صورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نهج البلاغة: دراسة في ضوء منهج الأسلوبية التطبيقية

هوية الکتاب

صورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نهج البلاغة: دراسة في ضوء منهج الأسلوبية التطبيقية / بقلم ناجح

جابر جخيور الميالي؛.. . كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية، 1435 ق.= 2014م.

296ص. - (مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة :2).

المصادر: ص. 272-288 وكذلك في الحاشية.

1. علي بن أبي طالب (ع)، الامام الأول، 23ق. ه-. - 40 ه-. نهج البلاغة. 2. لا اسلوبية. 3. محمد (ص)، نبي الاسلام، 53 ه- - 11ه-. - البعثة. 4. محمد (ص)، نبي الاسلام، 53ه- - 11 ه-. صفات . 5. الأسلوبية- الرؤيا والتطبيق . 6. الأسلوب الأدبي. ألف. علي بن أبي طالب (ع)، الإمام الأول، 23 ه-. - 40. ه-. نهج البلاغة، شرح. ب. السلسلة . ج. العنوان. د. العنوان . نهج البلاغة، شرح.

BP 38 .09 M3 2014

تمت الفهرسة في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة قبل النشر

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

صُوْرَةُ النّبیِّ في نهج اِلبَلاغَةِ

دراسة في ضوء منهج الأسلوبية التطبيقية

بَحَرُ العلمْ وَ مَدَارُ الحَقّ

ISBN 978-9933-489-95-3

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد لسنة 2013-2307 789933489953

الرقم الدولي: 9789933489953

الميالي، ناجح جابر جخيور .

ص: 2

صُوْرَةُ النّبیِّ

في نهج اِلبَلاغَةِ

دراسة في ضوء منهج الأسلوبية التطبيقية

بقلم

ناجح جابر جخيور الميالي

إصْدَارْ

مُوسَّسَةُ عُلوُم نَهج البَلَاغَة

فِی العَتبةَ الحُسَینَیّة المُقدّسةُ

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى 1435ه- - 2014م

العراق: كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة

قسم الشؤون الفكرية والثقافية - هاتف: 326499 www.imamhussain-lib.com E-mail:info@imamhussain-lib.com

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا

صدق الله العلي العظيم (الأحزاب /45 - 46)

قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم:

يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت

ولا عرفني إلا الله وأنت ولا عرفك إلا الله وأنا

(مستدرك سفينة البحار: ج 7: 182)

ص: 5

إلى...

من لا تساوی بهديتهم هدية من جرت نعمة هداياهم عليه

إلى من أهدت إلى بغیراستحقاق مني

إلى من إن قبلت هديتي فقد أهدتني

إلى من لذكرها تهدي العيون سیلها خجلة

إلى من صلّت ليلة الحادي عشر صلاة الليل من جلوس

واحة الشفاعة الكبرى التي لا يرويها إلا العنفوان والوجدان

شقيقة أبي الشهداء الحسين عليه السلام زينب الكبرى عليها السلام

إلى والديً براً به وترحما عليه وحبا لها وعرفانا لدعواتها

إلى أهل رفحاء الكرام الذين تعلموا الصبر من زينب عليها السلام

إلى كل من يبحث ليصل ويصل ليعلم ويعلم ليعمل

أهدي ثواب عملي المتواضع هذا

ناجح

ص: 6

المقدمة

الْحَمْدُ لِلّهِ النَّاشِرِ فِی الْخَلْقِ فَضْلَهُ - وَالْبَاسِطِ فِیهمْ بِالْجُودِ یَدَهُ- نَحْمَدُهُ فِی جَمِیع أُمُورِهِ- وَنَسْتَعِینُهُ عَلَی رِعَایَهِ حُقُوقِهِ- وَنَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ غَیْرُهُ- وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - أَرْسَلَهُ بَأَمْرِهِ صَادِعاً وَبَذِکْرِهِ نَاطِقاً- فَأَدَّی أَمِیناً وَمَضَی رَشِیداً - وَخَلَّفَ فِینَا رَایَهَ الْحَقِّ - مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ- وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا زَهَقَ- وَمَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ - دَلِیلُهَا مَکِیثُ الْکَلام- بَطِیءُ الْقِیَامِ سَرِیعٌ إذَا قَامَ»(1) .

أما بعد فإن اختيار الأشياء في الدنيا وإن بدا في ظاهره بيد الإنسان لكن يدَ التوفيقِ الإلهي تسري بخفاء مع العبد بقدر نيته وما استطاع أن يغير ما بنفسه فيغير الله - تعالى - له الأسباب على وفق ذلك، فمن نعم الله التي لا نحصيها نعمة الرأي والتفكير ولا يدعي المرء لنفسه شيئا إلا بقدر ما هو متيقن لديه وما تيقنت منه بعد کتابتي لبحث الماجستير في القرآن الكريم (الألفاظ الدالة على الكتب السماوية في القرآن الكريم) أن رتبة من الشرف في البحث لا تتأتى لكتاب بعد کتاب الله لغير نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين عليه السلام بعد أن كانت نيتي الكتابة في القرآن الكريم أيضا إلاّ أني وجدت أن نهج البلاغة قراءة في كتاب الله فولیت

ص: 7


1- نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح : الخطبة: 100

وجهي شطره في موضوع (صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم في نهج البلاغة - دراسة في ضوء منهج الأسلوبية التطبيقية)، وهي وجهة - لاشك فيها - طيبة لما فيها من الاتصال بالنصوص الأدبية وتحليلها لغويا على وفق النظرة الحديثة ؛ لأن اللغة قد انتاب درسها بعض الجفاف وفي هذا الموضوع سعة للابتعاد عنه،(1) وفي ذلك تأصيل ما جاء في تراثنا وتقديمه بتوافق مع حس العصر، وانسجام وفائدة لغتنا في حاضرها ومستقبلها، وهي قَرْعَةٌ من القَرْعَات على باب مدينة العلم لأدمن القرع مع زملائي السابقين لي والتالين لي في البحث عسى أن نلج مع من يلجون في خيرهم، وكان الدافع الأساس، والمنطلق الرئيس لهذا البحث هو قول الرسول صلى الله عليه و آله وسلم للإمام علي عليه السلام: «يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت، ولا عرفني إلا الله وأنت، ولا عرفك إلا الله وأنا»(2) فحاولنا أن نعرف صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم من أعرف الناس به، مبتعدين في البحث عن الكثير من المكررات التي تملأ البحث دون فائدة جديدة كما في بعض الرسائل الجامعية التي حضرت مناقشاتها و كان جلّ ملاحظات المناقشين هي قلة التطبيق وكثرة التنظير وإعادة ما في كتب اللغة المعروفة دون ربط واضح لثمرته في الموضوع المختار، لهذا جاءت الرسالة مختصرة ولم أكرر فيها إلا ما احتاج إليه البحث من التنويه به، لربطه بالتطبيق الموضوعي للبحث أي: بيان صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم كما

ص: 8


1- ظ: علم اللغة والنقد الأدبي (علم الأسلوب ) (بحث) د. عبده الراجحي، مجلة فصول م1، ج2: 121
2- مستدرك سفينة البحار، الشيخ علي النمازي الشاهرودي : ج 7: 182

صوَّرَهُ أمير المؤمنين عليه السلام و كيف جاء الأسلوب لبيان هذه الصورة على وفق معطيات اللغة الاعتيادية مع إبداع في طريقته التي جاء بها من ترتیب الأصوات، و تركيب الكلمات، والجمل، والعبارات واستعمال البيان في التشبيه، والاستعارة والكناية لا على السبيل الدلالي المعروف، بل بما يعطي صورة عليٍ للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم على وفق منهج الأسلوبية التطبيقية، لا الأسلوبية التنظيرية وقد سبقني للكتابة في نهج البلاغة كثير من الباحثين إلا أن أقربهم موضوعا لموضوع بحثي هذا هو بحث بعنوان (صورة النبي في نهج البلاغة) للدكتور عباس علي حسين في وقائع مؤتمر الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم /كلية الآداب جامعة الكوفة 2010م وقد وجدت فيه الاختلاف في دراسته ومنهجه، وهو دراسة تكاد تكون تاريخية؛ لأنها تناولت الصورة وأجزاءها وشرحها وقد استند في غالبه إلى التأريخ متحريا المسارات التاريخية والاستشهاد بروایاته وبين المعنى في النصوص استعانة بالتأريخ و كان الاهتمام الأكبر في بيان شخص النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم بوصفه شخصا في بيئته الاجتماعية وأسرته ومع ابن عمه علي عليه السلام ومع الناس وزهده و تواضعه وغيرها، ولعل الاستغراق في الأنبياء أشخاص ليس هو الأفضل، بل الاستغراق في خطهم وهداهم ورسالتهم هو المسار الذي يأتي بثمار أنضج في البحث، ولم يأتِ في هذا البحث من مصادرنا في الأسلوبية، فلم يكن منهجه أسلوبيا.

وفي بحثنا تناولنا صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ومدی التأثير والتفاعل مع المتلقي و كيف جاء التصوير مقنعا وممتعا وما عوامل استمرار

ص: 9

التأثر به إلى يومنا هذا و كيف استطاع المبدع ومن أي زاوية إبداع مميزة وفريدة وطريقة ترتيب في الأصوات أو التراكيب أو البيان أو غيرها أن يؤثر وينقل الصورة مثيرة لمشاعر المتلقي ومقنعة له مع الإمتاع وهو ما لم يرد ولو بالإشارة في هذا البحث.

ومن القريب أيضا كتيب صغير بعنوان سيرة الرسول صلى الله عليه و آله وسلم في نهج البلاغة للسيد هاشم الميلاني، جمع فيه بعض النصوص التي أشارت إلى سيرة النبي «صلى الله عليه و آله وسلم) مع بعض الآيات القرآنية ليوضح من خلالها بلاغة الإمام علي عليه السلام وأنه ذكر المولد والبعثة والأوصاف النبوية وذلك بمقابلة هذه النصوص بآيات قرآنية تضمنت الدلالة المشار إليها من دون أي بيان أو ذكر بل من دون أي إشارة للأسلوب، أو اللغة والتركيب والبيان البلاغي الذي جاءت به ونستطيع أن نقول إنه جمع نصوص نهج البلاغة مقارنة لما تضمنت دلالتها من النصوص القرآنية وبُعْدُهُ واضح تماما عن بحثنا إلا في القرب من العنوان كما هو الحال مع سابقه، و من العنوانات التي تقرب من بحثنا بحث تأريخي لم أطلع عليه ؛ لأنه في طور الكتابة في قسم التأريخ من كلية الآداب جامعة البصرة وهو (السيرة النبوية في رؤية أمير المؤمنين عليه السلام).

ومن تتبعنا للنصوص التي تعلقت بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم في نهج البلاغة بحثا وراء الصورة والفرادة والإمتاع والأسلوب المميز والطريقة التي حرکت طاقات اللغة العادية إلى ما هو جديد ومتجدد في الإيصال يثير ويؤثر ويقنع ويمتع وبيان أسلوب المبدع (الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام) هو

ص: 10

منهاج سِرْنَا عليه في هذه الأطروحة عن هذا الأسلوب المصوّر للنبي الأكرم صلی الله عليه و آله وسلم.

بعد المقدمة تطلب أن نمهد للبحث عن الأسلوب والأسلوبية التطبيقية؛ لبيان ما نسير عليه في الأسلوبية التطبيقية لتعدد سبل العمل بها، وبعدها ثلاثة فصول كان الأول: منها في (الأسلوبية الصوتية) لبيان الأصوات التي جاء بها المبدع بتواشج دلالي و تميز مثير ومؤثر في رسم الصورة النبوية و كان على مبحثين: المبحث الأول في أسلوبية الصوت المفرد وما في الصوت من رسم للصورة النبوية في حال تکراره أو فرادته الإبداعية في النصوص وما في ذلك من أثر في المتلقي و كيف يحصل الإقناع بجرس هذه الأصوات التي توحي بدقة اختيارها، والمبحث الثاني في أسلوبية الإيقاع وما له من أثر مميز في رسم الصورة و تأثيرها وإمتاعها أيضا.

وكان الفصل الثاني (الأسلوبية التركيبية) في ثلاثة مباحث الأول في الجملة من حيث الطول والقصر وما في ذلك من فرادة الأسلوب وما أعطاه تركيبها من أسلوب اختص به المبدع وخص به الصورة النبوية بما هي مختصة به والمبحث الثاني في الأساليب من استفهام ونداء و تعجب وغيرها، والمبحث الثالث في الظواهر الأسلوبية الأخرى وفيها جميعا نبحث عن الصورة النبوية في الأسلوب الفريد والمميز.

وأما الفصل الثالث: (الأسلوبية البيانية) فهو للكشف عما في البيان من صور إبداعية للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وهو من ثلاثة مباحث: الأول في

ص: 11

(الأسلوبية التشبيهية)، وفي المبحث الثاني (الأسلوبية الاستعارية)، والمبحث الثالث (الأسلوبية الكنائية) لما في جانب الأسلوبية البيانية من صور نبوية في النهج أكثر من غيرها من علوم البلاغة، تبع هذا أهم نتائج البحث التي توصلنا إليها مع خاتمة و تفصيل بثبت المصادر والمراجع وملخص باللغة الإنكليزية.

وحسبي في عملي أنه يبحث في نصوص قالها من هو نفس الرسول صلی الله عليه و آله وسلم ويكشف عن صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وهم الأدلاء على الله وإنما رجوت التقرب إلى الله بعملي فإن كان فيه خلل أو نقص من جهد أو نتيجة فبهم علقت أنامل رجائي ليشفعوا لي عند الله أن لا يؤاخذني ويتفضل علي بالقبول والغفران فإنه يعطي من سأله ومن لم يسأله ويمحو السيئة بالحسنة بل يبدل السيئات حسنات ويظهر الجميل ويستر القبيح، كل ذلك بنية خالصة وقصد سليم لأني متعلم على سبيل نجاة ورجوت أنا والمؤازر لي ومن كان وراء هذا البحث أن نقدم عملا يرفع کَلِمنا الطيب إلى الله ويصعد معه أجرٌ و ثوابٌ ندخره «يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ » [الشعراء /88 89].

ناجح جابر الميالي

ص: 12

التمهيد: الأسلوبية والأسلوبية التطبيقية

عرَّف الأسلوب والأسلوبية كثيرون واختلفت الآراء اختلافا شديدا فيهما، (1) وفي المعرفين لهما أيضا، فقد وجهت سؤالا لأحد المحدثين عن الأسلوبية وما يقال عنها فقال: « يا بني إنهم يقولون ما لا يفهمون ويريدون منا أن نفهم ما لا يفهمون»، (2) لكنه لم يرفضها موضوعا حاضرا في الساحة اللغوية وأشاد بموضوع البحث وقال: نعم في نهج البلاغة من الصور النبوية الكثير والاختيار في محله لأن المصور هو أمير المؤمنین علیه السلام، ولم أجد رسالة على مستوى قراءتي المتواضعة إلا وعرفت الأسلوب والأسلوبية وأحالت إلى مصادره التي غلب جانب التنظير على نسبة كبيرة منها، وسعيا منا لأن لا يصدق علينا قول الشاعر: ما أرانا نقول إلا رجيعا... ومُعاداً من قولنا مَكْرورا(3) .

ص: 13


1- ظ: علم اللغة والنقد الأدبي (علم الأسلوب ) (بحث ) د. عبده الراجحي، مجلة فصول م1، ج 2: 117
2- لقاء خاص مع أ. د. محمد حسين الصغير في منزله في 2012/3/10 م بحضور د. علي الأعرجي رئيس قسم اللغة العربية في كلية الآداب جامعة القادسية
3- دیوان كعب بن زهير: 123

لذا لم نذكر ما وجدناه قد تكرر كثيرا دون فائدة،(1) وحاولنا صياغته صياغة جديدة بما فُهِم من هذه التعريفات وما تقوم به الأسلوبية في الميدان العملي (النصوص الأدبية الإبداعية) وما يهمنا منها في اللغة العربية وأين يكون موطن ثمرتها في بحثنا هذا؟

فالأسلوبية تسلك مسلكين متوازيين أحدهما يمثل مكونات الأسلوبية النظرية - وهو ما لم تتناوله في هذا البحث - والآخر يمثل مكونات الأسلوبية التطبيقية، وهو ما يعد الثمرة العملية للأسلوبية النظرية وحقل عمله هو النص، فالأسلوبية التطبيقية تسهم في إيضاح العمل الأدبي ومنطلقها هو فحص المكونات اللغوية في النصوص وتضع النظريات اللسانية في حقل التجربة، وهو موضع نجاح الأسلوبية التطبيقية ؛ لأنها أداة الكشف الإبداعي وتمييز المبدع من غيره بما تحلله من نصوص، محققة بذلك ما ترمي إليه الأسلوبية النظرية من تفسير النصوص الأدبية الإبداعية معتمدة على مكوناتها اللغوية،(2) أي أن التعامل مع اللغة لا يكون مع المستوى الساكن فيها بل سيكون مع وجودها الخارجي في حقل الاستعمال

ص: 14


1- ظ: في ذلك على سبيل المثال : البنية الأسلوبية في التراكيب النحوية، مهدي حمد مصطفى عبد الله آل سيد علي العاني (أطروحة): 8 - 10، وشعر نزار قباني دراسة لغوية أسلوبية، ماجد عيال وهيب العبادي (اطروحة ): 4 -12، وشعر أبي الأسود الدؤلي (دراسة موضوعية أسلوبية)، رسالة ماجستير الاء حسين محمد قدري: 68 - 69، ودراسة أسلوبية في شعر أبي فراس (رسالة ماجستير ): 34 - 38، و منهج التحليل اللغوي في النقد الأدبي، نموذج (ولد الهدى ) (بحث )، د. سمير شريف ستيتية، مجلة آداب المستنصرية /16، 1988: 239 - 251، فضلا عن كتب الأسلوب والأسلوبية التي لم تعد خافية على من يهتم بهذا الجانب
2- ظ: التضافر الأسلوبي وإبداعية الشعر (بحث)، عبد السلام المسدي، مجلة فصول م3، ع1 ، 1982 : 108 - 107

وهو المستوى المتحرك الذي يخرجه المبدع من أطره المعجمية وقواعده النحوية والصرفية وبيان كيف أدت وظيفتها الإخبارية في أسلوب آخذ بنظره حالات التأثير في المتلقي وإقناعه وما نقل إليه من أفكار النص بإقناعه عقليا وإمتاع شعوره بوساطة المعنى الأسلوبي الذي أوجده المبدع في النص.(1) فالأسلوبية التطبيقية - هنا - تكشف الظواهر الفنية في الأسلوب الإبداعي لأمير المؤمنين عليه السلام في النصوص التي تصور النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم أي على المستوى الفردي بما في اللغة من تنوعات مختلفة على معايير مختلفة في نمط الكتابة الأدبية التي تمثل لغة فردية خاصة فيها خروج عن النمط العادي؛ لتبين الأثر الذي تحدثه في المتلقي، (2) سلو کیا وشعوريا وغير ذلك، وهي أيضا تبحث عن النسيج الفني في المادة اللغوية التي جاء بها النص مزيلة بذلك النقاب عن مواطن الإبداع فيه من خلال تحليل تراكيبه والمباني التي حركت الشعور لدى المتلقي، فهي تكشف النموذج الأسلوبي ودلالته التي أضفاها على دلالة النص التركيبية والمعجمية والبيانية وغيرها، كل ذلك من خلال أنموذج نصي إبداعي مقدمة - أي الأسلوبية التطبيقية - بذلك مكتسبات عملية إلى الأسلوبية النظرية فيها من حقائق الإبداع ما يمد الأسلوبية النظرية بمكتسبات مدققة تعين على جمع النماذج الإبداعية. (3) وتظهر تحرك اللغة من سكونها المعجمي ونموها على يد المبدع كزرع أخرج شطأه وتعرفنا كيف تآزر الأسلوب دلاليا في الألفاظ والتراكيب

ص: 15


1- ظ: الأسلوبية، مدخل نظري، ودراسة تطبيقية، د. فتح الله أحمد سليمان: 16
2- ظ: علم اللغة والنقد الأدبي (علم الأسلوب ) (بحث ): 117
3- ظ: التضافر الأسلوبي وإبداعية الشعر (بحث ): 109

حتى استغلظ النص في صوره فاستوى على سوقه في شعور المتلقي وأعجب القرّاء بجودته وأمتعهم بإبداعه الدلالي.

أقول: اختلاف الآراء في الأسلوب والأسلوبية، أو اختلاف طريقة طرحها وتوضيحها لا يعد في أغلبه خلافا جوهريا بقدر ما هو أنموذج عملي للأسلوبية أو الأسلوب أنفسهما ؛ لأنها تعابیر مختلفة لموضوع واحد قام بها عدة أشخاص فاختلفت لاختلاف أسلوب بعضهم عن الآخر، كما اختلف المتلقي لهم ولكل واديه الذي يسيل فيه بقدره من فهم أسلوب الشخص، وما ترجم عن الأسلوب والأسلوبية. لذا نضرب مثالا ماديا يقرب ويوضح الأسلوبية أكثر، وهو لا يختلف عن الآخرين إلا بأسلوبه وطريقة طرحه. وهو كمثل مكعبات اللعب لدى الأطفال أو لبنات البناء و مواد الإنشاء التي تعطي لمجموعة من المهندسين بعدد متساو من اللبنات ومواد الإنشاء، ويطلب منهم بناء غرفة ما بالطريقة والتصميم والوقت الذي يناسب كلاً منهم فلا شك أننا سنحصل على عدة تصاميم وأشكال هندسية منوعة واختلاف في كميات المواد والبنات التي استخدمها كل منهم وهو ما يمثل خیر الكلام ما قل ودل (الإيجاز غير المخل) أي إيصال ابلغ المعاني مصحوبا باقتصاد لغوي في المفردات، وتمثل اللبنات مفردات اللغة ومواد الإنشاء أدوات الربط بين هذه المفردات كما يمثل الشكل الهندسي شكل النص الذي أخرجه المبدع نثرا أو شعرا أو غيره من الفنون اللغوية والأدبية، وأننا نبدي الإعجاب بانجاز هذا البناّء واعتراضنا على آخر. و كذا الحال مع المبدعين في النصوص باختلافها ويبقى الرابط العام هو أنهم جميعا استعملوا اللغة للوصول إلى غرضهم سواء أصحاب

ص: 16

النصوص (المبدعون) أو من شرحوا الأسلوبية بعدها موضوعا واحدا - كما في مثال الغرفة - وتولى شرحها أكثر من فرد فهي - الأسلوبية - الطريقة أو الحالة أو الكيفية أو السبيل أو السلوك الذي سلكه شخص ما للتعبير عن معنى من المعاني وكانت وسيلته وأداته في تحقيق ذلك هي اللغة بمعاییرها وأذواقها وفضاءاتها السامحة بالحركة المختلفة. فعندما استعمل الأصوات المعينة في نص ما و کرر بعضها بشكل لافت تتوجه الأسلوبية التطبيقية لتعرف الظواهر الصوتية الخارجة عن النمط العادي ف-«هناك الصور التي تُبنى على المادة الصوتية نفسها»(1) وتبحث الأسلوبية التطبيقية في دلالتها وتوافقها في انزياحها عن النمط المعهود مع الدلالة العامة في النص على أن هذا الأمر مبني على المعرفة المسبقة بالخصائص الصوتية في اللغة العادية، ولا يعني ذلك تتبع جميع التفصيلات في علم الصوت بل ما كان منها على درجة واضحة تقتضي الالتفات والتفسير لارتباطها بالمعنی مثلا، (2) وما يوحي لنا بصورة نبوية إبداعية في النهج، والتركيب الذي جاء النص به من جمل طويلة أو قصيرة و تحليل أركان التركيب من مبتدأ وخبر وفعل وفاعل والعلاقات التركيبية كالصفة والموصوف والإضافة وغير ذلك، ومن الأسلوبية التركيبية دراسة الأساليب الاستفهام والنداء والدعاء والأمر والتعجب والقسم وغيرها بما لها من دلالات تعطي خصوصية للأسلوب لأنه - مثلا - دراسة ظاهرة الترتيب (التقديم والتأخير) في الأسلوب التي تعد عنصرا مهما في البحث الأسلوبي تؤدي في الأغلب إلى تغيير في الدلالة، مضافا إلى ذلك دراسة بعض الفضائل التركيبية

ص: 17


1- الأسلوبية، جورج مولينية، ترجمة د. بسام بركة : 211
2- ظ: علم اللغة والنقد الأدبي (علم الأسلوب ) (بحث ): 119 - 120

الأخرى، (1) «على أن دراسة التركيب عند الأسلوبيين لا تقتصر على بحث جزء الجملة أو الجملة، وإنما يتعداها إلى بحث الفقرة والموضع ثم العمل الفني کاملا»(2) . فكل ما انماز بالفرادة في النص وأعطي صورة للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يجري البحث عنه ففي البلاغة حيث وجدت الصورة في البيان يبحث في أسلوب التشبيه وما جاء به من دقائق، بأسلوب يمكن المتلقي من الاقتراب الذهني للمعنى لتمكن المبدع من الاختيار المناسب للوسائط التي تقوم بين أركان التشبيه،(3) وما في الاستعارة من انزياحات بيانية ومثلها ما في الكناية من خصائص ميزت الأسلوب والمبدع عليه السلام وأعطت صورة للنبي الأكرم صلی الله عليه و آله وسلم ، فقد تكون الصورة البلاغية كخيط في حقل الأسلوبية اللغوية،(4) وبالطبع فإن كل هذا يقوم على أساس الأخذ بنظر الاعتبار البعد الثالث (المتلقي) في عملية الإبداع لأهميته في النص ؛ لأنه هو المقصود في إيصال الصورة وأمر مراعاته والحال التي هو عليها مهم جدا وقد راعي الإمام علي عليه السلام المتلقي في نهج البلاغة بوضوح، وفي نص جلي الدلالة في هذا الأمر بأن المبدع كان يعطي البعد الثالث اهتماما خاصا في النص ويكلمه بما يناسبه من الكلام الذي يؤدي غايته المرجوة قال في إحدى خطبه عليه السلام: «للخوارج وقد خرج إلى معسكرهم - وهم مقيمون على إنكار الحكومة - فقال عليه

ص: 18


1- ظ: المصدر السابق: 120-121، والأسلوبية، جورج مولينية، ترجمة د. بسام بركة : 210
2- علم اللغة والنقد الأدبي (علم الأسلوب ) (بحث): 121
3- ظ الاقتصاد اللغوي د. محمد کشاش: 89 - 90
4- ظ: الأسلوبية، جورج مولينية، ترجمة د. بسام بركة : 209

السلام: أَکُلُّکُمْ شَهِدَ مَعَنَا صِفِّينَ- فَقَالُوا منَّا مَنْ شَهِدَ- ومنَّا مَنْ لَمْ يَشْهَدْ- قَالَ فَامْتَازُوا فرْقَتَيْنِ - فَلْيَکُنْ مَنْ شَهِدَ صِفَّينَ فِرْقَةً - ومَنْ لَمْ يَشْهدْهَا فِرْقَةَ- حَتَّى اٌكَلَّمَ كُلًّا مِنْكُمْ بِكَلَامِهِ...»(1)

وينظر في الأسلوبية هل وضع ذلك في مكانه و توافق مع الدلالة النصية وهل أفاد في هذا الاستخدام في إيصال المعنى في أخصر الطرق وأبلغها وأكثرها تأثيرا في المتلقي وهل أمتع المبدع المتلقي في أدواته اللغوية المعروفة لدى المتلقي والمثيرة له بطرائق تركيبها الخارجة عن النمط العادي غير المتوقعة والموافقة - في الوقت نفسه - لقوانين اللغة على الإتيان باللغة وفق قواعدها وضوابطها المسموح بها؛ «لأن اللغة العادية التي يدرسها علم اللغة إنما تقدم العناصر العامة في لغة الحياة، ولا تنفصل عنها لغة الأدب، لكنها تقيم معها علاقة خاصة باستخدام عناصرها نفسها لبناء هياكل جديدة خاصة بها، مضيفة إلى اللغة قواعد جديدة في الصوت وفي الكلمة وفي تركيب الكلام. أي: أن لغة الأدب بمعنى آخر تكشف عن الطاقات التعبيرية الكامنة في اللغة العادية، والتي لا تظهر إلا باستخدام الفرد لها استخداما متميزا، وعلم الأسلوب يهدف إلى دراسة هذه الكوامن التعبيرية من دراسته للغة أديب معين»(2) .

وهو بطبيعة الحال شيء مفروغ منه، كما لو قيل: إن موعد مناقشة الرسالة الموسومة ب-(كذا) يوم (كذا) لا يقبل السؤال بعدها هل تم تقويمها علميا أم لا؟

ص: 19


1- نهج البلاغة : 122
2- علم اللغة والنقد الأدبي (علم الأسلوب ) (بحث ): 117

ثم نحاول الكشف عن الثمرة الأسلوبية أو المعنى الأسلوبي في هذا النص فعندما نجد نصا من النصوص التي تصور النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم في نهج البلاغة يستعمل أصوات الصفير الخاصة - على سبيل المثال - في ألفاظ ترسم صورة خاصة للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتتكرر في مواطن ذات دلالة خاصة من النص الذي يتعلق بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم لابد لنا من وقفة تأملية ووقفة فنية كما يقف المتذوق للفن أمام لوحة رتبت فيها الألوان الخاصة بشكل خاص؛ ليتعرف على الدلالة التي يراد إيصالها في هذه الطريقة الخاصة (الأسلوب)، وكذا تتحرك مشاعر المتلقي ويتأثر عاطفيا عندما يجد في نهج البلاغة نصا لأمير المؤمنين عليه السلام يبدأ بالسلام على النبي الأكرم صلی الله عليه و آله وسلم وهو في مقام دفن الزهراء عليها السلام والحديث عنها، لا يمكن أن لا نقف عنده لننظر في الصورة النبوية التي يريد المبدع إيصالها إلى المتلقي من هذا الأسلوب وفي مثل هذه الحال التي قد يعذر فيها فيما لو بدأ بالسلام على صاحب المقام لكنه ينزاح في الأسلوب وطريقة التركيب المعهودة لدى المتلقي ويتحدث عن دفن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم و کیف فاضت روحه الطاهرة مع أنه دُفِن قبل الزهراء عليها السلام فإذا نظرنا إلى صياغته النحوية ودلالتها مع أهميتها إلا أنها لا تعطي الدلالة المرجوة كاملة بغير النظر إلى المعنى الأسلوبي في النص الذي يوجه عناية المتلقي إلى صورة أخرى مع أنه يعطي صورة الحدث المقاميّ (دفن الزهراء عليها السلام)، وقد نجد تشبيها يشبه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم بالضوء والنور والبرق واللمع وغيرها - مثلا

ص: 20

- يبدو في ظاهره أنه تكرار في دلالته المعجمية لهذه الألفاظ إلا أننا لا يمكن أن نقبل ذلك لأن المبدع ممن يملكون زمام أساليب البلاغة اللغوية والفصاحة فضلا عن أساليبها المعجمية ودلالتها، ومثله في الاستعارة عندما يصور النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم بأنه (طبیب دوار بطبه) و كذا في الكناية، فبعد التأمل نجد أن الأسلوب يرسم صورة نبوية بدقة عالية و بطريقة لم يسبق المبدع أحد قبله المثلها علما وفنا و بیانا، محققا قوة الأسلوب التي تتحقق بقوة الصورة التي تتجاوز معناها الحرفي إلى معنى أو معان أخرى بوساطة التشبيهات والاستعارات والكنايات الفريدة كما يحقق ذلك في التركيب، (1) وغيرها من الأساليب اللغوية التي تأتي في إطار المعايير اللغوية، بل مما حفظ النهج البلاغي لها - ولكنها تستوقف المتلقي لا بدلالاتها النحوية والبلاغية فحسب وإنما بالطريقة التي جاءت بها سلسلة الدلالة وتركيبها مع أنها تأتي من محسوسات المتلقي المشخصة أمامه، فتقوم الأسلوبية التطبيقية بالبحث عن الأسباب والعوامل الفنية التي حر کت شعور المتلقي في هذا النص وعن مواطن الإثارة لذهنه و كيف استطاع الأسلوب بأدواته اللغوية أن يقنع المتلقي وبأي انزياح لغوي وفنية تعبيرية لا تخالف قواعد اللغة استطاع المبدع أن يمتع المتلقي و كيف ظل هذا النص الإبداعي حیا و حيويا ويحيي القلوب على مدى الحياة لدى متلقيه وليس هذا بمفرداته وصحة إعرابه وفصاحته فهذا نجده في كثير من النصوص! ولا في الدلالة اللفظية والمعاني الخاصة لبعض التراكيب أو بالطاقة اللغوية وحدها، فاللغة طاقة متوافرة للجميع

ص: 21


1- البلاغة والأسلوبية، د. محمد عبد المطلب: 116

تبعد عنهم بمسافة واحدة والتمايز ليس في الدلالات وحدها فهي متوافرة أمام الجميع أيضا، إلا أن استثمار هذه الطاقة وقطع المسافة تجاهها بالشكل الأفضل والطريق الأقصر واللفظ الأوجز والمعنى الأجزل هو عنصر التمييز بين مبدع و آخر وليس الشعر أو النثر هو المحدد لذلك فالصورة قد تكون في النثر أمتع وأكثر إثارة و تأثيرا في المتلقي من الشعر، ولعل الخواص المعينة والإمكانية التعبيرية توافرت في أغلب الأحيان في الشعر فصار موضع الفخر والتباهي بما فيه من وزن و قافية تعطي صورة أفضل فيما لو جاءت بمعان جيدة، وليس الشعر وحده القادر على هذا بل النثر أيضا ولعله أقدر، وهو جانب من جوانب الإعجاز في القرآن الكريم الذي استنفد كل طاقات اللغة مع تبيان كل شيء فيه ولا يجمعه مع النثر والشعر سوى اللغة التي جاء بها فهو قرآن عربي.

فالأسلوبية التطبيقية طريقة في تحليل شكل النص ومضمونه وما تألف منه النص وكيف استعمل؟ وما دلالته في هذا الاستعمال؟ فيما لو استعمل غيره، مع الإفادة بالطبع من معطيات اللغة واتباع معاییرها وما إلى ذلك مما لا يسأل عنه بعدّه مفروغا من حصوله،(1) ولا يعني هذا أننا ننكر مثلا أهمية النحو والمعاني التي تتحصل منه وكذا غيره من الجوانب اللغوية إلا أن الاكتفاء بها دون المعنی الأسلوبي عند دراسة النص الأدبي يفوت علينا فرصة الفهم الأفضل للنص، فرب نص يأتي فهمه من غير الجانب النحوي أو أنه يأتي بتضافر المعنى النحوي وغيره،(2) وقد نحتاج النص من جهة كونه يمثل الوحدة الطبيعية لممارسة اللغة

ص: 22


1- ظ: منهج التحليل اللغوي في النقد الأدبي (بحث): 239
2- ظ: المصدر السابق : 265

وذلك - مثلا - عندما نريد أن ندرس السلوك اللغوي لدي مبدع للكشف عن سننه وقوانينه الخاصة (الأسلوب)، (1) لأن للأسلوب معنی يستفاد منه لا يمكن أن نجده في إطار المفردة أو الجملة - مستقلتين مثلا -، «ومن الفوائد التي نجنيها من دراسة المعنى الأسلوبي أنه يساعدنا على فهم معاني الكلمة الواحدة في سياقاتها المختلفة. فالمعروف أن اللغات تستعمل كلمات محدودة لمضامین كثيرة في الحياة لا يمكن حصرها، وبهذا تتحرك هذه الكلمات المحدودة في مجالات متعددة لتشمل جوانب الحياة المختلفة بطريقة تتلاءم مع تفكير الجماعة، ونمط حياتها وأسلوب معيشتها»(2) ، وبهذا يكون منهج الأسلوبية التطبيقية مستندا إلى اللغة وهي تستعمل في دراسة النصوص الأدبية (3) ، ل-« تتحرى دراسة الخصائص اللغوية التي بها يتحول الخطاب عن سياقه الإخباري إلى وظيفة ليؤثر ويقنع في آن واحد، مع ملاحظة أن التأثير والإقناع يأتيان من ترابط الشكل والمضمون في تلاحم تام»(4) ، ويدرس النص بأكمله وبتضافر أسلوبي لجميع تراكيبه وجمله، وقد ينظر للنص بوصفه جملة واحدة فهو «کیان لغوي واحد بدواله ومدلولاته ولا مجال للفصل بينهما أو البحث في أحد الجانبين دون الآخر من حيث أن أولهما مفض إلى الآخر»(5) ، ومجال العمل في الأسلوبية

ص: 23


1- ظ: مدخل إلى علم النص ومجالات تطبيقه، محمد الأخضر الصبيحي: 10
2- منهج التحليل اللغوي في النقد الأدبي (بحث): 245
3- ظ: البنية الأسلوبية في التراكيب النحوية: 8 - 10
4- البلاغة والأسلوبية: 128؛ وينظر: البلاغة العربية، قراءة أخرى: 119-120
5- الأسلوبية، مدخل نظري، ودراسة تطبيقية : 28

التطبيقية يصب في مشارب عدة،(1) ومجال العمل الذي نعنيه هنا بالأسلوبية التطبيقية هو وصف الخصائص والسمات التي تميز النصوص التي تصور النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم و كيف جاء الإبداع فيها برسم الصورة النبوية بطريقة مؤثرة أو مثيرة ومقنعة أو ممتعة أو باشتراك أكثر من طريقة، بعدّ الأسلوبية التطبيقية مثل طريق يسير فيه سائق أو راكب أو ماش يسلکه بأخصر الطرق فيصل ويُوصل أو بابعدها فيتعبُ ويُتْعِب وذلك تبع لمعرفته بمسالك الطرق وسرعة واسطته التي يستعملها لقطع الطريق وهو الوصول إلى المعنى الجزل بالألفاظ، والمفردات والجمل والمقاطع في النصوص بالنظر إلى كيفية تكوينها والسياق الذي جاءت به مع ملاحظة ما يكشفه الأسلوب من مدالیل نفسية واجتماعية،(2) وسبب الانطباع الذي نشعر به أحيانا من خلال نص من النصوص بما يعطيه وجوده الساطع من صور لا يعطيها غيره،(3) كل ذلك وفق المعايير التي تتيحها له اللغة التي يكتب بها النص.

ص: 24


1- ظ : التضافر الأسلوبي وإبداعية الشعر (بحث): 107
2- ظ: علم الاسلوب وصلته بعلم اللغة (بحث)، د. صلاح فضل، مجلة فصول ، مج. 5، 1984م: 1/ 48، وينظر: الأسلوبية، مدخل نظري، ودراسة تطبيقية : 24
3- ظ: الأسلوبية، جورج مولينية، ترجمة د. بسام بركة : 87

الفصل الأول

اشارة

ص: 25

ص: 26

توطئة

الصوت هو الوجه الظاهر بل لعله هو الوجه الأول للغة مذ بدأ التعامل البشري والاجتماعي بالتفاهم والتعبير عن الأغراض والمقاصد التي يراد إيصالها إلى الآخر باللغة التي هي أصوات(1) ، ولنبتعد قليلا عن إعادة عبارات الكتب الحديثة أو القديمة التي تحدثت عن الصوت وأهميته في اللغة وأنه يرتبط بالمعنی أو أن يكون صدي له، ولننظر إلى الفطرة الإنسانية في الحياة اليومية البسيطة التي لا تحتاج إلى عناء البحث والمطالعة، ولنر أثر الصوت و تأثر المتلقي به في مثل الأم التي تنزعج وتتأثر كثيرا وتترك ما بيدها من عمل لتتوجه لصبيها الذي يبكي قبل أن يصل إلى حد الفِحام(2) هذا التأثر الذي يبديه المتلقي فهي لا تقوم بالاستجابة نفسها إذا سمعت أن الصبي يضحك أو يقوم بما يعرف عند الصبيان بالإنغاء بل تؤدي عملها وبارتياح نفسي تام وربما قامت بمبادلته وإجابته


1- ظ. دراسات في اللسانيات العربية المشاكلة - التنغيم - رؤى تحليلية، د. عبد الحميد السيد : 10
2- فحام الصبي : فحم الصبي يفحم إذا طال بكاؤه حتى ينقطع نفسه فلا يطيق البكاء، ينظر العين: ج3: 254 (فحم)، وينظر معجم أسماء الأصوات وحكاياتها ، محمد عواد الحموز: 300

بالمناغاة (1) ، ولو تأملنا لوجدنا الحالين مع اختلافهما لم يكن الباعث لهما إلا أصوات أصدرها صبي لا يقوى على غيرها، ولا نجد ردود الفعل عند الأم في حال البكاء تختلف عند أم أخرى، وكذا في الحالة الأخرى فإن «للصوت وظيفتين هما الإسهام في تحديد المعنى والحضور داخل الإيقاع»(2) وربما الكائنات الأخرى غير الإنسان لا تتعامل إلا بالأصوات، ومع أن المعنی والاستجابات عند الإنسان قد تبدو موحدة إلا أن لكل صوت تميزا من الآخر يعرفه المخاطب کما نميز أصوات الأرحام والأقارب والأصدقاء دون أن نراهم وكما انمازت الأصوات من غيرها بالأداء انمازت أيضا بأسلوبها الذي يعرف به صاحبه من خلال أدائه المميز والفريد في استعمال أصوات دون غيرها أو تكرارها أو التأكيد عليها، كما أن هناك فرقا بين كل صوت ف-«هناك فرق كبير بين أسلوبية كل كاتب بوصفه الإبداعي وبين المعيارية للغة التي يكتب بها»(3) فلابد أن يوظف المبدع معيارية اللغة بنظام أسلوبي يخصه هو يتكرر منه أو يكثر استعماله له في مناسبات الخطاب حتى يكون المبدع مميزا بنظام خاص يعرفه المتلقي به، بالسماع منه مباشرة أو عن طريق الكتابة؛ لأن «الكتابة ليست إلا تعبيرا عن هذا النظام الصوتي»(4) وهذا النظام الصوتي مع أنه مباح للجميع إلا أن إتقانه في أسلوب الفرادة والتميز الإبداعي ليس كذلك فيختار المبدع من الأصوات ما

ص: 28


1- ظ. معجم أسماء الأصوات وحكاياتها : 301
2- وجود النص نص الوجود ، د. مصطفى الكيلاني: 30
3- أسلوبية البيان العربي، د. رحمن غركان: 12
4- علم اللغة بين التراث والمناهج الحديثة، د. محمود فهمي حجازي : 23، وينظر: العربية الصحيحة، د. أحمد مختار عمر: 88

يناسب المعنى الذي يريد إيصاله ويقنع به ويمتع المتلقي مع إثارته وتأثره شعوريا.

وإنّ مثل الصوت المفرد الذي يرمز له بحرف ما إذا اجتمع مع أصوات ما يعطي دلالة أو وظيفة غير الوظيفة والدلالة مع أصوات أخرى وفي موقع آخر، فمثله مثل مفاتيح لوحة الحاسوب حين تختلف وظيفة المفتاح الواحد عدة مرات مع اختلاف البرنامج المستعمل معها فالصوت في «الدلالة يكون محدودا بإطار موقعه المكاني، فالميم - مثلا - في آخر الكلمات تدل دلالة - لا شك فيها - عند الاستماع إلى كلمات (كالحتمْ والحسم والجزمْ والحطم والختم والكتم والعزم والقصم والكظم) فأمثال هذه الكلمات لا تخلو من الدلالة على التوكيد والتشديد والقطع الذي يتصل بالمعاني الحسية أحيانا وغير الحسية أحيانا أخرى، مثل القطع بالرأي. وحرف (السين) على نقيض الميم حيث يدل على المعاني اللطيفة (كالهمس والوسوسة والنبس والتنفس والحس والماس والاقتباس) ولكنه يتغيّر إذا تغير موقعه من الكلمة»(1) ؛ لأن للموقع أثره في الصوت وفقا للعلاقات اللغوية فقد يكون في موقع جزءا من كلمة، وفي موقع آخر جزءا من ترکیب، وتقوم بينه وبين أجزاء أخرى علاقات نحوية، والمورفيم أنواع فقد يكون عنصرا صوتیا يحدد العدد والنوع مثل (كاتب، كاتبة)، وقد يكون سابقة أو لاحقة أو حشوا مثل انضرب، وضاربة، وضربوا)، وقد يكون بالتحول الداخلي بين الصيغ، مثل (جمل وجمال) وقد يأتي من موضع الكلمة أو موقعها الذي يحدد علاقتها بسائر الكلمات في السياق، فإذا تغير الموضع تغير معنى الجملة، وقد يكون بالتنغيم أو

ص: 29


1- البلاغة والأسلوبية، د. محمد عبد المطلب: 144 - 145

بالنبر أو بالوقف والسكت وقد يكون حرفا أو أداة، مثل (إذ، وقد، ولولا، والفاء، والواو).»(1)

والأسلوبية الصوتية لكل مبدع حقيقي تؤتي ثمارها لدى المتلقي إذا كان منطلقها من فطرة المبدع السليمة الخالية من التكلف والنابعة من حاجة المبدع إلى الكلام في وقته المناسب التي تواشج بين الدلالة والأصوات التي يختارها (2) ؛ لأن هناك دائرة بين المتكلم والمتلقي جزء من تمامها بينهما هو نقل الحدث النفسي وما يدور في ذهن الباث قبل الخطاب أو في أثنائه إلى ذهن السامع و تفاعله معه نفسيا وشعوريا عند سماعه للخطاب أو قراءته له(3) بِعَدَّ الكتابة صورة من صور الإسماع غير المباشر - كما اشرنا آنفا - فالنصوص الخطابية تعكس الجمال اللغوي الذي نظمت به أصواتها وما ينتجه النظام الصوتي هو «أن يسترعي الانتباه ويحرك داعية الإقبال في كل إنسان» .(4)

أسلوبية التكرار

التكرار أو الترداد(5) ظاهرة أسلوبية لدى الكثير من المبدعين ولعل الخطوة الأولى في التحليل الأسلوبي ستكون بمراقبة مثل هذه الانزياحات كتكرار صوت أو قلب نظام الكلمات لأهميتها في المعنى أو بناء تسلسلات متشابكة من

ص: 30


1- البنية الشكلية للجملة الواقعة حالا، مصطفى النحاس، مجلة الضاد، ج 1: 135
2- ظ. الأسلوبية الصوتية، د. ماهر هلال، مجلة آفاق عربية، ع12، 1992: 74
3- ظ. علم الأصوات، د. كمال بشر: 37 - 38
4- الانسجام الصوتي في القرآن الكريم، أطروحة دكتوراه، تحسین فاضل: 5
5- كما سماه الجاحظ، ينظر البيان والتبيين: ج 1 : 105

الجمل،(1) وفي التكرار الصوتي انزياح عن اللغة العادية يعطي فسحة أسلوبية للمعنی کي يعتمد عليه ليفهم المتلقي المطلوب «فكل تکرار مهما يكن نوعه تستفاد منه زيادة النغم وتقوية الجرس»(2) ، فمما يسلكه المبدع إذا اهتم بمعنی ما في نفسه وأراد أن يوصله إلى المتلقي أسلوب التكرار، «فالتكرار يسلط الضوء على نقطة حساسة في العبارة ويكشف عن اهتمام المتكلم بها وهو بهذا ذو دلالة نفسية قيمة» (3) لذا لقي التكرار عناية أسلوبية في نهج البلاغة لما يمكن أن يرى فيه من إيقاعية وشعرية وموسيقية عالية، وليس ذلك لأن المبدع لايملك المفردة ذات المعنى البياني العالي بل العكس هو الأصح إلا أن «القوة التعبيرية للكلمة المنفردة لا تتأتی من معناها وحده بل من طبيعة شكلها الصوتي أيضاً»(4) والتكرار أحد الأشكال الصوتية للمفردة في خطب النهج المتصلة بصورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم و تكرار العبارة أيضا فضلا عن تكرار الصوت المفرد.

ص: 31


1- ظ: نظرية الأدب، رينيه ويلك وأوستن وارين، تعريب د. عادل سلامة: 213 - 214
2- المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها، عبد الله الطيب: ج 2: 147
3- قضايا الشعر المعاصر، نازك الملائكة : 242
4- الأفكار والأسلوب، أ. ف تيشترين، ترجمة د. حياة شرارة: 45

المبحث الأول: أسلوبية التراكم الصوتي

1. تكرار الصوت المفرد

أ) الصورة العليا للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

قال الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام) بحق النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم : «اِخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَهِ اَلْأَنْبِیَاءِ- وَ مِشْکَاهِ اَلضِّیَاءِ وَ ذُؤَابَهِ اَلْعَلْیَاءِ- وَ سُرَّهِ اَلْبَطْحَاءِ وَ مَصَابِیحِ اَلظُّلْمَهِ- وَ یَنَابِیعِ اَلْحِکْمَهِ»(1) .

اختار المبدع من الأصوات ما بثّه في النص ليضفي عليه تطريبا ونغما من أول كلمة في النص (اخْتَارهُ) فقد تألفت أصواتها لتكون على وزن (مُسْتَفْعِلُنْ) وهي تفعيلة لها وقع مؤثر في نفس المتلقي وقد تتميز بغنائية مع تفعيلات أخرى،(2) وجميع مفردات النص جاءت أصواتها بأسلوب صوتي وافق دلالاتها ذات الأجواء البهيجة بهذا الاختيار النبوي من شجرة هي بعمومها جاءت بالخير والسعادة لكل إنسان (شجرة الأنبياء) فكيف والاختيار منها هو خير تها؟ فتناغم الصوت في المفردة مع المعنى والاستعارات التي اختارها المبدع العظيم لتشكل

ص: 32


1- نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح : الخطبة 107
2- ظ: الجديد في العروض، علي حميد خضير: 109

صورة عظيمة أضفت عليها شخصية النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم تلك العظمة.

مفتاح هذا النص ورأس هرم أصواته هو صوت الهمزة، حيث مقطعها الأول ابتدأ بالهمزة وانتهى بها (اِخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَهِ اَلْأَنْبِیَاءِ) في الكلمة الأولى في أولها وفي الكلمة الأخيرة في آخرها، فانسدت فتحة الوترین الصوتيين لهذا الصوت وانطبقت انطباقا تاما، فلا يسمح للهواء بالمرور، تتلوها مرحلة انفراج وهذا الصوت - الهمزة - له خصوصية خاصة في نطقه قد اختُلِفَ فيها كما اختُلِفَ في النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم بعد انطباق الأبواب عن الإتيان بنبي بعده إلا بانفراجها عن الإمامة لتكتمل إرادة الله في الصورة النبوية بمرحلتين فبالإمامة كمُل دور النبي الأكرم وتم الدين وهذا على أصح الآراء والتفاسير (1) ، كما الهمزة على أصح الآراء تخرج بمرحلتين لا تكتمل إلا بهما ولا تتم إلا بلحاظ الاثنين معا، (2) وظل جرْس الهمزة هو الخاتم لنهايات المقاطع (الأنبياء، الضياء، العلياء، البطحاء) كما ظل صوت النبي الأعظم صلى الله عليه و آله وسلم خاتما لنهاية الأنبياء ممتدا إلى آخر الدهر بصوته وصورته التي رأتها العيون والأبصار في زمانه وأبصرتها قلوب الإيمان وأحبتها نفوس المحبين بعده بالصورة العظيمة التي رسمها أعظم مبدع بعده بأسلوب صوتي وغير صوتي، فمع أن صوت الهمزة يحتاج إلى جهد عضلي كبير وقد يكون من أشق الحروف وأعسرها نطقا وربما فيه من الصفات

ص: 33


1- ظ: الميزان في تفسير القرآن، العلامة محمد حسين الطباطبائي: ج 5: 194، ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِینَکُمْ... [المائدة/3]
2- ظ. علم الأصوات: 288 - 293 خلاصة الآراء في الهمزة

السلبية ما لا يوجد في غيره من الأصوات، (1) كل ذلك والمرسل قد أطلقها لما فيها من احتياج لرفع الصوت الذي بدوره يعطي الشموخ والرفعة وهو معنی وافق الشموخ الذي عليه صورة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم التي جاءت بأعلى أسلوب ظل ممتدا من وقت المرسل إلى يومنا هذا امتدادا مؤثرا في نفس المتلقي (القارئ) ولعله كما كان عند السامع وحسب قدرة القارئ للخطاب، «فمن الثابت أن استمتاع المرء بما يقرأ مرهون بقدرته على تخيل ما يقرأ وما يرى ويسمع وعلى الصورة التي ينتزعها بنفسه (2) ».

ومع كل ما ذكر عن صوت الهمزة إلا أنه قد جاء فيها من التسهيل مالم يجي في غيرها من الحروف (3) ، ولعل هذا هو الجانب الذي يوظفه المبدع في أسلوبه الذي هو غير المعايير اللغوية الصوتية التي ذكرناها آنفا أي التوجيه الأسلوبي في صياغة الخطاب الذي ينفرد به المرسل فيتميز بها خطابه، ولاسيما ما يمكن أن يناسب الأسلوب الذي فيه مدح من خلال رسم الصورة النبوية والذي ظل ممتدا إلى يومنا هذا الامتداد الجميل الذي يعطي السعادة للدنيا امتدت به حروف المد المكررة في جميع كلمات النص تقريبا فالعلاقة الدلالية في أسلوب الأصوات المدية معززة أيضا بأصوات لها قيمة تنغيمية كحرف الحاء الذي لم يرد في المقاطع الثلاثة الأولى وجاء في المقاطع الثلاثة الأخيرة من النص بمعدل مرة

ص: 34


1- ظ: موسيقى الشعر، د. إبراهيم أنيس: 26
2- الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية د. مجيد عبد الحميد ناجي: 153
3- ظ: الموضح، القرطبي : 123، وأثر القراءات في الأصوات والنحو العربي (أبو عمر بن العلاء )، د. عبد الصبور شاهين: 108-112

واحدة في كل مقطع والحاء مع كونها مهموسة إلا أن لها حفيفا مسموعا مدرکا مصدره الحلق وقد ناسب بجرسه أن يكون ختاما للفقرة متناسقا مع الهمزة في كونهما حلقيين (1) ، ولعل الذوق هو أهم العوامل في الحكم على جمالية الصوت الأن علم الصوت وحده قد لا يكفي لتفسير العلاقات الصوتية، (2) فنرى أن الصوت يجري في اللسان ليعلن النص بكل انسيابية جميلة وأن الهمزة بجرسها المتميز أتت في أحد المقاطع في كلمة واحدة فقط ليست هي حرف القافية، أو الروي المقطعي في النص (ذُؤَابَةِ) معلنة أنها، من أرقى الأصوات وأعلاها درجة في الجهد لأنها تدلت في الخروج من أقصى الحلق بل سابقة له(3) ، وهو ما دلت عليه (ذؤابة)(4) عند تدليها من شعر الرأس وهي المشار بها إلى قريش لتدليهم في أغصان الشرف والعلو عن آبائهم كالذؤابة .(5)

جميع أصوات اللغة جاءت في هذا النص القصير إلا النزر اليسير (الثاء والدال والزاي والغين والفاء والقاف) لأن بعض هذه الأصوات لو جاء مع أصوات النص لدل على الضعف أو الهوان وهو ما لا يناسب المقام، (فالفاء) لو جاءت مثلا بدلا من قوله (مِنْ شَجَرِةَ) (من فرع الأنبياء) لأثر صوتها مع الراء في الضعف لأن

ص: 35


1- ظ: الأصوات اللغوية، د. إبراهيم أنيس: 76 - 77
2- ظ. أسلوبية البناء الشعري ، د. سامي علي جبار: 19
3- ظ. علم الأصوات، د. كمال بشر: 292
4- ذُؤَابَهٍ وهی الشَّعرُ المضْفُور من شَعر الرَّأس وذُؤابهُ الجبَل أعْلاهُ ثمّ استُعِیرَ للعِزّ والشَرَفِ لسان العرب: ج 1: 379(ذأب )
5- ظ: شرح نهج البلاغة، كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني، م

الفرع ليس فيه قوة، (1) وأصوات مثل (الجيم والخاء والصاد والضاد والطاء والظاء والقاف) هي أصوات تناسب المعاني العنيفة وتعطي بأصواتها إذا تكررت بكثرة القوة والعنف الذي لا يحسه المتلقي مع غيرها، وربما لهذا نرى هذه الأصوات لم ترد في النص وإن ورد بعضها فمرة واحدة فقط، ومع أن الاختيار قد يصعب بسبب التغيير بألفاظ اللغة واحتياج المتكلم لدلالة معينة، (2) إلا أن المبدع قد حققها في هذا النص على أكمل وجه دلالي وأتم أسلوب.

ب) الصورة المشتركة مع الأنبياء

فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِی أفْضَلِ مُستَودَعٍ - و أقَرَّهُمْ فِی خَیْرِ مُسْتَقَرّ - تَنَاسَخَتهُمْ کَرَائِمُ الأَّصْلَابِ إِلَی مُطَهَّرَاتِ الأرْحَامِ - کُلَّمَا مَضَی مِنْهُمْ سَلَفٌ - قَامَ مِنْهُمْ بدِینِ اللّهِ خَلَفٌ ... حَتَّی أفْضَتْ کَرامَهُ اللّهِ سُبْحَانَهُ و تَعَالَی إلَی مُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله وسلم - فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً - و أَعَزِّ الْأَرُومَاتِ مَغْرِساً - مِنَ الشّجَرَةِ الَّتِی صَدَعَ مِنْهَا أنْبِیَاءَهُ - و انْتَجَبَ مِنْهَا اُمَناءَهُ»(3) . استودع الله - تعالى - الأنبياء في أفضل مستودع وصورهم أمير المؤمنين بأفضل أسلوب إذ الحديث عن أنبياء الله جميعا. وبعده يفضي إلى خاتمهم، حقا إن في هذا البيان لسحرا فقد اظهر المقصود بأبلغ لفظ و أحسن الأصوات ترکیبا يصرف بها قلب السامع إلى حب من يصف وإن لم يعرفه من قبل،(4) بموسيقاه الشعرية وما فيه من شمائل قرآنية ؛ لأنه خطاب من

ص: 36


1- ظ: علم الأصوات النطقي دراسات وصفية تطبيقية، أ. د. هادي نهر: 50
2- ظ : موسيقى الشعر: 43
3- نهج البلاغة : 94
4- ظ: النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير : ج 1: 174

تتلمذ على يد القرآن وتربي في حجر النبوة، فالموسيقى الشعرية لأنه جاء على وزن المتدارك في مفتتحه:

(فَعْلُنْ فَعْلُنْ فَعْلُنْ فَعْلُنْ - فَعْلُنْ/ فَعْلُنْ/ فَعْلُنْ / فَعْلُن)

(فَسْتَوْ/ دَعَهم فيْأَفْ / ضَلِمُسْ - تَوْدَعْ / وَأقرْ / رَهُمُوْ /فِيْخَيْ)

وهو ما أعطى أول مفاجأة للذائقة السمعية شدتْ ذهن السامع؛ لأن المتلقي بطبعه متذوق للموسيقى الشعرية والمرسل عارف ومتمكن منها، وأما الشمائل القرآنية فلأنه بنفس ما افتتحت به سورة الكوثر المباركة، 1(1) وهي مما امتن الله - تعالی - به على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم بإعطائه الكوثر (2) . وما يثير المتلقي أن الأجواء الكوثرية تحيل الذهن إلى حادثة عدو الله العاص بن وائل (3) ، وما تبعها من إيحاء الله - تعالى - إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم فأناله نهاية سؤله من إجلال محله وإعلاء كعبه وإعطائه أقصى ما يؤمله عند ربه(4) ، وكأن الأسلوب يرسم صورة النبي الأكرم حتى في حال الحديث عن الأنبياء مشتركين لأنهم كملوا بالنبي الأكرم وبه تمت رسالتهم، كما أن الأسلوب بأصواته ووزنه المفتتح بهذه الكيفية الكوثرية يريد مبدعه القول أنه مع بلاغته وقدرته على رسم الصورة النبوية الكريمة بأحسن ما يمكن إلا أنه يستعين ب-«نَاطِقٌ لا يَعْیَا

ص: 37


1- ظ: موسيقى الشعر: 309، والجديد في العروض: 68
2- ظ: الميزان في تفسير القرآن : ج 370:20
3- العاص بن وائل السهمي، والد عمرو بن العاص صاحب معاوية، وكان من المستهزئين، وهو القائل لما مات القاسم ابن النبي ، صلى الله عليه وسلم: إن محمدا أبتر لا يعيش له ولد ذكر، فأنزل: (إنّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ ) الكوثر: 3 ينظر: الكامل في التاريخ، ابن الأثير: ج 2: 72
4- ظ: إعجاز سورة الكوثر، تحقيق حامد الخفاف، الزمخشري : 55

لِسَانُهُ»(1) بما هو أعلى منه بيانا - ليعطي الصورة النبوية حقها - وهو كلام الخالق؛ الأن سورة الكوثر «ثلاث آیات قصار جمع فيها ما لم يكن ليجتمع لأحد من فرسان الكلام...»(2) .

فهو أداء شعري في أسلوب خاص وموسيقية خاصة تساعد كثيرا على تحقيق الغاية من الخطاب لرسم الصورة النبوية العظيمة وذلك بإثارة العواطف والانفعالات في نفس المتلقي والتأثير فيه، لأنه إذا كان ينظر للشعر بمنظار خاص لما يعطيه بوزنه وأصواته الموزونة من دلالات فقد يكون الكثير من الشعر لفقده الإثارة والتأثر وعدم إعطائه الدلالة الواسعة ليس من الشعر في شيء وقد يكون الكلام المنسجم غير الموزون في الكثير من الأحيان أنسب للشعر. (3)

واختارهم الله - تعالى - من منتهى الرفعة وطرفها الأعلى فهذه صورة الأنبياء (عليهم السلام) ومنهم نبينا محمد صلى الله عليه و آله وسلم فاختار المبدع عليه السلام عباراتٍ وأصواتا نشرها في ثنايا النص تخرج من منتهی طرف اللسان؛ لأن أسل الشيء هو منتهي طرفه وهذه الحروف (السين والصاد) من الحروف الأسلية (فاستودعهم) ثم (مستودع) ثم (مستقر) ثم ( تناسختهم) فالأصلاب و (سلف) والملاحظ أن الحالة التي استبدل فيها التوزيع المنتظم لهذا الصوت (السين) جاءت (الصاد) بدلا عنه في كلمة (الْأَصْلَابِ)، والصاد «يشبه السين في كل شيء سوى أن الصاد احد أصوات الإطباق فعند النطق بالصاد يتخذ اللسان

ص: 38


1- نهج البلاغة : 133
2- إعجاز سورة الكوثر: 55
3- ظ: قضايا النقد الأدبي، د. بدوي طبانة : 197 - 198

وضعا مخالفا لوضعه مع السين»(1) وكلمة (الْأَصْلَابِ) تحتوي الصاد لما في دلالة الأصلاب من تواشج في خروج هذا الصوت من بين الثنايا العليا وطرف اللسان مع انفراج ما بين الفكين(2) ، وكذا تنفرج الأصلاب بل کرائم الأصلاب ليخرج الأنبياء إلى مطهرات الأرحام، واختيار الصاد في كلمة (الأصلاب) مع أن التوزيع كان الصوت (السين) ولم يسبق ذكر صوت (الصاد) في كلمات النص قبل (الأصلاب).

ومثّل تبادل السين والصاد الأدوار ما مثّله الأنبياء من تبادل الأدوار فهم سلف الخلف وجميعهم أخوة ويفرق بينهم فخامة الصورة لخاتمهم ورقتها من بعضم وكذلك ف-«إن السين والصاد أختان ويفرق بينهما ترقيق الأولى وتفخيم الثانية»(3) والنبي الأكرم متميز الصورة في خروجه، ولعله ممثل في الصاد المتميز في خروجه ووضع اللسان عن بقية الحروف الصفيرية (السين والصاد والزاي)(4) وهو ما لا يحتاج لعناء كبير سوى النطق بهذه الأصوات الثلاثة وبتأمل بسيط يتضح الفرق، ولم يذكر صوت الصاد بعد ذلك في أي كلمة في النص إلا بعد عدة كلمات وهي في كلمات معدودة جدا قياسا إلى بقية الأصوات الأخرى سواء الأسلية(5) أو بقية الأصوات اللغوية فجاءت بعد (الأصلاب) في كلمات توحي باختيارها بدقة لما في أصواتها من ربط واضح في المعاني التي ترتبط

ص: 39


1- الأصوات اللغوية : 68
2- ظ : الوسيط في أحكام التجويد ، د. محمد خالد منصور: 204-205
3- دراسة الصوت اللغوي، د. احمد مختار عمر: 316
4- ظ، علم الأصوات: 301-302، والأصوات اللغوية : 68
5- يؤثر الدكتور إبراهيم أنيس تسميتها (الأصوات الأسلية ) ولا يعترض على التسميات الأخرى المشهورة، ينظر: الأصوات اللغوية : 66

ب-(الأصلاب) إذ جاء صوت (الصاد) في (صدع)، والصدع الانفراج في الشيء، (1) وقد انصدعت الأصلاب عن خير الخلق وهم الأنبياء، وعندما عادت الإشارة إلى أول النص وقول المبدع عليه السلام فقد ابتدأ ب- (فاستودعهم) نصفها الأول (استو) وزنها وزن (سلفٌ) وهي الكلمة المشار بها إلى شطر من عامة الذين (استودعهم) والكلمة التي اختيرت لمجانسة (سلف) هي (خلفٌ) على وزنها أيضا، وتمثل النصف المتبقي ل-(استودعهم) (دعهم) لربط أول العبارة المتعلقة بالأنبياء عامة بآخرها؛ ليبدأ بصورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وبما فضل الله بعضهم على بعض «مِّنْهُم مَّنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ » [البقرة/203] ، فبدأ العبارة التي ابتدأ بها بتفضيل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بنفس الوزن الذي بدأ به مع الصورة العامة وأكمل ما يخص النبي الأكرم إذ بدأ (حَتَّى أَفْضَتْ) (فعْلنْ) (فعْلنْ) كأنَّ هاتين الكلمتين (سلف) و(خلف) هما الكلمة الأولى (استودعهم) وشطرت نصفين وانتهى الموضوع العام في الخطاب، وهو صورة الأنبياء عامة، وأن هذه الصورة التي هم عليها قد بلغها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بل «بلغت بوجوده الشريف سلسلة النبوة والرسالة الغاية»(2) ، وما يثير انتباه المتلقي ويدل على انتقاء هذه الأصوات وتوزيعها توزیعا روعي فيه شعور المتلقي أن (السين والصاد) من أصوات الصفير العالية الجرس،(3) وتكرارها بغير عناية یُشْعر بالثقل لدى المتلقي وهو ما لا يناسب الحالة الشعورية التي تراد

ص: 40


1- ظ: معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس، (صدع): م2 : 35
2- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب الله الخوئي: ج 7: 103
3- ظ: الأصوات اللغوية : 66

للمتلقي تجاه صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ، وقد روعي مثل هذا التوزيع لهذه الأصوات في نص آخر يصور النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم بأسلوب المبدع نفسه «خَصَّصْتَ حَتَّی صِرْتَ مُسَلِّیاً عَمَّنْ سِوَاك - وَ عَمَّمْتَ حَتَّی صَارَ اَلنَّاسُ فِیك سَوَاءً»(1) فقد اكسب الأسلوب الخطاب تنغیما يثير شجون المتلقي مع أن الصاد تكررت في أول لفظ لكنها كأنما تبِطّئ النطق برخاوتها وهمسها؛ (2) لجلب انتباه السامع ثم يبدأ المطلوب، وقد خفف حدة التكرار همس التاء وفصلت (حتى) التي فيها صوت المد الألف بين الصادين في (خَصَّصْتَ) والصاد في (صِرْتَ) وتوزعت بعدها حروف السين والصاد على مفردات النص دون الشعور بأي نفور من ثقل هذين الصوتين، بل العكس هو الصحيح لِمَاْ مازجها من أصوات أخرى لها من النغم الحزين الذي يناسب مقام الصورة النبوية لحظة الوداع (3) ، كصوت العين في (عَمَّنْ)، (عَمَّمْتَ) فالعين في الرثاء له قابلية التكثيف العاطفي الحزين يساعده الصفة الصوتية الخاصة به الخروجه من وسط الحلق وقرعه الخاص على الأذن (4) ، ويسانده في المقام ورود صوت الميم معه في اللفظين ليعطي غنة بعذوبة (5) محزونة لحب صاحب الصورة وكون الحزن عليه معينا على فقده ناسب وقعها التأثير في شعور المتلقي لرسم صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم المفقود والمحزون عليه وهو الشعور

ص: 41


1- نهج البلاغة : 235
2- ظ: الأصوات اللغوية: 68
3- ظ: شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد : ج 13 : 24 - 25
4- ظ: الشعر الجاهلي، د. محمد النويهي: ج 1: 101
5- ظ : الوسيط في أحكام التجويد : 221

الذي ينتاب المبدع وأراد نقله إلى شعور المتلقي فقلب المبدع يقول: «بِأَبِی أَنْتَ وَأُمِّی یَا رَسُولَ اللّه - لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوتِكَ مَا لَمْ یَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَیْرِكَ - مِنَ النُّبُوَّهِ وَالْإنْبَاءِ وَأَخْبَارِ السَّمَاءِ- خَصَّصْتَ حَتَّی صِرْتَ مُسَلِّیاً عَمَّنْ سِوَاكَ- وَعَمَّمْتَ حَتَّی صَارَ النَّاسُ فِیک سَوَاءً- وَلَوْ لَا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ وَنَهَیْتَ عَنِ الْجَزَعِ- لأَنْفَدْنَا عَلَیْكَ مَاءَ الشُّؤُونِ - وَلَکَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلاً وَالْکَمَدُ مُحَالِفاً- وَقَلَّا لَكَ وَلَکِنَّهُ مَا لاَ یُمْلَكُ رَدُّهُ- وَلَا یُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ- بِأَبِی أَنْتَ وَأُمِّی اذْکُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ- وَاجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ»(1) . ولنبقى في الحديث مع الصفير في صوتي السين والصاد وتوزيعهما في نص المبدع في رسم الصورة النبوية؛ لنجلي بعض الشك إن وجد في التوزيع الصوتي ودقته في هذين الصوتين (السين والصاد) لا لعدم وجود أصوات غيرها في النصوص المختارة بهذا التناسق والدقة في الاختيار، بل نوحد المثال في صوتي السين والصاد ليتضح المطلوب بجلاء أكثر وليكون في النفس آكد وهو غيض من فيض مانهج عليه النهج «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلی الله علیه وآله - وَ لَیْسَ أَحَدٌ مِنَ اَلْعَرَبِ یَقْرَأُ کِتَاباً - وَ لاَ یَدَّعِی نُبُوَّهً وَ لاَ وَحْیاً - فَقَاتَلَ بِمَنْ أَطَاعَهُ مَنْ عَصَاهُ - یَسُوقُهُمْ إِلَی مَنْجَاتِهِمْ - وَ یُبَادِرُ بِهِمُ اَلسَّاعَهَ أَنْ تَنْزِلَ بِهِمْ - یَحْسِرُ اَلْحَسِیرُ وَ یَقِفُ اَلْکَسِیرُ - فَیُقِیمُ عَلَیْهِ حَتَّی یُلْحِقَهُ غَایَتَهُ - إِلاَّ هَالِکاً لاَ خَیْرَ فِیهِ حَتَّی أَرَاهُمْ مَنْجَاتَهُمْ - وَ بَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ - فَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمْ - وَ اِسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ - وَ اَیْمُ اَللَّهِ لَقَدْ کُنْتُ مِنْ سَاقَتِهَا - حَتَّی تَوَلَّتْ بِحَذَافِیرِهَا- وَ اِسْتَوْسَقَتْ فِی قِیَادِهَا - مَا ضَعُفْتُ وَ لاَ جَبُنْتُ - وَ لاَ

ص: 42


1- نهج البلاغة : 235

خُنْتُ وَ لاَ وَهَنْتُ - وَ اَیْمُ اَللَّهِ لَأَبْقُرَنَّ اَلْبَاطِلَ - حَتَّی أُخْرِجَ اَلْحَقَّ مِنْ خَاصِرَتِهِ»(1) . نرى أن صوت الصاد لم يأت إلا في (عَصَاهُ / خَاصِرَتِهِ) والعاصي هو من يُخْرَجُ الحق من خاصرته؛ لأنه من الباطل الذي يبقره الإمام عليه السلام (المبدع) فالربط الدلالي بين أصوات اللفظين واضح إذ التناسق في مجيء الصاد في اللفظين ولم يأت إلا فيهما وبلغ الأسلوب في تمثيله وأصواته غاية اللطف (2) ، وتوزع صوت السين على جميع مفردات النص من أوله إلى آخره دون تقاطع مع صوت الصاد في لفظ واحد أو لفظين متتاليين (سُبْحَانَهُ / لَیْسَ / اِسْتَوْسَقَتْ / اَلسَّاعَهَ / یَحْسِرُ / اَلْحَسِیرُ / اَلْکَسِیرُ / فَاسْتَدَارَتْ / فَاسْتَدَارَتْ / سَاقَتِهَا / يَسُوقُهُمْ) وقد ذكرنا إن توحيد المثال في صوت السين والصاد ليتضح الغرض وإلا ففي النهج والنصوص المختارة في البحث بل في هذا النص الأخير لغير ما ذكر من الأصوات ما يثبت التوزيع الصوتي والاختيار الدقيق للأصوات والتماسك الأسلوبي بين المعنى والصوت كما لاحظنا بين (عَصَاهُ) و (خَاصِرِتَه).

والشيء المهم في هذا وما يود الباحث الإشارة إليه عند القول بانتقاء الأصوات أو توزيعها فإنه لا يرتجي من القارئ أن يتصور أن المبدع يكتب النص ثم يحذف ويعدل ويغير وينتقي هذا الصوت بدلا من ذاك، كما نفعل في الرسائل الجامعية مثلا، بل الانتقاء الذي نقصده هو ما تنتجه فطرة المبدع الذوقية والموسيقية الطبعة الانسيابية على لسانه فليس في زمانه مما ذكرنا من التغيير

ص: 43


1- نهج البلاغة: 104
2- ظ: نهج البلاغة، محمد عبدة : 199 حاشية 1 و 2

والتبديل عند المبدعين أمثاله، فضلا عن كون المبدع ممن فضلهم الله بالعلم وأكرمهم بالفهم، و كلامه سجية تجري ودلالته مع النص تسري، فهو انتقاء من الإبداع الحضوري واختيار من المتعدد البدهي - لأن علم الإمام عليه السلام حاضر والبديهة عنده في أعلى درجة -، وهو ما يعد مثيرا آخر وإمتاعا وتشويقا في الأسلوب الفريد وهو ما ينقل الصورة من نفس المرسل بشعوره الذي يشعره للمتلقي ويجعله متأثرا بدرجة شعور المبدع وهو ما تبحث عنه الأسلوبية في كل نص فريد.

والنص في عمومه قائم على رسم صورة النبي الأكرم بطريقة التحول التي تتنامی(1) بشكل متسلسل من بدء الصورة المشتركة مع الأنبياء من المستودعات الفضلي إلى المستقرات الخيرة، ثم کرائم الأصلاب لتستقر في الأرحام المطهرة ؛ لأن المآل من هذا التسلسل الأسلوبي هو جوهر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وهذا الجوهر «کُلَّمَا نَسَخَ اَللَّهُ اَلْخَلْقَ فِرْقَتَیْنِ جَعَلَهُ فِی خَیْرِهِمَا - لَمْ یُسْهِمْ فِیهِ عَاهِرٌ وَ لاَ ضَرَبَ فِیهِ فَاجِرٌ»(2) وهذا التسلسل و تکرار نقل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم في الأصلاب والأرحام مثله تکرار صوت الراء الذي يحمل الصفة التكرارية ليعطي دلالة الاستمرار في الاستيداع المفضل والاستقرار في خير المقرات التي تعطي الصورة المثلى للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وبالتكرار تستمر الحياة الرسالية، والصورة النبوية تبقی شاخصة العيان لدى المتلقي الحاضر والغائب، ويهتز لها شعور المتلقي في أي آنٍ من

ص: 44


1- ظ: جدلية الخفاء والتجلي، د. كمال أبو ديب: 232
2- نهج البلاغة : 216

الأوان يهتز بتواشج مع الاهتزاز النغمي والجميل الذي يحدثه صوتا الراء والميم الورودهما في ألفاظ مشتركة بشكل مميز إذ ورد حرف الراء ما يقرب من إحدى عشرة مرة ورد معه فيها صوت الميم في اللفظ نفسه سبع مرات. وقريبا منه في لفظ آخر ثلاث مرات؛ لأنهما وردا في (أَقَرَّهُمْ / خَيْرِ مُسْتَقَرٌّ کَرَائِمُ / مُطَهَّرَاتِ / الأَرْحَامِ / كَرَامَةُ / فَأَخْرَجَهُ مِنْ / الأَرُومَاتِ / مَغْرِساً / مِنَ الشَّجَرَةِ) فهما بتعاقبهما يحدثان اهتزازات نغمية تنتهي آثارها بهدوء الحركة في رجوع صداها الذي يرتسم في شعور المتلقي صورة عليا وعظمة مثلى للنبوة الكريمة.

ج) الصورة النبوية الخاصة

مهدت أصوات النص السابق - «فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِی أَفْضَلِ مُسْتَوْدَعٍ -... حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله وسلم - فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً .. وَ انْتَخَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ»(1) - بأدائها ومضمونها. وفي أول مطلعها وآخره لصورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم التي اشترك بها معه سائر الأنبياء (عليهم السلام) وانطلق النص مع مبدعه لإكمال بقية أجزاء الصورة العظيمة بعد شد المتلقي بأصواتها المنتظمة والموزعة توزيعا يضفي في فرادته جوا من الإثارة للتفكر بالمعنی و تسلسله الصوتي والدلالي؛ لإقناع المتلقي بتوزيع صوت السين والفاء في الكلمة الأولى وفي آخر المطلع المشترك وهو صوت السجع في الختام المشطور. الفاء - (سلف) و (خلف) فهو مزية واضحة بصوته

ص: 45


1- نهج البلاغة : 94

وصفته الهمسية الرخوة(1) الهادئة الجميلة التي ناسبت النهايات والاستيداع الأفضل للنبوة، الذي يلازم الهمس والهدوء في ظهوره؛ لأن الكنوز والجواهر الثمينة تودع بهمس وخفاء وهدوء وهو الشأن الذي رافق الأنبياء حيث الخفاء في الأرحام والظهور غير المتوقع والهدوء الخفي على الناس كما في نبي الله موسى وعيسی (عليهما السلام) من قصتهما المعروفة من حيث لا يتوقع الناس، ظل هذا مع الأنبياء من أولهم إلى آخرهم فهم أفضل كنوز الله وخير خلقه لذا ابتدأ المبدع العظيم الصورة العظيمة واختتمها بأصوات ناسب همسها المعنى وأثار صوتها نفس المطمئن المؤمن بالأنبياء ليكون ختام الأنبياء قبل مجيء النبي الأعظم محمد صلی الله عليه و آله وسلم بصورة هي جزء من صورته، إلا أنه كان آخر صلب ضمه هو إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)،(2) ( إذ مد الصوت به وبنفس الهدوء والخفاء من صوتي الحاء والتاء فصوتهما يقول للمتلقي الكرامة نفسها والفضل ذاته مع الصورة الأولى قد امتد إلى الصورة المحمدية العظيمة ولأنه ذات الهمس الذي يجري به أمر الله - تعالى - قرنه الباث بصوتين يجري بهما النفس وليس من قوة ضغط تؤثر عليهما، (3) وتبعهما صوت لا مكان له محدد في الفم، بل هو حر في أماكن الفم بنطقه بحرية تامة ليعلن هذا الصوت ألا حدود لكرامة الله في عظمة الصورة المنشودة كما لا مكان محدد لنبوة صاحب الصورة بل تمتد امتدادا طويلا، فامتد بها صوت المد بعد هدوء وسكينة وهو معنی ناسبه الصوت تماما،

ص: 46


1- ظ: الأصوات اللغوية: 44
2- ظ : منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة : ج 7: 105
3- ظ : المدخل إلى علم أصوات العربية، د. غانم قدوري الحمد: 102 - 108

وحسب المتلقي إثارة وتأثيرا وتأثرا من أول قدحة صوتية يقدحها المبدع بإبداعه الرسم صورة نبي يمتد ذكره إلى آخر الدهر، ولأن هذا المستودع والاستيداع هو أحسن شيء وعلى أحسن وجه احتاجا إلى صوت يحسن ألفاظهما فاختار المبدع صوتا من صوتين في اللغة «لا يدخلان في بناء إلا حسنتاه لأنهما أطلق الحروف وأضخمها جرْسا» (1) هما (العين والقاف) فجاءت (العين) في (استودع) و (مستودع ليعلنا بجرسهما عن ضخامة الصورة النبوية للأنبياء وبعد تصورها في العموم يأتي الخصوص لصورة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وهذا الصوت (العين) امتنع عن الورود مع أصوات النص الأخرى ولم يأت إلا مع الأصوات التي تحتاج إلى تحسين، أو تمت بصلة المحبين إلى (الاستيداع) (فَاسْتَوْدَعهُمْ) الذي يشمل عدة معادن مع فضله وحسنه في دلالته وصوته المحسن ب- (العين) فيه أفضل المعادن الذي أخرج منه النبي العظيم بصورته الحسنة التي دل عليها حسن اللفظ المختار بأجمل صوت إذ الميم بغنتها طربا و فرحا بقدوم أجمل الصور والعين حيث حسن الصورة الممدود بدلالة حرف المد التالي لصوت العين، إذ ينبئ هذا الصوت (الألف) با تساع مخرجه وامتداد الهواء حتى ينفد(2) عن السعة في أفق هذه الصورة وسعة أمرها ونفاد جميع الصور النبوية بعدها - ينبئ - أن هذه الصورة الحسنة بدلالة صوت (العين) خرجت من وسط العرب بالجهر المعروف لرسالتها بعد الخفاء فهو من وسطكم كما توسط حرف العين الحلق(3) ،

ص: 47


1- العين: ج 1: 13 و 53
2- ظ: علم الأصوات: 217، 434-435، ودراسة الصوت اللغوي: 345
3- ظ: الوسيط في أحكام التجويد : 201

«لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ » [التوبة/128] يتصف بالبينية بين الشدة والرخاوة ليس بالمتراخي عن دعوته الحق ولم يكن شديدا على الناس وهذا ما اتصف به صوت العين الذي لازال يوحي بدلالات هذه الصوة ويتواشج مع ترکیبها، فباستقالته أشار إلى تواضع النبي العظيم وبانفتاحه لانفتاح هذه الشخصية العظيمة على الجميع وبإصماته على أن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم (صمته لسان)(1) .

كل هذه الصورة امتدت بأوسع الآفاق ولم تتحدد بمكان بما أعطاه حرف المد (الألف) إذ أكد أن كل هذه الدلالات ممتدة بما حواه هذا الصوت (الألف) من صفات(2) اتحدت مع العين بجهرها وانفتاحها وإصماتها و تنفرد عنها بالخروج من الجوف لتعلن أن الإيمان بهذه الصورة مكانه أعماق الإنسان، هذا اللفظ (الْمَعَادِنِ) بجميع أصواته يعلن أن هذه الصورة من وسط العرب حيث توسط صوت الألف صوتي الميم والنون وهما من الحروف التي لا تخلو منها كلمة عربية؛ لأنهما من حروف الذلاقة، (3) فالراجح أن ترتيب الأصوات يشير إلى ترتيب المعنى وأنه أضاف الترتيب إلى اختيار الأصوات المعبر عنها بالحدث تقدیما و تأخیرا وتوسيطا وهو ما لا بدعة فيه في طبيعة العلاقة بين جرْس الكلمة والمعنى الذي يؤدي بها(4) ، في رسم الصورة في الخطاب، فهي صورة عربية على

ص: 48


1- نهج البلاغة: 96
2- ظ: علم الأصوات: 217، و 434-435
3- ظ: المدارس الصوتية عند العرب، د. علاء جبر محمد : 115، والأصوات اللغوية : 58 وبعدها
4- ظ: علم الدلالة التطبيقي، د. هادي نهر: 49 و53

الرغم من أن العرب كانوا أمة مضطربة الأحوال شديدة المراس انحبست نفوسهم على الشر وأصواتهم على دعوات القتال وهو ما أعلنه صوت (الدال) بقلقلته (1) ، وتكرر صوت العين في (صدع) إذ شق الشجرة وهو شيء فيه من الصلابة والصَلِب في الغالب لیس بالحسن فجاء صوت العين ليعطيه الحسن المناسب؛ لأنه انتخاب لأنبيائه الأمناء ليكون الربط واضحا في الدلالة لجرْسيّة هذا اللفظ، إذ إن أسلوب الإمام عليه السلام جاء بالألفاظ التي تحتوي على قيمة ذاتية لها القدرة على إعطاء المتعة الحسية التي يجدها المتلقي مستمعا أو قارئا أو مرددا وهي متعة أتاحتها الأصوات السالفة في هذه الألفاظ من تتابع أجراسها و توالي الأصوات التي تتألف منها في الخطاب الذي صدر من الإمام عليه السلام. إذ يتضح أنه وقع على الأسماع محدثا من التلاؤم والموسيقية العالية التي لها التأثير المثير، فقد جاء الأسلوب وقد أعطى لكل لفظ ما يحتاجه من وصف بليغ لابد منه فكان الكلام خفيفا على اللسان مقبولا في الآذان موافقا بصورته التي يرسمها للنبي الأكرم صلی الله عليه و آله وسلم لنفس المتلقي محدثا فيها أبلغ الأثر لأنه جاء مطابقا لطبيعة الفكرة و تركيب الصورة التي يعبر عنها المبدع عليه السلام لأن الصورة التي يرسمها الإمام بلوحته الخطابية من ناحية المزايا الصوتية التي فيها ليست «من المزايا التي يستهان بها في التعبير اللغوي وفي التعبير الأدبي بالذات لأن لذلك أثره المباشر في الإمتاع والإطراب وأثره في تحريك النفوس، وتهيئتها لقبول تأثير الصور والأفكار التي تتضمنها»(2) .

ص: 49


1- ظ: المدخل إلى علم أصوات العربية، د. غانم قدوري الحمد: 120 - 121
2- قضايا النقد الأدبي، د. بدوي طبانه: 148
د) الصورة في لوحة الواقع الاجتماعي

«ثُمَّ إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه و آله بِالْحَقِّ - حِینَ دَنَا مِنَ اَلدُّنْیَا اَلاِنْقِطَاعُ وَ أَقْبَلَ مِنَ اَلْآخِرَهِ اَلاِطِّلاَعُ وَ أَظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ إِشْرَاقٍ وَ قَامَتْ بِأَهْلِهَا عَلَی سَاقٍ - وَ خَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ وَ أَزِفَ مِنْهَا قِیَادٌ - فِی اِنْقِطَاعٍ مِنْ مُدَّتِهَا - وَ اِقْتِرَابٍ مِنْ أَشْرَاطِهَا - وَ تَصَرُّمٍ مِنْ أَهْلِهَا وَ اِنْفِصَامٍ مِنْ حَلْقَتِهَا - وَ اِنْتِشَارٍ مِنْ سَبَبِهَا وَ عَفَاءٍ مِنْ أَعْلاَمِهَا - وَ تَکَشُّفٍ مِنْ عَوْرَاتِهَا وَ قَصْرٍ مِنْ طُولِهَا - جَعَلَهُ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ بَلاَغاً لِرِسَالَتِهِ وَ کَرَامَهً لِأُمَّتِهِ - وَ رَبِیعاً لِأَهْلِ زَمَانِهِ وَ رِفْعَهً لِأَعْوَانِهِ وَ شَرَفاً لِأَنْصَارِه»(1) .

مازلنا مع رسم الصورة النبوية في أسلوبية الصوت المفرد و بیان صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم من بين صور الأنبياء، ونجد في النص المتقدم أسلوبا يعبر عنه: بیان شيء يراد بشيء لا يراد، ذُكِر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم في أول النص (محمداً) وفي آخره (جَعَلَهُ) بعود الضمير على أوله، وادخل الأسلوب مابين الذكرين صورة الواقع الاجتماعي وهو ما في ذاته لا يراد إلا لأجل اتضاح الصورة الأخرى بوساطته، فالمتلقي إذا تناسى أطراف النص یری انه لا يراد به صورة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن بعض الأشياء يتضح بضده، كالشمس تتضح بالليل مثلا أو الأبيض الناصع بالأسود الداكن، وحيث المقام عرض صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم من خلال الواقع الاجتماعي ذكر اسمه صریحا ليعلق في ذهن المتلقي أكثر حين يسير النص في وصف الواقع الاجتماعي وأنه في النص السابق ذكر لتمييزه من بين الأنبياء

ص: 50


1- نهج البلاغة : 198

(عليهم السلام) «حَتَّی أَفْضَتْ کَرَامَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالی إِلَی مُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله(1) وسلم فقال: «ثُمَّ إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه و آله بِالْحَقِّ» وكان بالإمكان ذكر النبي بما يميزه من بين الأنبياء بقوله مثلا (بعث خاتم النبيين) أو كنيته وغيرها، إلا أن الأسلوب التصويري بدقته یرید بیان الصورة بدقة للمتلقي؛ ليكون لتأثيرها عليه وتأثره بها حضورا أعمق، فبعد اختيار المخرج المبدئي (من شجرة الأنبياء وأفضل المعادن) كأنّ هذا النص يريد بيان الشيء الذي بعث به وأهميته في الواقع الاجتماعي المظلم لبيان الصورة المحمدية المشرقة بأجلی بیان؛ لأنها تمثل البياض الناصع في قبال سواد المجتمع الداكن - بحسب مثالنا السابق - صورة نبوية خرجت من أقصى درجات الكمال المادي والاجتماعي الخاص. احتاج النص لصوت يحاكي هذا الكمال فجاء صوت القاف الذي طغى جرْسه على ألفاظ الأخبار التي بها يتم الكلام في مقاطعة فمثل هذا الصوت مفتاح النص حيث تناغم مع ما بعث به النبي الأكرم (بِالحَقِ)، وأعلن بمخرجه من أقصى اللسان تواشجه مع دلالة الإخراجين المادي والاجتماعي للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ، وباستعلائه وما يحاذيه(2) مع صورة النبي الأكرم العليا من بين الأنبياء مع علوِّ صورهم كما حسن القاف لفظ الحق(3) مع حسنه وما له من قيمة تفخيمية(4) ، فهذا الصوت - القاف - ظل يطرق بجرسه في جميع

ص: 51


1- نهج البلاغة: 94
2- ظ: علم الأصوات: 385 - 387
3- العين: ج 1: 53
4- مناهج البحث في اللغة، د. تمام حسان: 126 - 125

مقاطع النص تقريبا (بِالْحَقِّ، الانْقِطَاعُ، أَقْبَلَ، إِشْرَاقٍ، قَامَتْ، سَاقٍ، قِيَادٌ - انْقِطَاعٍ، اِقْتِرَابٍ، حَلْقَتِهَا، قَصْرٍ) فاشبه صوت القاف في تركيز جرسه ما في (سورة ق) إذ جاء فيها بكثرة(1) حتى يصل النص إلى عوده على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم فينقطع جرس القاف كما كان منقطعا في أول النص وهي مزية أسلوبية أريجها قرآني حيث رد العجز على الصدر فأشبه المبدع بأسلوبه أسلوب القرآن في هذا(2) (إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً).. ثم وصل النص (جَعَلَهُ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ) فعاد بالضمير على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وذكر لفظ الجلالة لتأكيد العود وجعله على ذكر النبي كما عاد ذکر النبي في (سورة ق) حين كان التعجب من صورته الرسالية العظيمة (3) «بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ »[ق/2])، صوت لا يُعْلَمُ سرُهُ الكامل، فيه سميت سورة من القرآن وعطف عليه القرآن «ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ »[ق/1])، فيشعر المتلقي كأن أمرا عظيما يرافق هذا البعث وهو لا يخلو من الصورة الحسنة التي مثلها المبعوث الأكرم، وإصرار المبدع على اختيار الأصوات التي لا تدخل على لفظ إلا حسنته (القاف والعين) ليجعل أجراسها تذوب إمتاعا في سمع المتلقي، فأول النص (بَعَثَ مُحَمَّداً صلي الله عليه و آله بِالْحَقِ)

ص: 52


1- ورد صوت القاف 57 مرة في السورة ذات الآيات الخمس والأربعين
2- ظ: الآيات القرآنية المتعلقة بالرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أطروحة دكتوراه، عدنان الجميلي: 7
3- ظ: مجمع البيان، الطبرسي: ج 9: 235

صوت القاف في الحق ظل هو السائد في النص إلى حين عود النص على بدئه كما ذكرنا(جَعَلَهُ) بعود الضمير على (مُحَمَّداً) هیمن صوت العين في (جَعَلَهُ) بعد أن كان مرافقا لصوت القاف في النص مشتركا في مفردة واحدة أو منفردا في (الِاْنْقِطَاعُ، الِاطَّلَاعُ، انْقِطَاعُ، عَفَاءٍ، عَوْرَاتِهَا، أَعْلَامِهَا) وقد كثر صوت القاف في وسط النص حين الكلام عن الوضع الاجتماعي المضطرب والمتقلقل وهو ما ناسبه القاف في قلقلته، فهذه الصفة ينفرد بها القاف عن العين مع حسنهما ولأن الدلالة في وسط النص اختلفت عنها في آخره حيث الكرامة للمجتمع والربيع والرفعة لأعوانه وهي معان تخلو من القلقلة والاضطراب والاستعلاء على الآخرين فقلت الشدة والاستعلاء التي في القاف إلى الوسطية «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا» [البقرة/143]) والبينية والاستفال في العين حيث التواضع في صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وإصلاحه للمجتمع بعد الحال التي كان عليها فكان صوت العين بصفاته وحسنه أنسب صوت للدلالة في النص وكما خرج النبي من وسط ذلك المجتمع وصعوبة الأمر لولا عظمة الصورة النبوية فكذا خروج العين من وسط الحلق بصعوبته المعروفة - كما ذكرنا آنفا - هذا الصوت الذي اختص به نص أخر بوفرة أكثر من القاف لأنه لم يكن تصويرا للمجتمع بكل سلبياته بل مقارنة مباشرة من الوضع السيئ إلى الوضع الحسن و انتقال سريع إلى الدلالة التي ذكرناها في هذا النص. وقد ناسبت الدلالة صوت العين إذ اختلفت زاوية الصورة المراد بيانها للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فاختلف تکرار الصوت الحسن وصار التركيز على صوت العين المحسن للألفاظ

ص: 53

بدلا من القاف مع أنه صنوه في التحسين إلا في القلقلة والشدة والاستعلاء - كما سبق - مع أن البداية في النص الآخر تشبه كثيرا بداية النص الحالي إذ قال المبدع بحق النبي الأكرم: (فَبَعَثَ اَللَّهُ مُحَمَّداً صلی الله علیه وآله بِالْحَقِّ - لِیُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَهِ اَلْأَوْثَانِ إِلَی عِبَادَتِهِ - وَ مِنْ طَاعَهِ اَلشَّیْطَانِ إِلَی طَاعَتِهِ - بِقُرْآنٍ قَدْ بَیَّنَهُ وَ أَحْکَمَهُ - لِیَعْلَمَ اَلْعِبَادُ رَبَّهُمْ إِذْ جَهِلُوهُ - وَ لِیُقِرُّوا بِهِ بَعْدَ إِذْ جَحَدُوهُ - وَ لِیُثْبِتُوهُ بَعْدَ إِذْ أَنْکَرُوهُ -)، فهنا الصورة النبوية من خلال الغاية من البعثة (1) ، وهناك الصورة النبوية من خلال وقت البعثة وأحوال الدنيا لبيان فضائل من بُعِثَ(2) ، ونلاحظ دقة الأسلوب لأنه هنا قُدِّمَ لفظ (فَبَعَثَ) ومع أنه السير الطبيعي لنظام اللغة (الفعل والفاعل ثم المفعول) إلا أنه أسلوب مقصود للتركيز على جرس أحد حروف (الفعل) (فَبَعثَ) وهو (العين)، ولم يجمع المبدع بين القاف والعين في لفظ واحد ؛ لأن القاف والعين صوتان طليقان، وضخما الجرس واجتماعهما يعطي جرسا عاليا وقرعا شديدا وهو ما جاء في سورة القارعة و كرر اللفظ الدال على القيامة ثلاث مرات (3) «الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ » [القارعة/1-3]. ولأن في النص لفظا يقرب في دلالته من القارعة جاء فيه الجمع الوحيد للقاف والعين في النص في (الِاْنقِطَاعُ) ف-«الظاهر أنّ المراد به قرب انقطاع دنیا كلّ امة وإقبال آخرتهم بحضور موتهم»(4) .

ص: 54


1- ظ شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني، م1: 603
2- ظ: المصدر السابق، م1: 754
3- ظ: الإعجاز القرآني، بحوث المؤتمر الأول للإعجاز القرآني1990م، د. حازم سليمان الحلي: 143
4- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ج12: 300

وبدلالة التأخير والتقديم في (الفاعل فالفعل ثم المفعول) في النص السابق الذي تم التركيز فيه على جرس (القاف) هناك مع (القاف) اٌخِرَ وكان لفظ (بِالْحَقِّ) هو المعتنى به في الأسلوب إذ جاء في ختام الشطر الأول من النص و كأن دلالة كلام الشطر لم تتمَّ إلا به، ولاختلاف الجهة المصَوَّرة من شخصية النبي الأكرم صلى الله علیه و آله وسلم وبقاء الحسن في هذه الصورة وأحسن صوتين يحسنان اللفظ هما (القاف والعين) مع اختلافهما في بعض الصفات التي تناسب الدلالات في الأسلوب ولانتفاء القلقلة والشدة وغيرها مما يناسب القاف جاء جرس العين مهيمنا ليناسب الحسن و دلالة المعنى المراد وهو الغاية من البعثة الترتسم من خلالها صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم في ذهن المتلقي ويتفاعل معها بما أراد المبدع من إثارة و تأثير في نفسه من خلال انتقاء الأصوات راعي الأسلوب المهمة الأساسية للنبي في هذه البعثة وهي أن ينطق الناس جميعا بعبادة الله الواحد(1) العرب منهم وغير العرب. ولأن غير العرب يصعب عليهم نطق الشهادة والإقرار بالنبوة وغموض الأمر لديهم وعدم وضوحه عند بعضهم، فقد مثل هذا المعنى صوت العين بصعوبة نطقه لغير العرب وأن صوت العين فيه من الغموض ما لم يتضح تفسيره، وهو أقل الأصوات احتكاكا(2) كما أن البعثة أقل احتکا کا بغير العرب من العرب أول أمرها.

ولتأكيد فرادة الأسلوب وأنه يصرُّ على موسيقى الجرس الذي يلبي حاجة الدلالة ويثيرها في نفس المتلقي و«أنّ القيم الصوتية لجرس الحروف والكلمات

ص: 55


1- ظ: شرح نهج البلاغة، السيد عباس علي الموسوي: ج 2 : 445
2- ظ: علم الأصوات: 304

عند التكرار لا تفارق القيمة الفكرية والشعورية المعبر عنها»(1) ، نأخذ نصا نترك فيه السهم الأكبر لتذوق القارئ وحسبنا الإشارة إلى حرف السين وخصوصيته التي ذكرناها في نص سبق آنفا.

في نص يصور النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم من جانب كونه الأسوة الحسنة ولما في الأسوة من جرس لصوت السين الذي لا يخفى صفيره تحول الأسلوب إليه ليجعل منه علامة فارقة في جسد النص يستشعرها المتلقي ببصيرته، ولنا أن نعرف الحالة الشعورية في صدق ما يقوله المبدع؛ ففيه المبدع لا يحث المتلقي على عمل تأخر هو عنه بل سبقه إليه إذ يقول: «أَیُّهَا النَّاسُ إِنِّی وَاللَّهِ مَا أَحُثُّکُمْ عَلَی طَاعَهٍ إِلَّاأَسْبِقُکُمْ إِلَیْهَا - وَ لَا أَنْهَاکُمْ عَنْ مَعْصِیَهٍ إِلَّا وَ أَتَنَاهَی قَبْلَکُمْ عَنْهَا»(2) . فهو إذن يتأسى بالرسول ويتخذه في صور القائد الأمثل للتأسي به، وأراد أن شخص هذه الصورة في مرآة شعور المتلقي وقد أعانه على تمكينها فيها صدقه والتكرار الصوتي في النص الذي سندعه يتحدث بأسلوبه عما ذكرناه: «وَ لَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللَّهِ كَافٍ لَكَ فِي الْأُسْوَةِ - وَدَلِيلٌ لَكَ عَلَى ذَمِّ الدُّنْيَا وَعَيْبِهَا وَكَثْرَةِ مَخَازِيهَا وَمَسَاوِيهَا - إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرَافُهَا وَوُطِّئَتْ لِغَيْرِهِ أَكْنَافُهَا - وَفُطِمَ عَنْ رَضَاعِهَا وَزُوِيَ عَنْ زَخَارِفِهَا ... فَتَأسَّ بِنَبِیِّکَ الأَطْیَبِ الأَطهَرِ صلی الله علیه و آله فَإِنَّ فِیهِ أَسْوَهً لِمَنْ تَأَسَّی، وعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّی. وأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَی اللهِ الْمُتَأَسِّی بِنَبِیِّهِ»(3) .

ص: 56


1- التكرير بين المثير والتأثير، عز الدين على السيد: 84
2- نهج البلاغة : 175
3- نهج البلاغة: 160

نجد أن السين صوت احتكاكي صفيري، صوته مرتبط بحركة الرياح وزقزقة العصافير فيعطي المتلقي انطباعا حرکیا و حيويا(1) في تأمل الصورة النبوية ساعده على ذلك مسلمة ذهنية تفيد أن المعنى في لغة النص هو معلومات مرمزة في ذهن المتلقي وهناك ارتباط جوهري في دلالة النص وطبيعة إدراك ومعرفة المتلقي وشعوره العام تجاه صورة النبي الأكرم، (2) فنجد صوت السين في مفردات توزعت في النص لا تخفى إثارة جرسها نظرا لطبيعة صوت الحرف الصفيرية وتميزها في الخروج من بين حروف الصفير(3) وهو ما يجعل له فاعلية في بنية النص وإثارة المتلقي شعوريا لأن «فاعليته مع بقية المجموعة الصوتية المشكلة للسلسلة الكلامية»(4) متمثلة في (الْأُسْوَةِ، فَتَأَسَّ، أٌسْوَةً، الْمُتَأَسِّي، تَأَسَّی)، التي جاءت بانتظام لافت وأسلوب كأنه مدروس إذ لا يرد صوت السين إلا بعد صوت الهمزة الذي ينتج عن انفراج فجائي، (5) ليستمر مرور الهواء مع صوت السين الصفيري بهذا الترتيب والنسق يحمل إثارة تؤدي إلى الدلالة التي يقصدها المبدع « فالصوت في نسق التركيب يحمل خصائص تعكس الصور الذهنية، والدلالات المرتبطة في السياقات اللغوية، وسياقات الحال وفق تنوعات صوتية منتظمة»(6) .

ص: 57


1- ظ: منهج التحليل اللغوي في النقد الأدبي (بحث)، د. سمير ستيتيه، آداب المستنصرية العدد 1988/16 م: 255
2- ظ: المعنى والتوافق، أ. د. محمد غاليم الحاج: 31
3- ظ: الأصوات اللغوية : 67
4- الترتيب والمتابعة، د. أمير فاضل سعد: 63
5- ظ: الأصوات اللغوية : 77 - 78
6- الترتيب والمتابعة: 63

2- تکرار المفرد

لاشك في أن لإعادة اللفظ بجميع أصواته أثرا في التنغيم الموسيقي وفي إظهار الإيقاع وإيصاله بتركيز أفضل إلى المتلقي، ولعل هذا النوع من التكرار مفيد في تقوية النغم في الكلام، (1) لما فيه من الإيحاء إلى المتلقي بأهمية المكرر؛ لأنه يظهر أن المبدع قد اعتنى به ولذلك يمكن أن نقرأ هذا الإيحاء في النص التالي من النهج المصور للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد قرأناه في تكرار الصوت المفرد وما فيه من دلالة الصوت المفرد على المعنى العام. وهو الغاية من البعثة وفي هذا التكرار اللفظي نرى الأسلوب كيف أفصح عن تركيز دال على السبب المعد للبعثة والمسألتين المهمتين وأن إحداهما هي سبب الغاية و كل ذلك في نص واحد و أسلوب واحد وهو ما يشير من جهة أخرى إلى تكامل النص في النهج من كل الوجوه، وأن أسلوب المبدع فيه من الفرادة ما يمكن المتلقي والباحث من قراءته من عدة وجوه لا تتقاطع فيما بينها وهو شبه دليل على صدور النهج من مبدع واحد وهو الإمام علي (عليه السلام) لا سيما أنه يمكن قراءة هذا النص من زاوية أخرى ربما أسلوبية حتى! فضلا عن قراءة نص آخر وورود المعاني موحدة في النصوص المختلفة في النهج، يقول المبدع العظيم:

فَبَعَثَ اللّهُ مُحَمَّداً صلی الله علیه و آله بِالحَقِّ - لِیُخرِجَ عِبادَهُ مِن عِبادَهِ الأَوثانِ إِلی عِبادَتِهِ - ومِن طاعَهِ الشَّیطانِ إِلی طاعَتِهِ - بِقُرآنٍ قَد بَیَّنَهُ وأحکَمَهُ - لِیَعلَمَ العِبادُ رَبَّهُم إِذ جَهِلوهُ - ولِیُقِرّوا بِهِ بَعدَ إِذ جَحَدوهُ - ولِیُثبِتوهُ بَعدَ إِذ أَنکَروهُ - فَتَجَلَّی

ص: 58


1- ظ: جرس الألفاظ ودلالتها في البحث البلاغي والنقدي عند العرب، د. ماهر مهدي هلال : 239

لَهُمْ سُبْحَانَهُ فِی کِتَابِهِ - مِنْ غَیْرِ أَنْ یَکُونُوا رَأَوْهُ بِمَا أَرَاهُمْ مِنْ قُدْرَتِهِ - وَخَوَّفَهُمْ مِنْ سَطْوَتِهِ - وَکَیْفَ مَحَقَ مَنْ مَحَقَ بِالْمَثُلاَتِ - وَاحْتَصَدَ مَنِ احْتَصَدَ بِالنَّقِمَاتِ»(1) . ما يلاحظ في هذا النص أن لفظ الجلالة لم يذكر في النص إلا مرة واحدة ولم يكرر بعدها مع أن العبادة المرجوة من العباد هي لله - تعالى - وما حدانا لذكر هذه الملاحظة أن أسلوب الإمام العام في النهج يركز على لفظ الجلالة في بعض النصوص بشكل لافت جدا فعلى سبيل المثال ذكره في أحد النصوص بتكرار مزدوج لافت للانتباه في وصية له للحسن والحسين (عليهما السلام): «أُوصِیکُمَا وَجَمِیعَ وَلَدِی وَأَهْلِی وَمَنْ بَلَغَهُ کِتَابِی - بِتَقْوَی اللَّهِ وَنَظْمِ أَمْرِکُمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَیْنِکُمْ - فَإِنِّی سَمِعْتُ جَدَّکُمَا صلی الله علیه وآله وسلم یَقُولُ - صَلَاحُ ذَاتِ الْبَیْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّهِ الصَّلَاهِ وَالصِّیَامِ - اللَّهَ اللَّهَ فِی الْأَیْتَامِ - فَلَا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ - وَلَا یَضِیعُوا بِحَضْرَتِکُمْ وَاللَّهَ اللَّهَ فِی جِیرَانِکُمْ - فَإِنَّهُمْ وَصِیَّهُ نَبِیِّکُمْ - مَا زَالَ یُوصِی بِهِمْ حَتَّی ظَنَنَّا أَنَّهُ سَیُوَرِّثُهُمْ - وَاللَّهَ اللَّهَ فِی الْقُرْآنِ - لَا یَسْبِقُکُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ غَیْرُکُمْ - وَاللَّهَ اللَّهَ فِی الصَّلَاهِ فَإِنَّهَا عَمُودُ دِینِکُمْ - وَاللَّهَ اللَّهَ فِی بَیْتِ رَبِّکُمْ - لَا تُخَلُّوهُ مَا بَقِیتُمْ - فَإِنَّهُ إِنْ تُرِکَ لَمْ تُنَاظَرُوا - وَاللَّهَ اللَّهَ فِی الْجِهَادِ بِأَمْوَالِکُمْ وَأَنْفُسِکُمْ - وَأَلْسِنَتِکُمْ فِی سَبِیلِ اللَّهِ»(2) . فهذا يؤكد إرادة التكرار في الأسلوب للتركيز على دلالة معينة في النص، بل في الفقرات أحيانا فلم يرد التكرار للفظ الجلالة في هذا النص مع عظيم قدر اللفظ ؛ لأن مما أراده المبدع في هذا النص بیان مسألتين من أمهات العلم الإلهي والمدار العام هو بعثة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وغايتها والسبب

ص: 59


1- نهج البلاغة : 147
2- نهج البلاغة : الوصية 47، ص537-538

المعد لها ثم بيان غاية الغاية.(1) والقرآن أخبرنا أن غاية الخلق هي العبادة «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ » [الذاريات /56]. ولننظر مع المتلقي لهذا النص ودور التكرار اللفظي وهو من الجناس التام فيما أعطاه من تركيز على الدلالة المقصودة في الأسلوب في الألفاظ (عِبَادَهُ، الْعِبَادُ، عِبَادَتِهِ، عِبَادَةِ) و كيف أن إعادة اللفظ بأصواته أعطت إيقاعا وجرسا مركزا في أذن المتلقي لتجانسها في أصواتها أن المبعوث رحمة للعالمين وهو جزء من صورته بعث للعباد وهم عباد وإن أنكروا فالشيء عبد صانعه وإن لم يعلم فتكرار لفظة (عبَادَةِ) في (عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ) و (عِبَادَتِهِ) و(طَاعَةِ) و(طَاعَتِهِ) وهي ما لا تخفى أنها إحدى المسألتين حيث الأخرى هي سبب الغاية وهي القرآن،(2) (فَتَجَلَّى لَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ) ولبيان جزاء من لا يلتزم بما أكده التكرار بإيقاعه جاء تجانسٌ صوتيٌ آخر بتكرارين کي يحاكي الأسلوب الموحد الفريد التكرارين السابقين: (مَحَقَ مَنْ مَحَقَ) و (اختص مَنِ احْتَصَدَ) فما أريد من العباد العبادة والطاعة وإلا المحق والاحتصاد، كالقرون الماضية (3) «وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ » [العنكبوت /18] وهكذا نجد التكرار خصيصة أسلوبية تعطي بانحرافها عن اللغة العادية تريزا صوتيا يثير المتلقي ويمتعه بعد ما يحصل له من إغناء في الفهم الدلالي بسبب الإغناء الصوتي للفظ المكرر فأسلوب التكرار هنا أثار المتلقي وأرشده لمعنى النص؛ لأن التكرار أقرّ الدلالة في ذهنه بوساطة الأسماء والأفعال

ص: 60


1- ظ: شرح نهج البلاغة ابن میثم البحراني: م1: 603
2- ظ: المصدر السابق: م1: 603
3- ظ : المصدر السابق: م 1: 603

المكررة فإن الكلام إذا تكرر تقرر»(1). ولعل في النص التالي ما يدل على أن أسلوب التكرار «له وظيفة مزدوجة الأداء ... تجمع مع التوثيق للمعنى ووقع المساهلة في القصد إليه قيمة صوتية وفنية تزيد القلب له قبولا والوجدان به تعلقا»(2) . وهو مما يطلب في التأثير في مشاعر المتلقي لأنها الأهم في تقبل المطالب الدلالية في النص الأدبي: «وَعَلِمَ أَنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ أَبْغَضَ شَیْئاً فَأَبْغَضَهُ، وَحَقَّرَ شَیْئاً فَحَقَّرَهُ، وَصَغَّرَ شَیْئاً فَصَغَّرَهُ.»(3) . فصورة النبي الأكرم هذا المثل الإلهي الذي لا يعصي الله طرفة عين وهو مثل الله في الأرض وهو يقول لأصحابه بعد أن مر بجدي أسك (أي مقطوع الأذنين) ملقى على مزبلة ميتا، فقال لأصحابه: کم يساوي هذا، فقالوا: لعلّه لو كان حيّا لم يساو درهما. فقال النبيّ صلى الله علیه و آله وسلم : «والّذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذا الجدي على أهله»(4) .

والتركيب اللغوي في النص يعين على أن استجابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فورية دون تراخ لأن العطف جاء بالفاء (أَبْغَضَ... فَأَبْغَضَهُ، وَحَقَّرَ...فَحَقَّرَهَ، وَصَغَّرَ... فَصَغَّرَهُ). ومن اللافت للنظر في هذا النص أنه جاء بعد النص الذي تكرر فيه صوت السين فهما من خطبة واحدة (وَ لَقَدْ کَانَ فِی رَسُولِ اَللَّهِ صلی الله علیه وآله کَافٍ لَکَ فِی اَلْأُسْوَهِ... فَتَأسَّ بِنَبِیِّکَ الأَطْیَبِ الأَطهَرِ) جاء التركيز على التأسي بالرسول ومن ذلك الزهد في الدنيا وبغضها كما

ص: 61


1- البرهان في علوم القرآن، الزرکشي: ج 10:3
2- التكرير بين المثير والتأثير: 86
3- نهج البلاغة: 160
4- ظ: الكافي، الكليني 2: 129 ح 9، وينظر بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: ج2 : 433

أبغضها النبي الأكرم؛ لأن الله أبغضها و كذا في التحقير والتصغير، «وهكذا كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم فكل أمر أبغضه الله وحقره وصغرّه كان النبي يبغضه في قلبه ويحقره ويصغره في لسانه وقلبه.(1) وهو ما يؤكد فرادة الأسلوب في اتخاذ التكرار الصوتي المفرد واللفظي أداة من أدواة التأثير في المتلقي فركز الصوت المفرد في تحريك الشعور لدى المتلقي في الاقتناع بالتأسي بالرسول ثم جاء التكرار اللفظي ليعطي صورة التأسي كزهد في الدنيا، وراعی المبدع التنوع في التكرار «فكلما تكررت نفس الخاصية في نص ضعفت مقوماتها الأسلوبية، معنى ذلك أنّ التكرار يفقدها شحنتها التأثيرية تدريجياً»(2) . فاستخدم المبدع في أسلوبه شكل التكرار الصوتي المفرد للدلالة الأولى لمناسبته لها وللثانية جاء بشكل التكرار اللفظي؛ ليعطي التأكيد للدلالة المنشودة فأشكال التكرار «المتعددة لا تقوم بوظيفة واحدة وإنما تقوم بوظائف متعددة ومن هذه الوظائف ما يتصل بالإيقاع وما يتصل بالوصف وما يتصل بالتأكيد»(3) .

3. تكرار العبارة

ربما كان نصيب التكرار الصوتي هو الأوفر في الدرس الأسلوبي، كما أن التوجه نحو التكرار التركيبي جعل الإغفال من نصيب تكرار العبارة في هذا الدرس.(4) إلا أن الملاحظ أن تكرار العبارة قد ورد في القرآن الكريم، وإذا كان

ص: 62


1- شرح نهج البلاغة، السيد عباس الموسوي: ج 3: 43
2- الأسلوبية والأسلوب، عبد السلام المسدي: 86
3- النص القرآني من الجملة إلى العالم، وليد منير: 44
4- ظ: التماسك النصي من خلال العطف والتكرار (رسالة ماجستير) بوزنية رياض: (التكرار فے الدرس اللغوي ): 35

الصوت المفرد يعطي بتكراره جوا تأكيديا أو يلفت انتباه المتلقي لأهمية ما بحسب دلالة النص وأسلوبه في اختيار شكل التكرار المناسب وهو ما يتفرد به النص ويرتقي به المبدع بإصابة عين الضبي البياني. فإن تكرار العبارة قد يكون له حض من التقرير والتمكين الدلالي في النفس المتلقية للعبارة المكررة (1) ، أكثر من الصوت المفرد ؛ لأن العبارة تتضمن عدة أصوات ولها صفات مختلفة باجتماعها وتكرارها معا تختلف دلالتها الإيحائية التي يوظفها المبدع لأغراضه الدلالية وتوصيل المعنى بأسلوب الإفهام المناسب إلى ذهن المتلقي وشعوره، فذهن المتلقي وشعوره جزء من هدف المبدع وطريق إيقاظهما قد يأتي من قرع سمعه بجرس العبارة المكررة التي تتسم بشمولية أكثر من أصوات اللفظة المفردة، فهي تكرار لأكثر من صوت بما رتبت عليه في العبارة في فقرات النص وباتساعه يكون له الحظ الأوفر في سعة إيقاظ ذهن المتلقي بالجرس الأوسع الذي يقرع سمع المتلقي.

من كتاب له عليه السلام إلى أهل مصر مع مالك الأشتر- لما ولاه إمارتها

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلی الله علیه وآله وسلم - نَذِیراً لِلْعَالَمِینَ وَمُهَیْمِناً عَلَی الْمُرْسَلِینَ - فلمَّا مَضی صلی الله علیه و آله وسلم تنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ - فَوَاللّهِ مَا کَانَ یُلْقَی فِی رُوعِی - وَلاَ یَخْطُرُ بِبَالِی أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ»(2) . ولما كان هذا النص يحكي حالة الألم التي تعتصر قلب

ص: 63


1- ظ: الكشاف، الزمخشري: ج1 : 72، والمثل السائر، ضياء الدين ابن الأثير: ج 3: 15
2- نهج البلاغة: رسالة 62، ص577

الإمام لما بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أعطى الصورة النبوية من جهة هيمنتها على المرسلين وأنه المنذر للعالمين بعقاب أليم(1) . وكل هذا دعت إليه الأحداث المؤلمة من بعد النبي من مخالفة ما أوصى به وما جرّت هذه المخالفة من ويلات على الإسلام كادت أن تحدث به ثلمة. فالظرف الذي حدث فيه الألم النفسي للمبدع كانت دلالته هي المهيمنة على النص بجرسها؛ لأن المبدع أثار بها المتلقي أيما إثارة ليوقظ الشعور لديه بما جناه بعضهم من مآس عليه، وساعدت أصوات العبارة بصفاتها على إحداث الإثارة المناسبة لدى المتلقي لاشتراكها في صفة الجهر جميعا، عدا صوت الهاء الذي يعود إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وهو الغائب عن زمن الحديث وجاء همس الهاء ليناسب همس صوت النبي الأكرم بعد أن كان يجهر بالأمر وبين لجميع المسلمين كيف يكون الأمر من بعده، ولعل الهاء في هذا الظرف اللغوي الخاص هي صوت مجهور أيضا(2) ، فجاء الجهر في العبارة في جميع أصواتها حتى الصوت (الهاء) الذي يعود باضماره إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم .

إنّ أصوات العبارة هذه مع جهرها جميعا ووضوحها لدى المتلقي جاء في أولها صوتان أنفیان هما الميم والنون المعروفان بالطول الصوتي بعد الأصوات اللينة «فهما من أطول الأصوات الساكنة »(3) ، وتبعتهما الفتحة صوت لين قصير التعويض القصر الذي في الباء الشديدة والباء صوت تتأثر به النون عند لقائها به

ص: 64


1- ظ، شرح نهج البلاغة ابن ميثم البحراني: م2، ص370
2- ظ: الأصوات اللغوية : 77
3- الأصوات اللغوية : 127

فتنقلب ميما وهو ما يعطي أكثر مساحة في طول صوت الميم، وصوت العين بقربه من صوتي الميم والنون في الطول الصوتي والهاء في وضع الفم عند النطق تشبه أصوات اللين أطول الأصوات في اللغة هذه الصفات التي تضمنتها أصوات العبارة التي توحي بدقة اختيارها أعطت جميعها مساحة سمعية جهرية طويلة لافتة لذهن المتلقي التي لا مناص له من التأمل فيها لاسيما أنها مع طولها الصوتي ومساحتها الجرسية قد تكررت عليه غير مرة، فكانت مساحة العبارة الظرفية هي المسيطرة بجرسها على سمع المتلقي، بل هي قطب الرحى في دلالة النص (الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ)، (هَذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ)، (مُنَحُّوهُ عَنَّي مِنْ بَعْدِهِ)، وبعد الذكر الأول للعبارة جاء المبدع بقسم (فَوَاللهِ) وبعد القسم توضیح دقیق و کلام جلي يرتكز جميعه على النص فلو أننا حذفنا عبارة (الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ) لذهبت دلالة النص واختل المعنى أيما اختلال وبعد أن وضح أن إزعاج الأمر عن أهل البيت خصصه لنفسه من أهل البيت و كرر شطر العبارة المهم الذي يدل عليها كاملة (مِنْ بَعْدِهِ) مع أنه لو لم يذكره في آخرها لما كان من الخلل في المعنى كما في سابقه.

فسيطرة تنازع المسلمين الأمر وإزعاجهم (نقلهم للأمر)(1) ، وتنحيته جعل المبدع يكرر العبارة لتؤدي دورها في التأثير على المتلقي وما يشعر به المبدع من ألم كله بعد النبي الأكرم فولى المتلقي وجهه شطر هذا التكرار وما أحدثه إيقاعه من دوي في سمعه فكرر (الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ) مرتين، وأتبعها ثالثة بالظرف (مِنْ بَعْدِهِ) ليؤكد أن المعاناة هي (مِنْ بَعْدِهِ)، وفي هذا التكرار تذکیر لبعض الأسماء

ص: 65


1- ظ: نهج البلاغة، محمد عبده: 130، حاشية 3

في التأريخ وما قامت به بعد النبي الأكرم وهي تتضمن دلالات شعورية تأريخية ألمت بفعلها شعور المبدع(1) ، فتناسى المسلمون ما للمبدع من «الْقَرَابَةِ الْقرِيبَةِ والْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ»(2) «وَ لَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه و آله وسلم وَ إِنَّ رَأسَهُ عَلیَ صَدْرِی - وَ لَقَد سَالَتْ نَفْسُهُ فیِ کَفَّی فَأَمْرَرْتُهَا عَلیَ وَجْهِی»(3) وغير ذلك كله نسي من بعده فهذا الظرف أثار بتكراره الواضح ونبره الحزين المؤلم تساؤلات الشعور لدى المتلقي ليكون أمام ضميره في عدم الانقلاب على العقب بعد رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم مع من هم أولى بهذا الأمر سواء مع أهل مصر بوصفهم المتلقي الأول أو غيرهم فيحاول النص رسم الصورة النبوية التصحيح الأمر بعده، فسيطر مفهوم الظرف (مِنْ بَعْدِهِ) بوصفه قيمة أسلوبية في النص، وجعل المبدع يبث شعوره الأليم من خلال تكراره العبارة لتمارس فعلها التأثيري في المتلقي انطلاقا به لفهم ما حواه الظرف المكرر. ويمكننا القول على وفق ما تقدم إن المتلقي أوحيَ إليه بما في هذه العبارة جزءا من صورة النبي الأكرم القيادية المحافظة على أمر الأمة من التمزق وذلك بعدِّ التكرار خطا شعوريا يحو که المتلقي سببا يتعلق به للوصول إلى دلالة النص التصويرية المقصودة وحالة المبدع الشعورية المتحسرة على هذه الصورة القيادية، والعاتية على الأمة لغير المتوقع منها من تنازع الأمر وتنحيته عن أهله، بعد بیانه بجلاء من النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم . فمثلت العبارة دورا مزدوجا في الدلالة

ص: 66


1- ظ: لغة الشعر العراقي المعاصر، عمران خضير الكبيسي: 154
2- نهج البلاغة : 192
3- نهج البلاغة: 197

عما في النفس لبيان الصورة النبوية في زمن وجودها وهو ما دعا إلى الحسرة في النفس المبدعة للخطاب وجرّ هذا إلى القسم الآخر وهو النفس العاتية ؛ لأن العبارة هي «الكلام الذي يبين به ما في النفس من معان»(1) ، وصورة الرسول القيادية كانت أيضا تمثل الأمان لأمر الأمة كما: في نص حكاه عَنْهُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ اْلبَاقِرُ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: «کَانَ فِی اَلْأَرْضِ أَمَانَانِ مِنْ عَذَابِ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَرُفِعَ أَحَدُهُمَا فَدُونَکُمُ اَلْآخَرَ فَتَمَسَّکُوا بِهِ، أَمَّا اَلْأَمَانُ اَلَّذِی رُفِعَ فَهُوَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَ أَمَّا اَلْأَمَانُ اَلْبَاقِی فَالاِسْتِغْفَارُ، قَالَ اَللَّهُ تعالى - «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ » (2) .

يثبت المبدع هنا بنوته للقرآن ويربط بينه وبين من نزل عليه ويخاطب المتلقي المقرِّ بكل ما فيه فهو دستور المسلمين المهيمن على الكتاب كله وقد استخرج المبدع صورة النبي الأكرم من القرآن فالثلاثة (النبي وعلي والقرآن) صحبتهم من غير افتراق «وَ إِنّ الكِتَابَ لمَعَيِ مَا فَارَقتُهُ مُذ صَحِبتُهُ فَلَقَد كُنّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وسلم ...»(3) ولأن المبدع المتمكن يمارس أعلى درجات الإقناع للمتلقي لنقله إلى فضاء الدلالة في النص ليتنسم ريح الإقناع في الخطاب، ويبدي التفاعل الشعوري بحسب قناعة المبدع الذاتية فيما يقول لاسيما

ص: 67


1- المعجم الوسيط: 580 (عبر)
2- نهج البلاغة : 88(حكم الإمام ). والآية 33 من سورة الأنفال
3- نهج البلاغة : 122

إذا كان القول ينبع من أعماقه. والمبدع عندما استنبط صورته من القرآن كان منه ذلك بصدق فهو المخاطب للمتلقي في نص آخر «وَ کِتَابُ اَللَّهِ بَیْنَ أَظْهُرِکُمْ - نَاطِقٌ لاَ یَعْیَا لِسَانُهُ - وَ بَیْتٌ لاَ تُهْدَمُ أَرْکَانُهُ - وَ عِزٌّ لاَ تُهْزَمُ أَعْوَانُهُ»(1) .

هذا ما يخص الحجة لإقناع المتلقي، وأما المبدع فهو «القرآن الناطق» والمُصَوَّرُ هو (النبي الأكرم) فقد سئلت عائشة عن خُلِقِ رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم فقالت: «كان خلقه القرآن، (2) «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ » [الأعراف / 199].(3) هذه أجواء النص وأطرافه الأساسية وقناعة مبدعه وحالة المتلقي التي يبصرها المبدع وما أراده المبدع مفتاحا للمعنى المنشود في خطابه للمتلقي هو (الأمان) الذي يمثل رکنا آخر من زوايا الصورة النبوية.

ولو تأملنا الأصوات الأساسية في مفتاح النص (الْأَمَانُ) لوجدناها (الهمزة والميم والألف والنون) حتى مع أداة التفصيل (أَمَّا) تشترك الأصوات نفسها مع اللفظ (الْأَمَانُ) وهنا نجد تأكيدا على استعمال الأصوات الطويلة في اللغة مع تکرارها وهو ما يؤكد القصد والاختيار لتكرار العبارة بأصواتها لتأكيد الدلالة التي تعطيها، ولأهمية المعنى الذي تضمره نفس المبدع ومحاولة إيجاد الأسلوب الأمثل لإثارته واقناعه ولاسيما أن التكرار آت من مبدع لا تعصية اللغة ولاتخونه المفردة طرفة عين وتأتيه المفردات بأصواتها قبل أن يرتد إليه طرفه.

ص: 68


1- نهج البلاغة: 133
2- مسند احمد ، الإمام احمد بن حنبل : ج 6: 91
3- شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد : ج 1: 2

استعمل الإمام عليه السلام الأصوات الطويلة، بل أطول أصوات اللغة وما يليها مباشرة في الطول وهي أصوات اللين والميم والنون واللام(1) ، وسبقها بصوت أساسي في جميع اللغات لتأكيد أساسية اللفظ في النص وجاءت الميم مع طولها الصوتي متبوعة بأطول الأصوات وأعلاها في اللغة (الألف) ذي الموسيقى العالية ليعلن امتداد هذا الأمان صورة مثلی من صور النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم فُقِدَ بفقده، لكن طرفا منه قد بقي (الاستغفار)، كما أن اللام والنون من أوضح الأصوات الساكنة سمعا فاجتمع الوضوح السمعي بأعلى درجاته والطول الصوتي بأقصى مدياته، كرره المبدع في عباراته فأثار المتلقي وأمتعه بأصواته النغمية ولاسيما الميم والنون ليتناسب ويتشاكل مع دلالة الأمان وأراد المبدع أن يعطي المتلقي مساحة للإثارة كي يسأل ما هو البديل للأمان الَّذِي رُفِعَ؟ وما يؤكد التساؤل أن الإمام عبر بقوله: (الْأَمَانُ الذي رفع) ولم يقل ما يدل على عدم عود هذا الأمان فعيسى عليه السلام لأنه لم يُقْتَل قيل « «بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا » [ النساء /158] وهو سيعود إلى الأرض ومعلوم أن الإمام حجة الله في الأرض و«لولا الحّجة لساخت الأرض بأهلها»(2) . إلا أن تواضع الإمام مع أنه حق لم يقل أنه الوصي والخليفة الحق والأجدر بأن يكون الأمان بعد النبي الأكرم لكن المتلقي آنذاك بين عارف صامت ومنکر مبغض.

ص: 69


1- ظ: الأصوات اللغوية : 127
2- مستدرك سفينة البحار، الشيخ علي النمازي الشاهرودي : ج5: 278

فأسلوب المبدع الراسم لصورة النبي الأكرم حتى في حال شمول الإمام ببعض الخصائص السامية من كونه الخليفة في الأمان وغيره لا ينبغي النظر إليها من جهة العصبية المذهبية وغيرها وما شاكلها بل هو تلميذ أنجبه النبي الأكرم وهو مما يليق بالنبي الأكرم أن جانبا من جوانب صورته أنه افضل الخلق في التربية وفي من خلف من بعده وجميع المسلمين لا يشكون في هذا! ومن أجل أن تصل هذه الصورة إلى ذهن المتلقي وشعوره كرر عبارة (أَمَّا الْأَمَانُ) بعد أن ذكرها في أول النص (فِي الْأَرْضِ أمَانَانِ) وبالإمكان أن يكون النص لو كان متوجها بمفتاح دلالة غير ما توخاه المبدع أن يقول بدلا عن (فِي الْأَرضِ أَمَانَانِ): (الأول كذا والثاني كذا) إلا أن توجيه الذهن لدى المتلقي سيكون أبلغ في حال تکرار العبارة، والأمان أحد النعمتين المجهولتين لما ورد في الخبر نعمتان مجهولتان: الصحة والأمان»(1) . ولأجل أن لا تجهل هذه الصورة العظيمة ولا تُخفى عن نظر المتلقي كما جهلها الواقع الاجتماعي جاءت العبارة بأصواتها ذات الطول الصوتي المتميز على جميع الأصوات وبوضوح سمعي و موسيقي عال ليفيق الجاهل من غفلة الجهل بها وتكررت عليه في النص كي لا تخفي في الأسلوب أيضا. ولأهميته ولاحتمال عدم القناعة من المتلقي استدل له المبدع وأثبته بما يقتنع به الطرفان - المبدع والمتلقي - وهو القرآن فكان التكرار تكرارا بليغا واستنباطا للصورة لا يقبل الرد ولا يسعنا أن نقول فيه أفضل مما قاله جامع النهج الشريف الشريف الرضي: «هذا من محاسن الاستخراج ولطائف الاستنباط»(2) .

ص: 70


1- شجرة طوبی، الشيخ محمد مهدي الحائري: ج 2: 368
2- نهج البلاغة، محمد عبده: 169- 170

4 - التنغيم

تنتاب صوت المتكلم أو الخطيب تغيرات من صعود إلى هبوط أومن هبوط إلى صعود لبيان مشاعر الفرح والغضب والنفي والإثبات والتوبيخ والتعجب والاستغراب والتقرير، وتسمى على أثرها النغمة صاعدة، والنغمة هابطة. (1)

و«التنغيم (التنغيمات أو التنوعات التنغيمية): هي تتابعات مطردة من مختلف أنواع الدرجات الصوتية على جملة كاملة، أو أجزاء متتابعة وهو وصف للجمل وأجزاء الجمل، وليس للكلمات المختلفة المنعزلة»* (2)

وما يراه الباحث بعد مطالعة تعريفات التنغيم عند المحدثين وتأصيلها في التراث العربي التي أشرنا إلى بعض منها في الهامش، ولأن الدراسة ليست معنية كل العناية في هذا الصدد نجمل ما نراه فنقول: لعل التنغيم ليس محصوراً في اختلاف درجات الصوت التي ينشأ عنها ارتفاع النغمة أو هبوطها، ولكن نرى أن التنغيم يحدث من كل ما يحيط بالنطق من وقف، وسكت، وعلو صوت، ونبر، واتباع سنن أهل اللغة في أدائها. لذا يبدو أن للتنغيم وظيفتين:

ص: 71


1- ظ: في البحث الصوتي عند العرب، د. خليل إبراهيم العطية: 63
2- دراسة الصوت اللغوي ، د. أحمد مختار عمر: 229، وهناك عدة تعريفات للتغيم وردت في مصادر كثيرة، ينظر مثلا مناهج البحث في اللغة، د تمام حسان 198، والتحليل اللغوي في ضوء علم الدلالة، د. محمود عكاشة، وبحث (الصوت والدلالة دراسة في ضوء التراث وعلم اللغة الحديث )، وبحث جمع أكثر التعريفات هو: الصوت والدلالة دراسة في ضوء التراث وعلم اللغة الحديث، مجلة التراث العربي - دمشق العدد 85، الدكتور محمد بو عمامة، (ظاهرة التنغيم في التراث العربي وفي التجويد ) (بحث)، هايل محمد طالب، منتدى البحوث والدراسات القرآنية (الشبكة العنكبوتية )

1 - وظيفة أدائية، بها يتم نطق اللغة حسب النظام المتعارف عليه عند أهلها، من حيث الالتزام بطرق أدائها، لأنه لو لم يلتزم بها يصبح نطقه غير واضح ولبدا غريبة عند أهلها.

2 - وظيفة دلالية وهو أن التنغيم له تأثير على بيان الدلالات المختلفة ومقاصد الكلام وتوضيحه(1) .

و«التنغيم ذو صلة وثيقة بالنبر، إلا أن الفرق بينهما يكمن في أن النبر ضغط على مقطع من مقاطع الكلمة، أما التنغيم فقد يخرج عن حدود الكلمة الواحدة ليشمل كلمات التركيب كله»(2) . ولكل جملة أو ترکیب نمطه في النطق وفقا للأسلوب الذي اتخذه في إيصال المعنى إلى المتلقي ولقائل الحق في قوله: إن التنغيم بهذا الحال يختص بالسماع المباشر من المبدع إلى المتلقي؛ لأن التأثير والانفعال وحالات الفرح والسرور التي تعكس حالة المبدع النفسية وطبيعة الصوت الذي يؤدي به خطابه من شأنه أن يفصح بأسلوبه عن الدلالة والمعنی الذي صيغ من أجله الخطاب أو قد يكون المكمل الأساس للدلالة النصية، إلا أن اختلاف الجمل والتراكيب في الأساليب من الاستفهام والتقرير والتعجب يلزمه تغيير في التنغيم ليناسب الدلالة التي يتضمنها التركيب أو الجملة، (3) «وَ لَّقَدْ کَانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم - مَا یَدُلُّکُ عَلَی مَسَاوِئِ الدُّنْیَا وَ عُیُوبِهَا

ص: 72


1- التنغيم واللغة العربية، (بحث في مجلة جامعة أم القرى ) السنة 9، 13ع، يحيى علي مباركي: 15
2- المقامات اللزومية لأبي طاهر محمد بن يوسف السرقسطي - دراسة أسلوبية، (أطروحة) مي محسن: 75
3- ظ: المقامات اللزومية لأبي طاهر محمد بن يوسف السرقسطي دراسة أسلوبية (أطروحة): 75

وَ عُیُوبِهَا - إِذْ جَاعَ فِیهَا مَعَ خَاصَّتِهِ وَ زُوِیَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِیمِ زُلْفَتِهِ فَلْیَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ - أَکْرَمَ اللَّهُ مُحَمَّداً بِذلِکَ أَمْ أَهَانَهُ - فَإِنْ قَالَ أَهَانَهُ فَقَدْ کَذَبَ وَ اللَّهِ الْعَظِیمِ بِالْإِفْکِ الْعَظِیمِ - وَ إِنْ قَالَ أَکْرَمَهُ - فَلْیَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهَانَ غَیْرَهُ حَیْثُ بَسَطَ الدُّنْیَا لَهُ - وَ زَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ - فَتَأَسَّی مُتَأَسِّ بِنَبِیِّهِ - وَاقْتَصَّ أَثَرَهُ وَوَلَجَ مَوْلِجَهُ - وَإِلَّا فَلَا یَأْمَنِ الْهَلَکَهَ - فَإِنَّ اللّهَ جَعَلَ مُحَمَّداً - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - عَلَماً لِلسَّاعَهِ - وَمُبَشِّراً بِالْجَنَّهِ وَمُنْذِراً بِالْعُقُوبَهِ -» (1) .

التنغيم في النص المتقدم جلي الظهور هبوطا وصعودا بدأ بتنغيم هابط و متزن الأداء الصوتي لأنه في حالة تقريرية في أول هذا النص (وَ لَّقَدْ کَانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم - مَا یَدُلُّکُ عَلَی مَسَاوِئِ الدُّنْیَا وَ عُیُوبِهَا وَ عُیُوبِهَا - إِذْ جَاعَ فِیهَا مَعَ خَاصَّتِهِ - وَ زُوِیَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِیمِ زُلْفَتِهِ) و تناسب مع الهبوط الصوتي ما تكرر في هذا المقطع من أصوات رخوة مهموسة في عمومها كما في (ك، ف، س، ص، ه- ،خ، ت) وقد تكررت أكثر من مرة فطغى جرسها الهمسيّ على المقطع الهابط فناسبت صفاتها الجو التنغيمي الذي أحدثته مع دلالة المقطع التقريريّ متضامنا مع أصوات الوضوح السمعي والموسيقية الجميلة التي تناسب ذكر الرسول ولفظ الجلالة (رَسُولِ اللهِ ص) والمعنى المقطعي الهادئ وهذه الأصوات (ل، ن، م) ساعد جوها الصوتي الذي أحدثته مع الهمس للأصوات الأخرى أن يكون المعنى في المقطع بمثابة التهيئة الذهنية للمتلقي، وترسيخ

ص: 73


1- نهج البلاغة: 160

مقدمة صورية للنبي الأكرم جاءت بصيغة الخبر الذي يحتمل الصدق والكذب في المفهوم المنطقي العام فيما يخص الجمل الخبرية، لا عند من يعرف حق الإمام (عليه السلام). وإلا فالاحتمال باطل مع أمثال المبدع (عليه السلام) فكانت هذه المقدمة الخبرية بنغمة هابطة لخلو ذهن المتلقي أولا ولإحداث فجوة تنبيه ذهني ثانیا؛ لبدء رسم الصورة للنبي الأكرم من كونه الدال على مساوئ الدنيا وعيوبها مع ما له من الصور الأخرى والدليل جاء بنفس النغم الهابط، لأنه مازال في مرحلة التقرير التي جعلها الأسلوب توطئة لدلالة أسمى ورسم الصورة بجميع أجزائها وذلك بأدلتها التي تثير المتلقي وتؤثر في شعوره من طريق الإقناع.

فقدم بهذه الأخبار لنتيجة أراد أن يدخل إليها،(1) فهو في حالة التقرير والأخبار للمتلقي الذي لم يكن من الخاصة كما سيتضح بل فيهم ممن يرى المبدع أنهم منكرون لبعض دلالة الخطاب وهم ممن أخبرهم «إِنَّ الدُّنْیَا تَغُرُّ الْمُؤَمِّلَ لَهَا وَالْمُخْلِدَ إِلَیْهَا - وَلَا تَنْفَسُ بِمَنْ نَافَسَ فِیهَا وَتَغْلِبُ مَنْ غَلَبَ عَلَیْهَا-»(2) فكان الأسلوب الأنجع الذي يراه المبدع بحنكته وقراءته نفوس المتكلمين ومشاعرهم المختلفة البدء بالأسلوب الهابط ليعطي الصورة النبوية بألوانها الزاهدة في الدنيا ليتأسی بها من أقرها بنفسه الخالية من الشك ولمعرفة المبدع باختلاف النفوس فيكون بذلك قد سلك أسلوبا يرد على نفوس الخصوم المعاندين بحجة عقلية وسؤال منطقي بالقسمة الثنائية»(3) (فَلْیَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ - أَکْرَمَ اللَّهُ مُحَمَّداً

ص: 74


1- ظ: شرح نهج البلاغة، السيد عباس الموسوي : ج 3، ص 45
2- نهج البلاغة : 178
3- ظ: المنطق، محمد رضا المظفر: 113

بِذلِکَ أَمْ أَهَانَهُ؟) فالاختياران نقیضان لبعضهما وهنا بدأ النغم بالارتفاع؛ لابتدائه بصيغة الأمر التي غلب على جميع أصواتها صفة الجهر (ل، ي، ن، ظ، ر) سبقها صوت اللين القصير (الفتحة) على الفاء ثم على الياء الجهرية وقد زاده تر کیزا وعلوا في النغم الاشتقاق (نَاظِرٌ) لجميع هذه الأصوات عدا صوت الألف الذي جاء بارتفاع الصوت بمساحة أكبر من الياء لطول صوته وطبيعته المدية العالية و تکراره في المفردات في هذا المقطع المرتفع النغم كما في (نَاظِر، اللهُ، بِذَلِكَ، أَهَانَهُ ٌ) فضلا عن صوت الهاء الذي تكررت ثلاث مرات وأصوات اللين القصيرة من فتح و کسر وضم وهي أطول الأصوات اللغوية وزاد النغم ارتفاعا لانتقال الأسلوب إلى صيغة الاستفهام التي حذفت منها الأداة لوضوح الاستفهام اعتمادا على التنغيم وسياق النص المقالي والمقامي من خلال الإجابة وانتهى الاستفهام بلفظة (أَهَانَهُ) حيث انحباس النفس في أولها في صوت الهمزة ليتفجر النفس مع الهاء ممتدا مع أطول الأصوات (الألف والنون المفتوحة) ليستفرغ الصوت نفسه الاستفهامي في هاء الضمير التي ينتهي على النغم بسكتة لطبيعة السؤال وما يقتضيه المقام من إحداث فجوة الذهن لدى المتلقي وشده لما يأتي وطبيعة الاستفهام أيضا، وأخذ النغم في انخفاض نسبي في الشرط المتضمن للسؤال (فَإِنْ قَالَ أَهَانَهُ) لأنه احتمال ضعيف الحصول وغير مطابق للواقع إلا في النفوس الضعيفة من الذين مازالت قلوبهم مؤلفة الإيمان إلى يوم المتلقي هذا، فالأسلوب يخاطب العقل مما يقبل به المتلقي بنوعية الموالف والمخالف فانزواء الدنيا عن أشرف خلق الله ماذا يعد في نظرهم؟ سؤال بنغم مرتفع وتعقبه سكتة وانخفاض نسبي في

ص: 75

الشرط ليصل إلى عقل المتلقي وشعوره وهو أسلوب يشد بنغمه المتلقي بنوعيه وكل منهم يريد معرفة الحال التي تكون عليها صورة النبي الأكرم في حال الرفض والإيجاب فالمخالف يرى حالة السلب هي الجواب وهي من وجهة نظره (أَهَانَهُ) لأنه يرى الدنيا وزينتها هي المقياس للإكرام وهو يريد الاستشفاء من الآخر بأن الصورة النبوية هي بحالة السلب لانزواء الدنيا عنه وهو أمر قد يقوي شوكة النفوس الضعيفة على الطرف الآخر الذي يرتقب أيضا وهو بحاجة إلى نصرته بجواب نفسي شعوري يشعر فيه بالانتصار للحق على الباطل ولترسخ الصورة النبوية في عقله وشعوره. وأما المتلقي المعاند فالنص نطق بما في نفسه ذات النزعة السلبية (فَإِنْ قَالَ أَهَانَهُ) وهو مخاطبة شعوره وما تکنه نفسه فأجيبوه أنه (فَقَدْ کَذَبَ وَاللّهِ الْعَظِیمِ بِالْإِفْکِ الْعَظِیمِ) عاد النغم للارتفاع مرة أخرى، وازداد ارتفاعا في القسم (وَاللّهِ الْعَظِیمِ) وبما تضمنه من أصوات المد الألف في لفظ الجلالة وأصوات المد العالية الطويلة الياء مسبوقة بالكسر في لفظ (الْعَظِیمِ) مكررة بالأصوات نفسها؛ لتؤكد ارتفاع النغم بتكرار أصوات اللين في لفظة (الْعَظِیمِ) الثانية بتشاكل الصفات الصوتية مع النغم للعبارة ودلالتها لرسم الصورة النبوية في معنی دقیق احتاج بیانه لهذا الأسلوب الذي رآه المبدع مناسبا، وهو أسلوب القسم ذو النغم العالي الذي يشير إلى حالة المبدع الشعورية والرد الحيوي والأسباب التي أدت إليه ومنها تعرف حالة المبدع الشعورية، فبالتنغيم يمكنه التعبير عن مشاعره ومواقفه في الكلام لأن التنغيم من شأنه أن يضيف قيما ثانوية تسهم في بيان القيم النصية للمتلقي ودلالة التركيب بأساليب تنغيمية ترسم الدلالة

ص: 76

المرادة(1) ، التي ينقلها بأسلوبه وبالتنغيم المناسب المصور للحالة الشخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ف-«كل دربة خفية في نفس الكاتب و كل تجربة في حياته، وكل صفة من صفاته الروحية تتجلى في مؤلفاته»(2) . ولم يكتف الأسلوب بعد الجواب الأول بالقَسَم (وَاللّهِ الْعَظِیمِ) على أساس أن القسم الثاني قد وضح لأن القسمة الثنائية إذا انتفى أحد أطرافها ثبت الآخر، بل أكد للطرف المتلقي الآخر من غير المعاندين لتتضح صورة النبي الكرم بنفي السلبي منها وإثبات الإيجاب بالحجة (وَإِنْ قَالَ أَکْرَمَهُ - فَلْیَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ قَدْ أَهَانَ غَیْرَهُ حَیْثُ بَسَطَ الدُّنْیَا لَهُ - وَزَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ) بنغم الشرط الهابط قليلا عن سابقه وبمستوى النغم الشرطي السابق - (فَإِنْ قَالَ أَهَانَهُ) - لیتوازن النص بأسلوبه التنغيمي ويرتفع عند صيغة الأمر (فَلْیَعْلَمْ) وينتهي الارتفاع النغمي عند انتهاء أصوات المد العالية في المقطع في (أَهَانَ) حيث الفتحتان وصوت الألف و استفراغ النفس عند الهاء في آخر (غَیْرَهُ) وعود النغم لحالة التقرير بعد إثبات الصورة النبوية بالحجة العقلية وإقناع المتلقي بوساطة التنغيم وأصواته المتناغمة مع دلالته، وهو المستوى الذي بدأ به النص؛ لأنه وصل إلى مرحة إعطاء النتيجة المرجوة وهي تستوي في النغم مع حالة البدء بدلالة عود الأصوات المهموسة مرة اخرى وقلة أصوات المد العالية فابتدأ المقطع بأصوات الهمس التي تخللت بین كل حرف و آخر في أول لفظين (ح، ث، س) في (حَیْثُ) و(بَسَطَ ) تبعها الهاء

ص: 77


1- ظ: دراسات في اللسانيات العربية المشاكلة - التنغيم - رؤى تحليلية، د. عبد الحميد السيد : 60
2- دليل الدراسات الأسلوبية، د. جوزيف ميشال شريم: 61

اثني عشرة مرة بعد تاء التأنيث هاء سكت معها في حال الوقوف عليها وكذا أصوات السين والشين والتاء هي أصوات همس سيطرت على المقطع لتنسجم مع حالته التقريرية هابطة النغم كما بدأ النص أول مرة، عاد في ختامه هابطا وبما يشبه الأصوات الأولى في سيطرتها على المقطع واتفاقها مع المستوى التنغيمي والدلالي الرسم الصورة النبوية بكل الأدوات اللغوية المتاحة والتصرف بها كما يشاء المبدع بما أقنع به المتلقي حجة وأمتعه بيانا بعد أن أثاره محدثا لديه فجوة ذهنية ليقبل عليه ويرسم صورة النبي الأكرم في شعورة بالحق المبين.

فالأسلوب قلب الصورة المغلوطة في ذهن المتلقي ورسم صورة النبي الأكرم (صلی الله عليه و آله وسلم بوضوح الحق العقلي نغما ودلالة ومخاطبة للشعور من حيث لا يحتسب ومن حيث إثارته بالسؤال غير المتوقع فلا شك في أن السؤال قد حبس الأنفاس بعدَهُ ترقبا للجواب. وهذا الترقب هو الشد المطلوب للخطاب ليزيح ما في الذهن من أغلاط ويبقي بدلها مساحة في العقل لترتسم فيها المعاني التي يريد أن يصل إليها سواء المباشرة أو الإيحائية لرسم الصورة المثلی للنبي الأكرم وجاء حرف التحقيق (قد) هنا ثلاث مرات لتحقق المعنى المراد فقد وردت جميع معانيها للتحقيق،(1) الأول لتحقق دلالة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على مساوئ الدنيا، والثاني على كذب من قال بالإهانه، والثالث على إهانة غير الرسول ببسط الدنيا له وجميعها تعطي صورة النبي الأكرم (صلی الله عليه و آله وسلم الراقية بأعلى الدرجات بمنظار الخالق لا بمنظار الخلق، عاد بعدها التنغيم اللهبوط لأنه عاد لحالة التقرير بعد أن أثبت النتيجة بالسؤال والقسمة الثنائية التي

ص: 78


1- ظ: الجنى الداني في حروف المعاني، الحسن بن قاسم المرادي: 259

جرى فيها حوار بين النفوس والمشاعر المختلفة بين المتلقي، فأعطى التنغيم مع الوظيفة النحوية وظيفة أصواتية بأسلوب صوتي استطاع بنسقه و اختلاف علوه مع مناسبة المقاطع دلاليا ليعطي المتلقي الصورة الدلالية في نموذج تنغيمي فريد(1) في حوار صوتي أداره المبدع بأسلوبه التنغيمي المتفرد بإثارة الشعور ورسم صورة النبي الأكرم بوصفها الدلالة العليا المنشودة في الخطاب، فكان الأسلوب بارتفاع نغمه وانخفاضه قد صور لنا النبي الأكرم بصورة الكريم على الله بكل الأحوال فجعل المتلقي القارئ سامعا ومشاهدا ما يقرأ ويتصوره بما حوى الخطاب من أسلوب الاستفهام الذي يعد «من علامات الترقيم الرئيسة في اللغة التي من خلالها يؤدي وظيفة التنغيم (2) فقرأ الشعور وأجاب عما في النفوس بما ينقع الفؤاد الضميء.

ونرى في النص الآتي تنغيما يختلف نوعا ما عن السابق مع أن فيه استفهاما أيضا «اخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَهِ اَلْأَنْبِیَاءِ... طَبیِبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ قَدْ أَحْکَمَ مَرَاهِمَهُ وَأَحْمَی مَوَاسِمَهُ یَضَعُ ذلِکَ حَیْثُ الْحَاجَهُ اِلَیْهِ - مِنْ قُلُوبِ عُمْی، وَأذَانٍ صُمًّ - وَأَلْسِنَهٍ بُکْمٍ - مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَهِ - وَمَوَاطِنَ الْحَیْرَهِ لَمْ یَسْتَضِیئُوا بِأَضْوَاءِ الْحِکْمَهِ... مَا لِی أَرَاکُمْ أَشْبَاحاً بِلاَ أَرْوَاحٍ - وَ أَرْوَاحاً بِلاَ أَشْبَاحٍ - وَ نُسَّاکاً بِلاَ صَلاَحٍ - وَ تُجَّاراً بِلاَ أَرْبَاحٍ - وَ أَیْقَاظاً نُوَّماً - وَ شُهُوداً غُیَّباً - وَ نَاظِرَةً عَمْیَاءَ - وَ سَامِعَةً صَمَّاءَ - وَ نَاطِقَةً بَکْمَاءَ»(3) .

ص: 79


1- ظ: مناهج البحث في اللغة : 198
2- ظ: التوازي في القرآن الكريم (أطروحة دكتوراه )، وداد مكاوي الشمري: 98
3- نهج البلاغة : 108

نص طويل نوعا ما اختصرناه على موضع الحاجة، بيّن فيه المبدع صورة النبي الأكرم بتنغيم متوسط تقریبا سبق النص المقصود في البحث هذا وبعد بیان هذه الصورة العظيمة أراد توجيه التوبيخ المؤثر في المتلقي لأنه لم يتعظ من حكمة هذه الصورة، فجاء بتنغيم أقل ارتفاعا من السابق؛ لأنه استفهام توبیخي، (1)

(مَا لِی أَرَاکُمْ أَشْبَاحاً بِلاَ أَرْوَاحٍ - وَ أَرْوَاحاً بِلاَ أَشْبَاحٍ - وَ نُسَّاکاً بِلاَ صَلاَحٍ - وَ تُجَّاراً بِلاَ أَرْبَاحٍ - وَ أَیْقَاظاً نُوَّماً - وَ شُهُوداً غُیَّباً - وَ نَاظِرَةً عَمْیَاءَ - وَ سَامِعَةً صَمَّاءَ - وَ نَاطِقَةً بَکْمَاءَ). امتزجت أصوات الهمس مع أصوات المد العالية فجاء في أغلب الألفاظ بعد كل صوت من من أصوات اللين العالية، أحد أصوات الهمس يليه مباشرة أو بعده في هذا الاستفهام التوبيخي كما جاءت الألف وبعدها الكاف في (أَرَاکُمْ) والألف وبعدها الحاء في (أَشْبَاحاً) و (أَرْوَاحٍ) و (صَلاَحٍ) و(أَرْبَاحٍ) تکرار ألفاظها، فجاء خمسة عشر صوت مدية تقريبا يقابلها خمسة عشر صوتا مهموسا في هذا النص وهو لما فيه من التوبيخ مال لمناسبته أصوات الهمس واحتاج الاستفهام للمد فاتزن التنغيم فيه عما سبقه؛ لأن الأسلوب يرسم صورة النبي الأكرم بوساطة التوبيخ للمتلقي لأنه ظل شبحا بلا روح، والطبيب عنده دوار وذو مراهم محكمة ومواسم محمية يعالج مواضع الغفلة و كل داء نفسي وقلبي و... وهي جزء من صورة النبي الأكرم جاءت لترسم في شعور المتلقي عتبا و توبیخا واستفهاما مؤثرا في النفس يجيب عنه الشعور قبل اللسان فهو استفهام لا يراد به ما أريد بالأول إلا من جهة رسم الصورة النبوية، وقد جئنا به ليتضح الفارق بين النوعين ولنؤكد التنغيم وجودا في نصوص النهج التي تخص صورة النبي الأكرم صلى الله عليه

ص: 80


1- ظ: بهج الصباغة شرح نهج البلاغة: ج 7: 281

و آله وسلم . وهنا قد يسمي الباحث الأسلوب في رسم الصورة بالأسلوب المعكوس فالتنغيم التوبيخي يعطي دلالة سبب التوبيخ أن المتلقي لم يفد من هذه الصورة فهو الطبيب والقائد و كل ما عرفوه عن النبي قد ناب عنه المبدع فهو الأحق (فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّی حَیًّا ومَیِّتاً - فَانْفُذُوا عَلَی بَصَائِرِکُمْ - وَلْتَصْدُقْ نِیَّاتُکُمْ فِی جِهَادِ عَدُوِّکُمْ - فَوَالَّذِی لَاإِلهَ إِلَّا هُوإِنِّی لَعَلَی جَادَّهِ الْحَقِّ)(1) فكأنَّ المخاطب غافلا غير منتفع بعقله قليل النهضة للجهاد ولم ينتفع بسمعه وبصره وما إلى ذلك(2) .

ومن تنغيم الاستفهام بنوعيه السابقين نتناول تنغيما في نص بدا التنغيم به بطابع خاص جدا لرسم صورة خاصة جدا لا تتكرر مناسبتها للمبدع لرسمها في وقت آخر ولم يسبق لها في شعوره وعاطفته مثيل ولن يأتي بعدها أبد الدهر، ولا يخفی تنغيمها على المتلقي القارئ في زماننا وما بعده فضلا عن السابق والمتلقي السامع، ونغمه یكاد يسمع إذ بدا به الشعور لدى المبدع واضحا وحبا بخصوصية هذا النص نحاول أن نكون في أجوائه قليلا قبل تحليله.

الناس جميعا يصيبهم الحزن وألم الفراق عند فقد عزيز من أعزائهم أو حبيب ينشرون لأجله لؤلؤ عيونهم لأجله ويعلو صوت البكاء أياما بقدر عواطفهم وقدر العزيز الفقيد، ثم ينتهي ذلك كله بعد حين كأنه لم يكن لديهم من فقيد إلا اذا كان للفقيد صلة وثقى بالثاكل، أو أن له خطر عظيم في نفسه، كالولد يحزن على قدر العطف الذي تلقاه من والده والبر به، فيتضاعف الحزن ويقل ويكثر وفقا لهذه المعطيات من التواصل الرحمي.

ص: 81


1- نهج البلاغة: 197
2- ظ: اختيار مصباح السالكين شرح نهج البلاغة الوسيط، كمال الدين البحراني : 256

وكان الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله وسلم أبا لعلي ولزوجته وأبنائه، وفي الوقت نفسه كان أخا له بالمؤاخاة.. وأيضا كان استاذه طوال ثلاثين عاما حتى آتت النبوة أكلها في نفس الإمام علما وخلقا، ومن هنا كان لعلي خصائص لم تكن لأحد سواه، وإذا عطفنا على ذلك خطر الرسول، وانه سيد الأولين والآخرين أدركنا إلى أي مدى بلغ الشجن والأسى في نفس الإمام لفقد سيد الكائنات. (1)

فبعد وفاة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم تولى تجهيزه أمير المؤمنين (عليه السلام) وبعد الانتهاء من الغسل وفي لحظة الوداع الأخير التي يكشف فيها عن وجهه صلى الله عليه و آله وسلم كان ذلك لأمير المؤمنين و«لمّا کشف عليه السّلام الإزار عن وجهه صلى الله عليه و آله بعد غسله، انحنى عليه فقبّله مرارا، ویکی طویلا، وقال:»(2) «بِأَبِی أَنْتَ وَأُمِّی یَا رَسُولَ اللّه - لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوتِک مَا لَمْ یَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَیْرِک - مِنَ النُّبُوَّهِ وَالْاِنْبَاءِ وَأَخْبَارِ السَّمَاءِ - خَصَّصْتَ حَتَّی صِرْتَ مُسَلِّیاً عَمَّنْ سِوَاک - وَعَمَّمْتَ حَتَّی صَارَ النَّاسُ فِیک سَوَاءً - وَلَوْ لاَ أَنَّک أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ، وَنَهَیْتَ عَنِ الْجَزَعِ - لَاَنْفَدْنَا عَلَیْک مَاءَ الشُّؤُونِ - وَلَکَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلاً وَالْکَمَدُ مُحَالِفاً - وَقَلَّا لَک وَلَکِنَّهُ مَا لاَ یُمْلَک رَدُّهُ - وَلاَ یُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ - بِأَبِی أَنْتَ وَأُمِّی اذْکُرْنَا عِنْدَ رَبِّک وَاجْعَلْنَا مِنْ بَالِک»(3) .

تکرار صوت ما في أي نص يعد سمة أسلوبية لا سيما في مفردات معينة او

ص: 82


1- ظ: في ظلال نهج البلاغة، محمد جواد مغنية: ج 3: 189 - 190
2- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: ج 1:138 ، وحسب هاتين العبارتين وما تدلان عليه وممن صدرا ؟ وعلى من؟ أعني (فقبّله مرارا ) و(بكى طويلا )؟!
3- نهج البلاغة : 235

بالتوافق مع اصوات اخرى تتشاكل مع دلالة الخطاب، ونرى هنا تكرار صوت الراء ذي الصفة التكرارية في هذا الجو العاطفي الحزين جاء في المفردات: (رَسُولَ/ غَيْرِكَ/ أَخْبَارِ / صِرْتَ / صَارَ / أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ /رَدُّهُ /اذْکُرْنَا / رَّبكَ) وجلها يعود على صاحب الصورة (النبي الأكرم) إما بصفة أو ضمير وهذا التكرار بتنغيمه يوحي للمتلقي بتركيز العاطفة و تنامي الشعور الحزين المستمر لدى المبدع وأراد بأسلوبه تعميق هذا الحزن في النص أعلاه لتكون هذه المرة أداة الحزن والعاطفة بتنغيمها المميز معنی يوحي إلى قلب المتلقي جمال الصورة التي خصّت إلى الحد الذي اصبحت تسلي عن كل احد غيرها، وصوت الراء قد ساعد على هذه الدلالة لأن الصفات والمزايا التي يحملها هذا الصوت تنهض بما أراده المبدع من معنی في هذا النص (1) ، فالجهر والتكرار في هذا الصوت ومجيء أصوات المد في الكلمات أو سابقا لها كما أبتدأت في النداء (یَا رَسُولَ) وغيرها، شكلت باتصالها مع بعضها انعكاسا لحالة المبدع في الحزن واللوعة الكبيرين فكان الصوت في الأسلوب صدی لمعنى النص في رسم الصورة النبوية، كما تضامن مع هذه الأصوات وأيدها في انعكاس الدلالة المرجوة صوت العين لأن له قرعا خاصا على الأذن تأتي له من شدته ولخروجه من وسط الحلق صار له صفة صوتية خاصة(2) ، فقد كثف هذا الصوت عاطفة الحزن لما لمخرجه من توافق في موضع الشجي والحزن في الحلق عادة فجاء في المفردات: (انقطع / ينقطع عن اغتنمت اعن / الجزع اعليك استطاع /دفقه عند / اجعلنا) بتوزيع داخل النص وتناثر

ص: 83


1- ظ: تحليل رائية الخلود ، د. أحمد نصيف الجنابي، مجلة الطليعة الأدبية (7 و 8)، 1987: 18
2- ظ : علم الأصوات، د. كمال بشر: 304، والشعر الجاهلي: ج 1 : 101

منتظم مع صوتي الراء والمد، ويدلك على هذا التوزيع والانتظام والتضافر بین الأصوات عدم وجود صوت الراء مع العين في مفردة واحدة و كأنهما تقاسما الأدوار في داخل النص لبث الحزن والعاطفة الجياشة والصدق الوجداني في هذا الخطاب والحب المعلن عن تكراره وامتداده في هذه الأصوات لاسيما الألف المدية التي اعلنت امتداد الحزن لدى المبدع وكاد من الحزن أن ينفد ماء عينه وان يستمر معه لولا أن من أوامر صاحب الصورة وسبب الحزن الصبر وعدم الجزع وهو إيحاء آخر بجانب من الصورة النبوية بأن صاحبها مطاع وأمره مما يجدر اتباعه في كل حال.

ص: 84

المبحث الثاني: أسلوبية الإيقاع

توطئة

لم يرد المصطلح - الإيقاع - في بعض المعجمات الحديثة المختصة بهذا الشأن ويعد مصطلحا حديثا في دلالته التي يظن أنها غير مستقرة(1) ، فيقال هو الأوزان أو الحركات المتساوية في أدوارها في النص، (2) «وفي النثر يكون الإيقاع ملحوظا بتنوع الحركة والجمل المتوازنة وتنوع بناء الجملة وطولها ووسائل الانتقال من فقرة إلى فقرة أو من جملة إلى جملة والرخامة وحسن الوقع على الأذن»(3) ، وفي أصلها قيل هي كلمة مشتقة أصلا من اليونانية بمعنى الجريان والتدفق (4) ، وفي اللغة «الميقع والميقعة: المطرقة»(5) ، ومصدره أوقع متعدٍ وقع من

ص: 85


1- ظ: الأسلوبية الصوتية في شعر أدونيس، أ. م. د. عادل نذير: 27
2- ظ : قاموس الموسيقى العربية، د. حسين محفوظ: 148-149، وينظر: معجم الموسيقى، مجمع اللغة العربية: 21
3- معجم المصطلحات الأدبية، إعداد إبراهيم فتحي: 57
4- ظ، معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مجدي وهبة: 71
5- ظ: معجم النقد العربي القديم. د. أحمد مطلوب: ج 1: 227

وقع الكلام أي: تأثيره في النفس وليس في السمع فحسب، (1) و«الإيقاع من إيقاع اللحن والغناء، وهو أن يوقع الألحان ويبينها»(2) ، ووضع بعضهم للإيقاع قوانين منها مثلا النظام والتغيير والتكرار(3) . ونجد في معنى الإيقاع اللغوي أنه يوقع الألحان فيبنيها ويبينها وكأن البنيان متعلق بالمبدع حين بناء النص والبيان ما يتعلق بالمتلقي(4) . وفي الاصطلاح «رجوع ظاهرة صوتية على مسافات زمنية متساوية أو متجاوبة» (5) .

فالإيقاع ظاهرة أسلوبية نصية نتيجة تضافرها مع ظاهرة أخرى وترابط معين فيما بينها بتكرار يلفت انتباه المتلقي أو يؤثر فيه سواء كان التكرار صوتیا أم تکرار بعض المفردات الخاصة أم ترکیبا معينا، وهي قابلة للتغيير من نص لآخر بحسب ما يراه الباثُّ مناسبا للدلالة في ذلك النص ولا يؤثر تغييرها على معرفة أسلوب المبدع؛ لأن التغيير يحصل من المبدع نفسه فتبقى بصماته عليها وبها يعرف أسلوبه في مختلف النصوص، والايقاع وصف لهذه الظاهرة بما تتضمنه من أصوات ودلالة وتر کیب بشكل طبيعي غير متكلف تلقي بظلال تأثيرها على المتلقي(6) .

«وتأثير الإيقاع في المتلقي ينشأ عن الانسجام والتكرار في حين يكون للنظام والترابط دور في وصل مكونات النص وتماسكه من خلال بنية إيقاعية

ص: 86


1- ظ: في أقاليم الشعر، عبد الكريم الناعم، سلسلة الدراسات الأدبية واللغوية، آب، 1991: 28
2- لسان العرب: ج 408:8 ، (وَقَعَ ). وتاج العروس، الزبيدي : ج 11: 525 (وقع )
3- ظ: الأسس الجمالية في النقد العربي، د. عز الدين اسماعيل: 120
4- ظ: البنية الإيقاعية في شعر الجواهري، مقداد محمد شکر قاسم: 17
5- في الميزان الجديد ، محمد مندور: 33
6- ظ: تحليل الخطاب الشعري، البنية الصوتية في الشعر، د. محمد العمري : 11

متماسكة»(1) وبهذا يكون الإيقاع من أدوات الأسلوب في الربط بين المبدع والمتلقي لاسيما أنه قد بلغ مفهوما واسعا لدى بعضهم فيدخل في مفهومه الصوت والدلالة والتركيب،(2) والوزن بل إن بين الإيقاع والوزن عموما وخصوصا مطلقا(3) . ومن عوامل الربط التي تتضح بها أهمية الإيقاع هو أنه يعبر عن الخلجات النفسية والمشاعر الداخلية لأن تشکیلات الإيقاع المنتظمة تنقل العواطف إلى المتلقي لإيجاد تفاعل مشترك بين المبدع والمتلقي. (4)

والنصوص التي استخدمها الإمام (عليه السلام) في نهج البلاغة «تحتشد بإيقاعات هائلة تتناول كل مفردة ومركبة حتى لا تكاد تجد من بين آلاف المفردات والتراكيب مفردة أو ترکیبا خاليا من إيقاع ملحوظ». (5)

أنماط الإيقاع في أسلوب الإمام علي (عليه السلام)

هناك أنماط للإيقاع في النصوص المتعلقة بالنبي الأكرم في نهج البلاغة أسهمت بشكل واضح بالتضافر مع المكونات الصوتية والأسلوبية الأخرى في رسم صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ، كل نمط من هذه الأنماط بحسب مساحته التأثيرية ومدياته الصوتية التي تتشاكل مع الدلالة للجانب المنظور في صورة النبي الأكرم. ومن هذه الأنماط:

ص: 87


1- الإيقاع في القرآن الكريم (رسالة ماجستير)، عبد الواحد زيارة المنصوري: 12
2- ظ: البنية الإيقاعية في شعر الجواهري: 20
3- ظ : المصدر السابق: 50
4- ظ: مسائل في فلسفة الفن المعاصر، ج. م. جون، ترجمة سامي الدروبي: 168
5- أدب الشريعة الإسلامية، د. محمود البستاني: 138

1. الإيقاع السجعي

السجع «هو تواطؤ الفواصل في الكلام المنثور على حرف واحد»(1) ويعد السجع إحدى السمات الأسلوبية الواضحة والمهمة في نصوص رسم الصورة النبوية، وهو أيضا إحدى الوسائل الصوتية التي تستعمل لتحقيق إيقاع واضح في النصوص الأدبية ذات الأسلوب الفريد الذي يركز على المعنى، وتأتي الأسجاع فيه عفوية وسجايا أدبية لدى المبدع، إذ إن الإيقاع يتحقق في الكلام «بتقسیم الحدث اللغوي إلى أزمنة منتظمة ذات علامات متكررة وذات وظيفة وملمح جمالي»(2) وذلك لأجل التأثير في المتلقي ومنح النص جمالا وإيقاعا مؤثرا في المتلقي وجذب انتباهه ومشاعره.

و موسیقی السجع تعتمد على خاصية الإيقاع الصوتي المرتبطة بنهاية الجمل أو الفصول(3) ، فأهمية السجع في صنع الإيقاع في النثر كالقافية في الشعر، «إضافة إلى أنه وسيلة مهمة لفهم المعنى والإدلال عليه»(4) .

ومن أنماط السجع الإيقاعي السجع الذي تالف من كلمتين أو ثلاث وهو من أرقى أنواع السجع لأنه مما لا يقدر عليه أي أحد لقصر مساحته الإيقاعية ومن الصعب الإتيان بالمعاني ورسم صورها لدى المتلقي بألفاظ قليلة، ومن هذا قوله (عليه السلام): «ابْتَعَثَهُ بِالنُّورِ الْمُضِىءِ وَالْبُرهَانِ الْجَليِّ - وَالْمِنْهَاجِ الْبَادِي

ص: 88


1- المثل السائر: ج 1: 271
2- ظ: في التنظيم الإيقاعي للغة العربية، مبارك حنون : 48 - 49
3- ظ: جدلية الإفراد والتركيب، د. محمد عبد المطلب: 147
4- الإيقاع أنماطه ودلالته في لغة القرآن الكريم: 46

وَالْكِتَابِ الْهَادِي - أُسْرَتُهُ خَيْرُ أُسْرَةٍ، وَشَجَرَتُهُ خَيْرُ شَجَرَةٍ - أَغصَانُهَا مُعْتَدِلَةٌ، وَثِمَارُهَا مُتَهَدِّلَةٌ - مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ وَهِجْرَتُهُ بِطَيْبَةَ - عَلا بِهَا ذِكْرُهُ وَامْتَدَّ مِنْهَا صَوْتُهُ - أَرْسَلَهُ بِحُجَّةٍ كَافِيَةٍ وَمَوْعِظَةٍ شَافِيةٍ وَدَعْوَةٍ مُتَلافِيَةٍ - أَظْهَرَ بِهِ الشَّرائِعَ الْمَجْهُولَةَ - وَقَمَعَ بِهِ الْبِدَعَ الْمَدْخُولَةَ - وَبَيَّنَ بِهِ الْأَحْكَامَ الْمَفْصُولَة»، هنا إيقاع السجع الجميل وهو من أحسن أنواع السجع القصير؛ لأن أغلبه تالف «من لفظتين كقوله تعالى «وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا [ المرسلات /1، 2]) وقوله تعالی «يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ » [المدثر/ 1-5](2) ، وقد زاده جمالا صوتا المد (الألف والياء) وهما الصوتان المعروفان بما يعطيان للفظ من سعة وامتداد ووضوح سمعي واستمرار الهواء دون عائق، (3) واستمر أيضا صوت المنهاج والكتاب في رسم صورة النبي الأكرم (صلى الله عليه و آله وسلم في بعث النور المضيء بالبراهين الجليّة في الأمة وهو ما تمثل في لفظي (الْبَادِي) و(الْهَادِي) حيث الإيقاع المكون بالسجع في آخرهما بثلاثة أصوات فيهما واختلف في صوتي الباء والهاء فقط واختلف المعنى في اللفظين وهو ما يصعب على الكثير ولا يخفى الجمال الإيقاعي فيهما وقد ناسب الصورة النبوية الكريمة ودينها وشريعتها التي جاءت بها من حيث امتداد الطريق الظاهر الذي لا لبس فيه والقرآن الكريم الذي يهدي الجميع (4) فامتد الصوت في

ص: 89


1- نهج البلاغة: 161
2- المثل السائر: 257
3- ظ: أثر الانسجام الصوتي في البنية اللغوية في القرآن الكريم، د. فدوی محمد حسان: 5
4- ظ: توضيح نهج البلاغة، محمد الحسيني الشيرازي : ج2، : 440

الألف والياء وهو ما يعطي وضوحا وسعة في النطق يشير إلى وضوح المنهاج والكتاب وسعتهما ؛ لأن الاختلاف في الصوتين وقع في بداية المفردتين (الْبَادِي) و(الْهَادِي) والإيقاع أكثر مساحة في (ادِي) و (ادِي)(1) فواشجت سعة الدلالة المذكورة آنفا واعطت جمال الصورة النبوية لأهدی نبي بدا لعباد الله بالهداية والنصح. فهو الذي ارتقى بحبه الجامع أن يدخل الجميع معه بدرجته الأخروية ( فَلَعَلَّکَ بَخِعٌ نَّفْسَکَ عَلَی ءَاثَرِهِمْ إِن لَّمْ یُؤْمِنُواْ بِهَذَا الْحَدِیثِ أَسَفًا [الكهف/6]) فقد أجهد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم نفسه من أجل الكتاب الهادي(2) ، وقد امتد وقت النصح من النبي الأكرم حتى آخر حياته حين منعت عنه الدواة التي لا يظل بعدها أحد كل هذه الآلام وغيرها في نفس المبدع وهمه هو المنهاج والكتاب؛ لأنهما الحياة التي أرادها النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم للأمة ورسم الصورة النبوية من المبدع بهذا الجمال الإيقاعي وإيصالها إلى المتلقي لتبقى محبة الرسول دائما وأبدا لأن الحب هو الدين.

وفي قوله عليه السلام: «أَرْسَلَهُ بِحُجَّهٍ کَافِیَهٍ وَمَوْعِظَهٍ شَافِیَهٍ وَدَعْوَهٍ مُتَلاَفِیَهٍ - أَظْهَرَ بِهِ الشَّرائِعَ المجْهُولَهَ - وَقَمَعَ بِهِ الْبِدَعَ الْمَدْخُولَهَ - وَبَیَّنَ بِهِ الأَحْکَامَ الْمَفْصُولَهَ - فَمَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ الاْءِسْلاَمِ دِیناً تَتَحَقَّقْ شِقْوَتُهُ - وَتَنْفَصِمْ عُرْوَتُهُ وَتَعْظُمْ کَبْوَتُهُ - وَیَکُنْ مَآبُهُ إِلَی الْحُزْنِ الطَّوِیلِ وَالْعَذَابِ الْوَبِیلِ - وَأَتَوْکَّلُ عَلَی اللّهِ تَوَکُّلَ الاْءِنَابَهِ إِلَیْهِ - وَأَسْتَرْشِدُهُ السَّبِیلَ الُمؤدِّیَهَ إِلَی جَنَّتِهِ - الْقَاصِدَهَ إِلَی مَحَلِّ رَغْبَتِه» (3) .

ص: 90


1- ظ: ظواهر أسلوبية في القرآن الكريم، د. عمر عبد الهادي عتيق: 350
2- ظ: الميزان في تفسير القرآن: ج 239:13
3- نهج البلاغة: 161

نرى الإيقاع الذي كونه السجع في أواخر الألفاظ (کَافِیَهٍ)، (شَافِیَهٍ)، (مُتَلاَفِیَهٍ) وفي (المجْهُولَهَ)، (الْمَدْخُولَهَ)، (الْمَفْصُولَهَ)، وفي (شِقْوَتُهُ)، (عُرْوَتُهُ)، (کَبْوَتُهُ)، وفي (الطَّوِیلِ)، (الْوَبِیلِ) وفي (جَنَّتِهِ)، (رَغْبَتِه) وهي نهايات تغيّر حيث الوقف على تاء التأنيث کهاء السكت في أغلبها وهو صوت له أثره السمعي ينعكس فيه (1) ،شيء من دلالة السياق الواردة فيه ، ويعطي قوة ووضوحا للإيقاع ولاسيما في اللفظتين (کَافِیَهٍ)، (شَافِیَهٍ) الخماسيتين وعلى وزن واحد واختلفتا في صوتي (الكاف والشين) و تجانستا في بقية الأصوات، ونجد هنا الصوتين المختلفين قد اتفقا في جميع الصفات تقريبا (الهمس والاستفال والانفتاح والاصمات) إلا التفشي وهو صفة تختص بصوت الشين وليس من الصفات المتضادة، واختلفا في شدة صوت الكاف ورخاوة صوت الشين، ولو تأملنا دلالة الحجة الكافية و كونها ما جاء به النبي الأكرم من الآيات الّتي قهر بها أعداء الله، فكان هذا الأمر شديدا عليهم(2) ، كما اشتد صوت الكاف. «والموعظة الشافية ما اشتمل عليه القرآن العظيم والسنّة الكريمة من الوعد والوعيد وضرب الأمثال والتذكير بالقرون الماضية والآراء المحمودة الجاذبة للناس في أرشد الطرق إلى جناب ربّهم، وكفى بها شفاء للقلوب من أدواء الجهل»(3) . وتفشي الشفاء في جسد الأمة بالنبي الأكرم وما جاء به كما تفشی صوت الشين في إيقاع (شَافِيَةٍ)، وما اشتمل عليه القرآن الكريم (الحجة) هو الآيات فيكون التقارب بين الدلالتين

ص: 91


1- ظ: الأسلوبية الصوتية في شعر أدونيس: 188-189
2- ظ: شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: ج 3: 291
3- المصدر السابق : ج 3: 291

وأصواتهما واضحا مع الفرق في الجهة المنظورة في صورة النبي الأكرم فتواشجت الأصوات لتواشجها مع الدلالة، بعد أن صور الإمام عليه السلام المعني في نفسه، ثم صاغه بلفظ مسجوع محمول على الطبع غير متكلف فيه، فجاء في غاية الحسن وأعلى درجات كلام المخلوقين وقد ملك به رقاب الكلم وكان الأولى بقول المتنبي:

أَنْتَ الْوَحِيدُ إِذَا رَكبْتَ طَرِيقَةً وَمَنِ الرَّدِيفُ وَقَدْ رَكِبْتَ غَضَنْفَرَا(1) ونجد في النص أيضا إيقاعا من السجع الذي في (الشَّرائِعَ المجْهُولَهَ) (الْبِدَعَ الْمَدْخُولَهَ) (الأَحْکَامَ الْمَفْصُولَهَ)، والاختلاف في أصوات كل لفظ منها على التوالي في (ج، ه ا د، خ /ف، ص) ولكثرة أصوات السجع في آخرها وطول اللفظة غدا جرسها واضحا بالإيقاع المثير بموسيقاه الجاذبة فتعطي فسحة للمتلقي بتأمل ما كان يجهله الناس من شرائع جاء بها النبي الأكرم وكذا ما قمعه صلى الله عليه و آله وسلم من البدع المعيبة (2) ، وللتفكر بالأحكام المفصولة سواء كانت ما جاء بها النبي الأكرم من الله (3) «وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا [الأنعام/ 116]) أو «الشرائع المقطوعة المتروكة من ملة إبراهيم عليه السلام»(4) . وكلها بالالتزام تعطي صورة الانسان

ص: 92


1- ديوان أبي الطيب المتنبي شرح أبي البقاء العكبري: م 1: 167
2- ظ: أعلام نهج البلاغة، علي بن ناصر السرخسي: 153
3- ظ: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة : ج 7: 106
4- منهاج البراعة، الراوندي : ج 2: 121

الذي لم يغترّ بر به الكريم الذي خلقه فسواه فعدله وفي أحسن صورة بمشيئته ركبه وهو النبي الأكرم صلى الله علیه و آله و سلم .

ففي إحدى الصور التي يرسمها الإمام (عليه السلام) للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، لا يمكن للمتلقي أن لا يثيره السجع الصوتي إن لم يكن جميع النص مثيرا بإيقاعه «ثُمَّ إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وآله وسلم بِالْحَقِّ - حِینَ دَنَا مِنَ اَلدُّنْیَا اَلاِنْقِطَاعُ وَ أَقْبَلَ مِنَ اَلْآخِرَهِ اَلاِطِّلاَعُ - وَ أَظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ إِشْرَاقٍ وَ قَامَتْ بِأَهْلِهَا عَلَی سَاقٍ - وَ خَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ وَ أَزِفَ مِنْهَا قِیَادٌ - فِی اِنْقِطَاعٍ مِنْ مُدَّتِهَا وَ اِقْتِرَابٍ مِنْ أَشْرَاطِهَا - وَ تَصَرُّمٍ مِنْ أَهْلِهَا وَ اِنْفِصَامٍ مِنْ حَلْقَتِهَا - وَ اِنْتِشَارٍ مِنْ سَبَبِهَا وَ عَفَاءٍ مِنْ أَعْلاَمِهَا - وَ تَکَشُّفٍ مِنْ عَوْرَاتِهَا وَ قَصْرٍ مِنْ طُولِهَا - جَعَلَهُ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ بَلاَغاً لِرِسَالَتِهِ وَ کَرَامَهً لِأُمَّتِهِ - وَ رَبِیعاً لِأَهْلِ زَمَانِهِ وَ رِفْعَهً لِأَعْوَانِهِ وَ شَرَفاً لِأَنْصَارِهِ»(1) وهو سجع النهايات في المفردات:

(اَلاِنْقِطَاعُ / اَلاِطِّلاَعُ) (إِشْرَاقٍ / سَاقٍ) (مِهَادٌ / قِیَادٌ) (مُدَّتِهَا /أَشْرَاطِهَا /أَهْلِهَا / حَلْقَتِهَا / سَبَبِهَا / أَعْلاَمِهَا / عَوْرَاتِهَا /طُولِهَا) (ِرِسَالَتِهِ /أُمَّتِهِ / زَمَانِهِ /أَعْوَانِهِ / أَنْصَارِهِ).

النص بإجماله مسوق لبيان منة الله تعالى العظيمة على العباد بعثه نبيّاً مثل النبي محمد صلى الله عليه و آله وسلم وهو أن أنقذهم من هذه الحال التي فصلها لهم. وأراد المبدع بیان عظمة المنِ الإلهي ليؤثر في المتلقي بعد إقناعه وإفهامه

ص: 93


1- نهج البلاغة : 198

ليؤدي الشكر وليكون من الذاکرین(1) ، فكان للسجع دور بعده مکونا للإيقاع المثير للمتلقي ليتأمل في الدلالة المنشودة في رسم صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم التي منها ابتدأ معهم النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم فمثلت حياتهم الابتداء مع الصورة النبوية المشرقة من الفترات والأحوال التي ذكرها المبدع فأفرد لها أسلوبا يثير المتلقي بتكرر أصوات السجع في نهايات المقاطع في مواضع مختارة حيث بدأ ذكر النبي وأن الله بعثه، ليشير إلى أن جمال الصورة النبوية في كل الأحوال باق على مكانته ولذته في جسم الأمة التي ابتدأ معها تغيير النفس وأن إخفاءه عن الدنيا بموته لن يضر إلا من ينقلب على هذه الصورة النبوية الكريمة (أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا » [آل عمران/144])، بهذا السجع الإيقاعي المكرر بتنوع نهايات الفقرات شكل اللفظ المنتظم إيقاعا مثيرا ومنبها إلى ابتداء شيء تحول إلى الأفضل يدعو المتلقي إلى تفاعل شعوري عملي غير التفاعل الشعوري الذي يبدو منه وأراد المبدع أن يغير الحال التي عليها المتلقي بإثارته بأسلوب السجع الإيقاعي الجميل ليعيد له شعوره الحق بعد الإفهام والتركيز على نقطة البدء التي منها بدأ تغيير الحال بسبب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ومنها ترتسم صورة النبي في ذهن المتلقي ليصبح أمام ضميره المغيب عن هذه الصورة العظيمة وما تستحقه من تأثير يستدعي منه ما يناسب عناء هذه الشخصية الكريمة (النبي الأكرم) في إنقاذ الإنسان من التفرّق والتشتت والإلحاد ؛ لأن «أَهْلُ اَلْأَرْضِ یَوْمَئِذٍ

ص: 94


1- ظ: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة : ج 303:12

مِلَلٌ مُتَفَرِّقَهٌ - وَ أَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَهٌ - وَ طَرَائِقُ مُتَشَتِّتَهٌ بَیْنَ مُشَبِّهٍ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ أَوْ مُلْحِدٍ فِی اِسْمِهِ - أَوْ مُشِیرٍ إِلَی غَیْرِهِ - فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ اَلضَّلاَلَهِ وَ أَنْقَذَهُمْ بِمَکَانِهِ مِنَ اَلْجَهَالَهِ »(1) . فكأن المبدع بأسلوبه التكراري لهذا السجع الإيقاعي المتنوع والإلحاح به أراد إثارة المتلقي عن طريق الفضول الغريزي لديه ليسأل نفسه لماذا لم يتخذ الموقف المناسب اتجاه ذلك لتبدأ مسألة حساب النفس وتفاعل الشعور ثم يأخذ المتلقي بعد الإفهام دور المبدع نفسه؛ لأنه من الغايات العليا للمبدع أن يريد نقله لنفس الشعور الذي عنده؛ لأن المبدع ممن عاش هذه الحالة من أولها إلى وقت الخطاب، وهو خبير بكل تفاصيلها ومخلص لها، ولم يحد عنها طرفة عين فقد كان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم « یَسُوقُهُمْ إِلَی مَنْجَاتِهِم»(2) .

والمبدع يقول: «وَ اَیْمُ اَللَّهِ لَقَدْ کُنْتُ مِنْ سَاقَتِهَا - حَتَّی تَوَلَّتْ بِحَذَافِیرِهَا - وَ اِسْتَوْسَقَتْ فِی قِیَادِهَا - مَا ضَعُفْتُ وَ لاَ جَبُنْتُ - وَ لاَ خُنْتُ وَ لاَ وَهَنْتُ - وَ اَیْمُ اَللَّهِ لَأَبْقُرَنَّ اَلْبَاطِلَ - حَتَّی أُخْرِجَ اَلْحَقَّ مِنْ خَاصِرَتِهِ»(3) ، ومثل المبدع حلقة وسطی بین الصورة النبوية والمتلقي ففي المبدع من صفات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم أن مجرى الأمور معه تعترضه بعض الحوائل، وأنه «مَوْضِعُ سِرِّهِ وَلَجَأُ أَمْرِهِ وَعَيْبَةُ عِلْمِهِ وَمَوْئِلُ حُكْمِهِ»(4) . وفيه ايضا أنه مع المتلقي لا يكاد يُسْمَعُ له رأي مع انه أكثرهم وضوحا في الإسماع إذ يقول: «وَ اللّهِ مَا أَسمَعَكُمُ الرّسُولُ صلى الله

ص: 95


1- نهج البلاغة: 1
2- نهج البلاغة : 104
3- نهج البلاغة : 104
4- نهج البلاغة : 2

عليه و آله وسلم شَيئاً إِلّا وَ هَا أَنَا ذَا مُسمِعُكُمُوهُ»(1) ، «وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلاَقِهِ عَلَماً وَيَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ الله وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ الله مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ - فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ - إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَتَرَى مَا أَرَى - إِلاَ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ وَلَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ - وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ»(2)

ومنها يمكن تقدير الشعور والحالة النفسية والمعاناة للمبدع لأنه عاش أحداث الابتداء في الاتجاه التغييري وثبت عليها ويعاني مرارة نسيان أو تناسي المتلقي هذا الفضل، وفي هذا النص المدروس أراد بيان فضل الله والحث على التقوى وفضل الإسلام والقرآن؛(3) لأن التكرار في السجع بشكل لافت ولا سيما في الألفاظ التي انتهت بالهاء والفتحة الطويلة الألف) مثل (مُدَّتِهَا /أَشْرَاطِهَا..) فهذا وغيره يفصح عن حالة المرسل النفسية والحالة الشعورية التي يعيشها بتكرار هذا السجع الإيقاعي المؤيد بالاستعارات والكنايات التي ذكرها لتدل على حالته التي سيطرت في أثناء الخطاب، (4) فاستعار لفظ الاطلاع وأنهم أشرفوا على الموت وورود الآخرة دون صلاح والظلام بعد الإشراق و کناية الساق التي توحي بالشدة والخشونة من عدم الاستقرار ولا طيب العيش التي كني عنها (خشن منها مهاد) كل ذلك والحالات المؤلمة التي ذكرها تستدعي التأمل في سبب تذکرها عند المبدع في زمن

ص: 96


1- نهج البلاغة : 89
2- نهج البلاغة : 192
3- ظ: شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: م1: 746
4- ظ: قضايا الشعر المعاصر: 262 - 263

انتهائها؟ فهي مرآة لشعوره لدى المتلقي ومن كل ذلك ترتسم صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم و كونه المثل الأعلى لخليفة الله في الأرض الذي يصلح فيها ويحقن الدماء ويسبح بحمد الله حقا وصدقا، فينبغي مراعاة صاحب الصورة في من خلفه وهو منه وممثله والمكمل دينه والمتم النعمة التي أنعم الله بها عليهم بصاحب الصورة، فالأسلوب يرشد المتلقي إلى أن يمارس شعوره الطبيعي دون إكراه ويؤدي دوره بالدرجة التي عليها المبدع لأنه يحمل الروح التي لا ترى الآخر أقل منها وإن كانت هي الأعلى، فالفقرات الداخلية للخطاب توحي بإيقاعها المكون بالسجع الذي يعطي فسحة لتأمل المتلقي بحالة البؤس التي كان الناس عليها وقت بدء البعثة ولأن وقت الخطاب في مقام زمن انتهائها وتبدلها على يد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ومنها اتضحت صورته العظيمة بالقدرة على تغييرها. بهذا الأسلوب تم إقناع المتلقي وإمتاعه وإفهامه الصورة العظيمة للنبي الأكرم فهو« كرامة لأمته لكونه داعيا لهم إلى الكرامة الباقية التامة وسيبا للكرامة»(1) بما ألح عليه في التكرار السجعي الإيقاعي بإثارات عززت الدلالة بالتضامن مع الطاقات التعبيرية للمبدع وما للسجع الصوتي من علاقة قوية بالمعنی و كون كل واحدة من الأسجاع «مشتملة على معنى غير المعنى الذي اشتملت عليه أختها»(2) ، لعلها أوصلت المتلقي إلى المستوى الشعوري لدى المبدع، لأنها جاءت بلا تكلف في القول، بل باختيار البليغ المتمكن من جميع أدواته الأسلوبية وعفوية القول الصادق، هذا الاختيار العفوي للسجع وما أعطاه من الإيقاع في مختلف

ص: 97


1- ظ: شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: م 1 : 755
2- المثل السائر: ج 214:1

الأبنية وتغيره مع تغيير الدلالة لا يعطي انطباعا لدى المتلقي قارئا وغيره إلا أن المبدع أو حد، والأسلوب في أدبه قد تفرد، فيقود المتلقي إلى منجاته إذ يثيره الإيقاع الذي كونه السجع ويؤثر فيه لأنه سجية وجاء مسترسلا ويخاطب عقله فيقنعه في نص همه المعنى لأنه صورة عظيمة رسمت في شعوره الصافي وحرکه ضميره لنقلها إلى كل المشاعر لترتسم فيها فينتقل الدور الفعلي من المبدع الداعي إلى المتلقي الواعي، وهذه القدرة الأسلوبية في طرق رسم صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم في نصوص جعلت مبدعها راسما طريق البلاغة؛ لأن بلاغة المتكلم «هي ملكة في النفس يقتدر بها صاحبها على تأليف كلام بليغ مطابق لمقتضى الحال مع فصاحته في أي معنی قصده وتلك غاية لن يصل إليها إلا من أحاط بأساليب العرب خُبْرا وعرف سنن تخاطبهم في منافراتهم و مفاخراتهم ومديحهم وهجائهم وشكرهم واعتذارهم لِيَلبُس لكل حالة لبوُسها ولكل مقام مقال»(1) .

2- الإيقاع الوزني

في هذا التصوير الإبداعي للنبي الأكرم يقول المبدع: «مُسْتَقَرُّهُ خَیْرُ مُسْتَقَرٍّ - وَ مَنْبِتُهُ أَشْرَفُ مَنْبِتٍ - فِی مَعَادِنِ اَلْکَرَامَةِ - وَ مَمَاهِدِ اَلسَّلاَمَهِ - قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أَفْئِدَهُ اَلْأَبْرَارِ - وَ ثُنِیَتْ إِلَیْهِ أَزِمَّهُ اَلْأَبْصَارِ - دَفَنَ اَللَّهُ بِهِ اَلضَّغَائِنَ - وَ أَطْفَأَ بِهِ اَلثَّوَائِرَ أَلَّفَ بِهِ إِخْوَاناً - وَ فَرَّقَ بِهِ أَقْرَاناً - أَعَزَّ بِهِ اَلذِّلَّهَ - وَ أَذَلَّ بِهِ اَلْعِزَّهَ - کَلاَمُهُ بَیَانٌ وَ صَمْتُهُ لِسَانٌ»(2) .

إذا لم نستطع تصور الأداء الشفاهي لهذا النص ومدى أثره العملي لدى المتلقي

ص: 98


1- جواهر البلاغة: 31-32
2- نهج البلاغة: 96

فلا يخفى على القارئ أثناء قراءته السمات الأسلوبية في النص التي تلاحقه عند قراءته ولاسيما الموزونة منها وما توحيه من فرادة الأسلوب الصوتي والإيقاعي للمبدع،(1) ولعلها لعذوبتها وأدائها المتميز تنسي التفكر في المعنى الأعظم الذي تصوره لشخصية النبي الأكرم في (مَعَادِنِ الْكَرَامَةِ)، (مَمَاهِدِ السلامة ) أداء موزون وإيقاع مكنون يتبعها أداء صوتي آخر أقل ما يعطي فرادة الأسلوب الصوتي للمبدع (عليه السلام) حيث (قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أفْئِدَةَ الْأبْرَارِ)، (وَثُيَتْ إلَيْهِ أَزِمَّةُ الْأَبْصَارِ)، موزونة بغض النظر عن بحرها الشعري الذي توافقه، ولاسيما وأن الوزن ليس محصورا قيامه في الشعر، بل يوجد في النثر أيضا، والوزن يقوم على أساس موسيقي نظرا لاشتراكه مع الموسيقى في جذر إيقاعي واحد هو تعاقب الحركة والسكون كما أنهما يشتركان في سمة التناسب(2) ، والمتلقي لهذا النص لإثارة النص له بما تضمنه من ترابط و موسیقی إيقاعية لا يستطيع فك جزء منه عن الآخر فترابطه عجیب و شده غریب حيث يرتبط (مَعَادِنِ الْكَرَامَةِ) و (مَمَاهِدِ السَّلَامَة) بالإيقاع الصوتي الموزون الرائع ويرتبط أولهما (مَعَادِنِ الْكَرَامَةِ) بما قبله (مَبْبِتُهُ أَشْرَفُ مَنْبِتٍ) وليس كما ذهب بعض الشراح من عوده على(مُسْقَرُّهُ خَيْرُ مُسْتَقَرٍّ)(3) بدلالة نهج البلاغة نفسه في (فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً)(4) ،

ص: 99


1- ظ: الأسلوبية الصوتية في شعر أدونيس: 23
2- ظ: نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين من الكندي حتى ابن رشد ، د. ألفت محمد كمال : 252 - 253
3- كما في بهج الصباغة شرح نهج البلاغة، محمد تقي التستري: ج 2، 198. يقول: (الظاهر رجوع مماهد السلامة ) إلى (منبته ))
4- نهج البلاغة: 94

و كذلك كونه خبرا آخر من باب تعدد الأخبار أو صفة أو حالا لكونه نكرة غير محضة (1) فكلها أسباب تربط النص ولا تسمح لمن يهمه المعنى أن يتوقف على جزء منه، بل يشد قارئه العجول إلى نهاية الوصول، من ثمرة الإثارة في جمال العبارة والتأثر بما يثيره في الذهن من تدبر لما فيه من ارتباط إيقاع صوتي بالدلالة، كما أن المقطع (قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أَفْئِدَةُ الْأَبْرَارِ) يرتبط وزنا بما بعده (وَثُنِيَتْ إِلَيْهِ أَزِمَّةُ الْأَبْصَارِ) وبما قبله كونه حالا من منبته أشرف منبت فيرتبط النص بعضه مع بعض في بناء مرصوص لا يشتكي الانفصال منه شطر إلا وتداعی له آخر بالاتصال وزنا أو تركيبا أو غير ذلك، وهو نوع من التماسك بسبب علاقات النص اللفظية أو الدلالية بين أجزائه(2) ، وهو اتصال توافق مع المضمون للنص إذ يرتبط المنبت الشريف بما سبقه من ذرية إبراهيم (عليه السلام) «رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّم» [إبراهيم /37).

والفرادة التي يجدها المتلقي لاتتمثل في الوزن الإيقاعي بمعزل عن مراد المبدع الذي هو المعنى فالباثُّ في هذا النص وغيره دلالة النص هي محط اهتمامه الأول فهو يغير الإيقاع ولا يراعي ما قبله مع أنه بالإمكان السير على منواله لاسيما أن اللغة طوع بنان المبدع ففي مثل قوله (مُسْتَقَرُّهُ خَیْرُ مُسْتَقَرٍّ وَمَنْبِتُهُ أشْرَفُ مَنْبِتٍ) جاء ما بعدها انزياح عن المتوقع ومفاجأة أسلوبية لأنه ربما يتوقع المتلقي أن يأتي (ومعدنه أفضل معدن) وربما يقبل من الكثير؛ لان المبدع قاله في نص

ص: 100


1- ظ : منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة : ج 7، ص117
2- ظ: منهج التحليل اللغوي في النقد الأدبي (بحث ) : 252

آخر حيث يقول: (فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ اَلْمَعَادِنِ مَنْبِتاً)(1) لكن المعنى اقترن بالحال (مَنْبِتاً) وهو ما يوافق الدلالة، فقوله (فی مَعَادِنِ الْکَرَامَهِ) خبر عن (منبه) أو صفة أو حالا من (أَشْرَفُ مَنْبِتٍ)(2) . وفي جميع الأحوال الصورة ترسم فضل (المنْبِت) كما في الخطبة (فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ اَلْمَعَادِنِ مَنْبِتاً)(3) ، فالمعدن کَرُمَ وفضل بسبب المنبت بغض النظر عن المعادن هي الرسالة (4) أو مكة أو غيرها5 ؛ لأنها جميعا کریمة وفاضلة ف- (مَنْبِتاً) في قوله (أَفْضَلِ اَلْمَعَادِنِ مَنْبِتاً) قید لولاه ما صح کون المعادن هي الأفضل وهو ما يوافق المعنى، فالإيقاع في أسلوب المبدع تبع للمعنی وهو ما يزيد الأسلوب تشويقا وفرادة وهو ما يستدعي إثارة المتلقي، فالعفوية في النص المصور للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم هي السمة الأسلوبية الواضحة لأنه عرف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) انه ما كان يقصد للتكلم إلا إذا كان به للكلام حاجة ماسة وضرورة خطابية تستدعي ذلك فمن قول له (عليه السلام): «إن كان للكلام مقتض فلا خير في السكوت»(5) . فأمير المؤمنين (عليه السلام) يلحظ الوقت المناسب للكلام واحتياج المتلقي لذلك في الوقت المناسب والسبب والخصاصة التي توجب الفهم والقبول العقلي والشعوري، وهذه سنة القرآن في تنزيل الآيات مع أسبابها وحوادثها المعروفة واحتياج ذهن المتلقي

ص: 101


1- نهج البلاغة: 94
2- ظ : منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة : ج 117:7
3- نهج البلاغة: 94
4- ظ، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة : ج 7: 118
5- شرح نهج البلاغة ابن ميثم البحراني: ما ص 475. (6) بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة : ج 13 : 252

للإجابات على مختلف نواحي الهداية الإنسانية فوقت الحاجة والطلب الذهني للاستفسار عن المجهول أو ما يستدعيه المقام هو ما يجعل الاستقبال لدى المتلقي أكبر وأنجع لبلاغ الأغراض والمقاصد.

فالمتلقي يكون استقباله للكلام و تأثره به أعلى من الحالات التي لا يكون مستعد الذهن فيها لذا «لما أقبل صاحبا السجن على نبي الله يوسف (عليه السلام) في سؤاله عن تأويل رؤيا رأياها. اغتنم (عليه السلام) الفرصة في بث ما عنده من أسرار التوحيد والدعوة إلى ربه سبحانه الذي علمه ذلك فأخبرهما أنه عليم بذلك بتعليم من ربه خبير بتأويل الأحاديث و توسل بذلك إلى الكشف عن سر التوحيد ونفي الشركاء ثم أول رؤياهما.»(1) فهذه الحال أفضل مما لو كان الخطاب عن غیر سؤال أو حاجة ولو مقامية، فنبي الله يوسف (عليه السلام) دعا إلى الله عندما جاءه رفيقا السجن بسؤال عن الرؤيا مع أنهما كانا معه في السجن قبل ذلك لكن خلو نفس المتلقي واستعداده الذهني جعله يطرح التوحيد وهو الهدف السامي للأنبياء ومنهم النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ، ومراعاة ذهن المتلقي في رسم صورته العظيمة وما لديه من استعداد من شانه أن يكون حلقة وصل بين المبدع والمتلقي، والذهن العربي هو ذهن إيقاعي في أحد نواحيه والخطاب الشعري أو الوزن الإيقاعي يحدث التأثير المناسب عند المتلقي بإيقاعه المتمثل ب- الأصوات أو الحركات والأوزان المنتظمة في زمن بالتكرار(2) ، والإيقاع لا يقتصر على الشعر، بل يظهر في النصوص الخطابية النثرية وإن كانت خالية من الوزن

ص: 102


1- الميزان في تفسير القرآن: ج 172:11
2- ظ: مدخل إلى علم الأسلوب، د.شكري محمد عياد : 53

العروضي وربما كان الوزن جزءا من الإيقاع ، لذا إن من الراجح استعمال الإيقاع(1) في الأسلوب الإبداعي والبلاغي وهو محط قدرة المبدع الأسلوبية، وفي هذا الأسلوب قد تكررت حروف الألف والميم والتاء المربوطة في (الْكَرَامَةِ)، (السَّلَامَةِ) فكانت بمثابة القافية الشعرية التي تثير المتلقي وزادها الوزن جمالا وتأكيدا ففي: (مَعَادِنِ) = (مفاعل) و(مَمَاهِدِ) = (مفاعل) فالإيقاع في شطري العبارة بوزن واحد: (مَعَادِنِ الْكَرَامَةِ) (مَمَاهِدِ السَّلاَمةِ) (مفاعلن مفاعلْ) (مفاعلن مفاعلْ) فالجمال الإيقاعي يشد الذهن إليه وربما يشغله عن فكرة ما يدل عليه النص للوهلة الأولى لكن الانشغال ينقلب إمتاعا مع التدبر في دقة المعنى المراد من تصوير النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم بشرف الميلاد وطهارة المولد والأرحام فجمال الإيقاع واتزانه وشده لذهن المتلقي يواشج جمال الصورة النبوية في الميلاد واتزانها في الأرحام والأصلاب الشامخة وشدها في ذهن المؤمن بالرسالة المحمدية، ولجمال الأسلوب الإيقاعي ودقة الأسلوب الذي يثير القارئ إذ تكرر الجمال الإيقاعي في شطرين موزونين آخرين في النص يجعل الباحث يرجح الظن في حركات الأصوات التي لا تتوافق مع الإيقاع إذ یُری جمال الإيقاع الذي يقترب من بيت من البحر البسيط في شطرين:

قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أيد الأبرار وثُتِيَت إِلَيْهِ أَزِمَّةُ الأبْصَارِ

ص: 103


1- ظ: البنية الإيقاعية في شعر الجواهري: 50، وللزيادة والتفصيل ينظر الإيقاع أنماطه ودلالاته في الغة القرآن الكريم (رسالة ماجستير)، عبد الواحد المنصوري

فأصوات المفردة (وثُتِيَت) بحركاتها الأربع المتتالية قد تُضْعِف الإيقاع، لذا يُرَجَح أنها (ثُنَّیِتْ) بتشديد النون لتكون أوزان أول الشطر في النص (قَدْ صُرِفَتْ) = (مُسْتَعِلُنْ) وتكون (وثُتِيَت) = (مُفْتَعِلُنْ)(1) ، وهما مايتحولان من (مُسْتَعِلُنْ)، والتضعيف زيادة في المبنى وهو ما يستتبع زياة المعني. وفي هذا المقطع انزياح واضح عن مقاطع النص السابقة وفقراته واللاحقة له، ولأن المبدع يختار أسلوبه بعفوية قوامها التأثير في المتلقي فقد اختار هذا الوزن الذي ورد في القرآن الكريم(2) (کَأَنَّمَا أُغْشِیَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا) [يونس /27] بقربه من البحر البسيط لأن هذا البحر ذو وقع مؤثر في نفوس المتلقين ويتميز بغنائية من الأهمية التي تكمن في تغييرات تفعيلاته وهو ما يندر في الأبحر الأخرى.(3) ولعل من مناسبة الوزن لغرض التأثير في المتلقي كون دلالة المقطع في مكنون الشعور الإنساني وهي الأفئدة ولأن من صرفت أفئدتهم إلى صورة النبي الأكرم هم من الذين بلغوا الطيب والصفاء الشعوري النبيل وهو من أجمل الأحاسيس التي تناسبها موسيقية هذا البحر. (4)

ويتابع الإيقاع أشطره المتوازنة و كأنه قصيدة من الشعر الحر ذات المستوى العالي جدا فهو نص انزياحي بعمومه وخصوصه فانزياحه في العموم قد بني على الأشطر الثنائية المتقابلة كل شطرين بإيقاع و تقابل خاص:

ص: 104


1- ظ: الجديد في العروض 113، والواضح في علم العروض والقافية : 18
2- موسيقى الشعر: 308
3- ظ: الجديد في العروض: 109
4- ظ: البنية الموسيقية في شعر المتنبي ، د. محمد حسين الطريحي: 18 - 19

1. مُسْتَقَرُّهُ خَیْرُ مُسْتَقَرٍّ وَمَنْبِتُهُ أشْرَفُ مَنْبِتٍ

2. مَعَادِنِ اَلْکَرَامَهِ وَ مَمَاهِدِ اَلسَّلاَمَهِ

3. قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أَفْئِدَهُ اَلْأَبْرَارِ وَ ثُنِیَتْ إِلَیْهِ أَزِمَّهُ اَلْأَبْصَارِ

4. دَفَنَ اَللَّهُ بِهِ اَلضَّغَائِنَ وَ أَطْفَأَ بِهِ اَلثَّوَائِرَ

5. أَلَّفَ بِهِ إِخْوَاناً وَ فَرَّقَ بِهِ أَقْرَاناً

6. أَعَزَّ بِهِ اَلذِّلَّهَ وَ أَذَلَّ بِهِ اَلْعِزَّهَ

7. کَلاَمُهُ بَیَانٌ وَ صَمْتُهُ لِسَان

وانزياحه في خصوصه باختلاف الشطر طولا ووزنا و ترکیبا عن سابقه ولاحقه، فالنص مثير جدا ويشد المتلقي بشدة لأنه أسلوب فريد في كل جزء. فمن ناحية ترى أن كل شطرين منعزلان وكأنه لا علاقة لهما بالنص لأنهما بوزن أو إيقاع أو ترکیب موحد لكن الربط الدلالي ووشائج التركيب الجملي والنحوي لا يمكن إغفال التماسك في أسلوبها المميز، فهو شكل مناخا يؤشر لدى المتلقي في هذا النص مجموعة من التكرارات الشطرية الثنائية المتغيرة بأسلوب يستفز ذائقته الشعورية والإحساس بجمال الصورة النبوية التي تركبت أشطرها الخَلْقِية والخُلُقِية بأعلى مستويات الكمال كما تركب النص بإيقاعه الذي يستوقف المتلقي ليقول لم أر - غير القرآن والحديث الشريف - قبله نصا مثله ولا بعده كما تستوقف الصورة النبوية واصفه ليقول: «لم أر قبله ولا بعده مثله (صلى الله عليه وآله وسلم»)(1) ، فالتكرار المنتظم للمقاطع بأشطرها الموزونة شكل إيقاعا منتظما لعموم النص وأعطاها أسلوبا شعريا يستوقف المتلقي ذوقيا وشعوريا،

ص: 105


1- مستدرك نهج البلاغة، الهادي كاشف الغطاء: 23

وباختلاف الأشطر عن بعضها وتوحدها فيما بينها فسحة توقف المتلقي ليتمعن في كل جزء من النص لما في الشطرين من إيقاع خاص بهما ليتفكر في المعنى وهو ما يعطي فضولا علميا لديه ليفهم الدلالة المقصودة للجزء ليتركب مع جزء غيره فيعطي نصا متكامل الفهم والإثارة الشعورية لحب هذه الصورة بإمتاع الأسلوب الإيقاعي الذي جاءت به للتنوع الذي فيه وخلوه من الرتابة، فأوله جاء بإيقاع مثله تكرار الأصوات المتجانسة في كل شطر:

(مُسْتَقَرُّهُ) (مُسْتَقَرٍّ) (مَنْبِتُهُ) (مَنْبِتٍ)

وكما اشتركا في التجانس فقد جاء في كل منهما فعل تفضيل (خَیْرُ) و(أَشْرَفُ) شکلا بانتظامهما الخاص إيقاعا داخليا يشد المتلقي للتدبر في دلالتهما والإمتاع الحاصل به يثيره لربط هذا التدبر في المقاطع التالية لما ذكرنا من ترابط بينها.

وجاء المقطع الثاني بشطريه الموزونين وكذا الثالث - كما بینا آنفا - واختص إيقاع المقطع الرابع بشطرية المتوازنین ترکیبا بفعل ماض في كل منهما (دَفَنَ)، (أَطْفَأَ) والفاعل نفسه (لفظ الجلالة) و كذا حرف الجر والضمير (بِهِ) وصيغة جمع التكسير (فعائل) في كليهما تمثلت في (اَلضَّغَائِنَ) و(اَلثَّوَائِرَ).

وجاء الخامس من المقاطع بإيقاع خاص بشطريه أيضا بفعلين ماضيين مضعفين (أَلَّفَ) و (فَرَّقَ) وكذا حرف الجر والضمير (بِهِ) والجمع الذي على وزن (افعال) في (إِخْوَاناً) ( أَقْرَاناً)، على أن الإيقاع في هذين المقطعين المتأتي فيهما من ترتيب التركيب والمبدوء بالأفعال إنما جاء ليعطي دلالة التجدد لهذه

ص: 106

المعاني فمن صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم أن دفْن الضغائن وإطفاء الثوائر يتجدد به وتؤلّف به الأخوان و تفرق به الأقران ليس في زمانه فقط، حيث على الإيمان بالنبي «اجتمع سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي مع علي وحمزة ومصعب كما أن من كان قرينا للآخرين في أيام الجاهلية و كانت تربطه بهم عادتها ولوثاتها و أسفافها وانحرافها هذا قد تفرق عن أقرانه عند ما آمن بالله وصدّق رسول الله». (1) فهذان المقطعان جاءا میدوئين بالأفعال بكل أشطر هما الأربع وإذا ما عددنا المقطع الثالث معهما فهو يعطي معنى التجدد دون أن يتقاطع الإيقاع مع المعنى الذي جاء به في حين نجد المقاطع الأول والثاني والسابع جاءت مفتتحة بأسماء في بداية أشطرها الستة لأن المعنى الذي تضمنته جميعها ثابت و منفرد به شخص النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم، وهو ما يعطي جانبا آخر من وجه الصورة النبوية العظيمة حيث المستقر والمنبت اللذان لا يضاهيهما في الثبات مثلهما و كرامة المعدن ومماهد السلامة التي ثبتت في أركان الصورة النبوية ولم يشاطره بها أحد من الأنبياء فضلا عن البشر جاء إيقاعه مع ما فيه من ترتیب وزني وصوتي بمفتحات اسمية ليؤكد الوشائج الدلالية بالإيقاع المنتخب لهذه المقاطع، وبعد ما قامت عليه المقاطع الخمسة الأولى من إيقاع اختص بها جاء المقطع السادس ليقوم أسلوبه الإيقاعي في التأثير على المتلقي بوساطة التضاد الذي هيمن على الشطرين وتمثل بالقيمتين المعنويتين الأخلاقيتين العز والذل وقد بين المقطع بأسلوبه كيف ترسم صورة النبي الأكرم لكونه المعز لمن كان يرى ذلیلا بغير حق والمذل لمن كان عزيزا بالباطل وهو ما أخبر عنه

ص: 107


1- شرح نهج البلاغة، السيد عباس الموسوي : ج 2: 139

القرآن «لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ » [المنافقون/8] لأنهم أهل العزة الحقيقية وقد تحقق هذا على يد النبي الأكرم وهو شطر من صورته العظيمة صوره هذا المقطع بشطريه بإيقاعهما المميز بالتضاد القيمي الذي أعطى بأسلوبه لفتا ذهنيا وجدانيا لدى المتلقي(1) ، وكان الأسلوب في دلالته واسعا و شاملا لكل أنواع العزة والذلة لأنه لم يقيدهما في المقطع المذكور في النص، فالأسلوب يربط ربطا دلاليا في جميع النص بما حواه من ملامح أسلوبية متعددة في الأشطر النصية بمقاطعها السبعة التي توحي بقدرة المبدع وتمكنه من طرح الفكرة بأدوات أسلوبية متعددة أعطت شعورا لدى المتلقي بجمال الصورة النبوية من كل الوجوه المتنوعة التي عکس تنوعها تنوع الإيقاع وأدوات الأسلوب في النص بأوجز التعابير وبدلالة مكثفة تعطي أبعاد الصورة من أجزاء شتی ومدیات أوسع، وجاء المقطع الأخير في النص وأقام إيقاعه على التوازن الجملي والصوتي في تفعيلاته:

( کَلاَمُهُ بَیَانٌ) (وَ صَمْتُهُ لِسَان)

(مفاعلن فعولن) (مفاعلن فعولن)

فعاد إلى المقطع الثاني في الوزن

(مَعَادِنِ اَلْکَرَامَهِ) (مَمَاهِدِ اَلسَّلاَمَهِ)

و كأن فيه إشارة للعلاقة الدلالية بين المعدن الكريم حيث هو بين ومن كان معدنه کریما تكلم بالبيان والسلامة مهادها صمت اللسان وهما يفتتحان بأسماء

ص: 108


1- ظ: المستويات الجمالية في نهج البلاغة: 74-75

فهما مقطعان اسمیان ودلالتهما الثبات، وفي المقطع مفاجأة للمتلقي بعد أن جاء قبله مقطع مبني على المقابلة والتضاد جاء الشطر الثاني من المقطع من حيث لا يحتسب المتلقي مع أنه على نفس الوزن (كلامه بیان وصمته کلام) هذا لعله ما كان متوقعا أو نظيره لأن صمت النبي الأكرم عن فعل ما هو بمثابة كلام لأنه تقریر للفعل، وقد يكون (لسان) هو ما يعني الكلام الصادر عنه كما في قول الشاعر:

مِن عَلْوَ، لا عَجَبٌ مِنْها ولا سَخَرُ (1)

كما أن صوت النون في آخر (بیان) يتناسب مع صوت الميم في (الكلام) لأنهما صوتان غنيان فيهما تقارب موسيقي ونغمي، لكن المبدع جاء بالمفاجأة العفوية لأن المعنى هو ما يكون نصب عينه، فقد يكون (صَمْتُهُ لِسَان) إشارة إلى اللسان، لأنه (وَمَا یَنْطِقُ عَنِ الْهَوَی [النجم /3) و آلة النطق هي اللسان ولم يقل (صمته کلام) أو غيره لأنه أوضح الكلام بأنه بیان، ومع هذا وافقه في الإيقاع والسجع فيكون له في النفس من القبول حظ معقول «فإنك لا تجد تجنیسا مقبولا، ولا سجعا حسنا، حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه وساق نحوه و تجده لا تبتغي به بدلا ولا تجد عنه حولا»(2) ، وهو ما يزيد الأسلوب توهجا في النور في فضاء العقل والشعور.

فالنص قام على أسلوب الإيقاع التقابلي في مقاطع تألف كل منها من

ص: 109


1- ظ: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد : ج 7: 69، والبيت قيل للأعشى في الحماسة البصرية : ج 1: 100
2- أسرار البلاغة، عبد القاهر الجرجاني: 7

شطرين قائمين على التوازن بين الجمل مقابل تفعيلات الشعر فتعامل مع العنصر الإيقاعي بلغة العصر إذ قام النثر مقابل الشعر لأنه قام على الفواصل المقفاة (مَعَادِنِ اَلْکَرَامَهِ) (مَمَاهِدِ اَلسَّلاَمَهِ)... (کَلاَمُهُ بَیَانٌ) (وَ صَمْتُهُ لِسَان) مقابل الأبيات المقفاة في الشعر. ولا يخفى التجانس الصوتي في النص والمستويات الصوتية الأخرى التي ناسبت الكثير من الدلالات التي جاءت بها المقاطع،(1) إلا أن العنصر الإيقاعي هو الأكثر إضفاء على النص.

وإذا كان الحضور الإيقاعي في النص يمثل عامل الجذب الأول للانشداد إلى مقاطع النص وأشطره سواء الإيقاع الداخلي أم الخارجي فإن هذا مما يقصده المبدع في الأسلوب ليكون مدخلا إلى مرحلة أخرى هي فهم النص والإمتاع به بعد التأمل الفكري لينتقل بعد الإقناع إلى التفاعل الشعوري ليؤدي بالمتلقي إلى سلوك النهج العملي(2) تجاه ما صوره من عظمة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم .

هذه الألوان الزاهية ومزجها بريشة أسلوبية الإيقاع الإبداعية يعتمد عليها المبدع أحيانا من دون التركيب المتوازن كما عهد عنه فمثلا نجد في «وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمُجْتَبَی مِنْ خَلاَئِقِهِ - وَالْمُعْتَامُ لِشَرْحِ حَقَائِقِهِ - وَالْمُخْتَصُّ بِعَقَائِلِ کَرَامَاتِهِ - وَالْمُصْطَفَی لِکَرَائِمِ رِسَالاَتِهِ - وَالْمُوَضَّحَهُ بِهِ أَشْرَاطُ الْهُدَی - وَالْمَجْلُوُّ بِهِ غِرْبِیبُ الْعَمَی»(3) ، الجناس السداسي في (خَلاَئِقِهِ)

ص: 110


1- ظ: أدب الشريعة الإسلامية، : 183 - 184
2- ظ: المستويات الجمالية في نهج البلاغة: 77
3- نهج البلاغة: 178

و(حَقَائِقِهِ) لم يؤثر الفارق الكمي في التركيبين المتضمنين لهاتين اللفظتين أعني (الْمُجْتَبَی مِنْ خَلاَئِقِهِ )، (وَالْمُعْتَامُ لِشَرْحِ حَقَائِقِهِ) مع أن مقاطع النص جاءت بأجمعها متوازنة كقصيدة من الشعر:

وَ الْمُخْتَصُّ بِعَقَائِلِ کَرَامَاتِهِ وَ الْمُصْطَفَی لِکَرَائِمِ رِسَالاَتِهِ

وَ الْمُوَضَّحَةُ بِهِ أَشْرَاطُ الْهُدَی وَ الْمَجْلُوُّ بِهِ غِرْبِیبُ الْعَمَی

إلا أنه في هذا المورد اعتمد في رسم الصورة على الإيقاع لسعة مساحته الصوتية والتجانسية فالاختلاف في صوتي (خ، ل) و (ح، ق) في أول اللفظين فكأن الإيقاع بسعته الجرسية غطى على موازنة التركيبين في المقطع وأثار الإيقاع لدى المتلقي جمال الاصطفاء وإعداد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم لنور النبوة، وإيضاح ما خفي من الحقائق الإلهية والشرعية التي بينها(1) ، وكلها أجزاء يكمل بعضها بعضا من أجزاء صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم التي ترسم بأسلوب الإمتاع للمتلقي حيث الإيقاع الذي تناسق مع الدلالة وكان قائدا يتبعه المتلقي لدقة أسلوبه كما يتبع الرائدَ أهلُهُ.

3. إيقاع التكرار

أَرْسَلَهُ عَلَی حِینِ فَتْرَهٍ مِنَ اَلرُّسُلِ - وَطُولِ هَجْعَهٍ مِنَ الْأُمَمِ... وَاللّهِ مَا أَسْمَعَکُمُ الرَّسُولُ شَیْئا - إِلاَّ وَهَا أَنَا ذَا مُسْمِعُکُمُوهُ - وَمَا أَسْمَاعُکُمُ الْیَوْمَ بِدُونِ أَسْمَاعِکُمْ بِالْأَمْسِ - وَلاَ شُقَّتْ لَهُمُ الْأَبْصَارُ - وَلاَ جُعِلَتْ لَهُمُ الْأَفْئِدَهُ فِی ذلِکَ الزَّمَانِ - إِلاَّ وَقَدْ أُعْطِیتُمْ مِثْلَهَا فِی هَذَا الزَّمَانِ)(2) .

ص: 111


1- لا يخفى على المتلقي ظاهرة 371:3
2- نهج البلاغة :89

التكرار التي تبرز في النص - أعلاه - لما فيه من تركيز على (أَسْمَعَکُمُ / مُسْمِعُکُمُوهُ / أَسْمَاعُکُمُ / أَسْمَاعُکُمْ) يدل على أهمية المكرر لدى المبدع وأراد بأسلوبه أن تكون له فاعلية إيحائية لدى المتلقي بما تضمنه النص من تكرارات اشتقاقية بتغيرات في الألفاظ مع توافقات صوتية كونت إيقاعا شعريا أثار المتلقي جماليا، وحثه على التوقف أمام دلالتها التي رسمت صورة النبي الأكرم بما كان يسمعه للمتلقي وهو القرآن الكريم نصا أو مضمونا، ولأن السمع مما كان عنه مسؤولا مع البصر والفؤاد أراد المبدع أن يعلمهم ما جهلوه أو نسوه كي لا يَقْفُوا بجهالتهم على ما يخالف الصورة النبوية وما أرادته لهم ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا » [الإسراء/37]. والإيقاع الذي كونه التكرار يعطي للمتلقي الصورة الشعورية للمبدع أيضا إذ أن ما أسمعهم الرسول هو ما يسمعهم إياه المبدع ويتكرر على لسانه بنص القرآن أو مضمونه العملي لأن الإمام قرآن ناطق.

وبعبارة أخرى فإن الإمام هو صورة النبي الأكرم المثلی فالتكرار الإيقاعي تکرار دلالي بوجه آخر؛ ولأن الإمام (عليه السلام) أسمعهم ما أسمعهم النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم كي لا يقفوا ما ليس لهم به علم لأن الجهل مما أراد أن يقضي عليه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ؛ لأنهم بسببه كانوا في ضلال وحيرة وفتنة، فعندما بعث الله النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم «بَعَثَهُ

ص: 112

بَعَثَهُ وَالنَّاسُ ضُلَّالٌ فِی حَیْرَهٍ - وَحَاطِبُونَ فِی فِتْنَهٍ - قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الأَهْوَاءُ - وَاسْتَزَلَّتْهُمُ الْکِبْرِیَاءُ - وَاسْتَخَفَّتْهُمُ الْجَاهِلیُّهُ الْجَهْلَاءُ - حَیَارَی فِی زَلْزَالٍ مِنَ الأمْرِ - وَبَلَاءٍ مِنَ الْجَهْلِ - فَبَالَغَ صَلِّی اللّهُ عَلَیهِ وآلِهِ فِی النَّصِیحَهِ - وَمَضَی عَلَی الطَّرِیقَهِ - وَدَعَا إِلَی الْحِکْمَهِ - وَالْمَوْعِظَهِ الْحَسَنَهِ»(1) . فجاء المبدع بهذا التكرار في (اسْتَهْوَتْهُمُ الأَهْوَاءُ) و ( الْجَاهِلیُّهُ الْجَهْلَاءُ / الْجَهْلِ) ليشكل إيقاعا يوحى إلى المتلقي صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم المنقذ لهم من الأهواء التي كانت تستهويهم في دروب الفتن والحيرة وكل ذلك بسبب الجهل الذي أعطاه الإيقاع نصيبا في التكرار بأصواته التي تكررت في المفردات مع بعض التغيير بسبب الاشتقاق فكأن الإيقاع بريد الإيحاء بصورة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن طريق القضاء على الجهل لأنه من أسس البعثة النبوية فتركيز الإيقاع على أصوات الجهل؛ لأنه هو أساس البلاء وبسبه يضل الإنسان حتى عن نفسه فكأن الإيقاع يدل على صورة المربي والمعلم المنقذ من الجهل وهو النبي الأكرم صلی الله عليه و آله وسلم.

ص: 113


1- نهج البلاغة: 95

ص: 114

الفصل الثاني

اشارة

ص: 115

ص: 116

المبحث الأول: الجملة

توطئة

عندما قيل عن اللغة بأنها ما يعبر بها كل قوم عن أغراضهم ومقاصدهم (1) ، فهذا التعريف يشمل جميع من يتعامل باللغة مهما كان أسلوبه المتبع في التعبير إلا أن الأسلوب وطرائق التركيب واستعمال المفردات والتصرف في قانون التركيب النحوي واللغوي مع عدم الإخلال بقوانين اللغة و كيفية إيصال المعنى المقصود ومدى تأثيره في المتلقي و كيف يثيره ويفهمه ويقنعه وغير ذلك هي التي تعطي اهتماما بأسلوب دون غيره و تمیز مبدع دون آخر، واللغة «عبارة عن مجموعة من العلاقات الحية المتنامية، وليست مجرد رصف للألفاظ بلا تعلق فيما بينها، وان هذه العلاقات تبرز عن طريق الصنعة التي يستعان عليها بالفكرة والروية والذوق»(2) ، وقدرة المبدع على نقل وعيه الإبداعي بما لديه من صور إلى المتلقي لا عن طريق الأبنية الفردية ودلالاتها وإنما بالولوج إلى شعوره عن طريق دلالة التركيب متجاوزا بذلك القدرة اللغوية - بما يحدثه من انزياحات - إلى طاقة إبداعية تكون سمة

ص: 117


1- ظ: الخصائص، أبي الفتح عثمان بن جني : ج 1: 33، وينظرالتعريفات، علي بن محمد الجرجاني: 158
2- الصورة البلاغية عند عبد القاهر الجرجاني، منهجاً وتطبيقاً ، د. احمد علي دهمان: ج 1: 89

مميزة له ولأسلوبه الذي به يعرف(1) ، ومنه نصل إلى وجوه تركيب الكلام الذي لا فصل بين ألفاظه ومعانيها بل بین جمله البسيطة والطويلة ولا بين الصورة ودلالتها متوحدة في شكلها ومضمونها في النص الأدبي،(2) والجملة هي عبارة عن الفعل وفاعله ک-(قام زید)، والمبتدأ وخبره ک-(زید قائم) وما كان بمنزلة احدهما نحو (ضُرِبَ اللص) و (أ قائم الزيدان) و (كان زيد قائماً) و (ظننته قائماً»)(3) ولذا قيل عنها: «الصورة اللفظية الصغرى للكلام المفيد في أية لغة من اللغات وهي المركب الذي يبين المتكلم به أن صورة ذهنية كانت قد تألفت أجزاؤها في ذهنه»(4) ولاندعي أن هذا هو التعريف المتفق عليه في الجملة بل الخلاف قائم حول تعريف الجملة، إذ قدّم الباحثون عدداً كبيراً من التعريفات يقرب من الثلاثمائة تعريف(5) ، وقد ترتّب على الخلاف في تحديد مفهوم الجملة اختلاف في تقسيمها بل خلاف في القسم نفسه بعد الاتفاق عليه کالجملة الفعلية والاسمية التي اختلف في كون الاسمية منها أو الفعلية هل هو بالنظر لأولها أو للمسند والمسند إليه وغير ذلك مما هو معروف في كتب النحو، وما سنتناوله في دراستنا تقسيم النحاة الذي يقسم الجملة إلى جملة بسيطة (صغری) وجملة مركبة (كبرى)(6) وعلى هذا الأساس يكون لدينا أربعة

ص: 118


1- ظ: البلاغة العربية، قراءة أخرى، د. محمد عبد المطلب: 98
2- ظ: الأسلوبية والبيان العربي، الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، ود. محمد السعدي فرهود، ود. عبدالعزيز شرف: 79
3- مغني اللبيب، ابن هشام: ج2 : 36
4- في النحو العربي، نقد وتوجيه، د. مهدي المخزومي: 35
5- ظ: الجملة الأسمية، علي أبو المكارم: 14
6- ظ: مستويات النظم في التركيب القرآني، أطروحة دكتوراه، عبد الواحد المنصوري : 81

أنواع من الجمل التي تناولت صورة النبي الأكرم في نهج البلاغة، بعد أن وجدنا أن التقسيم إلى جملة فعلية واسمية غير مجدٍ ولاسيما أن الجملة الفعلية قد تسيَّدت الموقف في هذا التقسيم وتصدر الفعل الماضي عرش الجملة الفعلية وما وجدنا من أفعال مضارعة أغلبها يمثل المضارع التام في الماضي وليس المستقبل أو التجديد إلا في استعمالات خاصة أشرنا لبعضها، وفعل الأمر على قلته سنعرض لذكره في المبحث الثاني من هذا الفصل كما سنعرض للجملة الاسمية والفعلية في موارد التقسيم الذي رأيناه حين نجد فائدة أسلوبية أو دلالية توحي بما يخدم الدراسة في صورة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

من المعلوم «أن القرآن تحدى العرب ببلاغة نظمه، وإن عجزهم عن الإتيان بمثله حملهم على أن يقروا أن هناك كلاما أبلغ من كلامهم وإن كان من جنس هذا الكلام»(1) والجملة القرآنية قد أثرت في جملة الإمام علي عليه السلام تأثي(2) ؛ لذا كان التقسيم كالآتي:

1. الجملة البسيطة القصيرة: وهي ما تألفت من عناصر أساسية من الفعل والفاعل أو المبتدأ والخبر (المسند والمسند إليه) والجار والمجرور وغيرها من دون تعدد أفرادها مثل «أَطْفَأَ بِهِ اَلثَّوَائِرَ أَلَّفَ بِهِ إِخْوَاناً - وَ فَرَّقَ بِهِ أَقْرَاناً - أَعَزَّ بِهِ اَلذِّلَّهَ - وَ أَذَلَّ بِهِ اَلْعِزَّهَ - کَلاَمُهُ بَیَانٌ وَ صَمْتُهُ لِسَان »، فهذا النص يتألف من

ص: 119


1- تاريخ النقد الأدبي عند العرب، طه أحمد ابراهيم: 27
2- ظ: الأثر القرآني في نهج البلاغة، د. عباس علي حسين: 67 - 68

جمل بسيطة قصيرة تكونت من بعض العناصر الأساسية دون تکرار لها في هذه الجمل، وكل جملة منها على قصرها تعطي جانبا دلاليا واسعا من صورة النبي الأكرم وفي هذا النوع تكمن براعة عالية للمبدع في الإتيان بألفاظ قليلة مع غزارة في المعنى.

2. الجملة البسيطة الطويلة: وهذا النوع يشكل القسم الأكبر من النصوص التي تناولت صورة النبي الأكرم في النهج وهي عبارة عن الجملة السابقة متآلفة ومرتبطة مع مثيلات لها فيما بينها بوساطة لام التعليل مثلا أو کون الثانية نعتا للأولى أو لجزء منها أو قد تكون صلة لها وما إلى ذلك من الاتصال، فهي جمل النوع الأول ارتبطت فيما بينها لتؤدي معنى لا يمكن أن تؤديه الجملة القصيرة بمفردها أو بمعزل عن رفيقاتها، مثل: «حَتّی بَعَثَ اللّهُ مُحَمَداً صلى الله عليه وآله - شَهِیداً وبَشیراً وَنَذیراً- خَیرَ الْبَرِیَّهِ طَفْلاً- وَأنْجَبَها کَهْلاً - وأطْهَرَ الْمُطَهَّرینَ شِیمَهً - وَأَجْوَدَ الْمُسْتَمْطَرِینَ دیمَهً»(1) ، فجملة (بَعَثَ الله مُحَمَّداً) جملة بسيطة تكونت من الأساسيات فعل وفاعل ومفعول و كذا بقية الجمل لكنها ارتبطت مع بعضها بكون أغلبها حالا لجزء من الجملة البسيطة (بَعَثَ الله مُحَمَّداً) وهو (مُحَمَّداً) ومع أنه يمكن فصل بعضها عن بعض بالوقوف عليها إلا أن اتصالها ببعض لتأدية دلالة الصورة النبوية كاملة جعلها بمثابة الجملة الواحدة البسيطة الطويلة.

3. الجملة الطويلة المسلسلة: وتشبه القسم الثاني من حيث ارتباطها مع بعضها إلا أنها متسلسلة من ناحية المعني باتصال وثيق لا يمكن تقسيمها إلى جمل

ص: 120


1- نهج البلاغة : 105

منفصلة ومستقلة كما في النوع الثاني بسبب اتصال المعاني الوثيق فيما بينها، نعم يمكن الوقوف على جزء منها ثم نعاود القراءة، مثل: «طَبِیبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ قَدْ أَحْکَمَ مَرَاهِمَهُ - وَ أَحْمَی مَوَاسِمَهُ وَ یَضَعُ ذَلِکَ حَیْثُ اَلْحَاجَهُ إِلَیْهِ - مِنْ قُلُوبٍ عُمْیٍ وَ آذَانٍ صُمٍّ - وَ أَلْسِنَهٍ بُکْمٍ - وَ یَتَتَبَّعُ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ اَلْغَفْلَهِ - وَ مَوَاطِنَ اَلْحَیْرَهِ لَمْ یَسْتَضِیئُوا بِأَضْوَاءِ الْحِکْمَهِ - وَ لَمْ یَقْدَحُوا بِزِنَادِ الْعُلُومِ الثَّاقِبَهِ - فَهُمْ فِی ذلِکَ کَالْأَنْعَامِ السَّائِمَهِ - وَ الصُّخُورِ الْقَاسِیَهِ»(1) نرى جملة (طَبِیبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ) قد ارتبطت معنی مع أخواتها من الجمل كما ارتبطت جميع الجمل البسيطة مع بعضها فلا تكتمل صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم من كونه طبيبا دوارا بطبه إلا بيان بقية الجمل التي تضافرت بعضها مع بعض لتدل على فكرة واحدة مسلسلة المعنى، وينتهي - أحيانا - مثل هذا النوع من الجمل بمثال لتوضيح الفكرة التي جاءت بها هذه الجملة الطويلة المسلسلة كما في نهاية هذه الجملة (فَهُمْ فِی ذلِکَ کَالْأَنْعَامِ السَّائِمَهِ - وَ الصُّخُورِ الْقَاسِیَه). وبذلك اكتملت دلالة الصورة النبوية التي أراد المبدع إيصالها بالمثل لحالة المتلقي الذي لم يستضئ بأضواء هذا الطبيب الدوّار بطبه المميز.

4. الجملة الطويلة المركبة: وتشبه النوع الثالث من الجمل مع تشديد أكثر من جميع الأقسام الماضية لأننا لا يمكن أن نقف على جزء منها ونحصل على معنی مستقل أو جزء من المعنى المراد كما في القسم الثالث لأن هذه الجملة متشابكة العناصر ولا يتضح معناها تماما إلا بقراءتها كلها، مثل: «یَا أَیَّتُهَا

ص: 121


1- نهج البلاغة : 108

الشَّجَرَةُ إِنْ کُنْتِ تُؤْمِنِینَ بِاللَّهِ وَ الْیَوْمِ الآْخِرِ - وَ تَعْلَمِینَ أَنِّی رَسُولُ اللَّهِ فَانْقَلِعِی بِعُرُوقِکِ - حَتَّی تَقِفِی بَیْنَ یَدَیَّ بِإِذْنِ اللَّه»(1) ، فواضح أن المعنى لم يتضح حتى نصل إلى قراءة الجملة بأكملها. (2)

هذا تقسيم أنواع الجمل التي سندرسها ونرى من خلالها كيف رسم المبدع صورة النبي الأكرم وكيف وظف أسلوبها في إقناع المتلقي وإمتاعه وإثارة شعوره تجاهها و مناسبتها للمقام والدلالة ونوع المتلقي، وستبدأ بها حسب التسلسل الآنف الذكر:

1. الجملة البسيطة القصيرة: وهذا القسم من الجمل - بعد التعريف بها آنفا - يكثر استعمالها حين يراد بيان أكثر من جانب من صورة النبي الأكرم ولا تحتوي فكرة واحدة أو موضوعا واحدا إلا في اشتراکها ببيان صورة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كما يغلب على جملها الفعلية خاصة وجمل النهج المتعلقة بالنبي الأكرم عموما الجملة الماضوية لتدل على كونها حقائق ثابتة وحوادث محققة ومنها في ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَرْسَلَهُ بِالضِّیَاءِ وَقَدَّمَهُ فِی الاِصْطِفَاءِ - فَرَتَقَ بِهِ الْمَفَاتِقَ وَسَاوَرَ بِهِ الْمُغَالِبَ - وَذَلَّلَ بِهِ الصُّعُوبَهَ وَسَهَّلَ بِهِ الْحُزُونَهَ - حَتَّی سَرَّحَ الضَّلاَلَ - عَنْ یَمِینٍ وَشِمَالٍ»(3) وبساطة الجمل وقصرها واضح كما يتضح فيها الفعل الماضي الذي افتتحت به جميعها فهي حقائق ثابتة ومتعددة فالجملة الأولى (أَرْسَلَهُ بِالضِّیَاءِ) تشير إلى نور العلم أو نور النبوة أو القرآن والجملة الثانية ( قَدَّمَهُ فِی الاِصْطِفَاءِ) هي كما قال الشاعر:

ص: 122


1- نهج البلاغة : 192
2- ظ: مستويات النظم في التركيب القرآني، أطروحة دكتوراه، عبد الواحد المنصوري: 81 - 85
3- نهج البلاغة : 213

لله في عالمه ص فوة وصفوة الخلق بنو هاشم

وصفوة الصفوة من هاشم محمد الطهر أبو القاسم(1)

وقد يكون صفوة الله تعالی هم أنبياؤه وأئمة الهدی وصفوتهم هو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ، والثالثة (فَرَتَقَ بِهِ الْمَفَاتِقَ) إشارة إلى إصلاح مفاسد الجاهلية، والجملة التالية (سَاوَرَ بِهِ الْمُغَالِبَ) تسليط الله - تعالى - للنبي الأكرم على المشركين والكفار والمنافقين وجملة (وَذَلَّلَ بِهِ الصُّعُوبَهَ) صعوبة الجاهلية من القضاء على عادة قطع الأرحام واجتراح الآثام وعبادة الأصنام فهي تعطي صورة النبي الأكرم في القدرة على التغلب على هذه الصعاب و(سَهَّلَ بِهِ الْحُزُونَهَ) لأن طريق الحق ليس سهل السلوك لكن النبي الأكرم بارشاده و خلقه مع الناس سهل عليه بتوفيق ربه (حَتَّی سَرَّحَ الضَّلاَلَ عَنْ یَمِینٍ وَشِمَالٍ)،(2) فتحصلت على يده غاية الدلالة التي تضمنتها الجمل السابقة وهي القضاء على ظلام الجاهلية ومن جميع هذه الجمل البسيطة القصيرة تتكون جوانب مختلفة الصورة النبي الأكرم مع تنوع جملها البسيطة القصيرة ولكنها غزيرة بالمعاني تثير المتلقي وتشده بتنوعها وتمتعه بدلالتها لأنها حقائق قد عاشها المبدع عن قرب ونقلها بصدقه المعروف وقد يكون بعض المتلقي عاشها أيضا، فهذه الجمل على قصرها أعطت للمتلقي صورة واسعة المعالم للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم من خلال عظمة الضياء الذي أرسل به واصطفائه على جميع الخلق بل على

ص: 123


1- تفسير الإمام العسكري عليه السلام، المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام: 665 حاشية (1) ولم اعثر على قائل البيت
2- ظ: منهاج البراعة شرح نهج البلاغة : ج 14: 84 - 86

صفوة الخلق، وتحقق على يده ما لم يمكن تحقيقه على يد غيره وهذه الجوانب العظيمة التي بينتها هذه الجمل القصار لما امتازت به من خصوصية في إبراز هكذا دلالة عالية لا تتأتي لأي أحد وتدرك في أي أسلوب فكأن نوع الجمل کبحور الشعر التي يناسب كلٌ منها نوعا معينا من الموضوعات الاجتماعية التي يتناولها الشعراء أو كما استعمل القرآن الآيات المكية والمدنية بما امتازت به من طابع خاص ناسب كل منها الدلالة والمقام المعنيَّين في الخطاب، فدقة اختيار المبدع النوع الجمل و تواشجها مع المقام ونوع المخاطب هو ما أضفى خصوصية للأسلوب وجمالا يمتع المتلقي بالصورة النبوية التي يرسمها وأتاح للمبدع - بهذا النوع من الجمل - أفقا أوسع وقدرة أكبر للتنقل بذهن المتلقي في ساحة الدلالة التي يرجوها ويشد نظره وبصيرته إليها وإلى الجانب الذي يراه من صورة النبي الأكرم، ليلقي في شعوره تعظيم الله - تعالى - وتمجيده من خلال مِنّهِ علينا بهذا النبي العظيم ولاسيما أن الخطبة مسوقة لتمجيد الله وتعظيمه فكان مناسبا للمقام هذا التنوع في الصور الجانبية للنبي الأكرم لبيان رحمة الله على الخلق أجمعين فقد أرسله الله - تعالى - رحمة للعالمين، «وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً نَجِیبُ اللّهِ - وَسَفِیرُ وَحْیِهِ وَرَسُولُ رَحْمَتِهِ»(1) .

وتأكيدا لهذا النوع من الجمل وما يوحیه من دلالة متعددة الجوانب نورد نصا لعل دلالته أكثر وضوحا من سابقه ويكفينا عناء الشرح المفصل الذي وكلناه إلى مضائه المتوفرة بكثرة، فقد تنوعت الدلالات في هذا النص و کثرت معها

ص: 124


1- نهج البلاغة : 198

الصور وذلك في «خطبة له عليه السلام في صفة النبي وأهل بيته وأتباع دينه، وفيها يعظ بالتقوى: ابْتَعَثَهُ بِالنُّورِ الْمُضِىءِ وَالْبُرهَانِ الْجَليِّ - وَالْمِنْهَاجِ الْبَادِي وَالْكِتَابِ الْهَادِي أُسْرَتُهُ خَيْرُ أُسْرَةٍ وَشَجَرَتُهُ خَيْرُ شَجَرَةٍ - أَغصَانُهَا مُعْتَدِلَةٌ وَثِمَارُهَا مُتَهَدِّلَةٌ - مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ وَهِجْرَتُهُ بِطَيْبَةَ - عَلا بِهَا ذِكْرُهُ وَامْتَدَّ مِنْهَا صَوْتُهُ - أَرْسَلَهُ بِحُجَّةٍ كَافِيَةٍ وَمَوْعِظَةٍ شَافِيةٍ - وَدَعْوَةٍ مُتَلافِيَةٍ - أَظْهَرَ بِهِ الشَّرائِعَ الْمَجْهُولَةَ - وَقَمَعَ بِهِ الْبِدَعَ الْمَدْخُولَةَ - وَبَيَّنَ بِهِ الْاَحْكَامَ الْمَفْصُولَةَ فَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الاسْلامِ دِيناً تَتَحَقَّقْ شِقْوَتُهُ - وَتَنْفَصِمْ عُرْوَتُهُ وَتَعْظُمْ كَبْوَتُهُ - وَيَكُنْ مَآبُهُ إلَى الْحُزْنِ الطَّوِيلِ وَالْعَذَابِ الْوَبيلِ - وَأَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ تَوَكُّلَ الاِنَابَةِ إلَيْهِ - وَأَسْتَرْشِدُهُ السَّبِيلَ المُؤَدِّيَةَ إلى جَنَّتِهِ - الْقَاصِدَةَ إلى مَحَلِّ رَغْبَتِهِ»(1) .

فقد أعطى هذا النص بجمله البسيطة القصيرة أجلى الجوانب الصورية للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وأجملها ولو كان بغير هذا النوع من الجمل لما أمكن بيان الدلالة التي أريد لها أن تصل إلى المتلقي ليعرف ما أحيط بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم من كمالات مادية ومعنوية ومنازل رفيعة حباه الله تعالى بها مذ صوره في الأرحام كيف يشاء - تعالى - ولا يخفى جمال التنقل في الجمل القصيرة والشد الذي فيه للمتلقي فكأنه قصيدة موزونة لشاعر من الطراز الأول الذي لا ثاني له بعد أمير المؤمنين عليه السلام، والجمل القصيرة أكثر إقناعا للمتلقي لما تتضمنه من موسيقية لا تتأتى لنوع آخر من الجمل، فضلا عن ذلك دقة استعمال الجملة الفعلية والاسمية وما فيها من أساس دلالي فجاء الابتعاث

ص: 125


1- نهج البلاغة: 161

بالجملة الفعلية الماضية لأنه لن يعاد مع غير النبي الأكرم وما ابتعثه به من النور والبرهان و... جاءت أسماء لثباتها حتى بعد النبي الأكرم لأنها لا تموت بموته، وأسرته وشجرته و... جاءت بالثبات نفسه لإسميتها وبقاء ما لها من كرامة إلى آخر الدهر وكذا بقية ما جاء من جمل فعلية واسمية تحكي الثبات والتجدد في الجوانب الصورية لشخصية النبي الأكرم. (1)

2. الجملة البسيطة الطويلة: وهي صاحبة السهم الأوفر في النصوص المتعلقة بصورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم في نهج البلاغة، كما هي حالها في القرآن الكريم في تشكيلها الجزء الأكبر في التركيب الجملي منه، (2) ومما جاء من الجملة البسيطة الطويلة في زهد النبي صلى الله عليه و آله وسلم قوله عليه السلام: «قَدْ حَقَّرَ الدُّنْیَا وَصَغَّرَهَا - وَأَهْوَنَ بِهَا وَهَوَّنَهَا - وَعَلِمَ أَنَّ اللّهَ زَوَاهَا عَنْهُ اخْتِیَاراً - وَبَسَطَهَا لِغَیْرِهِ احْتِقَاراً - فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْیَا بِقَلْبِهِ - وَأَمَاتَ ذِکْرَهَا عَنْ نَفْسِهِ - وَأَحَبَّ أَنْ تَغِیبَ زِینَتُهَا عَنْ عَیْنِهِ - لِکَیْلاَ یَتَّخِذَ مِنْهَا رِیَاشاً - أَوْ یَرْجُوَ فِیهَا مَقَاماً»(3) .

في هذا النص استعمل المبدع الجملة البسيطة الطويلة بارتباطها مع جمل أخرى ليفهم المتلقي صورة النبي الأكرم الزاهدة في الدنيا وليؤثر في المتلقي جعل جملها ممكنة الفصل والوقوف عليها مع إعطاء جزء من الصورة إلا أن

ص: 126


1- ونشير إلى أرقام بعض الخطب التي ورد فيها هذا القسم من الجمل: (95، 96، 100، 106، وغيرها)
2- ظ: مستويات النظم في التركيب القرآني : 82
3- نهج البلاغة : 109

عنصر التشويق يبقى قائما عند المتلقي الذي يطلب المزيد من اكتمال الصورة النبوية لديه فيأتيه الإمام بجملة أخرى بسيطة تزيد من شوقه لمعرفة بقية أجزاء الصورة التي خطَّ المبدع ألوانها في جملها الأولى مصدرة بالفعل الماضي لثمان مرات ليؤكد وقوع الحدث وثباته لصاحب الصورة قبل زمن التكلم وأن الزهد المراد إثباته في جزء من صورة النبي الأكرم قد حدث وثبت في زمن مضى، دلّ على ذلك كثرة ورود الفعل الماضي في النص كما أشار إلى أن هناك حالة من الجمود لدى المتلقي أراد المبدع أن يغيرها عن طريق رسم الصورة النبوية وزهدها ليحول المبدع حالة المتلقي إلى ماهو خير لها بعد تأثره بأسمى صورة إنسانية يحق للإنسانية أن تتخذها رائدا لها، فأثار المبدع شعور المتلقي بحركة هذه الجمل بكثافة ما استعمله من أفعال ماضية أشارت لثبات هذه الصورة من الماضي بما أوحته هيمنة الفعل الماضي في مقدمة هذه الجمل القصيرة المتضامنة مع بعضها في تكوين الصورة النبوية - بأعلى درجات الزهد - هذه الهيمنة التي انتهت بثلاث جمل قصيرة تضمنت أفعالا مضارعة ظلت متسيدة في مضيها مع الأفعال المضارعة التي توحي مع هذه الهيمنة الماضوية بأنها أفعال مضارعة تامة استمرت في وقتها الماضي وجاء بها الأسلوب في نهاية المقطع ليوحي للمتلقي بأن الماضي يمكنه أن يتجدد ويستمر ليكون مستقبلا، فهي أفعال أراد النص فيها الإشارة إلى الثبات في الموقف في الماضي واستمرار حالة الثبات وتجددها في المستقبل وتقوية الدلالة والاهتمام بها ؛ فهذا مما قد يعطيه الفعل المضارع ويثير في الوقت نفسه المتلقي ويجدد نشاطه الذهني ليبقى في حيوية التأمل في الصورة

ص: 127

والأفعال المضارعة هذه استعملت بدقة وبصورة خاصة في إعطائها دلالة التجدد والاستمرار المستقبلي مع المحافظة على مضمون السياق الماضوي لحالة الحدث الثابت في الماضي لأن هذه الأفعال المضارعة جاءت محاطة بالقرائن التي تعطي السيادة للحالة الماضوية، فبعد سبقها بثمانية أفعال ماضية ألحقها المبدع بما يؤكد ما أشرنا إليه من أن الصورة التي رسمها للمتلقي وأفهمه إياها بأسلوب الإقناع ألحقها بأفعال ماضية أخرى في جمل بسيطة طويلة تتضمن فكرة واحدة تشترك مع سابقاتها ببيان جانب آخر من الصورة النبوية وأنها من قسمها (البسيطة الطويلة) وأكدت بدلالتها أن النبي الأكرم بصورته هو داعية عن ربه ومبلغ صامت لأن فعله تقرير و «کَلاَمُهُ بَیَانٌ ، وَصَمْتُهُ لِسَان»(1) فأتبع المبدع النص السابق ب- «بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً - وَ نَصَحَ لِأُمَّتِهِ مُنْذِراً - وَ دَعَا إِلَی اَلْجَنَّةِ مُبَشِّراً - وَ خَوَّفَ مِنَ اَلنَّارِ مُحَذِّراً »(2) وهنا الترابط الدلالي في الفكرة الواحدة في الجمل البسيطة الطويلة - التي أشرنا لها آنفا - وكونه جاء بالأفعال الماضية ليشيع جو الماضي في السياق ويضيق الخناق الدلالي على الأفعال المضارعة التي تأكدت دلالتها التي سبق ذكرها وأن استعمالها جاء بعناية فائقة وأسلوبية قصدية مميزة جدا وأن إشارة الأفعال المضارعة إلى المستقبل لتجديد العهد والسير على خطى صاحب الصورة ( النبي الأكرم (صلی الله عليه و آله وسلم» أشارت له الجملتان البسيطتان في نهاية الجمل البسيطة الطويلة (ودَعا إلَی الجَنَّهِ مُبَشِّرا - وخَوَّفَ مِنَ النّارِ مُحَذِّرا) فالدعوة والتخويف في الماضي لكن حدوثها يراد في المستقبل فكان الفعل

ص: 128


1- نهج البلاغة: 96
2- نهج البلاغة : 109

المضارع في ختام الصورة التي سبقته يوحي للمتلقي بالتجدد والثبات في المستقبل لما سبقه من صورة الزهد، فالصورة النبوية التي رسمها المبدع بأسلوب الجمل البسيطة الطويلة ناسبت تماما هذه الدلالة ؛ لأن الزهد من المعاني التي يمكن أن يحقق المرء جزءا منها ولا يبلغها كلها فتتفاوت درجات الزاهدين لذا ضرب مثلها الأعلى في صورة النبي الأكرم للتأسي به وأخذ الجزء الذي يستطيع إليه المتلقي سبيلا، وكذا الجمل البسيطة الطويلة من قسم الجمل التي يمكن تجزئتها إلا أن انضمامها إلى بعضها يعطي صورة الزهد التفصيلية الكاملة وهي لمن أراد أن يبلغ الدرجات العليا في التأسي بصورة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم «فَاِنَّ فِیهِ اُسوَةً لِمَنْ تَأَسّی وَعزاءً لِمَنْ تَعزّی - وَاَحَبُّ العِبادِ اِلَی اللّه ِ الْمُتَأسّی بِنَبِیِّهِ»(1) فأبدع المبدع في استعمال هذا القسم من الجمل لما له من أهمية في الأسلوب الذي يصور النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ولعل هذه الأهمية هي التي تبرر لنا كثرة ورود هذا القسم من الجمل البسيطة المركبة) في نصوص النهج المتعلقة بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم (2).

3. الجملة الطويلة المسلسلة: واخترناها من كلام له عليه السلام قاله للخوارج وقد خرج إلى معسكرهم - وهم مقيمون على إنكار الحكومة: «وَإِنَّ الْکِتَابَ لَمَعِی مَا فَارَقْتُهُ مُذْ صَحِبْتُهُ فَلَقَدْ کُنَّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وآله وسلم - وَإِنَّ الْقَتْلَ لَیَدُورُ عَلَی الآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ - وَالاْءِخْوَانِ وَالْقَرَابَاتِ -

ص: 129


1- نهج البلاغة: 160
2- ونشير إلى أرقام بعض الخطب التي ورد فيها هذا القسم من الجمل: (72، 89، 94، 105، 109، 116 ، 132، 151 وغيرها)

فَمَا نَزْدَادُ عَلَی کُلِّ مُصِیبَهٍ وَشِدَّهٍ - إِلاَّ إِیمَاناً وَمُضِیّاً عَلَی الْحَقِّ - وَتَسْلِیماً لِلْأَمْرِ - وَصَبْراً عَلَی مَضَض الْجِرَاح »(1) فابتدأت الجملة الطويلة المسلسلة من (فَلَقَدْ کُنَّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ...) جملة بسيطة لكنها ارتبطت مع جمل أخرى بسلسلة المعنى لأن فكرتها واحدة وهي حسن الطاعة والانقياد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاءت دلالتها بترابطها مناسبة لمقام المتلقي ليكون مشدودا للفكرة با قناعه ليفهم الصواب الذي يجب أن يكون عليه ليهلك من هلك بعد ذلك عن بينة لأن الإمام يمثل الرسول وهو خليفته الشرعي في الطاعة فصورة الطاعة التي كانوا عليها مع الرسول صلى الله عليه و آله و سلم هي التي يفترض أن يكونوا عليها مع الإمام عليه السلام لذا بين المبدع صورة النبي الأكرم في طاعة المسلمين له وأن صورة النبي الأكرم وما جاء به من قوانین وقيم ومثل عليا أوصلها بصورته العظيمة للناس من غير إكراه في ذلك مما حدا بهم أن يذوبوا في هذه المثالية (صورة النبي الأكرم) ليصل بهم الأمر أن يقاتل الآباء أبناءهم وبالعكس و كذا الأخوان وأولو الأرحام ولم يكن ذلك الانقياد والطاعة محدثا شيئا من الضعف أو التراجع عن العقيدة التي جاء بها النبي الأكرم بعد المصائب والشدائد وجراح الدفاع عن الإسلام بل يزداد المسلمون إيمانا مع إيمانهم ويصبرون وهم مطیعون للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم لما لصورته العظيمة من أثر فيهم، فعرض المبدع صورة الطاعة والامتثال للنبي الأكرم للمتلقي بطريقة المعنى المسلسل المترابط لإثارته ومخاطبة شعوره بما لا يرفضه ولاسيما أن المبدع قال هذا الكلام

ص: 130


1- نهج البلاغة : 122

«للخوارج احتجاجا عليهم وقد خرج إلى معسكرهم أي محلّ عسكرهم ومحطه وهم مقيمون على إنكار الحكومة عليه»(1) فاختار المبدع هذا النوع من الجمل المترابطة في المعنى لأنه أراد إيصال فكرة واحدة أساسية وهي حسن الطاعة ولم يكن يناسب المعنى المنشود أن يكون غير كامل؛ لأنه لابد من إلقاء الحجة على المتلقي المنكر لذلك بدلالة أن المبدع ألحق الجملة الطويلة المسلسلة بمثيلتها لإكمال الاحتجاج ولإجابة المتلقي كما هو المعهود في قراءة المبدع شعور المتلقي وقطع الطريق لحججه الواهية - في المقام المنشود - فمقاتلة الأخوان التي أوجبت الطاعة في الصورة النبوية التي رسمها الإمام للمتلقي هي مقاتلة الأخ النسبي وليس الأخ في الإيمان الذي في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) [ الحجرات/ 10]) بل هي أخوة في الإسلام لذا أردف الجملة السابقة بمثيلتها محافظا على الأسلوب وما فيه من شد وإثارة و إقناع وإن أنكر المتلقي عزة منه بالإثم فقال عليه السلام: «وَلکِنَّا إِنَّمَا أَصْبَحْنَا نُقَاتِلُ إِخْوَانَنَا فِی الْإِسْلَامِ - عَلَی مَا دَخَلَ فِیهِ مِنَ الزَّیْغِ وَالْإِعْوِجَاجِ - وَالشُّبْهَهِ وَالتَّأْوِیلِ»(2) وهنا مثال الأخوة في الإسلام بمثابة المثل التوضيحي والهدف المباشر للجملة السابقة، المثال الذي تحدثنا عنه في تعريف هذا النوع من الجمل من كونها أحيانا تنتهي بمثال توضيحي للفكرة المرجوة فيها، فطاعة الرسول في ذلك الوقت في مقاتلة الإخوان كانت في كتاب الله والنبي الأكرم به يعمل ومعه يسير، والإمام له الطاعة نفسها

ص: 131


1- ظ: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة : ج 8: 144
2- نهج البلاغة : 122

وبالصورة التي رسمها للنبي الأكرم لذا سبق هاتين الجملتين بقوله: (وَ إنَّ الْکِتابَ لَمَعی ما فارَقْتُهُ مُذْ صَحِبْتُهُ فَلَقَدْ کُنَّا مَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه وآله وسلم) فأَفْهَمَ هذه الصورة النبوية للمتلقي وأراد تحويله عن مساره في الزيغ والاعوجاج إلى الصواب ومرافقة الصورة التي رسمها له وأن هذه الصورة قد نسخت في رفيق النبي الأكرم والقرآن وهو المبدع وعلى المتلقي طاعته كما كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فناسبه هذا النوع من الجمل لطرح الاحتجاج لما في الجملة الأولى من ارتباط دلالي بين جملها المتعددة لتشكل بتضافرها صورة النبي الأكرم (المطاع بإخلاص) فجملةکُنَّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ (صلی الله عليه و آله وسلم» احتاجت للتفسير لأن الكون مع رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم له وجوه متعددة فلا يدرى أي ناحية منها قصد المبدع إلا بعد التفسير ب- (وَ إِنَّ الْقَتْلَ لَیَدُورُ عَلَی الْآباءِ وَ الْأَبْنَاءِ- وَ الْإِخْوَانِ وَ الْقَرَابَاتِ) وبعد اتضاح ناحية الرفقة مع رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ازداد المتلقي إثارة لمعرفة ثمرة الأسلوب الذي شده إليه - وهو من مواطن جمال الأسلوب وتميّزه - فما أراده المتلقي أن يعرف حصيلة التفسير فأجابه المبدع (فَمَا نَزْدَادُ عَلَیِ کُلِّ مُصِیبَهٍ وَشِدَّهٍ إِلاَّ إِیمَاناً، وَمُضِیّاً عَلَی الحَقِّ وَتَسْلِیماً لِلْأَمْرِ - وَصَبْراً عَلَی مَضَضِ الجِرَاحِ) وهو إيحاء واضح إلى المتلقي وبراعة عالية الإشارة الأسلوبية لقرارة ضمير المتلقي بأنك لست على هذه الصورة وربما لو كنت مع النبي الأكرم لما صبرت لضعف إيمانك لذا لم تمض على الحق ولم تسلم للأمر، والحق أنا معه وهو معي !؟ والجملة الطويلة المسلسلة التالية (وَلکِنَّا إِنَّمَا أَصْبَحْنَا نُقَاتِلُ إِخْوَانَنَا فِی

ص: 132

الْإِسْلَامِ) ارتباطها بين من احتياجها لعلة هذا القتال مع الأخوة فكان ما بعدها بيان لهذا السبب مما شد المتلقي لسماع التالي لارتباطها دلاليا في تكوين فكرة واحدة مع جملة (عَلَی مَا دَخَلَ فِیهِ مِنَ الزَّیْغِ وَالاِعْوِجَاجِ - وَالشُّبْهَهِ وَالتَّأْوِیلِ) فتكاملت مع سببها وعضدت صورة النبي الأكرم التي في الجملة المتسلسلة الأولى التضفي عليها جلاء وتأكيدا وإقناعا ليفهم المتلقي ما يراد منه بغض النظر عن قبوله أو رفضه لأنه معاند بالأصل وهو ما يزيد علو المبدع شأنا في الأسلوب وفن الإقناع والإفهام حتى للخصوم وبراعته في الأسلوب مع مختلف أنواع المتلقي وبشتى أنواع الجمل والتراكيب التي هي جميعها طوع بنانه، وليس من دليل أجلى وحجة أنصع على أن المبدع يتعامل مع المتلقي ويراعي الحال التي هو عليها فيخاطبه بما يناسبه ويتحدث بما يقرؤه في شعوره وهو القارئ المميز في المشاعر التي يخاطبها ليس أجلى من قوله الصريح قبيل هذه الخطبة للخوارج الذين مثلوا نوعين مختلفين من المتلقي فاحتاج كل منهم خطابا مختلفا فتوجه المبدع إليهم بالقول: «أَ کُلُّکُمْ شَهِدَ مَعَنَا صِفِّینَ - فَقَالُوا مِنَّا مَنْ شَهِدَ - وَ مِنَّا مَنْ لَمْ یَشْهَدْ - قَالَ فَامْتَازُوا فِرْقَتَیْنِ - فَلْیَکُنْ مَنْ شَهِدَ صِفِّینَ فِرْقَةً - وَ مَنْ لَمْ یَشْهَدْهَا فِرْقَةً - حَتَّی أُکَلِّمَ کُلاًّ مِنْکُمْ بِکَلاَمِهِ»(1) وهولا يحتاج إلى مزيد من الإيضاح في تقسيم المتلقي على قسمين ليخاطب كلا منهم بخطاب يناسبه، ومن هذه القدرة الأسلوبية والبيانية نحصل على هذا التنوع في جمل النصوص، ومنها استقينا كما استقى غيرنا ما يحتاجه من فرات المبدع البلاغي وجمله الراسمة لصورة النبي

ص: 133


1- نهج البلاغة : 122

الأكرم، فمن هذه الجملة وتلك حصلنا على إمتاع في أسلوب وفن من البلاغة لا نظير له ومنه رأينا صورة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم التي رسمها المبدع لنا في جانب من جوانبها التأثيرية التي تطاع في مقاتلة الآباء والأبناء والإخوان وفي كل شيء لأنها أحب الصور إلينا، بل لا إيمان لنا إن لم تكن هذه الصورة كذلك ورسم الإمام صورا غيرها في هذا النوع من الجمل أيضا بما وافق المقام والدلالة التي ينشدها.

ومن ذلك ما جاء في فكرة واحدة لجميع النص الذي دل عليه عنوانه وهو بیان الغاية من البعثة النبوية وصورة النبي الأكرم المبعوث وما هي غايته الإنسانية وأدواته الرسالية، فجميع الجمل الطويلة المتسلسلة - في النص الآتي - ترتبط التالية بالسابقة بكونهما معلولا وعلة أو وساطة أو وصفا مكملا بعضها بعضا التكوين فكرة واحدة هي:

الغاية من البعثة

فَبَعَثَ اَللَّهُ مُحَمَّداً صلى الله عليه و آله وسلم بِالْحَقِّ - لِیُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَهِ اَلْأَوْثَانِ إِلَی عِبَادَتِهِ - وَ مِنْ طَاعَهِ اَلشَّیْطَانِ إِلَی طَاعَتِهِ - بِقُرْآنٍ قَدْ بَیَّنَهُ وَ أَحْکَمَهُ - لِیَعْلَمَ اَلْعِبَادُ رَبَّهُمْ إِذْ جَهِلُوهُ - وَ لِیُقِرُّوا بِهِ بَعْدَ إِذْ جَحَدُوهُ - وَ لِیُثْبِتُوهُ بَعْدَ إِذْ أَنْکَرُوهُ - فَتَجَلَّی لَهُمْ سُبْحَانَهُ فِی کِتَابِهِ - مِنْ غَیْرِ أَنْ یَکُونُوا رَأَوْهُ بِمَا أَرَاهُمْ مِنْ قُدْرَتِهِ - وَ خَوَّفَهُمْ مِنْ سَطْوَتِهِ - وَ کَیْفَ مَحَقَ مَنْ مَحَقَ بِالْمَثُلاَتِ - وَ اِحْتَصَدَ مَنِ اِحْتَصَدَ بِالنَّقِمَاتِ»(1) ، وغير ذلك من الجمل التي اتسمت بصفات هذا القسم من الجمل (2)

ص: 134


1- نهج البلاغة : 147
2- ونشير إلى أرقام بعض الخطب التي ورد فيها هذا القسم من الجمل (104، 108، 160، وغيرها )

4. الجمل الطويلة المركبة: من الملاحظ أن هذا القسم من الجمل بما له من خصوصية أكثر من بقية الأقسام الثلاثة السابقة في كونه لابد أنُ يقرأ کاملا حتى يتضح معناه فهو كما يبدو يحتاج إلى متلق من نوع يختلف عما في نوع المتلقي في القسم السابق - مثلا - بل لابد أن يكون المتلقي موافقا للمبدع أو محبا له وفي مقام يُؤْمَنُ فيه على أن يسمع أو يقرأ جميع النص ففي مثل مقام غسل الرسول صلى الله عليه و آله وسلم لم يكن مع الإمام إلا الخاصة من الصحابة وهم ممن لا يشك في سماعهم جميع ما يقول الإمام بل لا ينتظر من أحدهم أن يسبقه في قول أو يرد عليه شطرا منه وإن لم يكونوا من الخاصة حتى بما يتطلبه المقام من جو خاص؛ لذا استعمل المبدع أكثر من جملة طويلة مركبة في هذا النص الذي هو «مِن کَلامٍ لَهُ علیه السلام قَالَهُ وَهُوَ یَلِی غُسْلَ رَسُولِ اللّه صلی الله علیه و آله وَتَجْهِیزَهُ : بِأَبِی أَنْتَ وَأُمِّی یَا رَسُولَ اللّه - لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوتِک مَا لَمْ یَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَیْرِک - مِنَ النُّبُوَّهِ وَالْإِنْبَاءِ وَأَخْبَارِ السَّمَاءِ - خَصَّصْتَ حَتَّی صِرْتَ مُسَلِّیاً عَمَّنْ سِوَاک- وَعَمَّمْتَ حَتَّی صَارَ النَّاسُ فِیک سَوَاءً - وَلَوْ لاَ أَنَّک أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ وَنَهَیْتَ عَنِ الْجَزَعِ - لَأَنْفَدْنَا عَلَیْک مَاءَ الشُّؤُونِ - وَلَکَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلاً وَالْکَمَدُ مُحَالِفاً - وَقَلَّا لَکَ وَلَکِنَّهُ مَا لاَ یُمْلَک رَدُّهُ - وَلاَ یُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ - بِأَبِی أَنْتَ وَأُمِّی اذْکُرْنَا عِنْدَ رَبِّک وَاجْعَلْنَا مِنْ بَالِکَ»(1) .

الجملة الأولى في هذا النص (لَقَدِ اِنْقَطَعَ بِمَوْتِکَ مَا لَمْ یَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَیْرِکَ - مِنَ اَلنُّبُوَّهِ وَ اَلْإِنْبَاءِ وَ أَخْبَارِ اَلسَّمَاءِ) تركبت بحيث لا يمكن أن نقف على جزء منها

ص: 135


1- نهج البلاغة: 235

ونحصل على معنى إلا بعد إكمالها و كذا الجملتان التاليتان (خَصَّصْتَ حَتَّی صِرْتَ مُسَلِّیاً عَمَّنْ سِوَاکَ وَ عَمَّمْتَ حَتَّی صَارَ اَلنَّاسُ فِیکَ سَوَاءً ) ولعل الأمر أكثر جلاء في الجملة التالية لهما (وَ لَوْ لاَ أَنَّکَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ وَ نَهَیْتَ عَنِ اَلْجَزَعِ لَأَنْفَدْنَا عَلَیْکَ مَاءَ اَلشُّؤُونِ) فكل جملة من هذه الجمل الطويلة المركبة لا يمكن الوقوف على جزء منها لنحصل على معنى للصورة التي أراد المبدع رسمها للنبي الأكرم فكانت من التأثير في المتلقي بمكان ما وأعطت صورة خاصة جدا ودلالة عميقة لا يمكن أن يحصل معناها لصورة إنسان آخر البتة وتضامن الجمل الطويلة المركبة مع بعضها لنرى في أسلوب مبدعها وقلبه المليء بالأسى وشعوره الفاقد لأحب الخلق إلى نفسه لنرى على مرآة أسلوبه الصافي صورة النبي الأكرم الذي اختص بما لم ينله نبي غيره فضلا عن الناس أجمعين رسم هذه الصورة لمتلق محزون في مقام الصمت والإصغاء التامين لكل ما يقال من ترکیب مهما بلغ طوله؛ لأن الأنفاس محبوسة على زفراتها والأجراس الكونية كلها هدأت حزنا على المفقود، فكانت لوحة الهدوء هذه أجلى لوحات الرسم لصورة النبي الأكرم، فلا يمكن أن يعود للبشرية ما انقطع عنها بموت النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وهو ما أوصى به المبدع ولده الحسن عليه السلام بجملة طويلة مركبة أيضا: «وَاعْلَم یا بُنَیَ أنَّ اَحَداً لَمْ یُنْبِئْ عَنِ اللّه ِ سُبَحانَه - کَما اَنْبَأَ عَنهُ الرّسولُ (صلی الله علیه و آله»)(1) فهو الصادق الأمين الذي لا ينطق عن الهوى بشهادة القرآن فلا يمكن أيضا في هذه الوصية أن نقتطع جزءا أو نقف عنده ونحصل على معنی فقد اختص النبي بالإنباء عن الله، فهو الخاص والمخصوص وبفقده صارت جميع المصائب هينة، فقد كان

ص: 136


1- نهج البلاغة: 31

برحمته ورسالته يعم جميع الناس بخيره و بركته وأمانه ومثل هذه الصورة لهذا النبي يحق لنا لأجلها أن نسكب العبرات حتى نفادها من العيون وأن نهلك أنفسنا جزعا لأنه المحبوب الأول إلا أن المحب لمن يحب مطيع، وطاعة النبي الأكرم واجبة حتى بعد وفاته و ترجمة هذا الحب لهذه الصورة أن نتمسك بأمره لنا بالصبر فهو حب خاص أن نصبر حبا له وطاعة لأمره ونترك الجزع كرامة لمنزلته وبين المبدع بعد ذلك أن كل ما نفعله هو قليل بحقك يا رسول الله لكن هذا الأمر ليس بمقدورنا وأنت على ما أنت عليه يا رسول الله فصورتك أعلى الصور، كيف لا وأنت المضحي الأول بنفسك وخاصتك من أجل أصحابك فقد «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله عليه وآله وسلم إذا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ - وَأَحْجَمَ النَّاسُ - قَدَّمَ أَهْلَ بَیْتِهِ - فَوَقَی بِهِمْ أَصْحَابَهُ حَرَّ السُّیُوفِ وَالْأَسِنَّهِ - فَقُتِلَ عُبَیْدَهُ بْنُ الْحَارِثِ یَوْمَ بَدْرٍ - وَقُتِلَ حَمْزَهُ یَوْمَ أُحُدٍ - وَقُتِلَ جَعْفَرٌ یَوْمَ مُؤْتَهَ - وَأَرَادَ مَنْ لَوْ شِئْتُ ذَکَرْتُ اسْمَهُ - مِثْلَ الَّذِی أَرَادُوا مِنَ الشَّهَادَهِ - وَلَکِنَّ آجَالَهُمْ عُجِّلَتْ وَمَنِیَّتَهُ أُجِّلَتْ»(1) وهنا في الجملة الطويلة المركبة الأولى صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم (المضحي الأول) ومع أن الجملة الطويلة المركبة هنا في مقام يختلف - أعني السابقتين - الأولى مقام المحبين والسامعين الجيدين والثانية مقام الأعداء والمتمردين فهو كتاب إلى معاوية إلا أنه ليس خطابا مباشرا من الإمام كي يخشی المقاطعة للجمل الطويلة المركبة التي لا يتم معناها إلا بقراءتها كاملة ولعل قائلا يقول كيف يقطع الخطاب؟ وهل ذلك متوقع مثلا!؟ إن الخطاب إذا صدر من أهله

ص: 137


1- نهج البلاغة : 9

يكون وقعه أشد من صاعقة السيف على الأعداء ويخشونه كما تخشى المعزی الأسد الجائع، وقد قطع یزید بن معاوية - لعنه الله - كلام الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب السجاد عليه السلام في مجلسه حین ارتقى المنبر في الشام خطيبا بعد واقعة كربلاء وهو ابن معاوية وأمر أن يَؤَذّنَ في غير وقت الأذان ليقطع کلام الإمام السجاد عليه السلام لكن في مقام خطاب الإمام علي عليه السلام في كتابه هذا إلى معاوية غير متوقع أن يحدث مثل هذا القطع؛ لأن الكتاب يرسل عادة في غياب المبدع ويقرأ كاملا وهو مسوغ لهذا القسم من الجمل أن تقال في مثل هذا المقام و كعادة المبدع في القراءة لشعور المتلقي سواء عنده الحاضر والغائب فقد أجاب في جملة طويلة مركبة على ما في نفس المتلقي فيما لو كانت هكذا صورة النبي الأكرم وأنه المضحي بأهله وخاصته من أجل أصحابه فما بال المبدع وهو من خاصته؟ ومن أجل تأكيد صورة النبي الأكرم والدفاع عنها با قناع المتلقي بالحجة التي احتج بها الخطاب كمصداق أعلى لا من أجل نفسه لأن المبدع لا يرى لنفسه شيئا أمام صورة النبي الأكرم إلا من حيث هو ربيبه ونتاج خلقه وصنع يده ليكون بذلك جزءا من الصورة النبوية في تربيتها فأجاب بالحوار الذي يدار من طرف واحد بجملة طويلة مركبة: (وَ أَرَادَ مَنْ لَوْ شِئْتُ ذَکَرْتُ اسْمَهُ - مِثْلَ الَّذِی أَرَادُوا مِنَ الشَّهَادَةِ - وَ لَکِنَّ آجَالَهُمْ عُجِّلَتْ وَ مَنِیَّتَهُ أُخِّرَتْ) وبهذه الجملة اكتملت صورة النبي الأكرم (المضحي الأول) ودفعت عنها شبهات المتلقي المعاند و رأينا من كوّة مختلفة وبأسلوب جمليّ جديد وجها مشرقا لجانب من جوانب صورة النبي الأكرم التي أشرقت بها الأرض ومن عليها.

ص: 138

المبحث الثاني: الأساليب

توطئة

التركيب في المعنى الاصطلاحي هو الأساس الذي يقوم عليه علم النحو الذي هو «علم بقوانين تعرف بها أحوال التراكيب العربية في الإعراب والبناء وغيرهما»(1) ، وليست معرفة هذه القوانين هي الهدف الأسمى والغاية التي ترتجی بل هي إحدى الوسائل لإيصال الأغراض التي يعبر عنها المتكلمون باللغة بطرقها المختلفة وبها يكتشف الإبداع عن طريق الانزياح عن هذه القوانين انزياحا مقبولا يسير وفقا لمفهوم المتلقي مع وجود ما يتضامن معه من القوانين ليعرفنا أنه انزياح، مثل شخص أو كشخص لا نعرفه ولم تسبق لنا رؤيته لا يخفى علينا إذا كان مرافقا الجمع ممن نعرفهم فبقرينه يعرف المرء - كما يقال - أما أن نقول مثلا: زید فاعل وطبيب فعل في قولنا: (زيد طبيب) ونرتب أثرا دلاليا على هذا ونعده انزياحا فهذا ما لا نعنيه بالانزياح في التركيب، ولكن أن نأتي بالمبتدأ (الطبيب زید) أو أن نختار لفظا دون غيره ليكون مبتدأ أو أن نوصل الغرض المقصود في لغة تركيبها

ص: 139


1- التعريفات، علي بن محمد الجرجاني: 22، 23. للزيادة والتفصيل في معنى التركيب اللغوي والاصطلاحي ينظر البنية الأسلوبية في التراكيب النحوية، أطروحة دكتوراه، مهدي حمد مصطفى عبد الله آل سيد علي العاني: 14وبعدها

من غير المبتدأ والخبر عن طريق الجملة الفعلية أو الاسمية حالا مثلا أو اختیار أداة نداء القريب للبعيد وبالعكس ففي هذه الحال يبقى النداء نداءا والمبتدأ مبتدأ إلا أنه - مثلا - لماذا سبق باستفهام أو أكد بقسم أو غيرها مما يتوافق مع قانون التركيب اللغوي العام ويؤدي المعنى بطريقة مميزة أو مثيرة وفيها إمتاع بطريقة عرضها إلى المتلقي يشد ذهنه إليها لينتهي بالإقناع له دون الخروج المطلق أو الخدش المعيب بطريقة التركيب اللغوي، وفي الحقيقة هو مسلك ليس بالهين سلو که ولا تحليله من قبل أي متلق وقد يسقط فيه من الطرفين بما يخل في التركيب اللغوي أو ما يعد انزياحا مقبولا وهو بعيد عن ذلك، وقد وجدنا في نصوصنا موضع الدرس أن الإمام عليه السلام سعى لصوغ لغة النصوص التي تصور النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن حس وإدراك كاملين في التراكيب اللغوية وطرق بيانها بتأثيرات مميزة على المتلقي مع ملاحظة أن فاعلية تلك التأثيرات تقوی و تزداد بفعل الانزياحات والمفاجآت التي استعملها الإمام عليه السلام مع قوانين التركيب (المعروفة) وصولاً إلى رسم صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم التي تجاوزت الإبلاغ إلى الإثارة، (1) والإمتاع وإقناع المتلقي بما فيها من قرائن مقالية ومقامية لا تقبل الشك، استعملها الإمام وهو إمام الكلام في نصوصه بما ينزاح فيها القول عما ألفه في الذهن من التركيب وما يفاجئ المتلقي من حيث لا يدري ولا يرفض ما يجد لعدم غرابته لأنه من رحم اللغة بل هو نهجها البلاغيّ، وبالطبع فإن الانزياحات والمفاجآت اللغوية تقود إلى

ص: 140


1- ظ: الأسلوبية والأسلوب، د. عبد السلام المسدي ،: 35

اختلاف المعاني التي بدورها تولد تأثیرات مختلفة(1) . وتبعا لها يختلف الأسلوب في رسم الصورة النبوية بحسب المقام وطبيعة الموقف وحال المتلقي، وهو ما سنتعرف عليه في هذا الفصل من أساليب مختلفة استعملها الإمام عليه السلام في رسم الصورة النبوية في الجملة الفعلية تارة والاسمية أخرى وطولها وقصرها ومختلف الأساليب التي تفضي جميعها بإيحاءات أو إشارات أو إثارات لذهن المتلقي تقنعه وتمتعه في رسم الصورة من وجوه مختلفة وجميعها لشخصية واحدة أحدية هي النبي الأكرم محمد صلى الله عليه و آله و سلم .

1) الاستفهام

مما عرف به الاستفهام: هو طلب الفهم من الآخر على جهة الاستعلام (2) وللاستفهام دور أسلوبي وإيحائي في النص وله تأثير كبير في شعور المتلقي بما يثيره من فجوات وفضاءات ذهنية تعد بمثابة لوحة لرسم الصورة بدلالتها المرجوة في الخطاب المقصود، فالاستفهام «أوفر أساليب الكلام معاني وأوسعها تصرفا وأكثرها في مواقف الانفعال وروداً؛ ولذا نرى أساليبه تتوالى، في مواطن التأثر وحيث يراد التأثير وهيج الشعور للاستمالة والاقناع وإذا صحّ القول: إنّ للكلام قمة عليا في البلاغة كان أسلوب الاستفهام محتلا أعلى مكان في تلك القمة»(3) .

والاستفهام يعد ممثلا للجانب الحيوي في اللغة وقد يكون هذا من أسرار

ص: 141


1- ظ: البلاغة والأسلوبية: 255
2- ظ: كتاب الطراز، العلوي: ج 3: 286، ومعترك الأقران، السيوطي: م1: 327، ومعجم المصطلحات البلاغية وتطورها ، د. أحمد مطلوب: ج 1: 181
3- فن البلاغة ، د. عبد القادر حسين: 137

ارتباطه باللغة في وجهها الحواري، ومما جاء في خطبة له عليه السلام وهي من خطب الملاحم: «طَبِیبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ قَدْ أَحْکَمَ مَرَاهِمَهُ-... وَظَهَرَتِ الْعَلامَهُ لِمَتَوسِّمِهَا - مَا لی أرَاکُمْ أَشْبَاحاً بِلاَ أرْوَاح - وَأرْوَاحاً بِلاَ أَشْبَاحٍ - وَنُسَّاکاً بِلاَ صَلاَحٍ - وَتُجَّاراً بِلاَ أَرْبَاحٍ - وَأیْقَاظاً نُوَّماً - وَشَهُوداً غُیَّباً- وَنَاظِرهً عَمْیَاءَ - وَسَامِعَهً صَمَّاءَ- وَنَاطِقَهً بَکْمَاءَ رَايَةُ ضَلَالٍ قَد قَامَت عَلَي قُطبِهَا وَ تَفَرّقَت بِشُعَبِهَا تَكِيلُكُم بِصَاعِهَا وَ تَخبِطُكُم بِبَاعِهَا قَائِدُهَا خَارِجٌ مِنَ المِلّةِ قَائِمٌ عَلَي الضّلّةِ»(1) .

أسلوب الاستفهام هنا جاء دقيقا في إيصال المعنى المطلوب بالتأثير العالي في المتلقي و تثبیت دلالته بطريقة ما هو مفروض منه، لأن صورة هذا النبي الكريم الدوار بطبه تتبعا لمواضع الغفلة.. لم ينتفع بجمال هذه الصورة المتلقي السقيم ولم يأخذ علاجا لعلته الداخلية فظلت روحه خاوية وظل جسده خائرا وهي حقيقة قدمها الاستفهام دون شك فيها بل سأل عنها كحقيقة ثابتة وأراد معرفة السبب الوقوعها مع أن كل المتطلبات متوفرة لعدم وجودها فتضمن أسلوب الاستفهام بین سطوره مع التوبيخ كون هذه الحال (أَشْبَاحاً بِلاَ أرْوَاحٍ) وما تلاها مما عطف عليها من أحوال شملها الاستفهام واقع معاش لا تشبيها للمبالغة بل هو الأمر المفروغ منه بحيث يجعل المتلقي يدور في فضاء السؤال والإجابة عنه لا إنكار السؤال ورده لأنه من الحقائق الملموسة ولتوضيح ذلك نقول: لو كان السؤال من المبدع هل انتم أشباح بلا أرواح؟ ونساك بلا صلاح؟ و .... الخ لاحتمال الأسلوب

ص: 142


1- نهج البلاغة : 108

كون المتلقي على هذه الحال أو ليس عليها وتتغير تبعا لها حالة المبدع من كونه غير متيقن أو عارف بحال المتلقي هذه ولكانت أمام المتلقي فسحة لتغيير دلالة الأسلوب الأصلية التي يروم وصولها الخطاب، فظلت أجواء الأسلوب الاستفهامي هي المسيطرة على شعور المتلقي لأنه لا مندوحة لجواب فيجيب ولا مناص للإنكار فيرفض فأعطى الاستفهام في هذا الأسلوب أقوى درجات التأثير على شعور المتلقي وأرغمه على قبول التوبيخ لأنه حق أبلج بإزاء فتنة «قَائِدُهَا خَارِجٌ مِنَ المِلّةِ - قَائِمٌ عَلَي الضّلّةِ» وقد زاد من تأثير الأسلوب الاستفهامي و تفاعل المتلقي معه مجيء الفعل المضارع بعد الاستفهام (مَا لِي أَرَاكُم) فقد أعطى سعة دلالية أفقية وطولية امتدت لوقت القارئ بما يؤيده حال الأمة الراهن فكان التجديد في صيغة المضارع لا يقتصر على زمن القارئ، بل أعطي دلالة التجدد الحضوري الذي امتد لما يأتي بعده(1) ، وهو ذات الأسلوب في حال تجدد الدلالة في قول الإمام عليه السلام: «مَا لِي أَرَاكُم عَنِ اللّهِ ذَاهِبِينَ وَ إِلَي غَيرِهِ رَاغِبِين»(2) يؤيده أن المعصومين من الأحياء عند ربهم وبين الناس في مر العصور بفكرهم وهديهم فكان استفهام التوبيخ ريشة أسلوبية رائعة رسمت بها صورة النبي الأكرم في شعور المتلقي على مر العصور فطب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مازال يدور بيننا وسيظل هكذا إلى آخر الدهر ودواؤه يتتبع مواضع غفلتنا ومواطن حيرة الأمة ملبيا كل مستضيء بأضواء حكمته وقادح بزناد علومه

ص: 143


1- ظ: قراءات أسلوبية في الشعر الحديث: 38
2- نهج البلاغة : 175

الثاقبة كي ينفخ في الأشباح الأرواح ويَهَبَ النسّاك حاجتهم من الصلاح حتى لا تبور تجارتهم من غير أرباح.. هذه هي صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم لمن نظر إليها بعين القلب مرسومة في مرآة عقله اقتناعاً وتأثرا شعوريا في كل زمان، فكان النص الذي سبق الاستفهام بهذا الأسلوب يصور بعض الكمالات النفسية للنبي الأكرم و کرامات ذاته الطاهرة التي لم تنتفع بها الأمة بما يناسب صورتها الحقيقية، فجاء الاستفهام بدلالته الأصلية لتنبيه المتلقي وهو ما يحتاجه المبدع في الأسلوب ومن ثم بدأ معه بتوليد الدلالات التي سها عنها المتلقي من صورة النبي الأكرم مع بقاء دلالة الاستفهام الأصلية(1) بمثابة مصباح تكشف أمام ذهنه وسائل الإقناع لينتبه إلى معاني هذه الصورة التي كان في غفلة عنها، ومن تولد الدلالات في الاستفهام ما أعطاه من توبيخ الجاهلين من المخاطبين والمتلقين وغيرهم الغافلين عن اقتباس أنوار النبي الأكرم واكتساب فيوضاته(2) ، وهو مع التوبيخ عتب مؤلم ومؤثر أيما تأثير في شعور المتلقي بما يثبت صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم في نفس المتلقي بتجدد مستمر فكان الاستفهام في النص يمثل مسمارا لتثبيت اللوحة التي تحمل صورة النبي الأكرم آنفة الذكر.

وقد نجد الاستفهام في الأسلوب هو المحور الأساس الذي تدور دلالة الخطاب حوله، إذ به يكمل المعنى وبدونه يختل لا على سبيل مثال من نص قصير أو عبارة استفهامية ولكن في نص طويل جدا بل لعله من أطول النصوص في بيان

ص: 144


1- ظ: تحولات البنية في البلاغة العربية : 107
2- ظ: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة : ج 7: 281

صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ويبني هذا النص بطوله على الاستفهام الذي لم يرد في النص استفهام غيره بأي أداة أو طريقة أخرى، وإنما جعل المبدع الاستفهام قطب الرحى في النص وأحاطه بما يؤكد ذلك وجاء ربطه الدلالي واضحا في الأسلوب بعد تسلسل دلالي يبدأ بالنبي الأكرم وبعده الأنبياء عليه السلام ثم يختم بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم :

«وَلَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ عليه و آله وسلم كَافٍ لَكَ فِي الْاَُسْوَة... فَتَأَسَّ بِنَبِیِّکَ اَلْأَطْیَبِ اَلْأَطْهَرِ صلى الله عليه و آله وسلم - فَإِنَّ فِیهِ أُسْوَهً لِمَنْ تَأَسَّی...

وَ إِنْ شِئْتَ ثَنَّیْتُ بِمُوسَی کَلِیمِ اَللَّهِ عليه السلام... وَإِنْ شِئْتَ ثَنَّيْت؟ بِدَاوودَ صَاحِب المزامير... وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِی عِیسَی بْنِ مَرْیَمَ علیه السلام؟ فَلَقَدْ کَانَ یَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ ... وَلَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم - مَا يَدُلُّكَ عَلَى مَسَاوِىءِ الدُّنْيَا وَعُيُوبِهَا - إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ - وَزُوِيَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِهِ - فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ - أَكْرَمَاللهُ مُحَمَّداً بِذلِكَ أَمْ أَهَانَهُ -؟ فَإِنْ قَالَ: أَهَانَهُ، فَقَدْ كَذَبَ وَاللهِ الْعَظِيمِ - وَإِنْ قَالَ: أَكْرَمَهُ - فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيَا لَهُ - وَزَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ - فَتَأسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ - وَاقْتَصَّ أَثَرَهُ وَ وَلَجَ مَوْلِجَهُ - وَإِلاَّ فَلاَ يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ - فَإِنَّ اللهَ عزّوجلّ جَعَلَ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ عَلَماً لِلسَّاعَةِ وَمُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ - وَمُنْذِراً بِالعُقُوبَةِ»(1)

فمما أحاط الاستفهام سبقه بفعل الأمر (فَلْيَنْظُرْ) وهو أمر من أمير المؤمنين عليه السلام وهو مقدمة للاستفهام و تمهيد للإقناع فهو طلب مباشر لإحالة

ص: 145


1- نهج البلاغة : 160

صورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نهج البلاغة الموضوع إلى العقل فالنظر بالعقل توجیه لبصيرة المتلقي وشعوره ودعوة صريحة للتفكر بإحقاق الحق ورسم الصورة النبوية بأجلي طريقة، وقد جاء بعده القسم (و الله العظيم) تأكيدا للإقناع بعد أن نظر المتلقي بعقله، فقد أحدث الاستفهام في الأسلوب انقساما في رأي المتلقي بحسب قراءة المبدع لشعور المخاطب وهو من دلائل قدرة المبدع في الاستقراء الشعوري للمتلقي والمعرفة الكاملة بأحواله وما يتطلبه المقام وهو ما يفضي إلى القدرة في توظيف الأسلوب الأنسب لترسخ الدلالة الخطابية في رسم صورة النبي الأكرم بأنه الأكرم على الله من أن يزوي عنه الدنيا ويبسطها لغيره فما كان ذلك إلا إجلالا لمكانة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وإهانة لعباد الدنيا الفانية فهو قلب للصورة عند من غرته الدنيا وظن فيها الدوام لكن الله - تعالى - أكرم نبيه بالعطاء الدائم لا بالعطاء الأولي الزائل وللآخرة خير لك من الأولى ، ولسوف يعطيك ربك فترضى) [الضحى /4، 5]).

فكان الاستفهام هنا حلقة الوصل الرئيسة في التسلسل الدلالي لترسيخ مفهوم التأسي والزهد والتواضع والقناعة التي ختمت بالنبي الأكرم بعد الأنبياء المذكورين كما هو خاتمهم في النبوة فهو كذلك في درجات الكمال فيما ذكرنا، و كونه صورة من صور النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم فكأن من لم يقتنع أولم تكتمل لديه الصورة أتاه المبدع بالاستفهام ليبهته به، وهو طريقة قرآنية ذكرها القرآن الكريم على لسان إبراهيم عليه السلام ( وهم إن كاوا ينطقون [الأنبياء /93]) فجاء الاستفهام موجها لعقولهم (فلينظر ناظر بعقله) ولم

ص: 146

ينطقوا بالطبع وهو من أسرار هذا النوع من الاستفهام في الأسلوب لأنه يحول صراع المتلقي مع شعوره فيكون التأثير داخليا والإقناع بأعلى درجاته، لأن الاستفهام بحيويته الحوارية جعل في النص حوارا بدیر دفته المبدع سائلا ومجيبا والمتلقي كمن يتفرج على نفسه كيف تنطق ويخرج جوابها على لسان الإمام عليه السلام وهو من المقدرة الأسلوبية في قراءة شعور الآخر وبها يكمن سر الاستعمال الأمثل للأسلوب من استفهام أو غيره ورسم الصورة النبوية بهذه الدقة، ويدل أيضا على معرفة الإمام عليه السلام بالنبي الأكرم بأعلى درجات المعرفة التي لا يسبقه إليها أحد من الأولين والآخرين ولذلك حق له أن يبين هذا الحق الذي اختص به مع النبي الأكرم إذ يقول مستفهما «فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيّاً ومَيِّتاً-؟ فَانْفُذُوا عَلَى بَصَائِرِ کُمْ - ولْتَصْدُقْ نيَّاتُكُمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّکُمْ- فَوَالَّذِيِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ إنِّي لَعَلَى جَادَّة الْحَقِّ - وإِنَّهُمْ لَعَلَی مَزَلَّةِ الْبَاطِلِ - أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ.»(1)

2) النداء

من الأساليب التي أسهمت بشكل ما في رسم صورة النبي الأكرم أسلوب النداء وهو طلب إقبال المدعو على الداعي بأحد الأدوات المخصوصة(2) ، أو هو مد الصوت لتنبيه المنادی وحمله على الالتفات لما يريده المتكلم(3) ، وأسلوب

ص: 147


1- نهج البلاغة : 197
2- ظ: البرهان في علوم القرآن: ج 2: 323، وينظر: الإتقان في علوم القرآن : ج2 : 246
3- ظ: أساليب الطلب عند النحويين والبلاغيين : 218، وفي النحو العربي نقد وتوجيه: 325، والنحو الوافي : عباس حسن: ج4: 1

النداء من الأساليب العربية الجميلة والمهمة، وموطن جمال هذا الأسلوب في سعة الاختيارات الكثيرة التي يعتمدها المنادي في أدوات هذا الأسلوب. وموطن أهميته في كونه أسلوبا يعمد إليه المبدع لجلب انتباه المتلقي والتركيز عليه والإصغاء له وهذا أمر مهم لا ينكر دوره في شد ذهن المتلقي لما يرسمه المبدع من صور في الخطاب، «وهو أسلوب متحرر من قيود كثيرة، لأن منشئ النص أو المتحدث يعبر بصور كثيرة من التعبيرات التي تنطوي تحت هذا الأسلوب»(1) .

ولم تخلُ نصوص الإمام عليه السلام في رسم الصورة النبوية من المرور عبر هذا الطريق، فمن ذلك ما «وَ رُوِیَ عَنْهُ عليه السلام عِنْدَ دَفْنِ سَیِّدَةِ النِّسَاءِ - فَاطِمَةَ -علیها السلام - کَالْمُنَاجِی بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - رسول اللَّه صلی الله علیه - عِنْدَ قَبْرِهِ:

السَّلاَمُ عَلَیْک یَا رَسُولَ اللّهِ عَنِّی وَعَنِ ابْنَتِک النَّازِلَهِ فِی جِوَارِک وَالسَّرِیعَهِ اللِّحَاقِ بِک قَلَّ یَا رَسُولَ اللّه عَنْ صَفِیَّتِک صَبْرِی وَرَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِی إِلاَّ أَنَّ فِی التَّأَسِّی لِی بِعَظِیمِ فُرْقَتِک وَفَادِحِ مُصِیبَتِک مَوْضِعَ تَعَزٍّ فَلَقَدْ وَسَّدْتُک فِی مَلْحُودَهِ قَبْرِک وَفَاضَتْ بَیْنَ نَحْرِی وَصَدْرِی نَفْسُک ف-«إِنَّا للّه وَإِنَّا إِلَیْهِ رَاجِعُونَ!» فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِیعَهُ، وَأُخِذَتِ الرَّهیِنَهُ.

أَمَّا حُزْنِی فَسَرْمَدٌ وَأَمَّا لَیْلِی فَمُسَهَّدٌ إلَی أَنْ یَخْتَارَ اللّه لِی دَارَک الَّتی أَنْتَ بِهَا مُقِیمٌ وَسَتُنَبِّئُک ابْنَتُک (بتَضَافُرِ أُمَّتِک عَلَی هَضْمِهَا) فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ وَاسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ هذَا وَلَمْ یَطُلِ الْعَهْدُ، وَلَمْ یَخْلُ مِنْک الذِّکْرُ وَالسَّلاَمُ عَلَیْکُمَا

ص: 148


1- دعاء الإمام عليّ عليه السلام دراسة نحوية أسلوبية، (رسالة ماجستير)، محمد إسماعيل عبد الله : 79

سَلاَمَ مُوَدِّعٍ لاَ قَالٍ وَلاَ سَئِمٍ فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلاَ عَنْ مَلاَلَهٍ وَإِنْ أُقِمْ فَلاَ عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اللّه الصَّابِرِینَ»(1)

في هذا النص علينا أن نلتفت إلى ما فيه من نوادر تزيد الأسلوب جمالا وتثير المتلقي شوقا وإمتاعا وتصديقا، فعنوانه أول نادرة فيه لأنه موجه أو كالموجه إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم والمناسبة هي وفاة الزهراء ع، ومقام النص هو الموقف الحزين والمبدع يفقد عزيزا لا نظير له في الوجود وفي هذا الموقف تكمن نادرة العفوية والسجية التي لا تشوبها شائبة في اختيار الأسلوب والصدق الدلالي مع أنه لا شك في أن جميع نصوص الإمام عليه السلام هي عفوية وسجايا صادقة - كما أشرنا سابقا - إلا أن هذا المورد لا يبقي للشبهة مجالا، ويؤكد صدق المبدع في أن النبي الأكرم هو من يمثل الصورة العليا لديه في كل المواقف على الإطلاق وهذا بحد ذاته أسلوب يوحي بصورة للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم هي صورة المحبوب الأوحد وأنه هو الذي يمثل الحب الأول والآخر فكان المبدع مثال التطبيق العملي لقول النبي صلى الله عليه و آله وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين»(2) ، هذا الحب الذي وظفه المبدع فكريا ونفسيا وفق مقتضيات الصورة النبوية المرسومة والمشاركة الدلالية لعنوان النص مع النص، هذه الصورة استنتجت ولما يدخل المتلقي في النص بعد، ولو دخلنا في الأسلوب الرئيس في

ص: 149


1- نهج البلاغة : 202
2- صحيح البخاري : ج 1 : 9

موضوعنا - النداء ، نجد هذا النص الذي كانت مناسبته وفاة الزهراء عليها السلام يبدأ بنداء النبي الأكرم ب- (اَلسَّلاَمُ عَلَیْکَ یَا رَسُولَ اَللَّهِ)، ثم تكرر (قَلَّ یَا رَسُولَ اَللَّهِ)، مفاجأة أسلوبية غير متوقعة فلو أن الإمام عليه السلام نادي بالسلام على الزهراء عليها السلام لما كان فيه من الغرابة شيء حتى لو ذكر النبي الأكرم صلی الله عليه و آله وسلم معها كأن يقول مثلا: (السلام عليك يابنت رسول الله..) ويذكر أعلى درجات الصور للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم لما كان يوحي بما أوحی به نداء السلام المباشر على النبي الأكرم منفردا ليكون نظر المتلقي متوجها إليه ويؤكد هذا أنه في نهاية النص بعد أن بين صورة الرسول ناداهما بالسلام معا ( وَالسَّلامُ عَلَیْکُمَا سَلامَ مُوَدِّعٍ لَاقَالٍ) وهذا النداء بهذه الطريقة يترجم حضور صورة النبي الأكرم المحبوب الأول في قلب المبدع كما انه يترجم تمهيد المبدع لإحداث شيء باتجاه الإثارة، لشعور كبير وحب عميق وحزن أليم تمثل لفراق ضلعين (النبي والزهراء) من أضلاع مثلث الحب والعشق الحقيقي (النبي وعلي والزهراء) تحرك المبدع ليمثله للمتلقي صورة حيّة في الخارج، فأحدث إثارة نفسية للمتلقي يلج جملها في سمِّ الخياط الشعوري لديه بوساطة تكرار أداة النداء (يا) المميزة من بين أدوات النداء؛ لأن النداء بوساطتها يعطي البناء التركيبي بعدا زمنيا يأخذ نفسا أطول من غيره من أدوات النداء ك (اللهم أو الهمزة أو غيرها...) يناسب مقام النص وموقفه الحزين وهو ما يعكس الحال النفسية وعمقها لدى المبدع فهو قد ينفس عن عواطفه الجياشة التي مزجها مع ألوان الصورة التي رسمها للنبي الأكرم معلنا فيها تبوء النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم سنام

ص: 150

الخصوصية الخاصة ومصدقا بالدليل القاطع ما قاله فيه: (خَصَّصْتَ حَتَّی صِرْتَ مُسَلِّیاً عَمَّنْ سِوَاكَ)(1) ، فخص النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم حتى مع كون المفقود هو الزهراء الضلع الثالث في هذا المثلث وفي مناسبتها الحية، ولأن هذه الصورة لابد أن تكون هي الأكثر استعمالا في الحديث الوجداني للإنسان الأوحد استعمل لها المبدع حرفا مميزا من حروف النداء ناسب المقام المميز، فإن حرف النداء (یا) هو أكثر حروف النداء استعماله في العربية وإنه الأوحد من الحروف الذي استعمل في الذكر الحكيم». (2) وبالتضامن مع المقام وموقف النص يكون الأسلوب مثيرا ومحفزا للمتلقي المعايشة شعور المبدع ومشاركته في قبول صورة النبي الأكرم وجدانيا ؛ لأن هناك شعورا باطنيا وعلاقة أبدية بين المنادي والمنادي وصاحبة المناسبة عليها السلام ترجمها النداء بأداته التي استعملها للقريب مع أن المنادي من وجهة النظر المادية في قبره، فاختيار المبدع نداء البعيد بأداة القريب يكسب المنادی دلالة جديدة کالتعظيم والتعبير عن شعور المبدع و شوقه الدائم إلى المنادي لم يغير صورته حتى فقد الزهراء عليها السلام وهي أم أبيها، وانه قريب منه وصورته حاضرة في وعيه وشعوره لذا تأتي عباراته في النصوص غير منقوصة الوصف لتمكن صورة النبي الأكرم من ضميره الداخلي وتمكن الإمام من البيان اللغوي بجميع أدواته وأساليبه، فيأتي المشهد الذي يتضمن الصورة النبوية معطيا للمتلقي قدرة التركيز

ص: 151


1- نهج البلاغة : 235
2- دعاء الإمام عليّ عليه السلام - دراسة نحوية أسلوبية: 79

ولفت الانتباه لبيان أهمية الصورة العليا من المحبة والمكانة في الشعور لما قدمه هذا النبي بغير معزل عن إنسانيته كإنسان يماثلنا (1) ، لكنه انطلق كما سواه الله وبما نفخ فيه من روحه التي استحقت السجود من الملائكة(2) بالإنسان الحق الذي غلب عقله هواه، صورة الإنسان التي يَعْلَمُها الله دون الملائكة صورة الخلق العظيم الذي أوجب اعتذار الملائكة من ربهم وتنزيههم إياه، وليست الصورة التي علمتها الملائكة من الإفساد وسفك الدماء ولا صورة أسطورية أو في جمهورية أفلاطون؟! بل هي حق مبين من لم يسجد لها كان من المرجومين المخرجين من حضرة رب العالمين وإن عبد الله مئات السنين فاستحقت بحق أن تنادى بأداة القرب لأنها الأقرب إلى الله فكانت الأداة (يا) موافقة لدلالة الصورة النبوية المخصوصة في هذا النداء - وبين الفكرة العامة للنص من جهة أخرى فشكل الأسلوب انزياحا دلاليا في استعمال الأداة ذلك الانزياح الذي استغله البلاغيون ليشكلوا صورة بلاغية للنداء تتحقق بخروج أداة النداء عن أصل دلالتها التي الصقوها بها»(3) من تخصيص أدوات لنداء القريب وأخرى للبعيد. فضلا عما تقدم فإن أداة النداء قد أخذت دور المحفز الأسلوبي الشعور المتلقي وإعادته إلى رشده فيما يخص حقيقة الصورة التي يرسمها الإمام عليه السلام للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم قولا وفعلا وليس ادعاء كما كان يرسمها غيره دون إيمان وصدق

ص: 152


1- أشير إلى قوله تبارك وتعالى : ((إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُکُمْ)) من [الكهف/110])
2- أشير إلى قوله تبارك وتعالى : (( دا سويته ونفخت فيه من فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)) [الحجر/29]
3- تحولات البنية في البلاغة العربية : 124

وجداني، بل ليحقنوا بها دماءهم أو ليصلوا إلى مناصب دنيوية وربما أدركوا ما أملوا لكنهم وجميع الخلق لم يدركوا ما جاء به الإمام عليه السلام حتى على مستوى القول ولعل أجمل ما وصل منهم الاعتراف بهلاكهم لولا الإمام عليه السلام، وهذا ما وجدناه ظاهرا في ما نقله التاريخ لنا على ما فيه من قصور.

فصدارة النداء كانت المنبه الأساس الذي قامت عليه أركان الصورة النبوية إذ نجد أن الدلالات فيها كشعاع مشكاة ودقة الأسلوب كحد سيف علي عليه السلام، فالذي له السلام أولا هو صاحب الصورة العليا في الحب والمبدع جعل النداء مدخلا رئيسا لبيان لوحة الصورة النبوية لما يحتويه النداء من لفت انتباه المتلقي، فضلا عن قدرته على تفريغ الشحنات العاطفية فبث المبدع انفعالاته وحزنه متخذا أسلوب النداء طريقا له، فاستحضر صورة النبي الأكرم في خطابه وهي الحاضرة في وجدانه دائما فمثلت زفراته حبا لمحبوبين له حبيبان لبعضهما محبان له فقال عن صورة النبي بما أوحاه الأسلوب الندائي مؤيدا بما بعده من عبارات النص أنت يا رسول الله الأول في الحب والمواسي وبك التأسي وحتی عندما عرّج الإمام على ذكر الزهراء عليها السلام كرر النداء للنبي الأكرم فهو محور الحب ومن خلاله جاء حب الزهراء ولأن النبي الأكرم مصطفی من الله كان المحبوب الأول فكذا الزهراء عند الإمام لأنها اصطفاء النبي (قَلَّ یَا رَسُولَ اَللَّهِ عَنْ صَفِیَّتِکَ صَبْرِی) فالضلع الأول في مثلثنا أنت يا رسول الله وأنت في عظيم فرقتك موضع تأس وتعزّ، فعندما وسدتُ الزهراء في ملحودة قبرها فلقد وسدتك قبلها ولذا أشار الإمام لتوسيده النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ولم يذكر توسید

ص: 153

الزهراء عليها السلام مع أن الحضور المقامي لها عليها السلام و كأن صورة النبي حتى في هذا المقام الدقيق هي الأقوى حضورا وأكدها أسلوب الإمام بقوله: (فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ) أي الزهراء عليها السلام و كأنه بذكره توسيد النبي الأكرم في ملحودة قبره قد فعل ذلك مع الزهراء عليها السلام فأكمل القول باسترجاع الوديعة فصورة النبي حتى في توسيد الزهراء هي الحاضرة عند الإمام عليه السلام، ولا يخفى الحزن والألم في مثل هذه الحال إلا أن عظمة النبي الأكرم وفقده مثل المفقود الأول وصورة المحزون عليه قبل كل الأحبة بل لعل الإمام عليه السلام مثل في حبه و تفجعه للزهراء عليها السلام صورة النبي من كونها تذكره بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وهي صورة عليا في الوفاء يرسمها الإمام وتعطي للمتلقي المتأمل حالة الإمام الشعورية الحزينة في صدق حبه وفقده لضلعين من أضلاع مثلث الحب السامي الذي يعطي دروس الحب الحقيقي فحب الزهراء لأنها صفية النبي يعني حب النبي وحب النبي لأنه صفي الله يعني حب الله وحب الإمام لأنه صفي النبي والزهراء ربط لهذا الحب الإلهي فهم الأدلاء على الله فما أروع الأسلوب الذي يثير ويمتع المتلقي ويقنعه ليوصله إلى حب الله الذي لا نرى صورته ولا يمكن ذلك ولكن يمكن أن نرى صورة نبيه ونرى الله من خلالها في بديع صنعه ومِنّه علينا في هذا النبي، ونرى النبي في أسلوب تلميذه وهو يسلك هذا المسلك الدقيق الصادق في تمثيل الحب واقعا ملموسا لا نصا مكتوبا لعدم تناقض بعضه مع بعض في نصوص نهج البلاغة أو على أقل تقدير في النصوص المتعلقة بصورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله

ص: 154

وسلم ، فالنداء كان يوجه ذهن المتلقي إلى هذا الجانب من صورة النبي الأكرم بما فيه من الحنين والشوق والألم وظفها أسلوب الإمام عليه السلام دون الإخلال بدلالة الصورة على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ، وما تستحقه صاحبة المناسبة عليه السلام وبيان المعنى للمتلقي مع الإجادة في وظيفة الإفهام والإثارة ابتداء من عنوان النص ووظيفة المحزون المؤثر في غيره شعوريا ونقل المخاطب إلى درجته في الشعور وإقناعه بالدليل القاطع من القرائن المقامية التي لا تقبل الشك لأنه عبر عن ذاته بصدق وواقعية ترجمتها سيرته وأقواله في حالات مقامية أخرى جاءت متضامنة و مؤيدة لما جاء في رسم صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم . وهذا الاختيار في أداة النداء المميزة (يا) مع المميز جاء هنا في موضعه وجاء مع ممیز آخر عند الإمام عليه السلام كما في قوله عند وصيته للحسن عليه السلام كتبها إليه بحاضرین (اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَداً لَمْ يُنْبِىءْ عَنِ اللهِ سُبْحَانَهُ - كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وآله - فَارْضَ بِهِ رَائِداً وَإِلَى النَّجَاةِ قَائِدَاً - فَإِنِّي لَمْ آلُكَ نَصِيحَةً - وَإِنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ فِي النَّظَرِ لِنَفْسِكَ - وَإِنِ اجْتَهَدْتَ مَبْلَغَ نَظَرِي لَكَ)(1) ، فهنا جاءت أداة النداء نفسها (یا بني) لأنها تمهید و تنبيه للمتلقي لصورة المنبئ والصادق الأول والواسطة بين الخلق وربهم بكل صدق وأمانة (النبي الأكرم) وسلك فيها الإمام أسلوب الناصح الحبيب إليه وصرح بأنه لا يبلغ نظره أحد في النصح له كما أن رسول الله لا يبلغه أحد في النصح إلى الله - تعالى - فلتميز النبي الأكرم في صورة المنبع الأول عن

ص: 155


1- نهج البلاغة: 31

الله تمیز اختيار أداة النداء لتنبيه المتلقي لما في هذه الأداة - مما ذكرناه آنفا - من مناسبة مقام الصورة المرسومة للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم.

ويبدو أن أهمية الأداة (يا) أو ما يتعلق بها هو الاختيار الأنسب لما يتعلق بالنبي الأكرم ؛ لأن الإمام استعمل أدوات النداء الأخرى في النهج إلا أنه اختار في أسلوبه أفضلها مناسبة للدلالة المرجوة في نصوص البحث سواء ما رسم صورة النبي الأكرم عبر النداء أو الدعاء أو غيرها.

3) الدعاء

فمن الدعاء اختار الإمام عليه السلام الدعاء الندائي(1) ب-(اللهم) وهو من أشهر الأسماء التي اختصت بنداء الله عز وجل وأكثرها على الإطلاق، وهو الغالب في أدعية الإمام عليه السلام (2) ، ولفظ (اللهم) يتضمن (یا) محذوفة عوِّض عنها با (میم) مشددة في آخر اللفظ لأن أصلها هو (يا الله) فلا يحتاج بعد التعويض لأداة نداء (3) ، وقد جاء من الدعاء ب- (اللهم) في رسم صورة النبي الأكرم قوله عليه

ص: 156


1- أسميته الدعاء الندائي لما بين النداء والدعاء من علاقة وثيقة فالدعاء : طلب الالتفات بالنداء، أما النداء فهو تنبيه المنادي وحمله على الالتفات، فروابط الاشتراك بين النداء والدعاء واضحة الملامح فيمكن أن يقال: نادى من هو من ذوي العلم، أي : وجه إليه الخطاب ودعاه لكنّ ذلك غالباً ما يكون علانية مع رفع الصوت، وقد يكون النداء خفياً، وينادي العبد ربّه لك فيدعوه بأنواع الدعاء، وينادي الله لك من شاء من عباده فيلقي إليهم بعض الكلام. وللزيادة والتفصيل ينظر دعاء الإمام علي عليه السلام دراسة نحوية أسلوبية: 28 وما بعدها
2- ظ: دعاء الإمام عليّ عليه السلام - دراسة نحوية أسلوبية (محمد اسماعيل عبد الله /رسالة ماجستير): 79
3- ظ: الكتاب، سيبويه : ج2 : 196، وينظر: الخليل بن أحمد الفراهيدي، أعماله ومنهجه: مهدي المخزومي: 214

السلام من خطبة له عليه السلام علم فيها الناس الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيها بیان صفات الله سبحانه وصفة النبي والدعاء له:

«اللَّهُمَّ دَاحَيَ الْمَدْحُوَّاتِ وَدَاعِمَ الْمَسْمُوكَاتِ - وَجَابِلَ الْقُلُوبِ عَلَى فِطْرَتِهَاًّ - شَقِيِّهَا وَسَعِيدِهَا... اجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِكَ - وَنَوَامِيَ بَرَكَاتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ - الْخَاتمِ لِمَا سَبَقَ وَالْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ - وَ الْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ وَالدَّافِعِ جَيْشَاتِ الْأَباطِيلِ - وَالدَّامِغِ صَوْلاَتِ الْأَضَالِيلِ - كَمَا حُمِّلَ فَاضْطَلَعَ قَائِماً بِأَمْرِكَ مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضَاتِكَ - غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمٍ وَلاَ وَاهٍ فِي عَزْمِ - وَاعِياً لِوَحْيِكَ حَافِظاً لِعَهْدَكَ - مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ - وَأَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ - وَهُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ وَالْآثَامِ - وَأَقَامَ بِمُوضِحاتِ الْأَعْلاَمِ وَنَیِّرَاتِ الْأَحْکَامِ - فَهُوَ أَمِینُکَ الْمَأْمُونُ وَخَازِنُ عِلْمِکَ الْمَخْزُونِ - وَشَهِیدُکَ یَوْمَ الدِّینِ وَبَعِیثُکَ بِالْحَقِّ - وَرَسُولُکَ إِلَی الْخَلْقِ اللَّهُمَّ افْسَحْ لَهُ مَفْسَحاً فِی ظِلّکَ - وَ اجْزِهِ مُضَاعَفَاتِ الْخَیْرِ مِنْ فَضْلِکَ - اللَّهُمَّ وَ أَعْلِ عَلَی بِنَاءِ الْبَانِینَ بِنَاءَهُ - وَ أَکْرِمْ لَدَیْکَ مَنْزِلَتَهُ وَ أَتْمِمْ لَهُ نُورَهُ - واجْزِهِ مِنِ ابتِعاثِکَ لَهُ مَقْبُولَ الشَّهَادَهِ - مَرْضِیَّ الْمَقَالَهِ ذَا مَنْطِقٍ عَدْلٍ وَ خُطْبَهٍ فَصْلٍ - اللَّهُمَّ اجْمَعْ بَیْنَنَا وَ بَیْنَهُ فِی بَرْدِ الْعَیْشِ وَ قَرَارِ النّعْمَهِ - وَ مُنَی الشَّهَواتِ وَ أَهْوَاءِ اللَّذَّاتِ وَ رَخَاءِ الدَّعَهِ - وَ مُنْتَهَی الطُّمَأْنِینَهِ، وَ تُحَف الْکَرَامَهِ» (1)

ص: 157


1- نهج البلاغة : 72

الدعاء كلام يوجهه العبد الله - تعالى - حصراً يطلب فيه غفرانا أو حاجة ذات بالٍ، والاستجابة تعتمد توجه العبد وتختص بالرب(1) . وهذا بطبيعة الحال تعريف موجز للدعاء لأنه عند رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم هو «مخ العبادة والعبادة هي الغاية من خلق الجن والإنس وهو امتثال لقوله تعالى:

«وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ » ولاسيما أن هذا القول متبوع بتحذير في الآية الكريمة نفسها و «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ » (غافر/60)

والإمام هو الأعرف والأعلم بما في الدعاء من أسرار كما هو الأعرف بالنبي الأكرم وما خفي على الناس أجمعين، ولم يترك الناس دون توجيه بشتی الأساليب لأن كثيرا منهم يمتلك شعور الحب للنبي الأكرم لكنه لا يهتدي لكلام يعطي صورة هذا المحبوب حقها ولا يستطيع المرء أن يتقرب أحيانا إلا بالكلام المناسب في دلالته للمعنى المقصود، فالمبدع هنا سلك سبيل الدعاء لرسم صورة النبي من جانب الصلاة عليه وأوصافه بعد بيان صفات الله في النص بين الصلاة بالأمر (اجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِكَ) وهو أمر (اجْعَلْ) إلى من هو الأعلى فواضح أنه دعاء إلى الله - تعالى - بإعطاء النبي الأكرم أعلى الصلوات درجة(2) ، و«أن يجعل أشرف رحماته وأعظمها وأكثرها عليه»(3) وهنا في هذا الدعاء طلب إعطاء

ص: 158


1- ظ، مفتاح الفلاح، السيد محمد کلانتر: 207
2- ظ: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 321
3- شرح نهج البلاغة (السيد عباس الموسوي )، ج 1، ص 422

الدرجات العليا والكمالات العظمى التي لم تعط لأحد قبله وبعده فكان هذا الدعاء مثيرا للمتلقي ومشوقا لشعوره الباطني لمعرفة السبب في هذا الطلب فجاء الأسلوب بعد الدعاء بذكر أوصاف صاحب الصورة العليا و كمالاته واعماله التي لم يقم بها أحد قبله ولا بعده ليعلن أن هذا الدعاء بهذه الدرجة من الطلب في محله وأن صاحب الصورة يستحقه ولو غضضنا الطرف عن الصفات الأخرى وانطلقنا مع صفة العبودية التي وصفه بها في أول الدعاء (مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ ورَسُوِلكَ) وهذا الوصف كاف لإعطاء جانب كبير وأساس في أجزاء الصورة النبوية بل به تتكامل أركان الصورة وبغيره لا تعد صورة واضحة المعالم ؛ لأن العبودية صفة كريمة وصف الله بها خاصة عباده وخص من الخاصة النبي الأكرم صلی الله عليه و آله وسلم ونرى العبودية تقرن بالرحمة والإكرام ولمن يشكر الله والفخر والمنة الإلهية على الأمة والأنبياء: « «فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا »[الكهف/65) «ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا »[الإسراء/3] «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا » [مریم /2] «لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ» [النساء / 172] «هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ » [الحدید/ 9]؛ لأن العبادة درجة لا ينالها أي إنسان وإن سمي عبدا بالفطرة التكوينية إلا أنه قد يكون کَلاًّ على مولاه ومرفوضا من درجة العبودية التي تستحق الإكرام الأعلى على أقل تقدير لأنه لم يستقم على صراط الله كما أمره «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ

ص: 159

أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ » [النحل/76] وصورة النبي التي جاء بها الإمام عليه السلام بأسلوب الدعاء هي من فضاء القرآن وهو خلق النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وبلسان الإمام الذي هو نفس النبي الأكرم فالنبي يرسم صورته بلسان ثان له وحسبنا به صدقا إذ (وما ينطق عن الهوى [النجم /3)] فالإمام بدعائه للنبي مع أنه ممن لا يرد دعاءه لكنه من المعلوم ان مقام النبي الأكرم أعلى من مقامه عليه السلام فلم يكن القصد الأول من الدعاء أن يوجد المعدوم أو يحقق ما لم يتحقق للنبي الأكرم إلا بالدعاء، بل أراد بیان مقام النبي وأن المتلقي يجب أن يقف في مقام التبجيل والرغبة والحب للنبي الأكرم بأن يكون في هذا المقام، ومن قال: لكن الإنسان في الدعاء يطلب المفقود ويدعو لتحقق الشفاء أو إيجاد الرزق مثلا وغيرها مما يعرف عند المسلمين؟ والجواب: نعم ولكن هل كل من دعا تحقق له في الوجود المادي ما طلب؟ إلا أن المسلم به في جميع أحوال الدعاء ونتائجها وأنواعها أن الداعي لديه الرغبة والحب لمن يدعو له بتحقق ما أراد وأنه في مصاف من أحب ذلك، ولا شك أن المبدع كذلك وبأسلوبه أراد إثارة المتلقي بافتتاح صورة النبي بالدعاء ليجعله في مستوى شعوره وعطائه القولي والفعلي ليعبر عن شعوره الكبير إذ لا قدرة للتعبير لديه كما وضعها الإمام له في هذا الأسلوب خصوصا وفي النهج عموما لأن المبدع يعلم علم اليقين بصورة النبي العليا التي لا يعرفها إلا الله - تعالى - وهو عليه السلام ومنها أن العبودية - التي خصصناها بالحديث دون غيرها لتكون

ص: 160

المشعل الأساس لبقية أركان الصورة النبوية التي لا تستقيم إلا بها - هي أن حقيقتها التي كان النبي الأكرم خیر مصداق بشري لها أنه كان لا يرى لنفسه فيما خوله الله ملكا لذا هان عليه الإنفاق وعدم الاكتناز ووضعه بحيث أمره الله، كما أنه لا يرى لنفسه تدبيرا إلا بأمر الله، وأنه لا يشتغل إلا بما أمره الله بالعمل به،(1) هذه لمحة عن واحدة من أساسيات الصورة النبوية التي جاء بها الدعاء ثم جاء ببقية الصفات التي أتبعها النص بدعاء كرر فيه لفظ (اللَّهُمَّ) التي كررها في ثلاثة مقاطع كل له دلالته وصورته التي يرسمها في الدعاء بأسلوب يمتع المتلقي بتنوعه وبتسلسل يقنع لبّه وبعد الإقناع يأتي دور المتلقي تجاه هذه الصورة ؛ لأنه بعد ذکر الصفات التي ميزت هذه الصورة من غيرها و كانت الأولى على جميع الصور الإلهية الخاصة والعامة بما حوته ألوانها الراقية من عبودية ورسالة خاتمة لجميع من سبق وفتحها كل ما انغلق من أبواب الهداية ودمغها باطل الجاهلية بحق الإسلام حتى أوری قبس الطريق لمن أراد أن يسلكه إلى الجنة أدخل هذا الأسلوب في شعور المتلقي القناعة أن لهذه الصورة حقا عليه لابد من الوفاء به ولا يدري ما السبيل إليه؟ وبأية كلمات يعبر حتى يرضى عنه صاحب الصورة ومن أرسله ويأتي المبدع منقضا على السؤال كصقر حاد البصر یری بمرآة بصیرته شعور المتلقي فيقرؤه فيمسك طرف الخيط الحواري كعادته فيقول له بعد أن علمه الصلاة على النبي وأثار السؤال في داخله: أدعو الله للنبي الأكرم كي تفي بحقه أو تلتحق بركب الأوفياء له أو تتشبه بهم بأفضل أسماء الدعاء (اللَّهُمَّ) وجاء

ص: 161


1- ظ : منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة : ج 5: 194

بها ثلاث مرات بثلاث دلالات لا يسمح تسلسلها بتقديم إحداها على الأخرى، إذ جاء بعد (اللَّهُمَّ) الأولى (افْسَحْ لَهُ مَفْسَحاً فِی ظِلِّكَ - واجْزِهِ مُضاعَفاتِ الْخَیْرِ مِنْ فَضْلِكَ) وهو حب من رأى الصورة السابقة في الوفاء لها إلا أن هذا الدعاء قد يشمل أو يستحقه غير النبي الأكرم من الأنبياء لذا جاء بعد (اللَّهُمَّ) الثانية ما يخص النبي الأكرم ويميزه في درجته وصورته العليا على بقية الأنبياء فضلا عن الخلق أجمعين فقد طلب له في أول الدعاء أن يبلغ الشرائف من الصلوات (العليا) فخصه بالتفضيل على جميع الأنبياء (وأَعْلِ عَلَی بِناءِ الْبانِینَ بِناءَهُ...) الذين بنوا نفوس أقوامهم قبله وعمروها بالإيمان بالله وعالجوا أحوالهم كل في زمانه إلا أن علاجهم كان في وقتهم وعلاج النبي الأكرم دوار بين الناس إلى آخر الدنيا وختم المقطع الثاني من الدعاء بقوله: (مَرْضِیَّ الْمَقالَهِ ذا مَنْطِقٍ عَدْلٍ خُطْبَهٍ فَصْلٍ) ليشير إلى شفاعته وأن الله يرضى قوله، وهو ما أثار فضول المتلقي ليأتي المبدع ويعطي درس الإمتاع الأخير للمتلقي ويرضي فضوله في التشويق لهذه الصورة (اللّهُمَّ اجْمَعْ بَیْنَنا وبَیْنَهُ فِی بَرْدِ الْعَیْشِ وقَرارِ النِّعْمَهِ....). حقا إن لنا أن تعجب ونحار كيف نصف هذا الأسلوب وبیانه واختيار الدعاء المحبب إلى النفوس وأنه لا يقبل عليه المرء إلا بعد انكسار وخشوع في القلب فهذا الأمر يوحي بأشياء عدة نذكر بعضها بايجاز شديد:

1. اختار المبدع أحب الأشياء لرسم صورة أحب الخلق.

2. أسلوب الدعاء مما أمر الله تعالی به فهو استجابة للقرآن بقراءة علي عليه بودجه وجد السلام.

ص: 162

3. تعليم الناس الصلاة على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم على طريقة الإمام التي يراها وهو أعرف بها هي امتثال لأمر القرآن ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ») [الأحزاب / 56] والإمام عليه السلام يبلغ في النصح أن يجعل الناس معه في درجة الحصول على الأجر ورضا الله في أحسن طريقة للصلاة على النبي الأكرم صلی الله عليه و آله و سلم مما يليق بصورته الشريفة التي صوره الله - تعالى - عليها.

4. إن صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم لابد أن تكون ماثلة أمامنا ومعنا ليس على مستوى الوصف الخطابي والافتتاحي فقط بل في دعائنا وصلاتنا وندائنا و كل شيء كما أن النبي معنا في كل شيء وعلمنا كل شيء.

4) الأمر

الأمر وسيلة من وسائل الطلب بل لعلها أهم وسائله، وصیغته في التركيب تتطلب فعلا أو ما يفهم طلب الفعل على نحو الاستعلاء من المتكلم،(1) وما أمكن رصده من صيغ في النصوص التي تصورّ النبي الأكرم اعتماد الإمام عليه السلام في بعض نصوصه صيغة فعل الأمر. ربما لطبيعة هذه الصيغة في يسرها وخفتها على اللسان وربما على الآذان واحتياجها بالضرورة لمتلقٍ(2) ، ومناسبة المقام لها ولاسيما أن الإمام مفترض الطاعة في أوامره مع المتلقي ونجد أن الأسلوب واضح التركيز والاهتمام في صيغة الأمر واعتمادها وسيلة تنبيه المتلقي وإثارته لتحريك

ص: 163


1- ظ: الطراز، العلوي: ج 2: 281
2- ظ: لغة الشعر عند الجواهري : 62

همته الشعورية والطاعة لديه تجاه ما تدل عليه مع من له حق الأمر عليهم کابنه الإمام الحسن عليه السلام وغيره: ف-«من وصية له عليه السلام للحسن بن علي عليهما السلام - كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين... : وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَداً لَمْ يُنْبِىءْ عَنِ اللهِ سُبْحَانَهُ - كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وآله وسلم - فَارْضَ بِهِ رَائِداً وَإِلَى النَّجَاةِ قَائِدَاً - فَإِنِّي لَمْ آلُكَ نَصِيحَةً - وَإِنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ فِي النَّظَرِ لِنَفْسِكَ - وَإِنِ اجْتَهَدْتَ - مَبْلَغَ نَظَرِي لَكَ»(1) ، فصيغة الأمر الأولى (وَاعْلَمْ) تمهید و تهيئة ذهنية عالية للمتلقي لأنها أمر بحصول درجة اليقين فالعلم ما لا يقبل الشك بل هو اليقين فهذا أمر للمتلقي الابن الأول الحسن عليه السلام والحاضرين ومن يأتي بعدهم؛ لأن الإمام عليه السلام والنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم هما أبوانا جميعا بما ذكره النبي صلى الله عليه و آله وسلم لعلي عليه السلام بقوله: «أنا وأنت أبوا هذه الأمة، فلعن الله من عقنا»(2) ، فاختار المبدع هنا صيغة الأمر التي ترسم صورة النبي الأكرم بما يناسب المقام وبما تعطي من دلالة مضافا لصيغتها الأمرية، ومهد لها بصيغة سبقتها بمثابة تحفيز ذهني للمتلقي وتنبيهه واستنفار مشاعره بأعلى حالاتها، فبعد أن أعلمه أن النبي الأكرم هو أفضل وخير من أخبر عن الله - تعالى - وأنت أيها المتلقي تحتاج لمن تسمع قوله لتقتدي به إذن (فَارْضَ) بالنبي الأكرم (رَائِداً وَإِلَى النَّجَاةِ قَائِدَاً) کي تكون في حب الله ومن أحبائه وهو من أسرار الأسلوب عند الإمام ومما يعده

ص: 164


1- نهج البلاغة: 31
2- بحار الأنوار: ج 36: 6

الباحث من أدلة صدور نهج البلاغة من هذا الإمام العظيم عليه السلام فلا ترى في معانيه تعارضا بل يكمل بعضها بعضا ويفسر بعضها الآخر وتتساوق فيما بينها بالبلاغة والإعجاز عن الإتيان بمثلها لغير علي عليه السلام من البشر بعد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ، فجاءت صيغة الأمر (فَارْضَ) لتحل محلا لا تصلح صيغة غيرها فيه و تكون ببلاغتها وبدلالتها العليا، وربما كانت هناك صيغ أمر أخرى من مثل: ( إجعله رائدا لك أو كن راضيا به أو ما يقرب منها...) إلا أنها لا توحي بالدلالة المرجوة في هذا الأسلوب والاختيار خلا الدلالة على الأمر بما بعدها، لكن صيغة (فَارْضَ) مع دلالتها على الأمر أفهمت المطلوب وبأعلى درجات الطاعة للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إذ الرضا يفضي إلى الاطمئنان النفسي والارتياح بما يأخذه المرء من قول، فلم تقتصر صيغة الأمر على دلالتها المحدودة في التركيب بل تعدتها لدلالة أشمل وأوسع هذه السعة منحها إياها الأسلوب بما أحيط به من قرائن مقامية وما سبقه وما تلاه من ألفاظ وهذا ليس مرفوضا في قانون التركيب ولا سيما في الأساليب الإنشائية لأنها بشكل عام تتيح المجال لانزياح دلالي مضيفة معاني أخرى بالتضافر أو بمفارقة دلالتها الأصلية بحسب المقامات وما يقصده المبدع ومدى العلاقة بينه وبين المتلقي(1) ، فطلب الرضا في الصيغة مع اقترانه بدلالة (الرائد) هي صورة رائعة مع أن صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم أعلى وأجلى منها لكن التقريب المادي مما يحتاجه المتلقي لرسوخ الصورة في ذهنه، فمن يبحث عن العيش من ماء وغيره لا

ص: 165


1- ظ: دروس في البلاغة العربية، الازهر الزناد : 105

يمكن أن يكذب الرائد الذي يرسله لأنه معه ومنه وهو أهله، ومنها المثل الشهير إن الرائد لا يكذب أهله)(1) ، والنبي الأكرم هو أبو الأمة وهو أكثر الأنبياء حرصا على أمته والإمام يوصي ابنه النسبي ولا شك أنه يعني المتلقي الآخر من ولده إلى أبعد الأزمان بقرينة أن الأمر قاله للحسن عليه السلام بحاضرين يكفي دلالة صيغة الأمر وعلو شأنها الذي يوحي بصورة النبي الأكرم وأنها المثال الأعلى للجميع كما في النص السابق في صيغة (التأسي) أن الإمام في إحدى حِكَمِهِ قال: «ونِغْمَ الْقَرِينُ الرَّضَى»(2) ، ولكن الطريقة اختلفت وظل المؤدی واحدا، والصورة النبوية واحدة لكن الاختلاف باختلاف الزاوية والكوّة التي ينظر منها المبدع ويرى أن المتلقي به حاجة لبيانها إليه مع أن جميع الزوايا تكشف عن بعضها بعضا، فمن يصلح أن يكون قدوة ومثلا أعلى هو من يقود إلى الله وهو من يرقى إلى أعلى درجات الزاهدين وغيرها من الكمالات التي تصحب هذه الزاوية من الصورة النبوية بالالتزام.

ولعل الذي دفع المبدع لاستعمال صيغة الأمر هو ما توحي به من دلالة النصح والإرشاد والتوجه وهو ما يكون أبلغ وأكثر تأثيرا في شعور المتلقي ليقوده في طرق التفاعل معها والامتثال لسنة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ، ولعل الفضل ذاته وربما الدلالة نفسها - تقریبا - في صيغة الأمر التي اختارها الإمام عليه السلام، ونرى فعل الأمر (تَأَسَّ) في إحدى خطب الإمام الطويلة يمهد لها في ما يخص النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ليوحي مجيأها بالاهتمام

ص: 166


1- جمهرة الأمثال، أبو هلال العسكري: ج 1: 472
2- نهج البلاغة حكم أمير المؤمنين: 4 : ص469

ثم يظل النص مركزا عليها بالاشتقاقات التي تتصل بهذه الصيغة ليوجه عناية المتلقي لما قبلها وما فيها وما بعدها ويجعلها المبدع قطب الرحى لما يدور حولها من دلالات الصورة النبوية الكريمة، في خطبة طويلة نقتطع منها ما يخص الصيغة وموضوعها لطول نصها:

وَ لَقَدْ کَانَ فِی رَسُولِ اَللَّهِ صلی الله علیه وآله کَافٍ لَکَ فِی اَلْأُسْوَهِ - وَ دَلِیلٌ لَکَ عَلَی ذَمِّ اَلدُّنْیَا وَ عَیْبِهَا - وَ کَثْرَهِ مَخَازِیهَا وَ مَسَاوِیهَا - إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرَافُهَا وَ وُطِّئَتْ لِغَیْرِهِ أَکْنَافُهَا - وَ فُطِمَ عَنْ رَضَاعِهَا وَ زُوِیَ عَنْ زَخَارِفِهَا - ...

فَتَأَسَّ بِنَبِیِّکَ الْأَطْیَبِ الْأَطْهَرِ صلی الله علیه و آله وسلم - فَإِنَّ فِیهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّی وَ عَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّی وَ أَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَی اللَّهِ الْمُتَأَسِّی بِنَبِیِّهِ وَ الْمُقْتَصُّ لِأَثَرِهِ قَضَمَ الدُّنْیَا قَضْماً وَ لَمْ یُعِرْهَا طَرْفاً أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْیَا کَشْحاً وَ أَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْیَا بَطْناً عُرِضَتْ عَلَیْهِ الدُّنْیَا فَأَبَی أَنْ یَقْبَلَهَا... فَتَأسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ - وَاقْتَصَّ أَثَرَهُ وَ وَلَجَ مَوْلِجَهُ - وَإِلاَّ فَلاَ يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ - فَإِنَّ اللهَ عزّوجلّ جَعَلَ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ عَلَماً لِلسَّاعَةِ - وَمُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ وَمُنْذِراً بِالعُقُوبَةِ»(1) .

اللون الأساس في هذه الصورة هو التأسي بالنبي الأكرم لأنه أفضل أسوة لمن تأسی لقول المبدع (فِی رَسُولِ اَللَّهِ صلی الله علیه وآله کَافٍ لَکَ فِی اَلْأُسْوَهِ)، وقدم الأسلوب الدليل للمتلقي فيما بعد مفتاح الموضوع (أُسْوَةً)

ص: 167


1- نهج البلاغة: 160

ليقنعه بما في كفاية هذه الأسوة فكان المتلقي بمنزلة المقر لما ألقي إليه فجاء الأمر بصيغته المتوافقة من اللون الأساس ومفتاح الموضوع ليعطي الدلالة الصورية بعدا ممتعا بتكراره بطريقة اشتقاقية غير مملة ومقبولة في نفس المتلقي وشعوره وبطريقة المبدع المعهودة في قراءة الباطن عند المتلقي وإجابته على خلجات نفسه ولعل منها: لماذا الأمر بالتأسي بالنبي الأكرم؟ (إِنَّ فِیهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّی ) ولأن (أَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَی اللَّهِ الْمُتَأَسِّی بِنَبِیِّهِ) بالطبع هذه الدلالة مضافا لها بقية ألوان الصورة التي بها تكتمل أجزاؤها ويتضح الموضوع الأساس، إلا أن هذه العبارات مما يؤكد قولنا باهتمام الأسلوب وتركيز المبدع على قطب رحی الموضوع وشد انتباه المتلقي له وهو أسلوب فريد في التركيز مصحوب بما يدفع الملل لدى المتلقي، بل نجد التشويق والإمتاع هو من تجليات الأسلوب وجمالياته الممتعة، وقد يرى الباحث أن اللافت في هذا الأمر وما يؤكد الإهتمام والتركيز - الذي ذكرناه آنفا - والإصرار على أهمية الأمر مع المحافظة على التشويق وعدم الملل أن المبدع كرر الأمر نفسه في آخر الحجج وبيان الدلالات التي تقنع المتلقي بالتأسي بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم قال: (فَتَأسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ) وهو «أمر بصورة الخبر، أي: ليقتد مقتد بنبيّه، قال الشاعر:

وإنَّ الاُلَى بالطَّفِّ من آلِ هاشمٍ تَأَسَوْا فسَنُّوا للکِرامِ التَّأسِيا ) (1)

وهو أمر لا يختلف عن الأول وجاء بهذا الأسلوب في هذا الموضع من النص للبعد عن الرتابة والملل وليوافق قراءة المبدع الأسلوبية لشعور المتلقي فهو

ص: 168


1- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: ج2 : 441، والشاعر سليمان بن قتة ينظر: الأغاني، لأبي الله الفرج الأصفهاني: ج 139:19 ، ولم أعثر على ديوان الشاعر

قد وصل معه إلى مرحة الإقناع بما جاء في صورة النبي الأكرم وتر که الدنيا وأنها دار الهوان، فالمتلقي إذا علم حال الدنيا هذا فليتأسّ المتأتسّي منهم بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ، وليتبّع أثره ویلزم سنته وليدخل مدخله ويحذو حذوه وليرغب عنها(1) .

وقد جاء الأمر من الإمام بعد أن كان البيان من الله - تعالى - «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب / 21]»، والإمام عليه السلام ولي الله فأعاد قراءة البيان القرآني بالأمر بطرق مختلفة لم يشعر معها المتلقي بالضجر بل بالقناعة والإمتاع المصحوبين بالتأكيد الذي يشعر معه المتلقي بأهمية الأمر وضرورة التأسي بهذه الصورة النبوية التي تقود الإنسان إلى الاطمئنان في الحياة الدنيا والراحة في الدار الآخرة؛ لأن في هذا التأسي محبة الله للمتأسي بل «وأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَی اللهِ الْمُتَأَسِّی بِنَبِیِّهِ، والْمُقْتَصُّ لأَثَرِهِ» فالأمر هو بجعل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم بصورة القدوة الصالحة ومثل المتلقي الأعلى فلابد للإنسان من مثل أعلى يجعله قائدا له ليتمثل المبادئ العملية فيه ليتكامل أو يسير على طريق التكامل، فكل أمة لابد لها من قدوة عظمی تنظر إليها على أنها مثلها الأعلى فتعمل وهي تنظر إليها لتصل إلى علاها، وإذا فقدت الأمة المثل الأعلى سارت بغیر توازن ولا يمكنها أن ترتقي أو ترتفع لعدم وجود الهدف في مسيرتها؛ لأن المبادئ التي نتعلمها لا تسير في الطريق العملي فنراها مجسدة إلا من خلال الأشخاص ولهذا السبب يحصل لدى

ص: 169


1- ظ : منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة : ج 9: 390

الناس خلط وسوء ظن في بعض المبادئ الإسلامية الحقة التي جاء بها وجاهد من أجلها النبي الأكرم بسبب الأشخاص غير المنضبطين بها وبالسير على الخطى التي رسمها النبي الأكرم صلى الله علیه و آله وسلم قولا وعملا وهو ما جاء من قراءة المبدع ساحة المتلقي في أي مكان وزمان ومن قراءته كتاب الله تعالى يرى أن من واجبه توجيه الأمة لما يوافق قوله تعالى: «فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود/112]) هذه الاستقامة التي شاب لها النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم (1) ؛ ولأن هذه الاستقامة لا يدركها المتلقي المتعلم على سبيل النجاة بمفرده أحتاج إلى القائد الأمثل والرمز الأعلى الذي لا تشوب عمله شائبة، فكان الأمر من الإمام بهذا التأكيد لما في الأمر من الأهمية - آنفة الذكر - وما للإمام من أمر مقبول على من يأمره فاختار الإمام صيغة الأمر بصيغة متميزة تماما كونها مع صيغتها الأمرية توحي بالدلالة المرجوة منها (التأسي) ولو كانت مثلا: (اجعل النبي الأكرم قدوتك أو ... غيرها) لما أدت ما أثارته لدى المتلقي وأوصلته من صورة مثلى وعليا للنبي الأكرم وذلك بفضل اختيار صيغة الأمر المناسبة تماما في أسلوب المبدع، و كذا استعمال الإمام عليه السلام بعض الأساليب الأخرى تبعا لهذه الصيغة - صيغة الأمر - كما في نص التأسي بالنبي الأكرم أي: أن الأساليب الأخرى أشبه بنتيجة لها في هذا النص الطويل الذي سوغ له الطول كونه من نصوص النصح والإرشاد وتوجيه المتلقي فجاء بعد توصل المبدع مع المتلقي إلى تمام الإقناع وأن عليه اقتصاص أثر النبي الأكرم وأن يلج مولجه وإلا فإن مصيره الهلاك وأعطى العلة في ذلك

ص: 170


1- (ما نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) آية كانت أشد عليه ولا أشق من قوله تعالى ((فاستقم كما أمرت...)) ینظر مستدرك سفينة البحار: ج 8: 626

«فإنَّ اللّه َ جَعَلَ محمّداً صلی الله علیه و آله عَلَماً لِلسّاعَةِ وَمُبَشِّراً بِالجَنَّةِ ومُنذِراً بِالعُقُوبَةِ»(1) فكان مما يتطلب الأسلوب بعد هذا البيان من أن هذه الصورة المثلی مادامت حقا أبلج فمن يتخلف عنها يلق الوجه الآخر من الجزاء العقابي

5) التعجب

أسلوب التعجب ينبه المتلقي على ما فيه من حالة شعورية خاصة تنتاب المتلقي وتؤيد ضميره بأن هذه الصورة منة عظمى من الله تعالی إذ يقول المبدع:

(فَمَا أَعْظَمَ مِنَّهَ اللَّهِ عِنْدَنَا - حِینَ أَنْعَمَ عَلَیْنَا) بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم : «فَإِنَّ اللهَ عزّوجلّ جَعَلَ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ عَلَماً لِلسَّاعَةِ - وَمُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ وَمُنْذِراً بِالعُقُوبَةِ - خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا خَمِيصاً وَوَرَدَ الْآخِرَةَ سَلِيماً - لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ - حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، وَأَجَبَ دَاعِيَ رَبِّهِ - فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللهِ عِنْدَنَا - حِینَ اَنْعَمَ عَلَینا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعَهُ وقائِداً نَطَأُ عَقِبَهُ»(2) ، فجاء أسلوب التعجب مع دلالته التي لاح منها جانب من صورة النبي الأكرم صلی الله عليه و آله وسلم وأنه منة عظيمة لما اتصف به من صفات الكمال والقدوة الصالحة مع هذا تضافرت مع صيغة الأمر لتعضدها بالتأكيد على صورة الأسوة الحسنة وان التأسي بالنبي الأكرم يستحق الأمر به ممن له الأمر فكان أسلوب التعجب مع دلالته يشد البناء الأسلوبي مع صيغة الأمر بل لعله أمر بصيغة التعجب

ص: 171


1- نهج البلاغة : 160
2- نهج البلاغة: 160

لما فيه من الترغيب للمتلقي كون التعجب يحصل من الأمور العظيمة وهو تحضيض من المبدع لزيادة إقناعه بالتأسي فيكون في صيغة التعجب هذه انزياح عن دلالتها المعهودة في ذهن المتلقي فجاءت مفاجئة للمتلقي ولاسيما أن ما يؤكد ظننا بما سبق من القول بخصوص صيغة التعجب أن ما بعدها جاء ليؤكد نوع هذه المنة وموطن التعجب منها كون القدوة والمثل الأعلى نعمة كبرى وأن النبي الأكرم كان (سَلَفاً نَتَّبِعَهُ وقائِداً نَطَأُ عَقِبَهُ) وهو ربط دلالي بدلالة التحضيض في الجملة الخبرية (فَتَأسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ) التي توحي بالطلب. فما أروع الأسلوب الذي جاء بهذا التدرج التكراري والتأكيدي والدلالي المفهم للمتلقي بما يقنعه ويمتعه ويجيب عن أسئلته التي يحدثها الخطاب فيجعل المتلقي مع المبدع في حوار صامت ينطق به طرف واحد! أراد المبدع بعد ذلك أن يعطي أنموذجا لهذا التأسي وأن يكمل الحوار مع المتلقي الذي يسأل بصمت ما هو الأنموذج العملي لهذه المنة العظمی ؟ وما أثرها عليك أنت أيها المبدع؟ لا لعدم إيماننا ولكن لتطمئن قلوبنا فهم على علم والإمام عليه السلام أخبرهم بنص آخر:

«وَ لَقَدْ عَلِمَ اَلْمُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّد محمد صلى الله عليه و آله وسلم - أَنِّی لَمْ أَرُدَّ عَلَی اللّهِ وَلَا عَلَی رَسُولِهِ سَاعَهً قَطُّ - وَلَقَدْ وَاسَیْتُهُ بِنَفْسِی فِی الْمَوَاطِنِ الَّتی تَنْکُصُ فِیهَا الأبْطَالُ»(1) ، فأجاب المبدع «وأوضح اتّباعه و تأسّیه به صلّى الله عليه و آله بالاشارة إلى بعض مراتب زهده فانّه أنموذج من سائر المراتب، وفيه عبرة المن اعتبر، وكفاية لمن تذكّر»(2) . وأظن أن الإمام عليه السلام غير ناظر لنفسه في

ص: 172


1- نهج البلاغة : 197
2- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة : ج 9: 391

هذا الأنموذج قدر ما هو ناظر لإعطاء البرهان القاطع والدليل الجلي الذي يمثل السير على خطى النبي الأكرم ويطأ عقبه دون شائبة توجه إليه من المتلقي فجاء بأسلوب آخر فيه مفاجأة أخرى للمبدع واستعمله تبعا وربما تأكيدا أيضا لأسلوب الأمر بالتأسي - المذكور آنفا - وهو أسلوب القسم الذي أعقب أسلوب التعجب.

6) القسم

فقال عقب أسلوب التعجب ونهاية فقرته: «فَمَا أَعْظَمَ مِنَّهَ اللَّهِ عِنْدَنَا- حِینَ أَنْعَمَ عَلَیْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ وَ قَائِداً نَطَأُ عَقِبَهُ- وَ اللَّهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِی هَذِهِ حَتَّی اسْتَحْیَیْتُ مِنْ رَاقِعِهَا- وَ لَقَدْ قَالَ لِی قَائِلٌ أَ لاَ تَنْبِذُهَا عَنْکَ- فَقُلْتُ اغْرُبْ عَنِّی فَعِنْدَ الصَّبَاحِ یَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَی»(1) ، فكأن المبدع قطع طريق الظن لدى المتلقي وفاجأه قبل سؤاله عن مدى تأثر المبدع بهذه الصورة وما هي نتائج اتباعها واحتذاء خطواتها وذلك ضمن الحوار الصامت في أسلوب الإمام عليه السلام في استنشاق رائحة شعور المتلقي، فقد وصل به التأسي واتباع النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم - قدوة ومثلا أعلى - أن رقع مدرعته فوصل حد الحياء من الراقع لأنه عرف النعمة وخَلَفَ السَّلَفَ وامتثل للقائد ووطى عقب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم كأفضل ما يكون، فقطع الشك بيقين القسم (وَ اللهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي) و كنت على هذه الحال جراء التأسي بصورة النبي الأكرم فأراد المبدع أن صورتي هذه هي من صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم مثالا أصغر ولك أن تتخيل صورة النبي من بعضها الأصغر، ولذا أظن ظنا راجحا بأعلى

ص: 173


1- نهج البلاغة : 160

درجات الرجحان إن لم أكن جازما أن هذا القسم وبيان حال الإمام عليه السلام ليس لمدح النفس أو بيان مكانتها - وإن كان حقا - لأنه لا يصدر من مبدع كعلي عليه السلام وإنما هو اختيار أسلوب أعلى أنموذجا لإقناع المتلقي بالصورة النبوية فالإمام هو ربيب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وتلميذه ونفسه، وفي هذا الأسلوب إذ المبدع في مقام بيان صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم قرينة على صرف المدح عن نفسه أو أنه كان يعنيها مثلا، بل هو يتحدث بوصفه شخصا ثالثا يراقب صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وأفضل من تأسی بها فكان خير ممثل له صلى الله عليه و آله وسلم وليس اعتدادا بالنفس، کلافما هذا من فعال الإمام عليه السلام بل هو يقول إن صورة هذا النبي الذي أمرتكم باتباعه وعجبت ممن لا يعرف منة الله عليه به أقسم لكم أنه يستحق أن نتأسی ونقتدي به لأن تلميذه ومن يلوذ به حتى في المعارك، وصل إلى درجة الزهد التي لا يغير ثوب الصوف مع كثرة رقاعه ولا يرضى بنبذها عنه واحتمل مشقتها العاجلة لنيل الراحة الآجلة، (1) فكان أسلوب القَسم مقنعا للمتلقي بصدق التصوير وأن الصورة النبوية حق أحق أن يتبع ومثل أعلى يحتذى به فصور المبدع النبي الأكرم بأنموذج نفسه لبيان جزء مهم من الصورة النبوية ولم يكن الأسلوب ناظرا للإمام علي عليه السلام بشخصه.

وفيما مضى كان القسم تابعا لأسلوب آخر لعله من باب أسلوب تضافر الأساليب مع بعضها في رسم صورة النبي الأكرم لأن الأسلوب لو قصد بذاته

ص: 174


1- ظ : منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة : ج 9: 1391

الأعطى مع صيغته دلالة توحي بجزء من صورة النبي الأكرم - كما ذكرنا في الأساليب الآنفة الذكر - لذا جاء القسم (وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ وَاصْطَفَاهُ عَلَى الْخَلْقِ) في ما قاله عليه السلام «من خطبة له عليه السلام في الموعظة وبيان قرباه من رسول الله: والَّذِی بَعَثَهُ بِالْحَقِّ وَاصْطَفَاهُ عَلَی الْخَلْقِ - مَا أَنْطِقُ إِلَّا صَادِقاً - وَقَدْ عَهِدَ إِلَیَّ بِذلِکَ کُلِّهِ وَبِمَهْلِکِ مَنْ یَهْلِکُ - وَمَنْجَی مَنْ یَنْجُو وَمَآلِ هذَا الْأَمْرِ - وَمَا أَبْقَی شَیْئاً یَمُرُّ عَلَی رَأْسِی إِلَّا أَفْرَغَهُ فِی أُذُنَیَّ - وَأَفْضَی بِهِ إِلَیَّ -

أَیُّهَا النَّاسُ إِنِّی وَاللّهِ مَا أَحُثُّکُمْ عَلَی طَاعَهٍ - إِلَّا وَأَسْبِقُکُمْ إِلَیْهَا - وَلَا أَنْهَاکُمْ عَنْ مَعْصِیَهٍ إِلَّا وَأَتَنَاهَی قَبْلَکُمْ عَنْهَا»(1)

متضمنا فضلا عن صیغته شطرا من صورة النبي وأنه المبعوث بالحق والمصطفى على الخلق وهو من أرقى الجوانب الصورية في النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ولم يكن القسم کسابقه (وَ اَللَّهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِی) الذي كان ضمن التضافر الأسلوبي - كما وصفناه آنفا - ولا كالقسم الذي تلا هذا القسم في النص (وَ اللَّهِ مَا أَحُثُّکُمْ عَلَی طَاعَةٍ) لأنه أريد به التأكيد على صدق الحث وجدواه وفيه ما يخص الإمام عليه السلام لذا جاء القسم بلفظ الجلالة ولو أريد أن يتضمن القسم مع التصديق لما يدعی كالثناء على الله - تعالى - أو الإيحاء بتوحيده مثلا لقال كما في إحدى خطبه «فَوَ الَّذِی لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ »(2) ، وهو ما يدل على صدق المدعي باختيار الأسلوب في القسم وغيره من الأساليب لتوحي بدلالة

ص: 175


1- نهج البلاغة: 175
2- نهج البلاغة : 197

الجانب المعنيِّ لدى المبدع في صورة النبي الأكرم وغيره، وزيادة في التأكيد جاء قسم آخر قبل القسم الذي فيه دلالة الإيحاء بصورة النبي الأكرم في النص السابق نفسه بلفظ الجلالة أيضا لأنه لغرض التأكيد على قدرة الإمام بما تلاه من دلالة علم الإمام وغيره مما يخصه هو عليه السلام ولأنه لا يريد لنفسه أن تكون فيما هي عليه من كمال وقدوة ومثل أعلى أيضا إلا تحت مظلة تربية النبي الأكرم وأنه بريق من ألوان صورته العظيمة ومن صنعه ليبقى الإمام عليه السلام رساما فقط الصورة النبي الأكرم ولو كان شطرا من لوحتها عليه هو عليه السلام، فقال بأسلوب القسم هذا: وَ اللَّهِ لَوْ شِئْتُ أَنْ أُخْبِرَ کُلَّ رَجُلٍ مِنْکُمْ - بِمَخْرَجِهِ وَ مَوْلِجِهِ وَ جَمِیعِ شَأْنِهِ لَفَعَلْتُ - وَ لَکِنْ أَخَافُ أَنْ تَکْفُرُوا فِیَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلی الله علیه وآله وسلم - أَلاَ وَ إِنِّی مُفْضِیهِ إِلَی الْخَاصَّةِ مِمَّنْ یُؤْمَنُ ذَلِکَ مِنْهُ (1)

ونستفيد في هذا القسم والنص عدة أدلة منها أن المبدع عليه السلام كان همه الأول إظهار صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم حتى على حساب نفسه خوفا من تغيّر صورة النبي الأكرم في ذهن المتلقي و كفره بها، وفيه أيضا تأكيد لما قلناه عندما أعطى أنموذجا للزهد في رقعه مدرعته كنتيجة للتأسي وانقياده واتخاذه النبي الأكرم مثلا أعلى، وأيضا يؤكد لنا ما نقوله بخصوص المتلقي وأن الإمام يعني جميع الأمة في خطابه ويراها متلقيا لنصوصه سواء من سمع منه مباشرة أم نقلا أم بغير ذلك وإن جاء الخطاب معنونا لشخص أو لأشخاص بدليل قوله بالإفضاء للخاصة للخطاب الذي يريده غير عام لجنس المتلقي (أَلاَ وَإِنِّي مُفْضِيهِ

ص: 176


1- نهج البلاغة : 175

إلَى الْخَاصَّةِ مِمَّنْ يُؤْمَنُ ذلِكَ مِنْهُ). وها قد أفضى بنا الحديث والأسلوب وروعة البيان إلى الحيرة فيمن نتأمل به؟ أ باللوحة التي فيها صورة النبي الأكرم أم برسامها البليغ وبسحر بیانه، فبهم عرفناهم وهم دليلنا عليهم ولأجلناهم عرفونا أنفسهم وصوروها لنا فما أعظم منتهم علينا ولا عجب فهم آل محمد وبماذا نمثلهم لنقرب وصفهم وبأي قول نصفهم ولا نملك الكلام لأنهم أسياده، ولكنا نقول: شكرا لله لهم فقد علمونا مثلا لهم «ألَا إِنَّ مَثَلَ آل مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله وسلم کَمَثَلِ نُجُومِ السَّماءِ - إِذَا خَوَی نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ - فَکَأَنَّکُمْ قَدْ تَکَامَلَتْ مِنَ اللّه فِیکُمُ الصَّنَائِعُ - وَأَرَاکُمْ مَا کُنْتُمْ تَأْمُلُونَ»(1) .

ص: 177


1- نهج البلاغة : 100

المبحث الثالث: ظواهرأسلوبية أخرى

1. التقديم والتأخير

تفتح اللغة العربية باب الحرية الحركية للكلمة داخل التركيب، ويعد التقديم والتأخير من ألوان حريتها وخصائصها، والتقديم في التركيب يصحب تأخيرا بالالتزام، (1) ولعل في هذا مندوحة لإطلاق الانزياح الدلالي للمبدع ليثبت إبداعه في مسار هذه الحرية الحركية للألفاظ فليس التقديم والتأخير مما نُصِّ على قاعدته التركيبية بقرآن کریم، وإنما هو من المعهود الذهني عند المتلقي بعد الاستقراء العام لمعطيات اللغة العربية المستعملة و كلام الإمام عليه السلام إمام الكلام وهو لاشك من معطيات هذه اللغة في نصوصه التي تعد بالحق منهاجا لها ومنها تستقي قواعدها فترى الإمام عليه السلام قد وظف أسلوب التقديم والتأخير خیر توظيف مثيرا بذلك شعور المتلقي لينبهه على ما يتضمنه النص من معنی يصب في بوتقة الصورة النبوية العظيمة بأدبية نصّية جعلت من النص في أغلب الأحيان نصا مفتوحا في قراءاته المتعددة بما يعطي المتلقي انطباعا عن براعة مبدعه القصدية الإختيارية العفوية لتمكنه من لغته وعمق أفكاره التي تمنح

ص: 178


1- ظ: بحوث لغوية، أحمد مطلوب: 41

الأسلوب فرادة واضحة بما يطرحه من صورة بلاغية، (1) تناسب مقام صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ، مع وضوح إرادة المبدع في نقل مشاعره تجاه هذه الصورة المحقة، (2) ومن هذا التقديم ما استعمله المبدع في تقديم شبه الجملة في كثير من النصوص التي تعطي بعمومها للمتلقي انطباعا بأهمية النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ومكانته المميزة دون غيره من سائر الأنبياء (عليهم السلام) فضلا عن الخلق أجمعين و من هذه النصوص نقتطع نصا من خطبة له عليه السلام - يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم - وفيها ذكر الحج وتحتوي على حمد الله وخلق العالم وخلق الملائكة - واختيار الأنبياء ومبعث النبي والقرآن والأحكام الشرعية.

مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم

« إِلَی أَنْ بَعَثَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً - رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم لِإِنْجَازِ عِدَتِهِ وَ تَمَامِ نُبُوَّتِهِ - مَأْخُوذاً عَلَی اَلنَّبِیِّینَ مِیثَاقَهُ - مَشْهُورَهً سِمَاتُهُ کَرِیماً مِیلاَدُهُ - وَ أَهْلُ اَلْأَرْضِ یَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَهٌ - وَ أَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَهٌ وَ طَرَائِقُ مُتَشَتِّتَهٌ - بَیْنَ مُشَبِّهٍ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ أَوْ مُلْحِدٍ فِی اِسْمِهِ - أَوْ مُشِیرٍ إِلَی غَیْرِهِ - فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ اَلضَّلاَلَهِ وَ أَنْقَذَهُمْ بِمَکَانِهِ مِنَ اَلْجَهَالَهِ - ثُمَّ اِخْتَارَ سُبْحَانَهُ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم لِقَاءَهُ - وَ رَضِیَ لَهُ مَا عِنْدَهُ وَ أَکْرَمَهُ عَنْ دَارِ اَلدُّنْیَا» (3) .

ص: 179


1- ظ: في الأسلوب الأدبي، علي بو ملحم: 42
2- ينظر: الاتجاه الوظيفي ودوره في تحليل اللغة (بحث)، د. يحيى أحمد، عالم الفكر، الكويت، ع3، مج20، 1989: 75
3- نهج البلاغة: 1

نرى في النص تقدیم شبه الجملة (عَلَی اَلنَّبِیِّینَ) على نائب الفاعل (مِیثَاقَهُ) الاسم المفعول (مَأْخُوذاً) وفصله بينهما، وهو تقديم يعطينا انطباعا بأن الإمام عليه السلام يدرك عظمة الصورة النبوية ومكانتها الإلهية ولاسيما أن نسق النص بعدها لم يقدم أو يفصل شيئا في ما شاكلها من التركيب كما في (مَشْهُورَهً سِمَاتُهُ)، (کَرِیماً مِیلاَدُهُ) ففضلا عن المحافظة على السجع في مفردات الفقرة ( مِیثَاقَهُ، سِمَاتُهُ، مِیلاَدُهُ) ولأجل عظمة الصورة النبوية خصها بالتقديم الذي لولاه لما تم معنى الأخذ، ولما كان الميثاق بالدرجة العليا فإن تأخيره قد يوحي أن نبيا غير النبي الأكرم ربما أخذ ميثاقه أيضا أو أمكن ذلك لغيره ولكن هذا المعنى لم يرد في القرآن الكريم بل ما جاء فيه يوافق ما أوصله أسلوب المبدع إلى المتلقي فقوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ » [ آل عمران/81]) يؤكد أن اخذ الميثاق على النبيين للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم فقط وليس عليه لهم.

فقد أفصح المبدع عن شعوره وإيمانه أن ميثاق هذا النبي العظيم ليس مأخوذا على العباد في زمانه بل على جميع العباد من الأولين والآخرين فكل نبي سبق النبي الأكرم له قوم دعاهم إلى الله - تعالى - وله میثاق عليهم ومیثاق هذا النبي مأخوذ على الأنبياء وهم خير البشر على الإطلاق فكيف تكون صورة النبي

ص: 180

الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم الذي يؤخذ میثاقه على النبيين؟ فضلا عن أن هذا التقديم ربما لو أخر لأوحي إلى المتلقي أن غير النبي قد يؤخذ میثاقه على النبيين أو على أقل التقادير يكون ممكنا لغيره وإن لم يتحقق في الخارج والحال أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم متفرد بهذه الصورة الكريمة والمكانة العالية التي حباه الله تعالی بها؛ لأنه خاتم الأنبياء والرسل، وما يؤيد الأسلوب في اختياره التقديم عن قصد ما جاء في النص من تقديم و تأخیر لشبه الجملة في (فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ اَلضَّلاَلَهِ)، (أَنْقَذَهُمْ بِمَکَانِهِ مِنَ اَلْجَهَالَهِ) فتقديم شبه الجملة من الجار والمجرور (بِهِ)، و(بِمَکَانِهِ) بعد أن كان المعهود في الذهن تقدیم متعلق الفعل قبلهما إلا أن اهتمام الأسلوب بهما لما فيهما من دلالة لا تتحقق بغير التقديم، فكأن الهداية أمكن تحقيقها بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وحده والإنقاذ من الجهالة لا يمكن تحقيقه على يد غير النبي الأكرم وقدم ما أراد تنبيها للمتلقي ليرسم الصورة النبوية في ذهنه، وهذا المعنى السامي أعطي دلالته الانزياح التركيبي الذي استعمله المبدع في أسلوب التقديم والتأخير الذي أسهم في التأثير على شعور المتلقي بعد لفت انتباهه بهذا التقديم، لأن التقديم يعطي قيمة إيصالية مهمة لما لموقع التقديم من قيمة فنية لها أثرها في الدلالة النصية(1) وفي نص آخر نرى تقديما من نوع آخر إذ قدم المبدع متعلق الحال عليها في «وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بَأَمْرِهِ صَادِعاً وَبَذِکْرِهِ نَاطِقاً - فَأَدَّی أَمِیناً وَمَضَی رَشِیداً - وَخَلَّفَ فِینَا رَایَهَ الْحَقِّ - مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ - وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا

ص: 181


1- ظ: شعر صلاح عبد الصبور، دراسة أسلوبية، (رسالة ماجستير) أنسام محمد راشد: 170

زَهَقَ، وَمَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ»(1) . فكان التقديم والتأخير في (أَرْسَلَهُ بَأَمْرِهِ صَادِعاً وَبَذِکْرِهِ نَاطِقاً)، فالجار والمجرور في كلتا الجملتين قُدِّما على متعِلّقَیْهِما (صَادِعاً) و(نَاطِقاً) ومما نجده في هذا التقديم أنه أسهم في توسيع المساحة الزمنية بين الحال وصاحبها إذ جاء الحال في كليهما متأخرا بمسافة عن صاحبه وفي هذا مدعاة للتشويق والتأمل مما يزيد حالة المتلقي في التواصل الشعوري والفكري مع النص وترسيخ أهمية الأمر الذي أضيف إلى الله - تعالى - بالضمير العائد عليه (بِأَمْرِهِ وَبَذِکْرِهِ) فاستحق التقديم لشرف صاحب الضمير المقدم على النبي الأكرم - بلا شك - وفي الوقت نفسه فإنه يزيد من عظمة الصورة النبوية لأن شرف المرسل من شرف المُرْسِول فكيف والمرسل هو الله ملك الأيام كلها والرسالة المحمدية مأخوذٌ میثاقها على جميع رسائل الأنبياء ودينها ظاهر على الدين كله بل هو الدين عند الله فقدم ضمیر صاحب الشرف لإكرام صاحب الصورة الذي يليه وبيان أهمية مقامه في توجه الأمر إليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خصه بهذا الأمر العظيم والصدع فيه «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ » [الحجر / 94]، وعظمة الصدع بالأمر فضلا عن التكلم به جهارا، (2) فإنه قد صدع به مع إصابة موضعه (3) ، والنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم هو من اختص بهذا الصواب في الموضع الذي أراده من أمره، وكذا الحال مع ( وَبَذِکْرِهِ نَاطِقاً)، أي بذكر الله تعالى سواء القرآن أم الذكر الذي به تطمئن القلوب وهو ذكر الله الذي

ص: 182


1- نهج البلاغة: 100
2- ظ: العين: ج 1: 67 (صدع)
3- ظ: لسان العرب: ج 8: 194 (صدع)

لا يعلم خصوصه إلا الله ورسوله وهنا كان التقديم في أسلوب المبدع لما لم يتضمن ضميرا أو عائدا على النبي الأكرم، بل أٌخِّرَ ما يخص النبي ويصفه وهو الحال (1) ، وفي هذا التأخیر انزياح ترکيبي أحدث فضاء ذهنيا بعد الإثارة بالتقديم للجار والمجرور المتضمن لضمير لفظ الجلالة هذا الفضاء ملأه المبدع بالصورة التي رسمها الحال للنبي الأكرم من الصدع المميز للأمر الإلهي والنطق بذكره على وجه التميز في هذه الصورة التي ساعد على ترسيخها وإمتاع المتلقي بها المسافة الزمنية بين الحال وصاحبها، فكان ذلك مما يشكل جانبا من جوانب الصورة النبوية العظيمة فاهتم المبدع بها بالتقديم والتأخير بقصدية أسلوبية واضحة بدلیل ورود ما يماثل هذا التقديم في وضعه الطبيعي المعهود في الذهن «أَرْسَلَهُ دَاعِیاً إِلَی اَلْحَقِّ - وَ شَاهِداً عَلَی اَلْخَلْقِ - فَبَلَّغَ رِسَالاَتِ رَبِّهِ - غَیْرَ وَانٍ وَ لاَ مُقَصِّرٍ - وَ جَاهَدَ فِی اَللَّهِ أَعْدَاءَهُ - غَیْرَ وَاهِنٍ وَ لاَ مُعَذِّرٍ - إِمَامُ مَنِ اِتَّقَی وَ بَصَرُ مَنِ اِهْتَدَی»(2) فالفعل واحد وهو (أَرْسَلَهُ) وما اختلف فيه هو الحال ومتعلقها اختلفا لفظا ودلالة وهو ما يعطي انطباعا آخر لدى المتلقي من قصدية الحال ومتعلقها كل بما يناسبه من الدلالة وما يناسب مقام النبي الأكرم فمرة يكون الإرسال ناظرا إلى الأمر الإلهي فناسبه الصدع لأنه الجهر والإصابة للمطلوب تماما - كما مرّ آنفا - ومرة الإرسال يكون للدعوة فناسبه أنه إلى الحق وفي مقام الترتيب الطبيعي للكلام لم يكن ما يستحق التقديم على ما يعود إلى النبي الأكرم فلو قدم المبدع مثلا وقال: (أرسله إلى الحق داعيا) ليس في الجار والمجرور ما يستحق أن يعطي

ص: 183


1- نهج البلاغة: 116
2- (الحال وصف فضلة منتصب مفهم في حال كفردا أذهب )، ينظرشرح ابن عقيل : ج 1: 625

شرفا لصورة النبي الأكرم لأن هذا الحق به أقيم وهو الداعي إليه فكونه داعيا إلى الله تعالى هو ما يعطي الكرامة لصورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ولأن هذه الكرامة قد وجدت في الجار والمجرور (أَرْسَلَهُ بَأَمْرِهِ صَادِعاً وَبَذِکْرِهِ نَاطِقاً) لتضمنهما ضميرا عائدا على لفظ الجلالة وهو ما به تشرف النبي الأكرم وباصطفائه لهذا الإرسال فلو أخر المبدع مثلا وقال: (أرسله صادعاً بأمره) لكان الصدع هو المقصود من الله - تعالى - في الإرسال وأمره واحد مما صدع به النبي الأكرم أو قد يكون ما هو أهم منه في الإرسال فضلا عما ذكرناه من شرف تقدیم الضمير العائد عليه - سبحانه - وما فيه من كرامة للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم.

وأمر الصدع قد جاء في نص آخر اختلف فيه التقديم والتأخير «فَصَدَعَ بِمَا أُمِرَ بِهِ، وَبَلَّغَ رِسَالاَتِ رَبِّهِ - فَلَمَّ اللّه بِهِ الصَّدْعَ وَرَتَقَ بِهِ الْفَتْقَ - وَ أَلَّفَ بِهِ الشَّمْلَ بَیْنَ ذَوِی الأَرْحَامِ - بَعْدَ الْعَدَاوَهِ الْوَاغِرَهِ فِی الصُّدُورِ - وَالضَّغَائِنِ الْقَادِحَهِ فِی الْقُلُوبِ»(1) ، فجاء الفعل بضميره العائد على النبي الأكرم مقدما على متعلقه موافقا للمعهود الذهني لدى المتلقي لأن الصدع جاء بفعل يعود بإشارة إلى أمر الله في القرآن أي ببيان المدح إلى النبي الأكرم مباشرة بالفعل المقدم على متعلقه اعتمادا على الخلفية لتنبيه المتلقي بما جاء في القرآن الكريم من تشریف الله - تعالى - النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم بأن أمره أن يصدع بأمره فقدم الصدع هنا لعوده على النبي مع عدم وجود ضمير يعود لمن هو أعلى من

ص: 184


1- نهج البلاغة :231

النبي الأكرم مقاما في الخطاب، فالصدع في حقيقته وصف للأمر سواء مع متعلقه الأول الحال أو مع الفعل لأنه عندما صدع بالأمر صار الأمر مصدوعا به وقد صرح المبدع بذلك الوصف للأمر «وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - أَرْسَلَهُ بِالدِّينِ الْمَشْهُورِ وَالْعَلَمِ الْمَأْثُورِ - وَالْكِتَابِ الْمَسْطُورِ وَالنُّورِ السَّاطِعِ - وَالضِّيَاءِ اللّامِعِ وَالْأَمْرِ الصَّادِعِ»1.

والنصوص السابقة فيها من التقديم والتأخير ما يشير إلى اهتمام المبدع بهذا الأسلوب الذي ورد بكثرة في بيان صورة النبي الأكرم، فنرى الأفعال في أغلبها تعود ضمائرها إلى الله - تعالى - كما في (فَصَدَعَ، وَبَلَّغَ، رَتَقَ، أَلَّفَ) وقد تقدمت جملها، ولبيان الاهتمام في صورة النبي الأكرم وتنبيه المتلقي على تلك الصورة العظيمة قدم المبدع الضمير العائد على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وحرف الجر الباء الذي جاء بتميّز في النص وفي نصوص أخرى أيضا قدمه على متعلقه وفصل بين الفعل ومفعوله ليعطي بهذا التقديم دلالة أن النبي الأكرم يستحق التقديم على جميع خلق الله بأداء هذا الفعل وانه المدخر من أنبياء الله الإقامة هذا الصدع والتبليغ والرتق والتأليف و كان هو السبب الأوحد في إيجادها على الأرض وزيادة في تشريف صورة النبي الأكرم جاء الفاعل ظاهرا في الفعل (فَلَمَّ اللّه بِهِ فَصَدَعَ) وهو لفظ الجلالة فكان بالإمكان أن يكون مستترا ويعود الضمير على (رَبِّهِ) السابق للفعل مباشرة إلا أن ذكر لفظ الجلالة هو أشرف الألفاظ الدالة عليه وفيه من الهيبة والتشريف لمقام النبي الأكرم ما لا يوجد في

ص: 185

غيره من الألفاظ فذُكِرَ وقدِّم وإلا بالإمكان تركيب القول (فلم به الله الصدع أو فلم به الصدع).

ما تقدم من نصوص أفصح عن اختیارات واضحة للتراكيب اللغوية شكلت توظيفا أسلوبيا وغائيا مقصودا مما يوحي للمتلقي بتمكن المبدع من لغته، والإبداع في استخدام أساليبها ومنها أسلوب التقديم والتأخير.

هذا التقديم والتأخير الذي أحدث انزياحا في القاعدة التركيبية المعهودة في ذهن المتلقي فكان هذا التغير للمعهود بمنزلة صدمة ذهنية عطلّت الإدراك الآني للمتلقي وأثارت رغبته إلى البحث عما وراء تلك الانزياحات المفاجئة ليس لأجل تغيير في دلالة الجمل الأساسية بتغيير مواقع الكلمات لأن التغيير لا يعطي ذلك دائما، إلا أنه قد يحدث تأثيرا أسلوبيا معنويا على المتلقي لينقل ذهنه من موقع معنوي مع الكلمة المنقولة إلى أخرى،(1) للوصول به إلى تسلسل دلالي يفضي إلى إعطاء صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم الواضحة المعالم بتمامها وكمالها لدى المبدع الذي يسعى بأسلوبه الصادق لإيصالها إلى المتلقي بأعلى درجات الوصول والتأثير على شعوره لإصلاحه لما فيه خير دنياه وآخرته، وفي النصوص المتعلقة بالنبي الأكرم موارد أخرى للتقديم والتأخير تختلف قليلا في طريقتها من حيث نوع المفردات في التركيب إلا أن مصبها هو في بيان صورة النبي الأكرم بأفضل بيان يثير ويمتع المتلقي ويقنعه بما جاء به أسلوب المبدع.(2)

ص: 186


1- ظ: التطور الدلالي بين لغة الشعر ولغة القرآن - دراسة دلالية مقارنة، عودة خليل أبو عودة: 75
2- ومنها خطب النهج التالية : 106، 147، 151، 160 وغيرها

2. البدء والختام (ربط المطلع بالخاتمة)

من الظواهر الأسلوبية التي لوحظت في نصوص النهج المتعلقة بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم أنها - أحيانا - إذا بدأت برسم صورة النبي الأكرم وطال النص قليلا أو كثيرا تربط خاتمته بشكل واضح مع أوله لتعود بالمتلقي إلى الجانب الصوري المتكامل ولا تجعل ذهنه في تشتت مع استرسال النص في موضوعات جانبية الغاية منها بيان الجوانب المحيطة أو المتعلقة بإيضاح عظمة الصورة النبوية فتحفظ هذه الظاهرة نظر المتلقي في مربع اللوحة الصورية والنظر إليها بكل دلالتها المرجوة، ففي هذا النص «من خطبة له عليه السلام علم فيها الناس الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيها بیان صفات الله سبحانه وصفة النبي والدعاء له: اللَّهُمَّ دَاحِيَ الْمَدْحُوَّاتِ وَبَارِئَ الْمَسْمُوكَاتِ - وَجَبَّالَ الْقُلُوبِ عَلَىفِطْرَتِهَا شَقِيِّهَا وَسَعِيدِهَا اجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِكَ - وَنَوَامِيَ بَرَكَاتِكَ وَكَرَائِمَ تَحِيَّاتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ - الْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ وَالْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ - وَالْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ وَالدَّافِعِ جَيْشَاتِ الأَبَاطِيلِ - وَالدَّامِغِ صَوْلاتِ الأَضَالِيلِ - كَمَا حُمِّلَ فَاضْطَلَعَ قَائِماً بِأَمْرِكَ - مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضَاتِك - غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمٍ وَلا وَاهٍ فِي عَزْمٍ - وَاعِياً لِوَحْيِكَ حَافِظاً لِعَهْدِكَ - مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ - وَأَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ - وَهُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ وَالآثَامِ - وَأَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الأَعْلامِ وَنَيِّرَاتِ الأَحْكَامِ - فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ، وَخَازِنُ عِلْمِكَ الْمخْزُونِ - وَشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ وَبَعِيثُكَ وَرَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ - اللَّهُمَّ افْسَحْ لَهُ

ص: 187

واجْزِهِ مُضاعَفاتِ الْخَیْرِ مِنْ فَضْلِکَ - اللّهُمَّ وأَعْلِ عَلَی بِناءِ الْبانِینَ بِناءَهُ، - وأَکْرِمْ لَدَیْکَ مَنْزِلَتَهُ، وأَتْمِمْ لَهُ نُورَهُ - واجْزِهِ مِنِ ابْتِعاثِکَ لَهُ مَقْبُولَ الشَّهادَهِ - مَرْضِیَّ الْمَقالَهِ ذا مَنْطِقٍ عَدْلٍ خُطْبَهٍ فَصْلٍ - اللّهُمَّ اجْمَعْ بَیْنَنا وبَیْنَهُ فِی بَرْدِ الْعَیْشِ وقَرارِ النِّعْمَهِ - ومُنَی الشَّهَواتِ وأَهْواءِ اللَّذّاتِ ورَخاءِ الدَّعَهِ - ومُنْتَهَی الطُّمَأْنِینَهِ، وتُحَفِ الْکَرَامَهِ»(1) ، بدأ النص ب- (اللّهُمَّ) ليعظم الله تمهيدا لدعائه للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم واستمر النص وطال نوعا ما بذكر الصفات النبوية الموجبة لهذا الدعاء لرسمها في ذهن المتلقي الذي شده تسلسلها وخشية ذهاب ذهنه إلى غير الدلالة الأساس في النص عاد به إلى لفظ الدعاء (اللّهُمَّ) للنبي الأكرم و كرره ثلاث مرات لغاية بيانية وأسلوبية - ذكرناها آنفا - فكان هذا الربط بين البدء والختام بمثابة العودة الذهنية للمتلقي اليتيح له الربط بين أجزاء النص ويكتمل الجانب الصوري للنبي الأكرم الذي جاء به المبدع.

وفي النص التالي عبارة البدء والختام واضحة (بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي) وربطها الصورة النبي الأكرم لدى المتلقي وتكرارها يوحي للمتلقي تكرار القول الذي تلا العبارة الأولى ويبين أهمية الصورة ومكانة صاحبها فبعد طول النص أعادها بما لها من إيقاع ووزن يناسب الموقف الحزين وما لها من أثر في شعور المتلقي وما تعكسه من ألم المبدع و فجيعته بصورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم التي هي: «بِأَبِی أَنْتَ وَأُمِّی یَا رَسُولَ اللّه - لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوتِکَ مَا لَمْ یَنْقَطِعْ بِمَوْتِ

ص: 188


1- نهج البلاغة : 72

غَیْرِک مِنَ النُّبُوَّهِ وَالْإِنْبَاءِ وَأَخْبَارِ السَّمَاءِ - خَصَّصْتَ حَتَّی صِرْتَ مُسَلِّیاً عَمَّنْ سِوَاکَ - وَعَمَّمْتَ حَتَّی صَارَ النَّاسُ فِیک سَوَاءً - وَلَوْ لاَ أَنَّک أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ وَنَهَیْتَ عَنِ الْجَزَعِ - لَانْفَدْنَا عَلَیْک مَاءَ الشُّؤُونِ - وَلَکَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلاً وَالْکَمَدُ مُحَالِفاً - وَقَلَّا لَکَ وَلَکِنَّهُ مَا لاَ یُمْلَک رَدُّهُ - وَلاَ یُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ - بِأَبِی أَنْتَ وَأُمِّی اذْکُرْنَا عِنْدَ رَبِّک وَاجْعَلْنَا مِنْ بَالِکَ»(1) وقد جاء الربط بالضمير العائد على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم بعد طول شرح للأحوال التي بعث النبي عليها ليبين صعوبة الأمر الذي جاء به النبي ومنه تتضح صورته صلى الله علیه و آله وسلم فيذكر اسم النبي (مُحَمَّداً) في بداية النص وبعد طول الشرح يعيد ذهن المتلقي ليربط الحدث بأكمله فبعد بيان حال الدنيا وما كان عليه العرب - آنذاك - يأتي الضمير العائد على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وأنه المبلغ والربيع لهذه الأمة بعد ما أصابها لأن اللون الذي رسمت به صورة النبي هو هول الأحوال الاجتماعية وظلام عاداتها ويأتي النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ليعيد لها الضياء والأمل فتغيرت مع صورته صورة الواقع من خريف الجهل إلى ربيع العلم ومن الهوان إلى الرفعة وإلى الشرف بعد الذل وهو ظاهر في النص الآتي: « ثُمَّ إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وآله وسلم بِالْحَقِّ - حِینَ دَنَا مِنَ اَلدُّنْیَا اَلاِنْقِطَاعُ وَ أَقْبَلَ مِنَ اَلْآخِرَهِ اَلاِطِّلاَعُ - وَ أَظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ إِشْرَاقٍ وَ قَامَتْ بِأَهْلِهَا عَلَی سَاقٍ - وَ خَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ وَ أَزِفَ مِنْهَا قِیَادٌ - فِی اِنْقِطَاعٍ مِنْ مُدَّتِهَا وَ اِقْتِرَابٍ مِنْ أَشْرَاطِهَا - وَ تَصَرُّمٍ مِنْ أَهْلِهَا وَ اِنْفِصَامٍ مِنْ

ص: 189


1- نهج البلاغة: 235

حَلْقَتِهَا - وَ اِنْتِشَارٍ مِنْ سَبَبِهَا وَ عَفَاءٍ مِنْ أَعْلاَمِهَا - وَ تَکَشُّفٍ مِنْ عَوْرَاتِهَا وَ قَصْرٍ مِنْ طُولِهَا - جَعَلَهُ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ بَلاَغاً لِرِسَالَتِهِ وَ کَرَامَهً لِأُمَّتِهِ - وَ رَبِیعاً لِأَهْلِ زَمَانِهِ وَ رِفْعَهً لِأَعْوَانِهِ وَ شَرَفاً لِأَنْصَارِهِ » (1)

3.الوشيج الدلالي في النصوص المختلفة

من الظواهر التي تعطي انطباعا واضحا لدى المتلقي بأن نهج البلاغة من سراج واحد وإن تعددت أشعته التي تنير ذهن المتلقي بلوحات الصور النبوية الكريمة هي ظاهرة التداخل الدلالي بين النصوص التي - أحيانا - تفسر بعضها بعضا و توضح ما فيها من غموض أو تبين الأسباب لبعض منها فنجد صورة النبي الأكرم في هذا النص مثلا: «حَتَّی أَفْضَتْ کَرَامَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالی إِلَی مُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله وسلم - فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً - وَأَعَزِّ الأَرُومَاتِ مَغْرِساً - مِنَ الشَّجَرَهِ الَّتِی صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِیَاءَهُ - وَانْتَجَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ عِتْرَتُهُ خَیْرُ الْعِتَرِ - وَأُسْرَتُهُ خَیْرُ الأُسَرِ وَشَجَرَتُهُ خَیْرُ الشَّجَرِ - نَبَتَتْ فِی حَرَمٍ - وَبَسَقَتْ فِی کَرَمٍ لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ وَثَمَرٌ لَایُنَالُ - فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَی وَبَصِیرَهُ مَنِ اهْتَدَی - سِراجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ، وَشِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ - وَزَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ، سِیرَتُهُ الْقَصْدُ - وَسُنَّتُهُ الرُّشْدُ وَکَلامُهُ الْفَصْلُ وَحُکْمُهُ الْعَدْلُ - أَرْسَلَهُ عَلَی حِینِ فَتْرَهٍمِنَ الرُّ سُلِ - وَهَفْوَهٍ عَنِ الْعَمَلِ وَغَبَاوَهٍ مِنَ الأُمَم»(2) نجد دلالة الصورة النبوية

ص: 190


1- نهج البلاغة: 198، وتنظر الخطبة (160 فنصها طويل جدا وذكر الإمام البدء في أولها ووسطها وختامها ليؤكد ما ذهبنا إليه من الربط الموضوعي لذهن المتلقي وتكامل الصورة النبوية لديه وتنظر الخطبة، 202، وغيرها )
2- نهج البلاغة : 94

هنا قد تواشجت معها الدلالة في نصوص أخرى بوشائج مختلفة فقوله (حَتَّی أَفْضَتْ کَرَامَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالی إِلَی مُحَمَّدٍ ص) و تصوير النبي الأكرم بأنه المكرم من الله وهو أمر غير خفي، لكن النظر إلى كرامة الله - تعالى - إلى النبي الأكرم على أنها النبوة كما يراه بعض الشرّاح(1) ، لا أظنه يكفي مع عدم الشك بأن النبوة من مصاديق الكرامة؛ لأن عليا عليه السلام نفسه قال: «ما أعطى الله عز وجل نبيا درجة ولا مرسلا فضيلة إلا وقد جمعها لمحمد صلى الله عليه و آله وزاد محمدا صلى الله عليه و آله على الانبياء أضعافا مضاعفة.»(2)

ولا ندعي إحصاء هذا العطاء والكرامة الإلهية للنبي الأكرم بهذه الدراسة إلا أننا سنقف على إشارات منها مما جاء في نهج البلاغة بوشیج دلالي مع الدلالة في هذا النص وبتواشج النصوص التي سنذكرها فيما بينها في هذا النص الذي جعلناه أنموذجا محوريا لهذا التواشج: «إِلَی أَنْ بَعَثَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً ... کَرِیماً مِیلاَدُهُ... ثم اختار سبحانه لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لقاءه - ورضي له ما عنده وأكرمه عن دار الأيا... فقبضه إليه کریم(3) فمن كرامة الله - تعالی - «أن ولادته كانت نقية شریفه، من أصل طاهر، وآباء طيبين»(4) ، وقوله عليه السلام (ثُمَّ اخْتارَ سُبحانَهُ لِمُحمّدٍ صلی الله علیه و آله لقِائَهُ - وَرَضِیَ لَهُ ما عِنْدَه) «هذا مجاز، من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، والمراد به

ص: 191


1- ظ: شرح نهج البلاغة ابن ميثم البحراني: ج 2: 396، ومنهاج البراعة في شرح نهج البلاغة : ج 7: 101
2- بحار الأنوار: ج 17: 274
3- نهج البلاغة :1
4- توضيح نهج البلاغة، محمد الحسيني الشيرازي: ج 40:1

لقاء کرامته»(1) ، وَأکرَمَهُ عَنْ دارِ الدّنیا «كأنّ الدنيا ليست دار کرامة، ولذا أكرمه عن هذه الحياة » (2) ل- «أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهَانَ غَیْرَهُ حَیْثُ بَسَطَ الدُّنْیَا لَهُ»(3) ، وأما النبي الأكرم فقد «خَرَجَ مِنَ الدُّنْیَا خَمِیصاً، وَوَرَدَ الْآخِرَهَ سَلِیماً - لَمْ یَضَعْ حَجَراً عَلَی حَجَرٍ - حَتَّی مَضَی لِسَبِیلِهِ وَأَجَابَ دَاعِیَ رَبِّهِ»(4) ، (فَقَبَضَهُ اِلَیهِ کریماً ) أي «ذا كرامة ورفعة وجاه (صلى الله عليه و آله و سلم)(5) ، وفي تواشج آخر في نص آخر «... وَأَکْرِمْ لَدَیْکَ مَنْزِلَتَهُ...»(6) ، أي «ما يوجب تكريمه وتفضيله»(7) و «اجعله قريبا منك في ظلال رحمتك، في أكرم المنازل وأفضلها»(8) من الكرامة التي أعددتها للصفوة النازلين في رحابك»(9) ، فالنبي الأكرم وحده عند الله «الْمُخْتَصُّ بِعَقَائِلِ کَرَامَاتِهِ - وَ الْمُصْطَفَی لِکَرَائِمِ رِسَالاَتِهِ» (10) أي المختصّ بنفایس کرامته، وهي الكمالات النفسانيّة من العلوم ومكارم الأخلاق التي اقتدر معها على تحميل الناقصين»(11) بل جعل الله النبي الأكرم «کَرَامَاتِهِ

ص: 192


1- المصدر السابق: ج 1: 41، سنتناول ما يتعلق بهذا المورد في الفصل الثالث إن شاء الله
2- المصدر السابق: ج 1: 41
3- نهج البلاغة : 160
4- نهج البلاغة: 160
5- توضيح نهج البلاغة: ج 1: 41
6- نهج البلاغة : 72
7- توضيح نهج البلاغة: ج 2: 159
8- شرح نهج البلاغة، السيد عباس الموسوي: ج 1: 425
9- في ظلال نهج البلاغة : ج 2: 123
10- نهج البلاغة: 178
11- شرح نهج البلاغة ابن ميثم البحراني: ج 3: 370، وينظر: منهاج البراعة : ج 252:10

لِأُمَّتِهِ»(1) وقد أفضت كرامة الله - تعالى - إلى النبي الأكرم قبل النبوة فلقد «قَرَنَ اَللَّهُ صلی الله عليه وآله وسلم - مِنْ لَدُنْ اَنْ کانَ فطیماً اَعْظَمَ مَلَکٍ مِنْ مَلائِکتِهِ یَسْلُکُ بِهِ طِریقَ المَکارِمِ وَمَحاسِنَ اَخلاقِ العالَمِ لَیْلَهُ وَنَهارَهُ»(2) .

وهذا المظهر الأسلوبي في واحدة من مفردات النص السابق بانَ لنا ما فيه من تواشج دلالي و تفسيري أو توضيحي سواء النص المدروس مع النصوص الأخرى أم النصوص مع بعضها لأن موضوعها المركزي (كرامة الله - تعالى - للنبي الأكرم) جمعها متداخلة في الدلالة توضيحا وتفصيلا وغير ذلك، فهو يوحي للمتلقي أن هذه الصورة النبوية الكريمة هي صدق محض وهي حاضرة في ذهن المبدع وشعوره ووجدانه لأنها جاءت بمختلف الأساليب في عدة نصوص دون أن تتعارض مع بعضها، بل يكمل أو يبين بعضها الآخر أو يؤكده في دلالته على الصورة النبوية الكريمة وسنعرض لبعض هذا التداخل الدلالي بأقل شرح ممکن من السابق في القول الآتي من النص الأنموذج: (فأخْرَجَهُ مِنْ اَفضلِ المَعادِنِ مَنْبَتاً - وأعَزِّ الأَرُوماتِ مَغرِساً)، كيف؟ الجواب في نصوص أخرى يقول:

«مُسْتَقَرُّهُ خَیْرُ مُسْتَقَرٍّ - وَمَنْبِتُهُ أشْرَفُ مَنْبِتٍ - فی مَعَادِنِ الْکَرَامَهِ - وَمَمَاهِدِ السَّلَامَهِ»(3) وهو «خَیْرَ اَلْبَرِیَّهِ طِفْلاً - وَ أَنْجَبَهَا کَهْلاً»(4) وكيف لا تكون هذه الصورة العليا لنبي الأكرم و« کُلَّمَا نَسَخَ اَللَّهُ اَلْخَلْقَ فِرْقَتَیْنِ جَعَلَهُ فِی خَیْرِهِمَا - لَمْ یُسْهِمْ

ص: 193


1- نهج البلاغة : 198
2- نهج البلاغة : 192
3- نهج البلاغة: 96
4- نهج البلاغة: 105

فِیهِ عَاهِرٌ وَ لاَ ضَرَبَ فِیهِ فَاجِرٌ»(1) ، بل إن من صورة النبي العليا أن جعل الله - كما في النص - (عِتْرَتُهُ خَیْرُ اَلْعِتَرِ - وَ أُسْرَتُهُ خَیْرُ اَلْأُسَرِ وَ شَجَرَتُهُ) و بتواشج دلالي مع نص آخر يقول عليه السلام: «أسرته ځير أسرة وشجره خير شجرة)(2) ، فالنبي صلى الله عليه و آله وسلم له شجرته الخاصة بعد أن اختاره الله - تعالى - أي «اخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَهِ اَلْأَنْبِیَاءِ»(3) نعم، فهم سلام الله عليهم جميعا «مَوْضِعُ سِرِّهِ وَلَجَأُ أَمْرِهِ - وَعَيْبَةُ عِلْمِهِ وَمَوْئِلُ حُكْمِهِ - وَكُهُوفُ كُتُبِهِ وَجِبَالُ دِينِهِ - بِهِمْ أَقَامَ انْحِنَاءَ ظَهْرِهِ وَأَذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِهِ»(4) ، وبصراحة واضحة أخبر المبدع أنه من الشجرة الخاصة وقال: «نَحْنُ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ - وَ مَحَطُّ الرِّسَالَةِ - وَ مُخْتَلَفُ الْمَلاَئِکَةِ - وَ مَعَادِنُ الْعِلْمِ وَ یَنَابِیعُ الْحُکْمِ»(5) ، بل إن شجرة النبي الكرم «هُمْ عَیْشُ الْعِلْمِ وَمَوْتُ الْجَهْلِ - یُخْبِرُکُمْ حِلْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ وَظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ - وَصَمْتُهُمْ عَنْ حِکَمِ مَنْطِقِهِمْ - لاَ یُخَالِفُونَ الْحَقَّ وَلاَیَخْتَلِفُونَ فِیهِ - وَهُمْ دَعَائِمُ الإِسْلاَمِ وَوَلاَئِجُ الاِعْتِصَامِ - بِهِمْ عَادَ الْحَقُّ إِلَی نِصَابِهِ، وَانْزَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ مُقَامِهِ - وَانْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ مَنْبِتِهِ - عَقَلُوا الدِّینَ عَقْلَ وِعَایَهٍ وَرِعَایَهٍ - لاَ عَقْلَ سَمَاعٍ وَرِوَایَهٍ - فَإِنَّ رُوَاهَ الْعِلْمِ کَثِیرٌ وَرُعَاتَهُ قَلِیلٌ»(6) وبهذا صار آل محمد عليهم السلام خير العتر والأسر والشجر وصارت قبلهم صورة النبي الأكرم

ص: 194


1- نهج البلاغة : 214
2- نهج البلاغة: 161
3- نهج البلاغة : 108
4- نهج البلاغة: 2
5- نهج البلاغة : 109
6- نهج البلاغة : 239

صلى الله عليه و آله وسلم خير الصور.

وقد أفدنا من الوشيج الدلالي في قوله عليه السلام: «وَصَمْتُهُمْ عَنْ حِکَمِ مَنْطِقِهِمْ»(1) من اتضاح قوله عليه السلام «کَلامُهُ بَیانٌ وصَمتُهُ أفصَحُ لِسان»(2) - الذي بيناه في موضع آخر - ومن قوله «فَلَمَّ اَللَّهُ بِهِ اَلصَّدْعَ وَ رَتَقَ بِهِ اَلْفَتْقَ - وَ أَلَّفَ بِهِ اَلشَّمْلَ بَیْنَ ذَوِی اَلْأَرْحَامِ - بَعْدَ اَلْعَدَاوَهِ اَلْوَاغِرَهِ فِی اَلصُّدُورِ وَ اَلضَّغَائِنِ اَلْقَادِحَهِ فِی اَلْقُلُوبِ»(3) من اتضاح قوله: «دَفَنَ اللّهُ بِهِ الضَّغَائِنَ - وَأَطْفَأَ بِهِ الثَّوَائِرَ ألَّفَ بِهِ إِخْوَاناً - وَفَرَّقَ بِهِ أَقْرَاناً»(4) .

ونخلص من ظاهرة الوشيج الدلالي هذا أن صورة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حق أبلج وصدق مصدق وهي حاضرة في نفس المبدع في مختلف المقامات التي يذكر فيها الخطاب مع الخواص والخصوم والعموم لأنها عبادة وبرسمها وذكرها تقرب إلى الله ورسوله ولأنها حاضرة في شعور المبدع في مختلف الأوقات أخذت مساحة ممتعة في أسلوب الخطاب الذي يتضمنها فأمتع المبدع بها المتلقي وأثاره حينا من الأحايين بانزياحات التركيب ليضع في ذهنه مساحة يعلق عليها جانبا من صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ، كما علقت في وجدان المبدع علما حضوريا وعلما حصوليا لنا وللأجيال من المتلقي إلى يوم الدين.

ص: 195


1- نهج البلاغة: 239
2- نهج البلاغة : 96
3- نهج البلاغة: 231
4- نهج البلاغة: 96

4. التقابل والتناظر التركيبي

من الظواهر التي اتخذها المبدع طريقا لرسم صورة النبي الأكرم وإمتاع المتلقي بها عبر توافقات ترکيبية ثنائية في الغالب أو ثلاثية أحيانا ورباعية في أحيان قليلة، فتبرز هيمنتها التقابلية بشكل يلفت المتلقي إليها ويثير انتباهه لدلالاتها لما تتضمنه من ترکیب متناظر أو متشابه تماما أو متقابل باتزان ترکیبي يمتع المستمع أو القارئ بها ويجبره على التفكر في مدالیلها التي تنقش صورة النبي الأكرم في شعور المتلقي بطريقتها التقابلية ومن ذلك نطلع على النص الآتي: «وَأَشْهَدُ أَنْ لَاإِلهَ إِلَّا اللّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَنَجِیبُهُ وَصَفْوَتُهُ - لَایُؤَازَی فَضْلُهُ وَلَا یُجْبَرُ فَقْدُهُ - أَضَاءَتْ بِهِ الْبِلَادُ بَعْدَ الضَّلاَلَهِ الْمُظْلِمَهِ - وَالْجَهَالَهِ الْغَالِبَهِ وَالْجَفْوَهِ الْجَافِیَهِ - وَالنَّاسُ یَسْتَحِلُّونَ الْحَرِیمَ - وَیَسْتَذِلُّونَ الْحَکِیمَ - یَحْیَوْنَ عَلَی فَتْرَهٍ وَیَمُوتُونَ عَلَی کَفْرَهٍ»(1)

لقد أفصح هذا النص عن تناظرات ترکيبية هيمنت أسلوبيا على النص فحركته باتجاه التأمل العقلي ليفهم المتلقي بنيتها التركيبية الدلالية في هذه التناظرات الثنائية التي كُسِرت رتابتها في ثلاثية واحدة لمفاجئة المتلقي من غير إخلال في المعنى بل بما تتطلبه دلالة النص من بيان صورة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بأحسن البيان، ويمكن أن نحلل هذه التناظرات وفق الشكل التخطيطي الآتي لتتضح أكثر:

عَبْدُهُ ورَسُولُهُ

ص: 196


1- نهج البلاغة: 151

وَ نَجِیبُهُ - وَصَفْوَتُهُ

لَایُؤَازَی فَضْلُهُ وَلَا یُجْبَرُ فَقْدُهُ

الضَّلاَلَهِ الْمُظْلِمَهِ وَالْجَهَالَهِ الْغَالِبَهِ وَالْجَفْوَهِ الْجَافِیَهِ

وَیَسْتَذِلُّونَ الْحَکِیمَ وَیَسْتَذِلُّونَ الْحَکِیمَ

یَحْیَوْنَ عَلَی فَتْرَهٍ وَیَمُوتُونَ عَلَی کَفْرَهٍ

لقد أسهمت هذه التقابلات في زيادة المتعة الدلالية و ترغيب المتلقي في التمعن بالصورة التي رسمت بوساطة تراكيبها القصيرة التي تعطف الأسماء المتقابلة مفرد و مفرد في التقابل الأول والثاني، ثم جاء التقابل الثالث في تركيب منفي وفعل مضارع مبني للمجهول في كل منهما ودلالة المضارع المجهول في كل منها أيضا على التجديد لا تتنافى مع دلالة النص في رسم الصورة النبوية ؛ بقرينة الفعلين المضارعين السابقين لهما (أَشْهَدُ، أَشْهَدُ) الدالَّين على الحال والاستقبال، فلا يأتي أحد يوازي فضل النبي الأكرم ولا يمكن أن يجبر فقده أبداء للخصوصية التي امتاز بها وهي صورة كريمة للنبي الأكرم قائمة إلى يوم الدين، وفيه أيضا تأكيد للتواشج الدلالي - المذكور آنفا - بلحاظ ما صور به المبدع النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم بمخاطبته إياه «خَصَّصْتَ حَتَّی صِرْتَ مُسَلِّیاً عَمَّنْ سِوَاكَ» ؛ لأن فيه مما يعلل هذا الخصوص وجاء التقابل الثلاثي بتناظر تام فيما بينهم حيث الصفة والموصوف فيهما جميعا فقد كانت من الأشياء الثابتة - آنذاك - فاستعمل الأسماء معها لبيان قدرة النبي الأكرم على تغيير هذه الثوابت عند الأمة وهي مما توحي

ص: 197

بصورة النبي الأكرم والقدرة العالية في الهداية والإصلاح، وجاء التقابل التالي بفعلين مضارعين من الأفعال الخمسة مع مفعولین معرّفين بالألف واللام في كل تركيب منهما، وفي التقابل الأخير تغيّر التركيب السابق فناظره التركيب اللاحق، فجاء في كل منهما فعل من الأفعال الخمسة وحرف جر واسم مجرور، وهنا استعمال الأفعال المضارعة الأربعة - التامة الحدث - جاء بدقة لأنها بقرينة الحديث عن الماضي جاءت لتدل على استمرارها لفترة من الزمن الماضي لأن الله - تعالى - عندما أرسل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم «أَرْسَلَهُ عَلَی حِینِ فَتْرَهٍ مِنَ اَلرُّسُلِ - وَهَفْوَهٍ عَنِ الْعَمَلِ، وَغَبَاوَهٍ مِنَ الأُمَم»(1) وانتهت على يد النبي الأكرم وأبدلهم الله فترة خيرا منها، فبانت من خلالها عظمة صورة النبي الأكرم بتقابل وتناظر أعطى للمتلقي مع المتعة فرصة التأمل والإفهام بما تضمنه الأسلوب من شعرية ودقة في الدلالة على المقصود.

وفي نص آخر نجد ظاهرة التقابل والتناظر وقد أسهم تعدد أشكال التناظر في النص في إثارة المتلقي وإمتاعه من حيث عدم الثبات على ترکیب متناظر واحد أو اثنين في التقابلات داخل النص: «ابْتَعَثَهُ بِالنُّورِ الْمُضِىءِ وَالْبُرهَانِ الْجَليِّ - وَالْمِنْهَاجِ الْبَادِي وَالْكِتَابِ الْهَادِي - أُسْرَتُهُ خَيْرُ أُسْرَةٍ وَشَجَرَتُهُ خَيْرُ شَجَرَةٍ - أَغصَانُهَا مُعْتَدِلَةٌ وَثِمَارُهَا مُتَهَدِّلَةٌ - مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ وَهِجْرَتُهُ بِطَيْبَةَ - عَلا بِهَا ذِكْرُهُ وَامْتَدَّ مِنْهَا صَوْتُهُ - أَرْسَلَهُ بِحُجَّةٍ كَافِيَةٍ وَمَوْعِظَةٍ شَافِيةٍ وَدَعْوَةٍ مُتَلافِيَةٍ - أَظْهَرَ بِهِ الشَّرائِعَ الْمَجْهُولَةَ - وَقَمَعَ بِهِ الْبِدَعَ الْمَدْخُولَةَ -

ص: 198


1- نهج البلاغة : 94

بِهِ الْأَحْكَامَ الْمَفْصُولَةَ - فَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الاسْلامِ دِيناً تَتَحَقَّقْ شِقْوَتُهُ - وَتَنْفَصِمْ عُرْوَتُهُ وَتَعْظُمْ كَبْوَتُهُ - وَيَكُنْ مَآبُهُ إلَى الْحُزْنِ الطَّوِيلِ وَالْعَذَابِ الْوَبيلِ »(1)

ولنضع مخططا توضيحيا لهذا النص وبعده نبين التقابلات المتناظرة حسب تسلسلها فيه:

ابْتَعَثَهُ وَالْبُرهَانِ الْجَليِّ وَالْمِنْهَاجِ الْبَادِي وَالْكِتَابِ الْهَادِي

أُسْرَةٍ وَشَجَرَتُهُ وَشَجَرَتُهُ خَيْرُ شَجَرَةٍ

أَغصَانُهَا مُعْتَدِلَةٌ وَثِمَارُهَا مُتَهَدِّلَةٌ

مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ وَهِجْرَتُهُ بِطَيْبَةَ

عَلا بِهَا ذِكْرُهُ وَامْتَدَّ مِنْهَا

أُسْرَتُهُ

بِحُجَّةٍ كَافِيَةٍ وَمَوْعِظَةٍ شَافِيةٍ وَدَعْوَةٍ مُتَلافِيَةٍ أَظْهَرَ بِهِ الشَّرائِعَ الْمَجْهُولَةَ وَقَمَعَ بِهِ الْبِدَعَ الْمَدْخُولَةَ وَبَيَّنَ بِهِ الْأَحْكَامَ الْمَفْصُولَةَ - فَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الاسْلامِ دِيناً تَتَحَقَّقْ شِقْوَتُهُ وَتَنْفَصِمْ عُرْوَتُهُ وَتَعْظُمْ كَبْوَتُهُ وَيَكُنْ مَآبُهُ إلَى

ص: 199


1- نهج البلاغة: 161

الْحُزْنِ الطَّوِيلِ وَالْعَذَابِ الْوَبيلِ

فالتقابل الأول رباعي بشبه الجملة الذي جاء على أربعة أسماء كل منها موصوف بصفة يسبقها حُرَّتْ جر جت به جميع الأسماء بتناظر واضح جدا (صفة و موصوف)، والتقابل الثاني جاء بجملة اسمية مبتدؤها مضاف إلى ضمير الغائب وخبرها اسم تفضيل مضاف إلى ما بعده يناظرها جملة مثلها تماما في تقابل ثنائي، والتقابل الثالث والرابع والخامس جميعها تقابلات ثنائية بجملتين اسميتين في الثالث والرابع وفعلية في الخامس منها، ففي التقابل الثالث تألف التركيب من مبتدأ مضاف إلى ضمير المؤنثة الغائبة وخبره اسم نكرة و تناظرها جملة مثلها تماما في هذا التقابل، والتقابل الرابع التركيب جملة اسمية مبتدؤها مضاف إلى ضمير المذكر الغائب و خبرها شبه جملة من الجار والمجرور وتناظرها جملة مثلها تماما في هذا التقابل، والتقابل الخامس جملة فعلية فعلها ماض وفاعلها مضاف إلى ضمير يعود على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم يتوسطهما حرف جر وضمير مجرور وتناظرها جملة مثلها تماما في هذا التقابل، ويأتي بعدها ثلاث تقابلات ثلاثية بتراکیب متناظرة تماما ويختم النص بتقابل ثنائي بتناظر جلي أيضا، وجميع هذه التقابلات واضحة التناظر من خلال المخطط السابق.

وفي هذه التقابلات التي زخر بها النص تحقق تناظر ترکیبي یکاد تناظره يكون كليا على مستوى البناء الصرفي والنحوي، هذا التناظر الرائع أعطى النص طاقة إبداعية أثارت ذوق المتلقي للتمعن بدلالته بشغف وقد وظفها المبدع عوامل أسلوبية لوصول (صورة النبي الأكرم (صلی الله عليه و آله وسلم» إلى

ص: 200

المتلقي بطريقة هادئة مؤثرة جدا بوساطة التسلسل التقابلي المتناظر تماما وبثها على مراحل متنوعة في جو أضفت عليه هذه التقابلات التركيبة جو الإمتاع المقنع بلحاظ الجانب التركيبي لهذا الأسلوب فقط، فما بالنا لو وضعنا في كفة ميزان امتاع المتلقي نهاية التقابلات المتناظرة التي تنتهي بسجعات موحدة وضربات إيقاعية في التقابلات التركيبية التي اتصف الكثير منها بالتطابق من حيث عدد الكلمات وحرف الروي في نهاية التقابل التركيبي المتناظر وعلى سبيل المثال:

(أَظْهَرَ بِهِ اَلشَّرَائِعَ اَلْمَجْهُولَهَ / قَمَعَ بِهِ اَلْبِدَعَ اَلْمَدْخُولَهَ / ببَیَّنَ بِهِ اَلْأَحْکَامَ اَلْمَفْصُولَهَ) فالفعل الماضي يقابله مثله (أَظْهَرَ قَمَعَ ببَیَّنَ) وكذا حرف الجر والمجرور (بِهِ /بِهِ /بِهِ ) و تضمن التركيب في التقابل الثلاثي مفعولا به موصوفا: (اَلشَّرَائِعَ اَلْمَجْهُولَهَ / اَلْبِدَعَ اَلْمَدْخُولَهَ / اَلْأَحْکَامَ اَلْمَفْصُولَهَ).

إن التقابل التركيبي المتناظر على هذا النحو يوحي بإحساس لدى المتلقي بترابط دلالي داخل التراكيب المتناظرة وبوشیج عام بين جميع التقابلات في النص الواحد بحيث لا يجد المتلقي تعارضا في هذا التداخل الذي يفضي إلى أجمل صورة في أعلى مواقع النبوة الإلهية بالخصوصية الخاصة للنبي الأكرم صلی الله عليه و آله وسلم حققها أسلوب المبدع ليقدمها إلى المتلقي على طبق الجو التركيبي المتلاحم مع تنوع عناصره لأن ترابط العناصر فيما بينها فضلا عن تضافرها مع ظواهر أسلوبية أخرى كالصوتية مثلا وغيرها في سياق يشي بوعي المبدع وإدراكه بل بتبوئه السنام الأول بخصوصية التراكيب اللغوِّية ؛ لانسجام لغته

ص: 201

بتركيبها المميز مع دلالة النص التي جاءت بجمالها التركيبي البياني معطاء وحقق مبدعها شرط القائلين بعده الذي لعله قيل على ضوء نتاجه الأدبي فهو سابقهم زمانا و مكانا وفي كل شيء، «وأما النظم - فهو عبارة عن توخي معاني النحو في ما بين الكلم وذلك أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو بأن تنظر في كل باب إلى قوانينه والفروق التي بين معاني اختلاف صیغته وتضع الحروف مواضعها وتراعي شرائط التقديم والتأخير، و مواضع حروف العطف على اختلاف معانيها، و تعتبر الإصابة في طريق التشبيه والتمثيل. وقد أطبق العلماء على تعظیم شأن النظم، وأن لا فضل مع عدمه ولو بلغ الكلام في غرابة معناه إلى ما بلغ، وأن سبب فساده ترك العمل بقوانين النحو واستعمال الشيء في غير موضعه.»(1) ولاسيما أنا وجدنا هذا التقابل المتناظر في نصوص غير التي ذكرناها بل يكاد يكون ظاهرة أسلوبية واضحة على أقل تقدير في النصوص المتعلقة بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم إن لم يكن في نهج البلاغة(2) .

ص: 202


1- نهاية الأرب في فنون الأدب: ج2 : 293
2- نشير إلى بعض هذه النصوص بأرقام الخطب المتضمنة لهذا التقابل المتناظر (2، 89، 94، 95، 96، 109، 147، وغيرها)

الفصل الثالث

اشارة

ص: 203

ص: 204

المبحث الأول: الصورة التشبيهية

توطئة

البيان في البلاغة (علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه)(1) . والتشبيه أداة فطرية لإظهار صورة ذهنية أشد وضوحا، وأكمل إطرافا يزيد قياسها بها، ومطابقتها لها تقرير المعنى وتأكيد الدلالة، وليس التشبيه مختصا بلغة أو جيل أو فرد وإنما هو من التراث المشاع بين البشر جميعا(2) .

ولما كان التشبيه واحدا من صور البيان التي اعتادها الناس، وكان الشعر العربي في جميع عصوره مجسدا له مستندا إليه في إظهار الصور المختلفة التي يريد الشاعر إظهارها وإيصالها للمتلقي، فمن البديهي أن يتخذ التشبيه وسيلة من وسائل البيان تعين في الوصول إلى الهدف المنشود.

والحاجة إلى التشبيه متحققة في النثر عموما وفي النصوص التي تصور النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم خصوصا لما يحمله التشبيه من قدرة على البيان

ص: 205


1- علم البيان، بدوي طبانة : 27
2- ظ: فن التشبيه، علي الجندي: ج 1: 43

والمبالغة والايجاز (1) ، ولعل مما يطالعنا من خصائص التشبيه في الصورة النبوية، ارتباطه بالبيئة العربية، سواء الطبيعية منها كالأرض وتضاريسها والطبيعة المتحركة إلى غير ذلك من الظواهر الطبيعية، أم الاجتماعية كالدين والخلق والعادات وغيرها (2) ، فالمظاهر البيئية الطبيعية هي التي تغني أكثر التشبيهات بوصفها مظاهر عامة (3) .

ومع قلة التشبيه في النصوص التي تصور النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم قياسا إلى الاستعارة والكناية ولا سيما التشبيه الذي يتضمن أداة التشبيه ووجه الشبه لأنه من أقل درجات التشبيه بيانا وصورة على خلاف التشبيه الذي يتضمن المشبه والمشبه به من أطراف التشبيه الذي يسمى التشبيه البليغ، مع هذه القلة إلا أننا نجد المبدع اتخذ من هذا التشبيه واحدا من الأساليب البليغة التي رسم فيها صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم بما يحقق الإثارة والإقناع الدلالي والإمتاع التركيبي المتميز بإفهام الصورة بأعلى درجاتها بوسائل اللغة التي لا ينكرها العربي السليم في السليقة اللغوية.

لقد صوّر المبدع النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم بأبلغ التشبيهات صورة بيانية مستمدة من واقع البيئة التي يعيش فيها، فكان خيال المبدع - لا كما عهدنا الخيال عند الشعراء - خیالا واقعيا حقيقيا وهو ما يزيد المتلقي إثارة وإقناعا وشدا لمتابعة الدلالة والتفكر في المعنی کاملا، مما يعني أن المبدع كان يعمد

ص: 206


1- ظ: المثل السائر: ج2 : 123
2- ظ: فجر الاسلام، احمد امين: 44. والتشبيهات القرآنية والبيئة العربية، واجدة الاطرقجي: 47
3- ظ: التصوير البياني، د. محمد أبو موسى: 157

إلى فكر المتلقي ليجول في تفسير ما يريد أن يصوره لنا، ويقربه إلى مدار کنا بعناصر واقعه وبيئته، ولعل ما يراه أهل العلم من «أن الخطابة تتوجه إلى العقل وتهدف إلى الإقناع في حين أن الشعر يتوجه إلى الوهم ويحدث التخييل. والإنسان فيما يقولون، أطوع للوهم منه للعقل، ومن هذه الوجهة يستعمل الخطيب الشعر أحيانا، ليعضّد الإقناع بالتخييل»(1) ، فقد نتفق معهم في بعض هذا إلا أن المبدع هنا لم يلجأ لأي شعر ليقنع المتلقي ونرى الإقناع في أعلى درجاته بل الإمتاع والإثارة فيما يأتي به الأسلوب من دلالات لها تأثير لا نظير له على المتلقي ذلك أن المبدع هو علي بن أبي طالب عليه السلام. فهو يخرج خزین مشاهداته البيئية التي ألفها المتلقي، وتعرف عليها، ليسهل عليه ذلك التصوير والتقريب فضلا عن علم المتلقي بما للمبدع من زلفي لدى من يصوره «وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِی مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلی الله علیه وآله وسلم - بِالْقَرَابَهِ الْقَرِیبَهِ، وَالْمَنْزِلَهِ الْخَصِیصَهِ»(2) ، ومن هذا الخزين ما جاء في هذا النص من صور التشبيه:

«حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله وسلم -... فَهُوَ امامُ مَنِ اتَّقی وَبَصیرَهُ مَنِ اهْتَدی - سِراجٌ لَمَعَ ضُوْؤُهُ وَ شِهابٌ سَطَعَ نُورُهُ - وَزَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ سِيرَتُهُ الْقَصْدُ - وَسُنَّتُهُ الرُّشْدُ وَكَلاَمُهُ الْفَصْلُ وَحُكْمُهُ الْعَدْلُ - أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ - وَهَفْوَهٍ عَنِ الْعَمَلِ وَغَبَاوَهٍ مِنَ الأُمَم »(3) .

ص: 207


1- أساليب التعبير الأدبي، مجموعة من الأساتذة منهم د. عيسي علي العاكوب في بحثه (الخطابة والترسل ): 96
2- نهج البلاغة: 192
3- نهج البلاغة: 94

في الصور التشبيهية التي جاء بها المبدع في هذا النص (فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَى، وَبَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدَى - وسِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ، وَشِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ - وَزَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ) وهي صور الإمامة للأمة والقيادة في التقوى و تشبيهه بالبصيرة التي بها يهتدي المهتدي وتشبيهه بالسراج والشهاب، والزند و كلها تتضمن الاقتداء بها إلى حيث الغاية المناسبة لذلك وشُبِّه بها النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم لأنه يقتدى به لكل غاية مرجوة في الحياتين الأولى والأخرى، فالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو إمام الأمة بل إمام الأولين والآخرين لأنه القدوة في كل شيء فهو يقود الأمة وبه الهداية تتم وتكتمل و کذا يهتدى بالسراج والشهاب والزند كل في موضعه وبحسب ما يتطلبه المقام فهي مصادر هداية لأغراضها التي لا تتم الهداية المرجوة إلا بها، ولعل هذا هو وجه الشبه(1) المشترك في هذه التشبيهات الذي لم يذكر في التشبيهات والتي حذفت أدواتها أيضا. «فكل تقي يتخذ الرسول قدوة له وأسوة على طريقته يمشي ومن تقواه يتزود. مثل من اهتدى إلى الحق وأدر که ووصل إليه فهو عن طريق النبي وبإرشاده و توجيهه وهدايته... والسراج إذا لمع ضوؤه اهتدى إليه الناس وأنسوا بوجوده والشهاب كذلك والزند وهو ما يخرج منه النار(2) فإن هذه تتلفت إليها الأنظار عند حدوثها وترتاح إليها وتستأنس وترى فيها الخير فكذلك رسول الله عند ما جاء جاءت الهداية والخير والبركة.»(3) ف-«شبهه عليه السلام بالسراج والشهاب والزند في كونه سبب هداية الخلق كما أن هذه

ص: 208


1- ظ: شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني، ج 2، صفحة 398
2- ظ: الألفاظ الدالة على الكتب السماوية في القرآن الكريم (رسالة ماجستير)، ناجح جابر: 15 - 16
3- شرح نهج البلاغة، السيد عباس الموسوي، ج2 : 132

الثلاثة كذلك، ورشح التشبيه الأول بلمعان الضوء، والثّاني بارتفاع النّور، والثالث ببروق اللّمع، ويحتمل أن يكون وجه الشبه في الثالث إثارة أنوار الهداية.»(1) هذا مما جاءت به كتب الشروح في توافق كبير في الدلالة واختلاف في العبارات (2) وهو مع صحته في الغالب لكنه لا يخلو من التكرار وقلة الغوص في معانيه ومراعاة الأسلوب التصويري لدى المبدع وعظمة الصورة النبوية الكريمة، فلا يمكن أن يكون الإمام عليه السلام قد كرر المعنى في التشبيهات وأراد جانبا واحدا من صورة النبي الأكرم وليس هو المعهود من أنجب تلميذ للنبي الأكرم وللقرآن الكريم!؟

فجاء المبدع بأسلوب التشبيه ليرسم صورة دقيقة للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم قد يرى المتلقي البسيط أو أي متلق للوهلة الأولى أنها عبارات متكررة ذات معنى واحد وقد يعينه على ذلك بعض كتب المعاجم اللغوية أو التفاسير القرآنية التي تشابهت قلوبها في الشرح إلا أن المبدع قد بين الصورة النبوية لقوم يعقلون دقائق اللغة لأنهم من أهلها و تشبيه النبي الأكرم بأنه سراج هو في الظن الراجح قراءة من المبدع للقرآن الكريم « یَا أَیُّهَا النَّبِیُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاکَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِیرًا * وَدَاعِیًا إِلَی اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِیراً * وَدَاعِیًا إِلَی اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِیراً * وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا » [الأحزاب / 45-48] فهذا الإرسال من الله هو الأساس في صورة النبي

ص: 209


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ج 7، صفحة 110 - 111
2- ظ: شرح نهج البلاغة ابن ميثم البحراني، ج 2: 398، ومنهاج البراعة في شرح نهج البلاغة : ج 7: 111 - 110

الأكرم العليا وهو سراج المبدع الأول في أسلوبه في رسم صورة النبي الأكرم في هذا التشبيه فمنبع الأسلوب أصفى من أن تشوبه شائبة المجاز والخيال الشعري الذي لا يتصل بالواقع أو لا يكون له مصداق في الخارج وهو ما يزيد درجة الإقناع التي يبحث عنها المتلقي ويريدها المبدع بلا شك. فأوجد المبدع تفاعلا بين طرفي الصورة متحققا لا على مستوى الصفات المشتركة بينهما فحسب بل على نحو الحقيقة والواقع وما هو في ذهن المتلقي ليصل الخطاب إلى شعوره ويتمكن من إقناعه فاقتدر المبدع بقوة أسلوب وحس مرهف من کشف وجه من وجوه الشبه يصلح لربط طرفي الصورة التشبيهية وإحداث تفاعل ملائم أمتع به المتلقي، (1) فكان من الحسن في التشبيه أنه قرب البعيدين المألوفين في ذهن المتلقي وصير بينهما مناسبة واشتراكا، (2) وهو ما زاد من الإمتاع والإفهام في النص، فالنبي الأكرم سراج لا کالسُرُجٌ فهو الحسن والجميل خلقا وخلقا وهو زينة لمن حوله فأصل (السراج) هو هذه الدلالة(3) ، وقيل: «سرَّج الله تعالى وجهه: حسنه وبهجه،... ومحمد رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم السراج الوهاج».(4)

فهو حسن الوجه بما لا يضاهيه حسن و کریم الخلق بما لا نظير له بل هو سراج في خلقه وسراج في طبعه، وإن النبي الأكرم «لَكَريمُ السِّرْجيجةِ، أي كَريمُ الطّبيعة»(5)

ص: 210


1- ظ: الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية، د. مجيد ناجي: 196
2- ظ: العمدة: 241 - 242
3- ظ: معجم مقاييس اللغة : م 1: 598 (سرج )
4- أساس البلاغة، الزمخشري: ج 1: 448، (س رج)
5- تهذيب اللغة، الأزهري: ج 10: 582 (سرج )

و سراج في أصله «وإِنَّهُ لَکَرِیْمُ السُّرْجُوْجَةِ: أی الأصْلِ»(1) .

وما جاء في الآية الكريمة قوله تعالى: (وَسِرَاجًا مُّنِیراً (الأحزاب /46» يشير إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وليس هو ذا كتاب منير(2) ، أو بين أو غيرها(3) ، «و کون النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم سراجا منيرا هو کونه بحيث يهتدي به الناس إلى سعادتهم وينجون من ظلمات الشقاء والضلالة... وقول بعضهم: إن المراد بالسراج المنير القرآن والتقدير ذا سراج منير تكلف من غير موجب»(4) ، فصورة النبي الكرم صلى الله عليه وآله وسلم هي الصورة التي أسْرِجَت فكانت زاهرة في الليل والنهار كما أن الشمس سراج النهار، والهدى سراج المؤمنين(5) ، إلا أن النبي الأكرم سراج الأولين والآخرين وهذا السراج ليس بطيء النور وليس محدودا ؛ لأن التشبيه أراد للصورة النبوية السعة والشمول بأقصی مدیا تها كما هو معلوم من نوعه (التشبيه البليغ)؛ لأن الأسلوب لم يذكر الأداة ووجه الشبه مما حقق تأكيدا ومبالغة في تقريب الصورة النبوية من السراج من جميع الجهات وهو معنى جاء به القرآن كما في قوله تعالى: «فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (ق/22)(6) ، فهو تشبيه ينبئ عن الشمول في الصفات بين البصر والحديد6، ولهذا لم يكتف بتشبيه النبي بالسراج مع شموله لدلالة واسعة، بل بين أن هذا السراج قد

ص: 211


1- المحيط في اللغة، إسماعيل بن عباد : ج2 : 90 (سرج )
2- تهذيب اللغة: ج 10: 583 (سرج )
3- ظ: لسان العرب: ج2 : 297 (سرج )
4- الميزان في تفسير القرآن : ج 16: 175
5- ظ: العين: ج 6: 53 (س رج)
6- ظ: أساليب البيان في القرآن، سيد جعفر الحسيني : 258

لمع ضوؤه وليس كبقية السرج في سرعتها بل بسرعة ناسبت بدلالتها التشبيهية صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وما قدمه. وأسلوب المبدع كان دقیقا في دقة تشبيهه ورسمه للصورة النبوية بما يشد المتلقي إليه لأنه اختار لفظة (لمع) ليوحي بسرعة ضوء هذا السراج ولو اختار غيرها لما حصل الكمال المرجو للصورة فمثلا لو قال: (سراج رأرأ ضوؤه) أي: لَمَحَ كلَمْح البَصَر، فهو مع مافيه من معنی لطيف إلا أنه في الدلالة دون اللَّمْع(1) ، فالأسلوب جاء بتشبيه قد حذفت منه أداة التشبيه ووجه الشبه ليعطي انطباعا في شعور المتلقي بتساوي صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم في العطاء التربوي مع السراج الذي لمع ضوؤه وأنها قد أشبهت هذا السراج في كل صفاتها المناسبة لمقام النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأن الصورة بتشبيهها ب- (السراج) قد تضمنت هذه الدلالات بما سمح به نوع التشبيه المختار من المبدع وهو أسلوب يفسح في خيال المتلقي التصور هذه الصفات جميعا، (2) وهنا سر من أسرار براعة المبدع التي عهدناها في أسلوبه الدقيق في تصوير النبي الأكرم، وقد ناسب هذا السراج أن يكون مضيئا لا منیرا، يقال: أضاءَ السّراجُ يُضِيء.(3) فالسراج مما يفيد أهل الأرض والأشياء المادية أكثر من المعنوية والنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم - مع فضله على جميع الخلق - انتفع به أهل الأرض بوصفه بشرا مثلهم وليس ملكا من الملائكة ( «وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي

ص: 212


1- ظ: العين: ج 2 : 182 (رأرأ )
2- ظ: أساليب البيان في القرآن: 258
3- ظ: تهذيب اللغة: ج 10: 582 - 583 (سرج )

الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا » [الإسراء 94، 95])، من ناحية الصورة الإنسانية الإلهية التي ينتفع بها الناس كان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم (سِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ وليس (نُورُهُ) لمناسبة المقام للسراج والضوء أعني الأرض والناس الذين أشرجت الصورة النبوية بين ظهرانيهم بضوئها اللامع لهدايتهم إلى الحق وطريق السعادة الدنيوية والأخروية، فلا يقبل من بعض المصادر قولهم عن الضوء والنور «الضاد والواو والهمزة أصلٌ صحيح، يدلُّ على نورٍ.»(1) «والنُّورُ الضياء والنور ضد الظلمة وفي المحكم النُّور الضَّوْءُ أَيًا كان وقيل هو شعاعه وسطوعه والجمع أنْوار»(2) وقيل: «الضياء أقوى من النور»(3) «وقيل : الضوء: أقوى من النور قاله الزمخشري ولذا شبه اللله هُداه بالنور دون الضَّوْءِ وإلا لما ضَلَّ أحدٌ وتبعه الطّيبي واستدلَّ بقوله تعالی (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا» [یونس /5]) وأنكره صاحبُ الَفلَك الدائر وسوَّى بينهما ابن السكيت وحقَّق في الكشف أن الضوءَ فَرْعُ النور وهو الشُّعاع المُنتشر وجزم القاضي زکریّا بترادُفِهما لغةً بحسب الوَضْعِ وأن الضوءَ أبلَغُ بحسب الاستعمال وقيل: الضوءُ لِما بالذات كالشمس والنار والنور لما بالعَرضَ والاكتساب من الغَيْر»(4) ، فكأن الله تعالی أراد الضلال للناس فجعل هداه نورا ولم يجعله ضياء ولعلنا سوف نحتج السر -

ص: 213


1- مقاييس اللغة : ج 3: 294 (ضوأ )
2- لسان العرب: ج 5: 240 (نور)
3- الكشاف: ج 2: 314
4- تاج العروس : ج 1: 164 (ض وأ )

على الله بذلك يوم القيامة ؟! وإلا «لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا » [ الرعد/31]» والمعلوم أن الله بيّن الرشد والغي وإرادته هي أن «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ » [البقرة/256]» ولا ندري كيف يستقيم هذا الادعاء مع قوله تعالى: «وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا » [الأعراف / 180] «فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى »[الإسراء / 110] و «معاني هذه الأسماء له تعالى حقيقة وعلى نحو الأصالة»(1) ووجود الله - تعالى - وهو إله كل شيء يهدي إلى اتصافه بجميع الصفات الكمالية(2) لا بما هو أقوى أو أفضل من الآخر، ونحن نجد أن (النور) من أسماء الله الحسني التي أمر أن يدعی بها وليس (الضياء) منها ؟! وهنا موطن البليغ والخبير بصنعة اللغة ودلالة مفرداتها الدقيقة، فلا يختلف اثنان أن المائة أكبر من العشرة لكن العشرة في معنی من المعاني قد تكون أقوى من المائة كما في العملات الورقية - مثلا - فكل منهما يؤدي قوته الدلالية في المقام المنشود ويستعمل وفقا لهذا من العارف بقيمة الأوراق النقدية، و كذا إرادة المتكلم البليغ العارف بأحكام اللغة في اختيار اللفظة (الضوء، والنور) وغيرها، ولعل هذا من قصور معاجمنا التي لا تذكر استعمالات المفردة في أمثلة كثيرة كما في المعاجم الأجنبية ك- (أو كسفورد) وغيرها. ولعل دور معاجمنا هو أن تجمع هذه الكلمات وتحصرها ولا توضح الأسلوب اللغوي ولا طرائق التعبير فيها سوى بعض الأمثلة التي لا تعطي الصورة كاملة لنظام اللغة، فيأتي المعنى الأسلوبي ليكشف عن المواطن المناسبة لاستعمال الكلمات في

ص: 214


1- الميزان : ج 8: 199
2- ظ: الميزان: ج 1: 9

النص والدلالة المحددة التي قصدها المبدع والصورة التي أراد إيصالها إلى المتلقي في هذا السياق أوذاك،(1) فقد يلاحظ الباحث أن استعمال الضوء والنور كذلك فجاء الضوء في الماديات وما ينتفع به ويهتدى به في الأرض، ومنها أن يستضيء الناس بسراج النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم بمشاورته في الأمور كلها فهو خير من يشاوره المسلمون، (2) وهو لقربه المادي منهم ناسب السراج وضوؤه أيضا، والنور لما ينتفع به أيضا إلا أنه في الغالب في السماء والمعنويات وهو أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم أظهر ما يمكن أن يكون أعلاما يهتدى بها دون لقاء مباشر به ومن غير سؤاله واستشارته بل من البعد يمكن أن يهتدي بها في سبيل الله كل من تاه في ظلمة الحيرة والشبهات، (3) ومنها نحن ومن قبلنا ومن بعدنا ممن لم ير سراج النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ليستضيء منه، وأنقذنا الله بنوره من الظلمات فكان كالشهاب في الظلام و كونه علما يهدی به بحسب المقام والزمان، وهذا هو الإمتاع الدلالي في الأسلوب في دقة اختيار المعني وصدقه الذي يمنح المتلقي إقناعا بما يسمع ويقرأ ويزداد تأثرا به لما فيه من الإفهام الذي يقبله ذهن المتلقي فيكون حجة عليه سواء من اهتدى وعمل واتقى أم من ضل مأخوذا للعزة بالأثم.

فكان المبدع مثيرا للمتلقي في دلالة التشبيه المتسلسلة الدقيقة الواعية لدقائق

ص: 215


1- ظ: منهج التحليل اللغوي في النقد الأدبي، د. سمير شريف ستيتية، مجلة آداب المستنصرية، ع16، 245:1988
2- ظ القاموس المحيط، الفيروز آبادي: 56 (الضَّوءُ)
3- ظ: شرح نهج البلاغة ابن ميثم البحراني: م1: 506

اللغة ومما دل على هذا الإمتاع في هذه الدلالة أن المبدع في نصوص أخرى من النصوص التي تصور النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم استعمل السطوع مع النور والضياء مع اللمع بما يشبه التفسير لهذا التشبيه «أشهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسولُهُ - أرسَلَهُ بِالدّینِ المَشهورِ وَالعَلَمِ المَأثورِ - وَالْکِتَابِ الْمَسْطُورِ، وَالنُّورِ السّاطِعِ - وَالضِّیاءِ اللاَّمِعِ وَالْأَمْرِ الصّادِعِ» (1) ففي هذا النص «إشارة إلى تعظيم الرسول صلى الله عليه و آله وسلم بما جاء به»(2) . ونرى الإمام عليه السلام يفهمنا بأسلوبه الراسم للصورة النبوية أن الله أرسل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وبرفقته ومعيته دین مشهور وعلم مأثور و کتاب مسطور وكذا نور وضياء وأمر صادع وليست لمعنى واحد كما في الضياء والنور المذكورين في التشبيه المصور للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وهي مما أكرم الله - تعالى - بها نبيه فالنور أمر ذاتي في الرسول وكذا الضياء وهي أمور معنوية منحها الله للنبي الأكرم صلی الله عليه و آله و سلم كما نقول (إن لفلان هيبة أو إجلالا.. وغيرها) «يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» [التحريم /8] (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ » [الحديد/12] « قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ » [المائدة/15]) فالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بما أعطاه الله تعالى من نور وضياء وبريق هو سراج وشهاب وزند بما يتطلبه المقام ويناسبه المعنی بما لا ينقص من صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم العليا امید

ص: 216


1- نهج البلاغة : 2
2- شرح نهج البلاغة ابن ميثم البحراني: م 1: 165

شيئا مثلما أن الشمس والقمر يعبر عنها بالضياء والنور بحسب المقام وما يناسبه من المعنى وليس مقبولا كل القبول ما قيل من أن الشمس لقوتها سمیت ضياء والقمر الضعفه سمي نورا(1) ، ولعلنا بتأمل ما يكون الرأي لدينا أن دلالة النور أقوى من الضياء فقول أمير المؤمنين عليه السلام «وبنور وجهك الذي أضاء له كل شي»(2)

«والنور هي الأحكام الإلهية والقيم الأخلاقية والحقائق الاعتقادية التي تضيء للإنسان طريقه إلى الله تبارك وتعالی... ومن هنا يمكن أن ندرك أن المراد من النور هو ذات الكمال والصفات والأسماء الحسنى للحق تعالی شأنه. ومن خلال ما ورد في الآيات الكريمة ومعارف أهل البيت عليه السلام يمكن القول أن نور وجه الله عز وجل هي الحقائق الإلهية والكمال. وأما مفردة النور فلأنها تشتمل على جميع الصفات العليا والأسماء الحسني وهي عين ذاته تبارك وتعالی»(3) ، بل أرجح الظن أنها بحسب المقام كما في قوله عليه السلام: «فاجعل اللهم صباحي هذا نازلاً عليّ بضياء الهدی... وجعلت الشمس والقمر للبرية سراجاً وهاجاً من غير أن تمارس في ما ابتدأت به لغوباً ولا علاجا»(4) ففي هذا النص استعمال الضياء في الأرض وما ينفع الناس مع أنه آت من العلو - لقوله نازل - وعد الشمس والقمر كليهما سراجا لأنه يستعمل في البرية فكيف يكون كل من الشمس والقمر سراجا والمفروض أن احدهما أقوى من الآخر؟ وأمير المؤمنين علي عليه السلام هو المصاحب

ص: 217


1- ظ: الكشاف: ج2 : 314
2- مفاتيح الجنان، الشيخ عباس القمي: 96
3- شرح دعاء كميل، الأستاذ حسين أنصاريان، ترجمة كمال السيد : 101 - 102
4- موسوعة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري (دعاء الصباح لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام): ج 308:9

للقرآن « إنَّ الْکِتابَ لَمَعی ما فارَقْتُهُ مُذْ صَحِبْتُهُ فَلَقَدْ کُنَّا مَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله عليه وآله وسلم...» (1) فهل أمير المؤمنين عليه السلام لا يعلم أن الشمس أقوى من القمر !؟. أم أن دلالة الضياء والنور قد اشتبهت عليه!؟. وقد يشتبه الأمر على بعضهم من حيث لا يدري فاستعمال النور في مواضع متعددة لا يعني تحديد دلالته فقد يكون الله نور) و(القرآن نور) وغيرها نور بحسب ما يتطلبه المقام من معنی كما نقول (الله کریم) و(القرآن کریم) و (حاتم کریم) و(الشجرة كريمة) والكرم في الجميع صحيح ومختلف كل بحسب ما يتطلبه المقام المنظور إليه من باب أن «المورد لا يخصص الوارد»(2) .

والسراج مرة يكون منیرا و مرة وهاجا وغير ذلك كما أن الشهاب الذي هو «ما يرى في الجو كالكوكب المنقض»(3) يكون ثاقبا و مبینا ( فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ) [الحجر /18])، (فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [الصافات/10]) ومبين «ظاهر لأهل الأرض»(4) ، وسمي الشهاب ثاقبا لأنه لا يخطىء هدفه وغرضه.»(5) وقوله عليه السلام: «وَ أَضَاءَ اَلطَّرِیقَ لِلْخَابِطِ وَ هُدِیَتْ بِهِ اَلْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ اَلْفِتَنِ وَ اَلْآثَامِ وَ أَقَامَ بِمُوضِحَاتِ اَلْأَعْلاَمِ وَ نَیِّرَاتِ اَلْأَحْکَامِ»(6) استعمل الضوء للطريق والنور للأحكام

ص: 218


1- نهج البلاغة : 122
2- الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية محمد بن جمال الدين مكي العاملي: م 3، ج 6 : ص104 حاشية 6، وحقائق الأصول ، السيد محسن الحكيم: ج2 : 412
3- الميزان : ج 17 : 63
4- مجمع البيان: ج6 : 93
5- الميزان : ج 17 : 63
6- نهج البلاغة : 72

لأنها معنوية، وهنا دليل على أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم في جانب من صورته هو نفسه يضيء (أَضَاءَ اَلطَّرِیقَ) وفي جانب هو نفسه نور «أَرْسَلَهُ عَلَی حِینِ فَتْرَهٍ مِنَ اَلرُّسُلِ - وطُولِ هَجْعَهٍ مِنَ الْأُمَمِ وَاعْتِزَامٍ مِنَ الْفِتَنِ - وَانْتِشَارٍ مِنَ الْأُمُورِ - وَتَلَظٍّ مِنَ الْحُرُوبِ ، وَالدُّنْیَا کَاسِفَهُ النُّورِ»(1) فكان النبي الأكرم صلی الله عليه و آله وسلم هو نورها «وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ - دَعَا إِلَی طَاعَتِهِ وقَاهَرَ أَعْدَاءَهُ جِهَاداً عَنْ دِینِهِ - لَایَثْنِیهِ عَنْ ذلِکَ اجْتِمَاعٌ عَلَی تَکْذِیبِهِ - والْتِمَاسٌ لإِطْفَاءِ نُورِهِ»(2) أي النور الذي ابتعثه الله تعالی به فقد «ابْتَعَثَهُ بِالنُّورِ الْمُضِىءِ - وَالْبُرهَانِ الْجَليِّ - وَالْمِنْهَاجِ الْبَادِي وَالْكِتَابِ الْهَادِي»(3) «وهو نور النبوة»(4) فقد قيل: أن النور «دنيوي وأخروي، والدنيوي ضربان: معقول بعين البصيرة، وهو ما انتشر من الأنوار الآلهية كنور العقل ونور القرآن. ومنه: «قد جاءكم من الله نور» ومحسوس بعين التبصر وهو ما انتشر من الاجسام النيرة، كالقمرين والنجوم النيرات، ومنه: «هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا». ومن النور الاخروي قوله تعالى: «يسعی نورهم بين أيديهم»(5) وقد يكون النور الذي شبه به النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم هو النور الأخروي وإن كان في الدنيا لأن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم هو سيد الدنيا والآخرة بما لا يغيّر شيئا من

ص: 219


1- نهج البلاغة : 89
2- نهج البلاغة : 190
3- نهج البلاغة: 161
4- شرح نهج البلاغة السيد عباس الموسوي: ج 3: 50
5- الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري: 333

صورته العليا، والشهاب تشبیه ناظر لصورته يوم جاء «وَ اَلدُّنْیَا کَاسِفَهُ اَلنُّورِ»(1) لأن الكسوف شيء سماوي و كذا الشهاب والنبي أزال هذا الكسوف بصورته النورية وسط الظلام والسواد الحالك وهو ما يتواشج مع أصل دلالة الشهاب، (2) أي أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم هو البياض وسط سواد الأمة التي ذكرنا حالها من الجهل بالأحكام والشرع وضربنا مثل السواد والبياض(3) من الحال آنذاك كما أن القمر نور وانتفاع الناس به في وسط سواد الليل فالتشابه بالمقام وحد اللفظ لتشابه الدلالة واختلاف الجانب المنظور له من صورة النبي الأكرم جعله المعنى الأسلوبي في التشبيه مرة سراجا مضيئا وأخرى شهابا منیرا.

وجاء الأسلوب بإمتاع المتلقي بطريقة النزول من القمة إلى القاعدة حيث التقوى هي القمة (إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاکُمْ [الحجرات /13]) وهي خير الزاد وهي ما يرتجي من أولي الألباب (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ » [البقرة/197]) وأساسها أن يهتدي إليها البصير ومن لديه بصيرة فكان النبي الأكرم صلی الله عليه و آله وسلم بصيرة من اهتدى والهداية تحتاج المقدمات وأقربها الأرضية والمادية فكانت صورة النبي الأكرم هي السراج الذي أضاء بلمعان مميز لأهل الأرض في كل وقت و كان من السماء مداده وعونه بما سطع من نور في الجانب الشهابِيّ من صورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرغم من الظلام

ص: 220


1- نهج البلاغة : 89
2- ظ: مقاييس اللغة : ج 3: 171
3- ظ: الفصل الأول: 24

الفكري فاجتمعت هذه القمة بعد أساس لابد منه لهذه الوسائل الهادية وهو الزند إذ يستمد البرق من السماء ولمعه في الأرض الهداية و تشبيه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم بالزند لعله يعني أنه أعطى قبسا لمن يريد البدء في الأساس في بناء البانين بناء التقوى «وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى » [طه/9، 10] فالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم هدى لكل الناس ولمن أراد أن يقتبس من بَرْقِ زنده يحصل على ما يريد دون أن يفرق بين أحد من الناس وهو من «أَوْرَی قَبَسَ اَلْقَابِسِ - وَ أَضَاءَ اَلطَّرِیقَ لِلْخَابِطِ - وَ هُدِیَتْ بِهِ اَلْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ اَلْفِتَنِ وَ اَلْآثَامِ»(1)، وكان في أول دعوته يهدي بلمع زنده سرا « حَتَّی أَوْرَی قَبَساً لِقَابِسٍ - وَ أَنَارَ عَلَماً لِحَابِسٍ»(2) ، فالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم أعطى «الهداية لكل من ينشدها تماما كالقرآن الكريم الذي وصفه سبحانه بأنه ( «ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة/2]) أي لمن أراد أن يتقي الله حقا وصدقا، أما المكابر المعاند فلا ينتفع بواعظ وواعظة»(3) ، فمثل قاعدة القمة التي منها ينطلق المتقون وبغيرها لم ولن يصلوا، فهو كله خير وهذا المعنى يناسبه أنه (زَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ) لأن الآخذ منه ليس على الدوام يحتاج صورة النبي کزند فإن من يريد الإضاءة وإشعال النار لأغراضه يحتاج الزند في أول أمره، و كذا من حافظ على هذا القبس من لَمْعِ الزند

ص: 221


1- نهج البلاغة : 72
2- نهج البلاغة: 106
3- في ظلال نهج البلاغة: ج2 : 123

الذي برق له يمشي في طريق التقوى. وهكذا يبقي المبدع عنصر المفاجأة واللطف الدلالي سيدا في تشبيهه البليغ ويغلق بأسلوبه البياني طريق التصور من كون الواصل من المهتدين إلى القمة (التقوی) وأصبح من المتقين لم يكن ليصل إلا عن طريق النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم الذي كان بحق إماما للمتقين مبتدأ بهدايته للناس من الزند، فأي صورة عظيمة ودقة في المعنى نلمسها في الأسلوب وهو أسلوب مليء بالامتاع وإقناع المتلقي بما هو من واقعه الملموس تمثيلا وواقعا لعهد قريب، ولعل في الترتيب الأسلوبي النزولي من القمة إلى القاعدة انزياحا عن مألوف التدرج في الصعود في الدلالة وهو عامل يعطي الأسلوب تشويقا وانصرافا في تدبر المعنى وتمعنا في الدلالة لكل متلق يعي لغة النص ودلالة ألفاظها البليغة، فبعد قَدْحِ الزند لمن أراد الهداية لا من أراده النبي أو أحبه ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ » [القصص /56]) فصورة النبي العامة أنه يؤدي دور الهداية في كل صورها وبكل ما أعطاه الله - تعالى - من زند ونور وضياء و کتاب و ...، والقاصد للهداية حقا بعد الزند يكون مستضيئا بنور الشهاب الساطع لأن «النور الضوء المنتشر الذي يعين على الابصار.»(1) إلى أن يصل إلى ضياء السراج اللامع وهو التنقل في جوانب صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ليجعل هذا الضوء بصيرة له ليهتدي به وهو صورة من صور النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم إلى أن يصبح في درجة التقوى أي في قمة العطاء العبادي الذي أراده الله تعالى من عباده ویکون

ص: 222


1- المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني: 663 (نور)

النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم في كل جوانب صورته التي جاء بها التشبيه البليغ إماما لكل من وصل إلى التقوى، فكان التشبيه قد أعطى صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم لمناسبة السراج لمن استمر على هديه في الأرض ومن أراد السبل السماوية يجد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم شهابا ساطع النور اليهتدي به إلى ما يشاء فهو الخير في الأرض والسماء ولكل الناس بل الخلق أجمعين، وبهذا التسلسل الهرمي الرائع كان الأسلوب يتدرج بذهن المتلقي دون شعور ویستهویه لاستكمال جوانب الصورة التي ما جاء هذا التشبيه إلا مشعلا في طریق نصها التصويري البليغ إذ يأتي تفصيلها البياني «... سِیرَتُهُ اَلْقَصْدُ - وَ سُنَّتُهُ اَلرُّشْدُ وَ کَلاَمُهُ اَلْفَصْلُ وَ حُکْمُهُ اَلْعَدْلُ...»(1) والتقوى أقصى ما يريده الله تعالى من حجاج بيته الحرام بعد كل الأعمال وتقديم الأضاحي التي ( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُم [الحج/37) والله - تعالى - ( وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ [المدثر/56]) والنبي الأكرم إمام المتقين ولا يمكن للتقوى أن تنال بیسر وقد نالها النبي الأكرم وصار إماما لها، والهداية التي لا يلقاها كل أحد ولا يبصرها بعضهم صار النبي بصيرة لمن اهتدى إليها فهو بصيرة من اهتدى والمهتدي يحتاج السراج ثم نوره قد سطع التدر کهه البصيرة بعقلها بعد إثارة المتلقي عقليا بوساطة شهاب موصوف بسطوع نوره ولعل سؤالا في ذهن المتلقي أثاره الأسلوب وهو كيف أورى المهتدي ومن أي زند كان قبسه الأول لهذا الشهاب والسراج بما وصفا به؟ فيأتي الجواب كعادة

ص: 223


1- نهج البلاغة : 96

المبدع في حواره من طرف واحد و كونه هو السائل والمجيب وهو بسبب معرفة المبدع وقراءته العالية لذهن المتلقي فيتصرف فيه كما يشاء من الإقناع والإمتاع وإثارته بحسب ما يريد أن تتجه الدلالة في صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم فيتحقق الحوار من طرف واحد والمبدع هو المجيب والسائل والقارئ فيجيبه بأن ذلك من زند برق لمعه فتكتمل حلقات السلسلة الأسلوبية الإمتاعية التي لم تربط دلالة التشبيه فحسب بل ربطت ذهن المتلقي مع كل حلقاتها، فضلا عن ربطها وتتميمها وتكاملها مع النصوص المتعلقة بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم .

ص: 224

المبحث الثاني: الصورة الاستعارية

«لا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إن الاستعارة هي من أدق أساليب البيان تعبيرا وارقها تأثيرا، وأجملها تصویرا، وأكملها تأدية للمعني» (1) ، فالصورة الاستعارية قد تتفق مع الصورة التي تأتي في التشبيه في مشاركة أمر لأمر في معنى لكن الصورة في الاستعارة تبني على التجوز باستعمال اللفظ في غير موضعه وهو ما يحتاج لدقة اختيار الدلالة ومناسبة الألفاظ للدلالات الجديدة ولا سيما في المواضع البيانية الهامة لأن في الاستعارة ما يكون غير ظاهر الاشتراك في التشبيه، وإذا استعملت الاستعارة في النصوص بقدر فإنها تعين على توضيح الفكرة وتعطي جلاء في الصورة غير ما نجده في التشبيه، فيشعر المتلقي في صورها أن المعنى مصور أمامه بقوة شديدة وتأثير عظيم عليه لما تتضمنه لاستعارة من دعوى الاتحاد بين الطرفين وهو ما يعطي متعة في النص المصوّر عموما، (2) وفي نصوص التصوير النبوي الخصوص النبي الأكرم في نفوس جميع الخلق كما جاء المبدع بنصوصه

ص: 225


1- أساليب البيان، أ. د. فضل حسن عباس: 306
2- ظ: البيان في ضوء أساليب القرآن الكريم، د. عبد الفتاح لاشين: 243 - 246

الاستعارية التصويرية وغيرها ليعطي الصورة النبوية الكريمة حيوية شاخصة ويجعلها متحركة من جديد على ساحة الدعوة والهداية إلى الله أمام عين المتلقي بعد فقدها شخصيا فيجعل المتلقي يعيش معها مرة أخرى لمن رأى شخصه ولمن لم يره كأنه معه يعيش، فيشعر المتلقي أن حبا من نوع خاص قد خالج شعوره لهذه الشخصية فيشعر أن الدين الذي تعلمه هو ما يدفعه لحبه «وهل الدين إلا الحب»(1) وكل ذلك بفضل براعة المبدع في أسلوب التصوير ومنه الاستعاري، إذ نجد «الاستعارة في الدرس البلاغي والدرس الألسني الأسلوبي تعد أرقى أشكال المجاز لاقترانها بصور العدول والانزياح في استعمال المفردات والتراكيب والاستعارة انزياح استبدالي»(2) أي أن «الكلمة المستعارة أبدلت من أخرى بسبب المشابهة أو التناسب»(3) والاستعارة من أكثر الوسائل الأسلوبية رواجا في كلام البشر والإنتاج الأدبي فهي تحسن المعنی فتنقله من معنى التجريد إلى الدائرة الحسية الحية أو العكس،(4) وربما لم تعد الاستعارة حكرا على شعر الفحول بل تناقلتها ألسنة العامة في تعابیر استعارية وتوسعت مدياتها لتشمل الاستعارة التصويرية وتدخل في تأثيراتها الجميلة الدراسات الأدبية والثقافية على حد سواء،

ص: 226


1- بحار الأنوار: ج 27 : 95، والحديث عن بريد بن معاوية العجلي قال : كنت عند أبي جعفر عليه السلام إذ دخل عليه قادم من خراسان ماشيا فأخرج رجليه وقد تغلفتا وقال: أما والله ما جاء بي من حيث جئت إلا حبكم أهل البيت، فقال أبو جعفر عليه السلام: والله لو أحبنا حجر حشره الله معنا، وهل الدين إلا الحب ؟ إن الله يقول : (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) وقال : (فيحبون من هاجر إليهم) وهل الدين إلا الحب (بحار الأنوار: ج 95:27 ))
2- بنية اللغة الشعرية، جان کوهن: 110
3- نظرية المعنى في النقد العربي، د. مصطفى ناصف: 84
4- ظ: أسلوب علي ابن أبي طالب في خطبة الحربية، د. علي أحمد عمران: 157

(1) وفوق هذا نجد الاستعارة «لون من ألوان التصوير في القرآن وهي من الأدوات المفضلة لديه»(2) و«إن أظهر أثر للقرآن في كلام الإمام علي عليه السلام هو كثرة اشتقاقات الصور الاستعارية المبنية على الأصل القرآني و توليد مزيد من الإضافات بحسب موقفه الفني»(3)، مع ملاحظة حرص المبدع على إيحائها بقوة ثباتها في ذهن المبدع الذي يسعى لإشراك المتلقي معه في الرابط القرآني وقدسيته المؤثرة في الشعور، (4) فاختار المبدع من شجرة الاستعارة ما يُظْهِر به صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم كما أظهره الله - تعالى - فقد «إِخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَهِ الأَنْبِیَاءِ - وَمِشْکَاهِ الضِّیَاءِ وَذُؤَابَهِ الْعَلْیَاءِ - وَسُرَّهِ الْبَطْحَاءِ وَمَصَابِیحِ الظُّلْمَهِ - وَیَنَابِیعِ الْحِکْمَهِ... طَبیبٌ دَوّارٌ بِطِبِّهِ قَد أحکَمَ مَراهِمَهُ - وأحمی مَواسِمَهُ یَضَعُ ذلِکَ حَیثُ الحاجَهُ إلَیهِ - مِن قُلوبٍ عُمیٍ وآذانٍ صُمٍّ - وألسِنَهٍ بُکمٍ - مُتَتبِّعٌ بِدَوائِهِ مَواضِعَ الغَفلَهِ - ومَواطِنَ الحَیرَهِ لَم یَستَضیؤوا بِأضواءِ الحِکمَهِ - ولَم یَقدَحوا بِزِنادِ العُلومِ الثَّاقِبَهِ، فَهُم فی ذلِکَ کَالأنعامِ السَّائِمَهِ - وَالصُّخورِ القاسِیَهِ»(5) .

صورة استعارية یُرْسَمُ فيها النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وكأنه شاخص أمام المتلقي ينظر إليه وهو يعالج مرضاه في مختلف الأماكن الجسدية

ص: 227


1- ظ: الزنبقة الصوفية في جادة النقد، سمير الشيخ: 7
2- التعبير الفني في القرآن، بكري شيخ أمين: 202
3- الأثر القرآني في نهج البلاغة: 220
4- ظ: الأثر القرآني في نهج البلاغة: 220
5- نهج البلاغة : 108

والأرضية فهو دوار بطبه وهذا مما أثار به المبدع المتلقي الذي أوقفته المفاجأة في التفكر قليلا كيف هو طبيب ويدور بطبه؟ لتأتي الاستعارة الأخرى وتزيد من عنصر الإثارة بتأكيدها بما فيها من صفات تناسب الادعاء (طَبِیبٌ) إذ (أَحْکَمَ مَرَاهِمَهُ - وَأَحْمَی مَوَاسِمَهُ) ليزداد المتلقي إثارة وحيرة في وجه الصلة، وبما أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم طبيب النفوس فالمبدع طبيب في البيان فأحكم مراهم الجواب وأحمي مواسم الأسلوب ليقنع المتلقي بأن الصورة حقا هكذا والربط زاد الإقناع لدى المتلقي فقد تواشجت استعارة ال(دَوَّارٌ) مع استعارة ال-(مَتَتَبِّعٌ) «وذكر الدوار ترشيح للاستعارة، ووصفه به إشارة إلى كماله لأن الدوار أكثر تجربة وحذاقة من غيره، ورشحها أيضا بقوله (قد أحكم مراهمه) أي أتقنها ومنعها من الفساد، وبقوله (وأحمی مواسمه) أي أسخنها و هيّأها ليكوى بها.»(1)

وأن صورة هذا الطبيب ذي المراهم المحكمة والمواسم الحامية التي يضعها حيث الحاجة ولكن (مِنْ قُلُوبِ عُمْی وَأذَانٍ صُمًّ - وَأَلْسِنَهٍ بُکْمٍ) قد جسم المبدع بها صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم بجوانبها المعنوية الخفية وأشخصها للمتلقي؛ لأن مداواة القلوب والحيرة غير بادية لعيان المتلقي ولكن هذا بفضل ما استعاره لها من ألفاظ، يخرج من صدفتها الواحدة عددٌ من الدرر، (2) وقد قيل في صورة التجسيم عند التعامل مع النص الأدبي: تتقصى الصورة البيانية والقيم الجمالية في تجسيد الجزء بدل الكل، إذ جاء المبدع على ذكر القلب في

ص: 228


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة : ج 7: 284
2- ظ: أسرار البلاغة : 33

أول الجوارح التي يعالجها هذا الطبيب ليمتع المتلقي بنيابة القلب عن الإنسان بكامل أعضائه وما يظهر من هذا الأسلوب في التعبير عن المعرفة وأنها من الدواء العلاج الإنسان وذلك في التعرف على حقائق الأمور العقلية مجسمة وشاخصة أمام المتلقي فأحدث المبدع انزياحا عن المعهود الذهني في التصوير. ولعل هذا ما يراه الدرس اللساني والاتجاه الوظيفي في جانب منه في الخرق القصدي لمعايير اللغة وسننها، (1) فالصورة البلاغية توحي للمتلقي بكثير من المعاني لاعتمادها التصوير الاستعاري القادر على التجسيم لكل ما هو معنوي، والانتقال من المعاني الحرفية اللغوية للمفردات إلى المعاني المجازية وبفضل هذا التجسيم حدث الانزياح، وهو أفضل حالات التصوير الفني في الإبداع، ومن خلاله تنتقل المفردات من معانيها الحقيقية إلى معانيها المجازية الجديدة لتعطي معنى جديدة ودلالة جديدة الصور ذهنية تدرك من خلال التصور المادي للحواس(2) ، فكأنه قد جسّم (أَضْوَاءِ الْحِكْمَةِ) على أنها مراهم محكمة - (أَحْکَمَ مَرَاهِمَهُ) - وأشخص (الْعُلُومِ الثَّاقِبَةِ) على أنها مواسم حامية - (وَ أَحْمَی مَوَاسِمَهُ) ، وأخرجها من عالم المعنويات إلى عالم الوجود المادي، وكأنّ القلب إنسان عليل مصاب بالعمى يحتاج إلى عملية جراحية يؤديها طبیب حاذق فتوضع له المراهم وهي أضواء حكمة ليبصر بها و كذا الآذان الصُم والألسنة البكم، وحين تصور المعاني بهيأة الأشخاص تكون أثبتْ في الأذهان لمقدرة المتلقي الاستعانة بحواسه في تصورّها،

ص: 229


1- ظ: الزنبقة الصوفية في جادة النقد، : 69
2- ظ: الصورة الفنية في كلام الإمام علي (بحث)، د. خالد محمد محيي الدين البرادعي، مجلة المنهاج، ع (5)، السنة الثانية - 1997م: 165

وكأن الأسلوب يريد تمكن المعنى في نفس المتلقي لا عن طريق الوضوح والإقناع فحسب بل عن طريق التأثير، فهذه الاستعارات تترك في النفس انطباعا جميلا فيه من الإبهام ما يتر که منظر من الوجود الرائع في نفس المتلقي، فنرى في هذه الصورة من الأثر ما يعلق في نفس المتلقي فيترك متعة غامضة لا سبيل التفسيرها وتعليلها، فالصورة هنا فيها مناجاة للنفس ومحاورة للضمير قد أثرت في نفس المتلقي تأثيرا مصحوبا بالمتعة، (1) ومن المتعارف عليه عند البلاغيين والنقاد ارتباط آليتي أسلوب التجسيم والتشخيص بفن الأستعارة. (2) واستنفد المبدع هنا طاقتها اللغوية والدلالية ليرسم صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم بأجمل تصوير يصل إلى أقصى البعد الدلالي في اللفظ للجانب المصور فيه، ولا سيما إذا علمنا أن (طبيب دوّار بطبّه) «يعني الطبيب الحاذق الذي لا يقتصر على علاج مریض واحد واستعمال دواء مخصوص، بل يعالج كلّ مريض بعلاج يليق به، ويستعمل في كلّ داء دواء يختص به، فالنبي الأكرم - صلى الله عليه و آله - كان يكلم الناس على قدر عقولهم وبحسب أمزجتهم»(3) فخلع المبدع صفات إنسانية على معان معنوية تشخيصا لها ليسهل على المتلقي تصورها(4) ، فهنا حالة من «إسباغ الحياة الإنسانية على ما لا حياة له، كالأشياء الجامدة والكائنات المادية

ص: 230


1- ظ: النظرية الرومانتيكية سيرة أدبية، كولردج: 444
2- ظ: الصورة الفنية في كلام الإمام علي (بحث)، د. خالد محمد محيي الدين البرادعي، مجلة المنهاج، ع (5)، السنة الثانية - 1997م: 165
3- أعلام نهج البلاغة: 109
4- ظ: النقد الأدبي، سيد قطب: 61، ومعجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، سعيد علوش : 126

غير الحية»(1) ، وهذا هو التشخيص، «وفي نهج البلاغة ميل على فن التشخيص الاستعاري يعد من أروع تجليات التأثير القرآني في أدب الإمام علي عليه السلام»(2) ولذا فإن أسلوب المبدع كما عهدناه لا يخلو من الاستعانة بالصاحب وعلى الخصوص ممن صاحبه صحبة لا فراق فيها - كما مر ذكره - أعني القرآن الكريم فنجد قوله تعالى: ( لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام/103)، «فانّ اللّطيف يناسب كونه غير مدرك بالأبصار، والخبير يناسب كونه مدركا للأشياء، لأنّ مدرك الشّيء يكون خبيرا به»(3) ، وهذه المناسبة في الدلالة نلمسها في الاستعارة لصورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ، «فانّ قوله عليه السلام: متتبع بدوائه، يناسب قوله: دوّار بطبّه، وقوله: مواضع الغفلة ومواطن الحيرة، يناسب قوله: من قلوب عمی و آذان صمّ»(4) .

وأغلب الظن أن المبدع استعمل التصوير الاستعاري أكثر من غيره من أساليب البيان أن الاستعارة ولاسيما في القرآن الكريم قد تحدت المفهوم الحقيقي للكلمات في أصل اللغة، وبذلك بلغت الاستعارة في القرآن الكريم مرتبة الإعجاز وفاقت المستوى الحضاري للكلمات في ذروة تطورها وعطائها عند العرب»(5) وفاق بمعونتها المبدع المستوى الحضاري لكلمات المخلوقين بعد النبي الأكرم صلی

ص: 231


1- المعجم الأدبي، جبور عبد النور: 67
2- الأثر القرآني في نهج البلاغة: 236
3- منهاج البراعة شرح نهج البلاغة : ج 1: 128، وينظر: الميزان: ج 7: 161
4- منهاج البراعة شرح نهج البلاغة: ج 1: 128
5- أصول البيان العربي، د. محمد حسين الصغير: 96

الله عليه وآله وسلم في نهج البلاغة الله عليه و آله وسلم إلى يومنا هذا، وهكذا نرى الأسلوب يتنقل بالمتلقي من الاختيار المعجمي (طبیب) وما تلاها من استعارات تناسب دلالتها المرجوة في رسم الصورة - صورة طبيب - واقترانها بلفظ (الواعظ) دلاليا في التركيب من كون النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم هو الواعظ للأمة والوعظ والإرشاد يخلص الإنسان من عمى القلب والغفلة والحيرة كما يخلص الطبيب الإنسان من الأمراض الجسدية - إذا اتبع نصائحه كما ينبغي - فكانت هذه الاستعارة التي بمفارقتها الدلالية وعدم الانسجام العقلي قد أثارت لدى المتلقي شعورا بالدهشة والطرافة بما أحدثته من مفاجأة كون الطبيب دوارا بطبه مخالفة بذلك الاختيار المنطقي لتوقع المتلقي في كل زمان؛ لأنها نقلت خواص لفظ (الطبيب) المتعارف عليه عند المتلقي إلى عنصر آخر هو لفظ الواعظ أو المرشد أو الرسول وأثبتت له هذه الخواص في التركيب الجديد(1) ، ولعل في تحريك فكر المتلقي وانتقاء الألفاظ والأسلوب اللغوي لاستعارة المبدع ما يقترب من النظرية المعاصرة للاستعارة القاضية بأن الاستعارة في أساسها تصورية وأنها جزء من نظام التفكير واللغة(2) ، فهي تكشف عن نظام ضخم من الاستعارات الفكرية أو التصورية التقليدية اليومية»(3) ، وقد زاد من متعة المتلقي استعارة أدوات الطبيب المتعارفة في ذهن المتلقي لوسائل الطبيب الجديد (الواعظ أو ...) من الحكمة والموعظة الحسنة، فكما توضع المراهم والمواسم الحامية في الموضع الذي يحتاجه

ص: 232


1- ظ: التشبيه والاستعارة منظور مستأنف، أ.د يوسف أبو العدوس: 139
2- ظ: الزنبقة الصوفية في جادة النقد: 73
3- المصدر السابق: 76

المريض كل حسب حاجته وذلك في خواص الطبيب المتعارفة كذلك يضع هذا الطبيب بالخواص الجديدة التي جاءت بها الاستعارة من حكمة وموعظة حسنة كل حسب قدرته العقلية واستيعابه وموضع الضعف الذهني لديه، والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو أولى من يكلم الناس على قدر عقولهم وأن الطبيب المختص هو الأولى بعلاج المرض الذي هو من اختصاصه، وقد زاد في الاستعارة فضل الطبيب الجديد في التركيب بزيادة خواصه على الطبيب المتعارف الذي يختص بجانب دون غيره ويؤتى في مكانه بأن الطبيب الجديد يعالج كل أمراض الجهل والغفلة والضلالة ويخرج مرضاه من الظلمات إلى النور، وهو يدور عليهم في أماكنهم بل وأزمانهم أيضا إلى يومنا هذا، وهو ما حوّل الإثارة لدى المتلقي إلى تأثر وإقناع تام مصحوبٍ بالمتعة ؛ لأن المبدع جاء بما هو معلوم لديه عن قرب وعلم ودراية تامة، ولعله يمثل صورة امتدادية لهذه الصورة النبوية التي يرسمها للمتلقي، ليمتعه بالقيمة التشخيصية وخلق قيم مادية من أخرى معنوية، (1) وذلك بأسلوب أعاد صياغتها الواقعية للتأثير المستمر في شعور المتلقي وذلك بما استعاره لهذه الصورة وما احتوته من التشخيص الذي يعدّ «وسيلة إلى تنشيط الحواس وإلهابها»(2) .

فالمبدع هو امتداد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتلميذه الذي لا ثاني له في السير وتطبيق خطاه فقد «كان عليه السلام كطبيب دوّار لعلاج أمراض الأرواح. فكان يعظ من شهده شفاها، ومن غاب عنه كتابا، وكان عليه السلام يعظ

ص: 233


1- ظ: في الميزان الجديد ، محمد مندور: 100
2- التفسير النفسي للأدب، عز الدين اسماعيل: 70

الناس عموما وخصوصا ليلا ونهارا.»(1) وهو دليل صدق القول والفعل فيما جاء من استعارة تصويرية، و به يكمن سر الإقناع والقبول من المتلقي للصورة التي يرسمها في النص فتكون الاستعارة على سبيل الصدق العملي لأنها تملك مصداقا خارجيا لها على أرض الواقع، وهو جانب الإقناع في أسلوب هذه الاستعارة اللطيفة التي تابعها المبدع بتأكيدها والإصرار عليها فالطبيب في خواصه الجديدة الذي تم تحويل ذهن المتلقي إليه لم تذكر في التركيب و تترك دون قرائن بل هو محكمٌ لمراهمه ومواسمه يضعها حيث الحاجة وهو سير في الأسلوب مع الخواص المتعارفة في ذهن المتلقي سوى ما قدحه من زند المفاجأة بكونه (طبیب دوار) و كأنه يستدرج ذهن المتلقي بما هو معلوم لديه ليوصله إلى الفهم المطلوب وهو النهج المتعارف في المعرفة إذ الوصول إلى المجهول بوساطة المعلوم وهو الترتيب الذي جعل أجزاء الكلام بعضها آخذا بأعناق بعض فيقوي بذلك الارتباط»(2) ، فكان الفهم لدى المتلقي بما لا يحدث اعتراضا لديه وهو ما يعطي حالة القبول لقراءة النص أكثر من مرة ويجعله حيا أكثر من غيره لأنه يتجدد بتجدد العقل ويكون حياة للشعور لا يمل كما لا يمل الهواء والماء لأنه حياة الإنسان وإن تكرر يوميا.

ونجد لهذه الاستعارة ربطا مع غيرها في كونها استعارة أولا ووحدة الدلالة في الجميع كما هو في جميع النصوص التي تتحدث عن صورة النبي الأكرم

ص: 234


1- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة : ج 6: 155
2- البرهان في علوم القرآن: ج 1: 36، وينظر الترتيب والمتابعة (بحث في الأصول البلاغية والأبعاد الدلالية في القرآن الكريم)، د. أمير فاضل سعد : 5

صلى الله عليه و آله وسلم وهو ما يعطي جوانب عدة منها أن النهج ينبع من سراج واحد و الصورة لشخصية واحدة وصدق هذا الأسلوب في تراكيبه البيانية كلها من تشبيه واستعارة و كناية؛ لأنه يتحدث عن واقع خارجي لا خيال من نسج الوهم وبلغة يقر بها المتلقي وحفظها خالق الجميع فمن ذلك نجد المبدع في استعارة أخرى يكمل ويؤكد هذه الصورة: « أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وآله وسلم - يَحْسَرُ الْحَسَيرُ وَيَقِفُ الْكَسِيرُّ - فَيُقِيمُ عَلَيْهِ حَتَّى يُلْحِقَهُ غَايَتَهُ - إِلاَّ هَالِكاً لاَ خَيْرَ فِيهِ»(1) «والحسير المعيا... ومنه حسر البصر أي كل»(2) ، «يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ» [الملك / 4) «وهذا الكلام من باب الاستعارة يقول عليه السلام كان النبي صلى الله عليه و آله وسلم لحرصه على الإسلام وإشفاقه على المسلمين ورأفته بهم يلاحظ حال من تزلزل اعتقاده أوعرضت له شبهة أو حدث عنده ریب ولا يزال يوضح له ويرشده حتى يزيل ما خامر سره من وساوس الشيطان ويلحقه بالمخلصين من المؤمنين ولم يكن ليقصر في مراعاة أحد من المكلفين في هذا المعنى إلا من كان يعلم أنه لا خير فيه أصلا لعناده وإصراره على الباطل ومكابر ته للحق. ومعنى قوله (حَتَّی یُلْحِقَهُ غَایَتَهُ) حتى يوصله إلى الغاية التي هي الغرض بالتكليف يعني اعتقاد الحق وسكون النفس إلى الإسلام» (3) . حتى كأن الاستعارة في لفظ الطبيب هي صاحبة الخواص الأصلية في

ص: 235


1- نهج البلاغة: 104
2- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ج7: 115
3- المصدر السابق: ج 7: 115

النص وان لفظة الطبيب المستعارة وما تلاها من استعارات (أَحْكَمَ مَراهِمَهُ / وَأَحمَي مَواسِمَهُ / مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ / و آذَانٍ صُمٍّ / وَأَلسِنَةٍ بُكْمٍ) نقلها المبدع عن موضع استعمالها المتعارف والمعهود في ذهن المتلقي بدلالتها في أصل اللغة المستعملة إلى غير دلالتها لغرض رسم الصورة المناسبة للنبي الأكرم صلى الله علیه و آله وسلم بالقليل من اللفظ وهذا بوساطة الاستعارة المصيبة للواقع وهو ما أعطى زيادة في فائدة الاستعارة لبيان الصورة النبوية الشريفة فكان بذلك أبلغ وأحسن وأدخل في شعور المتلقي(1) ، لأنه ينقل الصورة بل يعرضها أمامه في نفسه كما هي في نفس المبدع، وهنا موضع من مواضع قوة التصوير اللغوي التي تحول الحدث الماضي والدلالة المعنوية إلى شخوص معهودة في الواقع الذهني للمتلقي و به يبقى النص شجرة تؤتي أكلها كل حين، وهو ما لا يتأتى لغير المبدع لأنه باختصار شديد سيد البلغاء والمتكلمين بعد خیر البشر أجمعين النبي الأكرم صلی الله عليه و آله و سلم .

وما يزيد من إبداع المبدع الدلالي في انتقاء مواطن الاستعارة بما يتوافق مع الحقيقة العلمية والقرآنية التي لا تنكر فالمتلقي المتبصر يرى أن قطب الرحى في الاستعارة هو القلب فقد جاء الطبيب ليداوي عمى القلب ولأن القلب هو الأساس الذي يرتكز عليه في الرضا والسخط ففي خطبة أخرى للمبدع استعار لفظة (القلب) نفسها إذ يقول «اسْتُعْمِلَتِ الْمَوَدَّهُ بِاللِّسَانِ - وَتَشَاجَرَ النَّاس بِالْقُلُوبِ»(2) ، فالأساس هو القلب وهو محط نظر الله - تعالى - فقد قال رسول الله

ص: 236


1- ظ: كتاب الصناعتين، أبو هلال العسكري: 240
2- نهج البلاغة : 108

صلى الله عليه و آله: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم»(1) فالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم بما عرف عنه من حب للناس جميعا سعى لتنقية القلوب لذا كانت واحدة من صوره صلى الله عليه وآله وسلم أنه «قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أَفْئِدَةُ الْأَبْرَارِ»(2) ومنها يمكن أن نشعر بحياة النبي الأكرم المستمرة بيننا بنبض قلبه المستمر ذلك النبض الذي يعطي الحياة لا لقلبه فحسب بل لجميع القلوب التي أصبح هو محورها؛ لأن القلب الذي يعالج القلوب لا يمكنه ذلك إن لم يكن هو سالما ونقيا بل هو إمام القلوب ومن هذا يمكن أن يشعر المتلقي أن في أسلوب المبدع ما يشير إلى الحياة التي أرادها الله لمن يموت في سبيله ولا يعد میتا بل حيا ففي الأسلوب ما يترجم هذه الحياة لواحد ممن ماتوا وهم أحياء وهو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم فأفئدة الأبرار موجودة في كل زمان والحكمة والعلوم النبوية تبصر القلوب في كل حين وهي منصرفة نحوه «على أنّ الصارف هو لطف الله وعنايته بهم بإلفات قلوبهم إلى محبّته والاستضاءة بأنوار هداه»(3) فمتى أنصف المرء ولمس حياة في قلبه وسمع موعظة أو حكمة من سيرة وأقوال النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم فقد عولج قلبه من الغفلة والجهل السابق لهما وبذلك يبقى طب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ومراهمه المحكمة ومواسمه المحماة مستمرة في الحياة متتبعة مواطن غفلة الإنسان في كل زمان و تبقى بهذا صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم

ص: 237


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - (ج 67 / ص 248)
2- نهج البلاغة: 96
3- شرح نهج البلاغة (ابن میثم)، ج 2، صفحة 401

مرسومة في ذهن المتلقي متجاوزة بأسلوب مبدعها وبما استعمله من استعارات الرسمها زمان الخطاب وباستمرارها برسم صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم الحية تستمر في إثارتها وشدها لشعور المتلقي وإمتاعه وإقناعه بتجدد دائم وكأنها نص قرآني.

ولأن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم سعى في هداية الناس الاستئصال الداء من مواطنه الرئيسة (القلب) فقد «دَفَنَ اللّه بِهِ الضَّغائِنَ - وَأطْفأَ بِهِ الثَّوائرَ أَلَّف بِه إخْواناً - وَفَرَّقَ بِهِ أقْراناً - أَعزَّ بِهِ الذّلة - وَأَذَلِّ بِهِ الْعِزَّة»(1) ، وهي صور استعارية من المبدع تعطي انطباعا لدى المتلقي أن ريشة الرسام واحدة والصور مع تعددها واحدة، وبما تحويه من حقائق أقنعت المتلقي وفهمها دلاليا ومن ثم أمتعته لكونها من مشاهده المعلومة والمحسوسة، فاستعار الدفن لما كان من الأحقاد ظاهرٌ على الأرض بوجوده و آثاره السلبية وجسمه بشخص مات ودفن فلن يعود أبدا وهو بسبب علاج الطبيب الذي داوي أصل الداء واقتلعه من جذوره التي محلها القلب فبتنقيته على يد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أصبحوا إخوانا وهذه صورة ليست بالهينة في انبهارها المتلقي فقد حولت الشيء إلى ضده ولاسيما إذا علمنا أنه «ما اجتمعت للعرب كلمة في يوم من الأيام إلا على عهد محمد صلى الله عليه و آله وسلم وبفضل الله وفضله»(2) ، ولعل مما دعا القرآن الكريم أن يعدها منة من الله على المسلمين تحققت بشخص النبي الأكرم صلی

ص: 238


1- نهج البلاغة : 96
2- في ظلال نهج البلاغة ج 2 صفحة 69

الله عليه وآله وسلم «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا» [آل عمران /103]).

فصفة الخلود في هذه النصوص من ناحية إمتاعها وإفهامها - فضلا عن قدرة المبدع البلاغية ودرايته اللغوية والمعجمية - كون القناعة في أسلوبها آتية من استنادها إلى كتاب الله في تصويرها للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وقناعة العقل بالقرآن لم تقتصر على فترة زمنية معينة فصلحت هذه النصوص للإقناع والإفهام والإمتاع محتوية بذلك الأزمان والأماكن والمتلقي بوساطة ما استندت عليه وما له من صفة الخلود المعروفة (القرآن) فكلما قرأها متلقٍ أثارت شعوره وأحاسيسه تجاه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وأعطته إحساسا عاطفيا بأن صاحب الصورة يعيش في عصره وهو يراه، وتعد شحنة العاطفة في الصورة من عوامل نجاحها(1) ، وليس من غرابة في هذا الإحساس العاطفي؛ لأن بعد الزمان ليس له أثر في نقل الشعور والأحاسيس تجاه أي معنى من المعاني فقد يكون الشخص معاصرا لنا ولم تتهيأ لنا رؤيته إلا أننا نشعر بقربه منا وحبنا له بسبب من يعرفه جيدا حين يحدثنا عنه، فنقل المعاني ورسمها بالألفاظ لا بالحضور ولعله واحد من أسرار البيان الذي علمه الخالق للإنسان، فعندما يقرأ المتلقي الصورة النبوية في نهج البلاغة يشعر أن النص كتب في عصره بما في هذه الصورة من حياة و تشخیص استعاري انطلق من الواقع الحق، مؤثرا أيما أثر في نفس المتلقي بتدرجه العقلي إذ إنه بعد دفن الضغائن التي تمثل الزند الذي يقدح نارا لتوري في

ص: 239


1- ظ: الصورة في شعر بشار بن برد ، د. عبد الفتاح صالح نافع: 79

النفوس ثوائر انطفأت نارها (الثوائر) فلم يعد من مانع للألفة بين المسلمين فألف الله بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم الأخوة بين القلوب التي عالجها طبُّه ولذا تفرقت عنها القلوب التي فيها مرض لأنها ازدادت مرضا يبغضها لرسالة الإسلام ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة/10])، أما من يحتاج علاج النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وطبه من الناس «فَیُقِیمُ عَلَیْهِ حَتَّی یُلْحِقَهُ غَایَتَهُ - إِلاَّ هَالِکاً لاَ خَیْرَ فِیهِ»(1) ، «فلا ينجع فيه الدواء، فيهلك»(2) ، فكان الأسلوب بتدرجه و استعاراته الواقعية التي تتسق وتتكامل وتتضح بمقارنتها مع نصوص المبدع الأخرى في تصوير النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان ككرة تتدحرج باتزان أمام المتلقي لتعرض أمامه مشاهد مختلفة في كل جانب يبرز منها أمامه وتبقى وحدة الشيء المصور ثابتة لا تعدد فيها بتعدد الجوانب المصورة بل تزداد تألقا و تکاملا كلما ظهر جانب منها فهي مبادئ وقيم عليا يحملها الفكر كقضية واحدة لا تجزؤ فيها، فالاستعارة قضية فكر أكثر من كونها قضية السان»(3) ولا يخل ذلك في كون الجوانب يحتاج كل منها لحاسة معينة «فالتصویر في الأدب تتعاون فيه كل الحواس و كل الملكات»(4). ف-«ما كان من أحقاد بین الناس فقد قضى عليها النبي ودفنها إلى الأبد وأنموذجا لذلك ما كان يقع بين الأوس والخزرج وما جرى بينهما من حروب و ثأر فلما جاء النبي وآمنوا به ماتت

ص: 240


1- نهج البلاغة : 104
2- نهج البلاغة، محمد عبده: 199(حاشية 1 )
3- ظ: الزنبقة الصوفية في جادة النقد،: 100
4- المجمل في فلسفة الفن : 24

تلك الأحقاد وطويت تلك الصفحة السوداء وما كان بين الناس من عداوة وحروب أتت على استقرارهم واشتعلت في حياتهم قد أطفأها الله ببركة النبي وجهاده و من ضرب بنظره إلى ما كان عليه الناس يوم بعثة رسول الله أدرك حقيقة هذا الكلام ووقف على وجه الحق وعرف فضل النبي وبرکاته.»(1) (فَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وآله وسلم - وَلَیْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ یَقْرَأُ کِتَاباً - وَلَا یَدَّعی نُبُوَّهً وَلَا وَحْیاً - فَقَاتَلَ بِمَنْ أَطَاعَهُ مَنْ عَصَاهُ - یَسُوقُهُم إلَی مَنْجَاتِهِمْ - وَیُبَادِرُ بِهِمُ السَّاعَهَ أَنْ تَنْزِلَ بِهِمْ - یَحْسِرُ الْحَسِیرُ وَیَقِفُ الْکَسِیرُ - فَیُقِیمُ عَلَیْهِ حَتَّی یُلْحِقَهُ غَایَتَهُ - إِلَّا هَالِکاً لَاخَیْرَ فِیهِ - حَتَّی أَرَاهُمْ مَنْجاتَهُمْ - وَبَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ - فَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمْ - وَاسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ - وَایمُ اللّهِ لَقَدْ کُنْتُ مِنْ سَاقَتِهَا - حَتَّی تَوَلَّتْ بِحَذَافِیرِهَا - وَاسْتَوْسَقَتْ فِی قِیَادِهَا - مَا ضَعُفْتُ وَلَا جَبُنْتُ - وَلَا خُنْتُ وَلَا وَهَنْتُ - وَایْمُ اللّهِ لأَبْقُرَنَّ الْبَاطِلَ - حَتَّی أُخْرِجَ الْحَقَّ مِنْ خَاصِرَتِهِ»(2) .

فالصورة هنا باستعاراتها المتعددة هي لبيان بركة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وفضله مع الاستدلال على حقيقة استعاراتها بأدلة واقعية بتكامل تصويري وترابط ترکيبي من أول النص إلى آخره، حتى ما تعلق منها في ظاهره بالمبدع من خلال تاء المتكلم وما عاد من الضمائر عليه (کُنْتُ مِنْ سَاقَتِهَا / مَا ضَعُفْتُ وَلَا جَبُنْتُ - وَلَا خُنْتُ وَلَا وَهَنْتُ/ لأَبْقُرَنَّ الْبَاطِلَ/ أُخْرِجَ الْحَقَّ)، كما


1- شرح نهج.. (السيد عباس ) ج 2 صفحة 138
2- نهج البلاغة : 104

سيأتي بيانه، فالحال التي ذكرها المبدع قبل بعثة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم جزء متمم للصورة وأهميتها ومكانة صاحبها العليا(1) ، فاستعار المبدع (یَسُوقُهُم إلَی مَنْجَاتِهِمْ) ربطا لها بالحال التي ذكرها قبل البعثة وأنهم كالإبل التي يسوقها قائدها وهي مرتبطة أيضا باستعارته (وَاسْتَوْسَقَتْ فِی قِیَادِهَا) «ملاحظة التشبيههم بالإبل المجتمعة لسائقها والمنتظمة في قياده لها»(2) ، وقد سبقت - آنفا - الإشارة إلى استعارة (یَحْسِرُ اَلْحَسِیرُ وَ یَقِفُ اَلْکَسِیرُ - فَیُقِیمُ عَلَیْهِ حَتَّی یُلْحِقَهُ غَایَتَهُ) وضرب المبدع (لَقَدْ کُنْتُ مِنْ سَاقَتِهَا - حَتَّی تَوَلَّتْ بِحَذَافِیرِهَا - وَاسْتَوْسَقَتْ فِی قِیَادِهَا - مَا ضَعُفْتُ وَلَا جَبُنْتُ - وَلَا خُنْتُ وَلَا وَهَنْتُ - وَایْمُ اللّهِ لأَبْقُرَنَّ الْبَاطِلَ - حَتَّی أُخْرِجَ الْحَقَّ مِنْ خَاصِرَتِه) مثلا ودليلا و تأكیدا دلاليا على صدق مدعاه و تثبيتا للصورة في ذهن المتلقي لينتقل بوساطتها شعوره إلى المتلقي الذي يسر له المبدع الذكر لعله يدَّكر ولو بعد أمة وذلك في أمثلته المحسوسة في حياته إلى يومنا هذا وعلى ما ما كانت عليه صورة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وحقيقته الواقعية التي لا يغيرها كون النص رسمها باستعارات بيانية، فصورة النبي الأكرم تزداد إشراقا و زهاءً في ألوانها ونصوعا في عظمة لوحتها من خلال ظلمة الحال التي كان العرب عليها وقتامة لون العيش الذي كانوا عليه وانحطاط نظامهم المعاشي و تفرقهم وهذه الحقائق كانت من

ص: 242


1- ولمعرفة الجواب عن كيفية كون العرب لم يقرأ أحد منهم كتابا ولم يدع نبوة ولا وحيا ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ج 7: 115، وغيره من شروحات النهج، ولعدم تعلقه بمحور البحث وأنه شبهة موضوعية لم نذكره طلبا للاختصار
2- شرح نهج البلاغة ابن ميثم البحراني: ج 3: 22

العوامل التي جعلت الأسلوب مثيرا لشعور المتلقي ومحفزا له أن ينظر بعين ضميره لما أصابه من تغير الحال على يد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم و كونها واقعا معاشا للمتلقي مضافا إليها ترابط الأسلوب دلاليا و ترکیبیا و تسلسلا ممتعا الذهن المتلقي فبعد الحال من الضلال والقتال بغير حق قاتل معهم وبهم لا لحبه وتحبيبه لهم للقتال بل سوقا لهم لمنجاتهم من الفتن التي تؤدي إلى القتال قال تعالى: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة/193]»، وهو معنى لا يتواشج مع آخر النص فحسب بل مع معان أخر و استعارات غيرها في نصوص المبدع المصورة للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ومنها في ما يتعلق بالاستعارة على وجه الخصوص أنه صلى الله عليه و آله و سلم قاتل بمن أطاعه من عصاه بعد أن (دَفَنَ اَللَّهُ بِهِ اَلضَّغَائِنَ - وَ أَطْفَأَ بِهِ اَلثَّوَائِرَ) فالقتال كان يدور بينهم لكنه من أجل الهلاك والإهلاك وسعيا في إفساد الحرث والنسل فهو خسارة في الدنيا وخسارة في الآخرة وشتان بينه وبين قتال النجاة والحياة والسعادة في الدنيا والآخرة فكان يسوقهم العمى والآن صار قائدهم الهدى المتحقق على يد النبي الأكرم صلى الله علیه و آله وسلم وهو يسرع بهم إلى غايتهم التي يرجوها لهم بشرف نفسه وذاته المحبة للخير لجميع الناس فيقيم على كل من يحتاج إليه أملا في إلحاقه في ركب النجاة و كان نتيجة لهذا الجانب من الصورة النبوية الرائعة أن يبرز جانب آخر من صورته ونتیجة أخرى مترتبة عليها وهي أنهم رأوا نجاتهم وأحسوا بثمرتها (فَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمْ - وَ اِسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ) والمبدع هنا «استعار لهم لفظ الرحا لاجتماعهم وارتفاعهم على غيرهم كما ترتفع القطعة من الأرض عن تألّف

ص: 243

التراب ونحوه. وقوله: واستوسقت في قيادها. إشارة إلى طاعة من أطاع من العرب وانقاد للإسلام، واستعار لفظ الاتّساق والقياد ملاحظة لتشبيههم بالإبل المجتمعة السائقها والمنتظمة في قياده لها»(1) وإيضاحا للصورة أكثر و تعريفا بواقعیتها عند المتلقي الذي يريد المبدع إقناعه بشاهد حي ومثل أعلى من كون صورة النبي عندما يقيم على أحد وهو يمتلك القلب الأنقى والطاعة العليا ولا يعاني النبي في تربيته كثيرا فإنه يصل إلى مراتب عليا نتيجة لهذه الصورة النبوية سواء في زمانه أم في غيره ولهذا قيل: «إن العلماء ورثة الأنبياء»(2) ، لأنهم أعرف الناس بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وأكثرهم تلقيا لعلمه وأحاديثه وطاعة له فورثوه لأن صورته أمامهم دائما وهم يتلقون منه كما لو كانوا معه، وذلك بعدِّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم مبدعا و أمامه متلق من أعلى المستويات فكيف تكون النتيجة؟ تكون كتأثر المتلقي الحقيقي لتصوير الإمام علي عليه السلام کهمام وتأثره بما قاله (3) وصورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم بما قام به للأمة من عمل عظيم وكبير قد سالت في معرفته أودية على قدرها وإنه ليصنع قادة للأمة وأناسا متكاملة لو أنهم كانوا متلقين جيدين كهمام لأمير المؤمنين عليه السلام الذي هو صنيع صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ولهذا ضرب لهم مثلا بنفسه ليثبت صورة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في لوحة

ص: 244


1- شرح نهج البلاغة ابن ميثم البحراني: ج 3: 22
2- بحار الأنوار: ج 1: 164
3- همام رجل من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام كان رجلا عابدا فقال لأمير المؤمنين صف لي المتقين كأني أنظر إليهم فتثاقل عليه السلام عن جوابه.... إلى أن صورهم له فصعق ومات... ينظر الخطبة 193 في نهج البلاغة

شعورهم ويجعلها حية ومستمرة في التأثير فيهم فالاستعارات أثبتها لهم بنفسه لا مدحا لها وهو المأمون في سموه من هذا الجانب فصورة السائق التي استعارها المبدع لمن صوره استدل عليها بأن النبي قد أوصل من الناس من صار قائدا معه وفي زمانه لأنه متلق جيد لرسول الله صلى الله عليه و آله وسلم فصار سائقا معه ولذلك أقسم المبدع (وَ اَیْمُ اَللَّهِ لَقَدْ کُنْتُ مِنْ سَاقَتِهَا) بأنه كان سائقا مع رسول الله وهو فضل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم أي أن المبدع يقول للمتلقي: أنا معك من أول النص في تصوير النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وباستعارات وأمثلة وأدلة واقعية و تسلسل لا يرفضه عقلك ومن السير في الأدلة الواقعية والأمثلة الحية للمتلقي هو مثال أمير المؤمنين عليه السلام (المبدع) فهو أثر يدل على صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وهو الجانب الأساس الذي نظر إليه المبدع بدليل وحدة النص والسياق و ترابط الجمل والاستعارات من صدر النص حتى عجزه فالصدر في تصويره النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم واضح وأما عجز النص فقد جاء به المبدع ليصور النبي الأكرم أيضا بدلالة الربط مع القسم السابق (وَ اَیْمُ اَللَّهِ لَقَدْ کُنْتُ مِنْ سَاقَتِهَا) وتكرار القسم نفسه (وَ اَیْمُ اَللَّهِ) والقسم الأول مرتبط ب- (یَسُوقُهُمْ إِلَی مَنْجَاتِهِمْ) فكان قوله: (وَ اَیْمُ اَللَّهِ لَأَبْقُرَنَّ اَلْبَاطِلَ) هو المثال العملي والتأكيد على أن صورة النبي الأكرم صلى الله علیه و آله وسلم لها هذا الأثر في دلالتها العليا وهي حياة مستمرة معهم بشخص النبي الأكرم الذي تراه البصائر وبسبب ذلك صار المبدع نفسه هو المثال العملي والمصداق الأعلى والمتلقي الأوعى ولعمري لو أن المبدع وجد غيره مثالا أعلى

ص: 245

يدل على صورة النبي الأكرم لما تردد في ذكره، فهو ينظر وهمه الأول و حبه الأول هو رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم لأنه يعلم بما غرسه فيه هذا النبي العظيم ولهذا قال: (ما ضَعُفْتُ ولا جَبُنْتُ - ولا خُنْتُ ولا وَهَنْتُ) كل هذا بسبب شخص النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم الذي يعيش معي باستمرار ولم يغب عني بدوائه وطبه الذي يدفع عن قلبه كل داء محتمل وهو مدفوع عنه قدما، وهذا هو شعور المبدع تجاه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وهو ما أراد نقله إلى شعور المتلقي، - كما هو في كل مرة يصور فيها النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم - هذا اللون التعبيري الاستدلالي أراده المبدع أن يزيد وضوح الصورة النبوية الكريمة فأطره بلون آخر وبآخر لمسات ريشته الأسلوبية، هذا اللون هو كون المبدع يمثل قبضة من أثر الرسول، فهو يقسم باستعارة راقية دقيقة المعنى وفي غاية من الطف»(1) بأنه يبقر الباطل فقد صوره حيوانا كالبقرة إذا ابتلعت ذهبا فيخرج من خاصرتها لهوانها بالنسبة لما ابتلعته، (2) هذا هو فعل الإمام وهو الحق وهو يعد نفسه تلميذا للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ومنها يستنتج المتلقي تمام الصورة النبوية وبقيتها العملية وبها يزداد التأثر وصدقها الواقعي يؤثر في شعور المتلقي أيما تأثير، لأن المعطيات الأخلاقية والمبادئ التي سار عليها المبدع تنأى به بعيدا عن ساحة نفسه وأنه في موضع المدح لها - مع أحقيتها - لأن المقام هو تصوير النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ولا يوجد في شعور المبدع أولی منه أو من يقدم عليه - كما جاء في خطبته في دفن الزهراء

ص: 246


1- نهج البلاغة، محمد عبده: 199 حاشية 3
2- ظ: شرح نهج البلاغة ابن ميثم البحراني: ج 2: 74

عليها السلام التي سبق ذكرها - فهو يجعل من نفسه مثلا يخدم به النبي الأكرم بعدِّها أثرا محسوسا لتربيته يقرب بها صورته من ذهن المتلقي وإن قدم المبدع نفسه مثلا في النص التصويري فقد قدمها في ميدان القتال مثلا للدفاع عن صورة النبي وهو المعروف بتضحياته في هذا السبيل بدءا من المبيت في الفراش وانتهاء في محراب الصلاة في شهر رمضان.

فالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم لا ينكر الكثيرون صورته العليا في الخلق وفي كل شيء لكن هذه الصورة بدلالتها كامنة في النفوس كماء را کد يخشى عليه من الأسن لكن التصوير الاستعاري حوله جارٍ فراتا عذبا سائغا شرابه في كل حين يصل إلى كل مكان وزمان ويراه الجميع لأن تصوير النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم من خلال الواقع المعاش وقت بعثه مثلا «بَعَثَهُ حِینَ لاَ عَلَمٌ قَائِمٌ - وَ لاَ مَنَارٌ سَاطِعٌ وَ لاَ مَنْهَجٌ وَاضِحٌ... »(1) بأنه «استعار لفظ العلم والمنار للهداة إلى الله الدّاعين إليه وعدم قيامه وسطوعه لعدمهم زمان الفترة ولا منهج واضح أي لا طريق إلى الله خالص عن شوب الأباطل يتبع»(2) فتصوير النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم من خلال هذا الواقع يجعل الصورة متحركة في النفس، أما المتلقي كلما شاهد الواقع ومصداق المثال الخارجي الذي استعير للصورة أعاد صورة المشبه في ذهنه ويصبح ماثلا أمامه، ومع أن النص في نظرة المتلقي العجول لا يرى فيه صورة للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ویری أنه يتحدث عن البعثة عموما ولعل يتأیَّد بوهم آخر، وهو كون الخطبة مسوقة

ص: 247


1- نهج البلاغة : 196
2- شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: ج 3: 438

للوصية بتقوى الله(1) - تعالى - لكن المبدع و«قد ذكر البعثة حين ظهور الأحوال التي كان العالم عليها تنبيها على فضلها وفضيلة الرسول صلّى الله عليه و آله وسلم»(2) ليرى المتلقي بعين البصيرة صورة النبي أمامه نورا يهتدى به في كل مفرق من مفارق طرق الضلالة فمثّل هذا الأسلوب الذي حجته بالغة وصورته مقنعة، إعادة بعث الشعور لدى المتلقي من جديد وللتأكيد على أن صورة النبي الأكرم هي الأساس في هذا المشهد النصي المتحرك المبين لعظمة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم فإن الخطبة مع أنها بعمومها «مسوقة للوصيّة بالتّقوى والتنفير من الدّنيا بذكر معايبها المنفرة عنها وللأمر بالأعمال الصّالحة والمبادرة إليها قبل لحوق الفوت ونزول الموت»(3) لكن الأساس في ذلك لابد من بيانه وهو أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم هو مفتاح الخير للعباد - كما جاء في مبحث الاستعارة التشبيهية «فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَی وبَصِیرَهُ مَنِ اهْتَدَی»(4) وهذا من الترابط الدلالي للنصوص المتعلقة بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ومن أدلة وحدتها وصدقها الأغر وأنها تنبع من الشعور الحقيقي في نفس المبدع وهو ما كان عاملا من عوامل الإقناع لدى المتلقي وعنصرا من عناصر المتعة المستمرة في النصوص ولأن هذا المعنى وهذه الصورة ثابتة بدلالتها في نفس المبدع في النص الذي جاء للغرض آنف الذكر فإننا نجده «قبل أن يشرع في الغرض افتتح

ص: 248


1- ظ: شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: ج 3: 438، وينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة : ج 209:12
2- شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: ج 438:3
3- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة : ج 209:12
4- نهج البلاغة : 94

بذکر بعثة الرّسول صلّى الله عليه و آله لكونها أعظم ما منَّ الله به على عباده حيث إنّها مبدأ جميع الآلاء والنّعماء في الآخرة، ومنشأ السعادة الدّائمة فقال عليه السّلام: (بعثه حين لا علم) من أعلام الدّین (قائم) واستعاره للأنبياء والمرسلين؛ لأنّه يستدلّ بهم في سلوك طريق الآخرة كما يستدلّ بالأعلام في طرق الدّنيا (و لا منار) للشّرع المبين (ساطع) استعاره لأولياء الدّين وقادة اليقين لأنّه يهتدى بهم ويقتبس من علومهم وأنوارهم في ظلمات الجهالة كما يهتدي بالمنار في ورطات الضلالة»(1) ، وهنا عنصر المفاجأة في النص إذ جاء الغرض ليتبادر منه إلى المتلقي أنه مسوق في عمومه لبيان تقوى الله والتذكير في الحياة الآخرة واستهل بذكر صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم كما أن الصورة جاءت بعمومها بخفاء التصوير فيها وباستعارات إيحائية والاستعارة بعمومها مبنية على الخفاء، ولعله من سر جمالها(2) ، فالجمال في حد ذاته مبهم غامض تأتي روعته في غموضه وإبهامه، (3) وعبارات النص وألفاظه في النظرة الأولية لا يظهر منها التصوير، إلا أن هذا الخفاء زاد الاستعارة حسنا، (4) فنرى في الأسلوب خفاء في مورد التصوير وخفاء في الألفاظ الموحية بالصورة وأنها باستعارات فيها من الخفاء الذي تواشج مع غيره بشكل أدى إلى إعمال الفكر والتأمل من المتلقي وهو ما يثير فضوله لربط الدلالات ومعرفة قطب الرحى في الصورة التي دارت

ص: 249


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة : ج 209:12
2- دلائل الإعجاز: 292
3- ظ: النظرية الرومانتيكية سيرة ادبية، كولردج : 444
4- ظ: دلائل الإعجاز: 292

عليها تقوى الله والتذكير بالآخرة وهذا التعدد في الاستعارات وما يصحبه من تعدد في صور النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم مع أنها في كل مرة تصور جانبا من شخصية النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وحتى لو صورت جانبا واحدا في أكثر من صورة فهذا من هدف تعدد الاستعارات لأنه يجعل صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم في بعث مستمر و تجدد دائم وشخوص حي أمام المتلقي أين ما وجد كي لا تنسى في كل زمان وهو مما جعلها هكذا في النهج لأنه جاء من أعرف الناس بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم .

فهذا الأسلوب في الخفاء المحبب ؛ لأنه يأتي بثمرة بعد إعمال الفكر فيه، قد جاء مورد التصوير بعضا من النص، وألفاظ التصوير من خلال الحال التي كانت عليها الأمة «عَلَی حِینِ فَتْرَهٍ مِنَ اَلرُّسُلِ - وَهَفْوَهٍ عَنِ الْعَمَلِ وَغَبَاوَهٍ مِنَ الأُمَم»(1) جاءت بمثابة إطار برزت منه صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم کبدر في ليلة ظلماء، فالكلام في أسلوب المبدع هنا وفي غيره من المواضع شريف في جوهره كالذهب الإبريز الذي تختلف عليه الصور، وتتعاقب عليه الصناعات وجل المعول في شرفه على ذاته»(2) .

ونرى هذا الصدق في الشعور لدى المبدع يتجلى أكثر ويزداد أسلوبه إشراقا في التأثير على المتلقي أنه يوصي به فلذة أكباده في نص جلي الحرص من المبدع على أبنائه الصلبيين وغيرهم لأنه عليه السلام أحد أبوي هذي الأمة فعن

ص: 250


1- نهج البلاغة: 94
2- دلائل الإعجاز: 19

الرسول (صلى الله عليه و آله) قال: أنا وعليّ أبوا هذه الأمّة، (1) «وَ اعْلَمْ یَا بُنَیَّ أَنَّ أَحَداً لَمْ یُنْبِئْ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ - کَمَا أَنْبَأَ عَلَیْهِ نَبِیُّنَا صلى الله عليه و آله وسلم فَارْضَ بِهِ رَائِداً وَ إِلَی النَّجَاةِ قَائِداً - فَإِنِّی لَمْ آلُکَ نَصِیحَةً - وَ إِنَّکَ لَنْ تَبْلُغَ فِی النَّظَرِ لِنَفْسِکَ - وَ إِنِ اجْتَهَدْتَ مَبْلَغَ نَظَرِی لَكَ»(2) ، واستعار له لفظ الرائد لأّنّه قد اختبر ما في الآخرة من الثواب المقيم والسعادة الباقية، وبشّر به أمّته كما بشّر الرائد أهله بوجود الكلأ والماء بعد ارتياده. ثمّ أردف ذلك ببيان أنّه لم يزل ناصحا له وأنه لم يبلغ نظره لنفسه وإن اجتهد في ذلك مبلغ نظره له ليتأكّد الإقناع برأيه و شوره عليه فيما يراه له. (3) ويتأكد معه إقناع المتلقي وثبات صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم في لوحة شعوره.

ص: 251


1- مستدرك سفينة البحار: ج 1:10
2- نهج البلاغة 31
3- شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: ج 21:5 - 22

المبحث الثالث: الصورة الكنائية

توطئة

الصورة البيانية نجدها في مسائل البيان الأساسية التشبيه والاستعارة والكناية، وقد اتضحت هذه الصورة في المسألتين الأوليين وسنأتي على الثالثة وقد اتضح أن الصورة في المسائل الثلاث جاءت من المبدع عن ملكة راسخة لغوية وبيانية وهبها له الخالق - عز وجل - فاقتدر بها أن يصور النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم بما يكاد أن يراه المتلقي في أسلوب هو الأوحد بعد كلام الله ورسوله الذي أحيا اللغة وطورها و أسهم في الحفاظ عليها. فكان المبدع يصور مختلف الجوانب الشخصية النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وهي طريقة لإيصال صورته ممزوجة بشعور المبدع وصدق صوره وواقعيتها مما كان لها بالغ الأثر والتأثير في المتلقي من خلال المسالك الدقيقة غير المجهدة في خفائها ويمكن أن نعد الكناية أسلوبا من الأساليب البلاغية المستعملة في إيصال الصورة النبوية من طريق يخفی ومسلك يدق فما كان مدلولا عليه بغيره كان أفخم لشأن الصورة النبوية وألطف لمكانة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم .(1) فالكناية ما ذكر

ص: 252


1- ظ: دلائل الاعجاز: 236

فيها اللفظ وأريد به لازم معناه مع جواز إرادته معه.(1) وبسبب من هذا الخفاء والغموض المشف الذي لا يقترب فيه المعنى فيُبتذل، ولا يبعد فيختفي، فقد عدت الكناية أبلغ من الإفصاح وأوقع من التصريح.(2)

ولا يخفى ما للكناية من اثر واضح في بناء الصورة البيانية، كما أنها تعد من الأهمية بمكان في التأثير والإمتاع النفسيين، وأسلوبا من أساليب إقناع المتلقي، (3) وقد «ترشح الكناية عن النتاج النثري»(4) ففي أغلب الأحيان تعرض الصورة للمتلقي وفي طياتها الدليل والبرهان عليها سواء ما يقره المتلقي في مخزونه الفكري أو مما هو من مصادیق واقع الحال. (فنفس المبدع الشاعرة بشعور المخَاطَب والعالمة بتفاصيل الصورة النبوية تصوغ الأشياء في حرية مطلقة على الشكل الذي يهتدي إليه حس المخاطب وينطلق من وجدان المخاطِب (المبدع)(5) .

ومن رسم صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وبيان وضوحها الوجود الدليل في طياتها من خلال ظلام الحال وجهل المقال من المحيط الذي بعث فيه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم فالعرب كانت أمة جاهلة لا نظام فيها مع أنها كانت تحيط بها الحبشة في دينها النصراني والفرس والروم ومصر

ص: 253


1- ظ: التلخيص في علوم البلاغة، جلال الدين محمد بن عبد الرحمن الخطيب القزويني : 333
2- ظ: دلائل الاعجاز: 109
3- ظ: علم البيان دراسة تاريخية فنية في أصول البلاغة العربية: 219
4- الزنبقة الصوفية في جادة النقد : 69
5- التصوير البياني، د. محمد أبو موسى: 363

والهند وكلها مع ما فيها من جور اجتماعي وانساني لكنها تمتلك نظاما أفضل من نظام الجزيرة العربية، من هذه الأجواء مرة أخرى نرى المبدع ينطلق مع الكناية الرسم الصورة النبوية بأسلوب كسابقاته في الصدق والواقعية إلا أنه تصرف في معجم ألفاظه وطريقة اقناع المتلقي وإمتاعه:

«وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ - ابْتَعَثَهُ وَ النَّاسُ یَضْرِبُونَ فِی غَمْرَةٍ - وَ یَمُوجُونَ فِی حَیْرَةٍ قَدْ قَادَتْهُمْ أَزِمَّةُ الْحَیْنِ - وَ اسْتَغْلَقَتْ عَلَی أَفْئِدَتِهِمْ أَقْفَالُ الرَّیْنِ»(1) .

فصوّر المبدع «أحوال الخلق حال ابتعاث الله رسوله صلّى الله عليه و آله وسلّم... أي والناس يسيرون عند مقدمه في جهالة. وهو كناية عن تصرّفاتهم على جهل منهم بما ينبغي لهم من وجوه التصرّف، ويحتمل أن يريد وتسيرون في شدّة وذلك أنّ العرب كانت حينئذ في شدائد من ضيق المعاش والنهب والغارات وسفك الدماء»(2) .

ونجد في قوله عليه السلام (وَيَمُوجُونَ في حَيْرَةٍ). «كناية عن تردّدهم في حيرة الضلال والجهل أو في حيرة من الشدائد المذكورة. وقوله: قد قادتهم أزّمة الحين. أي قد تداعوا للموت والفناء من كثرة الغارات وشدائد سوء المعاش وظلم بعضهم لبعض لأنّ الناس إذا لم يكن بينهم نظام عدليّ ولم يجر في أمورهم قانون شرعيّ أسرع فيهم ظلم بعضهم بعضا واستلزم ذلك فناؤهم»(3) وحيوية الصورة هنا

ص: 254


1- نهج البلاغة: 191
2- شرح نهج البلاغة ابن ميثم البحراني: ج 4: 218
3- المصدر السابق: ج 4: 218

على الرغم من مباشرة المبدع لها في نصوص اخرى تكمن في أنها تكشف حالة الأمة قبل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم حالة الاغتراب الروحي في عصر بني على الجهل والضلال فنرى هنا تكرار الحديث عن القلب (اسْتَغْلَقَتْ عَلَی أَفْئِدَتِهِمْ أَقْفَالُ الرَّیْنِ) وهو ما سبقت الإشارة والحديث عنه في هذا الفصل وهو من الملامح الأسلوبية في النصوص المصورة للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم في النسق العام للدلالة النصية الموحدة بوحدة الشخصية فالروح المغتربة لدى العربي قبل البعثة جاءت من الحال التي وصفها المبدع ولا يشترط أن يكون المبدع ممن عاصر هذه الحال لكنها لابد أن تظهر في أسلوبه وصوره وأفكاره لأنها من الوسائل التي تنقل مشاعر المبدع إلى وجدان المتلقي ليتشاركا معا في التوجه والموقف الموحد تجاه صاحب الصورة سواء قامت الصورة على التشبيه أم الاستعارة أم الكناية فالحال التي كانوا عليها وأوجزتها الكناية واختزلت تفصيلها المناسبة الغرض في الخطبة جاءت في خطبة أخرى مخصوصة لهذا الغرض - الحال قبل البعثة - «فيها يصف العرب قبل البعثة»(1) «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَی بَعَثَ مُحَمَّدا صلی الله علیه و آله نَذِیرا لِلْعَالَمِینَ ، وَأَمِینا عَلَی التَّنْزِیلِ ، وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلَی شَرِّ دِینٍ وَفی شَرِّ دَارٍ مُنِیخُونَ بَیْنَ حِجَارَهٍ خُشْنٍ وَحَیَّاتٍ صُمٍّ ، تَشْرَبُونَ الْکَدِرَ وَتَأْکُلُونَ الْجَشِبَ ، وَتَسْفِکُونَ دِمَاءَکُمْ وَتَقْطَعُونَ أَرْحَامَکُمْ ، الاْءَصْنَامُ فِیکُمْ مَنْصُوبَهٌ ، وَالاْآثَامُ بِکُمْ مَعْصُوبَهٌ»(2) .

ص: 255


1- نهج البلاغة : 26
2- نهج البلاغة : 26

مع أن الكناية تقنية بلاغية يفهمها العربي والعارف باللغة العربية إلا أنه قد تقف بعض العوازل فاصلا بين المبدع والمتلقي في حال السبك اللغوي والصوغ الأسلوبي غير المناسبين، ولذا نرى المبدع يصوغ صورته من تعالقات ذهنية مرتكزة في ذهن المتلقي سواء على المستوى الواقعي المعاش أم القريب من المعاش أو المخزون التاريخي فيصوغ منها صورة بتعالقات لغوية وأسلوبية تثير شعور المتلقي فالكناية جاءت من مصادیق خارجية ملموسة ولو ببقاء شذرات منها في الواقع المخالف لما أراده النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وبهذا تكمن القيمة التعبيرية الإقناعية للمبدأ الذي يريده المبدع لا في تقرير حقيقة الأشياء المكني بها بل الإفصاح عن صورة اليد التي خلف تغييرها وهي ما تحكي خلجات المبدع وشعوره تجاه صاحب الصورة من جهة الرسوخ الوجداني في أعماقه ومن جهة الطريقة - الأسلوب - التي يرى مناسبتها لنقل هذه الصورة التي جاءت هنا عبر الكشف عن هذه الصورة بجماليات الأسلوب الكنائي المصور للنبي الأكرم صلی الله عليه و آله وسلم وهو الكشف الذي من شأنه أن يثير وعي المتلقي الجمالي في صورة المنقذ والمخلص من هذه الحال في الصورة التي يرى الباحث تسميتها الصورة العاتبة) لأنها تستفهم بعتب عن الجهد الذي بذله النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأجل الأمة ؟ هذا الكشف من المبدع يأتي بألفاظ لها معانيها التي يتجلى فيها الإشعاع التصويري الجميل عبر الكناية وغيرها فتتآخي الدلالات و تتلاقى المعاني في انسجام و توازن ويصاحب ذلك تحريك الوجدان في تصور المعنى المطلوب (صورة النبي الأكرم (صلی الله عليه و آله وسلم».

ص: 256

أقام المبدع في هذا النص صورته على كنایتي (یَضْرِبُونَ فِی غَمْرَهٍ وَ یَمُوجُونَ فِی حَیْرَهٍ) واكتسبت هذه الكناية أهمية محورية في النص اتجهت في تذكير المتلقي بما كانت عليه حاله فيفرض المبدع عليه العودة إلى الوراء التاريخي وهو أسلوب تكرر من المبدع مع المتلقي في رسم الصورة النبوية - أعني العودة بذهن المتلقي إلى الفترة التي كانت عليها الأمة حال بعث النبي الأكرم صلى الله علیه و آله وسلم - لكن لغته تتغير وطريقة عرضه تناسب الموضوع الأساس في الخطبة مع اختلاف موضوعات الخطب التي يذكرها المبدع إلا أن المحور الأساس يبقى في موضوعات الخطب الداعية إلى الحق والتقوى هو صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم والمحور الأساس في هذا التصوير هو الصورة الكنائية في (يَضْرِبُون فِي غَمْرةٍ - وَيَمُوجُونَ في حَيْرَةٍ) وهنا تأتي الكناية لرسم صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم لتقوم على مبدأ الردع لنفس المتلقي التي تنسى الحال الماضية وذلك يشكل خرقا في منظومة التقوى والتربية التي أرادها النبي للأمة لأن الصورة هنا جاءت من المبدع في خطبة كان «يحمد الله ويثني على نبيه ويوصي بالزهد والتقوى»1 «اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلْفَاشِی فِی اَلْخَلْقِ حَمْدُهُ وَ اَلْغَالِبِ جُنْدُهُ وَ اَلْمُتَعَالِی جَدُّهُ . أَحْمَدُهُ عَلَی نِعَمِهِ اَلتُّؤَامِ وَ آلاَئِهِ اَلْعِظَامِ اَلَّذِی عَظُمَ حِلْمُهُ فَعَفَا وَ عَدَلَ فِی کُلِّ مَا قَضَی وَ عَلِمَ مَا یَمْضِی وَ مَا مَضَی مُبْتَدِعِ اَلْخَلاَئِقِ بِعِلْمِهِ وَ مُنْشِئِهِمْ بِحُکْمِهِ بِلاَ اِقْتِدَاءٍ وَ لاَ تَعْلِیمٍ وَ لاَ اِحْتِذَاءٍ لِمِثَالِ صَانِعٍ حَکِیمٍ وَ لاَ إِصَابَهِ خَطَإٍ وَ لاَ حَضْرَهِ مَلَإٍ»(1) .

ص: 257


1- نهج البلاغة : 191

فيرتبط مرة أخرى خطاب المبدع وموضوعه في كون النبي الأكرم صلی الله عليه و آله وسلم هو الصورة الأولى - كما في مبحث الصورة التشبيهية - وهنا حين ابتدأ بحمد الله - تعالى - وبیان صفاته ثم ذكر النبي بعدها وشهد له بأنه عبد الله ورسوله وأنه صاحب هذه الصفات العليا وخالق الكون أرسله والأمة في هذه الحال و تحقق الخلاص من الضرب في العمرة والموج في الحيرة على يد هذا الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ، ولعل المبدع بهذا الأسلوب نأى عن مباشرة الصورة النبوية بصراحة الألفاظ و تحديد ملامحها لأنه يريد سوق تعبير ظليل يحرك به فكر المتلقي ويثير غريزة التأمل لديه وهي سمة أسلوبية فيها من فنية رسم الصورة النبوية ما يبعدها عن الرتابة اللغوية الناشئة من استعمال ألفاظ معروفة في التعبير لا يجد فيها المتلقي - بسبب ألفتها - إثارة تدفعه للتأمل فيها، (1) و«مما يجعل للكناية مزية على التصريح ما فيها من خفاء المعنى، والحاجة إلى النظر في استنباطه والوصول إليه، والشئ إذا نیل بعد النظر كان له أثره في النفس، وعلوقه بالقلب، والكناية نوع من التوسع في العبارة، ولهذا يجب أن تتوفر له من القرائن ما يجعل الوقوف عليه ممكنا. كما أن الكناية لا بد لها من مسايرة الواقع. وللعادة والعرف والحياة والاجتماعية دخل في بناء صور الكناية»(2) وما أوجز في هذه الكناية من صورة النبي التي يعكسها تصور الحال و كون الهداية التي جاء بها النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم هي لله وأن ما يريده الله تعالى من العبد هو التقوى إذ إن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم هو إمامها فهذا الإيجاز لعل

ص: 258


1- ظ: التعبير البياني رؤية بلاغية نقدية، د. شفيع السيد : 161
2- فنون التصوير البياني، د. توفيق الفيل، ص 311

إيضاحه في شهادة أخرى «وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ الَمْجُتْبَی مِنْ خَلاَئِقِهِ - وَ الْمُعْتَامُ لِشَرْحِ حَقَائِقِهِ وَ الْمُخْتَصُّ بِعَقَائِلِ کَرَامَاتِهِ - وَ الْمُصْطَفَی لِکَرَائِمِ رِسَالاَتِهِ - وَ الْمُوَضَّحَةُ بِهِ أَشْرَاطُ الْهُدَی وَ الْمَجْلُوُّ بِهِ غِرْبِیبُ الْعَمَی»(1)

فهذه صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم التي تكتمل بها الشهادة السالفة الذكر وهنا جاءت بالتوضيح أكثر مع تعلقها بسابقتها بقاسم مشترك هو التقوى ؛ لأن هذا النص من خطبة له عليه السلام في الشهادة والتقوى.

«المعتام لشرح حقائقه: أي المختار لشرح حقائق توحيده أي لإيضاح العلوم الإلهية (والمختصّ بعقائل کراماته) النفيسة من الكمالات النفسانية والأخلاق الكريمة الّتي اقتدر معها على هداية الأنام و تأسيس أساس الاسلام (و المصطفى الكرائم رسالاته) أي لرسالاته الكريمة الشريفة، وجمعها باعتبار تعدّد أفراد الأوامر والأحكام النازلة عليه، فانّ كلّ أمرٍ أمر بتبليغه وأدائه رسالة مستقلّة، وإن كان باعتبار المجموع رسالة واحدة (و الموضحة به أشراط الهدی) أي أعلام الهداية فقد أوضح بقوله وفعله وتقريره ما يوجب هداية الأنام إلى النهج القويم والصراط المستقيم (و المجلوّ به غربيب العمي) أي المنکشف بنور نبوّته ظلمات الجهالة» (2) فکنی ب-(غِرْبِيبُ الْعَمَي) لأنه بسبب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم انكشف أشد أنواع العمى ضلالة «فان غربیب، بمعنى السواد القائم، فانه صلى الله عليه و آله و سلم يزيل اشد انواع الضلالة، ويهدى الناس الى الحق والی صراط

ص: 259


1- نهج البلاغة : 178
2- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة : ج 10: 253

مستقیم.»(1) و بتداخل هذه الكناية بصورتها مع صورة (الْمُصْطَفَی لِکَرَائِمِ رِسَالاَتِهِ) و(الْمُوَضَّحَهُ بِهِ اءَشْرَاطُ الْهُدَی) ليعبر المبدع عن مشاعره وما في نفسه تجاه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم في أوجز قول فالكناية في أسلوب المبدع تعبير عن مشاعره تجاه معنی جليل يرسمه للمتلقي وهو يصنعه بألفاظ لغوية وصور کنائية ليوسع مساحة الشعور الوجداني لدى المتلقي بإثارته في سياق أسلوبي فني يستشف منه مدى عظمة الصورة التي يصورها بتداخل صور كنائية أحيانا ليجسدها في بناء يفجر بدلالته شعور المتلقي ويكوّن وشائج متداخلة تعبر عن موقف متكامل أو تغيره باتجاه صحيح،(2) فليس ثمة انفصال بين معرفة الطريقة اللغوية (الأسلوب) وقيمها التعبيرية ومعرفة الشعور والدوافع النفسية للمبدع لأنها كشف عن نوازع المبدع صاحب النص (أو المصور) لأن هذا الكشف أو المعرفة هي واحدة من درجات الإفهام، ولا تخرج الصورة الكنائية في أسلوب المبدع عن هذا الكشف والمعرفة في كونها تعكس شعور المبدع لدى المتلقي، هذا الشعور الذي يكاد يبين لكل متلق في تجليات الدعاء وما تضمنه من كناية مصورة للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم في قول المبدع «اللَّهُمَّ دَاحِیَ الْمَدْحُوَّاتِ وَدَاعِمَ الْمَسْمُوکَاتِ وَجَابِلَ الْقُلُوبِ عَلَی فِطْرَتِهَا شَقِیِّهَا وَسَعِیدِهَا اجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِکَ وَنَوَامِیَ بَرَکَاتِکَ عَلَی مُحَمَّدٍ عَبْدِکَ وَرَسُولِکَ الْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ وَالْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ وَالْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ وَالدَّافِعِ جَیْشَاتِ الْأَبَاطِیلِ وَالدَّامِغِ صَوْلَاتِ الْأَضَالِیلِ کَمَا حُمِّلَ فَاضْطَلَعَ

ص: 260


1- توضيح نهج البلاغة، آية الله محمد الحسيني الشيرازي: ج 78:3
2- ظ: فلسفة البلاغة، د. رجاء عيد: 439

قَائِماً بِأَمْرِکَ مُسْتَوْفِزاً فِی مَرْضَاتِکَ - غَیْرَ نَاکِلٍ عَنْ قُدُمٍ وَلَا وَاهٍ فِی عَزْمٍ - وَاعِیاً لِوَحْیِکَ حَافِظاً لِعَهْدِکَ - مَاضِیاً عَلَی نَفَاذِ أَمْرِکَ حَتَّی أَوْرَی قَبَسَ الْقَابِسِ - وَأَضَاءَ الطَّرِیقَ لِلْخَابِطِ - وَهُدِیَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ وَالْآثَامِ - وَأَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الأَعْلامِ وَنَيِّرَاتِ الأَحْكَامِ - فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ وَخَازِنُ عِلْمِكَ الْمخْزُونِ - وَشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ وَبَعِيثُكَ بِالْحَقِّ - وَرَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ - اللّهُمَّ افْسَحْ لَهُ مَفْسَحاً فِی ظِلِّکَ - واجْزِهِ مُضاعَفاتِ الْخَیْرِ مِنْ فَضْلِکَ - اللّهُمَّ وأَعْلِ عَلَی بِناءِ الْبانِینَ بِناءَهُ - وأَکْرِمْ لَدَیْکَ مَنْزِلَتَهُ وأَتْمِمْ لَهُ نُورَهُ - واجْزِهِ مِنِ ابْتِعاثِکَ لَهُ مَقْبُولَ الشَّهادَهِ - مَرْضِیَّ الْمَقالَهِ ذا مَنْطِقٍ عَدْلٍ خُطْبَهٍ فَصْلٍ - اللّهُمَّ اجْمَعْ بَیْنَنا وبَیْنَهُ فِی بَرْدِ الْعَیْشِ وقَرارِ النِّعْمَهِ - ومُنَی الشَّهَواتِ وأَهْواءِ اللَّذّاتِ ورَخاءِ الدَّعَهِ - ومُنْتَهَی الطُّمَأْنِینَهِ وتُحَفِ الْکَرَامَهِ»(1) الدعاء في إطاره العام يكون في المحبوب وللمحبوب و كثافة الصورة العاطفية في النص عموما وفي ماجاء به من کناية مصورة (اللَّهُمَّ وَأَعْلِ عَلَی بِنَاءِ الْبَانِینَ بِنَاءَهُ - وَأَکْرِمْ لَدَیْکَ مَنْزِلَتَهُ وَأَتْمِمْ لَهُ نُورَهُ - وَاجْزِهِ مِنْ ابْتِعَاثِکَ لَهُ مَقْبُولَ الشَّهَادَهِ - مَرْضِیِّ الْمَقَالَهِ ذَا مَنْطِقٍ عَدْلٍ وَخُطْبَهٍ فَصْلٍ - اللَّهُمَّ اجْمَعْ بَیْنَنَا وَبَیْنَهُ فِی بَرْدِ الْعَیْشِ وَقَرَارِ النِّعْمَهِ) فالمشهد التصويري جاء بإطار مملوء بعناصر بناء تصويري يشع جمالا بأسلوبه وجلالا بشخصية الصورة تتنوع هذه العناصر ثم تلتحم جميعا في قطب رحى النص في صور كنائية كأن النص صيغ من أجل أن تكون الصورة الكنائية مسك ختامه فابتدأ الدعاء ب- (اللَّهُمَّ دَاحِیَ

ص: 261


1- نهج البلاغة : 72

الْمَدْحُوَّاتِ...) في صفات المدعو - جل شأنه - واستمر النص ليدخل في استعارات ووصف لصاحب الصورة ولم يرد ذكر لفظ المنادى (اللَّهُمَّ) في النص بعد هذا إلا قبل الصورة الكنائية في النص كمقطع الصورة الكنائية المقتطع - آنف الذكر - شعور المبدع الذي لم يكن النص عاكسا له وحده بل جاء بأسلوب يراد منه النقل إلى شعور المتلقي بدلالة ذكر الأحوال التي غيرها النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم مثل: (... وَالْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ وَالدَّافِعِ جَيْشَاتِ الأَبَاطِيلِ - وَالدَّامِغِ صَوْلاتِ الأَضَالِيلِ...) التي يشترك المتلقي بها مع المبدع - مع اختلاف النوع في نيل المعارف - وجاء تسلسلها ليختتم الأسلوب بالکنایات التصويرية الرائعة و كل عنصر من عناصر البناء يحمل دلالته التي تتواشج مع دلالات العناصر الأخرى و تتنامي في سعة انسجام أسلوبي يصل بالمتلقي إلى إتمام الصورة البيانية الكلية، ومن ثم تظهر الصورة النبوية من خلال التوافق العام الموجود بين التشبيه والاستعارات مختومة بمحور الصورة (الكناية) و كأن النص أنموذج لمباحث الفصل الثلاثة، فالتعبير الكنائي في النص تنامي في الحركة من خلال إبراز ملامح الصورة الكنائية بأسلوب مؤثر ودقيق جاء خاتما لاستعارات وأوصاف مصورة، ف-«استعار لفظ الدمغ لهلاك الضلّال بالكلّيّة ببركة مقدمه صلی الله عليه و آله وسلّم، واستعار لفظ وصف الصولات له ملاحظة لشبه المنحرفين عن سبيل الله إلى الفساد في قوّة انحرافهم وشدّة فسادهم بالفحل الصايل... ثم ما انتهى إليه من الغاية باجتهاده في إرضاء الله، وهو كونه أوری قبس القابس: أي اشتعل أنوار الدين وقدح زناد الأفكار حتّى أظهر أنوار العلوم منها للمقتبسين،

ص: 262

واستعار لفظ القبس لنور العلم والحكمة، ولفظ الورى لإظهار الرسول لتلك الأنوار في طريق الله،.. كونه أضاء الطريق للخابط. فالطريق هي طريق الجنّة والحضرة الالهيّة، وإضاءته لها بإظهار تلك الأنوار و بيانها بتعليم كيفيّة سلوكها والإرشاد إليها، والخابط هو الجاهل الذي قصدت الحكمة الالهيّة إرشاده حيث كان يخبط في ظلمات الجهل»(1) .

فاختتم هذا البناء بالصورة الكنائية - الآنفة الذكر ، ففي أول النص الصورة الاستعارية للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم جاءت نتيجة مستوحاة مما قدمه، ولهذا كان شعور المبدع تجاه هذه الصورة أن دعا لصاحب الصورة لا لأنه فاقد لما يدعى له به بل لأنه تعبير عن شعور المبدع بأنه في مصافي من يحبون هذا الأمر أن يتحقق وأن يجازی به صاحب الصورة أحسن جزاء ولأن أحدا لا يمكنه معرفة ما يدعي به أو الجزاء لهذه الصورة إلا الأعرف بها، فقد قال رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم مرة لعلي عليه السلام: «... ولا عرفني إلا الله وأنت..»(2) ، جاء الدعاء من المبدع موجها إلى القادر على الجزاء الأحسن، لذلك نجد الصورة الاستعارية هنا تقترب من الكناية وتأخذ الكناية المدى الواسع في البروز ولاسيما قوله: (وَ اِجْزِهِ مِنِ اِبْتِعَاثِکَ لَهُ مَقْبُولَ اَلشَّهَادَهِ - مَرْضِیَّ اَلْمَقَالَهِ ذَا مَنْطِقٍ عَدْلٍ وَ خُطْبَهٍ فَصْلٍ) فالتعبير الكنائي في النص تنامي في الحركة من خلال إبراز ملامح الصورة الكنائية بأسلوب مؤثر ودقيق، فأن يجزيه مضاعفات الخير من فضله: أي

ص: 263


1- شرح نهج البلاغة ابن ميثم البحراني : ج199:2 - 200
2- مستدرك سفينة البحار: ج 182:7

يضاعف له الكمالات من نعمه، ومعلوم أن مراتب استحقاق نعم الله غير متناهية.

وأن يعلى على بناء البانين بناءه يحتمل أن يريد ببنائه ما شيّده من الدين فيكون أعلاه المطلوب هو إتمام دينه وإظهاره بعده على الأديان كلّها، ويحتمل أن يريد به ما شيّده من الملكات الخيريّة واستحقّه من مراتب الجنّة وقصورها .

وأن يكّرم لديه منزلته وهو إنزاله المنزل المبارك الموعود، «وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ [المؤمنون/29]) وأما جزاؤه عن قبول شهادته فهذه الكناية تصور لنا النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم بصورة المرضي عنه تمام الرضا فهو من لوازم من يكون مقبول الشهادة ومرضي القول فلا بد أن يكون بريئا من الرذائل المسخطة أو كون أعمال أمته من معتقدات و مشاهدات وغيرها بريئة عن شوائب الأوهام، وأقواله مرضية في الشفاعة و كونه ذا منطق عدل: أي لا جور فيه عن الحقّ، (1) وكل عناصر البناء التصويري «وإن اختلفت مفهوماتها ترجع إلى مطلوب واحد وهو طلب زيادة كمالاتة عليه السلام وقربه من الله تعالى، وقوله: اللهم اجمع. إلى آخر سأل الله أن يجمع بينه وبين الرسول في أمور: أحدها: برد العيش. والعرب يقول: عیش بارد إذا كان لا كلفة فيه من حرب وخصومة. وهو في الآخرة يعود إلى ثمرات الجنّة البريئة من كدر الأتعاب.»(2) فالمبدع يرسم الصورة النبوية ويعرضها في مشهد تتوافر فيه من روائع التناسق الفني وبأسلوب الأجزاء المتعددة الموزعة في توازن و تواشج دلالي يفضي إلى المشهد الصوري الموحد، و «نجد الصورة المعمولة فيها كلما كانت

ص: 264


1- ظ: شرح نهج البلاغة ابن ميثم البحراني : ج2020:2
2- شرح نهج البلاغة ابن ميثم البحراني: ج 2: 202

اجزاؤها اشد اختلافا في الشكل والهيأة، ثم كان التلاؤم بينها مع ذلك أتم، والإتلاف أبين ، كان شأنها أعجب، والحذق لمصورها أوجب»(1) وما في الاستعارات التي سبقت الكناية من خفاء ك-(أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ - وَأَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ -) - مثلا - نجد الصورة الاستعارية هنا تقترب من الكناية وتأخذ دورا ثانويا مساعدا لتحميل الصورة في الكناية مما أعطى المدى الواسع في بروز الكناية بتصويرها لكونها مثلت المحور الأساس في النص وكانت قطب الرحى في إظهار صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وبخاصة (واجْزِهِ مِنِ ابتِعاثِکَ لَهُ مَقْبُولَ الشَّهَادَهِ - مَرْضِیَّ الْمَقَالَهِ ذَا مَنْطِقٍ عَدْلٍ وَ خُطْبَهٍ فَصْلٍ).

بعد هذه الرحلة مع صور المبدع البيانية عامة والكنائية منها خاصة ومن خلال استقراء الشعور والعاطفة الصادقة لديه وما أفرزته الأبعاد الدلالية للصور التي رسمت النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم و منها يستشعر المتلقي الفطن صورة المبدع أيضا وإن لم يتناولها المبدع مباشرة لعلوِّ نفسه عن الأنا علوا كبيرا، وقد وجدنا أسلوب التداخل البياني حاضراً في الصورة الكنائية من خلال التشبيه والاستعارة، والعلاقة الوشائجية، وهو دليل قدرة المبدع على تصوير النبي الأكرم بدقة بلاغية شبه إعجازية، فنجد في الأسلوب عواطف المبدع الجياشة وإثارة المتلقي بحقائق البيان وإقناعه بواقعية التصوير وذلك نابع من إحساس المبدع بحاجة المتلقي إلى مؤثرات خارجية مما يحيط به ولا ينكره لأنه من المحسوسات

ص: 265


1- أسرار البلاغة : 127

المادية الزمانية والمكانية. وأخرى داخلية نفسية، استطاع المبدع قراءة الوجدان لدى المتلقي فخاطبه وفقا لنوازعه الذاتية وما يعيشه من صراع فنتج عن هذا الأسلوب إمتاع من نوع خاص لأنه يبهت المتلقي ويجعله في حوار مع النفس فأثر فيه الأسلوب؛ لأنه يعطي التعبير البياني مجالاً واسعاً في المخيلة، بما فيه من إيحاء ودلالات ذات قدرة عالية لتجسيم المصور وتشخيصه أمام المتلقي، وبذلك يكون المعنى البياني أكثر إفهاما و حيوية ونشاطاً.

ومن هذه القراءة الوجدانية للمبدع نتوجه إليه بالسؤال عن شعوره العملي وصورته التي عرفت صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم أكثر من غيرها فاستطاع أن يرسمها لغيره من ألوان وجدانه وبريشة شعوره الصادق وبلسان بيانه البليغ، كيف كان مع النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم من أول حياته إلى آخرها ؟ فنجده قد قرأ شعورنا قدما وأجابنا بكناية ترك الجميع تعبيرهم عنها الجامع النهج وهي من كلام له عليه السلام اقتص فيه ذكر ما كان منه - بعد هجرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم ثم لحاقه به: «فجعلت أثبع مأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - قطا ذكره حتى انتهيت إلى العرج- في كلام طويل قال السيد الشريف رضي الله عنه - في كلام طويل قوله عليه السلام فأطأ ذكره - من الكلام الذي رمی به إلى غايتي الإيجاز والفصاحة - أراد أني كنت أعطى خبره صلى الله عليه و آله وسلم - من بدء خروجي إلى أن انتهيت إلى هذا الموضع - فکنی عن ذلك بهذه الكناية

ص: 266

العجيبة»(1) ، فقد «استعار وصف الوطی ء لوقوع ذهنه على ذكره صلّى الله عليه و آله و سلّم و خبره من الناس في تلك الطريق كوقوع القدم على الأرض، ووجه المشابهة أنّ الخبر عنه صلى الله عليه و آله و سلّم وذكره طریق حرکات قدم عقله إلى معرفة حسّه صلّى الله عليه و آله وسلّم كما أنّ المحسوس طریق الحركات قدمه إلى الوصول إليه. وقيل : أراد بذكره ما ذكره لي ووصفه من حال الطريق»(2) .

قيمة الصورة الكنائية، فيما نجده فيها من الإيحاء بالديمومة المتنامية في الاتباع والوطء التي برزت من خلالها، التي عبرت فيها الكناية عن سمو الشخصية المتبعة بهذا الوصف وهو اللون البارز في الصورة النبوية وعن الطاعة المتناهية الإخلاص التالية للحب الذي تكنه شخصية المبدع فهو انبثاق للصور الكنائية من خلال التمثيل الذي استعمله المبدع في أسلوبه وهنا تكمن مقدرة المبدع حين يقول قليلاً من الألفاظ وهو يکني عن صورة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وعن صورته في كلام قصير هو في غاية الإيجاز والفصاحة، لأن صور المبدع مع دقتها وبلاغتها لا تحتاج أحيانا إلى عمق وسعة خيال يبعدها عن رونق التأليف ودلالته التي قد يستنبط المتلقي فكرتها بسهوله لأن الخطاب يتضمن مشاهدات المتلقي المعروفة والحاضرة في ذهن المبدع دون عناء، ويبقى المبدع واختياره من البيان ومن يصوره لا مثيل لهم وصورتهم في العالقة في الذهن أبدا.

ص: 267


1- نهج البلاغة: 236
2- شرح نهج البلاغة ابن ميثم البحراني: ج: 325

الخاتمة والنتائج

بعد هذه الرحلة في نهج البلاغة عبر فصول البحث في نصوص تعلقت بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم نصوص هي حجر البلاغة والبيان الصلد الذي يتفجر فتخرج منه أنهار المعرفة ويتشقق منه ماء الأسلوب المثير والمؤثر فيهبط في الشعور فتخشع له النفوس ليجري فيها إمتاعا ويثير القلوب ليبَصِّرها إقناعا فيتصدع البليغ من سحر الأسلوب ويخشع المتلقي فهما ومتعة ويطمع العالم أن يزداد إيمانا في صورة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم الفرادة الأسلوب وما يقرأ في نصوصه من كلام ؛ لأنه من بيان مبدع هو للبلغاء يعسوب.

أملي أن يكون الجهد القليل قد أوضح ما فيه الحاجة لمریدها أو قدح زندا لمن هو أكثر مني معرفة ليقتبس من نور علي عليه السلام ما كنت سببا فيه، فرب حامل فقه إلى منَّ هو أفقه منه، وقد منَّ الله تعالى عليّ بأبواب فتحت لي الكثير من الموضوعات البحثية أرجو أن أوفق لها ببركة أمير المؤمنين عليه السلام ورجائي أن أكون قد أسهمت ولو باليسير بما له من عطاء دائم يغني البحث والباحثين، وبعد هذا أستعرض بشكل موجز أهم النتائج التي توصل إليها البحث.

ص: 268

1. من نصوص البلاغة والتناسق الصوتي والإبداعي والأسلوب العالي في النهج تثبت بلاغة وعظمة القرآن لأن نصوص نهج البلاغة قد تأثرت بالقرآن وهي مما لا شك فيه أقل رتبة من القرآن فكل إعجاز وإعجاب فيها يهز شعور المتلقي لابد أن يضاعف بأكثر منه مع القرآن لأنه من لدن خبير حكيم وهو البيان المطلق والماحل المصدق لكل بليغ وخطيب.

2. دلنا الأسلوب وأعاننا على مناقشة بعض الآراء في الشرح كما في «وَ مَنْبِتُهُ أَشْرَفُ مَنْبِتٍ...(1) جاء ما بعدها انزياح عن المتوقع ومفاجأة أسلوبية وفي جميع الأحوال الصورة ترسم فضل (المنْبِت) كما في الخطبة.

3. في نصوص البحث بعض الأوزان الشعرية التي وجد نظيرها في القرآن الكريم أيضا.

4. استعمال الأصوات بدقة توحي بالقصد النابع من التمكن العالي وحضور المعاني لدى المبدع ولا سيما تكرر المثال في أصوات معينة ومخصوصة في صور خاصة كما في صوتي السين والصاد وهما من حروف الصفير.

5. إن بعض دلالات الألفاظ لا يمكن الاعتماد الكلي فيها على المعاجم وبفضل المعنى الأسلوبي اتضحت الدلالات المرجوة في النصوص لبعض الدلالات كما في (ضوء، ونور) التي يقال في دلالتها أن الضوء هو النور والنور هو الضياء والنور والضياء والزند كلها للهداية. والحال أنها تناسب في دلالتها في مواضع معينة في الاستعمال الأسلوبي اللغوي والدلالي لتلائم المقام.

ص: 269


1- نهج البلاغة : 96

6. الأسلوب لدى الإمام عليه السلام - في رسم الصورة النبوية - فيه سمة الحوار الافتراضي والسؤال الذي يثار به المتلقي ويجيب عنه المبدع في النص بطريقة المفاجأة الأسلوبية، ويمثل المبدع في هذا الحوار دور السائل والمجيب و كأنه يقرا ذهن المتلقي فيتصرف فيه كما يشاء من الإقناع والإمتاع والإثارة بغض النظر عن عناد المتلقي وإنكاره للحق، وهل بعد الحق إلا الضلال المبين.

7. الترابط الواضح بين النصوص في الألفاظ والدلالة وإيحاءاتها التصويرية يعطي صورة أنها تنبع من سراج مبدع واحد وهو أمير المؤمنين عليه السلام وأنها حقا تمثل شخصية واحدة لا تناقض في جوانبها التي تصورها للنبي الأكرم صلی الله عليه و آله وسلم ومنه يستنتج ضمنا أن نصوص نهج البلاغة هي لشخص واحد وأنها ببلاغتها ومستواها الأسلوبي والتصويري والفكري تتناسب مع شخص أمير المؤمنين علي عليه السلام.

8. صور التشبيه في النصوص المتعلقة بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم أقل بقلة بينة من صور الاستعارة والكناية ؛ لقوة الأخيرتين في البلاغة والتأثير في نفس و شعور المتلقي ولمناسبتها لعظمة شخصية النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

9. الاستعارات في هذه النصوص لا تشير إلى مشبهات خيالية أو غير واقعية كما في الشعر الذي تأتي فيه الكثير من الاستعارات لأغراض أدبية لا تمت إلى الواقع بصلة، بل جاءت بدلالات واقعية لها مصادیق خارجية لا ينكرها المتلقي وهي من وسائل الإقناع في الأسلوب وجاءت صياغتها الأدبية لتزيد الإقناع إمتاعا

ص: 270

لدى المتلقي و تغييرا في المواقف الشعورية لأنها تنبع من شعور المبدع بصدق رفعه العمل بما يصوّره المبدع إلى ضمير المتلقي.

10. البلاغة والصدق الواقعي ونقل مشاعر المبدع بوضوح جعل هذه النصوص تعيش حياة أدبية مستمرة ومعها عاشت النصوص بنفس ما لها من حيوية في زمانها بدلالة دراستها وفق مناهج لغوية حديثة، لأنها تنبع من شعور حقيقي في نفس المبدع وهو ما كان عاملا من عوامل الإقناع لدى المتلقي وعنصرا من عناصر المتعة المستمرة في النصوص.

11. من الملامح الأسلوبية لدى المبدع في رسم الصورة النبوية تكرار الألفاظ والعبارات في نصوص مختلفة ولكنها لا تفقد التناغم الإيقاعي والدلالي في منظومة أسلوبية لغوية متآلفة في النسق العام مما يعطي للمعنى عمقا وللأسلوب تصويرا ينفذ إلى قلب المتلقي فيهز مشاعره كما في القلب، والأفئدة، وتصوير النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من خلال حال العرب قبل البعثة...).

قوة التضافر الأسلوبي في نصوص النهج المصوَّرة للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم والتواشج الدلالي سواء بين جمل النص الواحد وفقراته أم بين النصوص عامة فتجد النص يشع بلاغة وزهوا صوريا من أين ما تمسسه يكاد زيت أسلوبه يضيء.

ص: 271

ثبت المصادر والمراجع

1.القران الكريم.

2. الاتجاه الوظيفي ودوره في تحليل اللغة (مقال)، د. يحيى أحمد، عالم الفكر، الكويت، ع3، مج20، 1989.

3.أثر الانسجام الصوتي في البنية اللغوية في القرآن الكريم، د. فدوی محمد حسان، ط1، عالم الكتب، إربد - الأردن، 2011م.

4. أثر القراءات في الأصوات والنحو العربي (أبو عمر بن العلاء)، د. عبد الصبور شاهين، ط1، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1408ه- - 1987م.

5. الأثر القرآني في نهج البلاغة - دراسة في الشكل والمضمون، د. عباس علي حسين الفحام، ط1، منشورات الفجر، بيروت - لبنان، 1430ه- - 2010م.

6. اختيار مصباح السالكين شرح نهج البلاغة الوسيط، كمال الدين ميثم بن علي بن میثم البحراني (ت689ه-)، تحقيق: محمد هادي الأميني ، ط1، مجمع البحوث الإسلامية ، مشهد - إيران، 1408ه-.

7. أدب الشريعة الإسلامية دراسة جديدة في بلاغة نصوص القرآن الكريم ونصوص الأربعة عشر معصوما عليه السلام، د. محمود البستاني، ط2، مؤسسة السبطين، قم - إيران، 1390ه-.

8. أساس البلاغة، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر بن أحمد الزمخشري (ت538ه-)، تحقيق محمد باسل عيون السود ، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 1419ه- - 1998م.

ص: 272

9. أساليب البيان في القرآن، سيد جعفر الحسيني ، ط1، مؤسسة الطباعة والنشر وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، طهران، 1413ه-.

10. أساليب البيان، أ. د. فضل حسن عباس، ط2، دار النفائس، عمان - الأردن، 1430ه-- 2009م.

11. أساليب التعبير الأدبي، د. إبراهيم لسعافين وآخرين، منهم د. عيسى علي العاكوب فی بحثه (الخطابة والترسل )، الطبعة العربية الأولى : الإصدار الأول 1997، الإصدار الثاني 1999، الإصدار الثالث 2000، دار الشروق، عمان - الأردن، 2000م.

12. أساليب الطلب عند النحويين والبلاغيين، قيس الأوسي، د ط، جامعة بغداد ، بیت الحكمة، 1988م.

13. أسرار البلاغة في علم البيان، الإمام عبد القاهر الجرجاني، صححها السيد محمد رشيد رضا، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 1409ه- - 1988م.

14. الأسس الجمالية في النقد العربي، عرض وتفسير ومقارنة، د. عز الدين اسماعيل، ط 3، دار الشؤون الثقافية - بغداد ، 1986م. 15. الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية، د. مجيد عبد الحميد ناجي، ط1، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت - لبنان 1984م.

16. أسلوب علي ابن ابي طالب عليه السلام في خطبة الحربية، د. علي أحمد عمران، د ط، المكتبة المتخصصة بأمير المؤمنين علي عليه السلام، مشهد المقدسة، 1432ه- - 2011م.

17. الأسلوبية، مدخل نظري، ودراسة تطبيقية، د. فتح الله أحمد سليمان، ط1، دار الآفاق العربية، القاهرة، 1428ه- - 2008م. 18. أسلوبية البناء الشعري - دراسة في شعر أبي تمام - ، د. سامي علي جبار، ط1، دار السياب - لندن، 2010م.

19. أسلوبية البيان العربي، د. رحمن غركان، ط1، دار الرائي، سوريا - دمشق 2008م.

20. الأسلوبية الصوتية في النظرية والتطبيق، ماهر مهدي هلال، مجلة آفاق عربية، العدد الثاني عشر، السنة السابعة عشرة، كانون الأول 1992: 74.

21. الأسلوبية الصوتية في شعر أدونيس، أ. د. عادل نذير بيري الحساني، ط1، دار الرضوان

ص: 273

- مؤسسة دار الصادق الثقافية، عمان - الأردن، 1433 - 2012م. 22. الأسلوبية والأسلوب، د. عبد السلام المسدي، ط3، الدار العربية للكتاب، طرابلس - ليبيا ، دت.

23. الأسلوبية والبيان العربي، الدكتور عبدالمنعم خفاجي، ود. محمد السعدي فرهود ، ود.

عبد العزيز شرف، ط 1، المطبعة الفنية، الناشر، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 1412ه- - 1992م.

24. الأسلوبية، جورج مولينيه، ترجمه وقدم له د. بسام بركة، ط 2 ، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1427ه- - 2006م.

25. الأصوات اللغوية، د. إبراهيم أنيس، ط4، مكتبة الأنجلو المصرية، 1999م.

26. أصول البيان العربي، محمد حسين علي الصغير، رؤية بلاغية معاصرة، د ط، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد ، 1986م.

27. الأصول من الكافي، ثقة الإسلام أبو جعفر محمد بن يعقوب بن اسحاق الكليني الرازي (ت329ه-)، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، طع، دار الكتب الإسلامية، طهران - إيران، 1395ه-

28. الإعجاز القرآني، بحوث المؤتمر الأول للإعجاز القرآني1990 م، د. حازم سليمان الحلي.

29. إعجاز سورة الكوثر، تحقيق حامد الخفّاف، جار الله أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري (ت 538ه-)، ط2، دار المؤرخ العربي، بيروت - لبنان، 1430ه- - 2009م.

30. أعلام نهج البلاغة، المحقق علي بن ناصر السرخسي، ط1، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، طهران - إيران، 1415ه-.

31. الأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني تحقيق سمير جابر، ط2، دار الفكر، بيروت، دت، عدد الأجزاء 24.

32. الأفكار والأسلوب دراسة في الفن الروائي ولغته، أ. ف تيشترين، ترجمة د. حياة شرارة، د ط، منشورات وزارة الثقافة والفنون، الجمهورية العراقية، 1978م.

33. الاقتصاد اللغوي، المعايير الاقتصادية في تفسير مبادئ العربية، د. محمد كشاش، ط1، المكتبة العصرية، بيروت - لبنان، 1432ه- - 2011م.

ص: 274

34. الألفاظ الدالة على الكتب السماوية في القرآن الكريم دراسة معجمية، صرفية، سياقية (رسالة ماجستير)، ناجح جابر الميالي، كلية الآداب، جامعة البصرة، 1430ه- - 2009م.

35. أمل الآمل، الشيخ محمد بن الحسن (الحر العاملي) (ت1104)، تحقيق السيد أحمد الحسيني ، د ط، دار الكتاب الإسلامي، قم - إيران، دت.

36. الانسجام الصوتي في القرآن الكريم، أطروحة دكتوراه، تحسین فاضل، كلية الآداب جامعة الكوفة، 2009م.

37. الآيات القرآنية المتعلقة بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، أطروحة دكتوراه، عدنان جاسم الجميلي، كلية التربية، ابن رشد ، جامعة بغداد، 2003م.

38. الإيقاع أنماطه ودلالته في لغة القرآن الكريم (رسالة ماجستير)، عبد الواحد زيارة المنصوري، كلية الآداب، جامعة البصرة، 1416ه- - 1995م.

39. بحار الأنوار العلامة الحجة فخر الأمة الشيخ محمد باقر المجلسي، تحقيق: عبد الرحيم الرباني الشيرازي، الطبعة الثالثة المصححة، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، 1403ه- - 1983م .

40. بحوث لغوية، أحمد مطلوب ط 1 ، دار الفكر للنشر والتوزيع، عمّان - الأردن، 1987م.

41. البرهان في علوم القرآن، للإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزرکشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط3، مكتبة دار التراث، القاهرة، 1404ه- - 1984م.

42. البلاغة العربية، قراءة أخرى، الدكتور محمد عبدالمطلب، ط1، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، دار نوبار للطباعة، القاهرة، 1997م.

43. البلاغة والأسلوبية، د. محمد عبد المطلب، ط1، مکتبة لبنان ناشرون، لبنان - بيروت، 1994م.

44. البنية الأسلوبية في التراكيب النحوية، (أطروحة ) مهدي حمد مصطفى عبد الله آل سيد علي العاني كلية الآداب - جامعة بغداد، 1424ه- - 2003م.

45. البنية الإيقاعية في شعر الجواهري، مقداد محمد شكر قاسم، ط1، دار دجلة، عمان - الأردن، 1429ه- - 2008م.

46. البنية الشكلية للجملة الواقعة حالا، مصطفى النحاس، مجلة الضاد، ج1، بغداد، 1988.

ص: 275

47. بنية اللغة الشعرية، جان کوهن، ترجمة محمد الولي ومحمد العمري، د ط، دار توبقال المغرب، 1986م.

48. البنية الموسيقية في شعر المتنبي ، د. محمد حسين الطريحي، ط1، أكاديمية الكوفة، 1429ه- - 2008م.

49. بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، العلامة المحقق محمد تقي التستري، ط1 ، دار الأمير الكبير، طهران - إيران، 1418ه-.

50. البيان في ضوء أساليب القرآن الكريم، د. عبد الفتاح لاشين، ط 2 ، دار الفكر العربي، القاهرة، دت.

51. البيان والتبيين، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت255ه-)، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، ط7، مكتبة الخانجي بالقاهرة، 1418ه- - 1998م.

52. تاج العروس من جواهر القاموس، محب الدين أبي فيض السيد محمد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي الحنفي (ت 1205)، تحقيق: علي شيري، ط1، دار الفكر - بيروت - لبنان، 1414ه- - 1994م.

53. تاريخ النقد الأدبي عند العرب من العصر الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري، طه أحمد ابراهيم، د ط، دار الحمكة، بيروت - لبنان، دت.

54. تحليل الخطاب الشعري، البنية الصوتية في الشعر، الكثافة. الفضاء، التفاعل، د. محمد العمري، ط1، الدار العربية للكتاب مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، 1990م.

55. التحليل اللغوي في ضوء علم الدلالة - دراسة في الدلالة الصوتية والصرفية والنحوية والمعجمية، د. محمود عكاشة، ط1، دار النشر للجامعات، القاهرة - مصر، 1426ه- - 2005م.

56. تحليل رائية الخلود : د. أحمد نصيف الجنابي، مجلة الطليعة الأدبية (7 و8)، 1987.

57. تحولات البنية في البلاغة العربية، د. اسامة البحيري، ط1، دار الحضارة للطبع والنشر والتوزيع، 200م.

58. الترتيب والمتابعة (بحث في الأصول البلاغية والأبعاد الدلالية في القرآن الكريم)، د. أمير فاضل سعد، ط1، عالم الكتب الحديث، عمان - الأردن، 1432ه- - 2011م.

ص: 276

59. التشبيه والاستعارة، منظور مستأنف، أ. د يوسف أبو العدوس، ط 2 ، دار المسيرة، عمان - الأردن، 1430ه- - 2010م.

60. التشبيهات القرآنية والبيئة العربية، واجدة مجيد الأطرقجي، د. ط، منشورات وزارة الثقافة والفنون، العراق، 1978م.

61. التصوير البياني دراسة تحليلية لمسائل البيان، د. محمد ابو موسى، ط2، دار التضامن للطباعة، القاهرة، 1980م.

62. التضافر الأسلوبي وإبداعية الشعر نموذج (ولد الهدی )، (بحث)، عبد السلام المسدي، مجلة فصول م3، ع1، 1982.

63. التطور الدلالى بين لغة الشعر ولغة القرآن - دراسة دلالية مقارنة، عودة خليل أبو عودة، طا، مكتبة المنار، الزرقاء، الأردن، 1985.

64. التعبير البياني رؤية بلاغية نقدية، د. شفيع السيد، د ط، مكتبة الشباب، مصر، 1977 م.

65. التعبير الفني في القرآن، د. بكري شيخ أمين، ط1، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان، 1994م.

66. التعريفات، علي بن محمد الجرجاني، ط1، دار إحياء التراث، بيروت لبنان، 1424ه - 2003م.

67. تفسير الإمام العسكري عليه السلام، المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام، تحقيق: مدرسة الإمام المهدي عليه السلام، ط1، قم المقدسة، 1409ه-

68. التفسير النفسي للأدب، د. عز الدين اسماعيل، د ط، دار العودة، بيروت، 1963م.

69. التكرير بين المثير والتأثير، د. عز الدين علي السيد، ط2، عالم الكتب، بيروت - لبنان، م 1407ه- - 1986م.

70. التلخيص في علوم البلاغة، جلال الدين محمد بن عبد الرحمن الخطيب القزويني (ت 739ه-)، شرح: عبد الرحمن البرقوقي، د ط، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، 1904م.

71. التماسك النصي من خلال العطف والتكرار (دراسة تطبيقية في ديوان المواكب لجبران خليل جبران) (رسالة ماجستير)، بوزنية رياض، جامعة الحاج لخضر باتنة، كلية الآداب والعلوم الاجتماعية، قسم اللغة والأدب والعربي، 2008م.

ص: 277

72. التنغيم واللغة العربية، (بحث في مجلة جامعة أم القرى ) يحيى علي مباركي، السنة التاسعة، العدد 13، 1416ه- - 1996م.

73. تهذيب اللغة، أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت370ه-)، الجزء العاشر، تحقيق الأستاذ علي حسن هلالي، مراجعة الأستاذ محمد علي النجار، د ط، الدار المصرية للتأليف والترجمة، دت.

74. التوازي في القرآن الكريم (أطروحة دكتوراه )، وداد مكاوي الشمري، كلية التربية للبنات، جامعة بغداد، 2001.

75. توضيح نهج البلاغة، محمد الحسيني الشيرازي، د ط، دار تراث الشيعة، إيران، دت.

76. جدلية الإفراد والتركيب في النقد العربي القديم، د. محمد عبد المطلب، ط1، الشركة المصرية العالمية - لونجمان، 1995م.

77. جدلية الخفاء والتجلي، د. كمال أبو ديب، ط1، دار العلم للملايين، بيروت، 1979م.

78. الجديد في العروض، علي حميد خضير، ط2، عالم الكتب، بيروت - لبنان، 1407ه- - 1986م.

79. جرس الألفاظ ودلالتها في البحث البلاغي والنقدي عند العرب، د. ماهر مهدي هلال، د ا ط، دار الحرية، بغداد، 1980م.

80. الجملة الاسمية، د. علي أبو المكارم، ط1، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع، 2007م.

81. الجنى الداني في حروف المعاني، الحسن بن قاسم المرادي، تحقيق: د. فخر الدين قباوه ، أ. محمد ندیم فاضل، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 1413ه- - 1992م.

82. جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، السيد احمد الهاشمي، طا ، دار الكتب العلمية، دت.

83. حقائق الأصول، السيد محسن الحكيم (ت 1391ه-)، ط5، مطبعة الغدير، قم، 1408ه-.

84. الخصائص، أبي الفتح عثمان بن جني ، تحقيق: محمد علي النجار، د ط، عالم الكتب، بيروت - لبنان، دت.

85. الخليل بن أحمد الفراهيدي، أعماله ومنهجه، مهدي المخزومي، دط، مطبعة الزهراء، بغداد، 1960.

ص: 278

86. دراسات في اللسانيات العربية - المشاكلة - التنغيم - رؤى تحليلية: د. عبد الحميد السيد: ط 1 ، دار الحامد عمان - الأردن، 1425ه- - 2004م.

87. دراسات في اللسانيات العربية - بنية الجملة العربية - التراكيب النحوية والتداولية - علم النحو وعلم المعاني، د. عبد الحميد السيد، ط1، دار الحامد، عمان - الأردن، 1424ه- - 2004م.

88. دراسة أسلوبية في شعر أبي فراس (رسالة ماجستير)، نهيل فتحي أحمد كتانه، كلية الدراسات العليا - جامعة النجاح، 2000/1999 م.

89. دراسة الصوت اللغوي، احمد مختار عمر، د ط، عالم الكتب، القاهرة، 1418ه- - 1997م.

90. دروس في البلاغة العربية نحو رؤية جديدة، الأزهر الزناد ، ط2، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، سفاقس، 1982م.

91. دعاء الإمام عليّ عليه السلام دراسة نحوية أسلوبية، رسالة ماجستير، محمّد إسماعيل عبد الله، كلية التربية، جامعة بابل، 1426ه- 2005م.

92. دلائل الإعجاز في علم المعاني، الإمام عبد القاهر الجرجاني، صحح أصله محمد عبده والاستاذ محمد عبده التركزي، علق حواشيه السيد محمد رشيد رضا، د ط، دار المعرفة ، بيروت - لبنان، 1398 ه- - 1978م.

93. دليل الدراسات الأسلوبية، د. جوزيف ميشال شريم، ط 1، المؤسسة الجامعية، بيروت - لبنان، 1404ه- - 1984م.

94. ديوان أبي الطيب المتنبي ، شرح أبي البقاء العكبري، ضبطه وصححه ووضع فهارسه :

مصطفى السقا، ابراهيم الأبياري، عبد الحفيظ شبلي، د ط، دار المعرفة، بيروت - لبنان، دت.

95. دیوان کعب بن زهير، صنعه الإمام أبي سعيد الحسن بن الحسين العسكري، قدم له ووضع هوامشه وفهارسه د. حنا نصر الحتي ، ط1 ، دار الكتاب العربي، بيروت، 1414ه- - 1994م.

ص: 279

96. الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية محمد بن جمال الدين مكي العاملي وزين الدين الجبعي العاملى، تصحيح وتعليق السيد محمد كلنتر، د ط، دار التعارف والمطبوعات، بيروت - لبنان، دت.

97. الزنبقة الصوفية في جادة النقد، سمير الشيخ، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت - لبنان، 2012م. 98. شجرة طوبى، الشيخ محمد مهدي الحائري (ت1369)، طه، المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف 1385ه. 99. شرح ابن عقيل، قاضي القضاة بهاء الدين عبد الله بن عقيل العقيلي الهمداني المصري (ت764ه)، طا، ناصر خسرو، طهران - إيران، 1922ه.

100. شرح دعاء كميل رحلة في الآفاق والأعماق، الأستاذ حسين أنصاريان، ترجمة كمال السيد ، ط 2 ، مؤسسة أنصاريان، قم - إيران، 1629ه - 2005م. 101. شرح نهج البلاغة، السيد عباس علي الموسوي، ط1، دار الرسول الأكرم - دار المحجة البيضاء، بيروت - لبنان، 1618ه. 102. شرح نهج البلاغة، عز الدين أبو حامد ابن ابي الحديد، المصحح محمد أبو الفضل إبراهيم، ط1، مؤسسة اسماعيليان، قم - إيران، 1378ه. 103. شرح نهج البلاغة، كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني، ط1، دار الرافدين، بيروت - لبنان، د ت. 104. شعر أبي الأسود الدؤلي، دراسة موضوعية أسلوبية، (رسالة ماجستير) آلاء حسين محمد قدري، كلية التربية ابن رشد ) - جامعة بغداد، 1928ه - 2007م. 105. الشعر الجاهلي، د. محمد النويهي، د ط، الدار القومية، القاهرة، 1999م. 106. شعر صلاح عبد الصبور، دراسة أسلوبية (رسالة ماجستير)، أنسام محمد راشد، كلية التربية، الجامعة المستنصرية، 1997. 107. شعر نزار قباني دراسة لغوية أسلوبية، (اطروحة)، ماجد عيال وهيب العبادي)، كلية الآداب - الجامعة المستنصرية، 1930ه - 2009م. 108. صحيح البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة

ص: 280

ثبت المصادر والمراجع.......

البخاري الجعفي (ت256ه)، د ط، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1901 – 1981 م. 109. الصورة البلاغية عند عبد القاهر الجرجاني (منهجأ وتطبيقا)، د. احمد علي دهمان، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، ط1 ، دمشق، 1406ه -1989م. 110. الصورة الفنية في كلام الإمام علي، د. خالد محمد محيي الدين البرادعي (بحث)، مجلة المنهاج، ع (5)، السنة الثانية، 1997م. 111. الصورة في شعر بشار بن برد، د. عبد الفتاح صالح نافع، د ط، دار الفكر للنشر والتوزيع، عمان - الأردن، 1983م. 112. الطراز المتضمن لإسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، إمام الأئمة الكرام أمير المؤمنين يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم العلوي اليمني ، د ط، دار الكتب الخديوية، مصر، 1332ه - 1916م. 113. ظاهرة التنغيم في التراث العربي وفي التجويد، (بحث)، هايل محمد طالب. منتدى البحوث والدراسات القرآنية (الشبكة العنكبوتية)| 116. ظواهر أسلوبية في القرآن الكريم - التركيب والرسم والإيقاع، د. عمر عبد الهادي عتيق، ا طا، عالم الكتب، إربد - الأردن 1631ه - 2010م.

115. العربية الصحيحة، د. أحمد مختار عمر، ط2، عالم الكتب، 1998. 116. علم الأسلوب وصلته بعلم اللغة، (بحث)، د. صلاح فضل، مجلة فصول مج 5، 1986م. 117. علم الأصوات، د. كمال بشر، د ط، دار غريب، القاهرة، 2000م. 118. علم الأصوات النطقي دراسات وصفية تطبيقية، أ. د.هادي نهر، ط1، عالم الكتب الحديث، عمان الأردن، 2011م. 119. علم البيان دراسة تاريخية فنية في أصول البلاغة العربية، بدوي طبانة، ط2، مکتبة الانجلو المصرية، د ت. 120. علم الدلالة التطبيقي في التراث العربي، أ. د.هادي نهر، ط1، دار الأمل، الأردن، 1927ه - 2007م.

121. علم اللغة بين التراث والمناهج الحديثة، محمود فهمي حجازي، المكتبة الثقافية، عدد 269، الهيأة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1970.

ص: 281

... صورة النبي صلى الله عليه واله وسلم في نهج البلاغة أت 122. علم اللغة والنقد الأدبي (علم الأسلوب ) (بحث ) د. عبده الراجحي، مجلة فصول م1، ج2. 123. العمدة في نقد الشعر وتمحيصه، أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني (ت 463ه)، شرح وضبط د. عفيف نايف حاطوم، ط2، دار صادر، بيروت - لبنان، 1627ه - 2009م 126. العين، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت170ه)، تحقيق: الدكتور مهدي المخزومي، الدكتور إبراهيم السامرائي، ط2، مؤسسة دار الهجرة، إيران، 1609ه.

125. فجر الإسلام، احمد امین، ط10، دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان، 1999م. 129. فلسفة البلاغة بين التقنية والتطور، د. رجاء عيد ، ط 2 ، منشأة المعارف الاسكندرية،، د.

به د مد ا - 127. فن البلاغة، د. عبد القادر حسين، د ط، دار نهضة مصر، القاهرة - مصر، دت. 128. فن التشبيه، بلاغة - أدب - نقد، علي الجندي، ط1، مكتبة نهضة مصر، 1952م. 129. فنون التصوير البياني، د. توفيق الفيل، ط1، منشورات ذات السلاسل، الكويت، 1407ه - 1987م.

130. في أقاليم الشعر، عبد الكريم الناعم، ط1، دار الذاكرة، سلسة الدراسات الأدبية واللغوية رقم (5)، دمشق، آب، 1991. 131. في الأسلوب الأدبي، علي بو ملحم، د ط، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، 1998.

132. في البحث الصوتي عند العرب، د. خليل إبراهيم العطية، دار الجاحظ للنشر، الموسوعة الصغيرة (126)، بغداد - الجمهورية العراقية، 1983م. 133. في التنظيم الإيقاعي للغة العربية نموذج الوقف، مبارك حنون، ط1، دار الأمان، الرباط، 1631ه - 2010 م 136. في الميزان الجديد ، محمد مندور، ط3، مكتبة نهضة مصر، الفجالة، القاهرة، د. ت. 135. في النحو العربي نقد وتوجيه، د. مهدي المخزومي، ط 2 ، دار الشؤون الثقافية العامة، سلسلة علم وأثر (5)، بغداد - العراق، 2005م. 139. في ظلال نهج البلاغة، محمد جواد مغنية، ط3، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان، الا 1600ه.

ص: 282

ثبت المصادر والمراجع .......

283 ........

137. القاموس المحيط، العلامة اللغوي مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي (ت817ه)، ط 2 ، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، 1626ه - 2003م.

138. قاموس الموسيقى العربية، د. حسين محفوظ.

139. قراءات أسلوبية في الشعر الحديث، د. محمد عبد المطلب، د ط، الهيأة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990.

160. قضايا الشعر المعاصر، نازك الملائكة، ط 2 ، مكتبة النهضة، بغداد ، 1995م.

161. قضايا النقد الأدبي الوحدة الالتزام، الوضوح والغموض، الإطار والمضمون، أ. د. بدوي طبانه، دار المريخ، الرياض، 1404ه - 1989م. 162. الكامل في التاريخ، عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم المعروف بابن الأثير، د ط، دار صادر، بیروت لبنان، 1385ه - 1995م. 143. كتاب الصناعتين الكتابة والشعر، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري، تحقيق علي محمد البجاوي، محمد أبي الفضل إبراهيم، ط1، المكتبة العصرية، بيروت - لبنان، 1627ه - 2009م. 144. كتاب سيبويه، أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، ط3، مكتبة الخانجي بالقاهرة، 1627ه - 2009م. 145. الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي (ت 538ه)، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، ط2، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، 1921ه - 2001م.

169. لسان العرب، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مکرم ابن منظور الأفريقي المصري ، دط، قم - إيران، 1405ه.

167. لغة الشعر العراقي المعاصر، عمران خضير الكبيسي، د ط، وكالة المطبوعات، الكويت، 1982م.

168. لغة الشعر عند الجواهري، د. علي ناصر غالب، ط1، دار الصادق، بابل - العراق، 2005م. 169. المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ضياء الدين ابن الأثير، تقديم وتعليق د. أحمد الحوفي ود. بدوي طبانه، د ط، دار نهضة مصر، القاهرة، دت.

ص: 283

.................................286 ............................... صورة النبي صلى الله عليه واله وسلم في نهج البلاغة .

150. مجمع البيان، أمين الإسلام أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، حققه لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين، (ت 548ه)، ط1، مؤسسة الأعلمي، بيروت - لبنان، و161 - 1995 م 151. المجمل في فلسفة الفن، کروتشه بندتو، ترجمة د. سامي الدروبي، د ط، دار الفكر العربي، القاهرة، 1967م. 152. المحيط في اللغة، كان الكفاة ابو القاسم إسماعيل بن عباد بن عباس بن أحمد الطالقاني، تحقيق الشيخ محمد حسين آل ياسين، ط1، عالم الكتب، بيروت - لبنان، 1616ه - 1996م (عدد الأجزاء 10). 153. المدارس الصوتية عند العرب النشأة والتطور، د. علاء جبر محمد: 115، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 2009م. 154. المدخل إلى علم أصوات العربية، د. غانم قدوري الحمد، المجمع العلمي، د ط، بغداد ، 1623ه - 2002م. 155. مدخل إلى علم الأسلوب، د.شكري محمد عياد ، ط2، 1913 - 1992م. 156. مدخل إلى علم النص ومجالات تطبيقه، محمد الأخضر الصبيحي، ط1، الدار العربية للعلوم ناشرون، الجزائر العاصمة - الجزائر، 1629ه - 2008م. 157. المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها في الجرس اللفظي، عبدالله الطيب، ط3، دار الآثار الإسلامية، الكويت، 1609ه - 1989م. 158. مسائل فلسفة الفن المعاصر، ج. م. جون، ترجمة سامي الدروبي، د ط، دار الفکر، القاهرة، د. ت. 159. مستدرك سفينة البحار، الشيخ علي النمازي الشاهرودي (ت 1405)، تحقيق: تحقيق وتصحيح: الشيخ حسن بن علي النمازي، د ط، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم - إيران، 1619ه. 190. مستدرك نهج البلاغة، الهادي كاشف الغطاء، ط1، مطبعة الراعي في النجف الأشرف، 1356ه.

191. المستويات الجمالية في نهج البلاغة - دراسة في شعرية النثر، نوفل أبو رغيف، ط1، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد - العراق، 2008م.

ص: 284

ثبت المصادر والمراجع.......

و 285 192. مستويات النظم في التركيب القرآني، أطروحة دكتوراه، عبد الواحد زيارة اسكندر المنصوري، كلية الآداب جامعة البصرة، 1419ه - 1998م. 193. مسند احمد، الإمام احمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (ت 261ه)، د ط، دار صادر - بيروت، دت. 164. معترك الأقران في إعجاز القرآن، أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن أبي بكر السيوطي الشافعي (ت 911ه)، ضبطه وصححه وكتب فهارسه أحمد شمس الدين، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 1908ه - 1988م.

195. معجم أسماء الأصوات وحكاياتها، محمد عواد الحموز، ط1، دار صفاء، عمان - الأردن، 1627ه - 2007م. 166. المعجم الأدبي، جبور عبد النور، ط1، دار العلم للملايين، بيروت، 1979 م.

197. معجم الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري (ت 395)، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي، طا، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة، 1612ه. 198. معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، سعيد علوش، عرض وتقديم وترجمة، دار الكتاب اللبناني، ط1، بيروت، 1985م. 199. معجم المصطلحات الأدبية، إعداد إبراهيم فتحي، د ط، التعاضدية، صفاقس - تونس، 1989م. 170. معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، د. أحمد مطلوب، د ط، المجمع العلمي العراقي، 1603ه - 1983م.

171. معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مجدي وهبة، ط 2، مکتبة لبنان، 1986. 172. معجم الموسيقى، مجمع اللغة العربية القاهرة، دط، مركز الحاسب الآلي، 1620ه - 173. معجم النقد العربي القديم. د. أحمد مطلوب، ط1، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد ، 1989 176. المعجم الوسيط، قام بإخراجه إبراهيم مصطفى، أحمد حسن الزيات، حامد عبد القادر، محمد علي النجار، المكتبة الإسلامية، د ط، استانبول - تركيا ، دت.

دعا

ص: 285

.......................... 289 .................................. صورة النبي صلى الله عليه واله وسلم في نهج البلاغة 175. معجم مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الرازي (ت395)، وضع حواشيه إبراهيم شمس الدين، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 1620ه - 1999م.

179. المعنى والتوافق، مبادئ لتأصيل البحث الدلالي العربي، أ. د. محمد غاليم الحاج، ط1، عالم الكتب الحديث، عمان - الأردن، 131ه - 2009م. 177. مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، الإمام أبو محمد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن احمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري (ت 791ه)، خرج آياته وعلق عليه أبو عبد الله عاشور الجنوبي، ط 2 ، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، 1628ه - 2008م.

178. مفاتيح الجنان، الحاج الشيخ عباس القمي، ط 2 المصححة، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان، 1618ه - 1998م. 179. مفتاح الفلاح في شرح دعاء الصباح، السيد محمد کلانتر، دط، مطبعة المعارف، بغداد ، 1998م. 180. المفردات في غريب القرآن، أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (ت502ه)، تحقيق وضبط إبراهيم شمس الدين، ط1، مؤسسة الأعلمي، بيروت - لبنان، 1630ه - 2009م. 181. المقامات اللزومية لأبي طاهر محمد بن يوسف السرقسطي (ت 538ه) - دراسة أسلوبية أطروحة دكتوراه )، مي محسن حسین عناد الحلفي، كلية التربية للبنات، جامعة بغداد ، 1629ه - 2005م. 182. مناهج البحث في اللغة، د. تمام حسان، د ط، دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب، 1607ه - 1989م. 183. المنطق، الشيخ محمد رضا المظفر، د ط، دار التعارف، بيروت - لبنان، 1600ه - 1980م.

186. منهاج البراعة، الفقيه المحدث سعيد بن هبة الله الراوندي (ت573)، د ط، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم - إيران، 1406ه.

ص: 286

ثبت المصادر والمراجع .......

287 ....................

185. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، العلامة المحقق الحاج میرزا حبيب الله الهاشمي الخوئي، عنى بتصحيحه وتهذيبه العالم الفاضل السيد إبراهيم الميانجي، طع، المكتبة الإسلامية، طهران - إيران، 1600ه. 189. منهج التحليل اللغوي في النقد الأدبي (بحث)، د. سمير شريف ستيتية، مجلة آداب المستنصرية، ع19، 1988. 187. موسوعة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري، تحقيق: مركز بحوث دار الحديث وبمساعدة: السيد محمد کاظم الطباطبائي، السيد محمود الطباطبائي، ط2، دار الحديث للطباعة والنشر، قم المقدسة - إيران 1620.

188. موسيقى الشعر، د. إبراهيم أنيس، ط3، مكتبة الأنجلو المصرية، 1995م. 189. الموضح في التجويد ، عبد الوهاب بن محمد القرطبي (ت461ه) تقديم وتحقيق: الدكتور غانم قدوري الحمد ، ط1، دار عمار، عمان، 1921ه - 2000م.

190. الميزان في تفسير القرآن، العلامة محمد حسين الطباطبائي، د ط ، جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم إيران، دت.

ا ا ا 191. النحو الوافي: عباس حسن، ط 2، دار المعارف بمصر، 1998. 192. النص القرآني من الجملة إلى العالم، وليد منير، ط1، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، 1618ه - 1997م. 193. نظرية الأدب، رينيه ويلك وأوستن و آرن، تعريب د. عادل سلامة، د ط، دار المريخ، الرياض - السعودية، 1912 - 1992م. 196. النظرية الرومانتيكية سيرة أدبية، كولردج، ترجمة د. عبد الحكيم حسان، د ط، دار المعارف بمصر، 1971م. 195. نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين من الكندي حتى ابن رشد، د. ألفت محمد كمال، الهيأة المصرية للكتاب، 1986م. 199. نظرية المعنى في النقد العربي، د. مصطفى ناصف، ط2، دار الأندلس، بيروت، 1401ه - 1981م.

ص: 287

197. النقد الأدبي، أصوله ومناهجه، سيد قطب، د ط، دار الفكر العربي، طبعة الشروق، دت.

198. نهاية الأرب في فنون الأدب، شهاب الدين النويري، د ط، دار الكتب المصرية القاهرة، د. ت.

199. النهاية في غريب الحديث، مجد الدين أبو السعادات المبارك ابن محمد الجزري ابن الأثير (ت 606ه-)، تح ظاهر أحمد الزاوي، محمود محمد الطناحي، طع، مؤسسة اسماعليان، قم - إيران، 1364ه- ش. 200. نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، ط، أنوار الهدى، قم - إيران، 1431ه-.

201. نهج البلاغة، شرحه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبدة، حققه وزاد في شرحه زيادات هامة محمد محي الدين عبد الحميد، د ط، مطبعة الاستقامة، مصر، دت.

202. الواضح في علم العروض والقافية، محمد زرقان الفرخ، ط1، دار هبة وهدى، دمشق، 1430ه- - 2009م.

203. وجود النص نص الوجود، مصطفى الكيلاني، طه، الدراسات التونسية للنشر والتوزيع، مطبعة تونس، 1990.

204. الوسيط في أحكام التجويد ، د. محمد خالد منصور، ط3، دار المناهج، عمان - الأردن، 1429ه- - 2006م.

ص: 288

المحتويات

المقدمة ... 7 التمهيد: الأسلوبية والأسلوبية التطبيقية ... 13

الفصل الأول

توطئة ... 27 أسلوبية التكرار ...30

المبحث الأول: أسلوبية التراكم الصوتي ... 32

1-تكرار الصوت المفرد ... 32

أ) الصورة العليا للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ...32 ب) الصورة المشتركة مع الأنبياء ... 36 ج) الصورة النبوية الخاصة ... 45 د) الصورة في لوحة الواقع الاجتماعي ... 50

2- تكرار المفردة...58 3- تكرار العبارة ... 58

من كتاب له عليه السلام إلى أهل مصر مع مالك الأشتر- لما ولاه إمارتها ...63

4- التنغيم ...71

ص: 289

المبحث الثاني: أسلوبية الإيقاع ... 85

توطئة ...85 أنماط الإيقاع في أسلوب الإمام علي (عليه السلام) ...87

1. الإيقاع السجعي ...88 2. الإيقاع الوزني ... 98 3. إيقاع التكرار ... 111

الفصل الثاني

المبحث الأول: الجملة... 117توطئة ...117 الغاية من البعثة ... 134

المبحث الثاني: الأساليب ...139 توطئة ... 139 1) الاستفهام ...

141 2) النداء ...147 3) الدعاء... 156 4) الأمر ... 163

5) التعجب ... 171 6) القسم ... 173

المبحث الثالث: ظواهر أسلوبية أخرى ... 178 1. التقديم والتأخير ... 178 مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ... 179 2. البدء والختام (ربط المطلع بالخاتمة) ...187 3. الوشيح الدلالي في النصوص المختلفة ...190 4. التقابل والتناظر التركيبي ... 196

ص: 290

الفصل الثالث

المبحث الأول: الصورة التشبيهية ... 205

توطئة ...205 المبحث الثاني: الصورة الاستعارية ... 225 المبحث الثالث: الصورة الكتانية... 252 توطئة ....252 الخاتمة والنتانج ... 268 ثبت المصادر والمراجع ... 272

ص: 291

إصدارات قسم الشؤون الفكرية والثقافية

في العتبة الحسينية المقدسة

اسم الكتاب تأليف

1 السجود على التربة الحسينية السيد محمد مهدي الخرسان

2 زيارة الإمام الحسين عليه السلام باللغة الانكليزية

3 زيارة الإمام الحسين عليه السلام باللغة الأردو

4 النوران - الزهراء والحوراء عليهما السلام - الطبعة الأولى الشيخ علي الفتلاوي

5 هذه عقيدتي - الطبعة الأولى الشيخ علي الفتلاوي

6 الإمام الحسين عليه السلام في وجدان الفرد العراقي الشيخ علي الفتلاوي

7 منقذ الإخوان من فتن وأخطار آخرالزمان الشيخ وسام البلداوي

8 الجمال في عاشوراء السيد نبيل الحسني

9 ابك فإنك على حق الشيخ وسام البلداوي

10 المجاب بردّ السلام الشيخ وسام البلداوي

11 ثقافة العيدية السيد نبيل الحسني

12 الأخلاق (تحقيق: شعبة التحقيق) جزآن السيد عبد الله شبر

13 الزيارة تعهد والتزام ودعاء في مشاهد المطهرين الشيخ جميل الربيعي

14من هو؟ لبيب السعدي

15 اليحموم، أهو من خيل رسول الله أم خيل جبرائيل؟ السيد نبيل الحسني

16 المرأة في حياة الإمام الحسين عليه السلام الشيخ علي الفتلاوي

17 أبو طالب عليه السلام ثالث من أسلم السيد نبيل الحسني

ص: 292

18 حياة ما بعد الموت (مراجعة وتعليق شعبة التحقيق) السيد محمد حسين الطباطبائي

19 الحيرة في عصر الغيبة الصغرى السيد ياسين الموسوي

20 الحيرة في عصر الغيبة الكبرى السيد ياسين الموسوي

21 - 23 حياة الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) - ثلاثة أجزاء الشيخ باقر شريف القرشي

24 القول الحسن في عدد زوجات الإمام الحسن عليه السلام الشيخ وسام البلداوي

25 الولايتان التكوينية والتشريعية عند الشيعة وأهل السنة السيد محمد علي الحلو

26 قبس من نور الإمام الحسين عليه السلام الشيخ حسن الشمري

27 حقيقة الأثر الغيبي في التربة الحسينية السيد نبيل الحسني

28 موجز علم السيرة النبوية السيد نبيل الحسني

29 رسالة في فن الإلقاء والحوار والمناظرة الشيخ علي الفتلاوي 30 التعريف بمهنة الفهرسة والتصنيف وفق النظام العالمي (LC) علاء محمد جواد الأعسم

31 الأنثروبولوجيا الاجتماعية الثقافية المجتمع الكوفة عند الإمام السيد نبيل الحسني الحسين عليه السلام

32 الشيعة والسيرة النبوية بين التدوين والاضطهاد (دراسة) السيد نبيل الحسني

33 الخطاب الحسيني في معركة الطف - دراسة لغوية وتحليل الدكتور عبدالكاظم الياسري

34 رسالتان في الإمام المهدي الشيخ وسام البداوي

35 السفارة في الغيبة الكبرى الشيخ وسام البلداوي

36 حركة التاريخ وسننه عند علي وفاطمة عليهما السلام (دراسة) السيد نبيل الحسني

37 دعاء الإمام الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء - بين النظرية السيد نبيل الحسني العلمية والأثر الغيبي (دراسة) من جزءين السيد نبيل الحسني

38 النوران الزهراء والحوراء عليهما السلام - الطبعة الثانية الشيخ علي الفتلاوي

39 زهير بن القين شعبة التحقيق

40 تفسير الإمام الحسين عليه السلام السيد محمد علي الحلو

41 منهل الظمآن في أحكام تلاوة القرآن الأستاذ عباس الشيباني

42 السجود على التربة الحسينية السيد عبد الرضا الشهرستاني

43 حياة حبيب بن مظاهر الأسدي السيد علي القصير

44 الإمام الكاظم سيد بغداد وحاميها وشفيعها الشيخ علي الكوراني العاملي

ص: 293

45 السقيفة وفدك، تصنيف: أبي بكر الجوهري جمع وتحقيق: باسم الساعدي

46 موسوعة الألوف في نظم تاريخ الطفوف. ثلاثة أجزاء نظم وشرح: حسين النصار

47 الظاهرة الحسينية السيد محمد علي الحلو

48 الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين عليه السلام السيد عبدالكريم القزويني

49 الأصول التمهيدية في المعارف المهدوية السيد محمد علي الحلو

50 نساء الطفوف الباحثة الاجتماعية كفاح الحداد

51 الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد الشيخ محمد السند

52 خديجة بنت خويلد أُمّة جُمعت في امرأة - 4 مجلد السيد نبيل الحسني

53 السبط الشهيد - البُعد العقائدي والأخلاقي في خطب الإمام الحسين عليه السلام الشيخ علي الفتلاوي

54 تاريخ الشيعة السياسي السيد عبدالستار الجابري

55 إذا شئت النجاة فزر حسيناً السيد مصطفى الخاتمي

56 مقالات في الإمام الحسين عليه السلام عبدالسادة محمد حداد

57 الأسس المنهجية في تفسير النص القرآني الدكتور عدي علي الحجّار

58 فضائل أهل البيت عليهم السلام بين تحريف المدونين وتناقض مناهج المحدثين الشيخ وسام البلداوي

59 نصرة المظلوم حسن المظفر

60 موجز السيرة النبوية - طبعة ثانية، مزيدة ومنقحة السيد نبيل الحسني

61 ابك فانك على حق - طبعة ثانية الشيخ وسام البلداوي

62 أبو طالب ثالث من أسلم - طبعة ثانية، منقحة السيد نبيل الحسني 63 ثقافة العيد والعيدية - طبعة ثالثة السيد نبيل الحسني

64 نفحات الهداية - مستبصرون ببركة الإمام الحسين عليه السلام الشيخ ياسر الصالحي

65 تكسير الأصنام - بين تصريح النبي والله وتعتيم البخاري السيد نبيل الحسني

66 رسالة في فن الإلقاء - طبعة ثانية الشيخ علي الفتلاوي

67 شيعة العراق وبناء الوطن محمد جواد مالك

68 الملائكة في التراث الإسلامي حسين النصراوي

69 شرح الفصول النصيرية - تحقيق: شعبة التحقيق السيد عبد الوهاب الأسترابادي

ص: 294

70 صلاة الجمعة - تحقيق: الشيخ محمد الباقري الشيخ محمد التنكابني

71 الطفيات - المقولة والإجراء النقدي د. علي كاظم مصلاوي

72 أسرار فضائل فاطمة الزهراء عليها السلام الشيخ محمد حسين اليوسفي

73 الجمال في عاشوراء - طبعة ثانية السيد نبيل الحسني

74 سبايا آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم السيد نبيل الحسني

75 اليحموم، - طبعة ثانية، منقحة السيد نبيل الحسني

76 المولود في بيت الله الحرام: علي بن أبي طالب عليه السلام أم حكيم بن حزام؟ السيد نبيل الحسني

77 حقيقة الأثر الغيبي في التربة الحسينية - طبعة ثانية السيد نبيل الحسني

78 ما أخفاه الرواة من ليلة المبيت على فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم السيد نبيل الحسني

79 علم الإمام بين الإطلاقية والإشائية على ضوء الكتاب والسنة صباح عباس حسن الساعدي

80 الإمام الحسين بن علي عليهما السلام أنموذج الصبر وشارة الفداء الدكتور مهدي حسين التميمي

81 شهيد با خمري ظافر عبيس الجياشي

82 الشيخ محمد البغدادي العباس بن علي عليهما السلام

83 خادم الامام الحسين عليه السلام شريك الملائكة الشيخ علي الفتلاوي

84 مسلم بن عقيل عليه السلام الشيخ محمد البغدادي

85 حياة ما بعد الموت (مراجعة وتعليق شعبة التحقيق) - الطبعة الثانية السيد محمد حسين الطباطبائي

86 منقذ الإخوان من فتن وأخطار آخر الزمان - طبعة ثانية الشيخ وسام البلداوي

87 المجاب برد السلام - طبعة ثانية الشيخ وسام البلداوي

88 كامل الزيارات باللغة الانكليزية (Kamiluz Ziyaraat) ابن قولويه

89 Inquiries About Shia Islam السيد مصطفى القزويني

90 When Power and Piety Collide السيد مصطفى القزويني 91 Discovering Islam السيد مصطفى القزويني

92 دلالة الصورة الحسية في الشعر الحسيني د. صباح عباس عنوز

93 القيم التربوية في فكر الإمام الحسين عليه السلام حاتم جاسم عزيز السعدي

ص: 295

94 قبس من نور الإمام الحسن عليه السلام الشيخ حسن الشمري الحائري

95 تيجان الولاء في شرح بعض فقرات زيارة عاشوراء الشيخ وسام البلداوي

96 الشهاب الثاقب في مناقب علي بن أبي طالب عليهما السلام الشيخ محمد شريف الشيرواني

97 سيد العبيد جون بن حوي الشيخ ماجد احمد العطية

98 حديث سد الأبواب إلا باب علي عليه السلام الشيخ ماجد احمد العطية

99 المرأة في حياة الإمام الحسين عليه السلام - الطبعة الثانية- الشيخ علي الفتلاوي

100هذه فاطمة عليها السلام - ثمانية أجزاء السيد نبيل الحسني

101 وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وموضع قبره وروضته السيد نبيل الحسني

102 الأربعون حديثا في الفضائل والمناقب- اسعد بن ابراهيم الحلى تحقيق: مشتاق المظفر

103 الجعفريات - جزئين تحقيق: مشتاق المظفر

104 نوادر الأخبار - جزئين تحقيق: حامد رحمان الطائي

105 تنبيه الخواطر ونزهة النواظر - ثلاثة أجزاء تحقيق: محمد باسم مال الله

106 الإمام الحسين عليه السلام في الشعر العراقي الحديث علي حسين يوسف

This Is My Faith 107 الشيخ علي الفتلاوي

108 الشفاء في نظم حديث الكساء حسين عبدالسيد النصار

109 قصائد الاستنهاض بالإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه حسن هادي مجيد العوادي

110 آية الوضوء وإشكالية الدلالة السيد علي الشهرستاني

111 عارفا بحقكم السيد علي الشهرستاني

112 شمس الإمامة وراء سحب الغيب السيد الموسوي

ص: 296

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.