الومضات

هوية الکتاب

بطاقة تعريف:کاظمی، حبیب، - 1336

عنوان واسم المؤلف:الومضات / حبیب الکاظمی

تفاصيل المنشور: قم: موسسة المعارف الاسلامیة، 1419ق. = 1377.

مواصفات المظهر:[248] ص

الصقيع:(موسسة المعارف الاسلامیة 88)

ISBN:964-6289-38-x

ملاحظة:العربية

عنوان:الإسلام - مسائل متنوعة

الأخلاق الإسلامية

المعرف المضاف:موسسة المعارف الاسلامیة

ترتيب الكونجرس:BP8/ک 23و8

تصنيف ديوي:297/02

رقم الببليوغرافيا الوطنية:م 81-13996

جمعية خيرية رقمية: مدرسة ذو الفقار الحوزة أصفهان

محرّر: محمّد کاظم صادقي زفره

ص: 1

اشارة

الومضات

حبیب الکظمی

ص: 2

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وافضل الصلاة وأتم السلام على من بعث رحمة للعالمين ، وعلى آله هداة الخلق أجمعين .

أما بعد ...

فهذه مجموعة ومضات ، انقدحت في مناسبات مختلفة ، وفي موضوعات متباينة ، فلم يجمعها جامع واحد .. ومن هنا كان الانتقال سريعا من ومضةِ إلى أخرى ، من دون مناسبة في البين ،ولا ضير في ذلك ، ما دام الغرض من ذلك : بیان فكرةِ برأسها ،ودعوةِ للقارئ إلى التأمل في كل فقرة ، مستقلة عن الفقرات الأخرى ..

وليُعلم أن من هذه الومضات ، ما انقدح في النفس انقداحا ،من دون تفكير مقصود .. وأن منها ما كان حصيلة تفكير متعمّد في بعض مجالات التأمل ، بما عُثر بعده على شاهدِ من كتاب أو سنّة .. وأن منها ما كان استلهاما مبتنيا على بعض النصوص الشريفة من الآيات ونوادر الأثر ، ولم يكن المقصود في الحالة الأخيرة هو الدخول في عالم التفسير وكشف القناع عن حقيقة الآية ، وإنما هو الاستلهام وما يخطر بالبال ، اعتمادا على الظهور الذي يتراءى من النص .

وأود أن الفت نظر القارئ الكريم - قبل قراءته للكتاب - إلى النقاط التالية :

1- إن الغالب على هذه الومضات ، هو التطرق إلى الحالات الوجدانية ، ولما يتراءى أن فيه تذكيراً للعبد ، بما قد نسيه في زحمة الحياة .. إذ أننا صرنا نعيش في عصرِ ، أخذ الإنسان يفكر

ص: 3

في كل شيء خارج ذاته ، من فَلْق الذرّة إلى سياسة العباد ،ومن التوسع في الأملاك إلى غزو الأفلاك ، ولكنه أهمل أقرب الأمور إليه ، واعزّها لديه ، وهي نفسه التي بين جنبيه ، والحال انه متیقن بان سعادة الأبد وشقائه ، تتوقف على نتيجة تربيته لها .. وإن مراجعة سريعة للآيات والروايات الواردة عن حملة الوحي ،تدل دلالة قاطعة على محورية فكرة النفس - وما يتعلق بها -في تلك النصوص الشريفة .. فإن الأصول والفروع إنما تهدف -فيما تهدف - إلى إكمال النفس ببعديها العلمي والعملي .. ومن المعلوم أن الذي عليه المدار في النفع والحساب ، هو القلب السليم كما صرحت به الآية الكريمة .. وغنيّ عن القول بان سلامة قلب الفرد ، تؤول أخيراً إلى سلامة المجتمع الذي يعيش فيه ذلك الفرد ..

2- تم التركيز من خلال ومضات متعددة ، على الصلاة باعتبارها قمة اللقاء بين العبد وربه .. وباعتبار أن حرارة هذا اللقاء تعكس حرارة المودة بين العبد وربه .. إضافة إلى أن نفي الخواطر في الصلاة من أشق الأمور على النفوس التي لم تلتزم بالمراقبة قبل الصلاة وحينها .. ومن دون ضبط تلك الخواطر التي ترد ساحة النفس بشدة ، تبقى الصلاة خالية من عنصر التغيير الفاعل المؤثر في قلب سلوك العبد ، كما هو مقتضى المعراجية والنهي عن الفحشاء والمنكر ..

3- إن المرجو من القارىء الكريم أن يتخذ من هذه الفقرات ،ذريعةّ للتفكير فيما هو أشمل وأعمق مما هو مذكورٌ باختصار في هذا الكتاب ، وخاصة أنها أمورٌ وجدانية ، ودروسٌ تطبيقية في ساحة الحياة .. ومن الممكن بعد التوسع فيما تم التفكير فيه ، أن

ص: 4

يُقدّم ذلك مادةً نافعةً للآخرين .

4- قد يعيش القارئ إحساساً بأن هناك حالة من المثاليّة تلفّ هذه الومضات ، لاعتقاده أن التفكير في بعض تلك الدرجات ، إنما هوضربٌ من الخيال الذي لا مجال له في هذا العصر ، الذي لا ترقی فيه همة العبد إلى أكثر من أن يحصّن بطنه وفرجه عن الحرام ..بينما ينبغي الالثفات إلى أن تصوّر الدرجات الكمالية العليا ، قد ترفع مستوى همة العبد لأن يتمني شيئاً من تلك الدرجات ، ومن المعلوم أن رقيّ الأمنية بدورها ، قد يرفع مستوى الإرادة أيضاً ،كما نلاحظ ذلك في التعامل مع عناصر الحياٍة الأخرى .. أضف إلى أن التفكير في المستويات العليا من الكمال ، يدفع العُجْب عن صاحبها ، وإن كان في مرحلة مقبولة من مراحل الطاعة للحق المتعال ، وذلك عندما يقيس ما أنجزه فعلاً ، إلى ما ينبغي إنجازه مستقبلاً .

5- قد تثير بعض الومضات شيئا من الاستغراب الاوّلي ، لعدم ألفة ذهن القارئ لبعض المضامين المنقّحة في محلها .. وعليه فإني أدعو القارئ الكريم ، إلى عدم المسارعة في الحكم ، بما يحرمه الاستفادة من الومضات الأخرى ، ومن المعلوم أنه لا عصمة لغير من عصمهم اللّٰه تعالى من الزلل - قولا وفعلاً - من النبي المصطفى (صلی اللّه علیه و آله وسلم) وآله الطيبين الطاهرين .

وآخر دعوانا أن الحمد للّٰه رب العالمين .

حبيب الكاظمي

3- جمادی الثانية -1419

ص: 5

1- أوثق عرى الإيمان

إن من أوثق عرى الإيمان هو ( الحبّ ) الذي تبتني عليه هذه العلاقة المقدسة بين العبد وربه .. ولا ينقدح هذا الحب في القلب إلا بعدانحسارجميع ( الحجب ) في النفس ، ولا تمنح هذه الجوهرة - التي لا أغلي منها في عالم الوجود - إلا للنفوس التي أحرزت أعلى درجات القابلية لتلقّي هذه الجوهرة النفيسة .. وإن هذا الحب بعد اكتمال مقدماته ، يستشعره القلب بين الفترة والفترة ، فيكون بمثابة النور الذي كلما أضاء للإنسان مشی في الطريق .. ويستمر العبد في سيره التكاملي - بمعونة الحق -إلى أن يستوعب ذلك الحب جميع ( أركان ) القلب ، فلا حب إلا للّٰه أو لمن له فيه نصيب .. ولو أمضى العبد كل حياته - بالمجاهدة المضنية -ليمتلك هذه الجوهرة قبيل رحيله من الدنيا ، لكان ممن ختم حياته بالسعادة العظمى ، ولاستقبل المولى بثمرة الوجود ، وهدف الخلقة ،أولئك الأقلون عددا ، الأعظمون أجرا ، لا ينصب لهم ديوان ولا كتاب .

2- التالم من الإدبار

إن التألم الشديد من ( مرارة ) البعد عن الحق ، وعدم استشعار لذة المواجهة في الصلاة وغيرها ، ومواصلة تقديم الشكوى من هذه الحالة للحق الودود ، والتحرز من موجبات إعراض الحق المتعال ، مما قد يوجب ( ارتفاع ) هذه المرارة أو تخفيفها .. وكلما طالت هذه الفترة من الادبار والتألم ، كلما كانت ثمرة الإقبال أجني وأشهى .. فالمؤمن اللبيب لا ييأس لما هو فيه من الإدبار ، وإن كانت هذه الحالة - في حد نفسها- مرضا يخشى مع استمرارها موت القلب .. ولطالما اتفق أن أثمر هذا الادبار المتواصل ، إقبالا ( شديداً ) راسخا في القلب ، بعد سَعْي العبد في رفع موجباته التي هو أدرى بها من غيره .

3- النظرة إلى الخلق

لو اعتقد العبد اعتقادا راسخا أن الخلق ( عيال ) اللّٰه تعالى - ومنهم أهله وعياله - لانقلبت لديه موازين التعامل معهم رأسا على عقب ،

ص: 6

فيمتلك بذلك قدرة ( مضاعفة ) على تحمّل الأذى منهم ، لعلمه أن ذلك كله بعين المولى تعالى الذي يرعى عياله بعد خلقه لهم .. بل يزداد (حبّه) ورأفته لهم ، زائدا عن مقتضى العلاقة البشرية المتعارفة بين المخلوقين .. كما ( يبارك ) المولى فيمن يحيط به من عياله ، ويجعلهم قرة عين له كما ذكر القرآن الكريم ، إكراماً لقصده في إكرام من هم عيال اللّٰه تعالى ، وأحب الخلق إليه - كما روي - من نفع عيال اللّٰه ، أو أدخل على أهل بيت سروراً .. وقد روی عن النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) أنه قال : { أقْرَبُکُمْ مِنّی مَجْلِساً یَوْمَ الْقِیامَهِ أحْسَنُکُمْ خُلْقاً وَ خَیْرُکُمْ لأِهْلِهِ ... وَ أَنَا أَلْطَفُکُمْ بِأَهْلِی} البحار- ج 71ص387 .

4- سبل تسلط الشيطان

إن من موجبات تسلط الشيطان على العبد أمور منها:

- عدم الرؤية له ولقبيله كما يصرح القرآن الكريم .

- استغلال الضعف البشري إذ {خُلِقَ اَلْإِنْسانُ ضَعِيفاً }.

- الجهل بمداخله في النفس إذ هو أدرى من بني آدم بذلك .

- الغفلة عن التهيؤ للمواجهة في ساعات المجابهة .

والاعتصام بالمولى الحق رافع لتلك الموجبات ومبطل لها ، فهو ( الذي يرى ) الشيطان ولا يراه الشيطان فيبطل الأول .. وهو ( القوى العزيز )الذي يرفع الضعف فيبطل الثاني .. وهو ( العليم الخبير ) الذي يرفع الجهل فيبطل الثالث .. وهو ( الحي القيوم ) الذي يرفع الغفلة فيبطل الرابع .

5- تزاحم الخواطر

إن من الملفت حقا تزاحم الخواطر بشكل كثيف حال الصلوات ، مما يكشف عن تكاتف قوى الشر من الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء ، في صرف المصلي عن مواجهة المولى جل ذكره .. وليُعلم أن ما كان من الخواطر ( غير اختياري ) تقتحم النفس اقتحاما ، فذلك مما لا (يخشى )من إفساده ، وذلك كمن يصلي في السوق ويمر عليه في كل لحظة

ص: 7

من يحرم النظر إليه .. فالموجب للإفساد هي متابعة الصور الذهنية الفاسدة ( بالاختيار ) .. ولطالما أمكن للمصلي قطع هذه الصور التي تصد عن ذكر الحق - ولو في أبعاض صلاته - ولكن يهمل أمرها طوعا ، فتكون صلاته ساحة لكل فكر وهمّ ، إلا محادثة المولى عزوجل .. ولهذا يصفه الحديث قائلا : { وَ إِنَّ مِنْهَا لَمَا يُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ اَلثَّوْبُ اَلْخَلَقُ فَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا } البحار - ج 84 ص316 .

6- واقع القرآن الكريم

إن مما يقطع به المتأمل هو أن واقع القرآن الكريم ، ليس ما نجريه على ألسنتنا طلبا لأجر التلاوة فحسب ، وان كانت ظواهر الألفاظ - في مقام الامتثال - حجة على صاحبها .. وذلك لأن المعاني التي أنزلها المولي على قلب نبيه (صلی اللّه علیه و آله وسلم) بحقائقها ( الملكوتية ) ، لم يُدركها إلا من خوطب بها وهم النبي وآله (عليهم السلام) .. وعليه فان استيعاب هذه المعاني - التي توجب تصدع الجبال لو أنزلت عليها - يحتاج إلى استمداد من الحق ، لتتحقق تلك (المسانخة ) التي تؤهل القلب لتلقّي مرتبة من تلك المعاني السامية ، وهي مرحلة ( انفتاح ) الأقفال التي يشير إليها القرآن الكريم .. ومن مقدمات هذا الانفتاح ، التلاوة الكثيرة، والتدبر العميق ، والعمل بالمضامين مهما أمكن .

7- جهاز الإرادة

إن الذي يوجّه الإنسان في ساحة الحياة ، هو ذلك الجهاز الذي( تنبثق ) منه الإرادة ، و هذه الإرادة هي التي ( تُصدِر ) أوامرها لعضلات البدن ، فيتحرك نحو المراد خیرا کان أو شراً .. وليس من المهم أن نعلم - بعد ذلك - موقع هذا الجهاز أو آليّة عمله .. وليُعلم أن للشياطين همّها في الاستيلاء على هذا الجهاز المريد ، إذ كما أن الاستيلاء على المملكة ، يتوقف على التحكم في قصر السلطان بما فيه ،كذلك فإن جنود الشيطان تسعى لاحتلال مركز ( الإدارة والإرادة ) في مملكة الإنسان ، وذلك بالتآمر مع جنود الهوى في النفس .. ولكنه

ص: 8

بالمقابل فإن جنود الرحمن أيضا تسعى لحكومة النفس ، مستعينة بدواعي العقل و الفطرة والهدى .. والمسيطر - في النهاية - على ذلك المركز الخطير في الوجود ، هو الذي يتحكم أخيرا في حركات العبد وسكناته ، وقد عبّر الإمام الصادق (علیه السلام) عن ذلك الجهاز المسيطر بقوله :{ بِهِ یَعْقِلُ وَیَفْقَهُ وَیَفْهَمُ ، وَهُوَ أَمِیرُ بَدَنِهِ الَّذِی لاَ تَرِدُ الْجَوَارِحُ وَلاَ تَصْدُرُ إِلاَّ عَنْ رَأْیِهِ وَأَمْرِهِ}..فالمشتغل بتهذيب الظاهر مع إهمال الباطن،كمن يريد إدارة الحكم و شؤون القصر بيد غيره .. وقد ورد عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) ما يصّور هذه المعركة الكبرى القائمة بين هذين المعسكرين في عالم الوجود ، وذلك بقوله في دعاء الصباح : { وَإِنْ خَذَلَنِي نَصْرُكَ عِنْدَ مُحارَبَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطانِ، فَقَدْ وَكَلَنِي خِذْلانُكَ إِلى حَيْثُ النَّصَبِ وَالحِرْمانِ}.

8- تجليات التوجه للحق

إن التوجه إلى الحق سبحانه يتجلى في صور مختلفة .. فصورة منها تكون مقرونةً ( بالحنين ) شوقاً إلى لقائه .. وثانية مقرونةً ( بالبكاء )حزناًعلى ما فرّط في سالف أيامه .. وثالثة مقرونة ( بالبهت )والتحير عند التأمل في عظمته وهيمنته على عالم الوجود .. ورابعة مقرونة ( بالخوف ) من مقام الربوبية .. وخامسة مقرونة ( بالمسكنة )والرهبة عند ملاحظة افتقار كل ممكن - حدوثا وبقاء - إلى عنايته الممدة لفيض الوجود .. وسادسة مقرونةً ( بالمراقبة ) المتصلة وذلك اللإلتذاذ بالنظر إلى وجهه الكريم .. وعندها تتحد الصور المختلفة للتجلي ، ليحل محلها أرقى صور الطمأنينة والسكون .

9- الحضور فرع الإحضار

إن حضور القلب في الصلاة فرع ( إحضاره ) ، وهو فرع سيطرةالإنسان على القلب بما فيه من هواجس وخواطر .. وهذا الأمر لا يحصل إلا بالرياضة والمجاهدة ، وحبس النفس - فكرا وإرادة وميلا -على ما يقتضه العقل المستسلم لإرادة الحق المتعال .. وليُعلم أن ضبط

ص: 9

الخواطر والسيطرة عليها من أصعب الأمور ، لأنها تتوارد على القلب بغير حساب .. وطرد الخاطرة - وخاصة الملحّة منها - عسير بعد تمكنها في القلب ، ولطالما ترسخت الخواطر السيئة ، وصارت مادة ( لميل ) النفس ، ثم ( إرادة ) ما تقتضيه الخاطرة ، ثم ( سوق ) البدن لتحقيق تلك الخاطرة التي وردت على القلب من دون سابق تفكير .. وهذا سبيل من سبل خذلان العبد ، لسوء فعله المستوجب لذلك .

10- شدة التعبير

عندما يتأمل المتأمل في روايات المعصومين (علیه السلام) ، يجد أنهم يتطرقون إلى بعض الأمور بشيء من التأكيد ، يتجلى من خلال شدة التعبير وقوة التمثيل ، لرَدْع أصحابها عن ارتكاب تلك الأمور .. فإننا نلاحظ غفلة معظم الخلق عن حقائق واضحة ، بها قوام سعادتهم في الدنيا والآخرة ، وعليه فإن التذكير بهذه الحقائق الجامعة بين الوضوح والمصيرية في حياة العباد ، يحتاج إلى شيء من العنف والشدّة لتحريك هذا الوجدان ، بما يوجب انقلاباً في النفس ، يوقظها بعد طول سبات.. ومن هذه الروايات المعبّرة عن شدة تأذي أولیاء الحق من طبيعة علاقة العباد بربهم ، ما ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال : { ما أعْرِفُ أحَدا إلاّ و هُو أحمَقُ فيما بَينَهُ و بَينَ ربِّهِ } البحار-ج 78ص107 .

11- ساعات الفراغ

تمر على الإنسان ساعات كثيرة من الفراغ الذي يتخلل النشاط اليومي، ولو عُدّت هذه الساعات لمثلّت مساحة كبيرة من ساعات عمره..فالمؤمن الفَطِن لا بد وان يكون لديه ما يملأ هذا الفراغ : إما قراءة نافعة ، أو سير هادف في الآفاق ، أو قضاء حاجةٍ لمؤمن مكروب ، أو ترويحٍ للنفس حلال .. وإن من الأمور التي يحرم منها غير المؤمن ، هو العيش في عالم التفكر ( والتدبر ) الذي قد يستغرق ساعات عند أهله ،يناجي المولى فيها بقلبه ، كما قد يشير إليه الحديث الشريف :{وَ كَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ}.. فيسيح في تلك الساعة بقلبه ، سياحة

ص: 10

تُدرك لذتها ولا يوصف كنهها .. وهي سياحة لا تحتاج إلى بذل مال ولا صرف جهد ، ومتيسرة لصاحبها كلما أراد ذلك في ليل أو نهار ، بتيسيرمن الحق المتعال .. ومن مواطن هذه السياحة المقدسة ( أعقاب ) الصلوات و ( جوف ) الليل ، وهي سياحة لا تُدرك بالوصف بل تنال بالمعاينة .

12- وجه الرب

تكررت عبارة ( وجه الرب ) في نصوص كثيرة ..فالذي لا يستشعر جمال هذا الوجه - ولو في لحظات من حياته - كيف يمكنه ابتغاء ذلك الوجه ؟!! .. إذ أن الإنسان لا يتوجه نحو جمال مجهول لديه ..ومن هنا صعب قصد القربة ( الواقعية ) الخالصة لغير العارفين باللّٰه تعالى ، إذ كيف يقصد التقرب إلى وجه لم يستشعر جماله و لو في أدنى مراتبه ؟!!.. وشتان بين قَصْد من ( شاهد ) الجمال المطلق ، وبين قصد من ( وطّن ) نفسه على هذا القصد ، في عالم النية والألفاظ فحسب .

13- میل العبد بوجهه

لو مال العبد بوجهه عن المولى ، لمال المولى بوجهه عنه ، كما ذكره الامام السجاد (علیه السلام) عند ذكره الحقيقة الوقوف بين يدي الجبار( البحار-ج6، ص 26 ) .. فلو استحضر العبد - هذه الحقيقة - في كل مراحل حياته ، لكان ذلك كافيا ( لردعه ) عن كثير من الأمور ،خوفا من الوقوع في جزاء ذلك الشرط وما أثقله من جزاء !!.. وإذا مال المولى بوجهه عن العبد ، فإن استرجاع التفاتة المولى إليه مرة أخرى ، يحتاج إلى جهد جهيد .. فالأولى بذي اللب ( ترك ) ما يوجب میل وجه المولى ، بدلا من ( طلب ) الالتفات بعد الميل .. ويترقى الإنسان في سلم التكامل إلى مرحلة يرى فيها جهدا مرهقا في أن يميل بوجهه إلى غير الحق تبارك وتعالى ، بل يصل الأمر في المعصوم إلى استحالة ذلك ، بما لا يتنافى مع الاختيار المصحح للمدح والجزاء .

ص: 11

14- لذة الأنس بالحق

إذا مُنح العبد - من قِبَل المولى - ساعة الأنس واللقاء ، ودرك الجمال المطلق الذي يترشح منه كل جمال في عالم الوجود ، لكان ذلك بمثابة زرع الهوى ( المقدس ) الذي يوجب حنين العبد لتلك الساعة .. ولكان علمه بان تلك الساعة حصيلة استقامة ومراقبة متواصلة قبلها ،( مدعاة ) له للثبات على طريق الهدى عن رغبة وشوق ، لئلا يسلب لذة الوصال ، التي تهون دونها جميع لذائد عالم الوجود.

15- لذة مخالفة النفس

إن مخالفة النفس في كثير من المواطن ، وخاصة في موارد ( التحدي ) الشديد ، تفتح آفاقا واسعة أمام صاحبها لم يكتشفها من قبل .. هذا ( الفتح ) وما يستتبعه من التذاذ بكشف الآفاق الجديدة في نفسه ، مدعاة له لتيسير مخالفة الهوى ، لدرجة يصل العبد إلى مرحلة ( احتراف ) مخالفة النفس ، فلا يجد كثير عناء في ذلك توقعا للثمار ، إذ يصبر أياما قصاراً ، تعقبها راحة طويلة .. شأنه في ذلك شأن أبناء الدنيا في تحمّل بعض المشاق ، وترك بعض اللذائذ الدنيوية، طلبا للذة أدوم وأعمق ، كالمتحمل للغربة جمعا للمال ، وکالتارك لبعض هواه تقربا لمن يهواه .

16- القلب السليم

إن إتيان المولى بالقلب السليم ، يُعد أمنية الأمنيات وغاية الطاعات .. والذي يميّز القلب وهو مركز ( الميل ) ، عن الفكر وهو مركز ( الإدراك ) ،عن الجسد وهو آلة ( التنفيذ ) : أن القلب يمثل مركزاً للتفاعل الذي ينقدح منه الانجذاب الشديد نحو ما هو مطلوب ومحبوب ، سواء كان حقا أو باطلا ..فلا الفكر ولا البدن يقاوم - عادة - رغبة القلب فيما تحقق منه الميل الشديد .. ولذا نرى هذا التفاني نحو المراد عند من يشتد ميلهم إليه ، ولا ينفع فيهم شيء من المواعظ والوصايا حتى الصادرة من رب العالمين .. وقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) في ذيل

ص: 12

قوله تعالى { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا }، ( یُطَهِّرُهُمْ عَنْ کُلِّ شَیْءٍ سِوَی اللٌّهَ، إذْ لاَ طاَهِرَ مِنْ تَدَنُّسٍ بِشَیْءٍ مِنَ الأَکْوَانِ، إلاَّ اللّٰه ) مجمع البيان-ج 10 ص 623.

17- الجمع بين المقامين

إن مَثَل مَن يشتغل بحوائج الخلق و إرشادهم ، من دون التفات إلى ( العلاقة ) الخاصة بينه وبين ربه ،كمثل من يعمل في حضرة السلطان من دون التفات إليه ، وان اشتغل بقضاء حوائج عبيد ذلك السلطان .. فإنّ مِثْل هذا العبد قد يكون مأجورا عند مولاه ( لاشتغال جوارحه ) ، إلا أنه محروم من العناية الخاصة المبذولة لذاكريه في كل آن ، وذلك ( لانشغال جوانحه ) ..فإن ما يُعطى في الذكر الدائم ، لا يُعطى في خدمة الخلق حال الذهول عن الحق المتعال .. والجمع بين المقامين يتجلى في قوله تعالى : { وَیُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَی حُبِّهِ مِسْکِیناً وَیَتِیماً وَأسِیراً إنَّمَا نُطْعِمُکُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِیدُ مِنْکُمْ جَزَاءً وَلا شُکُوراً }، فهو إطعام للخلق ، ولكنه لوجه الحق الذي لا يُتوقع معه شکرٌ ولا جزاء .

18- شياطين القلوب

إن الاعتقاد بأن الشياطين ( يحومون ) حول قلوب بني آدم ، وأن له سلطاناً على الذين يتولونهم ، يستلزم ( الحذر ) الشديد أثناء التعامل مع أي فرد - ولو كان صالحا - لاحتمال ( تجلّي ) كيد الشيطان من خلال فعله أو قوله ، ما دام الشيطان يوحي زخرف القول ، وينزغ بين العباد كما ذكر القرآن الكريم ، وهذا الحذر من المخلوقين ، من لوازم انتفاء العصمة عنهم .. ومن ذلك يعلم ضرورة عدم الركون والارتياح التام لأي عبدٍ - وإن بلغ من العلم والعمل ما بلغ - كما يقتضيه الحديث القائل : { إِیَّاکَ أَنْ تَنْصِبَ رَجُلاً دوُنَ الْحُجَّةِ فَتُصَدِّقَهُ فِی کُلِّ مَا قَالَ } البحار-ج73ص153.

ص: 13

19- مقام الدعوة إلى اللّٰه

إن الدعوة إلى الله تعالى منصب مرتبط بشأن من شؤون الحق المتعال ، ولهذا قال عن نبيه (صلی اللّه علیه و آله وسلم) : { وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا }..فمالم يتحقق ( الإذن ) بالدعوة ، لكان الداعي ( متطفلا ) في دعوته ،غير مسدد في عمله .. فالقدرة على التأثير في نفوس الخلق ، هبة من رب العالمين ، ولا يتوقف كثيرا على إتقان القواعد الخطابية ، فضلا عن تكلف بعض المواقف التي يراد منها تحبيب قلوب الخلق ، وقد ورد في الحديث : { تَجِدُ الرَّجُلَ لا یُخطِئُ بِلامٍ ولا واوٍ،خَطیباً مِصقَعاً،ولَقَلبُهُ أشَدُّ ظُلمَهً مِنَ اللَّیلِ المُظلِمِ ! وتَجِدُ الرَّجُلَ لا یَستَطیعُ یُعَبِّرُ عَمّا فی قَلبِهِ بِلِسانِهِ،وقَلبُهُ یَزهَرُ کَما یَزهَرُ المِصباحُ } الكافي - ج 2ص 422.. ولهذا عُبّر عن بعضهم - من ذوي التأثير في القلوب - بأن لكلامه ( قبولاً ) في القلوب .

20- المسارعة في السير

إن من الأمور اللازمة للسائر إلى الحق ، ( المسارعة ) في السير بعد مرحلة ( اليقظة ) والعزم على الخروج عن أسر قيود الهوى والشهوات .. فإن بقاءه فترة طويلة في مراحل السير الأولى ، بمثابة حرب استنزاف تهدر فيها طاقاته من دون أن يتقدم إلى المنازل العليا ، فيكون ذلك مدعاة له لليأس ، ومن ثَّم التراجع إلى الوراء كما وقع للكثيرين .. فالسائرون في بدايات الطريق لا يشاركون أهل ( الدنيا ) في لذائذهم الحسية ، لحرمتها أو لاعتقادهم بتفاهتها بالنسبة إلى اللذات العليا التي يطلبونها ، ولا يشاركون أهل ( العقبي ) في لذائذهم المعنوية ، لعجزهم عن استذواقها وهم في بدايات الطريق .. فهذا التحير والتأرجح بين الفريقين ، قد يبعث أخيرا على الملل والعود إلى بداية الطريق ، ليكون بذلك في معرض انتقام الشياطين منه ، لأنه حاول الخروج عن سلطانهم من دون جدوى .

ص: 14

21- الإصطفاء الإلهي

إن السير إلى الحق المتعال يكون تارة : في ضمن أسلوب ( المجاهدة ) المستلزم للنجاح حينا وللفشل أحيانا أخرى ، ويكون تارة أخرى في ضمن (الاصطفاء ) الإلهي أو ما يسمى بالجذب الرباني للعبد ..كما قد يشير إلى ذلك قوله تعالى : { وَ اِصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } و { لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي } و{ كَفَّلَها زَكَرِيّا} و { وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْکَ مَحَبَّةً مِنِّي } و{ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا } و { اَللّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ }.. ومن المعلوم أن وقوع العبد في دائرة الاصطفاء والجذب ، يوفّر عليه كثيرا من المعاناة والتعثر في أثناء سيره إلى الحق المتعال ، ولكن الكلام هنا في ( موجبات) هذا الاصطفاء الإلهي ، الذي يعد من أغلى أسرار الوجود .. ولاريب في أن المجاهدة المستمرة لفترة طويلة ، أو التضحية العظيمة ولو في فترة قصيرة ، وكذلك الالتجاء الدائم إلى الحق ، مما يرشّح العبد لمرحلة الاصطفاء .. وقد قيل : { أنَّ الطُّرق إلی الله بعدد أنفاس الخلائق}.

22- العلم صورة ذهنية

ما العلم إلا انعكاس صورة معلومة معينة في الذهن .. وهذا المقدار من التفاعل ( الطبيعي ) الذي يتم في جهاز الإدراك - والذي لا يعتبر في حد نفسه أمرا مقدسا يمدح عليه صاحبه - لا يلازم القيام بالعمل على وفق ما تقتضيه المعلومة ، إلا أن ( تختمر ) المعلومة في نفس صاحبها ، لتتحول إلى إيمان راسخ ، يقدح الميل الشديد في النفس للجري على وفقها .. ومن هنا عُلم أن بين المعلومة والعمل مسافة كبيرة، لا تُطوى إلا بمركب الإيمان .. وإلا فكيف نفسر إقدام المعاندين على خلاف مقتضى العقل والفطرة ، بل على ما يعلم ضرره يقيناً كأغلب المحرمات ؟! .. وقد قال الحق تعالى : { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ }.. وهنا يأتي دور المولى الحق في تحبيب الإيمان في الصدور وتزيينه فيها ، ليمنح العلم النظري ( القدرة ) على تحريك العبد نحو ما عُلِم نفعه ، ولولا هذه العناية الإلهية ، لبقي العلم عقيما لا ثمرة له ، بل كان وبالا على صاحبه

ص: 15

23- الاستقامة مع المعاشرة

إن مَثَل من يرى في نفسه الاستقامة الخلقية - وهو في حالة العزلة عن الخلق - كمَثَل المرأة الجميلة المستورة في بيتها ، فلا يُعلم مدى ( استقامتها ) وعفافها ، إلا بعد خروجها إلى مواطن ( الانزلاق ) .. وکذلک النفس ، فإن قدرتها على الاستقامة في طريق الهدى ، والتفوّق على مقتضى الشهوات ، يُعلم من خلال ( التحديات ) المستمرة بين دواعي الغريزة ، ومقتضى إرادة المولى عز ذكره .. ولا ينبغي للعبد أن يغترّ بما فيه من حالات السكينة والطمأنينة وهو في حالة العزلة عن الخلق ، إذ أن معاشرة الخلق تكشف دفائن الصفات التي أخفاها صاحبها، أو خفيت عليه في حال عزلته .

24- فتنة الكمال

إن الكمال العلمي والعملي للنفس بمثابة ( الزينة ) للمرأة .. والمرأة كلما زادت زينتها كلما أشرق جمالها ، وأصبح مادة لان تفتتن هي بنفسها ،ويفتتن الآخرون بجمالها .. فصاحبة هذا الجمال تحتاج إلى مراقبة تامة ، لئلا تقع في المفاسد المترتبة على ذلك الجمال الظاهري .. والأمر كذلك في النفس ( العارية ) من مظاهر الجمال الباطني فانه قد يهون خطبها ، وأما ( الواجدة ) للجمال العلمي والعملي - وخاصة مع شهادة الآخرين بذلك - فإن صاحبها في معرض الفتنة المملكة ،كما اتفق ذلك للكثير من أرباب الكمال .

25- الأنس بالحق لا بطاعته

إن الأنس ( باللّٰه ) تعالى أمر يغاير الأنس ( بطاعته ) .. فقد يأنس الإنسان بلون من ألوان الطاعة قد تنافي رضا الحق في تلك الحالة،كالاشتغال بالمندوب ، تاركا قضاء حاجة مؤمنٍ مكروب ..فالمتعبد الملتفت لدقائق الأمور ( مراقب ) لمراد المولى في كل حال ، سواء طابق ذلك المراد مراده أو خالفه .. وبذلك يختار من قائمة الواجبات

ص: 16

والمندوبات ، ما يناسب تكليفه الفعلي ، بدلا من الجمود على طقوس عبادية ثابتة .

26- الحديث النفسي

يدور في داخل الإنسان حديث نفسيّ يصل إلى حد ( الثرثرة ) ،يختلط فيه الحق والباطل ، والجد والهزل ، بل قد ( يحاكم ) الإنسان شخصا في داخله ، ويصب عليه ( غضبه ) ، بل قد يفحش بالقول في ذلك الحديث النفسي ، بحيث تبدو علامات السخط على وجهه ، وكأنّه مشتغل خارجاً بمواجهة الخصم .. وعليه فلا بد من مراقبة هذه المحادثات الباطنية والتنصّت عليها - وخاصة وأنها غير تابعة للإرادة الشعورية - لئلا يتحول الحديث في عالم الخيال والتجريد ، إلى عالم الخارج والواقع ، فتترتب عليه حينئذ أحكام الواقع ، وما يستلزمه من سخط المولى الجليل .

27- اللسان كاشف لاموجد

إن حركة اللسان بالألفاظ ( كاشفة )عن المعاني وليست ( موجدة ) لها .. وعليه فان الذكر اللساني الخالي من الذكر القلبي ، خال من استحداث المعاني التي تترتب عليها الآثار ، من تنویر الباطن وترتّب الأجر الكامل وغير ذلك ..فكما أنه لا قيمة لحركة اللسان الخالية من قصد المعاني في باب المعاملات ، فكذلك الأمر إلى حد كبير في باب العبادات ، وإن كانت مجزءة ظاهرا .. ومن المعلوم أن هذا الإجزاء يكون ( رفقاً ) بحال المكلفين الذين يخلّون بهذا الشرط غالبا ، إما قصورا أو تقصيرا .

28- سرقة الجوهرة

إن إيمان العبد بمثابة الجوهرة القيّمة في يده .. وكلما ازدادت ( قيمتها ) ، كلما ازداد حرص الشياطين في ( سلب ) تلك الجوهرة من يد صاحبها .. ولهذا تزداد وحشة أهل اليقين عند ارتفاعهم في الإيمان درجة ، لوقوعهم في معرض هذا الخطر العظيم ، من جهة

ص: 17

مَنْ اعتاد سرقة الجواهر من العباد .. ومن المعلوم أن هذا الشعور بالخوف ، لا يترك مجالا لعروض حالات العجب والرياء والتفاخر وغير ذلك ، لوجود الصارف الأقوى عن تلك المشاعر الباطلة .

29- الالتفات للمسبِّب لاللسبَّب

إن من الضروري - في السعي وراء الأسباب عند الاسترزاق أو الاستشفاء أو غير ذلك - الالتفات المستمر ( لمسبِّبية ) الحق للأسباب ، إذ أن الساعي في تلك الحالة - وخاصة عند الاضطراب أو الغفلة - قد يكون بعيدا عن مثل هذه الالتفاتة المقدسة .. ومن الواضح أن مثل هذا الالتفات ، مما ييسّر ( عناية ) الحق في تحقيق المسبَّب الذي يريده الساعي جريا وراء الأسباب .. إضافة إلى خروجه من صفة الغفلة التي تكاد تطبق الجميع في مثل هذه الحالات ، وبذلك يجمع بين ( قضاء )الحاجة ، و ( الارتباط ) بمسبب الأسباب في آن واحد .

30- الإحساس بالمعيّة الإلهية

لو تعمق في نفس الإنسان ، الإحساس بالمعيّة الإلهية - المطردة في كل الحالات - لما انتابه شعور بالوحدة والوحشة أبدا ، بل ينعكس الأمر إلى أن يعيش الوحشة مع ما سوى الحق ، خوفا من صدهم إياه عن الأنس بالحق .. وهذا هو الدافع الخفي لاعتزال بعضهم عن الخلق ، وإن كان الأجدر بهم ( تاسيًا ) بمواليهم ، الاستقامة في عدم إلتفات الباطن إلى ما سوى الحق ، مع اشتغال الظاهر بهم .. وبما أن الإنسان يعيش الوحدة في بعض ساعات الدنيا ، وفي كل ساعات ما بعد الدنيا ،فالأجدر به أن يحقق في نفسه هذا الشعور ( بالمعية ) الإلهية ، لئلا يعيش الشعور بالوحدة القاتلة ، وخاصة فيما بعد الحياة الدنيا - الذي تعظم فيه الوحشة - إلى يوم لقاء اللّٰه تعالی .

31- فائدة العلوم الطبيعية

إن التعمق في العلوم الطبيعية يعين على معرفة عظمة الصانع ،وبالتالي يوجب مزيد الارتباط به ، سواء في ذلك العلم الباحث في

ص: 18

المخلوق الصغير وهو ( الطب ) ، أو الباحث في المخلوق الكبير وهو( الفلك ) ، وقد قال الحق جل ذكره : {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الآْفاقِ وَفِي أنْفُسِهِمْ }.. ومن الممكن للمتعمق في هذه العلوم ، أن يجمع في نفسه بين آثار ( الانبهار ) بعظمة عالم التكوين ، و بين آثار ( التعبد ) بعالم التشريع معا ، إذ أن صاحب الشريعة هو بنفسه صاحب الطبيعة ، والذي أمره بالصلاة هو الذي خلق الكون الفسيح بما فيه .. وبذلك ينظر مثل هذا التعمق ، إلى الشرائع بتقديس واعتقاد ، وتعبد ممزوج بالتعقل والقبول .. ومما يلفت النظر في هذا المجال ، أن القرآن الكريم أمر بالعبادة بقوله : { اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ } ، عقيب قوله : { اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً }، مما قد يستفاد من ذلك أن الالتفات إلى النِّعم في عالم التكوين ، مما يهيّأ نفس الملتفت ، للخضوع أمام المنعم الخالق .

32- مدبريّة الحق

إذا اعتقد العبد بحقيقة ( مدبّرية ) الحق لعالم التكوين ، وأن ( سببيّة ) الأسباب - فسخا وإبراماً - بيده ، وأن انسداد السبل إنما هو بالنظر القاصر للعبد لا بالنسبة إلى القدير المتعال ، كان مجموع هذا الاعتقاد موجبا ( لسكون ) العبد - في احلك الظروف - إلى لطفه القديم ،كما هو حال الخليل (علیه السلام) في النار .. ناهيك عما يوجبه هذا الاعتقاد من طمأنينة وثبات في نفس العبد ، سواء قبل البلاء أو حينه أو بعده .

33- اللقاء في جوف الليل

إن جوف الليل هو موعد اللقاء الخاص بين الأولياء وبين ربهم ..ولهذا ينتظرون تلك الساعة من الليل - وهم في جوف النهار - بتلهّف شديد .. بل إنهم يتحملون بعض أعباء النهار ومكدراتها ، لانتظارهم ساعة ( الصفاء ) التي يخرجون فيها عن كدر الدنيا وزحامها .. وهي الساعة التي تعينهم أيضا على تحمّل أعباء النهار في اليوم القادم .. وبذلك تتحول صلاة الليل ( المندوبة ) عندهم ، إلى موقف ( لا يجوز )

ص: 19

تفويت الفرصة عنده ، إذ كيف يمكن التفريط بمنزلة المقام المحمود ؟! .. ومن الملفت في هذا المجال أن النبيّ (صلی اللّه علیه و آله وسلم) ، أوصي أمير المؤمنين بصلاة الليل ثلاثاً ، ثم عقّب ذلك بالقول : اللّٰهم أعنه !!.

34- شرف الانتساب إلى الحق

عندما يتحقق العمل القربی منتسباً إلى اللّٰه تعالى ، فإن شرف ( الانتساب ) إلى الحق أشرف وأجلّ من ( العمل ) نفسه ، سواء كان ذلك العمل كثيرا أو قليلا ..فالعبد الملتفت لمرادات المولى ، يجاهد في تحقيق أصل ( العُلقة ) ، ولا يهمّه - بعد ذلك - حجم العمل ولا آثاره ..لأن العمل مهما بدا للعبد جليلا ، فهو حقير عند المولى الذي تصاغر عنده الوجود برمّته ، بخلاف علقة الانتساب إليه ، فانه شريف لكونه من شؤون الحق المتعال .

35- مطابقة المزاج للطاعة

يصل العبد - بعد مرحلة عالية من صفاء الباطن - إلى درجة يتطابق فيها سلوكه مع مضامين بعض الأخبار الواردة عن المعصومين (علیهم السلام) ، حتى مع عدم التفاته إلى تلك الأخبار تفصيلا ، لأنها حاكية عن الفطرة السليمة .. بل يصل الأمر به إلى أن يكون التقيّد بحدود الشريعة ( موافقاً ) لمزاجه الأوليّ ، وبالتالي لا يجد كثير معاناة في العمل بها .. وعندئذٍ يكون السير ( حثيثاً ) لا يقف إلا عند الوصول إلى( لقائه ) ، و ذلك لازدياد درجة صفاء المزاج ، المستلزم الملائمة الطاعة - حتى الثقيلة - منها لذلك المزاج .. وعندها تتلاشى صعوبة المجاهدة والرياضة ، لما في الرياضة والمجاهدة من منافرة الطبع ، وهي منتفية عند ذلك المزاج .

36- بنيان الحق في الأرض

إن المؤمن بنيان اللّٰه تعالى في الأرض ، ولهذا صار بمثابة الكعبة بل هو أشرف منها .. إذ أنه وإن تحقق الانتساب إلى المولى تعالى في الحالتين ، إلا إن انتساب ( القلب ) الذي هو عرش الرحمن إلى الحق ،

ص: 20

أشرف من انتساب ( الحجارة ) إليه ..فذاك انتساب ذي شعور ناطق ،بخلاف الفاقد للشعور الصامت .. وعليه فإن كل خدمة لهذا البنيان ، فإنما هو خدمة لصاحب ذلك البنيان ، وكل أذى له فهو أذي لصاحبه .. وقد ورد عن الإمام الرضا (علیه السلام) أنه قال : { مِن أَسْخَطَ وَلِیّاً مِنْ أَوْلِیَائِی دَعَوْتُ اللهَ لِیُعَذِّبَهُ فِی الدُّنْیَا أَشَدَّ الْعَذَابِ وَکَانَ فِی الْآخِرَهِ مِنَ الْخَاسِرِینَ } البحار-ج 74ص 230 .

37- العمل للقرب لا للأجر

لا يحسن بمن يروم الدرجات العالية من الكمال ، أن يتوقف أداؤه للعمل على مراجعة ثواب ذلك العمل .. بل إن جلب رضا المولى في التروك والأفعال ، لمن أعظم الدواعي التي تبعث العبد على الإقدام والإحجام .. وهذا الداعي هو الذي يؤثر على كمّ العمل ، وكيفه ، ودرجة إخلاصه .. فحيازة الأجر والثواب أمر يختص بالآخرة ،وتحقيق القرب من المولى له أثره في الدنيا والآخرة .. وشتان بين العبد الحر والعبد الأجير ، وبين من يطلب المولى ( للمولى ) لا ( للأولى )ولا ( للأخرى ).

38- وجه القلب

كما إن في الكيان ( العضوي ) للإنسان وجها يمثل جهة اهتمامه بالأشياء والأشخاص ، إذ الإقبال على الأمور الخارجية والإعراض عنها يكون بالوجه ، فالأمر كذلك في الكيان ( النفسي ) للإنسان ، فإن له وجها بذلك الوجه يتجه حبّا أو إعراضا نحو ما يتوجه إليه أو عنه .. فمن الممكن بعد المجاهدات المستمرة والمراقبات المتوالية ، الوصول إلى درجة تكون جهة القلب ( ثابتة ) نحو المبدأ ، وإن ( اشتغل ) البدن في أنشطة متباينة ، وتوزع وجهه الظاهري نحو أمور مختلفة .

39- الصلاة قمة اللقاء

إن ( أصل ) وجود علاقة العبودية و ( عمقها ) بين العبد وربه ،يمكن أن يستكشف من خلال الصلوات الواجبة والمستحبة ..فالصلاة هي

ص: 21

قمة اللقاء بين العبد والرب ، ومدى ( حرارة ) هذا اللقاء ودوامها ،يعكس أصل العلاقة ودرجتها .. فالمؤمن العاقل لا يغره ثناء الآخرين- بل ولا سلوكه الحسن قبل الصلاة وبعدها - ما دام يرى الفتور والكسل أثناء حديثه مع رب العالمين ، فإنه سمة المنافقين الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا کسالی .

40- العلم لايلازم الاطمئنان

إن من الواضح أن عملية ( تخزين ) المعلومات النظرية - حتی النافعة منها فيما يتعلق بعالم الفكر والإدراك - عملية مغايرة لعملية ( تجذير ) موجبات الاطمئنان في القلب .. فقد يوجب العلم حالة الاطمئنان وقد لا يوجبها ، وان كانت المضامين الموجبة لسكون القلب ،لها دورها كإحدى المقدمات الواقعة في سلسلة العلل .. ومما يؤيد ذلك عدم وجود تلازم بين ( القراءات ) المتعلقة بالجانب الروحي - كالكتب الأخلاقية - وبين ( التفاعلات ) الروحية المستلزمة لحالة السكينة والاطمئنان .

41- اجتذاب قلوب الخلق

إن السيطرة على قلوب المخلوقين ولو لغرض راجح - كالهداية والإرشاد - تحتاج إلى ( تدخّل ) مقلب القلوب ومن يَحُول بين المرء وقلبه .. وعليه فلا داعي لاصطناع الحركات الموجبة لجلب القلوب كالتودد المصطنع ، أو حسن الخلق المتكلَّف .. فما ( قيمة ) السيطرة على القلوب أولاً ؟!!.. وما ( ضمان ) دوام السيطرة الكاذبة ثانیاً ؟!! ..وحالات انتكاس علاقات الخلق مع بعضهم - بدواع واهية - خير دليل على ذلك .

42- تلذذ الغني والفقير

طالما اشترك الغني والفقير في الالتذاذ ( الفعلي ) بملذات الحياة الدنيا .. وإنما افترقا في إحساس الأول بامتلاك الوسائل الكافية لتأمين الالتذاذ (المستقبلي ) دون الآخر .. وليس هذا الفارق مما يُستحق معه

ص: 22

الوقوع في المهالك ، وخاصة أن ساعة المستقبل تنقلب إلى ساعة الحاضر في كل لحظة ، فيجد فيها الفقير أيضا ما يحقق له أدنى درجات الالتذاذ بحسبه ، من دون الوقوع في ( المعاناة ) والحرص الذي يصاحب جمع المال عادة .

43- التأثر الشخصي بالمصاب

من الضروري أن نجعل تأثرنا بمصائب أهل البيت (علیهم السلام) بمثابة تأثر على مصاب (شخصي ) كالمفجوع بعزيز لديه ، كما يشير إليه التعبير في زيارة عاشوراء : {عَظُمَ مُصابی بِکَ }.. فمن عظمت مصيبته بمن يحب، لا يتوقع ( أجراً ) مقابل ذلك التأثر ، ولا يجعل ذلك ( ذريعة ) للحصول على عاجل الحطام ، كما نلاحظ ذلك فيمن يتوسل بهم ،توصلا إلى الحوائج الفانية .. وليُعلم في هذا المجال أن التأثر بمصائبهم التي حلّت بهم صلوات اللّٰه عليهم ، كامن في أعماق النفوس المستعدة ،فلا يحتاج إلى كثير إثارة من الغير ، كما روي من { إنَّ لِقَتلِ الحُسَینِ حَرارَهً فی قُلوبِ المُؤمِنینَ لا تَبرُدُ أبَداً} .. أضف إلى أن هذا التأثر العميق ، مما يدعو العبد إلى الولاء العملي والمتابعة الصادقة ، وهو المهم في المقام .

44- شهر الضيافة

إن شهر رمضان شهر ضيافة - حقيقة لا مجازا - ومن هنا سَهُل على الضيف أن ( يحوز ) على عطايا من المضيف ، لا يمكن الحصول عليها منه خارج دائرة الضيافة .. وليعلم أن هذه العطايا مبذولة من غير سؤال كما هو مقتضى الضيافة من الكريم ، فكيف بمن ( يسأل ) ذلك ؟!! .. وكيف بمن ( يلحَّ ) في السؤال ؟!!.. ومن هنا صارت ليلة العيد ليلة الجوائز العظمى ، ولطالما غفل عنها الغافلون .

45- الجمع بين الوحشة والمودة

إن من خصائص العامل في المجتمع ، هو الجمع بين حالة ( الوحشة)من الخلق ، لعدم تحقق الملكات الصالحة فيهم والتي هي الملاك للارتياح

ص: 23

والأنس ، وبين حالة ( المودة ) والألفة والمداراة التي أمر بها الشارع جل شأنه .. فالمستفاد من مجموع الأخبار ضرورة الرفق بالناس على أنهم أيتام آل محمد (علیهم السلام) ، وإن خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا .. فالجامع في نفسه بين هاتين الخصلتين ، أقرب ( للنجاح ) في إرشاد الخلق ،( وللاحتراز ) عن مقتضی طباعهم الفاسدة المتمثلة في الانشغال بالباطل ، والغفلة عن الحق في الغالب .

46- سياسة النفس

إن مجاهدة النفس وسياستها يحتاج إلى خبرة وإطلاع بمداخلها ومخارجها ، وسبل الالتفاف حولها .. فلا ينبغي تحميلها فوق طاقتها ،وإلا حرنت وتمردت حتى فيما لامشقة فيه .. بل لابد من إقناعها بالحقائق الحركة لها ، والموجبة لاستسهال بعض الصعاب ، ومنها :( العلم ) بضرورة سلوك هذا السبيل الذي ينتهي إلى الحق الذي إليه مرجع العباد ، وأن ( مراد ) المولى لا يتحصل - غالباً - إلا بهذه المخالفة المستمرة ، بالإضافة إلى ( التذكير ) باللذات المعنوية البديلة ،مع الاحتفاظ بما يحلّ ويجمل من اللذائذ الحسية .

47- تسويل النفس

كثيرا ما ننبعث في حياتنا من ( محركية ) الذات ومحوريتها ،حتى في الأمور التي يفترض فيها نكران الذات ، واستذكار القربة الخالصة للّٰه رب العالمين ، كدعوة العباد إلى اللّٰه تعالى .. ولطالما (تسوّل ) النفس لصاحبها ( فيبطّن ) محورية ذاته بأمور أخرى عارضة، كالثأر للكرامة أو إثبات العزة الإيمانية ، أو الدفاع عن العنوان ، أودعوى العناوين الثانوية ، مما لا تخفى على العالم بخائنة الأعين وما تُخفي الصدور .. وليُعلم في مثل هذه الحالات ، أن الإحجام عن العمل، خير من القيام به من تلك المنطلقات المبطّنة .

48- حذر المصلحين

إن المصلح الذي يروم إخراج العباد من الظلمات إلى النور ، في

ص: 24

معرض ( عداء ) الشياطين له ، بل إثارة أحقادهم المستلزمة ( للانتقام )منه ، لأنه يروم تحرير الآخرين من سيطرة الطاغوت ، وهذا بدوره يعتبر تحديا له ولجنوده .. ومن هنا كان الأولياء يعيشون حالة الإشفاق والخوف من وقوعهم في إحدى شراك الشيطان المنصوبة لهم في جميع مراحل حياتهم .. فلم يأمنوا سوء العاقبة إلا بفضله تعالى ، وخاصة في مواطن ( الامتحان ) العسير في المال أو الجاه أو الدين ، فيما لو تزامن ذلك أيضا مع الضعف ، والغفلة ، وتكالب الشرور.

49- الاستعاذة بالحق

لو اعتقد الإنسان بحقيقة أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق ، وأنه أقسم صادقا على إغواء الجميع ، وخاصة مع التجربة العريقة في هذا المجال من لدن آدم إلى يومنا هذا ، ( لأعاد ) النظر في كثير من أموره ... فما من حركة ولا سكنة ، إلا وهو في معرض هذا التأثير الشيطاني .. فالمعايِش لهذه الحقيقة يتّهم نفسه في كل حركة - ما دام في معرض هذا الاحتمال - فإن هذا الاحتمال وإن كان ضعيفا إلا أن المحتمل قوي ،يستحق معه مثل هذا القلق .. و( ثمرة ) هذا الخوف الصادق هو ( الالتجاء ) الدائم إلى المولى المتعال ،كما تقتضيه الاستعاذة التي أمرنا بها حتى عند الطاعة ، كتلاوة القرآن الكريم .

50- العبودية ضمن المجاهدة

ليس من المهم تحقيق العبودية الكاملة من دون ( منافرة ) للشهوات والأهواء .. فمَنْ يمكنه سفك الدماء والإفساد في الأرض - بما أوتي من شهوة وغضب - ثم ( يتعالی ) عن تلك المقتضيات ، ويلتزم جادة الحق والصواب ، هو الجدير بخلافة اللّٰه تعالى في الأرض .. وكلما ( اشتد ) الصراع ثم النجاح ، كلما عَظُمت درجة العبودية .. ولقد كان الأمر كذلك بالنسبة إلى إبراهيم (علیه السلام) في تعامله مع نفسه وأهله وقومه ، إذ لم يصل إلى درجة الإمامة ، إلا بعد اجتيازه مراحل

ص: 25

الابتلاء كما ذكره القرآن الكريم .

51- أمارة التسديد

من أمارات الصلاح في الطريق الذين يسلكه العبد ، هو إحساسه ( بالارتياح ) وانشراح الصدر ، مع استشعاره للرعاية الإلهية المواكبة لسيره في ذلك الطريق ، وقلب المؤمن خير دليل له في ذلك .. وحالات ( الانتكاس ) والتعثر والفشل ، والإحساس ( بالملل ) والثقل الروحي مع الفرد الذي يتعامل معه أو النشاط الذي يزاوله ، قد يكون إشارة على مرجوحية الأمر .. ولكنه مع ذلك كله ، فإن على العبد أن يتعامل مع هذه العلامة بحذر ، لئلا يقع في تلبيس الشيطان .

52- اختيار الأقرب للرضا

لا ينبغي للمؤمن أن يختار لنفسه المسلك المحببّ إلى نفسه ، حتى في مجال الطاعة والعبادة ، فمن يرتاح ( للخلوة ) يميل عادة للطاعات الفردية المنسجمة ( مع الاعتزال ) ، ومن يرتاح ( للخلق ) يميل للطاعات الاجتماعية الموجبة للأنس ( بالمخلوقين ) .. بل المتعين على المستأنس برضا الرب ، أن ينظر في كل مرحلة من حياته ، إلى ( طبيعة ) العبادة التي يريدها المولى تعالی منه ، فترى النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم)عاكفا على العبادة والخلوة في غار حراء تارة ، وعلى دعوة الناس إلى الحق في مكة تارة ثانية ، وعلى خوض غمار الحروب في المدينة تارة ثالثة ، وهكذا الأمر في الأوصياء من بعده .

53- كالخرقة البالية

تنتاب الإنسان حالة من إدبار القلب ، بحيث لا يجد في قلبه خيرا ولا شرا ، فيكون قلبه ( كالخرقة ) البالية كما ورد في بعض الروايات .. ففي مثل هذه الحالة يبحث المهتم بأمر نفسه عن سببٍ لذلك الإدبار، فان اكتشف سببا ( ظاهرا ) ، من فعل معصية ، أو ترك راجح ، أو

ص: 26

ارتکاب مرجوح ، حاول الخروج عن تلك الحالة بترك موجب الادبار ..وإن لم يعلم ( سبباً ) ظاهرا ، ترك الأمر بحاله ، فلعل ضيقه بما هو فيه ،تكفيرٌ عن سيئة سابقة ، أو رفعٌ لدرجة حاضرة ، أو دفعٌ للعجب عنه.

54- لحظات الشروق والغروب

إن لحظات الغروب والشروق مما اهتم بها الشارع من خلال نصوص كثيرة .. إذ أنها بدء مرحلة وختم مرحلة ، وصعود للملائكة بكسب العبد خيرا كان أو شرا ، وهو الذي يتحول إلى طائر يلزم عنق الإنسان كما يعبر عنه القرآن الكريم .. فهي فرصة جيدة لتصحيح قائمة الأعمال قبل تثبيتها ( استغفارا ) منها ، أو تكفيراً عنها .. وللعبد في هذه اللحظة وظيفتان ، الأولى : ( استذكار ) نشاطه في اليوم الذي مضى ، ومدى مطابقته لمرضاة الرب .. والثانية : ( التفكير ) فيما سيعمله في اليوم الذي سيستقبله .. ولو استمر العبد على هذه الشاكلة مستعيناً بأدعية وآداب الوقتين - لأحدث تغييرا في مسيرة حياته ،تحقيقاً لخير أو تجنيباً من شر .

55- الصفات الكامنة

إن من شؤون المراقبة اللازمة لصلاح القلب ، ملاحظة الصفات ( القلبية ) المهلكة كالحسد والحقد والحرص وغير ذلك .. فإنّ أثر هذه الصفات الكامنة في النفس - وان لم ينعكس خارجا - إلا أنه قد لایقل أثرا من بعض الذنوب الخارجية في ( ظلمة ) القلب .. وليُعلم أنه مع عدم استئصال أصل هذه الصفة في النفس ، فان صاحب هذه الصفة قد ( يتورّط ) في المعصية المناسبة لها في ساعة الغفلة ، أو عند هيجان تلك الحالة الباطنية ، كالماء الذي أثير عكره المترسب .

56- برمجة اليوم

إن على العبد أن ( يبرمج ) ساعات اليوم من أوّل اليوم إلى آخره فيما يرضي المولى جل ذكره ، مَثَله في ذلك كمَثَل ( الأجير ) الذي لابد وأن يُرضي صاحبه من أول الوقت إلى آخره فيما أراده منه .. فإذا

ص: 27

أحس العبد بعمق هذه ( المملوكية ) ، لاعتبر تفويت أية فرصة من عمره ، بمثابة إخلال الأجير بشروط هذه الأجرة المستلزم للعقاب أو العتاب .. وبمراجعة ما كتب في أعمال اليوم والليلة - كمفتاح الفلاح وغيره - تتبين لنا رغبة المولى في ذكر عبده له في جميع تقلّباته ،حتى وكأن الأصل في الحياة هو ذكر الحق ، إلا ما خرج لضرورة قاهرة ،أو لسهو غالب .

57- خلود المنتسب إلى الحق

إن مما يوجب الخلود والأبديّة للأعمال الفانية ، هو ( انتسابها ) للحق المتصف بالخلود والبقاء ..فمن يريد تخليد عمله وسعيه ، فلا بد له من تحقيق مثل هذا الانتماء الموجب للخلود .. فلم تكتسب الكعبة - وهي الحجارة السوداء - صفة الخلود كبيت للّٰه تعالى في الأرض ، إلا بعد أن انتسب للحق .. ولم يكتب الخلود لأعمال إبراهيم وإسماعيل في بناء بيته الحرام ، إلا بعد أن قبل الحق منهما ذلك ، وهكذا الأمر في باقي معالم الحج الذي يتجلى فيه تخليد ذكرى إبراهيم الخليل (علیه السلام) ..والأعمال ( العظيمة ) بظاهرها والخالية من هذا الانتساب حقيرة فانية ،كالصادرة من الظلمة وأعوانهم ، سواء في مجال عمارة المدن ، أو فتح البلاد ، أو بث العلم ، أو بناء المساجد أو غير ذلك .

58- قوارع القرآن

كثيرا ما يخشى الإنسان على نفسه الحوادث غير ( المترقبة ) في نفسه وأهله وماله .. فيحتاج دائما إلى ترس يحميه من الحوادث قبل وقوعها ، ومن هنا تتأكد الحاجة لالتزام المؤمن بأدعية الأحراز الواقية من المهالك ، وهي قوارع القرآن التي من قرأها ( أمن ) من شياطين الجن والإنس : كآية الكرسي ، والمعوذات ، وآية الشهادة ، والسخرة ،والملك .. فإن دفع البلاء قبل إبرامه وتحققه ، أيسر من رفعه بعد ذلك .. وقد ورد :{

إنَّهُ لَیسَ مِن عَبدٍ إلّا ولَهُ مِنَ اللّهِ حافِظٌ وواقِیَهٌ ،یَحفَظانِهِ مِن أن یَسقُطَ مِن رَأسِ جَبَلٍ أو یَقَعَ فی بِئرٍ ، فَإِذا نَزَلَ

ص: 28

القَضاءُ خَلَّیا بَینَهُ وبَینَ کُلِّ شَیءٍ } البحار-ج 5 ص 105 .

59- الهيئة الجماعية للطاعة

نقرأ في دعاء شهر رمضان المبارك في الليلة الأولى منه : { أَنا وَمَنْ لَمْ يَعْصِكَ سُكّانُ أَرْضِكَ فَكُنْ عَلَيْنا بِالفَضْلِ جَواداً }.. فالعبد في هذا الدعاء يخلط نفسه بالطائعين ، بدعوى أنه ( يجمعه ) وإياهم سکنی الأرض الواحدة ، ليستنزل الرحمة الإلهية العائدة للجميع .. و بذلك يتحايل العبد ليجد وصفا يجمعه مع المطيعين ، ولو كان السكنى في مكان واحد .. وكذلك الأمر عند الاجتماع في مكان واحد ، وزمان واحد في أداء الطاعة ، كالحج وصلاة الجماعة والجهاد ومجالس إحياء ذكر أهل البيت (علیهم السلام) ، فان الهيئة ( الجماعية ) للطاعة من موجبات ( تعميم ) الرحمة .. وقد ورد في الحديث : {أَنَّ الْمَلَائِکَهَ یَمُرُّونَ عَلَی حَلَقِ الذِّکْرِ فَیَقُومُونَ عَلَی رُءُوسِهِمْ وَ یَبْکُونَ لِبُکَائِهِمْ وَ یُؤَمِّنُونَ عَلَی دُعَائِهِمْ ... فَیَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : أَنِّی قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ وَ آمَنْتُهُمْ مِمَّا یَخَافُونَ فَیَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّ فِیهِمْ فُلَاناً وَ إِنَّهُ لَمْ یَذْکُرْکَ فَیَقُولُ اللَّهُ تَعَالَی: قَدْ غَفَرْتُ لَهُ بِمُجَالَسَتِهِ لَهُمْ فَإِنَّ الذَّاکِرِینَ مَنْ لَا یَشْقَی بِهِمْ جَلِیسُهُمْ} في البحار-ج75ص468 .

60- الأدب الباطني للأكل

إن للأكل آدابا كثيرة مذكورة في محلها ، إلا أن من أهم آدابه :شعور الإنسان العميق ( برازقية ) المنعم الذي أخرج صنوفا شتی ، من أرض تسقی بماء واحد .. فمن اللازم أن ينتابه شعور بالخجل والاستحياء من تواتر هذا الإفضال ، رغم عدم القيام بما يكون شكرا لهذه النعم المتواترة .. ومن الغريب أن الإنسان يحس عادة بلزوم الشكر والثناء تجاه المنعم الظاهري - وهو صاحب الطعام - رغم علمه بأنه واسطة في جلب ذلك الطعام ليس إلاّ.. أولا يجب انقداح مثل هذا الشعور - بل أضعافه بما لا يقاس - بالنسبة إلى من أبدع خلق ( الطعام ) ، بل خلق من أعدّه من ( المخلوقين ) ؟!! .

ص: 29

61- الرغبة الجامحة

إن الميل والرغبة الجامحة في الشيء من دواعي النجاح في أي مجال :دنيويا كان أو أخرويا .. وهذا الميل قد يكون ( طبعيا ) ، كما في موارد الهوى والشهوة ، ولهذا يسترسل أصحابها وراء مقتضياتها من دون معاناة .. وقد يكون ( اكتسابيا ) كما لو حاول العبد مطابقة هواه مع هوى مولاه فيما يحب ويبغض .. وليُعلم أنه مع عدم انقداح مثل هذا الحب والميل في نفس العبد ، فإن سعيه في مجال الطاعة ، لا يخلو من تكلف و معاناة .. فالأساس الأول للتحليق في عالم العبودية ، هو( استشعار ) مثل هذا الحب تجاه المولى وما يريد ، إذ أن {اَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ }.

62- سوء الظن

كثيرا ما يحس الإنسان بإحساس غير حسن تجاه أخيه المؤمن ، وليس لذلك - في كثير من الأحيان - منشأ عقلائي إلا ( وسوسة ) الشيطان ، و ( استيلاء ) الوهم علي القلب القابل لتلقّي الأوهام .. وللشيطان رغبة جامحة في إيقاع العداوة والبغضاء بين المؤمنين ، معتمدا على ذلك ( الوهم ) الذي لا أساس له .. ومن هنا جاءت النصوص الشريفة ، التي تحث على وضْع فعل المؤمن على أحسنه ، وألا نقول إلا التي هي احسن ، وان ندفع السيئة بالحسنة ، وأن نعطي من حرمنا ونصل من قطعنا .ونعفو عمن ظلمنا ، وغير ذلك من النصوص الكثيرة في هذا المجال .

63- وظيفة الداعي

ليس المهم في دعوة العباد إلى اللّٰه تعالى ، كسب العدد والتفاف الأفراد حول الداعي .. وإنما المهم أن يرى المولى عبده ساعياً مجاهداً في هذا المجال .. وكلما اشتدت ( المقارعة ) مع العباد ، كلما اشتد ( قرب ) العبد من الحق ، وإن لم يثمر عمله شيئا في تحقيق الهدى في القلوب .. فهذا نوح (علیه السلام) من الرسل أولي العزم ، لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً ، فما آمن معه إلا قليل ، بل من الممكن القول

ص: 30

بأن دعوة الأنبياء والأوصياء ، لم تؤت ثمارها الكاملة كما ارادها اللّٰه تعالى لهم ، وهو ما نلاحظه جلياً في دعوة النبي وآله (علیهم السلام) للأمة ، إذ كان الثابتون على حقهم هم أقل القليل .. فالمهم في الداعي إلى سبيل الحق ( عرض ) بضاعة رابحة ، ولا يهمه مَنْ المشتري ؟؟ .. وما قيمة البضاعة الفاسدة وإن كثر مشتروها ؟!.. أضف إلى كل ذلك ، أن أجر الدعوة ودرجات القرب من الحق المتعال ، لا يتوقف على التأثير الفعلي في العباد .

64- هدر العمر بالنوم

إن النوم من الروافد الأصلية التي ( تستنزف ) نبع الحياة .. ومن هنا ينبغي السيطرة على هذا الرافد ، لئلا يهدر رأسمال العبد فيما لا ضرورة له .. ولذا ينبغي التحكم في أول النوم وآخره ، ووقته المناسب ،وتحاشي ما يوجب ثقله .. والملفت في هذا المجال أن الإنسان كثيرا ما يسترسل في نومه الكاذب ، إذ حاجة بدنه الحقيقية للنوم ، اقل من نومه الفعلي .. فلو ( غالب ) نفسه وطرد عن نفسه الكسل ، وهجر الفراش كما يعبر القران الكريم : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } ،فانه سيوفّر على نفسه - ساعات كثيرة - فيما هو خير له و أبقى .. وقد روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال : {مَنْ کَثُرَ في لَیْلِه نَوْمُهُ فاتَهُ مِنَ الْعَمَلِ ما لا یَسْتَدْرِکُهُ في یَوْمِه} و { بِئْسَ الغَریمُ النَّوْمُ یُفْنی قَصیرَ العُمْرِ ویُفَوِّتُ کَثیرَ الأجْرِ}.

65- الفراق والوصل

إن في الفراق رجاء ( الوصل ) ، وخاصة إذا اشتد ألم الفراق وطال زمان الهجران ، وفي الوصل خوف ( الفراق ) ، وخاصة مع عدم مراعاة آداب الوصل بكاملها ، ومن هنا كانت حالة الفراق لديهم - في بعض الحالات - أرجی من حالة الوصل .. إذ عند الوصل تُعطی الجائزة ( المقدرة ) ، بينما عند الفراق يعظم السؤال فيرتفع قدر الجائزة فوق المقدر .. وعند الوصل حيث الإحساس بالوصول إلى شاطئ

ص: 31

الأمان ( يسكن ) القلب ويقلّ الطلب ، وعند الاضطراب في بحر الفراق يشتد التضرع والأنين .. وعليه فليُسلم العبد فصله ووصله للحكيم ،الذي يحكم بعدله في قلوب العباد ، ما يشاء و كيف يشاء .

66- العداء المتاصل

إن القرآن الكريم يدعونا لاتخاذ موقع العداء من الشياطين .. وليس المطلوب هو العداء ( التعبدي ) فحسب ، بل العداء ( الواعي ) الذي منشأه الشعور بكيد العدو وتربّصه الفرص للقضاء على العبد ،خصوصا مع الحقد الذي يكنّه تجاه آدم وذريته ، إذ كان خلقه بما صاحبه من تکلیف بالسجود مبدأ لشقائه الأبدي ، وكأنه بكيده لبنیه يريد أن ( يُشفي ) الغليل مما وقع فيه .. وشأن العبد الذي يعيش هذا العداء المتأصل ، شأن من يعيش في بلد هدر فيها دمه .. فكم يبلغ مدي خوفه وحذره ، ممن يطلب دمه بعد هدره له ؟!!.

67- مؤشر درجة العبد

لو اعتبرنا أن هناك ثمة مؤشر يشير إلى حالات تذبذب الروح تعالیا وتسافلاً ، فإن المؤشر الذي يشير إلى درجة الهبوط الأدنى للروح ، هو الذي يحدد المستوى الطبيعي للعبد في درجاته الروحية .. فدرجة العبد هي الحد ( الأدني ) للهبوط ، لا الحد ( الأعلى ) في الصعود ، إذ أن الدرجة الطبيعية للعبد تابعة لأخس المقدمات لا لأعلاها .. فإن التعالي استثناء لا يقاس عليه ، بينما الهبوط موافق لطبيعة النفس الميالة للّعب واللهو .. فهذه هي القاعدة التي يستكشف بها العبد درجته ومقدار قربه من الحق تعالی .. وقد ورد عن النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) أنه قال :{ مَنْ أَحَبَّ أَنْ یَعْلَمَ مَا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ فَلْیَعْلَمْ مَا لِلَّهِ عِنْدَهُ } البحار -ج73ص 40.. وبذلك يدرك مدى الضعف الذي يعيشه ، وهذا الإحساس بالضعف بدوره مانع من حصول العجب والتفاخر ، بل مدعاة له للخروج منه ، إلى حيث القدرة الثابتة المطردة .

ص: 32

68- مجالس اللهو والحرام

إن بعض المجالس التي يرتادها العبد ، يكون في مظان اللهو أو الوقوع في الحرام ، کالأعراس والأسواق والجلوس مع أهل المعاصي .. ومن هنا لزم على المؤمن أن ( يهيئ ) نفسه لتحاشي المزالق قبل( التوّرط )، فيما لو اضطر إلى الدخول فيها .. وليُعلم أن الجالس مع قوم، إنما يبذل لهم ما هو أهم من المال - وهي اللحظات التي لا تثمن من حياته - فكما يبخل الإنسان بماله ، فالأجدر به أن يبخل ببذل ساعات من عمره للاخرين من دون عوض .. وتعظُم ( المصيبة ) عندما يكون ذلك العوض هو ( تعريض ) نفسه لسخط المولى جل ذكره ، فكان كمن بذل ماله في شراء ما فيه هلاكه .. وأشد الناس حسرة يوم القيامة من باع دينه بدنيا غيره .

69- التفكير في الشهوات

إن التفكير في الشهوات - بإحضار صورها الذهنية - قد تظهر آثاره على البدن ، فيكون كمن مارس الشهوة فعلا يصل إلى حد الجنابة أحيانا .. فإذا كان الأمر كذلك في الأمور ( السافلة ) ، فكيف بالتفكير المعمق فيما يختص بالأمور ( العالية ) من المبدأ والمعاد ؟.. أولا يُرجی بسببه ، عروج صاحبه - في عالم الواقع لا الخيال - ليظهر آثار هذا التفكير حتى على البدن .. وقد أشار القرآن الكريم إلى بعض هذه الآثار بقوله : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ } و {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا}، أضف إلى وجل القلوب وخشوعها .. بل يصل الأمر إلى حالة الصعق الذي انتاب موسی (علیه السلام) عند التجلّي ، وكان لإبراهيم أزيز كأزيز المرجل ، ناهيك عن حالات الرسول (صلی اللّه علیه و آله وسلم) عند نزول الوحي ، وحالات وصيه (علیه السلام) أثناء القيام بين يدي المولى جل ذكره .

70- منبّهية الآلام الروحية

كما أن الآلام ( العضوية ) منبهة على وجود العارض في البدن ،فكذلك الآلام ( الروحية ) الموجبة لضيق الصدر ، منبّهة على وجود

ص: 33

عارض البعد عن الحق .. إذ كما انه بذكر اللّٰه تعالى ( تطمئن ) القلوب، فكذلك بالإعراض عنه ( تضيق ) القلوب ، بما يوجب الضنك في العيش ، فيكون صاحبه كأنما يصّعد في السماء ، والمتحسس لهذا الألم أقرب إلى العلاج قبل الاستفحال .. والذي لا يكتوي بنار البعد عن الحق- كما هو شان الكثيرين - يكاد يستحيل في حقه الشفاء ، إلا في مرحلة : { فَکَشَفْنَا عَنْکَ غِطَاءَکَ فَبَصَرُکَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } ، وعندئذ لا تنفعه هذه البصيرة المتأخرة عن وقت الحاجة .

71- آيات الأولي الألباب

إن التأثر ( بآیتيّة ) الآيات متوقفة على وجود ( اللّب ) المدرك لها ..فالآية علامة لذي العلامة ، والذي لا عرف لغة العلامة كيف يتعرّف على ذي العلامة ؟!! .. فمَثَل الباحثين في الطبيعة والغافلين عن الحق ، كمَثَل من يحلل اللوحة الجميلة إلى أخشاب وألوان ..فتراهم يُرهقون أنفسهم في البحث عن مادة اللوحة وألوانها ، ولا يدركون شيئا من جمال نفس اللوحة ولا جمال مصورها ، وليس ذلك إلا لانتفاء اللبّ فيهم إذ { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيات لِأُولي الأَلْبَاب }.. فعيونهم المبصرة والآلة الصماء التي يتم بها الكشف والاختراع على حد سواء ، في انهما لا يبصران من جمال المبدع شيئا .

72- التسمية نوع استئذان

إن التسمية قبل الفعل - من الأكل وغيره - نوع ( استئذان ) من العبد في التصرف فيما يملكه الحق ، وإن كان الأمر حقيرا عند العبد ،فالأمر في جوهره وعند أهله المستشعرين للطائف العبودية ، يتجاوز مرحلة الاستحباب .. وهكذا الأمر في جميع الحركات المستلزمة للتصرف في ملك من أملاك المولى جل ذكره .. ولهذا فإن كل عمل غير مبدوء ب ( بسم اللّٰه) فهو أبتر ، إذ كيف يبارك المولى في عبد لا ينسب عمله إليه ، ولا يصدر منطلقا من رضاه ، بل يتصرف في ملكه من دون ( إحراز ) رضاه ؟!!.

ص: 34

73- الإعراض بعد الإدبار

لابد من المراقبة الشديدة للنفس بعد حالات الإقبال - وخاصة - الشديدة منها .. وذلك لأن ( الإعراض ) المفاجئ باختيار العبد - بعد ذلك الإقبال - يُعد نوع ( سوء ) أدب مع المولى الذي منّ على عبده بالإقبال ، وهو الغني عن العالمين .. ولطالما يتفق مثل هذا الإقبال - في ملأ من الناس - بعد ذكر اللّٰه تعالى ، أو التجاء إلى أوليائه (علیهم السلام) ، وعند الفراغ من ذلك يسترسل العبد في الإقبال على الخلق ، فيما لا يُرضي الحق : من لغو في قول ، أو ممقوت من مزاح ، أو وقوع في عرض مؤمن أو غير ذلك .. ومثل هذا الإدبار الاختياري قد ( يُحرم ) العبد نعمة إقبال الحق عليه مرة أخرى ، وهي عقوبة قاسية لو تعقّلها العبد .. نعم قد يتفق الإدبار المفاجئ - مع عدم اختيار العبد - دفعا للعُجب عنه ، وتذكيرا له بتصريف المولى جلّ ذكره لقلب عبده المؤمن كيفما شاء .

74- مؤلفات المنحرفين

إن مما ينبغي الحذر منه ، هو ما وصل إلينا من مؤلفات المنحرفين عن خط أهل البيت (علیهم السلام) - قصورا كان الانحراف أو تقصيرا - وخاصة فيما كان في مجال الأخلاق والاعتقاد .. فمن الدواعي الخفية التي جعلت البعض منهم يتخذ لنفسه اتجاهاً أخلاقيا متميزا ليجذب به قلوب المریدین ، هي ( منافسة ) خط أئمة أهل البيت (علیهم السلام) في ذلك ، و( استلاب ) القلوب المتعطشة للمعارف الإلهية .. وخاصة أن الأئمة (علیهم السلام) لهم منهجهم المستقل في مجال تهذيب السلوك الإنساني المتمثل في :( الاستقامة ) على طريق الشرع أولا ، و ( الاعتدال )في السير ثانيا ،و ( الجامعية ) لكل جهات التكليف ثالثا .. وقد درّبوا خواصهم على هذا المنهج الذي افرز الكثير ، ممن یُتأسی بهم في هذا المجال .. وينبغي الالتفات إلى أن حث عامة الناس على الرجوع إلى مؤلفات المنحرفين ، قد يؤدي - من دون قصد - إلى صرف الناس عن خط أئمتهم (علیهم السلام) ، أو

ص: 35

على الأقل عدم استنكار البنية العقائدية لمخالفيهم .

75- القلب حرم اللّٰه تعالی

إن اشتغال القلب بغير اللّٰه تعالی مذموم حتى عند الاشتغال ( بالصالحات )من الأعمال ، كقضاء حوائج الخلق وأشباهه ..فقد روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال : {الْقَلْبُ حَرَمُ اللَّهِ فَلَا تُسْکِنْ حَرَمَ اللَّهِ غَیْرَ اللَّهِ} البحار- ج70ص25.. فالمطلوب من العبد أن لا يذهل عن ذکر مولاه ، وإن اشتغلت الجوارح بعمل قربي للّٰه فيه رضاً .. فإن ( حسن ) اشتغال الجارحة بالعبادة لا ( يجبر ) قبح خلو الجانحة من ذكر الحق ، فلكل من الجوانح والجوارح وظائفهما اللائقة بهما .. وحساب كل منهما بحسبه ، فقد يثاب احداهما ويعاقب الأخرى ، كما يشير إليه الحديث : { إنَّ اللّه َ يُحِبُّ العَبدَ و يُبغِضُ عَمَلَهُ ، و يُحِبُّ العَمَلَ و يُبغِضُ بَدَنَهُ} البحار-ج46، ص 233 .. والخلط بينهما مزلق للأولياء عظيم .. وهذا الأمر وإن بدا الجمع بينهما صعبا ، إلا إنه مع المزاولة والمصابرةيتم الجمع بين المقامين ، كما كان الأمر كذلك عندهم صلوات اللّٰه عليهم أجمعين .

76- استغلال أية فرصة

إن من الأمور المهمة التي قد يغفل عنها العبد ، هو استغلال ساعة ( الإقبال )على المولى في أي ظرف كان صاحبه .. فقد تأتي هذه المنحة الإلهية على حين(غفلة ) من صاحبها ، وفي حالة ( يجلّ )الإنسان ربه في أن يذكره في تلك الحالة كالأماكن المستقذرة ، كما يشير إليه ما روي عن موسی (علیه السلام) إذ سأل ربه فقال : إني أكون في حال أجلّك أن أذكرك فيها ، فجاءه الجواب : { یَا مُوسَی اذْکُرْنِی عَلَی کُلِّ حَالٍ}البحار-ج3ص 329 .. فليس للعبد أن يُعرض - حتى في تلك الساعة - عن ربه مع إقبال الحق عليه ، فان ذلك مدعاة لتعريض هذه النعمة الكبرى للزوال .. وقد يتفق الإقبال في المواطن المناسبة لذلك ،فيرقّ القلب من دون مجاهدة تذكر كمجالس رثاء أهل البيت (علیهم السلام) ، فما

ص: 36

أحرى بأصحابها أن يستغلّوا حالة الرقة التي تنتاب حتى غير الصالحين منهم في تلك المجالس ، وذلك بالتوجه إلى اللّٰه تعالى وخاصة بعد الفراغ من المجلس ، فإنها من المظان الكبرى لاستجابة الدعاء .

77- تصريف الحق للأمور

كما يتولى الحق تعالى تصريف ( جزئيات ) عالم الخلق ، إذ ما تسقط من ورقة إلا بعلمه ، ولولا الإذن لما تحقق السقوط الذي تعلق به العلم، فكذلك الأمر فيمن ( شملته ) يد العناية الإلهية ، فيتولى الحق تعالی تصريف شؤونه في كل صغيرة وكبيرة .. ومن هنا أمر موسی(علیه السلام) بالرجوع إلى الحق ، حتى في ملح عجينه وعلف دابته .. ومن المعلوم أن هذا الإحساس ( يعمّق ) الود بين العبد وربه ، ناهيك عما يضفيه هذا الشعور من سكينة واطمئنان على مجمل حركته في الحياة .. ومن هنا ينسب الحق أمور النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) من الطلاق والزواج إلى نفسه ، فيقول :{عَسى رَبُّهُ اِنْ طَلَّقَكُنَّ} و { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاکَهَا }.

78- الأجر الجزيل على القليل

قد يستغرب البعض من ترّتب بعض ما روي من ( عظيم ) الثواب على اليسير من العبادة .. ولو كان هذا الاستغراب بمثابة عارض أوّلى لا قرار له في النفس لهان الأمر ، ولكن الجاد في استغرابه ، فإنما هو قاصر ، إمّا في إدراك ( قدرة ) المولى على استحداث ما لم يخطر على قلب بشر ، بمقتضى إرادته التكوينية المنبعثة من الكاف والنون ، أو في إدراك مدى ( کرمه ) وسعة تفضله الذي استقامت به السموات والأرض.. فمن يجمع بين القدرة القاهرة و العطاء بلا حساب ، فإنه لا يعجزه الأجر الذي لا يقاس إلى العمل .. إذ أن الثواب المبذول إنما هو اقرب للعطايا منه إلى الأجور .. وليُعلم أخيرا أن نسبة قدرة الحق المتعال إلى الأمر - الحقير والجليل - على حد سواء .. فلماذا العجب بعد ذلك ؟! .

79- ملكوت الصلاة

إن الصلاة مرکب اعتباري رّكب أجزاءه العالم بمواقع النجوم ..

ص: 37

فالحكيم الذي وضع الأفلاك في مسارها ، هو الذي وضع أجزاء هذا المركّب في مواقعها ، ولهذا كان ( الإخلال ) العمدي بظاهرها مما يوجب عدم سقوط التكليف ، لعدم تحقق المركب بانتفاء بعض أجزائه .. وليُعلم أن بموازاة هذا المركب الاعتباري ( الظاهري ) ، هنالك مرکب اعتباري ( معنوي ) يجمعه ملكوت كل جزء من أجزاء الصلاة .. فالذي يأتي بالظاهر خاليا من الباطن ، فقد أخل بالمركب الاعتباري الآخر بكله أو ببعضه .. ومن هنا صرحت الروايات بحقيقة :{ إِنَّمَا لَكَ مِنْ صَلَاتِكَ مَا أَقْبَلْتَ عَلَیْهِ بِقَلْبِكَ} البحار ج 81 ص 260 .

80- الطهارة الظاهرية والباطنية

أكد المشرع الحكيم على طهارة البدن والساتر والأرض في حال الصلاة ، التي هي أرقى صور العبودية للحق المتعال ، كما يفهم من خلال جعلها عمودا للدين ومعراجا للمؤمن .. ولعل الأقرب إلى تحقيق روح الصلاة ، هو الاهتمام بتحقيق الطهارة ( الداخلية ) في جميع أبعاد الوجود ، بل هجران الرجز لا تركه فحسب ، لقوله تعالى : { وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ}.. فالهجران نوع قطيعة مترتبة على بعض المهجور المنافر لطبع المقاطع له .. فالمتدنس ( بباطنه ) لا يستحق مواجهة الحق وان تطهّر بظاهره ، حيث أن المتدنس - جهلا وقصورا - لا يؤذن له باللقاء وان اُعذر في فعله .. كما أن المتدنس ( بظاهره ) لا يؤذن له بمواجهة السلطان ، وإن كان جاهلا بقذارته .

81- الصورة الذهنية الكاذبة

إن ما يدفع الإنسان نحو الملذات واقتناء أنواع المتاع ، هي الصورة ( الذهنية ) المضخمة - التي لا تطابق الواقع غالبا - لتلك اللذة .. والسر في ذلك كما يذكر القرآن الكريم ، هو تزيين الشيطان ما في الأرض للإنسان ، بحيث لايرى الأشياء كما هي ، ومن هنا أمِرنا بالدعاء قائلين : { اللّهمَّ أَرِنَا الأشياءَ كَما هِي} .. ولطالما يصاب صاحبها بخيبة أمل شديدة عندما يصل إلى لذته ، فلا يجد فيها تلك الحلاوة

ص: 38

الموهومة ، وبالتالي لا يجد ما يبرر شوقه السابق ، كالأحلام الكاذبة التي يراها الشاب قبل زواجه .. ويكون ( تكرّر ) هذا الإحباط مدعاة ( للملل ) من الدنيا وما فيها .. وهذا هو السر في استحداث أهل الهوى وسائل غريبة للاستمتاع يصل إلى حد الجنون !!.. أما النفوس المطمئنة- بحقيقة فناء اللذات ، وعدم مطابقة الواقعية منها لما تخيلها صاحبها ، بل وجود لذائد أخرى ما وراء الحس ، لا تقاس بلذائذ عالم الحس -ففي غنى عن تجارب المعاناة والإحباط ، لاكتشافهم الجديد الباقي حتى في عالم اللذات ، إذ أن كل نعيم دون الجنة مملول .

82- الخسارة الدائمة

إن الإنسان يعيش حالة خسارة دائمة ، إذ أن كل نَفَس من أنفاسه ( قطعة ) من عمره ، فلو لم يتحول إلى شحنة طاعة ، لذهب ( سدیً )بل أورث حسرة وندامة .. ولو عاش العبد حقيقة هذه الخسارة ،لانتابته حالة من الدهشة القاتلة !!.. فكيف يرضى العبد أن يهدر في کل آن ، ما به يمكن أن يكتسب الخلود في مقعد صدق عند مليك مقتدر ؟!!.. وقد ورد في الحديث : {خَسِرَ مَنْ ذَهَبَتْ حَیَاتُهُ وَ عُمُرُهُ فِیمَا یُبَاعِدُهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّوَجَلَّ }البحار-ج 10ص 110.. والملفت حقا في هذا المجال أن كل آن من آناء عمره ، حصيلة تفاعلات كبرى في عالم الأنفس والآفاق ، إذ أن هذا النظم المتقن في كل عوالم الوجود - كقوانين السلامة في البدن و تعادل التجاذب في الكون - هو الذي أفرز السلامة والعافية للعبد كي يعمل ، فما العذر بعد ذلك ؟!! ..وإيقاف الخسارة في أية مرحلة من العمر - ربح في حد نفسه - لا ينبغي تفويته ، فلا ينبغي ( التقاعس ) بدعوى فوات الأوان ،ومجمل القول : أن الليل والنهار يعملان فيك ، فاعمل فيهما .

83- أدنى الحظوظ وأعلاها

لكل من القلب والعقل والبدن حظّه من العبادة ، نظرا لتفاعله الخاص به ، فللأول ( المشاعر ) ، وللثاني ( الإدراك ) ، وللثالث

ص: 39

( الحركة ) الخارجية .. وأدنى الحظوظ إنما هو للبدن ، لأنها أبعد الأقمار عن شمس الحقيقة الإنسانية .. وقد انعكس الأمر عند عامة الخلق، فصرفوا جُلّ اهتمامهم في العبادة إلى حظ البدن ، وصل بهم إلى حد الوسوسة ، المخرجة لهم عن روح العبادة التي أرادها المولى منهم ،مهملين بذلك أمر اللطيفة الربانية المودعة فيهم .. ومن هنا لا نجد العباداتهم كثير أثر يُذكر غير الإجزاء وعدم لزوم القضاء .. ومن المعلوم أن هذا الأنس الظاهري بالعبادة ، متأثر بطبيعة النفس التي تتعامل مع الحقائق من خلال مظاهرها المادية ، وليست لها القدرة - من دون مجاهدة - على شهود الحقائق بواقعيتها ، ومن هنا عُلم منزلة إبراهيم الخليل (علیه السلام) الذي أراه الحق ملكوت السماوات والأرض .

84- مخالفة النفس فيما تهوی

إن مخالفة النفس فيما تهوى وتكره لمن أهم أسس التزكية ، وخاصة عند ( إصرار ) النفس على رغبة جامحة في مأكل ، أو ملبس ، أو غير ذلك .. فان الوقوف أمام النفس - ولو في بعض الحالات - ضروري التعويد النفس على التنازل عن هواها لحكم العقل ، ولإشعارها أن للعقل دوره الفعّال في إدارة شؤون النفس ، بتنصيب من المولى الذي جعل العقل رسولاً باطنياً ، وقد روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال : { إذا صَعُبَت علَیکَ نَفسُکَ فاصعُبْ لَها تَذِلَّ لکَ } البحار-ج 78ص119 .. ومن الملحوظ إحساس العبد ( بهالة ) من السمو والعزة ، عند مخالفة شهوة من الشهوات ، وهذه الحالة جائزة معجلة في الدنيا قبل الآخرة ، إذ يجد حلاوة الإيمان في قلبه ..هذه الحلاوة تجبر حرمان النفس من الشهوة العاجلة ، بل يصل الأمر إلى أن يعيش الإنسان حالة التلذذ في ترك اللذائذ ، لما فيها من السمو والتعالي عن مقتضيات الطبع ، بل يصل الأمر عند - الكمّلين - إلى مرحلة يتلذذون فيها ( برضا ) الحق عنهم حين تلذذهم بالمباحات ، أكثر من تلذذهم ( باللذة ) نفسها..فمثلا يرون أن لذة رضا المولى على عبده بالزواج ، ألذّ لديهم من

ص: 40

عملية المعاشرة نفسها ، وهذا معنىً لا يُوفق له إلا ذو حظ عظيم .

85- التجلي في الآفاق والأنفس

لقد تجلّى الحق في عالم ( الآفاق ) ، فأوجد هذا النظام المتقن الذي أذهل أرباب العقول على مر العصور .. فكيف إذا أراد الحق أن يتجلى العبده في عالم ( الأنفس ) فيمن أراد سياسته وتقويمه ؟!!.. ولئن كانت العجائب لا تُعد في عالم الآفاق ، فان العجائب لا تدرك في عالم الأنفس !!.. ولا عجب في ذلك ، فإن المبدع في عالم الآفاق هو بنفسه المبدع في عالم الأنفس ، بل اكثر تجليّا فيها ، لأنها ( عرش ) تجليه الأعظم .. فالمهم في العبد أن يُعّرض نفسه لهذه النفحات ، حتى يصل إلى مرحلة : { عبدي أطعني تكن مَثَلي، أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون }

86- المال آلة اللذائذ

إن المال آلة لكسب اللذائذ ، فالذي لا تأسره لذائد المادة ، لا يجد في نفسه مبررا للحرص والولع في جمعه ، كما هو الغالب على أهل اللذائذ ، لأن لذائذهم لا تشترى إلا بالمال كلذة البطن والفرج ، وهو المتعالي عن تلك اللذائذ .. وبهذا ( التعالي ) النفسي يكون قد خرج من أسرٍ عظيمٍ وقع فيه أهل الدنيا .. وأما الذي ( ترقّي ) عن عالم اللذائذ الحسية ، فإن له شغل شاغل عن جمع المال بل عن الالتفات إليه ، إذ أن من لا تغريه اللذة ، لا تغريه مادتها أي ( المال ).. وهذه هي المرحلة التي لا يجد فيها العبد كثير معاناة في دفع شهوة المال عن نفسه ، إذ اللذائذ أسيرة له ، لا هو أسير لها .

87- اللقاء في الأسحار

إن القيام في الأسحار بمثابة لقاء المولى مع خواص عبيده ، ولهذا لا ( تتسنى ) هذه الدعوة إلا لمن نظر إليه المولى بعين ( اللطف ) والرضا ، وهي الساعة التي يكاد يطبق فيها نوم الغفلة حتى البهائم .. ومن

ص: 41

المعلوم أن نفس قيام الليل - مع قطع النظر عن حالة الإقبال - مکسب عظيم ، لما فيه من الخروج على سلطان النوم القاهر ، فكيف إذا اقترن ذلك

بحالة الالتجاء والتضرّع ؟!!.. ومن هنا جعل المولی جل ذكره ( ابتعاث )النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) المقام المحمود ، مرتبطا بتهجده في الأسحار ، رغم حيازته للملكات العظيمة الأخرى .. ويمكن القول - باطمئنان - أن قيام الليل هو القاسم المشترك بين جميع الأولياء والصلحاء ، الذين يشتد شوقهم إلى

الليل ، ترقّبا للذائذ الأسحار .. وقد روي عن الإمام العسكري (علیه السلام) أنه قال :{الْوُصُولَ اِلیَ اللهِ سَفَرٌ لا یُدرَکُ اِلّا بِامْتِطاءِ اللَّیِل } البحار-ج78ص379.

88- التشويش الباطني

إن من الضروري لمن يريد الثبات في السير إلى اللّٰه تعالى ، أن يستبعد عن طريقه كل موجبات القلق والاضطراب ، فإن التشويش الباطني بمثابة تحريك العصا في الماء العكر ، الذي يُخرجه عن صفة المرآتية للصور الجميلة والحالة تلك !!.. وإن استبعاد موجبات القلق يكون : بدفعها وعدم التعرض لها ( كعدم ) الاستدانة مع العجز عن السداد .. ويكون برفعها وإزالة الموجب لها ( كأداء ) الدين مع القدرة على أدائها .. ويكون بالتعالي وصرف الذهن عنها مع العجز التام عن الدفع والرفع ( كالعاجز ) عن السداد بعد الاستدانة .. وتفويض الأمر في كل المراحل - خصوصا الأخيرة - إلى مسبِّب الأسباب من غير سبب .

89- دواعي الهدى والهوى

إن الإخلاد إلى الأرض والركون إلى الشهوات البهيمية ، مما يوافق دواعي الهوى ، وبذلك تكون حركة الإنسان نحوها سريعة للغاية لو استرسل في شهواته ولم يغالبها ، وفي هذا السياق يبدي أمير المؤمنين (علیه السلام) تعجبه بقوله : { كَيْفَ يَسْتَطيعُ الهُدي مَنْ يَغلِبُه الهَوي ؟! }.. ولكنه في الوقت نفسه ، فإن التعالي والسمو إلى درجات القرب من الحق أيضا مما يوافق دواعي الهدى ، وهي إرادة الحق ورغبته ، بل دعوته الأكيدة للناس إليه بقوله : { فَفِرُّوا إِلَى اللّهِ } .. فكما أن الهوى في عالم التكوين سائق لصاحبه إلى الهاوية ، فإن ( مشيئة ) الحق ، وارداته

ص: 42

( التشريعية ) لطهارة العبيد ، كذلك ( تيسّر ) سبيل الوصول لمن تعرض لنفحات تلك الإرادة التي عبّر عنها الحق بقوله : { وَلَکِنْ یُرِیدُ لِیُطَهِّرَکُمْ }.

90- البلاء المعوض

إن البلاء الذي يصيب المؤمن الذي اخلص حياته للّٰه رب العالمين ،بمثابة البلاء الذي يصيب العامل أثناء العمل مع من ضمن له الخسارة في نفسه وبدنه .. فمع علمه بأن كل بلاء يصيبه فهو ( مضمون )العوض ، فإنه لا( يستوحش ) لتوارد البلاء مهما كان شديدا .. بل قد يفرح - في قرارة نفسه - لو علم بالعوض المضاعف الذي لا يتناسب مع حجم الخسارة ، وهذا خلافا لمن يصيبه البلاء وهو لا يعلم انه رفعٌ لدرجة ، أو كفارةٌ السيئة ، فيستوحش من أدنى البلاء يصيبه ،لما يرى فيه من تفويتِ للّذائذ من دون تعويض .

91- العبثية في السلوك

إن الخوض فيما لايعني ، مصداق لحالة العبثية و ( اللاجدية ) في سلوك الإنسان ، وهو من موجبات قساوة القلب .. إذ القلب المشتغل بأمر لا يحتمل الاشتغال بأمر آخر ، ولو كان اللاحق أنفع من سابقه..فليُتأمل في مضمون هذا الحديث القدسي : { یَا اِبْنَ آدَمَ، إِذَا وَجَدْتَ قَسَاوَهً فِی قَلْبِکَ وَ سُقْماً فِی جِسْمِکَ وَ نَقِیصَهَ فِی مَالِکَ وَ حَرِیمَهً فِی رِزْقِکَ فَاعْلَمْ أَنَّکَ قَدْ تَکَلَّمْتَ فِیمَا لاَ یَعْنِیکَ }.. فإذا كان الخوض فيما لا يعني - ولو كان حلالاً - مما تترتب عليه هذه الآثار المهلكة ،فكيف بالخوض في ( الحرام ) ؟!.

92- هندسة التكامل

إن الذي يريد أن يحقق مستوى من التكامل الروحي في حياته ، عليه أن يمتلك خطة مدروسة : لها ( مراحلها ) المتدرجة ، ولها ( تقسيمها )الزمني لكل مرحلة ، وفيها ( دراسة ) لنقاط ضعفه وقوته ،وفيها ( ملاحظة ) لتجارب الآخرين ، وفيها ( معرفة ) للعوارض التي تنتاب مجمل السائرين في الطريق : كالقبض والبسط ، وإعراض الخلق

ص: 43

، وضيق الصدر ، وهجوم الوساوس .. هذا المخطط ببعديه النظري والعملي ، ينبغي أن يكون واضحا دائما للسائرين إلى اللّٰه تعالى ، وإلا كان صاحبها كمن يحتطب ليلا .. إذ كما أن هندسة البناء المادي - وإن طال البحث فيها - أساس لنجاح البناء خارجاً ، فكذلك الأمر في البناء المعنوي ، فإن وضوح الخطة وإتقانها ، وهندسة مراحلها ، مدعاة للسير على هدى واطمئنان ، وهذا بخلاف السائر على غير ( هدى )،فإنه لا تزيده كثرة السير إلا بعداً .

93- الصلاة موعد اللقاء

إن من اللازم أن نتعامل مع ( وقت ) الصلاة على أنه موعد اللقاء مع من بيده مقاليد الأمور كلها .. ومع ( الأذان ) على انه إذن رسمي بالتشريف .. ومع ( الساتر ) بزينته على انه الزيّ الرسمي للّقاء .. ومع( المسجد ) على أنه قاعة السلطان الكبرى .. ومع ( القراءة ) على أنه حديث الرب مع العبد .. ومع ( الدعاء ) على أنه حديث العبد مع الرب .. ومع ( التسليم ) على أنه إنهاء لهذا اللقاء المبارك ، والذي يفترض فيه أن تنتاب الإنسان عنده حالة من ألم الفراق والتوديع ..ومن هنا تهيّب الأولياء من الدخول في الصلاة ، وأسفوا للخروج منها .

94- فرق الحال عن المقام

إن هناك فرقا واضحا بين الحالات الروحية ( المتقطعة ) التي تعطى للعبد- بحسب قابليته - بين فترة وأخرى ، وبين المقامات الروحية ( الثابتة )التي لا تفارق صاحبها أبدا .. واستبدال الحال بالمقام يفتقر إلى رؤية واضحة للحالتين ، ومعرفة بموجباتهما ، وتجربة خاصة للعبد المراقب لنفسه .. ومجمل القول ، أن استمرار الحالات الروحية المتقطعة ،وتحاشي موجبات الإدبار ، والالتزام العملي الدقيق بما يُرضي المولى تبارك وتعالى ، والالتجاء الدائم إليه بالتوسل بمن لديهم أرقی درجات الزلفي لديه .. كل هذه الأمور دخيلة في تحويل الحالات المتناوبة إلى مقامات ثابتة ، ولكن بعد فترة من الصمود والاستقامة فيما ذكر.

ص: 44

95- مرحلة الاصطفاء

قد يصل العبد بعد مرحلة طويلة من ( المجاهدة ) في طريق الحق إلى مرحلة ( الاصطفاء ) الإلهي له .. ومن مميزات هذه المرحلة أن العبد يعيش فيها حالة القرب الثابت من الحق - حتى مع عدم بذل جهد مرهق - في هذا المجال .. فهو يعيش حالة حضور ( دائم ) بين يدي المولى سبحانه ، إذ العالم كله محضر قدسه ، بكل ما في هذا الحضور من آداب الضيافة الربوبية ، التي لم تتم لولا دعوة الحق المتعال عبده إلى نفسه اكراما وحبّا له .. وقد روي أن موسی (علیه السلام) سأل ربه : يارب وددت أن أعلم من تحب من عبادك فأحبه !! ، فأجابه :( إذا رأيتَ عَبدي يُكثِرُ ذِكْري فأنا أذِنْتُ لَهُ في ذلكَ و أنا اُحبُّهُ }البحار-ج93 ص 160.. والتأمل في هذا المضمون النادر ، يفتح آفاقاً للذاكر وخاصة في بداية الطريق .

96- ساعات الجد الواقعي

إن كل نشاط وحركة ( جدّ ) في الحياة ، لهو أقرب إلى ( اللهو ) والبطالة ، إن لم يكن في سبيل مرضاته تعالى .. فما يمنّي به بعضهم نفسه بأنه مشغول طول وقته بالبحث العلمي ، أو التجارة ، أو عمران البلاد ، أو سياسة العباد ، أشبه بسراب يحسبه الظمآن ماء ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ، وذلك فيما لو إنتفی قصد القربة الذي يضفي الجدية على كل سلوك .. وقد ذكر القرآن الكريم الأخسرين أعمالاً بقوله : {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.. ورأس ساعات الجد هي ساعة ( الإقبال ) على المولى بكل أركان الوجود وذلك في الصلاة وغيرها ، ومن ساعة الجد هذه يترشح الجد على الساعات الأخرى من الحياة .. وقد بيّن أمير المؤمنين (علیه السلام) في كتابه إلى واليه على مصر مالك الأشتر موقع الصلاة من الأعمال بقوله : { وَ اِعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ عَمَلِكَ تَابِعٌ لِصَلاَتِكَ وَ اِعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ ضَيَّعَ اَلصَّلاَةَ فَإِنَّهُ لِغَيْرِ اَلصَّلاَةِ مِنْ شَرَائِعِ اَلْإِسْلاَمِ أَضْيَعُ }

ص: 45

تحف العقول-ص126.

97- التعالي قاصم للظهر

إن من الواضحات التي ينبغي الالتفات إليها دوما ، ضرورة تحاشي الإحساس ( بالعلوّ ) على المخلوقين .. فهذا الترفع ولو كان في - باطن النفس - لمن قواصم الظهر ، كما قصم من قبلُ ظهر إبليس ، مع سابقته قليلة النظير في عبادة الحق .. وطرد هذا الشعور يتوقف على الاعتقاد بأن بواطن الخلق محجوبة إلا عن رب العالمين ، فكيف جاز لنا قياس( المعلوم ) من حالاتنا ، إلى المجهول من حالات الآخرين ، بل قیاس ( المجهول ) من حالاتنا إلى المجهول من حالاتهم ، ثم الحكم بالتفاضل ؟! .. أضف إلى جهالة الإنسان بخواتيم الأعمال ، وهو مدار الحساب والعقاب .. ومن هنا أشفق المشفقون من الأولياء من سوء الخاتمة ، لتظافر جهود الشياطين على سلب العاقبة المحمودة للسائرين على درب الهدی ،ولو في ختام الحلبة ، إذ أنها ساعة الحسم ، ولطالما افلحوا في ذلك .

98- انحراف المدعين للمقامات

يتحير بعضهم في تفسیر انحراف من أوتي نصيبا من العلم - حتى الإلهي منه - إذ تراهم يحلّقون في دعوى الحب الإلهي ، وكشف حقائق عالم الوجود كما يدّعونها في منظوماتهم ومنثوراتهم .. ومن الأمثلة القرآنية على ذلك ( بلعم ) الذي أوتي الاسم الأعظم ، وقد وصفه القرآن بأنه أوتي الآيات ،فأسند المولى الإيتاء إلى نفسه فقال :{ آتَيْناهُ } ، ومن ثم جمع ما آتاه فقال : { آیاتُنا }.. وقد روي عن الباقر (علیه السلام) أنه قال : { الْأَصْلُ فِی ذَلِکَ بَلْعَمُ ثُمَّ ضَرَبَهُ اللَّهُ مَثَلًا لِکُلِّ مُؤْثِرٍ هَوَاهُ عَلَی هُدَی اللَّهِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَه } مجمع البیان- ج 2ص499.. ولا غرابة في هذا الأمر ، إذ أن العبد في كل مرحلة هو في شأن ، و( الاستقامة ) في العبودية من جانب العبد ، فرع ( الحصانة ) الربوبية من جانب الرب .. هذه الحصانة التي لو رفعت عن العبد - بجريرة ارتكبها - لهوت به الريح في مكان سحيق .. وليُعلم في هذا المجال أن الحديث عن منازل الكمال وأسرار الطريق ، يتوقف على نوع معرفة

ص: 46

يكتسبها صاحبها ، بالتأمل ، أو الرياضة النفسية ، أو الاكتساب من الغير.. وهذا المقدار من المعرفة النظرية لا دلالة فيها على کمال صاحبها بالضرورة ، فهو علم لا يستلزم الكمال بمجرده .. كما قد يتفق ذلك كثيرا لأرباب العلوم الأخرى كالطب والحكمة ، فتجد الطبيب سقيما، والحكيم يرتكب ما هو أقرب إلى السفه .

99- الأوقات المباركة

إن ( قِصَر ) فترة الحياة الدنيا - قياسا إلى الفترة اللامتناهية - من الحياة العقبي ، يجعل الإنسان ( محدوداً ) في كسبه ، وخاصة أنه يريد بكسبه المحدود تقرير مصيره الأبدي سعادةً أو شقاء ، إذ الدنيا مزرعة الآخرة .. ولهذا منح الرب الكريم بعض الأوقات وبعض الأعمال من البركات والآثار ، ( تعويضا ) لقصر الدنيا بما يُذهل الألباب !!.. فليلة القدر خير من ألف شهر ، وتفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة ، وقضاء حاجة مؤمن أفضل من عتق ألف رقبة لوجه اللّٰه ، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر يعدل صيام الدهر ، إلى غير ذلك من النماذج الكثيرة في روايات ثواب الأعمال .

100- حالة المصلي في المسجد

إن على العبد - عند دخول المسجد - أن يستحضر ( مالكية ) المولى لذلك المكان و ( انتسابه ) إليه كبيت من بيوته ، فيعظم توقیره لذلك المكان ويزداد أنسه به ، إذ الميل إلى المحبوب يستلزم الميل إلى ( متعلقاته ) ومنها الأمكنة المنتسبة إليه .. ويكون لصلاته في ذلك البيت المنتسب للرب تعالى ، وَقْع متميز في نفسه ، فيعظم معها أمله بالإجابة .. كما يحنو بقلبه على المصطفين معه في صفوف الطاعة للّٰه تعالى ، إذ يجمعه بهم جامع التوقير له ، والوقوف بين يديه .. كل هذه المشاعر المباركة وغيرها ، فرع تحقق الحالة الوجدانية التي ذكرناها .. ومن هنا يُعلم السر في مباركة الحق في جمع المصلين في بيوته ، بما لا يخطر على الأذهان ، بل قد وَرَدَ أن الشيطان لا يمنع شيئا من العبادات كمنعه للجماعة ( العروة الوثقی -احكام الجماعة ) .

ص: 47

101- شهوة الشهرة

إن من الشهوات التي تستهوي الخواص من العباد هو حب الشهرة ،فيبذلون لأجلها الكثير ، فضلاً عن إيقاع أنفسهم في موجبات الردى ،وارتكاب ما لا يمكن التكفير عنه .. والحال أن واقع الشهرة ، هو میل الإنسان لانطباع صورته الحسنة في قلوب الآخرين .. فالأجدر به أن يسأل نفسه : أنه ما قيمة ( رضا ) القلوب قياسا إلى رضا رب القلوب ،فضلا عن ذلك ( الاعتبار ) النفسي فيها ؟! وهل ( يمتلك ) هذه الصور الذهنية لتكون جزء من كيانه يلتذ بوجدانها ؟! وهل ( يضمن ) بقاء هذه الصور المحسَّنة في قلوب العامة الذين تتجاذبهم الأهواء ، فلا ضمان لقرارهم ولا ثبات لمواقفهم ؟!.. والحل الجامع هو الالتفات إلى حقيقة فناء ما هو دون الحق ، وبقاء وجه الرب الذي ببقائه يبقى ما هو منتسب إليه ، مصداقا لقوله تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ }

102- موطن المعاني هو القلب

إن الكثير من المعاني التي تستوطن ( القلب ) نحبسها في سجن عالم ( الألفاظ ) .. وكأنّ تلك المعاني تتحقق بإمرار مضامينها على اللسان لقلقة لا تدبر فيها .. فمن هذه المعاني : الاستعاذة ، والشكر ،والاستغفار ، والدعاء ، والرهبة ، وغير ذلك مما ينبغي صدورها من القلب ، تحقيقا لماهيتها الواقعية لا الإدعائية .. فالخوف المستلزم للاستعاذة ، والندم المستلزم للاستغفار ، والخجل المستلزم للشکر ،والافتقار المستلزم للدعاء ، كلها معانٍ ( منقدحة ) في القلب ..والألفاظ إنما تشير إلى هذه المعاني المتحققة في رتبة سابقة أو مقارنة ، فالحق :

إن الكلام لفي الفؤاد وانما***جعل اللسان على الفؤاد دليلا

103- سعة مجال الإستجابة

إن من دواعي ( الانصراف ) عن الدعاء ، هو ( اليأس ) من الاستجابة

ص: 48

في كثير من المواطن .. ولو إعتقد العبد اعتقادا يقينيا بامتداد ساحة حياته ، لتشمل حياة ما بعد الموت إلى الخلود في القيامة ، لرأي أن مجال الاستجابة يستوعب هذه الفترة كلها ، بل إنه أحوج ما يكون للاستجابة في تلك المراحل العصيبة من مواقف القيامة .. ولهذا يتمنی العبد أنه لم تستجب له دعوة واحدة في الدنيا ، ومن هنا ورد في الدعاء : { وَ لَعَلَّ الَّذِی أَبْطَأَ عَنِّی هُوَ خَیْرٌ لِی لِعِلْمِکَ بِعَاقِبَهِ الْأُمُورِ }.. إن وعي هذه الأمور يجعل الداعي ( مصرّاً ) في دعائه ، غير مكترث بالاستجابة العاجلة ، يضاف إلى كل ذلك ، تلذذه بنفس الحديث مع رب العالمين ، إذ أذن له في مناجاته ومسألته .

104- اللوامة والأمارة

إن من المعلوم إيداع المولى في نفوس عباده ما يردعهم عن الفاحشة، وهو ما يُعبّر عنه بنداء الفطرة ، أو حكم العقل ، أو النفس اللوامة ..إلا أن ( تراکم ) الذنوب وعدم الاكتراث بتلك النداءات - بل العمل بخلافها - مما ( يُطفئ ) ذلك الوميض الإلهي ، فلا يجد الإنسان بعدها رادعا في باطنه ، بل تنقلبه النفس اللوامة إلى نفس أمّارة بالسوء ، تدعو إلى ارتكاب بوائق الأمور إذ :{ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ }.. ولهذا يستعيذ أمير المؤمنين (علیه السلام) قائلا : {نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ } البحار- ج 41ص 193..( فسبات ) العقل يلازم ( استيقاظ )الأهواء والشهوات ، إلى درجة يموت معه العقل بعد السبات .

105- الجن والشياطين

اعتاد البعض على الخوف من قضايا الجن ، وإيذائهم لبني آدم مع ما ينسجونه في هذا المجال من أنواع الخيال والأساطير .. والأجدر بهم أن ينتابهم الخوف من حقيقة أشد ملامسة لواقع البشر ، وأخطر على مسيرته وهي قضية إبليس .. فانه قد أقسم على إغواء البشر بشتى صنوفه ،لا يستثنى منهم أحدا إلا عباد اللّٰه المخلصين .. وهذا الخوف من الخوف ( المحمود ) بخلاف الخوف الأول ، لما يستلزمه من الحذر لئلا

ص: 49

يقع في حباله .. والمشكلة في هذا العدو أنه لا يترك الإنسان حتى لو ترکه ، وكفّ عن عداوته ، بل يزداد ( التصاقا ) بالعبد كلما ( أهمله )او داهنه .

106- الرفق بالمبتدئين

إن نفوس المبتدئين في عالم تکامل ( الأرواح ) ، بمثابة نفوس الناشئة في عالم تکامل ( الأبدان ) الذين لا يجدي معهم أساليب القهر والتعسف.. بل لابد من ( الرّفق ) بهم أولا ، وإتّباع ( المرحلية ) في تربيتهم ثانيا ، والدخول إليهم من المداخل ( المحبّبة ) إليهم ثالثاً .. وهكذا الأمر في النفوس ، فإنها جموحة غير سلسة القياد ، فلا نكلفها فوق طاقتها ، إذ ورد في الحديث الشريف : {إِنَّ هَذَا اَلدِّینَ مَتِینٌ فَأَوْغِلْ فِیهِ بِرِفْقٍ}.. ولا نكلفها المراحل العليا ، إلا بعد استيفاء المراحل قبلها ، وينبغي( التحايل )عليها فنعطيها اليسير من الحلال ، لتمكّننا في الكثير من الطاعة ، ونرفع عنها كلفة النوافل عند الإدبار ، لئلا تدبر عند الفرائض ، ونرغّبها في العظيم من اللذائذ الآجلة ، لتزهد في المهالك من اللذائذ العاجلة .. وقد ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال : { خادِعْ نفْسَکَ فِی العِبادَهِ وارْفَقْ بِها ، ولا تَقْهَرها وخُذْ عَفْوَها ونَشاطَها إلاَّ ما کانَ مکتوبا علَیْکَ مِنَ الفرِیضَهِ ، فإنَّه لا بُدَّ مِن قَضائِها }البحار-ج33ص508.

107- النمو المتصل والمنفصل

للإنسان نوعان من النمو ، الأول : وهو النمو في نطاق ذاته - وما به قوام إنسانيته - كالنمو في الجانب العلمي والعملي ، وهو النمو ( المتصل ).. والثاني : وهو النمو خارج دائرة ذاته كالنماء في ماله وما شاكله من متاع الدنيا ، وهو النمو ( المنفصل ) .. هذه الزيادات الخارجة عن دائرة ذاته ، لا تعطيه قيمة ( ذاتيّة ) توجب له الترفع على الذوات الأخرى ،فالذات الواجدة والفاقدة - لما هو خارج عن دائرة الذات - تكونان على حد سواء .. فلا تفاضل بين ذات الواجد والفاقد للمال والجاه وغيرهما

ص: 50

، إلا بالنمو الذاتي الذي أشرنا إليه أولاً ، وأما التفاضل الاعتباري فلا وزن له .. وتتجلى هذه الحقيقة المرّة عند الموت ، حيث يتعرى الإنسان من كل هذه الزيادات المنفصلة الخادعة ، فيقول الحق محذرا : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ }.

108- النسبية فيما يعني

يلزم الالتفات إلى ( النسبية ) في قضية ما يعني وما لايعني .. فإن الأمر قد يكون الدخول فيه نافعاً بالنسبة إلى فرد دون آخر ، وعليه فلا يكتفي العبد - في مقام العبودية - بالنفع العام أو النفع الخاص للآخرين ، بل لابد من ملاحظة النفع الخاص بالنسبة إليه ، وهو ما يعنيه بالخصوص .. فالذي يخوض في الخلافات بين العباد - من دون وجود تأثير في خوضه لا علماً ولا عملاً - لهو من الخائضين في الباطل ، وتترتب عليه الآثار من (قساوة ) القلب ، و ( زلل ) القول والفعل ، مما يكون العاقل في غنىً عنه .. وقس عليه باقي موارد النسبية فيما لا يعني العبد .

109- الجو الجماعي للطاعة

عندما يقع العبد في الأجواء العبادية المحفزة - لوجود الجو الجماعي- كالحج وشهر رمضان ، يجد في نفسه قدرة ( مضاعفة ) على العبادة ، لم يعهدها من نفسه ، بل لم يتوقعها منها .. وهذا بدوره يدل على وجود طاقات ( كامنة ) في نفسه ، لم يستخرجها بل لم يود إخراجها ، مما يشكل حجة على العبد يوم القيامة ، توجب له الحسرة الدائمة .. وعليه فلابد من ( استغلال ) ساعات هطول الغيث الإلهي ، ليستفيد منها في ساعات الجدب ، فيكون كمن زرع بذرة ونمّاها في مشتله ، ثم إذا اشتد عودها زرعها في مزرعته ، ليجني ثمارها ولو بعد حين .. فتلك الأجواء العبادية المحفزة ، بمثابة المشتل الذي يزرع فيه الإنسان بذور الخير ، ليستنبتها عند العودة إلى بيئته التي تتلاشى فيها تلك الأجواء المقدسة .

ص: 51

110- إدامة حالة الرقة

قد تنتاب الإنسان ساعة إقبال وهو في حالة معينة : من قيام أو قعود أو خلوة .. فيُستحسن ( البقاء ) في تلك الهيئة الخاصة لئلا ( يرتفع ) حضوره و إقباله .. وذلك كمن أدركته الرقة وهو في حال القنوت ،فعليه الإطالة في تلك الحالة ، لئلا تزول في الركوع مثلا .. أو كمن أقبل على ربه في المسجد ، فعليه ألاّ يستعجل الخروج ، حذراً من زوال تلك الحالة ، أو كمن كان له أنس في ( خلوة ) ، فعليه ألا يسارع في الانتقال إلى جلوات الآخرين .

111- الذكر في الغافلين

يتأكد على العبد ( الإكثار ) من ذكر اللّٰه تعالى في البقاع التي لا ( يتعارف ) فيها ذكره كبلاد الكفر ، أو مواطن المعصية ، أو مواطن الغفلة كالأسواق ، أو مجالس البطالين فقد ورد : { أَکْثِرُوا ذِکْرَ اَللَّهِ إِذَا دَخَلْتُمُ اَلْأَسْوَاقَ عِنْدَ اِشْتِغَالِ اَلنَّاسِ } البحار-ج93 ص 154 .. فإن في الذكر عند الغافلين - من عطاء الحق ومباركته - ما ليس في الذكر عند الذاکرین ، وقد وُصف في الأخبار بأنه كالمقاتل بين الهاربين .. ومِثْل هذا العبد ممن يُباهَي به الملائكة ، لأنه كان في ( مظان ) الغفلة وخرج عنها بإرادته ، منتصراً على دواعي الغفلة .. وقد ورد في الخبر{ ما مِن مَجلِسٍ یَجتَمِعُ فیهِ أبرارٌ وفُجّارٌ ، فَیَقومونَ عَلی غَیرِ ذِکرِ اللّهِ عز و جل ، إلّا کانَ حَسرَهً عَلَیهِم یَومَ القِیامَهِ} البحار-ج 75 ص 468.

112- الدعاء المناسب للحالة

إن أدعية الأئمة (علیه السلام) - ومنها المناجاة الخمسة عشر - تتناسب مع الحالات المختلفة للعبد .. فينبغي اختيار الدعاء المناسب لتلك الحالة الخاصة ، وهذا بدوره يحتاج إلى تذوّق خاص لكلماتهم يحصل بالممارسة ..فحالة ( المقصّر ) يناسبها دعاء التائبين أو الشاكين ، وحالة ( المنبسط ) في الطاعة يناسبها دعاء المحبين أو المريدين ، وحالة ( الوَجِل ) يناسبها دعاء الخائفين أو الراجين ، وحالة ( المستغرق ) في

ص: 52

النعم يناسبها دعاء الشاكرين ، وهكذا الأمر في باقي الأدعية .. وعليه فإنه من المناسب استقراء أدعيتهم - وخاصة في المناجاة - لاستخلاص ما يناسب الحالة الموافقة لها .

113- التزاحم في الواجب والمستحب

إن قانون التزاحم سار في المستحبات والواجبات معاً .. فكم من مستحب يمارسه العبد ينبغي ترکه ، نظراً لمزاحمته لمستحب أهم .. ولو التفت العبد إلى هذه القاعدة ، لأعاد النظر في تقييم الواجبات والمستحبات المتزاحمة .. ومثال ذلك : ( الذّكر ) باللسان تاركاً ( الاستماع ) لموعظة قد تغير مجرى حياته ، أو الالتزام ( بالصمت ) تاركا إدخال( سرور ) على قلب جليس مؤمن أو تفريج كربة عنه ، أو الانشغال بالأبعدين تاركاً القيام بحقوق الأقربين .. كل ذلك من صور الخلل بهذا القانون ، ولو استفهم العبد ربه في هذا المجال ، لدلّه على ما هو الأرضي ، إذ من استفهم اللّٰه تعالى يُفهمْه .

114- شكورية الحق

يتجلى في الحج شکورية الحق المتعال ، بما لا يتناسب مع فعل العبد .. إذ هو الذي وعد الزيادة مع الشكر ، ولاشك أن زيادته من الفضل الذي لا حساب له .. فإن عمل إبراهيم وإسماعيل (علیه السلام) وهاجر مهما بدا عظيما ، إلا أنه فعل ( تصرّم ) في وقته ، بل إن بعضه كان في مرحلة العزم ولم يتحقق خارجا کذبح إسماعيل ، ومع ذلك خُلِّدت آثار أعمالهم كما نلاحظها في السعي والهرولة تخليداً ( لبحث ) هاجر عن الماء ، والمقام تخليداً ( لبنائهم ) للكعبة ، ورمي الجمرات تخليداً ( المجاهدتهم ) للشيطان ، وبئر زمزم تخليداً ( لتحملّهم ) العطش في مرضاته ، ومسجد الخيف تخليداً ( لامتثال ) إبراهيم أمر الحق في إسماعيل ، والحجْر تخليداً ( لمضاجعهم ) المباركة بجوار بيته الحرام .

115- الحسرة على الخيرات

قد يتحسر بعضهم - وخاصة من الذين لا يملكون القدرة على

ص: 53

تحقيق الخيرات المحسوسة كالقناطر والمساجد - على حرمانهم مثل هذا التوفيق .. ولكنه يمكن إزالة هذه الحسرة، وذلك بالإلتفات إلى أن العبد - بفضله تعالى - يُؤجر على ( نيّته ) إذا كان حقا صادقاً في نیته ، فإن أمير المؤمنين (علیه السلام) يعدّ من كان هواه معه في الحرب كمن شهِد معه الحرب ، قائلاً : {فَقَدْ شَهِدنَا، وَلَقَدْ شَهِدَنَا في عَسْكَرِنَا هذَا أَقْوَامٌ في أَصْلاَبِ الرِّجَالِ، وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ، سَيَرْعُفُ بِهِمُ الزَّمَانُ ويَقْوَى بِهِمُ الْإيمَانُ} البحار-ج100ص96.. وقد خلّد الحق ذكر الذين تولوا من عند النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) وأعينهم تفيض من الدمع حَزَنا ، إذ لم يجد ما يحملهم إلى الجهاد ، وقد قيل أن البكّائين طلبوا نعلا يلبسونها .. وليُعلم أخيراً أن العمدة في الجزاء هو ( القلب السليم ) المتنزه عن كل آفات القلوب ،واكتسابه مما لا يحتاج إلى مال ولا متاع .. فأين القلب السليم الذي هو( عرش الرحمن ) ، من البناء الذي هو مظهر من مظاهر العمران ؟!.

116- السفر الهادف

إن في السفر مجالاً خصباً للتدبر وتقويم مسيرة العبد وتقييمها ،وذلك لما فيه من ( الانقطاع عن البيئة المألوفة ، و ( الخروج ) عن أسر القيود المتعارفة ، أضف إلى ( الراحة ) النفسية التي يوفّرها السفر ، وبالتالي سكون النفس إلى ما ينبغي العيش فيد ، من المعاني التي لا يمكن استحضارها في زحمة الحياة .. وهذه الراحة بدورها عامل مساعد الانطلاقة النفس بشكل أيسر وأسهل في استكشاف أغوارها ، ونقاط ضعفها ، بدلا من التفرج على مظاهر العمران في البلاد فحسب .. فإن الأمر بالسير في الأرض ، قد تعقّبه الأمر بالنظر في العواقب ، إذ قال سبحانه : { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ }..ومن المعلوم أن المرء يكتشف قدر نفسه والآخرين ، في السفر والجوار والمعاملة .

ص: 54

117- حب التوابين

إن ( الاشمئزاز ) الذي ينتاب العبد بعد المعصية ، قد يكون - في بعض الحالات - من دواعي ( القرب ) من الحق المتعال .. ومن هنا كان الحق يحب التوابين ، وهو الملفت حقا في هذا المجال ، إذ قد علمنا أن الحب إنما هو للمطيعين ، فكيف صار للتوابين ؟! ، وخاصة مع ما يوحيه هذا التعبير من تكرر وقوع ما يوجب التوبة ، إذ التّواب هو كثير الرجوع عما ينبغي الرجوع عنه .. ومن هنا نجد حالات ( الطفرة) في القرب عند بعض ذوي المعاصي ، الذين هجروا السيئات إلى الحسنات هجرة لا عودة فيها .. والتاريخ يروي قصص الكثيرين منهم ،مما يبعث الأمل في القلوب اليائسة .

118- طلب الكمال الأعلى

ورد في الدعاء بعد زيارة الإمام الهادي (علیه السلام) : { وَصَفِّنِي وَاصْطَفِنِي وَخَلِّصْنِي وَاسْتَخْلِصْنِي وَاصْنَعْنِي وَاصْطَنِعْنِي } مشيرا إلى مرحلة الاصطفاء والاستخلاص والاصطناع ، وهي من المراحل ( العالية ) من مدارج التكامل التي منحت لأمثال موسی (علیه السلام) .. ولا ينافي ذلك أن يطلب العبد شيئا من هذه الدرجات العالية ، ولو بمستوياتها ( الدانية )المتيسرة لغير المعصومين (علیهم السلام) .. وإن من الملفت في هذا المجال ذكر الاصطفاء بعد الصفاء ، والاستخلاص بعد الخلاص أو الخلوص ، والاصطناع بعد الصنع .

119- الفزع إلى الصلاة

إن من الصور الجميلة للعبودية أن يفزع العبد إلى الصلاة المستحبة ،كلما ( دهمه ) أمر ، أو ( انتابته ) نائبة ، أو كلما أحس ( بميل )للمثول بين يديه تبارك وتعال حبا لا طمعا .. بل قد يصل الأمر -عند من توغل في رتب العبودية - إلى درجة ( الالتذاذ ) الواقعي بخصوص الصلاة ، بحيث تذهله عن حوائجه التي ربما صلي من أجلها

ص: 55

، بل عن البيئة المحيطة به ، لما فيها من المعراجية التي تنقل العبد من مرحلة التثاقل إلى الأرض - بما فيها من اضطراب وتشويش - إلى الآفاق الواسعة ، التي لا يكدرها شئ من أكدار أهل الأرض .

120- المعصومون من شؤون الحق

إن النبي والأئمة المعصومين (علیهم السلام) من شؤون الحق المتعال ، فالتوجه إليهم بالصلوات والزيارة والتوسل وغيره ، مدعاة للقرب من الحق لما فيه من التوقير لشأن من شؤونه تعالى .. فالأمر يعود إليه تبارك وتعالى - بدء وختاماً - من دون أن يكون في ذلك أيّة صورة من صور الشرك الذي قد يظنه الجاهل .. فالعبد كلما زاد تعظيمه ( لشؤون ) الحق ، كلما زاد تعظيمه ( للحق ) نفسه .. ولهذا لا يتأذى الأب من زيادة تعظيم الآخرين لابنه ، إذا علم أن ذلك لبنوّته ، وفي طول التعظيم لنفسه .. وقد ورد عن الصادق (علیه السلام) : { أَنَّ لَنَا رَبّاً یَکْلَؤُنَا بِاللَّیْلِ وَ النَّهَارِ نَعْبُدُهُ .. قُولُوا فِینَا مَا شِئْتُمْ وَ اجْعَلُونَا مَخْلُوقِینَ }البحار ج 25ص289.. ومن الواضح أن المراد ( بقولوا ) ، هو القول الحق الذي لا يصطدم مع أي أصل من الأصول الثابتة .

121- منبهية البلاء

إن من الواضح أن بعض البلاءات ، فيها خاصية ( التّنبيه ) على الواقع المنحرف الذي يعيشه المؤمن ، كحالة عامة ، أو كذنب محدد ..فالمطلوب - قبل التبرم من البلاء والدعاء لرفعه - هو ( التفكير ) في الذنوب المحتملة التي أوجبت ذلك البلاء ، ومن ثم ( الاستغفار ) منها ،ولا يكون همّه التخلص من ذلك البلاء طلبا للراحة فحسب .. وإن من المعلوم أن أثر الذنب قد يتجاوز الفرد ، من قساوة القلب إلى موت الفجأة وغيره ، ليشمل الطبيعة ، كمنع قطر السماء ، وجدب الأرض ،وإفساد الهواء .. وقد نصّت الروايات على سلسلة من الذنوب الموجبة العقوبات مرتبطة بتلك الذنوب ، يحسن بالعبد مراجعتها ، ليحترز من

ص: 56

موجبات العقوبة قبل التورط فيها .

122- قوام الإنسانية

إن قوام إنسانية الإنسان إنما هو بجهازي الفكر والقلب ، إذ بالأول( يستحضر ) الصور ، ويرتب القضايا الموجبة للتصديق أو الإنكار ،وبالثاني ( يتوجّه ) ميلا أو نفورا تجاه الملائم والنافر .. فلا بد من السائر إلى الحق أن يتحكّم في هذين الجهازين ، وذلك بالذكر الكثير -إن لم يكن الغالب - فيستوعب أركان (فكره ) ، وبالحب الشديد فيستوعب أركان ( قلبه ) .. ومن دون السيطرة على هذين الجهازين ،لا يكاد يستقيم له سير في هذه الحياة .

123- لوازم الهبات الروحية

طالما يتمنى العبد بعض الهبات الروحية المتميزة : كالانقطاع إلى الحق، أو الحب المتيّم ، أو بعض الكرامات المبذولة للسالكين ، ولايجد استجابة مع الإصرار الشديد على ما يريد .. والسبب في ذلك عدم قدرة العبد على الالتزام ( بلوازم ) هذه الحالات ، إذ أن الإعراض عن الحق بعد الإقبال الشديد ، يعرّض العبد لعقوبات قاسية ، كما هدد الحق به الحواريين ، عندما طلبوا كرامة المائدة السماوية فقال : {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ }،فتزوی عن العبد هذه الدرجات رأفة به ، لعدم ( قابلية )العبد لتلقي تلك الدرجات العالية ، لا بخلا من جهة ( فيّاضية ) الرب .

124- الوحشة الشديدة

لو استشعر الإنسان حقيقة الوحدة التي يعيشها ، لانتابه شعور بالوحشة شديد .. فقد كان ( وحيداً ) قبل نفث الروح في الأبدان ،وسيكون ( وحيداً ) في برزخه إلى يوم يبعثون ، ويأتي ربه ( وحيداً )كما خلقه أول مرة ، وهو ( وحيد ) في الدنيا في ساعات نومه وكثيرمن ساعات يقظته .. فتبقى الساعات التي يعاشر فيها الخلق ، وهي

ص: 57

ساعة لقاء الأبدان بالأبدان بحواسها المادية ، فلم تمتزج الأرواح بالأرواح لترتفع الوحدة حقيقة .. وعليه فإن الوحدة لا ترتفع إلا عند الارتياح إلى مرّوح الأرواح ، إذ: { بِكَ إِلى لَذِيذِ مُناجاتِكَ وَصَلُوا }

125- خلّاقية الحق

إن من الممكن تقريب كيفية تصريف الحق لعالم الوجود الواقع بين( الكاف والنون ) ، وذلك بالنظر إلى قدرة الأذهان في ابتداع الصورالعظيمة -كملء الوجود ذهباً - بمجرد الإرادة والتخيّل .. فإن هذه الإرادة الخلاّقة تتساوى عندها الصور العظيمة والحقيرة .. ومن هذا التشبيه أيضا علم أن الجزاء (الاستحقاقي ) و ( التفضّلي ) من جهة القدرة عند الحق المتعال على حد سواء .. وبذلك يرتفع الاندهاش من الثواب العظيم على العمل القليل ، وذلك لانتفاء الكلفة والمؤونة - في كل صور الجزاء - عند الحق المتعال .

126- داعي الذكر الدائم

إن من دواعي الالتزام بالذكر الدائم أموراً ، الأول منها : هو الالتفات التفصيلي إلى ( مراقبة ) الحق لعبده دائما ، فكيف يحق للعبد الإعراض عمن لا يغفل عنه طرفة عين ؟! .. الثاني : وهو الالتفات إلى ( افتقار )العبد الموجب للولع بذكر الحق تعالی استنزالاً لرحمته .. الثالث : وهوالالتفات إلى عظمة ( الجزاء ) الذي وعد به الحق نفسه - ولا خُلْف لوعده - وذلك من خلال التدبر في قوله تعالى : { اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ }.. فإن آثار ذكر الحق للعبد مما لايمكن إدراكه ، لاتساع دائرة تلك الآثار لتشمل الدنيا والآخرة بما ليس في الحسبان ، وقد ورد في الحديث القدسي كما ذكره الإمام الصادق (علیه السلام) بقوله : { أوحَى اللّهُ إلى نبىٍّ مِنَ الأنبياءِ: إذا اطعتُ رَضيتُ، وإذا رَضيتُ بارَكتُ، و لَيسَ لِبَرَكَتى نَهايةٌ؛ و إذا عُصيتُ غَضِبتُ، وإذا غَضِبتُ لَعَنتُ، ولعنتى تَبلُغُ السابِعَ مِن

ص: 58

الوَرى} البحار- ج 14 ص 459 ..إذ كيف يحيط العبد - علماً - بكيفية ذكر اللّٰه تعالى له ، وهو المالك للأسباب جميعا ؟!.

127- الانقطاع بالنوم

إن النوم انقطاع عن الحق تعالى ، وذلك لانتفاء الذكر بكل صوره ،سواء بالقلب أو باللسان ، ولهذا يَدَع الرجل - كما روي - فقيراً يوم القيامة .. ولهذا لا يحسن النوم إلا عند الحاجة إليه ، وبالمقدار الذي به قوام البدن ، كما لم يحسن التقلب في الفراش الذي هو حرمان الفوائد النوم واليقظة معا .. وقد سأل موسی (علیه السلام) ربه عن أبغض الخلق إليه ،فأوحى إليه : { جِيفَةٌ بِاللَّيْلِ بَطَّالٌ بِالنَّهَارِ } البحار-ج13ص 354 ..ومن هنا كثرت الأدعية الواردة قبل النوم ، لتُذكّر العبد بحقيقة أن هذه العملية الشبيهة ( بالموت ) ، إنما هي وسيلة لاستعادة ( نشاط ) الحياة من أجل عبودية أفضل .

128- الانبهار والتفاعل

تنتاب الإنسان حالة من الإعجاب عند رؤيته لمشاهد من دقة الصنع في الخلق ، وينتهي الأمر عند هذا الحد ، والمطلوب من العبد تجاوز حالة الانبهار الذهني من ( دقّة ) المخلوق ، إلى حالة التفاعل النفسي مع ( عظمة ) الخالق .. هذا التفاعل بدوره يُفيض على الإنسان حالة من ( الاطمئنان ) في حاضره ومستقبل أموره ، لما يرى من أن نواصي الخلق طراً بيد ذلك المدبر للكون المترامي الأطراف .. ومن ( الخشوع )لما يرى من أن من يقف بين يديه ، هو صاحب هذا الملك الواسع المتقن .

129- تحريك إرادة الحق

قد يتعجب المؤمن من قضاء المولى لحوائجه العظام بطلب يسير منه، يتمثل بدعاء قصير يتوجه به إليه - وقد يخلو من إصرار وتأكيد -والحال أنه لاعجب في ذلك ، فيما لو التفت العبد إلى أن الدعاء وإن

ص: 59

كان ( صادرا ) من العبد ، إلا أنه مؤثر في ( تحريك ) إرادة المولى لتحقيق حاجته .. ومن المعلوم أنه إذا تحركت إرادة المولى لتحقيق الحاجة ، فإنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء .. فالعَجَب إنما هو في نسبة دعاء العبد إلى حاجته ، لا في نسبة إرادة المولى إلى مراده ، إذ يستحيل تخلّف مراد الحق عن إرادته ، فهي مستجيبة لمشيئته ومسرعة إلى إرادته .

130- البعد بعد الامتلاء

إن العبد يحس بحالة من ( الُبعد ) الواضح عن الحق عند ( امتلائه ) بالطعام والشراب ، فلا يكاد يجد إقبالا على الحق - في تلك الحالة -للتثاقل الطبعي الذي يسببه الامتلاء .. فقد روي أنه : { مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً أَشَرَّ مِنْ بَطْنِهِ } .. أضف إلى أن العبد يحمل في جوفه ( أداة )الجريمة ، وهو الزائد من الطعام ، الذي تصرف فيه بلا إذن من مالكه، بل مع نهيه عنه ، إذ هو القائل : { كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا } ،فكيف يستجاب دعاء عبد متلبس بأداة من أدوات الجريمة ، وإن عفا عنه من أجرم بحقه ؟!.

131- الفرص النادرة

لاشك في وجود بقاع مقدسة ، وأزمنة مباركة ، يحب المولى أن يُدعى فيها .. فعلى العبد أن ( يتحين ) تلك الفرص ، بمعرفة مناسبات الشهور قبل قدومها ، وفضل البقاع قبل الذهاب إليها ،وذلك بمراجعة كتب الأدعية كمؤلفات السيد ابن طاووس (قده) وغيره ،فلطالما تفوت الفرص النادرة ، والعبد في غفلة عنها .. ولعل الغفلة عن وظائف العبودية في تلك المناسبات من صور الخذلان ، وذلك لتراكم ( الذنوب ) من دون استغفار ، أو ( للإعراض ) الاختياري عن تلك المناسبات .. ومن المعلوم أن الحرمان من الأرباح العظيمة خسارة عظيمة ، لمن تعقّل حقيقة الربح والخسارة .

ص: 60

132- الطائع والتائب

قد ورد أن ( التائب ) من الذنب كمن لا ذنب له ، لكن ذلك لا يعني المساواة في جميع الجهات لمن ( لم يذنب ) أصلا مع التعرض لمثيرات الذنوب ، وخاصة بعد طول مجاهدة في عدم الوقوع في منزلقاتها ..وعليه فلابد من التفات العبد إلى أن بعض الدرجات ( التفضّلية )،قد يُحرمها العبد بعد ممارسة الذنب وان قبلت توبته .

133- ساعات القوة والضعف

قد يتعرض العبد للمغريات - في ساعة قوته - فيتجاوز المخاطر بسلام ، فيظن أن تلك الاستقامة قوة ( ثابتة ) في نفسه ، وحالة مطردة في حياته .. وبالتالي قد ( يتهاون ) في ساعة ضعفه - التي يمر بها كل فرد - فيقترب من حدود الحرام ، واقعا في شباك الشيطان الذي ينتقم منه ، ليصادر نجاحه الأول .. وقد ورد : { أنّ من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه }.

134- عمدة الشهوات

إن عمدة الشهوات التي تكتنف الرجال - وخاصة في مقتبل العمر -هي شهوة النساء ، بل قد روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال : { ماتلذّذ النّاس فی الدّنیا والآخره بلذّه أکثر لهم من لذّه النّساء } الميزان ج3ص118.. ومن هنا حدّد الشارع الحدود الصارمة في علاقته معهن ،بما يوجب السيطرة على الحواس الخمس .. فأمره بغض ( البصر )،ومنعه من التلذذ ( بالسمع ) والقول ، ومن ( المصافحة ) والخلوة ،ومن ( الجلوس ) في موضع يحس بحرارة بدنها وغير ذلك من القيود.. ومجمل مذاق الشارع - في هذا المجال - يفهم من قوله تعالى :{ إِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} و {وَلا یَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَیَطْمَعَ الَّذِی فِی قَلْبِهِ مَرَضٌ } و { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ } و { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ

ص: 61

أَبْصَارِهِمْ } و {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى }.. وعليه فلا يحتاج العبد في الفتن المستحدثة إلى نص بالخصوص ، بعد إطلاعه على التوجه العام المفهوم من النصوص السابقة .

135- ساعات الذهول

إن من أصعب الساعات التي تمر على المرء ، هي تلك الساعة التي لا يجد عندها - في نفسه - خيرا ولا شرا .. بل يجدها في حالة من الشرود والذهول ، مما يجعل الساعات تمر على العبد ، من دون أن يحصد فيها خيرا لدنياه أو لآخرته .. فمن الجدير بالعبد تجنب هذه الساعات بتجنب مناشئها ومنها : ( اللاّهدفية ) في الحياة ، و( الانشغال ) المستغرق بلهو القول والفعل ، وعدم حمل ( طموحات )كبرى في الحياة ، و ( انتفاء ) النظم في أمر المعيشة والمعاد .. فالواجب على العاقل هو الخروج من هذا العبث الهادر للعمر ، وذلك ( بالتفكير )في محدودية عمر الإنسان ، وعدم قبول دعوته للرجوع إلى الدنيا لتدارك الفائت بالعمل الصالح ، و ( استحضار ) المعيّة الإلهية المتحققة من جانب الرب تعالى - وان لم يستحضرها العبد - وهي التي تدعوه إلى الانشغال بما يُرضي الحق في كل مرحلة من مراحل حياته ، توقيراً لتلك المعيّة المستلزمة للمراقبة الدقيقة .

136- المتفرج على الأحداث

يصل العبد - بعد اجتياز مرحلة التفويض ، وایکال الأمر لمدبر الأمور - إلى درجة يرى نفسه فيها ( كالمتفرّج ) لسير الأحداث المرسومة بيد الحكيم .. فلا يهش فرحا للمفرح منها ، كما لا يأسي على المحزن منها ، وذلك لأنه لا يرى نفسه معنيّا بالأمر اكثر مما أمر به ، فهو يسعى بما هو لازم فعل العبد وهو (التدبير ) ، ويوكل الأمر بعد ذلك إلى ما هو لازم فعل المولى وهو ( التقدير ) ، والعبد يريد والمولى يريد ، ولا يكون إلا ما يريده المولى .. وأين رتبة التدبير من

ص: 62

رتبة التقدير ؟! ، فالأولى في رتبة الأسباب ، والثانية في رتبة الأسباب والنتائج معا .. ومن المعلوم أن هذا الإحساس لو تعمّق في نفس العب ، لأوجب له شعورا بالرضا و ( الاطمئنان ) في أشد المراحل تقلبا .. ومن هنا كلما اشتد البلاء على سيد الشهداء (علیه السلام) ، كلما أشرق لونه - كما ورد في المقاتل - لأنه يرى صُنْع اللّٰه تعالى فيه وفي أهل بيته ، وهو لا يكون إلا جميلا ، كما صرحت به أخته (علیهاالسلام) في مجلس الطاغية .

137- الذاكر الغافل

إن مَثَل الذاكر بلسانه مع عدم مواطأة قلبه للذكر باللسان ، كمَثَل من ( يتظاهر ) بالإصغاء إلى جليسه وهو ( شارد ) عنه ، فلو اطلع الجليس على شروده لأعرض عنه ، بل لعاقبه على سوء أدبه معه ..فهذا الذاكر بلسانه ، يجعل نفسه في موضع المتحدث مع الحق ، فلو أعرض بقلبه لكان عمله نوع استهتار و نفاق يستحق معه العتاب ..وعليه فلو أثاب المولى - المطلع على الضمائر - عبده على هذا الذكر المقترن بالشرود والذهول ، لعُدّ ذلك ( تفضّلا ) منه وكرما ، يستحق عليه الشكر المشوب بالخجل ، لعدم قيام العبد بحق العبودية كما يليق بوجهه الكريم .. وقد وصف أمير المؤمنين (علیه السلام) الملائكة - على مكانتهم من الحق وكثرة طاعتهم له - بقوله : { لَوْ عَايَنُوا كُنْهَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ ، لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ ... وَ لَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ ، وَ لَمْ يُطِيعُوكَ حَقَّ طَاعَتِكَ } البحار-ج7ص 200 .

138- لكل ساعة تكليفها

إن للعبد تكليفه ( المستقل ) تجاه مولاه في كل يوم وليلة من حياته ، ومن هنا أحتسب لكل يوم وليلة ربحه وخسارته ، مفصولا عما قبله من الليالي والأيام .. وبذلك لا ( يجبر ) خسارة اليوم الحاضر( بربح ) اليوم الذي سبقه أو يليه ، وتوفيق العبد في يومه ، لا يوجب له الاسترخاء فيما يليه من الأيام ، تعويلا على كسب ذلك اليوم ، كما

ص: 63

نلحظه كثيرا بعد مواسم الطاعة كالحج أو شهر رمضان المبارك ، فيركن العبد إلى ما وُفّق له في تلك المواسم ، والحال أنه مكلف - بعد الموسم- بتكليف جديد .. وعليه فلابد أن يكون العبد حريصا على قطف ثمار اليوم الذي لا يعود إليه أبداً .

139- استيلاء شهوة البطن

إن عملية الأكل - في حد نفسها - مظهر لإحدى الشهوات المودعة في وجود الإنسان ، شأنها شأن باقي الشهوات التي أودعت لحكمة في وجوده .. ولكن العبد يذهل - خلالها بل قبلها وبعدها - عن القيام بوظائف العبودية من المستحبات المأثورة في هذا المجال ، وذلك لاستيلاء هذه الشهوة على وجوده عند تلبّسه بتلك الشهوة .. فترى المجتمعين على الطعام بنهم وحرص - بداعي الشهوة المحضة - كالأكَلَة على فريستها ، وهكذا الأمر في الشهوات الأخرى .. ولعل الحكمة في الآداب الواردة - عند ممارسة شهوة البطن والفرج - هي التخفيف من ( استيلاء) هذه الشهوة على صاحبها ، وتذكيره بالمالك على الإطلاق ، الموجب لاتزان العبد في حركته ، حتى في مجال استيفائه للشهوات التي أبيحت له ، بشرط عدم ( الاسترسال ) المذهل عن حق العبودية .

140- عدم الميل للحرام

إن من الاختبارات الدقيقة الكاشفة عن درجة عبودية العبد ، هو عدم ( میله ) للحرام فضلا عن عدم ( ارتكابه ) له .. فإرادته حبّا وبغضا تابعة لميل المولى وإرادته ، وهذا هو السر في كرامة يوسف الصديق (علیه السلام) على اللّٰه تعالى ، إذ كان السجن أحب إليه مما يدعونه إليه .. وهذه هي المنحة التي يمنحها الحق لعبده بعد مرحلة متقدمة من المجاهدة في العبودية ، إذ يحبّب إليه الإيمان ، ويكرّه إليه الكفر والفسوق والعصيان .. فعندها تخفّ معاناة العبد في رفضه للشهوات ،ليتفرّغ لمراحل أعلى في القرب ، يغلب عليه ( التلذذ ) بدلا من المعاناة

ص: 64

، و ( العطاء ) من الحق ، بدلا من الحرمان من النفس .

141- مراحل الاستيلاء

إن للشيطان مراحل في الاستيلاء على مملكة الإنسان ، الأولى : وهي مرحلة ( الدعوة ) المجردة ، نفثا في الصدور ، وتحريكا للشهوات من خلال أعوانه ، وقد قال تعالى : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}.. فإذا رأى تكررا في الاستجابة ، انتقل إلى المرحلة الثانية : وهي مرحلة ( الولاية ) ، وقد قال سبحانه : { أَوْلِياؤُهُمُ اَلطّاغُوتُ }.. وأخيراً يصل الأمر إلى حيث يفقد العبد سيطرته على نفسه في المرحلة الثالثة : وهي مرحلة ( التحكّم ) المطلق ، إذ { يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ }.

142- القرب بالمصيبة والمراقبة

إن سرعة الوصول إلى الدرجات العالية من التكامل ، يتحقق غالبا إما : بالوقوع في ( المصائب ) - ولو في برهة من الزمن - واما ( بالمراقبة ) الشديدة للحق .. والسبب في ذلك أن العبد لا يستغني عن مدد المولى في كل مراحل سیره ، هذا المدد المتمثل بالرحمة الإلهية تأتي لذوي المصائب ، كما يشعر به قوله تعالى : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ }.. كما تأتي لذوي الذكر الدائم ، كما يشعر به قوله تعالى : { اذکُرُونِی أذکُرْکُم}.. ومما ذكر يعلم خطورة موقف ( الغافل ) و( المعافي ) من البلاء ، فهو أبعد ما يكون من هذه ( الرحمة ) بشقّيها .

143- الإجزاء غير القبول

إن العناوين التي منحها الشارع للصلاة : كالمعراج ، وعمود الدين ،وقربان كل تقي ، لا تنسجم مع واقع صلواتنا - بما فيها من تشاغل عن الحق - إذ أن المأتيّ به لا يسانخ المأمور به أبدا .. ومن هنا لو أتي العبد بكل مقومات ( الإجزاء ) الظاهري من دون تحقيق شيء من تلك العناوين ، لعلم أنه لم يحقق ( المراد ) الواقعي للشارع ، والذي ( تكشف )

ص: 65

عنه العناوين المذكورة .. وعليه فقد يواجه العبد ربه يوم القيامة ، ولم يمتثل له أمرا واحدا بالصلاة كما أرادها الحق منه ، على شدة تأكيده له .

144- علاقة المولوية والحب

إن العلاقة الأولية للعبد مع ربه - وان كان يغلب عليها - علاقة ( المولوّية ) القائمة على الأمر والامتثال ، إلا أنها قد ( تترقی ) بعد اجتياز مرحلة التعبد المحض ، إلى ما هي أرقّ من تلك العلاقة ،فيضاف إلى هذه العلاقة علاقة ( الأنس ) والمجالسة : { یَا خَیْرَ مَنْ خَلاَ بِهِ وَحِیدٌ} ، والجوار : { یَا جَارِیَ اللَّصِیقَ } ، والرفقة : { یا شَفیقُ یا رَفیقُ } ، والخلّة : { وَ اِتَّخَذَ اَللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً } ، والحب الشديد{ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ } .. فإذا كانت علاقة الحق معهم - كذلك- في هذه الحياة الدنيا ، فكيف تتجلى تلك العلاقة في معاملة الحق معهم يوم العرض الأكبر ، إذ يكشف الغطاء ويرفع الحجاب بين العبد وربه ؟! .

145- الأنس تبعا للحق

إن الأنس بالزمان ، أو المكان ، أو الأشخاص ، أو البلاد ، ينبغي أن يكون مرتبطا بمدى تأثير تلك الأمور في قرب العبد من الحق .. فكل عنصر يؤثر تأثيرا إيجابيا في تقريب العبد إلى ربه ، لهو عنصر( محبوب ) في واقعة ، وإن استثقله العبد بحسب میله الذي لا صلة له بالواقع .. ومن هنا قال سبحانه : { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } ، فخير ( البلاد ) ليس ما استوطنه العبد وإنما ما أعان على الطاعة ، وخير ( الأشخاص ) ليس هو الصديق وإنما من يذّكر باللّٰه رؤيته ، وخير ( الأزمان ) ليس هي ساعة التلذذ وإنما ما وقع فيها من طاعة .. إن تحكيم هذا الملاك يغيّر كثيرا من الرغبات داخل النفس ،ومن التصرفات خارجها ، لتغيّر المنطلقات التي ينطلق منها العبد ، في تعامله مع الفرد والزمان والمكان .

ص: 66

146- الوحشة من أولياء الشيطان

لو اعتقد العبد - يقينا - بإحاطة الشياطين ( لقلوب ) الذين يتولونه، و ( لأماكن ) المعصية ، لاشتد وحشته من هؤلاء الأشخاص ولو كانوا اقرب الناس إليه ، ومن الأماكن ولو كانت الف البلاد لديه ، لعلمه أن الاقتراب من تلك الأماكن والقلوب ، إنما هو دخول في حيّز مرمی الشياطين .. ومن هنا يُعلم حذر أهل اللب من أبناء زمانهم ، لأنهم لاينظرون إلى ( ذواتهم ) المجردة ، وإنما إلى من ( يسوقهم ) في حركاتهم وسكناتهم ، من الشيطان والنفس الأمارة بالسوء .

147- معاملة الوصاية لا السيادة

ينبغي أن تكون معاملة الأب مع أبنائه معاملة ( الوصيّ ) مع الموصى عليهم ، لا معاملة ( السّيد ) مع عبيده .. فارتباط البنوّة منشأه ظرفية الأم لنمو الجنين المنعقد من نطفة الأب .. وأين نسبة علقة ( الظرفيةّ ) - وان عظّم الشارع حرمتها خصوصا في الأم - من علقة ( الإيجاد ) المختص بالمبدع المتعال ؟!.. فالمتصرف في شؤون الخلق بدء وختماً ، هو صاحب الولاية على المخلوقين ، فينبغي على العبد العمل بمقتضى رضا المالك ، حتى مع تفويض الولاية المحدودة إليه - في هذه النشأة الدنيا - و ذلك ضمن شروط محددة أيضاً .. والأمر كذلك في علقة الأبوة والزوجية والرقية والوصاية والحكومة والحضانة والكفالة وغير ذلك .

148- تزاوج النفوس والأبدان

إن عملية الزواج كما يصفها القرآن الكريم بقوله : { خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها } ، تزاوج بين النفوس قبل أن يكون تزاوجاً بين الأبدان ، كما يعلم من أثره وهو السكون المرتبط بالنفوس .. والواقع أن كثيرا من الأزواج لا يلتفتون إلى هذه الحقيقة ، ومن هنا يُصَب جُلّ اهتمامهم في عوارض البدن ، من ( الجمال ) و الالتذاذ

ص: 67

البدني وغيره .. ومن المعلوم أن الذي يحقق الأنس هو التزاوج ( النفسي ) الذي لا ينقطع مع تقادم العمر ، خلافا للتزاوج ( البدني ) الذي يفقد بريقه الكاذب في الشهور الأولى منها .. فالقرآن الكريم جعل الغاية هي السكون والمودة والرحمة ، ومن المعلوم أن كل تلك الآثار من برکات تلاقح النفوس ، إذ أن السكون والمودة والرحمة معانٍ مرتبطة بعالم النفوس ، خلافا للمعاشرة والتناسل الذي هو من عوارض الأبدان .

149- کتمان الغضب

إن الغضب من الصفات المتأصلة في النفس .. والسبب في ذلك أن الإنسان موجود ناطق ذو شعور ، لا يرضى بكثير من الأقوال والأفعال، فيكون من الطبيعي إنقداح حالة الغضب في النفس .. فليس الحل هو ( منع ) تحقق هذه الحالة في النفس ، إذ أنها قهرية مترتبة على مواجهة النفس لما ينافر طبعها .. وإنما الحل هو عدم ( تسرية ) هذه الحالة إلى الخارج ، وهو ما يعبر عنه بكظم الغيظ ، فليست المشكلة في أصل وجود الغضب وإنما في عدم كظمه ، وقد روي : { أن مَن كَظَمَ غَيظا مَلَأ اللّه ُ جَوفَهُ إيمانا } البحار-ج69 ص 282 .. وليُعلم أن اصل الغضب قد يكون ما يبرره شرعا ، ولكن المشكلة في الدواعي وراء ذلك، فقد لا يكون الداعي إلهياً ، بل يكون هو ( التشَّفي ) كما يحصل مع من ينبغي تأديبه كالأطفال ، وإن كان التأديب حقاً .. وقد يكون الداعي إلهيا إلا أن صاحبه قد ( يتجاوز ) حدوده الشرعية ، فيغضب اکثر مما غضب اللّٰه تعالی لنفسه .. وليُعلم أيضا أن ( المستعجل ) في إنفاذ غضبه ، كالمستعجل في كسر الجرّة التي لا يمكن جبرها بعد کسرها ، بخلاف المتأني في إنفاذه ، فإن بإمكانه کسر الجرّة متى شاء،كما أن بإمكانه العدول عن قرار کسره .

150- الضيق المجهول

قد تنتاب الإنسان حالة من الضيق المفاجئ ، ولا يعلم لذلك سببا

ص: 68

واضحا .. فالأمر قد يكون بدواعي ( طبعيّة ) كالمرض والإرهاق وغيره، وقد يكون بسبب ( ارتباط ) الأرواح المؤمنة ، فينعكس على الأرواح المتجانسة ، بمقتضى وحدة الجسد الإيماني .. ولا شك أن التأثر ( قلب )عالم الوجود - صاحب العصر (علیه السلام) - تأثيراً بالغاً في تأثر قلوب المحبين ، وهو ما نلحظه بشكل واضح قبيل غروب الجمعة ، لارتباط ذلك اليوم بوجوده الشريف .. فانقضاء ذلك اليوم المتوقع فيه الظهور من دون فرج ، مما يعكس الحزن والكآبة التي قد تمتد آثارها حتى في عالم الطبيعة .

151- مَظهرية المعصوم لصفات الحق

روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) في ذيل قوله تعالى : { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ }: ( إنَّ الله لا یأسف کأسفنا ولکنه خلق اولیاء لنفسه یأسفون ویرضون وهم مخلوقون مربوبون ) الميزان-ج18ص118 ..فالمستفاد من هذا الحديث وغيره من الأحاديث في هذا المجال ، أن المعصوم (علیه السلام) مظهر لحالة الرضا والغضب ، وغير ذلك من الصفات المنتسبة إلى الرب المتعال ، رغم أنه مخلوق مدبَّر كما في الحديث الشريف .. ومن هنا تتأكد أهمية نيل رضا صاحب الأمر (علیه السلام) - وهو الإمام الأهل هذا الزمان - لأن رضاه ( كاشف ) عن رضا الرب بل( ملازم ) له .. وقد وردت عبارة بليغة في زيارة الحسين (علیه السلام) التي أوصى بها الإمام الصادق (علیه السلام) وهي : { إِرادَهُ الرَّبِّ فی مَقادِیرِ أُمُورِهِ تَهْبِطُ إلَیْکُمْ وَتَصْدُرُ مِنْ بُیُوتِکُمْ، } البحار-ج101ص 151.

152- التصرف في الشريعة

إن من التعابير الملفتة في القرآن الكريم بالنسبة إلى النبي الأكرم (صلی اللّه علیه و آله وسلم) هو التهديد بأخذه باليمين ، وقطع الوتين .. والحال أن كرامة النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) عند الحق المتعال ، مما لا يمكن أن يتصوره عامة الخلق ..فهذه الآية وأمثالها تعكس فداحة التصرف في الشريعة ، إذ أن التقوّل على الحق المتعال ، وإدخال ما ليس في شريعته في شريعته ، لمن أعظم

ص: 69

صور التحدي للحق مع ما يستلزمه من تحريف لمسيرة العباد .

153- الأنوار المحدقة بالعرش

ينبغي استذكار حالة ( المنّة ) الإلهية لأهل الأرض ، وذلك ( بإهباط) الأنوار المحدقة بعرشه إلى أرضه .. ومن المعلوم أن هذه الأنوار المستمتعة بجوار الرب ، عانت الكثير من أهل الأرض قتلا وسبيا وتشريدا ، حتى أن النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) يصف نفسه بأنه لم يؤذ أحد مثلما أوذي .. هذا الإحساس يُشعِر صاحبه بالخجل وبالشكر المتواصل ، عندما يقف أمامهم زائرا من قرب أو متوسلا من بعد .. وهذه هي إحدى الروافد التي أعطتهم هذا القرب المتميز من الحق ، لأن ذلك كله كان بأمره وفي سبيل رضاه .

154- ماساة الحسين (ع)

إن المأساة الحسين (علیه السلام) وقعاً متميزاً ، سواء في حياة الأنبياء السلف ، أو بالنسبة إلى خاتم الأنبياء وذريته .. ومقارنة إجمالية بين حالة الإمام(علیه السلام) في يوم عرفة ( بدعائه ) المتميز ، وبين حالته في يوم عاشوراء( بأحداثه ) الثقيلة ، تبين شيئا من عظمة الكارثة ، وكيف أنه عزّ على رب العالمين ، أن يُعَامَل أعرف أهل زمانه باللّٰه عز وجل ، هذه المعاملة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً !!.. ومن هنا كان ( الارتباط ) به من خلال إحياء ذكره ، والتأثر بمصابه ، من أعظم سبل ( نیل ) رضا الرب بما لا يخطر على العقول ، إذ أن عظمة المأساة مما لم تخطر على الأذهان .

155- مبدأ التعويض

إن مبدأ التعويض سار حتى في معاملة الحق للمعصومین (علیهم السلام) ..فقد عُوّض الحسين (علیه السلام) بقتله : أن جُعل الشفاء في تربته ، والإجابة تحت قبته ، والأئمة من نسله .. ومن المعلوم أن الاعتقاد بمبدأ التعويض يخفف على العبد معاناة فقدان بعض النعم .. ولا شك أن عظمة

ص: 70

التعويض متناسبة مع شدة البلاء ، فالمتيقّن بمبدأ ( التعويض ) من الحكيم القدير ، تطيب نفسه ( بسلب ) المعوَّض ما دام العوض عظيما .

156- انتظار الفرج

إن انتظار الفرج حقيقة ، يلازم الاستعداد النفسي للمشاركة في بسط العدل الشامل عند ظهور الفرج .. وإلا تحوّل الأمر إلى مجرد ( أمنية )في نفس صاحبها - قد يؤجر عليها - ولكنه لايعد ( منتظراً ) ، كما هو الحال في انتظار الضيف الذي له متطلباته .. فالإنسان يتمنى قدوم الضيف منذ برهة ولا يسمی منتظراً له ، إلا - قبيل قدومه - عند توفير تلك المتطلبات .. هذه الحالة تعكسها الفقرة التالية من زيارته(علیه السلام) : { فَلَوْ تَطَاوَلَتِ الدُّهُورُ وَتَمَادَتِ الأعْصَارُ لَمْ أَزْدَدْ فِيكَ إلاّ يَقِيناً وَلَكَ إلاَّ حُبّاً .. فَأَبْذِلُ نَفْسِي وَمَالِي وَوَلَدِي وَأَهْلِي وَجَمِيعَ مَا خَوَّلَنِي رَبِّي بَيْنَ يَدَيْكَ..فَهَا أَنَا ذَا عَبْدُكَ مُتَصَرِّفٌ بَيْنَ أَمْرِكَ وَنَهْيِكَ}

157- سلب المحبة

لاشك في أن محبة أهل البيت (علیهم السلام) وولايتهم من ذرائع النجاة .. وهي قيمة مستقلة في حد نفسها وان لم تقترن بالعمل ، خلافا لمن لا يراها إلا ضمن العمل .. ولكن تراكم الذنوب - وخاصة الكبيرة منها -قد يسلب الحب هذه الجوهرة ، كما حصل للبعض طول التأريخ كالشلمغاني في زمان الغيبة ، الذي خرج التوقيع من الناحية المقدسة بلعنه والبراءة منه وممن يتولاه ورضي بقوله .. ويمكن استفادة هذه الحقيقة من قوله تعالى : { ثثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّوءای أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَ كَانُوا بِها يَستَهزِؤُنَ }.. فالسوء من مقولة ( الفعل ) ،والتكذيب يعود إلى الموقف ( الإعتقادي ) والنفسي لهؤلاء المكذّبين .

158- حقيقة الزيارة

إن زيارة المعصوم (علیه السلام) تعني - حقيقة - وجدان الزائر نفسه بين يدي

ص: 71

المزور .. فيراعي أدب المكان ، ويستحضر حالة الخطاب ، كما لو كان مع الحي بمقتضى القول : { أشهَدُ أنَّکَ تَسمَعُ کَلامی وتردُّ سَلامی }..ولو خَلِيت الزيارة من هذه الحقائق ، لكانت الزيارة زيارة ( البدن لحرم المعصوم ) ، لازيارة ( الحب لنفس المعصوم ) ، ومن المعلوم أن الآثار الكاملة للزيارة مترتبة على الثاني دون الأول .. وهذا هو السر في أن بعض زيارات المعصومين (علیهم السلام) ، لا تستتبع تحوّلاً جوهرياً في سلوك العبد ، وذلك لانتفاء المواجهة المتفاعلة وإن حصل الأجر الأخروي .

159- إشراف المعصوم

إن استشراف المعصومين (علیهم السلام) لعالم الشهود - مع كونهم في عالم الغيب - مما لا ينكر عقلا ونصا .. فالأول ( بمقتضى ) حياتهم المستمرة بعد الممات الظاهري ، مع الاحتفاظ بجميع ملكاتهم ، ومنها مظهريتهم لوصف الرب المتعال .. واما الثاني ( فكالنص ) الصحيح الوارد في المنع عن الجمع بين فاطميتين ، معللا بأن ذلك يبلغ الزهراء(علیهاالسلام) فيشقّ عليها ذلك ، ثم يحلف الإمام (علیه السلام) بقوله : إي واللّٰه ، عند تعجب الراوي ( البحار - ج 401ص 72 ) .. فلو تحقق مثل هذا الإشراف -من قِبَلهم - بالنسبة إلى أحد من أوليائهم ، لكان ذلك بمثابة ( تبنّي )اليتيم الذي لو ترك وشأنه ، لهوى مع الهاوين .. وقد ورد عنهم ما يؤيد هذا المعنى بشقّيه : {إذا أخَذَ النّاسُ یَمیناً وشِمالاً فَالزَم طریقَتَنا فَإِنَّهُ مَن لَزِمَنا لَزِمناهُ ومَن فارَقَنا فارَقناه } البحار - ج 2 ص 115 .

160- توقير الذرية

إن ذرية الرسول (صلی اللّه علیه و آله وسلم) هم التركة المحسوسة والحيّة فينا .. ومن هنا كان توقيرهم توقيرا لأجدادهم ، وهو ما يستفاد من الأخبار ، والتزام السلف الصالح به .. وهذه السنة أيضا مطابقة للفطرة وسنة الأمم ، إذ المرء يحفظ في ولده ، وهذا ( التوقير ) من السبل المهمة لجلب( عنايتهم ) ، كما تشهد به الحوادث الكثيرة على مر العصور

ص: 72

161- آثار الأولياء

إن وجود البركة والتأثير في الآثار المنتسبة إلى أولياء اللّٰه تعالى ، مما يؤكده القرآن الكريم أيضاً ، إضافة للسنّة ، والواقع المشهود في حياة الأمم السابقة .. فقد ارتد يعقوب (علیه السلام) بصيرا عندما ألقى البشير( القميص ) على وجهه .. وقد جعل السكينة في التابوت وهو( الصندوق ) الذي وضع فيه موسی (علیه السلام) عند إلقائه في النيل ،ولشرافته حملته الملائكة ، وقد قال الحق تعالى : { يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ}.. بل أن السامري أخذ ( قبضة ) من أثر الرسول ، فكان له من الأثرما كان .. فما المانع من شرافة القبور التي تضم أجداث خواص خلق اللّٰه سبحانه ؟! ، بل إن البركة فيها أوضح ، إذ التابوت حوى بدن نبيّ- لفترة قصيرة - وهو رضيع لم يبلغ الحلم ، خلافا لمضاجعهم الطاهرة التي صارت مختلفاً للملائكة ، صعودا وعروجاً ، كما تشهد به النصوص ، ومركزاً للكرامات الباهرة ، كما تشهد به الوقائع جيلا بعد جيل .

162- إهداء الأعمال للمعصومين

إن من الأمور المناسبة هو الالتزام بإهداء بعض الأعمال للمعصومين(علیهم السلام) ، فإنه محاولة للقيام بشيء من حقوقهم ، ولا شك في أنهم يردّون ( الهدية ) بأضعافها کردّهم ( السّلام ) بأحسن منها ، كما هو مقتضی کرمهم الذي عرف عنهم .. وخاصة إذا قلنا بانتفاعهم بأعمالنا ، كما قيل في أن الصلاة على النبي وآله (صلی اللّه علیه و آله وسلم) يوجب رفع درجاتهم ،بمقتضى الدعاء برفع درجتهم في التشهد وغيره ، وإلا كان الدعاء لغواً .

163- الإرادة الطولية

إذا اعتقدنا أن ( إرادة ) الأئمة للشفاعة وللخارق من الأمور ، إنما هي في ( طول ) إرادة اللّٰه تعالى وبإذن منه ، فلا تبقى أيّة غرابة فيما

ص: 73

روى عنهم ، أو رؤي منهم من أنواع الكرامة .. فالقرآن تارة يسند قبض الأرواح - وهو من مهام الأمور - إلى ( الحق ) نفسه ، فيقول تعالى : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}.. وتارة إلى (مَلَك ) الموت فيقول : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ}.. ومن المعلوم أنه كلما تعاظم قدر الوكيل ، كلما تعاظم قدر الموكِّل نفسه .

164- طلب الحقائق

يغلب على طلبنا من المعصومين (علیهم السلام) الجانب المادي : من شفاء مرض ، أو أداء دَین ، أو ما شابه ذلك .. إذ قلما نتوجه إليهم بطلب ( المعارف )والحقائق فيما يتعلق بمعرفة الرب المتعال وسبل الوصول إليه ، والحال انهم ( أميل ) لقضاء مثل هذه الحوائج التي بعثوا من أجلها ، ولا شك في صلاحها للعبد .. وقصص السلف الصالح تكشف عن نماذج مذهلة ممن اغترف من فيض جودهم ، ففتحت لهم أبواب واسعة من المعارف الحقة ، والآيات البيّنة التي جعلتهم يعيشون على نور من ربهم في هذه النشأة ، ليمتد أثره حتى بعد انتقالهم من هذه النشأة الدنيا ، بل ليسعي بين أيديهم في النشأة الأخرة .

165- شکر نعمة الولاية

يتوجب على الذين شُرّفوا بشرف الولاية لأئمة الحق (علیهم السلام) ، أن يبالغوا في شكر هذه النعمة ، لأنهم خُصّصوا ( بأشرف ) الأديان و( بالمذهب )القويم .. وهذه نعمة خالدة لا تعادلها نعمة في عالم الوجود ، لخلود هذه النعمة و فناء النعم الأخرى .. وأفضل أنواع الشكر هو ( الإتّباع )، مصداقا لقوله تعالى : { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ } ،و ( العمل ) لقوله تعالى : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا }.

166- أحاديث الرجعة

إن أحاديث الرجعة على - كثرتها - مطابقة لمقتضى الحكمة الإلهية ..فإن من اللطف أن يحقق المولى لوليه آماله التي لم يحققها في حياته

ص: 74

، وخاصة مع ملاحظة قصر حياة بعضهم كالأئمة من نسل الإمام الرضا (علیه السلام) ، إذ لم يدَعَ ولاة الجور فرصة لأداء رسالتهم كما أرادوه ، فكأنهم أرسلوا إلى هذه الحياة المهمة لم تكتمل ، نظراً للظروف التي اكتنفتهم من ظلم الحكام وإعراض الخلق عنهم ، فيكون من الطبيعي إعطاؤهم فرصة أخرى لاستكمال تلك المهمة ، بعد اكتمال قابليات الخلق - بلوغا علميا وعمليا - وذلك عند قيام قائمهم (علیهم السلام) الذي يضع يده على رؤوس العباد فتكمل به احلامهم .

167- الاستئناس بكلمات المعصومين

ينبغي لحملة لواء الإرشاد في كل عصر ، الاستئناس بكلمات المعصومين (علیهم السلام) المتطرّقة لمختلف حقول الحكمة .. فإن الأنس بالنصوص يشكل حاجزا - ببركتهم - من ( الاجتهادات ) المنحرفة ، أو ( المشارب )الباطلة ، أو ( التقوّل ) في الدين بمالم يقم عليه برهان .. أضف إلى أن الغور المتواصل في أحاديثهم ، يفتح أبواب الحكمة الأخرى لتجري من القلب على اللسان ، كما يهب صاحبها ( حسّا) خاصا في تمييزمالم يصح عنهم .

168- الدعوة بالحجج البالغة

من السبل الكبرى لجلب عناياتهم عليهم السلام ، هو ( التصدي ) للدعوة إلى سبيلهم في أي موقع كان صاحبه - وان لم يكن في زي أهل الدعوة والتبليغ - وذلك بذكر محاسن كلماتهم ، واختيار الحجج الواضحة - وما أكثرها - في إثبات عقائدهم المستقاة من نمير الوحي ،والدعوة إلى التمسك بهديهم بالحكمة والموعظة الحسنة ، وخاصة عند ذوي القلوب ( المستعدة ) .. وخاصة أن هناك طبقة من الخلق لا يصل إليها رجال الدين ، فلزم وجود ( الوسيط ) بينهم وبين هذه الطبقة ،إذ بهم تكتمل مهمة دعاة الحق والخير .. وقد خاطب النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) عليا(علیه السلام) بقوله : { لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ عَلَي يَدَيْكَ عَبْداً مِنْ عِبَادِ اللَّهِ خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ مِنْ مَشَارِقِهَا إِلَي مَغَارِبِهَا } البحار-ج1 ص215.

ص: 75

169- إعجاز استمرار خط أهل البيت

إن التأمل النصف في التأريخ ، لا يمكن أن يصف توالي الأئمة من دون ( انقطاع ) في البين ، وهذا ( التجانس ) في الأقوال والأفعال من باب الاتفاق .. فنرى الأول ينص على الآخر وحديث الآخر يسانخ حديث الأول ، وذلك خلال قرنين ونصف ، على ما فيه من تغيير للحكام والثقافات والبُنى الاجتماعية ، حتى لانكاد نميز الإمام القائل لما روي عنه لو تعمدنا عدم ذكره ، وذلك لوحدة النهج الإلهي الذي ساروا عليه جميعاً .. فكيف إذا أضفنا إلى ذلك ، خبر الصادق المصدق (صلی اللّه علیه و آله وسلم)الذي بشّر باثني عشر خليفة كلهم من قريش ، كما رواه البخاري وذكره مسلم في كتاب الإمارة عن جابر بن سمرة إذ قال :{ سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ يَقولُ:لایَزالُ الاسلامُ عَزیزاً الی اثْنی عَشَرَ خَلیفَهً ، ثُمَّ قَالَ کَلِمَةً لَمْ افْهَمْهَا .. فَقُلْتُ لِأَبِي: مَا قَالَ؟ ، فقال:كُلُّهُمْ مِن قُرَيْشٍ }.

170- آجال الأمم

كثيرا ما تنتاب الإنسان حالة من القلق لما تجري في الأمة من النكبات ، توصله إلى حد اليأس .. والحال أن الحق المتعال كما خلق الأرض وقدّر فيها (أقواتها ) من الأرزاق ، كذلك قدّر فيها( مقدراتها ) من الآجال المكتوبة للأمم غير المكتوبة للأفراد ، وقد ورد في الخبر: { إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْراً سَلَبَ الْعِبَادَ عُقُولَهُمْ فَأَنْفَذَ أَمْرَهُ وَ تَمَّتْ إِرَادَتُهُ فَإِذَا أَنْفَذَ أَمْرَهُ رَدَّ إِلَی کُلِّ ذِی عَقْلٍ عَقْلَهُ فَیَقُولُ کَیْفَ ذَا وَ مِنْ أَیْنَ ذَا؟! } البحار-ج78ص 335 .. وأحاديث عَرْض الأعمال على ولي كل عصر - في ليالي القدر وغيرها - تدل على أن الأحداث الصغيرة والكبيرة تجري على مسمع من أذن اللّٰه الواعية ، ومرأى من عين اللّٰه الناظرة .. وعليه فالمطلوب من العبد أن يقدّم الشكوى إلى أولياء الأمر دائماً ، فهم ( المعنيّون ) بمقدرات هذه الأمة قبل غيرهم ، مصداقا للدعاء : { اللَّهُمَّ اكْشِفْ هَذِهِ الْغُمَّةَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِحُضُورِهِ }.. إذ أن الغمة

ص: 76

التي بليت بها الأمة إنما هي من آثار الغيبة ، فكان من الطبيعي انکشاف تلك الغمة الموحشة ، بالحضور المبارك الرافع لتلك الغمة .

171- الحصانة الإلهية

قد يتعمد الحق رفع ( الحصانة ) عن عبده في بعض الحالات ، فيقع فيما ( يُستغرب ) من صدوره من مثله من الأعمال التي لا تليق به ..ولعل في ذلك لفت نظر إلى ( ضعفه ) أولاً ، ودعوة له ( للاستجارة )بالحق في كل أحواله ثانياً .. ويتجلّى فضله العظيم من خلال التدبر في قوله تعالى : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا } و { فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ }و { وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَیْکُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَکَی مِنْکُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا }.

172- الخطورات القبيحة

قد يتألم العبد من بعض الخطورات القبيحة ( أثناء ) الصلاة ، ولاضير في ذلك بشرط عدم ( متابعة ) تلك الصور .. فمَثَله كمثل الجالس بين يدي السلطان ، وأعداؤه يمرون بين يديه ، فما دام مشغولا بمحادثة السلطان فلا يُعد ذلك المرور العابر إخلالاً بأدب الحضور ، بل قد ( يتعمّد ) السلطان الجلوس في مثل ذلك الموقع لاختبار جليسه ،ومدى إقباله عليه مع وجود الصوارف .. وهذا بخلاف ما لو استرسل معهم وتابعهم بنظراته ، فضلا عما إذا تحدث معهم بما لا يرضى منه السلطان !! .

173- مجاهدة الجنس لا الفرد

إن الميل إلى النساء من الشهوات المتأصلة في طينة العباد ، كما يشير إليه قوله تعالى في مقدم الشهوات الأخرى : { زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ اَلشَّهَواتِ مِنَ اَلنِّساءِ } ، فكيف إذا تدخل الشيطان في تزيينها للعبد بمقتضى تهديده في قوله تعالى : { لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ }.. وهي

ص: 77

بحق على رأس شهوات الدنيا ، لأنه التذاذ بذي شعور ، خلافا لشهوة البطن المتعلقة بالمأكول الذي لا حياة فيه .. وعليه فليس الحل الأساسي هو مجاهدة كل ( فرد )من أفرادهن عند الابتلاء بهن ، بل السعي الامتلاك حالة من التعالي على ( جنس ) النساء بكل أفراد ذلك الجنس ،خرج من ذلك خصوص الفرد المعنيّ به العبد من الزوجة والمحارم ..وإلا فما قيمة باقي الأفراد - التي لاعلاقة للفرد بهن - ليشغل حيّزا من نفسه ، بل ليسلب شيئا من إرادته ؟!.. وقد ورد في الخبر :{ لَاتَکُونَنَّ حَدیدُ النَّظَر اِلَی مَا لَیسَ لَکَ فإِنَّهُ لَن یزنِی فَرجُکَ مَا حَفِظتَ عَینَکَ، فَإِن قَدرَتَ انْ لَا تَنْظُرَ الَی ثَوبِ المرأهِ فَافعَل } تنبيه الخواطر- ص50.. فإذا نجح العبد في مرحلة التعالي عن الجنس برمّته، صار التجاوز عن الفرد الخاص مما لا مؤونة فيه ، لأنه مندرج في الجنس الذي تعالى عليه ، وهكذا الأمر في باقي الشهوات .. أما الذي يعيش عالم ( النساء ) حبّا والتذاذا ، فمن الطبيعي أن ( يتفاعل ) مع كل فرد منهن ، ليله إلى أصل الجنس المنعكس على أفراده ، وإن أدى ذلك للوقوع في الحرام ، ثم التوبة بعدها ليعود الابتلاء بفرد آخر منهن ، ويستمر به الأمر كذلك ، إلى أن يخرج من حد العبودية والتوبة فيرى المنكر معروفاً ، كما نراه في هذا الواقع المرير .

174- عدم الانشغال بالأسباب

إن التوجه إلى المخلوقين - بجعلهم سببا لتحقق الخيرات - من دون الالتفات إلى ( مسبِّبية ) المولى للأسباب ، لمن موجبات ( احتجاب ) الحق تعالى عن العبد ، إذ أن الخير بيده يصيب به من يشاء من عباده ،بسبب من يشاء ، وبما يشاء ، وكيفما يشاء .. وعليه فإن کل ( جهة )يتوجه إليها العبد بما يذهله عن اللّٰه تعالى ، لهو ( صنم ) يعبد من دونه ، وإن كان ذلك التوجه المذموم مقدمة لعمل صالح .. ولهذا قبّح القرآن الكريم عمل المشركين ، وإن ادعوا هدفا راجحا : { ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اَللّهِ زُلْفى } ، فدعوى الزلفي لديه من غير السبيل الذي

ص: 78

أمر به الحق تعالی ، لهي دعوى باطلة من أيّ كان ، مشركاً كان فاعله أو موحداً .. وقد يكون سعي العبد الغافل عن هذه الحقيقة - حتى في سبيل الخير - موجبا للغفلة عن الحق المتعال .. و علامة ذلك ، هو وقوع صاحبه فيما لا يرضى منه الحق أثناء سعيه في سبيل الخير ،والذي يفترض فيه أن يكون مقربا إلى المولى جل ذكره .

175- أرقي اللذائذ

إن اللذائذ الحسية التي تستهوي أهل الدنيا في حياتهم - کشهوة النساء وغيرها - لا تعدو كونها كنموذج من عالم اللذائذ المحسوسة الأخرى و المختلفة شدة وضعفا ، مما أودعها المولى جل ذكره في عناصرعالم الوجود ، يُذيقها من يشاء من عباده .. ولا شك في أن هذه اللذائذ المذكورة لاتمثل - حتى في عالم الدنيا - أرقى ما عند اللّٰه تعالى من اللذائذ .. ومن هنا يعيش الأولياء عالما من اللذائذ ( العليا ) ،والتي لا يمكن أن يتعقّلها أهل اللذائذ ( الدنيا )للاختلاف الجوهري ين العالَميَن ، وهذه هي إحدى أسباب إعراض أولياء الحق عن الانهماك في الشهوات ، من دون معاناة ومجاهدة .. وهذا الاختلاف في طبقات اللذائذ موجود في الجنة أيضا ، فلا يعقل أن يلتذّ المقربون من الحق المتعال بلذائذ عامة أهل الجنة ، إذ أن هناك رتبة ( النظرة ) يشير إليها قوله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } ، و رتبة (الرضوان ) كما يشير إليها قوله تعالى : { وَ رِضْوانٌ مِنَ اَللّهِ أَكْبَرُ }.

176- مملكة الحق والطاغوت

إن نسبة عالم عبودية الحق إلى عبودية الطاغوت ، كنسبة مملكتين متخاصمتين .. فمن ( وطّن ) نفسه للعيش في إحدى المملكتين ، عليه أن لا يفكّر للخروج إلى المملكة الأخرى ولو في بعض أيام حياته ، لأن ذلك يعد إخلالا بلوازم الإقامة في تلك المملكة .. وعليه فإن على البصير بصلاح نفسه ، أن يحسم أمره في أول الطريق ليختار العيش في إحدى المملكتين ، ( متحمّلا ) و ( محتملا ) لكل تبعات تلك الإقامة ،

ص: 79

محققا لمصداق الفرار إلى اللّٰه تعالى .. وقد ورد في الدعاء : {وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أَفْضَلَ زَادِ الرَّاحِلِ إِلَيْكَ ،عَزْمُ إِرَادَةٍ وَصَادِقُ طَوِيَّةٍ }البحار-ج86ص318 .. وبهذه النظرة يتخلص من حالة التذبذب والتأرجح، إذ يكون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء .. ومن المعلوم أن هذا التردد في البقاء في مملكة الحق بلوازمها ، قد يوجب إعراض الحق عنه بوجهه ،وقد يصل إلى مرحلة الختم على القلوب ، المستلزمة لعدم الإذن له بالعود إلى تلك المملكة أبداً .

177- مقدم الوفد

ينبغي على إمام الجماعة - وهو مقدم الوفد إلى اللّٰه تعالى - أن يلتفت إلى قصده في التقدم أمام الوفد الذي يواجه رب العزة والجلال، فهو وإن كان إماما في صلاته ، إلا أن عليه أن لا يلحظ المأمومين في إمامته ، وذلك بعدم الاكتراث بكثرتهم ، وعدم الاعتناء بمتابعتهم له، بل يفترض نفسه وحيدا في صلاته ، منفردا ( حكماً ) وإن كان إماماً ( موضوعاً ) .. ومن المعلوم أن مجموع هذه المشاعر ، أدعى إلى تحقق قصد القربة منه .

178- أنوار الليل والنهار

كما أن الطبيعة متغيرة بحسب التغير في الأنوار ( الحسية ) إلى أوقات متفاوتة من ليل إلى نهار ، فإنها متغيرة كذلك بحسب التغير في الأنوار ( المعنوية ) .. فنجد لأول النهار جوا متميزا عن آخره ،ولبدء الليل جوا متميزا عن منتصفه ، ويتجلى الفرق واضحا - لأهله -في ساعة السحر ، فإنها ساعة لا تشبهها ساعة من ليل أو نهار - حتى الساعة التي هي بين الطلوعین - فإنها ( الغاية ) في انفتاح أبواب السماء ، إذ عندها هدأت الأصوات ، وسكنت الحركات ، وخلا كل حبيب بحبيبه .. فسَهُل السبيل لمن أراد الولوج منها ، ليعطى الفضل في الرزق مادة ومعنىً ، وهذه هي العمدة في استغلال تلك الساعة المباركة .

ص: 80

179- الإرشاد من سبل القرب

إن دعوة العباد إلى الحق ، لمن اعظم سبل وصول الداعي نفسه إلى اللّٰه تعالى ، سواء وجد الاستجابة من الخلق أم لم يجد .. ولهذا يحس ( بنفحة خاصة ترافقه أثناء دعوته ، لا يجدها عند الاشتغال بأمور عبادية أخرى .. ولاشك أن لإخلاصه الأثر البليغ في إدخال الحق للهدی في قلب من يريد ، إذ أن تزيين الإيمان في القلوب من شؤون المولى جل ذكره كما نسبها إلى نفسه في كتابه الكريم ، وهو لا يترتب على مجرد ( الوعظ ) وإن كان جامعا لشرائطه ، إذا لم يتدخل مقلّب القلوب في ( سوق ) القلوب إلى الجهة التي يريدها العبد في دعوته إلى الحق المتعال .

180- إمساك الطير والقلوب

يشير القرآن الكريم إلى حقيقة إمساك الحق للطير عندما تقبض في الهواء بقوله : { يَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ اِلا الرَّحْمنُ } .. فإذا كان الحق يرعی جزئیات عالم الوجود - كمسك الطير بعد قبضها في السماء -ويسندها إلى نفسه ، كما أشار في آيات أخرى إلى الذباب والبعوض ،فكيف لا يرعى العباد و جزئیات شؤونهم ، وهم أقرب إليه من الطيروغيره ؟!.. وليُعلم أن من يمسك ( الطير ) في الهواء - رأفة به - هو الذي يمسك ( قلب ) عبده المؤمن من السقوط ، وذلك فيما لو ( أمسك )عن الطيران بعد التحليق ، اعتمادا على قدرته ، غافلاً عن رعاية الرحمن للقلب عند الهُوِيّ ، كرعايته للطير في الهواء عند السقوط .

181- التعصب للحق

قد يكون المتعصب للحق مذموما على تعصبه فيما لو اقترن بالجهل.. لأن المتعصب الجاهل قد يخطئ سلوك السبيل الشرعي في الترويج لحقه ، وبالتالي قد يسيء للفكرة نفسها بدلا من ترويجها ، ولكنه يبقى ( ممدوحا ) على شدة ( تعلّقه ) بالحق الذي أصابه في أصله ،

ص: 81

وإن أخطأ في تعصبه ، ومن هنا لزم تنبيهه ليعمل على وفق الحق الذي آمن به وتعصّب له .. وقد روي عن أمير المؤمنين أنه قال : { فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ كَمَنْ طَلَبَ الْباطِلَ فَأَدْرَكَهُ } البحار- 33 ص 434 .

182- الإثنينية في التعامل

إن من الممكن لمن يعيش أجواء متوترة - في المنزل أو العمل - أن يعيش حالة من الإثنينية النافعة ، بمعنى مواجهة الأزمات بشخصه ( الظاهر ) للناس ، وهو الذي يعيش على الأرض بهمومها ومشاكلها ..وهذا الشخص الظاهر للعيان هو الذي قد يُهان أو يعاقب ، إلا أن هناك شخصية أخرى لاتطالها يد البشر أبدا وهي شخصيته ( الروحية ) ،لأنها ليست من عالم المادة لتخضع للتهديد أو العقاب ، فالأمر كما وصفه أمير المؤمنين بقوله : { صَحِبُوا الدُّنيا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ اَلْأَعْلَى} البحار- ج 1ص 188. وعليه فليس العبد ملزماً بأن يواجه الآخرين بهذه الشخصية ، وينزّلها من عالمها الآمن ، ليكّدر صفوها بکدر أهل الدنيا .. فالإيذاء القولي والفعلي إنما هو متوجه لذلك الوجود المادي ، لا لهذه ( اللطيفة ) الربانية .. والذي يواجه الأزمات الأرضية هو (شخصه ) لا شخصيته ، إلا إذا تعمد هو بسوء اختياره في زجّها فيما لا يحمد عقباه .

183- برد الرضا

قد لا يستوعب البعض حقيقة أن للرضا الإلهي برداً ( يحسه ) القلب النابض بالحياة الروحية ، مع أن العباد يعيشون هذه الحقيقة بالنسبة إلى بعضهم البعض .. فللرضا بين الزوج والزوجة ، والأب وولده ،والصديق وصديقه ، والراعي ورعيته ، ( بردٌ ) يحسه كل طرف وخاصة بعد خصومة تلتها ألفة ، وهذا الإحساس وجداني لا يختص بفرد دون آخر .. ويصل الأمر مداه حتى ينعكس آثار برد الرضا على البدن ، من الإحساس ( بالسّكون ) تارة ، و ( بالقشعريرة ) تارة أخرى.. فكيف يستشعر الإنسان هذا الشعور تجاه من هو فانٍ ولا قيمة لبرد

ص: 82

رضاه ، ولا يستشعره مع الحي القيوم الذي بيده ملكوت كل شئ ؟! .

184- الترقية المؤقتة

قد يمنح العبد في بعض الحالات - كمواسم الطاعة - بعض الترقيات الاستثنائية ، ( إكراماً ) لوقوع العبد في دائرة الضيافة الخاصة .. فَمَثله في ذلك كمثل الطالب الذي يُنقل من رتبته إلى رتبة أرقی بكثير من مرحلته - لساعات معدودة - لمناسبة تقتضي مثل هذا النقل ، وعندها قد ينخدع هذا الطالب بهذا النقل العارض ، ويظن أنه قد ( ترقيّ ) فعلا في دراسته ، إلا أنه يُفاجأ بإرجاعه إلى رتبته السابقة ، ليعلم أنه لا زال يراوح في مكانه من دون سير إلى الكمال .. فعليه أن لا يغفل عن حقيقة أن الرتب العالية أمر ( ذو مراحل ) ، والاستقرار فيها يحتاج إلى اجتياز تلك المراحل بنجاح ، وهو السلوك الطبيعي الذي سلكه الواصلون مع اختلاف رتبهم .

185-خدمة القلوب

إن من أعظم سبل إرضاء الحق هو العمل الذي ينعكس أثره على ( القلوب ) ، إذ أنها محل معرفته ، ومستودع حبّه .. فتفريج الكرب عنها ، أو إدخال السرور عليها ، أو دلالتها على الهدى ، أو تخليصها من الهمّ والغم ، كل ذلك مما يوجب سرور الحق وأوليائه كما تشهد به الروايات .. وكلما ( قَرُب ) هذا القلب من الحق ، كلما ( عُظم ) ذلك السرور عند الحق المتعال ، وبالتالي عظمت الآثار المترتبة على ذلك السرور من الجزاء الذي لا يعلمه غيره ، لأنه من العطاء بغير حساب ..بل يستفاد من بعض الأخبار ، ترتّب الآثار حتى على إدخال السرور على كل ذي كبد رطبة - ولو من البهائم - بإرواء عطشه ، فكيف الأمر بقلوب الصالحين من عباده ؟! .

186- الذكر اليونسي

إن من النافع أن يتخذ العبد لنفسه ذِكراً - يأنس به - في ساعات خلوته أو جلوته مع الناس .. فإن ( المداومة ) على ذكر خاص مما

ص: 83

( يركّز ) من آثاره .. ومن الأذكار المؤثرة في تغيير مسير العبد ، هو ذلك الذكر الذي حوّل مسيرة نبي من الأنبياء ، وهو يونس (علیه السلام) بقوله :{ اَ إلهَ إِلاّ أنتَ سُبحَانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} .. فهو ذكر جامع( للتوحيد ) ، و ( التنزيه ) ، و ( الاعتراف ) بالخطيئة ، والملفت في هذه الآية ، أن الحق وعد بهذا النداء الاستجابة والنجاة من الغم له وللمؤمنين جميعا ، وهو ما يقتضيه التعبير بكلمة ( وكذلك ).. والمقدار المتيقن من الأثر ، إنما هو لمن أتی به متشبهاً بالحالة التي كان عليها یونس (علیه السلام) : من الانقطاع والالتجاء الصادق ، لفرط الشدة التي كان فيها : من ظلمة الليل ، والبحر ، وبطن الحوت .

187- إصلاح ذات البين

ندب الشارع المقدس إلى بعض الأمور بشدة ، ومنها إصلاح ذات البين ، وذلك لأن المتخاصِمَين يصعب عليهما إصلاح الأمر بنفسهما ،لاحتياج الأمر إلى ( نكران ) للذات - منهما أو من أحدهما - قد لا يوفق له عامة الخلق الذين يصعب عليهم نكران الذات وتجاوزها ..ولهذا قد تستمر دوامة الخصومة تلف المتخاصمين إلى آخر الحياة ، بما فيها من ارتكاب للمعاصي العظام : كالغيبة ، والنميمة ، والقذف ،والقتل وغير ذلك ، وتعظم المصيبة عندما يجمعهما رحم قريب ..فالمصلح ( يخلّص ) المتخاصمين من هذه المهالك الكبرى ، بيسير من القول أو الفعل ، قد ( يمتد ) أثره إلى أجيال المتخاصمين .. ومن هنايعلم السر في أن إصلاح ذات البين ، أفضل من عامة الصلاة والصيام .

188- هداية السبل بالمجاهدة |

قد ذكر القرآن بصريح القول ، أن هداية السبل مترتبة على الجهاد في اللّٰه تعالى ، فالذي لا يعيش في حياته شيئا من المجاهدة . في نفسه ، أو ماله ، أو بدنه ، كيف يتوقع الاهتداء إلى تلك السبل الخاصة ؟!.. ومن هنا قد يعوّض الحق تقاعس عبده في المجاهدة ، وذلك بتعريضه لأنواع البلاء ، رأفة به ولرفع آثار قعوده عن الجهاد ، المتمثل

ص: 84

بحجبه عن السبل .. ولو ( كلّف ) نفسه شيئا من المجاهدة ، ( لاندفع )عنه بعض البلاء .. وبذلك يكون - بتثاقله إلى الأرض - قد خسر ( العافية ) ، و ( بركات ) المجاهدة المباشرة التي قد لا يعوّضها البلاء تماما .

189- الاستغراق في المعاني

قد يعيش العبد شيئا من حالات الاستغراق في مشاهدة جلال اللّٰه تعالي وجماله ، بحيث ( تثقل ) عليه متابعة تلك المعاني ( مقيدة )بالألفاظ .. فلا ضير على العبد - في مثل هذه الحالة - من إمرار تلك المعاني على قلبه ، من دون استعمال للألفاظ الموازية لها ، ( ليواكب )المعاني التي تتوارد عليه في تلك الحالة ، والتي هي أسرع تواردا إذا قيست إلى سرعة توارد الألفاظ .. وقد يعيش بعض صور المناجاة التي يحب أن ينطلق فيها بالدعاء - الذي تمليه عليه حالته - من دون تقيّد بنص خاص ، بل من دون تقيد بالألفاظ ، وهي مناجاة القلب التي هي من أرقى صور المناجاة ، إذ قد يستثقل العبد كل شيئ - عند محادثة المحبوب - حتى الألفاظ المعبرة عن حبه .

190- الغافل عن آداب السير

قد يعيش الغافل عن آداب القرب من الحق المتعال ، حالة من ( التعالي ) على الخلق عندما ( يمنح ) حالة روحية متميزة عن الآخرين- وخاصة إذا وُهِب هذه المنحة ، وهو في وسط غافل - فيظن انه قد تميز عنهم مطلقا ، والحال أنه سيعود إلى عالمهم بعد قليل .. فإن مَثلَ هذا الغافل كمَثَل الجسم المتجه إلى فوق كحركة ( قسرية ) سرعان ما يعود إلى موضعه الذي كان هو فيه .. فلنتساءل ، ما هو افتراق هذا الجسم - بعد هبوطه - عن باقي الأجسام الأرضية الأخرى، التي لم يُقدّر لها الصعود ولا الهبوط ؟!.

191- مواجهة الحقائق بالقلب

إن المواجهة للحقائق العالية إنما تكون ( بالقلب ) لا بالوجه الظاهري

ص: 85

.. ولهذا قد يتفق للعبد مواجهة الكعبة المشرفة - وهو في جو متميز- إلا أنه لا يعيش أدنى درجات التفاعل بما هو فيه ، والسبب في ذلك أنه ( أغمض ) عين الباطن التي بها يبصر الحقائق المحجوبة عن عالم المادة ..بل قد يصل الأمر إلى انتفاء القابلية رأسا فيصاب ( بالعمی )،وعندها لا يرى شيئا من الحقائق الإلهية ولو كان في جوف الكعبة ،فقد قال الحق المتعال : { فَإِنَّها لا تَعْمَی الْأَبْصارُ وَلکِنْ تَعْمَی الْقُلُوبُ الَّتِی فِی الصُّدُورِ }، ويستمر هذا العمى إلى يوم القيامة حيث الحاجة الشديدة للإبصار في المهالك العظام ، فيقول الحق سبحانه : {وَمَنْ کانَ فِی هذِهِ أَعْمی فَهُوَ فِی الْآخِرَةِ أَعْمی وَأَضَلُّ سَبِیلاً}.. ومن ثَمَّ فإن من الجدير بالعبد ، عند التعرّض لتلك المواطن - التي تتطلب منه اليقظة الروحية - أن يستعد لها في مرحلة سابقة ، لئلا يذهله (هول )المفاجأة عن التزود في تلك المرحلة الخصبة من حياته ، والتي لا تتاح إلا بعد الفينة والفينة .

192- کعبة الأرض والعرش

إن كان ولابد من استحضار صورة حسية في الصلاة ، فإن من أفضل الصور هي الكعبة المشرفة .. فإنها توازي تلك الكعبة المنصوبة في العرش والتي تطوف حولها الملائكة .. وإن في توجيه ( الوجوه )الظاهرية إلى الكعبة ، تنبيه على توجيه ( البواطن ) إلى الجهة التي تتوجه إليها الملائكة في عرشه ، ولكن (المستغرق ) في صلاته ، قد لا يحتاج لمثل هذه الصور ، وذلك لانشغاله بصور أرقی - لا تخطر ببال عامة المصلين - متمثلة بكسوة الجلال التي تغشى المصلي في صلاته ..وقد ورد في الخبر : {لَوْ یَعْلَمُ الْمُصَلِّی مَا یَغْشَاهُ مِنْ جَلَالِ اللَّهِ مَا سَرَّهُ أَنْ یَرْفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ } البحار - ج10ص110 .

193- التوفیقات تصعيد للعبد

إن التوفيقات الكبرى الممنوحة للعبد - في مثل ليالي القدر والحج -بمثابة دفع الطائرة إلى الأجواء العليا ، إذ الصعود خلاف مقتضی

ص: 86

الطبع ( الأوّلي ) في عالم المادة والمعني معا .. ومع استقرار الطائرة في مسيرها بعد التحليق ، لا يجد القائد لها كثير معاناة في توجيهها إلى الجهة التي يريدها .. فالتوفيقات المتتالية بمثابة التعجيل في إيصال العبد إلى مرحلة الاستقرار والتحليق الثابت في أجواء العبادة ، بعيدا عن جاذبية الشهوات الأرضية .. وليعلم أن الكارثة تقع عند الارتطام بعد الصعود والتحليق ، وهكذا الحال في ( هويّ ) العبد لأسفل الدرجات ، عند ( الصدود ) عن الحق ، بعد ما مُنِح التوفيق والتحليق في أجواء العبودية العليا .

194- للأكل حيثيتان

إن لتناول الطعام حيثيتين ، الأولى : وهي إمرار الطعام على اللسان ،( ليستذوق ) حلاوة ما يؤكل ، والثاني : وهي إدخال الطعام في الجوف، ( ليتحول ) إلى قوت يعينه على إدامة الحياة من أجل القيام بوظائف العبودية للحق .. ولاشك أن الحيثية الثانية هي المطلوبة للمؤمن ، وإن تحققت الأولى مقدمة من دون قصد .. والاعتقاد بهذه الفكرة ، يجعل صاحبها حريصا في أن لا يُدخل في جوفه ، إلا بالمقدار الذي يعينه على ما ذكر ، لا لمجرد الاستمتاع ، وإشباع الشهوة البهيمية لديه .

195- المتشرفون باللقاء

إن الذين تشرفوا بلقاء صاحب الأمر (علیه السلام) هم من الذين وقعوا في ( شدّة ) أوجبت لهم الانقطاع إلى الحق وأوليائه ، أو من الذين ( اشتد )شوقهم إلى لقائه كعلي بن مهزیار وأمثاله من مشتاقي لقاء خليفة اللّٰه تعالى في الأرض .. وليُعلم في هذا السياق أن الرغبة الجامحة للقائه - شوقا لا حاجة - متفرعة على نوع تشبّه بالمعصوم في إتباع الشريعة بكل حدودها ، ليتحقق شيئ من المسانخة بين الزائر والمزور ،وخاصة مع انغلاق أبواب اللقاء في زمان الغيبة .. ولا تتأتي هذه الرغبة المقدسة - اعتباطا أو تكلفّا - لمجرد أمنيّة لم يبذل لها صاحبها موجبات تحققه

ص: 87

196- الطلب يلازم الوصول

لقد ورد في بعض الأدعية ما هو المفتاح لمغاليق القرب من الحق كقوله : { ولا یفوتُه من طلبه} .. وهي حقيقة لا يلتفت إليها الغافلون، فإن طلب الحق - على حقيقته - قلّما يتحقق في جنس البشر على کثرتهم .. و ( الطلب ) نوع معنىِّ يغاير ( السؤال ) ، فقد يسأل الإنسان شيئا ولكنه لا يطلبه ، لما في الطلب من نوع إصرار لا ينفك عنه صاحبه ، كما نشاهده في الذين وقعوا في الغرام الباطل .. فإذا وصل العبد إلى هذه المرحلة ( الأكيدة ) من طلب الحق ، ( تفضّل )عليه الحق بتحقيق مطلوبه ، وهو معايشته لحقيقة العبودية ، والتي هي الغاية من الخلقة والوجود .

197- السنن في التكوين و والأنفس

كما أن السنن في عالم ( التكوين ) لا تنخرم إلا عند الحاجة والضرورة ، كما في موارد المعاجز والكرامة ، فكذلك للحق سننه في عالم ( الأنفس ) .. فإن السير التكاملي للحق محکوم بسلسلة من القواعد والسنن ، ولن تجد لسنة اللّٰه تبديلا .. وأما ( الطفرة ) والإعجاز والإعفاء من بعض السنن ، يغاير الأصل الأوّلي فلا يعول عليه اللبيب في سيره إلى اللّٰه تعالى ، وقد قال الحق المتعال : { وَجَعَلناهُمْ أَئِمَّهً یَهْدُونَ بِأمرِنا لمّا صَبَروا } ، فجَعَل مقام الإمامة في الهداية - وهي من أجلّ القامات - مترتبة على الصبر ، تنبيها على هذه الحقيقة .. وهذه هي السنّة العامة في خلقه ، ولن تجد لسنة اللّٰه تحويلا .

198- البهجة المونقة

إن البهجة المونقة التي يريها المولى لعبده ، بمثابة ( إغرائه ) - عند تحمّله لبعض المشاق - من أجل ( بقاء ) أسباب هذه البهجة المونقة ،بل إستمراريتها في حياة العبد .. وهذه البهجة هي التي تخفف على السائرين بعض متاعب المسير ، وخاصة عند قرب إحساسهم باليأس من تحقيق بعض درجات القرب .

ص: 88

199- خلود الذكر

قد يُكتب الخلود - من حيث الآثار - لبعض العباد ، فيُخلّد ذكرهم في ضمن صدقة جارية ، أو أثر نافع ، أو تربية لجيل من العلماء أوالصالحين وغير ذلك .. ومن المعلوم أن الدلالة على السبيل - الذي يوجب مثل هذا الخلود - إنما هو ( تفضّل ) من الحق ، ( بالإيحاء )لمن يريد أولاً ، و ( بتسهيل ) السبل لذلك ثانياً ، إذ هو الذي يُسند ذلك إلى نفسه بقوله : { وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْراتِ} .. وشتان بين الخير الذي يراه العبد خيرا بنظره القاصر ، وبين الخير الذي يقذفه الحق في قلب من أراد به خيراً .

200- التفويض إلى البصير بالعباد

يختم الحق قوله في : { وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ } بذكر ( العباد ) ..ومن ذلك يستشعر أن الحق المتعال ( يصرّف ) شؤون الفرد المفوض للأمر إليه ، من خلال ( سيطرته ) على العباد ، بمقتضی مولويته المطلقة و إحاطته بشؤون الخلق أجمعين .. فالحق - الذي فوض إليه العبد أمر الرزق مثلا - هو البصير بكل العباد ، فيختار منهم من يكون سببا لسوق الرزق إلى ذلك المفوّض .. وهكذا الأمر في التزويج وغير ذلك من شؤون الحياة ، الجليلة منها والحقيرة .

201- الذهول عما سواه

أشار القرآن الكريم إلى حالة الذهول المستغرق الذي انتاب النسوةاللاتي قطّعن أيديهن عندما رأين جمال يوسف (علیه السلام) .. فعلم من ذلك أن توجّه النفس إلى جهة واحدة ، يوجب ( انصراف ) النفس عما عداها في تلك الحالة .. وبناء على ذلك فان العبد لو أمكنه ( استجماع )التفرق من خيوط نفسه المتشعبة نحو الهوى ، وتوجيهها نحو کعبة الهدى الإلهي ، لتحقق منه ( الذهول ) عما سوى الحق بما لا يقاس به ذهول نسوة يوسف عمن سواه .. فأين جمال الخلق من جمال الخالق المستجمع لكل صفات الجلال والكمال ؟!.. إن الاعتقاد بهذه الدرجات

ص: 89

العليا من السمو الروحي ، يوجب ( ارتفاع ) همّة العبد ، وإن كان يائسا - فعلا - من الوصول إلى شيء من تلك الدرجات ، لنقص في المقتضيات أو وجودِ للموانع .

202- الهوة بين المادة والمعنى

إن هذه الهوّة العميقة القائمة بين عالم المادة والمعنى ، يجعل الجمع بينهما من أصعب الأمور .. فإذا توجّه العبد إلى أحدهما غاب الآخر عن قلبه ، ومن هنا عُبّر عنهما ( بالضرتين ) بكل ما تحمله الكلمة من معنی ، كما ورد في الخبر : { مَثَلُ الدُّنیا والآخِرَهِ کمَثلِ رجُلٍ لَهُ ضَرَّتانٍ إن أرضی إحداهُما سَخِطَتِ الاُخری} البحار-ج73ص120.. وهذه هي الأزمة الكبرى للسائرين في أول طريق العبودية ، بل إن أصحاب النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) اشتكوا أيضا من تبدل حالاتهم بالقول : {وإذا دَخَلنا هذهِ البُیوتَ وشَمَمْنا الأولادَ ورَأینا العِیالَ والأهلَ والمالَ یَکادُ أن نُحَوَّلَ عنِ الحالِ التی کُنّا علَیها عندَکَ، ، فأجابهم النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) : لَو أنَّكُم تَدُومُونَ على الحالِ التي تَكُونُونَ علَيها و أنتُم عِندِي في الحالِ التي وَصَفتُم أنفُسَكُم بها لَصافَحَتكُمُ المَلائكةُ و مَشَيتُم عَلَى الماءِ }البحار-ج 70ص56.. والحل الجامع لهذه المفارقة أن ( يتجلّى ) الحضور الإلهي عند العبد إلى درجة قريبة من حضور المحسوسات عنده ، ثم( تنمية ) هذا الحضور أكثر فأكثر، إلى مرحلة ( اندكاك ) حضور المحسوسات لديه في ذلك الحضور المقدس .. فيؤول الأمر إلى أن لا يرى إلا لونا واحدا في عالم الوجود ، فيكون كمن مسح لونا باهتا بآخر فاقعِ ، فلا يكون البريق الخاطف للأنظار إلا للثاني الناسخ لما قبله .. وهذه هي الحالة التي يعكسها مضمون ما روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) : {ما رَأيتُ شَيئاً إلاّ وَرَأيتُ اللّه قَبلَهُ وبَعدَه وَمَعَهُ }.

203- دعوة العبد بالأذان

إن نداء المؤذن للصلاة دعوة صريحة ومؤكدة من الحق ( للمثول )بين يديه ، وذلك بالنظر إلى تكرر الفقرات في الأذان ، أضف إلى

ص: 90

استعمال كلمة ( حيّ ) المشعرة بالتعجيل .. وعليه فعدم ( الاستجابة )للنداء مع الفراغ من الموانع ، يُعدّ نوع عدم اكتراث بدعوة الحق الغني عن العباد .. ولاشك أن تكرّر هذه الحالة من الإعراض ، يعرّض العبد العقوبة المدبرين - ولو من غير قصد - كمعيشة الضنك التي قد تشمل مثل هذا المعرض عن الذكر .. وقد قال الحق تعالى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا }.

204- وَجَل الطائعين

إن من الملفت حقا ذكر الحق لحالة ( الوَجَل ) التي يعيشها المنفق ، إذ يقول سبحانه : { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } .. و ( الخوف) الذي يعيشه الموفي بنذره ، فيقول عز وجل: { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً کانَ شَرُّهُ مُسْتَطيراً}، والحال أن حال الطاعة من الانفاق والوفاء بالنذر ، يناسبه الرجاء والارتياح .. والسبب في ذلك قد يُفهم من ذيل الآية الأولى : { أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } ، إذ أن رجوعهم إلى الحق يعني المساءلة التي لو عمل فيها بمقتضى - العدل لا الفضل - لرُدّ العمل إلى صاحبه ، إما ( لخلل ) في حلية المال المُنفق، أو ( لصرفه ) في غير موضعه ، أو ( لإبطاله ) بالمنّ والأذى ، أو( لصرف ) ثواب الإنفاق في مصالحة حقوق العباد ، وقس عليه باقي موارد الطاعة .

205- الطموح في الدرجات العالية

إن من الطموح المحمود أن يطلب العبد الدرجات ( العليا ) في العبودية ، التي يتفضل بها الرب المتعال على عبده ، غير الدرجات( العادية ) المتمثلة بامتثال الأوامر والنواهي .. ومن أمثلة ذلك ما ورد في دعاء كميل : { وَاجْعَلْنِي مِنْ أَحْسَنِ عَبِيدِكَ نَصِيباً عِنْدَكَ، وَأَقْرَبِهِمْ مَنْزِلَةً مِنْكَ، وَأَخَصِّهِمْ زُلْفَةً لَدَيْكَ } ، ثم يعقّب ذلك بقوله : { فَإِنَّهُ لا یُنَالُ ذَلِکَ إِلاّ بِفَضْلِکَ } ، وكأنه دفعٌ للاستغراب من طلب هذه المقامات التي لا تمنح إلا للأوحديّ من العباد .. و لو لم يمنح الحق هذه الرتب

ص: 91

( العالية ) للعبد - لعدم وجود ما يوجب له هذا اللطف - فإن المرتبة ( النازلة ) من ذلك سيكون عظيما ، يستحق معه الطلب الأكيد وإن طال المدى .. ومن هنا تتجلى أهمية الدعاء في استجلاب العطاءات الكبرى التي ليست في الحسبان ، لأنها من الرازق بغير حساب .

206- الرزق الأعمّ

ورد في دعاء يوم المباهله : { وأَسْأَلُکَ مِنْ رِزْقِکَ بِأَعَمِّهِ } .. فالرزق المذكور - في سياق بعض الآيات والروايات - ليس محصورا بنوع خاص من الرزق المتبادر في أذهان العامة والمتمثل ( بالمال ) ، بل هو رزق عام كما في الدعاء المذكور يشمل : المال ، والعافية ، والعلم النافع، والولد الصالح ، والصدقة الجارية ، وغير ذلك مما يسترزقه العبد ،وقد يجمعها تعالى لأقوام أراد بهم اللطف الأعم ، والرزق الأشمل .

207- قواعد القبض والبسط

إن القبض والبسط من الحالات المتواردة على قلب العبد ، ولهما بعض القواعد التي يحسن الالتفات إليها، فمن ذلك أن القبض والبسط ( بيد) القابض والباسط يجريهما على قلب عبده بمقتضى حكمته الغالبة ..ومنها إنه لا يمكن إطلاق القول بأن الإقبال خير من الإدبار ، لأن بالثاني يدفع حالة ( العُجْب ) المهلكة ، فإن أنين المذنبين قد يكون أحب إليه من تسبيح المسبحين .. ومنها أن الإدبار قد يجتمع مع قرب منزلة العبد من ربه حتى في حالة الإدبار ، فيُعطى الرتبة ( التقديرية ) من دون تحسيس له بذلك ، لمصلحة يراها الرب الحكيم ..ومنها أن القبض يعارض ( هو ) النفس ، وفي ذلك تكفير لسيئاته وخاصة مع تأذي صاحبه من طول فترة الإدبار .. ومنها أن القبض والبسط من حالات العبد وخصوصياته ، فلا ينبغي أن يشغل نفسه( بما يخصه ) عما ( يخص الحق ) وهو القيام بوظائف العبودية .. ومن مجموع ما ذكر يُعلم أن على العبد أن يقوم مقام العبد ، سواء أورث

ص: 92

ذلك إقبالا أو إدبارا ، إذ ليس الإقبال بغيةٌ مستقلة للعبد ، وإلا صارت عبادته طلباً للحظوظ النفسانية التي تخل بالإخلاص عند الدقة والتأمل .. وليعلم أخيرا أن هنالك بعض الذنوب الموجبة للقبض ، بل بعض المباحات المعبر عنها بمثيرات الهموم ، التي نهى النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) عن استعمالها كما ورد في : البحار ج 73-ص323 .

208- فتح الشهية قبل الإطعام

إن عمل المبلغ في هداية الخلق يتمثل أولاً في ( فتح ) شهيّتهم لتقبّل الهدى الإلهي ، وإقناعهم بضرورة الإصغاء لما يتلى عليهم من آيات اللّٰه تعالى .. فما فائدة تقديم الطعام لمن لا يرغب فيه : إما لعدم ( میله ) إلى ذلك الطعام ، أو لعدم ( إحساسه ) بالجوع أصلاً ؟!.. ومن هنا جَعَل الحق تأثير إنذار النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) - بما أوتي من مدد الهي وخلق عظيم -منوطاً بالإتّباع والخشية ، فقال : { اِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِىَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ } .. فمن ليس في مقام ( الإتّباع )- وهو الرغبة في سلوك طريق الحق - كيف يتحقق منه السلوك عملا ؟.

209- ارتباط الأبدان بالقلوب

إن هناك ارتباطا واضحا بين عالم الأبدان والأرواح ، والدليل على ذلك في عالم ( التكوين ) ، حمرة الخجل وصفرة الوجل كما يمثل في محله .. والأمر كذلك في عالم ( التشريع ) ، فإن للمحرمات والمكروهات والواجبات والمستحبات المرتبطة بالأبدان - ککيفية الأكل والنوم والمعاشرة الزوجية وغير ذلك - آثارها البالغة في السلوك الروحي .. وقد ربطت الروايات المختلفة مثلا بين السلوك ( الروحي ) والأكل ، في مثل ما روي محذرا : { إیَّاکُمْ وَفُضُولَ المَطْعَمِ ؛ فإنَّهُ یَسِمُ القَلْبَ بِالقَسوهِ ، وَیُبْطِئُ بِالجَوارِحِ عَنِ الطّاعَهِ، وَیُصِمُّ الهِمَمَ عَنْ سَمَاعِ المَوْعِظَهِ } البحار-ج 72ص199.. أو { فَإِنَّهُ أَصْلَحُ لِمَعِدَتِکَ وَ لِبَدَنِکَ وَ أَزْکَی لِعَقْلِکَ } أو { مَنِ اقْتَصَدَ فی أکْلِهِ کَثُرَتْ صِحَّتُهُ وصَلُحَتْ فِکْرَتُهُ } ..أو ( كالطهارة ) الروحية والاغسال الواجبة ، إذ مُنع المجنب من بعض

ص: 93

الصور العبادية ، ولعله لأجل الحزازة التي لا ترتفع إلا بالاغتسال .

210-هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك

إن من الممكن القول بأنّ الأئمة (علیهم السلام) يشتركون مع سليمان (علیه السلام) في هذه المقولة : { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .. ( فالملك )المعنوي - الذي لا ينبغي لأحد من بعدهم - ( عطاء ) من الحق بغيرحساب ، فإمساكهم للعطاء ، أو بذله لا يؤثر في ملكه تعالى .. وعليه فما المانع في سياق هذا العطاء ، من إعمال الشفاعة في ( أقصى )درجاتها الممكنة ، في ( أدني ) القابليات الموجودة في العصاة من المخلوقين ؟.. وقد ورد عن الباقر (علیه السلام) أن أرجی آية في القرآن قوله تعالى : { وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى } .. ثم قال ، الشفاعة ، واللّٰه الشفاعة ، واللّٰه الشفاعة .. وقد فسر الصادق (علیه السلام) رضا النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) في الآية نفسها بقوله : { رِضَا جَدِّی أَنْ لاَ یَبْقَی فِی اَلنَّارِ مُوَحِّدٌ } نور الثقلين- ج 5 ص 594.

211- التنزل إلى عالم الغافلين

إن للغافلين عن الحق عوالمَ خاصة ، لا ينبغي التنزل إليها من قِبَل الذاكرين للّٰه تعالى .. فإن عوالمهم شبيهة جدا بعالم الطفولة ، فتراهم يأنسون بما يعترفون أنه لعب فيذهبون إلى ( الملعب )، وبما يعترفون أنه لهو فيذهبون إلى ( الملهى ) .. فأداة اللهو لديهم يكبر حجماً قياسا إلى ما يلهو به الطفل ، وطريقة اللعب تبدو اكثر جدية قياسا إلى الطريقة الساذجة التي يلعب بها الطفل .. والتنزل إلى عوالمهم يكون إما ( بالأنس ) بهم مطلقا ، أو ( بالمشاركة ) في لهوهم ولعبهم ..وهناك سبيل آخر للتنزل يتمثل في ( الغضب ) والدخول في الخصومة معهم ، تجعل صاحبها يتعامل - شاء أم أبى - بأسلوب تخاصم الغافلين.. وقد ورد عن الإمام الكاظم (علیه السلام) أنه قال : { مَا تَسَابَّ اثْنَانِ إِلَّا انْحَطَّ الْأَعْلَی إِلَی مَرْتَبَهِ الْأَسْفَلِ } البحار-ج78ص 335 .

ص: 94

212- مودة ذوي القربی

عندما يراجع المتأمل آيات أجر الرسالة ، يلاحظ أنها مذيّلة بأمور ثلاثة.. الأول : أن أجر الرسالة يتمثل بمودة ذوي القربي لقوله تعالى : {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ، الثاني : أن ثمرة أجر الرسالة إنما تعود للمرسل إليهم لقوله تعالى : {مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ } ، الثالث : أن سؤال الأجر إنما هو ممن يريد اتخاذ السبيل إلى اللّٰه تعالى لقوله تعالى : { مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} .. فيستفاد من مجموع ذلك : أن مودّة ذوي القربی بدرجة من الأهمية جُعلت ( أجرًا ) للرسالة ، وذلك لأنها مقدمة لفهم الرسالة وللعمل بها ، وأن الفائدة - بذلك - إنما ( تعود )إلى أهل المودة ، وأن ذوي القربی هم ( السبيل ) إليه تعالی .

213- الحركة ثم البركة

إن الحق أمر مریم (علیهاالسلام) بهزّ جذع النخلة ليتساقط عليها الرطب الجنيّ .. ومن ذلك يُعلم أنه لابد للعبد من ( الحركة ) ليتحقق من الحق ( البركة ) .. فرغم أن مریم (علیهاالسلام) كانت في ضيافة الحق ورعايته - مع ما فيها من عوارض الحمل والوضع - إلا أنها مأمورة أيضا ببذل مافي وسعها ، وإن كان بمقدار هز الجذع على سهولته .

214-الحقيقتان المتمایزتان

عندما يترقی العبد في سلم التكامل ، يصل إلى درجة لا يرى في الوجود إلا حقیقتين متمایزتين ، وهو وجود ( الحق ) وما يرتبط به ،ووجود ( الأغيار ) وما يتعلق بهم .. وكل ما سوى الحق له لون واحدمتسم بالبطلان ، وإن لم يكن كذلك في النظر القاصر ، إذ أن كل شيء ما خلا اللّٰه باطل ، وهي الحقيقة التي توصّل إليها من كان في الجاهلية ، واستحسنها النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) منه إذ قال : { وإن أصدق کلمه قالته العرب } البحار ج 7 ص 294.. فمثلا الالتفات إلى ( الذات ) وإلى ملكاتها الفاضلة ، وإلى ( العبادات ) الصادرة منها ، يُعدّ التفاتا إلى ما

ص: 95

سوى الملك الحق المبين ، شأنه في ذلك شأن الالتفات إلى باقي أفراد المتاع الباطل ، إذ أن كل ما ذكر من الأغيار ، أفراد الحقيقة واحدة ،في مقابل الحق المتعال .. فالالتفات إلى غير الحق له أثر واحد ثابت ،ويترتب عليه أثر الإعراض عن الحق ، بدرجة من درجات الإعراض عن الحق ، وإن كان المُلتَفَت إليه حسنا في حد نفسه ، كالصالحات من الأعمال والزاكيات من الأفعال .

215- وجدان حالة العبودية

إن من أعظم رتب العبودية ، أن يجد الإنسان نفسه عبداللّٰه تعالی -بكل ما تحمله كلمة العبودية من معنى - كإحساسه بباقي صفاته الوجدانية كالأبوة والزوجية وغيرها .. وهذه حالة وجدانية لا نظرية ،قد لا تعتري حتى المعتقد ( بعبوديته ) للحق طوال حياته مرة واحدة.. فإذا كان العبيد بين يدي الخلق لهم إحساس باطني متميز عن الأحرار - هو الذي يحركهم للقيام بوظائف العبودية تجاه مواليهم -فكيف إذا أحس العبد بهذا الشعور ، بالنسبة إلى من الوجود ( منه وبه وله وإليه ) ؟! ..عندئذ يتحول وجوده إلى وجود متعبد بين يدي الحق ،بظاهره وبباطنه ، تعكسه هذه الفقرة من الطلب في دعاء كميل :{ اَللّٰهُمَ وَاجْعَلْ لِسانى بِذِكْرِكَ لَهِجاً وَ قَلْبى بِحُبِّكَ مُتَيَّماً }.

216- الإحتفاف بالشهوات والشبهات

كما أن عالم القلب محفوف ( بالشهوات ) التي تخيّم على القلب فتسلبه إرادته ، فكذلك عالم الفكر محفوف ( بالشبهات ) التي تحوم حول الفكر فتسلبه بصيرته .. وللشيطان دور في العالمين معاً ، فيزيّن الشهوات للقلب بمقتضى ما ورد في قوله تعالى : { لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} ، كما يزين زخرف القول للفكر بمقتضى قوله تعالى :{ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُوراً } .. ولا يبعد أن تكون بعض المذاهب الفكرية التي حّرفت أجيالا بشرية على مر العصور كالشيوعية مثلاً ، وليدة مثل هذا الإيحاء الشيطاني لقادة هذه الأفكار

ص: 96

الباطلة ، بل لأتباعهم المتفانين في نصرة تلك المذاهب .. والقرآن الكريم يشير إلى حقيقة هذا الإيحاء عند مجادلة المؤمنين بقوله : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُم} .. وإلا فكيف نفسر ( نشوء) مذاهب بمبادئها وقادتها وأنصارها واستمرارها قرونا طوالا ، وكأن هناك يداً ( واحدة ) هي المسيطرة على مجرى الأحداث ؟!.. ومن هنايُعلم أيضاً ضرورة الاستعاذة الجادة بالحق ، سواء في مجال دفع الشهوات عن القلب ، أو دفع الشبهات عن الفكر ، لئلا يتحول العبد باتباع خطوات الشياطين ، إلى إمام من الأئمة الذين يدعون إلى النار.

217- التفاعل الموجب للحزن

كثيرا ما تتفاعل أنفسنا مع بعض الذكريات المحزّنة ، أو الخواطر المشوّشة ، وبالتالي نوقع أنفسنا ( باختيارنا ) في دائرة التوتر والقلق .. فعلى العاقل أن يضع جهاز مراقبة في نفسه ، لمنع توارد مثل هذه الخواطر المقلقة ، أو بالأحرى منع استقرارها في النفس .. فإن الخواطرقد تتوارد على القلب من دون اختيار ، وليس في ذلك ضير - وخاصة في أول الطريق - بل البأس كل البأس في التفاعل مع ( الهاجس )على أنه حقيقة ، ومع ( المستقبل ) على أنه حاضر ، ومع ( الموهوم )على أنه متیقن .

218- اجتياز المشاعر الباطلة

إن العبد قد يعيش بعض المشاعر الباطلة في نفسه كالحسد والحقد وغير ذلك ، فيوجب له ( اليأس ) والتذمر لما آل إليه أمره ، ( فيترك ) بسبب ذلك السير التكاملي نحو الحق ، والحال أن مثل تلك المشاعر قد( تتوارد ) على النفس وتتجول في جنباتها من دون استقرار وثبات ،فيكون مَثَلها كمثل الأجنبية التي ترد الدار من دون أن تستقر أو تتفاعل مع صاحبها ، فلا يُذم صاحب الدار على مجرد هذا الاجتياز ،الذي لم يستتبع أية صورة من صور الفساد

ص: 97

219- تمني الخلاص

إن الذي ( يتمنىّ ) الحياة خارج السجن ، لابد وأن ( يعمل ) ما يوجب له الخروج من السجن .. فإن مجرد ( معرفته ) بما هو فيه لاتوجب له ( الخلاص ) ، وإن كانت هذه المعرفة - في حد ذاتها - من معدات الخلاص ، وهذا خلافا للجاهل بحقيقة مسجونيته ، وذلك كمن يولد في السجن ، فلا يكاد يصدّق بمكان أرحب منه .. وعليه فإن المؤمن العالم بحقيقة الدنيا وضيقها ، يسعى جاهدا للخروج منها بروحه ، وإن بقي فيها ببدنه ، مصداقا لقوله (علیه السلام) ، { صَحِبُوا الدُّنيا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ اَلْأَعْلَى } .. ومن المعلوم أن هذا الإحساس يجعل صاحبه يعيش عوالم رحبة وإن ضاقت به الأرض ، إذ كيف تضيق الأرض بمن يعيش بروحه في الملأ الأعلى ؟! .. ومن هنا يُعلم أيضاً السر في أن المؤمن لا تنتابه حالات الانهيار التي تصيب أهل اللذائذ ، وإن كان في أشق الظروف وأمرّها .

220- روح العبادة

إن روح العبادة هي ( الالتفات ) إلى الغير بشتى صور الالتفات ، وإن لم نعتقد ( ربوبية ) الملتَفَت إليه ، ومن هنا أعتبر الإصغاء للناطق كالعابد له ، لأنه في مظان الطاعة له لاحقاً ، فإن روح العبادة هي الطاعة قوة أو فعلاً .. وقد حذّر القرآن الكريم من الشرك بكل صوره وأشكاله ، واعتبر الهوي إلها متخذا من دون اللّٰه تعالى ، وذلك لالتفات العبد إلى هواه وطاعته له .. وإلا فَمَن الذي يعبد الهوى بالمعنی الظاهري للعبادة كعبادة الأوثان والأصنام ؟!.. وبناء على ما ذكر فما القيمة الكبرى لعبادة من ( نعتقد ) بربوبيته ، مع عدم ( الالتفات ) إليه ، لا إجمالاً ولا تفصيلاً ؟!.. وقد ورد عن النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) أنه قال : { أَمَا يخَافُ الَّذِي يحَوِّلُ وَجْهَهُ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يحَوِّلَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَجْهَ حِمَارٍ } البحار - ج 75 ص 468.. فإذا كان تحويل الوجه الظاهري عن المولى في معرض هذه العقوبة القاسية ، فكيف بتحويل الباطن عنه ؟! .

ص: 98

221- الإحساس بالتقصير العظيم

إن من الضروري الإحساس - ولو بين فترة وأخرى - بالتقصير العظيم في حق المولى الكريم ، كما يشير إليه تعالى بقوله : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } .. فكل لحظة يلهو فيها العبد عن ذكر ربه ،الهي لحظة سوء أدب بين يديه ، إذ كيف ( يلهو) العبد واللّٰه تعالى ( مراقبه ) ، أم كيف ( يسهو ) وهو ( ذاكره ) ؟!.. فلو ترادفت لحظات الغفلة في حياة العبد - كما هو الغالب - لوجب أن يتعاظم شعوره بالتقصير ، ويشتد حياؤه منه.

222- تقديم القربان

تتوقف ( حيازة ) بعض درجات القرب العالية من الحق ، على( تقديم ) قربان يتمثل في شيء من الخوف والجوع ، ونقص في الأموال والأنفس والثمرات .. فالعبد - الذي تولى الحق تربيته - يجدفي نفسه حالة من التكامل والرقي بعد كل وجبة بلاء ، تزول محنته ويبقى أثره ، وهذا ما نلحظه في حياة الأنبياء (علیهم السلام) ، فلكل نبي بلاء مختص به ، كأيوب وإبراهيم ويعقوب (عليهم السلام ) .. وتصل قمةالبلاء في النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) الذي أوذي بما لم يؤذ أحد قبله ، كما تتمثل قمة العطاء في تقديم القربان - عن طواعية واختيار - كما كان الأمركذلك في سيد الشهداء (علیه السلام) .. وعليه فإن على المؤمن السالك إلى الحق، أن يستعد لصنوف البلاء ، أسوة بمن مضى قبله ممن هم أفضل منه ،ولو كان الإعفاء من البلاء لطفا ، لكان الأنبياء أولى بهذا اللطف .

223- الطُّعم لصيد أكبر

إن من الضروري أن نعلم أن بعض المحرمات - على بساطتها - بمثابة طعمٍ لصيد أكبر .. فالسمكة الكبيرة تصطاد بدودة صغيرة ، والعبد قد يدخل السجن الكبير من الباب الصغير .. فالنظرة المحرمة إلى المرأة وأشباه ذلك من الذنوب التي نستصغرها ، بمثابة الدودة الصغيرة التي توقع آكله في الشباك ، فينتقل من بيئته الآمنة ، إلى حيث الهلاك

ص: 99

الذي لا نجاة منه .. ومن هنا عُبّر عن بعض الذنوب أنه سهم من سهام إبليس ، وما السهم إلا عود دقيق يوجب الهلاك العظيم .

224- حجب النور

وردت في بعض الأدعية عبارة حجب النور ، كما في المناجاة الشعبانية .. فكيف يكون النور حجابا وبالنور تكشف الحجب ؟!.. والجواب عن ذلك هو أن التأمل في ( النور ) قد يُشغل الإنسان عن ( منوّر النور ) .. والحال أن النور ليس إلا أثرا من آثار المنوّر ، كما ورد في ذیل دعاء عرفة فإن { َرَدُّدی فِی الآثارِ یوجِبُ بُعدَ المَزارِ } ..فالمطلوب من العبد هو التفاعل مع النور بمقدار ما يوصله إلى منوّر النور ، لا ( الوقوف )عند النور والانشغال ببريقه ، وإن كان هو خيرامن الظلمة .. هذا إذا كانت الإضافة بيانية كما هو الظاهر في أحاديث الإسراء ، وأما لو كانت لامية ، فإن في ذلك إشارة إلى ما يحجب عن النور من موجبات الظلمة .

225- الضيافة في العبادة

إن هناك وجهُ شبهٍ أكيدٍ بين الحج والجهاد والصيام .. فالعبد في تلك المواسم الثلاثة ، في حال عبادة ( مستمرة ) وممتدة ، خلافا لعبادات أخرى واقعة في ( برهة ) من الزمان كالصلاة والزكاة .. ومن هنا كان العبد في ضيافة المولى في الحالات المذكورة كلها وبامتداد أوقاتها ،وتبعاً لذلك كان مأجورا في كل تقلباته ، كالأكل والنوم حتى النَفَس الذي ورد أنه تسبيح حال الصيام .. فالكريم كل الكريم هو الذي يكرم ضيفه في كل أوقاته ، بالضيافة اللائقة بذلك الوقت .

226- التوجه بالقلب والفكر

إن التوجه إلى الحق المتعال يكون تارة بالقلب بما فيه من تفاعلات نفسية ، يتجلّى من خلال الإحساس بالحب ، والرهبة ، والرغبة ،والشوق ، وغير ذلك من المشاعر الوجدانية التي يعيشها أهلها ، ويكون

ص: 100

تارة بالتفكير ، بمعنى التركيز الذهني لاستحضار المعية الإلهية وإن لم يصاحب ذلك أي معنيً شعوري كالذي ذكر آنفاً .. ومن المعلوم أن التركيز الذهني أيسر بكثير من التوجه القلبي ، المقترن بهيجان العواطف والمشاعر .. كما أن طول فترة التركيز الذهني مما يوجب هبوب النفحات الخاصة بالقلب

227- الوَجَل بعد الذكر

إن وَجَل القلب عند ذكر الحق لا يلازم ( الخوف )والرهبة فحسب ،بل قد يقترن ( بالإجلال ) والتعظيم وخاصة بعد الغفلة ، ولهذا وقع بعد الذكر الرافع لتلك الغفلة .. مَثَل ذلك مَثَل من كان في ضيافة عظيم تشاغل عنه الضيف ، وفجأة أطلّ ذلك العظيم عليه - وهو في غفلة عنه - فإن شعوراً بالوجل سینتاب الضيف ، لا لخوفه منه - إذ هوآمن من سخطه في ضيافته - بل لأجل التقصير في إجلاله وتعظيمه.. فالعبد قد يعيش حالة رتيبة من الغفلة ، يقطعها الذكر ( المفاجئ )عند تلاوة آياته ، فينقلب إلى عبدٍ وَجِل ، مصداقا لقوله تعالى : { إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اَللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ }.

228- التفاعل غير المجاورة

إن التفاعل الروحي مع الفعل ( كالدعاء ) أو المكان ( كالمسجد ) أو الزمان ( کشهر ) رمضان أو الحالة ( كالحج ) ، يحتاج إلى نوع امتزاج واندماج مع ما ينبغي التفاعل معه ، كتفاعل سائلين في قارورتين إذا صُبتا في قارورة واحدة .. أما مجرد مجاورة قارورة لأخرى ، لا يكفي لإحداث مثل هذا التفاعل .. والذي يحصل مع عامة الخلق هي الحالة الثانية ، فإنهم يجاورون الطاعات مجاورةً لا تفاعلاً ، فتراه في جوف الكعبة ببدنه ، وكأنه في عقر داره بقلبه .. فمَثَله كمَثَل من وضع قارورة داخلَ أخرى ، بما لا يستتبع أي تفاعل أو اندماج ، وإن تمت المجاورة الموهمة للتفاعل الكاذب .

ص: 101

229- نعيم الآخرة في الدنيا

إن من أهم صور النعيم في الآخرة هو ما يصفه القرآن بقوله :{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .. وذلك نظرا لما يلازمه من أنواع ( التجلّيات ) الجلالية والكمالية ، و ( کشف ) الحجب ، وبذل ( الألطاف ) الخاصة .. وليُعلم أن حقيقة النظر إلى الحق المتعال ، أمرٌ لا تستوعبها النفوس الساذجة ، وذلك لأنها تحتاج إلى بلوغ روحي خاص قلّ من يصل إليه .. وعليه فلو أمكن للعبد أن يصل إلى هذه المرحلة من التلذذ بالنظر إلى الرب المتعال - وهو في الحياة الدنيا -فإنه يحوز على ألذ متع الآخرة ، قبل أن ينتقل إليها ، إذ أن جوهر الجنة هي مرتبة الرضوان وما يستلزمها من الدرجات ، وما دام العبد واجداً للجوهر ، فلا ضير من تأخر العوارض الأخرى إلى أجل معلوم ..فهو في حالة التذاذ دائم - دنياً وبرزخاً وعقبًی - وإن اختلفت درجة الالتذاذ بحسب المرحلة التي هو فيها ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .

230- بلاء عالم التفكير

إن الإبتلاءات التي تعرض للمؤمن في عالم الذهن والتفكير ، لمن ( أعظم ) أنواع البلاء ، وذلك لشدة حاجته إلى صفاء في ذهنه ،ليتفرّغ للتفكير فيما يعنيه من أمر آخرته ودنياه .. فإذا ( کدّر ) الفكر شيء من مكدرات الأذهان ، كالوسوسة ، والتفكير القهري ، والتوجس من الأوهام ، والقلق من المجهول ، ( افتقد ) العبد سيطرته على النفس المتلاطمة بأمواج ما ذكر .. وهذا بخلاف الإبتلاءات المتعلقة بعالم الأبدان - كالمرض والفقر - فإنها قد لا تشوّش العبد المراقب لقلبه ،وذلك لأن البلاء متوجه ( للبدن ) ومراقبة الحق إنما هو ( بالقلب ) ..فمثل ذلك كالبصر السليم في البدن السقيم ، وسقم البدن لا يمنع الإبصار مع سلامة البصر .

ص: 102

231- العبادة في الراحة

قد يستفاد من قوله تعالى : {فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}، أن الراحة و ( هدوء ) البال - حال الدعاء- لمن دواعي التوجه في الدعاء .. فإن موسی (علیه السلام) آثر الدعاء في الظل تحت الشجرة - كما في الحديث - حيث التخلص من حرارة الشمس ، أوزحمة الخلق ، أو غير ذلك من المقارنات .. فلا ضير على المؤمن في مثل الحج أو غيره ، أن يريح نفسه من بعض ( المشاق ) المانعة له من التوجه إلى الحق المتعال ، ولهذا لم يرجُح الصيام لمن يُضعفه عن الدعاء في يوم عرفة .. ومن ذلك يُفهم ضرورة ترتيب سلم الأولويات في الواجبات والمستحبات معاً ، لئلا يُبطل المهمُّ أثر الأهم .. ومعرفة هذا الترتيب تتوقف على قابلية الاستلهام ، الرافع للإبهام في كل مراحل السير إلى الحق المتعال .

232- الرزق المادي والمعنوي

كما أن الأرزاق ( المادية ) بيد الحق يصرّفها كيفما شاء وأينما أراد ،فكذلك الأرزاق ( المعنوية ) ، المتمثلة بميل القلوب إلى الخير ونفورها من الشر، من الهبات الإلهية العظمى التي يختص بها من يشاء من عباده .. والعبد المرزوق هو الذي وهب الثاني وإن حرم الأول ، إذ به يحقق الهدف من الخلقة وهو عبودية الواحد القهار .. وقد أشار الحق للرزقين معاً في قوله تعالى : { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ } ، مقدما هوى القلوب وهو الرزق المعنوي ، على رزق الثمرات وهو الرزق المادي .. ومن الملفت أن هذا الرزق المعنوي الخاص الذي طلبه إبراهيم الخليل (علیه السلام) ، قد ( شمل ) الكثيرين ببركة دعوته ، وهو ما يتجلى لنا في توجُّه الخلق بشتى صنوفهم - من الطائعين والعاصين - إلى بيته الحرام منذ زمانه إلى يومنا هذا .. وكأن هناك من يتصرف في قلوبهم ، فتجعلها تهوي إليه ولو من شقة بعيدة .

ص: 103

233- علاج الشرود الذهني

يقول الشهيد الثاني في أسرار الصلاة لعلاج ( الشرود الذهني )، لكن الضعيف لا بد أن يتفرق فكره بقليل ما يسمع أو يرى .. فعلاجه قطع هذه الأسباب بأن يغض بصره ، أو يصلي في بيت مظلم ، أو لا يترك بين يديه ما يشغل حسه ، أو يقرب من حائط عند صلاته حتى لاتتسع مسافة بصره ، ويحترز من الصلاة على الشوارع ، وفي المواضع المنقوشة المصنوعة ، وعلى الفرش المزينة .. ولذلك كان المتعبدون يتعبدون في بيت صغير مظلم ، سعته بمقدار ما تمكن الصلاة فيه ،ليكون ذلك أجمع للهمّ .

234- أثر التحليق الروحي

إن من ( آثار ) التحليق الروحي - عند تحققه - هو أن يرى ( صغر) ما دون الحق في عينه .. فمَثَله كمثل الطير الذي حلّق في أجواء عليا ، فیری کل عناصر الأرض وهي أصغر بكثير من حجمها وهوينظر إليها عندما يدبّ على الأرض .. وعليه فإن صِغَر الدنيا في عين صاحبها ، ( علامة )صادقة لتحليق روح صاحبها في أجوائه العليا ،وأما الذي يدعي التحليق ، أو يتوهّم حصول مثل هذه الحالة في نفس- وهو مُعجب بشيء من المتاع - فليَعلم أنه قد ضلّ سعيه ، وغلب عليه وهْمُه ، ولا زال متثاقلاً إلى الأرض لا محلّقاً في السماء ..

235- حقيقة الخلوة والاعتزال

إن حقيقة الخلوة والاعتزال ليست ( بالهجرة ) من المكان ، أو( الهجران ) للخلق ، بل الخلوة بالحق تتحقق بترك الأغيار طرًا حتی النفس ، والتي هي من أكبر الأغيار .. فالمشغول برغبات نفسه - حتى في جلب المنافع الباقية لها - غافل عن الحق المتعال ، فضلا عن تحقيق الخلوة معه ، ولو تحققت منه هذه الخلوة الحقيقية في العمر مرة واحدة ، لأحدث قفزة كبرى في الطريق ، جابرا بذلك تخلّفه عن ركب السائرين إليه .. ومن أفضل مواضع الخلوة هذه ، هو السجود

ص: 104

الذي يمثّل الذروة في ترك الأغيار ( حساً ) ، إذ لايرى أحدا في حالة السجود ، ( ومعنىً ) لأنه أقرب ما يكون إلى ربه .. وهذه هي الحركة التي اختارها الحق المتعال ، عندما أمر الملائكة بالسجود لآدم (علیه السلام) في بدء الخلق البشري ، ومنها انشقت مسيرة السعادة والشقاء .

236- إنكار المقامات الروحية

إن من الخطأ بمكان أن ينكر الإنسان المقامات الروحية العالية ، التي يمكن أن يصل إليها العبد بتسديد من ربه .. هذا ( الإنكار ) لو اقترن أيضا باستصغار قدر أهل المعرفة ، قد ( يعرّض ) العبد لسخط المولى الجليل ، وبالتالي ( حجبه ) عن الدرجات التي كان من الممكن أن يصل إليها ، لولا ما صدر منه من سوء الأدب بحق أولياء الحق ، لأن الاستخفاف بأولياء الحق يعود إلى الحق نفسه ، لأنهم من شؤونه ، بل من أهم شؤونه .

237- الخير الكثير

أطلق الحق تعالی وصف الخير الكثير ، على الحكمة التي أعطيت للقمان الحكيم .. وهي تحتاج إلى قلب ( مطهّر ) من الدنس ، لتتلقى تلك الجوهرة القيّمة ، إذ من الحكمة أيضا لحاظ السنخية بين الظرف والمظروف ، فإن المظروف المطهّر لا يستقر إلا في الظروف الطاهرة ..ومن الموانع لتلقي هذه الحكمة : الشرك في العمل ، وعدم العمل بما يقتضيه العلم ، وتوارد الخواطر والأوهام بكثافة في النفس بما يفقدها السلامة والاستقرار ، فتكون مرتعا ( للشياطين ) المانعة من إلهامات ( الملائكة ) الموكلة بذلك .. ومجمل القول : أن على العبد أن يعمل بما يوجب اختيار الحق له أهلاً لتلّقي حكمته ، فيُمنح مثل هذه الهبات العظمی ، وقد ورد في الخبر :{ إنَّ العَبدَ إذَا اختارَهُ اللّه ُ عَزَّوجَلَّ لِاُمورِ عِبادِهِ شَرَحَ لِذلِكَ صَدرَهُ ، وأودَعَ قَلبَهُ يَنابيعَ الحِكمَةِ ، وألهَمَهُ العِلمَ إلهامًا } البحار-ج 25 ص127.

ص: 105

238- الحذر من زوال النعم

ينبغي التأمل في مضمون الدعاء الوارد ، { اللّهُمَّ ارزُقنی عَقلًا کامِلًا وعَزما ثاقِبا ولُبًّا راجِحا وقَلبا ذَکِیًّا وعِلما کَثیرا وأدَبا بارِعا ، وَاجعَل ذلِکَ کُلَّهُ لی ولا تَجعَلهُ عَلَیَّ } البحار-ج87ص325 .. ففيه تحذير بأن هذه النعم - على جلالتها - ليست في صالح العبد دائما ،وذلك نظرا إلى : ( إمكان ) سلبها فتكون الحجة على العبد أبلغ ، أو ( تعريض ) صاحبها للعجب والغرور ، أو عدم ( شکر ) تلك النعم بما يناسبها ، أو ( استعمال ) ذلك فيما من شأنه أن يبعده عن ربه .. وغير ذلك من آفات النعم التي ينبغي أن يُحسن جوارها ، إذ أنها وحشية تنسلّ عند الغفلة عنها .

239- الاختبار الدقيق للقلب

إن من الاختبارات الدقيقة للقلب ، هو إرساله في ما يهواه من دون تكلف ، ليعلم ( محطات ) هبوطه .. ( فاختيار ) القلب المواقع الهوى الذي يلائمه ، هو الذي ( يعكس ) توجّه القلب ، ومستوى ارتفاعه أو انحطاطه ، وإن بلغ صاحبه من العلم النظري ما بلغ .. فالقلب المُغرم بالشهوات - عند إرساله من دون تدخل العقل في إقناعه بخلاف میله- لهو قلب بعيد عن مدارج الكمال ، لأن هذا الانتخاب التلقائي للقلب يدل على قبلته الطبيعية ، وهي التي تحدد تلقائيا مسار العمل بالجوارح ، وإن تكلف صاحبها خلاف ذلك .. ولو تُرك القلب على رسله فيما يهوى ويكره ، لقاد بالعبد إلى الهاوية ، فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق .

240- ظلم من لا ناصرله

إن من أسباب الإرباك الشديد والمفاجئ في حياة بعضهم ، هو ( ظلمهم ) لمن هو دونهم ، وعلى الأخص الذين لاناصر لهم إلا اللّٰه تعالی .. بل إن من صور البلاء هو الابتلاء بضعفاء الخلق ، فكما أنهم

ص: 106

( آلة ) للتسخير والاستثمار وقضاء المآرب ، فكذلك هم من موارد ( تحمّل ) الظلامة .. فليكن الحذر من الجهة الثانية ، غالباً على الركون إلى الجهة الأولى ، لفناء المنافع في الأول ، وبقاء التبعات في الثاني

241- المتعة غير الحسيّة

كثيرا ما يجد الناس متعة كبرى في الجلوس مع من يهوون ، وإن لم يتخلل ذلك أية لذة ( حسيّة ) من مأكل أو مشرب أو غير ذلك ،كسكون الأم إلى ولدها بعد طول غياب ، وكارتياح عشاق الهوى إلى بعضهم يصل إلى حد الجنون ، كما هو مدون في تاريخ الأمم المختلفة.. فيا تُرى ما هو حال العبد الذي ترقّى في عالم العبودية بما جعله يأنس بمصاحبة الحق ؟!.. ومن العَجَب أن ينكر المعتقدون بالحق المتعال ،لذة ( المصاحبة ) هذه ، وهم يرون ما يشبه ذلك في حياة البشر مع بعضهم البعض ، كالنماذج التي ذكرناها أولاً ، غافلين عن هذه الحقيقة الواضحة ، وهي أنه لو تحققت اللذائذ النفسية في عالم ( الحس ) ،فكيف لا تتحقق في عالم ( المعني ) مع أنها أوفق به لكونها من سنخه ؟!.. إذ أن مجرد الارتياح والسكون إلى من يهواه القلب ، لمن أعظم روافد التلذذ الذي يفوق حتى التلذذ الحسي.. وقد ذكرنا آنفا لذة عشاق الهوى ، بمجرد الجلوس المجرد من أية متعة أخرى .

242- الإحساس بالطرد

يصل العبد بعد مرحلة من ( تراکم ) الذنوب . إلى مرحلة الإحساس بالطرد - ولو المرحلي - من ساحة قدسة ، وعلامة ذلك ما ذكر في مناجاة الإمام السجاد (علیه السلام) : من إلقاء النعاس عند الصلاة ،وسلب المناجاة عند إرادة المناجاة ، وإزالة القدم عن مجالس التوابين .فعلى العبد أن ( يستقصي ) أسباب ذلك بوسوسة وقلق شديدين ..ويذكر الإمام (علیه السلام) في الدعاء نفسه بعض الأسباب : كالاستخفاف بحقه تعالى ، والإعراض عنه ، والدخول في مقام الكاذبين ، وانتفاء الشكر ،

ص: 107

والفقدان من مجالس العلماء ، والدخول مع الغافلين ، والألفة مع البطّالين ، وقلة الحياء من الحق .

243- الطمع في مودة القلوب

إن الذي يطلب توجّه القلوب إليه - طمعا في مودة القلوب لامقدمة لسوقها إلى الحق - ينازع المولى في أعزّ ممتلكاته .. فما دام القلب ( حرم ) الحق وعرشه ، فليس من الأدب أبدا أن يسعى العبد ( لاجتذاب ) أزمّة القلوب ، منافسةً للحق في سلطانه .. فهذا نوع غصب وسرقة ، قد تكون أشد ضررا من سرقة الأموال وغصبها ، إذ أنها تحدّ فيما يختص به الجبار ، الذي لا يقوم لغضبه شئ في الأرض ولا في السماء .

244- معاملة الناطق

ينبغي معاملة بعض الأمور ( الصامتة ) ظاهرا ، معاملة الموجودات( الناطقة ) واقعا ، وكأنها حية تستشعر ما يقال لها .. كما ورد في خطاب الإمام السجاد (علیه السلام) لشهر رمضان : { السَّلامُ عَلَیکَ یا أکرَمَ مَصحوبٍ} و { السَّلامُ عَلَیکَ مِن ألیفٍ آنَسَ مُقبِلاً } وللهلال في كل شهر : {اَیُّهَا الخَلْقُ المُطیعُ الدّائِبُ }وكخطاب الكعبة : { أَلْحَمْدُ للّه ِ الَّذِي عَظَّمَكِ وَشَرَّفَكِ وَكَرَّمَكِ } .. والقرآن الكريم مما ينبغي أيضا معاملته بهذه المعاملة أيضا ، فيحدثّه العبد - إذا أحس بتقصير في تلاوته -معتذرا من عدم الوفاء بحقه ، ليتجنب بذلك شكوى القرآن يوم القيامة، إذا كان في بيت تهمل فيه قراءته .

245- البلاء بعد التوفيق

ليتوقع العبد شيئا من البلاء بعد كل توفيق ، كما يتوقع شيئا من التوفيق بعد كل بلاء ، كموسم الحج ، أو شهر رمضان ، أو طاعة مقترنة بمجاهدة .. والسر في هذا التعثر والسقوط الذي يعقب بعض التوفيق هو : إما ( غيظ ) الشياطين وإرادتهم الانتقام منه ، حسدا لبني آدم فيكيدون له المكائد بعد كل توفيق ، أو ( إرادة ) الحق لاختبار

ص: 108

صدق العبد في الوفاء بعهد العبودية .. فإن العبد في تلك المواسم يعاهد ربه على أمور كثيرة ، ثم لا يجد المولى له عزماً ، رغم كل النفحات التي أرسلها على عبده من دون استحقاق يذكر !!.. وبذلك يدرك العبد أن ما طلبه من الحق في تلك الحالات ، إنما هو مجرد أمانيّ لم يشفعها ( بالطلب ) حقيقة ، فإن التمنّي حقيقة تغاير الطلب كما هو واضح .

246- الأمور العلمية المذهلة

إن الانشغال بالأمور العلمية الذي يوجب الذهول عن الحق ، إنما هو( حجاب ) للعبد ، وإن كان فيما يخص الحق كالعلوم المرتبطة بالدين..فمَثَل هذا العبد كمَثَل من وفد على السلطان ، وانشغل بقراءة ماكُتب عنه في مكتبته ، تاركا الأنس به في ساعة لقائه .. نعم لا بأس بذلك في الساعات التي لم تُخصص للقاء السلطان ، أو لم يُؤذن له بذلك ، فيكون الوافد عليه ساعيا بين مكتبته وقاعة ضيافته ، وهذه هي من أفضل برامج الاستزادة منه .. ومن هنا عُلم أن أفضل مايكون فيه العبد إما ( عبادة ) بين يدي المولى ، أو ( طلب ) علمٍ نافعٍ يقرّب إليه ، أو ( قضاء ) حاجةِ من أمر المولى بصلته .

247- المحاكمة عند الفرح

ينبغي للمراقب أن يحاكم نفسه في ساعة ( الإنبساط ) التي لا يخلومنها أحد .. فإذا كان ذلك ( لإقبال ) دنياً ، أو ( تيسير ) شهوةٍ ، فلاينبغي الاسترسال في ذلك السرور ، مصداقا لقوله تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.

248- انتهاء موسم القرب

يتأثر البعض كثيرا عند انتهاء موسم الضيافة الإلهية كشهر رمضان والحج ، لإحساسهم بالخروج من دائرة الضيافة .. والحال أن المقربين قد لا تشتدّ وحشتهم بتلك المثابة ، لأنهم وإن خرجوا من دائرة ( الضيافة ) ( العامة ) ، إلا أنهم باقون في دائرة الضيافة ( الخاصة )،

ص: 109

وذلك لوجود العلاقة المتميزة لهم مع الحق المتعال قبل موسم الضيافة وبعده .. ولهذا ينادون ربهم في كل ليلة : { وَلَکَ فیْ هذَا اللَّیْلِ نَفَحاتٌ وَجَوآئِزُ وَعَطایا وَمَواهِبُ تَمُنُّ بِها عَلی مَنْ تَشآءُ مِنْ عِبادِکَ } .. ومن هنا يُعلم حقيقة أن السالك إلى الحق ، لا يتأثر سلوكه كثيرا بحسب الزمان والمكان ، خلافا لعامة الخلق الذين يعيشون حالاتِ ( تذبذبٍ )عاليةٍ، بحسب عوارض الزمان والمكان ، بما يسوقهم إلى الخير تارة ،وإلى الشر تارة أخرى .

249- جلال التجّلي

إن من أسمى المعاني في السفر إلى الحق ، هو ( تجلّي ) الحق لمن أراد التجلي له ..وهذا التجلي وإن كان من شؤون الحق ، إلا أن للعبد دوره أيضاً في إعداد ( القابل ) لهذا التجلي .. ومن الواضح أن هذا التجلي المستند إلى الواسع العليم ، لو تحقق في قلب العبد ، لوَسِعه بما لا يبقى معه ركن في القلب ،إلا واستوعبه جلال هذا التجلّي .. فما أمكن أن يكسبه العبد بجهده المتعثر في سنوات متمادية من المجاهدة ، قد يتحقق في (لحظة ) من لحظات التجلي ..فتصدیع الجبل الأصم بالجهد البشري يحتاج إلى جهد جهيد في سنوات غير قليلة ، إلا أن التجلي الإلهي من خلال كتابه - لا بنفسه - يوجب له الخشوع والتصدّع ..وإن مما يفتح الآفاق الواسعة للمقبلين على الحق المتعال ، ما ورد في هذا المجال من أنه : { إذا تجلّي اللّه لشيء خضع له }.

250- أشد أنواع العذاب

إن من أشد أنواع العذاب على المستأنس بألطاف الحق ، هو ( الإدبار ) القلبي ، الذي طالما يعرض على قلب المؤمن ، فيعيش عندها حقيقة الوحدة والوحشة التي تنتاب السجين عادة .. هذا الإحساس يجعله يتحاشی بحذر شديد ( موجبات ) الإدبار ، کالهارب من الحريق بعد اكتوائه بناره .. كما يعيش السرور الذي لا يوصف عند خروجه من سجن المحجوبية عن الحق المتعال ، ومن هنا يسعى مثل هذا العبد -

ص: 110

جاهدا - في العمل بحذافير الشريعة بأحكامها الأربعة ، لا طلبا للأجر فحسب ، وإنما تحاشيا لما أسميناه بسجن ( المحجوبية ) عن الحق .

251- المنح الموهوبة

إن من المتعارف بين الخلق (مَنْح جائزة كبرى ، بعد ( تراکم ) الموجبات الجزئية لها .. كالمنح الدراسية الموهوبه في آخر الفصل لمن أحرز الدرجات العالية في كل فصول سنته .. والأمر في معاملة المولي لعبيده يشبه ذلك ، فبعد الطاعات الجزئية المتواصلة في كل مناسبات الشهور ، يمنح الحق عبده ( رتبة ) عالية من رتب القرب ، كمقام الرضا والسكون إلى الحق ، أو ( مقدمة ) من مقدمات تلك الرتب ،کاستضافته إلى بيته الحرام ، أو إلى مشاهد أحد أوليائه العظام ، مما يفتح له أفقاً جديدا للسير الحثيث نحو الحق المتعال .. ومن طرائف الأثر في مجال إستضافة الحق لأوليائه ، ما روي - في الاحتجاج - عن الإمام السجاد (علیه السلام) عندما دخل مكة ، وقد اشتد بالناس العطش وقال لمن هناك من العبّاد : أما فيكم أحد يحبه الرحمن ؟!.. فقالوا : علينا الدعاء وعليه الإجابة ، فقال (علیه السلام) : ابعدوا عن الكعبة فلو كان فيكم أحد يحبه الرحمن لأجابه ..ثم أتى الكعبة فخر ساجداً ، فسُمع يقول في سجوده: { سَيِّدِي بِحُبِّكَ لِي إِلَّا سَقَيْتَهُمُ الْغَيْثَ} .. فما استتم كلامه حتى أتاهم الغيث كأفواه القرب ، فقيل له : من أين علمت أنه يحبك ؟!.. فقال (علیه السلام) : { لَوْ لَمْ يُحِبَّنِي لَمْ يَسْتَزِرْنِي فَلَمَّا اسْتَزَارَنِي عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّنِي فَسَأَلْتُهُ بِحُبِّهِ لِي فَأَجَابَنِي }، وأنشأ يقول :

من عرف الرب فلم تُغنه***معرفة الرب فذاك الشقي

252- المعاملة بما يناسب المرحلة

كما أن معاملة الأب لأولاده يختلف بحسب سنيّ العمر ، فأولها الدلال وآخرها الهيبة والاحترام ، ويجمعهما المحبة والوداد .. فكذلك الأمر مع الرب الودود ، فتارة يتقرب إلى عبده بما يشعر معه ( الدلال ) والإنبساط ، وتارة يحتجب عنه بما يشعر معه ( الوحشة ) والانقباض ،

ص: 111

وتارة يتجلى له بوصف العظمة والجلال بما يشعر معه ( الهيبة )والإشفاق .. وهكذا يتعامل الحق مع - من يصنعه على عينه - بمايناسب مقتضی مرحلته ، وهو الخبير البصير بعباده .

253- مجمل شهوات الدنيا

إن شهوات الدنيا قد أجملها الحكيم المتعال في النساء والبنين والأموال بأقسامها من المنقول وغيره ، ويجمع ذلك كله : الاستمتاع( بالاعتبارات ) كوجاهة البنين والعشيرة ، ( والواقعيات ) كالاستمتاع بالنساء والأموال .. وهذا مما يُعِين العاقل على مواجهة الشهوات بما يناسبها ، لأنها بتنوعها تندرج تحت قائمة واحدة ، وتصطبغ بصبغة واحدة وهي ملاءمتها لمقتضى الميل البشري ( السفلي ) .. فلو تصّرف العبد في طبيعة ميله ، وجعلها تتوجه إلى قائمة أخرى من مقتضيات الميل البشري ( العلوي ) ، لزال البريق الكاذب للقائمة الأولى ، لتحل محلها قائمة أخرى من الشهوات العالية ، وقد قال الحق المتعال عن هؤلاء :{ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ }.

254- ترك التسافل

إن الوظيفة الأساسية للعبد أن ( يترك ) التسافل والإخلاد إلى الأرض ، بترك موجبات ذلك ، ولا يحمل بعد ذلك ( همّ ) التعالي والعروج ، إذ المولى أدرى بكيفية الصعود بعبده ، إلى ما لا يخطر بباله من الدرجات التي لا تتناهي .. إذ هو الذي يرفع عمله الصالح - على تفسيرٍ - لقوله تعالى : { وَ اَلْعَمَلُ اَلصّالِحُ يَرْفَعُهُ } ، وبارتفاع ( العمل ) يرتفع ( العبد ) أيضا ، لأنه القائم بذلك العمل الصالح ، وقد عبّر في موضع آخر بقوله تعالى : { وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا }.

255- مادة الافتتان

ينبغي معاملة الدنيا معاملة المرأة التي ( ترافق ) العبد وهي في غاية الجمال ، مع عدم ( الإذن ) له بالزواج منها .. فلو انفصلت عنه ، لشعر صاحبها بالسرور والارتياح ، لارتفاع مادة ( الافتتان ) التي لا يُؤمن

ص: 112

معها الزلل في ساعة من ساعات الغفلة ، بل اعتبرت بعض الروايات أن مثل هذا الحرمان كالحِمْية ، كما يحمي الطبيب المريض .. ولهذا يفرح المؤمن حقيقة ، بتخفيف زهرة الحياة الدنيا لديه - وإن رآه البعض فقداً وخسراناً - لما فيه من الجمع بين زوال الفتنة ، والتعويض عما سلب منه .. ومن هنا طلب الأولياء الكفاف من العيش ، إذ قد ورد :{فإنَّ ما قَلَّ وکَفی خَیرٌ مِمّا کثُرَ وألهی} البحارج58ص 165.

256- ملاك النظر إلى الأجنبية

إن من المعلوم کون النظر إلى الأجنبية من موجبات ظلمة الفؤادكما نلاحظ أثر ذلك بالوجدان ، كالنار التي لا تحرق الدار ولكن تسوّدجنباتها .. ولكن هناك أشياء أخري فيها ( الملاك ) نفسه ، وإن لم يكن( حراماً ) بالمعني الفقهي للحرمة ، وذلك كمد البصر إلى ما مُتّع به الآخرون من متاع الدنيا ، وتحديق النظر إليها ، والسؤال عن مظانّها ،والحسرة على ما زُوي عن العبد منها ، كمن يمشي في السوق لينظر بحسرة إلى كل ما يراه ، ( فيُشغل ) فؤاده بما تراه عيناه .. وقد حذرالقرآن من هذه الحالة بوضوح إذ قال : {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ }.

257- أصناف أزواج الدنيا

إن علاقة الناس بالدنيا إما ، زواج دائم ، أو زواج منقطع ، أو طلاق رجعي ، أو طلاق بائن ، أو عدم زواج أصلا .. فالأول ، لأهل الدنيا ( المستغرقين ) في متاعها .. والثاني : ( للمستمتعين ) بها من غير استغراق ، فيقدّمون رجلا ويؤخرون أخرى .. والثالث : لمن هجر الدنيابعد أن انكشفت له حقيقة حالها ، ثم يعود إليها بمقتضى ضعفه ،ووهن إرادته .. والرابع : لمن ( هجرها ) بعد طول معاناة ، بما لا يفكرمعها بالرجوع أبدا .. والخامس للكمّلين الذين ( لم يتصلوا ) بمتاعها -دواما وانقطاعا - لينفصلوا عنها طلاقاً رجعياً أو بائناً ، وقليلٌ ما هم .

ص: 113

258- الجيفة المجمدة

مثل بعض الصفات الرذيلة الكامنة في النفس ، والتي لم يُظهرها العبد - إما ( خوفاً ) من اللّٰه تعالى كما عند أهل التقوى ، أو ( تعالياً ) عن رذائل الأمور ، كما عند أهل الإرادة والرياضة - كمثل الجيفة المجمدة التي تنتظر الفرصة المناسبة ليظهر نتنها بما يزكم منه الأنوف ..فطريق الخلاص هو ( دفنها ) في التراب لتتحلل ، وتستحيل إلى مادة أخرى لا تنطبق عليها وصف الجيفة .. فصاحب القلب السليم هو الذي تخلص من رذائل نفسه ( بقطع ) مادتها ، إذ خلي باطنه من الجيفة بكل أشكالها .

259- إحسان من أسلم وجهه

قد يستفاد من قوله تعالی { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } أن الإحسان من حالات المسلّم وجهه للّٰه تعالى .. فموضوع الآية في الدرجة الأولى هو العبد الذي أصلح ( وجهة ) قلبه ، وأسلمها للحق وأعرض به عمن سواه ، ومن ثَمَّ صدر منه ( الصالحات ) من الأعمال ،کشأن من شؤون ذلك الموضوع .. ومن المعلوم أن رتبة الموضوع سابقة الرتبة الحالات الطارئة عليه ، وعليه فلا يُؤتي الإحسان ثماره إذا لم تصلُح وجهة القلب هذه .. ومن هنا لم يقبل الحق قربان قابيل ، لأنه صدر من موضوعٍ لم تتحقق فيه قابلية الإحسان ، إذ قال تعالى :{ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّه ُ مِنَ المُتَّقِينَ}.

260- کالسائر على طرف حائط

إن مَثَل السائر إلى الحق ، کَمَثل من يمشي على طرف حائط عال ،يرى منه جمال الأفق ، بألوانها الآخذة بمجامع القلوب ، فلا يحتاج إلى ( الحثّ ) للنظر إلى فوق ، لأنه مستمتع بنفسه ومستغرق بمشاهدة ألوان الجمال ، كما لا يحتاج إلى ( الزجر ) عن النظر إلى تحت ، لأنه بنفسه يخاف السقوط وما يستتبعه من حرمان للجمال وسقوط في الهاوية ، فالمهم في السائر إلى الحق أن يرى تلك الصور الجمالية التي

ص: 114

تستتبع بنفسها الزجر من الإعراض عن ذلك الجمال ، والحث على الإقبال عليه .. وعندها ينتظم السير ويتباعد صاحبها من الزلل ،ويزداد الهدف وضوحاً والطريق إشراقاً .

261- إجتثاث الرذيلة الباطنية

أسند الحق الشح في آية : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} إلى النفس ، إذ من المعلوم أن الحركات الخارجية تابعة لحركات الباطن .. والشحّ الذي هو أشد من البخل - والذي يتجلی خارجا في منع المال - منشأه حالة في الباطن .. ومن دون علاج هذا الشح ( الباطني ) ، يبقى الأثر( الخارجي ) للشح باقيا ، وإن تكلّف صاحبه في دفعه - خوفا أو حياء- كما نراه عند بعض متكلفي الإنفاق .. وهكذا الأمر في باقي موارد الرذائل ، كمتكلفي التواضع والرفق وحسن الخلق .. فاللبيب هو الذي( يجتثها ) من جذورها الضاربة في أعماق النفس ، بدلا من ( تشذيب )سيقانها المتفرعة على الجوارح .

262- من أرجی آيات القرآن

إن من أرجى الآيات قوله تعالى : { فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَیْکُمْ وَرَحْمَتُهُ لَکُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِین } .. والسر في ذلك أنها نازلة بحق اليهود وقبائحهم من عبادة العجل ، وكفران النعم ، وقتل الأنبياء ، ونقض الميثاق ، مع ما رفع فوقهم من جبل الطور تخويفا لهم ، كما ذكر في صدر الآية : { و رفعنا فوقکم الطور . .. ثم تولیتم من بعد ذلک ) .. فإذا استعمل الحق الودود ( أناته ) مع هؤلاء القوم ، فكيف لا يستعملها مع عصاة الأمة المرحومة ( بشفاعة ) نبيها (صلی اللّه علیه و آله وسلم) ، وهم دون ما ذكر من قبائح بني إسرائيل بكثير ؟!

263- كفالة المربّي

تنتاب البعض حالة من القلق والاضطراب ، لعدم اهتدائهم إلى مربّ صالح يأخذ بأيديهم إلى طريق الخير والصلاح ، ومما لا شك فيه أن وجود المرشد البصير بأسرار الطريق ومعالم السير إلى الحق المتعال ،

ص: 115

مما يعجل في سبر العبد إلى مقصده السامي .. ولكن ذلك لا يعني أبدا توقف السبيل على ذلك ، فإن الحق المتعال أحرص على هداية العبد من العبد نفسه ، فيهيئ له السبيل إلى المربي الصالح الذي يتكفله بالهداية والإرشاد ، عند اشتداد حاجة العبد لمثل ذلك ، كما وقع بالنسبة إلى مريم (علیهاالسلام) ، إذ كفّلها زکریا (علیه السلام) وهو نبي من الأنبياء ، وهي امرأة من النساء .

264- الاعتقاد بالبداء عند الدعاء

إن من الأمور المشجّعة على الإلحاح في الدعاء ، هو الاعتقاد ( بالبداء ) ..فإن الأمر بيد المولى الذي لا يعجزه شئ في الأرض ولا في السماء ،وهو القادر على تغيير المفاسد في الحوائج ، إلى ( المصالح ) التي بحسبها يتغير ملاك الاستجابة نفياً وإثباتاً .. وعليه فما المانع من استقامة العبد في مطالبة الرب القدير بقضاء الحوائج العظمی کتغييرمقدرات الأمم ، فضلا عن تغيير مقدراته الفردية من الشقاء إلى السعادة ؟! .. ومن أمثلة الاستجابة في الحوائج العظمى ، هو إعمال البداء في توقيت فرج وليه (علیه السلام) الذي ورد في حقه : { وَ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَی یُصْلِحُ أَمْرَهُ فِی لَیْلَةٍ كَمَا أَصْلَحَ أَمْرَ كَلِیمِهِ مُوسَی علیه السلام لِیَقْتَبِسَ لِأَهْلِهِ نَاراً فَرَجَعَ وَ هُوَ رَسُولُ نَبِیٍّ } البحار-ج51ص156.

265- القعود على الصراط المستقيم

ينحصر طلب الداعي في سورة الفاتحة - بعد مقدمات الحمد والثناء- في ( الاستقامة ) على الصراط ، كما انحصر تهديد الشيطان من قبلُ ، ( بالقعود ) على الصراط المستقيم نفسه .. ومن مجموع الأمرين يُعلم أن معركة الحق والباطل إنما هي في هذا الموضع ، والناس صرعی على طرفيها ، وقد قلّ الثابتون على ذلك الصراط المستقيم .. ومن هنا تأكدت الحاجة للدعاء بالاستقامة في كل فريضة ونافلة .. وليُعلم ان الذي خرج عن ذلك الصراط : إما بسبب ( عناده ) وإصراره في الخروج عن الصراط باختياره وهو المغضوب عليه ، وإما بسبب ( عماه ) عن

ص: 116

السبیل وهو الضال

266- الحق أولى بحسنات العبد

إن اللّْه تعالى أولى بحسنات العبد من نفسه ، لأن كل الآثار الصادرة من العبد إنما هو من بركات ( وجود ) العبد نفسه ، والحال أن وجوده إنما هو ( فيض ) من الحق المتعال حدوثا وبقاء .. أضف إلى أن ( مادة ) الحسنة التي يستعملها العبد في تحقيق الحسنات ، ينتسب إلى الحق نفسه بنسبة الإيجاد والخلق .. فيتجلى لنا - بالنظر المنصف - أن دور العبد في تحقيق الحسنة ، دور باهتٌ قياسا إلى دور الحق في ذلك ..فليُقس دور مؤتي الزكاة من الزرع ، إلى دور محيي الأرض بعدموتها ، وما تمر فيها من المراحل المذهلة التي مكّنت المعطي من زكاته، والتي هي أشبه بالأعجاز لولا اعتيادنا لها بتكررها.. ومن هنا أسند الحق الزرع إلى نفسه ، رغم أن الحرث من العبد ، فقال : {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ } .

267- محبة الحق لفاطمة (عليهاالسلام)

روى الدارقطني في كتابه أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه و آله وسلم) أمر بقطع لص ،فقال اللص یا رسول اللّٰه قدمته في الإسلام وتأمره بالقطع ؟ فقال :" لو كانت ابنتي فاطمة " .. فسمعت فاطمة ، فحزنت ، فنزل جبرائيل بقوله : " لئن أشركت ليحبطن عملك " .. فحزن رسول اللّٰه فنزل :" لو كان فيهما آلهة إلا اللّٰه لفسدتا " .. فتعجب النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) من ذلك ،فنزل جبرائيل وقال :" كانت فاطمة حزنت من قولك ، فهذه الآيات الموافقتها لترضي - البحار - ج43، ص 44 .. إن هذه الرواية من أرقّ الروايات في محبة الرب الودود لفاطمة (علیهاالسلام) ومراعاته لمشاعرها حزناً وغضباً .. فإن هذه الرواية تفيد أن إفتراض السرقة منها ، كإفتراض شرك الرسول ، أو تعدد الآلهة مما ما ينافي جلالة المتحدث عنه ..والطريف في هذا الأثر ، هو الإتيان بالشاهد تارة بالنسبة للرسول(صلی اللّه علیه و آله وسلم) ، وتارة لذات الحق جلّ جلاله وعمّ نواله .

ص: 117

268- عبادة الحق كما يريد

طلب إبليس من الحق أن يعفيه من السجود لآدم (علیه السلام) ، مقابل عبادة لم يعبدها ملك مقرب ولا نبي مرسل ، فكان جواب الحق كما روي عن الصادق (علیه السلام) : { لا حاجَهَ لی فی عِبادَتِکَ اِنّما عِبادتی مِنْ حَیْثُ اُریدُ لا مِنْ حَیْثُ تُریدُ } البحار-ج 11 ص 141.. وفي ذلك بيان لقاعدة عامة ، وهي أن العبادة المطلوبة للحق هي ما طابقت إرادة ( المعبود )لا رغبة ( العابد ) .. ومن هنا يكتشف العبد ضلالة سعيه إذا لم يكن مطلوبا للحق ، وإن وجد العبد سعيه حسناً ، مصداقا لقوله تعالی :{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } .

269- القشر واللبّ

إن العالم الوجود قشراً ولبّا ، وقد عبر القرآن عن الأول بظاهر الحياة الدنيا ، بما يفهم منه أن له باطنا أيضا وهو اللبّ .. فإذا أعمل الحق المتعال خلاّقيته بما يُذهل الألباب في الظاهر، فقال تعالى :{ تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} و { بَدِیعُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ } و { أَعْطَی کُلَّ شَئً خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَی } و { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } ..فكيف بآثار خلاقیته في عالم الألباب ؟! ، وهي الأرواح التي نسبها الحق إلى نفسه فقال : {قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } و { وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } .. ومن هنا يُعلم شدة تقصیر العبد في ( تزيين ) أكثر المخلوقات قابلية للجمال والكمال ، وهي ( نفسه ) التي بين جنبيه .

270- انقطاع تسبيح الثوب

أمر رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه و آله وسلم) عائشة بغسل برديه فقالت ، بالأمس غسلتهما ،فقال لها : { أما عَلِمتِ أنَّ الثَّوبَ یُسَبِّحُ ، فإذا اتَّسَخَ انقَطَعَ تَسبیحُهُ } الدر المنثور ج4 ص 185 .. فالمستفاد من هذه الرواية أن القذارة ( الظاهرية )مانعة من التسبيح ( التكويني ) .. وهنا نتساءل ، كيف لا تكون القذارة( الباطنية ) مانعة من التسبيح ( الاختياري ) ؟! .. ومن صور الظلم أن يسببّ العبد ، ما يوجب انقطاع تسبيح خلق من خلقه .

ص: 118

271- العقوبة في الطبيعة

أشار الحق في سياق العقوبات التي حلت ببني إسرائيل ، أن ماءهم تحوّل إلى دمٍ ، فقال : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ } .. فما المانع من حلول ( الغضب ) بعد مقتل الحسين (علیه السلام) ، بنفس الأسلوب من العقوبة ، كما ورد من وجود الدم ( العبيط )تحت الحجارة في بيت المقدس ؟!.. وكقول زينب (علیهاالسلام) : { أَفعَجِبْتُمْ أَنْ قَطَرَتِ السَّماءُ دَماً ؟}.

272- المعية العامة والخاصة

إن هناك فرقا شاسعا بين المعيّة الخاصة للحق ، المتمثلة بقوله تعالی: { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا}، وبين المعيّة العامة المتمثلة بقوله : { هُوَمَعَکُمْ اَینَما کُنْتُمْ» } .. ففي الأول معية ( النصر ) والتأييد ، وفي الثاني معيّة ( الإشراف ) التكويني المستلزم للرزق والحفظ وغيره .. والفرق بين المعيّتين كالفرق بين إطلالة الشمس على الغصن الرطب واليابس ، ففي الأول معية التربية والتنمية ، وفي الثاني المعية التي لا ثمرة لها غير المصاحبة المجردة .

273- القلبان في جوف واحد

نفى الحق المتعال أن يكون لرجل ( قلبان ) في جوفه ، وقد روي عن الصادق (علیه السلام) أنه قال : { مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَیْنِ فِی جَوْفِهِ یُحِبُّ بِهَذَا قَوْماً وَ یُحِبُّ بِهَذَا أَعْدَائَهُمْ} التبیان-ج9ص313 .. فإن للعبد( وجهة ) غالبة في حياته ، وهمّ واحد ، يدفعه لتحقيق آماله وأمانيه، وتلك الوجهة هي التي تعطي القلب وصفا لائقا به ، فإذا كان إلهيّا استحال القلب إلهيّا وكذلك في عكسه .. فإذا اتخذ العبد وجهته( الثابتة ) في الحياة ، لم تؤثر الحالات ( العارضة ) المخالفة في سلب العنوان الذي يتعنون به القلب .

274- التدبر فيما وراء الفقه

روي عن الصادق (علیه السلام) : { إِذَا بَلَغْتَ بَابَ الْمَسْجِدِ فَاعْلَمْ أَنَّکَ قَصَدْتَ بَابَ بَیْتِ

ص: 119

مَلِکٍ عَظِیمٍ ،لَا یَطَأُ بِسَاطَهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وَ لَا یُؤْذَنُ بِمُجَالَسَهِ مَجْلِسِهِ إِلَّا الصِّدِّیقُونَ } البحارج 80 ص 373 .. وهذا الخبر يعطي درسا بليغا في تعامل العبد مع كل صور الطاعة .. فالمطلوب من العبد دائما أن يترجم لغة ( الفقه ) إلى لغة التدبر فيما ( وراء الفقه ) ، و ينتقل من ( لسان ) الحكم الشرعي ، إلى البحث عما وراءه من ( الملاكات ) المرادة لصاحبها ، ويترقی من حالة التعبد ( الحرفي ) بالأوامر والنواهي ، إلى التفاعل ( الشعوري ) مع الأمر والناهي .. فإذا طالب الحق عبده بمثل هذه المشاعر العالية عند بلوغ المسجد ، فكيف بالواجبات المهمة في حياة العبد ، عند بلوغه ساحة الحياة بكل تفاصيلها ؟! .

275- الصبغة الواحدة

إن الكون - على ترامي أطرافه وتنوّع مخلوقاته - متصف بلون واحد وصبغة ثابتة ، وهي صبغة العبادة التكوينية التي لا يتخلف عنها موجود أبدا .. والموجد المتميز بصبغة أخرى زائدة غير العبادة ( التكوينية ) ، هو الإنسان نفسه ، فهو الوحيد الذي وهبه الحق منحة العبادة ( الاختيارية ).. وبذلك صار المؤمن وجودا ( متميزا ) من خلال هذا الوجود المتميز أيضا ، لأنه يمثل العنصر الممتاز الذي طابقت إرادته إرادة المولى حبا وبغضا .. ولذلك يُباهي الحق - فيمن يُباهي فيهم من حملة عرشه والطائفين به - بوجود مثل هذا العنصر النادر في عالم الوجود .. والسر في ذلك ، أن الحق تعالی مكنّه من تحقيق إرادته ،مع ما جعل فيه من دواعي الانحراف كالشهوة والغضب ، وقد ورد :{ نَّ طائِفَهً مِنَ المَلائِکَهِ عابُوا وُلدَ آدَمَ فِی اللَّذّاتِ وَالشَّهَواتِ ، أَعنِی لَکُمُ الحَلالَ وَ الحَرامَ... فَأَنِفَ اللّهُ لِلمُؤمِنِینَ مِن وُلدِ آدَمَ مِن تَعیِیرِ المَلائِکَهِ فَأَلقَی اللّهُ فِی هِمَمِ أُولَئِکَ المَلائِکَهِ اللَّذّاتِ وَالشَّهَواتِ ، فَلَمّا أَحَسُّوا ذَلِکَ عَجُّوا إِلَی اللّهِ مِن ذَلِکَ ، فَقالُوا : رَبَّنا عَفوَکَ عَفوَکَ ، رُدَّنا إِلی ما خَلَقتَنا لَهُ ، فَإِنّا نَخافُ أَن نَصِیرَ فِی أَمرٍ مَرِیجٍ } البحار-ج8 ص 141 .

ص: 120

276- لو فرض مَحالاً

لو افتُرضَ مَحَالا أن الخلق كلهم عبيد لأحدنا ، وافتُرض أن عباداتهم إنما هي بحقنا ، ( لاستصغرنا ) ذلك منهم ، وتوقعنا منهم أكثر من ذلك بكثير ، بل لانتابنا شعور بالسخط ولزوم التأديب ، لمانراه من حقارة تعظيمهم إيانا قياسا إلى عظيم حقنا عليهم .. ومن هنا تتجلى ( أناة ) الحق في إحتمال عباده ، الذين يغلب - حتى على الصالحين منهم - ( الغفلة ) عنه في أكثر آناء الحياة .. ومن ذلك يعلم أيضا العفو العظيم من الرب الكريم ، الموجب لإعفاء الخلق من كثير من العقوبات ، مصداقا لقوله تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } و { وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللّهُ النّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ }.

277- القدرة المستمدة من الحق

إن الالتفات إلى ( عظمة ) الحق في عظمة خلقه ، وإلى (سعة )سلطانه في ترامي ملكه ، وإلى ( قهر ) قدرته في إرادته الملازمة لمراده ، كل ذلك يضفي على المرتبط به - برابط العبودية - شعورا بالعزة والقدرة المستمدة منه .. ولهذا يقول علي (علیه السلام) : { إلهی کَفی بی عِزّاً أنْ أکونَ لَکَ عَبْداً، وَکَفی بی فَخْراً أنْ تَکونُ لی رَبّاً}البحار - ج 77 ص 403.. هذا الإحساس لو تعمّق في نفس العبد ، لجعله يعيش حالة من الاستعلاء ، بل اللامبالاة بأعتى القوى على وجه الأرض- فضلاً عن عامة الخلق الذين يحيطون به - لعلمه بتفاهة قوى الخلق أجمع ، أمام تلك القدرة اللامتناهية لرب الأرباب وخالق السلاطين .

278- عظمة الخالق في النفس

قد ورد في وصف المتقين أنه قد : { عَظُمَ الْخالِقُ فی اَنْفُسِهِمْ، فَصَغُرَما دُونَهُ فی اَعْیُنِهِمْ } ..فلنتصور عبدا وصل إلى هذه الرتبة المستلزمة لصغر ما سوى الحق في عينيه ، كيف يتعامل مع كل مفردات هذا الوجود ؟!.. فإن صغر ما سوى الحق عنده ، يجعله لا( يفرح ) بإقبال

ص: 121

شئ عليه ، كما لا يأسي على فوات شئ منه ، كما لا ( يستهویه ) شئ من لذائذها ، ما دام ذلك كله صغيرا لا يستجلب نظره ، كالبالغ الذي يمرّ على ما يتسلى به الصغار ، غير مكترث بشيء من ذلك .. وفي المقابل فإن من صغُر الحق في نفسه ، فإنه ( يكبر ) كل شئ في عينه، فاللذة العابرة يراها كاللذة الباقية ، والمتاع الصغير وكأنه منتهی الأماني لديه ، والخطب اليسير في ماله وبدنه ، كأنه بلاء عظيم لا زوال له ، وهكذا يعيش الضنك في العيش الذي ذكره القرآن الكريم ..وليُعلم في هذا المجال أن كبر الدنيا في عين العبد ، تدل بالالتزام على صغر الحق المتعال في نفسه ، وفي ذلك دلالة على ( خطورة ) ما فيه العبد وإن ظن بنفسه خيرا .

279- الحركة حول محور واحد

إن في عالم الطبيعة حركةً دائبةً حول محور واحد لا تتخلف أبدا كحركة النواة والمجرّات والمجموعات الشمسية حول محاورها .. فالمطلوب من العبد المختار أيضا أن ينسجم مع هذه الحركة ( الكونية ) ، فتكون له حركته الدائبة والثابتة حول محور واحد في الوجود بلا انقطاع ..وقد طالب الحق المتعال عباده بهذه الحركة المادية أيضا و ( المشابهة )الحركة الطبيعة ، وذلك بالأمر بالطواف حول محور بيته الحرام .. ومن الملفت في هذا المجال أن جهة الطواف - بعكس حركة الساعة - تشابه الحركة الدائرية ( للتكوينيات ) وفي الاتجاه نفسه ، والتي يغلب على مداراتها عدد السبعة أيضا .

280- الإخلاد إلى الأرض

إن كلمة اثّاقلتم في قوله تعالى : {اثَّاقَلْتُمْ إِلَی الأَرْضِ } تشعر بأن الإخلاد إلى الأرض ، کسقوط الأثقال إلى الأسفل ، في أنها حركة( طبيعية ) لا تحتاج إلى كثير مؤونة ، بخلاف الحركة إلى الأعلى ،فإنها حركة ( قسرية ) تحتاج إلى بذل جهد ومعاكسة للحركة الطبيعية تلك .. ولهذا ورد التعبير ( بالنفر ) في قوله تعالى : { انفِرُواْ فِی سَبِیلِ اللَّهِ } .. و ( الفرار ) في قوله تعالى : {فِرُّوا إِلیَ اللّهِ } .. و

ص: 122

( المسارعة ) في قوله تعالى : { سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ }، مما يدل جميعا على أن الوصول إلى الحق ، يحتاج إلى نفر وفرار ومسارعة .. وفي كل ذلك مخالفة لمقتضى الطبع البشري ، الميال إلى الدعة والاستقرار والتباطؤ .

281- التعالي عن عامة الخلق

إن مثل المتعالي عما يشتغل به عامة الناس ، كمثل من أرغم على الاشتراك مع من هم دون سن البلوغ في لهوهم ولعبهم .. فيجد كثير( معاناة ) في هذه المعاشرة ، لعدم وجود ( الأنس ) مع من لا تربطه بهم صلة في علم و لا عمل .. فعلى المؤمن - المبتلى بمثل هذه الحالة -أن يعاشر الخلق ببدنه لا بروحه ، ليتخلص من تبعات عدم التوافق الذي ينغّص عيشه .. ومن الضروري في مثل هذه الحالة ، كتمان حالات الضيق التي تنتابه معهم ، إذ أن في ذلك ( انتقاص ) غيرمحمود ، قد يعرّض نعمة العلو الروحي للزوال ، كما ينبغي الالتفات الدقيق إلى عدم الوقوع في دائرة العُجب المهلكة ، عندما يرى في نفسه من الكمال ما لا يراه في عامة الخلق ، لأن المُعجَب الواجد للكمال ،أقرب للهلاك من الفاقد له ..

282- صراحة أمير المؤمنين

يكتب أمير المؤمنين (علیه السلام) كتابا إلى واليه يقول فيه : { تَعْمُرُ دُنْیَاکَ بِخَرَابِ آخِرَتِکَ، وَتَصِلُ عَشِیرَتَکَ بِقَطِیعَهِ دِینِکَ وَلَئِنْ کَانَ مَا بَلَغَنِی عَنْکَ حَقّاً، لَجَمَلُ أَهْلِکَ وَشِسْعُ نَعْلِکَ خَیْرٌ مِنْکَ، وَمَنْ کَانَ بِصِفَتِکَ }البحار-ج33 ص506.. فتبلغ صراحة أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وتنمّره في ذات اللّٰه تعالى مبلغا يجعل شسع النعل ، خيرا ممن ينحرف عن طريق الحق.. لوضوح أن شسع النعل لا ( غضاضة ) في وجوده ، إذ أنه ( مسبح )للحق بلسان حاله أو مقاله ، كباقي موجودات هذا الكون الفسيح ،خلافا لمن ( حاد ) عن جادة الحق ، فهو دون البعير وشسع النعل بل أضل سبيلا

ص: 123

283- الاشتغال بالفسيح

إن مواجهة القلب مواجهة متفاعلة مع أمور الدنيا - وخاصة المقلق منها - مما ( تضيّق ) القلب .. إذ أن القلب يبقى منشرحا إذا اشتغل ( بالفسيح ) من الأمور التي تتصل بالمبدأ والمعاد .. والقلب الذي يشتغل بالسفاسف من الأمور ، يتسانخ مع ما يشتغل به ، فيضيق تبعا لضيق ما اشتغل به .. والحل - لمن لابد له من التعامل مع الدنيا - أن يرسل إليها ( حواسه ) وفكره القريب إلى حواسه .. وأما ( القلب ) والفكرالقريب إلى قلبه ، فيبقى في عالمه العلوي الذي لا يدنّسه شئ .. فمَثَل القلب كمَثَل السلطان الذي يبعث أحد رعاياه لفك الخصومات وغيرها ،ولا يباشرها بنفسه لئلا تزول هيبة سلطانه .

284- صنوف الكمال

يمكن القول أن جميع صنوف الكمال مجتمعة في قوله تعالى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } .. فإن فيه كمال ( معرفة الرب ) ، لأنه لولا هذه المعرفة لما عرف مقام الرب ، وبالتالي لم يتحقق منه الخوف من صاحب ذلك المقام .. وفيه كمال مرتبة ( القلب السليم )لأن الخوف من مقام الرب لا ينقدح إلا من القلب السليم ، الذي خلي من الشوائب بما يؤهله لنيل تلك المرتبة من الخوف .. وفيه كمال مرتبة ( العمل الصالح ) الذي يلازم نهي النفس عن الهوى ، إذ أن الذي يصد عن العمل الصالح ، هو الميل إلى الهوى الذي لا يدع مجالا لتوجه القلب إلى العمل الصالح .

285- كثرة الهموم

إن كثرة الهموم والعموم تنشأ من تعدد مطالب العبد في الحياة الدنيا، فكلما ( يأس ) من تحقيق مأرب من مآربه ، ( انتابه ) همّ الفشل ،فإذا تعددت موارد الفشل ، تعددت موجبات الهموم ، وتبعاً لذلك تتكاثف الهموم على القلب بما تسلبه السلامة والاستقامة .. فلو نفی العبد عن قلبه الطموحات الزائفة ، وتضيّقت عنده دائرة المحبوبات ،واقتصرت همّته على ما يحسن الطمع فيه والطموح إليه ، ( قلّت )

ص: 124

عنده فرص الفشل ، وبالتالي نضبت روافد الهموم إلى قلبه .. وقد أشار أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى هذه الحقيقة بقوله : { قَد تَخَلّی مِنَ الهُمومِ إلّا هَمّاً واحِداً } البحار - ج 2ص56.. ومن هنا يعيش الأولياء حالة من( النشاط ) والانبساط الذي يفقده - حتى المترفون - من أهل الدنيا ،وذلك لانصرافهم عما لا ينال ، وتوجّههم إلى ما يمكن أن ينال في كل آن ، وهو النظر إلى وجهه الكريم .

286- السعة المذهلة للوجود

ورد في الحديث { ما السماوات والأرض عند الکرسی إلّا کحلقه خاتم فی فلاه، وما الکرسی عند العرش إلّاکحلقه في الفلاة }البحار-ج18ص 2 إن استشعار هذه الحالة - وخاصة - عند مواجهة الحق في الصلوات والدعوات ، يجعل العبد يعيش حالة ( التذلّل )والانبهار أمام هذه القدرة التي لا تتناهى ، والسلطان الذي لا يدرك کنهه .. فمن موجبات ( تعميق ) محبة المحبوب ، هو الالتفات التفصيلي لما عند المحبوب من صفات وقدرة ، ولما يتمتع به من جمال وجلال ..والأمر عند عشاق الهوى كذلك ، إذ أنهم يختارون من يجتمع فيهم الجمال والاقتدار .. فالأول عنصر ( اجتذاب ) يوجب دوام محبة المحبوب .. والثاني عنصر ( ارتياح ) يوجب قضاء مآرب الحبيب .

287- حقيقة الاسترجاع

إن حقيقة آية الاسترجاع : {إنّا للّه وإنّا إليه راجعون} لو تعقّلهاالعبد بكل وجوده ، لأزال عنه الهمّ الذي ينتابه عند المصيبة .. والسر في ذلك أن الآية تذكّره بمملوكية ( ذاته ) للحق ، فضلا عن( عوارض ) وجوده .. وهذا الإحساس بدوره مانع من تحسّر العبد على تصرف المالك في ملكه - وإن كان بخلاف میل ذلك العبد - إذ أنه أجنبي عن الملك قياسا إلى مالكه الحقيقي .. كما تذكره ( بحتميّة ) الرجوع إليه المستلزم ( للتعويض ) عما سلب منه وهو مقتضی کرمه وفضله ، وإن ذكرنا آنفا أن سلب الملك من شؤون المالك لا دخل لأحدٍ فيه ، كما يقال في الدعاء : { لَاتُضَادُّ فِی حُکْمِکَ، وَلَا تُنَازَعُ فِی

ص: 125

مُلْکِکَ}.. كل هذه الآثار مترتبة على وجدان هذه المعاني ، لا التلفظ بها مجردة عما ذكر .

288- روح الدعاء

رأي الإمام الحسن (علیه السلام) رجلا يركب دابةٌ ويقول : { سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } ، فقال (علیه السلام) أبهذا أمرتم ؟ ، فقال بم أمرنا؟ ، فقال (علیه السلام) : (إن تَذكرُوا نِعمَةَ رَبّكم ) .. ومن ذلك يعلم أن حقيقة الأدعية المأثورة تتحقق بالالتفات الشعوري إلى مضامينها .. إذ أن الدعاء حالة من حالات القلب ، ومع عدم تحرك القلب نحو المدعو وهو ( الحق ) ، والمدعو به وهي ( الحاجة) ، لا يتحقق معنىً للدعاء ..وبذلك يرتفع الاستغراب من عدم استجابة كثير من الأدعية ، رغم الوعد الأكيد بالاستجابة ، وذلك لعدم تحقق الموضوع وهو ( الدعاء ) بالمعني الحقيقي الذي تترتب عليه الآثار .

289- الملَکَة أشرف من العمل

إن رتبة ملكة التقوى أشرف من رتبة العمل الصالح لجهات : منها أن صاحب الملكة متصف بتلك الملكة وإن ( انقطع ) عن العمل ، فالكريم کریم وإن لم يكن متلبساً بالإكرام الفعلي .. ومنها أن العمل الصالح قد تشوبه ( شوائب ) العمل من الرياء وغيره ، والحال أن الملكة حالة راسخة في الباطن ، فلا مجال لإبدائها بنفسها في الظاهر لجلب رضا المخلوقين ، وإن بدت آثارها في الخارج .. ومنها أن العمل الصالح قد ( يفارق ) العبد ولا يعود إليه لوجود ما يزاحم تحققه ، ولكن الملكة صفة لازمة للنفس .. ومنها أن الملكة قائمة بالروح ( الباقية ) بعد الموت أيضا ، والعمل الصالح قائم بالبدن ، ولهذا ينقطع بانقطاع الحياة .. ومنها أن العمل من ( آثار ) الملكة التي منها يترشح العمل المنسجم مع تلك الملكة ، ورتبة ما هو کالسبب ، أشرف من رتبة ما هو كالمسبَّب .

ص: 126

290- الحسنة في الدنيا والآخرة

إن من يهوى الدنيا ، يطلبها بكل متعها ، من دون ( تقييدها )بكونها حسنا عند الحق المتعال .. وذلك لأن كل ما فيها - مما يطابق الهوى - مطلوب لديه .. وهذا بخلاف المؤمن الذي لا يريد من الدنيا والآخرة ، إلا ما كان ( حسناً ) عند مولاه .. ولهذا يوكل أمر آخرته ودنياه إليه ، لأنه الأدري بالحسن الذي يلائمه بالخصوص .. وقد روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) في تفسير قوله تعالى : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً } أنه قال : (رِضوانُ اللّهِ وَالجَنَّةُ فِی الآخِرَةِ،وَالسَّعَةُ فِی الرِّزقِ،وحُسنُ الخُلُقِ فِی الدُّنیا ).

291- التركيز في غير الصلاة

يتذرع الكثيرون الذين لا يملكون القدرة على التركيز - في الصلاة والدعاء - بذرائع واهية من عدم القدرة على مثل ذلك ، بما يوهم سقوط التكليف بالصلاة الخاشعة .. والحال أن هؤلاء أنفسهم يملكون أعلى صور التركيز في مجال عملهم ، بل في مجال العلوم التي تتطلب منهم التركيز الذهني المتواصل .. والسر في ذلك واضح وهو رغبتهم( الأكيدة ) في مثل هذا التركيز فيما يحبون ، طمعا لما وراءه من المنافع .. ولو تحققت فيهم مثل هذه ( الرغبة ) في التركيز - عند الصلاة والدعاء - طلبا لعظيم المنافع فيهما ، ( لأمكنهم ) مثل هذا التركيز أيضا بل أشد من ذلك .. وتتجلّى ضرورة مثل هذا التركيز ،بالتأمل فيما روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال : { فَمَنْ کَانَ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقاً فِی صَلاَتِهِ بِشَیْءٍ دُونَ اَللَّهِ فَهُوَ قَرِیبٌ مِنْ ذَلِکَ اَلشَّیْءِ بَعِیدٌ مِنْ حَقِیقَهِ مَا أَرَادَ اَللَّهُ مِنْهُ فِی صَلاَتِهِ} تفسير الصافي- ج 4 ص 161 .

292- سكر الشهوة والغضب

كما أن ( المسكرات ) سالبة للعقل ، فكذلك ( الشهوة ) و ( الغضب )تسلبان الإرادة من صاحبهما حتى يوصلاه إلى ما يقرب من السكر بل الجنون!!.. فالمردود السلوكي متشابه في كل من : السكر والشهوة والغضب .. فعلى المؤمن - الذي لا بد وأن يمارس شهوته في فترات من

ص: 127

حياته - أن لا يسترسل أثناء ممارسته لتلك الشهوة بما يفقده حالة الاعتدال .. ومن هنا أحاط الشارع الحكيم ( معاشرة ) النساء بأحكام وجوبيه وإستحبابية - حتى في الليلة الأولى منها - لئلا يعيش العبد حالة من الذهول المطلق عن مولاه عند فوران شهوته .. وقد وصف أمير المؤمنين (علیه السلام) بوصف بليغ تلك الحالة بقوله : {حَیاءٌ یَرتَفِعُ ، وعَوراتٌ تَجتَمِعُ ، أشبَهُ شَیءٍ بِالجُنونِ ، الإِصرارُ عَلَیهِ هَرَمٌ ، والإِفاقَهُ مِنهُ نَدَمٌ } - غرر الحکم .

293- السياحة اللاهادفة

إن على المؤمن أن يحترز عن السياحة في ( اللاهادفة ) التي لا يتأتّى فيها قصد ( القربة ) إلى الحق .. فإن جميع حركات العبد وسكناته ،ينبغي أن تكون مقرونة ( بالنّية ) التي تربطه بالعلة الغائية في أصل وجوده .. وإلا فإن مجرد التنقل من بلد إلى بلد لا قيمة له في حد نفسه ، سوى ما يستوجبه شيئا من الاسترخاء والارتياح ، الذي يزول مع العودة إلى البيئة التي كان فيها العبد ، ليعاني فيها - مرة أخرى -مشاكله التي غفل عنها في سفره .. وهذا خلافا للسياحة التي ترتبط بهدف مقدس ، کمواطن الطاعة والارتباط بالحق أو بأوليائه ، أو کالمواطن التي تعينه على استرجاع النشاط ، لمواصلة سبیل العبودية بجد واجتهاد .. فإن أثرها متسمٌ بالبقاء والخلود ، لأنه مصداق لما عند اللّٰه تعالى .. وقد ورد عن الإمام الكاظم (علیه السلام) بعد تقسيم الساعات لمناجاة اللّٰه تعالى ولأمر المعاش ولمعاشرة الإخوان ، أنه قال : { وَساعَةً تَخْلُونَ فيها لِلَذّاتِكمْ في غَيرِ مُحَرَّم وَبِهذِهِ السّاعَةِ تَقْدِروُنَ عَلَي الثَّلاثِ ساعات } البحار-ج78 ص 321 .

294- الاستلقاء بعد التثاقل

يستحسن في بعض الحالات التي يعيش فيها العبد حالة ( التثاقل )الروحي أن يستلقي في جوّ هادئ ، ليعيش شيئا من ( التركيز )الذهني فيما يحسن التفكير فيه .. وهذا الإستلقاء بمثابة إعادةٍ لحالة

ص: 128

( التوازن ) النفسي الذي يختل في زحمة الحياة ، سواء في دائرة مشاكله الخاصة أو العامة .. ومن هنا نلاحظ التركيز الكثير ، من الشارع الحكيم على أدعية ما قبل النوم ، ليستذكر العبد ما نسيه في معترك التعامل مع ما سوى الحق المتعال .

295- روح الصلاة

إن على العبد أن يسعى للوصول إلى مرحلة يعيش فيها ( روح )الصلاة طوال ليله ونهاره .. فإن روح الصلاة هي التوجه للحق ، وما الصلاة إلا قمّة ذلك (التوجه ) العام ، وهي موعد اللقاء الذي أذن به الحق المتعال لجميع العباد .. ومن هنا كان الذاهل عن ربه - في ليله ونهاره - عاجزا عن الإتيان بالصلاة التي أرادها منه ، إذ أنه وصفها بقوله : { وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى اَلْخاشِعِينَ } .. وهذه هي من صور الإعجاز ، لأن الصلاة على خفّتها على البدن ، يستشعر ثقلها غير( الخاشعين ) ، بما يفوق ثقل بعض الأعمال البدنية الأخرى .

296- عدم الذهول عند الخطاب

يحسن بالداعي أن يعيش ولو أدنى درجات ( التوجّه ) والجديّة في الخطاب ، عند حديثه مع الرب بقوله : { اللهمّ } .. فإن خطاب العظيم مع الذهول عنه - عند ندائه - لمن صور سوء الأدب الذي قد يوجب عدم التفات ذلك العظيم إلى ما يقوله المتكلم بعد ذلك .. فلا يحسن بالداعي أن يهمل صدر الخطاب وهو ( نداء ) الرب الكريم ، ويتوجه بقلبه في ذيله وهو ( طلب ) الحوائج .. إذ يتجلى بذلك حالة النفعية والطمع ، مع الإخلال ( بالأدب ) عند مخاطبة العظيم.

297- الحيران في الأرض

يصوّر الحق - فيما يصور - حالة العبد الضّال المتحير في هذه الحياة، المبتعد باختياره عن جادة الهدي ، فيقول : { کَالَّذِی اسْتَهْوَتْهُ الشَّیَاطِینُ فِی الأَرْضِ حَیْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ یَدْعُونَهُ إِلَی الْهُدَی } ..فهو إنسان حائر وكأنه على مفترق طرق عديدة ، لا يعلم طريق الخلاص منها ،

ص: 129

والشياطين تحيط به تطلب هواه ، بمعنى أنها تطلب منه أن يهوى ما فيه ( هلاکه ) ، أو بمعنى أنها تطلب منه ( الحبّ ) والهوى لنفس الشياطين ، وذلك بحبّ ما تدعو الشياطين إليه .. فتكون الصورة الثانية أبلغ في تجسيد هذا الخذلان ، لأنها تمثل الشياطين وكأنها امرأة تطلب هوى الغريم ، وتسعى لإيقاعه في عشقها ، ومن ثَمَّ الفتك بهذا العاشق البائس بعد ( ارتمائه ) في أحضانها .

298– التصرف في الحس

ذكر الحق في كتابه الكريم : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ اَلنُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ } ، وقال أيضا:{ وَإِذ یُرِیکُمُوهُمْ فِی أَعْیُنِکُمْ قَلِیلاً } ، مما يستفاد من ذلك أن الحق يتصرف حتى في ( حواس ) العباد ، لمصلحة يراها بحكمته ،إضافة إلى تصرفاته في ( النفوس ) ، كقوله تعالى : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } .. إن هذا الاعتقاد اليقيني ( بهيمنة) الحق على شؤون العباد ،وكونهم جميعا في قبضته ، يبعث المؤمن على الارتياح التام إلى نصرة الحق ، ولو استلزم التصرف في عالم الأبدان ، فضلا عن عالم النفوس .

299- صرف الكيد

ذكر الحق في كتابه مستجيبا لدعاء نبيه يوسف (علیه السلام) فقال : { فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ } ، مما يدل على أن الحق رغم أنه أعطى العبد الاختيار في الأفعال - فله أن يختار المعصية أو الطاعة -إلا أنه في الوقت نفسه ، حريص على استقامة عبده الذي ( استخلصه) لنفسه ، وجَعْله في دائرة رعايته الخاصة ، فيصرف عنه موارد الكيد والفتنة ، كما طلبها يوسف (علیه السلام) من ربه .. وهذا من مصاديق ( التوفيق ) الذي يتجلى في تيسير سبيل الطاعة للعبد تارة ، وإبعاده عن سبيل المخالفة تارة أخرى ، خلافا ( للخذلان ) الذي ينعكس فيه الأمر .. ومن هنا تأكّدت الحاجة للدعاء دائما بالتوفيق وتجنيب الخذلان ، ومن دون

هذا التوفيق ، كيف يستقيم العبد في سيره إلى الحق ، مع وجود العقبات الكبرى في الطريق ؟!.. ولهذا يدعو أمير المؤمنين كما روي عنه قائلاً : { إِلَهِی إِنْ لَمْ تَبْتَدِئْنِی الرَّحْمَهُ مِنْکَ بِحُسْنِ التَّوْفِیقِ فَمَنِ السَّالِکُ بِی إِلَیْکَ فِی وَاضِحِ الطَّرِیقِ ؟! }.

ص: 130

300- کالالتفات إلى العورة

إن العبد الذي غَلَب على وجوده ( هوى ) المولى ، يرى أن الالتفات إلى نفسه ( إرضاء ) لها وإعجابا منها بدلا من الالتفات إلى مولاه الحق ، كالنظر إلى ما لا يقبح النظر إليه كالعورة مثلا .. فكما قبح الثاني عند عامة الخلق ، فكذلك يقبح الأول عند الخواص من ذوي المعرفتة بالحق ، فينتابهم شعور بالخجل عند الارتياح إلى ذواتهم ،وإشباع رغباتهم ، كمن بَدَت عورته على حين غفلة .. ولعل هناك ارتباطاً بين أكل الشجرة المنهيّة ، وبين بدوّ العورة في قوله تعالی :{ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ }

301- جعل الود من الرحمن

إن قوله سبحانه : {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } تشير إلى حقيقة هامة ، وهي أن الود من ( مجعولات ) الرحمن يجعلها حيث يشاء ، ولاخُلْف لجَعْله كما لا خلف لوعده .. فمن يتمنى هذه المودة المجعولة من جانب الحق ، عليه أن يرتبط بالرحمن برابط الود .. فإذا تحقق هذا الودّ بين العبد وربه ، نشر الحق وده في قلوب الخلق بل - كما روي -في قلوب الملائكة المقربين .. وهذا هو السر في محبوبية أهل ( وداد )الحق ، رغم انتفاء الأسباب المادية الظاهرية لمثل ذلك .. وقد ورد عن النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) أنه قال : { مَن أقبَلَ عَلی اللّهِ تعالی بقَلبِهِ جَعَلَ اللّهُ قُلوبَ العِبادِ مُنقادَهً إلَیهِ بِالوُدِّ والرَّحمَهِ في البحار ج 77 ص 177.

302- زيِّ العبودية

كثيرا ما يرى العبد أنه الفعال لما يريد في هذه الحياة ، لتمكّنه من علاقة السببية القائمة بين أفعاله والنتائج ، فيشرب الدواء ليتسبب منه الشفاء وهكذا في كل موارد التسبيب .. ومن الضروري في هذا المجال الالتفات إلى أن طرفي النسبة وهو - الدواء والشفاء - منتسبان إلى الحق مباشرة ، وإن تسبّب العبد في إيجاد الربط بينهما .. فهو ( الخالق

ص: 131

) للدواء والمبدع ( لسَببّيته ) في الشفاء ، كما أنه المؤثر في ( قابلية )البدن للشفاء بذلك الدواء ، وهو الذي بمشيئته يرفع السببية بين الطرفين - لو شاء في موردِ - وإن أعمل العبد جهده في إيجاد الربط بينهما .. كما أنه بمشيئته أيضا قد يحقق المسبَّب من دون وجود سبب عادي من عبده ، كما في موارد الكرامة والإعجاز .. وبذلك لزم على العبد الالتفات إلى كل ذلك ، لئلا يخرج من زي العبودية للحق المتعال ،أثناء تعامله مع عالم الأسباب .

303- من أشق الرياضات

إن من الرياضات الشاقة وعظيمة الأثر في مسيرة العبد ، هو الذكر( الدائم ) للحق .. وإلا فإن الرياضات التي يستعملها أهل الرياضات الشاقة - في المذاهب المنحرفة - لها صفة ( التوقيت ) ، ويتعلق( بالأبدان ) غالبا ، والحال أن استغراق أكثر الوقت بذكر الحق المنعكس على الأبدان والقلوب معا ، مما لا يتيسر إلا للنفوس التي بلغت أعلى درجات القدرة على ترويض النفس ، وحبْسها على التوجّه الدائم إلى جهة واحدة ، رغم وجود الصوارف القاهرة التي لا يطيقها حتى أهل الرياضات البدنية الشاقة فضلا عن غيرهم .. والسبب في ذلك أن انقياد ( النفس ) للإرادة أشق من انقياد ( البدن ) للإرادة نفسها .. فإن البدن أطوع قيادا للإرادة قياسا إلى النفس ، إذ أن الإرادة أشد إحاطة بالبدن مقارنة بالنفس الجموحة ، وخاصة في مجال نفي الخواطر الذهنية ،وصرف الدواعي النفسانية .

304- الصور الجميلة الفانية

إن الأحداث التي تمر على الإنسان - حلوُها ومرها - ما هو إلاتبدّل مستمر لما هو واقع في ( الخارج ) إلى ما هي ( الصورة ) في الذهن ، وعليه فإن المستمتع بأنواع المتع في الحياة ، لديه كم هائلٌ من الصور الجميلة المختزنة في ذهنه والمنعكسة من الواقع الذي عاشه .ولطالما كلّفته هذه الصور صرف المال وتجاوز الحدود الإلهية .. مَثَله في

ص: 132

ذلك كمَثَل من يجمع الصور الجميلة للذوات الجميلة ، من دون أن يتمثّل شيءٌ من الواقع بين يديه .. كما أن الأمر كذلك في الحوادث المحزنة ، إذ تذهب آلام الماضي ، لتحل محلها ذكريات لا أثر لها لولاتذكّرها .. إن تصوّر هذا الواقع للحياة ، ( يهوّن ) على الإنسان كثيرا من المآسي ، كما يخفّف من اندفاعه المتهور نحو اقتناء اللذات التي وصفناها بما ذكر ، من التبدل المستمر من الواقع الخارجي إلى الصورة الذهنية.

305- المتهجدون هم أولو النهي

روي عن النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) أنه قال : { خِیارُکُم اُولُو النُّهی } ، فقيل يا رسول اللّٰه ومن أولو النّهي ؟ ، فقال : { وَالمُتَهَجِّدونَ بِاللَّیلِ وَالنّاسُ نِیامٌ } البحار-ج78ص158 .. فالملاحظ أن النّهي أمر مرتبط بعالم التعقل واللب، ومن هنا كان هو المُدرك للآيات والعلامات الدالة على الحق ، وقد ورد في القرآن الكريم : { إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى }.. والتهجدحالة عبادية يتمثل في توجه القلب إلى الحق المبين ، فما الارتباط إذن بين النّهي والتهجد ؟!.. ودفعا للاستغراب نقول إن للعبادة دوراً أساسياً في تكميل العقل من جهات : فالعبادة - في نفسها - لا تخلو من( تدبر ) وخاصة في الأسحار ، أضف إلى أنها ( مانعة ) لغلبة الشهوات القاضية على ازدهار العقل في الوجود البشري ، أضف إلى ( مِنَح )الحق الموجبة لتكمیل أحب ما خلق وهو العقل في هؤلاء العباد .. فكما أنه يكسو أصحاب الليل من أنوار جلاله ، جزاء خلوتهم به - ولهذا صاروا كما روي من أحسن الناس وجها - فإنه كذلك يكسو عقولهم من أنوار المعارف الحقة ، ما لا يُعطاها جهابذة الفكر البعيدين عنه .

306- مصادر المعرفة

إن من مصادر المعرفة ، ( الوحي ) وهو كشف الحقيقة كشفا مباشرا مجاوزا للحس ومقصورا على من اختارته يد العناية الإلهية .. و ( العقل ) وهو في اللغة الحَجْر والنَّهْي ، وصار شبيها بعقال الناقة في أنه يمنع

ص: 133

صاحبه من العدول عن سواء السبيل ، كما يمنع العقال الدابة من الشرود .. و ( الإلهام ) وهو إلقاء الحق في نفس الإنسان أمراً يبعثه على الفعل أو الترك ، بلا اكتسابٍ أو فكرٍ وهو وارد غيبي .. و ( الحس )وهو إعمال أدوات المعرفة الطبيعية في كشف مجاهل عوالم المحسوسات المرئية وغير المرئية .. والمصادر الثلاثة الأخيرة للمعرفة ، متاحةٌ للجميع بشروطها المتناسبة مع كل واحدة منها .

307- همزات الشياطين

يستعيد العبد بربه من همزات الشياطين ، والهمز هو النخس ، شُبّه ذلك بهمز الدواب عند المشي ، والهمزة عصا في رأسها حديدة مدببة ينخس بها الحمار ونحوه ، فكأن الشيطان جعل نفسه ( كالراعي ) للقطيع الذي يملكه ، فله الحق متى شاء أن يهمز من يسوقه إذا تباطأ في السير ، وفي ذلك غاية ( المذلة ) والهوان لمن خُلق في ( أحسن ) تقويم .. فالالتفات إلى هذه الحقيقة المرّة - وما أكثر تحققها في حياة البشرية - يجعل العاقل يتمرد على سلطان الشيطان الذي يوصله إلى مستوى البهائم ، التي تفقد حريتها في انتخاب السبيل الأصلح .

308- التصرف في ملك الغير

إن مَثَل من ( يُخطِر ) على قلبه الخطورات الفاسدة ، كمَثَل من( يتصّرف ) في لوح مملوك للغير ، فينقُش فيه ما لا يرضى صاحبه ،ثم يمسحها بعد كل مخالفة لرضا مالكها .. فإن عالم ما وراء الأبدان من - القلب و الفكر - مملوك للحق أيضاً ، كمملوكية عالم الأبدان ..وعليه فإنه لا ينبغي التصرف فيهما بما لم يأذن به المالك ، وإن خفيت هذه الحالة من الغاصبية عن أعين المخلوقين ، بل وإن لم يعتبرها الغاصب غصباً ، لعدم استحضاره لهذه الحالة من الملكية الخفية للحق المتعال .. وقد أشار الحق إلى علمه بهذه التصرفات الباطنية بقوله :{ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } ، مما يؤكد حالة الغصبيةالمذكورة .

ص: 134

309- وضوح السبيل

قد يتحيّر بعضهم في سلوك أقرب سبيلٍ إلى الحق ، والحال أن الأمر( واضح ) في كلياته التي يعرفها الجميع ، وإن ( أبهم ) في جزئياته التي تنكشف له أثناء سيره في ذلك الطريق .. فالمطلوب من العبد هو العمل بما يعلمه ، ليُفتح له الطريق إلى ما لا يعلمه ، إذ { مَن عَمِلَ بِما يَعلَمُ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلمَ ما لَم يَعلَم}.. فالمهم في المقام أن ينفي موانع الوصول ، وإلا فإن اليسير من المقتضيات كافٍ لعناية الحق في حقه ..وليُعلم أن الاستغراق في ( الوجوديات ) مع عدم الالتفات إلى( العدميات ) ، من سبل إغواء الشيطان .

310- الطموح في الدرجات

روي عن الصادق (علیه السلام) انه قال : { يَقْطَعُ عَلائِقَ الإِهتِمامِ بِغَيْرِ مَنْ لَهُ قَصَدَ وَإِلَيْهِ وَفَدَ وَمِنْهُ اسْتَرْفَدَ } البحار-ج47ص 185.. إن هذه الرواية وأشباهها من الروايات التي تبّين الحقول الخاصة من السير إلى اللّٰه تعالى ، لا تدع مجالا للشك في أن أئمة الهدى (علیهم السلام) يطلبون من شيعتهم هذا النمط المتميز من (الانقطاع ) إلى الحق ، خلافا لمن يدعي أن هذه الرتب والطموحات ، إنما تُمنح لمن يقرب منهم فحسب ،مفوّتين على أنفسهم أفضل فرص العمر التي تمضي - على أحسن التقادير - في عبادات خالية من روح التغيير لمسيرة العبد في الحياة ..ولهذا ( تفتقد ) حركتهم الروحية صور التكامل ، والدليل على ذلك ما نشاهده من ( الرتّابة ) في أداء العبادة ، والتي لا تتغير - قلبا ولا قالبا - طوال عمر صاحبه .

311- تقويم القلب وسیاسته

روي عن النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) أنه قال : { قالَ اللّٰه تَعالي: لا اَطَّلِعُ عَلي قَلْبِ عَبْدٍ فأعْلَمُ فيهِ حُبَّ الاِخْلاصِ لِطاعَتي لِوَجْهي وَابْتِغاءِ مَرْضاتي، اِلّا لَوَلَّيتُ تَقْويمَهُ وَ سِياسَتَهُ و من اشْتَغَلَ بِغَيري، فَهُوَ مِنَ الْمُسْتَهْزِئينَ بِنفسِهِ؛ وَ مَكتُوبٌ اِسْمُهُ في ديوانِ الْخاسِرين } بحار الأنوار ج 82ص136.. فمن

ص: 135

الحقائق التي كشفت عنها هذه الرواية الشريفة ، أن الحق تعالى ( يتبنى) بعض القلوب بالرعاية والتقويم ، كتبنيه لقلوب الأنبياء مع اختلاف الرتب .. ومن هنا نرى بعض حالات الاستقامة الشديدة لمن أحاطته دائرة المفاسد من دون أن يقع فيها ، وكأنّ هناك من ( يحوطه )بالرعاية والتسديد في كل خطوة من خطوات حياته ، تزييناً للخير تارة ، وتكريهاً للفسوق تارة أخرى .. وقد أشارت الرواية إلى أن من ( مفاتيح ) هذه المنزلة ، هو حب الإخلاص لطاعة الحق .

312- الانشغال بالأهل

ورد في الحديث عن أمير المؤمنين ، { لا تَجعَلَنَّ أکثَرَ شُغلِکَ بِأهلِکَ ووُلدِکَ ؛ فإن یَکُن أهلُکَ ووُلدُکَ أولِیاءَ اللَّهِ فإنَّ اللَّهَ لا یُضِیعُ أولِیاءَهُ ، وإن یَکونوا أعداءَ اللَّهِ فما هَمُّکَ وشُغلُکَ بأعداءِ اللَّهِ } البحارج104ص 73.. ففيه إيقاظ لأغلب الغافلين في حياتهم الاجتماعية، الذين يصرفون جُلّ اهتمامهم وخاصة في - مجال الرزق - لمن حولهم ، تاركين الاهتمام بالجوانب الأخرى من التربية والأخلاق الفاضلة .. فالاهتمام ( بالأولاد ) ينبغي أن يكون بمقدار ( ما أمر ) به الحق ، وخاصة مع الالتفات إلى تقطّع أواصر القرابة ، عندما ينفخ في الصور كما ذكره القرآن الكريم .

313- الانتظار الحق

إن انتظار الفرج - الذي هو من أفضل الأعمال - يذكّرنا بالانتظار المذكور في قوله تعالى : { مِنَ المُؤمِنينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَليهِ فَمنهُم مَن قَضى نَحبَه وَمِنهُم مَن يَنتَظِرُ وَما بَدَّلوا تَبديلاً }.. فالمنتظرون في هذه الآية هم الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا اللّٰه عليه ، وهم على أهبة الاستعداد للجهاد منتظرين للشهادة ، ليلتحقوا بركب من مضى قبلهم .. أضف إلى ذلك أنهم ثابتون على ما هم عليه، إذ لم يبدلوا تبديلا .. فأين هذا ( الانتظار ) الواقعي من ( تمنّي ) الانتظار وإبداء الأشواق الخالية من المعاني الصادقة ؟!.

ص: 136

314- في خدمة المخدوم

إن مَثَل النفس بين يدي الحق ، كمثل الخادم الذي كلما ( قلّ ) ارتباطه بغير الخدوم ، كلما ( تمحّض ) في خدمة مولاه .. بل إن العبد المطيع لمولاه ، يتمنى أن لا يرسله المولى في حوائجَ بعيدة - وإن كانت فيها مصلحته - لئلا يحرم النظر إلى وجه مولاه الذي أنس به ..فالمؤمن يتمنّى الفراغ الذي يؤهله للتفرغ في عبادة الحق ، ويستوحش من إقبال الدنيا عليه وإن كان فيها خيراً ، كما ( يستوحش ) من تفرّق باله في الصالحات ، لئلا ( يُذهل ) عن الإحساس الدائم بالمثول بين يدي الحق ، وقد روي أن الإمام الكاظم (علیه السلام) شَكَر ربه عند دخوله السجن ، إذ رُزِق مكانا خاليا للعبادة .

315- اضطرار صاحب الأمر

إن مَثَل صاحب الأمر(علیه السلام) بين ظهراني هذه الأمة ، كمَثَل من غُصب داره ، وسُلب ماله ، واحتجز حريمه ، ونُفي من بلده ، واستغاث به أهله ، وقدر على استيفاء حقه ، ولكن لم يُؤذن له بذلك ، وبقي كذلك منتظرا قرونا طوالا .. والحال أنه صلوات اللّٰه عليه أشّداضطرارا ممن ذكر ، وذلك ( لسعة ) الدار التي غصبت منه ، و ( كثرة ) المستغيثين به من أولياء الحق ، و ( شدة ) الفتن التي وقعت عليهم ، و( إحاطته ) في كل آن بالمصائب التي يراها بنفسه ، والحال أنه هو المظهر الرافة الحق أسوة بجده (صلی اللّه علیه و آله وسلم) .. يضاف إلى كل ذلك المصائب التي سلفت على أجداده الميامين ، والتي وُكّل أمر الثأر منها إليه .. وهو مع كل ذلك غير قادر على دفع ما مُنيت به الأمة في غيبته ، وهو الإمام المفترض الطاعة على جميع أهل الأرض .

316- معاشرة ثقيلي المعاشرة

ينبغي تحاشي معاشرة من تثقل معاشرته ، لئلا يلتجئ المرء إلى( التصنّع ) في حسن المعاشرة معهم ، و ( المداراة ) في كل صغيرة وكبيرة ، لئلا يقع في مغبة إيذاء المؤمن ولو بشطر كلمة .. كل ذلك

ص: 137

يوجب صرف نظر العبد إليه ، بما يلهيه عن ذكر الحق .. وقد روي ؛{ أن أمير المؤمنين (علیه السلام) إِذَا أَرَادَ أَنْ یُصَلِّیَ مِنْ آخِرِ اللَّیْلِ أَخَذَ مَعَهُ صَبِیّاً لَا یَحْتَشِمُ مِنْهُ } البحار - ج 27 ص208 .

317- تأليب الآخرين

عندما ييأس الشيطان من التصرف المباشر في قلب المؤمن - لانتسابه إلى مقام الولاية - التي لا تطاله يد الشيطان أبداً ، يتوجه إلى قلوب( المحيطين ) به من أهله وذريته والمقربين منه ، فيؤلّبهم عليه بمايوجب لهم سوء الظن به ، والاعتقاد به خلافا لما هو عليه من حسن الباطن ، وبالخصومة التي لا مبرر لها .. فإذا عجز عن ذلك كله ، انتقل إلى أعدائه ، فيثير أحقادهم عليه بما يصل إلى حد الأذى في نفسه و أهله وماله ، كما كان يقع كثيرا بالنسبة إلى أئمة الهدى (علیهم السلام) ، إذ اجتمع عليهم ( خبث ) طينة أعدائهم مع ( تسويل ) الشياطين الأعدائهم بما يؤجج نار خبثهم .. وقد ورد عنهم (علیهم السلام) : { وَلَوْ کَانَ اَلْمُؤْمِنُ فِی جُحْرِ فَأْرَهٍ لَقَیَّضَ اَللَّهُ لَهُ مَنْ یُؤْذِیهِ، ليؤجره على ذلك }البحار - ج 27 ص 208 .

318- الضمور في الكمال

إن لكل من عالم العلم والعمل كماله وسعيه اللائق به .. فالمستغرق في كماله العلمي ( ينمو ) لديه الجانب العلمي مجردا عن البعد الآخر فيما لو أهمله ،وكذلك العكس .. ومن هنا نرى بعض التوغلين - حتى في العلوم الحقة - قد ( ضَمُر ) لديهم التوجه القلبي نحو ما يوجب لهم الخشوع والخشية ، فلا بد لطالب الكمال من الجمع بين العاَلَمين ،بالسعي اللازم لكل منهما .. وهناك صورٌ متكررة من المزالق الكبيرة طول التأريخ لمن أوتي نصيبا من العلم .. وقد تكرّرت النصوص المحذّرة من هذه ( المفارقة ) القاتلة بين العلم والعمل .

319- الغد خير من الأمس

ورد في الدعاء : {وَاجعَل غَدی وما بَعدَهُ أفضَلَ مِن ساعَتی

ص: 138

ویَومی } .. فلو التفت العبد إلى هذا المضمون : وهو أن يكون كل يوم خيراً من سابقه ، وسعى إلى تحقيق هذا المضمون في حياته ، وطلب من المولى التوفيق في ذلك ، لأحدث ( تغييرا ) في حياته و ( لاشتدّت )سرعته نحو الكمال والخروج عن دائرة الخسران الذي نسبه الحق للجميع.. وقد رُوي : { إِنَّ اَلْمَغْبُونَ مَنْ تساوى يوماه }.

320- تحاشي موجبات التشويش

إن من الضروري لمن يريد الصلاة الخاشعة ، أن يتحاشی موجبات التشويش قبل الصلاة مباشرة .. فيتحاشى ( الجدل ) في القول ،والذهاب إلى الأماكن التي ( تسلبه ) بعض لبّه ، ومواجهة من تبقى صورته في ( البال ) أثناء الصلاة حبا أو بغضا .. فمن اللازم على العبد المهتم بلقاء المولى ، أن يفرّغ نفسه قبل الصلاة من كل هذه الشواغل المذهلة ، وخاصة في الصلاة الوسطى - وهي صلاة الظهر على قول -إذ أنها تمثل قمة تشاغل العباد بأمور دنياهم .

321- استثقال العبادة

إن الأداء الظاهري للعبادة مع استثقالها ، قد لا يعطي ثماره الكاملة، كالصائم نهاراً والقائم ليلاً - مستثقلا لهما - ومُرغما نفسه عليهما :إمّا ( تخلصاً ) من تبعات الإثم في ترك الواجب ، أو ( طلباً ) للأجر في المندوب ، أو ( التزاما ) بما اعتاد عليه .. والحال أن العبادة أداةٌ لتقرب المحبّ إلى حبيبه ، بل هو التقرب بعينه ، والمفروض أن لا يرى المحبّ مشقّةً في طاعة محبوبه ، ما دامت سبيلا إلى ما فيه لذته وبغيته من الوصل واللقاء .. وعليه فينبغي علاج موجبات ذلك الاستثقال المذكور ، ليستطعم حلاوة العبادة كما يتذوقها أهلها .

322- اجتذاب الأنظار

إن للنفس الأمّارة بالسوء ، الرغبة في اجتذاب أنظار الخلق إليها ، بل قد يرتكب صاحبها الشاذ من الأقوال والأفعال ، لمجرد ( التميّز )الموجب لِلَفت الأنظار ، بل قد يعرّض حياته للمخاطر للرغبة نفسها ،

ص: 139

کالسفر إلى مجاهل الأرض من قمم الجبال وأعماق البحار .. وقد يرتكب ما هو محمود في نفسه ، فينقل واقعة نافعة ، أو يتحمس في حديث هادف ،أو يقضي حاجة أخيه المؤمن ، رغبة في أن يكون هو بشخصه ( مجرىّ ) لتصريف شؤون العباد ، فيتلذذ بجريان الأمور المهمة على يديه .. ومن المعلوم أن كل ذلك بعيد كل البعد عما يطلبه الحق من نفي ( الإنيّة ) ، وحصر الأعمال كلها فيما يرضي المالك على الإطلاق .

323- خاصية الجذب الأنفسي

إن التأثير في نفوس الخلق غير منحصرٍ في أسلوب الوعظ والإرشاد والكتابة ، بل إن بعض النفوس العالية قد تؤثر في النفوس المحيطة بها تأثيرا ( مباشرا ) من دون خطاب أو كتاب .. وكأنّ الحق جعل في وجودهم خاصية الجذب ( الأنفسي ) كما جعل خاصية الجذب ( الطبيعي ) في بعض الأحجار .. وهنالك روایات متعددة في تأثير الأئمة (علیهم السلام) في النفوس - حتى نفوس الأعداء - بنظرة أو كلمة ، كما وقع لبشر الحافي وأمثاله .

324- الحيوان الهائج

إن عناصر الشر المقوّمة للنفس الأمارة بالسوء ، بمثابة الحيوان ( الهائج ) في ساحة النفس .. فقد يقيّده صاحبه بالسلاسل فيأمن شره، إلا أنه يباغت صاحبه عند قوته وضعف صاحبه ، ليحطّم تلك الأغلال و لينقضّ على صاحبه بعد طول أمان .. والخلاص الكامل مما هو فيه يتمثل : إما ( بطرد ) ذلك الحيوان الهائج من ساحة النفس ، أو ( بقتله ) مما يجعل صاحبه في أمان دائم ، وراحة لا انقطاع لها .

325- مقارعة الظلمة

قد تكون مقارعة الظَلَمة في بعض الحالات ، مستندة لحالة ( الغضب ) والهيجان في النفس تجاه ما تراه من الظلم ، وتبلغ كراهية النفس للظلم وأهله إلى درجة التضحية بالحياة ، كما نلاحظها في بعض دعاة

ص: 140

العدل ولو في المسالك الباطلة .. والمطلوب من العبد أن يستند في إظهار غضبه ورضاه إلى مراد المولى في مواجهة الفرد أو الجماعة ،( فيثور ) حيث أمر الحق به كما شاء أن يرى الحسين (علیه السلام) قتيلا فثار ..و ( يكظم ) غيظه حيث أراد الحق ذلك أيضا ، كما شاء أن يصبر أميرالمؤمنين (علیه السلام) عن حقه ، فصبر وفي العين قذى وفي الحلق شجىً ، كما عبّر هو عن نفسه .

326- الأحكام الُمسبَقة

إن النفوس التي لم تخضع للتربية والتهذيب ، لديها أحكام مسبقة على الأمور والأشخاص ، من دون تحقق للملاكات الشرعية في تلك الأحكام النفسية ، فتميل إلى من تميل لمجرد ( الاستئناس ) النفسي الخالي من أي ملاك التقوى الذي جُعل ملاكا للتفاضل بين الخلق ..وقد تميل إلى فرد ( لانسجامه ) مع مسلكه الخاص في الحياة ، بل قد يكون ذلك لأسباب واهية ، كالإجتماع في بلد واحد أو الاشتراك في مصلحة واحدة .. وقد تعادي من تعادي لمجرد ( النفور ) الذي لاموجب له ، أو له موجب باطل ، كتصديق المقالات الكاذبة عن العباد ،والتي أمر الشارع بالتثبّت والتبّين لئلا يصاب قومٌ بجهالة .. فعلى المؤمن أن يُلغي كل أحكامه المسبقة في الأمور والعباد ، مستلهما من الحق الصواب ، في واقع الأشياء كما هي ، ليكون على نور من اللّٰه تعالي يمشي به في الناس .

327- مخادعة النفس

إن من الضروري - في بعض الحالات - ( مخادعة ) النفس في جلبها إلى طريق الخير ، فيأتي إليها من حيث ترغب .. فمثلا من يرى نفسه( مولعاً ) بلذائذ البطن والفرج ، فله أن يعطي نفسه سؤلها منها ،بشرط القيام بطاعة مهمة قبل استيفاء اللذة أو بعدها .. ومن يرغب في ( معاشرة ) الخلق ، يوجّه نفسه إلى المجالس التي تذكّره بالحق ..ومن يرغب في السفر و السياحة في البلاد ، يوجّه نفسه إلى

ص: 141

البلاد التي رغّب الشارع في شّد الرحال إليها ، ومن ( تثقل ) عليه صلاة الليل يرغّب نفسه في أبعاضها ، ثم يجدد العزم على الباقي منها .. وهكذا الأمر في صيام الأيام المندوبة وما شابهها .

328- القوانين الطبيعية والاجتماعية

إن الآيات المتعرضة للحالات الاجتماعية في القرآن الكريم تجري مجرى الآيات المتعرضة للآيات الطبيعية ، فكما أن إرادة الحق لا تتخلف في ( التكوينيات ) فكذلك أمره في ( الاجتماعيات ) .. فمن ذلك قوله تعالى { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } ، فينبغي التعامل مع هذا القانون كأيّ قانونٍ من قوانين الطبيعة ، فالمقنّن فيهما واحد .. ومن ذلك قوله تعالى : { إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اَللّهُ بَيْنَهُما }، ( فإرادة ) الإصلاح المتحققة من الزوجين ، يوجب ( مباركة ) الحق لهما في حياتهما بالتوفيق بينهما ، مهما بلغ الفساد مبلغه .

329- أكثرهم لايعقلون

وردت آيات متعددة تصف أكثر الخلق بأنهم لا يعلمون ، ولا يشكرون، ولا يؤمنون ، ولا يعقلون .. و الالتفات إلى هذا المضمون ، ( يسهّل )على العبد الإخلاص في العمل ، والتعالي على الجاه ، وعدم التزلّف إلى المخلوقين ، وذلك لشعوره أن كل ذلك إنما هو بالنسبة إلى من وصفهم القرآن بالأوصاف المذكورة ، ومن المعلوم أن رغبة الناس في الجاه وحُبّ ثناء الخَلْق ، إنما هو لاعتدادهم بما يسمى ( بالرأي ) العام و ( ميل ) الجمهور .. وقد ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) ما يدل على عدم اعتداده بمن حوله ابداً فيقول : { لا تَزیدُنی کَثرَهُ النّاسِ حَولی عِزَّهً ، ولا تَفَرُّقُهُم عَنّی وَحشَهً } البحار-ج100ص 362

330- تحمل مشقة العبادة

قد ( يستغرب ) البعيدون عن أجواء العبودية ، من تحمّل بعضهم للعبادات الشاقة ، كصيام النهار في الحرّ وكقيام الليل في القرّ وأمثال

ص: 142

ذلك .. والحال أن أصحابها ( يتلذذون ) بما يراه غيرهم مشقّة وعناء ،مصداقا لقوله (علیه السلام) : { واسْتَلانُوا مَا اسْتَوْعَوْهُ المُترَفُونَ وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنهُ الجاهِلُونَ } البحار-ج1ص188.

331- صلاة السكاری

نهى الحق المتعال عن الاقتراب من الصلاة حال السكر .. وقد يُشعر النهي عن مثل هذا الاقتراب ، بنوع ( نفور ) من الحق لمن يريد لقائه في حالته تلك .. وهنا فلنتساءل : أن الحق نهی عن القرب منه في حالة كون المتقرب إليه فاقداً للالتفات ، وذلك بتأثير سكْر الخمر ، أولا يستفاد من ذلك تحقق النفور بدرجة من درجاته ، بالنسبة إلى من لا يعلم ما لا يقول في صلاته ، متأثراً ( بسُکْر ) أشياءٍ أخَر؟!.. وقد ورد عن الباقر (علیه السلام) أنه قال : {لا تَقُمْ إلی الصَّلاهِ مُتَکاسِلاً ولا مُتَناعِساً ولا مُتَثاقِلاً ؛ فإنّها مِن خَلَلِ النِّفاقِ، وإنَّ اللَّهَ نَهَی المؤمنینَ أن یَقُومُوا إلی الصَّلاهِ وهُم سُکاری یَعنِی مِنَ النَّومِ }.

332- منغّصات معيشة المؤمن

إن من الضروري الالتفات إلى أن ( المنغصّات ) في حياة المؤمن لمن دواعي ( تكامله ) وصعوده إلى الدرجات العليا ، إذ أن أدني ما في تلك المنغصات - سوى الأجر الأخروي - أنها لا تدع مجالا ( للاستئناس )بالدنيا والركون إلى متعها .. فهي بمثابة أشواك نابتة على الأرض ،تمنع الطير من الإخلاد إليها ، تاركا للتحليق في أجوائه العليا ..ولهذا تشبّه الروايات تعاهد المولى لعبده بالبلاء ، كتعاهد الرجل أهله بالهدية .

333- سوء العاقبة

ينبغي الالتجاء الدائم إلى الحق من ( سوء العاقبة ) ، والذي شهد التاريخ منه نماذج مذهلة : کمحمد بن نصير النميري والذي كان من أصحاب الإمام العسكري (علیه السلام) ، فانحرف إلى أن وصل به الحال إلى الفتوى بجواز نكاح الرجال ، زاعما أنه تواضعٌ للّٰه تعالى ، وتركٌ

ص: 143

للتجبّر .. وبلغ به افتتان المريدين إلى درجة سأله أتباعه عند موته لمن الأمر من بعدك ؟! .. وهذا أحمد بن هلال الكرخي - الذي حج أربعا وخمسين حجة ، منها عشرون حجة على قدميه - قد بلغ انحرافه مبلغا ذكر الإمام العسكري (علیه السلام) في حقه : { اِحذَروا الصّوفِیَّ المُتَصَنِّعَ }.

334- السيئات من صفة واحدة

قد يعيش العبد حالة اليأس ممن کُلّف برعايته كالزوجة والأولاد ،فيما لو رأى منهم أفعالا قبيحة .. والحال أن بعض هذه الأفعال قد ترجع إلى صفةٍ سيئةٍ (واحدة ) ، فيسهل علاج جميع ذلك بعلاج تلك الصفة السيئة .. وهذا خلافا لمن اجتمعت فيه أفعال قبيحة منتسبة إلى صفات قبيحة ( شتىّ ) ، فيعسر علاجه قياسا إلى سابقه .

335- تلهّف النفس

قد تتوجه النفس - بشوق شديد - إلى بعض الأمور ، كقدوم مولود ،أو مجيء مسافر ، أو حصول فائدة ، أو إقتراب موعد لذة أو غير ذلك.. كل هذه الحركات النقدحة من النفس ، لا تليق بالعبد الملتفت إلى نفسه ، إذ كلما ( اشتد ) الشوق إلى الأغيار ، كلما ( ضعف ) الالتفات إلى الحق المتعال .. والعقوبة الطبيعية لذلك هي عدم ( اعتناء ) الحق به، كما هدد به في بعض الموارد فقال عزّوَجَل : { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ } ، وهي عقوبة قاسية لأهلها .. فلو قال السلطان لأحد رعيته ، أو الأب لولده مثل هذه المقولة ، لانتابه شعور بالفزع والجزع شديدٌ ، لمعرفته بفداحة آثار الحرمان المترتب عليه ، فكيف إذا صدرمثل ذلك ممن بيده مقاليد الأمور ؟!.

336- عدم الالتهاء بالجمال

إن حالة العبد مع الرب ، كالجالس بين يدي السلطان في قاعة لقائه التي زينت بأنواع الجمال في كل جَنَباته .. فليس له أن ( يلهو ) عنه بالنظر إلى ما حوله من متاع وزينة ، إذ أن ذلك مستلزم ( للطرد ) أو الاحتجاب .. فالحق وإن جعل ما على الأرض زينة لها ، وجعل ما

ص: 144

في السماء زينة للناظرين ، إلا أن ذلك لا يعني أن يجعل العبد الالتفات إلى كل هذه الزينة في السماوات والأرض ، ( حجابا ) يشغله عن التوجه إلى ربه ،ومانعا لتحقيق أدب المثول بين يديه ، بل يجعل ذلك مقدمةً للالتفات إلى عظمة سلطان من هو بحضرته .

337- حرمان بعض الشهوات

إن من سبل تقوية السيطرة على النفس وكبح جماحها ، هو حرمانها من بعض الشهوات ( الملحّة ) عليها .. فإن من قدر على الأقوى ، قدر على الأضعف بطريق أولى .. ولكن ينبغي التعامل مع النفس - في هذا المجال - بحذر لئلا تتمرد على صاحبها ، فقد روي عن النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) أنه قال : { ولا تُبَغِّض إلى نَفسِكَ عِبادَةَ اللّهِ؛ فَإِنَّ المُنبَتَّ لا أرضاً قَطَعَ، ولاظَهراً أبقى } البحار- ج 71ص218.. وحالات الانتكاس لدى بعض من أراد ترويض نفسه ، بغير ( وعي ) من نفسه ، أو ( استرشادٍ ) من ذوي المعرفة لخير شاهد على ذلك .

338- تمني الخير للغير

أكدت روايات أهل البيت (علیهم السلام) على تمني الخير للآخرين كما يتمناه العبد لنفسه ، فلو عمل العباد بهذه الروايات ( لانقلبت ) أنماط حياتهم الاجتماعية من دون تكلف ، و ( لذابت ) كثيرا من المشاكل المترتبة على الحسد ، والحقد ، والتنافس على فضول الحطام ، بل وتأكّدت حالة ( الشفقة ) والتكافل الاجتماعي بين العباد .. فإن آثار القيم الأخلاقية تتجاوز السلوك الفردي للإنسان ، ليحوّل المجتمع إلى مجتمع ذي قلب سلیم ، تتحقق من خلاله سلامت قلب الفرد الذي يعيش فيه .

339- بين الباقي والفاني

ينبغي الالتفات دائما إلى قاعدة دوران الأمر في حياة الإنسان بين الباقي وهو ما ( عند اللّٰه ) تعالى ، والفاني وهو ما ( عند العبد ) ..فيدور الأمر - في كل لحظة من العمر - بين صرفه فيما يحقق العندية للحق كذكره تعالى والعمل بطاعته ، وبين ما يحقق العندية للخلق

ص: 145

کالاشتغال بغير الواجب والمندوب ، فضلا عن الحرام .. فلو عمل العبد بهذه القاعدة في كل مرحلة من حياته ، لرأي أن كل نظرة ليست فيها عبرة فهو ( سهو ) ، وكل قول ليس فيه حكمة فهو ( لغو )،وكل فعل ليس فيه طاعة فهو ( لهو ).

340- الإتّباع دليل المحبة

إن من الضروري التأمل في قوله تعالى : {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ } .. فإتباع الشرع أساسٌ لمحبة الشارع ، ومحبة الشارع للمتشرع ، أساسٌ لتحقيق أهداف الشريعة في سلوك العبد ،وليس من الضروري أن يثمر الإتّباع المحبة ( الفعلية ) السريعة .. إذ أن هذه الثمرة قد تُعطى بعد مرحلة من الطاعة ، يُثبت فيها العبد ( إصراره ) على مواصلة الطريق وإن طال المدى .

341- السعي لا النتيجة

ليس من المهم أن يحقّق العبد حالة الخشوع والإقبال في الصلاة ،وإنما المهم بذل ( السعي )الحثيث في ذلك ، و ( دفع ) ما ينافيه ، و( التعرّض ) للنفحات في تلك المواطن .. ومن ثم ( يسلّم ) أمره للحق الذي لو شاء منحه الإقبال بكرمه ، أو حرمه بلطفه ، لما يراه من المصالح الخفية عن العباد .. فإن تمني حالة الخشوع في العبادة مع عدم تحققها ، من موجبات اليأس والإحباط .. فعلى العبد أن يسعی بهمّته ويوكل أمر النتائج إلى ربّه ، إذ العبد مأمور بالسعي لا بالنتيجة ..وقد ورد في باب التجارة ما يقرب من هذا المعنى ، فعن الصادق (علیه السلام) أنه قال : { وَافْتَحْ بابَکَ وابْسُطْ بِساطَکَ واسْتَرْزِقْ رَبَّکَ } المستدرك ج 2 ص 414..فعلى العبد أن يفتح بابه ويبسط بساطه ، سواء في مجال التكسب المادي أو المعنوي ..

342- إحاطتهم بالمآسي

إن التوسل بأئمة الهدي (علیهم السلام) أمر متيسر حتى لمن لا يملك الفهم الكامل لدورهم في تبليغ الرسالة .. والسبب في ذلك ( إحاطتهم )

ص: 146

بالمآسي التي تقدح عواطف التأثر في القلوب التي تحمل أدنى درجات الود والولاء لهم ، كالرزايا التي أحاطت سید الشهداء (علیه السلام) ، والتي تثير حتى القلوب التي لا تحمل الولاء الخاص لهم (علیهم السلام) .. وهنا تتجلی ( منّة ) الحق إذ ( أهبط ) أنوارهم المحدقة بالعرش ، إلى الأرض بمآسيها وآلامها، ليستنقذ عباده من الجهالة وحيرة الضلالة .

343- العناد بالمعصية

إن المعصية حالة من ( التمرّد ) المقصود أو غير المقصود مع الحق مباشرة ، ولهذا تنتاب العبد حالة من الخجل والوجل ، عندما يريد الحديث مع من عصى في حقه ، وخاصة عندما يكبر حجم المعصية ..ومن هنا كان من الطبيعي أن يخلق الحق شفعاء بينه وبين خلقه ، وهم المعصومون (علیهم السلام) الذين أمر باتخاذهم الوسيلة إليه .. فإن المعصية وإن كانت ( مخالفة ) لهم أيضا ، إلا إنها ( متوجهة ) للحق قبل أن تتوجه إليهم .. ولهذا جعل الحق توبته متفرعة على استغفار الرسول (صلی اللّه علیه و آله وسلم) .کالأب الذي يشفع لابنه عند السلطان ، بطلبٍ من السلطان نفسه .

344- صعوبة الإخلاص

إن ( صعوبة ) الإخلاص - وهو عماد هيكل القرب إلى الحق -( تكمن ) في صعوبة التفتيش في خبايا النفس وخاصة في مواضع الهوى منها .. أضف إلى أن الإخلاص لا يتحقق بكل أبعاده بمجرد التلفظ ، بل ولا عقد النية المجردة ..بل الأمر يحتاج إلى انقلاب ماهوي في كيان العبد ، لا ينقدح معه الميل إلى غير الحق وذلك لاستصغاره إياه ، بما لا يستحق أن يجعل في نفسه ( اعتبارا ) لذلك الغير ، حتى يدعوه إلى غير الإخلاص .

345- استصغار ما بين العلا والثريا

روي عن الصادق (علیه السلام) أنه قال : { اِذا كبَّرْت، فَاسْتَصْغِرْ ما بَينَ الْعَلا وَالثَّري دُونَ كبْريائِهِ؛ فَاِنَّ الله إذا اطَّلَعَ عَلي قَلْبِ الْعَبْدِ و هو يكبِّرُ و في قَلْبِهِ عارِضٌ عَنْ حقيقةِ تَكبيرِهِ، قالَ: يا كاذبُ، اَتَخْدعُني وَعِزَّتي

ص: 147

وَجَلالي لاَحْرِمَنَّك حَلاوَةَ ذِكري، وَ لاَحْجُبَنَّك عَنْ قُربي، وَ الْمُسارَّةِ بِمُناجاتي } البحارج 81ص230 .. فينبغي الالتفات إلى أن هذه الدرجات القلبية ، وإن لم تکن ( واجبة ) التحصيل بالمعنى الفقهي في الواجبات البدنية ، إلا أن ( الإخلال ) بها قد يعرّض العبد لعقوبات قاسية ،كالتي ذكرت في هذه الرواية .. وإن ( إعفاء ) الخلق عن تلك الواجبات المتعالية ، إنما كان رأفة بهم ، وذلك لارتكاب أغلب الخلق هذه المخالفات التي لو استتبعت العقاب ، لما سَلِم من العذاب إلا القليل ..

346- أفضل الأوقات للحق

يوصي أمير المؤمنين (علیه السلام) واليه مالك الأشتر قائلا : { وَاجْعَلْ لِنَفْسِکَ فِيمَا بَيْنَکَ وَبَيْنَ اللهِ أَفْضَلَ تِلْکَ الْمَوَاقِيتِ وَأَجْزَلَ تِلْکَ الْاَ قْسَامِ، وَإِنْ کَانَتْ کُلُّهَا لِلَّهِ إِذَا صَلَحَتْ فِيهَا النِّيَّةُ، وَسَلِمَتْ مِنْهَا الرَّعِيَّةُ }البحار - ج 33ص609 .. ففي أول الحديث يوصي الإمام (علیه السلام) بضرورة إعطاء( زهرة ) الساعات والأيام ( للالتفات ) إلى الحق المتعال ، وفي آخره يترقى ليُفهم واليه ومن وصله كتابه إليه ، أنه مع سلامة النية وصفاء السريرة ، تنتسب الساعات والأيام كلها للّٰه تعالى ..فليس للعبد وقت دون وقت للمثول بين يدي مولاه جل شأنه .

347- جريمتان في آن واحد

إن العبد بمخالفته للحق يرتكب جريمتين في آن واحد : الأولى وهي ( التحدي ) العملي للحق فيما أمر به أو نهي عنه ، فلا ينظر إلى المعصية وحدها ، بل إلى من عَصَى بحقه .. وهذا التجاوز لو أخذ به المولی ، ما ترك على ظهرها من دابّة ، بل أخذهم بألوان العذاب ..والثانية هي ( استعمال ) عنصر من عناصر الخلق ، كأداة لارتكاب المعصية ، وفي ذلك تصّرف عدواني فاضح في ملك الحق ..أضف إلى( التضييع ) المتعمد لموقع الأشياء في عالم الوجود .. فالعنب - مثلاً -خُلِق ليكون قوتا للعبد يعينه على طاعته ، فيحوّله العبد الأثم إلى خمرة ، تسلب العقل بما يعينه على خلاف الطاعة .. فهو جريمة في

ص: 148

حق الخالق ، وفي حق المخلوق الصامت والناطق معاً .

348- الذهول في أول الطريق

تنتاب السائر إلى الحق في أول الطريق المعبر عنه - بمرحلة اليقظة -حالة من ( الذهول ) والمحو ، لإدراكه بعض الحقائق الجديدة على عالمه ،فيميل إلى ( العزلة ) عن الخلق لشدة ما هو فيه ، بل لما يراه من ثقل معاشرة الغافلين عن الحق المتعال .. إلا أنه ينبغي تجاوز هذه المرحلة ،ليصل إلى مرحلة الجمع بين مختلف جهات التكليف حفظا لما هو فيه .. بل يسعى لتعريف الآخرين بما منّ عليه الحق تعالى من المعرفة الخاصة .. وعندئذ فلا الخلق يحجبونه عن الحق ، كما هو حال ( المحجوبين ) ، ولا الحق يصير حجابا له عن الخلق كما هو حال ( الواصلين ).

349- رتبة قرب النوافل

إن من الروايات التي تمثل ( قاعدة ) كبرى في السير إلى الحق ، هي ما يعبر عنه برواية قرب النوافل وهي : { وَمَا یَتَقَرَّبُ إلَیَّ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِی بِأحَبَّ إلَیَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَیْهِ، وَ إنَّهُ لَیَتَقَرَّبُ إلَیَّ بِالنَّافِلَةِ حَتَّی أُحِبَّهُ، فَإذَا أحْبَبْتُهُ کُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِی یَسْمَعُ بِهِ، وَ بَصَرَهُ الَّذِی یُبْصِرُ بِهِ، وَ لِسَانَهُ الَّذِی یَنْطِقُ بِهِ، وَ یَدَهُ الَّتِی یَبْطِشُ بِهَا، إنْ دَعَانِی أجَبْتُهُ وَ إنْ سَألَنِی أعْطَیْتُهُ } الكافي ج 4ص 53.. فمن هذه الرواية وأشباهها يُعلم أن نقطة ( الانقلاب ) الجوهري في حياة العبد هي هذه النقطة ، وهي ( محبة ) الحق للعبد .. إذ عندها تنحسر الخصائص البشرية للعبد ، ليحل محلها تجليات الأسماء الربوبية ، فتندك الإرادة البشرية في الإرادة الربوبية ..ومن هنا ينبغي التعامل مع هؤلاء - وإن قلّوا - بحذر شديد ، لأن مواجهتهم مواجهة لرب العالمين ، والحق سريع الانتصار لهم ، كما ورد التعبير بإرصاد المحاربة للحق عند التعرّض لهم .

350- أثر سلامة القلب

روي عن الصادق (علیه السلام) في معنى قوله تعالى {إِلاّ مَنْ أَتَى اَللّهَ بِقَلْبٍ

ص: 149

سَلِيمٍ ) أنه قال : {لسَّلِیمُ الَّذِی یَلْقی رَبَّهُ وَلَیْسَ فِیهِ أَحَدٌ سِوَاهُ وَ قَالَ : کُلُّ قَلْبٍ فِیهِ شِرْکٌ أَوْ شَکٌّ فَهُوَ سَاقِطٌ، إِنَّمَا أَرَادُوا بِالزُّهْدِ فِی الدُّنْیَا لِتَفْرُغَ قُلُوبُهُمْ لِلآخِرَهِ } الكافي ج2 ص26.. فاتفقت كلمة الروايات والآيات على ضرورة الالتفات إلى مركز التوجيه في الكيان الإنساني..فكل ( شائبة ) في جهاز القلب تنعكس آثارها على السلوك الخارجي اللعبد .. ولا تتم السلامة في السلوك إلا بالسلامة في القلب .. إذ لا يصدر في ( الخارج ) إلا ما كان في ضمن ( ما يهواه ) القلب ، حقا كان أو باطلا.

351- صلاة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وآله

روي عن النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) أنه قال : { أنه كان یُحَدِّثُنَا وَنُحَدِّثُهُ فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاهُ فَکَأَنَّهُ لَم یَعرِفنَا وَلَم نَعرِفهُ شغلاً بالله عن کلّ شیء }البحار-ج 81ص258.. وقد روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه كان إذا حضروقت الصلاة يتململ ويتزلزل ويتلون ، فيقال ما لك يا أمير المؤمنين ؟ ،فيقول (علیه السلام) : { جاءَ وَقْتُ الصَّلاةِ، وَقْتُ اَمانَةٍ عَرَضَها اللّهُ عَلی السّمواتِ وَالارضِ وَالْجِبالَ فَأبَیْنَ اَنْ یَحْمِلْنَها وَاَشْفَقْنَ مَنْها } المستدرك- کتاب الصلاة .. وعن الإمام السجاد (علیه السلام) عندما يصفر لونه ، فيقال له : ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء ؟ ، فيقول : { تَدْرُونَ بَیْنَ یَدَیْ مَنْ أَقُومُ ؟ } الحجة-ج 1 ص 351 .. فالصلاة التي هي معراج المؤمن تحتاج إلى ( تهيؤ) واستعداد ، ( توفّرها ) المستحبات والواجبات السابقة على الصلاة .. إضافة إلى ( استحضار ) أن الصلاة ورود على رب الأرباب ، ومثل ذلك لا يتم دفعة واحدة ، وبذهول يعتري أغلب المصلين .. ومما ذكر يعلم السر في أن صلاة عامة الخلق ، فاقدة لأعظم خواصّها المتمثلة بالنهي عن الفحشاء والمنكر .

352- دفع المقتضي قبل إيجاد المانع

ينبغي الالتفات إلى قاعدة المقتضي والمانع في ارتكاب المحرمات ..فبدلا من أن نسعى ( لمنع ) تحقق المعصية بعد استكمال مقتضياتها ،

ص: 150

فإنه ينبغي أن نسعى ( لقطع ) روافد الخطيئة أو ( دفع ) مقتضياتها.. فما يفرضه العقل هو أن لا يعرّض المرء نفسه لمثيرات الشهوات -حساً وفكراً - لئلا يتورط بالمواجهة ، بعد اشتعال نيران الشهوات في النفس ، بما لا يُطفؤها أعظم الزّواجر .

353- العذر عند التعب والمرض

قد يرى العبد نفسه معذورا في ( ترك ) الإقبال على الحق في ساعات المرض ، أو التعب الشديد ، أو اضطراب الحال في سفر أو غيره ،والحال أن وفاء العبد وشدة ولائه لمولاه ، يتبين في المواقف المذكورة..فلا يطلب من العبد أن ( يُحُرز ) الإقبال الفعلي في تلك المواطن الحرجة ، بمقدار ما يطلب منه أن يكون في ( هيئة ) المقبلين .. ومن المعلوم أن هذا السعي من العبد - في تلك الحالات الطارئة - مما يوجب له الهبات العظمي في الساعات اللاحقة لها .. كما أن التوجه إلى المخلوقين في مثل تلك الحالات ، مما يشكر من قِبَلِهم أيضا ..كمن يذكر صديقه في حال ، سفره ، أو مرضه ، أو تعبه .

354- حقيقة الركوع والسجود

روي عن الصادق (علیه السلام) أنه قال : { لا يَرْكَعُ عَبْدٌ للّه رُكوُعاً عَلَى الْحَقيقَةِ، إلاّ زَيَّنَهُ اللّه تَعالى بِنُورِ بَهائِهِ وَأظَلَّهُ في ظِلالِ كِبْرِيائِهِ وَكَساهُ كِسْوَةَ أصْفِيائِهِ. وَفِي الرُّكُوعِ اُدَبٌ وَفِي السُّجُودِ قُرْبٌ، وَمَنْ لايُحْسِنُ اْلأدَبَ لا يَصْلَحُ لِلْقُرْبِ } البحا-ج 82 ص108 .. فالركوع والسجود حركتان بدنيّتان يراد بهما إظهار الخضوع والتواضع ( القلبي )،فمع خلوهما من الدلالة المذكورة استحالتا إلى حركة لا قيمة لها ،شأنها شأن الحركات التي يمارسها البدن في رياضة أو لهو أو غير ذلك.. ومن الملفت ذلك التدرج من الركوع وهو ( الأدب ) إلى السجود وهو( القرب ) ، فمن لم يركع ، لا يؤذن له بالسجود ، لعدم امتثاله القواعد الأدب .. ومن هنا يعلم ضرورة مراعاة التقرب إلى الحق ،الآداب المثول بين يديه في كل آن من آناء حياته .

ص: 151

355- القلب كالمسجد

إذا لم يرض الشارع بإبقاء الخبائث ( الخارجية ) في المسجد وحَكَم بفورية إزالتها ، فكيف يرضى ببقاء الخبائث ( الباطنية ) في قلب عبده المؤمن الذي يفترض فيه أن يكون عرشا للرحمن ؟!.. فكما ينبغي المسارعة في طهارة ( المسجد ) ، فإنه كذلك ينبغي المسارعة في طهارة( القلب ) قبل أن تتراكم الخبائث فيها بما يصعب معه إزالتها ، وبالتالي يتبدل ما خُلق للطهارة والصفاء ، إلى مجمَع للرجس والأدناس .

356- اجتياز حدود الحق

ورد التحذير في آياتٍ عديدةٍ من اجتياز حدود اللّٰه تعالى ، فكما أن اجتياز الحدود في البلاد يتم بخطوة واحدة ، توجب له العقوبة المغلّظة ،فكذلك فإن ما يتجاوز به العبد حدود ربه ، قد يكون أمرا ( يسيرا )إلا أنه قد يوجب له العقوبة الشديدة ، عندما يكون العبد قاصداً لمثل ذلك التجاوز .. ومن هنا تأكد النهي عن ( المحقرات ) من الذنوب -وهي التي يستهين بها صاحبها - والحال أنها قد تكون بمثابة الخطوة الأخيرة التي تخرجه عن حدود مملكة الرب المتعال ، بكل ما يحمله الخروج من تبعات الحرمان من حماية مملكة الحق له ، والدخول في مملكة الطاغوت .. وقد حذر الحق مرات عديدة في آية: { اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ } من تعدّي حدوده ،وخاصة أنها تتعلق بالخلاف بين الزوجين ، الذَين يسهل عليهما تجاوز الحدود ، لعدم وجود ( الرقيب ) بينهما . أضف إلى جوّ الخصومة التي تلفهما بما ينسيهما الحدود الإلهية .

357- العناية الخاصة

إن العبد الذي يود الدخول في دائرة العناية الخاصة التي تجعله يلتحق بركب الأنبياء والشهداء ، لا بد له من الإتيان بما يحقق له ( الترجيح ) من بين الخلق ، لئلا تكون الهبات الإلهية جزافاً بلاحكمة ظاهرة فيها .. فهذا النبي المصطفى (صلی اللّه علیه و آله وسلم) لم يُبتعث في أعلى درجات

ص: 152

المرسلين ، إلا بعد أن وجده الحق كما يصفه الحديث القائل : { فَلَمَّا اسْتَکْمَلَ أَرْبَعِینَ سَنَهً وَ نَظَرَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ إِلَی قَلْبِهِ فَوَجَدَهُ أَفْضَلَ الْقُلُوبِ وَ أَجَلَّهَا وَ أَطْوَعَهَا وَ أَخْشَعَهَا وَ أَخْضَعَهَا أَذِنَ لِأَبْوَابِ السَّمَاءِ فَفُتِحَتْ } البحار-ج17ص309.

358- الاستهزاء بالنفس

إن العبد قد لا ( يُقصّر ) في الدعاء لإنجاح مهامه - وخاصة الأخروية منها - إلا أنه ( يتقاعس ) في مقام العمل ، حتى في القيام بالمقدمات البسيطة المحققّة لحاجته ، كمن يطلب مقام القرب وجوار الحق المتعال وهو لا يعلم تفصيل أحكام شريعته حلالاً وحراماً ، فضلاعن العمل المستوعب لجزئيات تلك الأحكام .. ولطالما ( عتب ) على الحق- في نفسه - لتأخر الإجابة ، والحال أن غيره ممن أحرز الرتب العالية ،جمع بين الدعاء المتواصل ، والعمل الكامل .. وقد روي عن الإمام الرضا (علیه السلام) أنه قال : {مَن سَأَلَ اللّهَ التَّوفیقَ ولَم یَجتَهِد فَقَدِ استَهَزأَ بِنَفسِهِ في البحار-ج87ص653 .

359- فضول النظر

كما أن الإكثار من القول من موجبات ( بعثرة ) الفكر ، وسد أبواب الحكمة في القلب ، فكذلك الأمر في فضول ( النظر )، فإنه من دواعي تكثّر الصور الذهنية التي توجب تفاعل النفس مع بعضها تفاعلاً ،يكدر صفو الفكر ، بل سلامة القلب ، ومن هنا كان المحروم من نعمة البصر أبعد من بعض دواعي الغفلة قياساً إلى من أعطي نعمة الإبصار.. وقد ورد في الخبر : { إیّاکُم وفُضولَ النَّظَرِ فإنَّهُ یَبذُرُ الهوی ویُوَلِّدُ الغَفلَهَ } البحار - ج 72ص199 .. وينبغي الالتفات إلى دقة التعبير ب ( يبذر ) ، فإن فيه إشعارا بأن الهوى المستنبَت من النظر ، يتدرج في النمو کالبذرة ، ليعطي ثماره الفاسدة من الوقوع في المعاصي العظام .

360- ذكرى الدار

إن الحق المتعال يصف مجموعة من الأنبياء السلف وهم : إبراهيم

ص: 153

واسحق ويعقوب بأنهم ذو ( الأيدي ) أي القوة في العبادة أو الحكم أو كليهما ، و ( الأبصار ) أي البصيرة في الدين والدنيا .. ثم يعقّب ذلك بأنهم أخلِصوا بصفة خالصة ، وهي ذكرى ( الدار ) وهي الآخرة ..ومن ذلك يُعلم أهمية هذه الصفة الخالصة - وهي ذكرى الموت - في مسيرة الأنبياء عليهم السلام ، ولا شك في أنها مهدتّ السبيل لكونهم من المصطفَين الأخيار ، وهي غاية المني من بين الغايات .. وما قيمة الاصطفاء والاصطباغ بصبغة الأخبار عند غير الحق المتعال ؟!.

361- كاشفية الزيارة

روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) انه قال : { مَن أرَادَ الله بِهِ الخَيرَ قَذَفَ فِي قَلبِهِ حُبُّ الحُسَين عَلَيهِ السَّلام وَحُبَّ زِيارَتِه }في البحار-ج101 ص76..فالمستفاد من هذه الرواية أن بعض الأمور لها صفة ( الكاشفية ) عن إرادة الخير بالعبد ، ومن المعلوم أن ذلك الخير بداية مرحلة لا خاتمة لها ، فإن الحق المتعال أجلّ من أن يسوق خيراً إلى عبده ثم يسلبه منه، إلا إذا صدر من العبد ما يوجب له ذلك الحرمان .. وليُعلم أن هذا الكاشف وإن كان أمراً جليلاً - في حد نفسه - إلا أنه يكشف عن أمرٍ جليلٍ آخر ، يستوجب الشكر من العبد مرتين ، وخاصة مع ملاحظة أن كلمة القذف يستشعر منه ( الدفعية ) والمفاجأة .. ومن هنا نجد حالات ( إنقلاب ) السلوك العملي عند بعض من شُرّف بزيارة أولياءالحق المتعال ، فيعيش حالة من الإنابة والتوبة ، يستشعر خفّتها في نفسه .

362- عدم الاسترسال المذهل

إن من الصفات المطلوبة للمؤمن ، هو ( الإقبال ) على الخلق بشرط ؛عدم الاسترسال أولاً ، والهادفيةً ثانيةً .. فلا يُقبل على الخلق إلا حيث يرى في إقباله ( خيراً ) في دنيا العباد أو في آخرتهم ، ثم لا يُقبل في مورد الخير إلا بمقدار ما يتحقق به الخير ، فإن الإحسان إلى الخلق وخاصة إذا جمعه بهم جامع الإيمان والتقوى ، لمن أعظم صور

ص: 154

العبودية للحق ، إذ الحق هو المحسن إلى خلقه ويحبّ من يكون سبباً لذلك الإحسان ، ومن أحب شيئاً أحب أسبابه .. ومن هنا يوصي الإمام الرضا (علیه السلام) أولياءه بقوله : { وإقبالِ بَعضِهِم عَلی بَعضٍ،وَالمُزاوَرَهِ؛فَإِنَّ ذلِکَ قُربَهٌ إلَیَّ } البحار - ج 74ص 230.. وإن من الملفت في هذا الحديث ،أن الإمام (علیه السلام) يجعل الإقبال والمزاورة من موجبات القربة إليه ، وهو ملازم ( لمباركة ) الإمام (علیه السلام) لتلك المجالس التي يتم فيها التزاور والإقبال .

363- الموت المتكرر

لو تأمل العبد في النظام الأحسن البديع في بدنه ، لرأى أنه يعيش( موتاً ) متكرراً في كل آن من آناء حياته .. فصعود نَفَسه بعد الشهيق إنما هو حياة بعد موت ، ولولا ذلك الشهيق لقتله الزفير ..ورجوع الدم النقي إلى شرايينه كذلك حياة بعد موت ، ولولا ذلك الرجوع لقتله الدم الفاسد الذي نقله الوريد .. وعودة روحه إليه بعدالمنام كذلك حياة بعد موت ، ولولا ذلك الرجوع لبقي العبد في برزخه إلى يوم يبعثون ، هذا كله فضلاً عن ( الحوادث ) القاتلة التي صُرفت عنه ولم يحط بها علماً .. إن مجموع هذه الأحاسيس ، يدعو العبد للشکر المتواصل من أعماق وجوده ، شكر من استوهب الحياة بعد الممات ، بكل ما يلزمه الشكر من شعور بالخجل ولزوم العمل بمايرضى به المنعم .. وقد روي عن النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) انه قال : { وَ اَلَّذِی نَفْسِ محمد بِیَدِهِ مَا طَرَفَتْ عَیْنَایَ إِلاَّ ظَنَنْتُ أَنَّ شَفْرَایَ لاَ یَلْتَقِیَانِ حَتَّی یَقْبِضَ اَللَّهُ رُوحِی } البحار- ج 73ص177 .

364- منحة الانقطاع إلى الحق

إن العبد عندما يُعطى منحة الانقطاع إلى الحق في فترات من حياته ، فإنه يستشعر حالة من ( الثقل ) المرهق في معاشرة الخلق ،والتوجه إلى جزئيات شؤونه اللازمة في الحياة .. وهذا شأن المستغرق في أي أمر من الأمور ، فإن ذلك يذهله عما سواه ، كما نلاحظ ذلك كثيراً في أبناء الدنيا عندما يستهويهم متاع من متاعها ، أو يعشقون

ص: 155

جمالاً من جمالها ، فيُشغلهم ذلك عما سواه من المتاع أو الجمال ، إلى حد الوله والافتتان المستوجب للخبط والذهول .. ومن هنا يلطف الحق بأوليائه في ( تخفيف ) هذه الهبات المتميزة ، لئلا ( ينفرط ) عقد حياتهم ، ويختل نظام معاشهم ، مما لا يحتمله العباد عادة ، لانسحاب أثر ذلك على المحيطين به من أهله وعياله .

365- أهل التأمل والتفكير

إن من يمارس عملية ( التفكير ) والتأمل في المجال العلمي - ولو الدنيوي - يمتلك ( قابلية ) التركيز والسيطرة على الذهن في مجمل حياته .. وبذلك يكون أقرب من غيره للتأمل في ما يحسن التفكيرفيه مما يتصل بأمر آخرته ، كما أنه يكون أقدر من غيره على التركيز الذهني في العبادة ، وهو بدوره عامل مساعد للتفاعل النفسي معها ..فعند انتفاء الصورة المزاحمة والمنافرة لما تقتضيه العبادة - كالصلاة مثلاً- فإن النفس تكون ( أقدر ) على الالتفات إلى الجهة الواحدة التي أمِر بالالتفات إليها .. ومن هنا كان أهل الفكر والنظر ، أقدر من غيرهم على السير الفكري والنفسي إلى الحق المتعال .

366- أساليب الجذب

إن على الدعاة إلى الحق ، ( مراعاة ) أساليب الجذب التي تحبّب القلوب إلى اللّٰه تعالى في مختلف شؤون الطاعة ، كما يجب عليهم ( الاجتناب ) عن أسباب تنفير القلوب .. ومثال ذلك في الأثر ، ما ورد في الحث على الصلاة بأضعف المصلين ، فقد ورد في النهج : { وَصَلُّوا بِهِمْ صَلَاهَ أَضْعَفِهِمْ وَلَا تَکُونُوا فَتَّانِینَ } البحار-ج33 ص 472.. وكقوله (علیه السلام) : { وَإِذَا قُمْتَ فِي صَلاَتِکَ لِلنَّاسِ، فَلاَ تَکُونَنَّ مُنَفِّراً وَلاَ مُضَيِّعاً }البحار-ج33 ص609 ..فنهی (علیه السلام) عن فتنة الناس بترك الجماعة وذلك بإطالة الصلاة .. ومن الممكن أن يستفاد من ذلك ( قاعدة ) عامة وهي التحرّز عن كل ما يوجب فتنة الناس عن الدين ، كإطالة الحديث ولوكان نافعاً ، واتّباع أسلوب الوعظ المباشر ، والقسوة في القول ، وغير

ص: 156

ذلك من الأساليب التي نجدها عند بعض من يتصدى لترويج الدين من غير سبيله .

367- الاتكال على الغير

إن من الطبيعي أن تكون ( العقوبة ) الإلهية للعبد من ( جنس )عمله .. فمَنْع الحقوق المالية الواجبة مستلزم ؛ إما للفقر أو لنزع البركة من المال ، وفيه ملاك الفقر نفسه ، إذ ما قيمة المال الذي لا يستجلب بركة في الدنيا أو أجراً في الآخرة ؟! .. وكذلك التسلط على رقاب العباد ظلماً وعدواناً ، يوجب وقوع العبد في يد ظالم أو من هو أظلم منه .. والاتكال على الغير يوجب خيبة الأمل ممن اتكل عليه العبد من دون اللّٰه تعالى ، وقد روي في الحديث القدسي : { لَأُقَطِّعَنَّ أَمَلَ کُلِّ مُؤَمِّلٍ مِنَ النَّاسِ أَمَّلَ غَیْرِی بِالْیَأْسِ وَ لَأَکْسُوَنَّهُ ثَوْبَ الْمَذَلَّهِ } البحار-ج 71ص 130.. ومن العقوبات القاسية في هذا السياق : هو ما نراه من أن توزّع الفكر والهم بما يلهي عن ذكر الحق المتعال ، مستلزم للعقوبة المسانخة لذلك أيضاً ، فيعيش العبد عندها حالة من ( تشتّت ) الفكر ، واضطراب النفس ، وقلق البال ، مما يجعله لا يهنأ بعيشٍ مهما كان رغيداً .. إذ أن الابتلاء بالنفس والفكر لمن أهم صور الابتلاء .

368- مقومات نجاح الملُك

إن من مقومات النجاح في إدارة الملُك هو : الجمع بين ( التشريع )الحكيم ، و ( التنفيذ ) العادل ، و ( القضاء ) الحق فيما اختلف فيه العباد .. وهذا المبدأ هو ما اتفقت عليه الأمم في كلياتها ، وإن انحرفوا في تطبيقاتها إلى حد ارتكاب عكس ذلك .. وقد يُفهم ذلك من قوله تعالى : { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الِحكْمَةَ وَفَصْلَ الِخطَابِ }.. ففيه قوة التنفيذ بشد الملك ، وحكمة التشريع بإتيان الحكمة ، وفصل الخطاب في الخصومة ، وهذا كله هو ما أعطي داود (علیه السلام) ذو الأيدي ، أي ذو القوة على العباد.

ص: 157

369- الصرف عن الصلاة

إن مما يسعى إليه الشيطان بشدة هو ( صرف ) المصلي عن صلاته ،حتى ولو استلزم التصرف في ( حواسه ) ، نفثًا في الصدور ، ونقراً في الآذان .. وذلك لأن صده للعبد عن صلاته ، إنما هو صدّ لما ينهى عن الفحشاء والمنكر ، مما يسهل له السبيل للتغلغل إلى قلبه .. وقد ورد عن النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) أنه قال : {إنَّ العَبدَ إذا اشتَغَلَ بِالصَّلاهِ جاءَهُ الشَّیطانُ وقالَ لَهُ : اُذکُرْ کذا اُذکُرْ کذا ؛ حَتّی یَضِلَّ الرَّجُلُ أن یَدریَ کَم صَلّی!! } البحار - ج 5ص158 .. ولهذا نجد المصلي ( يتذكر ) ما نسيه في سابق أيامه ، أو ( يتأثر ) بالتوافه من الأمور التي لم يكن يتأثر بها قبل الصلاة ولا بعدها .

370- العلم المخزون

إن العلم ( المخزون ) في معادن حكمة الحق - المتمثلة بأئمة الهدی(علیهم السلام) - لا ( يعكسه ) ما صدر منهم وإن كان كثيراً خلال قرنين ونصف من الزمان قولاً وفعلاً وتقريراً ، فضلاً عما وصل إلينا من تراثهم وهو أقل القليل ، نظراً إلى عدم ( تدوین ) آثارهم من قِبَل مواليهم بما يليق بشأنهم ، إضافة إلى ( ضياع ) الكثير من مرويّاتهم على أيدي أعدائهم ، وهذه الحقيقة يفصح عنها الإمام الصادق (علیه السلام) بكلمة مؤثرة فيقول : { مَا خَرَجَ إِلَيْكُمْ مِنْ عِلْمِنَا إِلَّا أَلْفاً غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ }البحار - ج25 ص 283.. يعني به الألف الذي لم يتعقّبه الباء ، أو الألف الناقصة ، أو عدد الواحد الذي لم يُشفع بأعداد أخر .

371- الهدف من اللذائذ

إن من المعلوم أن الحق المتعال جعل الشهوات في وجود العبد لمصالح ( أرقی )، تتجاوز مصلحة التلذذ المجرّد ، والذي بالغ فيه العباد حتی نسوا ( الهدف ) الذي لا يتحقق غالباً إلا في ضمن تلك اللذة ، التي جعلها الحق ( تحريکاً ) للعباد نحو ذلك الهدف .. وقد ورد فيما ذَكَره الإمام الصادق (علیه السلام) للمفضل ما يؤيد ذلك، وذلك بالقول : { أن الْجُوعُ

ص: 158

یَقْتَضِی اَلطُّعْمَ اَلَّذِی فِیهِ رَاحَهُ اَلْبَدَنِ وَ قِوَامُهُ وَ اَلْکَرَی یَقْتَضِی اَلنَّوْمَ اَلَّذِی فِیهِ رَاحَهُ اَلْبَدَنِ وَ إِجْمَامُ قُوَاهُ وَ اَلشَّبَقُ یَقْتَضِی اَلْجِمَاعَ اَلَّذِی فِیهِ دَوَامُ اَلنَّسْلِ وَ بَقَاؤُهُ } ..ثم يذكر (علیه السلام) أن الهدف من وراء الشهوات مما لايحرك عامة الخلق فيقول : { وَلَو کانَ إنَّما یَتَحَرَّکُ لِلجِماعِ بِالرَّغبَهِ فِی الوَلَدِ،کانَ غَیرَ بَعیدٍ أن یَفْتُرَ عَنهُ حَتّی یَقِلَّ النَّسلُ أو یَنقَطِعَ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا یَرْغَبُ فِی الْوَلَدِ } البحار-ج3 ص 79..وبناء على ما ذكر كله ، فإن على العبد الملتفت أن لا ينسى الهدف من هذه اللذائذ التي جعلت طريقاً لتحقق تلك الأهداف ، وإن تحققت اللذائذ تبعا لذلك من دون قصد صاحبها .

372- الشغف العلمي

يعيش بعضهم حالة من ( الشغف ) العلمي وحب الاستطلاع ، فيطرق أبواب العلوم المختلفة من دون النظر إلى مدى ( جدوى ) انشغاله بتلك العلوم من جهة دنياه أو آخرته ، وبذلك يعيش حالة من ( الانشغال ) الكاذب ، وخاصة أن بعض العلوم تستهوي العبد ، فتشغل بعض لبه أو كله ، بما يصرفه عن الاهتمام فيما خلق من أجله .. والقاعدة العامة التي يسير عليها العبد في مجمل حياته ، هي أن كل حركة في علم أو عمل ، لا بد وأن تكون منسجمة مع هدف الخلقة ، وهو عبودية الواحد القهار .. وقد روي عن الإمام الكاظم (علیه السلام) أنه قال : { وَ أَحْمَدُ الْعِلْمِ عَاقِبَهً مَا زَادَ فِی عِلْمِکَ الْعَاجِلِ فَلَا تَشْتَغِلَنَّ بِعِلْمِ مَا لَا یَضُرُّکَ جَهْلُهُ وَ لَا تَغْفُلَنَّ عَنْ عِلْمِ مَا یَزِیدُ فِی جَهْلِکَ تَرْکُهُ } البحار-ج78ص 333 .

373- التمكين بالتصرف في القلوب

إن مما يعول عليه المؤمن في حياته هو ( التصرف ) الإلهي في قلوب العباد حباً وبغضاً .. ومثال ذلك في حياة الأنبياء (علیهم السلام) هو تصرف الحق المتعال في قلب العزيز ، بما جعله يهوى يوسف الصديق ويكرم مثواه إلى درجة اتخاذه ولداً مع ما يستلزمه من العطف والحنان ، ثم

ص: 159

يعقّب ذلك بقوله تعالى : { وَ كَذلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ}.. فهذا( تمكين ) منتسب للحق وإن كان تصرفاً في قلب العزيز ، وعليه فإن من يرغب في العزة والملك ، فعليه أن يعلم أن ( أسباب ) ذلك كله بيد القدير المتعال ، فهو الذي يسوق الأسباب في هذا المجال - وما أكثرها -لمن يريد له العزة والملك .. وشتان بين عزة وملك يعطيهما الحكيم الخبير ، وبين ما يتكلفه العبد تسلطاً على رقاب الآخرين ، بما يؤول أخيراً إلى الذل في الدنيا والعذاب في الآخرة .

374- المفاهيم الخاطئة

هنالك بعض المفاهيم التي يخطئ فهمها من لم يؤت حظاً من العلم ،والإلمام بالنصوص الواردة عن حملة الوحي الإلهي ، فمن تلك المفاهيم :الزهد ، والعزلة ، والتوكل ، والصمت ، والذكر ، والانتصار للحق ،والأنس بالغير ، والانقطاع بترك الأسباب ، والكرامة ، والواردات الغيبية وما شابه ذلك ، لأنها مفاهيم ( متأرجحة ) عند الخلق بين جانبي الإفراط والتفریط ، مفهوماً وتطبيقاً ، فقد يأخذ العبد بأحد جانبيه ليجلب لنفسه ما لا يحمد عقباه .. وقد يُوفّق ( للاعتدال ) في تطبيق بعض المفاهيم دون بعضها الآخر ، فينمو نمواً غير متزنٍ ، كما لو نما بعض أجزاء بدنه دون الآخر ، مما يجعله موجوداً غير مستوي الخلقة في تكوينه النفسي .. ومن هنا لزم أن يكون ( الإمام ) على الأمة الوسط ، هو من اعتدلت فيه كل صفات الكمال - فهماً وتطبيقاً - ومن بعده الأقرب فالأقرب إلى مثل هذا الاعتدال .

375- استقلالية الذكر الكثير

إن العبد لا يستغني عن ( ذكر ) الحق ولو كان في حال ممارسة عملٍ( قربيّ ) كالجهاد الذي هو - كما روي - فوق كل برّ .. فقد يكون العبد مجاهداً بنفسه وماله وبدنه ، متقرباً إلى الحق المتعال بمجمل نيّته ،إلا أنه لا ( يستحضر ) رقابة الحق في كل خطوة من خطواته ..

ص: 160

ولهذا ورد في القرآن الكريم ما يؤكد هذا المعنى بقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا }.. فقد طلب الحق الذكر الكثير حتى بعد اللقاء والثبات في مجاهدة الأعداء ، رغم أن الموقف أبعد ما يكون عن الغفلة ، لأنه قتال في سبيل الحق المتعال بما فيه من معاناة واصطبار .. ومن ذلك يُعلم أن للذكر الكثير قيمة كمالية مستقلة ، قد تفارق حتى الجهاد ، على عظمة تأثيره في تكامل الفرد والأمة .

376- الانطباع الأولي عن العصاة

إن الانطباع ( الأولي ) للعبد عند مواجهة أهل المعاصي ، هو الإحساس ( بالتعالي ) والنفور ، بما قد يؤدي إلى العجب بالنفس والاحتقار للغير ، واليأس من هداية الخلق .. والمطلوب من العبد أن يعيش شعوراً ( بالشفقة ) والأسى ، وخاصة تجاه المستضعفين من الرجال والولدان الذين لم تكتمل حلومهم ، بل وأحاطتهم ما يسلبهم القليل مما بقي من عقولهم .. وإن التأمل في هذه الآيات مما يعكس حالة الشفقة والحسرة التي كانت تعتلج في نفس من بعثه الحق المتعال رحمةً للعالمين ، وهي : { فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ } و { لَعَلَّکَ بَاخِعٌ نَفْسَکَ عَلَی آثَارِهِمْ } و {عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ }.

377- الشوق إلى الموت

إن أمير المؤمنين (علیه السلام) يفصح عن شدّة ( شوقه ) إلى الموت في مواقف عديدة منها قوله (علیه السلام) : { وَاللَّهِ لَابْنُ أَبِي طالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ وَ مِنَ الرَّجُلِ بِأَخِیهِ وَ عَمِّهِ } البحار-ج28 ص 332 .. والسر في ذلك واضح ، إذ الموت عنده (علیه السلام) سفر من ( الضيق ) إلى عالم لا يعرف الحدود ، ومن ( مصاحبة ) الخلق ، إلى التفرغ لمجالسة الحق في مقعد الصدق عند المليك المقتدر .. فالذي يرى الموت جسراً بين العناء والسعادة المطلقة ، لا يمكن أن يستوحش منه وهو على مشارفه ، وهذا خلافاً لمن لا يعلم ما وراء ذلك الحدّ ، بل يعلم بما هو أسوأ من

ص: 161

حاضره .. ولهذا جعل الحق المتعال تمنيّ الموت من دلائل الصدق في دعوى الولاية للحق ، وذلك في قوله تعالى : { إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }.

378- طمع القلوب

إن ( التفاعلات ) السيئة - كالتأثر بشهوة بالنساء - فرع صفة سيئة في ( نفس ) المتفاعِل ، كما يعبر عنه القرآن الكريم بمرض القلب ، إذ هو الذي يدعوه للطمع عند خضوع النساء بالقول ، فيقول تعالى محذراً :{ فلا یَخْضَعْنَ بالقَولِ فَیَطْمَعَ الّذی فِی قَلْبِهِ مَرَضٌ }.. وليُعلم أن الأمر كذلك في كل موارد الرذيلة ، إذ أن هناك ( استعداداً ) نفسياً مسبقاً للتفاعل مع السيئة ، ومن دون القضاء على مرض القلب ، فإن الطمع سينقدح بين فترة وأخرى ، لارتكاب السيئة كالتلذذ المحرم ، وإن منع تحققها صاحبها ، لخوف من العرف ، أو العقاب ، أو الطمع في مزلة دنيوية ، أو أجر أخرويّ.

379- المنّة على العباد

تنتاب البعض حالة لا شعورية من ( المنّة ) على العباد عند الإحسان إليهم ، وهو شعور لا يليق بالعبد ، وخاصة إذا كان العطاء من مال غيره ، أو من مال نفسه في حقٍ واجبٍ : كالخمس والزكاة .. فإن على العبد - حتى في الإحسان التبرّعي - أن يدرك أن ذلك كله من ( عطاء )المولى الذي جعله مُستخلفاً فيه .. فالمنّة للحق على المعطِي ، وعلى المُعطَى له أولاً وآخراً ، فهو مالكهما ومالك ما وصل من أحدهما إلى صاحبة .

380- تذكّر الفضل

يذكّر الحق الزوجين المتخاصمين الذيَن وصلا إلى مرحلة الطلاق بقوله : { وَأنْ تَعْفُوا أقْرَبُ لِلتَّقْوَی وَلا تَنسَوْا الفَضْلَ بَیْنَکُمْ }.. ففي( الخصومة ) يحيد العبد عن جادة الصواب بما يلائم مزاجه الثائر ،ومن هنا كان بحاجة ماسة إلى ما ( يُبطل ) مقتضيات ذلك الطبع

ص: 162

المنحرف ، وذلك بالالتزام النفسي بالعفو ، والتغاضي عن مصلحته وإن كان حقاً له ، وقد روي عن النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) أنه قال : { یَأْتِی عَلَی النَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ، یَعَضُّ کُلُّ امْرِئٍ عَلی مَا فِی یَدَیْهِ ، وَیَنْسَی الْفَضْلَ بَیْنَهُمْ} البحار-ج 74ص413.

381- الإصرار القبيح

يعيش الإنسان حالة من ( الإصرار ) الداخلي الذي لا مبرر له عند طلبه لبعض حوائج الدنيا ، ومن المعلوم أن هذا الإصرار لا يتناسب مع زيّ العبودية للحق ، إذ قد روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال : { مَا أقْبَحَ بِالْمُؤْمِنِ أنْ تَکُونَ لَهُ رَغْبَةٌ تُذِلُّهُ } البحار - ج 73ص 170.. وقد يخلو العبد من إصرار ( بظاهره )ولكنه يبقى مصراً بباطنه ، فيعيش حالة من ( الضيق ) الشديد عندما يرى تأخيراً في قضاء حاجته ، والحال أنه لو رجع إلى رشده ، لما رأى شيئاً من موجبات اليقين بصلاح أصل حاجته أو تعجيلها .. وعليه فما الوجه في إصرار العبد الذي ليس له من اليقين ما يوجب له ذلك الإصرار ؟!.

382- اختلاف الحيثيات

إن محبة العبد وكراهيته إنما يتوجه إلى الفرد بلحاظ الصور الذهنية المنتزَعة من الخارج ، بما يحمله من موجبات الحب والبغض .. وعليه فقد يتأذى العبد من حب شخص آخر لعدوه ، أو عداوة آخر لصديقه ،فيبذر الشيطان بينهما بذر الشقاق والبغضاء ، مستغلا اختلاف العباد في تقييم الأصدقاء والأعداء .. وإن إبطال كيده في حالته تلك ، إنما يكون بالالتفات إلى ما قلناه من أن الحب المنقدح في النفوس ليس بلحاظ ( واقع ) العباد ، وإنما هو بلحاظ الصور (الذهنية ) التي تطابق الواقع حيناً وتخالفه أحياناً أخرى .. وعليه فإن الالتفات إلى هذه الحقيقة الواضحة يرفع الخلاف بين العباد ، وذلك لاختلاف ( الحيثيات ) الموجبة لتعدد الموضوعات حکماً وإن اتحدت واقعاً .. فيتبين من مجموع ما ذكر : إن محبة عبدٍ لعبدٍ إنما هي لحيثية ، تغایر حیثية بغض الآخر

ص: 163

اللعبد نفسه ، وعليه فلا خلاف بينهما يستحق معه الشقاق والبغضاء .

383- کفران نعمة الَملَكات

إن بعض الَملَكات التي تعطى للعبد ، إنما هي بمثابة ( الوسيلة ) للتكامل : کرقة القلب ، وقوة الفهم ، وسرعة الانتقال ، وحسن الاستيعاب ، وسرعة البديهة ، وحسن التخلص .. هذا كله إضافة إلى( العلوم ) الحقة المكتسبة من عالم المعرفة الذي يرفده الوحي والعقل والتجربة .. ولكن العبد - مع ذلك كله - قد يكفر بتلك النعم ،فتنقلب إلى ( حجة ) للرب على العبد ، بدلاً من أن تكون وسيلة لقرب العبد من الرب .. وقد قال تعالى عن بلعم : { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ }.. ومنه يعلم سر السقوط وهو الإخلاد إلى الأرض ، مُعرضاً عن موجبات الرفعة والعلوّ ، التي لو شاء الحق المتعال لرفعه بها ، وبذلك يتجلى لنا مدى خسران أصحاب تلك الملكات .

384- حسرة الفاقدين

إن الحسرة والألم اللّذين يعتصران قلب الفاقد لما يهوى ، لمن أجلى ( دلائل ) المحبة والارتباط .. وكلما عظمت هذه العلقة كلما عظمت حسرة الفقدان ، ولهذا ابيضت عينا يعقوب من الحزن لفقد من كان يحبه أشد الحبّ .. فإذا كانت الحسرة تنتاب الفاقدين لما هو مصيره إلى الفقد والزوال أولاً وآخراً ، فكيف بحسرة من يرى نفسه ( فاقدا ) لمن يعود إليه كل موجود ومفقود ؟!.. ومن هنا كانت حسرة وأنين العارفين باللّٰه تعالى ، من أعظم حالات الحسرة والأنين في حياة البشر ،لعظمة من فقدوه ذكرا في النفوس ، وتجلياً في القلوب .. وهذه الحسرة تعكسها هذه الفقرة من دعاء أمير المؤمنين (علیه السلام) ، عندما كان يبدي لواعج صدره بقوله : { ولَأَبکِیَنَّ عَلَیکَ بُکاءَ الفاقِدینَ }.. والمهم في العبد أن ينتابه مثل هذا البكاء قبل ( انکشاف ) الغطاء في أهوال القيامة ، إذ لا ينفعه شيء من البكاء يوم القيامة .

385- التيسير في حياة العبد

إن العبد الذي يوكِل أموره إلى الحق المتعال ، يجد بوضوح مدد

ص: 164

التیسیر والتسدید من الحق فی كل شأن من شؤون حياته .. فاليسيرمن ( السعي ) قد يستنزل الواسع من الرزق ، وهو من الرزق الذي يطلب الإنسان ولا يطلبه ، وبذلك لا يقع في عناء طلب ما لم يُقدّر له فيه رزقاً ، وقد وَرَد فيمن يؤثر هوى الحق على هواه ، أن الحق تعالى له من وراء تجارة كل تاجر .. والقليل من ( العلم ) النافع ،يفتح له الآفاق الواسعة لمعرفة ما ينبغي عليه فِعْله في أمر معاشه ومعاده .. والقليل من ( الذرية ) يوجب له خلود الذكر .. والقليل من ( العبادة ) يجلب له حالة الأنس والاطمئنان ، إذ من أحبه اللّٰه تعالی رضي منه باليسير ، وهكذا الأمر في باقي شؤون حياته .

386- نور القرآن

يطلب العبد من ربه - في دعاء زمان الغيبة - أن يُريَه الحق نور القرآن سرمداً .. إذ لا شك أن للقرآن نوراً يهدي اللّٰه به من يشاء من عباده ، وهو نور محجوب عمن لم يرد الحق أن يهديه ، لخلل في العبد نفسه .. والدليل على ذلك ، هو ( إنفكاك ) هذا النور في حالات كثيرة - عمن حفظ القرآن بألفاظه ، بل وَعَي كثيراً من معانيه ، بل فسرّ كثيراً من لطائفه كتفاسير المنحرفين عن منهج أهل البيت (علیهم السلام) ..والشاهد على إنفكاك ذلك النور عنهم أمران ، الأول ، وهو ( بقاؤهم ) في الظلمات المستلزم للحَجْب عن كثير من المعارف الواضحة ، والثاني :وهو ( التعمد ) في المخالفة العملية لصريح القرآن الكريم ، الذي حفظوا رسومه بل فسروا كثيراً من معانيه .. ومن خصائص هذا النور إنارة الطريق بوضوح ، مما يهيئ العبد للسير الحثيث في سبيل طاعة الحق ، ومن هنا كلما زادت تلاوته له ، كلما زادته إيماناً راسخاً في القلب ، لا علماً مجرداً في الذهن .

387- خطورة النفور من الداعي

إن من موجبات المحاسبة الشديدة للعبد يوم القيامة - قد يصل إلى حد مقت الحق له - هو دعوته للعباد إلى الطاعة مع عدم العمل بما

ص: 165

يدعو الناس إليه ، بل وارتكابه ما يخالف ذلك .. فإن الخلق بطبيعتهم ( الساذجة ) يخلطون بين الدعوة والداعي ، وبين المبدأ وبين من ينتسب إليه ، فيرون شبه ( امتزاج ) فيهما مع وجود المفارقة الشاسعة بينهما .. ويتعاظم الخطب عندما يتحقق ( النفور ) من ذلك الداعي ،فيعمد المدعو إلى مخالفة الداعي ولو كان محقاً في دعوته ، لمجرد النفور منه ، بل لرغبة المدعو في تحدي الداعي ، ولو أوجب مخالفة للحق وسخطاً للرب الجليل .. وهذا الأصل مما ينبغي مراعاته بدقة ،وخاصة في تعامله مع أهله وعشيرته الأقربين ، وذلك لإطلاعهم -بحکم معاشرتهم اللصيقة - على هفواته ، التي قد توجب لهم النفور المانع من قبول الموعظة والنصيحة .

388- العطش الذي لارواء له

إن الدنيا كماء البحر الذي كلما شرب منه الإنسان ازداد عطشاً ..وهناك صورة أخرى يذكرها القرآن الكريم ، فيها موعظة وتقريع ، فيشبّه المقبل على الدنيا ( كبلعم بن باعورا ) بالكلب الذي يلهث على كل حال ، سواء حمل عليه أو ترك بحاله ، وهذه هي حالة الحيوان الذي يعيش العطش الذي لا رواء له .. وهكذا فإن أبناء الدنيا يعيشون حالة من الولع والميل المفرط ، الذي لا يشبعه شيء من الدنيا وإن بلغ مداه ما بين المشرق والمغرب .. وعليه فإن العاقل يعلم أن الحل الجامع لذلك كله ، هو ( إزالة ) العطش الكاذب الذي يزهّده في ما يشبه الماء ،لا ( البحث ) وراء الماء الكاذب الذي لا يروي الغليل .

389- إطفاء النور

ورد في الحديث عن الإمام الكاظم (علیه السلام) أنه قال : { وَأَطْفَأَ نُورَ عِبْرَتِهِ بِشَهَوَاتِ نَفْسِهِ } البحار - ج 1 ص 136.. ففي هذا الخبر إشارة مهمة إلى من راقب نفسه ، إذ أن بعض الذنوب لا تنحصر آثارها في ( العقوبة ) البرزخية أو الأخروية ، وإنما تسلب ( النور ) من العبد ، ومن المعلوم أن ذهاب النور يلازم حلول الظلمة التي تجعل العبد لا يهتدي إلى سبيله في الحياة .. ومن هنا تأكد الدعاء بطلب ذلك النور الذي يمشي

ص: 166

به العبد في النشأتين ، إذ طالما تتعثر مسيرة العبد نتيجة خطئه في تمييز الصالح من الأفعال ، وخاصة في الموضوعات المبهمة التي لم يَرِد فيها أمر أو نهي بالخصوص ، فهو وإن لم يكن مسؤولاً عن الخطأ -جهلاً - في ( تشخیص ) الموضوع ، إلا أن ذلك مستلزم لتفويت منافع كثيرة كان من الممكن أن يحوز عليها ، لو كان ماشياً على بصيرة من ربه .

390- فتور همة العبد

إن الذكر ( القلبي ) للحق المتعال ، وإن كان من أعظم صور الذكر ،إلا أنه في الوقت نفسه ينبغي الالتفات إلى أن ذلك قليل أيضاً فيما لو قيس بعظيم حق المولى على عبده ، لأن هذا الذكر القلبي - على جلالته - لا يستلزم حركة في الخارج بما فيها من ( جهاد ) ومنافرة ،فهذا الذكر قد يجتمع حتى مع انشغال العبد الظاهري بلذائذه ..وعليه فإن تَرْك الذكر القلبي في أدنى مراتبه ، لمن الصور القبيحة ( للكسل ) ، وفتور همة العبد ، الذي يبخل بما لا يستلزم منه جهداً في الخارج .. فليُشغل العبد نفسه بما يريد ، مع الاحتفاظ بتلك اليقظة التي تمنعه من التورّط فيما يوجب له غضب المولى الجليل .

391- عرش الشيطان

روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) - في جواب من ادعى أن أبا منصور رُفع إلى ربه ، وتمسّح على رأسه - أنه قال : حدثني أبي عن جدي أن رسول اللّٰه (صلی اللّه علیه و آله وسلم) قال : {نَّ إِبْلِيسَ اتَّخَذَ عَرْشاً فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ وَ اتَّخَذَ زَبَانِيَةً بِعَدَدِ الْمَلَائِكَةِ فَإِذَا دَعَا رَجُلًا فَأَجَابَهُ وَطِئَ عَقِبَهُ وَ تَخَطَّتْ إِلَيْهِ الْأَقْدَامُ تَرَاءَى لَهُإِبْلِيسُ وَ رُفِعَ إِلَيْهِ وَ إِنَّ أَبَا مَنْصُورٍ كَانَ رَسُولَ إِبْلِيسَ } البحار ج 25 ص 282 .. إن هذا الحديث من نوادر الخبر في مجال ( تلبيس ) إبليس ، إذ أنه يفسر حالة العروج الكاذب ،والدعاوى الزائفة التي تضج بها بعض كتب المنحرفين عن جادة الحق ،وذلك في مجال التهذيب والسلوك .. إضافةً إلى دلالته على خطورة ( التصدي ) لبعض المقامات من دون استحقاق علمي وعملي ، فرغبة الشيطان في إمامة هؤلاء للخلق قد أشير إليها بقوله (علیه السلام) : { وَطِئَ

ص: 167

عَقِبَهُ }.. وأخيراً ينبغي الالتفات إلى سعة ( كيد ) الشيطان وخفاء مكره، يصل إلى حد تزييف عناصر عالم الملكوت ، والتشبه بالرب عرشاًوملائكة ووحياً .

392- تعصّب المحب

إن العبد عندما يستغرق في محبة عبدٍ من العباد - لشهوة أو لحكمة- يجد في نفسه نفوراً و ( استيحاشاً ) ممن لا يشاطره ذلك الحب ،فكيف إذا أحس بعداوة أحد تجاه من يحبّ ؟! .. كل ذلك من صور( التعصب ) الذي يفيده ذلك الحب المستغرق لشغاف القلب .. وقياسا على ذلك نقول : إن محبة الحق تتغلغل في نفس العبد المطيع إلى درجة يصل إلى المرحلة نفسها ، فيجد استيحاشاً بل نفوراً من الغير الذي لايلتفت إلى الحقيقة التي استشعرها هو بكل وجوده ، وأحبها بمجامع قلبه ، ولو كان ذلك الغير من أقرب الخلق إليه .. ولهذا { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ }.

393- الناصح القائد

إن مَثَل الناصح الداخلي ( أي العقل ) ، والخارجي ( أي الموعظة والوحي ) ، كمثل من يقود الدابة التي لا تهتدي إلى سبيلها بنفسها ..وعليه فلو لم يكن للسائس سلطة القيادة ، وللدابة قابلية الانقياد ،السقطا في الهاوية ، وخاصة لو اقترن ذلك بهياج الدابة ، وسرعة سيرها ، ووعورة طريقها ، بل وغیاب سائسها بعد طول مخالفة ..وبناء على ذلك فليس مجرد وجود السائس البصير، من موجبات الاهتداء إلى السبيل ، بل إن فعلية الهداية ، مترتبة على فعلية القيادة ،فالعقل والشرع هاديان لمن اتّبعهما ، لا لمن وجدهما في نفسه فحسب ،فيكون ممن أضله اللّٰه على علم .

394- تضييع النساء والصبيان

قد يلتفت العبد إلى حقوق العباد خارج دائرة سيطرته .. ولكنه يضيّع حقوق القريبين من رعیته ، وهم الضعيفان : الأولاد والنساء ،

ص: 168

وذلك ( لاستسهال ) التعدي عليهم ، وعدم ( إطلاع ) الخلق على ظلامتهم ، و ( حاجتهم ) الشديدة إليه بما يمنعهم من الشكوى منه ..ومن هنا لزم على العبد الحذر الشديد من غضب الحق فيمن لا ناصر لهم إلا اللّٰه تعالى ، وقد ورد عن الإمام الكاظم (علیه السلام) أنه قال : { إِنَّ اَللَّهَ لاَ یَغْضَبُ بِشَیْءٍ کَغَضَبِهِ لِلنِّسَاءِ وَ اَلصِّبْیَانِ } البحار-ج104ص 73.

395- أثر الاستحواذ

إن الأثر ( المهم ) والرئيسي لاستحواذ الشيطان على العبد هو ( نسيانه )ذكر ربه ، إذ قال تعالى : { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ }..ومن ذلك يعلم أن مفتاح عمل الشيطان هو نسيان الحق المتعال ،وخاصة في المواطن التي تتطلب منه الذكر : كمواطن المعصية ..ولذلك لا ينحصر همّ الشيطان في نسيان العبد ذكر ربه في كل آناء حياته ، بل يكفي لتحقق ( غرضه ) ، نسيان العبد لربه حين تعرضه اللغواية .. وهنا فلنتساءل ، أنه ما هي القيمة الرادعة لذكر اللّٰه عز وجل قبل المعصية وبعدها ، بعد أن نال الشيطان بغيته منه في حال المعصية ؟!.. وعليه فليس من المهم نفي الغفلة المطبقة لينفعه الذكر المتخلل ،وإنما المهم إثبات الذكر الغالب ، لئلا تضره الغفلة المتخللة .

396- إثارة صاحب المصيبة

إن ما يتميز به صاحب المصيبة العظمی - کالأم الثكلى بولدها - هو أن أدنى تذكير له بالمصاب الذي نسيه بتقادم الأيام ، يهيّج فيه المشاعر الكامنة ، فلا تحتاج بعد ذلك إثارة تلك الأحاسيس ( الدفينة ) إلى كثير جهدٍ ومعاناة ، وخاصة عندما تتعاظم المصيبة .. وعليه فإن المؤمن الذي يعيش حالة التفاعل الشعوري مع عناصر عالم الغيب ، يثيره أدنی مذكر لتلك العناصر التي قد غفل عنها ، وذلك كإحساسه بفداحة فقد النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) ، وغيبة الوصي (علیه السلام) ، وخلو الزمان من الحجة الظاهرة ..وهذه معانٍ كامنة في وجدانه وإن لم يستحضرها في كل آن .. ومن المعلوم أن الذي لا ( يملك ) هذا المخزون الشعوري في مرحلة سابقة ،لا ( يتفاعل ) عادة بالمثيرات العاطفية حينما يتعرض لها ، كعدم تفاعل الأجنبية مع مصيبة الوالهة الثكلى .

ص: 169

397- إضطراب العاشق

إن القلب إذ عشق شيئاً لم يستقر دون الوصول إلى ما يعشقه .. ومن المعلوم أن الوصول للمعشوق الحسّي ، يحتاج إلى مقدمات قد لا يتيسر للعبد دائماً ولو كانت القدرات كلها بين يديه .. وعليه فإن وجود مأرب مادي في القلب من دون أن يتحقق خارجاً ، مما يوجب الاضطراب والقلق الدائم ، وهذا بخلاف ما لو كان المأرب هو الوصول إلى الحق المتعال ، إذ أنه قريبٌ إلى من رحل إليه .. إضافة إلى أن سكون القلب في المقاصد المادية ، يتوقف على الوصل المادي بذلك المقصود ، والحال أن الحق المتعال يحقق له الوصل في عالم القلب ، فلا يحتاج إلى أمر آخر في الخارج يتوقف عليه ذلك السكون .

398- الملاك الواحد

إن الشيطان يوقع العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ( ليصدّ ) عن سبيل اللّٰه تعالى كما صرح به القرآن الكريم .. و عليه فإن كل ما يصدّ عن سبيل اللّٰه تعالى فهو كالخمر والميسر ، وإن لم يتجلّ لنا قُبحه كقبحهما ، إذ العبرة ( بالغايات ) القبيحة ، وإن لم تكن ( المبادئ ) قبيحة في بادئ النظر .. و من هنا عُبّر بالسكر عن أمورٍ أخرٍ لا تُعارف سكرها ، كما روي عن أمير المؤمنين أنه قال : {السُّكرُ أربَعُ : سُكرُ الشَّرابِ، وسُكرُ المالِ، وسُكرُ النَّومِ، وسُكرُ المُلكِ }البحار - ج 37 ص 241. وعليه فإذا رأى العبد المراقب لنفسه ، بعض موجبات الصدّ عن سبيل اللّٰه تعالى ، ولو كان مباحاً بعنوانه الأولي -کالجلوس مع الغافلين أو الإنشغال بما يُلهي الفكر والنظر - فإنه يتعامل معه كتعامله مع الخمر والميسر ، لتشابه الملاك فيها جميعاً .

399-کالسائر في البستان

إن الذين أنسوا ( بروح ) الصلاة ، قد لا يُحوجهم الأمر إلى التماس أحكام ( الشكوك ) في ركعات الصلاة ، إذ أن لكل ركعة من الصلاة

ص: 170

روحها ورائحتها الخاصة بها .. فهو كمن يسير في بستان لها حقولها المتمايزة ، فلا يذهل عن أوله ولا وعن وسطه ولا عن آخره ، بل يعلم في كل خطوة يخطوها ، موقعه في ذلك البستان بما فيها من صور الجمال .. و عندئذ نقول إن مَثَل المصلي كمَثَل ذلك السائر ، فلكل جزء من أجزاء الصلاة طعمه المتميز ، يستذوقه المصلي في وجوده بكل وضوح ، فكيف لا يفّرق بين الركعة الأولى بما فيها من نشاط البدء في مواجهة الحق بعد طول انتظار ، وبين الركعة الثانية بما فيها من قنوت وحديث مسترسل مع الرب المتعال ، وبين الركعة الثالثة التي هي بداية النصف الأخير من التنزل التدريجي بعد العروج ، وما يصاحبها من الاشفاق من قرب الرحيل ، وبين الركعة الرابعة التي يشرف فيها على الخروج من هذا اللقاء المبارك ، بما يصحبه من ألم الوداع والفراق ؟!.

400- ذكر المعصومين للحجة (عليهم السلام)

لقد تناولت النصوص الشريفة الواردة عن أئمة أهل البيت (علیهم السلام) مسألة الأمام المنتظر من ( زواياها ) المختلفة، فتارة تتطرق إلى علائم ظهوره ، وتارة أخرى إلى أوصاف أصحابه البررة ، وثالثة إلى الأحداث الواقعة بعد ظهوره ، ورابعة إلى المحن التي تنتاب الموالين له في غيبته ، بما يدل بمجموعها على أنها فكرة ( محورية ) في تراث أهل البيت (علیهم السلام) ..فهذا الإمام الصادق (علیه السلام) ، يصفه الراوي بأنه كان يبكي بكاء الواله الثكلى ، ذات الكبد الحرّي ، قد نال الحزن من وجنتيه ، وشاع التغيّر في عارضيه ، وقد زفر زفرة انتفخ منها جوفه ، واشتد منها خوفه ،وهو يقول : { سَیِّدی ! غَیْبَتُکَ نَفَتْ رُقادِی وَضَیَّقَتْ عَلیَّ مِهادِی وَأَسَرَتْ مِنّی راحَهَ فُؤادی .سَیِّدِی ! غَیبَتُکَ أَوصَلَتْ مُصابی بِفَجَائِعِ الأَبَدِ وفَقْدُ الواحِدِ بَعدَ الواحِدِ یُفنِی الجَمعَ والعَدَدَ} البحار-ج 51 ص219.. ولاعجب في ذلك فإن بدولته الكريمة تحيا آمال الأنبياء والأوصياء ، من لدن آدم (علیه السلام) إلى النبي الخاتم (صلی اللّه علیه و آله وسلم) ، إذ لم تشهد

ص: 171

الأرض العدل المطبق منذ بدء الخليقة إلى زمان ظهوره .

401- تحويل المعلومة إلى عقيدة

إن الصعوبة الكبرى في عالم التكامل ، تكمن في عدم قدرة العبدعلى تحويل ( المعلومة ) الذهنية إلى ( عقيدة ) قلبية ، فقد يكون لديه كمٌ كبير من الأفكار الصائبة والمفاهيم الحقّة ، إلا أنه لم يترجمها إلى شحنة دافعة في أعماق وجوده تحرکه نحو الكمال ، ولهذا لا يجد لهذه المفاهيم ( داعويّة ) في نفسه ، ومحركيّة لإرادته ، فتكون كالأسفار المحمولة !!.. و هناك سبلٌ كثيرة ودقيقة بل معقدة ، لتحويل المعلومة إلى عقيدة منها : البلوغ النفسي ،والاستحضار الدائم للفكرة تذكيراً لنفسه وتواصياً لغيره ، وتحاشي العمل بما ينافيها ، والإصرار على التطبيق عند منافرة الطبع لها ، والعيش في ضمن الأجواء المحفّزة لها ،والاستمداد الدائم من الحق ، ليتحقق في العبد مضمون قوله تعالی :{ وَ رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ } و { أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً } و { فَزادَهُمْ إِيماناً } و{ وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } و {وَ يَزِيدُ اَللّهُ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا هُدىً }.

402- المجاهدة الدفعية والمستمرة

ورد في حديث الاستطلال بظل العرش ذكر سبعة أصناف منهم : { وَ شابٌّ نَشَأ فی عِبادَهِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ.. ورَجُلٌ دَعَتهُ امرَأَةٌ ذاتُ حَسَبٍ وجَمالٍ فَقالَ:إنّي أخافُ اللّهَ } البحار-ج26 ص 261.. فالملاحظ أن هناك صنفاً يكتسب هذه المزية العليا في ذلك الموقف العصيب ، بالمجاهدة المستمرة التي تفيدها عبارة ( نشأ في عبادة اللّٰه ) .. إلا أن هناك صنفاً آخرحاز على الرتبة نفسها ، بمعاملة مربحة مع الحق المتعال ، قد لاتستغرق سوى لحظات من حياته ، وهي ساعة المجاهدة الدفعية المتحققة عند قوله ( إني أخاف اللّٰه ) .. فمَثَل هذا العبد كمَثَل من ربح مالاً وفيراً في صفقة واحدة ، لم يكلّفه سوى الإيجاب والقبول .. فعلی العبد عند الابتلاء بهذه المواقف المحرجة ، أن لا يفرّط في هذه الأرباح العظيمة التي يبيعها أهل الهوى بشهوة عابرة ، تذهب لذتها وتبقى

ص: 172

تبعتها .. بل قد لا يتهيب البعض من تعرّضه لمثل هذه المواقف ، ليثبت فيها استقامته وثباته بفضل الحيّ القيّوم ، فيحوز على ما لم يحزه بالمجاهدة المستمرة

403- نقاط النور

ما من مؤمن إلا وهو يعيش ( لحظات ) بينه وبين ربه ، يستشعر فيها حالة الإنابة بل الأنس بذكره بما لا يقاس به الأنس بمن سواه ، وهي ومضات النور التي تتخلل ظلمة الحياة .. فالمطلوب منه أن ( يوسّع )من هذه النقطة البيضاء لتغطي أكبر مساحة من حياته .. فما العمر إلا مجموعة من نقاط النور والظلمة ، فما دام العبد قادراً على( التحكم ) في نقطة منها ليحوّلها إلى بقعةٍ من نور ، فما المانع عقلاًمن التحكّم في النقاط الأخرى ، ليضفي على حياته هالة من النور الثابت المستغرق ؟... و من المعلوم أن هذا النور الذي يكتسبه في الحياة الدنيا ، هو بنفسه يسعى بين يديه يوم العرض الأكبر .

404- فساد الظرف والمظروف

إن موجبات الفساد والإفساد تكون تارة في ( المظروف ) ، وأخرى يتعدى المظروف ليفسِدَ ( الظرف ) نفسه ، وذلك في ما لو طالت فترة بقاء الفاسد في ذلك الظرف .. و عليه فإن بعض الذنوب التي يدوم عليها العبد - وإن كانت من الصغائر - قد تؤثر في فساد القلب ، كإفساد الثمرة الفاسدة للإناء الذي فيه،وحينئذ فلا يكون علاج الأمر بإزالة الثمرة الفاسدة ، بل بتغيير الإناء الذي تعدى إليه الفساد .. و من هذا المثال نعلم ضرورة ( المسارعة ) في الإقلاع عن الخطايا ، لئلا يفقد القلب سلامته ، فيؤول أمره إلى الختم ، وعنده يبقى فساد القلب بحاله وإن أقلع صاحبه عن المعصية .

405- مردّ الإحساس بالغيرة

إن مردّ إحساس المرأة بالغيرة من تصرفات الزوج هو اعتقادها( بالشرك ) التعاملي الذي يمارسه الزوج مع زوجته ، فهي تفترض

ص: 173

أن حبه لها ينبغي أن لا يشاركه فيه غيرها .. فلو ( غالبت ) المرأة هذا الإحساس ، وخرجت من دائرة انحصار توجهها لزوجها ، والاستغراق في جلب وده ، ومن ثَمّ أسلمت أمرها لمن بيده مقاليد الأمور صغيرها وكبيرها ، لهانت عليها بعض الصعاب ، واحتملت أذى الأزواج ، لما ترى من أن ذلك كله بعين الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء .. إضافة إلى ذلك كله ، ( الاعتقاد ) بأن الخير إنما هو بيد الذي لا رادّ لفضله ، يصيب به من يشاء من عباده .

406- الكمال الطولي والعرضي

إن مما يلاحظ في بعض صور توفّي الحق لعبده بالممات ، هو أن العبد يصل إلى مرحلة رتيبة من الطاعة إما أنساً بها أو اعتیاداً لها ،بحيث لو ترك بحاله لما عدل عما هو فيه ، ومن المعلوم أن ( استعداد ) العبد للطاعة - وإن استمرت به الدهور - لمن موجبات الخلود بالجزاءالتفضلي للحق الكريم .. و عليه فلو توفّاه الحق بعد تلك الحالة الرتيبة الثابتة ، فإن انقطاع ذلك التفاعل ( العرضي ) لا يؤثر كثيراً في رصيده ، وهذا بخلاف ما لو اعتاد العبد القفزة في حياته ، فإن هذا التكامل ( الطولي ) في الدرجات ، قد يوجب له منحة الحق في إطالة العمر ، ليتسنى للعبد القفز إلى أعلى الرتب التي يمكن أن يصل إليها ،فیتوفاه الحق - لطفاً به - بعد ذلك وهو في أعلى سلم التكامل .

407- التأسي في تأثرهم

تنتاب الإنسان حالة من الألم الشديد عند فراق عزيز لديه ، يصل إلى حد الذهول ، فعلى العبد في مثل هذه الحالة ، تذکّر مصائب أهل البيت (علیهم السلام) في أعزتهم ، وخاصة مع ملاحظة ( قرب ) أعزتهم من الحق المتعال ، إضافة إلى ( شدة ) محبة المعصوم لمن هو عزيز لديه ، إذ أن المحبة الحقة صفة ( كمالية ) ، لا بد وأن تكون متحققة في المعصوم بأعلى درجاتها .. ومن هنا كان التأسي بهم في ذلك التأثر بأعرتهم ،من أعظم موجبات الرضا ، وكسب الحُظوة عندهم (علیهم السلام) .

ص: 174

408- آثار سرعة الاعتذار

إن سرعة ( قبول ) العذر عند الاعتذار ، لمن سمات النفوس الكريمة ،فإن المعتذر لا يخلو من إحساس بالذل والمهانة عند الاعتذار ، لا يحتملها أصحاب النفوس العالية ، إذ لا يمكنهم الوقوف موقف اللامبالاة من المعتذرين ..أضف إلى ذلك ، فإنها من موجبات ( استنزال ) الرحمة الإلهية لقابل العذر ، عند اعتذاره للحق المتعال ، ومن المعلوم أن العبد لا ينفك من حاجته ( لصفح ) الحق في كل مراحل حياته ،لعدم خلّوه من تقصيرٍ في حق العبودية : بدءً بالذنوب ، وانتهاءً بالغفلة والإعراض بالقلب .. و قد أمِرنا بالصفح الجميل الذي فسره الأمام الرضا (علیه السلام) بقوله : { عَفْواً مِنْ غَیْرِ عُقُوبَهٍ وَ لَا تَعْنِیفٍ وَ لَا عَتْبٍ }البحار - ج78ص356 ..كما روي عن الإمام الكاظم (علیه السلام) أنه قال : { إن أتاکُم آتٍ فَأَسمَعَکُم فی الاُذُنِ الیُمنی مَکروهاً ثُمَّ تَحَوَّلَ إلی الاُذُنِ الیُسری فَاعتَذَرَ وَقالَ : لَم أقُل شَیئاً فَاقبَلوا عُذرَهُ }البحار - ج 71ص 425.

409- التفاعل في الخلوة والجلوة

إن مَثَل من يُقبل على المولى في ( ملأ ) من الناس متأثراً بتفاعلهم مع ذكره تعالى ، ثم يُعرض عنه في ( خلوته ) ، كمَثَل من قدم عليه ضيف كريم ، وأكرمه عند زيارة الناس له متأثراً باحترامهم لذلك الضيف ، فإذا خلا به أهمله في ضيافته وتكريمه ..فإن دل ذلك على شيء ، فإنما يدل على عدم معرفته بالضيف حق معرفته ، وعدم تقديره بما يليق بشأنه ، مما يجعله محروماً من خالص نظرته عند الخلوة به .. و كان الأجدر بالضيف الذي تشرّف بزيارة مثل هذا الضيف له ، أن ( يحرص ) على خلوته به أكثر من تكريمه في ملأ من زوراه ، فإن تكريم الضيف في الخلوة ، أقرب إلى التقدير الخالص من التكريم في الجلوة ، لما يشوبه من شوائب التظاهر والمجاملة .

ص: 175

410- تجاوز الحاكمية

إن الدين عبارة عن مجموعة من القوانين التكليفية والوضعية في الأفعال والتروك ، وهي التي ( تحكم ) علاقة العباد بربهم ، وبالمخلوقين من جهة أخرى ، ومن هنا كانت هذه القوانين من شؤون ( حاکمية ) الملك الحق المبين .. وليُعلم أن أيّ تدخّل غير مأذون به في هذا المجال ، يُعدّ تحدياً وتجاوزاً لتلك الحاكمية القاهرة .. و من هنا جاءت النصوص المحذرة من : تفسير القرآن بالرأي ، والبدعة ، والقياس في الدين ،والتصرف في الحديث بالجعل والتحريف ، واتّباع ما ليس فيه علم ..فعلى العبد أن يحذر الاعتقاد بأي أمر - ولو كان حقيرا - ما لم يقم عليه برهان من شرع أو عقل ، لئلا ( يعتاد ) إتّباع الظن المنهيّ عنه ،فيقع نتيجة لذلك في شباك الشيطان ، لتبنّيه العقائد الفاسدة التي تغّير مسيرة العباد وتفسد صالح البلاد ، وقد ورد عن الإمام الرضا (علیه السلام)أنه قال : { إنَّ أدنی ما یُخرِجُ الرَّجُلَ مِنَ الإِیمانِ أن یَقولَ لِلحَصاهِ:هذِهِ نَواهٌ ثُمَّ یَدینَ بِذلِکَ ویَبرَأَ مِمَّن خالَفَهُ }البحار- ج 2 ص 115 ..فليست المشكلة الكبرى في القول المجرد الذي لايستتبع اعتقادا ، بل المشكلة فيما ذكر من الديانة به والبراءة ممن خالفه .

411- عروج الدعاء

إن الدعاء إذا ( عرج ) إلى الحق المتعال ، فلا يُعقل - بعده - إهمال الكريم لحاجة صاحبه ، إذ أن ذلك لا يجتمع مع كرمه الذي لا يحيط العباد بکنهه ، كباقي صفات جلاله وكماله .. و من هنا تأكدت الحاجة في التأمل في موجبات ذلك العروج ، وهي العمدة في تحقق الإجابة ،ولهذا يسأل الداعي ربه قائلاً : { اَللّهُمَّ فَأْذَنِ اللَّیْلَةَ لِدُعائی أَنْ یَعْرُجَ إِلَیْکَ ، وَأْذَنْ لِکَلامی أَنْ یَلِجَ إِلَیْکَ } البحار- ج87ص 182.. و قد أشارت الأدعية الكريمة إلى الذنوب التي ( تحبس )الدعاء ، ومن المعلوم أن حُكم الدعاء الذي لا يَعرج إلى الحق ، كحكم الدعاء الذي لم يصدر من صاحبه ،

ص: 176

فی عدم استلزامه الاستجابه .

412- خبط العشق

إن بعض الذنوب الخارجية يعبّر عن انحراف ( جارحة ) من الجوارح ،وإن كان منشأها حالة في النفس تدفع الجارحة لارتكاب تلك الخطيئة.. إلا أن هناك بعض الخطايا تتفاعل مع النفس ( مباشرة ) ، فتقلب عاليها سافلها ، بما يفقدها الاعتدال والاستواء ، فتدعو صاحبها للتخبط في الحياة كتخبط من سلب عقله !!.. و مثال ذلك العشق الشديد الذي قد لا يتجلى من خلال معصية في جارحة ، إلا أنه يوجب الاضطراب في ( التكوين النفسي والعقلي بما يفوق أثر بعض الذنوب الخارجية.. و الدليل على ذلك ، هو عدم قدرة العبد عندها على الالتفات إلى الحق ، بل الإحساس بحالة من الصدود عنه ، لشدة انشغال الفؤاد بمادة العشق هذه ، وهذا كله خلافاً لبعض الذنوب التي يعود العبد بعدها إلى ربه تائباً منها بمجرد إقلاعه عنها .. و قد ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) ما يصوّر حالة الانقلاب النفسي للعاشق بقوله : { مَنْ عَشِقَ شَیئاً أَعْشَی بَصَرَهُ وَ أَمْرَضَ قَلْبَهُ فَهُوَ ینْظُرُ بِعَینٍ غَیرِ صَحِیحَةٍ وَیسْمَعُ بِأُذُنٍ غَیرِ سَمِیعَةٍ قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ وَ أَمَاتَتِ الدُّنْیا قَلْبَهُ}شرح النهج- ج 7ص20.

413- الآثار البعيدة للعمل

إن مما يُفاجأ به العبد عند المحاسبة يوم القيامة ، هو إطلاعه على الآثار غير المقصودة المترتبة على أفعاله الاختيارية ، إذ أن الآثار ( البعيدة ) المترتبة على الفعل وإن لم تكن ( اختيارية ) للعبد مباشرة ،إلا أنها تنتسب إليه بانتساب ( أصل ) الفعل إليه ، ولهذا ينتسب أجرمن عمل بالسنّة الحسنة ، و وزر من عمل بالسنّة السيئة ، إلى صاحب السنة الحسنة أو السيئة ، وإن لم يعمل هو بها .. و عليه فمن الواجب على العبد الحذر الأكيد من الآثار اللاحقة للسيئة ، فضلاً عن السيئة نفسها ، ولا شك في أن توقّع الآثار واحتمال وقوعها ، يحتاج إلى

ص: 177

بصيرة ونور يمنحان لمن يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه .. والتأمل في الرواية التالية مما يُذهل ذوي الألباب ، ويدفعهم للمراقبة في كل حركة وسكنةٍ ، قولا كان أو فعلاً ، وهي ما روي عن الإمام الباقر (علیه السلام)أنه قال : {یُحشَرُ العَبدُ یَومَ القِیَامَهِ وَمَا نَدا دَماً فَیُدفعُ إِلیهِ شِبه المَحجَمهِ أَو فَوقَ ذَلکَ فَیُقالُ لَهُ: هَذا سَهمُکَ مِنْ دَمِ فُلان فَیَقُولُ یارَبِّ إِنَّکَ تَعلَمُ إِنَّکَ قَبَضتَنی وَمَاسَفَکْتُ دَمآ،فَیَقُولُ:بَلی وَلَکِنَّکَ سَمِعْتَ مِنْ فُلان رُوایهً کَذاوَ کَذا فَرَویتَها عَلَیهِ حَتّیْ صَارَتْ إِلی فُلانِ الجَبَّارِ فَقَتَلَهُ عَلَیها وَهَذا سَهْمُکَ مِنْ دَمِهِ } البحار-ج7ص 202.

414- افتراض حلول الموت

يحسن بالعبد بين فترة وأخرى ( افتراض ) حلول الموت به على حين غفلة ، ليرى مدى ( استعداده ) لمواجهة هذا المصير الذي لا يُستثنى منه أحدٌ من الخلق ، وتتأكد هذه الحاجة لمن بلغ من العمرمبلغاً ، أو ألمّت به عارضة يخشى معها الرحيل على عجل ..والمطلوب من العبد في مثل تلك المراجعة ، هو تصفية حقوق الخلق ،والإنابة إلى الخالق ، والتفكير فيما ينبغي له بعد الموت ، من موجبات الأجر الجاري الذي لا ينقطع بانقطاع الحياة .. ومع الإخلال بما ذكر ، فإن على العبد أن يوطّن نفسه على التصفية قبل الموت في سكراته ،وبعد الموت في برزخه ، وهو ما يعبر عنه الإمام الهادي (علیه السلام) ب ( الحمّام ) ،وذلك عندما دخل على مريضٍ وهو يجزع فقال له : { إذَا اتَّسَختَ وتَقَذَّرتَ وتَأَذَّیتَ مِن کَثرَهِ القَذَرِ وَالوَسَخِ عَلَیکَ وأصابَکَ قُروحٌ وجَرَبٌ ، وعَلِمَت أنَّ الغَسلَ فی حَمّامٍ یُزیلُ ذلِکَ کُلَّهُ ، أما تُریدُ أن تَدخُلَهُ فَتَغسِلَ ذلِکَ عَنکَ أوَ ما تَکرَهُ أن لا تَدخُلَهُ فَیَبقی ذلِکَ عَلَیکَ ؟ قالَ : بَلی یَا ابنَ رَسولِ اللَّهِ . قالَ : فَذاکَ المَوتُ هُوَ ذلِکَ الحَمّامُ ، وهُوَ آخِرُ ما بَقِیَ عَلَیکَ مِن تَمحیصِ ذُنوبِکَ وتَنقِیَتِکَ مِن سَیِّئاتِکَ ، } البحار-ج6ص156..فالأولى بالعبد أن يدخل الحمّام بنفسه قبل الموت ، لئلا يجبر على دخولها بما فيها من ذل ، وقسر ، وطول مكث .

ص: 178

415- القلب موضع النظر

إن النصوص الشريفة من القرآن وروايات العترة (علیهم السلام) ، أكدت على .طهارة القلب وتزكيته بما لا تدع مجالاً للشك في أنه لا صلاح ولانجاة ولا كمال للعبد ، من دون ( المراقبة ) الدقيقة والمبرمجة للقلب الذي إن صلح صلحت ( الجوارح ) كلها .. و من هذه النصوص التي تفتح آفاقا للسالكين إلى الحق ، ما روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال:{ قُلُوبُ الْعِبادِ الطَّاهِرَةِ مَواضِعُ نَظَرِ اللَّهِ فَمَنْ طَهَّرَ قَلْبَهُ نَظَرَ اِلَیهِ } غرر الحكم.. و ما قيمة القلب الذي لم ينظر الحق إليه ، وإن اشتغلت الجوارح ببعض الأعمال القربّية ؟!.

416- قيمة المعارف

إن على المؤمن أن يستذكر حقيقة أن ما وصل إلى الأجيال اللاحقة، من ( المعارف ) الحقّة في العقائد والأحكام ، المستمدة من منبع الوحي والعترة ، إنما هي ( ثمرة ) تاريخ من المجاهدة بالأنفس والأموال، منذ بعثة النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) إلى ما بعد زمان الغيبة ، بما فيها من مآسي وآلام لم يرْوِ لنا التاريخ إلا نزراً يسيراً منها .. و من المعلوم أن هذا الاستذكار يدعوه لمعرفة قيمة النعم التي هو فيها ، وضرورة عدم التفريط بشيء منها .. فهذا بدء زمان الغيبة الصغرى - عند وفاة الإمام العسكري (علیه السلام) - يشهد بداية إرهاصات زمان الغيبة ، إذ روى التاريخ أنه : { جرى على مخلفي أبي الحسن العسكري (علیه السلام) كل عظيمة من: اعتقال ، وحبسٍ ، وتهديدٍ ، وتصغيرٍ ، واستخفافٍ وذل } البحار-ج .5ص 334 .. و من المعلوم أن كل هذه المأسي بعد زمان الغيبة ، شهدها ويشهدها صاحب الأمر (علیه السلام) ، مما يوجب على محبيه ، مواساته في مصائبه ، وأفضل ( المواساة ) هو الإتّباع والعمل بما يقرّب من الظهور .

417- الجهل بدرجات الحجج

إن الجهل بعلوّ درجات حجج اللّٰه على الخلق من المعصومين (علیهم السلام) ،

ص: 179

منشأة عدم ( استيعاب ) دورهم الذي رسمه الحق لهم في عالم الوجود ،فمن اتخذه الحق خليفة في الأرض ، لا بد وأن يزوده ( بمستلزمات )الخلافة من جهتين ، الأولى : عظمة ( الانتساب ) ، إذ أنه خلافة للرب العظيم ، وعظمة خلافة الرب العظيم ، تستدعي عظمة من استخلفه بما يليق بشأن خلافته ، والثانية : عظمة ( التكليف ) ، إذ أنه واسطة العناية الحق في كل ما يتصل بشؤون المبدأ والمعاد ، وبما يضمن سعادة الخلق في عوالم الدنيا والبرزخ والقيامة .. فهذا أبو هاشم من خواص الإمام العسكري (علیه السلام) يقول : جعلت أفكر في نفسي عِظَم ما أعطى اللّٰه آل محّمد (صلی اللّه علیه و آله وسلم) وبكيت ، فنظر إليّ الإمام وقال : { الْأَمْرُ أَعْظَمُ مِمَّا حَدَّثَتْ بِهِ نَفْسُک مِنْ عِظَمِ شَأْنِ آلِ مُحَمَّدٍ (علیهم السلام) ، فَاحْمَدِ اللَّهَ أَنْ جَعَلَک مُتَمَسِّکاً بِحَبْلِهِمْ، تُدْعَى یوْمَ الْقِیامَةِ بِهِمْ، إِذَا دُعِی کلُّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ إِنَّک عَلَى خَیرٍ } البحار-ج50 ص 259 .

418- تمنيات الغافْلين

قد يتمنى الغافل عن الحق ملذات المستغرقين في الشهوات ، كما تمنى الغافلون من قبلُ ما أوتي قارون من متاع ، إذ قالوا: { يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }.. و المطلوب في هذه الحالة الالتفات إلى حقائق تزهّده في تلك الأماني الباطلة ، فمنهاالاعتقاد ( بفناء ) اللذات ودفعيّتها حتى في الحياة الدنيا ، ولهذا يستوحش أصحابها بمجرد الفراغ منها ، بل يصيبهم شعور بالملل والفتور كما هو واضح في شهوة البطن والفرج .. ومنها أن إقبال أهلها .عليها إنما هو ( فرار ) في حالات كثيرة ، لما هم فيه من الضيق والضنك في العيش ، ولهذا يلتجأون إلى ما يُنسي واقعهم كالمسكرات وما يشبه ذلك من مزيلات اليقظة والانتباه ، فيرتمون في أحضان تلك الموبقات ، لعدم وجود بديل لهم يشفي الغليل ، والحال أن المؤمن لا يرى في حياته ما يوجب الهروب منه ، ليلجأ إلى الاستمتاع المجردمن الهدف ، فهو متزود من الدنيا لا مستمتع بها .. أضف إلى ذلك

ص: 180

كله ، وجود تبعات اللذائذ التي تلحق أهل المعاصي في الدنيا والآخرة ،خلافاً لأولياء الحق الذين جمعوا بين سعادة الدارين ، كما روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال : { المالَ وَالبَنینَ حَرثُ الدُّنیا ، وَالعَمَلُ الصّالِحُ حَرثُ الآخِرَهِ وقَد یَجمَعُهُمَا اللّهُ لِأَقوامٍ } البحار-70ص 225 .

419- التشبّه بالكفار

إن من أعظم الذنوب هو الكفر والشرك ، وما ( يرتبط ) بهما من إنكار الضروري والتبرّم من قضائه وقدره ، ولكن العبد قد لا ( يعتقد )شيئاً من تلك المعاني ، ولا يُظهرها على لسانه ، ولكنه يتصرف - في مقام العمل - كمن يعتقد بتلك الأمور الموبقة ، فهو وإن لم يكن كافراً بمجرد ذلك ، إلا أنه ( متشبّه ) بهم وما أسوأه من تشبّه .. و قد ورد عن النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) أنه قال : { یَأتِی عَلی الناسِ زمانٌ یَشْکُونَ فیه رَبَّهُم ، قلتُ : وکیفَ یَشکُونَ فیه رَبَّهُم ؟ قالَ : یقولُ الرجُلُ : وَاللَّهِ ، ما رَبِحتُ شَیئاً مُنذُ کذا وکذا ، ولا آکُلُ ولا أشرَبُ إلّا مِن رَأسِ مالی، وَیحَکَ ! وهَل أصلُ مالِکَ وذِروَتُهُ إلّا مِن رَبِّکَ ؟؟ } الوسائل-ج17ص 462

420- الاسترسال بالأنس

إن مما يلاحظ في التعامل الاجتماعي ، أن العبد ( يسترسل ) في معاملة الخلق ، فيأنس بهم بدواعٍ ( شخصية ) ، دفعاً للّٰهم ، أو طلباً للمنفعة ، أو تأثراً بحبه لهم .. و من المعلوم أن ذلك كله مما لا يمكن إسناده إلى دواعي القربة إلى الحق المتعال ، إذ لو كان الإنس بهم لوجه الحق ، لما كان ينبغي الاسترسال المذهل عنه ، والذي ( يتجلى ) من خلال ، الهذر في القول ، والممقوت من المزاح ، وإطالة الجلوس بما لانفع فيه ، والتورّط في معصية اللسان ، والانشغال بهم عن أداء الحقوق الواجبة للأهل والعيال .

421- عقوبة العشق

إن من أشد العقوبات التي يعاقب بها العبد وخاصة في المخالفات

ص: 181

القلبية ، كالتعلق بغيره تعالى ، والغفلة عنه ، والحبة المستغرقة لغير من أمِر بحبهم ، هو (إعراض ) الحق عن ذلك القلب ، و ( إيكال ) أمر ذلك القلب إلى صاحبه ليملأه بما فيه هلاكه .. و قد ورد في الأثر ،أن اللّٰه تعالى لم يضرب عبداً بعقوبة أشد من قساوة القلب ، وقد سُئل الصادق (علیه السلام) عن العشق فقال : { قُلُوبٌ خَلَتْ عَنْ ذِکْرِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ حُبَّ غَیْرِهِ } البحار-ج73ص158.. و من الملفت في هذا الخبر التعبيرب ( أذاقها ) ، ومن ذلك يُعلم إن بعض الأمور التي فيها إضرار بالعبد، ينسبها الحق إلى نفسه ، مشعراً بالخذلان لذلك العبد المتمرد على إرادة الحق ، كقوله تعالى : {وَ يُذيقَ‘ بَعْضَكُمْ بَاْسَ بَعْضٍ } و { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } و { أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ } و { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ }.. و في ذلك منتهى الإذلال ،الشدة الاستحقاق التي جعلت الرب الرؤوف يُسند الإضرار إلى نفسه .

422- التوقيت في الأرض والحياة

إن من الأمور التي تُعين العبد على تجاوز العقبات ، هو الالتفات الواعي والتفصيلي لصفة ( التوقيت ) للحياة على الأرض وما عليها ،كالتفاته إلى التوقيت للأرض نفسها ، بل لما حولها من شموس وكواكب، وكيف أن العيش فيها بكل صخبها وحطامها ، كأنه اللّبث في ساعة من نهار ، بما فيها من سرعة الانقضاء !!..إن هذا الإحساس الذييرفده اليقين بصفة التوقيت - مع ما يقارنها من الاعتبار بالصور المادية المؤيدة لذلك كالأموات والقبور - يجعله ( يتعالی ) بشكلٍ غيرمتكلَّف عن الشهوات من جهة ، و ( يتحمل ) الابتلاءات من جهة أخرى، لعلمه أن ذلك كله زائلٌ كزوال أصل الحياة .. ومن هنا كان القرآن الكريم هدىً لمن آمن بالغيب ، وتيقّن بالآخرة ، ومن المعلوم أن الإيمان واليقين ، كلاهما يصبّان في تعميق هذا المفهوم ، الذي من شأنه تغيير مسيرة العبد رأساً على عقب .

ص: 182

423-النتائج بيد الحق المتعال

لا شك في أن اللّٰه تعالى خلق الإنسان حراً في إرادته ، ولهذا حَسُن تكليفه كما حَسُن عقابه .. إلا أن للحق تعالى فاعليته المباشرة في عالم النتائج والآثار .. فليَعمل العبد ما يريد باختياره ، ولكنه لا يبلغ مُناه في كل ما يريد ، كالزارع الذي له اختيار الزراعة ( كفعل ) لا الزرع( كحاصل ) ، إذ أنه منوط بأسبابه من الرياح والأمطار التي لا دخل للزارع فيها .. والامن المعلوم أن نسبة الآمال المتحققة في الخارج ، هي أقل بكثير من نسبة الآمال المنعقدة في القلوب .. ولامن موجبات هذه الخيبة ، طلب المُني بمعصية الحق المتعال ، فلا يُحرم العبد ما يريدفحسب ، بل قد يُبتلى بعكس ما يريد .. ولقد ورد عن الأمام الحسين (علیه السلام) أنه قال : { مَنْ حَاوَلَ أَمْراً بِمَعْصِیَةِ اللَّهِ کَانَ أَفْوَتَ لِمَا یَرْجُو وَأَسْرَعَ لِمَا یَحْذَر } البحار-ج78ص119 .

424-ما لا يورث اليقين

إن من مصاديق إتّباع الظن واقتفاء ما ليس فيه علم ، هو التأثر بما لا يورث اليقين : ( كالأحلام ) المقلقة ، و ( احتمال ) ما قد يتوهمه العبد من السحر والكهانة ، و ( تأثير ) الأرواح الشريرة ، وغير ذلك مما يُبتلى به أصحاب الوهم الذين لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يركنوا إلى ركنٍ وثيق .. فعلى العبد أن يقيس الأمور بما يورث له العلم واليقين ، مستلهماً ذلك من الشرع وأهله .. وإلا فإن البلاء الذي يورده العبد على نفسه - بسوء اختياره - قد لا يؤجر عليه ، فتفوته بذلك راحة الدارين .

425- أولم يكف بربك

إن العبد لو استحضر - بكل وجوده - مضمون هذه الآية في حياته الانقلبت نظرته إلى الحياة وما فيها ، واستشعر تلك الهيمنة العظمی والرقابة الدقيقة لعالم الغيب على كل حركاته وسكناته ، بما يمنعه من الذهول عن الحق المتعال ، فضلاً عن مخالفته وهي قوله تعالى : { أَوَلَمْ

ص: 183

يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }.. فكم فيها من العتاب البليغ ،وذلك بالتعبير ب ( أولم يكف ) ، بمعنى أنه لو لم نستحضر إلا هذه الصفة في الرب الخبير ، لكفى بذلك ردعاً للعباد .. و عليه فلو أعتقد العبد بإحاطة المولى عزّ ذكره بكل عناصر الوجود ، لأورثه هذا الاعتقاد إحساساً بالرهبة والمراقبة المتصلة ، إضافة إلى الإحساس بالسكينة والاطمئنان ، لعلمه بأن كل ما يجري في حقه وحق عالم الوجود ، إنما هو بعلمه ورأفته .

426- اللامحدود مقابل المحدود

لو عدّ العبد لحظات عمره المعدودة ، وقارنها باللحظات اللانهائية من حياة البرزخ والقيامة ، ثم المصير إلى الجنة أو النار ، لرأي ما يذهله أيما ذهول ..إذ أن كل ( لحظة ) من لحظات حياته ، تساويها قطعة (لا متناهية ) من الزمان ، ضرورة أن تقسيم اللامحدود على الحدود .ينتج اللامحدود .. و مقتضى هذا البرهان القاطع ، أن الخير والشر في كل لحظة من العمر المحدود ، له أثره اللامحدود سعادة أو شقاءً .. فإذا استوعب العبد هذه الحقيقة المذهلة ، لتحرّز من هدر أية لحظة من لحظات عمره ، بل لاشتدت حسرته إلى حد الحزن المفرط ، عندما يتذكر اللحظات التي ( أضاعها ) من عمره ولو فيما لا نفع فيه ، فضلاً عن هدرها فيما لا يحسن عقباه ، من المعاصي والذنوب العظام .

427- الحسرة على السلف

يتحسر بعضهم عند الإطلاع على سيرة السلف من العلماء والصالحين ،لعدم إدراك زمانهم والعيش معهم ، ليقتبسوا الكثير مما كانوا فيه .. والحال أنهم لا يعيشون الحسرة نفسها تجاه من بيده أزمّة الأمور في زمان الغيبة ، مع أنه بيمنه رزق الورى ، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء ..فهو (علیه السلام) إمام الصالحين في العصور التمادية ، وما اكتسب الصالحون درجة الصلاح إلا بمباركته ودعوته ورعايته ، كما هو مقتضی .تنزّل الأمر عليه في ليلة القدر وغيرها .. ولا شك أن ( الاحتجاب )

ص: 184

الظاهري لا يمنع مثل هذه ( الرعاية ) ، إذ أنه کرعاية الشمس لنبات الأرض ولو من وراء السحاب .. و من المعلوم أن الأئمة (علیهم السلام) في زمان الظهور أيضاً كانت لهم هذه الرعاية والتسديد لمواليهم حتى مع تباعدالأمكنة ، إذ لم يُقَدّر لبعضهم رؤية إمام زمانه أبداً .. فليكن المانع في مقتضى الزمان كما نحن فيه ، كالمانع في مقتضى المكان كما كانوا هم فيه .

428- ارتفاع الهوية الشخصية

يبلغ المؤمن من البلوغ والسمو الروحي ، إلى مرحلة ترتفع عنده الحواجز ، حتى حاجز ( هويته ) الشخصية في تعامله مع الخلق ..بمعنى أنه يرى الجماعة المؤمنة كالوجود الواحد ، فحاجة أخيه كحاجته ، إذ لا يرى - في عالم الواقع لا التلقين - أولويّةً لحوائج نفسه قياساً إلى حوائج غيره ، فإن نسبة العباد إلى الحق نسبة واحدة من جهة الخلق .. و من المعلوم أن هويته الشخصية من لوازم ( إنيّته )التي لا بد وأن يذيبها في مشيئة الحق وإرادته ، وعندئذ يتحول الإيثار عنده إلى حالة طبيعية غير منافرة لمزاجه ، فلا يرى معها عُجباً في نفسه ، ولا منة على عباده .. و هذه الحالة بحق من أعظم ( كواشف ) البلوغ النفسي ، الذي قلّما وصل إليه الواصلون .

429- علامة القبول

يتوقع العبد علامة الاستجابة والقبول بعد فراغه من موسم الطاعة ،کشهر رمضان ، وكالحج ، وكزيارة وليِّ من أولياء الحق ، وعندئذٍ قد يعوّل على ( منام ) غير مورث لليقين ، أو ( کلام ) عبدٍ مثله لا يغني من الحق شيئاً .. و الحال أن من أهم علامات القبول هو : إحساس العبد بتغيّر في ذاته ، يستتبع صدور الأعمال الموافقة لرضا الحق من دون كثيرِ تكلّف .. و المهم في هذه العلامة هي ( استمرارية ) ذلك التغيير ،وإلا فإن الزمان اللاحق لتلك المواسم ، لا يخلو من شيء من ألوان الطاعة واجتناب المعصية ، وهذا مما لا يعول عليه البصير ..فمَثَله كَمَثل من خرج من بستان حاملا شيئاً من روائع زهورها ، سرعان ما تتلاشی

ص: 185

بالابتعاد عن ذلك البستان .

430- الشيطان القرين

إن من التهديدات الكبرى للغافلين عن الحق ، المشتغلين بالمحسوسات ،والمنهمكين في الشهوات ، هو ما ورد في قوله تعالى : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ }.. فما حال الإنسان الذي اقترن به شیطان يغويه ، غير الشيطان الأكبر الذي يُشرف على الإنسان وعلى قرينه ؟! .. و من المعلوم أن هذا الشيطانٌ القرين ،يصاحب المرء في كل ( تقلّباته ) ، فيكون خبيراً بواقع العبد أكثر من نفسه ، فيعلم بذلك نقاط ضعفه وقوته .. ومن هنا تكمن ( خطورته)، إذ يسوق العبد إلى الهاوية ، مستعيناً بنقاط ضعفه ، بعد أن أبعده عن جادة الهدي ، مُعرضاً به عن نقاط قوته .

431- صلاة الليل والجماعة

لقد ورد من الحث على قيام الليل وصلاة الجماعة ، بما قلّ مثلهمافي المستحبات .. ففي صلاة الجماعة إنماء للجانب ( الاجتماعي ) للعبد ،إضافة إلى ما تحمله الصلاة من معان ودقائق ، تتجلى في قلوب المقبلين عليها .. و في صلاة الليل تنميةٌ للجانب ( الفردي ) ، وإخراجٌ اللعبد في كل ليلة من عالم (الفرش ) في النهار بما فيه من لغو وتشاغل عن الحق ، إلى عالم ( العرش ) بما فيه من الخلوة التي لايعرفها غير أهلها ، إضافة إلى التفكير المعمّق بموقع الإنسان في عالم الوجود الذي لم يُخلق باطلا .. و كان عليُّ (علیه السلام) يقول : { نَبِّهْ بِالتَّفَكُّرِ قَلْبَكَ وَجَافِ عَنِ اللَّيْلِ جَنْبَكَ وَاتَّقِ اللّه َ رَبَّكَ} تفسير الصافي - ج 1 ص 377 .

432- الحب الخالص

إن من أشق المراحل لطالبي لقاء الحق المتعال ، هو الوصول إلى مرحلة الحب ( الخالص ) له .. فإن السائر في أول الطريق يلقّن نفسه الحب ( تلقيناً )،ويتصّوراً في نفسه تصورا ، ثم يتعالی بعده ( ليستشعره

ص: 186

) واقعاً في نفسه ، مبتغياً بذلك القرب من ذلك الحبوب ، فيستمتع بلوازم ذلك القرب من الطمأنينة في الدنيا ، والأنس في الآخرة .. ولكن العبد يترقى إلى مرحلة لا يكون حبه للحق مقدمة لحيازة مزايا القرب ، واستجلاب عطاء المحبوب إلى نفسه ، بل لأجل أنه لا يرى محلاً في قلبه لغير ذكر المحبوب وحبه .. فإن القلب شأنه شأن باقي عناصر هذا الوجود ، مخلوق للحق المتعال ، ومن أولى - بهذا الظرف- من خالقه ليحل حبّه وذكره فيه ؟! .. فلغة الحب الواصل هي لغة (استحقاق ) الحق للحب المنحصر من العبد ، لا لغة استحقاق العبد للمزايا المنحصرة في حب الحق .

433- أدب المثول

إن من الواضح تقلّب العبد بعين المولى الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، إلا أن إحساس العبد بهذه الرقابة المتصلة من الحق التعال ، ( تتأكد ) في حال الصلاة ، فيكون الإنتهاء من ذكرالحق بالسفاسف من الأمور ، أبلغ في عدم الاعتناء بتلك المراقبة ، وفي جعل الحق أهون الناظرين إليه .. فمَثَل المصلي كمَثَل من هو في ملا بين يدي السلطان يرعاهم بنظرته ، فإذا طلب منه السلطان الوقوف بين يديه لمخاطبته ، وجب عليه أن يراعي أدب المثول ( للخطاب ) ،زائدة على أدب المثول ( المجرد ) بين يديه .

434- أعاصير الشهوات

إن مَثَل الشهوات التي تتوارد على العبد بقوة ، كمَثَل الأعاصير التي تجتاح البلاد بين فترة وأخرى .. فإن العلم بأن الإعصار لا دوام له ،يمنح ( القوة ) والعزم للثبات أمام الإعصار ، ريثما يعود الأمر إلى سابق طبيعته .. فالشاب المراهق الذي يعيش فوران شهوته ، عليه أن يعلم بأن هذه مرحلة إعصار ، تجتاح العباد في تلك المرحلة لترتفع بعدها ،سواء ( ثبت ) صاحبها معها أو ( استسلم ) أمامها .. فالمهم في السائر أن يعلم فترات الأعاصير ، ويستعد للصمود أمامها قبل هبوبها ، إضافة

ص: 187

إلى علمه بأنها حالة زائلة في كل الأحوال .

435- ضيوف الحق

إن العباد ينتسبون إلى الحق بنسبة الضيافة ، وذلك فيما لو كانوا حول بيته الحرام أو في مشاهد أوليائه .. فمن هنا لزم على العبد أن يلحظ تلك الإضافة (التشريفية ) في تعامله مع هؤلاء الأضياف ، فلا يلحظ علمه بسوء سابقتهم ، بل ولا بسوء لاحقتهم ، ما داموا جميعاً في ضيافة الملك الكريم .. ومن المعلوم أن ( احتقار ) من بحضرة الحق- أياً كانوا - مما يوجب حلول الغضب ، لما فيه من الاستخفاف بعظيم سلطانه ، المستلزم لعظيم عقابه .

436-مناهج المعرفة

إن الأدعية المأثورة عن أئمة أهل البيت (علیهم السلام) ليست ( وسيلة ) للحديث مع الرب المتعال فحسب ، بل هي ( مناهجٌ ) لمعرفة السبيل إلى لقاءالحق أيضا ..ففيها إشارة إلى : موجبات الغفلة ، وإلى دواعي القرب ،وإلى المقامات التي يمكن أن يصل إليها العبد ، وإلى جزئیات عناية الحق بخواص أوليائه .. ومن ( مظانّ ) هذه المضامين العالية ، دعاءکمیل ، ودعاء أبي حمزة الثمالي ، ودعاء مكارم الأخلاق ، والمناجاة الشعبانية ، ودعاء الصباح ، والمناجاة الخمس عشرة .

437- المجنون عند الخاصة

ما المجنون عند الناس إلا الذي تصدر منه الأفعال التي لا يُتعارف صدورها من عامة الخلق ، فلو كان ما يصدر من ( عامة ) الخلق ، لايتعارف أيضا صدورها من ( الخواص ) من أولياء الحق ، لعُدّ ذلك بنظرهم ضربٌ من الجنون أيضاً ، لأنه خروج عن المألوف عندهم ، بل خروج عن مقتضی الاستواء في السلوك الطبيعي لن يعيش العبودية تجاه الحق المتعال .. فليست حسنات الأبرار سيئات عند المقربين فحسب ،بل أن مستوى ( الإدراك ) عند الأبرار یُعدّ ناقصاً عند المقربين ،الاختلاف درجات العقل الذي لا يُكمله الرحمن إلا فيمن يحب ،

ص: 188

وباختلاف درجات حب الرحمن لهم ، تختلف أيضاً درجات العقل الممنوحة لهم .

438- الرصيد الكاذب

ما أخطر العلم على العالم الذي لا عمل له ، إذ أن ذلك مدعاة ( للغرور )والارتياح الكاذب إلى وجود رصيد عنده ، والحال أنه لم يملا إلا جانباً ضئيلاً من عالم ( ذهنه ) ، والذي يُعَد بدوره جزءاً محدوداً من وجوده ، الجامع لأبعاد أخرى ومنها عالم الذهن .. أضف إلى أن نقش المعلومة في الذهن ، بمثابة نقش الكتابة في الحجر ، والكتابة على الورق ، في أنه لا يُعدّ - في حد نفسه - كمالا يُعوّل عليه ( بمجرده ) في مسيرة الكمال ، ولهذا اجتمع العلم وهو أداة الإنارة ، مع الضلال وهو واقع الظلمة . كما في قوله تعالى : { وَ أَضَلَّهُ اَللّهُ عَلى عِلْمٍ } .

439- جينة الوحدانية

إن الإنسان بفطرته يميل إلى مبدأ وجوده ، فهذا هو الطفل لا يجد إحساسً غريباً عندما يُذّكر بالحق ، بل أنه يدعي ببراءة أنه يحبه ويودّه ، وهو صادقٌ إجمالاً في دعواه .. و نفس الإحساس ينتاب الكبار عند الشدائد ، فينقلب إلى موحدٍ مخلص لله دينَه (كما يعبر القرآن الكريم ).. و لو بقي على مثل ذلك الإخلاص ، لفتحت له الآفاق التي لم يكن ليحلم بها من قبل .. و قد أعلن العلماء عن اكتشاف جينة في الجسم أطقلوا عليها ( جينة الوحدانية ) مهمتها الرئيسية هي أن تقودالإنسان بالفطرة إلى إدراك أن هناك إلهاً واحداً لهذا الكون ، خلقه بحكمة وتدبير ، وأنه تعالى لا شريك له ، ولاحظوا أن تنشيط هذه الجينة يدفع الإنسان إلى الخشوع ، عندما يسمع أحاديثَ تتحدث عن الحق تعالى ، وقالوا أنها موجودة لدى كل مخلوق حيّ بمقتضى قوله تعالى : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ }.. وهنا يمكن أن نضيف القول بإمكانية الارتباط بين هذه المقولة ، وبين آية أخذ الميثاق من بني آدم ، إذ أخذ من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على الربوبية .

ص: 189

440- إيقاظ المحبة

إن من موجبات الانتقال عن المعصية هو ( الاعتقاد ) بشدة عذاب الحق في الآخرة وأليم انتقامة في الدنيا ، فإنه غير غافل عما يعمل الظالمون .. و لكن هناك سبيلاً آخر قد يكون أنفع من سابقه ، وهو( إحساسه ) بمحبته للحق الذي يهبه حالة من الالتفات واليقظة ، فيرى نفسه وكأنه كان نائماً على مزبلة واستيقظ على نتنه ، وهو يواجه -على مسافة قريبة منه - الجنات والرياحين ، فمن الطبيعي أن يبادر من تلقاء نفسه في الانتقال من المزابل إلى الروضات .. و ليُعلم أن استيعاب هذا المعنى ، كفيل بتغيير مسار كثير من العصاة ، يعبّر عنها الإمام (علیه السلام) في المناجاة الشعبانية بقوله : { إلهی لَم یَکُن لی حَولٌ فَأَنتَقِلَ بِهِ عَن مَعصِیَتِکَ إلّافی وَقتٍ أیقَظتَنی لِمَحَبَّتِکَ }.. فيقظة المحبة أبلغ في الوصول إلى الحق ، من رهبة العقاب .

441- اجعلوني من همّكم

إن من أبدع ما ورد في زيارات المعصومين (علیهم السلام) ، هو ما ذُكر عند وداعهم ، وهي لحظة فراق بما فيها من استثارة للعواطف التي تستلزمها طبيعة المفارقة ، فيقول الزائر مخاطباً ولیّه : { إِجْعَلُونِی مِنْ هَمِّکُمْ وَصَیِّرُونِی فِی حِزْبِکُمْ }..فلو استجيب هذا الدعاء في حق هذا العبد - وهو في مظانّ الاستجابة - وصار من ( همّ ) المعصوم ، بما يستلزمه الهمّ من الذكر والمتابعة والرعاية ، فكيف تكون حالة الزائر بعد تلك الزيارة ؟! ..أولا يُرجي بعدها تحقيق ( منعطف ) في الحياة ،كانت بدايته الدخول في حرم المعصوم ، وخاتمته الدخول في حزبه ،وكونه من همّه .

442- الوصية بالثلث

إن من الملفت حقاً عدم استغلال العبد لما أعطاه الحق المتعال من حق الوصية ( بالثلث ) في الأموال ، والحال أنه أحوج ما يكون للدرهم بعد وفاته ، رداً لمظلمة أو كسباً لدرجة .. و لو أذن للميت أن يتصرف

ص: 190

في كل ما لديه في عالم الوجود - تصرفاً بأمواله ، وفداء بأولاده وذويه - لفعل ذلك ، كما ورد مضمونه في قوله تعالى : { يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ }.. فكم تعظُم حسرته عندما يرى أنه كان ( مأذوناً ) بذلك ، ولكنه ( آثر ) من هو مستغنٍ من الأحياء على نفسه ، وهو مفتقر أشد الافتقار إلى ما كان داخلا في ملكه ، بعد أن أفنى عمره في جمعه ؟!.. و القرآن الكريم يذكر هذه الحالة بتعبير بليغ{ وَلَقَدْتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ }.

443- المخزون الشعوري

قد يتحسر بعضهم على حرمانهم من عطاء شعراء أهل البيت (علیهم السلام) -وخاصة الأوائل منهم - الذين أحسنوا صرف قريحتهم في سبيل( الذب ) عن أولياء الحق .. و من المعلوم أنه لا قيمة لهذه الكلمات مجردة عن دوافعها ، والدليل على ذلك عدم قبولها لو كانت تزلفاً أو نفاقاً ، وإنما القيمة الكبرى ( لمخزونهم ) الشعوري الذي يتفجر من خلال تلك الكلمات الخالدة .. و عليه فمن يملك ذلك المخزون بعينه ،ولم يستطع التعبير عنها بنثر أو شعر ، لكلل لسان أو قلة بيان ، فإنه معدود من تلك الزمرة بعينها ، لوجود العنون وإن لم يتحقق العنوان ،ولوجود البركان في الأعماق وإن لم يتفجر بحسب العيان .. فما ورد في مدح أولئك الشعراء على لسان أهل البيت (علیهم السلام) ، باعتبار عواطفهم الظاهرة على اللسان ، ( ينطبق ) بدرجة من الدرجات على من يحمل تلك العواطف الكامنة التي لم يَقدر على إظهارها .

444- تجلي النعمة

إن نعمة التوحيد والولاية يتجلى أثرهما - بأوسع مداه - في وقت( أحوج ما يكون العبد فيه لبركات تلك النعمة ، وهو بدايات الانتقال من هذه النشأة الدنيا إلى النشأة الأخرى ، بكل ما فيها من وحشة واضطراب .. فيقول العبد مناجياً لربه :{ اللَّهُمَّ إِنِّی ذَخَرْتُ

ص: 191

تَوْحِیدِی إِیَّاکَ وَ مَعْرِفَتِی بِکَ وَ إِخْلَاصِی لَکَ وَ إِقْرَارِی بِرُبُوبِیَّتِکَ وَ ذَخَرْتُ وَلَایَهَ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَیَّ بِمَعْرِفَتِهِمْ مِنْ بَرِیَّتِکَ مُحَمَّدٍ وَ عِتْرَتِهِ صَلَّی اللَّهُ عَلَیْهِمْ لِیَوْمِ فَزَعِی إِلَیْکَ عَاجِلًا وَ آجِلً }.. و بذلك تهدأ النفوس التي لم تستمتع بالآثار العاجلة لهذه النعمة ، عندما تعيش شيئاً من الحرمان في هذه الدنيا ، بمقتضى زمان الغيبة وما فيه من شدة وفتنة .. ومن أعظم ( الفتن ) غيبة المعصوم الذي بظهوره تُزاح الشبهة ، وتنجلي الكربة .

445- تسبيح من في الوجود

إن من موجبات ( الإقلاع عن المعصية ، هو إحساس العبد بأن كل ما حوله يسبح بحمد اللّٰه تعالى ، إما بلسان حاله ، أو بلسان مقاله ..فإنه عندما يعصي الحق على فراشه بعيداً عن أعين الناظرين ، فهو إنما يتمرد في وسط ( يضجّ ) بالتسبيح ، بأرضه وسقفه وجداره وما فيه من أثاث ومتاع ، وقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال : { أَ مَا یَسْتَحِی أَحَدُکُمْ أَنْ یُغَنِّیَ عَلَی دَابَّتِهِ وَ هِیَ تُسَبِّحُ } البحار-ج76ص 291 ...فما هي نظرة الملائكة الموكلة بالحساب وهم يرون هذا الموجود في( الشاذ )في عالم الوجود ؟!.. و الأنكى من ذلك كله أنه يرتكب الجريمة بما هومسبحٌ للحق ، كالقاتل بسلاح يسبح الحق كباقي موجودات هذا الكون الفسيح ، وكالظالم بعصا تسبّح بحمد الحق ، يضرب به عبداّ يسبح بحمد الحق أيضاً .

446- العتق من النار

إن التعبير بالعتق من النار لهو تعبير بليغ ، يشعر ( بفداحة )الخطب الذي يعيشه العبد وإن لم يستحضر تفاصيل ذلك الخطب الفادح.. فإنّ طَلَب العتق يُشعر الإنسان وكأنه عبد مملوك للجحيم ، بمقتضی العقود اللازمة التي أوجبت له هذه الرقية .. فكل معصية بمثابة عقد( عبودية ) بينه وبين النار ، وكلما كثرت العقود كلما ترسخّت معاملة العبودية ، إذ يبيع نفسه للنار كل يوم مرات ومرات مؤكداً بذلك

ص: 192

إصراره على المبايعة القاتلة .. و لا حلّ لهذه المعاملة الملزمة ، إلا (بتدخّل ) الملك القهار الذي بيده أزمّة الأمور فسخاً وابراماً ،كالسلطان الذي يفسخ العقود اللازمة بمقتضی سلطنته المطلقة .

447- المعصية بالمكابرة

يحسن بالعبد أن يكرر الاعتذار بين يدي الحق ، وذلك بدعوى أن معصيته للجبار لم تكن على وجه المكابرة و ( الاستخفاف ) بحق الربوبية ، وإنما كانت محض إتباعٍ الهوى ، أوغلبةٍ لشقوة ، وخاصة مع تحقق الستر المرخي ، من الستّار الغَفُور .. إن هذا الإحساس يسلب من المعصية جهة ( التحدي )والاستخفاف ، والهلاك الدائم إنما يأتي من هذه الموبقة .. فتبقى جهة المخالفة الاعتيادية لغلبة الهوى ، فيتوجه العبد بعدها لمن لا تضره معصية من عصاه ، ولا تنفعه طاعة منأطاعه .. و بذلك يتحقق مضمون ( خادعت الكريم فانخدع )، أي تظاهر بأنه لم يلتفت إلى تحايل العبد ، ليكون هذا التغافل مقدمة للعفو عنه .

448- تحمّل مظالم العباد

إن من أهم الموانع التي قد تحجب العبد عن دخول الجنة الأحقاب والدهور ، هو ( تحمّله ) لمظالم العباد .. فإن المظلومين أحوج ما يكونون إلى حسنات الظالمين يوم القيامة ، فإذا تقاسم المظلومون حسناته ، فلا يبقى له ما يدخل به جنة الخلد وهو على أبوابها .. ومن هنا يطلب العبد من ربه - وهو في الدنيا - بإرضاء الخلق بما يشاء ،سواء ( بتوفيقه ) للالتفات إلى مظالم العباد وإقداره على أدائها أثناءحياته ، أو ( بتدخل ) الحق مباشرة يوم الحساب لإرضاء الخصوم ، بمالا ينقص العبد شيئاً من حسناته .

449- لازم المحبة العميقة

إن من لوازم الحبة العميقة هو الإحسان للغير إكراماً للمحبوب ، كما لو طلب ) منه المحبوب ذلك ، أو ( أقسم ) الغير بذلك الحبوب

ص: 193

ليستجلب عطاءه ، إذ لأجل عين ألف عين تكرم ، وهذا مما تعارف عليه الخلق ، فيُقسمون بالمحبوب استثارة لمحبة المحب .. وهذا الأسلوب مألوف أيضا في التعامل مع الحق وأوليائه ، فيكثر في أدعيتهم وزياراتهم القسم والمناشدة بأحب الخلق إليهم .. و من المعلوم أن القَسَم المؤثر هو ما كان عن ( معرفةِ ) بدرجاتهم ، إضافة إلى الصدق والالتفات الجاد في مخاطبتهم .

450- الحوائج الجامعة

إن من الملفت في بعض أدعية أهل البيت عليهم السلام ، طلب الحوائج ( الجامعة ) من الحق والتي لو استجيبت في حق داعيها لحاز على ما لم يخطر على الأذهان .. ومثال ذلك ما أملاه الإمام الصادق(علیه السلام) بقوله : { وأَعطِنی من جَمیعِ خَیرِ الدُّنیا وَالآخِرَةِ ما عَلِمتُ مِنهُ وما لَم أعلَم،وأَجِرنی مِنَ السُّوءِ کُلِّهِ بِحَذافیرِهِ ،ما عَلِمتُ مِنهُ وما لَم أعلَم }.. و كمناجاة شهر رجب إذ يقول (علیه السلام) : { أعطِنی بِمَسأَلَتی إیّاکَ جَمیعَ خَیرِ الدُّنیا وجَمیعَ خَیرِ الآخِرَهِ ؛ وَاصرِف عَنّی بِمَسأَلَتی إیّاکَ جَمیعَ شَرِّ الدُّنیا وشَرِّ الآخِرَهِ }.. و لا غرابة في مثل هذا الطلب الجامع، ما دام المسؤول هو أكرم الكرماء ، ومن لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء .. و من المعلوم أنه لا فرق في عطائه بين القليل والكثير ، ما دام ذلك كله ( بأمره ) الذي لا يتخلف عن مراده شيء .

451- إلقاء الرعب

إن من مظاهر تصرف الحق في القلوب ، هو ما ألقاه من الرعب في نفوس المشركين بعد انتصارهم في غزوة أحد ، فلم يكن بينهم وبين القضاء على الإسلام إلا قتل النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) ودخولهم المدينة واستباحة أهلها وإعادة الأمر جاهلية أخرى .. و لكن الحق قذف في قلوبهم ( الرعب ) وحال دون قيامهم بذلك كله ، فقفلوا راجعين - مع هزيمتهم للمسلمين - إلى مكة ، وهم يقولون وكأنهم استيقظوا بعد سبات : { لا محمداً قتلنا ، ولا الكواعب أردفنا }.. و هذا هو سبيل الحق

ص: 194

في ( نصرة ) المؤمنين طوال التأريخ ، سواءً في حياتهم الخاصة ، أوفي معركتهم مع أعداء الدين .

452- التدّرج في دخول الحرم

إن الوضوء والأذان والإقامة بمثابة البرزخ بين ( النشاط ) اليومي ،وبين ( الإقبال ) على الحيّ القيوم .. فإن الذي يتدرج في دخول حرم كبرياء الحق ، من مقدمات وضوئه إلى أدعية ما قبل تكبيرة إحرامه ،لهو أقرب إلى أدب الورود على العظيم من غيره .. و أما الذي يدخل الصلاة من دون الإتيان بهذه المراحل ، فكأنه دخل على السلطان مباشرة غير ( متهيّب ٍ) من الدخول عليه ، ولا شك أن هذه الكيفية من الدخول ، من موجبات الحرمان أو عدم الإقبال .

453- آية المراقبة

إن من الآيات التي لو التفت إليها العبد لاشتدت ( مراقبته ) لنفسه ،بل أشفق على نفسه ولو كان في حال عبادة ، هي قوله تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }..و كان النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) إذا قرأ هذه الآية بكي بكاءً شديداً ، لأنه يعلم عمق هذا الشهود الذي لا يدع مجالاً للغفلة عن الحق .. والملفت في هذه الآية أنها تؤكد على حقيقة ( استيعاب ) مجال الرقابة الإلهية ، لأيّ عمل من الأعمال ، ولأيّ شأن يكون فيه العبد .

454- مغالبة المكروه

إن تثاقل القيام بالعمل الصالح ، وإن كانت كاشفة عن حالة ( سلبية ) في النفس الميالة إلى اللعب واللهو ، إلا أن مغالبة النفس لما تكره ، مما يعزز من قصد القربة إلى الحق .. إذ أن العبد إنما يخشى عدم تحقق الإخلاص في مواطن ( الميل ) النفسي ، كإقدامه على مقتضيات الغريزة بأقسامها ، وأما ما فيه ( المنافرة ) للطبع فإنه أبعد ما يكون

ص: 195

عن الشوائب ، وبالتالي يكون أرجي للقبول من جانب الحق المتعال ..إن هذا الاعتقاد بأن ما تكرهه النفس من الطاعة أقرب للإخلاص ، يجعل العبد يبحث عن خصوص مثل هذه الأعمال ، ويتعمد الإتيان بها ليكون ذخراً له في يوم فقره وفاقته .. و من الملفت في هذا المجال أن النفس لا تبقى تستشعر ذلك ( الثقل ) المعهود قبل القيام بالعمل ، وذلك عند شروعه في العمل أو تكراره له ، وهذا هو السر في أن أهل القرب من الحق يستسيغون الأعمال الشاقّة ، التي كانت ثقيلة - حتى عليهم - في بدء سيرهم إلى الحق المتعال .

455- قبح الرّبا

إن من الذنوب الكبيرة التي فَقدَ الخلق الإحساس بقبحها هو الرّبا ،فهم في التعامل معه كمثل من فَقدَ عقله ، وما أمكنه تمييز الحسن والقبيح ، وهو ما يقتضيه التعبير ب ( يتخبطّه ) كما ورد في القرآن الكريم ، فهو يسير بغير استواء وكأنه ممسوس اختلت قوى تمييزه .. ومن الملفت في هذا المجال أن الحق يهدد فاعله بإيذان الحرب منه ، ثم يتبع الحق نهيه عن الربا بقوله : { اِتَّقُوا اَلنّارَ اَلَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ }..فقد هدد آكلي الرّبا بالنار التي أعدت للكافرين ، ومنه يعلم شدة عذاب آكل الربا الذي يشترك - ولو في درجة منه - مع الكافر ..وقد سئل الصادق (علیه السلام) عن قوله تعالى ( يمحق اللّٰه الربا ) ، وكيف أن ماله يربو ، فقال (علیه السلام) : { فَأَیُّ مَحْقٍ أَمْحَقُ مِنْ دِرْهَمٍ رِبًا یَمْحَقُ الدِّینَ وَإِنْ تَابَ مِنْهُ ذَهَبَ مَالُهُ وَافْتَقَرَ } الميزان- ج 2 ص 451 .

456- قلب المفاهيم الخاطئة

إن الأئمة (علیهم السلام) کانوا يتعمدون قلب المفاهيم الخاطئة في أذهان العباد ،ولو استلزم ذلك شيئاً من الشدة والقسوة في القول .. فقد مرّ أميرالمؤمنين (علیه السلام) على قومٍ جلسوا في زاوية المسجد ، فقال من أنتم؟ قالوا نحن المتوكلون .. فقال (علیه السلام) بل أنتم المتأكلة ، فإن کنتم متوكلين فما بلغ بكم توكلكم ، قالوا إذا وجدنا أكلنا وإذا نفدنا صبرنا .. فقال

ص: 196

(علیه السلام) : { هکَذا تَفعَلُ الکِلابُ عِندَنا ! قالوا : فما نَفعَلُ ؟ قالَ: کمانَفعَلُ ، قالوا : کَیفَ تَفعَلُ ؟ قالَ علیه السلام: إذا وَجَدنا بَذَلنا، وإذا فَقَدنا شَکَرنا} المستدرك- ج 2ص289 .

457- شعب الخير والشر

إن طريق الخير طريقٌ ذو ( شعب ) يدل بعضه على بعض ، فمن دخل في مجال الإحسان انفتح له السبيل بعد السبيل ، وكذلك في مجال العلم وفتح البلاد وإرشاد العباد وغير ذلك .. و الأمر كذلك في الشر ، فإن الشر بعضه دلیل بعض ، وكأنه سلسلة يشد بعضها بعضا ..و الشيطان إنما يطلب الزلل من العبد فيوقعه في شراكه ، إذا رأى فيه( قابلية ) الانسياق وراء الشر خطوة بعد خطوة .. وقد رتب القرآن الكريم عمل الشيطان من طلبه لزلل العبد ، على كسب العبد نفسه ،فقال : { إِنَّمَا اِسْتَزَلَّهُمُ اَلشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا }.. ومن ذلك يُعلم أن الضلالة يكون مردّها إلى العبد نفسه ، وإن استثمر الشيطان كسب العبد في تحقيق الضلالة .

458- تواصل الغيث

إن ساعات الإقبال التي تتفق للعبد الغافل بين فترة وأخرى ، كالمطر في الأرض ( القاحلة ) ، سرعان ما يجف بما لا يستنبت شيئاً من الحياة ، خلافاً للخصبة من الأرض ، فإن كل قطرة غيث لها دورها في سرعة نمو ما فيها من البذور ، ووفرة ما ينبت عليها من الزروع .. نعم إن من الممكن أن ( ينقّي ) الغيث المتواصل الأرض من سبَخِها ، وبالتالي( يُعدّها ) للزرع لو شاء ذلك صاحبها .. و هكذا الأمر في النفوس التي تتعرض للنفحات المتلاحقة ، فإنها قد تكتسب قابلية الخصب بعد طول الجدب .

459- انکشاف حقيقة النفس

إن من أفضل مِنَح الحق للعبد ، أن يكشف له الحق عن حقيقة النفس البشريّة ، فيراها - كما يرى بدنه - بكل عوارضها وما فيه صلاح أمرها وفسادها .. و من المعلوم أن من عرف نفسه فقد عرف ربه ، لأن

ص: 197

شأن النفس التي ( أزيلت ) عنها الحجب أن تتعرف على خالقها ، ضرورة استعداد الشيء لمعرفة من به قوامه حدوثاً وبقاءً .. ومما ينبغي معرفته في هذا المجال ، أن الحق ( يواجه ) النفس كمواجهته لكل عناصر الوجود ، فكان من المفروض أن ( تنعكس )هذه المواجهة المقدسة على كيان العبد ، انعكاس النور في الماء الزلال ، ولكن وجود الموانع من الأكدار الداخلية والخارجية ، هو الذي يمنع ذلك الانعكاس ،رغم استعداد القابل وفاعلية الفاعل . فإذا انكشفت حقيقة النفس -بفضل الحق - عرف العبد داء نفسه ودواءها ، إذ أن لكل نفس عوارضها الخاصة بها ودواءها المناسب لها ، رغم العلم بكليات العوارض وعلاجها .

460- خداع المادحين

إن من أعظم سلبيات المدح هو ( التفات ) الممدوح إلى نفسه ،وانشغاله بها فيما لو كان واجداً لصفة المدح ، وإصابته ( بالعجب )والغرور الكاذب فيما إذا كان فاقداً لها .. و من هنا ورد الذم بالنسبة للمدّاحين لأنهم يصورون ما لا واقع له ، أو يبالغون فيما له واقع ..فقد روي عن النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) أنه قال : { احثُوا التُّرابَ فی وُجُوهِ المَدَّاحِینَ } البحار-ج 73ص294. و إن النفس بطبيعتها تركن إلى تقييم الآخرين ومديحهم ، فقد يصدّق الممدوح - بعد طول تکرار - ما لم يكن ليصدّق به .. ولهذا يرى السلطان نفسه واجداً لكثيرٍ من الكمالات الموهومة ، وذلك لكثرة من حوله من ( المتزلّفين ) الذين يصورون له السراب ماءً ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً .

461- التأثر فرع المسانخة

إن تأثر العبد تأثراً يحجبه عن الحق عند تعامله مع النساء بما لا يرضى منه الحق المتعال ، إنما هو فرع ( مسانخته ) لتلك العوالم التي طالما شغلت قلوب الخلق ، وإلا فما هو السر في إعراضه عن جمال البنت الصغيرة ، رغم أنها تجمع بين الأنوثة والجمال ؟!.. و الأمر في ذلك واضح يعود إلى ما قلناه من انتفاء السنخية والتجانس بينه وبين

ص: 198

من لا ينفعه جمالها ، ولا يتسانخ مع أنوثتها .. و عليه فلو أن العبد (قیّد) نفسه بعدم التفاعل المنهي عنه مع غير المحارم ، لتحققت فيه عدم السنخية الواعية - وإن بقيت الدوافع الغريزية بحالها - مما يرفع المقتضيات الكثير من الزلات ، بدلا من إيجاد ( الموانع ) التي لا دوام لها ، أمام أمواج الشهوات العاتية .

462- معاشرة الصلحاء

قد يوفق العبد المعاشرة صالحٍ من العباد ، إلا أنه ينشغل بذات ذلك الصالح بما يجعله ( حجاباً ) بينه وبين ربه ، إذ يستغرق في حبه ،ويسعى لجلب رضاه وإن لم يكن بحق ، كما يستوحش من إعراضه وغضبه ولو كان الانحراف مزاج ، ويرى الابتعاد عنه كأنه ابتعاد عن مصدر كل خير .. و عندئذٍ يكون شأنه كشأن من ينظر إلى المرأة فيستحسنها ويستغرق في التأمل فيها ، لا شأن من ينظر بها ليستكشف من نفسه عيوبها وما فسد من أمرها .. ولطالما تسول له نفسه ، فيرى ارتياحا لمعاشرته وكأنه اتحد به وجوداً بملكاته الصالحة ، فيكون مَثَله كَمَثل من يسير في بستان متنزهاً ، فيظن أنه قد ملكها بما فيها ، والحال أنه سيفارقها بعد قليل ليعود إلى خلوته الوحشة ، وعليه فإن مجرد ( مصاحبة ) الصلحاء لا يكفي بنفسه لرقيّ درجات الصالحين ، والشاهد على ذلك عدم استفادة الكثيرين من صحبة النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) - بما أوتي من أعظم درجات التأثير- کالمنافقين والغافلين من الأعراب وأشباههم.

463- عدم الأنس بالقرآن

طالما يحاول العبد إلزام نفسه بتلاوة آيات من كتاب ربه العزيز ، إلا أنه يرى في ذلك ( ثقلاً ) مرهقاً ، يدعوه : إما للانصراف أو للتلاوة الساهية .. و من الملفت في هذا المجال أنه لا يستشعر مثل هذا الثقل في قراءة أضعاف ذلك من كل غث وسمين ، والحال أنه يبذل الجهد ( المتعارف ) للقراءة في الحالتين ، والذي يستلزم النظر بالعين ، والقراءة

ص: 199

باللسان ، والاستيعاب بالقلب .. و السر في ذلك واضح وهو عدم وجود( الأنس ) بين القارئ والمقروء ، للحجب الكثيفة التي أفقدته ذلك الأنس، ومن المعلوم أن هذا الأنس شرط لميل العبد إلى كل فعل ، ومنه القراءة والتأمل .. يضاف إلى ذلك عدم إحساسه ( بالانتفاع ) الفعلي عند تلاوة القرآن الكريم خلافاً لقراءاته الأخرى ، والشاهد على ذلك أنه لا يزداد إيماناً عند تلاوته .. و عليه فكما أن ظاهر القرآن لا يمسه إلا المطهرون بظواهرهم ، فإن باطنه محجوب لا يمسه أيضا إلا المطهرون ببواطنهم ، التي ارتفعت عنها الأكنّة ، التي يجعلها الحق على قلوب الذين لا يؤمنون .

464- اختلاف المعاملتين

إن من الواضح في علاقة الأب مع ( أبنائه ) ، قبوله منهم القليل ،وتجاوزه عنهم الكثير ، ولطالما يتحمل الأذي رادّا عليهم بالجميل .. و هذا كله خلافاً لتعامله مع ( خادمه ) ، فإنه قد لا يغفر له زلّة ، ولا يرضى منه إلا بإتيان كل ما تحتمله طاقته .. و موجب التفريق بين المعاملتين لا يكاد يخفى على أحد ، إذ أنه يربطه بالأول رابط الحب و( العلقة ) الضاربة بجذورها في النفس والبدن ، والثاني لا يربطه به إلا في العقد ) الذي ينفسخ بعد أمدٍ ، طال أم قصر .. فلنرجع ونقول :إن علاقة الأولياء بالحق المتعال ، أشبه ما تكون بالعلقة الأولى ، في أنه يقبل منهم اليسير ، بمقتضی محبته الموجبة لسرعة الرضا ، إذ انهم من حزبه المنتسبين إليه ، خلافاً لغيرهم الذين لا تربطهم به ، إلا نسبة الخالقية والمخلوقية وما يرتبط بها .

465- الفرق بين الكف والانصراف

إن هناك فرقاً واضحاً بين (كفّ) الصائم نفسه عن الطعام مع ميله الشديد إليه ، وبين ( انصراف ) نفس المفطر عن الطعام وعدم میله إليه

.. فإن الأول يُعطي ثواب الصائمين دون الآخر ، إلا أن الثاني مقدمٌ على الأول في عالم الترويض والمجاهدة .. فلا يبعد أن يكون الأثر

ص: 200

التكاملي لانصراف نفس المفطر عن الطعام المباح ، أشدّ من كف الصائم نفسه عن الطعام على مضَضَ وإكراه .. و لعل هذا هو السر في خروج خلق كثير من الشهر الكريم ، من دون كثير ( تغيير ) في ذواتهم ،فهم يُقبِلون على الطعام ليلاً بأضعاف ما حرموا منه في النهار ،وينتظرون خروج الشهر مع ما فيه من البركات ، للتخلص من قید إمساك النفوس عن لذاتها .

466- الخطايا العابرة

إن صدور ( الخطايا ) من الجوارح ، وتوارد ( الخواطر ) على القلوب لا يوجب اليأس أبداً .. فإن مَثَل هذه الخطايا والخواطر الطارئة ، كمَثَل عابر السبيل في الطريق الذي لا يكتسب عنوان عابره بمجرد عبوره فيه ،إلا إذا استقر فيه واستوطنه .. فإن الطريق ينتسب إلى من اتخذه مقراً ومنزلاً ، وعليه فإن مجرد صدور المعصية عن جارحته أو جانحته ، لا يكفي لأن ( يتعنون ) العبد بعنوان يوجب له اليأس ..إذ أنه كما أن نفسه طريق لعابر الشر ، كذلك فإنها طريق لعابر الخير ، فلا يتعنون بعنوان غالب إلا عند طغيان أحدهما على الآخر .

467- همّ خدمة الدين

إن المهتم بأمر الشريعة يحب أن يخدم الدين وأهله من أوسع أبوابه ،فينتابه شيء من ( التحيّر ) في اختيار السبيل الأصلح لذلك .. و الحال أن على خَدَمة الدين - بشتى صنوفهم - أن يتسلحوا بما يعينهم على فتح الميادين المختلفة التي أمر الحق بفتحها ، فمَثَله كمَثَل المقاتل الذي يتعلم فنون القتال ، من دون أن يشترط على نفسه وعلى غيره ( جبهة )قتال بعينها ، فهو يسلّم نفسه إلى وليّ أمره يوجهه أينما شاء .. ومن المعلوم أن القائد العادل ينظر إلى الجميع بنظرة واحدة - وإن اختلفت سعة فتوحاتهم ، ومقدار غنائمهم - ما داموا جميعاً في حالة واحدة من ( الاستعداد ) والإستنفار لامتثال الأوامر .. و لكنه مع ذلك كله ،فإن المرء يتمنی - بمقتضی محبته للحق - أن يرى الهدى الإلهي في

ص: 201

أشد تألقه ، متجلياً لنفسه ولنفوس الخلق ، ولهذا يدعو ربه قائلاً :{ اللّهُمَّ وَفِّقنی إذَا اشتَکَلَت عَلَیَّ الاُمورُ لأَِهداها،وإذا تَشابَهَتِ الأَعمالُ لِأَزکاها،وإذا تَناقَضَتِ المِلَلُ لِأَرضاها } دعاء مكارم الأخلاق .

468- تكريم وسيلة الخير

يأمر الأمام السجاد (علیه السلام) ابنه الإمام الباقر (علیه السلام) ، بدفن ناقته لئلا تأكلها السباع ، إذ أنه حج عليها الإمام (علیه السلام) عشرين حجة لم يضربها بسوط .. و في ذلك درس بليغ في أنه ما كان ( وسيلة ) لتحقق الخير ، فإنه ( مستحقٌ ) للتكريم ولو كان حيواناً لا يعقل معنی التكريم وخاصة بعد الهلاك !! .. فكيف الأمر بالعباد الصالحين الذين كانوا ولا زالوا سبباً لتحقق الخيرات عن قصدٍ والتفات ؟! .. و منه يعلم عظمة الجرم فيمن أساء إلى أئمة الهدى (علیهم السلام) في عدم تكريمهم ، بل لإيذائهم وإدخال الوهن عليهم ، كما وقع للإمام السجاد (علیه السلام) نفسه ..فهو يكرم ناقةً حج عليها ، والقوم لم يكرموا ( أعزّ ) الخلق على اللّٰه تعالى ، وهم الذين بهم قوام الحج وغيره من شرائع الإسلام .

469- زوال الأنس والشهوة

إن المرأة تُطلب - عند معظم الخلق - إما للأنس بها ، أو لقضاء وطر الشهوات منها .. و لكن مع تقادم الأيام ، يخف الميل بداعي ( الشهوة )نظراً لتكرر النظر إليها في كل يوم بما يسلبها بهاءها في نفس الرجل، فإن البهجة إنما هي لكل جديد .. فيبقى جانب ( الأنس ) ، وهو أمر لا ثبات ولا ضمان له في حياة الزوجين ، وذلك إما لوجود من يأنس به الزوج من الرجال أو النساء ، أو الإحساس الزوج بعلوه عن مستوى زوجته بما لا يراها أهلا لأن يؤنس بها ، أو للرتابة في التعامل معها بما لا يرى الزوج معها وجوداً لزوجته في نفسه وهي بجانبه ، مماییسّر السبيل لظلمها حقها بل للإعتداء عليها .. والحال أن الطريق إلى التخلّص من ذلك كله ، هو النظر إلى الزوجة على أنها من ( رعيّة ) الإنسان ، وأمانة مستودعة من جانب الرحمن ، وهو مسؤول غداً عن

ص: 202

رعيته وأمانته يوم العرض الأكبر ، إذ ينادي المنادي : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُون }.. و قد ورد عن النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) أنه قال : { مَلْعُونٌ مَلْعُونٌ مَنْ ضَیَّعَ مَنْ یَعُولُ } البحار-ج103ص13

470- وسيلة الوصول

إن العبد عندما يتخذ الدابة ( وسيلة ) للوصول إلى مقصدٍ من مقاصده ، فإنه ( يذهل ) عن الاهتمام بذاتها وخاصة إذ انشغل بحديث هادف مع من يردفه عليها .. وهذا خلافاً للساعة التي يعيش فيها شيئاً من الفراغ والبطالة ، فتراه يقبل على دابته مهتماً بأمرها ، مراعياً الجزئيات شؤونها ، ناظراً إليها كهدف ، لا من خلالها كوسيلة .. و هكذا الأمر في المشتغل ( بالهموم ) الكبرى ، فانه ينظر إلى متاع الدنيا -برمته - بما أنه يحقق له تلك الهموم ، لا بما انه أداة للاسترخاء المذهل عن تحقيق تلك الهموم .

471- مخزون القلق في النفس

يحاول المرء أن يتحاشی موجبات القلق في حياته ، فيتجنب من أجل ذلك البيئة ، أو الشخص ، أو المكان ، الذي يمكن أن يجلب له فساداً ،أو يوجب له تشويشاً ، ويظن أنه ( بتحاشيه ) هذا ، يجلب لنفسه الراحة والاطمئنان .. و الحال أن في مخزون ذاكرته كمّاً كبيراً من الحوادث المقلقة والمثيرة لأحزانه ، وهذه الخواطر المحزنة كافية لأن ( تنقّص ) عليه عيشه ، بمجرد تذكرها والتفاعل معها ، ولو كان صاحبها في سياحة ممتعة أو في روضة من الرياض .. و عليه فإن من موجبات السعادة في الحياة الدنيا ، أن يكون ( استحضاره ) للمعاني المختزنة في اللاشعور تحت رقابته الأكيدة ، فلا يستحضر شيئا من تلك الصور الذهنية ولا يتفاعل معها ، إلا إذا رأي في ذلك خيراً ونفعاً .. و مَثَل من يعمل خلاف ذلك كمَثَل من يذهب للمحاكم ، مسترجعاً ملفات خصومه التي انتهت أحكامها ، بل ومات أصحابها .

ص: 203

472- لزوم الإحساس بالغيرة

إن على المرء أن يعيش شيئاً من الغيرة والحمية على ( مكتسباته ) في عالم القرب من الحق المتعال .. و عليه فإذا رأي إقبالاً في نفسه على ما يوجب له الهبوط من عالمه العلوي ، أحسّ بما يشبه الغيرة النقدحة في نفس المرأة تجاه ضرتها .. فهو لا يرضى من نفسه التنقل بين من مثلهما كمثل الضرتين ، فإن الالتفات إلى إحداهما لمن موجبات سخط الأخرى كما هو واضح .. فلو عاش العبد هذه الحقيقة بوضوح ، وآثرعالم الهدى على عالم الهوى ، لانتباه شعورٌ ( بالكراهة ) الشديدة تجاه النفس وما تشتهيها ، عند ( الاسترسال ) في الشهوات ، كالكراهية المنقدحه في نفس المرأة عند الاهتمام بضرتها .. وهذا من أفضل الروادع التي توجب استقامة العبد في الحياة .

473- جعل المودة ورفعها

كما أن الحق المتعال هو ( جاعل ) المودة في نفوس الأزواج فكذلك هو ( الرافع ) لها ، فالجاعل المختار في جعله هو المبطل لما جَعْله أيضاً كما هو معلوم .. وهذا هو السر في انتكاس علاقات الأزواج بعد طول مودة وصحبة .. فإن كثرة الذنوب منهما وظلم أحدهما للآخر ، بما يؤول إلى ظلم من تحت أيديهم من النفوس البريئة المولودة على الفطرة ، لمن أعظم موجبات سلب هذه المودة الجعولة ، فيحلّ محلها البغض والنفور لأتفه الأسباب بما يؤدي إلى الطلاق أو العيش المنقص ..و واقع الأمر أن عنصر الألفة والمودة مفتقدٌ في كثيرٍ من العلاقات الزوجية ، وخاصة بعد مضي السنوات الأولى من الزواج .. و أما ما هو المتعارف مما يعتبره الخلق ( ألفة ) ومودة ، إنما هو حبٌ ( للتلذذ ) والاستمتاع ، المستلزم لحب من يتلذذ بها ، والشاهد على ذلك ، إنقطاع تلك الألفة بانتفاء التلذذ منها ، أو العثور على من يتلذذ بها أكثر منها .

474- المسخ الباطني

إن من المعلوم ارتفاع عقوبة المسخ والخسف في أمة النبي الخاتم (صلی اللّه علیه و آله وسلم)

ص: 204

إكراماً لمن بعثه اللّٰه تعالى رحمة للعالمين ، فكان مَثَله في هذه الأمة كمثل البسملة للبراءة في أنهما لا يجتمعان ..فلم نعهد انقلاب العباد إلى قردة وخنازير كما في القرون السالفة ، كما لم نعهد إمطار الأرض بالحجارة ، وقلب الأرض عاليها سافلها كما في قوم لوط ..إلا أن هناك عقوبة أخرى شبيهة بتلك العقوبات وهي المسخ في ( الأنفس )، والخسف في الأفئدة و ( العقول ) .. و هو ما يتجلى لنا في حياةبعض المنتسبين إلى الشريعة الخاتمة ، فنرى (مسخاً ) واضحاً في النفوس يجعلها لا ترى الصواب في العقيدة والعمل ، ولا ترى المنكرمنكراً ، ولا المعروف معروفاً ، بل ترى المنكر معروفاً والمعروف منكراً ..كما نرى ( خسفاً ) بيّناً في القلوب ، لافتقاد سلامتها في ترتيب طبقات القلب ، منشأه الخطايا العظام .. و من المعلوم أن أثر هذا الخسف في القلوب ، هو جهلها ما فيه رداها ، وبغضها ما فيه حياتها .

475- الشرك في التعامل

إن من دواعي شرك العبد في التعامل الاجتماعي ، هو الالتفات إلى ( الأغيار ) ، توقعاً للفوائد أو دفعاً للأضرار .. فتراه ينشط في الملأ لیفتر في الخلوة ، وتراه يهتز عند المدح الذي يقطع ببطلانه ، ويضيق صدره بالذمّ الذي يقطع بكذبه .. فعلى العبد أن ينظر إلى الأغيار الذين لم يتلبسوا بأيّ معنى من معاني الإيمان والكمال ، ثم يعلم أنه كما لا قيمة للفرد منهم ، فكذلك لا قيمة ( للجماعة ) منهم وإن کثرت ، إذ أن الوجود الناقص لا يكتسب الكمال بتعدده ، كما أن الأصفار لا تنقلب إلى عدد صحيح بتكررّه .. وهذا المعنى تناولته النصوص الشريفة ، فمنها ما ورد عن النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) أنه قال :{ یَا أَبَا ذَرٍّ لاَ یَفْقَهُ اَلرَّجُلُ کُلَّ اَلْفِقْهِ حَتَّی یَرَی اَلنَّاسَ أَمْثَالَ اَلْأَبَاعِرِ فَلاَ یَحْفِلُ بِوُجُودِهِمْ وَ لاَ یُغَیِّرُهُ ذَلِکَ - کَمَا لاَ یُغَیِّرُهُ وُجُودُ بَعِیرٍ عِنْدَهُ ثُمَّ یَرْجِعَ هُوَ إِلَی نَفْسِهِ فَیَکُونَ أَعْظَمَ حَاقِرٍ لَهَا } البحار - ج 72ص304.

476- الفساد المستحدث

يكثر الشكوى من كثرة مثيرات الشهوات في هذا العصر ، الذي لم

ص: 205

تعهد البشرية زماناً قريناً له في ظهور أنواع الفساد ، الذي ظهر في البر والبحر بل الفضاء .. فلم يترك مبتكرو الفساد طريقة إلا وقد استحدثوها في ( مسخ ) الإنسان إلى موجود لا يعلم في الوجود غیر التلذذ والاستمتاع ، بما لا يقاس به استمتاع البهيمة التي يضرب بها المثل في الشهوات .. ولكن ما ذُكر لا يُعدّ عذراً يعتذر به العبد يوم القيامة ، بعدما منح قوة ( التمييز بين الحسن والقبيح من جهة ،وحرية ( الاختيار ) والإرادة من جهة أخرى ، وعظمة الجزاء الذي بُشّر به الثابتون في آخر الزمان من جهة ثالثة .. و ليُعلم أن وجود الثلّة الثابتة في قلب دائرة الفساد والإفساد ، من أقوى ( الحجج ) على باقي العباد يوم القيامة ، إذ لا يمكنهم التذرّع بجبر البيئة والزمان ، بعد وجود تلك النماذج المشتركة معها في الزمان والمكان .

477- العجب من سلامة البدن

إن من موجبات العَجَب - وما أكثرها في هذا الوجود العجيب - هو بقاء الإنسان على سلامة في أداء أعضائه لوظائفها المعقدة ، ما يقارب القرن أو أكثر من الزمان ، وما هو إلا لحمٌ وعظم ، ولو كان حديداً التاكل .. ومن المعلوم أن هذه السلامة في البدن - فضلا عن الروح -تتوقف على ( سلامة ) ملايين المعادلات في هذا الكيان ، بأنسجته وعصبه وإفرازاته المعقدة ، كما تتوقف على ( انتفاء ) العوامل الخارجية الموجبة للعطب ، کالجراثيم القاتلة المبثوثة في الفضاء ، والتي طالما عبرت الأبدان بسلام .. فكيف لا يستشعر العبد بعد هذا كله دقة الصنع المذهلة ، التي تجعله ( يخشع ) بإكبار أولاً ، ثم ( يخضع ) باختيار ثانياً ،بما يوجب له الإحساس العميق بالعبودية المستوعبة لكل أركان الوجود ؟!! .

478- الحُمقاء في الدين

إن ما يثير التحيّر والتحسّر هو هذا السعي الحثيث للعباد في شؤون دنياهم ، إذ أن ( ثلث ) حياتهم في اليوم والليلة ، وقف على النشاط اليومي لكسب المال ، ليَمضي ( الثلثان ) الباقيان في صرف ذلك المال المكتسب في الاستمتاع والاسترخاء ، وفيما لا يُعدّ زاداً للحياة الأبدية ..أما السعي في ما يورث له سعادة الأبد ، فلا موقع له في نشاطهم ،

ص: 206

أو له موقع لا يعبأ ) به متمثل في صلاة لا يُقبلون فيها بقلوبهم ،ولا تُغيّر شيئاً من واقعهم .. و قد ورد عن النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) أنه قال :{ یَا أَبَا ذَرٍّ لَا تُصِیبُ حَقِیقَهَ الْإِیمَانِ حَتَّی تَرَی النَّاسَ کُلَّهُمْ حَمْقَاءَ فِی دِینِهِمْ عُقَلَاءَ فِی دُنْیَاهُمْ } البحار- ج 77 ص 85.

479- الميل إلى طاعة خاصة

إن الميل إلى العبادة يشبه الميل إلى الطعام ، فقد ( يميل ) طبع العبد إلى صنف من الطعام ، بحيث لو قُدّم له صنف آخر لما مالت نفسه إليه .. فالأمر في العبادة كذلك ، إذ قد يميل العبد بمقتضى حالته - التي قد لا يعلم منشأ لها - إلى صنف خاص من الطاعة : كالصلاة ، أو القرآن ، أو الدعاء ، أو السعي في قضاء حوائج الخلق ، أو كسب العلم النافع ، أو الخلوة مع نفسه .. ولا ضير حینئذ في ( مراعاة ) میله الصنف من صنوف الطاعة ، لئلا يقوم بالعمل على مضض وإكراه فلا يؤتي ثماره .. بل أن من القبح بمكان ، إتيان العبد بالطاعة وهو ( کاره )لها ، لما فيها من الاستثقال غير المقصود لمن يطيع .

480- الدقة في تعامل المعصوم

إن أصحاب النبي والأئمة (علیهم السلام) كانوا يعيشون درجاتٍ متفاوتة من حيث ( استيعاب و المعاني التي كانت تصدر منهم ، وذلك نظراً إلى اختلاف ( القابليات ) الذاتية لهم ، إضافة إلى اختلاف إيصال تلك القابليات إلى مرحلة الفعلية بالمجاهدة العلمية والعملية .. ومن هنا أيضاً اختلفت طبيعة تعاملهم (علیهم السلام) مع أصحابهم بلحاظ اختلاف تلك الدرجات ، فما كانوا يتوقعونه من أصحاب الطبقة العليا ، لم يكونوا يتوقعونه من أصحاب الطبقة السفلى .. وهذا النص يعكس ( دقّة )تعامل المعصوم (علیه السلام) مع مواليه ، في ما يصدر منهم من قول ولو كان حقا ، وذلك عندما قال يونس بن يعقوب للإمام الصادق (علیه السلام) : لولائي لكم وما عرّفني الله من حقكم ، أحب إليّ من الدنيا بحذافيرها ..فقال (علیه السلام) بعدما تبيّن الغضب في وجهه (علیه السلام) : { یا یونُسُ قِستَنا بِغَیرِ قِیاسٍ مَا الدُّنیا وما فیها؟!.. هَل هِیَ إلّا سَدُّ فَورَهٍ أو سَترُ عَورَهٍ وأنتَ لَکَ بِمَحَبَّتِنَا الحَیاهُ الدّائِمَهُ} تحف العقول-ص 281.

ص: 207

481- زيارة الموتی

إن من موجبات الإنابة وحيازة الأجر كذلك ، هي زيارة الموتى زيارة واعية ، يراد بها تذكير النفس ( بالمصير ) المحتوم الذي ينتظر جميع الخلق الذين لم يكتب لأحدٍ منهم الخلود ، وهو ذلك اليقين الذي لم يُرمثله يقيناً ، يخالطه الشك والتردد سلوكاً وعملاً .. فمن أفضل المشاعر التي تنتاب الزائر لهم ، هو أن ( يفترض ) نفسه بأنه قد نزل به الموت ، ثم أذن له بالخروج من القبر بكفالة مضمونة ، ليرجع أياماً إلى الدنيا معوضاً عن تقصيره ، مكتسباً شيئاً من الدرجات التي فاتته أيام حياته .. فيا تُرى كم يبلغ ( حرص ) مثل هذا الميت المستأنف للحياة ، وذلك في استغلال كل لحظة من لحظات عودته إلى الدنيا ، وخاصة إذا كانت قصيرة لا تقبل الإمهال والتمديد ؟!.. ومن المعلوم أن واقع الأمر كذلك ، إذ كنا شبه أمواتٍ في أصلاب الرجال ، ثم وُهِبنا الحياة في هذه الدنيا ، لنرجع إلى ممات آخر ، والهاتف ينادي :{ قم واغتنم الفرصة بين العدمين }.

482- قطع العلائق

إن على طالبي الكمال الالتفات إلى أن العبد لو قطع كل تعلقاته بما سوى الحق ، وأبقى علقة واحدة ، فإن تلك العلقة الواحدة كافية لأن تجعله متثاقلاً إلى الأرض ، بما يمنعه من الطيران في الأجواء العليا اللعبودية .. فإن مَثَله كمثل الطير المشدود إلى الأرض ، سواء كان ذلك ( الإنشداد ) بحبل واحد أو بحبال شتی ، فالنتيجة في الحالتين واحدة ، وهي الارتطام بالأرض كلما حاول الصعود .. ولهذا حذّرت النصوص القرآنية والروايات المتعددة من الشرك : خفيّه وجليه ، إذ أن الالتفات إلى غير الحق - ولو في مورد واحد - لهي صورة من صور الشرك في التوجيه والالتفات ، وهو الذي يمثل روح العبادة .. ومن هنا يمكن القول - بقطع - أنه لا مجال ( للخلاص ) والكمال ، إلا بإتّباع أسلوب ( المراقبة ) المستوعبة للجوارح والجوانح معاً ، لنفي

ص: 208

كل صور الشرك المملكة بجليّها ، والمانعة من التكامل بخفيّها .

483- محطات الاستراحة

إن الحالات الروحية العالية التي تنتاب السائر إلى الله تعالی و( المتمثلة ) بالطمأنينة والارتياح والسكون ، مما لا تتيسر لأهل الدنيا في ملذاتهم ، وهي بمثابة ( محطات ) استراحة للعبد وتشجيع له على إدامة السير .. ولكن ليس معنى ذلك ، أن ( يركن ) إلى هذه الحالات ،ويغتر بها ويطلبها كهدف .. فالأمر في ذلك كمن يمشي إلى سلطان تنثر له في الطريق الرياحين والزهور ، فليس له الانشغال بالتقاطها ،التفوت عليه فرصة اللقاء بالسلطان .

484- الهواجس والخواطر

إن مَثَل بعض الأخطاء التي قد لا ترقى إلى حد المعصية ، كمَثَل النار التي تستتبع دخاناً كثيفاً يحجب الرؤية ولو لم تحرق الدار ،ومثالها الهواجس الانتقامية أو الخواطر الشهوانية ، إذ أنها قد لا تنتقل إلى الجارحة وبالتالي لا يقع العبد في دائرة المعصية ، إلا أن أثرهما واضح في ( حجب ) الرؤية الصحيحة للحقائق ، والاتزان النفسي في الأمور ، فيعيش العبد بعدهما حالة من الانقلاب والغثيان الداخلي ،يجعله يفتقد التركيز في العبادة أو في ما يحسن التفكير فيه .. ومن الواضح أن ترادف هذه الحالات النفسية يجعلها تتعدی - ولو لم يشأ صاحبها - إلى الجوارح ، فيغتاب مثلا من دون قصد ، عند اشتداد ( الهواجس )الانتقامية ، وينظر إلى ما لا يحل له عند فوران( الخواطر ) الشهوانية .

485- الغناء وتحريك الشهوات

إن هناك ارتباطاً واضحاً بين الغناء والشهوة . إذ أن الطرب في حكم ( الخمرة ) في سلب التركيز وتخدير الأعضاء وخفّتها ، ولهذا تعارف اجتماعهما في مجلس واحد ، فترى المشغول باستماع المطرب من الألحان ، يعيش حالة من الخّقة كالسكارى من أصحاب الخمور .. هذا

ص: 209

السّكْر والطرب المتخذ من الغناء ، يجعل صاحبه يعيش في عالم الأحلام والأوهام الكاذبة ، فيصور له ( متع ) الدنيا - ومنها متعة النساء -وكأنها غاية المني في عالم الوجود ، ويصور له ( المرأة ) التي يتشبّب بها في الغناء ، وكأن الوصل بها ، وصل بأعظم لذة في الحياة ، حتى إذ جاءه لم يجده شيئاً ، ووجد الله عنده فوفّاه حسابه .

486- كمال الجنين والأرواح

كما أن الحق المتعال يوصل الجنين - بمشيئته وفضله - إلى كماله اللائق به ، فيصوّره في الأرحام كيف يشاء ، ليُخرجه من بطن أمه في أحسن تقويم، فكذلك للحق مشيئته في إيصال ( الأرواح ) البسيطة إلى كمالها اللائق بها ، لأنها نفحة من نفحاته ، أرسلها على هذا البدن الذي تولى تقويمه وتربيته .. إلا أن العبد بسوء اختياره ، لا يدع يد المشيئة الإلهية لأن تعمل أثرها بما تقتضيه الحكمة البالغة ، إذ{ مُقتضی الْحِکْمَهِ وَالْعِنَایَهِ ایضال کُلَّ ممکن لِغَایَهِ }.. فيعمل بسوءمخالفته على منع تلك الرعاية - التي أخرجت منه بشراً سويا - من أن توصله إلى ( كماله ) المنشود ، فيكون مَثَله كمَثَل الجنين الذي آثر الإجهاض والسقوط من رحم أمه ، ليتحول إلى مضغة نتنة ، تلف كما تلف الثوب الخلق ، فيرمي بها جانباً .

487- الارتياح بعد التفويض

إن على العبد المتوكل الذي ( فوّض ) أمره إلى بديع السماوات الأرض ، أن يعيش حالة من ( الارتياح ) والطمأنينة بعد ذلك التفويض، كالمظلوم الذي أوكل أمر خصمة إلى محام خبير ، فكيف إذا أوكل أمره إلى السلطان الحاكم في الأمور كلها ؟!.. ولهذا عندما آثر أهل الكهف الاعتزال عمن يعبدون غير اللّٰه تعالى ، أمروا بأن يأووا إلى الكهف ، وما الكهف إلا تجويف في جبل لا مجال للعيش فيه ، إلا أن الحق المتعال يردف ذلك قائلاً : {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا }.. وما حصل لهم من غرائب ما وقع في التاريخ ،

ص: 210

إنما هي ( ثمرة ) لهذا التفويض والتوكل على من بيده الأسباب كلها .

488- حلول الغضب

إن الحق قد يغضب على عبد من العباد غضباً غير حالّ ، تدفعه )التوبة والندامة .. فيكون مَثَل غضبه تعالى ، كسحابة عذابٍ أشرفت على قوم ثم رحلت عنهم ، ولكن ( تتابع ) الذنوب واستهزاء العبد -عملاً - بغضب الحق ، يوجب في بعض الحالات حلول الغضب على العبد ، كسحابة عذاب أفرغت ما في جوفها من العذاب .. وحينئذ لك أن تتصور حال هذا العبد البائس الذي يهدده الحق بقوله : { وَمَن یَحْلِلْ عَلَیْهِ غَضَبِی فَقَدْ هَوَی}.. وكيف يرجع العبد بعد هذا ( الهُويّ ) القاتل، إلى ما كان عليه قبل الهبوط ، بعد أن حرم فرصة التعالي بسوءاختياره ؟! .

489- موعد العفو العام

إن يوم الجمعة وليلتها ، بمثابة موعد العفو العام الذي يصدر السلطان بين فترة وأخرى ، دفعاً ( لليأس ) من القلوب ، ودعوة ( للمتمردين ) الذين لا يجرءون على مواجهة الحق المتعال لقبح فعالهم.. وعليه فلا بد للعبد من أن يُهيّأ نفسه قبل يوم الجمعة وليلتها ،ليتعرّض لتلك النفحات الخاصة في ليلة الجمعة المتجلية عند السحر ،ولنفحات يومها المتجلية عند ساعة الغروب .. ومن هنا نجد كثيراً من الأدعية التي تبدأ من غروب شمس ليلة الجمعة ، وتنتهي عند غروب شمس يوم الجمعة .. وللشيطان سعيه في إلهاء العباد بين هذين الحدّين، والشاهد على ذلك ( تفرّغ ) الخلق للمعاصي في الفترة نفسها ،فيرتكبون فيها مالا يرتكبونه طوال أيام الأسبوع من الموبقات ،مفوّتين على أنفسهم هذه الفرصة من العفو التي لا تتاح لهم في كل وقت .

490- الموازنة في المستحبات

قد يتفق ارتياح العبد إلى لون من ألوان الطاعة المستحبة ،

ص: 211

( فيستغرق ) فيها بما يقدمه على الواجبات من الطاعات ، والحال أن على العبد الملتفت لنفسه أن يزن الأمور بموازينها ، ويستقرأ مقارنات الطاعات ومقدماتها بل لواحقها ، فكم من مستحب ( جرّ ) عليه ضرراً بعنوان آخر لم يلتفت إليه ، أو لم يود الالتفات إليه .. ومعرفة ( مذاق ) الشارع في مجمل الشريعة، ضرورية لعدم الوقوع في مثل هذه المخالفات التي قد لا يقصدها العبد .. ومن أمثلة ذلك ، نهي الأئمة (علیهم السلام) عن متعة النساء - رغم رجحان أصله - لعناوين أخرى طارئة، كقوله (علیه السلام) لبعض مواليه : { لا تلحّ في المتعة ، إنما عليكم إقامة السنة، ولا تشتغلوا بها عن فُرُشكم وحلائلكم فيكْفُرن ، ويدعين على الأمرّين لكم بذلك ، ويلعنوننا } البحار-ج103 ص 310.. وكقوله (علیه السلام) في موردآخر : { هَبُوا لِیَ الْمُتْعَهَ فِی الْحَرَمَیْنِ وَ ذَلِکَ أَنَّکُمْ تُکْثِرُونَ الدُّخُولَ عَلَیَّ فَلَا آمَنُ مِنْ أَنْ تُؤْخَذُوا فَیُقَالَ هَؤُلَاءِ مِنْ أَصْحَابِ جَعْفَرٍ }البحار - ج103ص 311.

491- حصن الصلاة

إن الالتزام بالصلوات الخمس وخاصة في ( أوقاتها ) ، وذلك في( بيوت ) اللّٰه عزّ وجل ، وفي ضمن ( جماعة ) يقارنها شيء من( الخشوع ) ، لمن أعظم موجبات حفظ العبد من الزلات .. فإن نفس الوقوف بين يدي الحق بشيء من التوجه والالتفات ، من موجبات تعالي النفس إلى رتبة لا يرى معها وقعاً للذائذ المحرمة في نفسه ،فضلاً عن المعاصي الخالية من تلك اللذائذ .. أضف إلى الحماية الإلهية المتحققة لمن دخل ساحة كبريائه ، وحلّ في بيت من بيوته ، واصطفّ في جماعة من الصالحين من بريته ، فإن كل ذلك من موجبات إمساك الحق بقلب العبد ، لئلا يهوي في أيدي الشياطين .. وقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال : {لَا یَزَالُ الشَّیْطَانُ ذَعِراً مِنَ الْمُؤْمِنِ مَا حَافَظَ عَلَی الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لِوَقْتِهِنَّ فَإِذَا ضَیَّعَهُنَّ تَجَرَّأَ عَلَیْهِ فَأَدْخَلَهُ فِی الْعَظَائِمِ }الوسائل-ج6 ص433.

ص: 212

492- الموت أخو النوم

إن مما يستحب على العبد في حال منامه ، أن يضطجع إلى جانبه الأيمن كهيئة المدفون ، مستقبلاً القبلة بمقاديم بدنه .. وفي هذا تذکیر نافع للعبد بافتراض نفسه ( کالميت ) ، وخاصة أنه مُقْدم بعد قليل على ما يشبه الوفاة ، بل هو أخو الموت ، بل هو الموت الأصغر بعينه ،ولهذا يشكر العبد ربه على نعمة الحياة الجديدة بعد الاستيقاظ قائلاً ،{ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِی أَحْیَانِی بَعْدَ مَا أَمَاتَنِی، وَ إِلَیْهِ النُّشُورُ ،الحَمدُ للّهِ ِ الَّذی رَدَّ عَلَیَّ روحی لِأَحمَدَهُ وأَعبُدَهُ }.. ومن المشاعر المؤثرة قبل النوم أن يقرأ أدعيته وكأنه ( مقبل ) على الموت حقيقة ، بل لعل الموت هو قَدَره في المنام كما قُدَر للكثيرين ، فيكون هذا الشعور أدعى للتوجه إلى الحق الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، بما يجنبه تلاعب الشياطين به في المنام .

493- الاختصاص بالبلاء والنعم

إن اختصاص البعض بشيء من ( النعم ) ، قد يوجب لهم الاختصاص بشيء من ( البلاء ) .. فعلى أصحاب النعم في الفكر أو القلب أو البدن ، من استغلال تلك النعم في سبيل مرضاة الرب ، لئلا تسلب من جهة ، ولئلا توجب له البلاء من جهة أخرى ، كضريبة الكفران تلك النعم .. وهذا ما يقتضيه العدل في خلقه ، إذ ما دامت الفرص وموجبات الرقي متفاوتة في العباد ، بحسب بلادهم وزمانهم ، فإن من الطبيعي إعادة ( الموازنة ) وتقريب الفرص بين العباد ، ببث بعض البلايا المتناسبة مع الفرص المتاحة .. هذا إضافة إلى التعويض بتیسیر الحساب لمن حُرم بعض النعم ، أو لم تُتَح له الفرص المؤاتية .

494- الذكر بعد العبادة

إن القرآن الكريم يتناول الذكر ومشتقاته في أكثر من مائتي آية ،مما يدل على أهمية التذكر في استقامة سلوك العبد ، إذ أن كل( ماسوى ) الحق في حياته ، لهو عنصر ( غفلة ) وإلهاء له عن الحق ،

ص: 213

وليس بعد الحق إلا الضلال .. ومن الملفت في هذا المجال أن الحق يحث على الذكر في كل ( تقلبات ) العبد ، فتارة يطالب العباد بذكره في موسم طاعة كالحج ، وخاصة بعد الإفاضة من عرفات فيقول : { فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اَللّهَ عِنْدَ اَلْمَشْعَرِ اَلْحَرامِ }.. وتارة في مواجهة العدو كقوله تعالى : { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا }.. ويبلغ الأمر درجة من الأهمية ، نرى معها موسی (علیه السلام) يطلب شريكا في أمره، قبل التوجه إلى فرعون ومه ، ويعلل ذلك بقوله : { كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا } ، بما يفهم منه أن التسبيح والذكر الكثير من أوليّات اهتمام الأنبياء في بدء رسالتهم بل في أثنائها ، مع ما فيها من انشغالٍ بمواجهة طواغيت عصورهم .

495- ثبات المصيبة

قد يستغرب بادءوا الرأي ، من استذكار المحبين لمصائب أئمة أهل البيت (علیهم السلام) ، الذين يتفاعلون معها وكأنها - بالنسبة لهم - مصائب جرت عليهم (علیهم السلام) قبل سنوات مضت .. والسبب في ذلك هو عدم استيعابهم للأمر على حقيقته ، فإن المواجهة بما فيها من مصائب وآلام ، إنما كانت بين ( جبهة ) الطاغوت وأولياء الحق ، ولم تكن المواجهة مواجهة شخص لشخص ، لتزول آثارها بزوال أصحابها ، ومن هنا يذكّر القرآن الكريم بمصائب الأنبياء السلف (علیهم السلام) ، وكأنها باقية - حقيقة - على فداحتها .. وعندئذ نقول بأن مرور الأيام ومضي الدهور والأعوام ، لم يغير شيئاً من فداحة ما جرى بين أولياء الحق والباطل ، فالشيء لم ينقلب عما وقع عليه بعد وقوعه .. أضف إلى أن المواجهة ( استمرت )جيلاً بعد جيل ، وكان لكل من الجبهتين وارثهما ، ووارث المأسي في هذا العصر هو بقية الماضين (علیهم السلام) ، الذي ينتظر ساعة حسم هذا الصراع، الذي بدأ ولا ينتهي إلا على يديه الكريمتين ..

496- النفس الحاكمة

إن مَثَل ( النفس ) في مملكة الوجود ، ( كحاكمٍ ) أصمّ ، أبكم ،

ص: 214

أعمي ، بيده المقدرات كلها ، ولا يطلب إلا المزيد من الشهوات .. وعليه فإن على من حوله من الوزراء والرعية ، أن يعاملوه بما يجنبهم التبعات الفاسدة متمثلا، أولاً في تقليص قدراته ، وسلب ما بحوزته من عناصر اقتداره .. وثانياً بعدم الاعتناء ما أمكن بأوامره الباطلة ..وثالثاً بالسعي إلى ترشيده وتفهيمه بخطورة موقفه .. ورابعاً بتهديده من مغبّة التمادي في ظلمه .. وهكذا الأمر في النفس ، فإن العقل وجنوده هم وزراء مملكة الوجود ، فطوبى لمن استبدل الحاكم الطالح ،بمثل هذا الوزير الناصح ؟! .

497- العلماء هم أهل الخشية

إن القرآن الكريم يحصر الخشية من اللّٰه تعالى بعباده العلماء ، فمن يرى نفسه في زمرة العلماء أو يعتبره الخلق كذلك ، ولا يجد في نفسه شيئا من هذه ( الخشية ) ، فما عليه إلا أن يُراجع حسابه بقلق واضطراب شديد ، لئلا يعيش ( الوهم ) طول دهره ، فيرى أنه على شيء وليس بشيء .. ومن المعلوم أن هذه الخشية لو تحققت في نفس صاحبها ، لكانت خشية مستمرة ، إذ أنها من لوازم الصفة الثابتة ، وإلا فإن الخشية المتقطعة قد تنتاب غير العالم بما لا ثبات له في النفس ،ومن المعلوم أن العلم الذي يحمله أهل الخشية ، هو نوع علم يورث تلك الخشية مع اجتماع أسبابها الأخرى .

498- الطريق المغري

إن السائر في ساحة الحياة بأهوائها المبثوثة في كل جنباتها ، كمثل من يسير في طريق ( مزدحم ) بألوان المغريات في : مطعم أو مشرب أو جمال منظر ، والحال أنه مأمور بالوصول إلى مقصده في نهاية ذلك المسير .. فالغافل عن الهدف قد يدخل كل ( مُدخَل ) في ذلك الطريق ، ليُشبع فضول نظره ويسد فوران شهوته ، بما يجعله متشاغلاً طول عمره في ذلك الطريق ذهابا وإيابا ، غیر واصل حتى إلى مقربةٍ من هدفه .. وعليه فإن على العبد في مثل هذه الحياة

ص: 215

المليئة بزينة المغريات ، أن ( يغضّ ) الطرف عن كثير مما يصده عن السبيل ولو كان حلاة ، فإن الحلالاً الشاغل ، كالحرام في الصدّ عن السبيل ..فأفضل المشي ما كان على منتصف الجادة ، بعيداً عن طرفيها بما فيها من فتن وإغراء .

499- مَثَل الذاكر باللسان

إن مَثَل من ينشغل عن الحق في صلاته ، كَمَثل من يجلس إلى جليس تثقل عليه محادثته ، فيتركه بين يدي آلة تحدّثه ، ويذهب هو حيث الخلوة بمن يهوى ويحب .. وعليه فإن بدنه الذاكر في الصلاة ،بمثابة تلك ( الآلة ) المتحدثة ، التي لا تلتفت إلى مضامين ما تتحدث عنها ، وإن روحه المشتغلة بالخواطر المذهلة ، بمثابة ( المنصرف ) عن ذلك الجليس ، والمتشاغل عنه بمن يحب ، ممن هو أقرب إلى نفسه منذلك الجليس .. ولنتصور قبح مثل هذا العمل لو صدر في حق ( عظيم )من عظماء الخلق ، فكيف إذ صدر مثل ذلك في حق جبار السموات والأرض ؟! .

500- النشاط الصادق والكاذب

تنتاب العبد حالة من ( النشاط ) ، منشأه ارتياحٌ في البدن ، أو إقبالٌ الدنيا ، أو اكتفاٌء بلذة أو بشهوة ، أوجبت له مثل هذا الاستقرار والنشاط ، ولكن هذا النشاط نشاط ( کاذب ) لا رصيد له ، إذ أنه حصيلة ما لا قرار له ، ولا يستند إلى مادة ثابتة في نفسه ، ولهذا سرعان ما ينقلب إلى كآبة وفتور ، لأدنی موجب من موجبات القلق والتشويش ، وهو ما نلاحظه بوضوح في أهل اللذائذ الذين تتعكرأمزجتهم بيسير من كدر الحياة .. وهذا كله بخلاف النشاط ( الصادق )، المستند إلى إحساس العبد برضا الحق المتعال ، عند مطابقة أفعاله وتروكه لأوامره ونواهيه ، بما يعيش معه برد رضاه في قلبه .. ولاغرابة في ذلك ، إذ كان من الطبيعي سكون النفس واستشعارها للنشاط الصادق ، عند تحقیق مطلوبها في الحياة ، وأي مطلوب أعزّ وأغلى من

ص: 216

حقيقة :{ رَضِیَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ }.

501- نضج النفوس والأبدان

إن للنفوس مراحلَ نضجٍ كمراحل نضج البدن الذي يمر بدور :الطفولة ، والمراهقة ، والبلوغ ، والرشد .. وأغلب نفوس الخلق تعيش المراحل ( الأولى ) من الطفولة والمراهقة ، وإن عَظُمت عناوينها الظاهرية ، كحكومة ما بين المشرق والمغرب ، أو التخصص في ميادين العلوم الطبيعية .. والدليل على ذلك ممارساتهم اللهوية السخيفة التي تنزّلهم إلى مستوى البهائم التي لا تعقل ، وذلك عند انسلاخهم من تلك العناوين ( الاعتبارية ) في خلواتهم ، كما هو معروف عنهم .. إن هذا الاعتقاد يسهّل على المؤمن كثيراً من أذى الآخرين في هذا المجال -وخاصة القولية منه - لأنه صادر عمّن لا يعتد بقوله ولا بفعله ، كما لا يعتد بقول ( الطفل ) أو بفعله ، فيما لو قصد أذى البالغين ..

502- صفوف الشياطين

إن مَثَل من يريد فتح ميادين العبودية للحق ، كمَثَل من يريد أن يقتحم صفّاً متراصاً من الشياطين يرونه ولا يراهم ..فالحل الوحيد في هذا الموقف الرهيب هو أن ( يُشهر) سلاحه ، بما يفهم منه أنه صادق في المواجهة ، ثم ( يقتحم ) الميدان عاملاً بقاعدة : { إِذا هِبْتَ أَمْراً فَقَعْ فیهِ فَإِنَّ شِدَّةَ تَوَقّیهِ أَشَدُّ مِنَ الْوُقُوعِ فیهِ }.. ثم ( ينتظر ) بعد ذلك كله جنود الملائكة المسومین ، تحيط به من كل حدب وصوب ،وكيف تستطيع الشياطين صبراً ، أمام جنود الرحمن الموكّلة بالنصر والفتح ؟!.. والمهم في هذا النصر ، هي مواصلة السير بعد اقتحام السد، وإلا فإن التباطؤ والركون إلى النصر الأول ، مما قد يوجب اجتماع فلول الشياطين المنهزمة لاستدراك الهزيمة ، كما حصل في هزيمة أحد بعد فتح بدر .

503- نسبة الخلق إلى الكمالات

إن الناس بالنسبة إلى طلب الكمالات العليا على طوائف : ( فطائفة )

ص: 217

ليست لهم غاية من غايات الكمال ، فهم يعيشون عيشة الأنعام السائمة ،همها علفها ، وشغلها تقممها ، وهؤلاء الخلق يعيشون شيئاً من الراحة الحيوانية،کراحة الحيوان في مربطه إذ اجتمع علفه وأنثاه .. و ( طائفة )وصلوا إلى الغايات واستقروا فيها ، مستمتعين بالنظر إلى وجهه الكريم ،في لقاء لا ينقطع أبداً .. و (طائفة ) علموا بالغايات وآمنوا بلزوم السير إليها ، إلا أنهم يقومون تارة ويقعدون أخرى ، فهم كالسنبلة التي تخرّ تارة وتستقيم أخرى ، فلا يطيقون الركون إلى حياة البهائم كما في الطائفة الأولى ، ولم يصلوا إلى الغايات كما في الطائفة الثانية ، فيعيشون حرمان اللذتين بنوعيها ، فكيف الخروج من ذلك ؟! .

504- القرين من الشياطين

إن الشياطين المقترنة بالعبد طوال عمره تحصي عليه عثراته ،وتحفظ زلاّته ، وتعلم بما يثير غضبه أو حزنه أو شهوته .. فإذا أراد التوجه إلى الرب الكريم في ساعة خلوة أو انقطاع ، ذكّره ببعض ( زلله )اليقذف في نفسه اليأس الصارف عن الدعاء ، أو ذكّره بما ( يثير )حزنه وقلقه ليُشغل باله ويشتت همّه ، وبذلك يسلبه التوجه والتركيز في الدعاء .. فعلى العبد أن يجزم عزمه على عدم الالتفات لأيّ ( صارف ) قلبي أو ذهني ، ما دامت الفرصة سانحة للتحدث مع الرب الجليل ، إذ الإذن بالدعاء - من خلال رقة القلب وجريان الدمع - من علامات الاستجابة قطعاً .

505- الذكر بعد كل غفلة

إن من المعلوم في محله لزوم تحقيق الجزاء عند تحقق الشرط ..فمقتضى قوله تعالى : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } ، أن يذكر العبد ربه بعد كل لحظه غفلة ، فهو أمر مستقل يتعقب كل غفلة ، إذ لا تسوّغ الغفلة السابقة للتمادي في الغفلة اللاحقة .. وعليه فإن من ( الجهالة )بمكان أن يترك العبد ذكر ربه ، لتورطه في عالم الغفلة برهةً من الزمان ، فهو ( تسويل ) شيطاني يراد منه استقرار العبد في غفلته

ص: 218

وعدم الخلاص منها أبداً .. ومن الملف حقاً في هذه الآية وغيرها من آیات دعوة الحق المتعال العباد إلى نفسه ، عظمة الرب الكريم وسعة تفضله على العباد .. وإلا فما هو وجه ( انتفاع ) الحق بذكر العبد له ؟؟ ،بل إن إصرار العظيم في دعوة الحقير إليه ، مما لا يتعارف صدوره من العباد ، بل لا يُعّد مقبولاً لديهم ، ولكنه الرب الودود استعمل ذلك في تعامله مع خلقه تحنناً وتكرّما .. وقد ورد في الحديث القدسي :{ یا عِبادی ، لَو أنَّ أوَّلَکُم وآخِرَکُم،وإنسَکُم وجِنَّکُم کانوا عَلی أتقی قَلبِ رَجُلٍ واحِدٍ مِنکُم،ما زادَ ذلِکَ فی مُلکی شَیئا .. يا عبادي عِبادِی !! لَو أَنَّ أَوَّلَکُم وَآخِرَکُم وَإِنسَکُم وَجِنَّکُم إِجتَمَعُوا فِی صَعِیدٍ واحِدٍ فَسَئَلُوا فِی حَوائِجِهِم فَأَعطَیتُ کُلاًّ مِنهُم ما سَئَلُوا لَم یَنقُص ذلِکَ فِی مِلکِی شَیئاً ،إلا کَمَا لَا یَنْقُصُ الْبَحْرَ أَنْ یُغمس فیه المخیط غمسهً واحدهً }.

506- حصر الخشية بالحق

إن من سمات المؤمنين حصر خشيتهم بالحق المتعال ، مصداقاً لقوله تعالى : { وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}.. فالخوف والقلق والرهبة من الخلق ،أمور تخالف الخشية من الحق ، وأما ( المداراة ) والتقية فلا تنافي تلك الخشية ، إذ أن عدم الخشية من الخلق محله ( القلب ) ، وهو يجتمع مع مداراة ( الجوارح ) حيث أمر الحق بذلك ، كما اتفق ذلك في حياة أئمة الهدى (علیهم السلام) ، كما اتفق في حياتهم أيضاً تجليّ ذلك الاستعلاءالإيماني الذي يفرضه عدم خشية الباطن ، وذلك كما روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) عندما كتب له المنصور لم لا تغشانا كما يغشانا الناس ؟ ،فقال (علیه السلام) : { لَیسَ لَنا ما نَخافُکَ مِن أجلِهِ ، وَلا عِندَکَ مِن أمرِ الآخِرَهِ ما نَرجوکَ لَهُ. ثم قال : مَن أرادَ الدُّنیا لا یَنصَحُکَ ، وَمَن أرادَ الآخِرَهَ لا یَصحَبُکَ } البحار-ج47 ص 184.. ومن ذلك يعلم كاشفية بعض الأمور - ومنها خشية الحق - المستوى القلب هبوطاً وصعوداً ، وهو الملاك في تقييم العباد .. فمن يرى في نفسه حالة الخشية والرهبة من غير الحق ، فليَعلم أنه على غير السبيل السويّ الذي أمر به الحق ،

ص: 219

فعليه أن يبحث عما أدى إلى مثل هذا الخلل في نفسه ، ومن( موجبات ) هذا الخلل : عظمة ما دون الحق في عينه ، المستلزمة الصغر الحق في نفسه .

507- کالمرأة الأجنبية

إن روح المؤمن في التعامل مع العباد ، كالمرأة الأجنبية التي اشتد حياؤها بين الرجال .. فهو ( يُعفّ ) نفسه عن الدخول في الملأ الذي يرى نفسه أجنبياً عنه ، كما تعفّ المرأة نفسها عن الدخول في ملأ غير المحارم من الرجال .. ومن هنا كان إقبال الخواص من أولياء الحق ،( بشيرً ) خيرٍ لمن أقبلوا عليه ، وقد أمِرنا باتقاء فراسة المؤمن ، لأنه ينظر بنور اللّٰه تعالى .. وأما الأرواح المبتذلة ، فإنها ( تأنس ) مع كل من يجتمع معها ولو في بعض الطريق ، وهو أنس لا دوام له ولا قرار ،كعدم ائتلاف قلوب البهائم ، وإن طال اعتلافها على مزود واحد .

508- من صور تكريم الحق

إن معاجز وشفاعة الأنبياء والأوصياء ، وبرکات الصالحين والأولياء ،تُعد صورةٌ من صور ( التكريم ) للطائعين ، باعتبار ما صدر عنهم من الطاعة للحق المتعال ، فعاد الأمر بذلك إلى ( شأنٍ ) من شؤون الملك الحق المبين .. وكلما عَظُم تکریم الحق لهم بالصور المذكورة ، كلما ارتفع شأن الحق نفسِه .. وليعلم أيضا أن أمر الكرامة والمعجزة والشفاعة ،يؤول أخيرً إلى الحق المتعال ، لكون ذلك كله بإذنه ، بل إن نفوس أصحابها قائمة بإرادة الحق القدير في أصل خلقه لهم ، وإلا اعتراهم الفناء والزوال !!.. فهل تبقى بعد ذلك غرابةٌ ، حتى لو صدر ( أضعاف )ما روي عنهم (علیهم السلام) في هذا المجال ؟! .

509- تحدي المعلومات الصعبة

إن بعض النفوس تعيش حالة من ( التحدي ) مع المعلومة التي يصعب فهمها ، فتستنفر النفس طاقتها لفك تلك المعلومة ، ليشعر بعدها بزهو الانتصار .. وبناء على ذلك فإن توجه النفس للعلوم

ص: 220

والمجاهدة في استيعاب دقائقها ، قد يعود بوسائط ( خفيّة ) إلى هذه الرغبة الكامنة في بعض النفوس المستذوقة لهذا النمط من الفتوحات في العلوم .. وإن من مصاديق ذلك هو علم الدين والشريعة ، فقد ينطلق العبد فيه من المنطلق نفسه ، فيكتسب تلك العلوم بعد طول مجاهدة ، ليعيش بعدها فرحة ( الاقتدار ) على ما لم يقْدر عليه الآخرون من أقرانه ، فيستطیل بذلك الاقتدار على العلماء ، ويباهي به السفهاء .. ومن المعلوم أن ليس ذلك من قرب الحق في شيء ، بل يدعو عليه الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) بقوله : { فَدَقَّ اَللَّهُ مِنْ هَذَا خَیْشُومَهُ وَ قَطَعَ مِنْهُ حَیْزُومَهُ ... فأعمَی بَصَرَهُ ، وقَطَعَ مِن آثارِ العُلَماءِ أثَرَهُ }البحار-ج 2 ص 64.

510- الدين ليس هو الحرمان

إن الشيطان يصوّر الدين عند الغافلين بما يلازم ( الحرمان )،مستغلا في ذلك المناهي الواردة من الشرع ، منفراً لهم الدين وأهله ..والحال أن نسبة الممنوعات في الشريعة أقل من المباحات ، إذ الأصل الأولي في الأشياء هي ( الإباحة ) ، خرج منه ما خرج بالدليل ..فليس من الإنصاف أبداً أن نصف الدين بأنه سلسلة من المناهي ، هذا کله إضافة إلى أن المناهي مطابقة للفطرة السليمة ، بما يضمن سلامة الفرد والمجتمع .. وأخيراً فإن من المعلوم في هذا المجال ، أن المناهي( تقابلها ) المباحات من الجنس نفسه ، فالزواج في مقابل ، الزّنا ،والطيبات من الطعام والشراب في مقابل الخبائث ، والعقود التي أمر الشارع بالوفاء بها ، في مقابل الربا والعقود المحرمة ، وهكذا الأمر في باقي البدائل المحللة للمحرمات ، في مختلف شؤون الحياة .

511- سجن الأب والظالم

إن الفارق بين بلاء المؤمن وغيره ، كالفرق بين سجن ( الأب )العطوف لولده ، وبين سجن ( الظالم ) له .. إذ في الأول تطيب نفسه بذلك ، لعلمه أن ذلك بعين من يعلم صلاحه ويحب خيره ، إضافة إلى

ص: 221

أنه عند تناهي الشدة لما هو فيه ، يعظُم أمله بالاستجابة ، وذلك بطلب الفرج ممن هو عطوف به ، حريص عليه .. وهذا خلافا لمن لا يرى أيّا من ( الخصلتين ) ، وهو في سجن الظالم الجائر .

512- مقياس الشّفافية

إن من مقاييس حياة الروح وشفافيتها أمور ، الأول ، وهي ( الصلاة ) الخاشعة ، الثاني : وهو ( التأثر ) بمصائب أهل البيت (علیهم السلام) ، والثالث : وهو( التعلق )القلبي بمن هو إمام عصره وحجة زمانه .. فالأول كاشف عن قربه من الغاية ، والثاني كاشف عن قربه من الوسيلة العامة ، والثالث کاشف عن قربه من الوسيلة الخاصة يوم يدعي كل أناس بإمامهم ..ومن المعلوم أن المؤمن لا غنى له عن كل ذلك ، إذ أن بكل واحد من تلك الأمور الثلاثة ، يكتمل بُعدٌ من أبعاده .

513- الملائكة الموكلة بالعبد

لو استقرأ الإنسان روایات الملائكة المصاحبة للعبد في ليله ونهاره ،الانتابه العجب من ( تعدد ) الملائكة الموكلين به ، سواء في ( كتابة )سيئاته وحسناته ، أو في ( حفظه ) من أمر اللّٰه عزّ وجل ، كما في العقبات من الملائكة الذين إذا جاء قَدَر الحق ، خلّوا بينه وبين ذلك القدر .. ومن ذلك يعلم أهمية موقع الإنسان في عالم الوجود ،المستلزم لتسخير الحق المتعال للملائكة الكرام في تدبير شؤون العبد ،مع شدة غفلة العبد عما يحيط به من عوالمَ مذهلة .. فلو اطلع مثلاً بقلبه على قرآن الفجر ، حيث يشهده صعود ملائكة الليل وهبوط ملائكة النهار ، لاستغل تلك الساعة التي لا ترجع إليه أبدا ، لتشهدالملائكة آخر خير في نهاية قائمة أعماله الصاعدة ، وخيرا جديداً في بداية قائمة أعماله النازلة .

514- رتبة الاجتهاد

لا شك أن مرتبة الاجتهاد مع العدالة ، لمن أعظم الرتب في زمان الغيبة ، إذ أنها ترفع العبد إلى رتبة ( النيابة ) العامة عن صاحب الأمر

ص: 222

(علیه السلام) .. فكم من العظمة بمكان ، أن يكون ما أدى إليه نظر المجتهد( حجة ) للعبد يحتج به يوم القيامة ، رافعا لعذر وموجباً لأجر ، حتی مع انکشاف خلاف ذلك ، فما المانع من كرم الحق المتعال ، أن يثيب العبد على ارتكابه الحرام الذي رآه واجبا بمقتضى تقليده لذلك المجتهد ،بأمر من المولى نفسه ؟؟ .. ومن هنا يدعو الشيخ الأعظم قائلا : { وفّقنا اللّه للاجتهاد الذی هو أشدّ من طول الجهاد }.

515- الذكر بعد الطاعة

إن العبد الغافل يعطي لنفسه الحق في شيء من الاسترخاء والترسّل ،بعد أدائه لفريضة واجبة أو مستحبة ، وكأنه فرغ من وظائف العبودية بكل أقسامها ، فما عليه إلا أن يرتع ويلعب كما يلعب الصبيان بعد فراغهم مما ألزموا به من تكاليف ثقلت عليهم .. والحال أن القرآن الكريم يذّكر العباد بعكس ذلك ، إذ يحثهم بعد صلاة ( الجمعة)، على الانتشار في الأرض ، وابتغاء فضل اللّٰه تعالى ، ثم يدعوهم إلى الذكر الكثير ليتحقق لهم الفلاح .. كما يدعوهم إلى ذكره عند ( الإفاضة )من عرفات - بعدما استفرغوا فيها جهدهم بالدعاء - فيطالبهم بذكره عند المشعر الحرام .. وكذلك يحثهم على ذكره عند ( قضاء ) المناسك فيقول تعالى : { فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً }.. والحال أن أغلب الخلق يخرجون عن الذكر الكثير ، بل يدخلون في عالم الغفلة من أوسع أبوابه ، بعد قضاء المناسك ، اعتمادا على المغفرة التي شملتهم فيها .

516- کالمندس في الوفد

إن مَثَلَ العبد المستجلب لرأفة الرب المتعال في صلاة الجماعة ، كمَثَل من ( يندسّ ) في وفد قادم على عظيم ، وللعظيم على ذلك القادم حق يستلزم الأخذ به ، ( فيعول ) على انخراطه في صفوفهم ، تحاشياً الخلوة العظيم به بما يستتبعه من عقاب أو عتاب .. ولهذا كانت الرحمة غامرة فيها بما لا تحتمله العقول ، فقد روي عن النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) أنه قال :

ص: 223

{فإن زَادُوا علی العَشَرَهِ فَلَوْ صَارَتِ السَّمواتِ کُلُّها مِداداً والأشْجارُ أقلاماً، والثَّقَلانِ مع المَلائِکَهِ کُتّاباً لَمْ یَقْدِروا أن یَکْتُبوا ثَوابَ رَکْعَهٍ }.. ثم عقّبها - في العروة الوثقى في باب الجماعة -بقوله : وقد ورد في فضلها وذم تاركها من ضروب التأكيد ما كاد يلحقها بالواجبات .

517- الاستغفار المتكرر

إن من أعظم سمات العبودية ، هو الاستغفار المتكرر في اليوم والليل.. فإن مَثَل الاستغفار کمَثَل من يغسل بدنسه من دون التفات إلى قذارته ، فهو بعمله هذا ( يضمن ) طهارة بدنه ، وإن تدنس بما لم يعلم به أو لم يلتفت إليه .. وبقليل من التأمل يلتفت العبد إلى أنه لو خليت جوارحه عن المعصية ، فإن جوانحه لا تخلو من ( الغفلة )المتكررة إن لم تكن المطبقة ، وهذا كاف بنفسه لإيجاب مثل هذا الاستغفار المتواصل .. وقد روي عن سيد الأنبیاء (صلی اللّه علیه و آله وسلم) - على قرب منزلته من الحق وعدم غفلته عنه أبدا - أنه قال : { إنَّهُ لَیُغانُ عَلی قَلْبِی وَإنّی لَأَسْتَغْفِرُ اللّهَ فی الیَوْمِ سَبْعِینَ مَرَّهٍ } البحار-ج 25ص204 ، ولا يستبعد في مثل هذه الروايات ، أن يكون ما يعتري النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) من الحالة المذكورة إنما هوبلحاظ غفلة أمته ، فيكون الإستغفار بلحاظهم أيضاً .

518- المنة لآكل لا للمأكول

إن العبد بتناوله الطعام يجعل ذلك الطعام - وهو الجماد الذي لا روح فيه - جزءاً من ( وجوده ) وهو أشرف الأحياء .. وعليه فهو صاحب ( المنّة ) على الطعام ، إذ بسببه يتحول السافل الجامد إلى العالي النابض بالحياة ، والحال أن الخلق يرون المتة للطعام ، إذ يجلب لهم التلذذ والاستمتاع ، والدليل على ذلك أنهم هم الذين يُقبِلون عليه بنهم وولع شديدين ، مع صرفهم للمال الوفير من أجله .. وينبغي الالتفات في هذا السياق ، إلى ضرورة ( التفحص ) فيما سيجعله جزءاً من كيانه

ص: 224

البدني ، إذ الخبيث لا يصدر منه الطيّب ، وهذه هي إحدى أسبابفتور الأعضاء عن العبادة ، كما ورد التصريح به في روايات عديدة .

519- عدم الوحشة

إن مما يربط على قلوب المؤمنين - وخاصة عند تناهي الفساد وقلة الثابتين على طريق الحق - هو ( تذكّر ) تلك الصفوة القليلة الثابتة طول التأريخ ، فهو يمشي على طريقٍ قد مضى عليه من قبله أمثال :سحرة فرعون ، وأصحاب الأخدود ، ومؤمن آل فرعون ، وحواريوعيسى بن مريم ، والصلحاء من بني إسرائيل ، وأخيراً أصحاب النبي وآله (علیهم السلام) الذين اتبعوهم بإحسان ، هذا كله فضلا عن قادة المسيرة من الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) .. إن الإحساس بهذا ( الانتماء ) الضارب جذورهفي أعماق التاريخ ، يجعل المؤمن يعيش حالة من ( الارتباط )بالخالدين ، مما يرفع شيئا من وحشته ، ولو كان في بلد لا يُطاع فيه الحق ابداً .. وقد روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال : {لا تَسْتَوحِشوا فی طریقِ الهُدی لِقلّهِ أهلِهِ ، فإنّ النّاسَ اجْتَمَعوا علی مائدهٍ شِبَعُها قصیرٌ، وجُوعُها طویلٌ } النهج- خطبة 201 .

520- التهيب من السقوط

يتهيب البعض قبل القدوم على موسم طاعةٍ كشهر رمضان أو الحج ،من السقوط في الامتحان بعدم الإقبال على الحق ، في موطن ( أحوج )ما يكون فيه إلى الإقبال .. والمطلوب من العبد الذي يرجو الفوز -في مثل هذه المواضع - أن يتحاشی موجبات الأدبار ( الظاهرية ):كالإسترسال في الطعام والمنام ، واللغو من القول ، والجلوس مع البطالين ، وأن يتحاشی كذلك موجبات الإدبار ( الباطنية )، كالمعاصي الكبيرة والصغيرة ، وذلك قبل الدخول في تلك المواطن ، ثم يسلّم أمره بعد ذلك كله إلى مقلب القلوب والأبصار ، ليحوّل حاله إلى أحسن الحال ، فهو الذي يحول بين المرء وقبله ، إذ أن قلب العبد بين إصبعين من أصابع الرحمن ، يقلبه كيفما يشاء .

ص: 225

521- التسليم استعداداً وعملاً

إن تسليم العبد لأمر رب العالمين عن طواعية ورضا ، لمن أعظم موجبات الفوز والفلاح .. إذ أن استعداد العبد النفسي ( لتلقّي ) كل محمود ومكروه من قضاء اللّٰه وقدره ، بل وارتضاء ما فيه حبه ورضاه ، لهي السمة ( المميّزة ) من سمات العبودية للحق المتعال ، فكيف إذا اقترن ذلك الاستعداد النفسي ، بالإثبات ( العملي ) لما يدعيه قولاً ،ويبديه استعداداً .. ومن هنا يُعلم سر خلود أصحاب سيد الشهداء (علیه السلام) ،الذين وُصفوا بأنهم أبرّ الأصحاب وأوفاهم ، وهو وسام لم يعط لجمعٍ من قبلهم ، كما لم يشهد التاريخ جمعاً مثلهم في التفاني حول راية الهدى ..فهذا زهير بن القين يقول : { اللَّهُمَّ إِنَّکَ تَعْلَمُ أَنِّی لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ رِضَاکَ فِی أَنْ أَضَعَ ظُبَهَ سَیَفِی فِی بَطْنِی ثُمَّ أَنْحَنِیَ عَلَیْهِ حَتَّی یَخْرُجَ مِنْ ظَهْرِی لَفَعَلْتُ }.

522- عبودية الخلق لبعضهم

إن من الملفت حقاً ، استعداد العباد لعبودية بعضهم بعضاً ، مع ما يلازمها من ذلّ واحتقار ، لا ( يعوّضه ) القليل مما يبذل لهم من المتاع ، جزاء ذل العبودية لفقير فان مثلهم .. والحال أنهم لا يعيشون شيئاً من هذا ( الإحساس ) ، تجاه من منه مصدر الوجود ، ومن هوصاحب العطاء الذي لا منّة فيه ، ومن إليه المصير .. وقد أفصح عن هذه الحقيقة ، عمرو بن العاص - وهو الذي احتمل ذل عبودية غيرالحق - حينما قال لمعاوية : { لو أطعت اللّٰه كما أطعتك ، وجبت لي الجنة !! }.

523- ما هو من لدن الحق

استعمل الحق المتعال في كتابه العزيز كلمة ( لدن ) في مثل :الرحمة ، والذرية ، والسلطان النصير ، والأجر العظيم ، والعلم ،والحنان ، والذكر ، والرزق .. ومن الواضح أن التعبير بانتساب هذه الأمور إلى الحق مباشرة ، يُشعر بعناية زائدة بهذه الأمور الممنوحة لمن

ص: 226

أراد الحق أن يختصه برحمته ، رغم أن كل المنح - ولو كانت بواسطة الأغيار - منتسبة إلى الحق المتعال .. ومن هنا يتأكد على العبد أن يرجع إلى المولى ، ليستوهبه تلك المنح ( الخاصة ) في إحدى المجالات المذكورة ،وما أعظم منحة الحق لو تحققت في أبعاض تلك الأمور!! .

524- الإمامة في الهداية والحكم

إن الإمامة عند أهل البيت (علیهم السلام) ، وإن كانت امامة للخلق ، ( حكومة )في البلاد وسياسة للعباد ، إلا أنها في الوقت نفسه متقوّمة ( بهداية )الخلق ، وهي العمدة في هذه الرتبة العليّة .. ولهذا نجد أن مصطلح الإمام - بمعناه الواسع - مقترنٌ بالهداية ، فيقول تعالى : { وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا }.. كما وصف كتاب الهداية بالإمام ، فيقول تعالى :{ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً } .. كما يجعل إحصاء كل شيء في الإمام المبين ، فهو الحامل للعلم الذي لا يحدّه شيء ، فيقول تعالى : { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } .. وبعد ذلك كله نقول : إن مما يدمي الفؤاد انحسار إمامة هؤلاء عن الخلق ، لتحلّ فيهم إمامة من لا حق له في الحكم ، ولا شأن له في الهداية ، بل كانوا من الأئمة الذين يدعون إلى النار .

525- مواجهة العقيدة الفاسدة

إن الأسلوب الأمثل في مواجهة من يحمل عقيدة باطلة ، هو إتّباع أسلوب التدرّج في تخليصه من ذلك الباطل ، يتمثل في : ( التشكيك )أولاً في يقينه بصحة معتقده ، ليتزلزل ما هو ثابت في نفسه ،كالشجرة التي يراد اقتلاعها فيحُرّك أولاً من موضعها .. ثم ( تقديم )البديل الصالح بالدليل والبرهان ثانياً ، من دون تجريح أو تسخيف لماكان عليه ، كإنبات شجرة صالحة بجانب أخرى فاسدة .. ثم ( بيان )فساد ما كان عليه ثالثاً ، كقلع الشجرة الفاسدة من جذورها بعد استقرار الشجرة الصالحة ونموها .. وينبغي الالتفات في كل هذه المراحل إلى عدم ( غرس ) اليأس والتذمر في نفس الخاطب ، الذي حمل تلك

ص: 227

العقيدة الفاسدة في برهة من حياته ، لأنه سيحمل ثقل الندامة من تلقاء نفسه ، لتضييع عمره في سبيل الباطل .

526-كالمشرد عن داره

إن مَثَل العبد في الإنابة إلى ربه ، كَمَثل الصبي الذي تشاغل مع الصبيان في لهوهم ولعبهم ، ثم اضطر إلى العودة والالتجاء إلى أهله ،فعليه ، أولاً ( بتنقية ) بدنه مما علق به في لهوه ولعبه ، ثم ( الإقبال )على باب اهله مستقبلاً إياه غير مستدبر ، ثم ( الإصرار على الطرق جُهْد إمكانه ، فإن لم تفتح له الأبواب ، مع ما هو فيه من الوحشة خارج الدار ، أجهش بالبكاء ، ملتمساً بشفيع ليشفع عند أهله ، للتجاوز عن طول احتجابه عنهم متشاغلاً بلهوه ولعبه ، فإن لم يؤذن له بالدخول بعد ذلك كله ، فقد تم طرده بما يوجب له التشرد في تلك الليلة إن لم يكن في جميع الليالي .. والأمر كذلك في إنابة العبد إلى ربه ، فإذا خرج إلى ساحة الحياة ليلهو مع اللاهين ، وجب عليه المسارعة في العودة إلى مأواه ، بطرقه باب الرحمة ، مصراً في ذلك ، باكياً ومتباكياً، ومستشفعاً بأولیاء الحق .. فإن أحس( بالصدود ) بعد ذلك كله ، فعليه أن يوطّن نفسه على التشرد بعيداً عن ساحة العبودية للحق ، ولا مصير له بعد ذلك إلا الوقوع في أيدي الشياطين ، ولكن هيهات على الكريم أن يرد مثل هذا الملتجئ خائباً .

527- عناصر تحقق المعرفة

إن المعرفة ثمرة ( تقابل ) بين ذاتٍ مدركة ، و ( موضوعٍ ) مُدَرك ،و ( إدراك ) للموضوع على ما هو عليه .. ومن ذلك يعلم أن تمامية المعرفة ، تحتاج إلى اكتمال جميع تلك العناصر ، إذ لا بد من بلوغ الذات إلى مرحلة الإدراك المستلزمة لإزاحة موانع الفهم ، كما لا بدمن مواجهة الذات للموضوع المُدرك ،وهذا فرع إدراكه لأهمية تلك المواجهة ، وإلا فكم من العلوم التي لا تواجهها الذات لعدم إحساسها بلزوم مواجهتها !!.. وأخيراً - والأهم من ذلك كله - انعكاس الموضوع

ص: 228

بصورته الواقعية لا الخيالية المعاكسة للواقع ، وهنا ( مزّال ) الأقدام في عالم المعرفة ، وذلك للجهل المركب بأن المدرك في الذهن لا يطابق ما هو في الخارج .. وما أكثر هذا الالتباس في باب المعارف ، ومن مصاديق ذلك : المعرفة بالطريق الموصل إلى الحق والذي تاه فيه التائهون ، فضلوا وأضلوا العباد ، وذلك لعدم مطابقة الواقع لصورهم الوهمية ، وكشوفاتهم الباطلة ، ووارداتهم الزائفة ، سواء شعروا بذلك أو لم يشعروا .

528- التأثر بالمدح والذّم

إن على المؤمن أن يكون على بصيرة من أمر نفسه دائماً ، فيعلم مالها وما عليها ، وأما ما يقوله الخلق مدحا أو ذماً ، فهو إخبار عما يكون المرء أخبر به منهم .. فلا داعي ( للأنس ) بمدحهم ، كما لا داعي ( للضيق ) بذمهم ، ما دام يعلم انطباق ما قيل في حقه أو يعلم عدم انطباقه للواقع ، فيكون التأثر ( للواقع ) ، لا لما كشف عنه من قول الآخرين .. وهذا مما علّمه الإمام الكاظم (علیه السلام) هشاما بقوله : {یا هِشامُ ، لَو کانَ فی یَدِکَ جَوزَهٌ وقالَ النّاسُ : فی یَدِکَ لُؤلُؤَهٌ ، ما کانَ یَنفَعُکَ وأنتَ تَعلَمُ أنَّها جَوزَهٌ ، ولَو کانَ فی یَدِکَ لُؤلُؤَهٌ وقالَ النّاسُ : إنَّها جَوزَهٌ ، ما ضَرَّکَ وأنتَ تَعلَمُ أنَّها لُؤلُؤَهٌ

} البحار- ج 1 ص 136 .

529- الحب يوحّد الهمّ

إن من موجبات توحّد الهمّ عند الخلق ، هو ( الحب ) ولو كان في مورد باطل .. فترى العاشق موحد الهمّ ، صاحب تركيز في مورد حبه ، غير مكترث بغير من يهوى ويحب ، ذا همّة عالية في سبيل الوصول إلى بُغيته .. ومن هنا قال بعضهم إن الحب المجازي - لو انقلب على واقعه - لسهل عليه الوصول إلى الحب الحقيقي ، لأنه في مرحلة سابقة قد ( وحّد ) همّه ، وقطع ارتباطه بغير من يهوى ، فيبقى استبدال المحبوب الفاني بالحبوب الباقي ، وهي خطوة واحدة .. فمَثَله كَمَثَل من اتخذ معبوداً واحداً غير الحق ، ثم انقطع إلى الحق المتعال

ص: 229

في ( حركة ) واحدة ، خلافاً لمن أنس بالهة متعددة ، فإن الانقطاع عن كل إله ، يحتاج إلى جهد خاص بازائه .

530- علاقة الملائكة بالخلق

إن علاقة الملائكة بالخلق من وُلد آدم ، علاقة ( أوطد ) مما قديتراءى لنا بالنظرة الأولى .. فمثلاً ( يسلّم ) العبد على ملَكَيه في كل يوم ، لأنه موجود ذو شعور يستحق الخطاب والتكريم ، وخاصة مع عدم عودتهما إلى المرء في اليوم اللاحق ، إضافة إلى دلالة بعض النصوص الشريفة على ( استفادتهم ) من عبادة الآدميين ، بطيّ صحفهم يوم الجمعة للاستماع إذا جلس الإمام للحديث ، إذ روي عن النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) أنه قال : {إِذَا کَانَ یَوْمُ الْجُمُعَهِ کَانَ عَلَی بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلَائِکَهٌ یَکْتُبُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ فَإِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ طَوَوُا الصُّحُفَ وَ جَاءُوا یَسْتَمِعُونَ الذِّکْرَ } البحار-ج98ص 212 .

531- اتخاذ الشهداء

إن الحق المتعال غني عن الخلق ، بذلك الغني المطلق الذي لا يُتصورمعه أن يتخذ شيئاً من هذا الوجود .. إلا أن الحق المتعال في سياق تكريم الشهداء ، يجعل الشهداء ممن ( اتخذهم ) لنفسه بقوله : { وَیَتَّخِذَمِنْکُمْ شُهَدآءَ } ، بناءً على أن المراد بالشهيد هنا هو المقتول في سبيل اللّٰه تعالى ، لا الشاهد على ما يجري في الأمة .. وعلى كل حال فإن استحضار حقيقة غنى الحق ، مع شدة ( تحبّبه ) إلى العباد بقولها{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } ، يُضفي على العبد ( شعوراً )عميقاً بالخجل والاستحياء من جهة ، وبشدة رأفة وحنان رب العالمين من جهة أخرى .

532- تصدّي من لامعرفة له

إن من الخطأ الذي يعود ضرره إلى الدين ، أن ( يتصدى ) من لامعرفة له بقواعد البحث والمجادلة ، ولا إلمام له بتفاصيل الفروع والأصول ، للدفاع عن العقيدة الحقة ، إذ قد يسيء بذلك أكثر مما

ص: 230

يحسن ، ويفسد أكثر مما يصلح .. وعليه فمن كان في مظان ذلك ،فعليه أن ( يتسلح ) بسلاح الأسلوب الهادف ، والمضامين الصحيحةالترويج الدين ، وإلا وجبت عليه ( الدلالة ) على من يكون واجداً لتلك الصفات ، من العلماء الذين جمعوا بين الأسلوب الحكيم والمضمون الحق .. ولقد كان أئمتنا (علیه السلام) يحبون من كان لسانا لهم في الذبّ عنهم ،فهذا الإمام الصادق (علیه السلام) يقول لمن بلغه كراهة مناظرة الناس : {أمّا کلام مِثلک فلا یُکره ، من إذا طار یَحْسن أن یقع ، وإن وَقع یحْسُن أن یطیر ، فمَن کان هکذا لا نکرهه } البحار-ج2ص136 .. ويترحّم (علیه السلام)على ابن الطيار بقوله : { رَحِمَهُ اللّهُ ولَقّاه نَضرَةً وسُروراً، فَقَد كانَ شَديدَ الخُصومَةِ عَنّا أهلَ البَيتِ }.

533- مواجهة الحقائق الملكوتية

كما أن ( المعرفة ) عبارة عن مواجهة للمعلومة التي تنعكس في الجهاز المدرك لها ، فكذلك ( التوسل ) بأولياء الحق (علیهم السلام) مواجهةٌ بالقلب لتلك الحقائق الملكوتية .. فكما أن المواجهة في عالم المعرفة توجب انعكاس المعاني في النفوس ، فكذلك المواجهة في عالم الحقيقة توجب انعکاس تلك الحقائق - بآثارها - أيضا في القلوب ، كما أن المواجهة الحسية في عالم الإنارة كذلك توجب انعكاس النور فيما واجه النور ..والذي يجمع ذلك كله هو أن طبيعة المواجهة تقتضي ( سريان ) الآثاربين المتواجِهَين ، وكلما سما أحد المتواجِهَين كلما اشتد التفاعل والتأثير بينهما .. ومن هنا يُخطئ بعضهم في فهم بعض مظاهر التوسل بأولياء الحق (علیهم السلام) ، وذلك لأن العمدة في تلك المظاهر الحسية ، هي هذه المواجهة المعنوية بين حقيقة المتوسِّل وبين حقيقة المتوسِّل به ،المستلزمة للآثار العميقة ، وإن تجلّت تلك المواجهة من خلال فعلٍ ظاهري بعينه كالزيارة ، والبكاء ، والنذور وما شابه ذلك .. فمَثَله في ذلك كمَثَل من يواجه المعلومة ويستلهمها ، وهو في حالة حسية معينة- من قيام أو قعود - عند استقائه لتلك المعلومة .

ص: 231

534- تكلّف العلم

إن تكلّف العلم الذي لم يأمر به الحق ، مذموم عند أولياء الحق (علیهم السلام) ..فإن الإطلاع على ما لا يزيد الإنسان ( فائدة ) في دينه أو دنياه لمن فضول النشاط العلمي ، فيتحول صاحبه إلى بترف في الفكر ،ومستودعٍ للمعلومات .. ومن ( فضول ) النشاط أيضاً ، المجادلة مع أهل الخصومات ، والبحث لأجل البحث ، لا لكشف الحقائق .. وإن مجموع ذلك يستفاد من خلال النص الذي ورد عن الإمام الباقر (علیه السلام) أنه قال :{ إیّاکَ وأصحابَ الکَلامِ وَالخُصوماتِ ومُجالَسَتَهُم ! فَإِنَّهُم تَرَکوا ما اُمِروا بِعِلمِهِ ، وتَکَلَّفوا ما لَم یُؤمَروا بِعِلمِهِ حَتّی تَکَلَّفوا عِلمَ السَّماءِ }البحار- ج 2ص 137 .

535- البلاء عقيب الزلّة

يذكر المبرّد اللغوي في كتابه الفاضل - ص 071{ وقد روي عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) أنه قال : من أخذه الله بمعصيته في الدنيا ، فالله أكرممن أن يعيدها عليه في الآخرة ، ومن عفا عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يأخذه بها في الآخرة }، ثم عقّبه بقوله فيقال : إن هذا أحسن حدیث روي في الإسلام .. ومن هنا لا يستوحش العبد المنصف من توارد بعض البلاء عقيب زلّة من الزلات ، لعلمه أن ذلك البلاء لا يُعدّ بلاء ، قياساً إلى العذاب المقدّر على ذلك العمل ، فيما لو أمهل العبد .. فما شرٌ بعده الجنة بشر ، وما خيرٌ بعده النار بخير ، بل إن ( توارد ) النعم بعد المعاصي ، من صور ( الاستدراج ) الذي يستوحش منه العبد .. وليُعلم أن الذنب بعد الذنب علامة الخذلان ، والطاعة بعد الذنب علامة التوبة ، والطاعة بعد الطاعة علامة التوفيق ، والذنب بعد الطاعة علامة الردّ .

536- مقياسية الأجر

إن من المقاييس المهمة التمييز درجات العبودية هو العقل والمعرفة ،( فبالعقل ) يُعرف اللّٰه ويُعبد ، وبه يترسم مجمل مسار العبد إلى ربه

ص: 232

.. كما أن ( بمعرفة ) الحق المتعال - مع لوازم تلك المعرفة - يتعرّف على جزئيات ذلك المسار .. وأما الذي لا يعيش هذه المعرفة المحركة للكمال ، فإنه لا يكاد يصل إلى تلك الدرجات العالية ، وإن أتعب جوارحه بالعبادة ، لأن ( تعب ) الجوارح بالعبادة مستلزم للأجر ،وللمعرفة عالم متمایز عن عالم الأجور .. وقد روي عن الإمام الكاظم(علیه السلام) أنه قال : { يا هشام !! ما بَعَثَ اللَّهُ أنبیاءَهُ ورُسُلَهُ إلی عِبادِهِ إلّا لیَعقِلوا عنِ اللَّهِ ، فأحسَنُهُمُ استِجابهً أحسَنُهُم مَعرِفَهً للَّهِ ، وأعلَمُهُم بأمرِ اللَّهِ أحسَنُهُم عَقلاً ، وأعقَلُهُم أرفَعُهُم دَرَجَهً فی الدّنیا والآخِرَهِ }البحار-ج 1ص137 .

537- حكمة سلب النعم

إن اللّٰه عزّ وجل أكرم من أن يسلب النعمة التي وهبها لعبده ، فإن ذلك خلاف شأن الكريم الذي بيده خزائن كل شيء ، إذ ما الموجب لأن (ينغّص ) الرب الغني ، عیش عبده الفقير بسلب النعم ، بعد أن أذاقه حلاوتها .. نعم إن من الممكن وقوع ذلك السلب في حالتين ، الأولى ،( التعويض ) بما هو خير له ، وإن لم يتحقق ذلك التعويض في هذه الحياة الدنيا ، والثانية : ( إتيان ) العبد بما يوجب سلب تلك النعمة من الذنوب الماحقة ، وبالتالي تجتمع عليه مصيبتان : مصيبة فقدان النعم ،ومصيبة فقدان العوض .. وقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال :{ إِنَّ اَللَّهَ قَضَی قَضَاءً حَتْماً لاَ یُنْعِمُ عَلَی عَبْدِهِ بِنِعْمَهٍ فَسَلَبَهَا إِیَّاهُ ،حَتَّی یُحْدِثَ الْعَبْدُ ذَنْباً یَسْتَحِقُّ بِذَلِکَ النَّقِمَهَ } البحار-ج73ص334.

538- رتبة إلقاء المحبة

إن من أهم الغايات التي يسعى إليها المجاهدون في سبيل الحق ، هوالوصول إلى رتبة إلقاء المحبة التي توجب هيمنة الحق ورعايته لمجمل تصرفات العبد ، ما دامت تلك المحبة ملقاة عليه .. فقد ورد هذا التعبير بالنسبة إلى موسی (علیه السلام) وهو في بداية حياته ، ورأينا كيف يقلب المولى المتعال أمور هذا العبد بما يثير العجب والدهشة .. فتارة يُرمي

ص: 233

في اليم ليلقيه على الساحل فيأخذه عدوً للّٰه وعدوٌ له .. وتارة يخرج من بلد إلى بلد خائفاً يترقب .. وتارة يتجلى له الحق مکلماً إياه في وادي الطور .. وتارة يندكّ الجبل أمامه بالتجلي الأعظم .. وهكذا الأمرفي كل من ألقي الحق عليه المحبة والوداد .

539- الذكر على كل حال

لقد روي عن النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) انه قال عن آية ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ ): { وَیْلٌ لِمَنْ قَرَأَ هَذِهِ اَلْآیَهَ ثُمَّ مَسَحَ بِهَا سَبَلَتَهُ } و {ویلٌ لمَن لاکها بین فکّیه، ولم یتأمّل فیها }.. ومن الملفت في هذه الآية الكريمة أنها تجمع بين ( تذكّر ) الحق المتعال كمقصود غائي يستفاد من قوله تعالى : { يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا } ، فهذا هو الذي يمنحه الاستواء في السلوك ،والجدية في الإرادة ، وبين ( تذكرّ ) الحق التفصيلي في كل التقلبات ،إذ أن العبد لا يخلو من قيام أو قعود أو اضطجاع ، فمن ذَكَر اللّٰه في هذه المواضع ، كان ذاكراً للّٰه على كل حال .. فقد روي عن الإمام الباقر (علیه السلام) انه قال : { لَا یَزَالُ الْمُؤْمِنُ فِی صَلَاهٍ مَا کَانَ فِی ذِکْرِ اللَّهِ}تفسير الصافي- ج 1 ص 377 .

540- معارضة الصلاة لغيرها

كثيراً ما يتعارض وقت الصلاة مع أعمال أخرى من شؤون الدنيا ،( فيقدّم ) العبد التوافه من الأمور على اللقاء مع رب العالمين ، رغم دعوته الأكيدة للصلاة وجَعْلها كتاباً موقوتاً .. ومن ثمّ يتوقع العبد( مسارعة ) الحق في تلبية ندائه ، وهو ( المستخف ) بنداء الحق في المسارعة إلى تلبيته ، وكما يدين العبد يدان .. ولقد كان النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) إذا دخل وقت الصلاة ، كان كمن لا يعرف أهلاً ولا حميماً .. وعنه (صلی اللّه علیه و آله وسلم)أنه قال : { لِیَکن أکثَرُ هَمِّکَ الصَّلاهَ ، فَإِنَّها رَأسُ الإِسلامِ بَعدَ الإِقرارِ بِالدّینِ } البحار-ج77ص127.

ص: 234

541- من شعب الجنون

إن العبد الذي يعتقد أن الغضب شعبة من شعب الجنون ، يتحاشی موجباته لئلا يُقدم على ما قد ( يسلبه ) عقله ، كما يراقب أفعاله بدقة عند فوران غضبه ، لئلا يظهر جنونه خارجاً ، فيعمل ما لايمكن التكفير عنه ، ولطالما ( تفوّه ) بشطر كلمة بقيت آثارها في نفس من غضب عليه ، لم تذهب حتى مع تقادم الأيام ، بل وصفته بصفة لاتليق به كعبد سويّ .. وقد ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال :{ اَلْحِدَّةُ ضَرْبٌ مِنَ الْجُنُونِ لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَنْدَمُ فَإِنْ لَمْ يَنْدَمْ فَجُنُونُهُ مُسْتَحْكَمٌ } البحار- ج73ص266.

542- رفاق السوء

ينبغي الالتفات إلى الحذر الشديد من رفاق السوء ، الذين يصرفون العبد عن مسيرته علماً وعملاً .. وقد عبّر القرآن الكريم عن المنافقين بالشياطين ، إذ أن بواطنهم استحالت إلى حقيقة ( تجانس ) حقيقة الشياطين ، وعليه فإن معاشرتهم كمعاشرة الشياطين ، في ترتّب الآثارعلى مثل تلك المعاشرة المهلكة .. ولو ( تجلی ) للعبد هذه الصفة من الشيطنة فيمن تسوء معاشرته ، لولّی منه فرارا ، كما لو ( تلبّس ) جنٌ بهيئته المرعبة بشخص إنسان ، فكيف يعاشره من يراه كذلك ولو كان من أحب الخلق إليه ؟؟.

543- ناريّة الأفعال

يحذّر الحق المتعال من نار جهنم ، ويصفها بأن وقودها الناس والحجارة .. وعليه فقد يكون في وصف هؤلاء بأنهم وقودٌ لتلك النار ،إشارة إلى أن منشأ ذلك هي ( بواطنهم ) المستندة إلى قبيح أفعالهم في النشأة الأولى ، لأن تلك الأفعال كانت تستبطن النار وإن لم يشعر بها صاحبها ، كما عبّر الحق المتعال عن أكل مال اليتيم بأنه أكل للنار ..فلو استحضر العبد ( نارية ) الأفعال التي لا يرضى بها الحق ، لتحرّز عن كل ما يكون وقوداً لنار جهنم وإن تلذذ أهل الغفلة بالإتيان بها ،

ص: 235

جهلا بذلك الباطن الذي ( يُكشف ) عنه الغطاء ، في وقت لا ينفعهم مثل هذا الانكشاف .

544- التأثير في نفوس الخصوم

كتب الشعبي أن أحسن ما سمعه في القضاء والقدر هو قول أميرالمؤمنين (علیه السلام) : { کُلَّما اَسْتَغْفِرْتَ اللَّهَ مِنْهُ فَهُوَ مِنْکَ وَ کُلَّما حَمِدْتَ اللَّهَ عَلَیْهِ فَهُوَ مِنْهُ }.. فلما وصل الكتاب إلى الحجاج ووقف عليها قال : لقد أخذها من عين صافية .. فمن هذا الحديث وأشباهه تتجلى لنا حقيقتان ،الأولى : كلمة ( الفصل ) لأئمة الهدى (علیهم السلام) في كل معضلة ، والجامعةبين الحكمة والإيجاز .. والثانية : ( وَقْع ) كلماتهم في نفوس الخلق ،إذ أن حقيقة أمرهم لم تكن لتخفي حتى على الخصوم .. ومن الطريف ما يذكره غاصب حقهم ، عندما أردف الإمام (علیه السلام) على دابة قائلا : أولانردفهم دابة غصبناها منهم .

545- طبيعة السفر إلى الحق

إن شأن السير إلى الحق کشأن السفر إلى البلاد والبقاع ، في أن لكل مرحلة من السفر ( طبيعتها ) الخاصة ، ووسائلها الخاصة ، وعقباتها الخاصة ، وزادها الخاص .. وعليه فلا بد أن يتوقع كل ذلك قبل سفره ،ليُعدّ له عدته اللائقة به ، وعليه فإن السالك المعتقد بأن السفر عملية رتيبة متشابهة في كل مراحلها ، يفاجأ بأول ( منعطف ) في سيره ،وبأول تغيير في طبيعة العقبات التي تعترضه ، وهي قد تكون تارةعلى شكل شهوةٍ ملحّة ، أو على شكل أمواجٍ من الخواطر والأوهام ، أوعلى شكل سيلٍ من وساوس الشيطان ، أو على شكل أذى الخلق له ،وغير ذلك مما مرّ به السالكون .. فلا ينبغي للعبد أن يتوقع ( الرتابة ) في سير الأمور ، فهذا رسول الله (صلی اللّه علیه و آله وسلم) بين يدي الحق في غار حراءحيث الخلوة المطلقة تارة ، وفي أرض أحد حيث كسرت رباعيتاه والعدو على مقربة منه تارة أخرى .

ص: 236

546- هجوم الخواطر والأوهام

قد يمر العبد في ظرف خاص ، تهجم عليه الخواطر والأوهام بشكل لا يطيق دفعها من دون مجاهدة كبيرة ، فيرى نفسه ( معذوراً ) في الاستسلام لها والاسترسال معها عملا بقاعدة :{ أنَا الغَريقُ فَما خَوْفي منَ البَلَلِ } .. والحال أن أدنی التفاتة إلى الحق - في تلك الحالة -يُعد سعياً مشكوراً من قِبَل المولى جل ذكره .. كما يتعمد أحدهم استضافة جليسه في مجلس يغلب عليه موجبات الذهول والانصراف ،( لیستخبر ) مدى إقباله عليه في ذلك الظرف الطارئ .. ومن المعلوم أن العبد قادر - لو أراد - على استجماع المتفرق من أفكاره ، ولو في مثل تلك الظروف ، كما يتفق ذلك بوضوح في موارد رغبته الخاصة ،کاستغراقه بذكر ( محبوبه ) ، مع وجود الخواطر الصارفة والأوهام الكثيفة .

547- التسديد بالوحي والإلهام

إن مما يدعو العبد إلى السكون إلى مدد الحق - كالتسديد و الإلهام في السير إليه - هي ملاحظته لتعامل الحق مع بعض المخلوقات التي ذكرت في القرآن الكريم : كالنمل ، والنحل ، والذباب ، والبعوض ،والعنكبوت .. فلولا اعتيادنا لما تعملها ، لكانت أفعالها ضرباً من الإعجاز والوحي والتدبير ، الذي لا يرقى إليه تدبير العقلاء من البشر ، إذ أن من الواضح أنها تتحرك وفقاً للوحي الرباني الذي يصرح به القرآن الكريم .. ومن الملفت في هذا المجال استعمال التعبير ب ( أوحي )کاستعمال التعبير نفسه بالنسبة للأنبياء (علیه السلام) ، وفي ذلك غاية العناية والالتفات .. فهل يستبعد بعد ذلك معاملة الحق لمن أراد هدايته إلى الكمال بالتسديد والإلهام ، كمعاملته للنحل في هدايته إلى الجبال ،ليكون نتاجه شراب ، فيه شفاء للأفئدة والألباب ؟؟.

548- روح الكفر

إن أول معصية وقعت على وجه الأرض بعد خلق آدم ، هو إباء

ص: 237

الشيطان عن السجود لآدم ، والذي وصفه القرآن الكريم بالكفر ، إذ من المعلوم أن روح الكفر هو التمرد على أوامر الحق ، وإلا فإن الشيطان لم يصدر منه ما يفهم منه الكفر الإعتقادي .. وعليه فإن الذي يعصي الحق مع الإيمان به ، يحمل روح الكفر بين جنبيه ، ولو بدرجة لاتساوي درجة عناد إبليس .. ولكن الذي يخشى منه ، هو أن تتابع العصيان ، قد تقلب العفوية في المعصية ، إلى تعمّد في الأرتكاب ،فيزداد اقتراباً من روح الكفر ، إلى أن يصل إلى قلب الكفر نفسِه ،ليرتكب ما لم يرتكبه إبليس نفسُه .

549- شفافية بعض الأرواح

إن بعض النفوس تعیش شفافية خاصة ، بعد طول استقامة في طريق الهدى ، ومن آثار تلك الشفافية هو ( التألم ) الشديد عند ارتكاب المعصية ولو كانت صغيرة ، بما يجعله يتوهّم - في بعض الحالات - عدم مغفرة الحق له .. ويبلغ هذا التأثير في نفس صاحبه مبلغاً ، يجعله يعيش ( القلق ) الذي يعيقه عن القيام بما أمِر به فيقع في مخالفات أخرى .. ومما يبعث ( الأمل ) في نفوس المذنبین ، ماورد عن النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) انه قال : { لَیُذْنِبُ فَیَدْخُلُ بِهِ اَلْجَنَّةَ قِیلَ وَ کَیْفَ ذَلِکَ یَا رَسُولَ اَللَّهِ قَالَ یَکُونُ نُصْبَ عَیْنَیْهِ لاَ یَزَالُ یَسْتَغْفِرُ مِنْهُ وَ یَنْدَمُ عَلَیْهِ فَیُدْخِلُهُ اَللَّهُ بِهِ اَلْجَنَّةَ }.

550- مادة الغضب وأثرها

إن للغضب من العبد مادة وأثر .. فمادة غضبه هو ( تأذّيه ) من أذي الخصم ، وأثره هو ( إنزال ) العقوبة على الخصم مع قدرته على ذلك ،فهناك ارتباط ومسانخة واضحة بين مادة الغضب وأثرها ، وإن كانت نفس من قام به الغضب ، هو المحقّق للربط بينهما .. وعليه نقول : إن المعصية والنار بمثابة المادة والأثر ، فبينهما كمال العُلقة والمجانسة ، التي يحققها المولى خارجاً في إدخال صاحبها إلى النار .. ومن المعلوم أن استحضار هذا الاقتران ( الشَرْطي ) بين المعصية والنار ، لمن الزوّاجر

ص: 238

الكبرى عند الهمّ بالمعصية فضلاً عن ارتكابها ، لأنه يرى الأثر متصلاًبمادته .. ولكن عامة الخلق يرون المادة بما فيها من لذائذ ، وكأنها خالية عن الأثر الذي يصفه الحق بقوله : { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ } .

551- أول درس الخلقة

إن أول درس في الخلق ، بعد درس الطاعة والمعصية ، هو درس( التوبة ) والإنابة .. فكما أن القرآن الكريم يعرض صورة المعصية الأولى وهي معصية الشيطان ، ومن ثم معصية آدم التي لا تتنافى مع عصمته ، فكذلك يعرض صورة التوبة الأولى ، وهو عفوه عن آدم بعدتلقّيه الكلمات من عنده .. ومن ذلك يُعلم أن الحق إذا أراد أن يتوب على عبده ( هيّأ ) له الأسباب ، كما تلقّى آدم من ربه الكلمات التي أعانته على التوبة ، فالدعوة إلى التوبة والرجوع السريع إلى الحق المتعال ، قارنت شروع المسيرة البشرية على وجه الأرض ، ولا غنى عن ذلك مع ( اختلاف ) رتب الخلق .. وقد روي أنه بعدما لُعن إبليس ،وطلب الإمهال إلى قيام الساعة ، قال إبليس : وعزتك لا خَرجتُ من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح .. فقال تعالى : { وَعزّتي وَجَلالي ، لامنعته التوبة مَا دَامَ فِیهِ الرُّوحُ }.

552- معنى إقامة الصلاة

إن القرآن الكريم يعبّر عن لزوم أداء الصلاة بلزوم إقامتها .. وإقامة الصلاة هو تحقيق ( وجودها ) بشكل كامل ، سواء في مستواها ( الطولي )كمّاً وكيفاً عند كل فرد ، أو ( العرضي ) عند الجموع .. فالمطلوب هو تربية الفرد المصلي ، والمجتمع المصلي .. فروايات لزوم الإقبال والخشوع في الصلاة ، تتكفل بالجانب الفردي ، وروايات إقامة الجماعة مع ما ورد فيها من عظيم الفضل تتكفل بالجانب الاجتماعي ، وهو ما يؤكده الأمر بالركوع مع الراكعين ، بعد الأمر بإقامة الصلاة .

ص: 239

553- لكل عضو تكليفه

إن لكل عضو من أعضاء العبد ( تكليف ) مستقل .. فعلى من يريدالقيام بحقوق عبودية الحق المتعال ، أن ( يعلم ) أولاً وظائف العبودية في كل عضو من أعضائه ، فهو كمن يريد أن يعمل عند مولىً مجازيّ في الدنيا ، فعليه أن يستفهمه من أول الأمر ، فيما يجب عليه فعله وتركه ، وإلا قصّر - ولو من دون قصد - في وظائف العبودية .. ومن بعد استيعاب هذه المعرفة ، عليه أن ( يُعطي ) كل عضو حقه في العبادة ، ولو قصّر في بعضها لكان وجوده وجوداً غیر متوازن ، كعبد فيه شركاء متشاكسون ، والحق خير الشركاء ، إذ يسلّم المال المشترك إلى باقي الشركاء ، فهو الغنيّ عن الخالص ، فكيف بالمشترك ؟!.. وقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال : { فَلَیسَ مِن جَوارِحِهِ جارِحَهٌ إلّا وقَد وُکِّلَت مِنَ الإِیمانِ بِغَیرِ ما وُکِّلَت بِهِ اُختُها } تفسیر العياشي - ج 1ص156.

554- معرفة سلامة القلب

إن من مقاييس معرفة سلامة القلب ، هو البحث عن ( محور ) اهتمام القلب ومصبّ اهتمامه ، وما هو الغالب على همّه .. فإن كان المحور هو الحق صار القلب إلهیّا تبعا لمحوره ، وإلا استحال القلب إلى ما هومحور اهتمامه ، ولو كان أمراً تافها ، كما ذكر أمير المؤمنين لنوف قائلاً : { مَن أحَبَّنا کانَ مَعَنا یَومَ القِیامَهِ، ولَو أنَّ رَجُلاً أحَبَّ حَجَرا لَحَشَرَهُ اللّهُ مَعَهُ} في البحار- ج 77 ص 384. وقد ورد في الحديث القدسي ما يمكن استفادة هذا المعنى منه : { ذا عَلِمتُ أنَّ الغالِبَ علی عَبدِی الاشتِغالُ بِی نَقَلتُ شَهوَتَهُ فی مَسألَتِی ومُناجاتِی ، فإذا کانَ عَبدِی کَذلِکَ فأَرَادَ أن یَسهُوَ حُلْتُ بَینَهُ وبَینَ أن یَسهُوَ }البحار-ج93 ص 162 .. وقد سُميّ القلب قلباً لشدة تقلّبه ، ومن هنا لزم ( تعهّد ) محور القلب في كل وقت ، تحاشيا ( لانقلابه ) عن محوره ، متأثراً باهتمام قلبه فيما يفسده ، ويغيّر من جهة ميله .

ص: 240

555- التحايل في الحكم الشرعي

يستفاد من شدة عذاب بني إسرائيل عندما اعتدوا في السبت .وتحايلوا في العمل بالحكم الشرعي ، أن الحق تعالى لا يحب ( تفويت )مراده باحتيال العبد والتفافه حول حکم مولاه ، فإن كمال العبودية هو تحصیل ( مراد ) الحق ، إذا علم به العبد كيفما كان

556- المعرفة الإكتسابية والإشراقية

إن العلم بموقع الأئمة (علیهم السلام) من ( الحق ) وموقعهم في ( الخلق )،يتحقق بمراجعة الأحاديث الواردة منهم ، كالزيارة الجامعة وغيرها من روافد المعرفة ( الإكتسابية ) .. إلا أن هناك طريقا آخر للمعرفة يتمثل بالمعرفة ( الإشراقية ) التي تمنح للسائرين في طريق تقوى الله تعالی والتوسل بأوليائه (علیهم السلام) .. ومن هنا نرى النماذج المتميزة من أصحابهم الذين تفانوا في حبهم ، كعابس بن شبيب الذي صاح قائلا : حب الحسين أجنّني ، ممن لم يملك المعرفة النظرية المستقاة من الكتب ،بالشكل الذي قد نطلع نحن عليه ، من خلال انتشار تراثهم في هذه العصور .

557- حقيقة المعصومين

إن الاعتقاد بحقيقة خلقة أرواح المعصومين (علیهم السلام) قبل ( الانتقال ) إلى هذه الأبدان الأرضية ، يستوجب الاعتقاد بحقائق أخرى عن ماضيهم وحالهم ومستقبلهم .. فلا يبدو معه غريبا أن يتوسل بهم الأنبياء السلف کآدم (علیه السلام) ومن بعده في الشدائد ، إذ أن اتخاذ الوسيلة إلى الحق مطلوب في كل عصر و أوان ، كما لا يبدو غريباً قِصَر حياتهم في الدنيا ، إذ أن مَثَلهم في ذلك كمَثَل راكب استراح في ظل شجرة ساعة ثم رحل عنها ، فطول فترة مكوثهم أو قصرها لا يغير من واقعهم شيئاً .. وعليه فلا غرابة أيضا في ارتباطنا بهم ، استمداداً واستلهاماً واستشفاعا بهم بعد وفاتهم ، وذلك ( لبقاء ) تلك الحقائق الإلهية على حالها ، سابقاً وحاضراً ومستقبلاً ، إذ ما ( الفارق بين الراجل والراكب في حقيقة صاحبه ؟؟.

558- تكريم حجر وتقديس حجة

إن الطواف حول البيت ، فيه تكريم الأحجار منتسبة إلى الحق المتعال ،وكل ( تقدیس ) بأمره فهو طاعة له يترتب عليه الأجر العظيم ..

ص: 241

وزيارة قبور المعصومين (علیهم السلام) فيها تقديس لحجج منتسبة إلى الحق ..وشتان بين تکریم ( حجر ) و تقدیس ( حجة) ، كالبون الشاسع بين کتاب لله صامتٍ وآخرَ ناطق .. ولعله من أجل ذلك ، دلّت الروايات على أن الحق ينظر يوم عرفة إلى زوار قبر الحسين (علیه السلام) ، قبل النظر إلى زوار بيته الحرام .

559- هبة رأفة الولي

يطلب المؤمن من ربه أن يهبه رأفة ورحمة ولي الأمر (علیه السلام) .. فالرأفة والرحمة وإن كانت ( منقدحة ) في قلب الولي ، إلا أنها ( مستندة )إلى اللّٰه رب العالمين ، يهبه لمن يشاء من عباده .. فيُعلم من ذلك أن الطريق إلى رأفة الحجة في كل عصر ، هو التوجه إلى الرب المتعال ،وبذلك يتجلى لنا عدم المفارقة بين الالتجاء إلى الحق وبين الالتجاء إلى أوليائه سواء في مجال استجابة الدعاء ، أو الشفاعة ، أو الأنس بالذكر ، كما روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال : { شِیعَتُنَا الرُّحَمَاءُ بَیْنَهُمُ ، الَّذِینَ إِذَا خَلَوْا ذَکَرُوا اللّهَ، إِنَّ ذِکْرَنَا مِنْ ذِکْرِ اللّهِ إِنَّا إِذَا ذُکِرْنَا ذُکِرَ اللّهُ وَإِذَا ذُکِرَعَدُوُّنَا ذُکِرَ الشَّیْطَانُ} البحار - ج 73 ص258 ..فإن من الخطأ بمكان أن نعتقد أن التعامل مع أولياء الحق ، إنما هو في ( عرض ) التعامل مع الحق المتعال لا في طوله ، ومع الاعتقاد بهذه ( الطولية ) ترتفع الإشكالات الكثيرة ، ويزول الاستغراب من الاعتقادات الناشئة من توهم العرضية في التعامل .

560- التدريب على تعظيم المخلوق

لا يبعد أن يكون ( الأمر ) بالسجود لآدم (علیه السلام) ، ( تدريباً ) للخلق على تعظيم المخلوق بأعلى صور التعظيم ، المتمثل بالسجود الذي لا يجوز الغيره تعالى ، وذلك فيما لو كان ذلك التعظيم بأمر من الحق نفسه ..ويظهر أثر ذلك في تعاملنا مع المعصومین (علیهم السلام) ، فنوطّن أنفسنا على أعظم درجات الخضوع والتعظيم ، ما دام ذلك ( بأمر ) من المولى وبرغبة أكيدة منه ، وهو الذي لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون .. وقدعمل بذلك آدم نفسه - عندما توسل بهم في بدء الخليقة - عند تلقّي الكلمات من ربه ، المتمثلة بالنبي وآله عليهم السلام ، كما رواه الكليني والصدوق والعياشي.

ص: 242

فهرس الومضات (1)

1- أوثق عرى الإيمان

2- التالم من الإدبار

3- النظرة إلى الخلق

4- سبل تسلط الشيطان

5- تزاحم الخواطر

6- واقع القرآن الكريم

7- جهاز الإرادة

8- تجلبات التوجه للحق

9- الحضور فرع الإحضار

10- شدة التعبير

11- ساعات الفراغ

12- وجه الرب

13- میل العبد بوجهه

14- لذة الأنس بالحق

15- لذة مخالفة النفس

16- القلب السليم

17- الجمع بين المقامين

18- شياطين القلوب

19- مقام الدعوة إلى الله

20- المسارعة في السير

21- الإصطفاء الإلهي

22- العلم صورة ذهنية

23- الاستقامة مع المعاشرة

24- فتنة الكمال

25 - الأنس بالحق لا بطاعته

26- الحديث النفسي

27- اللسان كاشف لاموجد

28- سرقة الجوهرة

29- الالتفات للمسبَّب لاللسبَّب

30- الإحساس بالمعیّة الإلهية

31- فائدة العلوم الطبيعية

32- مدبريَة الحق

33- اللقاء في جوف الليل

34- شرف الانتساب إلى الحق

35- مطابقة المزاج للطاعة

36-بنيان الحق في الأرض

37- العمل للقرب لا للأجر

38- وجه القلب

39- الصلاة قمة اللقاء

. 4- العلم لا يلازم الاطمئنان

41- اجتذاب قلوب الخلق

42- تلذذ الغني والفقير

43- التأثر الشخصي بالمصاب

44- شهر الضيافة

45- الجمع بين الوحشة والمودة

46- سياسة النفس

47- تسويل النفس

48 - حذر المصلحين

49 - الاستعانة بالحق

50 - العبودية ضمن المجاهدة

51- أمارة التسديد

52 - اختيار الأقرب للرضا

53 - كالخرقة البالية

54 - لحظات الشروق والغروب

55 - الصفات الكامنة

56 - برمجة اليوم

57 - خلود المنتسب إلى الحق

58 - قوارع القرآن

59 - الهيئة الجماعية للطاعة

60 - الأدب الباطني للاكل

61 - الرغبة الجامحة

62 - سوء الظن

63 - وظيفة الداعي

64- هدر العمر بالنوم

65- الفراق والوصل

66- العداء المتاصل

67- مؤشر درجة العبد

68- مجالس اللهو والحرام

69- التفكير في الشهوات

70- منبَهية الآلام الروحية

71- آيات لأولي الألباب

72- التسمية نوع استئذان

73- الإعراض بعد الإدبار

74- مؤلفات المنحرفين

75- القلب حرم الله تعالی

76- استغلال أية فرصة

77- تصريف الحق للأمور

78- الأجر الجزيل على القليل

79- ملكوت الصلاة

80- الطهارة الظاهرية والباطنية

81- الصورة الذهنية الكاذبة

82- الخسارة الدائمة

83- أدنى الحظوظ وأعلاها

84- مخالفة النفس فيما تهوی

85- التجلي في الآفاق والأنفس

86- المال آلة اللذائذ

87- اللقاء في الأسحار

88- التشويش الباطني

89- دواعي الهدى والهوى

90- البلاء المعرض

91- العبثية في السلوك

92- هندسة التكامل

93- الصلاة موعد اللقاء

94- فرق الحال عن المقام

95- مرحلة الاصطفاء

96- ساعات الجد الواقعي

ص: 243

فهرس الومضات (2)

97- التعالي قاصم للظهر

98- انحراف المدعين للمقامات

99- الأوقات المباركة

100- حالة المصلي في المسجد

101- شهوة الشهرة

102- موطن المعاني هو القلب

103- سعة مجال الاستجابة

104- اللوامة والأمارة

105 - الجن والشياطين

106- الرفق بالمبتدئين

107 - النمو المتصل والمنفصل

108 - النسبية فيما يعني

109 - الجو الجماعي للطاعة

110- إدامة حالة الرقة

111- الذكر في الغافلين

112 - الدعاء المناسب للحالة

113 - التزاحم في الواجب والمستحب

114- شکورية الحق

115- الحسرة على الخيرات

116- السفر الهادف

117- حب التوابين

118- طلب الكمال الأعلى

119- الفزع إلى الصلاة

120- المعصومون من شؤون الحق

121- منبهية البلاء

122- قوام الإنسانية

123- لوازم الهبات الروحية

124 - الوحشة الشديدة

125- خلاقية الحق

126- داعي الذكر الدائم

127- الانقطاع بالنوم

128- الانبهار والتفاعل

129- تحريك إرادة الحق

130- البعد بعد الامتلاء

131- الفرص النادرة

132- الطائع والتائب

133- ساعات القوة والضعف

134 عمدة الشهوات

135- ساعات الذهول

136- المتفرج على الأحداث

137- الذاكر الغافل

138- لكل ساعة تكليفها

139- استيلاء شهوة البطن

140- عدم الميل للحرام

141- مراحل الاستيلاء

142- القرب بالمصيبة والمراقبة

143- الإجزاء غير القبول

144- علاقة المولوية والحب

145- الأنس تبعا للحق

146- الوحشة من أولياء الشيطان

147- معاملة الوصاية لا السيارة

148- تزاوج النفوس والأبدان

149- کتمان الغضب

150- الضيق المجهول

151- مَظهرية المعصوم لصفات الحق

152 - التصرف في الشريعة

153 - الأنوار المحدقة بالعرش

154- ماساة الحسين (علیه السلام)

155- مبدأ التعويض

156- انتظار الفرج

157- سلب المحبة

158- حقيقة الزيارة

159- إشراف المعصوم

160- توقير الذرية

161- آثار الأولياء

162- إهداء الأعمال للمعصومين

163- الإرادة الطولي

164-طلب الحقائق

165- شكر نعمة الولاية

166- أحاديث الرجعة

167- الاستئناس بكلمات المعصومين

168- الدعوة بالحجج البالغة

169-إعجاز استمرار خط أهل البيت

170- آجال الأمم

171- الحصانة الإلهية

172- الخطورات القبيحة

173- مجاهدة الجنس لا الفرد

174- عدم الانشغال بالأسباب

175- أرقى اللذائذ

176- مملكة الحق والطاغوت

177-مقدم الوفد

178- أنوار الليل والنهار

179- الإرشاد من سبل القرب

180- إمساك الطير والقلوب

181- التعصب للحق

182- الإثنينية في التعامل

183-برد الرضا

184- الترقية المؤقتة

185-خدمة القلوب

186- الذكر اليونسي

187-إصلاح ذات البين

188- هداية السبل بالمجاهدة

189- الاستغراق في المعاني

ص: 244

فهرس الومضات (3)

190- الغافل عن آداب السير

191- مواجهة الحقائق بالقلب

192- کعبة الأرض والعرش

193- التوفيقات تصعيد للعبد

194- للأكل حیثیتان

195- المتشرفون باللقاء

196- الطلب يلازم الوصول

197- السنن في التكوين و والأنفس

198- البهجة المونقة

199- خلود الذكر

200- التفويض إلى البصير بالعباد

201- الذهول عما سواه

202- الهوة بين المادة والمعنى

203- دعوة العبد بالأذان

204- وجل الطائعين

205- الطموح في الدرجات العالية

206- الرزق الأعم

207- قواعد القبض والبسط

208- فتح الشهية قبل الإطعام

209- ارتباط الأبدان بالقلوب

210- هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك

211- التنزل إلى عالم الغافلين

212- مودة ذوي القربی

213- الحركة ثم البركة

214-الحقيقتان المتمایزتان

215- وجدان حالة العبودية

216- الإحتفاف بالشهوات والشبهات

217- التفاعل الموجب للحزن

218- اجتياز المشاعر الباطلة

219- تمني الخلاص

220- روح العبادة

221- الإحساس بالتقصير العظیم

222- تقديم القربان

223- الطُعم نصید أکبر

224- حجب النور

225- الضيافة في العبادة

226- التوجه بالقلب والفكر

227- الوَجَل بعد الذكر

228- التفاعل غير المجاورة

229- نعيم الآخرة في الدنيا

230- بلاء عالم التفكير

231- العبادة في الراحة

232- الرزق المادي والمعنوي

233- علاج الشرود الذهني

234- أثر التحليق الروحي

235- حقيقة الخلوة والاعتزال

236- إنكار المقامات الروحية

237- الخير الکثیر

238- الحذر من زوال النعم

239- الاختبار الدقيق للقلب

240- ظلم من لاناصر له

241- المتعة غير الحسيّة

242 - الإحساس بالطرد

243- الطمع في مودة القلوب

244- معاملة الناطق

245- البلاء بعد التوفيق

246 - الأمور العلمية المذهلة

247- المحاكمة عند الفرح

248- انتهاء موسم القرب

249- جلال التجّلي

250- أشد أنواع العذاب

251- المنح الموهوبة

252- المعاملة بما يناسب المرحلة

253- مجمل شهوات الدنیا

254- ترك التسافل

255- مادة الافتنان

256- ملاك النظر إلى الأجنبية

257- أصناف أزواج الدنيا

258- الجيفة المجمدة

259- إحسان من أسلم وجهه

260- کالسائر علی طرف حائط

261- إجتثاث الرذيلة الباطنية

262- من أرجی آیات القرآن

263- كفالة المربّي

264- الاعتقاد بالبداء عند الدعاء

265- القعود على الصراط المستقيم

266- الحق أولى بحسنات العبد

267- محبة الحق لفاطمة (علیه السلام)

268- عبادة الحق كما يريد

269- القشر واللبّ

270- انقطاع تسبيح الثوب

271- العقوبة في الطبيعة

272- المعية العامة والخاصة

273- القلبان في جوف واحد

274 - التدبر فيما وراء الفق

275- الصبغة الواحدة

276- لو فرض مَحالاً

277- القدرة المستمدة من الحق

278 - عظمة الخالق في النفس

279- الحركة حول محور واحد

280 - الإخلاد إلى الأرض

281- التعالي عن عامة الخلق

282- صراحة أمير المؤمنين

ص: 245

فهرس الومضات (4)

283 - الاشتغال بالفسيح

284- صنوف الكمال

285- كثرة الهموم

286- السعة المذهلة للوجود

287- حقيقة الاسترجاع

288- روح الدعاء

289- الملَكَة أشرف من العمل

290- الحسنة في الدنيا والآخرة

291- التركيز في غير الصلاة

292- سكر الشهوة والغضب

293- السياحة الهادفة

294- الاستلقاء بعد التثاقل

295- روح الصلاة

296- عدم الذهول عند الخطاب

297- الحيران في الأرض

298- التصرف في الحس

299- صرف الكيد

300- کالالتفات إلى العورة

301- جعل الود من الرحمن

302- زيّ العبودية

303- من أشق الرياضات

304- الصور الجميلة الفانية

305- المتهجدون هم أولو النهي

306- مصادر المعرفة

307- همزات الشياطين

308- التصرف في ملك الغير

309- وضوح السبيل

310- الطموح في الدرجات

311- تقويم القلب وسیاسته

312- الانشغال بالأهل

313- الانتظار الحق

314- في خدمة المخدوم

315- اضطرار صاحب الأمر

316-معاشرة ثقيلي المعاشرة

217- تأليب الآخرين

318- الضمور في الكمال

319- الغد خير من الأمس

320- تحاشي موجبات التشويش

321- استثقال العبادة

322- اجتذاب الأنظار

323- خاصية الجذب الأنفسي

324- الحيوان الهائج

325- مقارعة الظلمة

326- الأحكام الُمسبَقة

327- مخادعة النفس

328- القوانين الطبيعية والاجتماعية

329- أكثرهم لايعقلون

330- تحمل مشقة العبادة

331- صلاة السكاری

332- منغّصات معيشة المؤمن

333- سوء العاقبة

334- السيئات من صفة واحدة

335- تلهّف النفس

336- عدم الالتهاء بالجمال

337- حرمان بعض الشهوات

338- تمني الخير للغير

339- بين الباقي والفاني

340- الإتّباع دليل المحبة

341- السعي لا النتيجة

342- إحاطتهم بالمآسي

343- العناد بالمعصية

344- صعوبة الإخلاص

345- استصغار ما بين العلا والثريا

346- أفضل الأوقات للحق

347- جريمتان في آن واحد

348- الذهول في أول الطريق

349- رتبة قرب النوافل

350- أثر سلامة القلب

351- صلاة النبي (صلی اللّه علیه و آله وسلم) وآله

353- العذر عند التعب والمرض

352- دفع المقتضي قبل إيجاد المانع

354- حقيقة الركوع والسجود

355- القلب كالمسجد

356- اجتياز حدود الحق

357- العناية الخاصة

358- الاستهزاء بالنفس

359- فضول النظر

360- ذکری الدار

361-کاشفية الزيارة

362- عدم الاسترسال المذهل

363- الموت المتكرر

364- منحة الانقطاع إلى الحق

265- أهل التأمل والتفكير

266- أساليب الجذب

367- الاتكال على الغير

368- مقومات نجاح الملُك

369- الصرف عن الصلاة

370- العلم المخزون

371- الهدف من اللذائذ

372- الشغف العلمي

273- التمكين بالتصرف في القلوب

374- المفاهيم الخاطئة

375- استقلالية الذكر الكثير

ص: 246

فهرس الومضات (5)

376- الانطباع الأولي عن العصاة

377- الشوق إلى الموت

378- طمع القلوب

379-المنّة على العباد

380-تذكّر الفضل

381- الإصرار القبيح

382- اختلاف الحيثيات

383-کفران نعمة الَملَكات

384- حسرة الفاقدين

385-التيسير في حياة العبد

386- نور القرآن

387- خطورة النفور من الداعي

388- العطش الذي لا رواء له

389-إطفاء النور

390-فتور همة العبد

391- عرش الشيطان

392- تعصّب المحب

393- الناصح القائد

394- تضييع النساء والصبيان

395- أثر الاستحواذ

396- إثارة صاحب المصيبة

397- إضطراب العاشق

398- الملاك الواحد

399- کالسائر في البستان

400- ذكر المعصومين للحجة (علیه السلام)

401- تحويل المعلومة إلى عقيدة

402- المجاهدة الدفعية والمستمرة

403- نقاط النور

404- فساد الظرف والمظروف

405- مرّد الإحساس بالغير

406- الكمال الطول والعرضي

407- التاسي في تأثرهم

408- آثار سرعة الاعتذار

409- التفاعل في الخلوة والجلوة

410- تجاوز الحاكمية

411- عروج الدعاء

412- خبط العشق

413- الآثار البعيدة للعمل

414- افتراض حلول الموت

615- القلب موضع النظر

416- قيمة المعارف

417- الجهل بدرجات الحجج

418- تمنيات الغافْلين

419- التشبّه بالكفار

420- الاسترسال بالأنس

421- عقوبة العشق

422- التوقيت في الأرض والحياة

423- النتائج بيد الحق المتعال

424- ما لا يورث اليقين

425- أولم يكف بربك

426- اللامحدود مقابل المحدود

427- الحسرة على السلف

428- ارتفاع الهوية الشخصية

429- علامة القبول

430- الشيطان القرين

431- صلاة الليل والجماعة

432- الحب الخالص

433- أدب المثول

434- أعاصير الشهوات

435- ضيوف الحق

436- مناهج المعرفة

437- المجنون عند الخاصة

438- الرصيد الكاذب

439- جينة الوحدانية

440- إيقاظ المحبة

441- اجعلوني من همّكم

442- الوصية بالثلث

443- المخزون الشعوري

444- تجلي النعمة

445- تسبيح من في الوجود

446- العتق من النار

447- المعصية ابالمكابرة

448- تحمّل مظالم العباد

449- لازم المحبة العميقة

450- الحوائج الجامعة

451- إلقاء الرعب

452- التدّرج في دخول الحرم

453- آية المراقبة

454- مغالبة المكروه

455- قبح الربا

456- قلب المفاهيم الخاطئة

457- شعب الخير والشر

458- تواصل الغیث

459- انکشاف حقيقة النفس

460- خداع المادحين

461- التاثر فرع المسانخة

462- معاشرة الصلحاء

463- عدم الأنس بالقرآن

464- اختلاف المعاملتين

465- الفرق بين الكف والانصراف

466- الخطايا العابرة

467- همّ خدمة الدين

468-تكريم وسيلة الخير

ص: 247

فهرس الومضات (6)

469- زوال الانس والشهوة

470- وسيلة الوصول

471- مخزون القلق في النفس

472-لزوم الإحساس بالغيرة

473- جعل المودة ورفعها

474- المسخ الباطني

475- الشرك في التعامل

476- الفساد المستحدث

477- العجب من سلامة البدن

678- الحُمقاء في الدين

479- الميل إلى طاعة خاصة

480- الدقة في تعامل المعصوم

481- زيارة الموتی

482- قطع العلائق

983- محطات الاستراحة

484- الهواجس والخواطر

485- الغناء وتحريك الشهوات

486- كمال الجنين والأرواح

487- الارتياح بعد التفويض

488- حلول الغضب

489- موعد العفو العام

490- الموازنة في المستحبات

491- حصن الصلاة

492- الموت أخو النوم

493- الاختصاص بالبلاء والنعم

494- الذكر بعد العبادة

495- ثبات المصيبة

496- النفس الحاكمة

497- العلماء هم أهل الخشية

498- الطريق المغري

499- مَثَل الذاكر باللسان

500 - النشاط الصادق والكاذب

501- نضج النفوس والأبدان

502- صفوف الشياطين

503- نسبة الخلق إلى الكمالات

504- القرين من الشياطين

505- الذكر بعد كل غفلة

506- حصر الخشية بالحق

507- كالمرأة الأجنبية

508- من صور تكريم الحق

509- تحدي المعلومات الصعبة

510- الدين ليس هو الحرمان

511- سجن الأب والظالم

512- مقياس الشّفافية

513- الملائكة الموكلة بالعبد

514- رتبة الاجتهاد

515- الذكر بعد الطاعة

516- کالمندس في الوفد

517- الاستغفار المتكرر

518 - المنة للآكل لا للمأكول

519- عدم الوحشة

520- التهيب من السقوط

521- التسليم استعداداً وعملاً

522- عبودية الخلق لبعضهم

523 - ما هو من لدن الحق

526 - الإمامة في الهداية والحكم

525- مواجهة العقيدة الفاسدة

526- کالمشرد عن داره

527- عناصر تحقق المعرفة

528-التأثر بالمدح والذّم

529- الحب يوحّد الهمّ

530 - علاقة الملائكة بالخلق

531 - اتخاذ الشهداء

532- تصدّي من معرفة له

533- مواجهة الحقائق الملكوتية

534 - تكلّف العلم

535- البلاء عقيب الزلّة

536- مقياسية الأجر

537- حكمة سلب النعم

538- إلقاء المحبة

539- الذكر على كل حال

540- معارضة الصلاة لغيرها

541- من شعب الجنون

542- رفاق السوء

543- نارّية الأفعال

544- التأثير في نفوس الخصوم

545- طبيعة السفر إلى الحق

546- هجوم الخواطر والأوهام

547- التسديد بالوحي والإلهام

548- روح الكفر

549- شفافية بعض الأرواح

550- مادة الغضب وأثرها

551- أول درس الخلقة

552- معنى إقامة الصلاة

553- لكل عضو تكليفه

554- معرفة سلامة القلب

555- التحايل في الحكم الشرعي

556- المعرفة الإكتسابية والإشراقية

557- حقيقة المعصومين

558- تكريم حجر وتقديس حجة

559- هبة رأفة الولي

560- التدريب على تعظيم المخلوق

561- فائدة الاستخارة

ص: 248

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.