاصة الإمام الصادق(عليهم السلام) أخبروهم بأنهم سيبتلون بأن يكون حجة اللّه عليهم صبياً ، كعيسى ويحيى وسليمان فقد كانوا أنبياء وهم صبيانٌ صغار(عليهم السلام) !

وزاد من يقين الشيعة أن الإمام المعصوم عندهم لايجهزه ويصلي عليه إلا معصوم ، وأن الإمام الجواد عندما توفي أبوه الإمام الرضا في طوس، كان صبياً في المدينة، فأخبر الناس بوفاته ، وأمر عائلته بإقامة المأتم ، وذهب بنحو الإعجاز الى طوس فقام بتجهيزه والصلاة عليه ، ورجع الى المدينة في ذلك اليوم !

وتقدم أن فقهاء الشيعة ورؤساؤهم اجتمعوا في بغداد ، ثم زاروا الإمام الجواد في المدينة ، فاقتنعوا به وأعلنوا إمامته .

ص: 199

(5) من نصوص الإمام الجواد على إمامة ابنه الهادي(عليهما السلام)

وروى المسعودي في إثبات الوصية/193، عن إسماعيل بن بزيع قال: (قال لي أبو جعفر(عليه السلام) : يُفضي هذا الأمر إلى أبي الحسن وهو ابن سبع سنين ! ثم قال: نعم وأقل من سبع سنين ، كما كان عيسى(عليه السلام) ).

وروى الصدوق في كمال الدين/378 ، عن الصقر بن أبي دلف قال: (سمعت أبا جعفر محمد بن علي الرضا(عليهما السلام) يقول: إن الإمام بعدي ابني علي ، أمره أمري ، وقوله قولي ، وطاعته طاعتي ، والإمام بعده ابنه الحسن ، أمره أمر أبيه ، وقوله قول أبيه ، وطاعته طاعة أبيه ، ثم سكت . فقلت له: يا ابن رسول اللّه فمن الإمام بعد الحسن؟ فبكي بكاء شديداً ثم قال: إن من بعد الحسن ابنه القائم بالحق المنتظر . فقلت له: يا ابن رسول اللّه لم سمي القائم ؟ قال: لأنه يقوم بعد موت ذكره ، وارتداد أكثر القائلين بإمامته ! فقلت له: ولم سمي المنتظر ؟ قال:لأن له غيبة يكثر أيامها ويطول أمدها ، فينتظر خروجه المخلصون ، وينكره المرتابون ، ويستهزئ بذكره الجاحدون ، ويكذب فيها الوقاتون ، ويهلك فيها المستعجلون ، وينجو فيها المُسَلِّمون ) .

وروى في الكافي (1/323):(عن إسماعيل بن مهران قال: لما خرج أبو جعفر(عليه السلام) من المدينة إلى بغداد في الدفعة الأولى من خرجتيه ، قلت له عند خروجه: جعلت فداك إني أخاف عليك في هذا الوجه فإلى من الأمر بعدك؟ فكرَّ بوجهه إلي ضاحكاً ، وقال: ليس الغيبة حيث ظننت في هذه السنة .

ص: 200

فلما أخرج به الثانية إلى المعتصم صرت إليه فقلت له: جعلت فداك أنت خارج فإلى من هذا الأمر من بعدك؟ فبكى حتى اخضلت لحيته ، ثم التفت إلي فقال: عند هذه يُخاف علي ، الأمر من بعدي إلى ابني علي ).

وفي كفاية الأثر/284:(عن أمية بن علي القيسي قال: قلت لأبي جعفر الثاني(عليه السلام) : مَن الخلَف من بعدك ؟ قال: ابني علي . ثم قال: إنه سيكون حيرة . قال: قلت إلى أين؟ فسكت ثم قال: إلى المدينة . قلت: وإلى أي مدينة؟ قال: مدينتنا هذه ، وهل مدينة غيرها؟).

وفي كمال الدين/382: (عن علي بن عبد الغفار قال:لما مات أبو جعفر الثاني(عليه السلام) كتبت الشيعة إلى أبي الحسن صاحب العسكر(عليه السلام) يسألونه عن الأمر، فكتب(عليه السلام) : الأمر لي ما دمت حياً ، فإذا نزلت بي مقادير اللّه عز وجل آتاكم اللّه الخلف مني، وأنى لكم بالخلف بعد الخلف ) !

يقصد أن الإمام بعده ابنه الحسن العسكري(عليهما السلام) ، لكن سيصعب عليكم رؤية الخلف بعده ، وهو ابنه الإمام المهدي(عليه السلام) .

وروى في الكافي (1/324) عن الخيراني ، أن أباه : (كان يلزم باب أبي جعفر(عليه السلام) للخدمة التي كان وكل بها . وكان أحمد بن محمد بن عيسى يجيئ في السحر في كل ليلة ليعرف خبر علة أبي جعفر(عليه السلام) ، وكان الرسول الذي يختلف بين أبي جعفر(عليه السلام) وبين أبي إذا حضر قام أحمد وخلا به أبي ، فخرجت ذات ليله وقام أحمد عن المجلس وخلا أبي بالرسول ، واستدار أحمد فوقف حيث يسمع الكلام

ص: 201

فقال الرسول لأبي: إن مولاك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إني ماضٍ والأمر صائر إلى ابني علي ، وله عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبي .

ثم مضى الرسول ورجع أحمد إلى موضعه وقال لأبي: ما الذي قد قال لك؟ قال: خيراً . قال: قد سمعت ما قال فَلِمَ تكتمه؟ وأعاد ما سمع فقال له أبي: قد حرم اللّه عليك ما فعلت لأن اللّه تعالى يقول: وَلَا تَجَسَّسُوا ، فاحفظ الشهادة لعلنا نحتاج إليها يوماً ما ، وإياك أن تظهرها إلى وقتها .

فلما أصبح أبي كتب نسخة الرسالة في عشر رقاع وختمها ، ودفعها إلى عشرة من وجوه العصابة ، وقال: إن حدث بي حدث الموت قبل أن أطالبكم بها ، فافتحوها واعملوا بما فيها .

فلما مضى أبو جعفر(عليه السلام) ذكر أبي أنه لم يخرج من منزله حتى قطع على يديه نحو من أربع مائة إنسان .

واجتمع رؤساء العصابة عند محمد بن الفرج يتفاوضون هذا الأمر ، فكتب محمد بن الفرج إلى أبي يعلمه باجتماعهم عنده ، وأنه لولا مخافة الشهرة لصار معهم إليه ويسأله أن يأتيه ، فركب أبي وصار إليه ، فوجد القوم مجتمعين عنده ، فقالوا لأبي: ما تقول في هذا الأمر؟ فقال أبي لمن عنده الرقاع: أحضروا الرقاع فأحضروها فقال لهم: هذا ما أمرت به . فقال بعضهم: قد كنا نحب أن يكون معك في هذا الأمر شاهد آخر؟ فقال لهم: قد آتاكم اللّه عز وجل به هذا أبو جعفر الأشعري يشهد لي بسماع هذه الرسالة وسأله أن يشهد بما عنده ، فأنكر

ص: 202

أحمد أن يكون سمع من هذا شيئاً فدعاه أبي إلى المباهلة ، فقال: لما حقق عليه ، قال: قد سمعت ذلك . وهذا مكرمة كنت أحب أن تكون لرجل من العرب لا لرجل من العجم: فلم يبرح القوم حتى قالوا بالحق جميعاً .

وفي نسخة الصفواني: محمد بن جعفر الكوفي، عن محمد بن عيسى بن عبيد ، عن محمد بن الحسين الواسطي أنه سمع أحمد بن أبي خالد مولى أبي جعفر يحكي أنه أشهده على هذه الوصية المنسوخة: شهد أحمد بن أبي خالد مولى أبي جعفر أن أبا جعفر محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام) أشهده أنه أوصى إلى علي ابنه بنفسه وأخواته ، وجعل أمر موسى إذا بلغ إليه وجعل عبد اللّه بن المساور قائماً على تركته من الضياع والأموال والنفقات والرقيق وغير ذلك ، إلى أن يبلغ علي بن محمد .

صَيَّرَ عبد اللّه بن المساور ذلك اليوم إليه ، يقوم بأمر نفسه وإخوانه ، ويصير أمر موسى إليه ، يقوم لنفسه بعدهما على شرط أبيهما في صدقاته التي تصدق بها .

وذلك يوم الأحد لثلاث ليال خلون من ذي الحجة ، سنة عشرين ومائتين .

وكتب أحمد بن أبي خالد شهادته بخطه . وشهد الحسن بن محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام) وهو الجواني ، على مثل شهادة أحمد بن أبي خالد في صدر هذا الكتاب، وكتب شهادته بيده . وشهد نصر الخادم ، وكتب شهادته بيده ) .

ص: 203

(6)شرح هذا الحديث

1. الخيراني من أولاد عبد خير ، وكان خادماً موثوقاً للإمام الرضا والجواد(عليهما السلام) ، وهو حاجبه في بغداد ، يجلس في غرفة الحراسة أو الإستقبال ، وعندما كان الإمام(عليه السلام) مريضاً من أثر السم ، كان يرسل اليه من داخل البيت من هو أقرب اليه منه ، فيبلغه أمره .

وكان قاضي المعتصم أحمد بن محمد بن عيسى البرتي ، وهو من أصحاب يحيى بن أكثم يحضر كل ليلة في آخر الليل ليعرف حالة الإمام(عليه السلام) وهل توفي ، ليكتب حكماً قضائياً بأنه مات بشكل طبيعي ، ولم يكن مسموماً !

وهذا معنى قوله:( وكان أحمد بن محمد بن عيسى يجيئ في السحر في كل ليلة ليعرف خبر علة أبي جعفر(عليه السلام) ).

وكان الإمام(عليه السلام) إذا أراد شيئاً من الخيراني أرسل رسوله من داخل البيت فكلم الخيراني سراً ويبتعد القاضي . وهذا معنى: ( وكان الرسول الذي يختلف بين أبي جعفر(عليه السلام) وبين أبي ، إذا حضر قام أحمد وخلا به أبي ).

وجاء الرسول ذات ليلة: ( وقام أحمد عن المجلس وخلا أبي بالرسول ، واستدار أحمد فوقف حيث يسمع الكلام ) أي لم يبتعد القاضي ، بل وقف بحيث يسمع ليعرف ماذا أرسل الإمام(عليه السلام) الى الحاجب ! فعاتبه الخيراني واتهمه بالتجسس .

وأبلغه الرسول رسالة مكتوبة من الإمام(عليه السلام) وأمره أن ينسخها ويرسلها الى كبار الشيعة ، وهي تخبر بوفاته ، وتنص على إمامة الهادي(عليه السلام) .

وبعد تشييع الإمام(عليه السلام) أرسل محمد بن الفرج أخ الوزير عمر بن فرج ، الى الخيراني يدعوه الى مجلس كبار الشيعة في داره ، فجاء وأخبرهم بوصايا الإمام ونصه على

ص: 204

الهادي(عليهما السلام) فأحبوا أن يكون معه شاهد ، فاستشهد بالقاضي أحمد بن محمد بن عيسى فأبى ، ثم اعترف وشهد !

وقد تصور شراح الحديث أن أحمد بن محمد بن عيسى هو القمي الأشعري ، وجيه الشيعة في قم ، وتحيروا في إبائه الشهادة بإمامة الجواد(عليه السلام) ثم اعترافه !

وقد ضعف السيد الخوئي الرواية لأنها تذمه وهو جليل القدر ، لا يصدر منه ما نسبته اليه من إنكار الشهادة . لكن ستعرف أنه البرتي وليس الأشعري .

2. يدل الحديث على أن الإمام الجواد(عليه السلام) ضبط بيته وعين له حاجباً يثق به ، وكان كما ورد في أول رحبة أسوار ، قرب قنطرة البردان .

3. يدل الحديث على أن الإمام(عليه السلام) مرض من السم مدة ثم توفي ، وأن المعتصم أمر قاضيه أن يتفقده ليخبره بخبره ، ويكتب تقريره القضائي بوفاته الطبيعية !

ولم أجد تحديد المدة التي عانى فيها الإمام(عليه السلام) من تأثير السم قبل وفاته .

4. يدل قوله: (فكتب محمد بن الفرج إلى أبي (الخيراني) يعلمه باجتماعهم عنده ، وأنه لولا مخافة الشهرة لصار معهم إليه . ويسأله أن يأتيه) على جو الإرهاب الذي فرضه المعتصم على زوار بيت الإمام الجواد(عليه السلام) ، حتى أن شخصية محترمة عند المعتصم كمحمد بن الفرج ، يخشى أن يزور بيت الإمام(عليه السلام) بعد شهادته ، حتى لا يتهم بأنه من شيعته ، وأنه يدبر شيئاً . مع أن أخاه عمر بن الفرج وزيرٌ مقربٌ من المعتصم .

ثم إن المعتصم زعم أنه يحب الإمام الجواد(عليه السلام) وأنه لم يقتله ، وقد بعث ابنه وصلى على جنازته . لكنه بتعامل مع شيعته ومنزله ، أكد التهمة على نفسه !

ص: 205

5. يظهر من رسالة محمد بن الفرج الى الخيراني ، وتعامل كبار شخصيات الشيعة معه أنهم كانوا يثقون به . والخيراني هنا هو ابن خيران مولى الإمام الرضا ، وخيران كان حاجباً للإمام الجواد ، وقد روى ابنه عنه أيضاً في الكافي: (1/322): (قال: كنت واقفاً بين يدي أبي الحسن (الرضا(عليه السلام) ) بخراسان ، فقال له قائل: يا سيدي إن كان كونٌ فإلى من؟ قال: إلى أبي جعفر ابني، فكأن القائل استصغر سن أبي جعفر فقال أبو الحسن: إن اللّه تبارك وتعالى بعث عيسى بن مريم رسولاً نبياً صاحب شريعة مبتدأة ، في أصغر من السن الذي فيه أبو جعفر ).

وقد ترجم له السيد الخوئي في معجمه (8/88)، ترجمة وافية ، قال: (خيران الخادم = خيران الأسباطي: ثقة ، من أصحاب الهادي(عليه السلام) ، رجال الشيخ . وعده البرقي أيضاً في أصحاب الهادي(عليه السلام) وقال الكشي: خيران الخادم القراطيسي: وجدت في كتاب محمد بن الحسن بن بندار القمي بخطه: حدثني الحسين بن محمد بن عامر قال: حدثني خيران الخادم القراطيسي ، قال: حججت أيام أبي جعفر محمد بن علي بن موسى(عليه السلام) وسألته عن بعض الخدم ، وكانت له منزلة من أبي جعفر(عليه السلام) فسألته أن يوصلني إليه فلما صرنا إلى المدينة ، قال لي: تهيأ فإني أريد أن أمضي إلى أبي جعفر(عليه السلام) ، فمضيت معه ، فلما أن وافينا الباب ، قال لي: كن في حانوت ، فاستأذن ودخل ، فلما أبطأ عليَّ رسوله خرجت إلى الباب فسألت عنه فأخبروني أنه قد خرج ومضى ، فبقيت متحيراً فإذا أنا كذلك، إذ خرج خادم من الدار ، فقال: أنت خيران؟ فقلت: نعم . قال لي: أدخل ، فدخلت وإذا أبو جعفر (عليه السلام) قائم على دكان (مرتفع) لم يكن فُرش له ما يقعد عليه فجاء غلام بمصلى

ص: 206

فألقاه له فجلس، فلما نظرت إليه تهيبته ودهشت ، فذهبت لأصعد الدكان من غير درجة ، فأشار إلى موضع الدرجة فصعدت وسلمت فرد السلام ومد يده إلي فأخذتها وقبلتها ، ووضعتها على وجهي ، فأقعدني بيده فأمسكت يده مما داخلني من الدهش فتركها في يدي صلوات اللّه عليه ، فلما سكنت خليتها فساءلني.

وكان الريان بن شبيب قال لي: إن وصلت إلى أبي جعفر(عليه السلام) قل له:مولاك الريان بن شبيب يقرؤك السلام ويسألك الدعاء له ولولَده ، فذكرت له ذلك فدعا له ولم يدع لولده ، فأعدت عليه فدعا له ولم يدع لولده ، فأعدت عليه ثلاثاً فدعا له ولم يدع لولده ! فودعته وقمت ، فلما مضيت نحو الباب سمعت كلامه ولم أفهم ما قال ، وخرج الخادم في أثري فقلت له: ما قال سيدي لما قمت؟ فقال لي قال: من هذا الذي يرى أن يهدي لنفسه . هذا ولد في بلاد الشرك فلما أخرج منها صار إلى من هو شر منهم ، فلما أراد اللّه أن يهديه هداه...

عن إبراهيم بن مهزيار قال: كتب له خيران الخادم: قد وجهت إليك ثمانية دراهم ، كانت أهديت إلي من طرسوس دراهم منهم، وكرهت أن أردها على صاحبها أو أحدث فيها حدثاً دون أمرك فهل تأمرني في قبول مثلها أم لا لأعرفها إن شاء اللّه وأنتهي إلى أمرك . فكتب وقرأته: إقبل منهم إذا أهدي إليك دراهم أو غيرها فإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يرد هدية على يهودي ولا نصراني .

حمدويه وإبراهيم ، قالا: حدثنا محمد بن عيسى قال: حدثني خيران الخادم قال: وجهت إلى سيدي ثمانية دراهم وذكر مثله سواء . وقال: قلت جعلت فداك إنه

ص: 207

ربما أتاني الرجل لك قبله الحق أو يعرف موضع الحق لك ، فيسألني عما يعمل به فيكون مذهبي أخذ ما يتبرع في سر؟ قال(عليه السلام) : إعمل في ذلك برأيك ، فإن رأيك رأيي ، ومن أطاعك فقد أطاعني . قال أبو عمرو: هذا يدل على أنه كان وكيله . ولخيران هذا: مسائل يرويها عنه وعن أبي الحسن(عليه السلام) .

أقول: بعدما ثبتت وثاقة الرجل فلابد من تصديقه فيما أخبر به ، وفيه دلالة على جلالته وعظم منزلته عند الإمام(عليه السلام) ).

وترجم له السيد الأمين في أعيان الشيعة (6/362) وفيه: (خيران مولى الرضا(عليه السلام) ويقال خيران الخادم القراطيسي. وقال الشيخ في رجاله: خيران الخادم ، من أصحاب أبي الحسن الثالث(عليه السلام) ثقة ).

أقول: يدل الحديث على أن خيران الخادم زار الإمام الجواد بعد وفاة الإمام الرضا(عليهما السلام) ، وأن الريان بن شبيب خال المعتصم ، أوصاه أن يطلب له ولابنه الدعاء ، فدعا له الإمام (عليه السلام) ولم يدع لابنه ، لأنه كان يزعم أنه سيهدي نفسه ولا يحتاج من يهديه !

ولم تذكر الرواية أين عاش خيران بعد ذلك ، حتى ذكرت أنه كان حاجب الإمام الجواد(عليه السلام) في بغداد عندما سقي السم .

6. توجد عدة قرائن تدل على أن أحمد بن محمد بن عيسى في الرواية ليس هو الأشعري القمي المعروف ، بل هو قاض في بغداد من أصحاب يحيى بن أكثم ، ويظهر أنه كان مأموراً من المعتصم ، فيأتي كل يوم ليعرف حال الإمام(عليه السلام) حتى يكتب تقريره بأنه مات حتف أنفه وليس بالسُّم .

ص: 208

منها: أن عامة مصادرهم ترجمت له ، كالخطيب في تاريخ بغداد (5/265) قال: (أحمد بن محمد بن عيسى بن الأزهر أبو العباس البرتي القاضي... وكان من أصحاب يحيى بن أكثم، وكان قبل ذلك تقلد واسطاً وقطعة من أعمال السواد ).

وفي الأنساب للسمعاني (1/308): (البِرْتي.. هذه النسبة إلى بِرت وهي مدينة بنواحي بغداد ، والمشهور بهذه النسبة القاضي أبو العباس أحمد بن محمد بن عيسى ، البرتي ) .

ودوره في الرواية يتناسب مع هذا القاضي ، ولا يتناسب مع شخصية أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري الذي قال عنه الشيخ الطوسي في الفهرس/68: (شيخ قم ووجهها وفقيهها غير مدافع ، وكان أيضاً الرئيس الذي يلقي السلطان بها ، ولقي أبا الحسن الرضا(عليه السلام) ، وصنف كتباً، منها كتاب التوحيد..كتاب النوادر).

فلو كان يومها في بغداد لكان له حضور أقوى مما ذكرت الرواية .

ومنها:أن الخلفاء كانوا يرسلون قاضياً أو أكثر ليتفقد ضحيتهم المسموم، وينظم محضراً قضائياً بأنه مات حنف أنفه ، وأن بدنه سالم ليس فيه آثار قتل أو تعذيب !وقد ورد ذلك في سمهم للإمام الكاظم والإمام الهادي والعسكري(عليهم السلام) ، فهذا الذي كان يأتي كل ليلة ليعرف خبر علة الإمام الجواد(عليه السلام) ، من هؤلاء !

روى في عيون أخبار الرضا(عليه السلام) (1/97) في شهادة الإمام الكاظم(عليه السلام) : (لما توفى أبو إبراهيم موسى بن جعفر جمع هارون الرشيد شيوخ الطالبية وبني العباس وساير أهل المملكة والحكام ، وأحضر أبا إبراهيم موسى بن جعفر فقال: هذا موسى

ص: 209

بن جعفر قد مات حتف أنفه . وما كان بيني وبينه ما استغفر اللّه منه في أمره يعني في قتله ، فانظروا إليه . فدخلوا عليه سبعون رجلاً من شيعته ، فنظروا إلى موسى بن جعفر(عليه السلام) ، وليس به أثر جراحه ، ولا خنق ).

وروى في الكافي (1/505) في شهادة الإمام الهادي(عليه السلام) : (فلما وضعت الجنازة للصلاة عليه دنا أبو عيسى منه فكشف عن وجهه ، فعرضه على بني هاشم من العلوية والعباسية والقواد والكتاب والقضاة والمعدلين وقال: هذا الحسن بن علي بن محمد بن الرضا مات حتف أنفه على فراشه . حضره من حضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان . ومن القضاة فلان وفلان . ومن المتطببين فلان وفلان ، ثم غطى وجهه وأمر بحمله ).

ومنها: أن خيران عليه حكم بأنه تجسس ليستمع رسالة الإمام(عليه السلام) الخاصة له: (وقام أحمد عن المجلس وخلا أبي بالرسول ، واستدار أحمد فوقف حيث يسمع الكلام ..ثم مضى الرسول ورجع أحمد إلى موضعه وقال لأبي: ما الذي قد قال لك؟ قال: خيراً . قال: قد سمعت ما قال فَلِمَ تكتمه؟ وأعاد ما سمع فقال له أبي: قد حرم اللّه عليك ما فعلت ، لأن اللّه تعالى يقول: وَلَا تَجَسَّسُوا ، فاحفظ الشهادة لعلنا نحتاج إليها يوماً ما ، وإياك أن تظهرها إلى وقتها ) .

فيظهر أنه كان في مدخل الدار غرفة واحدة يجلس فيها خيران ، وكان يأتيه القاضي ليسأل عن حال الإمام(عليه السلام) فيجلس فترة ، فإذا جاء رسولٌ من داخل البيت ليبلغ خيران أمراً ، يخرج القاضي أو يتنحى ليتحدثا بينهما .

ص: 210

لكن القاضي في تلك الليلة تنحى كأنه خارج، ثم استدار ووقف بحث يسمع كلامهما ! فاتهمه خيران بأنه احتال وتجسس وارتكب حراماً . وهذا يناسب شخصية قاض مأمور من المعتصم ولا يناسب شخصية أحمد بن عيسى الأشعري رضي اللّه عنه.

ومنها: أن أحمد بن محمد بن عيسى لو كان يومها في بغداد ، لكان له حضور قوي في اجتماع الشيعة في دار محمد بن الفرج ، وكان أحد أركان الإجتماع ، لأنه لا يقل وزناً عن ابن فرج ، فكيف لم يذكروه بين المدعويين ، ولا بين الحضور ، إلا عندما طلب منه خيران الشهادة فأبى ، فهدده بالمباهلة ، فأقر !

فهذا يتناسب مع حاضر فضولي ، أو جاسوس للدولة مفروض على الحضور !

وأخيراً، فإن مجرد الشك في أن المقصود بأحمد بن عيسى في الرواية الأشعري ، كافٍ لتبرئته، حيث يحتمل أن يكون الراوي أضاف كلمة الأشعري لأنه تصور أنه المقصود .

(7) كانت شهادة الإمام الجواد(عليه السلام) في آخر ذي القعدة سنة220

تقدم في الفصل الأول ما رواه في الكافي (1/492): (ولد(عليه السلام) في شهر رمضان من سنة خمس وتسعين ومائة ، وقبض سنة عشرين ومائتين ، في آخر ذي القعدة ، وهو ابن خمس وعشرين سنة وشهرين وثمانية عشر يوماً ، ودفن ببغداد في مقابر قريش عند قبر جده موسى(عليهما السلام) ). ونحوه في التهذيب:6/90، والمقنعة للمفيد/483، والإرشاد:2/289، والوافي:2/365. وعامة المصادر.

وقد تعارف الشيعة على إحياء ذكرى شهادته(عليه السلام) في التاسع والعشرين من ذي القعدة لاحتمال أن يكون الشهر ناقصاً .

ص: 211

(8)الإمام علي الهادي يصلي على أبيه(عليهما السلام)

عندما توفي الإمام الجواد(عليه السلام) في بغداد ، كان الإمام الهادي(عليه السلام) صبياً في المدينة فأخبر الناس بوفاة أبيه ، وأمر عائلته بإقامة المأتم ، وذهب بنحو الإعجاز الى بغداد فقام بتجهيز جنازة أبيه والصلاة عليه ، ورجع الى المدينة في ذلك اليوم !

روى في الكافي (1/381):(عن هارون بن الفضل قال: رأيت أبا الحسن علي بن محمد في اليوم الذي توفي فيه أبو جعفر(عليهما السلام) فقال:إنا للّه وإنا إليه راجعون ، مضى أبو جعفر. فقيل له: وكيف عرفت؟ قال: لأنه تداخلني ذلة للّه ، لم أكن أعرفها).

وفي إثبات الإمامة/221 عن رضيع أبي جعفر(عليه السلام) قال: (بينا أبو الحسن(عليه السلام) جالس مع مؤدِّب له يكنى أبا زكريا ، وأبو جعفر عندنا إنه ببغداد وأبو الحسن يقرأ من اللوح إلى مؤدبه ، إذ بكى بكاء شديداً فسأله المؤدب: ممَّ بكاؤك ؟ فلم يجبه. فقال: إئذن لي بالدخول فأذن له ، فارتفع الصِّياح والبكاء من منزله ، ثم خرج إلينا فسألنا عن البكاء ، فقال: إن أبي قد توفي الساعة ! فقلنا: بما علمت ؟ قال: دخلني من إجلال اللّه ما لم أكن أعرفه قبل ذلك ، فعلمت أنه قد مضى فتعرفنا ذلك الوقت من اليوم والشهر ، فإذا هو قد مضى في ذلك الوقت ).

ص: 212

(9) قَتل المعتصم الإمام وسَجَن ابنه الهادي(عليهما السلام)

عندما رجع المأمون من خراسان الى بغداد سنة 204، دعا الإمام الجواد(عليه السلام) من المدينة فأكرمه ، وقدمه الى العباسيين على أنه أحد أهل بيت خصهم اللّه بالعلم من صغرهم ، فلا يحتاجون الى أساتذة ! وأثبت لهم ذلك ، وعقد زواجه على ابنته .

وعندما قَتَل المعتصم الإمام الجواد(عليه السلام) بالسم ، كان يعرف شخصيته الفريدة ومقامه عند اللّه تعالى ، وكان يعرف أن ابنه علياً الهادي(عليه السلام) مثل أبيه ، لكنه استنكف عن الإعتراف بذلك، وقرر أن يعامل الإمام الهادي(عليه السلام) على أنه صبي صغير السن ! فعين له من يعلمه العربية والأدب ، ويحبسه في بيتهم في المدينة ، ويمنعه من الإتصال بالشيعة .

وقد روى المؤرخون أن المعتصم أمر وزيره عمر الرخجي وكان والياً على مكة والمدينة ، أن يوكل بالهادي(عليه السلام) شخصاً بإسم معلم ، فيكون تحت رقابته التامة ، ويعزله عن الناس ! فاختار الرخجي الجنيدي ونصبه لهذه المهمة ، وأمر حاكم المدينة أن ينفذ أوامره ! فكانت النتيجة إيمان الجنيدي بإمامة الهادي(عليه السلام)!

روى المسعودي في دلائل الإمامة/230، عن محمد بن سعيد ، قال: ( قدم عمر بن الفرج الرخجي المدينة حاجاً بعد مضي أبي جعفر الجواد(عليه السلام) فأحضر جماعة من أهل المدينة والمخالفين المعادين لأهل بيت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال لهم: أُبْغُوا لي رجلاً من أهل الأدب والقرآن والعلم، لا يوالي أهل هذا البيت! لأضمه إلى هذا الغلام وأُوكله بتعليمه، وأتقدم إليه بأن يمنع منه الرافضة الذين يقصدونه . فأسموا له رجلاً من أهل الأدب يكنَّى أبا عبد اللّه ويعرف بالجنيدي ، وكان متقدماً عند أهل المدينة في الأدب والفهم ، ظاهر الغضب والعداوة (لأهل البيت) !

ص: 213

فأحضره عمر بن الفرج ، وأسنى له الجاري من مال السلطان ، وتقدم إليه بما أراد ، وعرفه أن السلطان (المعتصم) أمره باختيار مثله ، وتوكيله بهذا الغلام .

قال: فكان الجنيدي يلزم أبا الحسن(عليه السلام) في القصر بِصِرْيَا (أي في البيت في مزرعة صريا بضاحية المدينة) فإذا كان الليل أغلق الباب وأقفله ، وأخذ المفاتيح إليه ! فمكث على هذا مدة ، وانقطعت الشيعة عنه ، وعن الإستماع منه ، والقراءة عليه .

ثم إني لقيته في يوم جمعة فسلمت عليه وقلت له: ما حال هذا الغلام الهاشمي الذي تؤدبه؟ فقال منكراً عليَّ: تقول الغلام ، ولا تقول الشيخ الهاشمي !

أُنشدك اللّه هل تعلم بالمدينة أعلم مني؟ قلت: لا. قال:فإني واللّه أذكر له الحزب من الأدب ، أظن أني قد بالغت فيه ، فيملي عليَّ بما فيه أستفيده منه ، ويظن الناس أني أُعلمه وأنا واللّه أتعلم منه ! قال: فتجاوزت عن كلامه هذا كأني ما سمعته منه ، ثم لقيته بعد ذلك فسلمت عليه وسألته عن خبره وحاله، ثم قلت: ما حال الفتى الهاشمي؟ فقال لي: دع هذا القول عنك ، هذا واللّه خير أهل الأرض ، وأفضل من خلق اللّه تعالى، وإنه لربما همَّ بالدخول فأقول له: تنظر حتى تقرأ عشرك فيقول لي: أي السور تحب أن أقرأها؟ وأنا أذكر له من السور الطوال ما لم يبلغ إليه ، فيهذُّهَا بقراءة لم أسمع أصح منها من أحد قط ، بأطيب من مزامير داود النبي(عليه السلام) التي بها من قراءته يضرب المثل . قال ثم قال: هذا مات أبوه بالعراق وهو صغير بالمدينة ، ونشأ بين هذه الجواري السود ، فمن أين علم هذا ؟ قال: ثم ما مرت به الأيام والليالي حتى لقيته فوجدته قد قال بإمامته وعرف الحق وقال به) !

**

ص: 214

الفصل السادس: الخليفة الذي -طبخ نفسه في التنور !

الواثق بن المعتصم: كان أمره فُرُطاً !1. هو هارون بن المعتصم ، وكان مفرطاً في الخمر والنساء وسفك الدماء ! لكنه أقل أذىً لأئمة العترة(عليهم السلام) ، ولعل السبب أنه كان مشغولاً بلهوه وخمره .

قال الطبري (7/338) يصف الواثق: (كان أبيض مشرباً حمرة جميلاً، رِبْعَةً حسن الجسم ، قائم العين اليسرى وفيها نُكَتُ بياض . وتوفى فيما زعم بعضهم وهو ابن ست وثلاثين سنة ، وفي قول بعضهم وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة.. وأمه أم ولد رومية يقال لها قراطيس ، واسمه هارون ، وكنيته أبو جعفر ).

وقال اليعقوبي في تاريخه (2/483): (وكان الغالب على الواثق أحمد بن أبي دؤاد ، ومحمد بن عبد الملك ، وعمر بن فرج الرخجي . وكان على شرطه إسحاق بن إبراهيم ، وعلى حرسه إسحاق بن يحيى بن سليمان بن يحيى بن معاذ ).

وقال المسعودي في التنبيه والإشراف/312: (بويع الواثق..في الوقت الذي توفي فيه المعتصم ، وهو يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة 227 ، وتوفي بسر من رأى يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة232،

ص: 215

وهو ابن اثنتين وأربعين سنة ، وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر... يذهب في كثير من أموره مذاهب المأمون ).

2.كان ولي عهد أبيه المعتصم عندما سَمَّ الإمام الجواد(عليه السلام) ، فصلى على جنازته ! قال أبو الفداء في تاريخه (2/33): (وفي هذه السنة (220) توفي محمد الجواد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب . وهو أحد الأئمة الاثني عشر عند الإمامية ، وصلى عليه الواثق . وكان عمره خمساً وعشرين سنة ، ودفن ببغداد عند جده موسى بن جعفر .

ومحمد الجواد المذكور هو تاسع الأئمة الإثني عشر ، وقد تقدم ذكر أبيه علي الرضا في سنة ثلاث ومائتين ، وسنذكر الباقين إن شاء اللّه تعالى).

وقال الحافظ في تاريخ بغداد (3/267): (عن محمد بن سنان قال: مضى أبو جعفرمحمد بن علي وهو ابن خمس وعشرين سنة وثلاثة أشهر واثني عشر يوماً ، وكان مولده سنة مائة وخمس وتسعين من الهجرة ، وقبض في يوم الثلاثاء لِسِتِّ ليالٍ خلون من ذي الحجة سنة مائتين وعشرين...حدثنا محمد بن سعد قال: سنة عشرين ومائتين، فيها توفى محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي ببغداد ، وكان قدمها على أبي إسحاق من المدينة فتوفي فيها يوم الثلاثاء لخمس ليال خلون من ذي الحجة ، وركب هارون بن أبي إسحاق فصلى عليه عند منزله في رحبة أسوار بن ميمون، ناحية قنطرة البردان ، ثم حمل ودفن في مقابر قريش).

ص: 216

وقال ابن خلكان في وفيات الأعيان (4/175): (محمد الجواد ، أبو جعفر ، محمد بن علي الرضا، بن موسى الكاظم، بن جعفر الصادق، بن محمد الباقر المذكور قبله. المعروف بالجواد ، أحد الأئمة الاثني عشر أيضاً ، قدم إلى بغداد وافداً على المعتصم ، ومعه امرأته أم الفضل ابنة المأمون ، فتوفي بها ، وحملت امرأته إلى قصر عمها المعتصم ، فجعلت مع الحرم .

وكان يروي مسنداً عن آبائه إلى علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه قال: بعثني رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى اليمن فقال لي وهو يوصيني: يا علي ، ما خاب من استخار ولا ندم من استشار . يا علي ، عليك بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار . يا علي ، أغد باسم اللّه ، فإن اللّه بارك لأمتي في بكورها .

وكان يقول: من استفاد أخاً في اللّه ، فقد استفاد بيتاً في الجنة .

وقال جعفر بن محمد بن مزيد: كنت ببغداد ، فقال لي محمد بن منده بن مهريزد: هل لك أن أدخلك على محمد بن علي الرضا ؟ فقلت: نعم . قال فأدخلني عليه فسلمنا وجلسنا ، فقال له: حديث رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن فاطمة رضي اللّه عنها أحصنت فرجها فحرم اللّه ذريتها على النار؟ قال:ذلك خاص بالحسن والحسين رضي اللّه عنهما . وله حكايات وأخبار كثيرة . وكانت ولادته يوم الثلاثاء خامس شهر رمضان ، وقيل منتصفه سنة خمس وتسعين ومائة ، وتوفي يوم الثلاثاء لخمس خلون من ذي الحجة سنة عشرين ومائتين ، وقيل تسع عشرة ومائتين

ص: 217

ببغداد ، ودفن عند جده موسى بن جعفر رضي اللّه عنهم أجمعين ، في مقابر قريش ، وصلى عليه الواثق بن المعتصم ).وقال اليافعي في مرآة الجنان (2/60):

(وفيها توفي الشريف أبو جعفر محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر ، أحد الاثني عشر إماماً ، الذين يدعي الرافضة فيهم العصمة ، وعمره خمس وعشرون سنة ، وكان المأمون قد نوه بذكره وزوجه بابنته ، وسكن بها المدينة ، وكان المأمون ينفذ إليه في السنة ألف ألف درهم. قلت:وقد تقدم أن المأمون زوج ابنته من أبيه علي الرضا ، وكان زواج الأب والإبن بنتيه ، كل واحد بنتاً. وقدم الجواد إلى بغداد وافداً على المعتصم ومعه امرأته أم الفضل ابنة المأمون ، فتوفي فيها، وحملت امرأته أم الفضل إلى قصر عمها المعتصم فجعلت مع الحرم ، وكان الجواد يروي مسنداً عن آبائه إلى علي بن أبي طالب رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين..ولما توفي دفن عند جده موسى بن جعفر في مقابر قريش،وصلى عليه الواثق بن المعتصم).

وقال ابن الجوزي في المنتظم (11/62): (ولد سنة مائة وخمس وتسعين ، وقدم من المدينة إلى بغداد وافداً على المعتصم ، ومعه امرأته أم الفضل بنت المأمون ، وكان المأمون قد زوجه إياها وأعطاه مالاً عظيماً ، وذلك أن الرشيد كان يجري على علي بن موسى بن جعفر في كل سنة ثلاث مائة ألف درهم ، ولنزله عشرين ألف درهم في كل شهر ، فقال المأمون لمحمد بن علي بن موسى: لأزيدك على مرتبة أبيك وجدك . فأجرى له ذلك ، ووصله بألف ألف درهم . وقدم بغداد فتوفي

ص: 218

بها يوم الثلاثاء لخمس ليال خلون من ذي الحجة في هذه السنة ، وركب هارون بن المعتصم وصلى عليه ، ثم حمل ودفن في مقابر قريش عند جده موسى بن جعفر ، وهو ابن خمس وعشرين سنة وثلاثة أشهر واثني عشريوماً . وحملت امرأته إلى قصر المعتصم فجعلت في جملة الحرم ).

وقال المسعودي في مروج الذهب (3/464): (ودفن ببغداد في الجانب الغربي من مقابر قريش ، مع جده موسى بن جعفر ، وصلى عليه الواثق . وقبض وهو ابن خمس وعشرين سنة ، وقبض أبوه علي بن موسى الرضا ومحمد بن سبع سنين وثمانية أشهر ، وقيل غير ذلك ).

أقول: اتفقت مصادر الطرفين على أن شهادة الإمام الجواد(عليه السلام) في سنة مئتين وعشرين في خلافة المعتصم ، وأنه صلى عليه ولي عهده الواثق .

وقد وقع اشتباه في رواية دلائل الإمامة للطبري/395، فجاء فيها: (وكانت سنو إمامته بقية ملك المأمون ، ثم ملك المعتصم ثماني سنين ، ثم ملك الواثق خمس سنين وثمانية أشهر . واستشهد في ملك الواثق سنة عشرين ومائتين من الهجرة ).

ونحوها رواية في مناقب آل أبي طالب (3/487): (فكان في سني إمامته بقية ملك المأمون ، ثم ملك المعتصم والواثق ، وفي ملك الواثق استشهد .

ثم قال: قال ابن بابويه: سم المعتصم محمد بن علي . وأولاده: علي الإمام ، وموسى ، وحكيمة ، وخديجة ، وأم كلثوم ).

ويظهر أن سبب الخطأ في هذه الرواية ، أن الواثق صلى على جنازة الإمام(عليه السلام) .

ص: 219

قال المجلسي في البحار (50/13): (كون شهادته(عليه السلام) في أيام خلافة الواثق مخالف للتواريخ المشهورة..لعل صلاة الواثق في زمن أبيه(عليه السلام) صار سبباً لهذا الإشتباه).

وقال السيد الأمين في أعيان الشيعة (2/32): (وحكى الحافظ عبد العزيز بن الأخضر الجنابذي ، في معالم العترة النبوية ، عن محمد بن سعيد ، أنه قتل في زمن الواثق باللّه ، ولعله اشتباه حصل من صلاة الواثق عليه ).

3. كان آل أبي طالب رضي اللّه عنه في خلافة الواثق في الإقامة الجبرية في سامراء قال أبو الفرج في مقاتل الطالبيين/394:(لا نعلم أحداً قُتل في أيامه (يقصد من الطالبيين) إلا أن علي بن محمد بن حمزة ، ذكر أن عمرو بن منيع قتل علي بن محمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين ، ولم يذكر السبب في ذلك ، فحكيناه عنه على ما ذكره ، فقتل في الواقعة التي كانت بين محمد بن مكيال ومحمد بن جعفر . هذا بالري . وكان آل أبي طالب مجتمعين بسر من رأى في أيامه ، تدرُّ الأرزاق عليهم ، حتى تفرقوا في أيام المتوكل ).

4. كان الواثق يعرف الإمام الهادي(عليه السلام) حق المعرفة ، وأن علمه من اللّه تعالى . روى الخطيب في تاريخه (12/56): (حدثني محمد بن يحيى المعاذي ، قال: قال يحيى بن أكثم في مجلس الواثق والفقهاء بحضرته:من حلق رأس آدم حين حج؟ فتعايى القوم عن الجواب ، فقالالواثق: أنا أحضركم من ينبئكم بالخبر ، فبعث إلى علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فأحضر ، فقال: يا أبا الحسن من حلق رأس آدم ؟ فقال: سألتك

ص: 220

باللّه يا أمير المؤمنين إلا أعفيتني. قال: أقسمت عليك لتقولن . قال: أما إذا أبيت فإن أبي حدثني عن جدي عن أبيه عن جده قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أمر جبريل أن ينزل بياقوتة من الجنة ، فهبط بها فمسح بها رأس آدم فتناثر الشعر منه فحيث بلغ نورها صار حرماً).

أقول: يحتمل أن يكون الواثق أمر ابن أكثم أن يطرح على العلماء هذا السؤال ، لأنه كان مطروحاً وعجزوا عن جوابه ، فقد روى في تاريخ بغداد (13/167): (سمعت يوسف السمتي يقول: قال مقاتل بن سليمان بمكة: سلوني ما دون العرش ! فقام قيس القياس فقال: من حلق رأس آدم في حجته ؟ فبقي !).

فأراد الواثق أن يظهر لهم علم الإمام الهادي(عليه السلام) وهو غلامٌ ! لأن خلافة الواثق بدأت سنة227 ، وكان عمر الإمام الهادي(عليه السلام) يومها خمس عشرة سنة ، لأنه ولد سنة 212 ! وكان عمره(عليه السلام) عند شهادة أبيه الجواد نحو سبع سنين ، وقد أجمع الشيعة على إمامته ورجعوا إليه ، وفيهم من كبار علماء الأمة وفقهائها ، لأنهم رأوا منه من العلم والمعجزات ، ما يقطع الشك ويوجب اليقين .

ولا عجب أن يعتقد الواثق بإمامة الهادي(عليه السلام) لأنه شاهد عمه المأمون يثبت للعباسيين أن أهل هذا البيت علمهم من اللّه تعالى ، وليس بالتعلم من الناس !

5. قال الواثق إنه مستعد لإعطاء نصف ملكه لإعادة شباب إسحاق المغني ! قال أبو الفرج في الأغاني (5/ 187): (حدثني أحمد بن حمدون قال:سمعت الواثق يقول: ما غنّاني إسحاق قط إلا ظننت أنه قد زيد لي في ملكي .. ولو أن العمر والشباب والنشاط مما يشترى لاشتريتهن له (لإسحاق) بشطر ملكي ) .

ص: 221

وقال في الأغاني(9/203): (لما خرج المعتصم إلى عَمُّوريَّة ، استخلف الواثق بسرَّ من رأى ، فكانت أموره كلَّها كأمور أبيه . فوجه إلى الجلساء والمغنين أن يبكِّروا إليه يوماً حدَّد لهم، ووجه إلى إسحاق فحضر الجميع.فقال لهم الواثق: إني عزمت على الصبوح (شرب الخمر صباحاً) ولست أجلس على سرير حتى أختلط بكم ونكون كالشئ الواحد ، فاجلسوا معي حلقة وليكن كلُّ جليس إلى جانبه مغنٍّ ، فجلسوا كذلك فقالالواثق: أنا أبدأ ؛ فأخذ عوداً فغنى وشربوا ، وغنى مَن بعده ، وغنى مَن بعده ، حتى انتهى إلى إسحاق فأعطي العود فلم يأخذه ، فقال: دعوه . ثم غنوا دوراً آخر، فلما بلغ الغناء إلى إسحاق لم يغنِّ ، وفعل هذا ثلاث مرات، فوثب الواثق فجلس على سريره وأمر الناس فأدخلوا فما قال لأحد منهم أجلس . ثم قال: عليَّ بإسحاق ! فلما رآه قال: يا خوزيّ يا كلب ! أتَنَزَّلُ لك وأغني وترتفع عني ! أترى لو أني قتلتك كان المعتصم يقيدني بك ! إبطحوه ! فبطح فضرب ثلاثين مقرعة ضرباً خفيفاً ، وحلف ألَّا يغني سائر يومه سواه ، فاعتذر ! وتكلَّمت الجماعة فيه ، فأخذ العود ).

وفي الأغاني (9/204): (دعا بنا الواثق مع صلاة الغداة وهو يستاك فقال: خذوا هذا الصوت ، ونحن عشرون غلاماً كلَّنا يغني ويضرب ، ثم ألقى علينا...)

وفي الأغاني (7/146): (كان الواثق يلاعب حسين بن الضحاك بالنَّرد ، وخاقان غلام الواثق واقف على رأسه ، وكان الواثق يتحظَّاه ، فجعل يلعب وينظر إليه ).

ص: 222

وفي الأغاني (5/254): (كنت جالساً بين يدي الواثق وهو ولي عهد ، إذ خرجت وصيفة من القصركأنها خوط بان ، أحسن من رأته عيني قط ، تَقَدَّم عدةَ وصائف بأيديهن المذابُّ (المكشات) والمناديل ونحو ذلك ، فنظرت إليها نظر دهش وهو يرمقني، فلمّا تبيّن إلحاح نظري قال: مالك يا أبا محمد قد انقطع كلامك وبانت الحيرة فيك ! فتلجلجت فقال لي: رمتك واللّه هذه الوصيفة فأصابت قلبك ! فقلت: غير ملوم..فقال إصنع فيها لحناً، فإن جاء كما نريد وأطربنا فالوصيفة لك ، فصنعت فيه لحناً وغنيته إياه ، فاصطبح عليه وشرب بقيّة يومه وليلته حتى سكر ، ولم يقترح عليَّ غيره ، وانصرفت بالجارية ) .

وفي الأغاني (5/194): (قال له: يا سيدي ، هذان غلامان اشتُريا لي من خراسان يغنيان بالفارسية ، فقال: غنِّيا، فضربنا ضرباً فارسياً وغنينا غناء فهليذياً ، فطرب الواثق وقال: أحسنتما ، فهل تغنيان بالعربية؟ قلنا: نعم ، واندفعنا نغني ما أخذناه عن إسحاق ).

أقول: كانت أم المنصور العباسي فارسية وقد عاش مدة في إيران فكان يجيد الفارسية وكذا أكثر الخلفاء العباسيين . والفهليذي: هو الفهلوي ويستعمله الفرس اليوم بالباء وهو منسوب الى ملوكهم البهلويين .

كما كان الواثق يحتفل بعيد النوروز. ففي الأغاني (19/161): (دعانا الواثق في يوم نوروز ، فلما دخلت عليه غنيته في شعر قلته ، وصنعت فيه لحناً وهو:

هيِّ للنيروز جاماً ومداماً وندامى *** يحمدون اللّه والوا ثق هارون الإماما

ص: 223

قال: فطرب واستحسن الغناء وشرب عليه حتى سكر ، وأمر لي بثلاثين ألف درهم ).

وفي الأغاني (9/200): (كان الواثق أعلم الخلفاء بالغناء ، وبلغت صنعته مائة صوت ، وكان أحذق من غنى بضرب العود ).

وفي الأغاني (9/202): (كان الواثق يحبُّ خادماً له ، كان أهدي إليه من مصر فغاضبه يوماً وهجره...كان الواثق يهوى خادماً له فقال فيه...)

وفي الأغاني (5/280): (حدثني إسحاق قال: لما خرجت مع الواثق إلى النجف درنا بالحيرة ومررنا بدياراتها ، فرأيت دير مريم بالحيرة ، فأعجبني موقعه وحسن بنائه فقلت...فقال الواثق: لا نصطبح واللّه غداً إلا فيه ، وأمر بأن يعد فيه ما يصلح من الليل وباكرناه فاصطبحنا فيه على هذا الصوت ).

وفي الأغاني (5/233): عن إسحاق الموصلي المغني ، قال: (ما وصلني أحد من الخلفاء قطُّ بمثل ما وصلني به الواثق. ولقد انحدرت معه إلى النجف فقلت له: يا أمير المؤمنين ، قد قلت في النجف قصيدة ، فقال: هاتها، فأنشدته :

يا راكب العيس لا تعجل بنا وقِفِ *** نُحَيِّ داراً لسعدى ثم ننصرفِ

حتى أتيت على قولي :

لم ينزل الناس في سهلٍ ولا جبلٍ *** أصفى هواء ولا أغذى من النجفِ

حُفَّت ببرٍّ وبحر من جوانبها *** فالبرُّ في طرفٍ والبحر في طرف

وما يزال نسيمٌ من يمانية *** يأتيك منها بِرَيَّا روضةٍ أنِفِ

فقال: صدقت يا إسحاق ، هي كذلك ).

ص: 224

وفي الأغاني (18/403): (اصطبح الواثق في يوم مطير واتصل شربه وشربنا معه حتى سقطنا لجنوبنا صرعى، وهو معنا على حالنا ، فماحرك أحد منا عن مضجعه ، وخدم الخاصة يطوفون علينا ويتفقدوننا ، وبذلك أمرهم وقال: لا تحرّكوا أحداً عن موضعه ، فكان هو أول من أفاق منا ، فقام وأمر بإنباهنا فأنبهنا فقمنا فتوضأنا وأصلحنا من شأننا ، وجئت إليه وهو جالس وفي يده كأس ، وهو يروم شربها والخمار يمنعه ، فقال لي: يا إسحاق ، أنشدني في هذا المعنى شيئاً فأنشدته ..فطرب وقال: أحسن واللّه أشجع وأحسنت يا أبا محمد أعِد بحياتي ، فأعدتها وشرب كأسه ، وأمر لي بألف دينار ) .

6. مات الواثق وهو شاب ، بسبب إفراطه في الطعام والجنس ، وغباء أطبائه ! قال ابن الأثير في الكامل (7/29): ( في هذه السنة توفي الواثق باللّه أبو جعفر هارون بن محمد المعتصم ، في ذي الحجة لست بقين منه ، وكانت علته الإستسقاء ، وعولج بالإقعاد في تَنُّورٍ مُسَخَّن ، فوجد لذلك خفة ، فأمرهم من الغد بالزيادة في إسخانه ففعل ذلك وقعد فيه أكثر من اليوم الأول ، فحمي عليه فأخرج منه في محفة ، وحضر عنده أحمد بن أبي دؤاد ومحمد بن عبد الملك الزيات وعمر بن فرج ، فمات فيها فلم يشعروا بموته حتى ضرب بوجهه المحفة )!

وفي المنتظم لابن الجوزي (11/186): (كان الواثق يحب النساء وكثرة الجماع ، فوجه يوماً إلى ميخائيل الطبيب ، فدعا به فدخل عليه وهو نائم في مشرفة له وعليه قطيفة خز ، فوقف بين يديه ، فقال: يا ميخائيل أبغني دواء للباه ، فقال: يا

ص: 225

أمير المؤمنين ، بدنك فلا تهده بالجماع ، فإن كثرة الجماع تهد البدن ولا سيما إذا تكلف الرجل ذلك ، فاتق اللّه في بدنك وأبق عليك ، فليس لك من بدنك عوض ، فقال له: لا بد منه ، ثم رفع القطيفة عنه ، فإذا بين فخذيه وصيفة قد ضمها إليه ، ذكر من جمالها وهيئتها أمراً عجيباً ، فقال:من يصبر عن مثل هذه؟ قال: فإن كان ولا بد فعليك بلحم السبع ، وأمر أن يؤخذ لك منه رطل فيغلي سبع غليات بخل خمر عتيق ، فإذا جلست على شرابك أمرت أن يضرب لك منه ثلاثة دراهم ، فانتقلت به على شرابك في ثلاث ليال ، فإنك تجد فيه بغيتك ، واتق اللّه في نفسك ولا تسرف فيها ، ولا تجاوز ما أمرتك به . فلهى عنه أياماً ، فبينا هو ذات ليلة جالس قال: علي بلحم السبع الساعة ، فأخرج له سبع من الجب وذبح من ساعته ، وأمر فكبب له منه ، ثم أمر فأغلي له منه بالخل ، ثم قدم له منه ، فأخذ يتنقل منه علىشرابه، وأتت عليه الأيام والليالي فسَقِيَ بطنه (أصيب بمرض الإستسقاء ) فجمع له الأطباء ، فأجمع رأيهم على أنه لا دواء له إلا أن يسجر تنور بحطب الزيتون ، ويسخن حتى يمتلئ جمراً ، فإذا امتلأ كسح ما في جوفه فألقي على ظهره ، وحشي جوفه بالرطبة ، ويقعد فيه ثلاث ساعات من النهار ، فإذا استسقى ماء لم يسق ، فإذا مضت ثلاث ساعات كوامل أخرج وأجلس جلسة مقتضبة على نحو ما أمروا به ، فإذا أصابه الروح وجد لذلك وجعاً شديداً ، وطلب أن يرد إلى التنور ، فترك على تلك الحال ، ولا يرد إلى تلك

ص: 226

التنور ، حتى تمضي ساعات من النهار ، فإنه إذا مضت ساعات من النهار جرى ذلك الماء ، وخرج من مخارج البول .وإن سقي ماء أو ردَّ إلى التنور كان تلفه فيه .

فأمر بتنور فسجر بحطب الزيتون حتى امتلأ جمراً ، وأخرج ما فيه وجعل على ظهره ، ثم حشي بالرطبة وعري وأجلس فيه ، فأقبل يصيح ويستغيث ويقول: أحرقتموني ، إسقوني ماء ، وقد وكل به من يمنعه الماء ، ولا يدعه أن يقوم من موضعه الَّذي أقعد فيه ، ولا يحرك . فسقط بدنه كله وصار فيه مفاجات (فقاعات) مثل أكبر البطيخ وأعظمه، فترك على حالته حتى مضت له ثلاث ساعات من النهار ، ثم أخرج وقد كاد يحترق ، أو يقول القائل في رأي العين قد احترق ، فأجلسه الأطباء ، فلما وجد روح الهواء اشتد به الوجع والألم ، وأقبل يصيح ويخور خوران الثور ، ويقول: ردوني إلى التنور فإني إن لم أرد مت ، فاجتمع نساؤه وخواصه لما رأوا مابه من شدة الألم والوجع وكثرة الصياح ، فرجوا أن يكون فرجه في أن يرد إلى التنور ، فردُّوه إلى التنور ، فلما وجد مس النار سكن صياحه وتقطرت النفاخات التي كانت خرجت ببدنه وخمدت ، وبرد في جوف التنور فأخرج من التنور وقد احترق وصار أسود كالفحم ، فلم تمض ساعة حتى قضى ! توفي الواثق بسامراء يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين ، وكان عمره اثنتين وثلاثين سنة ، وكانت خلافته خمس سنين وسبعة أشهر وخمسة أيام ).

وروى التنوخي في نشوار المحاضرة (2/73 ) عن أبي أحمد الواثقي، قال: (كنت أخدم الواثق وأخدم تخته في علَّته التي مات فيها... فتلف الواثق تلفاً لم تشك

ص: 227

جماعتنا فيه ، فتقدمت فشددت لحييه وغمّضته وسجّيته ووجهته إلى القبلة وجاء الفرّاشون وأخذوا ما تحته في المجلس ليردوهإلى الخزانة ، لأن جميعه مثبت عليهم. وترك وحده في البيت فقال لي ابن أبي دؤاد القاضي: إنا نريد أن نتشاغل بعقد البيعة ، ولا بد أن يكون أحدنا يحفظ الميت إلى أن يدفن ، فأحبُّ أن تكون أنت ذلك الرجل وقد كنت من أخصهم به في حياته .. قلت: دعوني وامضوا . فرددت باب المجلس وجلست في الصحن عند الباب أحفظه ، وكان المجلس في بستان عظيم أجربة ، وهو بين بستانين . فحسست بعد ساعة في البيت ، بحركة عظيمة أفزعتني ، فدخلت أنظر ما هي فإذا بحرذون قد أقبل من جانب البستان وقد جاء حتى استل عيني الواثق ، فأكلهما . فقلت: لا إله إلَّا اللّه ، هذه العين التي فتحها منذ ساعة ، فاندق سيفي هيبة لها صارت طعمة لدابة ضعيفة . قال: وجاؤا فغسلوه بعد ساعة ، فسألني ابن أبي دؤاد عن سبب عينيه فأخبرته . قال: والحرذون ، دابة أكبر من اليربوع قليلاً).

7. ووصف دعبل الخزاعي رضي اللّه عنه شعور المسلمين تجاه الواثق ، فقال !

الحمد للّه لا صبرٌ ولا جلدٌ *** ولا عزاءٌ إذا أهل البلا رقدوا

خليفةٌ مات لم يحزن له أحدٌ *** وآخرٌ قام لم يفرح به أحدُ

(الأغاني:20/312).

**

ص: 228

الفصل السابع: شخصيات لها علاقة بسيرة الإمام(عليه السلام)

(1) والضد يُظهر حسنه الضد

تقرأ عن الإمام الجواد(عليه السلام) فتعيش في عالم القداسة والعقل والإيمان والمعجزة ، وتخشع أمام حكمة اللّه في إعطاء الإمامة لطفل صغير السن ، كما أعطى النبوة لعيسى ويحيى وسليمان ، صلوات اللّه عليهم أجمعين .

وتقرأ في سيرته(عليه السلام) إسم الخليفة وشخصيات قصره الذين كانت لهم أدوار في حياة الإمام(عليه السلام) ، فتجد الواحد منهم في مستوى هابط ، وتجده أحياناً مخنثاً !لذلك نعتذر إذا تحدثنا عن الظلام ، فإنما هو لنعرف قيمة النور،كما قال الشاعران:

ولكنه غيٌّ عرفتُ به الهدى *** ولا شك أن الضِّدَّ يُعرف بالضِّدِّ

عرفت بهذا الشيب فضل شبيبتي *** وما زال فضل الضد يعرف بالضد

ومن أشهر هذه الشخصيات: المأمون ، وقاضي قضاته يحيى بن أكثم ، ووزيره عمر بن الفرج الرخجي . والمعتصم ، وقاضي قضاته أحمد بن أبي دؤاد ، وزوجة الإمام أم الفضل ، وأخوها لأمها جعفر بن المأمون . وزبيدة زوجة هارون . وآخرون .

ص: 229

ومنها: أبرز شخصيات الطرب والشراب في قصور الخلافة ، كالراقصة المغنية عريب المأمونية ، والمغنية شاريَّة ، والمغنية عَذْب ، والمغني عَلُّويَه ، والمغني إبراهيم بن الخليفة المهدي ، وأخته عُلَيَّة بنت المهدي ، والمغني مخارق . وآخرون .

(2) يحيى بن أكثم مدبر الخلافة للمأمون والمعتصم

1. كان المأمون سياسياً ذكياً قوي الشخصية ، فقدكَوَِّنَ جيشاً كبيراً بقيادة أخواله الفرس ، وهزم جيش أخيه الأمين ، ودخل بغداد وقتل أخاه ، وأعلن نفسه خليفة للمسلمين بحد السيف !

وكان المعتصم شخصية قوية أيضاً ، فعندما مات أخوه المأمون في طرسوس كان معه ، فاتفق مع عدد من قادة الجيش أن يبايعوه ويخلعوا ابن أخيه العباس بن المأمون، ففعلوا، ثم أجبر ابن أخيه على خلع نفسه ففعل ، وصار المعتصم خليفة .

لكنك تعجب عندما تقرأ أن المأمون والمعتصم سلما أمور الدولة الى شخص مجهول ، لا تاريخ له ولا سابقة ، هو يحيى بن أكثم المروزي مولى بني تميم ، وأمرا وزراءهما أن لا يصدرا مرسوماً ، وأن لا يعملا عملاً إلا بأمره ! فمن هو يحيى بن أكثم هذا ؟

قال الخطيب في ترجمة ابن أكثم في تاريخ بغداد:14/201، والمزي في تهذيب الكمال: 31/216: (وغلب على المأمون حتى لم يتقدمه أحد عنده من الناس جميعاً، وكان المأمون ممن برع في العلوم ، فعرف من حال يحيى بن أكثم وما هو عليه من العلم والعقل ما أخذ بمجامع قلبه ، حتى قلده قضاء القضاء ، وتدبير أهل مملكته ،

ص: 230

فكانت الوزراء لا تعمل فيتدبير الملك شيئاً ، إلا بعد مطالعة يحيى بن أكثم ، ولا نعلم أحداً غلب على سلطانه في زمانه ، إلا يحيى بن أكثم وابن أبي دؤاد).

وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب (11/161): (وغلب على المأمون حتى لم يتقدمه أحدٌ عنده من الناس جميعاً، فكانت الوزراء لا تعمل في تدبير الملك شيئاً ، إلا بعد مطالعته ).

2. اتفق علماء الجرح والتعديل السنيون على أن يحيى بن أكثم كذابٌ محترف ! فقد ترجم له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل(9/129) فقال: (يحيى بن أكثم التميمي المروزي.. نا عبد الرحمن قال سمعت علي بن الحسين بن الجنيد يقول: كانوا لا يشكُّون أن يحيى بن أكثم كان يسرق حديث الناس ، ويجعله لنفسه) !

وفي تاريخ بغداد (14/204و205): (حدثنا عبد اللّه بن إسحاق الجوهري قال: سمعت أبا عاصم يقول: يحيى بن أكثم كذاب... سمعت يحيى بن معين يقول: يحيى بن أكثم كان يكذب ، جاء مصر وأنا بها مقيم سنتين وأشهراً ، فبعث يحيى بن أكثم فاشترى كتب الوراقين وأصولهم فقال: أجازوها لي ).

ورآه سفيان بن عيينة: (فسأل مَن الحَدَث؟فقالوا: يحيى بن أكثم.فقال سفيان: هذا الغلام يصلح لصحبة هؤلاء . يعني السلطان). (تاريخ بغداد:14/197).

وترجم له النمازي في مستدركات رجال الحديث(8/189) قال: (يحيى بن أكثم: من أفسق قضاة العامة ، ومحبوب المأمون . مناظراته مع الإمام الجواد(عليه السلام) ..).

ص: 231

أقول: ابن أكثم مروزي ، ونسبة التميمي التي وردت في ترجمته بالولاء .

3.كان في أوائل العشرين من عمره ، وكان معتمداً عند المأمون كأنه عالم كبير! وأول ما وصل الينا من اعتماده عليه أنه أشهده على وثيقة ولاية عهد الإمام الرضا(عليه السلام) . ثم أرسله قاضياً الى البصرة .

قال وكيع في أخبار القضاة (2/161و167): (وكان قدومه إياها يوم الأربعاء لخمس خلون من شهر رمضان سنة اثنتين ومائتين).

4. وافتضح أمر يحيى بن أكثم وسلوكه المشين في البصرة ، فاشتكوا الى المأمون فلم يقبل شكواهم ! ثم أصروا عليه ، فعزله وجاء به الى بغداد وقربه، وولى مكانه إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة .

قال المسعودي في مروج الذهب (3/434): (فرُفع إلى المأمون أنه أفسد أولادهم بكثرة لواطه ، فقال المأمون: لو طعنوا عليه في أحكامه قُبِل ذلك منهم !

قالوا: يا أمير المؤمنين قد ظهرت منه الفواحش وارتكاب الكبائر ، واستفاض ذلك عنه ، وهو القائل يا أمير المؤمنين ، في صفة الغلمان وطبقاتهم ومراتبهم وفي أوصافهم قوله المشهور !

فقال المأمون: وما الذي قال؟فدفعت إليه القصة فيها جُمَلٌ مما رميَ به وحكي عنه في هذا المعنى... فأنكر المأمون ذلك في الوقت واستعظمه ، وقال: أيكم سمع هذا منه؟ قالوا: هذا مستفاض من قوله فينا يا أمير المؤمنين !

فأمر بإخراجهم عنه ، وعزل يحيى عنهم ! وفي يحيى يقول ابن أبي نعيم :

ص: 232

يا ليت يحيى لم يلده أكْثَمُه *** ولم تطأ أرض العراق قَدَمُه

ألْوَطُ قاضٍ في العراق نعلمُهْ *** أي دواة لم يلقها قلمه

وأي شِعْبٍ لم يلجه أرقمه

فاتصل يحيى بالمأمون ونادمه ورخَّص له في أمور كثيرة... وكان يحيى إذا ركب مع المأمون في سفر ركب معه بمنطقة وقَبَاء وسيف بمعاليق وساسية (زينة الأمراء) وإذا كان الشتاء ركب في أقْبِيَةِ الخزّ وقلانس السمُّور والسروج المكشوفة .

وبلغ من إذاعته ومجاهرته باللواط ، أن المأمون أمره أن يفرض لنفسه فرضاً يركبون بركوبه ويتصرفون في أموره ، ففرض أربع مائة غلام مُرْداً ، اختارهم حسان الوجوه فافتضح بهم ، وقال في ذلك راشد بن إسحاق ، يذكر ما كان من أمر يحيى في الفرض ( أي موكب الغلمان المرافق له ) وكان يحيى بن أكثم بن عمرو بن أبي رباح ، من أهل خراسان من مدينة مرو).

وقال ابن خلكان في وفيات الأعيان (1/85): (قدم يحيى بن أكثم قاضياً على البصرة من خراسان من قبل المأمون ، في آخر سنة اثنتين ومائتين ، وهو حَدَث سِنُّهُ نيف وعشرون..فلما قدم المأمون بغداد في سنة أربعومائتين قال ليحيى: إختر لي من أصحابك جماعة يجالسونني ويكثرون الدخول إلي ، فاختار منهم عشرين فيهم ابن أبي دواد ).

أقول: شكاه أهل البصرة فقربه المأمون اليه ، واتخذه نديماً ووزيراً ، ومدبراً لدولته ، مع علمه بفسقه وشذوذه ! وكان يدافع عنه ويهيئ له أدوات الفسق والشذوذ !

ص: 233

وهذا يوجب الشك في شذوذ المأمون نفسه ! فالجو الذي نشأ فيه ليس بعيداً عن ذلك لأن أباه أعطاه وهو طفل الى جعفر البرمكي ، فرباه وكان يخاطبه بأبي !

5. ولم تنكسر عين يحيى بافتضاحه فكان يعامل المسلمين بعقدة مركب النقص! ففي تاريخ بغداد (14/198) وغيره من المصادر: (كان يحيى بن أكثم يحسد حسداً شديداً وكان مفتِّناً ، فكان إذا نظر إلى رجل يحفظ الفقه سأله عن الحديث ، فإذا رآه يحفظ الحديث سأله عن النحو ، فإذا رآه يعلم النحو سأله عن الكلام ليقطعه ويخجله ! فدخل إليه رجل من أهل خراسان ذكي حافظ فناظره فرآه متقناً ، فقال له: نظرت في الحديث؟ قال: نعم. قال: فما تحفظ من الأصول؟قال: أحفظ: شريك ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث أن علياً رضي اللّه عنه رجم لوطياً. فأمسك فلم يكلمه بشئ ) !

وفي تاريخ بغداد (6/243) وغيره من المصادر: ( لما عزل إسماعيل بن حماد عن البصرة شيعوه . فقالوا: عففت عن أموالنا وعن دمائنا ، فقال إسماعيل بن حماد: وعن أبنائكم ! يعرض بيحيى بن أكثم في اللواط) .

وغسماعيل بن حماد هو حفيد أبي حنيفة ، وقد عاتب ابن أكثم لما عزله بأنه لم يشكر فضل جده عليه ! ففي ربيع الأبرار (2/76): (سمع إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة ، يحيى بن أكثم يغض من جده ، فقال: ما هذا جزاؤه منك ! قال: حين فعل ماذا ؟ قال: حين أباح النبيذ ، ودرأ الحد عن اللوطي) !

وفي تاريخ بغداد (14/199): (أنشد أبو صخرة الرياشي في يحيى بن أكثم:

ص: 234

أنطقني الدهر بعد إخراس *** لنائبات أطلنَ وسواسي

يا بؤسَ للدهر لا يزالُ كما *** يرفع من ناسٍ يحطُّ من ناس

لا أفلحت أمةٌ وحق لها *** بطول نكس وطول إتعاس

ترضى بيحيى يكون سائسها *** وليس يحيى لها بسوَّاس

قاضٍ يري الحد في الزناء ولا *** يرى على من يلوط من باس

يحكم للأمرد الغرير على *** مثل جرير ومثل عباس

فالحمد للّه كيف قد ذهب ال *** عدلُ وقلَّ الوفاء في الناس

أميرنا يرتشي وحاكمنا *** يلوط والرأس شرُّ مَا راس

لو صلح الدين واستقام لقد *** قام على الناس كل مقياس

لاأحسب الجور ينقضي وعلى ال *** أمة قاض من آل عباس

وفي تاريخ دمشق(64/80): (ولى يحيى بن أكثم إسماعيل بن سماعة القضاء بغربي بغداد ، فولى سوار بن عبد اللّه شرقيها ، وكانا أعورين فكتب محمد بن راشد الكاتب:

رأيت من العجائب قاضيينِ *** هما أحدوثةٌ في الخافقينِ

هما فالُ الزمان بهلك يحيى *** إذا فُتح القضاء بأعورين

فلو جمع العمى يوماً بأفق *** لكانا للزمانة خِلتين

وتحسب منهما من هز رأساً *** لينظر في مواريث ودين

كأنك قد جعلت عليه دِنّاً *** فتحت بِزَاله من فرد عين

ص: 235

وكان يحيى بن أكثم أعور ! ..الأصمعي قال: مازح المأمون يحيى بن أكثم ، فمر غلام أمرد فقال: يا يحيى وأومأ إلى الغلام ، ما تقول في محرم اصطاد ظبياً ! قال: يا أمير المؤمنين إن هذا لايحسن بإمام مثلك مع فقيه مثلي ! قال فمن القائل:

قاض يرى الحد في الزناء ولا *** يرى على من يلوط باسِ

فقال من عليه لعنة اللّه ، فمن الذي يقول:

لا أحسب الجور ينقضي وعلى *** الأمة والٍ من آل عباس

فوجم المأمون فقال: هذا مزاح ، قد تضمن إسماعاً قبيحاً ، وأنشأ يقول:

وكنا نُرجِّي أن نرى العدلَ ظاهراً *** فأعقبَنا بعد الرجاء قُنُوطُ

متى تصلح الدنيا ويصلح أهْلُها *** وقاضي قضاة المسلمين يلوطُ ؟

6. وكان يحيى بن أكثم يجيد التزلف الى المأمون ، ففي ربيع الأبرار (5/63): (وضع على مائدة المأمون يوم عيد أكثر من ثلاث مائة لون ، فكان يذكر منفعة كل لون ومضرته ، وما يختص به . فقال يحيى بن أكثم: يا أمير المؤمنين إن خضنا في الطب فأنت جالينوس في معرفته ، أو في النجوم فأنت هرمس في حسابه ، أو في الفقه فأنت علي بن أبي طالب في علمه ، أو في السخاء فأنت حاتم في كرمه ، أو في صدق الحديث فأنت أبو ذر في لهجته ، أو في الوفاء فأنت السموأل بن عاديافي وفائه.فَسُرَّ بكلامه وقال: يا أبا محمد إن الإنسان إنما فضل غيره بعقله)!

ولا نعرف أي عقل يبقى لحاكم سفرته تضم ثلاث مئة لون ، وفي المسلمين من لايجد القرص لجوعه ، ولا الثوب لعريه ! وأي عقل يبقى لمن يدافع عن مسؤول شاذ !

ص: 236

7. وكان المأمون يستهين بشخصية ابن أكثم ويروضه بإذلاله، ويمتحن مهانته! ففي العقد الفريد لابن عبد ربه (1/476): (قال المأمون ليحيى بن أكْثم القاضي: أخْبِرني مَن الذي يقول:

قاضٍ يَرَى الحدَّ في الزَناء ولا *** يَرى على مَن يلوط مِن باس

قال: يقوله يا أميرَ المُؤمنين الذي يقول :

لا أحْسَب الجَوْر يَنْقَضى وعَلَى ال *** أمة والٍ مِن آل عَباس

قال: ومَن يقوله؟قال: أحمد بن نُعيم. قال: يُنْفَى إلى السند. وإنما مَزَحنا معك).

وفي تهذيب الكمال (31/220): (قال المأمون ذات يوم ليحيى بن أكثم القاضي: أريد منك أن تسمي لي ثقلاء أهل عسكري وحاشيتي. فقال له: يا أمير المؤمنين ، إعفني فإني لست أذكر أحداً منهم ، وهم لي على ما تعلم ، فكيف إن جرى مثل هذا ! قال له: فإن كنت لا تفعل فاضطجع حتى أفتل لك مخراقاً وأضربك به ، وأسمي مع كل ضربة رجلاً ، فإن كان ثقيلاً تأوهتَ ، وإن يكن غير ذلك سكتَّ، فأكون أنا على معرفة منهم ويقين من ثقلائهم ! فاضطجع له يحيى وقال: ما رأيت قاضي قضاة ، وأميراً ووزيراً يُعمل به مثل ذا ! فلف له مخراقاً دبيقياً وضربه به ضربة ، وذكر رجلاً ثقيلاً، فصاح يحيى: أوه أوه ، يا أمير المؤمنين في المخراق آجرة ! فضحك منه حتى كاد يغشى عليه ، وأعفاه من الباقين ) .

ومعنى قوله: في المخراق آجرة ، أن ذلك الشخص ثقيل جداً لا يكفيه التأوه !

ص: 237

وقال في هامشه: المخراق: المنديل يلف ليضرب به ، والقماش الذي عمل منه المخراق كان قماشاً دبيقياً منسوب إلى دبيق بليدة بالبلاد المصرية كانت بين الفرما وتنيس ، اشتهرت بالثياب الدبيقية الرقيقة النسيج . فبسبب رقة القماش كان المخراق قوياً مؤلماً).

8. ومما يدل على صدق شهادة القاضي حفيد أبي حنيفة بأنه كان يشرب الخمر: ما رواه في تاريخ بغداد (2/356 ): (قال محمد بن زياد الأعرابي: بعث إليَّ المأمون فسرت إليه وهو في بستان يمشي مع يحيى بن أكثم ، فرأيتهما موليين فجلست ، فلما أقبلا قمت فسلمت عليه بالخلافة ، فسمعته يقول ليحيى: يا أبا محمد ، ما أحسن أدبه ، رآنا موليين فجلس ، ثم رآنا مقبلين فقام .

ثم رد عليَّ السلام وقال: يا محمد ، أخبرني عن أحسن ما قيل في الشراب... فقلت: يا أمير المؤمنين قوله... فقال:أشعر منه الذي يقول:يعني أبا نواس..).

9. جعل المأمون ابنه العباس ولي عهده ، وكان أخوه المعتصم ومؤيدوه يفكرون بخلعه واستخلاف المعتصم ، وكان ابن أكثم يتجسس للمأمون عليهم .

وهذا يفسر لنا كثرة إرسال المأمون أخاه المعتصم لغزو الروم، ثم إرساله والياً على مصر. وكان ابن أكثم يذهب معه في بعض الغزوات ، لكن للتجسس وليس للقتال ، فالذي يصحب معه أربع مئة غلام أمرد ، لا يقاتل !

في تاريخ بغداد (4/114):(كنت أنا ويحيى ابن أكثم نسير مع المعتصم وهو يريد بلاد الروم قال: فمررنا براهب في صومعته فوقفنا عليه وقلنا: أيها الراهب أترى

ص: 238

هذا الملك يدخل عمورية؟ فقال لا، إنما يدخلها ملك أكثر أصحابه أولاد زنا . قال: فأتينا المعتصم فأخبرناه فقال: أنا واللّه صاحبها،أكثر جندي أولاد زنا )!

وفي أخبار القضاة لوكيع (3/294):(فلما ولى المعتصم مصر قال المأمون ليحيى بن أكثم: أنظر لأخي رجلاً فطناً يسدده إذا سهى ويؤنسه إذا خلى ويجمعه إذا ظهر . قال: لا أعرفه إلا واحداً أنت به ضنين قال: ومن هو؟ قال: ابن أبي دؤاد قال: تفجعني به ! قال: تؤثر أخاك . فأذن له على نفس تنزع إليه .

فأخبرني أبو العيناء قال: سمعت ابن أبي دواد يقول: خرجت مع المعتصم فما سرنا إلا منزلين حتى قال لي المعتصم:رأيت في ليلتي هذه كأني متعمم بالشمس ، وكأن القمر في حجري! فقلت له: أمسك عليك ولا نسمعها منك فإنها مفسرة ! قال: فطُرِدْنا عن الخلافة واللّه يسوقها إلينا )؟!

وفي تاريخ اليعقوبي(2/465): (وشى يحيى بن أكثم بالمعتصم إلى المأمون ، وقال له: إنه بلغني أنه يحاول الخلع ، فوجه إليه يأمره بالقدوم ، وأن يكون مقيماً حتى يوافيه ، فسار على مائتي بغل اشتراها وحذفها، واستخلف على الفسطاط عبدويه بن جبلة ).

ولم تنفع احتياطات المأمون، فقد غلب أخوه المعتصم على ابنه الضعيف وأخذ الخلافة بعده ، وكان أول ما فعله المعتصم أن عزل يحيى بن أكثم ، ونصب بدله صديقه ابن أبي دؤاد ، ونقل الخلافة من أولاد المأمون الى أولاده ، فتولاها ابنه الواثق ، ثم ابنه المتوكل !

ص: 239

قال ابن خلكان في وفيات الأعيان (1/85): (ولما ولي المعتصم الخلافة جعل ابن أبي دواد قاضي القضاة ، وعزل يحيى بن أكثم . وخص به (بنفسه) أحمد ، حتى كان لا يفعل فعلاً باطناً ولا ظاهراً إلا برأيه .

وامتحن ابن أبي دؤاد الإمام أحمد بن حنبل وألزمه بالقول بخلق القرآن الكريم وذلك في شهر رمضان سنة عشرين ومائتين . ولما مات المعتصم وتولى بعده ولده الواثق باللّه ، حسنت حال ابن أبي دؤاد عنده ).

10. وأقصي المعتصم وابنه الواثق بن أكثم عن كل مركز القرار في الخلافة ! وظل ينتظر حتى جاء المتوكل وخالف سياسة أخيه الواثق وأبيه المعتصم وعمه المأمون فتبني النصب وبغض أهل البيت(عليهم السلام) والتجسيم والقول بقدم القرآن ، فسارع اليه ابن أكثم وأعلن قوله بقدم القرآن ! مع أنه كان أداة المأمون في امتحان العلماء بخلق القرآن ، وكان يحرم من لم يقل منهم إنه مخلوق من الوظائف ويرد شهادته .

فقد كان المأمون يرى أن من يقول إن القرآن غير مخلوق ، فهو مجسم ، لأن القرآن عنده جزء من ذات اللّه تعالى ، فكان يسقطه من وظائف الدولة ويعاقبه .

وقد واصل المعتصم سياسة المأمون ، وكان قاضي قضاته ابن ابي دؤاد يمتحن الناس والفقهاء ، ومنهم أحمد بن حنبل ، فحبسه وضربه حتى قال إن القرآن مخلوق .

ثم تلوَّنَ ابن أكثم ، وتقرب الى المتوكل وأفتى بكفر من يقول إن القرآن مخلوق ، فشمل بذلك نفسه والمأمون ومن وافقه !

قال في تاريخ بغداد (14/201): ( سمعت يحيى بن أكثم يقول: القرآن كلام اللّه ، فمن قال مخلوق يستتاب ، فإن تاب وإلا ضربت عنقه).

ص: 240

وفي تاريخ بغداد (1/314): (عزل المتوكل أبا الوليد محمد بن أحمد بن أبي دؤاد.. ووليها يحيى بن أكثم لسبع بقين من شهر رمضان سنة سبع وثلاثين ومائتين ).

وفي مروج الذهب (4/14): (وفي سنة تسع(سبع) وثلاثين ومائتين رضي المتوكل عن أبي محمد يحيى بن أكثم ، فأشخص الى سر من رأى وولي قضاء القضاة ، وسخط على أحمد بن أبي دُواد وولده أبي الوليد محمد بن أحمد وكان على القضاء ، وأخذ من أبي الوليد مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار ، وجوهراً بأربعين ألف دينار ، وأحضر إلى بغداد ).

ونقرأ العجيب هنا وهو أن أحمد بن حنبل شهد بيحيى بن أكثم ، وأشار على المتوكل أن يوليه رغم افتضاحه ! قال محبه ابن كثير في النهاية (10/348): (وكان (المتوكل) لا يولي أحداً إلا بعد مشورة الإمام أحمد ، وكان ولاية يحيى بن أكثم قضاء القضاة موضع ابن أبي دؤاد عن مشورته ) !

لكن لم يطل رضا المتوكل على ابن أكثم ، ففي الكامل لابن الأثير(7/75): ( في هذه السنة(240)عَزل يحيى بن أكثم عن القضاء ، وقبض منه ما مبلغه خمسة وسبعون ألف دينار ، وأربعة آلاف جريب بالبصرة ) !

11. كان ابن أكثم متحمساً ضد أئمة العترة النبوية(عليهم السلام) ، فقد واجه الإمام الرضا(عليه السلام) في طوس ، لكن بطريقة المأمون الناعمة الملمس ، وكان أحد الشهود على وثيقة ولايته للعهد .

ص: 241

ثم واجه ابنه الإمام الجواد(عليه السلام) في بغداد عندما طلب منه العباسيون أن يحرجه . ثم واجهه عندما أمره المأمون عدة مرات . ثم واجه الإمام الهادي(عليه السلام) في سامراء !

ففي مناقب آل أبي طالب: (3/507): (قال المتوكل لابن السكيت: إسأل ابن الرضا مسأله عوصاء بحضرتي ، فسأله فقال: لمَ بعث اللّه موسى بالعصا؟وبعث عيسى بإبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى؟ وبعث محمداً بالقرآن والسيف؟

فقال أبو الحسن(عليه السلام) :بعث اللّه موسى بالعصا واليد البيضاء في زمان الغالب على أهله السحر ، فأتاهم من ذلك ما قهر سحرهم وبهرهم ، وأثبت الحجة عليهم . وبعث عيسى بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن اللّه ، في زمان الغالب على أهله الطب ، فأتاهم من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن اللّه فقهرهم وبهرهم . وبعث محمداً بالقرآن والسيف في زمان الغالب على أهله السيف والشعر ، فأتاهم منالقرآن الزاهر والسيف القاهر ما بهر به شعرهم وقهر سيفهم وأثبت الحجة عليهم .

فقال ابن السكيت: فما الحجة الآن؟ قال: العقل يعرف به الكاذب على اللّه فيكذب . فقال يحيى بن أكثم: ما لابن السكيت ومناظرته ، وإنما هو صاحب نحو وشعر ولغة ! ورفع قرطاساً فيه مسائل .

فأملى علي بن محمد(عليه السلام) على ابن السكيت جوابها وأمره أن يكتب: سألت عن قول اللّه تعالى: قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ، فهو آصف بن برخيا ولم يعجز سليمان عن معرفة ما عرفه آصف ، ولكنه أحب أن يعرف أمته من الجن والإنس

ص: 242

أنه الحجة من بعده، وذلك من علم سليمان أودعه آصف بأمر اللّه، ففهمه ذلك لئلا يختلف في إمامته وولايته من بعده ، ولتأكيد الحجة على الخلق .

وأما سجود يعقوب لولده ، فإن السجود لم يكن ليوسف ، وإنما كان ذلك من يعقوب وولده طاعةً للّه تعالى وتحيةً ليوسف . كما أن السجود من الملائكة لم يكن لآدم . فسجد يعقوب وولده ويوسف معهم شكراً للّه تعالى بإجماع الشمل . ألم تر انه يقول في شكره في ذلك الوقت: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ.. الآية .

وأما قوله:

فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ، فإن المخاطب بذلك رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم يكن في شك مما أنزل اللّه إليه ، ولكن قالت الجهلة: كيف لم يبعث نبياً من الملائكة ؟ ولم لم يفرق بينه وبين الناس في الإستغناء عن المأكل والمشرب والمشي في الأسواق؟

فأوحى اللّه إلى نبيه فاسأل الذين يقرؤن الكتاب بمحضر من الجهلة هل بعث اللّه نبياً قبلك إلا وهو يأكل الطعام والشراب ، ولك بهم أسوة يا محمد، وإنما قال: فان كنت في شك ، ولم يكن للنصفة كما قال: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ، ولو قال: تعالوا نبتهل فنجعل لعنة اللّه عليكم ، لم يكونوا يجيبوا إلى المباهلة . وقد علم اللّه أن نبيه مؤد عنه رسالته وما هو من الكاذبين ، وكذلك عرف النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأنه صادق فيما يقول، ولكن أحب أن ينصف من نفسه..الخ.).

ص: 243

12. كان ابن أكثم يعتقد بقول المأمون إن الإمام الجواد وأئمة أهل البيت(عليهم السلام) لا يقاس بهم أحد ، وأنهم يختلفون عن الناس بأن علمهم من اللّه تعالى بدون تعلم من أحد ، وأن صغارهم كبار . وقد رأى مناظرة المأمون للفقهاء ولبني العباس في أن أمير المؤمنين علياً(عليه السلام) خير الخلق بعد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنه وصيه .

وكذلك الحسن والحسين(عليهما السلام) لأن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بايعهما على الإسلام ونص على إمامتهما وهما صبيان ولم يبايع غيرهما . كما ناظرهم وتحداهم بالإمام الجواد(عليه السلام) .

لذلك كان ابن أكثم يظهر احترام الأئمة(عليهم السلام) وشيعتهم ، ويهرب من مواجهتهم إلا إذا أمره بذلك الخليفة .

ففي مناقب آل أبي طالب (1/216): (سأل حمران بن أعين يحيى بن أكثم عن قول النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث أخذ بيد علي وأقامه للناس فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه: أبأمر من اللّه تعالى ذلك أم برأيه؟ فسكت عنه حتى انصرف ! فقيل له في ذلك فقال: إن قلت برأيه نصبه للناس خالفت قول اللّه تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. وإن قلت بأمر اللّه تعالى ثبتت إمامته . قال: فلم خالفوه واتخذوا ولياً غيره).

وفي الثاقب في المناقب لابن حمزة الطوسي/508: (عن محمد بن أبي العلاء قال: سمعت يحيى بن أكثم قاضي القضاة يقول بعدما جهدت به وناظرته غير مرة وحاورته في ذلك ، ولاطفته وأهديت له طرائف ، وكنت أسأله عن علوم آل محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال: أخبرك بشرط أن تكتم علي ما دمت حياً ، ثم شأنك به إذا مت . فبينا أنا ذات يوم بالمدينة فدخلت المسجد أطوف بقبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فرأيت

ص: 244

محمد بن علي الرضا يطوف بالقبر الشريف ، فناظرته في مسائل عندي فأخرجها إلي، فقلت له: إني واللّه أريد أن أسألك عن مسألة ، وإني واللّه لأستحي من ذلك فقال لي: إني أخبرك بها قبل أن تخبرني وتسألني عنها تريد أن تسألني عن الإمام . فقلت: هو واللّه هذا . فقال: أنا هو. فقلت: علامة ، وكان في يده عصاه فنطقت وقالت:إن مولاي إمام هذا الزمان وهو الحجة عليهم). والكافي:1/353.

وهذا النص اعتراف صريح من ابن أكثم بأن الحجة تمت عليه بإمامة الجواد(عليه السلام) .

13. ومات ابن أكثم سنة242، عن عمر امتد ثلاثاً وثمانين سنة ،كان حافلاً بالفعاليات السياسية في خدمة المأمون وثلاثة خلفاء بعده . مليئ بالفتاوى المخالفة للشرع الإسلامي ، وبأحكامٍ بالقتل والحبس ومصادرة الأموال ، شملت مئات المسلمين أو ألوفهم . كما كان عمره حافلاً بالتمتع بالدنيا ، من حرامها قبل حلالها !

وقد حاول محبوه أن يقولوا إن اللّه تعالى أدخله الجنة ، وغفر له لواطه ، وأكله الحرام وشربه الحرام ، وكذبه في الحديث والفتاوى !

قال في تاريخ دمشق (64/92) ، إن رجلاً (من أهل سامراء قال: لما مات يحيى بن أكثم رئي في المنام فقيل له: إلى أي شئ صرت؟ قال: إلى الجنة . قيل له: الجنة ! قال: نعم إني رأيت رب العزة جل وعز فقال لي: يا يحيى لولا شيبتك لعذبتك ! وكساني حلتين: وردانية ، وحلة خضراء) !

لكن لو غفر له اللّه كل تلك الجرائم والمعاصي ، فكيف يغفر له أن الحجة تمت عليه بإمامة الرضا والجواد والهادي(عليهم السلام) ، فكتمها وأمر بكتمانها ، ثم شارك في قتلهم !

ص: 245

(3) أحمد بن أبي دؤاد: حكم الأمة الإسلامية عشرين سنة؟

1.كان يحيى بن أكثم شاباً خراسانياً مولى لبني تميم ، يجيد العربية ، وقد درس شيئاً من الفقه . رآه المأمون في طوس وأعجبه فأرسله قاضياً على البصرة .

كان في البصرة يومها فقهاء كبار ، فلم يعجبهم علم ابن أكثم ولا سلوكه، فاشتكوا عليه للمأمون كما تقدم ، فلم يسمع شكواهم لأن ابن أكثم صديقه المحبب ! وقال لهم لا أقبل منكم شكوى على لواطه وفسقه ، فإذا اعتدى عليكم في أحكامه فاشتكوا .

فشذوذ ابن أكثم لم يكن مهماً عند المأمون ! وعندما زادت شكواهم عليه أخذه اليه في بغداد ورفع رتبته ،وكلفه أن يختار له ندماء من أصدقائه وشركائه في لهوه !

قال المسعودي: (فلما قدم المأمون بغداد في سنة أربع ومائتين ، قال ليحيى اختر لي من أصحابك جماعة يجالسونني ويكثرون الدخول إلي ، فاختار منهم عشرين فيهم ابن أبي دؤاد . فكثروا على المأمون فقال: اختر منهم، فاختار عشرة فيهم ابن أبي دؤاد . ثم قال: اختر منهم ، فاختار خمسة فيهم ابن أبي دؤاد . واتصل أمره...ولما ولي المعتصم الخلافة جعل ابن أبي دواد قاضي القضاة ، وعزل يحيى بن أكثم وخَصَّ به أحمد ، حتى كان لا يفعل فعلاً باطناً ، ولا ظاهراً ، إلا برأيه ..

ولما مات المعتصم وتولى بعده ولده الواثق باللّه حسنت حال ابن أبي دواد عنده! ولما مات الواثق باللّه وتولى أخوه المتوكل ، فُلِجَ ابن أبي دواد في أول خلافته).

ومعنى ذلك أن ابن أبي دؤاد الذي اختاره ابن أكثم نديماً للمأمون ، حكم الأمة نحو عشرين سنة ، وهي مدة حكم المعتصم وابنه الواثق ، فقد حكم المعتصم ثمان سنين من

ص: 246

سنة 218، الى سنة 227، وحكم ابنه الواثق نحو ست سنين الى سنة 232، ثم حكم المتوكل فكان قاضي قضاته خمس سنين حتى غضب عليه سنة 237.

2. وكان ابن أبي دؤاد يجيد التملق لملوك بني العباس ، فكان يمدح المعتصم بما لا يُصدق ! قال ابن حمدون في تذكرته (2/423): (قال ابن أبي دواد: كان المعتصم يقول لي: يا أبا عبد اللّه عَضَّ ساعدي بأكثر قوتك . فأقول: واللّه يا أمير المؤمنين ما تطيب نفسي بذلك. يقول: إنه لا يضرُّني . فأروم ذلك ، فإذا هو لا تعمل فيه الأسنة ، فكيف الأسنان ) !

3. ادعى أحمد بن أبي دؤاد أنه عربي من قبيلة أياد ، وكذب ذلك النسابون وفضحه الشعراء ، فقال حميد بن سعيد:

لقد أصبحتَ تنسب في إياد *** بأن يُكنى أبوك أبا دُؤاد

فلو كان اسمه عمرو بن معد *** دعيت إلى زبيد أو مراد

لئن أفسدتَ بالتخويف عيشي *** فما أصلحتَ أصلك في إياد

وإن تك قد أصبتَ طريف مال *** فبخلك باليسير من التلاد

(الأغاني:18/359).

وقال الحسن بن وهب:

سألت أبي وكان أبي خبيراً *** بسكَّان الجزيرة والسَّواد

فقلت له أهيثم من غنيٍّ *** فقال كأحمد بن أبي دُؤاد

فإن يك هيثمٌ من جذم قيس *** فأحمد غير شكٍّ من إياد

(الأغاني:23/83).

ص: 247

وتزوج امرأتين من بني عجل ، فهجاه دعبل الخزاعي كما في ديوانه/49و173:

( غَصَبْتَ عِجلاً على فرجين في سنةٍ *** أفسدتهم ثم ما أصلحت من نَسَبِكْ

ولو خطبت إلى طوق وأسرته *** وزوجوك لما زادوك في حسبك

..من هويت ونل ماشئت من نسب *** أنت ابن زرياب منسوباً إلى نشبك

إن كان قوم أراد اللّه خزيهم *** فزوجوك ارتغاباً منك في ذهبك

فذاك يوجب أن النبع تجمعه *** إلى خلافك في العيدان أو غربك

ولو سكت ولم تخب إلى عرب *** لما نبشت الذي تطويه من سببك

عُدَّ البيوت التي ترضى بخطبتها *** تجد فزارةً العكليَّ من عربك).

(أيا للناس من خبرٍ طريفٍ *** يغرِّد ذكره في الخافقين

أعجلٌ أنكحوا ابن أبي دؤادٍ *** ولم يتأملوا فيه اثنتين

أرادوا بعض عاجلةٍ فباعوا *** رخيصاً عاجلاً نقداً بدين

بضاعةُ خاسرٍ بارت عليه *** فباعك بالنواة التمرتين

ولو غلطوا بواحدة لقلنا *** يكون الوهم بين العاقلين

ولكن شَفْعُ واحدةٍ بأخرى *** يدلُّ على فساد المنصبين

لحا اللّه المعاش بفرج أنثى *** ولو زوجتها من ذي رُعين

ولمّا أن أفاد طريف مالٍ *** وأصبح رافلاً في الحلتين

تكنَّى وانتمى لأبي دؤادٍ *** وقد كان اسمه ابن الفاعلين

فرُدُّوهُ إلى فَرَجٍ أبيه *** وزريابٍ فألأمُ والدين).

ص: 248

ولا نقصد الطعن على ابن أبي دؤاد بأنه ليس عربياً ، بل نريد إثبات أنه كان يزور نسبه ليتقرب الى بني العباس بأنه عربي ، وهو كاذب . والصحيح أنه من عامة الناس غير العرب ، وكان أبوه يعمل قياراً ، أي يبيع الزفت أو يصلحه في البناء ، فقد روى التنوخي في نشوار المحاضرة (7/212) ، أن محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم ، قال إن المعتصم قبل أن ينتقل الى سامراء ضحك يوماً من تلقاء نفسه ، فسألناه عن سبب ضحكه فقال إن منجماً قال له: (فهذا الطالع أسد وهو الطالع في الدنيا ، وإنه يوجب لك الخلافة ، وأنت تفتح الآفاق وتزيل الممالك ويعظم جيشك ، وتبني بلاداً عظيمة ، ويكون من شأنك كذا ، ومن أمرك كذا ، وقصَّ عليَّ جميع ما أنا فيه الآن .

قلت: فهذا السعود ، فهل عليَّ من النحوس؟ قال: لا ، ولكنك إذا ملكت فارقت وطنك وكثرت أسفارك . قلت: فهل غير هذا؟ قال: نعم ، ما شئ أنحس عليك من شئ واحد . قلت: ما هو؟قال:يكون المتولَّون عليك في أيام ملكك أصولهم دنية سفلة ، فيغلبون عليك ويكونون أكابر أهلمملكتك... ولكني ما ذكرته إلى الآن ، ولما بلغت الرحبة وقعت عيني على موضعه فذكرته ، وذكرت كلمته وتأمَّلتكما حواليَّ وأنتما أكبر أهل مملكتي، وأنت ابن زيَّات وهذا ابن قَيَّار، وأومأ إلى ابن أبي دؤاد ، فإذا قد صح جميع ما قال !

فأنفذت هذا الخادم في طلبه والبحث عنه ، لأفي له بسالف الوعد ، فعاد إليّ وذكر أنه قد مات قريباً .. وأخذني الضحك ، إذ ترأس في دولتي أولاد السفل . قال: فانكسرنا ، ووددنا أنا ما سألناه ) !

ص: 249

4. لم يكن ابن أبي دؤاد في سلوكه الشخصي أفضل من ابن أكثم ، لكنه لم يشتهر باللواط كما اشتهر ابن أكثم . قال كما روى الحميري في الروض المعطار/346: (كنت أعيب الغناء وأطعن على أهله ، فخرج المعتصم يوماً إلى الشماسية في حراقة يشرب ، ووجه في طلبي فصرت إليه ، فلما قربت منه سمعت غناء حيرني وشغلني عن كل شئ ، فسقط سوطي من يدي ، فالتفت إلى غلامي أطلب منه سوطه فقال لي: قد واللّه سقط مني ، قلت له: فأي شئ كان سبب سقوطه؟ قال: صوت سمعته شغلني عن كل شئ فسقط سوطي من يدي ، فإذا قصته قصتي !

قال: وكنت أنكر أمر الطرب على الغناء وما يستفز به الناس منه ، ويغلب على عقولهم وأناظر المعتصم فيه ، فلما دخلت عليه يومئذ أخبرته بالخبر ، فضحك وقال..فإن كنت تُبْتَ مما كنت تناظرنا عليه في ذم الغناء سألته أن يعيده ، ففعلت وفعل، وبلغ الطرب مني أكثر مما كان يبلغني عن غيري فأنكره ، ورجعت عن رأيي فيه منذ ذلك اليوم ) !

وفي الأغاني (10/332): (وسمعه أحمد بن أبي دؤاد ، فمال للغناء بعد أن كان يتجنبه..قال كنت أتجنَّبُ الغناء وأطعن على أهله وأذمُّ لهجهم به ؛ فوجَّهَ المعتصم إليَّ عند خروجه من مدينة السلام: إلحق بي ؛ فلحقت به بباب الشماسية ومعي غلامي زنقطة ، فوجدته قد ركب الزورق ، وسمعت عنده صوتاً أذهلني حتى سقط سوطي من يدي ولم أشعر به.. فغلبني الضحك حتى بان في وجهي .

ص: 250

ودخلت إلى المعتصم بتلك الحال فلما رآني قال لي: ما يضحكك يا أبا عبد اللّه؟ فحدثته ، فقال: أتتوب الآن من الطعن علينا في السماع ؟ ) .

فاعجب لقاضي قضاة المسلمين يعترف بأنه فقد توازنه من الطرب ، ولعله شرب الخمر ففقد عقله ! وجعل الطرب دليلاً على حلية الغناء ، ورجع عن القول بتحريمه !

كما روى ابن حمدون في تذكرته (2/279) أن قاضي القضاة ابن أبي دؤاد (التقي المتهجد بقيام الليل ) كان عنده في بيته جوارٍ يقدمهن للمنام مع الضيوف المحترمين !

قال ابن حمدون: (بات جماعة من الرؤساء عند أحمد بن أبي دواد ، فلما أخذوا مضاجعهم إذا الخدم قد أخرجوا لكل واحد منهم جارية ) !

5. ما أن مات الواثق حتى نشط ابن أبي دؤاد في عقد البيعة لجعفر بن المعتصم ، ولقَّبه بالمتوكل ، وصار قاضي قضاته ، وأقنعه بقتل الوزير محمد بن الزيات ، لأنه كان ضد توليه الخلافة !

قال في تاريخ بغداد (3/145): (كان بين محمد بن عبد الملك وبين أحمد بن أبي دؤاد ، عداوة شديدة ، فلما ولي المتوكل دارَ ابن أبي داود على محمد ، وأغرى به المتوكل حتى قبض عليه وطالبه بالأموال ).

وقال البغدادي في خزانة الأدب (1/428): (وكان ابن الزيات قد اتخذ تنوراً من حديد ، وأطراف مساميره المحددة إلى داخله ، وهي قائمة مثل رؤوس المسالّ ، وكان يعذب فيه أيام وزارته ، فكيفما انقلب المعذب أو تحرك من حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه ! وإذا قال له أحد: إرحمني أيها الوزير ، فيقول له:

ص: 251

الرحمة خَوَرٌ في الطبيعة ! فلما اعتقله المتوكل أمر بإدخاله في التنور وقيده بخمسة عشر رطلاً من الحديد ، فقال له: يا أمير المؤمنين إرحمني ، فقال له: الرحمة خَوَرٌ في الطبيعة ، كما كان يقول للناس ! وكان ذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وكانت مدة تعذيبه في التنور أربعين يوماً ، إلى أن مات فيه) !

ويظهر من رواية الكافي (1/498) أن المتوكل كان في سجن ابن الزيات ، وأن ابن أبي دؤواد تمكن من إخراجه وعقد البيعة له !

قال خيران الأسباطي: (قدمت على أبي الحسن(عليه السلام) (الإمام الهادي) المدينة فقال لي: ما خبر الواثق عندك ؟ قلت: جعلت فداك خلفته في عافية ، أنا من أقرب الناس عهداً به ، عهدي به منذ عشرة أيام . قال فقال لي: إن أهل المدينة يقولون: إنه مات . فلما أن قال لي: الناس، علمت أنه هو . ثم قال لي: ما فعل جعفر(المتوكل)؟ قلت: تركته أسوأ الناس حالاً فيالسجن . قال فقال: أما إنه صاحب الأمر . ما فعل ابن الزيات ؟ قلت: جعلت فداك الناس معه والأمر أمره . قال فقال: أما إنه شؤم عليه. قال: ثم سكت وقال لي:لابد أن تجري مقادير اللّه تعالى وأحكامه. يا خيران ، مات الواثق ، وقد قعد المتوكل جعفر ، وقد قتل ابن الزيات ، فقلت: متى جعلت فداك ؟ قال: بعد خروجك بستة أيام ).

وفي وفيات الأعيان (5/99):(لما مات الواثق باللّه أخ المتوكل أشار محمد المذكور (الزيات) بتولية ولد الواثق ، وأشار القاضي أحمد ابن أبي دواد المذكور بتولية المتوكل ، وقام في ذلك وقعد حتى عممه بيده ، وألبسه البردة ، وقبله بين عينيه).

ص: 252

6. ثم دارت الدائرة على رأس ابن أبي دؤاد ، فغضب عليه المتوكل وعزله ! روى في تاريخ بغداد (1/314) عن محمد بن يحيى الصولي قال: (كان المتوكل يوجب لأحمد بن أبي دؤاد ويستحي أن ينكبه ، وإن كان يكره مذهبه، لما كان يقوم به من أمره أيام الواثق ، وعقد الأمر له والقيام به من بين الناس .

فلما فُلج أحمد بن أبي دؤاد في جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين ومائتين ، أول ما ولي المتوكل الخلافة ، ولَّى المتوكل ابنه محمد بن أحمد أبا الوليد القضاء ومظالم العسكر مكان أبيه ، ثم عزله عنها يوم الأربعاء لعشر بقين من صفر سنة أربعين ومائتين ووكل بضياعه وضياع أبيه . ثم صولح على ألف ألف دينار، وأشهد على ابن أبي دؤاد وابنه بشراء ضياعهم ، وحَدَّرَهم إلى بغداد ، وولى يحيى بن أكثم ما كان إلى ابن أبي دؤاد . ومات أبو الوليد محمد بن أحمد ببغداد في ذي القعدة سنة أربعين ومائتين . ومات أبوه أحمد بعده بعشرين يوماً ) .

أقول: سبحان مغير الأحوال ، فقد كان ابن أبي دؤاد من أصحاب ابن أكثم المطيعين في البصرة ، فاختاره نديماً للمأمون وأرسله الى بغداد ، فدخل الى قلب المأمون ، لكنه لم يستطع إزاحة سيده ابن أكثم . فوضع خطة للمعتصم ليسرق الخلافة بعد أخيه المأمون من ولي عهده العباس ! فصار هو الحاكم على المعتصم ، فعزل ابن أكثم وجلس بدله . وبقي ابن أكثم مبعداً في خلافة المعتصم وابنه الواثق ، حتى استطاع في خلافة المتوكل أن يزيح ابن أبي دؤاد ويصير بدله قاضي قضاة الخلافة الإسلامية !

لقد عمل هذان القاضيان (التقيان) بنفس قواعد سياسة قصور الخلافة وأخلاقياتها ، في الخبث ، والتجسس ، والتآمر ، والمكائد ، والكذب ، والتزييف ، والخداع ، والتزلف

ص: 253

والنفاق ، والخديعة ، والتلاعب بأحكام اللّه تعالى ، ومفاهيم الدين ، وقتل الخصم بالسم ، وأي طريقة ممكنة ! كل ذلك من أجل البقاء في منصب ، أو الحصول عليه ، أو شفاء غيض ، أو إثبات الذات ، وإرضاء غرورها وكبريائها .

وكانوا ومن معهم يعرفون تأثير أفعالهم على أوضاع البلاد والعباد ، وارتكاب المظالم ، واللعب بمقدرات المسلمين ، واستباحة أموالهم ، وأقواتهم ، وأعراضهم ، ودمائهم !

وكانوا يبررون جرائمهم بأن بديلهم ليس أفضل منهم ! وأن غيرهم مثلهم يريد الدنيا ولا يريد خير المسلمين . بل يقولون إنهم الأقل ظلماً من غيرهم ، فهم أصحاب فضل على المسلمين مهما ظلموا ، لأنهم خلصوهم من خصومهم الأشد ظلماً ! فهم كما قال اللّه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ !

7. كان ابن أبي دؤاد يعتقد بمذهب المأمون في خلق القرآن والبراءة من بني أمية فقد أراد المأمون أن يجتث توأم التجسيم للّه والنصب لبني هاشم من جذوره ، ولم يستشر الإمام الرضا ولا الإمام الجواد(عليهما السلام) في الأسلوب الناجع لذلك ، فكتب منشوراً من ثلاث صفحات بالبراءة من معاوية ، لأنه رمز النصب وبغض بني هاشم . وأصدر مرسوماً بامتحان العلماء والرواة لمعرفة المجسمة منهم القائلين بأن القرآن قديمٌ غير مخلوق ، لأنهم بقولهم إن كلام اللّه تعالى جزء من ذاته يجعلونه عز وجل جسماً مركباً ، بينما القرآن كلامٌ مخلوقٌ مُحْدثٌ كما قال تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ. (الأنبياء:2).

ص: 254

وقد خَوَّفَ المأمونَ وزراؤه من امتحان المسلمين بمعاوية ، لئلا يتحرك ضده محبوه ، فأخر نشر منشور لعن معاوية ، لكنه أخذ يمتحن الناس في خلق القرآن ، فاصطدم بالمجسمة غلاظ الأذهان ، وأنصارهم من العوام .

وقد أصرَّ المأمون على امتحان الرواة والعلماء خاصة القضاة ، بحجة أن القائل بقدم القرآن لا يصح توحيده ولا تقبل شهادته .

ثم واصل سياسته أخوه المعتصم ، ثم ابنه الواثق . وكان ابن أبي دؤاد شريكاً لهم ، بل أداتهم الأولى في ذلك . واستمر امتحان العلماء نحو عشرين سنة .

لكن موجة المجسمة المحبين لبني أمية ، قويت في بغداد وبعض المناطق ، فتبناها المتوكل ، وخالف سياسة الخلفاء السابقين ، وقرَّبَ المجسمة النواصب وسماهم المحدثين ، وجعل مرجعهم أحمد بن حنبل، وكان يستشيره في نصب القضاة وفي الإنفاق على المحدثين وتبني كتبهم ، ومنهم البخاري وصحيحه .

فالسبب الأساسي في عزل ابن أبي دؤاد أن المتوكل غير مذهبه ، فكان ملزماً بعزل العدو اللدود للمجسمة النواصب . وقد سماهم المتوكل أو سموا أنفسهم: أهل الحديث ، وأهل السنة !

قال إمامهم عثمان بن سعيد في نقضه على المريسي(1/534): (أكرهوا الناس عليه بالسيوف والسياط ، فلم تزل الجهمية سنوات يركبون فيها أهل السنة والجماعة بقوة ابن أبي دؤاد المحاد للّه ولرسوله ، حتى استخلف المتوكل رحمة اللّه عليه

ص: 255

فطمس اللّه به آثارهم ، وقمع به أنصارهم ، حتى استقام أكثر الناس على السنة الأولى والمنهاج الأول ) .

وقال ابن تيمية في مجموعة الفتاوى (17/299):(وابن أبي دؤاد لم يكن معتزلياً ، بل كان جهمياً ينفي الصفات ، والمعتزلة تنفي الصفات . فنفاة الصفات الجهمية أعم من المعتزلة ) ! وقال الذهبي في الضعفاء (1/66): (أحمد بن أبي دؤاد القاضي ، جهمي بغيض ، معروف ) !

والجهمي هو المنسوب الى جهم بن صفوان ، وقد نسبوه الى بلخ في أفغانستان (الأنساب:2/133) ونسبوه الى ترمذ: (والجهمي وهو القائل بمذهب جهم بن صفوان الترمذي). (المواقف:1/78وإعانة الطالبين:2/56).

وكان جبرياً ، يقول إن اللّه تعالى أجبر العباد على المعاصي ، ومع ذلك يعاقبهم عليها ! (كان يزعم أن اللّه يعذب من اضطره إلى المعصية ولم يجعل له قدرة عليها ولا على تركها ). (أوائل المقالات للمفيد/61).

وظهر الجهم بن صفوان في وجه المجسمين ، مستنكراً عليهم وصفهم اللّه تعالى بأوصاف المخلوقين ، فأفرط في نفي صفة الجسم عنه حتى قال إن اللّه لايوصف بأنه شئ ! فقتل هو وأستاذه جعد بن درهم ، في أواخر الدولة الأموية .

بينما قال المسلمون إن اللّه تعالى شئ لا كالأشياء .

وسئل الإمام الجواد(عليه السلام) : (يجوز أن يقال للّه إنه شئ ؟ قال: نعم ، يخرجه من الحدين: حد التعطيل ، وحد التشبيه ). (الكافي:1/82).

ص: 256

وقد دأب المجسمة على وصف المسلمين المنزهين للّه تعالى بأنهم جهمية ينكرون صفات اللّه ، لأنهم يرفضون تفسيرهم يد اللّه بأنها حسية ، ومن رفض ذلك فهو عندهم جهمي! (راجع: الوهابية والتوحيد للمؤلف ، والفتاوى الكبرى لابن تيمية:6/337).

8. كان الأمر واضحاً عند المأمون ومؤيديه ، وكان عامة المسلمين ينزهون اللّه. فمن بديهيات الإسلام أن اللّه تعالى كان ولم يكن معه شئ ، وكل ما سواه مخلوق له . والقول إن القرآن غير مخلوق ، يعني أنه اللّه أو جزء منه ، والعياذ باللّه .

قال أبو شعيب الحجام: (قلت لأبي العتاهية: القرآن مخلوق أو غير مخلوق؟ فقال: سألت عن اللّه أو غير اللّه؟ قلت: عن غير اللّه ، فأمسك حتى أعدت عليه هذا مرات يقول لي مثل قوله . فقلت: مالك لا تجيبني! قال: قد أجبتك ، ولكنك حمار) ! (بغية الطلب لابن العديم(4/1761).

وقال الطبري (7/195): (وفي هذه السنة (218) كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم في امتحان القضاة والمحدثين ، وأمر بإشخاص جماعة منهم إليه إلى الرقة وكان ذلك أول كتاب كتب في ذلك ، ونسخة كتابه إليه:

أما بعد ، فإن حق اللّه على أئمة المسلمين وخلفائهم الإجتهاد في إقامة دين اللّه الذي استحفظهم ، ومواريث النبوة التي أورثهم ، وأثر العلم الذي استودعهم، والعمل بالحق في رعيتهم ، والتشمير لطاعة اللّه فيهم ، واللّه يسأل أمير المؤمنين أن يوفقه لعزيمة الرشد وصريمته ، والإقساط فيما ولاه اللّه من رعيته برحمته ومنته . وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو

ص: 257

الرعية وسفلة العامة ، ممن لانظر له ولا روية ولا استدلال له بدلالة اللّه وهدايته والإستضاء بنور العلم وبرهانه ، في جميع الأقطار والآفاق ، أهل جهالة باللّه وعمى عنه ، وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به ، ونكوب عن واضحات أعلامه وواجب سبيله ، وقصور أن يقدروا اللّه حق قدره ويعرفوه كنه معرفته ، ويفرقوا بينه وبين خلقه ، لضعف آرائهم ونقص عقولهم وجفائهم عن التفكر والتذكر . وذلك أنهم ساووا بين اللّهتبارك وتعالى وبين ما أنزل من القرآن فأطبقوا مجتمعين واتفقوا غير متعاجمين ، على أنه قديم أول لم يخلقه اللّه ويحدثه ويخترعه ، وقد قال اللّه عز وجل في محكم كتابه الذي جعله لما في الصدور شفاء وللمؤمنين رحمة وهدى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ، فكل ما جعله اللّه فقد خلقه . وقال: الْحَمْدُ للّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ وقال عز وجل: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ ، فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بعدها وتلا به متقدمها. وقال: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ . وكل محكم مفصل فله مُحْكِمٌ مُفَصِّلٌ ، واللّه محكم كتابه ومفصله فهو خالفه ومبتدعه .

ثم هم الذين جادلوا بالباطل فدعوا إلى قولهم ، ونسبوا أنفسهم إلى السنة وفى كل فصل من كتاب اللّه قصص من تلاوته مبطل قولهم ومكذب دعواهم ، يردُّ عليهم قولهم ونحلتهم .

ص: 258

ثم أظهروا مع ذلك أنهم أهل الحق والدين والجماعة ، وأن من سواهم أهل الباطل والكفر والفرقة ، فاستطالوا بذلك على الناس وغروا به الجهال ، حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب والتخشع لغير اللّه والتقشف لغير الدين ، إلى موافقتهم عليه ، ومواطأتهم على سيئ آرائهم ن تزيناً بذلك عندهم ، وتصنعاً للرئاسة والعدالة فيهم ، فتركوا الحق إلى باطلهم ، واتخذوا دون اللّه وليجة إلى ضلالتهم ، فقُبلت بتزكيتهم لهم شهادتهم ، ونفذت أحكام الكتاب بهم ، على دغل دينهم ونغل أديمهم ، وفساد نياتهم ويقينهم .

وكان ذلك غايتهم التي إليها جروا وإياها طلبوا في متابعتهم ، والكذب على مولاهم ، وقد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على اللّه إلا الحق ودرسوا ما فيه أولئك الذين أصمهم اللّه وأعمى أبصارهم . أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها !

فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة ، ورؤس الضلالة المنقوصون من التوحيد حظاً ، والمخسوسون من الإيمان نصيباً ، وأوعية الجهالة ، وأعلام الكذب ، ولسان إبليس الناطق في أوليائه ، والهائل على أعدائه ، من أهل دين اللّه وحق من يتهم في صدقه ، وتطرح شهادته ، ولا يوثق بقوله ولا عمله ، فإنه لاعمل إلا بعد يقين ، ولا يقين إلا بعد استكمال حقيقة الإسلام وإخلاص التوحيد ، ومن عميَ عن رشده وحظه منالإيمان باللّه وبتوحيده ، كان عما سوى ذلك من عمله والقصد في شهادته أعمى وأضل سبيلاً .

ص: 259

ولعمر أمير المؤمنين إن أحجى الناس بالكذب في قوله ، وتخرص الباطل في شهادته، مَن كَذِبَ على اللّه ووحيه ، ولم يعرف اللّه حقيقة معرفته. وإن أولاهم برد شهادته في حكم اللّه ودينه مَن رد شهادة اللّه على كتابه،وبهت حق اللّه بباطله. فاجمع من بحضرتك من القضاة ، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك فابدأ بامتحانهم فيما يقولون ، وتكشيفهم عما يعتقدون في خلق اللّه القرآن وإحداثه ، وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله ، ولا واثق فيما قلده اللّه واستحفظه من أمور رعيته ، بمن لا يوثق بدينه وخلوص توحيده ويقينه ، فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه ، وكانوا على سبيل الهدى والنجاة ، فمرهم بنص من يحضرهم من الشهود على الناس ، ومسألتهم عن علمهم في القرآن ، وترك إثبات شهادة من لم يُقِرَّ أنه مخلوق محدث ، ولم يره ، والإمتناع من توقيعها عنده . واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم ، والأمر لهم بمثل ذلك . ثم أشرف عليهم وتفقد آثارهم حتى لا تنفذ أحكام اللّه إلا بشهادة أهل البصائر في الدين والإخلاص للتوحيد .

واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك ، إن شاء اللّه .

وكتب في شهر ربيع الأول سنة 218).

وقد امتحن المعتصم أحمد بن حنبل ، فخاف ووافق على خلق القرآن ، وقيل سجنوه أياماً ، وضربوه سياطاً ، فأقر لهم بما يريدون . وقد بالغ المجسمة ومنهم الوهابيون في بطولات أحمد بن حنبل وغيره في الإمتحان .

ص: 260

وقد واصل الواثق سياسة المعتصم والمأمون ، في امتحان العلماء في خلق القرآن .

قال اليعقوبي (2/482): (وامتحن الواثق الناس في خلق القرآن ، فكتب إلى القضاة أن يفعلوا ذلك في سائر البلدان ، وأن لا يجيزوا إلا شهادة من قال بالتوحيد ، فحبس بهذا السبب عالماً كثيراً ).

وقال ابن حجر في فتح الباري (13/103): (دعا المأمون والمعتصم والواثق إلى بدعة القول بخلق القرآن ، وعاقبوا العلماء من أجلها بالقتل والضرب والحبس وأنواع الإهانة ، ولم يقل أحد بوجوب الخروج عليهم بسببذلك ، ودام الأمر بضع عشرة سنة حتى وليَ المتوكل الخلافة ، فأبطل المحنة وأمر بإظهار السنة ) !

(4) زبيدة أم الأمين تهنئ قاتل ابنها !

( أم جعفر: أمة العزيز ، بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور، المعروفة بزبيدة ، زوجة هارون الرشيد ، وأم ولده الأمين ). (تاريخ بغداد:14/434).

فهي بنت عم هارون ، وقد تزوج بها في بغداد سنة 165، وتوفيت في زمن المأمون سنة 216. وجعل هارون ولدها الأمين ولي عهده من أجلها ، وجعل بعده المأمون ، ولما مات هارون وصار الأمين خليفة ، عزل المأمون وجعل ابنه موسى ولي عهده .

وكانت أمه زبيدة أم جعفر سيدة القصر، بل زادت سلطتها في خلافة ابنها .

ونقل المسعودي في مروج الذهب(4/226) عن المؤرخ المعمر العبدي أن القاهر العباسي طلب منه واستحلفه أن يحدثه عن خلفاء بني العباس، خاصة عن زبيدة فقال: (إنها أول من اتخذ الآلة من الذهب والفضة المكللة بالجوهر ، وصنع لها الرفيع من الوَشْيِ ، حتى بلغ الثوب من الوشي الذي اتخذ لها خمسين ألف دينار . وهي

ص: 261

أول من اتخذ الشاكرية من الخدم والجواري ، يختلفون على الدواب في جهاتها ، ويذهبون في حوائجها برسائلها وكتبها . وأول من اتخذ القباب من الفضة والآبنوس والصندل وكلاليبها من الذهب والفضة ملبسة بالوشي والسمور والديباج وأنواع الحرير من الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق . واتخذت الخفاف المرصعة بالجوهر وشمع العنبر،وتشَبَّه الناس في سائر أفعالهم بأم جعفر . ولما أفضى الأمر إلى ولدها يا أمير المؤمنين قدَّم الخدم وآثرهم ورفع منازلهم ، ككوثر وغيره من خدَمِه ، فلما رأت أم جعفر شدة شغفه بالخدم واشتغاله بهم اتخذت الجواري المقدودات الحسان الوجوه ، وعممت رؤوسهن ، وجعلت لهن الطُّرَر والأصداغ والأقفية، وألبستهن الأقبية والقراطق والمناطق ، فماست قدودهن ، وبرزت أردافهن ، وبعثت بهن إليه ، فاختلفن في يديه ، فاستحسنهن واجتذبن قلبه إليهن ، وأبرزهن للناس من الخاصة والعامة ، واتخذ الناس من الخاصة والعامة الجواريَ المطمومات ، وألبسوهن الأقبية والمناطق ، وسموهن الغُلاميات . فلما سمع القاهر ذلك الوصف ذهب به الفرح والطرب والسرور، ونادى بأعلى صوته: يا غلام ، قدَح على وصف الغلاميات ، فبادر اليه جَوارٍكثيرة قدُّهن واحد ، توهمتهن غلماناً بالقراطق والأقبية والطرر والأقفية ومناطق الذهب والفضة ، فأخذ الكأس بيده ، فأقبَلْتُ أتأمل صفاء جوهر الكأس ونورية الشراب وشعاعه وحسن أولئك الجواري ، والحربة بين يديه ، وأسرع في شربه فقال: هيه ). وهذا يدل على ترف الأمين والقاهر ، ويشير الى شذوذهما الجنسي.

ص: 262

وعندما عزل الأمين أخاه المأمون ، كان المأمون في خراسان وأمه خراسانية من هراة ، فناصره الفرس ، ووقعت بينه وبين أخيه حروب ، وحاصر جيشه بغداد عشرين شهراً وقتلوا الأمين سنة 198، وحملوا رأسه الى المأمون في خراسان !

وكانت زبيدة في بغداد وشاهدت ذلك ، لكنها عندما دخل المأمون الى بغداد منتصراً ، سارعت الى تهنئته فقالت: ( الحمد للّه. لئن هنأتك في وجهك لقد هنأت نفسي قبل أن أراك ولئن فقدت ابناً خليفة فقد اعتضت ابناً خليفة. وما خسر من اعتاض مثلك ، ولا ثكلت أم ملأت يدها منك. فأنا أسأل اللّه أجراً على ما أخذ ، وإمتاعاً بما وهب! فقال المأمون: ما تلد النساء مثل هذه ). (ربيع الأبرار:4/248 ).

وبقيت أم جعفر على مكانتها في قصور العباسيين ، وكان المأمون يزورها .

ففي تاريخ دمشق (33/329): (دخل المأمون على أم جعفر بعد قتل محمد ، فرأى على رأسها جارية من أحسن الناس وجهاً وقداً وشمائل ، فأعجب بها المأمون وشغلت قلبه ، فكسر طرفه في طرفها فأجابته من طرفها بمثل ذلك ، فأومأ بفمه يقبلها من بعيد ، فعضت على شفتيها فدميت ! فقال المأمون لأم جعفر يا أمه تأذنين لي في كلام هذه الجارية فقالت: هي أَمَتُك ).

وجعل لها المأمون ميزانية ككبار رجال القصر:(كان المأمون يوجه إلى أم جعفر زبيدة في كل سنة بمائة ألف دينار جدد ، وألف ألف درهم). (الأغاني:20/418).

وسألها المأمون كم أنفقتِ في عرسه على بوران ، فقالت: ( قد أنفقتُ ما بين خمسة وثلاثين ألف ألف إلى سبعة وثلاثين ألف ألف درهم ) ! (الطبري:7/179).

ص: 263

(كان عبد اللّه بن موسى الهادي (ابن أخ هارون) أضرب الناس بالعود وأحسنهم غناء ، وكان له غلام أسود يقال له قلم ، فعلَّمه الصوت وحذَّقَه . فاشترته منه أم جعفر بثلاث مائة ألف درهم ). (الأغاني:10/375).

وفي الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وهو أموي النسب شيعي المذهب (18/498): (هويَ مخارق جارية لأم جعفر.. فأقصته ومنعته من المرور ببابها..فبينا هو ذات ليلة في زلَّال (شبيه القارب) وقد انصرف من دار المأمون ، وأم جعفر تشرب على دجلة ، إذ حاذى دارها فرأى الشمع يزهر فيها ، فلما صار بمسمع منها ومرأى اندفع فغنى: إن تمنعوني ممرّي قرب دارهم فسوف أنظر من بعدٍ إلى الدار...

فقالت أمّ جعفر: مخارق واللّه ، ردُّوه ، فصاحوا بملَّاحه: قَدِّمْ فقدم ، وأمره الخدم بالصعود فصعد ، وأمرت له أم جعفر بكرسي وصينية فيها نبيذ فشرب ، وخلعت عليه ، وأمرت الجواري فغنين ثم ضربن عليه فغنى، فكان أول ما غنى:

أغيب عنك بودٍّ ما يغيُّره *** نأيُ المحلِّ ولا صَرْفٌ من الزمنِ..

فاندفعت بهار فغنَّت كأنها تباينه..ففطنت أمّ جعفر أنها خاطبته في نفسها ، فضحكت وقالت: ما سمعنا بأملح مما صنعتما.. ووهبتها له).

أقول: تقدم أن أم جعفر طلبت من الإمام الجواد(عليه السلام) أن يدخل على زوجته ، وفي بعض النصوص أنها أم جعفر أخت المأمون ، لكن لم نجد لها ذكراً في مصدر تاريخي أبداً ، لذا رجحنا أن تكون أم جعفر هذه هي زبيدة .

ص: 264

(5) عمر بن الفرج الرخجي ممسحة الخلفاء !

1.قال اليعقوبي في تاريخه (2/483): (كان الغالب على الواثق أحمد بن أبي دؤاد ، ومحمد بن عبد الملك ، وعمر بن فرج الرُّخَّجِي ) .

وفي معجم البلدان (3/38): (رُخَّج.. بتشديد ثانيه..كورة ومدينة من نواحي كابل.. وينسب إلى الرُّخَّج فرج وابنه عمر بن فرج ، وكانا من أعيان الكتاب في أيام المأمون إلى أيام المتوكل ، شبيهاً بالوزراء ، وذوي الدواوين الجليلة ).

وبعضهم جعل الرُّخَجِي نسبة الى قرية قرب بغداد ، أو كرمانشاه بإيران ، والصحيح ما ذكره الحموي . وقد ولى عليها المنصور معن بن زائدة الشيباني في القرن الثاني ، فأخذ منها أسرى بدون حق ، وكان منهم فرج أبو عمر .

قال البلاذري في فتوح البلدان (2/493):(ولما استخلف المنصور أمير المؤمنين ولَّى معن بن زائدة الشيباني سجستان ، فقدمها وبعث عماله عليها، وكتب إلى رتبيل يأمره بحمل الإتاوة التي كان الحجاج صالح عليها . فبعث بإبل وقباب تركية ورقيق وزاد في قيمة ذلك للواحد ضعفه . فغضب معن وقصد الرُّخَج ، وعلى مقدمته يزيد ابن مزيد ، فوجد رتبيل قد خرج عنها ومضى إلى ذابلستان ليصيف بها . ففتحها وأصاب سبايا كثيرة ، وكان فيهم فرج الرخجي وهو صبي وأبوه زياد . فكان فرج يحدث أن مَعْناً رأى غباراً ساطعاً أثارته حوافر حمر وحشية ، فظن أن جيشاً قد أقبل نحوه ليحاربه ويتخلص السبي والأسرى من يده . فوضع السيف فيهم فقتل منهم عدة كثيرة . ثم إنه تبين أمر الغبار ورأى الحمير

ص: 265

فأمسك . وقال فرج: لقد رأيت أبي حين أمر معن بوضع السيف فينا وقد حنى عليَّ وهو يقول: أقتلوني ولا تقتلوا إبني . قالوا: وكانت عدة من سبى وأسر زهاء ثلاثين ألفاً . فطلب ماوند خليفة رتبيل الأمان على أن يحمله إلى أمير المؤمنين فآمنه ، وبعث به إلى بغداذ مع خمسة آلاف من مقاتلتهم ، فأكرمه المنصور).

وقال القاضي التنوخي في نشوار المحاضرة (6/322 ): (كان زياد جد عمر الرخجي من سبي معن بن زائدة ، أما فرج والد عمر فكان مولى لحمدونة بنت الرشيد ( الهفوات النادرة/رقم 97/77) وكان فرج دميماً قبيح الصورة . ( المحاسن والأضداد للجاحظ/116 ) .

لكن في تاريخ بغداد (1/111) أن فرجاً الرخجي: ( كان مملوكاً لحمدونة بنت غضيض أم ولد الرشيد... وقصر فرج: منسوب إلى فرج الرخجي. وابنه عمر بن فرج كان يتولى الدواوين ).

واشتهر عمر بن فرج وكان قائداً وزيراً ، وكان ناصبياً معادياً لأهل البيت(عليهم السلام) . كما اشتهر أخوه محمد وكان من خواص أصحاب الأئمة الرضا والجواد والهادي(عليهم السلام) ، وكان والياً للمتوكل على مصر لفترة . (تاريخ اليعقوبي:2/485).

2. أرسل المأمون عمر الرخجي مع قائد آخر لإخضاع حاكم مصر ، ففشلا ! قال اليعقوبي (2/456): (وجه المأمون خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني إلى مصر، ومعه عمر بن فرج الرخجي في جيش ، وأمرهما أن يتكاتفا على النظر، فإذا فتحا البلاد نظر عمر بن فرج الرخجي في أمر الخراج..فأقاما عدة شهور يكاتبان عبيد

ص: 266

اللّه بن السري، ثم زحف إليهخالد..فلما التقيا خذل خالداً أصحابه الذين كان الجروي أنفذهم معه ، فحارب خالد ساعة في مواليه وعشيرته ، وكاثره عبيد اللّه وأسره ، فأقام عنده مكرماً في أحسن حال وأجملها ، ثم حمله في البحر وزوده وأجازه إلى العراق..وأقام عمر بن الفرج بأسفل الأرض ، إلى أن حضروقت الحج ، فبذرقه ابن الجروي إلى مكة ) !

3. نشأ عمر الرخجي في بغداد غلاماً للمنصور العباسي وأولاده . وكانوا لا يرتضون أمانته ، لكنهم ولوه على الأهواز . قال في صبح الأعشى (1/178): (حكي أن عمرو بن مسعدة وزير المعتصم قال: لما خرج المعتصم من بلاد الروم وصار بناحية الرقة ، قال لي: ويلك يا عمرو ! لم تزل تخدعني حتى ولَّيتُ عمر بن الفرج الرخجي الأهواز ، وقد قعد في سُرَّة الدنيا يأكلها خضماً وقضماً ! فقلت:يا أمير المؤمنين فأنا أبعث إليه حتى يؤخذ بالأموال ولو على أجنحة الطَّير. قال: كلَّا بل تخرج إليه بنفسك كما أشرت به ! فقلت لنفسي: إن هذه منزلة خسيسة ، بعد الوزارة أكون مستحثاً لعامل خراج! ولم أجد بداً من الخروج رضاً لأمير المؤمنين ، فقلت: ها أنا خارج إليه بنفسي يا أمير المؤمنين ! قال: فضع يدك على رأسك واحلف أنك لا تقيم ببغداد ، ففعلت وأحدثت عهداً بإخواني ومنزلي ، وأتيَ إلي بزورق ففُرش لي فيه ومضيت..)

3. وكان حاقداً على أهل البيت(عليهم السلام) مع أنه رأى اعتقاد المأمون فيهم وإجلاله! فقد شاهد الرخجي تكريم المأمون للإمام الجواد(عليه السلام) ، ورأى مناظراته وكراماته

ص: 267

ومعجزاته . وبما أن الرخجي غلام لبني هارون الرشيد ، فالمفروض أن يتبعهم في تجليله أو مداراته . وقيل من موالي علي بن يقطين. (الرسائل الرجالية:3/654).

فقد كان المأمون يعتقد أن بيت علي(عليه السلام) خصه اللّه بالعلم والكرامة ، وجعل منه أئمة علماء ربانيين ، لايحتاجون الى معلم ، وأن صغارهم كبار .

وكان يستدل على ذلك بأن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يدعُ صبياً الى الإسلام ودعا علياً ، ولم يبايع صبياً على الإسلام وبايع الحسن والحسين(عليهم السلام) . ويستدل بعلم الإمام الجواد على صغر سنه وكراماته .

لكن يظهر أن عمر الرخجي كان مع الخط المعادي للإمام من العباسيين ، الذين كانوا يصفون معجزاته وكراماته وعلمه بأنها سحر ، وهو نفس منطق المشركين مع النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقد ذكرنا في محاولات المعتصم سُمَّ الإمام(عليه السلام) ، أن عمر الرخجي كان والي مكة والمدينة للمعتصم ، وكان يروي كيف أن الإمام الجواد(عليه السلام) كشف أن طعامه مسموم ، ويقول إنه رأى تلك الكرامة فلم تؤثر فيه لأنها عنده سحر ! وكان يقول لو أخاه محمداً رآها لغالى في الإمام الجواد(عليه السلام) وكفر ، لأنه شيعي متشدد !

قال عمر الرخجي كما في الثاقب/517): ( سمعت من أبي جعفر شيئاً لو رآه محمد أخي لكفر! فقلت: وما هو أصلحك اللّه ؟قال: إني كنت معه يوماً بالمدينة إذ قُرِّب الطعام فقال: أمسكوا . فقلت: فداك أبي ، قد جاءكم الغيب؟فقال: عليَّ

ص: 268

بالخبَّاز ، فجئ به فعاتبه وقال: من أمرك أن تسمني في هذا الطعام ؟ فقال له: جعلت فداك ، فلان ! ثم أمر بالطعام فرفع ، وأتي بغيره) !

ومعنى كلامه أن أخاه محمداً لو رأى المعجزة التي رآها هو من الجواد(عليه السلام) لصار من الغلاة فيه وكفر! أما هو فلا يكفر ويقول إنها سحر ! وهذا ابتكار أموي وهابي ، حيث يفسرون كرامات أهل البيت(عليهم السلام) بأنها سحر ، ويجعلون الإيمان بها كفراً باللّه تعالى !

والمرجح أن عمر الرخجي نفسه كان وراء محاولة سُم الجواد(عليه السلام) في المدينة ، لأن الحادث في المدينة وكان هو الوالي ، ولم يقل إسم الذي ارتكب الجريمة ، ولا أنه عاقبه !

كما روى عمر الرخجي إساءته للإمام الجود(عليه السلام) ذات يوم ، فقال كما في عيون المعجزات/113: (قلت لأبي جعفر: إن شيعتك تدعي أنك تعلم كل ماء في دجلة ووزنه! وكنا على شاطئ دجلة . فقال(عليه السلام) : يقدر اللّه تعالى على أن يفوض علم ذلك إلى بعوضته من خلقه ، أم لا؟ قلت: نعم يقدر . فقال: أنا أكرم على اللّه تعالى من بعوضة ، ومن أكثر خلقه ) .

4. وكانوا يُوكِلُون الى الرخجي المهمات القذرة ، خاصة في اضطهاد العلويين ، قال أبو نصر البخاري في سر السلسلة العلوية/70: (كان القاسم بن عبد اللّه من أهل الفضل والرياسة ، شخصه عمر بن فرج الرخجى منالمدينة إلى العسكر في أيام المعتصم ، فأبى أن يلبس السواد فجهدوا به كل الجهد ، حتى لبس قلنسوة).

وقال ابن حمدون في التذكرة (2/106): (لما أوقع الواثق بأحمد بن الخصيب وسليمان بن وهب ، جعل سليمان في يد عمر بن فرج الرخجي ، ثم وجه إليه

ص: 269

يوماً: طالب سليمان بمائة ألف دينار يؤديها بعد الذي أخذ منه ، فإن أذعن بها وإلا فجرّده واضربه مائة سوط ، ولا تتوقف عن هذا لحظة واحدة ، ففعل عمر ما أمره به ).

5. وصالحه المتوكل العباسي وقربه ، ليكون أداته في اضطهاد آل الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ! قال الطبري(7/343): (وكان الواثق قد غضب على أخيه جعفر المتوكل لبعض الأمور ، فوكل عليه عمر بن فرج الرخجي ومحمد بن العلاء الخادم ، فكانا يحفظانه ويكتبان بأخباره في كل وقت ).

ثم وصف الطبري خشونة الرخجي مع جعفر المتوكل قال: (فأتى عمر بن فرج ليسأله أن يختم له صكه ليقبض أرزاقه ، فلقيه عمر بن فرج بالخيبة وأخذ الصك فرمى به إلى صحن المسجد وكان عمر يجلس في مسجد ، وكان أبو الوزير أحمد بن خالد حاضراً فقام لينصرف ، فقام معه جعفر فقال: يا أبا الوزير أرأيت ما صنع بي عمر بن فرج؟ قال جعلت فداك أنا زمام عليه وليس يختم صكى بأرزاق إلا بالطلب والترفق به ، فابعث إلى بوكيلك فبعث جعفر بوكيله فدفع إليه عشرين ألفاً وقال: أنفق هذا حتى يهيئ اللّه أمرك ).

ثم قال الطبري: (وذكر أن محمد بن عبد الملك كان كتب إلى الواثق حين خرج جعفر من عنده: يا أمير المؤمنين أتاني جعفر بن المعتصم يسألني أن أسأل أمير المؤمنين الرضا عنه ، في زي المخنثين له شعر قفا ! فكتب إليه الواثق: إبعث إليه فأحضره ومرْ من يجز شعر قفاه ، ثم مر من يأخذ من شعره ويضرب به وجهه

ص: 270

واصرفه إلى منزله . فذكر عن المتوكل أنه قال لما أتاني رسوله لبست سوادا لي جديدا وأتيته رجاء أن يكون قد أتاه الرضى عنى فأتيته فقال يا غلام ادع لي حجاما فدعى به فقال خذ شعره واجمعه فأخذه على السواد الجديد ولم يأته بمنديل فأخذ شعره وشعر قفاه وضرب به وجهه ).

ولعل ماذكرته الرواية من تخنث المتوكل وتجاهره بالتشبه بالنساء ، كان من أسباب سخط الواثق عليه .ونلاحظ أنه رغم علاقة المتوكل السيئة بعمر بن الفرج ، فعندما صار المتوكل خليفة صالحه واستوزره ، لأنه بحاجة اليه في قمع آل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) !

قال أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين/395: (واستعمل على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرخجي ، فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس ، ومنع الناس من البر بهم ، وكان لا يبلغه أن أحداً أبر أحداً منهم بشئ وإن قل ، إلا أنهكه عقوبةً وأثقله غرماً ، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة ، ثم يرقعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر، إلى أن قتل المتوكل، فعطف المنتصر عليهم وأحسن إليهم ، ووجه بمال فرقه فيهم وكان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادة مذهبه طعناً عليه ونصرة لفعله).

فلاحظ مستوى الإنحطاط الذي وصل اليه المتوكل وخادمه عمر الرخجي ، حيث حبسا آل الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المدينة ، ومنعا المحتاج منهم الى طعام والشراب أن يطلب مساعدة أحد ، ثم كانا يعاقبان من يساعده بشئ ، بعقاب شديد وغرامة كبيرة !

ص: 271

ولم يقف انحطاط عمر الرخجي مع خليفته عند هذا الحد ، بل قرر المتوكل منع زيارة الحسين(عليه السلام) وهدم قبره في كربلاء ! وكان أداته في ذلك عمر الرخجي ، والديزج اليهودي ، وميليشا أهل الحديث من مجسمة الحنابلة في بغداد !

روى الطوسي في الأمالي/325: (حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن فرج الرخجي قال: حدثني أبي ، عن عمه عمر بن فرج ، قال: أنفذني المتوكل في تخريب قبر الحسين(عليه السلام) فصرت إلى الناحية ، فأمرت بالبقر فمر بها على القبور ، فمرت عليها كلها ، فلما بلغت قبر الحسين(عليه السلام) لم تمر عليه ! قال عمي عمر بن فرج: فأخذت العصا بيدي فما زلت أضربها حتى تكسرت العصا في يدي! فواللّه ما جازت على قبره ولا تخطته . قال لنا محمد بن جعفر: كان عمر بن فرج شديد الانحراف عن آل محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأنا أبرأ إلى اللّه منه.وكان جدي أخوه محمد بن فرج شديد المودة لهم رحمه اللّه ورضي عنه ، فأنا أتولاه لذلك وأفرح بولادته). أي أفرح بولادتي منه .

أقول: كلامنا عن شخصية عمر بن الفرج الرخجي ، لأن له دوراً في سيرة الإمام الجواد(عليه السلام) ، وكذلك له دورٌ في سيرة الإمام الهادي(عليه السلام) ، وفي اضطهاد العلويين وقمعهم . وله دورٌ في محاربة أهل البيت(عليهم السلام) وشيعتهم ، ومن ذلك دوره في هدم قبر الإمام الحسين(عليه السلام)

، وقد طالبت أحداث محاولة المتوكل هدم القبر الشريف نحو سنة من شعبان سنة 236 الى شعبان 237 ، وورد فيها إسم الوزير عبيد اللّه بن خاقان ، وأنه أرسل عدداً من القادة في جند كثيف ومتطرفين من النواصب المجسمة ، ومن القادة إبراهيم بن الديزج اليهودي ، وعمر الرخَّجي ، وهارون المصري ، وأن أهل الكوفة والسواد استعدوا لمقاومتهم ، فأخبروا المتوكل ، فأمرهم بالإنسحاب .

ص: 272

ثم عمل بخباثة حتى منع الزوار وهدم القبر الشريف ، ثم أهلكه اللّه في السنة التالية.

قال أبو الفرج في مقاتل الطالبيين/395 : (وكان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب، غليظاً على جماعتهم، مهتماً بأمورهم، شديد الغيظ والحقد عليهم، وسوء الظن والتهمة لهم ، واتفق له أن عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان وزيره يسئ الرأي فيهم ، فحسَّن له القبيح في معاملتهم ، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله. وكان من ذلك أن كرب قبر الحسين(عليه السلام) وعفى أثاره ، ووضع على سائر الطرق مسالح له ، لا يجدون أحداً زاره إلا أتوه به ، فقتله أو أنهكه عقوبة !

فحدثني أحمد بن الجعد الوشاء ، وقد شاهد ذلك ، قال: كان السبب في كرب قبر الحسين أن بعض المغنيات كانت تبعث بجواريها إليه قبل الخلافة يغنين له إذا شرب ، فلما وليها بعث إلى تلك المغنية فعرف أنها غائبة ، وكانت قد زارت قبر الحسين(عليه السلام) وبلغها خبره ، فأسرعت الرجوع ، وبعثت إليه بجارية من جواريها كان يألفها فقال لها: أين كنتم؟ قالت: خرجت مولاتي إلى الحج وأخرجتنا معها وكان ذلك في شعبان ، فقال: إلى أين حججتم في شعبان؟ قالت: إلى قبر الحسين. فاستطير غضباً وأمر بمولاتها فحبست واستصفى أملاكها ، وبعث برجل من أصحابه يقال له: الديزج وكان يهودياً فأسلم ، إلى قبر الحسين وأمره بكرب قبره ومحوه وإخراب كل ما حوله ، فمضى ذلك وخرب ما حوله وهدم البناء وكرب ما حوله نحو مائتي جريب ، فلما بلغ إلى قبره لم يتقدم إليه أحد، فأحضر قوماً من

ص: 273

اليهود فكربوه ، وأجرى الماء حوله ،ووكل به مسالح بين كل مسلحتين ميل ، لا يزوره زائر إلا أخذوه ووجهوا به إليه .

فحدثني محمد بن الحسين الأشناني ، قال: بَعُدَ عهدي بالزيارة في تلك الأيام خوفاً ، ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها وساعدني رجل من العطارين على ذلك ، فخرجنا زائرين نكمن النهار ونسير الليل ، حتى أتينا نواحي الغاضرية ، وخرجنا منها نصف الليل فسرنا بين مسلحتين وقد ناموا ، حتى أتينا القبر فخفي علينا، فجعلنا نشمه ونتحرى جهته حتى أتيناه ، وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه وأحرق ، وأجري الماء عليه فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق ، فزرناه وأكببنا عليه فشممنا منه رائحة ما شممت مثلها قط كشئ من الطيب ! فقلت للعطار الذي كان معي: أي رائحة هذه ؟ فقال: لا واللّه ما شممت مثلها كشئ من العطر ، فودعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدة مواضع .

فلما قتل المتوكل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة ، حتى صرنا إلى القبر فأخرجنا تلك العلامات ، وأعدناه إلى ما كان عليه ).

وفي النجوم الزاهرة (2/283): (أمر بهدم قبر الحسين رضي اللّه عنه وهدم ما حوله من الدور ، وأن يعمل ذلك كله مزارع . فتألم المسلمون لذلك ، وكتب أهل بغداد شتم المتوكل على الحيطان والمساجد ، وهجاه الشعراء دعبل وغيره).

وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي/374: (فتألم المسلمون من ذلك وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد ، وهجاه الشعراء ، فمما قيل في ذلك:

ص: 274

باللّه إن كانت أميةُ قد أتَتْ *** قتلَ ابن بنت نبيِّهَا مظلومَا

فلقد أتاهُ بنو أبيه بمثله *** هذا لعمري قبرُه مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا *** في قتلهِ فَتَتَّبعُوهُ رميما

6. ورووا وقاحة عمر الرخجي وسوء أدبه مع الجواد(عليه السلام) وأن الإمام دعا عليه !

ففي الكافي (1/497): (عن محمد بن سنان قال: دخلت على أبي الحسن(الإمام الهادي(عليه السلام) ) فقال: يا محمد حدث بآل فرج حدث؟ فقلت: مات عمر . فقال: الحمد للّه ، حتى أحصيت له أربعاً وعشرين مرة.

فقلت: يا سيدي لو علمت أن هذا يسرك ، لجئت حافياً أعدو إليك . قال: يا محمد أو لا تدري ما قال لعنه اللّه لمحمد بن علي أبي؟ قال قلت: لا . قال: خاطبه في شئ فقال: أظنك سكران ! فقال أبي: اللّهم إن كنت تعلم أني أمسيت لك صائماً ، فأذقه طعم الَحرَب وذلَّ الأسر . فواللّه إن ذهبت الأيام حتى حَرِبَ ما لَه (خسره) وما كان له ، ثم أخذ أسيراً ، وهو ذا قد مات لا رحمه اللّه . وقد أدال اللّه عز وجل منه . وما زال يديل أولياء ه من أعدائه ).

أقول: استشكل الرجاليون في هذه الرواية بأن وفاة محمد بن سنان سنة 220، ووفاة الرخجي سنة 237. لكن الرواية قرينة على أن وفاة ابن سنان بعد هذا التاريخ.

7. من أعان ظالماً سلطه اللّه عليه ، وقد سلط اللّه المتوكل على عمر الرخجي! فبعد أن نفذ له أنواع المهمات والأوامر ، وارتكب لأجله الجرائم ، غضب عليه وعزله ! وصدق رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) :من أعان ظالماً سلطه اللّه عليه.( الخرائج:3/1058).

ص: 275

ومن فسق المتوكل وإذلاله لوزيره الرخجي ، ما رواه التنوخي في نشوار المحاضرة (6/323) قال: (وصفت للمتوكل عائشة بنت عمر بن فرج الرخجي ، فوجه في جوف الليل والسماء تهطل ، إلى عمر أن احمل إلي عائشة ، فسأله أن يصفح عنها فإنها القيمة بأمره ، فأبى . فانصرف عمر وهو يقول: اللّهم قني شر عبدك جعفر ثم حملها بالليل فوطأها ثم ردها إلى منزل أبيها).( المحاسن للجاحظ/118 ).

وقال الطبري(7/347): (وفيها (سنة233)غضب المتوكل على عمر بن فرج ، وذلك في شهر رمضان فدفع إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فحبس عنده ، وكتب في قبض ضياعه وأمواله ).

وفي تاريخ اليعقوبي (2/485): (وسخط على عمر بن فرج الرخجي وعلى أخيه محمد ، وكان محمد بن فرج عامل مصر إذ ذاك ).

وفي مروج الذهب (4/19): (وفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين سخط المتوكل على عمر بن الفرج الرخجي ، وكان من عِلْيَةِ الكتاب وأخذ منه مالًا وجوهراً نحو مائة ألف وعشرين ألف دينار ، وأخذ من أخيه نحواً من مائة ألف وخمسين ألف دينار ، ثم صولح محمد على أحد وعشرين ألف ألف درهم على أن يرد إليه ضياعه ثم غضب عليه غضبة ثانية ،وأمر أن يُصْفَعَ في كل يوم ، فأحصي ما صفع فكان ستة آلاف صفعة ، وألبسه جبة صوف ، ثم رضي عنه ، وسخط عليه ثالثة ، وأحدر إلى بغداد ، وأقام بها حتى مات).

ص: 276

وقال الذهبي في تاريخ الإسلام (17/284): (سخط عليه المتوكل فأخذ منه ما قيمته مائة وعشرون ألف دينار . ثم صالحه على أن يرد إليه ضياعه على ماله . ثم غضب عليه وصفع ستة آلاف صفعة في أيام ، وألبس عباءة ، ثم رضي عنه ، ثم سخط عليه ونفاه . توفي ببغداد).

وقد وصف القاضي التنوخي في نشوار المحاضرة (2/12) ، كيف بطش به المتوكل لما بلغه أنه كان في الأهواز يفتخر على قاضيها بقربه من المتوكل ، وأنه أخذ منه الألوف ولم يحاسبه، قال:(والخليفة أعز اللّه نصره لا يضرب على يدي في أمواله التي بها قيام دولته ، ولقد أخذت من ماله ألف ألف دينار ، وألف ألف دينار وألف ألف دينار ، وألف ألف دينار ، فما سألني عنها ).

فوشى به القاضي الى المتوكل فغضب وقال لوزيره: (يا فاعل يا صانع ، أنا أقول لك منذ دهر ، حاسب هذا الخائن المقتطع الرخّجي على أموالنا ، وأنت تدافع ، حتى حفظها اللّه علينا ، بقاضينا محمد بن منصور ، ورمى إليه بكتاب صاحب الخبر . وقال له: قد ظهرت الآن أموالنا في سقطات قوله وفلتات لسانه ، وهذه عادة اللّه عز وجل عند أئمة عباده ، أن يأخذ لهم أعداءهم! أكتب الساعة بالقبض على الرخّجي وتقييده وغَلِّه وحمله ).

وجاء به الى سامراء وأركبه على حمار وسجنه وعذبه ، وباع أملاكه .

ص: 277

(6) محمد بن الفرج الرخجي المؤمن الثقة !

1. بعكس أخيه ، كان محمد بن الفرج الرخجي(رحمه اللّه) من أهل الإيمان والتقوى. في وسائل الشيعة (20/339): (محمد بن الفرج الرخجي: من أصحاب الرضا(عليه السلام) ثقة ، قاله الشيخ والعلامة . وذكره الشيخ أيضاً في أصحاب الجواد والهادي(عليهما السلام) . وقال النجاشي: إنه روى عن أبي الحسن موسى(عليه السلام) . وروى المفيد في الإرشاد ما يدل على مدحه وعلو منزلته).

وقال الطوسي في الفهرست/371 : (روى عن أبي الحسن موسى(عليه السلام) . له كتاب مسائل ، أخبرنا أحمد بن عبد الواحد قال: حدثنا عبيد اللّه بن أحمدقال: حدثنا الحسين بن أحمد المالكي قال: قرأ علي أحمد بن هلال مسائل محمد بن الفرج) .

وقال الطوسي في رجاله/364: (محمد بن الفرج الرخجي ، ثقة ).

وفي خلاصة الأقوال/239: (من أصحاب أبي الحسن الرضا(عليه السلام) ، ثقة) .

وأورد السيد الخوئي في معجمه (18/139) روايات في مدحه ثم قال:(هذه الروايات وإن كانت كلها ضعيفة ، إلا أنها تؤيد جلالة الرجل ، ومكانته عند الشيعة والإمامين الجواد والهادي(عليهما السلام) . ويكفي في اعتباره شهادة الشيخ بوثاقته).

2. ويظهر أنه عاش نحو ثمانين سنة ، لأنه من أصحاب الإمام الكاظم(عليه السلام) الذي توفي سنة183، فينبغي أن يكون عمره يومها نحو عشرين سنة . ثم عاصر الإمام الرضا والجواد والهادي(عليهم السلام) وكان حياً سنة 238، في الثمانينات من عمره .

ص: 278

قال محمد بن فرج ، كما في التهذيب (2/173):(كتبت إلى العبد الصالح (الإمام الكاظم(عليه السلام) ) أسأله عن مسائل فكتب إليَّ: وصلِّ بعد العصر من النوافل ما شئت وصلِّ بعد الغداة من النوافل ما شئت ).

وفي الكافي (4/81): (كتب محمد بن الفرج إلى العسكري (الهادي(عليه السلام) ) يسأله عما روي من الحساب في الصوم عن آبائك ، في عدة خمسة أيام بين أول السنة الماضية والسنة الثانية التي تأتي . فكتب: صحيح ، ولكن عُدَّ في كل أربع سنين خمساً ، وفي السنة الخامسة ستاً فيما بين الأولى والحادث ، وما سوى ذلك فإنما هو خمسة خمسة . قال السياري: وهذه من جهة الكبيسة . قال: وقد حسبه أصحابنا فوجدوه صحيحاً . قال: وكتب إليه محمد بن الفرج في سنة ثمان وثلاثين ومائتين هذا الحساب لا يتهيأ لكل إنسان أن يعمل عليه ، إنما هذا لمن يعرف السنين ومن يعلم متى كانت السنة الكبيسة لم يصح له هلال شهر رمضان أول ليلة ، فإذا صح الهلال لليلته وعرف السنين صح له ذلك إن شاء اللّه ).

وكتابه الذي ذكره الشيخ الطوسي هو من مراسلاته ومسائله للإمام الكاظم والرضا والجواد والهادي(عليهم السلام) ، فقد تشرف بهم جميعاً وراسلهم .

3. وصلتنا عنه مجموعةٌ من مسائل العقائد والفقه عن الإمام الجواد والهادي(عليهما السلام)منها: ما رواه في الكافي (3/315): (عن أبي علي بن راشد قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام) : جعلت فداك إنك كتبت إلى محمد بن الفرج تعلمه أن أفضل ما تقرأ في

ص: 279

الفرائض بإنا أنزلناه وقل هو اللّه أحد . وإن صدري ليضيق بقراء تهما في الفجر ، فقال(عليه السلام) : لا يضيقن صدرك بهما فإن الفضل واللّه فيهما ).

وما رواه في الكافي (2/547): (عن محمد بن الفرج قال: كتب إليَّ أبو جعفر بن الرضا(عليه السلام) بهذا الدعاء وعلمنيه ، وقال: من قال في دبر صلاة الفجر ، لم يلتمس حاجة إلا تيسرت له ، وكفاه اللّه ما أهمه:

بسم اللّه وباللّه ، وصلى اللّه على محمد وآله ، وأفوض أمري إلى اللّه ، إن اللّه بصير بالعباد ، فوقاه اللّه سيئات ما مكروا . لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين...

قال: وكان النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول إذا فرغ من صلاته: اللّهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وإسرافي على نفسي ، وما أنت أعلم به مني. اللّهم أنت المقدم وأنت المؤخر ، لا إله إلا أنت . بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أجمعين ، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي فأحيني ، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي . اللّهم إني أسألك خشيتك في السر والعلانية ، وكلمة الحق في الغضب والرضا ، والقصد في الفقر والغنى . وأسألك نعيما لا ينفد ، وقرة عين لا ينقطع ، وأسألك الرضا بالقضاء ، وبركة الموت بعد العيش ، وبرد العيش بعد الموت ، ولذة المنظر إلى وجهك ، وشوقاً إلى رؤيتك ولقائك ، من غير ضراء مضرة ، ولا فتنة مضلة ، اللّهم زينا بزينة الإيمان ، واجعلنا هداة مهديين .

ص: 280

اللّهم اهدنا فيمن هديت ، اللّهم إني أسألك عزيمة الرشاد ، والثبات في الأمر والرشد ، وأسألك شكر نعمتك وحسن عافيتك وأداء حقك . وأسألك يا رب قلباً سليما ولسانا صادقا . وأستغفرك لما تعلم وأسألك خير ما تعلم . وأعوذ بك من شر ما تعلم ، فإنك تعلم ولا نعلم ، وأنت علام الغيوب ) .

4. ولما استشهد الإمام الجواد(عليه السلام) ، عقد زعماء الشيعة اجتماعاً في منزله للتداول قال في الكافي (1/324): (واجتمع رؤساء العصابة عند محمد بن الفرج يتفاوضون هذا الأمر ، فكتب محمد بن الفرج إلى أبي يعلمه باجتماعهم عنده ، وأنه لولا مخافة الشهرة لصار معهم إليهويسأله أن يأتيه ، فركب أبي وصار إليه). وقد ذكرنا ذلك في شهادة الإمام(عليه السلام) .

5. وكانت علاقة محمد حسنة مع أخيه عمر ، مع أن عمر كان ناصبياً متشدداً ! وتقدم قول عمر في المعجزة التي رآها من الإمام الجواد(عليه السلام) : ( سمعت من أبي جعفر شيئاً لو رآه محمد أخي لكفر ). (الثاقب/517).

يقصد أنه رأى معجزة من الإمام(عليه السلام) لو رآها أخوه لصار مغالياً فيه وجعله اللّه والعياذ باللّه ، أو جعله شريكاً للّه تعالى ، فكفر !

وكان محمد يرى أن أخاه عمر مصاباً بمرض الحسد والبغض لأهل البيت(عليهم السلام) وأنه مهما رأى من معجزاتهم ، لايزداد إلا بغضاً لهم ونفاقاً .

ص: 281

ولكنه كان يداريه ويستفيد منه في منع غضب الخليفة عليه ، ويظهر أنه استفاد من هذه العلاقة طول خلافة المعتصم والواثق والمتوكل ، ولعل أخاه عمر اقترحه على المتوكل فعينه والياً على مصر .

ولا بد أنه استجاز الإمام الهادي(عليه السلام) فأجاز له أن يكون عاملاً للمتوكل .لكن لما غضب المتوكل على أخيه شمله الغضب وعزلهما وصادر أموالهما وسجنهما !

6. وروى محمد أنه كان يتصل بالإمام الهادي(عليه السلام) وهو في مصر بطريق المعجزة ! ففي الخرائج:1/419، والثاقب/548: قال محمد بن الفرج: (قال لي علي بن محمد(عليهما السلام) : إذا أردت أن تسأل مسألة ، فاكتبها وضع الكتاب تحت مصلاك ، ودعه ساعة ، ثم أخرجه وانظر فيه ! قال: ففعلت ، فوجدت جواب ما سألت عنه موقعاً في الكتاب ) !

وهذا نوع من الإتصال أكثر تطوراً من أحدث وسائل الإتصال الألكترونية في عصرنا ، وهو يكشف عن نوع اتصال الإمام المهدي(عليه السلام) بوزرائه وحكام العالم .

7. كان محمد أحد تجار بغداد الأغنياء ، وكان سنداً مالياً مهماً للأئمة (عليهم السلام) . ففي مناقب آل أبي طالب (3/495): ( عن أمية بن علي قال: دعا أبو جعفر(عليه السلام) يوماً بجارية فقال: قولي لهم يتهيؤون للمأتم . قالوا: مأتم من؟ قال: مأتم خير من على ظهرها ! فأتى خبر أبي الحسن (الرضا(عليه السلام) ) بعد ذلك بأيام ، فإذا هو قد

ص: 282

مات في ذلك اليوم . محمد بن الفرج كتب إليَّأبو جعفر: إحملوا إليَّ الخمس ، فإني لست آخذه منكم سوى عامي هذا ، فقبض في تلك السنة ).

وقال الطبري (7/347) عن أموال أخيه عمر المصادرة : ( وفيها غضب المتوكل على عمر بن فرج وذلك في شهر رمضان ، فدفع إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فحبس عنده وكتب في قبض ضياعه وأمواله... وأصيب له بالأهواز أربعون ألف دينار ، ولأخيه محمد بن فرج مائة ألف دينار وخمسون ألف دينار وحمل من داره من المتاع ستة عشر بعيراً فرشاً ومن الجوهر قيمة أربعين ألف دينار وحمل من متاعه وفرشه على خمسين جملاً كرت مراراً ).

8. ولما غضب المتوكل على عمر بن فرج ، أمر الإمام(عليه السلام) محمداً أن يأخذ حذره. ففي الكافي (1/500) عن النوفلي قال: (قال لي محمد بن الفرج: إن أبا الحسن(عليه السلام) كتب إليه: يا محمد أجمع أمرك وخذ حذرك . قال: فأنا في جمع أمري لست أدري ما كتب إلي حتى ورد عليَّ رسولٌ حملني من مصر مقيداً ، وضرب على كل ما أملك ! وكنت في السجن ثمان سنين .

ثم ورد عليَّ منه في السجن كتاب فيه: يا محمد لا تنزل في ناحية الجانب الغربي. فقرأت الكتاب فقلت: يكتب إليَّ بهذا وأنا في السجن ، إن هذا لعجب ! فما مكثت أن خلي عني والحمد للّه).

ص: 283

وفي الإرشاد (2/304): (وروى أحمد بن عيسى قال: أخبرني أبو يعقوب قال: رأيت محمد بن الفرج قبل موته بالعسكر في عشية من العشايا ، وقد استقبل أبا الحسن(عليه السلام) فنظر إليه نظراً شافياً ، فاعتل محمد بن الفرج من الغد ، فدخلت عليه عائداً بعد أيام من علته ، فحدثني أن أبا الحسن(عليه السلام) قد أنفذ إليه بثوب وأرانيه مدرجاً تحت رأسه ، قال: فكُفِّنَ فيه واللّه).

**

ص: 284

الفصل الثامن: كيف أدارالإمام الشيعة وأثر على مسارالأمة ؟

(1) جهد المعصوم(عليه السلام) يختلف عن جهدنا

رغم قِصَر عمر الإمام الجواد(عليه السلام) ، والظروف المعادية له، فقد قام بمهمة الهداية والبناء لشيعته ، كفئة طليعية في الأمة ، وأثَّر على مسار الأحداث العامة في الأمة ، ومنع المزيد من انحراف الحكام ، وقضاة السلطة ورواتها .

إن أعمار أهل البيت(عليهم السلام) بالعمق والعرض ، لا بالطول . فمن الناس من يعيش عمراً طويلاً لكن عمره كخط ضعيف على صفحة رمل ذارٍ . ومنهم من يعيش قليلاً لكن عمره شعلةٌ تضيئ مع التاريخ ، وتقتدي بها الأجيال .

وسبب ذلك أن أفعال المعصومين(عليه السلام) وأقوالهم مسددة من اللّه تعالى ، فهي مباركة ، مؤثرة ، دائمة الثمر: تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا .

إنهم يختلفون عنا بما أعطاهم اللّه من علم بما يفعلونه ويقولونه ، فلا يتحيرون مثلنا ، ولا يعملون بالظن والتخمين والترجيح .

وهم أهل يقين في الأحكام والموضوعات ، ورؤيتهم أعلى نوعاً من رؤيتنا ، فلا يحتاجون مثلنا الى جهد في فهم الأشياء والأمور وأحكام اللّه فيها ، ثم نبقى نراوح كل عمرنا في احتمالاتنا .

ص: 285

وهم أقوى الناس بدناً وروحاً ، وأكثرهم حيوية ونشاطاً ، لا تتفاوت حالات أحدهم ولا ينخفض نشاطه ، فيوم الواحد منهم قد يعادل نشاط شهر أو سنوات لأحدنا !

وهم أكثر الناس تفاعلاً في إيمانهم باللّه تعالى واليوم الآخر ، وهذا ينعكس بركةً في أقوالهم وأعمالهم ، وغنىً فيها ، وتأثيراً لها . فقد وصف اللّه نبيه يحيى(عليه السلام) بأنه سبق في حيويته المتقدمين عليه ، لكنه لم يسبق المتأخرين وهم أهل البيت(عليهم السلام) ، قال تعالى: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا .

وهم أعلم من يفهم أولويات العمل ، وتأثير الأعمال ، وحركة الأفراد والمجتمعات ومستقبلها ، فهم أساتذة في العمل الستراتيجي .

إنهم المهندسون الربانيون ، الذين يخط أحدهم الخط ، فيؤثر على الخريطة ، ويضع لبنة فيعتدل الصرح ، ويأخذ لبنة فينهار بناء فاسد ، ولو بعد حين !

وبهذا التسديد الرباني استطاع الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) أن ينشؤوا من تحت الصفر أمة في الأمة ، وأن يُعَدِّلوا في مسار الأمة ، ويصححوا فيه الكثير .

فبعد عزله من الخلافة واضطهاده وأهل بيته ، لم يمر على الأمة ربع قرن حتى جاءت الأمة الى علي(عليه السلام) طائعة ، راجية منه أن يقبل بيعتها له بالخلافة !

قال(عليه السلام) : (فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إليَّ ينثالون علي من كل جانب.. مجتمعين حولي كربيضة الغنم). (نهج البلاغة:1/36).

وحكم عليٌّ(عليه السلام) خمس سنوات ، فهز الأمة هزاً ، وأعاد فيها جذوة العهد النبوي .

ص: 286

وعندما استسلمت الأمة الى موجة بني أمية ، نهض الإمام الحسين(عليه السلام) في مهمة ربانية رباه لها جده المصطفى(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأخبر بها الأمة ، فكان ذبيح الإسلام ، وثأر اللّه في أرضه ، فقد أعاد للأمة شعلة نبيها ، وفتح باب الثورات على مصراعيه .

وترسخ وجود أهل البيت النبوي(عليهم السلام) وموجتهم في الأمة ، وانطلقت من خراسان موجة غضب إيرانية ، بشعار الدعوة الى الرضا من آل محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وإنصاف أهل البيت من ظالميهم الأمويين .

وركب العباسيون ثورة الإيرانيين وسرقوها ، وأبى ذلك أئمة أهل البيت(عليهم السلام) ، وواصلوا عملهم في هداية الأمة ، ومواجهة تحريف الإسلام ، والإنحراف عنه .

ولم يطل الأمر بالعباسيين حتى اضطر المأمون لأن يلجأ الى الإمام الرضا(عليه السلام) ويطلب منه أن يكون ولي عهده تقرباً الى الأمة بعترة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتسكيتاً للثورات العلوية .

واستطاع الإمام الرضا(عليه السلام) أن يميز نفسه وشيعته عن السلطة ، فظلوا في نظر الأمة منزهين ، لم يحملوا أوزارها .

وتولى الإمام الجواد(عليه السلام) إمامة الأمة ، فكان الشيعة وجوداً وسيعاً منتشراً في مختلف البلاد ، وكانت أول مرة يُجمع فيها الشيعة على إمامة صبي في السابعة من عمره !

ومما يثير عجب الباحث أنه مع كثرة خصوم الشيعة ومخالفيهم ، وبحثهم عما يعيبونهم به ، لم يستطع أحد أن يشنع عليهم بائتمامهم بصبي في هذا السن !

بل تشير النصوص الى أنهم كانوا يوصون بعضهم بأن يتركوا الشيعة ، ولا يتحرشوا بهم ، لأنهم لا حيلة فيهم حسب تعبير المعتصم ، قال: ( ليس إلى هؤلاء القوم حيلة . لا تؤذوا أبا جعفر ). (رجال الكشي/833).

ص: 287

قاد الإمام الجواد(عليه السلام) شيعته بعد أبيه نحو تسع عشرة سنة ، وكان أول مكسب لهم أن الأمة عرفت أن مذهب هؤلاء في الإمامة حق ، وأنها اختيار رباني ، فاللّه تعالى يختار من عترة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إماماً للأمة ويعلمه ويسدده ، وهؤلاء هم الأئمة الإثنا عشر الذين بشَّرَ بهم النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأوصى بهم أمتهفقال: إني تارك فيكم الثقلين ، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، فهم وصيته كالقرآن ، وهم أئمة ربانيون ، وهم كالقرآن لا يأتيهم الباطل .

ورأى المسلمون الإمام الجواد ابن سبع سنين معجزة في علمه وهديه وكل شخصيته . ورأوا خليفتهم المأمون يُقنع فقهاء المسلمين وعلماءهم وشخصيات بني العباس، بأن بيت علي بن أبي طالب ليس كالبيوت ، فهؤلاء صغارهم كبار، وهذا محمد الجواد أمامكم وهو ابن تسع سنوات ، فامتحنوه واسألوه !

ولئن لم يقل المأمون إن الجواد(عليه السلام) هو صاحب منصب الخلافة الشرعي ، والمأمون غاصب لمقامه ، فقد عرفت الأمة ذلك وفهمته !

ولئن ارتكب المعتصم أخ المأمون جريمة قتله بالسم ، فإن الأمة كانت تعرف أن فعله ما هو إلا حلقة من سلسلة قتل الجبارين للأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) !

لقد استطاع المعتصم وابناه الواثق والمتوكل أن يقووا الموجة المضادة لأهل البيت(عليهم السلام) وشيعتهم ، وبلغت أوجها في زمن المتوكل باضطهاد الشيعة ، وهدم قبر الحسين(عليه السلام) . لكن التشيع في الأمة كان قوياً حتى في بيوت الخلفاء ، فثار ابن المتوكل العباسي على أبيه وقتله لأنه ناصبي مبغض لأهل البيت(عليهم السلام) ، وسمى نفسه المنتصر، لأنه انتصر لشتم أبيه للصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(عليها السلام) !

ص: 288

(2) ازدحام الشيعة على الإمام في الحج

كان موسم الحج أهم مناسبة للقاء الشيعة بالأئمة(عليهم السلام) ، ثم موسم عمرة رجب .

ففي الإختصاص للمفيد/102، عن إبراهيم بن هاشم قال: ( حدثني أبي قال: لما مات أبو الحسن الرضا(عليه السلام) حججنا فدخلنا على أبي جعفر(عليه السلام) وقد حضر خلق من الشيعة من كل بلد لينظروا إلى أبي جعفر ، فدخل عمه عبد اللّه بن موسى وكان شيخاً كبيراً نبيلاً ، عليه ثياب خشنة وبين عينيه سجادة فجلس ، وخرج أبو جعفر(عليه السلام) من الحجرة وعليه قميص قصب ورداء قصب ونعل جدد بيضاء فقام عبد اللّه فاستقبله وقبل بين عينيه ، وقام الشيعة وقعد أبو جعفر(عليه السلام) على كرسي ونظر الناس بعضهم إلى بعض ، وقد تحيروا لصغر سنه ، فابتدر رجل من القوم فقال لعمه: أصلحك اللّه ما تقول في رجل أتى بهيمة؟ فقال: تقطع يمينه ويضرب الحد . فغضب أبو جعفر(عليه السلام) ثم نظر إليه فقال: يا عم إتق اللّه إتق اللّه ، إنهلعظيم أن تقف يوم القيامة بين يدي اللّه عز وجل فيقول لك: لم أفتيت الناس بما لا تعلم ! فقال له عمه: أستغفر اللّه يا سيدي أليس قال هذا أبوك صلوات اللّه عليه؟ فقال أبو جعفر(عليه السلام) : إنما سئل أبي عن رجل نبش قبر امرأة فنكحها ، فقال أبي: تقطع يمينه للنبش ، ويضرب حد الزنا ، فإن حرمة الميتة كحرمة الحية.

فقال: صدقت يا سيدي ، وأنا أستغفر اللّه ! فتعجب الناس وقالوا : يا سيدنا أتأذن لنا أن نسألك؟قال: نعم فسألوه في مجلس عن ثلاثين ألف مسألة ، فأجابهم فيها وله تسع سنين).ورواه في الكافي:1/496، مختصراً وفيه: (وله عشر سنين ).

ص: 289

أقول: لا يصح كلام إبراهيم بن هاشم أنه(عليه السلام) سئل عن ثلاثين ألف مسألة في مجلس واحد ، إلا أن يكون المقصود فيه المبالغة بمعنى سألوه عن مسائل كثيرة تبلغ المئات .

وقال بعضهم إن المقصود بالمجلس واحد مجالس ذلك الموسم .

وبقطع النظر عن المبالغة في كلام الراوي، فلا شك أن الشيعة الوافدين وفيهم الفقهاء والمحدثون ، قد دهشوا بغزارة علم الإمام(عليه السلام) وفقاهته . وقد رأى العباسيون في مجلس المأمون شبيه ذلك ، فأذعنوا لإعجاز شخصيته . وتقدم سؤال ابن أكثم له عن محرم قتل صيداً وتفريع الإمام فروع المسألة ، وكذلك غيرها من المسائل .

وقد حفلت أحاديث الإمام الجواد(عليه السلام) بالكثير من المسائل الفقهية الدقيقة .

(3) دورالوكلاء في إدارة الأئمة(عليهم السلام) لشيعتهم

الإمام في عقيدة الشيعي حجة اللّه تعالى على خلقه ، منه يتلقى معالم دينه وتوجيهه في أموره ، فهو إمامه بالمعنى الكامل عقدياً وفقهياً وسلوكياً واجتماعياً وسياسياً . وطاعته فرضٌ من اللّه تعالى ورسوله ، فهو وصي النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخليفته ، وهو الحاكم الشرعي ، والقدوة في الدنيا ، والذي يأمل شفاعته في الآخرة .

وقد كان للأئمة(عليهم السلام) شبكة وكلاء ومعتمدين ، في كل المناطق التي فيها شيعة ، وذكر التاريخ أسماء عدد من كبارهم .

وكان الشيعة يراسلون الأئمة(عليهم السلام) مباشرة أو بواسطة وكلائهم ، فيسألونهم عن أحكام دينهم وعقائدهم ، ويطلبون منهم أن يدعوا لهم اللّه تعالى بحاجاتهم المختلفة المادية والمعنوية . وكانوا يرسلون الى الإمام خمس فائض ربحهم السنوي .

ص: 290

وقد أورد السيد القزويني في موسوعة الإمام الجواد(عليه السلام) (2/413) فهرس أكثر من ستين رسالة من رساءله(عليه السلام) . منها الى وكلائه ، ومنها إجابات لأشخاص، ومنها رسائله لأ بيه الرضا(عليه السلام) ورسالته إلى ابنه الهادي(عليه السلام) ، والى إبراهيم بن شيبة ، وإلى إبراهيم بن عقبة ، وإلى أبي الحسن بن الحصين ، وإلى أبي علي بن راشد ، وأبي عمرو الحذاء ، وأبي الفضل العباس بن المعروف ، وأبي القاسم الصيقل ، وأحمد بن إسحاق الأبهري ، و أحمد بن حماد المروزي ، وأحمد بن محمد بن عيسى القمي ، وأحمد بن محمد بن عيسى بن يزيد ، وأحمد بن محمد بن أبي نصر ، وإسماعيل بن سهل ، و إلى امرأة تدعى أم علي ، وإلى أيوب بن نوح ، و بكر بن صالح، وبندار مولى إدريس، والحسن بن سعيد ، و الحسين بن بشار الواسطي ، والحسين بن الحكم الواسطي ، والحسين بن عبد اللّه النيسابوري ، وخيران الخادم ، وداود بن القاسم الجعفري ، والريان بن شبيب، وزكريا بن آدم الأشعري القمي ، وصهر بكر بن صالح ، وعبد الجبار بن المبارك النهاوندي ، وعبد الرحمن بن أبي نجران ، و عبد العزيز بن المهتدي القمي الأشعري ، وعبد العظيم بن عبد اللّه الحسني ، وعبد اللّه بن خالد بن نصر المدائني، وعبد اللّه بن الصلت القمي ، وعبيد اللّه بن محمد الرازي ، وعلي بن أسباط الكوفي ، وعلي بن بلال ، وعلي بن حديد ، وعلي بن محمد الحصيني ، وعلي بن محمد بن سليمان النوفلي، وعلي بن مهزيار ، وعلي بن ميسر، وعمرو بن سعيد الساباطي ، وفروخ بن زاذان ، والقاسم الصيقل ، والمأمون العباسي الخليفة ، ومحمد بن إبراهيم الحضيني ، ومحمد بن أحمد بن حماد ، المكنى بأبي علي المحمودي ، ومحمد بن إسحاق ، والحسن بن محمد ، ومحمد بن أورمة، ومحمد بن حمزة العلوي ، ومحمد بن خالد البرقي ، ومحمد بن الريان ، ومحمد بن سليمان بن مسلم، المكنى بأبي زينبة وجماعة معه ، ومحمد بن عمر الساباطي ، ومحمد بن

ص: 291

عيسى، ومحمد بن الفرج ، ومحمد بن الفضيل الصيرفي، ومحمد بن يحيى الخراساني ، وموسى بن عبد الملك ، والنضر ، ويحيى بن أبي عمران الهمداني ، و بني عم محمد بن الحسن الأشعري ، وامرأة من موالي محمد بن الحسن الأشعري ، وإلى أهل البصرة ، والى مواليه بهمدان ، والى بعض أوليائه ، والى جماعة من الأصحاب ، وآخرين .

(4) رسالةٌ الى وكيله في همدان

في بصائر الدرجات/282: ( إبراهيم بن محمد قال: كان أبو جعفر محمد بن علي (عليه السلام) كتب إليَّ كتاباً ، وأمرني أن لا أَفُكَّهُ حتى يموت يحيى بن أبي عمران، قال: فمكث الكتاب عندي سنين ، فلما كان اليوم الذي مات فيه يحيى بن أبيعمران فككت الكتاب فإذا فيه: قم بما كان يقوم به ، أو نحو هذا من الأمر قال) . ورواه في الثاقب/515 ، وفيه:( أن إبراهيم بن محمد أقرأهم هذا الكتاب في المقبرة يوم مات يحيى بن عمران . وكان إبراهيم يقول: كنت لا أخاف الموت ما كان يحيى بن عمران في الحياة ) .

وفي رجال الكشي(2/869) عن إبراهيم بن محمد الهمداني ، قال: (كتبت إلى أبي جعفر(عليه السلام) أصف له صنع السبع بي. فكتب بخطه: عجل اللّه نصرتك ممن ظلمك وكفاك مؤنته ، وأبشر بنصر اللّه عاجلاً ، وبالأجر آجلاً وأكثر من حمد اللّه..

وكتب إليَّ: قد وصل الحساب تقبل اللّه منك ورضي عنهم ، وجعلهم معنا في الدنيا والآخرة ، وقد بعثت إليك من الدنانير بكذا ومن الكسوة كذا ، فبارك لك فيه وفي جميع نعمة اللّه عليك . وقد كتبت إلى النضر أمرته أن ينتهي عنك ، وعن التعرض لك وخلافك ، وأعلمته موضعك عندي . وكتبت إلى أيوب أمرته بذلك أيضاً ، وكتبت إلى مواليَّ بهمدان كتاباً أمرتهم بطاعتك والمصير إلى أمرك ، وأن لا وكيل لي سواك ) .

ص: 292

(5) رسالة الى وكيله في الأهواز

في رجال الكشي(2/827) في ترجمة علي بن مهزيار: (وفي كتاب لأبي جعفر(عليه السلام) إليه ببغداد: قد وصل إلي كتابك ، وقد فهمت ما ذكرت فيه وملأتني سروراً فسرَّك اللّه ، وأنا أرجو من الكافي الدافع أن يكفي كيد كل كائد ، إن شاء اللّه تعالى.

وفي كتاب آخر: وقد فهمت ما ذكرت من أمر القميين خلصهم اللّه وفرج عنهم. وسررتني بما ذكرت من ذلك ولم تزل تفعل، سرك اللّه بالجنة ورضي عنك برضائي عنك ، وأنا أرجو من اللّه حسن العون والرأفة ، وأقول حسبنا اللّه ونعم الوكيل ) .

وروى الطوسي في الغيبة /394، رسالة أخرى له ، جاء فيها : ( بسم اللّه الرحمن الرحيم . يا علي أحسن اللّه جزاك ، وأسكنك جنته ، ومنعك من الخزي في الدنيا والآخرة ، وحشرك اللّه معنا . يا علي قد بلوتك وخبرتك في النصيحة والطاعة والخدمة والتوقير والقيام بما يجب عليك ، فلو قلت إني لم أر مثلك لرجوت أن أكون صادقاً ، فجزاك اللّه جنات الفردوس نزلاً ، فما خفي علي مقامك ولا خدمتك في الحر والبرد ، في الليل والنهار ، فأسأل اللّه إذا جمع الخلائق للقيامة أن يحبوك برحمة تغتبط بها ، إنه سميع الدعاء ).وقد أعجبت هذه الرسالة أخانا الدكتور محمد حسين الصغير، فعلق عليها في كتابه الإمام محمد الجواد معجزة السماء في الأرض/34 بقوله: ( فانظر الى هذا الثناء العاطر وهذا الإلتزام الفريد ، وهذا التكريم المتزايد ، مما يدل على علو منزلة الرجل ، والإمام في هذا الملحظ يعطي كل ذي حق حقه ، رعاية كبرى منه لأوليائه ).

ص: 293

(6) دورالعلماء في إدارة الأئمة(عليهم السلام) لشيعتهم

كان الأئمة يوجهون الفقهاء والعلماء لتعليم جمهور الشيعة وتوعيتهم ، خاصة أولئك الذين لا يتيسر لهم الوصول الى إمامهم بسبب بعد بلادهم ، أو بسبب ظروفهم وظروف الإمام السياسية ، أو سجنه . ونجد ذلك واضحاً في سيرة الإمام الكاظم والرضا وكذا الجواد(عليهم السلام) لأنه كان في ظرف سياسي حساس ، وأحياناً في بغداد ، فكان يوجه العلماء ليسدوا فراغ غيابه ، ويعلموا ا الشيعة ، ويردوا شبهات علماء السلطة !

قال الإمام الجواد(عليه السلام) :(من تكفل بأيتام آل محمد المنقطعين عن إمامهم، المتحيرين في جهلهم الأسارى في أيدي شياطينهم وفي أيدي النواصب من أعدائنا، فاستنقذهم منهم وأخرجهم من حيرتهم ، وقهر الشياطين برد وساوسهم، وقهر الناصبين بحجج ربهم ودلائل أئمتهم ، ليحفظوا عهد اللّه على العباد ، أكثرُ من فضل السماء على الأرض، والعرش والكرسي والحُجُب على السماء ! وفضلهم على العباد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء).(الإحتجاج:1/9).

وقال(عليه السلام) :(إن حجج اللّه على دينه أعظم سلطاناً ، يسلط اللّه بها على عباده ، فمن وفر منها حظه فلا يرينَّ أن من منعه ذلك قد فضله عليه ، ولو جعله في الذروة العليا من الشرف والمال والجمال ، فإنه إن رأى ذلك كان قد حقر عظيم نعم اللّه لديه . وإن عدواً من أعدائنا النواصب يدفعه بما تعلمه من علومنا أهل البيت لافضل له من كل مال لمن فضل عليه ، ولو تصدق بألف ضعفه ). (تفسير العسكر(عليه السلام) /351).

ص: 294

(7) دورعدول المؤمنين في إدارة الأئمة(عليهم السلام) لشيعتهم

في تهذيب الأحكام(7/69): قال محمد بن إسماعيل بن بزيع: (فذكرت ذلك لأبي جعفر(عليه السلام) وقلت له: يموت الرجل من أصحابنا فلا يوصي إلى أحد ، ويخلف جواري فيقيم القاضي رجلاً منا ليبعهن ، أو قال: يقومبذلك رجل منا فيضعف قلبه لأنهن فروج ، فما ترى في ذلك ؟ قال فقال: إذا كان القيم مثلك أو مثل عبد الحميد فلا بأس ).

(8) حركة أهل قم في عهد الإمام الجواد(عليه السلام)

دعا الإمام الجواد(عليه السلام) في الرسالة المتقدمة لأهل قم ، وقد ذكر الطبري (7/183) ما حدث لهم ، فقال: ( وفي هذه السنة (210) خلع أهل قم السلطان ومنعوا الخراج. ذكر الخبر عن سبب خلعهم السلطان ومآل أمرهم في ذلك: ذُكر أن سبب خلعهم إياه كان أنهم كانوا استكثروا ما عليهم من الخراج ، وكان خراجهم ألفي ألف درهم ، وكان المأمون قد حطَّ عن أهل الري حين دخلها منصرفاً من خراسان إلى العراق ، ما قد ذكرت قبل ، فطمع أهل قم من المأمون في الفعل بهم في الحط عنهم والتخفيف ، مثل الذي فعل من ذلك بأهل الري .

فرفعوا إليه يسألونه الحط ويشكون إليه ثقله عليهم ، فلم يجهم المأمون إلى ما سألوه ، فامتنعوا من أدائه ، فوجه المأمون إليهم علي بن هشام ، ثم أمده بعجيف بن عنبسة ، وقدم قائدٌ لحميد يقال له محمد بن يوسف الكح بقوص من خراسان

ص: 295

فكتب إليه (المأمون) بالمصير إلى قم لحرب أهلها مع علي بن هشام ، فحاربهم علي فظفر بهم وقتل يحيى بن عمران وهدم سور قم ، وجباها سبعة آلاف ألف درهم بعد ما كانوا يتظلمون من ألفي ألف درهم ) !

وقال الطبري (7/150): (ورحل المأمون في هذه السنة (سنة203) من طوس يريد بغداد ، فلما صار إلى الري ، أسقط من وظيفتها ألفي ألف درهم ).

أقول: زعمت هذه الرواية الرسمية أن سبب ثورة أهل قم وعصيانهم المدني ، أنهم طالبوا بتخفيف الخراج عنهم أسوة بأهل الري ، فلم يستجب لهم المأمون فأعلنوا العصيان . لكن هذا محل شك ، لأن المأمون كان يكره أهل قم ، وعندما أحضر الإمام الرضا(عليه السلام) من المدينة أن لا يمر على قم . وقد طال خلافهم مع المأمون سبع سنوات ، فقد كان مروره من الري سنة 203 ، أو أول سنة 204، وكانت حملته على أهل قم سنة 210، وحشد لهم فرقتين بقيادة أكبر قائدين عنده: علي بن هشام ، وعجيف ، واستقدم فرقة ثالثة من خراسان بقيادة أحد قادة حميد بن قحطبة .

ويحيى بن عمران المذكور هو الأشعري ، وهو غير يحيى بن عمران الحلبي ، وآخر الهمداني . والأشعريون مؤسسوا قم وقادتها ، وكان يحيى رئيسهم .

قال البلاذري في فتوحه (2/386): (وكان المأمون وجه على بن هشام المروزي إلى قم وقد عصا أهلها وخالفوا ومنعوا الخراج ، وأمره بمحاربتهم وأمده بالجيوش ففعل ، وقتل رئيسهم وهو يحيى بن عمران ، وهدم سور مدينتهم وألصقه بالأرض ، وجباها سبعة آلاف ألف درهم وكسراً ، وكان أهلها قبل ذلك يتظلمون من ألفي ألف درهم . وقد نقضوا في خلافة أبى عبد اللّه المعتز باللّه بن المتوكل على اللّه ، فوجه إليهم موسى

ص: 296

ابن بغا عامله على الجبل ، لمحاربة الطالبيين الذين ظهروا بطبرستان ، ففتحت عنوة وقتل من أهلها خلق كثير).

ولم يترجم الرجاليون ليحيى بن عمران ، لكن حفيده محمد بن أحمد بن يحيى ، عالمٌ جليل له اثنان وعشرون مؤلفاً ، أشهرها كتاب النوادر . (معجم السيد الخوئي:16/49).

وذكر الطبري حركة لأهل قم بعد قليل من حملة المأمون عليهم ، قال في (7/189): (وفيها (214 ) تحرك

جعفر بن داود القمي فظفر به عزيز مولى عبد اللّه بن طاهر ، وكان هرب من مصر فرد إليها. وفيها: وليَ علي بن هشام الجبل وقم وأصبهان وآذربيجان) .

ويظهر أن المأمون نفى جعفر بن داود الى مصر، فقد قال الطبري (7/192) في أحداث سنة216: (وهرب جعفر بن داود القمي إلى قم وخَلَعَ بها ). أي أعلن خلع المأمون .

وقال الطبري (7/193): ( وفيها (سنة217) بعث علي بن عيسى القمي جعفر بن داود القمي ، فضرب أبو إسحاق بن الرشيد عنقه).

وهذا يدل على أن مشكلة قم طالت ، وأن جعفر بن داود القمي ثار بعد يحيى بن عمران ، حتى قتله المعتصم وهو أبو إسحاق .

ولم يصلنا من موقف الإمام الجواد(عليه السلام) من قضية أهل قم ، إلا هذا الدعاء لهم ، مع أنه كان في وقتها صهر المأمون وكان في المدينة .

والسبب أن المأمون كان يظهر احترام الإمام الجواد(عليه السلام) لكنه جباراً لا يسمع كلامه !

ثم إن للإمام الجواد كآبائه(عليهم السلام) موقفاً ثابتاً من الثورات الشيعية في العالم ، فلا هم يقفون ضدها ، ولا يتبنونها ، ولكنهم يتعاطفون مع ما يصيب المؤمنين فيها .

أما علي بن هشام الذي قاد الحملة على أهل قم فهو ابن فرخسرو ، خراساني من أهل مرو الروز ، وهو نديم المأمون في خمره ، وكان يكره العرب ويبغض أهل البيت(عليهم السلام) .

ص: 297

وقال اليعقوبي (2/453): (توفي الرضا علي بن موسى بن جعفر بن محمد ، بقرية يقال لها النوقان أول سنة 203، ولمتكن علته غير ثلاثة أيام ، فقيل إن علي بن هشام أطعمه رماناً فيه سم ) .وكان علي بن هشام مقرباً عند المأمون ، وولاه ولايات عديدة ، وكانت له جارية مغنية إسمها متيم ، تساوي عندهم ملايين الدنانير . وقد أرادها منه المأمون فلم يعطه إياها ، فقيل إنه غضب عليه بسببها فقتله سنة217 وأخذها !

ثم أخذها أخوه المعتصم (واختص بها المعتصم في خلافته ، فأشخصها معه إلى سامراء ، فكانت إذا أرادت زيارة بغداد استأذنته فتقيم أياماً وتعود). (الأعلام:5/275).

(9) من احترام عموم المسلمين للإمام الجواد(عليه السلام)

في الكافي (5/112) بسنده عن رجل من بني حنيفة من أهل بست وسجستان قال: (رافقت أبا جعفر(عليه السلام) في السنة التي حج فيها في أول خلافة المعتصم ، فقلت له وأنا معه على المائدة ، وهناك جماعة من أولياء السلطان: إن والينا جعلت فداك رجل يتولاكم أهل البيت ويحبكم ، وعليَّ في ديوانه خراج ، فإن رأيت جعلني اللّه فداك أن تكتب إليه كتاباً بالإحسان إلي . فقال لي: لا أعرفه . فقلت: جعلت فداك إنه على ما قلت من محبيكم أهل البيت ، وكتابك ينفعني عنده ، فأخذ القرطاس وكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم ، أما بعد فإن موصل كتابي هذا ذكر عنك مذهباً جميلاً ، وإن مالك من عملك ما أحسنت فيه ، فأحسن إلى إخوانك ، واعلم أن اللّه عز وجل سائلك عن مثاقيل الذر والخردل .

ص: 298

قال: فلما وردت سجستان سبق الخبر إلى الحسين بن عبد اللّه النيسابوري ، وهو الوالي ، فاستقبلني على فرسخين من المدينة ، فدفعت إليه الكتاب فقبله ووضعه على عينيه ، ثم قال لي: ما حاجتك ؟ فقلت: خراج عليَّ في ديوانك .

قال: فأمر بطرحه عني ، وقال لي: لا تؤد خراجاً ما دام لي عمل ، ثم سألني عن عيالي فأخبرته بمبلغهم ، فأمر لي ولهم بما يقوتنا وفضلاً، فما أديت في عمله خراجاً ما دام حياً ، ولا قطع عني صلته حتى مات ).

(10) توجيهه الشيعة لإحياء ذكر أهل البيت(عليهم السلام)

قال الإمام الجواد(عليه السلام) لمُيَسَّر: ( أتَخْلُونَ وتتحدثون وتقولون ما شئتم؟ فقلت:إي واللّه لنخلوا ونتحدث ونقول ما شئنا ، فقال: أما واللّه لوددت أني معكم في بعض تلك المواطن ، أما واللّه إني لأحب ريحكم وأرواحكم ، وإنكم على دين اللّه وملائكته ، فأعينونا بورع واجتهاد... رحم اللّه عبداً أحيا ذكرنا ،قلت: ما إحياء ذكركم؟ قال: التلاقي والتذاكر عند أهل الثبات ). (مصادقة الإخوان للصدوق/34).

وقال(عليه السلام) : (من كان أبوا دينه محمد وعلي(عليهما السلام) آثر لديه ، وقراباتهما أكرم عليه من أبوي نسبه وقراباته ، قال اللّه تعالى له: فضلت الأفضل لأجعلنك الأفضل ، وأثرت الأولى بالإيثار لأجعلنك بدار قراري، ومنادمة أوليائي).

( قال رجل بحضرته: إني لأحب محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلياً(عليه السلام) حتى لو قطعت إرباً إرباً أو قرضت لم أزُل عنه. قال(عليه السلام) : لاجرم إن محمداً وعلياً يعطيانك من أنفسهما ما تعطيهما أنت من نفسك . إنهما ليستدعيان لك في يوم فصل القضاء ما لا يفي ما بذلته لهما بجزء من مائة ألف ألف جزء من ذلك ). (تفسير العسكري/332 و335).

ص: 299

(11)البر بالوالدين حتى لو كانا ناصبيين

في أمالي المفيد/191: (عن بكر بن صالح قال: كتب صهر لي إلى أبي جعفر الثاني صلوات اللّه عليه:إن أبي ناصب خبيث الرأي ، وقد لقيت منه شدة وجهداً ، فرأيك جعلت فداك في الدعاء لي ، وما ترى جعلت فداك ، أفترى أن أكاشفه أم أداريه؟فكتب(عليه السلام) : قد فهمت كتابك وما ذكرت من أمر أبيك ، ولست أدَعُ الدعاء لك إن شاء اللّه . والمداراة خير لك من المكاشفة ، ومع العسر يسر فاصبر فإن العاقبة للمتقين . ثبتك اللّه على ولاية من توليت. نحن وأنتم في وديعة اللّه الذي لا تضيع ودائعه . قال بكر: فعطف اللّه بقلب أبيه عليه حتى صار لا يخالفه في شئ ) !

(12)الناس كلهم إخوة

وفي كشف الغمة (3/141): (قال(عليه السلام) : فساد الأخلاق بمعاشرة السفهاء ، وصلاح الأخلاق بمنافسة العقلاء ، والخَلق أشْكَالٌ فكل يعمل على شاكلته. والناس إخوانٌ ، فمن كانت أُخُوَّتُهُ في غير ذات اللّه ، فإنها تحور عداوة ، وذلك قوله تعالى: الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ ).

(13) والمؤمن لايخون

في الكافي (5/94): (عن أبي تمامة قال : قلت لأبي جعفر الثاني(عليه السلام) : إني أريد أن ألزم مكة أو المدينة وعليَّ دين فما تقول؟ فقال: إرجع فأده إلى مؤدي دينك ، وانظر أن تلقي اللّه تعالى وليس عليك دين ، إن المؤمن لا يخون).

(14)التقية مع المتطرفين

في تفسير العسكري(عليه السلام) /362: (قال رجل لمحمد بن علي(عليه السلام) : يا ابن رسول اللّه مررت اليوم بالكرخ فقالوا: هذا نديم محمد بن علي إمامالرافضة ، فاسألوه من

ص: 300

خير الناس بعد رسول اللّه ؟ فإن قال عليٌّ فاقتلوه ، وإن قال أبو بكر فدعوه ! فانثال علي منهم خلق عظيم وقالوا لي: من خير الناس بعد رسول اللّه؟ فقلت مجيباً لهم: خير الناس بعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أبو بكر وعمرو عثمان وسكتُّ ، ولم أذكر علياً(عليه السلام) . فقال بعضهم: قد زاد علينا ! نحن نقول هاهنا: وعلي. فقلت لهم: في هذا نظر ، لا أقول هذا . فقالوا بينهم: إن هذا أشد تعصباً للسنة منا ، قد غلطنا عليه . ونجوت بهذا منهم ، فهل عليَّ يا ابن رسول اللّه في هذا حرج ، وإنما أردت أخيرُ الناس أيْ أهو خير؟ استفهاماً لا إخباراً .

فقال محمد بن علي(عليهما السلام) : قد شكر اللّه لك بجوابك هذا ، وكتب لك أجره وأثبته لك في الكتاب الحكيم ، وأوجب لك بكل حرف من حروف ألفاظك بجوابك هذا لهم ما يعجز عنه أماني المتمنين ، ولا يبلغه آمال الآملين ) .

أقول: التقية تعني المدارة ، ودفع الضرر عن نفسك من أناس لا يتحملون الرأي الآخر ، بل يقتلون صاحب الرأي الآخر ، لأنهم يرون أن كل من خالف رأيهم فهو عدو واجب القتل !

وهذا اتجاه عدواني ، لكن الخلافة القرشية أسسته بعد النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاعتبروا كل من لم يبايع عدواً للخليفة يجب إجباره أو قتله ، ثم صار من خالف الخليفة واجب القتل !

وقد ورثت حكومات بلادنا الإسلامية ذلك الى اليوم ، والوهابية أبرز من يمثله .

ص: 301

(15) إعلان الإمام براءته من المنحرفين والمغالين

دأب الأئمة(عليهم السلام) على إعلان براءتهم من الغالين الذين يدعون لهم مقاماً ليس لهم . وقد استتاب أمير المؤمنين(عليه السلام) المدعو عبد اللّه بن سبأ وأصحابه لعنه اللّه ، وسبعين رجلاً من الزط ، ادعوا له الألوهية والعياذ باللّه ، فلم يتوبوا فقتلهم .

قال ابن عبد البر في التمهيد:5/317: ( فاتخذوه رباً وادعوه إلهاً وقالوا له: أنت خالقنا ورازقنا ، فاستتابهم واستأنى وتوعدهم ، فأقاموا على قولهم ، فحفر لهم حفراً دخن عليهم فيها طمعاً في رجوعهم ، فأبوا ، فحرقهم ). ومناقب آل أبي طالب:1/227، ورجال الطوسي : 1/288 ، وفتح الباري:12/238، وتاريخ الذهبي: 3/643.

وتبرأ الإمام الصادق(عليه السلام) ممن ادعى له الربوبية ولعنهم ، ففي رجال الطوسي:2/587: ( عن أبي بصير قال: قال لي أبو عبد اللّه: يا أبا محمد إبرأممن يزعم أنا أرباب ، قلت: برئ اللّه منه ، قال: إبرأ ممن يزعم أنا أنبياء . قلت: برئ اللّه منه ).

وفي أصل زيد الزراد/46، قال: (لما لبى أبو الخطاب بالكوفة ، وادعى في أبي عبد اللّه(عليه السلام) ما ادعى ! دخلت على أبي عبد اللّه مع عبيد بن زرارة فقلت له: جعلت فداك لقد ادعى أبو الخطاب وأصحابه فيك أمراً عظيماً ! إنه لبى: لبيتك جعفر لبيك معراج ! وزعم أصحابه أن أبا الخطاب أسري به إليك فلما هبط إلى الأرض من ذلك دعا إليك ولذلك لبى بك !

قال فرأيت أبا عبد اللّه(عليه السلام) قد أرسل دمعته من حماليق عينيه وهو يقول: يا رب برئت إليك مما ادعى فيَّ الأجدع عبد بنى أسد ! خشع لك شعري، وبشري، عبدٌ لك ابن عبد لك ، خاضع ذليل . ثم أطرق ساعة في الأرض كأنه يناجي شيئاً ثم رفع رأسه وهو

ص: 302

يقول: أجل أجل عبد خاضع خاشع ذليل ، لربه صاغر راغم ، من ربه خائف وجل . لي واللّه ربٌّ أعبده لا أشرك به شيئاً !

ماله أخزاه اللّه وأرعبه ، ولا آمن روعته يوم القيامة! ما كانت تلبية الأنبياء هكذا ولا تلبية الرسل، إنما لبيت بلبيك اللّهم لبيك لبيك لا شريك لك ! ثم قمنا من عنده فقال: يا زيد ، إنما قلت لك هذا لأستقر في قبري) .

وكذلك كان موقف الإمام الكاظم(عليه السلام) ، ففي رجال الطوسي:2/587: (عن ابن المغيرة قال: كنت عند أبي الحسن(عليه السلام) أنا ويحيى بن عبد اللّه بن الحسن فقال يحيى: جعلت فداك إنهم يزعمون أنك تعلم الغيب؟ فقال: سبحان اللّه سبحان اللّه ، ضع يدك على رأسي ، فواللّه ما بقيت في جسدي شعرة ولا في رأسي إلا قامت ! قال ثم قال: لا واللّه ما هي إلا وراثة عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) )

وكذلك موقف الإمام الرضا(عليه السلام) ، ففي معجم رجال الحديث:18/135: ( قال أبو الحسن الرضا(عليه السلام) : يا يونس أما ترى إلى محمد بن الفرات وما يكذب عليَّ؟ فقلت: أبعده اللّه وأسحقه وأشقاه ، فقال: قد فعل اللّه ذلك به ، أذاقه اللّه حر الحديد كما أذاق من كان قبله ممن كذب علينا. يا يونس إنما قلت ذلك لتحذِّر عنه أصحابي ، وتأمرهم بلعنه والبراءة منه ، فإن اللّه يبرأ منه ).

وكذلك الإمام الجواد(عليه السلام) ، فقد تبرأ ولعن أشخاصاً ادعوا الألوهية لأهل البيت(عليهم السلام) أو كانوا يكذبون عليهم: (عن علي بن مهزيار ، قال : سمعت أبا جعفر(عليه السلام) يقول وقد ذكر عنده أبو الخطاب: لعن اللّه أبا الخطاب ، ولعن أصحابه ، ولعن الشاكين في لعنه ، ولعن من قد وقف في ذلك وشك فيه ! ثم قال: هذا أبو الغمر ، وجعفر بن واقد ، وهاشم بن أبي هاشم ، استأكلوا بنا الناس ، وصاروا دعاة يدعون الناس إلى مادعا إليه

ص: 303

أبو الخطاب لعنه اللّه ولعنهم معه ، ولعن من قبل ذلك منهم ! يا علي ، لاتتحرجن من لعنهم ، لعنهم اللّه ، فإن اللّه قد لعنهم .

ثم قال: قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من تأثَّم أن يلعن من لعنه اللّه ، فعليه لعنة اللّه ) .

(قال: قال لي أبو جعفر الثاني(عليه السلام) : ما فعل أبو السمهري لعنه اللّه ؟ يكذب علينا ويزعم أنه وابن أبي الزرقاء دعاة إلينا ! أشهدكم أني أتبرأ إلى اللّه عز وجل منهما ، إنهما فتانان ملعونان ). (رجال الكشي:2/811).

(16) تأكيده(عليه السلام) على حرية المرأة والكفاءة الشرعية

في الكافي (5/394): (عن محمد بن الحسن الأشعري قال: كتب بعض بني عمي إلى أبي جعفر الثاني(عليه السلام) : ما تقول في صبية زوجها عمها ، فلما كبرت أبت التزويج ؟ فكتب بخطه: لا تُكره على ذلك ، والأمر أمرها ) .

وفي الكافي (5/347): (عن الحسين بن بشار الواسطي قال: كتبت إلى أبي جعفر (عليه السلام) أسأله عن النكاح فكتب إلي من خطب إليكم فرضيتم دينه وأمانته فزوجوه: إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ .

كتب علي بن أسباط إلى أبي جعفر(عليه السلام) في أمر بناته وأنه لا يجد أحداً مثله فكتب إليه أبو جعفر(عليه السلام) : فهمتُ ما ذكرت من أمر بناتك ، وأنك لا تجد أحداً مثلك ، فلا تنظر في ذلك رحمك اللّه ، فإن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه ، إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ) .

ص: 304

أقول: كان المجتمع الإسلامي في عصر الإمام الجواد(عليه السلام) محكوماً للتعصبات القومية والقبلية والطبقية ، وكانت حاكمة على مقياس الزواج ، وبذلك تعرف أهمية توجيهات الإمام(عليه السلام) لشيعته بالإلتزام بميزان الكفاءة الإسلامي دون غيره .

(17) شروط إمام الصلاة عند أهل البيت(عليهم السلام)

قال المحقق البحراني في الحدائق الناضرة (10/70): (ومن أظهر الأدلة على ما قلناه ، ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلاً من كتاب السياري قال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام) قوم من مواليك يجتمعون فتحضر الصلاة ، فيتقدم بعضهم فيصلي بهم جماعة؟ فقال: إن كان الذي يؤم بهم ليس بينه وبين اللّه طَلِبَة فليفعل . وهو كما ترى ظاهر الدلالة صريح المقالة في أنه لا يجوز الإمامة لمن علم من نفسه الفسق ، حتى يتوب توبة نصوحاً ).

(18)إجازته كتب الإمامين الباقر والصادق(عليهم السلام)

في الكافي (1/53):(عن محمد بن الحسن بن أبي خالد شينولة قال: قلت لأبي جعفر الثاني(عليه السلام) : جعلت فداك إن مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه(عليهما السلام) وكانت التقية شديدة ، فكتموا كتبهم ولم تُرْوَ عنهم ، فلما ماتوا صارت الكتب إلينا . فقال: حدثوا بها فإنها حق ).

(19)دعاؤه لشيعته في قنوته(عليه السلام)

وروى في مهج الدعوات للسيد ابن طاووس/61، قنوتاً للإمام الجواد(عليه السلام) جاء فيه: (فأيد اللّهم الذين آمنوا على عدوك وعدو أوليائك ، فيصبحوا ظاهرين ، وإلى الحق داعين ، وللإمام المنتظر القائم بالقسط تابعين ).

ص: 305

(20)مقاومة أهل البيت(عليهم السلام) لحذف البسملة من القرآن

في الكافي(3/313):(عن يحيى بن أبي عمران الهمداني قال:كتبت إلى أبي جعفر: جعلت فداك، ماتقول في رجل ابتدأ ببسم اللّه الرحمن الرحيم في صلاته وحده في أم الكتاب ، فلما صار إلى غير أم الكتاب من السورة تركها ، فقال العباسي ليس بذلك بأس؟ فكتب(عليه السلام) بخطه: يعيدها مرتين على رغم أنفه يعني العباسي ).

أقول: معنى قوله(عليه السلام) أنه يعيد صلاته رغم أنف المفتي العباسي، لأن البسملة جزء من كل سورة. وقد حذف القرشيون البسملة من الصلاة ، لأن عندهم عقدة منها !

فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام) كما في الكافي (8/266): ( كتموا بسم اللّه الرحمن الرحيم فنعم واللّه الأسماء كتموها ، كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا دخل إلى منزله واجتمعت عليه قريش يجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم ويرفع بها صوته ، فتولي قريش فراراً ! فأنزل اللّه عز وجل في ذلك: وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ) .

وقد نتج عن ذلك أن فقهاء الحكومات نفوا أن البسملة من القرآن ، وهاهم الى اليوم يتركونها مع أنها مكتوبة في القرآن! لذلك كان الأئمة(عليهم السلام) يؤكدون على قرآنيتها .

وقد استوفينا بحثها في كتاب ألف سؤال وإشكال (1/405).

(21) تأكيد الإمام الجواد (عليه السلام) على سورة القدر

روى في الكافي (1/532):( عن أبي جعفر الثاني(عليه السلام) أن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال لابن عباس: إن ليلة القدر في كل سنة ، وإنه ينزل في تلك الليلة أمر السنة ، ولذلك الأمر ولاة بعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فقال ابن عباس: من هم ؟ قال : أنا وأحد عشر من صلبي أئمة محدثون) .

ص: 306

الفصل التاسع: نماذج من علم الإمام الجواد(عليه السلام)

(1)الثروة العلمية عن الإمام الجواد(عليه السلام)

وصلتنا ثروة علمية عن الإمام الجواد(عليه السلام) رغم قصر عمره الشريف وظروفه الصعبة . وطبيعي أن يكون ما ضاع منها أو صادرته الحكومات أضعاف ذلك .

وقد بينا ما فقدناه من أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) في مقدمة كتابنا في السيرة النبوية .

وتشمل أحاديث الإمام الجواد(عليه السلام) عقائد الإسلام ، من التوحيد ، والنبوة ، والإمامة ، والمعاد ، والقرآن .

وتشمل مجموعة فقهية واسعة من أبواب الشريعة الإسلامية، ويمكنك معرفة حجمها إذا بحثت في مصادر الفقه والحديث عن إسم أبي جعفر الثاني(عليه السلام) .

وتشمل توجيهات قيمة للأشخاص والفئات ، وحكماً بليغة للحياة ، وقواعد في التعامل الإجتماعي ، وأحاديث في الطب والصحة .

ويصل مجموع هذه الثروة الى مجلد ، ونكتفي بإيراد نماذج منها .

ص: 307

(2) علم الأئمة المعصومين رباني وليس بشرياً

قالت زبيدة للإمام الجواد(عليه السلام) : ( يا سيدي أنت تعلم الغيب؟ قال: لا. قالت من أين لك أن تعلم ما حدث من أم الخير مما لا يعلمه إلا اللّه وهي ، في الوقت؟ فقال لها: نحن من علم اللّه علمنا ، وعن اللّه نخبر .

قالت له: ينزل عليك الوحي؟ قال: لا. قالت: من أين لك علم ذلك ؟

قال: من حيث لا تعلمين ، وسترجعين إلى من تخبرينه بما كان ، فيقول لك: لا تعجبي فإن فضله وعلمه فوق ما تظنين) ! (الهداية الكبرى/303) .

يقول لها(عليه السلام) : نحن علمنا من تعليم اللّه تعالى ، وليس بالأسباب العادية التي يتعلم بها غيرنا . وعلمنا يقينٌ لا ظن فيه . وعندما ترجعين الى المأمون وتخبرينه بما كان ، سيقول لك إن علم الجواد أكثر مما تظنين !

وقد قال المأمون لجمع وزرائه والعباسيين: (وَيْحَكُم إن أهل هذا البيت خِلْوٌ من هذا الخلق (لا يشبهونهم)! أوَمَا علمتم أن رسول اللّه بايع الحسن والحسين وهما صبيان غير بالغين ولم يبايع طفلاً غيرهما ! أَوَمَا علمتمأن علياً آمن بالنبي وهو ابن عشر سنين ، فقبل اللّه ورسوله منه إيمانه ولم يقبل من طفل غيره ، ولا دعا النبي طفلاً غيره إلى الإيمان ! أوَمَا علمتم أنها ذرية بعضها من بعض ، يجري لآخرهم ما يجري لأولهم ) ! ( الإختصاص/98).

ومذهب المأمون هذا نفس مذهب أمير المؤمنين(عليه السلام) الذي قال: ( ألا إن الأبرار من عترتي وأطائب أرومتي ، أعلم الناس صغاراً وأعلمهم كباراً. من علم اللّه

ص: 308

علمنا ، ومن قول صادق سمعنا ، فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا ، وإن تدبروا عنا يهلككم اللّه بأيدينا، أو بما شاء ). (المسترشد/406) .

وقد مر الإمام الجواد(عليه السلام) براعٍ فتقدمت اليه شاة وشكت اليه ، فأخبر الراعي بأمرها فتعجب وقال له: ( أسألك لما أخبرتني من أين علمت هذا الشأن ؟ فقال أبو جعفر(عليه السلام) : نحن خزان اللّه على علمه ، وغيبه ، وحكمته ، وأوصياء أنبيائه ، وعباد مكرمون). (الثاقب في المناقب/522).

(3) في توحيد اللّه تعالى وتنزيهه

في الكافي (1/82): (سئل أبو جعفر الثاني(عليه السلام) : يجوز أن يقال للّه: إنه شئ؟ قال: نعم، يخرجه من الحدين حد التعطيل وحد التشبيه... إن اللّه خِلْوٌ من خلقه وخلقه خلوٌ منه ، وكلما وقع عليه إسم شئ فهو مخلوق ما خلا اللّه .

عن عبد الرحمن بن أبي نجران قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن التوحيد فقلت: أتوهم شيئاً؟ فقال: نعم غير معقول ولا محدود ، فما وقع وهمك عليه من شئ فهو خلافه، لا يشبهه شئ ولا تدركه الأوهام، كيف تدركه الأوهام وهو خلاف ما يعقل وخلاف ما يتصور في الأوهام ! إنما يتوهم شئ غير معقول ولا محدود).

وفي الكافي (1/99): (عن داود بن القاسم أبي هاشم الجعفري قال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام) : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار؟ فقال: يا أبا هاشم أوهام القلوب أدق من أبصار العيون ، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان

ص: 309

التي لم تدخلها ولا تدركها ببصرك . وأوهام القلوب لا تدركه ، فكيف أبصار العيون ! ) .

وفي الإحتجاج (2/238): (قلت لأبي جعفر الثاني(عليه السلام) : قل هو اللّه أحد ، ما معنى الأحد؟ قال: المجمع عليه بالوحدانية ، أما سمعته يقول: وَلَئِنْسَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ.. ثم يقولون بعد ذلك له شريك وصاحبة !

فقلت قوله: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ؟ قال : يا أبا هاشم ! أوهام القلوب أدق من أبصار العيون ، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها ، ولم تدرك ببصرك ذلك . فأوهام القلوب لا تدركه ، فكيف تدركه الأبصار ).

وفي أمالي الطوسي/352: (عن علي بن مهزيار قال: كتبت إلى أبي جعفر محمد بن علي بن موسى الرضا(عليه السلام) : جعلت فداك أصلي خلف من يقول بالجسم؟فكتب: لا تصلوا خلفهم ، ولا تعطوهم من الزكاة ، وابرؤوا منهم ، برئ اللّه منهم ).

وفي الكافي (1/116): (عن أبي هاشم الجعفري قال: كنت عند أبي جعفر الثاني (عليه السلام) فسأله رجل فقال: أخبرني عن الرب تبارك وتعالى ، له أسماء وصفات في كتابه ، وأسماؤه وصفاته هي هو؟ فقال أبو جعفر(عليه السلام) : إن لهذا الكلام وجهين: إن كنت تقول: هي هو ، أي أنه ذو عدد وكثرة فتعالى اللّه عن ذلك ، وإن كنت تقول: هذه الصفات والأسماء لم تزل فإن لم تزل محتمل معنيين ، فإن قلت: لم تزل عنده في علمه وهو مستحقها ، فنعم . وإن كنت تقول: لم يزل تصويرها

ص: 310

وهجاؤها وتقطيع حروفها ، فمعاذ اللّه أن يكون معه شئ غيره ، بل كان اللّه ولا خَلْق ، ثم خلقها وسيلة بينه وبين خلقه ، يتضرعون بها إليه ويعبدونه .

وهي ذِكْرُهُ ، وكان اللّه ولا ذكر ، والمذكور بالذكر هو اللّه القديم الذي لم يزل ، والأسماء والصفات مخلوقات ، والمعاني والمعني بها هو اللّه الذي لا يليق به الإختلاف ولا الإئتلاف ، وإنما يختلف ويأتلف المتجزئ ، فلا يقال: اللّه مؤتلف ولا اللّه قليل ولا كثير ولكنه القديم في ذاته ، لأن ما سوى الواحد متجزئ ، واللّه واحد لا متجزئ ولا متوهم بالقلة والكثرة . وكل متجزئ أو متوهم بالقلة والكثرة فهو مخلوق دال على خالق له .

فقولك:إن اللّه قدير أخبرت أنه لا يعجزه شئ ، فنفيت بالكلمة العجز وجعلت العجز سواه. وكذلك قولك: عالمٌ إنما نفيت بالكلمة الجهل وجعلت الجهل سواه وإذا أفنى اللّه الأشياء أفنى الصورة والهجاء والتقطيع ، ولا يزال من لم يزل عالماً .فقال الرجل: فكيف سمينا ربنا سميعاً ؟ فقال: لأنه لا يخفى عليه ما يدرك بالأسماع ، ولم نصفه بالسمع المعقول في الرأس . وكذلك سميناه بصيراً لأنه لا يخفى عليه ما يدرك بالأبصار من لون ، أو شخص ، أو غير ذلك ، ولم نصفه ببصر لحظة المعين . وكذلك سميناه لطيفاً لعلمه بالشئ اللطيف مثل البعوضة وأخفى من ذلك ، وموضع النشوء منها ، والعقل ، والشهوة للسفاد ، والحدب على نسلها، وإقامة بعضها على بعض ، ونقلها الطعام والشراب إلى أولادها ، في

ص: 311

الجبال والمفاوز والأودية والقفار ، فعلمنا أن خالقها لطيف بلا كيف ، وإنما الكيفية للمخلوق المكيف .

وكذلك سمينا ربنا قوياً لا بقوة البطش المعروف من المخلوق ، ولو كانت قوته قوة البطش المعروف من المخلوق لوقع التشبيه ولاحتمل الزيادة ، وما احتمل الزيادة احتمل النقصان ، وما كان ناقصاً كان غير قديم ، وما كان غير قديم كان عاجزاً . فربنا تبارك وتعالى ، لا شبه له ولا ضد ولا ند ولا كيف ولا نهاية ولا تبصار بصر ، ومحرم على القلوب أن تمثله ، وعلى الأوهام أن تحده ، وعلى الضمائر أن تكونه، جل وعز عن أدات خلقه وسمات بريته، وتعالى عن ذلك علوا كبيراً).

وفي الكافي (1/105): (عن محمد بن الفرج الرخجي قال:كتبت إلى أبي الحسن أسأله عما قال هشام بن الحكم في الجسم ، وهشام بن سالم في الصورة فكتب: دع عنك حيرة الحيران ، واستعذ باللّه من الشيطان ، ليس القول ما قال الهشامان ).

أقول: كان هشام بن الحكم رضي اللّه عنه أقوى المناظرين في بغداد ، وكان هارون الرشيد يعقد له مجالس المناظرة مع كبار علماء المذاهب والأديان .

ويظهر أنه قال ذات مرة عن اللّه تعالى إنه جسم لا كالأجسام ، بدل أن يقول شئ لا كالأشياء ، فطار بها خصومه وقالوا هو مجسم !

أما هشام بن سالم الجواليقي رضي اللّه عنه ، فروى حديث أن اللّه على صورة الإنسان ، وقد يكون قَبِلَه ، فطار بها خصومه أيضاً !

ص: 312

قال الشهرستاني في الملل والنحل (1/185): (وقال هشام بن سالم: إنه تعالى على صورة إنسان ، أعلاه مجوف وأسفله مصمت ، وهو نور ساطع يتلألأ ، وله حواس خمس ويد ورجل وأنف وأذن وفم . وله وفرة سوداء هي نور أسود ، لكنه ليس بلحم ولا دم ) .

وقال الأميني في الغدير (2/284) عن كتاب الملل والنحل: (هذا الكتاب وإن لم يكن يضاهي الفِصَل في بذاءة المنطق، غير أن في غضونه نسباً مفتعلة وآراء مختلقة وأكاذيب جمة ، لا يجد القارئ ملتحداً عن تفنيدها ، فإليك نماذج منها:

1- قال: قال هشام بن الحكم متكلم الشيعة: إن اللّه جسم ذو أبعاض في سبعة أشبار بشبر نفسه ، في مكان مخصوص وجهة مخصوصة .

2- قال في حق علي: إنه إله واجب الطاعة .

3- وقال هشام بن سالم: إن اللّه على صورة إنسان ، أعلاه مجوف وأسفله مصمت ، وهو نور ساطع يتلألأ ، وله حواس خمس ، ويد ورجل وأنف وأذن وعين وفم ، وله وفرة سوداء ، وهو نور أسود ، لكنه ليس بلحم ولا دم ، وإن هشام هذا أجاز المعصية على الأنبياء ، مع قوله بعصمة الأئمة .

4- وقال زرارة بن أعين: لم يكن اللّه قبل خلق الصفات عالماً ، ولا قادراً ولا حياً ولا بصيراً ولا مريداً ولا متكلماً .

5- قال أبو جعفر محمد بن النعمان:إن اللّه نور على صورة إنسان ويأبى أن يكون جسماً.

6- وزعم يونس بن عبد الرحمن القمي أن الملائكة تحمل العرش ، والعرش تحمل الرب ، وهو من مشبهة الشيعة ، وصنف لهم في ذلك كتباً ). انتهى.

ص: 313

أقول: كل ذلك مكذوبات على الشيعة أو تحريف لكلمة ، وقد نشروا هذه الأكاذيب يومها ، فسأل الشيعة عنها الأئمة(عليهم السلام) فنفوا مقولة الجسم والصورة .

ومع أن الإمام الجواد(عليه السلام) كان حازماً في نفي الجسم والصورة عن اللّه تعالى ، فقد مدح هشام بن الحكم وترحم عليه ، لتبرئته مما نسبه خصومه اليه .

ففي رجال الكشي (2/560): (عن أبي هاشم داود بن قاسم الجعفري ، قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الثاني(عليه السلام) : ما تقول جعلت فداك في هشام بن الحكم؟ فقال: رحمه اللّه ماكان أذبه عن هذه الناحية ).

(4) تعظيمة لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبعض ما روى عنه

اشارة

كان يزور جده رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كل يوم:

في الكافي (1/353): (عن يحيى بن أكثم قال: بينا أنا ذات يوم دخلت أطوف بقبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فرأيت محمد بن علي الرضا يطوف به ، فناظرته في مسائل عندي فأخرجها إلي.. ).

وفي كامل الزيارة/44: (عن عبد الرحمن بن أبي نجران ، قال: قلت لأبي جعفر الثاني(عليه السلام) : جعلت فداك ما لمن زار قبر رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) متعمداً ؟ قال: يُدخله اللّه الجنة إن شاء اللّه ). وفي رواية: قال: له الجنة .

روى في الكافي (1/493): (عن عبد اللّه بن رزين قال: كنت مجاوراً بالمدينة مدينة الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكان أبو جعفر(عليه السلام) يجيئ في كل يوم مع الزوال إلى المسجد فينزل

ص: 314

في الصحن ويصير إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويسلم عليه ويرجع إلى بيت فاطمة(عليها السلام) ، فيخلع نعليه ويقوم فيصلي ، فوسوس إلي الشيطان فقال: إذا نزل فاذهب حتى تأخذ من التراب الذي يطأ عليه ، فجلست في ذلك اليوم أنتظره لأفعل هذا ، فلما أن كان وقت الزوال أقبل على حمار له ، فلم ينزل في الموضع الذي كان ينزل فيه وجاء حتى نزل على الصخرة التي على باب المسجد ، ثم دخل فسلم على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: ثم رجع إلى المكان الذي كان يصلي فيه ففعل هذا أياماً ، فقلت: إذا خلع نعليه جئت فأخذت الحصا الذي يطأ عليه بقدميه ، فلما أن كان من الغد جاء عند الزوال فنزل على الصخرة، ثم دخل فسلم على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم جاء إلى الموضع الذي كان يصلي فيه فصلى في نعليه ولم يخلعهما ، حتى فعل ذلك أياماً ! فقلت في نفسي:لم يتهيأ لي ههنا ولكن أذهب إلى باب الحمام فإذا دخل إلى الحمام أخذت من التراب الذي يطأ عليه ، فسألت عن الحمام الذي يدخله ، فقيل لي: إنه يدخل حماماً بالبقيع لرجل من ولد طلحة ، فتعرفت اليوم الذي يدخل فيه الحمام وصرت إلى باب الحمام وجلست إلى الطلحي أحدثه ، وأنا أنتظر مجيئه فقال الطلحي: إن أردت دخول الحمام فقم فادخل ، فإنه لا يتهيأ لك ذلك بعد ساعة ، قلت ولم؟ قال: لان ابن الرضا يريد دخول الحمام ، قال قلت: ومن ابن الرضا ؟ قال: رجل من آل محمد له صلاح وورع . قلت له: ولا يجوز أن يدخل معه الحمام غيره ؟ قال ، نخلي له الحمام إذا جاء ، قال: فبينا أنا كذلك إذ أقبل(عليه السلام) ومعه غلمان له وبين يديه غلام معه حصير حتى أدخله المسلخ فبسطه ،

ص: 315

ووافى فسلم ودخل الحجرة على حماره ، ودخل المسلخ ونزل على الحصير ، فقلت للطلحي: هذا الذي وصفته بما وصفت من الصلاح والورع؟! فقال: يا هذا لا واللّه ما فعل هذا قط إلا في هذا اليوم ! فقلت في نفسي: هذا من عملي أنا جنيته ، ثم قلت: أنتظره حتى يخرج فلعلي أنال ما أردت إذا خرج ، فلما خرج وتلبس دعا بالحمار فأدخل المسلخ وركب من فوق الحصير وخرج ! فقلت في نفسي: قد واللّه آذيته ولا أعود ، ولاأورم ما رمت منه أبداً وصح عزمي على ذلك ، فلما كان وقت الزوال من ذلك اليوم أقبل على حماره حتى نزل في الموضع الذي كان ينزل فيه في الصحن فدخل وسلم على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجاء إلى الموضع الذي كان يصلي فيه في بيت فاطمة(عليها السلام) وخلع نعليه ، وقام يصلي) !

يقصد ابن رزين أن الإمام الجواد(عليه السلام) عرف نيته ، ولم يرض أن يأخذ التراب أو الحصى من تحت قدميه ، فغير مكان نزوله ونزل على صخر ، ودخل في الحمام على حماره الى مكان نزع الثياب ، ولم يكن ذلك من عادته .

ويقصد ببيت فاطمة(عليها السلام) الغرفة التي لها في بيت أبيها(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهي خلف قبر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) باتجاه الصُّفَّة ، وقد رأيتها في الستينات وفي وسطها صندوق مجلل عليه إسم الزهراء صلوات اللّه عليها ، فأزاله الوهابية كرهاً بأهل البيت(عليهم السلام) .

تجليله يوم مبعث رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) :

في إقبال الأعمال (3/266): (حدثنا محمد بن عفير الضبي ، عن أبي جعفر الثاني قال: إن في رجب ليلة هي خير للناس مما طلعت عليه الشمس ، وهي ليلة سبع

ص: 316

وعشرين منه ، نبئ رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في صبيحتها ، وإن للعامل فيها أصلحك اللّه من شيعتنا مثل أجر عمل ستين سنة . قيل: وما العمل فيها؟ قال: إذا صليت العشاء الآخرة وأخذت مضجعك ، ثم استيقظت أي ساعة من ساعات الليل كانت قبل زواله أو بعده ، صليت اثني عشر ركعة باثنتي عشر سورة من خفاف المفصل ، من بعد يس إلى الحمد...).

وفي مصباح المتهجد/814: (وروى الريان بن صلت قال: صام أبو جعفر الثاني (عليه السلام) لما كان ببغداد يوم النصف من رجب ، ويوم سبع وعشرين منه ، وصام جميع حشمه ، وأمرنا أن نصلي الصلاة التي هي اثنتا عشرة ركعة ، تقرأ في كل ركعة الحمد وسورة ، فإذا فرغت قرأت الحمد أربعاً ، وقل هو اللّه أحد أربعاً والمعوذتين ، أربعاً. وقلت: لا إله إلا اللّه واللّه أكبر ، وسبحان اللّه والحمد للّه ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، أربعاً . اللّه اللّه ربي لا أشرك به شيئاً ، أربعاً . لا أشرك بربي أحداً ، أربعاً .

وورد في الدعاء بعدها: اللّهم وبارك لنا في يومنا هذا الذي فضلته وبكرامتك جللته ، وبالمنزل العظيم منك أنزلته ، وصل على من فيه إلىعبادك أرسلته ، وبالمحل الكريم أحللته . اللّهم صل عليه صلاة دائمة ، تكون لك شكراً ولنا ذخراً ، واجعل لنا من أمرنا يسراً ، واختم لنا بالسعادة إلى منتهى آجالنا وقد قبلت اليسير من أعمالنا ، وبلغنا برحمتك أفضل آمالنا ، إنك على كل شئ قدير).

بل ورد عنه(عليه السلام) مستحبات تدل على تكريم كل شهر رجب .

ص: 317

ففي مصباح المتهجد/798: (وروي عن أبي جعفر الثاني(عليه السلام) أنه قال : يستحب أن يدعو الإنسان بهذا الدعاء أول ليلة من رجب: اللّهم إني أسألك بأنك مليك وأنك على كل شئ مقتدر ، وأنك ما تشاء من أمر يكن .

اللّهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة . يا محمد يا رسول اللّه إني أتوجه بك إلى اللّه ربك وربي لينجح لي بك طلبتي .

اللّهم بنبيك محمد والأئمة من أهل بيته(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنجح طلبتي. ثم سل حاجتك) .

وعنده مواريث رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسلاحه:

في الخرائج (1/387):(عن محمد بن فضيل الصيرفي: كتبت إلى أبي جعفر(عليه السلام) كتاباً ، وفي آخره: هل عندك سلاح رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟ونسيت

أن أبعث بالكتاب . فكتب إلي بحوائج له ، وفي آخر كتابه: عندي سلاح رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو فينا بمنزلة التابوت في بني إسرائيل ، يدور معنا حيث درنا ، وهو مع كل إمام ).

وفي بصائر الدرجات/200:(عن إبراهيم بن أبي البلاد:قلت لأبي جعفر(عليه السلام) : تنظر في كتب أبيك؟ فقال: نعم. فقلت: عندك سيف رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ودرعه. فقال قد كان في موضع كذا وكذا ، فأتى ذلك الموضع مسافر ومحمد بن علي . ثم سكت). قال في البحار(26/220) في شرحه: ( كان إبراهيم من أصحاب الصادق والكاظم والرضا(عليهم السلام) . ويظهر من الخبر أنه لقي الجواد(عليه السلام) أيضاً . ومسافر مولى الرضا(عليه السلام) وروي أنه قال: أمرني أبو الحسن(عليه السلام) بخراسان فقال: إلحق بأبي جعفر فإنه صاحبك . والمراد بمحمد بن علي نفسه(عليه السلام) ).

ص: 318

والمعنى أن الإمام الرضا(عليه السلام) كان وضع سلاح النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مكان فدله عليه ، وأوصى خادمه الموثوق مسافر أن يلتحق بأبي جعفر(عليه السلام) ، لأنه الإمام بعده ، فجاء الى المدينة .

ما رواه(عليه السلام) من قصار أحاديث النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) :

في أمالي الطوسي/481، روى الإمام الجواد عن آبائه(عليهم السلام) : (قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنا أمرنا معاشر الأنبياء أن نكلم الناس بقدر عقولهم . وقال(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أمرني ربي بمداراة الناس ، كما أمرني بإقامة الفرائض ).

وفي أمالي الطوسي/589، قال(عليه السلام) : ( قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : السنة سنتان: سنة في فريضة ، الأخذ بها هدى وتركها ضلالة . وسنة في غير فريضة ، الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غيرها خطيئة ).

وفي بصائر الدرجات/152: قال(عليه السلام) :(قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إن أرواحنا وأرواح النبيين توافي العرش كل ليلة جمعة ، فتصبح الأوصياء وقد زيد في علمهم مثل جم الغفير من العلم ).

وفي الكافي (1/533): (عن أبي جعفر الثاني(عليه السلام) أن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال لابن عباس: إن ليلة القدر في كل سنة ، وإنه ينزل في تلك الليلة أمر السنة ، ولذلك الأمر ولاة بعد رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فقال ابن عباس: من هم ؟ قال: أنا وأحد عشر من صلبي أئمة محدثون ) .

ص: 319

وفي أمالي الصدوق/389، روى(عليه السلام) عن جده رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال في وصف الزهاد المزيفين: ( لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم ، وكثرة الحج ، والمعروف وطنطنتهم بالليل . أنظروا إلى صدق الحديث ، وأداء الأمانة).

وفي عيون أخبار الرضا(عليه السلام) (1/254): (حدثني سيدي أبو جعفر محمد بن علي، عن أبيه علي بن موسى الرضا ، عن أبيه موسى بن جعفر ، قال: حدثني الأجلح الكندي، عن ابن بريده عن أبيه ، أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال:علي إمام كل مؤمن بعدي).

وفي تحف العقول/457: (وقال(عليه السلام) : كانت مبايعة رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) النساء أن يغمس يده في إناء فيه ماء ، ثم يخرجها وتغمس النساء بأيديهن في ذلك الإناء بالإقرار والإيمان باللّه والتصديق برسوله على ما أخذ عليهن).

وفي الإحتجاج (2/246) قال(عليه السلام) : (قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حجة الوداع: قد كثرت علي الكذابة وستكثر بعدي ، فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار . فإذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب اللّه وسنتي، فما وافق كتاب اللّه وسنتي فخذوا به ، وما خالف كتاب اللّه وسنتي فلا تأخذوا به) .

ص: 320

(5) بعض ما روي عنه في إمامة علي وأهل البيت(عليهم السلام)

اشارة

في بصائر الدرجات/473: (عن أبي جعفر الثاني قال: قال أبو جعفر الباقر(عليه السلام) : إن الأوصياء محدثون ، يحدثهم روح القدس ولا يرونه ، وكان علي(عليه السلام) يعرض على روح القدس ما يُسأل عنه ، فيوجس في نفسه أن قد أصبت بالجواب ، فيُخبر فيكون كما قال(عليه السلام) ) .

وفي الكافي (2/46) : (عن أبي جعفر الثاني(عليه السلام) عن أبيه ، عن جده.. قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إن اللّه خلق الاسلام فجعل له عرصة ، وجعل له نوراً، وجعل له حصناً ، وجعل له ناصراً.

فأما عرصته فالقرآن ، وأما نوره فالحكمة ، وأما حصنه فالمعروف ، وأما أنصاره فأنا وأهل بيتي وشيعتنا ، فأحبوا أهل بيتي وشيعتهم وأنصارهم ، فإنه لما أسري بي إلى السماء الدنيا فنسبني جبرئيل لأهل السماء ، فاستودع اللّه حبي وحب أهل بيتي وشيعتهم في قلوب الملائكة ، فهو عندهم وديعة إلى يوم القيامة .

ثم هبط بي إلى أهل الأرض فنسبني إلى أهل الأرض ، فاستودع اللّه عز وجل حبي وحب أهل بيتي وشيعتهم في قلوب مؤمني أمتي ، فمؤمنوا أمتي يحفظون وديعتي في أهل بيتي إلى يوم القيامة ، فلو أن الرجل من أمتي عبد اللّه عز وجل عمره أيام الدنيا ثم لقي اللّه عز وجل مبغضاً لأهل بيتي وشيعتي ما فرج اللّه صدره إلا عن النفاق ) .

ص: 321

وفي تفسير القمي (1/160): (عن ابن أبي عمير، عن أبي جعفر الثاني(عليه السلام) في قوله تعالى:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ .قال: إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عقد عليهم لعلي (عليه السلام) بالخلافة في عشرة مواطن ، ثم أنزل اللّه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

وفي الكافي (1/441): (عن محمد بن سنان قال: كنت عند أبي جعفر الثاني(عليه السلام) فأجريت اختلاف الشيعة ، فقال: يا محمد إن اللّه تبارك وتعالى لم يزل متفرداً بوحدانيته ، ثم خلق محمداً وعلياً وفاطمة ، فمكثوا ألف دهر ، ثم خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها وأجرى طاعتهم عليها وفوض أمورها إليهم ، فهم يحلون ما يشاؤون ويحرمون ما يشاؤون ، ولن يشاؤوا إلا أن يشاء اللّه تبارك وتعالى ، ثم قال: يا محمد هذه الديانة التي من تقدمها مرق ، ومن تخلف عنها محق ، ومن لزمها لحق ، خذها إليك يا محمد ).

أقول: استدل بعضهم بقوله(عليه السلام) : (فهم يحلون ما يشاؤون ويحرمون ما يشاؤون ، ولن يشاؤوا إلا أن يشاء اللّه تبارك وتعالى) على أن للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) الولاية التشريعية ، وكذلك للأئمة(عليهم السلام) . وبقوله(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك .

ولا حرج في ذلك فهم لا يحللون ولا يحرمون إلا ماشاءه وأوحى به عز وجل .

وفي أمالي الصدوق/531: (عن عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الرضا(عليه السلام) : يا ابن رسول اللّه حدثني بحديث عن آبائك(عليهم السلام) فقال: حدثني أبي ، عن جدي ، عن آبائه قال: قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا ، فإذا استووا هلكوا .

ص: 322

قال فقلت له: زدني يا ابن رسول اللّه . فقال: حدثني أبي ، عن جدي ، عن آبائه قال: قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : لو تكاشفتم ما تدافنتم .

قال فقلت له: زدني يا ابن رسول اللّه . فقال : حدثني أبي ، عن جدي عن آبائه(عليهم السلام) قال : قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ، فسعوهم بطلاقة الوجه وحسن اللقاء ، فإني سمعت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ، فسعوهم بأخلاقكم .

قال فقلت له: زدني يا ابن رسول اللّه . فقال : حدثني أبي ، عن جدي ، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : من عتب على الزمان طالت معتبته .

قال فقلت له: زدني يا ابن رسول اللّه . فقال : حدثني أبي ، عن جدي ، عن آبائه (عليهم السلام) قال : قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : مجالسة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار .

قال فقلت له: زدني يا ابن رسول اللّه . فقال : حدثني أبي ، عن جدي ، عن آبائه(عليهم السلام) قال : قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد .

قال فقلت له: زدني يا ابن رسول اللّه . فقال : حدثني أبي ، عن جدي ، عن آبائه (عليهم السلام) قال : قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : قيمة كل امرئ ما يحسنه .

قال فقلت له: زدني يا ابن رسول اللّه . فقال : حدثني أبي ، عن جدي ، عن آبائه (عليهم السلام) قال : قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : المرء مخبوء تحت لسانه .

قال فقلت له: زدني يا ابن رسول اللّه . فقال : حدثني أبي ، عن جدي ، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : ما هلك أمرؤ عرف قدره .

ص: 323

قال فقلت له: زدني يا ابن رسول اللّه . فقال : حدثني أبي ، عن جدي ، عن آبائه (عليهم السلام) قال : قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : التدبير قبل العمل يؤمنك من الندم .

قال فقلت له: زدني يا ابن رسول اللّه . فقال : حدثني أبي ، عن جدي ، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال يا أمير المؤمنين(عليه السلام) : من وثق بالزمان صرع .

قال فقلت له: زدني يا ابن رسول اللّه . فقال : حدثني أبي ، عن جدي ، عن آبائه(عليهم السلام) قال: قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : خاطر بنفسه من استغنى برأيه .

قال فقلت له: زدني يا ابن رسول اللّه . فقال: حدثني أبي ، عن جدي ، عن آبائه(عليهم السلام) قال : قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : قلة العيال أحد اليسارين .

قال فقلت له: زدني يا ابن رسول اللّه . فقال : حدثني أبي ، عن جدي ، عن آبائه(عليهم السلام) قال : قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : من دخله العجب هلك .

قال فقلت له: زدني يا ابن رسول اللّه . فقال : حدثني أبي ، عن جدي ، عن آبائه(عليهم السلام) قال: قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : من أيقن بالخلف جاد بالعطية .

قال فقلت له: زدني يا ابن رسول اللّه . فقال : حدثني أبي ، عن جدي ، عن آبائه(عليهم السلام) قال : قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : من رضي بالعافية ممن دونه ، رزق السلامة ممن فوقه ، قال : فقلت له: حسبي ) .

في فضل فاطمة الزهراء(عليها السلام) :

في الثاقب في المناقب/290: (عن أبي جعفر الثاني(عليه السلام) قال:بعث رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) سلمان رضي اللّه عنه إلى فاطمة(عليها السلام) لحاجة . قال سلمان:وقفت بالباب وقفة حتى

ص: 324

سلمت ، فسمعت فاطمة تقرأ القرآن خفاءً ، والرحى تدور من برا ما عندها أنيس ! قال: فعدت إلى رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقلت: يا رسول اللّه ، رأيت أمراً عظيماً ! فقال: وما هو يا سلمان ، تكلم بما رأيت . قلت: وقفت بباب ابنتك يا رسول اللّه فسمعت فاطمة تقرأ القرآن من خفاء ، والرحى تدور من بر ، وما عندها أنيس ! فتبسم(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: يا سلمان إن ابنتي فاطمة ملأ اللّه قلبها وجوارحها إيماناً ويقيناً إلى ما شاء ، ففزعت لطاعة ربها ، فبعث اللّه ملكاً إسمه روفائيل ، فأدار لها الرحى ، فكفاها اللّه مؤونة الدنيا والآخرة ).

في فضل الإمام الحسين(عليه السلام) :

في معاني الأخبار/289والبحار(44/297)، عن الإمام الجواد(عليه السلام) قال: (قال علي بن الحسين(عليه السلام) : لما اشتد الأمر بالحسين بن علي بن أبي طالب(عليه السلام) نظر إليه من كان معه فإذا هو بخلافهم ، لأنهم كلما اشتد الأمر تغيرت ألوانهم ، وارتعدت فرائصهم ، ووجبت قلوبهم ، وكان الحسين(عليه السلام) وبعض من معه من خصائصه تشرق ألوانهم ، وتهدأ جوارحهم ، وتسكن نفوسهم ، فقال بعضهم لبعض: أنظروا لا يبالي بالموت ! فقال لهم الحسين(عليه السلام) : صبراً بني الكرام ، فما الموت إلا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة ، فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر . وما هو لأعدائكم إلا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب . إن أبي حدثني عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن الدنيا سجن المؤمن

ص: 325

وجنة الكافر ، والموت جسر هؤلاء إلى جناتهم ، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ، ما كذبت ولا كذبت ) .

وفي إقبال الأعمال (1/383): (عن عبد العظيم الحسني، عن أبي جعفر الثاني(عليه السلام) في حديث قال: من زار الحسين(عليه السلام) ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان ، وهي الليلة التي يرجى أن تكون ليلة القدر ، وفيها يفرق كل أمر حكيم ، صافحه روح أربعة وعشرين ألف ملك ونبي ، كلهم يستأذن اللّه في زيارة الحسين(عليه السلام) في تلك الليلة ) .

(6) بعض ما روي عنه في ولده المهدي(عليهما السلام)

1. في غيبة الطوسي/435: (عن علي بن مهزيار قال:قال أبو جعفر(عليه السلام) : كأني بالقائم يوم عاشوراء ، يوم السبت ، قائماً بين الركن والمقام ،بين يديه جبرئيل ينادي: البيعة للّه . فيملؤها عدلاً ، كما ملئت ظلماً وجوراً ) .

2. في الإحتجاج (2/249): (عن عبد العظيم الحسني قال: قلت لمحمد بن علي بن موسى: يا مولاي أني لأرجو أن تكون القائم من أهل بيت محمد الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. فقال(عليه السلام) : ما منا إلا قائم بأمر اللّه ، وهادٍ إلى دين اللّه ، ولكن القائم الذي يطهر اللّه به الأرض من أهل الكفر والجحود ويملأ الأرض قسطا وعدلاً ، هو الذي تخفى على الناس ولادته ، ويغيب عنهم شخصه ، ويحرم عليهم تسميته ، وهو سمي رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكَنِيُّهُ

ص: 326

وهو الذي تطوى له الأرض ويذل له كل صعب. يجتمع إليه من أصحابه عدة أهل بدر، ثلاث مائة وثلاثة عشر، رجلاً من أقاصي الأرض . وذلك قول اللّه: أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَاتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَئٍْ قَدِيرٌ، فإذا اجتمعت له هذه العدة من أهل الإخلاص أظهر اللّه أمره ، فإذا كمل له العقد وهو عشرة آلاف رجل خرج بإذن اللّه ، فلا يزال يقتل أعداء اللّه حتى يرضى عز وجل.

قال عبد العظيم: فقلت له: يا سيدي فكيف يعلم أن اللّه قد رضي؟ قال: يلقي في قلبه الرحمة ) .

3. وفي معجم أحاديث الإمام المهدي(عليه السلام) (4 /184): (حدثنا عبد العظيم بن عبد اللّه بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب الحسني قال: دخلت على سيدي محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليه السلام) وأنا أريد أن أسأله عن القائم أهو المهدي أو غيره ، فابتدأني فقال لي: يا أبا قاسم إن القائم منا هو المهدي الذي يجب أن ينتظر في غيبته ، ويطاع في ظهوره ، هو الثالث من ولدي .

والذي بعث محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالنبوة ، وخصنا بالإمامة ، إنه لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول اللّه ذلك اليوم حتى يخرج فيه ، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ، وإن اللّه تبارك وتعالى ليصلح له أمره في ليلة ، كما أصلح أمر كليمه موسى(عليه السلام) إذ ذهب ليقتبس لأهله ناراً فرجع وهو رسول نبي . ثم قال(عليه السلام) : أفضل أعمال شيعتنا انتظار الفرج .

ص: 327

4. عن أمية بن علي القيسي قال:قلت لأبي جعفر محمد بن علي الرضا(عليهما السلام) : مَن الخلف بعدك؟ فقال: ابني علي وابنا علي ، ثم أطرق ملياً ، ثم رفع رأسه ثم قال: إنها ستكون حيرة . قلت: فإذا كان ذلك فإلى أين؟ فسكت ثم قال: لا أين ! حتى قالها ثلاثاً ، فأعدت عليه فقال: إلى المدينة ، فقلت: أي المدن ؟ فقال: مدينتنا هذه وهل مدينة غيرها ؟!

5. عن الصقر بن أبي دلف قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الرضا(عليهما السلام) يقول: إن الإمام بعدي ابني علي ، أمره أمري وقوله قولي وطاعته طاعتي ، والإمام بعده ابنه الحسن ، أمره أمر أبيه وقوله قول أبيه وطاعته طاعة أبيه ، ثم سكت .

فقلت له : يا ابن رسول اللّه فمن الإمام بعد الحسن ؟ فبكى(عليه السلام) بكاء شديداً ، ثم قال: إن من بعد الحسن ابنه القائم بالحق المنتظر . فقلت له: يا ابن رسول اللّه لم سمي القائم ؟ قال: لأنه يقوم بعد موت ذكره ، وارتداد أكثر القائلين بإمامته . فقلت له: ولمَ سمي المنتظر؟ قال: لأن له غيبة تكثر أيامها ويطول أمدها ، فينتظر خروجه المخلصون ، وينكره المرتابون ، ويستهزئ بذكره الجاحدون ، ويَكذب فيها الوقاتون ، ويَهلك فيها المستعجلون ، وينجو فيها المُسَلِّمُون ).

6. وفي الغيبة للنعماني/314: (حدثنا أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري ، قال: كنا عند أبي جعفر محمد بن علي الرضا(عليه السلام) فجرى ذكر السفياني ، وما جاء في الرواية من أن أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر: هل يبدو للّه في المحتوم؟قال:

ص: 328

نعم . قلنا له: فنخاف أن يبدو للّه في القائم . فقال: إن القائم من الميعاد ، واللّه لا يخلف الميعاد ) .

أقول: معنى المحتوم من اللّه تعالى الذي لا بد من وقوعه ، لذلك يشكل معنى هذه الرواية ، ولو صح سندها فلا بد من تأويلها بأنها تقصد البداء أو التغيير في تفاصيل المحتوم ، لا في أصله ، ولذلك ردها ظاهرها علماؤنا . قال المجلسي: (52/251): (يحتمل أن يكون المراد بالبداء في المحتوم البداء في خصوصياته ، لا في أصل وقوعه).

وقال السيد جعفر مرتضى في توضيح الواضحات/37: (هذه الرواية ضعيفة السند فلا يعول عليها، ولا يوجد نص معتبر يؤيد مضمونها ، ونحن نعتقد أن المحتوم لا يقع فيه للّه بداء..وذهب جمع من الفقهاء إلى أن المحتوم ليس للّه تعالى فيه بداء) .

ص: 329

(7) من قصار كلماته(عليه السلام)

في تحف العقول/456: (قال(عليه السلام) : من شهد أمراً فكرهه ، كان كمن غاب عنه . ومن غاب عن أمر فرضيه ، كان كمن شهده .

وقال(عليه السلام) : من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان الناطق عن اللّه فقد عبد اللّه وإن كان الناطق ينطق عن لسان إبليس فقد عبد إبليس .

وقال له رجل: أوصني. قال:وتقبل؟ قال: نعم . قال: توسد الصبر واعتنق الفقر ، وارفض الشهوات وخالف الهوى.واعلم أنك لن تخلو من عين اللّه فانظر كيف تكون.

وقال(عليه السلام) : إظهار الشئ قبل أن يستحكم ، مفسدة له ).

وقال(عليه السلام) : إياك ومصاحبة الشرير، فإنه كالسيف ، يحسن منظره ، ويقبح أثره .

وقال(عليه السلام) : قد عاداك من ستر عنك الرشد ، اتباعاً لما تهواه .

وقال(عليه السلام) : كفى بالمرء خيانةً أن يكون أميناً للخونة .

وقال(عليه السلام) : لا يضرك سخط من رضاه الجور .

وقال(عليه السلام) : لو سكت الجاهل ، ما اختلف الناس ).

وفي تفسير العسكري/342: (قال محمد بن علي(عليهما السلام) : العالم كمن معه شمعة تضئ للناس، فكل من أبصر بشمعته دعا له بخير . كذلك العالم معه شمعة تزيل ظلمة الجهل والحيرة . فكل من أضاءت له فخرج بها من حيرة ، أونجا بها من جهل ، فهو من عتقائه من النار ) .

وقال(عليه السلام) : (كشف الغمة:3/138): (ما عظمت نعمة اللّه على عبد إلا عظمت عليه مؤونة الناس ، فمن لم يحتمل تلك المؤونة ، فقد عرض النعمة للزوال .

ص: 330

وقال(عليه السلام) : أهل المعروف إلى اصطناعه أحوج من أهل الحاجة إليه .

وقال(عليه السلام) : من كثر همه سقم جسده . والمؤمن لا يشتفي غيظه .

وقال(عليه السلام) : عنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه .

وقال(عليه السلام) : عليكم بطلب العلم ، فإن طلبه فريضة والبحث عنه نافلة ، وهو صلة بين الإخوان ، ودليل على المروة ، وتحفة في المجالس وصاحبٌ في السفر وآنسٌ في الغربة .

وقال(عليه السلام) : من عرف الحكمة ، لم يصبر على الإزدياد منها .

وقال(عليه السلام) : الجمال في اللسان ، والكمال في العقل.

وقال(عليه السلام) : أَقْصَدُ العلماء للمحجة الممسكُ عند الشبهة .

وقال(عليه السلام) : من أحب البقاء فليُعِدَّ للبلاء قلباً صبوراً .

وقال(عليه السلام) : الصبر على المصيبة مصيبة على الشامت بها .

وقال(عليه السلام) : من استحسن قبيحاً كان شريكاً فيه .

وقال(عليه السلام) : لا يفسدك الظن على صديق وقد أصلحك اليقين له .

وقال(عليه السلام) : لا يزال العقل والحمق يتغالبان على الرجل إلى ثمانية عشر سنة ، فإذا بلغها غلب عليه أكثرهما فيه .

وقال(عليه السلام) : ما أنعم اللّه عز وجل على عبد نعمه فعلم أنها من اللّه إلا كتب اللّه جل اسمه له شكرها قبل ان يحمده عليها .

وقال(عليه السلام) : موت الانسان بالذنوب أكثر من موته بالأجل . وحياته بالبر أكثر من حياته بالعمر ) . (موسوعة الإمام الجواد(عليه السلام) :2/355 2) .

ص: 331

(8) بعض ما روي عنه(عليه السلام) في الطب

1. في مناقب آل أبي طالب (3/495): (روى الحسين بن أحمد التميمي ، عن أبي جعفر الثاني(عليه السلام) أنه استدعى فاصداً في أيام المأمون فقال له: إفصدني في العرق الزاهر ، فقال له: ما أعرف هذا العرق يا سيدي ولا سمعته ، فأراه إياه ، فلما فصده خرج منه دم أصفر فجرى حتى امتلأ الطست . ثم قال له: أمسكه ، فأمر بتفريغ الطست ، ثم قال: خل عنه ، فخرج دون ذلك . فقال: شده الآن .

فلما شد يده أمر له بمائة دينار فأخذها ، وجاء إلى بَخْنَاس(هو يوحنا بن يوشع الطبيب) فحكى له ذلك ، فقال: واللّه ما سمعت بهذا العرق مذ نظرت في الطب ، ولكن هاهنا فلان الأسقف قد مضت عليه السنون، فامض بنا إليه فإن كان عنده علمه وإلا لم نقدر على من يعلمه . فمضيا ودخلا عليهوقص القصص ، فأطرق ملياً ثم قال: يوشك أن يكون هذا الرجل نبياً ، أو من ذرية نبي).

2. وفي طب الأئمة(عليهم السلام) /90: (حدثنا عبد اللّه بن عثمان ، قال: شكوت إلى أبي جعفر محمد بن علي بن موسى برد المعدة في معدتي وخفقاناً في فؤادي .

فقال(عليه السلام) : أين أنت عن دواء أبي وهو الدواء الجامع؟ قلت: يا ابن رسول اللّه ، وما هو؟ قال: معروف عند الشيعة . قلت: سيدي ومولاي ، فأنا كأحدهم فأعطني صفته حتى أعالجه وأعطي الناس؟ قال: خذ زعفران ، وعاقر قرحا ، وسنبل ، وقاقلة ، وبنج وخربق أبيض ، وفلفل أبيض ، أجزاء سواء ، وأبرفيون جزءين ، يدق ذلك كله دقاً ناعماً ، وينخل بحريرة ، ويعجن بضعفي وزنه عسلاً

ص: 332

منزوع الرغوة ، فيسقى منه صاحب خفقان الفؤاد ، ومن به برد المعدة حبة بماء كمون يطبخ ، فإنه يعافي بإذن اللّه تعالى ).

3. وفي طب الأئمة(عليهم السلام) /90: (محمد بن النضر مؤدب ولد أبي جعفر محمد بن علي بن موسى(عليهم السلام) قال : شكوت إليه ما أجد من الحصاة ، فقال: ويحك أين أنت عن الجامع دواء أبي ؟ فقلت: سيدي ومولاي أعطني صفته ، فقال: هو عندنا ، يا جارية أخرجي البستوقة الخضراء . قال فأخرجت البستوقة وأخرج منها مقدار حبة ، وقال: إشرب هذه الحبة بماء السداب أو بماء الفجل المطبوخ ، فإنك تعافى منه . قال فشربته بماء السداب ، فواللّه ما أحسست بوجعه إلى يومنا هذا) .

والسداب والسذاب: ويسمى الفيجن والفيجل ، نبات كالزعتر كريه الرائحة .

4. وفي الكافي (8/191): (عن محمد بن عمرو بن إبراهيم ، قال: إبراهيم قال : سألت أبا جعفر(عليه السلام) وشكوت إليه ضعف معدتي ، فقال: إشرب الحِزَّاء بالماء البارد ، ففعلت فوجدت منه ما أحب ). والحِزَّاء: نبات صحراوي يشبه الكرفس .

5. في طب الأئمة(عليهم السلام) /70: (حدثنا الصباح بن محارب قال: كنت عند أبي جعفر ابن الرضا(عليهما السلام) فذكر: أن شبيب بن جابر ضربته الريح الخبيثة ، فمالت بوجهه وعينيه . فقال: يؤخذ له القرنفل خمسة مثاقيل ، فيصيَّر في قنينة يابسة ، ويضم رأسها ضماً شديداً ، ثم تطين وتوضع في الشمس قدر يوم في الصيف ، وفي الشتاء قدر يومين . ثم تخرجه فتسحقه سحقاً ناعماً ، ثم تديفه بماء المطر حتى يصير بمنزلة الخلوق.ثم يستلقي على قفاه ويُطلى ذلك القرنفل المسحوق على

ص: 333

الشق المائل ، ولا يزال مستلقياً حتى يجف القرنفل، فإنه إذا جف رفع اللّه عنه ، وعاد إلى أحسن عادته ، بإذن اللّه تعالى . قال: فابتدر إليه أصحابنا فبشروه بذلك فعالجه بما أمره به(عليه السلام) ، فعاد إلى أحسن ما كان بعون اللّه تعالى ) .

6. وفي الكافي (6/312): (عن علي بن مهزيار ، قال: تغديت مع أبي جعفر(عليه السلام) فأتي بقطاة، فقال: إنه مبارك ، وكان أبي(عليه السلام) يعجبه ، وكان يأمر أن يطعم صاحب اليرقان ، يشوى له ، فإنه ينفعه ) .

7. وفي الكافي (6/307): (عن علي بن مهزيار، قال: إن جارية لنا أصابها الحيض وكان لا ينقطع عنها، حتى أشرفت على الموت . فأمر أبو جعفر(عليه السلام) أن تُسقى سَويق العدس ، فسقيت فانقطع عنها وعوفيت ).

والسَّوِيقُ: هو مطحون العدس أو غيره ، بعد أن يُقْلى .

**

ص: 334

الفصل العاشر : شخصيات من أصحاب الإمام الجواد(عليه السلام)

أسماء بعض كبار أصحاب الإمام الجواد(عليه السلام)

في مناقب آل أبي طالب (3/487): (كان بابه عثمان بن سعيد السمان . ومن ثقاته: أيوب بن نوح بن دراج الكوفي ، وجعفر بن محمد بن يونس الأحول ، والحسين بن مسلم بن الحسن ، و المختار بن زياد العبدي البصري ، ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب الكوفي .

ومن أصحابه: شاذان بن الخليل النيشابوري ، ونوح بن شعيب البغدادي ، ومحمد بن أحمد المحمودي ، وأبو يحيى الجرجاني ، وأبو القاسم إدريس القمي ، وعلي بن محمد ، وهارون بن الحسن بن محبوب ، وإسحاق بن إسماعيل النيشابوري ، و أبو حامد أحمد بن إبراهيم المراغي ، وأبو علي بن بلال ، وعبد اللّه بن محمد الحصيني ، ومحمد بن الحسن بن شمون البصري ).أقول: هؤلاء الذين ذكرهم ابن شهرآشوب ، هم بعض ثقاته وأصحابه(عليه السلام) ، وقد ذكرت مصادر الرجال والحديث تلاميذه(عليه السلام) والرواة عنه وهم بالعشرات . ووصل بهم بعضهم الى مئتين وخمسين . وغرضنا هنا أن نترجم لنماذج منهم ، وقد تقدمت ترجمة محمد بن الفرج الرخجي(رحمه اللّه) :

ص: 335

(1) السفير الأول عثمان بن سعيد العمري رضي اللّه عنه

قال الشيخ الطوسي في الأبواب/389 و447:( عثمان بن سعيد العمري ، يكني أبا عمرو السمان ، ويقال له الزيات . خدمه(عليه السلام) وله إحدى عشرة سنة ، وله إليه عهد معروف.. محمد بن عثمان بن سعيد العمري، يكنى أبا جعفر ، وأبوه يكنى أبا عمرو ، جميعاً وكيلان من جهة صاحب الزمان(عليه السلام) ، ولهما منزلة جليلة عند الطائفة ).

أقول: فالعمري رضوان اللّه عليه وكيل لأربعة من الأئمة المعصومين صلوات اللّه عليهم وثقتهم ومعتمدهم ، فهو من شبابه(رحمه اللّه) بواب الإمام الهادي(عليه السلام) ووكيله ، ثم كان وكيل الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) ووكيل ابنه الإمام المهدي صلوات اللّه عليهم .

قال السيد ابن طاووس في الطرائف/183: ( وكان له(عليه السلام) وكلاء ظاهرون في غيبته معروفون بأسمائهم وأنسابهم وأوطانهم ، يخبرون عنه بالمعجزات والكرامات ، وجواب أمور المشكلات ، بكثير مما ينقله عن آبائه عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن اللّه تعالى من الغائبات ، منهم عثمان بن سعيد العمري المدفون بقطقطان ، من الجانب الغربي ببغداد).

وفي غيبة الطوسي/215، عن محمد بن إسماعيل وعلي بن عبد اللّه ، الحسنيين قالا: (دخلنا على أبي محمد الحسن(عليه السلام) بسر من رأى ، وبين يديه جماعة من أوليائه وشيعته حتى دخل عليه بدر خادمه فقال : يا مولاي بالباب قوم شعث غبر ، فقال لهم: هؤلاء نفر من شيعتنا باليمن ، في حديث طويل يسوقانه إلى أن قال

ص: 336

الحسن(عليه السلام) لبدر: فامض فائتنا بعثمان بن سعيد العمري ، فما لبثنا إلا يسيراً حتى دخل عثمان فقال له سيدنا أبو محمد(عليه السلام) : إمض يا عثمان فإنك الوكيل والثقة المأمون على مال اللّه ، واقبض من هؤلاء النفر اليمنيين ما حملوه من المال .

ثم ساق الحديث إلى أن قالا: ثم قلنا بأجمعنا: يا سيدنا واللّه إن عثمان لمن خيار شيعتك ، ولقد زدتنا علماً بموضعه من خدمتك ، وأنه وكيلكوثقتك على مال اللّه تعالى . قال : نعم ، واشهدوا عليَّ أن عثمان بن سعيد العمري وكيلي ، وأن ابنه محمداً وكيل ابني مهديكم).

وتوفي عثمان بن سعيد (قدس سرّه) في بغداد ، وقبره فيها قرب الميدان ، وقد حاول الوهابيون تفجيره في أواخر شهر رمضان سنة 1430، ونشرت ذلك وسائل الإعلام:

http : / / www . alcauther . com / html / modules

( نفذ التكفيريون وأعوانهم البعثيون تفجيرين بعبوتين ناسفتين ، استهدفتا المرقد الشريف لعثمان بن سعيد العمري سفير الإمام الحجة عجل اللّه تعالی فرجه الشريف وأكد مصدر أمني مطلع لشبكة نهرين نت أن الإرهابيين زرعوا عبوتين ناسفتين ، واحدة في المرقد الشريف والأخرى في مرآب قريب من المكان . وأضاف المصدر بأن حصيلة هذين التفجيرين كان استشهاد 3 مواطنين وجرح ثمانية آخرين .

والجدير بالذكر أن المرقد الشريف للسفير عثمان بن سعيد العمري ، يقع بالقرب من ساحة الميدان في العاصمة بغداد ، وأن هذا التفجير يأتي ضمن سلسلة تفجيرات تستهدف المراقد المقدسة من جديد).

ص: 337

(2) اللغوي ابن السكيت الدورقي رضي اللّه عنه

قال ابن النديم في الفهرست/79: (كان يعقوب ابن السكيت متصرفاً في أنواع العلم ، وكان أبوه صالحاً ، وكان من أصحاب الكسائي حسن المعرفة بالعربية. وكان يقول: أنا اعلم من أبي بالنحو ، وأبي أعلم مني بالشعر واللغة .

وكان يعقوب يكنى بأبى يوسف ، من علماء بغداد ممن أخذ عن الكوفيين ، وكان مؤدباً لولد المتوكل ، وله معه أخبار.. وله من الكتب: كتاب الألفاظ . كتاب المنطق . كتاب الأمثال . كتاب القلب والإبدال . كتاب الزبرج . كتاب البحث . كتاب المقصور والممدود . كتاب المذكر والمؤنث . كتاب الأجناس ، كبير . كتاب الفرق . كتاب السرج واللجام . كتاب فعل وافعل . كتاب الحشرات . كتاب الأصوات . كتاب الأضداد . كتاب الشجر والنبات . كتاب الوحوش . كتاب الإبل . كتاب النوادر . كتاب معاني الشعر الكبير . كتاب معاني الشعر الصغير . كتاب سرقات الشعراء ومااتفقوا فيه . كتاب ما جاء في الشعر وما حرف عن جهته . كتاب المثنى والمبنى والمكنى . كتاب الأيام والليالي ) .

أقول: كان يعقوب بن السكيت من أصحاب الإمام الكاظم(عليه السلام) فقد روى في مناقب آل أبي طالب:3/414 ، عن البرجمي أنه كان يتذاكر في اللغة مع ابن السكيت في مسجد قرب دار السندي الذي كان مسجوناً فيه الإمام الكاظم(عليه السلام) ، وأنه رأى خروجه من السجن الى المسجد بنحو المعجزة !

ص: 338

ولا بد أن يكون ابن السكيت يومها في العشرينات ، لأن الإمام الكاظم(عليه السلام) توفي في ذلك السجن سنة 183، وقتل ابن السكيت على يد المتوكل سنة 244.

قال أبو الفدا في تاريخه (2/40): (وفيها (سنة245) قَتَلَ المتوكل أبا يوسف يعقوب بن إِسحاق المعروف بابن السكيت ، صاحب كتاب إصلاح المنطق في اللغة وغيره ، وكان إماماً في اللغة والأدب ، قتله المتوكل لأنه قال له: أيمُّا أحب إليك: ابناي المعتز والمؤيد أم الحسن والحسين؟ فغض ابن السكّيت من ابنيه وذكر عن الحسن والحسين ما هما أهله ، فأمر مماليكه فداسوا بطنه، فحمل إلى داره فمات بعد غد ذلك اليوم . وقيل إن المتوكل لما سأل ابن السكيت عن ولديه وعن الحسن والحسين قال له ابن السكيت: واللّه إن قنبراً خادم علي خير منك ومن ولديك ! فقال المتوكل: سُلُّوا لسانه من قفاه ، ففعلوا به ذلك فمات لساعته ، في رجب في هذه السنة المذكورة ، وكان عمره ثمانياً وخمسين سنة ).

ولا يصح قوله عن عمره ، لأنه كان في سنة شهادة الإمام الكاظم(عليه السلام) 183، شاباً يذاكر في مسائل اللغة ، فلا بد أن يكون عندما قتل في السبعينات أو الثمانينات .

وقد اتفق المؤرخون على ذم المتوكل العباسي ، لقتله هذا العالم ظلماً ، وبغضاً لعلي وأهل البيت(عليهم السلام) . وترجموا لابن السكيت وذكروا أن مؤلفاته بلغت نحو ثلاثين مؤلفاً والذي وصلنا منها إصلاح المنطق فقط . راجع:مقدمة المعارف لابن قتيبة ، ووفيات الأعيان: 6/ 395، وحياة الحيوان:2/ 328، والنجوم الزاهرة2/285. وغيرها من المصادر .

وقال ابن العاد الحنبلي في شذرات الذهب:2 /106:( فأمر بسلِّ لسانه من قفاه رحمه اللّه ورضي عنه ، ويقال أنه حمل ديته إلى أولاده ) !

ص: 339

وقد ترجم لابن السكيت علماؤنا ، فقال النجاشي في رجاله/449: (يعقوب بن إسحاق السكيت ، أبو يوسف كان متقدماً عند أبي جعفر الثاني وأبي الحسن(عليهما السلام) ، وله عن أبي جعفر رواية ومسائل ، وقتله المتوكل لأجلالتشيع ، وأمره مشهور ، وكان وجهاً في علم العربية واللغة ، ثقة صدوقاً ، لا يطعن عليه ).

وقال السيد الأمين في أعيان الشيعة (10/305): ( هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الدورقي الأهوازي ، المعروف بابن السكيت النحوي اللغوي الأديب . الذي قتله المتوكل العباسي..كان علماً من أعلام الشيعة وعظمائهم وثقاتهم ، ومن خواص الإمامين محمد التقي وعلي النقي(عليهما السلام) وكان حامل لواء الشعر والأدب والنحو واللغة في عصره . قال ابن خلكان إنه ذكر بعض الثقات أنه ما عبر على جسر بغداد كتاب من اللغة مثل إصلاح المنطق لابن السكيت . وقد اهتم بهذا الكتاب كثير من المحققين ، واختصره الوزير المغربي ، وهذبه الخطيب التبريزي . وروى عن المبرد أنه قال: ما رأيت للبغداديين كتاباً أحسن من كتاب ابن السكيت في المنطق ) .

أقول: تقدم ذكر ابن السكيت في ترجمة يحيى بن أكثم ، ففي مناقب آل أبي طالب: (3/507): ( قال المتوكل لابن السكيت: إسأل ابن الرضا مسأله عوصاء بحضرتي ، فسأله فقال: لمَ بعث اللّه موسى بالعصا؟وبعث عيسى بإبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى؟ وبعث محمداً بالقرآن والسيف...)

فتصدى ابن أكثم وقال: ما لابن السكيت ومناظرته، وإنما هو صاحب نحو وشعر ولغة! ورفع قرطاساً فيه مسائل . فأملى علي بن محمد(عليه السلام) على ابن السكيت جوابها وأمره أن يكتب..). وهو يدل على علم ابن السكيت وأدبه ، وخبث ابن أكثم !

ص: 340

(3) الشاعر النابغة أبو تمام الطائي

قال السيد الخوئي في معجمه (5/196): (حبيب بن أوس: قال النجاشي: حبيب بن أوس، أبو تمام الطائي ، كان إمامياً وله شعر في أهل البيت(عليهم السلام) كثير ، وذكر أحمد بن الحسين(رحمه اللّه) أنه رأى نسخة عتيقة قال: لعلها كتبت في أيامه أو قريباً منه ، وفيها قصيدة يذكر فيها الأئمة(عليهم السلام) حتى انتهى إلى أبي جعفر الثاني(عليه السلام) لأنه توفي في أيامه . وقال الجاحظ في كتاب الحيوان: وحدثني أبو تمام الطائي ، وكان من رؤساء الرافضة . له كتاب الحماسة ، وكتاب المختار شعر القبائل ، أخبرنا أبو أحمد عبد السلام بن الحسين البصري .

وعده ابن شهرآشوب في معالم العلماء: من الشعراء المتقنين . وذكره الشيخ الحر في أمل الآمل ونقل ترجمته عن النجاشي والعلامة ثم قال:وقال صاحب كتاب طبقات الأدباء: أبو تمام ، حبيب بن أوس الطائي الشاعر ، شامي الأصل ، كان بمصر في حداثته يسقي الماء في المسجد الجامع ، ثم جالس الأدباء فأخذ منهم وتعلم ، وكان فهماً فطناً ، وكان يحب الشعر فلم يزل يعانيه ، حتى قال الشعر وأجاده ، وساد شعره ، وشاع ذكره ، وبلغ المعتصم خبره ، فحمله إليه وهو بسر من رأى ، فعمل أبو تمام قصائد وأجازه المعتصم وقدمه على شعراء وقته . وقدم بغداد فجالس بها الأدباء وعاشر العلماء . وكان موصوفاً بالظرف وحسن الأخلاق وكرم النفس... وقد قال جماعة من العلماء إنه أشعر الشعراء . ومن تلامذته البحتري ، وتبعهما المتنبي وسلك طريقتهما ، وقد أكثر في شعره من الحكم والآداب ، وديوانه في غاية الحسن ، وبعضهم فضل البحتري عليه. وقال

ص: 341

ابن الرومي: وأرى البحتري يسرق ما قاله ابن أوس في المدح والتشبيب ، وكل بيت له تجود معناه فمعناه لابن أوس حبيب).وروى ابن شهرآشوب لأبي تمام:

ربيَ اللّهُ والأمينُ نبيي *** صفوةُ اللّه والوصيُّ إمامي

ثم سبطا محمد تالياهُ *** وعلي وباقرُ العلم حامي

والتقي الزكي جعفرُ الطيب *** مأوى المعْتَرِّ والمُعْتَام

ثم موسى ثم الرضا عَلَمُ الفضل *** الذي طالَ سائر الأعلام

والصفيُّ محمدُ بن علي *** والمعرَّى من كل سوءٍ وذامِ

والزكيُّ الإمام مع نجله القائمِ *** مولى الأنام نورِ الظلام

أُبْرِزَتْ منه رأفةُ اللّه بالناس *** لترك الظلام بدر التمام

فرع صدق نما إلى الرتبة القصوى *** وفرعُ النبي لا شك نامي

فهو ماض على البديهة بالفيصل *** من رأى هِزْبَرِيٍّ هُمامِ

عالمٌ بالأمور غارتْ فلم تنجمْ *** وماذا يكون في الإنجام

هؤلاء الأولى أقام بهم حجتهُ *** ذو الجلال والإكرام ).

(4) أبو الصلت عبد السلام بن صالح الهروي

من خصائص أبي الصلت الهروي(رحمه اللّه) أنه جمع بين العلاقة الخاصة بالإمام الرضا والإمام الجواد(عليه السلام) ، والعلاقة مع كبار رجال العلم المخالفين لمذهبه ، وهي صفة تحتاج الى ذكاء ومداراة ، خاصة أنه روى أحاديث ثقيلة عليهم في التوحيد والنبوة والإمامة . ولذلك اختلف في توثيقه علماء الجرح والتعديل .

قال الشيخ محمد حياة الأنصاري في معجم الرجال والحديث (1/137):

ص: 342

(عبد السلام بن صالح بن سليمان بن أيوب ، أبو الصلت الهروي ، من رجال ابن ماجة ، سكن نيسابور ورحل في الحديث إلى الأمصار ، وخدم الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) . قال ابن معين: ثقة صدوق إلا أنه يتشيع ، وما أعرفه بالكذب . وقد تكلم فيه الجوزجاني والعقيلي وغيرهما من المتعنتين بدون حجة . حدث عن جعفر بن سليمان ، وأبي معاوية ، ومالك بن أنس ، وحماد بن زيد، وابن المبارك ، وجرير بن عبد الحميد ، وعلي بن هشام ، وغيرهم .

وعنه محمد بن إسماعيل الصراري ، ومعاذ بن المثنى ، وعلي بن حرب وجماعة . ومن حديثه ما رواه أبو جعفر الطبري ، وأبو القاسم الطبراني ، وأبو عبد اللّه النيسابوري ، وأبو بكر الخطيب البغدادي .

وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن إسماعيل الصراري ، قال : حدثنا عبد السلام ابن صالح قال: حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد المدينة فليأت من بابها .ثم ذكر رواية الطبراني والحاكم والخطيب وفي سند كل منها أبو الصلت (رحمه اللّه) ).

وقد اتفق علماؤنا على توثيقه وجلالته. قال النجاشي/245: ( أبو الصلت الهروي، روى عن الرضا، ثقة ، صحيح الحديث . له كتاب وفاة الرضا(عليه السلام) ).

وجاء حوله في معجم السيد الخوئي (11/18): (حدثني العباس الدوري ، قال : سمعت يحيى بن معين يقول: أبو الصلت نقي الحديث ، ورأيناه يسمع ولكن

ص: 343

كان شديد التشيع ولم ير منه الكذب . قال أبو بكر: حدثني أبو القاسم طاهر بن علي بن أحمد ، ذكر أن مولده بالمدينة... سمعت أحمد بن سعيد الرازي يقول: إن أبا الصلت الهروي ثقة مأمون على الحديث ، إلا أنه يحب آل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكان دينه ومذهبه حب آل محمد صلوات اللّه عليهم وعلى أبي الصلت...

ثم قال السيد الخوئي: (لا إشكال في وثاقته ولعلها من المتسالم عليه بين المؤالف والمخالف ، ولم يضعفه إلا الشاذ من العامة كالجعفي والعقيلي. قال ابن حجر في تقريبه: عبد السلام بن صالح بن سليمان أبو الصلت الهروي مولى قريش نزل نيسابور صدوق له مناكير وكان يتشيع وأفرط العقيلي ، فقال:كذاب ).

ثم أجاب السيد الخوئي على قول الشيخ الطوسي إنه عامي بقوله: (والظاهر أنه سهو من قلمه الشريف ، فإن أبا الصلت مضافاً إلى تشيعه كان مجاهراً بعقيدته أيضاً ، ومن هنا تسالم علماء العامة على أنه شيعي، صرح بذلك ابن حجر وغيره. ويؤكد ذلك ما تقدم من الكشي وما رواه الصدوق عن أبيه قال: حدثنا محمد بن معقل القرميسيني، عن محمد بن عبد اللّه بن طاهر ، قال: كنت واقفا على رأس أبي وعنده أبو الصلت الهروي ، وإسحاق بن راهويه ، وأحمد بن محمد بن حنبل ، فقال أبي: ليحدثني كل رجل منكم بحديث ، فقال أبو الصلت الهروي : حدثني علي بن موسى الرضا، وكان واللّه رضاً كما سمي ، عن أبيه موسى بن جعفر ، عن أبيه جعفر بن محمد ، عن أبيه محمد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن علي ، عن أبيه علي بن أبي طالب(عليهم السلام) قال : قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) :

ص: 344

الإيمان قول وعمل . فلما خرجنا قال أحمد بن محمد بن حنبل: ما هذا الإسناد؟ فقال له أبي: هذا سعوط المجانين ، إذا سعط به المجنون أفاق )!

وقد روى هذا الحديث الطوسي في أماليه/36، وفيه: (قال رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : الإيمان قول مقول ، وعمل معمول ، وعرفان العقول . قال أبو الصلت: فحدثت بهذا الحديث في مجلس أحمد بن حنبل ، فقال لي أحمد: يا أبا الصلت ، لو قرئ بهذا الإسناد على المجانين لأفاقوا ) .

ورواه في الأمالي أيضاً/449 ، وفيه: (فتذاكروا الإيمان ، فابتدأ إسحاق بن راهويه فتحدث فيه بعدة أحاديث ، وخاض الفقهاء وأصحاب الحديث في ذلك وأبو الصلت ساكت فقيل له: يا أبا الصلت ألا تحدثنا ، فقال...قال:فخرس أهل المجلس كلهم ، ونهض أبو الصلت ، فنهض معه إسحاق بن راهويه والفقهاء ، فأقبل إسحاق بن راهويه على أبي الصلت وقال له ونحن نسمع: يا أبا الصلت أيُّ إسناد هذا ؟ فقال: يا ابن راهويه هذا سعوط المجانين ، هذا عطر الرجال ذوي الألباب ).

وتقدمت رواية أبي الصلت (عيون أخبار الرضا(عليه السلام) :2/271) في وصية الإمام الرضا(عليه السلام) له في دفنه ، وكيف حفر له عند قبر هارون بحضور المأمون ، فظهرت الآية التي أخبره بها وهي ماء فيه سمك ، فقرأ ما علمه فجف الماء ! فقال المأمون (يا أبا الصلت علمني الكلام الذي تكلمت به ، قلت: واللّه لقد نسيت الكلام من ساعتي، وقد كنت صدقت ، فأمر بحبسي! ودفنالرضا(عليه السلام) فحبست سنة فضاق عليَّ الحبس ، وسهرت الليلة ودعوت اللّه تبارك وتعالى بدعاء ذكرت فيه

ص: 345

محمداً وآل محمد صلوات اللّه عليهم ، وسألت اللّه بحقهم أن يفرج عني ، فما استتم دعائي حتى دخل عليَّ أبو جعفر محمد بن علي(عليهما السلام) فقال لي: يا أبا الصلت ضاق صدرك؟ فقلت: إي واللّه . قال: قم ، فأخرجني ثم ضرب يده إلى القيود التي كانت علي ففكها ، وأخذ بيدي وأخرجني من الدار والحرسة والغلمان يرونني ، فلم يستطيعوا أن يكلموني ! وخرجت من باب الدار ، ثم قال لي إمض في ودائع اللّه ، فإنك لن تصل إليه ولا يصل إليك أبداً ! فقال أبو الصلت: فلم ألتق المأمون إلى هذا الوقت ).

هذا وقد روى أبو الصلط(رحمه اللّه) أحاديث مهمة لايتسع لها المجال ، منها ما رواه الصدوق في أماليه/120: (قال: سمعت الرضا(عليه السلام) يقول:واللّه ما منا إلا مقتول شهيد . فقيل له: فمن يقتلك يا بن رسول اللّه؟ قال: شر خلق اللّه في زماني يقتلني بالسم ثم يدفنني في دار مضيعة وبلاد غربة ) !

ورواياته عن خلافة أمير المؤمنين(عليه السلام) وعن ولاية عهد الإمام الرضا(عليه السلام) ، تدل على مستوى وعيه السياسي العالي(رحمه اللّه) .

(5) داود بن القاسم أبو هاشم الجعفري

قال السيد الخوئي في معجمه (8/122): (قال النجاشي: داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب ، أبو هاشم الجعفري(رحمه اللّه) : كان عظيم المنزلة عند الأئمة(عليهم السلام) ، شريف القدر ، ثقة ، روى أبوه عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) . وقال الشيخ: داود بن القاسم الجعفري، يكنى أبا هاشم ، من أهل بغداد ، جليل

ص: 346

القدر عظيم المنزلة عند الأئمة(عليهم السلام) ، وقد شاهد جماعة منهم: الرضا والجواد والهادي والعسكري وصاحب الأمر، وقد روى عنهم كلهم(عليهم السلام) .

وله أخبار ومسائل ، وله شعر جيد فيهم ، وكان مقدماً عند السلطان ، وله كتاب أخبرنا به عدة من أصحابنا عن أبي المفضل ، عن ابن بطة ، عن أحمد بن أبي عبد اللّه عنه... روى عن أبي الحسن(عليه السلام) وروى عنه سهل بن زياد ، كامل الزيارات: الباب90، في أن الحائر من المواضع التي يحب اللّه أن يدعى فيها ..وعن ربيع الشيعة أنه من السفراء والأبواب المعروفين الذين لايختلف الشيعة القائلون بإمامة الحسن بن علي(عليه السلام) فيهم .

روى الكليني في الكافي... عن داود بن القاسم الجعفري قال: دخلت على أبي جعفر(عليه السلام) ومعي ثلاث رقاع غير معنونة واشتبهت عليَّ فاغتممت ، فتناول إحداها وقال: هذه رقعة زياد بن شبيب ، ثم تناول الثانية فقال هذه رقعة فلان فبهتُّ أنا ، فنظر إليَّ فتبسم، فقلت: جعلت فداك إني لمولع بأكل الطين فادع اللّه لي . فسكت ، ثم قال لي بعد ثلاثة أيام ابتداءً منه: يا أبا هاشم قد أذهب اللّه عنك أكل الطين . قال أبو هاشم: فما شئ أبغض إلي منه اليوم... وكيف كان فلا إشكال في وثاقة الرجل وجلالته ).

ومن أحاديثه المميزة ما رواه في الكافي (1/23): (كنا عند الرضا(عليه السلام) فتذاكرنا العقل والأدب فقال: يا أبا هاشم العقل حباء من اللّه ، والأدب كلفة ، فمن تكلف الأدب قدر عليه ، ومن تكلف العقل لم يزدد بذلك إلا جهلاً ) !

ص: 347

موقف أبي هاشم الجعفري من ثورة يحيى الجعفري

كان أبو هاشم الجعفري رضي اللّه عنه من أصحاب الأئمة المعصومين(عليهم السلام) ، ولم يكن خطهم الثورة كالعلويين الثائرين من الزيديين وغيرهم ، ولكنهم كانوا يتضامنون مع الثائرين إذا فشلوا أو نُكبوا ، ويدافعون عنهم .

وأبو هاشم هو داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب رضي اللّه عنه. وفي سنة250هجرية ثار في الكوفة يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن عبد اللّه بن إسماعيل بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب ، رضي اللّه عنه ، وفشلت ثورته وقتل . وقد روى الطبري والمسعودي وغيرهما من المؤرخين أحداث هذه الثورة ، وموقف أبي هاشم مع القائد العباسي .

قال الطبري (7/425): (ثم دخلت سنة خمسين ومائتين. ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث، فمن ذلك ما كان من ظهور يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، المكنى بأبي الحسين بالكوفة ، وفيها كان مقتله .. نالته ضيقة شديدة ولزمه دين ضاق به ذرعاً فلقى عمر بن فرج وهو يتولى أمر الطالبيين عند مقدمه من خراسان ، أيام المتوكل فكلمه في صلته فأغلظعليه عمر القول ، فقذفه يحيى بن عمر في مجلسه فحبس فلم يزل محبوساً إلى أن كفل به أهله ، فأطلق بشخص إلى مدينة السلام (بشرط السكن في بغداد) فأقام بها بحال سيئة ،ثم صار إلى سامرا فلقي وصيفا في رزق يُجرى له ، فأغلظ له وصيف في القول وقال: لأي شئ يجرى على مثلك ! فانصرف عنه ، فذكر ابن أبي طاهر أن ابن الصوفي الطالبي حدثه أنه أتاه في الليلة

ص: 348

التي كان خروجه في صبيحتها فبات عنده ولم يعلمه بشئ مما عزم عليه ، وأنه عرض عليه الطعام وتبين فيه أنه جائع ، فأبى أن يأكل وقال: إن عشنا أكلنا .

قال: فتبينت أنه قد عزم على فتكةٍ وخرج من عندي فجعل وجهه إلى الكوفة وبها أيوب بن الحسن بن موسى بن جعفر بن سليمان عاملاً عليها ، من قبل محمد بن عبد اللّه بن طاهر ، فجمع يحيى بن عمر جمعاً كثيراً من الأعراب وضوى إليه جماعة من أهل الكوفة ، فأتى الفلوجة فصار إلى قرية تعرف بالعمد...

فمضى يحيى بن عمر في سبعة نفر من الفرسان إلى الكوفة فدخلها وصار إلى بيت مالها فأخذ ما فيه ، والذي وجد فيه ألفا دينار وزيادة شئ ومن الورق سبعون ألف درهم ، وأظهر أمره بالكوفة وفتح السجنين ، وأخرج جميع من كان فيهما وأخرج عمالها عنها ، فلقيه عبد اللّه بن محمود السرخسي وكان في عداد الشاكرية فضربه يحيى بن عمر ضربة على قصاص شعره في وجهه أثخنته فانهزم ابن محمود مع أصحابه وحوى يحيى ما كان مع ابن محمود من الدواب والمال .

ثم خرج يحيى بن عمر من الكوفة إلى سوادها... وتبعته جماعة من الزيدية... ثم أقام بالبستان فكثر جمعه . فوجه محمد بن عبد اللّه لمحاربته الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن مصعب وضم إليه من ذوي البأس والنجدة من قواده جماعة...

وجماعة من خاصة الخراسانية... ومضى يحيى بن عمر نحو الكوفة فلقيه عبد الرحمن بن الخطاب وجه الفلس فقاتله بقرب جسر الكوفة قتالا شديدا فانهزم عبد الرحمن بن الخطاب..ودخل يحيى بن عمر الكوفة واجتمعت إليه الزيدية

ص: 349

ودعا إلى الرضا من آل محمد وكثف أمره واجتمعت إليه جماعة من الناس وأحبوه وتولاه العامة من أهل بغداد ولا يعلم أنهم تولوا من أهل بيته غيره وبايعه بالكوفة جماعة لهم بصائر وتدبير في تشيعهم ، ودخل فيهم أخلاط لاديانة لهم...فانهزم رجالة أهلالكوفة وأكثرهم عزل بغير سلاح ضعيفي القوى خلقان الثياب ، فداستهم الخيل ، وانكشف العسكر عن يحيى بن عمر وعليه جوشن تبتى وقد تقطر به البرذون... فنزل إليه فذبحه وأخذ رأسه وجعله في قوصرة ووجهه مع عمر بن الخطاب أخي عبد الرحمن بن الخطاب ، إلى محمد بن عبد اللّه بن طاهر ، وادعى قتله غير واحد...

ثم إن محمد بن عبد اللّه بن طاهر أمر بحمل رأسه إلى المستعين من غد.. ونصب رأسه بباب العامة بسامرا..ثم حط ورد إلى بغداد لينصب بها بباب الجسر فلم يتهيأ ذلك لمحمد بن عبد اللّه لكثرة من اجتمع من الناس.. وذكر عن بعض الطاهريين أنه حضر مجلس محمد بن عبد اللّه وهو يُهنأ بمقتل يحيى بن عمر وبالفتح وجماعة من الهاشميين والطالبيين وغيرهم حضور، فدخل عليه داود بن القاسم أبو هاشم الجعفري فيمن دخل فسمعهم يهنونه فقال أيها الأمير إنك لتهنأ بقتل رجل لو كان رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) حياً لعزيَ به ! فما رد عليه محمد بن عبد اللّه شيئاً ، فخرج أبو هاشم الجعفري وهو يقول:

يا بني طاهر كُلُوهُ وَبِيّاً *** إن لحمَ النبيِّ غيرُ مَرِيِّ

إن وتراً يكونُ طالبهُ اللّه *** لوترٌ نجاحُهُ بالحرِيِّ

ص: 350

أقول: تعتبر رواية الطبري في هذه الثورة العلوية وغيرها الرواية الرسمية ، لكن المسعودي روى ثورته ومدحه وذكر موقف أبي هاشم الجعفري القوي ، وأنه ألف كتاباً في شخصية أبي هاشم . والمكان المناسب لتفصيل ذلك سيرة الإمام الهادي(عليه السلام) .

قال في مروج الذهب (4/63): (فقتل وحمل رأسه إلى بغداد وصلب ، فضج الناس من ذلك ، لما كان في نفوسهم من المحبة له ، لأنه استفتح أموره بالكَفِّ عن الدماء ، والتوَرُّع عن أخذ شئ من أموال الناس وأظهر العدل والإنصاف ، وكان ظهوره لذلّ نزل به وجفوة لحقته ، ومحنة نالته من المتوكل وغيره من الأتراك ، ودخل الناس الى محمد بن عبد اللّه بن طاهر يهنئونه بالفتح ، ودخل فيهم أبو هاشم الجعفري وهو داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب بينه وبين جعفر الطيار ثلاثة آباء ، ولم يكن يعرف في ذلك الوقت أقعد نسباً في آل أبي طالب وسائر بني هاشم وقريش منه ، وكان ذا زهد وورع ونسك وعلم ، صحيح العقل ، سليم الحواس ، منتصب القامة ، وقبره مشهور . وقد أتينا على خبره وما روي عنه من الرواية عن أبيه ، ومن شاهد من سلفه ، في كتاب حدائق الأذهان في أخبار آل النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال لابن طاهر... وقد كان المستعين أمر بنصبالرأس ، فأمر ابن طاهر بإنزاله لما رأى من الناس وما هم عليه... وقد رُثي أبو الحسين يحيى بن عمر بأشعار كثيرة ، وقد أتينا على خبر مقتله وما رثي به من الشعر في الكتاب الأوسط ...

وكان يحيى دَيِّناً كثير التعطف والمعروف على عوام الناس ، باراً بخواصهم ، واصلًا لأهل بيته مؤثراً لهم على نفسه ، مُثقَلَ الظهر بالطالبيات يجهد نفسه ببرّهن والتحنن عليهن ، لم تظهر له زلة ، ولا عرفت له خِزْيَة) .

ص: 351

وفي مستدرك سفينة البحار (5/228) أن أبا هاشم الجعفري توفي سنة 261، بعد أن تشرف برؤية الإمام المهدي صلوات اللّه عليه .

(6) عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني

قال النجاشي/248: (عبد العظيم بن عبد اللّه بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام) ، أبو القاسم .

له كتاب خطب أمير المؤمنين(عليه السلام) قال أبو عبد اللّه الحسين بن عبيد اللّه: حدثنا جعفر بن محمد أبو القاسم قال: حدثنا علي بن الحسين السعد آبادي قال: حدثنا أحمد بن محمد بن خالد البرقي قال: كان عبد العظيم ورد الري هارباً من السلطان ، وسكن سرباً في دار رجل من الشيعة في سكة الموالي ، فكان يعبد اللّه في ذلك السرب ، ويصوم نهاره ، ويقوم ليله ، وكان يخرج مستتراً فيزور القبر المقابل قبره وبينهما الطريق ويقول: هو قبر رجل من ولد موسى بن جعفر(عليه السلام) .

فلم يزل يأوى إلى ذلك السرب ، ويقع خبره إلى الواحد بعد الواحد من شيعة آل محمد(عليهم السلام) حتى عرفه أكثرهم. فرأى رجل من الشيعة في المنام رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال له: إن رجلاً من ولدى يحمل من سكة الموالي ، ويدفن عند شجرة التفاح ، في باغ عبد الجبار بن عبد الوهاب ، وأشار إلى المكان الذي دفن فيه ، فذهب الرجل ليشترى الشجرة ومكانها من صاحبها فقال له: لأي شئ تطلب الشجرة ومكانها ، فأخبر بالرؤيا ، فذكر صاحب الشجرة أنه كان رأى مثل هذه الرؤيا ، وأنه قد جعل موضع الشجرة مع جميع الباغ وقفاً على الشريف .والشيعة يدفنون

ص: 352

فيه . فمرض عبد العظيم ومات(رحمه اللّه) فلما جرد ليغسل وجد في جيبه رقعة ، فيها ذكر نسبه ، فإذا فيها: أنا أبو القاسم عبد العظيم ، بن عبد اللّه ، بن علي ، بن الحسن ، بن زيد ، بن الحسن ، بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام) ) .

أقول: هذا نموذج لبطش الحكام وتشريدهم لأهل بيت النبوة(عليهم السلام) . ولعل مطاردة عبد العظيم كانت بعد وفاة الإمام الجواد(عليه السلام) . في حكم المتوكل ووزيره الرخجي الذي كان عدواً لدوداً لبني هاشم !

ولعبد العظيم(رحمه اللّه) مشهد كبير في الري هو أكبرمعالمها ، ويقصده الشيعة للزيارة .

وفي أمالي الصدوق/419: (عن عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني قال: دخلت على سيدي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام) ، فلما بصر بي قال لي: مرحباً بك يا أبا القاسم ، أنت ولينا حقاً . قال: فقلت له: يا بن رسول اللّه ، إني أريد أن أعرض عليك ديني ، فإن كان مرضياً ثبت عليه حتى ألقى اللّه عز وجل . فقال: هات يا أبا القاسم .

فقلت: إني أقول أن اللّه تعالى واحد ليس كمثله شئ ، خارج من الحدين: حد الإبطال وحد التشبيه ، وإنه ليس بجسم ولا صورة ولا عرض ولا جوهر ، بل هو مجسم الأجسام ، ومصور الصور ، وخالق الأعراض والجواهر ، ورب كل شئ ومالكه وخالقه ، وجاعله ومحدثه . وإن محمداً(صلی اللّه عليه وآله وسلم) عبده ورسوله ، خاتم النبيين ، فلا نبي بعده إلى يوم القيامة ، وإن شريعته خاتمة الشرائع فلا شريعة بعدها إلى يوم القيامة .

وأقول إن الإمام والخليفة وولي الأمر بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) ، ثم الحسن ، ثم الحسين ، ثم علي بن الحسين ، ثم محمد بن علي، ثم جعفر بن محمد ، ثم موسى بن جعفر ، ثم علي بن موسى ، ثم محمد بن علي ، ثم أنت يا مولاي . فقال

ص: 353

علي(عليه السلام) : ومن بعدي الحسن ابني ، فكيف للناس بالخلف من بعده؟ قال فقلت: وكيف ذاك يا مولاي؟ قال: لأنه لا يرى شخصه ، ولا يحل ذكره باسمه ، حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً .

قال فقلت: أقررت ، وأقول إن وليهم ولي اللّه ، وعدوهم عدو اللّه ، وطاعتهم طاعة اللّه ، ومعصيتهم معصية اللّه . وأقول إن المعراج حق ، والمسألة في القبر حق، وإن الجنة حق ، والنار حق ، والصراط حق ، والميزان حق ، وإن الساعة آتية لا ريب فيها ، وإن اللّه يبعث من في القبور .

وأقول إن الفرائض الواجبة بعد الولاية الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ، والجهاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

فقال علي بن محمد(عليهما السلام) : يا أبا القاسم ، هذا واللّه دين اللّه الذي ارتضاه لعباده ، فاثبت عليه ، ثبتك اللّه بالقول الثابت ، في الحياة الدنيا وفي الآخرة ).

أقول: تقدم عدد من أحاديث عبد العظيم رضي اللّه عنه ، وأحاديثه بكلها مميزة .

ومنها ما رواه في الكليني (1/372) عن عبد العظيم بسنده عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: (ما ضر من مات منتظراً لامرنا ألا يموت في وسط فسطاط المهدي وعسكره ).

ومنها ما رواه الصدوق في كمال الدين/303، عنه بسنده عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: (للقائم منا غيبة أمدها طويل ، كأني بالشيعة يجولون جولان النعم في غيبته ، يطلبون المرعى فلا يجدونه ! ألا فمن ثبت منهم على دينه ولم يقس قلبه لطول أمد غيبة إمامه ، فهو معي في درجتي يوم القيامة ).

ص: 354

(7) الفضل بن شاذان بن الخليل الأزدي

يوجد عدة أشخاص باسم الفضل بن شاذان ، ومقصودنا الذي جده الخليل ، وبعضهم جده جبرئيل ، أو عيسى ، أوصيفي..الخ.

قال الزركلي في الأعلام (5/149):( الفضل بن شاذان بن الخليل ، أبو محمد الأزدي النيسابوري: عالمٌ بالكلام ، من فقهاء الإمامية . له نحو180 كتاباً ، منها الرد على ابن كرام ، والإيمان ، ومحنة الإسلام ، والرد على الدامغة الثنوية ، والرد على الغلاة ، والتوحيد ، والرد على الباطنية والقرامطة ) .

وقال النجاشي/306 : (كان أبوه من أصحاب يونس ، وروى عن أبي جعفر الثاني(عليه السلام) ، وقيل عن الرضا(عليه السلام) أيضاً ، وكان ثقة . أحد أصحابنا الفقهاء والمتكلمين ، وله جلالة في هذه الطائفة ، وهو في قدره أشهر من أن نصفه . وذكر الكنجي أنه صنف مائة وثمانين كتاباً، وقع إلينا منها..). ونحوه الفهرست/197.

وفي معالم العلماء/125: ( لقي علي بن محمد التقي(عليه السلام) . دخل الفضل على أبي محمد(عليه السلام) فلما أراد أن يخرج سقط منه كتاب من تصنيفه ، فتناوله أبو محمد(عليه السلام) ونظر فيه ، وترحم عليه ، وذكر أنه قال: أغبطُ أهل خراسان مكان الفضل بن شاذان ، وكونه بين أظهرهم ) .

وقال الكشي (2/818): (ذكر أبو الحسن محمد بن إسماعيل البندقي النيسابوري: أن الفضل بن شاذان بن الخليل نفاه عبد اللّه بن طاهر عن نيسابور ، بعد أن دعا به واستعلم كتبه وأمره أن يكتبها ، قال فكتبتحته: الإسلام الشهادتان وما

ص: 355

يتلوهما . فذكر أنه يحب أن يقف على قوله في السلف . فقال أبو محمد: أتولى أبا بكر وأتبرؤ من عمر ! فقال له: ولم تتبرأ من عمر؟فقال: لإخراجه العباس من الشورى . فتخلص منه بذلك ) .

وفي معجم السيد الخوئي(14/311 ) عن بورق: (فخرجت إلى سر من رأى ومعي كتاب يوم وليلة ، فدخلت على أبي محمد(عليه السلام) وأريته ذلك الكتاب فقلت له: جعلت فداك إني رأيت أن تنظر فيه قال: فلما نظر فيه وتصفحه ورقة ورقة فقال: هذا صحيح ينبغي أن يعمل به . فقلت له: الفضل بن شاذان شديد العلة ، ويقولون إنها من دعوتك بموجدتك عليه ، لما ذكروا عنه أنه قال: إن وصي إبراهيم خير من وصي محمد(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولم يقل جعلت فداك هكذا ، كذبوا عليه . فقال: نعم كذبوا عليه ، رحم اللّه الفضل ، رحم اللّه الفضل .

قال بورق: فرجعت فوجدت الفضل قد مات في الأيام التي قال أبو محمد(عليه السلام) رحم اللّه الفضل .

جعفر بن معروف قال: حدثني سهل بن بحر الفارسي، قال: سمعت الفضل بن شاذان آخر عهدي به يقول: أنا خلف لمن مضى ، أدركت محمد بن أبي عمير ، وصفوان بن يحيى وغيرهما ، وحملت عنهم منذ خمسين سنة ، ومضى هشام ابن الحكم(رحمه اللّه) ، وكان يونس بن عبد الرحمان(رحمه اللّه) خلفه ، كان يرد على المخالفين ، ثم مضى يونس بن عبد الرحمان ولم يخلف خلفاً غير السكاك ، فرد على المخالفين حتى مضى(عليه السلام) ، وأنا خلف لهم من بعدهم ، رحمهم اللّه...

ص: 356

قال أبو علي: والفضل بن شاذان كان برستاق بيهق ، فورد خبر الخوارج فهرب منهم، فأصابه التعب من خشونة السفر فاعتل ومات منه ، فصليت عليه ).

وقال الجلالي في فهرس التراث (1/281): (زرت مرقده الشريف خارج مدينة نيشابور ، على مقربة من قبر خيام ، وله سور ولوح فيه إسمه وتبركت بقراءة الفاتحة على روحه الطاهرة ، وقد قصدت مرقده لثواب الآخرة والناس يقصدون خيام للدنياوما أقربهما مرقداً وأبعدهما روحاً ! من آثاره: إثبات الرجعة: نسخة محفوظة في مكتبة السيد الحكيم (قدس سرّه) فيالنجف ، وعليها بخط الحر العاملي . الإيضاح: طبع بتحقيق جلال الدين المحدث) .

أقول: ذكر في الذريعة عدداً من نسخ كتبه ، وأعجب كتبه الرجعة والغيبة ، وهو فيما روي في غيبة الإمام المهدي(عليه السلام) وظهوره ، وقد ألفه قبل ولادته(عليه السلام) !

(8) محمد بن خالد البرقي وابنه أحمد

قال الشيخ في الفهرست/226: ( محمد بن خالد البرقي ، له كتاب النوادر ، رويناه بالإسناد الأول عن أحمد بن محمد بن عيسى ).

وفي عيون أخبار الرضا(عليه السلام) (1/254): (حدثنا محمد بن خالد البرقي قال: حدثني سيدي أبو جعفر محمد بن علي ، عن أبيه علي بن موسى الرضا ، عن أبيه موسى بن جعفر، قال: حدثني الأجلح الكندي ، عن ابن بريده عن أبيه أن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: علي إمام كل مؤمن بعدي ).

ص: 357

واشتهر ابنه أحمد ، وهو صاحب كتاب المحاسن .

قال السيد الخوئي في معجمه(3/49): (قال النجاشي: أحمد بن محمد بن خالد بن عبد الرحمان بن محمد بن علي البرقي أبو جعفر ، أصله كوفي ، وكان جده محمد بن علي حبسه يوسف بن عمر بعد قتل زيد ، وكان خالد صغير السن فهرب مع أبيه عبد الرحمان إلى برق رود ، وكان ثقة في نفسه ، يروي عن الضعفاء ، واعتمد المراسيل وصنف كتباً منها المحاسن وغيرها... وذكر بعض أصحابنا أن له كتباً أخر ، منها كتاب التهاني ، كتاب المغازي ، كتاب أخبار الأصم . أخبرنا بجميع كتبه الحسين بن عبيد اللّه قال: حدثنا أحمد بن محمد أبو غالب الزراري.. وعدد كتبه وقال: وأخبرنا بها ابن أبي جيد.. وعده في رجاله: من أصحاب الجواد والهادي(عليهما السلام) .

قال ابن الغضائري: طعن عليه القميون ، وليس الطعن فيه إنما الطعن في من يروي عنه ، فإنه كان لا يبالي عمن يأخذ على طريقة أهل الأخبار ، وكان أحمد بن عيسى أبعده عن قم ، ثم أعاده إليها واعتذر إليه ، وقال: وجدت كتاباً في وساطة بين أحمد بن محمد بن عيسى ، وأحمد بن محمد بن خالد ، لما توفي مشى أحمد بن محمد بن عيسى في جنازته حافياً حاسراً ، ليبرئ نفسه مما قذفه به ) .

**

ص: 358

الفصل الحادي عشر: ارتباط الإمام الجواد(عليه السلام) باللّه تعالى

(1) كيف يعيش المعصوم(عليه السلام) العبودية للّه تعالى

1. تختلف عبودية المعصوم لربه عز وجل عن عبوديتنا ، في نوعها، وشمولها، ودوامها . فيقين المعصوم باللّه تعالى وشعوره به ، أقوى من شعورنا ، لأنه يملك طاقة لا نملكها ، ويكفي منها الروح القدس الذي يرافقه .

ففي بصائر الدرجات/475، قال الإمام الصادق(عليه السلام) : ( في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح: روح البدن ، وروح القدس ، وروح القوة ، وروح الشهوة ، وروح الإيمان... وروح القدس من سكن فيه فإنه لا يعمل بكبيرة أبداً ).

وفي الكافي (1/272): (فإذا قبض النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) انتقل روح القدس فصار إلى الإمام، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو، والأربعة الأرواح تنام وتغفل وتزهو وتلهو . وروح القدس كان يرى به ) .

تأمل في قوله(عليه السلام) : (وروح القدس كان يرى به) فهو يدل على أن قدرة المعصوم على رؤية الواقع والأمور أعلى من قدراتنا ، ولذلك يختلف جوه وعالمه عن جونا وعالمنا .

فكلمة (اللّه) تعني عنده حقائق أكثر وأقوى مما تعنيه عند أحدنا .

وعبوديته للّه عزوجل ، تعني عنده سلوكية أعمق وأوسع مما تعنيه عند أحدنا .

وكذلك الآخرة ، والحساب ، والجنة ، والنار..

ص: 359

وكذلك الإنسان ، والمجتمع ، والقيم والعدالة ، والمساواة ..

وكذلك الأشياء ، كل الأشياء صغيرها وكبيرها ، يراها على واقعها ، وبأحجامها..

ولا فرق في هذا المستوى الراقي في المعصوم ، بين أن يكون كبير السن أو صغيراً .

ففي إثبات الإمامة/221، في وصف انتقال الروح القدس الى الإمام المعصوم(عليه السلام) : (بينا أبو الحسن(عليه السلام) جالس مع مؤدِّب له يكنى أبا زكريا ، وأبو جعفر عندنا إنه ببغداد وأبو الحسن يقرأ من اللوح إلى مؤدبه ، إذ بكى بكاء شديداً فسأله المؤدب: ممَّ بكاؤك ؟ فلم يجبه. فقال: إئذن لي بالدخول فأذن له ، فارتفع الصِّياح والبكاء من منزله ، ثم خرج إلينا فسألنا عن البكاء ، فقال: إن أبي قد توفي الساعة ! فقلنا: بما علمت؟ قال: دخلني من إجلال اللّه ما لم أكن أعرفه قبل ذلك ، فعلمت أنه قد مضى).

وفي الإمامة والتبصرة/85: (قال: دخلني من إجلال اللّه وعظمته شئ لم أعهده ).

وفي الكافي (1/381): (قال: لأنه تداخلني ذلة للّه ، لم أكن أعرفها).

2. توجد قواعد وأصول لتعامل المعصوم مع ربه ، تتناسب مع عظمة اللّه تعالى ، ومع عبودية المعصوم(عليه السلام) وخضوعه وأدبه مع اللّه تعالى .

نعرف ذلك من كلام الإمام زين العابدين(عليه السلام) عندما أمر شخصاً فاشترى سمكتين فوجد في جوفهما لؤلؤتين ثمينتين: ( وباع الرجل اللؤلؤتين بمال عظيم قضى منه دينه ، وحسنت بعد ذلك حاله ، فقال بعض المخالفين: ما أشد هذا التفاوت! بينا علي بن الحسين لايقدر أن يسد منه فاقة إذْ أغناه هذا الغناء العظيم! كيف يكون هذا وكيف يعجز عن سد الفاقة من يقدر على هذا الغناء العظيم !

ص: 360

فقال علي بن الحسين(عليه السلام) : هكذا قالت قريش للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) : كيف يمضي إلى بيت المقدس ويشاهد ما فيه من آثار الأنبياء(عليهم السلام) من مكة ويرجع إليها في ليلة واحدة ، من لا يقدر أن يبلغ من مكة إلى المدينة إلا في اثني عشر يوماً ! وذلك حين هاجر منها . ثم قال(عليه السلام) : جهلوا واللّه أمر اللّه وأمر أوليائه معه ! إن المراتب الرفيعة لا تنال إلا بالتسليم للّه جل ثناؤه ، وترك الإقتراح عليه ، والرضا بما يدبرهم به . إن أولياء اللّه صبروا على المحن والمكاره صبراً لمَّا يساوهم فيه غيرهم ، فجازاهم اللّه عز وجل عن ذلك بأن أوجب لهم نجح جميع طلباتهم ، لكنهم مع ذلك لا يريدون منه إلا ما يريده لهم ) ! ( أمالي الصدوق/539).

فهم يتحملون في طاعة ربهم أكثر من غيرهم ، ولا يقترحون على ربهم شيئاً ، بل يعيشون بالأسباب الطبيعية الظاهرية ، فيجزيهم ربهم على ذلك بأن لا يرد لهم طلباً ، ولكن طلبهم من ربهم له أصول وقواعد ، وليس كيفياً ، كما يتصور بعض الناس .

3. بسبب هذه الألطاف الربانية الخاصة يعيش المعصوم جواً راقياً ولا يتنازل عنه وقد حاول الخلفاء أن يجروا الأئمة(عليهم السلام) ليخرجوا من جوهم الرباني الى أجواء أهل الدنيا المادية ، فعجزوا ، وظهرت آيتهم . وقد تقدمت محاولة المأمون أن يخرج الإمام الجواد(عليه السلام) من جوه الى جو الطرب والرقص والغناء !

قال محمد بن الريان ابن خال المعتصم: (احتال المأمون على أبي جعفر بكل حيلة فلم يمكنه فيه شئ ، فلما اعتل وأراد أن يبنى عليه ابنته، دفع إلى مائتي وصيفة من أجمل ما يكون ، إلى كل واحدة منهن جاماً فيه جوهر يستقبلن أبا جعفر(عليه السلام) إذا قعد في موضع الأخيار ، فلم يلتفت إليهن! وكان رجل يقال له مخارق ، صاحب صوت وعود

ص: 361

وضرب ، طويل اللحية ، فدعاه المأمون فقال: يا أمير المؤمنين إن كان في شئ من أمر الدنيا فأنا أكفيك أمره ، فقعد بين يدي أبي جعفر(عليه السلام) ، فشهق مخارق شهقةً اجتمع عليه أهل الدار ، وجعل يضرب بعوده ويغني ، فلما فعل ساعة ، وإذا أبو جعفر لا يلتفت إليه لا يميناً ولا شمالاً ، ثم رفع إليه رأسه وقال: إتق اللّه يا ذا العثنون (وصف للحيته) قال:فسقط المضراب من يده والعود ، فلم ينتفع بيديه إلى أن مات ! قال: فسأله المأمون عن حاله قال: لما صاح بي أبو جعفر فزعت فزعةً لا أفيق منها أبداً). (الكافي:1/495)

وقد حاول قبله أبو هارون أن يجر جده الإمام الكاظم(عليه السلام) الى أجوائه ، ففشل .

قال في مناقب آل أبي طالب:3/415: (في كتاب الأنوار، قال العامري: إن هارون الرشيد أنفذ إلى موسى بن جعفر جارية حصيفة لها جمال ووضاءة ، لتخدمه في السجن ، فقال(عليه السلام) : قل له: بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ، لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها ! قال: فاستطار هارون غضباً ، وقال: إرجع إليه وقل له: ليس برضاك حبسناك ، ولا برضاك أخدمناك ، واترك الجارية عنده وانصرف !

قال فمضى ورجع ، ثم قام هارون عن مجلسه ، وأنفذ الخادم إليه ليتفحص عن حالها فرآها ساجدة لربها لا ترفع رأسها تقول: قدوس سبحانك سبحانك! فقال هارون: سحرها واللّه موسى بن جعفر بسحره ! عليَّ بها، فأتيَ بها وهي ترتعد شاخصة نحو السماء بصرها ، فقال: ما شأنك ؟ قالت: شأني الشأن البديع إني كنت عنده واقفة وهو قائم يصلي ليله ونهاره ، فلما انصرف من صلاته بوجهه وهو يسبح اللّه ويقدسه قلت: يا سيدي هل لك حاجة أعطيكها؟ قال: وما حاجتي إليك ! قلت: إني أدخلت عليك لحوائجك ، قال: فما بال هؤلاء ! قالت: فالتفتُّ فإذا روضةٌ مزهرة لا أبلغ آخرها من أولها بنظري ، ولا أولهامن آخرها ، فيها مجالس مفروشة بالوشي والديباج ، وعليها

ص: 362

وصفاء ووصايف ، لم أر مثل وجوههم حسناً ولا مثل لباسهم لباساً ، عليهم الحرير الأخضر والأكاليل والدر والياقوت ، وفي أيديهم الأباريق والمناديل ، ومن كل الطعام! فخررت ساجدة حتى أقامني هذا الخادم ، فرأيت نفسي حيث كنت !

قال فقال هارون: يا خبيثة لعلك سجدت فنمت فرأيت هذا في منامك ! قالت: لا واللّه يا سيدي إلا قبل سجودي رأيت ، فسجدت من أجل ذلك! فقال الرشيد: إقبض هذه الخبيثة إليك ، فلا يسمع هذا منها أحد !

فأقبلت في الصلاة فإذا قيل لها في ذلك قالت: هكذا رأيت العبد الصالح .

فسُئِلَتْ عن قولها؟ قالت : إني لما عاينت من الأمر نادتني الجواري: يا فلانة إبعدي عن العبد الصالح حتى ندخل عليه ، فنحن له دونك ! فما زالت كذلك حتى ماتت ! وذلك قبل موت موسى(عليه السلام) بأيام يسيرة)!

أقول: إذا كان المشهد الذي رأته تلك الجارية قد لازمها وغيَّر حياتها ، فعاشت بقية عمرها في تقديس اللّه تعالى والشوق الى الخلود في جنته.. فكيف بالإمام الكاظم(عليه السلام) الذي يعيش بالروح القدس ، في ذلك الجو ، وفيما هو أرقى منه وأرقى !

4. كان الخلفاء يعرفون تميز المعصومين(عليه السلام) بالعلم الرباني وأنهم حجج اللّه تعالى على الناس . ولهذا كانوا يحسدونهم ويحقدون عليهم ، لأن معناه أن منصب خلافة النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهم ، وغيرهم غاصب له !

قال الإمام الصادق(عليه السلام) (الكافي:1/186): (نحن قوم فرض اللّه عز وجل طاعتنا ، لنا الأنفال ولنا صفوا المال. ونحن الراسخون في العلم ، ونحن المحسودون الذين قال

ص: 363

اللّه: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ).

ولاحظ هذا الحوار بين الإمام الرضا(عليه السلام) والمأمون، الذي رواه الثقة أبو الصلت الهروي. قال كما في عيون أخبار الرضا(عليه السلام) (2/151): ( إن المأمون قال للرضا(عليه السلام) : يا ابن رسول اللّه قد عرفت علمك وفضلك وزهدك وورعك وعبادتك ، وأراك أحق بالخلافة مني . فقال الرضا(عليه السلام) : بالعبودية للّه عز وجل أفتخر ، وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شر الدنيا ، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم ، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند اللّه عز وجل . فقال له المأمون: فإني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة ، وأجعلها لك وأبايعك. فقال له الرضا(عليه السلام) : إن كانت هذه الخلافة لك واللّه جعلها لك ، فلا يجوز لك أن تخلع لباساً ألبسك اللّه وتجعله لغيرك ، وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك .

فقال له المأمون: يا ابن رسول اللّه ، فلا بد لك من قبول هذا الأمر . فقال: لست أفعل ذلك طائعاً أبداً . فما زال يجهد به أياماً حتى يئس من قبوله فقال له: فإن لم تقبل الخلافة ولم تجب مبايعتي لك ، فكن ولي عهدي له تكون الخلافة بعدي .

فقال الرضا(عليه السلام) :واللّه لقد حدثني أبي عن آبائه عن أمير المؤمنين(عليهم السلام) عن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) أني أخرج من الدنيا قبلك مسموماً مقتولاً بالسم مظلوماً ، تبكي عليَّ ملائكة السماء وملائكة الأرض، وأدفن في أرض غربة ، إلى جنب هارون الرشيد ! فبكى المأمون ، ثم قال له: يا ابن رسول اللّه ومن الذي يقتلك أو يقدر على الإساءة إليك وأنا حي؟ فقال الرضا(عليه السلام) : أما إني لو أشاء أن أقول لقلت من يقتلني؟ فقال المأمون: يا ابن رسول اللّه ، إنما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك ودفع هذا الأمر عنك ، ليقول

ص: 364

الناس إنك زاهد في الدنيا ! فقال الرضا(عليه السلام) : واللّه ما كذبت منذ خلقني ربي عز وجل ، وما زهدت في الدنيا للدنيا ، وإني لأعلم ما تريد .

فقال المأمون: وما أريد ؟ قال: الأمان على الصدق؟ قال: لك الأمان ؟ قال: تريد بذلك أن يقول الناس إن علي بن موسى الرضا لم يزهد في الدنيا ، بل زهدت الدنيا فيه ، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة ؟

فغضب المأمون: ثم قال إنك تتلقاني أبداً بما أكرهه ، وقد أمنت سطوتي . فباللّه أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلا أجبرتك على ذلك ، فإن فعلت وإلا ضربت عنقك ! فقال الرضا(عليه السلام) : قد نهاني اللّه تعالى أن ألقي بيدي التهلكة ، فإن كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك ، وأنا أقبل على أني لا أولي أحداً ولا أعزل أحداً ولا أنقض رسماً ولا سنة ، وأكون في الأمر من بعيد مشيراً . فرضي منه بذلك وجعله ولي عهده على كراهة منه(عليه السلام) بذلك ).

أقول: لاحظ أن المأمون اعترف بأن الرضا(عليه السلام) أحق بالخلافة ، فعرض عليه أن يعزل نفسه ويبايعه ، كما زعم . وهو غير صادق فلو قبل معه لما فعل !

لكن الإمام خصمه فقال له: هل تعطيني ما هو لك ، أو ما هو لي ؟ فلم يجبه !

ثم قال المأمون: إذن إقبل ولاية العهد . فقال الإمام إن هدفك من ذلك أن تظهر أني أطمع في الخلافة ! هنا غضب المأمون وتنمرد ونسي اعترافه للإمام الرضا(عليه السلام) بأنه أفضل منه وأحق بالخلافة ، وهدده بالقتل إن لم يقبل ولاية العهد !

فأخبره الإمام بنيته وهدفه ، فنيته أن يهدد بني العباس بنقل الخلافة عنهم ، فإن خضعوا له قتل الإمام الرضا(عليه السلام) وأعاد ولاية العهد الى العباسيين ، وقد فعل المأمون ذلك وجعلها لابنه العباس ، لكن أخاه المعتصم قتله وأخذها !

ص: 365

ومقابل أسلوب المأمون الملفف ، نجد أسلوب المعتصم الصريح في قراره قتل الإمام الجواد(عليه السلام) حتى لا يتسع جمهوره ويثور عليه !

وقد ثبت أن المأمون كان يعتقد أن بيت علي(عليه السلام) خصه اللّه بالعلم والكرامة ، وجعل منه أئمة علماء ربانيين ، لايحتاجون الى معلم ، وأن صغارهم كبار .

وكان يستدل على ذلك بأن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يدعُ صبياً الى الإسلام ودعا علياً ، ولم يبايع صبياً على الإسلام وبايع الحسن والحسين(عليهم السلام) . ويستدل بعلم الإمام الجواد على صغر سنه وكراماته ، وقد تحدى به العباسيين ونجح في تحديه ، وأفحمهم .

وكان المعتصم معجباً بالإمام الجواد(عليه السلام) ، وكان يدعوه الى مجلسه الذي يعقده لمشاورة الفقهاء ويأخذ برأيه . فقد أخذ بحكمه في الحرابة ، عندما قطع اللصوص طريق خانقين . ثم أخذ بحمه في قطع يد السارق من أصول الأصابع الأربعة ما عدا الإبهام ، وليس من الزند ، وأعجبه دليله وحجته على الفقهاء ، وأمر بأن ينفذ رأيه .

هنا ثارت ثائرة قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد ، وفار مرجل الحقد في صدره حتى تمنى الموت! قال كما تقدم من رواية العياشي (1/319): (وددت اليوم أني قد مِتُّ منذ عشرين سنة ! قال قلت له: ولم ذاك ؟ قال: لما كان من هذا الأسود أبا جعفر محمد بن علي بن موسى اليوم ، بين يدي أمير المؤمنين المعتصم) !

ثم نقل ابن أبي دؤاد مباحثة الفقهاء مع الإمام الجواد(عليه السلام) وغلبته لهم ! ثم قال : (فأعجب المعتصم ذلك ، وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع ، دون الكف . قال ابن أبي داود: قامت قيامتي وتمنيت أني لم أك حياً ! قال زرقان: إن ابن أبي داود قال: صرت إلى المعتصم بعد ثالثة فقلت: إن نصيحة أمير المؤمنين

ص: 366

عليَّ واجبة ، وأنا أكلمه بما أعلم أني أدخل به النار ! قال: وما هو؟ قلت: إذا جمع أمير المؤمنين من مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لأمر واقع من أمور الدين ، فسألهم عن الحكم فيه ، فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك ، وقد حضر المجلس أهل بيته وقواده ووزرائه وكتابه ، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه ثم يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل يقول شطر هذه الأمة بإمامته ، ويدعون أنه أولى منه بمقامه ، ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء؟! قال: فتغير لونه ، وانتبه لما نبهته له وقال: جزاك اللّه عن نصيحتك خيراً) !

لقد قرر القاضي أن يحرك وتر الخلافة للمعتصم ، فتغير المعتصم من معجب بالإمام الجواد(عليه السلام) يصدر المراسيم بالعمل بفتواه ، الى عدو قرر أن يقتله !

وقد شهد قاضي القضاة على نفسه بأنه نصح المعتصم بقتل الإمام(عليه السلام) وهو يعلم أنه يدخل بذلك النار ويقتل إماماً ربانياً ! لكنه يقبل بدخول النار ليطفئ أتُون حقده !

أما الإمام الجواد(عليه السلام) فكان يعرف ذلك ، ويعيش في جوه الروحاني مسلِّماً لأمر اللّه .

(لما خرج أبو جعفر(عليه السلام) من المدينة إلى بغداد في الدفعة الأولى من خرجتيه، قلت له عند خروجه: جعلت فداك إني أخاف عليك في هذا الوجه ، فإلى من الأمر بعدك؟ فكرَّ بوجهه إلي ضاحكاً وقال: ليس الغيبة حيث ظننت في هذه السنة .

فلما أخرج به الثانية إلى المعتصم صرت إليه فقلت له: جعلت فداك أنت خارج فإلى من هذا الأمر من بعدك ؟ فبكى حتى اخضلت لحيته ، ثم التفت إليَّ فقال: عند هذه يخاف عليَّ ، الأمر من بعدي إلى ابني علي). (الكافي: 1/323 ).

ص: 367

كان يعرف مايريد منه المعتصم ، فقد تغير عليه بما أوحاه اليه شيطانه القاضي ! ولن ينفع معه تطمين الإمام له بأنه لن يثور عليه ، لأنه يتصور أن الإمام مثله يرجع عن كلامه ، فإذا اتسع جمهوره ثار عليه !

كانت الأبواب مفتوحة أمام الإمام(عليه السلام) أن يُدهن مع الخليفة وقاضيه فيُدهنا معه ، لكنه يعيش في عالم أرقى ، وفي جو روحاني لا يسمح له بأن يخالف ربه عز وجل .

(2) أنواع عبادة الناس للّه تعالى

عبادة العابدين للّه تعالى أنواعٌ عديدة ، ودرجاتٌ متفاوتة ، في دوافعها ، وفي أجوائها التي يعيشها العابد، وفي مستويات العابدين الذهنية والعقلية، ومدى وعيهم وجهلهم.

وأرقاها كما عرفت عبادة المعصوم(عليه السلام) ، وأدناها عبادة غير الصادقين ، أي المرائين الذين يعبدون اللّه من أجل الدنيا ، وهم أهل اللقلقة باللسان ، والطنطنة بالصلاة والأذكار ، وقد ظهر هؤلاء في زمن النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) فحذر المسلمين منهم !

قال الإمام الجواد عن آبائه(عليهم السلام) أن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: ( لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم ، وكثرة الحج والمعروف ، وطنطنتهم بالليل . أنظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة ). ( أمالي الصدوق/379).

وبهذا يكون النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) أكدوا على شرط الصدق والإخلاص في عبادة اللّه تعالى ، وهم الصادقون بأعلى مراتب الصدق ، وأجمل صوره .

ولذا أمر اللّه المسلمين أن يكونوا معهم ويقتدوا بهم ويتعلموا منهم الصدق والواقعية فقال تعالى:يَا

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ .

ص: 368

والصدق صفة في شخصية الإنسان ، يحافظ عليها وينميها ، أو يفرط بها ويضعفها. وأول من ينميها ويحافظ عليها المعصومون صلوات اللّه عليهم ، ولذلك كان عطاء اللّه لهم متناسباً مع عمق صدقهم وإخلاصهم ، حتى يمكن القول إن النبي استحق النبوة فصار نبياً ، والإمام استحق الإمامة فصار إماماً .

ولهذا ينبغي لنا عندما ندرس سيرة المعصوم(عليه السلام) وننظر الى عمله بملاحظة تأييد اللّه له بالروح القدس ، أن نفهم عمله ومستوى صدقه الذي استحق به ذلك التأييد .

(3) برنامج المعصوم(عليه السلام) لحياته اليومية

كم هو مفيد أن نجمع من مصادر السيرة البرنامج اليومي الكامل للنبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمعصومين من أهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) .

أو نجمع كل ما يتعلق ببرنامجهم اليومي كمجموع، لأن مشتركاتهم كثيرة ، وهم نور واحد بألوان متعددة ، وعطر رباني لكل منهم عبقه الخاص .

ونذكر فيما يلي بعض النصوص التي تعطينا ضوءً على البرنامج اليومي للمعصومين صلوات اللّه عليهم ، خاصة الإمام الجواد(عليه السلام) .

في الكافي (3/446) عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: (إن رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان إذا صلى العشاء الآخرة ، أمر بوضوئه وسواكه يوضع عند رأسه مخمراً (مغطى) فيرقد ما شاء اللّه ، ثم يقوم فيستاك ويتوضأ ، ويصلي أربع ركعات ثم يرقد . ثم يقوم فيستاك ويتوضأ ويصلي أربع ركعات . ثم يرقد حتى إذا كان في وجه الصبح قام فأوتر ثم صلى الركعتين ، ثم قال: لقد كان لكم في رسول اللّه أسوة حسنة .

ص: 369

قلت: متى كان يقوم؟ قال: بعد ثلث الليل. وقال في حديث آخر بعد نصف الليل. وفي رواية أخرى يكون قيامه وركوعه وسجوده سواء ، ويستاكفي كل مرة قام من نومه ويقرأ الآيات من آل عمران: إن في خلق السماوات والأرض – إلى قوله إنك لا تخلف الميعاد ).

وفي مناقب آل أبي طالب (3/285): (فلما قتل المختار قتلة الحسين بعث برأس عبيد اللّه بن زياد ورأس عمر بن سعد مع رسول من قبله إلى زين العابدين(عليه السلام) ، وقال لرسوله: إنه يصلي من الليل ، وإذا أصبح وصلى صلاة الغداة هجع ، ثم يقوم فاستأذن عليه ، وضع الرأسين على مائدته ، وقل له: المختار يقرأ عليك السلام ويقول لك: يا ابن رسول اللّه قد بلغك اللّه ثارك ، ففعل الرسول ذلك ، فلما رأى زين العابدين الرأسين على مائدته خرَّ ساجداً وقال: الحمد اللّه الذي أجاب دعوتي ، وبلغني ثاري من قتلة أبي . ودعا للمختار وجَزَّاه خيراً ).

وأكثر ما نعرف برنامج الإمام الجواد(عليه السلام) من أدعيته وصلواته اليومية والأسبوعية والشهرية ، فقد روي عنه قنوتات مطولة في فرائضه ، وتعقيبات بعد الصلاة .

وفي مصباح المتهجد/523: (كان أبو جعفر محمد بن علي(عليه السلام) إذا دخل شهر جديد يصلي أول يوم منه ركعتين ، يقرأ في أول ركعة الحمد مرة وقل هو اللّه أحد لكل يوم إلى آخره (وفي رواية ثلاثين مرة) وفي الركعة الأخرى الحمد ، وإنا أنزلناه في ليلة القدر مثل ذلك . ويتصدق بما يتسهل ، يشتري به سلامة ذلك الشهر كله).

ص: 370

وفي مصباح المتهجد/814: (وروى الريان بن صلت قال: صام أبو جعفر الثاني (عليه السلام) لما كان ببغداد يوم النصف من رجب ، ويوم سبع وعشرين منه ، وصام جميع حشمه ، وأمرنا أن نصلي الصلاة التي هي اثنتا عشرة ركعة..).

وقال القاسم بن حسين النيسابوري: (رأيت أبا جعفر(عليه السلام) عندما وقف بالموقف ، مد يديه جميعاً ، فما زالتا ممدودتين إلى أن أفاض ! فما رأيت أحداً أقدر على ذلك منه(عليه السلام) ) . (إقبال الأعمال:2/73).

وهذه قدرة بدنية وقوة أعصاب عجيبة ، أن يمد يديه الى اللّه تعالى نصف نهار !

ودعاه أحد الوزراء في بغداد الإمام الجواد(عليه السلام) الى طعام الغداء: (فأبى أن يجيبه وقال: قد علمت أني لا أحضر مجالسكم . فقال: إني إنما أدعوكإلى الطعام ، وأحب أن تطأ ثيابي ، وتدخل منزلي فأتبرك بذلك ). (تفسير العياشي:1/320).

فهو لايحضر مجالس العباسيين ووزرائهم ، لأنها تتضمن المحرمات ، ولأن أموالها غير طيبة، ولأنه آيس من التأثير بهم،ولأن حضوره يضر ببرنامجه اليومي في عبادة ربه.

(4) من أدعية الإمام الجواد(عليه السلام)

في الكافي(2/547) عن محمد بن الفرج أن الإمام الجواد(عليه السلام) كتب اليه وعلمه دعاء النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد الصلاة ، قال: (كان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول إذا فرغ من صلاته:

اللّهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وإسرافي على نفسي ، وما أنت أعلم به مني .

ص: 371

اللّهم أنت المقدم وأنت المؤخر ، لا إله إلا أنت بعلمك الغيب ، وبقدرتك على الخلق أجمعين ، ما علمتَ الحياة خيراً لي فأحيني ، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي . اللّهم إني أسألك خشيتك في السر والعلانية ، وكلمة الحق في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى ، وأسألك نعيماً لا ينفد وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بالقضاء ، وبركة الموت بعد العيش ، وبرد العيش بعد الموت ، من غير ضراء مضرة ، ولا فتنة مضلة .

اللّهم زينا بزينة الإيمان ، واجعلنا هداة مهديين ، اللّهم اهدنا فيمن هديت ، اللّهم إني أسألك عزيمة الرشاد والثبات في الأمر والرشد ، وأسألك شكر نعمتك وحسن عافيتك وأداء حقك . وأسألك يا رب قلباً سليماً ولساناً صادقاً . وأستغفرك لما تعلم ، وأسألك خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم فإنك تعلم ولا نعلم ، وأنت علام الغيوب ).

وفي الكافي (2/547): (عن محمد بن الفرج قال:كتب إلي أبو جعفر ابن الرضا(عليه السلام) بهذا الدعاء وعلمنيه وقال: من قال في دبر صلاة الفجر ، لم يلتمس حاجة إلا تيسرت له وكفاه اللّه ما أهمه:

بسم اللّه وباللّه ، وصلى اللّه على محمد وآله ، وأفوض أمري إلى اللّه إن اللّه بصير بالعباد ، فوقاه اللّه سيئات ما مكروا ، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين، حسبنا اللّه ونعم الوكيل ، فانقلبوا بنعمة من اللّه وفضل لميمسسهم سوء ما شاء اللّه لا حول ولا

ص: 372

قوة إلا باللّه ، ما شاء اللّه لا ما شاء الناس ، ما شاء اللّه وإن كره الناس ، حسبي الرب من المربوبين ، حسبي الخالق من المخلوقين ، حسبي الرازق من المرزوقين حسبي الذي لم يزل حسبي ، حسبي اللّه الذي لا إله إلا هو ، عليه توكلت وهو رب العرش العظيم .

وقال: إذا انصرفت من صلاة مكتوبة فقل:

رضيت باللّه رباً وبمحمد نبياً وبالإسلام ديناً ، وبالقرآن كتاباً، وبفلان وفلان أئمة . اللّهم وليك فلان فاحفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه ، وعن شماله ومن فوقه ومن تحته ، وامدد له في عمره ، واجعله القائم بأمرك والمنتصر لدينك ، وأره ما يحب وما تقر به عينه في نفسه وذريته وفي أهله وماله وفي شيعته وفي عدوه ، وأرهم منه ما يحذرون وأره فيهم ما يحب وتقر به عينه واشف صدورنا وصدور قوم مؤمنين ).

وفي إقبال الأعمال (1/76) عن عبد العظيم الحسني ، قال: (صلى أبو جعفر محمد بن علي الرضا(عليه السلام) صلاة المغرب في ليلة رأى فيها هلال شهر رمضان ، فلما فرغ من الصلاة ونوى الصيام رفع يديه فقال:

( اللّهم يا من يملك التدبير وهو على كل شئ قدير ، يا من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وتَجِنُّ الضمير وهو اللطيف الخبير.

اللّهم اجعلنا ممن نوى فعمل ، ولا تجعلنا ممن شقي فكسل ، ولا ممن هو على غير عمل يتكل . اللّهم صحح أبداننا من العلل ، وأعنا على ما افترضت علينا

ص: 373

من العمل ، حتى ينقضي عنا شهرك هذا ، وقد أدينا مفروضك فيه علينا ، اللّهم أعنا على صيامه ، ووفقنا لقيامه ، ونشطنا فيه للصلاة ، ولا تحجبنا من القراءة ، وسهل لنا فيه إيتاء الزكاة .

اللّهم لا تسلط علينا وَصَباً ولا تعباً ، ولا سقماً ولا عطباً . اللّهم ارزقنا الإفطار من رزقك الحلال . اللّهم سهل لنا فيه ما قسمته من رزقك ، ويسر ما قدرته من أمرك . واجعله حلالاً طيباً نقياً من الآثام ، خالصاً من الآصار والإجرام . اللّهم لا تطعمنا إلا طيباً غير خبيث ولا حرام ، واجعل رزقك لنا حلالاً لا يشوبه دنس ولا أسقام ، يا من علمه بالسر كعلمه بالإعلان ، يا متفضلاً على عباده بالإحسان . يا من هو على كل شئ قدير ، وبكل شئ عليم خبير .

ألهمنا ذكرك ، وجنبنا عسرك ، وأنلنا يسرك ، واهدنا للرشاد ، ووفقنا للسداد ، واعصمنا من البلايا ، وصنا من الأوزار والخطايا .

يا من لا يغفر عظيم الذنوب غيره ، ولا يكشف السوء إلا هو ، يا أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين ، صلِّ على محمد وأهل بيته الطيبين ، واجعل صيامنا مقبولاً ، وبالبر والتقوى موصولاً ، وكذلك فاجعل سعينا مشكوراً ، وقيامنا مبروراً ، وقرآننا مرفوعاً، ودعائنا مسموعاً، واهدنا للحسنى ، وجنبنا العسرى، ويسرنا لليسرى ، واعل لنا الدرجات ، وضاعف لنا الحسنات ، واقبل منا الصوم والصلاة ، واسمع منا الدعوات ، واغفر لنا الخطيئات ، وتجاوز عنا السيئات . واجعلنا من العاملين الفائزين ، ولا تجعلنا من المغضوب عليهم ولا

ص: 374

الضالين ، حتى ينقضي شهر رمضان عنا ، وقد قبلت فيه صيامنا وقيامنا ، وزكيت فيه أعمالنا ، وغفرت فيه ذنوبنا ، وأجزلت فيه من كل خير نصيبنا ، فإنك الاله المجيب والرب القريب ، وأنت بكل شئ محيط ).

ونكتفي بهذه النماذج ، وأدعيته كثيرة صلوات اللّه عليه ، ومضامينها عالية .

(5) حرز الإمام الجواد(عليه السلام)

في مهج الدعوات/42: (حدثنا عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني ، أن أبا جعفر محمد بن علي الرضا(عليه السلام) كتب

هذه العوذة لابنه أبي الحسن علي بن محمد(عليه السلام) وهو صبي في المهد ، وكان يعوذه بها ، ويأمر أصحابه به:

بسم اللّه الرحمن الرحيم .لا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم . اللّهم رب الملائكة والروح والنبيين والمرسلين ، وقاهر من في السماوات والأرضين ، وخالق كل شئ ومالكه ، كف عنا بأس أعدائنا ومن أراد بنا سوءً ، من الجن والإنس ، وأعم أبصارهم وقلوبهم ، واجعل بيننا وبينهم حجاباً وحرساً ومدفعاً إنك ربنا . لا حول ولا قوة لنا إلا باللّه ، عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير . ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم . ربنا عافنا من كل سوء ، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها ، ومن شر ما يسكن في الليل والنهار ، ومن شر كل سوء ومن شر كل ذي شر . يا رب العالمين وإله المرسلين صل على محمد وآله أجمعين وأوليائك ، وخص محمداً وآله أجمعين بأتم ذلك ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم .

بسم اللّه ، وباللّه، أومن باللّه ، وباللّه أعوذ ، وباللّه أعتصم ، وباللّه أستجير ، وبعزة اللّه ومنعته أمتنع من شياطين الإنس والجن ومن رجلهم وخيلهم وركضهم وعطفهم

ص: 375

ورجعتهم وكيدهم وشرهم ، وشر ما يأتون به تحت الليلوتحت النهار ، من البعد والقرب ، ومن شر الغائب والحاضر والشاهد والزائر ، أحياء وأمواتاً أعمى وبصيراً ، ومن شر العامة والخاصة ، ومن شر نفس ووسوستها ، ومن شر الدناهش والحس واللمس واللبس ، ومن عين الجن والإنس . وبالاسم الذي اهتز به عرش بلقيس ، وأعيذ ديني ونفسي وجميع ما تحوطه عنايتي من شر كل صورة وخيال ، أو بياض أو سواد أو تمثال ، أو معاهد أو غير معاهد ، ممن يسكن الهواء والسحاب والظلمات والنور والظل والحرور والبر والبحور والسهل والوعور والخراب والعمران والآكام والآجام والغياض والكنائس والنواويس والفلوات والجبانات ، ومن شر الصادرين والواردين ممن يبدو بالليل وينتشر بالنهار ، وبالعشي والأبكار والغدو والآصال ، والمريبين والأسامرة والأفاثرة ، والفراعنة والأبالسة ، ومن جنودهم وأزواجهم وعشائرهم وقبائلهم ، ومن همزهم ولمزهم ونفثهم ووقاعهم وأخذهم وسحرهم وضربهم وعبثهم ولمحهم واحتيالهم واختلافهم ، ومن شر كل ذي شر من السحرة والغيلان وأم الصبيان ، وما ولدوا وما وردوا ، ومن شر كل ذي شر داخل وخارج ، وعارض ومتعرض ، وساكن ومتحرك ، وضربان عرق وصداع وشقيقة ، وأم ملدم والحمى والمثلثة والربع والغب والنافضة والصالبة والداخلة والخارجة ، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها ، إنك على صراط مستقيم ).

وتوجد عدة عوذات وأحراز رويت عن الإمام الجواد(عليه السلام) ، أشهرها الحرز المعروف للحفظ ودفع الأعداء ، الذي يكتب على رق غزال ويوضع في قصبة فضة ، وله نسختان مطولة ومختصرة .

ص: 376

وقد رواه في عيون المعجزات/113، وأن الإمام الجواد(عليه السلام) كتبه للمأمون بعد أن حاول المأمون قتله فضربه بالسيف وهو سكران ، فلم يؤثر به ! فقال للمأمون:

( أحب أن لا تخرج بالليل فإني لست آمن عليك من هذا الخلق المنكوس وعندي حرز تُحصن به نفسك ، وتحترز من الشرور والبلايا والمكاره والآفات والعاهات ، كما أنقذني اللّه منك البارحة ، ولو لقيتَ به جيوش الروم أو أكثر أو اجتمع عليك وعلى غلبتك أهل الأرض جميعاً ، ما تهيأ لهم فيك شئ بقدرة اللّه تعالى وجبروته ، ومن مردة الشياطين الجن والإنس .فإن أحببت بعثت به إليك تحرز به نفسك من جميع ما ذكرته ، وما تحذره . مجرب فوق الحد والمقدار من التجربة . فقال المأمون: تكتب ذلك بخطك وتبعث به إلي لأنتهي فيه إلى ما ذكرته . فقال حباً وكرامة . فقال له المأمون: فداك عمك إن كنت تجد عليَّ شيئاً مما قد صدد مني فاعف واصفح . فقال(عليه السلام) : لا أجد شيئاً ولم يكن إلا خيراً) !

ثم ذكرت الرواية أن المأمون انبهر كيف لم يمت الإمام الجواد(عليه السلام) وكيف يعلمه حرزاً ليحفظه من أعدائه ! فعقد المأمون مجلساً وأمر الوزراء والقادة والشخصيات أن يزوروا الإمام الجواد(عليه السلام) ووزع عليهم الجوائز . وأن الإمام الجواد(عليه السلام) كتب بعد ذلك الحرز وأرسله الى المأمون وقال لخادمه:

(قل له يصنع له قصبة من فضة ، فإذا أراد شده في عضده الأيمن فيتوضأ وضوء حسناً سابغاً وليصل أربع ركعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب، وسبع مرات آية الكرسي، وسبع مرات شهد اللّه، وسبع مرات والشمس، وسبع مرات والليل، وسبع مرات قل هو اللّه ، ثم يشده على عضده عند النوائب يسلم بحول اللّه وقوته ، من كل شئ يخافه ويحذره ).

ص: 377

ومع أن لبس الذهب والفضة محرم ، فقد أفتى فقهاؤنا بجواز لبس حرز الجواد(عليه السلام) المكتوب في قصبة فضة ، قال السيد الخوئي في منهاج الصالحين(1/128): (لا بأس بما يصنع بيتا للتعويذ من الذهب والفضة كحرز الجواد(عليه السلام) وغيره ).

وفي مهج الدعوات /38: (لما سمع المأمون من أبي جعفر(عليه السلام) في أمر هذا الحرز هذه الصفات كلها ، غزا أهل الروم فنصره اللّه تعالى عليهم ومُنح منهم من المغنم ما شاء اللّه ، ولم يفارق هذا الحرز عند كل غزاة ومحاربة ، وكان ينصره اللّه عز وجل بفضله) .

ثم قال السيد ابن طاووس: فأما ما ينقش على هذه القصبة من فضة غير مغشوشة يا مشهوراً في السماوات يا مشهوراً في الأرضين يا مشهوراً في الدنيا والآخرة جهدت الجبابرة والملوك على إطفاء نورك وإخماد ذكرك ، فأبى اللّه إلا أن يتم نورك ، ويبوح بذكرك ولو كره المشركون . ورأيت في نسخة: وأبيت إلا أن يتم نورك... لعله يعني نورك أيها الإسم الأعظم المكتوب في هذا الحرز بصورة الطلسم...

ثم قال: حرز آخر للتقي(عليه السلام) بغير تلك الرواية: يا نور ، يا برهان ، يا مبين ، يا منير ، يا رب اكفني الشرور ، وآفات الدهور ، وأسألك النجاة يوم ينفخ في الصور ).

أقول: وهذه الصيغة الأخيرة لحرز الجواد(عليه السلام) هي التي تكتب في ورق مستخرج من جلد الغزال ، وتوضع في قصبة فضة ، وتباع في الأسواق .

**

ص: 378

الفصل الثاني عشر : من معجزات الإمام الجواد(عليه السلام)

(1)الإمام الجواد(عليه السلام) نفسه معجزة ربانية

المعصوم بذاته من أكبر معجزات اللّه تعالى ، ففي أي جانب من شخصيته نظرت تشاهد اليد الربانية تصنعه على عين اللّه ، وتعلمه ، وتوجهه .

والإمام الجواد(عليه السلام) معجزة بهذا المعنى، ومعجزة بصغر سنه أيضاً ، وقد خشع المؤمنون لما رأوه فيه من آيات اللّه تعالى ، ولما رأوا على يده من آيات !

وقد اشتهرت معجزاته(عليه السلام) لأن موقف المأمون ومجلسه الشهير في تزويجه ابنته ، دوَّى في محافل بغداد ، وانتشر خبره في بلاد المسلمين .

ولكن سياسة طمس مناقب أهل البيت(عليهم السلام) وما فضلهم اللّه به على العالمين ، كانت كفيلة بتجهيل أكثر الأمة ، وشد عيونها بعصابات التعتيم والتضليل ، الى يومنا هذا !

ولذلك تجد أن علماء الحكومات ورواتها الذين يخافون من السلطة يختصرون الحديث عن الإمام الجواد(عليه السلام) ، فيمدحونه ، دون أن يذكروا نوع شخصيته ومعجزاته ، التي أعلنها الخليفة المأمون على أعين الناس ، وأقر بها الفقهاء والشخصيات !

ص: 379

(2) نماذج من معجزات الإمام الجواد(عليه السلام)

شملت المعجزات المروية عن الإمام الجواد(عليه السلام) عدة مجالات ، من إحياء الموتى ، وشفاء المرضى بإذن ربه ، والإخبار عما في الضمير بتعليم ربه ، والإخبار عن المستقبل ، واستجابة دعائه لأشخاص ، وإجابة دعائه على آخرين ، وظهور بركته حيث توضأ على شجرة يابسة فاخضرت وأثمرت في الحال ، وتحول ورق الزيتون بيده الى دراهم ، وطي الأرض له ولمن أراد .. الى آخر ما شاهده منه القريب والبعيد .

فقد روى الطبري الشيعي بأسانيده في دلائل الإمامة /398-400: ( قال إبراهيم بن سعد: رأيت محمد بن علي(عليه السلام) يضرب بيده إلى ورق الزيتون فيصير في كفه ورقاً (دراهم) فأخذت منه كثيراً وأنفقته في الأسواق فلم يتغير..

قال محمد بن العلاء: رأيت محمد بن علي(عليه السلام) يحج بلا راحلة ولا زاد من ليلته ويرجع ، وكان لي أخ بمكة لي عنده خاتم ، فقلت له: تأخذ لي منه علامة ، فرجع من ليلته ومعه الخاتم..

حدثنا محمد بن عمر قال: رأيت محمد بن علي(عليه السلام) يضع يده على منبر فتورق كل شجرة من نوعها ، وإني رأيته يكلم شاة فتجيبه .

قال عمارة بن زيد: رأيت محمد بن علي(عليه السلام) ، فقلت له: يا بن رسول اللّه ، ما علامة الإمام ؟ قال: إذا فعل هكذا . فوضع يده على صخرة فبانت أصابعه فيها. ورأيته يمد الحديد بغير نار ، ويطبع الحجارة بخاتمه..

ص: 380

قال لي محمد بن علي بن عمر التنوخي: رأيت محمد بن علي(عليه السلام) وهو يكلم ثوراً فحرك الثور رأسه فقلت: لا ولكن تأمر الثور أن يكلمك . فقال: عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَئٍْ . ثم قال للثور: قل لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، فقال ! ثم مسح بكفه على رأسه ). ونحو ذلك في نوادر المعجزات/181.

وفي الثاقب في المناقب/526: (عن إسماعيل بن عباس الهاشمي قال: جئت إلى أبي جعفر(عليه السلام) يوم عيد ، فشكوت إليه ضيق المعاش ، فرفع المصلى فأخذ من التراب سبيكة من ذهب فأعطانيها. فخرجت بها إلى السوق فكان فيها ستة عشر مثقالاً من الذهب) .

وفي الكافي (1/492): (عن علي بن خالد ، وكان زيدياً قال: كنت بالعسكر فبلغني أن هناك رجل محبوس أتي به من ناحية الشام مكبولاً وقالوا: إنه تنبأ ! قال علي بن خالد: فأتيت الباب وداريت البوابين والحجبة حتى وصلت إليه فإذا رجل له فهم ، فقلت: يا هذا ما قصتك وما أمرك ؟ قال إني كنت رجلاً بالشام أعبد اللّه في الموضع الذي يقال له: موضع رأس الحسين ، فبينا أنا في عبادتي إذ أتاني شخص فقال لي قم بنا ، فقمت معه فبينا أنا معه إذا أنا في مسجد الكوفة ، فقال لي: تعرف هذا المسجد ؟ فقلت: نعم هذا مسجد الكوفة ، قال: فصلى وصليت معه ، فبينا أنا معه إذ أنا في مسجد الرسول(صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالمدينة ، فسلم على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسلمت وصلى وصليت معه وصلى على رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فبينا أنا

ص: 381

معه إذا أنا بمكة ، فلم أزل معه حتى قضى مناسكه وقضيت مناسكي معه . فبينا أنا معه ، إذا أنا في الموضع الذي كنت أ عبد اللّه فيه بالشام ، ومضى الرجل!

فلما كان العام القابل إذا أنا به فعل مثل فعلته الأولى ، فلما فرغنا من مناسكنا وردني إلى الشام وهم بمفارقتي قلت له: سألتك بالحق الذي أقدرك على ما رأيت إلا أخبرتني من أنت؟ فقال: أنا محمد بن علي بن موسى .

قال: فتراقى الخبر حتى انتهى إلى محمد بن عبد الملك الزيات ، فبعث إلي وأخذني وكبلني في الحديد وحملني إلى العراق ! قال فقلت له: فارفع القصة إلى محمد بن عبد الملك ، ففعل وذكر في قصته ما كان .

فوقع في قصته:قل للذي أخرجك من الشام في ليلة إلى الكوفة ، ومن الكوفة إلى المدينة، ومن المدينة إلى مكة، وردك من مكة إلى الشام، أن يخرجك من حبسك هذا ! قال علي بن خالد فغمني ذلك من أمره ، ورققت له وأمرته بالعزاء والصبر قال: ثم بكرت عليه فإذا الجند وصاحب الحرس وصاحب السجن وخلق اللّه ، فقلت ما هذا ؟ فقالوا: المحمول من الشام الذي تنبأ ، افتقد البارحة فلا يدري أخسفت به الأرض ، أو اختطفه الطير) .

هذا ، ومعجزات النبي(صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام) كثيرة محسوسة ، سواء في حياتهم أو بعد مماتهم ، في التوسل بقبورهم المقدسة ، أو بأسمائهم الشريفة ، وقد ظهرت للقاصي والداني . ووثقت المؤلفات قديماً وحديثاً ، وأمانة مشاهدهم المشرفة كثيراً من ذلك .

ص: 382

ختام في مشهد الكاظمين(عليهما السلام)

أجمع المسلمون على اختلاف مذاهبهم على تعظيم قبر الإمام الكاظم(عليه السلام) وتقديسه ، وترجموا له في كتبهم ، وزار قبره ويزوره كبار أئمة السنة وعلمائهم للتبرك والتوسل به الى اللّه تعالى .

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء:6/268: ( موسى الكاظم، الإمام ، القدوة ، السيد أبو الحسن العلوي، والد الإمام علي بن موسى الرضا، مدني نزل بغداد. ذكره أبو حاتم فقال: ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين.. له مشهد عظيم مشهور ببغداد ، دفن معه فيه حفيده الجواد . ولولده علي بن موسى مشهد عظيم بطوس ).

ووصف ابن بطوطة/218، مشهد الإمامين(عليهما السلام) فقال: ( وفي هذا الجانب قبر موسى الكاظم بن جعفر الصادق والد علي بن موسى الرضا ، وإلىجانبه قبر الجواد ، والقبران داخل الروضة ، عليهما دكانة (ضريح) ملبسة بالخشب ) .

وفي مفاتيح الجنان/700: (يبدو من كلام الشيخ الصدوق أن قبر الإمام الكاظم (عليه السلام) كان مفرزاً عن قبر الإمام الجواد(عليه السلام) فكان ينفرد بقبة مستقلة وباب خاص ، فالزائر يخرج منها ليدخل تحت قبة الجواد ، التي كانت ذات بناء خاص ).

وقد عرف القبران المقدسان بمشهد الكاظم، والكاظمين، والجوادين(عليهما السلام) ، وبالكاظمية ، تغليباً لإسم الكاظم(عليه السلام) ، لأنه توفي قبل حفيده الجواد بنحو أربعين سنة ولأنه عاش أكثر منه ، وظهرت منه المعجزات والعلوم أكثر .

ص: 383

وذكرنا في سيرة الإمام الكاظم(عليهما السلام) أن الشافعي صاحب المذهب ، كان يزور قبر الإمام الكاظم(عليه السلام) ويقول: ( قبر موسى الكاظم ترياقٌ مجرب لإجابة الدعاء) (كرامات الأولياء للسجاعي/6، والرسالة القشيرية لابن هوازن/10، والفجر الصادق للزهاوي/89 ، وسيوف اللّه للقادري الحبيبي/83 ، والبصائر/42 لحمد اللّه الداجوي الحنفي).

وروى الخطيب البغدادي في تاريخه:1/133، عن إمام الحنابلة في عصره الحسن بن إبراهيم أبا علي الخلال يقول: (ما همني أمرٌ فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسلت به، إلا سهل اللّه تعالى لي ما أحب)!

وقال ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة:2/932: ( وهو المعروف عند أهل العراق بباب الحوائج إلى اللّه ، وذلك لنجح قضاء حوائج المسلمين ، ونيل مطالبهم وبلوغ مآربهم وحصول مقاصدهم ).

أقول: والإمام الكاظم(عليه السلام) حامي بغداد لأن اللّه تعالى يدفع عنها ببركة قبره الشريف أنواع الشرور التي قد يستحقها أهلها. قال الإمام الرضا(عليه السلام) : (فإن اللّه يدفع البلاء بك عن أهل قم ، كما يدفع البلاء عن أهل بغداد بقبر موسى بن جعفر(عليه السلام) )

(رواه المفيد(رحمه اللّه) في الإختصاص/87، ، والنجاشي:2/857 ، والكشي /496).

والإمام الجواد حامي بغداد أيضاً ، فهما سبب نجاتها من كثير من الأخطار.

ففي تهذيب الأحكام (6/82) عن زكريا بن آدم الأشعري ، عن الإمام الرضا(عليه السلام) قال: (إن اللّه نجَّى بغداد بمكان قبور الحسينيين فيها ).

ومعنى ذلك أن بقاء بغداد وسلامتها رغم ما أصابها من موجات وأحداث ، مديون لمشهد الإمامين الكاظمين صوات اللّه عليهما .

**

ص: 384

خلاصة الكتاب

بحثنا في الفصل الأول: ظاهرة صِغَر السن في ثلاثة من الأنبياء هم سليمان وعيسى ويحيى(عليهم السلام) ، وثلاثة من الأئمة هم الجواد والهادي والمهدي(عليهم السلام) . وبَيَّنا أن صغر السن في قدرة اللّه تعالى لايمنع من إعطاء النبوة والإمامة .

ثم أوردنا النصوص في تمهيد الأئمة(عليهم السلام) لتقبل إمامة صغير السن .

وعرضنا في الفصل الثاني: كيف خشع المؤمنون للّه تعالى ، عندما رأوا الإمام الجواد(عليه السلام) وما أعطاه اللّه تعالى، فقبلوا إمامته ، ولم يجرؤ خصومهم أن ينتقدوهم بعد أن أحضره المأمون وأمر كبار العلماء أن يسألوه ويمتحنوه فأفحمهم الإمام !

فقال لهم المأمون كما في مناقب آل أبي طالب (3/488): (ويحكم إني أعرف به منكم ، وإن أهل هذا البيت علمهم من اللّه ومواده وإلهامه فإن شئتم فامتحنوه) !

(ويحكم ، إن أهل هذا البيت خصوا من الخلق بما ترون من الفضل، وإن صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال . أما علمتم أن رسول اللّه افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو ابن عشر سنين ، وقبل منه الإسلام وحكم له به ، ولم يَدْعُ أحداً في سنه غيره . وبايع الحسن والحسين وهما دون الست سنين ولم يبايع صبياً غيرهما ، أفلا تعلمون الآن ما اختص اللّه به هؤلاء القوم ، وأنهم ذرية بعضها من بعض ، يجري لآخرهم ما يجري لأولهم ) . (الإرشاد:2/287).

وقد انتشر ذلك في البلاد ، فتحدث الناس عن الجواد(عليه السلام) وافتخر بإمامته الفقهاء ، وأنشد فيه الشعراء ، وتوافد اليه الناس الى مدينة جده رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ص: 385

وبحثنا في الفصل الثالث: إعجاب المأمون بالإمام الجواد(عليه السلام) ، وكيف عقد زواجه على ابنته أم الفضل ، بعد أن اعترف العباسيون بتميزه ، وأقام حفلاً تاريخياً لذلك ، ووزع الجوائز على رجال الدولة ، ونثرها على الحاضرين .

لكن الإمام الجواد(عليه السلام) لم يكن يحب حياة القصور ، فعاد الى المدينة وعاش فيها ، وكان يحضر الى بغداد لمناسبة واجبة ، أو إذا أحضره المأمون .

وبقي الإمام في المدينة وكبر وتزوج ورزق بأولاد ، ولم يزف زوجته بنت المأمون حتى صار عمره أكثر من عشرين سنة ! فأحضره المأمون وأمره أن يدخل بزوجته ، وهيؤوا له قصراً وزفوه فيه ، لكن لم يثبت عندنا أنه دخل بها !

قال الطبري (7/189): (ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائتين.. شَخَص المأمون من مدينة السلام لغزو الروم.. فلما صار المأمون بتكريت قدم عليه محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، من المدينة في صفر ليلة الجمعة من هذه السنة ولقيه بها ، فأجازه وأمره أن يدخل بابنته أم الفضل وكان زَوَّجَهَا منه، فأدخلت عليه في دار أحمد بن يوسف التي على شاطئ دجلة..).

وروى التاريخ محاولة ثانية لزفاف الإمام الجواد(عليه السلام) الى عروسه أم الفضل قامت بها زبيدة سيدة القصور ! ولعلها كانت بعد الزفاف الرسمي بأمر المأمون ، وحتى لو كانت قبلها فهي تدل على أن الإمام(عليه السلام) كان يتعذر من الزواج ، ولا بد

ص: 386

أن وضع بنت المأمون لايعجبه ، وقد تكون مريضة من صغرها بالمرض الذي عرف عنها في كبرها ، وهو ناصور في موضع حساس !

لكن الإمام الجواد(عليه السلام) كان يداري المأمون ، ليبقي علاقته جيدة معه ، ويشجعه على مواصلة إعلانه حقانية التشيع لعلي(عليه السلام) .

وكان المأمون يناظر الفقهاء والعلماء في ذلك ، وقد عقد أكبر مناظراته وأهمها مع أكثر من أربعين فقيهاً ومحدثاً، وناظرهم من الصبح الى الظهر ، وأفحمهم !

كان المأمون يريد بذلك إخضاع العباسيين وإثبات أنه أعلم من فقهاء الدولة ، ليقبلوا ابنه ولي عهده ويقبلوا التغييرات التي يريدها في مذهب الدولة الرسمي !

وخضع له العباسيون له في الظاهر، وقبلوا منه ابنه العباس ولي عهد مع أنه كان ضعيفاً ، لكن ما إن مات المأمون حتى اتفق أخوه المعتصممع قادة الجيش وخلع ابن أخيه وجلس مكانه ، ثم اتهمه بمحاولة قتله فحبسه ، وأمر بلعنه ، ثم قتله !

كما بينا في هذا الفصل الوجه الآخر للمأمون ، وأنه كان مستغرقاً في الشهوات ، وكان يبذر أموال المسلمين على اللّهو .

ثم عقدنا الفصل الرابع: لحياة الإمام الجواد(عليه السلام) في عهد المعتصم ، فذكرنا ما عرف به المعتصم من الغيرة على المسلمين ، ثم كشفنا حقيقة شخصيته بشهادة المؤرخين ، وأنه كان مفرطاً في الشراب ، مفرطاً في سفك دماء المسلمين ، وأنه كان يغضب فلا يبالي ما فعل ولا من قتل !

ص: 387

وكان المعتصم معجباً بالإمام الجواد(عليه السلام) كأخيه المأمون ، وكان في خلافته يستشيره في القضايا الفقهية ويأخذ برأيه ، ويصدر الأمر الى قضاة المسلمين بالعمل به . حتى عبأه قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد ضد الإمام(عليه السلام) وحذره بأنك إن عممت على الدولة الأخذ بفتواه وشطر من الأمة يقولون بإمامته ، فستزداد شعبيته ، وقد يثور عليك في أي لحظة !

فقرر المعتصم أن يقتل الإمام(عليه السلام) فأحضره من المدينة ، ودبر شهادات زور ضده بأنه يهيئ للثورة عليه ، فظهرت للإمام(عليه السلام) معجزة ، وفشلت محاولة المعتصم .

ثم حاول المعتصم سم الإمام(عليه السلام) مرات ، حتى قتله ، صلوات اللّه عليه .

وفي الفصل الخامس: فصلنا أحداث شهادة الإمام(عليه السلام) ، وسبب حسد ابن أبي دؤاد له ، ودفعه المعتصم الى قتله ، ومحاولات المعتصم المتكررة لسمه .

وذكرنا أن بنت المأمون كانت كالمجبرة على الزواج من الإمام(عليه السلام) وكانت تدعو على أبيها لأنه زوجها (ساحراً) يعرف عنها كل شئ حسب تعبيرها !

فاستجابت لتحريك أخيها جعفر ، ووعود عمها المعتصم ، وقامت بسم زوجها (عليه السلام) !لكنها سرعان ما ندمت وكانت تبكي وتصيح توبيخاً لنفسها !

وبحثنا الأماكن التي سكن فيها الإمام(عليه السلام) في بغداد ، وأنه لم يعش في قصور الخلافة في زمن المعتصم ، بل كان له بيت قرب قنطرة البردان ، في أول رحبة أسوار بن ميمون ، وأنه تمرض مدة قبل موته وتوفي فيمنزله ، وصلى عليه قرب

ص: 388

منزله الواثق بن المعتصم وولي عهده ، وقد شُيِّعَ ودفن عند جده الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) .

كما أوردنا نصوص وصية الإمام الجواد لابنه الإمام الهادي(عليهما السلام) ، وأن الشيعة اجتمعوا على إمامةالهادي وعمره سبع سنوات كما اجتمعوا على إمامة أبيه(عليهما السلام) .

وقام المعتصم بفرض الإقامة الجبرية على الإمام الهادي(عليه السلام) في المدينة وهو في سن السابعة ، وعين له معلماً ليقول بذلك للناس إنه طفل يجب تعليمه.

روى المسعودي في دلائل الإمامة/230، عن محمد بن سعيد ، قال: ( قدم عمر بن الفرج الرخجي المدينة حاجاً بعد مضي أبي جعفر الجواد(عليه السلام) ، فأحضر جماعة من أهل المدينة والمخالفين المعادين لأهل بيت رسول اللّه(صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال لهم: أُبْغُوا لي رجلاً من أهل الأدب والقرآن والعلم ، لا يوالي أهل هذا البيت ، لأضمه إلى هذا الغلام وأُوكله بتعليمه ، وأتقدم إليه بأن يمنع منه الرافضة الذين يقصدونه .

فأسموا له رجلاً من أهل الأدب يكنَّى أبا عبد اللّه ويعرف بالجنيدي ، وكان متقدماً عند أهل المدينة في الأدب والفهم ، ظاهر الغضب والعداوة (لأهل البيت) !

فأحضره عمر بن الفرج ، وأسنى له الجاري من مال السلطان ، وتقدم إليه بما أراد ، وعرفه أن السلطان (المعتصم) أمره باختيار مثله ، وتوكيله بهذا الغلام .

قال: فكان الجنيدي يلزم أبا الحسن(عليه السلام) في القصر بصرياً (أي في البيت في مزرعة صريا بضاحية المدينة) فإذا كان الليل أغلق الباب وأقفله ، وأخذ المفاتيح إليه !

فمكث على هذا مدة وانقطعت الشيعة عنه وعن الإستماع منه ، والقراءة عليه .

ص: 389

ثم إني لقيته في يوم جمعة فسلمت عليه وقلت له: ما حال هذا الغلام الهاشمي الذي تؤدبه؟ فقال منكراً عليَّ: تقول الغلام ، ولا تقول الشيخ الهاشمي! أُنشدك اللّه هل تعلم بالمدينة أعلم مني؟ قلت: لا. قال: فإني واللّه أذكر له الحزب من الأدب ، أظن أني قد بالغت فيه ، فيملي عليَّ بما فيه أستفيده منه ، ويظن الناس أني أُعلمه وأنا واللّه أتعلم منه ! قال: فتجاوزت عن كلامه هذا كأني ما سمعته منه ، ثم لقيته بعد ذلك فسلمتعليه وسألته عن خبره وحاله ، ثم قلت: ما حال الفتى الهاشمي؟ فقال لي: دع هذا القول عنك ، هذا واللّه خير أهل الأرض ، وأفضل من خلق اللّه تعالى ، وإنه لربما همَّ بالدخول فأقول له: تنظر حتى تقرأ عشرك فيقول لي: أي السور تحب أن أقرأها؟ وأنا أذكر له من السور الطوال ما لم يبلغ إليه ، فيهذُّهَا بقراءة لم أسمع أصح منها من أحد قط ، بأطيب من مزامير داود النبي(عليه السلام) التي بها من قراءته يضرب المثل .

قال ثم قال: هذا مات أبوه بالعراق وهو صغير بالمدينة ، ونشأ بين هذه الجواري السود ، فمن أين علم هذا ؟ قال: ثم ما مرت به الأيام والليالي حتى لقيته فوجدته قد قال بإمامته وعرف الحق وقال به) !

أما الفصل السادس المختصر: فعقدناه لتاريخ الخليفة الواثق ، الذي صلى على الإمام الجواد(عليه السلام) ، وسميناه الخليفة الذي طبخ نفسه في التنور، وهو كلام حقيقي لأنه كان مفرطاً في الأكل والخمر والجنس ، وأصيب بمرض استسقاء المعدة ، فوصفوا له تنشيف بدنه بالتنور ، فجلس فيه وأحبه ، فخرجت في بدنه

ص: 390

فقاعات كبيرة ، وأمرهم أن يردوه اليه: (فأجلسه الأطباء ، فلما وجد روح الهواء اشتد به الوجع والألم ، وأقبل يصيح ويخور خَوَرَان الثور ويقول:رُدُّوني إلى التنور فإني إن لم أُرَدَّ مُتُّ! فاجتمع نساؤه وخواصه لما رأوا ما به من شدة الألم والوجع وكثرة الصياح ، فرجوا أن يكون فرجه في أن يرد إلى التنور ، فردُّوه إلى التنور ، فلما وجد مس النار سكن صياحه ، وتقطرت النفاخات التي كانت خرجت ببدنه وخمدت، وبرد في جوف التنور فأخرج من التنور وقد احترق وصار أسود كالفحم، فلم تمض ساعة حتى قضى)! (المنتظم لابن الجوزي:11/187).

وعقدنا الفصل السابع: لترجمة الشخصيات الحكومية التي عاصرت الإمام الجواد(عليه السلام) ، لأن الضد يُظهر حسنه الضد ، ولأن ذلك يعطي القارئ صورة عن عصره(عليه السلام) ، وعن جهاز الخلافة وأجواء الخليفة ، الذي أحاطه الرواة والعوام بهالة كاذبة من القيم الإسلامية والفضائل ، مع أن واقعه أنه أقل مستوىً من ملوك الحكم المعاصرين ، وشيوخه الفاسدين !

وقد ترجمنا لاثنين توليا منصب قاضي القضاة، وهو أكبر منصب ديني في الخلافة وهما يحيى بن أكثم وأحمد بن أبي دؤاد . ثم ترجمنا لزبيدة سيدة قصور الخلافة التي قتل المأمون ابنها ، فهنأته بالخلافة وقالت لهخسرت ولداً وربحت ولداً ، فأبقاها على مكانتها ومخصصاتها ، وقد حسب بعضهم أن أم جعفر التي ورد ذكرها في سيرة الجواد(عليه السلام) هي أخت المأمون ، ورجحنا أنها أم جعفر زبيدة .

وترجمنا لعمر بن الفرج الرخجي وزير المعتصم والواثق والمتوكل ، وهو مبغض لأهل البيت(عليهم السلام) . ثم لأخيه المؤمن الثقة محمد بن الفرج الرخجي رضي اللّه عنه .

ص: 391

وكان الفصل الثامن: لإلقاء أضواء على إدارة الإمام الجواد(عليه السلام) لشيعته في البلاد الإسلامية ، مباشرة وبواسطة وكلائه ، ومراسلاته ، وبواسطة علماء المناطق . وأوردنا نماذج من ذلك ، ومن توجيهاته للشيعة .

وفي الفصل التاسع:أوردنا نماذج من علم الإمام الجواد(عليه السلام) في توحيد اللّه تعالى ، والنبوة والإمامة، وفضائل أهل البيت(عليهم السلام) ، وأحاديثه الطبية،وقصار كلماته(عليه السلام) .

وترجمنا في الفصل العاشر: لبعض كبار تلاميذ الإمام الجواد(عليه السلام) وأصحابه كعثمان بن سعيد العمري ، واللغوي النابغة ابن السكيت ، والشاعر أبي تمام الطائي، وأبي الصلت الهروي ، وداود بن القاسم الجعفري ، وعبد الهظيم الحسني ، والفضل بن شاذان ، ومحمد بن خالد البرقي. رضوان اللّه عليهم.

وعقدنا الفصل الحادي عشر: لبيان عقيدة المعصوم(عليه السلام) بربه عز وجل ، وكيفية عبوديته له ، وبرنامجه العبادي اليومي ، وذكرنا نماذج من أدعية الجواد(عليه السلام) .

وأوردنا في الفصل الثاني عشر: بعض معجزات الإمام الجواد(عليه السلام) ، وختمنا بذكر مشهد الجوادين، أو الكاظمين(عليهما السلام) . وبخلاصة للكتاب ..

**

ص: 392

قصيدة باب المراد في مدح الإمام الجواد(عليه السلام)

هو الجوادُ بالوجود الساري *** وجودُه مظهرُ جودِ الباري

وبابُ أبوابِ المراد بابُهُ *** والحرزُ من كلِّ البَلا حِجابهُ

كهفُ الورى وغوثُ كل ملتجِي *** في الضيق والشدةِ بابُ الفرجِ

عينُ الرضا لا بد منها فيهِ *** فهو إذاً سرُّ الرضا أبيهِ

بل هوَ كالكاظمِ في مراتبهْ *** فإن كظمَ الغيظِ جودُ صاحبهْ

يُمثِّلُ الصادقَ فيما وعدا *** إذْ صادقُ الوعد جوادٌ أبدا

يمثِّلُ الباقرَ في المكارم *** فإن نشرَ العلم جودُ العالمِ

يُمَثِّلُ السجادُ في فضائلِهْ *** فإنَّ بذلَ الجهدِ جودُ باذلِهْ

قضى شهيداً فهو في شبابهِ *** دُسِّ إليه السمَّ في شرابهِ

قضى بعيد الدار عن بلادهِ *** وعن عيالهِ وعن أولادهِ

تبكي على غربته الأملاكُ *** تنوح في صريرها الأفلاكُ

تبكيه حزناً أعين النجومِ *** تلعنُ قاتليهِ بالرجومِ

تعساً وبؤساً لابنة المأمونِ *** من غدرها لحقدها المكنونِ

فإنها سرُّ أبيها الغادرْ *** مشتقةٌ من أسوإِ المصادرْ

قد نال منها من عظائم المحنْ *** ما ليس يُنسى ذكره مدى الزمنْ

حتى إذا تمَّ لها الشقاءُ *** أتت بما اسْوَدَّ به الفضاءُ

سمتهُ غيلةً بأمر المعتصمْ *** والحقدُ داءٌ هو يُعمي ويُصِمْ

ويلٌ لها مما جنت يداها *** وفي شقاها اتبعت أباها

بل هي أشقى منه إذ ما عرفت *** حقَّ وليِّهَا ولا به وَفَتْ

ص: 393

ولا تحنَّنَتْ على شبابهْ *** ولا تعطفت على اغترابهْ

تبَّتْ يداها ويدا أبيها *** مصيبةٌ جلَّ العزاءُ فيها

(مقتطف من الأنوار القدسية لآية اللّه الشيخ محمد حسين الأصفهاني (قدس سرّه) /102)

على باب الجواد أنختُ ركبي

سموتَ وأنت سرٌّ في اعتقادي *** بمنزلة الشغاف من الفؤاد

تجلى نورُك الألقُ اتِّقاداً *** فغطَّى كل نور واتِّقادِ

تؤُمُّ ضريحك الأرجَ المندى *** وفودُ اللّه من حَضَرٍ وَبَادِ

فيعمرُ بالصلاة وبالتَّناجي *** ويزهرُ بالدعاء وبالسُّهاد

كأنَّ المسكَ ضَمَّخَ جانبيهِ *** بأشذاءِ الروائح والغوادي

أبا الهادي سلام اللّه يسري *** على تاريخك النَّضِرِ المُعاد

فأنت العروة الوثقى بحقٍّ *** وحِصْنُ اللّه في الكُرَب الشِّدَاد

وبابٌ للحوائج جئتُ أسعى *** اليه فطابُ لي نيلُ المراد

على باب الجواد أنختُ ركبي *** فإن الفتحُ في باب الجواد

ولا عجب فقد قالوا قديماً *** وفدت على الكريم بغير زاد

شبيه يحيى وعيسى في إمامتهً

فتى الرضا..لا حُرمنا منك مكتسباً *** وأنت في اللّه ما أعطى وما وهبا

زوروا الجواد وأُمُّوا قدسَ ساحته *** فكل فخرٍ الى أمجاده انتسبا

شبيهُ يحيى وعيسى في إمامته *** من يقرأ الذكرَ يقرأْ آيَهُ عَجَبا

ويانزيلاً على بغداد محتضناً *** في الكاظمية جداً خاشعاً رهِبَا

ص: 394

موسى بن جعفرِ من جلَّت مواقفُه *** ومن تحدى من الطغيان مؤتَشِبا

شربتُ حبكمُ طفلاً وخامرني *** فتى.. وذا الشيبُ في رأسي قد التهبا

فأنتم الآيةُ العظمى التي نطقت *** بالمعجزات.. وكلُّ الكائناتِ هبا

الواقفونَ على الأعرافِ تكرمةً *** والحاملون لواءَ الحمد منتصِبا

غداً شفاعتُكم تُرجى.. ورحمتُكم *** تجري لتنقذ هذا المذنب الثَّرِبا

واليومَ يأمل أن يُشْفَى على يدكم *** ومن أتى البحرَ حازَ اللؤلؤَ الرَّطِبا).

(من قصيدتين للدكتور محمد حسين الصغير/ الإمام محمد الجواد(عليه السلام) /270).

(تم الكتاب والحمد للّه رب العالمين)

**

ص: 395

فهرس الموضوعات

الفصل الأول: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا

(1) الأنبياء الأطفال ثلاثة ، والأئمة الأطفال ثلاثة(عليهم السلام) !... 5

(2) صغر السن لا يضر مع وجود المعجزة... 10

(3)الإمامة في ذرية الحسين(عليه السلام)... 11

(4) الإمامة عهد معهود من اللّه تعالى... 12

(5)الإمام الصادق هيأ الشيعة لإمامة الجواد(عليهما السلام)... 15

(6)استبشر به والده(عليهما السلام) ، وبشر به الشيعة... 15

(7) والدته خيزران من عائلة مارية القبطية... 20

(8) الإمام الجواد(عليه السلام) أسمر حلوالسمرة... 23

(9) عُرف بأبي جعفر الثاني وابن الرضا... 24

(10) أبقاه الإمام الرضا(عليه السلام) في المدينة... 25

(11) كان الإمام الرضا(عليه السلام) يراسله ، ويعظمه... 26

(12) وكان الذين يعرفونه يقدسونه... 27

(13) علي بن جعفر الصادق(عليه السلام) قدوةٌ للمؤمنين... 29

(14) موقف أعمام الجواد(عليه السلام) الطامعين بالإرث... 34

(15) الإمام الرضا(عليه السلام) يهيئ الشيعة للإمتحانات... 38

(16) كيف تنتقل الإمامة عند موت الإمام ؟... 41

الفصل الثاني: إجماع الشيعة على إمامة الجواد(عليه السلام)

(1) أعلن الشيعة إمامة الجواد(عليه السلام) فخرس خصومهم !... 43

(2) إخبارالجواد بشهادة أبيه(عليهما السلام) وحضوره الى خراسان... 45

(3) مؤتمر علماء الشيعة على أثر وفاة الإمام الرضا(عليه السلام)... 52

(4)ملاحظات على هذه الروايات... 55

(5) توافد علماء الشيعة الى المدينة... 56

الفصل الثالث: الإمام الجواد في عصرالمأمون

(1) الإمام الرضا(عليه السلام) والمأمون... 59

ص: 396

(2) كان المأمون يعرف الإمام الجواد(عليه السلام) جيداً... 63

(3) تزويج المأمون ابنته للإمام الجواد(عليه السلام)... 64

(4) ملاحظات على هذه الرواية... 71

(5)الإمام الجواد(عليه السلام) يكره حياة قصورالخلافة... 74

(6) زفوا له بنت المأمون ولعله لم يمسها !... 75

(7)المأمون يناظرالفقهاء والعلماء لإثبات التشيع !... 80

(8) ملاحظات على مناظرات المأمون... 113

(9) مبالغة رواة السلطة في عطاء المأمون للإمام الجواد(عليه السلام)... 115

(10) قصة البازالذي صاد سمكة من الجو... 117

(11) ملاحظات على هذه الرواية... 120

(12) كان المأمون مرناً مع الإمام الجواد(عليه السلام)... 121

(13) محاولة المأمون تشويه سمعة الإمام(عليه السلام)... 121

(14) حديت أم الفضل عن محاولة أبيها قتل الإمام... 123

(15)الوجه الآخر للمأمون... 131

(16) عرس المأمون الكسروي على بوران !... 140

(17) أم الفضل بنت المأمون: إسم كبير وواقع بائس !... 142

(18) قتلت زوجها الإمام(عليه السلام) فدعا عليها !... 147

(19) جعفر بن المأمون شريك في قتل الإمام(عليه السلام)... 149

(20) كان قاضي القضاة ابن أكثم يؤمن بالإمام الجواد(عليه السلام)... 152

الفصل الرابع: الإمام الجواد(عليه السلام) في عصرالمعتصم

(1) موت المأمون وخلافة المعتصم... 155

(2) عُرف المعتصم في تاريخنا بالغيرة والجهاد... 157

(3) المعتصم ينهي الثورات المضادة للعباسيين... 167

(4) المعتصم يتهم الإمام الجواد(عليه السلام) بالإعداد للثورة !... 171

(5) يحترم الإمام الجواد(عليه السلام) بالظاهر ويدبر قتله !... 172

(6) إحضار المعتصم للإمام(عليه السلام) ثانيةً... 174

ص: 397

(7) محاولة المعتصم تشويه سمعةالجواد(عليه السلام) !... 175

(8) الوجه الآخر للمعتصم... 178

(9) شرب المعتصم مرةً تسعة أرطال خمر !... 179

(10) المعتصم شاذ جنسياً كأكثر خلفاء بني العباس !... 180

(11) قال دعبل إن المسلمين لم يحزنوا لموت المعتصم !... 181

الفصل الخامس: شهادة الإمام الجواد(عليه السلام) بيد المعتصم

(1) حقد ابن أبي دؤاد على الإمام الجواد(عليه السلام) !... 183

(2) محاولاتهم المتكررة أن يسموا الإمام الجواد(عليه السلام) !... 189

(3) الأماكن التي سكن فيها الإمام الجواد(عليه السلام) في بغداد... 194

(4) كانت إمامة الجواد في السابعة من عمره ظاهرة جديدة !... 198

(5) من نصوص الإمام الجواد على إمامة ابنه الهادي(عليهما السلام)... 200

(6)شرح هذا الحديث... 204

(7) كانت شهادة الإمام الجواد(عليه السلام) في آخر ذي القعدة سنة220... 211

(8) الإمام علي الهادي يصلي على أبيه(عليهما السلام)... 212

(9) قَتل المعتصم الإمام وسَجَن ابنه الهادي(عليهما السلام)... 213

الفصل السادس: الخليفة الذي طبخ نفسه في التنور !

الواثق بن المعتصم: كان أمره فُرُطاً !... 215

الفصل السابع: شخصيات لها علاقة بسيرة الإمام(عليه السلام)

(1) والضد يُظهر حسنه الضد... 229

(2) يحيى بن أكثم مدبر الخلافة للمأمون والمعتصم... 230

(3) أحمد بن أبي دؤاد: حكم الأمة الإسلامية عشرين سنة؟... 246

(4) زبيدة أم الأمين تهنئ قاتل ابنها !... 261

(5) عمر بن الفرج الرخجي ممسحة الخلفاء !... 265

(6) محمد بن الفرج الرخجي المؤمن الثقة !... 278

ص: 398

الفصل الثامن: كيف أدارالإمام الشيعة وأثر على مسارالأمة؟

(1) جهد المعصوم(عليه السلام) يختلف عن جهدنا... 285

(2) ازدحام الشيعة على الإمام في الحج... 289

(3) دورالوكلاء في إدارة الأئمة(عليهم السلام) لشيعتهم... 290

(4) رسالةٌ الى وكيله في همدان... 292

(5) رسالة الى وكيله في الأهواز... 293

(6) دورالعلماء في إدارة الأئمة(عليهم السلام) لشيعتهم... 294

(7) دورعدول المؤمنين في إدارة الأئمة(عليهم السلام) لشيعتهم... 295

(8) حركة أهل قم في عهد الإمام الجواد(عليه السلام)... 295

(9) من احترام عموم المسلمين للإمام الجواد(عليه السلام)... 298

(10) توجيهه الشيعة لإحياء ذكر أهل البيت(عليهم السلام)... 299

(11)البر بالوالدين حتى لو كانا ناصبيين... 300

(12) الناس كلهم إخوة... 300

(13) والمؤمن لايخون... 300

(14) التقية مع المتطرفين... 301

(15) إعلان الإمام براءته من المنحرفين والمغالين... 302

(16) تأكيده(عليه السلام) على حرية المرأة والكفاءة الشرعية... 304

(17) شروط إمام الصلاة عند أهل البيت(عليهم السلام)... 305

(18)إجازته كتب الإمامين الباقر والصادق(عليهم السلام)... 305

(19)دعاؤه لشيعته في قنوته(عليه السلام)... 305

(20)مقاومة أهل البيت(عليهم السلام) لحذف البسملة من القرآن... 306

(21) تأكيد الإمام الجواد (عليه السلام) على سورة القدر... 306

الفصل التاسع: نماذج من علم الإمام الجواد(عليه السلام)

(1)الثروة العلمية عن الإمام الجواد(عليه السلام)... 307

(2) علم الأئمة المعصومين رباني وليس بشرياً... 308

(3) في توحيد اللّه تعالى وتنزيهه... 309

ص: 399

(4) تعظيمة لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبعض ما روى عنه... 314

(5) بعض ما روي عنه في إمامة علي وأهل البيت(عليهم السلام)... 321

(6) بعض ما روي عنه في ولده المهدي(عليهما السلام)... 326

(7) من قصار كلماته(عليه السلام)... 330

(8) بعض ما روي عنه(عليه السلام) في الطب... 332

الفصل العاشر: شخصيات من أصحاب الإمام الجواد(عليه السلام)

أسماء بعض كبار أصحاب الإمام الجواد(عليه السلام)... 335

(1) السفير الأول عثمان بن سعيد العمري رضي اللّه عنه... 336

(2) اللغوي ابن السكيت الدورقي رضي اللّه عنه... 338

(3) الشاعر النابغة أبو تمام الطائي... 341

(4) أبو الصلت عبد السلام بن صالح الهروي... 342

(5) داود بن القاسم أبو هاشم الجعفري... 346

(6) عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني... 352

(7) الفضل بن شاذان بن الخليل الأزدي... 355

(8) محمد بن خالد البرقي وابنه أحمد... 357

الفصل الحادي عشر: ارتباط الإمام الجواد(عليه السلام) باللّه تعالى

(1) كيف يعيش المعصوم(عليه السلام) العبودية للّه تعالى... 359

(2) أنواع عبادة الناس للّه تعالى... 369

(3) برنامج المعصوم(عليه السلام) لحياته اليومية... 370

(4) من أدعية الإمام الجواد(عليه السلام)... 372

(5) حرز الإمام الجواد(عليه السلام)... 376

الفصل الثاني عشر: من معجزات الإمام الجواد(عليه السلام)

(1) الإمام الجواد(عليه السلام) نفسه معجزة ربانية... 381

(2) نماذج من معجزات الإمام الجواد(عليه السلام)... 382

خلاصة الكتاب... 384

**

ص: 400

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.