کِتَابُ شرح نهج البلاغة لابّن أَبِيْ الحَدِیْدِ المُعْتَزِلي مَصْدَرًا مِنْ مَصَادر تَارِیْخِ العَربَ قَبْل اِلإِسْلاَم

هوية الکتاب

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1357 لسنة 2016م مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda.

رقم تصنيف LC:

BP38.02. A31 2016.

المؤلف الشخصي: عجيمي، أحمد فاضل. العنوان: كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: مصدرا من مصادر تاريخ العرب قبل الإسلام.

بیان المسؤولية: تأليف أحمد فاضل عجيمي؛ تقديم سيد نبيل قدوري الحسني. بيانات الطبعة: الطبعة الأولى.

بيانات النشر:

كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة - مؤسسة علوم نهج البلاغة.

1437ه - 2019م.

الوصف المادي: 568 صفحة.

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة. تبصرة عامة:

تبصرة ببيلوغرافية: يتضمن هوامش - لائحة المصادر (الصفحات 529 – 562).

تبصرة محتويات:

موضوع شخصي: ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله بن محمد، 586 - 656هجريا - شرح نهج البلاغة - مصادر. موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين بن موسى، 359 - 406 هجریا. نهج البلاغة. شرح.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40هجريا - أحاديث.

مصطلح موضوعي: العرب - تاريخ - العصر الجاهلي.

مصطلح موضوعي: العرب - الأحوال الاجتماعية - العصر الجاهلي.

مؤلف إضافي: الحسني، نبیل قدوري حسن، 1965م، مقدم.

مؤلف إضافي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين بن موسى، 359 - 406 هجریا. نهج البلاغة. شرح عنوان إضافي: شرح نهج البلاغة. مصادر.

عنوان إضافي: نهج البلاغة. شرح.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة

ص: 1

اشارة

ص: 2

کِتَابُ شرح نهج البلاغة لابن إبي الحدید المعتزلي مصدرا من مصادر تاريخ العرب قبل الاسلام تأليف احمد فاضل عجیمی إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1437ه - 2016م العراق : كربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الاكبر عليه السلام مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815016633 الموقع :

www.inahj.org Email: Inahj.org@gmail.com

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم «لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ» صدق الله العلي العظيم سورة يوسف: الآية: 111.

ص: 5

ص: 6

الإهداء

إلى كل من نطق بكلمة حق عند سلطان جائر... إلى من أوصى الله ببّرهما فقال وبالوالدين إحسانا...

إلى عوني وأملي في الحياة عائلتي...

إلى كل من علّمني حرفاً...

أُهدي جهدي البسيط....

الباحث

ص: 7

ص: 8

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤسسة

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والصلاة والسلام على أتم النعم محمد وآله الأطهار.

وبعد:

لعلّ من أبرز اهتمامات الإنسان بالتاريخ يرتكز على ارتباطه بالحدث والحادثة التي وقعت في الماضي، ولأن هذه الحادثة موضع اهتمام الإنسان سواء كان هدفه منها الرواية والنقل الأبناء زمانه والأجيال اللاحقة، أم كان هدفه الاعتبار والتحليل والتأسيس لحياة أفضل تتجنب عوامل السقوط والانهيار.

ولذا قالوا (إن التاريخ هو الماضي الحاضر، أي إن مجموع عوارض الماضي حاضرة بأخبارها (آثارها)، وإن فحص تلك الأخبار عملية تنجز دائماً في الحاضر، والتاريخ حاضر بمعنيين:

الأول: بشواهده؛ وثانية في ذهن المؤرخ)(1).

أي: من خلال الشاهدة التاريخية تكوّن في ذهن المؤرخ تاریخ متجدد، ولذا فهو حاضر معه فأصبح يدور بين مقارنة الماضي بالحاضر، والحاضر بالماضي.

من هنا:

كانت معرفة الماضي نسبية وعملية، فهي نسبية لأنها تستجيب لمتطلبات الوضع القائم؛ وهي عملية لأنها تجيب عن أسئلة حالية. ومنهما أي من المعرفة النسبية والعملية كان موضوع التاريخ هو: «التاريخ هو الماضي الحاضر».

ص: 9


1- مفهوم التاريخ لعبد الله العروي: ص 38

في حين ذهب البعض إلى أنّ مقولة «التاريخ هو الماضي الحاضر» تعني: «أن الماضي التاريخي هو عالم ذهني، يستنبط في كل لحظة من الآثار القائمة.

أو بعبارة أخرى: موضوع التاريخ هو الماضي الذي هو حاضر، المقصود هنا ليس تمام الماضي، وإنما الماضي التاريخي، أو ما سميناه بالتاريخ المحفوظ؛ فهل يمكن أن يكون غير حاضر في الذهن، في الكلام، في الأشياء... الخ»(1).

ينتج عن هذا التحليل: «أن الكلام على أحوال الماضي هو نوع من المشاهدة، إذ لم يبق من الماضي إلا الأخبار الدالة عليه والمعاصرة لنا؛ إن التاريخ هو مجال الاستنباط، إذ المؤرخ يحمل في ذهنه كل الأخبار عن الماضي المحفوظ فيستطيع أن يقارن بينها ويستخلص منها قوانين وعبر، خلاصة بديهية قال بها جلّ المؤرخين القدامى الذين جعلوا من التاريخ مدرسة أخلاق وسياسة»(2).

إذن: موضوع التاريخ هو استخلاص القوانين والعبر من أحداث و آثار الماضي، وهو بهذا يكون، - أي التاريخ - مدرسة الأخلاق والسياسة.

في خضّم هذه التعريفات حول التاريخ، من حيث الاصطلاح والمعنى العام والخاص والمفهوم والحركة التاريخية، ما هو علم التاريخ عند العرب؟.

«يكوّن علم التاريخ عند العرب جزءاً من التطور الثقافي العام، وصلته بعلم الحديث وبالأدب بصورة خاصة وثيقة، وتستحق اهتماماً خاصاً، ثم إن ظهور الإسلام، وتكوين الإمبراطورية، والتصادم بين الآراء والتيارات الحضارية، وتطور الأمة وخبراتها، هذه كلّها حيوية لفهم التطورات الأولى للكتابة التاريخية.

ص: 10


1- مفهوم التاريخ لعبد الله العروي: ص 39
2- المصدر السابق

ومع أن علم التاريخ عند العرب ظهر في صدر الإسلام، إلا أن الاستمرار الثقافي يوجب الالتفات إلى تراث ما قبل الإسلام)(1).

ولعل هذا الهاجس الفطري والمعرفي أيضاً هو الذي دفع ابن أبي الحديد المعتزلي في إيراده لهذا الإرث التاريخي الذي تكون لديه في شرحه لحديث أمير المؤمنين عليه السلام؛ فضلاً عن ذلك فقد مارس دوره في نقد الحدث والشاهد له والراوي في مفاصل كثيرة من مكونه التاريخي لحياة العرب قبل الإسلام، ومن ثم لم يكن مؤرخاً صامتاً، بل محللاً وباحثاً ودارساً وناقداً، مما شكل حقلاً معرفياً جديداً في المنهجية الروائية للحادثة.

وهو أمر تأثر به من خلال حديث أمير المؤمنين عليه السلام في بيانه لشؤون الإنسان الحياتية وتجاذباته النفسية والذهنية التي انعكست على آلية تعامله مع الإسلام ورموزه.

ولذا: جاء شرحه لكتاب نهج البلاغة مليئاً بهذه الثقافة التاريخية المقرونة بالدراسة والتحليل، فكان (مصدراً من مصادر تاريخ العرب قبل الاسلام) كما عنون له الباحث في هذه الرسالة الجامعية القيّمة والتي جمع فيها الباحث بين تحقيق العنوان وثبوت المنهجية التحليلية للمؤرخ الباحث.

السيد نبيل الحسني رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 11


1- نشأة علم التاريخ عند العرب لعبد العزيز الدوري: ص 13

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة الكتاب

الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره، وخلق الأشياء ناطقةً بحمده وشكره، والحمد الله الذي من توكّل عليه كفاه، والذي لا ينسى من ذكره ولا يخيب من دعاه، والصّلاة. والسلام على نبيه محمد المشتق اسمه من اسمه المحمود وعلى آله الطّاهرين أولي المكارم والجود.

أما بعد:

تحتل الدراسات التاريخية التي تناولت حياة العرب قبل الإسلام أهمية كبيرة لدى الباحثين الأمرين، الأول: للوقوف على أصالة الماضي، إذ أنها تمثل القاعدة التي تقوم عليها دراسة تاريخ العرب بشكل عام والتاريخ الإسلامي بشكل خاص، والثاني: الدفع الغمامة والحيف عمّا لصق بها من رؤية البعض إليها، الذين يرون أن لا تاريخ للعرب قبل الإسلام، وأطلقوا على عصرها عصر ظلمات وفوضى، فالعربي عندهم لم يعرف حضارة ولم يتذوق ثقافة قبل الإسلام(1)، وهو رأي واهم، فما حضارة العرب في الإسلام إلا ثمرة ماضٍ طويل تخلّله ارتفاع تدريجي ونمو حضاري في كل النواحي الادبية والسياسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية التي احتوتها الكتب عندما تحدثت عن تلك الحقبة.

ص: 12


1- نقل غوستاف لوبون عن رینان مؤلف تاريخ اللغات السامية الشهير قوله (لا مكان لبلاد العرب في تاريخ العالم السياسي والثقافي والديني قبل ذلك الانقلاب المفاجئ الخارق للعادة الذي صار به العرب أمة فاتحة مبدعة، ولم يكن لجزيرة العرب شأن في القرون الأولى من الميلاد حين كانت غارقة في دياجير ما قبل التاريخ، ولم يظهر بأسها وبسالتها إلا بعد القرن السادس من الميلاد)؛ ينظر حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، دار الكتب (القاهرة: 1969م)، ص85

ويُعد کتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي في مقدمة الكتب التي ضمّت بين طياتها الكثير من الروايات التي تناولت حياة العرب قبل الإسلام، وهو شرح لكتاب نهج البلاغة الذي يعد من الكتب التي حفظت للمكتبة العربية الاسلامية مكانتها العالية في مجال العلم والأدب والتراث، فقد حوى السفر الخالد كلام أمير المؤمنين عليه السلام الذي كان يرتجل كلماته في مجالس أصحابه، وفي أثناء حروبهم، خطباً تجيش بها الذات فينطق بها اللسان فتأتي محكمة (دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق)(1)، وقد جمعه الشريف الرضي (ت 406 ه) وهو الذي يقول فيه: (يتضمن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربية وثواقب الكلم الدينية والدنياوية ما لا يوجد مجتمعاً في كلام ولا مجموع الأطراف في کتاب، إذ كان أمير المؤمنين عليه السلام مشرّع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولدها ومنه عليه السلام ظهر مكنونها وعنه أخذت قوانينها وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب وبكلامه استعان كل واعظ بليغ)(2).

وحظي الكتاب باهتمام العلماء من القدامى والمحدثين فعكفوا على قراءته وشرحه، فكثرت الشروح وتنوعت دراساته وتداولها الناس حتى عدّ بعضهم أكثر من مائة دراسة(3)، ويعد شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد من أشهر الشروح وأكثرها انتشاراً وأغزرها مادة، فهو موسوعة أدبية تاريخية وفكرية، تجمع بين المتعة والفائدة، ويشتمل على الكثير من الكتب التي نقل منها ابن أبي الحديد، إذ كان يهدف في كتابه إلى عرض المعلومة الصحيحة، فنراه لا يفرط في رواية واحدة يمكن الاستفادة منها، وقد ضم كتابه مجموعة من الكتب المفقودة التي

ص: 13


1- جرداق، جورج، روائع نهج البلاغة، ط 2، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، (قم 1997 م)، ص 5
2- ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد عبد الحميد بن هبة الله المدائني (ت 656ه)، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم، دار الكتاب العربي، (بغداد 2005م)، 1 / 67
3- لمعرفة تفاصيلها ينظر الخطيب، عبد الزهرة الحسيني، مصادر نهج البلاغة وأسانيده، ط3، دار الأضواء، (بیروت 1985)، 1 / 53 - 57؛ الشهرستاني، هبة الله الحسيني، ما هو نهج البلاغة، تعليق عبد الستار الحسيني، العتبة العلوية المقدسة، (النجف الاشرف 2010)، ص53 - 57

حفظت عناوينها ومقتبسات منها فيه، وكانت ثقافة ابن أبي الحديد ومعرفته بأغلب علوم المعرفة قد جعلته جديراً بالتصدي لشرح کلام الإمام علي عليه السلام وإخراجه بالصورة الجميلة التي وصلت إلينا.

وحاول بعض المشككين والمبغضين للإمام عليه السلام أن يثيروا الشبهات حول نهج البلاغة ومقدار نسبته إليه، فقالوا إنما الذي جمعه هو الذي وضعه، ويقصدون الشريف الرضي، لمجموعة من الاسباب الواهية التي فندها الكثيرون(1)، ولعل أبرزهم ابن أبي الحديد في شرحه إذ قال: (إما أن يكون كل نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً أو بعضه والأول باطل بالضرورة لأننا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وقد نقل المحدثون كلهم أو جلّهم والمؤرخون كثيرا منه وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك، والثاني يدل على ما قلناه لأن من قد أنس بالكلام والخطابة وشدا طرفا من علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب لابد أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح وبين الفصيح والأفصح وبين الأصيل والمولد... وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماءً واحداً ونفساً واحداً وأسلوباً واحداً کالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية، وكالقرآن العزيز أوّله كأوسطه وأوسطه كآخره وكل سورة منه وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور ولو كان بعض نهج البلاغة منحولاً وبعضه صحيحاً لم يكن ذلك كذلك، فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أن هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين عليه السلام)(2).

إن المكانة العلمية التي يتمتع بها ابن أبي الحديد كانت الدافع لاختيار هذا الموضوع فضلاً عن سببين آخرين:

الأول: إنّ ابن أبي الحديد لم يكن بصدد ذكر تاريخ العرب قبل الإسلام بل ركَّز اهتمامه

ص: 14


1- أفرد لها السيد عبد الزهرة الخطيب (99) صفحة للرد عليها، ينظر مصادر نهج البلاغة وأسانيده، 1 / 100 - 199
2- شرح نهج البلاغة، 10 / 101 - 102

على الحوادث التاريخية التي حدثت في صدر الإسلام المستوحاة من خطب وكلام الإمام علي عليه السلام، لذا دفعنا الاصرار والتحدي إلى اختيار الموضوع، لأن المادة العلمية كانت متناثرة بين السطور، ولإثبات إن ابن أبي الحديد كان موسوعياً، أنه لم يغفل جانباً معيناً من تاريخ العرب في شرحه.

الثاني: من خلال البحث، لم نجد دراسات تاريخية أكاديمية خصصت لدراسة كتاب شرح نهج البلاغة، إذ ان اغلب الدراسات السابقة كانت دراسات فلسفية ونحوية ولغوية، لعل من أبرزها أطروحة الدكتوراه الموسومة ب(شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد رؤية اعتزالية عن الإمام علي عليه السلام) لجواد كاظم النصر الله، وأطروحة الدكتوراه الموسومة ب(الوجود الإلهي عند ابن أبي الحديد) لرؤوف الشمري، ورسالة الماجستير (ابن أبي الحديد سيرته وآثاره الأدبية والنقدية)، للباحث علي جواد محيي الدين، ورسالة ماجستير ل(حامد ناصر عبود) عنوانها ( ابن أبي الحديد وجهوده النقدية والبلاغية)، وأطروحة الدكتوراه (المباحث اللغوية في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد)، للدكتور هادي عبد علي هويدي، ورسالة ماجستير السجاد عباس حمزة) بعنوان (المباحث النحوية في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد)، فضلاً عن بعض البحوث المنشورة في المجلات ولعلّ من أبرزها بحث مشترك للدكتور جواد كاظم النصر الله والدكتور شاكر مجيد كاظم الذي نشر في مجلة أبحاث البصرة بعنوان (الحياة العقائدية والاجتماعية عند العرب قبل الإسلام في شرح نهج البلاغة) وركّز فيه الباحثان على الجزء التاسع عشر من كتاب الشرح فقط.

ونظراً لسعة الدراسة وتعدد مفاصلها، اقتضت الضرورة تقسيمها على مقدمة وخمسة فصول وخاتمة تضمّنت أهم الاستنتاجات التي توصل إليها الباحث بوصفها المحصلة النهائية لكل ما ورد في فصول الرسالة من معلومات.

تناول الفصل الأول سيرة ابن أبي الحديد وكتابه شرح نهج البلاغة وضم مبحثين: الأول كان في سيرة ابن أبي الحديد من حيث نسبه وكنيته ونشأته وعصره وعقيدته ومنزلته العلمية

ص: 15

وآراء العلماء فيه وشيوخه وتلامذته ومؤلفاته وتاريخ وفاته، والمبحث الثاني منهجه ومصادره عن تاريخ العرب قبل الإسلام.

أما الفصل الثاني فقد خصص للحياة الاجتماعية عند العرب قبل الإسلام، وضم خمسة مباحث، تحدث المبحث الأول عن القيم الأخلاقية عند العرب مثل الشجاعة والفروسية والكرم والضيافة وصلة الرحم والجوار وحسن المجاورة، وتناول المبحث الثاني المعتقدات الشعبية والاجتماعية مثل الهامة والصفر والطيرة والفأل والبلية والعقر على القبور والرقي وتخيلاتهم في السفر والأطعمة والأشربة والعين، وتناول المبحث الثالث القوانين والعقوبات عند العرب قبل الإسلام مثل الخلع وجز الناصية والقسامة والديّة والسجن، وتناول المبحث الرابع الحياة الأسرية عند العرب قبل الإسلام مثل نظرة العرب للمرأة والنكاح والطلاق والزنا ووأد البنات، وتناول المبحث الخامس الأنساب.

وجاء الفصل الثالث تحت عنوان الحياة الفكرية عند العرب قبل الإسلام وضم أربعة مباحث، تحدث المبحث الأول عن المعتقدات الدينية المعطلة عند العرب قبل الإسلام مثل الدهرية وعبادة الأصنام وأصحاب التجسيم والتناسخ وعبادة الجن، و غير المعطلة مثل الحنيفية، وديانات اخرى مثل اليهودية، والمسيحية، والصابئة، والمجوسية، وتضمّن المبحث الثاني الطقوس الدينية عند العرب قبل الإسلام مثل الاستقسام بالأزلام والخلف والاستسقاء والحج والعمرة، أما المبحث الثالث فقد خصص لمعارف العرب قبل الإسلام مثل الكهانة والعرافة والقيافة والعيافة ومعرفة النجوم ومسالك الطرق والطب، وتناول المبحث الرابع الأمثال.

والفصل الرابع تناول الحياة الاقتصادية عند العرب قبل الإسلام وقد جاء في مبحثين، خصص المبحث الأول للنشاطات الاقتصادية مثل الزراعة والصناعة والتجارة، وتناول المبحث الثاني أسواق العرب قبل الإسلام.

وتناول الفصل الخامس دراسة الحياة السياسية عند العرب قبل الإسلام وقد احتوى هذا الفصل على مبحثين، الأول تحدث عن الممالك والمدن السياسية قبل الإسلام مثل مكة

ص: 16

والحيرة وكندة والغساسنة ويثرب، وتحدث المبحث الثاني عن أيام العرب قبل الإسلام.

ولعلّ من أكثر الصعوبات التي واجهت الباحث في الدراسة هي تنوع المادة التاريخية الخاصة بالعرب قبل الإسلام ووجودها بشكل عام دون التفاصيل، وتناثرها في طيّات کتاب شرح نهج البلاغة في أجزائه العشرين، وحتى يتم الإلمام بها كان لابد للباحث من مراجعة دقيقة الكل الكتاب ولأكثر من مرة للوقوف على ما أخفته السطور من حقائق ومعلومات، ومن ثم الرجوع إلى عدد كبير من المصادر والمراجع للاطلاع عليها والاستفادة منها في توضيح الكثير من الحقائق، مما كان له الأثر الواضح في تكوين صورة شاملة عن حياة العرب قبل الإسلام بجميع جوانبها.

أما بشأن المصادر والمراجع فقد اعتمدت الدراسة على مجموعة كبيرة من المصادر والمراجع يمكن بيانها بالشكل الآتي:

أولاً: القرآن الكريم:

يعد القرآن الكريم من أهم المصادر لدراسة حياة العرب قبل الإسلام، فهو يقدم لنا صورة متكاملة عن حياتهم الدينية، والفكرية، والاقتصادية، والاجتماعية، واستعان الباحث بالنصوص القرآنية لما فيها من إشارات وأخبار قيّمة عن الفترة التي سبقت الإسلام لاسيما فيما يتعلق بالآيات التي تخص المعتقدات الدينية عند العرب وطقوسهم الدينية الخاصة بالحج، والآيات التي تتحدث عن أنواع النكاح التي كانت معروفة عند العرب، والوأد، وغير ذلك.

ثانياً: كتب التاريخ العام:

ويأتي في مقدمتها كتاب الأصنام لابن الكلبي (ت 4 20 ه) إذ اعتمد عليه الباحث كثيراً في دراسة أصنام القبائل العربية قبل الإسلام والآلهة التي كانوا يعبدونها والبيوتات المقدسة عند العرب وأماكن عبادة هذه الأصنام ومن كان يعبدها، ويشاركه في هذه الميزة معمر بن المثنى (ت 209 ه) في كتابه أيام العرب قبل الإسلام، وابن حبيب (ت 245 ه) في كتابيه المحبّر، والمنمّق، اللذين انتهجا نهجه في ذكر أيام العرب قبل الإسلام وتلبياتهم لأصنامها، فقد ذكر

ص: 17

الصنم ومن لبي له من القبائل، وكذلك كتاب أخبار مكة للأزرقي (ت 250 ه)، إذ اعتمد عليه الباحث كثيراً في المعلومات الخاصة بمكة وديانتها وأحداثها، أما كتاب المعارف لابن قتيبة (ت 276 ه) وتاريخ اليعقوبي (ت 292 ه)، والكامل في التاريخ لابن الأثير الجزري (630 ه)، وغيرها من كتب التاريخ فقد كان لها دور في ذكر بعض عقوبات وقوانين العرب قبل الإسلام وأيامها وبعض العادات والتقاليد الاجتماعية ومنها أنواع الزواج والطلاق عند العرب قبل الإسلام. ثالثاً: كتب السيرة:

إنّ أكثر ما اهتمت به كتب السيرة هو كتابة السيرة النبوية الشريفة إلا أن تلك المصادر تطرقت إلى بعض الأحداث التي كان لها صلة بالسيرة النبوية الشريفة قبل البعثة ومنها حادثة محاولة هدم الكعبة من قبل أبرهة الحبشي (حادثة الفيل)، والحديث عن آل هاشم ودورهم في مكة فضلاً عن إشارتها إلى بعض النشاطات الاقتصادية ولاسيما عقد الايلاف والمحالفات الاقتصادية، وقد أفادت الرسالة في هذا المجال من كتاب المغازي للواقدي (207 ه)، وكتاب السيرة النبوية لابن هشام (ت 213 ه).

رابعاً: كتب الأنساب:

وأفادت الدراسة كذلك من بعض كتب الأنساب في معرفة أنساب بعض القبائل العربية وفي معرفة أنساب بعض الشخصيات التي ورد ذكرها في الدراسة ولا سيما المبحث الخامس من الفصل الأول الذي تحدث عن الأنساب، فضلاً عما احتوت عليه من معلومات عن تاریخ العرب قبل الإسلام، ومن أبرز تلك الكتب جمهرة النسب لابن الكلبي (204 ه)، وكتاب نسب قریش لمصعب الزبيري (236 ه)، وكتاب جمهرة أنساب العرب لابن حزم الأندلسي (456 ه) ومجموعة أخرى من كتب الأنساب.

خامساً: كتب الطبقات والتراجم:

كان لهذه الكتب فائدة كبيرة للبحث، إذ قدّمت تراجم مفصلة عن كثير من الشخصيات في صدر الإسلام وعصر ما قبل الإسلام، وتراجم شيوخ وتلامذة ابن أبي الحديد وميولهم،

ص: 18

وتراجم أصحاب مصادر ابن أبي الحديد، ومن أبرز تلك الكتب کتاب الطبقات الكبرى لابن سعد (230 ه)، والفهرست لابن النديم (428 ه)، ووفيات الأعيان لابن خلّکان (681 ه)، وسير أعلام النبلاء للذهبي (748 ه)، وفوات الوفيات لأبي شاكر الكتبي (764 ه)، والوافي بالوفيات للصفدي (764 ه).

سادساً: كتب التفسير والحديث:

تعد كتب التفاسير ذات قيمة كبيرة أيضاً، وقد استفاد الباحث منها كثيراً لاسيما فيما يتعلّق بتفسير عدد من الآيات القرآنية، وتوثيق الأحاديث النبوية التي وردت في شرح نهج البلاغة ومن أهمها جامع البيان في تفسير القرآن للطبري (ت 310 ه)، والجامع لأحكام القران للقرطبي (ت 671 ه)، أما كتب الحديث فمن أهمها كتاب صحيح البخاري (ت 256 ه) وكتاب صحيح مسلم (ت 261 ه)، وغيرهما من كتب الحديث.

سابعاً: كتب اللغة:

أفادت الدراسة من كتب اللغة في بيان معاني كثير من المفردات اللغوية التي وردت في ثنايا البحث، فضلاً عمّا حفلت به تلك المعاجم اللغوية من الأخبار ومعلومات تاريخية مهمة من خلال توضيحها لكثير من المفردات اللغوية وما تعنيه هذه المفردات من معانٍ عند العرب قبل الإسلام والتي قد يصعب على القارئ فهمها لأول وهلة ومنها كتاب الصحاح للجوهري (393 ه)، ولسان العرب لابن منظور (711 ه) وتاج العروس للزبيدي (1205 ه) وغيرها من المعاجم اللغوية التي لا تقل أهمية عمّا ذكرنا منها. ثامناً: كتب الأدب والدواوين والأمثال:

وقد أمدّت هذه الكتب الدراسة بنصوص مهمة جاءت عن طريق الشعر والأمثال وما احتوتها من قصص وحوادث عن تاريخ العرب قبل الإسلام، إذ عكست لنا الصورة الاجتماعية والاقتصادية والحضارية لواقع العرب ونذكر منها كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه (ت 328 ه)، وكتاب الأغاني لأبي الفرج الاصفهاني (ت 356 ه)، والكامل في اللغة والأدب للمبرد (285 ه)، كما اعتمدت الدراسة على بعض الدواوين الشعرية مثل دیوان

ص: 19

امرئ القيس وديوان الأعشى الكبير والنابغة الذبياني وبشر بن أبي خازم، و دیوان حاتم الطائي، وديوان زهير بن أبي سلمى، وحسان بن ثابت، وديوان الخنساء، وغيرها من الدواوين الشعرية.

وأفادت الدراسة ايضاً من بعض كتب الأمثال فائدة كبيرة في توثيق ما أورده ابن أبي الحديد في كتابه شرح نهج البلاغة من أمثال تخص الحقبة التي عاشها العرب قبل الإسلام، فهي عبارة عن صورة صادقة تصور حياة العرب قبل الإسلام، منها كتاب الامثال للأصمعي (ت 217 ه)، وكتاب جمهرة أمثال العرب لأبي هلال العسكري (365 ه)، وفصل المقال في شرح كتاب الأمثال للبكري (ت 478 ه)، وكتاب مجمع الأمثال للميداني (518 ه).

تاسعاً: كتب البلدان:

كان لكتب الجغرافية والبلدان دور كبير في إغناء الدراسة بالمعلومات الخاصة بتحديد العديد من المواقع والمدن التي حدثت فيها أيام العرب قبل الإسلام وفي تحديد أسواقهم وقد أغنتنا معلومات قيّمة، أزالت عنّا كثيراً من الغموض، فهي بحق تحوي كثيراً من التفاصيل التي من الصعب وجودها في المصادر الأخرى، ولعل أبرز من زودنا بتلك المعلومات کتاب صفة جزيرة العرب للهمداني (334 ه)، ومعجم البلدان لياقوت الحموي (ت 626 ه)، الذي يعد موسوعة في الجغرافية والتاريخ واللغة والادب.

عاشراً: المراجع الحديثة تأتي الدراسات الحديثة مكملة لما أوردته المصادر فكان لها دور أساسِ في سد الثغرات التي لم يعثر عليها في المصادر الأولية، ويأتي في مقدمتها كتاب المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي الذي يعد من المراجع التاريخية الحديثة الشاملة لتاريخ العرب قبل الإسلام، إذ لا يمكن لأي باحث الاستغناء عنه، وقد أمدنا بمعلومات وافية في جميع فصول الدراسة، وكتاب بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب لمحمود شكري الآلوسي الذي يعد من المراجع المهمة، وكان للأدباء المحدثين دور كبير في الدراسة من خلال تحليلاتهم للشعر العربي والحياة العامة للعرب قبل الإسلام ومنها كتاب العصر الجاهلي لشوقي ضيف وكتاب

ص: 20

الحياة العربية من خلال الشعر الجاهلي لأحمد الحوفي.

وقد كان للدوريات والرسائل الجامعية وبعض البحوث فائدة كبيرة عزز الباحث من خلالها الدراسة بالكثير من الآراء والأفكار وقد أمدّتنا بمادة علمية واسعة.

وهناك كثير من المصادر والمراجع التي تم الاعتماد عليها يضيق المقام عن ذكرها في المقدمة، آليت أن أذكرها في آخر الدراسة ضمن قائمة المصادر والمراجع.

وأخيراً حاولنا جاهدين أن نسجل للمكتبة العربية دراسة جديدة حول شرح نهج البلاغة تضاف إلى الدراسات الأخرى، وما هي الا جانب واحد من جوانب عديدة جديرة بالدراسة والبحث لازالت تنتظر أقلام الباحثين المولعين بنهج البلاغة، راجين من الله القبول والتوفيق .

الباحث

ص: 21

ص: 22

الفصل الأول:

ابن أبي الحديد؛ سيرته ومنهجه ومصادره عن العرب قبل الإسلام.

المبحث الأول: سيرة ابن أبي الحديد ومنزلته العلمية وآثاره.

المبحث الثاني: منهجية ابن أبي الحديد ومصادره في كتاب نهج البلاغة.

ص: 23

ص: 24

المبحث الأول سيرة ابن أبي الحديد ومنزلته العلمية وآثاره

أولاً: اسمه ونسبه وكنيته:

عزّ الدين عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد(1)، أبو

ص: 25


1- ینظر ترجمته عند: ابن خلکان، أبو العباس شمس الدین أحمد بن محمد بن أبي بکر (ت 681 ه)، وفیات الأعیان وأنباء أبناء الزمان، تحقیق إحسان عباس، دار الثقاقة، بیروت، (د.ت)، 5 / 392؛ الذهبي، شمس الدین محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748 ه)، سیر أعلام النبلاء، تحقیق بشار عواد، ومحي هلال سرحان، مؤسسة الرسالة، (بیروت 1983 م)، 23 / 372؛ ابن الفوطي، کمال الدین ابو الفضل عبد الرزاق بن تاج الدین بن أحمد الشیباني الحنبلي (ت 723 ه)، تلخیص مجمع الآداب في معجم الالقاب، تحقیق مصطفی جواد، مطبوعات مدیریة إحیاء التراث القدیم، (دمشق 1963)، 4 / قسم 1، ص190؛ الکتبي؛ محمد بن شاکر (ت 764 ه)، فوات الوفیات، تحقیق علي بن محمد بن یعوض الله، وعادل أحمد عبد الموجود، (دار الکتب العلمیة، (بیروت 2000م)، 1 / 609؛ الصفدي، صلاح الدین خلیل بن أیبك (ت 764 ه)، الوافي بالوفیات، تحقیق أحمد الأرناؤوط، وترکي مصطفی، دار إحیاء التراث، (بیروت 2000م)، 18 / 46؛ الغیث المنسجم في شرح لامیة العجم، دار الکتب العلمیة، (بیروت 2003)، 2 / 175؛ ابن الکثیر، عماد الدین أبي الفداء بن عمر الدمشقي (ت 774 ه)، البدایة والنهایة، تحقیق علي شیري، دار إحیاء التراث العربي، (بیروت 1988 م)، 13 / 233؛ الغساني، الملك الاشرف ابو العباس اسماعیل بن العباس بن رسول (ت 803 ه)، العسجد المسبوك والجوهر المحکوك في طبقات الخلفاء والملوك، تحقیق شاکر محمود عبد المنعم، د التراث الاسلامي، (بیروت 1975) 2 / 642؛ المقریزي، أبو العباس أحمد بن علي بن عبد القادر (ت 845 ه)، السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقیق محمد عبد القادر عطا، دار الکتب العلمیة، (بیروت 1997)، 1 / 497؛ الخوانساري، محمد باقر بن زین الدین (ت 1313 ه)، روضات الجنّات في أحوال العلماء والسادات، الدار الإسلامیة للطباعة، (بیروت 1991 م)، 5 / 19؛ القمي، عباس بن محمد رضا، الکنی والألقاب، تقدیم محمد هادي الأمیني، مکتبة الصدر، (طهران 1975)، 1 / 193؛ بروکلمان، کارل، تاریخ الأدب العربي، ترجمة رمضان عبد التواب، مراجعة یعقوب بکر، دار المعارف، (القاهرة 1983)، 5 / 177؛ البغدادي، اسماعیل باشا، هدیة العارفین أسماء المؤلفین وآثار المصنفین، دار إحیاء التراث العربي، بیروت (د.ت)، 1 / 507؛ الزرکي خیر الدین، الاعلام، ط 15، دار العلم للملایین، (بیروت 2002)، 3 / 289

حامد(1) المدائني البغدادي(2) المعتزلي(3).

ولد بالمدائن في ذي الحجة من سنة (586 ه)(4)، وهو من أسرة عربية ذات مقام رفيع حيث كان بعض أفرادها من رجال العلم والحديث والأدب المعروفين في البلاط العباسي، فأبوه هبة الله بن أبي الحديد قاضي المدائن وخطيبها، وكان فقيهاً على مذهب

ص: 26


1- کنیته (أبو حامد) أما لقبه فلقب ب(عزّ الدين)، ينظر: ابن خلکان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، 5 / 391
2- نسبة إلى المدائن وهي مدينة تقع جنوبي شرق بغداد على مسافة ستة فراسخ منها، سمتها العرب بالمدائن لأنها سبع مدائن بين كل مدينة إلى الاخرى مسافة قريبة أو بعيدة كانت ولادة ابن أبي الحديد وصباه فيها، ينظر یاقوت الحموي، شهاب الدين أبي عبد الله بن عبد الله الرومي البغدادي (ت 626 ه)، معجم البلدان، قدم له محمد عبد الرحمن المرعشلي، دار إحياء التراث العربي، (بیروت 2008)، 7 / 222
3- نسبة إلى المعتزلة، وهي فرقة كلامية ظهرت في أواخر القرن الأول الهجري في البصرة، وتبنت آراءً وأفكاراً تختلف في عدد من المسائل عما كان مألوفاً عند علماء المسلمين، وقامت على أصول خمسة، هي التوحيد والعدل والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. سميت بهذا الاسم لاعتزال مؤسسها واصل بن عطاء (ت 131 ه) مجلس استاذه الحسن البصري (ت 110 ه)، ثم تحولت إلى مدرستين مدرسة البصرة ومدرسة بغداد، وتميّزت مدرسة بغداد بالميل إلى الإمام علي عليه السلام فهم يرون القول بالتفضيل، لذا نجد ابن أبي الحديد يفتتح شرحه بالقول بالتفضيل ثم يؤكد على هذه المسألة في أجزائه العشرين أينما سنحت له الفرصة والرغبة بتطبيق الاعتزال عملياً، ينظر الشهرستاني، أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد (ت 549 ه)، الملل والنحل، تحقيق إبراهيم شمس الدين، مؤسسة الأعلمي، (بیروت 2009)، ص 49 -51؛ النصر الله، جواد کاظم منشد، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي رؤية اعتزالية عن الإمام علي، مؤسسة ذوي القربی، (قم 1384)، ص 9 -11
4- الصفدي، الغيث المنسجم في شرح لامية العجم، 2 / 175

الإمام الشافعي، إذ تخرّج من المدرسة النظامية، وأصبح شيخاً من شيوخ الحديث في بغداد والمدائن توفي سنة 613 ه(1).

أمّا إخوته فأبرزهم كان موفق الدين أبو المعالي أحمد ويدعى القاسم، كان أديباً فقیهاً فاضلاً، شاعراً محسناً، مشاركاً في أكثر العلوم غزير العلم(2)، وكان أشعرياً في الأصول(3) وتولّى منصب القضاء في المدائن أيام الخليفة الظاهر (622 - 623 ه) وصنّف كتاباً سمّاه (الحاكم في اصطلاح الخراسانيين والعراقيين في معرفة الجدل والمناظرة) ثم تولّى كتابة الإنشاء للخليفة المستعصم العباسي ( 640 - 656 ه)، كما تولّى أمر خزائن الكتب مع أخيه عزّ الدّين بعد احتلال بغداد، توفي في رجب سنة 656 ه، بعد وفاة الوزير ابن العلقمي(4) بنحو إسبوع(5).

وكان أخوه الثاني أبو البركات، محمد بن هبة الله، أديباً فاضلاً، موصوفاً بالذكاء ، وعنده فضل غزير وكتابة ضبط تام، ويقول الشعر، مات شاباً عن أربع وثلاثين في حياة

ص: 27


1- المنذري، زكي الدين ابو محمد عبد العظيم بن عبد القوي (ت 656 ه)، التكملة لوفيات النقلة، تحقيق بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، (بیروت 1984)، 2 / 382؛ الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان، (ت 748ه)، المختصر من تاريخ ابن الدبيثي، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، (بیروت 1997)، ص 368
2- الكتبي، محمد بن شاكر، فوات الوفيات، 1 / 189؛ الصفدي، الوافي بالوفيات، 8 / 146؛ الغساني، العسجد المسبوك والجوهر المحكوك في طبقات الخلفاء والملوك، 2 / 641
3- ابن العماد، شهاب الدين أبو الفلاح عبد الحي بن أحمد الحنبلي الدمشقي (ت 1089ه)، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تحقیق عبد القادر الأرنؤوط، ومحمود الأرنؤوط، دار ابن کثیر، (بیروت 1991)، 7 / 485
4- محمد بن أحمد بن علي، أبو طالب مؤيد الدين الأسدي البغدادي المعروف بابن العلقمي (ت 656 ه)، وزیر المستعصم العباسي، اشتغل في صباه بالأدب، وارتقى إلى رتبة الوزارة (سنة 642) فوليها أربعة عشر عاما. ينظر الصفدي ، الوافي بالوفيات، 1 / 151؛ الزركلي، الاعلام 5 / 321
5- ابن العماد، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، 7 / 485؛ محيي الدين، علي، ابن أبي الحديد سيرته وآثاره الأدبية والنقدية، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة القاهرة، 1977، ص71

والده سنة 598 ه، أما الثالث عبد اللطيف، فكان فقيهاً على مذهب الإمام الشافعی، وموصوفاً بالفضل، وله نظر في علم الكلام والأدب توفي سنة 601 ه ودفن بمشهد الإمام موسی بن جعفر (عليهما السلام)(1).

أما أولاد ابن أبي الحديد فلم تذكر المصادر التي تناولت سيرته عن ذكر عقب له، إلا إننا يمكن أن نستنتج أن له أهلاً وولداً، مما حدّث هو عن نفسه في كتاب شرح نهج البلاغة فهو يقول مقدماً لبعض شعره (ومن شعري أيضا في المعنى وكنت أنادي به ليلا في مواضع مقفرة خالية من الناس بصوت رفيع وأجدح قلبي أيام كنت مالكا أمري مطلقا من قيود الأهل والولد وعلائق الدنيا)(2).

ثانياً: نشأته وعصره:

بعد انتقاله إلى بغداد، بلاد العلم والثقافة التي يتوافد إليها العلماء والادباء من كل بقاع العالم الإسلامي، وفي ضوء توفر المكتبات التي تحتوي على مختلف الكتب بكل مجالاتها الفلسفية والأدبية والعلمية، ظهرت شخصية ابن أبي الحديد العلمية مع بروز قوی نشاط أهل المذاهب والعقائد و مجالسهم وكثرة أصحابها، في تلك المدة التي امتازت بنوع من الحرية الفكرية وكَثُرت المؤلفات للطوائف الدينية في بيان مذاهبهم وعقائدهم، وكان المعتزلة من أقواهم وأكثرهم حركة في التأليف المذهبي والفكري إلى جانب الأشعرية والإمامية والزيدية، فاختلط ابن أبي الحديد بعلمائها، ومال في نهاية المطاف إلى الاعتزال، وصار من أبرز علماء المعتزلة في مجلس النظر، ومن أبرز مناظراته کانت مناظرته مع علي بن الفارقي في مسألة فدك، إذ سأل ابن أبي الحديد المعتزلي علي بن الفارقي: أكانت فاطمة عليها السلام صادقة في دعواها؟ فأجاب علي بن الفارقي:

ص: 28


1- المنذري، التكملة لوفيات النقلة، 2 / 58
2- شرح نهج البلاغة : 13 / 41

نعم. فسأله ابن أبي الحديد: فلم لم يدفع اليها أبو بكر وهي عنده صادقة؟ فرد عليه علي بن الفارقي مبتسما وقال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجاءت إليه غدا وادعت لزوجها الخلافة، وزحزحته عن مقامه، ولم يمكنه الاعتذار والموافقة بشيء، لأنه يكون قد اسجل على نفسه أنها صادقة فيما تدّعي كائنا ماكان من غير حاجة إلى بينة وشهود، وقد استحسن قوله ابن أبي الحديد وقال: هذا كلام صحيح وإن كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل(1).

عاصر ابن أبي الحديد خلال مدة حياته التي قاربت السبعين عاماً مجموعة من الاحداث المليئة بالاضطرابات والفتن، إذ أدرك فيها من الخلفاء العباسيين أربعة؛ الناصر الدين الله (575 - 122 ه)، والظاهر بأمر الله (622 - 623 ه)، والمستنصر بالله (623 - 640 ه)، والمستعصم بالله (640 - 656 ه).

فسیاسياً كان السلاجقة في أيامهم الأخيرة، إذ تمكّن الخليفة العباسي الناصر لدین الله من القضاء عليهم وإسترجاع السلطة منهم بعد أن أوعز إلى سلطان خوارزم علاء الدين بالزحف نحو السلطان السلجوقي (طغرل) فزحف إليه في سنة (590 ه) فقتله وحمل رأسه إلى بغداد(2)، وبذلك أعاد للخلافة هيبتها، واستمر ذلك في خلافة ابنه الظاهر بأمر الله، أما في خلافة المستنصر بالله الذي كان شغوفاً بحب العلم والمعرفة، فقد تقرَّب إليه أهل العلم والأدب وامتدحه كثيرون، منهم ابن أبي الحديد، فقد ألّفَ دیواناً کاملاً أسماهُ (المستنصریات) مدح في قصائده الخمسَ عشرة الخليفة المستنصر بالله

ص: 29


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 218؛ الغزي، محسن راشد طريم، المجالس الاسلامية العامة في بغداد في العصور العباسية المتأخرة 334 - 656، أطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية التربية، جامعة بغداد، 2007، ص130
2- السامرائي، خليل إبراهيم وآخرون، تاريخ الدولة العربية الاسلامية في العصر العباسي 132 - 656 ه، دار الكتب، (الموصل 1988)، ص 338

العباسي(1). غير أن في مدَّة حكمه كانت غارات المغول التتار تُشَن بين الحين والآخر على مدن العراق، إلى أن تسلّم الخلافة المستعصم بالله في سنة (640 ه) الذي يصفه ابن الطقطقي فيقول: (كان المستعصم رجلاً خيّراً متديناً، ليّن الجانب، سهل العريكة، عفيف اللسان، حمل كتاب الله تعالی وکتب خطّاً مليحاً. وكان سهل الأخلاق، وكان خفيف الوطأة، إلاّ أنّهُ كان مستضعف الرأي، ضعيف البطش، قليل الخبرة بأمور المملكة، مطموعاً فيه، غير مهيب في النفوس، ولا مطّلع على حقائق الأمور، وكان زمانه ينقضي أكثره بسماع الأغاني والتفرج على المساخرة، وفي بعض الأوقات يجلس بخزانة الكتب جلوسا ليس فيه كبير فائدة، وكان أصحابه مستولين عليه وكلّهم جهّال من أراذل القوم)(2).

هذا الوضع السياسي المضطرب خلق نوعاً من عدم التوازن داخل المجتمع، فقد ظهرت هناك طبقتان، الأولى هي الطبقة المترفة الغنية وعلى رأسها الخليفة وأتباعه من الأقرباء المتنفذين، ويتلوهم حواشيهم من الوزراء والقادة والأمراء والولاة وكبار الموظفين. والطبقة الثانية وهي الطبقة العامّة الفقيرة المعدمة، وتشمل غالبية المجتمع المنهمك بالصراع الديني والمذهبي، وكانت تعاني كثيراً من الضنك والضيق لكثرة الضرائب التي كانت تجبي منها وقلّة ما كان يعود عليها من الكسب(3). فضلا عن ابتلائهم بأوضاع اقتصادية متدهورة من جراء الكوارث الطبيعية وما تخلّفها لهم وتفتك بهم فتكاً ذريعاً، منها كثرة الأمطار والفيضانات التي تسببت بغرق كثير من المحلات

ص: 30


1- ينظر الكتاب ضمن مؤلفات ابن أبي الحديد ص 29 من الرسالة
2- ابن الطقطقي، محمد بن علي بن طباطبا (ت 709 ه)، الفخري في الاداب السلطانية ، مطبعة مرسو، (مدينة شالون 1894)، ص 448
3- المشهداني، ارکان طه عبد، النهضة العلمية والثقافية في بغداد في القرنين الخامس والسادس الهجريين، أطروحة دكتوراه غير منشورة، المعهد العالي للدراسات السياسية والدولية، الجامعة المستنصرية ، 2005، ص 44 - 48

وتلف الكثير من الأمتعة والغلات، فقد ذكر ابن الجوزي في حوادث سنة 515 هجرية أن أمطاراً عظيمة وقعت ودامت واتصلت بجميع العراق، وأهلكت ما على رؤوس النخل وفي الشجر من الأرطاب والأعناب والفواكه، وما كان في الصحارى من الغلات، ثم سقط الثلج ببغداد ودام سقوطه إلى وقت الظهر من الغد فامتلأت به الشوارع والدروب، وبقي خمسة عشر يوماً ما ذاب، وهلك شجر الأترج والنارنج والليمون(1).

وفي احداث سنة 554 ه قال ابن الجوزي كثر المد بدجلة وبقي الماء الذي في داخل البلد يدب في المحال إلى أن وصل إلى بعض دروب المدينة فما وجد حائطاً قائماً، ولم يعرف أحد موضع داره إلا بالتخمين، وإنما الكل تلال، واستدل البعض على دربه من منارة المسجد فإنها لم تقع، وغرقت مقبرة الإمام أحمد بن حنبل وغيرها من الأماكن والمقابر وانخسفت القبور(2)، ومن جهة اخرى كثرة الامراض التي فتكت بالناس حيث بدأ الطاعون ببغداد ونواحيها، وكان عامة أمراضهم الصفراء، فمات منه نحو عشرين ألف ببغداد، وكان المرض يكون خمسة أيام وستة ثم يأتي الموت(3) فهذه الأوضاع المضطربة سياسياً واجتماعيا واقتصاديا كان لها أثرها البالغ في تفكك الخلافة العباسية.

أما فكرياً فقد ازدهرت الحركة العلمية في هذه المدة، إذ ظهرت إلى جانب المساجد مدارس لرواد العلم، وكان في هذه المدارس أساتذة وعلماء مختلفون يحاضرون في جميع العلوم وكانت أشهر هذه المدارس المدرسة النظامية ببغداد، التي أمر الخليفة الناصر لدین

ص: 31


1- و الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد (ت 597 ه)، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، تحقيق محمد عبد القادر عطا، ومصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية (بيروت 1002)، 17 / 197 - 98
2- المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، 18 / 135
3- المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، 16 / 240، 257، أحداث سنة 478 وسنة 489 ه

الله بعمارة خزانة الكتب فيها ونقل إليها من الكتب النفيسة ألوفاً لا يوجد مثلها(1). فكانت أشبه بجامعة كبيرة وإن كانت الدراسة والتدريس يقتصران فيها على المذهب الشافعي. وإلى جانبها بنيت مدارس عدّة في بقية المدن الإسلامية(2).

وكذلك بني الخليفة المستنصر بالله العباسي ببغداد في سنة (631 ه) مدرسة كبيرة على غرار المدرسة النظامية، وهي المدرسة المستنصرية. فهي أعظم جامعة علمية في بغداد وجعلها الخليفة المستنصر وقفاً على المذاهب الأربعة، وأمر أن يقوم العلماء الصالحون والأدباء المشهورون بإقراء القرآن بها وتعليم العلوم الشرعية والأدبية وإقراء الأحاديث النبوية فيها وأن يكون عدد الفقهاء بها مائتين وثمانية وأربعين رجلاً من كل طائفة اثنان وستون، وأن يكون لكل طائفة مدرس وأربعة معيدين(3).

وكان من آثار الحركة العلمية والفكرية في هذه الحقبة أن كثُرَ عدد العلماء في كل علم مما حدا بعضهم إلى تأليف كتب في تراجم كل مجموعة على حدة، منها كتب للفقهاء، وكتب للمفسرين، وكتب للنحاة، وكتب الأطباء إلى غير ذلك من العلوم الأخرى. وبذلك نرى أنّ العقل كان نشيط خلاقاً مبدعاً حتى يمكن القول بأنه بلغ النشاط الفكري والثقافي الدرجة العالية من النضج، ويبدو أن تلك الآثار انعكست على فكر ابن أبي الحديد، لذا ظهرت بوادره ومعطياته واضحة في تأليفاته ونضج أفكاره، وقد نال ابن أبي الحديد الحظوة عند الخلفاء العباسيين فمدحهم وأخذ جوائزهم ونال المراتب والمناصب الرفيعة فكان كاتباً في ديوان الخلافة، ثم كاتباً في دار التشريفات ثمَّ ناظراً للبيمارستان، وأخيراً فوض إليه أمر خزائن الكتب في بغداد(4).

ص: 32


1- الغساني، الملك الاشرف، العسجد المسبوك والجوهر المحكوك في طبقات الخلفاء والملوك، 2 / 224 - 225
2- محبوبة، عبد الهادي محمد رضا، نظام الملك، الدار المصرية اللبنانية، (القاهرة 1998)، ص404
3- الغساني، الملك الاشرف، العسجد المسبوك والجوهر المحكوك في طبقات الخلفاء والملوك، 2 / 458
4- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 14، مقدمة المحقق (أبو الفضل إبراهيم)

ثالثاً: عقيدة ابن أبي الحديد

لم يتفق المؤرخون على مذهب ابن أبي الحديد، فقد وصفه كل من الذهبي (ت 748ه) والصفدي (ت 764 ه) ب(المعتزلي)(1)، وذكر الغساني إنَّه كان (شافعي المذهب ينتحل في الأصول في مذهب المعتزلة، وله في ذلك تصنيف ورد على المخالفين)(2) فيما عدَّه ابن كثير من الشيعة الغلاة(3)، وقال آخر إنه من خصوم الشيعة وأشد مناوئيهم رغم ما يظهر من حبه لعلي، وإظهار تفضيله(4)، بينما عدّه بعضهم (موالياً لأهل بيت العصمة والطهارة وإن كان في زي أهل السنة والجماعة، منصفاً غاية الإنصاف في المحاكمة بين الفريقين، ومعترفاً في ذلك المصاف بأن الحق يدور مع والد الحسنين)(5)، وذكر أحد الباحثين المعاصرين أن عقيدته أخذت طورين، الطور الأول، فيه تفتحت عينا ابن أبي الحديد على الحياة في المدائن وهي قرية يغلب على أهلها التشيّع على مذهب الشيعة الإمامية، وحين قوي عوده واشتد ساعده، وصل إلى بغداد، حاضرة العالم الإسلامي، وقطن الكرخ، وأهل الكرخ - كما يقول ياقوت الحموي - شيعة إمامية لا يوجد فيهم السنّي البتة(6)، ففي هذين الموطنين نشأ وفيهما تلقى التشيّع. أما الطور الثاني وهو طور النضوج الفكري حيث استقر ببغداد واتصل برجال الدولة والعلماء فتحول عن عقيدته الشيعية، واتخذ لنفسه مذهباً آمن به أشد الإيمان، وتفاني في الدفاع عنه وفسر جميع الظواهر على مقتضاه وهو مذهب الاعتزال، لقد رأيناه في هذه الفترة من حياته معتزلياً سنيّاً شافعياً، لا يلتقي مع الشيعة في شيء من أصول مذهبهم، بل هو يناقضهم

ص: 33


1- الذهبي، سیر اعلام النبلاء، 23 / 275؛ الصفدي، الوافي بالوفيات، 18 / 46
2- العسجد المسبوك والجوهر المحكوك في طبقات الخلفاء والملوك، 2 / 642
3- البداية والنهاية، 17 / 354
4- الخطيب، عبد الزهرة الحسيني، مصادر نهج البلاغة واسانیده، 1 / 217
5- الخوانساري، روضات الجنات، 5 / 19
6- النص موجود عند ياقوت الحموي، معجم البلدان، 7 / 222، [المدائن]

ويخالفهم في كل شيء حتى رأيناه آلف كتاباً في مقالات الشيعة(1).

ويبدو أن ابن أبي الحديد لا يمكنه الجمع بين كل ما ذكروه، فهناك حدود فاصلة تبعدهم الواحد عن الآخر فلا يوجد ترابط بينهم، فلا يمكن أن يكون شافعياً، وشيعياً ومعتزلياً في الوقت نفسه، إنما نرى أنه على مذهب الاعتزال وليس شافعياً فقط أو شيعياً كما توهم البعض، ولعله كما وصفه الغساني (شافعي المذهب ينتحل في الاصول مذهب المعتزلة)، ووقوفه على الاعتزال ثابت لدينا لعدة أسباب منها:

أولاً: إن ابن أبي الحديد نفسه صرّح بأنه على مذهب الاعتزال في مواطن متعدّدة من شعره منها قوله:

أحب الاعتزال وناصريه *** ذوي الألباب والنظر الدقيق

فأهل العدل والتوحيد أهلي *** ونعم فريقهم أبدا فريقي(2)

وقال في مدح الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام:

ورأيت دين الاعتزال وإنني *** أهوى لأجلك كل متشيع(3)

وذكر الصفدي أبياتاً طريفة لابن أبي الحديد تثبت اعتزاليته:

لولا ثلاث لم أخف صرعتي *** ليست كما قال فتى العبد(4)

أن أنصر التوحيد والعدل في *** كل مكان بالا جهدي

ص: 34


1- محيي الدين، ابن أبي الحديد سيرته وآثاره الأدبية والنقدية ص 85 - 89
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 11، مقدمة المحقق (أبو الفضل ابراهيم)
3- ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد عبد الحميد بن هبة الله مدائني (ت 656 ه)، شرح القصائد العلويات السبع، مؤسسة الأعلمي، بيروت، (د.ت)، القصيدة السادسة في وصف الإمام عليه السلام، ص144
4- يشير في هذا البيت إلى ابیات طرفة بن العبد في معلقته، تنظر الأبيات ص 104 من الرسالة

وأن أناجي الله مستمتعا *** بخلوة أحلى من الشهد

وأن أتيه الدهر كبرا على *** کل لئيم أصعر الخد

کذاك لا أهوى فتاه ولا *** خمرا ولا ذا ميعة نهد(1)

ثانياً: بداية حياة ابن أبي الحديد العلمية والفكرية كانت على يد والده الذي كان فقيهاً من فقهاء المذهب الشافعي وكذلك إخوته، كان والده أستاذه الأول الذي ينهل منه الفقه والعلوم، فضلاً عن اختلافه إلى حلقات الدرس والتعليم في دراسته كطالبٍ في المدرسة النظامية ببغداد وهو غلام - كما صرح بنفسه - (2)، والتي لا يدرّس فيها سوى مذهب الإمام الشافعي، فضلاً عن ملازمته لعلماء كبار وهو دون سن العشرين من عمره، كما سنبيّن عند التطرق إلى أساتذته، ثم عززها بالتوجه نحو الاعتزال في الأصول بتأثير أساتذته الذين كان يدرس عندهم علم الكلام فكانت فكرة الاعتزال قد ترسخت في ذهنه من خلالهم وهو في بداية حياته.

ثالثاً: إن من ذهب على أنه شيعي فقد يكون التأليفه القصائد العلويات، وشرحه النهج البلاغة، ولكن يمكن القول أنّه نظمها للتقرب من البلاط العباسي، فهو حينما يقوم بتأليف كتابٍ ما يقوم بإهدائه إلى الخزانة الشريفة للخليفة أو للوزير لغرض التقرب إليهم كما فعل في أغلب كتبه، والعلويات السبع نظمها سنة 611 ه للخليفة العباسي الناصر لدين الله الذي كان يتشیّع ويرى رأي الإمامية ويميل إلى مذهبهم(3)، أما شرح نهج البلاغة فقد أهداه للوزير ابن العلقمي الشيعي المذهب كما سنبيّن.

رابعاً: مذهب الاعتزال الذي ذهب إليه ابن أبي الحديد نراه واضحاً ومميزاً من خلال

ص: 35


1- الغيث المنسجم في شرح لامية العجم، 2 / 157
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 14 / 214
3- ابن الطقطقي، الفخري في الآداب السلطانية، ص 434

36آرائه الاعتزالية التي طرحها في كتابه (شرح نهج البلاغة) تلك التي كان يعنونها بعنوان (مباحث کلامية) أو يبدأ بعرض آراء أصحابه في المسألة الكلامية أو الفلسفية ومناقضته الآراء الشيعة في الكثير من آرائهم ومعتقداتهم التي لا تنسجم مع مذهبه.

رابعاً: منزلته العلمية وآراء العلماء فيه:

تعددت أقوال الأدباء والمفكرين في بيان سماته الفكرية وأجمعوا على أنّه من أساطين العلم والفكر وأثبات المؤرخين، قال عنه ابن خلکان وعن أخيه موفق الدين (كانا فقيهين أديبين فاضلين لهما أشعار مليحة)(1)، وقال عنهما الذهبي، (كانا من كبار الفضلاء وأرباب الكلام والنظم والنثر والبلاغة)(2)، وذكر كل من الكتبي والصفدي ابن أبي الحديد فوصفاه بالفقيه الشاعر، وأنّه معدود في أعيان الشعراء(3)، كذلك قال فيه الزرکلی إنه (عالم بالأدب ومن أعيان المعتزلة، له شعر جيد واطلاع واسع على التاريخ)(4)، وعدّه الخوانساري بين علماء العامة بمنزلة عمر بن عبد العزيز الأموي بين خلفائه(5)، وفي ترجمة حياته ذکر محمد أبو الفضل إبراهيم إنه (أحد جهابذة العلماء، وأثبات المؤرخين، .. كان فقيهاً أصولياً، وله في ذلك مصنفات معروفة مشهورة، وكان متكلماً جدلياً نظاراً، اصطنع مذهب الاعتزال، وعلى أساسه جادل وناظر، وحاجّ وناقش.... وكان أديباً ناقداً، ثاقب النظر، خبيراً بمحاسن الكلام ومساوئه.... ثم كان أديباً متضلعة في فنون الأدب، متقناً لعلوم اللسان، عارف بأخبار العرب، مطلعاً على لغاتها، جامعاً لخطبها ومنافراتها، راوياً لأشعارها وأمثالها، حافظاً لملحها وطرفها، قارئاً مستوعبا لكل ما حوته الكتب والاسفار في زمانه)(6).

ص: 36


1- وفیات الاعیان، 5 / 192
2- سير أعلام النبلاء، 23 / 275
3- فوات الوفيات، 1 / 609؛ الصفدي، الوافي بالوفيات، 8 / 46
4- الأعلام، 3 / 289
5- روضات الجنات، 5 / 19
6- ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، 1 / 12 - 13، مقدمة المحقق

خامساً: شيوخه:

كانت المكانة العلمية الرفيعة التي وصل إليها ابن أبي الحديد من خلال نبوغه في أكثر من مجال وبمختلف الفروع الأدبية والفلسفية والتاريخية قد أثارت فينا تساؤلات عدة حول تلك العلوم، ممن تلقاها؟ وكيف وصلت إليه؟ أهي بالفطرة، أم كان وراءها أساتذة وشيوخ وعلماء ومفكرون كانت تنهال عليه بما يفيض من علومها.

بالتأكيد كان هناك أساتذة، ولعل أول أساتذته والده الذي تتلمذ على يديه وأخذ منه الشيء الكثير. فهو كما ذكر الذهبي كان شيخاً من شيوخ الحديث في بغداد والمدائن والقاضي فيها وأحد خطبائها، وتفقه بالمدرسة النظامية، والتي كان مدرسها الشيخ أبو نجيب(1)، وكان شديد الحرص على أن يسلك ولده طريق المعرفة حباً في طلب العلم وملازمة حلقات العلماء، فأرسله للدراسة فيها غلاماً في بداية نضوجه العلمي، لدراسة العلوم على المذهب الشافعي الذي كان يدرّس لوحده هناك(2).

أما بقية أساتذته وشيوخه فلم يتطرق لهم من كتب سيرة ابن أبي الحديد، وضاع علينا القسم الأعظم منهم، ولكن ابن أبي الحديد ذكر قسماً منهم في كتابه شرح نهج البلاغة، إذ صرح بأسماء عشرة منهم، وكان يعطينا تصوراً عن كل واحد منهم، وميوله ومذاهبه ، والملفت للنظر أنّ ميولهم كانت تختلف، فقسم منهم كان شافعياً وبعضهم حنابلة، وبعضهم أحنافاً وبعضهم علويون، ولعلّ هذا السبب الذي جعل أفكاره تدرك جميع المذاهب وتستوعب الجميع مما أدى إلى اختلاف واضح في معرفة ميوله الفكرية عند عدد كبير من كتب عن سيرته، قديمهم وحديثهم، كما بيّنا سابقاً عند الحديث عن عقيدته. ومن أبرز أساتذته وحسب ميولهم المذهبية:

ص: 37


1- المختصر من تاريخ ابن الدبيثي، ص 368
2- ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، 14 / 214

1. الدّبّاس، عمر بن عبد الله، أبو السعادات (ت 601 ه):

ولد سنة 565 ه، وبرع في النحو واللغة والأصول، وكتب كثيراً فيهما، كان حنبلياً ثم صار شافعياً أشعرياً، سكن المدرسة النظامية ببغداد ثم تولى الإشراف على كتبها وأدركه أجله سنة إحدى وست مائة(1)، ذكره ابن أبي الحديد ونعته بكلمة (أستاذي) وذلك عند الحديث عن حجر بن عدي والأشتر، إذ قال: (قرئ کتاب الاستيعاب على شيخنا عبد الوهاب بن سکينة المحدث وأنا حاضر، فلما انتهى القارئ إلى هذا الخبر قال أستاذي عمر بن عبد الله الدّباس - وكنت أحضر معه سماع الحديث - : لتقل الشيعة بعد هذا ما شاءت، فما قال المرتضى والمفيد إلا بعض ما كان حجر والأشتر يعتقد انه في عثمان ومن تقدمه، فأشار الشيخ إليه بالسكوت فسکت)(2).

2. ابن سكينة، ضياء الدين عبد الوهاب بن علي (ت 607 ه):

كان رجلاً عالماً عاملا بمذهب الشافعي، كثير المباحثة في مسائله، دائم التكرار لكتاب التنبيه في الفقه حافظاً له، کثیر الاشتغال بكتاب المهذب والوسيط في الفقه(3)، وصفه الذهبي بالشيخ الإمام العالم الفقيه المحدِّث الثقة المعمر القدوة الكبير شيخ الإسلام مفخر العراق وشيخها في الحديث والزهد البغدادي الصوفي الشافعي، وسكينة هي والدة أبيه. مولده في شعبان سنة تسع عشرة وخمس مئة. عمّر حتى حدّث بجميع مروياته، وقصده الطلاب من البلاد، وكانت أوقاته محفوظة، لا تمضي له ساعة إلا في تلاوة أو ذكر أو تهجد أو تسميع(4)، وسُلّمت إجازة الشافعية إلى الإمام ابن سكينة في السّنة التي توفي

ص: 38


1- الصفدی، الوافي بالوفيات، 22 / 303
2- شرح نهج البلاغة، 15 / 76
3- ابن النجار البغدادي، محب الدين أبو عبد الله محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله (ت 643 ه)، ذیل تاریخ بغداد، تحقيق مصطفى عبد القادر یحیی، دار الكتب العلمية، (بیروت 1997)، 1 / 218
4- سير أعلام النبلاء، 21 / 502 - 505

فيها سنة 607 ه(1)، ويوم وفاته حضره أرباب الدولة، وكان يوماً مشهوداً(2).

أخذ ابن أبي الحديد عنه علم الحديث، فقد ذكر أنه حضر سماع الحديث عليه مع شيخه أبي حفص عمر بن عبد الله الدّبّاس(3)، كما ذكره ابن أبي الحديد مرة ثانية عند الحديث عن رواية قول جبريل من السماء في معركة أحد (لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي)، فقال ابن أبي الحديد: (وسألت شيخي عبد الوهاب بن سكينة رحمه الله عن هذا الخبر فقال خبر صحيح، فقلت فما بال الصحاح لم تشتمل عليه؟ قال أو كلما كان صحيحاً تشتمل عليه كتب الصحاح، كم قد أهمل جامعو الصحاح من الأخبار الصحيحة)(4).

3. الواسطي، أبو الخير النحوي (ت 605 ه):

مصدَّق بن شبيب بن الحسين الصلحي، كان عالماً باللغة والفرائض، من أهل واسط، من قرية تعرف بدوران من قرى الصلح، والصلح من أعمال واسط، صحب صدقة بن الحسين بن الواعظ الواسطي من صباه وقرأ عليه القرآن وشيئاً من النحو، برع في العربية، وصار مشاراً إليه مع ما فيه من الصلاح والخير والعبادة، قدم بغداد وأقرأ الناس الأدب زماناً ثم قرأ النحو علی ابن الخشاب وعلى أبي البركات الأنباري وأبي الحسن بن العصار وصار مشاراً إليه، ولد سنة خمس وثلاثين وخمسمائة وعاش سبعين سنة، توفاه الله في ربيع الأول ببغداد سنة خمس وستمائة(5)، دفن مع شيخه صدقة في ضريحه في محلة قراح القاضي شرق مدينة بغداد(6).

ص: 39


1- الصفدي، الوافي بالوفيات، 6 / 195
2- الذهبي، سير أعلام النبلاء، 21 / 505
3- شرح نهج البلاغة، 15 / 76
4- شرح نهج البلاغة، 14 / 193
5- القفطي، جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف (ت 646 ه)، إنباه الرّواة على أنباء النّحاة، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، دار الفكر العربي، (القاهرة، 1986)، 3 / 274؛ الذهبي، المختصر من تاريخ ابن الدبيثي، ص 274
6- القفطي، إنباه الرّواة على أنباء النحاة، 3 / 275

وكان ابن أبي الحديد قد ذكره مرتين في شرح نهج البلاغة، الأولى عند الخطبة الشقشقية طارحاً الأدلَّة على صحة نسبتها إلى الإمام علي عليه السلام، مشيراً بأن شيخه أبا الخير مصدق بن شبيب الواسطي قد حدَّثه في سنة ثلاث وستمائة، فقال له: قرأت هذهِ الخطبة على الشيخ أبي محمد عبد الله أحمد المعروف بابن الخشّاب(1).

وذكره كذلك عندما تناول ابن أبي الحديد قصة غزوة الخندق ومبارزة الإمام علي عليه السلام لعمرو بن ودّ العامري، والمحاورة التي جرت بينهما فقال: (كان شيخنا أبو الخير مصدَّق بن شبيب النحوي إذا مررنا في القراءة عليه بهذا الموضع يقول: والله ما أمره بالرجوع إبقاءً عليهِ، بل خوفاً منه. فقد عَرَفَ قتلاهُ ببدرٍ وأُحُدٍ، وعلِمَ أنَّهُ إنْ ناهضهُ قتلهُ، فاستحيا أن يظهر الفشل، فأظهرَ البقاء والإرعاء، وإنّهُ لكاذب فيهما)(2).

4. ابن الجوزي، (ت 597 ه):

عبد الرحمن بن علي أبو الفرج الحنبلي البغدادي الواعظ، ولد في بغداد في حدود سنة (508 ه) وهو قرشي النسب، ينتهي نسبه إلى الخليفة أبي بكر، کان علاّمة عصره وإمام وقته في الحديث وصناعة الوعظ. صنف في فنون عديدة، منها (زاد المسير في علم التفسير) أربعة أجزاء أتى فيه بأشياء غريبة، وله في الحديث تصانیف کثيرة، وله في التاريخ (المنتظم)، وهو كبير، وله (الموضوعات) في أربعة أجزاء، ذكر فيها كل حديث موضوع، وغيرها من الكتب، وبالجملة فكتبه أكثر من أن تعد حتى يقولون إنه جمعت الكراريس التي كتبها وحسبت مدة عمره وقسمت الكراريس على المدة فكان ما خص كل يوم تسع کراریس، وهذا شيء عظيم لا يكاد يقبله العقل، وكانت له في مجالس الوعظ أجوبة نادرة، فمن أحسن ما يحكى عنه أنه وقع النزاع ببغداد بين أهل السنة

ص: 40


1- شرح نهج البلاغة، 1 / 197
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 58

والشيعة في المفاضلة بين أبي بكر وعلي عليه السلام فرضي الكل بما يجيب به الشيخ أبو الفرج، فأقاما شخصاً سأله عن ذلك وهو على الكرسي في مجلس وعظه، فقال: أفضلهما من كانت ابنته تحته، ونزل في الحال حتى لا يراجع في ذلك، فقالت السنة: هو أبو بكر لأن ابنته عائشة تحت رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم، وقالت الشيعة: هو علي عليه السلام لأن فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحته، وكانت ولادته بطريق التقريب سنة ثماني، وقيل عشر وخمسمائة. وافته المنية ليلة الجمعة ثاني عشر شهر رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة ببغداد(1).

وذكر ابن أبي الحديد أستاذه ابن الجوزي في كتابه شرح نهج البلاغة بقوله: (وأجاز الي الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي بروايته عن شيخه محمد بن ناصر عن شيوخه)(2)، وإننا إذا ما عرفنا أن ولادة ابن أبي الحديد كانت في سنة (586 ه) ووفاة ابن الجوزي كانت في سنة (597 ه)، فمعنى ذلك أن عمر ابن أبي الحديد يوم وفاة شيخه ابن الجوزي كان أحد عشر سنة، وهذا يدلّ على أن ابن أبي الحديد كان ينم عن ذكاءٍ ونبوغ مبكر إذا ما رأينا حضوره لعددٍ من الشيوخ وهو غلام.

5. البغدادي، فخر الدين إسماعيل بن علي، (ت 610 ه):

أبو محمد الأزجي المأموني الحنبلي، العلامة الأصولي الفيلسوف، صاحب العلامة ناصح الإسلام ابن المني لذلك اشتهر باسم غلام ابن المني. مولده في صفر سنة تسع وأربعين وخمس مئة، وتفقَّه على ابن المني وسمع منه، وأشغل بمسجد المأمونية بعد شيخه، وكانت له حلقة بجامع القصر للنظر، وكان متوقد ذكاء. له تصانيف في المعقول، وتعليقة في الخلاف، قال ابن النجار: برع الفخر إسماعيل في المذهب والأصلين

ص: 41


1- ابن خلکان، وفیات الاعيان وأنباء أبناء الزمان، 3 / 140
2- شرح نهج البلاغة : 12 / 220

والخلاف، وكان حسن العبارة، مقتدراً على رد الخصوم، وكانت الطوائف مجمعة على فضله وعلمه، قرأ المنطق والفلسفة على ابن مرقش النصراني وصنّف كتاباً أسماه (نواميس الأنبياء) يذكر فيه أنهم كانوا حكماء كهرمس وأرسطو، أخذ عنه الشيخ مجد الدين ابن تيمية، مات في ثامن ربيع الأول سنة عشر وست مئة(1).

وذكره ابن أبي الحديد بقوله (كان الفخر إسماعيل بن علي هذا مقدم الحنابلة في بغداد في الفقه والخلاف، ويشتغل بشيء من علم المنطق، وكان حلو العبارة، وقد رأيته أنا وحضرت عنده وسمعت كلامه)(2).

6. العكبري، أبو القاسم الحسين بن عبد الله:

أشار ابن أبي الحديد إلى شيخه أبي القاسم العكبري عند الحديث عن بيت من الشعر أنشدهُ ولم يسمِّ قائله حين قال (أنشدني شيخنا أبو القاسم الحسين بن عبد الله العكبري ولم يسم قائله ووجدته بعد النابغة بني الحارث بن كعبان:

إن تسألي عنا سمي فإنه *** يسمو إلى قحم العلا أدنانا)(3).

هكذا ذكرهُ ابن أبي الحديد کنيته واسمه، أبو القاسم الحسين بن عبد الله العكبري على هذا النسق، ولم أعثر على ترجمة له، وذكر أحد الباحثين أنّه اطَّلع على مخطوطة ابن الشعار الموصلي (ت 654 ه)، عقود الجمان، ذكر فيها (أن ابن أبي الحديد، شارح نهج البلاغة تتلمذ على محب الدين أبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري (ت 616 ه)، الحنبلي الضرير الفرضي، شارح مقامات الحريري، والمنسوب إليه شرح ديوان المتنبي وغيرهما من مؤلفاته الكثيرة)، وهو يعتقد أنّه لا يمت لأبي القاسم العكبري

ص: 42


1- الذهبي، سير أعلام النبلاء، 22 / 28 - 30
2- شرح نهج البلاغة: 9 / 234
3- شرح نهج البلاغة 5 / 138

بأي صلة(1).

بينما ذكر علي محيي الدين أن المقصود بهذا الاسم هو ولده عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري، الأديب النحوي الضرير المعروف الذي يرجح أن يكون هو نفسه الذي تتلمذ عليه ابن أبي الحديد(2)، وقد يكون تشابه الاسماء هو الذي جعله يعتقد هذا الاعتقاد بدون دلیل علمي.

7. اللمغاني، أبو يعقوب يوسف بن إسماعيل بن عبد الرحمن، (ت 606 ه):

الفقيه الحنفي، البغدادي من أهل باب الطاق من بيت مشهور بالفقه والعدالة، كان عارفاً بالمذهب والخلاف والكلام على طريقة أهل العدل وقرأ كثيراً من مذهب الاعتزال وناظر المتكلمين في إثبات خلق القرآن، وقرأ عليه جماعة من الفضلاء وتخرجوا به وولي التدريس بجامع السلطان بعد وفاة الأمير السيد أبي الحسن علي العلوي وناب في التدريس بمشهد الإمام أبي حنيفة وانتهت إليه رئاسة أصحاب الرأي وكان غزير الفضل حسن المناظرة ذا أخلاق لطيفة وكيّساً متواضعاً ولد سنة ثماني عشرة وخمسمائة، توفاه الله في جمادى الأولى سنة ست وستمائة(3).

قرأ ابن أبي الحديد عليه علم الكلام، وتلّقى على يديه دروساً في الاعتزال في بداية شبابه وهو دون العشرين من عمره. قال عنه ابن أبي الحديد (لم يكن يتشيّع، وكان شديداً في الاعتزال، إلاّ أنّهُ كان في التفضيل بغدادياً)(4)، وذكره ابن أبي الحديد أيضاً في معرض تفسيره جانباً من كلام الإمام علي عليه السلام المذكور في إحدى خطبه التي

ص: 43


1- الربيعي، احمد، العذيق النضيد بمصادر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، مطبعة العاني، (بغداد 1987)، ص 75 - 76
2- ابن أبي الحديد سيرته وآثاره الأدبية والنقدية، ص 152 - 153
3- الذهبي، المختصر من تاريخ ابن الدبيثي، ص 372 - 373؛ الصفدي، الوافي بالوفيات، 29 / 46 - 47
4- شرح نهج البلاغة، 19 / 153

خطبها في البصرة فقال (هذا كلام يحتاج إلى شرح وقد كنت قرأته على الشيخ أبي يعقوب يوسف بن إسماعيل اللمعاني رحمه الله أيام اشتغالي عليه بعلم الكلام وسألته عما عنده فيه فأجابني بجواب طويل)(1).

8. أبو جعفر النقيب، البصري (ت 613 ه):

يحيى بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد العلوي الحسني الزيدي يعرف بابن أبي زيد شاعر، من أشراف البصرة. ولد بها. ومن عائلة معروفة فوالده أبو طالب العلوي البصري نقيب الطالبيين بالبصرة، روى عن أبي علي التستري، وجعفر العباداني، وجماعة، استقدمه ابن هبيرة لسماع سنن السجستاني توفاه الله سنة 560 ه(2)، وبعد وفاته تولّى نقابة الطالبيين فيها مدة، ولده أبو جعفر النقيب، الذي كانت له معرفة حسنة بالأدب والنسب وأيام العرب وأشعارها، وقال الشعر الجيد ولكنه سرعان ما ترك البصرة واستقر في بغداد بعد أن ترك نقابة الطالبيين إلى ابنه وفيها مات سنة 613 ه، ودفن بمشهد الإمام موسی بن جعفر (عليهما السلام)(3).

ذكر ابن أبي الحديد أستاذه أبو جعفر النقيب في كتابه مرّات عديدة، إذ يمكن عدّه من أبرز شيوخه الذين عرفهم، وأشدهم تأثيراً في نضوجه الفكري وقد وصفه بقوله إنّه لم يتعصب للمذهب رغم علويته، وتطورت علاقتهما إلى صداقة حميمة، إذ كانت بينهما نقاشات مثيرة وعديدة تناثرت في أجزاء كتابه(4).

ص: 44


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 148
2- ابن العماد، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، 6 / 138
3- المنذري، التكملة لوفيات النقلة، 2 / 379؛ الزركلي، الأعلام، 8 / 165
4- شرح نهج البلاغة، 3 / 195، 6 / 13، 6 / 14، 7 / 105، 9 / 11، 54 / 88.......الخ

9. شمس الدين فخار بن معد، أبو علي الموسوي (ت 130 ه):

كان عالماً، فاضلاً، أديباً، مُحدّثاً(1)، إمامي، من أهل الحائر في العراق. له عدّة مصنفات منها (الروضة في الفضائل والمعجزات) كما صنّف كتاب (الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب) وأرسله إلى ابن أبي الحديد، شارح نهج البلاغة، وكان معاصراً له(2)، وهو الكتاب الذي ذكره ابن أبي الحديد في كتابه شرح نهج البلاغة ونسبه إلى بعض الطالبيين(3). وكانت علاقة ابن أبي الحديد بأستاذه شمس الدين الموسوي علاقة صميمية كعلاقته بأستاذه أبي جعفر النقيب، وقد ذكره ايضاً في حديثه عن علاقة الإمام عليه السلام مع عمر بن الخطاب في نقاش طويل تدخل فيه أستاذه النقيب أبو جعفر(4).

10. أبو محمد قریش بن السبيع بن المهنا العلوي المدني (ت620 ه):

السيد السعيد الفقيه، رجل فاضل عالم، جلیل محدث، قد يعبر عنه اختصارا ، بقريش بن مهنا، وله من المؤلفات كتاب فضل العقيق والتختم به، ينقل عنه ابن طاووس في كتاب أمان الأخطار، وفلاح السائل(5)، قدم بغداد وسكنها وسمع ابن البطي وابن النقور وأبا محمد بن الخشاب والمبارك ابن خضير ولد سنة إحدى وأربعين وخمسمائة بالمدينة وافته المنية في ذي الحجة سنة عشرين وستمائة ببغداد(6).

وقد روى ابن أبي الحديد عن أستاذه قريش بن المهنا کتاب فضائل الإمام علي لابن

ص: 45


1- الجواهري، محمد، المفيد من معجم رجال الحدیث، ط 2، مكتبة المحلاتي، (قم 1424 ه)، ص 453
2- العسكري، نجم الدين، أبو طالب حامي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وناصره، مطبعة الآداب، (النجف الأشرف 1380 ه)، ص 66؛ الزركلي، الأعلام، 5 / 137
3- شرح نهج البلاغة، 14 / 67
4- شرح نهج البلاغة، 12 / 5
5- النوري، الميرزا حسن النوري الطبرسي (ت 1320 ه)، خاتمة مستدرك الوسائل، تحقيق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، (قم 1416 ه)، 3 / 53
6- الذهبي، المختصر من تاريخ ابن الدبيثي، ص 322

حنبل الشيباني (ت 241 ه)، فقد ذكر في كتابه: (جاء في أخبار علي عليه السلام التي ذكرها أبو عبد الله أحمد بن حنبل في كتاب فضائله وهو روايتي عن قریش بن السبيع بن المهنا العلوي عن نقیب الطالبيين أبي عبد الله أحمد بن علي بن المعمر عن المبارك بن عبد الجبار أحمد بن القاسم الصيرفي المعروف بابن الطيوري عن محمد بن علي بن محمد بن يوسف العلاف المزني عن أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه أبي عبد الله أحمد رحمه الله، قال: قيل لعلي عليه السلام يا أمير المؤمنين لِمَ ترقع قميصك قال: ليخشع القلب ويقتدي بي المؤمنون)(1).

سادساً: تلاميذ ابن أبي الحديد:

تمت الإشارة فيما سبق إلى أن المؤرخين الذين ترجموا سيرة ابن أبي الحديد لم يذكروا شيوخه، فهم كذلك لم يتطرقوا إلى من تتلمذ على يديه سوى بعض الإشارات التي يمكن من خلالها إستبيان أسماء تلاميذه القليلين من خلال تراجم حياتهم وهم (حسب سنيّ وفياتهم):

1. الحلّي، سديد الدين يوسف بن علي بن المطهّر (ت 665 ه):

كان يروي عن ابن أبي الحديد(2)، وفي إجازة حفيده فخر المحققين بن العلامة الحلي للشيخ ابن صدقة قوله: (وأجزت له رواية جميع ما صنفه ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة عني عن والدي، عن جدي سديد الدين يوسف عنه)(3)، وذكر الخوانساري (ومنه يظهر أن والد العلامة رحمهما الله تعالی کان قد قرأ عليه أو يروي عنه بالإجازة)(4).

ص: 46


1- شرح نهج البلاغة، 9 / 180
2- القمي، الكنى والألقاب، 1 / 264
3- لمجلسی، محمد باقر، بحار الانوار الجامعة لدرر اخبار الائمة الاطهار، دار احیاء التراث العربی، بیروت، (د.ت)، 105 / 99
4- روضات الجنات، 5 / 22

وسديد الدين الحلي، كان عالماً، فاضلاً، فقیهاً، مدرساً من أعظم العلماء في عصره. وقد حاز منزلة علمية مرموقة، ومكانة اجتماعية استثنائية، خاصة بعد مناظرته المعروفة مع علماء العامة في مجلس السلطان محمد خدابنده، وقد أهَّلَهُ ذكاؤه المفرط وقابلياته العلمية وبراعته في الفنون المختلفة لترويج المذهب الشيعي(1).

وذكر أن الشيخ الأعظم خواجة نصير الدين الطوسي لما جاء إلى العراق حضر الحلة، فاجتمع عنده فقهاء الحلة، فأشار إلى الفقيه نجم الدين جعفر بن سعيد وقال: من أعلم هؤلاء الجماعة: فقال له: كلهم فاضلون علماء، إن كان واحد منهم مبرزا في فن كان الآخر مبرزا في فن آخر، فقال: من أعلمهم بالأصولين؟ فأشار إلى سدید الدین یوسف بن المطهر وإلى الفقيه مفید الدین محمد بن جهيم، فقال: هذان أعلم الجماعة بعلم الكلام وأصول الفقه(2).

2. ابن الساعي السلامي (ت 674 ه):

علي بن أنجب، أبو طالب البغدادي وقد ذكره علي محيي الدين ضمن تلاميذ ابن أبي الحديد(3)، خازن المستنصرية كان أديباً فاضلاً أخبارياً، عمل تاريخاً ما زال يجمع فيه إلى أن مات، وعمل تاريخاً لشعراء زمانه ، وذيّل على كامل ابن الأثير، وله كتاب غزل الظراف في مجلدين أجازه المستنصر عليه مائة دينار، وكتاب الإيناس في مناقب بني العباس، وكتاب تاريخ الوزراء، وتاريخ نساء الخلفاء من الحرائر والإماء، ومصنف في آل البيت وله عدة تواليف أخرى، توفاه الله في شهر رمضان سنة أربع وسبعين وستمائة

ص: 47


1- الحلي، العلامة ابو منصور الحسن بن يوسف بن المطهر الاسدي (ت 726 ه)، منهاج الكرامة في معرفة الإمامة، تحقيق عبد الرحيم مبارك، مؤسسة عاشوراء للبحوث الإسلامية، (مشهد 1379)، ص 20 - 21
2- الحلي، العلامة ابو منصور الحسن بن يوسف بن المطهر الأسدي (ت 726 ه)، إرشاد الأذهان إلى احکام الإيمان، تحقيق فارس الحسون، مؤسسة النشر الاسلامي، (قم 1410 ه)، 1 / 31 - 32
3- ابن أبي الحديد سيرته وآثاره الأدبية والنقدية، ص 155 - 156

48 وقد قارب الثمانين أو جازها(1) ومن مؤلفاته الكثيرة كتاب شرح نهج البلاغة(2)، ولم تعثر على نسخة من شرحه لنهج البلاغة النقارن بين ماكتبه هو وما نقله من استاذه ابن أبي الحديد ومدى تأثره به، فقد عُدَّ من الكتب المفقودة.

3. الدمياطي، شرف الدين عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن، (ت 705 ه):

أبو محمد الشافعي وذكره علي محيي الدين من تلاميذ ابن أبي الحديد ايضاً(3)، ولد سنة 613 ه، ونشأ بدمياط بمصر وتفقه فيها وطلب الحديث وقد صار له ثلاث وعشرون سنة وسمع بالحرمين وارتحل إلى الشام سنة خمس وأربعين وارتحل إلى الجزيرة والعراق مرتين(4).

من كتبه كتاب (المعجم) ضمّنه أسماء شيوخه الذين لقيهم في الشام والحجاز والجزيرة والعراق ومصر وهم نحو ألف ومائتين وخمسين شيخاً، وله تصانیف اخرى في الحديث، والفقه، واللغة، منها السيرة النبوية، وكتاب في الصلاة الوسطى، وكتاب الخيل، وغيرها، توفاه الله في نصف ذي القعدة بالقاهرة سنة 705 ه(5).

سابعاً: آثاره العلمية:

عاش ابن أبي الحديد حياة فكرية خصبة فألَّف وصنَّف في شتى العلوم المتداولة في عصره فبرز في كل فن كتب فيه وأبدع، ولكن مايثير الأسف إن كثيراً من كتبه لم تصل إلينا وإنها في عداد المفقودة إلا بعض منها وهو مابين المطبوع والمخطوط وأهمها:

ص: 48


1- الصفدي، الوافي بالوفيات، 20 / 159 - 160
2- عبد الزهرة الخطيب، مصادر نهج البلاغة وأسانيده، 1 / 222
3- ابن أبي الحديد سيرته وآثاره الأدبية والنقدية، ص156 - 157
4- الصفدي، الوافي بالوفيات، 19 / 159
5- ابن العماد، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، 8 / 23 - 24

1. شرح نهج البلاغة:

وهو من أشهر مؤلفات ابن أبي الحديد وأغزرها مادّةً، فهو موسوعة عربية كاملة وشاملة في مختلف المعارف الشائعة في عصره وحينما شرع ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة كان في نيّتهِ أن يقتصر على شرح مختصر في ذكر الغريب والمعنى، كما ذكر في مقدمة كتابه غير أنّه عدلَ عن ذلك حين رأى أنّ ذلك لا يشفي أواماً، ولا يزيد الحائمَ إلا حياماً. فبسط القول في شرحه بسطاً اشتمل على الغريب والمعاني وعلم البيان والتفسير، وذكر الحوادث والسير والوقائع والأنساب والأمثال، مع إشارة لدقائق علم التوحيد والعدل(1) وأهداه إلى مؤید الدين ابن العلقمي وهو يشتمل على عشرين جزءاً فأثابه وأحسن جائزته(2).

2. الفلك الدائر على المثل السائر:

وهو من مؤلفات ابن أبي الحديد التي ألّفها في الرّد على كتاب (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) لابن الأثير (ت 637 ه)، وذكر أصحاب التراجم أنه قد صنفه في ثلاثة عشر يوما ولما أكمل كتابه هذا وقف عليه أخوه موفق الدين أبو المعالي فكتب إليه:

المثل السائريا سيدي *** صنفت فيه الفلك الدائرا

لكن هذا فلك دائر *** أصبحت فيه المثل السائرا(3)

وهذا يدلُّ على ثقافته العالية وسعة اطّلاعه وقدرته على التأليف، وذكر أحد الباحثين أن ابن أبي الحديد في كتابه الفلك الدائر على المثل السائر كان ناقداً خبيراً يجيد الكلام وصاحب نظرات صائبة في تأويل المعنى نثراً و نظماً وفي الرد على بعض المسائل التي عرض لها ابن الأثير(4).

ص: 49


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 32
2- ابن الطقطقي، الفخري في الآداب السلطانية، ص456
3- ابن خلکان، 5 / 191؛ الكتبي، 1 / 609؛ الصفدي، 18 / 46
4- الحنبلي، فدوی، المثل السائر لابن الأثير والردود عليه، دراسة في القضايا النقدية التي أثارها ابن الأثير، رسالة ماجستير غير منشورة في اللغة العربية وآدابها، الجامعة الامريكية في بيروت، 1975، ص 26

3. القصائد السبع العلويات:

وهي سبع قصائد طوال يبلغ عدد أبياتها (418 بيتاً)، الأولى في ذكر فتح خيبر، والثانية في ذكر فتح مكة، والثالثة في وصف النبي، والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة في وصف الإمام علي بن أبي طالب ومدحه(1)، وكان ابن أبي الحديد قد نظم تلك القصائد وهو في المدائن سنة 611 ه(2).

4. المستنصريات وهي مجموعة قصائد وعددها (15 قصيدة)، نظمها ابن أبي الحديد في مدح الخليفة العبّاسي المستنصر بالله (623 - 640 ه)(3)، وذكر علي محي الدين أنَّ (في مكتبة المتحف العراقي في بغداد نسخة خطّية فريدة من نوعها من المستنصريّات بخط ابن أبي الحديد نفسه، كتبها للخليفة المستنصر بالله على ورق صقيل بخط التعليق، وقد تملّكَ هذه النسخة الوزير محمد بن العلقمي كما أشير إلى ذلك في صفحة العنوان و تملّكها عام (802 ه) علي بن الحسين ابن محمد الأستر آبادي والنسخة من ضمن مكتبة السيد صادق كمونة التي آلت إلى مكتبة المتحف العراقي أخيراً)(4).

5. شرح الآيات البينات وهو رسالة مختصرة في علم المنطق، في عشرة فصول لفخر الدين الرازي (ت 606 ه) ولأهمية هذه الرسالة علمياً أراد ابن أبي الحديد توضيح مفرداتها وتفصيلها(5).

ص: 50


1- ابن أبي الحديد، شرح القصائد العلويات السبع؛ بروکلمان، تاریخ الادب العربي، 5 / 178
2- ابن أبي الحديد، شرح القصائد العلويات السبع، ص167، محيي الدين، علي، ابن أبي الحديد سيرته وآثاره الأدبية، ص222
3- بروکلمان، تاريخ الأدب العربي، 5 / 178
4- ابن أبي الحديد سيرته وآثاره الأدبية والنقدية ، ص 221
5- بروکلمان، تاريخ الأدب العربي، 5 / 179؛ الزركلي، الأعلام، 6 / 313

6. العبقري الحسان وهو مجموعة مختصرات علم الكلام والتاريخ والشعر، وذكر الخوانساري، (هو كتاب غریب الوضع وقد اختار فيه قطعة وافرة من الكلام والتواريخ والأشعار، وأودعه شيئاً من إنشائه وترسلاته ومنظوماته)(1) وقد ذكره ابن أبي الحديد في كتابه شرح نهج البلاغة مرتين:

الأولى عند إدراجه إبيات شعر لجريبة بن الإشيم قال: (وقد ذكرت في مجموعي المسمى بالعبقري الحسان أن أبا عبد الله الحسين بن محمد بن جعفر الخالع رحمه الله ذکر في كتابه في آراء العرب وأديانها هذه الأبيات)(2)، والثانية عند قوله: (وقد تكلمت في كتابي المسمى بالعبقري الحسان على أقسام الصناعة البديعة نثراً ونظماً وبيّنت أن كثيراً منها يتداخل ويقوم البعض من ذلك مقام بعض)(3)، ويبدو أنه من الكتب المفقودة.

7. نظم فصيح ثعلب:

وهو من آثار ابن أبي الحديد المخطوط، نظمه تلخيصاً لكتاب (الفصيح في اللغة) الثعلب الكوفي(4) تسهي لحفظه، وكان قد نظمه في يوم وليلة(5)، وذكر علي محي الدين (أنَّ في مكتبة عباس العزاوي التي آلت مؤخراً إلى مكتبة المتحف العراقي في بغداد نسخة مخطوطة منه ناقصة الآخر)(6).

ص: 51


1- روضات الجنات، ص21
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 316
3- شرح نهج البلاغة، 8 / 219
4- أبو العباس أحمد بن يحيى بن زید النحوي الشيباني، شيخ أديب بارع، كان إمام الكوفيين في النحو واللغة وهو صاحب كتاب الفصيح في اللغة الذي نسب إليه الفصيحي لكثرة تكراره عليه ودرسه إياه، وسمي الرجل ثعلب لأنه كان إذا سئل عن مسألة أجاب من هاهنا وهاهنا فشبهوه بثعلب إذا أغار، مات ببغداد في سنة 291 ه، ينظر القمي، الكنى والألقاب، 2 / 129 - 130
5- الكتبي، ابن شاکر، فوات الوفيات، 1 / 609؛ الصفدي، الوافي بالوفيات، 16 / 46
6- ابن أبي الحديد سيرته وآثاره الأدبية والنقدية، ص 223

8. تعليقات على كتابي (المحصل) و(المحصول) لفخر الدين الرازي:

ذكره كلٌ من ابن شاكر الكتبي(1)، والصفدي(2)، والخوانساري(3)، وهي من مؤلفات ابن أبي الحديد المخطوط، وذكر علي محي الدين تعليقاً على كتاب المحصل (لدي نسخة منه على مخطوطة ناقصة الآخر تقع في 92 ورقة، وهي ضمن مجموع تبتدئ بالورقة 374 وتنتهي بالورقة 495، وقد كُتِبت بخط معتاد واضح غير أنّها مشحونة بالأغلاط وخاصة النحوية)(4)، أما كتاب تعليقات على المحصول فهو من الكتب المفقودة.

9. دیوان شعر:

وهو من آثار ابن أبي الحديد المفقودة، ورد ذكره عند المؤرخين الذين أرخوا لسيرة ابن أبي الحديد فقد ذكروا أن له ديوان شعر مشهوراً، ولم يشيروا إلى حجمه أو طريقة تبويبه(5).

10. مناقضة السفيانية:

وهو من مصنفات ابن أبي الحديد المفقودة، كتبه للرد على كتاب (السفيانية) للجاحظ، ولم يذكر عند أصحاب التراجم ممن تحدثوا عن سيرة ابن أبي الحديد، ولكنه أشار إليه في كتابه (شرح نهج البلاغة) فقد ذكر عند الحديث عن روايات الطعن في دين معاوية (وروی فيه شيخنا أبو عبد الله البصري في كتاب نقض السفيانية على الجاحظ وروى عنه أخباراً كثيرة تدل على ذلك وقد ذكرناها في كتابنا في مناقضة السفيانية)(6).

ص: 52


1- فوات الوفيات، 1 / 609
2- الوافي بالوفيات، 16 / 46
3- روضات الجنات، ص 21
4- ابن أبي الحديد سيرته وآثاره الأدبية والنقدية، ص 226، الهامش رقم 3
5- الكتبي، فوات الوفيات، 1 / 609؛ الصفدي، الوافي بالوفيات، 18 / 4؛ البغدادي، هدية العارفين، 1 / 508؛ الزركلي، الاعلام، 3 / 289
6- شرح نهج البلاغة: 10 / 80

11. حل سيفيّات المتنبي:

وهي القصائد التي نظمها المتنبي في مدح سيف الدولة الحمداني، فأشار ابن أبي الحديد في كتابه (الفلك الدائر) بمؤلّفهِ هذا ولم يتمَّهُ في حينها وكما قال: (وكنت شرعتُ في حل سيفيات أبي الطيب المتنبي لشهرتها وغلبتها على ألسِنة الناس، وأن أجعل ذلك كتاباً مفرداً أتقربُ بهِ أيضاً إلى الخزانة الشريفة، فخرج بعضه وصَدّفَ على إتمامهِ عوائق الوقت أو شواغله) وذكر نماذج منها ووعد بإتمام ماشرع به، ولا نعلم إذا ما كان قد أتمَّ عمله هذا أم لا(1)، وكان بروکلمان قد ذكر أنّ قطعة منه نشرها النشاشيبي في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق(2).

12. مقالات الشيعة:

وهو كتاب يتناول ذکر فرق الغلاة من الشيعة وأقوالهم، ذكره ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة (وسوف أستقصي ذکر فرق الغلاة وأقوالهم في الكتاب الذي كنت متشاغلاً بجمعه وقطعني عنه اهتمامي بهذا الشرح وهو الكتاب المسمى بمقالات الشيعة إن شاء الله تعالی)(3) ولا نعلم إذا ما كان ابن أبي الحديد قد أتّمه أم لا؟ ولم يذكر عند مؤرخو سيرته.

13. شرح الياقوت:

وهو شرحٌ لكتاب (الياقوت) لأبي إسحاق بن نوبخت (ت 346 ه) الذي يعد من کتب علم الكلام القديمة، وضع للرد على الأشاعرة، وقد ذكره الخوانساري(4)، وصاحب کتاب هدية العارفين(5)، ضمن مؤلفات ابن أبي الحديد حينما تعرّضوا لسيرته.

ص: 53


1- علي محيي الدين، ابن أبي الحديد سيرته وآثاره الأدبية والنقدية، ص214 - 215
2- تاريخ الأدب العربي، 5 / 179
3- شرح نهج البلاغة، 8 / 98
4- روضات الجنّات 5 / 21
5- البغدادي، اسماعيل باشا، 1 / 507

14. شرح الغرر:

وهو شرح على كتاب (غرر الأدلّة) في أصول الكلام لأبي الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي (ت 436 ه). ذكره الخوانساري(1)، وصاحب هدية العارفين(2)، وأشار إليه ابن أبي الحديد في كتابه (شرح نهج البلاغة) في موضعين، حينما أحال إليه عند تعرضه لمعنى الأفضلية، وهل هي شرط في الإمامة أم لا؟ بقوله : (وقد تكلَّمنا في (شرح الغرر) لشيخنا أبي الحسين رحمه الله تعالى في هذا البحث لا يحتمله هذا الكتاب)(3)، وعند إيراده لآراء أصحابه المعتزلة في كونه تعالی مدركاً للمسموعات والمبصرات، بقوله: (وهذا البحث مشروح في كتبي الكلامية لتقرير الطريقتين وشرح الغرر)(4) وهو من الكتب المفقودة.

15. تقرير الطريقتين:

وهو من كتب ابن أبي الحديد الكلامية أيضاً وهو مفقود، أشار إليه ابن أبي الحديد في كتابه (شرح نهج البلاغة) مع إشارته لكتابه السابق (شرح الغرر)(5). ولم أقف على ذكر له في كتب الفهارس.

16. الإعتبار على كتاب الذريعة في أصول الشريعة:

وهو شرح لكتاب الشريف المرتضى (ت 436 ه) الذريعة في أصول الشريعة، وقد أشار إليه ابن أبي الحديد في شرحه في ثلاثة مواضع(6)، ذكره صاحب كتاب هدية العارفين(7) ووصفه الزركلي بأنّه يقع في ثلاثة أجزاء(8).

ص: 54


1- روضات الجنات، 5 / 21
2- البغدادي، اسماعيل باشا، 1 / 507
3- شرح نهج البلاغة: 1 / 169
4- شرح نهج البلاغة: 5 / 127
5- شرح نهج البلاغة: 5 / 157
6- شرح نهج البلاغة، 1 / 268، 16 / 190، 20 / 28
7- البغدادي، اسماعيل باشا، 1 / 507
8- الاعلام، 3 / 289

17. زيادات النقضين:

وهو من كتب ابن أبي الحديد الكلامية، ذكره في كتاب شرح نهج البلاغة وأحال إليه عند عرضه لمسألة رؤية الله تعالى يوم القيامة طارحاً لرأي المعتزلة مقابل رأي الأشاعرة في المسألة بقوله: (وقد شرحت هذا الموضع في كتابي المعروف بزيادات النقضين وبينت أن الرؤية المنزهة عن الكيفية التي يزعمها أصحاب الأشعري لا بد فيها من إثبات الجهة وأنها لا تجري مجرى العلم، لأن العلم لا يشخص المعلوم والرؤية تشخص المرئي والتشخيص لا يمكن إلا مع كون المتشخص ذا جهة)(1)، وهو من الكتب المفقودة فلم نعثر عليه في كتب التراجم والفهارس.

18. رسالة في اللذة والألم:

وهو في علم الكلام أشار إليه ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) عند ذكره للأقوال المختلفة في مسألة خلق الخلق، فذهب خلال كلامه إلى جواز اللذة والسرور على الله تعالى بقوله: (وعندي في هذا القول نظر، ولي في اللذة والألم رسالة مفردة)(2).

19. كتب مفقودة أخرى:

1. الوشاح الذهبي في العلم الأبي، ذكره أبو الفضل إبراهيم في ترجمة ابن أبي الحديد في كتابه شرح نهج البلاغة(3).

2. إنتقاد المستصفى، وهو نقد کتاب (المستصفى في أصول الفقه) للإمام الغزالي (ت 505 ه)، ذكره أبو الفضل إبراهيم في ترجمة ابن أبي الحديد في كتابه شرح نهج البلاغة(4).

ص: 55


1- شرح نهج البلاغة، 1 / 83 - 84
2- شرح نهج البلاغة، 5 / 132
3- 1 / 17، مقدمة المحقق
4- 1 / 17، مقدمة المحقق

3. کتابي (الرسالة النظامية) و(الرسالة الشرفية في كشف الفلسفة الخفية)، ذكرهما علي محيي الدين(1).

ثامناً: وفاة ابن أبي الحديد:

إختلف المؤرخون في تحديد سنة وفاة ابن أبي الحديد، فقد ذهب كلٌ من ابن خلکان (ت 681 ه)(2)، وابن شاكر الكتبي (ت764 ه)(3)، والصفدي (ت764 ه)(4)، وابن کثیر (774 ه)(5)، والمقريزي (ت 845 ه)(6)، وحاجي خليفة (ت 1067 ه)(7)، وعباس القمي(8) (ت 1359 ه) و بروکلمان(9)، إلى أن وفاته سنة (655 ه).

بينما ذهب آخرون إلى أن وفاته كانت في سنة (656 ه) وهم كل من ابن الفوطي (ت 723 ه)(10)، والذهبي (ت 748 ه)(11)، والغساني (ت 803 ه)(12)، والزركلي(13)، ونحن نعتقد أن الرأي الثاني الأقرب إلى الصحة والمرجح لسببين:

ص: 56


1- ابن أبي الحديد سيرته وآثاره الأدبية والنقدية، ص 227
2- وفیات الاعیان، 5 / 392
3- فوات الوفيات: 1 / 609
4- الوافي بالوفيات: 18 / 46
5- البداية والنهاية، 17 / 354
6- السلوك لمعرفة دول الملوك، 1 / 497
7- مصطفى بن عبد الله، کشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، عني بتصحيحه وتعليق حواشيه وترتيب الذيول عليه محمد شرف الدين بالتقيا، ورفعت بیلکه الكليسي، دار إحياء التراث العربي، (بیروت 1941)، 2 / 977
8- الكنى والألقاب، 1 / 193
9- تاريخ الأدب العربي / 5 / 177
10- تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب، 4 / قسم 1، ص 190
11- سير أعلام النبلاء، 23 / 275
12- العسجد المسبوك والجوهر المحكوك في طبقات الخلفاء والملوك، 2 / 642
13- الأعلام، 3 / 289

الأول:

لأن ابن الفوطي هو من يذهب إلى ذلك، وهو الذي كان قريباً من الأحداث، إذ ذكر ابن کثیر أن ابن الفوطي عاش في بغداد وأُسرَ بيد التتار عند إحتلالهم بغداد سنة (656 ه) ثم تخلص من الأسر وعُیِّن خازن الكتب في المدرسة المستنصرية.(1)، وهي الوظيفة نفسها التي كان يشغلها ابن أبي الحديد.

الثاني:

لا يوجد خلاف عند من ذكروا سيرة أخيه أبي المعالي موفق الدين، أنه قد توفي في سنة 656 ه، في الشهر نفسه الذي مات فيه الوزير ابن العلقمي بعد دخول المغول بغداد، وتذكر المصادر أن أخاه عز الدين رثاه بأبيات قال فيها:

أأبا المعالي هل سمعت تأوهي؟ *** فلقد عهدتك في الحياة سميعا

عيني بكتك ولو تطيقُ جوانحي *** وجوارحي أجْرَتْ عليكَ نجيعا

أنِفاً غَضبْتَ على الزمان فلم تطع *** حبْلاً لأسبابِ الوفاءِ قطوعاً

وَوَفيت للمولى الوزير فلم تعِشْ *** من بعدهِ شهراً ولا أسبوعا

وبقيتُ بعدكما فلو كانَ الردی بيدي لفارقنا الحياةَ جميعا(2)

وهذه الأبيات تدل على أن عز الدين بما لايقبل الشك قد مات بعد أخيه موفق الدین في أواخر جمادي الآخرة من سنة (656 ه).

ص: 57


1- البداية والنهاية، 18 / 227
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 16 - 17، مقدمة المحقق (أبو الفضل إبراهيم)؛ الذهبي، سير أعلام النبلاء، 23 / 372

المبحث الثاني منهجية ابن أبي الحديد ومصادره في كتاب شرح نهج البلاغة

أولاً: منهجية ابن أبي الحديد في كتابة تاريخ العرب قبل الاسلام:

بدأ ابن أبي الحديد تصنيفه للكتاب في الأول من رجب سنة 644 ه، وفرغ منه في آخر صفر سنة 649 ه، فكانت مدة تأليفه أربع سنوات وثمانية أشهر، وهي مقدار مدة خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام كما ذكر ابن أبي الحديد في نهاية کتابه(1)، وقد صنفه لخزانة وزير البلاط العباسي ابن العلقمي، وقد أرسله مع أخيه موفق الدين أبي المعالي، فبعث له ابن العلقمي مائة الف دينار، وخلعة سنوية، وفرساً(2). وكان الكتاب في عشرين جزءاً، أما منهجية ابن أبي الحديد في كتاب شرح نهج البلاغة، فيمكن توضيحها بالشكل الآتي:

المنهجية الأولى:

اتبع ابن أبي الحديد طريقة واحدة في شرحه للكتاب، إذ ذكر الخطبة أو الكتاب أو الحكمة التي يريد شرحها ثم يبدأ أولاً بتوضيح الكلمات شارح معاني المفردات، ثم يسترسل في شرحها، وقد يستشهد بحديث شريف أو بيت شعر أو كلام مختصر، وإذا اقتضت الضرورة تناول مجموعة من المباحث الكلامية لفئة معينة، ثم يعرض الآراء

ص: 58


1- شرح نهج البلاغة، 20 / 284
2- الخوانساری، روضات الجنات، 5 / 20

المخالفة لها، مستشهداً بالعديد من الأمثلة، وبمختلف العلوم مما يضعنا أمام حقيقة لا غبار عليها، وهي إنه قد وجد أمامه مكتبة هائلة في شتى العلوم يستسقى منها، مع سعة علمه واطلاعه وقابليته على التدقيق والتحقيق من النصوص، فنراه حذراً عند إبداء رأيه في قضية معينة، ففي إسلام أبي طالب قال (أنه قد روي في إسلامه أخبار كثيرة وروي في موته على دين قومه أخبار كثيرة فتعارض الجرح والتعديل فكان كتعارض البينتين عند الحاكم وذلك يقتضي التوقف فأنا في أمره من المتوقفين)(1)، ولكن هذا لا يمنع من أن يبدي رأيه من بعيد فقد ذكر أنّ أحد الطالبيين في عصره صنَّف كتاباً في إسلام أبي طالب وسأله أن يكتب عليه بخطه نظماً أو نثراً يشهد فيه بصحة ذلك وبوثاقة الأدلة عليه، قال ابن أبي الحديد: (فتحرجت أن أحكم بذلك حكماً قاطعاً لما عندي من التوقف فيه ولم أستجز أن أقعد عن تعظيم أبي طالب، فإني أعلم أنه لولاه لما قامت للإسلام دعامة وأعلم أن حقه واجب على كل مسلم في الدنيا إلى أن تقوم الساعة فكتبت على ظاهر المجلد:

ولولا أبو طالب وابنه *** لما مثل الدین شخصا فقاما

فذاك بمكة أوى وحامی *** وهذا بيثرب جسَّ الحماما

تكفَّل عبد مناف بأمر *** وأودى فكان علي تماما

فقل في ثبير مضى بعد ما *** قضى ما قضاه وأبقى شماما

فلله ذا فاتحاً للهدی *** ولله ذا للمعالي ختاما

وماضر مجد أبي طالب *** جهول لغا أو بصیر تعامی

كما لا يضر إياه الصباح *** من ظن ضوء النهار الظلاما

ص: 59


1- شرح نهج البلاغة، 14 / 66

فوفيته حقه من التعظيم والإجلال ولم أجزم بأمر عندي فيه وقفة)(1).

المنهجية الثانية:

أما بخصوص مادة تاريخ العرب قبل الإسلام، فعلى الرغم من أن كتاب شرح نهج البلاغة هو كتاب يتناول الاحداث الاسلامية، وهذا منطقي على ضوء شرح کلام الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ووخطبه، التي أغلبها كانت تخص الأحداث الإسلامية، ألا إن ابن أبي الحديد ساق لنا مجموعة كبيرة من الروايات التي تتحدث عن حياة العرب قبل الإسلام، وبمختلف المجالات الاجتماعية والفكرية والدينية والسياسية وحتى الاقتصادية، وكانت متفرقة بين طيات اجزائه العشرين، وقد فصلناها في الرسالة.

وهنا يبرز سؤال مهم؛ لماذا اختار ابن أبي الحديد الكتابة عن العرب قبل الإسلام مع أن الظاهر على كتابه إنه سرد للأحداث الاسلامية؟ ومن خلال قرائتنا للكتاب توصلنا إلى أن سبب وجود تلك المادة يعود لأمرين:

الأمر الأول:

بسبب وجود أحداث وأمثال وقصص عن العرب قبل الإسلام تطرَّق لها الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في خطبه، واستشهد بها، ولكون الجمهور المستمع لتلك الاحداث كانوا يعرفون تفاصيلها لقربهم من الأحداث، لذا اقتضت الضرورة عند ابن أبي الحديد أن يوضّح تلك الأحداث بشكل واسع وشامل. الأمر الثاني:

في الكثير من الأحيان تكون مفردات خطب الإمام علي عليه السلام قريبة من المفردات التي كان يتداولها العرب قبل الإسلام، والتي كانت مرتبطة بحادث معين أو

ص: 60


1- شرح نهج البلاغة، 14 / 66 - 67

قضية معينة معروفة، وكان لزاماً على ابن أبي الحديد أن يتطرق لها ويوضحها عند شرحه لكلام الامام، ثم غالباً ما يقوم بالاستطراد بالمادة التاريخية من كتب مختلفة لتعزيز كلامه، ليضع القارئ امام معلومات كاملة عن الأحداث، فبعد أن ذكر كلاماً للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام حول مفردات شاع استخدامها عند العرب قبل الإسلام كالطيرة والفأل والعين والرقي، قال بعد أن شرح مفرداتها (وسنذكر هاهنا نکتاً ممتعة من مذاهب العرب وتخيلاتها لأن الموضع قد ساقنا إليه)(1).

المنهجية الثالثة:

لم يكن ابن أبي الحديد مؤرخاً ولكنه مع ذلك كان ناقداً للكثير من الروايات التاريخية وبمختلف مجالاتها عن العرب قبل الإسلام، فهو لم يقف موقف المتفرج، ولم ينقل الرواية في مكانها المخصص فقط، بل تراه ينقد الرواية ويحللها، ويعرض شخصية صاحب الرواية وميوله، ثم يعطي رأيه الخاص، وفي بعض الأحيان كانت آراؤه تختلف عن آراء أصحاب الروايات، مما يدل على سعة اطلاعه وقابلياته العلمية، ومن أبرز تلك الانتقادات:

1 - انتقاده للزبير بن بکّار صاحب کتاب نسب قریش، لأنه أدخل بني ناجية في نسب قریش(2)، وعلّل ذلك لبغضه للإمام، ولأنهم كانوا قد خرجوا ضد الإمام، بعد أن ذکر روایات تثبت عدم نسبهم إلى قريش.

2 - انتقاداته الكثيرة للخالع صاحب كتاب في آراء العرب وأديانها، وكان قد أخذ منه عدة روايات عن عادات العرب قبل الإسلام، ولكنه لم يتقيد بها بل كان ناقداً لتلك الروايات ويخرجها مخرجاً آخر:

ص: 61


1- شرح نهج البلاغة: 19 / 37
2- شرح نهج البلاغة، 3 / 95

- فعندما أورد عن طريق الخالع أبيات شعر على لسان إحدى النساء، وقال إنها من عادات المرأة الفارك المبغضة لزوجها، اعترض ابن أبي الحديد على معنى أبيات الشعر، وقال إنها تقصد العوذة له وليس العكس(1).

- وعندما أورد الخالع أبيات جريبة بن الأشيم لتبين عادات العرب في البلية، انتقدها ابن أبي الحديد وقال إنها لا تمت إلى البلية بشيئ بل إنها تشير إلى شيء آخر(2).

- وكذلك معارضته للخالع الذي أورد أبيات شعر قال إنها تبيّن عادات العرب في السفر، قال ابن أبي الحديد، بل إنها تدلّ على فراق الحبيبة والديار وليس لها أي علاقة بعادات العرب في هذا المجال(3).

- وانتقد الخالع لأنه أورد أبيات شعر للشاعر كثير حول عادات العرب بكي العاشق إذا سلا، وقال إنها تعني حرارة الوجد ولذعه وليس ما أراد الخالع في عادات العرب(4).

3 - انتقد الجوهري صاحب الصحاح، والقطب الراوندي صاحب كتاب شرح نهج البلاغة لأنهما قالا إن بكال وهو لقب نوف البكالي أحد أصحاب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، هو اسم حي من همدان، قال ابن أبي الحديد والصواب غير ما قالاه إنما بنو بكال حي من حمير ومنهم نوف البكالي، ثم أورد نسبهم عند ابن الكلبي(5)، وقد تتبعنا النسب ايضاً عند القلقشندي في كتاب نهاية الأرب في معرفة

ص: 62


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 348
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 307
3- شرح نهج البلاغة، 19 / 230
4- شرح نهج البلاغة، 19 / 326
5- شرح نهج البلاغة، 10 / 62

أنساب العرب فكان كما ذكر ابن أبي الحديد(1).

4 - وانتقد القطب الراوندي الذي قال عند تفسيره قول الإمام عليه السلام في كلامه لطلحة بن عبيد الله قتيلاً بعد معركة الجمل " أدركت وتري من بني عبد مناف"، قال: يعني طلحة والزبير، كانا من بني عبد مناف، فرد عليه ابن أبي الحديد (هذا غلط قبيح لأن طلحة من تیم بن مرة، والزبير من أسد بن عبد العزى بن قصي، وليس أحد منهما من بني عبد مناف، وولد عبد مناف أربعة هاشم، وعبد شمس، ونوفل، والمطلب، فكل من لم يكن من ولد هؤلاء الأربعة، فليس من ولد عبد مناف)(2).

- وعندما قال القطب الراوندي إن مروان بن الحكم من بني جمح، انتقده ابن أبي الحديد نقداً لاذعا فقال: (ولقد كان هذا الفقيه رحمه الله بعيداً عن معرفة الانساب، مروان من بني أمية بن عبد شمس، وبنو جمح من بني هصيص بن کعب بن لؤي بن غالب، واسم جمح تیم بن عمرو بن هصيص وأخوه سهم بن عمرو بن هصيص، رهط عمرو بن العاص، فأين هؤلاء، وأين مروان بن الحكم)(3).

5 - انتقد الفرزدق لأنه ذکر شجعان بني تميم قبل الإسلام في حضرة سليمان بن عبد الملك ولم يذكر عتيبة بن الحارث اليربوعي، وعلل ذلك بقوله لأن بني يربوع منهم جریر فحالت عداوته لجرير أن عدل عن ذكره(4).

المنهجية الرابعة:

كان ابن أبي الجديد دائماً ما يعلق على المعلومات التي ينقلها عن عادات العرب قبل

ص: 63


1- ينظر ص 158 من الرسالة
2- شرح نهج البلاغة، 11 / 95
3- شرح نهج البلاغة، 11 / 213
4- شرح نهج البلاغة، 15 / 100

الإسلام ولا يتركها كما هي:

1 - فعندما ذكر أن العرب قبل الإسلام كانوا يرون أن أكل لحوم السباع تزيد في الشجاعة والقوة علق ابن أبي الحديد على هذه المعلومة بقوله (وهذا مذهب طبي والأطباء يعتقدونه)(1).

2 - وعند الحديث عن المهامة ذكر أبيات شعر تؤكد هذا المعنى من ضمنها بيت شعر الاحد الشعراء قال فيه:

فيا رب إن أهلك ولم ترو هامتي *** بليلى أمت لا قبر أعطش من قبري لكنه عاد فقال (و يحتمل هذا البيت أن يكون خارجا عن هذا المعنى الذي نحن فيه وأن يكون ري هامته الذي طلبه من ربه هو وصال ليلي وهما في الدنيا وهم يکنون عما يشفيهم بأنه يروي هامتهم)(2).

المنهجية الخامسة:

من ضمن منهجية ابن أبي الحديد التي رأيناها في كتابه شرح نهج البلاغة هو ذکره الكل الآراء فهو غالباً ما يذكر الرأي والرأي الآخر المضاد ليجعل القارئ أمام صور مختلفة للأحداث:

1 - ففي روايته عن الهامة ذكر رأي أبي زيد على أنها من هوام الأرض وهي المتلونة المذكورة، ثم ذكر اعتراض أبي عبيدة عليه وقوله: ما أری أبا زید حفظ هذا إنما هي الصدی(3).

ص: 64


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 327
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 319
3- شرح نهج البلاغة، 19 / 319

2 - وعند ذكره الصفر قال إن أبا عبيدة معمر بن المثنى قال إنه صفر الشهر الذي بعد محرم، ثم علق (ولم يوافق أحد من العلماء أبا عبيدة على هذا التفسير)(1).

3 - وفي روايته عن الطيرة قبل الإسلام، ذكر ابن أبي الحديد روايات كثيرة عن تطير العرب من بعض الحالات، ثم يذكر روايات عن عدم انقياد العرب لهذا الأمر، فذكر رواية الاعشى مع زبان بن سيار الفزاري، ورواية الاعرابي الذي ذهب للبحث عن ناقته الضالة ولم يكترث للتطير(2).

4 - وفي موضوع التعشير وهي الرجل ينهق نهيق الحمار إذا أراد دخول قرية فخاف وباءها وهي من عادات العرب قبل الإسلام التي ذكرها ابن أبي الحديد ثم ذكر روایات على عدم انقياد العرب المثل هذه العادات وذكر قصة عروة بن الورد الذي رفض التعشير عند خروجه إلى خيبر مع أبيات شعر تؤيد تلك الحالة(3).

المنهجية السادسة:

كان ابن أبي الحديد في بعض الاحيان لا يلتزم جانباً معيناً، بل يعرض روايات عديدة للخبر الواحد، ويجعل الخبر على عهدة صاحبه، لأنه أراد أن يكون جامعاً بالخبر الواحد من مصادره المختلفة، ولا يعلق بترجيح الرواية على غيرها بل يترك القارئ اللبيب أن یُمَیزُه بنفسه:

1 - ففي نسب بني ناجية ذكر مرة رواية عن الاصفهاني في كتاب الاغاني بأن سامة بن لؤي قتل في الصحراء بعد أن لدغته حية، ولم يخلف فتزوجت امرأته ناجية من رجل وذهبت إلى البحرين فولدت الحارث منه فادعى أنه ابن سامة من قريش وكشف

ص: 65


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 320
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 307
3- شرح نهج البلاغة، 19 / 321

أمره(1)، ثم عاد ابن أبي الحديد ونقل رواية عن ابن الكلبي يقول فيها إن سامة بن لؤي أعقب فولد الحارث له فتزوج الحارث امرأة أبيه ناجية بعد وفاته زواج مقت(2).

2 - في نسب ثقیف ذكر ابن أبي الحديد ثلاث روايات عن نسبهم مرة، قال إنهم من هوازن، ومرة قال إنهم من أياد، ومرة قال إنهم من بقايا ثقيف، ولم يتطرق إلى سند معلوماته(3).

3 - أما في نسب أصحاب الرس فقد ذكر خمس روايات من دون أن يذكر سندها فمرة يقول إنهم أصحاب النبي شعيب، وأُخرى إنهم أصحاب قرية باليمامة، ومرة أنهم من العرب وذكر قصتهم مع حنظلة بن صفوان، ومرة أنهم أصحاب الأخدود، وذكر أنهم من أرض أنطاكية وأنهم أصحاب حبيب النجار وأخرى ذكر أنهم أصحاب نهر الرس في إقليم الباب(4).

المنهجية السابعة:

على الرغم من أن ابن أبي الحديد کان دقیقاً في نقل الرواية من الكتب بشكل صحيح إلا أن هذا لا يمنع من وجود بعض الاختلافات بين ما ذكره ابن أبي الحديد، وما موجود في تلك الكتب:

1 - اختلفت مجموعة من المفردات الخاصة بأبيات الشعر الموجودة في كتاب نهج البلاغة فيما يخص مادة العرب قبل الإسلام مع ما موجود في الدواوين أو ما نقله من الكتب، وقد فصلناها في الرسالة، فقد نقل أبيات شعر من كتاب المثالب للهيثم بن عدي

ص: 66


1- شرح نهج البلاغة، 3 / 93
2- شرح نهج البلاغة، 3 / 95
3- شرح نهج البلاغة، 8 / 233 - 234
4- شرح نهج البلاغة، 10 / 76

اختلفت عن ما موجود في الكتاب(1)، كذلك ذكره أبيات شعر لحسان بن ثابت حول نسب بني أبي وقاص لم نجدها لا في الديوان ولا في كتب التاريخ والسير(2)، كذلك ذكر بيت شعر لجريبة بن الأشيم، كان قد نقله من كتاب للخالع لم نجده في الديوان وإنما وجدنا بيت آخر بدلاً عنه(3).

2 - وفي تفسيره للمثل (في كل واد بني سعد) أعطى قصة المثل بعكس ما موجود في كتب الأمثال(4)، وكذلك المثل القائل (جار کجار أبي داود)(5).

المنهجية الثامنة:

على الرغم من أنَّ شارح کتاب نهج البلاغة كان دقيقاً في اختبار النصوص التي تتلائم مع الواقع إلا أننا نراه في بعض الأحيان ينقل الأساطير والخرافات على الرغم من عدم صحتها، ولكن بالمقابل نراه شجاعاً في تحديدها ومعرفته بها، بل ويجد لها الأعذار لوجودها، ففي حديثه عن الجن ذكر محاورة من الشعر كثيرة الأبيات بين عبيد بن الحمارس الكليبي والجن بعد أن قتل أنثى القنفذ وهي من مراكب الجن، وفي نهاية القصة قال ابن أبي الحديد (وهذه الحكاية وإن كانت كذباً إلا أنها تتضمن أدباً وهي من طرائف أحاديث العرب فذکرناها لأدبها وإمتاعها ويقال إن الشرقي بن القطامي کان يصنع أشعاراً وينحلها غيره)(6).

المنهجية التاسعة:

ص: 67


1- شرح نهج البلاغة، 11 / 53؛ ينظر ص 154 من الرسالة
2- شرح نهج البلاغة، 6 / 46؛ ينظر ص 155 من الرسالة
3- شرح نهج البلاغة، 19 / 316،ينظر ص 91 من الرسالة
4- ينظر قصة المثل عند ابن أبي الحديد وغيره في ص 256 من الرسالة
5- ينظر قصة المثل عند ابن أبي الحديد وغيره في ص 244 من الرسالة
6- شرح نهج البلاغة، 19 / 343 - 344

وعلى الرغم من انَّ كتاب نهج البلاغة امتاز بكونه کتاباً رصيناً ومعلوماته متماسكة، ولكن لاحظنا وجود بعض الحالات النادرة والغريبة في الكتاب منها:

1- عند ذكره نسب بكالة في الجزء العاشر من كتابه وهي قبيلة نوف البكالي انتقد الجوهري والراوندي حول عدم معرفتهم نسب القبيلة وذهابهم إلى انها حي من همدان واعطى النسب الحقيقي لها من كتاب الأنساب لابن الكلبي(1)، ولكن في الجزء الثامن عشر وعند التعرض لنسب بكالة في نسب نوف البكالي، ذكر اراء الجوهري والقطب الراوندي دون أن يعلق عليها بل اكتفى بالقول (فأما البكالي في نسب نوف فلا أعرفه)(2).

2 - وفي موضوع وأد البنات نقل لنا حديثاً للرسول صلى الله عليه وآله وسلم يدعو به على مضر ويقول ان وأد البنات بدأ من خلاله، وهو مخالف للروايات التاريخية وقد ناقشناه وفصلناه في الرسالة(3).

المنهجية العاشرة:

كان ابن أبي الحديد لا يتوقف عند الكتاب الذي نقل منه لشرح حادثة معينة بل نراه يضيف اليه من معلوماته أو من ما يملك من معلومات من الكتب الأخرى فمثلاً عند الحديث عن علاقة هاشم وامية، التي نقلها من كتاب الجاحظ، ذكر قسماً من المعلومات بعدها قال: (ثم نرجع إلى حكاية شيخنا أبي عثمان، وقد نمزجه بکلام اخر لنا أو لغيرنا ممن تعاطي الموازنة بين هذين البيتين)(4)، وفي مكان اخر من الموضوع نفسه قال: (ونحن نذكر ما أجاب به أبو عثمان عن كلامهم ونضيف إليه من قبلنا أمورا لم يذكرها فنقول)(5).

ص: 68


1- شرح نهج البلاغة، 10 / 62
2- شرح نهج البلاغة، 18 / 210
3- ينظر ص 140 من الرسالة
4- شرح نهج البلاغة، 15 / 177
5- شرح نهج البلاغة، 15 / 204

المنهجية الحادية عشر:

اما اسلوبه في نقل الرواية الأدبية الخاصة بالعرب قبل الإسلام فقد كان ابن أبي الحديد على اطلاع تام وواسع في الادب والشعر العربي والذي يمثل مادة ثرية لتاريخ العرب لذلك فهو يوثَّق النصوص الشعرية الواردة في كتابه بالرجوع إلى دواوين الشعراء انفسهم، وفي حالة عدم عثوره على النص ينبه إلى ذلك، ولا يكتفي بهذا بل يحاول البحث عن قائله ويعدنا بمحاولة توثيقه اذا عثر عليه:

1 - ففي كتاب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام إلى اخيه عقيل في ذكر جيش انفذه إلى بعض اعدائه وهو كتاب كتبه رداً على كتاب عقيل اليه قال الإمام علي عليه السلام:

ولكنه كما قال أخو بني سُليمٍ:

فَإِنْ تَسْأَلِينِي كَيْفَ أَنْتَ فَإِنَّنِي *** صَبُورٌ عَلَى رَیْبِ اَلزَّمَانِ صَلِيبُ

يَعِزُّ عَلَيَّ أَنْ تُرَى بِي کَآبَةٌ *** فَيَشْمَتَ عَادٍ أو يُسَاءَ حَبِيبُ

فعلّق ابن أبي الحديد قائلاً (والشعر ينسب إلى العباس بن مرداس السلمي ولم أجده في ديوانه)(1).

2 - وفي كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إلى معاوية جواباً على کتاب له ذكر بيتاً من الشعر قال فيه: فَكَمَا قَالَ أَخُو بَنِي أَسَدٍ:

مُسْتَقْبِلِینَ رِيَاحَ اَلصَّيْفِ تَضْرِبُهُمْ *** بِحَاصِبٍ بَيْنَ أَغْوَارٍ و جُلْمُودِ

فعلّق ابن أبي الحديد قائلاً: (كنت أسمع قديماً أن هذا البيت من شعر بشر بن أبي خازم الأسدي والآن فقد تصفحت شعره فلم أجده ولا وقفت بعد على قائله وإن

ص: 69


1- شرح نهج البلاغة، 16 / 118

وقفت فيما يستقبل من الزمان عليه ألحقته)(1). المنهجية الثانية عشر:

كان ابن أبي الحديد في بعض الاحيان يحيل إلى كتب كتبها وتناول فيها الأحداث بالتفصيل لمن يريد مزیداً عنها:

1- عند حديثه عن معاوية بن أبي سفيان وما نسب إليه من الإلحاد قال: (وروی عنه أخباراً كثيرة تدل على ذلك وقد ذكرناها في كتابنا في مناقضة السفيانية)(2).

2 - عند ذكره أبيات الخالع حول البلية قال: (وقد ذكرت في مجموعي المسمى بالعبقري الحسان أن أبا عبد الله الحسين بن محمد بن جعفر الخالع رحمه الله ذكر في كتابه في آراء العرب وأديانها هذه الأبيات واستشهد بها على ما كانوا يعتقدون في البلية وقلت إنه وهم في ذلك وإنه ليس في هذه الأبيات دلالة على هذا المعنی)(3).

ثانياً: مصادر ابن أبي الحديد في تاريخ العرب قبل الإسلام:

على الرغم من أن ابن أبي الحديد عند حديثه عن حياة العرب قبل الإسلام كان في بعض الأحيان يسرد الأحداث من دون أن يذكر لها سندها، مما صعب علينا عملية الحصول على توثيق تلك المعلومات، ولكنه من جانب آخر كان يذكر اسم الكتاب کاملاً من دون أن يذكر اسم المؤلف مثلاً يقول (ذكر في كتاب طبقات الشجعان ومقاتل الفرسان)، وأحيانا يذكر المؤلف فقط مثلا يقول، (قال الجاحظ، أو قال الزبير)، وفي بعض الأحيان يذكر الكتاب مع اسم المؤلف بالكامل فيقول (نقلت من كتاب افتراق هاشم وعبد شمس، لأبي الحسن محمد بن علي بن نصر المعروف بأبي رؤبة الدباس).

ص: 70


1- شرح نهج البلاغة، 18 / 14
2- شرح نهج البلاغة، 10 / 80
3- شرح نهج البلاغة، 19 / 317

ومن أبرز تلك المصادر التي اعتمد عليها ابن أبي الحديد في مادة العرب قبل الإسلام وحسب وفيات مؤلفيها:

1. ابن اسحاق، محمد بن اسحاق بن يسار (ت 151 ه):

وقد نقل ابن أبي الحديد من كتابين له عن العرب قبل الاسلام:

أ - كتاب السيرة وقد ذكر ابن أبي الحديد اسم المؤلف الكامل مع كتابه عند نقله قصة عبد المطلب ونزاعه مع قريش عن ابن اسحاق إذقال: (فقد ذكره محمد بن اسحاق بن يسار في كتاب السيرة)(1)، وهو كتاب يتحدث عن السيرة النبوية التي اختصرها ابن هشام (ت 218 ه) فيما بعد.

ب - کتاب المغازي وذكره ابن أبي الحديد بعدما أخذ منه قصة عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بن المغيرة أثناء تجارتهم إلى الحبشة قبل بعثة النبي وبدأها بقوله: (فقد ذكر ابن اسحاق في كتاب المغازي)(2).

وذكر ابن خلکان الكتابين ونقل عن كتابه المغازي قول الشافعي (من أراد أن يتبحَّر في المغازي فهو عيال على ابن إسحاق)(3)، بينما ذكر ابن النديم أنهما كتاب واحد أسماه کتاب السيرة والمبتدأ والمغازي)(4).

2. ابن الكلبي (204 ه):

أبو المنذر هشام بن أبي النضر محمد بن السائب بن بشر بن عمرو، الكلبي النسابة

ص: 71


1- شرح نهج البلاغة، 15 / 172
2- شرح نهج البلاغة، 6 / 238
3- وفیات الاعیان، 4 / 276
4- أبو الفرج محمد بن أبي يعقوب اسحاق (ت 380 ه)، الفهرست، ضبطه وشرحه وقدم له يوسف علي الطويل، وضع فهارسه أحمد شمس الدین، دار الكتب العلمية، (بیروت 2010)، ص 148

الكوفي، حدث هشام عن أبيه، وكان من أعلم الناس في علم الأنساب، ومن الحفّاظ المشاهير، له كتاب (الجمهرة) في النسب وهو من محاسن الكتب في هذا الفن(1)، وقد أخذ منه ابن أبي الحديد مجموعة من الروايات التي تتحدث عن أنساب العرب وقصصهم وقد ذكره مع اسم الكتاب، فعندما أورد نسب بني ناجية وقصة الخلاف حول نسبهم وقصتهم من كتب مختلفة عاد وقال: (وجدت أنا في جمهرة النسب لابن الكلبي کلاماً قد صرَّح فيه بأن سامة بن لؤي أعقب) ثم ذكر قصتهم ونسبهم من الكتاب(2)، وذكر في مكان اخر نسب بني بكال الحمير من الكتاب نفسه، لينهي اعتراضه على مخالفيه في نسبهم(3)، ثم ذكر قصة خلاف عبد المطلب مع عمه نوفل وطلب عبد المطلب معونة أخواله من بني النجار(4)، وصفات أمية وكيف كان يسرق الحجاج في مكة(5).

3. الواقدي (ت 207 ه):

وهو أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي صاحب كتاب المغازي وذكره ابن الندیم باسم (كتاب التاريخ والمغازي والمبعث)(6)، نقل منه ابن أبي الحديد العديد من الروايات حول حياة العرب في مكة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنها خصام أمية وعبد المطلب الذي وصل إلى حد الرهان بينهما(7)، وعند الحديث عن الأصنام نقل عنه ابن أبي الحديد رواية قيام أبي سفيان بن حرب بحلق رأسه والذبح للصنمين أساف

ص: 72


1- ابن خلکان، وفیات الاعیان، 6 / 82
2- شرح نهج البلاغة، 6 / 82
3- شرح نهج البلاغة، 10 / 63
4- شرح نهج البلاغة، 15 / 175
5- شرح نهج البلاغة، 15 / 176
6- الفهرست، ص 158
7- شرح نهج البلاغة، 15 / 174

ونائلة(1)، وكذلك نقل عنه قصة مقتل سوید بن الصامت التي كانت السبب المباشر الذي هیج وقعة بعاث بين الأوس والخزرج قبل الاسلام(2)، وكذلك تأكيده على أن بدر كان سوقاً للعرب قبل الاسلام(3).

4. الهيثم بن عدي الثعلبي (ت 207 ه):

قال ابن النديم أنه كان عالماً بالشعر والأخبار والمثالب والمناقب والمآثر والأنساب، وعد له أكثر من 56 كتاباً(4)، نقل ابن أبي الحديد من كتابه المثالب الذي ذكره وذكر اسم المؤلف بالكامل بقوله: (قال الهيثم بن عدي في كتاب مثالب العرب)(5)، وتطرق إلى نسب الزبير بن العوام وأنه من أرض مصر من القبط وليس من بني أسد بن عبد العزي ذاكراً أبيات شعر لحسان بن ثابت يهجو العوام بن خویلد يؤكد فيها قوله(6).

5. أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت 209 ه):

قال ابن النديم كان له (علم الإسلام والجاهلية)(7)، وذكر ابن خلکان (قال الجاحظ في حقه، لم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي أعلم بجميع العلوم منه)(8)، وعدَّ له أكثر من مائتي مصنّف بمختلف الفنون، وقد أخذ منه ابن أبي الحديد في مادة العرب قبل الإسلام ثلاثة كتب:

ص: 73


1- شرح نهج البلاغة، 17 / 200
2- شرح نهج البلاغة، 15 / 3؛ ينظر تفاصيل يوم بعاث ص 337 من الرسالة
3- شرح نهج البلاغة، 15 / 85
4- الفهرست ص 158 - 159
5- شرح نهج البلاغة، 11 / 53
6- ينظر ص 154 من الرسالة
7- الفهرست ص 83 - 85
8- وفیات الاعیان، 5 / 235

أ - كتاب (التاج)، وقد ذكر اسم المؤلف والكتاب (وقد ذكر أبا عبيدة معمر بن المثنى في كتاب التاج)(1)، ونقل منه مآثر بني تميم في الجاهلية.

ب - کتاب (طبقات الشجعان ومقاتل الفرسان)، وقد ذكره ابن أبي الحديد هكذا من دون اسم المؤلف، عند حديثه عن شجاعة عتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي، وذكر انه المقدم على فرسان العرب كلها في (كتاب طبقات الشجعان ومقاتل الفرسان)(2)، وإلا أن ابن أبي الحديد ذكر في مكان آخر وعند الحديث عن عمرو بن معدي كرب (روى أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب مقاتل الفرسان)، ولعله نفس الكتاب واختصره ابن أبي الحديد هنا، علماً أن ابن النديم وابن خلکان لم يذكرا الكتاب كاملاً كما ذكره ابن أبي الحديد إنما كان عندهما كتابان بالمعنى نفسه، الأول كتاب مقاتل الفرسان(3)، والثاني كتاب مقاتل الأشراف(4).

ت - عند الحديث عن النابغة أم عمرو بن العاص وقصة اختصام أربعة من قریش فيها، ذكر ابن أبي الحديد مصدر تلك المعلومات بقوله: (روى أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب الأنساب)(5)، ولم نجد اسم الكتاب ضمن الكتب التي ذكرها ابن النديم أو ابن خلکان، بل هناك كتاب باسم (الإنسان)، ونحن نعتقد إنه الانساب ولكنه نقل بطريقة الخطأ عند النسخ فتداول بهذا الاسم عند المؤرخين.

ث - في بعض الاحيان اقتبس ابن أبي الحديد بعض النصوص من أبي عبيدة ولكنه لم يشر إلى اسم الكتاب، إذ ذكر عند الحديث عن الصفر (فإن أبي عبيدة معمر بن المثنى

ص: 74


1- شرح نهج البلاغة، 18 / 97
2- شرح نهج البلاغة، 15 / 100
3- شرح نهج البلاغة، 12 / 88
4- ابن الندیم، الفهرست ص84؛ ابن خلکان، وفیات الاعیان، 5 / 235
5- شرح نهج البلاغة، 6 / 223

قال هو الشهر بعد محرم)(1)، وعند الحديث عن قصة هند زوج ابو سفيان والفاكهة وذهابهما إلى بعض الكهنة للتحاكم بينهما قبل الإسلام نسب الرواية إلى أبي عبيدة بقوله (روى أبو عبيدة معمر بن المثنى)(2).

6. الأصمعي (ت 216 ه):

هو عبد الملك بن قريب، وذكر ابن النديم أن أبا العباس المبرد قال (كان الأصمعي أنشد للشعر والمعاني وكان أبو عبيدة كذلك ويفضل على الأصمعي بعلم النسب وكان الأصمعي أعلم منه بالنحو)، وذكر له كتباً عديدة(3).

وقد أخذ منه ابن أبي الحديد روايتين عن تقاليد العرب قبل الإسلام، الأولى عن الجن وتأثيرها في مجتمع عرب قبل الاسلام(4)، والثانية عند كلامه عن العين كواحدة من عادات العرب المعروفة(5)، ولم يذكر ابن أبي الحديد اسم الكتاب الذي نقل منه بل كان يذكر فقط، (قال الأصمعي، وحكى الأصمعي)، دون تحديد الكتاب في كل ما نقل عنه.

7. المدائني، ابو الحسن علي بن محمد (ت 225 ه):

ذكر له ابن الندیم کتباً كثيرةً جدا وزّعها في أخبار النبي، وأخبار قريش، ومناكحة الأشرف وأخبار النساء، وأخبار الخلفاء وكتبه في الأحداث، وكتبه في الفتوح، وكتبه في أخبار العرب، وكتبه في أخبار الشعراء وغيرهم(6).

وقد استعمل منها ابن أبي الحديد في مادة العرب قبل الإسلام ثلاثة كتب:

ص: 75


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 320
2- شرح نهج البلاغة، 1 / 307
3- الفهرست، ص 89 - 87
4- شرح نهج البلاغة، 119 337
5- شرح نهج البلاغة، 19 / 308
6- الفهرست، ص161 - 168

أ - عند الحديث عن عادات العرب في الاكل استعمل كتابه الاكلة، وقد ذكره مع اسم المؤلف بقوله: (قال ابو الحسن المدائني في كتاب الاكلة)(1).

ب - عند ذكره مهنة القين وهي من المهن المعروفة قبل الإسلام وكانت ملازمة للوليد بن المغيرة، وذكر قصة قيام عمر بن الخطابتعبير المهاجر بن خالد بن الوليد بمهنة الحدادة بقوله (روی ابو الحسن المدائني هذا الخبر في كتاب أمهات الخلفاء)(2).

ت - وعند ذكر النسابة ورواية دغفل النسابة ذكر ابن أبي الحديد (روى المدائني في کتاب الامثال)(3).

8. ابن السكيت (ت 244 ه):

هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق، المعروف بابن السكيت، صاحب کتاب (إصلاح المنطق)، من علماء بغداد ممن أخذ عن الكوفيين وكان عالما بنحو الكوفيين وعلم القرآن والشعر وقد لقي فصحاء الأعراب وأخذ عنهم وحكى في كتبه ما سمعه منهم وله حظ من الستر والدين وكان مؤدبا لولد المتوكل (232ه -247 ه) وله معه أخبار ويقال أن المتوكل كان كثير التحامل على الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وأبنيه الحسن والحسين (عليهما السلام)، جاءه يوماً بولديه المعتز والمؤيد، وقال له: يا يعقوب أيما أحب إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين ، فغض ابن السكيت من ابنیه وذكر الحسن والحسين (عليهما السلام) ما هما أهله، فأمر الاتراك فداسوا بطنه، وقيل انما قال له: والله إن قنبر خادم علي عليه السلام خير منك ومن ابنيك فحمل إلى داره، فمات بعد

ص: 76


1- شرح نهج البلاغة، 18 / 318
2- شرح نهج البلاغة، 11 / 54
3- شرح نهج البلاغة، 4 / 95

غد ذلك اليوم(1).

وقد أخذ منه ابن أبي الحديد نصين عن عادات العرب قبل الاسلام:

أ - الاول عن دور الأحجار في الرقي والخرز خصوصاً خرزة العقرة التي ذكر ابن أبي الحديد عملها ثم قال (ذكر ذلك ابن السكيت في إصلاح المنطق)(2).

ب - وفي النص الثاني عن عادات العرب لم يذكر اسم الكتاب بل ذكر اسم المؤلف فقط بقوله: (قال ابن السكيت إن العرب كانت تقول إن المرأة المقلات وهي التي لا يعيش لها ولد إذا وطئت القتيل الشريف عاش ولدها)(3).

9. الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر (ت 255 ه):

العالم البصري المشهور؛ صاحب التصانيف في كل فن، وإليه تنتسب الفرقة المعروفة بالجاحظية من المعتزلة، وكان تلميذ أبي إسحاق إبراهيم النظام المتكلم المشهور، وقيل له (الجاحظ) لأن عينيه كانتا جاحظتين، والجحوظ: النتو، وكان يقال له أيضاً "الحدقي" لذلك(4).

أ - استعمل ابن أبي الحديد الكثير من كتب وروايات الجاحظ في كتابه وكان غالباً ما يذكره بشيخنا أبي عثمان، وقد ذكر القسم الأعظم من تاريخ مكة قبل الإسلام وفضل بني هاشم على عبد شمس، وعلاقة هاشم وأمية وحياة عبد المطلب ودوره في حادثة الفيل وأغلب أحداث حلف الفضول وحروب الفجار، من روايات الجاحظ(5)، وفي أغلب الاقتباسات كان لا يذكر الكتاب إلا أنه ذكر مرة (قال شيخنا أبو عثمان في

ص: 77


1- ابن الندیم، الفهرست، ص 114؛ ابن خلکان، وفیات الاعیان، 6 / 400
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 347
3- شرح نهج البلاغة، 19 / 323
4- ابن خلکان، وفیات الاعیان، 3 / 470
5- شرح نهج البلاغة، 15 / 149 - 157

کتاب مفاخرات قریش)(1).

ب - نقل ابن أبي الحديد صوراً عن عادات العرب قبل الإسلام في الجن وتأثيرها على المجتمع وقصصاً أخرى من كتاب (الحيوان)(2).

10. الزبير بن بكار (256 ه):

أبو عبد الله الزبير بن أبي بكر بکار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام من أهل المدينة، إخباري أحد النسابين وكان شاعرا، راوية، وَلِيَ قضاء مكة ومات وهو قاض عليها، له عدد كبير من المصنفات(3).

وقد استعمل ابن أبي الحديد ثلاثة من كتبه:

أ - كتاب النسب، وقد تطرق اليه ابن أبي الحديد عند ذكرهأبياتاً لحذافة العذري في مدح بني هاشم إذ قال (أما الشعر الذي لحذافة العذري والذي ذكره شيخنا أبو عثمان فقد ذكره الزبير بن بكار في كتاب النسب)(4)، كذلك اعتمد عليه في العديد من الروايات عن سياسة قريش في مكة ودور هاشم في فيها وفي تجارة مكة، وحياة عبد المطلب في حادثة الفيل وحفر بئر زمزم، ودفاعه عن الجار، ومعلومات عن حلف الفضول وأحداثه كذلك دور أبي طالب في قريش وحرب الفجار(5).

ب - کتاب المفاخرات وذكر فيها مجموعة من المفاخرات التي كانت تعقد في مجالس العرب ومنها التي ذكرت اسم النابغة ام عمرو بن العاص بقوله (وروى الزبير بن بكار

ص: 78


1- شرح نهج البلاغة، 11 / 53
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 334، 338
3- ابن النديم، الفهرست، ص177
4- شرح نهج البلاغة، 15 / 161
5- شرح نهج البلاغة، 15 / 157 - 173

في كتاب المفاخرات)(1).

ث - كتاب الموفقيات، وذكره ابن أبي الحديد عند الحديث عن وأد البنات وأسبابه ودور قيس بن عاصم المنقري، وذكره ابن أبي الحديد مع مؤلفه (روى الزبير في الموفقيات)(2).

11. ابن قتيبة (ت 276 ه):

أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الكوفي مولده بها وإنما سمي الدينوري؛ لأنه كان قاضي الدينور، وكان ابن قتيبة يغلو في البصريين إلا أنه خلط المذهبين وحكى في كتبه عن الكوفيين وكان صادقاً فيما يرويه عالماً باللغة والنحو وغريب القرآن ومعانيه والشعر والفقه كثير التصنيف والتأليف وكتبه بالجبل مرغوب فيها(3):

أ - وقد ذكر له ابن أبي الحديد كتابه المعارف، عند الحديث عن مهنة القين قبل الإسلام وذكر الوليد بن المغيرة الذي كان ريحان قریش ويصنع الدروع بقوله (و کان الوليد بن المغيرة مع جلالته في قريش وكونه يسمی ريحانة قريش، ويسمى العدل، ويسمى الوحيد، حداداً يصنع الدروع وغيرها بيده، ذكر ذلك عنه عبد الله بن قتيبة في کتاب المعارف)(4).

ب - فيما لم يذكر ابن أبي الحديد كتابه عند الحديث عن أكلات العرب قبل الإسلام ومنها السخينة عند قريش واكتفى بقوله (قال ابن قتيبة)(5).

ص: 79


1- شرح نهج البلاغة، 6 / 224
2- شرح نهج البلاغة، 13 / 132
3- ابن النديم، الفهرست، ص 123
4- شرح نهج البلاغة، 11 / 54
5- شرح نهج البلاغة، 5 / 14

12. البلاذري (ت 279 ه):

أبو جعفر أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري من أهل بغداد، كان شاعراً راوية ووسوس آخر أيامه فشد في البيمارستان ومات فيه وسبب وسوسته أنه شرب ثمر البلاذر(1) على غير معرفة فلحقه ما لحقه وله من الكتب كتاب البلدان الصغير، وكتاب البلدان الكبير، ولم يتمه وكتاب الأخبار والأنساب(2).

ونقل منه ابن أبي الحديد ذكر قصة يوم بعاث بين الأوس والخزرج قبل الاسلام(3)، وكذلك ذكره القحط والازمة الإقتصادية التي مرت بها قریش قبل المبعث النبوي مما جعل الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأعمامه يطلبون من أبي طالب ان يدفع لهم احد ولده ليكفوه امرهم، وهو ما ناقشناه في الرسالة بالتحليل(4)، وكان يقول (ذکر احمد بن يحيى البلاذري) دون أن يسمي كتابه، لكنه ذكره في مكان آخر بقوله: (وروى البلاذري في كتاب أنساب الأشراف)(5).

13. المبرد (ت 286 ه):

ابو العباس محمد بن يزيد الأزدي الثمالي وهو من ثمالة قبيلة من الأزد، أخذ النحو عن الجرمي والمازني وغيرهما، ويقال إنه ابتدأ كتاب سيبويه على الجرمي وختمه على

ص: 80


1- بلاذر: ثمرة شبيهة بنوى التمر ولبه مثل لب الجوز حلولا مضرة فيه وقشره متخلخل متثقب في تخلخله عسل لزج ذو رائحة ومن الناس من يقضمه فلا يضره وخصوصا مع الجوز، يذهب البرص ويقلع الوشم ويبرئ من داء الثعلب البلغمي لكنه يهيج الوسواس، ينظر ابن سینا، ابو علي الحسين بن عبد الله بن سينا (ت 428 ه)، القانون في الطب، دار صادر، بیروت، (د.ت)، 1 / 267
2- ابن الندیم، الفهرست، ص 180
3- شرح نهج البلاغة، 15 / 40
4- شرح نهج البلاغة، 1 / 41؛ ينظر ص 262 من الرسالة
5- شرح نهج البلاغة، 2 / 196

المازني، وقيل انتهى النحو اليه بعدهما(1)، له مجموعة من المصنفات ولعل أبرزها كتابه الكامل في اللغة والادب، الذي أخذ منه ابن أبي الحديد المادة المتعلقة بالديّات قبل الإسلام ومنها ديّة الملوك (المشعرة)(2)، وكذلك ما يتعلق بالبغايا قبل الاسلام(3)، وقد ذكره ابن أبي الحديد وذكر مؤلفه بقوله (وقال المبرد في كتابه الكامل).

14. محمد ابن أبي رؤبة الدباس (ت 302 ه):

ولم نجد ترجمته إلا عند الخطيب البغدادي الذي قال إن اسم أبي روبة علي بن محمد بن نصر، وكان ثقة(4)، وقد ذكر ابن أبي الحديد کتابه بصيغتين، الأولى قال (نقلت من کتاب هاشم وعبد شمس لأبي رؤبة الدّباس)، ثم قال (نقلت من كتاب افتراق هاشم وعبد شمس لأبي الحسين محمد بن علي بن نصر المعروف بابن أبي روبة الدّباس)، والظاهر أنهما نفس الكتاب، وقد نقل منه ابن أبي الحديد أغلب قصة هاشم وعبد شمس وذكر صفات عبد المطلب مع أبيات شعر لأبي طالب حول عبودية أمية(5).

15. الطبري (ت 310 ه):

أبو جعفر محمد بن جریر بن یزید بن خالد الطبري الآملي ، علاَّمة وقته وإمام عصره وفقيه زمانه، أخذ الحديث عن الشيوخ الفضلاء وكان متفننا في جميع العلوم، علم القرآن والنحو والشعر واللغة والفقه ، كثير الحفظ، وذكر ابن النّديم أنه رأى بخطه شيئاً كثيراً من كتب اللغة والنحو والشعر وله مذهب في الفقه اختاره لنفسه وله في ذلك عدة

ص: 81


1- ابن النديم، الفهرست، ص 92 -93
2- شرح نهج البلاغة، 15 / 103
3- شرح نهج البلاغة، 6 / 223
4- ابو بکر أحمد بن علي (ت 463 ه)، تاریخ بغداد، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، (بیروت 1997)، 3 / 292
5- شرح نهج البلاغة، 15 / 175 - 181

کتب(1).

وذكره ابن أبي الحديد وذکر کتابه بقوله (روى الطبري في تاريخه) وهو يقصد هنا تاریخ الرسل والملوك عند الحديث عن الكهنة ودور الكاهن الذي رآه الرسول وهو غلام(2).

16. أبو الفرج الأصفهاني (ت 356 ه):

هو علي بن الحسين بن الهيثم القرشي من ولد مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن العاص، ولد بأصفهان ونشأ ومات ببغداد وكان شاعراً مصنفاً أديباً له مجموعة من المصنّفات أبرزها كتاب الأغاني الكبير نحو خمسة آلاف ورقة(3)، والذي استعمله ابن أبي الحديد عند الحديث عن صفات عبد المطلب وما يتعلق بحياته إذ ذكر الكتاب بالشكل التالي: (وفي كتاب الأغاني لأبي الفرج)(4)، وكذلك عند ذكره أيام القحط التي مرت بها مكة في بعض السنين ومنه استند ابن أبي الحديد على رواية قيام أبي طالب بتفريق ابنائه على إخوته والرسول ليكفوه أمرهم(5).

17. الجوهري (393 ه):

أبو نصر إسماعيل بن حماد التركي إمام اللغة مصنف کتاب "الصحاح" وأحد من يضرب به المثل في ضبط اللغة، وفي الخط المنسوب وكان يحب الاسفار والتغرب، دخل بلاد ربيعة ومضر في طلب لسان العرب ودار الشام والعراق، ثم عاد إلى خراسان، فأقام

ص: 82


1- ابن النديم، الفهرست، ص 385
2- شرح نهج البلاغة، 18 / 308
3- ابن النديم، الفهرست، ص 183
4- شرح نهج البلاغة، 15 / 175
5- شرح نهج البلاغة، 1 / 41

بنيسابور يدرس ويصنف، ويعلِّم الكتابة(1).

ذكره ابن أبي الحديد وذکر کتابه قال (قال الجوهري في الصحاح) عند التعرض لنسب نوف البكالي وإنّه منسوب إلى حي بكالة في همدان وقد اعترض عليه ابن أبي الحديد(2).

18. الخالع الرافقي (ت 422 ه):

الحسين بن أبي جعفر بن محمد الخالع الرافقي ويقال إنه من ذرية معاوية بن أبي سفيان، كان من كبار النحاة، وله من المصنفات كتاب الشعراء وكتاب المواصلة والمفاصلة وكتاب الأمثال وكتاب الأودية والجبال وكتاب الرمال وكتاب تخيلات العرب وتفسير شعر أبي تمام وصناعة الشعر وغير ذلك وكان من الشعراء المذكورين(3)، وقد استعمل ابن أبي الحديد كتابه الذي أسماه (في أراء العرب وأديانها)، ولعله هو نفسه الذي ذكره الصفدي باسم کتاب تخيلات العرب، لعدم عثورنا على كتاب الخالع بالاسم الذي ذكره ابن أبي الحديد، وقد ذكره واعترض عليه ابن أبي الحديد في المواضيع التي أخذها منه في عادات العرب في البلية(4) وتخيلاتهم في السفر(5)، وفي عادات المرأة في الجاهلية(6).

19. ابن عبد البر (463 ه):

أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر القرطبي؛ إمام عصره في الحديث والأثر وما يتعلق بهما، روی بقرطبة عن أبي القاسم خلف بن القاسم الحافظ وأبي

ص: 83


1- الذهبي، سير أعلام النبلاء، 17 / 80 - 81
2- شرح نهج البلاغة، 10 / 62
3- الصفدي، الوافي بالوفيات، 12 / 214
4- شرح نهج البلاغة، 19 / 317
5- شرح نهج البلاغة، 19 / 330
6- شرح نهج البلاغة، 19 / 348

الوليد ابن الفرضي وغيرهم.

قال القاضي أبو الوليد الباجي، لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر ابن عبد البر في الحديث؛ وقال أيضاً: أبو عمر أحفظ أهل المغرب.(1)، له مصنفات كثيرة منها الاستيعاب في معرفة الأصحاب، وقد نقل منه ابن أبي الحديد زواج الرهط قبل الإسلام وكيف نسبت النابغة ام عمرو بن العاص إلى العاص نفسه، وقد ذكر ابن أبي الحديد الكتاب مع المؤلف بقوله (وقال أبو عمر بن عبد البر صاحب کتاب الاستیعاب)(2).

20. ابن ماكولا (475 ه):

الأمير سعد الملك أبو نصر علي بن هبة الله العجلي، وأصله من جرباذقان من نواحي أصبهان، ووزر أبوه أبو القاسم هبة الله للإمام القائم بأمر الله، وتولى عمه أبو عبد الله الحسين بن علي قضاء بغداد.

سمع الحديث الكثير وصنف المصنفات النافعة، وأخذ عن مشايخ العراق وخراسان والشام وغير ذلك. وكان أحد الفضلاء المشهورين، تتبع الألفاظ المشتبهة في الأسماء الأعلام وجمع منها شيئاً كثيراً، وكان الخطيب أبو بكر صاحب (تاریخ بغداد) قد أخذ کتاب الحافظ أبي الحسن الدارقطني المسمى (المختلف والمؤتلف) وكتاب الحافظ عبد الغني بن سعيد الذي سماه (مشتبه النسبة) وجمع بينهما، وزاد عليهما، وجعله کتاباً مستقلاً سماه (المؤتنف تكملة المختلف)؛ وجاء الأمير أبو نصر المذكور وزاد على هذا (المؤتنف) وضم إليه الأسماء التي وقعت له، وجعله أيضاً كتاباً مستقلاً سماه (الإكمال) وهو في غاية الإفادة في رفع الالتباس والضبط والتقييد، وعليه اعتماد المحدثين وأرباب

ص: 84


1- ابن خلکان، وفیات الاعیان، 7 / 66
2- شرح نهج البلاغة، 6 / 222

هذا الشأن، فإنه لم يوضع مثله ولقد أحسن فيه غاية الإحسان(1)، وقد ذكره ابن أبي الحديد بقوله (وقد ذكر ابن ماکولا في الاكمال) عند التطرق إلى يوم بعاث وهو من ایام العرب المهمة قبل الاسلام(2).

21. ابن جزلة الطبيب (ت 493ه):

أبو علي يحیی بن جزلة الطبيب، كان نصرانياً ثم أسلم وصنف رسالة في الرد على النصارى، ومدح فيها الإسلام وأقام الحجة على أنه الدين الحق، وكان له نظر في علم الأدب، وكتب الخط الجيد، اتصل بالمقتدي العباسي (467 ه - 487 ه) وصنف له عدة كتب بالطب، وهو صاحب کتاب "المنهاج" الذي رتبه على الحروف، وجمع فيه أسماء الحشائش والعقاقير والأدوية وغير ذلك شيئاً كثيراً(3)، وقد استفاد ابن أبي الحديد من كتابه هذا عند الحديث عما ورد من الطيب من الآثار وتفسيره للعنبر وطريقة استخراجه والمسك وانواع الكافور وغيرها من الصناعات التي كانت معروفة عند العرب قبل الإسلام كذلك معلوماته عن المندلي وهي أعواد كانت تحرق فتستخدم قبل الإسلام كدلالات للضيف تمتاز بطول فترة احتراقها وطيب ريحها(4).

22. الزمخشري (ت 538 ه):

جار الله أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الزمخشري، الإمام الكبير في التفسير والحديث والنحو واللغة وعلم البيان؛ كان إمام عصره من غير مدافع، تشد إليه الرحال في فنونه، وكان قد سافر إلى مكة، وجاور بها زماناً، فصار يقال له "جار الله" لذلك، وكان هذا الاسم علماً عليه. وكانت إحدى رجليه ساقطة، فكان

ص: 85


1- ابن خلکان، وفیات الاعیان، 3 / 305
2- شرح نهج البلاغة، 15 / 40
3- ابن خلکان، وفیات الاعیان، 6 / 267
4- شرح نهج البلاغة، 19 / 284 - 287

يمشي في جاون خشب، وهو معتزلي الاعتقاد متظاهر به، حتى نقل عنه أنه كان إذا قصد صاحباً له واستأذن عليه في الدخول يقول لمن يأخذ له الإذن: قل له أبو القاسم المعتزلي بالباب وصنف التصانيف البديعة: منها "الكشاف" في تفسير القرآن العزيز، و"ربيع الأبرار وفصوص الأحبار"(1).

واستعمل ابن أبي الحديد کتابه ربيع الابرار عند الحديث عن الزنا عند العرب قبل الإسلام ومنه نقل أن هند کانت صاحبة فجور وذكر قصتها مع الفاكهة(2)، وقصة النابغة واقترانها بالعاص بن وائل(3) وقد ذكره ابن أبي الحديد مع كتابه بقوله: (ذكر الزمخشري في كتاب ربيع الابرار) 23. القطب الراوندي (ت 573 ه):

أبو الحسن، قطب الدین سعيد بن هبة الله بن الحسن الراوندي، باحث إمامي، توفاه الله تعالی ببلدة (قم) وقبره بها. له کتب، المشهور منها شرح نهج البلاغة سماه (منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة(4)، وقد ذكره ابن أبي الحديد واعتمد عليه في الكثير من مادته في كتابه الشرح، أما بخصوص مادة العرب قبل الإسلام فقد ذكر منه روايتين عن نسب بكالة(5)، ونسب طلحة والزبير الذي أرجعهما خطأ إلى عبد مناف(6)، وقد انتقده ابن أبي الحديد في كلتا الحالتين.

ص: 86


1- ابن خلکان، وفیات الاعیان، 5 / 168
2- شرح نهج البلاغة، 1 / 306
3- شرح نهج البلاغة، 6 / 222
4- الزركلي، خير الدين، الأعلام 3 / 104
5- شرح نهج البلاغة، 10 / 183
6- شرح نهج البلاغة، 11 / 95

24. مصادر ابن أبي الحديد من الشعر:

1 - ديوان امرؤ القيس، وقد اقتبس منه ابن أبي الحديد مجموعة من الأبيات الشعرية التي فصلناها في الرسالة، وقد ذکر دیوانه باسم (مجموع أشعار امريء القیس)(1).

2 - ديوان بشر بن أبي خازم وقد اقتبس منه ابن أبي الحديد مجموعة من الأبيات عن عادات العرب قبل الإسلام وذكره عند بحثه عن بیت شعر ذكره الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ولم يجدها في الديوان فقال: (كنت أسمع قديما أن هذا البيت من شعر بشر بن أبي خازم الأسدي والآن فقد تصفحت شعره فلم أجده )(2).

3 - ديوان العباس بن مرداس، عند بحثه عن أبيات شعر ذكرها الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ولم يجده في الديوان فقال (والشعر ينسب إلى العباس بن مرداس السلمي ولم أجده في ديوانه)(3).

4 - ديوان النابغة الذبياني، وقد اقتبس منه ابن أبي الحديد مجموعة من الأبيات عن عادات العرب قبل الإسلام وذكره بقوله (وكان أبو جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد العلوي البصري يفضل النابغة واستقرأني يوما وبيدي ديوان النابغة قصيدته التي يمدح بها النعمان بن المنذر ویذکر مرضه ويعتذر إليه مما كان اتهم به وقذفه به أعداؤه)(4).

ص: 87


1- شرح نهج البلاغة، 20 / 144
2- شرح نهج البلاغة، 18 / 14
3- شرح نهج البلاغة، 16 / 118
4- شرح نهج البلاغة، 20 / 139

ص: 88

الفصل الثاني:

الحياة الاجتماعية عند العرب قبل الإسلام المبحث الأول: القيم الأخلاقية عند العرب.

المبحث الثاني: العادات والتقاليد الاجتماعية.

المبحث الثالث: القوانين والعقوبات عند العرب قبل الإسلام.

المبحث الرابع: الحياة الأسرية عند العرب قبل الإسلام.

المبحث الخامس: الأنساب.

ص: 89

ص: 90

المبحث الأول القيم الاجتماعية عند العرب الكل مجتمع من مجتمعات الارض قيمٌ أخلاقية تعتز بها وتمارسها، فما خلت أمة من الأمم من عادات اجتماعية تفرضها عليها طبيعتها البيئية وتركيبها السكاني، وما ورثته من أسلافها، فشكلت لها منظومة قيمية اعتزت بها وتفاخرت بممارستها، حتى صارت معیاراً للتمايز والتفاخر.

وقد أورد ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة مجموعة كبيرة من الروايات والآراء التي تتعلق بالجانب الاجتماعي ولاسيما ما يتعلق بالقيم الأخلاقية عند العرب قبل الإسلام وهي تقاليد فرضتها الطبيعة الصحراوية التي كانوا يعيشونها وما تفرضه عليهم من قساوة الحياة فأصبحت جزءاً من كيانهم، بعثت في نفوسهم مجموعة من الفضائل والخصال الحميدة عبَّروا عنها في أشعارهم فهم يتحدثون عن فروسيتهم وكرمهم الفياض وحلمهم وعزتهم وصبرهم على الشدائد وحفاظهم على العهد وحماية الجار ويمكن تحديد تلك القيم حسب المحاور الآتية:

أولاً: الشجاعة والفروسية

كان للشجاعة والفروسية عند العرب منزلة، فالعربي مفتون بالشجاعة، وكانوا يفتخرون بالموت أثناء المعارك ويرفضون الموت على الفراش، وأنف المرء الموت حتف أنفه يقول السمؤال بن عاديا:

ص: 91

ومامات منا سيدٌ حتف أنفهِ *** ولا طُل منا حيثُ كانَ قتيلُ

تسيل على حد الظباتِ(1) نُفوسُنا *** وليستْ على غير الظباتِ تسيلُ(2)

وكانوا يكثرون من الوصايا لأبنائهم ليزرعوا بداخلهم حب الشجاعة فذكر لنا ابن أبي الحديد أن عمرو بن كلثوم(3) وهو أحد شجعان العرب أوصى أبناءه فقال: (واعلموا أن أشجع القوم العطوف، وخير الموت تحت ظلال السيوف، ولا خير فيمن لا روية له عند الغضب)(4).

يبدو أن هذا الرأي يدل على أنّ الشجاعة ليست بالعنف واستخدام السيف للاعتداء على الآخر، إنما هو تحكيم المنطق عند الغضب، كما أنّ العطف هو الشجاعة، ولذا قد حدّد عمرو بن كلثوم مبدءاً جديداً للشجاعة إذ وصف العاطفة بأنها شجاعة وهذا الوصف قد يكون متناقضاً مع آراء اخرى، إذ يرى ابن خلدون مثلاً أنّ عرب البادية

ص: 92


1- الظبات: جمع ظبة، وهي حد السيف، وفي البيت اشارة إلى الشجاعة في الحرب. ينظر ابن منظور، جمال الدين بن مکرم الافريقي (ت 711)، لسان العرب، اعتنى بتصحيحه أمين محمد عبد الوهاب و محمد الصادق العبيدي، دار إحياء التراث العربی، (بیروت 2010)، 5 / 502، (مادة ظأب)
2- بن عاديا، السموأل بن غریض بن عاديا (ت نحو 560 م)، دیوان عروة بن الورد والسموأل، تحقیق عیسی سابا، دار بيروت، (بیروت 1982م)، ص91
3- هو عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب، من بني تغلب، لقبه أبو الأسود (ت نحو 584 م)، شاعر وفارس جاهلي، ساد قومه (تغلب) وهو فتى، وعمر طويلا، وكان من أعز الناس نفسا، وهو أحد فتاك العرب وهو الذي فتك بعمرو بن هند، أشهر شعره معلقته ويقال إنها كانت في نحو ألف بيت، وإنما بقي منها ما حفظه الرواة، ينظر الأصفهاني، ابو الفرج علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم القرشي (ت 356 ه)، الاغاني، تحقیق ، قصي الحسين، دار ومكتبة الهلال، (بیروت 2002)، مج4، 11 / 274 - 279؛ البغدادي، عبد القادر بن عمر (ت 1093 ه)، خزانة الأدب ولب لسان العرب، تحقيق محمد نبیل طريفي وأميل بدیع يعقوب، دار الكتب العلمية، (بیروت 1998 م)، 3 / 174؛ الزركلي، الاعلام، 5 / 84
4- شرح نهج البلاغة، 17 / 95

كانوا أكثر شجاعة من أهل المدن (لأنهم أقدر على التغلب والاستبداد... لقدرتهم على محاربة الامم سواهم ولأنهم يتنزلون من الآهلين منزلة المفترس من الحيوانات العجم)(1)، وهو هنا يرى أنّ الاستبداد والتغلب والافتراس هي الشجاعة نفسها ويبدو أنه أراد أن يثبت لنا أنّ ابن البادية أكثر حرصاً على حماية نفسه لعدم وجود کیان سیاسي يحفظ له الأمن إلا سيفه، ولذا يكون أكثر حذراً ويقظة من ابن المدينة.

وذكر ابن أبي الحديد أنّهم كانوا يرون أنّ أكل لحوم السباع تزيد في الشجاعة والقوة وهذا مذهب طبّي والأطباء يعتقدونه(2)، ويبدو أنهم كانوا يعتقدون بأنّ الأسد کونه أشرس الحيوانات وأشجعها فهو يمثل عندهم روح الشجاعة والقوة فقتله يمثل قوة التحدي والسيطرة على البيئة، لذا كانوا يتغنون بقتله بأشعارهم، واعتقدوا أنّ أكل لحمه بعد مقتله يمثل منتهى العنفوان عند المقاتل کونه انتصر على أقوى الحيوانات، وقد لا يكون للطب دخل في ذلك كما اعتقد ابن أبي الحديد.

وذكر ابن أبي الحديد مجموعة من الأبيات الشعرية بهذا المعنى منها:

أبا المعارك لا تتعب بأكلك ما *** تظن أنك تلفی منه کرارا

فلو أكلت سباع الأرض قاطبة *** ما كنت إلا جبان القلب خوارا

وقال بعض الأعراب وقد أكل فؤاد الأسد ليكون شجاعاً فعدا عليه نمر فجرحه:

ص: 93


1- عبد الرحمن بن محمد الحضرمي المغربي (ت 808)، تاریخ ابن خلدون المسمى بكتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، دار الكتب العلمية، (بیروت 2006م)، 1 / 153
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 327

أكلت من الليث الهصور فؤاده *** لأصبح أجرى منه قلباً وأقدما

فأدرك مني ثأره بابن أخته *** فيا لك ثأراً ما أشد وأعظما

وقال آخر:

إذا لم يكن قلب الفتى غدوة الوغى *** أصم فقلب الليث ليس بنافع

وما نفع قلب الليث في حومة الوغی *** إذا كان سيف المرء ليس بقاطع(1)

ولأن الشجاعة والفروسية تمثل المثل العليا للقيم فقد سارع الفرسان لحماية المظلومين المغلوبين على أمرهم والانتصاف للمظلوم من الظالم وكان الضعيف إذا احتمی بالقوي ضمن له الحماية والأمان من نفسه ومن أهله ومن عشيرته وإذا لم يجد في طريقه رجلاً قوياً يحتمي به كان يستجير بأي اسم.

وذكر ابن أبي الحديد أنّ ركباً من جذام خرجوا عن الحج من مكة ففقدوا رجلاً منهم فاخذوا حذافة بن غانم العذري فربطوه وانطلقوا به فتلقاهم عبد المطلب بن هاشم مقبلا من الطائف ومعه ابنه أبو لهب فاستنجد به حذافة وهتف به، فأمر عبد المطلب ابنه أن يلحقهم لينجده فحلف لهم أن يعطيهم عشرين أوقية ذهباً وعشراً من الإبل وفرسا وردءه رهن، فقبلوا ذلك منه وأطلقوا حذافة فأردفه خلفه حتى دخل مكة(2).

وذكر ابن أبي الحديد أنّ العرب تجعل للشجاعة أربع طبقات فتقول (شجاع) فإذا كان فوق ذلك قالت (بطل) فإذا كان فوق ذلك قالت (بهمة) فإذا كان فوق ذلك قالت

ص: 94


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 327
2- شرح نهج البلاغة، 15 / 162

(أكيس) وقال العجاج: أكيس عن حوبائه سخي(1).

مع تمجيدها للشجاع فقد كانت العرب تعيِّر الجبان وتصفه بصفات تبقى ملاصقة لاسمه فذكر ابن أبي الحديد أن (قمعة بن إِلْياس بن مضر) سمي بذلك الاسم لأنه انْقَمعَ في بيته كما زعموا(2)، وكان اسمه عُمَیْراً فأُغِيرَ على إِبل أَبيه فانْقَمعَ في البيت فرقاً فسماه أبوه قَمَعة، وخرج أَخوه لبغاء إبل أبيه فأدركها فسمي مدركة بن إِلْياس لبِغاءِ إِبل أَبيه فأَدركها، وقعد الأَخ الثالث يَطْبُخُ القِدْر فسمي طابِخةَ(3).

ومن أشهر فرسان العرب في الجاهلية الذين ذكرهم ابن أبي الحديد عنترة بن شداد الذي تحدثت الكثير من الروايات عن شجاعته حتى أضيفت لها العديد من القصص الخيالية(4).

وعامر بن الطفيل(5)(6) وعتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي الذي قال عنه أنّ

ص: 95


1- شرح نهج البلاغة، 15 / 187
2- شرح نهج البلاغة، 23 / 7
3- ابن منظور، لسان العرب، 7 / 367، (مادة قمع)
4- شرح نهج البلاغة، 18 / 63
5- عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن کلاب، من شعراء الجاهلية وفرسانها شاعر مشهور وفارس قومه (ت 11ه) كان في الجاهلية يأمر مناديا في (عكاظ) ينادي: هل من راجل فنحمله؟ أو جائع فنطعمه؟ أو خائف فنؤمنه؟، وخاض المعارك الكثيرة وكان أعور أصيبت عينه في إحدى وقائعه، وأدرك الإسلام شيخا وهو ابن ثمانين سنة، فوفد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المدينة، بعد فتح مكة، يريد الغدر به، فلم يجرؤ عليه، فمات كافراً، ينظر الصفدي، صلاح الدین خليل بن ایبك (ت 764 ه)، الوافي بالوفیات، 16 / 330 - 331؛ ابن حجر العسقلاني، ابو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد (ت 852 ه)، الاصابة في تمييز الصحابة، تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود وعلى محمد معوض، دار الكتب العلمية، (بيروت 1415 ه)، 3 / 447
6- شرح نهج البلاغة، 7 / 166

العرب كانت تقول: (لو وقع القمر إلى الأرض لما التقفه إلا عتيبة بن الحارث لثقافته بالرمح) وعتيبة هذا هو المقدم على فرسان العرب كلها في كتاب طبقات الشجعان ومقاتل الفرسان(1)، وقد انتقد ابن أبي الحديد الشاعر الفرزدق(2)، لأنّه ذکر شجعان بني تميم في حضرة سليمان بن عبد الملك ولم يذكره فقال: (و لكن الفرزدق لم يذكره وإن كان تميميا لأن جریرا يفتخر به لأنه من بني يربوع فحملته عداوة جرير على أن عدل عن ذكره)(3).

ومن شجعان العرب بنو فراس بن غنم أنجد العرب، كان الرجل منهم يعدل بعشرة من غيرهم(4)، ذكرهم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام عند عتابه لأهل الكوفة التخاذلهم في الخروج لحرب معاوية:

«أَمَا واَللهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ لِي بِكُمْ أَلْفَ فَارِسٍ مِنْ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنْمٍ

هُنَالِكَ لَوْ دَعَوْتَ أَتَاكَ مِنْهُمْ *** فَوَارِسُ مِثْلُ أَرْمِيَةِ اَلْحَمِيمِ»(5).

وعلّق ابن أبي الحديد على كلام الإمام عليه السلام بأنّ بني فراس بن غنم بن ثعلبة بن مالك بن كنانة هو حي مشهور بالشجاعة منهم علقمة بن فراس وهو جذل الطعان

ص: 96


1- شرح نهج البلاغة، 15 / 100
2- همام بن غالب بن صعصعة التميمي الدارمي (ت 110 ه)، شاعر من أهل البصرة لقب بالفرزدق، لجهامة وجهه وغلظه، عظيم الأثر في اللغة، كان يقال: لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب، ولولا شعره لذهب نصف أخبار الناس، وكان لا ينشد بين يدي الخلفاء والأمراء إلا قاعدا، أبوه من الأجواد الاشراف، وكذلك جده، ينظر الزركلي،الاعلام، 8 / 93
3- شرح نهج البلاغة، 15 / 100
4- ابن عبد ربه، أبو عمر أحمد بن محمد الأندلسي (ت 327 ه)، العقد الفرید، شرحه وضبطه وضبط فهارسه أحمد أمين وآخرون، دار الكتاب العربي، (بیروت 1990)، 1 / 136
5- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 303، خطبة (25)

ومنهم ربيعة بن مکرم بن حرثان بن جذيمة بن علقمة بن فراس الشجاع المشهور حامي الظعن حياً وميتة ولم يحم الحريم وهو ميت أحد غيره(1).

ثانياً: الكرم والضيافة:

الكرم من العادات والتقاليد التي اشتهر بها العرب منذ القدم و تجلَّی کرمهم في نحر الجزور للضيف وإغاثة البائس الفقير(2)، فالبيئة الصحراوية التي يعيشون فيها شحيحة الرزق وطبيعة الحياة فيها تتطلب أن يكون المتنقل فيها معرضاً دائما لنقص الزاد والماء مما جعله يلجأ لأقرب خيمة حتى لا يهلك جوعاً وعطشاً، وذكر الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام الكثير من الخطب والحكم حول الكرم ودوره في حياة العرب منها قوله:

«اَلْكَرَمُ أَعْطَفُ مِنَ اَلرَّحِمِ»(3).

وقوله عليه السلام:

«أَوْلَى اَلنَّاسِ بِالْكَرَمِ مَنْ عَرَّقَتْ فِيهِ اَلْكِرَامُ»(4).

قال ابن أبي الحديد: أعرقت وعرقت في هذا الموضع بمعنى أي ضربت عروقه في الكرم أي له سلف و آباء کرام وقال المبرد أنشدني أبو محلم السعدي:

إنا سألنا قومنا فخيارهم *** من كان أفضلهم أبوه الأفضل

أعطى الذي أعطى أبوه قبله *** و تبخلت أبناء من يتبخل(5)

ص: 97


1- شرح نهج البلاغة، 1 / 310، للتفاصيل ينظر يوم الكديد ص 346 من الرسالة
2- امین، احمد، فجر الإسلام، دار الكتاب العربي، (بیروت 1975)، ص80
3- شرح نهج البلاغة، 19 / 72، حكم ومواعظ (244)
4- شرح نهج البلاغة، 20 / 73، حكم ومواعظ (445)
5- شرح نهج البلاغة، 20 / 73

وقوله عليه السلام:

«لا ترضَيَنَّ قولَ أحدٍ حتى ترضى فِعله ولا تَرْضَ فِعله حتى ترضى عَقله، ولا ترضَ عقله حتى ترضى حياءه، فإن الإنسان مطبوع علی کرمٍ ولؤم، فإن قويَ الحياءُ عندَه قويَ الكرمُ وإن ضَعُفَ الحياء قويَ اللؤم»(1).

وقوله عليه السلام:

«من قَبِلَ عطاءك فقد أعانك على الكرم، ولولا من يقبل الجود لم یکن من يجود»(2).

وكان العرب يتباهون بكثرة الأضياف وكان من عاداتهم المشهورة أنهم كانوا يوقدون النار في الليالي الباردة لتمكين الغرباء من الاهتداء بها والنزول ضيوفاً على أصحابها، وكانوا يوقدونها في الأماكن المرتفعة لتكون أشهر ويسمون تلك النار بنار القرى(3)، ولعل مراعاة الضيوف وانتظارهم هي من عادات العرب المألوفة كما نرى ذلك في أشعارهم وأخبارهم فقال قائلهم(4):

إني اذا خفيت نار لمرملة(5) *** ألفي بأرفع تل رافعاً ناري(6)

ص: 98


1- شرح نهج البلاغة، 20 / 254، الحكم المنسوبة (554)
2- شرح نهج البلاغة، 20 / 254، الحكم المنسوبة (944)
3- القلقشندي، ابو العباس أحمد بن علي بن أحمد بن عبد الله القلقشندي (ت 821 ه)، صبح الاعشی، دار الكتب المصرية، (القاهرة 1922)، 1 / 408؛ الجميلي، رشيد عبد الله، تاريخ العرب في الجاهلية وعصر الدعوة الإسلامية، ساعدت جامعة بغداد كلية الآداب في طبعه، (بیروت 1972)، ص200
4- البيت للاحوص، ينظر البغدادي، خزانة الادب، 10 / 291
5- المرملة: الجماعة الفقيرة التي نفذ زادها، يقال أرمل، افتقر ونفذ زاده، ينظر ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7 / 208
6- الآلوسي، محمود شكري، بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب ، عنی بشرحه وتصحيحه وضبطه محمد بهجت الأثري، دار الكتب العلمية، (بیروت 1314 ه)، 1 / 371

وكان حاتم الطائي(1) إذا اشتد البرد في الشتاء أمر غلامه فأوقد ناراً في مرتفع من الأرض لينظر إليها من أضلَّ الطريق ليلاً فيأتي نحوه، فقال في ذلك:

أوقِدْ فإنَّ الليل ليل قرُّ *** والريح يا موقد ريح صرُّ

عسی یری نارك من يمرُّ *** إن جلبت ضيفاً فأنت حرُّ(2)

وكان العرب يستخدمون المندلي الرَّطب وهي أعواد من العطر لتهتدي بها العميان(3)، وذكر ابن أبي الحديد أنّ العود المندلي منسوب إلى مندل قرية من قرى الهند، وأجوده أصلبه، وامتحان رطبه أن ينطبع فيه نقش الخاتم، واليابس تفصح عنه النار ومن خاصية المندلي أنّ رائحته تثبت في الثوب أسبوعاً، قال الشاعر(4):

كأن دخان الندما بين جمره *** بقايا ضباب في رياض شقيق(5)

وكان العربي يتفاخر بخدمة الضيف، فهذا اعرابي من بني سعد بن زيد مناة بن تمیم،

ص: 99


1- هو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي القحطاني، يكنى أبا عدي، الجواد المشهور وأحد شعراء الجاهلية يضرب المثل بجوده. كان من أهل نجد، وزار الشام فتزوج ماوية بنت حجر الغسانية، ومات في عوارض (جبل في بلاد طيئ)، وأخباره كثيرة متفرقة في كتب الأدب والتاريخ. وقيل إن وفاته في السنة الثامنة بعد مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ينظر البغدادي، خزانة الادب، 3 / 121؛ الزركلي، الاعلام، 2 / 151
2- الطائي، حاتم بن عبد الله (ت 578 م)، الديوان، شرح أبي صالح يحيى بن مدرك الطائي، قدم له ووضع هوامشه وفهارسه حنا نصر الجتي، دار الكتاب العربي، (بيروت 1994)، ص111
3- عرفة، محمود، العرب قبل الإسلام، عين للدراسات والبحوث، (القاهرة 1995)، ص 293
4- البيت ينسب إلى ابو علي الحسن بن محمد الضبيعي، ينظر الثعالبي، ابو منصور عبد الملك النيسابوري (ت 429 ه)، يتيمة الدهر في محاسن العصر، شرح وتعليق مفيد محمد قمجة، دار الكتب العلمية، (بیروت 1983)، 3 / 474
5- ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، 19 / 285

وكان مملكاً(1)، فنزل به أضياف، فقام إلى الرحا فطحن لهم فمرت به زوجته في نسوة فقالت لهن: هذا بعلي! فاعلم بذلك فقال:

تقول وصكت صدرها بيمينها *** أبعلي هذا بالرحا المتقاعس

فقلت لها لا تعجلي وتبيني *** بلاي إذا التفت علي الفوارس

ألست أرد القرن يركب ردعه *** وفيه سنان ذو غرارین یابس

لعمر أبيك الخير إني لخادم *** الضيفي وإني إن ركبت لفارس(2) (3)

من خلال استقرائنا لهذه الاخبار نرى أنّ العرب مع شجاعتهم ورجولتهم يتواضعون لخدمة الضيف ويمارسون الاعمال التي كانوا يأنفون منها في الحياة الطبيعية لأن إكرام الضيف من أولى الفضائل عندهم، ولم تكن قيمة الكرم في مقدار العطاء فحسب بل في صفة السخاء نفسها، وهناك كثير من العرب ممن اشتهر بجوده وكرمه وضرب فيه المثل في السخاء منهم حاتم الطائي حتى قيل (أجود من حاتم)(4).

وذكر ابن أبي الحديد أبياتاً له في كتابه يقول فيها:

أيا ابنة عبد الله وابنة مالك *** ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له *** أكيلا فإني لست آكله وحدي

ص: 100


1- مملكا: من الأملاك وهو عقد النكاح. ينظر ابن منظور، لسان العرب، 8 / 267، (مادة ملك)
2- وقد نسبت هذه الابيات إلى الهذول بن کعب العنبري، ينظر، ابو تمام، حبيب بن أوس بن الحارث الطائي (ت 846 ه) ديوان الحماسة، شرح العلامة التبريزي، دار العلم، (بیروت 2000)، 1 / 289
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 5 / 44؛ لتفاصيل القصة ينظر المبرد، ابو العباس محمد بن یزید (ت 285 ه)، الكامل في اللغة والأدب، علق عليه محمد ابو الفضل ابراهیم، ط 3، دار الفكر العربي، (بیروت 1997)، 1 / 33
4- الميداني، أبو الفضل أحمد بن ابراهيم (ت 518 ه)، مجمع الأمثال، المعاونية الثقافية للروضة الرضوية، (مشهد 1407 ه)، 1 / 191

كريما بعيدا أو قريبا فإنني *** أخاف مذمات الأحاديث من بعدي

كفى بك عارا أن تبيت ببطنة *** وحولك أكباد تحن إلى القد(1)

وإني لعبد الضيف ما دام ثاوياً *** وما في الا تلك من شيمة العبد(2)

وقال أيضا:

وما تشتكيني جارتي غير أنني *** إذا غاب عنها بعلها لا أزورها

سيبلغها خيري ويرجع بعلها *** إليها ولم يسبل علي ستورها(3)

وتبيّن لنا هذه الابيات صوراً للقيم الأخلاقية الجميلة التي كانت سائدة عند العرب قبل الإسلام من خدمة الضيف وحفظ شرف الجار المحتاج في غيابه إذ يصل لها عطاؤها من دون أن يخدش حياؤها ويهتك سترها وهي صور تزيل عن كاهل العرب بعض الصور السيئة التي كانت سائدة آنذاك والتي سوف نتحدث عنها في مكان آخر لاحقاً.

ص: 101


1- استشهد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بهذا البيت عند ارساله كتاباً إلى عثمان بن حنيف الانصاري وكان عامله على البصرة، وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها فقال عليه السلام «وَلَوْ شِئْتُ لاَهْتَدَيْتُ اَلطَّرِيقَ إلى مُصَفَّى هَذَا اَلْعَسَلِ وَلُبَابِ هَذَا اَلْقَمْحِ وَنَسَائِجِ هَذَا اَلْقَزِّ وَلَکِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَيَقُودَنِي جَشَعِي إلى تَخَيُّرِ اَلْأَطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أو بِالْيَمَامَةِ مَنْ لاَ طَمَعَ لَهُ فِي اَلْقُرْصِ وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ أو أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَي وَأَكْبَادُ حَرَّى أو أَكُونَ كَمَا قَالَ اَلْقائِلُ: وَحَسْبُكَ عَاراً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إلى اَلْقِدِّ»، ينظر ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 220
2- الطائي، حاتم، الديوان، ص 143، هنالك اختلاف بسيط ببعض المفردات بين الديوان ومانقله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، 16 / 221، علماً أن البيتين الأخيرين لم أجدهما في الديوان وإنما موجودات في نسخة محققة ثانية للديوان من منشورات دار الهلال، (بیروت 2002)، ص 35، والبيت الاخير عند ابن أبي الحديد هو: * وإني لعبد الضيف ما دام نازلاً *** وما من خلالي غيرها شيمة العبد
3- الطائي، حاتم، الديوان، ص 89 -90؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 5 / 36

وممن اشتهر بالكرم وذكره ابن أبي الحديد کعب بن مامه الإيادي(1)، وكان إذا جاوره رجل قام له بما يصلحه وحماه ممن يقصده، وإن هلك له شيء أخلفه عليه، وإن مات وداه لأهله(2)، ومن حديثه أنه خرج في ركب فيهم رجل من النمر بن قاسط في ايام حارة (فضَّلُوا فتصافنوا ماءهم - وهو أن يطرح في القعب حصاة ثم يصب فيه من الماء بقدر ما يغمر الحصاة، فيشرب كل انسان بقدر واحد - فقعدوا للشرب فلما دار القعب فانتهى إلى کعب ابصر النمري يحدد النظر اليه فآثره بمائه وقال للساقي اسق أخاك النمري فشرب النمري نصيب کعب ذلك اليوم من الماء ثم نزلوا من غدهم المنزل الآخر فتصافنوا بقية مائهم فنظر إليه النمري، كنظره أمسه فقال كعب كقوله أمس وارتحل القوم وقالوا یا کعب ارتحل فلم يكن به قوة للنهوض وكانوا قد قربوا من الماء... فلما يئسوا منه وضعوا عليه ثوب يمنعه من السبع أن يأكله وتركوه مكانه فمات)(3).

وذكر ابن أبي الحديد قیس بن سعد بن عبادة كان مع شجاعته ونجدته جواداً مفضالاً، قيل له يوماً هل رأيت أسخي منك، قال: نعم نزلنا بالبادية على امرأة فحضرها زوجها فقالت له: عندك ضيوف فنحر جزوراً وأتاه بها، فلما كان الغد نحر لنا أخرى ثم حبستنا السماء في اليوم الثالث فنحر لنا ثالثة ثم إن السماء أقلعت، فلما أردنا أن نرحل، وكان الرجل خارجاً، وضعنا عشرین ثوباً وأربعة آلاف درهم عند امرأة الرجل وقلنا لها إذا جاء صاحبك فادفعي هذه إليه ثم رحلنا فما أتت علينا إلا ساعة حتى لحقنا الرجل صاحب المنزل على فرس ومعه رمح والثياب والدراهم بين يديه فقال

ص: 102


1- هو كعب بن مامة بن عمرو بن ثعلبة الإيادي، أبو دؤاد، کریم، جاهلي. يضرب به المثل في حسن الجوار، فيقال، أجود من کعب بن مامة، وجار کجار أبي دؤاد، ينظر، الزرکلی، الاعلام، 5 / 229، وكذلك ينظر المثل وقصته ص 244 من الرسالة
2- شرح نهج البلاغة، 17 / 10
3- الميداني، مجمع الامثال، 1 / 192

یا هؤلاء خذوا ثیابکم ودراهمكم فقلت له: انصرف أيها الرجل فإنا لم نكن لنأخذها، قال: والله لتأخذنها فقلت: الله أبوك ألم تكرمنا وتحسن ضيافتنا فكافأناك فليس بهذا بأس، فقال الرجل إنا لا نأخذ لقرى الأضياف ثمناً والله لا آخذها أبدا، فقلت لمن معي أما إذ أبي ألا يأخذها فخذوها فو الله ما فضلني رجل من العرب غيره(1).

ولم يكن الكرم خاصاً بالضيف وإطعامه فقط بل تعدی کرم العرب إلى أبعد من ذلك فحملوا ديّات أقوام لا يعرفونهم وكان الناس يتناقلون أخبارهم وتتفاخر بها قبائلهم منهم غالب بن صعصعة وهو ابو الفرزدق الشاعر، إذ ذكر ابن أبي الحديد أنَّ غالب بن صعصعة هو الذي قرى مائة ضيف واحتمل عشر ديات لقوم لا يعرفهم(2).

وممن اشتهر بجوده وكرمه هاشم بن عبد مناف، وذكر ابن أبي الحديد أنّه كان رجلاً موسراً فكان إذا حضر الحج قام في قريش فقال: (يا معشر قريش إنكم جيران الله وأهل بيته وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله يعظمون حرمة بيته فهم لذلك ضيف الله، وأحق ضيف بالكرامة ضيف الله، وقد خصكم الله بذلك وأكرمكم به، ثم حفظ منكم أفضل ما حفظ جار من جاره فأكرموا ضيفه وزواره، فإنهم يأتون شعثاً غبراً من كل بلد ضوامِرَ كالقداح وقد أرجفوا وتفلوا وقملوا وأرملوا(3) فأقروهم وأعينوهم)(4).

ويبدو أنَّ هاشماً هنا ذكر بعض الصفات السيئة التي كان عليها الوافدون إلى مكة لكي يكسب أكبر قدر من المساعدات لهم، وقد تكون هي حالتهم الصحيحة أصلاً، ونقلت لنا

ص: 103


1- شرح نهج البلاغة، 6 / 52
2- شرح نهج البلاغة، 15 / 98، ينظر تفاصيل القصة في ص 115 من رسالتنا
3- ارجفوا: اكثروا من ذكر الاخبار السيئة، قملوا: كثر فيهم القمل، ارملوا: نفد زادهم. ينظر ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 158، هامش المحقق
4- شرح نهج البلاغة، 15 / 158

كتب التاريخ والادب مقتطفات من خطبة شبيهة بخطبة هاشم نسبت إلى قصی بن کلاب يدعو فيها أهل مكة إلى إخراج شيء مما عندهم ليصنع طعاماً للحاج ففعلوا(1).

وذكر ابن أبي الحديد أنَّ قريشاً كانت تترافد على ذلك حتى إن كل أهل بيت ليرسلون بالشيء اليسير على قدر حالهم، أما أغنياؤهم فكان كل إنسان ربما أرسل بمائة مثقال ذهب هرقلية، وكان هاشم يأمر بحياض من أدم تجعل في مواضع زمزم من قبل أن تحفر يستقي فيها من البنار التي يمكة فيشرب الحاج ويطعمهم أول ما يطعم قبل يوم التروية بيوم بمكة ويمنى وعرفة وكان يثرد لهم الخبز واللحم والسمن والسويق والتمر ويحمل لهم الماء فيسقون بمني والماء يومئذ قليل إلى أن يصدر الحاج من منى ثم تنقطع الضيافة ويتفرق الناس إلى بلادهم، وإنما سمي هاشما لهشمه الثريد(2)(3).

وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد حفظ لهاشم وقريش هذه العادات الجيدة وذلك الكرم لقبائل العرب جميعها عند فتح مكة فيذكر ابن أبي الحديد بسنده عن الواقدي (قيل له يوم الفتح قد أمكنك الله تعالی فخذ ما شئت من أقمار على غصون - يعنون النساء - فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«يأبى ذلك إطعامهم الضيف وإكرامهم البيت ووجؤهم مناحر الهدي»(4).

وعلى الرغم من أن هذه الرواية تبدو غير صحيحة لأن الإسلام لم يجوز سبي المرأة العربية، الا انها تبين لنا مدى تأثیر کرم قریش وضيافتها لقوافل الحجيج قبل البعثة.

ص: 104


1- الأبشيهي، شهاب الدین محمد بن أحمد (ت 850 ه)، المستطرف في كل فن مستظرف، دار مكتبة الحياة، (بيروت 2011)، 2 / 82
2- كان اسم هاشم عمرو العلى
3- شرح نهج البلاغة، 15 / 158
4- شرح نهج البلاغة، 18 / 13

ثالثاً: صلة الرحم:

وهي من القيم والعادات البارزة التي تميزت بها حياة العرب قبل الإسلام والتي توارثوها عن اجدادهم وما برحوا يوصون أبناءهم بها، ونقل ابن أبي الحديد مجموعة من الصور الخاصة بصلة الرحم تعليقاً على كلام الإمام عليه السلام إذ ذكرها في أكثر من مناسبة، منها قوله عليه السلام:

«فَمنْ آتَاهُ اَللهُ مَالاً فَلْيَصِلْ بِهِ اَلْقَرَابَةَ وَلْيُحْسِنْ مِنْهُ الضيافة»(1) وقوله عليه السلام:

«وصِلَةُ اَلرَّحِمِ فَإِنَّهَا مَثْرَاةٌ فِي اَلْمَالِ ومَنْسَأَةٌ فِي اَلْأَجَلِ»(2).

وقال ابن أبي الحديد معلقاً: (صلة الرحم وهي واجبة وقطيعة الرحم محرمة قال فإنها مثراة في المال أي تثريه وتكثره، ومنسأة في الأجل أي تنسوؤه وتؤخره ويقال نسأ الله في أجلك)(3).

منها قوله عليه السلام:

«أَكْرِمْ عَشِيرَتَكَ فَإِنَّهُمْ جَنَاحُكَ اَلَّذِي بِهِ تَطِيرُ، وَأَصْلُكَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تَصِيرُ، وَیَدُكَ اَلَّتِي بِهَا تَصُولُ»(4).

منها قوله عليه السلام:

«أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّهُ لاَ يَسْتَغْنِي اَلرَّجُلُ وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ عَنْ عَشِيرَتِهِ وَدِفَاعِهِمْ عَنْهُ

ص: 105


1- شرح نهج البلاغة، 9 / 59، خطبة (142)
2- شرح نهج البلاغة، 7 / 173، خطبة (109)
3- شرح نهج البلاغة، 7 / 175
4- شرح نهج البلاغة، 16 / 94، کتب ورسائل (31)

بِأَيْدِيهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ، وَهُمْ أَعْظَمُ اَلنَّاسِ حَيْطَةً مِنْ وَرَائِهِ، وَأَلَمُّهُمْ لِشَعَثِهِ، وَأَعْطَفُهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ نَازِلَةٍ إِنْ نَزَلَتْ بِهِ، وَلِسَانُ اَلصِّدْقِ يَجْعَلُهُ اَللهُ لِلْمَرْءِ فِي اَلنَّاسِ خَیْرٌ لَهُ مِنَ اَلْمَالِ یُوَرِّثُهُ غَيْرَهُ»(1).

ومنها قوله عليه السلام:

«أَلاَ لاَ يَعْد أَحَدُكُمْ عَنِ اَلْقَرَابَةِ يَرَى بِهَا اَلْخَصَاصَةَ أَنْ يَسُدَّهَا بِالَّذِي لاَ يَزِيدُهُ إِنْ أَمْسَكَهُ وَلاَ يَنْقُصُهُ إِنْ أَهْلَكَهُ وَمَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِيرَتِهِ فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْهُ عَنْهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ وَتُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَیْدٍ كَثِيرَةٌ وَمَنْ تَلِنْ حَاشِيَتُهُ يَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِهِ اَلْمَوَدَّةَ»(2).

ذكر ابن أبي الحديد أنّ عمرو بن كلثوم التغلبي أوصى بنيه فقال (صلوا أرحامكم تعمر داركم)(3).

وهو هنا يدعو إلى توثيق العلاقات بين أبنائه، فصلة الرحم تبعد الفرقة والتناحر وفي الحديث الشريف:

«صلة الرحم تزيد في العمر»(4).

وذكر ابن أبي الحديد أنّ قيس بن عاصم المنقري(5) أوصى بنيه فقال (يا بني خذوا

ص: 106


1- شرح نهج البلاغة، 1 / 286، خطبة (23)
2- شرح نهج البلاغة، 1 / 286، خطبة (23)
3- شرح نهج البلاغة، 17 / 94
4- شرح نهج البلاغة، 1 / 300؛ العيني، بدر الدين محمود بن أحمد (ت 855 ه)، عمدة القارئ، دار إحياء التراث العربي، بیروت، (ب. ت)، 11 / 181
5- قیس بن عاصم بن سنان المقريزي السعدي التميمي (ت 20 ه - 640 م)، كان عاقلاً حليماً كريماً جواداً، شریفاً، وكان شاعراً، اشتهر وساد في الجاهلية. وهو ممن حرم على نفسه في الجاهلية شرب الخمر، وفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وفد تميم (سنة 9 ه) فأسلم، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما رآه: هذا سيد أهل الوبر! واستعمله على صدقات قومه. ثم نزل البصرة في أواخر أيامه، وتوفي بها، ينظر ابن خلکان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، 1 / 183؛ الذهبي، أبو عبد الله شمس الدين أحمد بن عثمان (748 ه)، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والاعلام، تحقیق عمر عبد السلام تدمری، دار الكتاب العربي (بیروت 1987م)، 4 / 105؛ الزرکلی، الاعلام، 5 / 206

عني فلا أحد أنصح لكم مني إذا دفنتموني فانصرفوا إلى رحالكم فسودوا أكبركم فإنّ القوم إذا سودوا أكبرهم خلفوا أباهم وإذا سودوا أصغرهم أزرى ذلك بهم في أكفائهم وإياكم وقطيعة الرحم)(1).

ومن خلال قراءتنا لهذه الروايات التي ذكرها ابن أبي الحديد نلاحظ مدى تأكيد العرب على دعوة الأبناء للالتفاف حول بعضهم وترك الفرقة وتنظيم حياتهم باتباع العادات الطبيعية بتولية أكبر الأخوة بإدارة شؤونهم وهو سياق متَّبع ومتَّفق عليه في أغلب القبائل وعدم قطع صلة الرحم وقد أثرت تلك الوصايا في خلق العربي وسماته وكانت لها أبعاد واسعة في علاقة أصحاب القرابة داخل الأسرة الواحدة أو القبيلة، فكان الشخص ينصر أخاه حتى لو كان معادياً له ولذلك قالوا (لا تعدم من ابن عمك نصر)، أي إن حميمك يغضب لك إذا رآك مظلوماً وإن كنت تعاديه(2).

ومن مزايا صلة الرحم تقديم المساعدة وبذل المال لسد حاجة المحتاج وكانت العرب تذم من يمتلك المال ولا ينفقه في قومه وذكر ابن أبي الحديد قول زهير بن أبي سلمی:

ومن یِكُ ذا فَضل فيبَخلْ بفضِلهِ *** على قومَهِ يُستْغَنَ عنهُ ويُذْمَمِ(3)

ص: 107


1- ابن أبي شرح نهج البلاغة، 17 / 93
2- الميداني، مجمع الأمثال، 2 / 165
3- بن أبي سلمی، زهير، الديوان، تحقیق علي فاعور، دار الكتب العلمية، (بیروت 2003)، ص110؛ شرح نهج البلاغة، 1 / 300

وقال طرفة بن العبد(1) يهجو إنساناً بأنه يصل الأباعد ويقطع الأقارب:

فأنت على الأدنی شمال عريةٌ *** شآميةٌ تزوي الوجوهَ بليلُ

وأنت على الأقصى صبا غير قرةٍ *** تذاءبَ منها مزرعٌ ومسيل(2)

رابعاً: الْحِلم:

الحلم هو ضبط النفس والطبع من هيجان الغضب(3)، وقد ذكر ابن أبي الحديد مجموعة من الروايات عن حلم العرب كتعقيب على كلام الإمام عليه السلام الذي أكد في كلامه على الحلم في أكثر من مناسبة وكان ابن أبي الحديد يقول: (كان علي عليه السلام كثير الحلم والصفح والتجاوز)(4). ومن كلامه عليه السلام عن الحلم قوله:

«اَلْحِلْمُ عَشِيرَةٌ»(5).

وقوله عليه السلام:

«ليس شيء أحسن من عقل زانه علم ومن علم زانه حلم ومن حلم زانه صدق»(6).

ص: 108


1- طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد، البكري الوائلي، أبو عمرو(ت 564 م)، شاعر، جاهلي، من الطبقة الأولى، قال الشعر صغيراً، وله بعد المعلقة شعر حسن، وليس عند الرواة من شعره إلا القليل، قتل وهو ابن عشرين وقيل ست وعشرين سنة. ولد في بادية البحرين، وتنقل في بقاع نجد، واتصل بالملك عمرو بن هند فجعله في ندمائه، ثم أرسله بكتاب إلى المكعبر، عامله على البحرين وعمان، يأمره فيه بقتله، لأبيات بلغ الملك أن طرفة هجاه بها، فقتله المكعبر، ينظر البغدادي، خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، 2 / 370 - 375، الزركلي، الاعلام، 3 / 225
2- ابن العبد، طرفة، الديوان، تحقیق عمر فاروق الطباع، دار القلم، بیروت، (د.ت)، ص80؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 301
3- الزبيدي، محمد مرتضى الحسيني (ت 1205 ه)، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقیق علي شيري، دار الفكر (بیروت 1994 م)، 16 / 161
4- شرح نهج البلاغة، 10 / 166
5- شرح نهج البلاغة، 20 / 51، حكم ومواعظ (426)
6- شرح نهج البلاغة، 20 / 254، الحكم المنسوبة (99)

وقيل لقيس بن عاصم: ما الحلم؟ قال: (أن تَصِل مَن قطَعك، وتُعْطي مَن حرَمَك، وتعفو عمَّن ظلَمك)(1)، وهو من أجل الصفات التي كان يتمتع بها الإنسان العربي وأنبله الصفح والمغفرة عند المقدرة وضرب به مثلاً (إذا ملكت فاسجح)(2).

وذكر ابن أبي الحديد أنَّ الأعشی(3) ضل طريقه فأصبح بدیار علقمة بن علاثة(4)، فخرج فتيان الحي فقبضوا عليه فأتوا به علقمة فقال له: الحمد لله الذي أظفرني بك من غیر ذمة ولا عقد، قال الأعشى: أو تدري لم ذلك جعلت فداك، قال: نعم لانتقم اليوم منك بتقوالك عليَّ الباطل مع إحساني إليك(5)، قال: لا والله ولكن أظفرك الله بي لیبلو قدر حلمك فيَّ، فأطرق علقمة، فاندفع الأعشى فقال:

ص: 109


1- ابن عبد ربه، العقد الفريد، 2 / 259
2- لمعرفة قصة المثل ينظر، الميداني، مجمع الأمثال، 1 / 39
3- هو ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل بن عوف بن سعد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة ويكنى أبا بصير (ت 7 ه - 629 م) ولقب بالأعشى لضعف بصره. وعمي في أواخر عمره ويقال له أعشی بکر بن وائل، والأعشی الكبير، من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية، وأحد أصحاب المعلقات، كان كثير الوفود على الملوك من العرب والفرس، أدرك الإسلام ولم يسلم، إذ رحل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليسلم. فقيل له: إنّه يحرّم الخمر والزنا، فقال: أتمتّع منهما سنة ثم أسلم! فمات قبل ذلك بقرية باليمامة، ينظر الجمحي محمد بن سلام (ت 231 ه - 845 م)، طبقات فحول الشعراء، تحقيق محمود محمد شاكر، دار المدني، جدة، (د.ت)، 1 / 52؛ ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم الدينوري (ت 276)، الشعر والشعراء، تحقيق مفید قمجة، محمد أمين الضناوي، دار الكتب العلمية، (بیروت 2005)، ص 142؛ الزركلي، الاعلام، 7 / 341
4- علقمة بن علاثة بن عوف الكلابي العامري من بني عامر بن صعصعة من أشراف قومه في الجاهلية كان مقيماً بحوران، وهو من الأجواد المشهورين، وفد على قيصر، ونافر عامر بن الطفيل، ثم أسلم، وارتد في أيام أبي بكر، فانصرف إلى الشام، فبعث إليه أبو بكر القعقاع بن عمرو، ففر علقمة منه. ثم عاد إلى الإسلام. وولاه عمر وكان كريماً، ينظر ابن خلکان، وفیات الاعیان، 5 / 192؛ ابن حجر العسقلاني، الاصابة في تمييز الصحابة، 4 / 455 - 459؛ الزركلي، الاعلام، 4 / 247
5- ينظر ص 75 من الرسالة موضوع الجوار المعرفة سبب الخلاف بين الاعشی و علقمة

أعلقم قد صیرتني الأمور *** إليك وما کان بي منكص

کساكم علاثة أثوابه *** وورثكم حلمه الأحوص

فهب لي نفسي فدتك النفوس *** فلا زلت تنمي ولا تنقص(1) فقال: قد فعلت أما والله لو قلت فيَّ بعض ما قلته في عامر بن الطفيل لأغنيتك طول حياتك ولو قلت في عامر بعض ما قلته فيَّ ما أذاقك برد الحياة(2).

وفي هذه الرواية نجد ملامح العفو عند المقدرة بارزة في تصرف علقمة الذي نسی کل غضبه من تصرف الاعشي في وقت سابق وقد هجاه بشعره بما استوجب قتله ولكنه عفی عنه.

بعد أن أسمعه شعراً يطلب منه السماح والتقيد بصفة الحلم الموروثة عن آبائه من جهة ومن جهة أخرى تبين لنا مکر ودهاء الاعشی ادهاءه، فقد عرف كيف يخلص نفسه واستغل خياله الشعري في استغلال العادات والتقاليد العربية الاصيلة في وقت الشدة.

وفي أشعار العرب التي نقل ابن أبي الحديد قسماً منها الكثير من الصور التي تتحدث عن صفة الحلم عند العربي والذي لا يتم إلا بإمساك الجوارح كلها، اليد عن البطش، والعقل واللسان عن الفواحش، والعين عن النظر، قال شاعرهم:

وللكف عن شتم اللئيم تكرماً *** أضر له من شتمه حين يشتم(3).

ص: 110


1- الاعشی، میمون بن قيس (ت 20 ه - 640 م)، ديوان الاعشي الكبير، تحقيق مهدي محمد ناصر الدين، دار الكتب العلمية، (بیروت 1987م)، ص97
2- شرح نهج البلاغة، 18 / 66
3- شرح نهج البلاغة، 20 / 51

وقال لقیط بن زرارة(1):

فقل لبني سعد ومالي وما لكم *** ترقون مني ما استطعتم وأعتق

أغركم أني بأحسن شيمة *** بصير وأني بالفواحش أخرق

وأنك قد سابتني فقهرتني *** هنيئا مريئا أنت بالفحش أحذق(2)

وهكذا نرى من خلال هذه الأبيات التي ذكرها ابن أبي الحديد أنّهم كانوا ينكرون الشتم والرد بالمثل ويمسكون أنفسهم عند الغضب ويعدونها منقبة لهم يفتخرون بها.

وذكر ابن أبي الحديد أنّ رجلاً شتم الأحنف بن قيس وجعل يتبعه ويشتمه، فلما قرب الحي وقف وقال يا فتى إن كان قد بقي في قلبك شيء فقله کيلاً يسمعك سفهاء الحي فيجيبوك(3)، وكان الأحنف حلیماً موصوفاً بذلك وقد سُئل مرة ممن تعلَّمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم المِنْقريّ، رأيتهُ قاعداً بفِناء داره مُحْتبيا بحمائل سَیْفه يُحَدِّث قَومه حتى أُتي برجُل مكتوف ورجُل مقتول، فقيل له: هذا ابن أخيك قَتل ابنك؟ فوالله ما كل حَبْوته، ولا قطَع کلامه، ثم التفت إلى ابن أخيه فقال له: يا ابن أخي، أَثِمت بربّك، ورَمَيت نفسَك بسَهْمك، وقتلتَ ابن عمك. ثم قال لابن له آخر: قم يا بني فوارِ أخاك، وحُلّ كِتاف ابن عمك، وسُق إلى أُمِّه مائة ناقة دية ابنها فإنها غَريبة، ثم أنشأ يقول:

ص: 111


1- لقيط بن زرارة بن عدس الدارمي، من تميم (ت 571 م) فارس وشاعر جاهلي، من أشراف قومه، كنيته (أبو دخنتوس) وهي ابنته، ولا عقب له غيرها، ويقال له: (أبو نهشل) وكان دينه المجوسية، له أخبار قتل يوم (شعب جبلة)، ينظر الزركلي، الاعلام، 5 / 244؛ كذلك ينظر تفاصيل يوم جبلة ص 342 من الرسالة
2- شرح نهج البلاغة، 18 / 66
3- شرح نهج البلاغة، 11 / 167

إِنِّي امرؤ لا شائنٌ حَسَبي *** دَنَس يهجنه ولا أفْنُ

من مِنْقرٍ في بيت مکْرُمة *** والغُضن یَنْبُت حولَه الغُصْن

خطباء حي يقول قائلُهم *** بيضُ الوُجوه أعفّه لُسْن

لا يفطنون لعَيْب جارهمُ *** وهمُ لحفْظ جِواره فُطْنُ(1)

وذكر ابن أبي الحديد أنّ قيس بن عاصم كان يُوصِي ابناءه فيقول: (خذوا عني ثلاث خصال إياكم وكل عرق لئيم أن تلابسوه فإنه إن يسرركم اليوم بسؤكم غداً واكظموا الغيظ واحذروا بني أعداء آبائكم فإنهم على منهاج آبائهم)(2).

خامساً: الجوار:

الجوار لغة: مصدر من المجاورة(3)، والجار الذي يجاورك، والجار النِّقِّيح هو الغريب، والجار الشَّريك في العقار، والجار المقاسم، والجار الحليف، والجار الناصر، والجار الشريك في التجارة فوضى كانت الشركة أو عناناً، والجارة امرأة الرجل(4) والجار: الذي أجَرْتَهُ من أن يظلمَه ظالم. قال الهذلي:

وكنت إذا جاري دَعا لمضُوفةٍ *** أشمِّر حتَّى يَنْصُفَ الساقَ مِئْزَري(5)

ص: 112


1- العقد الفرید، 2 / 258
2- شرح نهج البلاغة، 17 / 94
3- الفراهيدي، ابو عبد الرحمن الخليل بن أحمد (ت 170 ه)، العين، تحقيق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، ط 2، دار الهجرة، (ایران 1409 ه)، 6 / 176
4- ابن منظور، لسان العرب، 2 / 250، مادة (جور)
5- الجوهري، اسماعيل بن حماد (ت 393 ه)، الصحاح، رتبه وصححه ابراهيم شمس الدين، دار الاعلمي للمطبوعات، (بيروت 2012)، ص 200، مادة (جور)

ووردت في معاجم اللغة ألفاظ ارتبطت معانيها اللغوية بمفهوم الجوار كالحلف والمعاهدة والميثاق والمواثقة والعهد والعقد والحفر والرباب والصارخ... الخ(1).

كانت حرمة الجار والوفاء بالعهد من أهم الخصال التي دافع عنها العرب وحرصوا عليها حرصهم على شرفهم وأنفسهم وسئل اعرابي عن مبلغ حفاظ قومه للجار فقال: (يدفع الرجل منا عمن استجار به من غير قومه کدفاعه عن نفسه)(2)، ونرى التأكيد على حسن الجوار من خلال الوصايا التي تركها لنا العرب لأبنائهم لزرع تلك القيم في نفوسهم وترسيخ حقوق الجار والضيف في أذهانهم فهذا عمرو بن کلثوم يوصي بنيه (أكرموا جاركم بحسن ثنائكم)(3).

وقد ساق ابن أبي الحديد مجموعة من روايات الجوار تعليقاً على كلمات الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في خطبه ورسائله التي تحدثت عن أهمية الجوار وحسن معاملة الجار منها قوله عليه السلام:

«اَللهَ اَللهَ فِي جِيرَانِکُمْ فَإِنَّهُمْ وَصِیَّةُ نَبِیِّکُمْ مَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُمْ»(4)، وقوله عليه السلام:

«جنبوا موتاكم في مدافنهم جار السوء فإن الجار الصالح ينفع في الآخرة كما ينفع في

ص: 113


1- لتفاصيل المفردات ينظر عباس، مصطفی جواد، الجوار عند العرب قبل الإسلام حتى عصر الرسالة، أطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية التربية، جامعة البصرة، 2011، ص 12 - 55
2- ابن عبد ربه ، العقد الفرید، 1 / 156
3- شرح نهج البلاغة، 17 / 94
4- شرح نهج البلاغة، 17 / 7، کتب ورسائل (47)

الدنيا»(1).

وقوله عليه السلام:

«ليس من حسن الجوار ترك الأذى ولكن حسن الجوار الصبر على الأذي»(2).

وقوله عليه السلام:

«سَلْ عَنِ اَلرَّفِيقِ قَبْلَ اَلطَّرِيقِ وعَنِ اَلْجَارِ قَبْلَ اَلدَّارِ»(3).

وذكر ابن أبي الحديد أنّ كعب بن مامة كان يضرب به المثل في مصاحبة الجار وحمايته فجاوره أبو دواد الإيادي فزاره على العادة فبالغ في إكرامه وكانت العرب إذا حمدت جاراً قالت (جار کجار أبي دواد)، قال قيس بن زهير:

أطوف ما أطوف ثم آوي *** إلى جار کجار أبي دواد

ثم تعلم منه أبو داود وكان يفعل لجاره فعل کعب به(4).

على الرغم من أنّ ابن أبي الحديد ذكر قصة هذا المثل بأنّه حالة إيجابية لحسن الجوار ونسب الجار الوفي إلى شخصية كعب بن مامة ولكن هناك من طرح بيت الشعر والمثل من وجهة نظر مختلفة فقال إنّ جار أبي دواد هو قيس بن زهیر بن ربيعة الخير بن قرط بن غيلان بن أبي بكر بن کلاب، ويقال جار أبي دواد الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شیبان، وكان أبو دواد في جواره فخرج صبيان الحي يلعبون في غدير فغمسوا ابن أبي

ص: 114


1- شرح نهج البلاغة، 20 / 279، الحكم المنسوبة (954)
2- شرح نهج البلاغة، 20 / 244، الحكم المنسوبة (378)
3- شرح نهج البلاغة، 16 / 88، کتب ورسائل (31)
4- شرح نهج البلاغة، 17 / 7

دواد فمات، فخرج الحارث فقال: لا يبقى في الحيّ صبيّ إلا غرقته في الغدير، فودي ابن أبي دواد لذلك عدة ديات(1).

وكانت حماية الجار والذود عنه من الامور التي ألفها العرب واستماتوا فيها ولم يتوقف الأمر عند الدفاع عنهم من المخاطر والعدو ولكن وفروا الحماية لجارهم حتى من الموت، فيذكر أن الأعشى أتى الأسود العنسي وقد امتدحه فأعطاه خمسمائة مثقال دهناً وخمسمائة حللاً وعنبراً، فلما مرّ ببلاد بني عامر خافهم على ما معه فأتی علقمة بن علاثة، فقال: له أجرني، فقال: قد أجرتك، قال: من الجن والإنس، قال: نعم، قال: ومن الموت، قال: لا فأتی عامر بن الطفيل فقال: أجرني قال قد أجرتك قال من الجن والإنس قال: نعم، قال: ومن الموت، قال: نعم، قال: وكيف تجيرني من الموت، قال: إن مت وأنت في جواري بعثت إلى أهلك الدية، فقال: الآن علمت أنك قد أجرتني من الموت فمدح عامراً وهجا علقمة فقال:

تَبِيتُون في المَشْتَى مِلاَءً بطونُكم *** وجاراتُكم غَرْثَی یَبِتْنَ خَمائصَا

قال الكلبي: ولم يهج علقمة بشيء أشد عليه من ذلك(2).

ولم يكتف العرب بحماية بني الإنسان وإنما امتد حسن معاملتهم للجار حتى شمل الحيوان الجار حتى لو كلفه ذلك حياته فيذكر ابن أبي الحديد أنّ أبا حنبل حارثة بن مر الطائي أجار جراداً نزل به ومنع من صيده حتى طار من أرضه فسمي مجير الجراد.

ص: 115


1- المفضل بن محمد (ت 178)، امثال العرب، قدم له وعلق عليه، احسان عباس، ط 3، دار الرائد العربي، (بیروت 1983)، ص91؛ الجكي، أحمد محمد أمين أحمد، قطوف الريحان من زهر الافنان شرح حديقة ابن الونان، ط 2، الشنقيطي للنشر، (مكة المكرمة 1999)، ص 138
2- الأصفهاني، الاغاني مج 3، 9 / 597

وقال هلال بن معاوية الطائي:

وبالجبلين لنا معقل *** صعدنا إليه بصم الصعاد

ملكناه في أوليات الزمان *** من قبل نوح ومن قبل عاد

ومنا ابن مر أبو حنبل *** أجار من الناس رجل الجراد(1)

ومجير أمّ عامر مثل يضرب للمحسن يكافأ بالإساءة، وأصل هذا المثل أن قوماً خرجوا إلى الصيد في يوم حار، فانهم لكذلك إذ عرضت لهم أم عامر وهي الضبع، فطاردوها حتى ألجؤوها إلى خباء أعرابي فاقتحمته، فخرج اليهم الأعرابي وقال: ما شأنكم، قالوا: صیدنا وطريدتنا، فقال: كلا والذي نفسي بيده لا تصلون إليها ما ثبت قائم سيفي بيدي، فرجعوا وتركوه، وقام إلى لقحة(2) فحلبها وماء فقرب منها، فأقبلت تلغ مرة في هذا ومرة في هذا حتى عاشت واستراحت، فبينا الإعرابي نائم في جوف بيته إذ وثبت عليه فبقرت بطنه وشربت دمه وتركته، فجاء ابن عم له يطلبه فاذا هو بقير في بيته، فالتفت إلى موضع الضبع فلم يرها، فقال: صاحبتي والله فأخذ قوسه وكنانته وأتبعها فلم يزل حتى أدركها فقتلها: وأنشأ يقول:

ومن يصنع المعروف مع غير أهله *** يلاق الذي لاقى مجير أم عامر

أدام لهاحين استجارت بقربه *** لها محض ألبان اللقاح الدرائر

وأسمنها حتى اذا ما تکاملت *** فرته بأنياب لها وأظافر(3)

ص: 116


1- ابن أبي الحدید، شرح نهج البلاغة، 3 / 216
2- لقحة: الناقة الحلوب. ينظر ابن منظور، لسان العرب، 8 / 79، (مادة لقح)
3- الميداني، مجمع الامثال، 2 / 90

لم تقتصر حماية الجار على الأفراد فقط بل نقل لنا ابن أبي الحديد صوراً جعلت بعض القبائل تتخذ من الإجارة سبباً لمواجهة غزو أجنبي وقد حاول كسرى النيل من قيمة الجوار فطلب من بني شيبان تسلیم وديعة النعمان بن المنذر(1) الذين أجاروه وقبلوا أمواله وديعة عندهم، فرفضوا فكان موقفهم هذا سبباً مباشراً للحرب التي دارت بين العرب والفرس وانتصر فيها العرب في المكان المعروف بذي قار(2).

وهناك صور أخرى عن وقوع الحروب الطويلة بين القبائل للسبب نفسه، فجساس بن مرة الشيباني كان يعرف عند العرب (حامي الذمار ومانع الجار)(3) ومن أجل حمايته لجاره حدثت حرب ضروس بين بكر وتغلب استمرت أربعين سنة(4).

وصور عن قيام بعض الاحلاف التي اشتركت فيها قبائل متعددة وكان حلف الفضول من تلك الاحلاف التي ذكرها ابن أبي الحديد وكان سببه حماية المظلوم ومن استجار بأهلها(5).

ص: 117


1- ينظر تفاصيل حياته وحكمه ص 356 من الرسالة
2- الطبري، أبي جعفر محمد بن جریر (ت 310)، تاریخ الرسل والملوك، تحقبق محمد أبو الفضل ابراهيم، ط 5، دار المعارف، (القاهرة 1986)، 2 / 270؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 13 / 9
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 4 / 56
4- ينظر تفاصل اليوم ص 341 من الرسالة
5- شرح نهج البلاغة، 15 / 154

المبحث الثاني المعتقدات الشعبية والاجتماعية زخرت حياة مجتمع قبل الإسلام بمجموعة من المعتقدات الاجتماعية التي غدت جزءاً منهم وتمسك بها الناس وعدّوها عقيدة راسخة لا يمكن تغيرها، ومازالت اغلب تلك العادات تمارس في مجتمعنا الحاضر بكل تفاصيله - كما سنرى من خلال الدراسة - وكأنها موروث حضاري فرضته الطبيعة والمجتمع منذ مئات السنين، وقد تحدث ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة عن جزء كبير منها وهو ما يتعلق بالعادات السيئة وتأثيرها على حياة العرب التي ذكر قسماً منها تعليقاً على كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، الذي ذكر مجموعة من عادات العرب قبل الإسلام ونظرة الإسلام لها حين قال عليه السلام:

«اَلْعَيْنُ حَقٌّ وَاَلرُّقَى حَقٌّ وَاَلسِّحْرُ حَقٌّ وَاَلْفَأْلُ حَقٌّ وَاَلطِّيَرَةُ لَيْسَتْ بِحَقٍّ وَاَلْعَدْوَى لَيْسَتْ بِحَقٍّ وَاَلطِّيبُ نُشْرَةٌ وَاَلْعَسَلُ نُشْرَةٌ وَاَلرُّكُوبُ نُشْرَةٌ وَاَلنَّظَرُ إلى اَلْخُضْرَةِ نُشْرَةٌ»(1).

وقد تكلم ابن أبي الحديد عن بعضها وتوسع فيها وأسهب فتناثرت بين أجزاء كتابه، وقد جمعناها ورتبناها وفق المحاور الآتية:

ص: 118


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 19 / 304، (حكم ومواعظ 408)

أولاً: الهامَة والصفر:

الهامَة: ذكر ابن أبي الحديد أنّ الهامَة هي ما كانت العرب تزعمه في المقتول لا يؤخذ بثأره(1)، وكانوا يقولون ليس من ميت يموت ولا يقتل إلا ويخرج من رأسه هامة فإن كان قتل ولم يؤخذ بثأره نادت الهامة على قبره اسقوني(2)، قال ذو الإصبع:

يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي *** أضربك حيث تقول الهامة اسقوني(3)

وهي من العادات المنبوذة التي حاربها الإسلام بحديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:

«لا عدوی ولا هامة ولا صفر»(4).

وتعددت الآراء في تعريف الهامة فمنهم من يرى أنّ (النفس طائر ينبسط في جسم الإِنسان، فإذا مات أو قتل لم يزل مطيفاَ به متصوراً إليه في صورة طائر يصرخ علی قبره مستوحشاً)(5)، قال أبو دؤاد الإيادي:

سلط الموت والمنون عليهم *** فلهم في صدى المقابر هام(6)

ص: 119


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 311
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 219
3- شرح نهج البلاغة، 1 / 128
4- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 128؛ ينظر الحديث عند النسائي، أبو عبد الله أحمد بن شعيب (ت 303 ه)، السنن الكبری، تح عبد الغفار سليمان البنداري، سید کسروي حسن، دار الكتب العلمية، (بیروت 1991 م)، 4 / 376
5- المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين بن علي (ت 346 ه)، مروج الذهب ومعادن الجوهر، اعتنى به يوسف البقاعي، ط 2، دار احیاء التراث العربي، (بیروت 2011 م)، 2 / 357
6- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 19 / 319؛ ينظر البيت والقصيدة عند الأصمعي، أبو سعيد عبد الملك بن قریب (216 ه)، ديوان الأصمعيات، تحقیق محمد نبيل طريفي، ط 2، دار صادر، (بیروت 2005 م)، ص 208

هذا الطائر يسمونه الهام، والواحدةُ هامة، ويزعمون أنَّ هذا الطائر يكون صغيراً، ثم يكبر حتى يصير كضرب من البوم، توجد في الديار المعطلة والنواويس، وهي مصارع القتلى وأجداث الموتى، وكانوا يتصورون الهامة تتردد على ولد الميت لترى ما يكون بعده فتخبره به، قال الصلت بن أمية لبنيه:

هامِي تخِّبرني بما تستشعروا *** فتجنبوا الشنعاء والمكروها(1)

وكانوا يعتقدون أن عظام الميت تصير هامة فتطير على شكل طائر يسمى الصدى يخرج من رأس المقتول وَالْهَامَة جُمْجُمَة الرَّأْس وَهِيَ الَّتِي يَخْرُج مِنْهَا الصَّدَى فلا يزال يصيح اسقوني حتى يدرك بثأره(2).

قال طرفة:

كريمُ يروِّي نفسه في حياتِهِ *** ستعلمُ إن مِتْنا غداً أیُّنا الصَّدِي(3)

على الرغم من أن أغلب الروايات تصورها على شكل طائر ولكن تخيلات العرب ذهبت أبعد من ذلك، إذ ذكر أن الرَّجُل إِذَا قُتِلَ وَلَمْ يُؤْخَذ بِثَأْرِهِ خَرَجَتْ مِنْ رَأْسه هَامَة - وَهِيَ دُودَة - فَتَدُور حَوْل قَبْره فَتَقُول: إسْقُونِي اِسْقُونِي، فَإِنْ أُدْرِكَ بِثَأْرِهِ ذَهَبَتْ وَإِلَّا بَقِيَتْ وَكَانَتْ الْيَهُود تَزْعُم أَنَّهَا تَدُور حَوْل قَبْره سَبْعَة أَيَّام ثُمَّ تَذْهَب(4).

ص: 120


1- المسعودي، مروج الذهب، 2 / 350
2- الأصفهاني، الاغاني، مج 3، 8 / 462؛ ابن حجر العسقلاني، أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد (ت 852 ه)، فتح الباري في شرح صحيح البخاري، دار المعرفة، بیروت، (د.ت)، 10 / 320
3- ابن العبد، طرفة، الديوان، ص 36
4- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري في شرح صحيح البخاري، 7 / 202

وقد تنبّه ابن أبي الحديد إلى تضارب الروايات حول الهامة وذكر آراء من يقولون أنّ الهامّة - مشددة الميم - إحدى هوام الأرض وأنها هي المتلونة المذكورة. ثم ذكر اعتراض أبي عبيد على ذلك بقوله (قال ما أرى هذا وقد يسمونها الصدى والجمع أصداء قال: وكيف حياة أصداء وهام)(1).

ولعلنا ندرك من خلال دراستنا لتلك الروايات أنّ العرب كانت تعطي لقضية الأخذ بالثأر أهمية كبيرة ورسخت تلك المفاهيم في أذهان الناس حتى أنّ أهل القتيل كانوا محاطين بالعار حتى يأخذوا ثأرهم، ولكون قضية الثأر كانت من العادات البارزة في مجتمع عرب قبل الإسلام لذا فلا غرابة أن تحاط بطائفة من الروايات والقصص الخيالية الترسيخها في عقولهم وجعلها موروثاً عن السلف أو الآباء، والهام قد يكون طائراً اسطورياً خلقته العقلية الخرافية للعرب كما هو الحال في اختلاقهم لمخلوقات وهمية أخرى كالعنقاء مثلاً وهي عندهم طائر من أحسن الطير له وجه إنسان وأربعة أجنحة فوقع بنجد والحجاز وهي تأكل كل الوحوش والصبيان وفيها يقال: (جاء فلان بعنقاء مغرب) أي جاء بأمر غريب(2).

وكذلك أفرزت لنا تلك العادات قضية أخرى وهي قضية تناسخ الأرواح، قال ابن أبي الحديد (كان من العرب من يعتقد التناسخ وتنقل الأرواح في الأجساد ومن هؤلاء أرباب الهامة)(3)، فإذا مات الإنسان أو قتل اجتمع دم الدماغ وأجزاء بنيته فانتصب طيراً هامة فيرجع إلى رأس القبر كل مائة سنة(4).

ص: 121


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 19 / 319
2- المسعودي، مروج الذهب، 2 / 407
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 128
4- الشهرستاني، الملل والنحل، ص 496

على الرغم من أنّ الإسلام قد حاول إبعاد الناس عن تلك العادات وغيرها التي أصبح جزء كبير منها يسيء للمجتمع، ولكننا نرى أنّ هذه العادات ظلت متوارثة حتى بعد الإسلام، فذكر ابن أبي الحديد أنّ ليلى الأخيلية صاحبة توبة بن الحُمير(1) أقبلت من سفر فمرت بقبر توبة فقالت والله لا أبرح حتى أسلِّم على توبة، فصعدت أكمة عليها قبر توبة فقالت: السلام عليك يا توبة ، ثم حوّلت وجهها إلى القوم فقالت: ما عرفت له كذبة قط قبل هذا، قالوا: وكيف؟ قالت: أليس القائل:

ولو أنّ ليلَى الأَخْيَليّةَ سَلّمتْ *** عليّ ودوني جندل وصفائحُ

لَسَلَّمْتُ تسليمَ البشَاشةِ أوزَقَا *** إليها صَدًى من جانب القبر صائحُ

وأُغْبَطُ من ليلَى بما لا أنالُه *** ألاَ کُلُّ ما قَرَّتْ به العينُ صالحُ(2)

فما باله لم يسلم عليَّ كما قال، وكانت إلى جانب القبر بومة كامنة فلما رأت الهودج واضطرابه فزعت وطارت في وجه الجمل فنفر فرمی بلیلی على رأسها فماتت من وقتها فدفنت إلى جنبه(3).

وإذا سلمنا بصحة الرواية إذ ورد ذكرها في الكثير من المصادر فقد تكون الصدفة هي التي جعلت ليلى الأخيلية تموت بالقرب من قبر حبيبها توبة فأصبح موتها في هذا المكان فرصة للمؤرخين للربط بين أبيات توبة وموتها فنسجت فصول تلك الرواية لتكون دليلاً

ص: 122


1- ليلى الأخيلية من بني عامر بن صعصعة، شاعرة فصيحة اشتهرت بأخبارها مع توبة بن الحمير. وأبلغ شعرها قصيدتها في رثاء توبة، وكان توبة وهو من بني عقيل بن کعب بن ربيعة، شاعراً لصاً، يهوى الأخيلية فخطبها فرده أبوها وزوجها غيره، قتل أثناء إحدى غارته على بني عوف بن عقیل، ينظر ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ص270 - 276، الزركلي، الاعلام، 5 / 249
2- ابن الحمير، توبة الخفاجي (ت 85 ه)، الديوان، تح: خليل إبراهيم العطية، مطبعة الارشاد، (بغداد 1968)، ص 48 - 49
3- شرح نهج البلاغة، 1 / 128؛ ينظر تفاصيل القصة عن الأصفهاني، الاغاني، مج 4، 11 / 392

على تقاليد العرب في الهامة.

أما الصفر فقد كان من العادات التي أبطلها الإسلام من حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:

«لا هامة ولا صفر»(1).

وتعددت فيه الآراء واختلفت فيه الروايات فذكر ابن أبي الحديد أنّ الصفر (ما كانت العرب تزعمه من الحية في البطن تعض عند الجوع)(2)، وهي تكون في البطن تثنية الضربة زعموا أنّ الحية تموت في أول ضربة فإذا تثنیت عاشت(3)، وقيل هو بالجوف يصيب الْمَاشِيَةَ وَالنَّاسَ، وَهُوَ أَعْدَى عِنْدَهُمْ مِنْ الْجَرَبِ(4)، وهناك من يرى أنّ الصفر هو الجوع بعينه(5)، قال أعشى باهلة(6):

ولا يغمرُ الساقِ من أينٍ ولا وصبٍ *** ولا يعض على شروفه الصفر

ولا يتأري لمافي القدرِ يرقبهُ *** ولا تراه أمامَ القومِ يقتفرُ(7)

ص: 123


1- البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل (ت 256 ه)، صحيح البخاري، دار الفكر، (بیروت 1981م)، 7 / 17
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 320
3- الأبشيهي، المستطرف، 2 / 84
4- الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري (ت 450 ه)، أدب الدنيا والدین، دار الفكر، (بیروت 2000 م)، ص31
5- شرح نهج البلاغة، 19 / 320
6- أعشى باهلة: هو عامر بن الحارث بن رباح الباهلي، من همدان، شاعر جاهلي يكنى، أبا قحفان، أشهر شعره رائية له عدد أبياتها أربعة وثلاثون بيتاً في رثاء أخيه لأمه المنتشر بن وهب، ينظر البغدادي، خزانة الأدب ، 1 / 192؛ الزركلي، الأعلام 3 / 250
7- الاصمعي، ديوان الاصمعيات، ص 103 - 104؛ المبرد، الكامل في اللغة والأدب، 4 / 54؛ وقد ذكر ابن أبي الحديد هذه الأبيات بشكل مختلف إذ ذكر بيتاً واحدة فقط وهو: لا يتأرى لما في القدرِ يرقبهُ *** لا يعضُ على شرَسُوفهِ الصفرُ، ينظر: شرح نهج البلاغة، 19 / 320

في حين يرى آخرون أنّ المقصود بالصفر هو الشهر وهو تأخيرهم المحرم إلى صفر في تحريمه(1)، وكانوا إذا صدروا عن مِنی قام رجل من كنانة يقال له نُعيم بن ثعلبة فقال: أنا الذي لا أُعاب ولا يُرد لي قضاء فيقولون له أَنْسِئنا شهراً أي أخِّر عنا حُرْمَةَ المُحرَّم فاجعلها في صفر، فيحلّ لهم المحرّم ويُحرِّم عليهم صفراً فإذا كان في السنة المقبلة حرم عليهم المحرم وأحلّ لهم صفراً(2).

ولكن ابن أبي الحديد له رأي آخر إذ علّق على هذه الرواية بالقول (أبو عبيدة معمر بن المثنى قال هو صفر الشهر الذي بعد المحرم، قال نهى عليه السلام عن تأخيرهم المحرم إلى صفر یعني ما كانوا يفعلونه من النسيء، ولم يوافق أحد من العلماء أبا عبيدة على هذا التفسير)(3).

وعلى الرغم من معارضة ابن أبي الحديد لهذا التفسير، لكنه يبدو أقرب للواقع فقد ذكر الثعلبي أن العرب كانوا (أصحاب حروب وغارات فشقَّ عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها، وقالوا: لئن توالت علينا ثلاثة أشهر حرم لا نصيب فيها شيئاً لنجوعن، وإنما نصيب على ظهر دوابنا فربما احتاجوا مع ذلك إلى تحليل المحرم أو غيره من الأشهر الحرم لحرب تكون بينهم فيكرهون استحلاله ويستحلون المحرم. وكانوا يمكثون بذلك زمانا يحرمون صفر، وهم يريدون به المحرم ويقولون: هو أحد الصفرين)(4) ولعل العرب كانت تتشاءم منه كونه يأتي بعد شهور التحريم - التي كان

ص: 124


1- ابن سلام، أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي (ت ه 224)، غریب الحدیث، تحقيق محمد عبد المعید خان، دار الكتاب العربی، (بیروت 1384 ه)، 1 / 26
2- الانباري، أبو بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشار (ت 328ه)، الزاهر في معاني كلمات الناس، تحقیق، حاتم صالح الضامن، مؤسسة الرسالة، (بیروت 1992)، 1 / 390
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 19 / 320
4- الثعلبي، أبو اسحاق أحمد بن محمد بن براهيم النيسابوري (427ه)، الكشف والبيان (تفسير الثعلبي)، تح: أبو محمد بن عاشور، مراجعة وتدقیق نظير الساعدي، دار احیاء التراث العربی، (بیروت 2000)، 5 / 44

الناس ينشغلون بها في الحج والتجارة - لتبدأ الغزوات والحروب(1).

ثانياً: الطِّيرَة والفأل:

الطِّيرَة: لغة تعني التشاؤم(2)، وهي لا تكون إلا فيما يسوء(3)، وقد نهى عنها الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (ليس منا من تطيّر أو تطيّر له أو تکهن أو تكهن له)(4).

وقد حاول العرب إبعاد الطِّيرَة عن تفكيرهم بتجاهلهم المسميات التي تبعث إلى التشاؤم بإيجاد رديفاتها من الكلمات الأخرى، فذكر ابن أبي الحديد (تطيرت العرب من لفظة البرص فکنوا عنه بالوضح فقالوا جذيمة الوضاح(5) يريدون الأبرص وكني عنه بالأبرش أيضا، وكل أبيض عند العرب وضاح ويسمون اللبن وضحاً يقولون ما أكثر الوضح عند بني فلان)(6).

ومن المرادفات الأخرى التي ذكرها ابن أبي الحديد أنّ العرب كانت تسمي اللديغ سليماً قال أحدهم:

ص: 125


1- ولا زالت الناس إلى يومنا هذا تعتبر شهر صفر شهر شؤم وتؤجل الكثير من أعمالها حتى قضاء آخر أيامه
2- الجوهري، الصحاح في اللغة، ص 692، مادة [طير]
3- ابن منظور، لسان العرب، 7 / 7، مادة [طير]
4- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 19 / 305؛ السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 ه)، الجامع الصغیر، دار الفکر، (بیروت 1981)، 2 / 465
5- هو جذيمة بن مالك بن فهم بن غنم التنوخي القضاعي (ت نحو 268 م)، ثالث ملوك الدولة التنوخية في العراق ، جاهلي، عاش عمرا طويلا. وكان أعز من سبقه من ملوك هذه الدولة، وكان يقال له (الوضاح) و (الأبرش) لبرص فيه، قتلته الزباء بثأر أبيها، ينظر البغدادي، خزانة الأدب، 11 / 433؛ الزركلي، الاعلام، 2 / 114
6- شرح نهج البلاغة، 5 / 45

كأني من تذکر ما ألاقي *** إذا ما أظلم الليل البهيم

سلیم ملَّ منه أقربوه *** و أسلمه المجاور والحميم(1)

ومِنْ خَبَرِ ضِرَارِ بْنِ حَمْزَةَ اَلضَّبَائِيِّ عِنْدَ دُخُولِهِ عَلَى مُعَاوِيَةَ ومَسْأَلَتِهِ لَهُ عَنْ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ علي بن أبي طالب عليه السلام قَالَ (فَأَشْهَدُ لَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِهِ وقَدْ أَرْخَى اَللَّيْلُ سُدُولَهُ وهُوَ قَائِمٌ فِي مِحْرَابِهِ قَابِضٌ عَلَى لِحْيَتِهِ يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمَلُ اَلسَّلِيمِ وَيَبْكي بُكَاءَ اَلْحَزِينِ وَهُوَ يَقُولُ:

«يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا إِلَيْكِ عَنِّي أَ بِي تَعَرَّضْتِ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ لاَ حَانَ حِينُكِ هَيْهَاتَ غُرِّي غَيْرِي»(2).

وذكر ابن أبي الحديد مجموعة أخرى من التسميات التي كان العرب يعرضون عنها ومنها (قولهم للأعور ممتع كأنهم أرادوا أنه قد متع ببقاء إحدى عينيه ولم يحرم ضوءهما معا.

ومن کنایاتهم على العكس قولهم للأسود يا أبا البيضاء وللأسود أيضا یا کافور وللأبيض يا أبا الجون وللأقرع يا أبا الجعد)(3).

وفي حديث الأعشى مع علقمة بن علاثة ذكر ابن أبي الحديد أنّ صاحب الأعشى عندما نظر إلى قباب الأدم قال (وا سوءَ صباحاه یا أبا بصير هذه والله أبيات علقمة)(4)، والمعروف أنّ الأعشى كان أعمى لذلك كانت العرب تُسمي الاعمى بصيراً.

ص: 126


1- شرح نهج البلاغة، 5 / 45
2- شرح نهج البلاغة، 18 / 179
3- شرح نهج البلاغة، 5 / 46
4- شرح نهج البلاغة، 18 / 66

وأصلهم في التطير أنّ الطِّيرَة من زجر الطيور ومراقبة حركاتها، فقد ذكر الجاحظ أنّ (زجر الطّير هو الأصل، ومنه اشتقوا التطيّر، ثمَّ استعملوا ذلك في كلِّ شيء)(1).

يبدو أنّ مجتمع عرب ما قبل الإسلام قد ربطوا الطير بما يخافون من وقوعه ولهذا كان قريناً للموت وللمجهول وللحظ، وأنّ هذا الربط قد جاءهم من ملاحظتهم أنّ للطائر قدرة متفوقة للوصول إلى أماكن مجهولة وأنهم عاجزون بوسائلهم البسيطة عن أن يروا ما يرى ويعرفون ما يعرف، فخاصية الطيران جعلت الطيرَ قادراً على الوصول إلى أماكن لا يستطيع إنسان ذلك العصر أن يصل إليها، لذلك هم نسبوا للطير معرفة فوق معرفتهم وتصوروا أنّ الأحداث التي تتعلق بمصائرهم تأتيهم مع هذه المعرفة القادمة مع الطير من المجهول، إذ يوحي للإنسان الذي ربط مصيره به بأحد الأمرين القادمين معه من المجهول الخير أم الشر وعلى هذا بنى العرب فكرة التطير أو عيافة الطير(2).

وكان أحدهم إذا أراد الخروج أو السفر نظر حتى يرى طائراً يطير فيزجر سنوحه أو بروحه(3)، وكان العرب يختلفون في ذلك (أهل نجد كانوا يتشاءمون بالبوارح وغيرهم من العرب تتشاءم بالسانح وتتیمن بالبارح)(4). ومنهم من لا يرى ذلك شيئاً، إذ ذكر

ص: 127


1- أبو عثمان عمرو بن بحر (ت 255 ه)، الحيوان، تحقیق ابراهيم شمس الدين، مؤسسة الأعلمي، (بیروت 2003 م)، مج1، 4 / 590
2- الرباعي، عبد القادر، الطير والمعتقد في الشعر الجاهلي، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، جامعة الكويت، مج 8، العدد 29، 1988، ص 136
3- السَّانح مَا مَرّ من الطَّير والوحش بين يديك من جهَة يَسارك إلى يمينك والعرَب تَتَیمَّن به لأنه أمكنُ للرَّمْي، والصيد. والبَارِح ما مَرَّ من يَمينك إلى يَسارك والعَرب تَتَطيَّر به لأنه لا يُمكنك أن تَرميَه حتى تَنْحرِف، ينظر ابن الاثير، مجد الدين أبي السعادات المبارك الشيباني (ت 606 ه)، النهاية في غريب الحديث، تحقیق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي، ط 4، مؤسسة اسماعیلیان (قم 1365)، 1 / 114
4- الأصفهاني، الاغاني، مج 4، 11 / 247

ابن أبي الحديد قول أحدهم(1):

لا يمنعكَ مِن بُغاء *** الخير تَعقادُ التمائمُ ولقد غدوت وكنت لا *** أغدو على واقٍ وحاتِمْ

فإذا الأشائمُ کالأيامنِ *** والأيامُن كالأشائِمْ وكذاك لا خیر ولا *** شر على أحد بدائِم(2)

فإذا لم يرَ طيراً عمد إلى الطير الواقف على الشجر فحركه ليطير ثم ينظر إلى أي جهة يأخذ فإذا طار على يمينه تیمن به واستمر وإن طار على يساره تشاءم به ورجع(3).

كانت العرب قبل الإسلام يتطيرون من أنواع معينة من الطيور أبرزها الغراب ومن أجل تشاؤمهم بالغراب اشتقُّوا من اسمه الغربة، والاغتراب، والغريب، واعتبروا أكل لحمه عاراً لأنه يأكل الجيف والقاذورات، قال وَعلَة الجَرمي:

فما بالعار ما عَیَّرتُمونا *** شِواءَ الناهِضاتِ مع الخبيص

فما لحمُ الغرابِ لنا بزادٍ *** ولا سَرَطانُ أنهارِ البريص(4)

ص: 128


1- الابيات نسبت إلى المرقش، ينظر المرقش، عمرو بن سعد بن مالك (ت 57 ق. ه)، ديوان المرقشين، تحقیق = = کارین صادر، دار صادر، (بیروت 1998م)، ص 75 - 77؛ ابن قتيبة، محمد بن عبد الله بن مسلم الدينوري (ت 276)، تأويل مختلف الحديث، دار الكتب العلمية، بيروت، (د. ت)، ص 100، مع اختلاف بسيط بين مانقله ابن أبي الحديد وما موجود في الديوان، إذ ورد البيت الأول عند ابن أبي الحديد بالشكل الآتي: * لا يقعدنك عن بغاء *** الخير تعقاد العزائم
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 306
3- علي، جواد، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ط 2، جامعة بغداد، 1993، 6 / 789
4- الجاحظ، الحيوان، مج 1، 3 / 598

واختلفت نظرة العرب للغراب من حيث التطير والتفاؤل فبعضهم يتطير من الغراب إذا صاح صيحة واحدة فإذا ثنی تفاءلت به وبعضهم ربطه بالكلمات فإذا صاح مرتين فهو شر، وإذا صاح ثلاث مرات فهو خير على قدر عدد الأحرف(1).

ومن خلال هذه الروايات نستنتج أنَّ العرب ليس لديهم قاعدة خاصة للتطيّر بل کل مجموعة تنظر لتأثير الطير حسب فهمها لطبيعة الاحداث السيئة والجيدة وقد جعلوا الغراب مادة للكثير من المواقف، فهذا أحد الشعراء يقول:

إذا حلّت بنوليث عكاظا *** رأيت على رؤوسهم الغرابا(2)

وهو بهذا الوصف الجميل يعبر عن مدى تشاؤمه من رؤية قوافل بني ليث قادمة إلى سوق عكاظ - وهو على خلاف معهم - وتوقع أن يكون قدومهم يحمل معه الاحداث السيئة والشريرة وكأنه ربط بين شر ما يحملون والجانب السيئ الذي حمله بداخله لحقيقة وصورة الغراب وتطيره منه.

ومن الطيور الأخرى التي كان يتشاءم منها مجتمع قبل الإسلام البومة، وذكر جواد علي أنّ منظرها الكئيب وصوتها الحزين وظهورها في الليل، والليل هو رمز الشر، سببٌ في النظرة السيئة التي كان يراها العرب لها فوصفوها (أم الخراب) و (أم الصبيان)(3).

وكذلك تطيروا بالجمل (إذا رأى الجمل موقراً حملاً تشاءم فإن رآه واضعاً حمله

ص: 129


1- الجاحظ، الحيوان، مج 1، 3 / 598
2- الزمخشري، ابو القاسم جار الله محمد بن عمر (ت 538)، الفائق في غريب الحديث، دار الكتب العلمية، (بیروت 1996)، 1 / 12
3- المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 6 / 797

تیمّن)(1).

لعلهم هنا يقصدون الرحيل فالسفر والترحال وترك الديار هي مواقف تبعث الحزن والفراق فهم ينظرون لأبعاد تلك المواقف وصفاتها، فهم يتطيرون (من الجرادة ذات ألوان)(2) لأنهم يعتقدونها كحوادث الزمان متعددة ومتغيرة، ويتطيرون من الثور الاغضب (المكسور القرن)، ومن الحية والثعلب، فلحركات هذه الحيوانات ولأصواتها أثر في التنبيه بوقوع الشر(3).

وذكر ابن أبي الحديد من عادات العرب قبل الإسلام التشاؤم بالعطاس.

قال امرؤ القيس:

وقدْ اغتدى قبلَ العطاسِ بھیکلٍ *** شدیدٍ مشكُ الجنبِ فعمِ المنطقِ(4)

وقال آخر:

وخرق إذا وجهت فيه لغزوة *** مضيت ولم يحبسك عنه العواطس(5)

واشتهر عند العرب التطير بالمرأة والدار والفرس، فروي عن السيدة عائشة أن رجلين من بني عامر دخلا عليها فقالا إن أبا هريرة قال إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

ص: 130


1- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري في شرح صحيح البخاري، 10 / 180
2- الجاحظ، الحيوان، مج 1، 3 / 59
3- الآلوسي، بلوغ الآرب في معرفة احوال العرب، 2 / 338
4- امرؤ القيس، بن حجر بن الحارث الكندي (ت 565 م)، الديوان، مطبعة كرم، دمشق، (د.ت)، ص 90، وكان ابن أبي الحديد قد ذكر الشطر الأول فقط من البيت في شرحه * وقد اغتدي قبل العطاس بھیکل
5- شرح نهج البلاغة، 19 / 333

قال: (الطِّيرَة فِي اَلْفَرَسِ وَاَلْمَرْأَةِ وَالدَّارِ) فغضبت غضباً شديداً وقالت ما قاله وإنما قال:

«إِنَّ أَهْلَ اَلْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَطَيَّرُونَ مِنْ ذَلِكَ»(1).

وكانوا يتشاءمون من الأفراس بالاشقر وكانوا يذبحون ذبيحة أو عدة ذبائح عند زفاف العروس إلى بعلها أو وصولها عتبة بيته طرداً للأرواح الشريرة وإرضاء لها كما جرت العادة بذبح الذبائح حين الانتقال إلى دار جديد أو حين الشعور بوجود أرواح فيها ويقال لهذه الذبائح (ذبائح الجان)(2).

وأورد ابن أبي الحديد في شرحه مجموعة من الأبيات الشعرية التي تحتوي على أشياء أخرى تطيّر العرب منها:

وأمنع الياسمين الغض من حذري *** عليك إذ قيل لي نصف اسمه یاس

وقال آخر:

أهدت إليه سفرجلافتطيرا *** منه وظل مفكرا مستعبرا

خوف الفراق لأن شطر هجائه *** سفر وحق له بأن يتطيرا

وقال آخر:

ياذا الذي أهدى لنا سوسنا *** ماكنت في إهدائه محسنا

ص: 131


1- ابن الجوزي، ابو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد (ت 597)، دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، تحقیق حسن السقاف، ط 3، دار الإمام النووي، (الاردن 1992) ص37؛ ابن حجر العسقلاني، فتح الباري في شرح صحیح البخاري، 6 / 46
2- المفصل في تاريخ العرب، 6 / 798

نصف اسمه سوفقد ساءني *** يا ليت إني لم أر السوسنا

ومثله:

لا تراني طوال دهري *** أهوى الشقائقا إن يكن يشبه الخدود *** فنصف اسمه شقا(1)

على الرغم من أنَّ التطير كان معتقداً عاماً في حياة العرب قبل الإسلام وسيطر على عقول الناس واستسلموا له إلا إننا نرى أنَّ هناك نماذج أخرى رفضت الانقياد لتلك المخاوف وقررت المواجهة وأظهروا شجاعة وقوة في الخروج عليه، فذكر ابن أبي الحديد أنَّ النابغة الذبياني(2) خرج للغزو واسمه زیاد مع زبان بن سيار الفزاري فلما أراد الرحيل سقطت عليه جرادة فتطير وقال ذات لونين تجرد، غري من خرج، فأقام ولم يلتفت زبان إلى طيرته فذهب ورجع غانماً فقال(3):

يلاحظ طيره أبداً زیاد *** لتخبره وما فيها خبير

أقام كان لقمان بن عاد *** أشار له بحكمته مشیر

تعلّم إنه لا طير إلا *** على متطيّر وهو الثّبور

ص: 132


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 310
2- زیاد بن معاوية بن ضباب الذبياني الغطفاني المضري، أبو أمامة، شاعر جاهلي، من الطبقة الأولى، من أهل الحجاز. كانت تضرب له قبة من جلد أحمر بسوق عكاظ فتقصده الشعراء فتعرض عليه أشعارها. قيل انه كان من أحسن شعراء العرب ديباجة، وأكثرهم رونق کلامٍ، وأجزلهم بيتاً، كان شعره کلاماً ليس فيه تكلف، وعاش عمرا طويلا، ينظر ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ص 75؛ الزركلي، الاعلام، 3 / 54
3- الذبياني، النابغة زياد بن معاوية بن ضباب (ت نحو 604 م)، الديوان، جمعه وشرحه الطاهر بن عاشور، ط 2، الشركة التونسية للتوزيع، (تونس 1986)، ص56

بلی شيء يوافق بعض شيء *** أحايينا وباطله کثیر(1)

وقال بعض العرب خرجت في طلب ناقة ضلّت لي فسمعت قائلا يقول:

ولكن بعثت لها بغاة *** فما البغاة بواجدينا لم أتطير ومضيت لوجهي فلقيني رجل قبيح الوجه به ما شئت من عاهة فلم أتطير وتقدمت فلاحت لي أكمة فسمعت منها صائحا: والشر يلقی مطالع الأكم، فلم أكترث ولا انثنيت وعلوتها فوجدت ناقتي قد تفاجت للولادة فنتجتها وعدت إلى منزلي بها ومعها ولدها(2)، قال مزرد بن ضرار(3):

وإني امرؤ لا تقشعر ذؤابتي *** من الذئب يعوي والغراب المحجل(4)

على الرغم من أنَّ الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن التطير في وصاياه، ومنها قوله عندما ذُكِرَتْ عنده الطِّيرَة:

«من عرض له في هذه الطِّيرَة شيء فليقل اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك ولا حول ولا قوة الا بالله»(5).

ص: 133


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 307
2- شرح نهج البلاغة 19 / 307
3- مزرد بن ضرار بن حرملة بن سنان المازني الذبياني الغطفاني (ت 10 ه)، فارس شاعر جاهلي، له أشعار شهيرة أدرك الإسلام في كبره وأسلم، كان هجاءً في الجاهلية، خبيث اللسان، حلف لا ينزل به ضيف إلا هجاه، ينظر ابن حجر العسقلاني، الاصابة في تمييز الصحابة، 6 / 68؛ الزركلي، الاعلام، 7 / 211
4- شرح نهج البلاغة، 19 / 310
5- شرح نهج البلاغة، 18 / 322؛ ابن حجر العسقلاني، فتح الباري في شرح صحيح البخاري، 10 / 181

إلا أن المجتمع انقاد إلى تلك العادات والتقاليد ولم يتخلص منها إلى يومنا هذا، إذ مازال الناس يتطيّرون من صوت البومة والعطاس وغيرها من العادات العالقة في أذهانهم على مر العصور.

والفأل من العادات الاجتماعية الجيدة وهو ضد الطِّيرَة(1)، والفرق بينه وبين الطيرة، أنَّ الفأل تقوية للعزيمة، وإطماع في النية؛ والطِّيرَة تكسر النية، وتصد عن الوجهة ، وتثني العزيمة، وفي ذلك ما يعطل الإحالة على المقادير(2).

كان الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم يحب الفأل الصالح من حديثه:

«لا عدوى(3) ولا طيرة وأحب الفأل الصالح».

وإنما أحبّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفَأْل لأنّ الناس إذا أمّلوا فائدة الله ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي فهم على خير(4).

ذكر ابن أبي الحديد أن الرجل منهم كان إذا ضلّ في فلاة قلب قميصه وصفق بيديه كأنه يومئ بهما إلى إنسان فيهتدي، قال أعرابي:

ص: 134


1- لسان العرب، 7 / 7، مادة (فأل)
2- ابن رشيق، أبو علي الحسن بن محمد القيرواني الازدي (456 ه)، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقیق محمد محيي الدين عبد الحميد، ط 3، مطبعة السعادة، (مصر 1964)، 2 / 259
3- والعدوی هي الجذام وقيل للرسول صلى الله عليه وآله وسلم: إن النقبة تقع بمشفر البعير، فيجرب لذلك الإبل. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «فما أعدى الأول». والنقبة تكون بالبعير، وهو جرب رطب، فإذا خالط الإبل أو حاكها وأوي في مبارکها، وصل إليها بالماء الذي يسيل منه وبالنطف، نحو ما به، ينظر ابن قيم الجوزية، شمس الدين بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي، (ت 751)، الطب النبوي، تحقیق عبد الغني عبد الخالق وأخرون، دار الكتب العلمية، بيروت، (د.ت)، ص 118
4- مسلم، ابو الحسن مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (ت 261 ه)، صحیح مسلم، دار الفکر، بیروت، (د.ت)، 7 / 33، ابن منظور، لسان العرب، 7 / 7

قلبت ثيابي والظنون تجول بي *** وترمي برحلي نحو كل سبيل

فلأیا بلأي ما عرفت جليتي *** وأبصرت قصداً لم يصب بدلیل

وقال أبو العملّس الطائي:

فلو أبصرتني بلوى بطان *** أصفق بالبنان على البنان

فأقلب تارة خوفا ردائي *** وأصرخ تارة بأبي فلان

لقلت أبو العملّس قد دهاه *** من الجنان خالعة العنان

والأصل في قلب الثياب التفاؤل بقلب الحال(1).

وذكر ابن أبي الحديد أنّ العرب إذا خرجوا إلى الأسفار أوقدوا ناراً بينهم وبين المنزل الذي يريدونه ولم يوقدوها بينهم وبين المنزل الذي خرجوا منه تفاؤلا بالرجوع إليه(2).

وكانوا يتفاءلون بالآس لدوامه ويتطيرون من النرجس لسرعة انقضائه ويسمونه الغدار، قال العباس بن الأحنف(3):

إن الذي سماك يا منيتي *** بالنرجس الغدّار ما أنصفا

لو أنه سماك بالآسة *** وفيت إن الآس أهل الوفا(4)

ص: 135


1- شرح نهج البلاغة، 18 / 322
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 328
3- العباس بن الأحنف بن الأسود الحنفي اليمامي، أبو الفضل، شاعر غزل رقيق جميع شعره في الغزل، لا يوجد في ديوانه مديح، وكان أغزل الناس. أصله من اليمامة (في نجد)، وكان أهله في البصرة، ونشأ هو ببغداد، وتوفي بها، وقيل بالبصرة، ينظر ابن خلکان، وفیات الاعیان، 2 / 20 وما بعدها؛ الذهبي، سیر اعلام النبلاء، 9 / 98؛ الزركلي، الاعلام، 3 / 259
4- ابن الأحنف، العباس (ت 192 ه)، الديوان، شرح وتعليق عاتكة الخزرجي، مكتبة دار الكتب المصرية، (القاهرة 1954)، ص190؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 19 / 310

ومما تفاءلوا به قولهم للفلاة(1) التي يظن فيها الهلاك مفازة اشتقاقا من الفوز وهو النجاة وقال بعض المحدثين:

أحب الفأل حين رأى كثيراً *** أبوه عن اقتناء المجد عاجز

فسماه لقلته كثيراً *** کتلقيب المهالك بالمفاوز(2)

ثالثاً: البلية والعقر على القبور:

البلية: ذكر ابن أبي الحديد أنّ البلية هي ناقة تعقل عند القبر (إذا مات منهم کریم بلو ناقته أو بعيره فعكسوا عنقها وأداروا رأسها إلى مؤخرها وتركوها في حفيرة لا تطعم ولا تسقی حتى تموت وربما أحرقت بعد موتها وربما سلخت وملئ جلدها ثماماً(3) وكانوا يزعمون أن من مات ولم يبل عليه حشر ماشياً ومن كانت له بلية حشر راكباً على بلیته)(4).

قال جُريبة بن الأشيم الفقعسي(5) لابنه:

ياسعد إما أهلكَنَّ فإنني *** أوصيكَ إن أخا الوصاةِ الأقربُ

لا تتركنَّ أباكَ يعثرُ راجلاً *** في الحشرِ يصرعُ لليَديْن وينكبُ

ص: 136


1- الفَلاة: القَفر من الأَرض لأَنها فُلِيت عن كل خير أَي فُطِمت وعُزِلت وقيل هي التي لا ماء فيها وقيل هي الصحراء الواسعة والجمع فَلاً وفَلَوات، ينظر ابن منظور، لسان العرب، 7 / 126، (مادة فلا)
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 328
3- الثُّمامُ: نَبْت معروف في البادية ولا تجهده النّعم إلاّ في الجدوبة، ينظر، ابن منظور، لسان العرب، 2 / 45، مادة ثمم
4- شرح نهج البلاغة، 19 / 328
5- جريبة بن الاشيم بن عمرو بن وهب بن دثار بن فقعس، هو شاعر مخضرم عاش الشطر الأكبر من حياته في الجاهلية وأدرك الإسلام فأسلم، من فرسان بني أسد، بلغ مجموع شعره واحداً وثلاثين بيتاً، ينظر ابن الاشيم، جريبة، دیوان بني أسد أشعار الجاهلين والمخضرمين، جمع وتحقيق محمد على دقة ، دار صادر، (بیروت 1999)، 2 / 434

واحمل أباك على بعير صالحٍ *** وابغ المطية إنه هو أصوبُ

ولعل لي مما جمعت مطية *** في الحشرِ أركبها إذا قيل اركبوا(1)

ومما ورد عن العرب في البلية قول بعضهم:

أبنَّي زوَّدني إذا فارقتني *** في القبر راحلة برحل فاتر

للبعث أركبها إذا قيل اركبوا *** مستوثقين معا لحشر الحاشر(2)

وقال عويم النبهاني:

أبنَّي لا تنسى البلية إنَّها *** لأبيك يوم نشوره مركوب(3)

من خلال قراءتنا لتلك الروايات يتجلى لنا أن العرب كان عندهم اعتقاد بوجود الحياة بعد الموت وكانوا يضعون إلى جانب موتاهم حاجات يحتاجونها في حياتهم الأخرى فعثر في مقابر أهل اليمن وجنوب الجزيرة العربية على حلي وأحجار ثمينة وغيرها مدفونة مع موتاهم وكانوا يحلقون شعورهم أو بعضها ويرمونها على القبر، وحلق الضفيريتين تعظيماً، كما كانوا يفعلون مع الآلهة في مواسم الحج(4).

ص: 137


1- ابن الاشيم، جريبة، ديوان بني أسد اشعار الجاهلين والمخضرمين، 2 / 437 - 438؛ وقد ذكر ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 19 /316، الأبيات مع بعض التغير في بعض المفردات غير أن البيت الثاني فيه تغییرات كثيرة، إذ ورد عند ابن أبي الحديد بالشكل التالي: *لا أعرفن أباك يحشر خلفكم تعبا يجر على اليدين وينكب
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 318
3- شرح نهج البلاغة، 19 / 318
4- عرفة، العرب قبل الإسلام، ص 320

وكانوا يعقرون عند القبور، قال زیاد الأعجم في المغيرة بن المهلب(1):

إن السماحة والمروءة ضمَّنا *** قبراً بمرو على الطريق الواضح

فإذا مررت بقبره فاعقربه *** كوم المجان وكل طرف سابح(2)

وذكر الألوسي أنّ العرب اختلفوا في سبب عقرهم الإبل على القبور فقال قوم إنهم كانوا يفعلون ذلك مكافأة للميت على ما كان يعقره من الإبل في حياته وبنحره للأضياف واحتجوا بقول الشاعر:

وانضح جوانب القبر بدمائها *** فلقد یکون أخا دمٍ وذبائح

ومن قال إنَّما كانوا يفعلون ذلك إعظاماً للميت كما كانوا يذبحون للأصنام، وقيل إنهم كانوا يفعلونه لأن الإبل كانت تأكل عظام الموتى إذا بليت فكأنهم يثأرون لهم منها، وقيل إن الإبل أنفس أموالهم فكانوا يريدون بذلك أنّها قد هانت عليهم لعظم المصيبة(3). وقد أبطلت الشريعة العقر بحديث الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم:

ص: 138


1- المغيرة بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي، أبو فراس (ت 82 ه - 701 م)، أمير، من شجعان العرب المعدودين وكان من أبرع ولد المهلب وأوفاهم وأعفهم وأسخاهم، استخلفه أبوه على (خراسان) فمات فيها، وكان المهلب يقول: ما شهد معي حربا قط إلا رأيت البشر في وجهه، ينظر الصفدي ، الوافي بالوفيات، 14 / 165؛ الزركلي، الاعلام، 7 / 278
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 317؛ للاطلاع على تفاصيل الابيات وقصتها ينظر ابن عساکر، أبو القاسم علي بن الحسين بن هبة الله الشافعي (ت 571 ه)، تاریخ دمشق، تحقیق علي شيري، دار الفكر، (بيروت 1415 ه)، 19 / 149؛ الكتبي، محمد بن شاکر (ت 764 ه) فوات الوفيات، 1 / 417
3- بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، 2 / 310

«لا عقر في الإسلام»(1).

وقد اختلط الأمر عند بعضهم فلم يفرقوا بين البلية والعقر على القبور، وانتقد ابن أبي الحديد هذا الخلط عند ذكره أبيات جريبة بن الاشيم:

فمن مبلغُ عني يساراً ورافعاً *** وأسلمَ إنّ الأوهنين الأقاربُ

وإن أنتَ لم تعقرْ عليَّ مطيتي *** فلا قامَ في مال لك الدهر حالبُ

فلا تدفنني في ضرا وأدفنتّي *** الفلاة تنزو على الجنادب(2)

والتي ذكرها الخالع(3) في كتابه المفقود (في آراء العرب وأديانها)، والذي كان يعتقد أنّ هذه الأبيات تؤيد ما ذهب إليه في البلية بأنها كانت تعقر للميت، أما ابن أبي الحديد فقد ذهب مذهباً اخر خالف فيه هذا الرأي منتقداً إياه، إذ قرر أنّ هذه الأبيات ليس لها دلالة على هذا المعنى وليس لها تعلق به، وإنما هي وصية لولده أن يعقر مطيته بعد موته، إما لكيلا يركبها غيره بعده، أو على هيأة القربان کالهدي المعقور بمكة، أو كما كانوا يعقرون عند القبور، ومذهبهم في العقر على القبور مشهور، وليس في هذا الشعر ما يدل على مذهبهم في البلية، فإن ظن ظان أن قوله أو يفوز راكب فيه إيماء إلى ذلك

ص: 139


1- السيوطي، الجامع الصغیر، 2 / 75
2- بن الاشيم، جريبة، دیوان بني أسد 2 / 439؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 19 / 316، والبيت الأول لم يذكره ابن أبي الحديد، إنما ذکر بدلاً عنه بيتاً لم أجده في الديوان وهو: * إذا مت فادفني بجداء ما بها *** سوى الأصرخين أو يفوز راكب
3- الحسين بن أبي جعفر بن محمد الخالع الرافقي (ت 422 ه)، أديب، له شعر حسن. يقال إنه من ذرية معاوية بن أبي سفيان. أصله من الرافقة (بليدة كانت ملاصقة للرقة، على الفرات، وقرية في البحرين، ولعله كان من الأولى) وسكن بغداد وله من المصنفات كتاب الشعراء وكتاب المواصلة والمفاصلة وكتاب الأمثال وكتاب الأودية والجبال وكتاب الرمال وكتاب تخيلات العرب وتفسير شعر أبي تمام وصناعة الشعر وغير ذلك، ينظر الخطيب البغدادي، تاریخ بغداد، 8 / 106؛ الصفدي، الوافي بالوفيات، 12 / 214؛ الزركلي، الأعلام، 2 / 254

فليس الأمر كما ظنه، ومعنى البيت ادفني بفلاة جداء مقطوعة عن الإنس ليس بها إلا الذئب والغراب أو أن يعتسف راكبها المفازة وهي المهلكة سموها مفازة على طريق الفأل، وقيل إنها تسمى مفازة من فوز أي هلك فليس في هذا البيت ذكر البلية، ولكن الخالع أخطأ في إيراده في هذا الباب كما أخطأ في إيراده قول مالك بن الريب:

وعطَّل قلوصي في الركاب فإنها *** ستبرد أكبادا وتبكي بواكيا

فظن أنّها من باب البلية ولم يرد الشاعر ذلك وإنما أراد لا تركبوا راحلتي بعدي وعطلوها بحيث لا يشاهدها أعدائي وأصدقائي ذاهبة جائية تحت راكبها فيشمت العدو ويساء الصديق(1).

رابعاً: الرُّقْي:

الرُّقْية: العُوذة التي يُرْقى بها صاحبُ الآفةِ كالحُمَّى والصَّرَع وغير ذلك من الآفات قال رُؤْبة:

فما تَرَکا مِن عُوذَةٍ يَعْرِفانها *** ولا رُقْيةٍ إلا بها رَقَياني(2)

وهي من أشهر عادات العرب الاجتماعية في مداواة الأمراض المستعصية ويتم ذلك بقراءة شيء على المريض ثم النفث عليه، لم يمنع الإسلام الرُّقْي بل شدد عليه، ذكر عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا نرقّي في الجاهلية، فقلت یا رسول الله ما ترى في ذلك فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

ص: 140


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 19 / 317
2- ابن منظور، لسان العرب، 4 / 166، (مادة رقا)

«أعرضوا على رقاكم فلا بأس بالرقى ما لم يكن فيها شرك»(1).

كأنه خاف أن يقع فيها شيء مما كانوا يتلفظون به ويعتقدونه من الشرك في الجاهلية وما كان بغير اللسان العربي مما لا يعرف له ترجمة ولا يمكن الوقوف عليه فلا يجوز استعماله، وقد أَمَر صلى الله عليه وآله وسلم غير واحد من أَصحابه بالرُّقْيةِ وسَمِعَ بجماعة يَرْقُونَ فلم يُنْكِرْ عليهم(2).

وذكر ابن أبي الحديد إن الرجل منهم إذا أراد دخول قرية فخاف وباءها أو جنّها وقف على بابها قبل أن يدخلها ونهق نهيق الحمار ثم علق عليه (كعب أرنب) كان ذلك عوذة له ورقية من الوباء والجن ويسمون هذا النهيق (التعشير) قال شاعرهم:

ولا ينفع التعشير أن حمَّ واقع *** ولا زعزع ولا كعب أرنب(3)

وعلى الرغم من التزام العربي بتلك العادات والتقاليد إلا أنه في داخله كان رافضاً لها ويحمل في داخله المقت للكثير منها لأنها لا تتلائم مع عقليته البدوية الرافضة لكل سبل الجزع من الموت، فذكر ابن أبي الحديد أن عروة بن الورد خرج إلى خيبر في رفقة فلما قربوا منها عشروا ورفض عروة أن يفعل فعلهم وقال:

ص: 141


1- الطحاوي، أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الازدي (ت 321 ه)، شرح معاني الآثار، تحقیق محمد زهري النجار، ط 3، دار الكتب العلمية، (بيروت 1996)، 4 / 328؛ ابن حبان، محمد بن حبان بن أحمد السبتي، (ت 354 ه)، صحیح ابن حبان، بترتیب ابن بلبان الأمير علاء الدين علي بن بلبان الفارسي (ت 739 ه)، تحقيق شعيب الأرناؤوط، ط 2، مؤسسة الرسالة، (بیروت 1993)، 13 / 461؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 19 / 305
2- ابن منظور، لسان العرب، 4 / 167، (مادة رقا)
3- شرح نهج البلاغة، 19 / 321

وقالوا أحب وأنهق ولا تضّرك خيبر *** وذلك من دين اليهود ولوع

لعمري لئن عشرت من خشية الردي *** نهاق حمير إنني لجزوع

فلا وألت تلك النفوس ولا أتت *** على روضة الأجداد وهي جميع(1)

الولوع: بالضم الكذب، ولع الرجل إذا كذب، فيقال إن رفقته مرضوا ومات بعضهم ونجا عروة من الموت والمرض(2).

وذكر ابن أبي الحديد أنّ من رقاهم للحب: (هوابه هوابه، البرق والسحابه، أخذته بمركن، فحبه تمكن، أخذته بإبره، فلا يزل في عبره، خليته بإشفى، فقلبه لا يهدا، خليته بمبرد، فقلبه لا يبرد)(3)، وترقي الفارك(4) زوجها إذا سافر عنها فتقول: (بأفول القمر، وظل الشجر، شمال تشمله، ودبوره تدبره، ونكباء تنكبه، شيك فلا انتعش، ثم ترمي في أثره بحصاة ونواة وروثة وبعرة وتقول: حصاة حصت أثره، نواة أنأت داره، روثة راث خبره، لقعته ببعرة)(5).

وذكر ابن أبي الحديد مجموعة من الأبيات الشعرية منها قول فارك في زوجها:

أتبعته إذ رحل العيس ضحی

بعد النواة روثة حيث انتوی

الروث للرثی وللنأي النوى

ص: 142


1- ابن الورد، عروة (ت 616 م)، الديوان، تحقيق أسماء أبو بكر محمد، دار الكتب العلمية، (بیروت 1998)، ص 80
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 321
3- شرح نهج البلاغة، 19 / 347
4- والفِرْكُ: بالكسر البغْضَةُ عامّة، وقيل الفِرْك بغْضَةُ الرجل لامرأَته، أو بغْضة امرأة للرجل وهو أَشهر، ينظر ابن منظور، لسان العرب، 7 / 67، (مادة فرك)
5- شرح نهج البلاغة، 19 / 347

وقال آخر:

رمت خلفه لما رأت وشك بينه *** نواة تلتها روثة وحصاة

وقالت نأت منك الديار فلا دنت *** وراثت بك الأخبار والرجعات

وحصت لك الآثار بعد ظهورها *** ولا فارق الترحال منك شتات(1)

وعلى الرغم من أن التعويذة تستخدمها المرأة الفارك المبغضة لزوجها لتنال منه - كما هو واضح من قراءتنا للروايات السابقة - إلا أن بعضهم أراد استخدامها بعكس معناها، فذكر ابن أبي الحديد قول أحدهم يخاطب امرأته:

لا تقذفي خلفي إذا الركب اغتدى *** روثة عير وحصاة ونوى

لن يدفع المقدار أسباب الرقی *** ولا التهاويل علی جن الفلا

وقد تنبه ابن أبي الحديد إلى ذلك وانتقد استخدام هذا الرجز للدلالة على رقي المرأة الفارك فقال (هذا الرجز أورده الخالع في هذا المعرض، وهو بأن يدل على عكس هذا المعنى أولی، لأن قوله (لن يدفع المقدار بالرقي ولا بالتهاويل على الجن)، كلام يشعر بأن قذف الحصاة والنواة خلفه كالعوذة له لا كما تفعله الفارك التي تتمنى الفراق)(2).

وقد استخدم العرب الخرز لاعتقادهم أنّ لها أثراً في إصلاح أمرهم من اجتذاب الخير ودفع المكروه ولاسيما المرأة التي كانت تقرأ عليها كلمات أعدها السحرة لهن(3).

وقد ذكر ابن أبي الحديد أهم تلك الخرزات ومنها:

ص: 143


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 348
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 19 / 348
3- عرفة، العرب قبل الإسلام، ص 208

السلوانة ويقال السلوة وهي خرزة يسقى العاشق منها فیسلو في زعمهم وهي بيضاء شفافة قال الراجز:

لو أشرب السلوان ماسليت *** مابي غني عنكم وإن غنيت

السلوان جمع سلوانة وقيل السلوانة تراب من قبر يسقى منه العاشق فیسلو(1).

ويبدو أنَّ السلوانة ليست خرزة إنما هي تراب يداف بالماء ثم يسقى منها العاشق كما هو واضح من الرواية.

ومن الخرز الأخرى التي ذكرها ابن أبي الحديد الهنمة وتستخدم لتعطف قلوب الرجال ورقيتها، (أخذته بالهنمة، بالليل زوج وبالنهار أمه). والفطسة والقبلة والدردبيس كلها لاجتلاب قلوب الرجال قال الشاعر:

جمعن من قبل لهن وفطسة *** والدردبیس تمائما في منظم

فانقاد کل مشذب مرس القوى *** الحبالهن وكل جلد شيظم

وقيل الدردبیس خرزة سوداء تحبب بها النساء إلى بعولتهن توجد في القبور العادية ورقيتها (أخذته بالدردبیس، تدر العرق اليبيس، وتذر الجديد كالدريس)(2).

ومن خرزاتهم القرزحلة وهي من خرز الضرائر إذا لبستها المرأة مال إليها بعلها دون ضرتها. ومنها خرزة العقرة تشدها المرأة على حقويها فتمنع الحبل ومنها الينجلب ورقيتها (أخذته بالینجلب فلا يرم ولا يغب ولا يزل عند الطنب)، ومنها كرار مبنية

ص: 144


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 346
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 346

على الكسر ورقيتها (یا کرار کریه إن أقبل فسریه وإن أدبر فضريه من فرجه إلى فيه)، ومنها المرة ورقيتها (یا همرة اهميه من استه إلى فيه وماله وبنيه)، ومنها الخصمة خرزة للدخول على السلطان والخصومة تجعل تحت فص الخاتم أو في زر القميص أو في حمائل السيف، ومنها الوجيهة وهي كالخصمة حمراء كالعقيق. ومنها العطفة خرزة العطف والكحلة خرزة سوداء تجعل على الصبيان لدفع العين عنهم والقبلة خرزة بيضاء تجعل في عنق الفرس من العين والفطسة خرزة يمرض بها العدو ويقتل ورقيتها (أخذته بالفطسة، بالثوباء والعطسة، فلا يزال في تعسة، من أمره ونكسة، حتى يزور رمسه)(1).

خامساً: تخيلاتهم في السفر:

ذكر ابن أبي الحديد مجموعة من الروايات عن عادات العرب وتقاليدهم في السفر منها أنهم كانوا يزعمون (أن المسافر إذا خرج من بلده إلى آخر فلا ينبغي له أن يلتفت فإنه إذا التفت عاد فلذلك لا يلتفت إلا العاشق الذي يريد العودة)(2).

قال بعضهم:

دعِ التّلفُّتَ یا مسعود وأرم بها *** وجه الهواجر تأمن رجعة البلد

وقال آخر أنشده الخالع:

عِيلَ صبري بالثعلبية لما كلما *** طال ليلي وملني قرنائي

کلما سارت المطایا بنامیلا *** تنفست والتفتُّ ورائي(3)

ص: 145


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 347
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 330
3- شرح نهج البلاغة، 19 / 330

وعلى الرغم من أنَّ البيتين ذكرهما الخالع في كتابه ضمن تخيلات العرب في السفر والتفاؤل بالالتفاف لمن يحب بالعودة إلا أن ابن أبي الحديد اعترض على ذكرهما ضمن هذا الباب وعذره بأن الأبيات تدل على كثرة الشوق والتأسف على المفارقة وكون الراحل عن المنزل حيث لم يمكنه المقام فيه بجثمانه يتبعه بصره ويتزود من رؤيته، ويبدو أن ابن أبي الحديد قد ذهب بعيداً في اعتراضه، لأن ظاهر البيتين يمكن أن يدلَّان على فراق الحبيبة والديار والرغبة بالعودة وعدم تركهما، ولعل كثرة التفاته دلالة على تفاؤله بالعودة كما كان يعتقد العرب.

ومن عاداتهم الأخرى التي ذكرها ابن أبي الحديد (أنهم كانوا يوقدون النار خلف المسافر الذي لا يحبون رجوعه يقولون في دعائهم " أبعده الله وأسحقه وأوقد نارا أثره)(1).

وذكر ابن أبي الحديد أيضاً أنَّهم (كانوا إذا خرجوا إلى الأسفار أوقدوا نارا بينهم وبين المنزل الذي يريدونه ولم يوقدوها بينهم وبين المنزل الذي خرجوا منه تفاؤلا بالرجوع إليه)(2).

ولعل تقديسهم للنار وولعهم بها جعلتهم يعتقدون بأنَّ لها تأثيراً في عوارض الأحداث لديهم لأنها تمثل جزءاً من حياتهم، حتى القرآن الكريم حين خاطبهم قال:

«أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أأنتمْ أَنْشَأتْم شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنْشِئُونَ»(3).

وكانت النار تستخدم عند العرب في العديد من عاداتهم وتقاليدهم فمنها: (نار القرى) وهي نار تستخدم لاستدلال الأضياف بها إلى المنزل، و(نار الضيافة) وكانوا

ص: 146


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 328
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 328
3- سورة الواقعة: الآية 71

يوقدونها على الاماكن المرتفعة لتكون أشهر(1)، ونار أخرى هي (نار التحالف) التي توقدُ عند التَّحالف؛ فلا يعقدون حلفهم إلاّ عندها، فيذكرون عند ذلك منافعها، ويدعون بالحرمان والمنع من منافعها، على الذي ينقض عهد الخلف، ويخيس بالعهد. وربّما دنوا منها حتى تكاد تحرقهم، ويهوّلون على من يُخاف عليه الغَدْرُ، بحقوقها ومنافعها، والتَّخويف مِنْ حِرْمانِ منفعتها، قال الكُمَيت:

کهُولة ما أوقد المحلفُون *** للحالِفينِ وما هَوّلوا(2)

و(نار الأهبة) للحرب، وكانوا اذا توقعوا جيشا أوقدوا نارا على جبلهم ليبلغ الخبر أهليهم أو أصحابهم فيأتونهم و(نار الغدر) کانوا إذا غدر الرجل يجاره أوقدوا النار بمنی أيام الحج على أحد الاخشبين(3) ثم صاحوا هذه غدرة فلان ليحذر الناس(4)، و(نار الحباحب)، ويقال أيضا أبخل من نار أبی حباحب ومن حديثه أنه كان رجلٌ من العرب في سالف الدهر بخيلاً توقد له نار بليل مخافة أن يقتبس منها، فإن أوقدها ثم أبصرها مستضيء أطفأها، فضربت العرب بناره في الخلف المثل وضربوا به المثل في البخل(5).

ص: 147


1- الآلوسي، بلوغ الارب، 2 / 161
2- الجاحظ، الحيوان، مج 2، 7 / 102
3- أخشبا مكة، أولهما، أبو قبیس، وهو الجبل المشرف على الصفا وكان يسمى في الجاهلية الأمين، لأن الركن الأسود كان فيها مستودعاً عام الطوفان، وإنما سمي أبو قبیس لأن أول من نهض البناء فيها رجل كان يقال له أبو قبيس ويقال اقتبس منه الركن فسمي أبو قبیس، والأول أشهرهما عند أهل مكة، والأخشب الآخر الجبل الذي يقال له الأحمر، وكان يسمى في الجاهلية الأعرف وهو الجبل المشرف وجهه على قعیقعان، ينظر الأزرقي، أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد (ت 250 ه)، أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، تحقیق علي عمر، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة 2009، 2 / 265
4- الآلوسي، بلوغ الارب، 2 / 163
5- الميداني، مجمع الامثال، 1 / 263

ذكر ابن أبي الحديد أنهم (كانوا إذا رحل الضيف أو غيره عنهم وأحبوا ألّا يعود کسروا شيئا من الأواني وراءه)، قال بعضهم:

کسرنا القدر بعد أبي سواح *** فعاد وقدرنا ذهبت ضیاعا(1)

يبدو أنّ الكثير منهم لم يكن يحبذ تلك العادات، بل كان ممقتاً لها، فخدمة الضيف من صفات العرب المميزة التي يتفاخرون بها في مجالسهم واشعارهم وعلى الرغم من أنهم يؤمنون بأنَّ كسر الأواني وراء الضيف يمنعه من العودة ولكنَّهم لا يفعلون ذلك لأنهم يعدُّونها من العادات السيئة غير المرغوب فيها، وذكر لنا ابن أبي الحديد نماذج من تلك الصور منها قول بعضهم:

ولا نكسر الكيزان في إثر ضيفنا *** ولكننا نقفيه زادا ليرجعا

وقال آخر:

أما والله إن بني نفيل *** لحلالون بالشرف اليفاع

أناس ليس تكسر خلف ضيف *** أوانيهم ولا شعب القصاع(2)

ومن عاداتهم التي ذكرها ابن أبي الحديد (أنَّ الرجلَ منهم كان إذا ركب مفازة وخاف على نفسه من طوارق الليل عمد إلى وادي شجر فأناخ راحلته في قرارته وعقلها وخط عليها خطاً ثم قال أعوذ بصاحب هذا الوادي وريما قال بعظيم هذا الوادي)(3).

ص: 148


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 332
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 332
3- شرح نهج البلاغة، 19 / 332

وذكر ابن أبي الحديد أنّ رجلاً منهم استعاذ ومعه ولد فأكله الأسد فقال:

قد استعذنا بعظيم الوادي

من شرِّ ما فيه من الأعادي

فلم يُجرنا من هزبرٍ عادٍ

وقال آخر:

قد بِتَّ ضیفاً لعظيم الوادي

المانعي من سطوة الأعادي

راحلتي في ج اره وزادي

وقال آخر:

یا صاحب الشجراء هل أنت مانعي *** فإني ضيف نازل بفنائکا

وإنك للجنان في الأرض سيد *** ومثلك آوي في الظلام الصعالكا(1)

وأغلب الظن هنا أنهم كانوا يعتقدون بأنَّ هناك قوى خفية تحميهم فيلوذون حولها وهذا جزء من عقيدتهم، وقد خاطبهم القرآن الكريم:

«وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا»(2).

سادساً: الأطعمة والأشربة:

كانت عادات العرب تتجه إلى البساطة في تدبير مأكولاتها التي تتكون في الغالب من

ص: 149


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 330
2- سورة الجن: الآية 6

لحوم الصيد والالبان، وأحسن اللحوم عندهم لحوم الإبل، وكانت لهم في هذا الباب عوائد مستحسنة ذلك أنهم كانوا يبكرون في الغذاء ويرون أنَّ ذلك أقرب إلى راحة البدن وصحته، وكانوا يؤخرون العشاء رغبة في ورود الأضياف واجتماع الآكلة(1).

وقد أشار ابن أبي الحديد إلى أسماء بعض الأطعمة عند العرب قبل الإسلام منها (الثريد)، فقد كانت لقريش تجارة ولا تعدو تجارتهم مكة، حتی رحل هاشم بن عبد مناف إلى الشام فنزل بقیصر فكان يذبح كل يوم شاة ويصنع جفنة من ثرید ويدعو الناس فيأكلون، فدعا به قيصر فلما رآه و کلمه وأعجب به وجعل يرسل إليه فيدخل عليه فلما رأى مكانه سأله أن يأذن لقريش في القدوم عليه بالمتاجر وأن يكتب لهم كتب الأمان فيما بينهم وبينه ففعل، فبذلك ارتفع هاشم في قريش(2)، وعُدَّ أول من هشم الثريد بعد إبراهيم عليه السلام، الذي يعدّ أول من فعل ذلك أي ثرد الثريد وأطعمه المساكين، وجده قصي بن كلاب(3).

والثريد من الأطعمة الأساسية عند العرب وهي ثرد الخبز أي فتّه ثم بلّه بمرقٍ ثم شرّفه وسط القصعةِ(4)، والثريد غالباً لا يكون إلا من لحم، والعرب قلّما تتخذ طبيخاً ولا سيما بلحم(5)، ولغرض تأكيد أهمية الثريد عند العرب ذكر ابن أبي الحديد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام».

ص: 150


1- الآلوسي، بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب، 1 / 371
2- شرح نهج البلاغة، 15 / 159
3- الحلبي، علي بن برهان الدين الشافعي (1044 ه) السيرة الحلبية، دار المعرفة، (بیروت 1400)، 1 / 8
4- الزبيدي ، تاج العروس، 4 / 372، (مادة ثرد)
5- ابن منظور، لسان العرب، 2 / 16، (مادة ثرد)

وأصحابنا(1) يحملون لفظة النساء في هذا الخبر على زوجاته، لأن فاطمة عليها السلام عندهم أفضل منها لقوله صلى الله عليه وآله وسلم إنها سيدة نساء العالمين(2).

وعلى الرغم من أنّ ابن أبي الحديد أراد حصر إطار الحديث بين زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقط مع إن من وضع الحديث أراده على الجميع بما فيهن فاطمة عليها السلام، إلا إننا مع ذلك لا نتفق مع هذا الرأي لأن عائشة لم تكن أفضل نساء النبي، وهذا الحديث يحتاج إلى وقفة وتمحيص لعدة أسباب:

1 - قد يكون هذا الحديث موضوعاً لغرض إعطاء فضائل لعائشة عن بقية نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع مواقفها السلبية مع الأمة بعد وفاته.

2 - لم يثبت لدينا أنّ عائشة أفضلهن، إذ ذكر حديثٌ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن فضل خديجة على عائشة وجميع النساء بقوله:

«لقد فُضِّلت خديجة على نساء أُمُّتي كما فُضِّلت مريم على نساء العالمين».

وهو حديث حسن الإسناد واستدل به على أن خديجة أفضل من عائشة(3)، كما إنه قد فضل خديجة بحديث آخر إذ قال لعائشة حين قالت له: قد رزقك الله خيراً منها فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

ص: 151


1- يريد المعتزلة
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 14 / 20؛ ينظر حديث فضل عائشة على النساء عند ابن حنبل، الإمام أحمد الشيباني (ت 241 ه)، مسند أحمد، دار صادر، بیروت، (د.ت)، 6 / 159؛ البخاري ، صحيح البخاري، 4 / 220
3- الطبري، محمد بن جرير (ت 310)، جامع البيان في تأويل أي القرآن، ضبط وتوثيق وتخریج، صدقي جميل العطار، دار الفكر، (بیروت 1995)، 3 / 359، ابن حجر العسقلاني، فتح الباري في شرح صحيح البخاري، 7 / 110؛ السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 ه)، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، دار المعرفة، بیروت، (د.ت)، 2 / 23

«لا والله ما رزقني الله خيرا منها، آمنت بي حين كذبني الناس، وأعطتني مالها حين حرمني الناس»(1).

3 - ألم يجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً يفضل به عائشة على غيرها سوى الطعام؟ وهل كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عاشقاً للطعام إلى الحد الذي يضرب به المثل؟ ومن قال أن الثريد هو أفضل الأطعمة عند العرب حتى يتباهی به النبي صلى الله عليه وآله وسلم! ومن الأطعمة الأخرى التي ذكرها ابن أبي الحديد (السَّخِينَة)، هي طعام يتخذ من دقيق وسمن وقیل دقیق وتمر أغلظ من الحساء وأرق من العصيدة ، وكانت قريش تكثر من أكلها فعيّرت بها حتى سُمّوا سَخِينَة، وإنما كانوا يأكلون السخينة في شدة الدهر وغلاء السعر وعجف المال(2).

وذكر ابن أبي الحديد أن معاوية والأحنف تمازحا فما رئي مازحان أوقر منهما قال معاوية: يا أبا بحر ما الشيء الملفف في البجاد(3) فقال السخينة، وإنما كنی معاوية عن رمي بني تميم بالنهم وحب الأكل بقول القائل:

تراه يطوف في الآفاق حرصاً *** فسرَّك أن یعیش فجيءْ بزاد

بخبز أو بتمر أو بسمن *** أو الشيء الملفف في البجاد

اذا مامات مَيْتٌ من تميم *** ليأكل رأس لقمان بن عاد

ص: 152


1- الأردبيلي، أبو الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح (ت 693 ه)، کشف الغمة في معرفة الأئمة، ط 2، دار الاضواء، (بیروت 1985)، 1 / 37؛ الحلبي، السيرة الحلبية، 3 / 401؛ البهوتي، منصور بن يونس الحنبلي (ت 1051)، کشف القناع، تحقيق أبي عبد الله محمد حسن محمد حسن اسماعيل الشافعي، دار الكتب العلمية، (بیروت 1997)، 5 / 31
2- ابن منظور، لسان العرب، 4 / 390، (مادة سخينة)؛ الزبيدي، تاج العروس، 18 / 274
3- البجاد کساء جمعه بجد يلف فيه وطب اللبن ليحمي ويدرك، ينظر الجوهري، الصحاح، ص 1015، [لمادة لفف]

فقال الأحنف هو السخينة، لأن قريشا كانت تُعيَّر بأكل السخينة قبل الإسلام لأن أكثر زمانها كان زمان قحط، والسخينة ما يسخن بالنار ويذر عليه دقيق وغلب ذلك على قريش(1).

ومن الأطعمة الأخرى المركبة من الدقيق واللبن والسمن، الحريقة، الصحيرة، العكيسة، الرغيدة، الاصية، اللويقة، الألوقة، الخزيفة، التلبينة، الوشيقة، العثيمة(2).

ومن أنواع الأطعمة الأخرى التي ذكرها ابن أبي الحديد (الكمأة)، وهو نبات (أبيض مثل الشحم ينبت من الأرض يقال له: شحم الأرض)(3) فيخرج كما يخرج الفطر(4) والعرب يرسلون أولادهم قبل الإسلام لجمعه وكان عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة الأبرش يجني الكمأة مع أتراب له فكان أترابه يأكلون ما يجدون وكان عمرو يأتي به خاله ويقول: هذا جناي وخياره فيه(5).

وهناك (الطفيشل) وهو نوع من المرق معروف(6)، وكان الأوس والخزرج يشتهرون بتناوله وذكر ابن أبي الحديد أن معاوية بن أبي سفيان عیَّرَ به الأنصار في أثناء معركة صفين بقوله: (لقد غمّني ما لقيت من الأوس والخزرج واضعي سيوفهم على عواتقهم يدعون إلى النزال حتى لقد جبنوا أصحابي الشجاع منهم والجبان وحتى والله ما أسأل

ص: 153


1- شرح نهج البلاغة، 5 / 14
2- للاطلاع على تفاصيلها، ينظر، الآلوسي، بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، 1 / 383
3- الطريحي، الشيخ فخر الدين (ت 1085 ه)، مجمع البحرین، تحقیق، احمد الحسيني، مکتب ناشر للثقافة الاسلامية، (ایران 1408 ه) 4 / 7
4- ابن منظور، لسان العرب، 7 / 531، (مادة كمأ)
5- ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، 19 / 105
6- الزبيدي ، تاج العروس، 15 / 437

عن فارس من أهل الشام إلا قيل قتله الأنصار أما والله لألقينهم بحدي وحديدي ولأعبيّن لكل فارس منهم فارساً ينشب في حلقه ولأرمينهم بأعدادهم من قريش رجال لم يغذهم التمر والطفيشل يقولون نحن الأنصار قد والله آووا ونصروا ولكن أفسدوا حقهم بباطلهم)(1)، وكان مع معاوية من الأنصار النعمان بن بشیر بن سعد ومسلمة بن مخلد الانصاریان، وذكر ابن أبي الحديد أنَّه لم يكن معه من الانصار غيرهما(2)، فغضب النعمان عند سماعه كلام معاوية وقال: (یا معاوية لا تلومن الأنصار في حب الحرب والسرعة نحوها فإنهم كذلك كانوا في الجاهلية، وأما دعاؤهم إلى النزال فقد رأيتهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعلون ذلك كثيراً، وأما لقاؤك إياهم في أعدادهم من قريش فقد علمت ما لقيت قريش منهم قديماً، فإن أحببت أن ترى فيهم مثل ذلك آنفاً فافعل، وأما التمر والطفيشل فإن التمر كان لنا فلما ذقتموه شاركتمونا فيه وأما الطفيشل فكان لليهود فلما أكلناه غلبناهم عليه كما غلبت قريش على السخينة)(3).

أما الآنية التي كان العرب يستخدمونها في طعامهم فإنها تتفاوت على وفق سعتها للطعام، وقيل أكبرها (الجفنة) وهي تسع السبعة إلى عشرة أنفار، وهي التي ذكرها الشعراء في شعرهم في الغالب كقول أحدهم:

لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى *** وأسيافنا يقطرن من نجدة دما(4)

وذكر ابن أبي الحديد (سمعت أعرابية تقول في دعائها يا عريض الجفنة يا أبا المكارم

ص: 154


1- شرح نهج البلاغة، 8 / 68
2- شرح نهج البلاغة، 8 / 68
3- شرح نهج البلاغة، 8 / 69
4- الآلوسي، بلوغ الأرب، 1 / 387

یا أبيض الوجه فزجرها رجل فقالت دعوني أصف ربي بما يستحقه)(1).

ولعلها هنا أرادت أن تعبّر عن قيمة الله سبحانه وتعالى ومدی خیره على الناس وفضله عليهم فلم تجد - على فطرتها - سوى التعبير بما موجود عندها، ولعل الجفنة كانت هنا تمثل قيمة الوجود لديها - وهو مستوى ما وصل إليه تفكيرها - فكان اتساع تلك الاواني بما فيها من خير يمثل سبب وجود الخالق ومدحاً له.

ومن الأواني الأخرى (الدسيعة) وقيل إنَّها أكبر من الجفنة وقد استخدمها هاشم في هشم الثريد لقريش فرثاه مطرود الخزاعي:

يا عين جودي وأذري الدمع واحتفلي *** وابکي خبيئة نفسي في الملمات

وابكي على كل فياض أخي حسب *** ضخم الدسيعة وهّاب الجزيلات(2) ومن آنياتهم الأخرى (السكرجة)، وهي لا تشبع الرجل، و(الصحفة) وكانت تشبع الرجل، و(المكتلة) وكانت تشبع الرجلين والثلاثة، و(القصعة)، تشبع الاربعة والخمسة(3).

والعرب تعیر بكثرة الأكل وتعيب الجشع والشره والنهم وقد كان فيهم قوم موصوفون بكثرة الأكل، وذكر ابن أبي الحديد أن عمرو بن معد يكرب أكل عنزا وفرقا من ذرة والفرق ثلاثة أصع وقال لامرأته عالجي لنا هذا الكبش حتى أرجع فجعلت توقد تحته وتأخذ عضواً عضواً فتأكله، فاطلعت فإذا ليس في القدر إلا المرق فقامت إلى كبش آخر فذبحته وطبخته ثم أقبل عمرو فثردت له في جفنة العجين وكفأت القدر عليها فمد

ص: 155


1- شرح نهج البلاغة، 6 / 153
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 160
3- الآلوسي، بلوغ الإرب، 1 / 387

يده وقال يا أم ثور دونك الغداء قالت قد أكلت فأكل الكبش كله(1).

أما شرب الخمر فهو من العادات الأخرى التي كانت منتشرة عند العرب قبل الإسلام، والخمر ما أسكر من عصير العنب لأنها خامرت العقل(2)، وعلى الرغم من وجود الكروم في جزيرة العرب، إلاّ أنَّ الخمر كانت تجلب من بلاد الشام على وجه الخصوص - إذ يفضله أغنياء قريش - وذلك لأن صناعة النبيذ تتطلب جهداً وعملاً كثيراً وتمثل تقدماً صناعياً لم يكن يعرفه العرب باستثناء مدينة الطائف، إذ كان العنبُ محصولاً رئيسياً، وعرفت فيها صناعة الخلِّ والخمر(3).

كان شرب الخمرة من العادات السائدة عند العرب وقريش وقد ذكر ابن أبي الحديد مجموعة من الروايات عن تلك العادات في شرحه على النهج، فعن حذيفة بن اليمان قال: (كنَّا نعبد الحجارة ونشرب الخمر وعليّ عليه السَّلام من أبناء أربع عشرة سنة قائم يصلي مع النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلاً ونهاراً وقريش يومئذ تسافه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يذبُّ عنه إلّا عليّ عليه السَّلام)(4).

وذكر ابن أبي الحديد أنَّ النعمان بن المنذر ومعه عدي بن زيد في ظل شجرات مونقات يشرب، فقال عدي أبيت اللعن وأراد أن يعظه أتدري ما تقول هذه الشجرات قال ما تقول؟ قال:

رُبَّ رکب قد أناخوا حولنا *** يشربون الخمر بالماء الزلال

ثم أضحوا عصف الدهر بهم *** وكذاك الدهر يودي بالرجال

ص: 156


1- شرح نهج البلاغة، 18 / 320
2- ابن منظور، لسان العرب، 3 / 160
3- عبد الحميد، سعد زغلول، في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار النهضة العربية، (بیروت 1975)، ص 334
4- شرح نهج البلاغة، 13 / 175

فتنغص النعمان يومه ذلك(1).

من خلال هذه الرواية نرى أن النعمان كان يختار مجالس خاصة لشرب الخمر وينتخب ندماءه وكانت تلك المجالس فترات راحة بعيدة عن الحكم وهي بذلك عادة غير مرفوضة من المجتمع.

كانت الخمرة رفيق الناس حتى عند السفر، فذكر أنّ المغيرة بن شعبة وهو على دين الجاهلية كان مع قوم من بني مالك في تجارة إلى الاسكندرية وكان المقوقس ملك مصر أهداهم جوائز وهو أقصرهم، فأبت نفسه أنْ ينصرفوا إلى الطائف بما أصابوا ويخبروا قومه فيقل شأنه، فعند خروجهم حملوا معهم الخمر فكانوا يشربون في الطريق حتی دب الكأس فيهم فأهمدتهم الخمر حتى ناموا ما يعقلون فوثب عليهم وقتلهم جميعاً وأخذ ما كان معهم(2).

وعلى الرغم من أن هذه الرواية تدل على عادات سيئة كانت منتشرة عند العرب منها القتل على أبسط الأشياء ومن دون مراعاة حقوق القرابة وصداقة الطريق، وهي عادات كانت تنبذها الأخلاق البدوية الصحيحة إلا أنها تبين لنا أنّ الخمر كان الرفيق الدائم أثناء السفر، إذ يمثل جزءاً من شخصية الفرد حتى إنهم كانوا يعطونه الأهمية حتى في أثناء قتالهم، فذكر ابن أبي الحديد أنّ أبا جهل، وقبل معركة بدر قال:

(والله لا نرجع حتى نرد بدرا تسمع بنا العرب ويمسيرنا فنقيم على بدر ثلاثا ننحر الجزر ونطعم الطعام ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان فلن تزال العرب تهابنا أبدا)(3).

وهكذا ربط أبو جهل في هذه الرواية شرب الخمر ونحر الجزر بالغناء لتستكمل

ص: 157


1- شرح نهج البلاغة، 10 / 68
2- شرح نهج البلاغة، 20 / 413
3- شرح نهج البلاغة، 14 / 85

مجالسهم المتعارف عليها حتى عند الحرب والقتال، وكان الخمر عندهم متعة الحياة ومن النادر أن نجد شاعراً في الجاهلية لا يذكر الخمر، فهي عندهم مظهر من مظاهر الفتوة والشباب والقوة وإلى ذلك ذكر ابن أبي الحديد قول طرفة:

فلولا ثلاثٌ هنَّ عِيشة الفَتى *** وجَّدكَ لم أحْفِل متى قامَ عُوَّدي

فمنهنَّ سَبقِي العاذلاتِ بشَربةٍ *** کُمَیْتٍ متی ما تُعْلَ بالماءِ تُزْبَدِ

و کُرِّي إذا نادى المُضَافُ مُحَّنباً *** کَسیدِ الغَضَا الطخيةِ المُتورِّدِ

وتقصير يومِ الدَّجنِ والدجنُ معجبُ *** بِبَهَكنةٍ تحت الخباء المُعمَّدِ(1)

قول سالم بن عونة الضبي:

لا يبعدن عصر الشباب ولا *** لذاته ونباته النضر

والمشرفات من الخدور كإيماض *** الغمام يجوز بالقطر وطراد خیل مثلها التقتا *** لحفيظة ومقاعد الخمر(2).

ومما ورد في كلام العرب وذكره ابن أبي الحديد أنّ لقيط بن زرارة تزوج ابنة قيس بن خالد الشيباني فأحبته فلما قتل عنها تزوجت غيره فكانت تذكر لقيطا فسألها عن حبها له فقالت: (أذكره وقد خرج تارة في يوم دجن وقد تطيب وشرب الخمر طرد بقرا فصرع بعضها ثم جاءني و به نضح دم وعبير فضمني ضمة وشمني شمة فليتني كنت مت ثمة)(3).

ومن هذه الرواية نرى مدى انتشار الخمر وولع الناس بها وتفاخرهم بها، فها هي زوجة لقيط تذكر شربه للخمر وخروجه للصيد ثم تستقبله استقبال الحبيب المتلهف من دون أن يشكل شرب الخمر فاصلاً أو عائقاً أمام عناقهما.

ص: 158


1- شرح نهج البلاغة، 11 / 63؛ للاطلاع على الابيات والمعلقة كاملة ينظر ابن العبد، طرفة، الديوان، ص 35
2- شرح نهج البلاغة، 16 / 45
3- شرح نهج البلاغة، 1 / 141

وعلى الرغم من كل ذلك فإن عقلاء العرب في الجاهلية عرفوا مضار الخمر وإن كثيراً منهم أقلع عن شربه لما تفعله من ذهاب العقل والحلم والوقار، وذكر ابن حبيب عدداً من الشخصيات منهم عبد المطلب بن هاشم وقيس بن عاصم وعبد الله بن جدعان والعباس بن مرداس الذي قيل له لم لا تشرب الخمر فانها تزيد من جرأتكَ فقال: (لا أشرب شراباً أصبح سيد قومي وأمسي سفيههم)(1).

ويبدو أنّ اسم عبد المطلب حشر معهم بطريق الخطأ لأنه لم يشربها قط حتى يتركها.

وكانت العرب تحرم الخمر على نفسها في مدة طلب الثأر حتى تأخذ ثأرها فهذا امرؤ القيس بعد أن أخبر بقتل أبيه من قبل بني أسد حلف أن لا يشرب الخمر حتى يدرك ثأره، ثم تبع بني أسد فأدركهم وقتل فيهم قتلا ذريعاً وأخذ بثأره فقال:

حَلَّتْ لَي الخَمْرُ وكْنتُ امْرَءًا *** عَنْ شُرْبِهَا في شُغُلٍ شاغِل

فاليَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ *** إِثْماً مِنَ اللهِ ولا واغِلِ(2)

وقد حرّم الإسلام شرب الخمر على المسلمين لما لها من تأثير على عقولهم فذكر ذلك في القرآن الكريم في عدة آيات منها قوله تعالی:

«يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا»(3).

ص: 159


1- أبو جعفر محمد بن حبيب بن أمية بن عمرو الهاشمي (ت 245 ه)، المحبر، رواية أبي سعيد الحسن بن الحسين السكري، اعتنت بتصحيحه ایلزه ليختن شتیتر، منشورات المكتب التجاري، (بیروت 1941)، ص 237
2- امرؤ القيس، الديوان، ص 118؛ ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ص 48
3- سورة البقرة: الآية 219

وقوله تعالی:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(1).

وقوله تعالی:

«إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ»(2).

وقد ذكر الإمام علي عليه السلام مجموعة من الفضائل التي منّ اللهُ عز وجل بها على المسلمين محمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من ضمنها ترك الخمر فقال عليه السلام:

«ونهاكم عن التناهب والتظالم والتحاسد والتباغي والتقاذف وعن شرب الخمر و بخس المكيال ونقص الميزان»(3).

سابعاً: العين:

أشار ابن أبي الحديد إلى مجموعة أخرى من العادات والتقاليد التي كانت سائدة في مجتمع قبل الإسلام منها العين، إذ كان يعتقدون أنّ بعض الناس يتحلّون بقدرة عجيبة في عيونهم فإذا نظروا إلى شيء نظرة ممزوجة بالاشتهاء والحسد فعلوا فيه فعلهم ولم يشمل هذا الإنسان فقط بل الحيوان ايضاً، فقال: (كان علماء الفرس والهند وأطباء اليونانيين ودهاة العرب وأهل التجربة من نازلة الأمصار وحذاق المتكلمين يكرهون الأكل بين يدي السباع يخافون عيونها للذي فيها من النهم والشره، ولما ينحل عند ذلك

ص: 160


1- سورة المائدة: الآية 90
2- سورة المائدة: الآية 91
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6 / 75

من أجوافها من البخار الرديء وينفصل من عيونها مما إذا خالط الإنسان نقض بنية قلبه وأفسده، وكانوا يكرهون قيام الخدم بالمذاب والأشربة على رؤوسهم خوفاً من أعينهم وشدة ملاحظتهم إياهم، وكانوا يأمرون بإشباعهم قبل أن يأكلوا، وكانوا يقولون في الكلب والسنَّور(1) إما أن يطرد أو يشغل بما يطرح له)(2).

وذكر ابن أبي الحديد مجموعة من الروايات عن أناس احترفوا هذه الخاصية وكانت لهم قصص هي أشبه بالخيالية منها ما نقله عن الأصمعي انه قال: رأيت رجلا عيونا كان يذكر عن نفسه أنه إذا أعجبه الشيء وجد حرارة تخرج من عينه، وقال أيضا كان عندنا عيونان، فمّر أحدهما بحوض من حجارة فقال الله ما رأيت كاليوم حوضا فانصدع فلقتين، فمّر عليه الثاني فقال وأبيك لقلما ضررت أهلك فيك فتطاير أربع فلق(3).

ومن عادات العرب التي ذكرها ابن أبي الحديد (أنهم كانوا يفقئون عين الفحل من الإبل إذا بلغت ألفا كأنهم يدفعون العين عنها)(4) فإنْ زادَت الإبلُ على الألف فقئوا العينَ الأخرى(5).

وذكر ابن أبي الحديد مجموعة من الأبيات الشعرية التي تتحدث عن تلك العادات منها قول الشاعر:

فقأنا عيونا من فحول بهازر *** وأنتم برعي البهم أولى وأجدر

ص: 161


1- السنَّور: الهِرُّ
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 307
3- شرح نهج البلاغة، 19 / 308
4- شرح نهج البلاغة، 19 / 315
5- الجاحظ، الحيوان ، مج1، 1 / 33

وقال آخر:

وهبتها وكنت ذا امتنان *** تفقأ فيها أعين البعران

وقال الآخر:

أعطيتها ألفا ولم تبخل بها *** ففقأت عين فحيلها معتافا(1)

ص: 162


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 315

المبحث الثالث العقوبات والقوانين عند العرب قبل الإسلام

لم تكن القوانين عند العرب مدونة، بل هي وليدة الظروف وطبيعة الصحراء، فلم يكن هناك قانون مكتوب خاص بها ولم يكن هناك مؤسسات قضائية بل هي عبارة عن تقاليد وأعراف توارثها الخلف عن السلف لتطبيق قانون الثواب والعقاب لحفظ المجتمع وضمان استقراره، (ولم تكن هناك سلطة تنفيذية تقتص للفرد أو تنزل العقاب بالجاني فقد يترك للمجني عليه أن يقتص لنفسه، وقد تعاونه العشيرة في ذلك، الا أنَّ الجرم کان يعتبر دائما حقا خاصا وليس هناك حق عام، فاذا عفى المجني عليه لم يكن على الجاني عقاب)(1)، وكان للعرب حکام ترجع إليها في أمورها، وتتحاكم في منافراتها، ومواريثها، ومياهها، ودمائها، لأنه لم يكن هناك دين يرجع إلى شرائعه، فكانوا يُحكِّمُون أهل الشرف، والصدق، والأمانة، والرئاسة، والسن، والمجد، والتجربة(2).

وذكر ابن أبي الحديد أنَّ أكثم بن صيفي أحد رجال بني أسد بن عمرو بن تمیم کان أكثر أهل الجاهلية حكما ومثلا وموعظة سائرة(3)، استشاره قومه في حرب قوم أرادوهم

ص: 163


1- العلي، صالح احمد، محاضرات في تاريخ العرب ، مؤسسة دار الكتب، (الموصل 1954)، ص 62
2- اليعقوبي، أحمد بن اسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح البغدادي (ت 292)، تاريخ اليعقوبي، علق عليه ووضع حواشيه خليل المنصور، دار الزهراء، (قم 1426 ه)، 1 / 220
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 101

وسألوه أن يوصيهم فقال: (أقلوا الخلاف على أمرائكم واثبتوا، فإن أحزم الفريقين الركين ورُب عَجَلة تهب ريثاً(1))(2)، وكان في قريش حكام منهم: عبد المطلب، وحرب بن أمية، والزبير بن عبد المطلب، وعبد الله بن جدعان، والوليد بن المغيرة المخزومي(3).

وتناول ابن أبي الحديد أهم العقوبات التي كانت معروفة عند العرب قبل الإسلام على شكل روایات متناثرة ولم تكن هناك أسس متسلسلة للموضوع ورتبناها بالشكل الآتي:

أولاً: الخلع:

الخلع: تعني البراءة، والرجل الخَليعُ هو الذي يَجْني الجِنايات يُؤْخذ بها أَولياؤُه فيتبرَّؤُون منه ومن جنايته ويقولون إِنّا خلَعْنا فلاناً فلا نأْخذ أحداً بجناية تُجْنى عليه ولا نؤَاخَذ بجناياته التي يَجْنيها(4).

والخلع أقصى عقوبة يمكن أنْ تلجأ اليها القبيلة للحفاظ على أفرادها وعاداتها ضد من تجاوز الحدود منها لتجنب ما يشين من الاخلاق الذميمة الرافضة لها وهذا دليل على ميل العرب للصفات الجميلة و محاسن الأخلاق ورفض كل ما هو شاذ حتى لو أدَّى ذلك إلى درجة العقوق وعدم المبالاة بما يتعرض له الخليع من آثار نتيجة اعلان خلعه أمام الناس في المحلات العامة وفي المواسم بإشهاد شهود، والخلع يعني رفع كل أنواع المسؤولية عن القبيلة، فاذا ارتكب جناية صار وحده المسؤول عنها فلا يحميه أو يدافع عنه أحد فإذا قتل أو اعتدى عليه فلا أحد يسأل عن أهله أو يأخذ عندئذ بحقه، لسقوط

ص: 164


1- الريث: الابطاء. ينظر ابن منظور، لسان العرب، 4 / 234، (مادة ریث)
2- شرح نهج البلاغة، 15 / 80
3- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 1 / 220
4- ابن منظور، لسان العرب، 3 / 137

العصبية عنه وعندئذ يكون معرضا للقتل في أي لحظة، مطارداً من الناس لفرط جرائره(1)، وقد يستجير الخليع بقبيلة أخرى فتجيره.

وقد ترتب على عقوبة الخلع نتائج سلبية إذ انظمَّ هؤلاء بعضهم إلى بعض وكونوا جماعات جمعتهم وحدة الهدف وغريزة حماية النفس، ومنهم الصعاليك، الذين تحولوا إلى سراق وقطاع طرق، وكانوا يرصدون طرق القوافل التجارية وقوافل الحجاج القاصدة إلى مكة، وعلى الرغم من أن الروايات تذهب إلى تحول الصعلكة في أواخر العصر الجاهلي إلى نظام يشبه نظام الفروسية، فهم يقومون بالسلب والنهب ولكنهم لا يسلبون ولا ينهبون سيدا كريما، وإن كان ذلك لا يمنع من أنَّ فريقا منهم عاش سفَّاحا لا يرعی عهدا ولا ذمة(2).

ومن لطيف شعرهم الذي ذكره ابن أبي الحديد قول أحدهم:

فما وَجْدُ صعلوكٍ بصنعاءَ موثقٌ *** بساقيه من سمرِ القيودِ كبولُ

قليلُ الموالي مسلمٌ بجريرةٍ *** له بعدَ نوماتِ العيونِ غليلُ

يقولُ له البوابُ أنتَ معذبٌ *** غداةَ غدٍ أو رائحٌ فقتيلُ

بأكثرَ من وجدي بكم يومَ راعني *** فراقُ حبيبٍ ما إليه سبيلُ(3)

وقول عروة بن الورد:

لحاالله صعلوكا إذا جنَّ ليلُهُ *** يحتُّ الحصى عن جنبِهِ المتعفرِ(4)

يعدُّ الغني من نفسه كلُّ ليلةٍ *** أصابَ قراها من صدیقٍ میسرِ

ص: 165


1- علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 5 / 590
2- ضیف، تاریخ الادب العربي (العصر الجاهلي)، دار المعارف ، (مصر، 1961)، ص 376
3- شرح نهج البلاغة، 5 / 44
4- شرح نهج البلاغة، 3 / 208؛ تنظر الابيات عند ابن الورد، عروة، الديوان، ص 68

ینامُ عشاءً ثم يصبحُ ناعساً *** مصافي المشاشِ آلفاً کلَّ مجزرِ وقد تعددت أسباب الخلع، فالبراض بن قيس(1) برئت منه كنانة لخلاعته فكان سكيراً فاسقاً(2)، وخلع حجرُ بن الحارث(3) ابنه امرأ القيس لتهتكه ومجونه ومطاردته نساء القبيلة وإدمانه الخمر(4)، وقد سُئِل الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام عن أشعر الشعراء فقال:

«إِنَّ اَلْقَوْمَ لَمْ يَجْرُوا فِي حَلْبَةٍ تُعْرَفُ اَلْغَايَةُ عِنْدَ قَصَبَتِهَا فَإِنْ كَانَ وَلاَ بُدَّ فَالْمَلِكُ اَلضِّلِّیلُ»(5).

وعلّق ابن أبي الحديد فقال: (فأمّا قول أمير المؤمنين عليه السلام الملك الضِّلِّيل فإنما سمي امرؤ القيس ضلِّيلاً لما يعلن به في شعره من الفسق(6)، والضَّلَّيل الكثير الضلال کالشريب والخمير والسكير، والفسيق لكثير الشرب وإدمان الخمر والسكر والفسق)(7).

وقد يكون سببُ الخلع الخوف من الدّية ودفعها والقتل ودفع الشر، كما فعل العاص بن وائل لخلعه عمراً، فيروي ابن أبي الحديد أنّ عمارة بن الوليد بن المغيرة وعمرو بن العاص بن وائل خرجا إلى أرض الحبشة على شركهما وكلاهما كان شاعراً عارماً

ص: 166


1- فاتك جاهلي تبرأ منه قومه ففارقهم وقدم مكة وبسببه حدثت حرب الفجار، للتفصيل في دوره فيها ينظر ص 349 من الرسالة
2- الأصفهاني، الاغاني، مج 3، 22 / 39
3- أحد ملوك كندة لتفاصيل حكمه ووفاته ينظر ص 325 من الرسالة
4- الأصفهاني، الاغاني، مج 3، 9 / 575
5- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 20 / 129، (حكم ومواعظ 464)
6- هناك رأي لطه حسين يقول فيه إن امرأ القيس سمي بالملك الضِّلِّيل لأنه الملك المجهول الذي لا يعرف عنه شيء، ينظر في الادب الجاهلي، ط 10، دار المعارف، (مصر 1969)، ص 211
7- شرح نهج البلاغة، 20 / 142

فاتكاً، وكان عمارة بن الوليد رجلاً جميلاً وسیماً تهواه النساء صاحب محادثة لهن فركبا البحر ومع عمرو بن العاص امرأته حتى إذا صاروا في البحر ليالٍ أصابا من خمر معهما فلما انتشی عمارة قال لامرأة عمرو بن العاص: قبليني، فقال لها عمرو: قبلي ابن عمك، فقبلته، فهويها عمارة وجعل يراودها عن نفسها، فامتنعت منه، ثم إن عمراً جلس على منجاف لسفينة يبول فدفعه عمارة في البحر فلما وقع عمرو سبح حتى أخذ بمنجاف السفينة، فقال له عمارة: أما والله لو علمت أنك سابح ما طرحتك، ولكنني كنت أظن أنك لا تحسن السباحة، فضغن عمرو عليه في نفسه وعلم أنه كان أراد قتله ومضيا على وجهتهما تلك، حتى قدما أرض الحبشة فلما نزلاها کتب عمرو إلى أبيه العاص بن وائل: أن اخلعني وتبرأ من جريرتي إلى بني المغيرة وسائر بني مخزوم، وخشي على أبيه أن يتبع بجريرته، فلما قدم الكتاب على العاص بن وائل مشى إلى رجال بني المغيرة وبني مخزوم فقال: إن هذين الرجلين قد خرجا حيث علمتم وكلاهما فاتك صاحب شر غير مأمونين على أنفسهما ولا أدري ما يكون منهما وإني أبرأ إليكم من عمرو وجريرته فقد خلعته، فقال عند ذلك بنو المغيرة وبنو مخزوم: وأنت تخاف عمرا على عمارة ونحن فقد خلعنا عمارة وتبرأنا إليك من جريرته فحل بين الرجلين، قال: قد فعلت فخلعوهما وبرئ كل قوم من صاحبهم وما يجري منه(1).

ثانياً: جز الناصية:

الناصِية عند العرب مَنْبِتُ الشعر في مقدَّم الرأْس وسمي الشعر ناصية لنباته من ذلك الموضع(2)، وهي من عقوبات العرب قبل الإسلام وكانت العرب إذا أسروا رجلا ثم منوا عليه فأطلقوه، جزوا ناصيته ووضعوها في كنانة (وكانوا يفتخرون بجز نواصي

ص: 167


1- شرح نهج البلاغة، 6 / 239
2- ابن منظور، لسان العرب، 8 / 429، (مادة نصا)

الفرسان) قالت الخنساء(1):

جَزَزْنَا نواصيَ فرسانِهِم *** وكانوا يظنُّون أن لا تجزا(2).

وذكر ابن أبي الحديد أنّ عتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي (أسر بسطام بن قیس وهو فارس ربيعة وشجاعها ومكث عنده في القيد مدة حتى استوفي فداءه وجز ناصيته وخلى سبيله على ألَّا يغزو بني يربوع)(3).

كان العرب يحرصون على جز ناصية أسيرهم الشريف ذلة وتشهيراً به من جهة ولإثبات شجاعتهم وقدرتهم على العفو عند المقدرة من جهة أخرى، فقد تكون عقوبةُ جزَّ الناصيةِ تخفيفاً لعقوبة أكبر منها، فعندما مَدَحَ بجير بن أوس بن حارثة، ابنَ لأم الطائي، وكان أسيرا في يده، بقصيدة اولها:

إذا قيلُ: أيُّ الناسِ خيرُ قبيلة؟ *** وأصبرَ يوماً لا تُواری کواكبه؛

فإنّ بني لأم بن عمرو أرومة *** علَّت فوقَ صعبٍ لا تُنالُ مراتبه!

ص: 168


1- الجنس تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع الأرنبة ولذلك قيل لها الخنساء لأنها كانت على هذه الصفة، أشهر شاعرات العرب، عاشت أكثر عمرها في العهد الجاهلي، وأدركت الإسلام فأسلمت، أكثر شعرها وأجوده رثاؤها لأخويها (صخر ومعاوية) وكانا قد قتلا في الجاهلية، وكان لها أربعة بنين قتلوا بمعركة القادسية (سنة 16 ه) فجعلت تحرضهم على الثبات حتى قتلوا جميعا، ينظر ابن خلکان، وفیات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، 6 / 34؛ الزركلي، الأعلام، 2 / 86
2- الخنساء، تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد الرياحية السلمية (ت 24 ه)، الديوان، تحقیق عباس ابراهيم، دار الفكر، (بیروت 1994)، ص 54؛ القلقشندي، صبح الاعشی، 1 / 408
3- شرح نهج البلاغة، 15 / 100

أطلقه بعد أنْ جزّ ناصيته(1).

وكان زيد الخيل بن مهلهل قد جمع طيئاً وأخلاطاً لهم فغزا بهم بني عامر ومن جاورهم من قبائل العرب من قيس وسار إليهم فاقتتلوا قتالاً شديداً ثم انهزمت بنو عامر وفيهم يومئذ فرسان وشعراء، فملأت طییء أيديهم من غنائمهم وأسر زيد الخيل يومئذ الخطيئة الشاعر فجز ناصيته وأطلقه(2).

وقد يلجأ الاسير إلى تلك العقوبة عوضاً عن الموت، فقد استخدم المهلهل الحيلة والمكر لإنقاذ نفسه بعد أنْ أسر من قبل الحارث بن عباد، - وكان قد قتل ابنه بجيرا -(3)، وهو لا يعرفه، فقال له: دلني على عدي - وكان اسماً للمهلهل - وأنا أخلي عنك. فقال له المهلهل: عليك عهد الله بذلك إن دللتك عليه؟ قال: نعم. قال: فأنا عدي؛ فجز ناصيته وتركه، وقال في ذلك:

لهفَ نفسي على عديّ ولم *** أعرف عديّاً إذ أمكنتني اليدانِ(4).

وقد تكون تلك العقوبة نتيجة المنافرات بين الأشراف، فذكر ابن أبي الحديد أن عبد المطلب راهن أمية بن عبد شمس على فرسين وجعل الخطر ممن سبقت فرسه مائة من الإبل وعشرة أعبد وعشر إماء واستعباد سنة وجز الناصية فسبق فرس عبد المطلب، فأخذ الخطر فقسمه في قريش وأراد جز ناصيته، فقال أو أفتدي منك باستعباد عشر سنين

ص: 169


1- النويري، أحمد بن عبد الوهاب (ت 733 ه)، نهاية الأرب في فنون الأدب، دار الكتب والوثائق القومية، (القاهرة 1423)، 3 / 183
2- الأصفهاني، الاغاني، مج 6، 17 / 455
3- ينظر تفاصيل الحادثة وما قبلها في ص 342 من الرسالة
4- ابن الأثير، عز الدين أبي الحسن علي بن أبي الكرم الشيباني (ت 630)، الكامل في التاريخ، تحقيق مكتب التراث، دار إحياء التراث العربي، (بیروت 2009)، 2 / 346

ففعل فكان أمية بعد في حشم عبد المطلب عشر سنين(1). ويبدو لنا أنَّ هذه الرواية فيها الكثير من الشك وهي تحتاج إلى وقفة وتأمل، فمن غير الممكن لرجل مثل عبد المطلب بکیاسته وهدايته يراهن على سباق فرسين ويستعبد الناس من أجلهما.

ولا تستخدم هذه العقوبة قبل الإسلام مع ملوك العرب، فعندما بعث النعمان بن المنذر ابنه قابوساً لقتال بني يربوع التقوا بيوم طخفة(2) فانهزم قابوس ومن معه، وضرب طارق بن عميرة فرس قابوس فعقره، وأخذه ليج ناصيته، فقال قابوس: إنّ الملوك لا تجزّ نواصيها، فجهّزه وأرسله إلى أبيه(3).

ثالثاً: القسامة:

القَسامَة، وهي مشتقة من اليمين وتُقْسَمُ على الأولياء في الدم(4)، وتفسير القسامات في الدم أن يقتل رجل فلا يشهد على قتل القاتل إياه بينة عادلة كاملة، فيجئ أولياء المقتول فيدعون قبل رجل أنه قتله، ويدلون بلوث من بينة غير كاملة، وذلك أن يوجد المدعى عليه متلطخا بدم القتيل في الحالة التي وجد فيها أو يشهد رجل عدل أو امرأة ثقة أن فلانا قتله أو يوجد القتيل في دار القاتل وقد كان بينهما عداوة ظاهرة قبل ذلك، فإذا قامت دلالة من هذه الدلالات سبق إلى قلب من سمعه أن دعوى الأولياء صحيحة فيستحلف أولياء القتيل خمسين يميناً - ولا يكون فيهم صبي ولا امرأَة ولا مجنون ولا عبد - أن فلانا الذي ادَّعوا قتله انفرد بقتل صاحبهم ما شركه في دمه أحد فإذا حلفوا خمسين يمينا استحقوا دية قتيلهم، فإن أبوا أن يحلفوا مع اللوث الذي أدلوا به، حلف

ص: 170


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 172
2- وهو من أيام العرب المشهورة وكانت لبني يربوع على عساكر النعمان بن المنذر بعدما أراد أن يأخذ منهم الرادفة، وهي بمنزلة الوزارة، فرفضوا، ينظر تفاصيل اليوم عند ابن الاثیر، الکامل في التاريخ، 2 / 424
3- النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب، 15 / 413
4- الجوهري، الصحاح، ص 915، [لمادة قسم]

المدعي عليه وبرئ، وإن نكل المدعى عليه عن اليمين، خُیّر ورثة القتيل بين قتله أو أخذ الدّية من مال المدعى عليه(1).

وقد ذكر ابن أبي الحديد أنّ أبا طالب أول من سن القسامة في الجاهلية في دم عمرو بن علقمة ثم أثبتها السنة في الإسلام(2)، وكان أبو طالب قد أتاه فقال له:

«اخْتَرْ مِنَّا إِحْدَى ثَلاَثٍ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُؤَدِّيَ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، فَإِنَّكَ قَتَلْتَ صَاحِبَنَا، وَإِنْ شِئْتَ حَلَفَ خَمْسُونَ مِنْ قَوْمِكَ أَنَّكَ لَمْ تَقْتُلْهُ، فَإِنْ أَبَيْتَ قَتَلْنَاكَ بِهِ فَأَتَى قَوْمَهُ، فَقَالُوا نَحْلِفُ. فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ كَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْهُمْ قَدْ وَلَدَتْ لَهُ. فَقَالَتْ يَا أَبَا طَالِبٍ أُحِبُّ أَنْ تُجِيزَ ابْنِي هَذَا بِرَجُلٍ مِنَ الْخَمْسِينَ وَلاَ تَصْبُرْ يَمِينَهُ حَيْثُ تُصْبَرُ الأَيْمَانُ. فَفَعَلَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ يَا أَبَا طَالِبٍ، أَرَدْتَ خَمْسِينَ رَجُلاً أَنْ يَحْلِفُوا مَكَانَ مِائَةٍ مِنَ الإِبِلِ، يُصِيبُ كُلَّ رَجُلٍ بَعِيرَانِ، هَذَانِ بَعِيرَانِ فَاقْبَلْهُمَا عَنِّي وَلاَ تَصْبُرْ يَمِيِني حَيْثُ تُصْبِرُ الأَيْمَانُ. فَقَبِلَهُمَا، وَجَاءَ ثَمَانِيةٌ وَأَرْبَعُونَ فَحَلَفُوا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسِ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا حَالَ الْحَوْلُ وَمِنَ الثَّمَانِيَةِ وَأَرْبَعِينَ عَيْنٌ تَطْرِفُ»(3).

من خلال استقرائنا لهذه الرواية يتبين لنا إن العرب قبل الإسلام كانوا يدركون أهمية القسم وتأثيره وإن القسم الباطل يؤدي إلى هلاك صاحبه بدليل أن المرأة الهاشمية طلبت أن يعفى ولدها من القسم وكذلك الرجل الذي دفع حصته من الدية ليتلافی وقوع العقاب إن كانت القصة صحيحة.

وهناك من يرى إنّ أول من حكم بالقسامة لقريش هو الوليد بن المغيرة المخزومي(4)،

ص: 171


1- ابن منظور، لسان العرب، 7، 267، (مادة قسم)؛ الزبيدي، تاج العروس، 17 / 571
2- شرح نهج البلاغة، 15 / 164
3- البخاري، صحيح البخاري، 4 / 237
4- ابن حبیب، المحبر، ص 337

وكان يجلس بذي المجاز فيحكم بين العرب أيام عكاظ وكان رجل من بني عامر بن لؤي رافق رجلاً من بني عبد مناف بن قصي فجرى بينهما كلام في حبل فعلاه بالعصا حتى قتله فكاد دمه يطل فقام دونه أبو طالب بن عبد المطلب وقدمه إلى الوليد فاستحلفه خمسين يميناً أنه ما قتله ففي ذلك يقول أبو طالب:

أمن أجلِ حبلٍ ذي رمامٍ علوته *** بمنسأةٍ قد جاءَ حبلُ وأحبُلُ

هلُمَّ إلى حكمِ ابن صخرةَ إنه *** سيحكمُ فيما بيننا ثم يعدِلُ(1)

هنا نرى أنّ هناك تناقضاً واضحاً في من سنّ القسامة أول مرة، وقد أورد ابن أبي الحديد روايتين مختلفتين في الموضوع نفسه وقد تكون تلك الرؤيا نابعة من منهجية ابن أبي الحديد في إيراد وجهات النظر المختلفة وعدم التقيد بوجهة نظر واحدة ليعطي للقارئ فرصة الاستنتاج والحكم، أو قد تكون هي رواية واحدة وإن من سنّ القسامة وطلبها أبو طالب ولكن من حكم بها فهو الوليد بن المغيرة كونه من حكم في القضية.

والقسامة أثبتتها السنة في الاسلام(2)، فقد قضى بها الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين أناس من الانصار من بني حارثة في قتيل ادعوه على اليهود، فيذكر أنّ عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود أتیا خیبر فتفرقا في النخل فقتل عبد الله بن سهل فجاء عبد الرحمن بن سهل وحويصة ومحيصة إبنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتكلموا في أمر صاحبهم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«أَتَسْتَحِقُّونَ قَتِيلَكُمْ، أو قَالَ صَاحِبَكُمْ، بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ».

قالوا يا رسول الله أمرٌ لم نره. قال صلى الله عليه وآله وسلم:

ص: 172


1- شرح نهج البلاغة، 15 / 233
2- شرح نهج البلاغة، 15 / 164

«فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ فِي أَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ».

قالوا يا رسول الله قومٌ كفار.

فَوَدَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم مِنْ قِبَلِهِ(1).

رابعاً: الدّية:

الأصل في الدِّية أخذها من القاتل إنْ كان قادراً فإن لم يكن قادراً على حملها وضع حملها على ذوي العصبة أي على أقربائه وذوي رحمه حسب رابطة الدم(2).

ويعبر عن الدية بلفظة أخرى هي العقل وسميت عقلاً، لأَن الدِّية كانت عند العرب في الجاهلية إِبلاً، لأَنَّها كانت أَموالَهم فسميت الدِّية عقْلاً لأَن القاتل كان يُكَلَّف أَن يسوق الدِّية إلى فِناء ورثة المقتول فَيَعْقِلُها بالعُقُل ويُسَلِّمها إلى أَوليائه، وأَصل العَقْل مصدر عَقَلْت البعير بالعِقال أَعْقِله عَقْلاً وهو حَبْلٌ تُثْنی به يد البعير إلى ركبته فتُشَدُّ به، والعاقلة هُم العصَبة وهم القرابة من قِبَل الأَب الذين يُعْطُون دية قَتْل الخَطَأ(3).

وتختلف الدّية باختلاف مكانة القاتل أو المقتول، فإذا كان القتيل من سواد الناس ومن القبائل الصغيرة والضعيفة كانت دية المولى فيهم وهو الحليف خمساً من الإبل ودية الصريح عشراً(4)، أما إذا كان القتيل من أشراف القبيلة فتزيد ديته تبعاً لمنزلة القتيل ومكانته ثم سَنّ العرب دية النفس مائة من الإبل.

وذكر ابن أبي الحديد أنّ أول من ستها عبد المطلب فجرت في قريش والعرب سنته(5)،

ص: 173


1- البخاري، صحيح البخاري، 7 / 106
2- علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 5 / 592
3- ابن منظور، لسان العرب، 6 / 247، (مادة عقل)
4- الأصفهاني، الاغاني، مج 1، 3 / 567
5- شرح نهج البلاغة، 15 / 160

وقيل إنّ أول من سنّها أبو سیار العدواني الذي كان يفيض بالناس في المزدلفة(1)، وكان الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد أقرها، إذ قال في خطبته التي ذكر قسماً منها ابن أبي الحديد عند فتح مكة:

«و في قتیل شبه العمد قتیل العصا والسوط الدية مغلظة مائة ناقة منها أربعون في بطونها أولادها، إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها، كلكم لآدم وآدم من تراب»(2).

أما ديِّة الملوك، ففي الجاهلية تسمى دية المشعرة، وذكر ابن أبي الحديد أنَّ (الرجل إذا قتل وهو من أهل بيت المملكة ودي عشر دیات)(3)، واحتمل سیار بن عمرو بن جابر الفَزاري للأسود ديةَ ابنه ألف بعير، وهي دية الملوك، ورَهنه بها قوسَه فوفاه بها(4).

وعلى الرغم من أنَّ دية الملوك كانت كبيرة وثقيلة على صاحبها إلا أن القبائل كانت تدفعها اتقاء شر الحروب، وهناك من رفضها ووجد أنها لا تعادل أبداً حياة القتيل، فعندما قتل كليب أرسل أهله رجالاً منهم إلى بني شيبان، فأتوا مرة بن ذهل بن شیبان وهو بين قومه فقالوا له: (إنكم أتيتم عظيما بقتلكم كلیبا بناقة وقطعتم الرحم، وانتهكتم الحرمة، وإنا نعرض عليك خلالا أربعاً لكم فيها مخرج ولنا فيها مقنع، إما أن تحيي لنا كليباً أو تدفع إلينا قاتله جساساً فنقتله به، أو هماماً فإنه كفؤ له، أو تمكننا من

ص: 174


1- أبو هلال العسكري، الحسن بن عبد الله بن سهل (ت 395 ه)، الأوائل، وضع حواشيه عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العالمية، (بیروت 1997)، ص15؛ علي، جواد، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 5 / 593
2- شرح نهج البلاغة، 17 / 212؛ تنظر الخطبة عند ابن حبان، محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي (ت 354 ه)، الثقات، مؤسسة الكتب الثقافية، (الهند 1393 ه)، 2 / 55
3- شرح نهج البلاغة، 15 / 103
4- ابن عبد ربه، العقد الفريد، 5 / 144

نفسك، فإن فيك وفاء لدمه، فقال لهم: أما إحيائي كليباً فلست قادراً عليه، وأما دفعي جساساً إليكم فإنه غلام طعن طعنة على عجل وركب فرسه فلا أدري أي بلاد قصد، وأما همام فإنه أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة كلهم فرسان قومهم فلن يسلموه بجريرة غيره، وأما أنا فما هو إلا أن تجول الخيل جولة فأكون أول قتيل فما أتعجل الموت، ولكن لكم عندي خصلتان، أما إحداها فهؤلاء أبنائي الباقون، فخذوا أيهم شئتم فاقتلوه بصاحبكم، وأما الأخرى فإني أدفع إليكم ألف ناقة سود الحدق حمر الوبر، فغضب القوم وقالوا: قد أسأت ببذل هؤلاء وتسومنا اللبن من دم كليب؟ ونشبت الحرب بينهم)(1).

وعندما تكون الديات كبيرة ولا تستطيع القبيلة دفعها يذهبون إلى أشراف القبائل يطلبون العون في ذلك، وكان العرب يتفاخرون في قضاء حاجات الناس ودفع دياتهم حتى من دون أن يعرفوهم، فذكر ابن أبي الحديد أن بني كلب بن وبرة افتخرت بينها في أنديتها فقالت نحن لباب العرب وقلبها، ونحن الذين لا ننازع حسبا وکرما، فقال شیخ منهم إن العرب غير مقرة لكم بذلك إن لها أحسابا، وإن منها لبابا، وإن لها فعالا، ولكن ابعثوا مائة منكم في أحسن هيأة وبزة ينفرون من مروا به في العرب ويسألونه عشر دیَّات ولا ينتسبون له، فمن قرأهم وبذل لهم الديات فهو الكريم الذي لا ينازع فضلا، فخرجوا حتى قدموا على أرض بني تميم وأسد، فنفروا الأحياء حياً فحيا وماء فماء لا يجدون أحدا على ما يريدون، حتى مروا على أكثم بن صيفي فسألوه ذلك، فقال: من هؤلاء القتلى ومن أنتم وما قصتكم فإن لكم لشأنا باختلافكم في كلامكم، فعدلوا عنه، ثم مروا بقتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي فسألوه عن ذلك فقال من أنتم قالوا من كلب بن وبرة فقال: إني لأبغي كلبا بدم فإن انسلخ الأشهر الحرم وأنتم بهذه الأرض

ص: 175


1- ابن الاثیر، الکامل في التاريخ، 2 / 342

وأدرككم الخيل نکلت بكم وأثكلتكم أمهاتكم، فخرجوا من عنده مرعوبين فمروا بعطارد بن حاجب بن زرارة فسألوه ذلك، فقال: قولوا بيانا وخذوها، فقالوا أما هذا فقد سألكم قبل أن يعطيكم فتركوه، ومروا ببني مجاشع بن دارم فأتوا على وادٍ قد امتلا إبلا، فيها غالب بن صعصعة يهنأ منها إلا فسألوه القرى والديات فقال: هاكم البزل قبل النزول فابتزوها من البرك وحوزوا دیاتكم ثم انزلوا فتنزلوا، وأخبروه بالحال وقالوا:

أرشدك الله من سيد قوم لقد أرحتنا من طول النصب ولو علمنا لقصدنا إليك(1)، وقد ذكر ابن أبي الحديد أبياتاً للفرزدق يثبت هذه الحادثة يقول فيها:

ألا هلْ عَلمتمْ میتاً قَبلَ غالب *** قرى مائة ضيفاً ولم يتكلمِ

وإذ نحبتْ كلبٌ على الناس أيَّهم *** أحقُ بتاجِ الماجدِ المتكرمِ

فلمْ يجل عن أحسابهم غير غالبٍ *** جری بعناني كل أبلَجَ خضرَمِ(2)

ولم تكن الدية مقتصرة على قتيل القبائل فقط، فقد ذكر ابن أبي الحديد أنّ العرب كانوا إذا طالت علة الواحد منهم وظنوا أنً به مساً من الجن لأنه قتل حية أو قنفذا عملوا جمالاً من طين وجعلوا عليها جوالق وملئوها حنطةً وشعيراً وتمراً وجعلوا تلك الجمال في باب جحر إلى جهة المغرب وقت غروب الشمس وباتوا ليلتهم تلك، فإذا أصبحوا انظروا إلى تلك الجمال الطين فإن رأوا أنها بحالها قالوا لم تقبل الدية فزادوا فيها وإن رأوها قد تساقطت وتبدد ما عليها من الميرة قالوا قد قبلت الدية واستدلوا على شفاء المريض وضربوا بالدف قال بعضهم:

قالوا وقد طالَ عنائي والسقم *** احمل إلى الجن جمالاتٍ وَضم

ص: 176


1- شرح نهج البلاغة، 15 / 98
2- شرح نهج البلاغة، 15 / 98؛ تنظر الابيات عند الفرزدق، همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية (ت 114 ه)، الديوان، شرحه وضبطه وقدم له علي فاعور، دار الكتب العلمية، (بیروت 1987)، ص 529

فقد فعلتُ والسقامُ لم يرم *** فبالذي يملك برئي أعتصِمْ(1).

وكانت العرب تعيب على من يأخذ الدية ويرضى بها وكانت عندهم من أشد العار فيلزم ذوي القتيل بالأخذ بالثأر فإذا عجزوا كانت قبيلته ملزمة بثأره بقتل القاتل أو أقرب الناس إليه وهذا الأمر يؤدي إلى وقوع القتال والحروب، وذكر ابن أبي الحديد أنّ العرب تسمي آخر يوم من شوال فلتة فكل من لم يدرك ثأره فيه فاته لأنهم كانوا إذا دخلوا في الأشهر الحرم لا يطلبون الثأر وذو القعدة الذي يأتي بعده من الأشهر الحرم فسموا ذلك اليوم فلتة لأنهم إذا أدركوا فيه ثأرهم فقد أدركوا ما كان يفوتهم(2).

على الرغم من ذلك فإن بعضهم كان يقبل بالدية لتلافي تبعات الأخذ بالثأر فيلجأ بعضهم إلى التعقية، أو العَقِيقة وهي سهم الاعتذار، وأصل هذا أن يقتل رجل من القبيلة فيُطالَب القاتلُ بدمه فتجتمع جماعة من الرؤساء إلى أولياء القتيل ويعرضون عليهم الدّية ويسألون العفو عن الدم فإن كان وليه قويّاً حميا أبياً أخذ الدّية وإن كان ضعيفاً شاور أهل قبيلته فيقول للطالبين إن بينا وبين خالقنا علامة للأمر والنهي فيقول لهم الآخرون ما علامتكم؟ فيقولون نأخذ سهماً فنركبه على قوس ثم نرمي به نحو السماء فإن رجع إلينا ملطخاً بالدم فقد نهينا عن أخذ الدية ولم يرضوا إلا بالقود وإن رجع نقيّا كما صعد فقد أمرنا بأخذ الدية وصالحوا قال فما رجع هذا السهم قطّ إلا نقيَا ولكن لهم بهذا عذر عند جهّالهم(3).

سادساً: السجن:

السِّجْنُ لغة:

الحَبْسُ وَالسَّجْنُ بالفتح المصدر سَجَنَه يَسْجُنُه سَجْناً أَي حبسه،

ص: 177


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 340
2- شرح نهج البلاغة، 2 / 24
3- ابن منظور، لسان العرب، 6 / 246

والسَّجَّانُ صاحبُ السِّجْنِ(1).

السجن اصطلاحاً: هو المكان الذي جرى إعداده وتهيئته لتنفيذ الأحكام علی الاشخاص المتهمين المراد حبسهم(2).

على الرغم من عدم ورود اشارات واضحة عن وجود السجون عند العرب قبل الإسلام إلا أن هذا لا يمنع من الاعتقاد بوجوده إذ إنَّ ذكرها في القرآن الكريم دليلٌ على إن العرب كانوا على معرفة بهذا المفهوم قبل نزوله في القرآن الكريم منها قوله تعالی:

«فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ»(3).

كذلك وردت إشارات عن وجود السجن عند العرب حوتها اشعارهم وكتبهم في التاريخ والأدب كما سنبين لاحقاً، ولا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا إن العرب في المدن كانوا قد عرفوا نوعاً من المدنية ساعدتهم على إيجاد أماكن لحجز أصحاب التهم والجنايات لحين إنزال العقاب الرادع لسلوكهم المنحرف عن العرف عندهم، فقد كان في اليمن سجون يحبس بها أصحاب الجنايات وهي في قلاع الملوك وفي المباني المحصنة وقد وردت كلمة (خصق) وتعني السجَّان أو الحافظ للسجن في لغة أهل سبأ، وهذا يعني أنهم عرفوا السجن قبل الاسلام(4)، فضلاً عن ذلك فإن عرب قبل الإسلام لم يكونوا بمعزل عن حضارات البلاد المجاورة، وإنَّما كان لهم اتصال وثيق بها وتعاملوا معها تجارياً وثقافياً، والسجون كانت ومعروفة لا سيما عند الفرس الذين كانت لهم سجون متعددة

ص: 178


1- ابن منظور، لسان العرب، 4 / 373، (مادة سجن)
2- الطائي، رائد محمد حامد حسن، أوضاع السجون والسجناء في الدولة العربية الاسلامية، أطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية الآداب، جامعة الموصل، 2009، ص 18
3- سورة يوسف: الآية 42، وردت كلمة السجن في هذه السورة (ست مرات)
4- علي، المفصل، 5 / 588؛ الصمد، واضح، السجون وأثرها في الآداب العربية من العصر الجاهلي حتى نهاية العصر الأموي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، (بیروت 1995) ص16

وكانوا يستخدمون بعضاً منها للحبس مدداً طويلة، فقد حبس کسرى النعمان بن المنذر بساباط حتى هلك(1)، وكانوا يستخدمون السجناء كمقاتلة، فعندما طلب سيف بن ذي يزن(2) مساعدتهم في قتال الحبشة أمدُّوهم بالسجناء وكان عددهم (ثمانمائة رجل)، كان قد حبسهم للقتل، وحملهم في ثماني سفن في كل سفينة مائة رجل(3)، وذكر ابن أبي الحديد أن عدد السجناء (ثلاثة آلاف) مع قائدهم بوهرز الدَّيليمي الذي كان سجيناً معهم وقد استهان ابن ذي يزن من قلة عددهم أول الأمر فقال لأنوشروان: أيها الملك أين تقع ثلاثة آلاف من خمسين ألفا فقال يا أعرابي كثير الحطب يكفيه قليل النار(4).

ويبدو أن هذا الرقم مبالغ فيه، فقد اتفقت أغلب الروايات على أن عددهم (ثمانمائة رجل) وقد يكون ابن أبي الحديد قد قصد الجيش بأكمله سجناء فارس مع ما موجود مع سيف بن ذي يزن من مقاتلين.

أما عرب المناذرة فقد عرفوا السجن وأعدُّوا أماكن خاصة لهذا الغرض وذكر ابن أبي الحديد أنَّ عدي بن زید العبادي كان قد زارته بنية له صغيرة اسمها هند وهو في حبس النعمان ويداه مغلولتان إلى عنقه فأنكرت ذلك وقالت: ما هذا الذي في يدك وعنقك يا أبت وبكت فقال:

ص: 179


1- ابن عبد ربه، العقد الفرید، 5 / 245
2- سيف بن ذي يزن (ت 574 م) من ملوك العرب اليمانيين ودهاتهم، ولد ونشأ بصنعاء، استعان بالفرس في تثبیت ملکه، فمكث في الملك نحو خمس وعشرين سنة، أو دون ذلك، قتله الأحباش، بعد أن جعل قسماً منهم خدماً في قصره وهو آخر من ملك اليمن من قحطان، ينظر ابن قتيبة، محمد بن عبد الله بن مسلم الدينوري (ت 276)، المعارف، دار الكتب العلمية، (بیروت 2011 م)، ص 353؛ خير الدين الزركلي، الأعلام، 3 / 149
3- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 2 / 141
4- شرح نهج البلاغة، 3 / 299

ولقد ساءني زیارةُ ذي قُربی *** حبيبٌ لودنا بنا مشتاقٍ

ساءهُ ما بنا تبين في الأيدي *** وإشناقها إلى الأعناقٍ(1) ويبدو لنا من خلال قراءتنا لهذه الرواية أن عدي بن زيد كان في أحد سجون المناذرة وانهم عرفوا السجن، بل انَّهم استخدموا القيود في اليدين والعنق أثناء الحبس زيادة في إهانة السجين ووجود ظاهرة الضغط والتعذيب ضد السجناء، ولم تكن هناك مدة زمنية أو حكم معين، بل ينتظر شفاعة الملك أو صاحب القرار، ويتجلى هذا لنا من خلال ابيات عدي بن زيد التي بعثها للنعمان من سجنه:

أَبْلِغِ النُّعْمانَ عنِّي مالكاً *** أَنه قد طال حَبْسِي وانْتِظَارِي

لو بَغْيرِ الماءِ حَلْقِي شَرِقٌ *** كُنتُ كالغَصَّانِ بالماء اعْتِصارِي(2).

أما في الحجاز ومكة فقد ذكر جواد علي (لما كان من الصعب بل من غير الممكن للقبائل الحكم بالسجن على المجرمين لعدم توفر السجون عندها لجأت إلى عقوبة الطرد، أي طرد المجرم إلى مكان ما يقرر لمدة معينة بحيث لا يسمح للمجرم بالمجيء إلى منازل القبيلة خلال مدة الطرد)(3).

وعلى الرغم من عدم وجود نص تاريخي يذكر فيه السجن وصفاته والشخصيات التي سجنت في تلك المدة إلَّا أنّ هذا لا يعني عدم معرفة العرب في الحجاز ومكة السجون مع ظهور بعض الاشارات عن وجود السجن والتعذيب في بداية الدعوة الاسلامية، إذ تناقلت الروايات تعذيب أهل مكة للمسلمين الذين آمنوا بالإسلام وطال

ص: 180


1- شرح نهج البلاغة، 1 / 170؛ تنظر الابيات عند ابن زید، عدي العبادي، الديوان، تحقيق و تجمیع محمد جبار المعيبد، دار الجمهورية للنشر، (بغداد 1995 م)، ص 150
2- ابن زید، عدي، الديوان، ص93؛ ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ص 123
3- المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 5 / 587

الحبس والتعذيب الكثير من الشخصيات المعروفة، ومنع قسم منهم من اللحاق بالمهاجرين إلى مكة، فذكر ابن هشام (وتلاحقَ المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق بمكة منهم أحد إلا مفتون أو محبوس)(1)، وقد تكون السجون بسيطة تتلائم مع بساطة أهل البادية، فقد يكون السجن مكاناً بسيطاً في بيوت كبار القبيلة وساداتها أو عن حفرة في الأرض، فلا بد أن يكون هناك مكان لتوقيف الجاني حتى يبت في أمره أو تنفيذ العقوبة المترتبة عليه وإلَّا كيف يظل طليقاً لا سيما إذا كانت جريمة الجاني تستوجب القصاص منه كالقتل أو قطع اليد أو غيرها من العقوبات كما بيّن أحد الباحثين المعاصرين(2).

وعرف العرب عقوبات أخرى مثل عقوبة السارق، فالسارق عندهم هو من جاء مستتراً إلى حرز فأخذ منه ما ليس له، فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس ومستلب ومنتهب ومحترس فإن منع مما في يديه فهو غاصب(3)، وكان العرب يقطعون يدَ السارقِ اليمني، ويصلبون قاطع الطريق، وقد صلب النعمان بن المنذر رجلا من بني عبد مناف بن دارم من تميم كان يقطع الطريق، وقطعت قريش أيدي رجال في الجاهلية مارسوا السرقة منهم وابصة بن خالد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم سرق في الجاهلية فقطعت يده(4)، وذُكِر أنّ عبد المطلب أول من سنّها ومنهم من يقول الوليد بن المغيرة(5).

ص: 181


1- أبو محمد عبد الملك بن هشام المعافري (ت 213 ه)، السيرة النبوية، قدم لها وعلق عليها وضبطها، طه عبد الرؤوف، دار الجيل، (بیروت 1987)، 2 / 104
2- الحصونة، رائد حمود عبد الحسين، نشأة السجون وتطورها في الدولة العربية حتى نهاية التسلط الترکی 334 ه، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة البصرة، كلية التربية، 2002، فص 1 ص 38
3- ابن منظور، لسان العرب، 4 / 48، (مادة سرق)
4- ابن حبیب، المحبر، ص 228
5- علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 5 / 605

المبحث الرابع الحياة الأسرية عند العرب قبل الإسلام

تعد الحياة الأسرية من المواضيع المهمة في حياة العرب قبل الإسلام وأفردوا لها الكثير من الروايات في قصصهم واشعارهم، وقد أبرزوا الجانب الذكوري، إذ تكون السلطة والسيادة فيها للأب، فنظام الأبوية هو النظام الاجتماعي السائد بين القبائل البدوية العريقة، إذ كان يظن أنّ كل شعب منحدر من أب واحد ينسب إليه(1)، وكانت المرأة تحتل فيه مكاناً وضيعاً لضراوة الحياة البدوية وخطرها واعتمادها على الرجال، إلَّا أنّ ذلك لم يمنع أن تكون للمرأة مكانتها في العائلة ودورها في الحياة العامة.

وقد ذكر لنا ابن أبي الحديد صوراً مختلفة لدور المرأة في حياة الأسرة وتأثير العادات والتقاليد الاجتماعية على الكثير من تصرفاتها كما ذكر بعض أنواع الزواج والطلاق السائدة أيضاً، وتطرق إلى بعض العادات المنبوذة كالزنا ووأد البنات وغيرها من المواضيع التي سوف نتناولها على وفق المحاور الآتية:

أولاً: المرأة في مجتمع قبل الاسلام:

إنّ مكانة المرأة في مجتمع قبل الإسلام هي دون مكانة الرجل لأنهم المدافعون عن القبيلة وحماتها، لذا كانت العرب - وكما ذكر ابن أبي الحديد - (تفتخر بكثرة

ص: 182


1- جمعة، محمد محمود، النظم الاجتماعية والسياسية عند قدماء العرب والأمم السامية، مكتبة الثقافة الدينية، مصر 1999، ص 78

الولد، وتمدح الفحل القبيس(1) و تذم العاقر والعقيم، قال عامر بن الطفيل يعني نفسه:

لبئسَ الفتى إن كنتُ أعورَ عاقراً *** جبانا فما عذري لدى كل محضرِ)(2).

وكانت المرأة التي لا تنجب ذكوراً تتعرض للهجر وفرار زوجها منها كما فعل أبو حمزة الضبّي عندما ترك خيمة امرأته، وكان يقيم ويبيت عند جيران له، حين ولدت امرأته بنتا، فمرّ يوما بخبائها وإذا هي ترقصها وتقول:

ما لأبي حمزةَ لا يأتينا

يظلُّ في البيتِ الذي يلينا

غضبانَ ألا نلدُ البنينا

تالله ماذلك في أيدينا

وإنما نأخذُ ما أعطينا

ونحن كالأرض لزارعينا

ننبتُ ماقد زرعوه فينا(3)

أمَّا المرأة نفسها فقد كان ينظر لها نظرة تصغير واحتقار لأنها لا تغني في الحرب شيئاً بل هي عبءٌ على القبيلة، لأنها مقصد الأعداء من أجل السبي، فسبي المرأة عندهم عار لا يسكت عنه، وتورث قبيلتها الذّل، وإذا تزوجت فليس أولادها لهم وإنَّما لسواهم من الناس البعيدين، لذا عندما سُئل حكيم العرب أكثم بن صيفي عن النساء

ص: 183


1- القبيس: الفحل السريع الإلقاح، ينظر الجوهري، الصحاح، ص 886، [مادة قبس]
2- شرح نهج البلاغة، 15 / 184
3- القرطبي، ابو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري (ت 671 ه)، الجامع لاحکام القرآن، دار إحياء التراث العربي، (بیروت 1985)، 16 / 70

قال (إنَّهن يلدن الاعداء ويورثن البعداء)(1)، وقال أحدهم:

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا *** بنوهن أبناء الرجال الأباعد(2)

وليس أدل على بغضهم للمرأة قوله تعالی:

«وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ»(3).

وبعضهم يتخلص من البنات بوأدهنّ كما سنرى لاحقاً، و(كانوا لا يورثون البنات ولا النساء ولا الصبيان شيئا من الميراث، ولا يورثون إلّا من حاز الغنيمة وقاتل على ظهور الخيل، فأول من ورَّث البنات في الجاهلية فأعطى البنت سهماً والابن سهمين ذو المجاسد اليشكري وهو عامر بن جشم بن حبيب)(4).

هذا بالنسبة للمرأة الحرة، أمَّا الأمة فكان بعضهن يُستَغَلن في بيوت الدعارة والملاهي وفي حوانيت الخمارين، كما منهنَّ جوار يخدمْنَ الشریفات، وكنَّ في منزلة دانية وكان العرب اذا استولدوهُنَّ لم ينسبوا إلى أنفسهم أولادهن، إلَّا أذا أظهروا بطولة تشرفهم على نحو ما هو معروف عن عنترة بن شداد، فإنَّ أباه لم يلحقه بنسبه إلَّا بعد أنْ أظهر شجاعة فائقة ردت إليه إعتباره(5).

وعلى الرغم من تلك النظرة التشاؤمية للمرأة قبل الإسلام، فهذا لا يلغي دوراً اما

ص: 184


1- شرح نهج البلاغة، 11 / 24
2- أبو السعد، أحمد، أغاني ترقيص الأطفال عند العرب منذ الجاهلية حتى نهاية العصر الأموي، ط 2، دار العلم للملايين، (بیروت 1982)، ص 91
3- سورة النحل: الآية 58
4- ابن حبيب، المحبر، ص 324
5- ضیف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، ص 72

بارزاً آخر، إذ هناك بعض النساء اشتهرن بالعقل والحكمة والشعر كالملكة الزَّباء(1)، التي حیکت حولها القصص والروايات وهي صاحبة القصة المشهورة مع جذيمة في المثل العربي (لو كان يطاع لقصير أمر)(2) (3)، وخديجة بنت خویلد زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت (ذات شرف ومال کثیر وتجارة تبعث إلى الشام فيكون عِيرها كعامة عِير قريش، وكانت تستأجر الرجال وتدفع المال مضاربة)(4).

وعندما جاء الإسلام أكرم المرأة - حرة كانت أم أمَة - فدعا إلى العناية بهنَّ والعطف عليهنَّ ومنح المرأة حق العلم والعمل فجاء قوله تعالى: «وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا»(5).

ووصف الإمام علي بن أبي طالب عليه السَّلام المرأة فقال:

ص: 185


1- الزّباء بنت عمرو بن الظرب بن حسان ابن أذينة بن السميدع (ت 285 م)، الملكة المشهورة في العصر الجاهلي، صاحبة تدمر وملكة الشام والجزيرة، ملکت بعد مقتل زوجها وقيل أباها على يد جذيمة الأبرش الذي قتلته ثأراً له في حادثة مشهورة ثم قتلت نفسها بالسم بعد أن دخل عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة قصرها وهمَّ بقتلها وهناك من يقول إنَّهما اثنتان، الأولى اسمها نائلة ولقبها الزّباء، وهي صاحبة القصة مع جذيمة الأبرش، وقتلت نفسها بالسم، والثانية زينب المسماة عند الرومان (زنوبيا) وهي التي تولت الحكم بعد مقتل زوجها (أذينة) وماتت في سجن أورليان الروماني. ينظر، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 1 / 178؛ البغدادي، خزانة الأدب، 7 / 272؛ الزركلي، الأعلام، 3 / 41
2- ينظر المثل والقصة في رسالتنا ص 231
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 163
4- ابن سعد، محمد بن سعد بن منيع الزهري (230 ه) الطبقات الکبری، تحقیق علي محمد عمر، مكتبة الخانجي، (القاهرة 2001)، 10 / 17
5- سورة النساء: الآية 32

«إِنَّ اَلْمَرْأَةَ رَيْحَانَةٌ وَلَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ»(1).

وكان كثيراً ما يتعرض إلى أحوال المرأة في الجاهلية والطرق التي تعامل بها ومن ذلك قوله عليه السلام:

«كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالهراوة أو الحديد فيعير بها عقبه من بعده»(2).

وقد أورد لنا ابن أبي الحديد في كتابه بعض العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية الخاصة بالنساء، و كانت جزءً من تراث وحياة العرب قبل الإسلام منها:

إن المرأة المقلات - وهي التي لا يعيش لها ولد - إذا وطئت القتيل الشريف عاش ولدها، وقيل تتخطاه المقلات سبع مرات فذلك وطؤها له، وقيل إنما كانوا يفعلون ذلك بالشريف يقتل غدرا أو قودا(3). قال بشر بن أبي خازم(4):

تظل مقالیتُ النساءِ تطأنَهُ *** يقُلْنَ ألّا يلقى على المرءِ مئزَرُ

وقال الآخر:

تركنا الشعثمينِ برملٍ خبتِ *** تزورهُما مقالیتُ النساء(5).

وذكر ابن أبي الحديد أنَّ المرأة منهم كانت إذا عسر عليها خاطب النكاح نشرت جانباً

ص: 186


1- شرح نهج البلاغة، 20 / 257
2- شرح نهج البلاغة، 16 / 79
3- شرح نهج البلاغة، 19 / 323
4- ابن خازم، بشر بن عمرو بن عوف الاسدي (ت 598 م)، الديوان، تحقیق ومراجعة صلاح الدين الهواري، وياسين الايوبي، دار ومكتبة الهلال، (بیروت 1997)، ص 117
5- شرح نهج البلاغة، 19 / 323

من شعرها وكحلت إحدى عينيها مخالفة للشعر المنشور وحجلت على إحدى رجليها ويكون ذلك ليلا وتقول (يا لكاح، أبغي النكاح، قبل الصباح) فيسهل أمرها وتتزوج عن قرب، قال أحدهم وقد رأى امرأة تفعل ذلك:

تصنعي ما شئتِ أن تصنعي *** وكحِّلي عينيكِ أولا فَدَعي

ثم احجلي في البيت أو في المجمعِ *** ما لكِ في بعلٍ أرى من مطمع(1).

ومن أفعالهم التي ذكرها ابن أبي الحديد (أنهم كانوا يزعمون أن الرجل إذا أحب امرأة وأحبته فشق برقعها وشقت رداءه صلح حبهما ودام فإن لم يفعلا ذلك فسد حبهما)(2).

يبدو أن هذه التخيلات كانت عند عامة الناس والبسطاء منهم، وقد تنبه بعضهم إلى عدم فاعليتها ورفضها لأنَّها عبارة عن أوهام لا نفع منها. فقال سحيم عبد بني الحسحاس:

فكم قد شقَقْنا منْ رداءِ منيرٍ *** ومن برقعٍ عن طفلةٍ غير عابسِ

إذا شقَّ بردٌ شق بالبردِ برقعٌ *** دواليكَ حتى كلنا غير لابسِ(3)

وقال آخر:

ص: 187


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 332
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 326
3- عبد بني الحسحاس، السحيم، الديوان، تحقيق عبد العزيز الميمني، ط 3، دار الكتب والوثائق القومية، مرکز تحقيق التراث، (القاهرة 2009)، ص 16، والبيتان مذکوران ضمن أربعة أبيات فقط في الديوان وأضاف إليهما ابن أبي الحديد بيتاً آخر غير موجود في الديوان وهو: *نروم بهذا الفعل بقيا على الهوى وإلف الهوى يغري بهذي الوساوسِ، ينظر شرح نهج البلاغة 19 / 326

شققتُ ردائي يومَ برقةِ عالجٍ *** وأمكنني من شقِ برقعكِ السحقا

فما بالُ هذا الودِّ يفسُد بيننا *** ويمحقُ حبلَ الوصلِ ما بيننا محقا(1).

وذكر ابن أبي الحديد أن النساء كُنَّ إذا غاب عنهن من يحبنه أخذن ترابا من موضع رجله، كانت العرب تزعم أن ذلك أسرع لرجوعه، قالت امرأة:

أخذتُ ترابا من مواطئِ رجلِهِ *** غداةَ غدا كيما يئوبَ مسلِّماً(2)

ومن عاداتهم التي ذكرها ابن أبي الحديد أن الرجل منهم إذا عشق ولم يسل وأفرط عليه العشق حمله رجل على ظهره كما يحمل الصبي وقام آخر فأحمي حديدة أو ميلا وكوی به بين أليتيه فيذهب عشقه فيما يزعمون، قال أعرابي:

کويتُم بين رانفتي جهلا *** ونارُ القلبِ يضرمُها الغرامُ

وقال آخر:

شكوتُ إلى رفيقيَّ اشتياقي *** فجاءاني وقد جَمعا دواءُ

وجاءا بالطبيبِ ليكوياني *** ولا أبغي عدمتهُما اكتواءُ

ولو أتيا بسلمى حين جاءا *** لعاضاني من السقم الشفاءُ(3)

وذكر ابن أبي الحديد أن الخالع استشهد لهذا المعنى بقول كثيرة:

ص: 188


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 327
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 333
3- شرح نهج البلاغة، 19 / 326

أغاضر لو شهدَت غداةَ بِنْتُم *** حنوءَ العائداتِ على وسادي

أويت لعاشقٍ لم تشکمینه *** بواقدةٍ تلذَّعُ بالزنادِ(1).

وعلى الرغم من أنّ ابن أبي الحديد درج أبياتاً كثيرة من الشعر كشاهد على اعتقاد العرب في الرجل الذي عشق ولم يسل ولكنه عاد وانتقد الخالع بإيراده هذا البيت ضمن هذا الباب بقوله (هذا البيت ليس بصريح في هذا الباب ويحتمل أن يكون مراده فيه المعنى المشهور المطروق بين الشعراء من ذکر حرارة الوجد ولذعه وتشبيهه بالنار إلا أنه قد روی في كتابه خبراً يؤكد المقصد الذي عزاه وادّعاه وهو عن محمد بن سليمان بن فليح عن أبيه عن جده، قال كنت عند عبد الله بن جعفر فدخل عليه كثير وعليه أثر علة فقال عبد الله: ما هذا بك؟ قال: هذا ما فعلت بي أم الحويرث ثم كشف عن ثوبه وهو مكوي وأنشد:

عفا الله عن أم الحويرث ذنبها *** علام تعنيني وتکمي دوائیا

ولو أذنوني قبل أن يرقموا بها *** لقلت لهم أم الحويرث دائيا)(2)

وهذه الرواية الأخيرة التي ذكرها الخالع وابن أبي الحديد لهي دليل على أن هذه العادة لم يذهب بها الإسلام ما زالت تمارس وها هو كثير يكوي نفسه لما فعلت به أم الحويرث.

ص: 189


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 326؛ تنظر الابيات كاملة عند كثير، عبد الرحمن المعروف كثير عزة (ت 105 ه) الديوان، قدم له وشرحه مجيد طراد، دار الكتاب العربي، (بیروت 2004)، ص 60
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 326؛ تنظر الابيات كاملة عند كثير، الديوان ص 238

ومن عاداتهم الأخرى أن صاحب الفرس المهقوع إذا ركبه فعرق تحته اغتلمت(1) امرأته وطمحت إلى غيره، وقد عرف ابن أبي الحديد الهقعة فقال إنَّها دائرة تكون بالفرس وربما كانت على الكتف في الأكثر وهي مستقبحة عندهم، قال بعضهم لصاحبه:

إذا عرقَ المهقوعُ بالمرءِ أنعظَتْ *** حليلَتُه وازداد حرُّ عجانِها(2)

ولكثرة سفر الرجل وابتعاده عن الديار عدة أيام لغرض التجارة أو الحرب كان لا يأمن من خيانة زوجته له أثناء غيابه، لذلك ذكر ابن أبي الحديد أنّ الرجل منهم إذا سافر عمد إلى خيط فعقده في غصن شجرة أو في ساقها، فإذا عاد نظر إلى ذلك الخيط فإن وجده بحاله علم أن زوجته لم تخنه، وإن لم يجده أو وجده محلولا قال قد خانتني وذلك العقد يسمى (الرتم)(3)، ويقال بل كانوا يعقدون طرفاً من غصن الشجرة بطرف غصن آخر وقال الراجز:

هل ينفَعَنَّكَ اليوم إن همَّت بِهِم *** كثرةُ ما توصي وتعقادُ الرُّتُم(4)

وأغلب الظن أنّ هذا الفعل لا يمارسه سوى الجهلة منهم الذين يؤمنون بالخرافات والتخيلات في حين رفضه آخرون وعلَّقوا عليه، وفي أبيات الشعراء وسخريتهم التي ذكرها ابن أبي الحديد دليل على مخالفتهم له فقال أحدهم:

ص: 190


1- اغتلمت: رغبت بالنكاح. ينظر ابن منظور، لسان العرب، 6 / 464، (مادة غلم)
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 328
3- الرتيمة، خيط يشد في الاصبع يستخدمه الإنسان ليستذكر به الحاجات، ينظر، ابن منظور، لسان العرب، 4 / 46، (مادة رتم)
4- شرح نهج البلاغة، 19 / 322

خانَتْهُ لما رأتْ شيباً بمفرقِهِ *** وغرَّهُ حلفُها والعقدُ للرتُمِ

وقال آخر:

لا تحسبنَّ رتائماً عقدتها *** تُنبيك عنها باليقينِ الصادقِ

وقال آخر:

يعلِّلُ عمرو بالرتائِمِ قلبَهُ *** وفي الحيِّ ظبيٌّ قد أحلَّت محارِمُه

فما نفعتْ تلكَ الوصايا ولا جَنَتْ *** عليه سوى ما لا يُحِبُّ رتائِمُه

وقال آخر:

ما ذا الذي تنفعكَ الرتائم

إذْ أصبحتْ وعِشقُها مُلازم

وهي على لذَّاتها تداوم

یزورها طبُّ الفؤادِ عارم

بكل أدواء النساء عالم(1).

وذكر ابن أبي الحديد أنّ العرب كانوا يستخدمون الرتم لأمور أخرى كالمصاب بالحمى ويرون أنّ من حلها انتقلت الحمى إليه، قال الشاعر:

ص: 191


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 322

حلَلْتُ رتيمةً فمكثت شهراً *** أكابدُ كلَّ مكروهِ الدواء(1).

ومن غريب فعالهم التي ذكرها ابن أبي الحديد أنهم إذا كانوا في الحرب قد أخرجوا النساء فيبلن بين الصفين ويرون أنّ ذلك يطفئ نار الحرب ويقودهم إلى السلم، قال بعضهم:

لقونا بأبوالِ النساءِ جهالةً *** ونحنُ نلاقيهم ببيضٍ قواضبِ

وقال الآخر:

هيهاتُ ردُّ الخيلِ بالأبوالِ *** إذا غَدَتْ في صورِ السَّعالي(2)

وقد استهجن بعضهم هذه العادة في الحرب ونسبها إلى الضعف والوهن والذعر والخوف من مواجهة العدو، وذكر ابن أبي الحديد قول أحدهم:

بالت نساءُ بني خراشة خيفةً *** منا وأدبرتِ الرجالُ شلالا

وقال آخر:

بالت نساؤُهم والبيضُ قد أَخَذتْ *** منهم مآخذُ يُستشفي بها الكلب(3).

ثانياً: النكاح:

ص: 192


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 322
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 342
3- شرح نهج البلاغة، 19 / 342

من أهم الملامح المميزة لعرب قبل الإسلام هو قوة القبيلة وتماسكها فهي تعيش معا وتدافع معا عن مصالحها، وقوة القبيلة تكمن في اتحاد أفرادها واعتقادهم بأنهم دم واحد تربطهم الأسرة الواحدة وأواصر النسب، تلك الأسرة التي تُعّد (الوحدة الاساسية في نظام البدو الاجتماعي)(1) للعرب قبل الإسلام، فالأبناء حين يتزوجون يبقون مع الأسرة، الأمر الذي يؤدي إلى اتساعها واتساع أواصر القوى بينها، فالزواج هو واحد من تلك الأسس الرئيسة المعتمدة في بناء الأسرة ثم القبيلة، لذلك كانت للعرب معاییر وأسس في اختيار الزوجة، ففي وصية عمرو بن كلثوم التغلبي لبنيه التي ذكرها ابن أبي الحديد، قال: (زوجوا بنات العم بني العم فإن تعديتم بهن إلى الغرباء فلا تألوا بهن عن الأكفاء)(2)، وقد ذكر ابن أبي الحديد عدداً من أنواع النكاح التي كانت معروفة قبل الإسلام منها:

1. نكاح البعولة:

وهو النكاح السائد في مجتمع قبل الإسلام الذي يتماشى مع العادات والتقاليد الموروثة، وهو يعقد بالتراضي بين الطرفين وبصداق معلوم يحدد مقداره، فذكر ابن أبي الحديد أنَّ أبا طالب عندما أراد تزويج الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم من السيدة خديجة قبل البعثة خطب خطبة النكاح وقال: (الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وجعل لنا بلداً حراماً وبيتاً محجوجاً وجعلنا الحكام على الناس ثم إنّ محمد بن عبد الله أخي من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح عليه برا وفضلا وحزما وعقلا ورأيا ونبلا وإن كان في المال قل فإنما المال ظل زائل وعارية مسترجعة وله في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك وما أحببتم من الصداق فعلي وله والله

ص: 193


1- مهران، محمد بيومي، مركز المرأة في الحضارة العربية القديمة، مجلة كلية العلوم الاجتماعية، العدد الاول، الرياض، 1977، ص 132
2- شرح نهج البلاغة، 17 / 94

بعد نبأ شائع وخطب جليل)(1).

وكان أهلُ الزوجة يوصونها قبل الزواج بإطاعة زوجها والتقيد برغبات الزوج، فذكر ابن أبي الحديد أنّ امرأة من نساء العرب أوصت ابنتها ليلة زواجها فقالت لها: (إنك قد خلفت العش الذي فيه درجت والوكر الذي منه خرجت إلى منزل لم تعرفيه وقرين لم تألفيه فكوني له أمة يكن لك عبداً)(2)، وأوصت امرأة اخرى ابنتها فقالت (كوني له فراشاً یکن لك معاشاً، وكوني له وطاء يكن لك غطاء، وإياك والاكتئاب إذا كان فرحاً والفرح إذا كان كئيباً، ولا يطلعنَّ منك على قبيح ولا يشمنَّ منك إلا طيب ريح)(3).

ومن هنا نرى أنَّ العرب كانوا يوصون بناتهم بالتقيد ببيت الزوجية وإطاعة المرأة للرجل، وما إن يختار الرجل المرأة زوجاً له صار هو بعلاً لها وهي بعله أو بعلته، ومعناها أنّ المرأة هي في ملك الزوج(4).

2. نكاح المقت:

وهو من أنواع النكاح غير الشائع عند العرب وذكر ابن أبي الحديد أنّ (الرجل إذا مات، قام أكبر ولده فالقى ثوبه على امرأة أبيه فورث نکاحها فإن لم يكن له حاجة فيها، تزوجها بعض إخوته بمهر جديد)(5)، وكانت الوراثة في أهل يثرب أنَّ الرجل يموت فيرث ابنه امرأة أبيه، لا تستطيع أن تمتنع، فإن أحبّ أن يتخذها اتخذها كما كان أبوه يتخذها، وإن کره فارقها، وإن كان صغيراً حبست عليه حتى يكبر، فإن شاء أصابها،

ص: 194


1- شرح نهج البلاغة، 14 / 56
2- شرح نهج البلاغة، 18 / 267
3- شرح نهج البلاغة، 18 / 267
4- ابن منظور، لسان العرب، 1 / 351، (مادة بعل)
5- ابن حبيب، المحبر، ص 325

وإن شاء فارقها(1).

وقد يكون هذا النكاحُ سببه الميراث والأموال، فهم يحافظون على ثروة الأسرة حتى لا تذهب إلى رجل غريب عنها، أو يعود لفهمهم إن المرأة ملك الرجل فكان للابن أن يَرِثها كما يَرِث أموال أبيه وممتلكاته بعد وفاته.

وتدل تسميته بنكاح المقت على عدم انتشاره لأنه كان ممقوتاً من الاغلبية، فهو أشنع ما كانوا يفعلون، فكان يقال للذي يخلف على امرأة ابيه (الضيزن)، قال أوس ابن حجر:

والفارسيّةُ فيكُم غيرُ منكرةٍ *** فكلكم لأبيهِ ضيزنٌ سلفُ(2)

ومن خلال قراءتنا لهذا البيت من الشعر يبدو لنا أنَّ هذا الزواج من أنواع الزواج الدخيلة على العرب، فهو من أصل فارسي وقد دخل الجزيرة العربية إما عن طريق العلاقات التجارية التي كانت تربطهم مع بلاد فارس، أو عن طريق القبائل المحاذية لهم.

وذكر ابن أبي الحديد أن ناجية بنت جرم خلف عليها الحارث بعد أبيه سامة بن لؤي بنکاح مقت(3)، وصنع أمية في الجاهلية شيئا لم يصنعه أحد من العرب إذ زوج ابنه أبا عمرو امرأته في حياته منه فأولدها أبا معیط بن أبي عمرو بن أمية والمقيتون هم الذين نکحوا نساء آبائهم بعد موتهم، فإما أن يتزوجها في حياة الأب وهو يراه فإنه شيء لم

ص: 195


1- الطبري، محمد بن جریر، جامع البيان، 4 / 406
2- ابن حبیب، المحبر، ص 325
3- شرح نهج البلاغة، 3 / 95

یکن قط(1).

وعندما جاء الإسلام رفض العادات والتقاليد السيئة ومنها زواج المقت، (فقد كان محصن بن أبي قيس بن الأسلت ألقي ثوبه على امرأة أبيه كبیشة بنت معن، من بني خطمة، فورث نکاحها. ثم تركها لا يدخل بها ولا ينفق عليها، فأتت رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم فأخبرته، فقالت:

تركني لا ينفق عليّ ولا يخليّ سبيلي فألحق بأهلي، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«ارجعي إلى بيتك فإن يحدث الله في شأنك شيئاً أعلمتك».

فأنزل الله جل وعز:

«وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا»(2).

فأمره صلى الله عليه وآله وسلم فخلّى سبيلها)(3).

ويبدو أن نكاح المقت استمر حتى بعد ظهور الإسلام، ثم إن التحريم جاء متأخراً، إذ إن ممارسته كانت على مستوى ضيق لذا تأخر تحريمه لحين وقوع الحادثة.

3. نكاح الرهط:

وهذا النوع من النكاح كان موجوداً عند العرب قبل الإسلام وبموجبه (يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومرّ ليالٍ بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجلٌ منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها فتقول

ص: 196


1- شرح نهج البلاغة، 15 / 156
2- سورة النساء : الآية 22
3- ابن حبيب، المحبر، 226

لهم قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت وهو ابنك يا فلان فتسمي من أحبت منهم باسمه فيلحق به ولدها)(1).

وذكر ابن أبي الحديد أنّ النابغة أم عمرو بن العاص کانت أمة لرجل من عنزة فسبيت فاشتراها عبد الله بن جدعان التيمي بمكة ثم أعتقها فوقع عليها أبو لهب بن عبد المطلب وأمية بن خلف الجمحي وهشام بن المغيرة المخزومي وأبو سفيان بن حرب والعاص بن وائل السهمي في طهر واحد، فولدت عمرا فادّعاه كلهم فحكمت أمُّه فيه فقالت هو من العاص بن وائل وذلك لأن العاص بن وائل كان ينفق عليها كثيراً(2).

ويلاحظ في هذا النوع من النكاح أن القرابة بين الرجال لم تكن تشترط وأن المرأة تختار الرجل الغني حتى يتولى رعايتها ومولودها والانفاق عليها.

4. نكاح السبي (الأسر):

كان النكاح بالأسر من أنواع الزواج المشهور عند العرب وذلك بسبب تاريخهم الحافل بالغزوات والحروب، فقد كان السبي قديماً أحد الأغراض، وكانوا يطلقون على المرأة المأخوذة في السبي اسم (النزيعة) وهي التي انتزعت من أهلها وفصلت عنهم، والنزيع ولد الأسيرة وقد بلغ من كثرة السبي في الحروب أن قامت سوق منظمة في مكة البيع السبي بيع العبيد(3).

ويسمى هذا النوع من النكاح بنكاح الضعينة لأن الرجل إذا سبي المرأة فله أن يتزوجها إن شاء وليس لها أن تأبى عليه ذلك لأنها في سبائه، وعليه يكون النكاح من

ص: 197


1- أبي داود، سلیمان بن الاشعث السجستاني (275 ه)، سنن أبي داود، تحقيق سعيد محمد اللحام، دار الفكر (بيروت 1990)، 1 / 507
2- شرح نهج البلاغة، 6 / 222
3- جمعة، النظم الاجتماعية والسياسية، ص 33

دون خطبة أو مهر(1)، وكان العرب يفتخرون بسبي النساء ويتعاملون معهن بفروسية ويذكرون بأشعارهم ذلك الزواج وفي ذلك يقول حاتم:

وما أنكحونا طائعينَ بناتِهِم *** ولكن خطبناها بأسيافِنا قَسْراً

فما زادَها فينا السباءُ مذلةً *** ولا كلَّفَتْ خبزاً ولا طبخَتْ قِدراً

ولكن خَلَطْناها بخيرٍ نسائِنا *** فجاءت بِهِم بيِضاً وجوهُهُم زُهراً(2)

وعندما سبى النعمان نساء بني تميم واستعطفوه أن يرد عليهم السبي كل امرأة اختارت أباها إلَّا ابنة قيس بن عاصم فإنها اختارت من سباها وفضلت البقاء معه(3).

وعندما جاء الإسلام نظر للمرأة السبية نظرة خاصة وعاملها معاملة حسنة فتزوّج الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم جُويرية بنت الحارث، وكانت من سَبي بني المُصطلق، واصطفی صفية بنت حيي بن أخطب النضرية وكانت تحت رجل من يهود خیبر قُتل فأعتقها وتزوجها(4)، ولمَّا شكت إليه أن أزواجه يعيّرنها باليهودية، قال لها:

«أما إنك لو شئتِ لقلت فصدقَتْ وصدقتِ: أبي إسحاق، وجدي إبراهيم، وعمي إسماعيل، وأخي يوسف»(5).

ويضرب لنا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثلاً خلقياً في معنى العدالة بين النساء سواء كانت حرة أم أمة أم سبية فكلهن لجد واحد هو ابراهيم عليه السلام، وكل واحدة منهن هي أم المؤمنين كما جاء في القرآن الكريم:

ص: 198


1- مهران، مركز المرأة في الحضارة العربية القديمة، ص 154
2- الطائي، حاتم، الديوان، ص 133؛ ابن عبد ربه ، العقد الفريد، 6 / 137
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 13 / 132
4- ابن عبد ربه، العقد الفرید، 4 / 237
5- ابن عبد ربه، العقد الفرید، 6 / 133

«النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ»(1).

5. نكاح البغاة:

في هذا النوع من النكاح (يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهنّ البغايا كنّ ينصبن على أبوابهنّ رایات یکنّ علماً لمن أرادهنّ دخل عليهنّ فإذا حملت فوضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه(2)ودعى ابنه لا يمتنع من ذلك)(3)، وكان ابن جدعان يبيع الرقيق ويأمر جواريه أن يمكنّ رجال قريش من أنفسهنّ ليكثر رقيقه فيبيعه، فكانت رجالات قريش يقعن عليهن فیلدن، فاذا سُئلِت الجارية من ابو ولدك قالت فلان؟ فيبيعه إلى أبيه(4).

وذكر ابن أبي الحديد أن أبا مريم السلولي كان خمّاراً في الجاهلية فقال: قدم علينا أبو سفيان بالطائف فأتاني فاشتريت له لحما وخمرا وطعاما فلما أكل قال: يا أبا مریم أصب لي بغيا، فخرجت فأتيت بسمية، فقلت لها: إن أبا سفيان ممن قد عرفت شرفه وجوده وقد أمرني أن أصيب له بغيا فهل لك، فقالت نعم يجيء الآن عبيد بغنمه وكان راعياً فإذا تعشى ووضع رأسه أتيته، فرجعت إلى أبي سفيان فأعلمته، فلم نلبث أن جاءت تجر ذيلها فدخلت معه فلم تزل عنده حتى أصبحت(5)، وكان نتيجة هذا النكاح ولادة زياد بن أبيه.

وعلى الرغم من أن الإسلام هدم نکاح أهل الجاهلية كله إلا نکاح أهل الإسلام

ص: 199


1- سورة الاحزاب: الاية 6
2- فالتاطَ به: أَي التَصَق به، ينظر، ابن منظور، لسان العرب، 8 / 116، (مادة لوط)
3- ابو داود، سنن أبي داود، 1 / 507
4- ابن الكلبي، أبو منذر هشام بن محمد بن السائب (ت 204 ه)، مثالب العرب والعجم، تحقيق محمد حسن الدجيلي، دار الاندلس، (بیروت 2009)، ص 94
5- شرح نهج البلاغة، 16 / 144

اليوم، وحديث الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم:

«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره».

أراد النهي عن نكاح الحبائل لأنه إذا وطئها فقد سقى ماءه زرع غيره(1)، إلا أن معاوية بن أبي سفيان ألحَقَ زیاد ابن أبيه بأبي سفيان وزعم أنه ابنه بنكاح الجاهلية من نطفة أقرها في رحم أمه سمية(2).

وهناك مجموعة من أنواع النكاح الاخرى لم يتطرق ابن أبي الحديد لها في كتابه وهي متعارف عليها في مجتمع العرب قبل الاسلام(3).

ثالثاً: الطلاق:

الطلاق لغة تعني: التخلية والارسال، والطلاق اصطلاحاً: حل عقدة النكاح التي تربط الرجل والمرأة(4)، وكان الطلاق مباحاً عند العرب ويعني عقدهم تنازل الرجل عن كل حقوقه التي كانت على زوجته ومفارقته لها(5)، وكان من أشهر صيغ الطلاق (حبلك على غاربك) وذكر ابن أبي الحديد أنها كناية من كنايات الطلاق أي اذهبي

ص: 200


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 5 / 19؛ ينظر الحديث عند ابن أبي شيبة، عبد الله بن محمد بن أبي شيبة ابراهیم بن عثمان الكوفي (ت 235 ه)، المصنف في الاحاديث والآثار، تحقيق سعيد اللحام، دار الفكر، (بیروت 1989)، 3 / 436
2- أبو حنيفة الدينيوري، أحمد بن داود (ت 282 ه)، الاخبار الطوال، قدم له ووثق نصوصه ووضع حواشيه، عصام محمد الحاج علي، دار الكتب العلمية، بيروت 2001)، ص 325
3- منها نکاح الاستبضاع، ونكاح البدل، ونكاح الشغار، ونكاح المتعة، ونكاح الشراء، ونكاح الصديقة، ونكاح الاغتراب، ونكاح بالميراث، ينظر الملاح، هاشم يحيى، الوسيط في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار الكتب العلمية، (بیروت 2008)، ص350 - 354؛ زیدان، سلامة عبد السلام، نظام الزواج عند العرب قبل الإسلام وعصر الرسالة، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة الموصل، 2004، ص 20
4- ابن منظور، لسان العرب، 5 / 460، (مادة طلق)
5- الجميلي، تاريخ العرب في الجاهلية وعصر الدعوة الاسلامية، ص 207

حيث شئت لأن الناقة إذا ألقي حبلها على غاربها فقد فسح لها أن ترعى حيث شاءت وتذهب أين شاءت لأنه إنما يردها زمامها فإذا ألقي حبلها على غاربها فقد أهملت، والغارب ما بين السنام والعنق، والمداحض المزالق(1).

وهكذا فإنها تعني تسريح المرأة وإخلاء سبيلها من دون أن يكون هناك أي مجال للعودة، وقد وظَّف الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام هذه المفردة واستخدمها في مكان آخر وهو طلاق الدنيا فقال عليه السلام:

«إِلَيْكِ عَنِّي يَا دُنْيَا فَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ قَدِ اِنْسَلَلْتُ مِنْ مَخَالِبِكِ وأَفْلَتُّ مِنْ حَبَائِلِكِ واِجْتَنَبْتُ اَلذَّهَابَ فِي مَدَاحِضِكِ أَيْنَ اَلْقُرُونُ اَلَّذِينَ غَرَرْتهمْ بِمَدَاعِبِكِ أَيْنَ اَلْأُمَمُ اَلَّذِينَ فَتَنْتِهِمْ بِزَخَارِفِكِ فَهَا هُمْ رَهَائِنُ اَلْقُبُورِ ومَضَامِينُ اَللُّحُودِ»(2).

وقد استخدم الرجل عبارات أخرى لتسريح زوجته منها (إلحقي بأهلك) أو (ارجعي إلى بيت أبيك)، وذكر ابن أبي الحديد أنَّ الفاكهة بن المغيرة أحد فتيان قريش تزوج هند بنت عتبة وكان له بيت ضيافة يغشاه الناس فيدخلونه من غير إذن فخلا ذلك البيت يوما فاضطجع فيه الفاكه وهند ثم قام الفاكه وترك هندا في البيت لأمر عرض له ثم عاد إلى البيت فإذا رجل قد خرج من البيت فأقبل إلى هند فركلها برجله وقال من الذي كان عندك فقالت لم يكن عندي أحد وإنما كنت نائمة فقال (الحقي بأهلك) فقامت من فورها إلى أهلها(3).

وقد ذكر ابن أبي الحديد عدداً من أنواع الطلاق المعروفة عند العرب قبل الإسلام منها:

ص: 201


1- شرح نهج البلاغة، 16 / 225؛ ابن منظور، لسان العرب، 6 / 410، (مادة غرب)
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 224، کتب ورسائل (45)
3- شرح نهج البلاغة، 1 / 306

1. طلاق البائن(1):

وهو من أنواع الطلاق الشائعة عند العرب قبل الإسلام وهو طلاق المرأة ثلاثاً على التفرقة، قال ابن عباس: (أول من طلق ثلاثاً على التفرقة إسماعیل بن إبراهيم عليهما السلام. وكان العرب يفعلون ذلك؛ فيطلقها واحدة وهو أحق الناس بها، حتى إذا استوفي الثلاث: انقطع السبيل عنها)(2)فتصبح طالقة طلاقاً بائناً، ومعنى ذلك عدم الرجوع إلى الزوجة بعد وقوع الطلاق الثالث مهما أوجد المطّلق له من أعذار(3).

وقد اقتبس الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام هذا المعنى في طلاقه للدنيا فقال عليه السلام:

«يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا إلَيْكِ عَنِّي أَبِي تَعَرَّضْتِ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ لاَ حَانَ حِينُكِ هَيْهَاتَ غُرِّي غَيْرِي لاَ حَاجَةَ لِي فِيكِ قَدْ طَلَّقتُكِ ثَلاَثاً لاَ رَجْعَةَ فِيهَا فَعَيْشُكِ قَصِيرٌ وخَطَرُكِ يَسِيرٌ وأَمَلُكِ حَقِيرٌ، أهِ مِنْ قِلَّةِ اَلزَّادِ وطُولِ اَلطَّرِيقِ وبُعْدِ اَلسَّفَرِ»(4).

وقال آخر وقد طلق امرأته فتلفتت اليه:

تلَّفتُ ترجو رجعةً بعدَ فرُقةٍ ***وهيهاتَ مما تَرتجي أم مازنِ

ألم تعلمي أنّي جموحٌ عنانُهُ *** إذا كان من أهواهُ غيرُ ملاینِ(5)

ص: 202


1- بانت المرأة عن الرجل فهي بائن، انفصلت عنه بطلاق. وتطليقة بائنة، والطلاق البائن: الذي لا يملك الرجل فيه استرجاع المرأة إلا بعقد جديد، ينظر، الزبيدي، تاج العروس، 18 / 78
2- الشهرستاني، الملل والنحل، ص 506
3- ابن حبیب، المحبر، ص 309؛ علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 5 / 549
4- شرح نهج البلاغة، 18 / 17، حكم ومواعظ (75)
5- شرح نهج البلاغة، 19 / 331

ولكون هذا الطلاق من الانواع الصعبة التي لا رجعة فيه فكان العرب (يقولون لمن طلق ثلاثاً قد نحرها بمثلثه)(1)كدليل على صعوبة العودة.

ولكن على الرغم من ذلك فالعرب أوجدوا ما يعرف ب(المحلل) وهو الرجل الغريب يعقد على المطلقة ثم يطلقها بعد العقد مباشرة لإعادتها إلى زوجها الأول وهو حل مذموم عند العرب ومحَّرم في الإسلام، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«ألا أخبركم بالتيس المستعار؟». قالوا بلی یا رسول الله، قال:

«هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له»(2).

2. طلاق الخلع:

الخلعُ - بالضم -: طلاق المرأة ببدل منها، وهذا النوع من الطلاق يقضي بأن تدفع المرأة أو أقرباؤها مبلغاً من المال للزوج يتفقان عليه مقابل تخلية سبيلها(3)، وذكر ابن أبي الحديد أن أول خلع كان في العرب هو خلع عامر بن الظرب الذي كان قد زوج ابنته من ابن أخيه (فلما أراد تحويلها قال لأمها مري ابنتك ألاّ تنزل مفازة إلا ومعها ماء فإنه للأعلى جلاء وللأسفل نقاء ولا تكثر مضاجعته، فإذا مل البدن مل القلب ولا تمنعه شهوته فإن الحظوة في المواقعة فلم يلبث إلا شهرا حتى جاءته مشجوجة فقال لابن أخيه يا بني ارفع عصاك عن بكرتك فإن كان من غير أن تنفر بك فهو الداء الذي ليس له دواء وإن لم يكن بينكما وفاق ففراق الخلع أحسن من الطلاق وأن تترك أهلك ومالك. فرد

ص: 203


1- شرح نهج البلاغة، 20 / 161
2- العيني، عمدة القارئ، 20 / 236
3- الزبيدي، تاج العروس، 11 / 100

عليه صداقها وخلعها منه)(1).

ويشمل ذلك ما تدفعه زوجة الأب المتوفي إلى ابنه الذي يتزوجها بعد وفاة أبيه من مال مقابل فراقه لها وتطلیقه إياها(2)، واشترط أن يكون أمرهن بأيديهن إن شئن أقمن وإن شئن ترکن معاشرتهم وأوقعن الطلاق وذلك لشرفهن وقدرهن، وطريقة طلاقها للرجل طريقة لا كلام فيها ولا خطاب، فقد كان طلاقهن أنهن إن كن في بيتٍ من شعر حوَّلن الخباء؛ فإن كان بابه قبل المشرق حولنه قبل المغرب، وإن كان بابه قبل اليمن حولنه قبل الشام؛ فإذا رأى ذلك الرجل علم أنها قد طلقته فلم يأتها(3). وهناك أنواع أخرى من الطلاق لم يذكرها ابن أبي الحديد في كتابه ويمكن متابعتها في الكتب والدراسات الاخرى(4).

رابعاً: الزنا:

الزنا هو أنّ يطأ الرجل المرأة المحصنة الغريبة عنه(5)، ويسمى سِفاحاً لأَنه يكون عن غير عقد كأَنه بمنزلة الماء المَسْفوح الذي لا يحبسه شيء، وقيل سمي الزنا سفاحاً لأَنه ليس ثَمّ حرمة نکاح ولا عقد تزویج وكلُّ واحد منهما سَفَحَ مَنْيَتَه أَي دَفَقَها بلا حرمة أَباحت، دَفْقَها ويقال هو مأخوذ من سَفَحْت الماء أَي صببته، وكان أَهل الجاهلية إِذا

ص: 204


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 18 / 268
2- الجميلي، تاريخ العرب في الجاهلية و عصر الدعوة العباسية، ص 209
3- الاصفهاني، الاغاني، 17 / 537
4- منها طلاق الظهار، وطلاق الايلاء، وطلاق العضل، ينظر الترمانيني، عبد السلام زيدان، الزواج عند العرب في الجاهلية والاسلام دراسة مقارنة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، (الكويت 1998)، ص230 - 234؛ زیدان، سلامة عبد السلام، نظام الزواج عند العرب قبل الإسلام وعصر الرسالة، ص 204 -224
5- علي، المفصل في تاريخ العرب، 5 / 559

خطب الرجل المرأَة قال: أَنكحيني، فإِذا أَراد الزنا قال: سافحيني(1).

وقد ذكر ابن أبي الحديد أن خوات بن جبير كان في الجاهلية يغشى البيوت ويقول شرد جملي وأنا أطلبه وإنما يطلب النساء والخلوة بهن، وقد سأله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما فعل جملك يا خوات يمازحه فقال قيده الإسلام یا رسول الله(2).

ويبدو لنا من خلال قراءتنا لهذه الرواية أنَّ هذا العمل كان منبوذاً في المجتمع، إذ لا يذهب إلى المواخير(3) سوی سفلة الناس، ولا يكون إلا تحت جنح الظلام حتى لا تراه العيون أو يتحجج كما تحجج خوات بأعذار واهية حتى يغطي عليهم وجهته الحقيقية.

وذكر ابن أبي الحديد مجموعة من ذوات الرايات والبغاة المشهورات قبل الإسلام مثل (أم طحال) امرأة بغي في الجاهلية ويضرب بها المثل فيقال (ازنی من ام طحال)(4).

ومنهن (النابغة) ام عمرو بن العاص كان اسمها سلمى وكانت أمة لرجل من عنزة نسبیت فاشتراها عبد الله بن جدعان التيمي بمكة فكانت بغيا ثم أعتقها فوقع عليها خمسة في طهر واحد، فولدت عمرا فنسبته إلى العاص بن وائل(5)، قال الإمام الحسن عليه السلام في مجلس معاوية في مفاخرة بينه وبين رجالات من قریش، موجها كلامه لعمرو بن العاص:

«أما أنت يا ابن العاص فإن أمرك مشترك وضعتك أمك مجهولا من عهر وسفاح فيك

ص: 205


1- ابن منظور، لسان العرب، 4 / 440، (مادة سفح)
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 5 / 19
3- المواخير: جمع ماخُورٍ وهو مَجْلِسُ الرِّيبَةِ ومَجْمَعُ أَهلِ الفِسْقِ والفَسادِ وبُيوتُ الخَمَّارِينَ، ينظر ابن منظور، لسان العرب، 8 / 164، (مادة مخر)
4- شرح نهج البلاغة، 16 / 166
5- شرح نهج البلاغة، 6 / 222

أربعة من قريش فغلب عليك جزارها، ألأمهم حسبا، وأخبثهم منصبا»(1).

ومنهن (سمية) أم زياد بن أبيه ذكر ابن أبي الحديد أن أبا سفيان بن حرب ذکر زیاد ابن سمية هو يومئذ غلام فقال أنا أبوه أتيت أمه في الجاهلية سفاحا(2).

وذكر ابن أبي الحديد ان (هند بنت عتبة) كانت تذكر في مكة بفجور وعهر، وأن معاوية يعزى إلى أربعة إلى مسافر بن أبي عمرو وإلى عمارة بن الوليد بن المغيرة وإلى العباس بن عبد المطلب وإلى الصباح مغن كان لعمارة بن الوليد، وقد كان أبو سفيان دمیما قصيرا وكان الصباح شابا وسيما فدعته هند إلى نفسها فغشيها. وقالوا إن عتبة بن أبي سفيان من الصباح أيضاً وقالوا إنها كرهت أن تدعه في منزلها فخرجت إلى أجياد فوضعته هناك وفي هذا المعنى قال حسان بن ثابت أيام المهاجاة بين المسلمين والمشركين في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل عام الفتح:

لمن الصبيُّ بجانب البطحا *** في الترب ملقى غيرِ ذي مهدِ

نجلَتْ به بیضاءٌ آنسةٌ *** من عبدِ شمسٍ صلتة الخدِ(3) ويقال إن مسافر بن عمرو كان من أشد الناس حباً لهند، فلما حملت منه خاف أن يظهر أمره فرحل إلى عمرو بن هند ملك الحيرة فأقام عنده حتى مات ثم تزوج أبو سفيان هنداً فولدت معاوية على فراشه(4).

وذكر ابن أبي الحديد (حمامة) جدة معاوية أم أبي سفيان كانت بغياً في الجاهلية

ص: 206


1- شرح نهج البلاغة، 6 / 228
2- شرح نهج البلاغة، 16 / 140
3- شرح نهج البلاغة، 1 / 306
4- ابن الكلبي، مثالب العرب، ص 80

صاحبة راية(1)، وكانت ممن لهن راية منصوبة في سوق ذي المجاز فيأتيها الناس فيفجرون بها(2).

وذكر ابن أبي الحديد (صهاك) أمة الزبير بن عبد المطلب وقضيتها مع عبد العزي(3)، وقيل هي أمة حبشية لهاشم بن عبد مناف فوقع عليها فجاءت بنضلة بن هاشم، ثم وقع عليها عبد العزی بن رباح فجاءت بنفيل جد عمر بن الخطاب، ثم وقع عليها ربيعة بن الحارث بن حبيب بن جذيمة فجاءت بعمرو بن ربيعة(4).

وقد نبذ الإسلام هذه الخصال وحاربها وذكر ابن أبي الحديد أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول:

«ما مسَّني عرقُ سفاحِ قطُ وما زلتُ أنقلُ من الأصلابِ السليمةِ من الوصومِ(5)والأرحامِ البريئةِ من العيوب»(6).

وقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا إلى القول إن السفاح كان منتشراً ويشغل مساحة واسعة من العادات الجاهلية، لذلك أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى طهارة أرحامه التي تنقل بها من دون أنْ يمسه من عاداتهم سوء.

خامساً: وأد البنات:

كان الوأد من أقبح العادات التي عرفها العرب قبل الإسلام، وذكر ابن أبي الحديد

ص: 207


1- شرح نهج البلاغة، 2 / 100
2- ابن الكلبي، مثالب العرب، ص 91؛ ابن حبیب، المحبر، ص 340
3- شرح نهج البلاغة، 11 / 54
4- ابن الكلبي، مثالب العرب، ص 95، وأفرد ابن الكلبي في كتابه باباً سماه ذوات الرايات وأمهاتهن ومن ولدن سلسل فيه جميع صاحبات الرايات والبغايا عند العرب قبل الإسلام، ص 84
5- الوصوم: العيوب. ينظر ابن منظور، لسان العرب، 9 / 240، (مادة وصم)
6- شرح نهج البلاغة، 11 / 55

أن الوأد هو دفن البنت وهي حية بعد أنْ يخنقها في التراب ويثقل وجهها به حتی تموت(1)، واختلفوا في فترة وأد البنات فمنهم من قال عن ابن عباس : كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت حفرت حفرة، وتمخضت على رأسها، فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة، وردت التراب عليها، وإن ولدت غلاما حبسته، ومنه قول الراجز:

سمَّيتُها إذ ولدتْ تموتُ *** والقبرُ صهرٌ ضامنٌ زميتُ(2)

في حين كان بعضهم يئد ابنته في السادسة من عمرها فيقول لأمها طيبيها وزينيها ثم يذهب بها إلى الصحراء بعد أنْ يحفر لها بئراً فيها، فيبلغ بها البئر، ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض(3).

في بعض الاحيان كان الرجل ينقل حمل وأد البنت على الأم من باب أنهّ يعتقد انها السبب في ولادة البنت دون الولد وهو اعتقاد خاطئ ويصر عليه الرجل حتى لا يجرح رجولته(4)، فيجبر الأم على الرغم من معارضتها إذ كان الرجل يشترط على امرأته أن تستحيي جارية وتئد أخرى. فإذا كانت الجارية التي تَئِد، راح من عند امرأته، وقال لها: أنت علي كظهر أمِّي إن رجعت إليك ولم تئديها، فتخُدُّ لها في الأرض خدًّا، حتى إذا أبصرته راجعًا دستها في حفرتها، ثم سوّت عليها التراب(5).

وأورد ابن أبي الحديد الأسباب التي دعت العرب إلى وأد بناتها إذ أرجع ذلك إلى عاملين:

ص: 208


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 13 / 132
2- القرطبي،، الجامع لاحکام القرآن، 19 / 233
3- الالوسي، بلوغ الارب في معرفة احوال العرب، 3 / 43
4- ولا زال هذا الاعتقاد سائداً على الرغم من أن الطب الحديث أثبت أن الرجل هو صاحب الجينات المسؤولة عن نوعية الولادة ولداً أم بنتاً وما المرأة الا حاضنة لها
5- الطبري، جامع البیان، 8 / 68

العامل الاول: هو العامل الاقتصادي، إذ ذكر أنَّ العرب كانت تئد البنات خوف الإملاق(1)، معناها الفقر والحاجة، (وذكر أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم دعا على أقوام من العرب، هم تميم وقيس وأسد وهذيل وبكر بن وائل فقال:

«اللهم اشدُدْ وطأتَكَ على مضرٍ واجعل عليهِم سنينَ كسنيّ يوسُف».

فأجدبوا سبع سنين حتى أكلوا الوبر بالدم وكانوا يسمونه العلهز فوأدوا البنات لإملاقهم وفقرهم وقد استدل على ذلك بقوله تعالی:

«وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ»(2))(3).

وهذه الرواية غير دقيقة وفيها الكثير من المتناقضات:

1- ليس من أخلاق النبي أنْ يدعو على قومه بالهلاك، فتذكر لنا كتب التاريخ والسير أن أهل الطائف كانوا يرمونه بالحجارة حتى أدميت قدماه، فلم يدعُ عليهم أو يسوءهم بشيء بل كان يقول:

«اللهم إني أشكو إليك غُربتي وکُربتي وهَواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت ربُّ المستضعفين، أنت ربُّ المكروبين، اللهم إنْ لم يكن لكَ عليَّ غضبٌ فلا أبالي، ولكن عافيتَكَ أوسعُ لي، أعوذ بكَ من سخطِكَ، وبمعافاتِكَ من عقوبتِكَ، وبكَ منك، لا أحصي الثناءَ عليكَ أنتَ كما أثنيتَ على نفسِكَ، لكَ الحمدُ حتى ترضى، ولا

ص: 209


1- شرح نهج البلاغة، 15 / 98
2- سورة الاسراء: الآية 31
3- شرح نهج البلاغة، 13 / 132

حولَ ولا قوةَ إلا بالله العلي العظيم»(1).

2- المعروف في أغلب المصادر التي تحدثت عن حياة العرب قبل الإسلام أن الوأد كان موجوداً قبل الإسلام وبمدة ليست بالقصيرة ودليلنا على ذلك هو قول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وهو يصف حال العرب قبل الإسلام إذ قال عليه السلام:

«أَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَال تَشَتُّتِهِمْ وتَفَرُّقِهِمْ...... فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ واَلْأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ واَلْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي بَلاَءِ أَزْلٍ وأَطْبَاقِ جَهْلٍ مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُدَةٍ وأَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ وَأَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ وغَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ»(2).

3- أراد ابن أبي الحديد أن يحصر الوأد في قبائل معينة على الرغم من أن المتعارف عليه إنه موجود في جميع قبائل العرب وذكر الإبشيهي(3)، أن بمكة جبلاً يقال له ابو دلامة كانت قريش تئد فيه البنات.

أما العامل الثاني: الذي ذكره ابن أبي الحديد فهو العامل الاجتماعي مخافة إلحاق العار بهم من ورائهن، وذكر أنَّ قيس بن عاصم المنقري وهو أول من وأد البنات في الجاهلية، عندما قام الريان بن المنذر أخو النعمان وجل من معه من بكر بن وائل فاستاق النعم وسبى الذراري بعد أنْ منعت تميمٌ النعمان الإتاوة سنة من السنين، فوفدت بنو تميم إلى النعمان واستعطفوه فرقَّ عليهم وأعاد عليهم السبي وقال كل امرأة اختارت أباها رُدَّت إليه وإن اختارت صاحبها تركت عليه فكلهن اخترن آباءهن إلا ابنة قيس بن عاصم فإنها اختارت من سباها وهو عمرو بن المشمرخ اليشكري، فنذر قیس بن عاصم

ص: 210


1- ابن کثیر، عماد الدين ابو الفداء اسماعيل بن عمر القرشي الدمشقي (ت 774 ه)، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، (بیروت 1976 م)، 2 / 150
2- شرح نهج البلاغة، 13 / 129
3- المستطرف في كل فن مستظرف، 2 / 82

المنقري التميمي ألا يولد له بنت إلا وأدها(1).

وعلى الرغم من اعتقادنا أنَّ الوأد كان موجوداً قبل قصة قيس بن عاصم، ولكن يبدو أنَّ هذا العامل هو العامل الحقيقي، فليس من الصحيح أن يقوم العرب بقتل بناتهم من أجل الفقر والحاجة مع أنَّ هناك بعض الروايات التي تؤيد ذلك، ولا نستبعد ان تكون هناك حالات استثنائية ولكنها ليست السبب الرئيس، فنحن نعلم أنَّ قسوة الصحراء والحروب والغزوات ولّدت الظواهر السلبية التي بدت فيها المرأة الحلقة الأضعف في حلقات التكوين الاجتماعي للعرب لأنها تحتاج دائماً للحماية وغالباً ما تقع فريسة بيد الاعداء فيلحق بهم العار والذلة، لذلك فهم يفضلون الذكور على الاناث كما بيَّنا سابقاً.

وقد أراد بعضهم أنْ يعطي تفسيراً آخر للوأد بعيداً عما ذكرناه فقيل إن العرب كانت تئد من البنات من كانت زرقاء أو شيماء أو برشاء أو كسحاء(2)، تشاؤماً منهم بهذه الصفات(3)، وقيل سُئِل قيس بن عاصم: ما حملك على الوأد فقال: (خشيت أن يخلف عليهن غير كفء)(4).

وهذه تبريرات ليس لها علاقة بالوأد أراد منها واضعوها أن يضعوا لها إطاراً آخر بعيداً عن الحقيقة المعروفة التي بينّاها سابقاً.

وكان كثيرٌ من عقلاء العرب لا يقبل بهذا العمل ووقف بوجه الوأد، وذكر لنا ابن

ص: 211


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 13 / 132
2- الشيماء: السوداء، البرشاء: من البرش وهو بياض يظهر في الجسد مثل البرص، الكسحاء: العرجاء
3- الآلوسي، بلوغ الارب في معرفة احوال العرب، 3 / 43
4- ابن بکار، ابو عبد الله الزبير بن بكار القرشي الاسدي (ت 256 ه)، الاخبار الموفقیات، تحقیق سامي مكي العاني، ط 2، عالم الكتب، (بیروت 1999)، ص 503

أبي الحديد أن صعصعة بن ناجية بن عقال هو أول من أحيا المؤودة، وقد اشتری (ثلاثمائة موءودة) فأعتقهن ورباهن(1)، ولما قام الإسلام وفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له:

یا رسول الله إني كنت أعمل في الجاهلية عملا صالحا فهل ينفعني ذلك اليوم؟ قال صلی الله عليه وآله وسلم:

«وما عملت».

قال: ضللت ناقتين عشراوين فركبت جملا ومضيت في طلبهما فرفع لي بيت منعزل فقصدته فوجدتهما عند شيخ فجلست معه ليخرجهما إلىَّ فإذا عجوز قد خرجت من البيت فقال لها: ما وضعت إن كان سقبا شاركنا في أموالنا وإن كان حائلا(2)وأدناها، فقالت العجوز وضعت أنثى، فقلت له أتبيعها؟ قال: وهل تبيع العرب أولادها؟، قلت: إنما أشتري حياتها ولا أشتري رقها، قال: فبكم قلت احتكم، قال: بالناقتين والجمل، قلت: ذلك لك على أن يبلغني الجمل وإياها، قال: بعتك، فاستنقذتها منه بالجمل والناقتين، وآمنت بك يا رسول الله وقد صارت لي سنة في العرب أن أشتري كل موءودة بناقتين عشراوين وجمل، فعندي إلى هذه الغاية ثمانون ومائتا موءودة قد أنقذتهن، قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«لاينفعك ذاك لأنك لم تبتغ به وجه الله، وإن تعمل في إسلامك عملا صالحا تثب عليه»(3).

وهذه الرواية فيها بعض التناقض، فمن غير المعقول أن النبي صلى الله عليه وآله

ص: 212


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 98
2- السقب: ولد الناقة ساعة يولد، وهو خاص بالذكر، والحائل: الانثى من ولد الناقة ساعة تولد. ينظر ابن أبي الحدید، شرح نهج البلاغة، 13 / 133 ، هامش المحقق
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 13 / 133

وسلم يقول هذا الكلام لرجل كان يعمل الخير وينقذ أرواح الموؤدات وهو ما نهى عنه الإسلام بعد ذلك، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد يكون الرقمُ الذي ذكره ابن أبي الحديد مبالغاً فيه بعض الشيء، إذ ذكر ابن حبيب أنَّ العدد حين بعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كان (مائة جارية وأربع جوار) أخذهن من آبائهن لئلا يؤدن(1).

وممن حارب الوأد زید بن عمرو بن نفيل، وذكر ابن أبي الحديد انه كان من المتألهين أصحاب الورع والتحرج عن القبائح(2)، وكان يحيي الموؤدة يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته لا تقتلها أنا أكفيكها مؤونتها فيأخذها فإذا ترعرعت قال لأبيها إن شئت دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مؤونتها(3).

إن شیوع ظاهرة الوأد لا يعني أنَّ المرأة كانت موضعَ احتقارٍ وسخرية بل هي كانت في بعض الاحيان تتمتع بنفوذ ومزايا جعلتها في مكانة مرموقة عند العرب قبل الإسلام كما وضحنا سابقاً.

وقد حارب القرآن ظاهرة الوأد کما حارب العديد من الظواهر السلبية التي كانت منتشرة قبل الإسلام فمن آیاته :

قوله تعالی :

«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي

ص: 213


1- المحبر، ص 141
2- شرح نهج البلاغة، 1 / 129
3- البخاري، صحيح البخاري، 4 / 233

مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(1).

وقوله تعالى:

«وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ »(2).

ص: 214


1- سورة الممتحنة: الآية 12
2- سورة التكوير: الآية 9

المبحث الخامس الأنساب عند العرب قبل الإسلام

النسب لغة: القَرابة(1)، وعلم الانساب : هو علم يتعرف به أنساب الناس، وكانت عناية العرب بالأنساب ومعرفة أصوله تشکل قاعدة رئيسية في حياتهم لأنها كانت تجعلهم متحدين متعاونين فيما بينهم للدفاع عن بعضهم وكف الاذى عنهم، وجعلتهم العصبية القبلية يحفظون بدقة كل ما يتعلق بأنسابهم وأخبارهم، إذا ما أضافوا عليه بعض القصص التي جعلوا فيها بعض الأنساب تصل إلى جد واحد، والشك في هذه الانساب كبير، وهو شيء طبيعي لأن العرب لم يدوّنوا أنسابهم في كتب ولا نقشوها على آثار وإنما تناقلوها رواية بلسان والمنقول باللسان عرضة للكثير من الخطأ والتغيير(2).

وسواء صحت هذه الانساب أم لم تكن صحيحة فقد استمسك بها العرب وبنوا عليها عصبياتهم وانقسموا في كل مكان فرقاً وطوائف كل قبيلة لها جد تنتمي إليه وتتباهی به وتتفاخر وتدعي أنها من صلبه وأن دماءه تجري في عروق القبيلة.

وذكر الماوردي أن العرب رتبت الانساب ستّ مراتب، فجعلت طبقات أنسابهم هي: شِعب، ثم قبيلة، ثم عِمارة، ثم بطن، ثم فخذ، ثم فصيلة، فالشعب النسب ته (1) ابن منظور، لسان العرب، 8 / 391، مادة (نسب).

(2) حسن، تاريخ الإسلام، 1 / 14؛ الالوسي، بلوغ الارب، 3 / 182.

ص: 215


1- ابن منظور، لسان العرب، 8 / 391، مادة (نسب)
2- حسن، تاريخ الإسلام، 1 / 14؛ الالوسي، بلوغ الارب، 3 / 182

الأبعد مثل عدنان وقحطان(1)، ولاهتمام العرب بالأنساب فقد ظهر عدد كبير من النسابة بينهم، وذكر ابن أبي الحديد أنَّ في قريش أربعة يتحاكم إليهم في علم النسب وأيام قریش ويرجع إلى قولهم عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل الزهري وأبو الجهم بن حذيفة العدوي وحويط بن عبد العزى العامري، وكان عقيل بن أبي طالب أنسب قريش وأعلمهم بأيامها وكان مبغضا إليهم لأنه كان يعد مساوءهم(2).

ويبدو أن عمل عقيل استمر حتى بعد ظهور الإسلام، إذ ذكر ابن أبي الحديد أنه (كانت له طنفسة(3)تطرح في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيصلي عليها ويجتمع إليه الناس في علم النسب وأيام العرب وكان حينئذ قد ذهب بصره وكان أسرع الناس جوابا وأشدهم عارضة)(4).

ومن نساب العرب دغفل بن حنظلة السدوسي وكان أعلم أهل زمانه في الانساب ، أدرك النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ولم يسمع منه شيئاً(5)، وذكر له ابن أبي الحديد روايتين؛ الاولى عندما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مكة

ص: 216


1- سُمِّيَ شِعْبًا؛ لِأَنَّ الْقَبَائِلَ مِنْهُ تَشَعَّبَتْ، ثُمَّ الْقَبِيلَةُ، وَهِيَ مَا انْقَسَمَتْ فِيهَا أَنْسَابُ الشِّعْبِ مِثْلُ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، سُمِّیَتْ قَبِيلَةً لِتَقَابُلِ الْأَنْسَابِ فِيهَا. الْعِمَارَةُ: وَهِيَ مَا انْقَسَمَتْ فِيهَا أَنْسَابُ الْقَبَائِلِ مِثْلُ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ. الْبَطْنُ: وَهُوَ مَا انْقَصَمَتْ فِيهِ أَنْسَابُ الْعِمَارَةِ مِثْلُ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنْي مَخْزُومٍ. الْفَخِذُ وَهُوَ: مَا انْقَسَمَتْ فِيهِ أَنْسَابُ الْبَطْنِ مِثْلُ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي أُمَيَّةَ. الْفَصِيلَةُ: وَهِيَ مَا انْقَسَمَتْ فِيهَا أَنْسَابُ الْفَخِذِ مِثْلُ بَنِي أبي طَالِبٍ وَبَنِي الْعَبَّاسِ، فَالْفَخِذُ يَجْمَعُ الْفَصَائِلَ، وَالْبَطْنُ يَجْمَعُ الْأَفْخَاذَ، وَالْعِمَارَةُ تَجْمَعُ الْبُطُونَ، وَالْقَبِيلَةُ تَجْمَعُ الْعَمَائِرَ، والشِّعْبُ يَجْمَعُ الْقَبَائِلَ، وَإِذَا تَبَاعَدَتْ الْأَنْسَابُ صَارَتْ الْقَبَائِلُ شُعُوبًا وَالْعَمَائِرُ قَبَائِلَ، ينظر، أبي الحسن علي بن محمد بن حبیب البصري البغدادي (ت 450 ه)، الاحکام السلطانية، دار الكتاب العربي، (بیروت 2011)، ص 255
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 11 / 192
3- الطنفسة: هي البِساط الذي له خَمْلٌ رقيق، ينظر ابن منظور، لسان العرب، 5 / 475
4- ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، 11 / 192
5- ابن قتيبة، المعارف، ص 297

يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج إلى ربيعة ومعه علي بن أبي طالب عليه السلام وأبو بكر فدفعوا إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر وكان نسابة فبدأ يسألهم عن أنسابهم فأكثر في سؤالهم فقام إليه غلام اسمه دغفل فقال:

إن علی سائلنا أنْ نَسألَهْ *** والعبء لا تعرفُهُ أو تحمِلُهْ

ثم بدأ يسأل أبا بكر عن أصل قریش وفروعها حتى اجتذب أبو بكر زمام ناقته ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هاربا من الغلام(1)، والرواية الثانية حين سأله معاوية عن بني هاشم فقال هم أطعم للطعام وأضرب للهام وهاتان خصلتان يجمعان أكثر الشرف(2).

ومن أبرز من اشتهر من العرب في معرفة النسب، زید بن الكيس النمري، والنخار بن أوس بن الحرث بن هزيم القضاعي، وصعصعة بن صوحان، وعبد الله بن عبد الحجر بن عبد المدان(3).

أنساب القبائل:

إن ابن أبي الحديد لم يكن لديه اسلوبٌ ثابتٌ في الانساب، فالمعروف أن كتابه ليس كتاب أنساب، إنما ذکر انساب الشخصيات والقبائل التي وردت في خطب الإمام عليه السلام مع التوسع فيها، فهو لم يذكر التقسيمات التي اعتاد عليها من كتب في هذا المجال، ونحن ارتأينا أن نعتمد منهجاً اعتاد عليه المؤرخون في تقسيم انساب العرب على ثلاث فئات؛ العرب البائدة، والعارية، والمستعربة، لكي تسهل علينا مهمة إحصاء

ص: 217


1- شرح نهج البلاغة، 4 / 95
2- شرح نهج البلاغة، 15 / 157
3- للمزيد من التفاصيل عن اخبارهم، ينظر الالوسي، بلوغ الأرب، 3 / 207

الشخصيات والقبائل التي ذكرها ابن أبي الحديد، وتماشياً مع السياق التاريخي قسمناها على محورين:

اولاً: العرب البائدة:

وهي تلك الاقوام التي عاشت في الماضي البعيد ولم يعد لأحد فيهم وجود بينما وجدت اثارهم فقط، وذكر ابن أبي الحديد نسب العمالقة أولاد لاوذ إرم بن سام بن نوح وكان الملك باليمن والحجاز وما تاخم ذلك من الأقاليم، منهم عملاق بن لاوذ ومنهم طسم بن لاوذ أخوه. ومنهم جديس بن لاوذ أخوهما وكان العز والملك بعد عملاق بن لاوذ في طسم(1).

ويبدو أنَّ الملك كان مستقراً حتى ملكهم عملاق بن طسم الذي بغي وأكثر الفساد في الارض، وذكر ابن أبي الحديد أنه من جبروته كان يطأ العروس ليلة إهدائها إلى بعلها وإن كانت بكرا افتضها قبل وصولها إلى البعل، ففعل ذلك بامرأة من جديس يقال لها غفيرة بنت غفار فخرجت إلى قومها وهي تقول: لا أحدُ أذلَّ من جديسِ *** أهكذا يفعلُ بالعروس فغضب لها أخوها الأسود بن غفار وتابعه قومه على الفتك بعملاق بن طسم وأهل بيته، فصنع الأسود طعاما ودعا عملاق الملك إليه ثم وثب به وبطسم فأتی على رؤسائهم ونجا منهم ریاح بن مرة فصار إلى ذي جیشان بن تبع الحميري ملك اليمن فاستغاث به واستنجده على جديس فسار ذو جيشان في حمير فأتي بلاد جو وهي قصبة اليمامة فاستأصل جديسا كلها وأخرب اليمامة فلم يبق لجديس باقية ولا لطسم إلا اليسير منهم(2).

وذكر المسعودي الرواية بتفاصيل أدق وأشمل وأضاف إليها قصة زرقاء اليمامة التي

ص: 218


1- شرح نهج البلاغة، 9 / 60
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 9 / 60

تبصر الراكب على مسيرة ثلاث ليالٍ أخت ریاح بن مرة المتزوجة من جديس والتي أرادت أخبارهم بقدوم الجيش فلم يصدقوها وبعد ذلك حبست و قلعت عيناها وصلبت(1).

وذكر ابن أبي الحديد نسب عاد فهو عاد بن عويص بن إرم بن سام بن نوح كان يعبد القمر ويقال إنه رأى من صلبه أولاد أولاد أولاده أربعة آلاف وإنه نكح ألف جارية وكانت بلاده الأحقاف المذكورة في القرآن(2)، وهي من شحر عمان إلى حضرموت ومن أولاده شداد بن عاد صاحب المدينة المذكورة(3)، وعلى الرغم من أنَّ الرقم فيه نوع من المبالغة إلا أنه يدل على الكثرة والتسلط والاستبداد.

وذكر المسعودي أنَّ عاداً بَغَتْ في الأرض وملكها الخلجان بن الوهم، فكانوا يعبدون ثلاثة أصنام، وهي: صمود، وصداء، والهباء، فبعث الله إليهم نبي الله هوداً فكذبوه، فدعا عليهم فمنعوا المطر ثلاث سنين، وأجدبت الأرض فلم يدِرّ عليهم ضَرْعٌ(4).

أما ثمود فذكر ابن أبي الحديد أنه ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح وكانت دیاره بين الشام والحجاز إلى وادي القرى، وقيل سُمَّيت ثمود لقلة مائها من الثمد وهو الماء القليل(5)، وذكر ابن أبي الحديد أيضاً أنَّ عادا لما أهلكت عمرت ثمود بلادها وخلفوهم

ص: 219


1- المسعودي، مروج الذهب، 2 / 348
2- «وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ»، سورة الأحقاف: الآية 21، الأحقاف المذكور في الكتاب العزيز واد بين عمان وأرض مهرة عن ابن عباس، قال ابن إسحاق الأحقاف رمل فيما بين عمان إلى حضرموت، وقال قتادة الأحقاف رمال مشرفة على البحر بالشحر من أرض اليمن وهذه ثلاثة أقوال غير مختلفة في المعنى، ينظر یاقوت الحموي، شهاب الدين أبي عبد الله بن عبد الله الرومي البغدادي (ت 626 ه)، معجم البلدان، 1 / 101 - 102
3- شرح نهج البلاغة، 9 / 60
4- مروج الذهب، 2 / 351
5- شرح نهج البلاغة، 10 / 60

في الأرض وكثروا وعمَّروا أعماراً طوالاً حتى إنَّ الرجل كان يبني المسكن المحكم فينهدم في حياته فنحتوا البيوت في الجبال، وكانوا في سعة ورخاء من العيش فعتوا على الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثان فبعث الله إليهم صالحاً(1)فحذرهم وأنذرهم فسألوه آية فأخرج لهم من الجبل ناقة، ولكنهم عقروها فأتتهم صيحة من السماء وخسف شدید وزلزال فتقطعت قلوبهم فهلكوا(2).

وذكر ابن أبي الحديد نسب أصحاب الرس فقال: (قيل إنهم أصحاب شعیب النبي وكانوا عبدة أصنام ولهم مواش وآبار يسقون منها)(3).

وذكر ابن أبي الحديد مجموعة من الروايات المختلفة عن أصحاب الرس وأصلهم وبلادهم ولم يتقيد برواية محددة، فقال إنَّ الرس بئر عظيمة جدا انخسفت بهم وهم حولها فهلكوا وخسفت بأرضهم كلها وديارهم، وقيل الرس قرية باليمامة كان بها قوم من بقايا ثمود بغوا فأهلكوا، وقيل قوم من العرب القديمة بين الشام والحجاز وكانت العنقاء تختطف صبيانهم فتقتلهم فدعوا الله أنَّ ينقذهم منها فبعث إليهم حنظلة بن صفوان فدعاهم إلى الدين على أن يقتل العنقاء فشارطوه على ذلك فدعا عليها فأصابتها الصاعقة فلم يفوا له وقتلوه فأهلكوا، وقيل هم أصحاب الأخدود والرس هو الأخدود وقیل الرس أرض بأنطاكية قتل فيها حبيب النجار، وقيل بل كذَّب أهلها نبيهم ورسوله في بئر أي رموه فيها، وقيل إن الرس نهر في إقليم الباب والأبواب مبدؤه من مدينة طراز وينتهي إلى نهر الكر، فيختلط به حتى يصب في بحر الخزر، كان هناك ملوك

ص: 220


1- شرح نهج البلاغة، 10 / 202
2- ابو حیان، محمد بن يوسف بن علي بن يوسف الاندلسي، (ت 745) تفسير البحر المحيط، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود، علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، (بیروت 2001)، 4 / 33
3- شرح نهج البلاغة، 10 / 76

أولو بأس وقدرة فأهلكهم الله ببغيهم(1).

وقد أورد ابن أبي الحديد تلك الروايات تعليقاً على كلام الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام الذي يذكر فيه للناس الموت ومصير القرون السابقة وفناهم قال فيه:

«إِنَّ لَكُمْ فِي اَلْقُرُونِ اَلسَّالِفَةِ لَعِبْرَةً أَيْنَ اَلْعَمَالِقَةُ وأَبْنَاءُ اَلْعَمَالِقَةِ أَيْنَ اَلْفَرَاعِنَةُ وأَبْنَاءُ اَلْفَرَاعِنَةِ أَيْنَ أَصحَابُ مَدَائِنِ اَلرَّسِّ اَلَّذِينَ قَتَلُوا اَلنَّبِيِّينَ وأَطْفَئُوا سُنَنَ اَلْمُرْسَلِينَ وأَحْيَوْا سُنَنَ اَلْجَبَّارِينَ»(2).

ثانياً: العرب الباقية:

وهي التي سكنت اليمن والحجاز وكافة أنحاء الجزيرة العربية وتزايد أفرادها وهي مقَّسمة على العرب العاربة والعرب المستعربة(3)، وقد ذكر ابن أبي الحديد نسب قریش من خلال جملة من الروايات الخاصة بنسب الصحابة والشخصيات المؤثرة في قريش ولعل أبرزها ذكر الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم سلسلة نسبه الشريف من خلال قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن الله اصطفى من العرب مَعَدا واصطفى من معدٍ بني النضر بن كنانةَ واصطفی

ص: 221


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 10 / 76، للتفاصيل ينظر الطبرسي، ابو علي الفضل بن الحسن (ت 548 ه)، مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقیق وتعليق لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين، مؤسسة الأعلمي، (بیروت 1995)، 7 / 269؛ القرطبي، الجامع لاحکام القرآن، 11 / 274
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 10 / 75، [خطبة 184]
3- العرب العاربة: هم العرب الذين انحدروا من نسل قحطان وهو ليس من نسل اسماعيل عليه السلام ويعيدون نسبه الى سام بن نوح وأطلق عليهم النسابون اسم العارية أو العرب العرباء اي (العرب الحقيقيين)، وهم عرب الجنوب قبائل اليمن الذين نشأوا في الزاوية الجنوبية القريبة من الجزيرة، اما العرب المستعربة: فهم العرب من نسل عدنان ويرجعون الى اسماعيل عليه السلام وسموا بالعرب المستعربة أو المتعرية اي (لم يكونوا عرباً واستعربوا) وهم عرب الشمال قبائل مضر وقيس عيلان وما يتبعها من قبائل هوازن وسليم، ينظر، عاقل، نبيه، تاريخ العرب القديم وعصر الرسول، دار الفكر، (دمشق 1983)، ص 37

هاشما من بني النضر واصطفاني من بني هاشم»(1).

ففي هذا الحديث ذكر لنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سلسلة نسبه الشريف، فكنانة هو ابن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وعدنان من ولد اسماعيل(2)، وقد اختلف النسابون في النسب بين عدنان واسماعيل، وقيل بينهما ثلاثون جداً(3)، أما قریش فهو فهر بن مالك بن النضر بن كنانة(4)، أما سبب تسميته بقريش فهناك عدة آراء منها أنه اسم دابّة في البحر، وقيل من التقریش فکان يقرش عن خلّة كلّ ذي خلّة فيسدّها بفضله: فمن كان محتاجا أغناه، ومن كان عاريا کساه، ومن كان طريدا آواه، ومن كان خائفا حماه، ومن كان ضالا هداه. قال الحارث بن حلّزة اليشكريّ:

أيّها الناطقُ المقرّشُ عنا *** عندَ عمرو، وهل لذاكَ بقاءُ؟

وقيل التقرّش: التجمّع، وسمّيت قريش لتجمّعها، فإنها لما تجمّعت بمكة وجمعت

ص: 222


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7 / 49؛ ينظر الحديث عند ابن عبد البر، ابو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري (ت 463 ه)، الاستذکار، تحقیق سالم محمد عطا، ومحمد علي معوض، دار الكتب العلمية، (بیروت 2000)، 8 / 614
2- الزبيري، أبو عبد الله المصعب بن عبد الله بن المصعب (ت 236 ه)، نسب قریش، عني بنشره وتصحيحه والتعليق عليه ليفي بروفنسال، ط 3، دار المعارف، (القاهرة 1982)، ص 3؛ ابن حزم، ابو محمد علي بن أحمد بن سعید بن حزم الاندلسي (ت 456 ه)، جمهرة انساب العرب، راجع النسخة وضبط اعلامها عبد المنعم خليل ابراهیم، ط 5، دار الكتب العلمية، (بیروت 2009)، ص 11
3- ابن الكلبي، ابو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي (204 ه)، جمهرة النسب، رواية محمد بن حبيب عنه، تحقيق محمد فردوس العظم، ط 2، دار اليقظة العربية، (دمشق 1983)، 1 / 1
4- الزبيري، نسب قریش، ص 12؛ القلقشندي، أبي العباس أحمد بن علي بن أحمد بن عبد الله (ت 821 ه)، نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، ط 2، دار الكتب العلمية، (بیروت 2012)، ص 33

خصائل الخير سمّيت بقريش، وقيل من التقرش، والتقرش التجارة والاكتساب(1).

أما هاشم فهو ابن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن مضر(2).

وذكر ابن أبي الحديد من قريش بني أمية وقال إنهما صنفان؛ الأعياص والعنابس قال الشاعر:

من الأعياصِ أو منِ آل حربٍ *** أغرُّ كغرةِ الفرسِ الجوادِ

سموا بذلك في حرب الفجار حين حفروا لأرجلهم الحفائر وثبتوا فيها وقالوا نموت جميعا أو نظفر وإنما سموا بالعنابس لأنها أسماء الأسود وإنما سموا الأعياص لأنها أسماء الأصول، فالعنابس حرب وسفيان وأبو سفيان وعمرو والأعياص العيص وأبو العيص والعاص وأبو العاص وأبو عمرو ولم يعقب من العنابس إلا حرب وما عقب الأعياص إلا العيص(3)، فبنو مروان وعثمان من الأعياص ومعاوية وابنه من العنابس(4).

أما ما يتعلق بنسب أمية فقد ذكره ابن أبي الحديد تعليقاً على قول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام من كتاب أرسله إلى معاوية جوابا على كتاب منه اليه قال فيه عليه السلام:

«أَمَّا قَوْلُكَ إِنَّا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ فَكَذَلِكَ نَحْنُ ولَكِنْ لَيْسَ أُمَیَّةُ کَهَاشِمٍ ولاَ حَرْبٌ كَعَبْدِ

ص: 223


1- الجوهري، الصحاح، ص 905؛ النويري، نهاية الارب في فنون الادب، 2 / 352؛ الفاسي، تقي الدين محمد بن أحمد المكي (ت 832 ه)، الزهور المقتطفة من تاريخ مكة المشرفة، تحقیق علي عمر، مكتبة الثقافة الدينية، (مصر 2001)، ص 246
2- المبرد، ابو العباس محمد بن يزيد (ت 285)، نسب عدنان وقحطان، تحقيق عبد العزيز الميمني الراجكوتي، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، (الهند 1936) ص 2؛ ابن حزم، جمهرة انساب العرب، ص 14
3- شرح نهج البلاغة، 15 / 202
4- شرح نهج البلاغة، 1 / 306

اَلْمُطَّلِبِ ولاَ أَبُو سُفْيَانَ کَأَبِي طَالِبٍ و لاَ اَلْمُهَاجِرُ کَالطَّلِيقِ و لاَ اَلصَّرِيحُ کَاللَّصِيقِ»(1).

وذكر فيه أن معنى قوله ولا الصريح كاللصيق لا يعني أن هناك شبهة في نسب معاوية، إنما أراد الصريح بالإسلام واللصيق في الإسلام، فالصريح فيه هو من أسلم اعتقادا وإخلاصا واللصيق فيه من أسلم تحت السيف أو رغبة في الدنيا(2).

ولا نتفق مع ابن أبي الحديد في هذا الرأي لأن الإمام عليه السلام لو كان رأيه اللصيق من أسلم تحت السيف لاكتفى بالعبارة السابقة من نفس النص (ولا المهاجر كالطليق)، فالمعروف أن الطلقاء هم ممن أسلموا بعد فتح مكة تحت السيف وليس اعتقادا واخلاصاً، ولكن يبدو أن هناك شكاً في نسب معاوية دفع الإمام عليه السلام لأن يشهد هذه الشهادة الخطيرة، فقد ذكر بعضهم أن امية لم يكن من صلب عبد شمس وإنما هو عبد من الروم فاستلحقه عبد شمس ونسبه إلى نفسه وكانت العرب في الجاهلية إذا كان لأحدهم عبد وأراد أن ينسبه إلى نفسه أعتقه وزوجه كريمة من العرب فيلحق بنسبه فبنو أمية قاطبة ليسوا من قريش وإنما لحقوا ولصقوا بهم(3).

ويبدو أن بني امية حاولوا ابعاد الشبهة عن أمية فقالوا ان العبد ذکوان هو ابنٌ لأمية وليس أمية نفسه، وذكر ابن أبي الحديد ذلك عند تطرقه إلى نسب الوليد، فقال الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو واسمه ذکوان بن أمية بن عبد شمس وقد ذكر جماعة من النسابين أنَّ ذكوان كان مولىً لأمية بن عبد شمس من صفورية قرية من قرى الروم فتبناه و کناه أبو عمرو فبنوه موال وليسوا من بني أمية لصلبه(4). ولكن هناك بعض

ص: 224


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 89 ، کتب ورسائل (17)
2- شرح نهج البلاغة، 16 / 89
3- المجلسي، محمد باقر، بحار الانوار الجامعة لدرر أخبار الائمة الاطهار، 33 / 107؛ الشاهرودي، علي النمازي (ت 1405 ه)، مستدرك سفينة البحار، تحقیق حسن بن علي النمازي، مؤسسة النشر الاسلامي، (قم 1418 ه)، 1 / 228
4- شرح نهج البلاغة، 2 / 94

الدلائل التي استنتجناها من روايات ابن أبي الحديد و غیره تؤكد عكس ذلك منها:

اولاً: إنّ صورة أمية التي نقلت عن طريق معاصريه تؤكد أنه عبدٌ، فقد ذكر ابن أبي الحديد أنَّ عثمان بن عفان قال: إني رأيت رجلا قد أدرك الملوك يحدثني عما مضى، فذكر له رجل بحضرموت فبعث إليه فحدثه حديثا طويلا ثم قال أرأيت أمية بن عبد شمس؟ قال نعم رأيت رجلا آدم دمیما قصيرا أعمى يقال إنه نكد وإن فيه نكدا، فقال عثمان يكفيك من شر سماعه وأمر بإخراج الرجل(1)، وأمية كان مشهورا بالزنا وروی ابن أبي الحديد(2)أن أمية بن عبد شمس كان معاهراً(3)ضعیفَ النفسِ يدل على ذلك قول نفیل بن عدي حين تنافر إليه حرب بن أمية وعبد المطلب بن هاشم فنفر عبد المطلب وتعجب من إقدام حرب عليه وقال له:

أبوكَ مُعاهِرٌ وأبوهُ عفٌّ *** وذادَ الفيلُ عن بلدٍ حرامِ

وعندما كان أمية غلاما كان يسرق الحاج فسمي حارسا(4). ولعل تلك الصفات بعيدة كل البعد عن أخلاق الملوك واصحاب الرئاسة.

ثانياً: إنّ بني أمية لا يجدون أي حرج في استخدام التبني والإلحاق بالنسب اذا احتاجوها ففعلوها بالاسلام بعد أنْ ألحق معاوية زياد بن أبيه بنسبه بالقضية المعروفة التي سبق أنْ شرحناها في ثنايا البحث(5).

ص: 225


1- شرح نهج البلاغة، 15 / 176
2- شرح نهج البلاغة، 15 / 156
3- العهار: النزق والخفة والطيش والفجور. ينظر ابن منظور، لسان العرب، 339، 6، [مادة عهر]
4- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 176
5- ينظر ص 132 من الرسالة

ثالثاً: ذكر المؤرخون أنَّ عبد شمس وهاشم توأمان وأن أحدهما ولد قبل صاحبه واصبع له ملتصقة بجبهة صاحبه فنحيت عنها فسال من ذلك دم فتطير وقيل تكون بينهما دماء(1).

فاذا سلّمنا بأن الرواية صحيحة وأنَّ هاشماً كما ذكر المؤرخون توفي وله عشرون سنة وقيل خمس وعشرون سنة بغزة، وهو أول من مات من ولد عبد مناف ثم مات عبد شمس بمكة، وكان لهاشم السقاية والرفادة بعد ابيه فحسده امية بن عبد شمس على ریاسته وإطعامه فدعاه إلى المنافرة فنافره على خمسين ناقة والجلاء من مكة عشر سنين، فقضي لهاشم بالغلبة، فغاب أمية عن مكة بالشام عشر سنين(2)، فهنا حق لنا أنْ نسأل وباستغراب؟، إذا كان أمية ابناً لعبد شمس، فكيف وخلال خمس وعشرين سنة على أعلى الروايات، يتزوج عبد شمس ويولد أمية ويكبر وينافر عمه في ملأ قريش فينفيه إلى بلاد الشام؟، فالمنطق يقول إنَّ عمر أمية حينئذ بين (5 - 10 سنوات)، وهل هذا العمر يسمح لهاشم سيد مكة أن ينافر غلاماً صغيراً وينفيه خارج مكة؟ وأين كان أبوه عبد شمس من هذه الاحداث؟، لا يمكننا التسليم بهذه الرواية إلا إذا أسلمنا بأنَّ امية كان فعلاً عبداً لعبد شمس وتبناه وليس من صلبه.

رابعاً: ذكر ابن أبي الحديد أبياتاً شعرية لأبي طالب أثناء حصار قريش لبني هاشم في شعب أبي طالب فقال:

ص: 226


1- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 2 / 252؛ ابن حزم، جمهرة أنساب العرب، ص14؛ ابن الاثير، الكامل في التاريخ، 2 / 457؛ المقريزي، تقي الدين ابو العباس أحمد بن علي بن عبد القادر الشافعي (ت 845 ه)، النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم، المطبعة الابراهيمية، (مصر 1936)، ص 18
2- البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر، (ت 279 ه)، أنساب الأشراف، تحقيق محمد حمید الله ، دار المعارف، (القاهرة 1959)، 1 / 63؛ یاقوت الحموي، معجم البلدان، 6 / 388، [مادة غزة]؛ ابن الاثیر، الکامل في التاريخ، 2 / 457

توالى علينا مولیانا کلاهُما *** إذا سُئلا قالا إلى غيرنا الأمرُ

بلى لهما أمرٌ ولكنْ تراجما *** كما ارتجمت من رأسِ ذي القلعِ الصخرُ

أخصُّ خصوصا عبدَ شمسٍ ونوفَلا *** هما نبذانا مثلَ ما تُنبذُ الخمرُ

هما أغمَضا للقومِ في أخويهما *** فقد أصبحتْ أيديهما وهما صفرُ

قديما أبوهُم كانَ عبدا لجدَّنا *** بني أمةٍ شهلاءَ جاشَ بها البحرُ(1) ويبدو لنا من خلال قراءتنا لهذه الابيات أن أبا طالب يلمح إلى نسب أمية الذي كان عبدا لعبد شمس وهو من أمة جاء بها البحر مع تجارة الرقيق إلى مكة، وهو غير ما ذهب اليه ابن أبي الحديد الذي ذكر الابيات كدليل على استعباد عبد المطلب الأمية في القصة التي سبق أن ناقشناها ورفضناها(2).

خامساً: إن كلمة لصيق التي ذكرها الإمام عليه السلام في وصفه لمعاوية هي عند علماء اللغة تعني ادعاء النسب فالمُلْصَقُ: الدَّعِيُّ. وفي قوْل حاطِب: إنّي كنتُ امرأً مُلصَقاً في قُرَيْش. قيل: هو المُقيمُ في الحَيِّ وليسَ منهم بنَسبٍ(3).

ومما زادنا يقيناً، أنَّ معاوية لم يعقب على كلام الإمام عليه السلام فكأنه رضي به ولا يجد أي رد له.

وقد يسأل البعض لماذا نعت الإمام عليه السلام معاوية بهذا اللفظ مع أخلاق الإمام عليه السلام السامية والنبيلة وهل يحاسب الشخص على ما سلف، وقد أجاب ابن أبي الحديد على هذا التساؤل بقوله: (نعم إذا تبع آثار سلفه، واحتذى حذوهم، وأمير

ص: 227


1- شرح نهج البلاغة، 15 / 176
2- ينظر ص 112 من الرسالة
3- ابن منظور، لسان العرب، 8 / 58، [مادة لصق]؛ الزبيدي، تاج العروس، 13 / 482

المؤمنين عليه السلام ما عاب معاوية بأن سلفه كفار فقط، بل بكونه متبعا لهم)(1).

وذكر ابن أبي الحديد مخزوماً وأفرد لهم باباً سماه في نسب بني مخزوم وطرف من أخبارهم، ذكر فيه أنهم بعد بني هاشم وبني أمية أفخر قريش وأعظمها شرفا، وكانت قريش وكنانة ومن والاهم من الناس يؤرخون بثلاثة أشياء زمن بناء الكعبة، ويوم الفيل، ويوم مات هشام بن المغيرة(2)(3).

وَقَالَ الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وقد سُئل عن قريش فقال:

«أَمَّا بَنُو مَخْزُومٍ فَرَیْحَانَةُ قُرَيْشٍ نُحِبُّ حَدِيثَ رِجَالِهِمْ واَلنِّكَاحَ فِي نِسَائِهِمْ»(4).

وذكر ابن أبي الحديد بعض المطاعن في نسب بعض البطون التي ادعت النسب إلى قریش، فذكر آل الزبير بن العوام وقال: يقال إنهم من أرض مصر من القبط وليس من بني اسد بن عبد العزى(5)، ونقل عن الهيثم بن عدي (أنَّ خويلد بن أسد بن عبد العزي كان أتی مصراً ثم انصرف منها بالعوام فتبناه)(6)، وذكر الهيثم بن عدي (انه نبطي من أهل قهقهاء(7)، ويزعمون أن أمه مازنية، مازنية هوازن)(8). وذكر ابن أبي الحديد قول حسان بن ثابت يهجو آل العوام بن خویلد:

ص: 228


1- شرح نهج البلاغة، 15 / 91
2- من سادات العرب في الجاهلية من أهل مكة، وكان ممن شهد حرب الفجار رئيسا على بني مخزوم، كانوا يؤرخون بوفاته تسع سنين حتى تم بناء الكعبة فأرخوا بها، ينظر الصفدي، الوافي بالوفيات، 1 / 31؛ الزركلي، الاعلام 8 / 88
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 18 / 229
4- شرح نهج البلاغة، 18 / 229، (حكم ومواعظ 116)
5- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 11 / 53
6- الطائي، الهيثم بن عدي (ت 209 ه)، المثالب، تحقیق، نجاح الطائي، ملحق لكتاب مثالب العرب والعجم لابن الكلبي، دار الاندلس، (بیروت 2009)، ص140؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 11 / 53
7- ورد اسمها (قَهْقُوه) عند ياقوت الحموي وهي كورة بصعيد مصر، ينظر معجم البلدان، 7 / 105
8- الطائي، المثالب، ص 141

بني أسدٍ ما بالُ آلِ خویلدٍ *** يحنُّون شوقا كلَّ يومٍ إلى القبطِ

متى يذكروا قَهْقى يحنّوا لذِكرِها *** وللرَمَثِ المقرونِ والسَمَكِ الرقَّطِ(1) وذكر ابن أبي الحديد أنّ وقاصاً أبا سعد وإخوته أدعياء في قريش، وعلق عند ذكره أبيات حسان بن ثابت التي ذكرها ذماً لعتبة بن أبي وقاص الذي كسر رباعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد وشج وجهه :

إذا الله حيّا معشرا بفِعالهم *** ونصرهُمُ الرحمنَ ربَّ المشارقِ

فأخزاكَ ربي يا عتيبُ بن مالكٍ *** ولقّاك قبلَ الموتِ إِحدى الصواعقِ

بسطتَ يمينا للنبي محمدٍ *** فأدميتَ فاهُ قُطِّعت بالبوارقِ

فهلاّ خشیتَ اللهَ والمنزلَ الذي *** تصيرُ إليهِ عندَ إحدى الصفائقِ

فمَنْ عاذري من عبدِ عذرةَ بعد ما *** هوى في دجوجيَّ شديدَ المضایقِ

وأورثَ عاراً في الحياةِ لأهلِهِ *** وفي النارِ يومَ البعثِ أمَّ البوائقِ

(وإنما قال عبد عذرة لأن عتبة بن أبي وقاص وإخوته وأقاربه في نسبهم کلام ذکر قوم من أهل النسب أنهم من عذرة وأنهم أدعياء في قريش ولهم خبر معروف وقصة

ص: 229


1- شرح نهج البلاغة، 11 / 53، ولم يكن ابن أبي الحديد دقيقاً في نقل أبيات حسان بن ثابت حيث كان هناك اختلاف في بعض المفردات بين ما نقله وبين ما موجود في كتاب المثالب للهيثم بن عدي ص 141، الذي ذكر ثماني أبيات كان مطلعها: لقد أصبح العوّام فينا ونسله ***يحنّون شوقا كل يومٍ إلى القبطِ إذا ذكرُّ قهقاء حنّوا لذكرها *** وللرمث المقرونِ والسمكِ الرقطِ أما في الديوان فهي ٭ بني أسد ما بال آل خویلد يحنون شوقا كل يوم إلى القبط اذا ذكرت قهقاء حنوا لذكرها وللرمث المقرون والسمك الرقط ينظر ابن ثابت، حسان بن ثابت الانصاري (ت 50 ه)، الديوان، ضبط الديوان وصححه عبد الرحمن البرقوقي، دار الاندلس، (بیروت 1980)، ص 295

مذكورة في كتب النسب)(1). وذكر ابن أبي الحديد أيضاً (تنازع عبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص أيام عثمان في أمر فاختصما فقال سعد لعبد الله أسكت يا عبد هذيل، فقال له عبد الله أسكت يا عبد عذرة)(2).

ولم نجد في كتب النسب والتاريخ ما ذهب اليه ابن أبي الحديد، بل حتى الابيات التي ذکرها حسان بن ثابت فهي عندما تذكر لا نرى ذكراً لآخر بيتين من الشعر المتعلقة بالنسب مع اختلاف بسيط في بعض المفردات في الابيات الأولى(3)، ولكن الهيثم بن عدي ذكر عن رجل من بني زهرة قال : اختلف الناس في الهلال في زمن عثمان إما الصوم أو الفطر، فجاء هاشم بن عتبة بن أبي وقاص(4)، فقال: أشهد لقد رأيته، فقال له عثمان: بأمّ عينيك الصحيحة أم العوراء ؟ فقال: وما تعيروني بعين ذهبت في سبيل الله، اما والله ما كنت مثلك حين فررت يوم الزحف، فغضب عثمان فضربه ضرباً وجيعاً، وقال: يابن مسك الذنب أم والله إني لأعرف فيك انخزال بني عذرة(5).

وذكر لنا ابن أبي الحديد نسب بني ناجية ونقل لنا روايتين منفصلتين الاولى عن أبي الفرج الاصفهاني، قال فيها إنهم ينسبون أنفسهم إلى سامة بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن

ص: 230


1- شرح نهج البلاغة، 6 / 46
2- شرح نهج البلاغة، 6 / 46
3- ابن ثابت، حسان، الديوان، 346؛ ابن هشام، السيرة النبوية، 1 / 598
4- صحابي، خطيب من الفرسان، يلقب بالمرقال لأنه كان يرقل في الحرب، وهو ابن أخي سعد بن أبي وقاص. أسلم يوم فتح مكة. ونزل الشام بعد فتحها، وشهد القادسية مع "سعد " وأصيبت عينه يوم اليرموك فقيل له " الأعور " وفتح جلولاء، وكان مع علي بن أبي طالب عليه السلام في حروبه، وتولى قيادة الرجالة في صفين، وقتل في آخر أيامها (ت 37 ه)، ينظر الطوسي، ابو جعفر محمد بن الحسن (ت 460 ه)، رجال الطوسی، تحقیق جواد القيومي الأصفهاني، مؤسسة النشر الاسلامي، (قم 1415 ه)؛ الزركلي، الاعلام، 8 / 66
5- المثالب، ص 165

عدنان وقريش تدفعهم عن هذا النسب ويسمونهم بني ناجية وهي أمهم وهي امرأة سامة بن لؤي بن غالب، ويقولون إنَّ سامة خرج إلى ناحية البحرين مغاضبا لأخيه فطأطأت ناقته رأسها لتأخذ العشب فعلق بمشفرها أفعی نهشت ساق سامة فقتلته فقال أخوه کعب بن لؤي يرثيه :

عينُ جودي لسامةِ بن لؤي *** علقت ساق سامة العلاقة

ربَّ كأسٍ هَرَقَتْها ابن لؤيِ *** حَذَرَ الموتِ لم تكنْ مهراقة

قالوا وكانت معه امرأته ناجية فلما مات تزوجت رجلا في البحرين فولدت منه الحارث ومات أبوه وهو صغير فلما ترعرع طمعت أمه أن تلحقه بقريش فأخبرته أنه ابن سامة بن لؤي بن غالب فرحل من البحرين إلى مكة ومعه أمه فأخبر کعب بن لؤي أنه ابن أخيه سامة فعرف کعب أمه ناجية فظن أنه صادق في دعواه، فقبله ومكث عنده مدة حتى قدم مكة ركب من البحرين فرأوا الحارث فسلموا عليه وحادثوه فسألهم كعب بن لؤي من أين يعرفونه، فقالوا هذا ابن رجل من بلدنا يعرف بفلان وشرحوا له خبره فنفاه كعب عن مكة ونفى أمه فرجعا إلى البحرين فكانا هناك وتزوج الحارث فأعقب هذا العقب(1).

وقد ذكر ابن أبي الحديد روايةً أُخرى مخالفة للرواية الاولى عن ابن الكلبي قال فيها بأن سامة بن لؤي أعقب فولد له الحارث وأمه هند بنت تيم وغالب وأمه ناجية بنت جرم بن بابان من قضاعة فهلك غالب بعد أبيه وهو ابن اثنتي عشرة سنة فولد الحارث بن سامة لؤيا وعبيدة وربيعة وسعدا وأمهم سلمى بنت ثيم بن شيبان بن محارب بن فهر وعبد البيت وأمه ناجية بنت جرم خلف عليها الحارث بعد أبيه بنکاح مقت فهم الذين

ص: 231


1- شرح نهج البلاغة، 3 / 93؛ ينظر تفاصيل الرواية عند الاصفهاني، الاغاني، مج 4، 10 / 155

قتلهم الإمام علي عليه السلام(1).

ولعل ذكرَ ابن أبي الحديد للروايتين دليل على منهجيته في عرض كل الآراء الخاصة بالموضوع، وذكر أيضاً إنهم كانوا يسمون (قریش العازبة) لأنهم عزبوا عن قومهم فنسبوا إلى أمهم ناجية وكان الزبير بن بكار قد أدخلهم في قريش لإجماعهم على بغض الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام حسب المشهور المأثور من مذهب الزبير في ذلك(2).

كما جاء في كتاب شرح نهج البلاغة ذكر نسب ثقيف، فمن كلام الإمام علي بن أبي طلب عليه السلام للمغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي الذي قال لعثمان أنا أكفیکه بعد أن وقعت بينه وبين عثمان مشاجرة فقال أمير المؤمنين عليه السلام للمغيرة:

«يَا اِبْنَ اَللَّعِينِ اَلْأَبْتَرِ(3)واَلشَّجَرَةِ اَلَّتِي لاَ أَصْلَ لَهَا ولاَ فَرْعَ»(4).

وقد علق ابن أبي الحديد على كلام الإمام عليه السلام بقوله وإنما قال له والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع لأن ثقيفا في نسبها طعن فقال قوم من النسابين إنهم من هوازن وهو القول الذي تزعمه الثقفيون، قالوا هو ثقيف واسمه قسي بن منبه بن بکر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر وعلى هذا القول

ص: 232


1- شرح نهج البلاغة، 3 / 95؛ ينظر تفاصيل الرواية عند ابن الكلي، جمهرة انساب العرب، ج 1 / 169
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 95؛ ينظر كذلك الزبيري، نسب قریش، ص 13؛ الاصفهاني، الاغاني، مج 4، 10 / 156
3- - قال له الإمام عليه السلام يا ابن اللعين لأن الأخنس بن شريق كان من أكابر المنافقين ذكره أصحاب الحديث كلهم في المؤلفة قلوبهم الذين أسلموا يوم الفتح بألسنتهم دون قلوبهم وأعطاه رسول الله صمائة من الإبل من غنائم حنين يتألف بها قلبه وابنه أبو الحكم بن الأخنس قتله أمير المؤمنين ع يوم أحد كافرا في الحرب وهو أخو المغيرة هذا والحقد الذي في قلب المغيرة عليه من هذه الجهة، وإنما قال له يا ابن الأبتر لأن من كان عقبه ضالا خبيثا فهو كمن لا عقب له، بل من لا عقب له خير منه، ينظر ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 8 / 231
4- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 8 / 231، [خطبة 135]

جمهور الناس(1).

ويزعم آخرون أنّ ثقيفا من إياد بن نزار بن معد بن عدنان وأن النخع أخوه لأبيه وأمه ثم افترقا فصار أحدهما في عداد هوازن والآخر في عداد مذحج بن مالك بن زید بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان(2).

وقال آخرون إن ثقيفا من بقايا ثمود من العرب القديمة التي بادت وانقرضت وإن ثقيفاً كان عبداً لأبي رغال، وكان أصله من قوم نجو من ثمود، فانتمى بعد ذلك إلى قيس. وروي عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أنه مرَّ بثقيف، فتغامزوا به؛ فرجع إليهم فقال لهم: يا عبيد أبي رغال، إنما كان أبوكم عبداً له فهرب منه، فثقفه(3)بعد ذلك، ثم انتمى إلى قيس(4).

كما ذكر ابن أبي الحديد بني تميم وقال إن لهم مأثر لم يشركهم فيها غيرها وذكر منها ثلاثة:

أولها: كثرة العدد إذ ملأت السهل والجبل ومنها بنو سعد بن زيد مناة الذين ضرب فيهم المثل (من كل واد بنو سعد)(5).

وعلى الرغم من أنّ ابن أبي الحديد كان قد أورد المثل هنا كدليل على كثرة العدد، الا أن قصة المثل كما أوردها الضبي تختلف تماماً عن ما ذهب إليه إذ تذكر أن الاضبط بن قريع بن عوف بن کعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم كان يرى من قومه وهو سيدهم

ص: 233


1- شرح نهج البلاغة، 8 / 233؛ ينظر كذلك ابن حزم، جمهرة انساب العرب، ص 482
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 8 / 233؛ ينظر كذلك المبرد، الكامل في اللغة والادب، 1 / 234
3- ثقفه: أصلحه وقوّمه، وثقيف الرمح قوّم اعوجاجه، وقيل ظفر به، ينظر ابن منظور، لسان العرب، 2 / 31 ، (مادة ثقف)
4- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 8 / 234؛ كذلك ينظر الاصفهاني، الاغاني، 4 / 207؛ القلقشندي، نهاية الأرب في معرفة انساب العرب، ص 186
5- ابن أبی الحدید، شرح نهج البلاغة، 15 / 97

بغياً عليه وتنقصاً له فقال: ما في مجامعة هؤلاء خير، ففارقهم وسار بأهله حتى نزل بقوم آخرين، فإذا هم يفعلون بأشرافهم كما كان يفعل به قومه من التنقص له والبغي عليه، فارتحل عنهم وحلّ بآخرين، فإذا هم كذلك، فلما رأى ذلك انصرف وقال: ما أرى الناس إلا قريبا بعضهم من بعض، فانصرف نحو قومه وقال: أينما أوجّه ألق سعدا فأرسلها مثلا. ألق سعدا أي أرى مثل قومي بني سعد(1).

والثانية: الإفاضة إلى مني في الجاهلية، والثالثة منهم اشرف بيت في العرب الذي شرفته ملوك لخم، قال المنذر بن المنذر بن ماء السماء ذات يوم وعنده وفود العرب ودعا ببردي أبيه محرق بن المنذر فقال ليلبس هذين أعز العرب وأكرمهم حسبا فأحجم الناس، فقال أحيمر بن خلف بن بهدلة بن عوف بن کعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم أنا لهما، قال الملك بماذا؟ قال بأن مضر أكرم العرب وأعزها وأكثرها عديدا وأن تميما كاهلها وأكثرها وأن بيتها وعددها في بني بهدلة بن عوف وهو جدي، فقال هذا أنت في أصلك وعشيرتك فكيف أنت في عترتك وأدانيك؟ قال أنا أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة فدفعهما إليه وإلى هذا أشار الزبرقان بن بدر في قوله:

بردا ابن ماءِ المزنِ عمي اکتساهُما *** بفضلِ معدٍ حيثُ عُدَّتْ محاصِلُه(2)

وذكر القلقشندي أنّ بني تميم (بطن من طابخة(3)وطابخة من العدنانية وهم بنو تمیم بن مر بن أد بن طابخة)(4).

وقد ذكرهم الإمام علي بن أبي طالب، فمن كتاب له عليه السلام إلى عبد الله بن

ص: 234


1- الضبي، أمثال العرب، ص 27
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 15 / 98
3- انظر قصة طابخة وسبب تسميته ص 61 من الرسالة (موضوع الشجاعة والفروسية)
4- نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، ص 177

عباس وهو عامله على البصرة:

«وَقَدْ بَلَغَنِي تَنَمُّمرُكَ لِبَنِي تَمِيمٍ وغِلْظَتُك عَلَيْهِمْ وإِنَّ بَنِي تَمِيمٍ لَمْ يَغِبْ لَهُمْ نَجْمٌ إِلاَّ طَلَعَ لَهُمْ آخَرُ وإِنَّهُمْ لَمْ يُسْبَقُوا بِوَغْمٍ فِي جَاهِلِيَّةٍ ولاَ إِسْلاَمٍ»(1).

وعلق ابن أبي الحديد، أي لم يهدر لهم دم في جاهلية ولا إسلام يصفهم بالشجاعة والحمية(2).

كما ذكر ابن أبي الحديد نسب بني بكال الحميريين بعد ذكر نوف البكالي أحد رواة خطب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وانتقد الجوهري والقطب الراوندي بقوله قال الجوهري في الصحاح نوف البكالي _ بفتح الباء - هو منسوب إلى قبيلة بكالة، وقال القطب الراوندي في شرح نهج البلاغة بكال وبکیل شي ء واحد وهو اسم حي من همدان وبكيل أكثر. والصواب غير ما قالاه وإنما بنو بكال حي من حمير منهم هذا الشخص هو نوف بن فضالة صاحب الإمام علي عليه السلام والرواية الصحيحة الكسر لأن نوف بن فضالة بكالي بالكسر من حمير وهو بكال بن دعمي بن غوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زید بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير(3).

والغريب أنَّ ابن أبي الحديد وفي مكان آخر من الشرح وعند تطرقه للشخصية نفسها ذکر تعليق الجوهري والقطب الراوندي ولكنه لم يعلق عليهما بل أنكر معرفته بنسب بكالة واكتفى بقوله (فأما البكالي في نسب نوف فلا أعرفه)(4).

ص: 235


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 15 / 96، الكتب والرسائل (15)
2- شرح نهج البلاغة 15 / 96
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 10 / 62؛ ينظر النسب أيضاً عند القلقشندي، نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، ص 177
4- شرح نهج البلاغة، 18 / 210

ولعل طولَ فترة كتابة الشرح التي استمرت (أربع سنين وثمانية أشهر)(1) قد أنسته بعض التفاصيل التي ذكرها في مكان آخر من الكتاب، أو قد يكون قد حصل على المعلومة متأخرا بعد ذكره الرواية الأولى فألحق المعلومات بالرواية الثانية ونسي الأولى.

ص: 236


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 20 / 62

الفصل الثالث الحياة الفكرية عند العرب قبل الإسلام المبحث الأول: المعتقدات الدينية عند العرب قبل الإسلام المبحث الثاني: الطقوس الدينية عند العرب قبل الإسلام المبحث الثالث: معارف العرب قبل الإسلام المبحث الرابع: الأمثال

ص: 237

ص: 238

المبحث الأول المعتقدات الدينية عند العرب قبل الإسلام

لقد عاش العرب قبل الإسلام حياة دينية مختلفة نتيجة النضج الفكري وتطوره، فعقيدة البدوي العربي في الأصل بدائية فهو لا يهتم بالدين كثيراً، لأن حياته القاسية في الصحراء تحتاج إلى توفير كل طاقاته لغرض العيش وتوفير قوت يومه، لذلك لم نسمع عن حدوث حروب بين القبائل - مع كثرتها - بسبب الدين(1)، وكان لتأثير البيئة التي يعيش فيها دور في اختيار ديانتها، إذ وجد لكل قبيلة معتقد خاص بها، آمنت من خلاله بوجود روح كامنة مؤثرة في العالم مسببة ذلك المعتقد الذي اتخذ صورة من واقعه في بعض الحيوانات والطيور والكواكب المحيطة به فربط بينهم وبين الظواهر الطبيعية ورَسم لها خطوطاً تأثيرية وعدّها المحرك لها فنسج حولها القصص والأساطير(2)، وجعلها محوراً لحياته اليومية، فإرضائها يجلب له الخير والسعادة وغضبها يجر عليه الويلات، وبعضهم تأثر بالمؤثرات الخارجية المحيطة به والتي كان لها دور كبير في اتجاه بعض العرب نحو دياناتهم كالمسيحية واليهودية والمجوسية، فتعددت الديانات، وإلى هذا أشار الامام علي ابن أبي طالب عليه السلام إلى حياتهم الدينية قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله

ص: 239


1- ماجد، عبد المنعم، التاريخ السياسي للدولة العربية عصور الجاهلية والنبوة والخلافة، ط 7، مكتبة الانجلو المصرية، (القاهرة 1983)، ص 56
2- الجميلي، تاريخ العرب، ص 218

بقوله عليه السلام:

«وأَهْلُ اَلْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ وأَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ وطَرَائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ بَيْنَ مُشَبِّهٍ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ أو مُلْحِدٍ في اِسْمِهِ أو مُشِيرٍ إلى غَيْرِهِ فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ اَلضَّلاَلَةِ وأَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ اَلْجَهَالَةِ»(1).

وقبل الدخول في أديان العرب لابد من تعريف المعتقد والدين تعريفاً لغوياً، فالمعتقد لغةً مشتق من عقد، وعقد الحبل بمعنی شده وربطه، واعتقد بالشيء، أي اشتد وصلب(2)، فالاعتقاد هو عقد القلب على شيء لم ينتزع عنه(3)، وهو يتناول كل ما يعتقده الإنسان في مسائل الدين وغيره وفيما هو حق وباطل.

أما الدِّينُ فهو عند علماء اللغة، العادة والشأن، تقول العرب: ما زالَ ذلك دِيني ودَيْدَني أَي عادتي، والدِّين: ما یَتَدَيَّنُ به الرجل. وهي بمعنی: الطاعة والتعبد(4).

ادیان العرب

قسَّم ابن أبي الحديد في شرحه أديان العرب قبل الإسلام على صنفين: معطلة وغير معطلة(5).

أولاً: المعطلة:

وصنفهم إلى عدة أصناف منهم:

1. الدهرية:

الدهر في الأصل اسم لمدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه، وعلى ذلك قوله

ص: 240


1- ابن أبی الحدید، شرح نهج البلاغة، 1 / 126، [خطبة 1]
2- الجوهري، الصحاح، ص 768، [مادة عقد]
3- الفراهيدي، العين، 1 / 14
4- ابن منظور، لسان العرب، 3 / 349، [مادة دین]؛ الزبيدي، تاج العروس، 18 / 218
5- وصنفهم الشهرستاني إلى معطلة ومحصلة، ينظر الملل والنحل، ص 494 - 504

تعالی:

«هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا»(1).

ثم يُعَبِّر به عن كل مدة كثيرة، وهو خلاف الزمان، فإن الزمان يقع على المدة القليلة والكثيرة(2).

وذكر ابن أبي الحديد أن الدهرية من (أنكر الخالق والبعث والإعادة، وقالوا ما قال القرآن العزيز عنهم:

«وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ»(3).

فجعلوا الجامع لهم الطبع والمهلك لهم الدهر)(4)إذ كانوا يقولون لا يُميتنا إلا الأيام والليالي أي مرور الزمان، وطول العمر، إنكارا منهم للصانع أي إنما ينسبون ذلك إلى الدهر لجهلهم، ولو علموا أن الذي يميتهم هو الله، وأنه قادر على إحيائهم، لما نسبوا الفعل إلى الدهر(5)، فالحياة عندهم ماهي إلا الحياة الدنيا التي يعيشون فيها وما يهلكهم إلا الزمان الذي بمروره يبلی كل جديد ويفسد كل كائن ويموت كل حي.

وكان العرب ينسبون النوازل التي تنزل بهم من موت أو هرم إلى الدهر فيقولون أصابتهم قوارع الدهر وحوادثه وأَبادهم الدهر فيجعلون الدهر الذي يفعل ذلك فيذمونه ويسبونه(6)، وقد روي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا تسبوا

ص: 241


1- سورة الانسان: الآية 1
2- الزبيدي، تاج العروس، 6 / 427
3- سورة الجاشية: الاية 24
4- شرح نهج البلاغة، 1 / 127
5- الطبرسي، مجمع البیان، 9 / 131
6- ابن منظور، لسان العرب، 3 / 320، [مادة دهر]

الدهر، فإن الله هو الدهر) أي إن فاعل هذه الأمور هو الله تعالى، فلا تسبوا فاعلها(1)، وذكر البلاذري أن من نسب إليهم القول بالدهرية (الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم بن عمرو أحد المستهزئين المؤذين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو ابن الغيطلة، وهي من ولد شنوق بن مرة بن عبد مناف بن كنانة، وكان يقول: لقد غرَّ محمد نفسه وأصحابه أن وعدهم أن يحيوا بعد الموت، والله ما يهلكنا إلا الدهر ومرور الأيام والأحداث)(2).

2. من اعترف بالخالق وأنكر البعث والإعادة:

وقد ذكرهم ابن أبي الحديد من ضمن المعطلة وقال (وهم الذين أخبر سبحانه عنهم بقوله:

«وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ»(3))(4) إذ كانت عقلية البدوي البسيطة قد رفضت تصور أنَّ يكون هناك حياة أخرى بعد الموت، فقد ذكر ابن أبي الحديد أنَّ بعضهم(5)يرثي قتلى بدر فقال:

فماذا بالقليبِ قليبِ بدرٍ *** منَ الفتيانِ والقومِ الكرامِ

أيخبرنا ابن كبشة(6)أن سنحيا ***وكيفَ حِياةُ أصداءِ وهامِ

ص: 242


1- ابن حنبل، مسند احمد، 2 / 45؛ البخاري، صحيح البخاري / 7 / 115؛ مسلم، صحیح مسلم، 7 / 45؛ الطبرسي، مجمع البیان، 9 / 131
2- أنساب الاشراف، 1 / 132
3- سورة يس: الاية 78
4- شرح نهج البلاغة، 1 / 127
5- الابيات لشداد بن الاسود بن عبد شمس، ينظر الحوفي، أحمد محمد، الحياة العربية من الشعر الجاهلي، دار القلم، (بیروت 1972)، ص 432
6- كانت قريش تنسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي كبشة فيقولون " قال ابن أبي كبشة " و " فعل ابن أبی كبشة ". فكان (وهب) بن عبد مناف بن زهرة، أبو آمنة، يكنى بأبي كبشة. و (عمرو) بن زید بن لبيد النجاري يكنى أبا كبشة. وهو جد عبد المطلب، أبو أمه سلمي. وكان وجيز بن غالب بن عامر بن الحارث بن عمرو بن بؤى بن ملکان بن افصى بن حارثة يكنى أبا كبشة. وهو جد النبي (صلى الله عليه واله وسلم) من قِبل إمه أم وهب بن عبد مناف ابن زهرة، وكان (الحارث) بن عبد العزى بن رفاعة بن ملان اخو بني سعد بن بكر بن هوازن حاضن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكنى أبا كبشة وامراته حليمة بنت الحارث بن عبد الله بن شجنة بن جابر بن ناصرة ظئر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ينظر ابن حبیب، المحبر، ص 129

إذا ما الرأسُ زالَ بمنكبيهِ *** فقد شبَعَ الأنيسُ مِنَ الطعامِ

أيقتلني إذا ماكنتُ حَيا *** ويُحييني إذا رمَّتْ عظامي(1)

وهنا يستغرب الشاعر كيف يبعث الإنسان من جديد بعد أنْ صار طائراً حسب اعتقاده، فهو يؤمن بأن الإنسان يتحول إلى طائر ولكنه يرفض أنْ يعود الإنسان من جدید.

على الرغم من أنَّ هناك من أنکر البعث إلا أن هذا لا يعني أن العرب لم يعتقدوا به، فقد سبق أنْ بيّنا أن فكرة البلية هي من بين الافكار التي تعزز ايمان العرب بالبعث(2).

3. من اعترف بالخالق وجعل معه شريكاً وأنكر الرسل:

هم من قال عنهم ابن أبي الحديد الذين (عبدوا الأصنام وزعموا أنها شفعاء عند الله في الآخرة وحجوا لها ونحروا لها الهدي وقربوا لها القربان وحللوا وحرموا وهم جمهور العرب، وهم الذين قال الله تعالی عنهم: «وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا»(3))(4).

وقد قَّسمهم ابن أبي الحديد على قسمين:

يكنى أبا كبشة. وهو جد عبد المطلب، أبو أمه سلمي. وكان وجيز بن غالب بن عامر بن الحارث بن عمرو بن بؤى بن ملکان بن افصى بن حارثة يكنى أبا كبشة. وهو جد النبي (صلى الله عليه واله وسلم) من قِبل إمه أم وهب بن عبد مناف ابن زهرة، وكان (الحارث) بن عبد العزى بن رفاعة بن ملان اخو بني سعد بن بكر بن هوازن حاضن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكنى أبا كبشة وامراته حليمة بنت الحارث بن عبد الله بن شجنة بن جابر بن ناصرة ظئر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ينظر ابن حبیب، المحبر، ص 129.

ص: 243


1- شرح نهج البلاغة، 1 / 127
2- يراجع ص 90 من الرسالة موضوع البلية
3- سورة الفرقان: الاية 7
4- شرح نهج البلاغة، 1 / 127

أ - منهم من أطلق على الاصنام لفظة شريك ومن ذلك قوله في التلبية:

لبّيك اللهمَ لبّيك *** لبّيك لا شريكَ لكَ

إلا شريكاً هو لك *** تملُكُه وما مَلَك(1)

فهم يوحدون الله في التلبية ويدخلون معه آلهتهم، ويجعلون ملكها بيده وقد ذكرهم القرآن الكريم بقوله:

«وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ»(2).

أي ما يوحدونني لمعرفة حقي إلا جعلوا معي شریکا من خلقي(3)، وذكر أن أول من لبي هذه التلبية عمرو بن لحى واتبعه العرب بعد ذلك(4).

ب - منهم من لا يطلق على الأصنام لفظة شريك، بل يجعلها وسائل وذرائع إلى الخالق سبحانه(5)، وهم الذين قال عنهم القرآن الكريم:

«أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ»(6).

فهم كانوا يعتقدون أنهم بعبادتهم للأصنام يعبدون الله سبحانه وتعالى ويتقربون إليه ولتكون تلك الاصنام واسطة بينهم وبينه وشفعاء عنده، قال تعالی:

ص: 244


1- شرح نهج البلاغة، 1 / 128
2- سورة يوسف: الاية 106
3- ابن کثیر، البداية والنهاية، 3 / 188
4- ابن کثیر، البداية والنهاية، 3 / 189
5- شرح نهج البلاغة، 1 / 128
6- سورة الزمر: الآية 3

«وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ»(1).

انتشرت عبادة الاصنام انتشاراً واسعاً حتى كان لكل بيت وحيّ أو قبيلة آلهتها الخاصة بها، وقد تشترك طائفة من القبائل في عبادة آله معين وتعظيمه(2)، وكانت الاصنام على اشکال مختلفة، فمنها ما كان على صورة إنسان مثل ود والعزى وسواع، ومنها كان على صورة حيوان، فيغوث كان على صورة أسد ويعوق على صورة فرس ونسر على صورة نسر من الطير، ومنها ما كان جماداً لا صورة له كاللات وكانت صخرة مربعة(3).

وذكر ابن أبي الحديد أنَّ هناك (ثلاثمائة وستون صنماً) حول الكعبة عند فتح مكة(4).

يظهر من وجودها في الكعبة أنَّ قريشاً رأت أن تنتفع من قدوم القبائل العربية في موسم الحج وغيره فوضعت أصنام القبائل الشهيرة حول الكعبة حتى اذا جاء الناس وزاروا الحرم وجدوا معبوداتهم فأولوها احترامهم وتقديسهم فذبحوا وقربوا لها القرابين (5).

وقد كانت كلمة (وثن) مرادفة لكلمة (صنم)، فالوثن كما يذكر ابن أبي الحديد صنم يعبد وجمعه أوثان وسمي وثناً لانتصابه وبقائه على حالة واحدة من قولك وثن

ص: 245


1- سورة يونس: الآية 18
2- ابن الكلبي، أبي منذر هشام بن محمد بن السائب (ت 204 ه)، الاصنام، تحقيق أحمد زكي، دار الكتب، (القاهر 1995)، ص 33
3- طقوش، محمد سهيل، تاريخ العرب قبل الإسلام، دار النفائس، (بیروت 2009)، ص 245
4- شرح نهج البلاغة، 17 / 220
5- حسن، تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، دار الجيل، (القاهرة 2009)، 1 / 61

فلان بالمكان فهو واثن وهو الثابت الدائم(1).

وهناك من فرق بين الصنم والوثن، فمنهم من قال الصنم ما كان معمولا من خشب أو ذهب أو من فضة على صورة إنسانٍ، وإن كان من حجارةٍ، فهو وثن(2)، ومنهم من قال الوَثَن (كلُّ ما لَه جُثَّة مَعْمولة من جَواهِر الأرض أو من الخَشَب والحِجارة كصُورة الآدَميّ تُعْمَل وتُنْصَب فتُعْبَد. والصَّنَم الصُّورة بِلا جُثَّة، ومنهم من لم يُفَرقٍّ بَيْنَهما وأطلَقَهما على المَعْنَيَين)(3).

عبدت العرب حجراً بلا جثة فسمته نصباً يطوفون بها ويعتمرون عندها ويسمون الطواف بها الدوار، وكانوا يَنْصِبونه ويَذْبَحون عليه فيَحْمَرّ بالدم(4)، ومن حديث أبي ذرّ في إِسلامه قال: (فخَررْتُ مَغْشِيّاً عليّ ثم ارْتَفَعْتُ كأَني نُصُبٌ أَحمر، یرید أَنهم ضَرَبُوه حتى أَدْمَوْه فصار كالنُّصُب المُحْمَرِّ بدم الذبائح)(5).

يمكن القول أن العرب كان لها نوعان من الحجارة التي عبدوها؛ منها ما كان مصنوعاً على صورة ومنقوشاً عليه وهو الصنم والوثن، ومنه ما كان حجراً اعتيادياً لا يحمل أي مزية تميزه عن بقية الاحجار لكن بأشكال هندسية يسمى النصب، استخدم أول الامر كمكان لنحر الأضاحي والقرابين ثم أخذ نوعاً من القدسية عندهم.

وارتبطت عبادة الاصنام بشخصية عمرو بن لحي فقيل انه أول من غير الحنيفية، فعند سفره إلى الشام رأى العماليق يعبدون الأصنام فأعجبه ذلك، فقال ما هذه الأصنام

ص: 246


1- شرح نهج البلاغة، 9 / 81
2- ابن الكلبي، الاصنام، ص 53
3- ابن الاثير، النهاية في غريب الحديث، 5 / 151
4- ابن الكلبي، الاصنام، ص 42؛ ابن الاثير، النهاية في غريب الحديث، 5 / 60
5- ابن منظور، لسان العرب، 8 / 419، [مادة نصب]

التي أراكم تعبدونها؟ قالوا هذه أصنام نستمطرها فتمطرنا نستنصرها فتنصرنا، فقال أعطوني منها صنما أسير به إلى أرض العرب فيعبدونه فأعطوه صنما يقال له هبل فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه(1).

وأغلب الظن أن هذه الرواية لم تكن الوحيدة، بل هناك من أراد أن يعطي للأصنام بعداً زمنياً أقدم فأعادها إلى أيام آدم (عليه السلام)، فقيل إن بني شيث بن آدم وبعد وفاة آدم (عليه السلام)، جعلوه في مغارة في الجبل الذي أهبط عليه بأرض الهند، وكانوا يأتون جسده في المغارة فيعظمونه ويترحمون عليه، فحسدهم بنو قابیل بن آدم فنحتوا لهم صنما وعبدوه(2)، وهناك من ذكر أن كتابات الآشوريين التي رسمت قبل ظهور المسيح بسبعمائة سنة أو ثمانمائة سنة تدل على ان العرب كانوا مشرکين وأنهم كانوا يقيمون لآلهتهم تماثيل، إذ تشير إحدى الكتابات إلى عودة اسرحدون من غزوه لجزيرة العرب الصحراوية وكان من ضمن غنائمه تماثيل لآلهتهم(3).

وهناك رواية أخرى تقول إنَّ أول ما كانت عبادة الأحجار في بني إسماعيل وسبب ذلك لأنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم حتى ضاقت عليهم وتفرقوا في البلاد وما من أحد إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم فحيثما نزلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة وأفضى ذلك بهم إلى أن عبدوا ما استحسنوه من الحجارة ثم نسوا ما كانوا عليه من دين إسماعيل فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم

ص: 247


1- ابن الكلبي، الاصنام، ص 8؛ ابن حبيب، ابو جعفر محمد بن حبيب بن امية بن عمرو الهاشمي (ت 245)، المنمق في اخبار قریش، صححه وعلق عليه خورشيد أحمد فاروق، ط 2، عالم الكتب، (بیروت 2010)، ص 328؛ الشهرستاني، الملل والنحل، ص 492، الابشيهي، المستطرف، 2 / 83
2- ابن الكلبي، الاصنام، ص 52
3- غوستاف، حضارة العرب، ص 98

قبلهم من الضلال(1).

ومن خلال قراءتنا للروايات السابقة نستنتج أنَّ للأصنام امتداداً تاريخياً وأن العرب عبدوا الاصنام بدافع ذاتي فيهم بعد أنْ وصلتهم عن طريق الاقوام الوثنية المحيطة بهم، إما عن طريق التجارة أو عن طريق شغف العرب بالعادات والتقاليد الخارجية وطبيعته الفطرية البسيطة في تقبل الاشياء و عکسها على واقعه.

أهم الأصنام التي ذكرها ابن أبي الحديد:

من خلال دراستنا لكتاب شرح نهج البلاغة وجدنا أنَّ ابن أبي الحديد قد أشار إلى بعض هذه الأصنام التي عبدها العرب قبل الإسلام منها:

1 - هبل:

هو من الأصنام التي ذكرها صاحب شرح نهج البلاغة(2)وعدّه من أعظم أصنام قريش وكان لهم خاصة، يعظمونه ويعبدونه، وكان موقعه في مكة اتجاه الكعبة على بابها(3). جاء به عمرو بن لحي، ونصبه على الجب وهو الذي حفره ابراهيم عليه السلام في بطن البيت على يمين من دخله ليكون خزنة للبيت يلقي فيه ما يهدى للكعبة(4)، فيما يذكر جرجي زيدان أنه من آلهة الفينيقيين أو الكنعانيين وهو عندهم يسمى (هبعل) ويعني الإله الاكبر(5)، وهبل مصنوع من عقيق أحمر على صورة إنسان، مكسور اليد

ص: 248


1- ابن الكلبي، الاصنام، ص8؛ ابن کثیر، البداية والنهاية، 3 / 187، الابشيهي، المستطرف، 2 / 83
2- ابن ابی الحدید، 1 / 128
3- شرح نهج البلاغة، 17 / 210
4- العاقولي، ابو المكارم غیاث الدین محمد بن صدر الدين محمد بن محيي الدين عبد الله البغدادي الشافعي (ت 797 م)، عرف الطيب في اخبار مكة والمدينة، تحقيق محمد زينهم محمد عزب، مكتبة مدبولي، (مصر 1989)، ص 37
5- تاريخ التمدن الاسلامی، دار مكتبة الحياة، بیروت، (د.ت)، مج 3، 2 / 275

اليمني. أدركته قريش كذلك، فجعلوا له يداً من ذهبٍ(1)، وكانت له مكانة مقدمة عندهم يتبركون ويستجيرون به عند الشدائد في الحروب وفي التجارة فذكر ابن أبي الحديد أنَّ قريشاً استقسمت بالأزلام عند هبل عند خروجها لقتال المسلمين قبل واقعة بدر(2)، وكان أبو سفيان في معركة أحد تحت الجبل ينادي مرارا (أعل هبل)(3)، وقد أمر الرسول صلى الله عليه - وآله - وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام بعد فتح مكة فاقتلعه من أعلى الكعبة وكان عظيماً جداً وألقاه إلى الأرض(4).

2 - أساف ونائلة:

ذكر ابن أبي الحديد أَنهما كانا على الصفا والمروة(5)وكانت قريش اليهما تتقرب إذ ينحرون ويذبحون الذبائح(6)، فلما خرقت قريش وحلفاؤها الهدنة مع الرسول قبل فتح مكة ذهب أبو سفيان للمدينة للتفاوض مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعندما عاد اتهم بأنه آمن بالإسلام فنقل عن الواقدي عن (عبد الله بن عثمان عن أبي سليمان عن أبيه قال لما أصبح أبو سفيان حلق رأسه عند الصنمين أساف ونائلة وذبح لهما وجعل يمسح بالدم رؤوسهما ويقول لا أفارق عبادتكما حتى أموت على ما مات عليه أبي، قال فعل ذلك ليبرئ نفسه مما اتهمته قريش به)(7).

هذه الرواية تبين لنا مدى تعلق أهل مكة بالصنمين، فأبو سفیان اختارهما دون بقية

ص: 249


1- ابن الكلبي، الاصنام، ص 28
2- شرح نهج البلاغة، 14 / 78
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6 / 227
4- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغه، 1 / 46
5- شرح نهج البلاغة، 1 / 128
6- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17 / 64
7- ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، 17 / 200

الاصنام ليبين موقفه من الإسلام أمامهم، إذ يشكلان تجمعاً كبيراً للناس من جهة ومن جهة أخرى هي دليل على عدم إيمان أبي سفيان بالإسلام كما يذكر بعضهم فهو لم يؤمن وإنما كان من الطلقاء الذين دخلوا الإسلام طمعاً وخوفاً بعد فتح مكة.

وللإخباريين قصصٌ في أساف ونائلة فذكروا أنّ أساف رجل يقال له أساف بن یعلی، وأنّ نائلة هي بنت زيد، وهما من جرهم أتیا حجاجاً، وقد كان أساف يعشق نائلة في بلاد اليمن، لما دخلا الكعبة وجدا غفلة من الناس، اختليا، ففجر بها، فمسخا حجرين، وضعا عند الكعبة ليتعظ الناس بهما. فلما طال مكثهما وعبدت الأصنام، عبدا معها(1).

يبدو لنا أنّ أكثر هذه الروايات هي أساطير خلقتها العقلية الجاهلية عند العرب قبل الإسلام، فجواد علي يقول إنّ مرد القصص الذي أورده أهل الاخبار عن الصنمين إنما هو يعود إلى شكلهما. إذ كان أساف بهيأة تمثال رجل كما يظهر من الروايات ونائلة تمثال امرأة، ويظهر أنهما جلبا من بلاد الشام فنصبا في مكة فتولد من كونهما صنمين لرجل وامرأة هذا القصص المذكور ولعله من عمل القبائل الكارهة لقريش التي لم ترَ حرمة لهذين الصنمين(2).

وقد تحرّج المسلمون أول الأمر من الطواف بين الصفا والمروة لوجود الصنمين أساف ونائلة، لأن الطواف بهما في الجاهلية إنما كان للصنمين اللذين كانا عليهما، وقد جاء الله بالإسلام، ولا سبيل إلى تعظيم شيء مع الله بمعنى العبادة له(3)فأنزل الله تعالى ذكره ليبين ما هم عليه:

«إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا

ص: 250


1- ابن الكلبي، الاصنام، ص29؛ ابن حبیب، المحبر، ص 311؛ دغيم، سميح، ادیان ومعتقدات العرب قبل الإسلام، دار الفكر، (بیروت 1995)، ص 119
2- المفصل، 6 / 267
3- الطبري، جامع البیان، 2 / 62

«وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ»(1).

3 - مناة:

ذكر ابن أبي الحديد أنّه صنم کان لغسان والأوس والخزرج(2)، وكان منصوباً على ساحل البحر من ناحية المشلل بقدید(3)، بين المدينة ومكة، والعرب جميعا تعظمه وتذبح حوله، وكانت الأوس والخزرج وما حولها من عرب أهل يثرب وغيرها يحجون فيقفون مع الناس المواقف كلها، ولا يحلقون رؤوسهم. فإذا نفروا أتوه، فحلقوا رؤوسهم عنده وأقاموا عنده، لا يرون لحجهم تماما إلا بذلك. فلإعظام الأوس والخزرج يقول احدهم :

إنيّ حلفتُ يمينَ صدقٍ برةً *** بمناةَ عندَ محلِ آلِ الخزرجِ!

وكانت العرب جميعا في الجاهلية يسمون الأوس والخزرج جميعا: الخزرج. فلذلك يقول: عند محل آل الخزرج(4).

والاخباريون على خلاف فيما بينهم حول هيأة مناة وشكلها، فمنهم من يقول إنها على هيأة تمثال منحوت من الحجارة(5)، ومنهم من يقول إنها صخرة تراق عليها دماء

ص: 251


1- سورة البقرة: الآية 158
2- شرح نهج البلاغة، 1 / 128
3- المشلل وهو جبل يهبط منه إلى قديد من ناحية البحر، والمشلل والقديد اسماء مواضع قرب مكة ينظر یاقوت الحموي، معجم البلدان، 8 / 271، 7 / 22
4- ابن الكلبي، الاصنام - ص 13 - 14
5- ابن الكلبي، الاصنام، ص13؛ الطبري، جامع البيان، 27 / 79؛ العيني، عمدة القاري، 19 / 203؛ الزبيدي، تاج العروس، 20 / 207

الأضاحي(1)، وقد حاول جواد علي التوفيق بين الرأيين فقال إن الصخرة التي تراق عندها الدماء للتبرك بإرسال الرياح وحلول الامطار عند الساحل لإغاثة الناس قد تكون مذبحاً أقيم عند الصنم أو عند معبده لتذبح عليه من يهل للصنم(2).

ومناة من الاصنام التي ذكرت في القرآن الكريم:

«وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى»(3).

فلما خرج رسول صلی الله عليه وآله وسلم من المدينة سنة ثمانٍ من الهجرة، وهو عام الفتح بعث علي بن أبي طالب عليه السلام فهدمها وأخذ ما كان لها(4).

4 - اللات:

ذكر ابن أبي الحديد أنّها صنم کان لثقيف بالطائف(5)، وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم:

«أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى»(6).

ویری ابن الكلبي إنها كانت عبارة عن صخرةٍ مربعةٍ. وكان سدنتها من ثقيف بني عتاب بن مالكٍ. وقد بنوا عليها بناءً. وكانت قریش وجميع العرب تعظمها وهي تعود إلى يهودي يبيع السمن واللبن للحجاج(7)، وأضاف ياقوت الحموي أن اللات رجلٌ من

ص: 252


1- یاقوت الحموي، معجم البلدان، 8 / 325، [مادة مناة]؛ ابو حیان، تفسير البحر المحيط، 8 / 159
2- أبحاث في تاريخ العرب قبل الإسلام، دراسة ومراجعة نصير الكعبي، دار المحجة البيضاء، (بیروت 2011)، 11 / 139
3- سورة النجم: الآية 20
4- ابن الكلبي، الاصنام - ص 15
5- شرح نهج البلاغة، 1 / 128
6- سورة النجم: الآية 19
7- الاصنام، ص 16

ثقیف فلما مات قال لهم عمرو بن لحي: لم يمت ولكن دخل في الصخرة ثم أمرهم بعبادتها وأن يبنوا عليها بنیانا يسمى اللات(1).

ويبدو أن هذا الكلام فيه نوع من الخيال والخرافة التي تعودت عليها العرب في الكثير من رواياتها لإضافة نفحة أسطورية على الاصنام التي تعبدها وتتقرب اليها، وهنا تبرز شخصية عمرو بن لحي مرة أخرى، فمرة هو أول من أدخل الاصنام لبلاد العرب، ومرة هو من صنع الخرافات والقصص لعبادة الصنم اللات، وكأن أعباء عبادة الاصنام لا تجد من يحملها سواه، ونحن نعتقد أنَّ شخصية عمرو بن لحي إما أنْ تكون شخصية اسطورية لا وجود لها، أو شخصية موجودة ومعروفة وارتبط اسمه بإدخال صنم واحد مشهور ولكنَّ الاخباريين نسبوا إليه بعد ذلك كل رواية عن وصول صنم للجزيرة العربية لم يستطيعوا الحصول على معلومات معروفة عنه.

وقيل إنما هي على صورة أُنثى، وكانوا يعظمونها ويسمونها الربة، وقد بلغ من تمسكهم الشديد وحبهم لها أنهم طلبوا من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حينما ذهب وفدهم ليفاوضه على الإسلام أنْ يدع لهم اللات لا يهدمها ثلاث سنين فأبی رسول صلی الله عليه وآله وسلم ذلك عليهم فما برحوا يسألونه سنة ويأبى عليهم حتى سألوا شهرا واحدا بعد مقدمهم فأبى عليهم أن يدعها شيئا مسمى، وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام، فأبی رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها، فهدماها(2).

ص: 253


1- معجم البلدان، 7 / 168، [مادة اللات]
2- ابن هشام، السيرة النبوية، 4 / 137؛ الصواط، عيضة بن عبد الغفور، شعراء ثقيف في العصر الاموي، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية اللغة العربية، جامعة ام القرى، السعودية، 1983، ص 36

5 - العزی:

ذكر ابن أبي الحديد أنها لكنانة وقريش وبعض بني سليم(1)، وهي تعني لغة القوة والغلبة والصلابة(2)، والعزى کانت شجرةً، عندها وثن(3)، وكانت قريش تخصها بالهدايا والزيارة ويتقربون عندها بالذبائح وعندما كانت تطوف بالكعبة تقول:

واللاتُ والعُزّىْ *** ومناةَ الثالثةَ الأخرى فإنُهَّن الغرانيقُ العُلی *** وإن شفا عتهُنَّ لتُرتجی

كانوا يقولون: بنات الله (عز وجل عن ذلك) وهن يشفعن إليه(4).

فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أنزل عليه:

«أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى»(5).

6 - أصنام قوم نوح:

هي خمسة من أصنام العرب المشهورة التي ذكرها القرآن الكريم بقوله تعالی:

«وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا»(6).

ص: 254


1- شرح نهج البلاغة، 1 / 128
2- ابن منظور، لسان العرب، 6 / 141، [مادة عزز]؛ الزبيدي، تاج العروس 8 / 111
3- ابن حزم، جمهرة أنساب العرب، ص 491
4- ابن الكلبي، الاصنام، ص 19
5- سورة النجم: الآيات 19 - 23
6- سورة نوح: الآية 23

وهي الأصنام التي كانت يعبدها قوم نوحٍ، وقد أخذها عمرو بن لحي من ساحل جدة ودعا العرب إلى عبادتها(1)، وقد ذكر ابن أبي الحديد أنَّ ود كان لكلب بدومة الجندل وسواعاً لهذیل ونسر لحمير ويغوث لهمدان(2).

وكان ود (عبارة عن تمثال رجلٍ كأعظم ما يكون من الرجال، قد ذبر عليه حلتان، متزر بحلة، مرتد بأخرى. عليه سيف قد تقلده وقد تنكب قوسا، وبين يديه حربة فيها لواء، ووفضة أي جعبة فيها نبل)(3)، أما سواع فهو صنم على صورة امرأة دفعه عمرو بن لحي إلى رجل من هذيل يدعي الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل المضري فنصبه في رهاط من بطن نخلة(4)بعيدة عن مضر وكان سدنته بني لحيان(5)، اما يغوث فكان صنماً على صورة أسد وكان بأكمة مذحج باليمن فعبدته مذحج ومَن والاها وظن بعضهم إنه يمثل الإله الأسد، وهو طوطم(6)قبيلة مذحج(7).

أما يعوق فكان صنماً على هيأة فرس وعبدته همدان ومن والاها من أهل اليمن(8)

ص: 255


1- ابن الكلبي، الاصنام، ص 13؛ یاقوت الحموي، معجم البلدان، 5 / 89، [مادة سواع]
2- شرح نهج البلاغة، 1 / 128
3- ابن الكلبي، الاصنام، ص 56
4- موضع على ثلاث ليال من مكة، وقال قوم: وادي رهاط في بلاد هذيل، وقيل: هو هو جبل قرية يقال لها رُهاط بقرب مكة على طريق المدينة، ينظر ياقوت الحموي، معجم البلدان، 4 / 450
5- ابن الكلبي، الاصنام، ص 10؛ ياقوت الحموي، معجم البلدان، 5 / / 89، [مادة سواع]؛ طقوش، تاریخ العرب قبل الإسلام، ص 25
6- الطوطمية: وهو لفظ يراد به کائنات كانت تحترمها بعض القبائل العربية ويعتقد كل فرد من أفراد القبيلة بعلاقة نسب بينه وبين واحد منها يعتقدون أنه جدهم الأعلى يتسمون باسمه ويعبدونه ويقدسونه وقد يكون الطوطم حيواناً أو نباتاً، ينظر زیدان، جرجي، تاريخ التمدن الاسلامي، مج 2، 3 / 260
7- علي، المفصل، 6 / 261
8- ابن الكلبي، الاصنام، ص 57؛ دغيم، سميح، ادیان ومعتقدات العرب، ص 118

واسمه يدل على الإعاقة والمنع ولعل المقصود منع الشر، وهو الحارس من الشرور(1).

أما نسر فكان موضعه في أرض سبأ يقال له بلخع، تعبده حمير ومن والاها(2)وجاء ذكره في قصائد الشعراء:

أما ودماءٌ لا تزالُ كأنَّها *** على قنةِ العزّي وبالنسرِ عندَها(3)

ولم يشر ابن الكلبي إلى صورة الصنم نسر، ولكننا يمكن أن نستنتج أنه كان على هيأة الطائر المسمى باسمه ويؤيد هذا الرأي ما نقل عن الطبرسي في أشكال الاصنام بإسناده إلى الواقدي قال: (كان ود على صورة رجل وسواع على صورة امرأة ويغوث على صورة أسد ويعوق على صورة فرس ونسر على صورة نسر)(4).

وهناك الكثير من الاصنام التي لم يذكرها ابن أبي الحديد التي عبدها العرب قبل الإسلام وقدسوها نصبت بعضها في مكة عند الكعبة فضلا عن وجودها في مدن أخرى محيطة بها(5).

4 - أصحاب التجسيم والتناسخ:

ذكر ابن أبي الحديد أنَّ من العرب من شّبهوا الله (سبحانه وتعالی) بخلقه فجعلوا له

ص: 256


1- البكر، منذر عبد الكريم، معجم أسماء الالهة والاصنام لدى العرب قبل الإسلام، مجلة أبحاث البصرة، كلية التربية، 1988، ص 49
2- ابن الكلبي، الاصنام، ص 57
3- ابن منظور، لسان العرب، 8 / 394، [مادة نسر]
4- مجمع البیان، 10 / 138
5- للمزيد من المعلومات والتفاصيل حول الاصنام، ينظر الحديثي، أنمار نزار عبد اللطيف، الديانة الوضعية عند العرب قبل الإسلام، اطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية الاداب، جامعة بغداد، 2003، فص 3 ص 97 - 122؛ البكر، منذر، معجم اسماء الالهة والاصنام لدى العرب قبل الإسلام

يداً ورجلاً وعيناً وأطلق عليهم اسم (المشبهة والمجسمة)(1)، وهم الذين قالوا إن الله على صورة آدم فشبهوه بالأصنام التي كانت الجاهلية تعبدها وأعطوه حلية المخلوقين لما اقتضت أوهامهم ذلك من حيث لم يألفوا أن يكون القادر الفاعل العالم إلا جسما، وجعلوه مرکَّبا ومتجزئا كما تتجزأ الأجسام وقدروه على هذه الخلقة يعني خلقة البشر المختلفة القوى لأنها مركبة من عناصر مختلفة الطبائع(2)، ومن أبرز هؤلاء أمية بن أبي الصلت وهو القائل:

من فوقِ عرشٍ جالسٍ قد حطَّ *** رجلَيه إلى كرسيَّهِ المنصوبِ(3)

وقد ذكرهم ابن أبي الحديد بعد ذكره خطبة للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يذكرهم فيها إِذْ قال (عليه السلام):

«كَذَبَ اَلْعَادِلُونَ بِكَ إِذ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ ونَحَلُوكَ حِلْيَةَ اَلْمَخْلُوقِينَ بِأَوْهَامِهِمْ وجَزَّءُوكَ تَجْزِئَةَ اَلْمُجَسَّمَاتِ بِخَوَاطِرِهِمْ وقَدَّرُوكَ عَلَى اَلْخِلْقَةِ اَلْمُختَلِفَةِ اَلْقُوَى بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ وأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ ساَوَاكَ بِشَيْ ءٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ واَلْعَادِلُ بِكَ كَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَت بِهِ مُحْكَمَاتُ آیَاتِكَ ونَطَقَتْ عَنْهُ شَوَاهِدُ حُجَجِ بَیِّنَاتِكَ»(4).

وعلق ابن أبي الحديد بقوله أما أصحاب التناسخ وتنقل الارواح في الاجساد فمنهم أصحاب أرباب الهامة(5)، الذين يعتقدون بأنَّ الإنسان اذا قتل اجتمع دم الدماغ وأجزاء

ص: 257


1- شرح نهج البلاغة، 1 / 127
2- شرح نهج البلاغة، 6 / 320
3- بن أبي الصلت، أمية، الديوان، تحقيق بهجت عبد الغفور الحديثي، ط 2، دار الشؤون الثقافية العامة، (بغداد 1991)، ص164؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 128
4- شرح نهج البلاغة، 6 / 320، [خطبة 90]
5- ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، 1 / 127

بنيته فانتصب طيراً يحوم حول القبر(1).

واعتقد العرب أنّ في كل شيء حياة فعبدوا وقدسوا الاشياء المادية كالحجارة والاشجار والكهوف، فالروح هي المعبودة لا الحجر الذي تحل فيه الروح وما الحجر والمواد الاخرى إلا بيتٌ تحل فيه الروح (فكان الرجل، إذا سافر فنزل منزلاً، أخذ أربعة أحجارٍ فنظر إلى أحسنها فاتخذه رباً، وجعل ثلاث أثافي لقدره؛ وإذا ارتحل ترکه. فإذا نزل منزلا آخر، فعل مثل ذلك، فكانوا ينحرون ويذبحون عند كلها ويتقربون إليها)(2).

وكانوا يختارون الاحجار الغريبة والجديدة فيعبدونها فإذا رأوا حجراً أفضل وأحسن منه تركوا القديم وأخذوا الحجارة الجديدة وعبدوها، ويؤيد ذلك ما قاله القرطبي عند تفسيره الاية:

«أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا»(3).

قال: (وكان أحدهم يعبد الحجر فإذا رأى ما هو أحسن منه رمی به وعبد الآخر)(4).

5 - عبادة الجِنُّ:

الجِنُّ نوعٌ من المخلوقات سمُّوا بذلك لاجْتِنانِهم عن الأَبصار ولأَنهم اسْتَجَنُّوا من الناس فلا يُرَوْن والجمع جِنانٌ وهم الجِنَّة(5)، ويرى الدميري انهم (أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، لها عقول وأفهام وقدرة على الأعمال الشاقة. وهم

ص: 258


1- ينظر موضوع الهامة ص 78 من الرسالة
2- ابن الكلبي، الاصنام، ص 33
3- سورة الفرقان: الآية 43
4- القرطبي، الجامع لاحکام القرآن / 16 / 167
5- ابن منظور، لسان العرب، 2 / 230، [مادة جنن]

خلاف الإنس)(1)، وقد ورد ذكرهم في القرآن الكريم بقوله تعالی:

«وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ»(2).

وذكر المفسرون وأصحاب اللغة أنّ المارج هو اللهب الخالص الذي لا دخان فيه خلقت منه الجان(3).

ولأن الاعتقاد السائد عند العرب قبل الإسلام بوجود قوى خفية تحرك الكثير من الظواهر، فقد صور العرب الجن بأشكال تشبه بعض الحيوانات المحيطة بهم، فاعتقدوا أنها قادرة على الظهور والاختفاء، ولها القدرة على تغيير اشكالها، وذكر ابن أبي الحديد أبرز تلك الحيوانات مثل (الديك والغراب والحمامة وساق حر وهو الهديل والحية، فمنهم من يعتقد أن للجن بهذه الحيوانات تعلقات، ومنهم من يزعم أنها نوع من الجن)(4).

أما عبادة العرب للجن فقد تطرق لها ابن أبي الحديد عند ذكره الآية القرآنية:

«قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ»(5).

وقال : إنهم عبدة الشيطان المضلة لهم وإنهم ما أطاعوا الله(6)، وذكر ابن الكلبي أنّ

ص: 259


1- الدميري، محمد بن موسی بن عيسى بن علي كمال الدين المصري الشافعي (ت 808 ه)، حياة الحيوان الكبرى، دار احیاء التراث العربی، (بیروت 2011)، 1 / 314
2- سورة الرحمن: الآية 15
3- الطبري، جامع البیان، 1 / 290؛ الجوهري، الصحاح، ص 1045، [مادة مرج]؛ القرطبي، الجامع لاحکام القرآن، 10 / 24
4- شرح نهج البلاغة، 19 / 336
5- سورة سبأ: الآية 41
6- شرح نهج البلاغة، 11 / 218

بني مليحٍ من خزاعة - وهم رهط طلحة الطلحات - يعبدون الجن وفيهم نزلت:

«إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ»(1))(2).

وهناك من حاول أنْ يبعد الجن إلى خارج الجزيرة العربية وعدّها كما عُدّت الاصنام وافدة من خارجها، حيث ذكر أحد الباحثين المعاصرين (أنَّ فكرة الجن خارجية ادخلها إلى الجزيرة العربية جيرانها الشماليون بدلیل شیوع قصص بناء جن اسماعيل مدينة (تامار) التي فسرها العبرانيون بانها تدمر، كما أنَّ فكرة الجن هي نوع من الارواحية كانت منتشرة بين العبرانيين في المجتمعات الشرقية القديمة)(3).

وسواء أكانت الجنُ عبادةً أو فكرة خارجية، أو ظهرت من قلب الجزيرة العربية نتيجة التراكمات الفكرية المنتشرة هناك، فقد عرف العرب الجن معرفة واسعة حتى جعلوا عالمهم شبيهاً بعالمهم يتكون من عشائر وقبائل ومن قبائلهم (درهش، العسل، بنو هبام، العسر، دهرش)(4)، وغالباً ما تكون تلك المناطق، أماكن موحشة ومقفرة ومظلمة ومهجورة لتتلائم مع تصورات العرب التي رسموها للجن المتواجد في المناطق التي لا يصلها الإنسان والتي يسمونها المناطق المسكونة(5).

وألفوا قصصاً خيالية وحواراً للجن مع الإنسان، فقد ذكر ابن أبي الحديد أكثر من رواية عن ذلك منها قصة عمرو بن یربوع الذي تزوج من الجن، فكانت تقول له إذا لاح البرق من جهة بلادي وهي جهة كذا فاستره عني وإن لم تستره عني تركت ولدك عليك

ص: 260


1- سورة الاعراف: الآية 194
2- الاصنام، ص 34
3- طقوش، تاريخ العرب قبل الإسلام، ص 226
4- حمودي، أحمد، جولة مع الجاهلية في عالم الجن، مجلة التراث الشعبي، العدد الثامن والتاسع، السنة السابعة، بغداد، 1979، ص 6
5- طقوش، تاريخ العرب قبل الإسلام، ص 226

وطرت إلى بلاد قومي، فغفل عنها ليلة وقد لمع البرق فلم يستر وجههاً فطارت، ومنهم من يقول ركبت بعيرا وطارت عليه أي أسرعت فلم يدركها وعن هذا فبنو عمرو بن يربوع إلى اليوم يدعون بني السعلاة ولذلك قال الشاعر يهجوهم:

ياقبَّحَ اللهُ بني السعلاةِ

عمرو بن یربوعٍ شرار الناتِ

ليسوا بأبطالٍ ولا أكياتِ

فأبدل السين تاء وهي لغة قوم من العرب(1).

وذكر في موضع آخر رواية عن زواج شخص يدعى البهراني تزوج غولاً وهي نوع من أنواع الجن وكان صداقها خمراً وغزالاً، قال البهراني:

وتزوجتُ في الشبيبةِ غولاً *** بغزالٍ وصَدقتيِ زق خمرِ(2)

وقال الجاحظ أصدقها الخمر لطيب ريحها والغزال لأنه من مراكب الجن(3).

ذكر ابن أبي الحديد أنَّ احدهم خرج وصاحباً له يسيران فإذا غلام على الطريق فقالا له من أنت؟ قال أنا مسكين قد قطع بي، فقال أحدهما لصاحبه أردفه خلفك فأردفه فالتفت الآخر إليه فرأى فمه يتأجج نارا فشد عليه بالسيف فذهبت النار فرجع عنه ثم التفت فرأى فمه يتأجج نارا فشد عليه فذهبت النار ففعل ذلك مراراً فقال ذلك الغلام قاتلكما الله ما أجلد كما والله ما فعلتها بآدمي إلا وانخلع فؤاده ثم غاب عنهما فلم يعلما

ص: 261


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 334
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 19 / 338
3- الحيوان، مج 2 / 6 / 439

خبره(1).

يبدو أنّ العرب لكثرة حديثهم عن الجن، ولأنهم كانوا يهابونه كثيراً ويعدونه مصدر خوف وقلق، فقد حاول بعضهم أن يرسم لنفسه صورة البطل الشجاع الذي لا يهاب هذا المخلوق، حتى إن المخلوقات نفسها تقر له بذلك لشجاعته وصموده وقوة قلبه على تحمل رؤيته للجن دون أن يرعبه أو يخيفه.

وهناك رواية أخرى عن رجل من كلب يدعى عبيد بن الحمارس الكلبي الذي نزل وادياً مع أهل بيته فقتل أنثى قنفذ، فلما جن الليل جرت بينه وبين الجن مخاطبة طويلة أثبت من خلالها شجاعته فتركوه على أن يدفع الدية ففعل(2).

وعلى الرغم من أنَّ ابن أبي الحديد كان يعلم إنها قصص خرافية، وإنها وضعت من نسج خيالهم إلا أنه كان يبرر وجودها في كتابه لأغراض تخص محتوی ما موجود فيه، إذ يقول عند الانتهاء من سرد روايته السابقة (وهذه الحكاية وإن كانت كذبا إلا أنها تتضمن أدبا وهي من طرائف أحاديث العرب فذکرناها لأدبها وإمتاعها)(3). أنواع الجن:

كان للجن أنواع ومراتب وأسماء متعارف عليها ذكرها ابن أبي الحديد بسنده إلى الجاحظ، فقال (كانوا يسمون من يجاور منهم الناس عامرا والجمع عمّار، فإن تعرض للصبيان فإنه روح، فإن خبث وتعرم فهو شيطان، فإن زاد على ذلك فهو مارد فإن زاد على ذلك في القوة فهو عفریت، فإن طهر ولطف وصار خيرا كله فهو ملك)(4)، وهكذا

ص: 262


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 337
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 19 / 343
3- شرح نهج البلاغة، 19 / 344
4- شرح نهج البلاغة، 19 / 335؛ المزيد من التفاصيل ينظر الجاحظ، الحيوان، مج 2، 6 / 424

نرى أنَّ للجن أشكالاً وأنواعاً حسب نوع الاعمال المكلف بها ولعل من أشدهم، الخبل أو الخابل، وهو المكلف بالفساد والمس(1)، وذكر في الكثير من اشعار العرب كقول المهلهل:

لو كنتُ أقتلُ جنَّ الخابلينَ كما *** أقتلُ بكراً لأضحى الجنَّ قد نفدوا(2) وقال أوس بن حجر(3):

لليلي بأعلى ذي معاركِ منزلٍ *** خلاءٍ تنادي أهلُهُ فَتَحّملوا

تبدلَ حالاً بعد حالٍ عهدتُه *** تناوَحَ جنّان بِهِن وخبلُ

ويبدو لنا من خلال ما ذكر أن (الخبل) من الجن المتخصص بمس البشر ولذلك قيل الخبل هو المس أو الجنون أو فساد العقل(4).

أما أصوات الجن فذكر ابن أبي الحديد أنَّ العرب تسميها العزيف وأنهم يسمعون الهاتف بذلك(5). ذکر زهیر بن أبي سلمى أصواتها المخيفة بقوله:

ص: 263


1- الجاحظ، الحيوان، مج 4، 6 / 426؛ جمعة، حسین، الحيوان في الشعر الجاهلي، دار ارسلان، (دمشق 2010 م)، ص 209
2- ابن ربيعة، المهلهل، الديوان، شرح وتقديم طلال حرب، الدار العالمية، بيروت، (د.ت)، ص 28
3- ابن حجر، اوس، الديوان، تحقيق محمد یوسف نجم، ط 3، دار صادر، (بیروت 1979)، ص 94
4- ابن منظور، لسان العرب، 3 / 16، [مادة خبل]
5- شرح نهج البلاغة، 19 / 335

وبلدۃٍ لا تُرام خائفةٍ *** زوراءَ مقبرةِ جوانبها

تسمعُ للجن عازفينَ بها *** تضبحُ من رهبةٍ ثعالبُها(1)

ذكر ابن أبي الحديد أنَّ العرب قد جعلوا للجن مراكب يمتطوها مثل (الورل(2)والقنفذ والظبي واليربوع والنعام والديك و الغراب والحية)(3)، ومن الشعر المنسوب للجن الذي ذكره ابن أبي الحديد:

وكلُ المطايا قد ركبنا فلم نجد *** ألذَّ وأشهى من ركوب الأرانبِ

وقول بعضهم في قنفذ رآه ليلاً:

فما يعجبُ الجنّان منكَ عدمِتَهُم *** وفي الأسْدِ أفراسٌ لهم ونجائبُ

أيسرجُ يربوعُ ويلجَمُ قنفذُ *** لقد أعوَزتٌكم ما علمتُ النجائبُ

فإن كانت الجنان جنّت فبالحرى *** لا ذنبَ للأقوام والله غالبُ(4)

وذكر ابن أبي الحديد أنَّ العرب كانوا يعتقدون أنَّ لكل شاعر شیطانا يلقي إليه، قال بعضهم:

ص: 264


1- الديوان، ص 28
2- الورل: بفتح الواو والراء المهملة، دابة على خلقة الضب إلا أنه أعظم منه، وقيل إنه العظيم من الوزغ، طویل الذنب سریع السير، خفيف الحركة، وهو لا يتخذ بيتاً لنفسه ولا يحفر له جحراً بل يخرج الضب من جحره صاغراً، ويستولي عليه، وإن كان أقوى براثن منه لكن الظلم يمنعه من الحفر، ولهذا يضرب بالورل المثل في الظلم، ينظر الدميري، حياة الحيوان الكبرى، 2 / 554
3- شرح نهج البلاغة، 19 / 334
4- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 19 / 336

إنّي وإن كنتُ صغيرَ السنِ *** وكان في العينِ نبوٌّ عنّي

فإنّ شيطاني أميرُ الجنِ *** يذهب بي في الشعرِ كلُّ فنِ(1)

قال حسان بن ثابت:

ولي صاحبٌ من بني الشیصبانِ *** فطورا أقولُ وطوراً هوه(2)

وهم لم يكتفوا بنسبة شعرهم إلى الشياطين وتقاسمهم الشعر فيما بينهم بل سموها واشتهروا بها، فكان لكل شاعر شيطانه المسمى، فشيطان الاعشى (مسحل) وشيطان المخبل (عمرو). فقال الأعشى:

دعوتُ خليلَّي مسحّلا ودعوا له *** جهنام جدعا للهجينِ المذممِ(3) وقال آخر:

لقد كان جنيُّ الفرزدقِ قدوةً *** وما كان فينا مثل فحل المخبلِ

ولا في القوافي مثل عمروٍ وشيخِهِ *** ولا بعد عمروٍ شاعرٌ مثل مسحلِ(4)

وهناك من حاول أن يعكس العادات والتقاليد البدوية على واقع وخیال شیطان الشعر، فلم يرضَ ان يكون شيطانه مثل باقي الشعراء فادّعى أن شيطانهم أنثى وهي

ص: 265


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 345
2- الديوان، ص 484
3- الديوان، ص 184
4- ذكر الجاحظ إنها لأعشى سليم، ينظر الحيوان، مج 2، 6 / 440

تمثل الضعف في مجتمع العرب قبل الإسلام بينما نسب لنفسه أنْ يكون شيطانه ذكراً وهو يمثل الرجولة والقوة فقال:

إنّي وكلُّ شاعرٍ من البشرْ *** شیطانُهُ أنثى وشيطاني ذكرْ(1)

اعتقاد العرب بالجن على الرغم من أنّ العرب قد نقلوا الكثير من القصص والحكايات والاشعار عن الجن التي كان قسم كبير منها محاطاً بهالة من الأسطورة والخيال كما بيّنا حتى طبعت في أذهان الناس على أنها جزء من الواقع إلا أن هناك من شكك فيها وانتقدها:

اولاً: إن ابن أبي الحديد قد أدرك هذه الحقيقة فنقل لنا رأي الجاحظ واتفق معه بقوله (إن القوم لما نزلوا بلاد الوحش عملت فيهم الوحشة ومن انفرد وطال مقامه في البلاد الخلاء استوحش ولا سيما مع قلة الأشغال وفقد المذاكرين، والوحدة لا تقطع أيامها إلا بالتمني والأفكار وذلك أحد أسباب الوسواس)(2)، وزاد عليها الجاحظ مما لم ينقله ابن أبي الحديد وهو يمثل تحليلاً علمياً جميلاً لعالم الجن عند العرب قبل الإسلام (وإذا استوحشَ الإنسان تمثّل له الشّيء الصغيرُ في صورة الكبير، وارتاب، وتفرَّق ذهنُه، وانتقضت أخلاطُه، فرأى ما لا يُرى، وسمع ما لا يُسمع، وتوهم على الشيء اليسير الحقير، أنه عظيمٌ جليل، ثمَّ جعلوا ما تصوَّر لهم من ذلك شعرا تناشدوه، وأحاديث توارثوها فازدادوا بذلك إيماناً ، ونشأ عليه الناشئ، ورُبّي به الطِّفل، فصار أحدهم حين يتوسَّط الفيافيَ، وتشتملُ عليه الغيظان في اللَّيالي الحنادس - فعند أوَّل وحْشةٍ وفزْعة ، وعند صياح بُوم ومجاوبة صدًى، وقد رأى كلَّ باطل، وتوهَّم كلَّ زُور، وربما كان في

ص: 266


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 345
2- ابن أبي الحدید، شرح نهج البلاغة، 19 / 335

أصل الخلْق والطبيعة كذّاباً نفّاجاً، وصاحبَ تشنيعٍ وتهويل، فيقولُ في ذلك من الشِّعر على حسب هذه الصِّفة، فعند ذلك يقول: رأيتُ الغيلان وكلّمت السِّعلاة ثمَّ يتجاوزُ ذلك إلى أن يقول قتلتها، ثم يتجاوزُ ذلك إلى أن يقول: رافَقتها ثمَّ يتجاوز ذلك إلى أن يقول: تزوَّجتها)(1).

لعل هذا الوصف يعطي تصوراً دقيقاً لكيفية توغل قصص الجن في نفوس العرب مع الاخذ بعين الاعتبار أنَّ بيئة مجتمع ما قبل الإسلام المحاطة بالصحراء والوحدة والخيال كانت تمثل مناخاً واسعاً لهكذا تصورات.

ثانياً: ذكر المسعودي في معرض حديثه عن الهواتف والجان (أن الإنسان إذا صار في مثل هذه الأماكن وتوحَّد، تفکر، وإذا هو تفکر وجِلَ وَجَبُنَ، وإذا هو جبن داخلته الظنون الكاذبة، والأوهام المؤذية، والسوداوية الفاسدة، فصورت الأصوات، ومثلت له الأشخاص، وأوهمته المحال، بنحو ما يعرض لذوي الوسواس، وقُطْبُ ذلك، وأسُه سوء التفكير، وخروجه على غير نظام قوي، أو طریق مستقیم سليم؛ لأن المتفرد في القفار والمتوحد في المَرَوْرَاة مستشعر للمخاوف، متوهم للمتالف، متوقع للحُتُوف؛ لقوة الظنون الفاسدة على فكره، وانغراسها في نفسه، فيتوهم ما يحكيه من هَتْف الهواتف به واعتراض الجان له)(2).

من خلال قراءتنا لهذا النص والنص الذي قبله تنكشف لنا الصورة الحقيقية عن أسباب تعلق العرب بقصص الجان و ظهورها في أسفارهم وخلواتهم وتوهماتهم.

وقد أورد لنا ابن أبي الحديد مجموعة من الروايات حول اعتقادات العرب بالجان وتأثيرها على حياتهم الاجتماعية منها:

ص: 267


1- الحيوان، مج 4، 6 / 450
2- مروج الذهب ومعادن الجوهر، 2 / 362

من تقاليدهم تعلیق کعب الارنب، يقولون إن من علق عليه كعب أرنب لم تقربه جنان الدار، وكانوا يعلقون على الصبي سن ثعلب وسن هرة خوفا من الخطفة والنظرة، ومن أساطيرهم إن جنية أرادت صبي قوم فلم تقدر عليه فلامها قومها من الجن في ذلك فقالت تعتذر إليهم:

كأن عليه نَفَره ثعالبٌ وهِرَرَه *** والحيضُ حيضُ السمرة

و السمرة شيء يسيل من السمر كدم الغزال(1)، وكانت العرب إذا ولدت المرأة أخذوا من دم السمر وهو صمغه الذي يسيل منه ينقطونه بين عيني النفساء وخطوا على وجه الصبي خطا وتسمى هذه الأشياء التي تعلق على الصبي النفرات(2).

ومن عادات العرب قبل الإسلام تسمية اطفالهم بأسماء الحيوانات لتجنبهم خطر التعرض للجن، فذكر ابن أبي الحديد أنَّ أحد الأعراب ولد له ولد فسماه قنفذا وكناه أبا العداء وأنشد:

كالخمرِ مزجُ دوائِها منها بِها *** تشفي الصداعُ وتبرئ المنجودا

قال يريد أن القنفذ من مراكب الجن فداوی منهم ولده بمراكبهم(3).

من تقاليد العرب الأخرى التي ذكرها ابن أبي الحديد والمتعلقة بالبقر أنهم (اذا أوردوها فلم ترد، ضربوا الثور ليقتحم الماء فتقتحم البقر بعده، ويقولون إن الجن تصد

ص: 268


1- السمرة: وهي شجرة يسيل منها شيءٌ كالدم شِبْهُ الدَّمِ يخرج من السَّمُرَةِ وخاصّته مذكورة في باب الصُّموغِ، ينظر الجوهري، الصحاح، ص 287، مادة (حيض)
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 19 / 329
3- شرح نهج البلاغة، 19 / 329

البقر عن الماء وإن الشيطان يركب قرني الثور)(1)، وذكر ابن أبي الحديد أن العجيب في الامر إن البقر قد تمتنع من الورود حتى يرد الثور، كما تمتنع الغنم من سلوك الطرق أو دخول الدور والأخبية حتى يتقدمها الكبش أو التيس، وكالنحل تتبع اليعسوب، والكراكي تتبع أميرها، ولكن الذي تدل عليه أشعارهم أن الثور يرد ويشرب ولا يمتنع، ولكن البقر تمتنع وتعاف الماء وقد رأت الثور يشرب فحينئذ يضرب الثور مع إجابته إلى الورود فتشرب البقر عند شربه وهذا هو العجب. قال الشاعر:

فإني إذن كالثورِ يضربُ جنبُهُ *** إذا لم يعفُ شَربا وعافتْ صواحِبُه

وقال آخر:

فلا تجعلوني كالبقيرِ وفحلِها *** يكسِّرُ ضربا وهو للوردِ طائعُ

وماذنبُهُ إنْ لم يَرْدِ بقراتِهِ *** وقد فاجأتها عندَ ذاكَ الشرائعُ(2)

لعل هذه الاسطورة (أسطورة الثور والبقر) من القصص التي فتحت أفاقاً للشعراء قبل الإسلام لاستخدامها بنماذج وأشكال مختلفة تلتقي بنقطة واحدة هي المشاعر المتألمة لمن يتحمل أعباء نتيجة عمل فرض عليه ولم يفعله، فهذا نَهْشلُ بنُ حَرِّيٍّ يشعر بظلامة قبيلة تترك فيها قبائل اقترفت إثماً وتؤخذ بجريرتها قبيلة وهي منها براء:

أتُتْرَكُ عارضٌ وبنو عَدِيٍّ *** وتَغْرَمَ دارِمٌ وهُم بَرَاءُ

كدأبِ الثَّوْرِ يُضْرَبُ بالهَراوی *** إذا مَا عَافَتِ البَقَرُ الظِّمَاءُ(3)

ص: 269


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 313
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 313
3- الجاحظ، الحيوان، مج 1، 1 / 35

وقد حاول أحد الباحثين المعاصرين تفسير القضية فقال إن الثور (يضرب بقوة اذا امتنعت البقر عن شرب الماء، لأن البقر لا تضرب لأنها ذات لبن، وإنما يضرب هو لتفزع هي، فهو يتحمل الأذى والضرب من أجل أن ترجع البقر إلى الماء في حالة نفورها، ولابد أن يكون هذا الضرب موجعاً ومؤلماً بالنسبة للثور)(1).

ومن تقاليدهم الأخرى التي ذكرها ابن أبي الحديد انهم كانوا إذا قتلوا الثعبان خافوا من الجن أن يأخذوا بثأره فيأخذون روثة ويفتونها على رأسه ويقولون: [روثة راث ثائرك] وقال بعضهم:

طرْحنا عليهِ الروثَ والزجرُ صادقٌ *** فراثَ علينا ثأرُهٌ والطوائِلُ

وقد يذُّر على الحية المقتولة يسير رماد ويقال لها: قتلك العين فلا ثأر لك، وفي أمثالهم لمن ذهب دمه هدرا وهو قتيل العين قال الشاعر:

ولا أكُنْ كقتیلِ العينِ وسطَكُمُ *** ولا ذبيحةِ تشريقٍ وتنحارِ(2)

وذكر ابن أبي الحديد (انهم كانوا إذا خافوا على الرجل الجنون وتعرض الأرواح الخبيثة له نجسوه بتعليق الأقذار عليه كخرقة الحيض وعظام الموتی)(3).

يبدو أن بعضهم قد رفض تلك الخرافات وحاربها وقام بالرد عليها ونبه الناس إلى عدم فائدتها فذكر ابن أبي الحديد أن منهم من قال إن التنجيس يشفي إلا من العشق قال أعرابي:

ص: 270


1- القيسي، نوري حمودي، دراسات في الشعر الجاهلي، ساعدت جامعة بغداد على نشره، (بغداد 1972)، ص203
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 345
3- شرح نهج البلاغة، 19 / 325

يقولون علِّق يا لِكَ الخيرُ رمّةً *** وهل ينفعُ التنجيسُ من کان عاشقا

وقالت امرأة وقد نجست ولدها فلم ينفعه ومات:

نجَّسْتُهُ لو ينفعُ التنجيسُ *** والموتُ لا تفوتُهُ النفوسُ

وقال بعضهم وقد ترك الأمر برمته إلى الله وطرد الخرافات:

أتَوْني بأنجاسٍ لهم ومنجّسٍ *** فقلتُ لهم ما قدَّرَ اللهُ كائنُ(1)

ثانياً: غير المعطلة:

ذكر ابن أبي الحديد (أنّ الذين ليسوا بمعطلة من العرب فالقليل منهم، وهم المتألهون أصحاب الورع والتحرج عن القبائح)(2)، وهم الذين تبنوا فكراً دينياً توحيدياً بين العرب على الرغم من اختلاف المذاهب الدينية الاخرى وتَنوعها، فاعتزلوا الاصنام واتجهوا لاتباع الديانة الحنيفية التوحيدية(3).

والحَنِيفُ الذي يَتَحَنَّفُ عن الأَدْيانِ، أَي يَمِيلُ إلى الحقّ، وكان في الجاهلية يقال لمَن اخْتَتَنَ وحج البيت حَنِيفٌ لأَن العرب لم تتمسّك في الجاهلية بشيء من دِينِ إبراهيم غیرِ الخِتان وحَجِّ البيتِ، فكلُّ من اختتن وحج قيل له حنيف، ومعنى الحنيفية في اللغة المَيْلُ، والمعنَى أَنَّ إبراهيم حَنَفَ إلى دينِ الله ودين الإسلام، وتَحَنَّفَ الرجلُ، أي عَمِلَ عَمَلَ

ص: 271


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 325
2- شرح نهج البلاغة، 1 / 128
3- جابر، عادل شابث، اتباع الديانة الحنفية، مجلة كلية الآداب، جامعة بغداد، العدد 82، بغداد، 2008، ص 172

الحَنِيفِيّةِ، ويقال: إعتزلَ الأصنامَ وتعبّدَ (1). قال جران العود(2):

ولمَّا رأَيْنَ الصُبْحَ بادَرْنَ ضَوْءَهُ *** رَسیمَ قَطا البَطْحاء أو هُنَّ أَقطَفُ

وأدْرَكْنَ أَعْجازاً من الليلِ بعد ما *** أقامَ الصلاة العابدُ المُتَحَنِّفُ(3) وقيل بل أن تاريخهم يعود للقرن الاول قبل الميلاد، فقد عبد أهل اليمن إلها أطلقوا عليه (ذوي سموي) أو (رب السماوات)، واعتقدوا أن لا شريك له، وسموا بالأحناف أو المتحنفين، ويعتقد أن حنيفية عبد المطلب کانت استمراراً لديانة (ذوي سموي) اليمنية القديمة(4).

وذكر ابن أبي الحديد جماعة منهم، ابرزهم عبد المطلب وولداه عبد الله وأبو طالب(5)، وكان عبد المطلب من الشخصيات العظيمة في مكة فقد أعطي من الكرامات ما لا يعرف مثله في زمانه احد، منها كلامه لأبرهة صاحب الفيل وتوعده إياه برب الكعبة وتحقيق قوله من الله تعالى ونصره ووعيده بحبس الفيل، وقتل أصحابه بالطير

ص: 272


1- الجوهري، الصحاح، ص 276، [مادة حنف]؛ ابن منظور، لسان العرب، 2 / 527، [مادة حنف]
2- عامر بن الحارث النميري: شاعر و صاف. أدرك الإسلام، وسمع القرآن، واقتبس منه كلمات وردت في شعره ومعنى (جران العود): مقدم عنق البعير المسن، كان يلقب نفسه به في شعره * بدا لجران العود والبحر دونه وذو حدب من سرو حمير مشرف من آثاره، دیوان شعر رواه وشرحه سعيد السكري، ينظر الزركلي، الاعلام، 3 / 250؛ كحالة، عمر رضا، معجم المؤلفين، دار احیاء التراث العربي، بیروت، (د.ت)، 5 / 53
3- جران العود، عامر بن الحارث النميري، الديوان، رواية ابو سعيد السكري، ط 3، دار الكتب والوثائق، مرکز تحقيق التراث، (القاهرة 2009)، ص 22
4- طوغان، وليد، مدّعو النبوة في التاريخ الاسلامي، دار الخيال، (القاهرة 2004)، ص 22
5- شرح نهج البلاغة، 1 / 128

الأبابيل، وحجارة السجيل حتى تركوا كالعصف المأكول(1).

وهذا إنما كان تمهيدا لنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتأسيسا لما يريده الله به من الكرامة، وكان عبد المطلب مجاباً في دعوته ومسدداً في أفعاله من عند الله في ما ينوي القيام به، وحصل الالهام في رؤيا حفر زمزم، فذكر ابن أبي الحديد أنه قيل له في المنام احفر زمزم خبيئة الشيخ الأعظم، فاستيقظ فقال اللهم بيّن لي الشيخ، فأري في المنام مرة أخرى أحفر تكتم بين الفرث والدم، في مبحث الغراب، في قرية النمل، مستقبلة الأنصاب الحمر، فقام عبد المطلب فمشى حتى جلس في المسجد الحرام ينتظر ما سمي له من الآيات، فنحر بقرة فأفلتت من جازرها حتى غلب عليها الموت في المسجد في موضع زمزم فاحتمل لحمها من مكانها وأقبل غراب يهوي حتى وقع في الفرث فبحث عن قرية النمل فقام عبد المطلب فحفر بئر زمزم حتى ظهر الماء ثم بنی حوضاً يشرب منه الحاج(2).

وفي هذه الرواية ذكر ابن أبي الحديد أن عبد المطلب نحر بقرة، وهذا مستغرب في مجتمع مكة حيث البيئة الصحراوية التي لا يعيش فيها سوى الإبل والأغنام، فمن المحتمل أنها جاءت من خارجها وعلى الأرجح من اليمن، إذ كان أهل اليمن يتاجرون بها ويحضرون البقر إلى سوق عكاظ للتجارة، فقد ذكر المرزوقي أنه (لمّا دخلت سنة خمس وثلاثين من عام الفيل وذلك قبل المبعث بخمس سنين حضر السّوق من نزار واليمن - ما لم يروا أنّه حضر مثله في سائر السّنين، فباع النّاس ما كان معهم من إبل وبقر ونقد، وابتاعوا أمتعة مصر والشّام والعراق)(3)، أما كيف وصلت إلى هناك وقطعت الصحراء والمعروف أن الماء فيها شحيح، فلا نستغرب ذلك فقد وصل من قبل

ص: 273


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 152؛ للتفصيل حول قصة اصحاب الفيل، ينظر ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1 / ص 71 - 73
2- شرح نهج البلاغة، 15 / 163
3- ابو علي أحمد بن محمد بن الحسن (ت 421 ه)، الازمنة والامكنة، دار الكتب العلمية، (بیروت 1417 ه)، ص387

فيل أبرهة إلى مكة وهو يحتاج إلى ماء أكثر منها بكثير.

وكان الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم قد انتسب إلى عبد المطلب في مواقف عصيبة كما حدث في غزوة حنين (8 ه) بعدما فرَّ عنه أغلب المسلمين، إذ هتف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

أنا النبيُّ لا كَذِبُ

انا أبنُ عبدِ المطّلبُ

ولعل هذا من الدلائل المهمة في إيمان عبد المطلب فهو من انتسب إليه الرسول الأعظم في ذلك اليوم العصيب وهو يعلم مكانته وإيمانه عند أهل مكة، فلو كان غير ذلك لانتقده المنافقون ولهتف الرسول بغيره، وعليه فإن عبد المطلب من الموحدين الأحناف، وهو من قال عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إنّ الله يبعث جدي عبد المطلب أمة واحدة في هيئة الأنبياء وزيّ الملوك»(1).

أما فيما يخص ولد عبد المطلب فأغلبهم ساروا على نهج أبيهم على ملة التوحيد أحنافاً، فإن أبا طالب بن عبد المطلب كان من الموحدين والمؤمنين ولا غبار على إيمان أبي طالب، فقد كثرت الدراسات والكتب التي كتبت وأثبتت إيمانه، فتوجد هناك اكثر من (99) دراسة حول هذا الموضوع عند مختلف المذاهب(2)، وذكر ابن أبي الحديد انه (إنما لم يظهر أبو طالب الإسلام ويجاهر به لأنه لو أظهره لم يتهيأ له من نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما تهيأ له وكان كواحد من المسلمين الذين اتبعوه نحو أبي بكر

ص: 274


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 10
2- للتفاصيل، ينظر الهندي، محمد علي لفصيح اللکنهوي (ت 1310 ه)، القول الواجب في إيمان أبي طالب، تحقيق محمود الغريفي، دار المتقين، (بيروت 2012)، الصفحات 31 - 54

وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما ممن أسلم ولم يتمكن من نصرته والقيام دونه حينئذ وإنما تمكن أبو طالب من المحاماة عنه بالثبات في الظاهر على دين قريش وإن أبطن الإسلام)(1).

ولكي يثبت ابن أبي الحديد صدق ما ذهب إليه نقل لنا أن أبا طالب لما مات جاء علي عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بموته فتوجع وحزن حزناً شديداً ثم قال له:

«امض فتول غسله فإذا رفعته على سريره فأعلمني».

ففعل فاعترضه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو محمول على رؤوس الرجال فقال:

«وصلتك رحم یا عم وجزيت خيراً فلقد ربيت وكفلت صغيراً ونصرت وآزرت کبیراً».

ثم تبعه إلى حفرته فوقف عليه فقال:

«أما والله لأستغفرن لك ولأشفعن فيك شفاعة يعجب لها الثقلان».

ثم قال: (والمسلم لا يجوز أن يتولى غسل الكافر ولا يجوز للنبي أن يرق لكافر ولا أن يدعو له بخير ولا أن يعده بالاستغفار والشفاعة، وإنما تولى علي عليه السلام غسله لأن طالباً وعقيلاً لم يسلما بعد وكان جعفر بالحبشة ولم تكن صلاة الجنائز شرعت بعد)(2)، وقد أفرد ابن أبي الحديد موضوعاً كاملاً حول إيمان أبي طالب سماه (اختلاف الرأي في إيمان أبي طالب)(3).

ص: 275


1- شرح نهج البلاغة، 14 / 65
2- شرح نهج البلاغة، 14 / 61
3- شرح نهج البلاغة، 14 / 52 - 67

أما عبد الله بن عبد المطلب المميز بين ولد عبد المطلب والد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيذكر ابن أبي الحديد أنَّ امرأة ذات جمال دعت عبد الله بن عبد المطلب إلى نفسها لما كانت ترى على وجهه من النور فأبى وقال:

أمّا الحرامُ فالمماتُ دونَهُ *** والِحلُّ لاحلٌ فأستبينهُ

فكيفَ بالأمرِ الذي تبغيِنَهُ *** يحمي الكريمُ عرضَهُ ودينَهُ(1)

وعلى الرغم من قلة الروايات عن والد النبي إلا أنه هنا يثبت معرفته الحلال من الحرام واجتنابه المعاصي، وهناك من الأدلة ما يثبت حقيقة إيمان آباء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى آدم وأنهم كلهم كانوا موحدين منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين، إلى أرحام المطهرات، حتى أخرجني في عالمكم هذا، لم يدنسني بدنس الجاهلية».

ولو كان في آبائه کافر، لم يصف جميعهم بالطهارة، مع قوله تعالی:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ»(2)(3).

وذكر الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في أحد خطبه تأكيد هذا القول بقوله عليه السلام:

«وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ وسَيِّدُ عِبَادِهِ، کُلَّمَا نَسَخَ اَللَّهُ اَلْخَلْقَ فِرْقَتَيْنِ، جَعَلَهُ

ص: 276


1- شرح نهج البلاغة، 20 / 196
2- سورة التوبة: الآية 28
3- الطبرسي، مجمع البيان، 4 / 90

فِي خَيْرِهِمَا، لَمْ يُسْهِمْ فِيهِ عَاهِرٌ، ولاَ ضَرَبَ فِيهِ فَاجِرٌ، أَلاَ وإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ لِلْخَيْرِ أَهْلاً، ولِلْحَقِّ دَعَائِمَ، ولِلطَّاعَةِ عِصَماً»(1)(2).

ومن الذين ذكرهم ابن أبي الحديد من الحنيفية زيد بن عمروبن نفيل(3) وكان قد تَّأله في الجاهلية لم يتنصر ولم يتهود وترك عبادة الأصنام والذبائح التي تذبح على الاوثان(4)، وكان يقول: (يا معشر قريش، أرسل الله قطر السماء، وأنبت بقل الأرض، وخلق السائمة ورعت فيه، وتذبحونها لغير الله؟ والله ما أعلم على ظهر الأرض أحداً على دين إبراهيم غيري)(5).

وهذا الكلام غير صحيح لوجود الكثير من المتألهين قبله وقبل زمانه، وكان زيد أول من عاب علی قریش ما هم عليه من عبادة الاوثان، ثم خرج يلتمس دین ابراهيم عليه السلام، فجال أرض الشام حتى أتي البلقاء، فقال له راهب بها عالم: قد أظلك زمان نبي يخرج في بلادك يدعو إلى دین ابراهیم (عليه السلام)، فأقبل بسبب قول الراهب مسرعا يريد مكة فقتل قبل وصوله(6).

ذكر ابن أبي الحديد قس بن ساعدة الإيادي(7)وكان من المعمرين عاش أكثر من

ص: 277


1- شرح نهج البلاغة، 11 / 51، [خطبة 207]
2- ولمزيد من التفصيل عن آل عبد المطلب ودورهم الفكري والديني، ينظر القريشي، علي کریم عباس أمرة، آل عبد المطلب وأثرهم في الحياة العامة حتى نهاية العصر الراشدي، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة بابل، 2007 م، فص 4 ص 227 -274
3- شرح نهج البلاغة، 1 / 129
4- ابن الكلبي، الاصنام، ص121، ابن حبيب، لمحبر، ص 171؛ ابن قتيبة، المعارف، 35
5- الزبيري، نسب قریش، ص 364
6- ابن حبيب، لمحبر، ص 171؛ ابن قتيبة، المعارف، 35
7- شرح نهج البلاغة، 1 / 129

ثلاث مائة سنة(1)، وكان حکیم العرب ومقراً بالبعث وقد ذكره الرسول الكريم صلی الله عليه وآله وسلم فقال:

«ما أنساه بعكاظ في الشهر الحرام وهو على جمل أحمر وهو يخطب بالناس»(2).

وقد ذكر قسماً من الخطبة ابن أبي الحديد ومنها:

«ما لي أرى الناس يذهبون ثم لا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا هناك فناموا، أقسم قسماً، إن في السماء لخبراً، وإن في الأرض لعبراً، سقف مرفوع، ومهاد موضوع، ونجوم تمور وبحار لا تغور، اسمعوا أيها الناس وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت»(3).

وذكر ابن أبي الحديد أيضاً عامر بن الضرب العدواني(4)، وكان ممن اشتهر بالقضاء وكان من حكماء العرب، وله وصية طويلة يقول في آخرها: (إني ما رأيت شيئا قط خلق نفسه ولا رأيت موضوعا إلا مصنوعا، ولا جائيا إلا ذاهبا، ولو كان يميت الناس الداء لأحياهم الدواء، ثم قال: إني أرى أمورا شتی وحتى، قيل له: وما حتى؟، قال: حتى يرجع الميت حيا، ويعود لا شيء شيئا، ولذلك خلقت السموات والأرض)(5).

وهناك عدد كبير من المتألهين ممن لم يذكرهم ابن أبي الحديد وكانوا من كافة أرجاء جزيرة العرب ومن قبائل شتى، مما يؤكد لنا أن هناك من كان يؤمن بالله ويبغض الاصنام

ص: 278


1- علي، المفصل، 6 / 414
2- المسعودي، مروج الذهب، 1 / 47؛ القلقشندي، صبح الاعشی، 1 / 212
3- شرح نهج البلاغة، 7 / 84؛ ينظر تفاصيل الخطبة عند الطبراني، ابو القاسم سليمان بن أحمد بن ایوب (ت 360 ه)، المعجم الكبير، تحقیق حمدي عبد المجيد السلفي، ط 2، مکتبة الزهراء، (الموصل 1983)، 12 / 88
4- شرح نهج البلاغة، 1 / 129
5- الشهرستاني، الملل والنحل، ص 502

ومتمسكاً بدين أبراهيم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم(1).

ديانات أخرى

من الديانات الأخرى التي تحدث عنها ابن أبي الحديد الديانة اليهودية وقال (كان من العرب من يميل إلى اليهودية منهم جماعة من التبابعة وملك اليمن)(2)، ويذكر أنَّ هناك مجموعتين من اليهود في الجزيرة العربية:

النوع الأول: ممن هاجروا على شكل جماعات متعاقبة من بلاد الشام بعد أن غلبتهم الروم في عهد القيصر طيطوس وهدمه للهيكل سنة (70م)، وصدامهم بالقيصر هدريان سنة (132 م)، فاستقروا في الواحات الخصبة من الحجاز کوادي القرى وتيماء وخيبر وفدك ويثرب ثم انتقل قسم منهم إلى اليمن والبحرين(3).

النوع الثاني: هم عرب تھودوا، وتشير المصادر العربية أن بداية دخول اليهودية إلى اليمن في عهد أحد التبابعة، التبع (اسعد الكامل)، إذ دعا قوماً إلى الدخول في اليهودية بعد أن مرّ بيثرب فأقنعه حبران من أحبار اليهود من بني قريظة فاتبعهما على دينهما(4)، ثم انتشرت بشكل واسع في عهد الملك (ذو نواس)(5)، الذي تسمى باسم يوسف بعد أن

ص: 279


1- لمزيد من التفاصيل، ينظر العوادي، صلاح غلام غضیب، التوحيد عند العرب قبل الإسلام دراسة في الحنيفية وعبادة الرحمن، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة بابل، 2004
2- شرح نهج البلاغة، 1 / 128
3- الجميلي، تاريخ العرب، ص 233؛ ضیف، تاریخ الادب العربي في العصر الجاهلي، ص 97
4- ابن حبيب، المحبر، ص 367، ابن خلدون؛ تاریخ ابن خلدون، 2 / 62؛ غضبان، ياسين، مدينة يثرب قبل الإسلام، مؤسسة الرسالة، (بیروت 1993)، ص 69
5- آخر ملوك حمير في اليمن وهو صاحب الأخدود المذكور في القرآن الكريم. وكان لذي نواس بأرض اليمن نار يعبدها هو وقومه ثم دان باليهودية، وهو من حفر أخاديد وملأها جمرا وجمع النصاری فعرضهم على النار، فمن رجع إلى اليهودية نجا، ومن أبی هوى، ينظر ابو حنيفة الدينوري، الأخبار الطوال، ص 109؛ ابن کثیر، السيرة النبوية، 1 / 36؛ الزركلي، الأعلام، 3 / 8

دان باليهودية ودعا الناس إليها وخيَّر أهل نجران بين الحرق أو اعتناق اليهودية، وخدَّ بنجران أخاديد فأوقد فيها النار ودعا أهلها إلى اليهودية وكانوا على إرث دین من دین عیسی، فلما ابوا عليه القاهم في النار وحرق الانجيل وقتل منهم زهاء عشرين ألفا بالسيف سوى من أحرق بالنار ومن مثَّل به منهم، وبسببه جاءت الحبشة إلى اليمن فغلبت عليها لما فعل بالنصارى(1). وعلى الرغم من أن قصة أصحاب الأخدود قد ذكرها القرآن الكريم:

«قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ٭ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ٭ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ٭ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ»(2)وأغلب المصادر التاريخية ربطتها بالملك ذو نواس، إلا أن أحد الباحثين المعاصرين تصدى لتلك الروايات ووصفها بالاساطير التي تمتلئ بها الكتب العربية من الاسرائيليات التي صاغها كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهم من مسلمة اهل الكتاب، وذكر أنه لم يعثر على مصدر يثبت يهودية (التبع اسعد الكامل او ذو نواس) سوى الروايات المشكوك فيها، أما النقوش العائدة إلى عصره فهي تشير إلى أنه كان يعبد (إله السماء والأرض)، ولا تدل هذه النقوش على أن الملك ذو نواس قد اعتنق اليهودية، وقد ذكر الآثاري الفرنسي (هالفي) انه لم يوجد ملك يهودي في حمير في أي وقت من الأوقات(3)(4).

ص: 280


1- ابن حبیب، المحبر، ص 368؛ الاصفهاني، الاغاني، 17 / 483؛ ابن خلدون؛ تاریخ ابن خلدون، 2 / 69
2- سورة البروج: الايات 4 -7
3- الحجاج، محسن مشكل فهد، دولة التبابعة في اليمن أبان القرنين الرابع والخامس الميلادي دراسة في الاحوال السياسية والاقتصادية والدينية، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة البصرة، 1999، فص 3، ص 129
4- المزيد من التفاصيل عن الديانة اليهودية في الجزيرة العربية قبل الإسلام، ينظر الجبر، مخلد ذياب فيصل، روایات أهل الكتاب للسيرة النبوية حتى عهد البعثة، رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية التربية، جامعة البصرة، 2012، ص 51 وما بعدها

أما الديانة المسيحية فقد ذكر ابن أبي الحديد أن في العرب من يميل إلى النصرانية(1)كبني تغلب والعباديين رهط عدي بن زید ونصاری نجران(2)، واذا كانت اليهودية قد دخلت جزيرة العرب بالهجرة والتجارة، فان دخول النصرانية اليها كانت بالتبشير وبدخول بعض المبشرين الذين تمكنوا من اكتساب بعض سادات القبائل فادخلوهم إلى دينهم(3)، وكذلك عن طريق تجارة الرقيق التي كانت منتشرة في مكة والطائف ويثرب، وكان الرقيق النصراني يقرأ ويكتب ويفسر للناس ما جاء في التوراة والإنجيل ويقص عليهم قصصاً نصرانية ويتحدث عنها، ومنهم من تمكن من إقناع بعض العرب بالدخول فيها(4).

وذكر ابن قتيبة أن النصرانية كانت في ربيعة وغسان وبعض قضاعة(5)، وهم الغساسنة الخاضعين للروم، أما من تنصر من أحياء العرب الاخرى (فقوم من قریش من بني أسد بن عبد العزى، منهم: عثمان بن الحویرث بن أسد بن عبد العزى، وورقة بن نوفل بن أسد، ومن بني تميم بنو امرىء القيس بن زيد مناة، ومن ربيعة بنو تغلب، ومن اليمن طيء، ومذحج، وبهراء، وسليح، وتنوخ، وغسان، ولخم)(6)، وقد اعتنق أهل الحيرة النصرانية بعد اعتناق أفراد الأسرة الحاكمة لها مثل، هند بنت الحارث زوجة المنذر

ص: 281


1- النصرانية: لفظة تطلق في العربية على أتباع المسيح وهي من الالفاظ المعربة، ويرى بعضهم أن لها صلة ب(الناصرة) التي كان منها يسوع حيث يقال يسوع الناصري. ينظر، علي، جواد، المفصل، 6 / 582
2- شرح نهج البلاغة، 1 / 127
3- علي، المفصل، 6 / 587
4- علي، المفصل، 6 / 589
5- المعارف، ص 339
6- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 1 / 220

الثالث، التي بنت ديراً وكنيسة(1)، وكانت الحيرة قد تنصرت في عهد النعمان الثالث ابن المنذر أبي قابوس (585 م - 613 م) على يد عدي بن زید العبادي الذي كان نصرانياً هو وأبوه وأمه وأهله(2).

ومما يدل على انتشار المسيحية في الحيرة هو كثرة الأديرة المشيدة هناك، التي تجاوز عددها (عشرين ديراً)(3)مثل دیر هند ودير الجماجم اللذان ذكرهما ابن أبي الحديد في اكثر من موضع، ومن أشهر مدن النصرانية نجران وهي الموطن الرئيسي للنصرانية في العربية الجنوبية ولعلها الموطن الوحيد الذي توطدت فيه هذه الديانة في اليمن(4)، وقد بنيت فيها كنيسة كبيرة سميت (كعبة نجران) تطاولاً على الكعبة ذات المكانة السامية عند العرب(5).

أما الصابئة فقد ذكرهم ابن أبي الحديد عند الحديث عن ديانات العرب قبل الإسلام بقوله (ومنهم من كان يميل إلى الصابئة ويقول بالنجوم والأنواء)(6)، وقد اختلف الناس فيهم اختلافاًكبيراً وقسموهم على طائفتين:

الاولى:

هم الصابئة الحنفاء وهم في نظرهم أصحاب ابراهیم ممن كانوا بحرّان أو ممن كان على دعوته(7)، وقد ذكرهم القرآن الكريم في أكثر من آية مع ذكره لليهود والنصارى مما

ص: 282


1- یاقوت الحموي، معجم البلدان، 4 / 368
2- الاصفهاني، الاغاني، مج 1، 2 / 331
3- علي، ابراهيم محمد، المناذرة دراسة سياسية حضارية (268 م – 602 م)، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة الموصل، 1982، فص 5، ص 102
4- دلو، جزيرة العرب قبل الإسلام، ص 614
5- دلو، جزيرة العرب قبل الإسلام، ص 615
6- شرح نهج البلاغة، 1 / 128
7- الآلوسی، بلوغ الارب، 2 / 224؛ علی، جواد، المفصل، 6 / 702

يجعلنا نفهم أنهم كانوا يعبدون إلهاً يتوجهون إليه، قال تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ»(1).

وقوله تعالی:

«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ»(2).

الثانية:

صابئة مشركون وهم من فسدوا من الصابئة فأشركوا واعتقدوا بالكواكب، وكانوا يعتقدون بوجود الله لكنهم يتوسطون لديه بمتوسط، وذلك المتوسط يجب أن يكون روحانياً لا جسمانياً(3)، ولكل روحاني هيكل ولكل هيكل فلك، وعليه فهم يعتقدون أن الروحانيين يسكنون الكواكب فعبدوه(4)، تكون هذه الديانة منتشرة عند عرب الجنوب اقوى منها عند عرب الشمال(5)، ويبدو لنا أنَّ هناك تشابهاً كبيراً بين عبادة الكواكب وعبادة الأصنام من حيث كونها واسطة للتقرب إلى الله كما يعتقدون.

وذكر ابن صاعد الاندلسي، أنَّ حميراً تعبد الشمس، وكنانة تعبد القمر، وتميماً

ص: 283


1- سورة البقرة: الآية 62
2- سورة المائدة: الآية 69
3- الاصفهاني، الملل والنحل، ص 232؛ الالوسي، بلوغ الارب، 2 / 244
4- الاصفهاني، الملل والنحل، ص 264
5- جمعة، مذكرات في تاريخ العرب الجاهلي وصدر الإسلام، ص 46

تعبد الدبران(1)، ولخم جذام المشتري، وطيئاً سهيلاً، وقيس الشعري العبور(2)، وأسداً عطارد(3).

إن عبادة العرب للنجوم نابعة من حاجتهم الفعلية إليها للاهتداء بالنجوم في أسفارهم، وضبط مواسم المطر، وقد تصوروا أنَّ للشمس قدرة خارقة كامنة فيها فهي مصدر النور والحرارة ولها تأثير على الإنسان والحيوان والنبات فعبدوها واقاموا لها المعابد وقدموا لها القرابين(4)، وكان للقمر تأثير على الكثير من معتقدات عرب الجنوب الذين استخدموا رموزاً أخرى ذات دلالات دينية في تصورهم له مثل رسم الهلال وغيره، إلى جانب عبادتهم للثور والوعل والنسر التي يظن إنها ترمز إلى القمر(5).

أما المجوسية فهي من الديانات المنتشرة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان ابن أبي الحديد قد ذکر کلاماً للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يذكر فيه ابتداء خلق السماء والارض قال فيه عليه السلام:

ص: 284


1- الدبران: كوكب احمر سمي بذلك لأنه دیر بعد الثريا أي جاء خلفها، ويقال له الراعي والتالي والتابع، عبده العرب رهبة منه لأرغبة فيه، فهو کوکب مشؤوم عندهم لا يمطرون بنوئه إلا وسنتهم جدبة ففي نوئه يشتد الحر وتهب السمائم، ينظر دلو، جزيرة العرب قبل الإسلام، ص560، دغيم، سميح، أديان ومعتقدات العرب قبل الإسلام، ص 146
2- الشعري: كوكب نير يطلع بعد الجوزاء وطلوعه في شدة الحر وسمي الشعري العبور لأنها عبرت السماء عرضاً ولم يعبرها عرضاً غيرها، ينظر ابن منظور، لسان العرب، 5 / 96، [مادة شعر]
3- ابو القاسم صاعد بن أحمد (ت 462)، طبقات الامم، نشره وذيله بالحواشي لويس شيخو اليسوعي، المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين، (بیروت 1912)، ص 43
4- دلو، جزيرة العرب قبل الإسلام، ص 557
5- لا يزال بعض سكان الريف اليمني يعلقون على رقاب اطفالهم تميمة هي عبارة عن سن الثعلب لو تأملتها لوجدت أنها ربما ترمز الى الهلال، كما يلفت الانظار أيضاً وجود عادة قديمة عبارة عن ترکیب قرني الوعل في زوايا المنازل من الخارج، وقرنا الوعل كقرني الثور يذكران بالهلال، ينظر بافقيه، محمد عبد القادر، تاريخ اليمن القديم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، (بیروت 1985)، ص 204 - 206

أَنْشَأَ اَلْخَلْقَ إِنْشَاءً، واِبْتَدَأَهُ اِبتِدَاءً، بِلاَ رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا، ولاَ تَجْرِبَةٍ اِسْتَفَادَهَا، ولاَ حَرَكَةٍ أَحْدَثَهَا، ولاَ هَمَامَةِ نَفْسٍ اِضْطَرَبَ فِيهَا، أَحَالَ اَلأَشْيَاءَ لِأَوْقَاتِهَا، ولاَ ءَمَ لَأَمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا، وغَرَّزَ غَرَائِزَهَا، وَأَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا، عَالِماً بِهَا قَبْلَ اِبْتِدَائِهَا، مُحِیطاً بِحُدُودِهَا واِنْتِهَائِهَا، عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وأَحْنَائِهَا» (1).

ثم علَّق عليها بقوله: (وقوله ولا همامة نفس اضطرب فيها فيه رد على المجوس والثنوية القائلين بالهمامة، ولهم فيها خبط طويل يذكره أصحاب المقالات، وهذا يدل على صحة ما يقال إن أمير المؤمنين عليه السلام كان يعرف آراء المتقدمين والمتأخرين، ويعلم العلوم كلها وليس ذلك ببعيد من فضائله ومناقبه)(2).

والمجوسية عبدة النار وهم القائلون بالأصلين النور والظلمة، وقد عرف العرب المجوسية عن طريق اتصالهم بالفرس في الحيرة، وعن طريق اتصالهم بهم باليمن عندما استوطنوا، فيها فاستعان بهم سيف بن ذي يزن لطرد الاحباش(3)، وذكر ان المجوسية كانت في تميم، وأنَّ زرارةَ بن عدس وابنه حاجب(4)هما من سادات تمیم کانا قد اعتنقا المجوسية، كما اعتنقها الاقرع بن حابس(5)، وأبو أسودٍ جد وکیع بن حسان(6)(7).

ص: 285


1- شرح نهج البلاغة، 1 / 96، [خطبة 1]
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 98
3- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 2 / 144
4- زرارة بن عدس، جد جاهلي وكان حكما من قضاة تميم، أما ابنه حاجب فهو من سادات العرب في الجاهلية. كان رئيس تميم في عدة مواطن. وهو الذي رهن قوسه عند كسرى على مال عظيم ووفی به وأدرك الإسلام وأسلم. وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم على صدقات بني تميم، ينظر البغدادي، خزانة الآدب، 1 / 345؛ الزركلي، الأعلام، 3 / 43، 2 / 153
5- الأقرع بن حابس بن عقال المجاشعي الدارمي التميمي (ت 31 ه) من حكام وسادات العرب في الجاهلية. قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد من بني دارم (من تميم) فأسلموا. وشهد حنينا وفتح مكة والطائف. وسكن المدينة. وكان من المؤلفة قلوبهم، كان مع خالد بن الوليد في أكثر وقائعه حتى اليمامة. واستشهد بالجوزجان وقيل اسمه فراس وإنما لقب الأقرع لقرع كان برأسه، ينظر الصفدي، الوافي بالوفيات، 9 / 180؛ الزركلي، الاعلام، 3 / 43
6- أبو سود التميمي هو حسان بن قيس بن أبي سود بن کلب بن عدي بن مالك بن عذانة بن یربوع كان مجوسيا فأسلم، وهو جد وکیع بن حسان بن أبي سود، صاحب الفتنة بخراسان الذي قتل قتيبة بن مسلم أمیر خراسان صاحب الفتوح وولي خراسان بعدها أول خلافة سليمان بن عبد الملك ثم عزل عنها، ينظر ابن الاثير، عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم الشيباني (ت 630)، اسد الغابة، دار الكتاب العربي، بیروت، (د.ت)، 5 / 222 - 223
7- ابن قتيبة، المعارف، ص 339؛ الآلوسی، بلوغ الارب، 2 / 235

وقد ورد ذكر المجوس في القرآن الكريم:

«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»(1).

ص: 286


1- سورة الحج: الاية 17

المبحث الثاني الطقوس الدينية عند العرب قبل الإسلام

أولا: الاستقسام بالأزلامُ:

الأزْلامُ: جمع زلم، وهي السهام(1) التي كان أهلُ الجاهليَّة يستقسمون بها، مکتوب على بعضها أمرني ربي وعلى بعضها نهاني ربي، فإذا أراد الرجل سفراً أو أمراً ضرب تلك القداح فإن خرج السهم الذي عليه أمرني ربي مضى لحاجته، وإن خرج الذي عليه نهاني ربي لم يمض في أمره(2)، وقيل كانت حصی بیض وقيل حجارة مكتوباً عليها(3). أما الاستقسام فهو الطلب من جهة الأَزلام ما قُسِم لكم من أَحد الأَمرين أي معرفة الخير والشر بواسطة ضرب القداح(4).

ويعد الاستقسام بالازلام إحدى طرق التنبؤ التي عرفت طرقها إلى عادات الناس الاجتماعية، ولإضفاء القدسية عليها كان الاستقسام يتم أمام الاصنام حتى يكون تعبيراً

ص: 287


1- وهو السهم الذي الذي يرمى به عن القوس يقال للسهم أول ما يقطع قطع ثم ينحت ویبری فیسمی بریا ثم يقوّم فيسمى قدحا ثم يراش ويركب نصله فیسمی سهما، ينظر ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث، 4 / 20
2- الجوهري، الصحاح، ص 479، [مادة زلم]؛ ابن منظور، لسان العرب، 4 / 295، [مادة زلم]
3- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، 8 / 208؛ العيني، عمدة القاري، 9 / 247
4- ابن منظور، لسان العرب، 7 / 268، [مادة قسم]،

عن مشيئة الالهة وإرادتها، وكان له مردودات مالية للعاملين عليه، إذ يعطي الناس اجراً لسدنة الاصنام القائمين بالاستقسام يسمونه (حلوان الكاهن)، وقد بلغ الحلوان في حالة الاحتكام إلى هبل مائة درهم(1).

ونسب العرب الاستقسام بالأزلام إلى ابراهيم وولده اسماعيل (عليهما السلام)، فقد ذكر ابن أبي الحديد أنَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في عام الفتح (لما دخل الكعبة رآی صورة ابراهيم شيخاً كبيراً يستقسم بالأزلام)(2)، وهذا افتراء لانَّ ابراهیم عليه السلام لم يكن يفوض أمره إلا إلى الله سبحانه وتعالى) وما حديث الرسول صلی الله عليه وآله وسلم (قاتلهم الله جعلوه شیخاً يستقسم بالأزلام)(3)إلا تصدٍ لذلك الافتراء ونصرة لجده ابراهيم عليه السلام.

وعلى الرغم من أن الاستقسام بالأزلام عقيدة راسخة عند العرب يرجعون إليها في اأمور حياتهم اليومية ولا يتجاوزنها، إلا اننا نرى في بعض الأحيان أنَّ هناك من خالفها عند تعارضها مع رغباته، فيذكر لنا ابن أبي الحديد أنَّ قريشاً استقسمت بالأزلام عند هبل للخروج لقتال المسلمين قبل معركة بدر، وقد استقسم أمية بن خلف وعتبة وشيبة بالامر والناهي؛ فخرج القدح الناهي فأجمعوا المقام حتى أزعجهم أبو جهل فقال: ما استقسمت ولا نتخلف عن عيرنا، وكان زمعة بن الأسود خارجا فكان بذي طوى أخرج قداحه واستقسم بها فخرج الناهي عن الخروج فلقي غيظا ثم أعادها الثانية فخرج مثل ذلك فكسرها وقال ما رأيت كاليوم قدحا أكذب(4).

ص: 288


1- عبد اللطيف، مصطفى، أثر العقائد الدينية في القيم الاجتماعية والخلقية في العصر الجاهلي، مجلة المربد، كلية الآداب، جامعة البصرة، السنة الثانية، العدد الثاني والثالث، 1969، ص 217
2- شرح نهج البلاغة، 17 / 211
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17 / 211؛ ينظر الحديث عند البخاري ، صحيح البخاري، 2 / 16؛ ابن الاثير، النهاية في غريب الحديث، 4 / 217؛ المجلسي، بحار الانوار، 21 / 106
4- شرح نهج البلاغة، 14 / 78

وذكر لنا ابن الكلبي، أنّ امرأ القيس بن حجرٍ، كان يريد الغارة على بني أسدٍ، فمر بذي الخلصة وكان صنما بتبالة(1)وكانت العرب جميعا تعظمه، وكانت له ثلاثة أقدحٍ: الآمر، والناهي، والمتربص فاستقسم عنده ثلاث مراتٍ. فخرج الناهي. فكسر القداح، وضرب بها وجه الصنم، وقال: لو كان أبوك قتل، ما عوقتني. ثم غزا بني أسدٍ، فظفر بهم(2).

وهذه الرواية تبين لنا أن الاستقسام بالأزلام كان منتشراً بين سائر العرب، وكان يستخدم في بعض الاحيان كذريعة للقيام بالأعمال، لذلك فما إن يخالف الأمر رغبة طالبه حتى نراه يرفض العمل به ويتشدد في رفضه.

أنواع الأزلام عند العرب:

النوع الأول: كان الإنسان يستخدمه بنفسه، إذا أراد سفراً، أو حاجة لمعرفة نسب شخص ما، أو تجارة أو زواج، عمد إلى (ثلاثة سهام) على أحدها مکتوب إفعل وعلى الثاني لا تفعل والثالث غفل(3)، وقيل كان على الواحد، أمرني ربي وعلى الثاني نهاني ربي وعلى الثالث غفل، فإذا أراد أحدهم الامر أخرج واحدا فإن طلع الآمر فعل أو الناهي ترك أو الغفل أعاد(4).

النوع الثاني: للأحكام وهي التي عند الكعبة وكانت عند الصنم هبل وهي (سبعة اقداح) مکتوب في أولها: صريح، والآخر: ملصق فإذا شُكَ في مولود، أهدوا له هديةً، ثم ضربوا بالقداح. فإن خرج: صريح ألحقوه؛ وإن خرج: ملصق، دفعوه. وقدح على

ص: 289


1- تبالة: موضع ببلاد اليمن بينها وبين مكة اثنان وخمسون فرسخاَ نحو مسيرة ثمانية أيام، ينظر ياقوت الحموي، معجم البلدان، 2 / 40
2- الاصنام، ص 47
3- قدْحٌ غُفْل: لا خير فيه ولا نصيب له. ينظر ابن منظور، لسان العرب، 6 / 453، (مادة غفل)
4- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، 8 / 208؛ العيني، عمدة القاري، 9 / 246؛ الالوسي، بلوغ الارب، 3 / 67

الميت؛ وقدح على النکاح؛ وثلاثة للديات وغير ذلك(1).

وكان اليعقوبي قد ذكر أسماءَ تختلف للأقداح فواحد عليه: الله عز وجل، والآخر: لكم، والآخر: عليكم، والآخر: نعم، والآخر: منكم، والآخر: من غيركم، والآخر: الوعد، فكانوا إذا أرادوا أمرا رجعوا إلى القداح، فضربوا بها، ثم عملوا بما يخرج من القداح لا يتعدونه، ولا يجوزونه، وكان لهم أمناء على القداح لا يثقون بغيرهم(2).

وذكر ابن أبي الحديد أنّ عبد المطلب ضرب بالقداح عند هبل على ابنه عبد الله بعد أن نذر ذبح أحد أبنائه إذا ولد له عشرة أبناء، فأراد أنْ يفي بنذره فجمع أبناءه عند هبل وطلب إلى صاحب القداح أن يضرب عليهم فخرج القدح على عبد الله، فهمَّ أن يذبحه ثم شاور عليه بأن يفديه بالإبل فلجأ إلى القداح ثانية فضربت حتى بلغت مائة ناقة فنحرها مكانه(3).

هذه الرواية على الرغم من تكرارها في أغلب الكتب والمعاجم إلا أنها تحتاج إلى وقفة طويلة لعدة أسباب:

1 - من غير المعقول لرجل مثل عبد المطلب بکياسته وهدايته ودينه أن ينذر ذبح أحد أبنائه لقضية ما، مهما كان حجمها، فلو قدر له وذبح لكانت من أبشع الجرائم في حق البشرية، فما ذنب عبد الله یذبح على نذر لا دخل له فيه، واذا كان هناك من يقول

ص: 290


1- ابن الكلبي، الاصنام، 28، ابن حبيب، المحبر، ص 332، ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، 8 / 208
2- تاريخ اليعقوبي، 1 / 221
3- شرح نهج البلاغة، 15 / 164؛ يراجع تفاصيل القصة عند ابن الكلبي، الاصنام، ص 28، الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 1 / 214، ابو هلال العسكري، الأوائل، ص 15؛ حسن، تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي، 1 / 60

إن جده ابراهيم عليه السلام قد اراد فعلها قبله فالقضية، تختلف تماماً، فالأمر مع ابراهيم عليه السلام جاء عن طريق الرب كاختبار للطاعة والنبوة، أما عبد المطلب فقد حكم الأمر للأزلام وإمام الأصنام وبرعايتها.

2 - ذكر ابن حبيب أن عبد المطلب كان ممن حرَّم على نفسه السكر والخمر والازلام في الجاهلية من قريش(1)، فكيف يتعامل مع الأزلام وهو حرَّمَها على نفسه والقرآن كان قد حرمها بعد ذلك إذ قال الله (سبحانه وتعالى) في كتابه:

«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ»(2).

3 - ذكرنا سابقا(3)أنّ الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم قد افتخر به في واقعة حنين في ذلك اليوم العصيب دون غيره من السلسلة المباركة للنسب الشريف وما كان ذلك إلا لكونه امتداداً للنور والنبوة الصادقة، لاسيما أنَّ هناك عدداً من الاحكام التي كان قد أقّرها بين قومه وثبتّها الإسلام كقطع يد السارق، والدية مائة ناقة وغيرها من الاحكام، وهذا دليل على عدم اعترافه بالأصنام والأزلام والابتعاد عنها.

النوع الثالث: هو قداح الميسر، وقد ذكر ابن أبي الحديد أنَّ العرب كانوا يستعيرونه ويدخلونه في قداحهم يتيمنون به ويثقون بفوزه(4)، وهو عشرة أقداح سبعة فيها حظوظ

ص: 291


1- المحبر، ص 237
2- سورة المائدة: الآية 3
3- ص 184 من الرسالة
4- شرح نهج البلاغة، 12 / 134

وثلاثة اغفال(1)، وكان أهل الثروة والأجود من العرب يتقامرون بها في الشتاء لإطعام المساكين، فإذا قمر أحدهم جعل أجزاء الجزور لذوي الحاجة وأهل المسكنة، وكانوا يشترون بعيراً فيما بين عشرة اشخاص فيستقسمون عليها بالأقداح بينهم، فمن خرج باسمه سهم من التي لا أنصباء لها إلزم ثلث ثمن البعير، فلا يزالون بذلك حتى تقع السهام الثلاثة التي لا أنصباء لها إلى ثلاثة منهم فيلزمونهم ثمن البعير، ثم ينحرونه ويأكله السبعة الذين لم ينقدوا في ثمنه شيئا، ولم يطعموا منه الثلاثة الذين نقدوا ثمنه شيئا(2)، وقد حرَّمه الإسلام لما فيه من مفاسد من المقامرة ومخاطرة الرجل بأهله وماله، ويجلب العداوة والبغضاء فقال تعالى:

«يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ»(3).

(1) فالسبعة التي لها أنصب يقال لأولها الفذ، وله جزء، والتوأم، وله جزءان، والرقيب، وله ثلاثة أجزاء، والحلس، وله أربعة أجزاء، والنافس، وله خمسة أجزاء، والمسبل، وله ستة أجزاء، والمعلى، وله سبعة أجزاء، والثلاثة التي لا أنصب لها إغفال ليس عليها اسم يقال لها: المنيح، والسفيح، والوغد، وكانت الجزور تشترى بما بلغت، ولا ينقد الثمن، ثم يدعى الجزار، فيقسمها عشرة أجزاء، فإذا قسمت أجزاؤها على السواء أخذ الجزار أجزاءه، وهي الرأس والأرجل، وأحضرت القداح العشرة، واجتمع فتيان الحي، فأخذ كل فرقة على قدر حالهم ويسارهم، وقدر احتمالهم، فيأخذ الأول الفذ، وهو الذي فيه نصيب واحد من العشرة أجزاء، فإذا خرج له جزء واحد أخذ من الجزور جزءاً، وإن لم يكن يخرج له غرم ثمن جزء من الجزور، ويأخذ الثاني التوأم، وله نصيبان من أجزاء الجزور، فإن خرج أخذ جزئين من الجزور، وإن لم يخرج غرم ثمن الجزءين، لمزيد من التفاصيل، ينظر اليعقوبي، 1 / ص 221 - 222 (2) الصدوق، ابو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت 381)، من لا يحضره الفقیه، تصحیح و تحقیق علي اكبر الغفاري، ط 2، جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، (قم 1404 ه)، 3 / 345 .

(3) سورة البقرة: الآية 219.

ص: 292


1- فالسبعة التي لها أنصب يقال لأولها الفذ، وله جزء، والتوأم، وله جزءان، والرقيب، وله ثلاثة أجزاء، والحلس، وله أربعة أجزاء، والنافس، وله خمسة أجزاء، والمسبل، وله ستة أجزاء، والمعلى، وله سبعة أجزاء، والثلاثة التي لا أنصب لها إغفال ليس عليها اسم يقال لها: المنيح، والسفيح، والوغد، وكانت الجزور تشترى بما بلغت، ولا ينقد الثمن، ثم يدعى الجزار، فيقسمها عشرة أجزاء، فإذا قسمت أجزاؤها على السواء أخذ الجزار أجزاءه، وهي الرأس والأرجل، وأحضرت القداح العشرة، واجتمع فتيان الحي، فأخذ كل فرقة على قدر حالهم ويسارهم، وقدر احتمالهم، فيأخذ الأول الفذ، وهو الذي فيه نصيب واحد من العشرة أجزاء، فإذا خرج له جزء واحد أخذ من الجزور جزءاً، وإن لم يكن يخرج له غرم ثمن جزء من الجزور، ويأخذ الثاني التوأم، وله نصيبان من أجزاء الجزور، فإن خرج أخذ جزئين من الجزور، وإن لم يخرج غرم ثمن الجزءين، لمزيد من التفاصيل، ينظر اليعقوبي، 1 / ص 221 - 222
2- الصدوق، ابو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت 381)، من لا يحضره الفقیه، تصحیح و تحقیق علي اكبر الغفاري، ط 2، جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، (قم 1404 ه)، 3 / 345
3- سورة البقرة: الآية 219

ثانياً: الحلف:

الحلف هو القَسَم واليَمين وسمي يميناً لأن العرب قبل الإسلام كانوا إذا حلفوا أو تَحالفوا أو تعاقدوا أو تبایعوا ضرب كلُّ امرئٍ منهم يَمينَهُ على يَمينِ صاحبِهِ(1)، وقد تنوعت صيغة القسم عند العرب بتنوع عباداتها:

اولاً: ذكر ابن أبي الحديد أنَّ منهم من كان يقسم بالله، إذ إنَّ العربَ كانت تحلف باليمين فتقول (يمين الله لا أفعل) أو (أيمن الله)، قال امرؤ القيس:

فقلتُ يمينَ اللهِ أبرحُ قاعِدا *** ولو قَطعوا رأسي لديك وأوصالي(2)

ولعلهم كانوا من العرب الذين هم على دين الحنيفية ورثة ابراهيم وإسماعيل عليهما السلام مع ما فيهم من شوائب الوثنية، وكانت عندهم صيغ بالحلف بالله مختلفة ذكرها النجيري منها:

(لا والذي يراني من فوق سبعة أرفعة.

لا ورب البيت والحجر.

لا والذي يراني من حيث لا أنظر.

لا والذي أخرج الماء من الحجر، والنار من الشجر.

لا ورب النور والظلام(3).

ثانياً: من كان يحلف بالاصنام ويزعم أنها تقربهم إلى الله عز وجل فكثر عندهم

ص: 293


1- الجوهري، الصحاح، ص 1254، [مادة يمن]؛ ابن منظور، لسان العرب، 9 / 344، [لمادة يمن]
2- شرح نهج البلاغة، 7 / 43
3- ابو اسحاق ابراهيم بن عبدالله بن محمد الكاتب (ت نحو 355 ه)، ايمان العرب في الجاهلية، نسخه وصححه محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية، (القاهرة 1343 ه)، ص 14 - 22

الحلف باللآت والعزى، وذكر ابن أبي الحديد قول الكاهن عندما رأى الرسول صغيراً فقال (يا للعرب اقتلوا هذا الغلام فهو واللات والعزى لئن عاش ليبدلن دینکم وليخالفن أمركم)(1)، والقسم بالأنصاب والاصنام نراه بارزاً في أبيات شعراء قبل الإسلام، منها قول طرفة:

فأقسمتُ عند النصبِ إني لهالكٌ *** بمتلفةٍ ليست بغبطٍ(2)ولا خفضِ(3)

وقال أوس بن حجرٍ يحلف باللات:

وباللاتِ والعزى ومن دانَ دينَها *** وباللهِ، إن الله منهُن أكبرُ(4)

أما طرق الحلف واليمين فقد اختلفت عندهم وكانت غالباً ما تتم في مكان ذي قدسية في النفوس وبحضور كهان أو ناس أصحاب نفوذ، والغالب عند عقد الأيمان أنهم يوقدون ناراً وكان السدنة يطرحون فيها ملحاً من حيث لا يشعرون ويدنون منها حتى تكاد تحرقهم ليلقي الروع في نفس الحالف، فلا يحلف كذباً ولا يتجرأ على الإثم بأداء اليمين باطلاً وتسمى هذه النار (الهولة)، قال أوس: كما صد عن نار المُهول حالفُ(5) وكانت لهم مراسيم خاصة كالذي كان في حلف الفضول، إذ ذكر ابن أبي الحديد أنهم عمدوا إلى ماء زمزم فجعلوه في جفنة ثم بعثوا به إلى البيت فغسلوا به أركانه ثم جمعوه وأتوهم به فشربوه ثم انطلقوا وتحالفوا وبذلك عقد الحلف وصار واجباً على

ص: 294


1- شرح نهج البلاغة، 13 / 155
2- غبط: ارض مستوية يرتفع طرفاها. ينظر ابن منظور، لسان العرب، 6 / 393، (مادة غبط)
3- الديوان، ص 65
4- الديوان، ص 36
5- الجوهري، الصحاج، ص 1188، [مادة هول]؛ على، المفصل، 5 / 519

المتحالفين، كما استعملوا عبارات لتوكيد أيمانهم ومنها عبارة (ما بل بحر صوفهُ)(1)، التي استخدمتها قريش حين قالت هلموا فلنحتلف حلفاً جديدا لننصرنّ المظلوم على الظالم ما بل بحر صوفة(2).

ثالثاً: الاستسقاء:

الاستسقاء هو الاستمطار ومنه قول الفرزدق: واسْتَمْطِروا من قريشٍ كلَّ مُنْخَدِع أي سلوه أن يعطي كالمَطَرِ مثلاً(3).

وذكر ابن أبي الحديد أنّ (العرب إذا أجدبت وأمسكت السماء عنهم وأرادوا أن يستمطروا عمدوا إلى السلع(4)، والعشر(5)، فحزموهما وعقدوهما في أذناب البقر وأضرموا فيها النيران، وأصعدوها في جبل وعر واتبعوها يدعون الله ويستسقونه وإنما يضرمون النيران في أذناب البقر تفاؤلا للبرق بالنار)(6).

وهناك رأي آخر لأحد الباحثين المعاصرين يقول فيه إنَّ سبب استخدامهم للبقر يعود للصلة التي يعقدونها بين الثور ومعاني الحياة والخصب والنماء، فهم يعتقدون أنَّ الكون

ص: 295


1- ينظر المثل وقصته في رسالتنا ص 238
2- شرح نهج البلاغة، 15 / 170
3- الجوهري، الصحاح، ص 1059، [مادة مطر]
4- السَّلَعُ: نبات وقيل شجر مُرّ وقيل أنه يرتقي حِبالاً خضراً لا ورق لها ولكن لها قُضْبان تلتف على الغصون وتَتَشَبَّكُ وله ثمر مثل عناقيد العنب صغار فإِذا أَينع اسوَدَّ فتأكله القُرود فقط، ينظر ابن منظور، لسان العرب، 4 / 479، [مادة سلع]
5- العُشر وهو من كبار الشجر وله صمغ حُلْوٌ وهو عريض الورق ينبت صُعُداً في السماء وله سُكّر يخرج من شُعَبِه ومواضع زَهْرِه يقال له سُكّرُ العُشَر وفي سُكّرِه شيءٌ من مرارة، وقیل قُرْصٌ بُرِّيٌّ بلبنٍ عُشَريّ، أي لَبَن إِبلٍ ترعی العُشَرَ، ينظر ابن منظور، لسان العرب، 6 / 167، [مادة عشر]
6- شرح نهج البلاغة، 19 / 312

يستند على ظهر ثور(1).

وقد أورد ابن أبي الحديد مجموعة من الابيات الشعرية التي تتحدث عن هذه الطقوس منها قول لأمية بن أبي الصلت:

ويسقوِن باقرَ السهلِ للطودِ *** مهازيلَ خشيةَ أن تبورا

عاقدين النيرانَ في ثكنِ الأذنابِ *** منها لكي تهيجَ البحورا

سلع ما ومثله عشر ما *** عامل ما وعالت البيقورا

وقال آخر:

لماكسونا الأرضَ أذنابَ البقر *** بالسلعِ المعقودِ فيها والعُشُر

وقال آخر:

یا کحلُ قد أثقلتَ أذنابَ البقر

بسلع يعقدُ فيها وعُشُر فهل تجودينَ ببرقٍ ومطر(2) وكان هناك من هو رافضٌ لتلك التقاليد، بل كانوا يعيبون العرب بفعلتهم، هذه فذكر ابن أبي الحديد بعضاً من أشعارهم منها قول أحدهم:

لا درَّ درُّ رجالٍ خابَ سعيهُمُ *** يستمطرونَ لدى الإعسارِ بالعُشُر

ص: 296


1- عجينة، محمد، موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها، دار الفارابي، (بیروت 1994)، ص 295
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 312

أجاعلٌ أنتَ بيقوراً مسلعةً *** ذريعةً لك بينَ اللهِ والمطرِ

وقال آخر:

قل لبني نهشلَ أصحابِ الحورْ *** أتطلبونَ الغيثَ جهلا بالبَقَر

وسلع من بعد ذاكَ وعُشُر *** ليس بذا يجللُ الأرضَ المطر(1)

أما من كان يؤمن بالله ويدين بدين الحنيفية فقد اتخذ بالاستسقاء منحى آخر، فيذكر ابن أبي الحديد أنَّ قريشاً قد تتابعت عليها سنون أمسك فيها السحاب فالتف القوم حول عبد المطلب ثم ارتقوا أبا قبيس، فقام فاعتضد ابن ابنه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فرفعه على عاتقه وهو يومئذ غلام ثم قال: (اللهم ساد الخلة، وكاشف الكُربة، أنت عالم غير مُعَلم، ومسؤول غير مبخل، وهذه عِبداؤك وإماؤك بعذارات(2)حَرَمك، يشكون إليك سَنَتَهم التي أذهبت الخُف والظلف، فاسمعن اللهم وأمطرَن علينا غيثاً، مُغدِقاً مريعاً سَحا طَبَقا دراكاً)، فما إن انتهى حتى انفجرت السماء بمائها واكتظ الوادي بثجيجه(3)، وانصرف الناس يقولون لعبد المطلب هنيئا لك سيد البطحاء، وقال شاعر من قريش وقد روي هذا الشعر لرقيقة:

بشيبةِ الحمدِ أسقى اللهُ بلدَتَنا *** وقد فقدنا الحيا واجلوَّذَ المطرُ

فجادَ بالماء وسميُّ له سُبُلٌ *** سحا فعاشتْ به الأنعامُ والشجرُ(4)

ص: 297


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 312
2- العذرات: جمع عذرة، وهي الفناء
3- الثَّجُّ: الصَّبُّ الكثيرُ وخص بعضهم به صَبَّ الماء الكثير. ينظر ابن منظور، لسان العرب، 2 / 12، (مادة ثجج)
4- شرح نهج البلاغة، 7 / 212

وقد ذكر الشهرستاني الرواية بطريقة مختلفة فقال أمسك السحاب عنهم سنتين فأمر عبد المطلب ابنه أبا طالب أن يحضر المصطفی محمدا صلی الله عليه وآله وسلم فأحضره وهو رضيع في قماط فوضعه في يديه واستقبل الكعبة ورماه إلى السماء وقال: يا رب بحق هذا الغلام ورماه ثانيا وثالثا وكان يقول: بحق هذا الغلام اسقنا غيثا مغيثا دائما هطلا، فلم يلبث ساعة أن طبق السحاب وجه السماء وأمطر حتى خافوا على المسجد.. وأنشد أبو طالب ذلك الشعر اللامي منه(1):

وأبيضُ يستسقى الغمامُ بوجهِهِ *** ثمالَ اليتامی عصمةٌ للأراملِ

يطيفُ به الهُلاّكُ من آلِ هاشمٍ *** فهُمْ عندَهُ في نعمةٍ وفواضلِ(2)

وكان أبو طالب قد شارك أباه الزعامة ورعاية الرسول الكريم في حياته، لينفرد أخيراً بكلتا المهمتين الزعامة والرعاية بعد وفاته(3).

وذكر ابن أبي الحديد أنَّ أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عام جدب فقال: أتيناك يا رسول الله ولم يبق لنا صبي يرضع ولا شارف يجتر ثم أنشده:

أتيناكَ والعذراءُ تدمی لبانها *** وقد شُغِلتْ أمُّ الرضيعِ عن الطفلِ

فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجر رداءه حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال:

ص: 298


1- ابو طالب، عبد مناف بن عبد المطلب، الديوان، تحقيق محمد حسن ال ياسين، دار ومكتبة الهلال، (بيروت 2000)، ص 75
2- الملل والنحل، ص 499
3- الخنيزي، عبد الله الشيخ علي، ابو طالب مؤمن قریش، ط ه، مؤسسة النبراس، (النجف 1997)، ص 98 - 99

«اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، مريئاً هنيئاً، مريعاً سَحا سجالاً، غدقاً طبقاً قاطباً دائماً، دراً تحيي به الأرض، وتنبت به الزرع، وتدر به الضرع، واجعله سقياً نافعاً عاجلاً غير رائث».

فوالله ما رد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده إلى نحره حتى ألقت السماء أرْواقها(1)وجاء الناس يضجون: الغرق الغرق یا رسول الله! فقال:

اللهم حوالينا ولا علينا».

فانجاب السحاب عن المدينة حتى استدار حولها كالإكليل، فضحك رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال:

«لله در أبي طالب لو كان حياً لقرت عينه، من ينشدنا قوله».

فقام علي عليه السلام فقال:

«یا رسول الله: لعلك أردت: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه».

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«أجل».

فأنشده أبياتا من هذه القصيدة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر لأبي طالب على المنبر(2).

رابعاً: الحَجُّ:

الحَجُّ لغة تعني: القصد أو القُدُومُ، يقال: حَجَّ علينا فلانٌ، أَي قَدِمَ، وقيل حج

ص: 299


1- أَلْقَت السحابةُ على الأَرض أَرواقها أَلَحَّتْ بالمطر والوَبْل. ينظر ابن منظور، لسان العرب، 4 / 225، (مادة روق)
2- شرح نهج البلاغة، 14 / 64

البيت لأنهم كانوا يأتون كل سنة إليه ثم تعارف استعماله في القصد إلى مكة(1).

واصطلاحاً: هو قصد البيت الحرام لأداء أفعال مخصوصة مثل الاحرام والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والإفاضة من عرفات وغيرها من الأعمال(2).

وقصد عرب قبل الإسلام المحجات المقدسة للتبرك بها والتقرب اليها، إذ لم يكن الحج حصراً إلى مكة وحدها، بل كانت هناك محجات اخرى مثل بیت اللات بالطائف، وبيت العزى، وبيت مناة، وبيت ذي الخلصة، وبيت نجران، وبقية بيوت الجاهلية المعظمة عندهم(3).

ولكن الذي يميّز الكعبة عن غيرها من محجات العرب هو مجموعة من العوامل:

1 - اقتران بنائها بنبي الله ابراهيم عليه السلام.

2 - كونها حَوت بعد ذلك جميع أصنام القبائل المهمة التي كان يحج الناس اليها قبل الإسلام فكانت (ثلاثمائة وستين صنماً)(4).

3 - لأنها أول بیت تم بناؤه في الأرض ليعبد الله فيه كما جاء في القرآن الكريم:

«إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ»(5).

4 - ازدادت أهمية مكة وتأثيرها وقدسيتها بعد أن أهلك الله تعالى أبرهة الحبشي صاحب الفيل وسلط عليه الطير الأبابيل، وعظمت جميع العرب قريشاً وأهل مكة

ص: 300


1- ابن منظور، لسان العرب، 2 / 310، [مادة حجج]، الزبيدي، تاج العروس، 3 / 314، [مادة حجج]
2- الطبري، جامع البیان، 1 / 769
3- لمزيد من التفاصيل عن محجات العرب، ينظر جاسم، حنان عيس، الحج عند العرب قبل الإسلام، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة تكريت، 2005، فص 1، ص 25 - 42؛ یوسف، شریف، الكعبات المقدسة عند العرب قبل الإسلام، مجلة المجمع العلمي العراقي، مج 29، بغداد، 1978، ص 188
4- ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، 17 / 210
5- سورة آل عمران: الآية 96

وقالوا: أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عدوهم فازدادوا في تعظيم الحرم والمشاعر الحرام والشهر ووقروها ورأوا أنّ دينهم خير الأديان وأحبها إلى الله تعالی(1).

5 - الأثر الاقتصادي الذي تنامی بمرور الزمن في مكة إذ أصبحت بفعل وجود الكعبة فيها مركزاً للنشاط التجاري والاقتصادي في جزيرة العرب.

6 - بناء الكعبة: وردت أخبار عديدة عن بناء الكعبة عند ابن أبي الحديد في شرحه منها أن البيت موجود أيام آدم عليه السلام، وقال نقلاً عن ابن عباس إنْ الله تعالی أوحي إلى آدم عليه السلام لما أهبطه إلى الأرض أنّ لي حرماً حيال عرشي فانطلق فابن لي بيتاً فيه ثم طف به کما رأيت ملائكتي تحف بعرشي، فهنالك أستجيب دعاءك ودعاء من يحف به من ذريتك ثم أقدمه مكة فبنى البيت من خمسة جبال، طور سيناء، وطور زیتون، ولبنان، والجودي، وبنی قواعده من حراء، فلما فرغ خرج به الملك إلى عرفات فأراه المناسك كلها التي يفعلها الناس اليوم، ثم قدم به مكة وطاف بالبيت أسبوعاً ثم رجع إلى أرض الهند فمات، وكان آدم عليه السلام قد حج من أرض الهند إلى الكعبة أربعين حجة على رجليه(2).

وذكر ابن أبي الحديد أنّ الكعبة أنزلت من السماء على شكل یاقوتة أو لؤلؤة على اختلاف الروايات(3)، فيما يرى آخرون أنّ الذي أنزل هو الحجر الاسود وهو ياقوته من ياقوت الجنة بدليل قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن الركن والمقام یاقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما

ص: 301


1- الازرقي، اخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، 1 / 139
2- شرح نهج البلاغة، 13 / 122
3- ابن أبی الحدید، شرح نهج البلاغة، 13 / 123

لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب»(1).

فلما أغرق الله تعالی قوم نوح رفعه وبقي أساسه فبوأه الله لإبراهيم فبناه(2)، وقيل بل رفع الحجر الاسود فقط وكان وديعة عند جبل أبي قبيس وقت الطوفان(3). وقد ذكر الخربوطلي أن بناء الكعبة ارتبط بابراهيم واسماعيل عليهما السلام فقط وما يصوره بعضهم من وجود إمتداد وجذور قبل هذه الفترة ما هو إلا خيال واسع ارتبط ببعض الروايات معللاً ذلك بعد ورود روایات صريحة عن بناء الكعبة قبل هذه الفترة في القرآن الكريم(4).

على الرغم من أنّ تلك القصص حول بناء البيت ربما امتزجت بنوع من الحكايات القصصية، إلا أن الثابت أن الله سبحانه وتعالى قد وضعها كاختبار للناس كما ذكر الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في احد خطب نهج البلاغة وفقد أشار إلى أن الإختبار کان منذ أدم عليه السلام، مما نستدل من خلاله على عدم صحة رأي الخربوطلي، إذ قال عليه السلام:

أَلاَ تَرَوْنَ أَنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ اِخْتَبَرَ اَلْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُن آدَمَ إلى اَلآْخِرِينَ مِنْ هَذَا اَلْعَالَمِ بِأَحْجَارٍ لاَ تَضُرُّ ولاَ تَنْفَعُ ولاَ تُبْصِرُ ولاَ تَسْمَعُ، فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ اَلْحَرَامَ اَلَّذِي جَعَلَهُ اَللَّهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ اَلأَرْضِ حَجَراً وأَقَلِّ نَتَائِقِ اَلدُّنْيَا مَدَراً وأَضْيَقِ بُطُونِ اَلْأَوْدِيَةِ قُطْراً، بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ ورِمَالٍ دَمِثَةٍ وعُيُونٍ وشِلَةٍ وقُرًی مُنْقَطِعَةٍ لاَ یَزْکُو بِهَا خُفٌّ ولاَ حَافِرٌ ولاَ ظِلْفٌ ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ عليه السلام ووَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ، فَصَارَ مَثَابَةً

ص: 302


1- الازرقي، اخبار مكة، 1 / 256؛ الترمذي، ابو عيسى محمد بن عیسی (ت 279)، سنن الترمذي (الجامع الصحيح)، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، ط 2، دار الفكر، (بیروت 1983)، 2 / 182
2- ابن أبی الحدید، شرح نهج البلاغة، 13 / 122
3- القرطبي، الجامع لاحکام القرآن، 2 / 122
4- على حسني، الكعبة على مر العصور، ط 2، دار المعارف، (القاهرة 1986)، ص 7

لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ وغَايَةً لِمُلْقَي رِحَالِهِمْ تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ اَلأَفْئِدَةِ مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ ومَهَاوِي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ وجَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلاً يُهَلِّلُونَ لِلَّهِ حَوْلَهُ ويَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ قَدْ نَبَذُوا اَلسَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وشَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ اَلشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ اِبْتِلاَءً عَظِيماً واِمْتِحَاناً»(1).

ولم يورد ابن أبي الحديد روايات عن مناسك الحج وشعائره عند الجاهليين لعدم ورود ذلك في النصوص التي تم الحصول عليها ما عدا الحج إلى مكة، إذ حفظت الموارد الإسلامية شيئاً من ذلك بسبب فرض الحج في الإسلام وإقراره لبعض شعائره التي لم تتعارض مع مبادئه.

الوظائف الإدارية المتعلقة بالحج:

1- السدانة:

السادن هو خادم الكعبة وبيت الأصنام، والحجابة والسدانة مصطلحان مترادفان والفرق بينهما أَن الحاجب يَحْجب وإِذْنُه لغيره والسَّادِنُ يحجب وإذنه لنفسه، وكان القائم بها يمتلك مفاتيح الكعبة وفتح بابها وإِغلاقه(2).

وهي من الوظائف الدينية التي تسموا بصاحبها إلى منزلة رفيعة في المجتمع لأنه الوسيط بين الآلهة والناس، وهي لا تتطلب أنْ يكون صاحبها عالماً بالدين فضلاً عن أنها مصدر رزق للقائمين عليها، وقد يكون مصدره الهدايا والنذور التي يقدمها الناس.

وعرفت السدانة عند خزاعة إلى أن صار أمر الكعبة إلى قصي فورثها من بعده ابنه عبد الدار، ثم عثمان بن عبد الدار، ثم ابنه عبد العزى وبقيت في ولده(3)حتى انتهت

ص: 303


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 13 / 118، [خطبة 238]
2- الجوهري، الصحاح، ص 509، [مادة سدن]؛ ابن منظور، لسان العرب، 4 / 400، [مادة سدن]
3- العلي، صالح احمد، محاضرات في تاريخ العرب، ص 115

إلى عثمان بن طلحة الذي شهد فتح مكة (سنة 8ه)، فقد ذكر ابن أبي الحديد أنّ الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعا عثمان وقال له :

«خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم، یاعثمان إن الله استأمنكم على بيته فكلوا بالمعروف»(1).

وكانت الكعبة تفتح قبل الإسلام يومين من كل أسبوع، ذكر أنهما يومي الاثنين والخميس(2).

2۔ الرَّفْادة:

هي العطاء والصلة، وهي مشتقة من الرَفَدِ، وهي الإعانة، ترافدوا أي أَعان بعضهم بعضاً، وهو شيءٌ تترافَدُ به قريشٌ في الجاهليّة، تُخْرِجُ فيما بينها مالاً تشتري به للحُجَّاج طَعاماً وزَبيباً للنبيذ(3).

وكان الهدف من هذه الوظيفة هو استضافة الحجاج في مكة وتوفير الطعام لهم في موسم الحج، وظهرت هذه الوظيفة أول الامر في عهد (عمرو بن لحي) الذي عُدَّ أول من أطعم الحاج بمكة لحم الإبل على الثريد(4).

وذكر ابن أبي الحديد أنّ وظيفة الرفادة ذهبت إلى بني عبد الدار بعد وفاة قصي بن کلاب، ثم أخذها منهم هاشم بن عبد مناف، وفي فترة تسلم هاشم وظيفة الرفادة أصاب الناس جدبٌ شديدٌ، فخرج هاشم إلى الشام فاشترى بما اجتمع عنده من ماله دقیقاً وكعكاً فقدم به إلى مكة في موسم الحج، فهشم ذلك الكعك ونحر الجزر وطبخه

ص: 304


1- شرح نهج البلاغة، 17 / 212
2- الازرقي، أخبار مكة، 1 / 174
3- الجوهري، الصحاح، ص 437، [مادة رفد]؛ ابن منظور، لسان العرب، 4 / 144، [مادة رفد]
4- الازرقي، اخبار مكة، 1 / 71

وجعله ثریداً وأطعم الناس وكانوا في مجاعة شديدة حتى أشبعهم(1)، وبعد أنْ قام بالرفادة المطلب بن عبد مناف، عادت إلى ابن أخيه عبد المطلب بن هاشم الذي زاد في سنة ابيه فكان في ايام الحج يضع الطعام للحجاج والأعلاف للوحوش وكان يسمى (مطعم الناس في السهل، والوحوش والسباع في الجبل)(2)، ثم أبي طالب الذي أدرك الإسلام(3).

3- السقاية:

ذكر ابن أبي الحديد أْنها من اشرف خصال قريش في الجاهلية(4)التي ارتبطت بموسم الحج إلى الكعبة كون مكة تقع في بيئة صحراوية يكون الماء فيها عزيزاً جداً لندرته، إذ يعتمد فيه على مياه الآبار، لذلك قام قصي بن كلاب بوضع حياض من الأدُم بفناء الكعبة ويسقى فيها الماء العذب من الآبار على الإبل(5)، ثم حفر قصي بمكة بئرا يقاْل لها (العجول)، وكانت العرب إذا قدمت مكة يردونها، فيسقون منها ويتراجزون عليها. قال قائل فيها:

أروى من العجول ثمتَ أنطلقْ

إنَّ قصيا قد وفي وقد صدقْ

بالشبعِ للحيِ وريَّ المغتبِقِ

ص: 305


1- شرح نهج البلاغة، 15 / 150 -158
2- ابن حبیب، المنمق، ص 28
3- ابن هشام، السيرة النبوية، 1 / 150
4- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 149
5- الازرقي، أخبار مكة، 1 / 80

وكانوا يمزجون الماء بالزبيب والتمر ليكون اكثر حلاوة لكون مياه الآبار مالحة(1).

أعقب قصي بن كلاب على هذه الوظيفة ابنه عبد مناف ثم هاشماً وجاء بعده أخوه المطلب، ثم عبد المطلب بن هاشم الذي أعاد حفر بئر زمزم، وهو أول من یسقى بمكة ماءاً عذباً(2)، ولبث عبد المطلب يسقي الناس حتى توفي، ثم كانت بيد أبي طالب الذي سلمها إلى أخيه العباس بن عبد المطلب(3)، فلم تزل في يده، وللعباس کرم بالطائف، يحمل زبيبه إليها، فكان يقرض أهل الطائف، ويقتضي منهم الزبيب، فينبذ ذلك كله ويسقيه الحاج أيام الموسم حتى ينقضي، في الجاهلية وصدر الإسلام(4).

طقوس الحج عند العرب قبل الإسلام 1. الأشهر الحرم:

هي الأشهر التي حُرَّم فيها القتال لغرض تفرغ الناس للحج لذا سميت الأشهر الحرم، وهي اربعة، ثلاثة منها متصلة وهي (ذو القعدة، ذو الحجة، محرَّم) وشهر منفرد هو (رجب)(5) وعلى الرغم من أن شهر رجب يأتي بعد شهر محرم بعدة شهور إلا انه كان من الأشهر الحرم، ويبدو لنا أنَّ العرب أو قريشاً وهي التي كانت قد حددت الاشهر الحرم أرادت وقف القتال والحرب أكثر من مرة في السنة لفتح المجال لطرد البغضاء والعداوة بين

ص: 306


1- الازرقي، أخبار مكة، 1 / 83 -84
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 159
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 166
4- الازرقی، اخبار مكة، 1 / 84
5- المسعودي، مروج الذهب، 2 / 393

المتحاربين من جهة، ولانشغالهم بالتجارة وتأمين طرق وصولها من جهة اخرى مع رغبتهم في الحصول على وقت آخر لترويج تجارتهم والحصول على الاموال، وكان سائر العرب يراعون حرمة هذه الأشهر فهم (لا يعدون في الأشهر الحرم على أحد، ولو لقي أحدهم قاتل أبيه أو أخيه، ولا يستاقون مالا، إعظاما للشهور الحرم)(1).

وذكر ابن أبي الحديد أنهم كانوا يسمون آخر يوم من شوال فلتة، لأن كل شخص عنده ثأر لم يدرك ثأره إذا دخلوا في الأشهر الحرم(2)، وفي رواية قتيبة بن الحارث اليربوعي الذي مرَّ به قوم من كلب في الاشهر الحرم لطلب الديات وكان بينهم دم، فقال لهم (إن انسلخ الأشهر الحرم وأنتم بهذه الأرض وأدرككم الخیل نکلت بكم وأثكلتكم أمهاتكم)(3)، لدليل واضح على حرمة هذه الاشهر عند العرب، إلا أن ذلك لم يمنع من وقوع الحرب في هذه الأشهر، إذ وقع القتال بين قريش وخزاعة، وسميت بحرب الفجار لوقوعها في الأشهر الحرم(4)، وقد ورد ذكر الأشهر الحرم في القرآن في قوله تعالى:

«إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ»(5).

2- الإجازة (الإفاضة):

الإجازة من جاز وجازَه، سار فيه وسلکه، وقولهم: جعلَ فلانٌ ذلك الأمر مَجازاً

ص: 307


1- الازرقي، اخبار مكة، 1 / 147
2- شرح نهج البلاغة، 2 / 24
3- شرح نهج البلاغة، 15، 98
4- ينظر حرب الفجار ص 349 من الرسالة
5- سورة التوبة: الآية 36

إلى حاجته، أي طريقاً ومسلكاً(1)، والإفاضة تعني الزَّحْفَ والدَّفْعَ في السَّيْر بكثرةٍ ولا يَكُونُ إِلاَّ عن تَفرُّقٍ وجَمْعٍ(2)، إذن الكلمتان مترادفتان وقد وردت لفظة الإفاضة في القرآن الكريم في قوله:

«ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(3).

وذكر ابن أبي الحديد أنّ الإفاضة في الجاهلية في بني عطارد وهم يتوارثون ذلك کابرا عن كابر حتى قام الإسلام، وكانوا إذا اجتمع الناس أيام الحج بمنى لم يبرح أحد من الناس دينا وسنة حتى يجوزّ القائم بذلك من آل كرب بن صفوان، قال أوس بن مغراء:

ولا يريمونَ في التعريفِ موِقِفُهم *** حتى يُقالَ أجيزوا آلَ صفوانا(4)

وقال الفرزدق:

إذا هبطَ الناسُ بالمحصَّبَ مِنْ مِنی *** عشيَّةَ يومَ النحرِ من حيثُ عرّفوا

ترى الناسَ ما سرنا يسيرونَ حولَنا *** وإنْ نحنُ أومأنا إلى الناسِ وقفّوا(5)

وقد ورد أنَّ هناك إفاضتين من عرفة ومن المزدلفة (المشعر الحرام)(6)، وكان الغوث بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر يلي الإجازة للناس بالحج من عرفة، وولده من

ص: 308


1- الجوهري، الصحاح، ص 210، [مادة جوزا]؛ ابن منظور، لسان العرب، 2 / 251، [مادة جوز]
2- ابن منظور، لسان العرب، 7 / 154، [مادة فيض]، الزبيدي، تاج العروس، 10 / 13
3- سورة البقرة: الآية 199
4- شرح نهج البلاغة، 15 / 97
5- الديوان، ص 392 -393
6- المَشْعَرِ الحرام هو مُزْدَلِفَةُ وهي جمعٌ تسمى بهما جميعاً والمَشْعَرُ المَعْلَمُ والمُتَعَبَّدُ من مُتَعَبَّداتِهِ والمَشاعِرُ المعالم التي ندب الله إِليها وأَمر بالقيام عليها ومنه سني المشعر الحرام، ينظر ابن منظور، لسان العرب، 5 / 95، [مادة شعر]

بعده، وكان يقال له ولولده صوفة(1)، وعندما انقرضوا ورثوها منهم بالقرابة بنو سعد بن زيد مناة بن تميم وكانت من بني سعد في آل صفوان بن الحارث بن شجنة(2).

أما الإفاضة من المزدلفة فكانت وراثية في بني عدوان، وآخر من ولی منهم ابو سيارة عميلة بن الأعزل(3).

3- التلبية:

هي إجابة المنادي ومعناها الإجابة والاخلاص، أَي إِجابَتي لك يا ربِّ(4)، وهي من شعائر الحج، وإن أول من لبى إبراهيم عليه السلام إذ أمره الله (سبحانه وتعالى) بعد بنائه الكعبة أنْ يؤذن في الناس بالحج، فقال: أيها الناس، كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم، فأجابوه: لبيك اللهم لبيك(5)، إلا أنه وبمرور الوقت بعد أن غيروا التوحيد بعبادة الأصنام والشرك بالله ادخلوها في التلبية فكانت تلبية قریش:

لبيك اللهم لبيك *** لا شريك لك لبيك

إلا شريكا هو لك *** تملكه وما ملك(6) ويبدو أنَّ التلبية لم تختص بقريش فقط، بل كانت لكل قبيلة تلبية خاصة بها فيذكر

ص: 309


1- وَإِنّمَا وَلِيَ ذَلِكَ الْغَوثُ بْنُ مُرّ، لِأَنّ أُمّهُ كَانَتْ امْرَأَةً مِنْ جُرْهُمٍ، وَكَانَتْ لَا تَلِدُ فَنَذَرَتْ لِلّهِ إنْ هِيَ وَلَدَتْ رَجُلًا أَنْ تَصّدّقَ بِهِ عَلَى الْكَعبَةِ عَبْدًا لَهَا يَخْدُمُهَا، وَيَقُومُ عَلَيْهَا. فَوَلَدَتْ الغَوْثَ، فَكَانَ يَقُومُ عَلَى الْكَعْبَةِ فِي الدّهْرِ الْأَوّلِ مَعَ أَخْوَالِهِ مِنْ جُرْهُمٍ، فَوَلِيَ الْإِجَازَةَ بِالنّاسِ مِنْ عَرَفَةَ، لِمَكَانِهِ الّذِي كَانَ بِهِ مِن الكَعْبَةِ، وَوَلَدُهُ مِنْ بَعْدِهِ، ينظر ابن هشام، السيرة النبوية، 1 / 110
2- ابن هشام، السيرة النبوية، 1 / 110
3- ابن هشام، السيرة النبوية ، 1 / 110
4- ابن منظور، لسان العرب، 8 / 12، [مادة لبب]
5- الازرقی، اخبار مكة، 1 / 44
6- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 128

ابن حبيب أن لكل صنم تلبية خاصة به، فكانت تلبية من نسك للعزى:

(لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، ما أحبنا إليك).

وكان تلبية من نسك اللات:

(لبيك اللهم لبيك، لبيك، كفى ببيتنا بنية، ليس بمهجور ولا بلية، لكنه من تربة زكية، أربابه من صالحي البرية).

وكانت تلبية من نسك لسواع:

(لبيك، اللهم لبيك، لبيك، ابنا اليك، إن سواع طلبنَ إليك).

وكانت تلبية من نسك لود:

(لبيك الله لبيك لبيك معذرة إليك).

وكانت تلبية من نسك ذا الخلصة: (لبيك اللهم لبيك لبيك، بما هو أحب اليك)(1).

4- الطواف:

هو الدوران حول الكعبة وهو جزء من طقوس الحج المهمة، فعندما بنی ابراهیم عليه السلام الكعبة جعل الحجر الاسود علامة يبدأ الطواف منها بقوله لابنه اسماعيل (عليه السلام): (ابغي حجراً أضعه هاهنا يكون للناس علماً يبتدئون منه الطواف)(2)، وكان العرب في طوافهم ينقسمون على ثلاثة أقسام:

أ - الحمس:

ص: 310


1- المحبر، ص311 - 315
2- الازرقی، اخبار مكة، 1 / 41

كلمة تعني التشدد في الدين، تحمسوا في دينهم أي تشددوا(1)، والحمس عند أهل مكة قريش وكنانة وخزاعة ومن دان بدينهم ممن ولدوا من حلفائهم وإن كان من ساكني الحل(2)، وكان الانتساب إلى الحمس مدعاة للفخر، فذكر ابن أبي الحديد الزبير بن عبد المطلب وهو من سادات قریش كان يتفاخر بكونه من الحمس بقوله:

ولولا الحمسُ لم يلبَسْ رجالٌ *** ثيابَ أعزَّةٍ حتی يموتوا

ثيابُهُمُ شمالٌ أو عباءٌ *** بها دنسٌ كما دَنس الحميتُ

ولكنّا خُلقنا إذا خُلِقنا *** لنا الحبراتُ والمِسكُ الفتيتُ

وكأسٌ لو تَبيِنُ لهم كلاما *** لقالتْ إنّما لهمُ سبيتُ(3) وقالت قريش وأهل مكة: نحن أهل الله وبنو إبراهيم خليل الله وولاة البيت الحرام وسكان حرمه فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلتنا، فابتدعوا عند ذلك أحداثاً في دينهم فقالوا: لاتعظمون شيئاً من الحل كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم، فتركوا الوقوف على عرفه، والإفاضة منها وهم يعرفون ويقرون انها من شعائر الحج ودين إبراهيم، ويقرون لسائر العرب أن يقفوا عليها، وأن يفيضوا منها إلا أنهم قالوا: نحن الحمس أهل الحرم فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرم ولا نعظم غيره، ثم جعلوا لمن ولدوا من سائر العرب من سكان الحل والحرم مثل الذي لهم بولادتهم إياهم يحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم(4).

ص: 311


1- الجوهري، الصحاح، ص 269، [مادة حمس]؛ ابن منظور، لسان العرب، 2 / 498، [مادة حمس]
2- الازرقی، اخبار مكة، 1 / 140
3- شرح نهج البلاغة، 15 / 154
4- الأزرقي / اخبار مكة، 1 / 140

وقد ابتدع الحمس أموراً كانت خاصة بهم قد شددوا على انفسهم في دينهم، فكانوا إذا نسكوا لم يسلأو(1) أسمنا(2)، ولم يطبخوا أقطا(3)، ولم يدخروا لبنا، ولم يحولوا بين مرضعة ورضاعها حتى يعافه، ولا يبتنون في حجهم شعرا ولا وبرا ولا صوفا ولا قطنا، ولا يأكلون لحما، ولا يمسون دهنا، ولا يلبسون إلا جديدا، ولا يطوفون بالبيت إلا في حذائهم وثيابهم، ولا يمسون المسجد بأقدامهم تعظيما لبقعته ولا يدخلون البيوت من ابوابها، ولا يخرجون إلى عرفات: يقولون نحن اهل الله ويلزمون مزدلفة حتى يقضوا نسكهم، ويطوفون بالصفا والمروة إذا انصرفوا من مزدلفة ويسكنون في ظعنهم قباب الأُدم الحمر(4).

وكانوا عند طوافهم يصدرون الاصوات وهو مايسمى بالتصفير، وهو أن يجمع الرجل يديه ثم يدخلهما في فيه ثم يصيح(5)، وذكر القرآن الكريم صلاتهم وطوافهم بقوله:

«وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ»(6).

ص: 312


1- سَلأً واسْتَلأَه: طَبَخَه وعالَجَه فأَذَابَ زُبْدَه، ينظر ابن منظور، لسان العرب، 4 / 470، [مادة سلأ]
2- والسَّمْنُ سِلاءُ اللَّبَنِ والسَّمْنُ سِلاءُ البد والسَّمْنُ للبقر وقد يكون للمِعْزَى قال امرؤ القيس وذکر مِعْزًى له: فتَمْلأُ بَيْتَنا أَقِطاً وسَمْناً وحَسْبُكَ من غِنًى شِبَعٌ ورِيُّ، ينظر ابن منظور، لسان العرب، [مادة سمن]
3- الأقِطُ والإِقْطُ والأَقْطُ والأُقْطُ: شيء يتخذ من اللبن المَخِيض يطبخ ثم يترك حتى يَمْصُل والقِطعةُ منه أَقِطةٌ هو من أَلبان الإِبل خاصّة قال الشاعر رُوَيْدَكَ حتى يَنْبُتَ البقْلُ والغَضَا فيَكْثُر إِقْطٌ عندهم وحَلِيبُ وهو لبن مُجَفَّف يابس مُسْتَحْجِر يطبخ به، ينظر ابن منظور، لسان ب، 1 / 133، [مادة اقطا]
4- ابن حبيب، المحبر، ص 180
5- الطبري، جامع البيان، 9 / 316
6- سورة الانفال: اية 35

فالمكاء هو التصفير والتصدية: التصفيق(1)، وقد ذکر ابن أبی الحدید أنَّ المکاء طیر يصفر كثيراً ومن هذا الباب قول الشاعر:

إذا غرَّد المكّاءُ في غير روضةٍ *** فويلٌ لأهلِ الشاءِ والحمراتِ

أومأ بذلك إلى الجدب لأن المكاء يألف الرياض فإذا أجدبت الأرض سقط في غير روضة وغرد فويل لأهل الشاة والحميرات(2).

ب - الحلة:

من أهم قبائلهم من العرب تميم بن مر كلها غير يربوع، ومازن، وضبة، وحميس، وظاعنة، والغوث بن مر، وقيس عيلان بأسرها ما خلا ثقيفا، وعدوان وعامر بن صعصعة، وربيعة بن نزار كلها، وقضاعة كلها ما خلا علافا وجنابا، والأوس والخزرج، وخثعم، وبجيلة، وبكر بن عبد مناة بن كنانة، وهذيل بن مدركة، وأسد، وطيئ، وبارق(3).

وكانت الحلة يحرمون الصيد في النسك ولا يحرمون في غير الحرم، ويتواصلون في النسك، ويمنح الغني ماله أو اکثره في نسکه، فيسلا فقراؤهم السمن، ويجتزون من الأصواف والأوبار ما يكتفون له، ولا يلبسون إلا ثيابهم التي نسكوا فيها، ولا يلبسون في نسكهم الجديد ولا يدخلون من باب دار ولا باب بيت، وإنما تنقب في ظهورها نقباً فتدخل منه وتخرج، ولا يؤويهم ظل ما داموا محرمين، وكانوا يدهنون ويأكلون اللحم واخصب ما يكونون ایام نسكهم فإذا دخلوا مكة بعد فراغهم تصدقوا بكل حذاء وكل

ص: 313


1- الفراهيدي، العين، 5 / 418
2- شرح نهج البلاغة، 5 / 49
3- ابن حبیب، المحبر، ص 179

ثوب لهم، ثم استكروا من ثياب الحمس تنزيها للكعبة أن يطوفوا حولها إلا في ثياب جدد، ولا يجعلون بينهم وبين الكعبة حذاء يباشرونها بأقدامهم، فإن لم يجدوا ثياباً طافوا عراة(1).

ج - الطلس:

قبائل الطلس(2)وهم سائر أهل اليمن، وأهل حضرموت، وعك وعجیب وإياد بن نزار(3)، وكانت الطلس بين الحلة والحمس يصنعون في إحرامهم ما يصنع الحلة ويصنعون في ثيابهم ودخولهم البيت ما يصنع الحمس وكانوا لا يتعرون حول الكعبة ولا يستعيرون ثيابا ويدخلون البيوت من أبوابها وكانوا يقفون مع الحلة ويصنعون ما يصنعون(4).

وعرف أهل الطلس بالمتوكلة فهم لم يحملوا معهم الطعام عند الحج لتوكلهم على رب البيت في طعامهم، واعتمادهم على سؤال الناس، وذكر الأزرقي أنهم قالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل في الحرم إذا كانوا حجاجاً أو عماراً، ولا يأكلون في الحرم إلا من طعام أهل الحرم إما قِرى وإما شراء(5).

ولعل قريشاً هنا هي من وضعت تلك المبادئ لغرض الإستفادة من أيام الحج في التجارة وبيع الطعام وما يحتاجه الحجيج لزيادة وارداتها المالية.

ص: 314


1- ابن حبيب، المحبر، ص 181
2- وهو يعني الذين يأتون من اقصى اليمن طلساً من الغبار يطوفون بالبيت في تلك الثياب، والطلس: وهو الذي في لونه غُبرةٌ إلى السواد، ينظر الجوهري، الصحاح، ص 683، [مادة طلس]
3- ابن حبیب، المحبر، ص 179
4- ابن حبیب، المحبر، ص 181
5- اخبار مكة، 1 / 140

ومن طقوس الحج الأخرى السعي بين الصفا والمروة، وكانت العرب قد وضعت صنمي أساف ونائلة أحدهما على الصفا والأخر على المروة(1)، وظل السعي بينهما احد مناسك الحج، وهو من طقوس الحج القديمة ويرجع تاريخه إلى هاجر أم نبي الله اسماعيل عليه السلام حينما تركها نبي الله ابراهيم عليه السلام في مكة وعند نفاد الماء عندها أخذت تهرول ما بين الصفا والمروة سبع مرات ثم عادت إلى اسماعيل عليه السلام ووجدت زمزم قد تفجرت عند قدميه، فلذلك طاف الناس بين الصفا والمروة(2).

ومن الطقوس الأخرى النحر، إذ اعتاد العرب نحر الذبائح تقرباً للآلهة وإرضاءاً لها وكانوا يسمونها الهدي، وهي كلمة مشتقة من الاهتداء على اعتبار أنَّ القربان هدية من الحاج إلى الله أو الكعبة، وكانوا لا يأكلون من لحوم ما ينحرونه إذ أنهم كانوا يقسمون لحومها على من حضر عملية النحر، وما تبقى تأكله الطير والوحش ولا يمنعون عنها أحداً، ثم بعد النحر تتم مراسيم حلق الشعر(3).

النَسِيء:

نَسَأُتُ الشيءَ نَسْأً بمعنى: أخَّرتُهُ(4)، والنَّسِيءُ شهر كانت العرب تُؤَخِّره في الجاهلية، وذكر ابن أبي الحديد أنّه تأخير المحَّرم إلى صفر(5). وكانوا إذا صدروا عن مِنیً يقوم رجلٌ من كِنانَةَ فيقول : (أنا الذي لا يُرَدُّ لي قضاءٌ! فيقولون صدقت أَنْسِئنا شهراً، أي أخِّر عنَّا حُرُمَةَ المُحَرَّمِ واجعلها في صَفَرٍ)، لأنَّهم كانوا يكرهون أن تتوالى عليهم ثلاثة

ص: 315


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 128
2- الازرقي / اخبار مكة، 1 / 32
3- الخربوطلي، الكعبة على مر العصور، ص 58
4- الجوهري، الصحاح، ص 1104، [مادة نسأ]
5- شرح نهج البلاغة، 19 / 320

أشهر لا يُغيرون فيها، لأنَّ معاشَهم كان من الغارةِ؛ فَيُحِلُّ لهم المُحَرَّمَ(1).

وذكر ابن حبيب أنَّ (نسأة الشهور من كنانة، وهم القلامسة، وأحدهم قلمس(2)، وكانوا فقهاء العرب والمفتين لهم في دينهم)(3)، وكانوا يُبدَّلون في ترتيب الأشهر فقط فيصبح ذو القعدة ذو الحجة، وذو الحجة صفراً، ثم المحرم، وبهذا تتحقق هدنة الغزوات شهرين وتستأنف شهراً في صفر المقدم، وتعود الهدنة في المحرم المنسوء بعد أن يغنم الغازون ما يسد حاجاتهم(4).

وقد انتقد بعضهم هذا التفسير ووصفه بأنه تفسير يبدو فيه التكلف ظاهراً، لأنه إن جاز وقوعه مرة فمن غير المعقول تکراره بانتظام مئات السنين، علماً إن شرعية التحريم كانت عامة في العرب وعمومیتها تقتضي نظاماً ثابتاً في التحريم يلتزم فيه المقيم والضاعن(5).

وقيل ايضاً إن العرب كانت تستخدم الأشهر القمرية وهي تختلف عن الأشهر الشمسية لذلك كان الاعتماد عليها في تقدير أيام الحج قد يخل بأمور التجارة التي تجري حسب فصول السنة، إذا كان موسمه في غير وقت المحاصيل(6)، لذلك يذكر المسعودي أن العرب في الجاهلية تكبس في كل ثلاث سنين شهراً وتسميه النسيء وهو التأخير(7)،

ص: 316


1- ابن منظور، لسان العرب، 8 / 390، [مادة نسأ]
2- القَلَمَّسُ: السيد العظيم، كثير الخير والعطيَّة، واسع الخلق، والداهية من الرجال، ينظر ابن منظور، لسان العرب، 7 / 358 [مادة قلمس]
3- المحبر، ص 156
4- طقوش، تاريخ العرب قبل الإسلام، ص 459
5- لمزيد من التفاصيل عن هذا الموضوع ينظر حمور، عرفان محمد، المواسم وحساب الزمن عند العرب قبل الإسلام، مؤسسة الرحاب، (بیروت 2000)، ص 119 -141
6- حمور، المواسم وحساب الزمن عند العرب قبل الإسلام، ص 127
7- مروج الذهب، 2 / 393

وقد حارب الإسلام النَّسِيءُ بقوله تعالی:

«إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ»(1).

كذلك من كلام الرسول الكريم محمد صلی الله عليه وآله وسلم في خطبة حجة الوداع التي ذكرها ابن أبي الحديد، إذ قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«أيها الناس إنما النسيءُ زيادةٌ في الكفر، يضلُّ به الذين كفروا، يحلُّونَهُ عاما، ويحرّمونَهُ عاما وإن الزمانَ قد استدارَ كهيئتِهِ يومَ خلقَ اللهُ السمواتِ والأرض، وإن عدَّةُ الشهور عندَ الله اثنا عشرَ شهرا في كتاب اللهِ يومَ خلقَ السمواتِ والأرض، منها أربعةٌ حُرُم ثلاثةٌ متوالياتٍ وواحدٌ فرَد ذو القعدةِ وذو الحجةِ ومحرمٌ ورجب الذي بين جمادی وشعبان»(2).

العُمْرة:

العُمْرةُ مأْخوذةٌ من الاعْتِمار وهو الزِّيارَة، ومَعْنَی اعْتَمَر في قَصْدِ البَيْت، أَنّه إِنّمَا خُصَّ بهذا لأَنَّه قَصْدٌ بعَمَل في مَوْضِع عامِر، ولذلك قِيلَ للمُحرِم بالعُمْرَة: مُعْتَمِرٌ(3) كان العرب قبل الإسلام يسمون الحج بالحج الأكبر أما العمرة فالحج الأصغر(4)، وكان ابراهيم عليه السلام أول من شرع العمرة، فقد ذكر ابن الكلبي أن العرب كان فيهم بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل يتنسكون بها : (من تعظيم البيت، والطواف به، والحج والعمرة، والوقوف على عرفة ومزدلفة، وإهداء البدن، والإهلال بالحج

ص: 317


1- سورة التوبة: الآية 37
2- شرح نهج البلاغة، 1 / 134
3- ابن منظور، لسان العرب، 6 / 296 [مادة عمر]؛ الزبيدي، تاج العروس، 7 / 261، [مادة عمر]
4- الطبري، جامع البیان، 10 / 98

والعمرة)(1)، وكانت العمرة في شهر رجب(2)، ولا يجوزونها في أشهر الحج ويعتبرونها من اعظم الذنوب، فعن ابن عباس قال: (كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرم صفرا ويقولون إذا برا الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر)(3)، ولم يتشدد العرب قبل الإسلام في إحرامهم في العمرة، فقد كانوا يخلعون الثياب، وكانوا يجتنبون الطيب في الإحرام إذا حجوا ولكنهم يتساهلون في ذلك في العمرة(4).

وذكر ابن أبي الحديد أنَّ رجلاً من بني أسد قد قدم مكة معتمرا ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل السهمي فلم يعطه حقه، فاستنجد بأشراف قريش فردوا اليه بضاعته(5)، وهذا يعني أن العرب قبل الإسلام إستغلوا العمرة كذلك للتجارة وكسب الرزق.

والعمرة كالحج إذ كان المعتمرون يغدون إلى مكة آمنين على نفوسهم وأموالهم عند الاعتمار وذكر لنا ابن أبي الحديد أنَّ سعد بن معاذ خرج معتمرا قبل بدر ایام ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة، فنزل على أمية بن خلف فأتاه أبو جهل وقال: أتترك هذا وقد آوی محمدا وآذننا بالحرب، ولكنه رفض التعرض إليه لأنه كان معتمراً(6). وروى لنا ايضاً أنَّ سعد بن النعمان بن أكال أخا بني عمرو بن عوف خرج

ص: 318


1- الاصنام، ص 6
2- علي، المفصل، 6 / 391
3- ابن حنبل، مسند احمد، 1 / 252 ؛ ابن قدامة، موفق الدين ابو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة (ت 620 ه)، المغني، دار الكتاب العربي، بیروت، (د.ت)، 3 / 237
4- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، 3 / 312
5- شرح نهج البلاغة، 15 / 170
6- شرح نهج البلاغة، 14 / 79

بعد معركة بدر معتمرا ومعه امرأة له وكان شيخا كبيرا لا يخشی قریشاً وقد عهد قريشاه ألا تعرض لحاج ولا معتمر(1).

ومن هذا نلاحظ أنَّ قريشاً كانت تريد أن تحافظ على المبادئ التي وضعتها أثناء العمرة، إذ يأمن المعتمر على ماله، ونفسه حتى في ظروف الحرب والقتال لأن في ذلك ديمومة لمراسم الحج والعمرة، ووفود أعداد كبيرة سنوياً مما يعم الفائدة والربح لهم.

ص: 319


1- شرح نهج البلاغة، 14 / 154

المبحث الثالث معارف العرب قبل الإسلام

أولاً: الكهانة:

الكهانة لغةً: جمع کاهِن، والكاهِنُ الذي يَتعاطى الخبرَ عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدَّعي معرفة الأَسرار(1)، ويرى المسعودي أنَّ أصل الكهنة يعود إلى عدة اسباب منها أنَّ بعض النفوس يدّعون أن نفوسهم قد صَفَتْ فهي مطلعة على أسرار الطبيعة، وعلى ما تريد أن يكون منها، وطائفة ذهبت إلى أن التكهن سبب نفساني لطيف يتولد من صفاء مزاج الطباع، وقوة النفس، ولطافة الحس.

وهناك من يعتقد أن الكهانة تكون من قبل شيطان يكون مع الكاهن يخبره بما غاب عنه، وأن الشياطين كانت تسترق السمع وتلقيه على ألسنة الكهان فيؤدون إلى الناسِ الأخبار بحسب ما يرد إليهم(2)، وهذا ما أكده ابن أبي الحديد بقوله: (الكهان وهم الذين كانوا يخبرون عن الشياطين بكثير من الغائبات)(3).

ولعل مصدر تلك المعلومات هو ما ذكر عن الرسول الكريم صلى الله عليه وآله

ص: 320


1- الجوهري، الصحاح، ص 988، مادة (کهن)؛ ابن منظور، لسان العرب، 7 / 552، مادة (کهن)
2- مروج الذهب، 2 / 369 ؛ وللتفصيل ينظر توفيق، فهد، الكهانة العربية قبل الإسلام، ترجمة حسن عودة ورندة بعث، شركة قدمس للنشر، (بیروت 2007)، ص 56
3- شرح نهج البلاغة، 6 / 78

وسلم عن السيدة عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:

(إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم)(1).

يبدو لنا أنَّ الكهان شخصيات معينة امتلكت مجموعة من الصفات المميزة منها الفراسة والفطنة والحدس والحيلة ووظفتها بطريقة تستطيع من خلالها كسب الناس للوصول إلى غاياتها المادية، مع التأكيد على أن عقلية الإنسان العربي في مجتمع عرب قبل الإسلام كانت مهيأة لاستقبال أمور كهذهِ ، وأضافوا عليها الكثير من القصص والخرافات، فالكثير من العرب كانت تعتقد أنَّ لكل شاعر شیطاناً يعلمه الشعر كما بينا سابقا(2)، حتى الرسول الكريم عندما جاء بكلام القرآن الكريم اتهموه بأنه كاهن وأنَّ هناك تابعاً له يعلمه الكلام(3):

«فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ»(4).

وقد كانت الكهانة عند العرب حتى مبعث النبي، فقد ذكر الزبير بن بكار (خصت العرب بخصال، بالكهانة، والقيافة، والعيافة، والنجوم والحساب، فهدم الإسلام الكهانة، وثبت الباقي على ذلك)(5).

ص: 321


1- البخاري، صحيح البخاري، 4 / 79؛ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 7 / 4
2- يِّنظر ص 177 من الرسالة
3- السمعاني، أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار (ت 489)، تفسير السمعاني، تحقيق ياسر ابراهيم، وغنيم عباس غنيم، دار الوطن، (الرياض 1997)، 5 / 276
4- سورة الطور : الاية 29
5- الاخبار الموفقیات، ص300

ولكن هناك بعض الروايات التي تؤكد على أنَّ بعضهم استمر في عمله حتى في الإسلام، فقد ذكر ابن أبي الحديد أن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام كان قد نهی الناس عن استخدام الكهانة وعدّها ملاصقة للكفر، فمن كلام له عليه السلام لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارج، وقد قال له إن سرت يا أمير المؤمنين في هذا الوقت خشيت ألا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم فَقَالَ عليه السلام:

«أَتَزْعُمُ أَنَّكَ تَهْدِي إلى اَلسَّاعَةِ اَلَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا صُرِفَ عَنْهُ اَلسُّوءُ وتُخَوَّفُ مِنَ اَلسَّاعَةِ اَلَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا حَاقَ بِهِ اَلضُّرُّ، فَمَنْ صَدَّقَكَ بِهَذَا فَقَدْ کَذَّبَ اَلْقُرْآنَ واِسْتَغْنَی عَنِ اَلاِسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ فِي نَيْلِ اَلْمَحْبُوبِ ودَفْعِ اَلْمَكْرُوهِ وتَبْتَغِي فِي قَوْلِكَ لِلْعَامِلِ بِأَمْرِكَ أَنْ يُولِيَكَ اَلْحَمْدَ دُونَ رَبِّهِ لأَنَّكَ بِزَعْمِكَ أَنْتَ هَدَيْتَهُ إلى اَلسَّاعَةِ اَلَّتِي نَالَ فِيهَا اَلنَّفْعَ وأَمِنَ اَلضُّرَّ ثُمَّ أَقْبَلَ عليه السلام عَلَى اَلنَّاسِ فَقَالَ أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِيَّاكُمْ وتَعَلُّمَ اَلنُّجُومِ إِلاَّ مَا يُهْتَدَي بِهِ فِي بَرٍّ أو بَحْرٍ فَإِنَّهَا تَدْعُو إلى اَلْكَهَانَةِ، اَلْمُنَجِّمُ کَالْكَاهِنِ واَلكَاهِنُ کَالسَّاحِرِ واَلسَّاحِرُ کَالْكَافِرِ واَلْكَافِرُ فِي اَلنَّارِ، سِيرُوا عَلَى اِسْمِ اَللَّهِ»(1).

كانت الكهانة منتشرة في بلاد العرب قبل الإسلام انتشاراً واسعاً، وكانت لهم مكانة كبيرة يستشيرونهم في أهم أمورهم كإعلان الحرب والكشف عن الجريمة، فذكر أن رقاش کاهنة قبيلة طي كانت تغزو بهم ويتيمنون برأيها وكان لها حزم ورأي(2)، فلم يكن الكاهن مخبراً عن المغيبات فقط، بل كانت هناك مواضيع مختلفة في التكهن مثل التحاكم بين الناس فيما يقع بينهم من خلاف، والتنبؤ بالمستقبل، يذكر ابن أبي الحديد أنَّ قريشاً عندما نازعت عبد المطلب حول بئر زمزم تحاكما إلى كاهنة بني سعد بن

ص: 322


1- ابن أبی الحدید، شرح نهج البلاغة، 6 / 159، [خطبة 78]
2- الضبي، أمثال العرب، ص120

هذيل وكانت بإشراف الشام(1).

وعلى الرغم من إيمان العرب بقدسية الكهنة لكنهم كانوا يمتحنوهم ليتأكدوا من صدق تکهنهم ومقدار علمهم، فيذكر ابن أبي الحديد أنَّ عتبة بن ربيعة امتحن بعض کهان اليمن قبل النظر في أمر اختلاف ابنته هند مع زوجها الفاكهة بن المغيرة، فقد أخذ حبة بُرّ فأدخلها في إحليل فرسه وشده بسیر وتركه حتى إذا وردوا على الكاهن أكرمهم ونحر لهم، فقال عتبة إنا قد جئناك لأمر وقد خبأت لك خبيئا أختبرك به فانظر ما هو، فقال ثمرة في كمرة فقال أبين من هذا قال حبة بر في إحليل مهر(2).

ومن ضروب التكهن الاخرى تفسير الرؤيا وذكر لنا ابن أبي الحديد روايتين، الاولى رؤيا رقيقة في الجاهلية وهي رقيقة بنت صيفي بن هاشم بن عبد مناف التي رأت في المنام - بعد ان حبس المطر وذعر الناس هاتفاً -يصرخ بالدعوة إلى قيام رجل من قریش له صفات معينة ليدعو هو وولده لينزل المطر، فالتف الناس حول عبد المطلب وحفيده النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فدعوا فانفجرت السماء بمائها(3).

والرواية الثانية عن عاتكة بنت عبد المطلب التي رأت في المنام قبل معركة بدر، راكباً أقبل على بعير حتی وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته یا آل غدر إنفروا إلى مصارعكم في ثلاث، فصرخ بها ثلاث مرات فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه إذ مثل به بعيره على ظهر الكعبة فصرخ مثلها ثلاثا، ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها ثلاثا، ثم أخذ صخرة من أبي قبيس فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت في أسفل الجبل ارفضت، فما بقي بيت من بيوت مكة ولا

ص: 323


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 172
2- شرح نهج البلاغة، 1 / 207
3- شرح نهج البلاغة، 7 / 211؛ ينظر تفاصيل الرواية في رسالتنا ص 198

دار من دورها إلا دخلته منها فلذة، قال الواقدي وكان عمرو بن العاص يحدث بعد ذلك فيقول لقد رأيت كل هذا ولقد رأيت في دارنا فلقة من الصخرة التي انفلقت من أبي قبيس، وقالوا ولم يدخل دارا ولا بيتا من دور بني هاشم ولا بني زهرة من تلك الصخرة شيء(1).

قد تكون هذه الرواية موضوعة فكيف تتحول الرؤيا المنامية إلى واقعية مادية حسب رواية عمرو بن العاص الذي يبدو أنهّ اندفع كثيراً في تأكيد الرؤيا التي ربما وضعت لتأكيد انتصار المسلمين في واقعة بدر.

ومن الامور الاخرى في التكهن التنبؤ بالأحداث فيذكر أنَّ حجراً بن عمرو المقصور بن الحارث دخلت عليه کاهنته ذات يوم ونبهته على خطر بني أسد وأنهم سوف يسفكون دمه فلم يأخذ برأيها فما لبث بعد ذلك إلا قليلا حتى قتله بنو أسد(2).

وكان ابن أبي الحديد قد نقل لنا عن الطبري قصة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يُحَدِّث عن ما جرى له في طفولته في أرض بني سعد بن بكر وهو يومئذ ابن خمس سنين، إذ أقبل عليه ثلاثة من الملائكة فشقوا صدره وختموا قلبه بخاتم من نور، فذهل لذلك، فأخذوه إلى أحد الكهنة الذي ما إن سمع قصته حتى أمر بقتله وتنبأ بمكانته وبانَّ له شأناً كبيراً يغيرّ فيه حياة العرب وديانتهم(3).

وهذه الرواية على الرغم من وجود علامات الشك حولها، فما الداعي بأن يقوم ثلاثة من الملائكة بكشف صدر النبي؟ إلا أنها تعطي بعداً آخر له علاقة بالكهنة وأثرهم

ص: 324


1- شرح نهج البلاغة، 14 / 73 -74
2- الاصمعي، ابو سعید عبد الملك بن قریب (ت 217 ه)، تاريخ العرب قبل الإسلام، تحقيق محمد حسن ال ياسين، منشورات المكتبة العلمية، (بغداد 1959)، ص 124
3- شرح نهج البلاغة، 13 / 155، ينظر تفاصيل الرواية عند الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 2 / 161 -163

عند العرب، إذ كانوا يرجعون إليهم في الامور الصغيرة والكبيرة كلهّا وإن لكل قبيلة کاهنهم الخاص.

اشتهر في بلاد العرب جماعة كبيرة من الكهان ولعل ابرزهم شق وسطیح اللذان ذكرهما ابن أبي الحديد بقوله: (كان للعرب کاهنان اسم أحدهما شق وكان نصف إنسان، واسم الآخر سطیح وكان يطوي طي الحصير ويتكلمان بكل أعجوبة في الكهانة، فقال ابن الرومي:

لكَ رأيٌ كأنه رأيُ شق *** وسطیحٍ قريعَي الكهانِ

يستشِفُّ الغيوبَ عما تواري *** بعيونٍ جليةِ الإنسانِ(1)

وكان شق انساناً بید ورجل وعين(2)، أما سطيح فهو كتلة من اللحم يدرج كما يدرج الثوب لا عظم فيه الا الجمجمة، ولهما الكثير من الأخبار العجيبة والتنبؤات التي ذكرتها الكتب والتي أخرجتهم من عالم الواقع إلى عالم الخرافة والاساطير(3).

ويبدو أن شكلهما الغريب الذي صورته العقلية الخرافية لمجتمع عرب قبل الإسلام هو الذي مهد السبيل لإلصاق تلك القصص والأساطير بهما.

وذكر ابن أبي الحديد سواد بن قارب وقال إنه من الكهان الذين كانوا يتحدثون عن الأخبار في الغيب(4)، وغير ذلك فقد ظهرت مجموعة كبيرة من الكهنة نساءً ورجالاً ممن

ص: 325


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 309
2- الحوت، محمود سليم، في طريق الميثولوجيا عند العرب، ط 2، دار النهار، (بیروت 1979)، ص 233
3- المسعودي، مروج الذهب، 2 / 383؛ الإبشيهي، المستطرف، 2 / 86؛ علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 6 / 765
4- شرح نهج البلاغة، 5 / 10

لم يتطرق إليهم ابن أبي الحديد في شرحه مثل طريفة كاهنة اليمن، والغيطة كاهنة بني سهم وغيرهن مما تحفل بهن كتب الأخبار بأخبارهم وقصصهم(1).

وتنسب إلى الكهان حكم وتنبؤات مصاغة بجمل قصيرة مسجوعة وهو لون من ألوان النثر الجاهلي(2)وكانوا يعمدون إلى ألفاظ غامضة ومبهمة لكي يؤولها السامعون حسب فهم كل منهم وظروفه، وفي كتب الأدب صور كثيرة لسجع الكهان(3)، وكان ابن أبي الحديد قد ذكر بعضاً من ذلك السجع منها قولهم (حبة بر في إحليل مهر) وقولهم (عبد المسيح، على جمل مشيح) و (لرؤيا الموبذان وارتجاس الإيوان) ونحو ذلك من كلامهم(4).

أما العرافة فهي لا تختلف عن الكهانة كثيراً، فهما مفردتان قريبتان من بعضهما، فالعرافة تعني (معرفة الاستدلال ببعض الحوادث الحالية على الحوادث الآتية بالمناسبة أو المشابهة الخفية التي تكون بينهما، أو الاختلاط أو الارتباط، على أن يكونا معلولي أمر واحد أو يكون ما في الحال علة لما في الاستقبال)(5).

فالعرَّاف يشبه الكاهن في ادعائه معرفة الغيب والاسرار، ولكن الكاهن يدّعي معرفة الاشياء المستقبلية عن طريق التابع، أما العراف فيدّعي معرفة الاشياء البسيطة مثل معرفة

ص: 326


1- للتفاصيل، ينظر دلو، جزيرة العرب قبل الإسلام، ص 683؛ علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 6 / 760 -771؛ مهران، مركز المرأة في الحضارة العربية القديمة،، ص190 - 199
2- خفاجي، محمد عبد المنعم، الشعر الجاهلي، ط 2، دار الكتاب اللبناني، (بیروت 1973)، ص 169
3- ينظر خفاجي، الشعر الجاهلي، ص 170؛ ضيف، شوقي، العصر الجاهلي، ص 421 - 423؛ عبد الرحمن، هاشم يونس، الحياة الفكرية في الجزيرة العربية قبل الإسلام وعصر الرسالة، أطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية الآداب، جامعة الموصل، 1992، ص318
4- شرح نهج البلاغة، 1 / 136
5- حاجي خليفة، کشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، 2 / 1131

الشيء المسروق ومكان الضالة، عن طريق دراسة اسباب يستدل بها على مواقعها وهو يتمتع بالذكاء والفراسة، ويطبب الناس روحياً ونفسياً بما هو أقرب إلى الشعوذة، ومن ابرز العرافين رباح بن عجلة، عراف اليمامة، والأبلق الأسدي، عراف نجد(1).

ثانياً: القيافة والعيافة ومعرفة النجوم:

القيافة: لغة تعني قفا الأَثر واقتفاه أي اتباعه، والقائف الذي يتَتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبَه الرجل بأَخيه وأَبيه(2)، وهي إحدى معارف العرب قبل الإسلام وذكر ابن أبي الحديد أنّها من طرق الإخبار عن الغيوب، واختص بهذه المعرفة بنو مدلج(3). وكان العرب قد عرفوا نوعين من انواع القيافة وهما قيافة البشر وقيافة الأثر، فأما قيافة البشر فهو الاستدلال بصفات أعضاء الانسان، وكان بنو مدلج بن مرة بن عبد مناة وهم بطن من كنانة يعرض على أحدهم مولود في عشرين نفرا فيلحقه بأحدهم(4).

وأما قيافة الأثر فالاستدلال بالأقدام والحوافر والخفاف، وقد اختص به قوم من العرب أرضهم ذات رمل إذا هرب منهم هارب أو دخل عليهم سارق تتبعوا آثار قدمه حتى يظفروا به، ومن العجيب أنهم يعرفون قدم الشاب من الشيخ، والمرأة من الرجل، والبكر من الثيب، والغريب من المستوطن، واختلف رجلان من القافة في أمر بعير وهما بين مكة ومني فقال أحدهما هو جمل وقال الآخر هي ناقة وقصدا يتبعان الأثر حتى دخلا شعب بني عامر فإذا بعير واقف فقال أحدهما لصاحبه أهو ذا؟ قال نعم، فوجداه

ص: 327


1- عرفة، العرب قبل الإسلام، ص301؛ برو، توفيق، تاريخ العرب القديم، دار الفكر، (دمشق 1996)، ص 278
2- ابن منظور، لسان العرب، 7 / 399، [مادة قوف]
3- شرح نهج البلاغة، 5 / 10
4- القلقشندي، نهاية الآرب في معرفة أنساب العرب، ص 372؛ الابشيهي، المستطرف، 2 / 88

خنثى فأصابا جميعا(1)، وذكر الزبير بن بكار سئل رجل (كيف أنتم في الأقدام ؟ قال: ذلك أيسر الأشياء علينا، إن السراق ليجرون الأكيسة على أقدامهم ليخفوا آثارهم فنعرفهم)(2).

أما العيافة: فهي العلم بالغيبيات والاخبار عنها عن طريق تتبع حركات الطيور والحيوانات (واصله أن يرمي الطائر بحصاة ويصيح فإن ولاه في طيرانه میامنه تفاءل به أو میاسره تطّير)(3)، وذكر ابن أبي الحديد إن الإخبار عن الغيوب يقع لأصحاب زجر الطير والبهائم، واختص بهذه المعرفة في الجاهلية بنو لهب(4)، وقد تم تفصيل ذلك في موضوع الطيرة والفأل في فصل سابق(5).

أما معرفة النجوم ومسالك الطرق: فقد كان للعرب معرفة بعلم النجوم ومواقعها ومسالكها، ومعرفة بأنواء الكواكب وأمطارها، والاهتداء بها على حسب ما أدركوه من طول التجربة(6)، وذكر ابن أبي الحديد أنَّ الإخبار عن الغيوب كان يقع عن طريق المنجمين الذين اتفقوا على أن شكلا من أشكال الطالع إذا وقع لمولود اقتضى أن يكون صاحبه متمكنا من الإخبار عن الغيوب(7).

وكان لعيشتهم في الصحراء حيث لا أمارة ولا هادي، مع تمسكهم للعيش فيها سبباً إلى التماس ما ينجيهم، وكذلك لحاجتهم إلى الغيث، وفِرارهم من الجدْب، سعوا إلى

ص: 328


1- الابشيهي، المستطرف، 2 / 88؛ زیدان، جرجي، التمدن الإسلامي، مج 2، 3 / 21
2- الاخبار الموفقیات، ص 302
3- علي، جواد، 6 / 775
4- شرح نهج البلاغة، 5 / 10
5- ينظر ص 81 ومابعدها من الرسالة
6- ابن صاعد، طبقات الأمم، ص 45
7- شرح نهج البلاغة، 5 / 10

معرفة شأنِ الغيث، ولأنهم في كلِّ حالٍ يرون السَّماء، وما يجري فيها من كوكب، ويرون التَّعاقب بينها، والنّجوم الثوابت فيها، وما يسير منها مجتمعاً وما يسير منها فراداً، وما يكون منها راجعاً ومستقيماً، فكانوا يحفظونها ويتعاملون معها يومياً(1).

وقد (سئلت أعرابيَّة : أتعرفين النجوم؟ قالت: سبحانَ الله أما أعرف أشباحاً وُقوفاً عليَّ كلَّ ليلة)(2). ووصف أعرابيٌّ لبعض أهل الحاضرة نجوم الأنواء، ونجوم الاهتداء، ونجوم ساعات اللّيل والسُّعودِ والنُّحوس، فقال قائلٌ كان حاضراً: أما ترى هذا الأعرابيَّ يعرف من النُّجوم ما لا نعرف، قال: ويل أمِّك، منْ لا يعرف أجذاع بيته؟(3).

وذكر ابن أبي الحديد أنَّ (أهدى العرب في الجاهلية وأبعدهم مغاراً وأثراً في الارض (دعيميص الرمل) كان يعرف بالنجوم هداية وكان أهدى من القطا يدفن بيض النعام في الرمل مملوءً ماء ثم يعود إليه فيستخرجه)(4)، وفيه ضرب المثل (أدل من دعيمص الرمل)(5)، وهو الذي بلغ وبار(6)ولم يبلغها غيره، وكان سبب ذهابه اليها انه راح يبحث عن إبل له كانت قد اتبعت فحلاً هجان(7)، كان يأتي فيضرب في إبله، وجعل

ص: 329


1- الجاحظ، الحيوان، مج 4، 6 / 360
2- الجاحظ، الحيوان، مج 2، 6 / 360
3- الجاحظ، الحيوان، مج 4، 6 / 360
4- شرح نهج البلاغة، 18 / 43
5- أبو هلال العسكري (395 ه)، جمهرة الأمثال، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم وعبد المجيد قطاش، ط 2، دار الفكر، (القاهرة 1988)
6- وهي ما بين الشِحر إلى صنعاءَ، أرض واسعة زهاء ثلثمائة فرسخ في مثلها، وقيل هي أرض كانت من محال عاد بين رمال یَبرین واليمن فلما هلكت عاد أورثَ الله ديارهم الجن فلم يبق بها أحد من الناس، وقيل هي بين نجران وحضرموت وما بين بلاد مهرَةَ والشحرِ، ينظر یاقوت الحموي؟ معجم البلدان، 8 / 446
7- الهِجانُ من الإبل: البيضُ. وقال عمرو ابن كلثوم: هِجانِ اللون لم تقرأ جَنينا، ينظر الجوهري، الصحاح، ص 1163، [مادة هجن]

يملا بيض النعام ماء ويدفنه في الرمل.

فلم يزل في أثر الإبل حتى هبط على أكثر بلاد الله نخلاً وإبلاً هجاناً وعند رجوعه جعل يستثير البيض فيشرب الماء حتى أتى أهله، ووبار کانت منازل بني أميم بن أوذ بن إرم بن سام بن نوح(1).

ثالثاً: الطب:

يعد الطب من المعارف المتعلقة بمجتمع العرب قبل الإسلام كونه ذا صلة بصحة الإنسان و حياته، وكانوا عاجزين عن معرفة أسباب الامراض لذلك فهم يعتقدون انها تعود لغضب الآلهة على الناس، أو إلى أرواح شريرة تصيب الجسم، فيلجئون إلى الأدعية والتبرك بالهياكل والتوسل بالأصنام، وكانوا يستطبون بالسحر والتعاويذ لما بين الطب والسحر من صلة وصلت إلى عد الطب ضرباً من السحر، ثم بعد ذلك وبمرور الوقت حصلوا على بعض المعارف الطبية التي اقتربت من صحة تعليل المرض والشفاء توارثها الناس(2)، ولكنه كان لا يتجاوز عندهم الكي بالنار، وبتر الأعضاء بالشفار المحماة، والتداوي بشراب العسل، وعصارات بعض العقارات النباتية، وكثيراً ما كانوا يتداوون بالعزائم والرقي(3)، وهي معارف وملاحظات قد يصاحبها الخطأ في كثير من الاحيان، وقد تدخل الخرافة من بعض ما لا يعرفون، وهذا ما أكده ابن خلدون الذي قال: (وللبادية من أهل العمران طب يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصره على بعض الأشخاص، ويتداولونه متوارثاً عن مشايخ الحي وعجائزه، وربما يصح منه

ص: 330


1- ابن حبیب، المحبر، ص 189
2- دلو، جزيرة العرب قبل الإسلام، ص327؛ طقوش، تاريخ العرب قبل الإسلام، ص 202
3- عطية، محمد هاشم، الادب العربي وتاريخه في العصر الجاهلي، ط 3، مطبعة مصطفى الحلبي وأولاده، (مصر 1936)، ص 45

البعض، إلا أنه ليس على قانون طبيعي، ولا عن موافقة المزاج)(1).

وقد ذكر لنا ابن أبي الحديد مجموعة من تلك المعارف الطبية المتوارثة منها تعليق الحلي والجلاجل على اللديغ يرون أنه يفيق بذلك، ويقال إنه إنما يعلق عليه لأنهم يرون أنه إن نام يسري السم فيه فيهلك فشغلوه بالحلي والجلاجل وأصواتها عن النوم، وبعضهم يقول إنه إذا علق عليه حلي الذهب برأ وإن علق الرصاص أو حلي الرصاص مات(2).

وذكر ابن أبي الحديد مجموعة من الابيات الشعرية التي تعكس هذه الحالة منها:

قول النابغة الذبياني:

فبِتُ كأنّي ساَورَتْني ضئيلةٌ *** من الرُقشِ في أنيابِها السمُ ناقعُ

يُسهدُ من ليلِ التمامِ سليمُها ***لحليِ النساءِ في يديهِ قعاقعُ(3)

وقال بعض بني عذرة:

كأنيّ سليمٌ نالُهُ كَلْمُ حيةٍ *** ترى حولَهُ حليَ النساءِ مُرصَّعا(4)

وذكر ابن أبي الحديد أنهم كانوا يعتقدون أنَّ دم الرئيس يشفي من عضة الكلب(5)، فإذا أصيب إنسان بداء الكلب فشفاؤه بمعالجته بدم الملوك، وقد عرفه ابن دريد بقوله:

ص: 331


1- تاریخ ابن خلدون، 1 / 548
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 19 / 314
3- الديوان، ص72
4- شرح نهج البلاغة، 19 / 314
5- شرح نهج البلاغة، 19 / 324

(والكَلَب داءٌ يصيب النّاسَ والإبلَ شبيهٌ بالجنون. وكانت العربُ في الجاهليَّة إذا أَصاب الرَّجلَ الكَلَبُ قطروا له دمَ رجلٍ من بني ماء السماء، وهو عامر بن ثَعلبةَ الأزديّ، فَيُسقَى فكان يُشْفَى منه)(1).

ويبدو هنا أنهم كانوا يمزجونها بالماء وهم أرادوا بهذا أن يبينوا مكانة ساداتهم العليا، وأنهم شفاء للمرض، ولعلها نوع من التعلق بالرمز التي كانت سائدة في المجتمع القبلي باعتبارهم مصدراً للسعادة والخلاص.

ومن معارفهم الطبية التي ذكرها ابن أبي الحديد أنَّهم كانوا اذا سقطت لغلام سن أخذها بين السبابة والإبهام واستقبل الشمس إذا طلعت وقذف بها وقال يا شمس أبدليني بسن أحسن منها وليجر في ظلمها اَياتك أو تقول إياؤك وهما جميعا شعاع الشمس(2)، وذكر الابشيهي أنه يفعل ذلك ليأمن على أسنانه العوج والفَلَجُ(3)(4).

وذكر ابن أبي الحديد مجموعة من الابيات الشعرية تؤيد هذه الحالة منها :

قول طرفة: سقتهُ إياةُ الشمسِ(5)، وإلى هذا الخيال أشار شاعرهم بقوله:

شادنٌ يجلو إذا ما ابتسمتْ *** عن أقاحٍ كأقاحِ الرملِ غُرْ

بدَّلَتْهُ الشمسُ من منبتِهِ *** بَرَدا أبيضَ مصقولَ الأَشَرْ

ص: 332


1- ابو بکر محمد بن الحسن الازدي (ت 321 ه)، الاشتقاق، تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، (بيروت 1991)، 1 / 20
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 324
3- الفَلَجُ في الأَسنان تباعد ما بين الثّنايا والرَّباعِيات خِلْقةً، فإِن تُکُلِّفَ فهو التفليجُ ورجل أَفْلَجُ الأَسنانِ وامرأَة فَلْجاءُ الأَسنانِ، ينظر ابن منظور، لسان العرب، 7 / 113، [مادة فلج]
4- المستطرف، 1 / 85
5- تكملة البيت * سقتهُ إياةُ الشمسِ إلا لثاثهِ، اسف ولمْ تكدمُ عليهِ بأثمدِ، ينظر ابن العبد، طرفة، الديوان، ص 24

وقال آخر:

وأشنبُ واضحٌ عذبُ الثنايا *** كأنَّ رِضابَهُ صافي المُدامِ

کَسَتْهُ الشمسُ لوناً من سناها *** فَلاحَ کأنَّهُ برقُ الغمامِ

وقال آخر:

بذي أشرً عذبِ المذاقِ تفردتْ بهِ *** الشمسُ حتى عادَ أبيضَ ناصِعاً(1) وذكر ابن أبي الحديد أيضاً أن الرجل اذا اختلجت عينه قال أرى من أحبه فإن كان غائبا توقع قدومه وإن كان بعيدا توقع قربه، قال أحدهم:

إذا اختلجتْ عيني تيقَّنْتُ أنَّني *** أراكَ وإنْ كانَ المزارُ بعيدا

وقال آخر:

إذا اختلجتْ عيني أقولُ لعلَّها *** لرؤيتِها تهتاجُ عيني وتطرفُ(2)

وذكر ابن أبي الحديد أنهم (كانوا يسمون العشا في العين الهدبد وأصل الهدبد اللبن الخاث(3)، فإذا أصاب أحدهم ذلك عمد إلى سنام(4)فقطع منه قطعة ومن الكبد قطعة

ص: 333


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 19 / 324
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 19 / 326
3- الهُدابِدُ: اللبن الخاثر جدًّا. والهُدَبِدُ مقصورٌ منه. ويقال: بعينه هُدَبدٌ، أي عمشٌ، وقيل الهُدَبِدُ الخَفَشُ وقيل هو ضعف البصر ورجل هُدَبِدٌ ضعيف البصر، ينظر الجوهري، الصحاح، ص 1164، [مادة هدبد]؛ ابن منظور، لسان العرب، 9 / 36، [مادة هدبد]
4- سَنامُ البعير والناقة أَعلى ظهرها والجمع أَسْنِمَة، ينظر ابن منظور، لسان العرب، 4 / 225، [مادة سنم]

وقلاهما وقال عند كل لقمة يأكلها بعد أن يمسح جفنه الأعلى بسبابته:

فيا سناما وكبدْ *** ألا أذهبا بالهُدَبِدْ

لیسَ شفاءَ الهُدَبِدْ *** إلا السنامُ والكبِدْ

قال فيذهب العشا بذلك)(1).

وذكر ابن أبي الحديد ايضاً أنَّ الرجل اذا طرفت عين الرجل منهم بثوب آخر مسح الطارف عين المطروف سبع مرات يقول في الأولى بإحدى جاءت من المدينة، وفي الثانية باثنتين جاءنا من المدينة، وفي الثالثة بثلاث جئن من المدينة، إلى أن يقول في السابعة بسبع جئن من المدينة، فتبرأ عين المطروف، وفيهم من يقول بإحدى من سبع جئن من المدينة باثنتين من سبع إلى أن يقول بسبع من سبع(2).

ومن معارفهم الطبية التي ذكرها ابن أبي الحديد أنّ الرجل منهم إذا خدرت رجله ذكر من يحب أو دعاه فيذهب خدرها، قال الشاعر:

على أنّ رجلي لا يزال امذِلالُها(3) *** مقیما بها حتى أجيلُك في فِكري

وقال اخر:

صَبُّ مُحِبُّ إذا ما رجلُهُ خَدرَتْ *** نادي كبيشةٌ حتى يذهبَ الَخَدَرُ(4)

ص: 334


1- ابن أبی الحدید، شرح نهج البلاغة، 19 / 334
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 331
3- المِمْذِل: خَدَرِ الرِّجْل، ينظر ابن منظور، لسان العرب، 8 / 175، [مادة مذل]
4- شرح نهج البلاغة، 19 / 325

ومن معارفهم التي ذكرها ابن أبي الحديد (إذا بثرت(1)شفة الصبي حمل منخلا على رأسه ونادي بين بيوت الحي الحلا الحلا، الطعام الطعام، فتلقي له النساء كسر الخبز وإقطاع التمر واللحم في المنخل ثم يلقي ذلك للكلاب فتأكله فيبرأ من المرض، فإن أكل صبي من الصبيان من ذلك الذي ألقاه للكلاب تمرة أو لقمة أو لحمة أصبح وقد بثرت شفته وأنشد لامرأة: ألا حلا في شفة مشقوقه، فقد قضى منخلنا حقوقه)(2).

وذكر ابن أبي الحديد أنَّ العرب تزعم أنَّ من تصيبه نملة وهي شيء في الجسد كالقرْح وجمعها نَمْل، وقيل النَّمْل والنَّمْلة قُروح في الجنب وغيره فدَواؤه أَن يُرْقي بريقِ ابن المَجوسيِّ من أُخته، قال الشاعر:

ولا عَيْبَ فينا غيرَ عرقٍ لِمَعْشرٍ *** کِرامٍ وأَنَّا لا نَخُطُّ على النَّمْل(3)

(أَي لَسْنا بمَجُوس ننكِح الأَخوات).

ولم يكن الطب خاصاً بالانسان فقط بل وصل إلى حيواناتهم، فهم يعالجون الجروح التي تصيبها، وفي جملة ما كانوا يعالجون فيه الكي فيذكر ابن أبي الحديد أنهم كانوا اذا أصاب العر(4) الإبل يكوى الصحيح ليبرئ السقيم قال النابغة الذبياني(5):

ص: 335


1- بثرت: أَي خرج فيها غِبَّ الحُمَّى بُثُورُها، ينظر ابن منظور، لسان العرب، 4 / 225، [مادة حلأ]
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 19 / 331
3- شرح نهج البلاغة، 20 / 172؛ ينظر كذلك ابن منظور، لسان العرب، 8 / 522، [مادة نمل]
4- العَرّ، بالفتح: الجَرَب. تقول منه: عَرَّتِ الإبل تَعِرُّ، فهي عَارَّةٌ. وجمل أَعَرُّ وعَارٌّ، أي جَرِبٌ. والعُرُّ بالضم: قروح مثل القوباء تخرج بالإبل متفرِّقة في مشافرها وقوائمها يسيل منها مثل الماء الأصفر، ينظر ابن منظور، لسان العرب، 6 / 94، [مادة عرر]
5- الديوان، ص 75

لكلَّفْتَني ذنبَ امرئٍ وتركته *** کذي العَر یُكوى غيره وهو راتعُ

ومثل هذا البيت قول آخر:

فألزمْتَني ذنبا وغيري جَرهُ *** حنانَیكَ لا يكوى الصحيحُ بأجربا(1)

وكانوا يعترضون بعيراً صحيحاً لا أثر فيه للجرب فكووا مشفره وعضده وفخذه وكانوا يعتقدون أنهم إن فعلوا ذلك ذهب العَر عن إبلهم ويقولون (تؤمن معه العدوی) أي يفعلون ذلك كوسيلة لوقاية الإبل السليمة(2).

ويبدو لنا أن هذا الأمر فيه بعض المغالطات، لأنه إذا كان ذلك قصدهم لفعلوا الكي مع جميع الإبل السليمة لا مع بعير سليم يختارونه من بينها فيمرض الصحيح بكیه، ويبقى المريض بعلته، ولكن قد يحتمل لهذا الفعل عدة احتمالات منها:

اولاً: إنهم كانوا يكوون الصحيح لئلا يتعلق الداء به، لا ليبرأ السقيم، وهم بهذا يكوون جميع الإبل الصحيحة لا واحداً منها يختارونه كما يعتقد بعضهم.

ثانياً: ذكر جواد علي أنهم كانوا يعمدون إلى أمه فيكووها فيبرأ فصيلها(3)، ويعتقد أنَّ أصل هذه العادة يرجع إلى إيمان العرب بأن المرض يجري إلى الفصيل عن طريق لبن الأم، فكانوا يكوون الأم السليمة ليبرأ فصيلها(4).

ثالثاُ: ذكر البغدادي انّه مثل لا حقيقة. أي: أخذت البريء وتركت المذنب فكنت

ص: 336


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 315
2- ابن منظور، لسان العرب، 6 / 94 ، [مادة عرر]؛ جمعة، حسين، الحيوان في الشعر الجاهلي، ص166
3- المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 6 / 814
4- جمعة، الحيوان في الشعر الجاهلي، ص166

کمن کوى البعير الصحيح وترك السقيم، ونحو من هذا قولهم: (يشرب عجلان ویسکر میسرة)، ولم يكونا شخصين(1)، ويبدو أن هذا أقرب الصور التي يمكن الأعتقاد بها إذ إن العرب كانوا غالباً ما يستخدمون الأمثال للتعبير عن حالات معينة ليجعلوها أكثر واقعية.

وعلى الرغم من ذلك فقد تعاطى الطب جماعة من العرب ممن خالطوا الروم والفرس الذين كانوا أكثر معرفة من العرب في هذا المجال فاشتهروا بهذه الصناعة، وذكر ابن أبي الحديد الحارث بن كلدة الثقفي في وصية بعضهم لابنه (و لله در الحارث بن کلدة حيث زعم أن الدواء هو الأزم وأن الداء إدخال الطعام في أثر الطعام)(2)، والحارث بن كلدة كان من الطائف، وسافر في البلاد وتعلم الطب بناحية فارس وتمرن هناك، وعرف الداء وكانت له معالجات كثيرة، ومعرفة بما كانت العرب تعتاده و تحتاج إليه من المداواة، وله كتاب وكلام مستحسن فيما يتعلق بالطب وغيره محاورة في الطب بينه وبين كسرى أنو شروان(3)، وقد برع الكثيرون من العرب في الطب ممن لم يذكرهم ابن أبي الحديد مثل (ابن حُذَيم، والنضر بن الحارث بن كلدة، وابن أبي رمته التميمي، ورفيدة الأسلمية... الخ)(4).

ص: 337


1- عبد القادر بن عمر، خزانة الآدب ولب لباب لسان العرب، 2 / 410
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 154
3- ابن أبي أصيبعة، موفق الدين ابو العباس أحمد بن القاسم بن خليفة السعدي الخزرجي (ت 668 ه)، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحقيق نزار رضا، دار مكتبة الحياة، بیروت، (د.ت)، ص 161
4- للتفاصيل عن أطباء العرب وطبيباتهم قبل الإسلام ينظر، الربيعي، هديل غالب عباس، الطب عند العرب قبل الإسلام، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية للبنات، جامعة بغداد، 2003؛ عكاوي، رحاب خضر، الموجز في تاريخ الطب عند العرب، دار المناهل، (بيروت 2000)، ص 76 -84

المبحث الرابع الأمثال عند العرب قبل الإسلام

تعد الأمثال العربية مظهراً من مظاهر الابداع الادبي عند العرب قبل الإسلام، وهي تعكس صوراً مهمة للحياة العربية تتكلم فيها عن طبيعة الحياة الاجتماعية واليومية بأسلوب سلس وواضح، وكان خطباؤهم وشعراؤهم كثيراً ما يستشهدون بالأمثال في خطبهم وقصائدهم (وقد كان الرجل من العرب يقف الموقف فيرسل عدة أمثال سائرة ولم يكن الناس جميعا يتمثلون بها إلا لما فيها من المرفق والانتفاع)(1)، وعرف السيوطي المثل فقال: (المثل جملة من القول مقتضبةٌ من أصلها أو مرسلةٌ بذاتها فتتَّسم بالقبول وتشتهر بالتداول فتنقل عما وردت فيه إلى كلّ ما يصح قَصْدُه بها من غير تغيير يلحقها في لفظها وعما يُوجبه الظاهر إلى أشباهه من المعاني فلذلك تُضْرب وإن جُهلت أسبابُها التي خرّجت عليها)(2).

ولعل في هذا الكلام نوعاً من التصور حول تأثير المثل في المجتمع وكيف تم استعماله في حالات وصور مختلفة، فما زالت الأمثال حتى يومنا هذا تتناقل وتنعكس على الكثير

ص: 338


1- الجاحظ، البيان والتبيين، 1 / 271
2- جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911)، المزهر في علوم اللغة وانواعها، تحقیق فؤاد علي منصور دار الكتب العلمية، (بیروت 1998)، 1 / 375

من الأحداث المماثلة لها، وهي باقية في الأذهان أكثر من أي كلام آخر لوجود صفات تميزها أوجزها إبراهيم النظّام(1)بقوله: (يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام، إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحُسْن التشبيه، وجَوْدة الكناية، فهو نهاية البلاغة)(2).

وقد تداول مجتمع عرب ما قبل الإسلام الأمثال بشكل واسع لأسباب وحوادث اقتضت إطلاقه فصار المثل المضروب لأمر من الأمور عندهم كالعلامة التي يعرف بها الشيء وليس في كلامهم أوجز منها ولا أشد اختصارا(3).

وعلى الرغم من أن الأمثال يصعب فيها تمييز الجاهلي منها من الاسلامي، لاختلاطهما ببعض عند الرواة والمؤلفين، ولأن الامثال لم تدون من قبل عرب قبل الإسلام وإنما استمرت تنتقل عن طريق الرواية الشفهية حتى بدأ جمعها وتدوينها في عصر التدوين أيام الدولة الاموية(4)، ولكن ميزنا المثل الجاهلي عن طريق ما يشير إليه المثل من قصة أو حادثة أو خبر أو شخصية كان لها اتصال بحياة العرب ما قبل الإسلام، أو هناك اشارة إلى أن المثل قيل في تلك الفترة مثل ما يوم حليمة بسر، دقوا بينهم عطر منشم، لو كان يطاع لقصير أمر... الخ.

ص: 339


1- أبو إسحاق إبراهيم بن سیار بن هانئ البصري (ت 231 ه)، من أئمة المعتزلة، تبحر في علوم الفلسفة واطلع على أكثر ما كتبه رجالها من طبيعيين وإلهيين، وانفرد بآراء خاصة تابعته فيها فرقة من المعتزلة سميت (النظامية) نسبة إليه، أما شهرته بالنظام فأشياعه يقولون إنها من إجادته نظم الكلام، وخصومه يقولون انه كان ينظم الخرز في سوق البصرة.، ينظر الصفدي، الوافي بالوفيات، 6 / 13؛ الزركلي، الاعلام، 1 / 43
2- الميداني، ابو الفضل أحمد بن محمد بن أحمد بن ابراهيم (ت 518)، مجمع الامثال، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ط 3، دار الفكر، (القاهرة 1972)، 1 / 6
3- ابن الاثير، ابو الفتح ضياء الدين نصر الله بن محمد بن عبد الكريم الموصلي (ت 637 ه)، المثل السائر في ادب الكاتب والشاعر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، (بیروت 1995)، 1 / 41
4- الملاح، الوسيط في تاريخ العرب قبل الإسلام، ص 391

وقد ذكر لنا ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة مجموعة كبيرة من الأمثال التي تناقلتها العرب قبل الإسلام، وقسمناها على محورين:

أولاً: أمثال التي ذكرها الإمام علي عليه السلام ونقلها ابن أبي الحديد:

عرفت العرب قبل الإسلام الإمثال حتى تداولت بينها وانتشرت وكانت تستخدمها في اشعارها وخطبها ويبدو إن تلك الامثال التي عرفت بالجاهلية استمرت متداولة في العصر الاسلامي، حتى نجدها تظهر بكثرة في أقوال الإمام علي (عليه السلام)، فكان الإمام عليه السلام يوظّف تلك الأمثال في خطبه ورسائله حتى ظهرت منسجمة كل الانسجام، وقد أدت أغراضها التي كان يبتغيها، فكان يدعو الناس للاستفادة منها والتدبر فيها فقد قال عليه السلامْ:

«فَقَدْ جَرَّبْتُمُ اَلْأُمُورَ وضَرَّسْتُمُوهَا ووُعِظْتُمْ بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وضُرِبَتِ اَلْأمْثَالُ لَكُمْ ودُعِيتُمْ إلى اَلْأَمْرِ اَلْوَاضِحِ فَلاَ يَصَمُّ عَنْ ذَلِكَ إِلاَّ أَصَمُّ ولاَ يَعْمَى عَنْهُ إِلاَّ أَعْمَى ومَنْ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِالْبَلاَءِ واَلتَّجَارِبِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْ ءٍ مِنَ اَلْعِظَةِ»(1).

وقد استخدم الأمثال القديمة كعبارة كاملة ومثل جاهز للدلالة على سياق الاحداث ومرة اخرى استعملها ووظف مفردات المثل أو مفردات أكثر من مثل في عبارة واحدة إتخذَتْ بعداً بلاغياً جميلاً، ومن تلك الأمثال (قد أنصف القارة من راماها)، وقد ذكره الإمام عليه السلام في خطب معركة الجمل بعد أن بعث للقوم للرجوع إلى البيعة فلم يستجيبوا ودعوا إلى البراز للطعان فقال عليه السلام:

«ألا هَبَلَتَهُم الهبولُ لقد كنتُ وما أهددُّ بالحربِ ولا أرهبُ بالضربِ ولقد أنصفَ

ص: 340


1- شرح نهج البلاغة، 10 / 29، [خطبة 177]

القارةَ من راماها فليُرعدوا وليبُرقوا»(1).

ويضرب مثلاً لمساواة الرجل صاحبه فيما يدعوه إليه، والقَارة قبيلة وهم عُضَل والديش ابنا الهُون بن خُزَيمة، وإنما سُمُّوا قارة لاجتماعهم والتفافهم لماَّ أراد الشَّدَّاخُ أن يفرقهم في بني كنانة فَقَال شاعرهم:

دَعُونَا قارَةٌ لا تَنْفِرُونَا *** فَنُجْفِلَ مِثْل إجْفَالِ الظَّلِيمِ

وهم رُماة الحدق في الجاهلية ويزعمون أن رجلين التَقَيَا أحدهما قاري فَقَال القاري: إن شِئت صارَعْتُكَ وإن شِئت سابقتك وإن شِئت رَامَیْتك فَقَال الآخَر: قد اخترت المراماة فَقَال القاري: قد أنصفتني وأنشأ يقول:

قد أنْصَفَ القَارَةَ مَنْ رَامَاهَا

إنَّا إذَا ما فِئَةٌ نَلْقَاهَا

نَرُدُّ أولاَهَا عَلَى أخْرَاهَا

ثم انتزع له بسهم فَشَكَّ به فؤاده، وذكر إنّما قيل: " أنصف القارة من راماها " في حرب كانت بين قريش وبكر بن عبد مناة بن كنانة، وكانت القارة مع قريش، وهم قوم رماة، فلما التقى الفريقان رماهم الآخرون، فقيل: قد أنصفتم هؤلاء إذ ساووكم في العمل الذي هو شأنكم وصناعتكم(2).

ص: 341


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 10 / 281، [خطبة 22]
2- الضبي، أمثال العرب، ص 127؛ الأصمعي، أبو سعيد عبد الملك بن قریب (ت 217)، کتاب الأمثال، تحقیق محمد جبار المعيبد، دار الشؤون الثقافية، (بغداد 2000)، ص 192، [رقم المثل 432]؛ أبو هلال العسكري ، جمهرة الأمثال، 1 / 55، [رقم المثل 30]؛ الميداني، مجمع الأمثال، 2 / 100، [رقم المثل 2867]

وذكر ابن رفاعة أنَّ القارة أربعون رجلاً كانوا مرسومين بحراسة ملوك اليمن ليلاً وكانوا أرمي الناس فأحسوا في ليلة سوداء بحس فاصغوا إليه فرموا نحوه فسكن الحس فوجدوا هرة فيها أربعين سهماً(1). وهذه الرواية جاءت لتبين لنا مدى قدرة القارة على الرمي ومدی ارتباط المثل بهم.

وعندما صفق عبد الرحمن بن عوف على يد عثمان بن عفان وسلم عليه بالخلافة في قضية اختيار الخليفة بعد وفاة عمر قال له الإمام (عليه السلام): (و الله ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه دق الله بينكما عطر منشم)(2)، ودق الله بینکما عطر منشم هي من أمثال العرب في الشر، وفي سبب المثل عند المؤرخين اختلاف كثير وأقوال مختلفة قيل يراد به الشر العظيم، وزعم قوم أن منشم اسم امرأة وكانت عطارة تبيع الطيب فكانوا إذا أرادوا الحرب غمسوا أيديهم في طيبها وتحالفوا عليه بأن يستميتوا في الحرب ولا يولوا أو يقتلوا، فكانوا إذا دخلوا الحرب بطيب هذه المرأة يقول الناس: قد دقوا بينهم عطر منشم، واذا كثرت القتلى فيما بينهم فكان يقال: أشْأَمُ مِنْ عِطْرِ مَنْشِمَ، قال زهير بن أبي سلمى(3):

تداركتما عبساً وذبيانَ بعدما *** تَفَانوْا ودقوا بينَهم عِطر منشمِ

وزعم آخرون أن منشم كانت امرأة تبيع الحنوط وإنما حنوطها عطر، في قولهم دقوا بينهم عطر منشم لأنهم أرادوا عطر الموتى، والمنشم شيء يكون في سنبل العطر يسميه العطارون قرون السنبل، وفي رواية أخرى أن منشم امرأة من العرب كانت تسمى خفرة

ص: 342


1- زید بن رفاعة الكاتب (ت 360 ه)، کتاب الأمثال، دائرة المعارف العثمانية، (حیدر آباد الدكن 1351 ه)، ص 81
2- ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، 1 / 184
3- الديوان، ص106

تبيع الطيب، فورد بعض أحياء العرب عليها فأخذوا طيبها وفضحوها فلحقهم قومها ووضعوا السيف وقالوا: اقتلوا من شم من طيبها، ثم جعلته العرب مثلاً(1).

من الأمثلة التي تضرب من باب الصبر ومكابدة الأمور وتحمل المشقة قوله عليه السلام :

«وَاَللَّهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هَذِهِ حَتَّى اِسْتَحيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا ولَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ أَلاَ تَنْبذُهَا عَنْكَ فَقُلْتُ اُعْزُبْ عَنِّي فَعِندَ اَلصَّبَاحِ يَحْمَدُ اَلقَوْمُ اَلسُّرَى»(2).

قال ابن أبي الحديد في شرحه (وقوله عند الصباح يحمد القوم السرى مثل يضرب المحتمل المشقة العاجلة رجاء الراحة الآجلة)(3)، ويقال أن المثل للأغلب العجلي، وقيل لغيره، ومعناه أنهم يدأبون في ليلهم بالسهرة، فإذا اصبحوا وقد طووا البعد حمدوا ذلك حينئذ، وهو في شعر للجميح(4)يقول فيه:

تسألُني عن بعلها أيَّ فتی *** خبٌ جبانٌ فإذا جاعَ بکی

لا حطبَ القومُ ولا القومُ سقی ***ولا ركابُ القومِ إذ ضاعتْ بغَی

ولا يواري فرجه إذا إصطلی *** ويأكلُ التمرَ ولايُلقي النَوی

كأنه غرارةٌ ملأى حتی *** لما رأى الرملَ وقيزانَ الغضی

ص: 343


1- ابو هلال العسكري، جمهرة الأمثال، 1 / 444، [رقم المثل 782]؛ البكري، ابو عبيد الله بن عبد العزيز الاندلسي (ت 487 ه)، فصل المقال في شرح كتاب الأمثال، تحقيق احسان عباس، مؤسسة الرسالة، (یروت 1971)، 1 / 485؛ الميداني، مجمع الأمثال، 1 / 93، [رقم المثل 448]
2- ابن أبی الحدید، شرح نهج البلاغة، 9 / 179
3- شرح نهج البلاغة، 9 / 179
4- هو منقذ بن الطماح بن قيس بن طريف ابن عمرو الأسدي (ت 571 م) الجميح لقبه، فارس شاعر جاهلي، قتل يوم جبلة، ينظر البغدادي خزانة الأدب 10 / 271؛ الزركلي، الأعلام، 7 / 308

بکی وقال هل ترونَ ما أرى *** أليسَ للسيرِ الطويلِ مُنقضی

قلتُ أعزّي صاحبي ألا بَلی *** عندَ الصباحِ يحمدُ القومُ السرى1(1) ومن الأمثلة القديمة التي تضمنتها خطبة للإمام عليه السلام بعد التحكيم (لو كان يطاع لقصير أمر) يذم فيها أصحابه بقوله عليه السلام:

«وَقَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ فِي هَذِهِ اَلْحُكُومَةِ أَمْرِي ونَخَلْتُ لَكُمْ مَخْزُونَ رَأْيِي لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِيرٍ أَمْرٌ فَأَبَيْتُمْ عَلَىَّ إِبَاءَ اَلْمُخَالِفِينَ اَلْجُفَاةِ»(2).

وذكر ابن أبي الحديد (وقوله لو كان يطاع لقصير أمر فهو قصير صاحب جذيمة وحديثه مع جذيمة ومع الزبّاء مشهور(3)، فضرب المثل لكل ناصح يعصي بقصير)(4).

وقد وظّف الإمام عليه السلام هذا المثل لمثل آخر استخدمه في خطبة اخرى، ففي حربه مع معاوية بعد قضية التحكيم عندما أغار الغامدي على الأنبار وعليها حسان بن حسان البكري فقتله وقتل منهم رجالاً وكان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى

ص: 344


1- أبو هلال العسكري، جمهرة الأمثال، 2 / 42 ، [رقم المثل 1189]؛ البكري، ، فصل المقال في شرح کتاب الأمثال، 1 / 245؛ الميداني، مجمع الأمثال، 2 / 3، [رقم المثل 2382]؛ الزمخشري، أبو القاسم جار الله محمد بن عمر (ت 538)، المستقصى من أمثال العرب، ط 2، دار الكتب العلمية، (بیروت 1987)، 2 / 168، [رقم المثل 570]
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 163، [خطبة 35]
3- وكان جذيمة على ثغر العرب من قبل أردشير بن بابك، فخطب الزباء بنت عمرو بن طريف، وكانت على الشام والجزيرة من قبل الروم، وأنَّ قصير بن سعد كان قد أشار على جذيمة حين خطب الزباء ألاّ يفعل وذلك لأنه كان قد قتل أباها، فكانت تطلبه بذلك فلم يقبل منه وتزوجها، ثم صارت إلى قتله، فعندها قال: " لا يطاع لقصير أمر " فذهبت مثلاً، ينظر ابو هلال العسكري، جمهرة الأمثال، 2 / 203؛، [رقم المثل 1539] الميداني، مجمع الأمثال، 1 / 233، [رقم المثل 1250]
4- شرح نهج البلاغة، 2 / 163

المعاهدة فينتزع أحجالها وقلادتها فخطب الإمام عليه السلام بالقوم قائلا:

فَلَوْ أَنَّ اِمْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً بَلْ کَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً»(1).

ثم أخذ يذم أصحابه على تخاذلهم ورفضهم القتال في الشتاء والصيف بحجج واهية حتى قال عليه السلام:

«لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ إِنَّ اِبْنَ أبي طَالِب رَجُلٌ شُجَاعٌ ولَكِنْ لاَ عِلْمَ لَهُ بِالحَرْبِ لِلَّهِ أَبُوهُمْ وهَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً وأَقْدَمُ فِيهَا مُقَاماً مِنِّي لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا ومَا بَلَغْتُ اَلْعِشْرِينَ وهَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى اَلسِّتِّينَ ولَكِنْ لاَ رَأيَ لِمَنْ لاَ يُطَاعُ»(2).

ولا رأي لمن لا يطاع مثلاً يضرب للرجل يستشار، فإذا أشار لم يقبل منه، وذكر الميداني أنه من أمثال الإمام علي (عليه السلام)(3)، فيما ذهب آخرون أنَّ أول من قاله عتبة بن ربيعة حين أجمعت قريش المسير إلى بدرٍ، وهو مأخوذٌ من قول الشاعر:

أمرتُهُم أمرى بمنعرج اللّوى *** ولا أمرَ للمعصِيَّ إلا مُضيَّعا

وتمثل به الإمام علي عليه السلام(4). واستمر المثل العربي يتغلغل في خطب الإمام عليه السلام، ففي خطبة له يحث أصحابه على الجهاد ويعاتبهم فيها قال عليه السلام:

«أَحُثُّكُمْ عَلَى جِهَادِ أَهْلِ اَلبَغْيِ فَمَا آتيِ عَلَى آخِرِ قَوْلِي حَتَّى أَرَاکُمْ مُتَفَرِّقِينَ أَيَادِيَ

ص: 345


1- شرح نهج البلاغة، 2 / 61، [خطبة 27]
2- شرح نهج البلاغة، 2 / 62، [خطبة 27]
3- مجمع الأمثال، 2 / 240، [رقم المثل 3662]
4- ابو هلال العسكري، جمهرة الامثال، 2 / 408، [رقم المثل 1920]

سَبَا تَرْجِعُونَ إلى مَجَالِسِكُمْ وتَتَخَادَعُونَ عَنْ مَوَاعِظِكُمْ»(1).

وذكر ابن أبي الحديد وأيادي سبأ مثل يضرب للمتفرقين وأصله قوله تعالى عن أهل سبإ وَمَزَّقْناهُمْ كلَّ مُمَزَّقٍ(2)، وسبأ هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ويقال ذهبوا أيدي سبأ وأيادي سبأ، وهكذا نقل المثل أي ذهبوا متفرقين وهما أسمان جعلا واحدا مثل معد یکرب(3). وذكر أنه كان له عشرة أولاد جعل منهم ستة يمينا له وأربعة شمالا تشبيها لهم باليدين ثم تفرق أولئك الأولاد أشد التفرق(4).

وجاء إلى الإمام عليه السلام رجلٌ وقال له إن بني فلان ضربوا بني فلانة بالكناسة فقال عليه السلام:

«صدقني سِنَّ بكره»(5).

وقال ابن أبي الحديد (هذا مثل تضربه العرب للرجل يأتي بالخبر على وجهه ويصدق فيه ويقال إن أصله أن الرجل ربما باع بعيره فيسأل المشتري عن سنه فيكذبه فعرض رجل بكرا له فصدق في سنه فقال الآخر صدقني سن بكره فصار مثلا)(6).

وقيل إنّ رجلاً ساوَم رجلاً في بَكْرٍ أراد شراءه، فقال: ما سنّه؟ فأخبره بالحق ثم قال

ص: 346


1- شرح نهج البلاغة، 7 / 57، [خطبة 96]
2- يَقصد سورة سبأ: الاية 19 قوله تعالى: «فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ»
3- شرح نهج البلاغة، 7 / 57؛
4- ينظر المثل عند الميداني، مجمع الأمثال، 1 / 275، [رقم المثل 1454]؛ الصالح، صبحي، شرح نهج البلاغة ، ط 4، دار أنوار الهدى، (قم 1431)، ص 177؛ ابو علي، محمد توفيق، الأمثال العربية والعصر الجاهلي دراسة تحليلية، دار النفائس، (بیروت 1988)، ص 187
5- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 19 / 102
6- شرح نهج البلاغة، 19 / 102

له: هِدَعْ هِدَعْ، وهذه لفظة يُسَكَّن بها الصِّغار من الإبل، فلما سمع المشتري هذه الكلمة قال: (صدقني سِنَّ بكره)(1).

وكان الإمام عليه السلام كثيراً ما يورد الأمثال العربية في أحكامه ويستعملها كأداة لحل الكثير من القضايا وقد استخدم مثلين متقاربين عند كشفه جريمة قتل أحد الاشخاص هما (أوردها سعد وسعد مشتمل) و(أهون السقي التشريع)، وذكر ابن أبي الحديد أنَّ رجلاً سافر مع أصحاب له فلم يرجع حين رجعوا، فاتهم أهله أصحابه ورفعوهم إلى شريح فسألهم البينة على قتله، ولم يعطهم حقهم، فارتفعوا إلى الإمام علي عليه السلام فأخبروه بقول شريح فقال: أوردها سعد وسعد مشتمل یا سعد لا تروی بهذاك الإبل، ثم قال إن أهون السقي التشريع ثم فرق بينهم وسألهم فاختلفوا ثم أقروا بقتله فقتلهم به(2).

وعلّق ابن أبي الحديد قائلاً (هذا مثل أصله أن رجلا أورد إبله ماء لا تصل إليه الإبل إلا بالاستقاء، ثم اشتمل ونام وتركها لم يستسق لها، والكلمة الثانية مثل أيضا يقول إن أيسر ما كان ينبغي أن يفعل بالإبل أن يمكنها من الشريعة ويعرض عليها الماء، يقول أقل ما كان يجب على شريح أن يستقصي في المسألة والبحث عن خبر الرجل ولا يقتصر على طلب البينة)(3).

وهذا المثل يضرب للذي ينال حاجته من غير عناء والمثل لمالك بن زيد مناة بن تميم،

ص: 347


1- الاصمعی، کتاب الامثال، ص158 ، [رقم المثل 349]؛ ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص71؛ ابو هلال العسكري، جمهرة الامثال، 1 / 557، [رقم المثل 1076]؛ البكري،، فصل المقال في شرح کتاب الامثال، 1 / 40؛ الميداني، مجمع الامثال، 1 / 392، [رقم المثل 2083]
2- شرح نهج البلاغة، 19 / 102 -103
3- ابن أبی الحدید، شرح نهج البلاغة، 19 / 103

رأى أخاه سعداً أورد إبله، ولم يحسن القيام عليها، فقال ذلك(1).

ومثله قولهم: أهون السقي التشريع، أَهْوَنُ ههنا: من الهَوْنِ والهُوَيْنَا بمعنى السهولة والتشريع: أن تُورِدَ الإبل ماء لا يحتاج إلى صعوبة بل تشريع الإبل شروعاً يضرب لمن يأخذ الأمر بالهُوَیْنَا ولاَ يستقصی(2).

ومن الأمثال التي أوردها الإمام عليه السلام والتي عرفها مجتمع العرب قبل الإسلام (لا أكون كالضبع تسمع اللدم حتى تصاد)، وقد ذكرها الإمام عليه السلام من کلام له لما أشير عليه بأن لا يتبع طلحة والزبير اللذين نكثا البيعة وحرضا عليه أهل البصرة ولا يرصد لهما القتال ومنه يبين عن صفته بأن لا يخدع فقال عليه السلام:

«وَاَللَّهِ لاَ أَكُونُ کَالضَّبُعِ تَنَامُ عَلَى طُولِ اَللَّدْمِ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهَا طَالِبُهَا ويَخْتِلَهَا رَاصِدُهَا ولَكِنِّي أَضْرِبُ بِالْمُقْبِلِ إلى اَلْحَقِّ اَلْمُدْبِرَ عَنْهُ وبِالسَّامِعِ اَلْمُطِيعِ اَلْعَاصِيَ اَلْمُرِيبَ أَبَداً حَتَّى يَأْتِيَ عَلَىَّ يِوْمِي»(3).

قال ابن أبي الحديد (اللدم صوت الحجر أو الشيء يقع على الأرض وليس بالصوت الشديد يقال منه لدم ألدم بالكسر، وإنما قيل ذلك للضبع لأنهم إذا أرادوا أن يصيدوها رموا في جحرها بحجر خفيف أو ضربوا بأيديهم فتحسبه شيئا تصيده فتخرج لتأخذه فتصاد وزعموا أنها من أحمق الدواب بلغ من حمقها أن يدخل عليها فيقال أم عامر نائمة أو ليست هذه والضبع هذه أم عامر فتسكت حتى تؤخذ، فأراد علي عليه السلام

ص: 348


1- الأصمعي، كتاب الأمثال، ص82،[رقم المثل 154]؛ ابن رفاعة الكاتب، کتاب الأمثال، ص18؛ أبوهلال العسكري، جمهرة الأمثال، 1 / 93، [رقم المثل 79]؛ البكري، فصل المقال في شرح كتاب الأمثال، 1 / 347؛ الميداني، مجمع الأمثال، 2 / 406، [رقم المثل 4620]
2- الأصمعي، كتاب الأمثال، ص 81، [رقم المثل 151]؛ ابن رفاعة الكاتب، کتاب الأمثال، ص29؛ الميداني، مجمع الأمثال، 2 / 406، [رقم المثل 4620]
3- شرح نهج البلاغة، 1 / 212، [خطبة 6]

أني لا أخدع كما تخدع الضبع بالدم)(1). قال الشنفري:

لا تقبروني إن قبري مُحرَّمٌ *** علیکم ولکن خامري أم عامرِ

إذا ما مضى رأسي وفي الرأس أكثري *** وغودِرَ عندَ الملتقی ثَمَّ سائري

هنا لِكَ لا أرجو حياةً تَسُرنُي *** سجيس الليالي مبسِلا بالجرائرِ

أوصاهم ألا يدفنوه إذا قتل، وقال اجعلوني أكلا للسباع كالشيء الذي يرغب به الضبع في الخروج وتقدير الكلام لاتقبروني ولكن اجعلوني التي يقال لها خامري أم عامر وهي الضبع فإنها لا تقبر ويمكن أن يقال أيضا أراد لا تقبروني واجعلوني فريسة للتي يقال لها خامري أم عامر لأنها تأكل الجيف وأشلاء القتلى والموتى(2).

ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية وهو من محاسن الكتب كما يقول الشريف الرضي:

«أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَانِي كِتَابُكَ تَذْكُرُ فِيهِ اِصْطِفَاءَ اَللهِ مُحَمَّداً (ص) لِدِينِهِ وَتَأْيِيدَهُ إِيَّاهُ لِمَنْ أَيَّدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَقَدْ خَبَّأَ لَنَا اَلدَّهْرُ مِنْكَ عَجَباً إِذْ طَفِقْتَ تُخْبِرُنَا بِبَلاَءِ اَللهِ تَعَالَی عِنْدَنَا وَنِعْمَتِهِ عَلَيْنَا فِي نَبِيِّنَا فَکُنْتَ فِي ذَلِكَ كَنَاقِلِ اَلتَّمْرِ إلى هَجَرَ أو دَاعِي مُسَدِّدِهِ إلى اَلنِّضَالِ، وزَعَمْتَ أَنَّ أَفْضَلَ اَلنَّاسِ فِي الإسلام فُلاَنٌ وفُلاَنٌ فَذَکَرْتَ أَمْراً إِنْ تَمَّ اِعْتَزَلَكَ كُلُّهُ وإِنْ نَقَصَ لَمْ يَلْحَقْكَ ثَلْمُهُ ومَا أَنْتَ وَاَلْفَاضِلَ وَاَلْمَفْضُولَ واَلسَّائِسَ وَاَلْمَسُوسَ وَمَا لِلطُّلَقَاءِ وأَبْنَاءِ اَلطُّلَقَاءِ وَاَلتَّمْيِيزَ بَيْنَ اَلْمُهَاجِرِينَ اَلْأَوَّلِينَ وتَرْتِيبَ دَرَجَاتِهِم وتَعْرِيفَ طَبَقَاتِهِمْ انیمی

ص: 349


1- شرح نهج البلاغة، 19 / 99
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 213؛ ينظر المثل عند ابن رفاعة الكاتب، کتاب الأمثال، ص7؛ ابو هلال العسكري، جمهرة الأمثال، 1 / 93، [رقم المثل 1911]؛ البكري ،، فصل المقال في شرح كتاب الأمثال، 1 / 187؛ الميداني، مجمع الأمثال، 2 / 10، [رقم المثل 3671]

هَيْهَاتَ لَقَدْ حَنَّ قِدْحٌ لَيْسَ مِنْهَا وَطَفِقَ يَحْكُمُ فِيهَا مَنْ عَلَيْهِ اَلْحُكْمُ لَهَا»(1).

أورد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في هذا الكتاب ثلاثة أمثال عربية متداولة، الأول (كناقل التمر إلى هجر) وذكر ابن أبي الحديد(2) أنّ أصل المثل كمستبضع تمر إلى هجر وهي بلدة كثيرة النخل يحمل منها التمر إلى غيرها، وذكر الميداني(3) أنه من الأمثال القديمة وأن هَجَرَ معدنُ التمر والمستبضع إليه مخطئ ويَقال أيضاً: كمستبضع التمر إلى خيبر قَال النابغة الجعدي:

وإنَّ امرأ أهْدَى إلَيْكَ قَصَيْدةً *** کَمُسْتَبْضِع تَمْرَاً إلى أرضِ خَيْبَرَا(4)

والمثل الثاني قوله (وداعي مسدده إلى النضال) وذكر ابن أبي الحديد (قوله وداعي مسدده إلى النضال أي معلمه الرمي وهذا إشارة إلى قول القائل الأول:

أعلَّمُهُ الرمايةَ كلَّ يومٍ *** فلمّا إشتدَّ ساعدَهُ رمَاني

هكذا الرواية الصحيحة بالسين المهملة أي استقام ساعده على الرمي، وسددت فلانا علمته النضال، وسهم سدید مصیب، ورمح سديد أي قل أن تخطئ طعنته)(5).

والمثل يضرب لمن يسيء إليك وقد أحسنت إليه، وفي كتب الأمثال أن هذا البيت لمالك بن فهم بن غنم بن دوس الأزدي، وكان ابنه سليمة بن مالك رماه بسيف فقتله،

ص: 350


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 137، کتب ورسائل [28]
2- شرح نهج البلاغة، 16 / 142
3- مجمع الامثال، 2 / 152، [لرقم المثل 3080]
4- قیس بن عبد الله بن عدس بن ربيعة بن جعدة (ت 50 هم تقریباً)، الديوان، تحقيق واضح الصمد، دار صادر، (بیروت 1998)، ص89
5- شرح نهج البلاغة، 15 / 142

فقال أبوه مالك هذا البيت لما رماه، وقد استخدم هذا البيت في أبيات أخرى للتعبير عن حالات معينة منها قول الشاعر:

فَيَا عَجَباً لمن رَبَّيْتُ طِفْلاً *** ألقَّمُهُ بأطرَافِ الْبَنَانِ أعلَّمه الرَّماَيَةَ کُلَّ يوَمٍ *** فَلَمَّا اسْتَدَّ ساَعِدُهُ رَمَاني وَكَمْ عَلَّمْتُه نَظْمَ القَوَافي *** فَلَمَّا قَال قَافِيَةً هَجَاني(1)

أما المثل الثالث (قد حن قدح ليس فيه)، فقد علق عليه ابن أبي الحديد بالقول : (هذا مثل يضرب لمن يدخل نفسه بين قوم ليس له أن يدخل بينهم، وأصله القداح من عود واحد يجعل فيها قدح من غير ذلك الخشب فيصوت بينها إذا أرادها المفيض فذلك الصوت هو حنينه)(2) .

ولمن يعين صاحبه على أمر له فيه نصيب استخدم الإمام عليه السلام مثلاً آخر عندما أراد عمر بن الخطاب اجباره على مبايعة أبي بكر بعد حادثة السقيفة فقال له (عليه السلام): (إحلب یا عمر حلبا لك شطره أشدد له اليوم أمره ليرد عليك غدا، ألا والله لا أقبل قولك ولا أبایعه)(3) .

وعندما عاتب الإمام عليه السلام عثمان بن عفان على سوء إدارته للدولة ضمَّنَ في

ص: 351


1- البكري، فصل المقال في شرح کتاب الامثال، 1/ 20؛ الميداني، مجمع الامثال، 2/ 200، [لرقم المثل3410]
2- شرح نهج البلاغة، 16/ 142؛ ينظر المثل عند الأصمعي، کتاب الامثال، ص121، [لرقم المثل252]؛ ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص56؛ البكري، فصل المقال في شرح کتاب الامثال، 1/ 401؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 191، [رقم المثل1018]
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6/ 11؛ ينظر المثل عند الاصمعي، کتاب الامثال، ص30، [رقم المثل18]؛ ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص57؛ العسكري، جمهرة الامثال،1/ 74، [لرقم المثل56]؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 195، [لرقم المثل1029]

كلامه مثلاً استخدمه العرب لمن ولی عمره، ولم يبق منه الا القليل فقال عليه السلام:

«فارجع إلى الله أبا عمرو وأنظر هل بقيَ من عمركَ إلا كظِمء الحمار فحتى متى وإلى متى ألا تنهی سفهاءَ بني أميةَ عن أعراضِ المسلمين وأبشارِهم وأموالهم والله لو ظلم عاملٌ من عمّالكَ حيثُ تغربُ الشمسُ لكانَ إئمهُ مشتركا بينَه وبينك»(1) .

وفي كتب الأمثال أقصر الأظماء ظمء الحمار، لأنه يرد في كل يوم مرة، لقلة صبره عن الماء والأظماء : هي الأيام التي تظمأ فيها الإبل، أي تعطش ولا ترد الماء(2) .

ومن كلامه عليه السلام وقد وقعت بينه وبين عثمان مشاجرة فقال المغيرة بن الأخنس(3) لعثمان أنا أكفيکه فقال أمير المؤمنين عليه السلام للمغيرة :

«يَا اِبْنَ اَللَّعِينِ الأَبْتَرِ واَلشَّجَرَةِ اَلَّتِي لاَ أَصْلَ لَهَا ولاَ فَرْعَ أَنْتَ تَكْفِينِي، فَوَاللهِ مَا أَعَزَّ الله مَنْ أَنْتَ نَاصِرُهُ ولاَ قَامَ مَنْ أَنْتَ مُنْهِضُهُ أخْرُجْ عَنَّا أَبْعَدَ اَللهُ نَوَاكَ ثُمَّ أُبْلُغْ جَهْدَكَ فَلاَ أَبْقَی اَللهُ عَلَیْكَ»(4) .

وعلق ابن أبي الحديد (ویروی أبعد الله نوع من أنواء النجوم التي كانت العرب تنسب المطر إليها وكانوا إذا دعوا على إنسان قالوا أبعد الله نوءك أي خيرك)(5) ، وفي مجمع الأمثال للميداني النَّوْء: النجم يطلُع أو يسقط فيمطر يقال : مُطِرْنَا بِنَوء كذا

ص: 352


1- شرح نهج البلاغة، 9/ 11
2- البكري، فصل المقال في شرح کتاب الامثال، 1/ 178؛ العسكري، جمهرة الامثال، 2/ 29، [رقم المثل1167]؛ الميداني، مجمع الامثال، 2/ 268، [رقم المثل 3791]
3- ينظر ترجمته في ص155من الرسالة عند الحديث عن نسب ثقیف
4- شرح نهج البلاغة، 8/ 231، [خطبة135]
5- شرح نهج البلاغة، 8/ 231

ويضرب لمن طلب حاجةً فلم يقدر عليها(1) .

كان الإمام عليه السلام يدرج الأمثال في كلامه لتكون أكثر واقعية، فغالباً ما يعوض الكلام القصير عن الشرح الطويل، فنقل لنا ابن أبي الحديد أن ابن عباس قال: بعد أن أغلظ الإمام عليه السلام لعثمان بعد عتابه له نظر إلي نظر هيبة وقال (دعه حتى يبلغ رضاه فيما هو فيه، فوالله لو ظهرت له قلوبنا وبدت له سرائرنا حتى رآها بعينه كما يسمع الخبر عنها بأذنه ما زال متجرماً منتقماً والله ما أنا ملقى على وضمة وإني لمانع ما وراء ظهري)(2) ، والمثل المشهور هو (أضيع من لحم على وضم(3) )(4) .

ومن الأمثال العربية القديمة المشهورة التي وظًفها الإمام عليه السلام (ما بل بحر صوفة)(5) وذلك أثناء كلامه مع عثمان، إذ قال له عثمان:

(والله ما أدري أحياتَكَ أحبُّ إلي أم موتُك؟ إن متَّ هاضَني فقدُك وإن حييتَ فتنتني حیاتُك، لا أعدم ما بقيت طاعنا يتخذكَ رديئةً يلجأ إليها).

فقال الإمام علي عليه السلام :

«ما الذي جعلني رديئةً للطاعنينَ العائبينَ إنما سوءُ ظنَّك بي، أحلَّني من قَبلك هذا المحل فإن كنتَ تخافُ جانبي فلكَ علىَّ عهدُ اللهِ وميثاقُه أن لا بأسَ عليكَ مني ما بلَّ بحرٌ

ص: 353


1- 1/ 247، [رقم المثل1322]
2- شرح نهج البلاغة، 9/ 18
3- الوَضَمُ: كلُّ شيء يجعل عليه اللحم من خشبٍ أو باريةٍ، يوقی به من الأرض. وقال الراجز : ليس براعي إبلٍ ولا غَنَمْ ولا بجزَّارِ على ظهر الوَضَمْ، ينظر الجوهري، الصحاح، ص1224، [مادة وضم]
4- العسكري، جمهرة الامثال، 2/ 3؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 19، [لرقم المثل42]
5- الميداني، مجمع الامثال، 2/ 11، [رقم المثل2925]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 2/ 247، [رقم المثل845]

صوفة وإني لك لرَاَعِ وإني عنك لمحام»(1) .

ومن الأمثلة الشائعة التي وظّفها الإمام عليه السلام في خطبة (أخر الدواء الكي) فذكر في أحد خطبه عندما أراد طلحة والزبير المسير إلى البصرة:

«فَاصْبِرُوا حَتَّى يَهْدَأَ اَلنَّاسُ وتَقَعَ اَلْقُلُوبُ مَوَاقِعَهَا وتُؤخَذَ اَلْحُقُوقُ مُسْمَحَةً فَاهْدَءُوا عَنَّي وأُنْظُرُوا مَاذَا يَأتِيکُمْ بِهِ أَمْرِي ولاَ تَفْعَلُوا فَعْلَةً تُضَعْضِعُ قُوَّةً وتُسْقِطُ مُنَّةً وتُورِثُ وَهْناً وذِلَّةً وسَأُمْسِكَ وإِذَا لَمْ أَجِدْ بُدّاً فَاخِرُ الدَّوَاء اَلْكَيُّ»(2) .

وعلق ابن أبي الحديد عليه بقوله (وآخر الدواء الكي مثل مشهور، ويقال آخر الطب، ويغلط فيه العامة فتقول آخر الداء، والكي ليس من الداء ليكون آخره)(3) ، وقيل إن قائله لقمان بن عاد في قصته مع رجل كانت امرأته تغازل غيره فقال : أفلا أعاجِلُها بِكَيَّةٍ توردها المنية فقال: لقمان: آخر الدَّوَاء الكَيُّ، فأرسلها مثلا يضرب مثلا لما يصلح بالشدة ولا ينجح فيه اللين(4) .

كان الإمام عليه السلام يتمثل الحكم والأمثال القديمة ويعيد صياغتها نصوصاً بليغة تحمل معاني سامية جميلة ومعبرة، ففي أحد خطبه يقول:

«وَأَيْمُ اَللهِ لَقَدْ کُنْتُ مِنْ سَاقَتِهَا حَتَّى تَوَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا واِسْتَوْسَقَتْ فِي قِیَادِهَا مَا ضَعُفْتُ ولاَ جَبُنْتُ ولاَ خُنْتُ ولاَ وَهَنْتُ وأَيْمُ اَللهِ لَاَبْقُرَنَّ اَلبَاطِلَ حَتَّى أُخْرِجَ اَلْحَقَّ مِنْ

ص: 354


1- شرح نهج البلاغة، 9/ 19
2- شرح نهج البلاغة، 9/ 222، [خطبة169]
3- شرح نهج البلاغة، 9/ 223
4- العسكري، جمهرة الأمثال،1/ 87، [رقم المثل84]؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 292، [رقم المثل1546]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 1/ 3، [رقم المثل4]

خَاصِرَتِهِ»(1) .

وعلَّق ابن أبي الحديد(2) (كأنه جعل الباطل كالشيء المشتمل على الحق غالبا عليه ومحيطا به فإذا بقر ظهر الحق الكامن فيه) وفي كتب الامثال يُخْرِجُ الحقَّ مِنْ خَاصِرَةِ البَاطِلِ(3) .

وفي كتاب له عليه السلام إلى معاوية يحذره من الوقوع في الوهم والمطالبة بالخلافة التي يراها الإمام عليه السلام بعيدة عنه فيضرب لهذا البعد مثلاً بقوله:

«تَقْصُرُ دُونَهَا اَلأَنُوقُ ويُحَاذَی بِهَا اَلْعَيُّوقُ»(4) .

وفي هذا المثل الجميل جمع الإمام بين مثلين الاول المثل الشائع (أبعد من بيض الأنوق)، فقد ذكر ابن أبي الحديد أنَّ الأنوق طائر وهو الرخمة وفي المثل أعز من بيض الأنوق لأنها تحرزه ولا يكاد أحد يظفر به وذلك لأن أوكارها في رؤوس الجبال والأماكن الصعبة البعيدة. قال الشاعر:

وکُنْتُ إذا استُودِعْتُ سرا کَتَمْتُهُ *** کبیض اَنُوقٍ لا يُنَال لها وَكْرُ(5)

والمثل الثاني (أبعد من العيوق)، وذكر ابن أبي الحديد (العيوق کوکب معروف فوق زحل في العلو وهذه أمثال ضربها في بعد معاوية عن الخلافة)(6) وفي كتب الأمثال هو

ص: 355


1- شرح نهج البلاغة، 7/ 90، [خطبة103]
2- شرح نهج البلاغة، 7/ 92
3- الميداني ، مجمع الامثال، 2/ 429
4- شرح نهج البلاغة، 18/ 16، کتب ورسائل [65]
5- شرح نهج البلاغة، 18/ 19؛ ينظر المثل عند العسكري، جمهرة الامثال، 1/ 238، [رقم المثل307]؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 578، [رقم المثل575]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 1/ 24، [رقم المثل68]
6- شرح نهج البلاغة، 18/ 19

کوکب يطلع مع الثريا فيقال له عیوق الثريا وتعرف به القبلة، وذلك أنك إذا جعلته خلف ظهرك في وقت طلوعه فقد استقبلت قبلة العراق يراد بعده من مجرى القمر، وتزعم العرب أن القمر رام المسير عليه فعاقه عن ذلك فسمى العيوق(1) .

ومن أمثال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام التي استخلصها من الأمثال العربية قوله:

«لَيْسَ کُلُّ عَوْرَةٍ تَظْهَرُ ولاَ کُلُّ فُرْصَةٍ تُصَابُ ورُبَّمَا أَخطَأَ اَلْبَصِيرُ قَصْدَهُ وأَصَابَ اَلأَعْمَى رُشْدَهُ»(2) .

وقال ابن أبي الحديد (قوله فربما أخطأ البصير قصده وأصاب الأعمى رشده من هذا النحو قولهم في المثل مع الخواطئ سهم صائب وقولهم رمية من غير رام)(3) ، والمثل (الخَوَاطِئِ سَهْمٌ صَائِبٌ) مثل يضرب للذي يخطئ مراراً يصيب مرة(4) ومَثَلُ العامة في هذا (ربَّ رميةٍ من غير رام) أي: رُبَّ رميةٍ مصيبة حَصَلت من رام مخطئ لا أن تكون رمية من غير رام فإن هذا لا يكون قط، وأول من قال ذلك الحَكَم بن عَبْد يَغُوث المنقري وكان أرمي الناس وذلك أنه نذر ليذبحن مهاة فرام صيدها أياما فلم يمكنه، وكان يرجع مخفقا حتى هم بقتل نفسه مكانها، فقال له ابنه مطعم احملني أرفدك، فقال ما أحمل من رعش وهل جبان فشل، فما زال به حتی حمله فرمي الحكم مهاتين

ص: 356


1- العسكري، جمهرة الامثال، 1/ 238، [لرقم المثل306]؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 578، [رقم المثل575]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 1/ 24، [رقم المثل65]
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة،16/ 88، کتب ورسائل [31]
3- شرح نهج البلاغة، 16/ 93
4- البكري، فصل المقال في شرح کتاب الامثال، 1/ 44؛ العسكري، جمهرة الامثال، 2/ 269، [رقم المثل1664]؛ الميداني، مجمع الامثال، 2/ 280، [رقم المثل3857]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 2/ 24، [رقم المثل1263]

فأخطأهما فلما عرضت الثالثة رماها مطعم فأصابها فعندها قال أبوه: رُبَّ رميةٍ من غير رَامِ، وانشد محمد بن حبیب:

رمتني یَوْمَ ذَاتِ الغمر سَلْمى *** بسَهْم مُطْعِم للصيد لأم

فَقُلْتُ لَهَا أصبْتِ حَصَاةَ قَلْبِي *** وَرُبَّةَ رَمْيَةٍ مِنْ غَيْرِ رَامِ(1)

و وذكر ابن أبي الحديد أنه روی بكر بن عيسى عن عاصم بن كليب الجرمي عن أبيه قال : شهدت عليا عليه السلام وقد جاءه مال من الجبل فقام وقمنا معه وجاء الناس يزدحمون فأخذ حبالا فوصلها بيده وعقد بعضها إلى بعض ثم أدارها حول المال وقال: لا أحل لأحد أن يجاوز هذا الحبل، ثم وزع المال على رؤوس الأسباع وكانت الكوفة يومئذ أسباعاً حتى استوت القسمة سبعة أجزاء ووجد مع المتاع رغيف فقال اکسروه سبع كسر وضعوا على كل جزء كسرة ثم قال:

هذا جنايَ وخيارُهُ فيهِ *** إذْ کلُّ جانِ يدُهُ إلى فيه(2)

ويضرب هذا المثل لترك الاستئثار، قال ابن أبي الحديد (أصل المثل لعمرو بن عدي ابن أخت جذيمة الأبرش كان يجني الكمأة مع أتراب له، فكان أترابه يأكلون ما يجدون وكان عمرو يأتي به خاله ويقول هذا القول)(3) .

ص: 357


1- العسكري، جمهرة الامثال، 1/ 491، [رقم المثل879]؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 299، [رقم المثل1581]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 2/ 105، [رقم المثل379]، اليوسي، الحسن (ت1102ه)، زهر الأكم في الأمثال والحكم، تحقیق محمد حجي، ومحمد الأخضر، دار الثقافة، (الدار البيضاء1981)، 3/ 38
2- شرح نهج البلاغة، 2/ 159
3- شرح نهج البلاغة، 19/ 105؛ ينظر المثل عند العسكري، جمهرة الامثال، 2/ 360، [رقم المثل1831]؛ الميداني، مجمع الامثال، 2/ 967، [رقم المثل4567]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب،2/ 386، [رقم المثل1419]

وقِيل للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام صف لنا العاقل، فقال عليه السلام:

«هُوَ اَلَّذِي يَضَعُ اَلشَّيْءَ مَوَاضِعَهُ».

فقيل صف لنا الجاهل، قال عليه السلام:

«قَدْ قُلْتُ فَعَلْتُ»(1) .

قال الشريف الرضي : (يعني أن الجاهل هو الذي لا يضع الشيء مواضعه، فكأن ترك صفته صفة له إذ كان بخلاف وصف العاقل)(2) ، وعلق ابن أبي الحديد عليه بقوله (هذا مثل الكلام الذي تنسبه العرب إلى الضب، قالوا اختصمت الضبع والثعلب إلى الضب، فقالت الضبع يا أبا الحسل(3) إني التقطت تمرة، قال طيبا جنیت، قالت وإن هذا أخذها مني، قال حظ نفسه أحرز، قالت فإني لطمته، قال كريم حمي حقيقته، قالت فلطمني، قال حر انتصر، قالت اقض بيننا، قال قد فعلت)(4) .

ولعل هذا من الأمثال التي تنقل على لسان الطيور والحيوانات بصورة الرمز ویکون كناية عن معانِ دقيقة ولكنها غير واقعية وقد استخدمها العرب في أقوالهم وحكاياتهم، ومنها هذا المثل المعروف في كتب الأمثال (في بيته يؤتي الحكم)(5) .

وقال عليه السلام:

ص: 358


1- شرح نهج البلاغة، 19/ 60، حكم وامثال [232]
2- ابو الحسن محمد بن أبي أحمد الحسين بن موسی بن محمد (ت404ه)، تجميع خطب ورسائل وأقوال الإمام علي عليه السلام المسمى نهج البلاغة، شرح محمد عبده، منشورات الفجر، (بیروت2010) ص467
3- الحسل: ولد الضب
4- شرح نهج البلاغة، 19/ 60
5- العسكري، جمهرة الامثال، 2/ 101، [رقم المثل1329]؛ الميداني، مجمع الامثال، 2/ 72، [رقم المثل2742]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 2/ 61، [رقم المثل224]، الدميري، حياة الحيوان الكبرى، 1/ 42

«اَلْعَيْنُ وِكَاءُ اَلسَّتَهِ»(1) .

قال الشريف الرضي، (وهذه من الاستعارات العجيبة كأنه شبه السته بالوعاء والعين بالوكاء فإذا أطلق الوكاء لم ينضبط الوعاء)(2) . وعلق ابن أبي الحديد : وهذه من الكنايات اللطيفة وفي بعض الروايات إذا نامت العينان استطلق الوكاء، الوكاء رباط القربة فجعل العينين وكاء، والمراد اليقظة للسته کالوكاء للقربة(3) ، وذكر محمد عبده في شرحه لنهج البلاغة تفسيراً جميلاً لكلام الإمام عليه السلام فقال : (السنَّهْ، بفتح السين وتخفيف الهاء: العجز ومؤخر الإنسان، والعين الباصرة. وإنما جعل العجز وعاء لأن الشخص إذا حفظ من خلفه لم يصب من أمامه في الأغلب، فكأنه وعاء الحياة والسلامة إذا حفظ حفظتا. والباصرة وكاء ذلك الوعاء أي رباطه لأنها تلحظ ما عساه يصل إليه فتنبه العزيمة لدفعه والتوقي منه، فإذا أهمل الإنسان النظر إلى مؤخرات أحواله أدرکه العطب. والكلام تمثيل لفائدة العين في حفظ الشخص مما قد يعرض عليه من خلفه، وأنها لا تختلف عن فائدتها في حفظه مما يستقبله من أمامه، وإرشاد إلى وجوب التبصر في مظنات الغفلة)(4) ، وذكر أحد المؤرخين المعاصرين تفسيراً فقهياً لكلام الإمام عليه السلام فقال : (لا شك أن هناك معنىً عميقاً، ذلك هو أن النوم ينقض الوضوء، لإن العين اذا نعست، ضعف حكم الأست وإسدادها، فيخرج منها الريح، فينتقض الوضوء)(5) .

ص: 359


1- شرح نهج البلاغة، 20/ 157، حكم وامثال [475]
2- شرح نهج البلاغة، 20/ 157
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 20/ 157
4- الشريف الرضي، تجميع خطب ورسائل واقوال الامام علي عليه السلام المسمى نهج البلاغة، شرح محمد عبده، هامش المحقق، ص505
5- السعداوي، عبد الكريم حسين، غریب نهج البلاغة، منشورات فرصاد، الرسائل الجامعية، (طهران2006)، ص399

وهكذا نرى أنّ المفردة التي يستخدمها الإمام عليه السلام يمكن أن يضعها كل مستمع حسب فهمه في مكانها الملائم عنده، ولا تبقى عالقة في مكان واحد ممل وتلك صورة من بلاغة الإمام عليه السلام، وذكر في كتب الأمثال (اِحْفَظْ ما في الوِعَاء بِشِدَّةِ الْوِكاءِ) وهو من أمثال العرب في الإحتياط يضرب في الحث على أخذ الأمر بالحزم(1) .

وهناك الكثير من الأمثال التي تضمنها كلام الإمام عليه السلام في خطبه والتي صنفت على شكل أمثال وحكم تناقلتها أقلام المؤرخين بما لم يسع ابن أبي الحديد أن يحتويه، فتناثر في صفحات الكتب والمصنفات المختلفة(2) .

ثانيا: الأمثال التي ذكرها ابن أبي الحديد:

ذكر ابن أبي الحديد العديد من الأمثال التي تخص حياة العرب وسنذكر ما يخص حياتهم قبل الإسلام والتي ذكر قسماً منها تعليقاً وإضافة على ما تناوله الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام من أمثال في خطبه، وقسمُ منها ذكرها للضرورة التي تستوجب الاستشهاد بالأمثال لتثبيت حادثة معينة.

فمن امثالهم التي ضربها ابن أبي الحديد عند بلوغ الشدة منتهاها (أبعد أن مسَّ الحزام الطبيين)(3) ، الطُّبْي للحافر والسباع كالضَّرْع لغيرها، يضرب مثلاً للأمر يبلغ غايته في الشدة والصعوبة، وأصل ذلك أنْ يريد الفارس النجاة من طلب من يتبعه فيبلغ من

ص: 360


1- العسكري، جمهرة الامثال، 2/ 47، [رقم المثل1198]؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 207، [رقم المثل1095]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب/ 1/ 68، [رقم المثل423]
2- للتفصيل حول امثال الإمام (عليه السلام)، ينظر الشاوي، عبد الهادي عبد الرحمن علي، المثل في نهج البلاغة دراسة تحليلية فنية، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة الكوفة، 2007
3- شرح نهج البلاغة، 2/ 119

مخافته أن يضطرب حزام دابته حتى يبلغ طبييها ولا يمكنه أن ينزل فيشده(1) .

و (وجاوز السيل الزبى)(2) ، يضرب مثلاً للأمر يبلغ غايته في الشدة والصعوبة. والزبية: حفيرة تحفر في الأرض، وتغطى، ويجعل عليها طعم وهي بعيدة القعر. إذا وقع فيها شيء لم يستطع الخروج منها لبعد قعرها، فيراها السبع من بعيد، فيأتيها، فإذا استوى عليها انقض غطاؤها، فيهوي فيها، وأصلُها الرابية لا يَعْلُوها الماء فإذا بلغها السيلُ كان جارفا مُجْحفاً، يضرب لما جاوز الحد(3) .

و (أمر لا ينادي وليده)(4) ، معناه أنه أمرٌ عظيم لا يدعى فيه الصغار، وإنما يدعى فيه الكبار. وأصله في الشدة والجدب يصيب القوم حتى يذهل الأم عن ولدها فلا تناديه، ثم جعل مثلاً لكل شدةٍ وأمرٍ عظيم(5) .

و (غَمَراتٌ ثُمَّ يَنْجَلِينَ)(6) ، الغمرات: الشدائد، يضرب في احتمال الأمور العظام والصبر عليها يقول: إصبر في الشدائد فإنها ستنجلي وتذهب، ويبقى حسن أثرك في الصبر عليها، ويُقَال : إن المثل للأغلب العِجْلَي من قوله:

ص: 361


1- الاصمعي، کتاب الامثال، ص193، [رقم المثل436]؛ ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص97؛ العسكري، جمهرة الامثال، 1/ 220، [رقم المثل275]؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 166، [رقم المثل871]
2- شرح نهج البلاغة، 2/ 117
3- ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص47؛ العسكري، جمهرة الامثال، 1/ 220، [رقم المثل274]؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 91، [رقم المثل436]
4- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 20/ 177
5- الاصمعي، کتاب الامثال، ص61، [رقم المثل103]؛ ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص37؛ العسكري، جمهرة الامثال، 2/ 407، [رقم المثل1917]؛ البكري، فصل المقال في شرح کتاب الامثال، 1/ 41؛ الميداني، مجمع الامثال، 2/ 390، [رقم المثل4516]
6- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 5/ 163

والغمراتُ ثم ينجلینا

ثمتَ يذهبنَ فلا يَجينا

لوکنَّ صمَّ جندلِ + يلينا(1)

ومن الأمثلة التي ذكرها ابن أبي الحديد والمتعلقة بحسن الجوار وحسن إكرامه (جارٌ کَجَارِ أبي دُوادٍ) والتي علق عليها على كلام الإمام عليه السلام:

«اَللهَ اَللهَ فِي جِيرَانکُمْ فَإِنَّهُمْ وَصِیَّةُ نَبيَّکُمْ مَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَیُوَرَّتُهُمْ»(2) .

وذكر ابن أبي الحديد : وكانت العرب إذا حمدت جارا قالت (جار کجار أبي دواد)، هو كعب بن مامة الإيادي كان إذا جاوره رجل فمات وداه وإن هلك عليه شاة أو بعير أخلف عليه فجاوره أبو دواد الإيادي فأحسن إليه فضرب به المثل(3) .

وذكر الضبي قصة مختلفة للمثل اذ يقول جار أبي دواد الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان، وكان أبو دواد في جواره فخرج صبيان الحي يلعبون في غدير فغمسوا بني أبي دواد فمات، فخرج الحارث فقال: لا يبقى في الحي صبي إلا غرقته في الغدير، فودي ابن أبي دواد لذلك عدة ديات(4) .

ومن الأمثلة التي تضرب لمن يغالط فيما لا يخفي، ومن يكون ذا منظر ولا خير فيه

ص: 362


1- ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص78؛ العسكري، جمهرة الامثال، 2/ 80، [رقم المثل1288]؛ الميداني، مجمع الامثال، 2/ 58، [رقم المثل2668]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 2/ 178، [رقم المثل602]
2- شرح نهج البلاغة، 17/ 7، کتب ورسائل [47]
3- شرح نهج البلاغة، 20/ 163؛ ينظر المثل عند الميداني، مجمع الامثال، 1/ 163، [رقم المثل848]
4- امثال العرب، ص91

ذكر ابن أبي الحديد عدة أمثلة منها (أُرِيها السُها وتُرِيني القمر)(1) ، يضرب مثلاً لمن تخاطبه فيبعد في الجواب، فلا يستطيع أن يدرك إلا الأشياء الواضحة كوضح القمر وقيل يضرب لمن اقترح على صاحبه شيئا فأجابه بخلاف مراده، وأصله أن رجلا كان يكلم امرأة بالخفي الغامض من الكلام وهي تكلمه بالواضح البين فضرب السهى والقمر مثلا الكلامه وكلامها(2) ، وذكر الجوهري في الصحاح (السُها کوکبٌ خفيّ في بنات نعشِ الكبرى والناس يمتحنون به أبصارهم)(3) .

وهذا النص يبين لنا أن العرب وحتى البسطاء منهم كانوا على دراية وعلم بالكواكب والنجوم حتى الصغيرة منها والتي لا يمكن أن تراها العين إلا بصعوبة فيمتحنون الناس برؤيتها عن بعد، ومن أمثالهم الأخرى (ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل)(4) .

يضرب مثلاً للرجل له منظر ولا خَيْر عنده، والدخل: ما يبطن في الشيء. يقال: شيء مدخول، إذا كان فاسد الجوف. وقيل أولُ من قالت ذلك عَثْمَة بنت مَطْرودِ البُجَيْلِيَّة وكانت ذاتَ عقلٍ ورأي مستمع في قومها وكانت لها أخت يقال لها خود وكانت ذات جَمَال ومِيسَم وعَقْل وأن سبعة إخوة من الأزْد خطَبوها فقال أبوها: أخبروني عن أفضلكم فوصفتهم ربيتهم الشعثاء الكاهنة بأوصاف كل منهم فشاورت أختها فهيم فقالت أختها عَثْمَةُ: ترى الفِتيان كالنخل وما يدريك ماالدَّخْل انكِحِي في

ص: 363


1- شرح نهج البلاغة، 13/ 229
2- العسكري، جمهرة الامثال، 1/ 142، [رقم المثل133]؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 291، [رقم المثل1545]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 1/ 147، [رقم المثل579]
3- ص546، [لمادة سها]
4- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2/ 8

قومك ولا تغررك الأجسام(1) ، وذكر الجاحظ قول أحدهم: ترى الفتيانُ كالنخلِ *** وما يُدريكَ ما الدخلُ

وليسَ الشأنُ في الوصلِ *** ولكن يُعرَفِ الفضلُ(2)

ووردت في أمثال العرب أسماء العديد من الحيوانات التي كانوا يبصرونها في حياتهم اليومية فانساقت في أمثالهم قصصاً معبرة استخدموها للموعظة والتعبير عن الرأي وقد ذكر ابن أبي الحديد قسماً منها في شرحه لنهج البلاغة منها، (أحمق من حمامة) وقال ابن أبي الحديد إنها مع حمقها مهتدية إلى مصالح نفسها وفراخها، سُئل شيخ من العرب من علمك هذا؟ قال علمني الذي علم الحمامة على بلهها تقليب بیضها كي تعطي الوجهين جميعا نصيبهما من الحضن(3) ، وقيل في كتب الأمثال ومن حمقها أنها تحتضن بيض غيرها وتضيع بيض نفسها، وقيل إنها تبيض على ثلاثة أعواد ضعيفة فيسقط بيضها أدني ريح تهب(4) ، وقيل (أحمق من الضبع)(5) ، و (ما أخفی من سفاد الغراب)، وذكر ابن أبي الحديد، إن العرب تزعم أن الغراب لا يسفد فيزعمون أن اللقاح من

ص: 364


1- ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص52؛ العسكري، جمهرة الامثال، 1/ 271، [رقم المثل374]؛ البكري، فصل المقال في شرح کتاب الامثال، 1/ 194؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 137، [رقم المثل685]
2- ابو عثمان بن بحر (ت255ه)، رسائل الجاحظ، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي،، (القاهرة1964)، 2/ 363
3- شرح نهج البلاغة، 9/ 143
4- ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص8؛ العسكري، جمهرة الامثال، 1/ 342؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 225، [رقم المثل1198]؛ الحجوي، محمد بن محمد، الدلالات الاجتماعية والتربوية في الأمثال العربية، مجلة آفاق الثقافة والتراث، العدد الخامس والخمسون، دبي، 2006، ص29
5- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1/ 213؛ ينظر المثل (لا اكون كالضبع تسمع اللدم حتی تصاد)، ص234من الرسالة

مطاعمة الذكر والأنثى منهما وإنتقال جزء من الماء الذي في قانصته إليها من منقاره(1) ، وقال الزمخشري (من حذره أنه يخفي سفاده لئلا يعلم أنه ذو عش وفراخ فيطلب)(2) .

ويقولون (هُمْ في خَيْرٍ لاَ يَطِيرُ غُرَابُهُ) يريدون أنهم في خير كثير وخصب عظيم فيقع الغراب فلا ينفر لكثرة الخصب(3) ، وهو مثل يضرب لمن كان في خير وخصب، لأن الغراب إذا وقع في أرض مخصبة لا يطير عنها(4) .

وذكر ابن أبي الحديد انهم يقولون (زوده زاد الضب) أي لم يزوده شيئا لأن الضب لا يشرب الماء وإنما يتغذى بالريح والنسيم ويأكل القليل من عشب الأرض(5) ، ذكر ابن رفاعة المثل (حتى لا يرد الضب) وقال الضب لا يرد لأنه لا يشرب الماء(6) . ويقولون (به داء الظبي) أي لا داء به لأن الظبي صحيح لا يزال والمرض قل أن يعتريه(7) ، قال الشاعر:

ولا تجهمینا أم عمرو فإننا *** بنا داء الظبي لم تَخُنْهُ عوامِلُه(8)

ولا تخلو الظباء من الأدواء كسائر الحيوان، ولكن لما رأتها العرب تفوت الطالب،

ص: 365


1- شرح نهج البلاغة، 9/ 207
2- المستقصی من امثال العرب، 1/ 62، [رقم المثل224]
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 20/ 177
4- الميداني، مجمع الامثال، 2/ 393، [رقم المثل4534]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 2/ 399، [رقم المثل1480]
5- شرح نهج البلاغة، 20/ 165
6- کتاب الامثال، ص56
7- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 20/ 177
8- عقیل، محسن، موسوعة الأمثال العربية، دار المحجة البيضاء، (بیروت2012)،، ص105

ولا يقدر على لحاقها المجتهد نسبوا ذلك إلى صحة أجسامها، فقالوا: لا داء به(1) ، وذكر ابن أبي الحديد مثلاً آخر قريباً من المثل السابق وهو (به داء الذئب) أي الجوع(2) ، وفي كتب الأمثال (أجوع من الذئب) وهو دهره جائع وذلك لأنه لا يأكل إلا ما يصيد، ولا يرجع إلى فريسته فإذا اشتد جوعه استقبل النسيم حتى يمتلىء جوفه منه فيكتفي به، ويقولون (رماه الله بداء الذئب) يعنون الموت وذلك أن الذئب لا تصيبه علة إلا علة الموت(3) .

وذكر ابن أبي الحديد المثل (و ما أخشى بالذئب)(4) ، وهو في كتب الأمثال (لقد كنت وما أخشى بالذئب) يقوله الرجل يذل بعد العز، وأصله في الرجل يخرف، فيصير بمنزلة الصبي، فيفزع بمجيء الذئب، قيل المثل لَقَبَاثِ بن أشْيَمَ الكناني، عمَّر حتى أنكروا عَقْله، وكانوا يقولون له : الذئبَ الذئب، فَقَالوا له يوماً وهو غير غائب العقل، فَقَال: قد عشتُ زماناً وما أخشى بالذئب، فذهبت مَثَلاً(5) .

وذكر ابن أبي الحديد أن العرب قالت : (أصبح فلان على قرن أعفر)، وهو الظبي إذا أرادوا أصبح على خطر وذلك لأن قرن الظبي ليس يصلح مكانا، فمن كان عليه فهو على خطر قال إمرؤ القيس:

ولا مثلَ يومَ بالعظالى قطعته *** كأني وأصحابي على قرنِ أعفرا(6)

ص: 366


1- العسكري، جمهرة الامثال، 1/ 213، [رقم المثل263]
2- شرح نهج البلاغة، 20/ 177
3- العسكري، جمهرة الامثال، 1/ 332، [رقم المثل500]؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 287، [رقم المثل1523]
4- شرح نهج البلاغة، 10/ 6
5- ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص81؛ العسكري، جمهرة الامثال، 2/ 182؛ الميداني، مجمع الامثال، 2/ 180 ، [رقم المثل3257]
6- شرح نهج البلاغة، 20/ 177

وذكر الميداني أي على مَرْكَب وَعْر، وذكر قول الكُمَيت:

وكنَّا إذا جَبَّار قومٍ أرادنا *** بكَيْدٍ حَمَلْناه علی قَرْنِ أعْفَرَا

يقول : نقتله ونحمل رأسه على السَّنان وكانت الأسِنَّهُ من القرون فيما مضى من الزمان(1) .

وذكر ابن أبي الحديد المثل (كل الصيد في جوف الفرا)(2) ، وهو مثل قديم أصله في كتب الأمثال أن قوماً خرجوا للصيد، فصاد أحدهم ظبياً، وآخر أرنباً، وآخر فرا، وهو الحمار الوحشي، فقال لأصحابه (كل الصيد في جوف الفرا)، أي هذا الذي رُزِقْتُ وظَفِرْتُ به أكبر الصيد يشتمل على ما عندكما وذلك أنه ليس مما يصيده الناس أعْظَمُ من الحمار الوحشي(3) .

وذكر ابن أبي الحديد (لا عشت إلا عيش القراد) مثلا يضربونه في الشدة والصبر على المشقة، ويزعمون أن القراد يعيش ببطنه عاما وبظهره عاما، ويقولون إنه يترك في طينة ويرمي بها الحائط فيبقى سنة على بطنه وسنة على ظهره ولا يموت قال بعضهم:

فلا عشت إلا كعيشِ القرادِ *** عاماً ببطنٍ وعاماً بظهرِ(4)

ص: 367


1- مجمع الامثال، 1/ 213، [رقم المثل1144]
2- شرح نهج البلاغة، 9/ 214
3- ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص80؛ العسكري، جمهرة الامثال، 2/ 162، [رقم المثل1450]؛ البكري ، فصل المقال في شرح کتاب الامثال، 1/ 10؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 136، [رقم المثل3010]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 2/ 224، [رقم المثل756]
4- شرح نهج البلاغة، 19/ 333

وقيل في كتب الأمثال، ربما رحل الناس عن ديارهم بالبادية وتركوها قفاراً، والقردان منتشرة في مكان الإبل، ثم لا يعودون إليها عشر سنين وعشرين سنة، ولا يخلفهم فيها أحد سواهم، ثم يرجعون إليها فيجدون القردان في تلك المواضع أحياء، وقد أحست بروائح الإبل قبل أن توافي فتتحرك لها، ولذلك قالت العرب (أعمر من قراد)، والعرب تزعم أن القراد يعيش سبعمائة سنة(1) ، وقد فند الدميري هذا القول بقوله (وهذا من أكاذيبهم، وإنما الضجر منهم به دعاهم إلى هذا القول فيه)(2) .

ومن أمثلتهم الأخرى التي ذكرها ابن أبي الحديد ضمن فصل في ألفاظ الكنايات وذكر الشواهد عليها (قيد بفلان البعير) و (لقد كنت وما يقاد بي البعير)(3) ، وهي أمثلة تضرب مثلاً للرجل يسن ويضعف فيتهاون به أهله، والمثل لسعد بن زيد مناة بن تميم، وذلك أنه كبر وضعف، ولم يطق الركوب إلا أن يقاد به، فقال يوماً وابنه يقود به ويقصر: قد لا يقاد بي الجمل، معناه، قد صرت لا يقاد بي الجمل(4) .

ومن الأمثلة الأخرى التي ذكرها ابن أبي الحديد (ذق عقعق)(5) ، وذكر ابن رفاعة (اي ذق عقوبة عقوقك أباك ياعاق، وأصله أن رجلاً كان له ولد يعقه فولد لولده ولد يعقه فقال له أبوه ذلك)(6) ، وقيل العقعق : طائر على قدر الحمامة هو شبه النعامة في

ص: 368


1- العسكري، جمهرة الامثال، 2/ 124، [رقم المثل1377]؛ الميداني، مجمع الامثال، 2/ 50، [رقم المثل2632]، الدميري، حياة الحيوان الكبرى، 2/ 338
2- حياة الحيوان الكبرى، 2/ 338
3- شرح نهج البلاغة، 20/ 160
4- الضبي، أمثال العرب، ص75؛ ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص81؛ العسكري، جمهرة الامثال، 2/ 118، [رقم المثل1364]؛ البكري، فصل المقال في شرح کتاب الامثال، 1/ 33؛ الميداني، مجمع الامثال، 2/ 179، [رقم المثل3254]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 2/ 192، [رقم المثل650]
5- شرح نهج البلاغة، 9/ 89
6- الامثال، ص62

إضاعة بيضها وفراخها وفيه طيش لا يكاد يكون في سائر الطير، والعرب تضرب به المثل فيما لا يحمد فقيل (أحْمَقُ مِنْ عَقْعَقٍ)(1) .

وذكر ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة مثلاً آخر هو (فما انتطح فيه عنزان)(2) ، وهو في كتب الأمثال مثل يضرب للأمر يقع ولا يختلف فيه اثنان، وقيل يضرب مثلا للأمر يبطل ويذهب فلا يكون له طالبٌ(3) .

وقد كثرت القصص التي تتحدث عن مجازاة الاحسان بالإساءة وصورها العرب بمجموعة من الأمثال التي ملأت كتبهم منها (سمن كلبك يأكلك)، و (أحشك وتروثني) وذكرهما ابن أبي الحديد(4) تأكيداً على كلام الإمام (عليه السلام) (وداعي مسدده إلى النضال)، والمثل الأول يضرب مثلاً لسوء الجزاء، ومثله قول الشاعر:

هُم سمَّنوا كلباً ليأكلَ بعضَهُم *** ولو عَمِلوا بالحزمِ ما سمَّنوا الكلبا

أول من قال ذلك حازم بن المنذر الحمَّاني وذلك أنه وجد طفلاً فرحِمَه وحَمَله حتى أتی به منزله وأمر أمةً له أن ترضعه فأرضعته حتى فطم وأدرك فجعله راعيا لغنمه وسَمَّاه جُحَيْشاً فكان يرعى الشاء والإبل فوجده يوماً مع ابنته رَعُوم فلما رآهما قال:

ص: 369


1- العسكري، جمهرة الامثال، 1/ 395، [رقم المثل614]؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 266، [رقم المثل1200]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 1/ 83، [رقم المثل316]
2- 15/ 157
3- العسكري، جمهرة الامثال، 2/ 403، [رقم المثل1910]؛ الميداني، مجمع الامثال، 2/ 225، [رقم المثل3550]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 2/ 277، [رقم المثل963]
4- شرح نهج البلاغة، 15/ 143

سَمَّنْ كَلْبَكَ يأكلك فأرسلها مثلا وشدَّ على جُحَيش بالسيف فأفلت(1) . والمثل الثاني تذکر کتب الامثال انه لرجل يخاطب فرسه، يقول: أجز له الحشيش، وأعلفه إياه، وهو یروث عليه، يضرب لمن يَكْفُر إحسانك إليه(2) .

ومن الأمثلة التي ارتبطت بالأمور والقصص الشهيرة التي لا تستر، والتي ذكر قسماً منها صاحب شرح نهج البلاغة في فصل في الفاظ الكنايات، وذكر الشواهد عليها تعليقاً على بعض الكنايات التي ذكرها الإمام عليه السلام في حكمه ومواعظه منها قولهم (ما يوم حليمة بسرٍ)، وذكر ابن أبي الحديد (يوم حليمة يوم التقى المنذر الأكبر والحارث الغساني الأكبر وهو أشهر أيام العرب يقال إنه ارتفع من العجاج ما ظهرت معه الكواكب نهاراً، وحليمة اسم امرأة أضيف اليوم إليها لأنها أخرجت إلى المعركة مراكن الطيب فكانت تطيب بها الداخلين إلى القتال فقاتلوا حتى تفانوا)(3) .

وذكر ابن أبي الحديد المثل (کفی برغائها نداء)(4) وفي كتب الأمثال عند العرب (کفی برغائها منادياً) يضرب لقَضَاء الحاجة بظهور إمارات المحتاج الموجب قضاء حاجته قبل سؤله، ويضرب أيضاً للرجل تحتاج إلى نُصرته أوْمَعُونَته فلا يحضرك ویعتلُّ بأنه لم يعلم،

ص: 370


1- الضبي، امثال العرب، ص160؛ ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص20؛ العسكري، جمهرة الامثال، 1/ 525، [رقم المثل952]؛ البكري، فصل المقال في شرح کتاب الامثال، 1/ 489؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 333، [رقم المثل1787]
2- ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص34؛ العسكري، جمهرة الامثال، 1/ 110، [رقم المثل103]؛ البكري، فصل المقال في شرح کتاب الامثال، 1/ 418؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 200، [رقم المثل1055]
3- شرح نهج البلاغة، 20/ 159؛ ينظر المثل في كتب الامثال، الضبي، أمثال العرب ص170؛ ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص105؛ العسكري، جمهرة الامثال، 2/ 233، [رقم المثل1606]؛ البكري، فصل المقال في شرح کتاب الامثال، 1/ 127؛ الميداني، مجمع الامثال، 2/ 272، [رقم المثل3814]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 2/ 340، [رقم المثل1247]
4- شرح نهج البلاغة، 20/ 159

وأصله أن ضيفاً أناخ بفناء رجل، فجعلت راحلته ترغو، فقال الرجل : ما هذا الرغاء؟ أضيفٌ أناخ بنا فلم يعرفنا مكانه؟ فقدم قراه، فقال الضيف: (کفی برغائها منادياً)(1) .

ومنها (مَا اسْتَتَرَ مَنْ قَادَ الْجَمَلَ)(2) ، قال القلاخ:

أنا القلاخُ بن جنابِ بن جلا *** أبو خناثيرٍ أقودُ الجَمَلا(3)

أي أنا ظاهر غير خفي والخناثير الدواهي.

ومن أمثالهم في الشؤم التي ذكرها ابن أبي الحديد (وكانت عليهم کراغية البكر)(4) ، وفي كتب الأمثال يعني بكر ثمود حِیَن رماها صاحبهم فرغا عند الرمية أنزل الله بهم سخطه عند قتل الناقة وبكرها، قال النابغة لرجل من الأشعريين:

رأيتُ البكرَ بكرَ بني ثمودٍ *** وأنتَ أراكَ بکرَ الأشعرينا(5)

ومن الأمثلة الأخرى التي كانت متداولة عند العرب قبل الإسلام (باءت عرار بکحل)، وذكر ابن أبي الحديد أنهما بقرتان قتلت أحدهما بالأخرى(6) ، وفي كتب

ص: 371


1- الضبي، أمثال العرب ص170؛ ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص89؛ العسكري، جمهرة الامثال، 2/ 151، [رقم المثل1429]؛ الميداني، مجمع الامثال، 2/ 142، [رقم المثل3033]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 2/ 221، [رقم المثل744]
2- شرح نهج البلاغة، 20/ 159
3- الميداني، مجمع الامثال، 2/ 301، [رقم المثل4023]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 2/ 311، [رقم المثل1117]
4- شرح نهج البلاغة، 2/ 26
5- الاصمعی، کتاب الامثال، ص199، [رقم المثل542]؛ ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص88؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 2/ 200، [رقم المثل713]
6- شرح نهج البلاغة، 9/ 68

الامثال عرار وكحل، ثور وبقرة كانا في سبطين من بني اسرائيل، فقعر كحل فقعرت به عرار، فوقع الشر بينهم حتی کادوا أن يتفانوا، فضربت العرب بهما مثلاً(1) .

ومن أمثال العرب التي تضرب للتفاضل بين أمرين تكون الأفضلية لأحدهما عن الآخر ذكر ابن أبي الحديد المثل (مرعي ولا کالسعدان)(2) وذلك تعليقاً على كلام الإمام عليه السلام الذي يقول فيه:

«وَاَللهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ اَلسَّعْدَانِ مُسَهَّداً أو اُجَرَّ فِي اَلْأَغْلاَلِ مُصَفَّداً أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اَللَه ورَسُولَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ اَلْعِبَادِ وغَاصِباً لِشَيْءٍ مِنَ اَلْحُطَامِ»(3) .

وقال ابن أبي الحديد (السعدان نبت ذو شوك يقال له حسك السعدان وحسكة السعدان وتشبه به حلمة الثدي فيقال سعدانة الثندوة، وهذا النبت من أفضل مراعي الإبل)(4) ، وفي كتب الأمثال هو لامرأةٍ من طییء، تزوجها امرؤ القيس بن حجر، وكان مفرکا، لا يكاد يحظي عند امرأة فجعلت المرأة تعرض عنه، فقال لها يوماً: أين أنا من زوجك الأولِ؟ فقالت : (مرعي ولا کالسعدان) أي إنك وإنَّ كنت رضاً فلست كفلان(5) .

ومن أمثلة العرب حول الأمر الشديد لا يردعه إلا أمر أشد منه ذكر ابن أبي الحديد

ص: 372


1- الضبي، أمثال العرب ص107؛ العسكري، جمهرة الامثال، 1/ 226، [رقم المثل291]؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 91، [رقم المثل438]
2- شرح نهج البلاغة، 11/ 189
3- شرح نهج البلاغة، 11/ 188، [رقم الخطبة219]
4- شرح نهج البلاغة، 11/ 189
5- لضبي، أمثال العرب ص127؛ ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص112؛ العسكري، جمهرة الامثال، 2/ 242، [رقم المثل1619]؛ البكري، فصل المقال في شرح کتاب الامثال، 1/ 199؛ الميداني، مجمع الامثال، 2/ 275، [رقم المثل3836]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 2/ 244، [رقم المثل1259]

مجموعة من الأمثال منها (صَادَفَ دَرْءُ السَّيْلِ دَرْءًا يَصْدَعُه)، الدَّرء: الدَّفْع ويسمى ما يُحْتَاج إلى دفعه من الشر دَرْءاً ويعني به ههنا دفعات السيل، أي صادف الشر شرّاً يغلبه(1) .

وعندما ذكر ابن أبي الحديد کلام الإمام عليه السلام:

«رُدُّوا اَلْحَجَرَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ فَإِنَّ اَلشَّرَّ لاَ يَدْفَعُهُ إِلاَّ اَلشَّرُّ»(2) .

قال هذا مثل قولهم في المثل (الحديد بالحديد يُفْلَح). قال عمرو بن كلثوم(3) :

ألا لا يجهلَنْ أحدٌ عليَنا *** فَنَجهلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا(4)

وفي كتب الأمثال ضرب المثل من باب الرجل النجيد يلقي قرنه في البسالة والنجدة ويقولون: إن الصعب لا يلينه إلا الصعب، والفلح : الشق، فلحت الشيء: شققته، ويقال للزارع الفلاح؛ لأنه يشق الأرض، قال الشاعر:

قومُنا بعضُهُم يقتلُ بعضاً *** لا يفلُّ الحديدَ إلاّ الحديدهُ(5)

ومنها المثل (وفي الشر نجاة حين لا ينجيك إحسان) وذكره الفند الزماني في حرب

ص: 373


1- شرح نهج البلاغة، 14/ 96؛ ينظر المثل عند الميداني، مجمع الامثال، 1/ 394، [رقم المثل2090]
2- شرح نهج البلاغة، 19/ 181، حكم وامثال [320]
3- الديوان، تحقیق اميل بديع يعقوب، ط2، دار الكتاب العربي، (بیروت1996)، ص78
4- شرح نهج البلاغة، 19/ 181
5- ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص25؛ العسكري، جمهرة الامثال، 1/ 345، [رقم المثل522]؛ البكري، فصل المقال، 1/ 134؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 11، [رقم المثل13]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 1/ 403، [رقم المثل1717]، عبد الرحمن، منصور، الحكمة والامثال عند العرب، دار الفارابي، (بیروت2011)، ص872

البسوس بأبيات شعر ذكرها ابن أبي الحديد منها: فلمّا صرَّحَ الشرُّ *** فأمسى وهوَ عريانُ

ولم يبقَ سوى العدوانِ *** دنَّاهم كما دانوا

وبعضُ الحلمِ عندَ الجهلِ *** للذلَّةِ إذعانُ

وفي الشرِ نجاةٌ حينُ *** لا يُنجيكَ إحسانُ(1)

وفي كتب الأمثال قيل (إنَّ فيِ الشَّرَّ خِیاراً)، والمثل معناه أن بعض الشر أهون من بعض، قال طرفة بن العبد:

أيا منذرٍ أفنيتَ فاستَبِقْ بعضَنا *** حنانَيْكَ بعضُ الشرَّ أهونُ من بعضِ(2)

ومن الأمثلة الأخرى (كفَقْعٍ قرقر) وقد ذكرها ابن أبي الحديد تعليقاً على كلام الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام لأصحابه بعد أن خذلوه في مقاتلة معاوية الذي كان يشن عليهم الغارات:

«لاَ أَبَا لِغَیْرِکُمْ! مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِکُمْ، واَلْجِهَادِ عَلَى حَقَّكُمْ! اَلْمَوْتَ أو الذُّلَّ لَكُمْ! فَوَاللهِ لَئِنْن جَاءَ يَومِي- ولَيَأتِيَنَّي- لَيُفَرَّقَنَّ بَيْنِي وبَيْنِکُمْ»(3) .

فقال ابن أبي الحديد (قوله الموت أو الذل لكم دعاء عليهم بأن يصيبهم أحد الأمرين كأنه شرع داعيا عليهم بالفناء الكلي وهو الموت ثم استدرك فقال أو الذل لأنه نظیرِ

ص: 374


1- شرح نهج البلاغة، 19/ 181
2- العسكري، جمهرة الامثال، 1/ 67، [رقم المثل44]؛ البكري، فصل المقال في شرح کتاب الامثال،1/ 244؛ الميداني ، مجمع الامثال، 1/ 11، [رقم المثل12]
3- شرح نهج البلاغة، 10/ 54، [خطبة181]

الموت في المعنى ولكنه في الصورة دونه ولقد أجيب دعاؤه عليه السلام بالدعوة الثانية فإن شيعته ذلوا فيما بعد في الأيام الأموية حتى كانوا كفَقْعِ قرقر)(1) ، وقيل في الأمثال القديمة (أذل من فقع بقرقر) والفقع ضرب من الكمأة أبيض يظهر على وجه الأرض فيوطأ والكمأة السوداء تستتر في الأرض، وقيل حمام فقيع لبياضه، والقرقر: القاع الأملس، ويقال للذي لا أصل له فقع، لأن الفقع لا أصول له أي لا عروق، وهو لا يمتنع على من اجتناهُ، ويقال : بل لأنه يُوطَأ بالأرجل(2) ، قال النابغة الذبياني يهجو النعمان بن المنذر:

حَدّثُونِي بني الشَّقِيقَةِ مَا یَمْنَعُ *** فَقْعاً بِقَرْقَرِ أن یَزُولا(3)

والمثل (أنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ وَعُذَیْقُها الُمرَجَّبُ) من الأمثلة التي ذكرها ابن أبي الحديد(4) ، وفي كتب الأمثال الجُذَيْل: تصغير الْجِذْل وهو أصل الشجرة. والمحكَّكُ: الذي تتحكك به الإبل الْجَرْبي وهو عُود ينصب في مَبَارك الإبل تتمرَّسُ به الإبل الْجَرْبی، والعُذَيْق: تصغير العَذْق- بفتح العين- وهو النخلة، والمرجَّب: الذي جعل له رُجْبَة وهي دِعامة تُبْنَى حولَها من الحجارة وذلك إذا كانت النخلة كريمةَ وطالت تخوَّفوا عليها أن تنقعر من الرِياح والعواصِفِ، وهذا المثل قيل لمن يريد ان يُسْتَشْفَي برأيه

ص: 375


1- شرح نهج البلاغة، 10/ 56
2- الاصمعی، کتاب الامثال، ص75، [رقم المثل136]؛ العسكري، جمهرة الامثال، 1/ 469، [رقم المثل834]؛ البكري، فصل المقال في شرح کتاب الامثال، 1/ 438؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 284، [رقم المثل1503]
3- الديوان، ص131
4- شرح نهج البلاغة، 2/ 22

وعَقْله ويرمز إلى مكانة المتمثل به في قومه وعشيرته(1) .

ومن الأمثلة الأخرى التي كانت العرب توصي بها، هي اتباع من يأمرك بالرشاد والصلاح وإن كان يغيظك ويثقل عليك، ولاتتبع من يسير على هواك، فقالوا (أمْرَ مُبْكِيَاتِكِ لا أمْرَ مُضحِكاتِكِ)، وقد ذكره ابن أبي الحديد تعليقاً على كلام الإمام عليه السلام :

«مَنْ حَذَّرَكَ کَمَنْ بَشَّرَكَ».

بقوله: هذا مثل قولهم (اتبع أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك)(2) وقصة المثل في كتب الأمثال أن فتاة من بنات العرب كانت لها خالات وعمّات فكانت إذا زارت خالاتها اَلْهَيْنَها وأضحكنها، وإذا زارت عماتها أَدَّبْنها وأخَذْن عليها فقالت لأبيها: إن خالاتي يلطفنني وإن عماتي يبكينني فقال أبوها وقد علم القصة: أَمْرَ مبكياتك أي الزمي واقبلي أمر مبكياتك(3) .

ومن الأمثلة التي تضرب في سرعة الاتفاق بين الرجلين والأمرين قولهم (التقى الثريان)، وذكر ابن أبي الحديد أن العرب تقول: (التقى الثريان، في الأمرين يأتلفان ويتفقان)(4) ، والثرى التراب الندي في بطن الوادي، فإذا جاء المطر وسح في بطن الوادي حتى يلتقي نداه والندى الذي في بطن الوادي يقال التقى الثريان، وفي كتب الأمثال

ص: 376


1- الاصمعي، کتاب الامثال، ص68، [رقم المثل118]؛ ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص35؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 31، [رقم المثل125]
2- شرح نهج البلاغة،18/ 155، [ح م57]
3- ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص23؛ العسكري، جمهرة الامثال، 1/ 82، [رقم المثل66]؛ البكري، فصل المقال في شرح کتاب الامثال، 1/ 319؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 30، [رقم المثل116]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 2/ 362، [رقم المثل1557]
4- شرح نهج البلاغة، 20/ 475

يضرب مثلاً الاتفاق الأخوين في التحاب، فشبه سرعة اتفاق المتفقين على المودة بعد تباينهما بالماء ينزل من السماء، فيلتقي مع ما تحت الأرض(1) .

ومن الأمثلة المشهورة (تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها)، وقد ذكرها ابن أبي الحديد بعد ذكره كلام الإمام عليه السلام: «اَلْعَفَافُ زِينَةُ اَلْفَقْرِ واَلشُّكْرُ زِينَةُ اَلْغِنَى»(2) .

وهو في كتب الأمثال يضرب مثلاً للرجل يصون نفسه في الضراء، ولا يدخل فيما يدنسه عند سوء الحال، ومعناه أن الحرة تجوع ولا تكون ظئراً أي خادمة لقوم على جعل تأخذ منهم، فيلحقها عيب ومعناه عندهم الرضاع، وقيل: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها أي ولا تهتك نفسها، وتبدي منها ما لا ينبغي أن يبدي، وهو من أمثال أكثم بن صيفي وقيل للحارث بن السليل الأسدي، قاله لامرأته ریا بنت علقمة الطائي(3) .

ومن أمثلتهم الأخرى التي ذكرها ابن أبي الحديد (لاَ عِطْرَ بَعْدَ عَرُوسِ)(4) وفي كتب الأمثال يضرب لمن لا يُدَّخَرُ عنه نَفَيْسُ، وقيل عروس اسم رجل مات فحملت امرأته أواني العطر وقَالت : لا عِطْرَ بعد عَرُوس فذهبت مَثَلاً، ويقَال: إن رجلا من هذيل تزوج امرَأة فأهْدِيَتْ إليه فوجَدَها تَفِلة(5) ، فَقَال لها: أين الطيب؟ فَقَالت: خبأته فَقَال لها

ص: 377


1- ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص82؛ العسكري، جمهرة الامثال، 1/ 182، [رقم المثل207]؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 184، [رقم المثل3277]؛ اليوسي، زهر الأكم في الأمثال والحكم، 2/ 53
2- شرح نهج البلاغة، 18/ 170، [ح م67]
3- ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص50؛ العسكري، جمهرة الامثال، 1/ 261، [رقم المثل359]؛ البكري، فصل المقال في شرح کتاب الامثال،1/ 289؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 122، [رقم المثل619]
4- شرح نهج البلاغة، 6/ 72
5- التَّفَل: ترك الطيَّب، وامرأَة تَفِلة، أَي غير مُتَطَيَّبة وهي المنتنة الريح، ينظر ابن منظور، لسان العرب، 1/ 459

لا مخبأ لعطر بعد عروس فذهبت مَثَلاً(1) .

وكثيراً ما كانت الأمثال تضرب لتؤرخ حادثة تاريخية مهمة أو أسطورة نسجها خيال أو قصة تناقلتها الألسن، وقد ذكر لنا ابن أبي الحديد مجموعة من تلك الأمثال منها قول المهلهل لبجير (بُؤ بِشِسْعِ نَعْلِ کُلُيْبِ)(2) ، وفي كتب الأمثال أن المهلهل بن ربيعة قالها حين قتل بجبير بن الحارث ابن عباد بأخيه كليب وكان أبوه معتزلاً للحرب التي كانت بين بكر وتغلب ابني وائل، وهي حرب البسوس، ومعناه قم مقام شسعه فإنك لست ببواء له، وهو مثل يضرب في فرط ابتعاد الشيء عن الشيء حتى لا يعادل كله بعضه، ولما سمع أبوه الحارث بالقصة ومقالة المهلهل قال:

قرَّبا مربطَ النعامةِ منّي *** لقحتْ حربُ وائلَ عن حيالِ

لم أكنْ من جُناتِها عَلِمَ اللهُ *** وإنّي بحرَّها اليومَ صالِ

وتجرد لحرب تغلب فأبادهم حتى فر مهلهل، فهلك غريباً في غير دياره(3) . ومن الأمثلة التي ذكرها ابن أبي الحديد (جزاء سنمار)(4) ، وفي كتب الأمثال ضرب مثلاً لسوء الجزاء، وكان سنمار بنّاءً مجيداً من الروم، فبنى الخورنق(5) للنعمان بن امرئ القيس،

ص: 378


1- الاصمعي، کتاب الامثال، ص218، [رقم المثل506]؛ العسكري، جمهرة الامثال، 2/ 395، [رقم المثل1893]؛ البكري، فصل المقال في شرح کتاب الامثال، 1/ 426؛ الميداني ، مجمع الامثال، 2/ 211، [رقم المثل3491]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 2/ 263، [رقم المثل919]
2- شرح نهج البلاغة، 9/ 144
3- الضبي، أمثال العرب ص132؛ ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص48؛ العسكري، جمهرة الامثال، 1/ 226، [رقم المثل291]؛ البكري، فصل المقال في شرح کتاب الامثال، 1/ 305؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 2/ 1، [رقم المثل1]
4- شرح نهج البلاغة، 10/ 7
5- الخورنق قصر كان بظهر الحيرة بناء النعمان بن امرىء القیس، ملك ثمانين سنة وبني الخورنق في ستين سنة بناه له رجل من الروم يقال له سنمار فكان يبني السنتين والثلاث ويغيب الخمس سنين وأكثر من ذلك وأقل فيطلب فلا يوجد ثم يأتي فيحتج فلم يزل يفعل هذا الفعل ستين سنة حتى فرغ من بنائه، فقتله النعمان في القصة المعروفة، ينظر یاقوت الحموي، معجم البلدان، 4/ 257

فلما نظر إليه النعمان استحسنه، وكره أن يعمل مثله لغيره، وقيل قال له: إني لأعرفُ فيه حجرا لونُزع لتقوَّضَ من عند آخره فسأله عن الحجر فأراه موضعه، فألقاه من أعلى القصر فخّر ميتاً، فقال الشاعر:

جَزَتْنا بنو سعدٍ لحسنِ فعالِنا *** جَزاءَ سِنّمارٍ وما كانَ ذا ذنبِ(1)

وتعليقاً على كلام الإمام عليه السلام للأشعث:

«وَاَللهِ لَقَدْ أَسَرَكَ اَلْكُفْرُ مَرَّةً واَلْإِسْلَامُ أُخْرَى فَمَا فَدَاكَ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَالُك َولاَ حَسَبُكَ»(2) .

قال ابن أبي الحديد إن الاشعث في الجاهلية فدى بفداء يضرب به المثل فقال (أغلى فِدَاءً مِنَ الأَشْعَثِ)، وذلك أن مرادا لما قتلت قيسا الأشج خرج الأشعث طالبا بثأره، فخرجت كندة متساندين على ثلاثة ألوية على أحدها الأشعث فأخطئوا مرادا ولم يقعوا عليهم ووقعوا على بني الحارث بن کعب فقتل أصحابه وأسر الأشعث نفدي بثلاثة آلاف بعير لم يفد بها عربي بعده ولا قبله، فقال في ذلك عمرو بن معد يكرب الزبيدي:

فکانَ فداؤه ألفي بعيرٍ *** وألفا من طريفاتٍ وتلدِ(3)

ص: 379


1- الاصمعي، کتاب الامثال، ص109، [رقم المثل222]؛ ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص54؛ العسكري، جمهرة الامثال، 1/ 305، [رقم المثل441]؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 159، [رقم المثل828]
2- ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة، 1/ 269، [خطبة19]
3- شرح نهج البلاغة، 1/ 269- 270؛ ينظر المثل عند العسكري، جمهرة الامثال، 2/ 349، [رقم المثل1831]؛ الميداني، مجمع الامثال، 2/ 380، [رقم المثل4443]

ومن أمثالهم التي ذكرها ابن أبي الحديد (في كل واد بنو سعد)(1) ، وفي كتب الأمثال (أينما أوجه ألق سعدا)، ويضرب مثلا لاستواء القوم في الشر والمكروه. والمثل للأضبط بن قريع السعدي؛ وكان سيد قومه، فرأي منهم تنقصاً له، وتهاوناً به، فرحل عنهم ونزل بآخرين، فرآهم يفعلون بأشرافهم فعل قومه به، فقصد آخرين، فرآهم على مثل حالهم؛ فقال: أينما أوجه ألق سعدا، ورحل إلى قومه، وروي أنه قال: في كل واد بنو سعد(2) .

ومثل هذا المثل قول طرفة بن العبد:

كلُّ خليلٍ كنتُ خالُلْتُهُ *** لاتركَ اللهُ له واضحهْ

كلُّهمُ أروغُ من ثعلبٍ *** ما أشبهَ الليلةَ بالبارحةْ!(3)

وكان العرب يقولون لليلة الشديدة التي يطول فيها الشر (أَصْبِحْ لَيْلُ)، وهو مثل ذكره ابن أبي الحديد ونسبه إلى قيس بن عدي السهمي فقال (إن أمية كان تعرض لامرأة من بني زهرة، فضربه رجل منهم بالسيف فأراد بنو أمية ومن تبعهم إخراج زهرة من مكة فقام دونهم قيس بن عدي السهمي وكانوا أخواله وكان منيع الجانب، شدید العارضة، حمي الأنفس، أبي النفس، فقام دونهم وصاح (أصبح ليل) فذهبت مثلا)(4) ، ولكن في كتب الأمثال تنسب إلى قصة عن امرؤ القَيْس بن حجْر الكِنْدِيَّ الذي كان رجلا مفرَّكاً لا تحبه النساء، ولا تكاد امرأة تصبر معه فتزوج امرأة من طَيَّء فابتنى بها

ص: 380


1- ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة، 15/ 67
2- الاصمعي، کتاب الامثال، ص82، [رقم المثل155]؛ العسكري، جمهرة الامثال، 1/ 61، [رقم المثل361] الميداني، مجمع الامثال، 1/ 105، [رقم المثل526]
3- الديوان، ص17
4- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15/ 156

فأبغضته من تحت ليلتها وكرهت مکانها معه فجعلت تقول: يا خَيْرَ الفِتْيَانِ أصْبَحْتَ أصبحت فيرفع رأسه فينظر فإذا الليل كما هو فتقول: (أصْبَحْ لَيْلُ) فلما أصبح قال لها: قد علمتُ ما صنعتِ الليلَةَ وقد عرفتُ أن ما صنعتِ کان من كراهية مكاني في نفسك فما الذي كرهت مني؟ فقالت: ما كرهتُك فلم يَزَلْ بها حتى قالت: كرهت منك أنك خفيف العَزَلة، ثقيل الصدر، سريع الإراقة، بطيء الإفاقة، فلما سمع ذلك منها طَلَّقها وذهب قولها (أَصْبِحْ ليل) مثلاً(1) ، قال الأعشى الكبير:

وحتى يبيتَ القومُ كالضَّيْفِ لَيْلةً *** يَقُولُونَ أَصْبِحْ لَيْلُ والليلُ عَاتِمُ(2)

وكان الإمام قد ضرب مثلاً في الصبر والتأنّي والاستعداد في طلب الإنسان لحاجته فقال: (مَنْ تَذَكَّرَ بُعْدَ اَلسَّفَرِ اِسْتَعَدَّ)(3) ، وقد علَّق عليها ابن أبي الحديد بذكر مثلين مثله كانت العرب يتمثلون بهما وهما (الليل طويلٌ وأنت مقمرٌ)، و(عش ولا تغتر)(4) ، والمثل الأول في كتب الأمثال معناه إصبر على حاجتك فإنك تجدها في بقية ليلتك، فإنها طويلة وأنت مقمر، أي ليس فيها ظلمة تمنعك عن قصدها، والمثل لسليك بن سلكة التميمي كان من أشد فرسان العرب وأنكرهم وأشعرهم، كان نائماً مشتملاً، فبينا هو كذلك إذ جَثَم رجُلٌ على صَدْره ثم قال له: استأسِر، فقال له سليك : الليلُ طويل وأنت مقمر أي في القمر يعني أنك تجد غيري فَتَعَدّني فأبى، فلما رأى سُلَيك ذلك الْتَوَى

ص: 381


1- الضبي، أمثال العرب ص159؛ ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص20؛ العسكري، جمهرة الامثال، 1/ 192، [رقم المثل225]؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 403، [رقم المثل2132]، عقیل، محسن موسوعة الامثال العربية، ص54
2- میمون بن قيس، الديوان، ص179
3- شرح نهج البلاغة، 19/ 141، [ح م286]
4- شرح نهج البلاغة، 19/ 141

عليه وتخلص منه فذهب كلامه مثلاً(1) .

والثاني يضرب مثلاً للاحتياط والأخذ بالثقة في الأمور. وأصله أن رجلاً أراد أن يفوز بإبله عند الليل وهو في عشبٍ، فترك أن يعشيها منه، واتكل على عشب ظن أنه يجده في طريقه، فقيل له: عشَّها من هذا الحاضر ولا تغتر بالغائب، فلعله يفوتك. وجاء رجلٌ إلى ابن عباس فقال: كما لا تنفع مع الشرك حسنة فكذلك لا يضر مع الإيمان ذنب، فقال له ابن عباس: (عش ولا تغتر)، أي لا تغتر بهذه الشبهة، واعمل، فإن الإيمان قولٌ وعملُ(2) .

وذكر لنا ابن أبي الحديد کلام الإمام علي بن أبي عليه السلام:

«لِكُلَّ مُقْبِلٍ إِدْبَارُ ومَا أَدْبَرَ فَكَاَنْ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ»(3) ، وعلَّق عليه إن من كلام الجاهلية الأولى (كل مقيم شاخص وكل زائد ناقص)، قال الشاعر:

إنّما الدنيا دول

فراحلٌ قيلَ نزلْ

إذ نازلٌ قِيلَ رَحَل(4)

وكان الإمام عليه السلام قد ضرب مثلاً في المحافظة على كتمان السر وإنه منجاة لكل

ص: 382


1- الضبي، أمثال العرب ص62؛ ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص46؛ العسكري، جمهرة الامثال، 2/ 189، [رقم المثل1500]؛ البكري، فصل المقال في شرح کتاب الامثال، 1/ 339؛ الميداني، مجمع الامثال، 1/ 30، [رقم المثل117]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 1/ 344، [رقم المثل1476]
2- ابن رفاعة الكاتب، کتاب الامثال، ص76؛ العسكري، جمهرة الامثال، 2/ 46، [رقم المثل1198]؛ الميداني، مجمع الامثال، 2/ 16، [رقم المثل2432]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 2/ 162، [رقم المثل550]
3- شرح نهج البلاغة، 18/ 290، [ح م149]
4- شرح نهج البلاغة، 18/ 291؛ ينظر المثل عند الميداني، مجمع الامثال، 2/ 171، [المولدون]

شخص بقوله: (مَنْ كَتَمَ سِرَّهُ كَانَتِ اَلْخِيَرَةُ فِي يَدِهِ)(1) ، وقد علق عليها ابن أبي الحديد بقوله من أمثالهم (مقتل الرجل بين لحييه)، وقيل (أَشْأمُ كلَّ امْرِىءٍ بَيْنَ فَكَّيْهِ) وهما واحد يراد أن شؤم كل إنسان في لسانه، وللعرب أشياء جاءُوا بها على أفعل هي کالأسامي عندهم في معنى فاعل أو فَعِيل أو فَعِلٍ كقولهم : أشأمُ كل امرىء بين لحييه بمعنى شُؤم(2) ، وقيل أنها لأكثم بن صيفي(3) .

ومن أمثلتهم التي ذكرها ابن أبي الحديد(4) (ولو التقت حلقتا البطان)، وفي كتب الأمثال (التقى حلقتا البطان) وقيل (والتقى البطان والحقب)، البِطَان للقَتب الحِزَام : الذي يُجْعَل تحت بطن البعير وفيه حلقتان فإذا التَقَتَا فقد بلغ الشَّدُّ غايتَه، يضرب مثلاً للأمر يبلغ الغاية في الشدة والصعوبة، وأصله أن يحوج الفارس إلى النجاء مخافة العدو فينجو، فيضطرب حزام دابته، حتى يمس الحقب، ولا يمكنه أن ينزل فيصلحه. والبطان: حزام الرجل، وأكثر ما يستعمل للقتب. والحقب: النسعة التي تشد في حقو البعير، ويشد على حقيبته، والحقيبة : الرفادة تشد في مؤخر القتب، وكل شيء شددته في مؤخر قتبك أو رحلك فقد احتقبته، ثم كثر ذلك حتى قيل لمن اكتسب خيراً أو شراً: قد احتقبه(5) . قال أوس بن حجر:

وازدحمتْ حلقتا البطانِ *** بأقوامٍ وطارتْ نفوسهمْ جزعا(6)

ص: 383


1- شرح نهج البلاغة، 18/ 306، [ح م164]
2- شرح نهج البلاغة، 18/ 307؛ ينظر المثل عند الميداني، مجمع الامثال، 1/ 369، [رقم المثل1990]
3- ابن عبد ربه ، العقد الفريد، 3/ 82
4- شرح نهج البلاغة، 16/ 11
5- العسكري، جمهرة الامثال، 1/ 188، [رقم المثل215]؛ الميداني، مجمع الامثال، 2/ 185، [رقم المثل2392]؛ الزمخشري، المستقصی من امثال العرب، 1/ 306، [رقم المثل1316]
6- الديوان، ص54

ومن الأمثلة التي ذكرها ابن أبي الحديد (فإنَّ القَرِينَ بِالُمقَارِنِ يَقْتَدِي)، وفي كتب الأمثال معناه: أنك منسوبٌ إلى خليلك فانظر من تخال(1) . قال عدي بن زيد:

عن المرء لا تسألْ وسَلْ عن قرينِهِ *** فكلُّ ذث قرين بالمقارنِ يقتدي(2)

ص: 384


1- العسكري، جمهرة الامثال، 2/ 188، [رقم المثل1635]؛ البكري، فصل المقال في شرح کتاب الامثال، 1/ 164؛ الميداني، مجمع الامثال، 2/ 218، [رقم المثل3528]
2- الديوان، ص106

الفصل الرابع

الحياة الاقتصادية عند العرب قبل الإسلام

المبحث الأول: النشاطات الاقتصادية عند العرب قبل الإسلام

المبحث الثاني: اسواق العرب قبل الإسلام

ص: 385

ص: 386

المبحث الأول: النشاطات الاقتصادية عند العرب قبل الإسلام

ذكر الامام علي بن أبي طالب عليه السلام حال العرب قبل الإسلام في إحدى خطبه فقال عليه السلام:

«تَاَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ لَيَالِيَ كَانَتِ اَلْأَكَاسِرَةُ وَ اَلْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ اَلأْفَاقِ وَ بَحْرِ اَلْعِرَاقِ وَ خُضْرَةِ اَلدُّنيَا إلى مَنَابِتِ اَلشَّيحِ وَ مَهَافِي اَلرَّيحِ وَنَكَدِ اَلْمَعَاشِ فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاکِينَ إِخْوَانَ دَبَرٍ وَ وَبَرٍ أَذَلَّ اَلْأُمَمِ دَاراً وَ أَجْدَبَهُمْ قَرَاراً(1) »(2) .

ومن خلال قراءتنا لهذا النص يبدو أنّ الأمم الكبرى المسيطرة على المنطقة انذاك استخدمت ضغطاً كبيراً لدفع العرب نحو الصحراء ليعيشوا حياة البداوة التي أثرت على

ص: 387


1- ومعنى يحتازونهم عن الريف يبعدونهم عنه، و الريف الأرض ذات الخصب و الزرع، و الجمع أرياف، و رافت الماشية أي رعت الريف، وقد أرفنا أي صرنا إلى الريف و أرافت الأرض أي أخصبت و هي أرض ريفة بتشديد الياء، و بحر العراق دجلة والفرات، أما الأكاسرة فطردوهم عن بحر العراق و أما القياصرة فطردوهم عن ريف الآفاق أي عن الشام و ما فيه من المرعى و المنتجع. أما قوله عليه السلام: أربابا لهم: أي ملوكا و كانت العرب تسمي الأكاسرة أربابا، ومنابت الشيح: أرض العرب، والشيح نبت معروف، و مهافي الريح: المواضع التي تهفو فيها أي تهب و هي الفيافي و الصحاري، ونكد المعاش ضيقه و قلته، و تركوهم عالة: أي فقراء جمع عائل و العائل ذو العيلة و العيلة الفقر، ينظر ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3/ 131
2- ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، 13/ 129، [خطبة238]

حياتهم فلم تكن البيئة التي عاشها العرب قبل الإسلام مهيئة وجاهزة للنشاطات الاقتصادية الكاملة، وقد كان أغلبهم يحتقر المهن وكسب الرزق عن طريقها بسبب طبيعة حياتهم، التي تعتمد على الموارد التي كانت تصل إليهم عن طريق الإغارة، اذ كان نبض الحياة لديهم وكان فيه نوع من الممارسة المباحة التي تصل إلى حد التفاخر فيه، فغالباً ما نرى القبائل تغزو بعضها البعض لعداوة بينهما، أو لطبيعة شريعة الغابة المتمثلة بسيطرة القبائل الكبيرة القوية على القبائل الضعيفة فتسلب ابلها وماشيتها وتصل إلى حد سبي النساء والأولاد، وفي الأعم الأغلب يطلق سراحهم مقابل فدية معينة حسب طبيعة السبايا، حتى أصبح الغزو جزءاً من عقلية البدوي وطبعه، فاذا لم يجد من يغزوه من أعدائه أو البعيدين عنه، أغار على جيرانه، يقول الشاعر القطامي في ذلك(1) :

وأحياناً علی بکرٍ أخينا *** إذا مالم نجد إلّا أخانا

ولكن هذا لم يمنع من ظهور نشاطات اقتصادية في ميادين الزراعة والصناعة والتجارة رغم تفاوتها من منطقة إلى أخرى، ولم نجد عند ابن أبي الحديد تفاصيل وركائز ثابتة ومباشرة حول مواضيع النشاطات الاقتصادية ولكنها كانت عبارة عن مفردات صغيرة متناثرة بين السطور حوتها مجموعة من الروايات التي استنتجناها من خلال تلك المواضيع التي قسمناها على الزراعة، والصناعة، والتجارة، وتأتي قلة المادة تبعاً لانسياق ابن أبي الحديد في شرحه لخطب الإمام عليه السلام ومدى احتوائها لمادة تتحدث عن الحياة الاقتصادية.

أولا: الزراعة:

احتقر الكثير من العرب ولا سيما البدو منهم في جاهليتهم الزراعة، وفضلوا عليها

ص: 388


1- المبرد، الكامل في اللغة والادب، 1/ 38

الغزو والسيف، ولعل هذا بارزٌ في ابيات الاعشى التي يهاجم فيها قبيلة إياد لأنهم يمارسون الزراعة:

لسنا كمنْ حلّت إيادٌ دارها *** تکریتَ(1) ترقبُ حَبها أن يحصدا(2)

وذكر لنا ابن أبي الحديد أن معاوية قال لقیس بن سعد وقد دخل عليه في رهط من الأنصار ما فعلت نواضحكم يهزأ به، فقال أنفذناها في طلب أبيك يوم بدر، والناضح البعير يستقى عليه(3) ، وقد أراد معاوية أن يقلل من شأن الانصار ويعيّرهم بأنهم فلاحون يمتهنون الزراعة.

والزراعة من أصل آرامي، فكلمة [فلاح] تعني [آكار]، وكذلك لا [أريس] أي [الزراع]، وكذلك [الفدان] وهو من اسماء مقادير المساحة، و [الناطور] وهو حارس المزرعة، وفي الآرامية [ناطورا]، وقد استخدمها العرب ودخلت في لغتهم وأدبهم(4) . قال المتنبي:

نامَتْ نواطيرُ مصرٍ عن ثعالبِهِا *** وقد بشِمْنَ وما تُفنى العناقيدهُ(5)

ولعل الجفاف وطبيعة البلاد الصحراوية في الجزيرة العربية كانت سبياً لجعل الأرض

ص: 389


1- تكريت : ارض. ينظر البيت والمعنى عند ابن منظور، لسان العرب، 7/ 462، [مادة كرت]
2- میمون بن قيس، الديوان، ص54
3- شرح نهج البلاغة، 13/ 220
4- اغناطيوس، غويدي، محاضرات في تاريخ اليمن والجزيرة العربية قبل الإسلام، ترجمه وقدم له ابراهيم السامرائي، دار الحداثة، (بیروت1986)، ص67
5- ابو الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن الكوفي (ت354ه)، الديوان، شرح الشيخ ناصيف اليازجي، دار ومكتبة الهلال، (بیروت200)، ص327

قاحلة لا تصلح للزراعة إلا في بعض المجتمعات الريفية المتمثلة بمجتمع المدينة والطائف، حيث يتوفر عاملا الارض الخصبة والمياه المتمثلة بالآبار الصالحة للزراعة، فمجتمع مكة الذي يقع في واد غير ذي زرع.

كما ذكر القرآن الكريم: «رَبَّنَا إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرَّیَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعِ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوْا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْنِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مَّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْکُرُونَ»(1) .

ووصفها ابن حوقل فقال: (وليس فيها ماء جار، وكانت أكثر مياههم من السماء إلى مواجن وبرك وليست لهم آبار يشرب منها وأطيبها زمزم، وليس بجميع مكة شجر مثمر غير شجر البادية)(2) .

وهذه البيئة القاسية غالباً ما كانت تؤدي إلى ازمات اقتصادية يعاني منها أهل مكة، فقد ذكر ابن أبي الحديد أنّه (تتابعت علی قریش سنون أقحلت الضرع و أرقت العظم)(3) ، وكانوا يصعدون إلى الجبال ويدعون أن ينزل المطر، وذكر ابن أبي الحديد في رواية أخرى (أنَّ قريشا أصابتها أزمة وقحط فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعّميه حمزة و العباس ألا نحمل ثقل أبي طالب في هذا المحل فجاءوا إليه و سألوه أن يدفع إليهم وِلده ليكفوه أمرهم، فقال دعوا لي عقيلا و خذوا من شئتم وكان شديد الحب لعقيل، فأخذ العباس طالبا و أخذ حمزة جعفرا و أخذ محمد صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام وقال لهم قد اخترت من اختاره الله لي عليكم علياً، قالوا فكان علي عليه السلام في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ كان عمره ست

ص: 390


1- سورة إبراهيم: الآية37
2- ابو القاسم ابن حوقل النصيبي (ت367ه)، صورة الارض، دار صادر، ط2، (بیروت1938)، ص30
3- شرح نهج البلاغة، 7/ 68

سنين(1) . وهذه الرواية يعتريها الشك إذ أنّ بني عبد المطلب يعيشون واقعاً واحداً وبيئة واحدة وعليه:

1- لو كانوا يريدون أن يساعدوا أخاهم أبا طالب لكانوا مدوه بالمال لإعالة أولاده حتى يخرج من الأزمة، ولماذا يأخذون أبناءه ويتركون واحداً فقط؟ وهم يعيشون بشعب واحد وبيوتهم متقاربة.

2- لم يكن أبو طالب فقيراً، فقد كان تاجراً يعالج العطر والبز في مكة كما ذكر الجاحظ(2) .

3- إن جعفراً، لم يكن صغيراً حتى يأخذه أعمامه، إنما كان شاباً فكيف يؤخذ من أهله، ولم تجرِ العادة في قريش أن الفقير يعال بأخذ أبنائه، والحمزة عمه ليس كبيراً بل كان قريباً من عمر جعفر وعقيل.

4- نحن نعتقد أن الرواية فيها جانب من الشك، والغرض منها كان إعطاء عقيل أهمية خاصة عند أبيه دون إخوته، والتقليل من أهمية الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام عند الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لتبين أن الغرض من وجود الإمام عليه السلام في بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن تهيئته لقيادة الأمة من بعده، بل كانت نتيجة ظرف طارئ.

ولعل تلك الأزمات وبيئة مكة الصحراوية قد جعلتهم يعتمدون على غيرهم في توفير قوت حياتهم المعيشية، فيذكر ان اغلب ما يحتاجونه يأتيهم من الطائف(3) ، وكذلك كانوا

ص: 391


1- شرح نهج البلاغة، 1/ 41؛ تنظر الرواية عند ابن هشام، السيرة النبوية، 1/ 228؛ الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 2/ 313
2- ابو عثمان عمرو بن بحر (ت255ه)، المحاسن والاضداد، ط3، مكتبة الخانجي، (القاهرة1994)، ص107
3- سالم، عبد العزيز، تاريخ الدولة العربية تاريخ العرب منذ عصر الجاهلية حتى سقوط الدولة الاموية، دار النهضة العربية، (بیروت1970)، ص245

يستوردون الحنطة والشعير والفواكه والخضر من قبيلة خثعم الواقعة منازلها بين مكة والمدينة، إذ توافرت لها موارد اقتصادية وزراعية كثيرة ومتنوعة ناتجة من وجود منازلها في مناطق الوديان التي تتصف بوجود الاراضي الزراعية ذات المحاصيل المختلفة منها غابات النخيل والأشجار المثمرة، وإنواع الخضروات على مدار فصول السنة(1) .

تعد يثرب (المدينة المنورة)، وهي مدينة تبعد حوالي ثلاثمائة ميل شمال مكة واحة خصيبة التربة غزيرة المياه(2) ، بسبب إنتشار العيون والآبار فيها مثل بئر أريس وبئر الاعراف وبئر بضاعة وبئر رومه وبئر بيرحاء وغيرها(3) ، وتروي تلك المياه عدداً من الاراضي التي تمثل الزراعة عماد اقتصادها، لاسيما زراعة النخيل، فقد ذكر لنا ابن أبي الحديد أن المسلمين بعد معركة أُحد رجعوا إلى موقع القتال لتوقع هجوم المشركين على المدينة، وقال جابر بن عبد الله: (كانت عامة أزوادنا ذلك اليوم التمر و حمل سعد بن عبادة ثلاثين بعيرا تمرا حتى وافت حمراء الأسد)(4) .

لعل هذه الرواية تبين لنا حجم البساتين الموجودة في المدينة لأن هذه الكمية من التمور لا يمكن جمعها بسهولة خصوصاً اذا كانت من شخص واحد حتى لو كان زعيم قبيلة، هذا من جهة ومن جهة أخرى ذكر لنا ابن أبي الحديد رواية أخرى عند الحديث عن معركة أحد إذ قال صفوان بن أمية لأبي سفيان عند المسير لقتال المسلمين: (إن لم

ص: 392


1- الحمداني، عبد الفتاح عبد الله محمود، قبيلة خثعم ودورها في التاريخ العربي من قبل الإسلام وحتى نهاية العصر الراشدي، اطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية الآداب، جامعة البصرة، 1998، ص125
2- الشريف، أحمد ابراهیم، مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، دار الفكر العربي، القاهرة1965)، ص311
3- غضبان، مدينة يثرب قبل الإسلام، ص30- 33
4- شرح نهج البلاغة، 15/ 45

يصحروا لنا عمدنا إلى نخل الأوس والخزرج فقطعناه فتركناهم لا أموال لهم فلا يختارونها أبدا وإن أصحروا لنا فعددنا أكثر من عددهم، وسلاحنا أكثر من سلاحهم ولنا خيل ولا خيل معهم، ونحن نقاتل على وتر عندهم ولا وتر لهم عندنا)(1) .

وهكذا نرى اهمية تلك البساتين في حياة أهل المدينة فهي عماد إقتصادهم ومن دونها لا أموال لهم، لذلك كانت قريش تفکر بقطع هذا الشريان الحيوي للقضاء على أهل المدينة والاسلام.

وكان التمر يمثل الغذاء الرئيسي عند أهل المدينة وهذا ما نراه من خلال ما نقله ابن أبي الحديد من حديث أبي العاص بن الربيع(2) ، الذي ذكر الانصار عندما كان اسيراً عندهم بعد معركة بدر فقال: (كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني بالخبز و أكلوا التمر، والخبز عندهم قليل والتمر زادهم حتى إن الرجل لتقع في يده الكسرة فيدفعها إلي)(3) .

وتمتاز يثرب بإنتاج أنواع كثيرة من التمور اجودها (الصيحاني) الذي قال عنه یاقوت الحموي (لا يوجد مثله في البلدان)(4) ، وابن طاب، وعذق زيد، والعجوة، والصرفان، وهو نوع من انواع التمر أحمر، والجنيب، وقد كان ليهود بني النضير نوع فاخر من

ص: 393


1- شرح نهج البلاغة، 14/ 168
2- اسمه لقيط بن الربيع بن عبد العزى وكان يدعى جرو البطحاء، صهر رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، زوج ابنته زينب، وهو ابن أخت أم المؤمنين خديجة، أمه هي هالة بنت خویلد، أسلم قبل الحديبية بخمسة أشهر، بعد أن أسرة المسلمون مع ماله وتجارته ثم اجارته زوجته زينب، فرد المسلمون له أمواله، فرجع إلى مكة وأعطى دينه ثم عاد الى المدينة واعلن اسلامه، ينظر، ابن حبان، ابو حاتم محمد بن حبان بن أحمد التميمي البستي (ت354ه)، مشاهير علماء الامصار اعلام فقهاء الاقطار، تحقیق مرزوق علي ابراهيم، دار الوفاء، (المنصورة1991)، ص56؛ الذهبي، سیراعلام النبلاء، 1/ 330- 334
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 14/ 146
4- معجم البلدان، 7/ 231، [مدينة يثرب]

التمر يقال له اللوز اصفر شديد الصفرة ترى النواة فيه من اللحمة(1) ، كما كانوا ينتفعون بكل شيء من النخلة، يأكلون جمارها، ويستخدمون جريدها في سقوف منازلهم، ويرضخون النوى بالمراضخ حتى يتكسر فيكون علفاً للحيوانات(2) ، كذلك كانوا يزرعون الحبوب مثل القمح والشعير والفاكهة والخضر وخاصة العنب والسفرجل(3) .

وكانت أوسع الأراضي وأخصبها بيد اليهود ووجهاء الأوس والخزرج وكانوا يستخدمون الآخرين للعمل فيها آما بالأجر، أو بالمزارعة أو عن طريق كراء الارض لهم(4) ، وذكر لنا ابن أبي الحديد (أن علياً عليه السلام عمل ليهودي في سقي نخل له في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمد من شعير فخبزه قرصاً فلما همَّ أن يفطر عليه أتاه سائل يستطعم فدفعه إليه وبات طاويا وتاجر الله تعالی بتلك الصدقة فعد الناس هذه الفعلة من أعظم السخاء وعدوها أيضا من أعظم العبادة)(5) .

ولعل هذا الكلام في بداية الهجرة، إذ ترك المهاجرون أموالهم وأهاليهم في مكة وعملوا في يثرب لكسب قوتهم، وإلا فالإمام عليه السلام كان يملك عائدات بعض الأراضي الزراعية التي تغنيه عن ذلك.

ولم تقتصر الزراعة على يثرب فقط، فقد ذكر ابن أبي الحديد أنَّ فدكاً(6) وهي خارج

ص: 394


1- الشریف، مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، ص381
2- الشريف، مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، ص380؛ الملاح، الوسيط، ص334
3- القيسي، رواء عبد الستار علي، الري والزراعة عند العرب في عصر ما قبل الإسلام، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية للبنات، جامعة بغداد، 2002، ص102؛ هادي، رياض هاشم، النشاط الزراعي في المدينة على عهد الرسول (صلى الله عليه واله وسلم)، مجلة آداب الرافدين، العدد السابع والعشرون، الموصل، 1995، ص307
4- دلو، برهان الدين، جزيرة العرب قبل الإسلام، دار الفارابي، ط2، (بیروت2004)، ص82
5- شرح نهج البلاغة، 19/ 86
6- فدَكُ : قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان وقيل ثلاثة، أفاءها الله على رسوله في سنة (7ه) صلحاً وذلك أن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لما صالح خيبرَ وفتح حصونها، بلغ ذلك أهل فدك فأرسلوا إليه أن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم فأجابهم إلى ذلك فهي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكانت خالصة للنبي (صلى الله عليه واله وسلم) فجعلها في حياته لفاطمة (عليها السلام)، وفيها عين فوارة ونخيل كثيرة، ينظر، یاقوت الحموي، معجم البلدان، 6/ 417

المدينة كانت قرية ذات نخل كثير(1) ، وقيل بل هي مجموعة قرى كثيرة المياه حتى انها كانت تغطيها احياناً، وقد ساعد وجود المياه والارض الصالحة للزراعة على اشتهار فدك بزراعة النخيل الذي يشكل المحصول الرئيسي فيها وعماد زراعتها(2) ، وذكر الواقدي أن عمر بن الخطاب عندما أجلى اليهود عن فدك دفع لهم نصف قيمة النخل بتربتها بعد أنَّ بعث من يُقّيم ارضهم، فبلغ (خمسين ألف درهم) أو يزيد(3) ، ولعل هذا المبلغ كبير يدل على سعة ارضها وكثرة نخلها(4) ، أما الطائف(5) فيقترن إسمها عادة بمكة وكانتا تسمى القريتين، قال تعالی:

«وَقَالُوا لَوْلَا نُزَّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مَّنَ الْقَرْيتَيْنِ عَظِيمٍ»(6) .

ص: 395


1- شرح نهج البلاغة، 17/ 166
2- بعید، سامي جودة، فدك حتى نهاية العصر العباسي، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة بغداد، 2006، ص24
3- ابو عبد الله محمد بن عمر بن واقد (ت207ه)، کتاب المغازي، تحقيق مارسدن جونس، عالم الكتب، ط3، (بیروت1984)، 2/ 707
4- ومما يدل على أن هذا المبلغ كبير ما يذكره المؤرخون من أن أبا هريرة قدم بمال من البحرين فقال له عمر ماذا جئت به؟ فقال خمسمائة الف درهم فاستكثره عمر فقال له: أتدري ما تقول؟ قال نعم مائة الف خمس مرات فقال عمر أطيّب هو؟ فقال: لا أدري فصعد عمر المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس قد جاءنا مال كثير فإن شئتم كِلنا لكم كيلاً، وإن شئتم عددنا لكم عداً، ينظر الماوردي، الاحکام السلطانية والولايات الدينية، ص249
5- هي وادٍ بينها وبين مكةَ اثنا عشر فرسخاً، وهي مسيرة يوم للطالع من مكة، فيها من العنب العذب مالا يوجد مثله في بلد من البلدان وأما زبيبها فيضرَب بحسنه المثل وهي طيبة الهواء شمالية ربما جمد فيها الماءُ في الشتاء وفواكه أهل مكة منها، ينظر، یاقوت الحموي، معجم البلدان، 6/ 241
6- سورة الزخرف: الاية31

وهي مدينة زراعية كثيرة الشجر والثمر وفيها مياه جارية ساعدت على إقبال الناس على زراعتها(1) ، وتشتهر بزراعة العنب الذي يصدر قسم كبير منه إلى مكة(2) ، فإنتشرت حولها المزارع والبساتين التي تنتج الفاكهة والخضروات، وكانت العامة قريش أموال في الطائف يأتونها من مكة فيصلحونها، وكان للعباس بن عبد المطلب أرضٌ فيها يحمل منها الزبيب إلى مكة فينبذ في السقاية للحاج(3) .

وذكر ابن أبي الحديد أنَّ الرسول محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عندما أراد نشر الإسلام في الطائف إجتمع عليه صبيانها وسفهاؤها وصاحوا به ورموه بالحجارة فلجأ إلى بستان العتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة وهما ينظران اليه فدعوا غلاما نصرانیا لهما يقال له عداس فقالا له خذ قطفا من هذا العنب و ضعه في ذلك الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فأقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(4) .

وذكر ابن أبي الحديد هجراً(5) وقال: (هي بلدة كثيرة النخل يحمل منها التمر إلى غيرها)(6) ، ويضرب بها المثل بكثرة النخيل فقيل (كناقل التمر إلى هجر)(7) ، قال

ص: 396


1- ياسين، نجمان، تطور الأوضاع الاقتصادية في عصر الرسالة والراشدين، بيت الموصل للنشر، (الموصل1985)، ص40، الجميلي، تاريخ العرب في الجاهلية وعصر الدعوة الاسلامية، ص196
2- الادريسي، ابو عبد الله محمد بن عبد الله بن ادریس الحسني (ت560ه)، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، عالم الكتب، (بیروت1989)، 1/ 141
3- البلاذري، ابو العباس أحمد بن يحيى بن جابر (ت279)، فتوح البلدان، تحقیق عبد الله انيس الطباع، مؤسسة المعارف، (بیروت1987)، ص75
4- شرح نهج البلاغة، 14/ 77
5- الهجر بلُغةِ حميرَ والعرب العاربة : القرية فمنها هجر البحرين وهجر نجران وهجر جازان وهجر حصنة من خلاف مازن، اما هنا فالمقصود هجرُ المدينة وهي قاعدة البحرين وربما قيل ناحية البحرين كلها هجرُ وهو الصواب، وقد فتحت في أيام النبي (صلى الله علية واله وسلم) في سنة ثمان على يد العلاء بن الحضرمي، ينظر، ياقوت الحموي، معجم البلدان، 8/ 486
6- شرح نهج البلاغة، 15/ 142
7- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15/ 142، ينظر المثل وتفاصيله في ص235من الرسالة

الشاعر:

ليسَتْ بشَبْعی و لو أورْدتَها هَجَرا *** ولا بِرَيّا ولو حَلَّت بِذَي قارِ

أي لا يشبعها كثرة التمر ولو نزلت هجر ولا تروى ولو نزلت ذي قار وهو موضع كثير الماء(1) . وذكر الحميري انها (بلاد سهلة كثيرة الأنهار والعيون عذبة الماء ينبطون الماء على القامة والقامتين، والحناء والقطن على شطوط أنهارها بمنزلة السوسن، وهي كثيرة النخل والفواكه، ولها تمر إذا انتبذ وشرب اصفرت الثياب من عرقه، وبساتينهم على نحو میل منها ولا يأتونها إلا غدواً أو رواحاً لافراط حر الرمضاء)(2) .

وكانت اليمامة(3) من المناطق الزراعية المهمة التي اشتهرت بكثرة القرى والمزارع فهي من أخصب البلاد أرضاً وأكثرها مياهاً ونخلاً(4) ، وقيل أنها أكثر تمراً ونخلاً من المدينة ومن سائر الحجاز(5) ، وذكر ابن أبي الحديد أنَّ الرسول محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أكرم الجارود وعبد القيس حين وفدا إليه وقال للأنصار: (قوموا إلى إخوانكم و أشبه الناس بكم، قال لأنهم أصحاب نخل كما أن الأوس والخزرج أصحاب نخل و مسكنهم

ص: 397


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 5/ 40
2- محمد بن عبد المنعم (ت900ه)، الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقیق احسان عباس، ط2، مکتبة لبنان، (بیروت1984)، ص82
3- مدينة بينها وبين البحرين عشرة أيام وهي معدودة من نجد وقاعدتها حجر وتسمى اليمامة جوا والعروض بفتح العين وكان اسمها قديماً جوا فسميت اليمامة باليمامة بنت سهم بنطسم. كان فتحها وقتل مسيلمة الكذاب في أيام أبي بكر سنة12للهجرة على يد خالد بن الوليد عنوة ثم صولحوا ينظر، یاقوت الحموي، معجم البلدان، 8/ 505
4- الدينوري، الاخبار الطوال، ص55؛ یاقوت الحموي، معجم البلدان، 8/ 506، [مادة اليمامة]
5- الاصطخري، ابو اسحاق ابراهيم بن محمد الفارسي (ت341ه)، کتاب المسالك والممالك، مطبعة بريل، (یدن1937)، ص18

البحرين واليمامة)(1) .

أما في اليمن التي لم يتطرق ابن أبي الحديد إليها على الرغم من أهميتها الزراعية فقد تميزت بخصوبة أرضها، وتوفر المياه فيها فقد كانت الزراعة عماد حياتها وسمیت اليمن بالخضراء لكثرة اشجارها وثمارها وزروعها(2) ، وأكثر اعتمادها على تساقط الامطار الموسمية وما توفره من میاه لزراعة الحبوب وسقي البساتين، وقد تم بناء عدد من السدود للاستفادة من مياه الامطار والسيول لإرواء الاراضي الزراعية ويُعد سد مأرب من أهم تلك السدود التي إكتسبت شهرة في تاريخ اليمن(3) .

ثانيا: الصناعة:

تُعدّ الحرف الصناعية من المهن القليلة التداول لاسيما عند البدو الذين كانوا من أبعد الناس عنها، ولعل ذلك يعود كما يذكر ابن خلدون إلى (أنهم أعرق في البدو وأبعد عن العمران الحضري، وما يدعو إليه من الصنائع وغيرها)(4) ، وكانوا ينظرون اليها نظرة احتقار وإن نفوسهم تأبى الإمتهان بها، وكما عير الإعشي أياد بزراعتها، فقد عير عمرو بن كلثوم النعمان بن المنذر وهو ملك الحيرة بأن أمه من أسرة تمتهن الصياغة فقال في النعمان: لحا الله أدنانا إلى اللُّؤْمِ زُلْفَةً *** والأَمَنا خالاً وأعجزَنَا أبَا

وأجْدَرَنا أن ينفُخَ الكِيرَ خالُه *** يصوغُ القُروطَ والشُّنوفَ بِيَثْرِبَا(5)

ص: 398


1- شرح نهج البلاغة، 18/ 42
2- الهمداني، لسان اليمن الحسن بن أحمد بن يعقوب (ت334ه)، صفة جزيرة العرب، تحقيق محمد بن علي الاكوع الحوالي، مكتبة الارشاد، (اليمن1990)، ص90
3- دلو، جزيرة العرب قبل الإسلام، ص75؛ سالم، تاريخ الدولة العربية، ص30
4- ابن خلدون، تاریخ ابن خلدون، 1/ 430
5- الديوان، ص25

وذكر محمد الخضري ان جریراً كان دائماً ما يعيب الفرزدق وكلاهما من تميم لأن أحد أبائه كان محترفاً بحرفة هي جلاء السيوف، وكان المعديون يعيبون اهل اليمن بدباغة الجلود(1) ، قال جرير:

اذا عَدَتِ الأيامُ أخزین دارِماً *** وتخزيكَ يابن القينِ أيامُ دارمِ(2)

ويبدو أن السبب في عزوف البدو عن الصناعات هو لكونها تتطلب حالة من الاستقرار الذي يتناقض مع حياتهم القائمة على التنقل والترحال، لذا نرى أن سكان الحيرة واليمن ومشارف بلاد الشام هم من أمهر من اشتغل في الصناعات عند العرب، أو ربما نفرت منها العرب كونها من حرف المستضعفين من الناس، ولكن هذا لا يغني من وجود صناعات وحرف امتهنها أشراف مكة لسد احتياجاتهم البسيطة كما سنبين لاحقاً.

ومن ابرز الصناعات التي كانت منتشرة في مجتمع عرب قبل الإسلام، صناعة النسيج، وهي من اشهر الصناعات التي اشتهرت في بلاد العرب لاسيما في بلاد اليمن، لازدهار الزراعة فيها وتوفر المراعي، فكثر الصوف والكتان، فكان الصوف يغزل وينسج، ومن ابرز من امتهنها اهل اليمن فقد ذكر ابن أبي الحديد انهم كانوا يعيرون بالحياكة، ومن كلام خالد بن صفوان عنهم: (ما أقول في قوم ليس فيهم إلا حائك برد أو دابغ جلد)(3) ، وقد ذكرهم ابن أبي الحديد تعليقاً على كلام الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام للأشعث بن قیس بعد أن إعترضه، وكان عليه السلام يخطب في

ص: 399


1- الدولة الاموية، مكتبة الايمان، (القاهرة2006)، 1/ 18
2- جریر بن عطية (ت110ه)، الديوان، قدم له وشرحه تاج الدين شلق بن حذيفة الخطفي التميمي، دار الكتاب العربي، (بیروت2008)، ص632
3- شرح نهج البلاغة، 1/ 274

الكوفة ويذكر أمر الحكمين فقام اليه رجل من أصحابه فقال له: نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها فما ندري أي الأمرين أرشد، فصفق عليه السلام بإحدى يديه على الأخرى وقال:

«هذا جزاء من ترك العقدة».

وكان مراده عليه السلام هذا جزاؤكم إذ تركتم الرأي والحزم وأصررتم على إجابة القوم إلى التحكيم، فظنّ الأشعث أنه أراد هذا جزائي حيث تركت الرأي والحزم وحکمت، لأن هذه اللفظة محتملة ألا ترى أن الرئيس إذا شغب علیه جنده و طلبوا منه اعتماد أمر ليس بصواب فوافقهم تسكينا لشغبهم لا استصلاحا لرأيهم ثم ندموا بعد ذلك قد يقول هذا جزاء من ترك الرأي و خالف وجه الحزم ويعني بذلك أصحابه، وقد يقوله يعني به نفسه حيث وافقهم أمير المؤمنين عليه السلام إنما عنى ما ذكرناه دون ما خطر للأشعث الذي قال: هذه عليك لا لك(1) ، فرد عليه الإمام عليه السلام :

«وَمَا يُدْرِيكَ مَا عَلَىَّ مِمَّا لِي عَلَيْكَ لَعْنَةُ اَللهِ وَ لَعْنَةُ اَللاَّعِنِينَ حَائِكٌ اِبْنُ حَائِكٍ»(2) .

وزاد عليها ابن أبي الحديد عندما ذكر القصة نفسها في مكان آخر مع تغير جزئي في مضمونها أن الإمام عليه السلام قال له:

«حَائِكٌ اِبْنُ حَائِكٍ، إني لأجد منك بنة الغزل»(3) .

وذكر ابن أبي الحديد أيضاً أن الاشعث خطب إلى الإمام ابنته فزبره وقال (يا ابْنُ الحائِك، أغرّك ابن أبي قحافة؟)(4) .

ص: 400


1- شرح نهج البلاغة، 1/ 373
2- شرح نهج البلاغة، 1/ 269، [خطبة19]
3- شرح نهج البلاغة، 14/ 11
4- شرح نهج البلاغة، 4/ 57

من خلال قرائتنا للروايات السابقة التي أوردها ابن أبي الحديد في أجزاء مختلفة من كتابه يمكن أن نستنتج النقاط الآتية:

1- إن الإمام عليه السلام لم يقصد الإهانة لصنعة معينة، ولكن كما بيّنا سابقاً إن العرب يرون أن السيف يمثل الرجولة وهو اكثر من الامتهان لصنعة معينة، فمن يمتهن الحياكة كانه ترك السيف والقتال والتجأ إلى حالة الاستقرار، وهي صفة تضرب لمن يتخاذل عن استخدام السيف.

2- قد يكون الإمام عليه السلام قد أراد حياكة المؤامرات، فقد وردت كلمة حائك بمعنى حياكة الكلام فيروي ابن الجوزي مجموعة من الحكايات الطريفة لرجل اسمه ابو الفضل عمرو بن مسعدة بن سعيد بن صول كاتب المأمون ومنها حكايته مع رجل كان قد اركبه معه في أثناء سفره إلى البصرة من الرقة وعندما سأله عن مهنته قال له انه حائك، فاستهان به ودار بينهما حوار طويل حول الأحكام والأصول والفروع أثبت فيها الرجل براعته في الكلام فأستغرب منه ابو الفضل فقال له: أليس زعمت إنك حائك، فقال: أنا حائك كلام وليس بحائك نساجة(1) ، وقيل (يمكن أن يكون المراد بالحياكة نسج الكلام فيكون كناية عن كونه كذابا، كما روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه ذكر عنده أن الحائك ملعون فقال: «إنما ذاك الذي يحوك الكذب على الله وعلى رسوله»(2) ، والاشعث كان ممن وقف ضد الإمام عليه السلام طالباً منه وقف القتال والامتثال إلى التحكيم، ثم يرد عليه بعد فشل التحكيم، لذا جاء القول مطابقاً للمعنى، ولو ان الصناعة هي سبب هذا القول، وعدم تزويج ابنته منه لما كان الإمام الحسن يخطب ابنة الاشعث ويتزوجها، ولكن المعنى إنه خبيث لا يصلح لها وهذا هو

ص: 401


1- المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، 11/ 7- 9
2- المجلسي، بحار الانوار، 33/ 432

الأولى من غيره.

3- ذكر البحراني في تعليقه على كلام الإمام عليه السلام رداً على الاشعث (قوله حائك ابن حائك إستعارة أشار بها إلى نقصان عقله، وقلة إستعداده لوضع الأشياء في مواضعها، وتأكيداً لعدم أهليته للاعتراض عليه إذ الحياكة مظنة نقصان العقل، وذلك لأن ذهن الحائك عامة وقته متوجه إلى صنعته مصوب الفكر إلى أوضاع الخيوط المتفرقة وترتيبها ونظامها يحتاج إلى حركة رجليه ويديه)(1) ، ومع تحفظنا على هذا الكلام فقد يكون الامام عليه السلام قد أراد هذا المعنى مع كثرة مواقف الأشعث المشينة، إذ كان رأس النفاق في خلافة الإمام عليه السلام.

4- قد تكون الرواية موضوعة وغير موجودة أصلاً فلم نجد لها ذكراً إلا في كتاب الأغاني(2) ، وما ذكره الشريف الرضي عند تجميعه لخطب الإمام عليه السلام، مع الإختلاف والتناقض والزيادة في نقل تفاصيل الرواية عند ابن أبي الحديد عند ذكرها في اكثر من جزء في كتابه، مما يجعلها عرضة للشك.

واشتهرت صناعة النسيج بالبرود والملابس اليمنية الممزوجة بجودة النسيج وبحسن الصنعة والدقة، ولعل أبرزها (ثياب الحبرت)(3) ، وقد ذكرها ابن أبي الحديد من خلال ابيات للزبير بن عبد المطلب يتفاخر بلبسها:

لنا الَحَبراتُ و المسْكُ الفتَيتُ *** وكأسٌ لو تَبينُ لهم كلاما(4)

ص: 402


1- كمال الدين بن میثم بن علي بن میثم (ت679)، شرح نهج البلاغة، ط3، مكتبة فخراوي، (البحرين2007)، ص193
2- ابو الفرج الاصفهاني، مج7، 21/ 517
3- الخبرة : وهي ضرب من برود اليمن منمر وهي برود موشاة مخططة من الثمن البرود، ينظر الجبوري، يحيي وهيب، المنسوجات العربية في الشعر الجاهلي، حولية كلية الانسانيات والعلوم الاجتماعية، العدد السابع، جامعة قطر، 1984، ص315
4- شرح نهج البلاغة، 15/ 154

وكذلك قصة امرئ القيس الذي خطب امرأة من العرب فسألته ثلاث مسائل شرط زواجها به فقالت (مم تختلج شفتاك؟ فقال لشربي المشعشعات، قالت فمم يختلج کشحاك؟ قال للبسي الخبرات، قالت فمم تختلج فخذاك؟ قال لركضي المطهمات، فقالت هذا زوجي لعمري فعليكم به فأهديت إليه الجارية)(1) .

ومن ثياب أهل اليمن الناعمة (الخال)، وهو ثوب ناعم وضرب من البرود أرضه حمراء فيها خطوط سود(2) ، وقد ذكره ابن أبي الحديد عندما أورد أبيات شعر لنوفل بن معاوية الدولي يعتذر فيها للرسول بعد فتح مكة:

ما حَمَلَتْ من ناقةٍ فَوقَ كورِها *** أبرَّ أوفى ذمةً من محمدِ

وأكسی لبردِ الخالِ قبلَ ارتدائِه *** وأعطى لرأسِ السابِقِ المتجرَّدِ

ومن أنواع الألبسة الأخرى في اليمن، العصب، والمرجل، والسحل، والمعاجز، والسيراء(3) ، وكانت المنسوجات تصبغ بأصباغ متنوعة، تكون من النباتات لسهولة الحصول عليها، ولتوفره في المزارع، ومن أبرز نباتات الأصباغ في اليمن، العصفر ويكون لونه أحمر، والزعفران الذي من خصائصه أنه إذا مسه الماء ظهرت رائحته، والورس وهو لا يكون إلا في اليمن، وله فوائد طبية كثيرة، وهو يعطي صفرة فاقعة(4) ، وذكر ابن أبي الحديد أن الحارث بن سوید كان مرتدياً (ملحفة مورسة) عندما راه الرسول بعد قتله

ص: 403


1- شرح نهج البلاغة، 20/ 181
2- الفراهيدي، العين، 4/ 304؛ الجبوري، المنسوجات العربية في الشعر الجاهلي، ص315
3- دلو، جزيرة العرب قبل الإسلام، ص111، طقوش، تاريخ العرب قبل الإسلام ص68
4- ابن قيم الجوزية، الطب النبوي، ص315؛ مطر، جواد، الحياة الاجتماعية والاقتصادية في اليمن القديم، دار الثقافة العربية، (الشارقة2002)، ص405، العلي، صالح احمد، الوان الملابس العربية في العهود الاسلامية الاولى، مجلة المجمع العلمي العراقي، العدد السابع والعشرون، بغداد، 1976، ص83- 85

مجذر بن زياد في معركة أحد بعد عداوة كانت بينهما سابقاً(1) ، وملحفة مورسة أي مصبوغة بنبات الورس، وكانت كسوة الكعبة في الجاهلية من الأنطاع والمعافر، والمعافرية ثياب أشتهرت بها قبيلة المعافر الذين كانوا يقيمون في اليمن، وان تبان أسعد أبي کرب، أحد تبابعة اليمن هو أول من کسى الكعبة(2) .

ومن الصناعات الأخرى التي عرفها العرب الصناعات الجلدية ولعل أبرزها صناعة الأديم، وذكر ابن أبي الحديد أنَّ الأديم واحد و الجمع أدم كما قالوا أفيق(3) للجلد الذي لم تتم دباغته و جمعه أفق و قد يجمع أديم على آدمة(4) ، وكانوا يدبغون الجلود ويستخدمون (القرظ) في دباغتها، وهو ورق يؤخذ من شجرة القارظ، ويسمى من يبيعه القراظ، وكان يطحن بحجر الطواحين وتكون مادته حادة ويكثر في مدينة صعدة اليمنية(5) ، وقد ذكره الإمام علي عليه السلام بقوله:

«فَلْتَكُنِ اَلدُّنْيَا فِي أَعْيُنِكُمْ أَصْغَرَ مِنَ حُثَالَةِ اَلْقَرَظِ وَ قُرَاضَةِ اَلْجَلَمِ»(6) . وعلق عليه ابن أبي الحديد بقوله (والقرظ ورق السلم يدبغ به وحثالته ما يسقط منه، والجلم المقص تجز به أوبار الإبل، و قراضته ما يقع من قرضه و قطعه)(7) . وكانت الجلود المدبوغة تستعمل في صنع القرب والنعال والخفاف والأنطقة والخيام وبيوت

ص: 404


1- شرح نهج البلاغة، 6/ 66
2- طقوش، تاريخ العرب قبل الإسلام، ص69، البهادلي، ازهار غازي مطر، قبيلة الأشعريين ودورهم في التاريخ العربي الاسلامي حتى نهاية العصر الأموي، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة ديالی، 2005، فص1، ص29
3- والأَفيقُ: الجلد الذي لم تتمّ دباغته، والجمع أَفَقٌ، وقد أَفَقٌ أَدیمَه يَافِقُهُ أَفْقاً، أي دبغه إلى أن صار أَفيقاً، ينظر الجوهري، الصحاح، ص38، [مادة افق]
4- شرح نهج البلاغة، 3/ 154
5- دلو، جزيرة العرب، ص114، مطر، الحياة الاجتماعية والاقتصادية في اليمن القديم، ص419
6- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2/ 138، [خطبة32]
7- شرح نهج البلاغة، 2/ 141

البادية(1) ، وقد ذكر القرآن الكريم تلك الصناعة بقوله تعالی:

«وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مَّن بُیُوتکُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مَّن جُلُودِ الأَنعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِکُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِکُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إلى حِينٍ»(2) .

وتعد الطائف من المدن التي اشتهرت بدباغة الجلود، فذكر الهمداني أن (الطائف مدينة قديمة جاهلية وهي بلد الدّباغ)(3) ، وكانت ثقيف تسكن الطائف لذا عُيرّت بالدباغة وقد ذكر ابن أبي الحديد مشادة كلامية بين عبد الرحمن بن عوف والمغيرة بن شعبة الثقفي بعد تسلم عثمان الخلافة نعت الاول المغيرة لأنه من ثقيف بالدباغة عندما قال المغيرة لعثمان (أما والله لو بويع غيرك لما بايعناه، فقال عبد الرحمن بن عوف كذبت والله لو بویع غيره لبايعته و ما أنت وذاك يا ابن الدباغة والله لو وليها غيره لقلت له مثل ما قلت الآن تقربا إليه و طمعا في الدنيا فاذهب لا أبا لك)(4) .

ومن الصناعات الأخرى التي امتهنها العرب استخراج العطور والروائح العطرية من الأزهار والنباتات والحيوانات، ولعل أبرزها الطيب وهو من الصناعات التي اشتهرت فيها بلاد اليمن(5) ، وتناوله الشعراء في قصائدهم، فقال امرؤ القيس:

ألمْ ترياني كلّما جِئتُ طارقاً *** وَجَدْتُ بها طِيباً وإنْ لمْ تُطيَّبِ(6)

ص: 405


1- عرفة، العرب قبل الإسلام، ص230؛ دلو، جزيرة العرب قبل الإسلام، ص116
2- سورة النحل: الاية80
3- صفة جزيرة العرب، ص233
4- شرح نهج البلاغة، 9/ 42
5- طقوش، تاريخ العرب قبل الإسلام، ص73
6- الديوان، ص19؛ ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، 19/ 283

وذكر الإمام عليه السلام الطيب بقوله:

«نِعْمَ اَلطَّيبُ اَلْمِسْكُ خَفِيفٌ مَحْمِلُهُ عَطِرٌ رِيحُهُ»(1) .

وقال ابن أبي الحديد تعليقاً على قول الإمام عليه السلام:

«كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثير التطيب بالمسك و بغيره من أصناف الطيب. وجاء الخبر الصحيح عنه، حبب إلي من دنياكم ثلاث، الطيب و النساء و قرة عيني في الصلاة»(2) .

وقد ذكر ابن أبي الحديد مجموعة من الروايات تحت موضوع أسماه (فصل فيما ورد الطيب من الآثار)، تخلله سرد مجموعة من العطور والروائح المستخدمة أهمها (المسك) فقد ذكر أنه يستخرج من (سرة دابة كالظبي له نابان أبيضان معقفان إلى الجانب الإنسي كقرنين)(3) وهي (شبيهة بالخشف(4) تكون في ناحية تبت تصاد لأجل سرتها فإذا صادها الصائد عصب سرتها بعصاب شديد و هي مدلاة فيجتمع فيها دمها ثم يذبحها وما أكثر من يأكلها ثم يأخذ السرة فيدفنها في الشعر حتى يستحيل الدم المحتقن فيها مسكا ذكيا بعد أن كان لا يرام نتنا و قد يوجد في البيوت جرذان سود يقال لها فأر المسك ليس عندها إلا رائحة لازمة لها)(5) ، وقد ورد ذكر المسك في القرآن الكريم بقوله تعالی:

ص: 406


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 19/ 280، حكم ومواعظا [399]
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 19/ 280؛ ابن حجر العسقلاني، ابو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد (ت852ه)، لسان المیزان، ط2، مؤسسة الأعلمی، (بیروت1971)، 4/ 415
3- ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، 19/ 284
4- الخِشْفُ: الظَّبْيُ بعد أَن يكون جِدَايةً وقيل هو خِشْفٌ أَوَّلَ ما يولد وقيل هو خشف أَوَّل مَشْيِه والجمع خِشَفةٌ والأَنثى بالهاء، وقيل أَوَّلَ ما يولد الظبيُ فهو طَلاً، ثم خشْفٌ، ينظر ابن منظور، لسان العرب،3/ 77، [مادة خشف]
5- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 19/ 283

«خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ»(1) .

والعنبر مادة بحرية تجمع في فصل الشتاء من السواحل الجنوبية للجزيرة العربية(2) ، وذكر ابن أبي الحديد أن العنبر يأتي طفاوة على الماء لا يدري أحد معدنه يقذفه البحر إلى البرفلا يأكل منه شيء إلا مات، ولا ينقره طائر إلا بقي منقاره فيه، ولا يقع عليه إلا نصلت أظفاره، والبحريون والعطارون ربما وجدوا فيه المنقار والظفر، ويكون جماجم أكبرها وزنه ألف مثقال، والأسود أردأ أصنافه، وكثيرا ما يوجد في أجواف السمك التي تأكله وتموت(3) .

ومن الأنواع الأخرى الكافور، ذكر ابن أبي الحديد أنَّه ماء في شجر مکفور فيه، يغرزونه بالحديد فإذا خرج إلى ظاهر ذلك الشجر ضربه الهواء فانعقد كالصموغ الجامدة على الأشجار، هو أصناف منها الفنصوري والرباحي والأزاد والإسفرك الأزرق وهو المختط بخشبه وقيل إن شجرته عظيمة تظلل أكثر من مائة فارس وهي بحرية، وخشب الكافور أبيض إلى الحمرة خفيفه والرباحي يوجد في بدن شجرته قطع كالثلج فإذا شققت الشجرة تناثر منها الكافور الند هو الغالية و هو العود المطري بالمسك و العنبر و دهن البان(4) .

ولم تكتفِ اليمن بصناعة العطور بل انها تاجرت بها وكان يقصدها التجار من كافة المناطق القريبة منها، فذكر الاصفهاني ان اسماء بنت مخربة زوجة هشام بن المغيرة أم أبي جهل كانت عطارة، يأتيها العطر من اليمن فتتاجر به(5) .

ص: 407


1- سورة المطففين: الآية26
2- طقوش، تاريخ العرب قبل الإسلام،ص73
3- شرح نهج البلاغة، 19/ 284
4- شرح نهج البلاغة، 19/ 286
5- الاغانی، مج1، 1/ 55

وتعد الصناعات المعدنية من النشاطات التي عرفها مجتمع العرب قبل الإسلام فالتعدين من المهن التي احترفوها لحاجتهم الماسة إليها في أمور حياتهم وتساعدهم للقيام بنشاطاتهم الحربية والزراعية، وقد أشار القرآن الكريم في العديد من آیاته إلى فوائد المعادن وكيفية استخدامها وكان يحدث الناس بها وهو لا يحدثهم عن اشياء لم يعرفوها، منها قوله تعالی:

«وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِليَةٍ أو مَتَاعِ»(1) .

وقوله تعالی:

«وَأنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ»(2) .

كذلك ما ذكره العرب والرسول صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي عليه السلام والجغرافيون واللغويون من اسماء المعادن التي استخرجها العرب من باطن الأرض والوسائل التي استخدموها، فذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«اللهمَ من أرادَ المدينةَ بسوءٍ فأذبْهُ كما يذوب الرصاصُ في النارِ، وكما يذوبُ الملحُ في الماءِ، وكما تذوبُ الإهالةُ في الشمسِ»(3) .

وذكر ابن أبي الحديد أن زينب بعثت في فداء أبي العاص بعلها بمال و كان فيما بعثت به قلادة كانت خديجة أمها أدخلتها بها على أبي العاص ليلة زفافها عليه فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رقّ لها رقة شديدة وقال للمسلمين:

ص: 408


1- سورة الرعد: الآية17
2- سورة الحديد: الآية25
3- الصنعاني، عبد الرزاق بن همام (ت211ه)، المصنف، تحقیق حبیب الرحمن الأعظمي، منشورات المجلس العلمي، قم، (د. ت)، 9/ 264

«إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها ما بعثت به من الفداء فافعلوا».

فقالوا نعم يا رسول الله نفديك بأنفسنا وأموالنا فردوا عليها ما بعثت به و أطلقوا لها أبا العاص بغیر فداء(1) . وكان الإمام علي عليه السلام قد استخدم العديد من الالفاظ في خطبة التي تدل على المعادن كأسماء الذهب في حالاته المختلفة مثل التبر، والجواهر کالدر والياقوت، والعقيان للذهب واللجين للفضة، وقد ذكر ابن أبي الحديد قسماً منها في كتابه منها:

قوله عليه السلام لما عزموا على بيعة عثمان:

«لَقَدْ عَلِمْتُمْ اَنَّي أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِي وَ وَ اَللهِ لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ اَلْمُسْلِمِينَ وَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلاَّ عَلَىَّ خَاصَّةً اِلْتِمَاساً لِأَجْرِ ذَلِكَ وَفَضْلِهِ وَ زُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَ زِبْرِجِهِ».

وعلّق ابن أبي الحديد على كلام الإمام بقوله و الزخرف الذهب، والزبرج الزينة من وشي أو جوهر ونحو ذلك ويقال الزبرج الذهب أيضا(2) .

ومن كلام الإمام عليه السلام في وصف الطاووس:

«وَقَدْ يَنْحَسِرُ مِنْ رِیشِهِ وَ يَعْرَى مِنْ لِبَاسِهِ فَیَسْقُطُ تَتْرَي وَ يَنْبُتُ تِبَاعاً فَيَنْحَتُّ مِنْ قَصَبِهِ اِنْحِتَاتَ أَوْرَاقِ اَلْأَغْصَانِ ثُمَّ یَتَلاَحَقُ نَامِياً حَتَّى يَعُودَ کَهَيْئَتِهِ قَبْلَ سُقُوطِهِ لاَ يُخَالِفُ سَالِفَ أَلْوَانِهِ وَ لاَ يَقَعُ لَؤْنٌ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ وَ إِذَا تَصَفَّحَتْ شَعْرَةً مِنْ شَعَرَاتِ قَصَبِهِ أَرَتْكَ حُمْرَةً وَرْدِيَّةً وَتَارَةً خُضْرَةً زَبَرْ جَدِیَّةً وَ أَحْيَاناً صُفْرَةً عَسْجَدِيَّةً»(3) .

ص: 409


1- شرح نهج البلاغة، 14/ 146
2- ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، 6/ 133، [خطبة73]
3- ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، 9/ 211، [خطبة166]

وعلّق ابن أبي الحديد على كلام الإمام بقوله والخضرة الزبرجدية منسوبة إلى الزمرد ولفظة الزبرجد تارة تستعمل له وتارة لهذا الحجر الأحمر المسمى بلخش، والعسجد الذهب(1) ، ومن قوله عليه السلام:

«وَلَوْ أَرَادَ اَللهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ کُنُوزَ اَلذَّهْبَانِ وَ مَعَادِنَ اَلْعِقْيَانِ وَ مَغَارِسَ اَلْجِناَنِ وَأَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ اَلسَّماءِ وَ وُحُوشَ اَلأَرَضِينَ لَفَعَلَ وَلَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ اَلْبَلاَءُ وَ بَطَلَ اَلْجَزَاءُ»(2) .

وقال ابن أبي الحديد (العقيان، الذهب الخالص ويقال هو ما ينبت نباتا و ليس مما يحصل من الحجارة)(3) ، وقد ذكر في كتب المعاجم (ذَرَّیْتُ ترابَ المعدن، إذا طلبت منه الذهب)(4) ، مما يدل على وجود الذهب في معدنه فيجمع ويطحن ثم يزرون تراب المعدن فيحصلون عليه من غير نار أو إذابة حجر.

ومن كلامه عليه السلام في وصف الخالق: «وَلَوْ وَهَبَ مَا تَنَفَّسَتْ عَنْهُ مَعَادِنُ الجِبَالِ وَضَحِكْتَ عَنْهُ أَصْدَافُ اَلْبِحَارِ مِنْ فِلِزَّ اَللُّجَيْنِ وَ اَلْعِقْيَانِ وَ نُثَارَةِ اَلدُّرَّ وَ حَصِيدِ اَلْمَرْجَانِ مَا أَثَّر ذَلِكَ فِي جُودِهِ وَ لاَ أنْفَدَ سَعَةَ مَا عِنْدَهُ وَ لَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخَائِرِ اَلأَنْعَامِ مَ لاَ تُنْفِدُهُ مَطَالِبُ اَلأَنَامِ لِأَنَّهُ اَلْجَوَادُ اَلَّذِي لاَ يَغِيضُهُ سُؤَالَ اَلسَّائِلِينَ وَلاَ يُبْخِلُهُ يُبْخِلُهُ إِلْحَاحُ اَلْمُلِحَّينَ»(5) .

وعلَّق ابن أبي الحديد على كلام الإمام عليه السلام بقوله: (الفلز اسم الأجسام

ص: 410


1- شرح نهج البلاغة، 9/ 212
2- ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، 13/ 166، [خطبة238]
3- شرح نهج البلاغة، 6/ 312
4- الجوهري، الصحاح، ص383، [مادة ذرا]؛ ابن منظور، لسان العرب، 3/ 378، [مادة ذرا]
5- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6/ 312، [خطبة90]

الذائبة كالذهب والفضة والرصاص ونحوها واللجين اسم الفضة جاء مصغرا کالکمیت والثريا والعقيان الذهب الخالص ويقال هو ما ينبت نباتا وليس مما يحصل من الحجارة ونثارة الدر ما تناثر منه کالسقاطة والنخالة، وحصيد المرجان كأنه أراد المتبدد منه كما يتبدد الحب المحصود و يجوز أن یعنی به الصلب المحكم(1) .

ويُعد الذهب والفضة من المعادن المهمة عند العرب كما بينا، وقد وجدت تلك المعادن في مناطق مختلفة من الجزيرة العربية لاسيما في اليمن، وقد ذكر ان سيف بن ذي يزن لما طلب نصرة كسري ضد الحبشة رفض أول الأمر وأعطاه عشرة آلاف درهم، فرفضها ونثرها بين الناس وقال له: وما أصنع بالذي اعطاني الملك! ما جبال أرضي التي جئت منها إلا ذهب وفضة(2) . وذكر الهمداني أن اليمامة فيها كثير من المعادن إذ خصص لها باباً في كتابه سماه معادن اليمامة وديار ربيعة وهي تحتوي على ذهب غزير، ابرزها معدن الحسن، ومعدن الحفير بناحية عماية، ومعدن الضبيب عن يسار هضب القليب، ومعدن الثنية، ومعدن العوسجة، ومعدن شمام الفضة والصُّفر ومعدن تياس، ومعدن العقيق ومعدن الهجيرة ومعدن بني سليم(3) .

أما طرق استخراجه من الاماكن التي يتوافر وجوده فيها فهو إما أن يكون من الذهب الخالص وهذا لم يكلفهم مجهوداً يذكر، أو يكون مخلوطاً بالتراب أو موجوداً على شكل عروق بين الطبقات الصخرية فيتم فصله عن شوائبه بطريقتين، إما عن طريق الغربلة اذا كان ممزوجاً بالرمل والحصى، أو التصفية اذا كان مخلوطاً بالمرمر عن طريق قطعها إلى قطع صغيرة ثم طحنها ووضعها في الماء فيصفي التراب ويبقى الذهب(4) ، وذكر جواد

ص: 411


1- شرح نهج البلاغة، 6/ 312
2- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 2/ 140
3- صفة جزيرة العرب، ص267
4- طقوش، تاريخ العرب قبل الإسلام، ص60

على أن شركة التعدين السعودية عند تنقيبها في منجم (مهد الذهب) الذي كان لبنی سليم وعرف باسمهم (منجم سلیم) عثرت على ادوات فيه استعملها الأولون قبل الإسلام في استخراج الذهب واستخلاصه من شوائبه، مثل رحى وادوات تنظيف ومدقات ومصابيح(1) .

وقد انتشرت صناعة الحلي والمجوهرات في كثير من أنحاء الجزيرة العربية بعد أن كثر الطلب على ادوات الزينة التي تستعملها النساء والرجال، ومنها ما يعلق على الرقبة أو يوضع على الرأس، واهمها القلادة والاساور والتيجان والسلاسل، وكان الذهب يجلب إلى مكة من مناجم سليم ليتم تصنيعه أو ادخاره کسبائك ذهبية(2) ، وكذلك تميزت المدينة عن غيرها في هذه الصناعة وقد تخصص بها بنو قینقاع من اليهود(3) ، وكان لهم سوق خاص تباع فيه الحلي والمجوهرات وهو سوق الصاغة، يقصده الناس لشراء ما يطلبون من مصاغ(4) .

ومن المعادن الأخرى التي عرفها العرب الرصاص والعقيق، والرصاص ذكره ابن أبي الحديد من كلام الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أن حلقة من سلاسل النار وضعت على جبل لذاب كما يذوب الرصاص)(5) ، ومن أجود أنواعه الرصاص القلعي أو الرَّصاص الأَبيض وهو الخالص منه وعرف بالانك(6) ، واستخدم اهل اليمن الرصاص في صب اسس الاعمدة بين موضع اتصال الحجارة لترتبط بعضها

ص: 412


1- المفصل، 7/ 514
2- الخربوطلي، علي حسني، تاريخ الكعبة، دار الجيل، بیروت، (د.ت)، ص53
3- الشريف، مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، ص400
4- طقوش، تاريخ العرب قبل الإسلام، ص63
5- شرح نهج البلاغة، 10/ 30
6- ابن منظور، لسان العرب، 1/ 188، [مادة أنك]

ببعض(1) . أما العقيق، فقد ذكره ابن أبي الحديد في موضوع الرقي وكيف استخدمه العرب في استخراج أنواع من الخرز لاعتقادهم انها تجلب الخير وتدفع الشر(2) ، وهناك الكثير من انواع المعادن التي لم يذكرها ابن أبي الحديد كانت منتشرة في الجزيرة العربية وعرفها العرب قبل الاسلام(3) .

ذكرت بعض المصادر عدداً آخر من الصناعات والمهن الأخرى التي عرفها العرب قبل الإسلام، فقد حوت آيات القرآن الكريم على تسميات هي مصنوعات من وسائل الحياة عند العرب، مثل البيوت والحجرات والأواني المتنوعة والزينة والسلاح وأدوات الكتابة وغيرها(4) .

وورود تلك المصنوعات والأسماء في القرآن دليل على أن عرب الجزيرة العربية كانوا يستعملونها، وإذا اقتنعنا بوجودها فهذا يعني أنَّ هناك طبقة من العمال والصناع تمارس تلك المهن، وقد ذكر لنا الجاحظ بعض صناعات الاشراف فروى (أن أبا طالب كان يعالج العطر والبز، وأما أبو بكر وعمر وطلحة وعبد الرحمن بن عوف فكانوا بزازين، وكان سعد بن أبي وقاص يعذق النخل، وكان أخوه عتبة نجاراً، وكان العاص بن هشام أخو أبي جهل بن هشام جزاراً، وكان الوليد بن المغيرة حداداً، وكان عقبة بن معيط خماراً، وكان عثمان بن طلحة صاحب مفتاح البيت خياطاً، وكان أبو سفيان بن حرب

ص: 413


1- طقوش، تاريخ العرب قبل الإسلام، ص62
2- ينظر موضوع الرقي ص94من الرسالة
3- للتفصيل ينظر العباسي، اريج أحمد حسن، الثروة المعدنية في اليمن والحجاز قبل الإسلام واهميتها الاقتصادية، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة بغداد، 2004
4- من الأمثلة القرآنية، سورة الطور: ««وَالطُّورِ* وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ* فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ* وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ* وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ»، سورة الانسان: «إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ»، سورة الحجرات: «وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا* قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا»

يبيع الزيت والأدم، وكان أمية بن خلف يبيع البرم، وكان عبد الله بن جدعان نخاساً، وكان العاص بن وائل يعالج الخيل والإبل)(1) .

يبدو لنا أن هؤلاء لم يمارسوا هذه المهن بأيديهم في مكة مع نظرة المجتمع لمهنة الصناعة إذ انهم تجارٌ اكثر من كونهم صناعاً كما ان المذكورين هم من سادة مكة واشرافها، لذا يمكن أن يكون لهم وكالات اعمال يديرها غيرهم كالعبيد والاقل درجة منهم وهم اصحابها، لاسيما أن في مكة الكثير من العرب والعجم والرومان واغلبهم كانوا يمارسون المهن وتبادل السلع، وعليه فقد كان هؤلاء يديرون هذه الصناعات ولكن باموال اهل مكة واثريائها.

ومعظم هذه المهن كانت مرتبطة بالتجارة إذ تستخدم لغرض التبادل الزيادة حيوية وفائدة التجارة التي كانت من النشاطات المهمة قبل الإسلام، وكان بروز الاسواق المحلية والموسمية أثره في ازدياد الاهتمام بها، ولكن على الرغم من ذلك فان بعضهم كان ينظر إليها نظرة عدم احترام، حتى بعد مجيء الإسلام، فيذكر ابن أبي الحديد ان عمر بن الخطاب شتم المهاجر بن خالد بن الوليد بن المغيرة وعيَّره أمام مجمع من الناس فقال له: ياقين بن القين، وكان الوليد بن المغيرة مع مكانته في قريش وكونه يسمی ريحانة قريش ويسمى العدل ويسمى الوحيد، حداداً يصنع الدروع وغيرها بيده(2) .

والحدادة من الحرف الصناعية التي انتشرت عند العرب وذلك لحاجتهم الماسة إليها في حروبهم وكان الحداد يعرف ب (القين)، والجمع القيونُ. وقِنْتُ الشيء أَقينُهُ قَيْناً: لمتُه وأصلحته. وأنشد احدهم:

ص: 414


1- المحاسن والاضداد، ص107
2- شرح نهج البلاغة، 11/ 54

ولي کَبِدٌ مجروحةٌ قد بَدا بها *** صُدوعُ الهوَى لو كان قَیْنٌ يَقينُها(1)

وذكر ابن أبي الحديد ان خباب بن الأرّت (كان في الجاهلية قيناً حداداً يعمل السيوف)(2) .

والحدادة استخدمت في صناعة الآلات الزراعية التي يحتاجها المزارع كالمحراث ذي السكة الحديدية، والمسحاة والأسلحة ولعل اشهرها السيوف والدروع اليمانية التي اشتهرت بجودتها(3) ، وقد ذكر الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام السيوف المشرفية في خطبة له في استنفار الناس إلى أهل الشام فقال:

«فَأَمَّا أَنَا فَوَاللهِ دُونَ أَنْ أُعْطِيَ ذَلِكَ ضَرْبٌ بِالْمَشْرَفِيَّةِ تَطِيرُ مِنْهُ فَرَاشُ اَلْهَامِ وَ تَطِيحُ اَلسَّوَاعِدُ وَاَلْأَقْدَام»(4) .

وقال ابن أبي الحديد (المشرفية، السيوف المنسوبة إلى مشارف و هي قرى من أرض العرب تدنو من الريف)(5) . وفي أبيات شعر للصحابي عمار بن یاسر في صفين ذكرها ابن أبي الحديد قال:

سیروا إلى الأحزابِ أعداءِ النبي *** سیروا فخيرُ الناسِ أتباعُ علي

هذا أوانٌ طابَ سلُ المشَرفي *** وقؤْدُنا الخيلَ وَهَزٌ السَمهِري

والسَّمْهَرِيُّ الرُّمْحُ الصَّلِيبُ العُود يقال وتَرٌ سَمْهَرِیُّ شدید کالسَّمْهَرِيَّ من الرماح، ويقال

ص: 415


1- الجوهري، الصحاح، ص954، [مادة قين]، ابن منظور، لسان العرب، 7/ 419، [مادة قين]
2- شرح نهج البلاغة، 18/ 136
3- دلو، جزيرة العرب قبل الإسلام، ص108
4- ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، 2/ 151، [خطبة34]
5- شرح نهج البلاغة، 2/ 152

هي منسوبة إلى سَمْهَرٍ اسم رجل كان يَقَوَّمُ الرماحَ يقال رمح سَمْهَرِيُّ ورماح سَمْهَرِيَّةٌ(1) .

ومن المهن الأخرى المعروفة صناعة الفخار وهي صناعة عريقة تمتد جذورها إلى ما قبل التاريخ، إذ عثر علماء الآثار على أوانٍ فخارية وخزفية في اليمن في (قرية) عاصمة دولة كندة، وفي مواضع اخرى من جزيرة العرب، ومادة الفخار الطين أو الصلصال، يسوى على الشكل المطلوب، ويوضع تحت الشمس، فإذا جف فخر بالنار(2) ، واشتهرت مكة واليمن بصناعة الاواني الفخارية، وقد ذكر الإمام (عليه السلام) طريقة تميز اواني الفخار الصحيحة من المكسورة واستخدمها في خطبه فقال: (كما تعرف أواني الفخار بامتحانها بأصواتها فيعلم الصحيح منها من المكسور كذلك يمتحن الإنسان بمنطقه فيعرف ما عنده)(3) .

ومن الصناعات الأخرى صناعة الخمور وكانت صناعة كبيرة ومزدهرة عند العرب قبل الإسلام لانتشار شرب الخمر فيها، وقد ذكر ابن أبي الحديد مجموعة كبيرة من الروايات حول عادات العرب في شرب الخمر، ذكرناها في موضوع الأطعمة والأشربة في الفصل الثاني من الرسالة(4) ، وعدّت الطائف من المناطق المعروفة في صناعته لوجود العنب بكثرة في بساتينها، وما يؤيد ذلك ما رواه الواقدي حول قدوم وفد من ثقيف المفاوضة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم حول الدخول في الإسلام فقال لهم: أن الإسلام حَّرم الزنا والربا وشرب الخمر، فارتفع القوم وخلا بعضهم ببعض فقال عبد یالیل: ويحكم نرجع إلى قومنا بتحريم هذه الخصال الثلاث، والله لا تصبر

ص: 416


1- ابن منظور، لسان العرب،4/ 514، [مادة سمهر]
2- دلو، جزيرة العرب قبل الإسلام، ص125
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 20/ 213، الحكم المنسوبة [363]
4- ينظر الرسالة ص103

ثقيف عن الخمر أبداً، ولا عن الزنا(1) .

ومن هذه الرواية يمكن أن نستنتج مدى تأثير الخمر في الطائف وما يسببه تحريمه من تأثير على النفوس التي تغلغلت فيها عادة شرب الخمر، وكذلك الخسائر المادية الكبيرة التي سوف يخسرونها جراء توقف صناعته المثمرة لديهم.

واهتم الغساسنة بصناعة الخمور، وقد ذكر أحد المؤرخين المعاصرين (ان رسوم شجرة الكروم على جدران قصر المشتي الغساني الذي يرجع بنيانه إلى القرن السادس الميلادي، والرسم يمثل تطور هذه الشجرة ووصول ثمارها إلى مرحلة النضج، وريما يرجع هذا الاهتمام إلى استخدام ثمارها كمادة أولية في صناعة الخمور)(2) .

ثالثاً: التجارة:

التجارة لغة: من تَجَرَ، يَتْجُرُ، تَجْراً، وتِجَارَةً باع وشرى وكذلك اتَّجَرَ، التجاراً، وجمع التاجر، تجرٌ، وتَجار، وتُجار(3) ، والتاجر الذي يبيع ويشتري، ومن المجاز، التاجر الحاذق بالأمر، لما تحتاجه التجارة من ذكاء وحذق في مساومات البيع والشراء(4) ، وذكر جواد علي أن (التجارة تكون الحرفة الوحيدة عند العرب التي لم ينظر العربي إليها وإلى المشتغل بها نظرة استهجان، وازدراء، وانتقاص، بل اعتبرت عندهم من اشرف الحرف قدراً ومنزلة)(5) .

ص: 417


1- المغازي، 3/ 967
2- الموسوي، جواد مطر، دراسات في تاريخ الاقتصاد العربي قبل الإسلام الأحوال الاقتصادية في دولة الغساسنة، مجلة المجمع العلمي، مج53، ج1، بغداد، 2005، ص277
3- الرازي، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر (ت666ه)، مختار الصحاح، دار الكتاب العربي، (بیروت1981)، ص75، [مادة تجر]؛ ابن منظور، لسان العرب، 1/ 445، [مادة تجر]
4- علي، المفصل، 7/ 228
5- علي، المفصل، 7/ 227

وقد نشطت التجارة أول الأمر في اليمن وإمتدت إلى الهند وإلى افريقياً وإلى بلاد الشام والروم، حتى إذا ما هدت السيول سد مأرب اضطربت الحياة السياسية، فكسدت التجارة وانتقل نشاطها التجاري إلى مكة(1) ، إذ كان لموقعها الذي يتوسط العالم القديم وانفتاحها على اليمن والعراق وفارس والشام ومصر أثره الكبير في تنشيط حركة التجارة(2) . كذلك بان نفوذ القوى الاجنبية في الجزيرة العربية (الفرس والروم)، لم يستطع أن يطال مكة، المحصنة جغرافياً التي تحيطها الجبال من كل جانب.

ولعل اول بروز للتجارة في مكة كان قبل عهد قصي بن كلاب، لكنه نشّطها حيث جمع كل القبائل المحيطة به في مكة، وأرسل رسائل ورسلاً لكل الممالك والإمارات الموجودة في الجزيرة يؤمنهم على قوافلهم، ويدعوهم لموسم الحج، فأجابوه(3) .

ثم ازداد اهتمام مكة بالتجارة في عهد هاشم بن عبد مناف فقد ذكر ابن أبي الحديد (أن هاشما كان رجلا كثير السفر والتجارة فكان يسافر في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب و من ملوك اليمن و الشام کالعباهلة باليمن، واليكسوم من بلاد الحبشة، ونحو ملوك الروم بالشام فجعل لهم معه ربحا فيما يربح وساق لهم إبلا مع إبله فكفاهم مؤونة الأسفار، على أن يكفوه مؤونة الأعداء في طريقه ومنصرفه، فكان في ذلك صلاح عام للفريقين و كان المقيم رابحا والمسافر محفوظا فأخصبت قريش بذلك و حملت معه أموالها و أتاها الخير من البلاد السافلة و العالية و حسنت حالها وطاب عيشها)(4) .

ويبدو أن قريشاً كانت تحمل الأموال ومواد التجارة وتسير بها على شكل قوافل

ص: 418


1- الجبوري، يحيى، الجاهلية مقدمة في الحياة العربية لدراسة الأدب الجاهلي، مطبعة المعارف، (بغداد1968)، ص80
2- الهمداني، صفة جزيرة العرب، ص39
3- طوغان، مدعو النبوة في التاريخ الاسلامي، ص17
4- شرح نهج البلاغة، 15/ 152

منظمة لحماية تجارتها، وكان غالباً ما يرافق تلك القوافل حرس وأدلآء يختارونهم من القبائل التي تقع ضمن سير القوافل وذلك لأنهم أعلم بأماكن الماء والكلأ التي تحتاجها القافلة في سيرها من جهة، ولأنهم يعلمون مكامن الخطر الذي قد تتعرض لها القوافل داخل أرضهم من جهة أخرى.

وقد ذكر القرآن الكريم تلك الرحلات بقوله:

«لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ* إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ»(1) .

وهو ما كانوا يألفونه من الرحلة في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام لغرض التجارة، وقيل رحلة الشتاء إلى اليمن والحبشة والعراق(2) .

والإيلافُ هو العَهْدُ والذَّمامُ، وكان هاشم بن عبد مناف قد أَخذه من الملوك لقريش(3) ، ونقل من خلاله تجارة قريش من المحلية إلى العالمية، وقد وفّر لقريش عاملين رئيسين، الأول توثيق علاقاتهم مع الملوك الذين منحوهم مكانة خاصة في أراضيهم، والثاني إقامتهم للأحلاف والعهود مع القبائل التي تقع على طريق التجارة مما عزز من مكانة قريش وعلو كعبها بين العرب، وذكر ابن أبي الحديد في تفسير قوله تعالی:

«وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» رأيين:

الأول: هو خوف من كان في القوافل يمرون على القبائل والأعداء وهم مغتربون ومعهم الأموال.

ص: 419


1- سورة قريش
2- منيسي، اسلام نجاشي الحبشة ودوره في صدر الدعوة الإسلامية، دار الفكر العربي، (القاهرة2001)، ص30
3- ابن منظور، لسان العرب، 1/ 141، [مادة ألف)

والثاني: إن هاشماً جعل على رؤساء القبائل ضرائب يؤدونها إليه ليحمى بها أهل مكة، فإن ذؤبان العرب و صعاليك الأحياء و أصحاب الغارات كانوا لا يؤمنون على الحرم ولا سيما ناس من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة ولا للشهر الحرام قدرا، مثل طيئ وخثعم و قضاعة و كيفما كان الإيلاف فإن هاشما كان القائم به دون غيره من إخوته(1) .

ويبدو إن التفسير الاول أقرب للواقع، إذ اتفق عليه المفسرون بعبارات وصيغ مختلفة، فقيل في تفسير قوله تعالی:

«وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ»

أنهم كانوا يقولون: نحن قطان حرم الله سبحانه، فلا يعرض لهم أحد في الجاهلية، وإن كان الرجل ليصاب في الحي من أحياء العرب فقال: حرمي حرمي فيخلى عنه وعن ماله تعظيما للحرم(2) ، وقيل تفضل عليهم بالأمن والرخص فليفردوه بالعبادة وحده لا شريك له ولا يعبدوا من دونه صنماً ولا نداً ولا وثناً(3) .

أما التفسير الثاني الذي نقله ابن أبي الحديد فهو غريب فإذا كان هاشم هو من فرض الضرائب وحمي أهل مكة فهو أولى بالفضل عليهم وهذا مخالف لآيات السورة، وذكر الزرکشي أنَّ قوله تعالی:

ص: 420


1- شرح نهج البلاغة، 15/ 153
2- الصنعاني، عبد الرزاق بن همام (ت211ه)، تفسير القرآن، تحقيق مصطفی مسلم محمد، مکتب الرشید، (الرياض1989)، 3/ 398؛ الثعلبي، ابو اسحاق أحمد بن محمد بن ابراهيم النيسابوري (427ه)، الكشف والبيان (تفسير الثعلبي)، تحقيق: أبي محمد بن عاشور، مراجعة وتدقیق نظير الساعدي، دار إحياء التراث العربي، (بیروت2002)، 10/ 303
3- ابن کثیر، عماد الدين ابو الفداء اسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي (ت774ه)، تفسير القرآن العظيم، تحقيق يوسف عبد الرحمن المرعشلي، دار المعرفة، (بیروت1992)، 4/ 592

«الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ»

أي من جوع شديد وخوف عظيم(1) .

وقيل (وآمنهم من خوف عظيم، وهو خوف أصحاب الفيل، أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم)(2) .

وذكرت بعض المصادر أنَّ بني عبد مناف قد تقاسموا النشاط التجاري في مختلف البلدان المجاورة، فكان هاشم قد حصل على عهد أمان من القيصر البيزنطي لتجارة مكة الذاهبة إلى الشام، وعبد شمس حصل على عهد مماثل من الحبشة، والمطلب من اليمن، ونوفل من فارس لذا سمي ابناء عبد مناف ب (المجبرين) كما سموا ب (الايلاف)(3) .

وهذا يتناقض مع ما ذكره ابن أبي الحديد (إن أوَّل من أخذ الإيلاف لقريش هاشم بن عبد مناف، فلما مات قام أخوه المطلب مقامه، فلما مات قام عبد شمس مقامه فلما مات قام نوفل مقامه و كان أصغرهم)(4) ، وذكر ابن أبي الحديد أيضاً أنَّ عبد الله بن عباس قال: والله لقد علمت قريش أنَّ أول من أخذ الإيلاف وأجاز لها العيرات الهاشم، والله ما شدت قريش رحالاً ولا حبلاً بسفر ولا أناخت بعيراً لحضر إلا بهاشم(5) .

ص: 421


1- بدر الدين محمد بن عبد الله (ت794ه)، البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم، دار احياء الكتب العربية، (القاهرة1957) 3/ 155
2- ابو حیان، تفسير البحر المحيط، 8/ 516
3- ابن حبیب، المنمق، ص31- 40؛ ابن حبیب، المحبر، ص82؛ الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 2/ 252؛ العلاق، علاء ابو الحسن اسماعيل، السفارة والوفادة في الدولة العربية الاسلامية حتى نهاية العصر الراشدي، دار الشؤون الثقافية، (بغداد2009)، ص77
4- شرح نهج البلاغة، 15/ 152
5- شرح نهج البلاغة، 15/ 159؛ هذا الرأي نجده ايضاً عند ابن سعد، الطبقات الکبری، 1/ 57؛ اليعقوبي، تاریخ اليعقوبي، 1/ 270؛ درادكة، صالح موسی، بحوث في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار شیرین، الأردن1988)، ص102

يبدو من خلال قراءتنا لهذه النصوص أنَّ بني عبد مناف قد استخدموا اسلوباً جديداً في التعاملات التجارية عن طريق تقسیم مناطق التجارة بينهم، فكل واحد منهم يتحرك بمنطقته الخاصة بهم، وقد يتميز عنهم هاشم بكونه المحرك الرئيسي لهذه العلاقات، وهو من يوزع الأدوار على إخوته، وتوفي ثلاثة منهم وهم يمارسون التجارة بعيداً خارج مكة، فذكر ابن حبيب أنَّ هاشماً كانت تجارته إلى الشام فهلك بغزة، والمطلب تجارته إلى اليمن فمات بموقع يقال له (رمان)، وكانت تجارة نوفل إلى العراق فمات بموضع يقال له (سلمان)(1) .

وقد ذكر مطرود بن کعب الخزاعي مواقعهم، يمدح بني عبد مناف فقال:

أخْلَصُهُم عبدُ منافٍ فَهُمُ *** من لَوْمِ مَنْ لامَ بمنجاةِ قَبرٌ برَدْمانَ وقبرٌ *** بسلمانَ وقبرٌ عندَ غَزاتِ

وميتٌ ماتَ قريباً من *** الحجونِ من شرقِ البنياتِ(2) وذكر لنا ابن أبي الحديد أنّ هاشماً (قدم في تجارة له المدينة فنزل على عمرو بن زید فجاءته سلمي بطعام فأعجبت هاشما فخطبها إلى أبيها فأنكحه إياها)(3) ، وهذا يدل على أنَّ هاشماً لم يكتفِ بأخذ تجارته إلى الشام بل يسير بها إلى أماكن أخرى طلباً للتجارة والربح.

ويبدو أنّ رحلتي الصيف والشتاء اللتين تم ذكرهما هما الرحلتان الأساسيتان لأهل

ص: 422


1- المحبر، ص162- 163
2- یاقوت الحموي، معجم البلدان، 4/ 399
3- شرح نهج البلاغة، 15/ 160

مكة، وان هناك رحلات أخرى نجدها طوال السنة، فقد ذكرت المصادر التاريخية أنّ المسلمين كانوا قد اعترضوا أكثر من قافلة لأغراض التجارة قبل موقعة بدر خلال سنة واحدة، ثلاثة منها قادها الرسول ومنها سرية عبيدة بن الحارث، وسرية الحمزة، وغزوة الإيواء، وغزوة بواط، وغزوة ذات العشيرة، وسرية عبد الله بن جحش(1) .

وفي عهد عبد المطلب وصلت تجارة قريش إلى ذروتها، فقد بدأ القرشيون يجنون ثمار المعاهدات التجارية التي عقدها هاشم مع الدول المجاورة المحيطة بها ولم تكن علاقاتهم لأغراض التجارة فقط بل كانت هناك علاقات اقتصادية وسياسية مختلفة، وذكر ابن أبي الحديد أن عبد المطلب قد وفد على سيف بن ذي يزن لتقديم التهاني بنصره على الاحباش الذين احتلوا اليمن(2) ، وتعددت وفادات عبد المطلب إلى مختلف الطبقات الاجتماعية من حيث وظائفها بكونهم ملوكاً أو رجال دين(3) .

ونتيجة لخروج قريش بتجارتها إلى مناطق متعددة من البلدان وبقوافل مختلفة فقد حصلوا على أموال طائلة حققوها من أرباح التجارة، وذكر ابن أبي الحديد أنَّهم (كانوا يربحون في تجارتهم للدينار دينارا)(4) ، وقالوا لأبي سفيان بعد أنْ أفلت بقافلته من ايدي المسلمين قبل معركة بدر (بع العير ثم اعزل أرباحها فكانت العير ألف بعير و كان المال خمسين ألف دينار)(5) ، وقد حاول ابو سفیان حبس عير بني زهرة لأنهم رجعوا من

ص: 423


1- ابن هشام، السيرة النبوية، 2/ 71- 177؛ ابن سعد، الطبقات الکبری، 3/ 44-؛ ابن خیاط، ابو عمرو خليفة بن خیاط بن أبي هبيرة الليثي العصفري (240ه)، تاریخ خليفة بن خیاط، تحقيق مصطفى نجيب فواز وحکمت کشلي فواز، دار الكتب العلمية، (بیروت1995)، ص19- 26 49
2- شرح نهج البلاغة، 18/ 100، ينظر كذلك ابن قتيبة، المعارف، ص60
3- للتفصيل في أمر الوفادات ينظر القريشي، عباس امره، آل عبد المطلب وأثرهم في الحياة العامة حتى نهاية العصر الراشدي، فص3، ص169- 172
4- شرح نهج البلاغة، 14/ 165
5- شرح نهج البلاغة، 14/ 165

طريق بدر، و سلم ما كان لمخرمة بن نوفل و لبني أبيه و بني عبد مناف بن زهرة فأبى مخرمة أن يقبل عيره حتى يسلم إلى بني زهرة عيرها، و أخذ أقوام من أهل مكة أهل ضعف لا عشائر لهم ولا منعة كل ما كان لهم في العير(1) .

من خلال قراءتنا لهذه الروايات يمكن أن نستنتج الآتي:

1- إن تجارة مكة كانت مربحة جداً إذ يكون الربح مضاعفاً الدينار بدينار، وهذا ما أدى بعد ذلك إلى ظهور فئة من كبار التجار والاغنياء كان لهم دور كبير في السيطرة على اقتصاد مكة وتجارتها، وكان اغلب اهل مكة يشتغلون بالتجارة، وذكر ابن أبي الحديد عند الحديث عن قافلة أبي سفيان أنَّه (كان فيها أموال عظام و لم يبق بمكة قریشي ولا قريشية له مثقال فصاعدا إلا بعث به في العير حتى إن المرأة لتبعث بالشيء التافه وكان يقال إن فيها لخمسين ألف دينار و قالوا أقل)(2) .

2- كانت قافلة أبي سفيان تحتوي (ألف بعير) وهو عدد كبير لقافلة تجارية مما يدل على كبر حجم التجارة في قريش.

3- كانت أموال التجارة تستخدم كوسيلة ضغط على رجالات قريش الخارجين عن سياستها، وهذا ما رأيناه من محاولة منع عير بني زهرة وأخذها من بعض أقوام أهل مكة لأنهم رجعوا عن المشاركة مع أهل قريش في معركة بدر.

وكانت قريش تفرض الضرائب على التجار الغرباء ومن هذه الضرائب ضريبة العشر، فقد ذكر الأزرقي أن أهل مكة كانوا يعشرون من دخلها من تجار الروم(3) ،

ص: 424


1- شرح نهج البلاغة، 14/ 165
2- شرح نهج البلاغة، 14/ 72
3- اخبار مكة، 1/ 126

وكذلك تجار الفرس وأقباط مصر والعرب الذين لا يرتبطون بحلف معها، وقد توافد على مكة عدد من هؤلاء واقاموا فيها وتحالفوا مع أثريائها، ومنهم من أقام بمكة نظير دفع جزية مقابل حمايتهم وحفظ اموالهم وتجارتهم(1) ، وهذه الضرائب هي شبيهة بالرسوم الكمركية التي كانت قريش تفرضها على التجارة الداخلة إليها لتحافظ على اسواقها وتدعم تجارتها.

وهناك من قال (في مكة نفسها بيوت تجارية رومانية يستخدمها الرومانيون للشئون لتجارية والتجسس على أحوال العرب)(2) . ويبدو لنا أنَّ مكة كانت على درجة كبيرة من الأهمية التجارية إذ يتواجد فيها أشبه ما يسمى اليوم بالقنصلية الخارجية لإدارة شؤون البلاد المحيطة بها تجارياً وسياسياً، وأهل مكة في الوقت نفسه كانوا يحاولون الحفاظ على تجارتهم وهذا ما يفسر لنا قيامهم بمساندة حليفتهم كنانة في حرب الفجار بعد أن اعتدى البراض على عروة الرحال الذي كان أجيراً لقافلة تجارية للنعمان بن المنذر في الشهر الحرام فوقعت الحرب بين قيس وكنانة(3) .

وذكر لنا ابن أبي الحديد أنَّ حلف الفضول كان سببه حماية التجارة والتجار في مكة، فقد كان رجلٌ من بني أسد قد قدم مكة معتمرا ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل السهمي ولم يعطه حقها فاستنفر أهل قريش فنصروه(4) ، و قدم رجل من ثمالة من الأزد مكة فباع سلعة من أبي بن خلف الجمحي، فمطله بالثمن وكان سيئ المخالطة، فأتى الثمالي أهل حلف الفضول فأخبرهم فقالوا اذهب فأخبره أنك قد أتيتنا فإن أعطاك

ص: 425


1- اسماعیل، حلمي محروس، الشرق العربي القديم وحضارته بلاد ما بين النهرين والشام والجزيرة العربية القديمة، مؤسسة شباب الجامعة، (الاسكندرية1997)، ص229
2- صالح، أحمد عباس، اليمين واليسار في الإسلام، ط2، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، (بیروت1973)، ص19
3- ينظر تفاصل حرب الفجار ص347من الرسالة
4- شرح نهج البلاغة، 15/ 170

حقك فخذه وإلا فارجع إلينا فأتاه فأخبره بما قال أهل حلف الفضول فأخرج إليه حقه(1) ، وإن رجلا من خثعم قدم مكة تاجرا ومعه ابنة يقال لها القتول فعلقها نبيه بن الحجاج السهمي فلم يبرح حتى غلب أباها عليها ونقلها إليه، فقيل لأبيها عليك بحلف الفضول فأتاهم فشكا إليهم ذلك، فأخرجوها وأعطوها أباها(2) .

ويبدو لنا أنَّ حلف الفضول كان له تأثير كبير على حماية التجار الغرباء القادمين إلى مكة من المستغلين، كي تكون مكة مدينة آمنة مستقرة لا يضيع فيها العدل ويصان فيها حق الغريب، إذ ان أخبار حماية التجار وتوفير الأجواء المناسبة لهم كانت تدخل الطمأنينة في نفوس القادمين إليها، مما زاد من حضورهم، ورفع شأن التجارة في مكة.

كانت العملات السائدة في مكة والحجاز (الدينار والدرهم) وهما عملتان اجنبيتان، فالدينار لفظة مشتقة من اللفظة اليونانية اللاتينية (دیناریوس)، اما الدرهم فلفظ مشتق من الدراهمة اليونانية، واستعاره العرب من الفرس، والدرهم وحدة فضية، ولكون العرب لا يملكون داراً للسكة، وباعتبارهم وسطاء للتجارة بين الشرق والغرب كانوا يتعاملون بهاتين العملتين(3) ، ويبدو أن الدينار يساوي عشرة دراهم وهذا ما يمكن استنتاجه من كلام الإمام علي عليه السلام وهو يخاطب اهل الكوفة:

«أَيُّهَا اَلْقَوْمُ اَلشَّاهِدُ أَبْدَانُهُمْ اَلْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ اَلْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ اَلْمُبْتَلَى بِهِمْ أُمَرَاؤُهُمْ صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اَللهَ و اَنْتُمْ تَعْصُونَهُ وَ صَاحِبُ أَهْلِ اَلشَّامِ يَعْصِي اَللهَ وَ هُمْ يُطِيعُونَهُ لَوَدِدْتُ وَ اَللهِ أَنُّ مُعَاوِيَةَ صَارَفَنِي بِکُمْ صَرْفَ اَلدَّينَارِ بِالدَّرْهَمِ فَأَخَدَ مِنَّي عَشَرَةَ

ص: 426


1- شرح نهج البلاغة، 15/ 169
2- شرح نهج البلاغة، 15/ 168
3- سالم، تاريخ الدولة العربية، ص256

مِنْكُمْ وَأَعْطَانِي رَجُلاً مِنْهُمْ»(1) .

وقد ورد ذكر بعض هذه العملات في القرآن الكريم منها قوله تعالی:

«وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأمَنْهُ بِقِنِطَارٍ يُؤَدَّهِ إِلَيكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَامَنْهُ بِديِنَارٍ لاَّ يُؤَدَّهِ إِلَيكَ»(2) .

وقوله تعالی:

«وَشَروْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوْا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدينَ»(3) .

ومن البضائع المستخدمة في التجارة التي ذكرها ابن أبي الحديد الأدمُ(4) وهي الجلود المذهبة التي كانت تصنع في الطائف واليمن(5) ، وكانت تصدر بشكل رئيسي إلى الحبشة وقد ذكر ابن أبي الحديد روايتين: الأولى قيام عمرو بن العاص بإهداء النجاشي أدما كثيرا، إذ ذكر ابن العاص أن أحب ما يأتيه من أرضنا الأدم، وذلك عندما أراد استرجاع المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة(6) ، والثانية في قصة عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص اللذين خرجا إلى الحبشة للتجارة شريكين فحصل خلاف بينهما على السفينة قبل وصولهما الحبشة(7) .

ويبدو أن السفن هي الطريق الوحيد لنقل البضائع التجارية إلى الحبشة لوجود البحر بينهما، ولم نقرأ أن المكيين كانوا يمتهنون الملاحة أو ركوب البحر، لذلك من الأرجح أن

ص: 427


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7/ 54، [خطبة196]
2- سورة ال عمران: الاية75
3- سورة يوسف: الاية20
4- شرح نهج البلاغة، 9/ 249
5- الملاح، الوسيط، ص281
6- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6/ 249
7- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6/ 239؛ تفاصيل القصة ص109من الرسالة

السفن التي كانوا يستأجرونها قد تكون مصرية أو حبشية وهم مشهورون بركوب السفن.

ومن البضائع الاخرى التي كانوا يتاجرون بها العطور المستوردة من اليمن وكذلك سلع الهند وأفريقيا المصدرة لها كالذهب والقصدير والعاج وخشب الصندل والتوابل والأقمشة الحريرية، والزيت الذي كان المكيون يشترونه من بلاد الشام لصفائه ونقاوته وجودته وكذلك القمح والزيتون، وكانت تجارة قريش تذهب إلى العراق حاملة حاصلات اليمن والحجاز، وتعود حاصلات العراق وبما يحتاجه اهل اليمن والحجاز من بضاعة(1) ، ومن شرق أفريقيا والحبشة تصلهم بضائع مثل الرقيق والعاج والذهب وريش النعام والقردة(2) .

وأدى نجاح تجارة القوافل في مكة إلى تركز الثروات الكبيرة بأيدي فئة قليلة من التجار الأغنياء، وقد أتاحت لهم كثرة أموالهم وزعامة بعضهم لعشائرهم فرصة لتوظيف أموالهم في التجارة بشكل أفضل، وقد ذكر ابن أبي الحديد قسماً منهم مثل أسرة بني عبد مناف، هاشم وعبد شمس ونوفل والمطلب(3) ، ومن التجار الآخرين عبد الله بن جدعان، وقد ذكره ابن أبي الحديد عند الحديث عن حلف الفضول إذ عقد الحلف بداره(4) ، وكان نخاساً يشتغل بتجارة الرقيق وكان عظيم الثراء(5) ، ومنهم أسرة آل أبي أحيحة، إذ كان لآل سعید بن العاص أبي أحيحة في قافلة أبي سفيان التي تعرض لها المسلمون قبل معركة بدر

ص: 428


1- علي، المفصل، 7/ 294؛ دلو، جزيرة العرب قبل الإسلام، ص149، الموسوي، دراسة في تاريخ الاقتصاد العربي قبل الإسلام، ص279
2- حتي، فيليب، وآخرون، تاريخ العرب، ط5، دار غندور، (بیروت1972)، ص81
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15/ 152
4- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15/ 153
5- سالم، تاريخ الدولة العربية، ص255

أكثر ما فيها من المال، إما مال لهم، أو مال مع قوم قراض على النصف(1) ، وكانت اسرة بني مخزوم من الأسر المكية فاحشة الثراء منهم الوليد بن المغيرة، وهو الذي قالت بشأنه قریش لما نزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم:

«وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ»(2) .

وكانت لبني مخزوم فيها مائتا بعیر و خمسة أو أربعة آلاف مثقال ذهباً، في قافلة أبي سفيان(3) ، وكان للنساء دور كبير في تجارة قريش فيذكر أنَّ السيدة خديجة كانت تمتلك كمية من الأموال، وترسل الرجال ليتاجروا لها في مالها فتجعل لهم حصصاً من الأرباح، فلما بلغها أمانة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدقه وكرم أخلاقه بعثت إليه وعرضت أن يخرج في مالها تاجراً إلى الشام فنجح بتجارته وأكسبها مالاً كثيراً(4) .

ووجدت مكة منافسة تجارية من المناطق المحيطة بها لا سيما يثرب، إذ ذكر أنّ قبائل اليهود بالمدينة كانت مشتغلة بالتجارة، حتى كانت المدينة منافسة في ذلك العصر لمكة(5) .

ارتبط بالتجارة الكثير من الفعاليات الاقتصادية، لعل أبرزها اقراض الأموال بالربا، إذ استثمر الكثيرون من اثرياء مكة رؤوس أموالهم في إقراض المحتاجين بربا فاحش وكان المرابون يستغلون حاجة الناس إلى المال للمشاركة في رحلات القوافل التجارية، أو لشراء مؤنهم قبل أوان الموسم، وعند عدم سداد الدين يزداد مقدار الربا، وقد يبلغ الربا

ص: 429


1- شرح نهج البلاغة، 14/ 72
2- سورة الزخرف: الاية31
3- شرح نهج البلاغة، 14/ 72
4- للتفاصيل ينظر الشرهاني، حسين علي، حياة السيدة خديجة من المهد الى اللحد، دار الهلال، (بیروت2005)، ص133- 158
5- سیدیو، خلاصة تاريخ العرب،، دار الآثار، (بیروت1309ه)، ص35

مئة بالمئة فكان الدرهم يستوفي درهمين والدينار دينارين(1) ، وكان الربا يجلب الشقاء المادي والاستعباد على الفئات المستضعفة، لذلك حرمه الإسلام بعد مجيئه، فقد ذكر ابن أبي الحديد أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذكر في حجة الوداع:

«إن ربا الجاهلية موضوعٌ و أولُ ربا أبدأ به ربا العباسِ بنِ عبدِ المطلب»(2) .

ص: 430


1- سلامة، عواطف اديب علي، قریش قبل الإسلام دورها السياسي والاقتصادي والديني، دار المريخ، (الرياض1994)، ص238؛ دلو، جزيرة العرب قبل الإسلام، ص152
2- شرح نهج البلاغة، 1/ 143؛ ينظر الحديث عند الطبري، محمد بن جریر، جامع البیان، 3/ 149؛ الريشهري، محمد، العقل والجهل في الكتاب والسنة، دار الحديث، (بیروت2000)، ص365

المبحث الثاني: أسواق العرب قبل الإسلام

تعد الأسواق من النشاطات الاقتصادية المهمة عند العرب قبل الإسلام إذ ارتبطت بحياتهم فهي لم تكن مكاناً للتجارة والمقايضة فقط بل كانت مظهراً من مظاهر الحضارة والرقي والوعظ والارشاد تتبادل فيه الآراء، والتشاور في حل المشاكل، وميداناً للمفاخرات والمنافرات ومنبراً للشعر والبلاغة والأدب، وذكر ابو حيان التوحيدي أنّ (ما يدلّ على تحضّرهم في باديتهم، و تبدّيهم في تحضّرهم، و تحلّيهم بأشرف أحوال الأمرين، أسواقهم التي لهم في الجاهليّة)(1) .

والسوق، موضع البياعات، والجمع أسواق، وتَسَوَّق القومُ إذا باعوا واشتَروا(2) ، والأسواق في الجزيرة العربية كثيرة ومتنوعة منها ما هو دائم يستمر طوال العام ويقوم في المدن والقرى، ومنها ما هو موسمي يقام في مواقع معلومة وأيام معلومة محددة، ومن هذه الأسواق ما يقوم في الأشهر الحرم ولا يقوم في غيرها، و منها ما لا يقوم في الأشهر الحرم، و يقوم في غيرها لكنّه لا يصل أحد إليها إلا بخفير ولا يرجع إلا بخفير(3) .

وما يهمنا هنا هو الاسواق الموسمية، اذ اختلف المؤرخون في عددها فقد ذكر ابن

ص: 431


1- علي بن محمد بن العباس (ت400ه)، الامتاع والمؤانسة، مكتبة العصرية، (بیروت1424ه)، ص76
2- ابن منظور، لسان العرب، 4/ 556، [مادة سوق]
3- المرزوقي، الازمنة والامكنة، ص382؛ طقوش، تاريخ العرب قبل الإسلام، 95

حبيب اثني عشر سوقاً عدّها اسواق العرب المشهورة وهي (دومة الجندل، المشقر، صحار بعمان، دبا، الشحر، عدن، صنعاء، عکاظ، الرابية بحضرموت، ذو المجاز، نطاة بخيبر، حجر باليمامة)(1) ، فيما ذكر اليعقوبي عشرة اسواق قال يجتمعون فيها في تجارتهم ويجتمع فيها سائر الناس وهي (دومة الجندل، المشقر، صحار، دبا، الشحر، عدن، صنعاء، الرابية، عکاظ، نطاة بخيبر)(2) ، بينما ذكر الهمداني أحد عشر سوقاً (عدن، ومكة، والجند، ونجران، وذو المجاز، وعكاظ، وبدر، ومجنَّة، ومني، وحجر اليمامة، وهجر البحرين)(3) ، وقال المرزوقي انها ثلاثة عشر سوقاً (فأوّلها قياما: سوق دومة الجندل، ثم صحار، ثم دبا، ثم الشّحر، ثم رابية حضرموت، ثم ذو المجاز، ثم نطاة خیبراً، ثم المشقر، ثم حجر باليمامة، ثم منى، ثم عكاظ، ثم عدن، ثم صنعاء)(4) .

وقد أورد سعيد الأفغاني عدة جداول لمجموعة من المؤرخين يبين فيها عدد هذه الاسواق على وفق رأي كل مؤرخ وحسب تاريخ انعقاد کل سوق إذ وصلت إلى ستة وعشرين سوقاً(5) ، وذكر احد الباحثين (أنَّ هذه الأسواق في الأصل مراكز للعبادة ثم تحولت إلى اسواق تجمع القبائل في مكان محدد يشجع على البيع والشراء وللمقايضة بالسلع والحاجات التي تجلب وتختلف من قبيلة إلى أخرى)(6) .

وعلى الرغم من كثرة تلك الأسواق(7) وتعدد مناطقها الا ان ما يهمنا منها هو ما

ص: 432


1- المحبر، ص263
2- تاريخ اليعقوبي، 1/ 230
3- صفة جزيرة العرب، ص296
4- الأزمنة والامكنة، ص382
5- اسواق العرب في الجاهلية والاسلام، (دمشق، 1960)، ص217- 227
6- الحسيناوي، مرتضی جلیل جعيلان، دور الحج في تطور الأحوال الفكرية والاقتصادية في الدولة العربية الاسلامية إلى نهاية القرن الرابع الهجري، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة البصرة، 2002، ص23
7- الكبيسي، حمدان عبد المجيد، اسواق العرب قبل الإسلام، مجلة آداب المستنصرية، العدد الرابع، بغداد، 1979، ص81- 112

ذكره ابن أبي الحديد في شرحه إذ ذكر مجموعة من تلك الأسواق أثناء شرحه لخطب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام إما تعليقاً عليها أو التطرق إليها من باب الفائدة أو التوسع، ومن أهم تلك الأسواق:

أولا: سوق عكاظ:

وهو من الأسواق المهمة عند العرب قبل الإسلام وقد ورد ذكره في خطبة للامام علي عليه السلام في ذكر الكوفة:

«کَاَنَّي بِكِ یَا کُوفَةُ تُمَدَّينَ مَدَّ اَلْأَدِيمِ اَلْعُكَاظِيَّ تُعْرَکِينَ بِالنَّوَازِلِ وَ تُرْکَبِينَ بِالزَّلاَزِلِ»(1) .

وذكر ابن أبي الحديد تعليقاً على كلام الإمام عليه السلام بأن عکاظاً اسم سوق للعرب بناحية مكة كانوا يجتمعون به في كل سنة يقيمون شهرا ويتبايعون ويتناشدون شعراً ويتفاخرون، وأكثر ما كان يباع الأديم بها فنسب إليها، قال أبو ذؤيب:

إذا بُنِيَ القبابُ علی عكاظٍ *** وقامَ البيعُ و اجتَمَعَ الألوفُ(2)

وعُكاظ، مشتق من القول عكظت الرجل عكظا، إذا قهرته بحجتك لأنهم كانوا يتعاكظون هناك بالفخر(3) ، وقيل إن التسمية جاءت من عَكَظ دابَّتَه يَعْکِظُها عَکْظاً،

ص: 433


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3/ 154، [خطبة47]
2- شرح نهج البلاغة، 3/ 154
3- البكري، أبو عبيد عبدالله بن عبد العزيز الاندلسي (ت487ه)، معجم ما استعجم من اسماء البلاد والمواضع، تحقيق مصطفى السقا، ط3، عالم الكتب، (بیروت1403ه)، 3/ 960

حبَسها، وتعَکَّظ القومُ تَعَکُّظاً، إِذا تَحَبَّسُوا لينظروا في أُمورهم(1) ، وهي نَخْلٌ في وَادٍ بَيْنَهُ وبَيْنَ الطَّائِفِ لَيْلَةٌ، وبَيْنَهُ وبَيْنَ مَكَّةَ ثَلاثُ لَيَالٍ، وبه أموال ونخل الثقيف وبِهِ كانَتْ تُقَامُ سُوقُ العَرَبِ(2) وكانت قريش تنزلها، و هوازن، و غطفان، و خزاعة، و الأحابيش، و هم الحارث بن عبد مناة، وعضل، والمصطلق، وطوائف من أفناء العرب ينزلونها في النصف من ذي القعدة فلا يبرحون حتى يروا هلال ذي الحجّة(3) .

وذكر الادريسي أنَّ سوق عكاظ قرية كالمدينة جامعة لها مزارع و نخل ومياه كثيرة، ولها سوق يوما في الاسبوع وذلك يوم الأحد، يقصد إليها في ذلك اليوم بأنواع من التجارات المحوج إليها أهل تلك الناحية، فإذا أمسى المساء انصرف كل أحد إلى موضعه ومكانه(4) .

وكان أشراف العرب يتوافون إلى السوق مع التّجار إذ كان لكلّ شریف سهم من الأرباح، ولا يوافيها شريف إلا وعلى وجهه برقع، مخافة أن يؤسر يوما، فيكبر فداؤه، فكان أوّل من کشف القناع طريف العنبري لما رآهم يتطلعون في وجهه ويتفرّسون في شمائله، قال: قبح من وطّن نفسه إلا على شرفه، ورمی بالقناع وحسر عن وجهه(5) ، وكان الملك من ملوك اليمن يبعث بالسّيف الجيد والحلّة الحسنة والمركوب الفاره فيقف بها وينادي عليه ليأخذه أعزّ العرب، يراد بذلك معرفة الشّريف والسّيد فيأمره بالوفادة

ص: 434


1- ابن منظور، لسان العرب، 6/ 256، [مادة عكظ]
2- البكري، معجم ما استعجم، 3/ 959؛ ابن منظور، لسان العرب، 6/ 256، [مادة عكظ]؛ الافغاني، اسواق العرب في الجاهلية والاسلام، دار الفكر، (دمشق1996)، ص286
3- المرزوقي، الأزمنة والامكنة، ص385
4- نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، 1/ 152
5- المرزوقي، الازمنة والامكنة، ص386

عليه و يحسن صلته وجائزته(1) .

واختلف المؤرخون في موعد انعقاده ومدته:

1- منهم من يعتقد أن العرب كانوا ينزلونها في النصف من ذي القعدة فلا يبرحون حتى يروا هلال ذي الحجّة(2) .

2- منهم من يعتقد أنَّ الناس يصبحون بعكاظ يوم هلال ذي القعدة، فيقيمون به عشرين ليلة، تقوم فيها أسواقهم بعكاظ، يدخل بعضهم في بعض للبيع والشراء، ويجتمعون في بطن السوق، فإذا مضت العشرون انصرفوا إلى مجنة، فأقاموا بها عشرا، أسواقهم قائمة، فإذا رأوا هلال ذي الحجة انصرفوا إلى ذي المجاز(3) .

3- ذکر آخرون أنَّ السوق تقام في شهر شوال ثم تنتقل إلى سوق مجنة فتقيم فيه عشرين يوماً من ذي القعدة ثم تنتقل إلى سوق في المجاز فتقيم فيه إلى أيام الحج(4) .

ويبدو لنا أن الأقرب من تلك الروايات هي الرواية الثانية إذ إتفق عليها اغلب المؤرخين من جهة وإن وقتها مناسب لتتزامن الاسواق الثلاثة الخاصة بموسم الحج مع التجارة، أما عن بداية السوق ونهايته فلا يوجد هناك نص ثابت عن وقت بداية السوق إذ ذكر البكري انها اتخذت بعد الفيل بخمس عشرة سنة(5) ، إلا أن سعيد الأفغاني فندّ

ص: 435


1- المرزوقي، الازمنة والامكنة، ص385
2- ابن حبیب، المحبر، ص267؛ المرزوقي، الازمنة والامكنة، ص385
3- الازرقي، اخبار مكة، 1/ 149؛ الاصفهاني، الاغاني، 22/ 39؛ الافغاني، سعید، اسواق العرب في الجاهلية والاسلام، ص289؛ الملاح، الوسيط، ص290؛ زیدان، التمدن الاسلامي، مج2، 3/ 38؛ دلو، برهان الدين، جزيرة العرب فيل الإسلام، ص663
4- ياقوت الحموي، معجم البلدان، مج3، 6/ 342، [مادة عكاظ]
5- معجم ما استعجم، 3/ 151

تلك الرواية وأرجع تأسيس السوق إلى ما قبل (500سنة)، وذلك لأن الروايات تقول إن الرسول محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان ينبل على أعمامه في حروب الفجار وعمره (اربع عشرة سنة) أي بعد الفيل بأربع عشرة سنة فتكون الفجار ونبل الرسول فيها قبل وجود عكاظ بسنة وهو تناقض واضح، إذ أن المعروف أن حرب الفجار قامت وعکاظ سوقٌ موجودة يتداول إليه الناس كذلك ورد في الروايات أنَّ عمرو بن كلثوم انشد قصيدته في عكاظ، وهو عاش حوالي سنة500میلادية(1) ، أما نهاية السوق فإنتهى مع مجيء الإسلام وتركت عام الحرورية بمكة مع أبي حمزة المختار بن عوف الأزدي سنة تسع وعشرين ومئة(2) .

وكان عکاظ سوقا تجارية كبرى عامة لأهل الجزيرة يعرض فيها للبيع كل انواع البضاعات وخصوصاً الأدم، وقد ذكر ابن أبي الحديد أنَّ أكثر ما كان يباع فيها الأديم فنسب إليها. و الأديم واحد و الجمع أدم(3) ، كذلك كان التجار يحملون إليه من كل بلد تجارته وصناعته فالخمر من هجر والعراق، والسمن من البوادي ومن اليمن البرود الموشاة والأدم وانواع الطيب والسلاح(4) ، وهكذا تحول عکاظ إلى مركزٍ لعمليات الشحن والتفريغ للبضائع التجارية، تستقبل البضائع من مختلف المناطق وتقوم بنقلها إلى اماكن مختلفة وحسب متطلبات السوق.

لم يكن عکاظ سوقاً للبيع والتجارة فقط، بل كان مجمعاً ثقافياً وأدبياً واعلامياً يحوي الكثير من الفعاليات التي كانت ترافق انعقاد السوق، فيذكر ابن أبي الحديد أنَّ النابغة الذبياني كان يضرب له قبة أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها،

ص: 436


1- اسواق العرب في الجاهلية والاسلام، ص342
2- الازرقي، اخبار مكة، 1/ 151؛ البكري، معجم ما استعجم، 3/ 959
3- شرح نهج البلاغة، 3/ 154
4- الافغاني، اسواق العرب في الجاهلية والاسلام، ص278؛ برو، تاريخ العرب القديم، ص247

فأنشده مرة الأعشى ثم حسان بن ثابت ثم قوم من الشعراء ثم جاءت الخنساء فأنشدته:

وإنَّ صخراً لتأتمُّ الهداةُ بِهِ *** كأنَّهُ عَلَمٌ في رأسِه نارُ(1)

فقال لولا أن أبا بصير يعني الأعشى أنشدني آنفا لقلت إنك أشعر الإنس والجن فقام حسان بن ثابت فقال أنا والله أشعر منها ومن أبيك فقال له النابغة يا ابن أخي أنت لا تحسن أن تقول:

فإنك كالليلِ الذي هوُ مُدركي *** وإن خلتْ أن المتأى عنكَ واسعُ

خطاطيفُ حجنٍ في حبالٍ متينةٍ *** تمدُّ بها أيدٍ إليكَ نوازع

قال فخنس حسان لقوله(2) .

هكذا نرى أنّ النابغة كان ناقداً ومحكماً للشعراء الذين كانوا يتسابقون لإلقاء قصائدهم في هذا التجمع السنوي، ويقال (انهم كانوا أذا أقروا على فضل قصيدة علقوها هناك أو في الكعبة، ومنها المعلقات السبع)(3) .

وفي هذا السوق فرضت قریش لهجتها على القبائل الوافدة من الأطراف البعيدة إذ كان الشعراء على مختلف قبائلهم وتباعدها وتقاربها يتفقون على لهجة أدبية فصحى واحدة هي لهجة قريش، إذ يرتفع الشاعر عن لهجة قبيلته المحلية وينظم شعره باللهجة

ص: 437


1- الخنساء، الديوان، ص43
2- شرح نهج البلاغة، 20/ 134
3- الزوزني، ابو عبد الله الحسين بن أحمد (ت486ه)، شرح المعلقات السبع، الدار العالمية، (بيروت1992)، ص7مقدمة لجنة التحقيق؛ زیدان، التمدن الإسلامي، مج2، 3/ 39

الأدبية العامة(1) ، والخطابة كانت من ابرز الانشطة الفكرية والثقافية للعرب فكانت بعكاظ منابر في الجاهلية يقوم عليها الخطيب بخطبته وفعاله وعدّ مآثره، وأيّام قومه من عام إلى عام(2) .

وذكر ابن أبي الحديد أنَّ ضرار بن عمرو الضبي هو الذي رفع عقيرته(3) بعكاظ وقال: ألا إن شر حائل أم فزوجوا الأمهات(4) ، وكان قس بن ساعدة من أشهر من خطب في عكاظ، وهو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر خطبته بعكاظ(5) .

وكان هناك في سوق عكاظ مستوى من التقاضي، لحاجة العرب إلى وجود جهة تقضي بين الناس على نحو معين من الحكم والقضاء(6) ، وكان أصحاب المظالم يتواعدون بها للتقاضي في أثناء مدة اقامتهم في السوق، إلى قضاة عكاظ في منازعات تتعلق بالمتاجرة، كالبيوع، والديون، والرهون، وغيرها(7) ، وذكر ابن أبي الحديد أنَّ الوليد بن المغيرة كان يجلس أيام عكاظ فيحكم بين العرب و قد كان رجل من بني عامر بن لؤي رافق رجلا من بني عبد مناف بن قصي فجرى بينهما كلام في حبل فعلاه بالعصا حتى قتله فكاد دمه يطل فقام دونه أبو طالب بن عبد المطلب و قدمه إلى الوليد فاستحلفه

ص: 438


1- حسنين، حنفي، الشعر الجاهلي مراحله واتجاهاته الفنية، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، (مصر1970)، ص20
2- المرزوقي، الأزمنة والأمكنة، ص385
3- العقيرَةُ: الساق المقطوعة. وقولهم: رفع فلانٌ عَقيرتَهُ، أي صوته. وأصله أنَّ رجلاً قُطِعت إحدى رجليه، فرفعها ووضعَها على الأخرى وصرخ، فقيل بعدُ لكلُّ رافعٍ صوتَه: قد رفع عَقيرَتَهُ، ينظر الجوهري، الصحاح، ص768، [مادة عقر]
4- شرح نهج البلاغة، 18/ 268
5- ينظر نص الخطبة وكلام الرسول (صلی الله عليه واله وسلم)، في ص185من الرسالة
6- جاسم، مهند ماهر، القضاء في العصر الأموي، دار الحقائق، سورية، (د.ت)، ص20
7- حمور، عرفان محمد، سوق عكاظ ومواسم الحج، مؤسسة الرحاب، (بیروت2000)، ص77

خمسين يمينا أنه ما قتله(1) ، وقد ذكر ابن حبيب قائمة باسماء من اجتمع له الموسم وقضاة عكاظ من بني تميم وكان عددهم (عشرة) أخرهم سفیان بن مجاشع بن دارم التميمي الذي مات فأفترق الأمر فلم يجتمع الموسم والقضاء لأحد منهم حتى جاء الإسلام فكان محمد بن سفيان بن مجاشع يقضي بعكاظ فكان آخر من قضى بينهم(2) .

كان في عكاظ تجمعٌ لبيع العبيد، فذكر ابن أبي الحديد أنَّ النابغة أم عمرو بن العاص بیعت بعكاظ فاشتراها الفاكه بن المغيرة ثم اشتراها منه عبد الله بن جدعان، ثم صارت إلى العاص بن وائل(3) ، وكان البلاذري قد ذكر أنَّ زيد بن حارثة كان عبداً اشتراه حکیم بن حزام بن خویلد لعمته خديجة من سوق عكاظ ب (اربعمائة درهم)(4) .

كذلك كان سوق عكاظ میداناً للمنافرة والمفاخرة، وفداء الأسرى، والمفاوضة في الرأي كما كان له دور اعلامي كبير، إذ كانت العرب تشهر المرء في عكاظ اذا أتی عملاً شائناً (وكانوا إذا غدر الرّجل، أو جنى جناية عظيمة، انطلق أحدهم حتى يرفع له راية غدر بعكاظ، فيقوم رجل يخطب بذلك الغدر فيقول: ألا إنّ فلان ابن فلان غدر فاعرفوا وجهه، ولا تصاهروه، ولا تجالسوه، ولا تسمعوا منه قولا فإن أعتب وإلا جعل له مثل مثاله في رمح، فنصب بعكاظ فلعن ورجم)(5) ، والقبيلة التي تريد خلع احد سفهائها تنادي بذلك، ومن أراد أن يلحق آخر بنسبه، أعلن ذلك(6) .

ص: 439


1- شرح نهج البلاغة، 18/ 233
2- المحبر، ص182
3- شرح نهج البلاغة، 6/ 233
4- أحمد بن يحيى بن جابر (ت279)، جمل من انساب الاشراف، تحقيق سهیل زکار و ریاض زركلي، دار الفكر، (بیروت1996)، 2/ 609
5- المرزوقي، الازمنة والامكنة، ص388
6- برو، تاريخ العرب القديم، ص247

وقد أَتاحت تلك الأسواق للرسول صلى الله عليه وآله وسلم سبيلاً للاتصال بالقبائل العربية، وعرض نفسه لها، وقد وقف بعكاظ بعد البعثة النبوية يدعو الناس ويقول:

«يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا بها العرب وتذل لكم العجم وإذا آمنتم كنتم ملوكا في الجنة»(1) .

ثانياً: سوق ذي المجاز:

من أسواق العرب قبل الإسلام المهمة سوق ذي المجاز فقد ذكره ابن أبي الحديد عند ذكره الخضيا بنت کعب بن سعد بن تیم بن مرة وقال إنها أول امرأة من قريش ضربت قباب الأدم بذي المجاز و لها يقول الشاعر:

مضى بالصالحاتِ بنو الحظّيا *** وكان بسيفِهِم یُغنى الفقيرُ(2)

وكذلك كان الوليد بن المغيرة يجلس فيه ليحكم بين الناس(3) .

وذو المجاز، موضع بمنی کانت به السوق قبل الإسلام، وقيل انها على فرسخ من عرفة بناحية كبكب، وكبكب جبل بعرفات(4) ، وسمي ذي المجاز لأن إجازة الحاج كانت

ص: 440


1- ابن سعد، الطبقات الکبری، 1/ 184؛ الرحيم، عبد الحسين مهدي، عكاظ في حياة العرب قبل الإسلام، مجلة آداب الرافدين، كلية الآداب، جامعة الموصل، العدد السابع، 1987، ص239؛ فلهوزن، يوليوس، تاریخ الدولة العربية من ظهور الإسلام الى نهاية الدولة الاموية، مراجعة حسين مؤنس، تقدیم مصطفى لبيب عبد الغني، ترجمة محمد عبد الهادي ابو ريده، ط2، المركز القومي للترجمة، (القاهرة2009)، ص5
2- شرح نهج البلاغة، 18/ 239
3- شرح نهج البلاغة، 18/ 239
4- ياقوت الحموي، معجم البلدان، مج4، 7/ 207، [مادة المجاز]

فيه(1) ، أما وقته فهو في أول يوم من ذي الحجة بعد انقضاء سوق عكاظ وسوق مجنة، ويستمر ثمانية أيام إلى يوم التروية(2) ، أي قبل بدء مناسك الحج، وهو آخر يوم من سوق ذي المجاز، نهاية الموسم التجاري للأسواق الثلاثة، لأن العرب كانوا لا يتبايعون في يوم عرفة ولا يوم منی(3) .

وكان يجري في سوق ذي المجاز ما كان يجري في أسواق العرب الأخرى قبل الإسلام من تجارة وقضاء وأدب وشعر وفداء للأسرى وتجمع لبيع العبيد وعقد الأحلاف.

ثالثاً: سوق بدر:

من أسواق العرب قبل الإسلام التي ذكرها ابن أبي الحديد بقوله: (كانت بدر موسما من مواسم العرب في الجاهلية يجتمعون بها و فيها سوق)(4) ، وذلك عند حديثة عن معركة بدر التي يبدو ان قریشاً ارادت فيها استغلال موقع بدر عند العرب كونه مجمعاً معروفاً لديهم، وهذا ما نراه واضحاً من موقف أبي جهل، فعلى الرغم من وصول انباء نجاة قافلة قريش من ايدي المسلمين التي كانت السبب في خروجهم، إلا أنه رفض العودة والإنسحاب وقال: لا نرجع حتى نرد بدرا تسمع بنا العرب و بمسيرنا فنقيم على بدر ثلاثا ننحر الجزر و نطعم الطعام و نشرب الخمر و تعزف علينا القيان فلا

ص: 441


1- ابن منظور، لسان العرب، 2/ 253، [مادة جوز]
2- سمي يوم التروية؛ لترویهم من الماء بذي المجاز، ينادي بعضهم بعضا ترووا من الماء؛ لأنه لا ماء بعرفة ولا بالمزدلفة يومئذ، وكان يوم التروية آخر أسواقهم، وإنما كان يحضر هذه المواسم بعكاظ ومجنة وذي المجاز التجار من كان يريد التجارة، ومن لم يكن له تجارة ولا بيع فإنه يخرج من أهله متى أراد، ينظر الأزرقي، اخبار مكة، 1/ 150
3- ابن حبیب، المحبر، ص267؛ الازرقي، اخبار مكة، 1/ 150؛ علي، المفصل، 7/ 380
4- شرح نهج البلاغة، 14/ 85

تزال العرب تهابنا أبدا (1).

وبدر هو بئر مشهور بين مكة والمدينة، ويقال حفرها رجل من غفار إسمه بدر وقيل انه بدر بن قریش بن مخلد بن النضر بن كنانة، وبه سمي البئر، وقيل بل هو رجل من بني ضمرة سكن هذا الموضع فنسب إليه ثم غلب اسمه عليه(2) .

كانت بدر من المواضع المقدسة على شاكلة سوق عكاظ به أحجار يتقرب اليها الناس و به ماء فصار سوقاً في موسمه المخصص له يقصده الناس من مكة ومن المواضع القريبة البيع ما عندهم من ناتجهم فيه، ولشراء ما يحتاجون إليه منه(3)

رابعا: سوق الحيرة:

الحيرة مدينة قديمة (كانت على ثلاثة أميال من الكوفة على موضع يقال له النجف زعموا أن بحر فارس كان يتصل به، وبالحيرة الخورنق بقرب منها مما يلي الشرق على نحو میل، والسدير في وسط البرية التي بينها وبين الشام كانت مسكن ملوك العرب في الجاهلية من زمن نصر ثم من لحم النعمان وآبائه)(4) .

كان في الحيرة سوق ذكره ابن أبي الحديد في أثناء حديثه عن مسيلمة الكذاب، إذ ذكر أن مسيلمة قبل أن يتنبأ كان يدور في الأسواق التي كانت بين دور العرب والعجم ومنها سوق الحيرة يلتمس تعلم الخيل والرقي والنجوم(5) ، ورغم أن هذا السوق لم یذکر ضمن أسواق العرب عند أغلب المؤرخين الا انه من الاسواق الموسمية المهمة في

ص: 442


1- شرح نهج البلاغة، 14/ 85
2- الحموي، یاقوت، معجم البلدان، مج1، 2/ 284
3- علي، المفصل، 7/ 276
4- الحموي ، یاقوت، معجم البلدان، مج2، 3/ 201، [مادة الحيرة]
5- شرح نهج البلاغة، 19/ 309

العراق(1) .

وانفرد ابو الفرج الأصفهاني بذکر اخبار ومعلومات مفصلة عن سوق الحيرة، وكونه من الاسواق الموسمية التي تقام مرة واحدة في السنة وهو كبقية اسواق العرب الاخرى قبل الإسلام لم تكن المنافرات والمفاخرات بالأنساب والشعر والخطابة غائبة عنه(2) .

ويعرض في هذا السوق الأدم والعطر والبرود والجواهر والخيل والأموال وسائر ما يعرض في بقية اسواق العرب مما يحمل من الشام أو اليمن أو عمان أو الحجاز أو البحرين أو الهند وفارس عدا ما يحمل الأعراب إليها من إبل وشياه وقرود احيانا(3) .

ص: 443


1- الافغاني، اسواق العرب في الجاهلية والاسلام، ص374
2- للتفصيل، ينظر الكرماشي، اياد صالح عاصي، کتاب الاغاني لأبي فرج الاصفهاني مصدراً لدراسة تاريخ العرب قبل الإسلام، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة البصرة، 2012، فص3، ص336- 348
3- الافغاني، اسواق العرب في الجاهلية والاسلام، ص380

ص: 444

الفصل الخامس

الحياة السياسية عند العرب قبل الإسلام

المبحث الأول: الممالك والمدن التي ظهرت قبل الإسلام

المبحث الثاني: أيام العرب قبل الإسلام

ص: 445

ص: 446

المبحث الأول: الممالك والمدن التي ظهرت قبل الإسلام

تختلف بلاد العرب من حيث طبيعتها باختلاف اجزائها، إذ تشكل الصحراء القسم الأعظم منها، تتخللها واحات واغوار تتجمع فيها مياه الأمطار، أما الوديان فقليلة وتقع في اطراف شبه الجزيرة العربية، وكان لتنوع المناخ وطبيعة الأرض أثره في تنوع الحياة البشرية عند العرب قبل الإسلام، فمثلما قامت حياة البداوة التي لا تعرف الإستقرار إلا في بعض جوانبها بسبب شحة المياه وجفاف الارض، ساعد هطول الامطار وتوفر المياه على اقامة الحياة الزراعية والصناعية المستقرة في بعض المناطق التي ساعدتها الظروف لتكون مجموعة الدول والممالك التي توزعت على أرجاء الجزيرة العربية، وكان لها نظامها السياسي وحياتها العامة، وقد ذكر ابن أبي الحديد في كتابه شرح نهج البلاغة قسماً منها على شكل روایات متفرقة اقتضت الضرورة إلى ذكرها، والإشارة إليها، ومن أهم تلك المدن والممالك:

أولا: حكومة قريش في مكة:

تعد مدينة مكة من المدن القديمة في الجزيرة، فقد ورد اسمها في المصادر اليونانية والرومانية القديمة، ذكرها بطليموس باسم (ماكوربا) ومعناها (المقرب) أو (الهيكل)،

ص: 447

وتعني المقربة من الله أي (المقدسة)(1) ، وكان واديها قد اتخذ كمحطة للقوافل القادمة من الشمال إلى الجنوب عبر الصحراء بسبب ما كان فيها من العيون(2) .

وهذا البعد التاريخي والديني ناتج من وجود الكعبة في هذا المكان، فقد ذكر ابن أبي الحديد أنها ترجع إلى أيام قبل آدم عليه السلام اذ ذكر (أن آدم لما قضی مناسکه وطاف بالبيت لقيته الملائكة فقالت یا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام)(3) ، وفي آیام نبي الله ابراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام أقاما البيت الحرام في واديها، وإن اسماعيل عليه السلام اول من اتخذها مقاماً وسكناً، وذكر ابن أبي الحديد (إن إبراهيم قدم بإسماعيل وأمه مكة فقال لهما: كلا من الشجر واشربا من الشعاب، وفارقهما، فلما ضاقت الأرض، تقطعت المياه، فعطشا، فقالت له أمه إصعد وانصب في هذا الوادي فلا أرى موتك ولا ترى موتي، ففعل فأنزل الله تعالى ملكاً من السماء على أم إسماعيل فأمرها فصرخت به فاستجاب لها وطار الملك فضرب بجناحيه مکان زمزم فقال اشربا فكان سيحا يسيح)(4) .

وقد أفرد ابن أبي الحديد فصلاً في فضل البيت والكعبة وتأثير ذلك على حياة العرب قبل الإسلام وبعده(5) ، وورد ذکر مكة في القرآن الكريم في قوله تعالى:

«وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَکُمْ عَنَهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنَ بَعْدِ أَنْ

ص: 448


1- بروکلمان، کارل، تاريخ الشعوب الاسلامية، ترجمة نبيه امين فارس ومنير البعلبكي، ط5، دار العلم للملايين، (بیروت1968)، ص31؛ الملاح، الوسيط في تاريخ العرب قبل الإسلام، ص262
2- الشريف، مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، ص110
3- شرح نهج البلاغة، 1/ 132
4- شرح نهج البلاغة، 15/ 164
5- شرح نهج البلاغة، 1/ 132

أَظفَرَکُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِیراً»(1) .

وذكر ياقوت الحموي انها سميت بمكة لازدحام الناس بها، وقيل إنما سمیت لأن العرب في الجاهلية كانت تقول لا يتم حجنا حتى نأتي مكان الكعبة فنمك فيه أي نصفر صفير المكاء حول الكعبة، وكانوا يصفرون ويصفقون بأيديهم إذا طافوا بها، والمكاء بتشديد الكاف طائر يأوي الرياض، وقال اَخرون مكة هي بكة والميم بدل إلى الباء(2) وقيل (بكة اسم لبطن مكة وذلك أنهم يتباكون فيه ويزدحمون وكان بعضهم يزعم أن بكة هو موضع المسجد وما حوله مكة)(3) وذكر في القرآن:

«إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ»(4) ذكرت لمكة اسماء كثيرة قاربت الستون اسماً، ينظر قائدان، اصغر، تاریخ آثار مكة والمدينة، ترجمة الشيخ ابراهيم الخزرجي، دار النبلاء، (بیروت1999)، ص47وما بعدها .

إنّ زمزم الذي تفجر تحت أقدام إسماعيل قد أغرى بعض القبائل المارة فسكنت قبيلة جرهم المنطقة واقامت منازلها بمكة ومن حولها، وتزوج إسماعيل منهم فولد له إثنا عشر ولداً(5) ، وتولى أبناء إسماعيل حراسة البيت وخدمته حتى تسلم الحارث بن مضاض الجرهمي هذه المهمة، فكان أول من ولي البيت من الجرهميين، ولكن جرهم طغت في الحرم وبغت، وفسقت حتى اشتد ظلمها على الناس، استحلوا من الحرم أمورا

ص: 449


1- سورة الفتح: الآية24
2- معجم البلدان، مج4، 8/ 307، [لمادة مكة]؛ الأنصاري، عبد القدوس، التاريخ المفصل للكعبة الشريفة قبل الإسلام، نادي مكة الثقافي، (السعودية1419ه)، ص21
3- ابن قتيبة، محمد بن عبد الله بن مسلم الدينيوري (ت276)، غريب الحديث، تحقیق عبد الله الجبوري، دار الكتب العلمية، (بیروت1988)، 1/ 197
4- سورة ال عمران : الآية96
5- الملاح، الوسيط في تاريخ العرب قبل الإسلام، ص263

عظاما، ونالوا ما لم يكونوا ينالون، واستخفوا بحرمة الحرم، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى إليها سراً وعلانية(1) .

أما قبيلة خزاعة فقد وفدت إلى مكة بعد تهدّم سد مأرب فنزلت حول مكة ثم استولت على أمرها وحجابة البيت وطردت جرهم خارج مكة فخرج عمرو بن مضاض بمن تبقى من جرهم نحو اليمن بعد أن دفنوا أموال الكعبة وكنوزها في بئر زمزم ودفنوه بالتراب حتى لا يهتدي خصومه إلى مكانه، فإذا عادوا استخرجوه(2) .

وكان عمرو بن لحي أول من ولّي أمر البيت من هذه القبيلة، فقيل إنه غیَّر دین إبراهيم ودعا إلى عبادة الأوثان والأصنام وأدخلها مكة، واستمرت خزاعة تلي البيت ثلاثمائة سنة، وقريش بيوتات متفرقة حوالي الحرم(3) ، حتى ظهور قصي بن كلاب، وهو من قريش من القبائل العدنانية أي من مجموعة العرب المستعربة في اصطلاح علماء النسب الذي تزوجت أمه برجل من بني عذرة بعد وفاة كلاب بن مرة، فرحلت إلى قبيلته في بادية الشام مع ابنها (زيد) الذي لقب (قصي) لبعده عن دار قومه، فنشأ وشب عند أخواله بني قضاعة، ولما علم بحقيقة نسبه عاد إلى قومه واستقر بمكة، وأظهر فيها من النشاط والتفوق ما جعله يتزوج حبَي بنت حُليل الخزاعي الذي كان سيد مكة وبيده سدانة الكعبة، فكثر ماله وولده وعلا مركزه، وإستغل وفاة حُليل فاستولى على مفاتیح

ص: 450


1- الأزرقي، اخبار مكة، 1/ 63؛ اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 1/ 191؛ معطي، علي، تاريخ العرب السياسي قبل الإسلام، دار المنهل، (بیروت2004)، ص382؛ الجميلي، خضير عباس، قبيلة قريش وأثرها في الحياة العربية قبل الإسلام، المجمع العلمي، (بغداد2002)، ص23
2- الأزرقي، اخبار مكة، 1/ 64؛؛ عبد الحميد، سعد زغلول، في تاريخ العرب قبل الإسلام،، ص284
3- الازرقي، اخبار مكة، 1/ 71؛ ياقوت الحموي، معجم البلدان، مج8، 4/ 311، [مادة مكة]؛ معطي، تاريخ العرب السياسي قبل الإسلام، ص382

البيت الحرام وأعلن أحقيته بولايته(1) .

وأورد الطبري ثلاث روايات عن كيفية انتزاع قصي سيادة مكة من قبيلة خزاعة فرواية تقول أنّ حُليل أوصى أن يتولى قصي ولاية البيت والقيام بأمر مكة من بعده بعد ما انتشر له من ابنته من الأولاد ما انتشر، ورواية عن هشام تذهب أن حُليل لما ثقل عليه المرض جعل ولاية البيت إلى ابنته وجعل فتح الأبواب وإغلاقها بيد أبي غبشان وهو سلیم بن عمرو بن بوي بن ملکان، فاشترى قصي ولاية البيت منه بزق خمر وبعود- أي جمل حسن-، فلما علمت خزاعة كثرت على قصي فاستنصر أخاه من أمه رزاح بن ربيعة بن حرام، فقاتل خزاعة، وفي رواية ثالثة أنّ قصي بعد وفاة صهره دعی رجالاً من قريش وبني كنانة، إلى إخراج خزاعة ودعا أخاه من أمه إلى نصرته فخرجت قضاعة معه واجابوه إلى ما دعاهم(2) .

ومن قراءتنا للروايات الثلاث يبدو لنا أنّ الرواية الأولى الأقرب للصواب حيث تولى قصي إدارة مكة بناءً على وصية والد زوجته، ثم اتصل سراً بعشائر قريش وبطونها التي كانت متفرقة حول مكة فوحد كلمتها وجمعها حوله(3) .

ونقل ابن أبي الحديد أنه سمي مجمعاً لأنه الذي جمع القبائل من فهر(4) ، وفي ذلك يقول حذافة بن غانم الجمحي يمدحه:

أبوکُمْ قصيٌ كانَ يُدعی مَجْمَعاً *** به جَمَعَ اللهُ القبائِلَ من فِهْرِ(5)

ص: 451


1- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 2/ 256
2- تاریخ الرسل والملوك، 2/ 256- 258؛ الملاح، الوسيط في تاريخ العرب قبل الإسلام، ص265- 266
3- ابن حبیب، المنمق، ص81؛ الازرقي، اخبار مكة، 1/ 75؛ ابن خلدون، تاریخ ابن خلدون، 2/ 383
4- شرح نهج البلاغة4/ 206
5- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة15/ 151

فجمع سيادة قريش على مكة، وانتزع ولاية البيت من خزاعة بعد حروب ومنازعات بين القبيلتين وتم إخراجها خارج مكة، وأسكن قريشاً مکانها بعد أن كان بعضها يسكن الشعاب ورؤوس الجبال(1) .

ويبدأ تاريخ قريش السياسي في مكة بوصول قصي بن كلاب إلى زعامتها فوضع أساس سيادة قريش عليها ونقلها من البداوة إلى الحضارة والاستقرار، وبدأ قصي أولاً بتنظيم حياة السكان فيها فجمع قريش وأسكنها حول الحرم وميّز بين طبقتين:

الأولى: قريش البطاح:

وهم الذين اسكنهم قصي في مكة، وهي المنطقة الواقعة حول الحرم داخل مكة، والتي ظهر منها سادة مكة مثل بني قصي بن كلاب وبني زهرة، وبني مخزوم وبني تيم بن مرة وبني جمح وبني سهم وبني عدي وبني عتیق بن عامر(2) ، وقد ذكر الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام سکن بني هاشم في البطاح عند ذكره الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بقوله:

«اِخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَةِ اَلْأَنْبِيَاءِ ومِشكَاةِ اَلضَّيَاءِ وَ دُوَابَةِ اَلْعَلْيَاءِ وسُرَّۃِ اَلْبَطْحَاءِ ومَصَابِيحِ اَلظُّلْمَةِ ويَنَابِيعِ اَلْحِكْمَةِ»(3) .

وعلّق ابن أبي الحديد عليها فقال: (وسرة البطحاء وسطها وبنو كعب بن لؤي يفخرون على بني عامر بن لؤي بأنهم سكنوا البطاح)(4) .

ص: 452


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 1/ 206؛ مهران، محمد بيومي، تاريخ العرب القديم، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية، (د.ت)، ص361
2- معطي، تاريخ العرب السياسي قبل الإسلام، ص384؛ الخضري، محمد، نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، شرح وتعليق الشيخ ابراهيم محمد رمضان، دار الفكر العربي، (بیروت1991)، ص8
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة7/ 142، [خطبة107]
4- شرح نهج البلاغة7/ 142

الثانية: قريش الظواهر:

وهم الذين لم تتسع لهم الأباطح فسكنوا خارج مكة وكانوا أقل منزلة من قريش البطاح، وذكر ابن أبي الحديد أنّ بني عامر سكنوا الجبال المحيطة بمكة وسكن معها بنو فهر بن مالك رهط أبي عبيدة بن الجراح وغيره، قال الشاعر: فَحَلَلْتَ منها بالبطاحِ *** وحلَّ غيرُكَ بالظواهِر(1)

وقال بعض الطالبيين:

وأنا ابنُ معتلجِ البطاحِ إذا غدا *** غيري وراحَ على متونِ ظواهرِ

وذكر أحد الباحثين المعاصرين أن قصياً ربما أراد من هذا التقسيم انزال البطون القريبة منه بالنسب في المناطق المحيطة بمكة لإيجاد قوة يستطيع من خلالها حماية ما حققه من انجازات في مكة(2) ، وما يعزز ذلك قول الأزرقي (فولي قصي بن كلاب حجابة الكعبة وأمر مكة، وجمع قومه من قريش من منازلهم إلى مكة يستعز بهم)(3) .

وإلى جانب هؤلاء كانت هناك قبائل ليست من قريش، ولكنها متحالفة معها منهم (الأحابيش)، وهم جماعة من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة، والهون بن خزيمة بن مدركة، وبنو المصطلق من خزاعة، وقد سموا بذلك لأنهم تحالفوا جميعاً بوادِ يقال له (الأحبش أو حبشيا) بأسفل مكة(4) ، ويقال أنهم كانوا يقومون بدور الجند المرتزقة،

ص: 453


1- شرح نهج البلاغة 7/ 142
2- الشرهاني، حسين علي، أضواء على السيرة النبوية، تموز للطباعة والنشر، (دمشق2013)، ص14
3- اخبار مكة، 1/ 77
4- ابن درید، أبو بكر محمد بن الحسن (ت321)، جمهرة اللغة، تحقيق رمزي منير بعلبكي، دار العلم للملايين، (بیروت1987)، 1/ 278، [مادة حبش]؛ معطي، علي، تاريخ العرب السياسي قبل الإسلام، ص384

فيخوضون الحرب اذا ما دعتهما قریش للقتال(1) ، وقد ذكرهم ابن أبي الحديد في أثناء معركة أحد حيث كان لواء الأحابيش من الألوية التي كانت قد خرجت لحرب المسلمين(2) ، وعند حديثه عن حلف الفضول ذكر (إن الحلف كان على ألا يدعوا بمكة كلها ولا في الأحابيش مظلوما يدعوهم إلى نصرته إلا أنجدوه حتى يردوا عليه ماله ومظلمته)(3) .

ويبدو أنّ انشغال أهل مكة بالتجارة وتوفير الأجواء المناسبة لمراسيم الحج وللحجاج جعلهم يتحالفون مع غيرهم للدفاع عن أنفسهم، وما يعزز هذا الرأي قول ابن أبي الحديد أنّ (قريش أهل مدينة وساكنوا مدر وحجر لا يرون الغارات ولا ينهبون غيرهم من العرب وهم مقتصرون على المقام ببلدتهم وحماية حرمهم)(4) .

اهتم قصي بن كلاب بالكعبة فأعاد بناءها ووضع الحجر الأسود فيها، وحفر الآبار ونظم شؤون المدينة الاجتماعية حيث ذكر أنّ قريش كانت قبل قصي تشرب من بئر حفرها لؤي بن غالب خارج مكة، ومن حياض ومصانع على رؤوس الجبال، ومن بئر حفرها مرة بن كعب مما يلي عرفة. فحفر قصي بئراً سماها العجول، وهي أول بئر حفرتها قريش بمكة، وفيها يقول رجاز الحاج:

تَروي على العجولِ ثم تنطلقْ

إنّ قصياً قد وَفَي وقدْ صَدَقْ

ص: 454


1- شرح نهج البلاغة14/ 167
2- شرح نهج البلاغة14/ 167
3- شرح نهج البلاغة15/ 170
4- شرح نهج البلاغة13/ 216

بالشَبْعِ للناسِ وريَّ مُغتَبِقْ(1)

وقام قصي بتنظيم موسم الحج واوجد الوظائف التي تؤمن لوازمه واحتياجاته، وأخذ لنفسه هذه الوظائف وهي الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، فحاز شرف مکه کله(2) ، وأسس دار الندوة في بيته وجعل بابها إلى مسجد الكعبة يجتمع فيها كبار مكة تحت امرته للتشاور في أمور بلدهم(3) ، وكان يجلس فيها للقضاء بين الناس(4) ، ويديرها مجلس شيوخ قريش ولم يكن يدخلها أو يشارك فيها من غير ولد قصي إلا من بلغ عمره أربعين سنة للمشورة، ويدخلها ولد قصي كلهم أجمعون وحلفاؤهم(5) .

ويبدو أنّ هناك بعض الإستثناءات حدثت بعد ذلك في قضية السن فذكر ابن أبي الحديد أن أبا جهل بن هشام واسمه عمرو وكنيته أبو الحكم كان سيدا أدخلته قریش دار الندوة فسودته وأجلسته فوق الجملة من شيوخ قريش وهو غلام لم يطر شاربه(6) ، وذكر طقوش أنه أدخل لحكمته وسداد رأيه فقد احتكم إليه العرب كثيراً في امور مختلفة(7) ، وكان في دار الندوة، أمر قریش کله وما أرادوا من نكاح أو حرب أو مشورة فيما

ص: 455


1- البلاذری، انساب الاشراف، 1/ 51؛ سليم، أحمد أمين، معالم تاريخ العرب قبل الإسلام، مکتب کريدية اخوان، بیروت، (د. ت)، ص125؛ الحديثي، نزار عبد اللطيف، الامة والدولة في سياسة النبي والخلفاء الراشدين، دار الحرية، (بغداد1987) ص43
2- ابن هشام، السيرة النبوية، 1/ 115
3- ابن هشام، السيرة النبوية ، 1/ 116، الشريف، مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، ص119
4- علي، سید امیر، مختصر تاريخ العرب، ترجمة عفيف البعلبكي، ط2، دار العلم للملايين، (بیروت1967)، ص11
5- الازرقي، اخبار مكة، 1/ 79؛ اسماعیل، حلمي محروس، الشرق العربي القديم وحضارته بلاد ما بين النهرين والشام والجزيرة العربية القديمة،، ص231
6- شرح نهج البلاغة18/ 241
7- تاريخ العرب قبل الإسلام، ص445

ينوبهم، حتى إن كانت الجارية تبلغ أن تدرع فما يشق درعها(1) إلا فيه، ثم ينطلق بها إلى أهلها، ولا يعقدون لواء حرب لهم ولا من قوم غیرهم إلا في دار الندوة، يعقده لهم قصي، ولا تخرج عِيرٌ من قريش فيرحلون إلا منها، ولا يقدمون إلا نزلوا فيها(2) .

وقد ذكر ابن أبي الحديد أن الألوية التي خرجت لقتال المسلمين يوم أحد عقدوها في دار الندوة(3) ، وان العير التي هرب فيها ابو سفیان من قبضة المسلمين قبل وقعة بدر من الشام وقفت في دار الندوة فلم يحركها أبو سفيان ولم يفرقها لغيبة أهل العير في المعركة(4) ، وكذلك ذكر لنا ابن أبي الحديد ان دار الندوة كانت مكاناً لجمع الأموال ومن ثم تفريقها في مواردها الخاصة إذ قال إن (قریش تخرج من صفو أموالها ما تحتمله أحوالها وتأتي بها إلى هاشم فيضعه في دار الندوة لضيافة الحاج)(5) .

يبدو لنا من خلال قراءتنا للروايات السابقة أن دار الندوة كان مقراً لحكومة قريش في مكة وهو يمثل المجلس الأعلى لاتخاذ القرارات وإدارة شؤون الدولة، ومن خلاله كان يتم توزيع الأدوار والمهام المختلفة فهو القاعدة الأولى لكل ما يتعلق بالحياة السياسية والإجتماعية الخاصة بمكة وكان قصي سيد البلاد بلا منازع، وكانت قريش كما ذكر ابن سعد لا ينزلون الا برأيه، ويتبعون أمره کالدين المتبع لا يعمل بغيره في حياته وبعد موته(6) .

ص: 456


1- وكانت الفتاة الصغيرة ترتدي قَمِيصٌ صَغيرٌ يسمى (الأُصْدَةُ) وهو صِدَارٌ تَلبَسه تَحْتَ الثَّوْب فإِذا أَدرکَتْ دُرَّعَتْ، ينظر ابن منظور، لسان العرب، 1/ 121، [مادة أصد]
2- ابن سعد، الطبقات الکبری، 1/ 52، العسلي، خالد، دراسات في تاريخ العرب، اعداد وتقديم عماد عبد السلام رؤوف، دار الشؤون الثقافية العامة، (بغداد202)، ص363
3- شرح نهج البلاغة14/ 167
4- شرح نهج البلاغة14/ 164
5- شرح نهج البلاغة15/ 159
6- الطبقات الکبری، 1/ 52

كان لقصى أربعة أبناء، عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزى، وعبد قصي، وبعد وفاته آلت زعامة قريش إلى أبنائه الأربعة، لكن لم يتمكن أحد منهم أن يجمع كل السلطات بيده كما كان عليه الحال في عهد قصي، بل توزعت الزعامة فيما بينهم، وقد وردت ثلاث روايات عن كيفية تقسیم وظائف الكعبة عليهم:

الأولى: أورد ابن إسحاق رواية مفادها أن عبد الدار بن قصي البكر كان مغمورا وضعيفا دون بقية إخوته، لذلك قام قصي بإسناد وظائف الكعبة له، فقال له: (أما والله الألحقنك بالقوم، وإن كانوا قد شرفوا عليك، لا يدخل منهم رجل الكعبة حتى تكون أنت تفتحها، ولا يعقد لقريش لواء لحربهم إلا أنت بيدك، ولا يشرب رجل بمكة ماء إلا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاما إلا طعامك، ولا تقطع قریش أمورها إلا في دارك، فأعطاه داره دار الندوة التي لا تقضي قريش أمورها إلا فيها، وأعطاه الحجابة واللواء والندوة والسقاية والرفادة)(1) .

الثانية: أوردها الأزرقي وفيها أن قصيا قسّم (أمور مكة الستة التي فيها الذكر والشرف والعز بين ابنیه، فأعطى عبد الدار السدانة وهي الحجابة ودار الندوة واللواء، وأعطى عبد مناف السقاية والرفادة والقيادة)(2) .

الثالثة: أوردها اليعقوبي دون أن يشير إلى سندها ونصها (قسم قصي بين ولده فجعل السقاية والرئاسة لعبد مناف، والدار لعبد الدار، والرفادة لعبد العزى، وحافتي الوادي(3) لعبد قصي)(4) .

ص: 457


1- ابن هشام، السيرة النبوية، 1/ 119؛ ابن سعد، الطبقات الکبری، 1/ 55؛ الطبري، تاريخ الرسل والملوك،، 2/ 259
2- أخبار مكة، 1/ 80
3- ذكر الشرهاني، في كتابه اضواء على السيرة النبوية ص17، ربما كان المقصود بحافتي الوادي هنا تعشير من يدخل مكة من التجار أي فرض ضرائب عليهم، لاسيما إن قصي كان يفعل ذلك
4- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 1/ 206

ومن خلال قراءتنا للروايات الثلاث فإن رواية إبن إسحاق تذهب إلى أنه أعطى جميع الوظائف لإبنه عبد الدار، ويبدو أن تلك الرواية فيها بعض الشك فمن غير المعقول لرجل صاحب حزم ودولة مثل قصي يقوم بتسليم جميع ميراثه إلى شخص واحد دون أن يعلم عواقب ذلك مع مجتمع لا زالت البداوة تمثل العنصر الرئيس فيه، أما رواية الأزرقي فهي نتيجة لما حصل فيما بعد من نزاع على هذه الوظائف، بين أبناء عبد الدار وأبناء عبد مناف واتفاقهم على تقسيم يشبه ما جاء في الرواية أعلاه، لكن الرواية الثالثة التي أوردها اليعقوبي منطقية جدا، ويبدو أن وفاة أبناء قصي بعد ذلك أدى إلى انتقال هذه الوظائف إلى أبناء عبد الدار مع ما أعطاهم قصي، والسبب في ذلك أن أبناء عبد مناف وعبد العزى وعبد قصي كانوا صغارا لا يستطيعون تحمل الوظائف، ويؤيد هذا الرأي الرواية التي أوردها ابن حبيب (فهلك عبد مناف يوم هلك فكان ما سمینا- من وظائف الكعبة- لبني عبد الدار، ثم إن بني عبد مناف أرادوا أخذ ذلك منهم فقالوا نحن أحق بها)(1) .

إنّ هذا الصراع أدّى إلى قيام بني عبد مناف وهم عبد شمس وهاشم والمطلب ونوفل، بإنتزاع ما بأيدي أبناء عبد الدار، وقالوا أنهم أحقّ منهم لشرفهم وفضلهم في قومهم، وانضم اليهم بنو أسد، وزهرة، وتيم والحارث بن فهر(2) ، وتعاهدوا بينهم وأخرجوا جفنة مملؤة طيباً وغمس القوم أيديهم فيها، ومسحوا الكعبة وتحالفوا فسموّا حلف المطيبين(3) .

ص: 458


1- ابن حبیب، المنمق، ص33
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة15/ 148
3- ابن هشام، السيرة النبوية، 1/ 121؛ الازهري، أبو منصور محمد بن أحمد (ت370ه)، تهذيب اللغة، تحقيق محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربی، (بیروت2001)، 5/ 44

وذكر ابن حبيب (ان عاتكة بنت عبد المطلب أخرجت جفنة فيها طيب فغمسوا فيه ایدیهم فسمو المطيبين)(1) ، ولورود اسم عاتكة بنت عبد المطلب يبدو أن ابن حبيب هنا قد أراد حلفاً آخر غير الذي نتكلم عنه حيث ان الحلف کان قبل زمن عبد المطلب، ولعل حلف المطيبين جدد مرة اخرى في ايام عبد المطلب وصراعه مع بني عمه.

وذكر احد الباحثين أن التزام بني عبد العزى جانب هاشم في حلف المطيبين وتحالفهم معه على الرغم من إن أبناء عبد الدار كانوا أبناء عمومتهم أيضا، يرجع إلى أن بني عبد العزي قد فقدوا حقوقهم في وظائف الكعبة أيضا، ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن أسد بن عبد العزى لم يكن له أخوان لذلك فضل أن يلجأ إلى هاشم وحلفائه ليقوي نفسه في قریش، ويدخل في ائتلاف مع البيوت القرشية ليحول دون استبداد أبناء عبد الدار بالأمور، فينشأ نتيجة لذلك نوع من توازن القوة في مكة وهذا ما حدث بالفعل حيث بقي المجتمع القرشي مستقرا طيلة الفترة الممتدة من وفاة قصي حتى قيام الدعوة الإسلامية(2) .

ورد ابن أبي الحديد على من يقول ان المطيبين يقال لهم الأحلاف أو الحلفاء بقوله: وإنما ذلك لقب خصومهم وأعدائهم الذين وقع التحالف لأجلهم وهم بنو عبد الدار وبنو مخزوم وبنو سهم وبنو جمح وبنو عدي بن كعب(3) ، وأخرجوا جفنة من دم وغمسوا أيديهم فيها ولعقوها، ثم تحالفوا ألا يتخاذلوا فسموّا الأحلاف أو حلف لعقة الدم(4) ، وكادت أن تقع الحرب بين الأخوة، ولكن يبدو إن المصلحة الإقتصادية فرضت نفسها فبالحرب يضيع كل ما صنعه قصي بن كلاب من عهود ومواثيق تجارية فتوصلوا

ص: 459


1- المنمق، ص33
2- الشرهاني، حسين علي، اضواء على السيرة النبوية، ص19- 20
3- شرح نهج البلاغة14/ 101
4- الزبيري، نسب قریش، ص383؛ البلاذری، انساب الاشراف، 1/ 56

إلى حل يرضي الطرفين، فاحتفظ بنو عبد الدار برئاسة دار الندوة، ووظيفتي الحجابة واللواء، وتنازلوا إلى ابناء عبد مناف عن السقاية والرفادة(1) ، التي تولاها هاشم دون إخوته، كما ذكر ابن أبي الحديد إن أشرف خصال قريش في الجاهلية اللواء والندوة والسقاية والرفادة والحجابة وهذه الخصال مقسومة في الجاهلية لبني هاشم وعبد الدار وعبد العزى دون بني عبد شمس(2) ، وذكر ابن أبي الحديد ان هاشماً تولى السقاية والرفادة لوحده وبرر ذلك بقوله (أن عبد شمس كان يسافر قل أن يقيم بمكة، وكان رجلا معيلا وكان له ولد كثير وكان هاشم رجلا موسرا)(3) .

إلا أن هذا لم يدم طويلاً اذ سرعان ما حاول أمية بن عبد شمس أن يحارب هاشماً وكادت الحرب أن تتجدد بين أبناء قصي إلا إن القبيلة احتكمت لأحد الكهنة الذي حكم بنفي امية إلى الشام مدة عشر سنوات(4) .

وكانت هذه العشر سنوات التي قضاها أمية في الشام بعيداً عن مكة قد جعلت للبيت الأموي رصيداً هائلاً هناك استغلوه فيما بعد، مع تزاید رواسب الغل والحقد لبني هاشم لم يختفِ حتى توارثه الأحفاد فحملوا أمانة الثأر التي ظهرت جلياً في العصر الإسلامي.

بعد بروز هاشم كشخصية تولت الزعامة في مكة، وظهور نوع من الاستقرار فيها، اصبحت هناك حاجة لمعالجة بعض القضايا المهمة التي تعاني منها المنطقة، والتي تؤثر على الجانب السياسي، لاسيما سوء الحالة الاقتصادية، لوقوع مكة كما ذكرنا سابقاً في بيئة صحراوية جافة، لذلك كان عليه أن يتخذ خطوات سريعة لمعالجة الأمر، فعمل على

ص: 460


1- جمعة، ابراهیم، مذكرات في تاريخ العرب الجاهلي وصدر الإسلام، دار الطباعة الحديثة، (البصرة1965)، ص55
2- شرح نهج البلاغة15/ 149
3- شرح نهج البلاغة15/ 158
4- المقريزي، النزاع والتخاصم، ص20- 21

توسيع تجارة مكة وجعلها تنفتح على العالم المحيط به فذكر ابن أبي الحديد أن هاشماً هو (اول من سن الرحلتين رحلة إلى الحبشة ورحلة إلى الشام)(1) ، حيث أن قريشاً كانوا تجارا لا تعدو تجارتهم مكة إنما تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم يتبايعون بها بينهم ويبيعون من حولهم من العرب(2) ، حتى عقد بنفسه المعاهدات ومعاهدات حسن الجوار مع الدول والقبائل المحيطة به فأخذت تجارة قريش تسير في امان وطمأنينة فازدادت مكانة قريش سياسياً وازدهرت الحياة فيها واتسعت تجارة اهلها وعظمت ثروتها.

وبالنظر للدور الذي أدّتهُ مكة من الناحية الدينية ازداد اهتمام هاشم بأيام الحج والحجيج فذكر ابن أبي الحديد أن هاشماً كان يُخرج كل سنة من ماله الكثير فيضمه إلى ما جمعه من مال قریش ليوفر للحجيج الماء والخبز واللحم وما يحتاجه الحاج من خدمات اخرى(3) .

كذلك اهتم هاشم بالمحتاجين من قومه، فذكر ابن أبي الحديد ان قریشاً لما مر بها الجوع هشم لهم الخبز ثریدا فغلب هذا اللقب على اسمه حتى صار لا يعرف إلا به وكان اسم هاشم عمرو العلا وهاشم لقب وكان أيضا يقال له القمر وفي ذلك يقول مطرود الخزاعي:

إلى القمرِ الساري المنيرِ دعوتُةُ *** ومَطْعَمهُمْ في الأزلِ من قمعِ الجزُرُ(4)

ص: 461


1- شرح نهج البلاغة15/ 158
2- شرح نهج البلاغة15/ 159
3- شرح نهج البلاغة15/ 158
4- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة15/ 150

وقال مطرود الخزاعي في قصيدة أخرى:

يا أيُّها الرجلُ المحوَّلُ رحلَهُ *** هلا نزلتَ بآلِ عبدِ مُنافِ؟

هُبْلَتْكَ أمُّكَ لو حَلَلْتَ بدارِهِم *** ضَمَنُوكَ من جوعٍ ومن إقرافِ

عمرو العلى هَشَمَ الثريدُ لقومِهِ *** ورجالُ مكةَ مُسِنتون عجافِ

نسبوا إليه الرحلتينِ كليهِما *** عند الشتاءِ ورحلةِ الأصيافِ

الآخذونَ العهدَ في آفاقِها *** والراحلونَ لرحلةِ الإيلافِ(1)

وخرج هاشم بتجارات عظيمة يريد الشام، فجعل يمر بأشراف العرب، فيحمل لهم التجارات، ولا يلزمهم لها مؤونة، حتى صار إلى غزة، فتوفي بها(2) .

وبعد هاشم برز ابنه عبد المطلب وله قصة فيها شبه من قصة جده قصي بن كلاب، فذكر ابن أبي الحديد أن عبد المطلب ولد فسمته أمه شيبة الحمد لشعرة بيضاء كانت في ذوائبه حين ولد فمکث بالمدينة ست سنين أو ثماني ثم إن رجلا من تهامة مر بالمدينة فإذا غلمان يلعبون وغلام منهم يقول كلما أصاب:

(أنا ابن هاشم بن عبد مناف سيد البطحاء)

فقال له الرجل: من أنت يا غلام؟

قال: أنا ابن هاشم بن عبد مناف.

قال: ما اسمك؟

قال شيبة الحمد، فانصرف الرجل حتى قدم مكة فوجد المطلب بن عبد مناف جالساً

ص: 462


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 1/ 208
2- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 1/ 209

في الحجر، وقصَّ عليه ما رأى من ابن اخيه، فقال له المطلب والله أما إني لا أرجع إلى أهلي ومالي حتى آتيه، فخرج المطلب حتى أتى المدينة فأتاها عشاء، ثم خرج براحلته حتى أتي بني عدي بن النجار فإذا الغلمان بين ظهراني المجلس، فلما نظر إلى ابن أخيه قال للقوم هذا ابن هاشم قالوا نعم وعرفه القوم فقالوا هذا ابن أخيك فإن كنت تريد أخذه فالساعة لا نعلم أمه، فإنها إن علمت جلنا بينك وبينه، فأناخ راحلته ثم دعاه فقال يا ابن أخي أنا عمك وقد أردت الذهاب بك إلى قومك فارکب، قال فوالله ما كذب أن جلس على عجز الراحلة وجلس المطلب على الراحلة ثم بعثها فانطلقت، فلما علمت أمه قامت تدعو حزنها على ابنها فأخبرت أنه عمه وأنه ذهب به إلى قومه، قال فانطلق به المطلب فدخل به مكة مردفه خلفه والناس في أسواقهم ومجالسهم فقاموا يرحبون به ويقولون من هذا الغلام معك، فيقول: عبد لي ابتعته بيثرب ثم أدخله على امرأته خديجة بنت سعد بن سهم فرجلت شعره ثم ألبسه الحلة عشية فجاء به فأجلسه في مجلس بني عبد مناف وأخبرهم خبره فكان الناس بعد ذلك إذا رأوه يطوف في سكك مكة وهو أحسن الناس يقولون هذا عبد المطلب لقول المطلب هذا عبدي فلج به الاسم وترك به شيبة(1) ، ولما حضر رحيل المطلب إلى اليمن قال لعبد المطلب:

أنت يا ابن أخي أولى بموضع أبيك، فقم بأمر مكة.

فقام مقام المطلب، فتوفي الطلب في سفره ذلك بردمان، فقام عبد المطلب بأمر مكة، وشرف وساد، وأطعم الطعام، وسقى اللبن والعسل، حتى علا اسمه، وظهر فضله، وأقرت له قريش بالشرف(2) ، وتولى السقاية والرفادة.

وفي عهد عبد المطلب ازدادت الزعامات في مكة واصبحت لها قدرات مالية ومعنوية

ص: 463


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة15/ 161
2- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 1/ 210

عالية وازداد عدد أفرادها مما جعلها ذات ثقل كبير في اتخاذ القرارات داخل حكومة الملأ التي بدأت تتجه نحو توزيع الأدوار والاستقلال بين أغلب الأسر المسيطرة عليه، وذكر ابن عبد ربه تلك الزعامات بقوله ان من انتهى إليه الشّرَف من قُرَيشِ في الجاهلية عَشرة رَهْط من عشرة أبْطُنٍ وهم: هاشم وأمَیَّهُ ونوْفل وعبد الدار وأسد وتَيْم ومَخزوم وعَدِيّ وجُمَح وسَهْم(1) .

وهؤلاء يمثلون القوة المالية التجارية للمجتمع المكي وامتدت زعاماتهم حتى ظهور الإسلام فهم يديرون الدولة كلاً حسب موقعه واختصاصه، وللمحافظة على قواهم التجارية فقد كانوا لا يقبلون ان تكون هناك زعامة واحدة تنفرد بالقيادة والتجارة معاً خوفاً على مصالحهم، فيذكر ابن أبي الحديد انهم وفي أثناء خروجهم إلى حرب الفجار (كان على كل قبيلة رئيس منها، فهم متكافئون في التساند ولم يحقق واحد منهم الرئاسة على الجميع)(2) .

أما توزيع الأدوار فيما بينهم فبنو هاشم كانت لهم السقاية والرفادة والممثل الرئيسي للمجتمع المكي في الحوادث الكبيرة، وبنو عبد الدار كانت لهم السدانة والحجابة للكعبة، وينو امية يديرون شؤون الدولة العسكرية فعندهم العقاب راية قريش، وبنو أسد لهم المشورة، وبنو تيم مسؤولة عن الديات والغرم، وبنو مخزوم کانت لهم القبة والأعنة، فهم على خيل قريش في الحرب، وبني عدي سفراء مكة في الحروب والمنافرات، وكانت الأزلام لبني جمح، وبنو سهم كانت بيدهم الأموال المحجرة التي سموها لألهتهم(3) .

ص: 464


1- العقد الفرید، 3/ 313
2- شرح نهج البلاغة، 15/ 155
3- ابن عبد ربه، العقد الفرید، 3/ 313- 314؛ صالح، أحمد عباس، اليمين واليسار في الإسلام، ص31- 33

ولكون بني هاشم كانوا اكبر زعماء قريش، وهم أساس الشجرة المباركة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وتسلسل أجدادهم فقد ركز عليهم ابن أبي الحديد دون بقية الأسر، مما جعلنا ننقاد لذلك الطريق الذي قادنا إليه بما موجود في كتابه من معلومات عنهم.

فعلى الرغم من أن زعامة عبد المطلب اقتصرت على بني هاشم إلا أن الزعامة الروحية لا زالت بیده من خلال توليه وظيفة سقاية الحجيج والرفادة، وإمارة الحج وسعى بعضهم إلى محاولة تحجيم دور عبد المطلب حسداً وبغضاً لتوليه زعامة قريش، فيذكر ابن أبي الحديد ان عمه نوفل بن عبد مناف أراد الحصول على أركاحٍ(1) له بمكة وهي الساحات وكان بنو نوفل يدا مع بني عبد شمس، (فاستنصر عبد المطلب قوما من قومه فقصروا عن ذلك فاستنجد أخواله من بني النجار بيثرب فأقبل معه سبعون راكبا فقالوا لنوفل لا والله يا أبا عدي ما رأينا بهذا الغائط ناشئا أحسن وجها، ولا أمد جسماً، ولا أعف نفسا، ولا أبعد من كل سوء من هذا الفتى- يعنون عبد المطلب- وقد عرفت قرابته منا وقد منعته ساحات له ونحن نحب أن ترد عليه حقه فرده عليه، فقال عبد المطلب:

تأبي مازن وبنو عدي وذبيان بن تيم اللات ضيمي وزادت مالك حتى تناهت ونكب بعد نوفل عن حريمي)(2) .

ثم إنّ خزاعة القبيلة التي تسكن قرب مكة أرادت أن تزيد من مكانتها ومركزها

ص: 465


1- الرُّکْحُ: بالضم من الجبل الركن أو الناحية المُشْرِفة على الهواء وقيل هو ما علا عن السَّفْح واتسع، ينظر ابن منظور، لسان العرب، 4/ 170، [مادة ركح]
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة15/ 175

فعقدت حلفاً مع عبد المطلب، وتم الحلف على التناصر فقوي مركز عبد المطلب(1) .

من الأعمال الكبيرة التي قام بها عبد المطلب حفر بئر زمزم التي غاصت مياهها وطمست في أواخر أيام جرهم، وعثر فيه على الغزالين المصاغين من الذهب والسيوف المرصعة المهداة إلى الكعبة فشب نزاع آخر بين قريش وعبد المطلب انتهى لعبد المطلب الذي صنع من السيوف باباً للكعبة وعلق الغزالين الذهبيين فيها(2) .

وقصته مع جيش أبرهة الحبشي صاحب الفيل، حيث ذكر ابن أبي الحديد أن أبرهة لما قدم لهدم الكعبة حاول عبد المطلب أن يرد الغزاة عن طريق التفاوض لعلمه بصعوبة مهمة مواجهتهم فالتقى أبرهة وطالبه برد إبله وتوعده إياه برب الكعبة وقتل أصحابه(3) ولكنه لم يفلح، فعاد ولم يفارق الكعبة حيث تفرقت قريش في شعاب مكة، وذكر ابن أبي الحديد (أن قريشا خرجت فارة من الحرم خوفاً من أصحاب الفيل وعبد المطلب يومئذ غلام شاب فقال والله لا أخرج من حرم الله أبغي العز في غيره فجلس في البيت وأجلت قريش عنه فقال عبد المطلب:

لاهَمَّ إن المرءَ يمنَعُ *** رحلَهُ فامنعْ حلالَكْ

لا يغلبَنَّ صليبَهُمُ *** ومَحالُهُم أبداً محالَكْ

فلم يزل ثابتا في الحرم حتى أهلك الله الفيل وأصحابه، فرجعت قريش وقد عظم

ص: 466


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة15/ 163؛ الشرهاني، اضواء على السيرة النبوية، ص33
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة15/ 163؛ السبحاني، جعفر الهادي، سيد المرسلين دراسة تحليلية شاملة للشخصية والسيرة المحمدية، مؤسسة النشر الاسلامي، (قم1429ه)، 1/ 156
3- شرح نهج البلاغة15/ 152

فيهم بصبره وتعظيمه محارم الله عز وجل)(1) .

ويبدو أن ابن أبي الحديد لم ينتبه إلى عمر عبد المطلب عند ذكره الرواية التي حدثت في عام الفيل وهو العام الذي ولد فيه الرسول محمد وتذكر الروايات أن عمر عبد المطلب انذاك أربعة وسبعون عاماً، وليس غلاماً شاباً، فقد ذكر البلاذري انه توفي وهو ابن اثنتين وثمانين ولرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمانية أعوام(2) .

وقد أرسل الله طيراً أبابيل من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طير منها ثلاثة أحجار تحملها، حجر في منقاره وحجران في رجليه، فقذفتهم بها وهي مثل الحمص والعدس لا تصيب أحداً منهم إلا هلك، وأصيب أبرهة في جسده فسقطت أعضاؤه عضواً عضواً حتى قدموا به صنعاء وهو مثل الفرخ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه(3) .

يبدو لنا من خلال قراءتنا لهذه الروايات أن عبد المطلب لم يقف مكتوف الأيدي إزاء هجوم إبرهة على الرغم من قوة خصمه فأراد مفاوضتهم مع علمه مسبقاً بفشل ذلك الإصرار عدوه وغطرسته، ثم أو كل أمره إلى الله بالإيمان الراسخ في قدرة الله سبحانه وتعالى على الدفاع عن بيته واليقين التام بأن حرم الله لا يمس بدليل إنه كان بداخله، مع أن الواقع العملي يقول إن أبرهة ما جاء إلا ليهدم الكعبة على من فيها، ولكنه يعلم باعتقاده الروحي إنه آمن مكان يحفظه الله، وليثبت لمن حوله ان الله موجود.

وقد زادت هذه الحادثة من مكانة عبد المطلب في قريش ومكانة قريش عند العرب،

ص: 467


1- شرح نهج البلاغة15/ 162
2- انساب الاشراف، 1/ 64
3- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 1/ 285؛ منیسي، سامية عبد العزيز، إسلام نجاشي الحبشة ودوره في صدر الدعوة الإسلامية، ص24

وقالوا : هم أهل الله قاتل الله عنهم وكفاهم مؤونة عدوهم(1) ، وتوفي عبد المطلب وهو ابن اثنين وثمانين عاماً ودفن بمكة ولرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمانية أعوام(2) .

بعد وفاة عبد المطلب استمرت الزعامات في مكة وبرز من بين أولاده الزبير وابو طالب، وذكر ابن أبي الحديد أنّ الزبير كان من أشراف قریش ووجوهها(3) ، وكان ذا نظر، وروي أن عبد المطلب عاد إلى مكة بعد غيبة فقيل له مات فلان حتف أنفه فقال:

(لئن كان ما قلتموه حقاً إن للناس معاداً يؤخذ فيه للمظلوم من الظالم)(4) .

وهذه الرواية تبين لنا مدى ايمان بني عبد المطلب بالخالق والبعث وان هناك حساباً وعقابا.

وذكر ابن أبي الحديد أن للزبير دوراً كبيراً في عقد حلف الفضول، فهو الذي نهض فيه ودعا إليه وحث عليه وهو الذي سماه حلف الفضول وذلك لأنه لما سمع التاجر اليمني المظلوم ثمن سلعته من بني سهم قد أوفي على أبي قبيس قبل طلوع الشمس رافعا عقيرته وقريش في أنديتها قائلا:

يا للرجالِ لمظلومٍ بضاعَتُهُ *** ببطنِ مكةَ نائي الحيَّ والنفرِ

إن الحرامَ لِمنْ تَمَّتْ حرامَتُه *** ولا حرامَ لثوبيِ لابسِ الغدرِ

حمي وحلف ليعقدن حلفا بينه وبين بطون من قريش يمنعون القوي من ظلم الضعيف والقاطن من عنف الغريب ثم قال:

ص: 468


1- ابن هشام، السيرة النبوية، 1/ 50
2- البلاذری، انساب الاشراف، 1/ 84
3- شرح نهج البلاغة 15/ 166
4- شرح نهج البلاغة 15/ 168

حَلَفتُ لنَعقُدَنْ حلفاً عليهم *** وإنْ كنّا جميعاً أهلُ دار نسمّيه الفضولَ إذا عقَدْنا *** یعزُّ بهِ الغريبُ لدى الجوارِ ويعلمُ من حَوالي البيتِ أنّا *** أباةُ الضيمِ نهجرُ كلَّ عارِ(1) وذكر ابن أبي الحديد ( وهو أشرف حلف کان في العرب كلها وأكرم عقد عقدته قريش في قديمها وحديثها قبل الإسلام)(2) ، وقد ذكره الرسول الكريم فقال وهو يذكر حلف الفضول : (شَهِدْت في دار عبد الله بن جُدعان حِلْفاً لو دُعيت إلى مِثْله في الإسلام لأجبْتُ)(3) .

وذكر ابن أبي الحديد انه سمي حلف الفضول لفضل ذلك الحلف وفضيلة أهله وسميت القبائل التي شاركت فيه بالفضول، وهي كل من بني هاشم وبني المطلب وبني أسد بن عبد العزى وبني زهرة وبني تيم بن مرة تعاقدوا في دار عبد الله بن جدعان في شهر حرام قياما يتماسحون بأكفهم صعدا ليكونن مع المظلوم حتى يؤدوا إليه حقه ما بل بحر صوفة وفي التأسي في المعاش والتساهم بالمال(4) ، وقيل سمي حلف الفضول تشبيهاً بحلف كان بمكة سابقاً حيث تحالف رجال منهم على رد المظالم يقال لهم فضيل وفضال وفضل ومفضل فسمي هذا الحلف حلف الفضول لأنه أحيا تلك السنّة التي كانت

ص: 469


1- شرح نهج البلاغة15/ 153- 154
2- شرح نهج البلاغة15/ 168
3- البيهقي، ابو بكر أحمد بن الحسين بن علي الخسروجردي (ت458ه)، معرفة السنن والآثار عن الامام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، تحقیق سید کسروي حسن، دار الكتب العلمية، بيروت، (د. ت)، 5/ 175؛ ابن الاثير، النهاية في غريب الحديث، 3/ 456
4- شرح نهج البلاغة15/ 168

ماتت(1) .

قد تكون هناك دوافع سياسية واقتصادية تقف وراء حلف الفضول اذان بني سهم رفضوا أن يدفعوا للتاجر اليمني ثمن سلعته لأنهم كغيرهم من بطون قريش الغنية أرادوا أن يحتكروا التجارة مع الجنوب بأيديهم ولا يسمحوا للتجار اليمنيين بجلب البضائع بانفسهم إلى مكة، وهذا ما أثار بعض الأسر ومنهم بنو هاشم التي كانت مستفيدة من التجار اليمنيين حيث أن احتكار فئات معينة التجارة مع اليمن يجعلهم يفرضون عليهم شروطاً قد لا تكون في صالحهم إذا شاركوهم بقوافلهم التجارية الذاهبة إلى هناك، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن سيطرة البعض على تجارة اليمن قد يخل بتوازن القوى السياسية داخل مكة التي تعتمد بشكل مباشر على قوة العنصر المادي في سياستها.

وقد رد حلف الفضول الكثير من المظالم التي كان يتعرض لها الضعفاء والتجار من خارج مكة كقضية الزبيدي والبارقي والقتول الخشعمية والتي سبق أن ذكرناها سابقاً(2) .

وامتد تأثير حلف الفضول حتى بعد ظهور الإسلام فذكر ابن أبي الحديد ان الحسين بن علي عليهما السلام كان بينه وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان كلام في مال كان بينهما والوليد يومئذ أمير المدينة في أيام معاوية فقال الحسين عليه السلام:

«أيستطيلُ الوليدُ عليَّ بسلطانه؟ أقسِمُ بالله لينُصِفنَي من حقي أو لآخُذَنَّ سيفي ثم أقومَ في مسجدِ اللهِ فأدعو بحلفِ الفضول».

فبلغت كلمته عبد الله بن الزبير فقال: أحلف بالله لئن دعا به لأخذن سيفي ثم الأقومن معه حتى ينتصف أو نموت جميعا، فبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري

ص: 470


1- شرح نهج البلاغة15/ 170
2- يراجع ص287موضوع التجارة من الرسالة

فقال مثل ذلك فبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك فبلغ ذلك الوليد بن عتبة فأنصف الحسين ع من نفسه حتى رضي(1) .

وعلى الرغم من أننا نضع علامات الشك على هذه الرواية حيث إن الإمام الحسين عليه السلام لا يحتاج إلى حلف الفضول لأخذ حقه ففي أخوانه وأبناء عمومته وأولاده وأبناء إخوته من العزة ما يغنيه عن ذلك إلا أننا أوردناها كما ذكرها ابن أبي الحديد التشكل امتداداً للحلف الذي استمر حتى صدر الإسلام.

أما أبو طالب فقد أشار إليه ابن أبي الحديد بقوله: (كان رئيس بني هاشم وشيخهم والمطاع فيهم)(2) ، ولم يكن أحد من قريش يسود في الجاهلية بغير مال إلا أبو طالب و عتبة بن ربيعة، وكانت السقاية في الجاهلية بيده ثم سلمها إلى أخيه العباس(3) .

وذكر ابن أبي الحديد أن عفيف الكندي لما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في بداية الدعوة ومعه غلام وامرأة قال للعباس بن عبد المطلب: أي شيء هذا قال: هذا ابن أخي يزعم أنه رسول من الله إلى الناس، ولم يتبعه على قوله إلا هذا الغلام وهو ابن أخي أيضا وهذه المرأة وهي زوجته، فقال له: ما الذي تقولونه أنتم، قال: ننتظر ما يفعل الشيخ يعني أبا طالب(4) . هذه الرواية تبين لنا دور أبي طالب المؤثر في قرارات بني هاشم، فالجميع ينتظر ما يقرره شیخ مكة وزعيمها في حادث خطير مثل تغيير ديانة ومستقبل قریش، وهو صاحب الحكمة والسياسة.

فضلاً عن حكمته وحنكته السياسية فقد كان لمكانته الاجتماعية دور أيضاً حيث ذکر

ص: 471


1- شرح نهج البلاغة15/ 171
2- شرح نهج البلاغة11/ 89
3- شرح نهج البلاغة15/ 166
4- شرح نهج البلاغة1/ 53

ابن أبي الحديد (كان أبو طالب شاعراً مجيداً)(1) ، وذكر بين طيات كتابه مجموعة من الأبيات الشعرية التي نسبها إليه منها(2) :

رثاؤه لنديمه في الجاهلية مسافر بن عمرو بن أمية بن عبد شمس مطلعها:

ليتَ شعري مسافرٌ ابن أبي عمرو *** وليثٌ يقولها المحزون

كيفَ كانت مذاقهُ الموتِ إذ مِتَّ *** وماذا بعدَ الماتِ یکونُ

کم خليلٍ وصاحبٍ وابن عمِ *** وحميمٍ قفت عليه المنونُ

فتعزّیت بالجلادة والصبرِ *** وإني بصاحبيِ لضنينُ(3)

وهكذا نرى أن بني هاشم امتدادٌ طبيعي للسلالة التي توارثت زعامة مكة جيلاً بعد جيل، فهم كما وصفهم حذافة العذري في شعره الذي ذكره ابن أبي الحديد في أثناء حديثه عن فضل عبد المطلب:

کهولُهُم خيرُ الكهولِ ونسلُهُمْ *** کَنَسلِ الملوكِ لا يبورُ ولا يَجري

ملوكٌ وأبناءُ الملوكِ وسادةٌ *** تُفلَّقُ عنهُم بيضةُ الطائرِ الصقرِ

متى تلقَ منهُم طامحاً في عنانِهِ *** تَجِدْهُ على أجراءِ والدِهِ يجري

هم ملكوا البطحاءَ مجداً وسؤددا *** وهم نکلوا عنها غواةَ بني بكرِ

وهمْ يغفرونَ الذنبَ ينقمُ مثلُهُ *** وهم تركوا رأيَ السفاهةِ والهجرِ

ص: 472


1- شرح نهج البلاغة15/ 166
2- أبو طالب، الديوان، ص9؛ شرح نهج البلاغة15/ 166
3- للمزيد من التفاصيل عن حياة أبي طالب ينظر المحمداوي، علي صالح رسن، ابو طالب بن عبد المطلب دراسة في سيرته الشخصية وموقفه من الدعوة الإسلامية، اطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية الاداب، جامعة البصرة، 2004

أخارجُ إما أهلكنَّ فلا تَزَلَ *** لهم شاكرا حتى تغيَّبَ في القبرِ(1)

ثانياً: الحيرة:

هي مدينة قديمة كانت على ثلاثة أميال من الكوفة، مسکن ملوك العرب في الجاهلية من زمن نصر ثم من لخم النعمان وآبائه، وقيل سميت الحيرة لأن تبعاً الأكبر لما قصد خراسان خلَّفَ قسماً من جنده بذلك الموضع وقال لهم: حيروا بها، أي أقيموا بها(2) ، وكانت قبائل تنوخ(3) ، قد قصدت الحيرة وأقامت بيوتاً من الشعر، وسرعان ما تحضرت وعملت على حماية القوافل التجارية المارة بارضها، وأسهمت بالعمل التجاري وأقامت علاقات تجارية مع المناطق المحيطة بعد اعتراف الدولة الفارسية بها(4) ، وذكر ان (ملوك الحيرة أنفسهم ما كانوا في الحقيقة إلا حكاماً بالنيابة عن الأكاسرة)(5) .

واختلف المؤرخون في مؤسس مملكة الحيرة، إلا أن الغالب لديهم ان جذيمة بن مالك بن فهم هو أول ملوكها المشهورين الذي جاء بعد ابيه وعمه عمرو بن فهم، وهو أول من أستجمع له الملك بارض العراق وضم إليه العرب وغزا بالجيوش(6) ، وكان به برص، وذكر ابن أبي الحديد انه كان يسمى جذيمة الوضاح أو جذيمة الابرش(7) . غير أن

ص: 473


1- شرح نهج البلاغة15/ 161
2- یاقوت الحموي، معجم البلدان، مج2، 3/ 201
3- تنوخ: مزيج من قبائل قضاعة والأزد خرجوا من اليمن واجتمعوا في البحرين مع بعض قبائل من العرب وتحالفوا على التنُّوخ، وهو المقام، وتعاقدوا علي التناصر والتساعد، فصاروا يداً واحدةً وضمّهم اسم تنوخ، وانضم اليهم جديمة الأبرش وكان اجتماعهم أيام ملوك الطوائف، وإنما سمّوا ملوك الطوائف لأن كل ملك منهم كان ملكه على طائفة قليلة من الأرض، ينظر ابن الاثیر، الکامل في التاريخ، 1/ 22
4- برو، تاريخ العرب القديم، ص125
5- کستر، م. ج، الحيرة ومكة وصلتهما بالقبائل العربية، ترجمة يحيى الجبوري، جامعة بغداد، (بغداد1976)، ص19
6- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 1/ 223
7- شرح نهج البلاغة5/ 125

حكمه لم يدم طويلاً حيث كان بينه وبين الزباء سلم وحرب ولم تزل تحاول الثأر منه بأبيها حتى تحايلت عليه وأطمعته في نفسها فخطبها وأجابته وأجمع المسير إليها وأبی عليه وزيره قصير بن سعد، وكان حازما ناصحا، فحذره عاقبة ذلك فعصاه إلى أن نزل فأتته الرسل منها بالألطاف والهدايا ثم أحاطت به الخيول ودخل جذيمة على الزباء فقطعت رواهشه(1) فسال دمه حتی نزف ومات(2) . وصارت هذه القصة مثلاً وعبرة تتكرر في كتب التاريخ والامثال، حيث أستشهد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بتلك الحادثة في أثناء كلامه إلى أهل الكوفة بعد التحكيم بقوله:

«قَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ فِي هَذِهِ اَلَحُكُومَةِ أَمْرِي ونَخَلْتُ لَكُمْ مَخْزُونَ رَأْيِي لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصيِرِ أَمْرٌ»(3) .

وعلق ابن أبي الحديد ان قصيراً هو مرافق جذيمة في حربه مع الزّباء وهو صاحب هذا المثل المشهور الذي ضرب لكل ناصح يعصي بقصير(4) .

بعد وفاة جذيمة الذي لم يترك من يخلفه الحكم من التنوخين، انتقلت السلطة إلى ابن اخته عمرو بن عدي(5) ، مؤسس السلالة اللخمية في الحيرة، لجدهم الأعلى أو ينسبون إلى (آل نصر) نسبة إلى جدهم نصر بن ربيعة، كما عرفوا باسم المناذرة لكثرة من تسمی منهم باسم المنذر(6) ، وعمرو بن عدي كان قد نشأ في رعاية خاله جذيمة الابرش الذي

ص: 474


1- عصب يديه، ينظر ابن منظور، لسان العرب، 4/ 201، (مادة رهش)
2- ابن خلدون، تاریخ ابن خلدون، 2/ 301وما بعدها
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2/ 163، [خطبة35]
4- شرح نهج البلاغة، 2/ 163
5- هو عمر بن عدي بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحار بن مسعود بن مالك بن غنم بن نمارة بن لخم، ينظر ابن حزم، جمهرة انساب العرب، ص422
6- على، المناذرة دراسة سياسية حضارية، فص1، ص24

احبه والتزمه، وذكر ابن أبي الحديد قصة قربت عمرو هذا من خاله وهو صغير ملخصها أن عمراً كان يجني الكمأة مع أتراب له فكان أترابه يأكلون ما يجدون وكان عمرو يأتي به خاله ويقول:

هذا جناي وخيارُهُ فيهِ

وكلُّ جانٍ يدُهُ إلى فيهِ(1)

فسرَ جذيمه بقولهِ وفعلهُ

وذكر ابن أبي الحديد أن الإمام علي بن أبي طالب قد استشهد بكلام عمرو بن عدي عندما جاءه مال من الجبل وكان الناس يزدحمون حوله فأخذ حبالا فوصلها بيده وعقد بعضها إلى بعض ثم أدارها حول المال وقال: لا أحل لأحد أن يجاوز هذا الحبل، فقعد الناس كلهم من وراء الحبل ودخل هو فقال: أين رؤوس الأسباع وكانت الكوفة يومئذ أسباعا فجعلوا يحملون هذه الجوالق إلى هذه الجوالق وهذا إلى هذا حتى استوت القسمة سبعة أجزاء ووجد مع المتاع رغيف فقال اكسروه سبع کسر وضعوا على كل جزء كسرة ثم قال:

هذا جناي وخيارُهُ فيهِ *** وكلُّ جانِ يدُهُ إلى فيهِ(2)

يبدو أن عمرو بن عدي قد لفت الأنظار اليه بشخصيته القوية وعقليته الراسخة مما جعل خاله جذيمة يثق به ويعتمد عليه في إدارة شؤون دولته حتى جعله في مصاف وزرائه ومستشاريه، ويذكر ابن الأثير أنه أوكل اليه مهمة تولي الملك بعده بمساعدة أحد قواده

ص: 475


1- شرح نهج البلاغة، 19/ 105
2- شرح نهج البلاغة، 2/ 159

واسمه عمرو بن عبد الجن عندما قرر الذهاب إلى الزباء(1) ، وقد أتخذ عمرو بن عدي (268م- 288م) الحيرة عاصمة لدولته ومقر لسلطته وبدأت في عهده العمارة ودخلت الحيرة عصراً جديداً من التطور الحضاري، ويرجع اليه تمصير الحيرة بعد أن كانت خربت زماناً وأقفرت من سكانها وإلتفت حوله القبائل العربية وأعترف بسلطته الساسانيون الذين كان من مصلحتهم التقليل من هجمات البدو على حدودهم وتأمينها(2) .

بعد وفاة عمرو بن عدي استلم الحكم ابنه امرؤ القيس بن عمرو (288م - 328م)، فوسع سلطانه على القبائل العربية وسمي بملك العرب كلهم، كما يتضح من نقش يسمى (نقش النمارة) الذي اكتشف على قبره في وادي الصفا بسوريا، والذي يذكر فيه انتصاراته على اعدائه ودوره المتميز في توحيد القبائل العربية وضم الكيانات العربية الصغيرة إلى دولته(3) . وتولى مملكة الحيرة بعد امرئ القيس عدة ملوك لم تكن لهم اعمال بارزة حتى تسلم النعمان بن امرؤ القيس الثاني (400م- 418م)، ويلقب بالأعور أو السائح، أشرف يوماً على قصره فنظر إلى ما حوله فقال أكل ما أرى إلى فناء وزوال، قالوا: نعم. قال: فأي خير فيما يفنى لأطلبن عيشاً لا يزول، فانخلع من ملكه ولبس المسوح وساح في الأرض(4) .

وكانت له اهتمامات عسكرية وعمرانية، فكوَّنَ جيشاً قوياً مؤلفاً من كتيبتين هما

ص: 476


1- الكامل في التاريخ2/ 226
2- العلي، محاضرات في تاريخ العرب، ص66؛ سالم، تاريخ الدولة العربية، ص167؛ علي، المناذرة دراسة سياسية حضارية، فص1، ص22
3- السعدون، نصار سلیمان، امرؤ القيس بن عمرو اللخمي ودوره في توحيد القبائل العربية، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الاداب، جامعة البصرة، 1988، ص96
4- ابن قتيبة، المعارف، ص358؛ حسن، تاريخ الإسلام السياسي، 1/ 34- 35

الشهباء والدوسر التي اشتهرت بقوة بطشها، وبنى قصري الخورنق والسدير(1) وقد ذكرهما ابن أبي الحديد في أبيات لعدي بن زيد قال فيها:

وتدبَّرَ ربُّ الخورنقِ إذ *** أشرفَ يوماً وللهدی تفکیرُ

سرَّهُ مالُهُ وكثرةُ مايمل *** لكَ والبحرُ معرضاً والسدیرُ فارعوى قلبُهُ وقالَ فما غبطةٌ *** حيَّ إلى الماتِ يصيرُ(2)

بعد النعمان تولى ابناؤه وأحفاده الحكم ولعل أبرزهم المنذر بن امرؤ القيس بن ماء السماء (514م- 554م)(3) ، وهو من أشهر ملوك لخم وأكثرهم عملاً، وأثناء حكم المنذر للحيرة ظهر مذهب مزدك(4) وغايته الإشتراك في الأموال والأشياء وذكر ابن أبي الحديد أنه ظهر أيام الأكاسرة(5) ، وحاول قباد فرضه على جميع مملكته والتابعين له فرفض المنذر فأخرجه قباد من الحيرة وولاها الحارث بن عمرو بن حجر الكندي أحد ملوك دولة كندة، وظل المنذر مختبئاً بقية أيام قباد فلما تولى أنوشروان وكان على غير رأي والده أعاد المنذر إلى منصبه بعد أن قتل مزدك وهرب الحارث الغساني وأصلح

ص: 477


1- ابن قتيبة، المعارف، ص258؛ البكر، منذر عبد الكريم، دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار الكتب، (البصرة1993)، ص454- 455
2- شرح نهج البلاغة، 11/ 131؛ تنظر الابيات عند ابن زید، عدي، الديوان، ص87
3- كانت أم المنذر من النمر بن قاسط يقال لها ماء السماء لجمالها وحسنها وأب وها عوف بن جشم، ينظر ابن قتيبة، المعارف، ص359
4- مزدك كان يقول: النور يفعل بالقصد والاختيار والظلمة تفعل على الخبط والاتفاق والنور عالم حساس والظلام جاهل أعمى وأن المزاج كان على الاتفاق والخبط لا بالقصد والاختيار وكذلك الخلاص إنما يقع بالاتفاق دون الاختيار وكان مزدك ينهى الناس عن المخالفة والمباغضة والقتال ولما كان أكثر ذلك إنما يقع بسبب النساء والأموال أحل النساء وأباح الأموال وجعل الناس شركة فيهما کاشتراكهم في الماء والنار والكلأ، ينظر الشهرستاني، الملل والنحل، ص250ومابعدها
5- شرح نهج البلاغة، 7/ 40

أنوشروان ما أفسده أبوه(1) ، وقامت في عهده حروب طويلة بين المناذرة والغساسنة ذكر منها ابن أبي الحديد يوم حليمة(2) ، وهو يوم التقى المنذر والحارث الغساني الأكبر(3) ، ونتيجة لتلك الصراعات بينه وبين الغساسنة قتل المنذر على يد الحارث بن أبي شمر الغساني وهو الحارث الاعرج(4) .

تولى عمرو بن هند السلطة بعد مقتل ابيه (554م- 574م) وكان يسمى مضرط الحجارة سمي بذلك لشدة وطأته وصرامته(5) وقد ذكره ابن أبي الحديد ضمن أبيات مطلعها:

من مبلغٌ عمرو بن هندٍ رسالةً *** إذا استحقبتها العيسُ جاءَتْ من البعدِ

أيوعِدُني والرملُ بيني وبينَهُ *** تبينُ رويدا ما أمامَهُ من هندِ(6)

وسمي أيضا محرقاً أيضاً لأنه أحرق ثمانية وتسعين رجلاً من بني دارم بالنار وكملهم مائة برجل من البراجم وبامرأة نهشلية(7) ، وكان شديد البأس قوي الشكيمة مع زهو وكبرياء وغطرسة فهابته العرب، وقد بلغ من غروره وغطرسته أنه أراد أن يهين أم عمرو بن كلثوم ويرفع من قدر امه فوثب عليه عمرو بن كلثوم فضرب بالسيف على رأسه فقتله(8) .

ص: 478


1- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 1/ 266- 267؛ زیدان، تاريخ العرب قبل الإسلام، ص276
2- انظر تفاصيل اليوم في ص334من الرسالة
3- شرح نهج البلاغة، 20/ 159
4- ابن قتيبة، المعارف، ص359
5- ابن قتيبة، المعارف ص359
6- شرح نهج البلاغة، 2/ 248
7- انظر تفاصيل اليوم ص349من الرسالة
8- الاصفهانی، الاغانی، مج4، 11/ 275

وبعد مقتله تولى الإمارة عدد من أخوته أشهرهم أبو قابوس النعمان بن المنذر (580م - 613م)، وكان تعيينه بمشورة من عدي بن زيد، وهو أحد کتاب کسری ومترجميه القريبين من النعمان، فساء ذلك اخوة النعمان فسعوا سراً للإيقاع بعدي بن زید عند النعمان بالوشاية(1) فأدى ذلك إلى سجنه بحبس النعمان كما يذكر ابن أبي الحديد(2) ، ومن ثم قتله، ولهذا سعى ابنه زيد بن عدي بتدبير مؤامرة للأخذ بثأر والده فعندما علم أن كسرى يريد أن يزيد حريمه أقنعه بالأميرات العربيات، وهو يعلم أن النعمان سوف يرفض زواج بناته من الفرس وهذا ما حدث فعلاً فأثار ذلك سخط کسری فاستدعى النعمان للقدوم إلى بلاطه ومن ثم قتله(3) .

لعل السبب في قتل النعمان هو الخوف من تزايد سلطته والتفاف العرب حوله وتزايد قوة العرب، وهذا ما أكدته رسالة كسرى أبرويز جواباً على رسالة ابنه شيرويه التي نقلها ابو حنيفة الدينوري (وأما ما زعمت من قتلي النعمان بن المنذر، وإزالتي الملك عن آل عمرو بن عدي إلى إياس ابن قبيصة، فإن النعمان وأهل بيته واطئوا العرب، وأعلموهم توكفهم(4) خروج الملك عنا إليهم، وقد كانت وقعت إليهم في ذلك كتب، فقتلته)(5) ، وقد تكون قصة الزواج من النساء العربيات هي الوسيلة التي من خلالها حاول كسرى القضاء على دولة النعمان وتسليم حكمها إلى إياس بن قبيصة الطائي.

ومن خلال هذا النص ورواية عدي بن زید وسعيه عند كسرى لتعيين النعمان يمكن أن نلاحظ أن الملك الساساني كانت له اليد الطولى على ملوك الحيرة، فهو يعين من يريد،

ص: 479


1- الطبري، 2/ 194- 197
2- شرح نهج البلاغة، 1/ 170
3- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 1/ 184؛ البكري، دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام، ص464
4- يتوكف الخبر: ينتظره ويتوقعه
5- الاخبار الطوال، ص160

وحسب مصلحته ومصلحة فارس ولايتوانی من قتل أي شخص يخالف أمره وسياسته.

وبمقتل النعمان انتهى حكم المناذرة في الحيرة وبقيت الحيرة بيد ملوك ضعفاء حتى سقوطها بيد خالد بن الوليد سنة13ه(1) .

ثالثا: كندة:

قامت دولة كندة(2) في أواسط شبه الجزيرة العربية، وشملت معظم بلاد نجد مما يلي الحجاز شرقاً، وكانت منازلهم الأولى في البحرين واضطروا إلى الرحيل فنزلوا بحضرموت وكان الذي نقل منهم عن هذه البلاد إلى حضرموت نيفاً وثلاثين ألفاً(3) ، وكان بين كندة وقبائل حضرموت حروب طويلة أفنت عامتهم، وفتنت رجالهم، وكثر القتل في كندة. وملکت حضرموت علقمة بن ثعلب، وهو يومئذ غلام، فلانت کندة بعض اللين وكرهت محاربة حضرموت، وعندما اضطربت احوال اليمن تشتتت قبائلها وانتشروا في البلاد وملك كل قوم عظيمهم، وصارت كندة إلى أرض معد بنجد(4) .

ولم تظهر كندة بصورتها القوية إلا بعد حکم حجر بن الحارث آكل المرار (460م تقریباً- 480م)، إذ ان الذين سبقوه کانت سلطتهم محدودة لا تتجاوز حدود القبيلة في غمر ذي كندة(5) ، والذي كانت تقطنه قبيلة إياد، وإنما سمي آكل المرار (لأن بعض غسَّان خالفه في بعض غزواته فاكتسح له مالاً وسبي له جارية، واوغلوا بالجارية يديرون

ص: 480


1- ابن حبيب، المحبر، ص260
2- قبيلة كندة قحطانية ترجع إلى كندة وهو ثور بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زید بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، ينظر ابن حزم، جمهرة انساب العرب، 3/ 485
3- الهمداني، صفة جزيرة العرب، ص171؛ الجبوري، مربد صالح ضامن، كندة ودورها السياسي والاقتصادي في الجزيرة العربية قبل الإسلام، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة الموصل، 2004، ص14
4- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 1/ 185
5- الغمر: الماء الكثير المغرق وغمر ذي كندة موضع وراء وجرة بينه وبين مكة مسيرة يومين، ينظر یاقوت الحموي، معجم البلدان، مج3، 6/ 395

المال خوف التّبع، فأقبلت الجارية تلقَّتُ فقيل لها ما تلفتك؟ فقالت: كأني بحجر قد کربكم فاغراً فاه كأنه جمل أكل مراراً فلم يعتم أن لحق على تلك الهيئة فسمي آكل المرار)(1) ، وذكر ابن أبي الحديد والمرار بضم الميم شجر مر في الأصل واستعير شرب المرار لكل من يلقي شديد المشقة(2) ، وفي هذا المعنى يقول طفيل الغنوي:

إن النساءَ كأشجارٍ نبتْنَ معاً *** هنَّ المرارُ وبعضُ المرَّ مأكولُ(3)

وفي كلام للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يتحدث عن احوال الماضين قال:

«اِتَّخَذَتْهُمُ الْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ اَلْعَذَابِ وجَرَّعُوهُمْ جُرَعَ اَلْمُرَارِ»(4) .

استطاعت کندة في عهد حجر آكل المرار إقامة تحالفات مع القبائل المحيطة بها فعقد حجر حلفاً مع ربيعة ومذحج وكونوا قوة كبيرة في المنطقة تمكنت من التوسع على مناطق واسعة(5) ، ثم بعد ذلك قرر بكر أن يملكوا عليهم ملكاً يأخذ للضعيف من القوي، وعلموا أن هذا لا يستقيم حتى يكون الملك منهم لأنه يطيعه قوم ويخالفه آخرون، فطلبوا من حجر يملك عليهم، فقدم ونزل ببطن عاقل وأغار ببكر فانتزع عامة ما كان بأيدي اللخميين من أرض بكر، ووحد العرب تحت رايته ولعلها المحاولة الاولى لتوحيد صفوفهم وراء زعيم مشترك(6) ، فلما توفي خلفه ابنه عمرو الملقب بالمقصور (480م- 495)، وقيل ربما سمي بالمقصور لأنه اقتصر على ما تحت نفوذه من أراضٍ ولم يستطع الوقوف امام القبائل التي

ص: 481


1- الهمداني، صفة جزيرة العرب، ص168
2- شرح نهج البلاغة، 13/ 128
3- شرح نهج البلاغة، 18/ 159
4- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 13/ 127، [خطبة238]
5- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 1/ 186، الجبوري، مربد صالح ضامن، كندة ودورها السياسي والاقتصادي في الجزيرة العربية قبل الإسلام، ص16
6- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/ 328؛ زیدان، جرجي، العرب قبل الإسلام، ص287

انشقت عنه(1) وهو لم يحمل لقب (ملك) وانما اكتفى بلقب (سید کندة)(2) .

ومن ملوك كندة المشهورين الحارث بن عمرو الذي كان له أربعة أبناء، حجر وشرحبيل وسلمة، ومعدیکرب، فملك حجراً في أسد وكنانة، وملك شرحبيل على غنم وطيء والرباب، وملك سلمة على تغلب والنمر بن قاسط، وملك معدیکرب على قیس بن عيلان، وكانوا يجاورون ملوك الحيرة فقتل الحارث، وقام ولده بما كان في أيديهم، ثم أوقع المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة الشرور بينهم فقتل سلمة أخاه شرحبيل(3) ، وبلغ الخبر إلى أخيه معد يكرب فاشتد جزعه وحزنه على أخيه وزاد ذلك حتى اعتراه منه وسواس هلك به(4) ، أما حجر فكانت قبيلة أسد غير راضية على حكمه ورفضوا أن يدفعوا له الأتاوة السنوية فحاربهم وقبض على رؤسائهم وقتل كثيرا منهم بالعصا فاجتمعت بنو أسد على قتله، فقتلوه وكان القائم بأمر بني أسد علباء بن الحارث أحد بني ثعلبة(5) ، وذكر ابن أبي الحديد أن امرأ القيس قال فيه:

وأفلتُهُنَّ علباءُ جريضاً *** ولو أدركنَهُ صفرَ الوطابِ(6)

وكان امرؤ القيس بن حجر أصغر أولاد حجر غائباً حيث تذهب الرويات أن حجراً طرده وأصرَّ أن لا يقيم عنده لتغزله بالنساء وشرب الخمر، فلما سمع بالخبر قال: ضيعني صغيرا وحمّلني دمه كبيرا لا صحو اليوم ولا سكر غدا اليوم خمر وغدا أمر

ص: 482


1- ابن حبیب، المحبر، ص369؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/ 328؛ برو، توفيق، تاريخ العرب القديم، ص154
2- الشيخ، حسين، العرب قبل الإسلام، دار المعرفة الجامعية، (الاسكندرية1993)، ص328
3- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 1/ 186
4- ابن حبيب، المحبر، ص370؛ ابن خلدون، تاریخ ابن خلدون2/ 318
5- ابن الاثیر، الکامل في التاريخ، 2/ 330؛ ابن خلدون، تاریخ ابن خلدون2/ 318؛ برو، توفيق، تاريخ العرب القديم، ص157
6- شرح نهج البلاغة، 16/ 116

فذهبت مثلا، فلما صحا قرر ألا يأكل لحما ولا يشرب خمراولا يدهن بدهن ولا يصيب امرأة حتى يدرك بثأره(1) (2) ، وأخذ يتنقل بين القبائل العربية طالباً معونتهم حتى مات بأنقرة من أرض الروم، وبموته اضمحلت مملكة كندة، ولم يبق من آثارها سوى ذکری امرئ القيس وشعره الذي تناول ابن أبي الحديد قسماً منه كدلالات وتعليقات لمجموعة من الأحداث والتفسيرات التي احتواها کتابه.

يبدو لنا إن كندة لم تكن دولة مثل الحيرة وذلك لسببين: 1- لم تكن لها عاصمة واضحة أو سياسة معينة، أو نوع واضح من الحكومات، ويبدو أن صفة أو لقب ملك أطلق على بعض حكامها لكونها توسعت أكثر من غيرها من القبائل.

2- هي قبيلة نزلت على طريق التجارة وأخذت تتوسع على حساب القبائل الضعيفة، فشكّلت لها مكانتها وأصبح لها نفوذ حتى أخذت تفرض الأتاوة بالقوة على القبائل الأخرى الأقل منها قوة.

وهكذا انتهت أول محاولة من داخل العرب لتوحيد القبائل العربية تحت سلطة واحدة، اذ سرعان ما عادت عشائر كندة إلى الجنوب حيث ساد منهم قيس بن معدیکرب بن جبلة وابنه الاشعث(3) ، وذكر ابن أبي الحديد إن مرادا لما قتلت قيسا الأشج خرج الأشعث طالبا بثأره فخرجت كندة متساندين على ثلاثة ألوية على أحد الألوية كبس بن هانئ بن

ص: 483


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 1/ 188؛ الاصفهاني، الاغاني، مج3، 9/ 575؛ ابن الاثیر، الکامل في التاريخ، 2/ 331؛ برو، تاريخ العرب القديم، ص159
2- ينظر تفاصيل يوم حجر ص521من الرسالة
3- ابن خلدون، تاریخ ابن خلدون 2/ 318؛ الشيخ، العرب قبل الإسلام، ص171؛ مهران، تاريخ العرب القديم، ص560

شرحبيل بن الحارث بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكرمين ويعرف هانئ بالمطلع لأنه كان يغزو فيقول اطلعت بني فلان فسمي المطلع، وعلى الثاني القشعم أبو جبر بن یزید الأرقم، وعلى الثالث الأشعث فأخطئوا مرادا ولم يقعوا عليهم، ووقعوا على بني الحارث بن كعب فقتل كبس والقشعم أبو جبر وأسر الأشعث ففدي بثلاثة آلاف بعير لم يفد بها عربي بعده ولا قبله فقال في ذلك عمرو بن معدیکرب الزبيدي:

فكانَ فداؤهُ ألفي بعيرٍ *** وألفا من طريفاتِ وتلَّدِ(1)

وقد ذكر ابن أبي الحديد هذه الحادثة تعليقاً على كلامٍ الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قاله للأشعث بن قيس وهو على منبر الكوفة بعد أن اعترض على كلامه:

«وَاَللهِ لَقَدْ أَسَرَكَ اَلْكُفْرُ واَلْإِسْلَامُ أُخْرَى فَمَا فَدَاكَ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَالُكَ ولاَ حَسَبُكَ»(2) .

وذكر ابن أبي الحديد أن الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم عرض نفسه عليهم لما قدمت كندة حجاجا قبل الهجرة كما كان يعرض نفسه على أحياء العرب فدفعه بنو وليعة من بني عمرو بن معاوية ولم يقبلوه(3) .

رابعاً: الغساسنة:

الغساسنة أصلهم من اليمن وهم ينسبون إلى قبيلة الأزد، ويقال ان اول ملوكهم هو جفنة بن عمرو مزيقياء، ولذا فهم يعرفون باسم آل جفنة أيضاً، وهم خرجوا من اليمن

ص: 484


1- شرح نهج البلاغة، 1/ 270
2- ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، 1/ 269، [خطبة19]
3- شرح نهج البلاغة، 1/ 271

بعد تصدع سد مأرب ونزلوا على ماء في سهل تهامة يسمى (غسان) فنسبوا إليه(1) ، أما المسعودي فيقول (إنما غسان ماء شربوا منه فسموا بذلك وهو ما بين زبيد ورمع، وادي الأشعريين بأرض اليمن) وأورد المسعودي شعراً لحسان بن ثابت الأنصاري يقول فيه:

إمَا سألتِ فإنَا معشرُ نُجُبُ *** الأزدُ نسبَتُنَا، وَالَماءُ غسانُ(2)

وذكر ياقوت الحموي، ان جملة من قبائل الأزد نزلت عند ماء غسان وهم الأنصار وبنو جفنة وخزاعة(3) ، ثم قدموا الشام حيث تقيم فيها قبلهم قبيلة قضاعة، فطالبتهم قضاعة بالرحيل فرفضوا ودارت معارك بينهم انتهت بانتصار الغساسنة(4) .

ليس ثمة اتفاق على عدد ملوكهم ولكن أبرزهم هو الحارث بن جبلة (525م- 569م) وهو الذي حارب المنذر الثالث بن ماء السماء وقتله في موقعة (عين آباغ)(5) ، وكان ذا شخصية قوية ومهابة، وقد ذكر ابن أبي الحديد أبيات من الشعر نسبها إلى أحد شعراء بني اسد يحاكي بها الحارث الغساني فيقول:

العمرُكَ ما خشيتُ على أبي *** رماحُ بني مقّيدةِ الحمارِ

ولكنّي خشيتُ على أبي *** رماحُ الجنِ أو إياكَ حارِ

ص: 485


1- المسعودي، ابو الحسن علي بن الحسين بن علي (ت346)، التنبيه والاشراف، دار صعب، بیروت، (د، ت)، ص158؛ امین، فجر الإسلام، ص18؛ حسن، تاريخ الإسلام السياسي، 1/ 37؛ سالم، تاريخ الدولة العربية، ص140؛ برو، تاريخ العرب القديم، ص141
2- مروج الذهب ومعادن الجوهر، 1/ 326
3- معجم البلدان، مج3، 6/ 384، [مادة غسان]
4- ابن خلدون، تاریخ ابن خلدون، 2/ 324؛ الملاح، الوسيط في تاريخ العرب قبل الإسلام، ص245
5- وهو يوم من ايام العرب بين المناذرة والغساسنة انتهى بانتصار الغساسنة ومقتل المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة وانهزام جيشه، ينظر تفاصيل اليوم عند ابن عبد ربه، العقد الفريد، 5/ 244وما بعدها

وذكر أن العرب كانت تسمي الطواعين رماح الجن(1) .

لكن الأصفهاني ذكر الأبيات والقصة بشكل مختلف إذ قال: (أغار ملك من ملوك غسان يقال له عدي وهو ابن أخت الحارث بن أبي شمر الغساني على بني أسد فلقيته بنو سعد بن ثعلبة بن دودان بالفرات ورئيسهم ربيعة بن حذار فاقتتلوا قتالا شديدا فقتلت بنو سعد عديا، اشترك في قتله أخوا ربيعة، عمرو وعمير ابنا حذار وأمهما امرأة من كنانة يقال لها تماضر إحدى بني فراس بن غنم وهي التي يقال لها مقيدة الحمار(2) .

فقالت فاختة بنت عدي:

لِعَمْرُكَ ما خَشِيتُ على عَدِيّ *** رِماحَ بني مُقَيَّدة الحمارِ

ولكنَّي خشيتُ على عديّ *** رماحَ الجِنَّ أو إيَّاكَ حار تعني الحارث بن أبي شمر خاله)(3) .

بعد الحارث خلفه ابنه المنذر الذي استقبله الامبراطور البيزنطي في عاصمته وأنعم عليه بالتاج بينما لم يكن لأسلافه سوى الإكليل يضعونه على رؤوسهم، لكنه اتهم فيما بعد بأن له صلات سرية مع الفرس أعداء البيزنطينيين فألقي القبض عليه وأرسل مع ثلاثة من ولده وزوجته إلى السجن ثم نفي إلى صقلية حيث قضى نحبه هناك، وقد مهدت هذه الأحداث لقيام أبناء المنذر الآخرين وعلى رأسهم النعمان إلى اعلان الحرب على البيزنطينيين واتخذوا البادية منطلقاً لهم لسلسلة من الغارات كان نتيجتها إلقاء القبض على النعمان فعمت

ص: 486


1- شرح نهج البلاغة، 15/ 181
2- مُقَيَّدَةُ الحِمار: الحُرَّةُ لأَنها تَعْقِلُه فكأَنها قَيْدٌ له وقيل عنی ببني مُقَيَّدَة الحِمارِ العَقارِبَ لأنها أكثر ما تكون في الحَرَّةِ والقَيْدُ ما ضَمَّ العَضُدَتَيْنِ المؤَخَّرَتَيْنِ من أَعلاهما من القِدَّ والقَیْدُ القِدُّ الذي يَضُمُّ العَرْقُوتَيْنِ من القَتبِ والعرب تکني عن المرأَة بالقَيْد، ينظر ابن منظور، لسان العرب، 7/ 413، [مادة قيد]
3- الأغاني، مج4، 11/ 367

الفوضى وتفككت وحدة الغساسنة واختارت كل قبيلة اميراً لها(1) .

من خلال قراءتنا للروايات السابقة يمكن القول أن دولة الغساسنة لم تتمتع بالاستقلال السياسي، إنما كانت تابعة للدولة البيزنطينية حالها حال دولة المناذرة التي عرفت بتبعيتها للساسانيين، ولذا نجد أن المنذر بن الحارث ما أن خرج عن ما مرسوم له في حدود علاقته بالفرس حتى اتهم بالخيانة ونفي وأدى ذلك بالتالي إلى إنهاء دولة الغساسنة التي أسست أصلاً کجدار حاجز بين الدولة البيزنطينية والدولة الساسانية.

وتذكر المصادر التاريخية أن آخر أمراء الغساسنة هو جبلة بن الأيهم الذي أسلم ثم ارتد، ذكره ابن أبي الحديد بقوله أن عمر بن الخطاب سرعان ما أغلظ على جبلة بن الأيهم حتى اضطره إلى مفارقة دار الهجرة بل مفارقة دار الإسلام كلها وعاد مرتدا داخلا في دين النصرانية لأجل لطمة لطمها، وقال جبلة بعد ارتداده متندما على ما فعل:

تَنَصَّرتِ الأشرافُ من أجلِ لطمةٍ *** وما كانَ فيها لو صبرتْ لها ضررُ

فيا ليتَ أمي لم تَلِدْني وليتَني *** رجعتُ إلى القولِ الذي قالَهُ عمرُ(2)

وذكر البلاذري أن عمر بن الخطاب عندما قدم الشام سنة سبع عشرة، رأى جبلة رجلا من مزينة فلطم عينه، فأمره عمر بالاقتصاص منه فقال: أو عينه مثل عيني؟ والله لا أقيم ببلد علا به سلطان، فدخل بلاد الروم مرتدا(3) .

خامسا: يثرب:

وهي ثاني مدن الحجاز العامرة بعد مكة عرف اسمها القديم يثرب في الكتابات

ص: 487


1- أحمد، مصطفى أبو ضيف، دراسات في تاريخ الدولة العربية، ط4، دار النشر المغربية، (الدار البيضاء1986)، ص84؛ أمين، فجر الإسلام، ص20؛ برو، تاريخ العرب القديم، ص145
2- شرح نهج البلاغة، 15/ 181
3- فتوح البلدان، ص185

المعينية القديمة، وسميت بهذا الاسم لأن أول من سكنها يثرب بن قانية بن مهلائيل بن إرم بن عبيل بن عوض بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام(1) ، وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم من قوله تعالی:

«وَإِذْ قَالَت طَائِفَهٌ مَّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأذِنُ فَرِيقٌ مَّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَورَةٍ إِن يُرِيدُون إِلَّا فِرَاراً»(2) .

وذكر ابن أبي الحديد ان رسول الله سماها طيبة(3) ، وذلك تعليقاً على كلام الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام الذي ذكر طيبة عند ذكره الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته بقوله:

«أُسْرَتُهُ خَيْرُ أُسْرَةٍ، وشَجَرَتُهُ خَيْرُ شَجَرَةٍ، أَغْصَانُهَا مُعْتَدِلَةً، وثِمَارُها مُتَهَدَّلَةٌ، مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، وهِجْرَتُهُ بِطَيْبَةَ، عَلَا بِهَا ذِكْرُهُ، واِمْتَدَّ مِنْهَا صَوْتُهُ»(4) ذكرت ليثرب اسماء كثيرة، ينظر قائدان، تاریخ آثار مكة والمدينة ص203 .

أما تاریخ یثرب قبل الإسلام ففيه الكثير من الغموض في بعض جوانبه، فتذكر الروايات القديمة ان يثرب كانت واحة، وكان العمالقة أول من سكنها، ثم تغلبت عليها بعض القبائل اليهودية واستقرت إلى جانبهم والبعض يذكر أسطورة حول إرسال موسی اليهود إلى العماليق في الحجاز وأمرهم أن لا يستبقوا من العماليق أحد بلغ الحلم، فقدموا عليهم فقتلوهم مع ملكهم، ثم استقروا في ارضهم(5) ، وعلق ابن خلدون على

ص: 488


1- یاقوت الحموي، معجم البلدان، مج4، 8/ 496؛ سالم، تاريخ الدولة العربية، ص275
2- سورة الاحزاب: الآية13
3- شرح نهج البلاغة، 9/ 182
4- شرح نهج البلاغة، 9/ 182، [خطبة162]
5- ياقوت الحموي، معجم البلدان، مج4، 7/ 229، [مادة مدينة يثرب]؛ دلو، جزيرة العرب قبل الإسلام، ص185

هذه الرواية بقوله (واليهود لا يعرفون هذه القصة وبعضهم يقول كان ذلك لعهد طالوت)(1) .

يبدو أن هذه الرواية هي من أساطير اعتاد ممن كتبوا أخبار العرب على تلفيقها، والراجح أن اليهود جاءوا إلى بلاد العرب بعد هذا التاريخ بفترات طويلة هربا من تنکیل الرومان لهم، وهذا ما أشار إليه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بقوله في إحدى خطبه يذكر أصحابه بحال بني إسرائيل والعرب في العصور السابقة:

«لَيَالِيَ كَانَتِ اَلْأَكَاسِرَةُ واَلقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ يحْتازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ اَلأْفَاقِ وبَحْرِ اَلْعِرَاقِ وخُضْرَةِ اَلدُّنْيَا إلى مَنَابِتِ اَلشَّيحِ»(2) .

وذكر ابن أبي الحديد في أثناء تعليقه على كلام الإمام عليه السلام أن بني إسرائيل اجتازتهم الأكاسرة والقياصرة عن ريف الآفاق إلى البادية ومنابت الشيح وهم يهود خیبر والنضير وبني قريظة وبني قينقاع(3) ، وكانت هجرتهم في فترات متفاوتة وقد احتكوا بالعرب المقيمين بيثرب، غير أنهم عزلوا عنهم في سكناهم، وعاش بعضهم مع بعض عيشة التكتل وبنوا الحصون والقرى المحصنة لتوطيد مركزهم وإقرار هیبتهم في نفوس العرب(4) (5) .

وهناك من شكك في كون القبائل العربية في يثرب يهودية الأصل أو إنها جاءت من

ص: 489


1- تاریخ ابن خلدون، 2/ 100
2- ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، 13/ 129، [خطبة238]
3- شرح نهج البلاغة، 15/ 181
4- الشریف، مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، ص295، برو، تاريخ العرب القديم، ص187
5- هناك روايات عديدة حول استيطان اليهود في شبه الجزيرة العربية لخصها أحد الباحثين وإستعرضها في كتب متفرقة، ينظر الجبر، مخلد ذياب فيصل، روايات أهل الكتاب للسيرة النبوية حتى عهد البعثة، ص53- 74

خارج الجزيرة، فقد ذكر اليعقوبي أن بني النضير هم فخذ من جذام(1) إلا أنهم تهودوا ونزلوا بجبل يقال له النضير، فسموا به(2) ، وبنو قریظة هم فخذ من جذام أخوة النضير، ويقال أن تهودهم كان في أيام عاديا أي السموأل. ثم نزلوا بجبل يقال له قريظة، فنسبوا إليه(3) .

وفي كل الأحوال يبدو ان اليهود ازداد عددهم فأصبحوا أكثرية، وانفردوا في شؤون يثرب وفرضوا الخراج على أصحاب الثروة والنفوذ لذلك قال بعضهم:

نؤدّي الخرجَ بعدَ خراجَ كسرى *** وخرجُ بني قريظَةَ والنضیرِ(4)

وما زال هذا شأنهم حتى قدمت عليهم قبائل من الأزد هاجرت من جنوب اليمن بعد انهيار سد مأرب فتفرقوا في البلدان فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر الشام ونزلت خزاعة مَرا ونزلت أزد السراة، ونزلت أزد عمان، ونزلت الأوس والخزرج يثرب(5) وهما أبناء حارثة بن ثعلبة وأمهم قيلة، ولذلك سمي الأوس والخزرج بنو قيلة(6) ، وقد ذكرهما ابن أبي الحديد في فصل بعض وصايا العرب فقال: لما حضرت الوفاة أوس بن حارثة أخا الخزرج لم يكن له ولد غير مالك بن الأوس وكان لأخيه الخزرج خمسة فقيل له: كنا نأمرك بأن تتزوج في شبابك فلم تفعل حتى حضرك الموت ولا ولد لك إلا

ص: 490


1- وهم من قبائل قحطان، وجذام هو عمرو بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زید بن يشجب بن عريب بن زید بن كهلان بن سبأ، ينظر ابن حزم، جمهرة أنساب العرب، ص485
2- تاريخ اليعقوبي، 2/ 32
3- تاريخ اليعقوبي، 2/ 34
4- ياقوت الحموي، معجم البلدان، مج4، 7/ 228، [مادة مدينة يثرب]
5- ابن هشام، السيرة النبوية، 1/ 12
6- ابن خلدون، تاریخ ابن خلدون، 2/ 333 ، سالم، تاريخ الدولة العربية، ص284؛ الشريف، مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، ص309

مالك فقال : لم يهلك هالك ترك مثل مالك(1) .

ثم ذكر ابن أبي الحديد بعضاً من وصية أوس بن حارثة وحكمته، وهي فصلٌ من فصول الكلام الجميل والمتعارف عليه عند العرب فقال في وصيته:

(من قلَّ ذَلّ، وخيرُ الغني القناعةُ، وشرُّ الفقرِ الخضوعُ، الدهرُ صرفانِ صرفُ رخاءِ وصرفُ بلاء، واليومُ يومان يوم لك ويوم عليك فإذا كان لك فلا تبطر وإذا كان عليك فاصطبر وكلاهما سينحسر وكيف بالسلامة لمن ليست له إقامة)(2) .

قامت بين العرب واليهود أول الأمر علاقات طيبة ثم إزدادت قوة العرب فأثار ذلك مخاوف اليهود إذ رأوا فيهم خطراً يهدد مصالحهم فحاولوا إثارة الفتن والعداوة فيما بينهم فاستنجد العرب بأبناء عمهم الغساسنة في الشام فقدموا يثرب وفتكوا باليهود فضعف نفوذهم فصار الأوس والخزرج بعد ذلك سادة يثرب وصارت لهم الأموال وتفرقوا في أنحاء المدينة ونزلوا في منازل اليهود حيث غزارة المياه وکرام النخيل(3) .

استغل اليهود التنافس بين الأوس والخزرج فعملوا على تشجيع الفرقة بينهم فوقعت بين الطرفين حروب عرفت بيوم سمير ويوم السراة ويوم حاطب ويوم بعاث وكان النصر سجالا بينهم(4) ، وذكر ابن أبي الحديد يوم بعاث(5) ، ومقتل سوید بن الصامت الذي هيج الحرب بينهما(6) ، وكانت آخر الأيام بينهم ولم يتفقا إلا بعد مجيء الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم يثرب مهاجراً فحقق الوحدة التي عجز عنها العرب من قبل.

ص: 491


1- شرح نهج البلاغة، 17/ 91
2- شرح نهج البلاغة، 17/ 91
3- ياقوت الحموي، معجم البلدان، مج4، 7/ 230، [مادة مدينة يثرب]؛ ابن خلدون، تاریخ ابن خلدون، 2/ 332
4- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/ 430وما بعدها؛ برو، تاريخ العرب القديم، ص190
5- ينظر تفاصيل اليوم في ص497من الرسالة
6- شرح نهج البلاغة، 15/ 38

لو أردنا أن نعقد مقارنة بين الوضع السياسي في مكة والوضع السياسي في يثرب، لثبت لنا أن مكة تمتعت باستقرار سياسي لا مثيل له، وبالمقابل شهدت يثرب اضطراباً سياسياً، تصارعاً بين أطرافه الثلاثة، الأوس والخزرج واليهود، ويمكن أن نعزو ذلك إلى عدة أسباب منها:

1- وجود شخصیات عقلانية حكيمة في إدارة مكة مثل أبناء قصي لاسيما فرع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

2- العامل التجاري ودوره في الاستقرار السياسي لإرتباطه بمصالح جميع أهل مكة الذين ارتبطت حياتهم بوجود التجارة واستمرارها، والتي بدورها تعتمد على استقرار مكة واستمرار السلم فيها، أما يثرب فلعل الزراعة والصراع على الأراضي الزراعية التي كانت عماد اقتصاد أهل مكة سبباً في استمرار القتال وعدم الاستقرار لأن الاراضي الزراعية كانت تشكل مصدر الصراع والتنازع لإنها مصدر الثراء، وهذا يحتاج إلى القوة أكثر من الاستقرار الذي تحتاجه التجارة.

3- التنوع الطيفي والاجتماعي وتساوي مراكز القوة في يثرب دفعهم إلى القتال بينهم، بينما نجد أن قريشاً تتسيد مجتمع مكة لوحدها دون غيرها، ولذا سعوا إلى سيادة الامن والاستقرار.

4- العامل الديني وحرمة مكة كان له الدور الكبير في استقرار مكة.

ص: 492

المبحث الثاني: أيام العرب قبل الإسلام

تعد ايام العرب قبل الإسلام من الأحداث المهمة التي مرت بها الجزيرة العربية، اذ بینت لنا الكثير عن علاقات العرب مع الساسانيين والبيزنطيين فضلاً عن علاقات العرب فيما بينهم، وعرفت عند المؤرخين باسم (الأيام) ومفردها يوم، وكانت العرب تقول الأيام في معنى الوقائع يقولون هو عالم بأيام العرب أي وقائعها، وقالوا إنما خصوا الأيام بالوقائع دون ذكر الليالي لأن حروبهم كانت نهارا وإذا كانت ليلا ذكروها كقولهم:

ليلةُ العرقوبِ حتى غادَرَتْ *** جعفرٌ يُدعي ورهط بن شكل(1)

كما عبَّروا عن الشدَّة باليَوْمِ. يقال: يَوْمٌ أيْوَمُ، كما يقال ليلةٌ ليلاء(2) .

وقد وردت في الشعر الجاهلي أمثلة كثيرة ترد فيها الايام مرادفة لمعنى الحروب كقول المهلهل بن ربيعة في رثاء أخيه كليب:

ص: 493


1- ابن منظور، لسان العرب، 9/ 277 [مادة وقع]؛ الزبيدي، تاج العروس، 17/ 78
2- الجوهري، الصحاح، ص1255، [مادة يوم]

فلو نُبشَ المقابرُ عن كليبٍ *** فيخبر بالذنائبَ أي زیر

بيومِ الشعثمينِ لقُرَّ عیناً *** وكيف لقاءُ من تحتِ القبورِ(1)

وقول عمرو بن کلثوم:

وأيامٌ لنا غُرٌ طِوالٌ *** عَصَينا الملكَ فيها أنْ نَدينا(2)

وقد ذكر كذلك لفظ الأيام في القرآن الكريم في قوله تعالى:

«وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ»(3) .

وذكر المفسرون أنه أنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم كقوم نوح وعاد وثمود، ومنه أيام العرب لحروبها وملاحمها(4) ، إعتاد العرب على إغارة بعضهم على بعض فذكر ابن أبي الحديد قول مالك بن حريم الهمداني:

وكنتُ إذا قومٌ غَزَوني غزوتُهُم *** فهلْ أنا في ذا يا آل همدانَ ظالمُ

متى تجمعُ القلبَ الذكيَّ وصارماً *** وأنفاً حمَّیا تَجْتنَبك المظالم(5)

ص: 494


1- الديوان، ص39؛ جاد المولى، محمد أحمد وآخرون، أيام العرب في الجاهلية، المكتبة العصرية، (بیروت1961)، ص157
2- الديوان، ص71؛ قميحة، مفيد، شرح المعلقات العشر، دار الهلال، (بیروت1997)، ص238
3- سورة إبراهيم: الآية5
4- الطبرسي، مجمع البیان، 6/ 58؛ السمعاني، تفسير السمعاني، 3/ 104؛ ابن الجوزي، ابو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد (ت597ه)، زاد المسير في علم التفسير، تحقيق محمد عبد الرحمن عبد الله، دار الفكر، (بیروت1987)، 4/ 255
5- شرح نهج البلاغة، 3/ 196

وكانوا يتفاخرون بطريقة الإغارة ويصفونها بأوصاف جميلة منها ما ذكره ابن أبي الحديد أن حنيفة غزت نمیرا فأتبعتهم نمير فأتوا عليهم فقيل لرجل منهم كيف صنع قومك قال (اتبعوهم والله وقد أحقبوا كل جمالية خيفانة فما زالوا يخصفون آثار المطي بحوافر الخيل حتى لحقوهم فجعلوا المران(1) أرشية الموت فاستقوا بها أرواحهم)(2) .

ولم تكن جيوشهم منظمة بل اشتاتاً يقودها سيد القبيلة، ويقوم على رأس كل فصيلة قائد يقال له المنكب، يأمر على خمسة عرفاء، والعريف يأمر على نفير من الثلاثة إلى العشرة، ومن عادات العرب ان تشترك القبيلة كلها في الحرب للدفاع عن المال والنساء والأولاد(3) .

وكانت هناك أخلاق ودروس في أغلب أيامهم وعلى الرغم من قساوة الحروب إلا انهم احتفظوا بقيم الصحراء الحميدة وكانت معهم في غزواتهم فذكر ابن أبي الحديد ان قیس بن عاصم المنقري (إذا غزا شهد معه الحرب ثلاثون من ولده يقول لهم: إياكم والبغي فإنه ما بغی قوم قط إلا ذلوا: قالوا فكان الرجل من ولده يظلم فلا ينتصف مخافة الذل)(4) وقال ابن عبد ربه في ايام العرب ووقائعهم (إنها مآثر الجاهليّٞة، ومكارمُ الأخلاق السنّية، قيل لبعض أصحاب رسول الله: ما كنتم تتحدّثون به إذا خلوتم في مجالسكم؟ قال: كُنّا نتناشد الشعر، ونتحدّث بأخبار جاهليّتنا)(5) .

ص: 495


1- أحقب البعير وضع له الحقب: وهو حبل يشد فيه الرحل في بطن البعير، والجمالية: الناقة الوثيقة، تشبه الجمل في خلقتها وشدتها وعظمها، والخيفانة: السريعة شبهت بالجرادة السريعة، المران: الرماح، ينظر ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1/ 207، هامش المحقق ابي الفضل ابراهيم
2- شرح نهج البلاغة، 1/ 207
3- البستاني، بطرس، ادباء العرب في الجاهلية وصد الإسلام، دار صادر، (بیروت1953)، ص27
4- شرح نهج البلاغة، 15/ 80
5- العقد الفرید، 5/ 129

وأيام العرب كثيرة منها ما وصلتنا أخباره ومنها لم يصلنا عنها شيء، أما تسمية الأيام فهي غالباً ما تكون مأخوذة من اسم المكان الذي حدثت فيه الموقعة كيوم ذي قار ويوم بعاث، أو تكون باسم شخص معروف له أثر كبير في الموقعة كيوم حجر، وقسم منها مشاجرات فردية أو خصومات كلامية مثل يوم الضعينة، أو غارات قد استمرت يوماً ومنها ما يستمر أياماً وسنيناً كحرب البسوس وحرب داحس والغبراء.

أما عن أسبابها فمن خلال قراءتنا لتفاصيل أيام العرب يمكن أن نستنتج إنها على الاغلب تتعلق بالجانب السياسي وتأثيراته على الجوانب الأخرى فهي أما الأسباب إقتصادية للسيطرة على منابع الكلأ وموارد المياه أو طمعاً في الحصول على إبل الغير أو رغبة بعض القبائل في التحرر من هيمنة القبائل الأقوى والتخلص من الظلم والأتاوات، أو الثأر لقتيل، أو التخلص من تبعية النفوذ الأجنبي.

وذكر ابن أبي الحديد قسماً منها على شكل روایات صغيرة أو ضمن أبيات شعر استشهد بها لواقعة أو حدث معين، ولم يفرد لها فصلاً أو موضوعاً خاصاً بل تناثرت في صفحات أجزاء كتابه المختلفة، ولكون أيام العرب بشكل عام من الصعب ترتيبها زمنيناً أو تاريخياً لكثرة عددها، لذا ارتأينا تقسيمها على أربعة محاور أيام القحطانيين، وأيام العدنانيين، وأيام القحطانيين والعدنانيين، وأيام العرب والفرس.

أولا: أيام القحطانيين فيما بينهم:

1- يوم حليمة:

ذكر ابن أبي الحديد يوم حليمة بقوله انه (یوم التقى المنذر الأكبر والحارث الغساني الأكبر وهو أشهر أيام العرب، يقال إنه ارتفع من العجاج ما ظهرت معه الكواكب نهارا، وحليمة اسم امرأة أضيف اليوم إليها لأنها أخرجت إلى المعركة مراكن الطيب

ص: 496

فكانت تطيب بها الداخلين إلى القتال فقاتلوا حتى تفانوا)(1) .

ويبدو إن هناك نوعاً من المبالغة والخيال في ما نقله ابن أبي الحديد من وصف لهذا اليوم، وهذا ناتج من شهرة ذلك اليوم وشراسة القتال فيه حتى ضرب فيه المثل (ما يوم حليمة بسر)(2) .

وذكر ابن الأثيران سبب هذا اليوم هو قيام المنذر بن ماء السماء الملقب بالأسود بجمع عساکره بعد مقتل والده المنذر الأكبر، وسار بهم إلى الحارث الأعرج طالباً بثأر أبيه عنده وبعث إليه: إنني قد أعددت لك الكهول، على الفحول. فأجابه الحارث: قد أعددت لك المرد على الجرد(3) فسار المنذر حتى نزل بمرج حليمة(4) .

وتذکر کتب الايام انّ حليمة هي ابنة الحارث الغساني، فعندما قامت الحرب بين الأسود والحارث أياماً انتصف بعضهم من بعض، دعا الحارث ابنته وأمرها فاتخذت طيباً كثيراً، وطيبت به أصحابه، ثم نادى: يا فتيان غسان من قتل ملك الحيرة زوجته إبنتي، فقام لبيد بن عمرو الغساني فقتل المنذر، ولكنه قتل قبل أن ينعم بحليمة(5) ، وانهزمت جيوش المناذرة وانصرفت غسان بأحسن الظفر، وكان لتحميس حليمة للجند أثره في هذا اليوم المشهور لذلك نسب أسم اليوم إليها.

ص: 497


1- شرح نهج البلاغة، 2/ 159
2- شرح نهج البلاغة، 2/ 159
3- الفحول: الذكور من كل حيوان، والكهول: جمع کهل وهو من كان سنه بين الرابعة والثلاثين والحادية والخمسين، المرد: جمع أمرد وهو الشاب طر شاربه ولم تنبت لحيته، الجرد: جمع اجرد وهو الفرس السباق، ينظر جاد المولى، أيام العرب في الجاهلية، ص54
4- الكامل في التاريخ، 2/ 349
5- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/ 349؛ جاد المولى، ايام العرب في الجاهلية، ص54؛ خفاجي، الشعر الجاهلي، ص111وما بعدها

2- يوم بعاث:

بعاث موضع في نواحي المدينة، وقيل هو من أموال بني قريضة، فيها مزرعة يقال لها قورا(1) ، وكانت به وقعة بعاث بين الأوس والخزرج.

وذكر ابن أبي الحديد أن الذي هيَّج وقعة بعاث هو مقتل سوید بن الصامت حيث جاء حضير الكتائب والد أسيد بن حضير إلى بني عمرو بن عوف فكلم سوید بن الصامت وخوّات بن جبير وأبا لبابة بن عبد المنذر ويقال سهل بن حنیف فقال هل لكم أن تزوروني فأسقيكم شرابا وأنحر لكم وتقيمون عندي أياما قالوا نعم نحن نأتيك يوم كذا، فلما كان ذلك اليوم جاءوه فنحر لهم جزورا وسقاهم خمرا وأقاموا عنده ثلاثة أيام حتى تغير اللحم، وكان سوید بن الصامت يومئذ شيخا كبيرا، فلما مضت الأيام الثلاثة قالوا ما نرانا إلا راجعين إلى أهلنا، فقال حضير ما أحببتم إن أحببتم فأقيموا وإن أحببتم فانصرفوا، فخرج الفتيان بسوید بن الصامت يحملانه على جمل من الثمل فمروا لاصقين بالحرة حتى كانوا قريبا من بني عيينة، فجلس سويد يبول وهو ثمل سكرا فبصر به إنسان من الخزرج، فخرج حتى أتى المجذر بن زیاد فقال هل لك في الغنيمة الباردة قال ما هي قال سويد بن الصامت أعزل لا سلاح معه ثمل، فخرج المجذر بن زیاد بالسيف مصلتا فلما رآه الفتيان وهما أعزلان لا سلاح معهما وليا والعداوة بين الأوس والخزرج شديدة فانصرفا مسرعين، وثبت الشيخ ولا حراك به فوقف المجذر بن زیاد، فقال: قد أمكنني الله منك، قال: ما تريد بي، قال: قتلك، قال:

فارفع عن الطعام واخفض عن الدماغ فإذا رجعت إلى أمك فقل إني قتلت سوید بن الصامت فقتله(2) .

ص: 498


1- یاقوت الحموي، معجم البلدان، مج1، 2/ 356، [مادة بعاث]
2- شرح نهج البلاغة، 15/ 38

وذكر ابن أبي الحديد آن سوید بن الصامت حين ضربه المجذر بقي قليلا ثم مات فقال قبل أن يموت يخاطب أولاده:

أبلِغْ جلاسا وعبدَ اللهِ مالِكَهُ *** وإنّ دُعِيتَ فلا تخذِلْهُما حارِ اقتل جدارة إذ ما كنتَ لاقيهم *** والحي عوفا على عرفِ وإنكار

وجذرة وجذارة أخوان وهما ابنا عوف بن الحارث بن الخزرج(1) .

استغل بنو قریظة والنضير الموقف فجددوا العهود مع الأوس على الموازرة والتناصر، فلما سمعت بذلك الخزرج جمعت وحشدت وراسلت حلفاءها من أشجع وجهينة، ومكثوا أربعين يوماً يتجهزون للحرب، والتقوا ببعاث، وعلى الأوس حضير الكتائب بن سماك، وعلى الخزرج مرو بن النعمان البياضي، فلما التقوا اقتلوا قتالاً شديداً وصبروا جميعاً. وانهزمت الخزرج، ووضعت فيهم الأوس السلاح، فصاح صائحٌ: یا معشر الأوس أحسنوا ولا تهلكوا إخوانكم فجوارهم خير من جوار الثعالب! فانتهوا عنهم ولم يسلبوهم، وحملت الأوس حضيراً مجروحاً فمات. وأحرقت الأوس دور الخزرج ونخيلهم(2) .

وأكثرت الأنصار الأشعار في يوم بعاث، فمن ذلك قول قيس بن الخطيم الظفري الأوسي بأبيات مطلعها:

أتعرفُ رسماً كالطّرازِ المذهبِ *** لعمرةُ ركباً غيرَ موقفِ راکبِ

ص: 499


1- شرح نهج البلاغة، 15/ 40
2- ابن الاثیر، الکامل في التاريخ، 2/ 443- 444؛ جاد المولى، أيام العرب في الجاهلية، ص73وما بعدها

والتي يقول فيها بيته الشهير:

أُجَالِدُهم يومَ الحَدِيقةِ حاسِراً *** كأنَّ يدي بالسيفِ مِخْراقُ لاعبِ(1)

وذكر الأصفهاني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جلس يوماً في مجلس ليس فيه إلا خزرجي ثم استنشدهم أبيات قيس بن الخطيم فأنشده بعضهم إياها فلما بلغ إلى قوله:

أُجَالِدُهم يومَ الحَدِيقة حاسِراً *** كأن يدي بالسيف مِخْراقُ لاعبِ

فالتفت إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: هل كان كما ذكر، فشهد له ثابت بن قيس بن شماس وقال له: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد خرج إلينا يوم سابع عرسه عليه غلالة وملحفة مورسة فجالدنا كما ذكر(2) .

وكان يوم بعاث آخر الحروب المشهورة بين الأوس والخزرج ثم جاء الإسلام واتفقت الكلمة واجتمعوا على نصرة الإسلام ووحدة كلمتهم.

وعلى الرغم من أن الإسلام قد حقن الدماء وذهب بأحقاد الجاهلية، إلا أن امتداد يوم بعاث استمر في أيام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة، ذكر ابن أبي الحديد ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما قدم المدينة أسلم الحارث بن سوید بن الصامت وأسلم المجذر فشهدا بدرا فجعل الحارث بن سويد يطلب المجذر في المعركة

ص: 500


1- ابن الخطيم، قيس بن الخطيم بن عدي الاوسي، الديوان، تحقیق ابراهيم السامرائي، وأحمد مطلوب، مطبعة العاني، (بغداد1962)، ص31وما بعدها؛ الجبوري، أيام العرب واثرها في الشعر الجاهلي، دار الحرية، (بغداد1974)، ص97
2- الأصفهاني، الأغاني، مج1، 3/ 555

ليقتله بأبيه فلا يقدر عليه يومئذ فلما كان يوم أحد رجال المسلمون تلك الجولة أتاه الحارث من خلفه فضرب عنقه، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة أتاه جبرائیل علیه السلام فأخبره أن الحارث بن سوید قتل المجذر غيلة وأمره بقتله، فركب إلى قباء في اليوم الذي أخبره جبرائیل، في يوم حار وكان ذلك يوما لا يركب فيه إلى قباء إنما كانت الأيام التي يأتي فيها قباء يوم السبت ويوم الاثنين، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسجد قباء صلى فيه ما شاء الله أن يصلي وسمعت الأنصار فجاءوا يسلمون عليه وأنكروا إتيانه تلك الساعة في ذلك اليوم فجلس يتحدث ويتصفح الناس حتى طلع الحارث بن سويد في ملحفة مورسة فلما رآه، دعا عویم بن ساعدة فقال له قدم الحارث بن سويد إلى باب المسجد فاضرب عنقه بمجذر بن زیاد فإنه قتله يوم أحد فأخذه عويم فقدمه على باب المسجد فضرب عنقه(1) .

وقيل إن الذي اعلمه قتل الحارث المجذر يوم أحد حبيب بن يساف نظر إليه حين قتله فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره فركب يتفحص عن هذا الأمر فبينا هو على حماره نزل جبرائیل علیه السلام فأخبره بذلك(2) .

ثانيا: أيام العدنانيين:

1- يوم الهباءة(3) :

هو يوم من عدة أيام لحرب طويلة دارت بين عبس وذبيان عرفت باسم (داحس والغبراء) منها، المريقب، وذي حسي، واليعمرية، والهباءة، والفروق، وقطن. وتذكر

ص: 501


1- شرح نهج البلاغة، 15/ 38
2- شرح نهج البلاغة، 15/ 39
3- الهباءة : وهي أرض ببلاد غطفان، وجفر الهباءة مستنقع في هذه الأرض وقيل هو جبل في بلاد بني سليم وفيه ماء يقال له الهباءة وهي أفواه آبار كثيرة مخرقة الأسافل يفرغ بعضها في بعض الماء العذب الطيب ويزرع عليه الحنطة والشعير وما أشبهه، ينظر ياقوت الحموي، معجم البلدان، مج4/ 8/ 466، [مادة الهباءة]

الروايات أنّ السبب المباشر لهذه الحرب هو رهان جرى بين قيس بن زهير العبسي وحذيفة بن بدر من ذبيان على سباق لخيلهما، وكانت داحس والغبراء فرسي قيس بن زهير، وادّعى حذيفة السبق في حين أبي قيس ذلك لأن حذيفة كان قد أكمن في طريق الخيل بعض الفتيان ليردوا داحساً عن غايته إن جاء سابقاً، وألحَّ حذيفة في دعواه وأرسل إبنه مالكا في طلبه، وكان الرهان عشرين من الإبل، فما كان من زهير إلا أن قتله فنشبت الحرب وظلت قرابة أربعين سنة(1) .

ويوم الهباءة كان من أشهر أيامها حيث أسرفت عبس في قتل ذبیان فوضعت فيهم السلاح حتى ناشدتهم بنو ذبیان البقية، وكان عدد قتلاهم في هذه الوقعة أربعمائة قتيل، وقتل من عبس ما يزيد عن عشرين(2) ، وذكر ابن أبي الحديد آن حذيفة بن بدر كان من ضمن القتلى وقتل معه ثلاثة أو أربعة من أهل بيته(3) ، ومُثَّل بحذيفة وأخيه حمل أشدّ تمثيل(4) .

وذكر ابن أبي الحديد ان قيس بن زهير لما قتل حذيفة بن بدر ومن معه بجفر الهباءة خرج حتى لحق بالنمر بن قاسط، فأقام فيهم حتى ولد له ثم رحل عنهم إلى غمار(5)

ص: 502


1- أبو عبيدة، معمر بن المثنى التيمي (ت209ه)، أيام العرب قبل الإسلام، جمع وتحقيق ودراسة عادل جاسم البياتي، عالم الكتب، (بیروت2003)، 2/ 87 وما بعدها؛ ابن عبد ربه، العقد الفرید، 5/ 146وما بعدها؛ الجبوري،، أيام العرب وأثرها في الشعر الجاهلي، ص103وما بعدها؛ حسن، تاريخ الإسلام السياسي، 1/ 49وما بعدها؛ زیدان، العرب قبل الإسلام، ص319وما بعدها
2- أبو عبيدة، أيام العرب قبل الإسلام، 2/ 106؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/ 378؛ الجبوري، منذر، أيام العرب في الجاهلية وقيمتها التاريخية وأثرها عند الجاهليين والإسلاميين، مجلة المورد العراقية، مج2، العدد الأول، بغداد، 1973، ص50
3- شرح نهج البلاغة، 15/ 188
4- ابن عبد ربه ، العقد الفرید، 5/ 152
5- الغِمَارُ: هو جمع غمر وهو الماءُ المغرق، وهو اسم واد بنجد، ينظر ياقوت الحموي، معجم البلدان، 6/ 394

فتنصر بها وعف عن المأكل حتى أكل الحنظل إلى أن مات(1) .

وأظهر قيس بن زهير في أواخر أيامه وفي أثناء ترحاله الندم على ما فعل في يوم الهباءة من أسراف في القتل فذكر ابن أبي الحديد انه قال يوماً يوصي بها أهله ومن معه (أنهاكم عن الغدر فإنه عار الدهر، وعن الرهان فإن به ثكلت مالكا أخي، وعن البغي فإن به صرع زهير أبي وعن السرف في الدماء فإن قتلي أهل الهباءة أورثني العار، ولا تعطوا في الفضول فتعجزوا عن الحقوق، وأنكحوا الأيامي الأكفاء فإن لم تصيبوا بهن الأكفاء فخير بيوتهن القبور واعلموا أني أصبحت ظالما ومظلوما ظلمني بنو بدر بقتلهم مالکا وظلمتهم بقتلي من لا ذنب له)(2) .

2- حرب البسوس:

وهي حرب واسعة استمرت أربعين سنة بين بكر وتغلب ابني وائل ووقعت فيها عدة أيام منها، يوم النهى، ويوم الذنائب، ويوم واردات، ويوم عنيزة، ويوم القصيبات، ويوم تحلاق اللمم(3) .

وتروي الاخبار ان الذي أثار هذه الحروب أن كليباً وكان سيد ربيعة من تغلب قد حمی أرضاً من العالية، وكان لا يقربها أحد، ثم إن رجلاً يقال له سعد بن شميسٍ بن طوق الجرمي نزل بالبسوس بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرة- وكان كليب قد تزوج اخته جليلة- وكان للجرمي ناقة اسمها سراب ترعى مع نوق جساس، وهي التي ضربت العرب بها المثل فقالوا: أشأم من سراب وأشأم من البسوس، فخرج كليبُ إلى الحمى وجعل يتصفح الإبل، فرأى ناقة الجرمي مع إبله فرمی ضرعها فأنقذه، ولها

ص: 503


1- شرح نهج البلاغة، 17/ 84
2- شرح نهج البلاغة، 17/ 84
3- لتفاصيل هذه الأيام، ينظر ابن عبد ربه، العقد الفرید، 5/ 201وما بعدها؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/ 336وما بعدها

عجيج حتی برکت بفناء صاحبها. فلما رأى ما بها صرخ بالذل، وسمعت البسوس صراخ جارها، فخرجت إليه. فلما رأت ما بناقته وضعت يدها على رأسها ثم صاحت: وا ذلاّه؟ وجساس يراها ويسمع، فقال لها: اسكتي ولا تراعي، إني سأقتل جملاً أعظم من هذه الناقة، فقتل كليباً(1) .

وقد أسرف مهلهل وهو أخو کلیب بقتل بني بكر عندما قام بتغلب طلباً للثأر وذکر ابن أبي الحديد أنه وقف على قبر کلیب فقال:

إن تحتَ الأحجارِ حزماً وعزماً *** وخصيماً ألدَّ ذا معلاقِ

حّيةُ في الوجارِ أربدُ لا ينفعُ *** منهُ السليمُ نفثةُ راقِ(2)

وكان المهلهل منتصراً في أكثر أيامها إلا في يوم تحليق اللمم، حيث قام الحارث بن عباد بأسر بكر بعد أن كان معتزلاً، وسبب خوضه القتال أن المهلهل قتل إبنه بجيرا، فلما بلغ الحارث قتله صبراً وقال: نعم القتيل قتيل أصلح بين أبني وائل، وظن أن المهلهل قد أدرك به ثأر كليب وجعله كفئاً له(3) ، وذكر ابن أبي الحديد أن المهلهل كان يقول: (بؤ بشسع نعل كليب)(4) ، فغضب الحارث عند سماعه ذلك والتفت حوله بكر وحلقت رؤوسها استبسالا للموت وانتصر البكريون انتصاراً عظيماً، وكان من نتائج هذه المعركة أن خرج المهلهل فلحق بأرض اليمن وغلبت بكر الحرب فصالحت تغلب بكراً ورجعوا

ص: 504


1- أبو عبيدة، أيام العرب قبل الإسلام، 2/ 72وما بعدها؛ ابن قتيبة، المعارف، ص333، ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/ 336وما بعدها؛ ابن الوردي، زين الدين عمر بن مظفر (ت749ه)، تاریخ ابن الوردي، دار الكتب العلمية، (بیروت1996)، 1/ 64- 65؛ القلقشندي، نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، ص405
2- شرح نهج البلاغة، 6/ 99
3- ابن عبد ربه، العقد الفريد، 5/ 208؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/ 345
4- شرح نهج البلاغة، 9/ 68

إلى بلادهم بعد أن أفنت كثيراً من أحياء العرب وتركت أحقاداً في الصدور(1) ، صارت أحداث البسوس مثلاً وعبرة تضرب للناس للاستفادة من أحداثها فقد ذكر ابن أبي الحديد أبياتاً للشريف الرضي يقول فيها:

إذا هولٌ دعاكَ فلا تَهْبهُ *** فلمْ يبقَ الذينَ أبَوا وهابُوا

كليبٌ عافَصَتهُ يدٌ وأودي *** عتيبةُ يومَ أقعصهُ ذؤاب(2)

3- يوم شعب جبلة(3)

ذكر ابن أبي الحديد ان يوم جبلة هو يوم التقت تمیم وقيس عيلان(4) ، وهو من أشهر ایام العرب، وكان لقيط بن زرارة قد عزم على غزو بني عامر بن صعصعة للأخذ بثأر أخيه معبد بن زرارة، الذي مات في أسرهم(5) لذا عمد لقيط إلى أن يستنصر كل من له ثأر عند بني عامر فاستعان ببني ذبيان للعداوة التقليدية بين عبس وذبيان على أثر حرب داحس والغبراء فخرجوا مع لقيط ومعهم حلفاؤهم من بني أسد بن خزيمة، وخرجت تميم كلها باستثناء بني سعد الذين تربطهم صلة قربی ببني عامر بن صعصعة، وبهذا شكَّل لقيط بن زرارة جيشاً كبيراً كثير العدد والعدة، لذا عُدَّ يوم شعب جبلة واحداً من

ص: 505


1- جاد المولى، ايام العرب في الجاهلية، ص163وما بعدها
2- شرح نهج البلاغة، 3/ 238؛ ينظر كذلك الشريف الرضي، ابو الحسن محمد بن أبي أحمد الحسيني (ت04ها)، الديوان، دار صادر، بیروت، (د. ت)، ص126
3- جبلة : هي هضبة حمراءُ بنجد بين الشرَيف والشرَف والشريف ماء لبني نُمَير والشرف ماءَ لبني كلاب، وجبلَةُ جبل طويل له شعب عظيم واسع لا يرقي الجبل إلا من قبل الشعب، ياقوت الحموي، معجم البلدان، مج2، 3/ 30، [مادة جبلة]
4- شرح نهج البلاغة، 3/ 244
5- أسره بنو عامر في يوم رحرحان، واضرب عن الطعام حتى مات، ينظر ابن عبد ربه، العقد الفرید، 5/ 135

أعظم ثلاثة أيام عرفها العرب قبل الإسلام، يوم الكلاب ويوم ذي قار ويوم جبلة(1) .

سار بنو تميم ومعهم أحلافهم وفي طريقهم التقوا كرب بن صفوان بن الحباب السعدي، وكان شريفاً، فاخذوا عليه المواثيق والعهود أن لا ينذر بني عامر ففعل ولكنه أراد إنذارهم فعمد إلى الحيلة، فذكر ابن أبي الحديد أن الأحوص بن جعفر الكلابي أتاه آت من قومه فقال أن رجلا لا نعرفه جاءنا فلما دنا منا حيث نراه نزل عن راحلته فعلق على شجرة وطبا من لبن ووضع في بعض أغصانها حنظلة ووضع صرة من تراب وحزمة من شوك ثم أثار راحلته فأستوى عليها وذهب، فنظر الأحوص في ذلك فعي به، فقال أرسلوا إلى قيس بن زهير فأتوا قيسا فأعلموه الخبر، فقال: هذا رجل قد أخذت عليه العهود ألا يكلمكم ولا يرسل إليكم وأنه قد جاء فأنذركم، أما الحنظلة فإنه يخبركم أنه قد أتاكم بنو حنظلة وأما الصرة من التراب فإنه يزعم أنهم عدد كثير وأما الشوك فيخبركم أن لهم شوكة وأما الوطب فإنه يدلكم على قرب القوم وبعدهم فذوقوه فإن كان حليبا فالقوم قریب وإن كان قارصا فالقوم بعيد وإن كان المسيخ لا حلوا ولا حامضا فالقوم لا قريب ولا بعيد فقاموا إلى الوطب فوجدوه حلیبا فبادروا الاستعداد وغشيتهم الخيل فوجدتهم مستعدين(2) .

وكان بنو عامر قد أتفق رأيهم على دخول شعب جبلة فجعلوا النساء والذراري والضعفاء والأموال على رأسه، وكان المقاتلين في وسطه، ثم عمدوا إلى الإبل فمنعوها من الماء عدة أيام، فلما هاجمهم لقيط ومن معه أطلقوا عقل الإبل فهوت مسرعة نحو مواردها والقوم وراءها يرجمونها بالحجر، فولت جيوش تمیم مذعورة وبنو عامر

ص: 506


1- ابو عبيدة، ایام العرب قبل الإسلام، 2/ 116وما بعدها؛ ابن عبد ربه، العقد الفريد، 5/ 137؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/ 380وما بعدها؛ جیاد، سعید جبار، قبيلة تميم ودورها في التاريخ العربي قبل الإسلام، إطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية التربية، جامعة بغداد، 2007، فص3، ص154
2- شرح نهج البلاغة، 5/ 31

يتبعونها قتلاً وأسراً، وكان لقيط واحد من قتلى ذلك اليوم(1) .

وذكر ابن أبي الحديد ان خالد بن جعفر بن کلاب قال يوم شعب جبلة:

إن يقتلوني لا تصبْ أرماحهُمُ *** ثأري ويسعى القومُ سعياً جاهداً

نُبَّئْتُ أن بني جذيمةَ أجمعتْ *** أمراً تدبَّرْهُ لتقتلَ خالدا

أرمي الطريق وإن رصدتُ بضيقِه *** وأنازلُ البطلَ الكميَّ الحاردا(2)

4- يوم الغبيط(3) :

يقال لهذا اليوم يوم الغبيط أو يوم الثعالب، والثعالب أسماء قبائل اجتمعت فيه، وكان بسطام بن قيس قد غزا في جمع من بني شيبان، بني ثَعلبة بن یَربْوع، وثعلبة بن سَعد بن ضبة، وثعلبة بن عديّ بن فزارة، وثعلبة بن سعد بن ذُبيان وكان هؤلاء جميعاً مُتجاورين قرب عين ماء في صحراء فلج، فاقتلوا، فانهزمت الثعالبُ فأصابوا فيهم واستاقوا إبلاً من نَعمهم. ولم يَشهد عُتيبةُ بن الحارث بن شهاب هذه الوَقْعَة، لأنه كان نازلاً يومئذ في بني مالك بن حَنظلة(4) ، وذكر ابن أبي الحديد ان عتيبة هذا كان من أشجع العرب وكانت العرب تقول لو وقع القمر إلى الأرض لما التقفه إلا عتيبة بن

ص: 507


1- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/ 280وما بعدها؛ زیدان، العرب قبل الإسلام، ص325وما بعدها؛ الروقي، بجاد بن زياد بن معضد، شعر قبيلة بني كلاب من العصر الجاهلي الى اخر عصر بني أمية، دراسة موضوعية فنية، اطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية اللغة العربية، جامعة أم القرى، السعودية، 1414ه، ص179
2- شرح نهج البلاغة، 3/ 244
3- الغبيط : أو غبيط المدرة، ارض لبني يربوع وسميت الغبيط لأن وسطها منخفض وطرفها مرتفع کهيئة الغبيط وهو الرحل اللطيف، ينظر یاقوت الحموي، معجم البلدان، مج3، 6/ 376، [مادة الغبيط]
4- ابن عبد ربه، العقد الفرید، 5/ 187

الحارث لثقافته بالرمح وكان يقال له صياد الفوارس وسم الفوارس(1) .

ثم مر القوم على بني مالك وهم بين صحراء فلج وغبيط المدرة فاكتسحوا إبلهم، فركب عليهم بنو مالك يقودهم عتبة بن الحارث اليربوعي وفرسان بني يربوع، رؤساء بني تميم، فأدركوهم بغبيط المدرة، فقاتلوهم حتى هزموهم، وأخذوا ما كانوا استاقوه من إبلهم(2) ، فأسر بسطام بن قیس، فارس ربيعة ثم استوفي فداءه وجز ناصيته، واخلى سبيله(3) .

5- یوم اللوى:

هو من الأيام التي ذكرها ابن أبي الحديد تعليقاً على بيت من الشعر أستشهد فيه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قاله دريد بن الصمة صاحب الموقعة، وذلك في کلامٍ للإمام عليه السلام يعاتب فيه أهل الكوفة بعد أن فرضوا عليه التحكيم في أثناء معركة صفين فقال:

«كُنْت أَنَا وإِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ:

أَمَرْتُكُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اَللَّوَى *** فَلَمْ تَسْتَبِینُوا اَلنُّصْحَ إِلاَّ ضُحَى اَلْغَدِ»(4)

وعلّق ابن أبي الحديد ان اخا هوازن صاحب الشعر هو دريد بن الصمة وهذا البيت جزء من ابيات أولها:

وقلتُ لعارضٍ وأصحَابَ عارضِ *** ورهطِ بني السوْداءِ والقوْمُ شُهَّدي

ص: 508


1- شرح نهج البلاغة، 15/ 100
2- ابو عبيدة، ایام العرب قبل الإسلام، 2/ 181؛ جاد المولى، ايام العرب في الجاهلية، ص197
3- شرح نهج البلاغة، 15/ 100
4- ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، 2/ 163، [خطبة35]

فقلتُ لهم ظنوا بألفي مدججٍ *** سُراتِهُمَ في الفارسي المسردِ

أمرتُهْم أمري بمنعرجِ اللوی *** فلم يستبينوا الرشدَ إلا ضُحى الغدِ

فلمّا عَصَوْني كنتُ مِنهم وقد أرى *** غِوايَتَهْم وأنني غيرُ مهتدِ

وما أنا إلا من غُزیّةَ إن غَوَتْ *** غوْيتُ وإن ترشَدْ غرّيُة أرشدِ(1)

أما قصة هذه الأبيات واليوم فان عبد الله وهو أسم آخر لعارض أخي دُريد بن الصمة أغار على غطفان فأصاب منهم إبلاً عظيمة فأطردها. وبينما هو عائد بغنائمه، توقف فقال له أخوه درُيد: النجاة، فقد ظَفرت. فأبي عليه وقال: لا أبرح حتى أنتقع نقيعتي، والنقيعة، ناقة ينحرها من وسط الإبل فَيصنع منها طَعاماً لأصحابه ويَقْسم ما أصاب على أصحابه، فأقام وعَصى أخاه، فتتبعته فَزارة فقاتلوه، وهو بمكان يقال له اللَوى(2) ، فقُتل عبد اللهّ، وجرح دريد(3) ، وقال دريد يرثي أخاه في قصيدة طويلة نقل ابن أبي الحديد قسماً منها:

يقولُ ألا تبكي أخاكَ وقد أرى *** مكانَ البُكا لكنْ بنيتُ على الصبرِ

لمقتلِ عبدِ الله والهالِكِ الذي *** على الشرفِ الأعلى قتيلِ أبي بكرِ

وعبد يغوث أو خليلي خالدٍ *** وجلّ مُصابا جثوُ قبرٍ على قبرِ

فأما تِرينا لا تزالُ دماؤنا *** لدي واترٍ يَشقى بها آخرَ الدهرِ

ص: 509


1- شرح نهج البلاغة، 2/ 163، تنظر الابيات عند، ابن الصمة، دريد بن معاوية بن الحارث (ت8ه)، الديوان، تحقیق عمر عبد الرسول، دار المعارف، (القاهرة1985)، ص59وما بعدها
2- اللوى: واد من أودية بني سليم، ومما يدل على أنه واد قول بعض العرب :* لقد هاج لي شوقاً بكاءُ حمامة ببَطن اللوى وَرقاءَ تصدَع بالفجر، ينظر یاقوت الحموي، معجم البلدان، مج4، 7/ 182، [مادة اللوي]
3- ابو عبيدة، ایام العرب قبل الإسلام، 2/ 145وما بعدها؛ ابن عبد ربه، العقد الفرید، 5/ 161؛ جاد المولی، ایام العرب في الجاهلية، ص293وما بعدها؛ على، المفصل في تاريخ العرب، 5/ 364

فإنّا للحْمُ السيفِ غيرُ نكيرةٍ *** ونلحمُهُ طورا وليسَ بذي نُکرِ

يغارُ علينا واترينَ فيشتَفَى *** بِنا إن أصبنا أو نغيرُ على وترِ

بذاك قَسَمْنا الدهرَ شطرينِ قسمةً *** فما ينقضيَ إلا ونحنُ على شطرِ(1)

6- يوم الكديد(2) :

هو يوم لسليم على كنانة قتل فيه ربيعة بن مكدم، وهو من بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة، وهم أنجد العرب، وكان الرجل منهم يعد بعشرة من غيرهم، وقد ذكرهم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وذکر شجاعتهم لأهل الكوفة بقوله:

«وَاَللهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ لِي بِكُم أَلْفَ فَارِسٍ مِنْ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنْمٍ»(3) .

وذكر ابن أبي الحديد ان ربيعة بن مکدم بن حرثان بن جذيمة بن علقمة بن فراس، الشجاع المشهور حامي الظعن حيا وميتا، ولم يحم الحريم وهو ميت أحد غيره، عرض له فرسان من بني سليم ومعه ظعائن من أهله يحميهم وحده، فطاعنهم فرماه نبيشة بن حبيب بسهم أصاب قلبه، فنصب رمحه في الأرض واعتمد عليه وهو ثابت في سرجه، لم یزل ولم يمل، وأشار إلى الظعائن بالرواح، فسرن حتى بلغن بيوت الحي، وبنو سلیم قيام إزاءه لا يقدمون عليه ويظنونه حيا، حتى قال قائل منهم، إني لا أراه إلا میتا ولو كان حيا لتحرك، إنه والله لماثل راتب على هيئة واحدة لا يرفع يده ولا يحرك رأسه، فلم يقدم أحد منهم على الدنو منه حتى رموا فرسه بسهم، فشب من تحته، فوقع وهو ميت

ص: 510


1- شرح نهج البلاغة، 3/ 243؛ القصيدة كاملة عند ابن الصمة، دريد، الديوان، ص95وما بعدها؛ ابو عبيدة، أيام العرب قبل الإسلام، 2/ 146
2- الكديد : ما غلظ من الأرض من الأرض، وهو موضع بالحجاز على اثنين وأربعين ميلا من مكة، ينظر یاقوت الحموي، معجم البلدان، مج4، 7/ 123، [مادة الكديد]
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1/ 303 [خطبة25]

وفاتتهم الظعائن(1) . وقال أحد الشعراء(2) يمدح عتيبة بن مکدم بأبيات من الشعر وهو واقف على قبره نقلها ابن أبي الحديد:

لا يبعدنَ ربيعةُ بنُ مكدم *** وسقى الغوادي قبرهُ بذنوبِ

نفرتْ قلوصِي من حجارةِ حرةٍ *** بنيتْ على طلقِ اليدينِ وهوبِ

لا تنفري ياناقُ منه فإنه *** شرّيبُ خمرٍ مُسعرٍ لحروبِ

لولا السفارُ وبعدُ خرقٍ مهمهِ *** لتركتها تجثو على العرقوبِ

نعم الفتى أدىّ نبیشة بزهُ *** يومُ اللقاءِ نبیشةُ بنُ حبيبِ(3)

وكان الربيعة بن مکدم يوم آخر يذكره المؤرخون باسم، يوم الضعينة، حيث كان دريد بن الصمة في فوارس بني جشم فرأى ربيعة ومعه ضعينة(4) فأرسل ثلاثة من فرسانه الواحد بعد الآخر لأخذ الضعينة منه، فقتلهم جميعاً حتى انكسر رمحه، فذهل درید فأعطاه رمحه وترك له ضعينته وقال: إن مثله لا يقتل، وعاد لأصحابه(5) .

7- يوم النسار:

هو من أيام العرب قبل الإسلام التي ذكرها ابن أبي الحديد في أبيات شعر لإحد شعراء ذبیان:

ص: 511


1- شرح نهج البلاغة، 1/ 310؛ للتفصيل في اخبار يوم الجديد ينظر، الأصفهاني، الأغاني، مج4، 6/ 36وما بعدها
2- قيل الأبيات لضرار بن الخطاب بن مرداس أحد بني محارب بن مهر قالها لما مر على قبره، وقيل بل هي لحسان بن ثابت، ينظر أبو عبيدة، أيام العرب قبل الإسلام، 2/ 106؛ المبرد، الکامل في اللغة والأدب، مج1، 2/ 245؛ الأصفهاني، الأغاني، مج6، 16/ 38
3- شرح نهج البلاغة، 1/ 311
4- الضعينة: امرأة الرجل في هودجها
5- ابو عبيدة، ایام العرب قبل الإسلام، 2/ 147؛ جاد المولی، ایام العرب في الجاهلية، ص312؛ علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 5/ 365

إذا حاولتَ في أسدٍ فجورا *** فإني لستُ منكَ ولستَ مني

هُمُ درعي التي استلامتُ فيها *** إلى يومِ النسارِ وهُمْ مَجِنّي(1)

وكذلك ذكره في أبيات للفرزدق في هجاء جرير:

ألسنا بأصحابِ يومِ النسارِ *** وأصحابِ ألويةِ المربدِ

ألسنا الذينَ تمیمُ بِهمِ *** تسامی وتفخرُ في المشهدِ(2)

أما قصة اليوم فإن بني عامر كانوا في جوار بني سعد، فأصابت ضبة رجلاً منهم وأرادت أنّ تدفع الدية، فأبي العامريون ان يقبلوها، وقالوا: نقتل بصاحبنا، فأبت بنو ضبة، ووقعت الحرب، وتواعدوا ان يلتقوا بالنسار(3) ، وكان على تميم حاجب بن زرارة، وعلى بني عامر شریح بن مالك القشيري، فاقتتلوا، فهربت بنو سعد وصبرت عامر فهزموا وقتلوا، فقتل شریح بن مالك، وسبيت نساؤهم، فقال بشر بن أبي خازم في هزيمة حاجب:

وأفلتَ حاجبُ جوبَ العوالي *** على شقراءَ تلمعُ في السراب

ولو أدركن رأس بني تميم *** عفرن الوجه منه بالتراب(4) .

ص: 512


1- شرح نهج البلاغة، 1/ 315
2- شرح نهج البلاغة، 13/ 132؛ تنظر الأبيات عند ابو عبيدة، معمر بن المثنى التميمي (ت209ه)، نقائض جرير والفرزدق، وضع حواشيه خليل عمران المنصور، دار الكتب العلمية، (بیروت1998)، 2/ 176
3- وهي مياه الغني وكلاب والأكثر أنه جبل قال أبو عبيدة النسار أجبال متجاورة يقال لها الأنسر، ينظر یاقوت الحموی، معجم البلدان، مج4، 8/ 386، [مادة النسار]
4- ابو عبيدة، ایام العرب قبل الإسلام، 2/ 264؛ ابن عبد ربه، العقد الفرید، 5/ 233؛ الشمشاطي، ابو الحسن علي بن محمد بن المطهر العدوي (ت377ه)، الانوار ومحاسن الاشعار، تحقیق صالح مهدي العزاوي، دار الشؤون الثقافية، (بغداد1987)، ص70؛ ابن الاثیر، الکامل في التاريخ، 2/ 403؛ جاد المولی، ایام العرب في الجاهلية، ص380

8- يوم نجران:

وذكر ابن أبي الحديد يوم نجران بقوله إن الأقرع بن حابس قاد بني تغلب قبل الإسلام وغزا بهم بالكرام من الخيل(1) ، وكان الاقرع كما يذكر أبو عبيدة قد أغار على نجران وهو في الفين، وفيها أخلاط من اليمن، من حمير منهم الأشعث بن قيس بن معد يكرب الكندي، وأخوه، فهزمهم جميعهم وغنم وسبى(2) .

وذكر ابن أبي الحديد أن الفرزدق ذكر محاسن قومه في أبيات من الشعر ذكر فيها يوم نجران فقال:

ومنّا الذي قادَ الجيادَ على الوجا *** بنجرانَ حتی صبحَّتَهُ الترائعُ(3)

9- يوم ذات الأثل:

غزا صخرُ بن عمرو بن الشَّريد، بني أَسد بن خُزيمة، واكتسحَ إبلهم فأتی الصريخُ بني أسد، فركبوا حتى تلاحقوا بذات الأثل(4) ، فاقتتلوا قِتالاً شَديداً، فطعن ربيعةُ بن ثَور الأسديّ صخراً في جَنبه، وفات القَوم بالغَنيمة. وجرى صخرٌ من الطعنة، فكان مريضاً قريبا من الَحوْل، فلما طال عليه البلاءُ وقد نَتأت قِطعة من جَنبه مثْلُ اليد في

ص: 513


1- شرح نهج البلاغة، 1/ 69
2- ابو عبيدة، ایام العرب قبل الإسلام، 2/ 286؛ الالوسي، بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، 2/ 69
3- شرح نهج البلاغة، 1/ 69؛ تنظر الأبيات عند أبي عبيدة، نقائض جرير والفرزدق، 2/ 111
4- ذات الأثل في بلاد تیم الله بن ثعلبة كانت لهم بها وقعة مع بني أسد، ينظر یاقوت الحموي، معجم البلدان، مج1، 1/ 82

موضع الطعنة، قالوا له: لو قطعتْها لرجونا أن تَبرأ. فقال: شَأنكم. فقطعوها فمات(1) .

وذكر ابن أبي الحديد مجموعة من الأبيات الشعرية التي رثت فيها الخنساء أخاها صخراً في كتابه منها:

وقائلةً والنَّعشُ قد فات خَطْوَها *** لِتُدرکَه یا لهفَ نَفسي على صَخْرِ

ألا ثَكِلَتْ أمُّ الذينَ غَدَوا به *** إلى القبرِ ماذا يَحملونَ إلى القَبْرِ(2)

وقالت الخنساء ترثیه:

ولولا كثرةُ الباكينَ حولي *** على إخوانهم لقتلتُ نفسي

وما يبكونَ مثل أخي ولكنّ *** أعزّي النفسُ عنهُ بالتأسي(3)

وقالت الخنساء ايضاً:

ألا يا صخرُ إن أبكيتَ عيني *** لقد أضحكَتني دهرا طويلا

بَكيتُكُ في نساءٍ مُعولاتٍ *** وكنتُ أحقُّ من أبدى العويلا

دفعتُ بكَ الجليلَ وأنتَ حيُّ *** فمن ذا يدفُع الخطبَ الجليلا

إذا قَبُحَ البكاءُ على قتیلِ *** رأيتُ بكاءَكَ الحسنُ الجميلا(4)

ص: 514


1- ابو عبيدة، أيام العرب قبل الإسلام، 2/ 167؛ ابن عبد ربه، العقد الفريد، 5/ 160؛ الشمشاطي، الانوار ومحاسن الاشعار، ص56؛ علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 5/ 363
2- شرح نهج البلاغة، 20/ 138؛ ينظر كذلك الخنساء، الديوان، ص39
3- شرح نهج البلاغة، 11/ 176؛ ينظر كذلك الخنساء، الديوان، ص56
4- شرح نهج البلاغة، 19/ 160؛ ينظر كذلك الخنساء، الديوان، ص77

وقال بعض الشعراء يمدح صخراً:

إن ابن عمرو بن الشريدِ *** له فخارٌ لا يرامُ

وحجا إذا عدمَ الحِجا **** وندىَ إذا بَخُلُ الغمامُ

يصلُ الحسامَ بخطوةٍ *** في الروعِ إن قَصُرَ الحسامُ(1)

10- أيام الفجار:

سميت أيام الفجار بهذا الأسم لأنها وقعت في الأشهر الحرم، وأنتهكت جوار الحرم، وقد جرت بين كنانة من جهة وقيس عيلان (هوازن وثقيف) من جهة أخرى، وقد قسمها الاخباريون إلى اربعة ايام، وأخرى إلى فجارين، الأول لا يعدو أن يكون مناوشات بسيطة لم يصب بها كثيرون، وكانت عدة أحداث أرتبطت باليوم(2) .

أما الفجار الثاني الذي ذكره ابن أبي الحديد في روايات متفرقة فكان سببه أن البراض بن قيس بن رافع من قبيلة كنانة كان رجلاً فاتكاً خليعاً قد خلعه قومه لكثرة شره، فكان يضرب به المثل بفتکه، فيقال أفتك من البراض(3) ، وذكر ابن أبي الحديد شعراً لأبي تمام يقول فيه:

والفتى من تَعَرَقَتُةَ الليالي *** والفيافي كالحيةِ النضناضِ

كلَّ يومٍ له بصرفِ الليالي *** فتكةٌ مثل فتكةِ البراضِ(4)

ص: 515


1- شرح نهج البلاغة، 5/ 139
2- لمزيد من تفاصيل تلك الأيام ينظر ابو عبيدة، أيام العرب قبل الإسلام، 2/ 449وما بعدها؛ ابن الاثیر، الکامل في التاريخ، 2/ 384وما بعدها؛ حسن، تاريخ الإسلام السياسي، 1/ 51
3- ابن الأثير، الکامل في التاريخ، 2/ 384
4- شرح نهج البلاغة، 3/ 237

وكان البراض في حضرة النعمان بن المنذر، ومن عادة النعمان أن يبعث كل عام بلطيمة(1) للتجارة إلى عكاظ تباع له هناك، فقال النعمان: من يجيز لي لطيمتي هذه حتى يبلغها عكاظ؟ فقال البراض: أنا أجيزها، على كنانة، فقال النعمان: إنما أريد من يجيزها على كنانة وقيس، وكان عروة الرحال من قبيلة قيس جالساً فقال: أكلبٌ خليع يجيزها لك، أنا أجيزها على أهل تهامة وأهل نجد. فقال البراض: وعلى كنانة تجيزها یا عروة؟ قال عروة: وعلى الناس كلهم، فدفع النعمان اللطيمة إلى عروة الرحال وأمره بالمسير بها، وخرج البراض يتبع أثره، فوثب إليه بالسيف فقتله(2) .

ونشب القتال بينهم وكان من عاداتهم في الفجار الثاني ان يتواعدوا رأس الحول من العام التالي عند انتهاء اليوم لذلك التقوا خمسة أيام على مدى أربعة سنين، أربعة منها لقيس على كنانة وقريش وهي ایام نخلة، وشمطة، والعيلاء، والحريرة، وواحدة لكنانة وهو يوم عكاظ(3) .

ذكر ابن أبي الحديد ان رؤساء قبائل قريش الذين خرجوا إلى حرب عامر هم: حرب بن أمية على بني عبد شمس وكان الزبير بن عبد المطلب على بني هاشم وكان عبد الله بن جدعان على بني تيم وكان هشام بن المغيرة على بني مخزوم وكان على كل قبيلة رئيس منها فهم متكافئون في التساند ولم يحقق واحد منهم الرئاسة على الجميع(4) .

وذكر ابن أبي الحديد ان يوم شمطة هو أحد أيام الفجار، قال فيه خداش بن زهير وهو عدو قریش وخصمها:

ص: 516


1- اللطيمة: هي قافلة تجارية تحمل البضائع کان النعمان يرسلها سنوياً للمتاجرة في سوق عكاظ
2- ابو عبيدة، ایام العرب قبل الإسلام، 2/ 251وما بعدها؛ ابن عبد ربه، العقد الفريد، 5/ 238؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/ 385؛ زيدان، العرب قبل الإسلام، ص323
3- الجبوري، أيام العرب وأثرها في الشعر الجاهلي، ص107؛ الأفغاني، أسواق العرب في الجاهلية، ص162
4- شرح نهج البلاغة، 15/ 155

وبلّغِ أن بلَغْتُ بنا هشاما *** وذا الرمحينِ بَلَّغْ والوليدا

أولئكَ إن يكنْ في الناسِ جودٌ *** فإن لديهم حسباً وجودا

همُ خيرُ المعاشرِ من قریشٍ *** وأوراها إذا قدَحوا زنودا

اما يوم عكاظ فهو من أشهر أيام الفجار وقد أسرفت فيه كنانة في قتل قيس، وذكر ابن أبي الحديد أن الأعياص والعنابس كان لهم دور كبير في هذا اليوم (حين حفروا الأرجلهم الحفائر وثبتوا فيها وقالوا نموت جميعا أو نظفر، وإنما سموا بالعنابس لأنها أسماء الأسود، وإنما سموا الأعياص لأنها أسماء الأصول فالعنابس حرب وسفيان وأبو سفيان وعمرو والأعياص العيص وأبو العيص والعاص وأبو العاص وأبو عمرو ولم يعقب من العنابس إلا حرب وما عقب الأعياص إلا العيص)(1) .

وذكر ابن أبي الحديد ان ابن الزبعري مدح بني قصي بن كلاب لدورهم في هذا اليوم فقال:

فإن قصيا أهلُ مجدٍ وثروةٍ *** وأهلُ فعالٍ لا يُرامُ قدیمُها

هُمُ منعوا يومي عكاظٍ نساءنا *** كما مَنعُ الشولُ الهجانَ قرومُها(2)

وذكر ابن أبي الحديد أن أبا طالب (كان يحضر أيام الفجار ويحضر معه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو غلام فإذا جاء أبو طالب هزمت قيس وإذا لم يجيء هزمت كنانة

ص: 517


1- شرح نهج البلاغة، 15/ 202
2- شرح نهج البلاغة، 15/ 167، ينظر الجربوع، عبد الله سليمان، ملحوظات على ديوان عبد الله بن الزبعري، مجلة ام القرى، السنة الثالثة، العدد الخامس، السعودية، 1411ه، ص133

فقالوا لأبي طالب: لا أبا لك لا تغب عنا ففعل)(1) ، وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد شارك في هذه الحرب مشاركة فعلية حيث يذكر ابن أبي الحديد أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«شهدت الفجار وأنا غلام فكنت أنبل فيه على عمومتي»(2) .

وذكر ابن سعد ان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يوم حضر ابن عشرين سنة وكان الفجار بعد الفيل بعشرين سنة(3) .

ثالثاً: ایام القحطانيين والعدنانيين:

1- يوم أوارة الثاني:

هو من أيام العرب المهمة التي ذكرها ابن أبي الحديد، وقد استخدم قسماً من احداثها كشاهد على سبب عداء العرب للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام حيث قال: (إعلم أن كل دم أوراقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسيف علي عليه السلام وبسيف غيره فإن العرب بعد وفاته عصبت تلك الدماء بعلي بن أبي طالب عليه السلام وحده لأنه لم يكن في رهطه من يستحق في شرعهم وسنتهم وعادتهم أن يعصب به تلك الدماء إلا بعلي عليه السلام وحده، وهذه عادة العرب إذا قتل منها قتلى طالبت بتلك الدماء القاتل فإن مات أو تعذرت عليها مطالبته طالبت بها أمثل الناس من أهله)(4) ، ثم أن ابن أبي الحديد ضرب مثلاً على ذلك يوم من أيام العرب بقوله (لما قتل قوم من بني تميم أخا لعمرو بن هند قال بعض أعدائه يحرض عمرا عليهم:

ص: 518


1- شرح نهج البلاغة، 15/ 166
2- شرح نهج البلاغة، 15/ 166
3- الطبقات الکبری، 1/ 106
4- شرح نهج البلاغة، 13/ 222

من مبلغ عمرة بأن وحوادث الأيام لا ها إن عجرة أبيه تسفي الرياح خلال فاقت ل زرارة لا أرى المرء لم يخلق ص باره يبقى لها إلا الحجارة بالسفح أسفل من أواره کشحيه وقد سلبوا إزارة في القوم أمثل من زرارة I فأمره أن يقتل زرارة بن عدس رئيس بني تميم ولم يكن قاتلا أخا الملك ولا حاضرا قتله ، ومن نظر في أيام العرب ووقائعها ومقاتلها عرف ما ذكرناه).

أراد ابن أبي الحديد هنا يوم أوارة الثاني حيث تذکر کتب المؤرخين أن عمرو بن هند غزا اليمامة ومعه زرارة فأخفق، فلما كان حيال جبلي طيء قال له زرارة : أي ملك إذا غزا لم يرجع ولم يصب، أحسب من هذا الحي شيئا، وكان له معهم عقد فرفض فلم يزل به حتى اقنعه، فمال إليهم فأسر وقتل وغنم".

يبدو لنا من خلال قراءتنا لهذه الرواية أن هناك خرقا لعادات العرب البداوة وتقاليدهم الذين كانوا يحترمون العهد والاتفاق رغم قساوة العيش داخل بيئتهم التي كانت تعتمد في الكثير من صورها على الغزو، ولكن العودة من الغزو بدون نصر أو جائزة، كانت تشكل عبئا كبيرا ||اص على كاهل النعمان الذي خرق الاتفاقات والعهود والعادات العربية مع ما لعبه زرارة من دور في إقناعه.

هزت هذه الحادثة قيس بن جروة الطائي وأسمه المعرق أيضا فقال قصيدة طويلة (1) شرح نهج البلاغة، 222/13 . (2) أبو عبيدة، أيام العرب قبل الإسلام، 288/2 وما بعدها؛ البلاذري، أنساب الأشراف، 46/12 ؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 307/2 وما بعدها؛ جاد المولى، أيام العرب في الجاهلية، ص100 وما بعدها.

ص: 519

منها:

وأقسمُ جهداً بالمنازِل من مِنىً *** وماخبّ في بطحائِهنَّ دَرادِقُه

لئِنْ لم تغيرَّ بعضَ ما قد فعلتُمُ *** لأنتحينّ العظمَ ذو أنا عارقةْ

فبلغ هذا الشعر عمرو بن هند فقال له زرارة: إنه يتوعدك، فقال عمرو بن هند والله لأقتلنه(1) ، فبلغ ذلك عارقا فقال أبياتاً من الشعر ذكر قسم منها ابن أبي الحديد منها:

من مبلغٌ عَمرو بنَ هندٍ رسالةً *** إذا استحقبتها العِيسُ تنضى على البعدِ

أيوعدُني والرملُ بيني وبينه *** تبين رويداً ما أمامُهُ من هند

ومن أجأٍ دوني رِعانُ كأنَّها *** قنابلُ خُيل من كميتٍ ومن وَرْدِ

غدرتَ بأمرِ أنتَ كنتَ اجتذبْتنا *** عليهِ و شَرُّ الشيمةِ الغدرُ بالعهدِ(2)

فبلغ عمرو بن هند شعره فغزا طياً وأسر منهم اربعين رجلاً، فكانت في صدور طي على زرارة، فلما قتل سويد ابن ربيعة الدارمي، وهو زوج بنت زراره، اخ الملك عمرو بن هند ويدعى مالكاً، وقيل بل هو ابن له يدعى أسعد، وكان عند زرارة حتى أصبح رجلاً، لأنه خرج ذات يوم يتصيد فمر بإبل لسويد فنحر أحداها، فشد عليه سويد ولم يعرفه فقتله، ثم لحق بمكة، فأنشأ عمرو بن ملقط الطائي ابياته السابقة أمام الملك:

فاقتلْ زرارةَ لا أرى *** في القومِ أمثلَ من زراره

فطلب الملك زرارة، فأحضر أبناء سويد السبعة من ابنة زرارة وهم غلمة فأمر بقتلهم

ص: 520


1- الاصفهانی، الاغانی، مج8، 22/ 118
2- شرح نهج البلاغة، 2/ 248

جميعاً وحلف عمرو ليحرقن من ال دارم، مائة رجل فلما جن الليل سار زرارة مجداً إلى قومه ولم يلبث أن مرض هناك ومات، فتهيأ عمرو بن هند في جمع وغزا طيئاً فسار بطلبهم حتى بلغ أوارة(1) ، وقد نذروا به فتفرقوا. فأقام مكانه وبث سراياه فيهم، فأتوه ثمانية وتسعين رجلاً وامرأة سوى من قتلوه في غاراتهم فقتلهم، وقيل: إنه نذر أن يحرقهم، فأحرقهم، لذلك سمي محرقاً واجتاز رجل من البراجم فشم قتار اللحم فظن أن الملك يتخذ طعاماً فقصده. فقال: من أنت؟ فقال: أنا وافد البراجم. فقال: إن الشقي وافد البراجم؛ فذهبت مثلاً ثم أمر به فقذف في النار(2) .

2- يوم حجر:

ذكر ابن أبي الحديد أن امرأ القيس كان يقول في مقتل أبيه حجر:

والله لا يذهبُ شيخي باطلا *** حتى أبيرَ مالكاً وكاهلا

القاتلينَ الَمِلكَ الحلاحِلا *** خيرَ معدٍ حسبا ونائِلا(3)

وكان حجر بن الحارث قد فرض على بني أسد أتاوة في كل سنة، وأساء السيرة فيهم وظلمهم، فعندما رفضوا دفع الأتاوة، سار اليهم، وجعل قتلهم بالعصا، وأباح الأموال، وحبس جماعة من أشرافهم، ولم يلبثوا حتى ثاروا عليه وناهضوه القتال فهزموا اصحابه ووقع اسيراً لديهم، وقتله علباء بن الحارث الكاهلي وكان حجر قد قتل أباه فطعنه فقتله، وقيل بل ان علباء خشي أن يتواكلوا في قتله فدعا غلاما من بني كاهل

ص: 521


1- أسم ماء أو جبل لبني تميم قيل بناحية البحرين وهو الموضع الذي حرق فيه عمرو بن هند بني تميم، ينظر یاقوت الحموي، معجم البلدان، مج1، 1/ 218، [مادة اوارة]
2- البلاذري، أنساب الأشراف، 12/ 48؛ الأصفهاني، الأغاني، مج8، 22/ 118وما بعدها؛ ياقوت الحموي، معجم البلدان، مج1، 1/ 219؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/ 358وما بعدها
3- شرح نهج البلاغة، 10/ 148؛ ينظر البيت عند امرئ القيس، الديوان، ص120

وكان ابن أخته وكان حجر قتل أباه، فدخل عليه مع قومه وقتله في غفلة منهم(1) .

وتكاد تتفق الروايات على أن علباء بن الحارث هو قاتله أو المحرض على قتله، وقد حدده امرؤ القيس في بيت من إحدى قصائده ذكره ابن أبي الحديد:

وأفلتهنَّ علباءُ جريضاً *** ولو أدركْنهُ صفَرِ الوطابُ(2)

قام امرؤ القيس بأخذ ثأر ابيه، فألَّبَ القبائل على بني أسد وأباحهم أكثر من مرة، حتى أسرف في قتلهم، فهجرته كثير من القبائل التي كانت تناصره، فأخذ يطوف بالبلدان للنصرة، فذكر ابن أبي الحديد انه تنقل في أحياء العرب حتى نزل على رجل من جديلة طيئ يقال له طریف بن ملء فأجاره وأكرمه وأحسن إليه فمدحه وأقام عنده ثم إنه خاف ألا يكون له منعة فتحول ونزل على خالد بن سدوس بن أصمع النبهاني فأغارت بنو جديلة على إمرئ القيس وهو في جوار خالد بن سدوس فذهبوا بإبله(3) ، وانتهى به المطاف إلى قيصر الروم الذي أهدى اليه حلة مسمومة قتل بسببها بعد أن لبسها(4) .

3- يوم السلان:

ذكر ابن أبي الحديد ان ضرار بن عمرو الضبي وقف بعكاظ خاطباً: (ألا إن شر

ص: 522


1- الأصفهاني، الأغاني، مج3، 9/ 571وما بعدها؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/ 330وما بعدها؛ الدخيلي، مهدي عريبي حسين، بنو اسد ودورهم في التاريخ العربي الاسلامي، أطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية الآداب، جامعة البصرة، 1995، فص3، ص120
2- شرح نهج البلاغة، 16/ 116، أراد أمرؤ القيس أن علباء يقتل فيكون جسمه صفراً من دمه، كما يكون الوطاب صفراً من اللبن، فشبه جسده- لو نالته القبيلة- بسقاء من الجلد يكون خالية من اللبن، قاده هذا التشبيه الى ان يأخذ بمجامع تلك الصورة فيجمعها على هذا النمط الموجز، ينظر عطية، مختار، الايجاز في كلام العرب ونص الاعجاز دراسة بلاغية، دار المعرفة الجامعية، (مصر1995)، ص55
3- شرح نهج البلاغة، 9/ 187
4- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/ 333

حائل أم، فزوجوا الأمهات، قال، وذلك أنه صرع بين الرماح فأشبل عليه إخوته لأمه حتى استنقذوه)(1) .

وأراد ابن أبي الحديد يوم السلان، ولكن من نقل الرواية يقولون ان من استنقذوه هم بنوه وليس أخوته، وملخص القصة أن النعمان بن المنذر كان يجهز كل عام لطيمة، وهي التجارة، لتباع بعكاظ، فعرضت بنو عامر لبعض ما جهزه فأخذوه. فغضب لذلك النعمان وبعث إلى أخيه لأمه، وهو وبرة بن رومانس الكلبي، وبعث إلى صنائعه ووضائعه، والصنائع من كان يصطنعه من العرب ليغزیه، والوضائع هم الذين كانوا شبه المشايخ، وأرسل إلى بني ضبة بن أد وغيرهم من الرباب وتميم فجمعهم، فأجابوه، فأتاه ضرار بن عمرو الضبي وكان فارساً شجاعاً في تسعة من بنيه كلهم فوارس فاجتمعوا في جيش عظيم، وأقبل الجيش فالتقوا بالسلان فاقتتلوا قتالاً شديداً. فأسر أخَ النعمان، فلما صار في أيديهم هم الجيش بالهزيمة، فنهاهم ضرار بن عمرو الضبي وقام بأمر الناس فقاتل هو وبنوه قتالاً شديداً، فحمل عليه أبو براء عامر بن مالك فاقتتلا، فسقط ضرار إلى الأرض وقاتل عليه بنوه حتى خلصوه وركب، كان شيخاً، فلما ركب قال: من سره ساعته نفسه؛ فذهبت مثلاً. يعني من سره بنوه إذا صاروا رجالاً كبر وضعف فساءه ذلك(2) .

ونقل ياقوت الحموي رواية أخرى عن هذا اليوم جاء فيها أن السلان هي أرض تهامة مما يلي اليمن کانت بها وقعة لربيعة على مذحج قال عمرو بن معدي كرب:

لمنِ الديارُ بروضَةِ السلاّنِ *** فالرقمتينِ فجانبِ الصمانِ

ص: 523


1- شرح نهج البلاغة، 18/ 268
2- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/ 418؛ جاد المولى، ايام العرب في الجاهلية، ص107وما بعدها

وقيل السلان وادٍ فيه ماء وحلفاء وكان فيه يوم بين حمير ومذحج وهمدان وبين ربيعة ومضر وكانت هذه القبائل من اليمن بالسلان وكانت نزار على خزاز وهو جبل بإزاء السلان وهو مما بين الحجاز واليمن(1) .

يبدو أن هناك أكثر من وقعة باسم هذا اليوم، فذكر أحد الباحثين المعاصرين أن ذلك يرجع إلى أن كلمة (السلان)، تعني بطوناً من الأرض أو المكان الضيق في الوادي، فربما سمي أكثر من موقع باسم السلان، تبعاً لأصل التسمية التي حدثت بها هذه المواقع الحربية، وأقترنت بهذا الأسم فجاءت في أكثر من واقعة(2) .

رابعا: أيام العرب والفرس:

1- يوم ذي قار:

ذكر ابن أبي الحديد ان (ذي قار موضع قريب من البصرة وهو المكان الذي كانت فيه الحرب بين العرب والفرس ونصرت العرب على الفرس قبل الإسلام)(3) .

وكان النعمان بن المنذر قد استودع هانئ بن مسعود الثقفي أهله وولده وسلاحه، وكان فيها أربعمائة درع وقيل ثمانمائة درع، وبعد أن قتل کسرى النعمان(4) أستعمل ایاس بن قبيصة الطائي على الحيرة وبعث اليه أن يجمع ما خلفه النعمان من ودائع ويرسلها اليه، فامتنع هانئ بن مسعود أن يسلم الامانة، فغضب کسری وارسل اليه جيشاً كبيراً بقيادة الهامرز على ألف من الأساورة ومعهم الأفيال وعقد للنعمان بن زرعة على تغلب والنمر، وإياس بن قبيصة على العرب ومعهم بعض القبائل العربية

ص: 524


1- معجم البلدان، مج3، 6/ 57، [مادة السلان]
2- سمار، سعد عبود، قبائل مذحج قبيل الإسلام حتى نهاية العصر الراشدي، اطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية الآداب، جامعة البصرة، 1996، ص75
3- شرح نهج البلاغة، 13/ 9
4- لمعرفة تفاصيل العلاقة بين النعمان بن المنذر وكسرى، ينظر ص323من الرسالة

الأخرى التابعة لكسرى من إياد وقضاعة(1) .

ويبدو أن كسرى أيقن أن وجود هذه الأسلحة عند العرب خطر كبير ويجب الحد منها، مع ما يشكله بنو شيبان من خطر على الفرس بعدم إنصياعهم لأوامرهم في تسليم وديعة النعمان، وهذا بحد ذاته يشكل خطراً فيما بعد، حيث اعتبره کسری تمهیداً الاستقلال القبائل، والا ما كان يجهز مثل هذا الجيش لوديعة بسيطة، وقد استخدمت هذه الدروع فعلاً في معركة ذي قار حيث ذكر ابو عبيدة أن هانئ وزع الدروع والسلاح على قومه ليدافعوا بها عن انفسهم(2) .

ظهرت النخوة العربية في أبهى صورها في هذه المعركة حيث بعث أول الأمر لقيط بن يعمر الإيادي أبيات شعر لبني شيبان ينذرهم فيها من غزو كسرى، وكان كاتباً في دیوانه، ذکر قسماً منها ابن أبي الحديد في كتابه منها:

قُوموا قياماً على أمشاط أرجُلِكُم *** ثم أفزعوا قد يَنالُ الأمنَ من فَزِعا

فقلَّدوا أمرَكُم الله درُّکُم *** رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا

لا مُترَفاً إنْ رخاءُ العيش ساعدَه *** ولا إذا عَضَّ مکروهٌ به خَشَعا

ما زال يَحْلُب هذا الدهرَ أشْطُرَه *** يكون مُتَبَعاً طوراً ومُتَبِعا

حتى استمرّت على شَزْر مَریرتُه *** مُسْتحكمَ الرأي لا قَحْماً ولا ضَرعا(3)

ص: 525


1- أبو عبيدة، أيام العرب قبل الإسلام، 2/ 243وما بعدها؛ ابن عبد ربه، العقد الفريد، 5/ 246؛ جاد المولى، ایام العرب في الجاهلية، ص6وما بعدها؛ برو، تاريخ العرب القديم، ص227
2- أيام العرب قبل الإسلام، 2/ 244
3- ابن يعمر، لقيط الايادي، الديوان، تحقیق خليل ابراهيم العطية، المؤسسة العامة للصحافة والطباعة، مطبعة الجمهورية، (بغداد1970)، ص41وما بعدها؛ الراوي، مصعب حسون، الشعر العربي قبل الإسلام، دار الشؤون الثقافية العامة، (بغداد1989)، ص77وما بعدها؛ الأسد، ناصر الدين، مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، ط3، دار المعارف، (مصر1966)، ص114؛ ولم يذكر ابن أبي الحديد البيتين الأول والثاني وإنما ذکر بدلاً منهما بيتاً آخر لم أجده في الديوان وهو: لا يطعمُ النومَ إلا ريث يبعثه* همٌ یکادُ حشاهُ يقصمُ الضلعا، ينظر شرح نهج البلاغة، 4/ 171

وثانيهما لما تقارب الزحفان والتقى الناس فأرسلت قبيلة اياد سراً إلى بكر، أي الامرين احب اليكم أن ننسحب أو نفر حين تلاقون القوم فقالوا بل تقيمون فإذا التقى الناس انهزمتم، ففعلوا فانهزم الفرس وأحلافهم من العرب(1) .

وفي إنتصار العرب على الفرس قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:

« هذا اول يوم انتصفت فيه العرب من العجم و بي نُصروا»(2) .

وذكر المسعودي أنّ تاريخ معركة ذي قار لأربعين سنة من مولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل بعد أن هاجر إلى يثرب(3) ، بينما ذكر ياقوت الحموي انها بعد وقعة بدر(4) .

ص: 526


1- سالم، تاريخ الدولة العربية، ص04؛ الملاح، الوسيط في تاريخ العرب قبل الإسلام
2- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 2/ 193؛ المسعودي، مروج الذهب و معادن الجوهر، 1/ 186
3- مروج الذهب ومعادن الجوهر، 1/ 186
4- معجم البلدان، مج4، 6/ 7، [مادة قار]

الخاتمة

اَلْحَمْدُ لله الذي هدانا لحمده وجعلنا من أهله لنكون لإحسانه من الشاكرين وليجزينا على ذلك جزاء المحسنين.

توصلنا من خلال دراستنا لحياة العرب قبل الإسلام في كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي إلى جملة من الاستنتاجات يمكن إيجاز أبرزها بما يأتي:

أولا: بينت الدراسة أن كتاب شرح نهج البلاغة لم يكن خاصاً بالأحداث الإسلامية واللغوية والفلسفية فقط بل كان المادة تاريخ العرب قبل الإسلام حصة كبيرة توزعت بين أجزائه العشرين، من خلال ذكره لحياة العرب وتقاليدهم ودياناتهم وطقوسهم التي كانت سائدة آنذاك، وهي متباينة بين أجزائه تبعاً لورود إشارات عن عادات العرب قبل الإسلام في خطب الإمام عليه السلام، لذلك يُعد کتاب شرح نهج البلاغة مصدراً من مصادر معرفة تاريخ العرب قبل الإسلام.

ثانياً: توصلنا من خلال هذه الدراسة إلى مجموعة من الروايات والأمثال والحكم عن العرب قبل الإسلام، التي وجدت بين ثنايا خطب ورسائله الإمام علي بن أبي طالب التي أوردها ابن أبي الحديد في شرحه للنهج، وعليه فالإمام عليه السلام يُعد من أقرب المصادر التي تحدثت عن تلك الحقبة من حياة العرب.

ثالثاً: من خلال الدراسة تبين لنا أن روايات الحياة الأجتماعية والفكرية عند العرب قبل الإسلام كانت الحصة الأكبر التي تناولها ابن أبي الحديد في كتابه وهي تمثل صورة عن حياة العرب وعاداتهم وتقاليدهم، وقسم من هذه الروایات نقلها من مصادر مفقودة وغير موجودة فأنفرد بها دون غيره وذكرها في شرحه مثل كتاب في أراء العرب وأديانها للخالع الرافقي، وكتاب الأنساب و کتاب مقاتل الشجعان ومقاتل الفرسان، لأبي عبيدة معمر بن المثنى، ولعل السبب يعود إلى أن شرح نهج البلاغة أساس وضع

ص: 527

لشرح خطب ورسائل الإمام ورسائله التي جمعها الشريف الرضي، ولذا كانت روایات العرب قبل الإسلام تعتمد على ما يرد في الخطب.

رابعا: أعطانا ابن أبي الحديد أراء واضحة عن معتقدات العرب وأديانهم ومذاهبهم کعبادة الأصنام والكواكب، وكشف عن وجود نشاطات اقتصادية كانت متداولة عند العرب قبل الإسلام كالتجارة والصناعة والزراعة والحرف الصناعية التي كانت مرتبطة بالتجارة وهذا جعلنا أمام فكرة عامة عنها.

خامساً: من خلال كتاب شرح نهج البلاغة وصلت إلينا معلومات مهمة عن الحياة السياسية في الجزيرة العربية، ولا سيما في مكة حيث أعطى وصفاً دقيقاً لبني هاشم وعلاقاتهم ودورهم في إدارة مكة بفترات متعاقبة وأهم التحالفات والخصومات التي كانت بينهم من مصادر غير موجودة إلا في كتابه مثل کتاب هاشم وعبد شمس لابن روبة الدباس، الذي كان يضم مادة ثرية عن علاقات هاشم وعبد شمس ودورهما في سیاسة مكة وتأثيرها على أبنائهما من بعد ذلك.

سادساً: أثبتت الدراسة أن ابن أبي الحديد لم یکن ناقلاً للمعلومات فقط بل كان محللاً وناقداً للكثير من القضايا والروايات التاريخية بنظرة المؤرخ المتمرس، وكان دائماً ما يقف أمام الروايات التي نقلها ويعطي رأيه المخالف لها وتحليله المنطقي للكثير منها، التي تخص حياة العرب قبل الإسلام، ولعل هذا ما ميّز کتاب شرح نهج البلاغة عن غيره من مصادر تاريخ العرب قبل الإسلام، إذ ان روایاته كانت تخضع للنقد والتحليل، ونظرا لما يمتلكه ابن أبي الحديد من رؤية معرفية وعلمية متفتحة لذا جاءت رواياته مقارنة عن ماضي غيره من المصادر، بأنها بعيدة عن الخرافة والأساطير التي علقت بالكثير من مصادر العرب قبل الإسلام.

ص: 528

المصادر والمراجع

المصادر الأولية

• القرآن الكريم

الأبشيهي، شهاب الدين محمد بن أحمد (ت850ه/ 1446م)،

1- المستطرف في كل فن مستظرف، دار مكتبة الحياة، (بیروت2011).

ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم الشيباني (ت630ه- 1231م)،

2- أسد الغابة في معرفة الصحابة، دار الكتاب العربي، بیروت، (د. ت).

3- الكامل في التاريخ، تحقيق مكتب التراث، دار احیاء التراث العربي، (بیروت2009).

ابن الأثير، مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الشيباني (ت606ه/ 1209م)،

4- النهاية في غريب الحديث، تحقیق طاهر أحمد الزاوي، ومحمود أحمد الطناحي، ط4، مؤسسة اسماعیلیان، (قم المقدسة1364ه).

ابن الأثير، أبو الفتح ضياء الدين نصر الله بن محمد بن عبد الكريم الموصلي (ت637ه/ 1238م)

5- المثل السائر في ادب الكاتب والشاعر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، (بیروت1995).

ابن الأحنف، العباس (ت192ه/ 807م)،

6- الديوان، شرح وتعليق عاتكة الخزرجي، مكتبة دار الكتب المصرية، (القاهرة1954).

الادريسي، أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن ادریس الحسني (560ه/ 1164م)،

ص: 529

7 - نزهة المشتاق في اختراق الافاق، عالم الكتب، (بیروت1989).

الأردبيلي، ابو الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح (ت693ه/ 1293م)،

8- کشف الغمة في معرفة الأئمة، ط2، دار الاضواء، (بیروت1985).

الازرقي، ابو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد (ت250ه/ 865م)،

9- أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، تحقیق علي عمر، مكتبة الثقافة الدينية، (القاهرة2009).

ابن الاشيم، جريبة،

10- دیوان بني أسد أشعار الجاهلين والمخضرمين، جمع وتحقيق محمد علي دقة، دار صادر، (بیروت1999).

الازهري، أبو منصور محمد بن أحمد (ت370ه/ 84م)،

11- تهذيب اللغة، تحقيق محمد عوض مرعب، دار احیاء التراث العربي (بيروت2001).

الاصطخري، ابو اسحاق ابراهيم بن محمد الفارسي (ت341ه/ 963م)،

12- كتاب المسالك والممالك، مطبعة بريل، (لیدن1937).

الأصفهاني، أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد بن أحمد القرشي (ت356ه- 967م)،

13- الأغاني، تحقيق قصي الحسين، دار ومكتبة الهلال، (بیروت02).

الأصمعي، ابو سعيد عبد الملك بن قریب (216ه/ 831م)،

14- تاريخ العرب قبل الإسلام، تحقيق محمد حسن آل ياسين، منشورات المكتبة العلمية، (بغداد1959).

15- ديوان الاصمعيات، تحقيق محمد نبيل طريفي، ط2، دار صادر، (بیروت2005).

16- كتاب الأمثال، تحقيق محمد جبار المعيبد، دار الشؤون الثقافية، (بغداد2000)، ابن أبي اصيبعة، موفق الدين أبو العباس أحمد بن القاسم بن خليفة السعدي الخزرجي (ت668ه- 1270م)،

17- عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحقيق نزار رضا، دار مكتبة الحياة، بيروت، (د. ت).

الاعشي الكبير، میمون بن قيس (ت20ه- 640م)،

18- ديوان الاعشي الكبير، تحقيق مهدي محمد ناصر الدين، دار الكتب العلمية، (بیروت

ص: 530

1987).

أمرؤ القيس ، بن حجر بن الحارث الكندي (ت565م)،

19- الديوان، مطبعة كرم، دمشق، (د. ت).

الانباري، أبو بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشار (ت328ه/ 939م)،

20- الزاهر في معاني كلمات الناس، تحقیق حاتم صالح الضامن، مؤسسة الرسالة، (بیروت1992). البحراني، کمال الدین میثم بن علي بن میثم (ت679ه/ 1280م)،

21- شرح نهج البلاغة، ط3، مكتبة فخراوي، (البحرين2007).

البخاري، ابو عبد الله محمد بن اسماعيل (ت256ه/ 869م)،

22- صحيح البخاري، دار الفكر، (بیروت401ه/ 1981م). البغدادي، عبد القادر بن عمر (1093ه/ 1682م).

23- خزانة الأدب ولباب لسان العرب، تحقیق محمد نبيل طريفي، واميل بديع اليعقوب، دار الكتب العلمية، (بیروت1988).

ابن بکار، أبو عبد الله الزبير بن بكار القريشي الاسدي (ت256ه/ 869م)، 26

24- الأخبار الموفقیات، تحقیق سامي مكي العاني، ط2، عالم الكتب، (بیروت1996)، البكري، أبو عبيد الله عبد الله بن عبد العزيز الاندلسي (ت487ه/ 119م)،

25- فصل المقال في شرح كتاب الأمثال، تحقيق وتقديم احسان عباس، مؤسسة الرسالة، (بیروت1971).

26- معجم ما أستعجم من أسماء البلاد والمواضع، تحقيق: مصطفى السقا، ط3، عالم الكتب، (بیروت1403ه).

البلاذري، أحمد بن يحي بن جابر (ت279ه/ 990م)،

27- أنساب الأشراف، تحقیق محمد حمید الله، دار المعارف، (القاهرة1959).

28- جمل من أنساب الأشراف، تحقیق سهیل زکار، وریاض زرکلي، دار الفكر، (بیروت1996).

29- فتوح البلدان، تحقيق عبد الله انيس الطباع، مؤسسة المعارف، (بیروت1987).

ص: 531

البهوتي، منصور بن يونس الحنبلي (ت1051ه/ 1641م)،

30- کشف القناع، تحقيق أبي عبد الله محمد حسن محمد حسن اسماعيل الشافعي، دار الكتب العلمية، (بیروت1997).

البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين علي الخسروجردي (ت458ه/ 1065م)،

31- معرفة السنن والآثار عن الإمام أبي عبد الله محمد بن ادریس الشافعي، تحقیق سید کسروي حسن، دار الكتب العلمية، بيروت، (د. ت).

الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى (ت279ه/ 892م)،

32- سنن الترمذي (الجامع الصحيح)، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، ط2، دار الفكر، (بیروت1983). ابو تمام، حبيب بن اوس بن الحارث الطائي (ت231ه/ 846م)،

33- ديوان الحماسة، شرح العلامة التبريزي، دار العلم، (بیروت2000).

ابن ثابت، حسان بن ثابت الأنصاري (ت50ه- 661م).

34- الديوان، ضبط الديوان وصححه عبد الرحمن البرقوقي، دار الأندلس، (بیروت1980) الثعالبي، ابو منصور عبد الملك النيسابوري (ت429ه)،

35- يتيمة الدهر في محاسن العصر، شرح وتعليق مفيد محمد قمجة، دار الكتب العلمية، (بیروت1983). الثعلبي، أبو اسحاق أحمد بن محمد بن ابراهيم النيسابوري (427ه/ 1035م)،

36- الكشف والبيان (تفسير الثعلبي)، تحقيق: أبي محمد بن عاشور، مراجعة وتدقیق نظير الساعدي، دار إحياء التراث العربي، (بیروت2002).

الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر (ت255ه/ 868م)،

37- الحيوان، تحقیق ابراهيم شمس الدين، مؤسسة الأعلمي، (بیروت2003).

38- رسائل الجاحظ، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، (القاهرة1964).

39- المحاسن والأضداد، ط2، مكتبة الخانجي، (القاهرة994).

جران العود، عامر بن الحارث النميري،

40- الديوان، رواية أبي سعيد السكري، ط3، دار الكتب والوثائق، مرکز تحقيق التراث،

ص: 532

القاهرة2009).

جریر، بن عطية (ت110ه/ 732م)،

41- الديوان، قدم له وشرحه تاج الدين شلق بن حذيفة الخطفي التميمي، دار الكتاب العربي، بیروت2008).

الجمحي، محمد بن سلام (ت231ه/ 845م)،

42- طبقات فحول الشعراء، تحقيق محمود شاكر، دار المدني، جدة، (بوت).

ابن الجوزي، ابو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي (ت597ه/ 1116م)،

43- دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، تحقيق حسن السقاف، ط3، دار الإمام النووي، (الاردن1992)

44- زاد المسير في علم التفسير، تحقيق محمد بن عبد الرحمن عبد الله، دار الفكر، (بیروت1987).

45- المنتظم في تاريخ الملوك والامم، تحقيق محمد عبد القادر عطا، ومصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، (بیروت1992).

الجوهري، أبو نصر اسماعيل بن حماد (ت393ه/ 1002م)،

46- الصحاح، رتبه وصححه ابراهيم شمس الدين، دار الاعلمي للمطبوعات، (بیروت2012).

حاجي خليفة، مصطفى بن عبد الله (ت1067ه/ 160م)،

47- کشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، تصحيح وتعليق محمد شرف الدين بالتقايا، ورفعت بیلکه، دار احیاء التراث العربي، (بیروت1941).

ابن حبان، محمد بن حبان بن أحمد السبتي (ت354ه/ 964م).

48- صحيح ابن حبان، بترتیب ابن بلبان الامير علاء الدين علي بن بلبان الفارسي (ت354ه)، تحقيق شعيب الأرناؤوط، ط2، مؤسسة الرسالة، (بیروت1993).

49- مشاهير علماء الأمصار أعلام فقهاء الاقطار، تحقیق مرزوق علي ابراهيم، دار الوفاء، (المنصورة1991).

50- الثقات، مؤسسة الكتب الثقافية، (الهند393ه).

ص: 533

ابن حبيب، أبو جعفر محمد بن حبيب بن أمية بن عمرو الهاشمي (ت245ه/ 859م)،

51- المحبر، برواية أبي سعيد الحسن بن الحسين السكري، اعتنت بتصحيحه ایلزه ليختن شتیتر، منشورات المكتب التجاري، (بیروت1942).

52- المنمق في أخبار قریش، صححه وعلق عليه خورشيد أحمد فاروق، ط2، عالم الكتب، (بیروت2010).

ابن حجر، اوس،

53- الديوان، تحقيق محمد یوسف نجم، ط3، دار صادر، (بیروت1979).

ابن حجر العسقلاني، أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد (ت852ه/ 1449)،

54- الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد معوض، دار الكتب العلمية، (بیروت1415ه).

55- فتح الباري في شرح صحيح البخاري، ط2، دار المعرفة، بیروت، (بوت).

56- لسان الميزان، ط2، مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، (بیروت1971).

ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد عبد الحميد بن هبة الله المدائني المعتزلي (ت656ه/ 1258م)

57- شرح القصائد العلويات السبع، مؤسسة الأعلمي، بيروت، (د.ت).

58- شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم، دار الكتاب العربي، (بغداد2005)

ابن حزم، ابو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي (ت456ه)،

59- جمهرة أنساب العرب، راجع النسخة وضبط أعلامها عبد المنعم خليل ابراهيم، ط5، دار الكتب العلمية، (بیروت2009).

الحلبي، علي بن برهان الدين الشافعي (ت1044ه- 1634م)،

60- السيرة الحلبية في سيرة الأمين والمأمون، دار المعرفة، (بیروت1400ه).

الحلي، العلامة أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهر الأسدي (ت726ه/ 1326م)،

61- إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان، تحقيق فارس الحسون، مؤسسة النشر الاسلامي، (قم1410ه).

62- منهاج الكرامة في معرفة الإمامة، تحقيق عبد الرحيم مبارك، مؤسسة عاشوراء للبحوث الاسلامية، (مشهد1379).

ص: 534

ابن الحمير، توبة الخفاجي (ت85ه/ 704م)،

63- الديوان، تحقيق خليل ابراهيم العطية، مطبعة الارشاد، (بغداد1968).

الحميري، محمد بن عبد المنعم (ت900ه/ 1494م)،

64- الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقیق احسان عباس، ط2، مکتبة لبنان، (بیروت984).

ابن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد الشيباني (ت241ه/ 855م)،

65- مسند احمد، دار صادر- بیروت، (بوت).

ابو حنيفة الدينيوري، أحمد بن داود (ت282ه/ 895م)، 66 - الأخبار الطوال، قدم له ووثق نصوصه ووضع حواشيه، عصام محمد الحاج علي، دار الكتب العلمية، بيروت2001).

ابن حوقل، أبو القاسم ابن حوقل النصيبي (ت367ه/977م)،

67- صورة الأرض، دار صادر، ط2، (بیروت1938).

ابو حيان التوحيدي، علي بن محمد بن العباس (ت400ه/ 1009م)،

68- الامتاع والمؤانسة، المكتبة العصرية، (بيروت1424ه).

ابو حیان، محمد بن يوسف بن علي بن يوسف الاندلسي، (ت745/ 1344م)،

69- تفسير البحر المحيط، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود، علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، (بيروت2001)،

ابن خازم، بشر بن عمرو بن عوف الاسدي (ت598م)، 70- الديوان، تحقیق ومراجعة صلاح الدين الهواري، وياسين الايوبي، دار ومكتبة الهلال، (بیروت1997).

الخطيب البغدادي، أحمد بن علي بن ثابت (ت463ه/ 1070م)،

71- تاريخ بغداد، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، (بیروت1997).

ابن الخطيم، قيس بن الخطيم بن عدي الاوسي،

72- الديوان، تحقیق ابراهيم السامرائي، وأحمد مطلوب، مطبعة العاني، (بغداد962).

ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد الحضرمي (ت808ه/ 1405م)،

73- تاریخ ابن خلدون المسمى بكتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر

ص: 535

ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، دار الكتب العلمية، (بیروت2006).

ابن خلکان، ابو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر (ت681ه/ 1282م)،

74- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقیق احسان عباس، دار صادر، بیروت، (د. ت)

الخنساء، تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد السلمية (ت24ه- 645م)،

75- الديوان، تحقیق عباس ابراهيم، دار الفكر، (بیروت1994).

ابن خیاط، ابو عمرو خليفة بن خیاط بن أبي هبيرة الليثي العصفري (ت240ه/ 854م)،

76- تاریخ خليفة بن خیاط، تحقيق مصطفى نجيب فواز وحکمت کشلي فواز، دار الكتب العلمية، (بیروت1995).

ابو داود، سلیمان بن الأشعث السجستاني (ت275ه/888م)،

77- سنن أبي داود، تحقیق سعيد محمد اللحام، دار الفكر، (بیروت1990).

ابن درید، ابو بكر محمد بن الحسن الأزدي البصري (ت321ه/ 933م)،

78- الاشتقاق، تحقیق عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، (بیروت1991).

79- جمهرة اللغة، تحقيق رمزي منير بعلبكي، دار العلم للملايين، (بیروت1987).

الدميري، محمد بن موسی بن عیسی بن علي كمال الدين المصري الشافعي (ت808ه/ 1405م)

80- حياة الحيوان الكبرى، دار إحياء التراث العربي، (بیروت2011).

الذبياني، النابغة زياد بن معاوية (ت نحو604م)،

81- الديوان، جمعه وشرحه الطاهر بن عاشور، ط2، الشركة التونسية للتوزيع، (تونس1986)

الذهبي، ابو عبد الله شمس الدين أحمد بن عثمان (ت748ه/ 1347م)،

82- تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والاعلام، تحقیق عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، (بیروت1987).

83- سير أعلام النبلاء، تحقیق کامل الخراط، اشراف و تخریج شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، (بیروت1993).

84- المختصر من تاريخ ابن الدبيشي، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، (بیروت1997).

ص: 536

الرازي، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر (ت666ه/ 1268م)،

85- مختار الصحاح، دار الكتاب العربي، (بیروت1981). ابن ربيعة، المهلهل،

86- الديوان، شرح وتقديم طلال حرب، الدار العالمية، بيروت، (د. ت).

ابن رشیق، ابو علي الحسن بن محمد القيرواني الازدي (456ه/ 1063م)،

87- العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده تحقیق محمد محيي الدين عبد الحميد، ط3، مطبعة السعادة، (مصر1964).

بن رفاعة الكاتب، زید (ت360ه/ 970م)،

88- کتاب الامثال، دائرة المعارف العثمانية، (حیدر آباد الدكن1351ه).

الزبيدي، السيد مرتضى الحسيني (ت1205ه/ 1790م)،

89- تاج العروس من جواهر القاموس، تحقیق علي شيري، دار الفكر (بیروت1994).

الزبيري، أبو عبد الله المصعب بن عبد الله بن المصعب بن الزبير (ت236ه/ 850م)،

90- نسب قریش، عني بنشره وتصحيحه والتعليق عليه أ. ليفي بروفینسال، ط3، دار المعارف، (القاهرة1982).

الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله (ت794ه/1417م)،

91- البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم، دار إحياء الكتب العربية، (القاهرة1957). الزمخشري، أبو القاسم جار الله محمد بن عمر (ت538ه/ 1143م)،

92- الفائق في غريب الحديث، دار الكتب العلمية، (بیروت1996).

93- المستقصي في أمثال العرب، ط2، دار الكتب العلمية، (بیروت1987).

الزوزني ، أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن الحسين (ت486ه/ 1092م)،

94- شرح المعلقات السبع، الدار العالمية، (بيروت1993).

ابن زید، عدي العبادي،

95- الديوان، تحقیق و تجميع محمد جبار المعيبد، دار الجمهورية للنشر، (بغداد1965).

ابن سعد، محمد بن سعد بن منيع الزهري (ت230ه/ 844م)،

ص: 537

96- الطبقات الكبرى، تحقیق علي محمد عمر، مكتبة الخانجي، (القاهرة2001).

ابن سلام، ابو عبيد القاسم بن سلام الهروي (ت224ه/ 838م)،

97- غريب الحديث، تحقیق محمد عبد المعید خان، دار الكتاب العربي، (بیروت1384ه). ابن أبي سلمى، زهير، 98- الديوان، تحقیق علي فاعور، دار الكتب العلمية، (بیروت2003).

السمعاني، أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار (ت489/ 1095م)،

99- تفسير السمعاني، تحقيق یاسر ابراهيم، وغنيم عباس غنیم، دار الوطن، (الرياض1997)

ابن سينا، ابو علي الحسين بن عبد الله بن سينا (ت428ه/ 1036م)،

100- القانون في الطب، دار صادر، بیروت، (د. ت). السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت911ه/ 1505م)،

101- الجامع الصغير، دار الفكر، (بیروت1981).

102- الدر المنثور في التفسير بالمأثور، دار المعرفة، بیروت، (د. ت).

103- المزهر في علوم اللغة وأنواعها، تحقيق محمد فؤاد علي منصور، دار الكتب العلمية، (بیروت1998). الشريف الرضي، ابو الحسن محمد بن أبي أحمد الحسين بن موسي (ت404ه/ 1013م)،

104 - الديوان، دار صادر، بیروت، (د. ت).

105 - تجميع خطب ورسائل وأقوال الإمام علي (عليه السلام) المسمی نهج البلاغة، شرح محمد عبده، منشورات الفجر، (بیروت2010).

الشمشاطي، ابو الحسن علي بن محمد بن المطهر العدوي (ت377ه/ 987م)،

106 - الأنوار و محاسن الاشعار، تحقيق صالح مهدي العزاوي، دار الشؤون الثقافية، (بغداد1987).

الشهرستاني، أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر أحمد (ت549ه/ 1171م)،

107- الملل والنحل، تحقيق أبراهيم شمس الدين، مؤسسة الأعلمي، (بیروت2006).

ابن أبي شيبة، عبد الله بن محمد بن أبي شيبة ابراهيم بن عثمان الكوفي (ت230ه/ 849م)،

ص: 538

108 - المصنف في الأحاديث والآثار، تحقيق سعيد اللحام، دار الفكر، (بیروت1989).

ابن صاعد الأندلسي، أبو القاسم صاعد بن أحمد (ت463ه/ 1070م)،

109- طبقات الامم، نشره وذيله بالحواشي الأب لويس شيخو اليسوعي، المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين، (بیروت1912).

الصدوق، أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى القمي (ت381ه/ 991م)،

110 - من لا يحضره الفقيه، تصحیح و تحقيق علي أكبر الغفاري، ط2، جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، (قم1404ه).

الصفدي، صلاح الدين خليل بن أيبك (ت764ه/ 1362م)،

111- الوافي بالوفيات، تحقيق أحمد ارناؤط، وتركي مصطفي، دار احیاء التراث العربي، (بیروت2000).

112- الغيث المنسجم في شرح لامية العجم، دار الكتب العلمية، (بیروت2003).

ابن أبي الصلت، امية،

113- الديوان، تحقيق بهجت عبد الغفور الحديثي، ط2، دار الشؤون الثقافية العامة، (بغداد1991).

ابن الصمة، دريد بن معاوية بن الحارث (ت8ه/ 629م)، 114- الديوان، تحقیق عمر عبد الرسول، دار المعارف، (القاهرة1985).

الصنعاني ، عبد الرزاق بن همام (ت211ه/ 826)،

115- تفسير القرآن، تحقيق مصطفی مسلم محمد، مکتب الرشید، (الرياض1989).

116- المصنف، تحقیق حبیب الرحمن الأعظمي، منشورات المجلس العلمي، قم، (د. ت) الضبي، ابو العباس المفضل بن محمد (ت178ه/ 800م)،

117- أمثال العرب، تحقیق احسان عباس، ط3، دار الرائد العربي، (بیروت1983).

الطائي، حاتم بن عبد الله (ت578م)،

118- الديوان، شرح أبي صالح يحیی بن مدرك الطائي، قدم له ووضع هوامشه وفهارسه حنا نصر الجتي، دار الكتاب العربي، (بیروت1994).

119- الديوان، منشورات دار الهلال، (بیروت2002).

ص: 539

الطائي، الهيثم بن عدي (ت209ه/ 824م)،

120- المثالب، تحقیق، نجاح الطائي، ملحق لكتاب مثالب العرب والعجم لابن الكلبي، دار الاندلس، (بیروت2009).

ابو طالب، عبد مناف بن عبد المطلب،

121- الديوان، تحقيق محمد حسين آل حسين، دار ومكتبة الهلال، (بیروت2001).

الطبراني، ابو القاسم سليمان بن أحمد بن ایوب (ت360ه/ 972م)،

122- المعجم الكبير، تحقيق حميدي عبد المجيد السلفي، ط2، مكتبة الزهراء، (الموصل1983). الطبرسي، ابو علي الفضل بن الحسين (ت548ه/ 1153م)،

123 - مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقیق وتعليق لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين، مؤسسة الأعلمي، (بیروت1995).

الطبري، ابو جعفر محمد بن جریر (ت310ه/ 922م)، 124- تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهیم، ط5، دار المعارف، (القاهرة1986)

125- جامع البيان في تأويل آي القرآن، ضبط و تخریج صدقي جميل العطار دار الفكر، (بیروت1995). الطحاوي، ابو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك بن سلمة الازدي (ت321ه/ 932م)

126- شرح معاني الآثار، تحقيق محمد زهدي النجار، ط3، دار الكتب العلمية، (بیروت1996).

الطريحي، الشيخ فخر الدين (1085/ 1674م)،

127- مجمع البحرین، تحقيق أحمد الحسيني، ط2، مکتب النشر الثقافة الاسلامية، (ایران1408ه).

ابن الطقطقي، محمد بن علي بن طباطبا (ت709ه/ 1309م)،

128- الفخري في الأداب السلطانية، مطبعة مرسو، (مدينة شالون1894).

الطوسي، ابو جعفر محمد بن الحسن (ت460ه/ 1067م)،

129- رجال الطوسي، تحقيق جواد القيومي الأصفهاني، مؤسسة النشر الاسلامي، (قم

ص: 540

415ه).

ابن عاديا، السمؤال بن غریض بن عاديا (ت نحو560م)، 130- دیوان عروة بن الورد والسموأل، تحقیق عیسی سابا، دار بیروت، (بیروت1982).

العاقولي، ابو المكارم غیاث الدین محمد بن صدر الدين محمد بن محيي الدين عبد الله البغدادي الشافعي (ت797/ 1394م)،

131- عرف الطيب في أخبار مكة والمدينة، تحقیق محمد زينهم محمد عزب، مكتبة مدبولي، (مصر1989). ابن عبد البر، ابو عمر يوسف عبد الله بن محمد النمري (ت463ه/ 1070م)،

132- الاستذکار، تحقیق سالم محمد عطا، ومحمد علي معوض، دار الكتب العلمية، (بيروت2000).

عبد بني الحسحاس، السحيم،

133- الديوان، تحقيق عبد العزيز الميمني، ط3، دار الكتب والوثائق القومية، مرکز تحقيق التراث، (القاهرة2009).

ابن عبد ربه، ابو عمر أحمد بن محمد الأندلسي (ت328ه/ 939م)،

134- العقد الفريد، شرحه وضبطه وضبط فهارسه أحمد أمين وآخرون، دار الكتاب العربي، (بيروت1990).

ابن العبد، طرفة،

135- الديوان، تحقیق عمر فاروق الطباع، دار القلم، بیروت، (د. ت).

ابو عبيدة ، معمر بن المثنى التيمي البصري (ت209ه/ 831م)،

136- أيام العرب قبل الإسلام، جمع وتحقيق ودراسة عادل جاسم البياتي، عالم الكتب ، (بیروت2003).

137- نقائض جرير والفرزدق، وضع حواشيه خليل عمران المنصور، دار الكتب العلمية، (بیروت1998).

ابن عساکر، ابو القاسم علي بن الحسين بن هبه الله الشافعي (ت571ه/ 1175م)،

138- تاریخ دمشق، تحقیق علي شيري، دار الفكر، (بیروت1415ه).

ص: 541

ابن العماد، شهاب الدين ابو الفلاح عبد الحي بن أحمد الحنبلي (ت1089ه/ 1978م)،

139- شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تحقیق عبد القادر الأرنؤوط، ومحمود الارنؤوط، دار ابن کثیر، (بیروت1997).

العيني ، بدر الدين محمود بن أحمد (ت855ه/ 1452م)،

140- عمدة القارئ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، (بوت).

الغساني، الملك الأشرف أبو العباس اسماعیل بن العباس بن رسول (ت803ه/ 1400م)،

141- العسجد المسبوك والجوهر المحكوك في طبقات الخلفاء والملوك، تحقیق شاكر محمود عبد المنعم، دار التراث الاسلامي، (بیروت1975).

الفاسي، تقي الدين محمد بن أحمد المكي (ت832ه/ 1388م)،

142- الزهور المقتطفة من تاريخ مكة المشرفة، تحقیق علي عمر، مكتبة الثقافة الدينية، (مصر2001).

الفراهيدي ، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد (ت170ه/ 786م)،

143- العين، تحقيق مهدي المخزومي، وابراهيم السامرائي، ط2، دار الهجرة، (ایران1409ه). الفرزدق: همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية (ت114ه- 733م)، 144- الديوان، شرحه وضبطه وقدم له علي فاعور، دار الكتب العلمية، (بیروت987).

ابن الفوطي، کمال الدين ابو الفضل عبد الرزاق بن تاج الدين الشيباني الحنبلي (ت723ه/ 1322م)،

145- تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب، تحقيق مصطفی جواد، مطبوعات مديرية احياء التراث القديم، (دمشق1963).

ابن قتيبة، ابو عبد الله بن مسلم الدينوري (ت276ه/ 899م)،

146- تأويل مختلف الحديث، دار الكتب العلمية، بيروت، (د. ت).

147- الشعر والشعراء، تحقيق مفید قمجة، ومحمد امين الضناوي، دار الكتب العلمية، (بيروت2005)

148- المعارف، دار الكتب العلمية، (بیروت2011م). 149- غريب الحديث، تحقیق عبد الله الجبوری، دار الكتب العلمية، (بیروت1988).

ص: 542

ابن قدامة، موفق الدين أبو عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة (ت20ه/ 1223م)،

150- المغني، دار الكتاب العربي، بیروت، (د. ت). القرطبي، ابو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري (ت671ه/ 1273م)،

151- الجامع لأحكام القرآن، دار احیاء التراث العربي، (بیروت1985).

القفطي، ابو الحسن جمال الدين علي بن يوسف (ت646ه/ 1268م)،

152- أنباه الرواة على أنباء النحاة، تحقيق محمد ابو الفضل، دار الفكر العربي، (القاهرة1986).

القلقشندي، ابو العباس أحمد بن علي بن أحمد بن عبدالله (ت821ه/ 1418م)،

153- صبح الأعشى في صناعة الانشاء، دار الكتب المصرية، (القاهرة1922).

154- نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، ط2، دار الكتب العلمية، (بیروت2012).

ابن قيم الجوزية، شمس الدين محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت751ه/ 1350م)،

155- الطب النبوي، تحقیق عبد الغني عبد الخالق وآخرون، دار الكتب العلمية، بيروت، (د. ت)

الكتبي، محمد بن شاکر (ت764ه/ 1362م)،

156- فوات الوفيات، تحقیق علي محمد بن يعوض الله، وعادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، (بیروت 2000).

کثیر، عبد الرحمن المعروف بكثير عزة (ت105ه/ 723م)،

157- الديوان، قدم له وشرحه مجيد طراد، دار الكتاب العربي، (بیروت2004).

ابن کثیر، عماد الدين ابو الفداء اسماعیل بن عمر القرشي الدمشقي (ت774ه/ 1362م)،

158- البداية والنهاية، تحقیق علي شيري، دار إحياء التراث العربي، (بیروت1988م).

159- تفسير القرآن العظيم، تحقيق يوسف عبد الرحمن المرعشلي، دار المعرفة، (بیروت1992)

160- السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، (بیروت1979).

ابن الكلبي، ابو منذر هشام بن محمد بن السائب (ت204ه/ 818م)،

161 - الأصنام، تحقيق أحمد زكي، دار الكتب المصرية، (القاهرة1995).

162- مثالب العرب والعجم، تحقيق محمد حسن الحاج محسن الدجيلي، مطبوعات دار الاندلس، (بیروت2009).

ص: 543

163- جمهرة النسب، رواية محمد بن حبيب عنه، تحقيق محمد فردوس العظم، ط2، دار اليقظة العربية،(دمشق1983).

ابن كلثوم، عمرو بن كلثوم التغلبي (40ق.ه.584م)،

164- الديوان، تحقیق امیل بديع يعقوب، ط2، دار الكتاب العربي، (بیروت1996).

الماوردي، ابو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري (ت450ه/ 1058م)،

165- الأحكام السلطانية، دار الكتاب العربي، (بیروت2011).

166- أدب الدنيا والدین، دار الفكر، (بيروت2000). المبرد، ابو العباس محمد بن یزید (ت285ه/ 898م)، 167- الكامل في اللغة والأدب، علق عليه محمد ابو الفضل ابراهیم، ط3، دار الفكر العربي، (القاهرة1997). 168 - نسب عدنان وقحطان، تحقيق عبد العزيز الميمني الراجكوتي، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، (الهند1936).

المتنبي، أبو الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن الكوفي (ت354ه/ 956م)،

169- الديوان، شرح الشيخ ناصيف اليازجي، دار ومكتبة الهلال، (بیروت2000).

المجلسي، محمد باقر بن محمد تقي (ت1111ه/1700م)،

170- بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، دار إحياء التراث العربي، بيروت، (د. ت).

المرزوقي، ابو علي أحمد بن محمد بن الحسن (ت421ه/ 1030م)،

171- الأزمنة والأمكنة، دار الكتب العلمية، (بیروت1417ه).

المرقش، عمرو بن سعد بن مالك (ت57ق.ه)،

172- ديوان المرقشين، تحقیق کارین صادر، دار صادر، (بیروت1998).

المسعودي، ابو الحسن علي بن الحسين بن علي (ت346ه/ 957م)،

173- التنبيه والأشراف، دار صعب، بیروت، (د، ت).

174- مروج الذهب ومعادن الجوهر، اعتني به، يوسف البقاعي، ط2، دار احیاء التراث العربي، (بیروت2011).

مسلم، ابو الحسن مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (ت261ه/ 874م)،

ص: 544

175- صحیح مسلم، دارالفکر، بیروت، (ب. ت). المقريزي، تقي الدين ابو العباس أحمد بن علي الشافعي (ت840ه/ 1450م)،

176- السلوك المعرفة دول الملوك، تحقيق محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، (بيروت1997).

177- النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم، المطبعة الابراهيمية، (مصر1936).

المنذري، زكي الدين ابو محمد عبد العظيم بن عبد القوي (ت656ه)،

178- التكملة لوفيات النقلة، تحقيق بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، (بیروت1984) ابن منظور، جمال الدين بن مكرم الافريقي (ت711ه/ 1311م)،

179- لسان العرب، اعتنى بتصحيحه امين محمد عبد الوهاب و محمد الصادق العبيدي، دار احیاء التراث العربی، (بیروت2010).

الميداني، ابو الفضل أحمد بن محمد بن ابراهيم (ت518ه/ 1124م)

180- مجمع الامثال ، تحقیق محمد محيي الدين عبد الحميد، ط3، دار الفكر، (القاهرة1972) النابغة الجعدي، قیس بن عبد الله بن عدس بن ربيعة بن جعدة (ت تقریباً50ه/ 670م).

181- الديوان، تحقيق، واضح الصمد، دار صادر، (بیروت1998).

ابن النجار البغدادي، محب الدين ابو عبد الله محمد بن محمود (ت643ه/ 1245م)،

182- ذیل تاریخ بغداد، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، (بیروت1997) النجيري، ابو اسحاق ابراهيم بن عبدالله بن محمد الكاتب (ت نحو300ه/ 965م)،

183- إيمان العرب في الجاهلية، نسخه وصححه محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية، (القاهرة1343ه). ابن النديم، ابو الفرج محمد بن أبي يعقوب اسحق (ت380ه/ 990م)،

184- الفهرست، ضبطه وشرحه وقدم له يوسف علي الطويل، وضع فهارسه أحمد شمس الدین ، دار الكتب العلمية، (بيروت2010).

النسائي ، ابو عبدالله أحمد بن شعیب (ت303ه/ 916م)،

185- السنن الكبرى، تحقیق عبد الغفار سليمان البنداري، سید کسروي حسن، دار الكتب العلمية، (بیروت1991).

ص: 545

النويري، أحمد بن عبد الوهاب (ت733ه/ 1133م)،

186- نهاية الأرب في فنون الأدب، دار الكتب والوثائق القومية، (القاهرة1423ه).

ابن هشام، ابو محمد عبد الملك بن هشام المعافري (213ه/ 827م)،

187- السيرة النبوية، قدم لها وعلق عليها وضبطها، طه عبد الرؤوف، دار الجيل، (بيروت1987).

ابو هلال العسكري، الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعد(ت395ه/ 1004م)،

188- الأوائل، وضع حواشيه عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العالمية، (بیروت).

189- جمهرة الامثال، تحقیق محمد ابو الفضل ابراهيم، وعبد المجيد قطاش، ط2، دار الفكر، (القاهرة1988). الهمداني، لسان اليمن الحسن بن أحمد بن يعقوب (ت334ه/ 946م)،

190- صفة جزيرة العرب، تحقيق محمد بن علي الاكوع الحوالي، مكتبة الارشاد، (اليمن1990)،

الهندي، محمد علي الفصيح اللكنوي (ت1310ه)،

191- القول الواجب في إيمان أبي طالب، تحقيق محمود الغريفي، دار المتقين، (بیروت2012).

الواقدي، ابو عبد الله محمد بن عمر بن واقد (ت207ه/ 822م)،

192- کتاب المغازي، تحقيق مارسدن جونس، عالم الكتب، ط3، (بیروت1984)

ابن الورد، عروة (ت616م).

193- الديوان، تحقيق أسماء أبو بكر محمد، دار الكتب العلمية، (بیروت1998).

ابن الوردي، زين الدين عمر بن مظفر (ت749ه/ 1348م)،

194- تاریخ ابن الوردي، دار الكتب العلمية، (بیروت1999).

195- ياقوت الحموي، شهاب الدين ابو عبد الله بن عبد الله الرومي البغدادي (ت626ه/ 1228م)،

196- معجم البلدان، قدم له محمد عبد الرحمن المرعشلي، دار احیاء التراث العربي، (بیروت2008)

اليعقوبي، أحمد بن اسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح البغدادي (ت292ه/ 904م)،

ص: 546

197- تاريخ اليعقوبي، علق عليه ووضع حواشيه خليل المنصور، دار الزهراء، (قم1426ه). اليوسي، الحسن بن مسعود بن محمد ابو علي نور الدين (ت1102ه/ 1691م)،

198- الزهر الأكم في الأمثال والحكم، تحقيق محمد حجي، ومحمد الأخضر،، دار الثقافة، الدار البيضاء1981).

ابن يعمر، لقيط الإيادي،

199- الديوان، تحقيق خليل ابراهيم العطية، المؤسسة العامة للصحافة والطباعة، مطبعة الجمهورية، (بغداد1970).

المراجع الثانوية

احمد، مصطفی ابو ضيف،

200- دراسات في تاريخ الدولة العربية، ط4، دار النشر المغربية، (الدار البيضاء1986).

الأسد، ناصر الدین،

201- مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، ط3، دار المعارف، (مصر1966).

اسماعيل، حلمي محروس،

202- الشرق العربي القديم وحضارته بلاد ما بين النهرين والشام والجزيرة العربية القديمة، مؤسسة شباب الجامعة، (الاسكندرية1997).

اغناطيوس، غويدي،

203- محاضرات في تاريخ اليمن والجزيرة العربية قبل الإسلام، ترجمه وقدم له ابراهيم السامرائي، دار الحداثة، (بیروت1986).

الأفغاني، سعید،

204- أسواق العرب في الجاهلية والإسلام، دار الفكر، (بیروت1996).

الالوسي، محمود شکري،

205- بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، عنی بشرحه وتصحيحه وضبطه محمد بهجت الاثري، دار الكتب العلمية، (بیروت1314ه).

امین، احمد،

ص: 547

206- فجر الإسلام، دار الكتاب العربي، (بیروت1975). الأنصاري، عبد القدوس،

207- التاريخ المفصل للكعبة الشريفة قبل الإسلام، نادي مكة الثقافي، (السعودية1419ه).

بافقيه، محمد عبد القادر،

208- تاريخ اليمن القديم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، (بیروت1985).

برو، توفيق،

209- تاريخ العرب القديم، ط2، دار الفکر، (دمشق2007).

بروکلمان، کارل،

210- تاريخ الأدب العربي، ترجمة رمضان عبد التواب، مراجعة يعقوب بکر، دار المعارف، (القاهرة1983).

211- تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة نبيه أمين فارس، ومنير البعلبكي، ط5، دار العلم للملايين، (بیرو 1968).

البستاني، بطرس،

212- أدباء العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، دار صادر، (بیروت1953).

البغدادي، اسماعيل باشا،

213- هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفین، دار إحياء التراث العربي- بيروت (ب. ت).

البكر، منذر عبد الكريم،

214- دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار الكتب للطباعة والنشر، (البصرة1993).

الترمانتي، عبد السلام زیدان،

215- الزواج عند العرب في الجاهلية والإسلام دراسة مقارنة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، (الكويت1998).

توفيق، فهد،

216- الكهانة العربية قبل الإسلام، ترجمة حسن عودة ورندة بعث، شركة قدمس للنشر، (بیروت2007).

جاد المولى، محمد احمد، وعلي محمد البجاوي، محمد ابو الفضل ابراهيم،

ص: 548

217- أيام العرب في الجاهلية، المكتبة العصرية، (بیروت1961).

جاسم، مهند ماهر،

218- القضاء في العصر الأموي، دار الحقائق، سورية، (د. ت).

الجبوري، منذر،

219- أيام العرب وأثرها في الشعر الجاهلي، دار الحرية، (بغداد1974).

الجبوري، يحيی،

220- الجاهلية مقدمة في الحياة العربية لدراسة الأدب الجاهلي، مطبعة المعارف، (بغداد1968).

جرداق، جورج

221- روائع نهج البلاغة، ط2، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، (قم1997م)

الجكي، أحمد محمد امين احمد،

222- قطوف الريحان من زهر الأفنان، شرح حديقة ابن الونان، ط2، الشنقيطي للنشر، (مكة المكرمة1999). جمعة، ابراهیم،

223- مذكرات في تاريخ العرب الجاهلي وصدر الإسلام، دار الطباعة الحديثة، (البصرة1965).

جمعة، حسين،

224- الحيوان في الشعر الجاهلي، دار ارسلان، (دمشق2010).

جمعة، محمد محمود،

225- النظم الاجتماعية والسياسية عند قدماء العرب والأمم السامية، مكتبة الثقافة الدينية، مصر1999).

الجميلي، خضير عباس،

226- قبيلة قريش وأثرها في الحياة العربية قبل الإسلام، المجمع العلمي، (بغداد2002).

الجميلي، رشید عبد الله،

227- تاريخ العرب في الجاهلية وعصر الدعوة الإسلامية، ساعدت جامعة بغداد كلية الآداب في طبعه، (بيروت1972).

الجواهري، محمد،

ص: 549

228- المفيد من معجم رجال الحدیث، ط2 ،مكتبة المحلاتي، (قم1424ه).

حتي، فليب، و أدورد جرجي، و جبرائیل جبور،

229- تاريخ العرب، ط5، دار غندور، (بیروت1972). الحدیثی، نزار عبد اللطيف،

230- الأمة والدولة في سياسة النبي والخلفاء الراشدين، دار الحرية، (بغداد1987).

حسن، حسن ابراهیم،

231- تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، دار الجيل، (القاهرة2009).

حسنين، حنفي،

232- الشعر الجاهلي مراحله واتجاهاته الفنية، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، (مصر1970).

حسين، طه،

233- في الأدب الجاهلي، ط10، دار المعارف، (مصر1969).

حمور، عرفان محمد،

234- المواسم وحساب الزمن عند العرب قبل الإسلام، مؤسسة الرحاب، (بیروت2000).

235- سوق عكاظ ومواسم الحج، مؤسسة الرحاب، (بیروت2000)،

الحوت، محمود سليم.

236- في طريق الميثولوجيا عند العرب، ط2، دار النهار، (بیروت1979)،

الحوفي، أحمد محمد.

237- الحياة العربية من الشعر الجاهلي، ط4، دار القلم، (بیروت1972).

الخربوطلي، علي حسني،

238- الكعبة على مر العصور، ط2، دار المعارف، القاهرة1986).

239- تاريخ الكعبة، دار الجيل، بیروت، (د. ت).

الخضري، محمد،

240- محاضرات في تاريخ الأمم الاسلامية- الدولة الاموية، مكتبة الايمان، (القاهرة2006)

241- نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، شرح وتعليق الشيخ ابراهيم محمد رمضان، دار الفكر

ص: 550

العربي، (بیروت1991).

الخطيب، عبد الزهرة الحسيني،

242- مصادر نهج البلاغة وأسانیده، ط3، دار الأضواء، (بیروت1985).

خفاجي، محمد عبد المنعم،

243- الشعر الجاهلي، ط2، دار الكتاب اللبناني، (بیروت1973).

الخنيزي، عبد الله الشيخ علي،

244- ابو طالب مؤمن قریش، ط5، مؤسسة النبراس، (النجف1997).

الخوانساري، محمد باقر بن زین الدین،

245- روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات، الدار الإسلامية للطباعة، (بیروت1991)

درادكة، صالح موسی،

246- بحوث في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار شیرین، (الاردن1988)،

دغيم ، سميح

247- أديان ومعتقدات العرب قبل الإسلام، دار الفكر (، بیروت1995)،

دلو، برهان الدين.

248- جزيرة العرب قبل الإسلام، دار الفارابي، (بیروت2007)،

الراوي، مصعب حسون،

249- الشعر العربي قبل الإسلام، دار الشؤون الثقافية العامة، (بغداد1989).

الربيعي، احمد،

250- العذيق النضيد بمصادر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، مطبعة العاني، (بغداد1987).

الريشهري، محمد،

251- العقل والجهل في الكتاب والسنة، دار الحديث، (بیروت2000).

الزركلي، خير الدين،

252- الأعلام، ط10، دار العلم للملايين، (بيروت2002). زیدان، جرجي،

ص: 551

253- تاريخ التمدن الإسلامي، دار ومكتبة الحياة- بيروت (ب. ت).

254- تاريخ العرب قبل الإسلام، دار ومكتبة الحياة- بيروت (ب. ت).

سالم، عبد العزيز،

255- تاريخ الدولة العربية تاريخ العرب منذ عصر الجاهلية حتى سقوط الدولة الأموية، دار النهضة العربية، (بیروت1970).

السامرائي، خليل إبراهيم، وطارق فتحي سلطان، وجزيل عبد الجبار الجومرد،

256- تاريخ الدولة العربية الإسلامية في العصر العباسي132- 656ه، دار الكتب، (الموصل1988)،

السبحاني، جعفر الهادي،

257- سيد المرسلين دراسة تحليلية شاملة للشخصية والسيرة المحمدية، مؤسسة النشر الاسلامي، (قم1429ه).

ابو السعد، احمد،

258- أغاني ترقيص الأطفال عند العرب منذ الجاهلية حتى نهاية العصر الأموي، ط2، دار العلم للملايين، (بیروت1982).

السعداوي، عبد الكريم حسين،

259- غريب نهج البلاغة، منشورات فرصاد، الرسائل الجامعية، (طهران2006).

سلامة، عواطف ادیب علي،

260- قریش قبل الإسلام ودورها السياسي والاقتصادي والديني، دار المريخ للنشر، (الرياض1994).

سليم، أحمد امين،

261- معالم تاريخ العرب قبل الإسلام، مکتب کريدية اخوان، بیروت، (د. ت).

سیدیو،

262- خلاصة تاريخ العرب،، دار الآثار، (بیروت1309ه). الشاهرودي، علي النمازي،

293- مستدرك سفينة البحار، تحقیق حسن بن علي النمازي، مؤسسة النشر الاسلامي، (قم

ص: 552

1418ه)

الشرهاني، حسين علي،

264- حياة السيدة خديجة من المهد إلى اللحد، دار الهلال، (بیروت2005).

265- اضواء على السيرة النبوية، تموز للطباعة والنشر، (دمشق2013).

الشريف، أحمد ابراهيم،

266- مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، دار الفكر العربي، (القاهرة1965).

الشهرستاني، هبة الله الحسيني،

267- ما هو نهج البلاغة، تعليق عبد الستار الحسيني، العتبة العلوية المقدسة، (النجف الاشرف2010). الشيخ حسين،

268- العرب قبل الإسلام، دار المعرفة الجامعية، (الاسكندرية1993).

صالح، أحمد عباس،

269- اليمين واليسار في الإسلام، ط2، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، (بیروت1973).

الصالح، صبحي،

270- شرح نهج البلاغة، ط4، دار أنوار الهدى، (قم1431).

الصمد، واضح،

271- السجون وأثرها في الآداب العربية من العصر الجاهلي حتى نهاية العصر الأموي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، (بیروت1995).

ضيف، شوقي،

272- تاريخ الأدب العربي (العصر الجاهلي)، دار المعارف، (مصر1961).

طقوش، محمد سهيل،

273- تاريخ العرب قبل الإسلام، دار النفائس، (بیروت2009).

طوغان، وليد،

274- مدعو النبوة في التاريخ الاسلامي، دار الخيال، (القاهرة2004).

عاقل، نبيه،

ص: 553

275- تاريخ العرب القديم وعصر الرسول، دار الفكر- دمشق1983.

عبد الحميد، سعد زغلول،

276- في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار النهضة العربية، (بیروت1975).

عجينة، محمد،

277- موسوعة اساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها، دار الفارابي، (بیروت1994).

عرفة، محمود،

278- العرب قبل الإسلام، عين للدراسات والبحوث، (القاهرة1995).

العسكري، نجم الدين،

279- أبو طالب حامي الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وناصره، مطبعة الآداب، (النجف الاشرف1380ه).

العسلي، خالد،

280 - دراسات في تاريخ العرب، اعداد وتقديم عماد عبد السلام رؤوف، دار الشؤون الثقافية العامة، (بغداد2002).

عطية، محمد هاشم،

281- الأدب العربي وتاريخه في العصر الجاهلي، ط3، مطبعة مصطفى الحلبي وأولاده، (مصر1936)

عطية، مختار،

282- الإيجاز في كلام العرب ونص الاعجاز دراسة بلاغية، دار المعرفة الجامعية، (مصر1995).

عقیل، محسن،

283- موسوعة الأمثال العربية، دار المحجة البيضاء، (بیروت2012).

عكاوي، رحاب خضر،

284- الموجز في تاريخ الطب عند العرب، دار المناهل، (بیروت2000)،

العلاق، علاء ابو الحسن اسماعیل،

285- السفارة والوفادة في الدولة العربية الاسلامية حتى نهاية العصر الراشدي، دار الشؤون الثقافية، (بغداد2009).

ص: 554

علي، جواد،

286- المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ط2، ساعدت على نشره جامعة بغداد1993).

287- ابحاث في تاريخ العرب قبل الإسلام، دراسة ومراجعة نصير الكعبي، دار المحجة البيضاء، بیروت2011).

علي، سید امیر،

288- مختصر تاريخ العرب، ترجمة عفيف البعلبكي، ط2، دار العلم للملايين، (بیروت1997.

العلي، صالح احمد،

289- محاضرات في تاريخ العرب قبل الإسلام، مؤسسة دار الكتب، (الموصل1981).

ابو علي، محمد توفيق،

290- الأمثال العربية والعصر الجاهلي دراسة تحليلية، دار النفائس، (بیروت1988).

غضبان، ياسين،

291- مدينة يثرب قبل الإسلام، مؤسسة الرسالة، (بیروت1993).

غوستاف لوبون،

292- حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، دار الكتب (القاهرة1969).

ابو الفضل، احمد،

293- دراسات في العصر الجاهلي، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم، (القاهرة،1969).

فلهوزن، يوليوس،

294- تاريخ الدولة العربية من ظهور الإسلام إلى نهاية الدولة الاموية، مراجعة حسين مؤنس، تقديم مصطفى لبيب عبد الغني، ترجمة محمد عبد الهادي ابو ريده، ط2، المركز القومي للترجمة، (القاهرة2009).

قائدان، اصغر،

295- تاریخ آثار مكة والمدينة، ترجمة الشيخ ابراهيم الخزرجي، دار النبلاء، (بیروت1999)

القمي، عباس بن محمد رضا،

296- الكنى والألقاب، تقديم محمد هادی الامینی، مکتبة الصدر، (طهران1975).

ص: 555

قميحة، مفید،

297- شرح المعلقات العشر، دار الهلال، (بیروت1997).

القيسي، نوري حمودي،

298- دراسات في الشعر الجاهلي، ساعدت جامعة بغداد على نشره، (بغداد1972).

كحالة، عمر رضا،

299- معجم قبائل العرب القديمة والحديثة، دار العلم للملايين، (بیروت1968).

300- معجم المؤلفين، دار احیاء التراث العربي، بیروت، (د. ت).

کستر، م ج،

301- الحيرة ومكة وصلتهما بالقبائل العربية، ترجمة يحيي الجبوری، (بغداد1976).

ماجد، عبد المنعم،

302- التاريخ السياسي للدولة العربية عصور الجاهلية والنبوة والخلافة، ط7، مكتبة الأنجلو المصرية، (القاهرة1983).

محبوبة، عبد الهادي محمد رضا،

303- نظام الملك، الدار المصرية اللبانية، القاهرة1998).

مطر، جواد،

304- الحياة الاجتماعية والاقتصادية في اليمن القديم، دار الثقافة العربية، (الشارقة2002).

معطي، علي،

305- تاريخ العرب السياسي قبل الإسلام، دار المنهل، (بیروت2004).

الملاح، هاشم يحيي،

306- الوسيط في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار الكتب العلمية، (بیروت2008).

منصور، عبد الرحمن،

307- الحكمة والأمثال عند العرب، دار الفارابی، (بیروت2011).

ص: 556

منیسي، سامية عبد العزيز،

308- إسلام نجاشي الحبشة ودوره في صدر الدعوة الإسلامية، دار الفكر العربي، (القاهرة2001).

مهران، محمد بيومي،

309- تاريخ العرب القديم، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، (د. ت).

النوري، الميرزا حسن النوري الطبرسي (ت1320ه)، 310- خاتمة مستدرك الوسائل، تحقيق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، (قم1416ه).

النصر الله، جواد کاظم منشد،

311- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي رؤية اعتزالية عن الإمام علي (عليه السلام)، مؤسسة ذوي القربی، (قم1384).

ياسين، نجمان،

312- تطور الأوضاع الاقتصادية في عصر الرسالة والراشدين، بيت الموصل للنشر، (الموصل1985)

الرسائل الجامعية

بعید، سامي جودة،

313- فدك حتى نهاية العصر العباسي، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة بغداد، 2006.

البهادلي، ازهار غازي مطر،

314 - قبيلة الأشعريين ودورهم في التاريخ العربي الأسلامي حتى نهاية العصر الأموي، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة ديالى، 2005.

ص: 557

جاسم، حنان عیسی،

315- الحج عند العرب قبل الإسلام، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة تکریت، 2005. الجبر، مخلد ذياب فيصل،

316- روايات أهل الكتاب للسيرة النبوية حتى عهد البعثة، رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية التربية، جامعة البصرة، 2012.

الجبوري، مربد صالح ضامن،

317- كندة ودورها السياسي والاقتصادي في الجزيرة العربية قبل الإسلام، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة الموصل، 2004.

جیاد، سعید جبار،

318- قبيلة تميم ودورها في التاريخ العربي قبل الإسلام، أطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية التربية، جامعة بغداد، 2007.

الحجاج، محسن مشکل فهد،

319- دولة التبابعة في اليمن ابان القرنين الرابع والخامس الميلاديين دراسة في الأحوال السياسية والإقتصادية والدينية، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة البصرة، 1999.

الحدیثی، انمار نزار عبد اللطيف،

320- الديانة الوضعية عند العرب قبل الإسلام، أطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية الآداب، جامعة بغداد، 2003.

الحسيناوي، مرتضی جلیل جعيلان،

321- دور الحج في تطور الأحوال الفكرية والإقتصادية في الدولة العربية الاسلامية إلى نهاية القرن الرابع الهجري، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة البصرة، 2002.

الحصونه، رائد حمود عبد الحسين،

ص: 558

322- نشأة السجون وتطورها في الدولة العربية الإسلامية حتى نهاية التسلط التركي334ه، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة البصرة، 2002.

الحمداني، عبد الفتاح عبد الله محمود،

323- قبيلة خثعم ودورها في التاريخ العربي من قبل الإسلام وحتى نهاية العصر الراشدي، أطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية الآداب، جامعة البصرة، 1998. الحنبلي، فدوی،

324- المثل السائر لابن الأثير والردود عليه، دراسة في القضايا النقدية التي أثارها ابن الأثير، رسالة ماجستير غير منشورة في اللغة العربية وآدابها، الجامعة الامريكية في بيروت، 1975 .

الدخيلی، مهدي عريبي حسين،

325- بنو اسد ودورهم في التاريخ العربي الإسلامي، أطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية الآداب، جامعة البصرة، 1995.

الربيعي، هديل غالب عباس،

326- الطب عند العرب قبل الإسلام، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية للبنات، جامعة بغداد، 2003. الروقي، بجاد بن زیاد بن معضد،

327- شعر قبيلة بني كلاب من العصر الجاهلي إلى اخر عصر بني أمية، دراسة موضوعية فنية، أطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية اللغة العربية، جامعة أم القرى، السعودية، 1414ه

زیدان، سلامة عبد السلام،

328- نظام الزواج عند العرب قبل الإسلام وعصر الرسالة، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة الموصل، 2004.

السعدون، نصار سلیمان،

329- امرؤ القيس بن عمرو اللخمي ودوره في توحيد القبائل العربية، رسالة ماجستير غير

ص: 559

منشورة، كلية الاداب، جامعة البصرة، 1988.

سمار، سعد عبود،

330- قبائل مذحج قبيل الإسلام حتى نهاية العصر الراشدي، اطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية الآداب، جامعة البصرة، 1996.

الشاوي، عبد الهادي عبد الرحمن علي،

331- المثل في نهج البلاغة دراسة تحليلية فنية، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة الكوفة، 2007.

الصواط، عيضة بن عبد الغفور،

332- شعراء ثقيف في العصر الأموي، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية اللغة العربية، جامعة ام القرى، السعودية، 1983.

الطائي، رائد محمد حسن،

333- أوضاع السجون والسجناء في الدولة العربية الإسلامية، أطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية الآداب، جامعة الموصل، 2009.

عباس ، مصطفی جواد،

334 - الجوار عند العرب قبل الإسلام حتى عصر الرسالة، أطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية التربية، جامعة البصرة، 2011.

العباسي، اريج أحمد حسن،

335- الثروة المعدنية في اليمن والحجاز قبل الإسلام وأهميتها الإقتصادية، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة بغداد، 2004.

عبد الرحمن ، هاشم يونس،

336- الحياة الفكرية في الجزيرة العربية قبل الإسلام وعصر الرسالة، اطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية الآداب، جامعة الموصل، 1992.

ص: 560

علي، إبراهيم محمد،

337- المناذرة دراسة سياسية حضارية (268م- 602م)، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة الموصل، 1982.

العوادي، صلاح غلام غضیب،

338- التوحيد عند العرب قبل الإسلام دراسة في الحنيفية وعبادة الرحمن، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة بابل، 2004.

الغزي، محسن راشد طريم،

339- المجالس الاسلامية العامة في بغداد في العصور العباسية المتأخرة334- 656، اطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية التربية، جامعة بغداد، 2007.

القرشي، علي کریم عباس أمرة،

340 - آل عبد المطلب وأثرهم في الحياة العامة حتى نهاية العصر الراشدي، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة بابل، 2007.

القيسي، رواء عبد الستار علي،

341- الري والزراعة عند العرب في عصر ما قبل الإسلام، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية بنات، جامعة بغداد، 2002.

الكرماشي، ایاد صالح عاصي،

342- كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني مصدراً لدراسة تاريخ العرب قبل الإسلام، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة البصرة، 2012. المحمداوي، علي صالح رسن،

343- ابو طالب بن عبد المطلب دراسة في سيرته الشخصية وموقفه من الدعوة الإسلامية، أطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية الآداب، جامعة البصرة، 2004.

محيي الدين، علي،

ص: 561

344- ابن أبي الحديد سيرته وآثاره الأدبية والنقدية، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة القاهرة، 1977.

المشهداني، ارکان طه عبد،

345- النهضة العلمية والثقافية في بغداد في القرنين الخامس والسادس الهجريين، أطروحة دكتوراه غير منشورة، المعهد العالي للدراسات السياسية والدولية، الجامعة المستنصرية، 2005.

الدوريات

البكر، منذر عبد الكريم،

346- معجم أسماء الآلهة والأصنام لدى العرب قبل الإسلام، مجلة أبحاث البصرة، كلية التربية، 1988.جابر، عادل شابث،

347- أتباع الديانة الحنفية، مجلة كلية الآداب، جامعة بغداد، العدد82، بغداد، 2008.

الجبوري، يحيى وهيب،

348 - المنسوجات العربية في الشعر الجاهلي، حولية كلية الانسانيات والعلوم الاجتماعية، العدد السابع، جامعة قطر، 1984.

الجبوري، منذر،

349- أيام العرب في الجاهلية وقيمتها التاريخية وأثرها عند الجاهليين والاسلاميين، مجلة المورد العراقية، مج2، العدد الأول، بغداد، 1973.

الجربوع، عبد الله سليمان،

350- ملحوظات على ديوان عبد الله بن الزبعري، مجلة أم القرى، السنة الثالثة، العدد الخامس، السعودية، 1411ه.

الحجوي، محمد بن محمد،

ص: 562

351- الدلالات الاجتماعية والتربوية في الأمثال العربية، مجلة آفاق الثقافة والتراث، العدد الخامس والخمسون، دبي، 2006.

حمودي ، احمد،

352- جولة مع الجاهلية في عالم الجن، مجلة التراث الشعبي، العدد الثامن والتاسع، السنة السابعة، بغداد، 1979.

الرباعي، عبد القادر،

353- الطير والمعتقد في الشعر الجاهلي، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، جامعة الكويت، مج، العدد29، 1988.

الرحيم، عبد الحسين مهدي،

354- عكاظ في حياة العرب قبل الإسلام، مجلة آداب الرافدين، كلية الآداب، جامعة الموصل، العدد السابع، 1987.

عبد اللطيف، مصطفی،

355- أثر العقائد الدينية في القيم الإجتماعية والخلقية في العصر الجاهلي، مجلة المربد،، كلية الآداب، جامعة البصرة، السنة الثانية ، العدد الثاني والثالث، 1969.

العلي، صالح احمد،

356- ألوان الملابس العربية في العهود الإسلامية الأولى، مجلة المجمع العلمي العراقي، العدد السابع والعشرون، بغداد، 1976.

الكبيسي، حمدان عبد المجيد/

357- أسواق العرب قبل الإسلام، مجلة آداب المستنصرية، العدد الرابع، بغداد، 1979.

مهران، محمد بيومي،

358- مركز المرأة في الحضارة العربية القديمة، مجلة العلوم الاجتماعية، العدد الأول، الرياض، 1977.

ص: 563

الموسوي، جواد مطر،

359- دراسات في تاريخ الاقتصاد العربي قبل الإسلام الأحوال الإقتصادية في دولة الغساسنة، مجلة المجمع العلمي، مج53، ج1، بغداد، 2005.

هادي، ریاض هاشم،

360- النشاط الزراعي في المدينة على عهد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)، مجلة آداب الرافدين، العدد السابع والعشرون، الموصل، 1995.

يوسف، شریف،

361- الكعبات المقدسة عند العرب قبل الإسلام، مجلة المجمع العلمي العراقي، مج29، بغداد، 1978.

ص: 564

المحتويات

مقدمة المؤسسة...9

مقدمة الكتاب...12

الفصل الأول

ابن أبي الحديد سيرته ومنهجه ومصادرة عن العرب قبل الإسلام

المبحث الأول: سيرة ابن أبي الحديد ومنزلته العلمية وآثاره...25

أولاً: اسمه ونسبه وكنيته:...25

ثانياً: نشأته وعصره:...28

ثالثاً: عقيدة ابن أبي الحديد...33

رابعاً: منزلته العلمية وآراء العلماء فيه:...:36

خامساً: شيوخه:...:37

سادساً: تلاميذ ابن أبي الحديد:...46

سابعاً: آثاره العلمية:...48

ثامناً: وفاة ابن أبي الحديد:...56

المبحث الثاني: منهجية ابن أبي الحديد ومصادره في كتاب شرح نهج البلاغة...58

اولاً: منهجية ابن أبي الحديد في كتابة تاريخ العرب قبل الإسلام:...58

ثانياً: مصادر ابن أبي الحديد في تاريخ العرب قبل الإسلام:...70

الفصل الثاني

التالي الحياة الاجتماعية عند العرب قبل الإسلام المبحث الأول: القيم الإجتماعية عند العرب...91

أولاً: الشجاعة والفروسية:...91

ثانياً: الكرم والضيافة:...97

ص: 565

ثالثاً: صلة الرحم:...105

رابعاً: الْحلم:...108

خامساً: الجوار:...112

المبحث الثاني: المعتقدات الشعبية والاجتماعية...118

أولاً: الهامَة والصفر:...119

ثانياً: الطَّيرة والفأل:...125

ثالثاً: البلية والعقر علی القبور:...136

رابعاً: الرُّقْي:...140

خامساً: تخيلاتهم في السفر:...145

سادساً: الأطعمة والأشربة:...149

سابعاً: العين:...160

المبحث الثالث: العقوبات والقوانين عند العرب قبل الإسلام:...163

اولاً: الخلع:...164

ثانياً: جز الناصية:...167

ثالثاً: القسامة:...170

رابعاً: الدّية:...173

سادساً: السجن:...177

المبحث الرابع: الحياة الأسرية عند العرب قبل الإسلام...182

أولاً: المرأة في مجتمع قبل الإسلام...182

ثانياً: النكاح:...192

ثالثاً: الطلاق:...200

رابعاً: الزنا...204

خامساً: وأد البنات:...207

المبحث الخامس: الأنساب عند العرب قبل الاسلام...215

أنساب القبائل:...217

الفصل الثالث

الحياة الفكرية عند العرب قبل الاسلام

المبحث الأول: المعتقدات الدينية عند العرب قبل الإسلام...239

أديان العرب...240

ديانات آخرى...279

ص: 566

المبحث الثاني: الطقوس الدينية عند العرب قبل الاسلام...287

أولاً: الاستقسام بالأزْلام:...287

ثانياً: الحلف:...293

ثالثاً: الاستسقاء:...295

رابعاً: الحَجُّ:...299

المبحث الثالث: معارف العرب قبل الإسلام...320

أولاً: الكهانة:...320

ثانياً: القيافة والعيافة ومعرفة النجوم:...327

ثالثاً: الطب:...330

المبحث الرابع: الأمثال عند العرب قبل الإسلام...338

اولاً: الأمثال التي ذكرها الإمام علي عليه السلام ونقلها ابن أبي الحديد:...340

ثانياً: الأمثال التي ذكرها ابن أبي الحديد:...360

الفصل الرابع

الحياة الاقتصادية عند العرب قبل الإسلام...387

المبحث الأول: النشاطات الاقتصادية عند العرب قبل الاسلام...387

أولاً: الزراعة:...388

ثانياً: الصناعة:...398

ثالثا: التجارة:...417

المبحث الثاني: اسواق العرب قبل الاسلام...431

أولاً: سوق عكاظ:...433

ثانياً: سوق ذي المجاز:...440

ثالثاً: سوق بدر:...441

رابعاً: سوق الحيرة:...442

الفصل الخامس

الحياة السياسية عند العرب قبل الإسلام

المبحث الأول: الممالك والمدن التي ظهرت قبل الاسلام...447

اولاً: حكومة قريش في مكة:...447

ص: 567

ثانياً: الحيرة:...473

ثالثاً: كندة...480

رابعاً: الغساسنة:...484

خامساً: يثرب:...487

المبحث الثاني: أيام العرب قبل الاسلام...493

اولاً: أيام القحطانيين فيما بينهم:...496

ثانياً: أيام العدنانيين:...501

ثالثاً: أيام القحطانيين والعدنانيين:...518

رابعاً: أيام العرب والفرس:...524

الخاتمة...527

المصادر والمراجع

المصادر الأولية...529

المراجع الثانوية...547

الرسائل الجامعية...557

الدوريات...562

ص: 568

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.