دلائل القوة في صلح الإمام الحسن علیه السلام
علي السيد محمد حسین الحكيم
ص: 1
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
تثار كثير من الشبهات عن صلح الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية وقد يبدو من البعض أنه كان موقف ضعف من الإمام (عليه السلام) أو رغبة في الصلح طلباً للراحة وعدم تحمل جهد القتال ومكاره الجهاد جهلاً منهم بمقام الإمام الحسن (عليه السلام) أو عدم وضوح رؤية تامة عن سبب معاهدة الصلح وأن الإمام (عليه السلام) كان يهدف من هذه المعاهدة حفظ دماء شيعته و تركيز مذهب و عقيدة أهل البيت (عليهم السلام) في النفوس و قوة بيضة الإسلام و تمهيد أمور الثورة لأخيه الحسين (عليه السلام) و غير ذلك من الأمور التي أطلع عليها بعلمه الغيبي و خفيت علينا لعدم اطلاعنا على بواطن الأمور، وقد كان موقف الإمام (عليه السلام) واضحاً من معاوية حين توليه الخلافة بعد أبيه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث كان الإمام (عليه السلام) مصراً على أنه هو الخليفة الشرعي وهو صاحب الحق والناس قد بايعته طوعاً ولا بد من بيعة معاوية له وإن لم يقبل فلا خيار له إلا الحرب، فقد ذكر أبن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (قال أبو الفرج الأصفهاني كتب الحسن (عليه السلام) إلى معاوية مع جندب بن عبد الله الأزدي: من الحسن بن علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان سلام عليكم فاني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فان الله عزّ و جلّ بعث محمداً (صلی الله عليه وآله) رحمةً للعالمين، ومنّةً للمؤمنين توفّاه الله غير مقصّر ولا وان، بعد أن أظهر الله به الحق، و محق به الشر، و خص قريشاً خاصّة فقال له {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}(1) فلما توفي تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه، ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه، فرأت العرب أن القول ما قالت قريش، وأن الحجة لهم في ذلك على من نازعهم أمر محمد (صلى الله عليه وآله)، فأنعمت لهم وسلمت إليهم. ثم حاججنا نحن قريشأ بمثل ما حاجّت به العرب، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها، إنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالإنصاف والاحتجاج، فلما صرنا أهل بيت محمد و أولياؤه إلى محاجتهم، وطلب النصف منهم، باعدونا واستولوا
ص: 2
بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا، فالموعد الله وهو المولي النصير. ولقد تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا وسلطان نبينا وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الاسلام، وأمسكنا عن منازعتهم مخافةً على الدين أن يجد المنافقون والأحزاب في ذلك مغمزة يثلمونه به، أو يكون لهم بذلك سبب إلى ما أرادوا من إفساده، فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله، لا بفضل في الدين معروف، ولا أثر في الاسلام محمود، وأنت ابن حزب من الأحزاب، وابن أعدى قريش لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ولكن الله حسيبك، فسترد فتعلم لمن عقبى الدار، و بالله التلقينَّ عن قليل ربك ثم ليجزينك بما قدمت يداك وما الله بظلام للعبيد. إن علياً لما مضى لسبیله - رحمة الله عليه يوم قبض، ويوم من الله عليه بالإسلام ويوم يبعث حياً - ولاني المسلمون الأمر بعده، فأسأل الله أن لا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئاً ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامته، وإنّما حملني على الكتاب إليك الإعذار فيما بيني وبين الله عز وجل في أمرك، ولك في ذلك إن فعلته الحظ الجسيم والصلاح للمسلمين، فدع التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي فإنك تعلم أتي أحقُّ بهذا الأمر منك عند الله، وعند كل أوابٍ حفيظ، ومن له قلب منيب. واتق الله! و دع البغي، واحقن دماء المسلمين، فوالله مالك من خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به، وادخل في السلم والطاعة، ولا تنازع الأمر أهله، ومن هو أحق به منك ليطفئ الله النائرة بذلك، ويجمع الكلمة، ويصلح ذات البين، وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيك، سرت إليك بالمسلمين، فحاكمتك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.)(1)
وكذلك يتضح قوة موقفه (عليه السلام) من معاوية حتى بعد الصلح، وأنه (عليه السلام) هو صاحب الحق وإن تنازل لمعاوية فإنما هو الأمر عارض لاحظ الإمام (عليه السلام) فيه مصلحة الأمة وليس لمقام معاوية أو أحقيته للخلافة أو لفضيلة له تذكر فقد روى في تحف العقول قال: (قال معاوية للحسن (عليه السلام) بعد الصلح: أذكر فضلنا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد النبي وآله ثم قال: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن رسول الله، أنا ابن البشير النذير، أنا ابن المصطفي بالرسالة، أنا ابن من صلت عليه الملائكة، أنا ابن من شُرِّفت به الأمة، أنا ابن من كان جبرئيل السفير من الله إليه، أنا ابن من بُعث رحمة للعالمین (صلی الله عليه وآله) أجمعين.
فلم يقدر معاوية أن يكتم عداوته و حسده فقال: يا حسن عليك بالرطب فانعته لنا، قال: نعم يا معاوية، الريح تلقِّحه، والشمس تنفخه، والقمر يلوّنه، والحر ينضجه،
ص: 3
والليل يبرّده. ثم أقبل على منطقة فقال: أنا ابن المستجاب الدعوة، أنا ابن من كان من ربه كقاب قوسين أو أدنى، أنا ابن الشفيع المطاع، أنا ابن مكة و مني، أنا ابن من خضعت له قريش رغماً، أنا ابن من سعد تابعه، وشقي خاذله، أنا ابن من جُعلت الأرض له طهوراً ومسجداً أنا ابن من كانت أخبار السماء إليه تترى، أنا ابن من أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
فقال معاوية: أظن نفسك یا حسن تنازعك إلى الخلافة، فقال: ويلك يا معاوية إنما الخليفة من سار بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعمل بطاعة الله، ولعمري إنّا لأعلام الهدى ومنار التقى، ولكنّك يا معاوية ممن أباد السنن، وأحيا البدع، واتخذ عباد الله خِولا، ودين الله لعباً، فكأن قد أخمل ما أنت فيه، فعشت يسيراً، وبقيت عليك تبعاته، یا معاوية والله لقد خلق الله مدينتين إحداهما بالمشرق، والأخرى بالمغرب أسماؤهما جابلقا و جابلسا، ما بعث الله إليهما أحداً غير جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فقال معاوية: يا أبا محمد أخبرنا عن ليلة القدر، قال: نعم، عن مثل هذا فاسأل إنّ الله خلق السماوات سبعاً والأرضين سبعاً، والجن من سبع، والانس من سبع فتطلب من ليلة ثلاث وعشرين إلى ليلة سبع وعشرين ثم نهض عليه السلام)(1).
مضافاً إلى ما أحاطت بالإمام (عليه السلام) من ظروف جعلت مصير الصلح حتمياً كما أشرنا لبعضها في كتيب (ظروف صلح الإمام الحسن (عليه السلام))، ولذا سنبين هنا موقف الإمام (عليه السلام) وقوته حتى خلال معاهدة الصلح من خلال أمرين ملفتين للانتباه في قضية الصلح وهما بنود معاهدة الصلح التي طلبها الإمام (عليه السلام) من معاوية كشرط للصلح، وخطبة الإمام (عليه السلام) بعد إتمام المعاهدة وإن كان من خبث معاوية هو عدم الالتزام ببنود المعاهدة ولكن الإمام (عليه السلام) أراد بیان حقائق مهمة بهذه المعاهدة وإقرار معاوية ظاهراً بها كاف في إثبات الحق وبطلان حق معاوية في الخلافة، حيث سنسلط الضوء على أمور يتم استیضاحها منهما.
الأول: عدم شرعية خلافة معاوية وخروجه عن مسيرة الإسلام حتى من تقدمه من الخلفاء غير الشرعيين.
الثاني: أن الخلافة حق له ولأخيه الحسين (عليهما السلام) من بعد أبيه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الله عز وجل.
ص: 4
الثالث: بيان أن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو صاحب الحق في حربه مع معاوية في معركة صفين.
الرابع: أن يترك سبّ أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة، وأن لا يذكر علياً الا بخير.
الخامس: عدم شرعية خلافة معاوية حتى بعد الصلح وعدم ائتمانه على مال المسلمين
السادس: تفضيل بني هاشم على غيرهم من بني عبد شمس
السابع: توفير الحماية لشيعة أمير المؤمنين (عليه السلام)
الثامن: على أن لا يسلم على معاوية بأمرة المؤمنين ولا يقيم عنده شهادة
أسأل الله تعالى أن أكون قد وفقت لتسليط الضوء على بعض ملامح موقف الإمام الحسن (عليه السلام) من الصلح وأنه كان يروم بذلك مصلحة الدين والأمة وكان ذلك في النجف الأشرف بجوار سيدي ومولاي أمير المؤمنين (عليه السلام) بقلم الأقل الذي سودت وجهه الذنوب (علي) نجل المرحوم سماحة آية الله السيد (محمد حسين الطباطبائي الحكيم) في الأول من محرم الحرام سنة ألف وأربعمائة وثلاث وأربعون للهجرة النبوية الشريفة راجياً بذلك القبول من سيدي ومولاي الإمام الحسن (عليه السلام) وأن يكون خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفعني به يوم لا ينفع مال ولا بنون.
ص: 5
عدم شرعية خلافة معاوية وخروجه عن مسيرة الإسلام حتى من تقدمه من الخلفاء غير الشرعيين
وذلك أن معاوية لم يكن خليفة شرعياً حين خلافة الإمام الحسن (عليه السلام) لأنه إنما تسلم ولاية الشام أيام خلافة عمر بن الخطاب ولما توفي عمر سقطت شرعية ولايته بموت من نصبه ولكنه عاد والياً بعد أن أقره على هذه الولاية عثمان بن عفان وكذلك سقطت شرعية ولايته بوفاة عثمان ولكن لما آلت الخلافة إلى الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بإجماع المسلمين عليه كما ذكر (عليه السلام ) في بعض خطبه (وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها، ثم تداككتم علي تداك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها حتى انقطعت النعل وسقطت الرداء ووطئ الضعيف وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير وهدج إليها الكبير وتحامل نحوها العليل، وحسرت إليها الكعاب) ولم يقره (عليه السلام) على تلك الولاية ففي كتاب له إلى جرير البجلي (ومن كتاب له (عليه السلام) إلى جرير بن عبد الله البجلي لما أرسله إلى معاوية أما بعد فإذا أتاك كتابي فاحمل معاوية على الفصل، وخذه بالأمر الجزم، ثم خيره بين حرب مجلية أو سلم مخزية، فإن اختار الحرب فانبذ إليه، وإن اختار السلم فخذ بيعته والسلام) وفي كتاب أرسله إليه (وكيف أنت صانع إذا تكشفت عنك جلابیب ما أنت فيه من دنيا قد تبهجت بزينتها وخدعت بلذتها. دعتك فأجبتها، وقادتك فاتبعتها، وأمرتك فأطعتها. وإنه يوشك أن يقفك واقف على ما لا ينجيك منه مجن. فاقعس عن هذا الأمر، وخذ أهبة الحساب، وشمر لما قد نزل بك، ولا تمكن الغواة من سمعك، وإلا تفعل أعلمك ما أغفلت من نفسك، فإنك مترف قد أخذ الشيطان منك مأخذه وبلغ فيك أمله ، وجرى منك مجرى الروح والدم ومتى كنتم يا معاوية ساسة الرعية وولاة أمر الأمة؟ بغیر قدم سابق ولا شرف باسق، ونعوذ بالله من لزوم سوابق الشقاء وأحذرك أن تكون متماديا في غرة الأمنية مختلف العلانية والسريرة وقد دعوت إلى الحرب فدع الناس جانبا واخرج إلي وأعف الفريقين من القتال ليعلم أينا المرين على قلبه والمغطى على بصره . فأنا أبو حسن قاتل جدك وخالك وأخيك شدخا يوم بدر، وذلك السيف معي، وبذلك القلب ألقي عدوي، ما استبدلت ديناً، ولا استحدثت نبياً. وإني
ص: 6
لعلى المنهاج الذي تركتموه طائعين ودخلتم فيه مكرهين وزعمت أنك جئت ثائراً بعثمان. ولقد علمت حيث وقع دم عثمان فاطلبه من هناك إن كنت طالبا، فكأني قد رأيتك تضج من الحرب إذا عضتك ضجيج الجمال بالأثقال وكأني بجماعتك تدعوني - جزعا من الضرب المتتابع والقضاء الواقع ومصارع بعد مصارع - إلى كتاب الله ، وهي كافرة جاحدة، أو مبايعة حائدة) وفي كتاب له (عليه السلام) جواباً على كتاب لمعاوية يطلب منه ولاية الشام (فأما طلبك إلى الشام فإني لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس. وأما قولك إن الحرب قد أكلت العرب إلا حشاشات أنفس بقيت ألا ومن أكله الحق فإلى الجنة ومن أكله الباطل فإلى النار. وأما استواؤنا في الحرب والرجال فلست بأمضى على الشك مني على اليقين. وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الآخرة. وأما قولك إنا بنو عبد مناف فكذلك نحن. ولكن ليس أمية كهاشم. ولا حرب كعبد المطلب. ولا أبو سفيان كأبي طالب. ولا المهاجر كالطليق، ولا الصريح كاللصيق. ولا المحق كالمبطل ولا المؤمن كالمدغل. ولبئس الخلف خلف يتبع سلفا هوى في نار جهنم وفي أيدينا بعد فضل النبوة التي أذللنا بها العزيز ونعشنا بها الذليل. ولما أدخل الله العرب في دينه أفواجا وأسلمت له هذه الأمة طوعا وكرها كنتم ممن دخل في الدين إما رغبة وإما رهبة على حين فاز أهل السبق بسبقهم، وذهب المهاجرون الأولون بفضلهم. فلا تجعلن للشيطان فيك نصيبا، ولا على نفسك سبيلا) فتمرّد معاوية على الخليفة الشرعي وقامت الحرب ولم يكسب معاوية الحرب الا بخديعة رفع المصاحف وتخاذل جيش الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن القتال ووقوع التحكيم وسوء اختيار الحكمين التي لم يقبل بها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام ) فرفض إيقاف المعركة والتحكيم كما أنه بعد إصرارهم على التحكيم كان رافضاً لاختيار أهل الكوفة لأبي موسى الأشعري حكما وكان يريد عبد الله بن العباس، ولكن أصر أهل الكوفة على التحكيم وعلى اختيار أبي موسى، فوقع التحكيم من دون رضاه وعليه کسب معاوية الخلافة بخدعة عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري، ومع ذلك فإن معاوية بعد ذلك لم ينتهج سيرة الإسلام الصحيحة التي جاء بها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) بل حتى سيرة من سبقه من الخلفاء غير الشرعيين، ولذا كان أول بنود المعاهدة هو شرط تسليم الأمر لمعاوية على أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخلفاء الصالحين، وهو إشارة من الإمام الحسن (عليه السلام) إلى عدم عمل معاوية بكتاب الله وسنة نبيه وإلا فلا معنى لهذا الشرط مع عمل معاوية بهما وكذلك هو إشارة منه (عليه السلام) إلى السير على سيرة الخلفاء الصالحين وقصده بحسب ظاهر كلامه من الخلفاء الصالحين أبيه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أو الصالحين بنظر معاوية وهو من سبقه من الخلفاء، فكان البند الأول من أوضح بنود موقف قوة الإمام الحسن (عليه السلام) أمام معاوية، وأنه يريد مصلحة
ص: 7
الإسلام، وأن عدم قبوله بولاية معاوية ليس لعداء شخصي أو لطلب السلطة بل لعدم عمله بكتاب الله وسنة نبيه ومثله لا يصلح لخلافة المسلمين، مع أنها حق شرعي للإمام الحسن (عليه السلام).
ص: 8
أن الخلافة حق له ولأخيه الحسين (عليهما السلام) من بعد أبيه (عليه السلام) من رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الله عز وجل
وهذا من الإمام (عليه السلام) تأكيد على أن الخلافة هي حق شرعي له ولأخيه بعد أبيهما بأمر من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بما أنهم أئمة المسلمين، فحق الخلافة أيضاً لهم؛ لأن الإمامة تقتضي الخلافة الدينية والدنيوية، وإن تم التنازل عن الخلافة الدنيوية لظروف خاصة وبصورة مؤقتة فهي لا زالت حقاً ثابتاً لهم يرجع لهم متى ما سمحت الظروف بذلك، ولذا شرط الإمام (عليه السلام) عود الخلافة له او لأخيه الإمام الحسين (عليه السلام) إن لم يكن هو موجوداً وما ذكره (عليه السلام) من كونهم أئمة المسلمين وأن الخلافة الدينية والدنيوية لهم هو ما أكد عليه النبي الكريم (صلى الله عليه وآله) في خطبته في حجة الوداع يوم غدير خم حيث قال:
( معاشر الناس ) إن علياً والطيبين من ولدي هم الثقل الأصغر، والقرآن الثقل الأكبر، فكل واحد مُنبئ عن صاحبه وموافق له لن يفترقا حتى يردا على الحوض(1)، هم أمناء الله في خلقه وحكماؤه في أرضه، ألا وقد أديت، ألا وقد بلغت، ألا وقد أسمعت، ألا وقد أوضحت، ألا وإن الله عز وجل قال وأنا قلت عن الله عز وجل، ألا إنه ليس أمير المؤمنين غير أخي هذا ولا تحل إمرة المؤمنين بعدي لأحد غيره. ثم ضرب بيده إلى عضده فرفعه، وكان منذ أول ما صعد رسول الله صلى الله عليه وآله شال عليا حتى صارت رجله مع ركبة رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثم قال:
( معاشر الناس ) هذا علي أخي و وصيي و واعي علمي و خليفتي على أمتي و على تفسير كتاب الله عز و جل والداعي إليه والعامل بما يرضاه والمحارب لأعدائه والموالي على طاعته والناهي عن معصيته خليفة رسول الله و أمير المؤمنين والإمام الهادي وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين بأمر الله، أقول ما يبدل القول لدي بأمر ربي، أقول: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه والعن من أنكره واغضب
ص: 9
على من جحد حقه، اللهم إنك أنزلت عليَّ أن الإمامة بعدي لعلي وليك عند تبياني ذلك ونصبي إياه بما أكملت لعبادك من دينهم وأتممت عليهم بنعمتك ورضيت لهم الإسلام دينا، فقلت: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }(1) اللهم إني أشهدك وكفى بك شهيدا أني قد بلغت.
( معاشر الناس ) إنما أكمل الله عز وجل بينكم بإمامته ، فمن لم يأتم به وبمن يقوم مقامه من ولدي من صلبه إلى يوم القيامة والعرض على الله عز وجل ف( أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ}(2)، { لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}(3) وقال أيضاً (معاشر الناس ) إني أدعها إمامة ووراثة في عقبی إلى يوم القيامة، وقد بلّغت ما أمرت بتبليغه حجة على كل حاضر وغائب وعلى كل أحد ممن شهد أو لم يشهد ولد أو لم يولد، فليبلغ الحاضر الغائب، والوالد الولد إلى يوم القيامة، وسيجعلونها ملكا واغتصابا(4)، ألا لعن الله الغاصبين والمغتصبين، و{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ}(5) {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ}(6).)
وحيث كان نظر الإمام (عليه السلام) إلى أن ظرف وجود معاوية مناسب للتنازل عن الخلافة الدنيوية له لكن يكون ذلك منوطاً بوجوده هو ولا يكون حقاً له أن يجعله فيمن يختاره من بعده بل هو متطفل عليه بسبب الظروف المحيطة وعليه يرجع الحق في الخلافة الأصحاب الحق بعد انتهاء موضوع الظرف الاستثنائي وذلك يكون بشرط أن لا يوصي معاوية لأحد من بعده وإنما ترجع الخلافة إما للإمام الحسن (عليه السلام) إن كان موجوداً أو لأخيه الإمام الحسين (عليه السلام) إن لم يكن هو موجوداً.
وهذا أوضح دليل على سلب شرعية خلافة معاوية وأنه لا يستحق الخلافة حتى بعد الصلح، كما أدعاه معاوية أن الإمام الحسن (عليه السلام) وجده أهلا لها وتنازل عنها، بل إنما حكمت عليه الظروف الاستثنائية بسبب تخاذل من حوله عن قتال معاوية فكان يرى أن من مصلحة الإسلام فعلاً هو التنازل مؤقتاً عن الخلافة الدنيوية لمعاوية لطمعه في الدنيا ورغبته في الملك والتسلط كما سيأتي التصريح منه بذلك أنه إنما قاتل رغبة في الملك وحب الدنيا، ولا يعني هذا انتقال الحق منهم
ص: 10
(عليهم السلام) إلى بني أمية يتداولونه فيما بينهم، بل لابد من رجوعه لأصحابه متى سمحت الظروف بذلك وهو ظرف موت معاوية.
ص: 11
بيان أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) هو صاحب الحق في حربه مع معاوية في معركة صفين
إن شرط الإمام (عليه السلام) العطاء لأولاد من استشهد مع الإمام علي (عليه السلام) يوم صفين والجمل لهو اقرار صريح بكونهم شهداء يستحقون العطاء وأن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كان هو صاحب الحق في معركة صفين والجمل لاستحقاق أولاد من استشهدوا العطاء من بيت مال المسلمين وإلا لو لم يكن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على الحق في تلك المعارك لكان من قتل معه يعتبر باغياً لا يستحق العطاء من بيت المال، كما أن الإمام (عليه السلام) شرطه أن يكون من معاوية نفسه وليس من العطاء الذي استثناه الإمام (عليه السلام ) لنفسه، وذلك لاستحقاقهم العطاء من بيت مال المسلمين وهو تحت يد معاوية، وخصه الإمام (عليه السلام) من خراج أبجرد دون غيرها من البلدان وذلك لأسباب ذكرت، منها ما ذكره الشيخ الصدوق (قده) في علل الشرائع (فان قال: ما تأويل اختیار مال دار أبجرد على سائر الأموال لما اشترط أن يجعله لأولاد من قتل مع أبيه صلوات الله عليهم يوم الجمل وبصفين قيل لدار أبجرد خطب في شأن الحسن بخلاف جميع فارس، وقلنا: أن المال مالان الفيء الذي ادّعوا انه موقوف على المصالح الداعية إلى قوام الملة وعمارتها من تجييش الجيوش للدفع عن البيضة ولأرزاق الأساری ومال الصدقة الذي خص به أهل السهام وقد جرى في فتوح الأرضين بفارس والأهواز وغيرهما من البلدان مما فتح منها صلحا وما فتح منها عنوة وما أسلم أهلها عليها هنات هنات وأسباب وأسباب بإيجاب الشرائط الدالة لها، وقد كتب ابن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن زيد بن الخطاب وهو عامله على العراق أيدك الله هاش في السواد ما يركبون فيه البراذين ويتختمون بالذهب ويلبسون الطيالسة وخذ فضل ذلك فضعه في بيت المال، وكتب ابن الزبير إلى عامله جنبوا بيت مال المسلمين ما يؤخذ على المناظر والقناطر فإنه سحت فقصر المال عما كان فكتب إليهم ما للمال قد قصر فكتبوا إليه أن أمير المؤمنين نهانا عما يؤخذ على المناظر والقناطر فلذلك قصر المال فكتب إليهم عودوا إلى ما كنتم عليه هذا بعد قوله إنه سحت ولا بد أن يكون أولاد من قتل من أصحاب علي صلوات الله عليه بالجمل وبصفين من أهل الفيء ومال المصلحة ومن أهل الصدقة والسهام وقد قال رسول
ص: 12
الله (صلى الله عليه وآله) في الصدقة أمرت أن أخذها من أغنيائكم وأردها في فقرائكم - بالكاف والميم ضمير من وجبت عليهم في أموالهم الصدقة ومن وجبت الهم الصدقة - فخاف الحسن (عليه السلام) أن كثيرا منهم لا يرى لنفسه أخذ الصدقة من كثير منهم ولا اكل صدقة كثير منهم إذا كانت غسالة ذنوبهم ولم يكن للحسن (عليه السلام) في مال الصدقة سهم وروى ابن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: في كل أربعين من الإبل ابنة لبون ولا تفرق إبل عن حسابها من أتانا بها مؤتجرا فله أجرها ومن منعناها أخذناها منه وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا ليس لمحمد وآل محمد فيها شيء وفي كل غنيمة خمس أهل الخمس بكتاب الله عز وجل وان منعوا فخص الحسن (عليه السلام) ما لعله كان عنده أعف وأنظف من مال (أردشير خره) لأنها حوصرت سبع سنين حتى اتخذ المحاصرون لها في مدة حصارهم إياها مصانع وعمارات ثم ميزوها من جملة ما فتحوها بنوع من الحكم وبين الأصطخر الأول والأصطخر الثاني هنات علمها الرباني الذي هو الحسن (عليه السلام) فاختار لهم أنظف ما عرف)(1).
أقول : قال ابن أبي الحديد : روى أبو الحسن المدائني قال : سأل معاوية الحسن بن علي عليهما السلام بعد الصلح أن يخطب الناس فامتنع ، فناشده أن يفعل فوضع له كرسي فجلس عليه ، ثم قال : الحمد لله الذي توحد في ملكه ، وتفرد في ربوبيته : يؤتي الملك من يشاء ، وينزعه عمن يشاء ، والحمد لله الذي أكرم بنا مؤمنكم ، وأخرج من الشرك أولكم ، و حقن دماء آخركم ، فبلاؤنا عندكم قديما وحديثا أحسن البلاء ، إن شكرتم أو كفرتم ، أيها الناس إن رب علي كان أعلم بعلي حين قبضه إليه ، ولقد اختصه بفضل لن تعهدوا بمثله ، ولن تجدوا مثل سابقته . فهيهات هيهات طالما قلبتم له الأمور حتى أعلاه الله عليكم ، وهو صاحبكم غزاكم في بدر وأخواتها ، جرعكم رنقا وسقاكم علقا ، وأذل رقابكم وشرفكم بريقكم ، فلستم بملومين على بغضه ، وأيم الله لا ترى أمة محمد خفضا ما كانت سادتهم وقادتهم في بني أمية ، ولقد وجه الله إليكم فتنة لن تصدوا عنها حتى تهلكوا لطاعتكم طواغيتكم ، وانضوائكم إلى شياطينكم ، فعند الله أحتسب ما مضى ، وما ينتظر من سوء رغبتكم ، وحيث حلمكم .
ثم قال : يا أهل الكوفة لقد فارقكم بالأمس سهم من مرامي الله ، صائب على أعداء الله ، نكال على فجار قريش ، لم يزل آخذا بحناجرها جاثما على أنفسها لیس
ص: 13
بالملومة في أمر الله ، ولا بالسروقة لمال الله ، ولا بالفروقة في حرب أعداء الله ، أعطى الكتاب خواتيمه و عزائمه ، دعاه فأجابه ، وقاده فاتبعه، لا تأخذه في الله لومة لائم ، فصلوات الله عليه ورحمته .
ص: 14
أن يترك سب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) والقنوت عليه بالصلاة، وأن لا يذكر علية الا بخير.
هذه الفقرة أيضاً تدل على أن ما شرعه معاوية لأهل الشام من سن سب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قبل خطبة الجمعة وبعدها وفي قنوت الصلاة وفي غير ذلك ليس هو من الشرع كما حاول تصويرها معاوية أن ذلك من سنة النبي (صلى الله عليه وآله) وإنما هو بدعة شرعها معاوية وليست من صلب الإسلام وهذا معناه عدم استحقاق الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) للسب وإنما هو أمر مبتن على حقد معاوية الشخصي.
وفيه تأكيد على تجاوز معاوية على شرائع الإسلام بتشريع مالم يكن مشرعاً وجعله جزءاً من صلاة المسلمين وبياناً لمقام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي حاول معاوية إنكاره عند أهل الشام وأن هذا الرجل لا يستحق السب كما سن معاوية ذلك.
وحيث إن معاوية قد سن السب لسنين متطاولة فينشأ جيل على ذلك ظاناً أن هذا مشرع من الله في الصلاة والخطب وممن ذكر سن معاوية السب كثير من الكتاب، فقد روى إبراهيم الكوفي في الغارات، (قال هشام بن الكلبي قال: إني أدركت بني أود وهم يعلمون أبناء هم وحرمهم سب علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفيهم رجل دخل على الحجاج فكلمه بكلام فأغلظ عليه الحجاج في الجواب فقال: لا تقل هذا أيها الأمير فما لقريش ولا لثقيف منقبة يعتدون بها إلا ونحن نعد بمثلها، قال: وما مناقبكم؟- قال: ما ينقص عثمان ولا يذكر بسوء في نادينا قط، قال: هذه منقبة. قال: ولا رؤي منا خارجي قط، قال: منقبة. قال: وما شهد منا مع أبي تراب مشاهده إلا رجل فأسقطه ذلك عندنا، قال: منقبة: قال: وما أراد رجل منا قط أن يتزوج امرأة إلا سأل عنها: هل تحب أبا تراب أو تذكره بخير؟ فإن قيل: إنها تفعل اجتنبها، قال: منقبة. قال: ولا ولد فينا ذكر فسمي عليا ولا حسنا ولا حسينا، ولا ولدت فينا جارية فسميت فاطمة، قال: منقبة. قال: ونذرت امرأة منا إن قتل الحسین
ص: 15
أن تنحر عشر جزور فلما قتل وفت بنذرها. قال: منقبة. قال: ودعي رجل منا إلى البراءة من علي ولعنه، فقال: نعم و أزيدكم حسنا وحسينا، قال، منقبة والله.
وقد كان معاوية - لعنه الله - يسب عليا ويتتبع أصحابه مثل ميثم التمار وعمرو ابن الحمق وجويرية بن مسهر وقیس بن سعد ورشيد الهجري ويقنت بسبه في الصلاة ويسب ابن عباس وقيس بن سعد والحسن والحسين عليهما السلام ولم ينكر ذلك عليه أحد.
وكان خالد بن عبد الله القسري - لعنه الله - يقول على المنبر: العنوا علي بن أبي طالب فإنه لص بن لص ( بضم اللام ) فقام إليه أعرابي فقال: والله ما أعلم من أي شيء أعجب؟ من سبك علي بن أبي طالب؟ ! أم من معرفتك بالعربية)(1).
وفي شرح الأخبار، (وأبو أيوب بن زید بدري: وهو الذي نزل عليه رسول الله صلوات الله عليه وآله [ يوم ] مقدمة المدينة، وكان على مقدّمة علي (عليه السلام) يوم صفين، وهو الذي خاصم الخوارج يوم النهروان، وهو الذي قال لمعاوية - حين أظهر سب علي (عليه السلام) -: کف یا معاوية عن سب علي! قال معاوية: ما أقدر على ذلك. فتنحى أبو أيوب، وقال: والله لا أسكن أرضا أسمع فيها سب علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه). وخرج من المدينة إلى ساحل البحر، فأقام هنالك حتى مات رحمة الله عليه)(2)
وروى الشيخ في الأمالي، ( أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ قَادِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ، عَنْ سَهْمِ بْنِ الْحُصَيْنِ الْأَسَدِيِّ، قَالَ: قَدِمْتُ إِلَى مَكَّةَ أَنَا وَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلْقَمَةَ، وَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلْقَمَةَ سَبَّابَةً لِعَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) دَهْراً.قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ لَكَ فِي هَذَا- يَعْنِي أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ- نُحْدِثُ بِهِ عَهْداً قَالَ: نَعَمْ، فَأَتَيْنَاهُ فَقَالَ: هَلْ سَمِعْتَ لِعَلِيٍّ مَنْقَبَةً قَالَ: نَعَمْ إِذَا حَدَّثْتُكَ فَسَلْ عَنْهَا الْمُهَاجِرِينَ وَ قُرَيْشاً، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قَامَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ، فَأَبْلَغَ ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَ لَسْتُ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ قَالُوا: بَلَى. قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: ادْنُ يَا عَلِيُّ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يَدَيْهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى بَيَاضِ آبَاطِهِمَا قَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلْقَمَةَ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: نَعَمْ، وَ أَشَارَ إِلَى أُذُنَيْهِ وَ صَدْرِهِ، قَالَ: سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَ وَعَاهُ قَلْبِي.قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَرِيكَ: فَقَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ
ص: 16
بْنُ عَلْقَمَةَ وَ سَهْمُ بْنُ حُصَيْنٍ، فَلَمَّا صَلَّيْنَا الْهِجِّيرَ قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلْقَمَةَ فَقَالَ: إِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَ أَسْتَغْفِرُهُ مِنْ سَبِّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ)، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.)(1)
وقال الكراجكي في كتاب ( التعجب ) ما معناه، (مسجد الذكر بمصر وهو معروف في موضع يعرف بسوق وردان، وإنما سمي مسجد الذكر لان الخطيب سها يوم الجمعة عن سب علي بن أبي طالب على المنبر، فلما وصل إلى موضع المسجد المذكور، وذكر انه لم يسبه فوقف وسبه هناك قضاء لما نسيه، فبني الموضع وسمي بذلك. وقال: مررت به في بعض السنين فرأيت فيه سرجا كثيرة وآثار بخور، وذكر لي أنه يؤخذ من ترابه ويتشافي به، ثم جدد بنيانه بعد ذلك وعظم أمره، ويسمون إلى الان يوم الجمعة يوم السب بالشام)(2)
وذكر أبو الفداء في المختصر (كان خلفاء بني أمية يسبون علياً (رضي الله عنه من سنة إحدى وأربعين وهي السنة التي خلع الحسن فيها نفسه من الخلافة إلى أول سنة تسع وتسعين آخر أيام سليمان بن عبد الملك فلما ولي عمر(3) أبطل ذلك وكتب إلى نوابه: بإبطاله ولما خطب يوم الجمعة أبدل السب في آخر الخطبة بقراءة قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(4) فلم يسب علي بعد ذلك. واستمرت الخطباء على قراءة هذه الآية ومدحه كثير بن عبد الرحمن الخزاعي فقال:
وُليت فلم تَشتُم عليا ولم تخف*** بريا ولم تتبع سجية مجرم
وقلتَ فصدّقتَ الذي قلتَ بالذي***فعلتَ فأضحى راضياً كل مسلم)(5)
ص: 17
عدم شرعية خلافة معاوية حتى بعد الصلح وعدم ائتمانه على مال المسلمين
استثناء ما في بيت المال في الكوفة، وهو خمسة آلاف الف فلا يشمله تسلیم الأمر. وعلى معاوية أن يحمل إلى الإمام الحسن (عليه السلام) كل عام الفي الف درهم.
هذه الفقرة فسرها البعض أن الإمام (عليه السلام) كان يريد أن يحصل على المال من معاوية قدر المستطاع وهو الذي جعل بعض قيادات جيش الإمام تسلم نفسها لمعاوية مقابل المال، كما وقع هذا اللبس للطبري حيث قال (عن الزهري قال جعل علي (عليه السلام) قیس ابن سعد على مقدمته من أهل العراق إلى قِبَلِ أذربيجان وعلى أرضها وشرطة الخميس التي ابتدعتها العرب وكانوا أربعين ألفاً بايعوا علياً (عليه السلام) على الموت ولم يزل قيس يداري ذلك البعث حتى قتل علي (عليه السلام) واستخلف أهل العراق الحسن بن علي (عليه السلام) على الخلافة وكان الحسن (عليه السلام) لا يرى القتال ولكنه يريد أن يأخذ لنفسه ما استطاع من معاوية ثم يدخل في الجماعة وعرف الحسن (عليه السلام) أن قيس بن سعد لا يوافقه على رأيه فنزعه وأمَّرَ (عبيد الله بن عباس) فلما علم (عبيد الله بن عباس بالذي يريد الحسن (عليه السلام) أن يأخذه لنفسه كتب إلى معاوية يسأله الأمان ويشترط لنفسه على الأموال التي أصابها فشرط ذلك له معاوية)(1)، ولكن هذا البعض وقع في جهل واضح فالإمام (عليه السلام) في هذه الفقرة يريد أن يبين أنه هو صاحب الحق في التصرف في خراج الدولة الاسلامية وأن المال الذي عند معاوية هو مال حرام لاستيلائه على مال ليس له الحق بالاستيلاء عليه ولكن هذا لا يمكن في حال صلح الإمام وكون معاوية هو الخليفة خارجاً فاستثنى الإمام (عليه السلام) مالا يبقى تحت تصرفه لكي لا يكون لمعاوية المنة عليه بالخراج ويكون ما يأخذه من المال حلالاً له لعدم دخوله تحت سلطنة السلطان الجائر، وأراد الإمام
ص: 18
(عليه السلام) أن يبين أنه لازال هو صاحب الحق في الخلافة ولذا هو من يستثني مقدار خراج الكوفة ويريد أن لا يكون هو (عليه السلام) تحت رحمة سلطة معاوية في المال.
وفي البحار ذكر بعد ذلك (أن الإمام (عليه السلام) لم يكن طامعاً في مال معاوية كما تصوره البعض وإلا كان خراج الدولة الإسلامية تحت يده لكونه هو الخليفة الشرعي بعد أبيه بمبايعة الناس له، بل حتى أن ما استثناه لم يكن يصرفه لنفسه فقال (فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال في تفسير قوله عز وجل:وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ(1) أنه لا يجاوز قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن ثيابه فيما أبلاه وعمره فيما أفناه، وعن ماله من أين جمعه، وفيما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت وكان الحسن والحسين (عليهما السلام) يأخذان من معاوية الأموال فلا ينفقان من ذلك على أنفسهما ولا على عيالهما ما تحمله الذبابة بفيها)(2).
وإنما لكي يفي الإمام الحسن (عليه السلام) بكثير من الالتزامات المالية المنوطة به وكذلك يعطي من يمنعهم معاوية من العطاء
ص: 19
تفضیل بني هاشم بالعطاء على بني عبد شمس
ثم جعل الإمام (عليه السلام) الشرط بتفضيل بني هاشم بالعطاء على بني عبد شمس لهو اعتراف صريح بأفضليتهم على غيرهم حتى بالعطاء ولكون معاوية من بني عبد شمس والإمام (عليه السلام) يعلم أن مسيرة معاوية كمسيرة من كان قبله حيث فرق أموال الدولة الإسلامية بين قرابته كما أشار لذلك أبوه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته الشقشقية لما وصف فترة خلافة عثمان بن عفان حيث قال (إلى أن قام ثالث القوم(1)، نافجا حضنيه(2) بين نثيله(3) ومعتلفه(4)، وقام معه بنو أبيه يخضمون(5) مال الله خضم الإبل نبتة الربيع(6)، إلى أن انتکث عليه فتله(7)، وكبت به بطنته(8)، وأجهز عليه عمله(9))(10) وإقرار معاوية لذلك التفضيل وهذا معناه أن معاوية كان مبغضاً لبني هاشم حتى بمنع العطاء عنهم فكيف يكون هو ممثلاً للدولة الاسلامية.
ص: 20
وهذا أكبر دليل أن الإمام (عليه السلام) يريد أن يبين مقام بني هاشم عن غيرهم وأن لهم الفضل والمكانة عند الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) ولذا استوجبوا التقديم بالعطاء ولبيان أنه (عليه السلام) أولى من معاوية بهذا المنصب لأنه إذا كان الهاشمي مقدم بالعطاء فهو في غيره أولى بالتقديم وقد بين ذلك النبي محمد (صلی الله عليه وآله) في خطبة الغدير في حجة الوداع حينما بين مقام وفضل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وأنه مفضل ومقدم من قبل الله تعالى فقال:
(( معاشر الناس ) ما من علم إلا وقد أحصاه الله فيَّ ، وكل علم عُلِّمت فقد أحصيته في إمام المتقين، وما من علم إلا علّمتُه علياً، وهو الإمام المبين.
( معاشر الناس ) لا تضلوا عنه ولا تنفروا منه ولا تستكبروا [ ولا تستنكفوا ] من ولايته، فهو الذي يهدي إلى الحق ويعمل به ويزهق الباطل وينهی عنه ولا تأخذه في الله لومة لائم. ثم إنه أول من آمن بالله ورسوله، وهو الذي فدى رسوله بنفسه وهو الذي كان مع رسول الله ولا أحد يعبد الله مع رسوله من الرجال غيره.
( معاشر الناس ) فضِّلوه فقد فضَّله الله، واقبلوه فقد نصبه الله.
( معاشر الناس ) إنه إمام من الله ولن يتوب الله على أحد أنكر ولايته، ولن يغفر الله له، حتما على الله أن يفعل ذلك بمن خالف أمره فيه وأن يعذبه عذابا شديدا نكرا أبد الآباد ودهر الدهور، فاحذروا أن تخالفوه فتصلوا نارا وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين. أيها الناس بي والله بشَّر الأولون من النبيين والمرسلين، وأنا خاتم الأنبياء والمرسلين والحجة على جميع المخلوقين من أهل السماوات والأرضين، فمن شك في ذلك فهو كافر كفر الجاهلية الأولى، ومن شك في شئ من قولي هذا فقد شك في الكل منه، والشاك في ذلك فله النار.
( معاشر الناس ) حباني الله بهذه الفضيلة ما منّاً عليَّ وإحسانا منه إلي، ولا إله إلا هو، له الحمد مني أبد الآبدين ودهر الداهرين على كل حال.
( معاشر الناس ) فَضِّلوا علياً فإنه أفضل الناس بعدي من ذكر وأنثى، بنا أنزل الله الرزق وبقي الخلق، ملعون ملعون مغضوب مغضوب من رد عليَّ قولي هذا ولم يوافقه، ألا إن جبرئیل خبرني عن الله تعالى بذلك ويقول: من عادى عليّاً ولم يتوله فعليه لعنتي وغضبي فلتنظر نفس ما قدمت لغد، واتقوا الله أن تخالفوه فتزل قدم بعد ثبوتها إن الله خبير بما تعملون)(1).
ص: 21
وهذا ما صرح به بعد ذلك الإمام زين العابدين (عليه السلام) بخطبته في مجلس يزيد حينما أدخلوهم سبايا بعد واقعة الطف حيث قال:
وفُضِّلنا بأنّ منّا النبيُ المختار محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم)، ومنا الصديق - ويقصد أمير المؤمنين (عليه السلام) - ومنا الطيار - وهو جعفر بن أبي طالب - ومنا أسد الله وأسد الرسول - ويقصد حمزة بن عبد المطلب - ومنا سيدة نساء العالمين فاطمة البتول ومنا سبطا هذه الأمة وسيدا شباب أهل الجنة - وهما الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام))(1).
ص: 22
توفير الحماية لشيعة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)
وهذا الشرط دليل على أن معاوية كان يتتبع كل صحابة النبي (صلى الله عليه وآله) ممن كان يوالي الإمام أمير المؤمنين فأشترط الإمام ( عليه السلام) على أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله، في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وأن يؤمَّن الأسود والأحمر، وان يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم، وأن لا يتبع أحداً بما مضى، وأن لا يأخذ أهل العراق بأحنة. وعلى أمان أصحاب عليّ (عليه السلام) حيث كانوا، وأن لا ينال أحداً من شيعة علي (عليه السلام) بمكروه، وأن أصحاب علي (عليه السلام) وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وان لا يتعقب عليهم شيئاً، ولا يتعرض لاحد منهم بسوء، ويوصل إلى كل ذي حق حقه، وعلى ما أصاب أصحاب علي (عليه السلام) حيث كانوا. وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي (عليهما السلام)، ولا لأخيه الحسين (عليه السلام)، ولا لأحد من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) غائلةً، سراً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم، في أفق من الآفاق.
وهذا الشرط ينبئ عن سياسة معاوية من التعقب والاغتيال والقتل على الهوية الشيعية ولذا الإمام (عليه السلام) شرط عليه عدم تعقب شيعة أبيه وأهل العراق ممن كان موالياً للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ممن شاركوا مع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في غزواته ضد معاوية وغيرها وكذلك شرط الإمام (عليه السلام) الأمان لنسائهم وأولادهم مما يكشف عن شدة إجرام سلطة معاوية من قتل النساء والأطفال بسبب ولاء أباءهم للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لأنه عرف عن معاوية قتل حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي وكان باعتراف منه (فعن صالح بن کیسان قال: لما قتل معاوية حجر بن عدي وأصحابه حج ذلك العام فلقي الحسين بن علي (عليه السلام) فقال: يا أبا عبد الله هل بلغك ما صنعنا بحجر، وأصحابه، وأشياعه، وشيعة أبيك؟ فقال (عليه السلام): وما صنعت بهم؟ قال: قتلناهم، وكفنّاهم، وصلّينا عليهم. فضحك الحسين (عليه السلام) ثم قال: خَصَمَك القوم يا معاوية، لكننا لو قتلنا شيعتك. ما كفنّاهم، ولا صلّينا عليهم، ولا قبرناهم،
ص: 23
ولقد بلغني وقيعتك في علي وقيامك ببغضنا، واعتراضك بني هاشم بالعيوب، فإذا فعلت ذلك فارجع إلى نفسك، ثم سلها الحق عليها ولها، فإن لم تجدها أعظم عيبا فما أصغر عيبك فيك، وقد ظلمناك يا معاوية فلا توترن غير قوسك، ولا ترمین غیر غرضك، ولا ترمنا بالعداوة من مكان قريب، فإنك والله لقد أطعت فينا رجلا ما قدم إسلامه، ولا حدث نفاقه، ولا نظر لك فانظر لنفسك أو دع - يعني: (عمرو بن العاص). وعاتبه على ذلك الحسين (عليه السلام) قائلاً (في جواب كتاب كتب إليه معاوية على طريق الاحتجاج -: أما بعد: فقد بلغني كتابك أنه بلغك عني أمور أن بي عنها غني، وزعمت أني راغب فيها، وأنا بغيرها عنك جدير، أما ما رقي إليك عني فإنه رقاه إليك الملاقون المشاؤون بالنمائم المفرّقون بين الجمع، كذب الساعون الواشون ما أردت حربك ولا خلافا عليك وأيم الله إني لأخاف الله عز ذكره في ترك ذلك، وما أظن الله تبارك وتعالی براض عني بتركه، ولا عاذري بدون الاعتذار إليه فيك، وفي أولئك القاسطین الملبين حزب الظالمين، بل أولياء الشيطان الرجيم، ألست قاتل حجر بن عدي أخي كندة وأصحابه الصالحين المطيعين العابدين، كانوا ينكرون الظلم، ويستعظمون المنكر والبدع، ويؤثرون حكم الكتاب، ولا يخافون في الله لومة لائم، فقتلتهم ظلما وعدوانا، بعدما كنت أعطيتهم الإيمان المغلظة، والمواثيق المؤكدة، لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم، ولا بأحنة تجدها في صدرك عليهم، أو لست قاتل عمرو ابن الحمق صاحب رسول الله، العبد الصالح الذي أبلته العبادة فصفرت لونه، ونحلت جسمه، بعد أن أمنته وأعطيته من عهود الله عز وجل وميثاقه ما لو أعطيته العصم ففهمته لنزلت إليك من شعف الجبال، ثم قتلته جرأة على الله عز وجل، واستخفافاً بذلك العهد) وكذلك قتل أهل العراق والحضرميين لولائهم للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كما ذكر ذلك له (عليه السلام) أيضاً (أو لست المدعي زياد بن سمية، المولود على فراش عبيد عبد ثقيف، فزعمت أنه ابن أبيك، وقد قال رسول الله: ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) فتركت سنة رسول الله واتبعت هواك بغير هدى من الله، ثم سلطته على أهل العراق فقطع أيدي المسلمين وأرجلهم وسمل أعينهم، وصلبهم على جذوع النخل كأنك لست من هذه الأمة، وليسوا منك؟ أو لست صاحب الحضرميين الذين كتب إليك فيهم ابن سمية أنهم: على دين علي ورأيه، فكتبت إليه اقتل كل من كان على دين علي (عليه السلام) ورأيه فقتلهم، ومثل بهم بأمرك، ودين علي والله الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك، وهو أجلسك بمجلسك الذي أنت فيه ولولا ذلك لكان أفضل شرفك وشرف أبيك تجشم الرحلتين اللتين بنا من الله عليكم فوضعهما عنكم)(1)
ص: 24
ونقل في كيفية قتل عمرو الخزاعي (كان عمرو بن الحمق الخزاعي شيعة لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، فلما صار الأمر إلى معاوية انحاز إلى شهر زور من الموصل. وكتب إليه معاوية: أما بعد فإن الله أطفأ النائرة وأخمد الفتنة وجعل العاقبة للمتقين، ولست بأبعد أصحابك همة ولا أشدهم في سوء الأثر صنعا، كلهم قد أسهل بطاعتي وسارع إلى الدخول في أمري، وقد بطأ بك ما بطأ فادخل فيما دخل فيه [ الناس ] يمح عنك سالف ذنوبك ونحي داثر حسناتك، ولعلي لا أكون لك دون من كان قبلي إن أبقيت واتقيت ووفيت وأحسنت، فاقدم علي آمنا في ذمة الله وذمة رسوله، محفوظا من حسد القلوب وإحن الصدور وكفى بالله شهيدا . فلم يقدم عليه عمرو بن الحمق، فبعث إليه من قتله وجاء برأسه [ إليه ] فبعث به [ معاوية ] إلى امرأته وهي في سجنه فوضع في حجرها فقالت: سترتموه عني طويلا وأهديتموه إلي قتيلا! فأهلا وسهلا من هدية غير قالية ولا بمقلية، بلغ أيها الرسول عني معاوية ما أقول: طلب الله بدمه، وعجل له الويل من نقمة، فقد أتى أمرا فريا وقتل برا تقيا، فأبلغ أيها الرسول معاوية ما قلت. فبلغ الرسول [ معاوية ] ما قالت، فبعث إليها فقال لها: أنت القائلة ما قلت؟ قالت: نعم غير ناكلة عنه ولا معتذرة منه. قال لها: اخرجي من بلادي. قالت: أفعل فوالله ما هو لي بوطن ولا أحن فيها إلى سجن، ولقد طال بها سهري واشتهر بها عبري وكثر فيها ديني من غير ما قرت به عيني. فقال عبد الله بن أبي سرح الكاتب: يا أمير المؤمنين! إنها منافقة فألحقها بزوجها. فنظرت إليه فقالت: يا من بين لحييه كجثمان الضفدع! إلا قتلت من أنعمك خلعا وأصفاك بكساء، إنما المارق المنافق من قال بغير الصواب، واتخذ العباد کالأرباب، فأنزل كفره في الكتاب. فأومأ معاوية إلى الحاجب بإخراجها فقالت: وا عجباه من ابن هند! يشير إلي ببنانه ويمنعني نوافذ لسانه، أما والله لأبقرنه بكلام عتيد كنوافذ الحديد، أو ما أنا بآمنة بنت الرشید)(1)
( وحدثنا يوسف بن يعقوب حدثني أبو بكر بن عياش عن جواد الضبّي قال أول رأس بعث في الاسلام رأس عمرو بن الحمق بعثه زياد إلى معاوية)(2)
( وسمعت ابا علي الحافظ يقول سمعت ابن قتيبة يقول سمعت إبراهيم بن يعقوب يقول قد أدرك حجر بن عدي الجاهلية واكل الدم فيها ثم صحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسمع منه وشهد مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه الجمل وصفين وقتل في موالاة علي)(3)
ص: 25
( وأخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن عتاب العبدي ببغداد حدثنا أحمد بن عبيد الله النرسي حدثنا عمرو بن عاصم الكلابي حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زید عن سعيد بن المسيب عن مروان بن الحكم قال دخلت مع معاوية على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت یا معاوية قتلت حجراً وأصحابه وفعلت الذي فعلت)(1)
وأخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سیرین قال: أمر معاوية بقتل حجر بن عدي الكندي، فقال حجر: لا تحلوا عني قيدا، أو قال: حديدا، وكفنوني بثيابي ودمي.)(2)
وفي الطبقة الرابعة من الصحابة حجر الخير بن عدي الأدبر وانما طعن مولياً فسمي الأدبر بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكرمين بن الحارث بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع بن كندي جاهلي اسلامي وفد إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) وشهد القادسية وهو الذي افتتح مرج عذار وشهد الجمل وصفين مع علي بن أبي طالب وكانوا ألفين وخمسمائة من العطاء وقتله معاوية بن أبي سفيان وأصحابه بمرج عذراء وابناه عبيد الله وعبد الرحمن ابنا حجر بن عدي وقتلهما مصعب بن الزبير صبراً وكانا يتشیعان وكان حجر ثقة معروفا ولم يرو عن غير علي شيئاً انتهى كذا قال وقد قدمنا ذكر روايته عن عمار وشراحبيل بن مرة ومحمد بن أبي بكر ومالك الأشتر)(3)
ص: 26
على أن لا يسلم على معاوية بأمرة المؤمنين ولا يقيم عنده شهادة
وهذا الشرط هو اسقاط الشرعية خلافة معاوية بالكامل وأن مهادنة الإمام الحسن (عليه السلام) معه وقتية للظرف الحالي وعدم استحقاق معاوية لهذا المنصب أبداً كسابقه من الشروط وقد أكد هذا المعنى الشيخ الصدوق في علله حيث قال حدثنا يوسف ابن مازن الراشي قال: بايع الحسن بن علي صلوات الله عليه معاوية على أن لا يسميه أمير المؤمنين ولا يقيم عنده شهادة وعلى أن لا يتعقب على شيعة علي شيئا وعلى أن يفرق في أولاد من قتل مع أبيه يوم الجمل وأولاد من قتل مع أبيه بصفين الف ألف درهم وان يجعل ذلك من خراج دار أبجرد، قال ما الطف حيلة الحسن (صلوات الله عليه) هذه في اسقاطه إياه عن إمرة المؤمنين، قال يوسف فسمعت القاسم بن محيمة يقول: ما وفي معاوية للحسن بن علي (صلوات الله عليه) بشيء عاهده عليه، وانی قرأت كتاب الحسن (عليه السلام) إلى معاوية يعد عليه ذنوبه إليه والى شيعة علي (عليه السلام) فبدأ بذكر عبد الله بن يحيى الحضرمي ومن قتلهم معه. فنقول رحمك الله، أن ما قال يوسف بن مازن من أمر الحسن (عليه السلام) ومعاوية عند أهل التمييز والتحصيل تسمى المهادنة والمعاهدة ألا ترى كيف يقول ما وفي معاوية للحسن بن علي (عليه السلام) بشيء عاهده عليه وهادنه ولم يقل بشيء بايعه عليه والمبايعة على ما يدعيه المدعون على الشرائط التي ذكرناها ثم لم يف بها لم يلزم الحسن (عليه السلام) وأشد ماها هنا من الحجة على الخصوم معاهدته إياه أن لا يسميه أمير المؤمنين ، والحسن (عليه السلام) عند نفسه لا محالة مؤمن فعاهده ان لا يكون عليه أميرا إذ الأمير هو الذي يأمر فيؤتمر له فاحتال الحسن صلوات الله عليه لإسقاط الائتمار لمعاوية إذا أمره أمراً على نفسه، والأمير هو الذي أمره مأمور من فوقه فدل على أن عز وجل لم يؤمره عليه ولا رسوله (صلى الله عليه وآله) أمره عليه فقد قال النبي (صلى الله عليه وآله) لا يلين مفاء على مفيئ، يريدان من حكمه هو حكم هوازن الذين صاروا فيئاً للمهاجرين والأنصار فهؤلاء طلقاء المهاجرين والأنصار بحكم إسعافهم النبي
ص: 27
(صلى الله عليه وآله) فيئهم لموضع رضاعه وحكم قريش وأهل مكة حكم هوازن لمن أمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليهم فهو التأمير من الله جل جلاله ورسوله (صلى الله عليه وآله) أو من الناس كما قالوا في غير معاوية أن الأمة اجتمعت فأمرت فلانا وفلانا وفلانا على أنفسهم فهو أيضا تأمیر غير أنه من الناس لا من الله ولا رسوله وهو إن لم يكن تأمیرا من الله ومن رسوله ولا تأمیرا من المؤمنين فيكون أميرهم بتأميرهم فهو تأمیر منه بنفسه والحسن (صلوات الله عليه) مؤمن من المؤمنين فلم يؤمر معاوية على نفسه بشرط عليه أن لا يسميه أمير المؤمنين فلم يلزمه ذلك الائتمار له في شيء أمره به وفرغ (صلوات الله عليه) إذ خلص نفسه من الايجاب عليها الائتمار له عن أن يتخذ على المؤمنين الذين هم على الحقيقة مؤمنون وهم الذين كتب في قلوبهم الإيمان ولأن هذه الطبقة لم يعتقدوا إمارته ووجوب طاعته على أنفسهم ولان الحسن (عليه السلام) أمير البررة وقاتل الفجرة كما قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلي (عليه السلام) أمير المؤمنين علي أمير البررة وقاتل الفجرة فأوجب ( صلى الله عليه وآله ) انه ليس لبر من الأبرار ان يتأمر عليه وان التأمير على أمير الأبرار ليس ببر، هكذا يقتضی مراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولو لم يشترط الحسن بن علي (عليه السلام) على معاوية هذه الشروط وسماه أمير المؤمنين وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): قريش أئمة الناس أبرارها لأبرارها وفجارها لفجارها وكل من اعتقد من قريش أن معاوية إمامه بحقيقة الإمامة من الله عز وجل اعتقد الائتمار له وجوبا عليه فقد اعتقد وجوب اتخاذ مال الله دولا وعباده خولا ودينه دخلا وترك أمر الله إياه إن كان مؤمنا فقد أمر الله عز وجل المؤمنين بالتعاون على البر والتقوى فقال ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)(1) فإن كان اتخاذ مال الله دولا وعباده خولا ودين الله دخلا من البر والتقوى جاز على تأويلك من اتخذه إماما وأمره على نفسه كما ترون التأمير على العباد، ومن اعتقد ان قهر مال الله على ما يقهر عليه وقهر دين الله على ما يسام وأهل دين الله على ما يسامون هو بقهر من اتخذهم خولا، وان الله من قبله مديلا في تخليص المال من الدول، والدين من الدغل، والعباد من الخول علم وسلم، وامن واتقي، أن البر مقهور في يد الفاجر، والأبرار مقهورون في أيدي الفجار بتعاونهم مع الفاجر على الاثم والعدوان، المزجور عنه، المأمور بضده وخلافه ومنافيه. وقد سئل سفيان الثوري عن العدوان ما هو؟ فقال: هو أن ينقل صدقة ( بانقيا ) إلى الحيرة فتفرق في أهل السهام بالحيرة وببانقيا أهل السهام وانا أقسم بالله قسما بارا ان حراسة سفيان ومعاوية بن مرة ومالك بن معول وخيثمة بن عبد الرحمان خشبة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب
ص: 28
(عليه السلام) بكناس الكوفة بأمر هشام بن عبد الملك من العدوان الذي زجر الله عز وجل عنه وان حراسة من سميتهم بخشبة زيد رضوان الله عليه الداعية بنقل صدقة بانقيا إلى الحيرة فان عذر عاذر من سميتهم بالعجز عن نصر البر الذي هو الامام من قبل الله عز وجل الذي فرض طاعته على العباد، على الفاجر الذي تأمر بإعانة الفجرة إياه، قلنا: لعمري أن العاجز معذور فيما عجز عنه ولكن ليس الجاهل بمعذور في ترك الطلب في ما فرض الله عز وجل عليه وايجابه على نفسه فرض طاعته وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر وبأنه لا يجوز أن يكون سريرة ولاة الأمر بخلاف علانيتهم كما لم يجز أن يكون سريرة النبي الذي هو أصل ولاة الأمر وهم فرعه بخلاف علانيته، وان الله تعالى العالم بالسرائر والضمائر والمطلع على ما في صدور العباد لم يكل علم ما لم يعلمه العباد إلى العباد جل وعز عن تكليف العباد ما ليس في وسعهم وطوقهم إذ ذاك ظلم من المكلف وعبث منه وانه لا يجوز أن يجعل جل وتقدس اختيار من يستوي سريرته بعلانيته ومن لا يجوز ارتكاب الكبائر الموبقة والغصب والظلم منه إلى من لا يعلم السرائر والضمائر فلا يسع أحدا جهل هذه الأشياء وان وسع العاجز بعجزه ترك ما يعجز عنه فإنه لا يسعه الجهل بالإمام البر الذي هو إمام الأبرار والعاجز بعجزه معذور والجاهل غير معذور، فلا يجوز أن لا يكون للأبرار إمام وإن كان مقهورا في قهر الفاجر والفجار، فمتى لم يكن للبر إمام بر قاهر أو مقهور فمات ميتة جاهلية إذا مات وليس يعرف إمامه.
فان قلت: فما تأویل عهد الحسن (عليه السلام) وشرطه على معاوية بان لا يقيم عنده شهادة لا يجاب الله عز وجل عليه إقامة شهادة بما علمه قبل شرطه على معاوية قيل إن الإقامة الشهادة شرائط وهي: حدودها التي لا يجوز تعديها لان من تعدى حدود الله عز وجل فقد ظلم نفسه، وأوكد شرائطها إقامتها عند قاض فصل وحكم عدل ثم الثقة من الشاهد أن يقيمها عند من تجد شهادته حقاً ويميت بها إثرة ويزيل بها ظلماً فإذا لم يكن من يشهد عنده سقط عنه فرض إقامة الشهادة ولم يكن معاوية عند الحسن (عليه السلام) أميراً أقامه الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) أو حاكماً من ولاة الحكم، فلو كان حاكماً من قبل الله وقبل رسوله ثم على الحسن (عليه السلام) أن الحكم هو الأمير والأمير هو الحكم وقد شرط عليه الحسن (عليه السلام) ان لا يؤمر حين شرط ألا يسميه أمير المؤمنين فكيف يقيم الشهادة عند من أزال عنه الامرة بشرط أن لا يسميه أمير المؤمنين وإذا أزال ذلك بالشرط أزال عنه الحكم لان الأمير هو الحاكم وهو المقيم للحاكم، ومن ليس له تأمير ولا تحاكم يحكم فحكمه هذر ولا تقام الشهادة عند من حكمه هذر.
ص: 29
فان قلت: فما تأويل عهد الحسين (عليه السلام) على معاوية وشرطة عليه ألا يتعقب على شيعة علي (عليه السلام) شيئا؟ قيل إن الحسن (عليه السلام) علم أن القوم جوزوا لأنفسهم التأويل وسوغوا في تأويلهم إراقة ما أرادوا إراقته من الدماء وإن كان الله تعالى حقنه وحقن ما أرادوا حقنه وإن كان الله تعالى أراقه في حكمه فأراد الحسن (عليه السلام) أن يبين أن تأويل معاوية على شيعة علي (عليه السلام) بتعقبه عليهم ما يتعقبه زایل مضمحل فاسد، كما أنه أزال إمرته عنه وعن المؤمنين بشرط أن لا يسميه أمير المؤمنين وان إمرته زالت عنه وعنهم وأفسد حكمه عليه وعليهم ثم سوغ الحسن (عليه السلام) بشرطه عليه أن لا يقيم عنده شهادة للمؤمنين القدوة منهم به في أن لا يقيموا عنده شهادة فيكون حينئذ داره دائرة، وقدرته قائمة لغير الحسن (عليه السلام) ولغير المؤمنين ويكون داره كدار بخت نصر وهو بمنزلة دانيال فيها، وكدار العزيز وهو کيوسف فيها.
فان قال: دانيال ويوسف عليهما السلام كانا يحكمان لبخت نصر، والعزيز قلنا: لو أراد بخت نصر دانیال والعزيز يوسف، ان یريقا بشهادة عمار بن الوليد وعقبة بن أبي معيط، وشهادة أبي بردة بن أبي موسى، وشهادة عبد الرحمان بن الأشعث بن قیس دم حجر بن عدي ابن الأدبر وأصحابه رحمة الله عليهم، وان يحكما له بان زیادا أخوه وان دم حجر وأصحابه مراقة بشهادة من ذكرت، لما جاز أن يحكما البخت نصر والعزيز والحكم بالعدل يرمي الحاكم به في قدرة عدل أو جاير ومؤمن أو كافر لا سيما إذا كان الحاكم مضطرا إلى أن يدين قدر الجائر الكافر، والمبطل والمحق بحكمه.
فان قال: ولم خص الحسن (عليه السلام) عد الذنوب إليه والى شيعة علي (عليه السلام) وقدم أمامها قتله عبد الله بن يحيى الحضرمي وأصحابه وقد قتل حجر وأصحابه وغيرهم؟ قلنا: لو قدم الحسن (عليه السلام) في عده على معاوية ذنوب حجر وأصحابه على عبد الله ابن يحيى الحضرمي وأصحابه لكان سؤالك قائما فتقول لم قدم حجرا على عبد الله بن يحيى وأصحابه أهل الأخيار والزهد في الدنيا والاعراض عنها فأخبر معاوية بما كان عليه ابن يحيى وأصحابه من الحزن على أمير المؤمنين (عليه السلام) وشدة حبهم إياه وافاضتهم في ذكره وفضله فجاءهم فضرب أعناقهم صبرا ، ومن انزل راهبا من صومعته فقتله بلا جناية منه إلى قاتله أعجب ممن يخرج قسا من ديره فيقتله لان صاحب الدير أقرب إلى بسط اليد لتناول ما معه على التشريط من صاحب الصومعة الذي هو بين السماء والأرض فتقديم الحسن (عليه السلام) العباد على العباد والزهاد على الزهاد ومصابیح البلاد على
ص: 30
مصابيح البلاد لا يتعجب منه بل يتعجب لو قدم في الذكر مقصرا على مخبت ومقتصدا على مجتهد(1).
وبعد ما ذكرنا ما يدور بخلدنا من أهم نقاط المعاهدة وكونها كانت دليل قوة الإمام الحسن (عليه السلام) ولكن شاءت الظروف المحيطة بالإمام (عليه السلام) ومصلحة الدين الحنيف أن تتم هذه المعاهدة التي سنذكرها بتمامها كما ذكرها الشيخ كاشف الغطاء في كتابه صلح الحسن (عليه السلام).
ص: 31
المادة الأولى: تسليم الأمر إلى معاوية، على أن يعمل بكتاب الله وبسنة رسوله ( صلى الله عليه وآله )، وبسيرة الخلفاء الصالحين.
المادة الثانية: أن يكون الأمر للإمام الحسن (عليه السلام) من بعده، فان حدث به حدث فلأخيه الإمام الحسين (عليه السلام)، وليس لمعاوية أن يعهد به إلى أحد.
المادة الثالثة: أن يترك سب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) والقنوت عليه بالصلاة، وأن لا يذكر علي (عليه السلام) الا بخير.
المادة الرابعة: استثناء ما في بيت المال الكوفة، وهو خمسة آلاف الف فلا يشمله تسليم الأمر. وعلى معاوية أن يحمل إلى الإمام الحسين (عليه السلام) كل عام الفي الف درهم، وأن يفضّل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس، وأن يفرّق في أولاد من قتل مع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم الجمل وأولاد من قتل معه بصفين الف الف درهم ، وأن يجعل ذلك من خراج دار أبجرد.
المادة الخامسة: على أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله، في شامهم و عراقهم وحجازهم ويمنهم، وأن يؤمّنَ الأسود والأحمر، وان يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم، وأن لا يتبع أحداً بما مضى، وأن لا يأخذ أهل العراق بأحنة. وعلى أمان أصحاب عليّ حيث كانوا، وأن لا ينال أحداً من شيعة علي بمكروه، وأن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وان لا يتعقب عليهم شيئاً، ولا يتعرض لاحد منهم بسوء، ويوصل إلى كل ذي حق حقه، وعلى ما أصاب أصحاب الإمام عليّ (عليه السلام) حيث كانوا. وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي، ولا لأخيه الحسين، ولا لأحد من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) غائلةً، سراً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم، في أفق من الآفاق.
وأضاف الشيخ الصدوق (رحمه الله) مادة سادسة وهي: أن لا يسلم عليه بإمرة المؤمنين ولا يقيم عنده شهادة.
ص: 32
الختام:
قال ابن قتيبة: ثم كتب عبد الله بن عامر - يعني رسول معاوية إلى الحسن (عليه السلام) - إلى معاوية شروط الحسن (عليه السلام) كما أملاها عليه، فكتب معاوية جميع ذلك بخطه، وختمه بخاتمه، وبذل عليه العهود المؤكدة، والايمان المغلَّظة، وأشهد على ذلك جميع رؤساء أهل الشام، ووجه به إلى عبد الله بن عامر، فأوصله إلى الحسن (عليه السلام).
ص: 33
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين
مما يوضح موقف الإمام الحسن (عليه السلام) من قضية الصلح أمور كثيرة منها خطبته بعد الصلح حيث رد الإمام (عليه السلام) على كلام معاوية الذي ذكر أن الإمام الحسن (عليه السلام) رأى أن معاوية أهلٌ للخلافة دون الإمام (عليه السلام) ولذا تنازل عنها، ولذا ذکر (عليه السلام) في خطبته أموراً تبين سبب الصلح وقوة موقف الإمام (عليه السلام) وأنه كان يفعل ما يفعله لمصلحة الدين والأمة وكما ذكرنا مثل ذلك فيما تقدم من الكلام في معاهدة الصلح وأنا سأذكر الخطبة التي ذكرها الشيخ آل يسين في كتابه صلح الحسن (عليه السلام) وما جرى بين الإمام (عليه السلام) ومعاوية معلقة على فقرات الخطبة بما يقتضيه الحال
فقال:
ونودي في الناس إلى المسجد الجامع، ليستمعوا هناك إلى الخطيبين الموقعين على معاهدة الصلح .
وكان لابد لمعاوية أن يستبق إلى المنبر، فسبق اليه وجلس عليه، وخطب في الناس خطبته الطويلة التي لم ترو المصادر منها الا فقراتها البارزة فحسب.
منها ( على رواية اليعقوبي ):
أما بعد ذلكم، فإنه لم تختلف أمة بعد نبيها، الا غلب باطلها حقها، قال: وانتبه معاوية لما وقع فيه. فقال: الا ما كان من هذه الأمة، فان حقها غلب باطلها.
ومنها ( على رواية المدائني ):
يا أهل الكوفة، أترونني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون؟، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وألي رقابكم(1)، وقد آتاني
ص: 34
الله ذلك وأنتم كارهون ألا أن كل دم أصيب في هذه الفتنة مطلول(1)، وكل شرط شرطته فتحت قدميّ هاتين(2) ولا يصلح الناس الا ثلاث: اخراج العطاء عند محله(3)، وأقفال الجنود لوقتها(4)، وغزو العدو في داره(5)، فان لم تغزوهم غزوكم.
وروى أبو الفرج الأصفهاني عن حبيب بن أبي ثابت مسنداً، أنه ذكر في هذه الخطبة علياً فنال منه ، ثم نال من الحسن.
وزاد أبو اسحق السبيعي فيما رواه من خطبة معاوية قوله: الا وان كل شيء أعطيت الحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به.
قال أبو اسحق: وكان والله غدّاراً(6).
ثم تطَّلع الناس، فإذا هم بابن رسول الله (صلى الله عليه و آله) الذي كان أشبههم به خلقاً وخلقاً وهيبة وسؤدداً(7)، يخطو من ناحية محراب أبيه في المسجد العظيم ليصعد على منبره، وفي غوغاء الناس(8) ولعٌ بالفضول لا يصبر عن استقراء الدقائق من شؤون الكبراء، فذكروا لجلجة(9) معاوية في خطبته، ورباطة الجأش(10) الموفورة في الحسن (عليه السلام) وقد استوى على أعواده، وأخذ يستعرض الجموع الزاخرة التي كانت تضغط المسجد الرحب على سعته، وكلها - إذ ذاك - أسماع مرهفة(11) لا همٌ لها الا أن تعي ما يردّ به على معاوية، فيما خرج به عن موضوع الصلح، فنقض العهود وأهدر الدماء وتطاول على الأولياء
ص: 35
وكان الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) أسرع الناس بديهة بالقول، وأبرع الخطباء المفوّ هين على تلوين الموضوعات، فخطب في هذا الموقف الدقيق، خطبته البليغة الطويلة التي جاءت من أروع الوثائق عن الوضع القائم بين الناس وبين أهل البيت (عليهم السلام) بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ووعظ ونصح ودعا المسلمين - في أولها - إلى المحبة والرضا والاجتماع، وذكّرهم - في أواسطها - مواقف أهله بل مواقف الأنبياء، ثم ردّ على معاوية - في آخرها - دون أن يناله بسب أو شتم، ولكنه كان بأسلوبه البليغ، أوجع شاتم و سابّ.
قال (عليه السلام):
الحمد لله كلما حمده حامد، وأشهد أن لا اله الا الله كلما شهد له شاهد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى، وائتمنه على الوحي، (صلى الله عليه وآله وسلم).
أما بعد، فوالله اني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنّه، وأنا انصح خلق الله لخلقه(1)، وما أصبحت محتملاً على مسلم ضغينة(2)، ولا مريداً له سوءاً ولا غائلة(3).ألا وإن ما تكرهون في الجماعة، خير لكم مما تحبون في الفرقة(4)، الا وإني ناظر لكم خيرا من نظركم لأنفسكم(5)، فلا تخالفوا أمري
ص: 36
ولا تردّوا عليّ رأيي(1)، غفر الله لي ولكم وأرشدني وإياكم لما فيه المحبة والرضا(2)
ثم قال (عليه السلام):
أيها الناس، أن الله هداكم بأولنا(3)، وحقن دماءكم بآخرنا(4)، وان لهذا الامر مدة(5)، والدنيا دِول(6). قال الله عز وجل لنبيه محمد (صلی الله عليه وآله):«فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ.إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ. وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ »(7)
ثم قال (عليه السلام):
وان معاوية زعم لكم أني رأيته للخلافة أهلاً، ولم أر نفسي لها أهلاً، فكذب معاوية. نحن أولى الناس بالناس في كتاب الله عزّ وجل وعلى لسان نبيه(8) (صلی الله عليه وآله) ولم نزل - أهل البيت - مظلومین منذ قبض الله نبيه (صلى الله عليه
ص: 37
وآله)(1) فالله بيننا وبين من ظلمنا(2)، وتوثب على رقابنا(3)، وحمل الناس علینا(4)ومنعنا سهمنا من الفيء(5)
ص: 38
ص: 39
ومنع أمّنا ما جعل لها رسول الله(1). واقسم بالله لو أن الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لأعطتهم السماء قطرها والأرض بركتها(2)، ولما طمعت فيها يا معاوية. فلما خرجت من معدنها(3)، تنازعتها قريش بينها(4)
ص: 40
فطمع فيها الطلقاء وأبناء الطلقاء أنت وأصحابك. وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما ولّت أمة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه، الا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً(1)، حتى يرجعوا إلى ما تركوا(2)، فقد ترك بنو إسرائيل هارون وهم يعلمون أنه خليفة موسى فيهم، واتبعوا السامريّ، وتركت هذه الأمة أبي وبايعوا غيره(3) وقد سمعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول له: أنت مني بمنزلة هارون من موسى الا النبوة(4)، وقد رأوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) نصب أبي يوم غدیر خم، وأمرهم أن يبلغ أمره الشاهدُ الغائب(5).
ص: 41
وهرب رسول الله من قومه وهو يدعوهم إلى الله(1)، حتى دخل الغار، ولو أنه وجد أعواناً لما هرب، كف أبي يده حين ناشدهم، واستغاث فلم يغث(2). فجعل الله هارون في سعة حين استضعفوه وكادوا يقتلونه(3)، وجعل الله النبي (صلى الله عليه
ص: 42
وآله) في سعة حين دخل الغار ولم يجد أعواناً، وكذلك أبي وأنا في سعة من الله(1)، حين خذلتنا هذه الأمة. وانما هي السنن والأمثال يتبع بعضها بعضاً.
ثم قال (عليه السلام): فوالذي بعث محمدأ بالحق، لا ينتقص من حقنا - أهل البيت - أحد الا نقصه الله من عمله(2)، ولا تكون علينا دولة الا وتكون لنا العاقبة، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}(3).
ص: 43
ثم دار بوجهه إلى معاوية ثانية، ليرد عليه نیله من أبيه، فقال - وما أروع ما قال -: أيها الذاكر علياً! أنا الحسن وأبي علي(1)، وأنت معاوية وأبوك صخر(2)، وأمي فاطمة وأمك هند(3)، وجدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجدك عتبة بن ربيعة(4)
ص: 44
وجدتي خديجة وجدتك فُتيلة(1)، فلعن الله أخملنا ذكراً، وألأمنا حسباً وشرّنا قديماً وحديثاً(2)، وأقدمنا كفراً ونفاقاً !
قال الراوي: فقال طوائف من أهل المسجد: آمین.
قال الفضل بن الحسن: قال يحيي بن معين: وانا أقول آمین.
قال أبو الفرج قال أبو عبيد قال الفضل: وأنا أقول آمین.
ويقول علي بن الحسين الأصفهاني ( أبو الفرج ): آمين.
ص: 45
قال ابن أبي الحديد: قلت ويقول عبد الحميد بن أبي الحديد مصنف هذا الكتاب ( يعني شرح النهج ): آمين.
ونحن أيضاً نقول: آمين، آمين، آمين
ولكن في الأمالي للشيخ الطوسي ذُكرت خطبة للإمام الحسن (عليه السلام) فيها إضافات أخر أحببت أن أذكرها، فقد روي عَنْ أَبِي الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَرْزَمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُثْمَانَ أَبِي الْيَقْظَانِ، عَنْ أَبِي عُمَرَ زَاذَانَ، قَالَ: لَمَّا وَادَعَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ (عَلَيْهِمَا السَّلَامُ) مُعَاوِيَةَ، صَعِدَ مُعَاوِيَةُ الْمِنْبَرَ، وَ جَمَعَ النَّاسَ فَخَطَبَهُمْ، وَ قَالَ: إِنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَآنِي لِلْخِلَافَةِ أَهْلًا وَ لَمْ يَرَ نَفْسَهُ لَهَا أَهْلًا، وَ كَانَ الْحَسَنُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) أَسْفَلَ مِنْهُ بِمِرْقَاةٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ كَلَامِهِ، قَامَ الْحَسَنُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فَحَمِدَ اللَّهَ (تَعَالَى) بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُبَاهَلَةَ فَقَالَ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مِنَ الْأَنْفُسِ بِأَبِي(1)
ص: 46
وَ مِنَ الْأَبْنَاءِ بِي وَ بِأَخِي(1)، وَ مِنَ النِّسَاءِ بِأُمِّي وَ كُنَّا أَهْلَهُ(2)، وَ نَحْنُ لَهُ، وَ هُوَ مِنَّا وَ نَحْنُ مِنْهُ(3).
وَ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ التَّطْهِيرِ جَمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فِي كِسَاءٍ لِأُمِّ سَلَمَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) خَيْبَرِيٍّ، ثُمَّ قَالَ:اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَ عِتْرَتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَ طَهِّرْهُمْ تَطْهِيراً(4)،فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فِي الْكِسَاءِ غَيْرِي وَ أَخِي وَ أَبِي وَ أُمِّي، وَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُجْنِبُ فِي الْمَسْجِدِ وَ يُولَدُ لَهُ فِيهِ إِلَّا النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وَ أَبِي(5)،
ص: 47
تَكْرِمَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَنَا، وَ تَفْضِيلًا مِنْهُ لَنَا.وَ قَدْ رَأَيْتُمْ مَكَانَ مَنْزِلِنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).
وَ أَمَرَ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ فَسَدَّهَا، وَ تَرَكَ بَابَنَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ:" أَمَا إِنِّي لَمْ أَسُدَّهَا وَ أَفْتَحُ بَابَهُ، وَ لَكِنَّ اللَّهَ (عَزَّ وَ جَلَّ) أَمَرَنِي أَنْ أَسُدَّهَا وَ أَفْتَحَ بَابَهُ(1).
ص: 48
وَ إِنَّ مُعَاوِيَةَ زَعَمَ لَكُمْ أَنِّي رَأَيْتُهُ لِلْخِلَافَةِ أَهْلًا وَ لَمْ أَرَ نَفْسِي لَهَا أَهْلًا، فَكَذَبَ مُعَاوِيَةُ، نَحْنُ أَوْلَى النَّاسِ بِالنَّاسِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وَ لَمْ نَزَلْ أَهْلَ الْبَيْتِ مَظْلُومِينَ مُنْذُ قَبَضَ اللَّهُ (تَعَالَى) نَبِيَّهُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)(1)، فَاللَّهُ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ مَنْ ظَلَمَنَا حَقَّنَا، وَ تَوَثَّبَ عَلَى رِقَابِنَا، وَ حَمَلَ النَّاسَ عَلَيْنَا، وَ مَنَعَنَا سَهْمَنَا مِنَ الْفَيْ ءِ(2)
ص: 49
وَ مَنَعَ أُمَّنَا مَا جَعَلَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ). وَ أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَوْ أَنَّ النَّاسَ بَايَعُوا أَبِي حِينَ فَارَقَهُمُ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)(1).لَأَعْطَتْهُمُ السَّمَاءُ قَطْرَهَا، وَ الْأَرْضُ بَرَكَتَهَا، وَ مَا طَمِعْتَ فِيهَا يَا مُعَاوِيَةُ، فَلَمَّا خَرَجَتْ مِنْ مَعْدِنِهَا تَنَازَعَتْهَا قُرَيْشٌ بَيْنَهَا، فَطَمِعَتْ فِيهَا الطُّلَقَاءُ وَ أَبْنَاءُ الطُّلَقَاءِ أَنْتَ وَ أَصْحَابُكَ، وَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ):" مَا وَلَّتْ أُمَّةٌ أَمْرَهَا رَجُلًا وَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ إِلَّا لَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ يَذْهَبُ سَفَالًا حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى مَا تَرَكُوا.وَ قَدْ تَرَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ هَارُونَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ خَلِيفَةُ مُوسَى (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فِيهِمْ وَ اتَّبَعُوا السَّامِرِيَّ، وَ قَدْ تَرَكَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَبِي وَ بَايَعُوا غَيْرَهُ، وَ قَدْ سَمِعُوا رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يَقُولُ:" أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا النُّبُوَّةَ"، وَ قَدْ رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نَصَبَ أَبِي يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ، وَ أَمَرَهُمْ أَنْ يُبَلِّغَ الشَّاهِدُ مِنْهُمْ الْغَائِبَ، وَ قَدْ هَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مِنْ قَوْمِهِ وَ هُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ (تَعَالَى) حَتَّى دَخَلَ الْغَارَ، وَ لَوْ وَجَدَ أَعْوَاناً مَا هَرَبَ، وَ قَدْ كَفَّ أَبِي يَدَهُ حِينَ نَاشَدَهُمْ وَ اسْتَغَاثَ فَلَمْ يُغَثْ، فَجَعَلَ اللَّهُ هَارُونَ فِي سَعَةٍ حِينَ اسْتَضْعَفُوهُ وَ كَادُوا يَقْتُلُونَهُ، وَ جَعَلَ اللَّهُ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فِي سَعَةٍ حِينَ دَخَلَ الْغَارَ وَ لَمْ يَجِدْ أَعْوَاناً، وَ كَذَلِكَ أَبِي، وَ أَنَا فِي سَعَةٍ مِنَ اللَّهِ حِينَ خَذَلَتْنَا الْأُمَّةُ وَ بَايَعُوكَ يَا مُعَاوِيَةُ، وَ إِنَّمَا هِيَ السُّنَنُ وَ الْأَمْثَالُ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضاً.
أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ لَوِ الْتَمَسْتُمْ فِيمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ أَنْ تَجِدُوا رَجُلًا وَلَدَهُ نَبِيٌّ غَيْرِي وَ أَخِي لَمْ تَجِدُوهُ، وَ إِنِّي قَدْ بَايَعْتُ هَذَا «وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ»(2)(3)
ص: 50
وفي الختام أرجو أن أكون قد وفقت لتسليط الضوء على بعض نقاط القوة في معاهدة صلح الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية أداءً لجزء من بركاته (عليه السلام) لثمرة صلحه التي أبقت العقيدة الحقة وأهلها بهذه القوة بعد أربعة عشر عقداً من الزمان سيدي تقبل منا هذا القليل وأجز لنا من عطائك الكثير وأستميح القارئ الكريم العذر مما بدا من خطأ أو سهو غير مقصود راجياً بذلك القبول والرضا
ص: 51