رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 3458 لسنة 2020
مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda
رقم تصنيف: LC BP193.1.A2 M8 2020
المؤلف الشخصي: المعلم، محسن علي، 1372 للهجرة- مؤلف.
العنوان: الاخلاق من نهج البلاغة/
بيان المسؤولية:
تأليف الشيخ محسن علي المعلم.
بيانات الطبع: الطبعة الاولى.
بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ 2020 / 1442 للهجرة.
الوصف المادي: 492 صفحة؛ 24 سم.
سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 813).
سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ 188).
سلسلة النشر: (سلسلة الدراسات والبحوث العلمية، وحدة الدراسات الأخلاقية؛ 22).
تبصرة ببليوجرافية: يتضمن هوامش. لائحة المصادر (الصفحات: 469 - 471)
موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359- 406 للهجرة- نهج البلاغة.
موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40- للهجرة- خطب.
موضوع شخصي:
علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40- للهجرة- كلمات قصار.
مصطلح موضوعي: الاخلاق الإسلامية.
مصطلح موضوعي: تهذيب النفس (اخلاق اسلامية).
اسم مؤلف اضافي:شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359- 406 للهجرة- نهج البلاغة.
اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق)، مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.
تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية
ص: 1
ص: 2
سلسلة الدراسات والبحوث العلمية
وحدة الدراسات الأخلاقية (22)
الاخلاق من نهج البلاغه
تالیف فضیلة الشیخ محسن علی المعلم
اصدار
موسسة علوم نهج البلاغة
فی العتبة الحسینیة المقدسة
ص: 3
جميع الحقوق محفوظة العتبة الحسينية المقدسة
الطبعة الأولى 1442ه- 2020 م
العراق- كربلاء المقدسة- مجاور مقام علي الأكبر عليه السلام مؤسسة علوم نهج البلاغة
هاتف: 07728243600- 07815016633
الموقع الألكتروني: www.inahj.org
الإيميل: Info@Inahj.org
تنويه:
إن الأفكار والآراء المذكورة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآلِ محمد
ص: 5
ص: 6
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر با ألهم والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن والاها، والصلاة والسلام على خیر الخلق أجمعین محمد وآله الطاهرين.
أما بعد:
فلم يزل كلام أمر المؤمنین (عليه السلام) منهلاً للعلوم من حيث التأسيس والتبين ولم يقتصر الأمر على علوم اللغة العربية أو العلوم الإنسانية فحسب، بل شمل غيرها من العلوم التي تسیر بها منظومة الحياة وإن تعددت المعطيات الفكرية، إلا أن التأصيل مثلا يجري في القرآن الكريم الذي ما فرط الله فيه من شيء كما جاء في قوله تعالى: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ» (الأنعام: 38)، كذا نجد يجري مجراه في قوله تعالى: «وَكُلَّ شَيءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِینٍ» (يس: 12)، غاية ما في الأمر أن أهل الاختصاصات في العلوم كافة حينما يوفقون للنظر في نصوص الثقلین يجدون ما تخصصوا فيه حاضراً وشاهداً فيهما، أي في القرآن الكريم وحديث العترة النبوية (عليهم السلام) فيسارعون وقد أخذهم الشوق لإرشاد العقول إلى تلك السنن والقوانین والقواعد والمفاهيم والدلالات في القرآن الكريم والعترة النبوية.
من هنا ارتأت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تتناول تلك الدراسات العلمية المختصة بعلوم نهج البلاغة وبسیرة أمیر المؤمنین الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفكره ضمن سلسلة علمية وفكرية موسومة ب(سلسلة الدراسات والبحوث) التي يتم عبرها طباعة هذه الكتب وإصدارها ونشرها في داخل العراق وخارجه بغية إيصال هذه العلوم إلى الباحثین والدارسین
ص: 7
وإعانتهم على تبین هذا العطاء الفكري والانتهال من علوم أمیر المؤمنین علي (عليه السلام) والسیر على هديه وتقديم رؤى علمية جديدة تسهم في إثراء المعرفة وحقولها المتعددة.
وما هذه الدراسة التي بین أيدينا إلا واحدة من تلك الدراسات التي وفق صاحبها للغوص في بحر علم أمیر المؤمنین علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقد أذن له بالدخول إلى مدينة علم النبوة والتزود منها بغية بيان أثر تلك المرويات العلوية في ميدان علم الأخلاق الذي كان مبلغ اهتمام الشريعة.
ولعلّ الرجوع إلى قول أمر المؤمنین (علیه السلام) في بيان شرف هذا العلم وطريق اكتسابه يغني عن الإسهاب في بيان أهمية الرجوع إلى كتاب نهج البلاغة في دراسة هذا العلم الشريف والانتهال من معارفه، قال (علیه السلام) «وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّه (صلی الله علیه و آله و سلم)- بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ والَمْنْزِلَةِ الَخْصِيصَةِ- وَضَعَنِي فِي حِجْرِه وأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَی صَدْرِه- ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِه ويُمِسُّنِي جَسَدَه- ويُشِمُّنِي عَرْفَه- وكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيه- ومَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ولَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ- ولَقَدْ قَرَنَ اللَّه بِه (صلی الله علیه و آله و سلم)- مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه- يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الَمكَارِمِ - ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه- ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُه اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّه- يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِه عَلَماً- ويَأْمُرُنِي بِالِقْتِدَاءِ بِه»(1) .
فجزى الله فضيلة الشيخ محسن المعلم دامت توفيقاته على بحثه فقد بذل جهده وعلى الله أجره، والحمد لله رب العالمین.
السيد نبيل الحسني الكربلائي
رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة
ص: 8
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله كما هو أهله، والصلاة والسلام على هداة الخلق إلى الحقّ، محمد وآله الطاهرين.
وبعد..
فإن الله- جلّت آلاؤه، وعظمت نعماؤه- خلق الخلق بقدرته ليعبدوه، «وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»(1) .
ولطف بهم بحكمته، فقرّبهم إلى طاعته، وأبعدهم عن معصيته، فأوقفهم على محابّه، ومكارهه، ولولا تفضّله لجهلوا كيف يعبدونه، «وَاللهُ أَخْرَجَكُم مَّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا»(2) ، فشرع لهم دينًا ارتضاه، وحكماً أقامه، ونهجًا سنّه، «إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ»(3) ، ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَیَرْ الِإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ»(4) .
****
ص: 9
وجعل- تعالى شأنه- لدينه حملة وقوّامًا، «رُّسُلاً مُّبَشَّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلىَ اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا»(1) ، «قُلْ فَلِلّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ»(2) ، «عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ»(3) ، «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يْهَدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الَخیَرْاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ»(4) ، «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يْهَدُونَ بِأَمْرِنَا لَّما صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ»(5) .
وأمر عباده باتباعهم وإطاعتهم واقتفاء آثارهم، «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا»(6) ، «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لَّمن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِیرًا»(7) .
واعتدّ إطاعتهم إطاعته، ومعصيتهم معصيته، ومحبتهم برهان محبته، «مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ»(8) ، «وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا»(9) ، «قُلْ إِن كُنتُمْ تِحُبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِ يْحُبِبْكُمُ اللهُ»(10) .
ص: 10
وفوّض لهم ولايةً أولى من ولاية الإنسان على نفسه، «النَّبِيُّ أَوْلَی بِالمُؤْمِنِینَ مِنْ أَنفُسِهِمْ»(1) ، «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضىَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لُهَمُ الخِیَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينًا»(2) ، «إنِّماَ ولَيُّكُم اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ (56)»(3) .
****
وقد أنزل على صفوته وخيرته من خلقه، وحبيبه من بريته صلی الله علیه و آله قرآنه الكريم، وذكره الحكيم، وفرقانه العظيم «تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَیْءٍ»، «يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ».
فصدع به رسوله، وبلّغه كما أُمر، «فَاصْدَعْ بِمَاَ تُؤْمَرُ»، فحلّل حلاله، وحرّم حرامه، وبنّ أحكامه، وأقام شرائعه، وسنّ سننه، فبصّر به مِن عمى، وهدى من ضلال، وحملهم على المحجّة البيضاء، ليلها كنهارها.
****
حتى استوفى مدّته، ودنا رحيله، واشتاق إلى لقاء ربّه، وقلبه وعينه على أمته ورعيته، استخلف فيهم بأمر مولاه خليفتین: قرآنَ الله، ومن يقوم بتبيانه مترجمًا لمقاصده كاشفًا لأسراره محيطًا بمحكمه ومتشابهه.
فجمع الحجيج في ذلكم اليوم المشهود، فصدع فيهم بما أمره به مُرْسِلُهُ وربُّه،
ص: 11
عزيمةً لا خيار في إنفاذها، ولا عذر في تأخيرها، «لِّيَقْضِيِ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا»(1) ، «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ»(2) .
فجهر بما أُمر، وبلّغ ما إليه أُنزل، ولم تأخذه في الله لومة لائم، فقام فيهم والعيون شاخصة، والآذان مستمعة، والأمة مجتمعة، ببليغ بيان، وأسلوب لافت، ونهج عجيب، وهيئة مثیرة:
فيوضع منبر، ويعلوه الرسول المبلَّغ، وبجنبه المعنيُّ بالأمر، ويرفع يده حتى يبین بياضُ إبطيها، ثم يردف أسئلة لافتة يطلب من الأمة جوابها:
«من أولى بالمؤمنین من أنفسهم؟» ، «إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنین، وأنا أولى بهم من أنفسهم»، ويتبعها فورًا بعد استكمال الاستفهام والجواب، ببقية من القول تعني من لا يزال رافًعا يده بيده، والأعناقُ مشرئبّةٌ إلى وضعهما:
«فمن كنت مولاه فعليٌّ مولاه»، يردّدها ويكرّرها ثلاثًا أو أربعًا.
وهيمن على الأمة خطاب نبيَّها، ولكن هل أذعنوا لما سمعوا فوقر في قلوبهم؟! فيعقَّبُ من أوتي جوامعَ الكلمِ وفصلَ الخطابِ بقول فصل، وتصنيف حاصر بین قبيلین، محب ومبغض، مطمئن ومنكر.
ص: 12
ومائز التصنيف وما يستتبعه من أحكام هو المحتفَى به في هذا المشهد العظيم، (عليٌّ) نفسه، الذي لم تفترق يده عن يده:
«اللهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيث دار».
ثم يقبل على حشود الأمة المجتمعة، ويحمّلها كلها رسالة شهدوها، وقضية أدركوها وعقلوها، وأمانة عظيمة فليؤدّوها:
«ألا فليبلّغ الشاهد الغائب».
فكان لهذا الحدث الأعظم دويٌّ وأصداء في الأرض والسماء، والأفق الأعلى والأدنى.
فحسمٌ من الله لولاية العهد بعد رسول الله صلی الله علیه و آله.
وتمّ إجراء المراسم: تتويج بعمامة، وخيام منصوبة، ومدة مضروبة، لمبايعة وليّ عهد الخلافة.
فيسبق الشيخان أبو بكر وعمر مبايعين قائلين:
«بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة».
ويستأذن شاعرُ المواقف، فيستأذنُ أمینَ وحيِ الله صلی الله علیه و آله و سلم، ليرفع عقيرته لتدوّي مدى التأريخ، ولتعرض صورًا حية لمحفل فريد، لا يتكرّر مهما امتدّ للحياة عمرٌ:
ص: 13
يناديهمُ يومَ الغديرِ نبيُّهمْ *** بخمًّ وأسمعْ بالنبيِّ مناديا
يقول: فمن مولاكمُ ووليُّكمْ *** فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا:
إلهُكَ مولانا وأنتَ وليُّنا *** ولم ترَ منا في الولايةِ عاصيا
فقال لهُ: قمْ يا عيُّ فإنني *** رضيتُكَ من بعدي إمامًا وهاديا
وتحفل قضية الإسلام الكبرى بدور مكثّف لأمین الوحي جبرئيل علیه السلام، عروجًا وهبوطًا، يحمل آية التبليغ مرة: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ»، ويحمل آية الرضا مرة، وآية الغضب أخرى، «اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ»، و «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ».
حكاية صادقة ل «اللهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه». وبعد.. فلم يكن من خطة هذا التقديم توفية المقام حقّه من الإجلال، وإنما هو الإجمال.
هذا والبحث مستوعب في مواطنه، ورواياته متواترة، و (الغدير) للعلاّمة الأميني الفذّ منهل مترع زاخر، عذب زلال لورّاده، علاًّ وعبًّا ونهلاً، تطفح ضفتاه، ولا يترنّق جانباه.
وقد أدليت بدلوي الصغیر وحبلي القصیر في بحثي (مرجع الخلاف إلى الخلافة) ضمن (ثلاث مقالات).
****
فما تفرّق الجمع إلا بعد أن سمعوا ووعوا أن رسول الحق ونبيّ الهدى قد
ص: 14
خلّف فيهم قرآنین: صامتًا وناطقًا، وكتابین: تدوينيًّا وتكوينيًّا، كتابَ الله وعليًّا وليَّ الله.
والانسجام برهان الحق والصدق.
فانسب أيها الحرّ الشريف والعاقل الحصيف تلكم المقالة القدسية والبيان الإلهي إلى ما قاله لسان الله الصادق في هذا الموقف الأعظم، وما قاله في مواقف مشرَّفة أخرى:
«عليٌّ مع القرآن، والقرآن مع عليّ».
«عليٌّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ».
إلى فيض من هذا النمط، وعلى ذلكم المنوال والنسيج والنسق.
أ ليس هو الانسجام، وواقع القضية، والحقيقة الراهنة، والحقّ الصراح؟!
****
واسبر (عليًّا) في ذاته وصفاته، وجمال كمالاته، وانفراده في مميزاته، لتوقن أي الرجال هو.
فخذ ما شئت من الفضائل والخصائص وكافة ما يتمايز فيه الأفذاذ من علم وإيمان، وعبادة وزهد، وحكم وعدل، وشجاعة وفروسية، وبلاغة وفصاحة، ورحمة وأريحية، وأدب جمّ، وطهارة أعراق، ومحاسن أخلاق.
تلقه أبا عذرها، وابن بجدتها، وسابقها، ورائدها، ومدارها، ومحورها،
ص: 15
وصدرها، ومصدرها، وفيضها ومفيضها.
****
أجل..
إنه حباء الله وألطافه، وإنعامه وإتحافه، ومواهبه ومنحه، فقد أعدّه وأمدّه.
وإنه غرس رسول الله وثمره، وروحه وقلبه ولسانه، بل هو (نفسه)، ولا موقع بعد ذلك، ولا شأن لتعريف معرّف، ووصف واصف، وتمجيد منبهر، وإكبار معجب، فأنّى يحيط الواصفون بوصفه؟!
ولئن وقفوا على طرف من شؤونه فانبهروا وحاروا وأجلّوا وأكبروا- فما خفي عليهم من سرّه وجليل أمره أجلّ وأعظم.
وما لنا والإعجاب والانبهار وشهود خصائصه وجلائل أوضاعه وطباعه، وحتى من أعدائه ومبغضيه فضلاً عن أوليائه ومحبيه، هذا والنبع منا قريب، والمورد متاح، والمنهل عذب رقراق.
(سبوحٌ لها منها عليها شواهدُ).
فهذا (نهج البلاغة)..
وكفى به حقيقة ماثلة، وبرهانًا صادقًا، وبيانًا معرِّفًا، ولسانًا واصفًا، وجامعًا كاشفًا، ودائرة معارف معجزة.
فقد تجلّت فيه مواهبه، وتجسّدت ملكاته، ونضحت آراؤه، وتجسَّمت صوره
ص: 16
في أدواره وأطواره.
وهو مع قمّة نفاسته أثر من آثاره، ورشحة من سحاب مزنه، فسبحان الحكيم واضع الأشياء مواضعها، وما أجلّه من واهب، وما أسماها من مواهب، وما أكرم هذا الموهوب، وما أرفع محلّه، وأعلى كعبه.
****
والكتاب هذا رشحة من علمه، ورشفة من خلائقه، استقيت مادّته من ذلكم النبع الثرّ في جداوله ومجاريه، والمعین لا ينضب، مفعم سلسبيل.
وقد رغب إليّ الشهم اللامع والأخ الكريم الأستاذ محمد حسن الواعظ النجفي (أيّده الله ورعاه) في إعادة طباعته في مؤسسة (علوم نهج البلاغة) المشرَّفة بخدمة العتبة الحسينية العالية.
فجزاه المولى وكافّة القائمین على نشر المعارف الدينية خر الجزاء، وأجزل لهم المثوبة والعطاء، وأنالنا جميعًا شفاعة سيد الأوصياء وسيد الشهداء- عليهما سلام الله- فإنه نعم الربّ، وهما وآلها أقرب الشفعاء لديه، والأكرمون عنده.
وأسأله- وسعت رحمته- أن يحيينا محيا أوليائه، ويتوفّانا عى ولائهم والیراءة من أعدائهم.
والحمد لله دائمًا أبدًا، والصلاة على آل الله سرمدًا.
ص: 17
ص: 18
الحمد للهِ رب العالمین والصلاة والسلام على أشرف المرسلين المبعوث رحمة للثقلین وعلى أمیر المؤمنین وقائد الغر المحجلین إلى جنات النعيم وآلهما الهداة.
واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
وبعد..
فهذا الكتاب الثاني(1) حول نهج البلاغة، تناولت فيه من معارفه (الأخلاق).
ورأيت أن أصدّر له بتمهيد أعرض فيه ركائز يقوم بناء الأخلاق على قواعدها، واخترت مادتها من (نهج البلاغة) لترتبط الفروع بأصولها ريّانة من منهلها، ويتجى فيهما عطاء المربّي الإلهي جلالاً وكمالاً وجمالاً وفكراً وخلائق وهدياً بما نمّ عنه أثره النفيس الأنفس، وسفر الخلود الأقوم، ونراس الحياة الأهدى.
***
ومن الخير الإلمام بطرف من شؤون بحثنا قبل الوقوف عند ركائزه:
والخُلُق بضمتین: السجية، والجمع أخلاق... والخلق: كيفية نفسانية تصدر
ص: 19
عنها الأفعال بسهولة، «من صفات أهل الدين حسن الخلق»(1) .
وحيث أن الإنسان مركب من قوى ومودع فيه غرائز، ولكلٍّ وظائف وأدوار، واستقامة تلكم القوى في ذاتها وفي ارتباطها بنزعات الآخرين وما هم عليه من طباع وأوضاع تحتاج إلى رائد يقوم بتنظيمها وتقويم أودها، وسَوقها في منهج قويم، وصراط مستقيم، ليعتدل بذلك شأن الفرد والمجتمع.
وإذا ما تأملنا في حقيقة (الإنسان) وتركيبته العجيبة الغريبة وما اشتمل عليه من ميول ونوازع وتطلع وبواعث وصراع ونزاع وحب للغلبة والأثرة وجنوح للاستبداد فلا مناص من اللجوء إلى المولى- جل جلاله- فهو الخالق العالم والمهيمن على الأمر كله وهو الحكيم الخبیر.
وما سوى الله قاصر فاقد للكمال المطلق لا يقوى على إصلاح ذاته فضلاً عن إصلاح غیره ومن ثم كان أسمى الأصول الأصيلة التي يعود كل حسن وعدل وتنظيم وتقويم إليها:
«ثم الأخلاق لا تفي بإسعاد المجتمع ولا تسوق الإنسان إلى صلاح العمل إلا إذا اعتمدت على التوحيد وهو الإيمان بأن للعالم- ومنه الإنسان- إلها واحدًا سرمديًّا لا يعزب عن علمه شيء، ولا يغلب في قدرته من أحد، خلق الأشياء على أكمل نظام لا لحاجة منه إليها.
ص: 20
وسيعيدهم إليه فيحاسبهم فيجزي المحسن بإحسانه ويعاقب المsيء بإساءته ثم يخلدون منعّمین أو معذّبین، ومن المعلوم أن الأخاق إذا اعتمدت على هذه العقيدة لم يبق للإنسان إلا مراقبة رضاه تعالى في أعماله، وكان التقوى رادعًا داخليًّا له عن ارتكاب المحارم»(1) .
وقد لطف الإله الخالق بعبده ومخلوقه فحباه (العقل) وهو أكرم ما يمنح ويحبا، يدرك بفضله الحسن والقبيح والخیر والشر.
وأودع فيه (فطرة) تتجلى بصفائها حقائق الهدى والضال «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لَخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ»(2) .
«وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا»(3) .
ولكن ربما غالب (العقلَ) (الهوى) وربما طمس (نورَ الفطرة) (حجبُ الدنيا) من سيء عادات موروثة، وبيئة ملوثة، وجهالة مردية، ومعاصٍ ترتكب، وحرمات تنتهك، فأنّى ذلك والهدى «كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(4) .
فلطف المولى بعباده فأسبغ عليهم نعمه وشملهم بفضله وأفاض عليهم
ص: 21
رحمته وخیره فأقام لهم من لدنه صفوة منتجبة وخیرة منتخبة فكانوا الروّاد الهداة:
«ولهذا كان لابد من بعث الأنبياء ذوي النفوس المصطفاة الملهمة بالوحي ليثیروا في الناس دفائن العقول، ويزيلوا الغشاوة عن النور الفطري ويكملوا ما كانوا يحتاجون إليه في كمالهم، فكان نور الوحي الإلهي مكملاً لنور الفطرة التي أودعها الله في الإنسان فكان (نور على نور)»(1) .
﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلىَ المُؤمِنِینَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ»(2) .
وكان خاتم الأنبياء والمرسلين6المبعوث رحمة للعالمین مثلاً أعلى ونبراسًا أهدى «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِینَ»(3) .
«وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ»(4) .
وكان هديه ومنهاجه وشرعه وأهدافه ماحكاه عنه باعثه ومرسله عمّت رحمته وجلت حكمته: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْاَلَ الَّتِي
ص: 22
كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ* قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ باللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ باللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ»(1) .
ولقد حكى (نهج البلاغة) طرفًا من آفاق صاحبه وفكره وروحه وسنن هديه وطموح آماله، وخلجات نفسه، وسريرته وسرته.
كما تجلى فيه همه وخالص عزمه وشدة حرصه لحمل الولاة والأمة على خلائقه المثلى والمحجة البيضاء وسوقهم إلى الحق والهدى على صراط مستقيم.
وإذا ما تلونا بيّناته في نهج البلاغة وما يحياه فكره وينبض به قلبه ويلهج به لسانه وسبرنا سیرته في كافة شؤونه وجدناهما سنخًا واحدًا لا يشدّ فيه قول عن فعل ولا يختلف فعل عن قول فكلاهما حق وصدق.
ولا غرو فمن كان (مع القرآن والقرآن معه)، (ومع الحق والحق معه) لا يكون إلا كذلك ولا يحيد عنه أبدًا.
وذلكم جلال (الإمامة) وكمال (الإمام).
فعلى روحه أجمل التحية وأتم السلام.
وإلى عشاق الحق والكمال شذرات معبرات عن إمام الخیر والهدى في أدبه مع
ص: 23
مولاه عز وجل وأدبه في رعيته، وكلاهما ينمّان عن أدبه في ذاته وخلاله وخصاله.
قال أبو الدرداء: «شهدت علي بن أبي طالب بشو يحطات النجار، وقد اعتزل عن مواليه واختفى ممن يليه واستتر بمغيلات النخل، فافتقدته وبعد عليّ مكانه، فقلت: لحق بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجي وهو يقول: «إلهي كم من موقبة حلمت عن مقابلتها بنقمتك، وكم من جريرة تكرّمتَ عن كشفها بكرمك، إلهي إن طال في عصيانك عمري وعظم في الصحف ذنبي فما أنا مؤمّل غیر غفرانك، ولا أنا براجٍ غیر رضوانك» فشغلني الصوت واقتفيت الأثر، فإذا هو علي بن أبي طالب علیه السلام بعينه، فاستترت له وأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغابر، ثم فرغ إلى الدعاء والبكاء والبث والشكوى، فكان مما به الله ناجاه أن قال: «إلهي أفكر في عفوك فتهون عليّ خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليّ بليتي» ثم قال: «آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت محصيها، فتقول: خذوه، فياله من مأخوذ لا تنجيه عشريته، ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملا إذا أذن فيه بالنداء» ثم قال: «آه من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزّاعة للشوى، آه من غمرة من ملهبات لظى». قال: ثم أنعم في البكاء فلم أسمع له حسًّا ولا حركة، فقلت: غلب عليه النوم لطول السهر، أوقظه لصلاة الفجر، قال أبو الدرداء: فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحرّكته فلم يتحرك، وزويته فلم ينزو، فقلت: إنا للهِ وإنا إليه راجعون، مات والله علي بن أبي طالب، قال: فأتيت منزله مبادرًا أنعاه إليهم، فقالت فاطمة علیه السلام: يا أبا الدرداء ما كان من شأنه ومن قصته؟ فأخبرتها الخبر، فقالت: هي والله يا أبا الدرداء الغشية التي تأخذه من خشية الله، ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق، ونظر إليّ وأنا أبكي،
ص: 24
فقال: مما بكاؤك يا أبا الدرداء؟ فقلت: مما أراه تنزله بنفسك، فقال: يا أبا الدرداء فكيف ولو رأيتني ودُعي بي إلى الحساب وأيقن أهل الجرائم بالعذاب. واحتوشتني ملائكة غلاظ وزبانية فظاظ، فوقفت بین يدي الملك الجبار، قد أسلمني الأحباء ورحمني أهل الدنيا، لكنت أشد رحمة لي بین يدي من لا تخفى عليه خافية، فقال أبو الدرداء: فوالله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله»(1) .
«إن معاوية كان يرسل يسأل عليًّا عن المشكلات فيجيبه فقال أحد بنيه:
تجيب عدوك، قال: أما يكفينا أن احتاجنا وسألنا؟»(2) .
«وجاء أبو هريرة- وكان تكلم فيه وأسمعه في اليوم الماضي- وسأله حوائجه فقضاها، فعاتبه أصحابه على ذلك، فقال: إني لأستحيي أن يغلب جهله علمي وذنبه عفوي ومسألته جودي»(3) .
«عن جعفر عن أبيه علیه السلام أن عليًّا علیه السلام صاحب رجلاً ذمَّيًّا، فقال له الذمي:
أين تريد يا عبد الله؟ فقال: أريد الكوفة، فلما عدل الطريق بالذمّي عدل معه علي، فقال له الذمّي: أليس زعمت الكوفة؟ قال: بلى، فقال له الذمي: فقد
ص: 25
تركت الطريق، فقال: قد علمت، فقال له: فلم عدلت معي وقد علمت ذلك؟ فقال له علي علیه السلام: هذا من تمام حسن الصحبة أن يشيع الرجل صاحبه هنيئة إذا فارقه وكذلك أمرنا نبينا، فقال له: هكذا؟ قال: نعم، فقال له الذمي: لا جرم إنما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة، وأنا أشهدك أني على دينك، فرجع الذمي مع علي علیه السلام فلما عرفه أسلم»(1) .
أ) «بالإسناد إلى أبي محمد العسكري أنه قال: أعرف الناس بحقوق إخوانه وأشدهم قضاء لها أعظمهم عند الله شأنًا، ومن تواضع في الدنيا لإخوانه فهو عند الله من الصديقین ومن شيعة علي بن أبي طالب علیه السلام حقًّا، ولقد ورد على أمیر المؤمنین علیه السلام أَخَوَان له مؤمنان أب وابن، فقام إليهما وأكرمهما وأجلسهما في صدر مجلسه، وجلس بین أيديهما، ثم أمر بطعام فأحضر، فأكلا منه، ثم جاء قنبر بطست وإبريق خشب ومنديل ليلبس. وجاء ليصب على يد الرجل فوثب أمیر المؤمنین علیه السلام وأخذ الإبريق ليصب على يد الرجل، فتمرغ الرجل في التراب وقال:
يا أمیر المؤمنین، الله يراني وأنت تصبّ على يدي؟! قال: اقعد واغسل فإن الله تعالى يراك، وأخوك الذي لا يتميّز منك ولا ينفصل عنك يخدمك، يريد بذلك في خدمته في الجنة مثل عشرة أضعاف عدد أهل الدنيا، وعلى حسب ذلك في مماليكه فيها، فقعد الرجل فقال له عليٌّ علیه السلام: أقسمت بعظيم حقي الذي عرفته ونحلته وتواضعك للهِ حتى جازاك عنه بأن تدنيني لما شرفك به من خدمتي لك لما غسلت مطمئنًا كما كنت تغسل لو كان الصاب عليك قنبرًا، ففعل الرجل ذلك،فلما فرغ ناول الإبريق محمد بن الحنفية وقال: يا بني لو كان هذا الابن حضرني
ص: 26
دون أبيه لصبيت على يده، ولكن الله تعالى يأبى أن يسوي بین ابن وأبيه إذا جمعهما مكان، لكن قد صب الأب على الأب فليصب الابن على الابن، فصب محمد بن الحنفية على الابن، ثم قال الحسن بن علي العسكري علیه السلام: فمن اتبع عليًّا على ذلك فهو الشيعي حقًّا»(1) .
ب) ورئي أمیر المؤمنین علیه السلام حزينًا فقيل له: مم حزنك؟ قال: لسبعٍ أتت لم يضف إلينا ضيف.
«الحارث الهمداني قال: سامرت أمیر المؤمنین- صلوات الله عليه- فقلت:
يا أمیر المؤمنین عرضت لي حاجة، قال: فرأيتني لها أهلاً؟ قلت: نعم يا أمیر المؤمنین، قال: جزاك الله عني خیرًا، ثم قام إلى الراج فأغشاها وجلس، ثم قال:
إنما أغشيت السراج لئلا أرى ذل حاجتك في وجهك، فتكلم فإني سمعت رسول الله6يقول: الحوائج أمانة من الله في صدور العباد، فمن كتمها كتبت له عبادة، ومن أفشاها كان حقًّا على من سمعها أن يعينه»(2) . هذا ومحاسن خلائقه بل معاجز كمالاته أبعد من أن تحصى وأنأى من أن تستقصى في مختلف الشؤون ومتنوع الأوضاع، سلمًا وحربًا، عبادة ومالاً وجاهًا، سرًّا وعلانية، لمن قربت لحمته أو بعدت، قبل توليه الحكم وبعده.
ولا أدري ماذا أقرّر؟! أهو السر والعجب؟! أم ينكشف به السر والعجب؟
ص: 27
فإن من كان (نفسًا) لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم كما قال تعالى عنه في محكم كتابه «وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ» فهو الجدير بمقام كمقامه ونعت بوصفه، وخطاب كخطابه «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ».
وعلي وقد تجسّد إيمانًا وتمثّل كمالاً يعيش همًّا ويحيا مشروعًا إلهيًّا ملأ جوانحه وجوارحه بذل كل جهده وقواه في إقامة الأمة على نهجه والسیر في لاحب طريقه يقتفي في سَننه هدي ربه ومهمة مربيه ومؤدبه ومستخلفه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ليشرق نور القرآن في القلوب، ولتعمر معارف الإسلام الحياة ولئلاّ تعود الجاهلية الجهلاء والطخية العمياء، والضلال والغواية، فتذهب تلكم الجهود وذلكم العناء سدى وضياعًا.
ولكنه مُنِيَ- وما أعظم محنته وأفدح خطبه- بمن حليت الدنيا في عيونهم فلم يبصروا سواها، وثقل عليهم الحق فعموا وصموا فضلوا عن سواء السبيل.
فطفق يبث همه، ويبعث شكواه، ويبوح بتبرمه مذكرًا ومحذرًا منذرًا كاشفًا عن وخيم العواقب، وما يخبئه الغد الأسود من كوارث الخيبة ولا فرصة لتدارك ولات ساعة مندم.
فاستعرضْ فكره وهديه وعناءه، وأعدْ النظرة والكرة ثم استمعْ عليه كيف يتقطع قلبه حسرات حيث يرى آثار جهوده وجهاده قد آلت إلى ما أعلن عنه تبرمه ويأسه من أمة لا يرجون للهِ وقارًا، وأصروا على الباطل واستكبروا استكبارًا.
«عن أبي صالح الحنفي قال: رأيت عليًّا علیه السلام يخطب وقد وضع المصحف
ص: 28
على رأسه حتى رأيت الورق يتقعقع على رأسه، قال: فقال: اللهم قد منعوني ما فيه فأعطني ما فيه، اللهم قد أبغضتهم وأبغضوني، ومللتهم وملوني، وحملوني على غیر خلقي وطبيعتي وأخلاق لم تكن تعرف لي، اللهم فأبدلني بهم خیرًا منهم، وأبدلهم بي شرًّا مني، اللهم مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء»(1) .
وما يستوقف الباحث المتأمل في هذا النص المعبر:
أ) وضع قرآن الله العظيم على رأسه الشريف.
ب) (سألتهم ما فيه، فمنعوني ذلك، فأعطني ما فيه).
فهو سلام الله عليه يحمل هديه لتزهر أحكامه وتنعم الأمة بفيض عطائه وتحيا على معارفه.
ج) (حملوني على غير أخلاقي وطبيعتي، وأخلاق لم تكن تعرف لي).
وكان يسوسهم سياسة إلهية، ويحملهم قولاً وعملاً برفق على الجادة القويمة والمحجة البيضاء.
وقد حكى تاريخ سياسته وإدارته ورعايته علوّ نفسه وشريف مقاصده وكريم خلائقه وإقامته العدل وإحياءه الحق، كما حكى ضيقهم وتبرمهم من
ص: 29
ذلك وتماديهم في الغواية واستماتتهم في الانحراف والعماية وتنمرهم في الاعتراض، وصلفهم في التمرد.
وله علیه السلام في هذه المعاناة خطوب وخطب وكلمات كثیرة تحكي بلاءه المبرم ومحنة الحق وإمام الهدى مع الرعاع الغثاء عبيد الدنيا وعشاق الباطل والأهواء.
أ) تمهيد وركائز:
عرضت لجملة من الأسس التي يقوم عليها بناء (الأخلاق) فكانت فصولاً على هذا الترتيب:
خالق الطبيعة واضع الشريعة.
النبي الأعظم المثل الأعلى للخلق الإلهي.
الإمام علي أنموذج الكمال.
الدنيا وشؤونها.
الإنسان وأطواره.
المعاد ركن الإيمان وعنصر الالتزام.
ب) موضوعاته:
جملة من الشؤون الأخلاقية عمدت إلى مادة المفردة فتتبعت مواطنها
ص: 30
ومشتقاتها وموارد إيرادها.
و من ثم تفاوت الحديث عنها وفيها سعة وضيقًا وإجمالاً وتفصيلاً.
مع الإذعان يما يحمله وجيز كلامه علیه السلام من متّسع المعارف، كما نوّه بذلك العلاّمة الشيخ محمد جواد مغنية رحمه الله في مفتتح شرحه للحِكم في نهج البلاغة حيث قال:
«جوامع الكلم والمعاني الكبار في الكلمات القصار»(1) .
ج) ومن خلال سیري في نهج البلاغة أدركت أني بعد لم أبرح طرفه الأول، ومداه طويل ومنحاه قرآني، فتأخذ بفكرك وقلبك الخطبةُ الطويلة مرات وكرات في معارف ولطائف كصنع وحي الله المعجز في آياته وبيناته في أصناف شتى من علم التوحيد والأخلاق وسواهما، وكم هو ثري ذلك النهج بوفرة خطبه وجال مضمونه، وبعد غايته فطفقت معترفًا بثقل الخطى، وطول المسرى، وقلة العدة والزاد مؤملاً العون والمدد لمعاودة السَّفَر في السِّفْر الممتع، منتظرًا عناية الباحثین وإرشاد الموجهین.
وبعد...
فهذه صحائف الأخلاق من نهج البلاغة كتبتها تذكرة لنفسي سائلاً المولى الكريم أن تقع موقع القبول والإفادة، فإن حظيت بذلك وإلا فما فاتني حسن المقصد وشرف الغاية راجيًا مخلصًا أن تدوّن في صحائف أعمالي فأحظى بالشفاعة الكبرى من مولاي إمام المتقین أمیر المؤمنین علیه السلام، محبوًّا بجواز منه على الصراط
ص: 31
وبراءة من النار فإنه قسيم الجنة والنار.
ثبّتنا الله بالقول الثابت على ولايته والبراءة من عدوه ووفقنا للتمسك بحبله وسلوك منهجه واتباع هديه.
والحمد للهِ والصلاة على سادات الأنام محمد وآله الهداة الكرام.
ص: 32
تمهيد وركائز
•خالق الطبيعة واضع الشريعة
•النبي الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم المثل الأعلى للخُلُق الإلهي
•الإمام علي علیه السلام أنموذج الكمال
•الكمالات الأخلاقية في شخصية الإمام علیه السلام
•الدنيا وشؤونها
•الإنسان وأطواره
•المعاد ركن الإيمان وعنصر الالتزام
ص: 33
ص: 34
خالق الطبيعة واضع الشريعة
وحيث أن منطلق البحث ومداره وقوامه ومحوره إنما هو (الله) سبحانه، فمنه المبدأ واليه المعاد، وهو المهيمن على الأمر كله فمن الضروري البدأة بالحديث عن جملة من الشؤون الإلهية والمعارف الربانية ليقوم البحث على أساسه ويثبت على أركانه.
ومادة بحثنا هنا وفي كافة هذا الكتاب مستقاة من مولى الموحدين، نبعة العلم الإلهي الإمام أمیر المؤمنین علي- عليه صلوات ربه وتسليمه- الذي فتح للأمة باب التوحيد وأوضح مناهجه وركز قواعده وأحكم مبانيه فيما بثه كثیرًا في (نهج البلاغة).
فلنرد مورده لنغترف من كوثره وننهل من سلسله العذب.
قال علیه السلام:
«فَلَسْنَا نَعْلَمُ كُنْهَ عَظَمَتِكَ إِلاَّ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ: حَيٌّ قَيُّومٌ، لاَ تَأْخُذُكَ سِنَةٌ، وَلاَ نَوْمٌ، لَمْ يَنْتَهِ إِلَيْكَ نَظَرٌ، وَلَمْ يُدْرِكْكَ بَصَرٌ، أَدْرَكْتَ الابْصَارَ، وَأَحْصَيْتَ الاْعْمَالَ، وَأَخَذْتَ بِالنَّواصِي وَالاْقْدَامِ، وَمَا الَّذِي نَرَى مِنْ خَلْقِكَ، وَنَعْجَبُ لَهُ مِنْ قُدْرَتِكَ، وَنَصِفُهُ مِنْ عَظِيمِ سُلْطَانِكَ، وَمَا تَغَيَّبَ عَنَّا مِنْهُ، وَقَصُرَتْ أَبْصَارُنَا عَنْهُ، وَانْتَهَتْ عُقُولُنَا دُونَهُ، وَحَالَتْ سَوَاتِرُ الْغُيُوبِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ أَعْظَمُ، فَمَنْ فَرَّغَ قَلْبَهُ، وَأَعْمَلَ فِكْرَهُ، لِيَعْلَمَ كَيْفَ أَقَمْتَ عَرْشَكَ، وَكَيْفَ ذَرَأْتَ خَلْقَكَ، وَكَيْفَ عَلَّقْتَ فِي الْهَوَاءِ
ص: 35
سمَاوَاتِكَ، وَكَيْفَ مَدَدْتَ عَلى مَوْرِ المَاءِ أَرْضَكَ، رَجَعَ طَرْفُهُ حَسِیراً، وَعَقْلُهُ مَبْهُوراً، وَسَمْعُهُ وَالَهِاً، وَفِكْرُهُ حَائِراً»(1) .
الله تعالى حقيقة الحقائق وسرها غيب لا يوصف، وكنز لا يعرف وإنما تدرك أطراف آثارها، ويحاط ببعض أخبارها.
وعظمة الله عنوان علمه؛ ونفوذ سلطانه، وعموم قدرته، وكمال جماله، وجمال كماله، وهيمنته- سبحانه- على الأمر كله.
فأي إدراك يبلغ ما لا حد لمداه، ولا ابتداء لأوله؟! أجل...
إن العقل- وهو هبة العظمة- يدرك بأن واهب الحياة هو الحي وأن مبقيها هو القيوم، وشأن القيوم أن لا تأخذه سنة ولا نوم، فالمخلوق يحتاج إلى علتین محدثة ومبقية.
وليس الله جسماً فيصل إليه نظر بل هو مجسم الأجسام وهو- تعالى وتقدس- غيرها فلو ماثلها لشاركها في نقائصها، ولاحتاج إلى ما افتقرت إليه، لا بل هو خالقها ومدركها، مدرك ما فيها ومابه إدراكها وهو اللطيف الخبیر.
ص: 36
ومن شأن خالقيته وقيوميته إحاطته بما خلق، فيحيط بأعمالهم وأسرارهم.
«أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»(1) .
«إِنَّ اللهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء»(2) .
«وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِینَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِیرَةً وَلَا كَبِیرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا»(3) .
وقدرته- جلّت عظمته- جامعة فهو القابض والباسط، وفي قبضته أزمة خلقه، وبيده تدبيرهم وهو المهيمن على الأمر كله.
ولئن أدرك موهوب العقل والمنعم عليه بالنظر وإمتداد البصر من بديع الخلق والصنع وعجيب القدرة وعظيم الهيمنة ونفوذ السلطان، فهو إنما يدرك من ذلك طرفًا ويخر شطرًا ولا يحيط بسرها خبراً، فما حيلته فيما أكتنفه الغيب، وأدوات المعرفة قاصرة برمتها عن إدراكه.
فلكل منها حد ومدى، وكافتها قاصرة متناهية فكيف تدرك ما لا يتناهى.
ودونك أيها العاقل الناظر مظهرًا من دلائل القدرة وإحكام الصنع، فأجل فيها النظر وأعمل الفكر، وسيان في ذلك ما ترى وما لا ترى وما تفاوت
ص: 37
في الشأن من كبیر وصغیر فالكل جليل وخطیر، بل منها أنت أنت بجسمك ولحمك ودمك وعقلك.
فما هو عرش جبّار السموات والأرض كيف أقامه مبدعه؟ وكيف ذرأ الخلق؟
«إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ»(1) .
«أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مَّن مَّنِيٍّ يُمْنَى* ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى* فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَیْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى»(2) .
«هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّی مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»(3) .
«فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ* يَخْرُجُ مِن بَیْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ»(4) .
وهذه السماء معلقة في الهواء والأرض مدت على موج الماء.
«اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاَوَاتِ بِغَیْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلىَ الْعَرْشِ وَسَخَّرَ
ص: 38
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ»(1) .
«أَفَلَاَ يَنظُرُونَ إلى الْاِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ* وَإِلَي السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ* وَإِلَی الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ* وَإِلَي الْاَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ»(2) .
«أَفَلَمْ يَنظُرُوا إلى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ* وَالْاَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ* تَبْصرَِةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ»(3) .
«خَلَقَ السَّمَاَوَاتِ بِغَیْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْاَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَميدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاَء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ* هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالُمِونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِینٍ»(4) .
فمن استفرغ وسعه وتجرد وتمحض جهده بقلبه وفكره ليقف على هاتيك العلل وتلكم الأسرار فما يجني من عنائه إلاّ تعطل قواه وفقده لآلات إدراكه يتملكه الإنبهار وتأسره الحیرة فيتقهقر عقله وتضعف حواسه، فقد حمّل قواه ما لا تقوى على حمله.
«الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ* ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَیْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ
ص: 39
خَاسِئاً وَهُوَ حَسِیرٌ»(1) .
وبعد...
فالاعتراف بالعجز أقوم وأهدى وأبعث على الخشوع والخضوع لكبرياء ذي العظمة والجبروت والملك والملكوت.
هذا وجليٌّ عن البيان سريان الروح القرآنية في جمل مولى الموحدين وكلماته، ولا غرو فإنها ممن هو مع القرآن والقرآن معه وهو قرآن الله الناطق وترجمانه الصادق، وهي ظاهرة لافتة في كلمه غنية عن البرهان.
«وَهُوَ الَّذِي أَسْكَنَ الدُّنْيَا خَلْقَهُ، وَبَعَثَ إلى الْجِنِّ وَالإْنْسِ رُسُلَهُ، لِيَكْشِفُوا لَهُمْ عَنْ غِطَائِهَا، وَلِيُحَذِّرُوهُمْ مِنْ ضَرَّائِهَا، وَلِيَضْربُوا لَهُمْ أَمْثَالَهَا، وَلِيُبَصِّرُوهُم عُيُوبَهَا، وَلِيَهْجُمُوا عَلَيْهِمْ بِمُعْتَبرَ مِنْ تَصَرَُفِ مَصَاحِّهَا وَأَسْقَامِهَا، وَحَلاَلِهَا وحَرَامِهَا، وَمَا أَعَدَّ سُبْحَانَهُ لِلْمُطِيعِینَ مِنْهُمْ وَالْعُصَاةِ مِنْ جَنَّة وَنَار، وَكَرَامَة وَهَوَان»(2) .
ويقرر الإمام علیه السلام بعد أن صدّر خطبته بجملة من صفات الله تعالى أنه- سبحانه- خلق الثقلین وجعل الدنيا لهم سكنًا، ولطف بهم فلم يتركهم هملاً بل بعث إلى القبيلین رسله العالمین بمقاصده الواقفین على هديه، ومهمتهم العظمى الإرشاد إلى الحق، والكشف عن حقيقة الدنيا التي هم فيها مقيمون وعنها راحلون، والتبصر الدقيق بما انطبعت عليه واصطبغت به شؤونها، فيها ضراء
ص: 40
فليحذروا منها، وفيها أمثال وعبر جرت على من حلّ بساحتها، وفيها معايب فليعلموها، وليتجنّبوها.
وقد مكّن الله رسله المصطفین من أدوات التبليغ وآلاته بمنطق من القول معبر يجسد للخلق عوارض الدنيا وتبدل أحوالها ومواطن الضعف والقوة فيها والضر والنفع بل وما شرع فيها ولها من أحكام فشمل كافة جنباتها وتعم الساكنين فيها.
ومن مهام هداة الخلق إلى الحق تقرير أمر المعاد ومجازاة العباد، وأن الله عدل لا يجور، فكل يقدم على ما قدّم، ولا يخرجون عن دائرة الإطاعة والعصيان، وقد أعدّ لهم خالقهم ومن له الحجة البالغة عليهم مجازاتهم على أعمالهم فلأهل الطاعة الجنة والكرامة، ولأهل المعصية النار والهوان.
ومقولة علي هي مقولة الله في قرآنه:
«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْاِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»(1) .
الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ»(2) .
«شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّی بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِینَ مَا
ص: 41
تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ»(1) .
«وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَ وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلىَ الْكَافِرِينَ»(2) .
«وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ»(3) .
«قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»(4) .
«قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِیرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذَّبِینَ»(5) .
«وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِیرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَیْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ»(6) .
ص: 42
«يَا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيه»(1) .
«أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ* مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(2) .
«فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى* يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنسان مَا سَعَى* وَبُرِّزَتِ الَجَحِيمُ لَمِن يَرَى* فَأَمَّا مَن طَغَى* وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* فَإِنَّ الَجَحِيمَ هِيَ المَأْوَى* وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى»(3) .
«يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ* فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِیرٌ وَشَهِيقٌ* خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لَّما يُرِيدُ* وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الَجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّماَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَیْرَ مَجْذُوذٍ»(4) .
وقد جمع الإمام في كلمه البليغ وحديثه الوجيز أصول العقائد حيث أصل التوحيد المنبثق عنه تفرد الله تعالى بالخالقية وقوامه العدل في البرية والقضية ثم عرّج على حكمة بعث المرسلين ومازوّدهم به باعثهم بقدرات أقدرهم عليها وملكات يتحلون بخصائصها ليهدوا الخلق إلى الحق؛ إلى صراط مستقيم ثم ختم قوله بعود العباد إلى ربهم يوم المعاد وتوفيتهم حسابهم ومجازاتهم على أعمالهم بالنعيم الدائم والجحيم المقيم.
ص: 43
«اعْلَمُوا، عِبَادَ اللهِ، أَنَّ عَلَيْكُمْ رَصَداً مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَعُيُوناً مِنْ جَوَارِحِكُمْ،وَحُفَّاظَ صِدْق يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ، وَعَدَدَ أَنْفَاسِكُمْ، لاَ تَسْتُرُكُمْ مِنْهُمْ ظُلْمَةُ لَيْل دَاج، وَلاَ يُكِنُّكُمْ مِنْهُمْ بَابٌ ذُورِتَاج»(1) .
«فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِعَيْنِهِ، وَنَوَاصِيكُمْ بِيَدِهِ، وَتَقَلُّبُكُمْ فِي قَبْضَتِهِ، إِن أَسْرَرْتُمْ عَلِمَهُ، وَإِن أَعْلَنْتُمْ كَتَبَهُ، قَدْ وَكَّلَ بِذلِكَ حَفَظَةً كِرَاماً، لاَ يُسْقِطُونَ حَقّاً، وَلاَ يُثْبِتُونَ بَاطِلاً»(2) .
الله- عمّت قدرته- بيده أزمة الأمور، ومحيط بكل شيء، ولا يغيب عنه دقيق، ولا تخفى عليه خافية، وكفى به عالمًا وحاسباً.
ولكنه- جلّت حكمته- أقام على من هم في قبضته ونواصيهم بيده وتصرفهم برعايته شهودًا ورقباء وكتابًا وحسّاباً من ذواتهم أنفسهم ومن غيرهم والكل يرصد ويدّون ويسجل ما يقف عليه لا فرق لديه بین سر وعلن فلا أبواب ولا حجّاب، ولا غلط ولا شطط ولا إهمال ولا إغفال ولا محاباة ولا إجحاف بل هو الحق والصدق وعین الواقع.
ويتمثل في إقامة أولئكم الرصد- وهم ذوو عدد- أمران جليلان:
القدرة الجامعة، والحكمة البالغة.
ص: 44
فسبحان الخالق القادر الذي أبدع ما خلق وأودع فيه ما أراد فخلق من عالم آخر موكلًا بخلق آخر يحصى عليه ما يقول وما يفعل بل وما أسر وأخفى لا يصده عن ذلك حاجز ولا يقف دونه مانع.
كما أقام على الإنسان رصدًا من نفسه فإذا بكل شؤونه تشهد عليه بحق وتنطق بصدق، ولئن كانت تلكم الجوارح مختارة فيما تفعل وتترك فهي الآن مسلوبة الاختيار تفصح إضطرارًا وتعلن جهارًا إجابة لمن خلقها وأقدرها على رصد الأعمال وحفظها والإدلاء بها.
وإنها لحكمة بالغة كما هي حجة دامغة حيث يعمق في فكر الإنسان ووجدانه أن الله بارئه والمحيط بشأنه كله قد وظّف ملائكته بل أقام الإنسان على نفسه عيناً ناظرة وأذاناً سامعة وقوة محيطة نافذة فذلك أدعى لكبح الجماح وحفظ الانضباط ودوام الاستقامة.
كما أنها- ويا للخجل- تظهر مدى حمق الإنسان، وعنف تمرده، وشدة انفلاته، وبالغ تنكّره للمعروف، وجحده للنعم، وقبيح إساءته لجميل الإحسان.
قال الله العظيم:
«يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ»(1) .
«يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَی اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ»(2) .
ص: 45
﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَی وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ»(1) .
«وَنَضَعُ المَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ»(2) .
«وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ* كِرَامًا كَاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ»(3) .
«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ* إِذْ يَتَلَقَّى المُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِینِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ* مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ»(4) .
«وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللهِ إلى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ* حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِماَ كَانُوا يَعْمَلُونَ* وَقَالُوا لُجِلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللهَ لَا يَعْلَمُ كَثِیرًا مَّمَّا تَعْمَلُونَ»(5) .
«يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(6) .
ص: 46
«الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَاَ كَانُوا يَكْسِبُونَ»(1) .
«ثُمَّ نَفَخَ فِيها مِنْ رُوحِهِ فَمَثُلَتْ إِنْساناً ذَا أَذْهَان يُجيلُهَا، وَفِكَر يَتَصَرَّفُ بِهَا»(2) .
وهذه الجوهرة الفريدة قوام الإنسان وكماله، وبكمالها يسمو على الملائكة كما أنه بفقدها ينحط عن البهائم العجم.
«إن الله ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركب في بني آدم كلتيهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خیر من الملائكة، ومن غلب شهوته عقله فهو شر من البهائم»(3) .
والعقل دليل العقائد الحقة، وتمييز الحق من الباطل، والخیر من الشر، ولكنه العقل الزاكي والصافي غیر المشوب بالأدران والكدر.
وقد أفاض الإمام علیه السلام في حديث العقل وعظيم شأنه وريادته وإبتلائه وآفاته الطامسة لنوره والمميتة لروحه.
«وَاعْلَمُوا أَنَّ الاْمَلَ يُسْهِي الْعَقْلَ»(4) .
ص: 47
«قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ، وَأَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَهُ»(1) .
«قَدْ أَحْيَا عَقْلَهُ، وَأَمَاتَ نَفْسَهُ»(2) .
«نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْل»(3) .
«شَهِدَ على ذلكَ العَقْلُ إِذَا خَرَجَ مِنْ أَسْرِ الهَوَى، وسَلِمَ مِنْ عَلائِقِ الدُّنْيا»(4) .
«وكَمْ مِنْ عَقْلٍ أَسِيرٍ تَحْتَ هَوًى أَمِيْرٍ»(5) .
وقرر بليغ دوره هاديًا، والانقياد إلى هديه شرفًا ومائزاً ممن حرم منه.
«فإِنَّ العَاقِلَ يَتَّعِظُ بالآدَابِ، والبَهائِمُ لا تَتَّعِظُ إِلّ بِالضَّرْبِ»(6) .
وإنه الغنى كله.
«إِنَّ أَغْنَى الغِنَى العَقْلُ، وأَكْبَرَ الفَقْرِ الحُمْقُ»(7) .
وإنه ميزان الحق وعلى ضوئه تستقبل الأمور.
«اعْقِلُوا الخَبَرَ إذا سَمِعْتُمُوهُ عَقْلَ رِعَايَةٍ لا عَقْلَ رِوَايَةٍ، فإِنَّ رُوَاةَ العِلْمِ كَثِیرٌ،
ص: 48
ورُعَاتَهُ قَلِيْلٌ»(1) .
بل جعله لبّ الحياة وروحها، وقدوة الأفكار.
«الرُّوحُ حَياةُ البَدَنِ، والعَقْلُ حَياةُ الرُّوحِ»(2) .
«العُقُولُ أَئِمَّةُ الأَفْكارِ»(3) .
وكم له- سلام الله عليه- في تحليل أبعاده، وعظيم خطره، وجميل أثره من قول شارح وبيان كاشف.
«جَعَلَ لَكُمْ أسْماَعاً لِتَعِيَ مَا عَنَاهَا، وَأَبْصَاراً لِتَجْلُوَ عَنْ عَشَاهَا، وَأَشْلاَءً جَامِعَةً لأَعْضَائِهَا، مُلاَئِمَةً لأَحْنَائِهَا في تَرْكِيبِ صُوَرِهَا، وَمُدَدِ عُمُرِهَا، بِأَبْدَان قَائِمَة بِأَرْفَاقِهَا، وَقُلُوب رائِدَة لِاَرْزَاقِهَا، فِي مُجَلِّاَتِ نِعَمِهِ، وَمُوجِبَاتِ مِنَنِهِ، وَحَوَاجِزِ عَافِيَتِهِ. وَقَدَّرَ لَكُمْ أَعْمَاراً سَتَرَهَا عَنْكُمْ»(4) . تناول الإمام علیه السلام في هذا المقطع حديثاً موجزاً جامعاً عن خلق الإنسان وطرفاً من أعضائه وقواه مذكراً بوظائفها التي خلقت وأودعت من أجله في المنعم عليه بها في فترة امتحان وأجواء ابتلاء تزخر بالنعم وتنبض بالقوة والقدرة وتكتنف بالغيب والمجهول.
ص: 49
أ- السمع، ب- البر، ج- الأشلاء الجامعة للأعضاء، وهو هنا الجسد، د- البدن، ه- القلب.
فهذه من أجزاء تركيبة الإنسان وتشكله في جوارحه وقواه.
والسمع والبر طريقان للعلم، وقد أريد لها أن يدرك بها: وعي ما عنى، وجلاء ما عشى.
والهيكل البديع العجيب قد أحكم تركيبه ونفخت فيه القدرة ليقوم بأعماله جالباً لمنافعه ودافعاً لمضاره. ولئن أودعت القوة في حاستي السمع والبصر وفي بقية الحواس كافة والبدن فلا غنى لها عن رائد يسوسها ويقوم بتوجيهها وذلك هو: القلب. فإن أدى حق الريادة ووفّی بشؤونها فقد سلك بها غاياتها ووجهها مقاصدها ونعمت بمجلات النعم وسوابغ العطاء وصّدها عن التنكر وحجز عنها المكاره. هذا وهي تفعل فعلها وتقطع مداها لا تدري متى يقى عليها فتموت فلا سمع ولا بصر ولا قلب ولا نبض ولا بدن ولا قوام، فقد لفّها الغيب وستر عنها الأجل.
وأفاض الإمام علیه السلام بعد هذا في التذكیر والاعتبار والتأمل في تاريخ الأمم السالفة والأقربین الأدنین من الأهل في تقلبات العمر وتبدل القوى وتفاوت الأحوال والأوضاع.
وبعد...
فقد قال الله في محكم الكتاب:
ص: 50
«وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً»(1) .
وقال- جلّت صنعته-:
«واللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»(2) .
وقال علیه السلام: «ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً، وَلِساناً لاَفِظاً، وَبَصَرَاً لاَحِظاً، لِيَفْهَمَ مُعْتَبرِاً، وَيُقَصَّرَ مُزْدَجِراً»(3) .
«فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَان، وَالْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَان، لاَ يَعْرِفُ بَابَ الْهُدَى فَيَتَّبِعَهُ، وَلاَ بَابَ الْعَمَى فيَصُدَّ عَنْهُ، فَذلِكَ مَيِّتُ الأَحْيَاءَ»(4) .
«وَمَا كُلُّ ذِي قَلْبٍ بَلَبِيب، وَلاَ كُلُّ ذِي سَمْعٍ بِسَمِيع، وَلاَ كُلُّ ذِي نَاظِرٍ بِبَصِیر»(5) .
«وَالنّاظِرُ بِالْقَلْبِ، الْعَامِلُ بِالْبَصَرِ، يَكُونُ مُبْتَدَأُ عَمَلِهِ أَنْ يَعْلَمَ: أَعَمَلُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَهُ؟! فَإِنْ كَانَ لَهُ مَضَى فِيهِ، وَإِنْ كَانَ عَليْهِ وَقَفَ عِنْدَهُ»(6) .
ص: 51
وفي خطبة176تقرير ذلك بنحو آخر فيه قيام الموازنة بن استقامة القلب واستقامة اللسان.
«وإِنَّما الأَجْرُ في القَوْلِ بالْلِسانِ والعَمَلِ بِالأَيْدِي والأَقْدَامِ»(1) .
«أَوْضَعُ العِلْمِ ما وُقِفَ على الْلِسانِ، وأَرْفَعُهُ ما ظَهَرَ في الجَوَارِحِ والأَرْكانِ»(2) .
والأركان هي أعضاء البدن الرئيسة.
وبعد...
فهذا طرف من ركيزة التوحيد وإنبثاق كل خیر وإبداع عن تجلي القدرةوالحكمة في الخلق والتكوين والتشريع والتقنین، وإقامة الحجة البالغة بالهداية الإلهية، والألطاف الربانية الجلية والخفية والظاهرة والباطنة.
والله تعالى هو الحق تبارك ربنا وتعالى.
ص: 52
وقد اقتضت الحكمة الإلهية واللطف الرباني هداية الخلق وسوقهم إلى الحق بإقامة من اصطفاهم الله بعينه واصطنعهم لنفسه مربِّین لعباده ومرشدين لبريته.
وكان نبي الإسلام خیرة الخیرة وصفوة الصفوة المنتجبة نبراس الحق ولسان الصدق وميزان العدل والصراط المستقيم كلمة الله الحسنى ومظهر صفاته العليا والكمال المجسد، ونموذج التربية الإلهية.
وقد ترجم الله حبيبه في كتبه المنزلة على رسله، وبشرهم برسالته ونعت لهم خلاله وخصاله، كما أفاض في حديثه عنه في قرآنه العظيم وذكره الحكيم معجزته الكبرى وسفر الحياة والخلود مظهر إعجازه وقدرته في التشريع والتدوين كما محمد مظهر إعجازه وقدرته في التكوين.
وأعظم بجلال محمد أن يوليه بارئه عنايته الفذة فينشر مدحته، ويسبغ عليه من صفاته، ويقرن محبته بطاعته، ويجعله أولى بالمؤمنین من أنفسهم.
فهذه آيات الله في قرآنه وحديثه عن حبيبه ومصطفاه- صلوات الله وتسليماته ورحماته وبركاته عليه وآله- ممثلة جميل خلاله وشريف خصاله وطيب سريرته وكمال سیرته.
الآية الأولى:
ص: 53
«وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ»(1) .
الآية الثانية:
«فَبِمَا رَحْمَةٍ مَّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلىَ اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِینَ»(2) .
الآية الثالثة:
«لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِینَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ»(3) .
الآيات الرابعة والخامسة والسادسة:
«وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَیْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ
ص: 54
آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ* قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماَوَاتِ وَالأَرْضِ لاإِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ»(1) .
الآية السابعة:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشَّرًا وَنَذِيرًا* وَدَاعِيًا إِلَی اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِیرًا»(2) .
الآية الثامنة:
«النَّبِيُّ أَوْلَی بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ»(3) .
الآية التاسعة:
«وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَىَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلًا مُّبِينًا»(4) .
ص: 55
الآية العاشرة:
«قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»(1) .
الآية الحادية عشرة:
«مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَن تَوَلَّی فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا»(2) .
الآية الثانية عشرة:
«مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى* وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى* وَهُوَ بِالْاُفُقِ الْاَعْلَى* ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّی* فَكَانَ قَابَ قَوْسَیْنِ أَوْ أَدْنَى* فَأَوْحَى إلى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى* مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى»(3) .
الآية الثالثة عشرة:
ص: 56
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لمِا يُحْيِيكُمْ»(1) .
الآية الرابعة عشرة:
«وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا»(2) .
الآية الخامسة عشرة:
«وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ»(3) .
الآية السادسة عشرة:
«هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْاُمَّيِّنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ»(4) .
وبعد فهذه طائفة من قول الله في رسوله بثها في سور قرآنه وأبان فيها منزلته عنده ورفيع مقامه لديه وجليل خصائصه وعظيم دوره وشريف مقاصده.
فهو صلی الله علیه و آله و سلم كما اصطنعه بارئه وباعثه:
رحمة للعالمین، لیّن الجانب، غیر فظ، ولا غليظ القلب، رؤوف رحيم، هادإلى الحق القويم والراط المستقيم، بشیر ونذير وسراج منیر، أولى بالمؤمنین من أنفسهم أمره أمر ربه ونهيه نهيه، وإتباعه دليل محبة الله، مثال العصمة والكمال،
ص: 57
دعوته هي الحياة، على خلق عظيم، أخرج الناس من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم وكفى له شرف مقام وجماع أمر أنه «أديب الله» ومن أدّبه ربُّه فأحسن تأديبه(1) .
و كما عرّف الله- جلّت كلمته- خیر خلقه وسيد رسله وإمام أنبيائه فقد عرّف من عرفه من عباد الله سيّد أوليائه وقدوة أصفيائه، الخبیر بسره، وشريكه في أمره لحياته، واللصيق به في كافة أدواره، ومن هو قلبه وروحه ونفسه.
هذا وقد قال النبي عن الولي: «ولا يعرفني إلا الله وأنت»(2) .
فماذا قال علي عن محمد؟
لقد علق الإمام بالنبي وتعلّق به واتحد به قلبًا وقالبًا فهو فكره وعلى لسانه يلذ له الحديث فيه وعنه لهجًا بذكر تاريخه سوابقه ولواحقه وأمجاده ومآثره وإنجازه وإعجازه مستوليًا على مشاعره أمره، مهيمنًا عليه كله.
فلنحيا مع النبي في صورته وحقيقته كما يرسمها ويصورها مجسدًا الوصي من خلال ما أودعه من صادق القول ودقيق الوصف في (نهج البلاغة)
أ) العقيدة والدين:
ص: 58
«وَأهْلُ الاْرْضِ يَوْمَئِذ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، وَأَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ، وَطَرَائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ، بَیْنَ مُشَبِّه للهِ بِخَلْقِهِ، أَوْ مُلْحِد في اسْمِهِ، أَوْ مُشِیر إلى غَیْرهِ»(1) .
«وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ العَرَبِ عَلَى شَرَّ دِين، وَفِي شَرَّ دَار، مُنِيخُونَ بَیْنَ حِجارَة خُشْن، وَحَيَّات صُمًّ»(2) .
ب) الأمية المميتة:
«إنَّ اللهَ سُبحانَه بَعَثَ مُحَمَّداً صلی الله علیه و آله و سلم، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً، وَلاَ يَدَّعِي نُبُوَّةً»(3) .
ج) الوضع الاجتماعي المتردي:
الفتن المدمرة:
«وَالنَّاسُ في فِتَن انْجَذَمَ فِيها حَبْلُ الدِّينِ، وَتَزَعْزَعَتْ سَوَارِي اليَقِینِ، وَاخْتَلَفَ النَّجْرُ، وَتَشَتَّتَ الاْمْرُ، وَضَاقَ المَخْرَجُ، وَعَمِيَ المَصْدَرُ، فَالهُدَى خَامِلٌ، واَلعَمَى شَامِلٌ. عُصِيِ الرَّحْمنُ، وَنُصِرَِ الشَّيْطَانُ، وَخُذِلَ الإيمان، فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ، وَتَنكَّرَتْ مَعَالُمِهُ، وَدَرَسَتْ سُبُلُهُ، وَعَفَتْ شُرُكُهُ. أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ، وَوَرَدُوا مَنَاهِلَهُ، بِهِمْ سَارَتْ أَعْلامُهُ، وَقَامَ لِوَاؤُهُ، في فِتَن دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا، وَوَطِئَتْهُمْ بأَظْلاَفِهَا، وَقَامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا، فَهُمْ فِيهَا تَائِهُونَ حَائِرونَ جَاهِلُونَ مَفْتُونُونَ، في
ص: 59
خَیْرِ دَار، وَشَرَّ جِیرَان»(1) .
«أَرْسَلَهُ عَلَى حِینِ فَتْرَة مِنَ الرُّسُلِ، وَطُولِ هَجْعَة مِنَ الاُمَمِ، وَاعْتِزَام مِنَ الْفِتَنِ، وَانتشار مِنَ الاْمُورِ، وَتَلَظٍّ مِنَ الُحُرُوبِ، والدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ، ظَاهِرَةُ الْغُرُورِ، عَلَى حِینِ اصْفِرَار مِنْ وَرَقِهَا، وَإِيَاس مِنْ ثَمَرِهَا، وَاغْوِرَار مِنْ مَائِهَا، قَدْ دَرَسَتْ أعْلامُ الْهُدَى، وَظَهَرَتْ أَعْلاَمُ الرِّدَى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لِاَهْلِهَا، عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهَا، ثَمَرُهَا الْفِتْنَةُ، وَطَعَامُهَا الْجِيفَةُ، وَشِعَارُهَا الْخَوْفُ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ، فَاعْتَبِرِوا عِبَادَ اللهِ»(2) .
«بَعَثَهُ وَالنَّاسُ ضُلاَّلٌ فِي حَیْرَة، وَحَاطِبُونَ فِي فِتْنَة، قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الاْهْوَاءُ، وَاسْتَزَلَّتْهُمُ الْكِبْرِيَاءُ، وَاسْتَخَفَّتْهُمُ الَجَاهِلِيِّةُ الَجَهْلاَءُ؛ حَيَارَى فِي زَلْزَال مَنَ الاْمْرِ، وَبَلاَء مِنَ الَجَهْلِ»(3) .
«لاَ يَأْوُونَ إلى جَنَاحِ دَعْوَة يَعْتَصِمُونَ بِهَا، وَلاَ إلى ظِلِّ أُلْفَة يَعْتَمِدُونَ عَلىَ عِزِّهَا، فَالاْحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ، وَالاْيْدِي مُخْتَلِفَةٌ، وَالْكَثْرَةُمُتَفَرِّقَةٌ، فِي بَلاَءِ أَزْل، وأَطْبَاقِ جَهْل! مِنْ بَنَات مَوْءُودَة، وَأَصْنَام مَعْبُودَة، وَأَرْحَام مَقْطُوعَة، وَغَارَات مَشْنُونَة»(4) .
ص: 60
أ) التوجيه إلى الله وحده:
«فَبَعَثَ اللهُ مُحَمَّداً بِالْحَقِّ لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الْاُوْثَانِ إلى عِبَادَتِهِ، وَمِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ إلى طَاعَتِهِ»(1) .
ب) الشهادة والبشارة والنذارة:
«حَتَّى بَعَثَ اللهُ مُحَمَّداً صلی الله علیه و آله و سلم شَهِيداً، وَبَشِيراً، وَنَذِيراً»(2) .
ج) الهداية المستوعبة:
«وَبَعَثَ إلى الْجِنِّ وَالِاْنْسِ رُسُلَهُ، لِيَكْشِفُوا لَهُمْ عَنْ غِطَائِهَا، وَلِيُحَذِّرُوهُمْ مِنْ ضَرَّائِهَا، وَلِيَضْرِبُوا لَهُمْ أَمْثَالَهَا، وَلِيُبَصِّرُوهُم عُيُوبَهَا، وَلِيَهْجُمُوا عَلَيْهِمْ بِمُعْتَرَ مِنْ تَصَرُّفِ مَصَاحِّهَا وَأَسْقَامِهَا، وَحَلاَلِهَا وحَرَامِهَا، وَمَا أَعَدَّ سُبْحَانَهُ لِلْمُطِيعِینَ مِنْهُمْ وَالْعُصَاةِ مِنْ جَنَّة وَنَار، وَكَرَامَة وَهَوَان»(3) .
أ) «إنَّ اللهَ تَعالَ بَعَثَ رَسُولاً هَادِياً بِكِتَابٍ نَاطِقٍ وَأَمْرٍ قَائمٍ»(4) .
ب) «ابْتَعَثَهُ بِالنُّورِ المُضِىِءِ، وَالْبُرهَانِ الَجَليِّ، وَالْمِنْهَاجِ الْبَادِي، وَالْكِتَابِ
ص: 61
الْهَادِي أُسْرَتُهُ خَیْرُ أُسْرَة، وَشَجَرَتُهُ خَیْرُ شَجَرَة، أَغصَانُهَا مُعْتَدِلَةٌ، وَثِمَارُهَا مُتَهَدِّلَةٌ مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، وَهِجْرَتُهُ بِطَيْبَةَ، عَلا بِهَا ذِكْرُهُ، وَامْتَدَّ مِنْهَا صَوْتُهُ، أَرْسَلَهُ بِحُجَّة كَافِيَة، وَمَوْعِظَة شَافِية، وَدَعْوَة مُتَلافِيَة»(1) .
ج) «أرْسَلَهُ بِالدِّينِ المشْهُورِ، وَالعَلَمِ المأْثُورِ، وَالكِتَابِ المسْطُورِ، وَالنُّورِ السَّاطِعِ، وَالضِّيَاءِ اللاَّمِعِ، وَالأمْرِ الصَّادِعِ، إزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ، وَاحْتِجَاجاً بِالبَيِّنَاتِ، وَتَحْذِيراً بِالآيَاتِ، وَتَخْويفاً بِالمَثُلاَتِ»(2) .
أ) الاستماتة في الإبلاغ والدعوة:
«فَبَالَغَ صلی الله علیه و آله و سلم فِي النَّصِيحَةِ، وَمَضَی عَلَی الطَّرِيقَةِ، وَدَعَا إلى الِحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ»(3) .
ب) تحمله ضروب الأذى:
«خَاضَ إلى رِضْوَانِ اللهِ كُلَّ غَمْرَة، وَتَجَرَّعَ فِيهِ كُلَّ غُصَّة، وَقَدْ تَلَوَّنَ لَه الاَدْنَوْنَ، وَتَأَلَّبَ عَلَيْهِ الاْقْصَوْنَ، وَخَلَعَتْ إِلَيْهِ الْعَرَبُ أَعِنَّتَهَا، وَضَرَبَتْ إلى مُحَارَبَتِهِ بُطُونَ رَوَاحِلِهَا، حَتَّى أَنْزَلَتْ بِسَاحَتِهِ عَدَاوَتَهَا، مِنْ أبْعَدِ الدَّارِ، وَأَسْحَقِ المَزَارِ»(4) .
ص: 62
أ) الهداية والإنقاذ من الضلالة والجهالة:
«فَهَدَاهُمْ بهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ، وَأَنْقَذَهُمْ بمَكانِهِ مِنَ الجَهَالَةِ»(1) .
ب) السَّوق إلى الكمال:
«فَسَاقَ النَّاسَ حَتَّى بَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ، وَبَلَّغَهُمْ مَنْجَاتَهُمْ، فَاسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ، وَاطْمَأَنَّتْ صَفَاتُهُمْ»(2) .
ج) إقامة راية الحق:
«وَخَلَّفَ فِينَا رايَةَ الْحَقِّ، مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا زَهَقَ، وَمَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ»(3) .
د) عموم البركة وسبوغ النعمة:
«فَانْظُرُوا إلى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ حِینَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولاً، فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ، وَجَمَعَ عَلىَ دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ، كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا، وَأَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا، وَالْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا، فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِینَ، وَفِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِینَ، قَدْ تَرَبَّعَتِ الاْمُورُ بِهِمْ، فِي ظِلِّ سُلْطَان قَاهِر، وَآوَتْهُمُ الْحَالُ إلى كَنَفِ عِزّ غَالِب، وَتَعَطَّفَتِ الاْمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْك ثَابِت، فَهُمْ حُكَّامٌ عَلىَ الْعَالَمِینَ، وَمُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الاْرَضِینَ، يَمْلِكُونَ
ص: 63
الاْمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ، وَيُمْضُونَ الاْحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ! لاَ تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ، وَلاَ تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ!»(1) .
ومن مواطن النجاح الباهر:
إماتة الأحقاد:
«دَفَنَ اللهُ بِهِ الضَّغَائِن، وَأَطْفَأَ بِهِ الثَّوَائِرَ»(2) .
جمع القلوب وتفريق الباطل المجتمع:
«وأَلَّفَ بِهِ إِخْوَاناً، وَفَرَّقَ بِهِ أَقْرَاناً»(3) .
الإعزاز والإذلال:
«أَعَزَّ بِهِ الذِّلَّةَ، وَأَذَلَّ بِهِ الْعِزَّةَ»(4) .
وبعد...
فهذه المقتطفات غيض من فيض لهج بها ربيب محمد وصفيه انتقيتُ منها طرفاً مما اتصل بالدعوة من مقومات ودعائم ومناخ ونجاح ولم أعرض نماذج أخرى حول بقية الشؤون النبوية مما أوردت شطرًا وأوفر من هذا في: (العقائد من نهج البلاغة) ص162- 234، ويبقى (نهج البلاغة) زاخرًا موّاجًا يمدّنا بخیر تعريف وأروع توصيف.
ص: 64
والحكمة المقتضية لبعث النبي مضطردة في تولي الإمام الوصي لامتداد الإمامة للنبوة اتحاداً في المصدر والجعل وإجتماعاً في الهدف والمقصد.
وكان علي- بعد نبي الله- نسخة الإسلام الفريدة التي أبدعها قلم التكوين كما أبدع عدلها الآخر قلم التشريع والتدوين فكلاهما حق وكلاهما قرآن.
«عَلِيٌّ معَ الحقِّ والحقُّ معَ علي»، «عليٌّ معَ القرآنِ والقرآنُ معَ علي»، كما قال الصادق الأمین على وحي الله عن علي ولي الله.
وهل يرقى لمثل هذا تعريف أو توصيف؟!
ومن عسى أن يكون عارفاً ومعرّفاً غير خالق البشر وسيد البشر؟!
«لا يَعْرِفُكَ يا عليُّ إلّا اللهُ وأنا»، هذا وقد تبوّأ مقاماً منفرداً قال عنه: «وأنا مِنْ رسولِ اللهِ كالضَّوءِ مِنَ الضَّوءِ والذِّرَاعِ مِنَ العَضُدِ»(1) .
وقد رصد التاريخ عليًّا في كافة أدواره منذ إشراقة نوره في بيت الله الحرام وكعبته المقدسة وأيام صباه وفتوته وكهولته وشيخوخته وما حفلت به من متكاثر الأحداث ومتفاقم الخطوب وشؤون الجهاد الطويل والحروب الروس والسلم وإدارة الحكم وتوجيه الأمة وهدايتها، وأخلاقه العمليّة مع الكافة وليّه وعدوّه، وفترتي الشدة والرخاء متتبعاً يومياته وجزئيات ممارساته حتى لحق بربه فكانت السیرة الواحدة والحياة المنسجمة التي لم يجد فيها عوجاً ولا أمتاً.
ص: 65
كما تحدث علي عن نفسه في وافر من شؤونه حتى طعامه ولباسه فجسّد في أقواله أخلاقه كما جسّدها في أفعاله.
فلنأخذ من علي عن علي صورة كاملة معبرة أودعها في (نهج البلاغة) وأبدع رسمها حتى أبرزته مجسداً بأبراد الجمال وقالب الكمال في فكره ونبض قلبه ونقاء نفسه وشمائله وما أسبغ عليه مبدعه من ألطاف وإتحاف تحدث بها عن نعمة ربه عليه وحظوته لديه ومنزلته عنده وقربه منه.
«وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَالمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ: وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إلى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ. وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ، وَلاَ خَطْلَةً فِي فِعْلٍ... وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَماً مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالْقتداء بِهِ. وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَة بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ، وَلاَ يَرَاهُ غَیْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْاسْلاَمِ غَیْرَ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم وخَدِيِجَة وَأَنَا ثَالِثُهُمَاَ، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ.
وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِینَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْه صلی الله علیه و آله و سلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، وَلكِنَّكَ أوَ إِنَّكَ لَعَلىَ خَیْرٍ»(1) .
وقال عن الشجرة وما ظهر من إعجاز رسول الله فيها:
ص: 66
«فقلتُ أنا: لا إِلَهَ إِلّا اللهُ، إِنِّ أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يا رَسُولَ اللهِ، وأَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ ما فَعَلَتْ بأَمْرِ اللهِ تَعالى تَصْدِيقاً لِنُبُوَّتِكَ، وإِجْلالاً لِكَلِمَتِكَ»(1) .
«فَقُمْتُ بِالْاَمْرِ حِینَ فَشِلُوا، وَتَطَلَّعْتُ حِینَ تَقَبَّعُوا(2) ، ونَطَقْتُ حِینَ تَعْتَعُوا(3) وَمَضَيْتُ بِنُورِ اللهِ حِینَ وَقَفُوا، وَكُنْتُ أَخْفَضَهُمْ صَوْتاً، وَأَعْلَاهُمْ فَوْتاً، فَطِرْتُ بِعِنَانِهَا(4) ، وَاسْتَبْدَدْتُ بِرِهَانَهِا(5) ، كَالَجبَلِ لَا تُحَرِّكُهُ الْقَوَاصِفُ، وَلَا تُزِيلُهُ الْعَوَاصِفُ. لَمْ يَكُنْ لِأحَدٍ فيَّ مَهْمَزٌ، وَلاَ لِقَائِلٍ فيَّ مَغْمَزٌ، الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ لَهُ، وَالْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مَنْهُ، رَضِينَا عَنِ اللهِ قَضَاءَهُ، وَسَلَّمْنَا للهِ أَمْرَهُ. أَتَرَاني أَكْذِبُ عَلىَ رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله و سلم(6) ؟ وَاللهِ لَاَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ فَلاَ أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ»(7) .
أ) «وَإِنِّ لَعَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّي، وَمِنْهَاجٍ مِنْ نَبِيِّي، وَإِنِّ لَعَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ أَلْقُطُهُ لَقْطاً»(8) .
ص: 67
«فَوَالَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِنِّي لَعَلَی جَادَّةِ الْحَقِّ، وَإِنَّهُمْ لَعَلَی مَزَلَّةِ الْبَاطِلِ»(1) .
«وَاللهِ مَا أَسْمَعَكُمُ الرَّسُولُ شَيْئاً إِلاَّ وَهَا أَنَا ذَا الْيَوْمَ مُسْمِعُكُمُوهُ»(2) .
ب) «(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ)؟ و(أَنَّى تُؤْفَكُونَ)(3) ! وَالَاْعْلَامُ قَائِمَةٌ، وَالَأْيَاتُ وَاضِحَةٌ، وَالمَنَارُ مَنْصُوبَةٌ، فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ؟ وَكَيْفَ تَعْمَهُونَ(4) وَبَيْنَكُمْ عِتَرْةُ نَبِيِّكُمْ؟ وَهُمْ أَزِمَّةُ الْحَقِّ، وَأَعَلَامُ الدَيْنِ! وَأَلْسِنَةُ الصِّدْقِ! فأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ القُرْآنِ، وَرِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِيمِ(5) الْعِطَاشِ»(6) .
أ) «تَاللهِ لَقَدْ عُلَّمْتُ تَبْلِيغَ الرِّسَالاَتِ، وَإِتْمَامَ الْعِدَاتِ، وَتَمَامَ الْكَلِمَاتَ. وَعِنْدَنَا- أَهْلَ الْبَيْتِ- أَبْوَابُ الْحُكْمِ وَضِيَاءُ الْاَمْرِ»(7) .
ب) وقال علیه السلام قبل موته:
«غَداً تَرَوْنَ أَيَّامِي، وَيُكْشَفُ لَكُمْ عَنْ سَرَائِرِي، وَتَعْرِفُونَنِي بَعْدَ خُلُوِّ مَكَانِي وَقِيَامِ غَیْرِي مَقَامِي»(8) .
ص: 68
ج) من جملة كلامه لما قبض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم:
«بَلِ انْدَمَجْتُ(1) عَلىَ مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِهِ لَاضْطَرَبْتُمُ اضْطِرَابَ الَاْرْشِيَةِ(2) فِي الطَّوِيِّ(3) البَعِيدَةِ!»(4) .
«وَلَقَدْ عَلِمَ المُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله و سلم أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى اللهِ وَلاَ عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ. وَلَقَدْ وَاسَيْتُهُ بِنَفْسِيِ فِي المَوَاطِنِ الَّتي تَنْكُصُ فِيهَا الْاَبْطَالُ وَتَتَأَخَّرُ الْاَقْدَامُ، نَجْدَةً أَكْرَمَنِي اللهُ بِهَا»(5) .
وللإمام علیه السلام مقال واسع في أهمية الحكم وعظيم خطره وجليل أمره في ذاته وهوانه عنده بأساليب مثیرة ومعبرة تصديراً وتحليلاً وتمثيلاً.
أ) «أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْلاَ حُضُورُ الَحاضِر، وَقِيَامُ الُحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى العُلَمَاَءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ(6) ظَالٍمٍ، وَلا سَغَبِ(7) مَظْلُومٍ، لَاَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلهِا، وَلَاَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ
ص: 69
هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ(1) !»(2) .
ب) «قال عبدالله بن عباس: دخلت على أَمِيرِالمؤمِنِین علیه السلام بذي قار وهو يخصِف نعله، فقال لي: ما قيمة هذه النعل؟ فقلت: لا قيمةَ لها! قال: والله لَهِيَ أَحَبُّ إِليَّ من إِمرَتِكم، إِلاّ أَن أُقيم حقًّا، أَوأَدفع باطلاً»(3) .
أ) «وقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَاليِ عَلَى الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالمَغَانِمِ وَالأَحْكَامِ وَإِمَامَةِ المُسْلِمِينَ الْبَخِيلُ، فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ، وَلاَ الَجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ، وَلاَ الَجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ، وَلاَ الَحَائِفُ لِلدُّوَلِ فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ، وَلاَ المُرْتَشِيِ فِي الْحُكْمِ فَيَذْهَبَ بِالُحُقُوقِ وَيَقِفَ بِهَا دُونَ المَقَاطِعِ، وَلاَ المَعطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الْاُمَّةَ»(4) .
ب) «لَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً، وَلَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً. إِنَّي أُرِيدُكُمْ للهِ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لِاَنْفُسِكُمْ. أَيُّهَا النَّاسُ، أَعِينُوني عَلى أَنْفُسِكُمْ، وأَيْمُ اللهِ لَاٌنْصِفَنَّ المَظْلُومَ، مِنْ ظَالمِهِ، وَلَاَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً»(5) .
ص: 70
أ) «فَلْتَكُنِ الدُّنْيَا أَصْغَرَ في أَعْيُنِكُمْ مِنْ حُثَالَةِ الْقَرَظِ(1) ، وَقُرَاضَةِ الَجْلَمِ(2) ، وَاتَّعِظُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَتَّعِظَ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ؛ وَارْفُضُوهَا ذَمِيمَةً، فَإِنَّهَا قَدْ رَفَضَتْ مَنْ كَانَ أَشْغَفَ بِهَا مِنْكُمْ»(3) .
ب) «وَاللهِ لَدُنْيَاكُمْ هذِهِ أَهْوَنُ فِي عَيْنِي مِنْ عِرَاقِ خِنْزِيرٍ فِي يَدِ مَجْذُومٍ»(4) .
ومن كلامه في عمرو بن العاص:
«أَمَا واللهِ إِنِّ لَيَمْنَعُنِي مِنَ اللَّعِبِ ذِكْرُ المَوْتِ، وَإِنَّهُ لَيَمْنَعُهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ نِسْيَانُ الْآخِرَةِ»(5) .
أ) في تريثه وتأخيره الحرب:
«فَوَاللهِ مَا دَفَعْتُ الَحَرْبَ يَوْماً إِلاَّ وَأَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طَائِفَةٌ فَتَهْتَدِيَ بِي، وَتَعْشُوَ إلى ضَوْئِي، وذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلالِهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَبُوءُ
ص: 71
بِآثَامِهَا»(1) .
ب) في النصر والهزيمة:
صدّرها ببراعة استهلال بثناء على الله تعالى عظيم ثم قال:
«إِنْ أَظْهَرْتَنَا عَلَى عَدُوِّنَا فَجَنِّبْنَا الْبَغْيَ وَسَدِّدْنَا لِلْحَقِّ، وَإِنْ أَظْهَرْتَهُمْ عَلَيْنَا فَارْزُقْنَا الشهَادَةَ وَاعْصِمْنَا مِنَ الْفِتْنَةِ»(2) .
ج) صدق الأقوال بصدق الأفعال:
«أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي، وَاللهِ، مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ إِلاَّ وَأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا، وَلاَ أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلاَّ وَأَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا»(3) .
د) الاعوجاج والاستقامة:
«أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّ قَدْ بَثَثْتُ لَكُمُ المَوَاعِظَ الَّتِي وَعَظَ الْأَنْبِيَاءُ بِهَا أُمَمَهُمْ، وَأَدَّيْتُ إِلَيْكُمْ مَا أَدَّتِ الْأَوصِيَاءُ إلى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَدَّبْتُكُمْ بِسَوْطِي فَلَمْ تَسْتَقِيمُوا، وَحَدَوْتُكُمْ بالزَّوَاجِرِ فَلَمْ تَسْتَوْسِقُوا. للهِ أَنْتُمْ! أَتَتَوَقَّعُونَ إِمَاماً غَیْرِي يَطَأُ بِكُمُ الطَّرِيقَ، وَيُرْشِدُكُمُ السَّبِيلَ؟»(4) .
ه) منطق الصواب:
ص: 72
«اتَّقِ اللهَ في كلِّ صباحٍ ومساءٍ، وخَفْ على نَفْسِكَ الدُّنيا الغَرُورَ، ولا تَأْمَنْها على حالٍ، واعْلَمْ أَنَّكَ إِنْ لَمْ تَرْدَعْ نَفْسَكَ عَنْ كثیرٍ مِمّا تُحِبُّ مخافةَ مكروهٍ- سَمَتْ بِكَ الأهواءُ إلى كثیرٍ مِنَ الضَّرَرِ، فكُنْ لِنَفْسِكَ رادِعاً، ولِنَزْوَتِكَ عندَ الحفيظةِ واقماً قامعاً»(1) .
و) الاعتدال والوسطية:
«نَحْنُ الْنُّمْرُقَهُ الْوُسْطَى(2) ، بَهِا يَلْحَقُ التَّالِي، وَإِلَيْهَا يَرْجِعُ الْغَاليِ»(3) .
ز) تواضعه:
أ- في إطرائه والثناء عليه:
وكان علیه السلام قد خطب بصفین خطبة أفاض فيها القول عن الحق وحقوق الوالي والرعية فأجابه رجل من أصحابه بكلام يكثر فيه الثناء عليه فقال علیه السلام هذه الوثيقة المعبرة:
ص: 73
«إِنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ عَظُمَ جَلاَلُ اللهِ سُبْحَانَهُ فِي نَفْسِهِ، وَجَلَّ مَوْضِعُهُ مِنْ قَلْبِهِ، أَنْ يَصْغُرَ عِنْدَهُ- لِعِظَمِ ذلِكَ- كُلُّ مَا سِوَاهُ، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ كَانَ كَذلِكَ لَمنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ، وَلَطُفَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ تَعْظُمْ نِعْمَةُ اللهِ عَلىَ أَحَدٍ إِلاَّ ازْدَادَ حَقُّ اللهِ عَلَيْهِ عِظَماً. وَإِنَّ مِنْ أَسْخَفِ حَالاَتِ الْوُلاَةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ، أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ الْفَخْرِ، وَيُوضَعَ أَمْرُهُمْ عَلىَ الْكِبْرِ، وَقَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنِّكُمْ أَنِّي أُحِبُّ الْاطْرَاءَ، وَاسْتِماعَ الثَّنَاءِ، وَلَسْتُ- بِحَمْدِ اللهِ- كَذلِكَ، وَلَوْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُقَالَ ذلِكَ لَتَرَكْتُهُ انْحِطَاطاً للهِ سُبْحَانَهُ عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ. وَرُبَّمَا اسْتَحْلَی النَّاسُ الثَّنَاءَ بَعْدَ الْبَلاَء، فَلاَ تُثْنُوا عَليََّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ، لِاِخْرَاجِي نَفْسِيِ إلى اللهِ وإِلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا، وَفَرَائِضَ لاَ بُدَّ مِنْ إِمْضائِهَا، فَلاَ تُكَلِّمُونِي بَماَ تُكَلَّمُ بِهِ الَجَبَابِرَةُ، وَلاَ تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِماَ يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ،وَلاَ تُخَالِطُونِ بالمُصَانَعَةِ، وَلاَ تَظُنّوا بِيَ اسْتِثْقَالاً فِ حَقٍّ قِيلَ لِ، وَلاَ الْتاَسَ إِعْظَامٍ لِنَفْيِ، فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوْ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَاَ أَثْقَلَ عَلَيْهِ. فَلاَ تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ، أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ»(1) .
ب- في لباسه:
وقد رئي عليه إزار خَلَقٌ مرقوع، فقيل له في ذلك، فقال: «يَخْشَعُ لَهُ الْقَلْبُ، وَتَذِلُّ بِهِ النَّفْسُ، وَيَقْتَدِي بِهِ المُؤْمِنُونَ»(2) .
«وَاللهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هذِهِ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا، وَلَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ:
ص: 74
أَلاَ تَنْبِذُهَا عَنْكَ؟ فَقُلْتُ: اغْرُبْ(1) عَنِّي، فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يْحَمَدُ الْقَوْمُ السَرُّى!»(2) .
«أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَأمُومٍ إِمَاماً، يَقْتَدِي بِهِ، وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ. أَلاَ وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ»(3) .
ج- في طعامه:
«وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ... وَلَوْ شِئْتُ لاَهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ، إلى مُصَفَّى هذَا الْعَسَلِ، وَلُبَابِ هذَا الْقَمْحِ، وَنَسَائِجِ هذَا الْقَزِّ، وَلكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، وَيَقُودَنِي جَشَعِي إلى تَخَیِرُّ الْاَطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوِ الْيَمَامَةِ مَنْ لاَطَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِ بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى، أَوْ أَكُونَ كَماَ قَالَ الْقَائِلُ:
وحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ *** وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إلى الْقِدِّ
أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِيِ بِأَنْ يُقَالَ: أمیرُ المؤمنینَ، وَلاَ أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ! فَمَاَ خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ، كَالْبَهِيمَةِ المَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا،... وأَيْمُ اللهِ- يَمِيناً أسْتَثْنِي فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللهِ- لَاَرُوضَنَّ نَفْسِيِ رِيَاضَةً تَهشُّ مَعَها إلى الْقُرْصِ إِذَا قَدَرتْ عَلَيْهِ مَطْعُوماً، وَتَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً...
أَتَمْتَلىءُ السَّائِمَةُ مِنْ رِعْيِهَا فَتَبْرُكَ؟ وَتَشْبَعُ الرَّبِيضَةُ مِنْ عُشْبِهَا فَتَرْبِضَ؟ وَيَأْكُلُ عَلِيٌّ مِنْ زَادِهِ فَيَهْجَعَ؟ قَرَّتْ إِذاً عَيْنُهُ إِذَا اقْتَدَى بَعْدَ السِّنِينَ المُتَطَاوِلَةِ بِالْبَهِيمَةِ الْهَامِلَةِ،
ص: 75
وَالسَّائِمَةِ المَرْعِيَّةِ!»(1) .
«وَاللهِ لَاَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً، أَوْ أُجَرَّ فِي الْاَغْاَلِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَغَاصِباً لِشَيْءٍ مِنَ الُحُطَامِ، وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إلى الْبِلَى قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا؟!»(2) .
«وَاللهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْاَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلاَكِهَا، عَلَى أَنْ أَعْصِيِ اللهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جِلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ، وَإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَاَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا، مَا لِعَلِيّ وَلِنَعِيمٍ يَفْنَى، وَلَذَّةٍ لاَ تَبْقَى! نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ، وَقُبْحِ الزَّلَلِ، وَبِهِ نَسْتَعِينُ»(3) .
وصورة أخرى تحكي مخايل نفسه الشريفة وإنسانيته الفذة وتواضعه الجم ومعاني كبیرة تنبعث من ذاته المميزة ويروي ابن أبي الحديد قوله وفعله لماّ مر علیه السلام بالأنبار وقد خرج أهلها «فلما استقبلوه، نزلوا عن خيولهم، ثم جاؤوا يشتدون معه وبین يديه، ومعهم براذين قد أوقفوها في طريقه، فقال: ما هذه الدواب التي معكم؟ وما أردتم بهذا
ص: 76
الذي صنعتم؟ قالوا: أما هذا الذي صنعنا فهو خلق منا نعظم به الأمراء، وأما هذه البراذين فهدية لك، وقد صنعنا للمسلمين طعاماً، وهيأنا لدوابكم علفًا كثیراً.
فقال علیه السلام: أما هذا الذي زعمتم أنه فيكم خلق تعظمون به الأمراء فوالله ما ينفع ذلك الأمراء، وإنكم لتشقّون به على أنفسكم وأبدانكم، فلا تعودوا له.
وأما دوابكم هذه؛ فإن أحببتم أن آخذها منكم، وأحسبها لكم من خراجكم أخذناها منكم. وأما طعامكم الذي صنعتم لنا؛ فإنا نكره أن نأكل من أموالكم إلا بثمن»(1) .
وبعد...
فهذه ملامح شخصية الإمام وشذرة من أخلاقه رويناها عنه، وأثبتها تاريخه رغم تنكره له، لكنها الحقيقة الناصعة، والحق الصراح المتجلي أنصع من الشمس.
ص: 77
الكمالات الأخلاقية في شخصية الإمام علیه السلام(1)
قال إمام الحكمة علیه السلام: «في تَقَلُّبِ الأَحْوالِ عِلْمُ جَواهِرِ الرِّجَالِ»(2) .
ولقد عاش الإمامُ مراحلَ عمرِه والإسلامَ في كافة أدواره، واقترن برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كالضوء من الضوء والذراع من العضد، بل كان ظلّه وروحه ونفسه، فقام دونه وحماه، صبيًّا وغلامًا وفتيًّا، وخاض غمار الحروب، وشهد المواقف وأبلى فيها البلاء الحسن الجميل.
ولقد جهر بها حقيقة جليّة، وحقًّا صراحًا، يُحَمَّلُها شهادةَ صدقٍ مَنْ أدركها وحفظ ووعى ولم يرن على قلبه الهوى:
«وَلَقَدْ عَلِمَ المُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّد (صلى الله عليه وآله) أَنَّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى الله وَلاَ عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ، وَلَقَدْ وَاسَيْتُهُ بِنَفْسِيِ فِي المَوَاطِنِ الَّتي تَنْكُصُ فِيهَا الاْبْطَالُ وَتَتَأَخَّرُ الأقْدَامُ، نَجْدَةً أَكْرَمَنِي اللهُ بِهَا»(3) .
وما إن غربت شمس النبوة حتى أعتم الليل وعمّ الظام، فطفق وليُّ الأمر من بعده يرتئي بن أن يصول بيد جذّاء، أو يصبر على طخية عمياء، يهرم عنها الكبیر، ويشيب فيها الصغیر، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه.
ص: 78
فرأى أن الصبرَ على هاتا أحجى، فصبر وفي العین قذى، وفي الحلق شجا، يرى تراثه نهبًا، وحقه مستلبًا مضيعًا.
كما صور تلكم الظلامة في (الشقشقية):
«فَمَا رَاعَنِي إِلَّا وَالنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الحَسَنَانِ(1) وَشُقَّ عِطْفَايَ، مْجْتَمِعِیَنَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الغَنَمِ، فَلَماَّ نَهَضْتُ بِالْاَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَمَرَقَتْ أُخْرَى وَقَسَطَ آخَرُونَ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللَّه سُبْحَانَهُ يَقُولُ: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسادًا وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ)، بَلَى وَاللهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا وَلَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا»(2) .
وما إن فاء الحق الى أهله، واعتدل الميزان، ونشط لبسط العدل- اندلعت عليه الفتن، وفغرت الفواغر، وتداعت الأحزاب، وأشعلوها حروبًا لا تبقي نارها ولا تذر «أَلَا وَقَدْ أَمَرَنِيَ اللهُ بِقِتَالِ أَهْلِ البَغْيِ وَالنَّكْثِ وَالْفَسَادِ فِي الأَرْضِ، فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ، وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ، وَأَمَّا المَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ...
وَبَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ البَغْيِ، وَلَئِنْ أَذِنَ اللهُ فِي الكَرَّةِ عَلَيْهِمْ لَاُدِيلَنَّ مِنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَشَذَّرُ فِي أَطْرَافِ البِلَادِ تشَذُّرًا»(3) .
وتمنى لو سكنت نائرة الفتن وثائرة المحن فيحيي الحق وينشر الإصلاح.
ص: 79
«لَو قَدِ اسْتَوَتْ قَدَمَايَ مِنْ هَذِهِ الَدَاحِضِ لَغَيَّرْتُ أَشْيَاءً»(1) . وتجلّى في ذلكم المعترك الشائك، والطوفان الهائج المتلاطم، والمحن المنيخة والاضطراب الشامل، والخذلان المدمر- (عليٌّ) أي شخصية هو؟ وأي جوهر؟ قمة فكر، ومنارة علم، ونراس هدى، وبطل حرب، ورِقَّةُ روح، وسجاحة خُلُق، ورائد سياسة، وربُّ الفصاحة والبلاغة، وجماع الخیر.
ولنعمد لطرف من رائع كمالاته، وشذرة من خلائقه، وسیرته الحاكية لقدس سريرته.
وسأعرض لجملة مما حفلت به حياته في متنوع الشؤون، ومختلف الأوضاع في سلمه وحربه، ومع أوليائه وأعدائه، ومع ولاته ورعيته، وفي خاصة ذاته وهي نبع الكمالات، ومعدن الفضائل والفواضل، مقتصرًا على شواهد ومشاهد غيضًا من فيض، ورشحة من منهل عذب، سلسل رقراق.
«أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَأمُومٍ إِمَامًا، يَقْتَدِي بِهِ، وَيَسْتَضِءُ بِنُورِ عِلْمِهِ»(2) .
فإمام حق يدعو الى الجنة وإلى صراط مستقيم، وإمام يهدي الى النار، «وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ».
ص: 80
«أَلاَ وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ، أَلاَ وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلىَ ذلِكَ، وَلكِنْ أَعِينُوني بِوَرَع وَاجْتِهَادٍ، وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ».
وقد أكثر وكرر المقالة عن إعراضه عن الدنيا ومغرياتها في هذا الكتاب وغیره من خطبه وكتبه.
«وَلكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَی تَخَیُّرِ الأطْعِمَةِ، وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوِ بِالْيَمَامَةِ مَنْ لاَ طَمَعَ لَهُ فِي القُرْصِ، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ، أَوْ أَبِيتَ مِبْطَانًا وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى، أَوْ أَكُونَ كَماَ قَالَ القَائِلُ:
وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ *** وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَي القِدَّ
أَ أَقْنَعُ مِنْ نَفْسيِ بِأَنْ يُقَالَ: هذا أَمِیرُ المُؤْمِنِینَ، وَلاَ أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ العَيْشِ»(1) .
وقال علیه السلام:
«فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللهَّ عِنْدَنَا حِینَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفًا نَتَّبِعُهُ وَقَائِدًا نَطَأُ عَقِبَهُ، وَاللهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هَذِهِ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا، وَلَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ: أَ لَا تَنْبِذُهَا عَنْكَ؟ فَقُلْتُ: اغْرُبْ عَنِّي فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السَّرَى»(2) .
«أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْلَ حُضُورُ الحَاضِرِ، وَقِيَامُ الحُجَّةِ
ص: 81
بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى العُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِم، وَلا سَغَبِ مَظْلُومٍ، لألقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهِا، وَلألفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ»(1) .
«اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ اَلَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ، ولَا التِماَسَ شیْءٍ مِنْ فُضُولِ الحُطَامِ، وَ لَكِنْ لِنَرِدَ المَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ، وَ نُظْهِرَ الإِصْلاَحَ فِي بِلاَدِكَ، فَيَأْمَنَ المَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ، وَ تُقَامَ المُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَنَابَ وسَمِعَ وأَجَابَ، لَمْ يَسْبِقْنِي إِلاَّ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِالصَّلاَةِ»(2) .
ثم أردف ذلك ببيان مؤهّات إمام الأمة، ونتاج السوء لتولّي من لا صلاحية له في الحكم:
«وقَدْ عَلِمْتُم أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الوَالِ عَلَى الفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالمَغَانِمِ وَالْاَحْكَامِ وَإِمَامَةِ المُسْلِمِينَ البَخِيلُ فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ، وَلَا الجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ، وَلَا الجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ، وَلَا الحَائِفُ لِلدُّوَلِ فَيَتَّخِذَ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ، وَلَا المُرْتَشِيِ فِي الحُكْمِ فَيَذْهَبَ بِالُحُقُوقِ وَيَقِفَ بِهَا دُونَ المَقَاطِعِ، وَلَا المُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الأُمَّةَ»(3) .
ص: 82
ولم تكن الولاة على شاكلة واحدة، بل هم متفاوتون متمايزون فكرًا وعلماً والتزامًا.
وقد كان طموحه وغاية قصده أن يحملهم على نهجه، ويستنّوا بسننه، فتتجلّى في إدارتهم الصورة المشرقة، والنسخة المعبرة من التمثيل الحق لإمام الأمة وحاكمها الصدق، فتواترت عهوده، وانترت كتبه، تحمل حروفُها فكره، وهديه، ودقيق توقيفه إياهم على الحقائق، والثناء على من حفظ ورعى، والسخط على من ضيّع وأهمل، مترعة بفيض من المعارف وجماع المكارم، ومخايل الكمال.
«وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعًا ضَارِيًا تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِیرٌ لَكَ فِي الخَلْقِ، يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ، وَتَعْرِضُ لَهُمُ العِلَلُ، وَيُؤْتَى عَلىَ أَيْدِيهِمْ فِي العَمْدِ وَالْخَطَإِ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِي تُحِبُّ وَتَرْضَي أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ».
أ رأيت الإنسانية الخالصة في تصنيف الرعية وضرورة توفيتها حقها على تنوع أصنافها، منبعثة من قلب الرحمة والحنان ملؤه لطف يلتمس لمقصرهم العذر فيمنح العفو والإحسان؟!
ألا يبهرك الترابط والترقي في موقع الوالي من الرعية؟! ص: 83
«فإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، ووَالي الأَمْرِ فَوْقَكَ، واللهُ فَوْقَ مَنْ وَلّاَكَ». جوهر فكر الإمام ومحور حكمته: إنه ليصمد إلى الله مولاه تعالى، فلا حق إلا هو، ولا حق ولا رحمة ولا عدل ولا إحسان إلا منه، وهذا ما لهج به علیه السلام وقرّره وأكّده في كل شأن من مجريات أيامه.
ومن أقرب الشواهد والموارد ما قاله بعيد هذا:
«وَإِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً فَانْظُرْ إِلَی عِظَمِ مُلْكِ اللهِ فَوْقَكَ وَقُدْرَتِهِ مِنْكَ عَلىَ مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ، وَيَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ، وَيَفِيءُ إِلَيْكَ بِمَاَ عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ».
فإننا نقرأ في قالبها وقلبها ما يبعث الانبهار والخضوع والإكبار من صحائف النور وإشراق الحق وسعة الأفق، في عمق تفكیر وامتداد نظر، وسمو ذات، ومحبة الخلق، وخشية الخالق.
«أمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ فِي سَرَائِرِ أُمُورِهِ وَخَفِيَّاتِ أَعْمَالِهِ، حَيْثُ لَا شَهِيدَ غَیْرُهُ، وَلاَ وَكِيلَ دُونَهُ.
وَأمَرَهُ أَلَّا يَعْمَلَ بَشَيْءٍ مِنْ طَاعَةِ اللهِ فِيما ظَهَرَ فَيُخَالِفَ إِلَی غَیْرِهِ فِيَما أَسَرَّ، وَمَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ سِرُّهُ وعَلَانِيَتُهُ، وَفِعْلُهُ وَمَقَالَتُهُ، فَقَدْ أَدّى الأمَانَةَ، وَأَخْلَصَ الْعِبَادَةَ.
وَأمَرَهُ أَلاَّ يَجْبَهَهُمْ، وَلاَ يَعْضَهَهُمْ، وَلاَ يَرْغَبَ عَنْهُمْ تَفَضُّلاً بِالإِمَارَةِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمُ الإِخْوَانُ فِي الدِّينِ، وَالأَعْوَانُ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الُحُقُوقِ.
ص: 84
وَإِنَّ لَكَ في هذِهِ الصَّدَقَةِ نَصِيبًا مَفْرُوضًا، وَحَقًّا مَعْلُومًا، وَشُرَكَاءَ أَهْلَ مَسْكَنَة، وَضَعَفَاءَ ذَوِي فَاقَة، وإِنَّا مُوَفُّوكَ حَقَّكَ، فَوَفِّهِمْ حُقُوقَهُمْ، وَإِلَّ تَفْعَلْ فَإِنَّكَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ خُصُومًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبُؤْسًا لِمِنْ خَصْمُهُ عِنْدَ اللهِ الْفُقَرَاءُ وَالمَسَاكِينُ وَالسَّائِلُونَ وَالمَدْفُوعُونَ وَالْغَارِمُ وَابْنُ السَّبِيلِ! وَمَنِ اسْتَهَانَ بِالأَمَانَةِ، وَرَتَعَ فِي الْخِيَانَةِ، وَلَمْ يُنَزِّهْ نَفْسَهُ وَدِينَهُ عَنْهَا، فَقَدْ أَحَلَّ بِنَفْسِهِ فِي الدُّنْيَا الْخِزْيَ، وَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَذَلُّ وَأَخْزَى.
وَإِنَّ أَعْظَمَ الْخِيَانَةِ خِيَانَةُ الأُمَّةِ، وَأَفْظَعَ الْغِشِّ غِشُّ الأَئِمَّةِ، وَالسَّلاَم»(1) .
وكفى به عهدًا وميثاقًا ودستورًا وهديًا يعالج مصدرًا من موراد الدولة الإسلامية في بليغ كلمه، وبلاغة محكمة مبنى ومعنى.
وإن شئت أن تتجسد تلكم الرؤى وبما تحفل به من إبداعٍ فكرًا ومقالًا وجلالًا وجمالًا، وكأنك من تولى أمرها، وشهد دورها فأمتع برك ودقق نظرك، وسر حيث السیر، وقف حيث الوقوف، وتملّ التأمل حيث تقوى لترى أن أبعاد الإبداع في الشخصية الفذة لا يحاط بطرفها، فأفرغ لتلاوة وصيته في هذا المضمار، السابقة ذكرًا لهذا العهد، الذي قال عنه جامع النهج الشريف:
«وإنما ذكرنا هنا جملًا ليعلم بها أنه علیه السلام كان يقيم عماد الحق ويرع أمثلة العدل، في صغر الأمور وكبيرها ودقيقها وجليلها»(2) .
ص: 85
إلى أشعث بن قيس عامل أذربيجان:
«وَإِنَّ عَمَلَكَ لَيْسَ لَكَ بِطُعْمَةٍ، وَلَكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمَانَةٌ وَأَنْتَ مُسْتَرْعًى لَمِنْ فَوْقَكَ، لَيْسَ لَكَ أَنْ تَفْتَاتَ فِي رَعِيَّةٍ وَلَا تُخَاطِرَ إِلَّا بِوَثِيقَةٍ، وَفِي يَدَيْكَ مَالٌ مِنْ مَالِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنْتَ مِنْ خُزَّانِهِ حَتَّى تُسَلِّمَهُ إِلَيَّ، وَلَعَلَّيِّ أَلَّا أَكُونَ شَّرَّ وُلَاتِكَ لَكَ وَالسَّلَامُ»(1) .
وتأمل قوله علیه السلام: «وَفِي يَدَيْكَ مَالٌ مِنْ مَالِ اللهَّ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنْتَ مِنْ خُزَّانِهِ».
وتمهل عند قوله علیه السلام: «وَلَعَلِّي أَلَّا أَكُونَ شَرَّ وُلَاتِكَ لَكَ».
وهو- سلام الله على فتوّته وقوته- مفردًا جيشُ الإسلام، وحامي حماه، و ب (ذي فقاره) قام عمود الدين، واستوى جانبه، وقويت شوكته، وهو بما يمتلك من العنفوان وقوة الأيد وشدة البطش والفتك والبطولة المفردة النادرة وبواعث الزهو- مالك لنزعات الذات وهوى النفس كابح لجماحها، وإنا يطلق طرفًا من أعنتها حيث تدفع شرًّا مستطيرًا، وترد عداونًا مدمرًا فتحق الحق وتزهق الباطل.
ولقد أفصح عن مشاعره وما تنطوي عليه جوانحه جنوحًا للسلم والسلامة ما وجد إلى ذلك سبيلًا، وحسماً للفساد واستشرائه إذا لم يجد من مقارعة الباطل بدًّا.
ص: 86
فلننصت لما يحدثنا به بطل السلم والحرب وتفاعله وانفعاله فيما يحيط به من ضروب الخطوب وبؤر المحن وشوائك المكاره.
فقد قال لأصحابه وقد استبطأوا إذنه لهم في القتال بصفين:
«أمَّا قَوْلُكُمْ: أَكُلَّ ذلِكَ كَرَاهِيَةَ المَوْتِ؟ فَوَاللهِ مَا أُبَالِي دَخَلْتُ إِلَي المَوْتِ أَوْ خَرَجَ المَوْتُ إِلَيَّ.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: شَكًّا في أَهْلِ الشَّامِ! فَوَاللهِ مَا دَفَعْتُ الَحَرْبَ يَوْمًا إِلَّا وَأَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طَائِفَةٌ فَتَهْتَدِيَ بِي، وَتَعْشُوَ إِلى ضَوْئِي، فهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلىَ ضَلالِهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا»(1) .
وكان قد ملّ أصحابُه بصفین ضراوة الحرب فطال منعهم له من قتال أهل الشام:
«فَتَدَاكُّوا عَلَيَّ تَدَاكَّ الْاِبِلِ الْهِيمِ يَوْمَ وِرْدِهَا وَقَدْ أَرْسَلَهَا رَاعِيهَا وَخُلِعَتْ مَثَانِيهَا، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قَاتِلِيَّ أَوْ بَعْضُهُمْ قَاتِلُ بَعْضٍ لَدَيَّ، وَقَدْ قَلَّبْتُ هَذَا الْاَمْرَ بَطْنَهُ وَظَهْرَهُ حَتَّى مَنَعَنِي النَّوْمَ فَمَا وَجَدْتُنِي يَسَعُنِي إِلَّا قِتَالُهُمْ أَوِ الُجُحُودُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وآله، فَكَانَتْ مُعَالَجَةُ الْقِتَالِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مُعَالَجَةِ الْعِقَابِ، وَمَوْتَاتُ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مَوْتَاتِ الْاخِرَةِ»(2) .
فَعِ الموقفین بعقلك لتدرك تلكم الروح في لین جانبها، وميلها إلى الدعة وحب العافية للكافة، ولتدرك تنمّره في ذات الله وحسم مادة الفساد، وإنك لتقف
ص: 87
على هديه لجيشه ليثبطهم عن المسارعة إلى النزال في ساحات القتال إلا بعد الإعذار والإنذار:
«فَإِذَا لَقِيتَ الْعَدُوَّ فَقِفْ مِنْ أَصْحَابِكَ وَسَطًا، وَلَا تَدْنُ مِنَ الْقَوْمِ دُنُوَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُنْشِبَ الْحَرْبَ، وَلَا تَبَاعَدْ عَنْهُمْ تَبَاعُدَ مَنْ يَهَابُ الْبَأْسَ، حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ شَنَآنُهُمْ عَلىَ قِتَالِهِمْ قَبْلَ دُعَائِهِمْ وَالإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ»(1) .
واستمع الى هذه الوصية الرائعة في سمو أهدافها، وشرف أوصافها:
«ومن وصية له علیه السلام لعسكره قبل لقاء العدو بصفين:
لَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَبْدَؤُوكُمْ فَإِنَّكُمْ بِحَمْدِ اللهِ عَلَى حُجَّةٍ، وَتَرْكُكُمْ إِيَّاهُمْ حَتَّى يَبْدَؤُوكُمْ حُجَّةٌ أُخْرَى لَكُمْ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا كَانَتِ الْهَزِيمَةُ بِإِذْنِ اللهِ فَلَا تَقْتُلُوا مُدْبِرًا، وَلَا تُصِيبُوا مُعْوِرًا، وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلَ تَهِيجُوا النِّسَاءَ بِأَذًى وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ وَسَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ، فَإِنَّهُنَّ ضَعِيفَاتُ الْقُوَى وَالْاَنْفُسِ وَالْعُقُولِ، إِنْ كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالْكَفِّ عَنْهُنَّ وَإِنَّهُنَّ لَمشْرِكَاتٌ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَنَاوَلُ المَرْأَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْفَهْرِ أَوِ الْهِرَاوَةِ فَيُعَیَّرُ بِهَا وَعَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ»(2) .
وله سلام الله عليه ضراعة ومناجاة تأخذ بمجامع القلوب، محیرة الألباب، فأَقْبِلْ على الإصغاء إليها بروحك وعقلك، وكان ينقطع إلى ربه- وقلبه متعلق بجلاله في كل حال- إذا لقي العدوّ محاربًا:
«اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَفْضَتِ الْقُلُوبُ، وَمُدَّتِ الْاَعْنَاقُ، وَشَخَصَتِ الْاَبْصَارُ، وَنُقِلَتِ
ص: 88
الْاَقْدَامُ، وَأُنْضِيَتِ الْاَبْدَانُ، اللَّهُمَّ قَدْ صَرَّحَ مَكْنُونُ الشَّنَآنِ، وَجَاشَتْ مَرَاجِل ُالْاَضْغَانِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ غَيْبَةَ نَبِيِّنَا، وَكَثْرَةَ عَدُوِّنَا، وَتَشَتُّتَ أَهْوَائِنَا، رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَیْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَیْرُ الْفاتِحِینَ»(1) .
وللحرب في حياة الإمام خطوب جسام، ووقائع عظام، ونوازل فوادح، حصدت الأبطال، وأفنت الأعمار، وأخربت الديار، وضجّت وفزعت الأمة لها.
وتلك الفاجعة العظمى، والكارثة المنيخة والبلية الفقماء، فرأى الإمام علیه السلام دعوة نصفًا تحد من استعار الحرب وتقي الأمة من الاستئصال، فكتب إلى مثيرها وقائدها ومؤجِّج نارها:
«وَقَدْ دَعَوْتَ إِلَي الْحَرْبِ فَدَعِ النَّاسَ جَانِبًا وَاخْرُجْ إِلَيَّ وَأَعْفِ الْفَرِيقَیْنِ مِنَ الْقِتَالِ لِتَعْلَمَ أَيُّنَا المَرِينُ عَلَى قَلْبِهِ وَالمُغَطَّى عَلَى بَصَرِهِ، فَأَنَا أَبُو حَسَنٍ قَاتِلُ جَدِّكَ وَأَخِيكَ وَخَالِكَ شَدْخًا يَوْمَ بَدْرٍ، وَذَلِكَ السَّيْفُ مَعِي، وَبِذَلِكَ الْقَلْبِ أَلْقَى عَدُوِّي، مَا اسْتَبْدَلْتُ دِينًا وَلَا اسْتَحْدَثْتُ نَبِيًّا، وَإِنَّي لَعَلَى الْمِنْهَاجِ الَّذِي تَرَكْتُمُوهُ طَائِعِینَ وَدَخَلْتُمْ فِيهِ مُكْرَهِینَ»(2) .
وقد أرهبه الإمام علیه السلام وأرعبه غير مرة وذكَّره بقتلى أسلافه العتاة المردة:
«وَذَكَرْتَ أَنَّهُ لَيْسَ لِي وَلِاَصْحَابِ عِنْدَكَ إِلَّا السَّيْفُ فَلَقَدْ أَضْحَكْتَ بَعْدَ اسْتِعْبَارٍ مَتَى أَلْفَيْتَ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ عَنِ الْاَعْدَاءِ نَاكِلِینَ وَبِالسَّيْفِ مُخَوَّفِینَ، فَ:
ص: 89
لَبِّثْ قليلاً يلحقِ الهيجا حَمَلْ(1) .
فسَيَطْلُبُكَ مَنْ تَطْلُبُ، ويَقْرُبُ مِنْكَ ما تَسْتَبْعِدُ، وَأَنَا مُرْقِلٌ نَحْوَكَ فِي جَحْفَلٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالْاَنْصَارِ وَالتَّابِعِینَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، شَدِيدٍ زِحَامُهُمْ، سَاطِعٍ قَتَامُهُمْ، مُتَسَرْبِلِینَ سَرَابِيلَ المَوْتِ، أَحَبُّ اللِّقَاءِ إِلَيْهِمْ لِقَاءُ رَبِّهِمْ، وَقَدْ صَحِبَتْهُمْ ذُرِّيَّةٌ بَدْرِيَّةٌ، وَسُيُوفٌ هَاشِمِيَّةٌ، قَدْ عَرَفْتَ مَوَاقِعَ نِصَالَهَا فِي أَخِيكَ وَخَالِكَ وَجَدِّكَ وَأَهْلِكَ، وَما هِيَ مِنَ الظَّالمِینَ بِبَعِيدٍ»(2) .
«قال معاوية يومًا لعمرو بن العاص: يا أبا عبد الله، أيُّنا أدهى؟ قال عمرو:
أنا للبديهة، وأنت للروية، قال معاوية: قضيت لي على نفسك، وأنا أدهى منك في البديهة، قال عمرو: فأين كان دهاؤك يوم رفعت المصاحف؟ قال: بها غلبتني يا أبا عبد الله، أفلا أسألك عن شيء تصدقني فيه؟ قال: والله إن الكذب لقبيح، فاسأل عما بدا لك أصدقك، فقال: هل غششتني منذ نصحتني؟ قال: لا، قال:
بلى والله، لقد غششتني، أما إني لا أقول في كل المواطن، ولكن في موطن واحد، قال: وأي موطن هذا؟ قال: يوم دعاني علي بن أبي طالب للمبارزة فاستشرتك، فقلت: ما ترى يا أبا عبد الله؟ فقلت: كفؤ كريم، فأشرت عليَّ بمبارزته وأنت تعلم من هو، فعلمت أنك غششتني، قال: يا أمیر المؤمنین، دعاك رجل إلى مبارزته عظيم الشرف جليل الخطر، فكنت من مبارزته على إحدى الحسنيين، إما
ص: 90
أن تقتله فتكون قد قتلت قَتَّالَ الأقران، وتزداد به شرفًا إلى شرفك وتخلو بملكك، وإما أن تعجل إلى مرافقة الشهداء والصالحین وحسن أولئك رفيقًا، قال معاوية:
هذه شر من الأولى، والله إني لأعلم أني لو قتلته دخلت النار، ولو قتلني دخلت النار، قال عمرو: فما حملك على قتاله؟! قال: الملك عقيم، ولن يسمعها مني أحد بعدك»(1) .
وقد تجسّد في شخصية الإمام علیه السلام الإيمان الحق، والعبودية الخالصة، واصطبغت بمكارم الأخلاق.
فلم يكن من شيمته التعالي، وهو العلي، ولا من سجيته التكبر والفخر، بل سمته التواضع، وشأنه الرفق والحنان والعطف واللطف، وملؤه الرحمة.
فأقواله وأفعاله وخلائقه في ذاته ومع الخلق، موقفًا وتصرفًا ومطعماً ومشربًا ولباسًا وهيئةً شواهدُ صدق ومشاهد عدل على كمالاته وامتيازاته.
وإن كان في ما يملك من الخصائص المميزة، والشؤون المجتمعة التي تفرد بها بواعث للفخر والزهو.
أجل.. إنه (إمام الحكمة) وجوهر الاستقامة، وبطل المواقف.
ومن شأن ذلك: وضع الأمور في نصابها، ومعالجة القضايا بما تمليه ظروفها ودراسة أوضاعها بموضوعية، لتتجلىّ بذلك الحقيقة الناصعة، والمعالجة الناجعة.
ص: 91
ولنأخذ من سجاله مع خصمه اللدود (معاوية) وهو ذو الشيطنة النكراء مادة للبحث، فقد تواردت وتتابعت بينهما الرسائل، والرسالة عقل مرسلها وفكره ودينه، وحكاية طباعه، وترجمان نزعاته وطموحاته.
1) تمايز الرجال وتفاوت الأحوال:
أ) «وأَمَّا قَوْلُكَ إِنَّا بَنُو عَبْدِ منافٍ فَكَذلِكَ نَحْنُ، وَلكِنْ لَيْسَ أُمَيَّةُ كَهَاشِمَ، وَلاَ حَرْبٌ كَعَبْدِ المُطَّلِبِ، وَلاَ أَبُوسُفْيَانَ كَأَبِي طَالِب، وَلاَ المُهَاجرُ كَالطَّلِيقِ، وَلاَ الصَّرِيحُ كَاللَّصِيقِ، وَلاَ المُحِقُّ كَالمُبطِلِ، وَلاَ المُؤْمِنُ كَالمُدْغِلِ، وَلَبِئْسَ الخَلَفُ خَلَفٌ يَتْبَعُ سَلَفًا هَوَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ»(1) .
فثمت رجال حق، وأفذاذ بشر، وطينة شرف، وثمت أضداد، وكل يعمل عى شاكلته.
وحسبُكُمُ هذا التفاوتُ بيننا *** وكلُّ إناءٍ بالذي فيه يَنْضَحُ
وجاء دين الله يحمله ويصدع به ذروة الكمال والشرف سيد الرسل وخاتم الأنبياء صلی الله علیه و آله و سلم وعليهم، فكان عنوان الحق، ومقياس الإيمان، ورابطة الانتماء.
«إِنَّ أَوْلَی النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِینَ»(2) .
فأين موقع ابن أبي طالب وحفيد عبدالمطلب؟ وأين موقع خصمه ابن أبي سفيان بن حرب؟! وأين السلف والخلف؟! ص: 92
«وَفِي أَيْدِينَا بَعْدُ فَضْلُ النُّبُوَّةِ الَّتِي أَذْلَلْنَا بِهَا الْعَزِيزَ وَنَعَشْنَا بِهَا الذَّلِيلَ».
ب) «وَكَانَ رَسُولُ اللهَّ (صلى الله عليه وآله) إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ وَأَحْجَمَ النَّاسُ قَدَّمَ أَهْلَ بَيْتِهِ فَوَقَى بِهِمْ أَصْحَابَهُ حَرَّ السُّيُوفِ وَالْاَسِنَّةِ، فَقُتِلَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقُتِلَ حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقُتِلَ جَعْفَرٌ يَوْمَ مُؤْتَةَ، وَأَرَادَ مَنْ لَوْ شِئْتُ ذَكَرْتُ اسْمَهُ مِثْلَ الَّذِي أَرَادُوا مِنَ الشَّهَادَةِ، وَلَكِنَّ آجَالَهُمْ عُجِّلَتْ وَمَنِيَّتَهُ أُجِّلَتْ، فَيَا عَجَبًا لِلدَّهْرِ إِذْ صِرْتُ يُقْرَنُ بِي مَنْ لَمْ يَسْعَ بِقَدَمِي وَلَمْ تَكُنْ لَهُ كَسَابِقَتِي الَّتِي لَا يُدْلِي أَحَدٌ بِمِثْلِهَا، إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ مَا لَا أَعْرِفُهُ وَلَا أَظُنُّ اللهَ يَعْرِفُهُ، وَالَحْمْدُ للهِ عَلىَ كُلِّ حَالٍ»(1) .
ولا يسع الباحث الحر أن يتجاوز جملة من الجمل دون أن يغرق متأمّلاً عمق أبعادها: موضوعًا وتواضعًا، وآهة على ضياع الحقائق وانقاب الموازين، «وَأَرَادَ مَنْ لَوْ شِئْتُ ذَكَرْتُ اسْمَهُ مِثْلَ الَّذِي أَرَادُوا مِنَ الشَّهَادَةِ، وَلَكِنَّ آجَالَهُمْ عُجِّلَتْ وَمَنِيَّتَهُ أُجِّلَتْ».
«فَيَا عَجَباً لِلدَّهْرِ إِذْ صِرْتُ يُقْرَنُ بِي مَنْ لَمْ يَسْعَ بِقَدَمِي وَلَمْ تَكُنْ لَهُ كَسَابِقَتِي الَّتِي لَا يُدْلِي أَحَدٌ بِمِثْلِهَا، إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ مَا لَا أَعْرِفُهُ وَلَ أَظُنُّ اللهَ يَعْرِفُهُ».
ومع ثقل المعاناة، و الواقع المر، والبلاء المنيخ طفق جنانه ولسانه:
«وَالْحَمْدُ للهِ عَلَی كُلِّ حَالٍ».
وعلى هذا النسق ما جاء في مقطع من كتاب له:
«لَمْ يَمْنَعْنَا قَدِيمُ عِزِّنَا وَلَا عَادِيُّ طَوْلِنَا عَلىَ قَوْمِكَ أَنْ خَلَطْنَاكُمْ بِأَنْفُسِنَا،
ص: 93
فَنَكَحْنَا وَأَنْكَحْنَا، فِعْلَ الأَكْفَاءِ، وَلَسْتُمْ هُنَاكَ، وَأَنَّى يَكُونُ ذَلِكَ وَمِنَّا النَّبِيُّ وَمِنْكُمُ المُكَذِّبُ، وَمِنَّا أَسَدُ اللهِ وَمِنْكُمْ أَسَدُ الأَحْلَافِ، وَمِنَّا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ وَمِنْكُمْ صِبْيَةُ النَّارِ، وَمِنَّا خَیْرُ نِسَاءِ العَالَمِینَ وَمِنْكُمْ حَمَّالَةُ الحَطَبِ، فِي كَثِیرٍ مِمَّا لَنَا وَعَلَيْكُمْ»(1) .
وللإمام المجتبى علیه السلام قول نسج فيه على قوله أبيه المرتضى علیه السلام، فلما انتشى معاوية بما تمّ له من البيعة صعد المنبر وذكر أمیر المؤمنین والحسن علیه السلام فنال منهما فقال الإمام علیه السلام:
«أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدي رسول الله وجدك حرب، وجدتي خديجة وجدتك فتيلة، فلعن الله أخملنا ذكرًا، وألأمنا حسبًا، وشرنا قديماً، وأقدمنا كفرًا ونفاقًا.
فقال طوائف من أهل المسجد: آمین، قال يحيى بن معین: ونحن نقول: آمین، قال أبو عبيد: ونحن أيضًا نقول: آمین، قال أبو الفرج: وأنا أقول آمین»(2) .
إذن.. فأصول مباركة، ودين قويم، وتاريخ مشرق، فله الوراثة الكريمة، ويرتدُّ الزمنُ العنود والدهر الكنود فيقود ابن أبي سفيان شطر الأمة ويسعرها حربًا كما كان أبوه من ذي قبل، وما عشت أراك الدهر عجبًا، إن ابن أبي سفيان يجرّ اليوم جيشًا جرّارًا لحرب من حارب أباه وشيوخ قومه، وهم بالله كافرون ولدينه
ص: 94
ونبيّه مرصدون، يبغون الغوائل ويفعلون الأفاعيل.
ج) وفي كتاب لأمیر المؤمنین علیه السلام جوابًا لمعاوية(1) - وصفه السيد الشريف:
«وهو من محاسن الكتب»- الإفصاح البليغ والاحتجاج المحكم، ومعالجة خطیر القضايا بصراحة وموضوعية نعرض لطرف منها:
فأولًا: «أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَانِي كِتَابُكَ...».
فأمعن النظر في بيانه: «فَلَقَدْ خَبَّأَ لَنَا الدَّهْرُ مِنْكَ عَجَبًا إِذْ طَفِقْتَ تُخْبِرُنَا بِبَلاَءِ الله تَعَالَی عِنْدَنَا وَنِعْمَتِهِ عَلَيْنَا فِي نَبِيِّنَا».
وتأمّل طويلً في نعته لمعاوية وتعريفه قدر نفسه:
«وَمَا أَنْتَ وَالْفَاضِلَ وَالمَفْضُولَ وَالسَّائِسَ وَالمَسُوسَ وَمَا لِلطُّلَقَاءِ وَأَبْنَاءِ الطُّلَقَاءِ وَالتَّمْيِيزَ بَیْنَ المُهَاجِرِينَ الْاَوَّلِینَ وَتَرْتِيبَ دَرَجَاتِهِمْ وَتَعْرِيفَ طَبَقَاتِهِمْ».
ولك أن تتصوّر ماذا تُحدث وأحدثت هذه المقولة في الموصوف بها، فهل انسل من إهابه، وتذكر حقیر ماضيه؟! وأطلّ أمیر المؤمنین علیه السلام وعرّج وأطال الفكرَ لعرضه تاريخ المجد والشرف مصدرًا لها بهذه الديباجة:
«أَلَا تَرَى غَيْرَ مُخْبِرٍ لَكَ وَلَكِنْ بِنِعْمَةِ اللهَّ أُحَدِّثُ».
فعدد جملة من المآثر والمكرمات التي تبوأها سراة قومه استماتة في إقامة
ص: 95
الدين والذوذ عن حياضه.
حتى إذا ما وصل إلى دوره المحوري كنّى مشيرًا، و أجمل إجمالًا جميلًا:
«وَلَوْلَا مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ مِنْ تَزْكِيَةِ المَرْءِ نَفْسَهُ لَذَكَرَ ذَاكِرٌ فَضَائِلَ جَّمَّةً تَعْرِفُهَا قُلُوبُ المُؤْمِنِینَ وَلَا تَمُجُّهَا آذَانُ السَّامِعِينَ».
وركّز على مقياس الحقائق وميزان الحقوق سلبًا وإيجابًا:
«فَدَعْ عَنْكَ مَنْ مَالَتْ بِهِ الرَّمِيَّةُ(1) فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا وَالنَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا».
ورشح إناء معاوية بما طبع عليه حقدًا وشماتة وتنكّرًا فحسب ظلامته الشنيعة ظلاً، والإساءة إليه جزاءً لجرم اقترفه، ولكن ابن أبي طالب على هدي من ربه وبينة من دينه، ويقین من أمره، قلب السحر على الساحر فاعتدّ ذلكم الظلم والهضم شهادة على حقّه المستلب ومقامه المضيَّع:
«وقلت: إِنَّي كُنْتُ أُقَادُ كَماَ يُقَادُ الجَمَلُ المَخْشُوشُ حَتَّى أُبَايِعَ، وَلَعَمْرُ اللهِ لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَذُمَّ فَمَدَحْتَ، وَأَنْ تَفْضَحَ فَافْتَضَحْتَ، وَمَا عَلىَ المُسْلِمِ مِنْ غَضَاضَةٍ فِي أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا، مَا لَمْ يَكُنْ شَاكًّا فِي دِينِهِ وَلَا مُرْتَابًا بِيَقِينِهِ، وَهَذِهِ حُجَّتِي إِلَی غَیْرِكَ قَصْدُهَا، وَلَكِنِّي أَطْلَقْتُ لَكَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا سَنَحَ مِنْ ذِكْرِهَا».
ثم عرّج على ما ذكره من أمر الإمام علیه السلام وعثمان، فجلّى حقيقتَه، والفتنةَ التي أطاحت به، ودورَه في إطفاء النائرة، ودورَ سواه من المتربّصین.
وعجيبٌ خُلُقُ هذا العظيم وعقل ذلكم الحكيم وهو يخاطب ألدّ أعدائه
ص: 96
بتلكم الروح الكريمة والأريحية العظيمة:
«فَلَكَ أَنْ تُجَابَ عَنْ هَذِهِ لِرَحِمِكَ مِنْهُ».
ثم استوفى عرض الأحوال و الأهوال ودوره الإصلاحيّ في تلكم الفتنة والمحنة ببيان واثق، ورأي صادق، وتجرّد فائق.
هذا والإمام علیه السلام يعلم حقيقة خصمه، ويخبر سره، ويدرك خطره:
«وَإِلَّا تَفْعَلْ أُعْلِمْكَ مَا أَغْفَلْتَ مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنَّكَ مُتْرَفٌ قَدْ أَخَذَ الشَّيْطَانُ مِنْكَ مَأْخَذَهُ وَبَلَغَ فِيكَ أَمَلَهُ وَجَرَى مِنْكَ مَجْرَى الرُّوحِ وَالدَّمِ، وَمَتَى كُنْتُمْ يَا مُعَاوِيَةُ سَاسَةَ الرَّعِيَّةِ وَوُلَاةَ أَمْرِ الْاُمَّةِ بِغَیْرِ قَدَمٍ سَابِقٍ وَلَا شَرَفٍ بَاسِقٍ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ لُزُومِ سَوَابِقِ الشَّقَاءِ، وَأُحَذِّرُكَ أَنْ تَكُونَ مُتَمَدِيًا فِي غِرَّةِ الْاُمْنِيِّةِ، مُخْتَلِفَ الْعَلَانِيَةِ وَالسَّرِيرَةِ»(1) .
والحق أنها كلمة جامعة مصورة معبرة:
«وَجَرَى مِنْكَ مَجْرَى الرُّوحِ وَالدَّمِ».
قال ابن أبي الحديد:
وأعجب وأطرب ما جاء به الدهر- وإن كانت عجائبه وبدائعه جمة- أن يفضي أمر عليٍّ علیه السلام إلى أن يصر معاوية ندًّا له ونظیرًا مماثلاً، يتعارضان الكتاب والجواب، ويتساويان فيما يواجه به أحدهما صاحبه، ولا يقول له عليٌّ علیه السلام كلمة إلا قال مثلها، وأخشن مسًّا منها، فليت محمدًا صلی الله علیه و آله و سلم كان شاهد ذلك، لیرى عيانًا
ص: 97
لا خبرًا أن الدعوة التي قام بها، وقاسى أعظم المشاق في تحمّلها، وكابد الأهوال في الذبّ عنها، وضرب بالسيوف عليها لتأييد دولتها، وشيّد أركانها، ومأ الآفاق بها- خلصت صفوًا عفوًا لأعدائه الذين كذّبوه لما دعا إليها، وأخرجوه عن أوطانه لما حضّ عليها، وأدموا وجهه، وقتلوا عمّه وأهله، فكأنه كان يسعى لهم ويدأب لراحتهم، كما قال أبو سفيان في أيام عثمان، وقد مرّ بقبر حمزة، وضربه برجله، وقال: يا أبا عمارة! إن الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمسى في يد غلماننا اليوم يتلعبون به! ثم آل الأمر إلى أن يفاخر معاوية عليًّا، كما يتفاخر الأكفاء والنظراء.
إذا عیَّرَ الطائيَّ بالبُخْلِ مادِرٌ *** وقَرَّعَ قسًّا بالفهاهةِ باقلُ
وقال السُّها للشمسِ: أنتِ خَفِيةٌ *** وقال الدُّجى: يا صُبْحُ لونُكَ حائِلُ
وفاخرتِ الأرضُ السماءَ سفاهةً *** وكاثرت الشهبَ الحصا والجنادِلُ
فيا موتُ زُرْ إِنَّ الحياةَ ذميمةٌ *** ويا نَفْسُ جِدَّي إِنَّ دهرَكِ هازِلُ(1)
فقد كتب إلى أهل الكوفة عند مسیره من البصرة إلى الكوفة مفتتح اندلاع شرر الفتن والتمرد والعصيان على ولاية الحق والحكم:
«أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّ خَرَجْتُ مِنْ حَيِّي هَذَا إِمَّا ظَالًمِا وَإِمَّا مَظْلُومًا وَإِمَّا بَاغِيًا وَإِمَّا مَبْغِيًّا عَلَيْهِ، وَإِنِّ أُذَكِّرُ اللهَ مَنْ بَلَغَهُ كِتَابِ هَذَا لمَا نَفَرَ إِلَيَّ فَإِنْ كُنْتُ مُحْسِنًا أَعَانَنِي وَإِنْ كُنْتُ مُسِيئًا اسْتَعْتَبَنِي»(2) .
ص: 98
أرأيت روح الإنصاف وشرف الواقعية، والاحتكام إلى العقل وجميل الدعوة في معالجة الفتنة، والتبصّر في المحن والنظر في العاقبة على هدي الله:
«وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَی هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ»(1) .
«إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِيِ مِنْ غَیْرِي، وَرَبَّي أَعْلَمُ بِي مِنَّي بِنَفْسِيِ، اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِماَ يَقُولُونَ، وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ»(2) .
وهو قوله عليه علیه السلام وقد مدحه قوم في وجهه:
«فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَعْلَمُ بِي مِنْ نَفْسِيِ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِيِ مِنْهُمْ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا خَیْرًا مِمَّا يَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لَنَا مَا لَا يَعْلَمُونَ»(3) .
وكشف عليه صلوات ربّه ومربّيه عن جوهر سريرته، ومكنون دخيلته، وجميل طبعه، وكمال وضعه، في مقال طويل، وبيان رائع بعد ما بهرت خطبته في صفین من عقلها فطفق يثني عليه بالغًا، ويذكر سمعه وطاعته له، فأفاض بهذه الرائعة فكرًا وجلالاً وجمالًا:
«إِنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ عَظُمَ جَلَالُ اللهِ سُبْحَانَهُ فِي نَفْسِهِ، وَجَلَّ مَوْضِعُهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنْ يَصْغُرَ عِنْدَهُ لِعِظَمِ ذَلِكَ كُلُّ مَا سِوَاهُ، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ وَلَطُفَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ تَعْظُمْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا ازْدَادَ حَقُّ اللهِ عَلَيْهِ عِظَمًا،
ص: 99
وَإِنَّ مِنْ أَسْخَفِ حَالَتِ الوُلَاةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ الفَخْرِ، وَيُوضَعَ أَمْرُهُمْ عَلىَ الكِبْرِ، وَقَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنِّكُمْ أَنِّ أُحِبُّ الإِطْرَاءَ وَاسْتِمَاعَ الثَّنَاءِ، وَلَسْتُ بِحَمْدِ اللهِ كَذَلِكَ، وَلَوْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ لَتَرَكْتُهُ انْحِطَاطًا للهِ سُبْحَانَهُ عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ العَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، وَرُبّمَاَ اسْتَحْلَی النَّاسُ الثَّنَاءَ بَعْدَ البَلاَءِ، فَلاَ تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ لِاِخْرَاجِي نَفْسِيِ إِلَی اللهِ سُبْحَانَهُ وَإِلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا، وَفَرَائِضَ لَا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا، فَلاَ تُكَلِّمُونِي بِماَ تُكَلَّمُ بِهِ الجَبَابِرَةُ، وَلَا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِماَ يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ البَادِرَةِ، وَلَا تُخَالِطُونِي بِالمُصَانَعَةِ، وَلَا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالًا فِي حَقٍّ قِيلَ لِي، وَلَا التِمَاَسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِيِ، فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ العَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ العَمَلُ بِهِمَاَ أَثْقَلَ عَلَيْهِ، فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ، فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِيِ بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ، وَلَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي،إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللهُ مِنْ نَفْسِيِ مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي، فَإِنَّمَاَ أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لَا رَبَّ غَیْرُهُ، يَمْلِكُ مِنَّا مَا لَا نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا، وَأَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَی مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ، فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى، وَأَعْطَانَا البَصِیرَةَ بَعْدَ العَمَى»(1) .
وبعد..
فهذه لمحة تحكي نمطًا مما ظهر من كمالات ذلكم الحكيم الإلهي والإمام الربّاني، وصورًا من خلائقه، شهدها من عاصره ووقف على شأن من شؤون حياته، وأمّا ما حمله فكره، وضمّته جوانحه، وأترعت به نفسه، وانطوى عليه سره فلا يحيط به إلا واهبه، ولا يَخبره إلا من تولى رعايته، فعرفه وعرّفه: «أنا أديبُ الله وعيٌّ أديبي».
وقد أرّخ الإمام علیه السلام التحاقه بمربّيه صلی الله علیه و آله و سلم وانفراده بشأنه، منذُ أيّامه الأولى، فاستمع، و يالجلال ما يلقى عليك:
ص: 100
«وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) بِالْقَرَابَةِ القَرِيبَةِ وَالمَنْزِلَةِ الخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَدٌ، يَضُمُّنِي إِلَی صَدْرِهِ وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ، وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَلَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ، وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ (صلى الله عليه وآله) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيمًا أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ، يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ المَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلَاقِ العَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَمًا وَيَأْمُرُنِي بِالِقْتِدَاءِ بِهِ، وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَلَا يَرَاهُ غَیْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلاَمِ غَیْرَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُماَ، أَرَى نُورَ الوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِینَ نَزَلَ الوَحْيُ عَلَيْهِ (صلى الله عليه وآله)، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَتَرَى مَا أَرَى، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ، وَلَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلىَ خَیْرٍ»(1) .
فذلكم النبي في حياطته الشاملة، وعنايته الكاملة غذاء روح وجسم، وعواطف حميمة ومشاعر صادقة، وخلوات وجلوات، وتحليق في الأفق الأعلى والمقام الأسمى، والموطن الأسنى، ووقوف على منتهى الحقائق، وإحاطة بما هنالك، فأعظم به محبوًّا وموهوبًا.
ربيبُ طهَ حبيبِ اللهِ أنتَ ومَنْ *** كان المربيَّ لهُ طهَ فقد برعا(2)
ص: 101
والدنيا حافلة ببواعث الانشداد وتفاعل القوى، مترعة بعوامل التعلق والهوى، فيّاضة بالجمال والمغريات والمشتهى، مكمن تنزع اليه الرغائب، يحيا فيها الإنسان فتجذبه إلى حب بقائها والبقاء فيها، وتتغلغل في أعماقه فتملك عليه مشاعره، ويخلد اليها فتستهويه فلا يعقل سواها، وتأسره فتكون همه فيشتد للوله بها وامتلاك أسبابها.
وقد يرمقها عاقاً فيحسن التعامل فيها بجميل التصرف في متعها، فتخادعه فلا ينخدع، وتغالبه فلا يغلب، بل يستولي عليها فيملكها ولا تملكه مهما فتنت وأغرت.
وحيث هي محور التنازع والراع والافتتان والتجاذب فلا محيص للإنسان من إمداده ببصرة نافذة، وقوة قادرة تفي له بالظفر والغلبة على كافة سبل سحرها وخداعها والركون اليها، والإنجذاب إلى مفاتنها، والسامة من فتنها، والافادة منها دونما الافادة منه.
وهنا يتجى دور (التربية الإلهية والهداية الربانية) فتمدانه بالحصانة وتبصرانه بمواقع الورطة والتعلق، وتنبهانه مواضع الغفلة، وتحكمان فيه القوة والاقتدار لمعرفة أخفى السبل وأخبث الحيل للوقوع في الشراك، والاصطياد في الشباك.
والإمام علي صنيعة التربية الإلهية رائد الهداية ممنوح القوى الكاملة خبیر بالدين عالم بالدنيا بصیر بهما يزودنا بخیر الهدي ودقيق التبصیر فهو كما قال علیه السلام:
ص: 102
«أَنَا كَابُّ الدُّنْيَا لِوَجْهِهَا، وَقَادِرُهَا بِقَدْرِهَا، وَنَاظِرُهَا بِعَيْنِهَا»(1) .
فلنسر في (نهجه) ونسترشد ببليغ حكمه، ولنقتف خطاه فنسلك بذلك الصراط المستقيم فلا نضل ونأمن الحیرة والعثار.
«وَأَهْبَطَهُ إلى دَارِالَبَلِيَّةِ، وَتَنَاسُلِ الذُّرِّيَّةِ»(2) .
فالدنيا إنما خلقت محطة للابتلاء والامتحان «الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالَحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ»(3) .
والذرية عامل من عوامل الفتنة فيها.
«وَلكِنَّهُمْ حَلِيَتَ الدُّنْيَا في أَعْيُنِهمْ، وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا»(4) .
فنكثوا لذلك بيعتهم، وتخلوا عن صفقة يمينهم، وتنكروا للحق الذي عرفوه، حباً منهم لحاوة الدنيا، واستجابة لبريق زبرجها.
ص: 103
«أَلاَ وَإِنَّ الْيَوْمَ المِضْمارَ، وَغَداً السِّبَاقَ، وَالسَّبَقَةُ(1) الْجْنَّةُ، وَالْغَايَةُ النَّارُ؛ أَفَلَا تَائِبٌ مِنْ خَطِيئَتِهِ قَبْلَ مَنِيَّتِهِ! أَلاَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ قَبْلَ يَوْمِ بُؤْسِهِ! أَلاَ وَإِنَّكُمْ في أَيَّامِ أَمَلٍ مِنْ وَرَائِهِ أَجَلٌ، فَمَنْ عَمِلَ في أَيَّامِ أَمَلهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ فَقَدْ نَفَعَهُ عَمَلُهُ، وَلَمْ يَضْرُرْهُ أَجَلُهُ؛ وَمَنْ قَصَّرَ في أَيَّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ، فَقَدْ خَسِرَِ عَمَلَهُ، وَضَرَّهُ أَجَلُهُ»(2) .
«فَلْتَكُنِ الدُّنْيَا أَصْغَرَ في أَعْيُنِكُمْ مِنْ حُثَالَةِ الْقَرَظِ(3) ، وَقُرَاضَةِ الَجْلَمِ(4) ، وَاتَّعِظُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَتَّعِظَ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ؛ وَارْفُضُوهَا ذَمِيمَةً، فَإِنَّهَا قَدْ رَفَضَتْ مَنْ كَانَ أَشْغَفَ بِهَا مِنْكُمْ»(5) .
ويوقفنا بيان هديه علیه السلام على أمور:
الأول: ينبغي للكيِّس أن ينظر الدنيا حقیرة صغیرة فهي لا خير فيها كالساقط من كل ذي قشر، وإن نفع فما هو إلا كورق السلم أو ما يدبغ به من ثمر السنط!
وما هي إلا ما يتساقط من صوف إذا اعمل فيه مقراض جزه.
ص: 104
الثاني: أن دراسة حياة من سقطوا في حب الدنيا أعظم معتبر فليربأ العاقل بنفسه ان يقع فيما وقعوا فيه، وليصن نفسه أن يعتبر به غیره.
الثالث: وما دامت حقیرة فلترفض فإن من هام بها أردته، ومن شغف بهاتركته، فلا تكافئ المستهام بحبها الا تنكراً، وكلما أوغل في التعلق بها ازدادت عليه تمرداً وانقلاباً.
قال علیه السلام وقد سمع رجلاً يذمّ الدنيا:
«أَيُّهَا الذَّامُّ لِلدُّنْيَا، المُغْتَرُّ بِغُرُورِهَا، المَخْدُوعُ بِأَبَاطِيلِهَا! أَتَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا ثُمَّ تَذُمُّهَا؟ أَنْتَ المُتَجَرِّمُ عَلَيْهَا، أَمْ هِيَ المُتَجَرِّمَةُ عَلَيْكَ؟ مَتَى اسْتَهْوَتْكَ أَمْ مَتى غَرَّتْكَ؟ أَبِمَصَارِعِ آبَائِكَ مِنَ الْبِلَى أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِكَ تَحْتَ الثَّرَى؟ كَمْ عَلَّلْتَ بِكَفَّيْكَ، وَكَمْ مَرَّضْتَ بِيَدَيْكَ! تَبْتَغِي لَهُمُ الشِّفَاءَ، وَتَسْتَوْصِفُ لَهُمُ الْاَطِبَّاءَ، غَدَاةَ لاَيُغْنِي عَنْهُمْ دَوَاؤُكَ، وَلاَ يُجْدِي عَلَيْهِمْ بُكَاؤُكَ. لَمْ يَنْفَعْ أَحَدَهُمْ إِشْفَاقُكَ وَلَمْ تُسْعَفْ فِيهِ بِطِلْبَتِكَ وَلَمْ تَدْفَعْ عَنْهُ بِقُوَّتِكَ! قَدْ مَثَّلَتْ لَكَ بِهِ الدُّنْيَا نَفْسَكَ وَبِمَصْرَعِهِ مَصْرَعَكَ.
إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لَمِنْ صَدَقَهَا، وَدَارُ عَافِيَةٍ لَمِنْ فَهِمَ عَنْهَا، وَدَارُ غِنىً لَمِنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا وَدَارُ مَوْعِظَةٍ لَمِنْ اتَّعَظَ بِهَا. مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللهِ، وَمُصَلَّى مَلاَئِكَةِ اللهِ، وَمَهْبِطُ وَحْيِ اللهِ، وَمَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اللهِ، اكْتَسَبُوا فِيهَا الرَّحْمَةَ وَرَبِحُوا فِيهَا الْجَنَّةَ. فَمَنْ ذَا يَذُمُّهَا وَقَدْ آذَنَتْ بِبَيْنِهَا وَنَادَتْ بِفِراقِهَا، وَنَعَتْ نَفْسَهَا وَأَهْلَهَا، فَمَثَّلَتْ لَهُمْ بِبَلاَئِهَا الْبَلاَءَ، وشَوَّقَتْهُمْ بِسُرُورِهَا إلى السُّرُورِ؟! رَاحَتْ بِعَافِيَةٍ وَابْتَكَرَتْ بِفَجِيعَةٍ، ترغِيباً وَتَرْهِيباً، وَتَخوِيفاً وَتَحذِيراً، فَذَمَّهَا رِجَالٌ غَدَاةَ النَّدَامَةِ، وَحَمِدَهَا آخَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ذَكَّرَتْهُمُ
ص: 105
الدُّنْيَا فتَذَكَّرُوا، وَحَدَّثَتْهُمْ فَصَدَّقُوا، وَوَعَظَتْهُمْ فَاتَّعَظُوا»(1) .
والإمام علیه السلام بنظرته الثاقبة، وكشفه الواقعي لحقيقة (الدنيا) ومفهومها يقدم التصور ويصحح المفهوم الخاطئ الذي انطبع في أذهان الكثیر حول (الدنيا) والقاء اللائمة عليها حتى كأنها ليس لها سمة الا الفتنة منها، والهيمنة والأسر وفي ذلك الخلط بین واقعها هي في ذاتها وبین المنشدين اليها والمتعلقین بها وعلة ذلك عدم النظر بموضوعية إلى جوهرها وواقعها، ولاسيما في فكر وعین الزاهدين فيهاالمعرضین عنها.
وهنا يتجلّى عمق بيان الإمام النافذ، وتحليله الدقيق، وتجليته الواقعية باستيعاب التأمل في كافة شؤونها، ولا سيما في المواطن الخفية لدى الكثیر وفد أفاد علیه السلام في بيانه ما يلي:
أولاً: ضعف النفس والنظرة الضيقة:
فمن هو الذام للدنيا ولاعنها؟ انه المفتون بها، غرته فاغتر، وخدعته فانخدع، وقد علم بأباطيلها وزخرفها، فاللائمة عليه، والتبعة تخصه، فلو عقل مغرياتها لما جذبته، ولو حذر منها لما فتنته.
ثانياً: الوجه الآخر موطن التبصر والاعتبار:
فلماذا الاقتصار على الاغترار؟! وأيامها مسرح للأحزان والأشجان: ابتلاء بفقد أعز عزيز وأحب قريب. يشهد من يحيى فيها مصارع آبائه، ويودع في الثرى أمه التي ولدته، ويشقى بكرب أعز أهل مودته، ويسعى لإسعافهم جهد طاقته
ص: 106
فلا ينفعهم همه، ولا يجديه سعيه وألمه، ولا يملك من أمره وأمرهم إلا بسخي دمعه حيث لا يعيد ميتاً ولا يشفي مريضاً.
ثالثاً: داؤك ودواؤك:
إنه الابتلاء المحيط بصاحبه في أعز الأنفس عليه وهي نفسه، فلئن كان يعالج مصائب ومصارع أمه وأبيه فهو الآن يصارع مرض نفسه، ويغص بريقه فهو المبتلى كما كانوا مبتلین والممتحن كما كانوا ممتحنین، وهو العاجز لا يدفع مرضاً ولا يمنع موتاً.
رابعاً: الصورة المشرقة:
فليست الدنيا فقط مرتعاً للغرور والأباطيل، وملعباً للشهوات والنزوات بل هي الدار المتسعة لمواطن الخیرات، الحافلة بجهات البركات، العامرة أرجاؤها بمباهج العطاء والمسرات المخصبة بمكامن القربات.
ويتحفنا الإمام- عليه صلوات ربّه- بمتنوع تلكم المناحي فيقول عنها:
أ) دار صدق:
فمن صدقها ورعى الحق أفاد منها، وعمرها بالخير عاجلاً وآجلاً.
ب) دار عافية:
ولكم لمن وعاها فسلم من بلائها وآفاتها مما يبتلى به من تعلق بأسباب الهلكة وبواعث العطب.
ص: 107
ج) دار غنى:
فيتزود مما فيها لآخرته زاداً، زاهداً في امتلاك بعضها أو كلها لذاتها اذ ليس هذا تزوداً وإنما هو الاكتناز وحب المال حبًّا جمًّا.
د) دار موعظة:
يمر فيها الإنسان عبر مراحل حياته وتفاوت أدواره وأطواره وليداً ويافعاً وكهلاً وشيخاً أضعفه أرذل العمر، فقیراً وغنياً وملكاً ورعية يَظلم ويُظلم، لا تستقر في أيامها أوضاع شدة ورخاء وصراع وتقلبات.
وكل هذا واعظ ومبصّ ولافت ومذكّر.
ه) مسجد أحباء الله.
و) مصلّی ملائكة الله.
ز) مهبط وحي الله.
ح) متجر أولياء الله.
فالأرض جعلت مسجداً وطهورًا، وأحباء الله يعلمون أن أفضل القربات إلى الله مولاهم الصلاة يستكثرون منها ليلا ونهارا فهم في ذلك قد اتخذوا الدنيا مسجدا والحياة معبدا والدنيا بذلك عامرة بذكر الله وعلي القائل هذا القول هو القائل المقالة الأخرى المعبرة:
«الجلسة في الجامع خیر لي من الجلسة في الجنة، فإن الجنة فيها رضا نفسي،
ص: 108
والجامع فيها رضا ربي»(1) .
وكما عمرها أحباء الله من البشر فكذلك عمرها أحباؤه من الملائكة وهم الأكثر عددًا والأدوم عبادة.
وفي هذا ما يأخذ بابن آدم إلى الفخر حيث يشارك خیرة الله من خلقه الذين مأ بهم سماءه وأرضه ويحاكيهم في أنماط من عبادة مولى الخلق ورب العالمین.
والملائكة أمناء وحي الله وحملة علمه وهديه سفرة كرام بررة يهبطون به من عرش الله نسخة من اللوح والقلم صحفا مطهرة على الصفوة المنتخبة والخیرة المنتجبة فكان من ذلك التوراة والانجيل والزبور وصحف ابراهيم وموسى والقران العظيم والذكر الحكيم وشاركت الدنيا السماوات العلا حيث يتنزل من الاعلى ويهبط إلى الدنيا فيملأ أرجاء الأرض كما ملأ آفاق السماء.
وبماذا تنال الجنة ويبلغ ماينعم فيها مما لاعین رأت ولاأذن سمعت ولاخطر على قلب بشر؟!
إن ذلك يدرك بالاتجار مع الله بصالح الأعمال، والمتجر الدنيا وأولياء الله يعملون ليل نهار فيها، «الدنيا مزرعة الآخرة»، ومن ثم فقد غنموا اكتساب الرحمة وربحوا الجنة.
وبعد...
فإذا كانت الدنيا بهذه السمة وعظيم الشأن والمنزلة معمورة لصفوة الله
ص: 109
وخالصة أوليائه مملؤة بألطافة ممنوحة باتحافه فهي ترتقي بذلك لتكون لمن عقل ووعى من شاكلة الجنة وسنخها.
خامسًا: الدنيا تحذر من نفسها:
فلا لائمة تنحى عليها بل هي على من لم ينظر إليها بعین باصرة ولم يصغِ إلى تحذيرها بإذن مستمعة كيف وقد أعلنت هي نفسها برحيلها وانقضائها وعدم بقائها على حال وأنبأت عن حياة الساكنين فيها ورحيلهم عنها بل وجسدت صورتین ناطقتین فصيحتین معبرتین إحداهما البلاء والمحنة والكربات والشدة وثانيتهما الرخاء والراحة والفرحة وقرة العین والغبطة.
وقد مثلت كذلك قائمة دائمة غدوة ورواحًا فهي ديدنها الإنذار والتذكیر والتخويف والتحذير والترغيب والترهيب.
ويقرأ كلامه علیه السلام الذي قاله عند تلاوته «يَا أَيُّهَا الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ» ومنه ما يخص حديثنا هنا: «وَحَقّاً أَقُولُ! مَا الدُّنْيَا غَرَّتْكَ، وَلكِنْ بِهَا اغْتَرَرْتَ، وَلَقَدْ كَاشَفَتْكَ الْعِظَاتِ، وَآذَنَتْكَ عَلىَ سَوَاءٍ...»(1) ، فإنها أجل من أن يقال عنها جليلة، تأخذ بمجامع القلوب وتحيي الضمائر وتهدي إلى سواء السبيل.
سادسًا: تجلي المواقف:
وستتجلى النتائج غداة العواقب فلسانٌ ذامٌّ يوم الحسرة والندامة حيث لم يكن مرعويًا بالعبر متعظاً بالغِیرَ يرى صنيعه سيئًا وعمله وبالاً، ولسانٌ حامد شاكر حيث كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد، إذ أصغى لتحذيرها وادّكر
ص: 110
لتذكيرها واتّعظ بمواعظها فسلم وغنم.
«النَّاسُ فِي الدُّنْيَا عَامِلاَنِ: عَامِلٌ عَمِلَ فِي الدُّنْيَا لِلدُّنْيَا، قَدْ شَغَلَتْهُ دُنْيَاهُ عَنْ آخِرَتِهِ، يَخْشَى عَلَى مَنْ يَخْلُفُهُ الْفَقْرَ، وَيأْمَنُهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَيُفْنِي عُمُرَهُ فِي مَنْفَعَةِ غَیْرِهِ.
وَعَامِلٌ عَمِلَ فِي الدُّنْيَا لَمِا بَعْدَهَا، فَجَاءَهُ الَّذِي لَهُ مِنَ الدُّنْيَا بِغَیْرِ عَمَلٍ، فَأَحْرَزَ الَحَظّیْنِ مَعاً، وَمَلَكَ الدَّارَيْنِ جَمِيعاً، فَأَصْبَحَ وَجِيهاً عِنْدَاللهِ، لاَ يَسْأَلُ اللهَ حَاجَةً فيَمَنعَهُ»(1) .
تصنيف دقيق وتقييم جامع لكافة من يعمل في الدنيا، ففئة همها ذاتها والدنيا، وفئة همها الله والآخرة، أما الصنف الاول فقد ملكت عليه الدنيا قلبه وجوارحه فلا ينظر إلا إليها ولا يعمل إلا لها، وأما آخرته فلا تخطر له على بال، فتراه يشقي نفسه لغیر عائدة تنفعه، بل يكدح لغیره ويجمع لسواه غافلاً عن إسعاد نفسه متوهمًا بجمعه إغناء غیره فكأن بيده التوفیر لمن يخلفه وكأنه بمأمن عن افتقار ذاته فيعيش شقاءه متخیرًا سعادة غیره وذلك غاية الحماقة والجهل.
وأما الصنف الثاني فإنه اعتد الدنيا ممرًا والآخرة مقرًّا. فهو عامل فيها لا لذاتها فليست هي بدار بقاء لا له ولا لمن يخلفه وإنا كل همه وغاية سعيه المنزل الأسمى يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم فهو على بينة ويقین بأن ما اكتسب فهو من عطاء الله وتقديره وتدبیره وليس بحوله وطوله وتعبه ونصبه فنال بذلك الحظین وأدرك السعادتين وملك الدارين بل وأصبح عند الله وجيها يدعو فيجاب ويسأل فيعطى.
ص: 111
وأي مقام أسمى يتبوأه العبد فيكون عند المولى مرموقًا منظورًا إليه بالعطف وكمال اللطف، هذا وللإمام علیه السلام حديث مستفيض شمل كثیرًا من شجونها وشؤونها بثه في نهج بلاغته ومنه ما جاء في بعض صفحات هذا الكتاب.
ص: 112
والإنسان إبداع الله المعجز وخلقه العجيب بدأ خلقه من طین ثم من سلالة ماء مهین ثم كساه لحما وعظما ثم أنشأه خلقًا آخر فتبارك الله أحسن الخالقین.
أودع فيه جم القوى ومنحه كثر القابليات فاتجهت لصنوف الرغائب ومتعدد الميول.
وهبه خير الهبات وشرّفه بأنفس السمات.
فكرّمه ب (العقل) وهو الجوهرة المقدسة.
كما زوّده ب (النفس) وهي النعمة الكبرى.
والإنسان- وهو إبداعة التكوين- يزخر في جرمه الصغیر التحامًا وارتباطا اللحم والدم والعظم والحواس الظاهرة والحواس الباطنة وما ينبعث من ذلك من ميول وأهواء وقدرات وطاقات وطباع وأوضاع.
وحينما تزدحم القوى فينجم عنها التصارع والتغالب والتنازع فيسمو الإنسان طورًا، وطورًا يخلد إلى الأرض وربما إلى مهوى سحيق.
وللإمام علیه السلام وهو صنيعة الإبداع الإلهي وأنموذج التربية الربانية مقال مستفيض حول (الإنسان) خلقةً وتركيبًا ونظامًا وتربيةً، من خطب طوال وجمل قصار أحاطت بالمهم من شؤونه تشخيصا وعلاجًا وعلى نسق الفصول السابقة نسلك (نهج البلاغة) سائرين في صراطه المستقيم لنبلغ الغاية.
ص: 113
أ) «ثُمَّ نَفَخَ فِيها مِنْ رُوحِهِ فَمَثُلَتْ(1) إِنْساناً ذَا أَذْهَانٍ يجُيلُهَا، وَفِكَرٍ يَتَصرَّفُ بَهِا، وَجَوَارِحَ يَخْتَدِمُهَا(2) ، وأَدَوَاتٍ يُقَلِّبُهَا، ومَعْرِفَةٍ يَفْرُقُ بَهِا بَیَنْ الَحْقِّ وَالْبَاطِلِ، والَأذْوَاقِ والمَشَامِّ، وَالْاَلْوَانِ وَالْاَجْنَاسِ، مَعْجُوناً بطِينَةِ الْاَلْوَانِ المُخْتَلِفَةِ، وَالْاَشْبَاهِ المُؤْتَلِفَةِ، وَالْأَضْدَادِ المُتَعَادِيَةِ، والْأَخْلاطِ المُتَبَايِنَةِ، مِنَ الْحَرِّ والْبَرْدِ، وَالْبَلَّةِ وَالُجُمُودِ»(3) .
ب) «أَمْ هذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاَتِ الأَرْحَامِ، وَشُغُفِ(4) الأستارِ، نُطْفَةً دِهَاقاً(5) ، وَعَلَقَةً مَحِاقاً(6) ، وَجَنِيناً وَرَاضِعاً، وَوَلِيداً وَيَافِعًا(7) . ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً، وَلِساناً لافِظاً، وَبَصَرَاً لاحِظاً، لِيَفْهَمَ مُعْتَبِرِاً، وَيُقَصَّرَ مُزْدَجِراً»(8) .
ج) «أَيُّهَا المَخْلُوقُ السَّوِيّ، وَالمُنْشَأُ(9) المَرْعِيُّ(10) ، فِي ظُلُمَاتِ الْأرْحَامِ، وَمُضَاعَفَاتِ الاستارِ، بُدِئْتَ «مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِینٍ»، وَوُضِعْتَ «فِي قَرَارٍ مَكِینٍ*
ص: 114
إلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ» وَأَجَلٍ مَقْسُومٍ، تَمُورُ(1) فِي بَطْنِ أُمَّكَ جَنِيِنا لَا تحِیُرُ دُعَاءً(2) ، وَلَا تَسْمَعُ نِدَاءً، ثُمَّ أُخْرِجْتَ مِنْ مَقَرِّكَ إلى دَارٍ لَمْ تَشْهَدْهَا، وَلَمْ تَعْرِفْ سُبُلَ مَنَافِعِهَا؛ فَمَنْ هَدَاكَ لِاِجْتِرِارِ الْغِذَاءِ مِنْ ثَدْيِ أُمَّكَ، وَعَرَّفَكَ عِنْدَ الَحَاجَةِ مَوَاضِعَ طَلَبِكَ وَإِرَادَتِكَ!»(3) .
د) «اعْجَبُوا لِذَا الإنسان يَنْظُرُ بِشَحْمٍ، وَيَتَكَلَّمُ بِلَحْمٍ، وَيَسْمَعُ بِعَظْمٍ، وَيَتَنَفَّسُ مِنْ خَرْمٍ!!»(4) .
أ) «مَا لِابْنِ آدَمَ وَالْفَخْرِ: أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ، وَلاَ يَرْزُقُ نَفْسَهُ، وَلاَيَدفَعُ حَتْفَهُ»(5) .
ب) «مِسْكِينٌ ابْنُ آدَمَ: مَكْتُومُ الْاَجَلِ، مَكْنُونُ الْعِلَلِ، مَحْفُوظُ الْعَمَلِ، تَؤْلُمِهُ الْبَقَّةُ، وَتَقْتُلُهُ الشَّرْقَةُ وَتُنْتِنُهُ الْعَرْقَةُ»(6) .
«جَعَلَ لَكُمْ أسْمَاَعاً لِتَعِيَ مَا عَنَاهَا، وَأَبْصَاراً لِتَجْلُوَ عَنْ عَشَاهَا، وَأَشْلاَءً جَامِعَةً لِأَعْضَائِهَا، مُلاَئِمَةً لِأَحْنَائِهَا في تَرْكِيبِ صُوَرِهَا، وَمُدَدِ عُمُرِهَا، بِأَبْدَانٍ قَائِمَةٍ بِأَرْفَاقِهَا، وَقُلُوبٍ رائِدَةٍ لِاَرْزَاقِهَا»(7) .
ص: 115
«سُبْحَانَكَ خَالِقاً وَمَعْبُوداً! بِحُسْنِ بَلاَئِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ، خَلَقْتَ دَاراً، وَجَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً: مَشْرَباً وَمَطْعَماً، وَأَزْوَاجاً وَخَدَماً، وَقُصُوراً، وَأَنْهَاراً، وَزُرُوعاً، وَثِماَراً. ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا»(1) .
وبعد أن صوّر الإمام علیه السلام الفصل ببديع خلق الإنسان وتدرجه وبيان حكمة ماوهب من جوارح عقب ذلك بقوله:
أ) «حَتَّى إِذَا قَامَ اعْتِدَالُهُ، وَاسْتَوَى مِثالُهُ(2) ، نَفَرَ مُسْتَكْبِرِاً، وَخَبَطَ سَادِراً(3) ، مَاتِحاً فِي غَرْبِ هَوَاهُ(4) ، كَادِحاً سَعْياً لِدُنْيَاهُ، فِي لَذَّاتِ طَرَبِهِ، وَبَدَوَاتِ(5) أَرَبِهِ؛ لْايَحْتَسِبُ رَزِيَّةً، وَلاَ يَخْشَعُ تَقِيَّةً؛ فَمَاَتَ فِي فِتْنَتِهِ غَرِيراً، وَعَاشَ فِي هَفْوَتِهِ يَسِیراً، لَمْ يُفِدْ عِوَضاً، وَلَمْ يَقْضِ مُفْتَرَضاً»(6) .
ب) وفي خطبة أخرى صدّر فصا منها بحسن بلاء الله وجميل صنعه بخلقه وكريم دعوته لمأدبته في جنته فإذا بمن اكرموا وعلى لسان المبلغ عن الله دعوا.
«فَلاَ الدَّاعِيَ أَجَابُوا، وَلاَ فِيَما رَغَّبْتَ رَغِبُوا، وَلاَ إلى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اشْتَاقُوا.
ص: 116
أَقْبَلُوا عَلَى جِيفَةٍ قَدْ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا، وَاصْطَلَحُوا عَلىَ حُبِّهَا، وَمَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ، وَأَمْرَضَ قَلْبَهُ، فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَینْ غَیْرِ صَحِيحَةٍ، وَيَسْمَعُ بَأُذُن غَیْرِ سَمِيعَةٍ، قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ، وَأَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَهُ، وَوَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ، فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا، وَلَمِنْ فِي يَدَيْهِ شَیْءٌ مِنْهَا»(1) .
أ) «إِنَّمَاَ المَرْءُ فِي الدُّنْيَا غَرَضٌ(2) تَنْتَضِلُ(3) فِيهِ المَنَايَا وَنْهبٌ تُبَادِرُهُ المَصَائِبُ، وَمَعَ كُلِّ جُرْعَةٍ شَرَقٌ وَفِي كُلِّ أَكْلَةٍ غَصَصٌ. وَلاَ يَنَالُ الْعَبْدُ نِعْمَةً إِلاَّ بِفِرَاقِ أُخْرَى، وَلاَ يَسْتَقْبِلُ يَوْماً مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ بِفِرَاقِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ. فَنَحْنُ أَعْوَانُ المَنُونِ وَأَنْفُسُنَا نَصْبُ الُحُتُوفِ فَمِنْ أَيْنَ نَرْجُو الْبَقَاءَ وَهذَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ لَمْ يَرْفَعَا مِنْ شَیْءٍ شَرَفاً(4) .
إِلاَّ أَسْرَعَا الْكَرَّةَ فِي هَدْمِ مَا بَنَيَا، وَتَفْرِيقِ مَا جَمَعا؟!»(5) .
ب) «يَا أيُّها النَّاسُ، مَتَاعُ الدُّنْيَا حُطَامٌ(6) مُوبِىءٌ(7) فَتَجَنَّبُوا مَرْعَاهُ! قُلْعَتُهَا(8) أَحْظَى مِنْ طُمَأْنِينَتِهَا(9) وبَلُغَتُهَا(10) أَزْكَى مِنَ ثَرْوَتَها، حُكِمَ عَلَى مُكْثِرٍ مِنْهَا بِالْفَاقَةِ
ص: 117
وَأُعیِنِ مَنْ غَنِيَ عَنْهَا بِالرَّاحَةِ. مَنْ رَاقَهُ زِبْرِجُهَا(1) أَعْقَبَتْ نَاظِرَيْهِ كَمَهاً(2) وَمَنِ اسْتَشْعَرَا لشَّغَفَ بِهَا مَلاَتْ ضَمِیرَهُ أَشْجاناً لَهُنَّ رَقْصٌ عَلى سُوَيْدَاءِ قَلْبِهِ هَمٌّ يَشْغَلُهُ، وَغَمٌّ يَحْزُنُهُ، كَذلِكَ حَتَّى يُؤْخَذَ بِكَظَمِهِ(3) فَيُلْقَى بِالْفَضاءِ، مُنْقَطِعاً أَبْهَرَاهُ(4) ، هَيِّناً عَلى اللهِ فَناؤُهُ، وَعَلىَ الِاْخْوَانِ إِلْقَاؤهُ وَإِنَّماَ يَنْظُرُ المُؤْمِنُ إلى الدُّنْيَا بَعَیْنِ الْاِعْتِبَارِ وَيَقْتاتُ مِنْهَا بِبَطْنِ الْأِضْطِرَارِ وَيَسْمَعُ فِيهَا بِأُذُنِ المَقْتِ وَالْإبْغَاضِ، إِنْ قِيلَ أَثْرى قِيلَ أَكْدَى(5) ! وَإِنْ فُرِحَ لَهُ بِالْبَقَاءِ حُزِنَ لَهُ بِالْفَنَاءِ! هذَا وَلْمَ يَأْتِهِمْ يَوْمٌ فِيهِ يُبْلِسُونَ(6) »(7) .
«مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ»(8) .
وما أجلّ هذه الموازنة وأدق هذه المعادلة والمقارنة فالعاقل يصون نفسه ويحوطها بسياج من المنعة فلا يدنو منها ما يلوثها، وحينما تتربى وتترعرع في أحضان التنزيه تسمو في ذاتها وتتعالى بطبعها أن ترمق من الشهوات أوتهفو إلى الرغبات أو تخطر في افقها النزوات التي لاتنسجم وكرامتها ولا يليق بشرفها.
ص: 118
أ) «عِبَادَ اللهِ، زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا، وَحَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَتَنَفَّسُوا قَبْلَ ضِيقِ الْخِنَاقِ، وَانْقَادُوا قَبْلَ عُنْفِ السَّيَاقِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُعَنْ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنْهَا وَاعِظٌ وَزَاجِرٌ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا زَاجِرٌ وَلاَ وَاعِظٌ»(1) .
ب) «فَحَاسِبْ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ، فَإِنَّ غَيْرَهَا مِنَ الأَنْفُسِ لَهَا حَسِيبٌ غَيْرُكَ»(2) .
وكانت هذه الفقرة خاتمة كلامه الذي قاله عند تلاوته «يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ والْصَالِ رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ».
أوجزها جامعة للنهج القويم في التركيز على الاهتمام والبدءة باصلاح الذات وعلى إهمال الانشغال بفعل الاخرين وعلى عمق التعليل فعائدة محاسبة النفس للنفس ولا شئ لدى المرء أعز عليه من نفسه وهي التي يرجو لها الدنيا والآخرة فما أجدره بالعناية بها ومراقبتها ومحاسبتها.
ص: 119
واستكمالاً لركائز (الأخلاق) وأثافيه نختم هذا التمهيد بحديث (المعاد) ودوره الفاعل في تقويم السلوك وسبيل الاستقامة.
فالإنسان إذا وقر في قلبه أنه بعد دنياه هذه وما حفلت به وما اجرح فيها واقترف قادم على ربه فيوفيه حسابه فإما السعادة أو الشقاء فلابد له من مراقبة ما يصدر عنه من قول أو فعل أوترك.
ومادة بحثنا هذه هي مادة الكتاب المستقاة من هدي إمام الأمة ورباني الأئمة في (نهج البلاغة).
وقد أفاض j اعلیه السلام المقال في ذلك وبثَّه درراً في كلمه وجواهر حكمه في خطبه الطوال ونبذه القصار.
ولا يسعني استيفاء ذلك كله ولا توفيته حقه من الشرح، فهو من الكثرة والوفرة مالو جمع ورتب لكان السفر النفيس والمعدن الثر ولكني ملتقط منه شذرات ومن بحره لآلئ.
وتنوعت جهات حديث الإمام jعلیه السلام وأساليبه فترغيب، وترهيب، ودقة تصوير لمراحل ومواقف ومشاهد يعيشها ابن آدم وينتقل عنها إلى أشد منها حتى يقر في مأواه بعد العرض الأكبر على مولاه.
أعاننا الله على لقاه وجعلها ساعة رضاه.
ص: 120
«أَنْتَ الْأَبَدُ فَلَا أَمَدَ لَكَ وَأَنْتَ المُنْتَهَى فَلَا مَحِيصَ عَنْكَ وَأَنْتَ المَوْعِدُ فَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ بِيَدِكَ نَاصِيَةُ كُلِّ دَابَّةٍ وَإِلَيْكَ مَصِیرُ كُلِّ نَسَمَةٍ»(1) .
«وَذَلِكَ يَوْمٌ يَجْمَعُ اللهُ فِيهِ الْأَوَّلِینَ وَالْآخِرِينَ لِنِقَاشِ الِحِسَابِ وَجَزَاءِ الْأعْمَاَلِ»(2) .
ويصور الإمام علیه السلام بأدق تصوير وأبلغ تعبیر هول سكرات الموت وتصرم الحياة الأولى الدنيا وغصص انتقال المرء إلى مشارف الحياة الثانية وبرزخها في هموم وغموم وكمد وأحزان مما لا يوصف كنهه ولا تعرف حقيقته.
والإمام علیه السلام ممنوح المواهب ممدود بالغيب محيط بالأسرار مطلع على الحقائق، «وَإِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَاتٍ هِيَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَةٍ أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ الدُّنْيَا»(3) .
وذلك ما امتاز به خاصة أولياء الله تعالى ومن ثم لا يقوى على الإنباء بتلكم الأحوال والأهوال والعالم سواهم.
ص: 121
وهو القائل- سلام الله عليه- ضمن الإشادة بنجباء عباد الله: «وَإِنَّ لِلذِّكْرِ لَأَهْلاً أَخَذُوهُ مِنَ الدُّنْيَا بَدَلً فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَلَ بَيْعٌ عَنْهُ يَقْطَعُونَ بِهِ أَيَّامَ الَحَيَاةِ وَيَهْتِفُونَ بِالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ فِي أَسْمَاعِ الْغَافِلِینَ وَيَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وَيَأْتَمِرُونَ بِهِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ فَكَأَنَّمَا قَطَعُوا الدُّنْيَا إِلَی الْآخِرَةِ وَهُمْ فِيهَا فَشَاهَدُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَكَأَنَّمَا اطَّلَعُوا غُيُوبَ أَهْلِ الْبَرْزَخِ فِي طُولِ الْإِقَامَةِ فِيهِ وَحَقَّقَتِ الْقِيَامَةُ عَلَيْهِمْ عِدَاتِهَا فَكَشَفُوا غِطَاءَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الدُّنْيَا حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا لَا يَرَى النَّاسُ وَيَسْمَعُونَ مَا لَا يَسْمَعُونَ»(1) .
وقال علیه السلام في خطبة كهذه: «وَاذْكُرْ قَبْرَكَ فَإِنَّ عَلَيْهِ مَمَرَّكَ وَكمَا تَدِينُ تُدَانُ وَكَمَا تَزْرَعُ تَحْصُدُ وَمَا قَدَّمْتَ الْيَوْمَ تَقْدَمُ عَلَيْهِ غَداً فَامْهَدْ لِقَدَمِكَ وَقَدِّمْ لِيَوْمِكَ فَالَحَذَرَ الَحَذَرَ أَيُّهَا المُسْتَمِعُ وَالْجِدَّ الْجِدَّ أَيُّهَا الْغَافِلُ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِیر»(2) .
«أي ولا يخبرك أحد على حقائقها كالعارف بها العالم بكنهها»(3) .
فلنصغ إلى كشفه ووصفه بأرواحنا وعقولنا وقلوبنا، يقول علیه السلام:
«فَغَیْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهمْ: اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ المَوْتِ وَحَسْرَةُ الْفَوْتِ، فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ، وَتَغَیَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ. ثُمَّ ازْدَادَ المَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً، فَحِيلَ بَیْنَ أَحَدِهِمْ وَبَیْنَ مَنْطِقِهِ، وَإِنَّهُ لَبَیْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ، وَيَسْمَعُ بِأُذُنِهِ، عَلَى صِحَّةً مِنْ عَقْلِهِ، وَبَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ، يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمْرَهُ، وَفِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ! وَيَتَذَكَّرُ أَمْوَالاً جَمَعَهَا، أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا، وَأَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّ حَاتِهَا وَمُشْتَبِهَاتِهَا، قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ
ص: 122
جَمْعِهَا، وَأَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا، تَبْقَى لَمِنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا، وَيَتَمَتَّعُونَ بِهَا، فَيَكُونُ المَهْنَأُ لِغَیْرِهِ، وَالْعِبءُ عَلَى ظَهْرِهِ. وَالمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا، فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ المَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ، وَيَزْهَدُ فِيَما كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمُرِهِ، وَيَتَمَنَّى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا وَيَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ! فَلَمْ يَزَلِ المَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ، فَصَارَ بَیْنَ أَهْلِهِ لاَ يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ، وَلاَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ: يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ في وجُوهِهِمْ، يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَلاَ يَسْمَعُ رَجْعَ كَلاَمِهِمْ. ثُمَّ ازْدَادَ المَوْتُ الْتِيَاطاً بِهِ، فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ، وَخَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ، فَصَارَ جِيفَةً بَیْنَ أَهْلِهِ، قَدْ أوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهِ، وَتَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ. لاَ يُسْعِدُ بَاكِياً، وَلاَ يُجِيبُ دَاعِياً. ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَ مَخَطٍّ فِي الْأَرْضِ، فَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَی عَمَلِهِ، وَانْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ»(1) .
وكم له- سلام الله عليه- من بيان معبّر، وتصوير يجسّد تلكم النقلة المفزعة.
«دَهِمَتْهُ فَجَعَاتُ المَنِيَّةِ فِي غُبَّرِ جِمَاحِهِ وَسَنَنِ مِرَاحِهِ فَظَلَّ سَادِراً وَبَاتَ سَاهِراً فِي غَمَرَاتِ الْآلَامِ وَطَوَارِقِ الْأَوْجَاعِ وَالْأَسْقَامِ بَیْنَ أَخٍ شَقِيقٍ وَوَالِدٍ شَفِيقٍ وَدَاعِيَةٍ بِالْوَيْلِ جَزَعاً وَلَادِمَةٍ لِلصَّدْرِ قَلَقاً وَالمَرْءُ فِي سَكْرَةٍ مُلْهِثَةٍ وَغَمْرَةٍ كَارِثَةٍ وَأَنَّةٍ مُوجِعَةٍ وَجَذْبَةٍ مُكْرِبَةٍ وَسَوْقَةٍ مُتْعِبَةٍ»(2) .
أ- ذوو الميت يسلمونه إلى قبره ويعودون:
ص: 123
«ثُمَّ أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ مُبْلِساً وَجُذِبَ مُنْقَاداً سَلِساً ثُمَّ أُلْقِيَ عَلَى الْأَعْوَادِ رَجِيعَ وَصَبٍ وَنِضْوَ سَقَمٍ تَحْمِلُهُ حَفَدَةُ الْوِلْدَانِ وَحَشَدَةُ الْإِخْوَانِ إِلَی دَارِ غُرْبَتِهِ وَمُنْقَطَعِ زَوْرَتِهِ وَمُفْرَدِ وَحْشَتِهِ»(1) .
ب- حساب القبر:
«حَتَّى إِذَا انْصَرَفَ المُشَيِّعُ وَرَجَعَ المُتَفَجِّعُ أُقْعِدَ فِي حُفْرَتِهِ نَجِيّاً لِبَهْتَةِ السُّؤَالِ وَعَثْرَةِ الِمْتِحَانِ»(2) .
وحكايته عن هول ذلك العالم تأخذ بالألباب ومجامع القلوب:
«سُلِّطَتِ الْأَرْضُ عَلَيْهِمْ فِيهِ فَأَكَلَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ وَشَرِبَتْ مِنْ دِمَائِهِمْ فَأَصْبَحُوا فِي فَجَوَاتِ قُبُورِهِمْ جَمَاداً لَا يَنْمُونَ وَضِمَاراً لَا يُوجَدُونَ»(3) .
إلى آخر ما بلغ به من معالم دار الكربة والغربة وضيقها وشدة محنها وفجائع شجونها.
وهي الخطبة العجيبة التي قالها بعد تلاوته «أَلُهاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ»(4) .
ويعجبني جدًّا نقل ما قاله الشارح ابن أبي الحديد لكشفه عن الحقيقة وبيان الحق الصراح:
ص: 124
«من أراد أن يعظ ويخوف ويقرع صفاة القلب ويعرف الناس قدر الدنيا وتصرفها بأهلها فليأت بمثل هذه الموعظة في مثل هذا الكلام الفصيح وإلا فليمسك فإن السكوت أستر والعي خیر من منطق يفضح صاحبه، ومن تأمل هذا الفصل علم صدق معاوية في قوله فيه (والله ما سن الفصاحة لقريش غیره)، وينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في مجلس وتلي عليهم أن يسجدوا له كما سجد الشعراء لقول عدي بن الرقاع:
قلم أصاب من الدواة مدادها
فلما قيل لهم في ذلك، قالوا: إنا نعرف مواضع السجود في الشعر كما تعرفون مواضع السجود في القرآن.
وإني لأطيل التعجب من رجل يخطب في الحرب بكلام يدل على أن طبعه مناسب لطباع الأسود والنمور وأمثالها من السباع الضارية ثم يخطب في ذلك الموقف بعينه إذا أراد الموعظة بكلام يدل على أن طبعه مشاكل لطباع الرهبان لابسي المسوح الذين لم يأكلوا لحما ولم يريقوا دمًا...»(1) .
ولا يعنيني هنا دقة تشبيهه من ذكر الفُتّاك الشجعان والنُّسّاك الرهبان أو مقاربته بالمسيح بن مريم الإلهي.
ثم أردف قائلاً: «وأقسم بمن تقسم الأمم كلها به لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسین سنة وإلى الآن أكثر من ألف مرة، ما قرأتها قط إلا وأحدثت عندي روعة وخوفًا وعظة وأثرت في قلبي وجيبًا وفي أعضائي رعدة ولا تأملتها إلا
ص: 125
وذكرت الموتى من أهلي وأقاربي وأرباب ودي وخيلت في نفسي، فقال: إني أنا ذلك الشخص الذي وصف علیه السلام حاله»(1) .
وختم حديثه بتجي الإمام وامتيازه على كافة الوعاظ وفصحاء الخطباء وعلل تفاعله وانبهاره:
«وكم قد قال الواعظون والخطباء والفصحاء في هذا المعنى وكم وقفت على ما قالوه وتكرر وقوفي عليه فلم أجد لشئ منه مثل تأثیر هذا الكلام في نفسي فاما أن يكون ذلك لعقيدتي في قائله أو كانت نية القائل صالحة ويقينه كان ثابتا وإخلاصه كان محضا خالصا فكان تأثیر قوله في النفوس أعظم وسريان موعظته في القلوب أبلغ»(2) .
«وَاعْلَمُوا أَنَّ مَجَازَكُمْ عَلَى الصَّرَِاطِ وَمَزَالِقِ دَحْضِهِ وَأَهَاوِيلِ زَلَلِهِ وَتَارَاتِ أَهْوَالِهِ»(3) .
والتقوى عدة السلامة:
«فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ وَأَنْصَبَ الْخَوْفُ بَدَنَهُ وَأَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ وَأَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ يَوْمِهِ وَظَلَفَ(4) الزُّهْدُ شَهَوَاتِهِ
ص: 126
وأَوَجَفَ(1) الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ وَقَدَّمَ الَخْوْفَ لَأِمَانِهِ وَتَنَكَّبَ المَخَالِجَ عَنْ وَضَحِ السَّبِيلِ وَسَلَكَ أَقْصَدَ المَسَالِكِ إِلَی النَّهْجِ المَطْلُوبِ وَلَم تَفْتِلْهُ فَاتِلاَتُ الْغُرُورِ وَلَمْ تَعْمَ عَلَيْهِ مُشْتَبِهَاتُ الْأُمُورِ»(2) .
والعاقبة للمتقين:
«ظَافِراً بِفَرْحَةِ الْبُشْرَى وَرَاحَةِ النُّعْمَى فِي أَنْعَمِ نَوْمِهِ وَآمَنِ يَوْمِهِ وَقَدْ عَبَرَ مَعْبَرَ الْعَاجِلَةِ حَمِيداً وَقَدَّمَ زَادَ الْآجِلَةِ سَعِيداً وَبَادَرَ مِنْ وَجَلٍ وَأَكْمَشَ فِي مَهَلٍ وَرَغِبَ فِي طَلَبٍ وَذَهَبَ عَنْ هَرَبٍ وَرَاقَبَ فِي يَوْمِهِ غَدَهُ وَنَظَرَ قُدُماً أَمَامَهُ فَكَفَى بِالَجَنَّةِ ثَوَاباً وَنَوَالًا وَكَفَى بِالنَّارِ عِقَاباً وَوَبَالً وَكَفَى بِاللهِ مُنْتَقِماً وَنَصِیراً وَكَفَى بِالْكِتَابِ حَجِيجاً وَخَصِيماً»(3) .
«حَتَّى إِذَا تَصَّرَمَتِ الْأُمُورُ وَتَقَضَّتِ الدُّهُورُ وَأَزِفَ النُّشُورُ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ الْقُبُورِ وَأَوْكَارِ الطُّيُورِ وَأَوْجِرَةِ السَّبَاعِ وَمَطَارِحِ المَهَالِكِ سِرَاعاً إِلَی أَمْرِهِ مُهْطِعِینَ إِلَی مَعَادِهِ رَعِيلاً صُمُوتاً قِيَاماً صُفُوفاً يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ وَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي عَلَيْهِمْ لَبُوسُ الِسْتِكَانَةِ وَضَرَعُ الِسْتِسْلَامِ وَالذِّلَّةِ قَدْ ضَلَّتِ الْحِيَلُ وَانْقَطَعَ الْأَمَلُ وَهَوَتِ الْأَفْئِدَةُ كَاظِمَةً وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ مُهَيْنِمَةً وَأَلَجَمَ الْعَرَقُ وَعَظُمَ الشَّفَقُ وَأُرْعِدَتِ الْأَسْمَاَعُ لِزَبْرَةِ الدَّاعِي إِلَی فَصْلِ الْخِطَابِ وَمُقَايَضَةِ الْجَزَاءِ وَنَكَالِ الْعِقَابِ
ص: 127
وَنَوَالِ الثَّوَابِ»(1) .
وصور قدرة الجبار يوم تبدل الأرض غیر الأرض وبرز الخلق لخالقهم جميعاً فقال علیه السلام: «حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَالْأَمْرُ مَقَادِيرَهُ وَأُلْحِقَ آخِرُ الْخَلْقِ بِأَوَّلِهِ وَجَاءَ مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا يُرِيدُهُ مِنْ تَجْدِيدِ خَلْقِهِ أَمَادَ السَّمَاَءَ وَفَطَرَهَا وَأَرَجَّ الْأَرْضَ وَأَرْجَفَهَا وَقَلَعَ جِبَالَهَا وَنَسَفَهَا وَدَكَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَيْبَةِ جَلَالَتِهِ وَمَخُوفِ سَطْوَتِهِ وَأَخْرَجَ مَنْ فِيهَا فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إِخْلَقِهِمْ وَجَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ»(2) .
ويوفّيهم جزاءهم فمنهم شقي وسعيد:
«ثُمَّ مَيَّزَهُمْ لَمِا يُرِيدُهُ مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ عَنْ خَفَايَا الْأَعْمَالِ وَخَبَايَا الْأَفْعَالِ وَجَعَلَهُمْ فَرِيقَیْنِ أَنْعَمَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَانْتَقَمَ مِنْ هَؤُلَاءِ فَأَمَّا أَهْلُ الطَّاعَةِ فَأَثَابَهُمْ بِجِوَارِهِ وَخَلَّدَهُمْ فِي دَارِهِ حَيْثُ لَا يَظْعَنُ النُّزَّالُ وَلَا تَتَغَیَّرُ بِهِمُ الَحَالُ وَلَا تَنُوبُهُمُ الْأَفْزَاعُ وَلَا تَنَالُهُمُ الْأَسْقَامُ وَلَا تَعْرِضُ لَهُمُ الْأَخْطَارُ وَلَا تُشْخِصُهُمُ الْأَسْفَارُ وَأَمَّا أَهْلُ المَعْصِيَةِ فَأَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَارٍ وَغَلَّ الْأَيْدِيَ إِلَی الْأَعْنَاقِ وَقَرَنَ النَّوَاصِيَ بِالْأَقْدَامِ وَأَلْبَسَهُمْ سَرَابِيلَ الْقَطِرَانِ وَمُقَطَّعَاتِ النِّیرَانِ فِي عَذَابٍ قَدِ اشْتَدَّ حَرُّهُ وَبَابٍ قَدْ أُطْبِقَ عَلَى أَهْلِهِ فِي نَارٍ لَهَا كَلَبٌ وَلَجَبٌ وَلَهَبٌ سَاطِعٌ وَقَصِيفٌ هَائِلٌ لَا يَظْعَنُ مُقِيمُهَا وَلَا يُفَادَى أَسِیرُهَا وَلَا تُفْصَمُ كُبُولُهَا لَا مُدَّةَ لِلدَّارِ فَتَفْنَى وَلَا أَجَلَ لِلْقَوْمِ فَيُقْضىَ»(3) .
ص: 128
وقال علیه السلام في أهوال الطامّة وشدائد يوم القيامة بعد وصيته بالاعتصام بالتقوى وأمره بمبادرة الموت وغمراته وبيانه لروعات الفزع وظلمة اللحد:
«فِي مَوْقِفٍ ضَنْكِ المَقَامِ وَأُمُورٍ مُشْتَبِهَةٍ عِظَامٍ وَنَارٍ شَدِيدٍ كَلَبُهَا عَالٍ لَجَبُهَا سَاطِعٍ لَهَبُهَا مُتَغَيِّظٍ زَفِيرُهَا مُتَأَجِّجٍ سَعِيرُهَا بَعِيدٍ خُمُودُهَا ذَاكٍ وُقُودُهَا مَخُوفٍ وَعِيدُهَا عَمٍ قَرَارُهَا مُظْلِمَةٍ أَقْطَارُهَا حَامِيَةٍ قُدُورُهَا فَظِيعَةٍ أُمُورُهَا»(1) .
وقد أفاض إمام الأمة وربانيها وهاديها- صلوات الله على روحه الطيبة- المقال في كافة شؤون المعاد وإعداد العبد للقاء الرب فأخذ في إثارة كل ما يحقق الغاية ويهدي السبيل من التبصیر بالدنيا واغتنام الفرصة واستثمار العمر العزيز والفرصة المتاحة بالتماس ما يقرب العبد بمولاه في دنياه وأخراه.
وهديه- كما أسلفت- ممتد واسع في كلمه وثنايا خطبه مما لا يسعني استيعابه لضيق مجال البحث وخطته عن ذلك:
ولكنّي آخذ بطرف منه وجامع من شذراته:
أ- «فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَبَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ وَابْتَاعُوا مَا يَبْقَى لَكُمْ بِمَا يَزُولُ عَنْكُمْ وَتَرَحَّلُوا فَقَدْ جُدَّ بِكُمْ وَاسْتَعِدُّوا لِلْمَوْتِ فَقَدْ أَظَلَّكُمْ وَكُونُوا قَوْماً صِيحَ بِهِمْ فَانْتَبَهُوا وَعَلِمُوا أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ لَهُمْ بِدَارٍ فَاسْتَبْدَلُوا فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ
ص: 129
يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً وَلَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدًى وَمَا بَیْنَ أَحَدِكُمْ وَبَیْنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ إِلَّا المَوْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ وَإِنَّ غَايَةً تَنْقُصُهَا اللَّحْظَةُ وَتَهْدِمُهَا السَّاعَةُ لَجَدِيرَةٌ بِقِصَرِ المُدَّةِ وَإِنَّ غَائِباً يَحْدُوهُ الَجَدِيدَانِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ لَحَرِيٌّ بِسُرْعَةِ الْأَوْبَةِ وَإِنَّ قَادِماً يَقْدُمُ بِالْفَوْزِ أَوِ الشِّقْوَةِ لَمسْتَحِقٌّ لِأَفْضَلِ الْعُدَّةِ فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا مَا تَحْرُزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَداً فَاتَّقَى عَبْدٌ رَبَّهُ نَصَحَ نَفْسَهُ وَقَدَّمَ تَوْبَتَهُ وَغَلَبَ شَهْوَتَهُ فَإِنَّ أَجَلَهُ مَسْتُورٌ عَنْهُ وَأَمَلَهُ خَادِعٌ لَهُ وَالشَّيْطَانُ مُوَكَّلٌ بِهِ يُزَيِّنُ لَهُ المَعْصِيَةَ لِيَرْكَبَهَا وَيُمَنَّيهِ التَّوْبَةَ لِيُسَوِّفَهَا إِذَا هَجَمَتْ مَنِيَّتُهُ عَلَيْهِ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ عَنْهَا فَيَا لَهَا حَسْرَةً عَلَى كُلِّ ذِي غَفْلَةٍ أَنْ يَكُونَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً وَأَنْ تُؤَدِّيَهُ أَيَّامُهُ إِلَی الشِّقْوَةِ نَسْأَلُ اللهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَنَا وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ لَا تُبْطِرُهُ نِعْمَةٌ وَلَا تُقَصَّرُ بِهِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ غَايَةٌ وَلَا تَحُلُّ بِهِ بَعْدَ المَوْتِ نَدَامَةٌ وَلَا كَآبَةٌ»(1) .
ب- وقال علیه السلام في خطبة أخرى: «فَلْيَقْبَلِ امْرُؤٌ كَرَامَةً بِقَبُولِهَا وَلْيَحْذَرْ قَارِعَةً قَبْلَ حُلُولِهَا وَلْيَنْظُرِ امْرُؤٌ فِي قَصِیرِ أَيَّامِهِ وَقَلِيلِ مُقَامِهِ فِي مَنْزِلٍ حَتَّى يَسْتَبْدِلَ بِهِ مَنْزِلًا فَلْيَصْنَعْ لُمِتَحَوَّلِهِ وَمَعَارِفِ مُنْتَقَلِهِ فَطُوبَى لِذِي قَلْبٍ سَلِيمٍ أَطَاعَ مَنْ يَهْدِيهِ وَتَجَنَّبَ مَنْ يُرْدِيهِ وَأَصَابَ سَبِيلَ السَّلاَمَةِ بِبَصَرِ مَنْ بَصَّرَهُ وَطَاعَةِ هَادٍ أَمَرَهُ وَبَادَرَ الْهُدَى قَبْلَ أَنْ تُغْلَقَ أَبْوَابُهُ وَتُقْطَعَ أَسْبَابُهُ وَاسْتَفْتَحَ التَّوْبَةَ وَأَمَاطَ الَحَوْبَةَ فَقَدْ أُقِيمَ عَلَى الطَّرِيقِ وَهُدِيَ نَهُجَ السَّبِيلِ»(2) .
«آثَرُوا عَاجِلًا وَأَخَّرُوا آجِلًا وَتَرَكُوا صَافِياً وَشَرِبُوا آجِناً كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَی فَاسِقِهِمْ
ص: 130
وَقَدْ صَحِبَ المُنْكَرَ فَأَلِفَهُ وَبَسِئَ بِهِ وَوَافَقَهُ حَتَّى شَابَتْ عَلَيْهِ مَفَارِقُهُ وَصُبِغَتْ بِهِ خَلاَئِقُهُ ثُمَّ أَقْبَلَ مُزْبِداً كَالتَّيَّارِ لَا يُبَالِي مَا غَرَّقَ أَوْ كَوَقْعِ النَّارِ فِ الْهَشِيمِ لَا يَحْفِلُ مَا حَرَّقَ أَيْنَ الْعُقُولُ المُسْتَصْبِحَةُ بِمَصَابِيحِ الْهُدَى وَالْأَبْصَارُ اللَّامِحَةُ إِلَی مَنَارِ التَّقْوَى أَيْنَ الْقُلُوبُ الَّتِي وُهِبَتْ للهِ وَعُوقِدَتْ عَلَى طَاعَةِ اللهِ ازْدَحَمُوا عَلَى الْحُطَامِ وَتَشَاحُّوا عَلَى الْحَرَامِ وَرُفِعَ لَهُمْ عَلَمُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَصَرَفُوا عَنِ الْجَنَّةِ وُجُوهَهُمْ وَأَقْبَلُوا إِلَی النَّارِ بِأَعْمَالِهِمْ وَدَعَاهُمْ رَبُّهُمْ فَنَفَرُوا وَوَلَّوْا وَدَعَاهُمُ الشَّيْطَانُ فَاسْتَجَابُوا وَأَقْبَلُوا»(1) .
أ- «إِنَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ عَدُوَّانِ مُتَفَاوِتَانِ وَسَبِيلَانِ مُخْتَلِفَانِ فَمَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا وَتَوَلَّاهَا أَبْغَضَ الْخِرَةَ وَعَادَاهَا وَهُمَا بِمَنْزِلَةِ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَمَاشٍ بَيْنَهُمَا كُلّمَاَ قَرُبَ مِنْ وَاحِدٍ بَعُدَ مِنَ الْآخَرِ وَهُمَا بَعْدُ ضَرَّتَانِ»(2) .
ب- «مَرَارَةُ الدُّنْيَا حَلَوَةُ الْآخِرَةِ، وَحَلَاوَةُ الدُّنْيَا مَرَارَةُ الْآخِرَةِ»(3) .
ج- «وَرُوِيَ أَنَّهُ علیه السلام قَلَّمَا اعْتَدَلَ بِهِ المِنْبَرُ إِلَّا قَالَ أَمَامَ الْخُطْبَةِ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ فَمَا خُلِقَ امْرُؤٌ عَبَثاً فَيَلْهُوَ وَلَا تُرِكَ سُدًى فَيَلْغُوَ وَمَا دُنْيَاهُ الَّتِي تَحَسَّنَتْ لَهُ بِخَلَفٍ مِنَ الْآخِرَةِ الَّتِي قَبَّحَهَا سُوءُ النَّظَرِ عِنْدَهُ وَمَا المَغْرُورُ الَّذِي ظَفِرَ مِنَ الدُّنْيَا بِأَعْلَى هِّمَّتِهِ كَالْآخَرِ الَّذِي ظَفِرَ مِنَ الْآخِرَةِ بِأَدْنَى سُهْمَتِهِ»(4) .
ص: 131
أ- «أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ حَذَّاءَ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ اصْطَبَّهَا صَابُّهَا، أَلَا وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ كُلَّ وَلَدٍ سَيُلْحَقُ بِأَبِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ وَغَداً حِسَابٌ وَلَا عَمَلَ»(1) .
ب- «رَائِدٌ أَهْلَهُ وَلْيُحْضِرْ عَقْلَهُ وَلْيَكُنْ مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ مِنْهَا قَدِمَ وَإِلَيْهَا يَنْقَلِبُ»(2) .
ولافت تعبیره علیه السلام: «فَإِنَّهُ مِنْهَا قَدِمَ»، فما معنى ذلك والحال أن ابن آدم مخلوق الدنيا؟.
وقد فسر الشيخ مغنية ذلك ب (أي خلق من أجلها كما قال الإمام في مكان آخر: «فما يصنع بالدنيا من خُلق للآخرة» ولا يستقيم المعنى إلا إذا فسرنا (قدم) ب (خلق)»(3) .
أما ابن أبي الحديد المعتزلي فقد شرح ذلك: «قد قيل: إن الله تعالى خلق أرواح البشر قبل أجسادهم، والخبر في ذلك مشهور والآية أيضاً، وهي قوله: «وإَذِ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» ويمكن أن يفسر على وجه آخر، وذلك أن الآخرة اليوم عدم محض، والإنسان قدم من العدم وإلى العدم ينقلب، فقد
ص: 132
صح أنه قدم من الآخرة ويرجع إلى الآخرة(1) .
وما ذكره لا يخلو من تعسف وتكلف، ويبدو من ارتكازه على القول (بعدم خلق الجنة).
أما المیرزا حبيب الله الخوئي فقد رأى: «لأن الإنسان مبدؤه الحضرة الإلهية وهو سبحانه المبدء وإليه المنتهى وهو غاية مراد المريدين ومنتهى سیر السايرين»(2) .
وهو الرأي الوجيه معتضداً بأن الروح من أمر الله ولها النعيم الباقي بعد فناء الجسد والنعيم الخالد في جنة الله فقد خلقت للبقاء لا للفناء فاللائق بها استكمالاً لغايتها كما بدأت نفحة ونفخة من روح الله.
وقد شرح ذلك السيد محمد تقي النقوي وذكر رأي المشائيين والإشراقيین في هيمانية النفس وروحانيتها، وقرر أن مجيء الإنسان من عالم الغيب هو مجيء نفسه وروحه لا مجيء بدنه فإنه من عالم المادة ومبدئه التراب(3) .
ج- «قَدْ شَخَصُوا مِنْ مُسْتَقَرِّ الْأَجْدَاثِ وَصَارُوا إِلَی مَصَايِرِ الْغَايَاتِ لِكُلِّ دَارٍ أَهْلُهَا لَا يَسْتَبْدِلُونَ بِهَا وَلَا يُنْقَلُونَ»(4) .
أ- «عِبَادَ اللهِ، اللهَ اللهَ فِي أَعَزِّ الْأَنْفُسِ عَلَيْكُمْ وَأَحَبِّهَا إِلَيْكُمْ فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَوْضَحَ
ص: 133
لَكُمْ سَبِيلَ الْحَقِّ وَأَنَارَ طُرُقَهُ فَشِقْوَةٌ لَازِمَةٌ أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ فَتَزَوَّدُوا فِي أَيَّامِ الْفَنَاءِ لِأَيَّامِ الْبَقَاءِ قَدْ دُلِلْتُمْ عَلَى الزَّادِ وَأُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ وَحُثِثْتُمْ عَلَى المَسِیرِ فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَرَكْبٍ وُقُوفٍ لَا يَدْرُونَ مَتَى يُؤْمَرُونَ بِالسَّیْرِ أَلَا فَمَا يَصْنَعُ بِالدُّنْيَا مَنْ خُلِقَ لِلْآخِرَةِ وَمَا يَصْنَعُ بِالمَالِ مَنْ عَمَّا قَلِيلٍ يُسْلَبُهُ وَتَبْقَى عَلَيْهِ تَبِعَتُهُ وَحِسَابُهُ!»(1) .
ب- التقوى: «أَلَا فَصُونُوهَا وَتَصَوَّنُوا بِهَا وَكُونُوا عَنِ الدُّنْيَا نُزَّاهاً وَإِلَی الْآخِرَةِ وُلَّاهاً وَلَا تَضَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ التَّقْوَى وَلَا تَرْفَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ الدُّنْيَا»(2) .
ج- الزهّاد: «كَانُوا قَوْماً مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا فَكَانُوا فِيهَا كَمَنْ لَيْسَ مِنْهَا عَمِلُوا فِيهَا بِمَاَ يُبْصِرُونَ وَبَادَرُوا فِيهَا مَا يَحْذَرُونَ تَقَلَّبُ أَبْدَانِهِمْ بَیْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِ الْآخِرَةِ وَيَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُعَظِّمُونَ مَوْتَ أَجْسَادِهِمْ وَهُمْ أَشَدُّ إِعْظَاماً لَمِوْتِ قُلُوبِ أَحْيَائِهِمْ»(3) .
«أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الدُّنْيَا دَارُ مَجَازٍ وَالْآخِرَةُ دَارُ قَرَارٍ فَخُذُوا مِنْ مَمَرِّكُمْ لَمِقَرِّكُمْ وَلَا تَهْتِكُوا أَسْتَارَكُمْ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ أَسْرَارَكُمْ وَأَخْرِجُوا مِنَ الدُّنْيَا قُلُوبَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا أَبْدَانُكُمْ فَفِيهَا اخْتُبِرْتُمْ وَلِغَيْرِهَا خُلِقْتُمْ إِنَّ المَرْءَ إِذَا هَلَكَ قَالَ النَّاسُ مَا تَرَكَ وَقَالَتِ المَلَائِكَةُ مَا قَدَّمَ للهِ آبَاؤُكُمْ فَقَدِّمُوا بَعْضاً يَكُنْ لَكُمْ قَرْضاً وَلَا تُخْلِفُوا كُلًّا فَيَكُونَ فَرْضاً عَلَيْكُمْ»(4) .
ه- «وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلْآخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا وَلِلْفَنَاءِ لَا لِلْبَقَاءِ
ص: 134
وَلِلْمَوْتِ لَا لِلْحَيَاةِ وَأَنَّكَ فِي قُلْعَةٍ وَدَارِ بُلْغَةٍ وَطَرِيقٍ إِلَی الْآخِرَةِ»(1) .
و- «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ الدُّنْيَا لَمِا بَعْدَهَا وَابْتَلَى فِيهَا أَهْلَهَا لِيَعْلَمَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَسْنَا لِلدُّنْيَا خُلِقْنَا وَلَا بِالسَّعْيِ فِيهَا أُمِرْنَا وَإِنَّمَاَ وُضِعْنَا فِيهَا لِنُبْتَلَى بِهَا وَقَدِ ابْتَلَانِي اللهُ بِكَ وَابْتَلَاكَ بِي فَجَعَلَ أَحَدَنَا حُجَّةً عَلَى الْآخَرِ فَعَدَوْتَ عَلَى الدُّنْيَا بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَطَلَبْتَنِي بِمَا لَمْ تَجْنِ يَدِي وَلَا لِسَانِي وَعَصَيْتَهُ أَنْتَ وَأَهْلُ الشَّامِ بِي وَأَلَّبَ عَالِمُكُمْ جَاهِلَكُمْ وَقَائِمُكُمْ قَاعِدَكُمْ فَاتَّقِ اللهَ فِي نَفْسِكَ وَنَازِعِ الشَّيْطَانَ قِيَادَكَ وَاصْرِفْ إِلَی الْآخِرَةِ وَجْهَكَ فَهِيَ طَرِيقُنَا وَطَرِيقُكَ»(2) .
ولله جلال ابن أبي طالب فما أحلى كلمه وأروع حكمه، يعالج الموضوع الواحد مراراً وتكراراً بمنتهى الدقة وروعة التفنن وبكر القول ووجيز اللفظ ومتسع المعنى وعمق المضمون.
فأعمل عقلك واصغ بقلبك إلى حكمة الحق وفصل الخطاب.
ز- «أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا دَارٌ لَا يُسْلَمُ مِنْهَا إِلَّا فِيهَا وَلَا يُنْجَى بِشَيءٍ كَانَ لَهَا ابْتُلِيَ النَّاسُ بِهَا فِتْنَةً فَمَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لَهَا أُخْرِجُوا مِنْهُ وَحُوسِبُوا عَلَيْهِ وَمَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لِغَيْرِهَا قَدِمُوا عَلَيْهِ وَأَقَامُوا فِيهِ فَإِنَّهَا عِنْدَ ذَوِي الْعُقُولِ كَفَيْءِ الظِّلِّ بَيْنَا تَرَاهُ سَابِغاً حَتَّى قَلَصَ وَزَائِداً حَتَّى نَقَصَ»(3) .
ص: 135
أ- «عِبَادَ اللهِ زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا وَحَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا وَتَنَفَّسُوا قَبْلَ ضِيقِ الْخِنَاقِ وَانْقَادُوا قَبْلَ عُنْفِ السِّيَاقِ وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُعَنْ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنْهَا وَاعِظٌ وَزَاجِرٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا لَا زَاجِرٌ وَلَا وَاعِظٌ»(1) .
ب- وقال علیه السلام في رجال الله الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكره: «فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ لِعَقْلِكَ فِي مَقَاوِمِهِمُ المَحْمُودَةِ وَمَجَالِسِهِمُ المَشْهُودَةِ وَقَدْ نَشَرُوا دَوَاوِينَ أَعْمَالِهِمْ وَفَرَغُوا لُمِحَاسَبَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلىَ كُلِّ صَغِیرَةٍ وَكَبِیرَةٍ أُمِرُوا بِهَا فَقَصَّرُوا عَنْهَا أَوْ نُهُوا عَنْهَا فَفَرَّطُوا فيهَا وَحَمَّلُوا ثِقَلَ أَوْزَاِرِهمْ ظُهُورَهُمْ فَضَعُفُوا عَنِ الِسْتِقْلَالِ بِهَا فَنَشَجُوا نَشِيجاً وَتَجَاوَبُوا نَحِيباً يَعِجُّونَ إِلَی رَبِّهِمْ مِنْ مَقَامِ نَدَمٍ وَاعْتِرِافٍ»(2) .
وختم خطبته الغراء بالقول الجامع:
«فحَاسِبْ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ، فإِنَّ غيرَها مِنَ الأَنْفُسِ لها حَسِيْبٌ غَيْرُكَ».
وأطال الإمام علیه السلام الحديث عن الدنيا الفانية وأفاض في شؤونها المقال فيما بّصر به وأوقف على حقيقته:
«وَأُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَةٍ وَلَيْسَتْ بِدَارِ نُجْعَةٍ قَدْ تَزَيَّنَتْ بِغُرُورِهَا
ص: 136
وَغَرَّتْ بِزِينَتِهَا دَارُهَا هَانَتْ عَلَى رَبَّهَا فَخَلَطَ حَلَالَها بِحَرَامِهَا وَخَيْرَهَا بِشَرَّهَا وَحَيَاتَهَا بِمَوْتِهَا وَحُلْوَهَا بِمُرِّهَا لَمْ يُصْفِهَا اللهُ تَعَالَی لِأَوْلِيَائِهِ وَلَمْ يَضِنَّ بِهَا عَلَى أَعْدَائِهِ خَيْرُهَا زَهِيدٌ وَشَرُّهَا عَتِيدٌ وَجَمْعُهَا يَنْفَدُ وَمُلْكُهَا يُسْلَبُ وَعَامِرُهَا يَخْرَبُ».
«قَدْ غَابَ عَنْ قُلُوبِكُمْ ذِكْرُ الْآجَالِ وَحَضَرَتْكُمْ كَوَاذِبُ الْمَالِ فَصَارَتِ الدُّنْيَا أَمْلَكَ بِكُمْ مِنَ الْآخِرَةِ وَالْعَاجِلَةُ أَذْهَبَ بِكُمْ مِنَ الْآجِلَةِ».
ويشرح جنوح الغافلين إليها، وقلقهم من فواتها:
«مَا بَالُكُمْ تَفْرَحُونَ بِالْيَسِیرِ مِنَ الدُّنْيَا تُدْرِكُونَهُ وَلَا يَحْزُنُكُمُ الْكَثِیرُ مِنَ الْآخِرَةِ تُحْرَمُونَهُ وَيُقْلِقُكُمُ الْيَسِیرُ مِنَ الدُّنْيَا يَفُوتُكُمْ حَتَّى يَتَبَیَّنَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِكُمْ وَقِلَّةِ صَبْرِكُمْ عَمَّا زُوِيَ مِنْهَا عَنْكُمْ كَأَنَّهَا دَارُ مُقَامِكُمْ وَكَأَنَّ مَتَاعَهَا بَاقٍ عَلَيْكُمْ»(1) .
«وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أَنَّ المُتَّقِینَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا وَآجِلِ الْآخِرَةِ فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَلَمْ يُشَارِكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ سَكَنُوا الدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ وَأَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ المُتْرَفُونَ وَأَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ الَجَبَابِرَةُ المُتَكَبَّرُونَ ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ المُبَلِّغِ وَالمَتْجَرِ الرَّابِحِ أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِیرَانُ اللهِ غَداً فِي آخِرَتِهِمْ»(2) .
«وَأَوْصَاكُمْ بِالتَّقْوَى وَجَعَلَهَا مُنْتَهَى رِضَاهُ وَحَاجَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِعَيْنِهِ وَنَوَاصِيكُمْ بيِدِه وَتَقَلُّبُكُمْ فِي قَبْضَتِهِ إِنْ أسْرَرْتُمْ عَلمِهُ وَإِنْ أَعْلَنْتُمْ كَتَبَهُ قَدْ
ص: 137
وَكَّلَ بِذَلِكَ حَفَظَةً كِرَاماً لَ يُسْقِطُونَ حَقّاً وَلَا يُثْبِتُونَ بَاطِلاً وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً مِنَ الْفِتَنِ وَنُوراً مِنَ الظُّلَمِ وَيُخَلِّدْهُ فِيمَا اشْتَهَتْ نَفْسُهُ وَيُنْزِلْهُ مَنْزِلَ الْكَرَامَةِ عِنْدَهُ فِي دَارٍ اصْطَنَعَهَا لِنَفْسِهِ ظِلُّهَا عَرْشُهُ وَنُورُهَا بَهْجَتُهُ وَزُوَّارُهَا مَلَائِكَتُهُ وَرُفَقَاؤُهَا رُسُلُهُ فَبَادِرُوا المَعَادَ وَسَابِقُوا الْآجَالَ»(1) .
«اعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أَنَّ عَلَيْكُمْ رَصَداً مِنْ أَنْفُسِكُمْ وَعُيُوناً مِنْ جَوَارِحِكُمْ وَحُفَّاظَ صِدْقٍ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ وَعَدَدَ أَنْفَاسِكُمْ لَا تَسْتُرُكُمْ مِنْهُمْ ظُلْمَةُ لَيْلٍ دَاجٍ وَلَا يُكِنُّكُمْ مِنْهُمْ بَابٌ ذُو رِتَاجٍ وَإِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ»(2) .
فقد جاء كتابه الكريم وهديه القويم إلى ولده الإمام الحسن المجتبى حافلاً بالتربية الروحية العالية والحكم الراقية في كافة الشؤون المترامية، ومن جملة ما حفل به بيانه الحكيم وحكايته عمّا خبره وأحاط به من أمر الدنيا والآخرة فقال علیه السلام في ذلك تمهيدًا:
«يَا بُنَيَّ إِنِّ قَدْ أَنْبَأْتُكَ عَنِ الدُّنْيَا وَحَالِهَا وَزَوَ الِهَا وَانْتِقَالِهَا وَأَنْبَأْتُكَ عَنِ الْآخِرَةِ وَمَا أُعِدَّ لِأَهْلِهَا فِيهَا وَضَرَبْتُ لَكَ فِيهِمَا الْأَمْثَالَ لِتَعْتَبِرَ بِهَا وَتَحْذُوَ عَلَيْهَا».
ثم ذكر المثل الرائع لمن كان على بصيرة من أمره وبينة:
«إِنَّاَ مَثَلُ مَنْ خَبَرَ الدُّنْيَا كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ نَبَا بِهِمْ مَنْزِلٌ جَدِيبٌ فَأَمُّوا مَنْزِلًا
ص: 138
خَصِيباً وَجَنَاباً مَرِيعاً فَاحْتَمَلُوا وَعْثَاءَ الطَّرِيقِ وَفِرَاقَ الصَّدِيقِ وَخُشُونَةَ السَّفَرِ وَجُشُوبَةَ المَطْعَمِ لِيَأْتُوا سَعَةَ دَارِهِمْ وَمَنْزِلَ قَرَارِهِمْ فَلَيْسَ يَجِدُونَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَلَماً وَلَا يَرَوْنَ نَفَقَةً فِيهِ مَغْرَماً وَلَا شَيْءَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِمَّا قَرَّبَهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِمْ وَأَدْنَاهُمْ مِنْ مَحَلَّتِهِمْ».
وعن المثل المروّع:
«وَمَثَلُ مَنِ اغْتَرَّ بِهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا بِمَنْزِلٍ خَصِيبٍ فَنَبَا بِهِمْ إِلَی مَنْزِلٍ جَدِيبٍ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِمْ وَلَا أَفْظَعَ عِنْدَهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فِيهِ إِلَی مَا يَهْجُمُونَ عَلَيْهِ وَيَصِرُونَ إِلَيْهِ»(1) .
وبعد...
فقد أوقفنا وليّ الله والقائم بأمره وخازن علمه وترجمان قرآنه على حقيقة الدنيا وأوضاعها وتقلبها وأنها دار المكاره والغصص وموطن العمل والتدارك ومزرعة الآخرة، وبینّ- سلام الله عليه- ارتحال من فيها إلى عالم آخر ممتد لا ينقطع عبر مراحل وأهوال وسكرات وقبر وبرزخ حتى الوفود على جبار السموات والأرض يوم العرض الأعظم الأفظع على الله في ساحة عدل قضائه وحسابه وثوابه وعقابه وجسّد علیه السلام بفضل علمه وبلاغته الغيب شهوداً والبعيد قريباً والحقيقة عياناً ملموساً.
ولقد أطال وأطنب وكرّر وأوضح وشدد وأعذر وبشّر وأنذر، وخیر ختام إيراد ما كان كثیراً ما ينادي به أصحابه:
ص: 139
«تَجَهَّزُوا رَحِمَكُمُ اللهُ فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ وَأَقِلُّوا الْعُرْجَةَ عَلَى الدُّنْيَا وَانْقَلِبُوا بِصَالِحِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ فَإِنَّ أَمَامَكُمْ عَقَبَةً كَئُوداً وَمَنَازِلَ مَخُوفَةً مَهُولَةً لَا بُدَّ مِنَ الْوُرُودِ عَلَيْهَا وَالْوُقُوفِ عِنْدَهَا وَاعْلَمُوا أَنَّ مَلَاحِظَ المَنِيَّةِ نَحْوَكُمْ دَانِيَةٌ وَكَأَنَّكُمْ بِمَخَالِبِهَا وَقَدْ نَشِبَتْ فِيكُمْ وَقَدْ دَهَمَتْكُمْ فِيهَا مُفْظِعَاتُ الْأُمُورِ وَمُعْضِلاَتُ المَحْذُورِ. فَقَطِّعُوا عَلَائِقَ الدُّنْيَا وَاسْتَظْهِرُوا بِزَادِ التَّقْوَى»(1) .
جعلنا الله ممن يستمع لدعوة الحق، ويعمل بالصدق، وختم بالصالحات أعمالنا، ورحمنا برحمته الواسعة، إنه الرب الكريم الغفور الرحيم.
والصلاة والسلام على خيرة الخلق محمد وآله الطاهرين الأبرار.
ص: 140
•التقوى
•المال ومتسع شؤونه
•قيمة الإمرة لولا العدل
•الاستماتة في الحق وصدق التضحية لنصرة الدين
•الزهد
•الورع
•السرُّ
•الأدب العلوي في علاقة الوالي برعيته
•الشكر
•المغنم واغتنام الفرصة
•اللسان
ص: 141
ص: 142
قال علیه السلام: «رَحِمَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ حُكْماً فَوَعَى وَدُعِيَ إِلَی رَشَادٍ فَدَنَا وَأَخَذَ بِحُجْزَةِ هَادٍ فَنَجَا رَاقَبَ رَبَّهُ وَخَافَ ذَنْبَهُ قَدَّمَ خَالِصاً وَعَمِلَ صَالِحاً اكْتَسَبَ مَذْخُوراً وَاجْتَنَبَ مَحْذُوراً وَرَمَى غَرَضاً وَأَحْرَزَ عِوَضاً كَابَرَ هَوَاهُ وَكَذَّبَ مُنَاهُ جَعَلَ الصَّبْرَ مَطِيَّةَ نَجَاتِهِ وَالتَّقْوَى عُدَّةَ وَفَاتِهِ رَكِبَ الطَّرِيقَةَ الْغَرَّاءَ وَلَزِمَ المَحَجَّةَ الْبَيْضَاءَ اغْتَنَمَ المَهَلَ وَبَادَرَ الْأَجَلَ وَتَزَوَّدَ مِنَ الْعَمَلِ»(1) .
وفيما افتتحناه مقدمة لعرض جملة من فضائل الأخلاق التي ثبّتها الإمام المربي العظيم- عليه صلوات الرب- ركائز قويمة، ودعائم راسخة يقوم عليها الخُلق الكريم، وتنبعث من مراعاتها سجايا الخیر، وتصدر عنها خلال الملكات وحسن السجايا.
وفي ما يلي بيان لتلكم الأسس المحكمة:
فالمرء الواعي والعاقل الحصيف إذا ما طرق سمعه الحق استوعبه قلبه ووعاه لبّه فتعلّق به ولزمه ولم يحد عنه.
فلا مندوحة للمرء من تمسّكه بمن يبصّره ويهديه ويرشده إلى سواء السبيل ولا سيّما إذا ادلهمت الخطوب وغمّت الأمور واضطربت الأقوال والأحوال.
ص: 143
فالأمر خطیر والحساب عسیر، وغداً يجمع الله الخلائق ويوقفهم وإنهم مسؤولون، وهو- سبحانه- لا تخفى عليه خافية. فهو الحاضر والناظر، فلا محيص من المراقبة الدائمة بإرضاء الربّ واجتناب مواطن سخطه وغضبه.
يعيش ابن آدم والهوى متصارعین، ويحيا والمنى تغريه، ولا تقف عند حد حتى تهلكه فليكن لهما آسراً ولا يضحى لهما أسیراً، فيمسي لها ضحية بعد ما كان مطية.
فالدنيا موطن المحن، وفي كل شأن من شؤونها ذات الشجون تكاليف، والمال والمغريات والشيطان تعصف بالإنسان وترديه، فأين النجاة وبم الاعتصام، وكيف الخلاص؟ أجل إنه الصبر: صبر على الطاعة وصبر عن المعصية وصبر على المصيبة، فإذا ما امتطى الصبر نجا وخلص إلى السلامة والأمان.
والتقوى جماع كل خیر، فطوبى لمن ختمت حياته بالتقوى، ونعمت الزاد إلى رب العباد ف «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ»(1) .
ص: 144
«وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِهَذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَى النَّارِ فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا أَ فَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ وَالْعَثْرَةِ تُدْمِيهِ وَالرَّمْضَاءِ تُحْرِقُهُ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَیْنَ طَابَقَیْنِ مِنْ نَارٍ ضَجِيعَ حَجَرٍ وَقَرِينَ شَيْطَانٍ...»(1) .
قدرة على الطاعة وفرصة مواتية وإن كانت معلومة الانقضاء إلا أنها مجهولة التحديد فلربما فاجأ الأجل، والعاقل من اغتنم الفرصة ولا سيّما إذا كانت حتمية الفوت طالت أو قرت- فلم يخدع بالمهل فتزوّد من العمل ما يقرّبه إلى مولاه زلفى «يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَیٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ»(2) .
وقد حفل (نهج البلاغة) الشريف بمتكاثر الخلال وجوامع الخیر ومعالي صفات الفضيلة ومجامع الكمال فلنقتفِ أثر الإمام ولنسلك دربه في نهجه اللاحب.
ص: 145
ص: 146
قال علیه السلام: «التُّقى رئيسُ الأخلاق»(1) .
من مميزات لغة القرآن إعجازه المتمثل في أسلوبه (جوامع الكلم وفصل الخطاب) فتختزن الكلمة المفردة والقول الوجيز المعاني الكبار وتكتنز في مادتها وهيئتها جم الشؤون.
ف (الاستقامة) مفردة جامعة واسعة تمتد فتستوعب شؤون الخالق تعالى تكوينًا وتشريعًا وعللاً وآثارًا في ضروب من البلاغة والبراعة والإيجاز والإعجاز.
«إِنَّ رَبِّ عَلَی صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ»(2) .
«إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ»(3) .
«وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ»(4) .
«إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ»(5) .
ص: 147
«وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَی الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا»(1) .
«وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(2) .
وبعد فهي الكلمة المقدسة مقياس الحق وعنوانه، وغاية هدي الدين ومقاصده، جمعت فأوعت وتمّت وعمّت.
و (التقوى) من ذلكم المعدن جارية على ذلك المنهج لاتجد فيه عوجاً ولا أمتاً تمد (الإنسان) روحاً تنفذ فتستبطن شغاف قلبه وتلافيف فكره، وخلجات نفسه، وتتجلى من مكنون الجوانح مهيمنة على كافة الجوارح فلا ينطق لسان ولا تمتد يد ولا تخطو رجل ولا تتحرك جارحة إلا بهدي من سناها وإيحاء من سماها.
«فَاتَّقُوا اللهَ- عِبَادَ اللهِ- تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ»(3) .
ولقد أفاض في حديث التقوى فيما أفصح به لسانه أو خطه بنانه تعريفاً وتوصيفاً ودوراً وأثراً. وفيما يلي نماذج من تلكم المواطن:
أ) «فَاتَّقُوا اللهَ تَقِيَّةَ مَنْ سَمِعَ فَخَشَعَ، وَاقْتَرَفَ فَاعْتَرَفَ، وَوَجِلَ فَعَمِلَ،
ص: 148
وَحَاذَرَ فَبَادَرَ، وَأَيْقَنَ فَأَحْسَنَ، وَعُبَّرَ فَاعْتَبَرَ، وَحُذَّرَ فَحَذِرَ، وَزُجِرَ فَازْدَجَرَ، وَأَجَابَ فأَنَابَ، وَرَاجَعَ فَتَابَ، وَاقْتَدَى فَاحْتَذَى، وَأُرِيَ فَرَأَى، فَأَسْرَعَ طَالِباً، وَنَجَا هَارِباً، فَأَفَادَ ذَخِیرَةً، وَأَطَابَ سَرِيرَةً، وَعَمَّرَ مَعَاداً، وَاسْتَظْهَرَ زَاداً لِيَوْمِ رَحِيلِهِ وَوَجْهِ سَبِيلِهِ، وَحَالِ حَاجَتِهِ، وَمَوْطِنِ فَاقَتِهِ، وَقَدَّمَ أَمَامَهُ لِدَارِ مُقَامِهِ. فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ جِهَةَ مَا خَلَقَكُمْ لَهُ، وَاحْذَرُوا مِنْهُ كُنْهَ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَاسْتَحِقُّوا مِنْهُ مَا أَعَدَّ لَكُمْ بِالتَّنَجُّزِ لِصِدْقِ مِيعَادِهِ، وَالَحَذَرِ مِنْ هَوْلِ مَعَادِهِ»(1) .
ب) «أُوصِيكُمْ، عِبَادَ اللهِ، بَتَقْوَى اللهِ الَّتي هِيَ الزَّادُ وَبِهَا المَعَاذُ: زَادٌ مُبْلِغٌ وَمَعَاذٌ مُنْجِحٌ، دَعَا إِلَيْهَا أَسْمَعُ دَاع، وَوَعَاهَا خَیْرُ وَاع، فَأَسْمَعَ دَاعِيهَا، وَفَازَ وَاعِيهَا.
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ تَقْوَى اللهِ حَمَتْ أوْلِيَاءَ اللهِ مَحَارِمَهُ، وَأَلْزَمَتْ قُلُوبَهُمْ مَخَافَتَهُ، حَتَّى أَسهَرَتْ لَيَالِيَهُمْ، وَأَظْمَأَتْ هَوَاجِرَهُمْ؛ فَأَخَذُوا الرَّاحَةَ بِالنَّصَبِ، وَالرِّيَّ بِالظَّمَإِ، وَاسْتَقْرَبُوا الاْجَلَ فَبَادَرُوا الْعَمَلَ، وَكَذَّبُوا الاْمَلَ فَلاَحَظُوا الاْجَلَ»(2) .
وفي هذين النصين الجليلين مبنى ومعنى تركيز على حقائق ثلاث:
الأولى: التفاعل الصادق:
فالإنسان ملؤه جوارح ومشاعر وأهواء وعواطف تختلف فتتخالف، فتتنازع فتتصارع، تضطرب فلا تستقر على حال.
وهي مع شدّة صخبها ليست مجبورة ولا مضطرة فيما تمارس وتهوى،
ص: 149
فالقادر على الفعل مختار في الترك، والهابط في دركات الخطيئة يقوى على إرتقاء درجات الطاعة.
إذن فهو في مختبر دقيق يتجلى فيه الجوهر، وتتمايز فيه القوى.
الثانية: خير داع ومجيب.
وذلكم شأن الكمالات العالية، يبثها المربي الرؤوف، ويدأب على تعميقها الراعي الرحيم خیر حكمة ممن (له دعوة الحق) ليحيا العباد على هدي قويم وأدب رفيع فيسمعها الفرد والأمة في الندي والمجمع والجامع فكأنها لم تقل ولم تسمع فلم تمر حتى تقر، وتتمكن من أسماع، وتقر في قلوب فقد وافت موطنها وألفت مقرها (فالقلوب أوعية وخيرها أوعاها).
الثالثة: عناء وعاقبة نعيم:
فالتقوى حصن حصین وسياج منيع، صان المتزودون بها أنفسهم عن ارتكاب محارم واكتساب مآثم، أهمتهم (التقوى) فأستولت على جوانحهم وجوارحهم، فقلوبهم من ربهم خائفة، وعيونهم ساهرة باكية، وبطونهم صائمة، وأبدانهم بالعبادة قائمة، على هذا عمرهم فنالوا بذلك الراحة بعد النصب، والهناء بعد العناء «وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ».
«فَاتَّقَىْ عَبْدٌ رَبِّهُ، نَصَحَ نَفْسَهُ، قَدَّمَ تَوْبَتَهُ، وغَلَبَ شَهْوَتَهُ»(1) .
ص: 150
إن أحب شيء وأعزه على الإنسان نفسه، يوفر لها الكرامة، ويأبى عليها المهانة والهوان باذلًا في ذلك وسعه وجهده.
والإمام علیه السلام يهدي إلى السر الذي اذا وقف عليه المرء وكشفه وأخذ به حقق لذاته السعادة التي يكدح ويشقى لنيلها أو طرف منها.
ألا وإن السر العميق والمحور الدقيق هو: (نصحه لنفسه).
ونصحه الواقعي هو ما شرحه الإمام في بقية كلامه فليتأمل فيه بما يستحقه.
وبذلك يصدق وصف (العبودية) لمن اتخذه ربًّا.
إذن فمدار التقوى على محبة المرء لنفسه متجليًا في نصحه لها، وجوهر ذلك خالص العبودية، والدينونة بالربوبية للهِ تعالى وإلا فهو التمرد والأباق وأفضع ما يسيء به الإنسان لذاته، ويجر به البلاء والشقاء لنفسه.
أ) «وَلَوْ أَنَّ السَّماَوَاتِ وَالاْرَضِینَ كَانَتَا عَلَى عَبْد رَتْقاً، ثُمَّ اتَّقَى اللهَ، لَجَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْهُمَاَ مَخْرَجًا»(1) .
ب) «وَاعْلَمُوا أَنَّهُ «مَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً» مِنَ الْفِتَنِ، وَنُوراً مِنَ الظُّلَمِ، وَيُخَلَّدْهُ فِيَما اشْتَهَتْ نَفْسُهُ، وَيُنْزِلْهُ مَنْزِلَ الْكَرَامَةِ عِنْدَهُ، فِي دَار اصْطَنَعَهَا لِنَفْسِهِ، ظِلُّهَا عَرْشُهُ، وَنُورُهَا بَهْجَتَهُ، وَزُوَّارُهَا مَلاَئِكَتُهُ، وَرُفَقَاؤُهَا رُسُلُهُ»(2) .
ص: 151
وقال الإمام علي علیه السلام مقولته الأولى لأبي ذر- رضوان الله عليه- لما أُخرج كرهاً إلى نائي الديار في الربذة في حمأة المواقف العصيبة والخطوب التي عصفت بالأمة الإسلامية وكان رجل الصدق وبطل الحق أبوذر الغفاري فقد جهر بما يرضي الله ويغضب الحاكمین فشردوا به طريدًا بن الشام وأميرها والمدينة وحاكمها حتى مات غريبًا وحيدًا بأرض قفراء بعيدة المدى قليلة الزوار فبعین الله ما لقي حتى يبعث ويحشر أمة وحده كما قال النبي المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم وقد بقيت سیرته وتاريخه خیر أحدوثة ومقتدى «لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ».
وجماع الأمر هو ما قاله الإمام- صلوات الله عليه-: «إِنَّكَ غَضِبْتَ للهِ، فارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ، إِنَّ القَومَ خَافُوكَ على دُنْياهُمْ، وخِفْتَهُمْ على دِينِكَ،... فاتْرُكْ في أَيْدِيهِمْ ما خَافُوكَ عَليهِ، واهْرُبْ مِنْهُمْ بِما خِفْتَهُمْ عَليهِ، فما أَحْوَجَهُمْ إلى ما مَنَعْتَهُمْ، وما أَغْناكَ عمَّا مَنَعُوكَ، وسَتَعْلَمُ مَنِ الرَّابِحُ غَدًا، والأَكْثَرُ حُسَّدًا»(1) .
هذا وكما قال الله- سبحانه-: «وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ».
ويؤكد الإمام في النص الثاني ما تكفل الله- جلت عظمته- لمن إتقاه من فتح المخرج في مدلهمات النوازل فيأمن المتقي من لوابس الفتن ومعترك الظلم فالمتعلق بحبل الله لا يكبو، ونور الله لا يخبو، فمن أستضاء به هداه إلى جنان الخلود «إِنَّ المُتَّقِینَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ»(2) .
ص: 152
«وَصَنَائِعُ المَعْرُوفِ فَإِنَّهَا تَقِي مَصَارعَ الْهَوَانِ»(1) .
فللمؤمن تكريم وكرامة عند ربه، وفي ذاته، فيربأ به المذلة ومساقط الهنات والهوان، وخیر ما يقيه الانزلاق في تلكم المداحض اصطناع الخیر والبر فيسمو به ذلك إلى أوج العز والكرامة.
«وَلْيَخْتَزِنَ الرَّجُلُ لِسَانَهُ، فَإنَّ هذَا اللِّسَانَ جَمُوحٌ بِصَاحِبِهِ، وَاللهِ مَا أَرَى عَبْداً يَتَّقِي تَقْوَى تَنْفَعُهُ حَتَّى يَخْتَزِنَ لِسَانَهُ»(2) .
إن لكل جارحة تقواها، وكلما عظم دورها وأشتد خطرها أضطرت إلى سياج منيع ورباط وثيق.
وقد اعتدها الإمام في تشبيهه البليغ بالخيل الجموح يدور بصاحبه ويأبى عليه حتى يطرحه هالكاً.
وفي بقية كلامه- عليه صلوات الله وسلامه- منهج التفكیر السليم الذي يتجه بسالكه إلى بسط اللسان في موطنه وقبضه في محله فيستقيم القول والصمت.
«مَنْ بَالَغَ في الخُصُومَةِ أَثِمَ، ومَنْ قَصَّرَ فيها ظَلَمَ، ولا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَّقِي اللهَ
ص: 153
مَنْ خَاصَمَ»(1) .
الحق مركب صعب، وحب الغلبة والاستثار جبّلة في النفوس، فمن خاض غمار الخصومة فقد أرتطم، وعبثت به الأهواء، فا يذعن للحق، ولا يركن إلى الأنصاف ولا يرضى بالصلح، بل ينغمس في إشباع النفس بالإختلاق واليمین الغموس والشهادة الزور، وكل هذه الشؤون تقتضيها طبيعة الخصومة والنزاع ولا يسلم من آفاتها وبلائها إلا من عصم الله وسدد، ومن ثمّ قال الإمام علیه السلام: «ولا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَّقِي اللهَ مَنْ خَاصَمَ».
«اتَّقِ اللهَ فِي كُلِّ صَبَاح وَمَسَاءٍ، وَخَفْ عَلَى نَفْسِكَ الدُّنْيَا الْغَرُورَ، وَلاَ تَأْمَنْهَا عَلَى حَالٍ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنْ لَمْ تَرْدَعْ نَفْسَكَ عَنْ كَثِیرٍ مِمَّا تُحِبُّ، مَخَافَةَ مَكْرُوهِهٍ، سَمَتْ بِكَ الْأَهْوَاءُ إلى كَثِیرٍ مِنَ الضَّرَرِ. فَكُنْ لِنَفْسِكَ مَانِعاً رَادِعاً، وَلِنَزْوَتِكَ عِنْدَ الَحَفِيظَةِ وَاقِماً قَامِعاً(2) »(3) .
فالوصية وإن كانت لشريح بن هانئ لما جعله على مقدمته إلى الشام إلا أنها عامة شاملة فخصوص المورد لا يخصص الوارد.
إن الدنيا مسرح الحياة، وفيها مواطن الإثارة وبواعث الإغترار، والنفس
ص: 154
بطبيعتها ميالة لا يشبع نهمها متع الحياة وإن توافرت، فمالم يحد من غلوائها ويكبح من جماحها بشديد المراقبة ودقيق المحاسبة سمت به الأهواء وعصفت وألقت من أخلد إليها في مهوى سحيق، ولا منجا من ذلك ولا معتصم إلا بتقوى الله على كل حال وفي كل آن.
«فاتقُوا سكراتِ النعمةِ»(1) .
فللملك سكر، وللنر شهوة وزهو، والمال مادة الشهوات، والشباب شعبة من الجنون، فمن رفل في نعيم نسي ماسواه من ماضيه وعمي عن حاضره ولم يفكر في مستقبله، لا يحيا إلا لذته، ولا يعيش إلا ساعته غیر ملتفت لتبدل الأحوال وتقلب الأمور، وصروف الدهور، فحذار من سكرات النعمة فربما جرّت إلى النقمة، فتذهب اللذة وتبقى التبعة.
«اتَّقُوا اللهَ فِي عِبَادِهِ وَبِلاَدِهِ، فَإنَّكُمْ مَسْؤُولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ وَالْبَهَائِمِ»(2) .
ولئن نص الإمام في قول سابق على عموم التقوى في الزمان فهو ينص هنا على العموم من الأعيان إنسانًا وحيوانًا وجمادًا وسواها، فجمع بذلك ما للتقوى من آفاق، وقرر واقعية التعامل وجميل التفاعل مع كافة أطراف الحياة ومرافقها، وهو- سلام الله عليه- يكشف في مقولته هذه أبعاداً مهمة من رؤى الدين وتغلغله في شؤون ما يحياه الإنسان ويعايشه.
ص: 155
ولقد أفصحت النصوص الشرعية وشرحت ما يجب القيام به إزاء تلكم الموارد ونظائرها.
«أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ، فَإِنَّهَا حَقُّ اللهِ عَلَيْكُمْ، وَالمُوجِبَةُ عَلَى اللهِ حَقَّكُمْ، وَأَنْ تَسْتَعِينُوا عَلَيْهَا بِاللهِ، وَتَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى اللهِ، فَإِنَّ الْتَّقْوَى فِي الْيَوْمِ الْحِرْزُ وَالُجُنَّةُ، وَفِي غَد الطَّرِيقُ إلى الَجَنَّةِ»(1) .
فبین الألوهية المقدسة والعبودية رباط وثيق، والله تعالى الكمال المطلق، ومن كماله وجلاله ما أوجبه على نفسه من الرحمة ومحبته لخلقه، والعبد فقیر مطلق، وإذا صدقت العبودية بحق إرتبطت بمولاها، وسر الصدق يتمحور في انقياد مطلق من العبد لمولاه «اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ»(2) .
وحيث أن السر دقيق وشأنه عميق فهو لا ينفك عمّا يوجبه ويبقيه والركيزة هي إستعانة العبد الفقیر بالله الغني والناقص بالكامل.
وبفضل ذلك يقوى العبد على نيل مرضاة الرب، فالخیر من الله وإليه يعود، والتقوى في ذلك سعادة في الدنيا وفوز في الآخرة، وللخطبة الشريفة تتمة مهمة تأتي في موضعها.
«وَلاَ تَضَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ التَّقْوَى، وَلاَ تَرْفَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ الدُّنْيَا»(3) .
ص: 156
ولعمر الحق إنه ميزان الحق، ومقياس العدل، منهج الله في قرآنه، ميّز فيه عباده وفاضل بينهم «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ» فلا أنساب ولا ألوان ولا أموال ولا جاه ولا دنيا، وإنما بالتقوى شرف من تحلى بها وامتاز عن سواه وفضل من عداه وإن أعتد وضيعًا مهينًا تقتحمه العيون وتحتقره الرجال ويضيق به أهل الدنيا.
«وَأشدُّ مِنْ مَرَضِ الْبَدَنِ مَرَضُ الْقَلْبِ. أَلاَ وإِنَّ مِنْ صِحَّةِ الْبَدَنِ تَقْوَى الْقَلْبِ»(1) .
وقد عرض الإمام علیه السلام أولًا في صدر حكمته صورًا من البلاء والعناء، وتفاوت شدتها فقال: «أَلاَ وإِنَّ مِنَ الْبَلاَءِ الْفَاقَةَ وَأَشَدُّ مِنَ الْفَاقَةِ مَرَضُ الْبَدَنِ».
والقلب يمثل مركز الحياة ومحور البقاء سواء أريد بالقلب العضو الصنوبري فهو يمد البدن بالقدرة والحركة، أو أريد به العقل فمرضه مرض صاحبه وحامله وتعطيل حيويته وموت نشاطه وإن عد في الأحياء.
«الصَّلاَةُ قُرْبَانُ كُلِّ تَقِيٍّ»(2) .
فالعبادات تعني خضوع العبد الذليل للرب الجليل، وكل من أصنافها يمثل دورًا مهماً له شأنه وخاصيته.
والصلاة عبادة مميزة يتجلّى أسمى خضوع وانقياد، وفكر واعتقاد، في مفتتحها وختامها وما بينهما من تلاوة قرآن، وقراءة أذكار وأفعال وحركات.
ص: 157
وهي وجه الإسلام ومعراج المؤمن، وخیر موضوع وأفضل ما يتقرب به المتقربون إلى الله تعالى فلا غرو لو كانت قربان كل تقي فهي «تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ»(1) .
«اتَّقِ اللهَ بَعْضَ التُّقَى وَإِنْ قَلَّ، وَاجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ سِتْراً وَإِنْ رَقَّ»(2) .
ولاشك أن التقوى حقيقة تامة وكلٌ لا يتجزئ «اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ(3) ، إلا أن وميض النور يمكن أن ينبعث فيشعّ نوراًفي قلب حامله ووجدانه فيرجى خیره، ويستدرك ما فرط من تقصیره ويتوب ويؤوب ويستأنف العمل بعدما يخالطه الوجل فينتقل إلى خیر مرتحل فهو مدعاة للخیر ورجاء الإيمان وأمل الالتزام ومعقد الحياء والتراجع.
وإذا ما هتك السر وجاهر بالمعاندة فقد تعرض للسخط والطرد من حمى الرب وأستولى اليأس وذلك هو الخسران والكفر المبین وبالله المستجار وبه المعاذ.
ونورد من كلمات الإمام علیه السلام وخطبه ما يجسّد التقوى ويحيط بأطرافها وكافة جوانبها المتمثلة في الجوانح والجوارح، وكذا ما يقابلها من خلود إلى الدنيا وإنغماس في لذاتها وشهواتها، ومدى فعلها وتأثيرها في القلوب الواعية والنفوس الزاكية.
ص: 158
نورد من حكمه الجم نصین لنرى دور التربية الإلهية التي كان الإمام يتولى ريادتها والقيام بشؤونها وحمله الخلق على جادة الحق.
«أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ، فَإِنَّهَا حَقُّ اللهِ عَلَيْكُمْ، وَالمُوجِبَةُ عَلَى اللهِ حَقَّكُمْ، وَأَنْ تَسْتَعِينُوا عَلَيْهَا بِاللهِ، وَتَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى اللهِ، فَإِنَّ الْتَّقْوَى فِي الْيَوْمِ الْحِرْزُ وَالْجُنَّةُ، وَفِي غَد الطَّرِيقُ إلى الْجَنَّةِ، مَسْلَكُهَا وَاضِحٌ، وَسَالِكُهَا رَابحٌ، وَمُسْتَوْدَعُهَا حَافِظٌ، لَمْ تَبْرْحْ عَارِضَةً نَفْسَهَا عَلَى الاْمَمِ المَاضِینَ وَالْغَابِرينَ لَحَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا غَداً، إِذَا أَعَادَ اللهُ مَا أَبْدَى، وَأَخَذَ مَا أَعْطَى، وَسَأَلَ عَمَّا أَسْدَى.
فَمَا أَقَلَّ مَنْ قَبِلَهَا، وَحَمَلَهَا حَقَّ حَمْلِهَا! أُولئِكَ الاْقَلُّونَ عَدَداً، وَهُمْ أَهْلُ صِفَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ إِذْ يَقُولُ: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ»، فَأَهْطِعُوا بِأَسْمَاعِكُمْ إِلَيْهَا،وأكظّوا بِجِدِّكُمْ عَلَيْهَا، وَاعْتَاضُوهَا مِنْ كُلِّ سَلَف خَلَفاً، وَمِنْ كُلِّ مُخَالِف مُوَافِقاً.
أَيْقِظُوا بِهَا نَوْمَكُمْ، واقْطَعُوا بِهَا يَوْمَكُمْ، وَأَشْعِرُوهَا قُلُوبَكُمْ، وَارْحَضُوا بِهَا ذُنُوبَكُمْ، وَدَاوُوا بِهَا الاْسْقَامَ، وَبَادِرُوا بِهَا الْحِمَامَ، وَاعْتَبِرُوا بِمَنْ أَضَاعَهَا، وَلاَ يَعْتَبِرَنَّ بِكُمْ مَنْ أَطَاعَهَا.
أَلاَ وصُونُوهَا وَتَصَوَّنُوا بِهَا، وَكُونُو عَنِ الدُّنْيَا نُزَّاهاً، وَإِلَی الاْخِرَةِ وُلاَّهاً. وَلاَ تَضَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ التَّقْوَى، وَلاَ تَرْفَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ الدُّنْيَا، وَلاَ تَشِيمُوا بَارِقَهَا، وَلاَ تَسْمَعُوا نَاطِقَهَا، وَلاَ تُحِيبُوا نَاعِقَهَا، وَلاَ تَسْتَضِيئُوا بِإِشْرَاقِهَا، وَلاَ تُفْتَنُوا بِأَعْلاَقِهَا، فَإِنَّ بَرْقهَا خَالِبٌ، وَنُطْقَهَا كَاذِبٌ، وَأَمْوَالَهَا مَحْرُوبةٌ، وَأَعْلاَقَهَا مَسْلُوبَةٌ.
أَلاَ وَهِيَ المُتَصَدِّيَةُ الْعَنُونُ، وَالَجَامِحَةُ الْحَرُونُ، وَالمَائِنَةُ الْخَؤُون، وَالْجَحُودُ
ص: 159
الْكَنُودُ، وَالْعَنُودُ الصَّدُودُ، وَالْحَيُودُ المَيُودُ. حَالُهَا انْتِقَالٌ، وَوَطْأَتُهَا زِلْزَالٌ، وَعِزُّهَا ذُلٌّ، وَجِدُّهَا هَزْلٌ، وَعُلْوُهَا سُفْلٌ، دَارُ حَرَب وَسَلَب، وَنَهْب وَعَطَب، أَهْلُهَا عَلَى سَاق وَسِيَاق، وَلَحَاق وَفِرَاق.قَدْ تَحَیَّرَتْ مَذَاهِبُهَا، وَأَعْجَزَتْ مَهَارِبُهَا، وَخَابَتْ مَطَالِبُهَا، فَأَسْلَمَتْهُمُ المَعَاقِلُ، وَلَفَظَتْهُمُ المَنَازِلُ، وَأَعْيَتْهُمُ المَحَاوِلُ: فَمِنْ نَاج مَعْقُور، وَلَحم مَجْزُور، وَشِلْو مَذْبُوح، وَدَم مَسْفُوح، وَعَاضّ عَلَى يَدَيْهِ، وَصَافِق لِكَفَّيْهِ، وَمُرْتَفِق بِخَدَّيْهِ، وَزَار عَلَى رَأْيِهِ، وَرَاجِع عَنْ عَزْمِهِ، وَقَدْ أَدْبَرَتِ الْحِيلَةُ، وَأَقْبَلَتِ الْغِيلَةُ، «وَلاَتَ حِینَ مَنَاص».
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ! قَدْ فَاتَ مَا فَاتَ، وَذَهَبَ مَا ذَهَبَ، ومَضَتِ الدُّنْيَا لِحَالِ بَالِهَا، «فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالاْرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ»(1) .
«روي أنّ صاحباً لأمیر المؤمنین علیه السلام يقال له همّامٌ كان رجلاً عابداً، فقال له:
يا أميرالمؤمنین، صف لي المتقین كأني أنظر إليهم ،فتثاقل عن جوابه، ثم قال علیه السلام: ياهمّامُ، اتقِ اللهَ وأحْسِنْ فَ «إنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ».
فلم يقنع همّامٌ بِذَلِكَ القول حتّى عزم عليه.
قال: فحمد الله وأثنى عليه، وصلّ على النبي صلی الله علیه و آله و سلم، ثم قال علیه السلام:
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ تعالى خَلَقَ الْخَلْقَ حِینَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لِاَنَّةُ لاَ تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ، وَلاَ تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ، فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ، وَوَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ.
ص: 160
فَالمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ: مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، وَمَلْبَسُهُمُ الاْقْتِصَادُ، وَمَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ، غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَوَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ، نَزَلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلاَءِ كَالَّتِي نَزَلَتْ فِي الرَّخَاءِ. لَوْ لاَ الاْجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَیْن، شَوْقاً إلى الثَّوَابِ، وَخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ.
عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ.
قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وَأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ، وَحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ، وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ. صَبَرُروا أَيَّاماً قَصِیرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً، تِجَارَةٌ مَرْبِحَةٌ، يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُم، أَرَادَتْهُمُ الْدُّنْيَا وَلَمْ يُرِيدُوهَا، وَأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أُنْفُسَهُمْ مِنْهَا.
أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَالِینَ لِاَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً، يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ، فَإِذَا مَرُّوا بِآيَة فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً، وَظَنُّوا أنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَة فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ زَفِیرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ، فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ، مُفْتَرِشُونَ لَجِبَاهِهِمْ وَأَكُفِّهِمْ، وَأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ، يَطْلُبُونَ إلى اللهِ فِي فَكَاكِ رِقَابهِمْ.
وَأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ، أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ، قَدْ بَرَاهُمْ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ، يَنْظُرُ إِلَيْهمُ الْنَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَی، وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَض، وَيَقُولُ: قَدْ خُولِطُوا! وَلَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ! لاَ يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ، وَلاَ يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِیرَ، فَهُمْ لِاَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ، وَمِنْ أَعْمَلِهِمْ مُشْفِقُونَ.
ص: 161
إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهْمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسيِ مِنْ غَیْرِي، وَرَبِّي أَعْلَمُ مِنِّي بِنَفْسي! اللهُمَّ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لاَ يَعْلَمُونَ.
فَمِنْ عَلاَمَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِين، وَحَزْماً فِي لِین، وَإيماناً فِي يَقِين، وَحِرْصاً فِي عِلْم، وَعِلْماً فِي حِلْم، وَقَصْداً فِي غِنىً، وَخُشُوعاً فِي عِبَادَة، وَتَجىمُّلاً فِي فَاقَة، وَصَبْراً فِي شِدَّة، وَطَلَباً فِي حَلاَل، وَنَشاطاً فِي هُدىً، وَتَحَرُّجاً عَنْ طَمَع، يَعْمَلُ الاْعْمَاَلَ الصَّالِحَةَ وَهُوَ عَلَى وَجَل، يُمْسِيِ وَهَمُّهُ الشُّكْرُ، وَيُصْبِحُ وَهَمُّهُ الذِّكْرُ، يَبِيتُ حَذِراً، وَيُصْبِحُ فَرِحاً، حَذِراً لَّما حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَفَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيَما تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيَما تُحِبُّ. قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيَما لاَ يَزُولُ، وَزَهَادَتُهُ فِيَما لاَ يَبْقَى، يَمْزُجُ الِحْلْمَ بِالْعِلْمَ، وَالْقَوْلَ بِالْعَمَلِ. تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ، قَلِيلاً زَلَلُهُ، خَاشِعاً قَلْبُهُ، قَانِعَةً نَفْسُهُ، مَنْزُوراً أَكْلُهُ، سَهْلاً أَمْرُهُ، حَرِيزاً دِينُهُ، مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ، مَكْظُوماً غَيْظُهُ، الْخَیْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ، وَالشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ.
إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِینَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ، وَإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِینَ. يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ، وَيُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ، وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ. بَعِيداً فُحشُهُ، لَيِّناً قَوْلُهُ، غَائِباً مُنْكَرُهُ، حَاضِراً مَعْرُوفُهُ، مُقْبِلاً خَیْرُهُ، مُدْبِراً شَرُّهُ. فِي الزَّلاَزِلِ وَقُورٌ، وَفِي المَكَارِهِ صَبُورٌ، وَفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ.
لاَ يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ، وَلاَ يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ، يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ.
لاَ يُضَيِّعُ مَا اسْتُحْفِظَ، وَلاَ يَنْسَى مَا ذُكِّرَ، وَلاَ يُنَابِزُ بِالاْلْقَابِ، وَلاَ يُضَارُّ بالْجارِ، وَلاَ يَشْمَتُ بالمَصَائِبِ، وَلاَ يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ، ولاَ يَخْرُجُ مِنَ الَحَقِّ.
ص: 162
إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ، وَإِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ، وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتّى يَكُونَ اللهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ، نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاء، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَة، أَتْعَبَ نفسه لِاخِرَتِهِ، وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ. بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَنَزاهَةٌ، وَدُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنَهُ لِینٌ وَرَحْمَةٌ، لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْر وَعَظَمَة، وَلاَ دُنُوُّهُ بِمَكْر وَخَدِيعَة.
قال: فصعق همّام رحمه الله صعقةً كانت نفسُه فيها.
فقال أميرالمؤمنين علیه السلام: أَمَا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ: هكَذَا تَصْنَعُ المَوَاعِظُ البَالِغَةُ بِأَهْلِهَا؟»(1) .
ورعى الله من أدّى حق النظر والتأمل في كل مفردة وجملة من هذا المقال النفيس والجوهر الفريد الذي أحاط وأفاض دقة وتحليلاً تزهيداً في الدنيا الفانية وترغيباً في الآخرة الباقية وكشفاً لنوازع النفس وبياناً لحقائق الإيمان وصدق العبودية وموجبات رضا الرب وكيف صنعت بمن وعاها ورعاها حق الدراية والرعاية.
ولا غرو فقد صدع بها إمام المتقین ويعسوب الدين والهادي إلى جنات النعيم مولانا أميرالمؤمنین وسيد الموحدين علي- عليه أفضل صلوات المصلّین- وكفى بها برنامجاً ومنهجاً ومصدراً ومرجعاً، وهي أجل من التوصيف وأكمل من التعريف.
ص: 163
وللإمام علیه السلام حديث مستفيض حول المال بثه في خطبه الطوال وحكمه القصار وأحاط بجوانب عدة من متعدد مسائله وقضاياه.
«الْفَقْرُ المَوْتُ الْأكْبَرُ»(1) .
«يا بُنَيَّ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ الْفَقْرَ، فاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْهُ»(2) .
«والفَقْرُ يُخْرِسُ الفَطِنَ عن حُجَّتِهِ»(3) .
وفي التعامل بالمال تتجلى خلائق أربابه والمحرومین من بريقه ورنينه، ويمثل مركزاً من الابتلاء والمحنة والافتتان، ويجر وراءه ذيلاً طويلاً من التبعات العاجلة للآجلة.
وقد ابتلي الإمام العظيم في عهد حكمه بمحنة المال وما ورثه من تركة ثقيلة غب ما كان يمارسه من سبقه من سياسة مالية تربت عليها الأمة، وقد استأثرت تلكم التركة والتربية بوافر من كلمه جسد فيه منهاجه وخلائقه كما عكس منهاج أولئك وخلائقهم.
وسنعرض صوراً من نظرة الإسلام الدقيقة ونظامه القويم كما رسمتها ريشة الإبداع في كف الإمام أو حكى عنها قوله في نهج بلاغته.
ص: 164
«وَأَنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ،... وَلاَ تَبْخَلُوا بِهَا عَنْهَا،... وَقَالَ اللهُ تَعَالَی: «مَنْ ذَاالَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ»،...، وَلَمْ يَسْتَقْرِضْكُمْ مِنْ قُلٍّ،... وَاسْتَقْرَضَكُمْ «وَلَهُ خَزَائِنُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْغَنِيُّ الَحَمِيدُ»، وَإِنّمَا أَرَادَ أَنْ يَبْلُوَكُم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً»(1) .
ومن كلام له في هذا المجال ما قاله علیه السلام:
«لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بكَ مِنَ الْفِتْنَةِ، لِاَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ إِلاَّ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فِتْنَةٍ، وَلكِنْ مَنِ اسْتَعَاذَ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ مُضِلاَّتِ الْفِتَنِ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ»، وَمَعْنَى ذلِكَ أَنَّهُ يَخْتَبِرُهُمْ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلاَدِ لِيَتَبَیَّنَ السَّاخِط لِرِزْقِهِ وَالرَّاضِي بِقِسْمِهِ، وإِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلكِن لِتَظْهَرَ الْأَفْعَالُ الَّتي بِهَا يُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، لِاَنَّ بَعْضَهُمْ يُحِبُّ الذُّكُورَ وَيَكْرَهُ الْاَنَاثَ، وَبَعْضَهُمْ يُحِبُّ تَثْمِیرَ المَالِ وَيَكْرَهُ انْثِلاَمَ الحَالِ»(2) .
وكان خطابه علیه السلام دائراً بین الأجسام والأموال، اقتطعنا منه موطن حديثنا وقد أدمج قوله في خطابه مع نص الله في كتابه، مقررًا بذلك حقيقة وقاعدة فالمال ملك من وهبه وأعطاه وهو الغني المطلق، والعبد فقر مطلق مُلّك فملك والمالك المعطي- وهو في غناه- يستقرض عبده ما أعطاه مختبراً شكره لما أنعم عليه به ليبلو خلقه وقد كان به عليماً خبیراً.
ص: 165
أ) «أمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الاْمْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ إلى الاْرْضِ كَقَطر المَطَرِ إلى كُلِّ نَفْس بِمَا قُسِمَ لَهَا مِنْ زِيَادَة أَوْ نُقْصَان، فإذا رَأَى أَحَدُكُمْ لأَخِيهِ غَفِیرَةً(1) في أَهْل أَوْ مَال أَوْ نَفْس فَلاَ تَكُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً، فَإِنَّ المَرْءَ المُسْلِمَ مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ فَيَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ، وَيُغْرَى بهَا لِئَامُ النَّاسِ، كانَ كَالفَالِجِ اليَاسِرِ(2) الَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَة مِنْ قِدَاحِهِ تُوجِبُ لَهُ المَغْنَمَ، وَيُرْفَعُ عَنْهُ بها المَغْرَمُ، وَكَذْلِكَ المَرْءُ المُسْلِمُ البَرِيءُ مِنَ الخِيَانَةِ يَنْتَظِرُ مِنَ اللهِ إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ: إِمَّا دَاعِيَ اللهِ فَمَا عِنْدَ اللهِ خَیْرٌ لَهُ، وَإِمَّا رِزْقَ اللهِ فَإِذَا هُوَ ذُوأَهْل وَمَال، وَمَعَهُ دِينُهُ وَحَسَبُهُ، إِنَّ المَالَ وَالبَنِینَ حَرْثُ الدُّنْيَا، والعَمَلَ الصَّالِحَ حَرْثُ الآخِرَةِ، وَقَدْ يَجْمَعُهُاَ اللهُ لِاَقْوَام»(3) .
وتمثل هذه الفريدة هدياً في الاعتقاد، ونبراساً في السلوك، فإذا كمل اعتقاد المخلوق بأن الخالق هو الرازق بحكمة وتدبر ومصلحة وتقدير أيقن بجميل اختيار الله وحسن صنعه بعبده فتطمئن بذلك نفسه ويصبر ويشكر في مواطن الصبر والشكر ويسلم تسليماً.
هذا وهو يعي أن لا حيلة للمخلوق فيما قُسم له فربما حظي بالدنيا الغبي وحرم منها العبقري.
كم عاقلٍ عاقلٍ أَعْيَتْ مذاهبُهُ *** وجاهلٍ جاهلٍ تلقاهُ مرزوقا
ص: 166
هذا الذي تَرَكَ الأوهامَ حائرةً *** وصَیَّرَ العالِمَ النحريرَ زِنديقا
فلا يكونن ذلك فتنة له في دينه، وتمرداً على بارئه، وقنوطاً من خیره وعطائه فربما تبدل الحال وأنتقل المال فيعود إلى المحروم غیر مثلوم الدين، مرضي الخلق، والمال وإن عظم خطره وأعتده الناس كل شيء أو أهم شيء فإنما هو متاع الدنيا وحرثها ولا ضیر ولا هوان على فاقده بل ربما كان خفيف المؤنة قليل التبعة في الآخرة.
إذا المرءُ لم يدنسْ من اللُؤْمِ عرضهُ *** فكلُّ رداءٍ يرتديهِ جميلُ
ب) التواضع للغني:
«وَمَنْ أَتى غَنِيَّاً فَتَوَاضَعَ لَهُ لِغِنَاهُ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ»(1) .
ج) تواضع وترفع:
«مَا أَحْسَنَ تَوَاضُعَ الْأَغْنِيَاءِ لِلْفُقَرَاءِ طَلَباً لَمِا عِنْدَ اللهِ! وأَحْسَنُ مِنْهُ تِيهُ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ اتِّكَالاً عَلَى الله»(2) .
فثمت تواضعان مذموم ومحمود، وترفع ممدوح، وكلٌّ يوصف بما يستحقه.
فالتواضع للغني لا لصفات كريمة وخصال حميدة يتحلى بها يعني التقديس للمال والتذلل له وتملكه للقلب وصرفه عن الرب، فماذا يبقى بعد من دين هذا الخاشع المتواضع؟!
ص: 167
أمّا من ملك رفاه المعاش والتقلب في الرياش وفي ذلك بواعث الزهو والفخر والتعالي ولكن لم يشمخ بأنفه ولم يختل في عطفه بل رق قلبه وخضعت جوارحه لمن هو دونه في حساب أهل الدنيا فهو على ذكر من ربه، ورجحان في عقله وموازينه.
ومن كابد فقراً وعاش مرًّا يرى الأغنياء في نعيمهم يرفلون، يبذّرون ويسرفون وهو مالك إرادته فلا يُقَبِّل يداً طمعاً، ولا يذوب جزعًا بل وكأنه لم يعش فقراً ولم يرَ واجداً بل تعلق قلبه بربه فبيده الإعطاء والمنع فذلكم هو الترفع الشريف والخلق العفيف.
ولعل لدقة الموقف والتمرد على الفقر ومكابداته اعتده الإمام علیه السلام ببليغ قوله: (تيهًا) بل وأحسنَ من ذلكم التواضع المحمود.
«وَإِيَّاكَ وَمُصَادَقَةَ الْبَخِيلِ، فَإِنَّهُ يَقْعُدُ عَنْكَ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ»(1) .
«السَّخَاءُ مَا كَانَ ابْتِدَاءً، فَأَمَّا مَا كَانَ عَنْ مَسْألَةٍ فَحَيَاءٌ وتَذَمُّمٌ»(2) .
«عَجِبْتُ لِلْبَخِيلِ يَسْتَعْجِلُ الْفَقْرَ الَّذِي مِنْهُ هَرَبَ، وَيَفُوتُهُ الْغِنَى الَّذِى إِيَّاهُ طَلَبَ، فَيَعِيشُ فِي الدُّنْيَا عَيْشَ الْفُقَرَاءِ، وَيُحَاسَبُ فِي الْآخِرَةِ حِسَابَ الْأَغْنِيَاءِ»(3) .
وقال علیه السلام وقد مر بقذر على مزبلة:
ص: 168
«هذا مَا بَخِلَ بِهِ الْبَاخِلُونَ»(1) .
وروي في خبر آخر أنه قال:
«هذَا مَا كُنْتُمْ تَتَنَافَسُونَ فِيهِ بِالْأَمْسِ»(2) .
«طُوبَى لَمِنْ ذَلَّ فِي نَفْسِهِ، وَطَابَ كَسْبُهُ، وَصَلَحَتْ سَرِيرَتُهُ، وَحَسُنَتْ خَلِيقَتُهُ وأَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ، وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ لِسَانِهِ، وَعَزَلَ عَنِ النَّاسِ شَرَّهُ، وَوَسِعَتْهُ السُّنَّةُ، وَلَمْ يُنْسَبْ إلى الْبِدْعَةِ»(3) .
«الْجُودُ حَارِسُ الْأَعْرَاضِ»(4) .
وقال علیه السلام لجابر بن عبدالله الأنصاري:
«يَا جَابِرُ، قِوَامُ الدِّينِ والدُّنْيَا بِأَرْبَعَةٍ:... وَجَوَادٍ لاَ يَبْخَلُ بِمَعْرُوفِهِ، وَفَقِیرٍ لاَ يَبِيعُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ... وَإِذَا بَخِلَ الْغَنِيُّ بِمَعْرُوفِهِ بَاعَ الْفَقِیرُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ. يَا جَابِرُ، مَنْ كَثُرَتْ نِعَمُ اللهِ عَلَيْهِ كَثُرَتْ حَوَائِجُ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَمَنْ قَامَ للهِ فِيهَا بِمَا يَجِبُ عَرَّضَهَا لِلدَّوَامِ وَالْبَقَاءِ، وَمَنْ لَمْ يَقُمْ فِيهَا بِمَا يَجِبُ عَرَّضَهَا لِلزَّوَالِ وَالْفَنَاءِ»(5) .
«اضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاسِ، فَهَلْ تُبْصِرُ إِلاَّ فَقِیراً يُكَابِدُ فَقْراً، أَوْ غَنِيّاً بَدَّلَ نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً، أَوْ بَخِيلاً اتَّخَذَ الْبُخْلَ بِحَقِّ اللهِ وَفْراً، أَوْ مُتَمَرِّداً كَأَنَّ
ص: 169
بِأُذُنِهِ عَنْ سَمْعِ الموَاعِظِ وَقْراً! أَيْنَ خِيارُكُمْ وَصُلَحَاؤُكُمْ؟! وَأَيْنَ أَحْرَارُكُمْ وَسُمَحَاؤُكُمْ»(1) .
«وَلاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ، وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ، وَلاَ جَبَاناً يُضعِّفُكَ عَنِ الْاُمُورِ، وَلاَ حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ، فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ»(2) .
«الْبُخْلُ عَارٌ»(3) .
«الْبُخْلُ جَامعٌ لَمِسَاوِىءِ الْعُيُوبِ، وَهُوَ زِمَامٌ يُقَادُ بهِ إِلَی كُلِّ سُوءٍ»(4) .
«وقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفُرُوجِ وَالدَّمَاءِ وَالمَغَانِمِ وَالأحْكَامِ وَإِمَامَةِ المُسْلِمِينَ الْبَخِيلُ، فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ»(5) .
وهكذا رأينا الإمام- صلوات الله على شريف ملكاته- يمدّنا برؤيته الإلهية الثاقبة حول الفقر والغنى، وأدب الفاقد والواجد، ومدى تغلغل المال في حياة الإنسان وانعكاسه على الخلائق، وانعكاس الخلائق عليه والياً ورعية وصاحباً ومستشاراً، وعمق ارتباط ذلكم التفاعل إيجاباً وسلباً مع وثوق الإيمان بالله وجميل الثقة به وحسن التوكل عليه.
ص: 170
«الْغِنَى فِي الْغُرْبَةِ وَطَنٌ، وَالْفَقْرُ فِي الْوَطَنِ غُرْبَةٌ»(1) .
«المَالُ مَادَّةُ الشَّهَوَاتِ»(2) .
«يَا كُمَيْلُ، الْعِلْمُ خَیْرٌ مِنَ المَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ المَالَ. وَالمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْإِنْفَاقِ، وَصَنِيعُ المَالِ يَزُولُ بِزَوَالِهِ. يَا كُمَيْل بْن زِيَادٍ، مَعْرِفَةُ الَعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ، بِهِ يَكْسِبُ الإنسان الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَجَمِيلَ الأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ، وَالمَالُ مَحْكُوم عَلَيْهِ. يَا كُمَيْل بْن زِيادٍ، هَلَكَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعُلَمَاَءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ»(3) .
وقال لرجل سأله أن يعظه:
«اللَّهْوُ مَعَ الْأَغْنِيَاءِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الذِّكْرِ مَعَ الْفُقَرَاءِ»(4) .
«اسْتَنْزِلُوا الرِّزْقَ بِالصَّدَقَةِ»(5) .
«ومَنْ أَيْقَنَ بِالْخَلَفِ جَادَ بِالْعَطِيَّةِ»(6) .
ص: 171
«مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ»(1) .
«سُوسُوا إيمانكُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَحَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ»(2) .
«إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ فَرَضَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ أَقْوَاتَ الْفُقَرَاءِ، فَمَا جَاعَ فَقِیرٌ إِلاَّ بِمَاَ مُتِّعَ بِهِ غَنِي، وَاللهُ تَعَالَی سَائِلُهُمْ عَنْ ذلِكَ»(3) .
«كُنْ سَمَحاً وَلاَ تَكُنْ مُبَذِّراً، وَكُنْ مُقَدِّراً وَلاَ تَكُنْ مُقَتَّرًا»(4) . ودخل على العلاء بن زياد الحارثي- وهو من أصحابه- يعوده، فلما رأى سعة داره قال:
«مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هذِهِ الدارِ فِي الدُّنْيَا، أَنْتَ إِلَيْهَا فِي الآخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ؟ وَبَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الآخِرَةَ، تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ، وَتَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ، وَتُطْلِعُ مِنْهَا الُحُقُوقَ مَطَالِعَهَا، فَإذَا أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الآخِرَةَ»(5) .
«وَلَيْسَ لِوَاضِعِ المَعْرُوفِ فِي غَیْرِ حَقِّهِ، وَعِنْدَ غَیْرِ أَهْلِهِ، مِنَ الْحَظَّ فِيَما أَتى إِلاَّ مَحْمَدَةُ اللِّئَامِ، وَثَنَاءُ الاْشْرَارِ، وَمَقَالَةُ الْجُهَّالِ، مَا دَامَ مُنْعِاً عَلَيْهِمْ، مَا أَجْوَدَ يَدَهُ! وَهُوَ عَنْ ذَاتِ اللهِ بَخِيلٌ!.
فَمَنْ آتَاهُ اللهُ مَالاً فَلْيَصِلْ بِهِ الْقَرَابَةَ، وَلْيُحْسِنْ مِنْهُ الضِّيَافَةَ، وَلْيَفُكَّ بِهِ
ص: 172
الاْسِیرَ وَالْعَانِيَ، وَلْيُعْطِ مَنْهُ الْفَقِیرَ وَالْغَارِمَ، وَلْيَصْبِرْ نَفْسَهُ عَلَى الْحُقُوقِ وَالنَّوَائِبِ، ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ؛ فَإِنَّ فَوْزاً بِهذِهِ الْخِصَالِ شَرَفُ مَكَارِمِ الدُّنْيَا، وَدَرْكُ فَضَائِلِ الآخِرَةِ، إِنْ شَاءَ اللهُ»(1) .
«لاَ تَسْتَحِ مِنْ إِعْطَاءِ الْقَلِيلِ، فَإِنَّ الْحِرْمَانَ أَقَلُّ مِنْهُ»(2) .
«مَاءُ وَجْهِكَ جَامِدٌ يُقْطِرُهُ السُّؤَالُ، فَانْظُرْ عِنْدَ مَنْ تُقْطِرُهُ»(3) .
«لاَ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَثِقَ بِخَصْلَتَیْنِ: الْعَافِيَةِ، وَالْغِنَى: بَيْنَا تَرَاهُ مُعَافىً إِذْ سَقِمَ،وَغَنِيّاً إِذِ افْتَقَرَ»(4) .
«إِنَّ أَعْظَمَ الْحَسَرَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَسْرَةُ رَجُلٍ كَسَبَ مَالاً فِي غَیْرِ طَاعَةِ اللهِ، فَوَرِثَهُ رَجُلٌ فَأَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ، فَدَخَلَ بِهِ الْجَنَّةَ، وَدَخَلَ الْأَوَّلُ بِهِ النَّارَ»(5) .
«إِنَّ أَخْسَرَ النَّاسِ صَفْقَةً وَأَخْيَبَهُمْ سَعْياً، رَجُلٌ أَخْلَقَ بَدَنَهُ فِي طَلَبِ مَالِهِ، وَلَمْ تُسَاعِدْهُ المَقَادِيرُ عَلَى إِرَادَتِهِ، فَخَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا بِحَسْرَتِهِ، وَقَدِمَ عَلَى الْآخِرَةِ بتَبِعَتِهِ»(6) .
وقال علیه السلام لغالب بن صعصعة أبي الفرزدق، في كلام دار بينهما: مَا فَعَلَتْ إِبِلُكَ
ص: 173
الْكثِیرَةُ؟ قال: دَغْدَغَتْها الحُقُوقُ يا أميرَ المؤمنینَ، فَقال علیه السلام: ذَاكَ أَحْمَدُ سُبُلِهَا»(1) .
وبعد...
فهذا خیر الحكم، وأجل الهدي، وأجلى التبصیر للعاقل بما يليق به أن يحياه من دقيق الفكر وصالح العمل فيما يرزق ويحرم.
والأمر لما لم يكن هيناً فقد أولاه الإمام العناية والتركيز لترتاض عليه النفوس ويتربّى على نهجه الفرد والمجتمع والأمة.
ص: 174
دخلت على أمیر المؤمنین علیه السلام بذي قار وهو يخصِف نعله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمةَ لها! قال: واللهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِليَّ من إِمرتكم، إِلاّ أَن أُقيم حقّاً، أَوأَدفع باطلاً، ثمّ خرج علیه السلام فخطب الناس»(1) .
وظرف هذا الحديث عند خروجه لقتال أهل البصرة، وإطفاء فتنة الأمة الخارجة، ويحكي خلائقه- صلوات الله على ملكاته- فهو يتولى إصلاح نعله البالية التي لا قيمة لها بنفسه الشريفة، وهو لا يعتد الإمرة تساوي قيمتها الزهيدة بل هي أحب إليه منها.
أجل إن يكن للولاية قيمة فهي لشرف ما أنيط بدورها من إقامة الحق وإفشاء العدل وإزهاق الباطل وإخماد الفتنة وتسوية الحقوق.
وهكذا تكون الخلائق الفاضلة والنفوس العالية والهمم الشامخة.
وله حديث مماثل ختم به خطبته الجليلية الدائرة حول عظمة الله وأنبيائه مفيضاً القول في صفوتهم وخاتمهم- صلى الله عليه وآله وعليهم- فقال علیه السلام: «وَاللهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هذِهِ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا، وَلَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ: أَلاَ تَنْبِذُهَا عَنْكَ؟ فَقُلْتُ: اغْرُبْ عَنِّي، فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى!»(2) .
ص: 175
«اللهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ، وَلاَ الْتمَاَسَ شِيءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ، وَلكِنْ لِنَرِدَ المَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ، وَنُظْهِرَ الْإِصْلاَحَ فِي بِلاَدِكَ، فَيَأْمَنَ المَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ، وَتُقَامَ المُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ. اللهُمَّ إِنّي أَوَّلُ مَنْ أَنابَ، وَسَمِعَ وَأَجَابَ، لَمْ يَسْبِقْنِي إِلاَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَآلِهِ وسَلَّمَ بِالصَّلاَةِ»(1) .
وهذا المقطع أشبه بالمناجاة والضراعة إلى الله تعالى منه بالخطاب لأمة أختلفت نفوسها وتشتت قلوبها، وعصفت بها الأحداث والتقلبات، وغیرت وبدلت مسیرتَها مسیرةُ الحاكمین قبله وتربيتُهم التي ألفوها واستمرؤها، فلما أراد حملهم على جادة الحق ونهج الصدق نفروا نفور المعزى من وعوعة الأسد.
وتكشف هذه المناجاة بواطن المبتهل بها وسرائره كما برهنت على عمقها وصدقها أفعالُه وانفعالاتُه كافة أيامه ومختلف أدواره.
فعي الحق وممثل الحق جسّد الواقعية والموضوعية بمنتهى الدقة وكمال الانضباط فهو- سلام الله عليه- مع ما يرى (تراثه نهبًا) وأقام الحجة على حقه إلا أنه لم يثرها حربًا شعواء ولا جنح إلى فتنة بل أعلن شعاره:
«لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّي أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَیْرِي، وَوَاللهِ لَأُسْلِمَنَّ مَاسَلِمَتْ أُمُورُ المُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِا جَوْرٌ إِلاَّ عَلَيَّ خَاصَّةً، الْتِمَاساً لِأَجْرِ ذلِكَ وَفَضْلِهِ، وَزُهْداً فِيَما تَنافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وزِبْرِجِهِ»(2) .
ص: 176
وعاش الصبر وكابد المحنة طويلاً من الدهر محتسبًا، فلما فاء الحق والناس إليه كشف لهم عن سر قبوله وإستجابته لانثيالهم عليه وما هو قائم به فيهم.
وقد سجل في هذا المقطع شؤونًا ذات شجن وشجون من السنن المضاعة والحدود المعطلة والفساد المستشري في البلاد والعباد.
كما أبان عن دوره الطبيعي في القيام بأعباء الإمامة، فعي الإمام المرتضى صنو النبي المصطفى- صلى الله عليها وآلهما- أول من أناب وسمع وأجاب وثاني اثنین صليا للهِ تبارك وتعالى.
هذا وبقية الخطبة في شروط والي الأمة وسماته وسلبيات فاقدها على الدين والرعية.
وفي خطبة152/ 212حديث حول دور الأئمة وموقعهم من دين الله دنيا وآخرة في غرر من جوامع الكلم ودرر الحكمة وشامخ المقامات مع بوح وتلويح لمكنون النفس وفيء الخلافة إليه.
«لَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً، وَلَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً. إِنِّي أُرِيدُكُمْ للهِ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لِأَنْفُسِكُمْ. أَيُّهَا النَّاسُ، أَعِينُوني عَلى أَنْفُسِكُمْ، وأَيْمُ اللهِ لَأُنْصِفَنَّ المَظْلُومَ، مِنْ ظَالِمِهِ، وَلَأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً»(1) .
فبيعته نص الله وتبليغ رسوله ولم تك من الناس، ومن كان توظيفه إلهياً
ص: 177
فأهدافه إلهية، فلا مطمع فيه لأهل الدنيا الذين اتخذوها دون الله بدلًا وإن للمقياس الدقيق البليغ المحیر الجامع المانع «أريدكم لله، تريدونني لأنفسكم»، ولا ختلاف البواعث والمنطلقات تختلف المقاصد والغايات، «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ».
وقال علیه السلام:
«الْوِلاَيَاتُ مَضَامِيرُ الرِّجَالِ»(1) .
ففيها يتجلى السابق واللاحق والفائز والخاسر، والجلد والرخو.
والولاية على الأمة وبما تستوجبه من مقومات وملكات وبما تشتبك فيه شؤونها في مختلف القضايا والمجالات فهي المضار الأعظم والسباق الأطول والميدان الأرحب.
وحكمة الإمام وإن عمّت كافة من امتطى وأجرى خيله في المدى إلا أنه فيما يعني بالأولوية: ولاية الإسلام والمسلمين وهي الأجدر بالمؤهات الأعلى، والكفاءات الأرقى علماً وإيماناً وسياسة وشجاعة وإنسانية وخلقاً.
«أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً، وَلَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ: فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ: فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ، وَتَوْفِیرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ، وَتَعْلِيمُكُمْ كَيْلا تَجْهَلُوا، وَتَأْدِيبُكُمْ كَيْما تَعْلَمُوا.
ص: 178
وَأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالوَفَاءُ بِالبَيْعَةِ، وَالنَّصِيحَةُ في المَشْهَدِ وَالمَغِيبِ، وَالْإِجَابَةُ حِینَ أَدْعُوكُمْ، وَالطَّاعَةُ حِینَ آمُرُكُمْ»(1) . إذاً فليست قضية حاكم ومحكوم وقيام أمرهما بالتعالي والاستعباد، والأنانية والاستبداد بل هي الحق والحقوق لكل منهما وعليه، وهذه ركيزة قويمة وإنطلاقة مستقيمة.
ويشد الانتباه إلى بدأته علیه السلام ببيان حق رعيته ومن تولى أمره فإذا به يمثّل الإنسانية الفذة والروح الكريمة والخلال الجامعة للخیر والهدى دينًا ودنيا.
إرشاد أبوي، وعاطفة حنان، وسعي لتوفير الحياة الكريمة، وهدي للمعارف، وحمل على مناهج الحق، وكلها جماع الفضائل الآخذة بأسباب الاستقامة.
«ثُمَّ جَعَلَ- سُبْحَانَهُ- مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ، فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأُ فِي وُجُوهِهَا، وَيُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً، وَلاَ يُسْتَوْجَبُ بعْضُهَا إِلاَّ بِبَعْضٍ. وَأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ- سُبْحَانَهُ- مِنْ تِلْكَ الُحُقُوقِ حَقُّ الْوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ، عَلَى الْوَالِي، فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللهُ- سُبْحَانَهُ- لِكُلٍّ عَلَى كُلٍّ، فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ، وَعِزّاً لِدِينِهِمْ، فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِصَلاَحِ الْوُلاَةِ، وَلاَ تَصْلُحُ الْوُلاَةُ إِلاَّ بِاستقامة الرَّعِيَّةِ. فَإِذا أَدَّتِ الرَّعِيَّةُ إلى الْوَالِي حَقَّهُ، وَأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا، عَزَّ الحَقُّ بَيْنَهُمْ، وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ، وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ، وَجَرَتْ عَلَى أَذْلاَلِهَا السُّنَنُ، فَصَلَحَ بِذلِكَ الزَّمَانُ، وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ، وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ
ص: 179
الْأَعْدَاءِ. وَإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا، أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ، اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ، وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ الَجَوْرِ، وَكَثُرَ الْإِدْغَالُ فِي الدِّينِ، وَتُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ، فَعُمِلَ بِالْهَوَى، وَعُطِّلَتِ الْأَحْكَامُ، وَكَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ، فَلاَ يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطَّلَ، وَلاَ لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ! فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الْأَبْرَارُ، وَتَعِزُّ الْأَشْرَارُ، وَتَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعِبَادِ. فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ، وَحُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ- وَإنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَی اللهِ حِرْصُهُ، وَطَالَ فِي الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ- بِبَالِغٍ حَقِيقَةَ مَا اللهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ. وَلكِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللهِ عَلى عِبَادهِ النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ، وَالتَّعَاوُنُ عَلىَ إقَامَةِ الَحَقِّ بَيْنَهُمْ. وَلَيْسَ امْرُؤٌ- وَإنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ- بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ اللهُ مِنْ حَقِّهِ. وَلاَ امْرُؤٌ- وَإِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ، وَاقْتَحَمَتْهُ الْعُيُونُ- بِدُونِ أَنْ يُعِینَ عَلى ذلِكَ أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ»(1) .
وهذه الوثيقة الدقيقة جمعت وأوعت حقائق الحق وركائز العدل، وقواعد النظام الذي أقامه الله لعباده وأراد لهم إتباعه
وقد جسدت الوثيقة الشريفة صفاء الإسلام ونقاءه وأشاعت الوضوح و (الشفافية) كما يعبر بها الآن.
ثم كشف الإمام علیه السلام في بقية الخطبة التي خطبها بصفین عن سرائر ذاته ومكنون نفسه وجوهر دخيلته حین انبرى رجل من اصحابه مبهورًا يكثر الثناء عليه ويعلن سمعه واطاعته له فقال علیه السلام:
ص: 180
«إِنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ عَظُمَ جَلاَلُ اللهِ سُبْحَانَهُ فِي نَفْسِهِ، وَجَلَّ مَوْضِعُهُ مِنْ قَلْبِهِ، أَنْ يَصْغُرَ عِنْدَهُ- لِعِظَمِ ذلِكَ- كُلُّ مَا سِوَاهُ، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ كَانَ كَذلِكَ لَمنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ، وَلَطُفَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ تَعْظُمْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ ازْدَادَ حَقُّ اللهِ عَلَيْهِ عِظَماً. وَإِنَّ مِنْ أَسْخَفِ حَالاَتِ الْوُلاَةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ، أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ الْفَخْرِ، وَيُوضَعَ أَمْرُهُمْ عَلَى الْكِبْرِ، وَقَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنِّكُمْ أَنَّي أُحِبُّ الْإِطْرَاءَ، وَاسْتِماعَ الثَّنَاءِ، وَلَسْتُ- بِحَمْدِ اللهِ- كَذلِكَ، وَلَوْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُقَالَ ذلِكَ لَتَرَكْتُهُ انْحِطَاطاً للهِ سُبْحَانَهُ عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ. وَرُبَّمَا اسْتَحْلَی النَّاسُ الثَّنَاءَ بَعْدَ الْبَلاَء، فَلاَ تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ، لِإِخْرَاجِي نَفْسِيِ إلى اللهِ وإِلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا، وَفَرَائِضَ لاَ بُدَّ مِنْ إِمْضائِهَا، فَلاَ تُكَلِّمُونِي بَمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، وَلاَ تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ، وَلاَ تُخَالِطُونِي بالمُصَانَعَةِ، وَلاَ تَظُنّوا بِيَ اسْتِثْقَالاً فِ حَقٍّ قِيلَ لِ، وَلاَ الْتِاَسَ إِعْظَام لِنَفْيِ، فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوْ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَاَ أَثْقَلَ عَلَيْهِ. فَلاَ تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ، أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ، فَإِنِّ لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِىءَ، وَلاَ آمَنُ ذلِكَ مِنْ فِعِلْي، إِلاَّ أَنْ يَكْفِيَ اللهُ مِنْ نَفْسِيِ مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي، فَإنَّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لاَ رَبَّ غَیْرُهُ، يَمْلِكُ مِنَّا مَا لاَ نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا، وَأَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إلى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ، فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلاَلَةِ بِالْهُدَى، وَأَعْطَانَا الْبصِیرَةَ بَعْدَ الْعَمَى»(1) .
أجل... ولا غرو فإن من ارتضاه الله ورسوله للإمامة وحمل الأمانة لا يليق به إلا الكمال.
ص: 181
«وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِنِ اتَّبَعْتُمُ الدَّاعِيَ لَكُمْ، سَلَكَ بِكُمْ مِنْهَاجَ الرَّسُولِ، وَكُفِيتُمْ مَؤُونَةَ الْاعْتِسَافِ، وَنَبَذْتُمُ الثِّقْلَ الْفَادِحَ عَنِ الْأَعْنَاقِ»(1) .
وهي حقيقة قرّرها الله في قرآنه وعلى يد رسوله صلی لله علیه و آله و سلم ومحورها الذي لا تنضبط إلا بثبوته وفلكها الذي تدور حوله هو الانقياد إلى الداعي ولكنه الداعي إلى الحق من قبل الحق جلّ وعلا.
وقد كان متمثلاً في شخص النبي المصطفى، وهو الآن في ذات الوصي المرتضى وهو ما حكاه القرآن:
«الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمَّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ»(2) .
وهو واقع وشأن خليفة النبي والقائم مقامه الذي قال في نعته:
«عليٌّ مع القرآنِ والقرآنُ مع عليٍّ»، و «عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع عليٍّ».
د) أدب الوالي وجميل أثره:
ص: 182
«وَاخْفِضْ لِلرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ، وَابْسِطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وَأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ، وَالْإِشَارَةِ وَالتَّحِيَّةِ، حَتَّى لاَ يَطْمَعَ الْعُظَاَءُ فِي حَيْفِكَ، وَلاَ يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ، وَالسَّلاَمُ»(1) .
وبعد...
فالسفر النفيس مثقل بجواهر كلمه ولئالئ حكمه في هذا المضار وسواه من الميادين على نهج قويم من البلاغة والبراعة
ومن تلكم الدرر الغرر:
1) كتابه لواليه محمد بن أبي بكر(2) :
2) وكتابه إلى بعض عمّاله(3) .
3) وكتابه الطويل الجليل إلى عثمان بن حنيف الأنصاري- عامله على البصرة- وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها(4) .
4) كتابه للأشتر النخعي لما ولاه مصر(5) .
وهو أجلّ من أن يقال عنه جليل، فهو النفيس النادر، والعهد الجامع للحسن، وأمثولة الهدي الرباني، وجوهر الإسلام الأصيل، وخلقه العظيم، وأدبه الرفيع.
ص: 183
«وَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ6نَقْتُلُ آبَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا وَأَعْمَامَنَا مَا يَزِيدُنَا ذَلِكَ إِلَّا إيماناً وَتَسْلِيماً وَمُضِيّاً عَلَى اللَّقَمِ(1) وَصَبرْاً عَلىَ مَضَضِ(2) الْأَلَمِ وَجِدّاً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا وَالْآخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا يَتَصَاوَلَانِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَیْنِ يَتَخَالَسَانِ(3) أَنْفُسَهُمَا أَيُهُّماَ يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ المَنُونِ فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا وَمَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا فَلَمَّا رَأَى اللهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ حَتَّى اسْتَقَرَّ الْإِسْلَامُ مُلْقِياً جِرَانَهُ(4) وَمُتَبَوِّئاً أَوْطَانَهُ»(5) .
وفي هذ النص المصور المعبر وقفات تأمّل ومواطن اعتبار.
فقد كان هذا الخطاب المفعم بروح الفداء ونبض الجهاد أيام صفین العصيبة حيث دب الوهن في صفوف جيشه فمالوا إلى الصلح وارتاحوا إلى الدعة.
فلما صدع رسول الله6بدعوة الحق قام في وجهه الأقربون والأبعدون وتظافر الكل على وأده في مهده. فلولا نصرة الخلّص الأوفياء لما نهض وقام. إذن
ص: 184
فلابد له من قوة تحمي حماه وترد عنه عوادي الكفر، وتعز أولياء الحق.
فالمقدسات تفوق كل اعتبار، والحقائق تسمو على وشائج القربى ولحمة الدم والنسب.
وذلكم مبدأ أصّله القرآن الكريم في تربيته الروحية:
«لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِرَتَهُمْ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإيمان وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ»(1) .
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مَّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيِلي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ! إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ! لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بصِیرٌ»(2) .
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإنِ
ص: 185
تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»(1) .
هذا والكافر مستميت في نصرة ما يؤمن به حقاً- وهو في واقعه باطل- فجدير بالمؤمن أن يكون فداؤه لما يؤمن به حقاً أصدق وقعًا وأشد مضاءً وأمضى أثرًا.
وقد تجلى النصر المؤزر وجاء الفتح المبین من الله لدينه ورسوله وحماة شرعه، وتاريخ الإسلام في حروبه وغزواته وسراياه ترق صفحاته بأبعاد ذلك وأمجاده «كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِیِرَةً بِإِذْنِ اللهِ»(2) .
وإنه لمن المعجز حقًّا ذلكم التحول العجيب مما كان عليه أمر الإسلام في نشوئه في مكة إلى ارتقائه في المدينة خلال فترة قصیرة فإذا الفتح يستتبع فتحاً والنصر يعقب نصراً وتدور الدائرة على أولئك الأسياد عتاة قريش ومردة أهل النفاق فإذا بهم الأذلاء تقتلهم غلمانهم وعبيدهم المعذبون بأيديهم، وإذا بمن طَرَدُوا رسول الله6من مأمنه وموطنه يعودون اليوم في مأمنهم وموطنهم تحت قبضته أرواحُهم وأنفاسُهم، ورأوا من عزّ الإسلام ما أذلّهم وحطّ كبرياءهم وإنه العفو عند المقدرة فيعيد لهم الحياة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» وذلكم في ملحمة الفتح المبین.
ص: 186
«وَلَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ وَلَا اخْضَرَّ لِلْيمان عُودٌ وأَيْمُ اللهِ لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَماً وَلَتُتْبِعُنَّهَا نَدَماً»(1) .
ويقرر الإمام علیه السلام في هذا المقطع الأخير حقائق:
الأولى: يقسم جازماً بأن الدين العظيم ما كان ليضرب جرانه لولا صدق التضحية وخالص الفداء من ذوي البلاء الحسن الجميل ممن بذلوا أرواحهم في إقامة دين الله وإحياء أمره، ولو كان من آمن به يصنع كما تصنعون اليوم لوئد في مهده ولم تثبت له قدم.
الثانية: الإجال والإكبار لأولئك الحماة المجاهدين والغيارى الباذلین فقد صدقوا ما عاهدوا عليه فحازوا الفخر والإعظام وتاج الكرامة.
ولئن كان لأولئك المخلصین فضلهم ودورهم في حياطة أمر الإسلام وإقامة بنائه، فللإمام المقام الأسمى والقدح المعلّى والشأن الأتم والجهد الأكمل حيث لا يسبقه سابق، ولا يجري في مضماره سواه فهو مفرداً جيش الإسلام، وقوامه وعدته، كاشف الكرب وهازم الأحزاب.
لقد قال علي علیه السلام في ذلك:
«وَلَقَدْ عَلِمَ المُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ6أَنَّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى اللهِ وَلَا عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ وَلَقَدْ وَاسَيْتُهُ بِنَفْسيِ فِي المَوَاطِنِ الَّتِي تَنْكُصُ فِيهَا الْأَبْطَالُ وَتَتَأَخَّرُ
ص: 187
فِيهَا الْأَقْدَامُ نَجْدَةً أَكْرَمَنِي اللهُ بِهَا»(1) .
وأحال الشاعر السؤال فقال:
إن كنت لجهلِكَ بالأيام *** جَحَدْتَ مقامَ أبي شُبّرْ فاسألْ بدراً واسألْ أحداً *** وسلِ الأحزابَ وسلْ خبیرْ
من دبّرَ فيها الأمرَ ومن *** أردى الأبطالَ ومن دَمّرْ
من هدّ حصونَ الشركِ ومن *** شادَ الإسلامَ ومن عَمَّرْ(2)
وكما ابتدأ جهاده من يوم الإسلام الأول فقد أمتد حتى آخر يوم في حياته فأيامه كلها جهاد وحياته كلها فداء.
«أَلَا وَقَدْ أَمَرَنِيَ اللهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَالنَّكْثِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ وَأَمَّا المَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ وَأَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَةٍ سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبِهِ وَرَجَّةُ صَدْرِهِ وَبَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَلَئِنْ أَذِنَ اللهُ فِي الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ لَأُدِيلَنَّ مِنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَشَذَّرُ فِي أَطْرَافِ الْبِلاَدِ تَشَذُّراً»(3) .
ومن كتاب له علیه السلام إلى معاوية:
«وَقَدْ دَعَوْتَ إِلَی الَحَرْبِ فَدَعِ النَّاسَ جَانِباً وَاخْرُجْ إِلَيَّ وَأَعْفِ الْفَرِيقَیْنِ مِنَ الْقِتَالِ لِتَعْلَمَ أَيُّنَا المَرِينُ عَلَى قَلْبِهِ وَالمُغَطَّى عَلَى بَصَرِهِ فَأَنَا أَبُو حَسَنٍ قَاتِلُ
ص: 188
جَدِّكَ وَأَخِيكَ وَخَالِكَ شَدْخاً يَوْمَ بَدْرٍ وَذَلِكَ السَّيْفُ مَعِي وَبِذَلِكَ الْقَلْبِ أَلْقَى عَدُوِّي»(1) .
وبعد...
فليس من القصد استعراض بطولات الإمام وجميل بلائه وإنما هو استطراد اقتضته المناسبة وإلا فحديثه شهير وفیر مثیر، وبكلمة: ما قام الإسلام إلا بسيفه.
فقد جاء في رواية أبي سعيد الخدري:
«أخذ رسول الله6الراية فهزّها فقال: من يأخذها بحقّها؟ فقال فان: أنا، فقال: أمط، ثم جاء رجل آخر فقال: أمط، فقال: والذي كرّم وجه محمدٍ لأعطينّها رجلاً لا يفرُّ، هاك يا علي، فانطلق حتى فتح الله عليه خبير، جاء بعجوتها وقديدها»(2) .
أجل إن في الجهاد قطع الأيدي وتطاير الرؤوس وإزهاق النفوس وثكل الأولاد وترمّل الأزواج، ولكنه محمود العواقب، كيف لا وهو عنوان الإيمان وبرهان التصديق والمشاطرة في إقامة دولة الحق وباب مشرع إلى الجنة.
أما الفرار من الزحف وحب السلامة والميل إلى الدعة فإن وفر في الحياة مدّة ومن الأيام عدّة فقد أذهب عزًّا وأبقى ذلاً، وفارق حقاً ووافق باطلاً وأعقب
ص: 189
خسراناً دنيا وآخرة.
وكان عاقبة أولئك الناكصین الخاذلین المتخاذلین سوءاً، فقد مُزقوا تمزيقاً، وتولى عليهم من لم ينلهم حظاً من الدنيا، وأما الدين فقد آثروا تلكم الدنيا واستبدلوه بها، و ﴿بِئْسَ لِلظَّالمِینَ بَدَلًا»(1) .
ص: 190
الزهد
وهو من أمهات الفضائل الأخلاقية، والكمالات الإنسانية، والملكات العالية.
وللإمام علیه السلام في الحديث عنه سبح طويل وسر عميق، ما انفكّ لهجًا بذكره في خطبه الطوال وجمله القصار وكتبه وعهوده، كاشفًا عن دقيق مدلوله ومواطن تجلّيه، مبيّنًا الصدق فيه من الكذب، والحق منه والباطل.
وكما صوّر وأبدع في استقراء مصاديقه ومظاهره، فقد جسّده بنحو أروع، ومثّل الزهد محسوسًا تقمّص به الإمام وتقمّص هو بالإمام، ولم ينزع أيٌّ منهما عن ظهره رداءه.
وفيما يلي عرض لشذرات من كلمه، ثم أعقبه بصور من زهده:
أ) «الزُّهْدُ كُلُّهُ بَیْنَ كَلِمَتَیْنِ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: «لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ». وَمَنْ لَمْ يَأْسَ عَلَى المَاضِي وَلَمْ يَفْرَحْ بِالْآتِي فَقَدْ أَخَذَ الزُّهْدَ بِطَرَفَيْهِ»(1) .
وطريف جدًّا هذا الانتزاع القرآني، ولا غرو فإنه ممن هو مع القرآن والقرآن معه، بل هو القرآن الناطق والترجمان الصادق.
ص: 191
والحدّ دقيق، وموضوعه الدنيا وزينتها ومتاعها ومتعها، وليس ناظرًا لعمر ضيّع وذنب ارتكب، أو خیر صنع ومكروه دفع، فإنها من مواطن الحسرة والحزن والندامة، والأخرى من مواطن السرور والسعادة.
وأما الدنيا وعوارضها (خیرًا يظن وشرًّا يحسب) فهي مورد الابتلاء والامتحان وجودًا وفقدًا وسعة وضيقًا وشدة ورخاء وإقبالاً وإدبارًا.
وفي مثل ذلك يتجلىّ العقل الحصيف والإيمان الراسخ بالإذعان لقضاء المولى والتسليم المطلق لتدبیره وتقديره، فلا حزن ولارثاء لما فات، ولا فرح وثناء لما هو آت، بل هو الرضا بما حكم به القضا.
ب) «أَيُّهَا النَّاسُ الزَّهَادَةُ قِصَرُ الْأَمَلِ وَالشُّكْرُ عِنْدَ النِّعَمِ وَالتَّوَرُّعُ عِنْدَ المَحَارِمِ فَإِنْ عَزَبَ(1) ذَلِكَ عَنْكُمْ فَلاَ يَغْلِبِ الَحْرَامُ صَبَرْكُمْ وَلَاَ تَنْسَوْا عِنْدَ النِّعَمِ شُكْرَكُمْ فَقَدْ أَعْذَرَ اللهُ إِلَيْكُمْ بِحُجَجٍ مُسْفِرَةٍ ظَاهِرَةٍ وَكُتُبٍ بَارِزَةِ الْعُذْرِ وَاضِحَةٍ»(2) .
وفي هذا النص تفصيل لما أجمله النصّ السابق، فقد جمع الإمام علیه السلام فيه جهات عدة تمثل مجتمعة الزهد الحقيقي حيث يحيى الزاهد أماً لا استرسال فيه ولا امتداد، بل هو الأمل المحمود المملوك في حدوده، ولا بطر عند تواتر النعم، بل الامتنان والشكر، ولا جنوح للمحرمات مهما بلغ إغراؤها، وتلوّن خداعها واشتدّت فتنتها.
وثنّى علیه السلام مركّزًا، وكرّر مؤكّدًا على خلقین شريفین مؤثّرين: على الصبر
ص: 192
والشكر، فبهما يستعان على الصمود أمام عادية استرسال الآمال وكفران النعمة، «وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ»، «لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ»(1) .
والدنيا مسرح مترع با تهوى الأنفس، تنوّع ألوان، وتفنّن إغراء، وخبث احتيال، ومراوغة واستغفال.
وذلكم سِمَتُها الماثلة، وعنوانها البارز، أو قل ذلكم شأن الكثرة الكاثرة والسواد الأعظم والأعمّ الأغلب من الناس.
«زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِینَ وَالْقَنَاطِیرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالَحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الَحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ»(2) .
«اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ»(3) .
وهذا وجهها الكالح القبيح، وهي وعشّاقها المرتمون في أحضانها المتوحّلون
ص: 193
في أدرانها موطن الذمّ ومعقد الحقارة.
أما الدنيا لدى عارفيها فهي (مزرعة الآخرة) و (الممرّ للمقرّ)، وقد مرّ حديث ذلك مفصلاً في مقدمات الكتاب.
وعلى ضوء فهم وجهتيها ومعرفة صورتيها يُترجم كلام الإمام علیه السلام ويُفسّر مدلوله، ويُدرك معقوله.
أ) «أَيُّهَا النَّاسُ انْظُرُوا إِلَی الدُّنْيَا نَظَرَ الزَّاهِدِينَ فِيهَا الصَّادِفِینَ(1) عَنْهَا فَإِنَهَّا وَاللهِ عَمَّا قَلِيلٍ تُزِيلُ الثَّاوِيَ(2) السَّاكِنَ وَتَفْجَعُ المُتَرْفَ الْآمِنَ...»(3) .
ب) الدنيا: «خَيْرُهَا زَهِيدٌ وَشَرُّهَا عَتِيدٌ(4) وَجْمَعُهَا يَنْفَدُ وَمُلْكُهَا يُسْلَبُ وَعَامِرُهَا يَخْرَبُ...»(5) .
ب) «كَانُوا قَوْماً مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا فَكَانُوا فِيهَا كَمَنْ لَيْسَ مِنْهَا عَمِلُوا فِيهَا بِمَا يُبْصِرُونَ وَبَادَرُوا فِيهَا مَا يَحْذَرُونَ تَقَلَّبُ أَبْدَانِهِمْ بَیْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِ الْآخِرَةِ وَيَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُعَظِّمُونَ مَوْتَ أَجْسَادِهِمْ وَهُمْ أَشَدُّ إِعْظَاماً لَمِوْتِ قُلُوبِ أَحْيَائِهِمْ»(1) .
ج) «وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أَنَّ المُتَّقِینَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا وَآجِلِ الْآخِرَةِ فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَلَمْ يُشَارِكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ سَكَنُوا الدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ وَأَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ المُتْرَفُونَ وَأَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ الْجَبَابِرَةُ المُتَكَبَّرُونَ ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ المُبَلِّغِ وَالمَتْجَرِ الرَّابِحِ أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِیرَانُ اللهِ غَداً فِي آخِرَتِهِمْ»(2) .
ويتجلّی في هذا النص الكشف عن التقوى والزهد الحقيقيّن، وجميل التعامل ودقيق التفاعل مع الدنيا، كما يحكي النص الآتي طرف الموازنة الآخر.
د) «وَعَنْ نَوْفٍ الْبَكَالِّيَّ، قَالَ: رَأَيْتُ أَمِیرَ المُؤْمِنِینَ علیه السلام ذَاتَ لَيْلَةٍ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ فِرَاشِهِ فَنَظَرَ فِي النُّجُومِ، فَقَالَ لِي: يَا نَوْفُ أَ رَاقِدٌ أَنْتَ أَمْ رَامِقٌ(3) ، فَقُلْتُ بَلْ رَامِقٌ، قَالَ: يَا نَوْفُ طُوبَى لِلزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا الرَّاغِبِینَ فِي الْآخِرَةِ أُولَئِكَ قَوْمٌ اتَّخَذُوا الْأَرْضَ بِسَاطاً وَتُرَابَهَا فِرَاشاً وَمَاءَهَا طِيباً وَالْقُرْآنَ شِعَاراً وَالدُّعَاءَ دِثَاراً ثُمَّ قَرَضُوا(4) الدُّنْيَا قَرْضاً عَلىَ مِنْهَاجِ المَسِيحِ»(5) .
ص: 195
ه) المتقون:
«قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لَا يَزُولُ وَزَهَادَتُهُ فِيمَا لَا يَبْقَى».
«أَتْعَبَ نَفْسَهُ لِخِرَتِهِ وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَنَزَاهَةٌ وَدُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِینٌ وَرَحْمَةٌ لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وَعَظَمَةٍ وَلَا دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ»(1) .
أ) «يَقُولُ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِ الزَّاهِدِينَ وَيَعْمَلُ فِيهَا بِعَمَلِ الرَّاغِبِینَ إِنْ أُعْطِيَ مِنْهَا لَمْ يَشْبَعْ وَإِنْ مُنِعَ مِنْهَا لَمْ يَقْنَعْ يَعْجِزُ عَنْ شُكْرِ مَا أُوتِيَ وَيَبْتَغِي الزِّيَادَةَ فِيماَ بَقِيَ»(2) .
ب) عند فناء الأجل: «فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ(3) عِنْدَ المَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ وَيَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمُرِهِ وَيَتَمَنَّى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا وَيَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ»(4) .
ج) للضعف والهوان: «وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ طَلَبِ المُلْكِ ضُئُولَةُ نَفْسِهِ وَانْقِطَاعُ سَبَبِهِ فَقَصَرَتْهُ الْحَالُ عَلَى حَالِهِ فَتَحَلَّى بِاسْمِ الْقَنَاعَةِ وَتَزَيَّنَ بِلِبَاسِ أَهْلِ الزَّهَادَةِ وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي مَرَاحٍ وَلَا مَغْدًى(5) »)(6) .
ص: 196
ومن حديث الزهد:
«أَحْيِ قَلْبَكَ بِالمَوْعِظَةِ وَأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ»(1) .
«وَالزُّهْدُ ثَرْوَةٌ»(2) .
ولافت للنظر أن يكون القلب محورًا ومدارًا للحياة والموت في آن واحد، نعم إنه الفناء بالبقاء، والبقاء بالفناء، تلك هي دقة المعادلة وانضباط الموازنة.
والزهد كما يبدو ويتراءى فقد وعدم، ولكنه في جوهره وجود وتوفّر، كالزكاة مال يؤخذ فتنقصه النفقة ولكنه النماء، والله يُرْبِي الصدقات.
«أَفْضَلُ الزُّهْدِ إِخْفَاءُ الزُّهْدِ»(3) .
ومن دعائم الصبر:
«وَالصَّبْرُ مِنْهَا عَلَی أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَی الشَّوْقِ وَالشَّفَقِ وَالزُّهْدِ وَالتَّرَقُّبِ»(4) .
«وَلَا زُهْدَ كَالزُّهْدِ فِي الْحَرَامِ»(5) .
ومن آثاره المباركة:
ص: 197
«وَمَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا اسْتَهَانَ بِالمُصِيبَاتِ»(1) .
«ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُبَصِّرْكَ اللهُ عَوْرَاتِهَا وَلَا تَغْفُلْ فَلَسْتَ بِمَغْفُولٍ عَنْكَ»(2) .
ومن الزهد في مجاله الاجتماعي:
«زُهْدُكَ فِي رَاغِبٍ فِيكَ نُقْصَانُ حَظٍّ وَرَغْبَتُكَ فِي زَاهِدٍ فِيكَ ذُلُّ نَفْسٍ»(3) .
«وَلاَ يَكُونَنَّ المُحْسِنُ وَالمُسِيِءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ، فَإِنَّ فِي ذلِكَ تَزْهِيداً لِأَهْلِ الإحسان فِي الإحسان، وتَدْرِيباً لِأَهْلِ الْإِسَاءَةِ عَلَى الْإِسَاءَةِ، وَأَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ»(4) .
«وَلَا تَرْغَبَنَّ فِيمَنْ زَهِدَ عَنْكَ»(5) .
«لَا يُزَهِّدَنَّكَ فِي المَعْرُوفِ مَنْ لَا يَشْكُرُهُ لَكَ فَقَدْ يَشْكُرُكَ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَسْتَمْتِعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ»(6) .
الإمام الزاهد الحقيقيّ:
أ) «أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَلَا سَغَبِ مَظْلُومٍ
ص: 198
لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَلَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ»(1) .
ب) «وَاللهِ لَدُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَهْوَنُ فِي عَيْنِي مِنْ عِرَاقِ خِنْزِيرٍ فِي يَدِ مَجْذُومٍ»(2) .
ج) «لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَیْرِي وَوَ اللهِ لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ المُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً الْتِمَاساً لِأَجْرِ ذَلِكَ وَفَضْلِهِ وَزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَزِبْرِجِهِ»(3) .
وبعد...
فهذه حقيقة الزهد، وواقعيته، مثّلها الإمام علیه السلام عملاً، وجسّدها وصوّرها قولاً وحكماً وتربية، وبعثها فكرًا وروحًا، تُستجلى من مجموع كلمه الناظر في كافّة النواحي والأطراف.
فصلوات الله ورضوانه على مجسَّم كمالاتها ونبراس فضائلها وشريف خلالها.
ص: 199
«وَلَا مَعْقِلَ أَحْسَنُ مِنَ الْوَرَعِ»(1) .
«وَلَا وَرَعَ كَالْوُقُوفِ عِنْدَ الشُّبْهَةِ»(2) .
«وَالْوَرَعُ جُنَّةٌ»(3) .
«وَمَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ وَمَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ»(4) .
«الزَّهَادَةُ قِصُر الْأمَلِ وَالشُّكْرُ عِنْدَ النِّعَمِ وَالتَّوَرُّعُ عِنْدَ المَحَارِمِ»(5) .
«ثُمَّ الصَّبْرَ الصَّبْرَ، والوَرَعَ الوَرَعَ»(6) .
وقال علیه السلام في خطبته في ذكر المكاييل والموازين:
«وَأَيْنَ المُتَوَرِّعُونَ فِي مَكَاسِبِهِمْ»(7) .
وذمّ أصحابه بعدما برم بهم وضاق بهم ذرعًا:
«أَصْبَحْتُ وَاللهِ لَا أُصَدِّقُ قَوْلَكُمْ وَلَا أَطْمَعُ فِي نَصْرِكُمْ وَلَا أُوعِدُ الْعَدُوَّ بِكُمْ
ص: 200
مَا بَالُكُمْ مَا دَوَاؤُكُمْ مَا طِبُّكُمْ الْقَوْمُ رِجَالٌ أَمْثَالُكُمْ أَ قَوْلًا بِغَیْرِ عِلْمٍ وَغَفْلةً مِنْ غَیْرِ وَرَعٍ وَطَمَعاً فِي غَیْرِ حَقٍّ»(1) .
وأراد من الأمة الاقتداء به وهو إمامها، وعلم أنهم لا يقدرون على مشاركته، فحملهم على ذلك بما يقوون:
«أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ أَلَا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ أَلَا وَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ»(2) .
وأمر الوالي بأن يلتحم بأهل الورع التحامًا:
«وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ»(3) .
ص: 201
والإنسان فيما يحياه في وجوده، ويقوم به في ذاته، ويحمله في فكره، ويمارسه في فعله، ويتعامل به مع سواه يعيش بین الجهر والخفاء، والكتمان والإعلان، فما كل شيء يشاع ويذاع، وما كل شيء يستر ويصان، فلكلٍّ مقتضٍ ومانع، وباعث ودافع.
وإن أمراً له هذا الشأن والخطر، وجلال الموقع، ودقيق المنزلة، لجدير أن تدرك أبعاده، ويحاط بخصوصياته، وتسبر منطلقاته وغاياته.
ولا يقف على تلكم الحدود، ولا يخبرها بتلكم الجهات إلاّ الخبیر البصیر الواقف على الحقائق.
فماذا يقول هادي الأمة وأبو الأئمة في تحليل هذا الخلق الرفيع الدقيق؟
أ) «فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِعَيْنِهِ، وَنَوَاصِيكُمْ بِيَدِهِ، وَتَقَلُّبُكُمْ فِي قَبْضَتِهِ، إِن أَسْرَرْتُمْ عَلِمَهُ، وَإِن أَعْلَنْتُمْ كَتَبَهُ»(1) . فالمولى لطيف وخبیر، ومن شأن لطفه علمه بالنوايا ودقيق الخفايا، ومن لطفه ستره ذلك عن الحفظة الكرام، ورحمته بعبده فلا يفضحه ولا يؤاخذه بما أخفى ما لم يكن ذنباً لا يغفر ولم تأت عليه توبة مُكّفِرة.
ص: 202
ب) «عَالِمُ السَّرَّ مِنْ ضَمَائِرِ المُضْمِرِينَ، وَنَجْوَى المُتَخَافِتِینَ(1) ، وَخَوَاطِرِ رَجْمِ الظُّنُونِ(2) ، وَعُقَدِ(3) عَزِياَتِ الْيَقِینِ، وَمَسَارِقِ إِيمَاضِ(4) الُجْفُونِ، وَمَا ضَمِنَتْهُ أَكْنَانُ الْقُلُوبِ وَغَيَابَاتُ(5) الْغُيُوبِ»(6) .
ج( «وَمَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ...
كُلُّ سِرًّ عِنْدَكَ عَلاَنِيَةٌ، وَكُلُّ غَيْبٍ عِنْدَكَ شَهَادَةٌ»(7) .
د) «وَلاَ تَهْتِكُوا أَسْتَارَكُمْ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ أَسْرَارَكُم»(8) .
ه) «أَلاَ إِنَّ اللهَ قَدْ كَشَفَ الْخَلْقَ كَشْفَةً(9) ، لَا أَنَّهُ جَهِلَ مَا أَخْفَوْهُ مِنْ مَصُونَ أَسْرَارِهِمْ وَمَكْنُونِ ضَماَئِرِهمْ، وَلكِنْ لِيَبْلُوَهُمْ «أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً»، فَيَكُونَ الثَّوَابُ جَزَاءً، وَالْعِقَابُ بَوَاءً(10) »(11) .
ص: 203
فخالقهم عالم بهم وبإفعالهم قبل خلقهم، ولكنه الابتلاء ومن ثّم الحجة ولله الحجة البالغة.
و) «تُشَاهِدُهُمْ فِي سَرَائِرِهِمْ، وَتَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ فِي ضَمَائِرِهِمْ، وَتَعْلَمُ مَبْلَغَ بَصَائِرِهِمْ، فَأَسْرَارُهُمْ لَكَ مَكْشُوفَةٌ»(1) .
ز) «الْبَاطِنُ لِكُلِّ خَفِيَّة، الْحَاضُِ لِكُلِّ سَرِيرَةٍ، العَالِمُ بِمَا تُكِنُّ الصُّدُورُ، وَمَا تَخُونُ الْعُيُونُ»(2) .
ح) «قَدْ عَلِمَ السَّرائِرَ، وَخَبَرَ الضَّمائِرَ، لَهُ الْإِحَاطَةُ بِكُلِّ شَيْءٍ»(3) .
ط) «خَرَقَ عِلْمُهُ بَاطِنَ غَيْبِ السُّتُرَاتِ(4) ، وَأَحَاطَ بِغُمُوضِ عَقَائِدِ السَّرِيرَاتِ»(5) .
سِرَّية القدر الإلهي:
«وسئل عن القدر، فقال: طَرِيقٌ مُظْلِمٌ فَلاَ تَسْلُكُوهُ، وَبَحْرٌ عَمِيقٌ فَلاَ تَلِجُوهُ، وَسِرُّ اللهِ فَلاَ تَتَكَلَّفُوهُ»(6) .
والطريق لا يشق ظلامه إلا بنور العلم، وعمق البحر مظنة الهلكة والعطب
ص: 204
تتقاذف براكبه أمواجه ولا نجاة إلا بركوب سفينة غیر معيبة يقودها ربّان ذو بصیرة «وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ»، وسر الله من شؤون غيبه، ومكنون أمره، فهو الخفاء المصون لا تدركه عقول ولا تبصره عيون، إلاّ لمن أحبه مولاه وإجتباه فأطلعه على سره وأئتمنه عليه، وعلم رضاه بما يبدي منه أو يخفيه ولا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى.
وصدق ولي الله في ما وصف وعرّف، وشدد وأكد من خطر القدر وغامض السر فحيث خاض بحر القدر البعيد الغور من لا نور له يهديه في اللجج ولا سفينة تنجيه من العطب يزعم واهماً أنه يلتقط اللئالي فآب خائباً مضطرب الفكر مرتعش اليدين خالي الوفاض إلا من الحیرة والتردد.
«وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ شَهَادَةً يُوَافِقُ فِيهَا السَّرُّ الْإِعْلاَنَ، وَالْقَلْبُ اللِّسَانَ»(1) .
«وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ غَیْرُهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً نَجِيبُهُ وَبَعِيثُهُ، شَهَادَةً يُوَافِقُ فِيهَا السَّرُّ الْإِعْاَنَ، وَالْقَلْبُ اللِّسَانَ»(2) . مستودع سرِّ الله (صلی الله علیه و آله و سلم):
«هُمْ مَوْضِعُ سِرَّهِ، وَلَجَأُ أَمْرِهِ، وَعَيْبَةُ عِلْمِهِ، وَمَوْئِلُ حُكْمِهِ، وَكُهُوفُ كُتُبِهِ، وَجِبَالُ دِينِه، بِهِمْ أَقَامَ انْحِناءَ ظَهْرِهِ، وَأذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِهِ»(3) .
ص: 205
من خالف سرّه علانيته منافق:
وكتب علیه السلام إلى بعض عمّاله على الصدقات:
«أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ فِي سَرَائِرِ أُمُورِهِ وَخَفِيَّاتِ عَمَلِهِ، حَيْثُ لاَ شَهِيدَ غَیرُهُ، وَلاَ وَكِيلَ دُونَهُ. وأَمَرَهُ أَلاَّ يَعْمَلَ بَشَيْءٍ مِنْ طَاعَةِ اللهِ فِيما ظَهَرَ فَيُخَالِفَ إلى غَیْرِهِ فِيَما أَسَرَّ، وَمَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ سِرُّهُ عَلاَنِيَتُهُ، وَفِعْلُهُ وَمَقَالَتُهُ، فَقَدْ أَدّى الْأَمَانَةَ، وَأَخْلَصَ الْعِبَادَةَ»(1) .
وقال علیه السلام في محاربيه:
«فَوَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا أَسْلَمُوا وَلَكِنِ اسْتَسْلَمُوا، وَأَسَرُّوا الْكُفْرَ، فَلَمَّا وَجَدُوا أَعْوَاناً عَلَيْهِ أَظْهَرُوهُ»(2) .
طلحة والزبير وقد كتب إليهما:
«أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ عَلِمْتُا، وَإِنْ كَتَمْتُما، أَنَّي لَمْ أُرِدِ النَّاسَ حَتَّى أَرَادُونِي، وَلَمْ أُبَايِعْهُمْ حَتَّى بَايَعُونِي. وَإِنَّكُمَا مِمَّنْ أَرَادَنِي وَبَايَعَنِي، وَإِنَّ العَامَّةَ لَمْ تُبَايِعْنِي لِسُلْطَان غَالِبٍ، وَلاَ لِعَرَضٍ حَاضِرٍ، فَإِنْ كُنْتُما بَايَعْتُمانِي طَائِعَیْنِ، فارْجِعَا وَتُوبَا إلى اللهِ مِنْ قَرِيبٍ، وَإِنْ كُنْتُما بَايَعْتُمانِي كَارِهَیْنِ، فَقَدْ جَعَلْتُما لِي عَلَيْكُمَا السَّبِيلَ بِإِظْهَارِكُمَا الطَّاعَةَ، وَإِسْرَارِكُمَا المَعْصِيَةَ»(3) .
ص: 206
وإلى معاوية:
«وَأُحَذِّرُكَ أَنْ تَكُونَ مُتَمادِياً فِي غِرَّةِ الْأُمْنِيَّةِ، مُخْتَلِفَ الْعَلاَنِيَةِ والسَّرِيرَةِ»(1) .
وكتب إلى الحارث الهمداني:
«وَاحْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ يُعْمَلُ بِهِ فِي السَّرَّ، وَيُسْتَحَى مِنْهُ فِي الْعَلاَنِيَةِ»(2) .
وكان مما يتعوّذ منه:
«اللهُمَّ إِنِّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ تَحْسُنَ فِي لاَمِعَةِ الْعُيُونِ عَلاَنِيَتِي، وَتَقْبُحَ فِيَما أُبْطِنُ لَكَ سَرِيرَتيِ، مُحَافِظاً عَلَى رِيَاءِ النَّاسِ مِنْ نَفْسِيِ بِجَمِيعِ مَا أَنْتَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ مِنِّي، فَأُبْدِيَ لِلنَّاسِ حُسْنَ ظَاهِرِي، وَأُفْضِيَ إِلَيْكَ بِسُوءِ عَمَلِي، تَقَرُّباً إلى عِبَادِكَ، وَتَبَاعُداً مِنْ مَرْضَاتِكَ»(3) .
«اَلظَّفَرُ بِالْحَزْمِ واَلْحَزْمُ بِإِجَالَةِ اَلرَّأْيِ واَلرَّأْيُ بِتَحْصِينِ اَلْأَسْرَارِ»(1) .
وقد قيل:
كل سر جاوز الاثنين شاع.
وقد فسر (الاثنين) بالشفتين.
من مواطن كتمان السر:
أ) «ألَا وَإنَّ لَكُمْ عِنْدِي ألَا أحْتَتجِزَ دُونَكُمْ سِرّاً إلِاَّ فِي حَرْبٍ، وَلا أطْوِيَ دُونَكُمْ أَمْراً إِلاَّ فِي حُكْمٍ»(2) .
ب) «ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ، وَابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالوَفَاءِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السَّرَّ لِأُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْأَمَانَةِ، وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ»(3) .
ج) «وَاخْصُصْ رَسَائِلَكَ الَّتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَكَائِدَكَ وأَسْرَارَكَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُوهِ صَالِحِ الْأَخْلاَقِ مِمَّنْ لاَ تُبْطِرُهُ الْكَرَامَةُ، فَيَجْتَرِىءَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلاَف لَكَ بِحَضْرَةِ مَلاَءِ، وَلاَ تُقَصَّرُ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْ إِيرَادِ مُكَاتَبَاتِ عُمَّالِكَ عَلَيْكَ، وَإِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَى الصَّوابِ عَنْكَ، وَفِيَما يَأْخُذُ لَكَ وَيُعْطِي مِنْكَ، وَلاَ يُضْعِفُ عَقْداً اعْتَقَدَهُ لَكَ، وَلاَ يَعْجِزُ عَنْ إِطْاَقِ مَا عُقِدَ عَلَيْكَ، وَلاَ يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفسِهِ فِي الْأُمُورِ، فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بَقَدْرِ غَیْرِهِ أَجْهَلَ»(4) .
ص: 208
«وَصَدَقَةُ السَّرَّ فَإِنَّهَا تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ»(1) .
«وَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يُدْخِلُ بِصِدْقِ النِّيَّةِ وَالسَّرِيرَةِ الصَّالِحَةِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عَبَادِهِ الْجَنَّةَ»(2) .
«طُوبَى لَمِنْ ذَلَّ فِي نَفْسِهِ، وَطَابَ كَسْبُهُ، وَصَلَحَتْ سَرِيرَتُهُ»(3) .
«مَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللهُ عَلاَنِيَتَهُ»(4) .
«حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ مِنْكُمْ، وَاسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَّةُ مِنْهُ فِيكُمْ، فَنَجَمَتِ الْحَالُ مِنَ السَّرَّ الْخَفِيِّ إلى الْأَمْرِ الْجَلِيِّ، اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ، وَدَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ»(5) .
وقال علیه السلام قبل موته:
«غَداً تَرَوْنَ أَيَّامِي، وَيُكْشَفُ لَكُمْ عَنْ سَرَائِرِي، وَتَعْرِفُونَنِي بَعْدَ خُلُوِّ مَكَانِي
ص: 209
وَقِيَامِ غَیْرِي مَقَامِي»(1) .
وتحمل حروف هذا الكلم وكلماته يقينه بصدقه وحقه، وعمق إستيائه وشدة تبرمه ومرارته مما عانى وقاسى في حمل الأمة على محجة الحق وإباءهم عليه وعصيانهم له، وكشفًا لما يعقب ذلكم النور من ظلمة دهياء وطخية عمياء «فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ»، نتيجة كفر النعمة بدل شكرها، والنعمة إذا ولّت عرفت(2) .
وقد كان قد قطع على نفسه يوم تولى حكم الرعية أن يصلح المفاسد التي عشعشت وفرّخت منذ دهر فاصطبغت بها الحياة فكراً وفقهاً ودنياً: «لَوْ قَدِ اسْتَوَتْ قَدَمَايَ مِنْ هذِهِ المَدَاحِضِ(3) لَغَیْرَّتُ أَشْيَاءَ»(4) .
فأصلح ما أمكنه، وأقام سنن الحق، وأبان المنهج الأبلج والمحجة البيضاء وحملهم على ذلك ما أستطاع سبيلاً، وحذرهم وأنذرهم ما تخبئه الأيام وما يعقب النور من ظلام.
«اعْمَلُوا لِيَوْمٍ تُذْخَرُ لَهُ الذَّخَائِرُ، وَتُبْلَی فِيهِ السَّرَائِرُ»(5) .
ص: 210
أهل السرّ قريبون من علاّم الغيوب:
«اللهُمَّ إِنَّكَ آنَسُ الْنِسِنیَ لْأَوْلِيَائِكَ، وَأَحْضَرُهُمْ بِالْكِفايَةِ لِلْمُتَوَكِّلِینَ عَلَيْكَ. تُشَاهِدُهُمْ فِي سَرَائِرِهِمْ، وَتَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ فِي ضَمَائِرِهِمْ، وَتَعْلَمُ مَبْلَغَ بَصَائِرِهِمْ، فَأَسْرَارُهُمْ لَكَ مَكْشُوفَةٌ، وَقُلُوبُهُمْ إِلَيْكَ مَلْهُوفَةٌ، إِنْ أَوْحَشَتْهُمُ الْغُرْبَةُ آنَسَهُمْ ذِكْرُكَ، وَإِنْ صُبَّتْ عَلَيْهِمُ المَصَائِبُ لَجَؤُوا إلى الاستجَارَةِ بِكَ، عِلْماً بَأَنَّ أَزِمَّةَ الْأُمُورِ بِيدِكَ، وَمَصَادِرَهَا عَنْ قَضَائِكَ»(1) .
فهؤلاء صفوة منتجبة وخیرة منتخبة، سرائرهم مكنونة بحب الله مولاهم فهو سبحانه أنسهم ومن سواه مستوحشون، وضمائرهم معقودة على الأذعان والتعلق بمن زكّاها وصفّاها، وبصائرهم ممدودة متصلة إلى من كشف عنهم الغشاوة فلا يبصرون إلا إياه، ولا يرجون إلا رضاه وسر ذلك وكنهه طيب السرائر ونقاء الضمائر وجلاء البصائر ومن ثم تعلق المحب بمحبوبه.
ص: 211
حول النص الآتي:
وهو مقطع من خطبة له علیه السلام في صفین، وموضوعها الحقوق المتقابلة بین الوالي والرعية، وبعد استيفائه غرضه «أجابه رجل من أصحابه بكلام طويل يكثر فيه الثناء عليه ويذكر سمعه وطاعته له».
ثم وصل حديثه بالمقطع الباهر والكلم الساحر الآسر، وهو سبيكة من نفائس لا يصوغها إلا ابن أبي طالب وجوهر من معدن كنوزه الثرة الآخذة بمجامع القلوب المحیرة للألباب وجلال المعنى وجمال الصورة والمبنى فهي الكمال متجسداً روحاً وتركيباً في تجانس فريد في عالم الروائع وآفاق الإبداع.
فقال علیه السلام: «إِنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ عَظُمَ جَلاَلُ اللهِ سُبْحَانَهُ فِ نَفْسِهِ، وَجَلَّ مَوْضِعُهُ مِنْ قَلْبِهِ، أَنْ يَصْغُرَ عِنْدَهُ- لِعِظَمِ ذلِكَ- كُلُّ مَا سِوَاهُ، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ كَانَ كَذلِكَ لَمنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ، وَلَطُفَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ تَعْظُمْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ ازْدَادَ حَقُّ اللهِ عَلَيْهِ عِظَماً. وَإِنَّ مِنْ أَسْخَفِ حَالاَتِ الْوُلاَةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ، أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ الْفَخْرِ، وَيُوضَعَ أَمْرُهُمْ عَلَى الْكِبْرِ، وَقَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنِّكُمْ أَنِّ أُحِبُّ الْإِطْرَاءَ، وَاسْتِمَاعَ الثَّنَاءِ، وَلَسْتُ- بِحَمْدِ اللهِ- كَذلِكَ، وَلَوْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُقَالَ ذلِكَ لَتَرَكْتُهُ انْحِطَاطاً للهِ سُبْحَانَهُ عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ. وَرُبَّمَا اسْتَحْلَی النَّاسُ الثَّنَاءَ بَعْدَ الْبَلاَء، فَلاَ تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ، لِإِخْرَاجِي نَفْسِيِ إلى اللهِ وإِلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا، وَفَرَائِضَ لاَ بُدَّ مِنْ إِمْضائِهَا، فَلاَ
ص: 212
تُكَلِّمُونِي بَمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، وَلاَ تَتَحَفَّظُوا مِنَّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ، وَلاَ تُخَالِطُونِي بالمُصَانَعَةِ، وَلاَ تَظُنّوا بِيَ اسْتِثْقَالاً فِي حَقٍّ قِيلَ لِي، وَلاَ الْتِمَاسَ إِعْظَام لِنَفْسِيِ، فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوْ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ. فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ، أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ، فَإِنَّي لَسْتُ فِي نَفْسِيِ بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِىءَ، وَلاَ آمَنُ ذلِكَ مِنْ فِعْلِي، إِلاَّ أَنْ يَكْفِيَ اللهُ مِنْ نَفْسِيِ مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي، فَإنَّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لاَ رَبَّ غَیْرُهُ، يَمْلِكُ مِنَّا مَا لاَ نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا، وَأَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إلى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ، فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلاَلَةِ بِالْهُدَى، وَأَعْطَانَا الْبصِیرَةَ بَعْدَ الْعَمَى»(1) .
وبعد إيراد هذه الفريدة القدسية والنظر إلى ذلكم النسيج الروحي المحیر ببديع خيوطه ودقيق حروفه وتناثر الجمال في جمله وصوره، فلنعد إليه متأمّلین في لطف يد أدارت قلمها وريشتها فصوّرت، وفي لوحتها التي أبدعت في أدواتها وأعجزت في مقاصدها، فكلما كررت نظراً وأعملت فكراً كشفت كنزاًو سراً، وأدركت معنى سامياً وفكراً.
يزيدُكَ وجهُهُ حْسْنًا *** إذا ما زِدْتَهُ نَظَرا
أ) وهي الركيزة الأسمى فمن عظم الله في ذاته وتمكن موضعه من قلبه جل شأنه لديه وصغر كل ما سواه «ألا كل شيء ما خلا الله باطل».
ب) ومن غمرته نعم مولاه وعمته ألطافه فلقد لزمه شكر نعمته وتواتر عليه عظيم حقه.
ص: 213
فالإمرة والسلطان والنفوذ والحكم عوامل تغري وبواعث تدفع بالزهو والكبرياء وحتى لو ملك جماح نفسه، وملك عواطفه وراقب ذاته فإن الرعية ترمقه بأنه يطمح إلى الفخر ويطربه الثناء والإطراء وتتعامل معه من منطلق عبوديتها وسيادته فهي تلبي رغباته وتشبع نهمه وتتصرف بما يلتقي مقامه.
أ) ولئن كانت كانت تلكم الخلائق سمة الحاكم والمحكوم والوالي والرعية فإن ولي الله الحق والراعي الصدق له من صفاء السريرة ونقاء الذات وكمال السیرة ما يجعله أمة وحده، واستقامة فذة يحياها ويحمل رعيته على شريف خلائقه وكريم ذاته وطباعه.
ب) فلا يتوهمنّ فيه ما يهواه ويحياه سواه، لإباء ملكاته ذلك عليه، ولجلال الله في قلبه وخضوعه لعظمته، فهو تعالى ولي النعم وله سابغ الحمد وخالص المدحة والثناء.
ج) والإمام العظيم وإن حسن بلاؤه وانطلقت الألسن بذكره ونشر جميل سياسته عرفانًا وامتناناً إلا أنه يأبى إلا تعاليًا في تواضعه وتذللاً في عبوديته فهو يؤاخذ نفسه- وهو المعصوم- على ما يعتده في أداء وظائفه تجاه الخالق والخلق.
د) ومن هذا المنطلق ينهج لأوليائه وعارفي فضل امتيازه من رعيته مُثُل كماله وقدس ذاته في نمط التعامل معه مركزاً على ركيزته القويمة:
ص: 214
عبوديته الخالصة وتواضعه الرفيع فيرسم لهم ويختطّ ما يلي:
1- إلغاء مظاهر الكبرياءو التجبر والسيادة والعبودية فهو أمیر المؤمنین حقاً وهم رعيته لكنه يمقت أن يتعاملوا معه ويخاطبوه وفق أساليب الضعة وتذلل أهل المسكنة للسادة الكبراء
2- وهو- سلام الله عليه- وإن تجلل وتجلبب بالهيبة الإلهية- مع ما تفرضه رهبة الحكم والسلطان- إلا أنه يكشف لرعيته سراً وخلقاً في شخصيته لم يعهد من الولاة إظهاره، بل من شأنهم إخفاؤه ألا وهو إزاحة العلة ورفع الحواجز النفسية، فلتقو عزائمهم، ولتنطلق ألسنتهم غیر وجلین، فصاحبهم أماط عنهم بواعث الحصر والتلكؤ وسهل لهم الخطاب فلا يخشى من الغضب ولا تضيق نفسه بما يبرم به الحاكمون.
3- وليعيشوا في علاقتهم بإمامهم الوضوح والصراحة فلا مجاملة ولا إلتواء ولا مداراة ولا تصنع، فليس ثمت ما يدعو إلى شيء من ذلك التكلف.
4- ثقل الحق: فالحق مر تأباه طباع من تحكمت فيهم الشهوة، وأسرتهم الأثرة وطمحوا إلى الاستيلاء والاستعلاء، بل ومن ثقله وعلقم طعمه أن تمج آذان تلك الفئة سماع لفظه فضلاً عن الاصغاء لطالبي تحقيقه وإقامته، فكيف بالاذعان والخضوع والتسليم والانقياد؟! أما الإمام علیه السلام فهو: «علي مع الحق والحق مع علي».
ومن كان للحق توأماً وعنواناً ووجهاً وذاتاً فيلذ سمعه لصوت الحق وكلمته وتزهو ذاته لنداء دعوته.
ص: 215
ومن كانت هذه خلاله فلا يتصور أن تكم الأفواه وتلجم الألسن عن مقالة حق أو مشورة عدل.
«وكان كما يقول المؤرخون أول حاكم في الإسلام بنى بيتاً للمظالم يضع فيه المظلومون والمعتدى عليهم رقاعاً يذكرون فيها ما أصابهم من اعتداء أو مكروه، وكان بنفسه يشرف عليها فيأخذ لهم بحقهم ويدفع عنهم ما أصابهم من أذى ومكروه»(1) .
وذلك ما تجلّى فيا تحلّى به الصفوة الأولياء عباد الله حقًّا يعلمون من عظمة المولى المعبود، ويحيطون بأسراره ما يعلمون ويحيطون ويحيون مغمورين بمواهبه وألطافه فيهم وعليهم وهي نعم الله التي لا تحصى ولا تكافئ وهم العالمون بجلال قدرها وخطر أمرها فیرون أنهم مقصرون في أداء شكرها والقيام بحقها.
ويحيا بعمق أنه العبد الممكن المربوب الذي لا حول له ولا طول ولا دفع ولا منع إلا ممن منح وأعطى فكل مالديه فيض مولاه وتمثل عبوديته هذه أنه لا يرى لذاته شأناً ولا كمالاً فلو أوكل لنفسه لكان النقص، والكمال من واهبه.
إذن فحكايته لشؤونه منطلقة من رؤيته لنفسه وحقيقة وجوده.
أجل... «إِلاَّ أَنْ يَكْفِيَ اللهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنَّي».
ص: 216
ولا يعني ذلك صدور ما يتنافى والعصمة، ويخرج عن دائرة الكمال بل أنه ذلك جلال الكمال وكمال الجلال.
ويُعنى الإمام بتأكيد الفكرة وتكرار النظرة إمعاناً في تعميق جلال الربوبية وصدق العبودية لتقرّ في النفوس كما قرت في ذاته الشريفة.
وقوله مثل حداً وسطاً لركيزتین قررهما وكررهما في منتهى خطابه: «وَلاَ تَظُنّوا بِيَ اسْتِثْقَالاً فِي حَقٍّ قِيلَ لِي، وَلاَ الْتِمَاسَ إِعْظَام لِنَفْسِيِ».
فمن جسد العبودية وتجسدت بكمالها فيه، هل يظن به استثقال أو تعال؟!
وهكذا نجد النص مبتدأً ومنتهى يدور في ذلكم المدار، ويتمركز حول ذلكم المحور، مع جمال العرض للطباع والأوضاع لدى الحاكمین والمحكومین وجلال القصد من التوجيه الحق إلى خالص العبودية وشريف فضائلها.
ص: 217
وهو من خیر الخصال المعبرة عن طيب الذات، والمقدرة لما أسدي إليها من المعروف والإحسان فتعترف له بخالص الامتنان.
وشكر المنعم واجب حكم به العقل، وقضى به الدين، وكشف عن جليل موقفه، والخیر العميم من أثره.
فماذا يقول عنه جوهرة الشاكرين وإمام العارفين؟
أ- «أَحْمَدُهُ شُكْراً لِإِنْعَامِهِ»(1) .
وهذا ما صدّر به علیه السلام خطبته، واستهل به كلامه جامعاً بين الحمد والشكر.
ب- «وَأَبْلُوا فِي سَبيلِ اللهِ مَا اسْتَوْجَبَ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدِ اصْطَنَعَ عِنْدَنَا(2) وَعِنْدَكُمْ أَنْ نَشْكُرَهُ بِجُهْدِنَا، وَأَنْ نَنْصَرُهُ بِمَا بَلَغَتْ قُوَّتُنَا، وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ»(3) .
وكان هذا ختام كتابه إلى عماله على الخراج بعد أن شرح لهم وظائفهم وأثرها في البلاد والعباد، وأن تلكم الآثار الخیّرة نعم مباركة عّم نفعها وجلّ موقعها فهي تدعو المنعم عليه بها إلى شكرها جهد الطاقة متصلاً لا ضعف فيه ولا انقطاع.
ص: 218
وإن من مظاهر الشكر نصرة المنعم مبلغ القوة، ولا قوة إلا بتوفيقه وعونه وهي نعمة موصولة يستتبع فيها الشكر شكراً.
ج- «لَوْ لَمْ يَتَوَعَّدِ اللهُ عَلَی مَعْصِيَتِهِ لَكَانَ يَجِبُ أَلاَّ يُعْصَی شُكْراً لِنِعَمِهِ»(1) .
فالعاقل يرى أنه مغمور بنعم المولى تترى عليه فلا يليق بهذا الإحسان إلا الشكر والامتنان، وما كان بحاجة لأن يهدد ويتوعد بالعقوبة على العصيان والكفران لولا الجهل والجفاء وقلة الحياء.
د- «قَدْ كَفَاكُمْ مَؤُونَةَ دُنْيَاكُمْ، وَحَثَّكُمْ عَلَى الشُّكْرِ، وَافْتَرَضَ مِنْ أَلْسِنَتِكُمُ الذِّكْرَ»(2) .
فمنه- سبحانه تبارك وتعالى- الحياة إنشاء وإبقاء وهما نعمتان تعمرهما نعم لا تحصى تستحث المنعم عليه على شكرها عملاً وفعلاً وذكراً وقولاً فحاله يشكر ولسانه يذكر، وإن الذكر لمن الشكر.
ه- «أَيُّهَا النَّاسُ، الزَّهَادَةُ قِصَرُ الْأَمَلِ، وَالشُّكْرُ عِنْدَ النِّعَمِ، والتَّوَرُّعُ عِنْدَ المَحَارِمِ، فَإِنْ عَزَبَ ذلِكَ عَنْكُمْ فَلاَ يَغْلِبِ الْحَرَامُ صَبْرَكُمْ، وَلاَ تَنْسَوْا عِنْدَ النِّعَمِ شُكْرَكُمْ، فَقَدْ أَعْذَرَ اللهُ إِلَيْكُمْ بِحُجَجٍ مُسْفِرَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَكُتُبٍ بَارِزَةِ الْعُذْرِ وَاضِحَةٍ»(3) .
و- «الْحَمْدُ للهِ الَّذِي إلَيْهِ مَصَائِرُ الْخَلْقِ، وَعَوَاقِبُ الْأَمْرِ، نَحْمَدُهُ عَلَى عَظِيمِ
ص: 219
إِحْسَانِهِ، وَنَیَّرِ بُرْهَانِهِ، وَنَوَامِي فَضْلِهِ وَامْتِنَانِهِ، حَمْداً يَكُونُ لِحَقِّهِ قَضَاءً، وَلِشُكْرِهِ أَدَاءً»(1) .
ز- «وَاللهُ مُسْتأْدِيكُمْ(2) شُكْرَهُ، وَمُوَرِّثُكُمْ أَمْرَهُ»(3) .
وقد قال هذا حاثًّا أصحابه على الجهاد، وإذا كان الشكر لنعمه فهي هنا النعمة الكبرى بالإيمان، والشكر عليها بما يليق بها، وهو بذل النفس والتضحية في سبيله فالجهاد باب من بواب الجنة ولا يلجه إلا الباذل الناصر والشاكر لأنعم الله.
أ) المتقي
«يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَهُوَ عَلَى وَجَلٍ، يُمْسِيِ وَهَمُّهُ الشُّكْرُ، وَيُصْبِحُ وَهَمُّهُ الذِّكْرُ»(4) .
«وَفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ»(5) .
«فَإِنَّ الْتَّقْوَى فِي الْيَوْمِ الْحِرْزُ وَالْجُنَّةُ، وَفِي غَدٍ الطَّرِيقُ إلى الْجَنَّةِ، مَسْلَكُهَا وَاضِحٌ، وَسَالِكُهَا رَابحٌ، وَمُسْتَوْدَعُهَا حَافِظٌ. لَمْ تَبْرَحْ عَارِضَةً نَفْسَهَا عَلَى الْأُمَمِ
ص: 220
المَاضِینَ وَالْغَابِرينَ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا غَداً، إِذَا أَعَادَ اللهُ مَا أَبْدَى، وَأَخَذَ مَا أَعْطَى، وَسَأَلَ عَمَّا أَسْدَى. فَمَا أَقَلَّ مَنْ قَبِلَهَا، وَحَمَلَهَا حَقَّ حَمْلِهَا! أُولئِكَ الْأَقَلُّونَ عَدَداً، وَهُمْ أَهْلُ صِفَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ إِذْ يَقُولُ: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ»»(1) .
ب) المؤمن:
«شَكُورٌ صَبُورٌ»(2) .
ج) العباد المخلصون:
«إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ، وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ، وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ شُكْراً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِ»(3) .
صنع المعروف والشكر:
«لاَ يُزَهِّدَنَّكَ فِي المَعْرُوفِ مَنْ لاَ يَشْكُرُهُ لَكَ، فَقَدْ يَشْكُرُكَ عَلَيْهِ مَنْ لاَيَسْتَمْتِعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَقَدْ تُدْرِكُ مِنْ شُكْرِ الشَّاكِرِ أَكْثَرَ مِمَّا أَضَاعَ الْكَافِرُ، «وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ»»(4) .
وهي دعوة لفعل المعروف لذاته، وترغيب في الإحسان لحسنه، ودونما
ص: 221
إنتظار مكافأة ولا توقع مجازاة.
عند المعافاة من بلاء الذنوب:
«وَإِنّمَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعِصْمَةِ وَالمَصْنُوعِ إِلَيْهمْ فِي السَّلاَمَةِ أَنْ يَرْحَمُوا أَهْلَ الذُّنُوبِ وَالمَعْصِيَةِ، وَيَكُونَ الشُّكْرُ هُوَ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ وَالْحَاجِزَ لَهُمْ عَنْهُمْ... وَلْيَكُنِ الشُّكْرُ شَاغِلاً لَهُ عَلَى مُعَافَاتِهِ مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ غَیْرُهُ»(1) .
فهنا نظران: نظر للغیر المبتلى بعین الرحمة، ونظر المعافى لنفسه فيحجزه ما رآه في غیره من بلاء فلا يبتلى بمثله، ويشكر الله على معافاته ولمن هو دونه.
«وَأَكْثِرْ أَنْ تَنْظُرَ إلى مَنْ فُضِّلْتَ عَلَيْهِ، فإِنَّ ذلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الشُّكْرِ»(2) .
فأنت ترفل في نعمة حرم منها غیرك، وذلك يستدعي شكراً و «بالشكر تدوم النعم»(3) فربما انصرفت عنك وولت إلى سواك.
وعند ابتدائها:
«إِذَا وَصَلَتْ إِليْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلاَ تُنْفِرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ»(4) .
فإن شكرت مبتداها امتدت وبلغت منتهاها، وإن كفرت انقطعت وانتهت.
حلية الغنى:
ص: 222
«الْعَفَافُ زِينَةُ الْفَقْرِ، والشُّكْرُ زِينَةُ الغِنَى»(1) .
فلا يبطره غناه، ويقبحه بكفره بل يزينه بشكره.
وعند النصر على العدو:
«إِذَا قَدَرْتَ عَلَی عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ»(2) .
فالظفر نعمة، والعفو رحمة، وما أجمل موقعها من لدن القادر على العقوبة لانضباط نفسه وملكه لغربه، ولدى المقدور عليه حيث السلامة.
ضمانة الشكر للاستدراج:
«وَرُبَّ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ مُسْتَدْرَجٌ(3) بِالنُّعْمَى، وَرُبَّ مُبْتَىً مَصْنُوعٌ لَهُ بِالْبَلْوَى! فَزِدْ أَيُّهَا المُسْتَمِعُ فِي شُكْرِكَ، وَقَصَّرْ مِنْ عَجَلَتِكَ، وَقِفْ عِنْدَ مُنتَهَى رِزْقِكَ»(4) .
فلا يبطره تواتر النعم عليه، وتكاثر المال لديه، وأن ذلك لكرامته عند رازقه وهوان المحروم، فربما كان ذلك إملاءً يمتد به إلى البلاء، فلیرع وليراقب وخیر ضمانة إدامة الشكر فهو بذلك في مأمن أن تصده النعم عن حق المنعم المفضل والمحسن المجمل فينقلب الرخاء شدة وبلاء، والنعمة نقمة وعناء.
ص: 223
«وَقَدَّرَ الْأَرْزَاقَ فَكَثَّرَهَا وَقَلَّلَهَا، وَقَسَّمَهَا عَلَى الضِّيقِ والسَّعَةِ فَعَدَلَ فِيهَا لِيَبْتَلِيَ مَنْ أَرَادَ بَمَيْسُورِهَا وَمَعْسُورِهَا، وَلِيَخْتَبِرَ بِذلِكَ الشُّكْرَ والصَّبْرَ مِنْ غَنِيِّهَا وَفَقِيرِهَا»(1) .
«مَنْ أُعْطِيَ أَرْبعاً لَمْ يُحْرَمْ أَرْبَعاً: مَنْ أُعْطِيَ الدُّعَاءَ لَمْ يُحْرَمِ الْإِجَابَةَ، وَمَنْ أُعْطِيَ التَّوْبَةَ لَمْ يُحْرَمِ الْقَبُولَ، وَمَنْ أُعْطِيَ الاستغْفَارَ لَمْ يُحْرَمِ المَغْفِرَةَ، وَمَنْ أُعْطِيَ الشُّكْرَ لَمْ يُحْرَمِ الزِّيَادَةَ»(2) .
«مَا كَانَ اللهُ لِيَفْتَحَ عَلَی عَبْدٍ بَابَ الشُّكْرِ وَيُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ الزِّيَادَةِ»(3) .
«فَزِدْ أَيُّهَا المُسْتَمِعُ فِي شُكْرِكَ، وَقَصَّرْ مِنْ عَجَلَتِكَ، وَقِفْ عِنْدَ مُنتَهَى رِزْقِكَ»(4) .
«يَعْجِزُ عَنْ شُكْرِ مَا أُوتِيَ، وَيَبْتَغِي الزِّيَادَةَ فِيما بَقِيَ»(5) .
في التهنئة بالمولود:
ص: 224
«وهنَّأَ بحضرته رجل رجلاً بغلام ولد له فقال له: لِيَهْنِئْكَ الْفَارسُ. فقال علیه السلام: لاَ تَقُلْ ذلِكَ، وَلكِنْ قُلْ: شَكَرْتَ الْوَاهِبَ، وَبُورِكَ لَكَ فِي المَوْهُوبِ، وَبَلَغَ أَشُدَّهُ، وَرُزِقْتَ بِرَّهُ»(1) . وضع المال في غير موضعه:
«وَلَمْ يَضَعِ امْرُؤٌ مَالَهُ فِي غَیْرِ حَقِّهِ وَعِنْدَ غَیْرِ أَهْلِهِ إِلاَّ حَرَمَهُ اللهُ شُكْرَهُمْ وَكَانَ لِغَیْرِهِ وُدُّهُمْ، فَإِنْ زَلَّتْ بِهِ النَّعْلُ يَوْماً فَاحْتَاجَ إلى مَعُونَتِهِمْ فَشَرُّ خَلِيلٍ وَألْأَمُ خَدِينٍ»(2) .
الخاصة الأقل شكراً:
«وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَی الْعَامَّةِ. وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ، وَأَكْرَهَ لِلْإِنْصَافِ، وَأَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الْإِعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ المَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ»(3) .
وقال علیه السلام في بعض الأَعيَاد:
«إِنَّمَا هُوَ عِيدٌ لَمِنْ قَبلَ اللهُ صِيَامَهُ وَشَكَرَ قِيَامَهُ، وَكُلُّ يَوْمٍ لاَ يُعْصَى اللهُ فِيهِ
ص: 225
فَهُوَ عِيد»(1) .
«مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ، وَمَنْ سَأَلَهُ أَعْطَاهُ، وَمَنْ أَقْرَضَهُ قَضَاهُ، وَمَنْ شَكَرَهُ جَزَاهُ»(2) .
«وَلَقَدْ أَحْسَنْتُ جِوَارَكُمْ، وَأَحَطْتُ بِجُهْدِي مِنْ وَرَائِكُمْ، وَأَعْتَقْتُكُمْ مِنْ رَبَقِ الذُّلِّ، وَحَلَقِ الضَّيْمِ، شُكْراً مِنِّي لِلْبِرَّ الْقَلِيلِ، وَإِطْرَاقاً عَمَّا أَدْرَكَهُ الْبَصَرُ، وَشَهِدَهُ الْبَدَنُ، مِنَ المُنْكَرِ الْكَثِیرِ»(3) .
وكتب علیه السلام إلى أهل الكوفة بعد فتح البصرة:
«وَجَزَاكُمُ اللهُ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ عَنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ أَحْسَنَ مَا يَجْزِي الْعَامِلِینَ بِطَاعَتِهِ، وَالشَّاكِرِينَ لِنِعْمَتِهِ، فَقَدْ سَمِعْتُمْ وَأَطَعْتُمْ، وَدُعِيتُمْ فَأَجَبْتُمْ»(4) .
9) والشهادة عند الإمام موطن الشكر لا الصبر:
«فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَلَيْسَ قَدْ قُلْتَ لِي يَوْمَ أُحُدٍ حَيْثُ اسْتُشْهِدَ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَحِيزَتْ عَنَّي الشَّهَادَةُ، فَشَقَّ ذلِكَ عَلَيَّ، فَقُلْتَ لِي: أَبْشِرْ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِكَ؟ فَقَالَ لي: إِنَّ ذلِكَ لَكَذلِكَ، فَكَيْفَ صَبْرُكَ إِذَنْ؟. فَقُلْتُ:
ص: 226
يَا رَسُولَ اللهِ، لَيسَ هذَا مِنْ مَوَاطِنِ الصَّبْرِ، وَلكِنْ مِنْ مَوَاطِنِ الْبُشْرَى وَالشُّكُرِ»(1) .
فالشهادة لقاء الله، والا علام الصادق بها بشرى بالمحبوب المؤمل، وبالتالي فهي نعمة إلهية كبرى تستوجب الشكر كما أوجبت البشرى.
ص: 227
ونظرًا لتقارب موضوعهما، وترابط آثارهما، وتناسب أحكامهما عنونت لهما عنواناً مفرداً، وميَّزت لكلٍّ جملاً.
«الْحَمْدُ للهِ الَّذِي عَلا بِحَوْلِهِ وَدَنَا بِطَوْلِهِ مَانِحِ كُلِّ غَنِيمَةٍ وَفَضْلٍ»(1) .
والنص مفتتح الخطبة العجيبة المسماة بالغراء، وكل خطبه سلام الله عليه غرر عجاب.
أجل.. إن واهب النعم، مصدر كل خیر هو الحقيق بالحمد، فهو- سبحانه- ذو الحول والطول مفيض وهَّاب، والعبد مفاض عليه موهوب، والواجب على المنعم عليه الحمد والشكر، ولا يجوز منه الغفلة والكفر.
«أَلا وَإِنَّ شَرَائِعَ الدِّينِ وَاحِدَةٌ وَسُبُلَهُ قَاصِدَةٌ مَنْ أَخَذَ بِهَا لَحِقَ وَغَنِمَ وَمَنْ وَقَفَ عَنْهَا ضَلَّ وَنَدِمَ»(2) .
فأيُّ غنيمةٍ أجل خطراً، وأعظم أثراً من هدي الله لعباده وتشريعه نظام عباده صراطاً مستقيماً، فالسعيد من أخذ بالهدى، وسلك سبل الرشاد، والشقي من امتنع ولم ينهج صراط ربه المستقيم فتاه في أودية الضلال، وهو بعد رهین
ص: 228
الحسرة والندم.
«إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الطَّاعَةَ غَنِيمَةَ الأَكْيَاسِ عِنْدَ تَفْرِيطِ الْعَجَزَةِ»(1) .
وهذه سمة العاقل يرى المغنم في التوفيق لطاعة مولاه واهبه القدرة والشارع له الدين القويم، أما المقصر الذي غلبته شهوته فأضعفت عقله فهو العاجز المفرط، وذلك هو الحرمان.
«وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَالِي عَلَى الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالمَغَانِمِ وَالأحْكَامِ وَإِمَامَةِ المُسْلِمِينَ الْبَخِيلُ فَتَكُونَ فِي أَمْوَالهِمْ نَهْمَتُهُ وَلا الْجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ وَلا الْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ وَلا الْحَائِفُ لِلدُّوَلِ فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ وَلا المُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ وَيَقِفَ بِهَا دُونَ المَقَاطِعِ وَلا المُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الأمَّةَ»(2) .
فمن تبوأ ذلكم المقام، وبسط يده على العباد وخیرات البلاد وتملكه الهوى إن لم يكن له من الله عاصم، فلا موازين حق، ولا مقاييس صدق في قول أو حكم أو عمل يقول غلطاً ويحكم شططاً، يسيء الأثرة، ويرف على ذاته، ومن له فيه هوى العطية، ويبخل في موارد العطاء، فإنه يرى أن ما تحت قبضته ملك له، مباح يتصرف فيه كما يشاء.
ص: 229
ولقد والله صدق أمیر المؤمنین أبو الحسن فيما بیَّن وفصَّل فتأريخ ولاة السوء قديماً على تلكم الوتیرة والشاكلة، لا يشذ عنها منهم شاذ، وكلهم حثالة شُذَّاذ.
ب- وفي كتابه إلى واليه مالك:
«وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ وَلا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِیرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ»(1) .
هكذا فلتكن ولاة الإسلام، قلب مفعم بالرحمة، فياضٌ بالمحبة، عامرٌ باللطف، يجسدُ الإنسانية، ولا تثیر فيه الإمرة طباعاً سبعية، تضرى على من هم على شاكلته، ديناً وإيماناً، ونظراء لها في الإنسانية، وكلهم رعيته، فمن وظائفه رعايتهم، لا اغتنام الولاية سلطاناً يبدد فيئهم ويحوي رزقهم بطشاً وتنمراً.
ج- خلقه الكريم صلوات الله عليه:
«أَلا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ(2) وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ أَلا وَإِنَّكُمْ لا تَقْدِرُونَ عَلَی ذَلِكَ وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ فَوَاللهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً(3) وَلا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً وَلا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً وَلا حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً وَلا أَخَذْتُ مِنْهُ إِلا كَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَةٍ(4) وَلِهَيَ فِي
ص: 230
عَيْنِي أَوْهَى وَأَوْهَنُ مِنْ عَفْصَةٍ مَقِرَةٍ(1) »(2) .
وكم له- سلام الله على ملكاته- من حديثٍ يحكي خلاله، وقد صدَّقت أفعاله وأحواله أقواله، فكان الأنموذج الأمثل، والمثل الأروع، وقد دأب على حمل ولاته على خلائقه، واعتذر عنهم بأنهم لا يطيقون ذلك.
«أَلا وَإِنَّكُمْ لا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ»(3) .
ص: 231
«رَحِمَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ حُكْماً فَوَعَى وَدُعِيَ إلى رَشَادٍ فَدَنَا وَأَخَذَ بِحُجْزَةِ هَادٍ فَنَجَا رَاقَبَ رَبَّهُ وَخَافَ ذَنْبَهُ قَدَّمَ خَالِصاً وَعَمِلَ صَالحِاً اكْتَسَبَ مَذْخُوراً وَاجْتَنَبَ مَحْذُوراً وَرَمَى غَرَضاً وَأَحْرَزَ عِوَضاً كَابَرَ هَوَاهُ وَكَذَّبَ مُنَاهُ جَعَلَ الصَّبْرَ مَطِيَّةَ نَجَاتِهِ وَالتَّقْوَى عُدَّةَ وَفَاتِهِ رَكِبَ الطَّرِيقَةَ الْغَرَّاءَ وَلَزِمَ المَحَجَّةَ الْبَيْضَاءَ اغْتَنَمَ المَهَلَ(1) وَبَادَرَ الَأجَلَ وَتَزَوَّدَ مِنَ الْعَمَلِ»(2) .
«الْفُرْصَةُ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ فَانْتَهِزُوا فُرَصَ الْخَيْرِ»(3) .
«بَادِرِ الْفُرْصَةَ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ غُصَّةً»(4) .
«إضَاعَةُ الْفُرْصَةِ غُصَّةٌ»(5) .
«وَلا كُلُّ فُرْصَةٍ تُصَابُ»(6) .
«مِنَ الْخُرْقِ المُعَاجَلَةُ قَبْلَ الإمْكَانِ، وَالأنَاةُ بَعْدَ الْفُرْصَةِ»(7) .
ص: 232
«وإِذَا وَجَدْتَ مِنْ أَهْلِ الْفَاقَةِ مَنْ يَحْمِلُ لَكَ زَادَكَ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيُوَافِيكَ بِهِ غَداً حَيْثُ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَاغْتَنِمْهُ وَحَمَّلْهُ إِيَّاهُ وَأَكْثِرْ مِنْ تَزْوِيدِهِ وَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَعَلَّكَ تَطْلُبُهُ فَلا تَجِدُهُ وَاغْتَنِمْ مَنِ اسْتَقْرَضَكَ فِي حَالِ غِنَاكَ لِيَجْعَلَ قَضَاءَهُ لَكَ فِي يَوْمِ عُسْرَتِكَ»(1) .
دعوتان كريمتان، وتربيتان عظيمتان، إحداهما للخلق والأخرى للخالق، فإسعاف المحتاج، وإغاثة اللهفان، وبذل العطاء للمحتاج إليه خلالٌ تضمن الخیر في الدنيا والآخرة، فالفقیر يعيش الامتنان، ويلهج لسانه بالدعاء لمن أسهم في دفع معاناته، وأداء دينه، وهو العمل المربح حيث يدخر أجره العظيم في دار النعيم، فليجد واجد، وليجدَّ في ذلك، فربما فات الأوان عن تدارك البذل والإحسان.
والله الكريم الوهاب هو ولي النعم والرازق ذو المن والطول، وقد أعدَّ هذا المولى المفضل ذاته المقدسة مستقرضاً من عبده ما منحه وأنعم عليه «وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ» وهو سبحانه الملي والغني المطلق، وصادق الوعد ومجازي العمل الخیر بأضعاف مضاعفة لا يأتي عليها حصر ولا تدرك بحساب «مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِیرَةً».
ونفع ذلك أولاً وأخيراً للمنعم عليه آخذاً ومعطياً.
فما أكرم المولى وأوسع رحمته وأسبغ نعمته!!
ص: 233
«يَرَى الغُنْمَ مَغْرَمًا والغُرْمَ مَغْنَمًا»(1) .
فتختلط الأوراق كما يقال، فیرى أن ما يبذله في مواطن البر والخیر ضياعاً والغنيمة غرامة، وما يصرفه في غیر محله غنيمة أفادها، وما ذلك إلاّ من ضعف رأي وقلة بصیرة وعدم معرفة بمواقع الخیر ومباءة الشر.
«إِنَّ المَرْءَ المُسْلِمَ مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ فَيَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ وَيُغْرَى بِهَا لِئَامُ النَّاسِ كَانَ كَالْفَالِجِ(2) الْيَاسِرِ(3) الَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِهِ تُوجِبُ لَهُ المَغْنَمَ وَيُرْفَعُ بِهَا عَنْهُ المَغْرَمُ»(4) .
وقد جاء هذا التشبيه متوافقاً لما عليه أمر الناس من سرورهم وغبطتهم عند فوزهم في لعبة الميسر، وغلبتهم في المقامرة، فتصيبه النشوة لما كسب.
وهكذا فليكن أدب المؤمن حينما يرى نفسه مضيَّقاً وأخاه موسعاً عليه فلا يكن ذلك له فتنة تبعث على سوء الظن بالله الواهب، والحسد لمن آتاه الله، بل اللائق به أن يصبر وينتظر من الله إحدى الحسنيين، إما مؤجلة «وَلَلآخِرَةُ خَیْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَی»، وإما معجلة في دار الدنيا.
ص: 234
«وَقَدْ أَرَدْتُ تَوْلِيَةَ مِصْرَ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ وَلَوْ وَلَّيْتُهُ إِيَّاهَا لَّما خَلَّى لَهُمُ الْعَرْصَةَ(1) وَلا أَنْهَزَهُمُ الْفُرْصَةَ بِلا ذَمٍّ لُمِحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَلَقَدْ كَانَ إِلَيَّ حَبِيباً وَكَانَ لِي رَبِيباً»(2) .
وقد وفىَّ علیه السلام كلا الرجلین الجليلین حقه، فإنه وإن أثنى على الأول بحزمه وانتهازه الفرصة المواتية، فلم يشأ أن تنال الألسن محمداً فإنه حبيبه وربيبه ولكنها الرجال تتفاوت قدراتها.
«وَلَقَدْ أَصْبَحْنَا فِي زَمَانٍ قَدِ اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ الْغَدْرَ كَيْساً وَنَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيهِ إلى حُسْنِ الْحِيلَةِ مَا لَهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْهَ الْحِيلَةِ وَدُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَیْنٍ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَيَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لا حَريِجَةَ(3) لَهُ فِي الدِّينِ»(4) .
«وَإِيَّاكَ وَالإعْجَابَ بِنَفْسِكَ وَالثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا وَحُبَّ الإطْرَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ المُحْسِنِينَ»(5) .
ص: 235
ثلاث مهلكات محورها حب الذات حباً مستولياً يزهو فيه المرء بذاته، وينبهر با يروقه هو من صفاته، ولا يستكمل لذته حتى يسمع الثناء عليه والإشادة والتنويه به فيلفه الإعجاب في ذاته وما يحيط به، فيتمكن منه عدوه حيث هيأ له عدته ومهد له فرصته، وماذا يرتجى من العدو اللدود عندئذٍ؟! أجل إنه يغريه ويدأب في إغرائه، حتى يستحكم الزهو فينسى ربه ويعشق ذاته فيأتي ذلك على كل عمل قام به أو يصدر عنه، فالنية مشوبة، والبصیرة مغلوبة، فتكون العاقبة «وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا».
«وَاللهِ لَوْ تَظَاهَرَتِ الْعَرَبُ عَلَى قِتَالِي لَمَا وَلَّيْتُ عَنْهَا وَلَوْ أَمْكَنَتِ الْفُرَصُ مِنْ رِقَابِهَا لَسَارَعْتُ إِلَيْهَا وَسَأَجْهَدُ فِي أَنْ أُطَهِّرَ الأرْضَ مِنْ هَذَا الشَّخْصِ المَعْكُوسِ وَالْجِسْمِ المَرْكُوسِ(1) حَتَّى تْخَرُجَ المَدَرَةُ(2) مِنْ بَیْنِ حَبَّ الَحصِيدِ(3) »(4) .
ذلكم شأن المسؤول الإلهيّ الحقّ، قوة يقین وثبات دين، واستماتة في الإصلاح، فلئن فاته ذلك في زمان تحین له فرصة أخرى يغتنمها مهما سنحت، فهي وظيفته وهمه وشغله ليحقق الله الحق، وليميز الله الخبيث من الطيب، وهو علیه السلام القائل: «لَوْ قَدِ اسْتَوَتْ قَدَمَايَ مِنْ هَذِهِ المَدَاحِضِ(5) لَغَیْرَّتُ أَشْيَاءَ»(6) .
ص: 236
وهو مظهر إبداع الخلقة، وعجيب الصنعة، كما قال علي علیه السلام: «اعْجَبُوا لِهَذَا الإنسان يَنْظُرُ بِشَحْمٍ وَيَتَكَلَّمُ بِلَحْمٍ وَيَسْمَعُ بِعَظْمٍ وَيَتَنَفَّسُ مِنْ خَرْمٍ»(1) .
وهو المعبر الحاكي، والمترجم الراوي، لخلجات النفس وما يجول في الفكر.
وهو جالب المحبة، وباعث الفتنة، من أعظم الجوارح فعلاً وتأثيراً،
جراحاتُ السنانِ لها التئامٌ *** ولا يلتامُ ما جرحَ اللسانُ وبعد...
فهو الأداة الخطیرة، والقوة المؤثرة، المثیرة إيجاباً وسلباً، كفراً ونفاقاً، وإيماناً وحرباً وسلماً ودعاءً واعتراضاً وغضباً ورضا.
وقد أدار الإمام صلوات الله عليه كلمه حول جملة من شؤون هذه اللحمة الجارحة، وبثه في خطبه الطوال وحكمه القصار الكبار.
وفي وصف الطاووس:
«وَأَقَلُّ أَجْزَائِهِ قَدْ أَعْجَزَ الأوْهَامَ أَنْ تُدْرِكَهُ وَالألْسِنَةَ أَنْ تَصِفَهُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بَهَرَ الْعُقُولَ عَنْ وَصْفِ خَلْقٍ جَلاهُ لِلْعُيُونِ فَأَدْرَكَتْهُ مَحْدُوداً مُكَوَّناً وَمُؤَلَّفاً مُلَوَّناً وَأَعْجَزَ الألْسُنَ عَنْ تَلْخِيصِ صِفَتِهِ وَقَعَدَ بِهَا عَنْ تَأْدِيَةِ نَعْتِهِ»(1) .
«فَانْظُرْ إلى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنَّبَاتِ وَالشَّجَرِ وَالمَاءِ وَالْحَجَرِ وَاخْتِلافِ هَذَا اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَتَفَجُّرِ هَذِهِ الْبِحَارِ وَكَثْرَةِ هَذِهِ الْجِبَالِ وَطُولِ هَذِهِ الْقِلالِ وَتَفَرُّقِ هَذِهِ اللُّغَاتِ وَالألْسُنِ المُخْتَلِفَاتِ فَالْوَيْلُ لَمِنْ أَنْكَرَ المُقَدِّرَ وَجَحَدَ المُدَبِّرَ»(2) .
«كَلامُهُ بَيَانٌ وَصَمْتُهُ لِسَانٌ»(3) .
فربما كان الصمت أبلغ من النطق، وربما كان ترك الجواب هو الجواب، ورؤية الرجل الإلهي تذكر بالله، وقد كان من ينظر إلى إشراقة غرة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يذعن قلبه ويجهر لسانه بأنه نبيّ صادق وليس بمدّعٍ كاذب.
«وَأَنْعِمِ الْفِكْرَ فِيمَا جَاءَكَ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صلی الله علیه و آله و سلم مِمَّا لا بُدَّ مِنْهُ وَلا مَحِيصَ عَنْهُ وَخَالِفْ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ إلى غَیْرِهِ وَدَعْهُ وَمَا رَضِيَ لِنَفْسِهِ»(4) .
«وَعَمَّرَ فِيكُمْ نَبِيَّهُ أَزْمَاناً حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ وَلَكُمْ فِيماَ أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ دِينَهُ الَّذِي
ص: 238
رَضِيَ لِنَفْسِهِ وَأَنْهَى إِلَيْكُمْ عَلَى لِسَانِهِ مَحَابَّهُ مِنَ الأعْمَالِ وَمَكَارِهَهُ وَنَوَاهِيَهُ وَأَوَامِرَهُ وَأَلْقَى إِلَيْكُمُ المَعْذِرَةَ وَاتَّخَذَ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ وَقَدَّمَ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ وَأَنْذَرَكُمْ بَیْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ»(1) .
«فَلَمَّا مَهَدَ أَرْضَهُ وَأَنْفَذَ أَمْرَهُ اخْتَارَ آدَمَ علیه السلام... وَلِيُقِيمَ الْحُجَّةَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَلَمْ يُخْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ مِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَيْهِمْ حُجَّةَ رُبُوبِيَّتِهِ وَيَصِلُ بَيْنَهُمْ وَبَیْنَ مَعْرِفَتِهِ بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بِالْحُجَجِ عَلَى أَلْسُنِ الْخِیَرَةِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَمُتَحَمَّلِي وَدَائِعِ رِسَالاتِهِ قَرْناً فَقَرْناً حَتَّى تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله و سلم حُجَّتُهُ وَبَلَغَ المَقْطَعَ عُذْرُهُ وَنُذُرُهُ»(2) .
«هُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ ومَوْتُ الْجَهْلِ يُخْبِرُكُمْ حِلْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ وظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ وصَمْتُهُمْ عَنْ حِكَمِ مَنْطِقِهِمْ لا يُخَالِفُونَ الْحَقَّ ولا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وهُمْ دَعَائِمُ الإسْلامِ ووَلائِجُ الِاعتصام بِهِمْ عَادَ الْحَقُّ إلى نِصَابِهِ وانْزَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ مُقَامِهِ وانْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ مَنْبِتِهِ»(3) .
«فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ وَكَيْفَ تَعْمَهُونَ(4) وَبَيْنَكُمْ عِتَرْةُ نَبِيِّكُمْ وَهُمْ أَزِمَّةُ الْحَقِّ وَأَعْلامُ الدِّينِ وَأَلْسِنَةُ الصِّدْقِ فَأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ الْقُرْآنِ وَرِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِيمِ(5) الْعِطَاشِ»(6) .
ص: 239
«وَمِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَی وَحْيِهِ وَأَلْسِنَةٌ إلى رُسُلِهِ»(1) .
«وَلَمْ تَجِفَّ لِطُولِ المُنَاجَاةِ أَسَلاتُ(2) أَلْسِنَتِهِمْ وَلا مَلَكَتْهُمُ الأشْغَالُ فَتَنْقَطِعَ بِهَمْسِ الْجُؤَارِ إِلَيْهِ(3) أَصْوَاتُهُمْ»(4) .
«لِسَانُ الْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ»(5) .
«لِسَانُ الْعَاقِلِ فِي قَلْبِهِ»(6) .
«فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ وَأَنْصَبَ الْخَوْفُ بَدَنَهُ وَأَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ وَأَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ يَوْمِهِ وَظَلَفَ(7) الزُّهْدُ شَهَوَاتِهِ وَأَوْجَفَ(8) الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ»(9) .
ص: 240
«هُمْ واللهِ رَبَّوُا الإسلامَ كما يُرَبَّى الفِلْوُ(1) مَع غَنائِهِمْ بأَيْدِيِهمُ السِّباطِ(2) وأَلْسِنَتِهِمُ السِّلاطِ(3) »(4) .
«اتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ لِأَمْرِهِمْ مِلاكاً وَاتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْرَاكاً فَبَاضَ وَفَرَّخَ فِي صُدُورِهِمْ وَدَبَّ وَدَرَجَ فِي حُجُورِهِمْ فَنَظَرَ بِأَعْيُنِهِمْ وَنَطَقَ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَرَكِبَ بِهِمُ الزَّلَلَ وَزَيَّنَ لَهُمُ الْخَطَلَ فِعْلَ مَنْ قَدْ شَرِكَهُ الشَّيْطَانُ فِي سُلْطَانِهِ وَنَطَقَ بِالْبَاطِلِ عَلَى لِسَانِهِ»(5) .
«وَلا تُطِيعُوا الأدْعِيَاءَ(6) الَّذِينَ شِرَبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ وَخَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ وَأَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ وَهُمْ أَسَاسُ الْفُسُوقِ وَأَحْلاسُ(7) الْعُقُوقِ اتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلالٍ وَجُنْداً بِهِمْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ وَتَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ وَدُخُولًا فِي عُيُونِكُمْ وَنَفْثاً فِي أَسْمَاعِكُمْ فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى
ص: 241
نَبْلِهِ وَمَوْطِئَ قَدَمِهِ وَمَأْخَذَ يَدِهِ»(1) .
«وَكَانَ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ ذِئَاباً وَسَلاطِينُهُ سِبَاعاً وَأَوْسَاطُهُ أُكَّالًا وَفُقَرَاؤُهُ أَمْوَاتاً وَغَارَ الصِّدْقُ وَفَاضَ الْكَذِبُ وَاسْتُعْمِلَتِ المَوَدَّةُ بِاللِّسَانِ وَتَشَاجَرَ النَّاسُ بِالْقُلُوبِ»(2) .
«فَقَتَلُوا طَائِفَةً صَبْراً وَطَائِفَةً غَدْراً فَوَاللهِ لَوْ لَمْ يُصِيبُوا مِنَ المُسْلِمِينَ إِلا رَجُلًا وَاحِداً مُعْتَمِدِينَ لِقَتْلِهِ بِلا جُرْمٍ جَرَّهُ لَحَلَّ لِي قَتْلُ ذَلِكَ الْجَيْشِ كُلِّهِ إِذْ حَضَرُوهُ فَلَمْ يُنْكِرُوا وَلَمْ يَدْفَعُوا عَنْهُ بِلِسَانٍ وَلا بِيَدٍ»(3) .
«فأَخَذْنا عَلَيْهِما أَنْ يُجَعْجِعَا(4) عِنْدَ القُرْآنِ، ولا يَجُاوِزَاهُ، وتَكُونَ أَلْسِنَتُهما مَعَهُ، وقُلُوبُهُما تَبَعَهُ، فتَاها عَنْهُ، وتَرَكا الحقَّ وهما يُبْصِرَانِهِ»(5) .
«إِنَّ مِنْ عَزَائِمِ اللهِ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ الَّتِي عَلَيْهَا يُثِيبُ وَيُعَاقِبُ وَلَهَا يَرْضَی
ص: 242
وَيَسْخَطُ أَنَّهُ لا يَنْفَعُ عَبْداً وَإِنْ أَجْهَدَ نَفْسَهُ وَأَخْلَصَ فِعْلَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا لاقِياً رَبَّهُ بِخَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا أَنْ يُشْرِكَ بِاللهِ فِيمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَتِهِ أَوْ يَشْفِيَ غَيْظَهُ بِهَلاكِ نَفْسٍ أَوْ يَعُرَّ بِأَمْرٍ فَعَلَهُ غَیْرُهُ أَوْ يَسْتَنْجِحَ حَاجَةً إلى النَّاسِ بِإِظْهَارِ بِدْعَةٍ فِي دِينِهِ أَوْ يَلْقَى النَّاسَ بِوَجْهَیْنِ أَوْ يَمْشِيَ فِيهِمْ بِلِسَانَيْنِ، اعْقِلْ ذَلِكَ فَإِنَّ المِثْلَ دَلِيلٌ عَلَى شِبْهِهِ»(1) .
«وَقَلْبُ الأحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِهِ»(2) .
«قَلْبُ الأحْمَقِ فِي فِيهِ»(3) .
«وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهَّ صلی الله علیه و آله و سلم: لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى اللهَ تَعَالَی وَهُوَ نَقِيُّ الرَّاحَةِ مِنْ دِمَاءِ المُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ سَلِيمُ اللِّسَانِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ فَلْيَفْعَلْ»(4) .
«وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ شَهَادَةً يُوَافِقُ فِيهَا السَّرُّ الإعْلانَ وَالْقَلْبُ اللِّسَانَ»(5) .
«الإيمان مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالأرْكَانِ»(6) .
ص: 243
«هَذَا الْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْطُورٌ بَیْنَ الدَّفَّتَیْنِ لَا يَنْطِقُ بِلِسَانٍ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَانٍ وَإِنّمَاَ يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ»(1) .
«واجْعَلُوا الْلِسانَ واحِدًا، وَلْيَخْزُنِ الرَّجُلُ لِسَانَهُ فَإِنَّ هَذَا اللِّسَانَ جَمُوحٌ بِصَاحِبِهِ وَاللهِ مَا أَرَى عَبْداً يَتَّقِي تَقْوَى تَنْفَعُهُ حَتَّى يَخْزُنَ لِسَانَهُ وَإِنَّ لِسَانَ المُؤْمِنِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ وَإِنَّ قَلْبَ المُنَافِقِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ لِأَنَّ المُؤْمِنَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلامٍ تَدَبَّرَهُ فِي نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ خَیْراً أَبْدَاهُ وَإِنْ كَانَ شَّاً وَارَاهُ وَإِنَّ المُنَافِقَ يَتَكَلَّمُ بِاَ أَتَى عَىَ لِسَانِهِ لا يَدْرِي مَا ذَا لَهُ وَمَا ذَا عَلَيْهِ، وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم: لا يَسْتَقِيمُ إيمان عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى اللهَ تَعَالَی وَهُوَ نَقِيُّ الرَّاحَةِ مِنْ دِمَاءِ المُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ سَلِيمُ اللِّسَانِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ فلَيْفْعَلْ»(2) .
«وَإِنَّمَا الأجْرُ فِي الْقَوْلِ بِاللِّسَانِ وَالْعَمَلِ بِالأيْدِي وَالأقْدَامِ»(3) .
«أَوْضَعُ الْعِلْمِ مَا وُقِفَ عَلَي اللَّسَانِ وَأَرْفَعُهُ مَا ظَهَرَ فِي الْجَوَارِحِ وَالأرْكَانِ»(4) .
«المَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ»(5) .
«تَكَلَّمُوا تُعْرَفُوا فَإِنَّ المَرْءَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ»(6) .
ص: 244
«اعْمَلُوا رَحِمَكُمُ اللهُ عَلَى أَعْلامٍ بَيِّنَةٍ فَالطَّرِيقُ نَهْجٌ يَدْعُوا إلى دارِ السَّلامِ وَأَنْتُمْ فِي دَارِ مُسْتَعْتَبٍ عَلَى مَهَلٍ وَفَرَاغٍ وَالصُّحُفُ مَنْشُورَةٌ وَالأقْلامُ جَارِيَةٌ وَالأبْدَانُ صَحِيحَةٌ وَالألْسُنُ مُطْلَقَةٌ»(1) .
«وَحَثَّكُمْ عَلَی الشُّكْرِ وَافْتَرَضَ مِنْ أَلْسِنَتِكُمُ الذِّكْرَ»(2) .
«أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لا يَسْتَغْنِي الرَّجُلُ وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ عَنْ عِتْرَتِهِ وَدِفَاعِهِمْ عَنْهُ بِأَيْدِيهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ وَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَيْطَةً مِنْ وَرَائِهِ وَأَلَّمهُمْ لِشَعَثِهِ وَأَعْطَفُهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ نَازِلَةٍ إِذَا نَزَلَتْ بِهِ وَلِسَانُ الصِّدْقِ يَجْعَلُهُ اللهُ لِلْمَرْءِ فِي النَّاسِ خَیرٌ لَهُ مِنَ المَالِ يَرِثُهُ غَیْرُهُ»(3) .
«أَلا وَإِنَّ اللِّسَانَ الصَّالِحَ يَجْعَلُهُ اللهُ تَعَالَی لِلْمَرْءِ فِي النَّاسِ خَیْرٌ لَهُ مِنَ المَالِ يُورِثُهُ مَنْ لا يَحْمَدُهُ»(4) .
وَشَرًّ»(1) .
ومما جاء في عهده الشريف لمالك الأشتر:
«أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ... وَأَنْ يَنْصُرَ اللهَ سُبْحَانَهُ بَيَدِهِ وَقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، فَإِنَّهُ، جَلَّ اسْمُهُ، قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ، وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ»(2) .
«امْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ(3) وَسَوْرَةَ حَدِّكَ(4) وَسَطْوَةَ يَدِكَ وَغَرْبَ(5) لِسَانِكَ»(6) .
-يا بني- «وَأَنْكِرِ المُنْكَرَ بِيَدِكَ وَلِسَانِكَ»(7) .
وكتب علیه السلام إلى قثم بن العباس وهو عامله بمكة:
«وَلا يَكُنْ لَكَ إلى النَّاسِ سَفِيرٌ إِلا لِسَانُكَ»(8) .
«الْكَلَامُ فِي وَثَاقِكَ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ، فَإِذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وَثَاقِهِ، فَاخْزُنْ لِسَانَكَ كَمَا تَخْزُنُ ذَهَبَكَ وَوَرِقَكَ، فَرُبَّ كَلِمَةٍ سَلَبَتْ نِعْمَةً وَجَلَبَتْ نِقْمَةً»(9) .
ص: 246
«لا تَجْعَلَنَّ ذَرَبَ(1) لِسَانِكَ عَلىَ مَنْ أَنْطَقَكَ وَبَلاغَةَ قَوْلِكَ عَلىَ مَنْ سَدَّدَكَ(2) »(3) .
«فَالمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَحِلُّ أَذَى المُسْلِمِ إِلا بِمَا يَجِبُ»(4) .
«إِذَا تَمَّ الْعَقْلُ نَقَصَ الْكَلامُ»(5) .
«وَهَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ مَنْ أَمَّرَ عَلَيْهَا لِسَانَهُ»(6) .
«مَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيْئاً إِلا ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَصَفَحَاتِ وَجْهِهِ»(7) .
«مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَیْرِهِ وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالإجْلالِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ»(8) .
وقال علیه السلام يحضّ الناس على الجهاد في صفين:
ص: 247
«أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ إِنَّهُ مَنْ رَأَى عُدْوَاناً يُعْمَلُ بِهِ وَمُنْكَراً يُدْعَى إِلَيْهِ فَأَنْكَرَهُ بِقَلْبِهِ فَقَدْ سَلِمَ وَبَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَهُ بِلِسَانِهِ فَقَدْ أُجِرَ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ صَاحِبِهِ وَمَنْ أَنْكَرَهُ بِالسَّيْفِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَكَلِمَةُ الظَّالِمینَ هِيَ السُّفْلَی فَذَلِكَ الَّذِي أَصَابَ سَبِيلَ الْهُدَى وَقَامَ عَلَى الطَّرِيقِ وَنَوَّرَ فِي قَلْبِهِ الْيَقِینُ»(1) .
«فَمِنْهُمُ المُنْكِرُ لِلْمُنْكَرِ بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ فَذَلِكَ المُسْتَكْمِلُ لِخصَالِ الْخَیْرِ وَمِنْهُمُ المُنْكِرُ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ وَالتَّارِكُ بِيَدِهِ فَذَلِكَ مُتَمَسِّكٌ بِخَصْلَتَیْنِ مِنْ خِصَالِ الْخَیْرِ وَمُضَيِّعٌ خَصْلَةً وَمِنْهُمُ المُنْكِرُ بِقَلْبِهِ وَالتَّارِكُ بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ فَذَلِكَ الَّذِي ضَيَّعَ أَشْرَفَ الْخَصْلَتَیْنِ مِنَ الثَّلَاثِ وَتَمَسَّكَ بِوَاحِدَةٍ وَمِنْهُمْ تَارِكٌ لِإِنْكَارِ المُنْكَرِ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ وَيَدِهِ فَذَلِكَ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ وَمَا أَعْمَالُ الْبِرَِّ كُلُّهَا وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ المُنْكَرِ إِلَّا كَنَفْثَةٍ فِي بَحْرٍ لُجَّيٍّ وَإِنَّ الْأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ لَا يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ وَلَا يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ وَأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ كُلَّهِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ»(2) .
«أَوَّلُ مَا تُغْلَبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْجِهَادِ الْجِهَادُ بِأَيْدِيكُمْ ثُمَّ بِأَلْسِنَتِكُمْ ثُمَّ بِقُلُوبِكُمْ فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ بِقَلْبِهِ مَعْرُوفاً وَلَمْ يُنْكِرْ مُنْكَراً قُلِبَ فَجُعِلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ وَأَسْفَلُهُ أعْلَاهُ»(3) .
«وَاللهَ اللهَ فِي الْجِهَادِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ»(4) .
ص: 248
«وَلا تُحَرَّكُوا بِأَيْدِيكُمْ وَسُيُوفِكُمْ فِي هَوَى أَلْسِنَتِكُمْ وَلا تَسْتَعْجِلُوا بِماَ لَمْ يُعَجِّلْهُ اللهُ لَكُمْ»(1) .
«طُوبَى لِمِنْ ذَلَّ فِي نَفْسِهِ وَطَابَ كَسْبُهُ وَصَلَحَتْ سَرِيرَتُهُ وَحَسُنَتْ خَلِيقَتُهُ وَأَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ لِسَانِهِ»(2) .
«اتَّقُوا ظُنُونَ المُؤْمِنِينَ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَی جَعَلَ الْحَقَّ عَلَی أَلْسِنَتِهِمْ»(3) .
ولما صعق همام صعقة كانت فيها نفسه قال أمیر المؤمنین علیه السلام: «أَمَا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَ هَكَذَا تَصْنَعُ المَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ:
فَمَا بَالُكَ يَا أمیر المؤمنین، فَقَالَ علیه السلام: وَيْحَكَ إِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ وَقْتاً لا يَعْدُوهُ وَسَبَباً لا يَتَجَاوَزُهُ فَمَهْلاً لا تَعُدْ لِمِثْلِهَا فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ»(4) .
«ثُمَّ ازْدَادَ المَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً فَحِيلَ بَیْنَ أَحَدِهِمْ وَبَیْنَ مَنْطِقِهِ... فَلَمْ يَزَلِ المَوْتُ يُبَالِغُ فِ جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ فَصَارَ بَیْنَ أَهْلِهِ لا يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ»(5) .
«فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ بِعَقْلِكَ أَوْ كُشِفَ عَنْهُمْ مَحْجُوبُ الْغِطَاءِ لَكَ... وَتَقَطَّعَتِ الألْسِنَةُ فِي أَفْوَاهِهِمْ بَعْدَ ذَلاقَتِهَا... وَيَبِسَتْ رُطُوبَةُ لِسَانِهِ فَكَمْ مِنْ مُهِمًّ مِنْ جَوَابِهِ
ص: 249
عَرَفَهُ فَعَيَّ عَنْ رَدِّهِ»(1) .
«وَذَلِكَ أَنَّهُ قُضَيِ فَانْقَضَى عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الْأُمَّيِّ صلی الله علیه و آله و سلم أَنَّهُ قَالَ يَا عَلِيُّ لا يُبْغِضُكَ مُؤْمِنٌ وَلا يُحِبُّكَ مُنَافِقٌ»(2) .
«وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَی الصَّالحِينَ بِمَا يُجْرِي اللهُ لَهُمْ عَلَی أَلْسُنِ عِبَادِهِ»(3) .
«اتَّقُوا ظُنُونَ المُؤْمِنِينَ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَی جَعَلَ الْحَقَّ عَلَی أَلْسِنَتِهِمْ»(4) .
«اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي فَإِنْ عُدْتُ فَعُدْ عَلَيَّ بِالمَغْفِرَةِ اللهُمَّ اغْفِرْ ليِ مَا وَأَيْتُ مِنْ نَفْسِيِ وَلَمْ تَجِدْ لَهُ وَفَاءً عِنْدِي اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا تَقَرَّبْتُ بِهِ إِلَيْكَ بِلِسَانِي ثُمَّ خَالَفَهُ قَلْبِي اللهُمَّ اغْفِرْ لِي رَمَزَاتِ الألَحَاظِ وَسَقَطَاتِ الألْفَاظِ وَشَهَوَاتِ الْجَنَانِ وَهَفَوَاتِ اللِّسَانِ»(5) .
ص: 250
•الجهل المردي
•الغفلة المهلكة
•الشبهة وموقف المؤمن فيها
•الأمل وعاقبة طول الآمال وعرضها
•الهوى وعظيم البلاء به وفيه
•الصبر
•الرضا
•الفكر
•العقل
•الهيبة
•الحياء
•القناعة
ص: 251
ص: 252
أ) «وَكَفَى بِالمَرْءِ جَهْلاً أَلاَّ يَعْرِفَ قَدْرَهُ، لاَيَهْلِكُ عَلَى التَّقْوَى سِنْخُ أَصْل(1) ، وَلاَ يَظْمَأُ عَلَيْهَا زَرْعُ قَوْم، فَاسْتَتِرُوا بِبُيُوتِكُمْ، وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، وَالتَّوْبَةُ مِنْ وَرَائِكُمْ، وَلاَ يَحْمَدْ حَامِدٌ إِلاَّ رَبَّهُ، وَلاَ يَلُمْ لاَئِمٌ إِلاَّ نَفْسَهُ»(2) .
ب) «وَمَا كُلُّ ذِي قَلْبٍ بَلَبِيبٍ، وَلاَ كُلُّ ذِي سَمْعٍ بِسَمِيعٍ، وَلاَ كُلُّ ذِي نَاظِرٍ بِبَصِیرٍ، فَيَا عَجَباً! وَمَا لِيَ لاَ أَعْجَبُ مِنْ خَطَإِ هذِهِ الْفِرَقِ عَلَى اختِلاَفِ حُجَجِهَا فِي دِينِهَا! لاَ يَقْتَصُّونَ أَثَرَ نَبِيًّ، وَلاَيَقْتَدُونَ بِعَمَلِ وَصِيًّ، وَلاَ يُؤْمِنُونَ بَغَيْب، وَلاَ يَعِفُّونَ عَنْ عَيْب، يَعْمَلُونَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَيَسِیرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ، المَعْرُوفُ فِيهمْ مَا عَرَفُوا، وَالمُنْكَرُ عِنْدَهُمْ مَا أَنْكَرُوا، مَفْزَعُهُمْ فِي المُعْضِلاَتِ إلى أَنْفُسِهمْ، وَتَعْوِيلُهُمْ فِي المُبْهماتِ عَلَى آرَائِهِمْ، كَأَنَّ كُلَّ امْرِىء مِنْهُمْ إِمَامُ نَفْسِهِ، قَدْ أَخَذَ مِنْهَا فِيَما يَرَى بَعُرىً ثِقَات، وأَسْبَاب مُحْكَماَت»(3) .
فالإنسان بما أودعه فيه خالقه من قوى على بينة من أمره، وحقيقة من ذاته وجلاء من قدراته، ويقین من واقعه، يدرك بالضرورة ويحيا بالبداهة أنه مخلوق محدود مفتقر في بقائه وتدبیره شؤونه إلى من بيده الحول والطول والإعطاء والمنع.
وهو مع ما زود به من قوى وأدوات وقابلية وملكات من قلب وعقل
ص: 253
وسمع وبصر لكنه كما قال الله في كتابه عن هذا الصنف: «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لَجِهَنَّمَ كَثِیرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْیُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ»(1) .
«وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ* إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ»(2) .
بل أمده ربه بألطافه فأقام له نبيًّا أمره باقتفاء أثره، ونصب له إمامًا ووصيًّا حثه على الاقتداء بفعله «رُّسُلاً مُّبَشَّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا»(3) .
ومكمن البلاء ونبع الداء هو الركون إلى النفس والغفلة عن الله غفلة تنسيه ربه ولا يعرف فيها إلا نفسه فهي الإمام المقتدى والعروة الوثقى والحبل المتین والهدي القويم «فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّاَ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَیْرِ هُدًى مِّنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمینَ»(4) .
«أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ»(5) .
وله- سلام الله عليه- كثير من القول يتّسق هذا المساق.
ص: 254
فمن ذلك: «الْعَالِمُ مَنْ عَرَفَ قَدْرَهُ، وَكَفَى بِالمَرءِ جَهْلاً أَلاَّ يَعْرِفَ قَدْرَهُ؛ وَإِنَّ مِنْ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إلى اللهِ لَعَبْدٌ وَكَّلَهُ اللهُ إلى نَفْسِهِ، جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، سَائِرٌ بَغَیْرِ دَلِيل، إِنْ دُعِيَ إلى حَرْثِ الدُّنْيَا عَمِلَ، أوْ إلى حَرْثِ الاْخِرَةِ كَسِلَ! كَأَنَّ مَا عَمِلَ لَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّ مَا وَنَى فِيهِ سَاِقطٌ عَنْهُ!»(1) .
ومنه: «هَلَكَ امْرُؤٌ لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَهُ»(2) .
ص: 255
أ) «فَإِنَّكُمْ لَوْ عَايَنْتُمْ مَا قَدْ عَايَنَ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ لَجَزِعْتُمْ وَوَهِلْتُمْ(1) ، وَسَمِعْتُمْ وَأَطَعْتُمْ، وَلكِنْ مَحْجُوبٌ عَنْكُمْ مَا عَايَنُوا، وَقَرِيبٌ مَا يُطْرَحُ الحِجَابُ! وَلَقَدْ بُصَّرْتُمْ إِنْ أَبْصَرْتُمْ، وَأُسْمِعْتُمْ إِنْ سَمِعْتُمْ، وَهُدِيتُمْ إِنِ اهْتَدَيْتُمْ، وَبِحَقٍّ أَقَولُ لَكُمْ: لَقَدْ جَاهَرَتْكُمُ العِبَرُ، وَزُجِرْتُمْ بِمَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ، وَمَا يُبَلِّغُ عَنِ اللهِ بَعْدَ رُسُلِ السَّماءِ إِلاَّ البَشَرُ»(2) .
وذلكم منطق الإيمان بالغيب، واليقین بما تؤول إليه العواقب، وإعلام واثق بما تصیر إليه الأحياء يوم تبلى السرائر، ويقدم كل امرئ على ما قدّم، ويرتفع الحجاب ويرتهن كل عامل بعمله.
هذا والحجاب وإن لم يرتفع الآن عن هؤلاء فقريبًا ما يرتفع كما ارتفع عمن سبقهم «وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا»(3) .
وقد أقيمت الحجة، وتم التنبيه من الغفلة بنحوين: عملاً وقولاً فما أكثر العبر بما فيه مزدجر!!، ولطالما بلّغ الإنذار والتذكیر والتخويف والتعريف رسلُ الله والأوصياءُ من بعدهم.
إذاً فقد تواتر عليهم ما يرون صباح مساء، وسمعوا من الزواجر مافيه مدكر لكل عاقل آن له أن يستفيق من الغفلة ويستيقظ من السبات العميق.
ص: 256
ب) «وهُوَ في مُهْلَةٍ مِنَ اللهِ يَهْوِي مَعَ الغَافِلِینَ، ويَغْدُو مَعَ المُذْنِبِینَ، بِلا سَبِيلٍ قَاصِدٍ، ولا إِمامٍ قائِدٍ، حَتَّى إِذَا كَشَفَ لَهُمْ عَنْ جَزَاءِ مَعْصِيَتِهِمْ، وَاسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ جَلاَبِيبِ غَفْلَتِهِمُ، استَقْبَلُوا مُدْبِراً، وَاسْتَدْبَرُوا مُقْبلِاً(1) ، فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بَماَ أَدْرَكُوا منْ طَلِبَتِهِمْ، وَلاَ بِمَا قَضَوْا مِنْ وَطَرِهِمْ، إِنَّي أُحَذِّرُكُمْ، وَنَفْسِي، هذِهِ المَنْزِلَةَ، فَلْيَنْتَفِعِ امْرُؤٌ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّمَا الْبَصِیرُ مَنْ سَمِعَ فَتَفَكَّرَ، وَنَظَرَ فَأَبْصَرَ، وَانْتَفَعَ بِالْعِبَرِ، ثُمَّ سَلَكَ جَدَداً وَاضِحاً يَتَجَنَّبُ فِيهِ الصَّرْعَةَ فِي المَهَاوِي، وَالضَّلاَلَ في المَغَاوِي، وَلاَ يُعِینُ عَلَى نَفْسِهِ الْغُوَاةَ بِتَعَسُّفٍ فِي حَقٍّ، أَوْ تَحَرِيفٍ في نُطْقٍ، أَوْ تَخَوُّفٍ مِنْ صِدْقٍ»(2) .
وللخطبة الشريفة تتمة مهمة نحا فيها نحو الأولى من التنبيه والتذكیر، والإشادة بتبليغ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وهديه، ودوره هو- سلام الله عليه- في متابعة خطى النبي واقتفاء أثره في بث المواعظ، وهو بذلك جدير.
«فَأَفِقْ أَيُّهَا السَّامِعُ مِنْ سَكْرَتِكَ، وَاسْتَيْقِظْ مَنْ غَفْلَتِكَ، وَاخْتَصِرْ مِنْ عَجَلَتِكَ، وَأَنْعِمِ الْفِكْرَ فِيَما جَاءَكَ عَلَی لِسَانِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صلی الله علیه و آله و سلم مِمَّا لاَبُدَّ مِنْهُ وَلاَ مَحِيصَ عَنْهُ، وَخَالِفْ مَنْ خَالَفَ ذلِكَ إلى غَیْرِهِ، وَدَعْهُ وَمَا رَضِيَ لِنَفْسِهِ... وكَما تَزْرَع تَحْصد، وما قَدَّمْتَ اليومَ تَقْدِمُ عليهِ غَدًا... فالحَذَرَ الحَذَرَ أيُّها المُسْتَمِعُ! والجدَّ الجدَّ أيُّها الغافِلُ».
ص: 257
ثم ختم الفصل بقوله علیه السلام كما قال الله تعالى: «وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ»(1) .
ج) «وَأُوصِيكُمْ بِذِكْرِ المَوْتِ، وَإِقْلاَلِ الْغَفْلَةِ عَنْهُ، وَكَيْفَ غَفْلَتُكُمْ عَمَّا لَيْسَ يُغْفِلُكُمْ، وَطَمَعُكُمْ فِيمَنْ لَيْسَ يُمْهِلُكُمْ! فَكَفَى وَاعِظاً بِمَوْتَى عَايَنْتُمُوهُمْ، حُمِلُوا إلى قُبُورِهِمْ غَیْرَ رَاكِبِینَ، وَأُنْزِلُوا فِيهَا غَیْرَ نَازِلِینَ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِلدُّنْيَا عُمَّاراً، وَكَأَنَّ الْآخِرَةَ لَمْ تَزَلْ لَهُمْ دَاراً، أَوْحَشوُا مَا كَانُوا يُوطِنُونَ، وَأَوْطَنُوا مَا كَانُوا يُوحِشُونَ، وَاشْتَغَلُوا بِمَا فَارَقُوا، وَأَضَاعُوا مَا إِلَيْهِ انْتَقَلُوا. لاَ عَنْ قَبِيح يَسْتَطِيعُونَ انْتِقَالاً، وَلاَ فِي حَسَنٍ يَسْتَطِيعُونَ ازْدِيَاداً، أَنِسُوا بِالدُّنْيَا فَغرَّتْهُمْ، وَوَثِقُوا بِهَا فَصَرَعَتْهُمْ.
فَسَابِقُوا- رَحِمَكُمُ اللهُ- إلى مَنَازِلِكُمْ الَّتِي أُمِرْتُمْ أَنْ تَعْمُرُوهَا، وَالَّتِي رُغِّبْتُمْ فِيهَا، وَدُعِيتُمْ إِلَيْهَا. وَاسْتَتِمُّوا نِعَمَ اللهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَالمُجَانَبَةِ لَمِعْصِيَتِهِ، فَإِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ. مَا أَسْرَعَ السَّاعَاتِ فِي الْيَوْمِ، وَأَسْرَعَ الْأَيَّامَ فِي الشَّهْرِ، وَأَسْرَعَ الشُّهُورَ فِي السَّنَةِ، وَأَسْرَعَ السِّنِينَ فِي الْعُمُرِ!»(2) .
ص: 258
والحق إذا تجلّى، والباطل إذا لم يخف، فالعاقل المؤمن يتبین أمره فيهما وأمّا إذا اغمّ الأمر واختلط الحال فهو المشوب لا يُدرى صفاءه وكدره وهي الشبهة والالتباس.
قال علیه السلام: «وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةً لأَنَّهَا تُشْبِهُ الْحَقَّ»(1) .
وقال علیه السلام: «فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى المُرْتَادِينَ، وَلَوْ أَنَّ الْحقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ المُعَانِدِينَ؛ وَلكِن يُؤْخَذُ مِنْ هذَا ضِغْثٌ، وَمِنْ هذَا ضِغْثٌ، فَيُمْزَجَانِ! فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَيَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الُحُسْنَى»(2) .
وقد أبان الإمام علیه السلام في نهجه البیّن القويم شؤون الشبهة ومصادرها ومن عصم من ضلالتها، ومن ارتطم في وحلها، وغرق في مستنقعها ، وسأعرض نماذج من ذلك محيلاً الراغب في استيفائها إلى مادة (شبه) في النهج الشريف(3) .
«وَلاَ وَلَجَتْ عَلَيْهِ شُبْهُةٌ فِيَما قَضَى وَقَدَّرَ، بَلْ قَضَاءٌ مُتْقَنٌ، وَعِلْمٌ مُحْكَمٌ، وَأَمْرٌ
ص: 259
مُبْرَمٌ»(1) .
فواجب الوجود واجب الكمال المطلق، وكل شيء بعلمه وفي قبضته وتحت حكمه، لا تختلط لديه الأصوات، ولا تشتبه عنده اللغات محيط لطيف خبیر.
«وَعَصَمَهُمْ مِنْ رَيْبِ الشُّبُهَاتِ، فَمَا مِنْهُمْ زَائِغٌ عَنْ سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ»(2) .
فهم- سلام الله عليهم- خلق بديع، أوكل إليهم بارئهم مهام وشؤوناً جمة في تدبیر الخلق وحمل ودائع الله لرسله.
ومقام كهذا لا يفي بحقّه إلا من لطف به الله وعصمه من الزلل وبواعث الاشتباه، ومؤثرات الغلط.
وقد أفاض الإمام علیه السلام في هذه الخطبة وغيرها عن الملائكة وخلقهم وأوصافهم ووظائفهم بعلم لا يعرف إلاّ من طريقه فإنه من مكنون علم الغيب وأسرار الملأ الأعلى.
«وَإِنِّ لَعَلَی يَقِينٍ مِنْ رَبِّي، وَغَيْرِ شُبْهَة مِنْ دِيني»(3) .
وهي الحقيقة الراح التي كان يحياها ويفخر بها، وهو توأم الحق والقرآن،
ص: 260
ومن (لو كشف له الغطاء لما ازداد يقيناً). ومن كان على يقین من ربه، فلا مساغ للشبهة أن ترد عليه في فكر وموقف.
«أرْسَلَهُ بِالدِّينِ المشْهُورِ،... إِزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ، وَاحْتِجَاجاً بِالبَيِّنَاتِ»(1) .
فالناس كما يحكي خلائقهم الإمام علیه السلام في هذه الخطبة «في فِتَن انْجَذَمَ فِيها حَبْلُ الدِّينِ، وَتَزَعْزَعَتْ سَوَارِي اليَقِینِ، وَاخْتَلَفَ النَّجْرُ، وَتَشَتَّتَ الْأَمْرُ، وَضَاقَ المَخْرَجُ، وَعَمِيَ المَصْدَرُ».
فلا مفزع لمن يزيح العلة، ويرشد من الحیرة، ويهدي إلى سواء السبيل إلاّ بالاعتصام بحبل الله «وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ»(2) .
وكان من ألطافه- عظم لطفه وعمّت رحمته- بعثه البشیر النذير بالحجة والبرهان كاشفاً للغمة، وزائحاً اللوابس المدلهمة، فصلى الله عليه من ناصح شفيق وعلى آله الهداة.
أ) «وَكَانَوا كَذلِكَ مَصَابِيحَ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ، وَأَدِلَّةَ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ»(3) .
ب) «وَآخَرُ رَابِعٌ، لَمْ يَكْذِبْ عَلَى اللهِ، وَلاَ عَلَى رَسُولِهِ، مُبْغِضٌ لِلْكَذِبِ، خَوْفاً
ص: 261
للهِ، وَتَعْظيِاً لِرَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم وَلَمْ يَهِمْ، بَلْ حَفظَ مَا سَمِعَ عَلَى وَجْهِهِ، فَجَاءَ بِهِ عَلَى مَا سَمِعَهُ، لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ، وَحَفِظَ النَّاسِخَ فَعَمِلَ بِهِ، وَحَفِظَ المَنْسُوخَ فَجَنَّبَ عَنْهُ، وَعَرَفَ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ، وَالمُحْكَمَ والمُتَشَابِهَ فَوَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ»(1) .
ج) «وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةً لِاَنَّهَا تُشْبِهُ الْحَقَّ، فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا الْيَقِینُ، وَدَلِيلُهُمْ سَمْتُ الْهُدَى»(2) .
وبذلك امتازوا عن سواهم ممن لم تستقم فيه الملكات، فغشيته الشبهات، فارتطم في الجهل، وضل في الحیرة، وتاه في الضلال.
فهؤلاء وأولئك كما حكى الله في قرآنه:
«هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَاَتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ* رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ»(3) .
أ) «وَقَالَ: يَا عَلِيُّ، إِنَّ الْقَوْمَ سَيُفْتَنُونَ بِأَمْوَالِهمْ، وَيَمُنُّونَ بِدِينِهِم عَلَى رَبِّهِمْ، وَيَتَمَنَّوْنَ رَحْمَتَهُ، وَيَأْمَنُونَ سَطْوَتَهُ، وَيَسْتَحِلُّونَ حَرَامَهُ بِالشُّبُهَاتِ الْكَاذِبَةِ، والْأَهْوَاءِ
ص: 262
السَّاهِيَةِ، فَيَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِالنَّبِيذِ، وَالسُّحْتَ بِالْهَدِيَّةِ، وَالرِّبَا بِالْبَيْعِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَبِأَيِّ المَنَازِلِ أُنْزِلُهُمْ عِنْدَ ذلِكَ؟ أَبِمَنْزِلَةِ رِدَّةٍ، أَمْ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ؟ فَقَالَ: بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ»(1) . ويجمع ذلك كله رقة الدين. وتسويل الشيطان الغوي، وإتباع النفس الأمارة بالسوء، وإعطائها ما تهوى.
والأنكى من ذلك إلباس المخالفة لبوس الدين وعدم التحرج من ذلك، وهو ضرب من الفتنة وشية من النفاق.
ب) «وَأَمَّا أَعْدَاءُ اللهِ فَدُعَاؤُهُمْ فِيهَا (الشبهة) الضَّلالُ، وَدَلِيلُهُمُ الْعَمَى»(2) .
ج) «فَيَا عَجَباً! وَمَا لِيَ لاَ أَعْجَبُ مِنْ خَطَإِ هذِهِ الْفِرَقِ عَلَى اختِلاَفِ حُجَجِهَا فِي دِينِهَا! لاَ يَقْتَصُّونَ أَثَرَ نَبِيٍّ، وَلاَيَقْتَدُونَ بَعَمَلِ وَصِيًّ، وَلاَ يُؤْمِنُونَ بَغَيْبٍ، وَلاَ يَعِفُّونَ عَنْ عَيْبٍ، يَعْمَلُونَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَيَسِیرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ»(3) .
والوقوف على مظانها وأسبابها، ومعرفة خائضي عبابها يبعث في المتأمل الحذر عن الإرتماء في أحضانها والوقوع في شراكها وشباكها، فيملك بذلك زمام عقله، وهوى نفسه، على بصیرة وأمن من الحیرة.
وفيما تناوله الإمام علیه السلام وبثه من كلمه بيان لجملة من تلكم المصادر، وتحذير
ص: 263
من عظيم المخاطر.
فمنها:
«إِنّ الْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ، يُنْكَرْنَ مُقْبِلاَت، وَيُعْرَفْنَ مُدْبِرَات، يَحُمْنَ حَوْمَ الرِّيَاحِ، يُصِبْنَ بَلَداً وَيُخْطِئْنَ بَلَداً. أَلاَ وَإِنَّ أَخْوَفَ الْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فَتْنَةُ بَنِي اُمَيَّةَ، فإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ: عَمَّتْ خُطَّتُهَا، وَخَصَّتْ بَلِيَّتُهَا، وَأَصَابَ الْبَلاَءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا، وَأَخْطَأَ الْبَلاَءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا. وأَيْمُ اللهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوْء بَعْدِي، كَالنَّابِ الضَّرُوسِ: تَعْذِمُ بِفِيهَا، وَتَخْبِطُ بِيَدِهَا، وتَزْبِنُ بِرِجْلِهَا، وَتَمْنَعُ دَرَّهَا، لاَ يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لاَ يَتْرُكُوا مَنْكُمْ إِلاَّ نَافِعاً لَهُمْ، أَوْ غَیْرَ ضَائِر بِهِمْ، وَلاَ يَزَالُ بَلاَؤُهُمْ حَتَّى لاَ يَكُونَ انْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ إِلاَّ مثل انْتِصَارِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ، وَالصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ، تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشَيَّةً، وَقِطَعاً جَاهِلِيَّةً، لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدىً، وَلاَ عَلَمٌ يُرَى. نَحْنُ أَهْلَ الْبِيْتِ مِنْهَا بمنجاةٍ، وَلَسْنَا فِيهَا بِدُعَاةٍ، ثُمَّ يُفَرِّجُهَا اللهُ عَنْكُمْ كَتَفْرِيجِ الاْدِيمِ: بِمَنْ يَسُومُهُمْ خَسْفاً، وَيَسُوقُهُمْ عُنْفاً، وَيَسْقِيهِمْ بِكَأْس مُصَبَّرَة، لاَ يُعْطِيهِمْ إِلاَّ السَّيْفَ، وَلاَ يُحْلِسُهُمْ إِلاَّ الْخَوْفَ، فَعِنْدَ ذلِكَ تَوَدُّ قُرَيْشٌ- بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا- لَوْ يَرَوْنَنِي مَقَاماً وَاحِداً، وَلَوْ قَدْرَ جَزْرِ جَزْورٍ، لِأَقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ الْيَوْمَ بَعْضَهُ فَلاَ يُعْطُونِيهِ!»(1) .
فربما لفّ الموقف الغموض، ولم يسفر فيه الوجه فتتضح الصورة. وطالما راء المراؤون وتشبهوا بالأبرار حتى إذا ماحصحص الحق عرف هنالك المبطلون.
ص: 264
ومنها:
«إنَّ اللهَ تَعالَی بَعَثَ رَسُولاً هَادِياً بِكِتَابٍ نَاطِقٍ وَأَمْرٍ قَائمٍ، لاَ يَهْلِكُ عَنْهُ إلاَّ هَالِكٌ، وَإنَّ المُبْتَدَعَاتِ المُشَبَّهَاتِ هُنَّ المُهْلِكَاتُ إلاَّ مَا حَفِظَ اللهُ مِنْهَا»(1) .
فالبدعة مقابل السنة، ولكل مصدره، فالله ورسوله وكتابه منبع الحق ومعدنه، والشيطان وأولياؤه منبت الباطل ومكمنه.
وأدعى ما تنتشر به البدعة فيعم بلاؤها وإهلاكها ما إذا ألبست جلباب الدين وتقمصها ولاة الأمر فاستقرت سنة ووسم تركها بدعة.
ومنها:
«فَمَكَّنْتُمُ الظَّلَمَةَ مِنْ مَنْزِلَتِكُمْ، وَأَلْقَيْتُمْ إِلَيْهِمْ أَزِمَّتَكُمْ، وَأَسْلَمْتُمْ أُمُورَ اللهِ فِي أَيْدِيهمْ، يَعْمَلُونَ بِالشُّبُهَاتِ، وَيَسِیرُونَ في الشَّهَوَاتِ»(2) .
ومنها:
أ) «جَلَسَ بَیْنَ النَّاسِ قَاضِياً ضَامِناً لِتَخْلِيصِ مَا الْتَبَسَ عَلَى غیْرِهِ، فَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَى المُبْهَمَاتِ هَيَّأَ لَهَا حَشْواً رَثّاً مِنْ رَأْيِهِ، ثُمَّ قَطَعَ بِهِ، فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ
ص: 265
فِي مِثْلِ نَسْجِ العَنْكَبُوتِ: لاَ يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ، فَإِنْ أَصَابَ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَخْطَأَ رَجَا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ. جَاهِلٌ خَبَّاطُ جَهلاتٍ، عَاشٍ رَكَّابُ عَشَوَاتٍ»(1) .
والجهل داء دويّ، وباء مردٍ، أينما استوطن فلا ينتج إلاّ غلطاً، وحماقة وشططاً، فكيف به إذا أناخ وتربع في ولاة الأمر وسراة القوم ومن بيده الحل والعقد.
ب) «أَوْ مُنْقَاداً لِحَمَلَةِ الْحَقِّ لاَ بَصِیرَةَ لَهُ فِي أَحْنَائِهِ يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ لِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ»(2) .
فهو وإن كان مقلداً متبعاً، ومُسّلِماً مستمعاً، إلا أنه لعدم قوة إدراكه، واستحكام فكره سرعان ما يغیر وجهته، ويصيخ لمن دعاه ثانياً دونما روية بل لأي بارق لمع، وهذا من مواطن المحنة والابتلاء.
«يُؤْمِنُ الناسَ مِنَ الْعَظَائِمِ، وَيُهَوِّنُ كَبِیرَ الْجَرَائِمِ، يَقُولُ: أَقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ، وَفِيهَا وَقَعَ، وَيَقُولُ: أَعْتَزِلُ الْبِدَعَ، وَبَيْنَهَا اضْطَجَعَ»(3) .
ص: 266
أ) «قَدْ قَامَتِ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، فَأَيْنَ المُحْتَسِبُونَ؟! قَدْ سُنَّتْ لَهُمُ السُّنَنُ، وَقُدِّمَ لَهُمُ الْخَبَرُ. وَلِكُلِّ ضَلَّةٍ عِلَّةٌ، وَلِكُلِّ نَاكِثٍ شُبْهِةٌ»(1) .
ب) «إِنَّ مَعِي لَبَصِیرَتِي، مَا لَبَّسْتُ وَلاَ لُبِّسَ عَلَيَّ. وَإِنَّهَا لَلْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، فِيهَا الْحَمَأُ وَالْحُمَةُ(2) وَالشُّبْهَةُ المُغْدِفَةُ، وَإِنَّ الَأْمْرَ لَوَاضِحٌ، وَقَدْ زَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ نِصَابِهِ، وَانْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ شَغَبِهِ»(3) .
«وَلكِنَّا إِنَّمَا أَصْبَحْنَا نُقَاتِلُ إِخْوَانَنَا فِي الْأَسْلاَمِ عَلَى مَا دَخَلَ فِيهِ مِنَ الزَّيْغِ وَالْأَعْوِجَاجِ، وَالشُّبْهَةِ وَالتَّأْوِيلِ»(4) .
أ) «وَأَرْدَيْتَ جِيلاً مِنَ النَّاسِ كَثِیراً، خَدَعْتَهُمْ بِغَيِّكَ، وَأَلْقَيْتَهُمْ فِي مَوْجِ بَحْرِكَ، تَغْشَاهُمُ الظُّلُمَاتُ، تَتَلاَطَمُ بِهِمُ الشُّبُهَاتُ»(5) .
ب) «فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ المُبِینُ وَبَعْدَ الْبَيَانِ إِلاَّ الَّلبْسُ؟ فَاحْذَرِ الشُّبْهَةَ وَاشْتِمالَهَا عَلَى لَبْسَتِهَا، فَإِنَّ الْفِتْنَةَ طَالَما أَغْدَفَتْ(6) جَلَابِيبَهَا، وَأَغْشَتِ الْبصَارَ
ص: 267
ظُلْمَتُهَا»(1) .
«وقال علیه السلام لعمار بن ياسر وقد سمعه يراجع المغیرة بن شعبة كلاماً: دَعْهُ يَا عَمَّارُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الدِّينِ إِلاَّ مَا قَارَبَتْهُ الدُّنْيَا، وَعَلَى عَمدٍ لَبَسَ عَلَى نَفْسِهِ لِيَجْعَلَ الشُّبُهَاتِ عَاذِراً لِسَقَطَاتِهِ»(2) .
«فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ، وَمَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ»(3) .
ثانياً: طبيعة الأحداث:
«إِنَّ الْأُمُورَ إذا اشْتَبَهَتْ اعْتُبِرَ آخِرُهَا بِأَوَّلِهَا»(4) .
ثالثاً: وفي عهده الشريف إلى مالك الأشتر:
«وَارْدُدْ إلى اللهِ وَرَسُولِهِ مَا يُضْلِعُكَ مِنَ الْخُطُوبِ، وَيَشْتَبِهُ عَلَيْكَ مِنَ الْأُمُورِ، فَقَدْ قَالَ اللهُ سبحانه لِقَوْم أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللهِ وَالرَّسُولِ»، فَالرَّدُّ إلى
ص: 268
اللهِ: الْأَخْذُ بِمُحْكَمِ كِتَابِهِ، وَالرَّدُّ إلى الرَّسُولِ: الْأَخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعةِ غَیْرِ المُفَرِّقَةِ»(1) .
رابعاً: التحذير من الدنيا:
«فَإِنَّ الْدُّنْيَا مَاضِيَةٌ بكُمْ عَلَى سَنَنٍ، وَأَنْتُمْ وَالسَّاعَةُ فِي قَرَنٍ... فِي مَوْقِفٍ ضَنْكِ المَقَامِ، وَأُمُورٍ مُشْتَبِهَةٍ عِظَامٍ»(2) . خامساً: التحذير من هول الصراط:
«وَاعْلَمُوا أَنَّ مَجَازَكُمْ عَلَى الصَّراطِ وَمَزَالِقِ دَحْضِهِ، وَأَهَاوِيلِ زَلَلِهِ،... وَلَمْ تفَتِلْهُ(3) فَاتِلاَتُ الْغُرُورِ، وَلْمَ تَعْمَ عَلَيْهِ مُشْتَبِهَاتُ الُأْمُورِ»(4) .
سادساً: عظة الموت:
«يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمْرَهُ، وَفِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ! وَيَتَذَكَّرُ أَمْوَالاً جَمَعَهَا، أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا، وَأَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَمُشْتَبِهَاتِهَا، قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا، وَأَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا»(5) .
سابعاً: أدب العلم:
«فَإِنْ أَبَتْ نَفْسُكَ أَنْ تَقْبَلَ ذلِكَ دُونَ أَنْ تَعْلَمَ كَمَا عَلِمُوا فَلْيَكُنْ طَلَبُكَ ذلِكَ
ص: 269
بَتَفَهُّمٍ وَتَعَلُّمٍ، لاَبِتَوَرُّطِ الشُّبُهَاتِ»(1) .
ثامناً: قمة الورع:
«وَلاَ وَرَعَ كالْوُقُوفِ عِنْدَ الشُّبْهَةِ»(2) .
تاسعاً: التقوى خير وقاية وحاجز:
أ) «ذِمَّتي بِمَا أَقُولُ رَهِينَةٌ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ. إِنَّ مَنْ صَرَّحَتْ لَهُ العِبَرُ عَمَّا بَیْنَ يَدَيْهِ مِنَ المَثُلاتِ(3) ، حَجَزَتْهُ التَّقْوَى عَنْ تَقَحُّمِ(4) الشُّبُهَاتِ»(5) .
ب) «وَتَرْكِ كُلِّ شَائِبَة أَوْلَجَتْكَ فِي شُبْهَة، أَوْ أَسْلَمَتْكَ إلى ضَلاَلَة»(6) .
عاشراً: أدب الحكم:
«ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَیْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ... وأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ»(7) .
ص: 270
الأمل وعاقبة طول الآمال وعرضها
يحيا ابن آدم فتنشط معه آماله وتترعرع، وتمتد فلا تقف عند حد.
والأمل حياة للمرء وضرورة، فهو بذلك نقطة إيجاب، وعنصر بقاء ولكن الاسترسال فيه، والتمادي في طوله نقطة سلب، حيث يعمل على امتلاك المؤمل فينسى ربه، ويغفل عن مقومات صلاحه وإعمار آخرته إنشغالاً بدنياه وآماله الفسيحة طولاً وعرضاً.
وقد قرر الإمام علیه السلام فيما أفاض(1) من حديثه رؤية واقعية ونظرة دقيقة وفكراً ثاقباً شرح فيه الآثار، وأوضح الملابسات.
أ) «اللهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الْوَصْفِ الَجَمِيلِ، وَالتَّعْدَادِ الْكَثِیرِ، إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَیْرُ مَأْمُولٍ، وَإِنْ تُرْجَ فَخَیْرُ مَرْجُوٍّ»(2) .
ب) «المَأْمُولُ مَعَ النِّقَمِ، المَرْهُوبُ مَعَ النِّعَمِ»(3) .
ج) «وَنَسْتَعِينُ بِهِ اسْتِعَانَةَ رَاجٍ لِفَضْلِهِ، مُؤَمِّلٍ لِنَفْعِه»(4) .
ص: 271
«أَلاَ إِنَّ مَثَلَ آلِ مُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله و سلم كَمَثَلِ نُجُومِ السَّماَءِ: إِذَا خَوَى نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ، فَكَأَنَّكُمْ قَدْ تَكَامَلَتْ مِنَ اللهِ فِيكُمُ الصَّنَائِعُ، وَأَرَاكُمْ مَا كُنْتُمْ تَأْمُلُونَ»(1) .
«تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ»(2) .
«أَيُّهَا النَّاسُ، الزَّهَادَةُ قِصَرُ الْأمَلِ»(3) .
«الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ، وَالشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ»(4) .
أ) «أَلاَ وَإِنَّكُمْ في أَيَّامِ أَمَلٍ مِنْ وَرَائِهِ أَجَلٌ، فَمَنْ عَمِلَ في أَيَّامِ أَمَلهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ فَقَدْ نَفَعَهُ عَمَلُهُ، وَلَمْ يَضْرُرْهُ أَجَلُهُ؛ وَمَنْ قَصَّرَ في أَيَّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ، فَقَدْ خَسِرَ عَمَلَهُ، وَضَرَّهُ أَجَلُهُ»(5) .
وقد كرر الإمام علیه السلام بأساليب متنوعة الارتباط الوثيق، والعلاقة القائمة في
ص: 272
هذه الدائرة الثلاثية.
ب) «عِبَادَ اللهِ، إِنَّكُمْ- وَمَا تَأْمُلُونَ مِنْ هذِهِ الدُّنْيَا- أَثْوِيَاءُ(1) مُؤَجَّلُونَ، وَمَدِينُونَ مُقْتَضَوْنَ: أَجَلٌ مَنْقُوصٌ، وَعَمَلٌ مَحْفُوظٌ»(2) .
ج) «عِبَادَ اللهِ، إِنَّ تَقْوَى اللهِ حَمَتْ أوْلِيَاءَ اللهِ مَحَارِمَهُ، وَأَلْزَمَتْ قُلُوبَهُمْ مَخَافَتَهُ... الرَّاحَةَ بِالنَّصَبِ... وَاسْتَقْرَبُوا الْأَجَلَ فَبَادَرُوا الْعَمَلَ، وَكَذَّبُوا الْأَمَلَ فَلاَحَظُوا الْأَجَلَ»«7)).
د) «فَأَزْمِعُوا عِبَادَ اللهِ الرَّحِيلَ عَنْ هذِهِ الدَّارِ المَقْدُورِ عَلَى أَهْلِهَا الزَّوالُ، وَلاَ يَغْلِبَنَّكُمْ فِيهَا الْأَمَلُ، وَلاَ يَطُولَنَّ عَلَيْكُمْ الْأَمَدُ»(3) .
ه) «وَكَأَنَّ الَّذِي قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ قَدْ وُضِعِ عَنْكُمْ. فَبَادِرُوا الْعَمَلَ، وَخَافُوا بَغْتَةَ الْأجَلِ»(4) .
و) «فَقَدْ رَأَيْتَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِمَّنْ جَمَعَ المَالَ وَحَذِرَ الْإِقْلاَلَ، وَأَمِنَ الْعَوَاقِبَ- طُولَ أَمَلٍ وَاسْتِبْعَادَ أَجَلٍ-»(5) .
ز) «فَبَادِرُوا المَعَادَ، وَسَابِقُوا الْآجَالَ، فَإِنَّ النَّاسَ يُوشِكُ أَنْ يَنْقَطِعَ بِهِمُ الْأَمَلُ، وَيَرْهَقَهُمُ الْأَجَلُ، وَيُسَدَّ عَنْهُمْ بَابُ التَّوْبَةِ»(6) .
ص: 273
ح) «مَنْ أَطَالَ الْأمَلَ أَسَاءَ الْعَمَلَ»(1) .
ط) «لَوْ رَأَى الْعَبْدُ الْأَجَلَ وَمَسِيرَهُ لَأَبْغَضَ الْأَمَلَ وَغُرُورَهُ»(2) .
ي) «فَاتَّقَى عَبْدٌ رَبِّهُ، نَصَحَ نَفْسَهُ، قَدَّمَ تَوْبَتَهُ، غَلَبَ شَهْوَتَهُ، فَإِنَّ أَجَلَهُ مَسْتُورٌ عَنْهُ، وَأَمَلَهُ خَادِعٌ لَهُ»(3) .
ك) «مَنْ جَرَى فِي عِنَانِ أَمَلِهِ عَثَرَ بِأَجَلِهِ»(4) .
ل) «وَإِنَّاَ هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِطُولِ آمَالِهِمْ وَتَغَيُّبِ آجَالِهِمْ، حَتَّى نَزَلَ بِهِمُ المَوْعُودُ الَّذِي تُرَدُّ عَنْهُ المَعْذِرَةُ، وَتُرْفَعُ عَنْهُ التَّوْبَةُ، وَتَحُلُّ مَعَهُ الْقَارِعَةُ وَالنِّقْمَةُ»(5) .
يضر بالآخرة:
«إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَانِ:... وَطُولُ الْأَمَلِ... وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِيِ الْآخِرَةَ»(6) .
داء العقل:
ص: 274
«وَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَمَلَ يُسْهِي الْعَقْلَ،... الْأَمَلَ فَإِنَّهُ غُرُورٌ، وَصَاحِبُهُ مَغْرُورٌ»(1) .
بلاء الذكر:
«وَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَمَلَ... وَيُنْسِي الذِّكْرَ، فَأَكْذِبُوا الْأمَلَ فَإِنَّهُ غُرُورٌ، وَصَاحِبُهُ مَغْرُورٌ»(2) .
آفة العمل:
«مَنْ أَطَالَ الْأَمَلَ أَسَاءَ الْعَمَلَ»(3) .
خادع صاحبه:
«فَاتَّقَى عَبْدٌ رَبَّهُ، نَصَحَ نَفْسَهُ، قَدَّمَ تَوْبَتَهُ، غَلَبَ شَهْوَتَهُ، فَإِنَّ أَجَلَهُ مَسْتُورٌ عَنْهُ، وَأَمَلَهُ خَادِعٌ لَهُ»(4) .
مسوِّف التوبة:
«لاَ تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو الْآخِرَةَ بِغَيْرِ الْعَمَلِ، وَيُرَجِّي التَّوْبَةَ بِطُولِ الْأمَلِ»(5) .
أ) «فَقَدْ رَأَيْتَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِمَّنْ جَمَعَ المَالَ وَحَذِرَ الْإِقْاَلَ، وَأَمِنَ الْعَوَاقِبَ
ص: 275
- طُولَ أَمَلٍ وَاسْتِبْعَادَ أَجَلٍ- كَيْفَ نَزَلَ بِهِ المَوْتُ فَأَزْعَجَهُ عَنْ وَطَنِهِ، وَأَخَذَهُ مِنْ مَأْمَنِهِ، مَحْمُولاً عَلَى أَعْوَادِ المَنَايَا يَتَعَاطَى بِهِ الرِّجَالُ الرِّجَالَ، حَمْلاً عَلَى المَنَاكِبِ وَإِمْسَاكاً بِالْأَنَامِلِ. أَمَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَأْمُلُونَ بَعِيداً، وَيَبْنُونَ مَشِيداً، وَيَجْمَعُونَ كَثِیراً! أَصْبَحَتْ بُيُوتُهُمْ قُبُوراً، وَمَا جَمَعُوا بُوراً، وَصَارَتْ أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِینَ»(1) .
الدنيا: «وَمِنْ عِبَرِهَا أَنَّ المَرْءَ يُشْرِفُ عَلَى أَمَلِهِ فَيَقْتَطِعُهُ حُضُورُ أَجَلِهِ، فَلاَ أَمَلٌ يُدْرَكُ، وَلاَ مُؤَمَّلٌ يُتْرَكُ. فَسُبْحَانَ اللهِ، مَا أَعَزَّ(2) سُرُورَهَا! وَأَظْمَأَ رِيَهَّا! وَأَضْحَى فَيْئَهَا»(3) .
ب) «وَقَدَّرَ لَكُمْ أَعْمَاراً سَتَرَهَا عَنْكُمْ، وَخَلَّفَ لَكُمْ عِبَراً مِنْ آثَارِ المَاضِینَ قَبْلَكُمْ، مِنْ مُسْتَمْتَعِ خَلاَقِهِمْ(4) ، وَمُسْتَفْسَحِ خَنَاقِهِمْ. أَرْهَقَتْهُمُ(5) المَنَايَا دُونَ الْآمَالِ، وَشَذَّبَهمْ عَنْهَا تَخَرُّمُ الْآجَالِ، لَمْ يَمْهَدُوا فِي سَلاَمَةِ الْأَبْدَانِ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا فِي أُنُفِ(6) الَأْوَانِ»(7) .
ج) «أَلَسْتُمْ فِي مَسَاكِنِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَطْوَلَ أَعْمَاراً، وَأَبْقَى آثَاراً، وَأَبْعَدَ آمَالاً، وَأَعَدَّ عَدِيداً، وَأَكْثَفَ جُنُوداً! تَعَبَّدُوا لِلدُّنْيَا أَيَّ تَعَبُّدٍ، وَآثَرُوهَا أَيَّ إِيثَارٍ، ثُمَّ ظَعَنُوا عَنْهَا بَغَیْرِ زَادٍ مُبَلِّغٍ وَلاَ ظَهْرٍ قَاطِعٍ»(8) .
ص: 276
أ) «وَمَنْ لَهِجَ قَلْبُهُ بِحُبِّ الدُّنْيَا الْتَاطَ(1) قَلْبُهُ مِنْهَا بِثَلَاثٍ: هَمًّ لَا يُغِبُّهُ، وَحِرْصٍ لاَ يَتْرُكُه، وَأَمَلٍ لاَ يُدْرِكُهُ»(2) .
ب) «أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّ أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا حُلْوَةٌ خَضِرِةٌ، حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ... وَتَحَلَّتْ بِالْآمَالِ»(3) .
ج) «أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ الدُّنْيَا تَغُرُّ المُؤَمِّلَ لَهَا وَالمُخلِدَ إِلَيْهَا»(4) .
«اللهُمَّ إنَّهُمَاَ (طلحة والزبر) قَطَعَاني وَظَلَمَاني، وَنَكَثَا بَيْعَتِي، وَأَلَّبَا النَّاسَ عَلَيَّ؛ فَاحْلُلْ مَا عَقَدَا، وَلاَ تُحْكِمْ لَهُمَا مَا أَبْرَمَا، وَأَرِهِمَا المَسَاءَةَ فِيَما أَمَّلاَ وَعَمِلاَ»(5) .
«وَإِلاَّ تَفْعَلْ أُعْلِمْكَ مَا أَغْفَلْتَ مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنكَ مُتْرَفٌ قَدْ أَخَذَ الشَّيْطَانُ مِنْكَ مَأْخَذَهُ، وَبَلَغَ فِيكَ أَمَلَهُ، وَجَرَى مِنْكَ مَجْرَى الرُّوحِ وَالدَّمِ»(6) .
ص: 277
أ) «وَرُبَّمَا أُخَّرَتْ عَنْكَ الْإِجَابَةُ، لِيَكُونَ ذلِكَ أَعْظمَ لِأَجْرِ السَّائِلِ، وَأَجْزَلَ لِعَطَاءِ الْآمِلِ» ، «وَاعْلَمْ يَقِيناً، أَنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ، وَلَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ»(1) .
ب) «أَيّهَا النَّاسُ... وَمَنْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ فِي ذَاتِ يَدِهِ فَلَمْ يَرَ ذلِكَ اختباراً فَقَدْ ضَيَّعَ مَأْمُولاً»(2) .
ج) «مَعَاشِرَ النَّاسِ، اتَّقُوا اللهَ، فَكَمْ مِنْ مُؤَمِّلٍ مَا لاَ يَبْلُغُهُ»(3) .
وبعد...
فهذا بيان وهداية وتبصرة وتوجيه للمؤمل ما لا يدرك حيث تطمح به الآمال، وتغريه إلى ذلك الدنيا، فهو وإن بلغ من الكبر عتياً إلا أنه كما يقول علیه السلام: «الدَّهرُ يُخْلِقُ الْأَبْدَانَ، وَيُجَدَّدُ الْآمَالَ»(4) .
وإيقاف على مواطن الاعتبار، وعواقب نزق الآمال ممن ملكهم الأمل ولا يملكون من العمل إلا الأمل.
أما أولو النهى والحكمة والحجى فهم كما قال عنهم علیه السلام: «تَرَاهُ قَرِيبَاً أَمَلُهُ»(5) .
ص: 278
وقدوتهم وإمامهم الذي عرف ووصف، فقال عن الدنيا ومبلغها من أمله «هيْهَات! غُرَّي غَیْرِي، لاَ حاجَةَ لِي فيِكِ، قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثاً لا رِجْعَةَ فِيهَا! فَعَيْشُكِ قَصِیرٌ، وَخَطَرُكِ يَسِیرٌ، وَأَمَلُكِ حَقِیرٌ»(1) .
ص: 279
«هوى النفس: إرادتها، والجمع الأهواء... قال اللغويون: الهوى محبة الإنسان الشيء وغلبته على قلبه، قال الله علیه السلام: «وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى»، معناه نهاها عن شهواتها وما تدعو إليه من معاصي الله علیه السلام... ومتى تكلم بالهوى مطلقًا لم يكن إلا مذمومًا حتى يُنعت بما يخرج معناه كقولهم: هوى حسن»(1) .
أودع الله- جلّت حكمته- في الإنسان قوتین عظيمتین: العقل والنفس، ولكلٍ مجاله وأثره، ويؤدي كلٌّ منهما دوره اذا تحرك في فلكه، ودار في محوره، وإذا ما حادا عن المحور والمدار فقد خرجا عن خطتهما، ولم يؤديا وظائفهما.
والعقل والنفس يتصارعان بطبعهما في كيان من أودعا فيه وارتبطا بأمره وشأنه.
والعقل بوضعه وطبعه يسمو إلى الحكمة ويهدي إلى الرشاد، والنفس من شأنها يملكها الهوى فتنقاد إلى الماذ وتهوي إلى الحضيض والشهوات وإذا ما غلب (الهوى) وملك كان (العقل) مأموراً وأسیراً، وقد كان من جلاله أن يكون ويبقى أمیراً.
وقد عُني الإمام- صلوات الله عليه- بهذه الغريزة المودعة في تركيبة الإنسان كثیراً وأولاها إهتماماً بالغاً لعظيم خطرها وتغلغل نفوذها فرح أبعادها، وسبيل
ص: 280
إستقامتها، وكشف عن ويلاتها حينما إنحرفت عن مسارها وأقام شواهد ذلك في مسیرة الإنسانية جاهليةً وإسلاماً شهادة الخبیر بواقع أمر الجاهلية ومن هم على شاكلتهم عصر الإسلام ممن عصفت بهم الأهواء فأطاحوا بالفكر وقوضوا أركان الهدى وعاثوا فساداً في دين الله وعباده وبلاده.
هذا ما نجمعه مبثوثاً ونلمه متفرقاً من كلمه وبليغ حكمه ودقيق حكايته في نهج بلاغته عبر النقاط التالية:
«وَإِنَّهُمْ عَلَی مَكَانِهمْ مِنْكَ، وَمَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَكَ، وَاسْتِجْمَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِيكَ»(1) .
ويلاحظ من خلال هذا الوصف للملائكة الكرام سلامة النعت بالهوى ونسبته إلى الملائكة حيث يعني التعلق وشدة الميل وجماع الرغبة، فلما كان ذلك مرتبطاً بالحق تعالى فهو سمة شرف وعنوان فضيلة، وإن كثر التعبیر به فيما لا يحسن ويجمل.
«اللهُمَّ اجْمَعْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي بَرْدِ الْعَيشِ، وَقَرَارِ النِّعْمَةِ، وَمُنَى الشَّهَوَاتِ، وَأَهْوَاءِ اللَّذَّاتِ، وَرَخَاءِ الدَّعَةِ وَمُنْتَهَى الْطُمَأْنِينَةِ، وَتُحَفِ الْكَرَامَةِ»(2) .
ص: 281
أ) «إِلَی أَنْ بَعَثَ اللهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً صلی الله علیه و آله و سلم لإِنْجَازِ عِدَتِهِ وَتَمامِ نُبُوَّتِهِ، مَأْخُوذاً عَلَى النَّبِيَّینَ مِيثَاقُهُ، مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ، كَرِيماً مِيلادُهُ. وَأهْلُ الاَرْضِ يَوْمَئِذ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، وَأَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ»(1) .
ب) «بَعَثَهُ وَالنَّاسُ ضُلاَّلٌ فِي حَیْرَة، وَحَاطِبُونَ فِي فِتْنَة، قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الاَهْوَاءُ، وَاسْتَزَلَّتْهُمُ الْكِبْرِيَاءُ، وَاسْتَخَفَّتْهُمُ الْجَاهِلِيِّةُ الْجَهْلاَء؛ حَيَارَى فِي زَلْزَال مَنَ الاْمْرِ، وَبَلاَء مِنَ الْجَهْلِ، فَبَالَغَ صلی الله علیه و آله و سلم فِي النَّصِيحَةِ، وَمَضَى عَلَى الطَّرِيقَةِ، وَدَعَا إلى الْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ»(2) .
وكثیرون من الناس يعلقون آثامهم على الدنيا، ويعصبونها برقبتها، ويحملونها تبعتها.
أما الإمام علیه السلام فله نظرته الواقعية للدنيا فهي ممدوحة ومذمومة وقد سبق في مقدمات الكتاب حديث ذلك.
ومما قاله في هذا الشأن وقد سمع رجلًا يذم دنياه:
أ) «أَيُّهَا الذَّامُّ لِلدُّنْيَا، المُغْتَرُّ بِغُرُورِهَا،... أَنْتَ المُتَجَرِّمُ عَلَيْهَا، أَمْ هِيَ المُتَجَرِّمَةُ عَلَيْكَ؟ مَتَى اسْتَهْوَتْكَ،... أَبِمَصَارِعِ آبَائِكَ مِنَ الْبِلَى»(3) .
ص: 282
ب) وقد جاء في صدر كتابه جوابًا على أبي موسى الأشعري في أمر الحكمين:
«فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ تَغَیَّرَ كَثِیرٌ مِنْهُمْ عَنْ كَثِیرٍ مِنْ حَظَّهِمْ، فَمَالُوا مَعَ الدُّنْيَا، وَنَطَقُوا بِالْهَوى»(1) .
لمّا أظفره الله تعالى بأصحاب الجمل وقد قال له بعض أصحابه: وددت أن أخي فلاناً معك شاهداً لیرى ما نصرك الله به على أعدائك، فقال له علیه السلام: أَهَوَى أَخِيكَ مَعَنَا؟ قال: نَعَم. قالَ: فَقَدْ شَهِدنَا، وَلَقَدْ شَهِدَنَا في عَسْكَرِنَا هذَا أَقْوَامٌ في أَصْلاَبِ الرِّجَالِ، وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ، سَیَرْعُفُ(2) بِهِمُ الزَّمَانُ، ويَقْوَى بِهِمُ الإيمان»(3) .
فالمرء مع من أحب وما أحب، وسيّان بین معاصر القضية ولم يشهدها وبین من يأتي بعد إنقضائها ولو بطويل من الدهر، فالكل شاهد مادام الهوى لهم جامعاً.
من خطبة له علیه السلام يومئ فيها إلى ذكر الملاحم:
أهل الحق:
ص: 283
«يَعْطِفُ الْهَوَى عَلَی الْهُدَى»(1) .
أهل الباطل:
«إِذَا عَطَفُوا الْهُدَى عَلَی الْهَوَى»(2) .
فإمام الرشد وقائد الرشاد هواه في الحق، ويقوّم المعوج من هوى سواه إلى هداه وأئمة الضلال والزيغ يغیرون ويبدلون حيثما يهوون.
كما قال علیه السلام عن هذا الصنف:
«وَآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالمِاً وَلَيْسَ بِهِ، فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّال وَأَضَالِيلَ مِنْ ضُلاَّل، وَنَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حبالِ غُرُور، وَقَوْلِ زُور، قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ، وَعَطَفَ الْحَقَّ عَلى أَهْوَائِهِ»(3) .
ج) «...، وَالْعَقْلُ حُسَامٌ قَاطِعٌ،...، وَقَاتِلْ هَوَاكَ بِعَقْلِكَ»(1) .
د) «فَأمْلِكْ هَوَاكَ»(2) .
ه) «رَحِمَ اللهُ عَبْداً سَمِعَ حُكْماً فَوَعَى،...، كابَرَ هَوَاهُ، وَكَذَّبَ مُناهُ»(3) .
فمن شأن العقل ومقتضى وضعه أن يكون حاكماً لا محكوماً، وغالباً لا مغلوباً، فإذا ما ضعف وغلب وقهر انقلب القياس، وانعكست النتيجة.
أ) «وَاعْلَمُوا أنَّهُ مَا مِنْ طَاعَةِ اللهِ شَيْءٌ إلاَّ يَأْتي فِي كُرْه، وَمَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ شَيءٌ إلاَّ يَأْتِي فِي شَهْوَة. فَرَحِمَ اللهُ رَجُلاً نَزَعَ عَنْ شَهْوَتِهِ، وَقَمَعَ هَوَى نَفْسِهِ، فَإنَّ هذِهِ النَّفْسَ أَبْعَدُ شَيْء مَنْزِعاً، وَإنَّهَا لاَ تَزَالُ تَنْزِعُ إلى مَعْصِيَة فِي هَوىً»(4) .
وهذا بيان كامل، ومقدمات منتجة، وتحليل دقيق لما أصطبغت عليه الطاعة والمعصية، والإباء والانقياد، وكشف عن السمة الغالبة والميول العارمة لإنسياق النفس وترسلها طوع الهوى وإنجذابها حيث المشتهى آبية عما تكره أو تكره عليه.
ب) «أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَانِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى،...؛ فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ»(5) .
ص: 285
ج) «عِبَادَ اللهِ، إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللهِ إِلَيْهِ عَبْداً أَعَانَهُ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ،... قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ الشَّهَوَاتِ، وَتَخَىَّ مِنَ الْهُمُومِ، إِلاَّ هَمّاً وَاحِداً انْفَرَدَ بِهِ، فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ الْعَمَى، وَمُشَارَكَةِ أَهْلِ الْهَوَى»(1) .
إذن فهي النفس الأمارة بالسوء تغرق في الشهوات، وتغشاها الهموم فتحجبها عن الحق، وتعمى عن النور، فإذا ما فزعت إلى شاطئ النجاة أزالت عن بصرها وبصيرتها الغشاوات فقد بصرت الطريق ونبذت الضالین وتركتهم في غيهم خابطین وفي حيرتهم غارقین.
د) «أَيْ بُنَيَّ،... بَادَرْتُ بِوَصِيَّتِي إِلَيْكَ،... أَوْ يَسْبِقَنِي إِلَيْكَ بَعْضُ غَلَبَاتِ الْهَوَى»(2) .
«وَالْهَوَى شَرِيكُ الْعَمَى»(3) .
ه) «أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ»(4) .
وإن ذلك في ميزان العدل لدقيق، تبتلى فيه الذوات، وكلما عظم مقامها عظم بلاؤها.
و) «ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ (الوزراء) عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ، وأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً
ص: 286
فِيَما يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِهَ اللهُ لِأَوْلِيَائِهِ، وَاقِعاً ذلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ»(1) .
ز) «وَالشَّقِيُّ مَنِ انْخَدَعَ لِهَوَاهُ وَغُرُورِهِ»(2) .
ح) «واعْلَمُوا أَنَّ... ومجالسةَ أَهْلِ الهوى مَنْسَاةٌ للإيمانِ ومَحْضَرَةٌ لِلشَّيطانِ»(3) .
ط) «عِبَادَ اللهِ، لاَ تَرْكَنُوا إلى جَهَالَتِكُمْ، وَلاَ تَنْقَادُوا لِأَهْوَائِكُمْ»(4) .
ي) «فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ (الْقُرآن) وَأَتْبَاعِهِ،... وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ، وَاسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ»(5) .
ك) «ثُمَّ أَشْفَقْتُ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَيْكَ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ مِثْلَ الَّذِي الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ»(6) .
1- بعض الرعية:
أ) «أَيُّهَا النَّاسُ، لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي، وَلاَ يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ عِصْيَاني»(7) .
ص: 287
ب) «وَإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا، أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ، اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ، وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ...، فَعُمِلَ بِالْهَوَى»(1) .
«فإِنَّ الْوَالِيَ إِذَا اخْتَلَفَ هَوَاهُ مَنَعَهُ ذلِكَ كَثِيراً مِنَ الْعَدْلِ»(2) .
2- معاوية:
«لَيْسَ لَهُ بَصَرٌ يَهْدِيهِ، وَلاَ قَائِدٌ يُرْشِدُهُ، قَدْ دَعَاهُ الْهَوَى فَأَجَابَهُ، وَقَادَهُ الضَّلاَلُ فَاتَّبَعَهُ، فَهَجَرَ لاَغِطاً، وَضَلَّ خَابِطاً»(3) .
«وَلَعَمْرِي، يَا مُعَاوِيَةُ، لَئِنْ نَظَرْتَ بِعَقْلِكَ دُونَ هَوَاكَ لَتَجِدَنَّي أَبْرَأَ النَّاسِ مِنْ دَمِ عُثْمانَ»(4) .
«فَسُبْحَانَ اللهِ! مَا أَشَدَّ لُزُومَكَ لِلْأَهْوَاءِ المُبْتَدَعَةِ»(5) .
3- الحكام الأشرار:
«فَإِنَّ هذَا الدِّينَ قَدْ كَانَ أَسِیراً فِي أَيْدِي الْأَشْرَارِ، يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى، وَتُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا»(6) .
4- واليه المنذر بن الجارود العبدي، وقد خان في بعض ما ولاّه من أعماله:
ص: 288
«فَإِنَّ صَلاَحَ أَبِيكَ غَرَّنِي مِنْكَ، وَظَنَنْتُ أَنَّكَ تَتَّبِعُ هَدْيَهُ، وَتَسْلُكُ سَبِيلَهُ، فَإِذَا أَنْتَ فِيَما رُقِّي إِلَيَّ عَنْكَ لاَتَدَعُ لِهَوَاكَ انقياداً»(1) .
5- الحكمان:
«إِنَّمَا اجْتَمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ عَلَى اختيار رَجُلَیْنِ، أَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَلاَّ يَتَعَدَّيَا الْقُرْآنَ، فَتَاهَا عَنْهُ، وَتَرَكَا الْحَقَّ وَهُمَا يُبْصِرَانِهِ، وَكَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا فَمَضَيَا عَليْهِ»(2) .
«كَانَ لِي فِيَما مَضَى أَخٌ فِي اللهِ، وَكَانَ يُعْظِمُهُ فِي عَيْنِي صِغَرُ الدُّنْيَا فِ عَيْنِهِ،... فَلاَ يَشْتَهِي مَا لاَ يَجِدُ... وَكَان إذَا بَدَهَهُ أَمْرَانِ نَظَرَ أَيُّهُمَاَ أَقْرَبُ إلى الْهَوَى فيُخَالِفُهُ. فَعَلَيْكُمْ بِهذِهِ الْخَلاَئِقِ فَالْزَمُوهَا»(3) .
أ) «غَیْرَ أَنَّي حَيْثُ تَفَرَّدَ بِي دُونَ هُمُومِ النَّاسِ هَمُّ نَفْسِيِ، فَصَدَفَنِي رَأْيِي، وَصَرَفَنِي عَنْ هَوَايَ»(4) .
ب) «وَلَوْ شِئْتُ لاَهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ، إلى مُصَفَّى هذَا الْعَسَلِ، وَلُبَابِ هذَا الْقَمْحِ، وَنَسَائِجِ هذَا الْقَزِّ، وَلكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ»(5) .
ص: 289
وانظر إلى المنصور الدوانيقي لما قتل ولدي الحسن علیه السلام حین أكل بعض ما يحبه من طعام.
«ذكر أن المنصور هيئت له عجة من مخ وسكر فاستطابها فقال: أراد إبراهيم أن يحرمني هذا وأشباهه»(1) .
ج) وقال أمير المؤمنين علیه السلام لطلحة والزبير:
«وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمَا مِنْ أَمْرِ الأُسْوَة، فَإِنَّ ذلِكَ أَمْرٌ لَمْ أَحْكُمْ أَنَا فِيهِ بِرَأْيِي، وَلاَ وَلِيتُهُ هَوىً مِنِّي، بَلْ وَجَدْتُ أَنَا وَأَنْتُما مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَيْكُمَا فِيَما قَدْ فَرَغَ اللهُ مِنْ قَسْمِهِ، وَأَمْضَى فِيهِ حُكْمَهُ»(2) .
«وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم: يَا عَلِيُّ، إِنَّ الْقَوْمَ سَيُفْتَنُونَ بِأَمْوَالهِمْ، وَيَمُنُّونَ بِدِينِهِم عَلَى رَبَّهِمْ، وَيَتَمَنَّوْنَ رَحْمَتَهُ، وَيَأْمَنُونَ سَطْوَتَهُ، وَيَسْتَحِلُّونَ حَرَامَهُ بِالشُّبُهَاتِ الْكَاذِبَةِ، وَالاْهْوَاءِ السَّاهِيَةِ، فَيَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِالنَّبِيذِ، وَالسُّحْتَ بِالْهَدِيَّةِ، وَالرِّبَا بِالْبَيْعِ»(3) .
«اللهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ...، أَوْ تَتَابَع بِنَا أَهْوَاؤُنَا دُونَ الْهُدَى الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِكَ!»(4) .
ص: 290
وكان علیه السلام يدعو به كثيراً.
«اللهمَّ إِنّا نَشْكُو إِلَيكَ غَيْبَةَ نَبِيَّنا، وكَثْرَةَ عَدُوِّنا، وتَشَتُّتَ أَهوائِنا»(1) .
وكان علیه السلام يقول ذلك ختام دعائه إذا لقي عدوًّا محارباً.
ص: 291
الإسلام... «وَجُنَّةً لَمِنْ صَبَرَ»(1) .
الصبر من مظاهر الإيمان: «لا إيمان كَالْحَيَاءِ وَالصَّبْرِ»(2) .
الصبر من دعائم الإيمان وشعبه أربع:
«وَسُئِلَ علیه السلام عَنِ الْايمان، فَقَالَ: الْايمان عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ: عَلَى الصَّبْرِ...
وَالصَّبْرُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ: عَلَى الشَّوْقِ وَالشَّفَقِ وَالزُّهْدِ وَالتَّرَقُّبِ، فَمَنِ اشْتَاقَ إِلَي الَجَنَّةِ سَلَا عَنِ الشَّهَوَاتِ وَمَنْ أَشْفَقَ مِنَ النَّارِ اجْتَنَبَ المُحَرَّمَاتِ وَمَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا اسْتَهَانَ بِالمُصِيبَاتِ وَمَنِ ارْتَقَبَ المَوْتَ سَارَعَ إِلَی الْخَیْرَاتِ»(3) .
«أُوصِيكُمْ بِخَمْسٍ لَوْ ضَرَبْتُمْ إِلَيْهَا آبَاطَ الْإبِلِ لَكَانَتْ لِذَلِكَ أَهْلًا... وَعَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ فَإِنَّ الصَّبْرَ مِنَ الْإيمان كَالرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ وَلَا خَیْرَ فِي جَسَدٍ لَا رَأْسَ مَعَهُ وَلَا فِي إيمان لَا صَبْرَ مَعَهُ»(4) .
المؤمن: «شَكُورٌ صَبُورٌ»(5) .
ص: 292
المتقون... «صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً»(1) .
المتقي... «وَصَبْراً فِي شِدَّةٍ»(2) .
«وَفِي المَكَارِهِ صَبُورٌ»(3) .
«وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ»(4) .
«مَنْ صَبَرَ صَبْرَ الْأَحْرَارِ وَإِلَّا سَلَا سُلُوَّ الْأَغْمَارِ(5) »)(6) .
وفي خبر آخر أنه علیه السلام قال للأشعث بن قيس معزياً عن ابن له:
«إِنْ صَبَرْتَ صَبْرَ الْأَكَارِمِ وَإِلَّا سَلَوْتَ سُلُوَّ الْبَهَائِمِ»(7) .
وفي نص تعزية آخر:
«وَإِنْ تَصْبِرْ فَفِي اللهِ مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ خَلَفٌ يَا أَشْعَثُ إِنْ صَبَرْتَ جَرَى عَلَيْكَ الْقَدَرُ وَأَنْتَ مَأْجُورٌ وَإِنْ جَزِعْتَ جَرَى عَلَيْكَ الْقَدَرُ وَأَنْتَ مَأْزُورٌ»(8) .
ص: 293
«فَمَا صَبَّرَكَ عَلَى دَائِكَ وَجَلَّدَكَ عَلَى مُصَابِكَ وَعَزَّاكَ عَنِ الْبُكَاءِ عَلَى نَفْسِكَ وَهِيَ أَعَزُّ الْأَنْفُسِ عَلَيْكَ»(1) .
وهذا المقطع من كلامه علیه السلام قاله عند تلاوته «يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ».
وقبله كلم عجيب وقول دونه الوصف بالجليل الجميل: «أَ مَا تَرْحَمُ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَرْحَمُ مِنْ غَیْرِكَ فَلَرُبَّمَا تَرَى الضَّاحِيَ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ فَتُظِلُّهُ أَوْ تَرَى المُبْتَلَى بِأَلَمٍ يُمِضُّ جَسَدَهُ فَتَبْكِي رَحْمَةً لَهُ».
«وَالْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللهُ عَلَى أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللهَّ لَهُمْ»(2) .
«الصبرُ يناضلُ الحِدْثانَ(1) »)(2) .
«يَنْزِلُ الصَّبْرُ عَلَى قَدْرِ المُصِيْبَةِ، وَمَنْ ضَرَبَ يَدَهُ عَلى فَخْذِهِ عِنْدَ مُصِيْبَتِهِ حَبِطَ عَمَلُه»(3) .
«مَنْ لَمْ يُنْجِهِ الصَّبْرُ أَهْلَكَهُ الجَزَعُ»(4) .
فمن خطبة له علیه السلام يمثل فيها المؤمن الحق لتقمّصه صالح الأعمال ومحاسن الخصال: «جعلَ الصرَ مَطِيَّةَ نَجَاتِهِ»(5) .
«فَاسْتَدْرِكُوا بَقِيَّةَ أَيَّامِكُمْ وَاصْبِرُوا لَهَا أَنْفُسَكُمْ فَإِنَّهَا قَلِيلٌ فِي كَثِیرِ الْأَيَّامِ الَّتِي تَكُونُ مِنْكُمْ فِيهَا الْغَفْلَةُ وَالتَّشَاغُلُ عَنِ المَوْعِظَةِ»(6) .
«الْزَمُوا الْأَرْضَ وَاصْبِرُوا عَلَى الْبَلَاءِ وَلَا تُحَرَّكُوا بِأَيْدِيكُمْ وَسُيُوفِكُمْ فِي هَوَى
ص: 295
أَلْسِنَتِكُمْ وَلَا تَسْتَعْجِلُوا بِمَا لَمْ يُعَجِّلْهُ اللهُ لَكُمْ»(1) .
وقال في فتنة مقتل عثمان والمطالبة بمعاقبة قاتله:
«فَاصْبِرُوا حَتَّى يَهْدَأَ النَّاسُ وَتَقَعَ الْقُلُوبُ مَوَاقِعَهَا وَتُؤْخَذَ الْحُقُوقُ مُسْمَحَةً»(2) .
إلى عمال الخراج:
«وَاصْبِرُوا لِحَوَائِجِهِمْ فَإِنَّكُمْ خُزَّانُ الرَّعِيَّةِ وَوُكَلَءُ الْأُمَّةِ وَسُفَرَاءُ الْأَئِمَّةِ»(3) .
أ) «فَخُذُوا لِلْحَرْبِ أُهْبَتَهَا وأَعِدُّوا لَهَا عُدَّتَهَا فَقَدْ شَبَّ لَظَاهَا وعَلَا سَنَاهَا واسْتَشْعِرُوا(4) الصَّبَرْ فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَی النَّصِرْ»(5) .
ب) «وَقَدْ فُتِحَ بَابُ الَحَرْبِ بَيْنَكُمْ وَبَیْنَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَلَا يَحْمِلُ هَذَا الْعَلَمَ إِلَّا أَهْلُ الْبَصَرِ وَالصَّبْرِ وَالْعِلْمِ بِمَوَاضِعِ الْحَقَّ فَامْضُوا لَمِا تُؤْمَرُونَ بِهِ وَقِفُوا عِنْدَ مَا
ص: 296
تُنْهَوْنَ عَنْهُ وَلَا تَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ حَتَّى تَتَبَيَّنُوا فَإِنَّ لَنَا مَعَ كُلِّ أَمْرٍ تُنْكِرُونَهُ غِیرَاً(1) »)(2) .
ج) «فَإِنَّ الصَّابِرِينَ عَلَى نُزُولِ الْحَقَائِقِ(3) هُمُ الَّذِينَ يُخَفُّونَ بِرَايَاتِهِمْ وَيَكْتَنِفُونَهَا حِفَافَيْهَا(4) وَوَرَاءَهَا وَأَمَامَهَا»(5) .
«وَقَدَّرَ الْأَرْزَاقَ فَكَثَّرَهَا وَقَلَّلَهَا وَقَسَّمَهَا عَلَى الضِّيقِ وَالسَّعَةِ فَعَدَلَ فِيهَا لِيَبْتَلِيَ مَنْ أَرَادَ بِمَيْسُورِهَا وَمَعْسُورِهَا وَلِيَخْتَبِرَ بِذَلِكَ الشُّكْرَ وَالصَّبْرَ مِنْ غَنِيِّهَا وَفَقِيرِهَا»(6) .
أهل الدنيا قليل صبرهم:
«وَيُقْلِقُكُمُ الْيَسِیرُ مِنَ الدُّنْيَا يَفُوتُكُمْ حَتَّى يَتَبَیَّنَّ ذَلِكَ فِي وُجُوهِكُمْ وَقِلَّةِ صَبْرِكُمْ عَمَّا زُوِيَ مِنْهَا عَنْكُمْ»(7) .
«الصَّبْرُ صَبْرَانِ صَبْرٌ عَلَی مَا تَكْرَهُ وَصَبْرٌ عَمَّا تُحِبُّ»(8) .
ص: 297
«وَاسْتَتِمُّوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَالمُحَافَظَةِ عَلَى مَا اسْتَحْفَظَكُمْ مِنْ كِتَابِهِ»(1) .
«العَمَلَ العَمَلَ، ثُمَّ النِّهايةَ النِّهايةَ، والاسْتِقامَةَ الاسْتِقامَةَ، ثُمَّ الصَّبْرَ الصَّبْرَ، والوَرَعَ الوَرَعَ»(2) .
ومن كلمه في الزهد:
«وَالتَّوَرُّعُ عِنْدَ المَحَارِمِ فَإِنْ عَزَبَ(3) ذَلِكَ عَنْكُمْ فَلَا يَغْلِبِ الَحْرَامُ صَبَرْكُمْ»(4) .
«فَمَنْ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَلْيَصِلْ بِهِ الْقَرَابَةَ ولْيُحْسِنْ مِنْهُ الضِّيَافَةَ ولْيَفُكَّ بِهِ الْأَسِیرَ والْعَانِيَ ولْيُعْطِ مِنْهُ الْفَقِیرَ والْغَارِمَ ولْيَصْبِرْ نَفْسَهُ عَلَى الْحُقُوقِ والنَّوَائِبِ ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ فَإِنَّ فَوْزاً بِهَذِهِ الْخِصَالِ شَرَفُ مَكَارِمِ الدُّنْيَا ودَرْكُ فَضَائِلِ الْآخِرَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ»(5) .
الصبر محمودة عواقبه:
ص: 298
المتقون: «صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِیرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً، تِجَارَةٌ مَرْبِحَةٌ، يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُم، أَرَادَتْهُمُ الْدُّنْيَا وَلَمْ يُرِيدُوهَا، وَأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أُنْفُسَهُمْ مِنْهَا»(1) .
«فَإِنْ أَتَاكُمُ اللهُ بِعَافِيَةٍ فَاقْبَلُوا وَإِنِ ابْتُلِيتُمْ فَاصْبِرُوا فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ»(2) .
من عبر المؤمنين:
«تَدَبَّرُوا أَحْوَالَ المَاضِینَ مِنَ المُؤْمِنِینَ قَبْلَكُمْ كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التَّمْحِيصِ وَالْبَلَاءِ أَ لَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَلَائِقِ أَعْبَاءً وَأَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلَاءً وَأَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالًا اتَّخَذَتْهُمُ الْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَجَرَّعُوهُمُ المُرَارَ فَلَمْ تَبْرَحِ الْحالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْهَلَكَةِ وَقَهْرِ الْغَلَبَةِ لَا يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاعٍ وَلَا سَبِيلًا إِلَی دِفَاعٍ حَتَّى إِذَا رَأَى اللهُ سُبْحَانَهُ جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ وَالِحْتِماَلَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلَاءِ فَرَجاً فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ وَالْأَمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً وَأَئِمَّةً أَعْلَاماً وَقَدْ بَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللهِ لَهُمْ مَا لَمْ تَذْهَبِ الْآمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ»(3) .
«لا يَعْدَمُ الصَّبُورُ الظَّفَرَ وإِنْ طالَ بِهِ الزَّمانُ»(4) .
«وَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله نَقْتُلُ آبَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا وَأَعْمَامَنَا مَا يَزِيدُنَا ذَلِكَ إِلَّا إيماناً وَتَسْلِيماً وَمُضِيّاً عَلىَ اللَّقَمِ(5) وَصَبرْاً عَلىَ مَضَضِ
ص: 299
الْأَلَمِ وَجِدّاً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ».
ثم عرض صورة الاستماتة والحرب الضروس بین المتحاربین المؤمنین والكافرين، ثم عقّب ذلك بقوله علیه السلام:
«فَلَمَّا رَأَى اللهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ حَتَّى اسْتَقَرَّ الْإسْلاَمُ مُلْقِياً جِرَانَهُ(1) وَمُتَبَوِّئاً أَوْطَانَهُ وَلَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ وَلَا اخْضَرَّ لِلْإيمان عُودٌ وأَيْمُ اللهِ لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَماً وَلَتُتْبِعُنَّهَا نَدَماً»(2) .
وله- سلام الله عليه- في هذا المعنى ما خاطب به الخوارج:
«وَإِنَّ الْقَتْلَ لَيَدُورُ عَلَى الْآباءِ وَالْأبْنَاءِ وَالْإخْوَانِ وَالْقَرَابَاتِ فَمَا نَزْدَادُ عَلَى كُلِّ مُصِيبَةٍ وَشِدَّةٍ إِلَّا إيماناً وَمُضِيّاً عَلَى الْحَقِّ وَتَسْلِيماً لِلْأَمْرِ وَصَبْراً عَلَى مَضَضِ الْجِرَاحِ»(3) .
التفاوت في التحمّل:
«وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ، وَأَكْرَهَ لِلْإِنْصَافِ، وَأَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الْإِعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ المَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ. وَإِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ المُسْلِمِينَ، وَالْعُدَّةُ لِلْأَعْدَاءِ، الْعَامَّةُ مِنَ الْأُمَّةِ، فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ(4) لُهَمْ،
ص: 300
وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ»(1) .
«وَلِكُلٍّ عَلَى الْوَالِي حَقٌ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ. وَلَيْسَ يَخْرُجُ الْوَالِي مِنْ حَقِيقَةِ مَا أَلْزَمَهُ اللهُ مِنْ ذلِكَ إِلاَّ بِالِاهْتِمامِ وَالاستعَانَةِ بِاللهِ، وَتَوْطِینِ نَفْسِهِ عَلَى لُزُومِ الْحَقَّ.
وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ فِيَما خَفَّ عَلَيْهِ أَوْ ثَقُلَ»(2) .
ومن سماة القاضي والحاكم:
«ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَیْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الْأُمُورُ... وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الْأُمُورِ»(3) .
«وَأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَكُنْ فِي ذلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً، وَاقِعاً ذلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وخَاصَّتِكَ حَيْثُ وَقَعَ، وَابْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا يَثْقُلُ عَلَيْكَ مِنْهُ، فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذلِكَ مَحْمُودَةٌ»(4) .
«وَلاَ يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْرٍ لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اللهِ، إلى طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَیْرِ الْحَقَّ، فَإنَّ صَبْرَكَ عَلَى ضِيقِ أَمْرٍ تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وَفَضْلَ عَاقِبَتِهِ، خَیْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخَافُ تَبِعَتَهُ»(5) .
ص: 301
حديث صبره- صلوات الله وسلامه عليه:
1- ملابسات الحكم والخلافة:
أ) «فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَیْنِ قَذًى وَفِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً»(1) .
ب) «فَصَبَرْتُ عَلَی طُولِ المُدَّةِ وَشِدَّةِ المِحْنَةِ»(2) .
ج) «فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي مُعِینٌ إِلَّا أَهْلُ بَيْتِي فَضَنِنْتُ بِهِمْ عَنِ المَوْتِ وأَغْضَيْتُ عَلَى الْقَذَى وشَرِبْتُ عَلَى الشَّجَا وصَبَرْتُ عَلَى أَخْذِ الْكَظَمِ وعَلَى أَمَرَّ مِنْ طَعْمِ الْعَلْقَمِ»(3) .
د) «اللَّهُمَّ إِنَّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَمَنْ أَعَانَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي وَأَكْفَئُوا إِنَائِي وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أَوْلَی بِهِ مِنْ غَیْرِي وَقَالُوا أَلَا إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وَفِي الْحَقِّ أَنْ تُمْنَعَهُ فَاصْبِرْ مَغْمُوماً أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي رَافِدٌ وَلَا ذَابٌّ وَلَ مُسَاعِدٌ إِلَّا أَهْلَ بَيْتِي فَضَنَنْتُ بِهِمْ عَنِ المَنِيَّةِ فَأَغْضَيْتُ عَلَى الْقَذَى وَجَرِعْتُ رِيقِي عَلَى الشَّجَا وَصَبَرْتُ مِنْ كَظْمِ الْغَيْظِ عَلَى أَمَرَّ مِنَ الْعَلْقَمِ وَآلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ وَخْزِ الشِّفَارِ»(4) .
ه) «إِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ تَمَالَئُوا عَلَى سَخْطَةِ إِمَارَتِي وَسَأَصْبِرُ مَا لَمْ أَخَفْ عَلَى
ص: 302
جَمَاعَتِكُمْ»(1) .
و) وفي جوابه لأخيه في ذكر جيش أنفذه إلى بعض الأعداء، وقد بثّ فيه همومه وعظيم بلائه وشديد محنته من قريش ومن مالأهم ووالاهم- تمثّل وقال:
«وَلَكِنَّهُ كَمَ قَالَ أَخُو بَنِي سَلِيمٍ:
فإِنْ تَسْأَلِينِي كَيْفَ أَنْتَ فَإِنَّنِي *** صَبُورٌ عَلَى رَيْبِ الزَّمَانِ صَلِيبُ
يَعِزُّ عَيلََّ أَنْ تُرَى بِي كَآبَةٌ *** فَيَشْمَتَ عَادٍ أَوْ يُسَاءَ حَبِيبُ»(2)
2- وفي عظيم رزئه بفقد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم:
أ) قال وهو يلي غسل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وتجهيزه:
«بِأَبِ أَنْتَ وَأُمَّي يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَیْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْإِنْبَاءِ وَأَخْبَارِ السَّماَءِ خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ وَعَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءً وَلَوْ لَا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ وَنَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ لَأَنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّئُونِ وَلَكَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلاً وَالْكَمَدُ مُحَالِفاً وَقَلَّا لَكَ وَلَكِنَّهُ مَا لَا يُمْلَكُ رَدُّهُ وَلَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ وَاجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ»(3) .
ب) «إِنَّ الصَّبْرَ لَجَمِيلٌ إِلَّا عَنْكَ وَإِنَّ الْجَزَعَ لَقَبِيحٌ إِلَّا عَلَيْكَ وَإِنَّ المُصَابَ بِكَ لَجَلِيلٌ وَإِنَّهُ قَبْلَكَ وَبَعْدَكَ لَجَلَلٌ»(4) .
ص: 303
3- وفي عظيم مصيبته ببضعة النبي السيدة الزهراء علیه السلام قال عند دفنها كالمناجي رسول الله صلی الله علیه و آله:
«السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهَّ عَنَّي وَعَنِ ابْنَتِكَ النَّازِلَةِ فِي جِوَارِكَ وَالسَّرِيعَةِ اللَّحَاقِ بِكَ قَلَّ يَا رَسُولَ اللهَّ عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي وَرَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِي إِلَّا أَنَّ فِي التَّأَسِّي لِي بِعَظِيمِ فُرْقَتِكَ وَفَادِحِ مُصِيبَتِكَ مَوْضِعَ تَعَزًّ... فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلَا عَنْ مَلَالَةٍ وَإِنْ أُقِمْ فَلَا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اللهُ الصَّابِرِينَ»(1) .
4- البشرى بالشهادة:
«فَقُلْتُ يَا رَسُولُ اللهِ أَ وَلَيْسَ قَدْ قُلْتَ لِي يَوْمَ أُحُدٍ حَيْثُ اسْتُشْهِدَ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ المُسْلِمِينَ وَحِيزَتْ عَنَّي الشَّهَادَةُ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيَّ فَقُلْتَ لِي أَبْشِرْ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِكَ فَقَالَ لِي إِنَّ ذَلِكَ لَكَذَلِكَ فَكَيْفَ صَبْرُكَ إِذاً فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ لَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاطِنِ الصَّبْرِ وَلَكِنْ مِنْ مَوَاطِنِ الْبُشْرَى وَالشُّكْرِ»(2) .
وبعد...
فهذا حديث الإمام علیه السلام في الصبر بثّه في كلمه، وأداره في متّسع شؤونه من حياة الإنسان فكرًا وعقيدة وعملاً وخلقًا وسمتًا، وهو يمثّل حكاية خلقه وسريرة ذاته وسیرة حياته سلمًا وحربًا وتربية لولاته ورعيته.
هذا وقد كان من دعائه علیه السلام ختام خطبه وشدائد خطوبه:
«أَخَذَ اللهُ بِقُلُوبِنَا وَقُلُوبِكُمْ إِلَی الْحَقَّ وَأَلْهَمَنَا وَإِيَّاكُمُ الصَّبْرَ»(3) .
ص: 304
«نِعْمَ الْقَرِينُ الرِّضَی»(1) .
وأعظم بها حكمة ناجعة، ومفردة جامعة، تختزن طيّها شعب الرضى في متنوع مواطنه، وكافة متعلقاته وشؤونه، فمهما تشعبت فهو محورها ومدارها تتمحور حوله فهو خدينها وأنعم به قريناً.
وهذا ما نقف عليه مبثوثاً في كلم الإمام علیه السلام ونسعى إلى استقصائه وايراده معنوناً.
الشهادة له:
«فَإِنَّها عَزيمَةُ الْايمان، وَفَاتِحَةُ الإحسان، وَمَرْضَاةُ الرَّحْمنِ»(2) .
ومن صفاته:
«يُجِبُّ وَيَرْضَی مِنْ غَيْرِ رِقَّةٍ، وَيُبْغِضُ وَيَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ»(3) .
الحمد له:
«اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا تَأْخُذُ وَتُعْطِي، وَعَلَى مَا تُعَافي وَتَبْتَلي.حَمْداً يَكُونُ
ص: 305
أَرْضَی الْحَمْدِ لَكَ»(1) .
«أَمْرُهُ قَضَاءٌ وَحِكْمَةٌ، وَرِضَاهُ أَمَانٌ وَرَحْمَةٌ، يَقْضِي بِعِلْمٍ، وَيَعْفُو بحِلْمٍ»(2) .
«وَلَمْ يَتْرُكْ شَيئاً رَضِيَهُ أَوْ كَرِهَهُ إِلاَّ وَجَعَلَ لَهُ عَلَماً بَادِياً، وَآيَةً مُحْكَمَةً، تَزْجُرُ عَنْهُ، أَوْ تَدْعُو إِلَيْهِ، فَرِضَاهُ فِيَما بَقِيَ وَاحِدٌ، وَسَخَطُهُ فِيَما بَقِيَ وَاحِدٌ. وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرْضَی عَنْكُمْ بِشَيءٍ سَخِطَهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُم، وَلَنْ يَسْخَطَ عَلَيْكُمْ بِشَىْءٍ رَضِيَهُ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّمَا تَسِیرُونَ فِي أَثَرٍ بَیَّنٍ، وَتَتَكَلَّمُونَ بِرَجْعِ قَولٍ قَدْ قَالَهُ الرِّجَالُ مِنْ قَبْلِكُمْ، قَدْ كَفَاكُمْ مَؤُونَةَ دُنْيَاكُمْ، وَحَثَّكُمْ عَلَى الشُّكْرِ، وَافْتَرَضَ مِنْ أَلْسِنَتِكُمُ الذِّكْرَ»(3) .
«إِنَّ مِنْ عَزَائِمِ اللهِ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ، الَّتِي عَلَيْهَا يُثِيبُ وَيُعَاقِبُ، وَلَهَا يَرْضَی وَيَسْخَطُ، أَنَّهُ لاَ يَنْفَعُ عَبْداً»(4) .
«وَأَوْصَاكُمْ بِالتَّقْوَى، وَجَعَلَهَا مُنْتَهَى رِضَاهُ، وَحَاجَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ»(5) .
«ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَهُ لُمِحَمَّد صلی الله علیه و آله و سلم(6) لِقَاءَهُ، وَرَضَيِ لَهُ مَا عِنْدَهُ، وأَكْرَمَهُ عَنْ
ص: 306
دَارِالدُّنْيَا»(1) .
«وَأَنْزَلَ عَلَيْكُمُ «الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيءٍ»، وَعَمَّرَ فِيكُمْ نَبِيَّهُ أَزْمَاناً، حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ وَلَكُمْ- فِيَما أنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ- دِينَهُ الَّذِي رَضِيَ لِنفْسِهِ»(2) .
«وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خَاضَ إلى رِضْوَانِ اللهِ كُلَّ غَمْرَةٍ(3) »)(4) .
«اجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِكَ، وَنَوَامِيَ بَرَكَاتِكَ، عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، الْخَاتمِ لِمَا سَبَقَ، وَالْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ، وَالمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ، وَالدَّافِعِ جَيْشَاتِ الْأَباطِيلِ، وَالدَّامِغِ صَوْلاَتِ الْأَضَالِيلِ، كَمَا حُّمَّلَ فَاضْطَلَعَ، قَائِماً بِأَمْرِكَ، مُسْتَوْفِزًا(5) فِي مَرْضَاتِكَ»(6) .
الأنبياء والأولياء:
«وَلكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ، وَرَضِيَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ»(7) .
«وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ الصَّفِيُّ، وَأَمِينُهُ الرَّضِيُّ صلی الله علیه و آله و سلم»(8) .
ص: 307
«وَأَتْمِمْ لَهُ نُورَهُ، وَاجْزِهِ مِنَ ابْتِعَاثِكَ لَهُ مَقبُولَ الشَّهَادَةِ، مَرْضِيَّ المَقالَةِ»(1) .
«جَعَلَهُمُ اللهُ فِيَما هُنَالِكَ أَهْلَ الْأَمَانَةِ عَلَى وَحْيِهِ، وَحَّمَلَهُمْ إلى المُرْسَلِينَ وَدَائِعَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَعَصَمَهُمْ مِنْ رَيْبِ الشُّبُهَاتِ، فَمَا مِنْهُمْ زَائِغٌ عَنْ سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ»(2) .
«جَعَلَ اللهُ فِيهِ مُنْتَهَى رِضْوَانِ»(3) .
ومما قاله وقد بلغه خبر الناكثين والمطالبين بدم عثمان:
«يَرْتَضِعُونَ أُمّاً قَدْ فَطَمَتْ، وَيُحْيُونَ بِدْعَةً قَدْ أُمِيتَتْ. يا خَيْبَةَ الدَّاعِي! مَنْ دَعَا! وَإِلاَمَ أُجِيبَ! وَإِنَّي لَرَاض بِحُجَّةِ اللهِ عَلَيْهِمْ وَعِلْمِهِ فِيهمْ»(4) .
الإمام علیه السلام:
في خطبة قالها بعد النهروان يذكر فيها فضائله وخلائقه:
«رَضِينَا عَنِ اللهِ قَضَاءَهُ، وَسَلَّمْنَا للهِ أَمْرَهُ»(5) .
ص: 308
المؤمنون المخلصون:
ومما قاله عند تلاوته: ««يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ والْصَالِ رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ» قَدْ حَفَّتْ بِهِمُ المَلاَئِكَةُ، وَتَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَفُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّماءِ، وَأَعِدَّتْ لَهُمْ مَقَاعِدُ الْكَرَامَاتِ، فِي مَقْعَدٍ اطَّلَعَ اللهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ، فَرَضِيَ سَعْيَهُمْ، وَحَمِدَ مَقَامَهُمْ»(1) .
«طُوبَى لَمِنْ ذَكَرَ المَعَادَ، وَعَمِلَ لِلْحِسَابِ، وَقَنِعَ بِالْكَفَافِ، ورَضِيَ عَنِ اللهِ»(2) .
المتقون:
««وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إلى الْجَنَّةِ زُمَرًا» قَدْ أُمِنَ الْعَذَابُ، وَانْقَطَعَ الْعِتَابُ، وَزُحْزِحُوا عَنِ النَّارِ، وَاطْمَأَنَّتْ بِهِمُ الدّارُ، وَرَضُوا المَثْوَى وَالْقَرَارَ»(3) .
السالك إلى الله:
«وَثَبَتَتْ رِجْلاَهُ بِطُمَأْنِينَةِ بَدَنِهِ فِي قَرَارِ الْأمْنِ وَالرَّاحَةِ، بِماَ اسْتَعْمَلَ قَلْبَهُ، وَأَرْضَی رَبَّهُ»(4) .
وفي خطبته العجيبة في وصف المتقین التي صعق بعد سماعها همّام صعقة كانت فيها نفسه: «وَلَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ! لاَ يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَلِهِمُ الْقَلِيلَ، وَلاَ
ص: 309
يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِیرَ. فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ، وَمِنْ أَعْمَلِهِمْ مُشْفِقُونَ»(1) .
الجهاد من دعائم الإيمان وهو على شعب:
«وَالْجِهَادُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ:... وَشَنَآنِ الْفَاسِقيِنَ... وَمَنْ شَنِىءَ الْفَاسِقِينَ وَغَضِبَ للهِ غَضِبَ اللهُ لَهُ وَأَرْضَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(2) .
«وَمَنْ رَضِيَ برِزْقِ اللهِ لَمْ يَحْزَنْ عَلَی مَا فَاتَهُ»(3) .
خباب بن الأَرَتَّ(4) :
ص: 310
«يَرْحَمُ اللهُ خَبَّابَ بْنَ الأَرَتَّ، فلَقَدْ أَسْلَمَ رَاغِبًا، وهَاجَرَ طَائِعًا، وقَنِعَ بِالْكَفَافِ، ورَضِيَ عَنْهُ اللهُ، وعَاشَ مُجَاهِدًا»(1) .
مالك الأشتر:
«فَرَحِمَهُ اللهُ! فَلَقَدِ اسْتَكْمَلَ أَيَّامَهُ، وَلاَقَى حِمَامَهُ، وَنَحْنُ عَنْهُ رَاضونَ، أَوْلَاهُ اللهُ رِضْوَانَهُ»(2) .
«وَخَالِفْ مَنْ خَالَفَ ذلِكَ إلى غَيْرِهِ، وَدَعْهُ وَمَا رَضِيَ لِنَفْسِهِ»(3) .
وقال في ذمّ العاصين من أصحابه:
«وَصَارَ دِينُ أَحَدِكُمْ لُعْقَةً عَلَى لِسَانِهِ، صَنِيعَ مَنْ قَدْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ، وَأَحْرَزَ رِضَی سَيدِّهِ»(4) .
«إِنَّهُ لاَ يَخْرُجُ إِلَيْكُمْ مِنْ أَمْرِي رِضىً فَتَرْضَوْنَهُ»(5) .
ص: 311
«أُفٍّ لَكُمْ! لَقَدْ سَئِمْتُ عِتَابَكُمْ! أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ عِوَضاً؟ وَبِالذُّلِّ مِنَ الْعِزِّ خَلَفاً؟»(1) .
«فقُبْحًا لَكُمْ وتَرَحًا، حِینَ صِرْتُمْ غَرَضًا يُرْمَى: يُغَارُ عَلَيكُمْ ولا تُغِیرُونَ، وتُغْزَونَ ولا تَغْزُونَ، ويُعْصَى اللهُ وتَرْضَونَ»(2) .
«فَلاَ تَعْتَبِرُوا الرِّضَی وَالسُّخْطَ بِالمَالِ وَالْوَلَدِ جَهْلاً بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ، وَالْختبار فِي مَوَاضِعِ الْغِنَى وَالْقتدار»(3) .
«الرَّاضِی بِفِعْلِ قَوْمٍ كَالدَّاخِلِ فِيهِ مَعَهُمْ، وَعَلَى كُلِّ دَاخِلٍ فِي بَاطِلٍ إِثْمَانِ: إِثْمُ الْعَمَلِ بِهِ، وَإِثْمُ الرِّضَی بِهِ»(4) .
«وَالنَّاسُ مَنْقوُصُونَ مَدْخُولُونَ إِلاَّ مَنْ عَصَمَ الله، سَائِلُهُمْ مُتَعَنَّتٌ، وَمُجِيبُهُمْ مُتَكَلَّفٌ، يَكَادُ أَفْضَلُهُمْ رَأْياً يَرُدُّهُ عَنْ فَضْلِ رَأْيِهِ الرِّضَی وَالسُّخْطُ»(5) .
«وَمَنْ نَظَرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ فَأَنْكَرَهَا ثُمَّ رَضِيَهَا لِنَفْسِهِ فذَاك الْأَحْمَقُ بِعَيْنِهِ»(6) .
«أَلاَ وَإِنَّ هذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي أَصْبَحْتُمْ تَتَمَنَّوْنَهَا وَتَرْغَبُونَ فِيهَا، وَأَصْبَحَتْ تُغْضِبُكُمْ وَتُرْضِيكُمْ، لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ»(7) .
ص: 312
الدنيا: «أَقْرَبُ دَارٍ مِنْ سَخَطِ اللهِ، وَأَبْعَدُهَا مِنْ رِضْوَانِ اللهِ!»(1) .
«لاَ تَعْدُو- إِذَا تَنَاهَتْ إلى أُمْنِيَّةِ أَهْلِ الرَّغْبَةِ فِيهَا وَالرِّضَاءِ بِهَا- أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَ سُبْحَانَهُ: «كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّماَءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلَّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً»»(2) .
7) ومن شؤون الرضى في جميل كلمه وبليغ حِكَمِه:
1- رَضِيَ بِالذُّلَّ مَنْ كَشَفَ ضُرَّهُ»(3) .
2- أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا يَجْمَعُ النَّاسَ الرِّضَی وَالسُّخْطُ. وَإِنَّمَا عَقَرَ نَاقَةَ ثَمُودَ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَعَمَّهُمُ اللهُ تَعَالَی بالْعَذَابِ لَّمَا عَمُّوهُ بالرَّضَی»(4) .
3- فَلَيْسَ أَحَدٌ- وَإنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَی اللهِ حِرْصُهُ، وَطَالَ فِي الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ- بِبَالِغٍ حَقِيقَةَ مَا اللهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ»(5) .
4- ومن كتاب له علیه السلام إلى معاوية بعد تمام البيعة له:
«وَإنَّماَ الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وَسَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذلِكَ للهِ رِضىً، فَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِهِمْ خَارِجٌ بِطَعْنٍ أَوْبِدْعَةٍ رَدُّوهُ إلى مَاخَرَجَ
ص: 313
مِنْهُ، فَإِنْ أَبَى قَاتَلُوهُ عَلَى اتَّبَاعِهِ غَیْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِینَ، وَوَلاَّهُ اللهُ مَا تَوَلَّی»(1) .
أقول:
والكتاب جلي في أهدافه بیّن في غرضه، فلم يكن المقام، ولا مقصد الإمام الاستدلال على إمامته والاحتجاج على حق خلافته، وإنما هو الإلزام كما جاء في صدر كلامه علیه السلام حيث قال:
«إِنَّما بَايَعَنِي القَوْمُ الذينَ بَايَعُوا أَبا بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمانَ على ما بَايَعُوهُمْ عليهِ، فلَمْ يَكُنْ للشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ، ولا لِلْغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ».
والمقام تولي الإمام الحكم، وقيامه بالأمر بعد إلحاح الأمة وانثيالها عليه، والاّ فإمامته الإلهية ثابتة بنص الله وتبليغ رسوله وقوله تعالى.
5- ومن وصيته الجليلة لولده الإمام الحسن علیه السلام:
«فَارْضَ بِهِ (النبي صلی الله علیه و آله و سلم) رَائِداً، وَإِلَی النَّجَاةِ قَائِدَاً»(2) .
«يَا بُنَيَّ اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيَما بَيْنَكَ وَبَیْنَ غَیْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَیْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلاَ تَظْلمِ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، واسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَیْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ»(3) .
ص: 314
6- ومن كتابه إلى محمد صلی الله علیه و آله و سلم بن أبي بكر:
«وَلاَ تُسْخِطِ اللهَ بِرِضَی أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، فَإِنَّ فِي اللهِ خَلَفاً مِنْ غَیْرِهِ، وَلَيْسَ مِنَ اللهِ خَلَفٌ فِي غَیْرِهِ»(1) .
7- وكتب إلى مالك الأشتر:
أ- «وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقَّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَی الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَی الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَی الْعَامَّةِ»(2) .
ب- «وَلاَ تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ للهِ فِيهِ رِضىً»(3) .
ج- «فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِي تُحِبُّ وتَرْضَی أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ»(4) .
8- وقال في شأن قلب الإنسان وتقلباته:
«وَإِنْ أَسْعَدَهُ الرَّضَی نَسِيَ التَّحَفُّظَ»(5) .
9- وَلاَ مَالَ أَذْهَبُ لِلْفَاقَةِ مَنَ الرِّضَی بِالْقُوتِ»(6) .
ص: 315
10- وقال في ذمّ الاختلاف وأهل الرأي:
«أَمْ أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ دِيناً نَاقِصاً فَاسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى إِتْمَامِهِ! أَمْ كَانُوا شُرَكَاءَ لَهُ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا وَعَلَيْهِ أَنْ يَرْضَی؟»(1) .
11- وكتب إلى الحارث الهمداني:
«وَاحْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ يَرْضَاهُ صَاحِبُهُ لِنَفْسِهِ، وَيُكْرَهُ لِعَامَّةِ المُسْلِمِينَ»(2) .
12- وعن الدنيا:
أ- «وَلَنِعْمَ دَارُ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا دَاراً»(3) .
ب- «إِنَّ اللهَ تَعَالَی لَمْ يَرْضَهَا ثَوَاباً لِأَوْلِيَائِهِ، وَلاَ عِقَاباً لِأَعْدَائِهِ»(4) .
13- أَغْضِ عَلَی الْقَذَى وَالْأَلَمِ تَرْضَ أَبَداً»(5) .
« لاَ يُخْدَعُ اللهُ عَنْ جَنَّتِهِ، وَلاَ تُنَالُ مَرْضَاتُهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ»(6) .
14- وبعد...
عبودية الإمام ودعاؤه:
ص: 316
«اللهُمَّ إِنِّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ تَحْسُنَ فِي لاَمِعَةِ الْعُيُونِ عَلاَنِيَتِي، وَتَقْبُحَ فِيَما أُبْطِنُ لَكَ سَرِيرَتيِ، مُحَافِظاً عَلَى رِيَاءِ النَّاسِ مِنْ نَفْسِيِ بِجَمِيعِ مَا أَنْتَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ مِنِّي، فَأُبْدِيَ لِلنَّاسِ حُسْنَ ظَاهِرِي، وَأُفْضِيِ إِلَيْكَ بِسُوءِ عَمَلِي، تَقَرُّباً إلى عِبَادِكَ، وَتَبَاعُداً مِنْ مَرْضَاتِكَ»(1) .
«وَبِي فَاقَةٌ إِلَيْكَ لاَ يَخْبُرُ مَسْكَنَتَهَا إِلاَّ فضْلُكَ، وَلاَ يَنْعَشُ مِنْ خَلَّتِهَا إِلاَّ مَنُّكَ وَجُودُكَ، فَهَبْ لَنَا فِي هذَا المَقَامِ رِضَاكَ، وَأَغْنِنَا عَنْ مَدِّ الْأَيْدِي إلى مَن سِوَاكَ، «إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(2) .
ص: 317
«ولاَ عِلْمَ كَالتَّفَكُّرِ»(1) .
«الْفِكْرُ مرْآةٌ صَافِيَةٌ»(2) .
وبجلاله يسمو الإنسان، وبفضله يمتاز، أكمل هبة وأكرم منحة وهبها ومنحها الله كرّم بها بني آدم ونفخها من روحه فهي من عالم اللطائف والنفس الرحماني والملأ الأعلى.
«فَجَبَلَ مِنْها صُورَةً ذَاتَ أَحْنَاءٍ ووُصُولٍ، وأَعْضَاءٍ وفُصُولٍ: أَجْمَدَهَا حَتَّى اسْتَمْسَكَتْ، وَأَصْلَدَهَا حَتَّى صَلْصَلَتْ، لِوَقْتٍ مَعْدُودٍ، وَأجَلٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ نَفَخَ فِيها مِنْ رُوحِهِ فَمَثُلَتْ إِنْساناً ذَا أَذْهَانٍ يُجيلُهَا، وَفِكَرٍ يَتَصَرَّفُ بِهَا، وجَوَارِحَ يَخْتَدِمُهَا، وأَدَوَاتٍ يُقَلِّبُهَا، ومَعْرِفَةٍ يَفْرُقُ بِهَا بَیْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ»(3) .
وكما هو ديدن الإمام وسجيته في استيفائه لما يُعنى بمعالجته فقد بث في متناثر خطبه وقصار كلمه نفائس فكره وذخائر هديه نقف على دقائق تلكم المعارف في مادة الفكر ومشتقاتها.
«المُنْشِىءُ أصْنَافَ الْأَشْيَاءِ بِلاَ رَوِيَّةِ فِكْرٍ آلَ إِلَيْهَا، وَلاَ قَريحَةِ غَرِيزَةٍ أَضْمَرَ
ص: 318
عَلَيْهَا، وَلاَ تَجْرِبَة أَفَادَهَا مِنْ حَوَادِثِ الدُّهُورِ»(1) .
«المُقَدَّرِ لِجَميِعِ الْأُمُورِ بِلاَ رَوِيَّةٍ وَلاَ ضَمِيرٍ»(2) .
«فَاعِلٌ لاَ بِاضْطِرَابِ آلَةٍ، مُقَدِّرٌ لاَ بِجَوْلِ فِكْرَةٍ»(3) .
«هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي إِذَا ارْتَمَتِ الْأُهَامُ لِتُدْرِكَ مُنْقَطَعَ قُدْرَتِهِ، وَحَاوَلَ الْفِكْرُ المُبَرَأُ مِنْ خَطَرَاتِ الْوَسَاوِسِ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ فِي عَمِيقَاتِ غُيُوبِ مَلَكُوتِهِ، وَتَوَلَّهَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ لِتَجْرِيَ فِي كَيْفِيَّةِ صِفَاتِهِ، وَغَمَضَتْ مَدَاخِلُ الْعُقُولِ في حَيْثُ لاَ تَبْلُغُهُ الصَّفَاتُ لِتَنَاوُلِ عِلْمَ ذَاتِهِ، رَدَعَهَا وَهِيَ تَجُوبُ مَهَاوِيَ سُدَفِ الْغُيُوبِ، مُتَخَلِّصَةً إِلَيْهِ -سُبْحَانَهُ- فَرَجَعَتْ إِذْ جُبِهَتْ، مُعتَرِفَةً بِأَنَّهُ لاَ يُنَالُ بِجَوْرِ الْإِعْتِسَافِ كُنْهُ مَعْرِفَتِهِ، وَلاَ تَخْطُرُ بِبَالِ أُولِ الرَّوِيَّاتِ خَاطِرَةٌ مِنْ تَقْدِيرِ جَلاَلِ عِزَّتِهِ»(4) .
«الْحَمْدُ للهِ الْعَلِيِّ عَنْ شَبَهِ المَخْلُوقِینَ، الْغَالِبِ لَمِقَالِ الْوَاصِفِینَ، الظَّاهِرِ بَعَجَائِبِ تَدْبِیرِهِ لِلنَّاظِرينَ، الْبَاطِنِ بِجَلاَلِ عِزَّتِهِ عَنْ فِكْرِ المُتَوَهَّمِینَ، الْعَالِمِ بَلاَ اكتساب وَلاَ ازْدِيَاد، وَلاَ عِلْمٍ مُسْتَفَادٍ»(5) .
«وَمَا الَّذِي نَرَى مِنْ خَلْقِكَ، وَنَعْجَبُ لَهُ مِنْ قُدْرَتِكَ، وَنَصِفُهُ مِنْ عَظِيمِ
ص: 319
سُلْطَانِكَ، وَمَا تَغَيَّبَ عَنَّا مِنْهُ، وَقَصُرَتْ أَبْصَارُنَا عَنْهُ، وَانْتَهَتْ عُقُولُنَا دُونَهُ، وَحَالَتْ سَوَاتِرُ الْغُيُوبِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ أَعْظَمُ. فَمَنْ فَرَّغَ قَلْبَهُ، وَأَعْمَلَ فِكْرَهُ، لِيَعْلَمَ كَيْفَ أَقَمْتَ عَرْشَكَ، وَكَيْفَ ذَرَأْتَ خَلْقَكَ، وَكَيْفَ عَلَّقْتَ فِي الْهَوَاءِ سمَاوَاتِكَ، وَكَيْفَ مَدَدْتَ عَلى مَوْرِ المَاءِ أَرْضَكَ، رَجَعَ طَرْفُهُ حَسِیراً، وَعَقْلُهُ مَبْهُوراً، وَسَمْعُهُ وَالَهِاً، وَفِكْرُهُ حَائِراً»(1) .
«وَإِنَّكَ أَنْتَ اللهُ الَّذِي لَمْ تَتَنَاهَ فِي الْعُقُولِ، فَتَكُونَ في مَهَبَّ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً، وَلاَ فِي رَوِيَّاتِ خَوَاطِرِهَا فَتَكُونَ مَخْدُوداً مُصَّرَفاً»(2) .
الملائكة الكرام:
«وَلَمْ تَطْمَعْ فِيهِمُ الْوَسَاوِسُ فَتَقْتَرعَ(3) بِرَيْنِهَا(4) عَلى فِكْرِهمْ»(5) .
والجملة من مقطع جليل- وكل خطبه جليلة- في وصف الملائكة وخلقهم وخلائقهم ووظائفهم، وهي عجيبة بديعة، فسبحان من وهبه فيض العلم وأقدره على كشف سره وإبراز مكنونه جوامع الكلم وفصل الخطاب فما أكمل الموهوب وأعظم الواهب.
ص: 320
الأولياء أهل الفكر:
«وَمَا بَرِحَ للهِ- عَزَّتْ آلاَؤهُ- فِي الْبُرْهَةِ بَعْدَ الْبُرْهَةِ، وَفِي أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ، عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِي فِكْرِهِمْ، وَكَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ، فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ يَقَظَة فِي الْأَبْصَارِ وَالْأَسْاَعِ وَالْأَفْئِدَةِ، يُذَكِّرُونَ بِأَيَّامِ اللهِ، وَيُخَوِّفُونَ مَقَامَهُ، بِمَنْزِلَةِ الْأَدِلَّةِ فِي الْفَلَوَاتِ، مَنْ أَخَذَ الْقَصْدَ حَمِدُوا إِلَيْهِ طَرِيقَهُ، وَبَشَّرُوهُ بِالنَّجَاةِ، وَمَنْ أَخَذَ يَمِيناً وَشِمَالاً ذَمُّوا إِلَيْهِ الطَّرِيقَ، وَحَذَّرُوهُ مِنَ الْهَلَكَةِ، وَكَانَوا كَذلِكَ مَصَابِيحَ تِلْكَ الظُّلُماَتِ، وَأَدِلَّةَ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ»(1) .
المؤمن:
«بَعِيدٌ هَمُّهُ، كَثِيرٌ صَمْتُهُ، مشْغولٌ وَقْتُهُ، شَكُورٌ صَبُورٌ، مغْمُورٌ بِفِكْرَتِهِ»(2) .
الإبداع في الخلق:
«انْظُرُوا إلى الَّنمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا، وَلَطَافَةِ هَيْئَتِهَا، لاَ تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ، وَلاَ بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ، كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا، وَصَبَتْ عَلَى رِزْقِهَا، تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إلى جُحْرِهَا، وَتُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرَّهَا. تَجْمَعُ فِي حَرَّهَا لِبَرْدِهَا، وَفِي وِرْدِهَا لِصَدَرِهَا، مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا، مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا، لاَ يُغْفِلُهَا المَنَّانُ، وَلاَ يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ، وَلَوْ فِي الصَّفَا الْيَابِسِ، وَالْحَجَرِ الْجَامِسِ! وَلَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أُكْلِهَا، وَفِي عُلْوهَا وَسُفْلِهَا، وَمَا فِي الجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا، وَمَا فِي الرَّأسِ مِنْ عَيْنِهَا وَأُذُنِهَا، لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً،
ص: 321
وَلَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً! فَتَعَالَی الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا، وَبَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا! لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ. وَلَمْ يُعِنْهُ عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ. وَلَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ، مَا دَلَّتْكَ الدَّلاَلَةُ إِلاَّ عَلَى أَنَّ فَاطِرَ الَّنمْلَةِ هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ»(1) .
هدي النبي صلی الله علیه و آله و سلم:
«فَأَفِقْ أَيُّهَا السَّامِعُ مِنْ سَكْرَتِكَ، وَاسْتَيْقِظْ مَنْ غَفْلَتِكَ، وَاخْتَصِرْ مِنْ عَجَلَتِكَ، وَأَنْعِمِ الْفِكْرَ فِيَما جَاءَكَ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صلی الله علیه و آله و سلم مِمَّا لاَبُدَّ مِنْهُ وَلاَ مَحِيصَ عَنْهُ، وَخَالِفْ مَنْ خَالَفَ ذلِكَ إلى غَیْرِهِ، وَدَعْهُ وَمَا رَضِيَ لِنَفْسِهِ»(2) .
الاستقامة والسلامة:
«وَلَوْ فَكَّروا فِي عَظِيمِ الْقُدْرَةِ، وَجَسِيمِ النِّعْمَةِ، لَرَجَعُوا إلى الطَّرِيقِ، وَخَافُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ، وَلكِنَّ الْقُلُوبَ عَلِيلَةٌ، وَالْأَبْصَارَ مَدْخُولَةٌ!»(3) .
عبرة التاريخ:
«أَيْ بُنَيَّ، إِنِّ وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمَّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ،وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ، حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنَّي بِماَ انْتَهَى إِلَیَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمَّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إلى آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذلِكَ مِنْ كَدَرِهِ، وَنَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْر نَخِيلَهُ، تَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَهُ،
ص: 322
وَصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ»(1) .
«واحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ المَثُلاَتِ بِسُوءِ الْأَفْعَالِ، وَذَمِيمِ الْأَعْمَالِ، فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَیْرِ وَالشَّرَّ أَحْوَالَهُمْ، وَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ. فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ، فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ حَالَهُمْ، وَزَاحَتِ الْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ، وَمُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَانْقَادَتِ النَّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ، وَوَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ مِنَ الْإِجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ، وَاللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ، وَالتَّحَاضِّ عَلَيْهَا، وَالتَّوَاصِي بِهَا. وَاجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ، وَأَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ، وَتَشَاحُنِ الصُّدُورِ، وتَدَابُرِ النُّفُوسِ، وَتَخَاذُلِ الْأَيْدِي. وَتَدَبَّرُوا أَحْوَالَ المَاضِینَ مِنَ المُؤمِنِینَ قَبْلَكُمْ، كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التَّمحِيصِ وَالْبَلاَءِ»(2) .
«وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ، أَنَّ أَحَبَّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِهِ إِلَيَّ مِنْ وَصِيَّتِي تَقْوَى اللهِ، وَالْإِقْتِصَارُ عَلَى مَا فَرَضَهُ اللهُ عَلَيْكَ، وَالْأخْذُ بِمَا مَضَى عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ مِنْ آبَائِكَ، وَالصَّالِحُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوا أَنْ نَظَرُوا لِأَنْفُسِهِمْ كَمَا أَنْتَ نَاظِرٌ، وَفَكَّرُوا كَمَا أَنْتَ مُفَكِّرٌ، ثُمَّ رَدَّهُمْ آخِرُ ذلِكَ إلى الْأَخْذِ بِمَا عَرَفُوا، والْإِمْسَاك عَمَّا لَمْ يُكَلَّفُوا»(3) .
«فَإنَّ أَيْقَنْتَ أَنْ قَدْ صَفَا قَلْبُكَ فَخَشَعَ، وَتَمَّ رَأْيُكَ وَاجْتَمَعَ، وَكَانَ هَمُّكَ فِي ذلِكَ هَمّاً وَاحِداً، فَانْظُرْ فِيَما فَسَّرْتُ لَكَ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعْ لَكَ مَا تُحِبُّ مِنْ نَفْسِكَ،وَفَرَاغِ نَظَرِكَ وَفِكْرِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّاَ تَخْبِطُ الْعَشْوَاءَ، وَتَتَوَرَّطُ الظَّلْمَاءَ، وَلَيْسَ
ص: 323
طَالِبُ الدِّينِ مَنْ خَبَطَ أَوْ خَلَّطَ، والْإِمْسَاكُ عَنْ ذلِكَ أَمْثَلُ»(1) . الجنة ونعيمها:
«فَلَوْ رَمَيْتَ بِبَصَرِ قَلْبِكَ نَحْوَ مَا يُوصَفُ لَكَ مِنْهَا لَعَزَفَتْ نَفْسُكَ عَنْ بَدَائِعِ مَا أُخْرِجَ إلى الدُّنْيَا مِنْ شَهَوَاتِهَا وَلَذَّاتِهَا، وَزَخَارِفِ مَنَاظِرِهَا، وَلَذَهِلَتْ بِالْفِكْرِ فِي اصطفاقِ أَشْجَارٍ غُيِّبَتْ عُرُوقُهَا فِي كُثْبَانِ المِسْكِ عَلَى سَوَاحِلِ أَنْهَارِهَا، وَفِي تَعْلِيقِ كَبَائِسِ اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ فِي عَسَالِيجِهَا وَأَفْنَانِهَا، وَطُلُوعِ تِلْكَ الِّثمارِ مُخْتَلِفَةً فِي غُلُفِ أَكْمَامِهَا، تُجْنَى مِنْ غَیْرِ تَكَلُّفٍ فَتأْتي عَلَى مُنْيَةِ مُجْتَنِيهَا، وَيُطَافُ عَلَى نُزَّالِهَا فِي أَفْنِيَةِ قُصُورِهَا بِالْأَعْسَالِ المُصَفَّقَةِ، وَالْخُمُورِ المُرَوَّقَةِ. قَوْمٌ لَمْ تَزَلِ الْكَرَامَةُ تَتَمادَى بهِمْ حَتَّى حَلُّوا دَارَ الْقَرَارِ، وَأَمِنُوا نُقْلَةَ الْأَسْفَارِ. فَلَوْ شَغَلْتَ قَلْبَكَ أَيُّهَا المُسْتَمِعُ بِالْوُصُولِ إلى مَا يَهْجُمُ عَلَيكَ مِنْ تِلْكَ المَنَاظِرِ المُونِقَةِ، لَزَهِقَتْ نَفْسُكَ شَوْقاً إِلَيْهَا، وَلَتَحَمَّلْتَ مِنْ مَجْلِسيِ هذَا إلى مُجَاوَرَةِ أَهْلِ الْقُبُورِ اسْتِعْجَالاً بِهَا. جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ يَسْعَى بِقَلْبِهِ إلى مَنَازِلِ الْأَبْرَارِ بِرَحْمَتِهِ»(2) .
فصل من خطبة غراء حفلت ببيان صفات المتقین والفاسقين وموقع عترة النبي وكمالهم وأنهم الحجج على الخلق وشطر من خلاله وخصاله ودوره في هداية الأمة بعلمه وخلقه- صلى الله على كمالاته.
وأعيد هنا ما قلته عن حديثه علیه السلام عن الملائكة وتلكم إنباءات غيب خُصّ بها فما أجل مواهبه التي لا تحصى.
ص: 324
«مَنْ أَكْثَرَ أَهْجَرَ، وَمَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ»(1) .
«رَحِمَ اللهُ امْرَأً تَفَكَّرَ فَاعْتَبَرَ، واعْتَبَرَ فَأَبْصَرَ»(2) .
«فَإِنَّمَا الْبَصِيرُ مَنْ سَمِعَ فَتَفَكَّرَ، وَنَظَرَ فَأَبْصَرَ، وَانْتَفَعَ بِالْعِبَرِ»(3) .
«فَاتَّقُوا اللهَ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ، وَأَنْصَبَ الْخَوْفُ بَدَنَهُ»(4) .
«فَلاَ تَسْتَعْمِلُوا الرَّأْيَ فِيَما لاَ يُدْرِكُ قَعْرَهُ الْبَصَرُ، وَلاَ تَتَغَلْغَلُ إِلَيْهِ الْفِكَرُ»(5) .
«اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ المَوْتِ وَحَسْرَةُ الْفَوْتِ، فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ، وَتَغَیَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ. ثُمَّ ازْدَادَ المَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً، فَحِيلَ بَیْنَ أَحَدِهِمْ وَبَیْنَ مَنْطِقِهِ، وَإِنَّهُ لَبَیْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ، وَيَسْمَعُ بِأُذُنِهِ، عَلَى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ، وَبَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ، يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمْرَهُ، وَفِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ! وَيَتَذَكَّرُ أَمْوَالاً جَمَعَهَا، أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا»(6) .
ص: 325
«إِنَّ أَغْنَى الْغِنَى الْعَقْلُ، وأَكْبَرُ الحُمْقِ الجَهْلُ»(1) .
«لاَ غِنَى كَالْعَقْلِ، وَلاَ فَقْرَ كَالَجْهْلِ»(2) .
«وقيل له علیه السلام: صف لنا العاقل. فقال علیه السلام: هُوَ الِّذِي يَضَعُ الشَّيْءَ مَوَاضِعَهُ.
فقيل: فصف لنا الجاهل. قال: قَدْ فَعَلْتُ»(3) .
والعقل قوام الإنسان، وجوهره الفريد، وبه امتاز عن سواه، ولولاه لفضل عليه غیره با أودع فيه من قوى.
والعقل يمثل الركيزة الأولى في إدراك الحقائق، والبرهان على إثبات العقائد والتمييز بن الحق والباطل.
ومن ثمّ كانت له المنزلة الأسمى فقال عنه الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم:
«والعقل أصل ديني»(4) ، كما وصف بأنه: «حجة باطنة»(5) .
وأنه مركز (الأمر والنهي) ومعقد (الثواب والعقاب)(6) .
ص: 326
والإمام علیه السلام بثّ في كلمه حديثاً مستفيضاً حول (العقل) ودوره وإعماله وإهماله وآفاته التي تميته وتودي به.
نقف على ذلك في استقرائنا والتقاطنا لدرره وغرره من (نهجه) -صلوات الله وسلامه عليه.
«لَمْ يُطْلِعِ الْعُقُولَ عَلَ تَحْدِيدِ صِفَتِهِ، ولَمْ يَحْجُبْهَا عَنْ وَاجِبِ مَعْرِفِتِهِ»(1) .
فالعقل وإن كان مظهر الإبداع وقمة الاختراع إلا أنه الممكن الموهوب فأنّى له الإحاطة بواجب الوجود، والوقوف على حدود صفاته،
أجل اقتضت حكمته أن يفسح له طرفاً يدرك به العقل خالقه، ويذعن لفاطره.
وما أجمل هذه الموازنة، وأبلغ المقارنة «لم يطلع، ولم يحجب».
«وَلاَتُقَدِّرْ عَظَمَةَ اللهِ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ فَتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِینَ. هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي إِذَا ارْتَمَتِ الْأُوهَامُ لِتُدْرِكَ مُنْقَطَعَ قُدْرَتِهِ، وَحَاوَلَ الْفِكْرُ المُبَّرَأُ مِنْ خَطَرَاتِ الْوَسَاوِسِ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ فِي عَمِيقَاتِ غُيُوبِ مَلَكُوتِهِ، وَتَوَلَّهَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ لِتَجْرِيَ فِي كَيْفِيَّةِ صِفَاتِهِ، وَغَمَضَتْ مَدَاخِلُ الْعُقُولِ في حَيْثُ لاَ تَبْلُغُهُ الصِّفَاتُ لِتَنَاوُلِ عِلْمَ ذَاتِهِ، رَدَعَهَا وَهِيَ تَجُوبُ مَهَاوِيَ سُدَفِ الْغُيُوبِ، مُتَخَلِّصَةً إِلَيْهِ- سُبْحَانَهُ-
ص: 327
فَرَجَعَتْ إِذْ جُبِهَتْ، مُعتَرِفَةً بِأَنَّهُ لاَ يُنَالُ بِجَوْرِ الْإِعْتِسَافِ كُنْهُ مَعْرِفَتِهِ، وَلاَ تَخْطُرُ بِبَالِ أُولِي الرَّوِيَّاتِ خَاطِرَةٌ مِنْ تَقْدِيرِ جَلاَلِ عِزَّتِهِ...
وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَبَرُّؤَ التَّابِعِینَ مِنَ المَتبُوعِینَ إِذْ يَقُولُونَ: «تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالَ مبُینِ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ» كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِكَ، إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ وَنَحَلُوكَ حِلْيَةَ المَخْلُوقِینَ بِأَوْهَامِهمْ، وَجَزَّأُوكَ تَجْزِئَةَ المُجَسَّماتِ بِخَوَاطِرِهِمْ، وَقَدَّرُوكَ عَلَى الْخِلْقَةِ المُخْتَلِفَةِ الْقُوَى، بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ...
وَإِنَّكَ أَنْتَ اللهُ الَّذِي لَمْ تَتَنَاهَ فِي الْعُقُولِ، فَتَكُونَ في مَهَبَّ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً، وَلاَ فِي رَوِيَّاتِ خَوَاطِرِهَا فَتَكُونَ مَحْدُوداً مُصَّرَفاً»(1) .
«الْحَمْدُ للهِ الَّذِي انْحَسَرَتِ الْأَوْصَافُ عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَتِهِ، وَرَدَعَتْ عَظَمَتُهُ الْعُقُولَ، فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغاً إلى بُلُوغِ غَايَةِ مَلَكُوتِهِ! هو اللهُ الْحَقُّ المُبِینُ، أَحَقُّ وَأَبْیَنُ مِمَّا تَرَى الْعُيُونُ، لَمْ تَبْلُغْهُ الْعُقُولُ بِتَحْدِيدٍ فَيَكُونَ مُشَبَّهاً، وَلَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ الْأَوْهَامُ بِتَقْدِيرٍ فَيَكُونَ مُمَثَّلاً»(2) .
وقال ضمن توصيفه العجيب لخلقة الطاووس:
«فَكَيْفَ تَصِلُ إلى صِفَةِ هذَا عَمَائِقُ الْفِطَنِ، أَوْ تَبْلُغُهُ قَرَائِحُ الْعُقُولِ، أَوْ تَسْتَنْظِمُ وَصْفَهُ أَقْوَالُ الْوَاصِفِینَ! وَأَقَلُّ أَجْزَائِهِ قَدْ أَعْجَزَ الْأَوهَامَ أَنْ تُدْرِكَهُ، وَالْأَلْسِنَةَ أَنْ تَصِفَهُ! فَسُبْحَانَ الَّذِي بَهَرَ الْعُقُولَ عَنْ وَصْفِ خَلْقٍ جَلاَّهُ لِلْعُيُونِ، فَأَدْرَكَتْهُ مَحْدُوداً
ص: 328
مُكَوَّناً، وَمُؤَلَّفاً مُلَوَّناً»(1) .
وقال في عجز الخلق عن إحداث شيء من الخلق:
«وَلَوْ اجْتَمَعَ جَمِيعُ حَيَوانِهَا مِنْ طَيْرِهَا وَبَهَائِمِهَا، ومَا كَانَ مِنْ مُرَاحِهَا وَسَائِمِهَا، وَأَصْنَافِ أَسْنَاخِهَا وَأَجْنَاسِهَا، وَمُتَبَلِّدَةِ أُمَمِهَا وَأَكْيَاسِهَا، عَلَى إِحْدَاثِ بَعُوضَةٍ، مَا قَدَرَتْ عَلَى إِحْدَاثِهَا، وَلاَ عَرَفَتْ كَيْفَ السَّبِيلُ إلى إِيجَادِهَا، وَلَتَحَیَّرَتْ عُقُولُهَا فِي عِلْمِ ذلِكَ وَتاهَتْ، وَعَجِزَتْ قُوَاهَا وَتَنَاهَتْ، وَرَجَعَتْ خَاسِئَةً حَسِیرَةً، عَارِفَةً بِأَنَّهَا مَقْهُورَةٌ، مُقِرَّةً بِالْعَجْزِ عَنْ إِنْشَائِهَا، مُذْعِنَةً بِالضَّعْفِ عَنْ إفْنَائِهَا!»(2) .
«وَمَا الَّذِي نَرَى مِنْ خَلْقِكَ، وَنَعْجَبُ لَهُ مِنْ قُدْرَتِكَ، وَنَصِفُهُ مِنْ عَظِيمِ سُلْطَانِكَ، وَمَا تَغَيَّبَ عَنَّا مِنْهُ، وَقَصُرَتْ أَبْصَارُنَا عَنْهُ، وَانْتَهَتْ عُقُولُنَا دُونَهُ، وَحَالَتْ سَوَاتِرُ الْغُيُوبِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ أَعْظَمُ. فَمَنْ فَرَّغَ قَلْبَهُ، وَأَعْمَلَ فِكْرَهُ، لِيَعْلَمَ كَيْفَ أَقَمْتَ عَرْشَكَ، وَكَيْفَ ذَرَأْتَ خَلْقَكَ، وَكَيْفَ عَلَّقْتَ فِي الْهَوَاءِ سماَوَاتِكَ، وَكَيْفَ مَدَدْتَ عَلى مَوْرِ الَماءِ أَرْضَكَ، رَجَعَ طَرْفُهُ حَسِیراً، وَعَقْلُهُ مَبْهُوراً، وَسَمْعُهُ وَالَهِاً، وَفِكْرُهُ حَائِراً»(3) .
«بَلْ ظَهَرَ لِلْعُقُولِ بِمَا أَرَانَا مِنْ عَلاَمَاتِ التَّدْبِيرِ المُتْقَنِ، وَالْقَضَاءِ المُبْرَمِ»(4) .
وليس هذا الظهور بمدرك على حقيقته وكنهه بل بما تعلق بالفعل (ظهر)، وهو بما أرانا من علامات، وقد قرر علیه السلام أن هذه المشاهدة للمخلوق المعاين
ص: 329
المحسوس الملموس لم تمكن من القدرة على وصفه فضلاً عن الإحاطة به وإدراك حقيقته، فهي عن إدراك الخالق المتعال أضعف قدرة وأكثر عجزاً.
وعلى هذا النحو جاء قوله علیه السلام: «لاَ يُشْمَلُ بِحَدٍّ، وَلاَ يُحْسَبُ بِعَدٍّ، وَإِنَّمَا تَحُدُّ الْأَدَوَاتُ أَنْفُسَهَا، وَتُشِیرُ الْآلَاتُ إلى نَظَائِرِهَا، مَنَعَتْهَا (مُنْذُ) الْقِدْمَةَ، وَحَمَتْهَا (قَدُ) الْأَزَلِيَّةَ، وَجَنَّبَتْهَا (لَوْلاَ) التَّكْمِلَةَ! بِهَا تَجلَّى صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ»(1) .
«الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَظْهَرَ مِنْ آثَارِ سُلْطَانِهِ، وَجَلاَلِ كِبْرِيَائِهِ، مَا حَيَّرَ مُقَلَ الْعُقُولِ مِنْ عَجَائِبِ قُدرَتِهِ، وَرَدَعَ خَطَرَاتِ هَمَاهِمِ النُّفُوسِ عَنْ عِرْفَانِ كُنْهِ صِفَتِهِ»(2) .
وحتى الملائكة:
«بَلْ إِنْ كُنْتَ صَادِقاً أَيُّهَا المُتَكَلِّفُ لِوَصْفِ رَبِّكَ، فَصِفْ جَبْرَئيلَ وَمِيكَائِيلَ وَجُنُودَ المَلاَئِكَةِ المُقَرَّبِینَ، فِي حُجُراتِ الْقُدُسِ مُرْجَحِنَّینَ(3) ، مُتَوَلَهَّةً عُقُولُهُمْ أَنْ يُحَدُّوا أَحْسَنَ الْخَالِقینَ. فَإنَّمَا يُدرَكُ بِالصِّفَاتِ ذَوُوالْهَيْئَاتِ وَالْأَدوَاتِ، وَمَنْ يَنْقَضِيِ إِذَا بَلَغَ أَمَدَ حَدِّهِ بِالْفَنَاءِ. فَلاَ إلهَ إلاَّ هُوَ»(4) .
الملائكة:
ص: 330
«لاَ يَغْشَاهُمْ نَوْمُ العُيُونِ، وَلاَ سَهْوُ العُقُولِ، وَلاَ فَتْرَةُ الْأَبْدَانِ، ولاَ غَفْلَةُ النِّسْيَانِ»(1) .
الأنبياء:
«وَاصْطَفى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدِهِ(2) أَنْبيَاءَ أَخَذَ عَلىَ الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ، وَعَلىَ تَبْليغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ، لَّما بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللهِ إِلَيْهِمْ، فَجَهِلُوا حَقَّهُ، واتَّخَذُوا الْأَنْدَادَ مَعَهُ، وَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرفَتِهِ، وَاقتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَبَعَثَ فِيهمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِياءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بَالتَّبْلِيغِ، وَيُثِیرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ»(3) .
آل محمد صلی الله علیه و آله و سلم:
«عَقَلُوا الدِّينَ عَقْلَ وِعَايَةٍ وَرِعَايَةٍ، لاَ عَقْلَ سَمَاعٍ وَرِوَايَةٍ. فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ كَثِیرٌ، وَرُعَاتَهُ قَلِيلٌ»(4) .
«وَمَا بَرِحَ للهِ- عَزَّتْ آلاَؤهُ- فِي الْبُرْهَةِ بَعْدَ الْبُرْهَةِ، وَفِي أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ، عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِي فِكْرِهِمْ، وَكَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ، فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ يَقَظَة فِي الْأَبْصَارِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَفْئِدَةِ، يُذَكِّرُونَ بِأَيَّامِ اللهِ، وَيُخَوَّفُونَ مَقَامَهُ، بِمَنْزِلَةِ الْأَدِلَّةِ فِي الْفَلَوَاتِ»(5) .
ص: 331
والمقطع من كلام له علیه السلام قال عند تلاوته: «يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ».
والنص وإن لم يكن معنوناً ب (آل محمد) إلا أنهم مصداقه الأكمل إن لم يكن المنفرد، فهم هداة السادة وسادة الهداة.
والتأمل في مفردات كلامه علیه السلام ولا سيما في: «نَاجَاهُمْ فِي فِكْرِهِمْ، وَكَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ» يؤكد ويحدد أنهم المعنيون أولاً بالذات، وإن يكن ثمت سواهم فبالتبع والاقتداء.
الإمام علي علیه السلام: «مَا لِعَلِيّ وَلِنَعِيمٍ يَفْنَى، وَلَذَّةٍ لاَ تَبْقَى! نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ، وَقُبْحِ الزَّلَلِ، وَبِهِ نَسْتَعِينُ»(1) .
«الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يُصبِحْ بِي مَيَّتاً... وَلاَ مُرْتَدّاً عَنْ دِينِي، وَلاَ مُنْكِراً لِرَبَّي، وَلاَ مُسْتَوْحِشاً مِنْ إيماني، وَلاَ مُلْتَبِساً عَقْلِي»(2) .
السالك إلى الله:
«قَدْ أَحْيَا عَقْلَهُ، وَأَمَاتَ نَفْسَهُ... وَبَرَقَ لَهُ لاَمِعٌ كَثِیرُ الْبَرْقِ، فَأَبَانَ لَهُ الطَّرِيقَ، وَسَلَكَ بِهِ السَّبِيلَ، وَتَدَافَعَتْهُ الْأَبْوَابُ إلى بَابِ السَّلاَمَةِ، وَدَارِ الْإِقَامَةِ، وَثَبَتَتْ رِجْلاَهُ بِطُمَأْنِينَةِ بَدَنِهِ فِي قَرَارِ الْأَمْنِ وَالرَّاحَةِ، بِمَا اسْتَعْمَلَ قَلْبَهُ، وَأَرْضَی
ص: 332
رَبَّهُ»(1) .
التقيّ المراقب:
«فَاحْذَروُا، عِبَادَاللهِ، حَذَرَ الْغَالِبِ لِنَفْسِهِ، المَانِعِ لِشَهْوَتِهِ، النَّاظِرِ بِعَقْلِهِ»(2) .
فاعتدّ الإمام علیه السلام الناظر بعقله ممن وعى واتقى، فهو دليل كمال عقله، وسيماء شرفه وفضله.
أهل الجاهلية:
«وَلاَ تَكُونُوا كَجُفَاةِ الْجَاهِلِيَّةِ: لاَ في الدِّينِ يَتَفَقَّهُونَ، وَلاَ عَنِ اللهِ يَعْقِلُونَ، كَقَيْضِ(3) بَيْضٍ في أَدَاحٍ(4) يَكُونُ كَسْرُهَا وِزْراً، وَيُخرِجُ حِضَانُهَا شَّراً»(5) .
معاوية:
«وَإِنَّكَ وَالله مَا عَلِمْتُ الْأَغْلَفُ الْقَلْبِ، المُقارِبُ(6) الْعَقْلِ»(7) .
ص: 333
«وَلَعَمْرِي، يَا مُعَاوِيَةُ، لَئِنْ نَظَرْتَ بِعَقْلِكَ دُونَ هَوَاكَ لَتَجِدَنَّي أَبْرَأَ النَّاسِ مِنْ دَمِ عُثْمانَ، وَلَتَعْلَمَنَّ أَنَّي كُنْتُ فِي عُزْلَةٍ عَنْهُ، إِلاَّ أَنْ تَتَجَنَّى؛ فَتَجَنَّ مَا بَدَا لَكَ! وَالسَّلاَمُ»(1) .
المتخاذلون عن الجهاد:
«يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلاَ رِجَالَ! حُلُومُ الْأَطْفَالِ، وَعُقُولُ رَبّاتِ الحِجَالِ»(2) .
«أُفٍّ لَكُمْ! لَقَدْ سَئِمْتُ عِتَابَكُمْ! أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ عِوَضاً؟ وَبِالذُّلِّ مِنَ الْعِزِّ خَلَفاً؟ إِذَا دَعَوْتُكُمْ إلى جِهَادِ عَدُوِّكُمْ دَارَتْ أَعْيُنُكُمْ، كَأَنَّكُمْ مِنَ المَوْتِ فِي غَمْرَةٍ، وَمِنَ الذُّهُولِ في سَكْرَةٍ، يُرْتَجُ(3) عَلَيْكُمْ حَوَارِي(4) فَتَعْمَهُونَ(5) ، فَكَأَنَّ قُلُوبَكُمْ مَأْلُوسَةٌ(6) ، فَأَنْتُمْ لَا تَعْقِلُونَ»(7) .
وفي أهل البصرة بعد وقعة الجمل:
«أَرْضُكُمْ قَرِيبَةٌ مِنَ الَماءِ، بَعِيدَةٌ مِنَ السَّماءِ، خَفَّتْ عُقُولُكُمْ، وَسَفِهَتْ
ص: 334
حُلُومُكُمْ، فَأَنْتُمْ غَرَضٌ لِنَابِلٍ، وَأُكْلَةٌ لِآكِلٍ، وَفَرِيسَةٌ لِصائِلِ»(1) .
وفي مخالفي أمره المتقاعدين عن نصرته:
«أَيُّهَا الْقَوْمُ الشَّاهِدةُ أَبْدَانُهُمْ، الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ، المُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ، المُبْتَلَی بِهمْ أُمَرَاؤُهُمْ... يَا أَشْبَاهَ الْإِبِلِ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا!»(2) .
عشاق الدنيا:
«أَوَلَيْسَ لَكُمْ في آثَارِ الْأَوَّلِینَ مُزْدَجَرٌ، وَفِي آبَائِكُمُ المَاضِینَ تَبْصِرَةٌ وَمُعْتَبَرٌ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ!»(3) .
«وَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَى مِنْ إِخْلاَدِ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَيْهَا، وَتَكَالُبِهِمْ عَلَيْهَا، فَقَدْ نَبَّأَكَ اللهُ عَنْهَا، وَنَعَتْ لَكَ نَفْسَهَا، وَتَكَشَّفَتْ لَكَ عَنْ مَسَاوِيهَا، فَإِنَّمَا أَهْلُهَا كِلاَبٌ عَاوِيَةٌ، وَسِبَاعٌ ضَارِيَةٌ، يَهِرُّ(4) بَعْضُهَا بَعْضاً، يَأْكُلُ عَزِيزُهَا ذَلِيلَهَا، وَيَقْهَرُ كَبِيُرهَا صَغِيرَهَا، نَعَمٌ مُعَقَّلَةٌ(5) ، وَأُخْرَى مُهْمَلَةٌ، قَدْ أَضَلَّتْ عُقُولَهَا، رَكِبَتْ مْجَهُولَهَا،
ص: 335
سُرُوحُ عَاهَةٍ(1) بِوَادٍ وَعْثٍ(2) ، لَيْسَ لَهَا رَاع يُقيِمُهَا، وَلَا مُسِيمٌ(3) يُسِيمُهَا، سَلَكَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعَمَى، وَأخَذَتْ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ مَنَارِ الْهُدَى، فَتاهُوا فِي حَيْرَتِهَا، وَغَرِقُوا فِي نِعْمَتِهَا، وَاتَّخَذُوهَا رَبّاً، فَلَعِبَتْ بِهِمْ وَلَعِبُوا بِهَا، وَنَسُوا مَا وَرَاءَهَا»(4) .
النساء:
«إِنَّ النِّسَاءَ نَوَاقِصُ الْيمان، نَوَاقِصُ الْحُظُوظِ، نَوَاقِصُ الْعُقُولِ: فَأَمَّا نُقْصَانُ إيمانهِنَّ فَقُعُودُهُنَّ عَنِ الصَّلاةِ وَالصَّيَامِ فِي أَيَّامِ حَيْضِهِنَّ، وَأَمَّا نُقْصَانُ عُقُولِهِنَّ فَشَهَادَةُ امْرَأَتَیْنِ مِنْهُنّ كَشَهَادَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ، وَأَمَّا نُقْصَانُ حُظُوظِهِنَّ فَمَوَارِيثُهُنَّ عَلَى الْإِنْصَافِ مِنْ مَوارِيثِ الرِّجَالِ؛ فَاتَّقُوا شِرَارَ النِّسَاءِ، وَكُونُوا مِنْ خِيَارِهِنَّ عَلَى حَذَرٍ، وَلاَتُطِيعُوهُنَّ فِي المَعْرُوفِ حَتَّى لاَ يَطْمَعْنَ فِي المُنكَرِ»(5) .
«ولاَ تَهِيجُوا النَّسَاءَ بِأَذىً، وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ، وَسَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ، فَإِنَّهُنَّ ضَعِيفَاتُ الْقُوَى والأَنْفُسِ وَالْعُقُولِ، إِنْ كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالْكَفِّ عَنْهُنَّ وَإِنَّهُنَّ لُمشْرِكَاتٌ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَنَاوَلُ المَرْأَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْفَهْرِ(6) أَوِ الِهْرَاوَةِ(7) فَيُعَیَّر بِهَا وَعَقِبُهُ مِنْ
ص: 336
بَعْدِهِ»(1) .
إضاءة:
المقطع الأول «إِنَّ النِّسَاءَ نَوَاقِصُ الْيمان» كان من خطبة خطبها علیه السلام بعد فراغه من حرب الجمل.
والمقطع الثاني «ولاَ تَهِيجُوا النِّسَاءَ بِأَذىً» كان قبل لقائه عدوه بصفین، فلهما ارتباط بالحرب قبل وبعد.
أ) وقد كان للمرأة في المعركة الأولى الدور القيادي، (فعائشة) ربة الجمل ولها أنصار من شاكلتها من النساء، وأتباع من الرجال تربطها وبعضهم وشيجة القربى، وفيهم من غيرهم من صحبوا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وعاشوا حياته دهراً.
وقد غصّ التاريخ بما أفرزته تلكم الوقعة من فجائع وفضائع وعداء وتحزّب وولاء.
وقد تجلى في ذلكم الخطب ما يحمله ابن أبي طالب علیه السلام من ملكات وخلائق، وكلها فرائد من مواهبه وامتيازاته.
وقد حكى بعض ما جرى، كما حكى خلقه الأعلى قوله علیه السلام:
«وَأَمَّا فُلَنَةُ فَأَدْرَكَهَا رَأْيُ النِّسَاءِ، وَضِغْنٌ غَلَا فِي صَدْرِهَا كَمِرْجَلِ الْقَیْنِ، وَلَوْ دُعِيَتْ لِتَنَالَ مِنْ غَیْرِي مَا أَتَتْ إِلَيَّ لَمْ تَفْعَلْ، وَلَهَا بَعْدُ حُرْمَتُهَا الْأُولَی، وَالْحِسَابُ
ص: 337
عَلَى اللهِ تَعَالَی»(1) .
فلا غرو لو جهر الإمام وأعلن للملأ رأيه في خلل القيادة التي عصفت بالأمة فألقتها في حرب أتت على أخضرها ويابسها.
وإذا ما صنفنا كلم الإمام ألفيناه يدور في محاور تولى علیه السلام شرحها وإيضاحها.
1) نقص الإيمان:
وليس الحديث عن الإيمان بالله ودينه، وإنما عن أمر عارض به خُصِصْنَ، وقضت به طبيعتهن، فهن آنذاك لا يقمن بأداء الفريضتین، وتلك حقيقة قائمة.
2) نقص العقل:
وقد تمثل أيضاً في أمر شرعي يعود كذلك إلى طبيعة نوعية في المرأة أو هو نتيجة الإذعان إلى حكم الخالق الحكيم المبدع الذي فاوت بن الصنفین كما فاوت في مواطن قبول شهادتين وردها وأنحاء ذلك مما أملته الشريعة من أحكام في هذا الشأن.
وليس القصد- و الله أعلم- أن كل رجل أكمل عقلاً وأتم ذكاءً من كل امرأة.
3) نقص الحظوظ:
ص: 338
فعلى شاكلتهما، وقد جرى تقسيم مواريثهن من لدن شرع ذلك لهن، كما مايز بينهن وبین الرجال في كثیر من التشريعات والأحكام فألقى بثقل المرأة الزوجة في نفقاتها على الرجل الزوج.
وقد عُني الباحثون بدراسة ذلك وتحليله ومقارنته فتجلى لهم دقة تشريع العليم الحكيم.
ومنطق المؤمن من منطلقه بالتسليم المطلق لمن خلق الطبيعة ووضع الشريعة فهو الحكم العدل والحكيم الرحيم والمربي القويم سواء لاح لنا من وجهه الحكمة أو بارق لامع.
وبعد...
فالإمام علیه السلام في تلكم الشؤون حاكٍ لحكم الله، ومبلغٌ لقوله، أمين.
4) شرارهن:
كما يتقى شر الرجال، وقد تفقأت (الجمل) شرًّا في العسكر(1) وقيادته.
5) خيارهن:
وليس في الأمر أو النهي إلا الحذر، وهو الإشارة إلى الحيطة، وإلفات إلى الإلتفات إلى بواعث ونوازع الخيار فربما اختلط عليهن الواقع فحسبن ما ليس بخیر خیراً، وما ليس بصلاح صلاحًا.
ص: 339
والنص يحمل في طياته وصفاً لهن بالخیر، وإن نص على الحيطة، فمن سلكه فليس بناكب عن الصراط.
ومن الدقة والانضباط عدم الانسياق إلى طاعة (خيارهن) ولو قلن معروفاً فيسترسلن في الأمر والنهي، ولا يعني ذلك ترك المعروف وتعطيله، وإنما التنبيه على تحكيمهن وإيكال الأمر إليهن.
وما ذلك كله إلا أن المرأة بطبع تكوينها مخلوق لطيف تطفح في دنياه العواطف، وتغلب عليه الرقة فيتقهقر العقل ويضعف أمام ذلك.
وهذه الجَّبلة موظفة لما ينسجم وطبيعتها، وما أعدت تكويناً لأجله ومن ثم فهي تقوى في ذلك عمّا يضعف عنه الرجل.
وبعد...
فالإمام علیه السلام انطلق في فكره وقوله من علمه بحقائق التكوين والتشريع ولم يكن باعث القول حول المرأة موقفه من عائشة وإن كان ذلك داعياً.
هذا ويجب أن لا نغفل قوانین الدين وتشريعاته ومقاييس التفاضل في الإيمان والعمل ومكافأة الأعمال سيان في ذلك الذكر والأنثى.
فليس في شرعة الحق ودستور العدل إكرام للرجل لإنه رجل، وتوهین للمرأة لأنها امرأة، إن ذلك بخس وغمط للحق، وضلال مبین.
وحياة البشر تكشف تفاوتهم وتمايزهم وإمتيازهم، وما أعظمه مقياساً، وأجله نبراسًا قول الحق- جل وعلا-: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ
ص: 340
وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِیر»(1) .
ب) وأما النص الثاني فهو الحث على الإرفاق ومنطلقه الاشفاق، وباعثه اللطف بالنساء ومعاملتهن بالحسنى وإن أسأن وأثرن الحفائظ بشتم الأعراض وسب الأمراء، فإنه ينطلق من ضعف القوى، ووهن الأنفس، وغلبة العاطفة على العقول.
ويتسامى النص في روحه، ويتعالى في جوهره فيقرر بأن الإسلام أمر بالكف والإعراض والتجاوز عنهن، وهن مشركات، فكيف بالمسلمات حتى لو تجاوزن الحدود، وغلبتهن العواطف.
ويقرر ويعمق ركيزة العفو والصفح عنهن بنحو لا يجوز إغفاله فله سلبياته الإجتماعية حيث يلحق العار وسوء الذكر لمن خالفه بل ويمتد إلى عقبه فيبقى وصمة عار وتبعة تبقى في العقب والأجيال.
وبعد...
فإن من الضروري لمعالجة أي موضوع إستقراء كامل نصوصه ودراسة ركائزه ومنطلقاته وسائر ملابساته حتى نقف على الحقيقة فيه، ولا يتأتى مثل ذلك بدراسة جزئية وإغفال أخرى.
وعى هذا الهدي تقرأ النصوص الأخرى كالتي وردت في وصية الإمام لابنه
ص: 341
الإمام الحسن علیه السلام(1) .
اقتضاء التركيبة:
«إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمْ مَبَادِىءُ طِينِهِمْ، وَذلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِلْقَةً مِنْ سَبَخِ أَرْضٍ وعَذْبِهَا، وَحَزْنِ تُرْبَةٍ وَسَهْلِهَا، فَهُمْ عَلَى حَسَبِ قُرْبِ أَرْضِهِمْ يَتَقَارَبُونَ، وَعَلَى قَدْرِ اخْتِلاَفِهَا يَتَفَاوَتُونَ، فَتَامُّ الرُّوَاءِ(2) نَاقِصُ الْعَقْلِ»(3) .
الأمل:
«وَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَمَلَ يُسْهِي الْعَقْلَ، وَيُنْسِي الذَّكْرَ»(4) .
الهوى:
«قَاتِلْ هَوَاكَ بِعَقْلِكَ»(5) .
«إذَا وَقَعَ الْأَمْرُ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ «وَخَسِرَ هُنَالِكَ المُبْطِلُونَ» شَهِدَ عَلَى ذلِكَ الْعَقْلُ إِذَا خَرَجَ مِنْ أَسْرِ الْهَوَى، وَسَلِمَ مِنْ عَلاَئِقِ الدُّنْيَا»(6) .
ص: 342
«وَكَمْ مِنْ عَقْلٍ أَسِيرٍ تَحْتَ هَوَى أَمِيرٍ!»(1) .
العشق:
«وَمَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ، وَأَمْرَضَ قَلْبَهُ، فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَیْن غَیْرِ صَحِيحَةٍ، وَيَسْمَعُ بَأُذُن غَيْرِ سَمِيعَةٍ، قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ»(2) .
«قَدْ أَضَلَّتْ عُقُولَهَا، ورَكِبَتْ مَجْهُولَهَا»(3) .
«مَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ الْحَيَّةِ لَیَّنٌ مَسُّهَا، وَالسُّمُّ النَّاقِعُ فِي جَوْفِهَا، يَهْوِي إِلَيْهَا الْغِرُّ الْجَاهِلُ، وَيَخْذَرُهَا ذُواللُّبِّ الْعَاقِلُ!»(4) . الخمر:
«وَتَرْكَ شُرْبِ الْخَمْرِ تَحْصِيناً لِلْعَقْلِ»(5) .
الفقر:
«يَا بُنَيَّ، إِنَّي أَخَافُ عَلَيْكَ الْفَقْرَ، فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْه، فَإِنَّ الْفَقْرَ مَنْقَصَةٌ لِلدَّينِ، مَدْهَشَةٌ لِلْعَقْلِ، دَاعِيَةٌ لِلْمَقْت!»(6) .
ص: 343
العُجب:
«عُجْبُ المَرْءِ بِنَفْسِهِ أَحَدُ حُسَّادِ عَقْلِهِ»(1) .
المزاح:
«مَا مَزَحَ امْرُؤٌ مَزْحَةً إِلاَّ مَجَّ مِنْ عَقْلِهِ مَجَّةً»(2) .
العصبية:
«فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِینَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلاَّ عَنْ عِلَّةٍ تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ الْجُهَلاَءِ، أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ(3) بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَيَرْكُمْ، فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لَإِمْر مَا يُعْرَفُ لَه سَبَبٌ ولَا عِلَّةٌ»(4) .
إطاعة الكبراء:
«وَلاَ تُطِيعُوا الْأَدْعِيَاءَ... اتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلاَلٍ، وَجُنْداً بِهمْ يَصُولُ عَلَی النَّاسِ، وَتَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ، وَدُخُولاً فِي عُيُونِكُمْ، وَنَفْثاً فِي أَسْمَاعِكُمْ، فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ، وَمَوْطِىءَ قَدَمِهِ، وَمأْخَذَ يَدِهِ»(5) .
ص: 344
«نَحْنُ الشِّعَارُ وَالْأَصْحَابُ، وَالْخَزَنَةُ وَالْأَبْوَابُ، وَلاَ تُؤْتَى الْبُيُوتُ إِلاَّ مِنْ أَبْوَابِهَا، فَمَنْ أَتَاهَا مِنْ غَیْرِ أَبْوَابِهَا سُمَّيَ سَارِقاً. منها: فِيهِمْ كَرَائِمُ الْقُرْآنِ، وَهُمْ كُنُوزُ الرَّحْمنِ، إِنْ نَطَقُوا صَدَقُوا، وَإِنْ صَمَتُوا لَمْ يُسْبَقُوا. فَلْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ، وَلْيُحْضِرْ عَقْلَهُ»(1) .
النعمة بالإسلام:
«الْحَمْدُ للهِ الَّذِي شَرَعَ الْإِسْلاَمَ... فَجَعَلَهُ أَمْناً لَمِنْ عَلِقَهُ... وَنُوراً لَمِنِ اسْتَضَاءَ بِهِ، وَفَهْماً لَمِنْ عَقَلَ، وَلُبّاً لَمِنْ تَدَبَّرَ»(2) .
«فَمَنِ اسْتَطَاعَ عِنْدَ ذلِكَ أَنْ يَعْتَقِلَ نَفْسَهُ عَلَی اللهِ، عَزَّ وَجَلَّ. فَلْيَفْعَلْ»(3) .
التأمل في حياة الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم: «وَلَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم مَا يَدُلُّكَ عَلَى مَسَاوِىءِ الدُّنْيَا وَعُيُوبِهَا: إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ، وَزُوِيَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِهِ. فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ: أَكْرَمَ اللهُ مُحَمَّداً بِذلِكَ أَمْ أَهَانَهُ!»(4) .
ص: 345
«وَأَنْعِمِ الْفِكْرَ فِيَما جَاءَكَ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صلی الله علیه و آله و سلم مِمَّا لاَبُدَّ مِنْهُ وَلاَ مَحِيصَ عَنْهُ، وَخَالِفْ مَنْ خَالَفَ ذلِكَ إلى غَیْرِهِ»(1) .
الاعتبار بالموت والنشور:
«وَبَادِرُوا المَوْتَ وَغَمَرَاتِهِ، وَامْهَدُوا لَهُ قَبْلَ حُلُولِهِ... فَإِنَّ الْغَايَةَ الْقِيَامَةُ، وَكَفَى بِذلِكَ وَاعِظاً لَمِنْ عَقَلَ، وَمُعْتَبَراً لَمِنْ جَهِلَ!»(2) .
«وَلَئِنْ عَمِيَتْ آثَارُهُمْ (الماضون)، وَانْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ، لَقَدْ رَجَعَتْ فِيهِمْ أَبْصَارُ الْعِبَرِ، وَسَمِعَتْ عَنْهُمْ آذَانُ الْعُقُولِ، وَتَكَلَّمُوا مِنْ غَیْرِ جِهَاتِ النُّطْقِ... فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ بِعَقْلِكَ، أَوْ كُشِفَ عَنْهُمْ مَحْجُوبُ الْغِطَاءِ لَكَ، وَقَدِ ارْتَسَخَتْ أَسْمَاعُهُمْ بِالْهَوَامِّ فَاسْتَكَّتْ، وَاكْتَحَلَتْ أَبْصَارُهُمْ بِالتُّرَابِ فَخَسَفَتْ، وَتَقَطَّعَتِ الْأَلْسِنَةُ فِي أَفْوَاهِهِمْ بَعْدَ ذَلاَقَتِهَا، وَهَمَدَتِ الْقُلُوبُ فِي صُدُورِهِمْ بَعْدَ يَقَظَتِهَا، وَعَاثَ فِي كُلِّ جَارِحَةٍ مِنْهُمْ جَدِيدُ بِلًى سَمَّجَهَا، وَسَهَّلَ طُرُقَ الْآفَةِ إِلَيْهَا، مُسْتَسْلِمَاتٍ فَلاَ أَيْدٍ تَدْفَعُ، وَلاَ قُلُوبٌ تَجْزَعُ، لَرَأَيْتَ أَشْجَانَ قُلُوبٍ»(3) .
وهي من كلامه علیه السلام قاله بعد تلاوته: «أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ».
وقد مرّ ذكر كلام ابن أبي الحديد صدر شرح هذه الخطبة(4) .
ولله ابن أبي طالب ومواهبه وعجائبه فقوله أجل من أن يوصف بالبديع
ص: 346
البليغ، بل هو المعجز، فليتأمل ذو اللب في مادتها وهيئتها وأهدافها وعلو مقامها، وسموها من سمو قائلها.
الناصح الأمين:
«لَيْسَتِ الرَّوِيَّةُ كَالمُعَايَنَةِ مَعَ الْإِبْصَارِ، فَقَدْ تَكْذِبُ الْعُيُونُ أَهْلَهَا، وَلاَ يَغُشُّ الْعَقْلُ مَنِ اسْتَنْصَحَهُ»(1) .
المنقذ:
«مَا اسْتَوْدَعَ اللهُ امْرَأً عَقْلاً إِلاَّ اسْتَنْقَذَهُ بِهِ يَوْماً مَا!»(2) .
«كَفَاكَ مِنْ عَقْلِكَ مَا أَوْضَحَ لَكَ سُبُلَ غَيِّكَ مِنْ رُشْدِكَ»(3) . استخلاص ثمرة العقول:
«ومَنْ شَاوَرَ الرِّجالَ شارَكَها في عُقُولهِا»(4) .
الاستجابة للآداب:
«وَلاَ تَكُونَنَّ مِمَّنْ لاَ تَنْفَعُهُ الْعِظَةُ إِلاَّ إِذَا بَالَغْتَ فِي إِيلاَمِهِ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَتَّعِظُ بِالْآدَبِ، وَالْبَهَائِمَ لاَ تَتَّعِظُ إِلاَّ بِالضَّرْبِ»(5) .
ص: 347
صيانة السر:
«صَدْرُ الْعَاقِلِ صُنْدُوقُ سِرَّهِ»(1) .
الحذر من الدنيا:
«مَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ الْحَيَّةِ لَیَّنٌ مَسُّهَا، وَالسُّمُّ النَّاقِعُ فِي جَوْفِهَا، يَهْوِي إِلَيْهَا الْغِرُّ الْجَاهِلُ، وَيَحْذَرُهَا ذُواللُّبِّ الْعَاقِلُ!»(2) . الدنيا: «فَإِنَّهَا عِنْدَ ذَوِي الْعُقُولِ كَفَيْءِ الظَّلِّ، بِيْنَا تَرَاهُ سَابِغاً حَتَّى قَلَصَ، وَزَائِداً حَتَّى نَقَصَ»(3) .
العناية بما يهم:
«وَلَيْسَ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ شَاخِصاً إِلاَّ فِي ثَلاَثٍ: مَرَمَّةٍ(4) لَمِعَاشٍ، أَوْ خُطْوَةٍ فِي مَعَادٍ(5) ، أَوْ لَذَّةٍ فِي غَیِرْ مَحُرَّمٍ»(6) .
وما أخصرها وأخطرها من حكمة جامعة بالغة، فالمؤمن يستهلك أيامه في سعيه لتدبیر معاشه غیر غافل عن معاده وما يقربه من ربه، مبدداً ما يعرضه من سأم الكدح وعناء العمل بما يروحه من لهو محلل ولذائذ مباحة تهواها نفسه
ص: 348
وتجمُّ خاطره.
القرآن الكريم:
«ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ نُوراً لاَ تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ، وَسِرَاجاً لاَ يَخْبُو تَوَقُّدُهُ، وَبَحْراً لاَ يُدْرَكُ قَعْرُهُ، وَمِنْهَاجاً لاَ يُضِلُّ نَهْجُهُ، وَشُعَاعاً لاَ يُظْلِمُ ضَوْؤُهُ، وَفُرْقَاناً لاَ يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ، وَتِبْيَاناً لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ... وَحَبْلاً وَثِيقاً عُرْوَتُهُ، وَمَعْقِلاً مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ»(1) .
التقوى:
«فَاعْتَصِمُوا بِتَقْوَى اللهِ، فَإِنَّ لَهَا حَبْلاً وَثِيقاً عُرْوَتُهُ، وَمَعْقِلاً مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ»(2) .
«أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ، بِتَقْوَى اللهِ، فَإِنَّهَا الزِّمَامُ وَالْقِوَامُ... تَؤُولُ بِكُمْ إلى أَكْنَانِ الدَعَةِ، وَأَوْطَانِ السَّعَةِ، وَمَعَاقِلِ الْحِرْزِ، وَمَنَازِلِ الْعِزِّ»(3) .
«أَيْنَ الْعُقُولُ المُسْتَصْبِحَةُ بِمَصَابِيحِ الْهُدَى، وَالْأَبْصَارُ اللاَّمِحَةُ إلى مَنَارِ التَّقْوَى!
أَيْنَ الْقُلُوبُ الَّتِي وُهِبَتْ للهَّ، وَعُوقِدَتْ عَلَی طَاعَةِ اللهِ!»(4) . الورع:
ص: 349
«وَلاَ مَعْقِلَ أَحْصَنَ مِنَ الْوَرَعِ»(1) .
قبول النصح:
«أَيْنَ الْقَوْمُ الَّذِينَ دُعُوا إلى الْإِسْلاَمِ فَقَبِلُوهُ؟ وَقَرَأُوا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ؟...
وَاقْبَلُوا النَّصِيحَةَ مِمَّنْ أَهْدَاهَا إِلَيْكُمْ، وَاعْقِلوهَا عَلَی أَنْفُسِكُمْ»(2) .
الإفادة من التجارب:
«وَالْعَقْلُ حِفْظُ التَّجَارِبِ، وَخَيْرُ مَا جَرَّبْتَ مَا وَعَظَكَ»(3) .
حفظ اللسان:
«إِذَا تَمَّ الْعَقْلُ نَقَصَ الْكَلاَمُ»(4) .
«لِسَانُ الْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ»(5) .
«لَسَانُ الْعَاقِلِ فِي قَلْبِهِ»(6) .
التأمل والرعاية:
ص: 350
«اعْقِلُوا الْخَبَرَ إِذَا سَمِعْتُمُوهُ عَقْلَ رِعَايَةٍ لاَ عَقْلَ رِوَايَةٍ، فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ كَثِیرٌ، وَرُعَاتَهُ قَلِيلٌ»(1) .
أجل ما يملك:
«إِنَّ أَغْنَى الْغِنَىُ الْعَقْلُ»(2) .
«لاَ مَالَ أَعْوَدُ مِنَ الْعَقْلِ»(3) .
«لاَ غِنَى كَالْعَقْلِ»(4) .
جميل التصرّف:
«وَلاَ عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ»(5) .
حسن المرونة:
«التَّوَدُّدُ نِصْفُ الْعَقْلِ»(6) .
دقة اختيار الرسول:
ص: 351
«رَسُولُكَ تَرْجُمَانُ عَقْلِكَ»(1) .
الترغيب في قرب العاقل:
«وَقَطِيعَةُ الْجَاهِلِ تَعْدِلُ صِلَةَ الْعَاقِلِ»(2) .
الإفادة من التجارب:
«والعَقْلُ حِفْظُ التَّجارِبِ»(3) .
وأما الآثار السلبية فقد مضى في الحديث عن ضعاف العقول ومن لا يعقلون كثیر منها، ونضيف هنا نبذة أخرى تكمل ما مضى فتجتمع بذلك الآثار وتنتظم السلبيات.
عدم اليقظة والاستغفال:
«وَأَعْجَبُ مِنْ ذلِكَ طَارِقٌ طَرَقَنَا بِمَلْفَوفَةٍ فِي وِعَائِهَا، وَمَعْجُونَةٍ شَنِئْتُهَا، كَأَنَّمَا عُجِنَتْ بِرِيقِ حَيَّةٍ أَوْ قَيْئِهَا، فَقُلْتُ: أَصِلَةٌ، أَمْ زَكَاةٌ، أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَذلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ! فَقَالَ: لاَ ذَا وَلاَ ذَاكَ، وَلكِنَّهَا هَدِيَّةٌ. فَقُلْتُ: هَبِلَتْكَ الْهَبُولُ!(4) أَعَنْ دِينِ اللهِ أَتَيْتَنِي لِتَخْدَعَنِي؟ أَمُخْتَبِطٌ أَنْتَ أَمْ ذُوجِنَّة، أَمْ تَهْجُرُ؟ وَاللهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلاَكِهَا، عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جِلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ،
ص: 352
وَإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا، مَا لِعَلِيّ وَلِنَعِيمٍ يَفْنَى، وَلَذَّةٍ لاَ تَبْقَى! نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ، وَقُبْحِ الزَّلَلِ، وَبِهِ نَسْتَعِينُ»(1) .
والمقطع بل والخطبة جديرة بعميق الفكر والنظر ففيها الإيقاظ للدقيق من خبيث الحيل وموجبات الإغراء والإنخداع حيث يجعل الدين حبالة للدنيا فيؤسر العقل ويستمال، والمفزع الملجأ والمنجى بالاعتصام بالله «وَمَن يَعْتَصِم بِاللهّ فَقَدْ هُدِيَ إِلَی صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ» والاستعاذة به سبحانه من الغواية والردى فإنه الموفق المعین للرشاد والهدى.
الشقاء في إهمال العقل:
«فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ نَفْعَ مَا أُوتِيَ مِنَ الْعَقْلِ وَالتَّجْرِبَةِ»(2) .
الفقر المدقع:
«وَأَكْبَرَ الْفَقْرِ الْحُمْقُ»(3) .
العجب المردي:
«عُجْبُ المَرْءِ بِنَفْسِهِ أَحَدُ حُسَّادِ عَقْلِهِ»(4) .
وبعد...
ص: 353
فهذه جولة رائعة ممتعة، ورؤى واسعة في آفاق (العقل) ودوره وعظيم خطره وما يبقي جذوته، ويخمد توهجه وشعلته، ومدى تفاوت البشر إعمالاً وإهمالاً ومكاسب وخسائر.
ولنختم الحديث فيه بما جهر به علیه السلام لما أراده الناس على البيعة بعد مقتل عثمان، وقد أنبأ في ذلك بمشروعه وسياسة حكمه، وإقامة أمره وأمر الرعية على جادة الحق- و الحق مر- والهدى- والضال كثر.
فقال- صلوات الله على روحه وعقله-:
«دَعُوني وَالْتَمِسُوا غَیْرِي؛ فإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَأَلْوَانٌ؛ لاَ تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ، وَلاَ تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ، وَإِنَّ الاْفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ، وَالمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ.
وَاعْلَمُوا أَنِّ إنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، وَلَمْ أُصْغِ إلى قَوْلِ الْقَائِلِ وَعَتْبِ الْعَاتِبِ، وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ؛ وَلَعَلَّي أَسْمَعُكُمْ وَأَطْوَعُكُمْ لمِنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ، وَأَنَا لَكُمْ وَزِيراً، خَیْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِیراً»(1) .
ص: 354
أ- الملائكة:
«وَلا سَلَبَتْهُمُ الْحَیْرَةُ مَا لاقَ(1) مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِضَمَائِرِهِمْ وَمَا سَكَنَ مِنْ عَظَمَتِهِ وَهَيْبَةِ جَلالَتِهِ فِي أَثْنَاءِ صُدُورِهِمْ»(2) .
فقد تغلغلت عظمة الله تعالى ونفذت وانبثت في ثنايا صدورهم حتى استقرت وتبوأتها سكناً واتخذته موطناً لا تبغي به بدلاً ولا عنه متحولاً.
ب- الكون خاضع لجلاله:
دنياً:
«وَكَانَ مِنِ اقتدار جَبَرُوتِهِ وَبَدِيعِ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ أَنْ جَعَلَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ الزَّاخِرِ المُتَرَاكِمِ المُتَقَاصِفِ يَبَساً جَامِداً ثُمَّ فَطَرَ مِنْهُ أَطْبَاقاً فَفَتَقَهَا سَبْعَ سَمَاوَاتٍ بَعْدَ ارْتِتَاقِهَا فَاسْتَمْسَكَتْ بِأَمْرِهِ وَقَامَتْ عَلَى حَدِّهِ وَأَرْسَى أَرْضاً يَحْمِلُهَا الأَخْضَرُ المُثْعَنْجِرُ وَالقَمْقَامُ(3) المُسَخَّرُ قَدْ ذَلَّ لامْرِهِ وَأَذْعَنَ لَهِيْبَتِهِ وَوَقَفَ الجَارِي مِنْهُ
ص: 355
لِخَشْيَتِهِ»(1) .
وآخرة:
«أَمَادَ السَّمَاءَ وَفَطَرَهَا وَأَرَجَّ الأَرْضَ وَأَرْجَفَهَا وَقَلَعَ جِبَالَهَا وَنَسَفَهَا وَدَكَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَيْبَةِ جَلالَتِهِ وَمَخُوفِ سَطْوَتِهِ»(2) .
وقد جمع المقطع الشريف بلاغة التعبیر ودقة التصوير، على نهج القرآن معنىً وانتزاع لفظ.
«وَقَدْ بَلَغْتُمْ مِنْ كَرَامَةِ اللهِ تَعَالَی لَكُمْ مَنْزِلَةً تُكْرَمُ بِهَا إِمَاؤُكُمْ وَتُوصَلُ بِهَا جِيرَانُكُمْ وَيُعَظِّمُكُمْ مَنْ لا فَضْلَ لَكُمْ عَلَيْهِ وَلا يَدَ لَكُمْ عِنْدَهُ وَيَهَابُكُمْ مَنْ لا يَخَافُ لَكُمْ سَطْوَةً وَلا لَكُمْ عَلَيْهِ إِمْرَةٌ»(3) .
أ- «فَإِذَا لَقِيتَ العَدُوَّ فَقِفْ مِنْ أَصْحَابِكَ وَسَطاً وَلا تَدْنُ مِنَ القَوْمِ دُنُوَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُنْشِبَ الْحَرْبَ وَلا تَبَاعَدْ عَنْهُمْ تَبَاعُدَ مَنْ يَهَابُ الْبَأْسَ»(4) .
ب- «وَإِنَّ تَعَاطِيَكَ الْغَارَةَ عَلَی أَهْلِ قِرْقِيسِيَا وَتَعْطِيلَكَ مَسَالَحِكَ الَّتِي
ص: 356
وَلَّيْنَاكَ لَيْسَ بِهَا مَنْ يَمْنَعُهَا وَلا يَرُدُّ الْجَيْشَ عَنْهَا لَرَأْيٌ شَعَاعٌ(1) فَقَدْ صْرِتَ جِسرْاً لَمِنْ أَرَادَ الْغَارَةَ مِنْ أَعْدَائِكَ عَلَى أَوْلِيَائِكَ غَیْرَ شَدِيدِ المَنْكِبِ وَلا مَهِيبِ الجَانِبِ»(2) .
«بِكَثْرَةِ الصَّمْتِ تَكُونُ الْهَيْبَةُ»(3) .
فالصمت حكمة، وأثره يتجلى فيمن يتحلى به، فيعلوه وقار، وتحوطه مهابة، يحتشمه لأجلها جليسه ومحدثه.
أ- «إِذَا هِبْتَ أَمْراً فَقَعْ فِيهِ فَإِنَّ شِدَّةَ تَوَقِّيهِ أَعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْهُ»(4) .
فالحیرة وخوف المستقبل باعثا القلق، ومعوقا النجاح، وقاطعا الأمل، ومعطلا العمل، وهذه سلسلة علل تشل الحياة، وأدواء تفتك بالمبتلى، وبالإِقدام تتبدد الأوهام.
ب- «قُرِنَتِ الْهَيْبَةُ بِالْخَيْبَةِ وَالْحَيَاءُ بِالْحِرْمَانِ»(5) .
فبالإحجام يفوت المؤمل، ويضيع سانح الفرصة، ويذهب الأمر غیر متدارك.
ص: 357
«لا إيمان كَالْحيَاءِ وَالصَّبْرِ»(1) .
وهو خلق كريم في ذاته، حاكٍ عن سمات من يتصف به.
ومن الطبيعي أن يكون اتصاف الخلق بالجمال، مادام منطلقاً من مركزه، متحركاً في فلكه، غیر خارج عن دائرته، فإذا ما اختلفت الأحوال، وتبدلت الأوضاع، تغیرت أساليب العمل، وحملت على معالجة الحاضر، بما يصلحه.
وفي هدي إمام الحكماء ونهج سيد الأولياء مايبصرنا سواء السبيل، ويبصّرنا ويهدينا النجدين، ويحملنا على الجادة.
وعلى نسق ما جرينا عليه من تتبع كلماته وإشاراته، واقتفاء خطواته أينما توجه، وحيثما قصد.
«واحْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ يُعْمَلُ بِهِ في السَّرَّ، ويُسْتَحَى مِنْهُ في العَلانِيَةِ»(2) .
وهنا يسبق التأمل، ويُعمل الفكر قبل الإقدام على العمل، بل ويبدأ النظر في ذات الفعل أولاً فإن كان مما لايصح أن يقدم عليه فليبق طي الكتمان وإن جاز فعله جهراً وممارسته علناً فشأنه به سراً، فليس ثمة ما يُخشى لو أزيح الستر وانكشف الغطاء.
ص: 358
هذا ومن شأن مايتخفى منه أن يظهر على صفحة الوجه وفلتات اللسان، واطلاع ذوي الفضول على العورات.
والعاقل الناظر أملك بفعله قبل أن يفعله، وبعد ذلك يفلت الزمام من يده، فيبقى قلقاً والقلق يساوره ويعاوده مترقباً راجياً أن لا يطلع على أمره أحد.
والحق إنه الميزان الدقيق، والمقياس الحساس، والانضباط عنوان اكتمال خلائق عقلية ونفسية وحفظ تجارب واستيعاب عبر.
أ- «مَنْ كَسَاهُ الْحَيَاءُ ثَوْبَهُ لَمْ يَرَ النَّاسُ عَيْبَهُ»(1) .
تمثل الخلق الباطني سياجاً يحوط الجسم ويلفه برباطه الوثيق فلا يبدر من جارحة انفلات، فالزمام قد أخذ بأطرافها، هيمنةٌ آسرة، لطفت الجوانح فخضعت الجوارح، فلا يرى الناظرون إلا كساء البهاء وجلباب الحياء.
ب- «مَنْ كَثُرَ كَلامُهُ كَثُرَ خَطَؤُهُ وَمَنْ كَثُرَ خَطَؤُهُ قَلَّ حَيَاؤُهُ وَمَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ وَمَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ وَمَنْ مَاتَ قَلْبُهُ دَخَلَ النَّارَ»(2) .
فثمة سلسلة مهالك، ومسالك مزالق، يتيه سالكها، فلا توصله إلا إلى الهاوية، ولا تقذفه إلا إلى النار.
فتراكم الأخطاء تغشي مرتكبها ظلمةً وريناً «كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا
ص: 359
كَانُوا يَكْسِبُونَ»(1) .
فلا يستشعر الخشية، فيقل الحياء ويستمرئ الذنب وهو معنى قلة الورع فيؤول أمره ميتاً قلبه، وإن كان في عداد الأحياء.
أ- التعلم:
«وَلا يَسْتَحِيَنَّ أَحَدٌ إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الشَّيْءَ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ»(2) . فالجهل مردٍ، ومفتاح العلم المسألة والتعلم، وما التخبط والضلال إلا بترك العلم والمعرفة، والإنسان لم يولد عالماً، فحياؤه بقاؤه جاهلاً «مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ رَقَّ عِلْمُهُ»(3) فلابد له من رفع نقيصته، وبلوغه كماله من التزود بما يرفع ذلك ويرقيه إلى مايليق به.
هذا ومسائل الاعتقاد والفقه والحلال والحرام وخیر الخصال وشر الأفعال، معارف شتى يسعد فيها المرء ويشقى فلا مناص له من الإحاطة بها والولوج إليها من أبوابها، وليس ثمة إلا العلم، فإذا منعه منه الحياء، فقد حرم نفسه الكمال، وتاه في غياهب الجهل والضلال، وعاش يرفل في الفقر مكابداً «وَلا فَقْرَ كَالْجَهْلِ»(4) .
ص: 360
ب- القول بغير علم:
«وَلا يَسْتَحِيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِذَا سُئِلَ عَمَّا لا يَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ لا أَعْلَمُ»(1) .
فقد ظن السائل بالمسؤول خیراً، فإن أجابه بجهل فقد خان الله وأضل عبدالله، وحكى بذلك نفسية خسيسة وعرض نفسه للهلكة والمؤاخذة «مَنْ تَرَكَ قولَ (لا أدري) أُصِيْبَتْ مَقاتِلُهُ»(2) .
وهنا مظهر الشجاعة وغلبة النفس، بحط الكبرياء، وعنوان الإيمان بالصدق، ومدعاة لنيل فضيلة العلم، وشرف المعرفة، بتعلم مالا يعلم.
ج- إعطاء القليل:
«لا تَسْتَحِ مِنْ إِعْطَاءِ الْقَلِيلِ فَإِنَّ الْحِرْمَانَ أَقَلُّ مِنْهُ»(3) . وهي تربية للنفس على البذل مما يجد قلياً وكثیراً، وإبعادها عن الشح، والاستجابة لدعوة الشيطان «الشيطان يعدكم الفقر». فإن مقابل الإعطاء والبذل المنع والحرمان، وهما أسوء حالاً، وأشد ضرراً من إعطاء القليل فإنه نافع للمعطي والآخذ.
د- مواطن تحصيل الخير:
«قُرِنَتِ الْهَيْبَةُ بِالْخَيْبَةِ وَالْحَيَاءُ بِالْحِرْمَانِ»(4) .
ص: 361
فمن مواطن ذلك الحياء الحائل دون المسألة والعلم وهكذا في كل موارد الحياة مما ينبغي فيها الإقدام، فالإحجام مانع من نيلها وإدراك خيرها، فهي من صور الحياء المذموم.
«وَاسْتَحْيُوا مِنَ الْفَرِّ فَإِنَّهُ عَارٌ فِي الأَعْقَابِ وَنَارٌ يَوْمَ الْحِسَابِ»(1) .
فالحياء هنا رذيلة النفس، وخور العزائم، وضعف الإيمان، والرغبة في الدنيا الفانية، والزهد في الحياة الباقية، يورث شر العاقبة في الأعقاب، فيعیّرون بخلال آبائهم، وربما ورثوها أبناءهم، ويورث الحسرة والندامة بعذاب الجحيم يوم القيامة، فياله من سوء باء، عار حاضر وعذاب آجل.
«وَاللهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي(2) هَذِهِ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا وَلَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ أَ لا تَنْبِذُهَا عَنْكَ فَقُلْتُ اغْرُبْ(3) عَنِّي فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يْحَمَدُ الْقَوْمُ السُرَّى»(4) .
وكان فصلاً ختامياً لخطبة جليلة عرض فيها الإمام علیه السلام زهد الأنبياء الكرام مما خبره من أمرهم، ووقف عليه وعايشه من سیرة خاتمهم سيد المرسلين- صلى الله عليه وآله وعليهم أجمعین- ثم ذكر عظيم منة الله لديه حيث أنعم عليه بنبيه
ص: 362
سلفاً يتبعه، وقدوة يهتدي بهداه، وقائداً يطأ عقبه ويقتفي خطاه.
ثم ختمه بطرف من سیرته عُني منها بالحديث عن ملبسه، كما تحدث في موطن آخر عن مطعمه.
وزهد الإمام قناعة الواجد، لا وضع الفاقد، فهو التواضع الجم، والخلق الكريم في مواساته لأضعف رعيته، ومشاركته لهم في مكاره الدهر، وتلكم خلاله وخصاله على ذلكم النسيج الفريد.
ومن يزهد في الإمرة والحكم والسلطان فيراها عفطة عنز وأقل من بقل وأذل من نعل فليس منه ذلك بعجيب، وإن كان كل شأنه العجيب الغريب، حتى إنه ليستحي من راقع مدرعته، وليس هو إلا أحد أولاده أو من يشرّف بخدمته.
ص: 363
«كَفَى بِالْقَنَاعَةِ مُلْكاً»(1) .
وهي خلق جميل، باطنه الرضا، وظاهره حسن التعامل بالمعطى، وجماع صفاته فاضلة، وخلال متكاملة.
وتقف في النهج الشريف على مآثر هذه الخصلة الكريمة، وعمق تأصلها في ذوات المتحلین بفضلها، المتجملین بخلائقها، وهم سادات الأولياء، والأمثل فالأمثل.
1- وَلَكِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ وَضَعَفَةً فِيمَا تَرَى الأعْیُنُ مِنْ حَالاتِهِمْ مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلا الْقُلُوبَ وَالْعُيُونَ غِنًى وَخَصَاصَةٍ تَمْلا الأبْصَارَ وَالأسْمَاعَ أَذًى»(2) .
2- أ) «أَ أَقْنَعُ مِنْ نَفْسِيِ بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أمیر المؤمنین وَلا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ»(3) .
ب) «وَكَأَنِّ بِقَائِلِكُمْ يَقُولُ إِذَا كَانَ هَذَا قُوتُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَدْ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ عَنْ قِتَالِ الأقْرَانِ وَمُنَازَلَةِ الشُّجْعَانِ أَلا وَإِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرَّيَّةَ أَصْلَبُ عُوداً وَالرَّوَاتِعَ الْخَضِرَةَ أَرَقُّ جُلُوداً وَالنَّابِتَاتِ الْعِذْيَةَ أَقْوَى وَقُوداً وَأَبْطَأُ خُمُوداً. وَأَنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ كَالضَّوْءِ مِنَ الضَّوْءِ وَالذِّرَاعِ مِنَ الْعَضُدِ»(4) .
ص: 364
وله علیه السلام في هذا المضمار وفي ذات الكتاب كلام عجيب وجميل وكل كلمه عجيب وجميل.
ج) «وَأيْمُ اللهِ يَمِيناً أَسْتَثْنِي فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللهِ لأرُوضَنَّ نَفْسِيِ رِيَاضَةً تَهِشُّ مَعَهَا إلى الْقُرْصِ إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهِ مَطْعُوماً وَتَقْنَعُ بِالمِلْحِ مَأْدُوماً»(1) .
د) «يَرْحَمُ اللهُ خَبَّابَ بْنَ الأرَتِّ فَلَقَدْ أَسْلَمَ رَاغِباً وَهَاجَرَ طَائِعاً وَقَنِعَ بِالْكَفَافِ وَرَضِيَ عَنِ اللهِ وَعَاشَ مُجَاهِداً»(2) .
ه»- المتقي- «قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لا يَزُولُ وَزَهَادَتُهُ فِيمَا لا يَبْقَى يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ وَالْقَوْلَ بِالْعَمَلِ تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ قَلِيلاً زلَلُهُ خَاشِعاً قَلْبُهُ قَانِعَةً نَفْسُهُ مَنْزُوراً أَكْلُهُ سَهْلًا أَمْرُهُ»(3) .
أ- وقال علیه السلام لرجل سأله أن يعظه:
«لا تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو الْآخِرَةَ بِغَیْرِ عَمَلٍ، وَيُرَجَّي التَّوْبَةَ بِطُولِ الأمَلِ، يَقُولُ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِ الزَّاهِدِينَ، وَيَعْمَلُ فِيهَا بِعَمَلِ الرَّاغِبِینَ، إِنْ أُعْطِيَ مِنْهَا لَمْ يَشْبَعْ، وَإِنْ مُنِعَ مِنْهَا لَمْ يَقْنَعْ، يَعْجِزُ عَنْ شُكْرِ مَا أُوتِيَ، وَيَبْتَغِي الزِّيَادَةَ فِيمَا بَقِيَ»(4) .
ب- «وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ طَلَبِ المُلْكِ ضُئُولَةُ نَفْسِهِ وَانقطاع سَبَبِهِ فَقَصَرَتْهُ الْحَالُ عَىَ حَالِهِ فَتَحَلَّى بِاسْمِ الْقَنَاعَةِ وَتَزَيَّنَ بِلِبَاسِ أَهْلِ الزَّهَادَةِ وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ
ص: 365
فِي مَرَاحٍ(1) وَلا مَغْدًى(2) »(3) .
ج- من كتاب له علیه السلام لشريح بن الحارث قاضيه وقد اشترى داراً:
«اشْتَرَى هَذَا المُغْتَرُّ بِالأمَلِ مِنْ هَذَا المُزْعَجِ بِالأجَلِ هَذِهِ الدَّارَ بِالْخُرُوجِ مِنْ عِزِّ الْقَنَاعَةِ وَالدُّخُولِ فِي ذُلِّ الطَّلَبِ وَالضَّرَاعَةِ»(4) .
«الْقَنَاعَةُ مَالٌ لا يَنْفَدُ»(5) .
«وَلا كَنْزَ أَغْنَى مِنَ الْقَنَاعَةِ»(6) .
وسئل علیه السلام عن قوله تعالى: «فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً»(7) .
فقال علیه السلام: «هِيَ الْقَنَاعَةُ»(8) .
وبعد...
من جوامع كلمة وقوله الفصل:
«طُوبَى لَمِنْ ذَكَرَ المَعَادَ وَعَمِلَ لِلْحِسَابِ وَقَنِعَ بِالْكَفَافِ وَرَضِيَ عَنِ اللهِ»(9) .
ص: 366
•أصناف الناس وخلائقهم
•النصيحة مصدرها وأثرها
•الوفاء
•الأولاد والجنبة الأخلاقية
•الفتنة
•البدعة
•الغيبة
•البشاشة
•الاحتمال
•المخالطة
•الأخوة وحقوقها
•العثرة وإقالتها
•اللهف وإغاثة الملهوف
•الألفة وعواملها وآثار خيرها
•العفو
•الجود والسخاء والكرم
ص: 367
ص: 368
ويحيا الإنسان عمره، والدنيا مضمار أعماله، ومسرح آماله، تتبدل فيها أحواله، وتتقلب شؤونه، من قوة وضعف وفقر وغنى، وآمر ومأمور، متمردًا بما شاء له الهوى، تدركه الرحمة فيؤوب إلى رشده ويذكر ربه، ويتمادى في الغي فينسى آخرته، ويرين على قلبه ما كسبه من سيء عمله.
ويشرح الإمام علیه السلام هاتيك الأحوال، ويصور واقع الأخيار والأشرار، ويجّسد عواقب أمرهم وماهم إليه صائرون وعنه مساءلون.
ومن تلكم الصور المعبرة والمشاهد المثیرة ما ابتلي به- سلام الله عليه- أيام سياسته الأمة وكيف قام فيهم بالعدل وحملهم على الاستقامة فعافوا المورد العذب والمنهل السلسال، ومصّوا الثماد، وخبطوا في دياجي الظام ومتاهات الباطل، وتنمروا وتنكروا هذا ورائد الحق يدعوهم، والموت يحدوهم، والحساب العسیر ينتظرهم، والجنة والنار مستقر لكل عامل لهما، ساع إليهما.
«وَ قَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي زَمَنٍ لاَ يَزْدَادُ الْخَیْرُ فِيهِ إِلاَّ إِدْبَاراً، وَالشَّرُّ فِيهِ إِلاَّ إِقْبَالاً، وَلَا الشَّيْطَانُ فِي هَلاَكِ النَّاسِ إِلاَّ طَمَعاً، فَهذا أَوَانٌ قَوِيَتْ عُدَّتُهُ، وَعَمَّتْ مَكِيدَتُهُ، وَأَمْكَنَتْ فَرِيسَتُهُ. اضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاسِ، فَهَلْ تُبْصِرُ إِلاَّ فَقِیراً يُكَابِدُ فَقْراً، أَوْ غَنِيّاً بَدَّلَ نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً، أَوْ بَخِيلاً اتَّخَذَ الْبُخْلَ بِحَقِّ اللهِ وَفْراً، أَوْ مُتَمَرِّداً كَأَنَّ بِأُذُنِهِ عَنْ سَمْعِ الموَاعِظِ وَقْراً! أَيْنَ خِيارُكُمْ وَصُلَحَاؤُكُمْ! وَأَيْنَ أَحْرَارُكُمْ وَسُمَحَاؤُكُمْ! وَأَيْنَ المُتَوَرِّعُونَ في مَكَاسِبِهِمْ، والمُتَنَزِّهُونَ فِي مَذَاهِبِهمْ!
ص: 369
أَلَيْسَ قَدْ ظَعَنُوا جَمِيعاً عَنْ هذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ، وَالْعَاجِلَةِ المُنَغَّصَةِ، وَهَلْ خُلَّفْتُمْ إِلاَّ فِي حُثَالَةٍ لاَ تَلْتَقِي أِلَّ بِذَمَّهِمْ الشَّفَتَانِ، اسْتِصْغَاراً لِقَدْرِهِمْ، وَذَهَاباً عَنْ ذِكْرِهِمْ؟! فَ «إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ»، «ظَهَرَ الْفَسَادُ» فَلاَ مُنْكِرٌ مُغَیَّرٌ، وَلاَ زَاجرٌ مُزْدَجِرٌ.أَفَبِهذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُجَاوِرُوا اللهَ فِي دَارِ قُدْسِهِ، وَتَكُونُوا أَعَزَّ أَوْلِيَائِهِ عِنْدَهُ؟ هَيْهَاتَ! لاَ يُخْدَعُ اللهُ عَنْ جَنَّتِهِ، وَلاَ تُنَالُ مَرْضَاتُهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ. لَعَنَ اللهُ الْآمِرِينَ بِالمَعْرُوفِ التَّارِكِینَ لَهُ، وَالنَّاهِینَ عَنِ المُنكَرِ الْعَامِلِینَ بِهِ!»(1) .
«وَجَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفْرِيِقِهِم، ثُمَّ مَيَّزَهُمْ لَمِا يُريدُهُ مَنْ مَسْأَلَتِهِمْ عَنْ خَفَايَا الْأَعْمَالِ وَخَبَايَا الْأَفْعَالِ، وَجَعَلَهُمْ فَرِيقَیْنِ: أَنْعَمَ عَلَى هؤُلاَءِ وَانْتَقَمَ مِنْ هؤُلاَءِ. فَأَمَّا أَهْلُ الطَّاعَةِ فَأَثَابَهُمْ بِجِوَارِهِ، وَخَلَّدَهُمْ في دَارِهِ، حَيْثُ لاَ يَظْعَنُ النُّزَّالُ، وَلاَ تَتَغَیَّرُ بِهِمُ الْحَالُ، وَلاَ تَنُوبُهُمُ الْأَفْزَاعُ، وَلاَ تَنَالُهُمُ الْأَسْقَامُ، وَلاَ تَعْرِضُ لَهُمُ الْأَخْطَارُ، وَلاَ تُشْخِصُهُمُ الْأَسْفَارُ. وَأَمَّا أَهْلُ المَعْصِيَةِ فَأَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَارٍ، وَغَلَّ الْأَيْدِيَ إلى الْأَعْنَاقِ، وَقَرَنَ النَّوَاصِيَ بِالْأَقْدَامِ، وَأَلْبَسَهُمْ سَرَابِيلَ الْقَطِرَانِ، وَمُقَطَّعَاتِ النَّیرَانِ، فِي عَذَابٍ قَدِ اشْتَدَّ حَرُّهُ، وَبَابٍ قَدْ أُطْبِقَ عَلَى أَهْلِهِ، فِي نَارٍ لَهَا كَلَبٌ وَلَجَبٌ، وَلَهَبٌ سَاطِعٌ، وَقَصِيفٌ هَائِلٌ، لاَ يَظْعَنُ مُقِيمُهَا، وَلاَ يُفَادَى أَسِیرُهَا، وَلاَ تُفْصَمُ كُبُولُهَ. لاَ مُدَّةَ لِلدَّارِ فَتَفْنَى، وَلاَ أَجَلَ لِلْقَوْمِ فَيُقْضَى»(2) .
أجل وكما قال الله في كتابه:
«وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ
ص: 370
الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ»(1) .
«إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّمِنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ* وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ* يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ* فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِیرٌ وَشَهِيقٌ* خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لَّما يُرِيدُ* وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَیْرَ مَجْذُوذٍ»(2) .
قال علیه السلام في ذمّ العاصين من أصحابه:
«للهَّ أَنْتُمْ! أمَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ! وَلاَ حَمِيّةٌ تَشْحَذُكُمْ! أَوَلَيْسَ عَجَباً أَنَّ مُعَاوِيَةَ يَدْعُو الْجُفَاةَ الطَّغَامَ فَيَتَّبِعُونَهُ عَلَى غَیْرِ مَعُونَةٍ وَلاَ عَطَاءٍ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ- وَأَنْتُمْ تَرِيكَةُ الْإِسْلاَمِ(3) ، وَبَقِيَّةُ النَّاسِ- إلى المَعُونَةِ أَوطَائِفَةٍ مِنَ الْعَطَاءِ، فَتَفَرَّقُونَ عَنَّي وَتَخْتَلِفُونَ عَلَيَّ؟ إِنَّهُ لاَ يَخْرُجُ إِلَيْكُمْ مِنْ أَمْرِي رِضىً فَتَرْضَوْنَهُ، وَلاَ سُخْطٌ فَتَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، وَإنَّ أَحَبَّ مَا أَنَا لاَقٍ إِلَيَّ المَوْتُ! قَدْ دَارَسْتُكُمُ(4) الْكِتَابَ، وَفَاتْحَتُكُمُ الْحِجَاجَ، وَعَرَّفْتُكُمْ مَا أَنْكَرْتُمْ، وَسَوَّغْتُكُمْ مَا مَجَجْتُمْ، لَوْ كَانَ الْأَعْمَى يَلْحَظُ، أَوِ النَّائِمُ
ص: 371
يَسْتَيْقِظُ! وَأَقْرِبْ بِقَوْمٍ مِنَ الْجَهْلِ بِاللهِ قَائِدُهُمْ مُعَاوِيَةُ! وَمُؤَدِّبُهُمُ ابْنُ النَّابِغَةِ!»(1) .
«وقد سأله سائل عن أحاديث البدع، وعما في أيدي الناس من اختلاف الخبر. فقال علیه السلام:
إنَّ فِي أَيْدِي النَّاسِ حَقّاً وَبَاطِلاً، وَصِدْقاً وَكَذِباً، وَنَاسِخاً وَمَنْسُوخاً، وَعَامّاً وَخَاصّاً، ومُحْكَماً وَمُتَشَابِهاً، وَحِفْظاً وَوَهْماً، وَلَقَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم عَلَى عَهْدِهِ، حَتَّى قَامَ خَطِيباً، فَقَالَ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمَّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
وَإِنّمَا أَتَاكَ بِالْحَدِيثِ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ لَيْسَ لَهُمْ خَامِسٌ:
المنافقون:
رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلْإيمان، مُتَصَنَّعٌ بِالْإِسْاَمِ، لاَيَتَأَثَّمُ وَلاَ يَتَحَرَّجُ، يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم مُتَعَمَّداً، فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَاذِبٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ، وَلَمْ يُصَدِّقُوا قَوْلَهُ، وَلكِنَّهُمْ قَالُوا: صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم رَآهُ، وَسَمِعَ مِنْهُ، وَلَقِفَ عَنْهُ، فَيَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَكَ اللهُ عَنِ المنَافِقِینَ بِمَا أَخْبَرَكَ، وَوَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ لَكَ، ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ، فَتَقرَّبُوا إلى أَئِمَّةِ الضَّلاَلَةِ، وَالدُّعَاةِ إلى النَّارِ بِالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ، فَوَلَّوهُمُ الْأَعْمَالَ، وَجَعَلُوهُمْ حُكَّامًا عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، فَأَكَلُوا بِهِمُ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا النَّاسُ مَعَ المُلُوكِ وَالدُّنْيَا، إِلاَّ مَنْ عَصَمَ اللهُ، فَهذَا أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ.
الخاطئون:
ص: 372
وَرَجُلٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ شَيْئاً لَمْ يَحْفَظْهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَوَهِمَ فِيهِ، وَلَمْ يَتَعَمَّدْ كَذِباً، فَهُوَ فِي يَدَيْهِ، يَرْوِيهِ وَيَعْمَلُ بِهِ، وَيَقُولُ: أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله و سلم، فَلَوْ عَلِمَ المُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهِمَ فِيهِ لَمْ يَقْبَلُوهُ مِنْهُ، وَلَوْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ كَذلِكَ لَرَفَضَهُ!.
أهل الشبهة:
وَرَجُلٌ ثَالِثٌ، سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم شَيْئاً يَأْمُرُ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ نَهَى عَنْهُ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ، أَوْ سَمِعَهُ يَنْهَىُ عَنْ شَيْءٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَهُوَ لايَعْلَمُ، فَحَفِظَ المَنسُوخَ، وَلَمْ يَحْفَظِ النَّاسِخَ، فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ، وَلَوْ عَلِمَ المُسْلِمُونَ إذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ.
الصادقون الحافظون:
وَآخَرُ رَابِعٌ، لَمْ يَكْذِبْ عَلَى اللهِ، وَلاَ عَلَى رَسُولِهِ، مُبْغِضٌ لِلْكَذِبِ، خَوْفاً للهِ، وَتَعْظيِماً لِرَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم وَلَمْ يَهِمْ، بَلْ حَفظَ مَا سَمِعَ عَلَى وَجْهِهِ، فَجَاءَ بِهِ عَلَى مَا سَمِعَهُ، لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ، وَحَفِظَ النَّاسِخَ فَعَمِلَ بِهِ، وَحَفِظَ المَنْسُوخَ فَجَنَّبَ عَنْهُ، وَعَرَفَ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ، وَمُحْكَمَ والمُتَشَابِهَ فَوَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ. وَقَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم الْكَلاَمُ لَهُ وَجْهَانِ: فَكَلاَمٌ خَاصٌّ، وَكَلاَمٌ عَامٌّ، فَيَسْمَعُهُ مَنْ لاَ يَعْرِفُ مَا عَنَى اللهُ بِهِ، وَلاَ مَا عَنَى بِهِ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم فَيَحْمِلُهُ السَّامِعُ، وَيُوَجِّهُهُ عَلَى غَیْرِ مَعْرِفَةٍ بِمَعْنَاهُ، وَمَا قُصِدَ بِهِ، وَمَا خَرَجَ مِنْ أَجْلِهِ، وَلَيْسَ كُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم مَنْ كَانَ يَسْأَلُهُ وَيَسْتَفْهِمُهُ، حَتَّى إِنْ كَانُوا لَيُحِبُّونَ أَنْ يَجِيءَ الْأَعْرَابِيُّ أَوْ الطَّارِىءُ، فَيَسَأَلَهُ علیه السلام حَتَّى يَسْمَعُوا، وَكَانَ لاَ يَمُرُّ بِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ إِلاَّ سَأَلْتُ
ص: 373
عَنْهُ وَحَفِظْتُهُ. فَهذِهِ وَجُوهُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي اخْتِلاَفِهِمْ، وَعِلَلِهِمْ فِي رِوَايَاتِهِمْ»(1) .
ونفيد من هذا النص على طوله حقائق مهمة:
الأولى: إن ما يحمله الناس ألوان من المعرفة والثقافة تجمع الغث والثمین مما يختلط أمره على السامع والناقل.
الثانية: إن داء الإختلاق وهو داء خطیر دبّ في المجتمع في العصر النبوي الشريف وضاق بأمره فصدع بما قال.
الثالثة: قيام داء النفاق فيمن تشرّف بصحبة خیر البشر صلی الله علیه و آله و سلم فاتخذ المنافق من نفاقه ذريعة خبيثة استغفل بها الأمة فبثّ الكذب متجرئًا على الله ورسوله.
إذاً فالصحبة لم تكن مانعة من النفاق، ولا حاجزة عن الافتراء.
الرابعة: إن أولئك المنافقین على عهد رسول الله ونجيّه لصقوا بأئمة الضلال!! والدعاة إلى النار وذلك من خبيث نفاقهم ودقيق خبثهم فارتبطوا بمركز القوة في الدولة واحتلوا منهم موقعًا مكنهم من الإمرة والسيطرة والنفوذ، فأضلوا العباد، وعاثوا في الأرض الفساد.
الخامسة: أن تلكم الجذور الخبيثة امتدت عروقها السوء وأنبتت الفكر الفج وأثمرت الحنظل وسيء النتاج فتسربت الإسرائيليات، وشوهت معالم الإسلام وحقائق الدين واختلط الحق بالباطل.
السادسة: وإن الأمة المتشرفة بعصر النبوة المشع فيها نور ونبراس الهدى
ص: 374
لم تكن تمتلك الوعي، ولم تعرف جلال النعمة الموفورة وتعرف قدرها وتؤدي شكرها، فما كل ذي عينین ببصیر، ولا كل ذي سمع بسميع، وقد شهد تاريح صحابة الصدر الأول أمّة لم ترتفع عن حضيض الأمية حتى في ضروريات المسائل وبديهيات القضايا.
السابعة: الصفوة المنتقاة والقلوب الواعية المحافظة لما استودعت، والعاملة بما حفظت ممن وضعت كل شيء موضعه.
الثامنة: وهنا موطن الامتياز، والمرتقى الذي لم يبلغه أحد سوى من خص بالوصية وائتمان عهود الله ومواثيقه فكان باب علم مدينة المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم الذي لا يدخل المدينة إلا من ولج منه، ذلكم هو فتى الإسلام ورجله وبطله علي أمیر المؤمنین عليه أفضل صلاة المصلین.
يصف زمانه بالجور ويقسم الناس فيه خمسة أصناف.
والحديث كسابقه وإن عني بعصره وأيام حكمه إلا أنه في الحقيقة حكاية عن واقع الإنسان وصراعه في الحياة في ميادين واسعة منطلقًا لتحقيق ما يرجو من دوافع عدة ورؤى مختلفة وقناعاتٍ سخر لانجاحها مايقوى عليه ولو كان أخسّ الحيل وأخبث السبل.
فلنقرأ رصین فكر الإمام ودقيق تقسيمه ومعمق تحليله لتلكم الأصناف والأوصاف في بديع القول والحكمة البالغة:
ص: 375
«في ذمّ الناكثين:
أَلاَ وإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ ذَمَّرَ حِزْبَهُ، وَاسْتَجْلَبَ جَلَبَهُ، لِيَعُودَ الْجَوْرُ إلى أَوْطَانِهِ، وَيَرْجِعَ الْبِاطِلُ إلى نِصَابِهِ، وَاللهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً، وَلاَ جَعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ نَصِفاً.
يذمّ عثمان:
وَإِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ، وَدَماً هُمْ سَفَكُوهُ، فَلَئِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ فَإِنَّ لَهُمْ لَنَصِيبَهُمْ مِنْهُ، وَلَئِنْ كَانُوا وَلُوهُ دُوني، فَمَا التَّبِعَةُ إِلاَّ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّ أَعْظَمَ حُجَّتِهِمْ لَعَلَى أَنْفُسِهِمْ، يَرْتَضِعُونَ أُمّاً قَدْ فَطَمَتْ، وَيُحْيُونَ بِدْعَةً قَدْ أُمِيتَتْ. يا خَيْبَةَ الدَّاعِي! مَنْ دَعَا! وإِلاَمَ أُجِيبَ! وَإِنَّي لَرَاض بِحُجَّةِ اللهِ عَلَيْهِمْ وَعِلْمِهِ فِيهمْ.
التهديد بالحرب:
فَإِنْ أَبَوْا أَعْطَيْتُهُمْ حَدَّ السَّيْفِ، وَكَفَى بِهِ شَافِياً مِنَ البَاطِلِ، وَنَاصَراً لِلْحَقَّ! وَمِنَ العَجَبِ بَعْثُهُمْ إِلَيَّ أَنْ أَبْرُزَ لِلطِّعَانِ! وَأَنْ أَصْبِرَ لِلْجِلادِ! هَبِلَتْهُمُ الْهَبُولُ! لَقَدْ كُنْتُ وَمَا أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ، وَلاَ أُرَهَّبُ بِالضَّرْبِ! وَإِنَّي لَعَلَى يَقِینٍ مِنْ رَبَّي، وَغَیْرِ شُبْهَة مِنْ دِيني»(1) .
وفي هذا النص التحليلي وقفات مهمة، وتأملات دقيقة نلقي الضوء على جملة منها.
فأولاً: التمهيد الذي صدّر به الإمام علیه السلام خطبته كاشفاً عن معنى جور
ص: 376
الزمان، وملخصاً فيه ما فصله:
أ) فالدهر عنود، والزمن كنود، وليس العيب ملتصقاً بليله ونهاره ولا ذنب لسمائه وأرضه، ولا تقصیر لهوائه وشمسه فما هو إلا ظرف الحوادث والحوادث تنسب إلى فاعلها.
نعيب زماننا والعيب فينا.
ب) فانقلبت الموازين، وتغرت الأخلاق ووصفت بأضدادها، فمصدر الإحسان انعكست النظرة حوله فعدّ مسيئاً، ولا يرعوي الظالم فيقصر عن ظلمه بل يزداد عتوًا وعدوانًا، وتماديًا وغيًّا.
ج) إن لهذه الآفات عللاً وأسبابًا، فقد أستبدل العلم بالجهل وتحكم في النفوس فسیرها، ومسراه لا ينتهي إلا بالتهلكة.
ومن لم يسترشد بالعلم الذي يحمله فه عن رفع جهله أكسل وأبعد ويتخبط في جهله وغيه آمنًا مفاجآت الدهر وطوارق الحدثان حتى تحل به القارعة حيث لا مفر ولا مفزع ولات حین مناص.
وثانياً: التصنيف الدقيق لطبائع حملة الشر من البشر.
1) فصنف تعلق بالفساد وشغف به، فلا يحول بينه وبین خبث مقاصده ولا يقعد به عن تحقيق مآربه إلا ضعة نفسه وخور عزيمته وإفلاسه.
2) وآخر متمرد هائج لا يكبح جماحه لجام، مستميت فيما يهوى من الاستعلاء والاستيلاء، يجاهر بالشر ويقوم بالعنف في سبيله، وكان كل همه حب
ص: 377
ذاته والأثرة والأمرة والسيطرة، وكلٌ يعمل على شاكلته، ومطامع هذه الفئة متفاوتة فربما تمثلت في امتلاك حطام وإن قل، وربما تمثلت في حب الظهور والجاه.
وأعظم بمقولة الإمام حكمة جامعة: «ولَبِئْسَ المَتْجَرُ أَنْ تَرَى الدُّنْيا لِنَفْسِكَ ثَمَنًا، ومِمّا لَكَ عِنْدَ اللهِ عِوَضًا»(1) .
فتمرد واستماتة وتحقر المقدسات وتقديس المحقرات وبذل أعز ما لدى الإنسان وهو نفسه فداء لنزوات ورغبات ربما لا تنال.
وإذا أُدركت البغية فما هي إلا متاع سرعان ما يزول وخيال يتبدد ويضمحل وما عند الله خیر وأبقى، فأي جور بعد هذا أشنع وأفظع.
3) وثالث منافق محتال وعلى ضد مسلك الصنف السابق وإن اتحدا غرضاً فقد تقمص هذا الرياء وارتدى رداء المساكين أحاط نفسه بما يغري من حوله من انحناء وخضوع ومظاهر خشوع وسكينة ووقار ولسان يلقلق بالذكر ومسكنة وزهادة وما ينجح الغاية من حيل التمويه وحبائل الشيطان.
هذا وقد غفل عن إملاء الله له وستره عليه فتمظهر بالصالحین وسيلة لنيل الدنيا ومعصية الملك الجبار.
4) ورابع يغالط ذاته ويخادعها فهو يهفو إلى الأمرة والحكم ولكن أقعده مثبطات نفس حقیرة، ولا يمتلك ما به يملك فأوهم نفسه أنه قانع وزاهد غیر راغب.
ص: 378
ولإحكام اتصافه بذلك تجلبب بلباس الزهد والتقشف، وليس هو من ذلك في شيء.
ثالثاً: الصفوة الخيرة:
وهم الأقلون عدداً، «وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِینَ»، «وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ»، «وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ».
وقد شغل أولئك وملأ قلوبهم حب الدنيا، وقد شغل هؤلاء الرغبة في الله، فأولئك أبناء الدنيا، وهؤلاء أبناء الآخرة.
وعامل الاستقامة فيهم: المرجع، والمحشر.
دائمو الذكر، مستمرو الخوف، ومن ذكر المرجع ارعوى، ومن خاف المحشر بكى.
وهم قبالة أضدادهم يأنسون بالوحدة، يستذلون فيقمعون ويخافون، لا يسعهم إلا السكوت بعد أن وعظوا حتى ملوا، وقهروا فأتقوا وأذلوا، تقاذفتهم أمواج المصائب، وعصفت بهم المكاره والمصاعب فعادوا بعد القتلة قلة.
ويلتقي هذا النص اللاحق بالسابق جوهراً ومضموناً مركزاً على استيلاء حب الدنيا على الكافة إلا من عصم الله ورحم، ومقارناً بین جنة من النعيم الدائم في متنوع صوره وأشكاله وبن مستنقع عفن شغفوا بقربه وحبه فعشقوه وتملوا منه حتى راحت أنفاسهم وأبدانهم بالنتن.
ص: 379
عصيان الخلق:
«سُبْحَانَكَ خَالِقاً وَمَعْبُوداً! بِحُسْنِ بَلاَئِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ، خَلَقْتَ دَاراً، وَجَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً: مَشْرَباً وَمَطْعَماً، وَأَزْوَاجاً وَخَدَماً، وَقُصُوراً، وَأَنْهَاراً، وَزُرُوعاً، وَثِمَاراً.
ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا، فَلاَ الدَّاعِيَ أَجَابُوا، وَلاَ فِيَما رَغَّبْتَ رَغِبُوا، وَلاَ إلى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اشْتَاقُوا. أَقْبَلُوا عَلَى جِيفَةٍ قَدْ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا، وَاصْطَلَحُوا عَلَى حُبَّهَا، وَمَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ، وَأَمْرَضَ قَلْبَهُ، فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَیْن غَیْرِ صَحِيحَةٍ، وَيَسْمَعُ بَأُذُن غَیْرِ سَمِيعَةٍ، قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ، وَأَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَهُ، وَوَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ، فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا، وَلَمِنْ فِي يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا»(1) .
ويسترعي الانتباه في مفتتح هذا الفصل تصديره بإجلال الله- جلّ وعلا- وأنه الخالق المعبود، فمن كان هو وحده الخالق فهو أهل العبادة لاسواه، ومن كان شأنه الإنعام وحسن البلاء بعباده فهو المولى المنعم المتفضل المحسن المجمل.
ثم يعرض الإمام- صلوات الله وسلامه عليه- صورتین متمايزتین فيما بينهما من تفاوت لا تصح فيهما مقارنة ولا مقايسة من وجه.
فالأولى وهي جنة الخلود الدائم والنعيم المقيم، وهي فياضة بما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعین مترعة بما هو أوفى وأجمل وأكمل لما تهواه النفوس وتستميت فيه الرغائب ودنيا الملاذ.
وقد عُني الخالق بعباده وشرفهم فدعاهم مرغباً مشوقاً على لسان سيد خلقه وأصدقهم لنيل مافوق أمانيهم وآمالهم، والله صادق الوعد ورسوله صادق
ص: 380
الدعوة.
والثانية هي الدنيا الدنية وزخرفها المبهرج ولذتها الفانية ومباهجها الزائفة ومتعها الزائلة، وكلها مشوبة بالكدر، نافذة فيها الغصص، لا ينفك اللائذ بأطرافها من المكاره سرعان ما تفنى أو يفنى راغبها فتذهب اللذة وتبقى التبعة.
ثم يقرر الإمام الحقيقة المرة المتمثلة في هيام السواد الأعظم وتعلق الأعم الأغلب بالإدبار عن دعوة الحق والإقبال على الباطل الزهوق.
«فَلاَ الدَّاعِيَ أَجَابُوا، وَلاَ فِيَما رَغَّبْتَ رَغِبُوا، وَلاَ إلى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اشْتَاقُوا».
بل «أَقْبَلُوا عَلَی جِيفَةٍ قَدْ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا، وَاصْطَلَحُوا عَلَی حُبَّهَا».
إلى حد الوله والافتتان.
«وَمَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ، وَأَمْرَضَ قَلْبَهُ».
هذا ولا يخفى أن الإمام لا يهذب الأمة على عدم الاستمتاع بخیرات الله في الدنيا، وعدم النيل من نعم الله، فمنطقه وحكمته هي قول الله سبحانه:
«قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصَّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ»(1) .
ص: 381
«وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيَّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ»(1) .
وفي بقية الخطبة الشريفة دقيق التبصیر، وبالغ الموعظة، وشريف البيان، وعميق التذكیر.
ص: 382
وهي ركيزة في الإصلاح قويمة، باعثة لسلوك المناهج المستقيمة وإن ثقلت على الكافة أداءً وقبولاً، يتحرج ملقيها ويمتعض متلقيها ويبرم بقائلها ويتصامم عن سماعها.
وقد حفل النهج الشريف بوافر الحديث حول شؤون النصح والنصيحة كما مثل الإمام دور الناصح الإلهي فيها مجسداً في فيضٍ من خطبه وكتبه.
ولاتساع دائرة مقال الإمام علیه السلام في هذا المضمار نرشد إلى تتبع مادة (نصح) في (نهج البلاغة)(1) ومشتقاتها متناولًا غرفاً من البحر أو قطراً من الديم.
أ) «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ مَنِ اسْتَنْصَحَ اللهَ وُفِّقَ، وَمَنِ اتَّخَذَ قَوْلَهُ دَلِيلاً هُدِيَ لِلَّتَي هِيَ أَقْوَمُ»(2) .
وانقطاع العبد إلى مولاه سرّ سعادته، وعنوان استقامته، ودليل هدايته في مسیرته في سرّه وعلانيته، إذاً فليكن ذلك أول ما يتعلق به وينقطع إليه.
وماذا يرتجى من استنصاح العبد من المولى إلاّ التوفيق والهداية للتي هي أقوم.
وقد عقب ذلك الإمام علیه السلام بتلكم الآثار فقال:
ص: 383
«فَإِنَّ جَارَ اللهِ آمِنٌ، وَعَدُوَّهُ خَائِفٌ، وَإِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لَمِنْ عَرَفَ عَظَمَةَ اللهِ أَنْ يَتَعَظَّمَ، فَإِنَّ رِفْعَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا عَظَمَتُهُ أَنْ يَتَوَاضَعُوا لَهُ، وَسَلاَمَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا قُدْرَتُهُ أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لَهُ»(1) .
ب) «انْتَفِعُوا بِبَيَانِ اللهِ، وَاتَّعِظُوا بِمَوَاعِظِ اللهِ، وَاقْبَلُوا نَصِيحَةَ اللهِ، فَإنَّ اللهَ تَعَالَی قَدْ أَعْذَرَ إلَيْكُمْ بِالْجَلِيَّةِ، وَاتَّخَذَ عَلَيْكُمْ الْحُجَّةَ، وَبَیَّنَ لَكُمْ مَحَابَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَمَكَارِهَهُ مِنْهَا، لِتَتَّبِعُوا هذِهِ، وَتَجْتَنِبُوا هذِهِ، فَإنَّ رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم كَانَ يَقُولُ: إنَّ الْجَنَّةَ حُفَّتْ بِالمَكَارِهِ، وَإنَّ النَّارَ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ»(2) .
وقد أبان الله السبل وأرشد إلى أهداها، وأتمّ الحجة من قبل ومن بعد، وأمدّ المكلف بالقوة والقدرة ورغب وحذر وأعذر وأنذر، والعاقل من عقل عن الله وتعلق به وأخذ بنصحه قاهراً بذلك النفس وما تهوى إلى ما يأمر به المولى ويرضى.
أ) «بَعَثَهُ وَالنَّاسُ ضُلاَّلٌ فِي حَیْرَةٍ، وَحَاطِبُونَ فِي فِتْنَةٍ، قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الْأَهْوَاءُ، وَاسْتَزَلَّتْهُمُ الْكِبْرِيَاءُ، وَاسْتَخَفَّتْهُمُ الْجَاهِلِيَّةُ الْجَهْلاَءُ؛ حَيَارَى فِي زَلْزَالٍ مَنَ الْأَمْرِ، وَبَلاَءٍ مِنَ الْجَهْلِ، فَبَالَغَ صلی الله علیه و آله و سلم فِي النَّصِيحَةِ، وَمَضَى عَلَى الطَّرِيقَةِ، وَدَعَا إلى الْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الَحْسَنَةِ»(3) .
ب) «بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً، وَنَصَحَ لأُمَّتِهِ مُنْذِراً، وَدَعاَ إلى الْجَنَّةِ مُبَشَّراً، وَخَوَّفَ
ص: 384
مِنَ النَّارِ مُحَذِّراً»(1) .
ج) «أَرْسَلَهُ وَأَعْلاَمُ الْهُدَى دَارِسَةٌ، وَمَنَاهِجُ الدِّينِ طَامِسَةٌ، فَصَدَعَ بِالْحَقِّ، وَنَصَحَ لِلْخَلْقِ، وَهَدَى إلى الرُّشْدِ، وَأَمَرَ بِالْقَصْدِ، صى الله عليه وآله وسلّم»(2) .
وقد أرّخ الإمام علیه السلام لعصر قيام النبي الناصح صلی الله علیه و آله و سلم ومدى تردي الأخلاق وبواعث الانحطاط وعوامل الضلالة والانحراف.
كما حكى استماتته صلی الله علیه و آله و سلم ومبالغته في الهداية والإرشاد منذراً مبشراً بأمثل السبل وأقوم الطرق قولاً وعملاً حتى مضى إلى ربه على منهاجه ناصحاً مجتهداً مكافحاً صلی الله علیه و آله و سلم.
أ) «وَاعْلَمُوا أَنَّ هذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لاَ يَغُشُّ، وَالْهَادِي الَّذِي لاَ يُضِلُّ، وَالمحَدِّثُ الَّذِي لاَ يَكْذِبُ»(3) .
ب) ومن كتاب له علیه السلام إلى الحارث الهَمْدَاني:
«وَتَمَسَّكْ بِحَبْلِ الْقُرآنِ، وَاسْتَنْصِحْهُ، وَأَحِلَّ حَلاَلَهُ، وَحَرَّمْ حَرَامَهُ»(4) .
فكتاب الله حق لا يأتيه الباطل من بین يديه ولا من خلفه تنزيل من عزيز
ص: 385
حميد مأمون من الزيغ هاد إلى الرشد فلا يضل من استنصحه واهتدى بهداه فوقف على حدوده واتبع أوامره ونواهيه واقتص خبره واقتفى أثره.
4) الإمام خير ناصح:
أ) «... فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ: فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ،... وَأَمَّا حَقَّي عَلَيْكُمْ فَالوَفَاءُ بِالبَيْعَةِ، وَالنَّصِيحَةُ في المَشْهَدِ وَالمَغِيبِ»(1) .
ب) «وَأَسْمَعْتُكُمْ فَلَمْ تَسْمَعُوا، وَدَعَوْتُكُمْ سِرًّا وَجَهْرًا فَلَمْ تَسْتَجِيبُوا، وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَلَمْ تَقْبَلُوا»(2) .
ج) ومن كتاب كتبه (بحاضرين) لولده الحسن علیه السلام عند انصرافه من صفین:
«فَإِنَّي لَمْ آلُك نَصِيحَةً(3) . وَإِنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ فِي النَّظَرِ لِنَفْسِكَ- وَإِنِ اجْتَهَدْتَ- مَبْلَغَ نَظَرِي لَكَ»(4) .
والكتاب طويل في وصايا عريضة جليلة، مفعم بالتربية الأخلاقية العالية، محكم بالضوابط القويمة.
د) ومن كتاب له علیه السلام إلى عماله على الخراج «وَلاَ تَدَّخِرُوا(5) أَنْفُسَكُمْ
ص: 386
نَصِيحَةً»(1) .
أ) «لَيْسَتِ الرَّوِيَّةُ كَالمُعَايَنَةِ مَعَ الْإِبْصَارِ، فَقَدْ تَكْذِبُ الْعُيُونُ أَهْلَهَا، وَلاَ يَغُشُّ الْعَقْلُ مَنِ اسْتَنْصَحَهُ»(2) .
ب) «الْفِكْرُ مرْآةٌ صَافِيَةٌ، وَالْاعْتِبَارُ مُنْذِرٌ نَاصِحٌ، وَكَفى أَدَباً لِنَفْسِكَ تَجَنُّبُكَ مَا كَرِهْتَهُ لِغَیْرِكَ»(3) .
فالعقل أنفس جوهرة وهبها خالقها وكرّم بها من أودعه إياها فهو رسول باطني، ونبراس داخلي يهدي من استهداه، يدرك ما دق، ويكشف ما رق، ويميز ما خفي، وكفى به مرآة حقيقية تسمو على إدراك الجوارح ما تلامسه أو تقع عليه فيختلط عليها أمره ويغم عليها واقعه.
أ) «وَاقْبَلُوا النَّصِيحَةَ مِمَّنْ أَهْدَاهَا إِلَيْكُمْ، وَاعْقِلوهَا عَلَی أَنْفُسِكُمْ»(4) .
يحضّ- سلام الله عليه- أصحابه على التأسي بمن نُصح فاستنصح وهُدي فاهتدى فعادوا أماثل الرجال، فلتكونوا على شاكلتهم، ولا تكونون حتى تعقلوا النصيحة على أنفسكم وثاقاً لا يفل، ورباطاً قد أبرم فلا ينقض.
ص: 387
ب) «فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ، وَحُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ- وَإنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَ اللهِ حِرْصُهُ، وَطَالَ فِي الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ- بِبَالِغٍ حَقِيقَةَ مَا اللهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ. وَلكِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللهِ عَلى عِبَادهِ النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى إقَامَةِ الْحَقِّ بَيْنَهُمْ. وَلَيْسَ امْرُؤٌ- وَإنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ- بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ اللهُ مِنْ حَقَّهِ.وَلاَ امْرُؤٌ- وَإِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ، وَاقْتَحَمَتْهُ الْعُيُونُ- بِدُونِ أَنْ يُعِینَ عَلى ذلِكَ أَوْ يُعَانَ عَلَيْه»(1) .
فالنصيحة قضية مشتركة، ووظيفة متكافئة، وضرورة متبادلة لا يرتفع عنها أحد، ولا ترتفع عن أحد، وبها قوام الفرد والجماعة، والراعي والرعية.
ج) «وامْحَضْ أخاكَ النَّصِيحةَ، حَسَنةً كانتْ أَو قَبِيحةً»(2) . فذلك شأن المؤمن ومقتضى إخلاصه، وهو مرآة لأخيه المؤمن. ولا يتبعض النصح وإن اختلف وقعه لدى المنصوح موافقة ومخالفة وقبولاً وردًّا.
«فَأَعِينُوني بِمُنَاصَحَةٍ خَلِيَّةٍ مِنَ الْغِشِّ، سَلِيمَةٍ مِنَ الرَّيْبِ»(3) .
«إِنَّ أَنْصَحَ النَّاسِ لِنَفْسِهِ أَطْوَعُهُمْ لِرَبَّهِ، وَإِنَّ أَغَشَّهُمْ لِنَفْسِهِ أَعْصَاهُمْ لِرَبَّهِ؛
ص: 388
وَالمَغْبُونُ مَنْ غَبَنَ نَفْسَهُ، وَالمَغْبُوطُ مَنْ سَلِمِ لَهُ دِينُهُ»(1) . والحق أنه الميزان الدقيق، والفكر السويّ والهدي القويم، إذ لا أعز على المرء من نفسه، ولا أحب إليه منها، فهو بالطبع يود سعادتها لا شقاءها، ومعيار ذلك كفتا الطاعة والعصيان، والانقياد والتمرد.
أ) «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ الْعَالِمِ المُجَرَّبِ تُورِثُ الْحَسْرَةَ، وَتُعْقِبُ النَّدَامَةَ. وَقَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ في هذِهِ الْحُكُومَةِ أَمْرِي، وَنَخَلْتُ لَكُمْ مَخزُونَ رَأْيِي، لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِیرٍ أَمْرٌ! فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ المُخَالِفِینَ الْجُفَاةِ، وَالمُنَابِذِينَ الْعُصَاةِ، حَتَّى ارْتَابَ النَّاصِحُ بِنُصْحِهِ، وَضَنَّ الزَّنْدُ بِقَدْحِهِ، فَكُنْتُ وَإِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ:
أَمَرْتُكُمُ أَمْري بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى *** فَلَمْ تَسْتَبِينُوا النُّصْحَ إِلاَّ ضُحَى الْغَدِ»(2) .
وفي هذا النص الشريف المتخم باللوعة، والمفعم بالحسرة وفورة التبرم المفتتح بقوله علیه السلام: «الْحَمْدُ للهِ وَإنْ أَتَى الدَّهْرُ بِالْخَطْبِ الْفَادِحِ، وَالْحَدَثِ الْجَلِيلِ» وذلك في عاصفة التحكيم وما بلغه من أمر الحكمین.
أجل... في هذا البيان ركائز الفكر، وضوابط الرأي ونتائج مخالفة الحكمة، وعوامل ذلك وبواعثه لدى الصم البكم فاقدي البصیرة ذوي اللجاج وشدة العناد، والإصرار على الصمم عن الحق مجمعین حتى الاستماتة في التمادي في الغي
ص: 389
حتى بان لهم غب ما عموا عنه وصموا.
ب) الساعي متهم:
«وَلاَ تَعْجَلَنَّ إلى تَصْدِيقِ سَاعٍ، فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ، وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ»(1) .
وذلك ما يقتضيه الاحتياط في الدين، ويمليه التثبت في مواطن الشك والشبهة ويدعو إليه التريث في ترتيب الآثار على سماع الأخبار.
ج) الشيطان الغوي:
«وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ ثَبَّطَكَ عَنْ أَنْ تُرَاجِعَ أَحْسَنَ أُمُورِكَ، وَتَأْذَنَ لَمِقَالِ نَصِيحَتِكَ»(2) .
خطاب لمعاوية يقرّر حقيقة: إن من أصم سمعه عن الله وقوله فقد تمكن منه شيطانه فأضله سواء السبيل، «وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ»(3) .
د) نصح الغاش وغش المستنصح:
«وَرُبَّمَا نَصَحَ غَيْرُ النَّاصِحِ، وَغَشَّ المُسْتَنْصَحُ»(4) .
فالحكمة ضالة المؤمن يأخذها يأخذها أنّى وجدها، فربما ظهرت فلتة على
ص: 390
لسان الاحمق والغاش، وربما أحسن الظن بمن لا خلاق له فأوغل في نصيحته، وهنا موطن الحيطة والحذر والتروي والنظر.
ه) النصح والاتّهام:
«وَمَا كُنْتُ لِأَعْتَذِرَ مِنْ أَنَّي كُنْتُ أَنْقِمُ عَلَيْهِ أَحْدَاثاً، فَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ إِلَيْهِ إِرْشَادِي وَهِدَايَتِي لَهُ، فَرُبَّ مَلُومٍ لاَ ذَنْبَ لَهُ. وَقَدْ يَسْتَفِيدُ الظِّنَّةَ(1) المُتَنَصَّحُ(2) »(3) .
والاتهام آفة، وربما وقفت سدًّا عن فعل الخیر وإدامته، فهي من عوائق الإصلاح، وحواجزه لدى من لا يقوى على قهرها، وفي ذلك تتمايز الرجال، وتختلف المواقف.
و بعد... فقد عشنا النصح مع الإمام في خطبه وكتبه ووصاياه لأوليائه وولاته وأعدائه، وقد شملت بفكرها الرائع وفيضها الواسع معارف جمة وحقائق مهمة تعنى بالإنسان وشؤونه عقيدةً وسلوكاً وتاريخاً وتربيةً وإدارة وعظةً وعبرة.
ص: 391
وهو خلق كريم ينمّ عن شرف النفس وطيب الذات وحسن التعامل وجميل التفاعل مع مقتضى الظروف والأحوال الطارئة في حياة الإنسان.
فما هي مواطن الوفاء، وماذا يقضي الخلق الفاضل فيها؟
هذا ما نسترشد في تجليته من حكم الإمام علیه السلام وغرر كلمه.
«مَا ضَرَّ إِخْوَانَنَا الَّذِينَ سُفِكَتْ دِمَاؤُهُمْ- وَهُمْ بِصِفَّینَ- أَلاَّ يَكُونُوا الْيَوْمَ أَحْيَاءً؟ يُسِيغُونَ الْغُصَصَ، وَيَشْرَبُونَ الرَّنْقَ(1) ! قَدْ- وَاللهِ- لَقُوا اللهَ فَوَفَّاهُمْ أُجُورَهُمْ، وَأَحَلَّهُمْ دَارَ الْأَمْنِ بَعْدَ خَوْفِهمْ»(2) .
وقد كتب علیه السلام إلى أبي موسى الأشعري في أمر التحكيم الذي أُكره عليه:
«وَلَيْسَ رَجُلٌ- فَاعْلَمْ- أَحْرَصَ عَلَى جَمَاعَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله و سلم وأُلْفَتِهَا مِنَّي، أَبْتَغِي بِذلِكَ حُسْنَ الثَّوَابِ، وَكَرَمَ المَآبِ، وَسَأَفِي بِالَّذِي وَأيْتُ(3) عَلَى نَفْسيِ»(4) .
ص: 392
«لاَ تَكُنْ مِمَّنْ يَحْكُمُ على غیرِهِ لنفسِه، ولا يُحْكَمُ عليها لغیرِه، يُرْشِدُ غیرَهُ، ويُغوي نَفْسَهُ، فهو يُطاعُ ويَعْصِيَ، وَيَسْتَوْفِي وَلا يُوفِي»(1) .
من كتاب كتبه إلى بعض عمّاله وقد بعثه على الصدقة:
«وَإِنَّ لَكَ فِي هذِهِ الصَّدَقَةِ نَصِيباً مَفْرُوضاً، وَحَقّاً مَعْلُوماً، وَشُرَكَاءَ أَهْلَ مَسْكَنَة، وَضُعَفَاءَ ذَوِي فَاقَةٍ، إِنَّا مُوَفُّوكَ حَقَّكَ، فَوَفَّهِمْ، حُقُوقَهُمْ، وَإِلاَّ تَفْعَلْ فَإِنَّكَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ خُصُوماً يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(2) .
«فَتَعَصَّبُوا لِخِلاَلِ الْحَمْدِ... وَالْوَفَاءِ بِالذَّمَامِ(1) »)(2) .
«ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ، وَابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصَّدْقِ وَالوَفَاءِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السَّرَّ لِأُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْأَمَانَةِ، وَالرَّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ»(3) .
«وَإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَبَیْنَ عَدُوّ لَكَ عُقْدَةً، أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً، فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ، وَارْعَ ذِمَّتَكَ بِالْأَمَانَةِ، وَاجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ شَيْءٌ النَّاسُ أَشدُّ عَلَيْهِ اجْتِماعاً، مَعَ تَفْرِيقِ أَهْوَائِهِمْ، وَتَشْتِيتِ آرَائِهِمْ، مِنَ تَعْظيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ. وَقَدْ لَزِمَ ذلِكَ المُشْرِكُونَ فِيَما بَيْنَهُمْ دُونَ المُسْلِمِينَ لَمِا اسْتَوْبَلُوا(4) مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ، فَلَا تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ، وَلَا تِخَيسَنَّ(5) بَعَهْدِكَ، وَلَا تَخْتلَنَّ(6) عَدُوَّكَ، فَإِنَّهُ لَا يْجَتِرَىءُ عَلىَ اللهِ إِلاَّ جَاهِلٌ شَقِيٌّ. وَقَدْ جَعَلَ اللهُ عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَیْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ، وَحَرِيماً يَسْكُنُونَ إلى مَنَعَتِهِ، يَسْتَفِيضُونَ(7) إلى
ص: 394
جِوَارِهِ، فَلاَ إِدْغَالَ(1) ، وَلَا مُدَالَسَةَ(2) ، وَلَا خِدَاعَ فِيهِ»(3) .
«الْوَفَاءُ لِأَهْلِ الْغَدْرِ غَدْرٌ عِنْدَ اللهِ، وَالْغَدْرُ بَأَهْلِ الْغَدْرِ وَفَاءٌ عِنْدَ اللهِ»(4) .
«وَحَقّاً أَقُولُ! مَا الدُّنْيَا غَرَّتْكَ، وَلكِنْ بِهَا اغْتَرَرْتَ، وَلَقَدْ كَاشَفَتْكَ الْعِظَاتِ،... وَلَهِيَ بِمَا تَعِدُكَ مِنْ نُزُولِ الْبَلاَءِ بِجِسْمِكَ، وَالنَّقْصِ فِي قُوَّتِكَ، أَصْدَقُ وَأَوْفَي مِنْ أَنْ تَكْذِبَكَ، أَوْ تَغُرَّكَ»(5) .
من العلائق المتأصلة في أعماق الإنسان تعلقه بولده فمنه تولّد وتفرّع، نيط قلبه بحبه، وهو بعد زينته وامتداده «المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَیْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَیْرٌ أَمَلاً»(1) ، «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النَّسَاء وَالْبَنِینَ»(2) .
ولنظام الأخلاق حكمه في تنظيم المسار السليم للتعلق بأفلاذ الأكباد، ورسم المنهج القويم فيما يجب أن يعلم ويعمل من شأنهم ومنهم لأنفسهم فلنقتف آثارالإمام علیه السلام ونسايره في نهجه.
«إِنَّ للهِ مَلَكاً يُنَادِي فِي كُلَّ يَوْمٍ: لِدُوا لِلْمَوْتِ، وَاجْمَعُوا لِلْفَنَاءِ، وَابْنُوا لِلْخَرَابِ»(3) .
تلك نهاية الأحياء وعاقبة المخلوقات، «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالْإِكْرَامِ»(4) .
ولا يحمل قول الإمام علیه السلام انتزاع الرغبة والميل لإنجاب الذرية، وإنما يرمي إلى التبصیر بالنهاية الحتمية، فيبعث ذلك إلى انضباط العواطف تجاه الإمتداد
ص: 396
المحبوب، والحد من إيثار الولد على حساب المقدسات والوظائف الشرعية الواجبة الرعاية.
«أَلاَ وَإنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ حَذَّاءَ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلاَّ صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الإْنَاءِ اصْطَبَّهَا صَابُّهَا، أَلاَ وَإِنَّ الاْخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الاْخِرَةِ، وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ كُلَّ وَلَد سَيُلْحَقُ بأُمِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلاَ حِسَابَ، وَغَداً حِسَابٌ وَلاَ عَمَلَ»(1) .
وذلك تشبيه رائع، وتنزيل بارع، يدعوان إلى دقة التأمل وجميل التعامل بین وهم من النعيم زائل، ويقن نعيم دائم ومقيم.
«اللهُمَّ إِنَّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ...، وَسُوءِ المَنظَرِ فِي الاْهْلِ وَالمَالِ والْوَلَدِ. اللهُمَّ...،وَأَنْتَ الْخلِيفَةُ فِي الاْهْلِ»(2) .
وهذا من دعائه عند وضع رجله في الركاب عند عزمه على المسیر إلى الشام ويمثل دعاؤه علیه السلام هذا خالص الانقطاع إلى الله سبحانه في كل أحواله وبالغ إهتمامه فيما يخلفه من أهله وماله فيستخلف مولاه فيه ويرجوه سلامته وبقاءه زيناً لا شيناً غیر مفتون في دينه ولا مبتلى في دنياه.
ص: 397
«فَاسْتَمِعُوا مِنْ رَبَّانِيَّكُمْ، وَأَحْضِرُوهُ قُلُوبَكُمْ، واسْتَيْقِظُوا إِنْ هَتَفَ بِكُمْ، وَلْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ،... فَعِنْدَ ذلِكَ أَخَذَ الْبَاطِلُ مَآخِذَهُ، وَرَكِبَ الْجَهْلُ مَرَاكِبَهُ،... فَإِذَا كَانَ ذلِكَ كَانَ الْوَلَدُ غَيْظاً... وَتَفِيضُ اللَّئَامُ فَيْضاً، وَتَغِيضُ الْكِرَامُ غَيْضاً»(1) .
إنها دراية العالم الإلهي الخبیر، وطبيعة الظروف السوء أن تنضح سوء وتنتج وبيئاً، فشأن أمة ذلكم العصر النزوع إلى الباطل والإنحدار إلى الدنايا، فلا قيم ولا مروءة ولا شرف ولا فضيلة، فماذا يرتجى ممن ينحدر منهم وينسل من أصلابهم وأرحامهم؟! إلا من رحم الله وعصم وأكرمه فسلم.
«وَقَدْ عَرَفَ حَقَّهَا- الصلاة- رِجَالٌ مِنَ المُؤْمِنِینَ الَّذِينَ لاَ تَشْغَلُهُمْ عنْهَا زِينَةُ مَتَاع، وَلاَ قُرَّةُ عَیْن مِنْ وَلَد وَلاَ مَال، يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ: «رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ»»(2) .
«إِنَّ لِلْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ حَقّاً، وَإِنَّ لِلْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ حَقّاً: فَحَقُّ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ أَنْ يُطِيعَهُ فِي كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ، وَحَقُّ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ أَنْ يُحَسَّنَ اسْمَهُ وَيُحَسَّنَ أَدَبَهُ وَيُعَلَّمَهُ الْقُرْآنَ»(3) .
ص: 398
وقد جمع علیه السلام في وجيز كلامه جماع الحقوق مركزاً على المحور الأساس الذي تدور واجبات كل تجاه الآخر مداره، ألا وهو: الله ونظامه وهديه وإطاعته وخشيته ومعصيته.
«لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: اللهُمَّ إِنَّي أَعُوذُ بكَ مِنَ الْفِتْنَةِ، لأنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ إِلاَّ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فِتْنَةٍ، وَلكِنْ مَنِ اسْتَعَاذَ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ مُضِلاَّتِ الْفِتَنِ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ»، وَمَعْنَى ذلِكَ أَنَّهُ يَخْتَبِرُهُمْ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلاَدِ لِيَتَبَیَّنَ السَّاخِط لِرِزْقِهِ وَالرَّاضِي بِقِسْمِهِ، وإِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلكِن لِتَظْهَرَ الْأَفْعَالُ الَّتي بِهَا يُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، لِاَنَّ بَعْضَهُمْ يُحِبُّ الذُّكُورَ وَيَكْرَهُ الْإِنَاثَ، وَبَعْضَهُمْ يُحِبُّ تَثْمِیرَ المَالِ وَيَكْرَهُ انْثِلاَمَ الحَالِ»(1) .
«لا تَجْعَلَنَّ أَكْثَرَ شُغُلِكَ بِأَهْلِكَ وَوَلَدِكَ فَإِنْ يَكُنْ أَهْلُكَ وَوَلَدُكَ أَوْلِيَاءَ اللهِ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَوْلِيَاءَهُ وَإِنْ يَكُونُوا أَعْدَاءَ اللهِ فَمَا هَمُّكَ وَشُغُلُكَ بِأَعْدَاءِ اللهِ»(2) .
وليس من غرض الإمام علیه السلام إغفال جانب التربية والرعاية مادية ومعنوية حاضرة ومستقبلة، فذلك من صميم الوظائف الدينية، وإنما هو التوجيه لعلاج ما يساور الآباء من قلق على مستقبل أولادهم، فيعيشون هم ذلك غافلین عن ما يجب قصده والنظر إليه وحسن الثقة والتوكّل عليه- وحده لا شريك له- ألا
ص: 399
وهو موقع هؤلاء الأفلاذ من رضى الله وسخطه، وكفى بالله ناظرًا وراعيًا مدبّرًا.
«وَسُئِلَ عَنِ الْخَیْرِ مَا هُوَ فَقَالَ لَيْسَ الْخَیْرُ أَنْ يَكْثُرَ مَالُكَ وَوَلَدُكَ وَلَكِنَّ الْخَیْرَ أَنْ يَكْثُرَ عِلْمُكَ»(1) .
والمنفي هو مقالة المترفين كما حكى عنهم الإمام علیه السلام: «وَأَمَّا الْأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الْأُمَمِ فَتَعَصَّبُوا لِآثَارِ مَوَاقِعِ النَّعَمِ فَقالُوا «نَحْن أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِینَ»»(2) .
فكان مقياسهم وفق ما يحيون ويهوون، وإن كان عرضًا مفارقًا ولم يكن للخیر موافقًا.
أما مقياس الحق فالخیر في العلم الغزير والأدب الجمّ وما يقرّب من الله زلفى.
وقد أفاض الإمام علیه السلام في الحديث عن مقوّمات الرتبية وركائزها القويمة، وبثّه في مواطن عديدة من عهوده وخطبه ووصاياه حتى اعتدّ ذلك مقياسًا ومعيارًا لدرجة الاهتمام البالغ، كما جاء في عهده الأعظم لواليه مالك الأشتر،
ص: 400
حيث قال: «ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا»(1) .
وأجمع فكر صاغه وصية لولده الإمام الحسن المجتبى علیه السلام(2) :
حيث الحنوّ الأبويّ المجسّد:
«وَوَجَدْتُكَ بَعْضِيِ بَلْ وَجَدْتُكَ كُلَّي حَتَّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي، وَكَأَنَّ المَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي، فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِينِي مِنْ أَمْرِ نَفْسِيِ، فَكَتَبْتُ إِلَيْكَ كِتَابِي مُسْتَظْهِراً بِهِ إِنْ أَنَا بَقِيتُ لَكَ أَوْ فَنِيتُ».
وعصارة العلم وخلاصة التجارب:
«أَيْ بُنَيَّ إِنِّ وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمَّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ، حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنَّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمَّرْتُ مَعَ أَوَّلهِمْ إِلَی آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِهِ وَنَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ نَخِيلَهُ، وَتَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَهُ، وَصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ».
ربيع الأدب:
«بَادَرْتُ بِوَ صِيَّتِي إِلَيْكَ وَأَوْرَدْتُ خِصَالًا مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَعْجَلَ بِي أَجَلِي دُونَ أَنْ أُفْضِيَ إِلَيْكَ بِمَا فِي نَفْسِيِ أَوْ أَنْ أُنْقَصَ فِي رَأْيِي كَمَا نُقِصْتُ فِي جِسْمِي أَوْ يَسْبِقَنِي إِلَيْكَ بَعْضُ غَلَبَاتِ الْهَوَى وَفِتَنِ الدُّنْيَا فَتَكُونَ كَالصَّعْبِ النَّفُورِ وَإِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ
ص: 401
كَالْأَرْضِ الْخَالِيَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ قَبِلَتْهُ فَبَادَرْتُكَ بِالْأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُوَ قَلْبُكَ وَيَشْتَغِلَ لُبُّكَ».
«وَرَأَيْتُ حَيْثُ عَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِي الْوَ الِدَ الشَّفِيقَ وَأَجْمَعْتُ عَلَيْهِ مِنْ أَدَبِكَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَأَنْتَ مُقْبِلُ الْعُمُرِ وَمُقْتَبَلُ الدَّهْرِ ذُو نِيَّةٍ سَلِيمَةٍ وَنَفْسٍ صَافِيَةٍ».
الأدب الإلهي ركيزة التربية:
«وَأَنْ أَبْتَدِئَكَ بِتَعْلِيمِ كِتَابِ اللهِ علیه السلام وَتَأْوِيلِهِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلاَمِ وَأَحْكَامِهِ وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ لَا أُجَاوِزُ ذَلِكَ بِكَ إِلَی غَيْرِهِ».
وقد حفل كتاب الوصية بفيض المعارف، وجوامع الخیر، وطرائف الحكم،وشرائع الخلق الكريم، والأدب العظيم، تجدر دراسته وإعمال دقيق النظر في بنوده، واللهج بذكره وتلاوته، واتخاذه منهاجًا وسیرة وسريرة وخدينًا وسميرًا.
ص: 402
وهي: الابتلاء والامتحان والاختبار، أصله من فتنت الفضة إذا أدخلتها النار لتتميّز.
والفتنة: اسم يقع على كل شر وفساد(1) .
والفتنة... ج فِتَنٌ وفتن. و-: الضلال: الإثم والمعصية: الكفر: الفضيحة والعذاب والظلم. و-: مايقع فيه الناس من الاختلاف أو الحرب والقتال... و-:الجنون:... الإعجاب بالشيء. و- في الصدر: الوسواس. وفي المحيا: أن يعدل عن الطريق الرشيد. و- في الممات: أن يسأل في القبر. و-في الضرّاء: السيف. وفي السرّاء: النساء(2) .
فالفتنة بلاء خطیر وامتحان عسر يعصف بالإنسان في شؤونه نافذاً في أعماق حياته وآفاق دنياه، آخذاً بجوارحه وجوانحه قابضاً على أنفاسه.
فكيف السلامة من المحنة وفيها؟ وكيف النجاة من البلاء المحيط؟
هذا ما يبصّرنا بموضوعه، ويهدينا سبل السلام لجميل التعامل والأمن من المهلكة، والخاص من الورطة والحسرة والندامة.
أجل يرشدنا إلى القيام بالدور اللائق الخبیر الإلهي، والإمام الربّاني أمیر المؤمنین علیه السلام فيما تناوله من شؤون (الفتنة) وأسبابها وأبعادها وطريق الهداية فيها
ص: 403
وبثّه في بليغ كلامه وبديع حكمه.
«أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا دَارٌ لَا يُسْلَمُ مِنْهَا إِلَّا فِيهَا وَلَ يُنْجَى بِشَيْءٍ كَانَ لَهَا ابْتُلِيَ النَّاسُ بِهَا فِتْنَةً فَمَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لَهَا أُخْرِجُوا مِنْهُ وَحُوسِبُوا عَلَيْهِ وَمَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لِغَيْرِهَا قَدِمُوا عَلَيْهِ وَأَقَامُوا فِيهِ فَإِنَّهَا عِنْدَ ذَوِي الْعُقُولِ كَفَيْءِ الظَّلَّ بَيْنَا تَرَاهُ سَابِغاً حَتَّى قَلَصَ وَزَائِداً حَتَّى نَقَصَ»(1) .
أ) «فَاحْذَرِ الشُّبْهَةَ وَاشْتِمَالَهَا عَلَى لُبْسَتِهَا فَإِنَّ الْفِتْنَةَ طَالَمَا أَغْدَفَتْ جَلَابِيبَهَا وَأَغْشَتِ الْأَبْصَارَ ظُلْمَتُهَا»(2) .
ب) «إِنَّ الْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ وَإِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ يُنْكَرْنَ مُقْبِلاَتٍ وَيُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ يَحُمْنَ حَوْمَ الرِّيَاحِ يُصِبْنَ بَلَداً وَيُخْطِئْنَ بَلَداً»(3) .
الغنى، الولد، حسن المقال، السوق، الفقر، الزوجة، خفق النعال.
«مَا أَصِفُ مِنْ دَارٍ أَوَّلُهَا عَنَاءٌ وَآخِرُهَا فَنَاءٌ فِي حَلَالِهَا حِسَابٌ وَفِي حَرَامِهَا عِقَابٌ مَنِ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ وَمَنِ افْتَقَرَ فِيهَا حَزِنَ»(4) .
ص: 404
«إِنْ اسْتَغْنَى بَطِرَ وفُتِنَ، وإِنْ افْتَقَرَ قَنِطَ ووَهَنَ»(1) .
وقال النبي6: يَا عَلِيُّ إِنَّ الْقَوْمَ سَيُفْتَنُونَ بِأَمْوَالِهِمْ(2) .
«وَلَ تُفْتَنُوا بِأَعْلَاقِهَا فَإِنَّ بَرْقَهَا خَالِبٌ وَنُطْقَهَا كَاذِبٌ وَأَمْوَالَهَا مَحْرُوبَةٌ وَأَعْلَاقَهَا مَسْلُوبَةٌ»(3) .
«أينَ الأممُ الذين فَتَنْتِهِم بزَخارِفِكِ فهاهُمْ رَهائِنُ القُبُورِ ومضامینُ الْلُحُودِ»(4) .
«فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ لِأَخِيهِ غَفِیرَةً فِي أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ فَلَا تَكُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً فَإِنَّ المَرْءَ المُسْلِمَ مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ فَيَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ وَيُغْرَى بِهَا لِئَامُ النَّاسِ كَانَ كَالْفَالِجِ الْيَاسِرِ الَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِهِ تُوجِبُ لَهُ المَغْنَمَ وَيُرْفَعُ بِهَا عَنْهُ المَغْرَمُ وَكَذَلِكَ المَرْءُ المُسْلِمُ الْبَرِيءُ مِنَ الْخِيَانَةِ يَنْتَظِرُ مِنَ اللهِ إِحْدَى الُحْسْنَيَيْنِ إِمَّا دَاعِيَ اللهِ فَمَا عِنْدَ اللهِ خَیْرٌ لَهُ وَإِمَّا رِزْقَ اللهِ فَإِذَا هُوَ ذُو أَهْلٍ وَمَالٍ وَمَعَهُ دِينُهُ وَحَسَبُهُ وَإِنَّ المَالَ وَالْبَنِینَ حَرْثُ الدُّنْيَا وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ حَرْثُ الْآخِرَةِ وَقَدْ يَجْمَعُهُاَ اللهُ تَعَالَ لِأَقْوَامٍ»(5) .
«فَلَا تَعْتَبِرُوا الرِّضَی وَالسُّخْطَ بِالمَالِ وَالْوَلَدِ جَهْلاً بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ وَالِخْتِبَارِ فِي مَوْضِعِ الْغِنَى وَالِقْتِدَارِ فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَی أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ
ص: 405
مالٍ وَبَنِینَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَیرْاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ المُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِأَوْلِيَائِهِ المُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ»(1) .
ولما رجع علیه السلام للكوفة قادماً من صفین خرج إليه حرب بن شرحبيل الشبامي، وكان من وجوه قومه وأقبل يمشي معه، وهو علیه السلام راكب فقال له: «ارْجِعْ فإن مَشْيَ مِثْلِكَ مع مِثْلِي فتنةٌ للوالي، ومَذَلّةٌ للمؤْمِنِ»(2) .
«وإياكَ ومَقاعِدَ الأسواقِ، فإنها محاضرُ الشيطانِ ومعاريضُ الفِتَنِ»(3) .
«كَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بالإحسان إليه، ومغرورٍ بالسترِ عليهِ، ومفتونٍ بحُسْنِ القولِ فِيه»(4) .
«رُبَّ مفتونٍ بحُسْنِ القولِ فِيه»(5) .
وفي حديثه عن نبي الله عيسى علیه السلام قال: «وَلَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ»(6) .
«أَرْسَلَهُ- الله- بِالدِّينِ المَشْهُورِ وَالْعَلَمِ المَأْثُورِ وَالْكِتَابِ المَسْطُورِ وَالنُّورِ السَّاطِعِ وَالضَّيَاءِ اللَّامِعِ وَالْأَمْرِ الصَّادِعِ إِزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ وَاحْتِجَاجاً بِالْبَيِّنَاتِ
ص: 406
وَتَحْذِيراً بِالْآيَاتِ وَتَخْوِيفاً بِالمَثُلَاتِ وَالنَّاسُ فِي فِتَنٍ انْجَذَمَ فِيهَا حَبْلُ الدِّينِ وَتَزَعْزَعَتْ سَوَارِي الْيَقِینِ وَاخْتَلَفَ النَّجْرُ وَتَشَتَّتَ الْأَمْرُ وَضَاقَ المَخْرَجُ وَعَمِيَ المَصْدَرُ فَالْهُدَى خَامِلٌ وَالْعَمَى شَامِلٌ عُصِيَ الرَّحْمَنُ وَنُصِرَ الشَّيْطَانُ وَخُذِلَ الْإيمان فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ وَتَنَكَّرَتْ مَعَالُمِهُ وَدَرَسَتْ سُبُلُهُ وَعَفَتْ شُرُكُهُ أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ وَوَرَدُوا مَنَاهِلَهُ بِهِمْ سَارَتْ أَعْلَامُهُ وَقَامَ لِوَاؤُهُ فِي فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا وَوَطِئَتْهُمْ بِأَظْلَافِهَا وَقَامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا فَهُمْ فِيهَا تَائِهُونَ حَائِرُونَ جَاهِلُونَ مَفْتُونُونَ»(1) .
«وَتَثَبَّتُوا فِي قَتَامِ الْعِشْوَةِ وَاعْوِجَاجِ الْفِتْنَةِ عِنْدَ طُلُوعِ جَنِينِهَا وَظُهُورِ كَمِينِهَا وَانْتِصَابِ قُطْبِهَا وَمَدَارِ رَحَاهَا تَبْدَأُ فِي مَدَارِجَ خَفِيَّةٍ وَتَئُولُ إِلَی فَظَاعَةٍ جَلِيَّةٍ شِبَابُهَا كَشِبَابِ الْغُلَامِ وَآثَارُهَا كَآثَارِ السَّلاَمِ(2) يَتَوَارَثُهَا الظَّلَمَةُ بِالْعُهُودِ أَوَّلُهُمْ قَائِدٌ لِآخِرِهِمْ وَآخِرُهُمْ مُقْتَدٍ بِأَوَّلِهِمْ يَتَنَافَسُونَ فِي دُنْيَا دَنِيَّةٍ وَيَتَكَالَبُونَ عَلَى جِيفَةٍ مُرِيحَةٍ وَعَنْ قَلِيلٍ يَتَبَرَّأُ التَّابِعُ مِنَ المَتْبُوعِ وَالْقَائِدُ مِنَ المَقُودِ فَيَتَزَايَلُونَ بِالْبَغْضَاءِ وَيَتَلَاعَنُونَ عِنْدَ اللَّقَاءِ»(3) .
«ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ طَالِعُ الْفِتْنَةِ الرَّجُوفِ وَالْقَاصِمَةِ الزَّحُوفِ فَتَزِيغُ قُلُوبٌ بَعْدَ استقامة وَتَضِلُّ رِجَالٌ بَعْدَ سَلاَمَةٍ وَتَخْتَلِفُ الْأَهْوَاءُ عِنْدَ هُجُومِهَا وَتَلْتَبِسُ الْآرَاءُ عِنْدَ نُجُومِهَا مَنْ أَشْرَفَ لَهَا قَصَمَتْهُ وَمَنْ سَعَى فِيهَا حَطَمَتْهُ يَتَكَادَمُونَ فِيهَا تَكَادُمَ الْحُمُرِ فِي الْعَانَةِ قَدِ اضْطَرَبَ مَعْقُودُ الْحَبْلِ وَعَمِيَ وَجْهُ الْأَمْرِ تَغِيضُ فِيهَا
ص: 407
الْحِكْمَةُ وَتَنْطِقُ فِيهَا الظَّلَمَةُ وَتَدُقُّ أَهْلَ الْبَدْوِ بِمِسْحَلِهَا وَتَرُضُّهُمْ بِكَلْكَلِهَا يَضِيعُ فِي غُبَارِهَا الْوُحْدَانُ وَيَهْلِكُ فِي طَرِيقِهَا الرُّكْبَانُ تَرِدُ بِمُرِّ الْقَضَاءِ وَتَحْلُبُ عَبِيطَ الدَّمَاءِ وَتَثْلِمُ مَنَارَ الدِّينِ وَتَنْقُضُ عَقْدَ الْيَقِینِ يَهْرُبُ مِنْهَا الْأَكْيَاسُ وَيُدَبِّرُهَا الْأَرْجَاسُ مِرْعَادٌ مِبْرَاقٌ كَاشِفَةٌ عَنْ سَاقٍ تُقْطَعُ فِيهَا الْأَرْحَامُ وَيُفَارَقُ عَلَيْهَا الْإِسْلاَمُ بَرِيئُهَا سَقِيمٌ وَظَاعِنُهَا مُقِيمٌ منها: بَیْنَ قَتِيلٍ مَطْلُولٍ وَخَائِفٍ مُسْتَجِيرٍ يَخْتِلُونَ بِعَقْدِ الْيمان وَبِغُرُورِ الْإيمان»(1) .
«فَلَا تَكُونُوا أَنْصَابَ الْفِتَنِ وَأَعْلَامَ الْبِدَعِ وَالْزَمُوا مَا عُقِدَ عَلَيْهِ حَبْلُ الْجَمَاعَةِ وَبُنِيَتْ عَلَيْهِ أَرْكَانُ الطَّاعَةِ وَاقْدَمُوا عَلَى اللهِ مَظْلُومِینَ وَلَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ظَالِمِینَ وَاتَّقُوا مَدَارِجَ الشَّيْطَانِ وَمَهَابِطَ الْعُدْوَانِ وَلَا تُدْخِلُوا بُطُونَكُمْ لُعَقَ الْحَرَامِ فَإِنَّكُمْ بِعَیْنِ مَنْ حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَعْصِيَةَ وَسَهَّلَ لَكُمْ سُبُلَ الطَّاعَةِ»(2) .
معاوية
«فَفَرَّقَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَمْسِ أَنَّا آمَنَّا وَكَفَرْتُمْ وَالْيَوْمَ أَنَّا اسْتَقَمْنَا وَفُتِنْتُمْ»(3) .
الكبراء
«أَلَا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَكُبَرَائِكُمْ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وَتَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ وَأَلْقَوُا الْهَجِينَةَ عَلَى رَبَّهِمْ وَجَاحَدُوا اللهَ عَلَى مَا صَنَعَ بِهِمْ
ص: 408
مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ وَمُغَالَبَةً لِآلَائِهِ فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ وَدَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ»(1) .
من وُكِلَ إلى نفسه
«إنَّ أَبْغَضَ الْخَلَائِقِ إِلَ اللهِ رَجُلَانِ: رَجُلٌ وَكَلَهُ اللهُ إِلَی نَفْسِهِ فَهُوَ جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ مَشْغُوفٌ بِكَلَمِ بِدْعَةٍ وَدُعَاءِ ضَلَالَةٍ فَهُوَ فِتْنَةٌ لَمِنِ افْتَتَنَ بِهِ ضَالٌّ عَنْ هَدْيِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مُضِلٌّ لَمِنِ اقْتَدَى بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ حَمَّالٌ خَطَايَا غَیْرِهِ رَهْنٌ بِخَطِيئَتِهِ... وَرَجُلٌ قَمَشَ جَهْلاً مُوضِعٌ فِي جُهَّالِ الْأُمَّةِ عَادٍ فِي أَغْبَاشِ الْفِتْنَةِ عَمٍ بِمَا فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ قَدْ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ النَّاسِ عَالِماً وَلَيْسَ بِهِ بَكَّرَ فَاسْتَكْثَرَ مِنْ جَمْعٍ مَا قَلَّ مِنْهُ خَیْرٌ مِمَّا كَثُرَ حَتَّى إِذَا ارْتَوَى مِنْ مَاءٍ آجِنٍ وَاكْتَثَرَ مِنْ غَیْرِ طَائِلٍ جَلَسَ بَیْنَ النَّاسِ قَاضِياً ضَامِناً لِتَخْلِيصِ مَا الْتَبَسَ عَلَى غَیْرِهِ فَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَى المُبْهَمَاتِ هَيَّأَ لَهَا حَشْواً رَثًّا مِنْ رَأْيِهِ ثُمَّ قَطَعَ بِهِ فَهُوَمِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ فِي مِثْلِ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ لَا يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ فَإِنْ أَصَابَ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ وَإِنْ أَخْطَأَ رَجَا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ جَاهِلٌ خَبَّاطُ جَهَالَاتٍ عَاشٍ رَكَّابُ عَشَوَاتٍ لَمْ يَعَضَّ عَلَى الْعِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ يَذْرُو الرَّوَايَاتِ ذَرْوَالرَّيحِ الْهَشِيمَ لَل مَلِيٌّ وَاللهِ بِإِصْدَارِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ وَلَا أَهْلٌ لِهَا قُرَّظَ بِهِ لَا يَحْسَبُ الْعِلْمَ فِي شيْءٍ مِمَّا أَنْكَرَهُ وَلَا يَرَى أَنَّ مِنْ وَرَاءِ مَا بَلَغَ مَذْهَباً لِغَیْرِهِ وَإِنْ أَظْلَمَ عَلَيْهِ أَمْرٌ اكْتَتَمَ بِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ تَصْرُخُ مِنْ جَوْرِ قَضَائِهِ الدَّمَاءُ وَتَعَجُّ مِنْهُ المَوَارِيثُ إِلَی اللهِ أَشْكُو مِنْ مَعْشَرٍ يَعِيشُونَ جُهَّالًا وَيَمُوتُونَ ضُلَّالًا لَيْسَ فِيهِمْ سِلْعَةٌ أَبْوَرُ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ وَلَا سِلْعَةٌ أَنْفَقُ بَيْعاً وَلَا أَغْلَى ثَمَناً مِنَ الْكِتَابِ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ
ص: 409
وَلَا عِنْدَهُمْ أَنْكَرُ مِنَ المَعْرُوفِ وَلَا أَعْرَفُ مِنَ المُنْكَرِ..»(1) .
الجاهل
«وَرَجُلٌ قَمَشَ جَهْلًا مُوضِعٌ فِي جُهَّالِ الْأُمَّةِ عَادٍ فِي أَغْبَاشِ الْفِتْنَةِ عَمٍ بِمَا فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ قَدْ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ النَّاسِ عَالمِاً وَلَيْسَ بِهِ»(2) .
الضُّلاَّل
«قَدْ خَاضُوا بِحَارَ الْفِتَنِ وَأَخَذُوا بِالْبِدَعِ دُونَ السُّنَنِ وَأَرَزَ المُؤْمِنُونَ وَنَطَقَ الضَّالُّونَ المُكَذِّبُونَ نَحْنُ الشَّعَارُ وَالْأَصْحَابُ وَالْخَزَنَةُ وَالْأَبْوَابُ وَلَا تُؤْتَى الْبُيُوتُ إِلَّا مِنْ أَبْوَابِهَا فَمَنْ أَتَاهَا مِنْ غَیْرِ أَبْوَابِهَا سُمَّيَ سَارِقاً»(3) .
البصرة- والخطبة من خطب الملاحم
«فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ لَا تَقُومُ لَهَا قَائِمَةٌ وَلَا تُرَدُّ لَهَا رَايَةٌ تَأْتِيكُمْ مَزْمُومَةً مَرْحُولَةً يَحْفِزُهَا قَائِدُهَا وَيَجْهَدُهَا رَاكِبُهَا أَهْلُهَا قَوْمٌ شَدِيدٌ كَلَبُهُمْ قَلِيلٌ سَلَبُهُمْ يُجَاهِدُهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ قَوْمٌ أَذِلَّةٌ عِنْدَ المُتَكَبَّرِينَ فِي الْأَرْضِ مَجْهُولُونَ وَفِي السَّمَاءِ مَعْرُوفُونَ فَوَيْلٌ لَكِ يَا بَصْرَةُ عِنْدَ ذَلِكِ مِنْ جَيْشٍ مِنْ نِقَمِ اللهِ لَا رَهَجَ لَهُ وَلَا حَسَّ وَسَيُبْتَلَی أَهْلُكِ بِالمَوْتِ الْأَحْمَرِ وَالْجُوعِ الْأَغْبَر»(4) .
ص: 410
فتنة بني أمية
أ) «أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّي فَقَأْتُ عَیْنَ الْفِتْنَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَیْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا وَاشْتَدَّ كَلَبُهَا فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي فَوَ الَّذِي نَفْسِيِ بِيَدِهِ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شيْءٍ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَیْنَ السَّاعَةِ وَلَا عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مِائَةً وَتُضِلُّ مِائَةً إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا وَمُنَاخِ رِكَابِهَا وَمَحَطِّ رِحَالِهَا وَمَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلاً وَمَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً وَلَوْ قَدْ فَقَدْتُمُونِي وَنَزَلَتْ بِكُمْ كَرَائِهُ الْأُمُورِ وَحَوَازِبُ الْخُطُوبِ لَأَطْرَقَ كَثِیرٌ مِنَ السَّائِلِينَ وَفَشِلَ كَثِیرٌ مِنَ المَسْئُولِينَ وَذَلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ وَشَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ وَضَاقَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ضِيقاً تَسْتَطِيلُونَ مَعَهُ أَيَّامَ الْبَلَاءِ عَلَيْكُمْ حَتَّى يَفْتَحَ اللهُ لِبَقِيَّةِ الْأَبْرَارِ مِنْكُمْ إِنَّ الْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ وَإِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ يُنْكَرْنَ مُقْبِلاَتٍ وَيُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ يَحُمْنَ حَوْمَ الرِّيَاحِ يُصِبْنَ بَلَداً وَيُخْطِئْنَ بَلَداً أَلَا وَإِنَّ أَخْوَفَ الْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ عَمَّتْ خُطَّتُهَا وَخَصَّتْ بَلِيَّتُهَا وَأَصَابَ الْبَلاَءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا وَأَخْطَأَ الْبَلَاءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا وأَيْمُ اللهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِي كَالنَّابِ الضَّرُوسِ تَعْذِمُ بِفِيهَا وَتَخْبِطُ بِيَدِهَا وَتَزْبِنُ بِرِجْلِهَا وَتَمْنَعُ دَرَّهَا لَا يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لَا يَتْرُكُوا مِنْكُمْ إِلَّا نَافِعاً لَهُمْ أَوْ غَیْرَ ضَائِرٍ بِهِمْ وَلَا يَزَالُ بَلَاؤُهُمْ عَنْكُمْ حَتَّى لَا يَكُونَ انْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ إِلَّا كَانْتِصَارِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ وَالصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِيَّةً وَقِطَعاً جَاهِلِيَّةً لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدًى وَلَا عَلَمٌ يُرَى نَحْنُ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنْهَا بِمَنْجَاةٍ وَلَسْنَا فِيهَا بِدُعَاةٍ ثُمَّ يُفَرِّجُهَا اللهُ عَنْكُمْ كَتَفْرِيجِ الْأَدِيمِ بِمَنْ يَسُومُهُمْ خَسْفاً وَيَسُوقُهُمْ عُنْفاً وَيَسْقِيهِمْ بِكَأْسٍ مُصَبَّرَةٍ لَا يُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ وَلَا يُحْلِسُهُمْ إِلَّا الْخَوْفَ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَدُّ قُرَيْشٌ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَوْ يَرَوْنَنِي مَقَاماً وَاحِداً وَلَوْ قَدْرَ جَزْرِ جَزُورٍ لِأَقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ الْيَوْمَ
ص: 411
بَعْضَهُ فَلَا يُعْطُونِيهِ»(1) .
ب) «لَكَأَنِّ أَنْظُرُ إِلَی ضِلَّيلٍ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ وَفَحَصَ بِرَايَاتِهِ فِي ضَوَاحِي كُوفَانَ فَإِذَا فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ وَاشْتَدَّتْ شَكِيمَتُهُ وَثَقُلَتْ فِي الْأَرْضِ وَطْأَتُهُ عَضَّتِ الْفِتْنَةُ أَبْنَاءَهَا بِأَنْيَابِهَا وَمَاجَتِ الْحَرْبُ بِأَمْوَاجِهَا وَبَدَا مِنَ الْأَيَّامِ كُلُوحُهَا وَمِنَ اللَّيَالِي كُدُوحُهَا فَإِذَا أَيْنَعَ زَرْعُهُ وَقَامَ عَلَى يَنْعِهِ وَهَدَرَتْ شَقَاشِقُهُ وَبَرَقَتْ بَوَارِقُهُ عُقِدَتْ رَايَاتُ الْفِتَنِ المُعْضِلَةِ وَأَقْبَلْنَ كَاللَّيْلِ المُظْلِمِ وَالْبَحْرِ المُلْتَطِمِ هَذَا وَكَمْ يَخْرِقُ الْكُوفَةَ مِنْ قَاصِفٍ وَيَمُرُّ عَلَيْهَا مِنْ عَاصِفٍ وَعَنْ قَلِيلٍ تَلْتَفُّ الْقُرُونُ بِالْقُرُونِ وَيُحْصَدُ الْقَائِمُ وَيُحْطَمُ المَحْصُودُ»(2) .
ج) لما اجتمع الناس إليه وشكوا ما نقموه على عثمان وسألوه مخاطبته واستعتابه لهم، فدخل عليه فقال:
«فَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللهِ عِنْدَ اللهِ إِمَامٌ عَادِلٌ هُدِيَ وَهَدَى فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً وَأَمَاتَ بِدْعَةً مَجْهُولَةً وَإِنَّ السُّنَنَ لَنَیَّرَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ وَإِنَّ الْبِدَعَ لَظَاهِرَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ وَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وَضُلَّ بِهِ فَأَمَاتَ سُنَّةً مَأْخُوذَةً وَأَحْيَا بِدْعَةً مَتْرُوكَةً وَإِنِّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله يَقُولُ يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْإِمَامِ الْجَائِرِ وَلَيْسَ مَعَهُ نَصِیرٌ وَلَا عَاذِرٌ فَيُلْقَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيَدُورُ فِيهَا كَمَا تَدُورُ الرَّحَى ثُمَّ يَرْتَبِطُ فِي قَعْرِهَا .
وَإِنَّي أَنْشُدُكَ اللهَ أَلَّا تَكُونَ إِمَامَ هَذِهِ الْأُمَّةِ المَقْتُولَ فَإِنَّهُ كَانَ يُقَالُ يُقْتَلُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ إِمَامٌ يَفْتَحُ عَلَيْهَا الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ إِلَی يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَلْبِسُ أُمُورَهَا عَلَيْهَا
ص: 412
وَيَبُثُّ الْفِتَنَ فِيهَا فَلَا يُبْصِرُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ يَمُوجُونَ فِيهَا مَوْجاً وَيَمْرُجُونَ فِيهَا مَرْجاً فَلَا تَكُونَنَّ لَمِرْوَانَ سَيَّقَةً يَسُوقُكَ حَيْثُ شَاءَ بَعْدَ جَلَالِ السَّنِّ وَتَقَضَّي الْعُمُرِ»(1) .
د) وخطب علیه السلام:
«مَا لِي وَلِقُرَيْشٍ وَاللهِ لَقَدْ قَاتَلْتُهُمْ كَافِرِينَ وَلَأُقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِینَ وَإِنَّي لَصَاحِبُهُمْ بِالْأَمْسِ كَمَا أَنَا صَاحِبُهُمُ الْيَوْمَ». ه) وكتب إلى عبد الله بن العباس
«وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَصْرَةَ مَهْبِطُ إِبْلِيسَ وَمَغْرِسُ الْفِتَنِ فَحَادِثْ أَهْلَهَا بِالإحسان إِلَيْهِمْ وَاحْلُلْ عُقْدَةَ الْخَوْفِ عَنْ قُلُوبِهِمْ».
أ) «كُنْ في الفتنةِ كابنِ اللبونِ، لا ظَهْرَ فيُرْكَبُ ولا ضَرْعَ فيُحْلَبُ»(2) .
ب) وقال بعد أن قُبض رسول الله6وبويع أبوبكر في السقيفة:
«أَيُّهَا النَّاسُ شُقُّوا أَمْوَاجَ الْفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ وَعَرِّجُوا عَنْ طَرِيقِ المُنَافَرَةِ وَضَعُوا تِيجَانَ المُفَاخَرَةِ أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاحٍ أَوِ اسْتَسْلَمَ فَأَرَاحَ هَذَا مَاءٌ آجِنٌ وَلُقْمَةٌ يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا وَمُجْتَنِي الثَّمَرَةِ لِغَیرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا كَالزَّارِعِ بِغَیْرِ أَرْضِهِ فَإِنْ أَقُلْ يَقُولُوا حَرَصَ عَلَى المُلْكِ وَإِنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا جَزِعَ مِنَ المَوْتِ هَيْهَاتَ بَعْدَ
ص: 413
اللَّتَيَّا وَالَّتِي، وَاللهِ لَبْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالمَوْتِ مِنَ الطَّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِهِ لَاضْطَرَبْتُمْ اضْطِرَابَ الْأَرْشِيَةِ فِي الطَّوِيَّ الْبَعِيدَةِ»(1) .
ج) «قَدْ خَاضُوا بِحَارَ الْفِتَنِ وَأَخَذُوا بِالْبِدَعِ دُونَ السُّنَنِ وَأَرَزَ المُؤْمِنُونَ وَنَطَقَ الضَّالُّونَ المُكَذَّبُونَ نَحْنُ الشَّعَارُ وَالْأَصْحَابُ وَالْحَزَنَةُ وَالْأَبْوَابُ وَلَا تُؤْتَى الْبُيُوتُ إِلَّا مِنْ أَبْوَابِهَا فَمَنْ أَتَاهَا مِنْ غَیْرِ أَبْوَابِهَا سُمَّيَ سَارِقاً»(2) .
د) «وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً مِنَ الْفِتَنِ وَنُوراً مِنَ الظُّلَمِ»(3) .
«ما كُلُّ مفتونٍ يُعاتَبُ»(4) .
أ) «اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَذْهَبَ عَنْ قَوْلِكَ أَوْ أَنْ نُفْتَتَنَ عَنْ دِينِكَ أَوْ تَتَابَعَ بِنَا أَهْوَاؤُنَا دُونَ الْهُدَى الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِكَ»(5) .
ب) «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ إِنِّ أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفِتْنَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فِتْنَةٍ وَلَكِنْ مَنِ اسْتَعَاذَ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ
ص: 414
يَقُولُ وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ»(1) .
«اللَّهُمَّ رَبَّ السَّقْفِ المَرْفُوعِ... إِنْ أَظْهَرْتَنَا عَلَى عَدُوَّنَا فَجَنَّبْنَا الْبَغْيَ وَسَدَّدْنَا لِلْحَقِّ وَإِنْ أَظْهَرْتَهُمْ عَلَيْنَا فَارْزُقْنَا الشَّهَادَةَ وَاعْصِمْنَا مِنَ الْفِتْنَةِ»(2) .
«اللَّهُمَّ صُنْ وَجْهِي بِالْيَسَارِ وَلَا تَبْذُلْ جَاهِيَ بِالْإِقْتَارِ فَأَسْتَرْزِقَ طَالِبِي رِزْقِكَ وَأَسْتَعْطِفَ شِرَارَ خَلْقِكَ وَأُبْتَلَى بِحَمْدِ مَنْ أَعْطَانِي وَأُفْتَتَنَ بِذَمَّ مَنْ مَنَعَنِي وَأَنْتَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ كُلَّهِ وَلِيُّ الْإِعْطَاءِ وَالمَنْعِ إِنَّكَ عَلى كُلَّ شيْءٍ قَدِيرٌ»(3) . وختم خطبته في فضل الإسلام والثناء على رسول صلی الله علیه و آله و سلم بقوله علیه السلام:
«وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ غَیْرَ خَزَايَا وَلَا نَادِمِینَ وَلَا نَاكِبِینَ وَلَا نَاكِثِینَ وَلَا ضَالِّینَ وَلَا مُضِلَّینَ وَلَا مَفْتُونِینَ»(4) .
ص: 415
ولقد أقام الله دينه، وأحكم شرائعه، وأنزل في ذلك قرآناً كريماً، فحلال محمدٍ حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة ولا كتاب بعد قرآن الله ولا سنة بعد رسول الله6 «فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقَّ إِلاَّ الضَّلاَلُ»(1) ، «قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ»(2) .
هذا هو الحق وهذه هي السنة، وما سوى ذلك ضلال وبدعة.
وللوقوف على بواعث البدعة وأسباب نشوئها، ومدى تغلغلها في نفوس الجاهلین، ووخيم نتائجها نستلهم من إمام الحق ومميت البدعة الهدى والبصیرة.
«إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللهِ وَيَتَوَلَّی عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالًا عَلَى غَیْرِ دِينِ اللهِ فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى المُرْتَادِينَ وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ المُعَانِدِينَ وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَيَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الْحُسْنى»(3) .
ما أجلَّ هذا النص وأجمعه! فمن عوامل نشوب الفتن الأهواءُ الزائفة التي تعصف بالأمة وتلفها بضلالها، وكذلك الأحكامُ المبتدعة المنطلقة من المنحرفین
ص: 416
عن شرع الله وسنّة رسوله6.
وسواء الأهواءوالبدع في انبثاق شرهما من مخالفة كتاب الله الذي يهدي إلى الحق وإلى الراط المستقيم، ومن موالاة ذوي النفوذ من أهل الباطل والضلال، فمن كان على غیر دين الله فماذا منه يرتجى؟!
ثم كشف الإمام علیه السلام عن دقيق المعنى وخبيئة الأمر، وأن القضية كثیراً ما تنطلي حقيقتها بما يغشاها من (الشبهة) وإلباسها رداء الدين وهنا مرتع الشيطان ومصيدته وشباكه وشراكه، وذلكم البلاء والعطب وعذاب في جحيم الآخرة «لَهُمْ فِيهَا زَفِیرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ»(1) وأمّا المعتصمون بالله فقد ضمن لهم الجنة «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مَّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ»(2) .
«إِنَّ اللهَ بَعَثَ رَسُولًا هَادِياً بِكِتَابٍ نَاطِقٍ وَأَمْرٍ قَائِمٍ لَا يَهْلِكُ عَنْهُ إِلَّا هَالِكٌ وَإِنَّ المُبْتَدَعَاتِ المُشَبَّهَاتِ هُنَّ المُهْلِكَاتُ إِلَّا مَا حَفِظَ اللهُ مِنْهَا وَإِنَّ فِي سُلْطَانِ اللهِ عِصْمَةً لِأَمْرِكُمْ فَأَعْطُوهُ طَاعَتَكُمْ غَیْرَ مُلَوَّمَةٍ وَلَا مُسْتَكْرَهٍ بِهَا وَاللهِ لَتَفْعَلُنَّ أَوْ لَيَنْقُلَنَّ اللهُ عَنْكُمْ سُلْطَانَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ لَا يَنْقُلُهُ إِلَيْكُمْ أَبَداً حَتَّى يَأْرِزَ الْأَمْرُ إِلَی غَيْرِكُمْ»(3) .
صدّر الإمام علیه السلام خطابه- وقد كان عند مسیر أصحاب الجمل إلى البصرة- بالتأكيد على هداية الله لعباده إذ بعث فيهم رسوله بكتابه عصمةً لهم من الضلالة والزيغ واتباع البدعة والهوى.
ص: 417
ثم أبان عن البدعة المهلكة وهي: ما غُلفت بصورة الحقيقة فينطلي زيفها، بخلاف البدعةالصلعاء فإنها مُعرّاة.
وموطن النص شاهد صدق على ذلك، فقد غُمَّ الأمر واستولت الحیرة على أمة من الناس لأنهم يرون قوّاد الجيش وأركان الحرب فئة من الصحابة يحوطون زوج رسول الله (أم المؤمنین!!) تجدُّ بهم ويجدُّون بها السیر لحرب إمام المؤمنین وخليفة المسلمين ومن له البيعة في أعناقهم.
أجل هنا مكمن الابتلاء، وموطن الضلال إلا ما رحم الله وحفظ من العقول والنفوس بالفكر والإيمان والاعتصام بسلطان الله «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمانكُمْ كَافِرِينَ»(1) .
«إِنَّ مِنْ عَزَائِمِ اللهِ فِي الذَّكْرِ الْحَكِيمِ الَّتِي عَلَيْهَا يُثِيبُ وَيُعَاقِبُ وَلَهَا يَرْضَی وَيَسْخَطُ أَنَّهُ لَ يَنْفَعُ عَبْداً وَإِنْ أَجْهَدَ نَفْسَهُ وَأَخْلَصَ فِعْلَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا لَاقِياً رَبَّهُ بِخَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا أَنْ يُشْرِكَ بِاللهِ فِيمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَتِهِ... أَوْ يَسْتَنْجِحَ حَاجَةً إِلَی النَّاسِ بِإِظْهَارِ بِدْعَةٍ فِي دِينِهِ»(2) .
وأي موبقة أعظم، وأي هلاك مدمّر من أن يبتدع في دين الله إنجاحاً لدنيّة في دنياه فيتخذ من دين الله مطيّة لبدعته ومآربه؟!
ص: 418
أ) «وَمَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلَّا تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ فَاتَّقُوا الْبِدَعَ وَالْزَمُوا المَهْيَعَ إِنَّ عَوَازِمَ الْأُمُورِ أَفْضَلُهَا وَإِنَّ مُحْدِثَاتِهَا شِرَارُهَا»(1) .
ب) «وَإِنَّمَا النَّاسُ رَجُلاَنِ مُتَّبِعٌ شِرْعَةً وَمُبْتَدِعٌ بِدْعَةً لَيْسَ مَعَهُ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ بُرْهَانُ سُنَّةٍ وَلَا ضِيَاءُ حُجَّةٍ»(2) . فالقضية محصورة بهذين القبيلین، فإما أن يكون مُتَّبِعًا شرعة الله فقد هُدِيَ إلى سواء السبيل، وإما أن لا يكون فهو على بدعة قد ضل السبيل يتخبّط في طخياء ليس على بينة من أمره، ولا نور يهديه إلى معالم طريق الحق.
وقد صدّر الإمام علیه السلام هذا المقطع (تحريم البدع) بثبات المؤمن على الالتزام والأخذ بأحكام الله وعدم التلوّن في ذلك كمن «يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا» فهو على يقین بأن «الْحَلاَلَ مَا أَحَلَّ اللهُ وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَ اللهُ»(3) .
أ) الإمام العادل:
«فَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللهِ عِنْدَ اللهِ إِمَامٌ عَادِلٌ هُدِيَ وَهَدَى فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً وَأَمَاتَ بِدْعَةً مَجْهُولَةً وَإِنَّ السُّنَنَ لَنَیَّرَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ وَإِنَّ الْبِدَعَ لَظَاهِرَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ»(4) .
ص: 419
وقد كان هذا من حديثه لما اجتمع الناس إليه وشكوا ما نقموه على عثمان فدخل عليه وخاطبه وعاتبه.
ب) خالصو الإيمان:
«أَوِّهِ عَلَى إِخْوَانِيَ الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ وَتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ أَحْيَوُا السُّنَّةَ وَأَمَاتُوا الْبِدْعَةَ دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا وَوَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ»(1) .
«أَيْنَ إِخْوَانِيَ الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّرِيقَ وَمَضَوْا عَلَى الْحَقَّ أَيْنَ عَمَّارٌ وَأَيْنَ ابْنُ التَّيَّهَانِ وَأَيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ وَأَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى المَنِيَّةِ وَأُبْرِدَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَی الْفَجَرَةِ»(2) .
1- عمّار بن ياسر:
من أوائل الصحابة إسلامًا، ومن الذين عُذَّبوا في سبيل الله، حتى ألقته قريش في النار فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: يا نار كوني بردًا وسلامًا على عمّار كما كنت بردًا سلامًا على إبراهيم. فلم يصبه منها مكروه.
وقتلت قريش أبويه. ورسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة. وعمّار أخو أم سلم من الرضاعة.
وقال فيه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم معرَّضًا ببعض الصحابة: ما لهم ولعمّار، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، إن عمّار جلدة ما بین عيني وأنفي.
ومن أقواله صلی الله علیه و آله و سلم فيه: كثير خيره، ضيء نوره، عظيم أجره.
ائذنوا للطيب ابن الطيب.
إنه من يعادي عمّارًا يعاديه الله، ومن يبغض عمّارًا يبغضه الله.
ص: 420
عمار ملئ إيمانًا إلى مشاشه.
وعده فيمن تشتاق إليهم الجنة.
وقال صلی الله علیه و آله و سلم: تقتله الفئة الباغية.
قتل يوم صفين.
وآخى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بين عمّار وحذيفة بن اليمان.
قال لعائشة بعد الجمل: يا أم المؤمنین ما أبعد هذا المسیر من العهد الذي عهد إليك، قالت: أبو اليقظان؟ قال: نعم، قالت: والله إنك ما علمت قوّال بالحق.
شهد بدرًا وذكروا قتلاه يوم بدر، وشهد المشاهد مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وكان أحد القادة يوم صفين.
أعيان الشيعة ج1ومعجم رجال الحديث ج13، وتفسير مجمع البيان10/ 251بتلخيص.
2- أبو الهيثم بن التيهان:
صحابي أنصاري، ثالث من أسلم من الأنصار، شهد بدرًا، وكان هو وخزيمة ذو الشهادتين وأربعة من الأنصار ممن احتجّ على تأخیر أمیر المؤمنین علیه السلام عن الخلافة. شهد مع أمیر المؤمنین علیه السلام الجمل وصفین وقتل فيها.
أعيان الشيعة ج1.
3- ذو الشهادتين:
خزيمة بن ثابت الأنصاري، شهد بدرًا وما بعدها من المشاهد، وكانت راية قبيلته خطمة معه يوم فتح مكة، سمي ذا الشهادتين لأن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم جعل شهادته كشهادة رجلین. وهو من رواة الأحاديث.
وكان من القادة يوم الجمل في ألف فارس، وله شعر جيد في أمیر المؤمنین والحسنين ومحمد بن الحنفية علیه السلام.
قتل يوم صفين سنة37ه.
ص: 421
أ) الإمام الجائر:
«وَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وَضُلَّ بِهِ فَأَمَاتَ سُنَّةً مَأْخُوذَةً وَأَحْيَا بِدْعَةً مَتْرُوكَةً وَإِنِّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله يَقُولُ يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْإِمَامِ الْجَائِرِ وَلَيْسَ مَعَهُ نَصِیرٌ وَلَا عَاذِرٌ فَيُلْقَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيَدُورُ فِيهَا كَمَا تَدُورُ الرَّحَى ثُمَّ يَرْتَبِطُ فِي قَعْرِهَا وَإِنِّ أَنْشُدُكَ اللهَ أَلَّا تَكُونَ إِمَامَ هَذِهِ الْأُمَّةِ المَقْتُولَ فَإِنَّهُ كَانَ يُقَالُ يُقْتَلُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ إِمَامٌ يَفْتَحُ عَلَيْهَا الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ إِلَی يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَلْبِسُ أُمُورَهَا عَلَيْهَا وَيَبُثُّ الْفِتَنَ فِيهَا فَلَا يُبْصِرُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ يَمُوجُونَ فِيهَا مَوْجاً وَيَمْرُجُونَ فِيهَا مَرْجاً»(1) .
ب) معاوية:
«فَسُبْحَانَ اللهِ مَا أَشَدَّ لُزُومَكَ لِلْأَهْوَاءَ المُبْتَدَعَةِ وَالْحَیْرَةِ المُتَّبَعَةِ مَعَ تَضْيِيعِ الْحَقَائِقِ وَاطَّرَاحِ الْوَثَائِقِ الَّتِي هِيَ للهِ طِلْبَةٌ وَعَلَى عِبَادِهِ حُجَّةٌ فَأَمَّا إِكْثَارُكَ الْحِجَاجَ عَلَى عُثْمَانَ وَقَتَلَتِهِ فَإِنَّكَ إِنَّمَا نَصَرْتَ عُثْمَانَ حَيْثُ كَانَ النَّصْرُ لَكَ وَخَذَلْتَهُ حَيْثُ كَانَ النَّصْرُ لَهُ وَالسَّلَامُ»(2) .
وكتب له أيضاً:
«إِنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ عَلَى مَا بَايَعُوهُمْ عَلَيْهِ
ص: 422
فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ وَلَا لِلْغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ وَإِنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وَسَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذَلِكَ للهِ رِضًا فَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِهِمْ خَارِجٌ بِطَعْنٍ أَوْ بِدْعَةٍ رَدُّوهُ إِلَی مَا خَرَجَ مِنْهُ فَإِنْ أَبَى قَاتَلُوهُ عَلَى اتَّبَاعِهِ غَیْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِینَ وَوَلَّاهُ اللهُ مَا تَوَلَّی»(1) .
واحتجاج الإمام علیه السلام إفحام وإلزام، وافٍ بالغرض، كفيل بالفلج كما هو معلوم من منهج القوم في إثبات الإمامة وحكم الخارج عنها، وإلاّ فالإمام على بيّنة من ربه، ويقین من أمره أن إمامته من الله سبحانه لا من خلقه.
وحوادث محنة الخلافة والاستخلاف وشؤونها وشجونها تفصح عن رأي كل قبيل، وتثبت مجتمعة حق الإمامة والإمام وترغم الخصم على الإذعان والاعتراف بذلك إن جنح إلى الطاعة ولم يخرج عن الجماعة.
ج) ناكثو البيعة:
«يَرْتَضِعُونَ أُمّاً قَدْ فَطَمَتْ وَيُحْيُونَ بِدْعَةً قَدْ أُمِيتَتْ يَا خَيْبَةَ الدَّاعِي مَنْ دَعَا وَإِلَامَ أُجِيبَ وَإِنَّي لَرَاضٍ بِحُجَّةِ اللهِ عَلَيْهِمْ وَعِلْمِهِ فِيهِمْ»(2) .
د) علماء السوء:
«وَآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالمِاً وَلَيْسَ بِهِ فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ وَأَضَالِيلَ مِنْ ضُلاَّلٍ وَنَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ وَقَوْلِ زُورٍ قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ وَعَطَفَ الْحَقَّ عَلَى أَهْوَائِهِ يُؤْمِنُ النَّاسَ مِنَ الْعَظَائِمِ وَيُهَوِّنُ كَبِیرَ الْجَرَائِمِ يَقُولُ
ص: 423
أَقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ وَفِيهَا وَقَعَ وَيَقُولُ أَعْتَزِلُ الْبِدَعَ وَبَيْنَهَا اضْطَجَعَ فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَانٍ وَالْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَانٍ لَا يَعْرِفُ بَابَ الْهُدَى فَيَتَّبِعَهُ وَلَا بَابَ الْعَمَى فَيَصُدَّ عَنْهُ وَذَلِكَ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ»(1) .
«إنَّ أَبْغَضَ الْخَلَائِقِ إِلَی اللهِ رَجُلاَنِ رَجُلٌ وَكَلَهُ اللهُ إِلَی نَفْسِهِ فَهُوَ جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ مَشْغُوفٌ بِكَلَمِ بِدْعَةٍ وَدُعَاءِ ضَلَالَةٍ فَهُوَ فِتْنَةٌ لَمِنِ افْتَتَنَ بِهِ ضَالٌّ عَنْ هَدْيِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مُضِلٌّ لَمِنِ اقْتَدَى بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ حَمَّالٌ خَطَايَا غَیْرِهِ رَهْنٌ بِخَطِيئَتِهِ»(2) .
«طُوبَى لَمِنْ ذَلَّ فِي نَفْسِهِ وَطَابَ كَسْبُهُ وَصَلَحَتْ سَرِيرَتُهُ وَحَسُنَتْ خَلِيقَتُهُ وَأَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ لِسَانِهِ وَعَزَلَ عَنِ النَّاسِ شَرَّهُ وَوَسِعَتْهُ السُّنَّةُ وَلَمْ يُنْسَبْ إلَی الْبِدْعَةِ»(3) .
ص: 424
وهي من متفاقم الأمراض الاجتماعية، وشر خصال النفس الإنسانية. يحوك الخاطر السوء سوءاً فلا يقر له قرار حتى يلفظه في محفل وقد ارتاح بما أزاح من علته، وقذفه من خبيثه وقد هتك به حرمات الله حيث استباح عرض أخيه المؤمن وأكل لحمه ولم يرعَ له حرمة ولم يحفظ له غَيبة ولم يدخر له كرامة.
ويتناول الإمام حديث الداء العضال والمرض الفتاك بنظرة المربي الإلهي الخبیر والحكيم البصیر فينفذ إلى الأعماق فكرة وهدياً وإصلاحاً وعلاجاً، فاستمع إلى ما يُتلى عليك من الحق عبر النقاط التالية:
«وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعِصْمَةِ وَالْمصْنُوعِ إِلَيْهِمْ فِي السَّلاَمَةِ أَنْ يَرْحَمُوا أَهْلَ الذُّنُوبِ وَالَمعْصِيَةِ وَيَكُونَ الشُّكْرُ هُوَ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ وَالْحَاجِزَ لَهُمْ عَنْهُمْ»(1) .
فهم فئتان: معافاة ومبتلاة.
وجدير بأهل العافية من الذنوب والسلامة من العيوب أن يعرفوا عظيم توفيق الله لهم، وجليل نعمته عليهم، وتجلي ذلك قلباً وقالباً فيهم.
أ) رحمة أهل الطاعة أهل الذنوب والمعصية.
ب) شكرهم الغامر للنعمة السابغة.
ص: 425
ج) أن يكون صلاحهم حاجزاً لهم عن الخوض في شأنهم.
«فَكَيْفَ بِالْعَائِبِ الَّذِي عَابَ أَخَاهُ وَعَيَّرَهُ بِبَلْوَاهُ»(1) .
فإذا كان اللائق بشأن المعافى تجاه المبتلى ما مر ذكره من التحلي بطيب الذات وكريم الخلق، فكيف إذا خرج وتجاوز الحد فاشتغل عائباً، ولمن؟! «أخاه ،» ومعراً له ب «بلواه » متجرداً بذلك عما تقتضيه الإنسانية وتوجبه الأخوة مماثلاً بذلك صنيع العدو الشامت.
«أَ مَا ذَكَرَ مَوْضِعَ سَتْرِ اللهِ عَلَيْهِ مِنْ ذُنُوبِهِ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي عَابَهُ بِهِ وَكَيْفَ يَذُمُّهُ بِذَنْبٍ قَدْ رَكِبَ مِثْلَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَكِبَ ذَلِكَ الذَّنْبَ بِعَيْنِهِ فَقَدْ عَصَى اللهَ فِيمَا سِوَاهُ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وأَيْمُ اللهِ لَئِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَاهُ فِي الْكَبِیرِ وَعَصَاهُ فِي الصَّغِیرِ لَجَرَاءَتُهُ عَلَى عَيْبِ النَّاسِ أَكْبَرُ»(2) .
فليُعْنَ العاقل بشأن ذاته، وليكن همه خاصة نفسه، فطوبى لمن شغله عيبه عن عيب سواه، فطالما ستر الله عيباً وأخفى فاضحة، ولم يشهر مرتكبها بین الملأ، فكيف بهذا يجهد في إسقاط غیره بما لا يرضاه لنفسه، أما في ذلك ذكرى لمدكر وعبرة لمعتبر!
ويوغل الإمام علیه السلام في التذكیر والتوجيه فينفذ إلى أعماق طبيعة الإنسان
ص: 426
ودخيلته فإن ذاكر أخيه بسوء ومعیّره بعيب لا يخلو من ذنب ارتكبه أو جرم اقترفه إن لم يكن مثل ما نبز به أخاه عيناً فهو قد عصى الله بغیر ذلك فهو في واقعه من أهل معصية الله.
بل وإن ألمّ بذنب صغیر ولم يجترح كبیراً فليس ذلك بمجرده من العيب، ولا بمبيح له الوقوع في الغیر، ألا يدري أن إقدامه وجراءته على النيل من الناس بنشر عيوبهم أعظم عيباً وأكبر ذنباً.
«يَا عَبْدَ اللهِ لَا تَعْجَلْ فِي عَيْبِ أَحَدٍ بِذَنْبِهِ فَلَعَلَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ وَلَا تَأْمَنْ عَلَى نَفْسِكَ صَغِیرَ مَعْصِيَةٍ فَلَعَلَّكَ مُعَذَّبٌ عَلَيْهِ فَلْيَكْفُفْ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ عَيْبَ غَیْرِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ عَيْبِ نَفْسِهِ وَلْيَكُنِ الشُّكْرُ شَاغِلًا لَهُ عَلَى مُعَافَاتِهِ مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ غَیرُهُ»(1) .
ترويض للنفس العجِلة الوثابة، ودعوة حكيمة لعقل صاحبها ليكبح جماحها، فالعاقل لا يوقع نفسه في ورطة غیره فقد يسلم الغیر ويبقى هو المبتلى، وربما كان أمر السلامة خفياً وقد تاب الجاني توبة نصوحاً وآب إلى ربه منيباً فغفر له ذنبه وتجاوز عن خطيئته فصحيفته بيضاء.
وهذا العَجِل يطلق لسانه ويكشف ما عنه الله ستر وله غفر فمحي الذنب عن ذاك وسُجل على هذا فصحيفته سوداء.
والعاقل يأخذ نفسه بالتقصیر دائماً، ولا يستهنين صغیر ذنب فشر الذنب ما استهان به صاحبه فيربو حتى يكون كبیراً.
ص: 427
إذاً فالعقل يحكم والحكمة تقضي بأن المرء لا يخلو من وضعين:
أ) مبتلى بعيب:
فليكن همه إصلاح عيبه وسد خلله، وتدارك تقصيره.
ب) معافى:
فهو في نعمة فليشكر المولى المنعم عيها حيث عافاه مما ابتلى به غيره.
«أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينٍ وَسَدَادَ طَرِيقٍ فَلَا يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ الرَّجَالِ أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي الرَّامِي وَتُخْطِئُ السَّهَامُ وَيُحِيلُ(1) الْكَلَامُ وَبَاطِلُ ذَلِكَ يَبُورُ وَاللهُ سَمِيعٌ وَشَهِيدٌ أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَیْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ إِلَّا أَرْبَعُ أَصَابِعَ فسُئل علیه السلام عن معنى قوله هذا فجمع أصابعه ووضعها بین أذنه وعينه، ثم قال:
الْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ سَمِعْتُ وَالْحَقُّ أَنْ تَقُولَ رَأَيْتُ»(2) .
والحق إنه ميزان دقيق، فالغالب على طباع الناس وأوضاعهم إصغاؤهم للقالة وأهل الإذاعة وفي ذلك خطر عظيم فالعواطف لا تضبط، والانفعالات لا تقف عند حد، وربما كان إفراز ذلك غلطاً وإبرازه شططاً فإذا ما أصغى إليه السامع ورتّب عليه أثراً فَحُشَ الغلط وعَمَّ الشطط.
وفي تصوير الإمام علیه السلام الحق والباطل محسوساً تأكيد على لزوم الدقة وتحري
ص: 428
الحق
«الْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ سَمِعْتُ وَالْحَقُّ أَنْ تَقُولَ رَأَيْتُ»(1) .
وهذه نظرة أخلاقية اجتماعية مهمة قويمة.
وأما حديث البينة والشهادات وجرح الشهود وما إلى ذلك من شؤون الفقه ومسائله فلا تنافي بينه وبین الخلق الكريم الفاضل ولكلٍ بابه ومجاله.
أ) «وَحَتَّى تَكُونَ نُصْرَةُ أَحَدِكُمْ مِنْ أَحَدِهِمْ كَنُصْرَةِ الْعَبْدِ مِنْ سَيَّدِهِ إِذَا شَهِدَ أَطَاعَهُ وَإِذَا غَابَ اغْتَابَهُ»(2) .
ب) «الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجِزِ»(3) .
والجملة الثانية بيان للأولى، فالعبد وهوانه على مولاه وبطش مولاه به وشدته عليه تضطره لإطاعته حاضراً، فإذا ما استراح من مشهده نفّس عن بلواه بالوقيعة فيه فهو لا يملك سوى ذلك متنفّساً.
وهكذا شأن كل مغتاب فهو عاجز أن يصنع شيئاً إصلاحاً أو رداً لمن ذكره بسوء، وغاية جهده وقصارى قدرته أن ينفّس عن نفسه بثلبه في مغيبه.
هذا وكما ألمحت آنفاً إنّ للمسألة بعداً فقهياً يراعى كما للجنبة الأخلاقية موطن يراعى، وبالله العصمة ومنه السداد.
ص: 429
أ) «وَالْحتمالُ قَبْرُ العُيُوبِ»(1) .
فالإيذاء عيبٌ، والبرم به، ومقابلته بمثله بلاء ومحنة وشقاء وفتنة، وتجرع غصصه وكتمانه دفع له ومنع من الإظهار وسوء مقابلته بالانتشار.
ب) «وَبِاحتمال المُؤَنِ(2) ، يِجَبُ السُّؤْدَدُ(3) »(4) .
فاحتماله لمؤنة نفسه شرف في ذاته ولدى غیره حيث لم يلقِ على أحد كَلَّه ولا حمّله ثقله.
واحتماله لمؤنة سواه إزاحة لعلّته وحمل أعبائه تستوجب شكراً وذكراً ورفعة وامتيازاً وذلكم هو الشرف والسؤدد لدى الناس منبعثًا من طيب الذات وسمو النفس.
ج) وليتخلق به الحاكم:
«وَاجْعلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرَّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً، فَتَتَواضَعُ فِيهِ للهِ الَّذِي خَلَقَكَ، وَتُقعِدَ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ، حَتَّى يُكَلَّمَكَ مُتَكَلَّمُهُمْ غَیْرَ مُتَتَعْتِعٍ، فَإِنَّي سَمِعْتُ رَسُولَ
ص: 431
اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم يَقُولُ فِي غَیْرِ مَوْطِنٍ: «لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيَّ غَیْرَ مُتَتَعْتِعٍ». ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ(1) مِنْهُمْ وَالْعِيَّ(2) »(3) .
فهو أولى من يتحلى بخلق الاحتمال غیر ضجر ولا متبرم بما يلقى من عنت وجفاء من رعيته بل يحتملهم ويتحملهم بقوة صبره وسعة حلمه.
د) ومن ثمار خيره:
1- فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ الْأُمُورِ مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِيهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ احْتَمَلُوهُ طَيَّبَةً أَنْفُسُهُمْ بِهِ»(4) .
وذاك نتاج غرس الخلق الكريم من الوالي فينتج ثمراً طيباً في الرعية.
2- الفرج والرخاء بعد الشدة والبلاء:
«حَتَّى إِذَا رَأَى اللهُ جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الأْذَى فِي مَحَبَّتِهِ، والْحتمال لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ، جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلاَءِ فَرَجاً»(5) .
هذا وللرجوع إلى مادة (حمل) ومشتقاتها فيما يتصل والطباع والخلائق أثر وأهمية للتوسع يراجع (المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة473/ 476).
ص: 432
«خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ»(1) .
وإن ذلك لميزان دقيق ومقياس عادل قويم في معاشرة المجتمع فيما بينهم،بحفظ الحقوق وتعاهد الواجبات، ورعاية أدب العشرة وإنزال الناس منازلهم.
ومن رعى ذلك وراعى أحبته القلوب، ومالت إليه النفوس فحنت لقربه، ورغبت في صلته، ونشرت مدحته وجميل خصاله وخیر فعاله.
وإن اخترمه المنون ورحل إلى عالم آخر عزّ عليها فقده، وحزنت لفراقه، وذرفت عليه دمعة، وحفظت له حسن الذكر وجميل الأحدوثة.
وإنما المرءُ حديثٌ بَعْدَهُ *** فكنْ حديثًا حسنًا لمن روى ص: 433
وليس الحديث عنها من وشيجة الرابطة الرحمية، وإنما المعني بها العلاقة الإنسانية والإجتماعية، وإن كانت الأولى آكد وأشد ثبوتاً.
وهي التي أشاد بفضلها قرآن الله العظيم، وامتدح رسوله الكريم بالتوفيق في إقامتها وإنجاحها:
«هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالُمؤْمِنِنَ* وَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَیْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم»(1) .
وقال- عظمت نعمته-: «وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا»(2) .
وقال الإمام علیه السلام في حديثه عن الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم:
«دَفَنَ اللهُ به الضغائِنَ، وأَطْفَأَ بهِ الثوائِرَ، ألَّفَ به إِخوانًا، وفرَّقَ بهِ أقرانًا، أَعَزَّ به الذِّلَّةَ، وأَذَلَّ بهِ العِزَّةَ»(3) .
«فإِنَّ حقًّا على الوالي أَلاّ يُغَیَّرَهُ على رَعِيَّتِهِ فَضْلٌ نالَهُ، ولا طَوْلٌ خُصَّ بِهِ، وأَنْ يَزِيدَهُ ما قَسَمَ اللهُ لَهُ مِنْ نِعَمِهِ دُنُوًّا مِنْ عِبادِهِ، وعَطْفًا علی إِخوانِهِ»(4) .
ص: 434
ونظرًا لعناية التربية الدينية بتلكم الصلة وعوامل إحكامها وعلاج إنفصام عراها عُني بها الإمام علیه السلام فأدار بصره في وافر من شؤونها مرشداً هادياً موجهاً ناصحاً.
فلنسترشد بهديه وتوجيهه الناصح.
«وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالَمحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِیرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ»(1) .
«فَإِنَّ حَقّاً عَلَى الْوَالِي أَلاَّ يُغَیَّرَهُ عَلَى رَعِيَّتِهِ فَضْلٌ نَالَهُ، وَلاَ طَوْلٌ خُصَّ بِهِ، وَأَنْ يَزِيدَهُ مَا قَسَمَ اللهُ لَهُ مِنْ نِعَمِهِ دُنُوّاً مِنْ عِبَادِهِ، وَعَطْفاً عَلَى إِخْوَانِهِ»(2) .
ويحمل هذا النص الشريف روحاً كريمة يعم خيرها وينقبض الشر عنها لكافة من ولي الوالي أمرهم برهم وفاجرهم معللاً ذلك كله بعاملین:
(الأخوة، النظیر) وهما وإن تفاوتا شأناً ومقاماً إلا أن الخلق الكريم والحق الإنساني يشملهما ويشرّك بينهما.
ولا يلغي ذلك ما تحلى به الأخ المؤمن، وتخلى عنه النظیر الكافر بما يوجب امتياز أحدهما عن الآخر كما فصلته الأحكام الإلهية.
ص: 435
ويمثل النص قاعدة واسعة عريضة لأسلوب التعامل قوامها الحق وجوهرها العدل وروحها العطف واللطف.
«احْمِلْ نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِهِ(1) عَلىَ الصَّلَةِ، وَعِنْدَ صُدُودِهِ عَلىَ اللَّطَفِ وَالُمْقَارَبَةِ، وَعِنْدَ جُمُودِهِ(2) عَلىَ الْبَذْلِ، وَعِنْدَ تَبَاعُدِهِ عَلىَ الدُّنُوَّ، وَعِنْدَ شِدَّتِهِ عَلىَ اللَّینِ، وَعِنْدَ جُرْمِهِ عَلَى الْعُذْرِ، حَتَّى كَأَنَّكَ لَهُ عَبْدٌ، وَكَأَنَّهُ ذُونِعْمَة عَلَيْكَ. وَإيَّاكَ أَنْ تَضَعَ ذلِكَ فِي غَیْرِ مَوْضِعِهِ، أَوْ أَنْ تَفْعَلَهُ بغَیْرِ أَهْلِهِ، لا تَتَّخِذَنَّ عَدُوَّ صَدِيقِكَ صَدِيقاً فَتُعَادِيَ صَدِيقَكَ، وَامْحَضْ أَخَاكَ النَّصِيحَةَ، حَسَنةً كَانَتْ أَمْ قَبِيحَةً»(3) .
«وَإِنْ أَرَدْتَ قَطِيعَةَ أَخِيكَ فَاسْتَبْقِ لَهُ مِنْ نَفْسِكَ بَقِيَّةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا إِنْ بَدَا لَهُ ذلِكَ يَوْماً مَّا»(4) .
«وَلاَ تُضِيعَنَّ حَقَّ أَخِيكَ اتَّكَالاً عَلَى مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِأَخٍ مَنْ أَضَعْتَ حَقَّه»(5) .
«وَلاَ يَكُونَنَّ أَخُوكَ أَقْوَى عَلَى قَطِيعَتِكَ مِنْكَ عَلَى صِلَتِهِ، وَلاَ تكُونَنَّ على الْإِسَاءَةِ أَقْوَى مِنْكَ عَلَى الإحسان»(6) .
ص: 436
«كَانَ لِي فيِمَا مَضَى أَخٌ فِي اللهِ، وَكَانَ يُعْظِمُهُ فِي عَيْنِي صِغَرُ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ، وَكَانَ خَارِجاً مِنْ سُلْطَانِ بَطْنِهِ فَلاَ يَشْتَهِي مَا لاَ يَجِدُ وَلاَ يُكْثِرُ إِذَا وَجَدَ، وَكَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً فإِنْ قَالَ بَذَّ الْقَائِلِینَ وَنَقَعَ غَلِيلَ السَّائِلِينَ، وَكَانَ ضَعِيفاً مُسْتَضْعَفاً! فَإِنْ جَاءَ الْجِدُّ فَهُوَ لَيْثُ غَابٍ وَصِلُّ وَادٍ لاَ يُدْلِي بِحُجَّةٍ حَتَّى يَأْتِيَ قَاضِياً، وَكَانَ لاَ يَلُومُ أَحَداً عَلَى مَا يَجِدُ الْعُذْرَ فِي مِثْلِهِ حَتَّى يَسْمَعَ اعْتِذَارَهُ، وَكَانَ لاَ يَشْكُو وَجَعاً إِلاَّ عِنْدَ بُرْئِهِ، وَكَانَ يقُولُ مَا يَفْعَلُ وَلاَ يَقُولُ مَا لاَ يَفْعَلُ، وَكَانَ إذَا غُلِبَ عَلَى الْكَلاَمِ لَمْ يُغْلَبْ عَلَى السُّكُوتِ، وَكَانَ عَلَى مَا يَسْمَعُ أَحْرَصَ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ، وَكَان إذَا بَدَهَهُ أَمْرَانِ نَظَرَ أَيُّهُمَا أَقْرَبُ إلى الْهَوَى فيُخَالِفُهُ. فَعَلَيْكُمْ بِذِهِ الْخَلاَئِقِ فَالْزَمُوهَا وَتَنَافَسُوا فِيهَا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوهَا فَاعْلَمُوا أَنَّ أَخْذَ الْقلِيلِ خَیْرٌ مِنْ تَرْكِ الْكَثِیرِ»(1) .
«أَنْتُمُ الْأَنْصَارُ عَلَى الْحَقِّ، وَالْإِخُوَانُ في الدَّينِ، وَالْجُنَنُ يَوْمَ الْبَأْسِ، وَالْبِطَانَةُ دُونَ النَّاسِ، بِكُمْ أَضْرِبُ الُمدْبِرَ، وَأَرْجُو طَاعَةَ الُمْقْبِلِ، فَأَعِينُوني بِمُنَاصَحَةٍ خَلِيَّةٍ مِنَ الْغِشَّ، سَلِيمَةٍ مِنَ الرَّيْبِ؛ فَوَ اللهِ إِنَّي لَأَوْلَی النَّاسِ بِالنَّاسِ!»(2) .
«صَدَّقَهُ (الشيطان) بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ، وَإِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ، وَفُرْسَانُ الْكِبْرِ وَالْجَاهِلِيَّةِ»(3) .
ص: 437
«إن شَرُّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلْأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً، وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الْآثَامِ، فَلاَ يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً، فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الْأَثَمَةِ، وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ»(1) .
وهذه مجامع آداب وجماع حقوق، وخیر علاج لما يعرض علائق الأخوة ويشوبها من كدر، تستبطن الخفايا، وتنفذ في الأعماق لو روعيت لأقامت بناء المجتمع على أتم إحكام.
ولستَ بمستبقٍ أخاً لا تلمُّهُ *** على شَعَثٍ أيُّ الرجالِ المهذَّبُ
إذا أنت أكرمتَ الكريمَ ملكتَهُ *** وإِنْ أنت أكرمتَ اللئيمَ تَمَرَّدا
«عَاتِبْ أَخَاكَ بِالإحسان إِلَيْهِ، وَارْدُدْ شَرَّهُ بِالْإِنْعَامِ عَلَيْهِ»(2) .
«وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعِصْمَةِ وَالَمصْنُوعِ إِلَيْهمْ فِي السَّلاَمَةِ أَنْ يَرْحَمُوا أَهْلَ الذُّنُوبِ وَالَمعْصِيَةِ، وَيَكُوَنَ الشُّكْرُ هُوَ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ وَالْحَاجِزَ لَهُمْ عَنْهُمْ، فَكَيْفَ بِالْعَائِبِ الَّذِي عَابَ أَخَاهُ وَعَیَّرَهُ بِبَلْوَاهُ! أَمَا ذَكَرَ مَوْضِعَ سَتْرِ اللهِ عَلَيْهِ مَنْ ذُنُوبِهِ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي عَابَهُ بِهِ!»(3) .
«لاَ يَكُونُ الصَّدِيقُ صَدِيقاً حَتَّى يَحْفَظَ أَخَاهُ فِي ثَلاَثٍ: فِي نَكْبَتِهِ، وَغَيْبَتِهِ، وَوَفَاتِهِ»(4) .
ص: 438
و ذلك عنوان الأخوة الصادقة والصداقة الحقة فيحفظه شاهداً حياً وميتاً.
«إِذَا احْتَشَمَ المُؤْمِنُ أَخَاهُ فَقَدْ فَارَقَهُ»(1) .
وليس معنى ذلك توقیره وإجلاله فهو من المعروف، وإنما هو إغضابه، وإخجاله وكل ما هو مظنّة إبعاده ومفارقته.
«شَرُّ الْإِخْوَانِ مَنْ تُكُلَّفَ لَهُ»(2) .
«أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينٍ وَسَدَادَ طَرِيقٍ، فَلاَ يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ الرَّجَالِ، أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي الرَّامِي، وَتُخْطِيءُ السَّهَامُ، وَيُحِيلُ الْكَلاَمُ(3) ، وَبَاطِلُ ذلِكَ يَبْورُ، وَاللهُ سَمِيعٌ وَشَهِيدٌ. أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَیْنَ الْحَقَّ وَالْبَاطِلِ إِلاَّ أَرْبَعُ أَصَابِعَ. فسئل علیه السلام عن معنى قوله هذا، فجمع أصابعه ووضعها بین أذنه وعينه ثمّ قال: الْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ سَمِعْتُ، وَالْحَقُّ أَنْ تَقُولَ رَأَيْتُ!»(4) .
أرأيت كيف تتدفق الحكمة من منبعها، ويبرهن عليها بالحق والوجدان وضرب المثل، وبالغ الأنذار والتذكیر، وعميق مراقبة الله مراقبة الله الحاضر الناظر في جمال البيان وجلال التصوير؟!
«أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكتساب الْإِخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ
ص: 439
ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ»(1) .
«وَاِنَّمَا أَنْتُم إِخْوَانٌ عَلَى دِينِ اللهِ، مَا فَرَّقَ بَيْنَكُمْ إِلاَّ خُبْثُ السَّرَائِرَ، وَسُوءُ الضَّمائِرِ، فَلاَ تَوَازَرُونَ، وَلاَ تَنَاصَحُونَ، وَلاَ تَبَاذَلُونَ، وَلاَ تَوَادُّونَ»(2) .
«وَمَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلَ أَخَاهُ بِمَا يَخَافُ مِنْ عَيْبِهِ، إِلاَّ مَخَافَةُ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ بمِثْلِه»(3) .
«فَإِنَّ الْأَمْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ إلى الْأَرْضِ كَقَطَرَاتِ المَطَرِ إلى كُلَّ نَفْسٍ بِمَا قُسِمَ لَهَا مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ لِأَخِيهِ غَفِرَةً في أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ فَلاَ تَكُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً»(4) .
«وَأَيُّ امْرِىءٍ مِنْكُمْ أَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ رَبَاطَةَ جَأْش عِنْدَ اللَّقَاءِ، وَرَأَى مِنْ أَحَدٍ مِنْ إِخْوَانِهِ فَشَلاً، فَلْيَذُبَّ عَنْ أَخِيهِ بِفَضْلِ نَجْدَتِهِ الَّتي فُضِّلَ بِهَا عَلَيْهِ كَمَا يَذُبُّ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَهُ مِثْلَهُ»(1) .
«مَا ضَرَّ إِخْوَانَنَا الَّذِينَ سُفِكَتْ دِمَاؤُهُمْ- وَهُمْ بِصِفَّینَ- أَلاَّ يَكُونُوا الْيَوْمَ أَحْيَاءً؟ يُسِيغُونَ الْغُصَصَ، وَيَشْرَبُونَ الرَّنْقَ!(2) قَدْ- وَاللهِ لَقُوا اللهَ فَوَفَّاهُمْ أُجُورَهُمْ، وَأَحَلَّهُمْ دَارَ الْأَمْنِ بَعْدَ خَوْفِهمْ.
أَيْنَ إِخْوَانِ الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّريقَ، وَمَضَوْا عَلَى الْحَقِّ؟ أَيْنَ عَمَّارٌ؟ وَأَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ؟ وَأَيْنَ ذُوالشَّهَادَتَيْنِ؟ وَأَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى الَمنِيَّةِ، وَأُبْرِدَ بِرُؤوسِهِمْ إلى الْفَجَرَةِ؟
قال: ثمّ ضرب بيده إلى لحيته الشريفة الكريمة، فأطال البكاء، ثمّ قال علیه السلام:
أَوِّهِ عَلَى إِخْوَانِي الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ، وَتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ، أَحْيَوُا السُّنَّةَ، وَأمَاتُوا الْبِدْعَةَ، دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا، وَوَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوا»(3) .
وحنّ إلى إخوانه الأماثل، فنعتهم أولاً بمآثرهم ثم تمنّى اللحوق بهم:
«مُرْهُ(4) الْعُيُونِ مِنَ الْبُكَاءِ خْمُصُ الْبُطُونِ مِنَ الصَّيَامِ ذُبُلُ الشَّفَاهِ مِنَ الدُّعَاءِ
ص: 441
صُفْرُ الْأَلْوَانِ مِنَ السَّهَرِ عَلَى وُجُوهِهِمْ غَبَرَةُ الْخَاشِعِينَ أُولَئِكَ إِخْوَانِي الذَّاهِبُونَ فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَأَ إِلَيْهِمْ وَنَعَضَّ الْأَيْدِي عَلَى فِرَاقِهِمْ»(1) .
حسن العتاب وجميل رد الشر:
«عَاتِبْ أَخَاكَ بِالإحسان إِلَيْهِ، وَارْدُدْ شَرَّهُ بِالْإِنْعَامِ عَلَيْهِ»(2) . من يؤمّل فيه خلال الخير:
«إِذَا كَانَ فِي رَجُلٍ خَلَّةٌ(3) رَائِقَةٌ فَانْتَظِرُوا أَخَوَاتَهِا»(4) .
ص: 442
وقد جاء في النهج الشريف جمل تربوية تقي مراعاتها الوقوع في العثرات وتحمل على ما يجمل عند الابتلاء بها في خاصة المرء ذاته وما يراه من غیره.
«مَنْ جَرَى فِي عِنَان أَمَلِهِ عَثَرَ بِأَجَلِهِ»(1) . فإذا كان يحدوه الأمل، ويمتلكه ويقوده حيث شاء دونما روية وتأمل فهو الغافل عمَّا يعترضه من مواطن السقوط والهلكة فإذا به في قبضة الأجل يباغته لا يسطيع خلاصاً ولا يجد مناصاً يتفادى به الوقوع في الهوة السحيقة سواء منه ذلك في قول أو فعل.
«أَ فَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ وَالْعَثْرَةِ تُدْمِيهِ وَالرَّمْضَاءِ تُحْرِقُهُ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَیْنَ طَابَقَیْنِ مِنْ نَارٍ ضَجِيعَ حَجَرٍ وَقَرِينَ شَيْطَانٍ أَ عَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً إِذَا غَضِبَ عَلَى النَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضاً لِغَضَبِهِ وَإِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَیْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِهِ»(2) .
فليكن فيما يرى ابن آدم في عوارض أيامه واعظاً ومزدجراً عمَّا هو معدَّ له جزاء لسوء فعله وقبيح عمله.
ص: 443
«حَتَّى إِذَا انْصَرَفَ الُمشَيِّعُ وَرَجَعَ الُمتَفَجَّعُ أُقْعِدَ فِي حُفْرَتِهِ نَجِيّاً لِبَهْتَةِ السُّؤَالِ وَعَثْرَةِ الامْتِحَانِ»(1) .
فالقبر صندوق العمل، وهو إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، يعود ويقعد حياً، ويسأل دقيقاً، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان، وهناك الرهبة والحیرة وتجلي العثرة.
وهي الحالة المثیرة، والصورة المدهشة لكلٍ من الحي والميت المشيِّع والمشيَّع، يسلم الحلي حبيبه إلى القبر وترابه مرتهناً بعمله مؤاخذاً بجريرته، ويرجع عنه مفرداً كما أسلمه مفرداً، ثم يؤتى به لمرقدٍ أضجع فيه صاحبه وخليله وكفى بالموت واعظاً وزاجراً.
« وَبَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَلِكُمْ فَإِنَّكُمْ مُرْتَهَنُونَ بِمَا أَسْلَفْتُمْ وَمَدِينُونَ بِمَا قَدَّمْتُمْ وَكَأَنْ قَدْ نَزَلَ بِكُمُ الْمخُوفُ فَلا رَجْعَةً تَنَالُونَ وَلا عَثْرَةً تُقَالُونَ»(2) .
بلى والله:
«حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْموْتُ قَالَ رَبَّ ارْجِعُونِ* لَعَلَّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ»(3) .
ص: 444
«فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا وَيَخْشُنُ مَسُّهَا وَيَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا وَالاعْتِذَارُ مِنْهَا»(1) .
فمن يكثر قوله يكثر زلله، فكيف بإدارة أمر الأمة، وحكم الرعية والشؤون جمة والقضايا شتى، وفي كل واقعة حكم يؤخذ عن الله ورسوله.
فأنَّى للقاصر الإحاطة بذلك، وأنَّى للجاهل القيام بوظائف الحق فيضطر إلى اللجوء إلى ركن غیر وثيق، وعروة منفصمة، من استعمال البدع، وإعمال الرأي المخترع، وذلكم هو الضلال المبین، ودين الله لايصاب بالعقول، وإجهاد الرأي، والارتجال، فتطفح العثرات، وتستشري الهنات.
«أَقِيلُوا ذَوِي المُرُوءَاتِ عَثَرَاتِهِمْ فَمَا يَعْثُرُ مِنْهُمْ عَاثِرٌ إِلا وَيَدُ اللهِ بِيَدِهِ يَرْفَعُهُ»(2) .
فالمرء عرضة للمخالفة والوقوع في بلائها، والعصمة لمن عصمه الله منها، والكمال لمن وهبه ذلك، فإذا جنح امرؤ ذو مروءة لما ينقصه فليس من الحكمة العجلة في حقه فإن له من خلال الخیر خیر شافع، وإن زلت به قدم فقد ثبتت له أخرى، فهو بعین الله يرفعه حيث اتّضع.
أجل إن ذلك أسلوب في التربية قويم، وعامل في الحمل على الحق في
ص: 445
الصميم، وذو المروءة جدير بأن يراعى فلا ينتظر منه إلا الخیر، ولا يؤمل منه إلا ما يليق بالصبغة القائمة في خلاله وجميل خصاله.
هذا وقال الإمام علیه السلام:
«إِذَا كَانَ فِي رَجُلٍ خَلَّةٌ رَائِقَةٌ فَانْتَظِرُوا أَخَوَاتِهَا»(1) .
«وَنَحْنُ نَسْتَقِيلُ اللهَ عَثْرَةَ الْغَفْلَةِ»(2) .
وهذه الجملة الشريفة ختام حكمة بالغة بیّن فيها الإمام علیه السلام تردي أوضاع الناس وتقلب أحوالهم وذهاب دينهم، واستشراء الفتن والضلال فيهم، وهم في غيهم سادرون، وعمَّا يحيق بهم ساهون غافلون، ولا منجى ولا عاصم إلا بالانقطاع إلى الله والاستقالة من مفتاح البلاء وهو العثرة والغفلة عن السقوط في الزلة.
«واجْعَلْ لِسانِ بِذِكْرِكَ لَهِجاً، وقَلْبِي بِحُبَّكَ مُتَيَّماً».
ص: 446
نحو من التعلق بشدة وشوق، واستنجاد ملح لكفاية مهمة عاجلة وسأجمع بین العنوانین لوحدة موضوعهما.
«كُلُّ شيْءٍ خَاشِعٌ لَهُ وَكُلُّ شيْءٍ قَائِمٌ بِهِ غِنَى كُلَّ فَقِیرٍ وَعِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ وَقُوَّةُ كُلَّ ضَعِيفٍ وَمَفْزَعُ كُلَّ مَلْهُوفٍ»(1) .
«اللهُمَّ إِنَّكَ آنَسُ الْآنِسِینَ لِأَوْلِيَائِكَ وَأَحْضَرُهُمْ بِالْكِفَايَةِ لِلْمُتَوَكَّلِینَ عَلَيْكَ تُشَاهِدُهُمْ فِي سَرَائِرِهِمْ وَتَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ فِي ضَمَائِرِهِمْ وَتَعْلَمُ مَبْلَغَ بَصَائِرِهِمْ فَأَسْرَارُهُمْ لَكَ مَكْشُوفَةٌ وَقُلُوبُهُمْ إِلَيْكَ مَلْهُوفَةٌ إِنْ أَوْحَشَتْهُمُ الْغُرْبَةُ آنَسَهُمْ ذِكْرُكَ وَإِنْ صُبَّتْ عَلَيْهِمُ الَمصَائِبُ لَجَئُوا إلى الاستجَارَةِ بِكَ عِلْماً بِأَنَّ أَزِمَّةَ الْأُمُورِ بِيَدِكَ وَمَصَادِرَهَا عَنْ قَضَائِكَ»(2) .
الزكاة: «فَمَنْ أَعْطَاهَا طَيَّبَ النَّفْسِ بِهَا فَإِنَّهَا تُجْعَلُ لَهُ كَفَّارَةً وَمِنَ النَّارِ حِجَازاً وَوِقَايَةً فَلا يُتْبِعَنَّهَا أَحَدٌ نَفْسَهُ وَلا يُكْثِرَنَّ عَلَيْهَا لَهَفَهُ»(3) .
ص: 447
والنص وإن جاء بعنوان الإرشاد والتوجيه لبذل المال في مورده بنفس طيبة وروح كريمة إلا أنه حاكٍ عن نمط ممن يقدم ماله ولكنه كمن يعتده مغرماً وثمرة مهدورة يكثر منه اللهف، ويعلو منه الحنین والأسف.
«مَعَاشِرَ النَّاسِ اتَّقُوا اللهَ فَكَمْ مِنْ مُؤَمَّلٍ مَا لا يَبْلُغُهُ وَبَانٍ مَا لا يَسْكُنُهُ وَجَامِعٍ مَا سَوْفَ يَتْرُكُهُ وَلَعَلَّهُ مِنْ بَاطِلٍ جَمَعَهُ وَمِنْ حَقًّ مَنَعَهُ أَصَابَهُ حَرَاماً وَاحْتَمَلَ بِهِ آثَاماً فَبَاءَ بِوِزْرِهِ وَقَدِمَ عَلَى رَبَّهِ آسِفاً لاهِفاً قَدْ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الُمبِینُ»(1) .
«مِنْ كَفَّارَاتِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ إِغَاثَةُ الَملْهُوفِ وَالتَّنْفِيسُ عَنِ الَمكْرُوبِ»(2) .
فالملهوف يعيش محنته، يكابد فقراً، ويشكو ضراً، ويحيا مراً، وذلكم الفقر وذانك الضر والمر بؤس وشقاء، فالباذل رفده، والمحسن بجميل صنعه، يحمل في قلبه رحمة، تمثل خیراً ونعمة فهو بذلك مؤهل للمكافأة من المولى الكريم الرحيم، وهو الجواد مضاعف الحسنات، وخیر جزاء لمن رحم العباد أن يرحمه رب العباد،وأفضل مجازاة أن تذهب حسناته سيئاته «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيَّئَاتِ».
وفي ذلك تربية راقية لتعميق فعل الخیر والإحسان ومحبة الخلق وتطميع في نيل مرضاة الرب وإبعاد اليأس من روح الله وإن اقترفت النفوس من الذنوب عظيماً.
ص: 448
وفي نهج الإمام علیه السلام عنها حديث مستفيض، فقد عرض لنجاح النبي صلی الله علیه و آله و سلم الباهر وانجازه المعجز في إقامتها واقتلاع الأحقاد والضغائن والإحن والتباين من القلوب، كما أبان عمَّا يحمله في قلبه من خلق يجهد أن يحمل عليه ولاته، ويشيعه بین عامّة الرعية والأمة.
والحديث المستفيض والعرض الطويل مبثوث في كلمه في مواطن عدة، تلتقي مجتمعة في عنوان البحث، نلملم طرفاً منها ونماذج.
ماء السماء:
«حَتَّى أَنْشَأَ لَهَا نَاشِئَةَ سَحَابٍ تُحْيِي مَوَاتَهَا وَتَسْتَخْرِجُ نَبَاتَهَا أَلَّفَ غَمَامَهَا بَعْدَ افْتِرَاقِ لُمعِهِ وَتَبَايُنِ قَزَعِهِ»(1) .
«كَمَا تَجْتَمِعُ قَزَعُ الْخَرِيفِ يُؤَلَّفُ اللهُ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَجْمَعُهُمْ رُكَاماً كَرُكَامِ السَّحَابِ ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَاباً يَسِيلُونَ مِنْ مُسْتَثَارِهِمْ كَسَيْلِ الْجَنَّتَیْنِ»(2) .
وفي غيره مما خلق:
«فَسُبْحَانَ الَّذِي بَهَرَ الْعُقُولَ عَنْ وَصْفِ خَلْقٍ جَلَّاهُ لِلْعُيُونِ فَأَدْرَكَتْهُ مَحْدُوداً مُكَوَّناً وَمُؤَلَّفاً مُلَوَّناً وَأَعْجَزَ الألْسُنَ عَنْ تَلْخِيصِ صِفَتِهِ وَقَعَدَ بِهَا عَنْ تَأْدِيَةِ
ص: 449
نَعْتِهِ»(1) .
«ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ وَالْوُضُوحَ بِالْبُهْمَةِ وَالْجُمُودَ بِالْبَلَلِ وَالْحَرُورَ بِالصَّرَدِ مُؤَلَّفٌ بَیْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا مُقَارِنٌ بَیْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا مُقَرَّبٌ بَیْنَ مُتَبَاعِدَاتِهَا مُفَرَّقٌ بَیْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا»(2) .
«فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدِ امْتَنَّ عَلَى جَمَاعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِیمَا عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ الْأُلْفَةِ الَّتِي يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلَّهَا وَيَأْوُونَ إلى كَنَفِهَا بِنِعْمَةٍ لا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الَمخْلُوقِنَ لَهَا قِيمَةً لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلَّ ثَمَنٍ وَأَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ»(3) .
«وَأَعْظَمُ مَا افتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ حَقُّ الْوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَى الْوَالِي فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللهُ سُبْحَانَهُ لِكُلًّ عَلَى كُلًّ فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ وَعِزّاً لِدِينِهِمْ»(4) .
«دَفَنَ اللهُ بِهِ الضَّغَائِنَ وَأَطْفَأَ بِهِ الثَّوَائِرَ أَلَّفَ بِهِ إِخْوَاناً وَفَرَّقَ بِهِ أَقْرَاناً»(5) .
«فَانْظُرُوا إلى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِمْ حِینَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ وَجَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ كَيْفَ نَشَرَتِ النَّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا»(6) .
ص: 450
«فَلَمَّ اللهُ بِهِ الصَّدْعَ وَرَتَقَ بِهِ الْفَتْقَ وَأَلَّفَ بِهِ الشَّمْلَ بَیْنَ ذَوِي الأرْحَامِ بَعْدَ الْعَدَاوَةِ الْوَاغِرَةِ(1) فِي الصُّدُورِ وَالضَّغَائِنِ الْقَادِحَةِ(2) فِي الْقُلُوبِ»(3) .
وقد كشفت الأحداث والخطوب الجسام عمَّا يحمله قلبه من تعلق بجمع الكلمة، ونبذ الاختلاف والفرقة، فهو- سلام الله عليه- القائل:
«لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَیْرِي وَوَ اللهِ لأسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ المُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلاّ عَلَيَّ خَاصَّةً الْتِمَاساً لِأَجْرِ ذَلِكَ وَفَضْلِهِ وَزُهْداً فِيمَاَ تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَزِبْرِجِهِ»(4) .
وذلك في معترك الحكم والخلافة وأوج الصراع والنزاع، وهو القائل في محنته وبلاء الأمة بإفرازات حرب صفین الضروس وما آل إليه أمر التحكيم، والهياج والتخبط في تلكم العواصف، ومكاره الشدائد:
أ- «فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ تَغَیَّرَ كَثِیرٌ مِنْهُمْ عَنْ كَثِیرٍ مِنْ حَظَّهِمْ فَمَالُوا مَعَ الدُّنْيَا وَنَطَقُوا بِالْهَوَى وَإِنَّي نَزَلْتُ مِنْ هَذَا الأمْرِ مَنْزِلًا مُعْجِباً اجْتَمَعَ بِهِ أَقْوَامٌ أَعْجَبَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وَأَنَا أُدَاوِي مِنْهُمْ قَرْحاً أَخَافُ أَنْ يَكُونَ عَلَقاً وَلَيْسَ رَجُلٌ فَاعْلَمْ أَحْرَصَ عَلَى جَمَاعَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله و سلم وَأُلْفَتِهَا مِنَّي أَبْتَغِي بِذَلِكَ حُسْنَ الثَّوَابِ وَكَرَمَ الَمآبِ
ص: 451
وَسَأَفِي بِالَّذِي وَأَيْتُ عَلَى نَفْسِيِ»(1) .
«وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ(2) خَیْرْ الَخْلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ وَأَوْزَارِهِمْ وَآثَامِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ وَلا آثِماً عَلَى إِثْمِهِ أُولَئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَئُونَةً وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً وَأَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً وَأَقَلُّ لِغَیْرِكَ إِلْفاً»(3) .
ب- «وَلا تَنْقُضْ سُنَّةً صَالَحِةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَاجْتَمَعَتْ بِهَا الْأُلْفَةُ وَصَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ»(4) .
وقال علیه السلام: «قُلُوبُ الرَّجَالِ وَحْشِيَّةٌ فَمَنْ تَأَلَّفَهَا أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ»(5) .
فالقلوب وإن كانت متقلبة، تقسو وتتنمر، ولكن مروضها بتألفها، ومربيها بالإحسان إليها، وتحمل شدتها، والتغافل عن جهالاتها، فإنها بالتالي تسكن إليه وتقبل عليه، وربما ضرعت بین يديه.
أحسنْ إلى الناسِ تستعبدْ قلوبَهُمُ *** فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
«التَّوَدُّدُ نِصْفُ الْعَقْلِ»(6) .
ص: 452
«فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الأمْلاءُ(1) مْجُتَمِعَةً وَالأهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً وَالْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً وَالأيْدِي مُتَرَادِفَةً وَالسُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً وَالْبَصَائِرُ نَافِذَةً وَالْعَزَائِمُ وَاحِدَةً أَ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الأرَضِینَ وَمُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِینَ فَانْظُرُوا إلى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ حِینَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَتَشَتَّتَتِ الْأُلْفَةُ وَاخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَالأفْئِدَةُ وَتَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِنَ وَتَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِینَ وَقَدْ خَلَعَ اللهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ وَسَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ وَبَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ»(2) .
«فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَبَنِي إِسْحَاقَ وَبَنِي إِسْرَائِيل فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَال َالأحْوَالِ وَأَقْرَبَ اشْتِبَاهَ الأمْثَالِ... لا يَأْوُونَ إلى جَنَاحِ دَعْوَةٍ يَعْتَصِمُونَ بِهَا وَلا إلى ظِلَّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزَّهَا»(3) .
«افْتَرَقُوا بَعْدَ أُلْفَتِهِمْ وَتَشَتَّتُوا عَنْ أَصْلِهِمْ فَمِنْهُمْ آخِذٌ بِغُصْنٍ أَيْنَمَا مَالَ مَالَ مَعَهُ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَی سَيَجْمَعُهُمْ لِشَرَّ يَوْمٍ لِبَنِي أُمَيَّةَ»(4) .
«فَإِنَّا كُنَّا نَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَى مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْأُلْفَةِ وَالْجَمَاعَةِ فَفَرَّقَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَمْسِ أَنَّا آمَنَّا وَكَفَرْتُمْ وَالْيَوْمَ أَنَّا اسْتَقَمْنَا وَفُتِنْتُمْ وَمَا أَسْلَمَ مُسْلِمُكُمْ إِلا كَرْهاً
ص: 453
وَبَعْدَ أَنْ كَانَ أَنْفُ الإسْلامِ كُلُّهُ لِرَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم حِزْباً»(1) .
ويؤرخ هذا الكتاب للقبيلین المختلفین جاهلية وإسلاماً، فكان الإيمان قائماً والاستقامة ماثلة في حزب الله النجباء، شيبة الحمد وشيخ الأباطح وأفذاذ بني هاشم وسراتهم، وكان الكفر والزيغ والافتتان قد أناخت بحزب الشيطان الطلقاء والعتاة المردة من عبد شمس وأمية، كشيخ السوءات صخر أبي سفيان بن حرب، ومن نسل، والتفّ بحبله من حاشية وبطانة.
وإنه التحديد الدقيق والتحليل العميق، فما أسلم من أسلم! عن رغبة وحب للإسلام وإنا ألجأته الظروف القاهرة فلم يجد عن إظهار الإسلام بُداً، فأيُّ إسلام هذا؟! أجل إنه الاستسلام والرضوخ للأمر الواقع الذي لا محيص عن الإذعان لإملاءاته.
هذا وقد جاء نصرالله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
ص: 454
وهو خلق من أخلاق الله الكريمة، وصفاته العالية، وجدير بالعبد التخلق بأخلاق الرب.
وقد تناول الإمام علیه السلام هذا الخلق في جملة من أطرافه، فلنتربَّ على نهج الإمام وهديه.
«يَعْفُو بِحِلْمِ»(1) ، الَّذِي عَظُمَ حِلْمُهُ فَعَفَا»(2) .
«فَإِنَّ اللهَ تَعَالَی يُسَائِلُكُمْ مَعْشَرَ عِبَادِهِ عَنِ الصَّغِیرَةِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَالْكَبِیرَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَالَمسْتُورَةِ فَإِنْ يُعَذَّبْ فَأَنْتُمْ أَظْلَمُ وَإِنْ يَعْفُ فَهُوَ أَكْرَمُ»(3) .
ومما قاله عن البصرة:
«المُحْتَبَسُ فِيهَا بِذَنْبِهِ وَالْخَارِجُ بِعَفْوِ اللهِ»(4) .
«وَتَمَثَّلْ فِي حَالِ تَوَلَّيكَ عَنْهُ إِقْبَالَهُ عَلَيْكَ يَدْعُوكَ إلى عَفْوِهِ وَيَتَغَمَّدُكَ بِفَضْلِهِ وَأَنْتَ مُتَوَلًّ عَنْهُ إلى غَیْرِهِ فَتَعَالَی مِنْ قَوِيًّ مَا أَكْرَمَهُ!»(5) .
ص: 455
«وَلَكِنَّ اللهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ وَيَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمجَاهِدِ وَيَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمكَارِهِ إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَإِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ وَلِيَجْعَلَ ذَلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً(1) إلى فَضْلِهِ وَأَسْبَاباً ذُلُلاً لِعَفْوِهِ»(2) .
وقال لمالكٍ واليه: «فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَتَرْضَی أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَوَالِي الأمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَاللهُ فَوْقَ مَنْ وَلاّكَ»(3) .
«فَإِنَّهُ لا يَدَ لَكَ بِنِقْمَتِهِ وَلا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ»(4) .
ونستخلص من هذه النصوص:
أ- إن منطلق العفو الحلم والكرم فهو- سبحانه- حليم لا يغضب فيعفو وكريم لا يؤاخذ على الجريرة.
ب- القوي الرحيم الرب الكريم، يتمرد عليه عبده ويعرض عنه وهو- تعالى- يقبل عليه ويدعوه.
ج- يمحص عباده بالبلاء حتى تشملهم النعماء ويعمهم العفو والرضاء.
د- الميزان الدقيق فكما يرجو المذنب عفو ربه فليكن منه ذلك إذا وَلِيَ غیره.
وليجعل نفسه دائماً مقياساً، فكما لا غنى به عن عفو ربه ورحمته، فليكن منه شأن
ص: 456
لذلك الرعية المقصر، وأعظم بذلك ميزاناً، وأجلَّه مقياساً.
قيل إنه خطب بعد مقتل عثمان في أول خلافته:
« وَقَدْ كَانَتْ أُمُورٌ مَضَتْ مِلْتُمْ فِيهَا مَيْلَةً كُنْتُمْ فِيهَا عِنْدِي غَیْرَ مَحْمُودِينَ وَلَئِنْ رُدَّ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ إِنَّكُمْ لَسُعَدَاءُ وَمَا عَلَيَّ إِلا الْجُهْدُ وَلَوْ أَشَاءُ أَنْ أَقُولَ لَقُلْتُ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ»(1) .
«يَقُولُ مَتَى أَشْفِي غَيْظِي إِذَا غَضِبْتُ أَ حِینَ أَعْجِزُ عَنِ الاِنْتِقَامِ فَيُقَالُ لِي لَوْ صَبَرْتَ أَمْ حِینَ أَقْدِرُ عَلَيْهِ فَيُقَالُ لِي لَوْ عَفَوْتَ»(2) .
ومن كتاب له علیه السلام إلى أهل البصرة:
«وَقَدْ كَانَ مِنِ انتشار حَبْلِكُمْ وَشِقَاقِكُمْ مَا لَمْ تَغْبَوْا(3) عَنْهُ فَعَفَوْتُ عَنْ مُجْرِمِكُمْ وَرَفَعْتُ السَّيْفَ عَنْ مُدْبِرِكُمْ وَقَبِلْتُ مِنْ مُقْبِلِكُمْ»(4) .
وقال علیه السلام لما ضربه ابن ملجم- لعنه الله-:
«إِنْ أَبْقَ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي، وَإِنْ أَفْنَ فَالْفَنَاءُ مِيعَادِي، وَإِنْ أَعْفُ فَالْعَفْوُ لِي قُرْبَةٌ
ص: 457
وَهُوَ لَكُمْ حَسَنَةٌ، فَاعْفُوا، أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ»(1) .
وقال صلوات الله عليه لما سبه الخارجي- لعنه الله-:
«وذلك أَنَّهُ علیه السلام كَانَ جَالِساً فِي أَصْحَابِهِ فَمَرَّتْ بِهِمُ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ فَرَمَقَهَا الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقَالَ علیه السلام: إِنَّ أَبْصَارَ هَذِهِ الْفُحُولِ طَوَامِحُ(2) وَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبُ هِبَابَهِا(3) فَإِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إلى امْرَأَةٍ تُعْجِبُهُ فَلْيُلامِسْ أَهْلَهُ فَإِنَّمَا هِيَ امْرَأَةٌ كَامْرَأَتِهِ.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ: قَاتَلَهُ اللهُ، كَافِراً مَا أَفْقَهَهُ، فَوَثَبَ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ علیه السلام: رُوَيْداً(4) إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبًّ، أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ»(5) .
حمل ولاته على هديه:
«فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدَّينِ وَإِمَّا نَظِیرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ وَيُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَتَرْضَی أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَوَالِي الأمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَاللهُ فَوْقَ مَنْ وَلاكَ وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَابْتَلاكَ بِهِمْ وَلا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لَحِرْبِ اللهِ فَإِنَّهُ لا يَدَ لَكَ بِنِقْمَتِهِ وَلا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ وَلا تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْوٍ وَلا تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ وَلا تُسْرِعَنَّ إلى بَادِرَةٍ وَجَدْتَ مِنْهَا
ص: 458
مَنْدُوحَةً»(1) .
«يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ»(2) .
وشكر القدرة وزكاتها:
«إذَا قَدَرْتَ عَلَی عَدُوَّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ»(3) .
«أَوْلَي النَّاسِ بِالْعَفْوِ أَقْدَرُهُمْ عَلَی الْعُقُوبَةِ»(4) .
«وَالْعَفْوُ زَكَاةُ الظَّفَرِ»(5) .
وهكذا قرأنا الإمام علیه السلام في كَلِمِهِ، ورويناه في سیرته، في ذاته، ووصيته لولاته وكافة رعيته.
أجل وقفنا على ملكة الكمال وكمال الملكة، اتسعتا فوسعتا الأحداث الجسام والخطوب العظام، وتلكم رحمة الله الواسعة وقدرته الجامعة تمثلتا وتجسدتا في الإمام العظيم.
ووقفنا على السر ومحور الأمر ألا وهو النظر إلى المولى تبارك وتعالى في عموم
ص: 459
لطفه وكريم عطفه، فهو- جلّ وعلا- مبدأ الفيض والإحسان وغاية الإفضال والامتنان.
فطوبى لعبدٍ اتخذ إلهه رباً مؤدَّباً فتخلق بأخلاقه، وتحلى بجمال صفاته، وتقمص أبراد آلائه.
هذا وقد كان من ختام دعاء يلجأ فيه إلى الله ليهديه إلى الرشاد:
«اللّهمّ احمِلْني على عفوِك، ولا تحمِلْني على عدلِك»(1) .
ص: 460
من مكارم الأخلاق، ودلائل طيب الذات، وسماحة النفس والأريحية، وليست تعني هذه الصفات نداوة الكف، وإقراء الضيف، ومد الخوان، بل هي أسمى من ذلك وأوسع، كما نقف على ذلك في نصوصها.
وتتفق تلكم السمات في الحكاية عن شرف النفس ولین العريكة وأريحية الطباع، بل ربما ترادفت أو تقاربت في معانيها ومواطن استعمالها، ولذلك جمعناها في عنوان واحد، ولكن لكثرة ورودها في نهج الإمام علیه السلام وتمايزها في جملة من مواردها أفردنا كل صفة بحديث الإمام فيها، وليُعلم بذلك جهات الترادف والتقارب والافتراق.
أ) «الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لا يَفِرُهُ(1) المَنْعُ وَالُجْمُودُ وَلا يُكْدِيهِ(2) الإعْطَاءُ وَالْجودُ إِذْكُلُّ مُعْطٍ مُنْتَقِصٌ سِوَاهُ وَكُلُّ مَانِعٍ مَذْمُومٌ مَا خَلاهُ وَهُوَ الْمَنَّانُ بِفَوَائِدِ النَّعَمِ وَعَوَائِدِ الَمزِيدِ وَالْقِسَمِ عِيَالُهُ الْخَلائِقُ ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ وَقَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ وَنَهَجَ سَبِيلَ الرَّاغِبِینَ إِلَيْهِ وَالطَّالِبِینَ مَا لَدَيْهِ وَلَيْسَ بِمَا سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَا لَمْ يُسْأَلْ... ولَوْ وَهَبَ مَا تَنَفَّسَتْ عَنْهُ مَعَادِنُ الْجِبَالِ وَضَحِكَتْ عَنْهُ أَصْدَافُ الْبِحَارِ مِنْ فِلِزّ(3) اللُّجَیِنْ
ص: 461
وَالْعِقْيَانِ وَنُثَارَةِ الدُّرِّ وَحَصِيدِ الْمَرْجَانِ مَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِي جُودِهِ وَلا أَنْفَدَ سَعَةَ مَا عِنْدَهُ وَلَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخَائِرِ الأنْعَامِ مَا لا تُنْفِدُهُ مَطَالِبُ الأنَامِ لِأَنَّهُ الْجَوَادُ الَّذِي لا يَغِيضُهُ(1) سُؤَالُ السَّائِلِيَن وَلا يُبْخِلُهُ إِلَحْاحُ الُمْلِحَّینَ. وَبِي فَاقَةٌ إِلَيْكَ لا يْجَبُرُ مَسْكَنَتَهَا إِلا فَضْلُكَ وَلا يَنْعَشُ مِنْ خَلَّتِهَا إِلا مَنُّكَ وَجُودُكَ فَهَبْ لَنَا فِي هَذَا الْمقَامِ رِضَاكَ وَأَغْنِنَا عَنْ مَدَّ الأيْدِي إلى سِوَاكَ إِنَّكَ عَلى كُلَّ شيْءٍ قَدِيرٌ»(2) .
ب- «الْحَمْدُ للهِ النَّاشِرِ فِي الْخَلْقِ فَضْلَهُ وَالْبَاسِطِ فِيهِمْ بِالْجُودِ يَدَهُ»(3) .
ج- «الْحَمْدُ للهِ الْمعْرُوفِ مِنْ غَیْرِ رُؤْيَةٍ وَالْخَالِقِ مِنْ غَیْرِ مَنْصَبَةٍ خَلَقَ الْخَلائِقَ بِقُدْرَتِهِ وَاسْتَعْبَدَ الأرْبَابَ بِعِزَّتِهِ وَسَادَ الْعُظَمَاءَ بِجُودِهِ»(4) .
أ- «الْجُودُ حَارِسُ الأعْرَاضِ»(5) .
ب- وسئل علیه السلام: أیهما أفضل: العدل أو الجود؟
فقال علیه السلام: «الْعَدْلُ يَضَعُ الْأُمُورَ مَوَاضِعَهَا وَالْجُودُ يُخْرِجُهَا مِنْ جِهَتِهَا وَالْعَدْلُ سَائِسٌ عَامٌّ وَالْجُودُ عَارِضٌ خَاصٌّ فَالْعَدْلُ أَشْرَفُهُماَ وَأَفْضَلُهُمَا»(6) .
ص: 462
ج- «وَأَنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ وَخُذُوا مِنْ أَجْسَادِكُمْ فَجُودُوا بِهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلا تَبْخَلُوا بِهَا عَنْهَا فَقَدْ قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: «إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ»، وَقَالَ تَعَالَی: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ»(1) .
د- وقال علیه السلام لجابر بن عبدالله الأنصاري: «يَا جَابِرُ قِوَامُ الدَّينِ وَالدُّنْيَا بِأَرْبَعَةٍ عَالِمٍ مُسْتَعْمِلٍ عِلْمَهُ وَجَاهِلٍ لا يَسْتَنْكِفُ أَنْ يَتَعَلَّمَ وَجَوَادٍ لا يَبْخَلُ بِمَعْرُوفِهِ وَفَقِیرٍ لا يَبِيعُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ فَإِذَا ضَيَّعَ الْعَالِمُ عِلْمَهُ اسْتَنْكَفَ الْجَاهِلُ أَنْ يَتَعَلَّمَ وَإِذَا بَخِلَ الْغَنِيُّ بِمَعْرُوفِهِ بَاعَ الْفَقِیرُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ»(2) .
أ- «أَمَّا الاستبْدَادُ عَلَيْنَا بِهَذَا الَمقَامِ وَنَحْنُ الأعْلَوْنَ نَسَباً وَالأشَدُّونَ بِالرَّسُولِ صلی الله علیه و آله و سلم نَوْطاً(3) فَإِنَّهَا كَانَتْ أَثَرَةً(4) شَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ وَالْحَكَمُ اللهُ وَالَمعْوَدُ إِلَيْهِ الْقِيَامَةُ»(5) .
ب- «بَلَى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّمَاءُ فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ آخَرِينَ وَنِعْمَ الْحَكَمُ اللهُ»(6) .
ج- «ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الُمرُوءَاتِ وَالأحْسَابِ وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ
ص: 463
وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ وَالسَّمَاحَةِ فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ(1) مِن الْكَرَمِ وَشُعَبٌ(2) مِنَ الْعُرْفِ(3) »(4) .
«وَإِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَیْنِ إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ فَفِيمَ احْتِجَابُكَ مِنْ وَاجِبِ حَقًّ تُعْطِيهِ أَوْ فِعْلٍ كَرِيمٍ تُسْدِيهِ»(5) .
د- «السَّخَاءُ مَا كَانَ ابْتِدَاءً فَأَمَّا مَا كَانَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَحَيَاءٌ وَتَذَمُّمٌ(6) »(7) .
«إِذَا كَانَتْ لَكَ إلى اللهِ سُبْحَانَهُ حَاجَةٌ فَابْدَأْ بِمَسْأَلَةِ الصَّلاةِ عَلَى رَسُولِهِ صلی الله علیه و آله و سلم ثُمَّ سَلْ حَاجَتَكَ فَإِنَّ اللهَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ حَاجَتَیْنِ فَيَقْضِيَ إِحْدَاهُمَا وَيَمْنَعَ الْأُخْرَى»(1) .
«وَإِنَّ الْيَسِیرَ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ أَعْظَمُ وَأَكْرَمُ مِنَ الْكَثِیرِ مِنْ خَلْقِهِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُ»(2) .
«عِتْرَتُهُ صلی الله علیه و آله و سلم خَیْرُ الْعِتَرِ وَأُسْرَتُهُ خَیْرُ الْأُسَرِ وَشَجَرَتُهُ خَیْرُ الشَّجَرِ نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ وَبَسَقَتْ فِي كَرَمٍ»(3) .
«لَنْ يُسْرِعَ أَحَدٌ قَبْلِي إلى دَعْوَةِ حَقٍّ وَصِلَةِ رَحِمٍ وَعَائِدَةِ كَرَمٍ»(4) .
«وَاعْذِرُوا مَنْ لا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ- وَهُوَ أَنَا- أَلَمْ أَعْمَلْ فِيكُمْ بِالثَّقَلِ الأكْبَرِ وَأَتْرُكْ فِيكُمُ الثَّقَلَ الأصْغَرَ قَدْ رَكَزْتُ فِيكُمْ رَايَةَ الإيمان وَوَقَفْتُكُمْ عَلَى حُدُودِ الْحَلالِ وَالْحَرَامِ وَأَلْبَسْتُكُمُ الْعَافِيَةَ مِنْ عَدْلِ وَفَرَشْتُكُمُ الْمعْرُوفَ مِنْ قَوْلِي وَفِعْلِي وَأَرَيْتُكُمْ كَرَائِمَ الأخْلاقِ مِنْ نَفْسيِ فَلا تَسْتَعْمِلُوا الرَّأْيَ فِيمَا لا يُدْرِكُ قَعْرَهُ الْبَصَرُ وَلا تَتَغَلْغَلُ إِلَيْهِ الْفِكَرُ»(5) .
ص: 465
«أَلا وَإِنَّ إِعْطَاءَ الَمالِ فِي غَیْرِ حَقَّهِ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ وَهُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا وَيَضَعُهُ فِي الْآخِرَةِ وَيُكْرِمُهُ فِي النَّاسِ وَيُهِينُهُ عِنْدَ اللهِ وَلَمْ يَضَعِ امْرُؤٌ مَالَهُ فِي غَیْرِ حَقَّهِ وَلا عِنْدَ غَیْرِ أَهْلِهِ إِلا حَرَمَهُ اللهُ شُكْرَهُمْ وَكَانَ لِغَیْرِهِ وُدُّهُمْ فَإِنْ زَلَّتْ بِهِ النَّعْلُ يَوْماً فَاحْتَاجَ إلى مَعُونَتِهِمْ فَشَرُّ خَلِيلٍ وَأَلأَمُ خَدِينٍ»(1) .
«وَأَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ وَإِنْ سَاقَتْكَ إلى الرَّغَائِبِ»(2) .
«وَأَكْرِمْ عَشِرَتَكَ فَإِنَّهُمْ جَنَاحُكَ الَّذِي بِهِ تَطِیرُ وَأَصْلُكَ الَّذِي إِلَيْهِ تَصِیرُ وَيَدُكَ الَّتِي بِهَا تَصُولُ»(3) .
«وَلا كَرَمَ كَالتَّقْوَى وَلا قَرِينَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ»(4) .
«الْكَرَمُ أَعْطَفُ مِنَ الرَّحِمِ»(5) .
«أَوْلَی النَّاسِ بِالْكَرَمِ مَنْ عُرِفَتْ بِهِ الْكِرَامُ»(6) .
يا مالك: «فَفِيمَ احْتِجَابُكَ مِنْ وَاجِبِ حَقًّ تُعْطِيهِ أَوْ فِعْلٍ كَرِيمٍ تُسْدِيهِ»(7) .
ص: 466
«احْذَرُوا صَوْلَةَ الْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَاللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ»(1) .
«مِنْ أَشْرَفِ أَعْمَلِ الْكَرِيمِ غَفْلَتُهُ عَمَّا يَعْلَمُ»(2) .
«إِنَّ أَكْرَمَ الَموْتِ الْقَتْلُ»(3) .
يا مالك: «وَتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْحَيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَالْقَدَمِ فِي الإسْلامِ المُتَقَدَّمَةِ فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلاقاً وَأَصَحُّ أَعْرَاضاً»(4) .
«وَأَكْرَمَ الْحَسَبِ حُسْنُ الْخُلُقِ»(5) .
ومن كتاب له علیه السلام إلى عمرو بن العاص:
«فَإِنَّكَ قَدْ جَعَلْتَ دِينَكَ تَبَعاً لِدُنْيَا امْرِئٍ ظَاهِرٍ غَيُّهُ مَهْتُوكٍ سِتْرُهُ يَشِینُ الْكَرِيمَ بِمَجْلِسِهِ وَيُسَفَّهُ الْحَلِيمَ بِخِلْطَتِهِ»(6) .
فتنة بني أمية «وَتَوَاخَى النَّاسُ عَلَى الْفُجُورِ وَتَهَاجَرُوا عَلَى الدَّينِ وَتَحَابُّوا
ص: 467
عَلَى الْكَذِبِ وَتَبَاغَضُوا عَلَى الصَّدْقِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ الْوَلَدُ غَيْظاً وَالَمطَرُ قَيْظاً وَتَفِيضُ اللَّئَامُ فَيْضاً وَتَغِيضُ(1) الْكِرَامُ غَيْضاً»(2) .
ص: 468
1. إحقاق الحق: الشهيد نور الله التستري، (ت: 1019ه).
2. الأمالي، الشيخ الصدوق، (ت: 381ه)، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية- مؤسسة البعثة- قم، ط1: 1417ه.
3. أنساب الأشراف، أحمد بن يحيى بن جابر (البلاذري)، (ت: 279ه)، تحقيق: الدكتور محمد حميد الله، معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية بالاشتراك مع دار المعارف بمصر، 1959م.
4. بحار الأنوار، العلامة المجلسي: (ت: 1111ه) مؤسسة الوفاء- بیروت- لبنان، ط2: 1403- 1983م.
5. تفسیر الميزان، السيد محمد حسن الطباطبائي، (ت: 1402ه) تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.
6. تفسیر مجمع البيان: الشيخ الطبرسي، (ت: 548ه)، تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحققین الأخصائيین، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات- بیروت- لبنان، ط1: 1415ه- 1995م.
7. جامع أحاديث الشيعة، السيد البروجردي، 1383، 1399، المطبعة العلمية
ص: 469
- قم.
8. الحدائق الناضرة، المحقق البحراني، 1186، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.
9. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، (ت656ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، ط1: 1378- 1959م.
10. الغارات، إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي، (ت:283ه)، تحقيق: السيد جلال الدين الحسيني الأرموي المحدث.
11. في ظلال نهج البلاغة: محمد جواد مغنية، (ت: 1400ه) مطبعة ستار، انتشارات كلمة الحق، ط1: 1427ه.
12. الكافي: الشيخ الكليني، (ت: 329ه) تحقيق: تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية- طهران، ط5: 1363ش.
13. كشف الغمة في معرفة الأئمة: علي بن أبي الفتح الإربلي، (ت: 693ه) الطبعة: الثانية، دار الأضواء- بیروت- لبنان، ط1: 1405ه- 1985م.
14. مجمع البحرين: الشيخ فخر الدين الطريحي، (ت: 1085ه) ، مطبعة مرتضوي، ط2: 1362ش.
15. مستدرك الوسائل، میرزا حسین النوري الطبرسي، (ت: 1320)، تحقيق :مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، مؤسسة آل البيت (عليه السلام) لإحياء التراث- بیروت- لبنان، ط1: 1408- 1987م.
16. المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة: سيد كاظم محمدي- محمد دشتي، نشر إمام علي.
ص: 470
17. مفتاح السعادة في شرح نهج البلاغة: محمد تقي النقوي القايني الخراساني.
18. مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، (ت: 588ه)، تحقيق: لجنة من أساتذة النجف الأشرف، المكتبة الحيدرية- النجف الأشرف، 1376ه- 1956م.
19. شرح أصول الكافي: مولي محمد صالح المازندراني، (ت: 1081ه)، تحقيق: مع تعليقات: المیرزا أبو الحسن الشعراني، ضبط وتصحيح: السيد علي عاشور، دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع، بیروت- لبنان، ط1: ه1421- 2000م.
20. مواهب الرحمن: السيد عبد الأعلى الموسوي السبزواري، منشورات دار التفسیر، ط5: 1431.
21. وسائل الشيعة (آل البيت): الحر العاملي، (ت: 1104ه)، تحقيق: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، مهر- قم، ط2: 1414ه.
ص: 471
ص: 472
المؤسسة... 7
مقدمة الطبعة الثانية... 9
مقدمة الطبعة الأولى... 19
1) الخُلُق:.. 19
2) الأصول الأصيلة:... 20
أ) دعامة التوحيد:... 20
ب) الأنبياء القادة:... 22
ج) إمام الأئمة هادي الأمة:... 23
فأولاً: أدبه مع ربه:... 24
ثانيًا: مع أعدائه ومن لا يواليه:... 25
أ) معاوية بن أبي سفيان:... 25
ب) أبو هريرة:... 25
ج) ذمّي صحبه في طريق:... 25
ثالثًا: الضيف والضيافة:... 26
رابعًا: غاية النبل وكمال الشرف: ... 27
3) آهة علي وحسرته:... 28
4) خطة الكتاب:... 30
ص: 473
الفصل الأول خالق
الطبيعة واضع الشريعة
المبدأ الإلهي الأعلى:... 35
1) عظمة ذي الجلال التي لا يُبلغ كنهها:... 35
2) هداية الخلق إلى الحق وإقامة الحجة:... 40
3) شهود الأعمال:.... 44
4) العقل أنفس جوهرة إلهية موهوبة:... 47
5) الجوارح ووظائفها:...49
النبي الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم المثل الأعلى للخُلُق الإلهي... 53
المقام الأجل للنبي الأكمل عند خالقه ومرسله:... 53الرحمة الواسعة:... 53
اللطف والحنان:... 54
الصلاح والإصلاح:... 54
الدعوة إلى الصدق:... 55
الولاية والقيمومة:... 55
مقياس الحب الإلهي:... 56
العصمة المطلقة:... 56
روح الحياة:... 56
ترجمة الوصي للنبي- صلى الله عليهما وآلهما-... 58
1- الأمة التي بعث إليها النبي:... 58
الدمار الشامل:... 60
الضلال المطبق:... 60
ص: 474
2- مهام النبي الكبرى:... 61
3- دعامة الدعوة ومستندها:... 61
4- البلاء الحسن الجميل:... 62
5- قمة النجاح وغاية التوفيق:... 62
الإمام علي علیه السلام أنموذج الكمال... 65
1) بداية الروائع خزانة الإبداع:... 66
2) مقومات شخصيته:... 67
3) نبراس الحق واليقين:... 67
4) مؤهلات وامتيازات:... 68
5) التسليم المطلق- الاستقامة الفذة:... 69
6) الحكم وقيمته لولا... 69
7) الولي الحق:... 70
8) الدنيا عند إمام الدين:... 71
9) الموت هادم اللذات:... 71
10) الأخلاق المثالية:... 71
11) من صور العدالة:... 76
12) الواقعية والإنسانية:... 76
الكمالات الأخلاقية في شخصية الإمام علیه السلام... 78
مدخل:... 78
أس الركائز: الإمام قدوة... 80
المهمة الإلهية... 81
نبذة من خلائقه علیه السلام... 83
من هديه لولاته وعمَّاله:... 83
ص: 475
الأنموذج الأول:... 83
الأنموذج الثاني : عهوده إلى عمال الصدقات:... 84 الأنموذج الثالث: نمط من كتبه لعماله:... 86
بطل السلم والحرب:... 86
طريفة:... 90
الفخر والشرف:... 91
الواقعية والإنصاف:... 98
قمة التواضع ومنتهاه:... 99
الدنيا وشؤونها... 102
1) الدنيا دار الابتلاء:... 103
2) حلاوتها المضلة:... 103
3) مضمار العمل:... 104
4) الدنيا والاتعاظ بمن ركن إليها:... 104
5) التقييم الدقيق:... 105
عاملا الدنيا:... 111
الإنسان وأطواره... 113
أولاً: خلق الإنسان:... 114
ثانيًا: هوان الإنسان وضعفه:... 115
ثالثًا: جوارح ووظائف:... 115
رابعًا: النعمة والهداية:... 116
خامسًا: تمرد الإنسان وشقوته:... 116
سادسًا: تذكرة وعبرة:... 117
سابعًا: كرامة النفس والانضباط:... 118
ص: 476
ثامنًا: إصلاح النفس منطلق الاستقامة:... 119
المعاد ركن الإيمان وعنصر الالتزام... 120
1) وإلى الله ترجع الأشياء:... 121
2) يوم القيامة:... 121
3) هول الموت:... 121
4) البرزخ والقبر ووحشته:... 123
5) الصراط وخطر الانزلاق:... 126
6) البعث والنشور:... 127
7) تربية وهداية وتذكير وإصحار بالحقائق:... 129
فأولاً: بذل العمر فيما يجمل لئلا يكون حجة:... 129
وثانياً: الطباع السوء وإضلال الشيطان ودعوة الرحمن:... 130
وثالثاً: الدنيا والآخرة ضدّان ما قرّب من إحداهما أبعد عن الأخرى:... 131
ورابعاً: أبناء الدنيا والآخرة:... 132
وخامساً: الخلق للآخرة لا للدنيا:... 133
سادساً: مناجاة النفس ومحاسبتها:... 136
سابعاً: العجب من الركون إلى حقير الدنيا:... 136
ثامناً: المتقون جيران الله شرفهم بكرامته:... 137
تاسعاً: حذار من الرصد ورقباء الأعمال:... 138
عاشراً: مثلان رائع ومُروّع:... 138
الفصل الثاني
الأخلاق والسلوك مقدمة... 143
الأولى: الحكمة ضالة المؤمن:... 143
ص: 477
الثانية: ضل من ليس له حكيم يرشده:... 143
الثالثة: إلى الله المرجع والمآب:... 144
الرابعة: الهوى والمنى:... 144
الخامسة: الصبر محمودة عواقبه:... 144
السادسة: خير الزاد التقوى:... 144
السابعة: التقوى جُنة من بلاء لا يطاق:... 145
السابعة: الدنيا مزرعة الآخرة:... 145
مكارم الأخلاق... 145
التقوى... 147
تنبيه:... 147
التقوى عند الإمام:... 148
1) التقوى الحقيقية:... 148
2) التقوى نصح النفس:... 150
3) نعم المخرج من المحرج:... 151
4) صنائع تقي المصارع:... 153
5) اللسان والتقوى:... 153
6) الخصومة والتقوى:... 153
7) المراقبة الدائمة:... 154
8) التقوى عند تواتر النعم:... 155
9) التقوى في البلاد والعباد:... 155
10) رابطة التقوى بين الله وعباده:... 156
11) التقوى ميزان التفاضل:... 156
12) الصحة والتقوى:... 157
ص: 478
13) الصلاة والتقوى:... 157
14) ولو بعض التقى:... 158
15) التقوى المجسمة:... 158
النص الأول:... 159
النص الثاني:... 160
المال ومتسع شؤونه... 164
1) الله هو الغني والعبد هو المبتلى:... 165
2) المال والمرزوق منه والمحروم وأدبهما:... 166
3) البخل والسخاء:... 168
4) شؤون مالية أخرى:... 171
قيمة الإمرة لولا العدل... 175
أ) «قال عبدالله بن عباس:... 175
ب) مهمة الحكم ووظائف الحاكم:... 176
ج) التفاوت في البيعة منهجاً وهدفاً:... 177
د) ميدان السباق:... 178
حق الراعي والرعية:... 178
أ) الحقوق المتقابلة المتكافئة:... 178
ب) حقّ الوالي وحقّ الرعية:... 179
ج) الحمل على منهاج رسول الإسلام:... 182
الاستماتة في الحق وصدق التضحية لنصرة الدين... 184 الأولى:ظرف المقال:... 184
الثانية: لابد للحق من قوة:... 184
الثالثة: التضحية بالنفس برهان الإيمان العميق:... 185
ص: 479
الرابعة: ولينصرن الله من ينصره:... 186
الخامسة: وبذلك ثبتت أركانه وقامت دعائمه:... 186
وقفة:... 187
الثالثة: وخيم العواقب:... 189
الزهد... 191
1- تعريف الزهد:... 191
2- الدنيا وإغراء ما فيها:... 193
3- الزاهدون المخلصون:... 194
4- الزاهدون الكاذبون:... 196
الورع... 200
السرُّ... 202
الله المحيط بالجهر وما يخفى:... 202
الإيمان الحق سره كعلانيته:... 205
صون السر وكشفه:... 207
السر وثماره الخيرة:... 209
حذار من خبث الشيطان:... 209
تجلي الحقائق بعد فوات الأوان:... 209
يوم انكشاف الأستار والأسرار:... 210
الأدب العلوي في علاقة الوالي برعيته... 212
النقطة الأولى: جلال المولى وخالص خضوع العبد:... 213 الثانية: والوالي وانضباطه:... 214
الثالثة: علي ولي الله:... 214
سياسته- صناديق لرقاع الشكاوى:... 216
ص: 480
الرابعة: كمال العبودية عصمة من كل وصمة:... 216 الشكر... 218
1) مولى النعم هو الحقيق بالشكر:... 218
2) الشاكرون:... 220
3) الحث على الشكر ومواطنه:... 221
4) برهان الإيمان وعنوان الرضا:... 224
5) ويربي النعمة:... 224
6) أدب الشكر:... 224
7) المولى شكره وجزاؤه لمن شكره:... 225
8) الإمام الشاكر:... 226
المغنم واغتنام الفرصة... 228
1) الله الواهب:.... 228
2) دين الله خير النعم وأفضل مغنم:... 228
3) الطاعة نعم المغنم:... 229
4) ولي الأمة والمغانم:... 229
اغتنام الفرصة... 232
1) فرصة العمر:.... 232
2) فرص الخير:... 233
3) عدم الإصغاء إلى تسويل النفس:... 234
4) وهكذا شأن المسلم الكيَّس:... 234
5) أنموذج مشرف: هاشم بن عتبة المرقال:... 235
6) نماذج مخزية:... 235
7) حذار من فرص الشيطان:... 235
ص: 481
8) انتظار الإمام سنوح الفرصة للإصلاح:... 236
اللسان... 237
1) الله تعالى:... 237
2) رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم:... 238
3) آل محمد صلى الله عليهم:... 239
4) الملائكة الكرام علیه السلام:... 240
5) العاقل:... 240
6) الأنصار:... 241
7) الشيطان وأتباعه:... 241
أمة بني أمية:... 242
أصحاب الجمل:... 242
الحَكَمان:... 242
المنافق والأحمق:... 242
8) وظائف وعوارض:... 243
9) نصح وتوجيه:... 245
10) الاعتبار عند وبعد الاحتضار:... 249
11) ومما جرى ويجري على اللسان:... 250
12) الدعاء للسلامة من آفات اللسان:... 250
الفصل الثالث
ملاكات الفصل الثالث: ملكات النفس
الجهل المردي... 253
الغفلة المهلكة... 256
الشبهة وموقف المؤمن فيها... 259
ص: 482
1) الله تعالى منزه عن الشبهة:... 259
2) والملائكة:... 260
3) الإمام ويقينه لا شبهة تعتريه:... 260
4) من مقاصد البعثة النبوية:... 261
5) أهل الذكر والحافظون هداة آمنون من الشبهة:... 261
6) الضلال مرتع الشبهات:... 262
7) موطن الشبهة:... 263
الفتن:... 264
البدع:... 265
الظلمة:... 265
الجهل:... 265
8) من أربابها:... 266
الفسّاق:... 266
النّاكثون:... 267
الخوارج:... 267
معاوية:... 267
المغيرة:... 268
9) وصايا ونصائح:.... 268
الأمل وعاقبة طول الآمال وعرضها... 271
1) الله- عَمَّ نوالُه- موطن الأمل:... 271
2) الله محقق آمال المؤمنين:... 271
3) أمل خالصي الإيمان:... 272
4) وهو عنوان الزهد:... 272
ص: 483
5) وماذا يؤمل من المؤمن؟... 272
6) الأمل والأجل والعمل:... 272
7) ومن سلبيات الأمل:... 274
8) الاعتبار والتأمل في عواقب الآمال:... 275
9) الدنيا والأمل:... 277
10) سر العاقبة:... 277
11) أمل الشيطان وأمنيته:... 277
12) وصايا:... 278
الهوى وعظيم البلاء به وفيه... 280
الهوى لغة:... 280
الأولى: أهواء الملائكة في الله:... 281
الثانية: ومنى الأولياء:... 281
الثالثة: جاهلية الأهواء ونور البعثة:... 282
الرابعة: الدنيا والهوى:... 282
الخامسة: المرء مع من يهوى:... 283
السادسة: كلٌّ يعمل على شاكلته:... 283
السابعة: صراع العقل والهوى:... 284
الثامنة: حذار من الأهواء الباطلة:... 285
التاسعة: نماذج ممن عصفت بهم الأهواء:... 287
العاشرة: مثله فليؤاخَ:... 289
الحادية عشرة: ومن خلائقه علیه السلام مخالفة الهوى:... 289
الثانية عشرة: عبث الأهواء بالمقدسات وهتكها للحرمات:... 290
الثالثة عشرة: استعاذة وشكوى:... 290
ص: 484
الصبر... 292
الصبر والإيمان:... 292
الصلاة والصبر:... 294
الصبر مركب النجاة:... 295
الصبر على أحكام الله:... 295
الصبر في الفتن:... 295
الصبر في الحرب:... 296
الصبر على الرزق:... 297
الصبر على المكروه والمحبوب:... 297
الصبر على الطاعة:... 298
الصبر على المعصية:... 298
الصبر على بذل المال في وجوهه:... 298
الوالي والصبر:... 301
الرضى... 305
1) ما يتعلق بالله تعالى:... 305
2) وبرسوله صلی الله علیه و آله و سلم... 306 3) الملائكة:... 308
4) الإسلام:... 308
5) الراضون والمرضيون:... 308
6) غير المرضي عنهم:... 311
الفكر... 318
الله تعالى منزه عن الروية وإجالة الفكر:... 318
الله تعالى لا تدركه الأفكار:... 319
ص: 485
سليمو التفكير:... 320
مواقع الفكر:... 321
نتائج الفكر وآثاره:... 322
دين الله لا يصاب بالعقول:... 325
ولات ساعة فكر:... 325
العقل... 326
واهب العقل لا تدركه العقول:... 327
كاملو العقل:... 330
أصناف من لا يعقلون وضعاف العقول:... 333
آفات العقل وعوامل نقصه:... 342
اقتفاء الأولياء:... 345
الآثار إيجاباً وسلباً:... 345
التعلق بالمقدسات وشريف الفضائل:... 349
الهيبة... 355
1) المولى الحق هو المهاب حقًّا:... 355
2) عز الإسلام للداخلين فيه:... 356
3) ومن خطط الحرب:... 356
4) من آثار الصمت:... 357
5) الإقدام والإحجام:... 357
الحياء... 358
1) مقياس الانضباط الدقيق:... 358
2) العاصم من العيب:... 359
3) مواطن لا حياء فيها:... 360
ص: 486
4) ومما يستحي منه: الفرار من الزحف:... 362
5) ومن حياء أمير المؤمنين وبالغ زهده:... 362
القناعة... 364
الدنيويون غير قنَّاع:... 365
ومن قصار كلمه في القناعة:... 366
الفصل الرابع
الأخلاق في الفصل الرابع: الأخلاق في المجتمع
أصناف الناس وخلائقهم... 369
1) أشتات المجتمع وشتاته:... 369
2) فريقان: منعم عليه ومنتقم منه:... 370
3) الانحدار إلى الهاوية مع قيام المنقذ:... 371
4) البدع وحملة الحديث:... 372
5) أصناف وأوصاف:... 375
6) سواد الأمة الأعظم عشاق الدنيا:... 379
النصيحة مصدرها وأثرها... 383
1) الله هو الناصح الأعظم:... 383
2) الرسول الناصح المبالغ:... 384
3) القرآن ناصح مؤتمن:... 385
5) العقل دقيق النصح:... 387
6) النصيحة هدية تقبل من مهديها:... 387
7) طلب النصيحة الصحيحة:... 388
8) نصح النفس وقوامه:... 388
9) آثار وعواقب:... 389
ص: 487
الوفاء... 392
1) الله يوفّي الأجور:... 392
2) الإمام الوفي ولو في المحرج:... 392
3) الوفاء والاستيفاء متكافئان:... 393
4) الوفاء حق متبادل:... 393
5) الوفاء ببيعة الحق:... 393
6) الوفاء جُنّة:... 393
7) ومن الخلال التي يتعصب لها:... 394
8) رقابة الوفي في السر الخفي:... 394
9) صيانة العهود بالوفاء:... 394
10) وفاءان متقابلان:... 395
11) من صور وفاء الدنيا:... 395
12) لا وفاء للطمع:... 395
13) الاستغفار من مخالفة ما يوجبه:... 395
الأولاد والجنبة الأخلاقية... 396
1) الفناء لما ولد:... 396
2) للدنيا والآخرة أبناء:... 397
3) الاستعاذة من سوء يلحق بالأولاد:... 397
4) نتاج أزمان الفتنة والضلال:... 398
5) المؤمن لا يشغله عن دينه مال وولد:... 398
6) الحقوق بين الآباء والأبناء:... 398
7) ومن الفتنة والاختبار الولد:... 399
8) لا قلق على الأولاد أولياء أو أعداء:... 399
ص: 488
9) الخير وكثرة الولد:... 400
10) الوصايا الجامعة:... 400
الفتنة... 403
1) الدنيا والفتنة:... 404
2) الشبهة والفتنة:... 404
3) موجبات الفتنة وبواعثها:... 404
4) الجاهلية والفتنة:... 406
5) حذار مخالب الفتنة وأشراكها:... 407
6) مفتونون:... 408
7) ابتلاء الإمام بفتن العباد والبلاد:... 410
8) الموقف في الفتنة والنجاة منها:... 413
9) رب مفتون لا يعاتب:... 414
10) استعاذة ودعاء:... 414
البدعة... 416
أسبابها:... 416
2) وخيم عواقبها:... 417
3) من الموبقات المهلكات:... 418
4) الناس صنفان متبع ومبتدع:... 419
5) محيو السنن ومميتو البدع:... 419
6) مبتدعون:... 422
7) المبتدع أبغض الخلق إلى الله:... 424
8) طوبى للمؤمن الحق:... 424
الغيبة... 425
ص: 489
الأولى: موقف المطيعين من العصاة:... 425
الثانية: الغيبة عيب أكبر:... 426
الثالثة: حواجز وموانع الاغتياب:... 426
الرابعة: تحذير وتبصير:... 427
الخامسة: حكم سماع الغيبة:... 428
السادسة: جهد العاجز وسلاح الضعيف:... 429 البشاشة... 430
الاحتمال... 431
المخالطة...433
الأخوة وحقوقها... 434
1) الرعية صنفان:... 435
2) حقوق الأخوة وآداب رعايتها:... 436
مقياس الأخوة الإيمانية ومثلها:... 437
وقال في الصالحين من أصحابه:... 437
أخوة الباطل:... 437
أخو الحرب:... 440
التأوه على إخوان الصدق:... 441
العثرة وإقالتها... 443
العثرة:... 443
1) الاسترسال في الأمل والعثرة بالأجل:... 443
2) الاتعاظ بعثرات الدنيا الزائلة:... 443
3) رهبة المؤاخذة على العثرات في البرزخ:... 444
4) وعندها لا عثرة تقال:... 444
ص: 490
5) حكومة من لا أهلية له مجمع العثرات:... 445
6) إقالة الكرام:... 445
7) اليقظة والانقطاع إلى الله تعالى:... 446
اللهف وإغاثة الملهوف... 447
1) الله تعالى المفزع:... 447
2) الأولياء بوليَّهم يتعلقون:... 447
3) تمايز المؤمن عن غيره في بذل المال ومصرفه:... 447
4) وتلك عاقبة عشاق الدنيا:... 448
5) إغاثة الملهوف وعظيم خطرها:... 448
الألفة وعواملها وآثار خيرها... 449
1) الله مؤلف الأشياء وعاقد القلوب على الألفة:... 449
2) الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم ونجاحه في تأليف القلوب:... 450
3) الإمام والألفة هدياً وهداية:... 451
4) عبر الدهر وعِظَةُ الأمم:... 453
5) الدين والاستقامة عاملا ائتلاف واختلاف:... 453
العفو... 455
الله سبحانه وتعالى:... 455
الإمام مؤدب بآداب ربه:... 457
حلية المتقين:... 459
الجود والسخاء والكرم... 461
الجود:... 461
1) الله الغني المطلق والجواد الدائم:... 461
2) موقع الجود:... 462
ص: 491
السخاء:... 463
الكرم:... 464
الله أكرم الأكرمين:... 464
الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم... 465
الإمام الأعظم علیه السلام... 465
حدود وتوصيات:... 466
مواطن لا تليق بالكرم:... 467
وعند تردي الزمن يَقِلُّ الكرام:... 467
المصادر... 469
- القرآن الكريم... 469
ص: 492