الحاکمیة فی فکر الامام علی علیه السلام دراسة في ضوء الأنساق الثقافية

هوية الکتاب

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1356 لسنة 2016 م مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda.

رقم تصنيف BP38.09. H8 M3 2016 :LC.

المؤلف الشخصي: مجباس، عبد الأمير دلي. العنوان: الثائر الحاكمية في فكر الإمام علي (عليه السلام): دراسة في ضوء الأنساق الثقافية. بیان المسؤولية: تأليف عبد الأمير دلي مجباس؛ تقديم سيد نبيل قدوري الحسني. بيانات الطبعة: الطبعة الأولى. بيانات النشر:

كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة - مؤسسة علوم نهج البلاغة.

1437 ه - 2016 م.

الوصف المادي: 296 صفحة. سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة. تبصرة عامة: الأصل اطروحة دكتوراه تبصرة ببيلوغرافية: يتضمن هوامش - لائحة المصادر (الصفحات 261 - 294). تبصرة محتويات: موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجریا - آراءه في الحكم. موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40هجریا - سیاسته وحكومته. موضوع شخصي: مصطلح موضوعي: الإسلام والدولة. مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الإسلام مصطلح موضوعي: الحاكمية (الشیعة). مصطلح موضوعي: الحضارة الإسلامية - الأحوال الثقافية. مصطلح موضوع جغرافي: العالم العربي - الأحوال السياسية. مؤلف إضافي: الحسني، نبيل قدوري حسن، 1965م، مقدم.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة

ص: 1

اشارة

ص: 2

الحاکمیة فی فکر الامام علی علیه السلام دراسة في ضوء الأنساق الثقافية تأليف عبد الأمير دلي مجباس اصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة فی العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1437 ه - 2016 م العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الأكبر علیه السلام مؤسسة علوم نهج البلاغة www.inahj.org Email: inahj.org@gmail.com موبایل: 07728263600 - 19933 078190

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» سورة المائدة: الآية (45)

ص: 5

ص: 6

الإهداء

إلى من ينزفون لنبقی... الحشد الشعبي والجيش العراقي إلى نبع العطاء والديّ... أزجي ثمرةً من غراسهما إلى أخوتي...

إلى ظلي ... زوجي رقية لجين علي رضا إليكم جميعاً ثمرة جهدي هذا عبد الأمير دلي مجباس

ص: 7

ص: 8

مقدمة المؤسسة

الحمد لله على ما أنعم والصلاة والسلام على خير النعم وأتمها محمد وآله الأخيار الأطهار.

وبعد:

فإن أحوج ما يحتاج إليه الإنسان في بناء حياته الكريمة بعد شرع الله تعالى هو الحاكم العادل الذي يحفظ له عناصر قیام منظومة التعايش المجتمعي وأواصر النسيج الاجتماعي، وهو ما تراه متجسداً في المنهج الذي رسمه أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام حينما حاول الخوارج تقديم منهاجهم المناهض لبناء نظام الحكم الذي قدمه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم حينما كانت المدينة المنورة إنموذجاً القيام مؤسسة الحكم والحاكم وتبلور الحاكمية بمفهومها المرتكز على وجود الحاكم والرعية فقال عليه السلام بعد أن نادي الخوارج في صفين (لا حکم الا لله) فردّ قائلاً: «كلمة حق يراد بها باطل، نعم إنه لا حكم إلا الله، ولكن هؤلاء يقولون لا

ص: 9

إمارة، وأنه لا بد للناس من أمير برّ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح برّ، ويُستراح من فاجر».

وهذا التقنين في آلية قيام الحاكمية التي بدأها عليه السلام بقوله (يعمل في إمرته المؤمن) فجعل العمل منوطاً بالإيمان و ملازماً له وفيه، أي بهذه الحاكمية يستمتع الكافر ويبلغ الله فيها الأجل وذلك لاستخلافه عز وجل الملوك بعد هلاك غيرهم إلى قوله عليه السلام «ويُستراح من فاجر» هي عينها نواة الحكم وقيامه وهو (المنع).

ولأن حاجة الإنسان إلى تقنيين (المنع) و(المنح) حاجة فطرية نشأت بنشوء التجمعات الإنسانية وتكون المجتمعات منذ بداية ظهور المناطق السكانية كان العلماء الأناسة (علماء الأنثروبولوجيون) دورهم في دراسة هذا الاحتياج وأثره في قيام الإمارة التي اختلفت مواقعها بين عناصر الطبيعة وظهور المعتقدات وتكوّن الميثولوجيات العالمية وتأثر الإنسان بالكهانة وإمارة الكاهن في قدرته على المنع والمنح ثم الزعامة العشائرية والقبائلية والعرفية وغيرها من الزعامات والإمارات التي تتجسد في ثقافات الشعوب قديماً وحديثاً وتقاطع الرؤى حول الحكم والحاكم والحاكمية والسلطة بين هذه الثقافات.

ومن ثم لم يكن نقد الحاكم وحكمه أو الحاكمية بمأمن عن التجاذبات الفطرية والنفسية والاجتماعية في مختلف الثقافات ومن ضمنها الثقافة الإسلامية،

ص: 10

فلقد كان لمفردة السلطة مفهومٌ و مصداقٌ منذ ظهور الإسلام في مكة وخوف أرباب السلطة فيها من ذهاب سلطانهم وعوامل دوامها فيما تمثله مكة من قدسية واحتضانها للبيت الحرام ونفوذ الوثنية فيها واستقطاب الحجيج إليها وغيرها من العوامل التي شكّلت بناء السلطة فيها، التي جعلت أربابها يرون في ظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الدين الجديد الخطر الأساسي الذي يهدد قیام السلطة وأقطابها في حكمهم لمكة وأهلها.

ثم يليها في ذلك ظهور الإسلام في المدينة وتبلور السلطة الإلهية في شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجمع بين السلطة بمفهوم (الإمارة على الرعية) والسلطة بمفهوم (الخلافة الإلهية وسيادة الأمر الإلهی) وانفصال المفهومين والسلطتين بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم وتجلى ذلك في اجتماع السقيفة وتبني عمر بن الخطاب المفهومين في مصداق واحد وهو السلطان والإمارة فنادی في الأنصار (من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته) وتجريدها من سلطة الوحي والحكم الشرعي الذي كان منحصراً في شخص النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ومن ثم ظهور حاکمية جديدة وهو ما أعلن في اليوم الثاني من البيعة، وهذا ما يرويه الصنعاني في مصنفه؛ إذ قال أبو بكر للناس: (أفتظنون أني أعمل فيكم سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن رسول الله كان يعصم بالوحي، وكان معه ملك، وإن لي شيطاناً يعتريني فإن غضبتُ فاجتنبوني لا أوثر في أشعاركم ولا أبشاركم...).

ص: 11

ومن ثم لينتهي المطاف بتولي السلطة والإمارة بني أمية وظهور الحاكمية الأموية والعباسية وبين هذه الحاكميات كان للنقد بالكلمة شعراً ونثراً ارتجالاً وتدويناً أثره الكبير في تحديد مسار الأنساق الثقافية لقراءة الحكم والحاكمية في الفكر الاسلامي الذي تربّع على عرشه أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.

والبحث الموسوم ب (الحاكمية في فكر الإمام علي عليه السلام دراسة في ضوء الأنساق الثقافية) الذي هو رسالة جامعية للباحث عبد الأمير دلي الزيدي دام توفيقه يعدّ نافذة رحبة تطل على موضوع لطالما شغل المسلمين منذ القرن الأول للهجرة النبوية، وذلك ضمن مجال جديد في أدواته النقدية ألا وهو الأنساق الثقافية وهو يحاكي عملاق الفكر الاسلامي الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام محل هذه الدراسة؛ لذا ارتات مؤسسة علوم نهج البلاغة طباعته ونشره لما يحمله من مادة علمية تنفع المختصين والمثقفين بنحو عام.

رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 12

المقدمة

ص: 13

ص: 14

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، لِيَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنْ لاَنَ عُوْدُهُ فکَانَ رَحْمَةً للعَالَمِينَ، مُحَمّداً صلى الله عليه و آله سلم الْطَيِّبِينَ الْطاهِرِينَ ولاسِيَما أَمِيرَ الْمُؤمِنينَ وَسيّد الوَصِيينَ الإمام عَليّ بن أبي طالِبْ عليه السلام.

وبعد: حين تكتب في موضوعٍ لا يخلو من حساسية دينية، فإنَّ هناك نوعاً من المحذورات يحيط بك من معظم الجهات والجوانب، هذه العقبات والمحذورات تحاول منعك من نشر أفكارك والإدلاء بدلوك في دراسة ذلك الموضوع، وقد يكون هناك شيئٌ من الخوف على الحساسية الدينية إذا اقترب منها أحد المناهج الحديثة للخطاب النخبوي التي تشتغل على كشف المستور.

وعند دراسة الحاكمیّة في الفكر السياسي الإسلامي متمثلةً بزعيمٍ إسلامي، تشعر أنَّ هالةً من العقبات المصطنعة تحول من دون تناول هكذا قضية لاعتبارات معينة، وقد سيطرت الحاكميّة على مجريات حياة الفرد سواء ما تعلق منها

ص: 15

بالعبادات أو بضرورات الحياة الاجتماعية الأُخر في تلك الحقب الزمانية، فالحكم ضروري في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية فإذا شاع العدل فيه شاعت روح المحبة والتعاون بين الناس، وبالنتيجة يصل المجتمع إلى مراحل متقدمة في بناء الانسان واحترام حقوقه.

إنّ الفكرة الرئيسة التي يدور عليها محور الدراسة هي فكرة مناقشة أطروحات (الحاكميّة) في ما تعنيه السلطة - ملفوظاً وممارسةً - للحاکم والمحكوم، والدراسة ضمن هذا الإطار لا تقصد (بالحاكميّة) ما اصطلح على تسميته ب (الأصولية الإسلامية) في مختلف جوانبها، إذ نحن نغادر حصره مفهوماً ضيقاً في ممارسات محددة، والبحث إنّما يسعى إلى فهم من سعی قبله في عد مفهوم (الحاكميّة) نتاجاً فكريّاً بشريّاً، ما يعني النظر إلى هذا المفهوم من كل الزوايا المحيطة به التاريخية والاجتماعية والدينية.. الخ.

ويعدّ العصر الإسلامي الأول - متن الدراسة - جزءاً من التراث الذي يعد بدوره مصدراً مهماً من مصادر الدراسات النقدية، فهو الجذر العميق الذي يربط الحاضر بالماضي، لذا فإنَّ إلقاء الضوء على جانبٍ مهمٍ من جوانب التراث الإسلامي في حقيقته الفكرية وكثافته لن يكون بالأمر اليسير، ولما كانت الحاكميّة / السلطة جزءاً لا يتجزأ من التراث، فإنّه يعبر عن التجربة الإنسانية في مسارها عبر العصور، فضلاً على أثرها الفاعل في الحياة البشرية، ذلك الأثر الذي

ص: 16

لا يمكن إغفاله أو التقليل من شأنه.

الذا: فإنَّ دراستها ستكون مشروعاً ذا أهمية كبيرة بوصفها تراثاً حيّاً لا يخلو منها زمان أو مكان. ونتيجةً لوجود أنساق فكرية وثقافية وافدة من شأنها أن تغير وجهة الحكم إلى الوجه الذي تبغيه تلك الأنساق، والمعروف أن طبيعة الموضوع هي التي تحدد نوعية المنهج، ومن هنا انبرى النقد الثقافي لدراسة ما يتعلق بالسلطة وخطاباتها بوصفه منهجاً نقديّاً يشتغل على ما تخلفه الأنساق المضمرة من آثارٍ قولية تتجاوز النصوص إلى الخطابات العامة وفعلية تتعلق بالممارسات مع الآخر.

لطالما كنت متشوقًا إلى أن أكون من الذين يدرسون فكر أهل البيت (عليهم السلام) ويلجون بحرهم، فشاء قدري، ولله الحمد، أن أدرس فكر الإمام عليّ عليه السلام، ذلك الفكر الذي شغل مكانًا بارزًا في مساحة الفكر العربي الإسلامي السياسي والثقافي والأدبي، ولعلّ أهمية فكر الإمام عليّ عليه السلام والحقبة الزمنية التي حملت في طياتها الكثير من الأنساق كانت الدافع الملهم والمهم وراء اختيارنا لموضوع (الحاكميّة في فكر الإمام عليّ عليه السلام - دراسة في ضوء الأنساق الثقافية) بعد نقاشات وآراء مستفيضة مع أساتيذي الأفاضل في مختلف الجامعات العراقية.

واعتمد الباحث في متن الدراسة على مصادر قديمة ومراجع حديثة تخص

ص: 17

مادة البحث منها على سبيل التمثيل: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، تاریخ الطبري، کنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، العقد الفريد، أما المراجع الحديثة فمنها مراجع تخص منهج النقد الثقافي مثل: جماليات التحليل الثقافي - الشعر الجاهلي نموذجاً: د. یوسف عليهات، والنقد الثقافي - قراءة في الأنساق الثقافية العربية: د. عبدالله الغذامي، وجماليات النقد الثقافي - نحو رؤية للأنساق الثقافية في الشعر الأندلسي. د. أحمد جمال المرازيق. ومراجع أخرى مثل: الإمام علي عليه السلام صوت العدالة الإنسانية: جورج جرداق، وتكوين العقل العربي: محمد عابد الجابري، وتمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيل العربي الوسيط. د. نادر کاظم.

وقد اقتضت الدراسة بعد جمع المادة أن تكون على ثلاثة فصول يتصدرها تمهيد وتتبعها خاتمة تحمل أبرز نتائج البحث.

أمّا التمهيد فكان مدخل الرسالة ومفتاحاً لموضوعها فجاء في توضيح المفاهيم الرئيسة (الحاكميّة مقاربة مفهومية، النقد الثقافي النظرية والفاعلية) من ضمن دراسة سعى فيها الباحث إلى أن تشکِّل عتبة لتلك المصطلحات والمفاهيم ذات المساس بدرسنا.

وجاء الفصل الأول بعنوان (مجال الهوية) دراسة بنى الهوية الثقافية العربية، على ثلاثة مباحث، إذ جاء المبحث الأول بعنوان (بنی الهوية الثقافية) تناول الباحث فيه التكوينات الأولى للهوية العربية، ثم جاء المبحث الثاني في تكوين

ص: 18

الهوية الجديدة (الاندماج والتركيب)، والمبحث الثالث جاء في عنوان ( هوية التحويل والتحصين)؛ وجاء الفصل الثاني بعنوان (تمثلات الحاكميّة)، تناول المبحث الأول منه منظومة الحاكميّة ضمن تحيزات الماضي السابقة لحكومة الإمام عليّ عليه السلام، و حمل المبحث الثاني عنوان (استحضار الذات)، استحضرت فيه حاكميّة الآخر التي بها نستنطق حاکميّة الإمام علي عليه السلام، أمّا المبحث الثالث فجاء بعنوان (الآخر المتزامن)، تناول ممارسات المتزامنين مع الإمام علي عليه السلام بوصفهم دوال على حاکميّة حقب زمانية معاصرة للإمام علي عليه السلام.

وأمّا الفصل الثالث فقد جاء بعنوان أنساق المطابقة والاختلاف، تضمن ثلاثة مباحث، الأول منه بعنوان (الأنساق التاريخية) كشفت فيه الدراسة نوعية الأنساق الثقافية التي تحويها حاكميّة الإمام علي عليه السلام بواسطة ممارسات ونصوص تضمنتها المدونات التأريخية تتعلق بمختلف جوانب الحياة، المرأة والعدالة الإنسانية وغيرها.

وجاء المبحث الثاني بعنوان (الأنساق الفقهية)، تلك الأنساق التي كانت جزءاً من حاكميّة الإمام علي عليه السلام التي بينت بشكل واضح تصورات الحاكمیّة في فكر الإمام علي عليه السلام.

وعنون المبحث الثالث ب (الأنساق التراثية) تابعت الدراسة فيه ممارسات

ص: 19

الحاكميّة وصورتها في كتب التراث التي شكَّلت ظاهرة سوسيولوجية ثقافية حوتها بطون الكتب التراثية، ومن تلك الممارسات العلاقة بين الرعية والحاكم.

ومن المفيد الإشارة إلى أنَّ التراث والتاريخ وإن كانا زمنياً يتفقان بوصفهما من الماضي، إلّا أنَّ الدراسة تميز بين كتب التاريخ والتراث على أساس قصدية الإنتاج (المقصدية)، فكل واحد منهما له قصدية إنتاج تختلف عن الآخر، وعلى هذا الأساس حملت كتب التراث مرویات سیرية ضمنت أنساقاً ثقافية وممارسات مختلفة تعبر عن حاکميّة الإمام علي عليه السلام.

وختاماً فلا أَزعم أنني جئتُ بجوامع العلمِ ولا آتيتُ كلَّ شيءٍ حقّه، إنما هو الجهد قدر الاستطاعة والتمكين من الله عز وجلَّ، فإن أصبتُ فله الحمد، وإن جانبت الصوابّ فحسبي أنّي اجتهدتُ، والله من وراءِ القصد وهو وليّ التوفيق.

الباحث

ص: 20

التمهيد

ص: 21

ص: 22

أولاً: الحاكمیّة... مقاربة المفهوم

الحاكميّة لغةً:

تشير معجمات اللغة العربية إلى معانٍ متقاربة فيما يخص كلمة (حكم) فهي تعني المنع بمجمل معانيه الأخر المتفرقة، مثل الفقه والقضاء والحكمة، ومن هذا قيل للحاكم بين الناس حاکِمٌ، لأنّه يَمنَعُ الظالم من الظلم، وفي الحديث: إنّ من الشعر لِحكمة، أي إنّ في الشعر كلاماً نافعاً يمنع من الجهل والسفه، قال الأصمعي: أصل الحكومة رد الرجل عن الظلم، وحكم الشيء وأحكمه: منعه من الفساد(1). قال ابن فارس: (الحاء والكاف والميم أصل واحد، وهو المنع.

ص: 23


1- ظ: تهذيب اللغة: أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري ت (370 ه): 4 / 111 - 113، باب (حکم). وظ: لسان العرب: أبو الفضل جمال الدين بن منظور الإفريقي المصري ت (711 ه) ه: 12 / 140 - 143، باب (حکم)

وأول ذلك الحكم، وهو المنع من الظلم)(1)، ومن ذلك يمكن القول إنّ الحاكميّة أعمّ من الحكم، وتشمل: جميع الممارسات والنصوص وتتجاوزها إلى الخطابات في كل ما يخص الحكم / الحاكم / المحكوم، وهذا ما ستركز عليه هذه الدراسة.

والحاكميّة هي المصدر الصناعي لكلمة "حكم" والمصدر الصناعي مصدر قياسي يطلق على كل لفظ زِيد في آخره حرفا الياء المشددة والتاء المربوطة فينقل إلى الاسمية ويصير اسم معنی مجرد، وفي علم الصرف فإنّ المصدر الصناعي يشتمل على كل الصفات التي يشتمل عليها لفظه، نحو المصدر الصناعي من وطن - وطنية، ومن قوم - قومية(2).

وهذا المصدر الصناعي يؤدي المعنى نفسه الذي يؤديه المصدر القياسي (لحكم)، ومن ثم فإنّ سبيل معرفة معناها و بیان دلالتها وتوضيح مضمونها هو بجذرها اللغوي (ح. ك. م)(3).

المقاربات الأولى لمفهوم الحاكميّة:

تعدّ الحاكميّة من المفاهيم المتداولة في الفكر الإسلامي المعاصر، وقد أثارت هذه القضية - الحاكميّة - جدلاً وخلافاً فكريًّا بين أصحاب الفكر والدعوة، وإنَّ

ص: 24


1- معجم مقاییس اللغة: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زکریا، ت (390) ه: 2 / 91
2- ظ: المدخل إلى علم النحو والصرف: عبد العزيز عتيق: 82
3- ظ: الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكميّة - رؤية معرفية: هشام عوض أحمد جعفر: 55

هذا المفهوم في حقب زمنية محددة، شكّل محوراً للمارسات والتنظيرات الدعوية والفكرية والثقافية إلى حد الوصول إلى بناء قواعد سیاسية لأنظمة الحكم على وفق الأفكار المتباينة هذا المفهوم. فمنذ أن لاح هذا المفهوم في الدراسات الفقهية، والتاريخية، والنقدية، ونتيجة للخلاف الواقع بسبب الوافد الثقافي الفكري لهذا المفهوم؛ انبرى الدارسون للبحث والكشف عن ماهيته بدراسات وأطروحات تتعلق بهذا المفهوم.

ومن المعلوم أنَّ نظام الحكم يتبوأ مرتبة مهمة في الفكر البشري؛ لارتباطه الوثيق ودوره الفعّال في كل مفاصل المجتمع، فضلاً على أنَّ سمة الظلم والجور والقمع بكل أنواعه باتت أبرز سمات أنظمة الحكم في مختلف الأزمنة والأمكنة.

وقد يتفق كثير من الباحثين(1) على المحاولات الأولى لتأصيل مفهوم الحكم والتحكيم والحاكميّة، بأنّه يعود إلى الخوارج في موقعة صفين ومقولتهم الشهيرة (لا حكم إلا لله)، فهم يرون أنَّ الحكم بين العباد يجب أن ينفرد به الله سبحانه وتعالى وحده لأنّه هو الحَكَم، ولا يحقّ لأحدٍ أن يدّعي ذلك لنفسه، وتلك المقولة

ص: 25


1- ومنهم د. محمد شحرور في كتابه (جدلية الدين والسلطة قراءة معاصرة للحاكمية)، والعلامة محمد السند في كتابه (الحاكمية بين النص والديمقراطية)، وأبو القاسم الحاج حمد في كتابه (الحاكمية)، وهشام عوض أحمد جعفر في كتابه (الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكميّة - رؤية معرفية)

كانت حيلة أيديولوجية اخترقت الصفوف باسم النص(1)، رافقتها الحملة التي شنها الخوارج على الحكومة الإسلامية، فالحاكميّة قالها الخوارج ملفوظاً ولكنها ممارسةً ما عناه الإمام عليّ عليه السلام بقوله: (کَلِمَهُ حَقٍّ یُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ، نَعَمْ إِنَّهُ لاَ حُکْمَ إِلاَّ لِلَّهِ، وَ لَکِنَّ هَؤُلاَءِ یَقُولُونَ: لاَ إِمْرَهَ، إِنَّهُ لاَ بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِیرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، یَعْمَلُ فِی إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ، وَ یَسْتَمْتِعُ فِیهَا الْکَافِرُ، وَ یُبَلِّغُ اللَّهُ فِیهَا الْأَجَلَ، وَ یُجْمَعُ بِهِ الْفَیْءُ، وَ یُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ، وَ تَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ، وَ یُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِیفِ مِنَ الْقَوِیِّ، حَتَّی یَسْتَرِیحَ بَرٌّ، وَ یُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ)(2).

من هذه النقطة - إمرَة البرّ أو الفاجر - تنطلق دراستنا لمفهوم "الحاكميّة" في فكر الإمام عليّ عليه السلام التي هي مدة ممارسته للحكم إبّان خلافته للسنوات الأربع، متتبعين فيها صورة الحاكم عند الرعية على هدي ما تنتجه الممارسات والنصوص والخطابات المنبثقة من أرض الواقع الحياتي الثقافي المعاش من جهة، وما يعنيه الفرد / المحكوم بالنسبة إلى الحاكم من جهة أخرى، والحاكميّة عند الإمام عليّ عليه السلام لا تشمل إمرة الفاجر، وهذا ما سيثبت لاحقاً.

ولا شك في أنّ وجود الحكومة - أي حكومة - أمر لابد منه وفقاً لما يقبله العقل والمنطق، فمن دون النظام الذي تطبقه الحكومة تعمّ الفوضى في أرجاء

ص: 26


1- ظ: نقد الخطاب الديني: نصر حامد أبو زيد 102
2- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد ألمعتزلي ت (656) ه: 1 / 417

المجتمع؛ وتبعاً لذلك (لابد لامةٍ منظمةٍ مهما كان معتقدها، ومهما كان جنسها ولونها ولسانها، من حكومة تباشر شؤونها، وتقوم بضبط الأمر فيها)(1). فالعلائقية السلطوية تنحصر بين الإنسان والإنسان، فهي ترتبط بسلوك الإنسان ومنهجه وثقافته التي تغذيه من جهة، ومن جهة أخرى أنّ أمر الحكومة / الحكم وأنشطته هي إلى الناس عامة بأجمعهم وبينهم؛ وذلك لتوجه الخطاب بين هيئة السلطة وطبقة الرعية وبالعكس(2)، ونظرا لكون "الحاكميّة" صمّام الأمان لحياةٍ رغيدةٍ عادلةٍ يأملها كل إنسان على وجه المعمورة، فإنّها ستشكل البؤرة المثالية الثقافية لشخصية السلطة فرداً کان، أو مجموعةً، و "الحاكميّة" في جوهرها تعني أنّ (هناك أوامر وقواعد صادرة من الله ووظيفة الكينونة البشرية فيها هي التلقي والاستجابة والتكيف والتطبيق في واقع الحياة)(3).

إنَّ أحد أسباب اختيار هذه اللفظة - الحاكميّة - كونها لفظاً يدخل تحت مظلته مفاهيم متعددة مثل الحكم والسلطة وغيرها من المفاهيم التي لها علاقة بالحاكم والمحكوم، بمعنى إنّها لفظ مشترك وشامل لجنس الحكم، کما تطلق لفظة العين على البئر والعين الجارحة وعلى الجاسوس وغيرها، فهي غير مرتبطة بمعنی

ص: 27


1- الإسلام وأصول الحكم - بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام: علي عبد الرازق: 85
2- ظ: الحاكميّة بين النص والديمقراطية: العلامة محمد السند: 100
3- الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكميّة - رؤية معرفية: 157

واحد أو لفظ خاص دون المعاني الأخر التي تشترك معها في الخصوصية نفسها. وقد وردت هذه اللفظة وما يشاكلها من صيغ ومشتقات في القرآن الكريم أكثر من مئتي مرة(1).

فالحاكميّة صورة حيّة واقعية أنتجتها الحياة في جريانها والممارسات والخطابات في معمياتها هي ذات الحاكم في مرجعياتها، وحين توازن مع الآخر زماناً و مکاناً مختلفين إنَّها صورة الرعية وقد انعكست ممارسةً مع راعيها، ونراها أيضاً غدت تدل على نوعية السلطة وصورة الحاكم ومدى قربه / بعده من تطبيق العدالة الإنسانية المبتغاة والمنشودة، وباتت الحاكميّة تدل أيضاً على ثقافة السلطة ومدى التأثر والتأثير بين الثقافتين الجاهلية والإسلامية، ولأيهما - أيّ الماقبل والمابعد - سترسو الغلبة نظريّاً وتطبيقاً على أرض الواقع، فضلاً عن أنَّ هناك أسباباً أخر تدعو إلى السبر في أغوار الحاكميّة، منها أنَّ الحاكميّة فضاء واسع يمكن أن يدلّنا على سيسيولوجيا المركز مقابل الهامش، ومنها أيضاً عدم رفض الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام لهذا المفهوم عندما عرضه الخوارج رفضاً قاطعاً، بل كان الرد في معنى العرض المؤدلج للخوارج ورفضهم الحاكميّة

ص: 28


1- ظ: الحاكمیّة في ظلال القرآن الكريم: عبد الحميد عمر عبد الحميد عبد الواحد: 1، (البقرة / 113) (آل عمران / 7)، (المائدة / 1)، (المائدة / 58)، (یوسف / 67)، (الأنعام / 89)، وغيرها الكثير من الآيات القرآنية الكريمة

الإنسانية مطلقاً وسوء استعمالهم لهذا المفهوم(1)، وهذا يعني مشروعية دراسة الحاكمیّة في الإسلام وفي فكر الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام خاصة؛ على وفق وجود هذا المفهوم وأطروحاته لدى الإمام عليّ عليه السلام ونحن هنا لا ننوي شخصنة المفهوم في أفرادٍ أو جماعات، بل نسعى إلى قراءة المفهوم قراءة نقدية شاملة لمعنى الحكم والسلطة.

مفهوم الحاكميّة عند المعاصرين

عرّف المعاصرون "الحاكميّة" بتعريفات عديدة، يقترب بعضها من بعض اقتراباً اصطلاحيّاً مفهوميّاً، ولعلّ أبا علي المودودي يقف في مقدّمة الذين تحدثوا عن مفهوم "الحاكميّة"، فقد بدأ استعمال مصطلح "الحاكميّة لله" بكثافة أثناء عمله في الأحزاب السياسية الهندية(2)، ويرى المودودي أنَّ الحاكميّة تطلق على (السلطة العليا والسلطة المطلقة، على حسب ما يصطلح عليه اليوم في علم السياسة)(3)، ويرى أنَّها - أي الحاكميّة - لا تليق ولا تحق إلا الله عزوجل، ولا يحق لأحد أن ينفذ حكم الله في عباده، وهو بهذا يتبنى رأي الخوارج، وهنا تواجهنا عدة تساؤلات منها: كيف ينفذ أمر الله عزوجل في الأرض؟ ومن المسؤول عن

ص: 29


1- ظ: في ظلال القرآن في الميزان: د. صلاح عبد الفتاح الخالدي: 184
2- ظ: الدين والسلطة قراءة معاصرة للحاكمية: د. محمد شحرور: 43
3- ظ: الحاكمیّة في ظلال القرآن الكريم: 17

تنفيذه؟ وهذا المسؤول عن التنفيذ ماذا تكون صفته؟ كل هذا التساؤلات و مسائل أخرى كثيرة تتعلق بهذا الجانب، تضعنا أمام نتيجة هي حتمية وجود حاکم، أو إمام، أو ما اصطلحت عليه وتشاکلت هذه التسميات ليقود الأمة والمجتمع سواء أكان هذا الحاكم عادلاً أم ظالماً. إنّ "الحاكميّة" المودودية، قد لخصها حسن حنفي في ثلاثة مستويات(1):

المستوى الأول: سلطة الله عزوجل هي السلطة العليا التي يجب أن يخضع لها الإنسان وينقاد لها.

المستوى الثاني: وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وآله سلم بوصفه ممثلاً ونائباً عن الله عزوجل.

المستوى الثالث: القانون الإلهي فقط له صلاحية إقرار الحلال والحرام.

في هذه المستويات الثلاثة نجد ثمة مضمراتٍ في مفهوم الحكم والحاكميّة يجب الالتفات إليها، فسلطة الله عزوجل هي العليا ولا شك في ذلك، وطاعة

ص: 30


1- ظ: الدين والثورة في مصر: د. حسن حنفي: 5 / 129 - 130. نقلاً عن الدين والسلطة قراءة معاصرة للحاكمية: 45

النبي صلى الله عليه وآله - وهنا ستقرأ الحاكميّة قراءة جديدة - واجبة(1) لأنها مقرونة بطاعة الله عزوجل، هذه الطاعة من عدمها هي التي حددت شكل السلطة / الحاكميّة في مجتمعات العصر الإسلامي الأول، الذي تختص به دراستنا هذه، ومن ثم سنكتشف نسقية مستويات الحاكميّة ومدى تطبيقها على الواقع المعاش من قبل الحاكم.

ومن المعاصرين الآخرين الذين تحدثوا بوضوح وتخصيص عن مفهوم "الحاكميّة" سيد قطب، فهو يرى أنَّ الحاكميّة للتشريع وليس لله عزوجل والحاكم يستمد سلطته من البيعة وليس من الله عزوجل، وقسّم سید قطب العالم بأسره على قسمين لا ثالث لهما: الحكم الإسلامي والحكم الجاهلي، وجميع الحكومات التي كانت موجودة في عهده ما هي إلا حكومات جاهلية لعدم تحكيمها التشريع الإلهي، ثم يتوصل إلى نتيجة خطيرة هي أنَّ الأمة المسلمة التي تؤمن بحاكمیّة الله عزوجل انتفت منذ قرون، وبذلك تحولت أيديولوجيا الحاكميّة عند سيد قطب إلى أيديولوجيا قاتلة(2).

ص: 31


1- ترى الدراسة خلاف ما يراه بعض الباحثين أنَّ طاعة النبي صلى الله عليه و آله في القران تختلف عن طاعة الرسول صلى الله عليه و آله. للاستزادة: ظ: الرسول المتخيل - قراءة نقدية في صورة النبي صلى الله عليه و آله في الإستشراق (مونتمغري واط و مکسیم رودنسون)
2- ظ: الدين والسلطة قراءة معاصرة للحاكمية: 61 -63. وظ: معالم في الطريق: سيد قطب: 164 - 166

لقد كان أبو القاسم الحاج حمد أحد المفكرين الذين اشتغلوا على مفهوم الحاكميّة، يرفض فكرة المقابلة بين الحاكميّة الوضعية والحاكمية الإلهية السائدة في الأدبيات الإسلامية بنحو عام والصحوة الإسلامية بنحو خاص وتقسم مراحل الحاكميّة على وفق رؤية أبي القاسم الحاج حمد على عدة مراحل(1):

الحاكميّة الإلهية : تأتي هذه الحاكميّة بمعنی حکم الله المباشر للناس، دون استخلاف بشري، وهو حكم يتميز بالهيمنة المباشرة على البشر والطبيعة في آن، مع التصرف الإلهي فيهما تصرفاً محسوساً وملموساً من وراء حجاب.

حاکميّة الاستخلاف: تم فيها الانتقال من الحكم الإلهي الحصري إلى مرحلة جديدة سمح للإنسان فيها بالتدخل في الحكم تدريجياً، إذ بدأت - وفقاً الرأي أبي القاسم الحاج حمد - حين تمرد الإسرائيليون على الحاكميّة الإلهية المطلقة وطالبوا بملك من أنفسهم بدلا من سلطة الأنبياء.

وتعني حاکميّة الاستخلاف - وفقاً لرأي الحاج حمد- أن يكون الخليفة موصولاً بالله عبر الإلهام والإيحاء، وأن يسخّر له الطبيعة والكائنات.

حاكميّة الكتاب البشرية: يرى فيها أنَّ الحاكميّة عادت إلى الإنسان خارج منهج الهيمنة الإلهية المباشرة على الطبيعة والبشر وقد بدأت مع الرسول صلى الله عليه وآله وهي مستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ص: 32


1- ظ: الدين والسلطة قراءة معاصرة للحاكمية: 78 - 87

ثانياً: النقد الثقافي / النسق الثقافي... النظرية والفاعلية:

إنّ النقد الثقافي بوصفه نشاطاً نقدياً مرّ بمراحل و عوامل مختلفة ساعدت على نشأته وتطوره، هذه العوامل تمثلت في التوجهات الفكرية والثقافية العلمية التي لم ترتوِ كفايةً من النظرية النقدية، وباتت في حاجةٍ إلى نظريةٍ نقديةٍ أكثر جرأةً وتحليلاً ومساساً بالواقع وأكثر شموليةً لتصل إلى شمولية الخطابات والممارسات متجاوزةً الأطر المحددة التي كان النقد الأدبي والأنشطة النقدية الأخرى تقف عندها.

لقد ظهر النقد الثقافي بوصفه نشاطاً نقديّاً قصديّاً منذ ما يقارب الثلاثين عاماً من ضمن رؤى ومناهج ما بعد البنيوية(1)، وقبل هذا الوقت كانت هناك إشارات مبكرة ومهمة للنقد الثقافي منها مقالة للمفكر الألماني (تيودورادورنو) في 1949 بعنوان (النقد الثقافي والمجتمع)، ومنها اشارة الفيلسوف الألماني (يورغن هابرماس) في مدرسة فرانكفورت التي عنونت ب (المحافظون الجدد: النقد الثقافي والحوار التاريخي)، تلتها إشارة للمؤرخ الأمريكي (هيدن وایت) عام 1978 بعنوان (بلاغیات الخطاب: مقالات في النقد الثقافي)، غير أنَّ تلك الإشارات لم تعن بتعرف المفهوم بشكل واضح بل اكتفت بدلالات شائعة له)(2).

ص: 33


1- ظ: بويطيقا الثقافة - نحو نظرية شعرية في النقد الثقافي: د. بشری موسی صالح: 5
2- ظ: دليل الناقد الأدبي: د. ميجان الرويلي ود. سعد البازعي: 306 - 307

ويرى الباحث الأمريكي (فنسنت. بي. ليتش) وهو من الباحثين الذين اشتغلوا في الدراسات الثقافية والنقد الثقافي، إنّ مهمة النقد الثقافي تحليل وتفكيك الجذور الاجتماعية للأحداث والوقائع والممارسات المجتمعية والمؤسساتية والنصوص، بكل تفرعاتها الأيديولوجية(1)، وجعل (لیتش) مصطلح (النقد الثقافي) ردیفاً لمصطلحي (ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية) ليفيد من معطيات حقول معرفية أخر منها علم الإجتماع والتاريخ والسياسة من دون الاستغناء عن آليات التحليل الأدبي النقدي ومناهجه وتياراته، وقد لاحظ (لیتش) تنامي توجه نقدي حول مسار المؤسسة العلمية الثقافية في توجيه الخطاب، الأمر الذي حوّل عناية النقاد من نقد النصوص إلى نقد المؤسسة والخطاب(2)، وهذه الوظيفة تمكن النقد الثقافي من الاشتغال على كل المستويات والأصعدة الأدبية وغير الأدبية منها، ومن ثم يتأتى له أن يكون نظرية في نقد الثقافة ونقد المستهلك الثقافي أيضا أي الاستقبال الجماهيري والقبول القرائي الخطابٍ ما(3).

ص: 34


1- ظ: النظرية والنقد الثقافي - الكتابة العربية في عالم متغير واقعها سياقاتها وبناها الشعورية: د. محسن جاسم الموسوي: 20
2- ظ: البنيوية وما بعدها: جاك ستروك: 14 -15
3- ظ: مدخل في نظرية النقد الثقافي المقارن - المنطلقات. المرجعيات. المنهجيات: د. حفناوي بعلي: 51

ويعدّ عبدالله الغذّامي أبرز الباحثين الذين تبنوا مشروع النقد الثقافي عربيّا، وتجلى ذلك بشكل واضح في كتابه (النقد الثقافي - قراءة في الأنساق الثقافية العربية)، إذ يرى فيه أنَّ النقد الثقافي (فرع من فروع النقد النصوصي العام، ومن ثمّ فهو أحد علوم اللغة وحقول (الألسنية) معنيّ بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه وصيغه، ما هو غير رسمي وغير مؤسساتي وما هو كذلك سواء بسواء)(1)، وتعدّ أضافته العنصر - السابع (العنصر النسقي) إلى عناصر الرسالة الأدبية التي وضعها (یاکوبسن) أبرز ما جاء به الغذّامي، وذلك اعتماداً على أنَّ أنماط الاتصال البشري كافة تُضمر دلالات نسقية تؤثر في مستويات الإستقبال الإنساني كافة في الطريقة التي بها نفهم وبها نفسّر(2)، وقد تبنى الغذّامي في مشروعه النقدي مشروع ( فنسنت ليتش) في سياق تركيز الاهتمام بالخطاب وتحليله من حيث هو خطاب، وعمد في منهج تحليله إلى استعمال المعطيات النظرية والمعجمية في السوسيولوجيا والتاريخ والسياسة المؤسساتية من دون أن يتخلى عن مناهج التحليل النقدي(3).

أمّا عن مفهوم النسق الثقافي يمكن البحث عن أصله في نتاج حقلين

ص: 35


1- النقد الثقافي - قراءة في الأنساق الثقافية العربية: د. عبدالله الغذامي: 83 - 84
2- ظ: النقد الثقافي - قراءة في الأنساق الثقافية العربية: 63 - 65
3- ظ: إشكالية المنهج في النقد الثقافي: صلاح رزق: 75 - 76

أساسين هما الانثروبولوجيا والنقد الحديث، وهذا المفهوم ليس جديداً جدة مطلقة، إذ جرى استعمال مفاهیم قريبة منه، بل كثيراً ما كانت تتداخل معه مثيرة التباساً في حقيقة المقصود بهذا المصطلح(1).

وقد جرى استعمال مصطلح النسق / النظام من عالم اللسانيات (فردیناند دي سوسير) بمعنى النظام الطبيعي في محاولة تعريفه للّغة، إذ عدّها عبارة عن (نسق من العلامات يعبر عن الأفكار، ولذا فهي مشابهة لنسق الكتابة وأبجدية الصم والإشارات الرمزية و صيغ المجاملات والإشارات العسكرية... ولكنها أعظم أهمية من هذه الأنساق)(2).

وقد حاول بعض الباحثين ومنهم (كليفورد غيرتس) مقاربة مفهوم النسق ثقافياً، وقد نظر إلى الأنظمة الاجتماعية الحاكمة للأفراد والمجموعات كالدین والأيدولوجيا بوصفها أنساقاً ثقافية ومفهوم النسق الثقافي يتجاوز لديه مفهوم البناء الاجتماعي، إذ عدّ الثقافة مجموعة من الأنظمة المحسوسة وأنماط السلوك والعلاقات الاجتماعية والتقاليد الملموسة(3).

وعربياً بنی عبد الله الغذّامي مشروعه النقدي الثقافي على مفهوم النسق

ص: 36


1- ظ: تمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيل العربي الوسیط: د. نادر کاظم: 92
2- محاضرات في علم اللسان العام: فردیناند دي سوسير، ت: عبدالقادر قنيني: 31
3- ظ: تأويل الثقافات: كليفورد غيرتس: 221 - 226

الثقافي حين جعله مفهوماً مركزياً، تبنى عليه دلالات كثيرة، ومن ثم فهو يكتسب عنده قيما دلالية وسمات إصطلاحية أساسية، وقد ذهب إلى أنَّ النسق يتحدد عبر وظيفته، وليس عبر وجوده المجرد، والوظيفة النسقية لا تحدث إلّا في وضع محدد ومقيد، وهذا يكون حينما يتعارض نسقان أو نظامان من أنظمة الخطاب أحدهما ظاهر والآخر مضمر، ويكون المضمر ناقضاً وناسخاً للظاهر(1) إلّا أنَّ هذه النظرية قد لا تثبت أحياناً (فالنسق الظاهر بما هو وجود متعين في النص الأدبي لا يمكن أن ينتج نسقاً أحادياً مضمراً كما أشار الغذّامي؛ بل إنَّ هذا النسق الظاهر يتميز بالمخاتلة التي تفرض على المؤوّل الثقافي التحصن بكفاءات وخبرات لفحص هذا النسق ومساءلة إضماراته؛ ما يجعل المؤول الثقافي، وكما هي الصورة في الدائرة التأويلية يكتشف أنَّ النسق الظاهر ينتج سلسلة من الأنساق المضمرة اللامتناهية)(2).

وقد بسّط عبد الفتاح كليطو مفهوم النسق الثقافي، إذ عدّه (مواضعة اجتماعية، دينية، أخلاقية، استيتيقية، تفرضها، في لحظة معينة من تطورها،

ص: 37


1- ظ: النقد الثقافي - قراءة في الأنساق الثقافية العربية: 77
2- الظعينة في قصيدتي الهجاء والمديح عند بشر بن أبي خازم الاسدي قراءة تأويلية ثقافية: د. يوسف عليمات: 155

الوضعية الاجتماعية، والتي يقبلها ضمنياً المؤلف وجمهوره)(1)، وهذا النسق غالباً ما يكون متحكماً ضمن ايديولوجيا الثقافة الجمعية المركزية السائدة فهو ذو طابع جماعي يخضع لبنية اجتماعية ذات طقوس وشعائر جمعية عادةً(2)، وربما تكمن الوظيفة الأساسية المهمة للنسق الثقافي في كونه يعمل ك (برنامج يتحكّم في الأفعال والأفكار المستقبلية لأبناء الجماعة المتمثلة لهذا النسق الثقافي)(3)، ونستخلص من ذلك كلّه أنَّ النسق الثقافي هو تركيبة مترابطة ومتفاعلة فيما بينها من أجزاء الثقافة العامة من تقاليد ومفاهيم مؤثرة في فكر الفرد أو الجماعة وهو بذلك مزيج من مفهومي النسق والثقافة العامة.

ويشتغل النقد الثقافي بوصفه نشاطاً وليس مجالاً معرفياً خاصاً بذاته على الثقافات المؤسساتية الراقية منها والشعبية وعلى حشدٍ من الموضوعات المختلفة على السواء، فهو يشتغل على تفكيك البنى الثقافية وتشريح الخطابات الأيديولوجية ومعرفة المرجعيات الثقافية لتلك الخطابات(4)، هذه الثقافات والخطابات والموضوعات التي يشتغل عليها النقد الثقافي يفترض أن تحوي في

ص: 38


1- المقامات السرد والأنساق الثقافية: عبد الفتاح كليطو: 8
2- ظ: لسانیات الخطاب و أنساق الثقافة - فلسفة المعني بين نظام الخطاب وشروط الثقافة: د. عبد الفتاح أحمد يوسف: 147
3- تمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيل العربي الوسيط: 96
4- ظ: النقد الثقافي - تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسية: آرثر ایزابرجر: 30

داخلها على أنساق مضمرة ومخاتلة عميقة تتغلغل وتتفاعل مع الأنساق الأخرى داخل تلك المنظومات.

وقد تكشف لنا قراءة هذه الأنساق المضمرة آفاقاً مهمة (لدراسة التركيبة النفسية والأيديولوجية للإنسان، فالدراسات الثقافية عموماً لها من المرونة المنهجية ما يجعلها عملاً مفتوحاً على شتی صنوف المعرفة لبلوغ غاية معرفية - أدبية (ثقافية) تجعلنا أكثر إدراكاً لتركيبة ثقافتنا وعلاقات تشکلها وأكثر وعياً بتراکیب الظواهر والنصوص الأدبية التي تشكل وعينا الجمالي)(1).

إنَّ ظهور النقد الثقافي على الساحة الأدبية النقدية العالمية والعربية على وجه الخصوص، من شأنه أن (يحرك المياه الثقافية والأدبية العربية الراكدة ويحفز العقل والقوى الإدراكية لدى المتابع والمهتم والباحث الثقافي للبحث والتأمل الجدي في الأنساق العربية قديماً وحديثاً، بعيداً عن التأثر العاطفي أو الاستجابة الانفعالية وإنّما ضمن إطار الحاجة البحثية المعرفية لكشف خطوط وخلايا النسيج الثقافي بكل جرأة وحيوية)(2)، وبذلك توسع نطاق النقد الثقافي ليشمل الفن والأدب والثقافة بجوانبها الجمالية والإنثروبولوجية، كما وأنَّه لا يستبعد في جوانب دراسته

ص: 39


1- مشروع الحداثة الشعرية في العراق في إطار النقد الثقافي: کریم شغیدل مطرود: 27
2- المائدة الأدبية: د. حواس محمد: 7

الحياة السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية... الخ(1).

والنقد الثقافي بنحو عام لا يعمل على التنميط الأجناسي للثقافة كما لا يقف عند جاهزية المعيار أو شكلانية الوصف، فلا يمايز بين أدب مؤسساتي وأدب شعبي، ولا بين فن نخبوي راقٍ أو جماهيري، ولا بين ظاهرة ثقافية وأخرى، فهو یعنی بالسياقات التي جاءت فيها النصوص أو الظواهر والبنى المختلفة التي شكّلت البيئة الثقافية التي ولدت في ظلها أو بتأثيرها أو من أجلها، کما یعنی بأنساق الأيديولوجيا التي توجّه من دون إدراك منظومة المعاني ومن ثم الكشف عن مهيمنات الخطاب وعيوبه النسقية(2).

بعد الاهتمام المتزايد بالدراسات الثقافية، بالتزامن مع ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، ظهرت الحاجة إلى النقد الثقافي، ولم يكن الأمر مجرد حاجة إلى قفزة نقدية، إنّما كانت لهذا الاهتمام أسبابه وبواعثه وانشغالاته الملحة له(3)، تلك البواعث تمثلت بما حفلت به الساحة الثقافية من اتجاهات نقدية جديدة وأخرى أعيد إحياؤها مثل: المادية الثقافية، والماركسية الجديدة، والتاريخانية الجديدة، والنقد النسوي، وهذه الاتجاهات بكل اتفاقاتها واختلافاتها فيما بينها، يمكن

ص: 40


1- ظ: النقد الثقافي - تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسية: 78
2- ظ: مشروع الحداثة الشعرية في العراق في إطار النقد الثقافي: 10
3- ظ: النظرية والنقد الثقافي - الكتابة العربية في عالم متغير واقعها سياقاتها و بناها الشعورية: 10

عدها جزيئات المظلة الأوسع للنقد الثقافي، وهي ليست تخصصية وغالباً ما يتوجه محتواها إلى الجمهور العام(1)، إذ أنَّ هذا المشروع - وهو ما يصب في صميم النزعة النقدية الحداثوية - (يتجه إلى کشف حيل الثقافة في تمرير أنساقها تحت أقنعة ووسائل خافية... وهذا لن يتسنى إلا عبر ملاحقة الأنساق المضمرة ورفع الأغطية عنها)(2).

إنّ اهتمام النقد الثقافي بالمهمشين، والمهمش هو (كل ما لا يتفق مع أعراف وقيم وأنساق المجتمع والجماعة، ونتيجة لذلك قلّت أهميته ومكانته لديهم، أو هو ما قلّت أهميته بالنسبة لغيره)(3)، هذا الاهتمام بهامشيات الثقافة العربية دينياً وسياسياً واجتماعياً وانسانوياً، فضلاً عن بحثه المتجذر في الأعماق والمتتبع والمترصد للعيوب النسقية والنقاط الجمالية في كل مجالات الحياة المختلفة النخبوية منها والشعبية على السواء، فالنقد الثقافي - ليس كما يتصور بعضهم - لا يستبعد إبراز الجمالي في دراسته أبداً، ولكن بعض الدراسات والدارسين حملوا عليه إلزام صفة القبحية فقط من دون الجالية(4)، كما أنَّ نصوص الأدب أشبعت بحثاً جمالياً

ص: 41


1- ظ: مدخل في نظرية النقد الثقافي المقارن - المنطلقات المرجعيات المنهجيات: 20 - 21
2- المصدر نفسه: 50
3- شعر المهمشين في عصر ما قبل الإسلام - دراسة على وفق الأنساق الثقافية: هاني نعمة حمزة: 18
4- ومنهم د. عبدالله الغذّامي في دراسته عن المتنبي

عبر مختلف المناهج النقدية الأدبية، من دون الالتفات إلى ما الذي تشكّله هذه النصوص بالنسبة إلى حركة المجتمع، وما الذي أسهمت به في تأسيس الهوية الثقافية للمجتمع، وكيف تعمل داخل سياقات الثقافة، وكيف تعمل بداخلها أنساق الهيمنة الأيديولوجية للسلطة وللمجتمع في آن، وأسئلة أخرى لم يُجب عنها أو تبحثها الدراسات الأدبية(1)، كل هذا وغيرها من الأسباب الأخر التي قد تكون غابت عن الدراسة، دعت إلى حاجة فعلية علمية لظهور النقد الثقافي بقوة على ساحة الدراسات النقدية ليكون مكملاً لمافات النقد الأدبي في دراساته وآلياته وتطبيقاته على الجوانب المهمشة في الأدب وغيره.

ولا يفوتنا أن ننوه إلى أنَّ النقد الثقافي اشتغل على النسق الاعتقادي الديني لدى المسلمين بوصفه النسق الأبرز والأعمق في حياة المسلمين، وهذا ما سيكون في صميم دراستنا عن الحاكمیّة في العصر الإسلامي الأول فيما يخص تطبيقهم النظرية الحاكميّة في مختلف جوانب الحكومة الإسلامية؛ لأنّ النقد الثقافي من أهدافه (تناول موضوعات تتعلق بالممارسات الثقافية وعلاقتها بالسلطة، وتروم من وراء ذلك إلى اختبار مدى تأثير تلك العلاقات على شكل الممارسات الثقافية)(2)، وهو بذلك يحرك المياه الثقافية السلطوية الراكدة، ويحفز العقل

ص: 42


1- ظ: مشروع الحداثة الشعرية في العراق في إطار النقد الثقافي: 20
2- مدخل في نظرية النقد الثقافي المقارن - المنطلقات المرجعيات المنهجيات: 19

والقوى الإدراكية للبحث والتأمل الجدي في الأنساق الثقافية التي تتعلق بهذا المجال، والسلطة هي القدرة على فرض الإرادة الخاصة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على كائنات بشرية(1)، وبذلك فإنَّ السلطة مهما تنوعت أشكالها هي في جوهرها لا تعدو كونها علاقة تقوم بين طرفين قوامها الأمر - الاستجابة؛ طرف يأمر كي يستجيب الثاني لمطالبه، وحول ذلك دارت أغلب التعريفات ووجهات النظر(2)، والسلطة التي تعنيها الدراسة هي تلك التي تمثل بنية المركز بالنسبة للمجمتع ولها القوّة المحكمة والمقدرة على التمتع بصلاحيات رئيسة داخل الحكومة.

ص: 43


1- ظ: مدخل إلى علم السياسة: جان مینو: 22
2- مفهوم السلطة السياسية - مساهمة في دراسة النظرية السياسية: د. رعد عبد الجليل: 121

ص: 44

الفصل الأول

اشارة

ص: 45

ص: 46

المبحث الأول

أولاً: الرؤى الاجتماعية:

تعد معرفة الهوية الاجتماعية للحاضنة العربية من الجوانب الهامة للكشف عن حياة عرب ما قبل الاسلام، ومحاولة تطبيق الفهم المعرفي المفهوم الهوية العربية على الواقع يلزمنا الاستعانة بكل الآليات النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية وغيرها، التي من شأنها إلقاء الضوء على واقع العيش المشترك للعرب، كل ذلك يجري من ضمن أطر ثقافية؛ لأنَّ الثقافة هي الحياة الشاملة للمجتمع فهي (بمثابة الوعاء الذي يحوي العناصر المكونة للمنظومة المرجعية لمن ينتمون إليها)(1).

والهوية مرکب بالغ التعقيد يشمل ثقافة الأفراد وآفاقهم التاريخية والفكرية والثقافية والإنسانية، والهوية الثقافية العربية بذلك ليست مفهوما سكونياً بل هي

ص: 47


1- تكوين العقل العربي: محمد عابد الجابري: 62

متحركة تنمو وتطور مشيرةً إلى مجموع الخصائص الذهنية والنفسية والأيديولوجية والجمالية التي تميز المجتمع العربي عن المجتمعات الأخرى المختلفة عنه ثقافياً واجتماعياً(1).

إنَّ للثقافة أواصرَ لا تنفصم من جسد المجتمع، فهي نتاج قيمه وممارسات أفراده عبر مخيلتهم الثقافية، وبما أنَّ الثقافة أسلوب حياةٍ خاص يظهر قيم المجتمع في الفن والأدب والمؤسسات والسلوك الاعتيادي أيضاً(2)، والهوية هي تصورنا من نحن ومن الآخرون وكذلك تصور الآخرين حول أنفسهم وحول الآخرين عبر عمليات التفاعل الإنساني(3)، وبهذا فإنَّ الثقافة والهوية يرتبطان فيما بينهما ارتباطاً وثيقاً، فهما يتموضعان سوية في إنشاء الصورة التي يعرف بها المجتمع (فكل ثقافة تؤلف مجموعة من السمات القابلة لتعيين الهوية أو نظاماً واضح الحدود، فمنذ الولادة يجد كل فرد نفسه محاطاً بمجموعة من العوامل الثقافية التي تطبعه بطابعها الخاص أو أنها تهبط عليه ويصبح فيما بعد حاملاً لها)(4)، فالهوية نتاج جوهري للثقافة التي تنتجها وتديم أقنعتها با یوفر لها التأصيل الكافي

ص: 48


1- ظ: الشخصية العربية ومقارباتها الثقافية: د. قیس النوري: 242 - 243
2- ظ: نظرية الثقافة: محمد جواد أبو القاسمي: 45
3- ظ: سوشيولوجيا الثقافة والهوية: هارلمبس وهولبورن: 93
4- علم النفس الثقافي: برتران تروداك: 90

اللاعتزاز بها، كما أنَّ الثقافة تؤلف شكلاً من أشكال الخصوصية أو المعيارية المتفردة في صياغة قالب ذهني لهوية المجتمعات(1). فضلاً عن أنَّ مجال الهوية الثقافية (غير محدد ولا مؤطر بحدود نهائية)(2) يحتم علينا البحث عن سلوكيات المنتمين للحاضنة العربية ومن ينتمون لها، ولا شك في أنّ (زمن الثقافة العربية المتموج هو الذي يفرض علينا التنقل بين لحظاته ذهاباً وإياباً، حتى نستطيع أن نتبيّن منه معنی، ونكتشف منه تأريخاً)(3).

يلعبُ المحيط الثقافي دوراً مهماً وخصوصية بارزة في تكوين الفكر عامة والفكر العربي خاصة، ف (الفكر العربي هو عربي، ليس فقط لكونه تصورات أو اراء ونظریات تعكس الواقع العربي أو تعبر عنه بشكل من اشكال التعبير، بل لأنه أيضا نتيجة أو طريقة أو أسلوب في التفكير ساهمت في تشكيلها جملة معطيات، منها الواقع العربي نفسه بكل مظاهر الخصوصية فيه)(4).

تعدّ شبه الجزيرة العربية فضاءً جغرافياً ثقافياً متميزاً ومكتنزاً بدويلات وقبائل وبعض الحواضر ذات العادات والتقاليد الثقافية المتنوعة في ذلك الوقت،

ص: 49


1- ظ: الجذور الأسطورية المؤسسة للخطاب الثقافي العراقي - دراسة في جينالوجيا الثقافة العراقية: ناجي عباس مطر: 59
2- تمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيل العربي الوسيط: 16
3- تكوين العقل العربي: 254
4- المصدر نفسه: 12

ومكة أهم معالم شبه الجزيرة العربية الدينية، فضلاً عن أنّها منفذ وطريق لكثير من القبائل والقوافل التجارية المارة بها، فهي ممرُ للطريق التجاري في شبه جزيرة العرب، وأهم نقطة في شبه الجزيرة؛ لأنها مرکز تجاري و مالي؛ بسبب موقعها المهم في منتصف الساحل الغربي، على بعد ثانية وأربعين ميلاً من البحر الأحمر، الأمر الذي جعلها محطة صالحة للتجارة والاستراحة في طريق القوافل الطوال التي تجمع في بعض الأحيان ألف جمل بعضها وراء بعض(1).

لقد كان لمكة ومركزها الكعبة أهمية كبيرة وخاصة في حياة العرب قبل الإسلام، إذ كان يؤمها العرب ويشدون إليها الرحال من كل أنحاء الجزيرة للحج والتجارة وغيرها من الأمور التي كانت تتميز بها تلك البقعة من الأرض في الجزيرة العربية، وتنبع أهميتها أيضاً (من كونها كانت مدعوه لتنظيم وتدبير القوى الجديدة للعروبة البدوية. ولأجراء عملية وصل بين العالمين الداخلي والخارجي، عالم القبيلة وعالم المدينة، بشكل لم يحدث أبداً من قبل)(2)، ويدير أغلب الأمور في مكة مجموعة من الأشخاص المتنفذين المعروفين "بالملا"، هذا التجمع العشائري المكون من زعماء القبائل كان استشارياً فقط وليس له سلطة تنفيذية، كانت کل عشيرة مستقلة عن غيرها ولها حرية التصرف في أمورها. لهذا كانت القرارات

ص: 50


1- ظ: قصة الحضارة:: ول و ابریل دیو رانت: 18
2- الفتنة جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر: هشام جعيط: 13

المؤثرة التي يصدرها الملأ هي فقط التي تصدر بالإجماع(1).

وعلى الرغم من اتحاد القبائل القرشية داخل مجتمع مكة اتحاداً يستند إلى توزيع الأعمال، أو الأدوار لتجنب النزاعات والفتن لا غير، كان هناك اختلافاً كبيراً بين تلك القبائل لدرجة كادت تنعدم السلطة الوحدوية فيها، بالنتيجة، هذا الاختلاف يشير إلى علامة أو (آية على انعدام التنظيم المتماسك والعلاقات الموحدة بين الجماعات المتنوعة التي كانت تعيش في تلك البيئة)(2)، فلقد كانت مفاخرهم قبلية، وانتماءاتهم قبلية، وطنيتهم قبلية، كل افعالهم تندرج تحت لواء القبيلة الواحدة، لذلك لم يستطع أي أحد فرض رئاسته بشكل كامل على قبائل مكة كلها(3).

إنّ الكعبة - نقطة التقاء العرب في مكة - باتت في حياتهم مركزاً مهماً، ويلمس ذلك واضحاً في خطبة قالها قصي لقريش: (يا معشر قريش، أنتم سادة العرب، أحسنها وجوهاً، وأوسطها أنساباً... يا معشر قريش أنتم جیران بیت الله، أكرمكم بولايته، وخصكم بجواره... فأكرموا ضيفه، وزوّار بيته، فانهم يأتونكم شعثاً غبراً من كل بلد، فورب هذه البنيّة، لو كان لي مال يحمل ذلك

ص: 51


1- ظ: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: د. جواد علي: 1 / 47. وظ: محمد صلى الله عليه وآله في مكة: ويليام مونتجمري وات: 59
2- سيرة سيد الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه و آله: رسول جعفریان: 230
3- ظ: عبقرية الإسلام في أصول الحكم: منير العجلالی: 27

لكفيتكموه)(1)، وإن أغلب الأصنام المهمة كانت في حرم الكعبة وإليها يلجأ عبدة الأصنام بصورة مستمرة ما ينتج في وقت لاحق اجتماعات يومية أو دورية لسكان مكة يتباحثون فيها أمور دينهم ودنياهم، هذه الأهمية للكعبة في نفوس العرب دعت بعض المعادين لهم إلى التفكير بل العمل على محاولة تدنيس هذا المقدس، وهذا ما فعله أبرهة الحبشي عامل النجاشي على اليمن(2)، ويبدو أنَّ السبب الرئيس والقوي الذي دفع أبرهة إلى الهجوم على الكعبة هو تحققه من الدور الذي تلعبه المنطقة المقدسة حول "مكة" في إطار النظام المكي، فإذا أُرِيد إضعاف قوة مكة وثروتها، فانّه يجب تدمير الحرم المكي ووضع حرم آخر مكانه بوصفه مرکزاً للتجارة لعرب الصحراء(3)، وللكعبة أهمية كبيرة عند العرب في مكة ومحيطها و (لا أدل من قداسة الكعبة عند العرب قبل الإسلام من إعادة قريش تشيد الكعبة حرصاً على هذا البناء من حرمة وقداسة خالدة)(4)، ويبدو أيضاً أنّ حملة أبرهة الحبشي لم تكن الوحيدة التي تدل على مكانة مكة وقداسة الكعبة بل (إنّ أهميتها جلبت إليها أنظار الدول المجاورة منذ القديم وخاصة البيزنطيين)(5).

ص: 52


1- جمهرة خطب العرب في العصور العربية الزاهرة: أحمد زكي صفوت: 1 / 87
2- ظ: الاعتداءات الباطنية على المقدسات الإسلامية: كامل سلامة الدقس: 6
3- ظ : محمد صلى الله عليه و آله في مكة: 67
4- الاعتداءات الباطنية على المقدسات الإسلامية: 37
5- العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته: محمد عابد الجابري: 105

إنّ هذه القداسة وفقاً لهذه الدراسة كانت مزيجاً من قداسة دينية تجارية متوازية، ليس فيها هيمنة لجانب على آخر، إذ إنّ مجتمع النبي محمد صلى الله عليه واله سلم هو مجتمع منفتح تجارياً مع الآخرين وتجارتهم كانت مزجاً بين الدين والاقتصاد، فضلاً عن أنّ الدين كان يرتبط بطقوس وتقاليد كانت التجارة إحدى أهم دعائمه الأساسية.

لقد كان العرب قبل الإسلام يعيشون تحت کنف القبيلة الواحدة التي تعد الوحدة السياسية عند العرب في الجاهلية، والقبيلة تُعد (الهوية التي يعرف بها من خلالها الأفراد المنتمون إليها، فكيانها كيانهم وعاداتها عاداتهم وثقافتها ثقافتهم... ولهذا نرى الفرد القبلي دائماً لصيقاً بها متفانياً في الدفاع عنها مضحياً في سبيل الذات القبلية الجماعية "النحن")(1)، وبالنتيجة أصبحت القبيلة موطناً يفرض هيمنته السوسيو ثقافية على كل المنتمين إليه، فهي بمنزلة النظام السياسي في بلاد العرب قبل الإسلام، وهو النظام الذي يقوم على رابطة القرابة الذي تجتمع الأسر بمقتضاه في عشائر وقبائل(2).

وهؤلاء لم يكن يجمعهم نظاماً واحداً أو سلطة سياسية واحدة فكان لكل قبيلة حاكم صاحب قوة وسلطان، ويبدو إنّ اجتماع السلطة في عائلة رئيس القبيلة

ص: 53


1- شعر المهمشين في عصر ما قبل الإسلام - دراسة على وفق الأنساق الثقافية: 110
2- ظ: قصة الحضارة: 10

وبقاءها قدر الإمكان فيهم من جهة، وتشتت الآراء السياسية والقيادية الوحدوية فيما بين القبائل من جهة أخرى، قد أدى إلى غياب نظام الحكم السياسي الموحد آنذاك، فالنظام السياسي - القبلي - للعرب قبل الاسلام (يتلخص في طاعة أفراد القبيلة للرئيس، وليس لهذه الطاعة منطلق سياسي بل ينبثق من الروح العنصرية والنسبية للقبيلة المتجلية في رئيسها والمتخذة طابعاً روحياً أكثر من غيرها)(1) فهو في ذاته يمثل نظاماً يمكن أن نطلق عليه أو نسميه (أوليغارشياً)(2)، وعلى هذا الأساس، القبيلة ومن فيها يمثلون الجهاز السياسي الذي يدير کل تحركاتهم مع الآخر ومع أنفسهم أيضاً وأعضاء هذا الجهاز هم أبناء القبيلة نفسها فالقبيلة (تفرز أرستقراطية محاربة، أو أرستقراطية الأشراف، وتزود نفسها بخطباء وشعراء وبشبه فروسية، وتقدم نفسها کهيئة أو جهاز سياسي)(3).

لم يطبق نظام الدولة الواحدة على الأغلب من قبل ساكني الحاضرة العربية الأسبابٍ تراها الدراسة أكثر ما تتعلق بعدم رغبة الكثير من العرب بالخضوع السلطانٍ واحدٍ، فشخصية العربي ما قبل الإسلام والتمدن وطبيعته السيكولوجية

ص: 54


1- سيرة سيد الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه و آله: 0237
2- هو سيطرة طبقة ثرية تشكل جزءاً صغيراً من سكان الدولة على القرار السياسي. ظ: الموقع الالكتروني - ويكيبيديا الموسوعة الحرة http://ar.wikipedia.org/wiki (شبكة المعلومات)
3- الفتنة جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر: 14

اعتادت العيش الحر من دون قوانين ثابتة يفرضها الحاكم الواحد(1)، فالقبيلة كانت تلتزم بقوانينها التي سنّتها، هي التي تتماشى مع الحالة الاجتماعية والاقتصادية لكبار القبيلة قبل الطبقات الأخرى، فالقبيلة كانت كل شيء بالنسبة إلى سكان الجزيرة العربية وقد كان (المشترك بين تلك الجزيرة العربية أنها لم تكن تعرف مبدأ الدولة، إذ أنها كانت تنظم وجودها، كل أنواع الحياة المتداخلة على أساس القبيلة)(2)؛ لذلك كان كل شيء يتم إرجاعه إلى قيم القبيلة ومعتقدات القبيلة وقوانينها حتى (المعايير القيمية لعرب الجاهلية كانت تعود في الحقيقة إلى قيم القبيلة. فقيمة كل فرد في القبيلة تتبع موقعه ونفوذه فيها. ودوره الذي يمارسه للمحافظة عليها)(3)، هكذا كان المخيال الجماعي يقود الفرد العربي في كافة جوانبه التي يعيشها.

وعلى الرغم من هذا كانت الأمور تؤول إلى زعيم القبيلة يأمر وينهى حسب ما تقتضيه ظروف القبيلة، إلا أنّ هذا لا يعني استقرار السلطة القيادية بيد زعيم القبيلة استقراراً نهائياً بل كانت (الفوضى الفردية تهدیداً دائماً للسلطة لا تزال السيادة في

ص: 55


1- وقد تكون هناك أسباب ثانوية أُخرى كطبيعة الصحراء التي تحتم السعي وراء العيش والرزق، والتنقل السريع من مكان لآخر التي قد تكون سبباً في الانفلات من الأنظمة الموحدة المستقرة
2- الفتنة جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر: 14
3- سيرة سيد الأنبياء و المرسلين محمد صلى الله عليه و آله: 0235

وضع انفلاتي، على الرغم من اغتصاب الزعيم لها اغتصاباً جزئيا)(1).

إنَّ علاقة الفرد العربي بقبيلته إيجابية من جهة، فقد يكون هو رائد القبيلة وفارسها المغوار، وتصبح هي بمنزلة مرآته التي تعكس صورته أمام المجتمعات الأخرى الصديقة والمعادية، فواحدهم ينعكس في جماعته، يتعزز بها، ولا يكون له موقع حقوقي مميز إلا بقدر ما تقبل هذه الجماعة التجاوب معه والدفاع عنه والتماهي معه(2)، وسلبية من جهةٍ أخرى عندما تتقاطع المصالح الشخصية بين الفرد وقبيلته - هذه التقاطعات قد تكون في حقيقتها خروج الفرد على قيم القبيلة - إذ تذهب الأمور إلى ما لا يحمد عقباه؛ لذلك (تضامن البدوي مع بني قومه يؤمن له عونهم الكبير في أوقات حياته العصيبة، فهم في آن درعه، وسيفه، وسنده، و خلاصه، لكن عندما يكون التصادم عنيفاً بين مصالحهم ومصالحه الشخصية، يكون بإمكانه أن يضحي بقبيلته في مذبح الأنانية)(3)، وفي بعض الأحيان يكون خروج الفرد على القبيلة لإثبات دوره في القبيلة، لاغير، عند شعوره بالتهميش من قبل الاخرين، لكنه يدفع ثمن الضمانة القبلية مقابل هذا الخروج، هذا الانزياح عن قيم المجتمع يتطلب منه أن يلجأ إلى إعمال ثقافته

ص: 56


1- مدخل إلى علم اجتماع الإسلام من الأرواحية إلى الشمولية: د. يوسف شلحت: 172 - 173
2- ظ: المصدر نفسه: 40
3- المصدر نفسه: 42

البطولية، أما بالحديث عن ماضيه الحافل بالقوة والنشاط، أو بفعالية معينة تنبه الآخرين إليه وتبرزه على غيره من أبناء جلدته(1).

والخروج على القبيلة يعني الخروج من ضمانة الأمان في الاستمرار بالحياة الاعتيادية؛ لأن التضامن القبلي كان يمثل شرطاً في الاستمرار وضمانة للحياة في الوسط الصحراوي العربي، فضلاً على أنَّ القبيلة كانت توفر الحماية الرئيسة للفرد(2).

لقد أخذت العصبية القبلية مأخذها من ساكني الصحراء، ذلك السلوك الإنساني الذي يتبع المرء فيه قبيلته أو عائلته أو من ينضم إليهم إتباعاً أعمى ويواليهم ظالمين أو مظلومين، فبالعصبية (تشتد شوكتهم ويخشى جانبهم؛ إذ نُعرة كلّ أحد على نسبه وعصبيته أهم؛ وما جعل الله في قلوب عباده من الشفقة والنُعرة على ذوي أرحامهم وقربائهم موجودة في الطبائع البشرية، وبها یکون التعاضد والتناصر وتعظم رهبة العدو لهم)(3)؛ لأنها - العصبية - قد تكون الرباط القوي الذي يوثق الصلة بين أفراد القبيلة، وقد حصرها صالح أحمد العلي في المجتمعات المعزولة(4)، والدراسة لا ترى ذلك شرطاً في تحقق العصبية؛ إذ إنها -

ص: 57


1- ظ: جماليات النقد الثقافي - نحو رؤية للأنساق الثقافية في الشعر الأندلسي: أحمد جمال المرازيق: 39
2- ظ: الرسول المتخيل - قراءة نقدية في صورة النبي صلى الله عليه و آله في الاستشراق (مونتمغري واط ومکسیم رودنسون): نبيل فازيو: 44
3- المقدمة: عبد الرحمن بن محمد بن خلدونت (808) ه: 156
4- ظ: محاضرات في تاريخ العرب: د. صالح أحمد العلي: 152

وبالعكس - قد تكون أشدّ في المجتمعات المختلطة(1)، فقد تكون العصبية سلاحاً يستعمله الفرد في حال شهد الإساءة، أو التعرض بأي حال من الأحوال من الآخر لأبناء جلدته ودمه، فروابط العصبية تتوقد بسرعة شديدة حين يتعلق الأمر بالآخر مقابل من يميل المرء إليهم، فضلاً عن أنَّ التعصب المبني على أسس غير شرعية ومقوضة لبناء المجتمع بشكل عام يقود المرء إلى اعتماد رأي ما واعتناقه من دون أخذ وقت کافٍ للحكم بإنصاف(2).

إنّ العصبية المبنية على أساس رابطة الدم والنسب والتفاوت الطبقي، ذَمّت فيما بعد، عند مجيء الدين الإسلامي الذي استبدلها بالولاء للإسلام والسبق إليه، واشترط الالتزام بالمنهج الديني المبني على أساس الأخلاق الحميدة والصفات الكريمة الإنسانية والتعايش السلمي - الأخوّة - بين كل أطراف وفئات المجتمع، ونلمس ذلك واضحاً في إشارة للقران الكريم:

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»(3).

فالتعصب يجب أن يكون لما فيه صلاح الأمة وعدم تهميش الآخر وهذه

ص: 58


1- نموذجه صراع الأوس والخزرج
2- ظ: التعصب ماهيةً وانتشاراً في الوطن العربي: د. علي أسعد وطفة، د. عبد الرحمن الأحمد، مقال: 81 - 82
3- الحجرات / 10

الانطلاقة تنبثق عندما يتم تجاوز أطر التفاوت الطبقي وتطبيق ما وصى به الدين الإلهي.

كذلك نجد إشارات للإمام عليّ عليه السلام بخصوص العصبية يقول فيها:

«فَإِن كَانَ لَا بُدّ مِنَ العَصَبِيّةِ، فَليَكُن تَعَصّبُكُم لِمَكَارِمِ الخِصَالِ، وَ مَحَامِدِ الأَفعَالِ، وَ مَحَاسِنِ الأُمُورِ، التّيِ تَفَاضَلَت فِيهَا المُجَدَاءُ وَ النّجَدَاءُ مِن بُيُوتَاتِ العَرَبِ وَ يَعَاسِيبِ القَبَائِلِ، بِالأَخلَاقِ الرّغِيبَةِ، وَ الأَحلَامِ العَظِيمَةِ، وَ الأَخطَارِ الجَلِيلَةِ، وَ الآثَارِ المَحمُودَةِ. فَتَعَصّبُوا لِخِلَالِ الحَمدِ مِنَ الحِفظِ لِلجِوَارِ، وَ الوَفَاءِ بِالذّمَامِ، وَ الطّاعَةِ لِلبِرّ، وَ المَعصِيَةِ لِلكِبرِ، وَ الأَخذِ بِالفَضلِ، وَ الكَفّ عَنِ البغَي، وَ الإِعظَامِ لِلقَتلِ، وَ الإِنصَافِ لِلخَلقِ، وَ الكَظمِ لِلغَيظِ، وَ اجتِنَابِ الفَسَادِ فِي الأَرضِ»(1).

فالإمام عليّ عليه السلام هنا يدعو للانحياز إلى القيم الفاضلة، والتمسك بها، والدفاع عنها، فالتعصب في دين الحق، والذود عنه، أو حماية أهله، بدفع الظلم عنهم، فليس من الحميّة المذمومة أو العصبية الممقوتة، إنَّها دعوة واضحة لذم العصبية المرتبطة بغير ما أراده الله عز وجل للإنسان، والابتعاد عن كل ماله علاقة بالمساس بكرامة المرء، والاتجاه بدفع العصبية نحو المحاسن التي من شأنها الارتقاء بالمجتمع؛ لأن التعصب داء يمنع الفكر من اكتشاف الحقائق، ويجعل

ص: 59


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 7 / 109 - 110

الإنسان غير قادر على التعايش والانسجام مع الآخر، إنه يبقي الإنسان متلذذاً بجهله، حارماً إياه من استثار قدرات عقله، رافضاً التعاطي مع أنداده، من أبناء جنسه ومجتمعه، ومن الملاحظ هنا خلو العصبية القبلية الجاهلية من أغلب هذه الصفات، فلو كانت موجودة فعلاً تنتفي بذلك الحاجة إلى ذكرها أو الإشارة لها من الإمام عليّ عليه السلام، فضلاً عن أنَّ العصبية الموجودة آنذاك (كانت تمارس على أساس عاطفي، شخصي، أو عنصري، أو طبقي، ولم يكن للعقل والمثل الدينية الصافية فيها سوى نصيب يسير)(1).

إنَّ العصبيةَ القبلية متأتيةُ من حبّ الفرد المفرط - غير المعقلن - بحسبه ونسبه، وبالنتيجة تدفعه إلى مساندة أبناء قبيلته أو عشيرته في الحق أو الباطل، وقد يكون التنافس بين أبناء القبائل المختلفة، أوبين أبناء القبيلة الواحدة، وكذلك حدث بين الأوس والخزرج، هذان الحيّان من الأنصار كانت العصبية والتفاخر بينهما مستعرةً منذ حقبة ليست بقصيرة وبقيت مستمرةً حتى بعد الإسلام، فقد (كانا يتصاولان مع رسول الله صلى الله عليه وآله تصاول الفحلين؛ لا تصنع الأوس شيئاً فيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله غَناءً إلاّ قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذا فضلاً علينا عند رسول الله صلى الله عليه وآله في الإسلام، فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها ... وإذا فعلت الخزرج شيئاً، قالت الأوس مثل

ص: 60


1- بين الجاهلية والإسلام: الشيخ محمد مهدي شمس الدين: 29

ذلك)(1)، فهاتان القبيلتان كانتا تعيشان (في فقر و مشاحنات وشقاء، ولا تزيد ثروة كل منهما على بضع نخلات)(2).

ذلك التناقض والتصادم من شأنه أن (يسبب الحركة ويتبدل الجدل في المجتمع إلى تصادم بين الدعوات ونقائضها حين يحمل هذا التناقض من أساس المجتمع ومن داخل النظام الاجتماعي ويوضع في ضمير الناس ووعيهم(3)، وسنری لاحقاً كيف أثرت هذه العصبية على مسار الدولة بعد النبي محمد صلی الله عليه وآله بدءاً من حادثة سقيفة بني ساعده نظراً للتنافس الذي بقي مشتعلاً بينهما واستمر ينخر في جسد المجتمع الإسلامي، وبناءً على هذا تمثل العصبية (رابطة اجتماعية سيكولوجية، شعورية ولا شعورية معاً، تربط أفراد جماعة ما، قائمة على القرابة، ربطاً مستمراً يبرز ويشتد عندما يكون هناك خطر يهدد أولئك الأفراد: كأفراد أو کجماعة)(4).

لقد كان العربي في العصر - الجاهلي يلبي نداء العصبية القبلية في أغلب

ص: 61


1- تاريخ الطبري - تاريخ الرسل والملوك: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ت (310) ه، 2 / 495
2- مسؤولية المثقف: د. علي شريعتي: 104
3- م. ن: 131
4- فكر ابن خلدون العصبية والدولة، د. محمد عابد الجابري: 168

الأحوال وأصعبها تصادماً في حياته(1)، وقد فاقت العصبية القبلية بقوتها على مخيال العربي الجاهلي كل التصورات، حتى الأطر الدينية لم تكن بمأمن من انهيارها أمام تلك العصبية الممتدة إلى اللاحدود، فالحاضنة البدوية الصحراوية (قلما كان أهلها يفكرون في القضايا الدينية بسبب صعوبة الحياة والحروب الدائمية. وعلى العكس من ذلك كانوا يشعرون بتعصب أكثر حيال صيانة العلاقات العائلية والمعتقدات التقليدية)(2).

يعدّ الرق إحدى الظواهر والأنظمة التي كانت موجودة في الأمم السابقة ومنتشرة بشكل واسع، وقد سادت في كل بقاع العالم، وهي عملية اقتصادية واجتماعية متداولة بشكل كبير، يتم فيها حرمان الشخص من حريته الطبيعية وصولاً إلى امتلاكه من قبل ال (غير)، ويراها بعضهم (ظاهرة اجتماعية تقوم على استغلال إنسان قوي لإنسان ضعیف بدلاً من قتله)(3)، وعلى الرغم من المقاربة بين عملية الاسترقاق ووحشية المتخيل تجاه من يمارس هذه الظاهرة، إلا أنها لم تكن (من صنع الإنسان المتوحش وإنما كان من صنع الإنسان المتحضر،

ص: 62


1- ظ: العصبية القبلية وأثرها في الشعر الأموي: د. إحسان النص: 111
2- سيرة سيد الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وآله: 285
3- الرق ماضيه وحاضره: عبد السلام الترمانيني: 16

فالجماعات البدائية التي كانت تعيش في العصر الحجري... لم تعرف الرق)(1).

إنَّ نظام الرق الذي وَرثهُ عرب الجزيرة ممن سبقهم، لم يتأتَ من ولادة آنية لهذا النسق، بل إنه وليد حضارة العرب القديمة فهو يمتد إلى أزمان سابقة، فضلاً عن وجوده لدى الأمم الأخرى، فاليونان مثلا اكتنزت للعبيد قسوة بالغة في التعامل وكتم الحرية، حتى وصل الأمر إلى الحرمان من أغلب الحقوق التي يتمتع بها الإنسان وأبسطها، وهذا الأمر ألقى بظلاله على المؤسسة النخبوية آنذاك(2).

لقد كان الرق أحد ممارسات المجتمع العربي قبل الإسلام، ذلك النسق عدّه العرب جزءاً مهماً من أجزاء حياتهم اليومية، بوصفه يرفع العبء عن كاهلهم، أمّا باستخدام العبيد في الأعمال المنزلية، أو بمساعدة أسيادهم في التجارة وبيع المواشي، أو باستخدامهم في مجال الزراعة الذي يحتاج إلى كثرة اليد العاملة والسواعد القوية، وهذا ما يتوافر عند الرقيق، ولكنهم ومقابل تلك الخدمة (ليس

ص: 63


1- المصدر نفسه: 15
2- فأفلاطون يرى في جمهوريته الفاضلة حرمان الرقيق حق المواطنة وإجبارهم على الطاعة والخضوع لسادتهم الأحرار والآخرين من السادة الأحرار الغرباء أيضاً، وسوف تقتص الدولة من كل عبد يتجاوز هذه القوانين، أما أرسطو فمذهبه في الرق / أنهم مخلوقون للعبودية؛ لأنهم يعملون عمل الآلات التي يتصرف فيها الأحرار ذوو الفكر، فهم آلات حية تلحق في عملها بالآلات الجامدة. ظ: حقائق الإسلام وأباطيل خصومه: عباس محمود العقاد: 159

لهم من خيار سوى الخيار بين حالتين للدونية: إمّا أن يخضعوا من تلقاء أنفسهم، ويصبحون أقناناً؛ أو يجبروا على الخضوع ويختزلون إلى مرتبة العبودية)(1)، وقد كان الوضع مأساوياً بالنسبة للعبيد، فهم لا يملكون أدنى مقومات العيش، لأنهم من الطبقة الدنيا، وهذه الحالة أوصلتهم إلى عدم امتلاكهم أنفسهم وأجسادهم؛ لأنها رهن بيد السادة الأحرار، يستغلونهم جسدياً كيفما يشاؤون.

وقد تمیز عرب الجزيرة بتطبيق معطيات أسلافهم والأمم التي اختلطوا بها فيما يخص الرقيق أيما تطبيق، فقد طبقوا وبصرامة ومن دون مخاتلة ما فرضته عليهم طبيعتهم ومرجعياتهم الأيديولوجية تجاه العبيد. بالطبع القوانين الاستعبادية، والسبي، والعمل الشاق، وحتى القتل أحياناً، وقد أناطوا بهم الحرف والصناعات، والزراعة، وغيرها من الأعمال التي تبغض العرب امتهانها، ولا شك في أنَّ العلاقات الاجتماعية المتدنية القائمة على الظلم / الجهل والاستعباد، هي من أهم أسباب التخلف العام في ذلك الواقع(2).

إنّ كثرة العبيد لم تكن ذا فائدة لهم، ولم تزدهم غلبة، ليس كما قيل (الكثرة تغلب الشجاعة)، ليس بالنسبة إليهم (لقد كانوا - على كثرتهم أو قلتهم - أهون

ص: 64


1- فتح أمريكا - مسألة الآخر: تزفيتان تودوروف: 158
2- ظ: نقد الخطاب الديني: د. نصر حامد أبو زيد: 96

شأناً من أن يحفل بهم صاحب شريعة أو ولاية)(1)، واستخدام الرقيق واحتقارهم من قبل أسيادهم، هو العادة التي دأبت عليها طبقة الأسياد المترفعين عن الإنسانية تجاه العبيد حتى في المناسبات الدينية التي كانوا يؤدونها كما فعلت مثلاً - تلبية عكّ - اذا خرجوا حجّاجّاً قدموا أمامهم غلامين أسودين من غلمانهم فكانا أمام ركبهم.

فيقولون: نحن غراباً عكّ! فتقول عكّ من بعدهما: عكّ اليك عانيه، عبادك اليمانية، کیما نحجّ الثانية(2)؟ والعبيد هنا أجبروا على تقبل نسق الذل والاحتقار حتى في المناسبات التي من المفروض أن ترمز إلى الانسانية، فالغراب من الطيور التي يتشاءم منها المجتمع العربي قبل الإسلام، وذلك لدلالات سلبية تعود مرجعياتها إلى عصور وثقافات سحيقة في القدم، فدلالته تشير إلى البعد والفراق والنعيق والرحيل والهجر وغيرها من الصفات السلبية المخيفة التي يتمثل فيها هذا الطائر في عصر ما قبل الإسلام التي نسبت إلى العبيد تشبهاً هم به(3)، وقد اجترت هذه المعاني السلبية إلى وقتنا الحاضر.

ص: 65


1- حقائق الإسلام وأباطيل خصومه: 163
2- ظ: الأصنام: ابن المنذر هشام بن محمد بن السائب ابن الكلبيت (206) ه: 7
3- ظ: شعر المهمشين في عصر ما قبل الإسلام - دراسة على وفق الأنساق الثقافية : 34 - 35

فشأنهم لم يكن يهّم أحداً وغير قابل للتفكير أو التعديل فيه، والمجتمع غير معني بتحقيق طموحهم في الحياة أو إعطائهم نصيباً من السعادة فيها لذا (کانت مسألتهم من المسائل المفروغ منها أو من تعديلها، بل الكلام فيها)(1). والرق بذلك شکّل ظاهرة سوسيولوجية وثقافية تعارضت مع ما أقره الله عزوجل وخصصه من كرامة للبشر، فسنن ومبادئ الإسلام الرحيم لا تقبل بهكذا انتهاكات مفرطة للمسلمين وغير المسلمين.

ثانياً: الرؤى الدينية

يعدّ الدين من أهم الأنساق الثقافية التي تفصح عن ممارسة الفرد أو الجماعة مع معبوداتهم داخل المجتمعات التي تنتمي لهذا الجانب، ذلك أنه (لا يوجد مجتمع بشري إلا ويعطي الأولوية للدين... فضرورة الدين ضرورة لا تعادلها أي ضرورة أخرى علمية أو ميتولوجية)(2).

والدين عند العرب القدامى كان يعني (علاقة بين طرفين يعظم أحداهم الآخر ويخضع له، فإذا وصف بها الطرف الأول كانت خضوعا وانقياداً. وإذا وصف بها الطرف الثاني باتت تعني أمراً وسلطاناً، وحكماً، وإلزاماً وإذا نظر بها إلى الرباط الجامع

ص: 66


1- حقائق الإسلام وأباطيل خصومه: 163
2- إشكالية المجتمع العربي - قراءة من منظور التحليل النفسي: مصطفی صفوان وعدنان حب الله: 108

بين الطرفين كانت هي الدستور المنظم لتلك العلاقة أو المظهر الذي يعبر عنها)(1).

ويتضح أنَّ الدين يشكلّ في تصورهم (تعلقاً بقوى معينة تعتبرها أقوى منها فتعتقد بها، أي تعبدها وتسلم مصيرها إليها)(2)، بينما الدين الحقيقي لا يتعلق بأشياء خارجة عنه، إنَّه في جوهره يتحدث عن الإنسان، يهتم به، يبنيه ويعلو من شأنه، يرشده إلى طرق الخلاص؛ لأنّ الدين في أصله هو الوعي الأول وغير المباشر للإنسان الذي يدفع به بطريقة اللاوعي نحو كل أمور الحياة ويشكل سلوکه تجاه ذاته وتجاه الأخ(3)، والطرح الديني كما تراه الدراسة يؤدي دوراً حيوياً بوعي أو بدون وعي في توجيه الإنسان نحو أمور الحياة المختلفة.

لقد اتّبع سكان الحاضنة العربية في عقائدهم عموماً ما ألفوه من معتقداتٍ وطقوس دينيةٍ مُورست من الأسلاف، فضلاً عن معتقدات جديدة اكتسبوها من الحواضن المجاورة التي تتناسب مع ما هم عليه، فالهوية الثقافية العربية الدينية القديمة تشكلت من مفاهيم ومعتقدات قديمة تعايشت مع مفاهيم وتطورات ومعتقدات جديدة لمرحلة تالية لها(4).

ص: 67


1- دراسات في الأديان الوثنية القديمة: د. أحمد علي عجيبة: 12
2- أديان ومعتقدات العرب قبل الإسلام: د. سميح دغيم: 81
3- ظ: أصل الدين: فيور باخ، ت: د. أحمد عبد الحليم عطية: 10
4- ظ: تكوين العقل العربي: 41

إنّ التقليد والتمسك بتراث الأقدمين الديني على الأغلب همّش جانب التفكير والبحث والتأمل لدى العرب قبل الإسلام، فهم مقلدون في أغلب معتقداتهم، هذه السمة بدورها جعلتهم منطوين ومنغلقين على عاداتهم التي ورثوها، والحال أنَّ الأمر لا ينطبق على كل قاطني الحاضنة العربية. إذ في الحقيقة لم يكن لهؤلاء معتقد موحد ولا نظام دیني شامل بل سادت في تلك المجتمعات أكثرية وثنية، وقد تنوعت معبوداتهم ما بين الأصنام، الكواكب، والملائكة، الشياطين، حتى الأشجار والحيوانات(1).

أمّا الميزة الدينية التي عرف بها دين عرب قبل الإسلام فهي (الأرواحية)(2) بوصفها (الميزة الدينية لتلك الحالة الاجتماعية فهي تشكل عمودياً الدرجة الأعمق، وتالياً، الأمنع في الفكر الديني العربي)(3).

كان لاختلاف المعبودات المقدسة وتعددها عند العرب قبل الإسلام الدور البارز في التأثير على عقلية العربي، إذ أصبح التشتت في اختيار الآلهة السمة البارزة لديه، ذلك الاختلاف في تعيين الآلهة وضعه (أمام قدسي غامض، قواه مجهولة

ص: 68


1- ظ: المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام:، 6 / 34 وما بعدها
2- هي الاعتقاد بأن جزءاً من البشر يبقى حياً بعد موت الجسد المادي ويقدر أن يتصل بالأحياء بواسطة شخص يخدم بوصفه وسيطاً ظ: مدخل إلى علم اجتماع الإسلام - من الأرواحية إلى الشمولية
3- مدخل إلى علم اجتماع الإسلام - من الأرواحية إلى الشمولية: 174

ومتعارضة، تراود النفوس، وتكون مرهوبة الجانب بقدر ما يكون تحديدها غامضاً من حيث طبيعتها ووظيفتها)(1).

إنّ الفرد العربي كان يؤمن أكثر ما يؤمن بمعتقدات قديمة فرضتها الطبيعة فرضاً، فهو ينقاد لها بل يقدسها ويجعلها في مرتبة مساوية لأهم جوانبه - الاقتصادية - التي يكافح عنها في حياته، وثقافته الدينية كانت ضعيفة وقد عزاها بعضهم إلى نمط الحياة البدوية التي جعلته غير مبالٍ حيال الدين، فضلاً عن أنَّ التنظيرات الدينية لم تثر البلبلة في فكره الواقعي(2)، تلك الممارسات الدينية الضعيفة والهشة كانت قابلة للتفكك؛ لأنها لا تنبع من عقيدة قوية وصلبة وهذا أوجدت لدى الفرد قناعة دينية متزعزعة بشكل أو بآخر أمام تیارات حياته المتصادمة؛ لذلك فإن الممارسات والعقائد الدينية، السطحية والهشة شكلت عقبة بوصفها أداءً في وجه تطور عبادة عامة منظمة(3).

فالدين عند عرب الجزيرة عموماً وعرب مكة خصوصاً كان مجرد طقوس لأغراض تجارية أو سياسية أو اجتماعية تتماهي مع رغباتهم وأهوائهم، لا علاقة لها بالصفة الرئيسة للدين التي هي انعكاسه على أرض الواقع (فالصفة الرئيسية [كذا]

ص: 69


1- بني المقدس عند العرب قبل الإسلام وبعده: د. يوسف شلحد: 53
2- ظ: بنى المقدس عند العرب قبل الإسلام وبعده: 83
3- ظ: مدخل إلى علم اجتماع الإسلام - من الأرواحية إلى الشمولية: 62

للدين - أي دين - هو تدخله في حياة الإنسان الشخصية وخاصة في سلوكياته الشخصية في كل مجالات الحياة إن لم يحمل هذه الصفة فهو ليس بدين)(1).

إنَّ اهتمام العرب - عموماً و قریش خاصةً - على الأغلب بالجانب الديني كان ضئيلاً فهم (لم يكونوا يعطون للدين كبير وزن في حياتهم)(2)، ولم يكن دينهم ديناً خالصاً للعبودية بمعنى أنّ الشأن الديني في مكة كان حاملاً لمجالات أخر بما فيها السياسة والاقتصاد وغيرها(3)، ويبدو أنَّ الأمر ليس كما يراه بعض الباحثين بأنّ قريش متدينة قوية الإيمان بدينها وجاهدت بما جاهدت وضحت بما ضحت في سبيل دينها الذي تدين به(4)، والدليل على ذلك إننا لم نجد في التأريخ القديم القريش ذكراً لإكليروس(5) معين وبیده زمام الأمور الدينية، بل كان الساسة وهم شيوخ القبائل ومن لهم النفوذ التجاري هم من يحكم الأمة - القبيلة - مجموعةً أو أفراداً، إذ إننا: (في أخبار مكة وأخبار الدعوة الإسلامية فيها لا نسمع ذكراً لرجل الدين مطلقاً وليس هناك دليل على أنَّ مقاومي النبي صلى الله عليه وآله کانوا

ص: 70


1- الدين والسلطة قراءة معاصرة للحاكمية: د. محمد شحرور: 431
2- العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته: 100
3- ظ: الرسول المتخيل: 55
4- ومنهم د. طه حسين في كتابه الأدب الجاهلي: 71. وظ: سيرة سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه و آله: 283
5- رجل الدين

رجال الدين)(1)، وكان هؤلاء المتنفذون بيدهم، كل شيء، كل منافذ الحياة الدينية والسياسية والاجتماعية، وفي الحقيقة لم يكن لهؤلاء معتقد موحد ولا نظام ديني شامل بل كانت هناك أكثرية وثنية.

كان العرب في مكة ذوا عبادات شتی ومعتقدات مختلفة على الأغلب ف (كان فيهم من كل ملة ودين، وكان الزندقة والتعطيل في قريش، والمزدكية والمجوسية في تميم، واليهودية والنصرانية في غسان، والشرك وعبادة الأصنام في سائرهم... وكان في شركهم بقية من دين إسماعيل)(2) والعبادة السائدة في قريش ومن حولها هي الوثنية وعبادة الأصنام، وقد ذكر الله تعالى ذلك في القرآن الكريم:

«إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(3).

وقد أشار الإمام عليّ عليه السلام إلى وجود هذا النوع من العبادات قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله:

ص: 71


1- العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته: 101
2- البدء و التاريخ: البلخي ت (322) ه: 1 / 331
3- العنكبوت / 17

«مُنِيخُونَ على حِجارَة خُشْن، وَحَيَّات صُمٍّ، وشوك مبثوث في البلاد، تشْرَبُونَ الماء الخبيث، وتأكلون الطعام الخبيث، تسفكون دماءكم، وتقتلون أولادكم، ووَتَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُم، وتأكلون أموالكم بينكم بالباطل، سبلكم خائفة، والاْصْنَامُ فِيکُمْ مَنْصُوبَةٌ، ولا يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون»(1).

ويبدو أنَّ هذا النوع من الممارسات العبادية يتفق (مع نظام العرب القبلي القائم على الاستقلال، فكان لكل قبيلة مقوماتها ومعتقداتها، فالفرد يفنى في القبيلة والقبيلة مثله الأعلى)(2)، لقد ذكر الإمام عليّ عليه السلام حتى يبين لهم ما أحدثه الإسلام من فرق لهم في إنزال الناس منزلتهم السامية، ومفهوم حكومة الإمام عليّ عليه السلام هو عينه مفهوم النبي صلى الله عليه وآله في بناء الإنسان وارتقائه إلى منزلته السامية.

إنَّ هذه القناعات العبادية الدينية أشار إليها الإمام عليّ عليه السلام بقوله:

«وأهلَ الأرضِ یَومئِذٍ ملَلٌ مُتفَرَقَةٌ، وَأهواءٌ مُنتَشِرةٌ، وطَرائقٌ مستشَتتَةٌ، بَینَ مُشَتبه لله بخَلقِه، أو مُلحَد في اسمه، أو مُشیرٍ إلَى غَيرَه»(3).

فتنوع العبادات والمعتقدات واختلافها كان سمة بارزة لدى العرب قبل

ص: 72


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 3 / 226
2- تاريخ العرب في الجاهلية و عصر الدعوة الإسلامية: رشيد الجميلي: 218
3- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 1 / 73

الإسلام، وقد ألقي هذا الأمر بظلاله فيما بعد على التنوع الفكري لساكني الجزيرة العربية.

ثالثاً: الرؤى الاقتصادية

كان الجانب الاقتصادي للفرد العربي عاملاً مؤثراً في كل مجالات حياته، فهو ينجذب إلى كل ماله علاقة برزقه، حتى قضاياه الدينية، بالنتيجة، برفاهيته الاقتصادية، وقد كان الجانب الاقتصادي ممزوجاً بكل جوانب الحياة الأخرى حتى الدينية منها (ولعل من علامات ذلك أنّ معارضة قريش للرسول لم تشتد إلا بعد قدوم وفد من الطائف محتجا على تهجمه على آلهتها وهجائها لها، وقد كان تهديد المصالح الاقتصادية التابعة لتلك الآلهة أظهر أسباب ذلك الاحتجاج)(1).

لقد فرضت الطبيعة الجغرافية الصحراوية في نفس البدوي العربي حالة من القلق إزاء وضعه الاقتصادي، فكان دائم السفر وراء القوت، وكان مستعداً لعمل أي شيء يكفيه مؤونته ومؤونة عائلته وقبيلته أحياناً؛ الحق، إنَّ هذا الأمر ينطبق على الغالبية العظمى منهم فكانوا يعتمدون على ما تنتجه ماشيتهم تارة، أو على الغارة أو السلب تارة أخرى(2).

ومن المعروف أنَّ روافد الرزق الصحراوي محدودة وغير مستقرة، فيما

ص: 73


1- الرسول المتخيل: 55
2- ظ: فجر الإسلام: 9

ذكرناه آنفاً من مصادر عيش الفرد الصحراوي، فضلاً عن الاعتماد على صيد بعض الحيوانات البرية، هذه العوامل وتلك تجعل من (التقلبات الحادة في الثروة أمر معتاد في الصحراء، حتى أنَّ خبرة العمل عند البدوي ليس فيها شيء غير متوقع)(1).

كانت شدة معاناة العيش في الصحراء من الطقس المتذبذب الحار صيفاً والقارّ شتاءً، يضاف لها القحط الشديد، وقلة مصادر الرزق، هذه العوامل شكّلت هاجساً مخيفاً ومستمراً لدى الإنسان، ويظهر ذلك جلياً في ما ورد من نثرٍ عربيٍ يعبر عن هذه الحالة المأساوية، قيل: (هَل بِالرَّملِ أوشَالٌ؟)(2)، فالرمل هنا المقصود به هو (الصحراء)، وهذا المثل يضرب عند قلة الخير، وللشيء لا يوثق به، وقد جاء تعبيراً دقيقاً عن عدم ثقة ساكن الصحراء ببيئته التي شكلت في مخيلته نموذجاً للحياة الصعبة، فهو لم يرَ أبداً السهولة في الصيد أو الرعي أو حتى السلب والإغارة، كل هذا الاستنزاف للطاقة لم يكن بالأمر المحتوم أن يجلب على صاحبه الرزق أو القوت، بل إنه قد ينجح مرةً وقد يفشل مراتٍ أُخر؛ لذلك فهاجس الخوف وعدم الاطمئنان لحالته الاقتصادية كان دائم الاستقرار في

ص: 74


1- ظ: محمد صلى الله عليه و آله في مكة: 81
2- مجمع الأمثال: 2 / 383. الوشل: الماء القليل يتحلّب من جبل او صخرة، يقال: وجبل واشل يقطر منه الماء، ظ: لسان العرب: 11 / 140 - 725، باب (وشل)

ذهنیته، فضلاً عن مرجعياته السابقة.

أمّا في حاضرة مكة فالحالة الاقتصادية والتجارة لها شأن مدوّي في نفوس أهلها، إذ ازدهرت في عصر ما قبل البعثة ازدهاراً ملحوظاً؛ بسبب كونها استراحةً للقبائل المارّة بها، ولكنّ هذه التجارة كانت تزاول للمنفعة الشخصية؛ لأن الريع الاقتصادي هو مقياس الإنسان عندهم، فالمال الوفير یدر على صاحبه بالسمعة والكرامة وعلو الشأن، والخدم والجواري الكثيرة وبه يعرف، على إننا نجد مقاییس مغايرة لدى الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام في رسم الصورة الاقتصادية للدولة، فهو يرى أنَّ هدف أيّ اقتصاد يجب أن يكون العنصر البشري ذاته وهذه هي الوسيلة الوحيدة لبناء اقتصاد قوي عادل من شانه الارتقاء بالإنسان والمجتمع(1)، والسياسة المالية والاقتصادية التي انتهجها الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام ما هي إلّا امتداداً لسياسة الرسول محمد صلى الله علیه و آله الاقتصادية، فكان هدفه العناية بتطوير الحياة الاقتصادية، والإنفاق على تطويرها، وإنعاش الحياة العامة في جميع أنحاء البلاد بحيث لا يبقى فقير أو بائس أو محتاج، وليس للحاكم في مفهوم الإمام عليّ عليه السلام أن ينأى عن الآخرين في

ص: 75


1- نظام الحكم والإدارة في الإسلام - عهد عليّ بن أبي طالب عليه السلام لمالك الأشتر نموذجاً: فلاح حسن شنشل: 176

حکومته وتركهم في وضعٍ اقتصادي حرج، قد يكون الحصول على قوتٍ يومي أمراً صعباً عليهم، وذلك بتوزیع ثروات الأمة توزیعاً عادلاً على الجميع، هذه الجوانب أكد عليها مراراً وتكراراً في كتبه ورسائله ووصاياه إلى عماله على الأرض، من ذلك کما كتبه إلى عامله عثمان بن حنيف الأنصاري: «وَلَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ، إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ، وَلُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ، وَنَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ - وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ، وَلَا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ - أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى»(1)، هذه السياسة الاقتصادية التي تَبنّاها الإمام عليه السلام قد ثقلت على القوى المنحرفة عن الإسلام، وكانت دافعاً مهماً لهم للخروج على حكومته، والانظام إلى جماعات تضمن لهم الاستغلال، وسلب قوت الشعب، والتلاعب باقتصاد البلاد.

هذا التغيير والنمو الاقتصادي بات عاملاً مهماً في تغيير الحالة التي تعيشها مكة والقبائل المحيطة بها، فنلاحظ أنَّ الحافز الاقتصادي (قد شجع مساراً للتباین التدريجي، سمح للفرد بالتحرر من القيود الجماعية، والانعتاق من ربقة الوصايا القبلية، والاندماج في مجتمع أوسع، الأمة، المترابطة كلياً، في تلك المرحلة، مع

ص: 76


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 8 / 369

الأساس العضوي)(1)، وقد كان الدافع الاقتصادي أحد الخصال التي مكنت قريش من ذيوع صيتها وراء أغلبها، فالتعامل التجاري الناجح يحتاج إلى منطقة آمنة مستقرة، وهو ما سعت قريش إلى محاولة توفيره لطمأنة القوافل التجارية المتعاملة معها، وهذا ناجم من حب السلطة في قريش للجانب الاقتصادي وتعلقها به (فالسلطة السياسية تجد في الجانب الاقتصادي مسوغ وجودها التاريخي)(2).

وإذا ابتعدنا عن إطار القضية قليلاً وجدنا أنّ القرشيين كانوا مولعين بحب المال والتجارة، ووسطاء للتجارة بين الأقوام التي يقطنون معها وبقربها، ولا يضاهي حبهم لهذا الأمر أي شيء آخر، وكان زعماء مكة في زمان النبي محمد صلی الله علیه و آله رجالَ مالٍ قبل كل شيء، مهرة في إدارة شؤون المال، ذوي دهاء، وكانوا مهتمين بأي مجال الاستثمار مربح لأموالهم، ولم يكن أهل مكة وحدهم الذين وقعوا في الشبكة المالية التي نسجوها، ولكن أيضاً كثير من كبار رجال القبائل المحيطة بها(3)، ويدلنا القرآن الكريم على حب العرب وقريش على وجه الخصوص للتجارة، إذ استمر هذا الوله بالتجارة حتى بعد الإسلام بصورةٍ قد تفقده حبهم لدينهم ونبيهم، قال تعالى:

ص: 77


1- بني المقدس عند العرب قبل الإسلام وبعده: 10
2- يجب الدفاع عن المجتمع: ميشيل فوكو: 42
3- محمد صلى الله عليه و آله في مكة: 52

«قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ»(1).

فقد تركوا النبي محمد صلى الله عليه وآله في المسجد وهو قائم يخطب وانفضوا إلى عِير التجارة الذي تنبه الناس بوجوده عبر آلات الطرب واللهو من دفوفي وطبولٍ وغيرها(2).

ومن الملاحظ أيضاً استعمال الجانب الاقتصادي بوصفه وسيلة ضغط قوية على القبيلة الخارجة عن التحالف التي تعد متمردة عليهم، وما مقاطعة العشائر لبني هاشم وعبد المطلب في شعاب مكة إلّا مثالاً واضحاً على الدور المهم للعامل الاقتصادي في تلك المنظومة القبلية.

ومن زاوية أخرى مقابلة، نرى (أنّ علياً رأي للخوارج في الفيء حقاً... وهو مع هذا يعلم أنهم يسبونه ويبلغون منه أكثر من السب، إلا أنهم كانوا مع المسلمين في أمورهم ومحاضرهم)(3)؛ ولذلك فقد كان يعطيهم نصيبهم من الفيء أسوةً بسائر الناس(4).

ص: 78


1- الجمعة / 11
2- ظ: الميزان في تفسير القرآن: السيد محمد حسين الطباطبائي: 19 / 286 - 287
3- الأموال: أبو عبيد القاسم بن سلامت (224) ه: 321
4- ظ: الإمام علي عليه السلام صوت العدالة الإنسانية: جورج جرداق ت (1435) ه: 152

فالإمام عليّ عليه السلام حسب ذلك يبدو أنَّه لم يستخدم المال سلاحاً على رقاب الآخرين على الرغم من إظهارهم البغضاء والرفض له.

كان الربا وهو الزيادة دون وجه أحد معاملات عصر ما قبل الإسلام التي كانوا يروجون لها بشكل واسع؛ لأنها تدر عليهم الأرباح، وقد كان الربا (منتشراً في عصر الجاهلية انتشاراً كبيراً، وقد عدّوه من الأرباح العظيمة - في زعمهم - التي تعود عليهم بالأموال الطائلة... فقد كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدَّين فيقول: لك كذا وكذا، وتؤخر عني فيؤخر عنه)(1).

وكان هذا النوع من الربا شائعاً في الجاهلية؛ نظراً لحاجة الناس إلى الأموال في قضاء حوائجها، يقابله وفرة رؤوس الأموال عند تجار العرب قبل الإسلام الذين كانوا يتاجرون بكل شيء من شأنه أن يأتي بأرباح جديدة تضاف إلى خزينة أموالهم، وإتمام صفقاتهم التجارية بأيّ طريقة تمنح لهم الربح الوفير.

وقد أشار عليّ عليه السلام إلى هذا النوع من المتاجرة في الجاهلية وحذّر من انجرار الناس إليه، يقول عليه السلام: «فَیَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِالنَّبِیذِ،

ص: 79


1- الربا آثاره وأضراره في ضوء الكتاب والسنة: د. سعيد بن علي القحطاني: 10

وَالسُّحْتَ بِالْهَدِیَّهِ، وَالرِّبَا بِالْبَیْعِ»(1).

وفي مكان آخر يقول عليه السلام: «َمَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْهٍ فَقَدِ ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا»(2)، وهو بهذا يؤكد في مفهوم حكومته على حكم الشرع والعمل بأخلاقيات الإسلام في كل مجالات الحياة الاقتصادية.

ص: 80


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 5 / 136
2- المصدر نفسه: 10 / 420

المبحث الثاني

يواجه الدارس للفكر الإسلامي على وفق مناهج الدرس الحديث مصاعب جمّة في التقرّب من حقيقة الأحداث الممتدة على امتداد الحقب الزمنية الطويلة، أو الكشف عن ملابسات ظاهرة معينة لم يتم الكشف عنها بصورة تتناسب والتطور الحاصل في المناهج الدراسية الحديثة، أو لدراسة مفردة معينة شكلت ملحظاً مهماً من ملاحظ التاريخ العربي القديم؛ ذلك أنَّ بعض مناهج الدرس القديمة - کما يبدو - لا تحاول المساس بالتراث بأي أسلوب كان من جهة.

ومن جهة أخرى فهي لا تسبر أغوار الأحداث لاكتناه ما في داخلها من خفايا مضمرة، وهنا كان النقد الثقافي منهجاً یعنی بالاشتغال على الأحداث والممارسات بطريقة علمية تحليلية مدركة لكوامن النصوص والوقائع ومظهرة لمضموراتها، فهو (نظرية جديدة في النقد تقوم على البحث عن الثقافي في النصي

ص: 81

وعن النصي في الثقافي)(1)؛ بينما يلاحظ أنَّ النقد الأدبي يقوم بعمليتين متواشجتين الأولى رصده التأثير لما هو خارج النص في النص والأخرى كشفه تأثير النص فيما هو خارجه أي المجتمع، فهو لا يقوم بالمعالجة كما هو الحال مع النقد الثقافي(2).

اقتضت حكمة الله جل جلاله أن يوعظ الأمم وينذرها، ويعرفها قدرته وقوته وعفوه ورحمته في كل زمانٍ ومكان بالأديان والرسل؛ لكي يكونوا حجةً على الخلق فيما بعد، أولئك الرسل الذين كانوا يتجهون إلى الناس (ويقومون بخلق مبادئ جديدة ورؤى جديدة وحركة وطاقة جديدة في أعماق وجدان مجتمعاتهم وعصرهم)(3).

فهم لا يأتون إلا بعد وجود نقصٍ في آليات المعرفة الإنسانية ووجود ضرورة إنسانية ملحة تستدعي تغيير المنهج نحو رؤية أكمل وأشمل، ودین الإسلام خاتم الأديان والرسالات، جامع وناسخ للرسالات السابقة، إنه دین لكل الأمم خارج الأطر الزمانية والمكانية، به بشر الله جلّ جلاله الناس، وبه أنذرهم، وبذلك بشر به النبي محمد صلى الله عليه وآله، ووصفه الإمام عليّ عليه

ص: 82


1- تكوين النظرية في الفكر الإسلامي والفكر العربي المعاصر، ناظم عودة: 353
2- ظ: جدلية الأنساق المُضمرة في الشعر الجاهلي، دراسة بحسب النقد الثقافي: سحر کاظم الشجيري: 35
3- مسؤولية المثقف: 12

السلام(1)؛ إنّ السلوك مع الآخر هي الصورة التي يبنى عليها في تحديد مدى الحالة التي يرتقي لها أي دين أو مذهب عند الاكتناه فيه، فالعلاقة مع الآخر تتضمن عدة مستويات، منها المستوى السلوكي: كأن يكون الآخر حسناً أو سيئاً، والمستوى العملي الذي يتم تبني قيم الآخر، أو رفضه، أو إخضاعه، أو الخضوع له، أو الوقوف على الحياد، أو اللامبالاة، والمستوى المعرفي وفيه تتم معرفة الآخر أو الجهل بهويته(2).

وقد انماز الدين الإسلامي - في خصائصه - بإمكانية التلاقي مع الآخر في كل المستويات، فهو ينفتح على الأشخاص والأديان معاً انطلاقاً من الالتقاء بوجه من الوجوه، بل يذهب الدين الإسلامي إلى أبعد من ذلك، إذ أنه ينظر إلى الآخر (نظرة مغايرة، فيتقبله ويرى فيه مكملاً أو مماثلاً، وقد يتماهي معه أو يتوحد به

ص: 83


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 7 / 112. يقول عنه الإمام عليّ عليه السلام: «الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذی شَرَعَ الإسْلَامَ فَسَهَّلَ شَرَائِعَهُ لِمَنْ وَرَدَهُ، وَأَعَزَّ أَرْکَانَهُ عَلَی مَنْ غَالَبَهُ، فَجَعَلَهُ أَمْناً لِمَنْ عَلِقَهُ، وَسِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ، وَبُرْهَاناً لِمَنْ تَکَلَّمَ بِهِ، وَشَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ عَنْهُ، وَنُوراً لِمَنِ اسْتَضَاءَ بِهِ، وَفَهْماً لِمَنْ عَقَلَ، وَلُبّاً لِمَنْ تَدَبَّرَ، وَآیَهً لِمَنْ تَوَسَّمَ، وَتَبْصِرَهً لِمَنْ عَزَمَ، وَعِبْرَهً لِمَنِ اتَّعَظَ، وَنَجَاهً لِمَنْ صَدَّقَ، وَثِقَهً لِمَنْ تَوَکَّلَ، وَرَاحَهً لِمَنْ فَوَّضَ، وَجُنَّهً لِمَنْ صَبَرَ، فَهُوَ أَبْلَجُ الْمَاهجِ وَأَوْضَحُ الْوَلَائِجِ؛ مُشْرَفُ الْمَنَارِ، مُشْرِقُ الْجَوَادِّ، مُضِیءُ الْمَصَابِیحِ، کَرَیمُ الْمِضْارِ، رَفِیعُ الْغَایَهِ، جَامِعُ الْحَلْبَهِ، مُتَنَافِسُ السُّبْقَهِ، شَرِیفُ الْفُرْسَانِ. التَّصْدِیقُ مِنْهَاجُهُ، وَالصَّالِحَاتُ مَنَارُهُ، وَالْمَوْتُ غَایَتُهُ، وَالدُّنْیَا مِضْمارُهُ، وَالْقِیَامَهُ حَلْبَتُهُ، وَالْجَنَّهُ سُبْقَتُهُ»
2- ظ: فتح أمريكا، مسألة الآخر: 197

وذلك بصرف النظر عن فوارق اللغة أو العرق أو الدين أو الثقافة أو أي انتماء آخر)(1)، وهذا لا يعني (أن نكتشف فيمن نختلف عنهم وننغلق ضدهم وجوهاً تجمعنا بهم، كما لا يبعد أن نكتشف فيمن نتماثل معهم وننفتح عليهم وجوهاً تبعدنا عنهم)(2).

قد لا نسلّم جدلاً بأنّ عصر التسامح والانفتاح كان ممتداً على طول العصور الإسلامية المختلفة، إنّ التشكيك في ذلك وارد جداً، وتذهب الدراسة إلى أكثر من ذلك في القول: إنّ الانفتاح على الآخر كان في ضمن حقب زمنية محددة وداخل هذه الحقب الزمنية كان منهج التسامح محصوراً بأشخاص محددين، أفصحت عنهم ممارساتهم مع الآخرين على أرض الواقع، على أننا في الجانب الآخر نجد فئات - أفراداً ومجموعات - کانت (تمارس دورها داخل هذا الفضاء بصفتها أنظمة تشريعية - ثقافية للاستبعاد المتبادل)(3).

وقد تميزت الهوية الإسلامية من خلال التعليمات الإسلامية المتمثلة بالقرآن الكريم، أو ممارسات النبي محمد صلى الله عليه وآله وخطاباته بالانفتاحية والتسامحية حيال المنطوين تحت كنف المنظومة الإسلامية، أو من كان خارجها ممن

ص: 84


1- نواب الأرض والسماء، حوار العقل المقدس: نصر حامد أبو زيد وآخرون: 102
2- المصدر نفسه: 109
3- الإسلام، أوربا، الغرب - رهانات المعني وإرادات الهيمنة: محمد أركون: 234

ينتمون إلى هوية أخرى، ذلك الموقف ينبئنا أن الإسلام يحفظ مقامات الناس وحيثياتهم... وهذا في حد ذاته الحضارة، هو عامل قوة في حضارة جديدة يدل على خلق إنسان جديد، كما في قصة الملك الغساني و المسلم(1).

بل إنَّ الإسلام كان يعيش في كنفه كثير من المجتمعات غير الإسلامية کاليهود والنصارى؛ لأنه ينظر إلى الإنسان بوصفه جزءاً من منظومة كلية شاملة أينما كان وتحت أي مسمى، فبناء الإنسان كان هدف الرسالة الإسلامية وعلى ذلك عمل النبي محمد صلى الله عليه وآله، فجمهورية النبي لا تبني وجودها وقيمتها على أهرامات الطين لتسجل على أنها حضارية، وإنما ترى الحضارة هي أن تبني في الطين البشري أهرامات و أهرامات إنسانية(2)، وهذا لا يعني عدم وجود نظرة انغلاقية إسلامية (إذ لا هوية إلا وتبدي انفتاحاً وانغلاقاً في آن)(3).

قد نجد ثمة إرهاصات أولى تلمح إلى تقبل بعض قاطني الحاضنة العربية

ص: 85


1- ظ: مسؤولية المثقف: 113 - 115 .. عندما جاء الملك الغساني ليسلم وطأ المسلم قباء السيد الغساني فلطم الملك الغساني المسلم، ورفض المسلم أن يصفح عنه وطلب من الحاكم أن يلطم الملك، بعدها طلب الغساني مهلة لإعادة لملمة أفكاره، وعلى الرغم من ذلك أعطي المهلة، تلك المهلة التي هرب فيها فيما بعد ورجع إلى بلده. للاطلاع على القصة كاملة ظ: المكان نفسه
2- ظ: جمهورية النبي أهرامات الأنبياء: عبد الرزاق الجبران: 15
3- نواب الأرض والسماء - حوار العقل المقدس: 110

الدين الجديد - أي دين - فقد كانت (الجزيرة العربية... في ذروة التحول.

وكان انتشار النصرانية واليهودية في داخلها، وعلاقاتها مع الإمبراطورية البيزنطية يدعوان العقول إلى نبذ العبادة الوثنية)(1)، هذه العلاقات كانت مدعومة بتجمع قبائلي كبير استثمره القرشيون بمهارة ساعدهم فيما بعد على ضمان انتصارهم الجزئي تمهيداً لحركة الإسلام الكبرى(2).

إنَّ تلك المنظومات الاجتماعية المتوافرة في الجزيرة آنذاك، كان أغلبها يتعامل على وفق معايير وأطر تتخذ من الامتيازات طابعاً جوهرياً، الأمر الذي لم يحبذه الدين الإسلامي، فقد (رفض الإسلام المعايير القيمية القبلية وطبيعة حياة القبيلة التي تمثل عامل التفرقة والتشتت، وسعى إلى استبدال الإيمان والتقوى في قلوب الناس بالنزعات الجاهلية)(3).

وألغى التمايز المادي والمبني على أسس غير أخلاقية، فهو لم يكن (إلا ثورة على الرذائل، ودعوة إلى نبذ الباطل، والتمسك بمكارم الأخلاق والتعاون على

ص: 86


1- مدخل إلى علم اجتماع الإسلام - من الأرواحية إلى الشمولية: 171
2- ظ: المصدر نفسه: 122
3- سيرة سيد الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه و آله: 239

البر والتقوى)(1).

هذا الإلغاء والاستبدال الواقعي لعناصر بأخرى جاء نتيجة رؤية عميقة وشاملة لما كان يعانيه المجتمع العربي من تفكك بسبب تلك الفوارق الطبقية التي عالجها الإسلام بطريقة ذكية ألا وهي السبق إلى دين الإسلام.

يروى إنّ الإمام علياً عليه السلام صاحب رجلاً ذميّاً فقال له الذميّ: أين تريد يا عبد الله؟ قال: أريد الكوفة، فلما عَدِلَ الطريق بالذميّ عَدِلَ معه الإمام عليّ عليه السلام. فقال له الذميّ: أليس زعمت تريد الكوفة؟ قال: بلى، فقال له: لم عَدِلَت معي وقد علمت ذلك؟ فقال له الإمامَ عليّ عليه السلام: هذا من تمام حسن الصحبة، أن يشيع الرجل صاحبه هنيهةً إذا فارقه، وكذلك أمرنا نبينا. فقال له: هكذا قال نبيكم، قال: نعم، فقال له الذميّ: لا جرم إنما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة، وإني أشهدك إني على دينك فرجع الذميّ مع عليّ عليه السلام فلما عرفه بأفعاله ونسبه أسلم(2).

لاشك في أنَّ حسن العلاقة الموسومة بممارسة فعلية مع الآخر له بالغ

ص: 87


1- أصالة الحضارة العربية: ناجي معروف 2 / 292. نقلاً عن: يوتوبيا - جدل العدالة والمدينة الفاضلة من أفلاطون إلى ابن خلدون: د. طه جزاع: 10
2- ظ: الصداقة والأصدقاء: محمد هادي: 13 - 14

التأثير في تغيير وجهة نظر الآخر عن صاحب الممارسة؛ ولذلك فإن (الاهتمام في العلاقات الإنسانية ... يمثل أحد المقومات الأساسية لنجاح القادة)(1).

بهذا المفهوم كان تأثير الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام واضح المعالم على من عاصروه ورافقوا مسيرته، من كان منهم على دينه ومن لم يكن كذلك، والرجل الذميّ الذي رافق الإمام عليّ عليه السلام في دربه آمن بدين الإمام عليّ عليه السلام وهو لا يعرفه ولا يعرف شيئاً عن دينه، ولكن سلوك الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام معه جعله يشعر ويطمأن لهذا الدين الذي يعترف بالآخر ويَكنّ له كل الاحترام والإنسانية في كل مجلات الحياة المتنوعة، مع إلغاء الامتيازات الجاهلية القائمة على الطبقية، إنّ (مآثر الجاهلية لا اعتبار لها في الإسلام وبالنتيجة فمراتب الناس وتراتبهم الاجتماعي يجب أن يتغير ليصبح مبنياً على السابقة في الإسلام)(2).

وبهذه الحالة أصبح الإسلام المال المنطقي والضروري لتلك الحالة الدينية والاجتماعية والاقتصادية التي كان يعيشها العرب(3).

لم ينفِ الإسلام ما سبقه من تاريخ الأمم والحضارات التي كانت تؤمن

ص: 88


1- نظام الحكم والإدارة في الإسلام، عهد الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام لمالك الأشتر نموذجاً: 89
2- العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته: 123
3- ظ: مدخل إلى علم اجتماع الإسلام - من الأرواحية إلى الشمولية: 22

بالتوحيد، بل ارتبط بها ارتباطاً وثيقاً، فقد كان (يصرّ على جذوره التاريخية القوية، ومن خلال ربط نفسه برسالة من سلف من الأنبياء، عرض التوحيد کتیار مبدئي في تاريخ الحياة الفكرية للإنسان)(1)، بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك فهو (لم ينكر على الإطلاق أنه متمم لليهودية الحقة والمسيحية الحقة، أنه إنما أتي: متمماً لمن قبله من الأنبياء والرسل، ومصدقاً للتوراة الصحيحة وللإنجيل الصحيح)(2).

لقد سلم الإنسان العربي قبل الإسلام نفسه إلى قوى كان يعتقد أنها أقوى منه، وبالنتيجة، سيطرت على كل مجريات حياته، هذه المعتقدات الدينية التي كانت قبل الإسلام، لا ريب أنّ هوّة كبيرة تفصل بينها وبين ما جاءت به الرسالة المحمدية(3)، إنَّه موروث عربي عقدي ديني قديم لم يكن له أيّ أثر على مستوى الشريعة الإسلامية، فلقد حل التشريع الإسلامي محل كل التشريعات الأخرى(4)، وبالنتيجة أصبحت العادات والتقاليد الإسلامية هي السائدة في كل مجالات الحياة المختلفة، وقناعة الإنسان بهذه القيم والعقائد الدينية الإسلامية ينبع عنه

ص: 89


1- سيرة سيد الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وآله: 439
2- نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام: علي سامي النشار: 71
3- ظ: بنى المقدس عند العرب قبل الإسلام وبعده: 7
4- ظ: تكوين العقل العربي: 98

موالاة الفرد لمن يتشارك معه في هذه القناعة(1).

عندما تذكر الحقبة المقبل إسلامية يتبادر إلى الذهن فيما يخص العبودية والاسترقاق، تلك الصورة البشعة والمهولة والدونية للمتخيل العربي تجاه الرقيق والتعامل معهم، إذ إنّ التطبع الثقافي الانتقالي من السلف إلى الخلف كان له الدور البارز في حصر مسألة العبودية بأناس معينين كأنما خلقوا للعبودية، فالتوصية مستمرة في أن لا عبودية إلا في هؤلاء، ويبدو أنَّ هذا الانتقال الثقافي ذا التأثر والتأثير انتقل إلى مرحلة أخطر من سابقتها، ألا وهي مرحلة الاعتقاد الكامل بأن العبودية أمرُ طبيعيُ، وإنّ لابد هناك من فرق بين السيد الحر والعبد يتحكم على أساس ذلك الأول بالثاني تحكماً فضيعاً، ويخضع الثاني للأول خضوعاً أعمى غير قابل للاستبصار.

وإذا نظرنا بهذه الخصوصية في إخبار العرب وغير العرب قبل الإسلام نجد مواقف مليئةً بالحقد والكراهية والضغينة والاستعباد - إلّا ما ندر - لهذه الطبقة من البشر، فكأنما هم آلات جامدة خلقت لخدمة أسيادهم، بقيت تلك الحالة حتى بزغت شمس الإسلام وطلّ نور النبي محمد صلى الله عليه وآله ليعيد الحقوق إلى تلك الفئة المهضومة المظلومة.

جاء التصرف الإسلامي حيال مسألة الاسترقاق حكيماً ودقيقاً ومماهياً

ص: 90


1- ظ: الدين والسلطة قراءة معاصرة للحاكمية: 408

لظروف المرحلة الراهنة، فهو لم يقم بتحريمه بشكل نهائي، والإسلام (لم يقطع بنفي هذه الظاهرة كما قطع بنفي الظواهر الأخری کشرب الخمر وغيره)(1)؛ لما لهذا الأمر من تأثير سلبي على مدى استجابة الداخلين في الإسلام من المنتفعين بهذا النوع من التجارة من جهة، خاصةً إذا علمنا أنّ قریش والطائف ويثرب - المدينة المنورة - أدركوا قيمة الاستفادة من عمل العبيد في الزراعة ولاسيما وأن بعضهم كان يمتلك بعض الأراضي(2)، ومن جهة أخرى الأخذ بالحسبان التماهي مع بعضهم الذين اعتادوا التعامل مع هكذا ظاهرة بأنها اعتيادية ولا تمت للحرام أو مخالفة القواعد الدينية والدنيوية.

إنّ الإسلام لم يوجد الرق ولم يشرعه؛ لأنه جاء والرقُ منتشرٌ - بين الناس، وعند الأمم كلها، ولم يوجد في القرآن نصٌ يبيح الرق، وإنما جاء فيه وفي السنة النبوية الدعوة إلى تحرير العبيد، واتخذ وسائلَ شتى لإنقاذ العبيد من العبودية.

لقد كان الإسلام صريحاً في المساواة الإنسانية بين الرقيق والسادة، وصريحاً في إعطاء الضمانات لهذه الطائفة من البشر التي لا ينفي وضعهم الاجتماعي الذي أصبحوا فيه بفعل فاعل، إنسانيتهم وبشريتهم، وأعطاهم تشريعات لم يصل إليها

ص: 91


1- تمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيل العربي الوسیط: 123
2- ظ: تاريخ العرب السياسي والحضاري في العصرين القديم والوسيط: محمود السباعي وآخرون: 2 / 6

أي دين قبل الإسلام ولا بعده.

لقد كانت نظرة الإسلام إلى الرّق كانت نظرة حصيفة، إذ إنَّه أهتم بالعتق أكثر من اهتمامه بالرّق، فلقد شرّع (العتق ولم يشرّع الّرق؛ إذ كان الرق مشروعاً قبل الإسلام في القوانين الوضعية والدينية بجميع أنواعه: رق الأسر في الحروب، ورق السبي في غارات القبائل بعضها على بعض، ورق البيع والشراء، ومنه رق الاستدانة أو الوفاء بالديون)(1).

لقد قام الإسلام بخطوة حاسمة ومهمة فيما يخص قضية الرق ألا وهي الحد من روافده، فقد حصر منابعه بعدما كانت كثيرة(2)، والحرب إحدى هذه المنابع، ولكنه لم يطلق الأمر لكل الحروب، بل قيدها بشرطيين، أن تكون الحروب قانونية منتظمة، والشرط الآخر أن يكون القتال والحروب مع الكافرين(3). ويبدو أنَّ القوانين الإسلامية بهذا الشأن جاءت لتكون وسيلة ضغط على الأعداء الذين يأسرون المسلمين، إذ من الممكن القيام بصفقات تبادل الأسرى، أو عدم التعرض للأسرى من الطرفين؛ لأن الجانب الآخر سيفكر في أسراه إن أراد إيذاء أسرى المسلمين، فضلاً عن أنَّ الإسلام لم يعني حتماً الانتقاص من حرية أسرى الحروب

ص: 92


1- حقائق الإسلام وأباطيل خصومه: 158
2- للاستزادة، ظ: عتق الرقيق وولاء العتاقة عند العرب قبل الإسلام وعصر الرسالة: رنا سالم محمد: 302
3- ظ: الرق في الإسلام: 57

ومن يقعون بين أيدي المسلمين في القتال، أو التعامل معهم بسلوكيات لم تقرها الإنسانية، وإذا حدث شيء من ذلك فانه يعود إلى ممارسات فردية شخصية تخص صاحب تلك الممارسات، ولا شأن للإسلام بها من قريب ولا بعيد. وعلى الرغم من ذلك فإن تسامح الإسلام وصل إلى حد العفو عن الأسرى عن طريق الفداء أو المن من قبل المسلمين، جاء في الذكر الحكيم:

«حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا»(1).

كان الرقيق من السباقين للانضواء تحت خيمة الإسلام، لأنهم وجدوا فيه المدافع الحقيقي عن حقوقهم المسلوبة، والمعبّر بحق عما يجول في مخيلتهم من رؤی وأفكار تنشد بالحرية والتعامل الحسن والتقوى ومنطلقاً لها، بيد أنَّ إسلام بعضهم كان طريقاً مشروعاً للتخلص من العبودية وإن لم يكن الإسلام اغلب همهم.

لقد جعل الإسلام التقوى والإيان أساساً للتفاضل بين الناس، وجعل المساواة شعاراً فلم يفرق بين أبيض أو أسود ولا بين حر أو عبد، جاء في الذكر الحكيم:

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ

ص: 93


1- محمد / 4

لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»(1).

إنَّ التفاضلَ على أساس الحر / العبد، والغني / الفقير، واستلاب الحرية الإنسانية، والضغط القوي الذي ولّدته الميزات الطبقية الاجتماعية قد زاد (من تفاقم الصراع النفسي الداخلي، حتى ترى الذات نفسها محاصرةً بقيود العبودية وإهدار الكرامة الإنسانية وفقد الحرية)(2)؛ ولهذا السبب نجد بلالاً بن رباح الصحابي بوصفه مثالاً واضحاً وصريحاً على هذه القضية، قد تحمل ما تحمل من عتو قریش وظلمهم إياه، شأنه في ذلك شأن كل العبيد الذين اضطهدتهم قریش قبل حتى بعد الإسلام، فبلال تبع النبي محمد صلى الله عليه وآله لأن الدين معه يقول بحرية الإنسان وبعدالة الشريعة تجاه كل الناس الأسود منهم والأحمر، وليس لأنه يقول بوحدانية الإله الذي لا يقول به دین اللات والعزى، فقریش لديها إلهاً اسمه الله أيضاً مثل النبي محمد صلى الله عليه وآله لا يختلفان ولكن ليس لديها الإنسان كما هو لديه ولهذا جاءه سعياً(3).

لقد تمتع الرقيق إبان العهد الإسلامي بكل الحقوق التي كانت مسلوبة منه في يومٍ ما، وقد دفع ذلك المستشرق غوستاف لوبون إلى القول: (إنّ الرق

ص: 94


1- الحجرات / 13
2- شعر المهمشين في عصر ما قبل الإسلام: 86
3- ظ: لصوص الله - إنقاذ اليوتوبيا الإسلامية: عبد الرزاق الجبران: 8

عند المسلمين غيره عند النصارى فيما مضى، وإن حال الأرقاء في الشرق أفضل من حال الخدم في أوربة، فالأرقاء يؤلفون جزءاً من الأسر، ويستطيعون الزواج ببنات سادتهم أحياناً)(1). وعمل الدين الإسلامي على إعطاء كل حقوق الإنسان للعبد ليمهد بذلك إلى ردم الهوة الفاصلة بين السيد والعبد إلى حدٍ ما، حتى أنَّ العبيد في كنف الإسلام ورعاية النبي صلى الله عليه وآله رأوا معاملةً قلّ نظيرها أو انعدم قبل ذلك الوقت، فباتوا يفضلون عبودية الإسلام على الحرية، وخبر زید بن حارثة أصدق مثالٍ على حسن معاملة النبي صلى الله عليه وآله لهذه الفئة من الناس، فعندما جاء أبوه يريد شراءه من النبي صلى الله عليه وآله قال له النبي محمد صلى الله عليه وآله: إن رضي بذلك فعلت، فسُئل زید فقال: ذل الرق مع صحبته أحب إلي من عز الحرية مع مفارقته، فقال النبي صلى الله عليه وآله إذاً اخترناه(2).

إنّ رفض زيد الرحيل مع أبيه كان قراراً مذهلاً ينم عن مدى الرضا والقبول والاطمئنان بجوار النبي محمد صلى الله عليه وآله، إذ عثر زید بن حارثة على مبتغاه المنشود في طلب الحرية واستحصاله كل حقوقه المستلبة؛ تعد ظاهرة

ص: 95


1- حضارة العرب: غوستاف لوبون: 376
2- ربيع الأبرار ونصوص الأخبار: أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشريت (538) ه: 3 / 343

الموالاة أو ولاء العتاقة بوصفها نظاماً اجتماعياً قديماً موجوداً في الحياة الاجتماعية عند العرب قبل الإسلام، من الظواهر المؤثرة في الحياة العربية، إذ ساعدت هذه السمة السوسيولوجية اجتماعياً على تلوين الطيف العربي بألوان من الفئات الإنسانية الأخرى، وبالنتيجة كشفت النقاب عن طبيعة التعامل مع الآخر ومدى استيعاب العربي للآخر والاستفادة منه والتماهي معه، وقد أبرزت الحالة السيكولوجية التي يكتنزها العربي للآخر؛ للولاء في معاجم اللغة معان متعددة تدور كلها حول العصبة، أو النصرة، أو الصحبة، أو القرابة، أو المعاشرة والمحبة، أو الاسترقاق(1)، وتطلق كلمة موالي على كل فرد أو مجموعة أفراد يوالون العرب، والولاء يقع على العرب ومن كان أصله ليس عربياً على السواء، ويبدو من خلال ذلك أنَّ هناك توافق واضح بين المعنى اللغوي للولاء والاستعمال الاصطلاحي لهذا المعني داخل النظام البيئي العربي.

وكان بمكة وسائر الأمكنة عدد كبير من هؤلاء الموالي(2). وبعد انتهاء عصر - العبودية والاسترقاق الظالم بمجيء الإسلام ومحاولة القضاء عليه بشكل شبه تام، جاء عصر الموالي، وهو عصر حمل عنوان الموالاة بوصفها مهنةً يمتهنها بعض الناس لغرض کسب المال والاستمرار في ديمومة الحياة. إذ تحولت كلمة مولى من معنی

ص: 96


1- ظ: لسان العرب: 10 / باب (ولي)
2- ظ: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 7 / 461

الحليف أو الصديق إلى معنى الخادم، وأصبح الموالي - العبيد المعتقون - مساعدين للعرب المسلمين في قضاء شؤونهم، وباتوا يحضون بمعاملة حسنة وبكامل الحقوق الإنسانية المترتبة لهم وعليهم بوصفهم مواطنين.

ويبدو أنَّ هناك أسباباً أخر أدت إلى زيادة ملحوظة في عدد الموالي الذين باتوا يتخذون من الدين الإسلامي مستقراً وملاذاً لهم؛ من هذه الأسباب حاجة العرب إلى من يعينهم في أعمالهم وشؤونهم المنزلية خاصةً إذا علمنا افتقار العرب لمن يخدمهم ويعينهم بعد عملية العتق، فكلنا يعلم إنّ الشؤون الحياتية تأخذ وقتاً طويلاً من الإنسان خاصةً إذا كان يمتلك تجارةً، أو حرفةً، فحاجة الإنسان إلى من يعينه في شؤونه ليس من باب الكسل أو التعالي بل حاجته إلى من يسنده في أمور تحتاج جهداً أكثر ووقتاً أطول، فضلاً عن أنَّ المعتوقين من الرقيق كانوا بحاجة ماسة إلى العمل وكسب الرزق لتمشية أمورهم المادية والحصول على القوت للاستمرار في الحياة.

إنَّ الحرية هي الضالة المنشودة التي يبحث عنها الناس - كل الناس - في أرجاء المعمورة؛ ولذلك تحتل خطابات الحرية المرتبة العليا بين الخطابات المؤثرة، فكلمة عمر بن الخطاب الشهيرة إلى ابن العاص (متی تعبدتم الناسَ وقد ولدتهم

ص: 97

أمهاتهم أحراراً)(1) ظلت مدوية في آذان ابن العاص وحاشيته، ولكن الملاحظ في هذه الكلمة والنصيحة أنها موجّهة إلى الأسياد وحدهم، فالأمر منوط بالأسياد وليس بالضعفاء والخطاب موجه للسادة وحدهم(2)، في حين نرى أنَّ خطاباً آخر للإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام موجهاً للعبيد يتحدث عن الحرية يقول فيه:

(لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً)(3)، فالعبودية هنا فكرية وليست جسدية؛ لأن العبد موجود بفعل سلطة الغير.

وإذا أمعنّا في هذا النص نجد داخل هذا الخطاب العام فجوات تمنح القارئ أو المتلقي دوراً كبيراً في تأويل واكتناه معناه، واكتشاف أبعاده الثقافية المضمورة، وحقائقه الاجتماعية داخل المجتمع، ذي النسيج الثقافي الخاص والأعراف الثقافية الخاصة(4)، هذا الخطاب موجه إلى الإنسان بصوره عامة ليذكره بحقه الطبيعي وهو بذلك إنما يلقي في نفسه بذور الثورة على كل ما من شأنه أن يضيق عليه ويسلبه حقه في أن يكون حراً، فالفرق شاسع بين النظرتين إلى الحرية وهو فرق يتناول الأصول لا الفروع؛ لان الإمام عليً عليه السلام في نظره الحرية نابعة من

ص: 98


1- ظ: التذكرة الحمدونية: ابن حمدون: 3 / 210
2- ظ: الإمام علي عليه السلام صوت العدالة الإنسانية: 145
3- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 8 / 248
4- ظ: جماليات النقد الثقافي - نحو رؤية للأنساق الثقافية في الشعر الأندلسي: 293

أصولها الرئيسة وهي الإنسان من دون إناطتها بالأسياد فقط فالفرق جذري لا فرعي(1).

إنَّ هذه الثقافة العقلانية المتمثلة بمخاطبة الإنسان بصورته الشمولية التي بثها الإمام عليّ عليه السلام اشتغلت على مساحة أوسع مما بدت عليه، فبنية الذات الإنسانية التي كانت سطحية وهشة قبل الدولة المحمدية وبعدها نتيجة اجترار ثقافة ما قبل عصر الإسلام إليها، باتت في ظل ممارسات الإمام عليّ عليه السلام و خطاباته أكثر سعةً وشموليةً، لتصل إلى مستوى الرؤى الإنسانية المبتغاة.

ص: 99


1- ظ: الإمام علي عليه السلام صوت العدالة الإنسانية: 145 - 146

المبحث الثالث

انقسم الناس وتنوعت ألوانهم وأطيافهم ودياناتهم منذ القدم، ففيهم المؤمن والكافر، والصالح والطالح، والبر والفاجر، ولم يمنع هذا التنوع الاجتماعي والديني الناس من العيش سويةً والتجاذب والتنافر داخل أطر الأنظمة البيئية التي ينتمون إليها، ولم يكن هذا عائقاً يحول من دون تعاونهم في مختلف شؤونهم الحياتية، بل يكون أحياناً دافعاً لاستكمال النظم البيئية الإدارية والاجتماعية من خلال التنافس الصحيح في عملية بناء المجتمعات التي تجعل من احترام الإنسان ونيل حقوقه كافة هدفها الأسمى.

ضمت الدولة الإسلامية بين ظهرانيها بعد التحوّل الكبير الذي أحدثه الدين الإسلامي في المجتمعات العربية التي دخلها الإسلام شعوباً وديانات ومذاهب مختلفة، وتفاعلت الحكومة الإسلامية مع تلك الأطياف والألوان تفاعلاً لا ينم إلا عن عمق الرسالة الإسلامية السمحة، واعترفت بالآخر الديني

ص: 100

والسياسي وبيّنت له كل الحقوق والواجبات وهذا ما تميز وتفرد به الدين الإسلامي عن كل الديانات الأخرى.

إنَّ تفاعل الإسلام مع الأمم والديانات الأخرى من جهة، والتوفيق بين المقتضيات الدينية وحاجات الجماعة ومتطلباتها المعيشية والحياتية من جهة أخرى أتاح له النجاح في تأسيس نموذج خاص ومتفرد به، وسهل له القدرة على التحكم بالنظام السياسي والاجتماعي وباقي الأنظمة الأخرى(1)، إذ إنَّ تكونه بوصفه ذاتاً واحدة زمن النبي محمد صلى الله عليه وآله اكسبه تماسكاً قوياً وصلباً للدفاع عن مبادئه وقوانينه السماوية، هذا من الجهة الخارجية، أمّا داخلياً فانه تعاطي مع المنتمين إليه بصورة واضحة وشفافة أبرزت البنية الأصيلة لمنهج الدين الإسلامي الحنيف، وبينت فيما بعد قدرة الإسلام على الامتداد والنمو التاريخيين، والملاحظ بشدة أنَّ الإسلام بقيادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وبشهادة القرآن الكريم لسماحته واعترافه بحق الإنسان وكرامته قد اعترف بمن كانوا يتمسكون بالتقاليد السابقة إلا إنهم لم يعترفوا به من جانبهم(2).

كان الإسلام ديناً وعقيدةً (قُدّر لها بفضائلها الذاتية وصدقها وحتمية

ص: 101


1- ظ: الإسلام معطلاً - العالم الإسلامي ومعضلة الفوات التاريخي: فریدون هویدا: 31
2- ظ: الفتنة جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر: 24

نصرها، أن تغير صورة الحياة والمجتمع في جزيرة العرب كلها أولاً ثم فيما يستطيع المسلمون إدخاله في دين الله من أرض الله)(1) والإسلام لا يختلف جذريّاً مع الشرائع التي سبقته، وإنما کَمُن الاختلاف بين المشروع الإسلامي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وبين المشروع المناهض له جملةً وتفصيلاً من ضرب الإسلام مصالحهم سواءً أكانوا من الداخل أم الخارج، إنَّها حرب بين جبهتين متعاديتين جبهة الإسلام وجبهة الكفر، وفضلاً على ذلك فإنَّ الله عزوجل وبلسان الإسلام الحنيف على وفق قوانينه الرحيمة التي وردت في القرآن الكريم طلب من المسلمين التعامل بالقسط والرحمة والرأفة مع من لا يتفقون معهم في الدين قال تعالى:

«لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»(2).

يعدّ الإسلام دين المحبة والتسامح، فهو لا يتجه إلى إلغاء هوية الآخر بقدر ما يسعى إلى إثرائها وتطويرها إنسانياً، ولكن في حال وجود فئات تتآمر على المجتمع وتريد أن تتلاعب بمقدرات الأمة وهدفها هدم البناء الإسلامي، حينها لا يكون أمام الإسلام (إلاّ القبول بالمواجهة سواءً أكانت على مستوى الحرب

ص: 102


1- تاریخ قریش: د: حسين مؤنس: 370
2- الممتحنة / 8

المسلحة، أم على مستوى السجال والنقاش بغية الإقناع بالتي هي أحسن.

فالإسلام لابد أن ينتشر، وحين تقف أية قوة في طريق انتشاره، فلا خيار عندئذٍ غير المواجهة)(1).

وبطبيعة الحال لا تخلو أمة من الأمم أو مجتمع من المجتمعات من الصراعات المنبثقة فيها، فهو أمر طبيعي و فطري لدى الإنسان أن يتصارع مع ذاته أو مع الآخر صراعاً بين الخير / الشر، أو نحو ذلك من الثنائيات الأخرى، ومن الطبيعي أن يكون التصارع من أجل الحصول على سلطة، أو نفوذ اقتصادي أو غيره، لكن الذي يقوم على تدمير الآخر وإقصائه وتهميشه والنيل منه، لا يأخذ الصفة الطبيعية أو الفطرية للتنافس لأنه يفتك بالمجتمع ويحوله إلى بيئة غير صالحة للتعايش المجتمعي.

كانت قبيلة قريش إحدى العقبات التي واجهت الإسلام في بداية تأسيسه، إذ اصطدمت بالرسالة السماوية بوصفها انزياحاً للتفكير الديني والاجتماعي والاقتصادي لقريش وسادتها، على مدى الدعوتين السرية والعلنية وصولاً إلى استقرار النبي صلى الله عليه وآله والمسلمين في المدينة وما بعد هذه الحقبة من فتح مكة وانتصار الإسلام، فقد كانت قريش العقبة الكبرى للرسالة السماوية بقيادة النبي

ص: 103


1- تمثيلات الآخر صورة السود في المتخيل العربي الوسیط: 119

صلى الله عليه وآله؛ لأنه قام (بثورة ناجحة أطاحت بملأ قريش السلطة الحاكمة في مكة، مدينة القداسة، وبتغيير الخريطة الاجتماعية)(1)، تلك الثورة التي كانت تلبية لنداء الوحي من لدن الباري عزوجل، وتعرّفنا خطبة للإمام علي عليه السلام على بعض سمات القرشيين قبل الإسلام وبعده، حتى بعد فتح مكة واستقرار الإسلام وانتشاره في أرجاء المعمورة، فهم كانوا قبيلة النبي محمد صلى الله عليه وآله الرئيسة التي من المفترض أن تؤازر وتحتضن أبنها، إلا إنّ الرسالة التي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله كانت أكبر من أن يفهموها ويقبلوا بها؛ فأصبحوا لذلك أكثر الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وآله ووصيه عليه السلام ونفسه بمحكم القران. يقول الإمام عليه السلام: «مَا لِی وَلِقُرَیْشٍ وَاللّهِ لَقَدْ قاتَلْتُهُمْ کافِرِینَ، وَلاَقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِینَ، وَإِنِّی لَصاحِبُهُمْ بِالْأَمْسِ، کَما أَنا صاحِبُهُمُ الْیَوْمَ»(2).

نعم إنَّها العلائقية الضدية بين الكفر والإيمان، بين قريش أبي جهل وإسلام النبي محمد صلى الله عليه وآله، فالكفر كان السمة الأساسية لقريش وبها عُغرفوا وتفاخروا، وعلى العكس تماماً من حرب قريش مع النبي صلى الله عليه وآله التي كان هدفها البقاء والتربع على عرش السلطة، لم يكن هدفه صلى الله عليه وآله من الحرب معهم إلّا لأنهم لم يؤمنوا بما أنزل الله عزوجل وكفروا به، وهذا ما نجد

ص: 104


1- شدو الّربابة بأحوال مجتمع الصحابة: 241
2- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 2 / 342

الإشارة إليه واضحة في كلام الإمام علي عليه السلام المذكور آنفاً.

ويصف الإمام علي عليه السلام العناد القبلي الجاهلي الإرثي القرشي للنبي صلى الله عليه وآله للرسالة المحمدية بقوله: «وَ لَقَدْ کُنْتُ مَعَهُ صلی الله علیه و آله لَمَّا أَتَاهُ الْمَلَأُ مِنْ قُرَیْشٍ، فَقَالُوا لَهُ: یَا مُحَمَّدُ، إِنَّکَ قَدِ ادَّعَیْتَ عَظِیماً لَمْ یَدَّعِهِ آبَاؤُکَ وَ لاَ أَحَدٌ مِنْ بَیْتِکَ، وَ نَحْنُ نَسْأَلُکَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَیْهِ وَ أَرَیْتَنَاهُ، عَلِمْنَا أَنَّکَ نَبِیٌّ وَ رَسُولٌ، وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّکَ سَاحِرٌ کَذَّابٌ...»(1).

يظهر جلياً في هذه الخطبة التذمر الواضح للنبي صلى الله عليه وآله من قومه ومشيخته القرشيين الذين ما فتئوا يمكرون السوء بالإسلام، فعلى الرغم من النفوذ التكويني النبوي من الله عزوجل الخارق للعادة والمعجزة التي حدثت في قضية الشجرة وفعلة النبي محمد صلى الله عليه وآله بها(2)، إلّا أنَّ الكفار لم تخمد نار كفرهم وكراهيتهم وحقدهم وعصبيتهم الجاهلية اللامتناهية لهذا الدين، إن هذه

ص: 105


1- المصدر نفسه: 13 / 139
2- وقعت هذه الحادثة عندما صرع النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم ركانة الذي كان يعرف بأنه قتل الناس وأشدهم تكذيباً للنبي محمد صلى الله عليه و آله، وطلب ركانة من النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم أن يريه آية من ربه، فأقبلت الشجرة ورجعت بأمر النبي صلى الله عليه و آله بإذن من الله تعالى. للاطلاع أكثر على هذه الحادثة، ظ: دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة: أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي ت (458) ه،: 254

الأحداث شأنها شأن النصوص تحوي على صراعات كثيرة تبرز فيها الأنساق على وفقً ما (يحدثه الإنسان من أثر سلبي تجاه الآخر)(1) أو بالعكس، وقد أعرب النبي صلى الله عليه وآله صراحةً في مواقف عديدة عن عداء قریش للإسلام والمسلمين ومحاولتهم طمس النور الإسلامي المبين، لكن الأمر كما ذكره جل جلاله في كتابه المبين: «وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»(2).

لقد فرضت قریش قوانينها - أغلب القوانين إن لم تكن كلها - على أفراد القبيلة القرشية وعلى المتحالفين معها؛ لأنها أصبحت القبيلة الأوفر والأكثر حظاً في قيادة الجزيرة العربية، وعند مجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله بالرسالة الإلهية، أصبح يشكل تهديداً مباشراً وقوياً على كل مجريات الساحة القرشية الاقتصادية والسياسية والإدارية؛ لأنه (لا يكون ثمة خطر إلّا عندما يخالف المرء النظام المفروض)(3)، ذلك النظام الارثي القبلي الذي كان القرشيون مستعدين للتضحية في سبيله بشتى الطرق والوسائل للحيلولة من دون المساس به، فهم في حربهم الشخصية النفعية مع النبي صلى الله عليه وآله كانوا يعون وبشكل قوي

ص: 106


1- جماليات النقد الثقافي - نحو رؤية للأنساق الثقافية في الشعر الأندلسي: 31
2- التوبة / 32
3- بني المقدس عند العرب قبل الإسلام وبعده: 27

إنَّهم لا يدافعون إلاّ عن الإرث الروحي للأجداد(1)، حتی بعد استتباب الأمر للإسلام قاتلوا وبشدة على إعادة ارث أجدادهم ولو كلفهم الأمر دخول الإسلام؛ لأنه لم يبق أمامهم طريق آخر لحفظ كرامتهم غير نطق الشهادتين، فدخولهم للإسلام كان دخولاً للجماعة وليس للدين، إنهم جماعة فحسب وليسوا جماعة عقيدة، إذ إنَّ منهم كثيرون تركوا اللات والعزى وهبل وانتقلوا إلى الإله الجديد مع النبي... فلم ينفع معهم اللاهوت الجديد، فقط اسم الله ولكن بلاهوت أبي سفيان(2). والأمر يسري على بعض الصحابة أيضاً(3)، إذ كان دخول بعضهم إلى الإسلام اضطراراً لا إيماناً، فكان إسلامهم شكلياً وبقيت في قلوبهم نوازع الجاهلية؛ لأنّ الطبائع ليس من السهل تغييرها، ويلاحظ هنا إنَّ دخولهم الدين الجديد ما هو إلا نسقاً ثابتاً وظاهراً للعيان يخفي تحت أقنعته نسقاً آخر متحركاً، فمحاولة (تفكيك الأنساق المتشكلة في فجوات النص وتأويلها من قبل المتلقي تكشف عن حالة الصراع بين نسق قائم ثابت، ونسق آخر متحرك متحول)(4)، وهذا ما نجده في نص للإمام عليّ عليه السلام يذكر فيه ما كان يفعله

ص: 107


1- ظ: مدخل إلى علم اجتماع الإسلام - من الأرواحية إلى الشمولية: 91
2- ظ: لصوص الله - إنقاذ اليوتوبيا الإسلامية: 5
3- نطلق مفهوم الصحابة تجوزاً، لأنه مفهوم غير متفق عليه
4- جماليات التحليل الثقافي - الشعر الجاهلي نموذجاً: د. يوسف عليمات: 53

أولئك القوم وما يريدون فعله دائماً بالنبي صلى الله عليه و آله وأتباعه، يقول فيه: «فَأَرَادَ قَوْمُنَا قَتْلَ نَبِیِّنَا، وَ اجْتِیَاحَ أَصْلِنَا، وَ هَمُّوا بِنَا الْهُمُومَ، وَ فَعَلُوا بِنَا الْأَفَاعِیلَ، وَ مَنَعُونَا الْعَذْبَ، وَ أَحْلَسُونَا الْخَوْفَ، وَاضْطَرُّونَا إِلَی جَبَلٍ وَعِرٍ، وَ أَوْقَدُوا لَنَا نَارَ الْحَرْبِ»(1)، فهم بأفعالهم هذه لم يريدوا قتل الدعوة المحمدية فقط، بل أرادوا قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله ومن معه وإنهاء سيرته من الأساس والقضاء على من معه بغض النظر عن صلة القرابة أو الهوية، و (اجتياحهم من الأصل) جملة نسقية تبرز الهدف المضمور الذي ابتغاه أولئك القوم من عدائهم للنبي صلى الله عليه وآله ومن معه يتبعه في ذلك ألإمام علي عليه السلام، فهم لا يرضون بأقل من ذلك، ودعواهم بإبعاد النبي محمد صلى الله عليه وآله خارج أسوارهم ما هي إلا دعوة مزيفة تحمل تحت قناعها الخفي عمق الكراهية والحقد الدفين الذي أضمره قومه له، وكانوا يقصدون مع سبق الإصرار اجتياح هؤلاء العزّل من السلاح مهما كلف الأمر.

وعن قريش ومنافقيها، يروى (إنّ ابن الطفيل قال: رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - قام على المنبر فقال: سلوني قبل أن / لا تسألوني ولن تسالوا بعدي مثلي، قال: فقام ابن الكواء فقال: يا أمير المؤمنين... فمن: «الَّذِينَ

ص: 108


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 7 / 238

«بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ»(1)، قال: «منافقو قریش»(2).

إنَّ همّ القرشيين قبل كل شيء وبعد كل شيء هو زيادة ثرواتهم ومصالحهم والحفاظ على مكاسبهم الشخصية لأجل التمتع بحياة أفضل وعيشٍ رغيد؛ لذلك نجد أنَّ الجانب الحياتي المادي، والجانب الاجتماعي الطبقي متمثلاً بالعبيد والرقيق والنساء وطبقات المجتمع الهامشية المتدنية كانت الطاغية على كل الجوانب الأخرى بما فيها الديني، فألهتهم وأصنامهم التي كانوا يعبدونها كانت تدرّ عليهم أموالا طائلة من الحجيج والقوافل التجارية المارّة، فهي آلهة اقتصادية بالدرجة الأولى؛ لذلك عندما تعرض النبي صلى الله عليه وآله لآلهتهم وصل الأمر حينئذٍ إلى درجة المساس بأهم جانب وهو المال والثروة، فالآلهة (الاصنام) (لم تكن لقريش ذلك المقدس الذي يتمسك به الناس ويموتون من أجله لأنه مقدس، ولا كانت معبودات قومية يثور الناس للدفاع عنها والاستماتة دونها عندما تواجه من طرف الآخر الذي له معبوداته القومية الخاصة، كلا إنَّ أصنام قریش والهتها كانت، قبل كل شيء، مصدراً للثروة وأساساً للاقتصاد)(3)، وفعلاً

ص: 109


1- إبراهيم / 28 - 29
2- المستدرك على الصحيحين: أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري ت (405) ه: 2 / 506 - 507
3- العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته: 99

حسب النتائج الواقعية الملموسة على أرض الواقع، أدرك النبيّ صلى الله عليه وآله تماماً إنَّ أنجح إستراتيجية قتالية ضد قريش هي إلاستراتيجية الاقتصادية، تلك الحالة فقط تشعرها بأنَّ مصالحها التجارية أصبحت مهددة وعلى وشك الانهيار والزوال(1)، فضلاً على إنَّ القرشيين في صراعهم مع النبي صلى الله عليه وآله (ما كانوا يدافعون عن أنفسهم في مواجهة إله جدید کانوا، في المحصلة، قد آمنوا به من قبل)(2)، وفعلاً ما كان هذا هو قصدهم في المواجهة؛ لأنّ الاعتقاد بالله موجود في الجاهلية وإن كان منحدراً من أصولٍ قديمة(3).

تميزت قریش عموماً وشيوخها القائمين عليها خصوصاً بفطنة وحنكة سیاسية مميزة، ويدلل على ذلك القفزة النوعية التي أهلتها فيما بعد لتزعم العرب في شبه الجزيرة العربية على الأغلب، وانضواء كثير من القبائل والحاضرات الصغيرة تحت أمرتها؛ لذلك فإنَّ خصوم الدعوة المحمدية (وهم الملأ من قريش قد قرؤوها منذ البداية قراءة سياسية)(4)، وفي هذا الخصوص يتبادر إلى الذهن سؤالٌ عرضه هشام جعيط: هل أخذ هؤلاء دعوة محمد صلی

ص: 110


1- ظ: المصدر نفسه: 109
2- مدخل إلى علم اجتماع الإسلام - من الأرواحية إلى الشمولية: 91
3- ظ: الحياة والموت في الشعر الجاهلي: د. مصطفى عبد اللطيف جیاووك: 29
4- العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته: 61

الله عليه وآله مأخذ الجد أم احتقروها جملة؟ أي إنَّهم اعتبروا إنَّها لا تؤدي إلى شيء وإنَّها ستنطفئ على الأقل في بداية الأمر(1).

للإجابة على هذا التساؤل المطروح علينا أن نأخذ بنظر الاعتبار، أنَّ قریشاً وعلى رأسها قادتها الكبار لم يكن في حساباتها المتوقعة ذلك التغيير الهائل الذي سيصيب طقوسهم ومعتقداتهم ويمس تجارتهم وأحوالهم الاجتماعية، فضلاً على إهمالهم ولامبالاتهم بإصرار وثبات النبي صلى الله عليه وآله على دعوته ورسالته، يضاف لهذين السبين ربما أنَّهم كانوا يتوقعون موقف النبي محمد صلى الله عليه وآله هو احد المواقف التي يدّعي البعض فيها النبوة أو علم الغيب أو السحر، وقد أشار القران الكريم إلى ذلك:

«قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ»(2).

تلك لمواقف التي كانت تظهر تارةً وأخرى لغرض الشهرة وكسب المال، أو غيرها من الأسباب الموجبة لذلك.

على أنَّ تذمر الإمام علي عليه السلام من قريش لا يخفى على كل باحث إذ أعرب بصراحة في مواقف عديدة عن تذمره من قريش ونهجهم تجاه

ص: 111


1- ظ: في السيرة النبوية، تاريخية الدعوة المحمدية المكية: د. هشام جعيط: 1 / 262
2- يونس / 2

حکومته وسياسته وكان عليه السلام يستعين بالله عزوجل على قريش وظلمهم إياه، يقول عليه السلام: «اَللَّهُمَّ إِنِّی أَسْتَعْدِیکَ عَلَی قُرَیْ ومن أعانهُم، فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِی، وَ أَکْفَئُوا إِنَائِی، وَ أَجْمَعُوا عَلَی مُنَازَعَتِی حَقّاً کُنْتُ أَوْلَی بِهِ مِنْ غَیْرِی، وَ قَالُوا: أَلاَ إِنَّ فِی اَلْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ، وَ فِی اَلْحَقِّ أَنْ تُمْنَعَهُ، فَاصْبِرْ مَغْمُوماً، أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً»(1)، فقریش حاربت الإمام علي عليه السلام؛ لأنّه أتبع منهج النبي صلى الله عليه وآله وهو المنهج عينه الذي طالما كان ندّا لهم في حياة النبي صلى الله عليه وآله وبعد مماته، و قريش أولت الإمام علي عليه السلام حقداً أزرق تتغلغل جذوره إلى أيام معركة بدر حيث قتل أعيانهم، فكلّ حقدٍ حقدتهُ قريشٌ على رسول الله صلى الله عليه وآله أظهرتهُ في الإمام علي عليه السلام، إنَّهم يسعون إلى حكومة تلغي نفوذ الشخص وتجعل السلطة / الحكم بيد المؤسسات، وهذا ما رفضه الإمام علي عليه السلام، فقد سعى إلى جعل أحكام الشرع ونواهيه هي السلطة التي تحرك الحكومة وتلزم الفرد والجماعة من ضمن أطر دينية وسياسية واجتماعية وثقافية، فالحكومة في فكر الإمام علي عليه السلام ليس فيها أية إشارة أو علامة على السلطة الشخصية النفعية وليس فيها أيّ مبرر لنيل الإمتياز، فالناس هم الرعية والرعية هم الجماعة التي تقع مسؤولية رعايتها والسهر عليها وحراستها على عاتق الحاكم.

ص: 112


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 6 / 73

لقد تنبّه النبي صلى الله عليه وآله منذ البداية في حربه مع قريش إنَّ الصراع مع العدوّ صراع حضاري ثقافي متجذر في العمق، يجب أن يتم تهديم الأسس التي يعتمد عليها، وترسيخ مبادئ الإسلام الجديدة بوصفها منهجاً بديلاً لتلك الثقافة التي تضع اغلب سنن الحياة الإنسانية خارج حسبانها، لذلك اتبع النبيّ صلى الله عليه وآله طرقاً سياسية وأخلاقية لمواجهة المتآمرين على الحكومة الإسلامية ومبادئها، إذ لم يكن من الممكن أن تبقى الدعوة المحمدية سلبية أمام ممارسة قريش السياسة ضدها بل كان من الضروري وهذه سنة الحياة أن تحارب بالسلاح نفسه، أو على الأقل كان لابد من أن تجعل السلاح السياسي من جملة أسلحتها التي تحارب بها من يحاولون الإطاحة بها(1)؛ فقد استعمل النبي صلى الله عليه وآله خطاباً يواجه اللاعقل بمنطق التجربة والعقل كما يقول محمد عابد الجابري(2)، وهو ما أقحم قريش في عدّة مآزق، ورغم كل الأدلّة والبراهين التي قُدمت لهم إلّا أنَّهم أصرّوا على عنادهم وعصبيتهم وجهلهم، وحتى آخر رمق بالحياة ظلّوا متمسكين بتلك التقاليد کما تنقل لنا المصادر عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إنَّه وقف على قتلى المشركين في بدر وقال: ("جزاكم الله عني من عصابة شرّاً، قد خنتموني أميناً، وكذبتموني صادقا"، ثم التفت إلى أبي جهل بن هشام،

ص: 113


1- ظ: لعقل السياسي العربي محدداته وتجلياته: 6
2- ظ: تكوين العقل العربي: 138

فقال: "إنَّ هذا كان أعتى على الله من فرعون، إنَّ فرعون لما أيقن الهلاك وحدّ الله، وإنَّ هذا لما أيقن بالموت دعا باللات والعزى")(1)، ولذلك نجد أن َّهذه الواقعة وغيرها ممن شهدها العصر الإسلامي الأول بقيادة النبي صلى الله عليه وآله تنتج فاعلية محورية تظهر بسببها حركة صراع دائمة بين عناصر إنسانية، ذات رؤی مختلفة ومتعارضة فيما بينها على كل الأصعدة والاتجاهات(2)، وبالتالي، أدركت قریش وشيوخها أنَّ نجاح النبي محمد صلى الله عليه وآله سيفضي إلى زوال نفوذهم وسلطانهم في مكة مما يعني انصراف متحالفيهم ومن عقدوا التجارة معهم وهي أداة القوة والسطوة الأولى لديهم، فهم كانوا (فعلاً في خوفٍ دائمٍ من محمد صلى الله عليه وآله ودعوته، فقد بذلوا أقصى ما استطاعوا في مطاردة أصحابه واضطهاد من استطاعوا اضطهاده منهم)(3).

انحسر صراع قريش مع الإسلام متمثلاً بالنبي بمحمد صلى الله عليه وآله ومن بعده ألإمام علي عليه السلام في (تعارض أيديولوجيتين: فمن جهة، نفوذ الأجداد، قدسية التراث، الانقياد للعرف.. ومن جهة ثانية، التفكر الحر،

ص: 114


1- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي المصري ت (807) ه: 6 / 88
2- ظ: جماليات النقد الثقافي - نحو رؤية للأنساق الثقافية في الشعر الأندلسي: 31
3- تاریخ قریش: 350

التخلص من روابط البيئة الحديدية، رفض سلطان الأقدمين، الأولين)(1)، ولكنها وعلى الرغم من الحالة المزرية التي وصلت إليها بسبب تفرعنها وتجبرها وعدم انصياعها للخطابات النبوية العقلية والمعجزات الإلهية المرئية، لم تخضع قریش لربها وللرسالة الإسلامية والقيادة المحمدية، ودخل بعض قريش الإسلام لساناً وليس روحاً أو وعياً به.

ص: 115


1- مدخل إلى علم اجتماع الإسلام - من الأرواحية إلى الشمولية: 141

ص: 116

الفصل الثاني

اشارة

ص: 117

ص: 118

المبحث الأول

البيعة / السلطة... نموذج الصدفة

لعلّ من نافلة القول إنَّ التفكير في قضية البيعة قد ارتبط بشكل كبير ووثيق بالتفكير في الأيدولوجيا السياسية النفعية حتى عّدّت الخلافة في بداية الأمر قضية حكم وسلطة نفعيتين بحسب الشهادات والانشقاقات التي كانت حاضرة آنذاك.

البيعة لغة تشتمل على معاني المبايعة والطاعة والمعاهدة والمعاقدة، وإعطاء خالصة النفس للمبايع (بالفتح)(1)، وقد عرّفها ابن خلدون على أنَّها: (العهد على الطاعة؛ كأنّ المبايع يعاهد أميره على انه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك. ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره، وكانوا إذا بایعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده، تأكیدا

ص: 119


1- ظ: لسان العرب: 8 / باب (بيع)

للعهد... هذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع)(1)، وهذه الممارسة موجودة قبل الإسلام، إذ كان الحكّام يعدّون البيعة ميثاق الوفاء مع الناس بوصفها نوعاً من أنواع العهود والمواثيق المشروطة بين طرفين، يقوم فيه شخص أو جماعة بالتعهد والتعاقد مع إمامهم أو حاكمهم على الطاعة والوفاء، وفي مقابل ذلك عليه أن يقوم برعاية شؤونهم وإدارة أمورهم(2)، وقد يعطى للبيعة قدراً أكبر من الاهتمام إذا كانت من الجانب الديني؛ بسب كونها الأقرب إلى النفس الإنسانية والأكثر قداسة من باقي الجوانب الأخرى؛ لأنَّها قادرة على تجاوز عنصر - القبيلة، وإذابة الجميع في هوية واحدة. فالبيعة / السلطة بمفهومها العام تعد إحدى أهم جوانب الحياة السياسية لدى الإنسانية؛ وذلك لارتباطها بصناعة الحاكم وتسييس أمور المجتمعات.

لقد انطوت قضية البيعة في العصر الإسلامي الأول على إشكالات نسقية معرفية ثقافية متنوعة عبر تحركات أنساقها الثقافية المختلفة في زوايا وخفايا المجتمع، والتي غذّت الجيل الأول بمختلف الأيديولوجيات، وهذه الواقعة الثقافية استمدت أغلب مقوماتها من ثقافة قبلية كانت منزوية في المخيال الجماعي، لكنها تجددت بحقائق جديدة، كتبتها أيادِ وعممتها مرسوماً استثنائياً وجدت لها

ص: 120


1- مقدمة ابن خلدون: 241
2- ظ: فلسفة النظام السياسي في الإسلام:: د. عبدالله حاجي ألصادقي: 330 - 331

موقع في الوعي العام طوعياً، فنحن نعلم قرب الفترة الزمنية بين ظهور الإسلام وعصر ما قبل الإسلام الذي ما فتئت تتغلغل أنساقه داخل أروقة مسلمي العصر - الأول، أولئك الذين مازالت ثقافتهم جاهلية بالمعنى الاصطلاحي، كما أنَّ هذه الواقعة ترتبط وتتلون بالصبغة الجماهيرية؛ لذلك هي تحتاج إلى مجال معرفي نقدي يهتم باستجواب صناعة الحاكم وقراراته، وكشف الآليات الفكرية والبنى الذهنية التي تتحرك صوب إنتاج الأفكار وإعطائها الصبغة المقبولة بوصفها جزءاً من الثقافة الجماهيرية التي لم يلحظها التاريخ - للأسف - فهي تدور في فلك كشف المضامين التي عدت الفلتة منهجاً عند زعماء الصف الأول وحصرها ومن ثم بحث إشكالية الجمهور وتحركات المؤسسة وأساليبها المختلفة في إزاحة ألآخر(1)، لا سيما إذا علمنا الطريقة المخاتلة التي قد كتب بها التاريخ أحياناً إذ إنَّ (السيناريو التاريخي أعيدت كتابته مرات كثيرة، بمفردات وأنظمة مختلفة)(2) تبدو أنَّها مرتبطة بعضها بعض كخط مستقيم، لكنه متداخل في غموضه؛ ولذلك يعد التاريخ مادة ثقافية يتعامل بها ومعها المرء في جوانب حياته المختلفة. والنقد الثقافي يبدو أكثر ملائمةً لهكذا دراسات تاريخانية متنوعة ثقافية.

ص: 121


1- ظ: نقلاً عن: النقد الثقافي في الخطاب النقدي العربي العراق أنموذجاً: د. عبد الرحمن عبد الله: 23
2- المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك: د. عبد العزيز حمودة: 67

وتعدّ واقعة سقيفة بني ساعدة التي عقدت في فترةِ زمنية شهدت للتو وفاة نبي الأمة محمد صلى الله عليه وآله، منعطفاً مهماً في تاريخ الدولة الإسلامية، ذلك أنّها استمرت لزمنٍ غير قریب تمد العالم الإسلامي بشحنات وايديولجيات أثرت على مسار الأمة فيما بعد، وقد تكون هذه الظاهرة منفذاً للدخول إلى البنية التكوينية لذلك المجتمع، والكشف عن أبرز الأنساق التي تحكمت بذلك الجيل من المسلمين الأوائل.

تشير أغلب المصادر إلى أنّ حاضري السقيفة هم نخبة معينة من القادة لم تكن ممارساتهم الاجتماعية مخفية قبل توليهم السلطة، ولم يكونوا ممثلين عن كل الفئات، راقبوا اشتغال بني هاشم في دفن وتجهيز الرسول محمد صلى الله عليه وآله وهذا الكلام عليه شبه اتفاق من قبل المؤرخين(1).

حين حضر القادة إلى سقيفة بني ساعدة حدثت انشقاقات وخلافات بين الأنصار فيما بينهم أولاً، إذ أراد كلُّ من الطرفين (الأوس والخزرج) كلُّ على حدة الحصول على مغنم من الحكم بمنأى عن الآخر، ثم تلا ذلك دخول فئة المهاجرين بعد سماعهم بمحاولة جذب الخلافة / السلطة إلى صالح الأنصار، ومن المفارقات في هذه القضية أنَّ اختلاف الأنصار فيما بينهم وإعادة اجترار الماضي القبلي القائم على العنف بشحناته العصبية أدى فيما بعد إلى تولية أبي بكر حاكماً

ص: 122


1- ظ: السيرة النبوية: ابن هشام، تحقيق مصطفى السقا و آخرون: 4 / 307

بفعل الشد والجذب والمد والجزر بين الأطراف - الثلاثة - المتنازعة (الأوس والخزرج وفئة من المهاجرين)، ولم يكن هذا الصراع والتنافس ورديّاً أبداً بين أولئك المتنازعين على الحكم، ذلك الاجترار لقيم عصر - ما قبل الإسلام كان موجوداً وبقوة (فالأفضلية القبلية، في مسالة الخلافة، اتخذت شكل القرشية، وان العصبية القبلية اتخذت شكل التدين، وان التغلب القبلي اتخذ شكل الإجماع)(1).

إنّ أيّ شكل من أشكال الانتخاب لم يكن له حضور فعال، بل كان حضوراً لا يملك الاستعداد للقبول بالآخر لحظة الاجتماع على حسم تولية الخلافة المتنازع عليها بنوعٍ من العصبية القبلية، التي كانت شبه خالية من انصهار وذوبان العناصر الإسلامية في نفوس من أراد الحكم / الخلافة، بل إنّ المؤشرات تذهب إلى وجود نوع من أنواع الإرغام ألقسري في حال عدم مبايعة أبي بكر على الخلافة.

ويروى إنهم ذهبوا إلى الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام - الممتنع عن المبايعة - فيما بعد مستعملين أسلوب الخطاب الارغامي على المبايعة، إذ إنّ عمر بن الخطاب جاء بالزبير والإمام عليّ عليه السلام وقال لهما: (لتبايعان وانتم

ص: 123


1- الثابت والمتحول - بحث في الإتباع والإبداع عند العرب: ادونيس: 1 / 166

طائعان، أو لتبايعان وانتم کارهان!)(1)، وهذا الإرغام كان لشخص أبي بكر بوصفه عنصر تغليب قبلي واجتماعي في قضيةٍ - السلطة / البيعة - شائكة.

أُنيطت هذه المهمة بعمر بن الخطاب الرجل الأول المدافع والمندفع لحصول أبي بكر على هذا المنصب الذي جرد في الوقت نفسه الآخرين من فكرة التنصيب، استناداً إلى أفكار تنتمي إلى الصراع والتناقض بين ثقافتين مختلفتين، فمبايعة أبي بكر اقترنت بعنف تجلى في ممارسة عمر بن الخطاب مستنداً في ذلك إلى ضعف سلطوي قرشي(2)، استطاعت هذه الاجترارات في الأخير شرعنة السلطة لأبي بكر وقد تمت على وفق مبدأ تصيير الدافع نفعاً للأمة، والهدف من ذلك (إضفاء ما يلزم من المشروعية الدينية)(3) على مشروع تسلم السلطة سريعاً.

لعب التأريخ - الفاعل الثقافي - دوراً رئيساً في تشريع الخلافة لأبي بكر وتسهيل عملية تنفيذها، على وفق ثقافة أفضل من الفتنة والاقتتال، والتاريخ هو الطبيعة اللاواعية لهذه الظاهرة الثقافية أو النسق الثقافي، ويبدو أنَّ إرهاصات الخلافة كانت متوفرة قديماً ومتطابقة مع مشروع تنفيذها، بتجمع أعوان كل فريق

ص: 124


1- تاريخ الطبري - تاريخ الرسل والملوك: 3 / 203. وظ: الاحتجاج: أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي ت (120) ه: 95
2- الثابت والمتحول - بحث في الإتباع والإبداع عند العرب: 1 / 160
3- تكوين العقل العربي: 223

من دون التداخل مع النبوة في حينه، وما تأخير بعثة أسامة إلاّ علامة من علامات الانحياز الثقافي الجمعي لفئة معينة لها فطنة وحذق في قراءة الواقع لها مسبقاً، فترشيح أبي بكر الصدارة قد تم الاتفاق عليه في مراحل معينة من حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله على وفق مخطط يبدو أنّه أُعدّ وَنُفِذَ بإتقان على حسب المؤشرات التي ذكرتها المصادر وكشفتها النصوص(1)، ولعل من أعراض هذا المخطط تأخير حملة أسامة رغم إلحاح النبي محمد صلى الله عليه وآله على إنفاذها وكان في الحملة أبو بكر وعمر بن الخطاب وبعض أقطاب كتلتهما(2)، فضلاً عن أنّ التوقيت الزماني للحادثة وعملية الإسراع في لملمة شتات الموضوع تم بزمن قياسي جداً، كل ذلك جاء من أجل أن يأخذ التاريخ والمخاتلة العقدية حيزاً اکبر في شرعنة الخلافة. ومن المعلوم أيضاً أنّ فئةً من المهاجرين من قريش - على الأخص - كانوا يمثلون الطبقة الحاكمة لما لهم من الفضل والسابقة، قد استغلوا فعلاً هذا الفضل عندما أعلنوا عن أنفسهم أنهم الطبقة الحاكمة ولا يحق لأحد من غير قريش التمتع بهذا الفضل في مسالة السلطة على وجه الخصوص وأرغموا الأنصار على الوقوف بمنأى عن مسالة حصولهم على ثقة البيعة.

ص: 125


1- ظ: سير أعلام النبلاء: 2 / 148
2- ظ: فصول من تاريخ الإسلام السياسي: 42

قال الإمام عليّ عليه السلام: «فلا يغترنَّ امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بکر فلتةً وتمّت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن وقي الله شرّها»(1).

لا يخرج المعنى اللغوي لكلمة (فلته) عن كون الأمر لم يكن عن تدبر ورأي، أو كونه حدث فجأة من غير تدبر، أو وقوعه من غير إحكام(2)، وطبقاً لحدوث السقيفة وتتمة عملية البيعة بصورة مفاجئة دون عهد وإنذار سابقين على وفق عدها دفاعاً عن السلطة المحمدية، بالإفادة من العلاقات السابقة، فقد أطلق عمر بن الخطاب على العملية برمتها صفة (الفلتة).

ولقد جاء المعنيان اللغوي والاصطلاحي متقاربين في إعطاء صورة واضحة عن هذه الحادثة، فالنص آنف الذكر حمل خطاباً واعياً بيّن طبيعة مجريات الأحداث على وفق رؤية اجتماعية ثقافية ف (النصوص دوال على خطابات تتزامن وإياها تأثيراً متبادلاً بين الإنتاج والاستقبال؛ فلا توجد نصوص مبتورة عن سياقات إنتاجها ومناخات حركيتها وتفاعلها)(3)، کما وان حادثة البيعة هي الولادة الطبيعية ذات المكاسب العرقية، التي ادخرت ورقتها لزمن حسبته جيداً،

ص: 126


1- صحيح البخاري: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ت (256) ه: 1690، (ح 6830)
2- ظ: معجم مقاییس اللغة: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زکریات (395) ه، ج 4، باب (فلت) وظ: لسان العرب: ج 2، باب (فلت)
3- أثر الأنساق الثقافية في تشكيل الخطاب السردي الصوفي - قراءة نقد ثقافية في (حلية الأولياء والرسالة القشرية): د. ناهضة عبد الستار: 165

والمفاجئة بل المدهشة للحرس القديم وبني هاشم، كانت صدمة زلزلت الإرث التاريخي للإمام عليّ عليه السلام بما أحدثته مؤسسة الخلافة من تغيير مفاجئ، على وفق قاعدة الصدمة والترويع للجميع(1) ومن ثم شرعنة البيعة.

كانت بيعة سقيفة بني ساعده مثالاً للتشريع التاريخي لظاهرة حساسة، إذ أسست على كاهل الجماهير عامة المسالمة / والمحاربة منها، المؤمنين / والمنافقين، الرابحين / والخاسرين على السواء، وأعطت حيثيات عصر - البيعة الأولى مشروعية تامة للتاريخ لممارسة دور المشرّع، وقد أعطت هذه الظاهرة رؤية أيديولوجية مبرزة للأنساق التي تتحكم بالقيم والمثل العليا، هكذا تتجلى رؤية دورکایم لمثل هكذا ظواهر على وفق هكذا تشریع (فالظواهر الاجتماعية الأساسية... ليست أكثر من انساق للقيمة، وبالتالي للمثل العليا)(2)، وتتفق الدراسة مع هذا الرأي، إذ إنَّ البيعة قد كشفت انساق المثل والقيم ذات الموروث القطيعي التي تحكمت بخفاء في جسد بعض أفراد المجتمع الإسلامي الأول بعد رحيل النبي محمد صلى الله عليه و آله.

وهناك ثمة ملحظ آخر من مظاهر الطمع والإثرة تظهر علائمة واضحة

ص: 127


1- ظ: الفتنة - جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر: 55
2- الموضوعية في العلوم الإنسانية - عرض نقدي لمناهج البحث: 101

وهو بروز طموحات ورغبات لدى بعض الجهات السياسية بتولي السلطة المركزية للحكومة الإسلامية المتمثلة بالخلافة، وبالطبع لابد من أن تكون (لتلك الرغبة دوافعها وأسبابها التي تحملها السيرة والنص)(1)، ممثلة بدوافع غرائز الحفاظ على الذات أمام الصوت الجماعي، وترى الدراسة إن هذا السبب هو احد الدوافع التي أدت بابي بكر إلى جعل اجتماع السقيفة على هذه الصيرورة؛ إذ إنّ زوال الارتباط بالمؤثر السابق - النبي محمد صلى الله عليه وآله - أو عدمه لا يلغي الدوافع الفطرية للآخرين، وتكرار أفعالهم الاجتماعية التلقائية الثقافية من خلال توظيف ضرورات اجتماعية مرتبطة ببيئة زمنية وحدث معين ولذلك غلق أبو بكر باب الترشيح لمنظومة الخلافة وسد الطريق أمام الراغبين بالترشيح، ومن ثم جعل التعيين والتنصيب القاعدة لتولي الشخص المعين هذا المنصب يتراءى للمتابع لقضية البيعة في العصر الإسلامي الأول إنَّ تحولية وشيكة ستطفو فوق سطح مجتمع الحكومة الإسلامية في قضية مسألة الخلافة بعد موت أبي بكر؛ لذلك اتجهت أنظار الناس قبیل موت أبي بكر إلى القادة السياسيين متوسمين فيهم إعادة صياغة الأنظمة السياسية السابقة تبعا لمتطلبات الحالة السياسية والاجتماعية والدينية لهم.

ويلاحظ المتتبع لمنظومة الحكم بعد موت أبي بكر وجود خيوط وإشارات

ص: 128


1- نحو تأصيل لمنهج النقد الثقافي: زرقاوي عمر: 255

قد تقود إلى اجترار المعطيات الفكرية والثقافية والسوسيولوجية لعصر - ما قبل الإسلام الذي كوّن الإسلام معه قطيعة لا بأس بها على مستوى الشمولية في اغلب تقاليده وعاداته إلى عصر بدا فيه كل شيء إسلاموياً ظاهراً؛ وقد آلت هذه الحالة إلى ظهور (فريقين احدهما يدافع عن ماضويته والآخر يرى القطيعة مع تلك الماضوية شرطاً أساسياً ودعامة وحيدة لنقاء السريرة وصحة الإيمان على الأقل في المحصلة العامة ودونها تفقد الحظوة والمكانة والسلطة المركزية)(1).

حاول عمر بن الخطاب قبیل موته محاولة قد لا ترقى إلى مستوى التغيير الفعلي في المنظومة السياسية، وذلك بعدم تعيين شخصية معينة - كما فعل أبو بكر - لتولي خلافة المسلمين بعده، هذا ظاهر الأمر، وذلك لإضفاء أكثر شرعية وشفافية في قضية الشورى القادمة، لكن الحقيقة كانت معقدة ومركبة لاترى بسهولة، إنّها حقيقة جارحة أنتجها اللاوعي الاجتماعي الثقافي، أراد عمر بن الخطاب أن يجعله حقيقة؛ لكنه مترابط ظاهرياً بقوى قاهرة؛ إذ يلاحظ إنّ المتواجدين معبؤون بايديولوجيات مسبقة ورؤية مستقبلية تامة الإعداد والصنع في تعيين الشخصية الأكثر فائدةً لهم في الحقبة القادمة التي ستقود زمام الأمة، هذا ما أبرزته ملاحظاتهم المشروطة التي جسد بعضاً منها السابقان في استلام الحكم،

ص: 129


1- المصدر السابق: 248

والمعدّة سلفاً لمن يبغي الانخراط في سلك الخلافة / الحكم.

إنَّ المشاركين الفعليين والرئيسيين في خضم أحداث الشوری كانوا من أهل الحل والعقد كما أطلق عليهم آنذاك، فضلاً عن أعضاء آخرين تم تنسيبهم بوصفهم مستشارين لا يحق لهم الترشيح ومنهم عبدالله بن عمر الذي وصفه أبوه - عمر بن الخطاب - بأنَّه لا يعرف كيفية طلاق امرأته(1)، وقد انحصرت الخلافة بين اثنين هما الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام وعثمان بن عفان، وبقي الأمر على منح الثقة من قبل الحاضرين، ونتساءل هنا عن إمكانية تجاوز الإرث القبلي؟ هل تم الاختيار وفقاً المنظور الديني؟ هل إن من لم يدنس الدين في ارثه اليومي سيكون عرضة للمقبولية؟ وتبعا لذلك ترى الدراسة من خلال الروايات التاريخية المتفحصة للموضوع إنّ الأمر منوط منذ البداية وبوصية من عمر بن الخطاب بشخص واحد يتحكم في الأمر بحسب رؤيته وثقافته - والمثقف هنا هو الرجل الحذق(2) - وعدله وهو عبد الرحمن بن عوف، وبما إن ثقافة الشخص تشمل حتى توجهه الديني؛ لذلك أصبح الوضع بحاجة إلى ثقافة عادلة ومثقفين عادلين غير منخرطين في أيديولوجيات الجماعات الحاكمة لئلا يؤثر ذلك على قراراتهم في التحكيم والفصل بين المرشحين (إنَّ المثقفين بما هم مثقفون لا

ص: 130


1- ظ : تاريخ الطبري - تاريخ الرسل والملوك: 4 / 228
2- ظ: لسان العرب: 9 / باب (ثقف)

يشكلون طبقة مستقلة بل إن كل مجموعة اجتماعية لها جماعة من المثقفين خاصة بها، أو تعمل على خلقها وظيفتهم القيام لها بدور أداة الهيمنة ووسيلة السيطرة وتحقيق الانسجام داخل المجموعة وبذلك يتحقق وضع المثقف من خلال المجموعة الاجتماعية التي يخدمها، من خلال الدور الذي يقوم به في السياسة والصيرورة التاريخية، فيكون مثقفاً تقليدياً عندما يرتبط بالمجموعات القديمة والطبقات الآيلة للزوال ويكون مثقفاً جديداً، ناقداً عندما يساهم في تعبئة المجموعة الاجتماعية الصاعدة وبلورة مطامحها وأهدافها)(1).

قد يتردد إلى الذهن سؤالٌ من المفترض إثارته عبر شبكة من التحليلات الثقافية، لماذا لم يكمل عمر بن الخطاب مسيرة أبي بكر في منهجية التنصيب والتعيين، والجواب قد يكمن بعد التمحيصات السابقة في إن عمر بن الخطاب قد جعل الأمر وكأنه محصور في علّية القوم (مثقفي القوم) وهم في الحقيقة شخص واحد هيأ له أن يكون الفارق والحاسم في القضية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، استشعر عمر بعض الإرهاصات التي رافقت عملية التنصيب التي أثارتها اليد السياسية العاملة في المجتمع خوفاً من تكرار المنهج نفسه، وهو بذلك كما أسلفنا أضفى مشروعية أكثر على ديمقراطية العملية السياسية، ظاهرياً.

ص: 131


1- المثقفون في الحضارة العربية - محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد: د. محمد عابد الجابري: 20

لا شك في أنَّ المخيال الجمعي يطلق رموزه التأسيسية من خلال رواياته ونصوصه التي تتحدث عن ماضيه وحاضره بل أحياناً مستقبله، تضمر هذه النصوص التي قد تتحدث عن وقائع وأحداث جرت في داخلها انساقاً غير المصرح بها تكون مختفية ومقنعة بالأنساق المصرح بها.

يعد وصول عثمان بن عفان إلى مركز السلطة على وفق نظام الشورى الذي أس قواعده عمر بن الخطاب وصولاً جدلياً أكثر من سابقه؛ وذلك بسبب الاتكال على شخص واحد منحته السلطة التفويض الكامل للإدلاء بالنتيجة النهائية، فيما يوحي مؤتمر الشوری بدیمقراطية منفتحة على الأقل بين أهل الحل والعقد.

من خلال ما ذكرته المصادر التاريخية(1) عن الأشخاص الستة الذين عينوا مرشحين للخلافة وإداريين للجلسة في الوقت نفسه، يتضح إن الموجودين كلهم من قریش (فالأمر يتعلق بقرشيين وقرشيين بارزين)(2)، وثمة ضبابية أولى تواجهنا هنا وهي استبعاد الأنصار من قائمة المشتركين في الشورى على الرغم مما لهم من مآثر ومشاركات فعلية حقيقية لخدمة دولة الإسلام.

لقد كان الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام غير مطمئن من كون عبد الرحمن بن عوف في بوتقة الأحداث التي تنصهر فيها جميع الاختلافات المبنية على

ص: 132


1- ظ: تاريخ الطبري - تاریخ الرسل والملوك: 4 / 228
2- الفتنة - جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر: 56

أسس القرابة والعلائقية الاجتماعية على وفق مواطنيّة واحدة؛ وذلك حسب ما ذكره في كلامه: «فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ، وَمَالَ الآخَرُ لِصِهْرِهِ»(1)، ويمكن قراءة هذا القلق أو عدم الاطمئنان قراءة على وفق جدلية الظاهر والباطن؛ لأنه مكتنز بإشارات ودلالات ثقافية كثيرة، فالنسق الذي أشار إليه الإمام عليّ عليه السلام هو القرابة بين عثمان وعبد الرحمن، إذ إنَّ أم كلثوم بنت أبي معيط كانت تحته، وأم کلثوم هي أخت عثمان من أمه اروی بنت کریز(2)، فدرجة القرابة إما أن تكون أثنية / ثقافية تكون علائقها القبلية متشابكة الأطراف، وكما يقال في خطاب العامة (أخاك من أمك وليس من أبيك!)، أو أن تكون درجة القرابة عرضية كعلاقات العمل، وهذه اخف وطأة من سابقتها، وعلاقة عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان من نوع القرابة الأولى ذات التأثير القوي، ومهما حدث فان علاقة القرابة أتت أو كلها آنذاك، کما استشعره الإمام عليّ عليه السلام.

وقد يكون الوازع الإنساني الثقافي ما أستشعره الإمام عليّ عليه السلام تجاه عبد الرحمن وهو ما لم يصرح به، فعبد الرحمن لم يكن حاسماً وسديد الرأي تجاه المواقف الصعبة، ولا يوجد موقف أصعب من موقف انك تكون شاهداً مسؤولاً

ص: 133


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 1 / 117
2- ظ: المصدر نفسه 1 / 121

عمن سيكون خليفةً للمسلمين، وهذا الضعف ذكره عمر بن الخطاب لعبد الرحمن قبيل وفاته (ليس يصلح هذا الأمر لمن فيه ضعف كضعفك، وما زهرة وهذا الأمر!)(1)، فالثقافة في إحدى تعريفاتها تكون إحدى خصائص الأفراد التي (تتعمق في الوعي الذاتي للأفراد للكشف عما يفكرون فيه وعما يشعرون به، وباختصار تكوين المعاني الذاتية)(2).

وثمة ملحظ هامشي مهم يجب الإشارة إليه هنا وهو وجود ما اسميه الانحياز التراتبي السوسيو ثقافي في مسالة تراتبية الخلافة / الحكم، أو كما يسميها تودوروف (الهيراركية)(3)، إذ إنَّ التراتبية خاصة في متعلقات السلطة تعد امرأ خطيراً ذو علائقية متشابكة، وتكشف تلك التراتبية المضمرة من خلال نص مروي لأبي بكر: (ولو تركت عمر لما عدوتك يا عثمان)(4)، فهو يذكر هنا صراحة التراتبية المستقبلية للخلفاء التي حدثت بالفعل على وفق هذا المستوى من الترتيب (عمر، عثمان).

ويكشف لنا الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام ملحظاً مضمراً قد

ص: 134


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 1 / 119
2- التحليل الثقافي: بيتر ل بيرجر واخرون: ت: فاروق أحمد مصطفی واخرون: 21
3- ظ: فتح أمريكا، مسألة الآخر: 57. الهيراركية تعني الانحياز للتراتبية الجماعية
4- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 1 / 103

يقوض البناء الذي يعتد عليه في مشروعية مؤتمر البيعة برمتها ابتداءً من السقيفة ومروراً بالشوری، ذلك هو قول الإمام عليّ عليه السلام لعمر بن الخطاب: (أحلب حلباً لك شطره، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً)(1)، إنّ هذا النص يكشف خفايا المستور ويفضح التراتبية المبني عليها مسبقاً أس السلطة / البيعة، والإمام عليّ عليه السلام قال ذلك في سياقٍ واعٍ، محيط بتفاصيل المشروع كلها، إذ أنّ (السياق يحدد المعنى، فلكي تعرف ما يعنيه هذا المنطوق بعينه عليك أن تنظر إلى الظروف التي يبرز فيها هذا المنطوق وسياقه التاريخي)(2).

قال الإمام عليّ عليه السلام: «فَمَا رَاعَنِي إلاَّ وَالنَّاسُ إليَّ كَعُرْفِ الضَّبُعِ، يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حَتَّى لَقَدْ وُطِىءَ الحَسَنَانِ، وَشُقَّ عِطْفَايَ، مُجْتَمِعِينَ حَوْلي كَرَبِيضَةِ الغَنَمِ»(3).

هكذا تمت بيعة الإمام علیّ بن أبي طالب عليه السلام وعلى هذه الشاكلة الجماهيرية الواسعة المقيمة والجالسة تنشد أمراً ما. إنَّه الاختيار من الرعية، فالسلطة (تأتي من أسفل، وهذا يعني أن ليس هناك، في أصل علائق السلطة بوصفه طابعاً عاماً، تعارض ثنائي شامل بين المسيطرين ومن يقعون تحت

ص: 135


1- الإمامة والسياسة: أبو محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ت (276) ه: 1 / 29
2- النظرية الأدبية: جوناثان كلير: 80
3- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 1 / 128

السيطرة)(1)، إذ شبّه الناس على كثرتهم ونيتهم المعقودة على بيعته بر بيضة الغنم، فالرّبض يشتمل على معاني القطعة العظيمة والكبيرة والجلوس والإقامة بانتظار تحقيق أمرٍ ما(2)، فاستعمال الإمام عليّ عليه السلام لهذه المفردة هو استعمال واعٍ ومقصود لغرض بيان الحالة و (استخدام الكلمة هو الذي يكسبها معناها)(3)، فضلاً عن أنَّه مثال حي من الواقع المعيش آنذاك، فالأنسان ابن بيئته، بهذا الأسلوب والبيان الرائعين وصف الإمام عليّ عليه السلام طلب الناس له بالبيعة، بهذا الحضور الجماهيري الواسع من المنتخبين نفى الإمام عليّ عليه السلام عن نفسه تهمة كون بيعته (فلتة): «لَمْ تَکُنْ بَیْعَتُکُمْ إِیَّایَ فَلْتَه»(4)، وهنا نستحضر جدلية الماضي (فلتة) / الحاضر (لم تكن فلتة) بوصفها - الأخيرة - كانت على مرأى ومسمع كل الحاضرين وشاركت فيها اغلب إن لم تكن كل فئات المجتمع آنذاك (المهاجرين / الأنصار والمستضعفين / النبلاء والعبيد/ الأحرار والعرب / الموالي)، أما التشبيهات التي استعملها الإمام عليّ عليه السلام في إبراز کيفية قصد الناس إياه وإجباره على البيعة فهي تشبيهات تدل على الكثرة والرحمة والغلبة بكل أشكالها، من ذلك قوله: «فَأَقْبَلْتُمْ إِلَیَّ إِقْبَالَ اَلْعُوذِ اَلْمَطَافِیلِ عَلَی أَوْلاَدِهَا، تَقُولُونَ:

ص: 136


1- جينيالوجيا المعرفة: ميشيل فوكو: ترجمة: أحمد السطاتي وعبد السلام بنعبد العالي: 107
2- ظ: لسان العرب: 7 / باب (ربض)
3- دراسات وترجمات في العلوم الدلالية والتداولية: صابر الحباشة: 8
4- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 9 / 24

اَلْبَیْعَهَ اَلْبَیْعَهَ قَبَضْتُ کَفِّی فَبَسَطْتُمُوهَا وَ نَازَعَتْکُمْ یَدِی فَجَاذَبْتُمُوهَا»(1) ف (العوذ المطافيل) هذان الاسمان لا يجتمعان حقيقة، إلاّ اجتماعاً مجازياً، وإذا زال الأول ثبت الثاني(2)، وهذا المجاز قد يوحي بدلالات تقترب كثيراً من المعنى المراد، فالعلاقة بين المجاز والحقيقة هي علاقة انتقال دلالي من نسق إلى نسق آخر(3) يفهم ويكشف بالدلالة المجازية، وهو ما استخدمه الإمام عليّ عليه السلام لغرض تبيان النوعية السيكولوجية التي كان الناس يمرون بها أثناء مجيئهم لأخذ البيعة، فهم متلهفون ومغمورون حرقةً ومتشوقين لانتخاب الخليفة، هو ربما أكثر الأنواع لهفةً واشتياقاً بحسب الدراسات النفسية، مما يدلل على إصرار الناس ولهفتهم على اخذ البيعة للإمام عليّ عليه السلام.

تعدُّ المفارقة في الكلام (لعبة لغوية ماهرة وذكية بين طرفين (صانعها وقارئها) يقدم فيها صانع المفارقة النص بطريقة تستثير القارئ)(4)، وهي تعتمد على التناقض الظاهري في الكلام، وتنحصر هذه اللعبة بين الدال والمدلول إذ يمكن للدال التعبير عن (مدلول يخفي مدلولاً آخراً متناقضاً معه، على نحو ما...

ص: 137


1- المصدر نفسه: 9 / 28
2- ظ: المكان نفسه
3- دراسات وترجمات في العلوم الدلالية والتداولية: 34
4- المفارقة: نبيلة إبراهيم: 1

ويبدو المدلول المتخفي معبراً عن حقيق القول ولكنه يظل ملتبساً إذ إنّ قصدية المتكلم يمكن التشكيك فيها، ولا تتضح إلا من خلال سياق ثقافي فكري مشترك بين منتج القول ومتلقيه)(1)، كما أنَّ المفارقة في النص هي بنية جدلية دالة وشفرة ثقافية(2)، وتتطلب هذه المفارقة استنطاق النص والسبر في أغواره لاكتشاف المعنى المخفي، ونستحضر مثل هذه المفارقات الثقافية في كلام للإمام عليّ عليه السلام يبين فيه الكيفية التي تمت بها مبايعته ومفارقتها للبيعات الأخرى فضلاً عن مفهومه للبيعة والخلافة أو السلطة، يقول: «وَلَیْسَ أَمْرِی وَأَمْرُکُمْ وَاحِداً، إِنِّی أُرِیدُکُمْ للهِ وَأَنْتُمْ تُرِیدُونَنِی لاِنْفُسِکُمْ»(3)، نجد في هذا النص علاقة متينة ووثيقة بين ثقافة الإمام عليّ عليه السلام ونصه، فالنص معطی ثقافي يحركه نسق معين، إذ إنَّ علاقة غير عادية تربط بشكل متبادل بين الثقافة والنص (فالنصوص لا تنشأ إلا داخل الحواضن الثقافية، مثلما تعمل على بلورة أنظمة الثقافة، وتتأسس على هذا التصور فاعلية حضور الطرفين، النصوص وهي تحمل الثقافة ومكوناتها، والثقافة وهي تنتج النصوص)(4).

معده

ص: 138


1- المفارقة الروائية والزمن التاريخي: أمينة رشید: 157
2- ظ: جماليات التحليل الثقافي - الشعر الجاهلي نموذجاً: 282
3- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 9 / 24
4- بناء الشخصية في كتاب أيام العرب قبل الإسلام: محمد هادي علوان: 137

والإمام عليّ عليه السلام هنا في هذه الصورة المفارقة يستشعر بعد رحيل الرسول محمد صلى الله عليه وآله تحول الأمة مما كانت علیه زمان النبي محمد صلی الله عليه وآله ايجاباً إلى صورة سلبية لمجتمعٍ شهد بزوغ الإيثار العُقدي وتفضيله وتغليبه على كل المصالح الشخصية من قبل أناسٍ دخل الإسلام إلى قلوبهم قبل أن تنطقه أفواههم.

لقد كان الإمام عليّ عليه السلام يرغب عن الخلافة والبيعة بعد مقتل عثمان عندما عزم الناس على بيعته وحذرهم مرةً وأخرى، واخبرهم بزهده بالبيعة «دَعُونِی وَالَتمِسُوا غَیْرِی؛ فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَ أَلْوَانٌ؛ لَا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ، وَ لَا تَثْبُتُ عَلَیْهِ الْعُقُولُ»(1)، إنَّ رغبته عن الخلافة لا لعجزٍ فيه كما أكدّ هو ذلك ولكن لأنه (يريد لها وجهاً والقوم بریدون لها وجهاً آخر. فما هو منهم بها، ولا هم منه!)(2)، لقد كان يريد بناء الإنسان وأنسنة البنية المجتمعية من خلال الحاكمية المنشودة في تخليص المجتمعات من بوتقة الظلم والاستعباد والفساد وانصاف الامة ممن يحاول الدفع بعجلة الظلامة نحوها؛ لأن (يَدَ اللهِ مَعَ الجَمَاعَةِ)(3)، والترسيمة الاتية تبين ما تقدّم:

ص: 139


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 7 / 91
2- الإمام عليّ عليه السلام صوت العدالة الإنسانية: جورج جرداق ت (1435) ه: 129
3- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 8 / 268

أريدكم لله تريدونني لأنفسكم أمري أمركم إنّ هذه الثنائيات والمفارقات الدلالية في المخطط أعلاه، تشکل شفرةً ثقافيةً تحضر ذهنياً لدى القارئ والمتلقي، وتأتي هذه الشفرات بالحضور في كلام الإمام عليّ عليه السلام ليبين من خلالها التزامه بالنظام الديني الإنساني من جهة، وبالحاضنة الثقافية التي ينتمي لها المتكلم من جهة أخرى. إن هذه الثنائيات هنا تفي بكل مدلولاتها فهي (قائمة على التوافق والتكامل بين مدلولات طرفيها)(1)، أما عن التمايز الناشئ بين أي نسقين ضديين فانه يخلق حالة من التوتر تتولد عنها صورة كلية موحدة وفاعلة(2).

إنّ الحكومة التي يريد الإمام عليّ عليه السلام فيها عودة الناس إلى الله تعالى تمثل (عقدا لازما وقائما بطرفين فهي تنجز على المبايع (بالفتح) التصدي للحكم والقيام بأعباء الولاية الإلهية، وتجعل التكليف على المبايع (بالكسر) أثقل واكبر)(3)

ص: 140


1- الثنائيات الضدية في شعر الصعاليك والفتاك إلى نهاية العصر الأموي: مي وليم عزیز بطي: 8
2- ظ: جماليات التحليل الثقافي - الشعر الجاهلي نموذجاً: د. يوسف عليمات: 227
3- فلسفة النظام السياسي في الإسلام: 340

فضلاً عن أنَّ هذه الثنائيات والمفارقات تمنحنا فرصة التأمل فيها تقع عليه أعيننا، أو يتنبه عليه إدراكنا، مما يحيط بنا من مظاهر التناقض والتغير، فيدفعنا للتبصر به، والبحث عن العلاقات التي تجمع عناصر المتشكل أمامنا وما بينها من اتصال أو تنافر(1)، وكذلك فان قانون التضاد يفيد (في إيجاد شبكة من العلاقات التي تتنامى فيها الأنساق المتضادة)(2)، فجوهر المفارقة - على نحو العموم - هو التناقض بين ما يقال أو يضمر.

ص: 141


1- ظ: المفارقة في شعر أمل دنقل: سامح عبد العزيز الرواشدة: 3788
2- جماليات التحليل الثقافي - الشعر الجاهلي نموذجا: 227

المبحث الثاني

كان المجتمع العربي الإسلامي خلیطاً من فئات متنوعة ومختلفة أيديولوجياً، أخذ بعض هذه الفئات على عاتقه إيصال هذه الأمة إلى الحروب والنفاق، ومن خلال استقراء نصوص الإمام عليّ عليه السلام واستنطاقها مع بعض من نصوص أخرى تحدثت عن شخصيته وسيرته والأيدلوجية الفكرية التي سار عليها في تحقيق إصلاحاته المنشودة، نسعى إلى تفكيك بعضِ من تلك الممارسات والنصوص ف (كلما كان العمل تعبيراً صادراً عن مفكر أو عن كاتب عبقري، كلما أمكن فهمه في ذاته بدون أن يلجأ المؤرخ إلى سيرة الكاتب أو إلى نواياه، ذلك أن الشخصية الأكثر قوة هي التي تتطابق بكيفية أفضل مع حياة الفكر، أي مع القوى الجوهرية للوعي الاجتماعي في مظاهره الفعالة بدعة)(1).

ص: 142


1- البنيوية التكوينية والنقد الأدبي: لوسيان غولدمان وآخرون: 19

يروى أنَّ الإمام عليّاً عليه السلام وجد درعاً له عند نصراني، فجاء به الى شريح القاضي، قال الإمام عليّ عليه السلام: إنّ هذه درعي لم ابعها ولم اهبها، فقال له شريح: هل من بينة يا أمير المؤمنين، قال الإمام عليّ عليه السلام: لا، وقال النصراني: الدرع درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب، فقضی شریح بالدرع إلى النصراني، فمشى النصراني هنيّة ثم اقبل وقال: أما أنا فأشهد أنّ هذه احكام النبيين، أمير المؤمنين يمشي بي الى قاضيه! وقاضيه يقضي عليه! الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين خرت من بعيرك يوم صفين. واسلم النصراني على أثر ذلك ووهب الإمام عليّ عليه السلام الدرع إلى النصراني(1).

من الإلزام على الإنسان عامة وعلى المسلم خاصة وحسبما تقتضيه ثقافة التسامح أن ينظر إلى الأشياء من زواياها الرحبة، حتى يدرك دوره الخاص ودور ثقافته في هذا الإطار العالمي(2)، والإمام عليً عليه السلام في تخاصمه مع النصراني ضرب بذلك أمثلة في تحقيق القضاء للعدالة الاجتماعية وأصالته وأبعاده الفكرية وعمقه الحضاري ببثه روح المساواة والعدالة بينه بوصفه حاكماً وبين رعيته

ص: 143


1- ظ: الغارات أو الاستنفار والغارات: أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن هلال الثقفي: 74 - 75. وظ: الصواعق المحرقة في الرد على اهل البدع والزندقة: ابن حجر الهيتمي المكيت (974) ه: 182 - 183
2- ظ: مشكلة الثقافة: 116

بوصفهم محكومين وبين من يمثل السلطة لديه. والإمام علي عليه السلام يضرب بذلك أروع الأمثلة في المساواة بينه بوصفه حاكماً وبين الآخرين بوصفهم محكومين، فهو يصرّ على الأسرة في الحق بين كلّ الناس بغض النظر عن مناصبهم وسلطتهم التي يتقلدونها، ونستشعر ذلك في كتابه إلى عامله في المدينة سهل بن حنيف الأنصاري: «وعَلِموا أنَّ النّاسَ عِندَنا فِی الحَقِّ اُسوَهٌ»(1)، فالحكومة يجب أن لا تميز بين أبناء المجتمع الواحد على أساس الدين مثلاً أو القومية أو المذهب أو الاتجاه الفكري أو الخلفية السياسية في الحقوق والواجبات، اذ لا شرعية لسلطة تتسبب بتمزيق المجتمع و تفریق وحدته وتعبث بنسيجه الاجتماعي، إنَّه خطاب إنساني يتجاوز الدين بكل مسمياته ليسير نحو التلاحم وتعميق العلاقة مع حضارة الآخر وعدم تهميشه، فضلاً عن إشعاره بإنسانيته(2)، والإمام علي عليه السلام بهذه الممارسات وهذا التعامل (يؤسس لفهمٍ جديدٍ للعلاقة مع الآخر، هذا الفهم بعيد كل البعد عمّا رسخ في الذاكرة العربية الثقافية من أورام الذات وانغلاقها على نفسها، مستوحياً في ذلك الروح الإسلامية في نظرتها للظالم والمظلوم)(3)، فهذا السلوك وهذه الأخلاق في التعامل لم تنبعث من اجل الأخلاق

ص: 144


1- نهج البلاغة: شرح ابن أبي الحديد: 19 / 216
2- ظ: مقاربة الآخر - مقارنات أدبية: د. سعد البازعي: 26
3- الآخر في نهج البلاغة - قراءة في المرجعيات المشكلة للذات ولصورة الآخر: سلام عبد الواحد جبارة: 48

فقط، بل من أجل بناء الإنسان ذاته والارتقاء به نحو التكامل.

إنَّ هاهنا قراءة فكرية تنبع من ثقافة إسلامية للإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام تمثلت باحتكام رأس السلطة إلى قاضٍ مسلم هو أحد رعيّة الإمام عليّ عليه السلام، في نهاية المحكمة أو جلسة فض الخصام، قَبِلَ رأس السلطة / الحكم بالأمر، وانتصرت الرعيّة الممثلة بالنصراني من ديانة إسلامية حاكمة، وكانت قيم الإمام عليّ عليه السلام تتوزع في كل جوانب الحياة وتطال كل اتجاهاتها (فالقيم الفكرية الحقيقية لا تنفصل عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي، بل هي قائمة بالذات على هذا الواقع)(1)، وكان صوت العدالة الأساس لديه في كل تعاملاته الحياتية، التي ميزته بشدة (فالعدالة، التي ترشدها فضيلة العقل الأساسية، تتيح لكل جزء المساهمة في رفاه الكل، بأداء يتناسب مع طبيعته؛ وهذا يجري سواء في الحياة العائلية، أو الصداقات، أو الشؤون السياسية)(2).

وأهمية العدل عند الإمام عليّ عليه السلام هو إنَّه «يَضَعُ الأامُورَ مَوَاضِعَهَا»(3)، وهو بذلك يرجح العدل على باقي الجوانب الأخرى.

ص: 145


1- البنيوية التكوينية والنقد الأدبي: 13
2- المجتمع المدني - التاريخ النقدي للفكرة: جون إهرنبرغ: 32
3- نهج البلاغة: شرح ابن أبي الحديد: 10 / 293

إنَّ النهج الذي سار عليه الإمام عليّ عليه السلام كان عينه منهج النبي محمد صلى الله عليه وآله فهو يكرر مراراً وتكراراً إتباعه السنة النبوية الرحيمة بالآخرين، والمنهج النبوي لا غبار عليه من كل مقلدي ومتبعي نهج النبوة، لا بل حتى الذين لم تطلهم يد الإسلام كانوا يشهدون له بالإنسانية الرؤوفة ومعاملته الحسنة والعادلة لهم، فالقائد يمتلك استعدادات ومهارات و مواهب يعتقد أتباعه أنّ مصدرها الهي(1).

إنَّ شخصية الإمام عليّ عليه السلام ما كانت لتؤثر على النفوس لولا السياسة الإنسانية المساواتية التي كان يسير عليها، وعلى أساسها بنی بنیانه.

يروى أنَّه (كان في بني سليم ردّة، فبعث أبو بكر إليهم خالد بن الوليد فجمع رجالاً منهم في الحظائر، ثم احرقهم، فقال عمر لأبي بكر: أتدع رجلاً يعذّب بعذاب الله؟ قال: والله لا أشيم سيفاً سلّه الله على عدوه ثم أمره، فمضى إلى مسیلمة)(2).

وروى ابن العماد: (قتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة في رهط من قومه بني حنظلة ممن منع الزكاة، وكان مالك من دهاة العرب، وكان عرض على خالد الصلاة دون الزكاة، فقال خالد: لا تقبل واحدة دون الأخرى، فقال مالك:

ص: 146


1- ظ: علم الاجتماع الديني: د. زيدان عبد الباقي: 97
2- سير أعلام النبلاء: الإمام شمس الدين الذهبي ت (748) ه: 1 / 372

كذلك كان يقول صاحبك، قال خالد: وما نراه لك صاحبا والله لقد هممت أن أضرب عنقك، ثم تجادلا في الكلام، فقال خالد: إني قاتلك، قال: أو كذلك أمر صاحبك، قال خالد وهذه ثانية بعد تلك، والله لأقتلنك، فكلمه عبد الله بن عمر وأبو قتادة في استبقائه فأبى، فقال له مالك: فابعثني إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فيّ، فقال خالد: یا ضرار قم فاضرب عنقه، فقام بضرب عنقه واشترى زوجة من الفيء وتزوجها، فأنكر عليه عمر، والصحابة، وسأل عمر أبا بكر قتل خالد بمالك أو حدّه في زواج زوجته، فقال أبو بكر: إنه تأول فأخطأ، فسأله عزله، فقال ما كنت لأشيم سيفا سلّه الله عليهم أبدا)(1).

تعد المَدنية والمعاملات بين الناس، إحدى أهم خصوصيات الدين الإسلامي، فهو يهتم - من ضمن ما يهتم به - بحسن المعاملة والمساواة بين الخلق بعيداً عن كل المسميات؛ فالدين المعاملة كما قيل؛ والدين هو (اليوتوبيا) الإنسانية قبل أن يكون المعبد واللاهوت أو الكهنوت والشريعة(2)؛ لذلك نجد هذه الخصوصيات متوفرة في تعامل النبي محمد صلى الله عليه وآله مع أفراد الدولة الإسلامية ومن ينتمون إليها من الديانات الأخرى، فالنبي صلى الله عليه وآله

ص: 147


1- شذرات الذهب في أخبار من ذهب: ابن العماد الحنبلي الدمشقي ت (1089) ه: 135 - 136
2- ظ: لصوص الله - إنقاذ اليوتوبيا الإسلامية: 69

يتبع نصوصية إنسانية دينية جديدة لم تألفها الأمة من قبل، ففي وثيقة النبي صلى الله عليه وآله في المدينة المنورة نتعرف على أهم نماذج التعايش الإنساني المبني على أسس التمازج والتعايش واحترام الأخر بوصفه إنساناً قبل كل شيء: (... وإنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين؛ وإنّ يهود بني عوف أمة من المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فانه لا يوتغ إلا نفسه، وأهل بيته)(1)، فعلى الرغم من الاحتكاك القوي لليهود بالدولة الإسلامية وخطورة الموقف معهم نظراً لما يبطنونه من بغض وحقد للإسلام والمسلمين، فأنَّ النبيَّ محمداً صلى الله عليه وآله لم يعاقبهم على إضمارهم العداوة وعلى أفعال لم يقترفوها بعد؛ لأن ماهية هذا الدين هي أن يكون من اجل الناس فحسب، أن يكون إنسانياً فحسب(2)، بل بالعكس ضمن لهم الحقوق وتعهدلهم بها شرط البقاء على ذمة الاتفاق، هذه التعاملات تعطينا صورة مشرقة للثبات الأخلاقي للإسلام ممثلاً بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله، وتظهر في الوقت نفسه تضاداً كبيراً بين ما قام به القائد محمد صلى الله عليه وآله وبين التضييق على الحريات كما هو شأن الحكام والقادة.

ص: 148


1- السيرة النبوية لابن هشام: تحقيق مصطفى السقا و آخرون: 1 / 503
2- ظ: لصوص الله - إنقاذ اليوتوبيا الإسلامية: 3

كان أبو بكر كثيراً ما يعتمد على خالد بن الوليد في حملاته العسكرية(1) بوصفه أحد القادة العسكريين المتنفذين الذين اعتمد عليهم ضد المرتدین والممتنعين عن دفع الزكاة والجزية والضرائب؛ الهالة السحرية لقوة خالد التي رسمتها كتب التاريخ عنه جعلته يتمتع بنسق الفحولة العسكرية، ذلك النسق المهيمن الشديد الخطورة على مسار أية حكومة، فهو يحدث الإرباك في كل مفاصلها، لأنه يرتبط بتهميش الآخر، فخالد كان غليظاً في التعامل مع من يعارضه؛ وذلك كافٍ جداً لإرغام مخالفي رأس السلطة على الانصياع لها، وأكثر المواقف شهرةً التي تذكر لخالد قبل إسلامه الدور الكبير الذي لعبه في معركة احد بالتفافه على الجبل الأمر الذي أودى بخسائر كبيرة في صفوف المسلمين، تلك الجملة النسقية (موقفه يوم احد) جعلته يتمتع بكل حقوق القائد المنتشي مسبقاً في أي معركة، أو غارة، أو هجمة يخوضها.

لقد أثارت قضية مقتل مالك بن النويرة على يد خالد بن الوليد سخط العامة والخاصة أيام خلافة أبي بكر؛ لأنه (ما كان المسلمون يقتتلون آنذاك بعد)(2)، وكانت هذه الحادثة على مرأى ومسمع حكومة أبي بكر، وعلى عاتق أبي بكر تقع

ص: 149


1- ظ: الفتنة جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر: 40
2- الإسلام معطلاً - العالم الإسلامي ومعضلة الفوات التاريخي: فریدون هويدا: 25

مسؤولية إدارة كل مرفق من مرافق الدولة السياسية والدينية والاجتماعية والأمنية وغيرها؛ لأنه كان (المركز الذي يدير المشهد والمخرج الحقيقي له)(1)، وتذكر المصادر صراحةً عدم قيام أبو بكر بإقامة الحد على خالد بقتله مالكاً وجماعته ونزوه على امرأته، بل إنَّه أمره بمتابعة السير إلى مسيلمة لمواصلة مقاتلة المرتدين ومانعي الجزية(2).

وهذا يشير إلى انساق ثقافية دينامية تمتد إلى أمد بعيد بين أبي بكر وخالد بن الوليد، الأمر الذي دفع بابي بكر إلى عدم اخذ الحد من خالد، ويشير في الوقت نفسه إلى أنَّ عدم وجود اعتراض من قبل السلطة والجماعة على مشروع خالد بن الوليد الذي قام به، قبوله بوصفه مشروعاً سياسياً وعسكرياً من قبل أبي بكر (الحاکم).

نحن هنا لسنا في صدد تحليل شخصية خالد بن الوليد وتقييمها فهذا عمل بعيد عن مهمتنا، ولكننا نهتم به كثيراً بوصفه دالاً نسقياً مهماً على مسار الإسلاموية الجديدة تعاملت معه ومع نماذج أخرى مشابهة له على وفق رؤى وأيديولوجيات وانساق مضمرة علينا كشفها وتحليلها كي يتسنى لنا فهم مسار الحاكمية الإسلامية لدى بعض الإسلامويين على وفق هذه الممارسات.

ص: 150


1- مسرحيات باكثير - دراسة ثقافية: 73
2- ظ: سير أعلام النبلاء: 1 / 375 - 377

لعله يتسنى لنا القول إنَّ خالداً ممن ينتمون - تاريخياً - إلى عصرٍ - تهيمن عليه أنساق مخيفة مثل القتل والاستعباد، هذا العصر يضع الجانب المادي في أولى أولوياته وعلى رأس سلّم قيمه؛ وربما هذه الأسباب مجتمعة دعت خالداً إلى الإسراع في حكمه على ابن نويرة ومن معه، بينما كان عليه التريث والمكوث معهم أياما ليتسنى له فهمهم والتحاور معهم بصورة أكثر شفافية وايجابية، إنها الرغبة في العودة والتذكر الدائم للمخيال الذي تربى الإنسان في كنفه، حتى إن ابن عوف عاب عليه ما صنع، وقال له: أخذتهم بأمر الجاهلية قاتلك الله(1).

تلك الرغبة قد تشكل فرداً تاريخياً واعياً يدغدغه تجذره التاريخي (فالإنسان ابن بيئته وإفراز مجتمعه ومن الصعب أن تتبدل أخلاقه وعوائده في بضع سنين، مها بلغت قوة النصوص)(2).

إن عملية القتل الجماعي لا تنبئ إلا عن مسلك خطير يسلكه الإنسان الذي يكون تأثير الدين عليه شبه مضمحل، ف (سلوك الإنسان لا يخضع لوازع معين. فهو أسير اعتبارات متعددة قد لا يكون الإيمان الديني أشدها باساً)(3)، ومقتل مالك بن نويرة وأفراد قبيلته (من هذه الزاوية هو قتل دیني؛ وهو يتسم باسم

ص: 151


1- ظ: سير أعلام النبلاء: 1 / 370
2- شدو الّربابة بأحوال مجتمع الصحابة: خليل عبد الكريم: 2 / 225
3- فصول من تاريخ الإسلام السياسي: 29

الإيديولوجية الرسمية، وسوف يجري ارتكابه في الساحة العامة؛ على مرأى ومن الجميع وبعلمهم)(1).

إنَّ مقولة أبي بكر (هل تزيدون على إنَّه تأوّل) لیست مقولة فحسب، إنَّها مقولة نسقية يغذيها نسق مستور يختفي تحت أقنعة (التأوّل)، وللجزية دورٌ كبيرٌ في هذا الحدث الثقافي ألنسقي، وقد فتح أبو بكر الباب واسعاً أمام الذين يريدون أن يتلاعبوا بالناس وأرواحهم وما يمتلكون، ثم يعتذرون عن فعلتهم بالتأوّل.

إنَّ هذا المشروع لا تنتجه سوی کائنات لا يردعها رادع؛ لأنها آمنت العقاب فساءت الأدب. هذه الممارسات تصنع نماذج عليا تتسلل إلى الثقافة الإسلامية، فخالد بعد تكريمه من الحاكم أبي بكر بوسام الفحولة وذلك بإرساله إلى مسيلمة مرة أخرى بدلاً من حده لجريمتين اقترفهما، أصبح نموذجاً للقائد، ولزاماً على الأمة تكريمه، لان رضا الشعب من رضا الحاكم.

ولقد مثّل خالد بن الوليد على بني يربوع دور البطل والقائد العسكري الحازم الذي يأمر وينهى ويضرب ويطعن ويحرق وينزو، لقد استحکم علیه نسق القوة والترويع الذي كان يغذيه الماضي القريب سلوكاً ومتخيّلاً، كل هذه المجريات قد وصلت إلى مسمع أبي بكر، وكان من المنتظر على الأقل محاسبة خالد بن الوليد ومناقشته وبيان الأسباب التي دفعته لفعل هذا الأمر، إنَّ من المفترض

ص: 152


1- فتح أمريكا - مسالة الآخر: 154

على أبي بكر بصفته حاكماً للدولة الإسلامية أن يحاسب خالد بن الوليد على أفعاله مع بني يربوع وغيرهم بصفته قائداً لجيشه ومبعوثاً من قبله، فالحكومة يجب أن تسعى إلى إحقاق الحق على كل الأصعدة والمستويات، وهذا ما نراه جليّا في مفهوم الحكومة وأيديولوجياتها في فكر الإمام عليّ عليه السلام، فلا مجال للحكم بغير الحق الذي هو من أهم الركائز الفكرية والسياسية والإدارية في حكومته عليه السلام، نرى ذلك في محاورةٍ دارت بينه وبين عبدالله بن عباس: (قال عبدالله بن عباس: دخلت على أَمير المؤمنين بذي قار وهو يخصِف نعله، فقال لي: «ما قيمة هذا النعل»؟ فقلت: لا قيمة لها، قال: «والله لَهِيَ أَحَبُّ إِليَّ من إِمرتكم، إِلاّ أَن أُقيم حقّاً، أَو أَدفع باطلاً»)(1)، هذا العدل والجرأة في الحقالم تشهده كلّ الحكومات سوی حكومة النبي محمد صلى الله عليه وآله وحكومة الإمام عليّ عليه السلام، إنَّ دل هذا على شيء يدل على الحكومة في نظر الإمام علي عليه السلام تکلیف ومسؤولية ما بعدها مسؤولية.

وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أنَّ أبا بكر اکتفی بدفع ديّة مالك وأمر خالداً بترك امرأة ابن نويرة، ثم دافع عن خالد بأنه تأوّل فاخطأ، نعم، تأوّل في مذبحة - وقيل إحراق - راح ضحيتها العديد من الناس الذين شهد الحاضرون

ص: 153


1- نهج البلاغة: شرح ابن أبي الحديد: 19 / 341

بأنهم أذّنوا وأقاموا وصلّوا(1)، وعلى ووفق ذلك فإنَّ هذه المذبحة التي ارتكبها خالد في مالك بن نويرة وقومه (تكشف عن ضعف هذا النسيج الاجتماعي عينه، عن تردي المبادئ الأخلاقية التي كانت تكفل تلاحم الجماعة)(2)، فهزيمة الفرد بدت هنا هدفاً بارزاً من اهداف وايديولوجيات الجماعة والسلطة، وجزءً لا يتجزأ من تفكيرها(3) الذي سعت اليه في سبيل توطيد سلطتها والقضاء على من يعارض او يلمح بالمعارضة لاستراتيجيات الحكومة / السلطة.

إنَّ لفظة التأويل معجمياً تعني في - عند الجيل الأول - الرجوع إلى المصدر والعود له، الأَولُ: الرجوع. آل الشيءُ يَؤُول أَولاً ومآلاً: رَجَع، وأَوَّل إِليه الشيءَ: رَجَعَه(4)، كما أنَّها تعني نقل معنى إلى معنى آخر بشرط موافقته للكتاب والسنة(5)، أو هي بمعنى التبرير Justification (هو - أعني التبرير - ظاهرة نفسية يلجأ إليها الإنسان لتصويب فكر خاطئ أو تصحیح سلوك مغلوط)(6)، وعلى هذا

ص: 154


1- ظ: سير أعلام النبلاء: 1 / 377
2- فتح أمريكا - مسألة الآخر: 155
3- ظ: جماليات النقد الثقافي - نحو رؤية للأنساق الثقافية في الشعر الأندلسي: 37
4- ظ، لسان العرب: 11 / مادة (أول)
5- ظ: المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والانكليزية واللاتينية: د. جميل صليبا: 1 / 234
6- التأويل: د. عبدالهادي الفضلي: مقال في موقع هدى القران الالکترونیکی: .http://www.hodaalquran.com

الأساس كان لزاماً أن نرى خالد بن الوليد يسترجع الأمر إلى أصله أي إلى الحاكم أبي بكر لينفذ في الأمر رأيه، وهذه الرؤية كانت موجودة فعلاً لكنها لم تكن من طرف خالد بل من طرف مالك وقومه، لكن خالداً رفض وأمر بقطع الرقاب، وبحسب معنى التأويل يجب أن يكون تأويله مناسباً للكتاب والسنة، ولم يقم خالد بمعرفة بواطن القوم من خلال التريث في تصدير الأحكام والمكوث معهم مدّة أطول لكي يتسنى له فهم الأمر ومعالجة هذه الحالة بروية وتدبر کبیرین. ومن زاوية أخرى كأنّ خالداً ومن حذا حذوه، قد أطاعوا كل شيء مباح، فبعيداً عن السلطة المركزية تسقط جميع المحضورات، أمّا الرابطة الاجتماعية التي أصبحت واهنة بالفعل، فإنها تنقطع لتكشف عن طبيعة بدائية(1).

ومن بعض الوقائع والروايات التاريخية نفهم أنّ خالداً لم يكن يهتم أو يعمل بقضية التأويل، كما حدث في قضية قتله أسارى بني جذيمة حين بعثه النبي محمد صلى الله عليه وآله إليهم، فقالوا صبأنا صبأنا ولم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا(2)، ومن الممكن أنّهم كانوا يقصدون فعلاً كلمة أسلمنا، فمن بلاغة العرب (أنّهم يخاطبون الرجل بشيء ويريدون غيره)(3)، فلو كان يتأول قتل مالك كان من

ص: 155


1- ظ: فتح أمریکا - مسألة الآخر: 155
2- ظ: البداية والنهاية: أبو الفداء إسماعيل بن کثیر ت (774) ه: 7 / 32
3- أحكام أهل الذمة: شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية ت (751) ه: 1 / 103

المفروض أن يتأول بالمقابل كلام أسارى بني جذيمة، وعلى اثر حادثة بني جذيمة (رفع النبي صلى الله عليه وآله يديه وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) مرتين)(1).

ترى الدراسة إنَّ قضية الجزية ودفع الأموال كانت السبب الرئيس والمباشر لشن الهجمات على القبائل والجماعات المنتشرة على مساحات قربيه أو بعيدة عن مركز الدولة الإسلامية، وعلى هذا الأساس تعد الجزية نسقاً مهيمناً مضمراً سيطر على أجواء تلك الحقبة الزمنية، وفي الوقت نفسه يبرز هذا النسق تبعية الأخر للمركز؛ إذ لابد من وجود (ثمة نسق أو عنصر ثقافي مهيمن ومؤثر هو الذي يحدد طبيعة كل مجتمع وطبيعة كل حقبة زمنية)(2)، يلي هذا العنصر - الرئيس (نسق الجزية) عنصر آخر لا يقل أهمية عن سابقه يتمثل هذا العنصر بعداوات قبلية أو شخصية أحياناً تمتد جذورها إلى حقب زمنية سابقة لعصر الإسلام، الأمر الذي أدى إلى حدوث مجازر دموية غير إنسانية مطلقاً في صفوف القبائل المغزوة المهجوم عليها، كل ذلك يحدث في دولةٍ وضع أسسها النبي محمد صلى الله عليه وآله، ذلك الرجل الذي لم يتجاوز يوماً على حقوق و ملکیات الآخر بغية المنافع المادية، فكل المصادر مجتمعة لم تذكر أي حادثة وقعت تحت قيادة النبيّ صلى الله

ص: 156


1- سير أعلام النبلاء: 1 / 370
2- تمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيل العربي الوسیط: 76

عليه وآله سببت القتل في صفوف الناس كان سببها الجزية ف (الله أرسل محمداً هادياً ولم يرسله جابياً)(1).

وخالد بن الوليد كان مصرّاً - في الظاهر - على دفع الضريبة من قبل مالك وقبيلته وإلا فمصيرهم القتل والسبي، فهو لم يترك لهم خیاراً غير الموت - السبب الباطن - أو المصالحة بدفع الجزية، فأما السلام والخلاص المنشود من الموت تكون ضريبته دفع مبلغ من المال إلى الحاكم والانصياع إلى أوامر الدولة الحالية الجديدة، وأمّا الحرب أن رفض الشرط الأول، والحقيقة أنّ فكرة المبعوث أو المرسل إلى قوم ما لأيّ قضية كانت، تتطلب فكراً نيرّاً يتطلع إلى بناء الإنسان ومنع إراقة الدماء إلى آخر لحظة ممكنة، وأن لا يملي الحقد شروطه عليه ف (مشكلة السلام والحرب تتطلب قرارات واضحة وصريحة، أما نزعة الحقد فهي عمياء، وهي بذلك لن تشجع بعض المساعي التي ينبغي أن تكون نزيهة لكي تكون فعالة)(2).

إنَّ كلّ من له القدرة على السيطرة على جماعة معينة بصورة هجوم، أو غزوة، أو غارة، أو نحو ذلك من أشكال السيطرة لابد أن يكون له موقفان من

ص: 157


1- لصوص الله - إنقاذ اليوتوبيا الإسلامية: 67
2- مشكلة الثقافة: 107

المسيطر عليهم لا ثالث لهما: إمّا أن يتصورهم (على أنهم بشر - تماماً لهم نفس الحقوق التي له، لكنه عندئذ، يعتبرهم ليس فقط أندادا وإنما أيضا مماثلين له، وهذا المسلك يقود إلى إسقاط قيمه على الآخرين، أو إنَّه يبدأ من الاختلاف لكن هذا الاختلاف يجري ترجمته على الفور إلى لغة التفوق والدونية)(1)، ومن الواضح جداً إنَّ مالكاً وقبيلته هم من أصحاب الدرجة الدونية على وفق ما جرت عليه الأحداث، نحن نتحدث عن دين يهتم بالحرية الفردية للإنسان أشد اهتمام فهو يحرص على أن يتمتع جميع الأفراد في ظل الحكومة الإسلامية بالاحترام والتقدير حاشا الذين ينصبون العداوة لها جهاراً ويعملون على ذلك بما يتاح لهم، فان أي إهانة أو تحقير أو غيره مما يشوه صورة الإسلام ممنوع بتاتاً، والإسلام يهتم بتربية الأفراد الأحرار و (الحرية وعلو الهمة لا يستقيان مع الذلة والهوان)(2).

وقد خلق الله عزوجل الإنسان في أحسن صورة وهيئة، وأصبح أحسن مخلوقاته، وبات يمتلك شخصية قويّة سويّة تحددها الأخلاق والتعامل مع الذات والآخر، وقد أولى الله عزوجل اهتماماً بالإنسان وتقويمه سلوكاً ومسلكاً، وذكره في كل الكتب السماوية التي نزلت على عباده الأنبياء و منهم إلى الجماعات البشرية، فقد كان الإنسان يتبوأ مرتبة مهمة في الكتاب المقدس (وَقَالَ اللهُ: نَعمَلُ الإِنسَانَ

ص: 158


1- فتح أمریکا - مسالة الآخر: 48 - 49
2- الطفل بين الوراثة والتربية: الشيخ محمد تقي فلسفي: 343

عَلَى صُورَتِنَا کَشَبَهِنَا)(1)، ولم يكن القرآن الكريم بمعزل عن الكتب السماوية السابقة له، بل هو امتداداً لها في مسالة ورود ذكر الإنسان والحث على زرع بذور الألفة والمحبة والمساواة بين أناس هم جميعاً من خلق الله عزوجل:

«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ»(2).

وقوله عزوجل:

«وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي»(3).

وقد حتمت تلك الآيات الإلهية اعتماد مبدأ المساواة في تعامل الإنسان مع أخيه الإنسان في كل حقول الحياة الدنيا.

قال (عمر ابن الخطاب لأبي موسى: أدعو لي كاتبك ليقرأ لنا صحفا جاءت من الشام. فقال أبو موسى: انه لا يدخل المسجد، قال عمر: أبه جنابة؟ قال: لا، ولكنه نصراني، قال: فرفع يده فضرب فخذه حتی کاد یکسرها ثم قال: مالك! قاتلك الله! أما سمعت قول الله عزوجل:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ»(4)!

ص: 159


1- الكتاب المقدس - العهد القديم: دار الكتاب المقدس: سفر التكوين (1 / 26)
2- المؤمنون / 12
3- الحجر / 29
4- المائدة / 51

ألا اتخذت رجلا حنيفيا! فقال أبو موسى: له دينه ولي کتابته، فقال عمر: لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله)(1).

تعدّ الروايات التاريخية دليلاً على معرفة نوعية الممارسات الفكرية والواقعية؛ لذلك لابد من دراسة هذه النصوص بوصفها نسقاً للإفصاح الفكري عمّا يدور خارجها من وقائع، فهذه النصوص (هي المفردة الأساسية التي تحدثنا بها الطبيعة عن نفسها في كل جوانبها المادية والإنسانية)(2)، إنها تنقل لنا ممارسات الفرد على الفرد، وهذه (الممارسات والتصرفات ليست سوى الحياة الخارجية مدعومة مركزة (consolide) ومن المشروع دراستها عبر هذه الممارسات)(3) الهامشية، وفي خضم تلك الممارسات على ارض الواقع تدفع النفس الإنسانية بكل ما لديها من قيم ومثل فعندما تتضارب الحياة بمواقفها وتتصارع الشخصيات تطفو قيماً على السطح وتغرق أخرى(4) في أتون التصارع مع المد الثقافي الذي كان وما يزال يغذيها.

وعند إمعان النظر في النص السابق نجد تعارضاً وانحيازاً واضحاً بين

ص: 160


1- عيون الأخبار: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ت (276) ه: 1 / 43
2- الموضوعية في العلوم الإنسانية - عرض نقدي لمناهج البحث: د. صلاح قلنصوة: 80
3- المصدر نفسه: 97
4- ظ: مسرحيات باكثیر - دراسية ثقافية: 84 - 85

نسقين هما: الأنا / المسلم والآخر / النصراني، وعلى الرغم من تماهي الإسلام مع الآخر إلا أنَّنا نجد هنا خطاباً اسلاموياً يضم وجهين إسلاميين متباينين (يتنافيان وينطوي احدهما على الآخر، عقيدة شمولية لاشك فيها، من جهة، لان كل إنسان مدعو في النهاية إلى الانتساب للأمة المسلمة... ومن جهة ثانية، حصرية لا تقل وضوحاً عن سابقتها، نظراً لتداخل الروحي والزمني، تستبعد من المدينة الفاضلة كل غير مسلم)(1)، لقد وضح عمر ابن الخطاب هنا ثقافة الآخر - النصراني وهي ثقافة معرفة لأنه يمتلك أداة معرفية هي القراءة، وبطبيعة الحال فأنَّ الإسلام يرحب بالمعرفة بل يشد على يد حامليها إن كانت ذا منفعة للناس، والنصراني هنا صاحب معرفة نفعية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فان القران كان لين الجانب في خطابه تجاه أهل الكتاب، قال تعالى:

«لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ»(2).

إنَّ قراءة عمر ابن الخطاب للنص القرآني واستحضاره قد يكون فيها شيئاً

ص: 161


1- مدخل إلى علم اجتماع الإسلام من الأرواحية إلى الشمولية: 159
2- آل عمران / 113 - 114

من الخلط؛ لأنّ سياقه مختلف تماماً، فالآية الكريمة نزلت بالمنافقين الذين يوالون المشركين ويخبروهم بأمور المسلمين وأسرارهم، وقيل إنَّها نزلت في يوم احد حين همّ المسلمون بموالاة اليهود والنصارى خوفاً وهرباً من المعركة(1)، ولم توجه الآية المسلمين بقطع العلاقة كاملة مع الآخرين من الديانات السابقة في إطار الحياة اليومية، أو منع التبادل المعرفي مع أصحاب الديانات الأخرى على وفق منظور قراءة عمر ابن الخطاب وتطبيق هذه الآية على واقع الحال.

وقد تحدث القران الكريم عن الديانات السابقة بصورة تكشف العمق الذي وظفه القران في احترام الآخر غير المسلم، فقد كان الخطاب القرآني (ناعماً وصديقاً، لا مع اليهود والنصارى فحسب، بل مع الصابئة والمجوس كذلك)(2)، فضلاً عن هذا فأنّ النصارى ليسوا بمشركين بل لهم دينهم وكتابهم ورهبانهم کما تشير إلى ذلك الآيات القرآنية الكريمة الكثيرة(3)، وثمة ملحظ مهم هنا هو أنّ الإسلام يجيز استئجار المشركين عند الضرورة، كما في استئجار النبيّ صلى الله عليه وآله رجلاً من بني الديّل وهو على دين كفار قریش بعد أن حلف اليمين(4)،

ص: 162


1- ظ: الجامع لأحكام القران: أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي ت (671) ه: 6 / 216
2- التجديد والتحريم والتأويل - بين المعرفة العلمية والخوف من التكفير: نصر حامد أبو زيد: 239
3- منها على سبيل المثال لا الحصر (آل عمران 119)، و (المائدة 86)، و (الممتحنة 8)
4- ظ: صحيح البخاري: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ت (256) ه: 539

وبالطبع ليس كل النصاری مشركين، والنصارى يؤمنون بالله کالأديان الأخرى، کما يوحي ذلك النص فيما يوحي بان الآخر - النصراني - منبوذ وغير مرحب به في أروقة الحكومة الإسلامية بل في أروقة الخلق لأنهم منبوذون ومطرودون في السماوات قبل الأرض، وعمر ابن الخطاب هنا في علاقته مع الآخر غير المسلم بدأ يعلن حذره من الآخر وحرصه في التعامل معه، وبناءً على ما كان يفعله عمر ابن الخطاب مع النصارى اوجب بعض الفقهاء وخاصة الشافعية على أهل الذمة "النصارى" شروطاً كثيرة تتصل بملابسهم ومنازلهم وركوبهم ونحو ذلك(1)، وتوضح الترسيمة ادناه موقع النصارى الفعلي في النص والحادثة آنفة الذكر:

فئة مسلمة نصرانية نصرانية وثمة ملحظ آخر في هذا الخطاب وهذه الواقعة وهو ديناميكية نسق الإقصاء، تمثلت هذه الديناميكية في صورتين متتابعتين للقوة، إحداهما فعلية بدأت منذ ضرب عمر ابن الخطاب لفخذه ضربة قوية كاد يکسر - فخذه بها، والأخرى قولية تمثلت في الجملة النسقية (لا أُكرمهم) التي وصل فيها الإقصاء

ص: 163


1- ظ: عبقرية الإسلام في أصول الحكم: 435

إلى ذروته، وهذه الأحداث تضعنا أمام موضوعة الضد بين المركزي / الهامش، فالرجل المسلم ينتمي إلى دائرة المركز، بينما النصراني ينتمي إلى دائرة الهامش، وحينما أراد الهامش محاكاة المركز في أمر الحياة الاعتيادية، لم يكن أمام المركز إلا (التخلص من الهامش الذي يحاول خرق النظام)(1) الذي فرضه هو، ورسم خطوطه الأيديولوجية أيضاً، فضلاً عن ذلك فإنَّ عمر احاط الآخر غير المسلم (النصراني) بهالة تنفيرية بغض النظر عن أفعاله وهويته الانسانية .. ولا يفوتنا في خضم تلك الأحداث أن ننوه إلى أنَّ (من واجب الدولة الديمقراطية الاعتراف من جهة، بتعدد المجموعات الاثن - ثقافية التي تساهم بشكل دال في تكوين ساكنتها، والبحث من جهة ثانية على ملائمة، في الإمكانات المتوفرة)(2).

إنَّ هاهنا قراءة فكرية تمثلت بمعالجة عمر ابن الخطاب لحالة النصارى، ذلك بإقصائهم نهائياً، عبر منع الإفادة من النصراني في كتابته التي يفيد منها المسلم في نهاية الأمر، والقضية تشبه إلى حدٍ ما نظرة شخصين من نافذةٍ واحدةٍ إلى شيء ما أو جهة ما، ولكن كل منهما يرى الأمر على شاكلة مختلفة عن الآخر يدفعه بذلك دافع نسقي متجذر في مخيلة وثقافة الشخص بوعي أو بدون وعي.

فالحاكم الإسلامي في الحقيقة هو الحافظ لمصالح الشعب، وهو كالأب

ص: 164


1- جماليات التحليل الثقافي - الشعر الجاهلي نموذجاً: 64
2- الدولة والتعدد الثقافي: باتريك سافيدان: 14 - 15

الحنون لعامّة المواطنين، يقول الإمام علي عليه السلام في ذلك: «وَاعْلَمْ اَنَّ الرَّعِیَّهَ طَبَقاتٌ، لا یَصْلُحُ بَعْضُها اِلاّ بِبَعْضٍ، وَ لا غِنی بِبَعْضِها عَنْ بَعْضٍ... وَ مِنْها اَهْلُ الْجِزْیَهِ وَ الْخَراجِ مِنْ اَهْلِ الذِّمَّهِ وَ مُسْلِمَهِ النّاسِ»(1)، فهو يسمح للمسلمين بأن يعاملوا غيرهم من الطوائف غير المسلمة بالعدل والرفق والشفقة ما داموا لا يتآمرون على المسلمين ولا يسيئون إلى أمنهم، ولا يقاتلونهم، فالإسلام لا يمنع عن البرّ والقسط إليهم؛ لذلك نجد الإمام علي عليه السلام يتوجه دائماً بهذا المنظار في معاملة غير المسلمين على وفق مبادئ الدين الإسلامي الحنيف.

ص: 165


1- نهج البلاغة: شرح ابن أبي الحديد: 19 / 33

المبحث الثالث

يسعى منهجنا في جانبٍ من جوانبه إلى فك شفرات الخطابات والنصوص المستورة، وقد بدأ هذا الدرس متجاوزاً المناهج التقليدية السياقية في قراءة النصوص والممارسات، أو الخطابات الهامشية، بعدِّه الخطاب السلطوي الثقافي أو النص الذي يتحدث عن واقعةٍ ما تخص السلطة، أرضاً خصبة لاحتواء الأنساق المضمرة، فالنسق المضمر هو (الأصل الذهني للخطاب الثقافي)(1) السلطوي خاصة.

وقد انبرى النقد الثقافي فيما يخص جانب السلطة، بتفكيك تلك الممارسات أو المقولات وكشف المخاتلة فيها وادعاء الكثير من النخب الحاكمة التي تسيطر - أو تحاول السيطرة - على مقاليد السلطة، بأنها تسير على وفق المنظومة الصحيحة،

ص: 166


1- النقد الثقافي - قراءة في الأنساق الثقافية العربية: 163

معالجاً بالياته الثقافية والنقدية اغلب الجوانب الهامشية التي غُض الطرف عن دراستها لسببٍ أو لآخر.

عزم الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام حين تسلم الحكم تطبيق الشريعة الإسلامية في كل مرافق الحياة العامة لا غيرها ولا بديل لها: (وَاللّهِ مَا أَسْمَعَکُمُ الرَّسُولُ صلی الله علیه و آله شَیْئا إِلاَّ وَهَا أَنَا ذَا مُسْمِعُکُمُوهُ، وَمَا أَسْمَاعُکُمُ الْیَوْمَ بِدُونِ أَسْمَاعِکُمْ بِالْأَمْسِ، وَلاَ شُقَّتْ لَهُمُ الْأَبْصَارُ، وَلاَ جُعِلَتْ لَهُمُ الْأَفْئِدَهُ فِی ذلِکَ الزَّمَانِ، إِلاَّ وَقَدْ أُعْطِیتُمْ مِثْلَهَا فِی هذَا الزَّمَانِ. وَوَاللّهِ مَا بُصِّرْتُمْ بَعْدَهُمْ شَیْئا جَهِلُوهُ، وَلاَ أُصْفِیتُمْ بِهِ وَحُرِمُوهُ)(1). وقد أراد الإمام عليّ عليه السلام لحكمه أن يكون في مواجهة واقع الجمود والتمزق الذي كان تهيمن على بعض جوانبه ألأنساق الثقافية المتغلغلة من عصر ما قبل الإسلام.

والإمام عليّ عليه السلام لا ينتظر إذناً من احدٍ في تطبيق مشروعه في إعادة الإنسان إلى إنسانيته سواء نظرياً على مستوى التشريع، أو تطبيقاً على ارض الواقع فهو يمتلك أفقاً في فكره، يتجاوز الآخرين وطرائق تفكيرهم وممارساتهم في فهم السلطة.

إنّ نص الإمام عليّ عليه السلام هذا بوصفه أثراً له كينونته المستقلة والأثر

ص: 167


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 6 / 419

لا يشهد على حقيقة مؤلفه بوصفه فضاء للتأويل أو إمكاناً لتعدد المعنى واختلافه وتشظيه، بل يفرض نفسه علينا بقدر ما يخفي حقيقته ويحملنا على استنطاقه(1)، واستنطاقه وإعادة تفكيك مقولاته يمكن أن تثير حقائق معمية يمكن إعادة تثويرها، أو اجترار ما التصق بها من مشاهد ملموسة في ممارسة الحاكمية في مستوياتها المختلفة.

إنَّ رفض المعارضين في خلافة الإمام عليّ عليه السلام ما رضي به أو قَبِلَه آباؤهم وإخوتهم زمان النبي محمد صلى الله عليه وآله، يدلل على سيطرة النوازع الفردية على حياتهم؛ لأنّ الأمر المعروض هو ذاته الأمر سابقاً، والعمل به کان يجري على وتيرة الاطمئنان واليسر والغبطة، خاصةً إذا علمنا الطريقة الشعبية الجماهيرية العلنية التي وصل بها الإمام عليّ عليه السلام إلى الخلافة، وقد حاول الإمام عليّ عليه السلام بكلامه اليومي (خطبه وحواراته) وممارساته الفعلية أو التقريرية مع الواقع الاجتماعي؛ على أنَّنا نعلم أنَّه (نادراً ما يكون الاتصال غير الشفاهي أكثر نجاحاً من تبادل الكلام)(2)، حاول إقرار قيم الإنسانية وإحلالها محل قيم الارتداد القبلي والتشويه الديني، فضلاً على أنَّ غايته من وراء تلك الحوارات الكلامية والكتابية إحداث تغيرات اجتماعية وأخلاقية على وجه

ص: 168


1- ظ: نقد الحقيقة: علي حرب: 133
2- فتح أمريكا، مسألة الآخر: تزفيتان تودوروف: 38

العموم من المنبع / القرآن إلى المصب / الجماهير، ففي أغلب الأحيان (في الكلام والكتابة، ليست غاية المرء أن يبين للجميع كم هو على حق بل إلى حد ما محاولة إحداث تغيير في المناخ الأخلاقي)(1)، وقد حاول بتلك الحوارات الكلامية والممارسات الفعلية الملفتة للنظر تبيان الخط الإلهي الذي يسير عليه ويعمل على وفق ضوابطه(2)، وكان الإمام عليّ عليه السلام يأمل من الناس تذكيرهم بهذه العلائقية أن تعاد صياغة مفاهيمهم وممارساتهم مع بعضهم البعض، ولكن واقع الحال كان محالاً (مع اختلاف حال الرئيسين وتساوي الأثرین کما یعتبر في تحققه تساوي حال المحلين، يعتبر في حقيقته أيضا تساوي حال العلّتين)(3)، وقد اتکا الإمام عليّ عليه السلام في ممارساته ومقولاته إلى مرجعية تتقبلها الذائقة العامة. إنّ تذكيرهم بقرابته للنبي صلى الله عليه وآله جاء نتيجة عدم تعقلهم وتقبلهم

ص: 169


1- الآلهة التي تفشل دائماً: إدوارد سعيد: 115
2- يقول: «وَلَكُمْ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِكِتَابِ اللهِ تعالی وَسِنة رَسُولِهِ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّهِ، وَالْنَّعْشُ لِسُنَّتِهِ». شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 9 / 191. فالعمل بالسنة النبوية إذن كان القاعدة الرئيسة التي يستند عليها الإمام علي عليه السلام في حلّه وترحاله، في حربه و سلمه، مستنداً إلى علاقة وطيدة متينة وإنسانية تجمعه بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِی مِنْ رَسُولِ اللَّهِ بِالْقَرَابَهِ الْقَرِیبَهِ، وَالْمَنْزِلَهِ الْخَصِیصَهِ... وَکَانَ یَمْضَغُ الشَّیْءَ ثُمَّ یُلْقِمُنِیهِ، وَمَا وَجَدَ لِی کَذْبَهً فِی قَوْلٍ، وَلَا خَطْلَهً فِی فِعْلٍ». شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 13 / 129
3- المصدر نفسه: 6 / 422

لبصائر الأمور وجوانب - أريدكم الله وتريدوني لأنفسكم - الحياة الجديدة بعد أن أصبحت اغلب التشريعات الإسلامية الصحيحة من الدوارس.

لذلك (كانت حكاية خطاب العقل في الماضي ضرورية ومفيدة)(1).

لم يكن أفراد المجتمع الإسلامي المترامي الأطراف والمتباين اجتماعياً وثقافياً ودينياً وفهماً للظاهرة القرآنية على حد واحد في حضورهم المشهد المحمدي النقي، على أنً هؤلاء الأفراد لم يكونوا بمنأى بعيد عن شخصية الإمام عليّ عليه السلام قبل تسلمه مهامه بوصفه خليفةً للمسلمين، إذ إنّ سلطته التشريعية والتنفيذية كانت سارية المفعول بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله سلم وحكم الخلفاء الذين سبقوه.

فسلطته التي كان يتمتع بها كانت (علاقة اجتماعية، لا كمجرد قوة وسلطة - من خارج الجماعة - على الجماعة)(2)، ويدلل على ذلك الطريقة التي تمت بها مبايعته من قبل الناس والجماعات عامة(3).

ص: 170


1- تكوين العقل العربي: 137
2- تكوين العقل العربي: 44
3- يقول عليه السلام: «فَمَا رَاعَنِي إلاَّ وَالنَّاسُ إليَّ كَعُرْفِ الضَّبُعِ، يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حَتَّى لَقَدْ وُطِىءَ الحَسَنَانِ، وَشُقَّ عِطْفَايَ، مُجْتَمِعِينَ حَوْلي كَرَبِيضَةِ الغَنَمِ». شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحدید: 1 / 12

ويعدُّ طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام من الذين أطلق عليهم الصحابة(1)، وكانوا احد أقطاب الإحداث التي حصلت زمان حكم الإمام عليّ عليه السلام(2)، بوصفهما أحد المتنفذين في تلك المواقف، والمتزامنين معاصرةً مع حكومة الإمام عليّ عليه السلام، إلا إنّهما اختلفا عنه في فهم المارسة للسلطة وأولويات السلوك مع الناس.

ويبدو أنّ فئةً من المجتمع الإسلامي - طلحة والزبير - لم يفهما موضوع السلطة (على أنَّه تحول حضاري بل فهموه على أنّه تحول سلطوي لجماعة دون أخرى مما يستدعي التسابق إلى السلطة على أنّها غنيمة وليست خلافة ألهيه في الأرض بما يشيع العدل والأمان فيها ورفع الأذى والظلم عن الناس)(3)، تحركهم تجاه السلطة الرغبة في الثراء وشهوة الحكم والشهرة والحفاظ على المنافع الشخصية، بينما فهمها الإمام عليّ عليه السلام فهم الخلافة على أنّها أساس التحول الإنساني الديني الحضاري ومرتكز بناء الإنسان نحو التكامل

ص: 171


1- الصحابي هو من رأى النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم، واختلف في مدة مصاحبته له والروي عنه. للاستزادة، ظ: الصحابة في الميزان: عباس محمد: 28 - 30
2- تم تجاوز معاوية بن أبي سفيان وممارساته وسلوكه المشوه؛ لكلمة قالها الإمام عليّ عليه السلام: «أهانت الدنيا حتى صار يقال عليّ ومعاوية»
3- الخطاب في نهج البلاغة - بنيته و أنماطه ومستوياته دراسة تحليلية: د. عبد الحسين العمري: 28

إذا ما أحسن استخدامها، وكان جلّ همه البقاء على دولة تعيد فهم سلوك الحاكم تجاه رعية الدولة بما يتوافق مع ما تحقق من رسالة الإسلام الحضارية ذات البعد الإنساني.

إنّ تسليط الضوء على مخيالهما الثقافي، أو واقعهما الفكري، يكشف عن حقبةٍ رئيسة ظلّ ينظر إليها بوصفها مقدسات لا يجب إعادة إنتاجها وإثارة التساؤل الثقافي والمعرفي عنها.

على الرغم من إنّه (بات واضحاً اليوم إنّ الدولة العربية الإسلامية التي دشنت مرحلة ما بعد النبوة مباشرةً، لم تكن إلا دولة دنيوية غارقة في الواقع التاريخي المدنس بالصراعات القبلية والاجتماعية)(1).

وإنّ دراسة الحاكمیّة وفهمها ممثلةً بشخوص معينين؛ ما كان إلا لأنّهما - حاکميّة الإمام علي عليه السلام - متزامنة معهم جداً كما أسلفنا، واستحضارها كشاهدٍ ومسؤول في عصرٍ - توالت فيه الأزمات والأحداث المريرة التي أثرت على عقلية الكثير من مسلمي الجماعة، وأرجعتهم إلى جاهليتهم الأولى وعصبيتهم القبلية.

لقد كان موقف طلحة صعباً وعليه أكثر من علامة استفهام قبل تولي الإمام عليّ عليه السلام الحكم، فالمصادر تشير إلى توتر الخطاب والعلاقة والرؤيا بين

ص: 172


1- الزعيم السياسي في المخيال الإسلامي بين المقدس والمدنس: محمد الجويلي: 17

عمر بن الخطاب في زمان حكمه وطلحة بن عبيد الله، على الرغم من التناقض الحاصل في خطابات الخليفة عمر بن الخطاب تجاه طلحة(1).

وفي رواية للبلاذري أنّ طلحة لمّا أصاب السهم خنصره في أحد قال: (حسّ) فقال النّبي صلى الله عليه وآله سلم: «لو قال بسم اللهّ ولم يقل حسّ لدخل الجنّة»(2)، هذه الرواية قد توحي بعض الشيء عن حضور المقولات الجاهلية المضمرة، أو مرجعيات ثقافية مغروسة لطلحة، فالغرس الثقافي يشكل معياراً رئيساً في نظام الوعي الفكري، هذا المعيار لا يرتبط بزمانٍ محددٍ ولا بمكانٍ معين، فهو يظهر بطريقة اللاوعي.

ونجد كذلك إشارات في كلام الإمام عليّ عليه السلام توحي لنا ببعض الإيحاءات، منها إنّه عندما بعث عبد الله بن عباس إلى الزبير قبل وقوع حرب

ص: 173


1- إذ يقول عمر: إن طلحة من ستة توفي النبي صلى الله عليه وآله وهو عنهم راض، إلا انه يقول في موضعٍ آخر مخاطباً طلحة: أما إني أعرفك منذ أصيبت إصبعك يوم احد بالبأو الذي حدث لك، ولقد مات النبي صلى الله عليه و آله ساخطاً عليك للكلمة التي قلتها يوم أنزلت آية الحجاب وأشار إلى قول طلحة: ما الذي يغني محمداً حجاب نسائه اليوم، وسيموت غداً فننکحهن، وقد أشار الجاحظ إلى تلك المفارقة بقوله: من كان يجسر أن يقول لعمر ناقضت، ومهما حدث فانّ هذه التأشيرة تكشف الحالة العقدية والاجتماعية لطلحة وعلاقته بالفئة الإسلامية الأولى وعلى رأسها النبي الأكرم صلى الله عليه و آله. ظ: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: الشيخ محمد تقي التستري: 9 / 334
2- ظ: انساب الأشراف: الإمام البلاذري ت (279) ه: 1 / 318

الجمل ليستفيئه إلى طاعته قال له: «لاَ تَلْقَیَنَّ طَلْحَهَ، فَإِنَّکَ إِنْ تَلْقَهُ تَجِدْهُ کَالثَّوْرِ عَاقِصاً قَرْنَهُ، یَرْکَبُ الصَّعْبَ وَ یَقُولُ: هُوَ اَلذَّلُولُ، وَ لَکِنِ اِلْقَ اَلزُّبَیْرَ، فَإِنَّهُ أَلْیَنُ عَرِیکَهً، فَقُلْ لَهُ: یَقُولُ لَکَ اِبْنُ خَالِکَ، عَرَفْتَنِی بِالْحِجَازِ وَ أَنْکَرْتَنِی بِالْعِرَاقِ، فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا»(1)، في هذا الكلام نجد دلالات تفسیرية سيكولوجية لشخصية هذين الشخصيتين، فطلحة كما يشير الإمام عليه السلام صعب المراس، ذو کبر وآنفة وهو ما دلت عليه لفظة (عقص)(2) وفيها كناية عن التغطرس والكبر وعدم الإطاعة والانقياد للأوامر(3)، ومن صفاته الأُخر إنّه يستسهل الصعب ويستهين به، وفيه إنَّ هذا الأمر من الفتنة التي جلبوها هي صعبة من لدن الإمام عليّ عليه السلام ولكنها سهلة من لدن طلحة، صعبةٌ لان فيها مفترق طريق للأمة الإسلامية بما تجلبه من ويلاتٍ تفتك بالوحدة الإسلامية وتشتت المجتمع الواحد، إذ إنَّ الناس ليسوا على فهمٍ وفكرٍ واحد وقد تلعب ببعضهم الألاعيب بسهل ويسر، ولذلك وصفه الإمام عليّ عليه السلام بأنَّه يجعل الصعب ذلولا.

(قال رجل لطلحة والزبير: إنّ لكما صحبة وفضلاً، اخبراني عن مسیر کما

ص: 174


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 2 / 326
2- العَقَص: التواءُ القَرن على الأُذُنين إِلى المؤخّر وانعطافُه، وعَقصُ الشعر: ضَفرُه ولَيُّه على الرأس، ظ: لسان العرب: 7 / 55
3- ظ: نهج البلاغة: شرح محمد عبده: 1 / 76

هذا وقتالكما أشيء أمر به رسول الله صلى الله عليه و آله أم رأي رأيتها؟ فأمّا طلحة فسكت وأمّا الزبير فقال: حُدثّنا أنّ ها هنا بيضاء وصفراء - يعني دراهم ودنانير - فجئنا لنأخذ منها)(1).

هذا النص الثقافي يكتنز أنساقاً ثقافيةً مضمرة مغروسة في ثقافة الفكر، فهو (يحتوي سياقات إنتاجه، ويقدر بالتالي على تقديم انطباع عن ثقافة هذه السياقات، بصرف النظر عن درجة تعقيدها، أو سهولتها)(2)، فعندما نريد أن نستنطق النص ونحاور هنا ثقافة فكري طلحة والزبير، ينكشف لنا إنّ النص يحتوي على أنساق متضادة متنافرة لا تجتمع معاً، فصحبة النبي صلى الله عليه وآله سلم لا تجتمع مع حب تفضيل ملذات الدنيا (الدراهم والدنانير) على الدين، والجملة النسقية هنا (بيضاء وصفراء - جئنا نأخذ منها) تكشف ذلك النسق، إنّه منعطف كبير في ثقافة وفكر الصحابة، وهذه الجملة الهامشية النسقية الفاضحة أحدثت خدشاً كبيراً في مكبوت - طلحة والزبير - تجاه السلطة وفكرة الحاكم والمحكوم، إذ هما يريدان المشاركة في منظومة الحكم الإسلامية لتأصيل الموقع المادي لذواتها على حساب القيم التي اضمحلت تدريجيّاً بعد وفاة النبي محمد

ص: 175


1- انساب الأشراف: الإمام البلاذري ت (279) ه: تحقیق د. سهیل زکار: 3 / 62
2- جماليات النقد الثقافي - نحو رؤية للأنساق الثقافية في الشعر الأندلسي: 17

صلى الله عليه وآله سلم، فالثقافة المغروسة في فكر ومخيلة الإنسان تكون مسيّرة له في حياته على وفق اللاوعي، والإنسان أوثق اتصالاً بمنشأ ثقافته منه بمنشأ حياته(1)، إذ إنّ هذه الثقافة المغروسة تتحرك في النفوس بخفاء وتعمل عملها سواء شعر بها المرء أم لم يشعر. وقد كانت هذه الثقافة المادية أصلا رئيساً في خروج طلحة والزبير على حكم الإمام عليً عليه السلام عندما ساوى بينهم في العطاء، ولم يعطهم ما طلبوا من الإمارة: نبايعك على أَنّا شركاؤُكَ في هذا الأمر، فكانت إجابة الإمام عليه السلام: «لاَ، وَلكِنَّكُمَا شَرِيكَانِ فِي الْقُّوَّةَ وَالاْسْتَعَانَةِ، وَعَوْنَانِ عَلَى الْعَجْزِ وَالاْوَدِ»(2)، وشعورهما بأنّ حكم الإمام عليّ عليه السلام سيكون خطراً - على حياتهما المادية - عليهما.

لقد أراد أن يوضح لهما ما حدث عبر سلسلة من الوقائع التي حدثت على أرض الواقع، يقول عليه السلام في ذلك: «فَلَمّا أَفضَت إلِيَّ نَظَرتُ إِلَي كِتَابِ اللّهِ وَ مَا وَضَعَ لَنَا، وَ أَمَرَنَا بِالحُكمِ بِهِ فَاتّبَعتُهُ، وَ مَا استَسَنّ النّبِيّ صلی الله علیه و آله وسلم فَاقتَدَيتُهُ، فَلَم أَحتَج فِي ذَلِكَ إِلَي رَأيِكُمَا، وَ لَا رأَي ِ غَيرِكُمَا، وَ لَا وَقَعَ حُكمٌ جَهِلتُهُ فَأَستَشِيرَكُمَا وَ إخِواَنيِ مِنَ المُسلِمِينَ. وَ لَو كَانَ ذَلِكَ لَم أَرغَب عَنكُمَا، وَ لَا عَن غَيرِكُمَا. وَ أَمّا مَا ذَكَرتُمَا مِن أَمرِ الأُسوَةِ، فَإِنّ ذَلِكَ أَمرٌ لَم أَحكُم أَنَا فِيهِ برِأَييِ، وَ لَا

ص: 176


1- ظ: مشكلة الثقافة: 123
2- ظ: تصنیف نهج البلاغة: لبيب وجيه بيضون: 533

وَلِيتُهُ هَوًي منِيّ، بَل وَجَدتُ أَنَا وَ أَنتُمَا مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صلی الله علیه و آله وسلم قَد فُرِغَ مِنهُ، فَلَم أَحتَج إِلَيكُمَا فِيمَا قَد فَرَغَ اللّهُ مِن قَسمِهِ، وَ أَمضَي فِيهِ حُكمَهُ، فَلَيسَ لَكُمَا، وَ اللّهِ، عنِديِ وَ لَا لِغَيرِكُمَا فِي هَذَا عُتبَي»(1)، إنّها القواعد الصارمة في مفهوم حكومة الإمام عليّ عليه السلام التي على الحاكم الإسلامي أن يتبعها إذا ما أراد رضا الله عزوجل ورضا رسوله صلى الله عليه وآله سلم، القواعد التي تتضمن تطبيق شريعة الله عزوجل وسنة نبيه صلى الله عليه و آله سلم، وترك آراء الآخرين فيما عدا ذلك.

وقد أدركا أنّ صداماً ما سيحصل بينهما وبين الإمام عليّ عليه السلام لأنه لا يقبل التنازل عن مرجعياته الدينية لصالح النوازع الفردية المتدنية، فهما كانا من رموز الأرستقراطيين القرشيين الجدد في حكم عثمان وما قبله، خاصةً إذا علمنا أنّ الزبير بن العوام كان يمتلك من خمس وثلاثين - اثنتين وخمسين مليون درهم، وكان له أملاك ودور وإقطاعات في المدينة والبصرة، والكوفة والفسطاط والإسكندرية، وكان طلحة بن عبد الله يمتلك ما يقارب (مئة وعشرون ألف) دينار، و (مليونين ومائتي ألف) درهم، وبضائع بقيمة ملايين الدراهم واقطاعات زراعية(2).

ص: 177


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 6 / 7
2- ظ، التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للشرق الأوسط في العصور الوسطى: أ. أشتور: 34

إنَّ التدخل النفعي المادي المالي في قضايا الدين من شأنه أن يزعزع البناء العقدي في فكر وحياة الإنسان، فالاستخدام الأيديولوجي النفعي للدين "الإسلام" لتحقيق مصالح وغايات ذات طبيعة فئوية أو شخصية، يحوّل (الإسلام إلى أداة من الأدوات واختزاله في وظائف و غایات ذات طبيعة دنيوية متدنية)(1)، فضلاً على أنَّ التعلق بالمال بشدة والتقاتل لأجله قد يدخل في مزاحمة المال للدين فيكون هناك تزاحم لاستقطاب المتعة خاصةً إذا تعدت في فكر الإنسان قيمة المال المادية وأصبحت لديه هاله قدسية(2).

يعد الدافع المالي ابرز الدوافع التي تحاكي السلطة، ويكون سبباً في الطمع بها ومحاولة السيطرة على مقاليد الحكم / السلطة، والنيل ممن يحاولون زحزحة المتربع على عرشها، فالمال احد العوامل المهمة التي خضع لها المجتمع العربي الإسلامي خضوعاً عجيباً، وكان من جملة أسباب فتن السياسة ولهفة الطبقة الحاكمة للبقاء على عرش السلطة(3)، وتهافت الأثرياء للوصول إلى السلطة والحفاظ على نموهم الاقتصادي الشخصي. إنَّ محاولة الثراء وجمع الأموال بطريقة شرعية لا غبار عليها (من المؤكد أنّ الرغبة في الثراء ليست جديدة واشتهاء الذهب ليس فيه ما

ص: 178


1- التجديد والتحريم والتأويل - بين المعرفة العلمية والخوف من التكفير: 27
2- ظ: إشكالية المجتمع العربي - قراءة من منظور التحليل النفسي: 95 - 96
3- ظ: المجتمعات الإسلامية في القرن الأول: د. شکري فيصل: 50

هو حديث بشكل محدد. لكن ما هو جديد نوعاً ما هو هذا الإخضاع جميع القيم الأخرى لتلك القيمة)(1).

وقد بات من المؤكد أيضاً - بحسب الحوارات التي دارت بين الإمام عليّ عليه السلام وطلحة والزبير - إنّ هذين الشكلين المغريان الرئيسان للطموح إلى السلطة: وشهوة السيطرة / السلطة والرغبة في الثراء يحركان سلوك طلحة والزبير في حربهما وخلافهما مع الإمام عليّ عليه السلام. إنّه الدين الذي يغازل المال ويتودد إليه لكسب رضاه بالتأكيد (إنّه ليس دين الله الذي ارتضاه لعباده، بل هو صورة مشوهة عنها يقدمه مجانين السلطة للناس لخداعهم)(2).

وثمة ملحظ آخر هنا هو إنّ الإمام عليّ عليه السلام استعان بصلة القرابة والنسب في خطابه مع الزبير، هذا الجانب المهم وذو التأثير الكبير في نفسية الإنسان العربي، إذ شعر الإمام عليه السلام أنّها - القرابة - هنا قادرة على الجمع والتوفيق وإحلال السلام، الأمر الذي كان الإمام عليّ عليه السلام بأشد الحاجة إليه لإطفاء نار الفتنة والحرب، فالقرابة تكمن فائدتها وثمرتها ومغزاها في الالتحام الذي يوجب التوفيق والمناصرة بين المتقاربين(3)، وقد أدت هذه الثمرة

ص: 179


1- فتح أمريكا، مسالة الآخر: 153
2- الدين والسلطة قراءة معاصرة للحاكمية: 13
3- ظ: تمثيلات الآخر - صورة السود في المتخيل العربي الوسیط: 68

أُكلها فعلاً، إذ انسحب الزبير من المعركة على اثر المحاورة التي جرت بينه وبين الإمام عليه السلام وتذكير الإمام إيّاه بما قاله النبي صلى الله عليه وآله سلم له: «أما تذكر يوم لقيت رسول الله صلى الله عليه وآله في بني بياضة وهو راكب حماره، فضحك إلىّ رسول الله صلى الله عليه وآله وضحكت إليه، وأنت معه، فقلت أنت: یا رسول الله صلى الله عليه وآله سلم، ما يدع علي زهوه،، فقال لك (ليس به زهو: أتحبه يا زبير) فقلت: إنّي والله لأحبه، فقال لك: (انك والله ستقاتله وأنت له ظالم»، فرجع الزبير وهو يقول: [من البسيط]

اخترت عاراً على نارٍ مؤججةٍ *** ما إن يقوم لها خلق من الطين

نادي عليّ بأمر لست أجهله *** عار لعمرك في الدنيا وفي الدين

فقلت: حسبك من عذل أبا حسن *** فبعض هذا الذي قد قلت يكفيني(1)

لا تخلو أمة من الأمم أو عصرٍ من العصور من هيمنة عنصرٍ معين (فثمة نسق أو عنصر ثقافي مهيمن ومؤثر جداً يحدد طبيعة كل مجتمع وطبيعة كل حقبة زمنية)(2)، وقد كان الحضور الاجتماعي المادي هو المؤثر والمسيطر في اغلب المجتمعات عموماً والمجتمعات العربية على وجه التحديد قبل البعثة النبوية، وبعد مجيء الدين الإسلامي الحنيف والقيادة الفذة للرسول الأكرم محمد صلى الله

ص: 180


1- ظ: مروج الذهب و معادن الجوهرة المسعودي ت (346) ه: 2 / 283
2- تمثيلات الآخر صورة السود في المتخيل العربي الوسيط: 76

عليه وآله سلم بدأ الوعي الديني بالظهور والتأثير على النفوس التي تريد الخروج من غياهب الظلم والحرمان إلى نور الحرية والإيمان، وبدأ النسق القبلي والمنهجية الطبقية بالتلاشي شيئاً فشيئاً، ولا نقول بغيابه تماماً لأنه بقي في وعي ومخيلة كثير من الذين تعارضت مصالحهم مع منهجية الإسلام، الذين ترجموا عناصرهم وأنساقهم الثقافية والاجتماعية بسلوك يومي على ارض الواقع، والمشهد الافتتاحي للإسلام لا يعبر بصورة نهائية عن صفاء نفوس كل الذين دخلوه، فالدخول كان مجانياً لا يكلف إلاّ قول (اشهد أن لا اله إلاّ الله واشهد أنّ محمداً رسول الله)، ثم ما لبثت تلك الأنساق المهيمنة بمعاودة الظهور بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله سلم على أرض الواقع مخيالاً وتطبيقاً في الوقت نفسه، ويبدو من الأدلة المتوفرة والروايات و کلام الإمام عليّ عليه السلام أنَّ طلحة والزبير قد أصابهما شيء من تأثير ذلك النسق المادي الاجتماعي، فقد طلبا من الإمام عليّ عليه السلام بكل صراحة وبدون أي مخاتلة أن يشاركهما ويشر-کھما في الخلافة وإعطائهما نصيباً من قيادة الدولة وان يكونا في أعلى الهرم الحكومي، کي يقبلا به ويبايعاه ولا يحدثا له الحوادث التي تتسبب بخلق الأزمات، وكان الرد من الإمام عليّ عليه السلام حاسماً قاطعاً لا يقبل القسمة على اثنين، حينما أشترط عليه طلحة والزبير مشاركته في الخلافة / السلطة كي يبايعاه.

ص: 181

وكان الإمام عليه السلام متيقناً أنّها حرباً فكريةً بين طرفين وفريقين مختلفين في المنظومات الفكرية المرجعية والثقافية(1)، ولعلّ هذا المظهر من أكثر المظاهر خطورةَ وأشدها أثراً على بناء الدولة، وقد كان هذا الأمر معروضاً على طاولة النقاش، بل على طاولة التنفيذ؛ لأنهما - طلحة والزبير - ما كانا يطلبان هكذا مطلب لولا وجود أسبقية تنفيذية لظاهرة شراكة الخليفة(2)، و استحصال الفائدة المبتغاة من هذه الشراكة، إذ كانا يتمتعان رفاهية كبيرة زمن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، التي لا يمكن التفريط فيها لمجرد إنّ القادم هو الخليفة عليّ عليه السلام.

ص: 182


1- الإسلام والسياسة - دور الحركة الإسلامية في صوغ المجال السياسي: عبد الإله بلقريز: 30
2- ترى الدراسة إنَّ هذه الأسبقية يمكن أن نلحظها في إشراك أبي بكر لعمر بن الخطاب في كثير من القضايا وإشراك عثمان بن عفان لبني عمومته

الفصل الثالث

اشارة

ص: 183

ص: 184

المبحث الأول

إنَّ تطبيق الدرس النقدي على الدراسات التاريخية أمرٌ في غاية الأهمية وقد يتوصل إلى نتائج مهمة فيها جمالية؛ انطلاقاً من خصيصة النقد في الكشف والتمحيص عن الآثار الأدبية ومبدعيها والنقد الثقافي جاء ليكون منهجاً علمياً مكملاً وجديداً يعلن اشتغاله على السرديات والمدونات التاريخية وغيرها بطريقة أخرى قد تكون مغايرة للمناهج الأخرى في قراءة النصوص والفعاليات، ویمارس القراءة المنفتحة على النصوص والخطابات والممارسات داخل النص والمحيط الخارجي له عبر أدوات من التأويل، فالقراءة الثقافية (لابد أن تبحث، عبر التأويل وقدرات المتلقي، في الأنساق الثقافية الداخلية للنص، فتكشف، اثر ذلك، ما يبطنه من تعدد نسقي، و تحول دلالي)(1).

وقد ظلت مسألة عدالة السلطة للإنسان ومراعاة حقوق الآخر تشغل وتطرح في الرواق الاجتماعي منذ القدم، ذلك بإثارة أسئلة يتقدمها سؤال الإنسانية: هل الإنسان حر کریم مکفول العدالة الإنسانية؟ وقد أخذت هذه

ص: 185


1- جماليات النقد الثقافي - نحو رؤية للأنساق الثقافية في الشعر الأندلسي: 294

القضية تنحی منحى متعدد الاتجاهات والجوانب عبر ممارسات وفعاليات كانت علامةً وإيحاءة واضحة الدلالة على نوعية الصورة المخزونة في مخيلة الدّال. وقد أصبحت هذه الفعاليات والممارسات أيديولوجية في المقام الأول؛ لأنها في الواقع كانت أداة تحقيق المصالح المادية أو المعنوية أو الاثنين معاً.

لقد مرّ مجتمع ما قبل الإسلام بحالة مزرية تجاه حقوق الإنسان، ليس هذه الأمة فقط هي التي تنطبق عليها هذه الثيمة، بل أنَّ أمماً وأقواماً كثيرة هناك كانت تتمتع بالصفات نفسها فيما يخص قضية العدالة والاحترام المتبادل بين الذات والآخر، إلا أنَّ عصر ما قبل الإسلام كان الأكثر بروزاً في هذا الجانب نظراً للانتهاكات المتكررة التي كانت الطبقات الضعيفة هدفاً لها، فحديث جعفر بن أبي طالب عليه السلام للنجاشي ملك الحبشة كان خطاباً تاريخياً، ثقافياً کشف زيف المجتمع العربي الذي يدعي الإنسانية واحترام حقوق الإنسان: (أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتی بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف

ص: 186

المحصنات... فصدقناه و آمنَّا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث)(1)، ونتيجة لفضح جعفر بن أبي طالب خفايا قريش وكذب ادعائهم، حاکت قریشٌ مؤامرةً ضد هؤلاء المهاجرين، والمؤامرة عادةً تقع في المجتمعات التي تضعف فيها القوة والمشاركة السياسية بمعنى آخر تهميش الجماعة على حساب الفرد، ويكون قومها وأبناؤها لا حول لهم ولا قوة(2).

وكان سادة المجتمع العربي قبل الإسلام لا يقبلون بالأخذ والعطاء في كل جوانب الحياة المختلفة مع الطبقات الاجتماعية الهابطة في نظرهم، على الرغم من أنَّ الأخذ والعطاء بين الناس شرطان من شروط الحياة الثقافية(3) ودال من دوال عدّة تشير إلى التقدم الثقافي والحضاري لأمةِ ما. إنّ الناس بشكل عام في عصر ما قبل الإسلام يرون إذلال العبيد والنساء والعمال وانتهاك كرامتهم واستخدامهم بقسوة وغيرها من الأمور التي حاربها الإسلام بعد مجيئه، كانوا يرونها أموراً طبيعية بل وربما لا تخالف القوانين التي يسيرون عليها، وبطيعة الحال فان هذه

ص: 187


1- السيرة النبوية: ابن هشام: تحقيق مصطفى السقا و آخرون، 359 / 360
2- ظ: هاجس المؤامرة في الفكر العربي بين التهوين والتهويل: علي بن إبراهيم النملة: 43
3- ظ: في النقد لتطبيقي - صيادو الذاكرة: رضوى عاشور: 105

القوانين التي كانت متوافرة عندهم لم تكن قوانين سماوية أو دينية شرعية، بل كانت قوانین اجتماعية عرفية سُنت تماهياً مع الحالة الاجتماعية والمادية والسياسية التي كانوا عليها آنذاك، ولذلك كانت قضية العدالة تتمثل لديهم على سبيل المثال في عدم مساواة العبد بالسيد، الرجل بالمرأة، الموالي بالحر، صاحب الأموال بالعاملين لديه وغيرها من الطبقات الاجتماعية وجوانب الحياة الأخرى.

لقد حققت دولة الإسلام بقيادة النبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم انتصاراً كبيراً وقفزةً نوعيةً في تطبيق أسس العدالة فقد كانت (دولة حق وقانون تكفل حقوق كل الأفراد وتضمن الحصانة المتساوية لحرية التعبير في كل المواقع دون استثناء(1)، وقد كان للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام رؤية واضحة وشمولية في مجال حقوق الإنسان على كل الأصعدة والمستويات، في المجالين النظري والتطبيقي، فهو يرى أنَّ العدل سعة في الحال والحياة يقول عليه السلام:

«فَإِنَّ في العَدلِ سَعَةً، وَمَن ضَاقَ عَلَيهِ العَدلُ، فَالَجورُ عَلَيهِ أَضيَقُ»(2)، وقد أشار جورج جرداق إلى اعتراف وتأييد العلوم الاجتماعية الحديثة بالأسس والمناهج التي وضعها الإمام علي عليه السلام في ميدان العدالة، إذ إنَّ الإمام عليه السلام جلّ همه رفع الغبن والاستبداد عن كاهل الجماعات. ثم بناء المجتمع على أسس

ص: 188


1- ظ: الإسلام، أوربا، الغرب - رهانات المعني وإرادات الهيمنة: 245
2- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 1 / 171

أصلح تحفظ للإنسان حقوقه في العيش وكرامته کانسان(1). ولقد كتبت مجلة الحقوق العراقية في عددها الثاني سنة 1941 م قائلة: لا مراء بأنَّ عهد الإمام علي عليه السلام إلى مالك الاشتر عامله على مصر من أنّفس الوثائق التاريخية الزاخرة بمبادئ وحقوق الإنسان(2)، انطلاقاً من أنّه كان ينشد وفق ممارساته الفعلية وكلماته التي كان يطرق بها مسامع الآخرين، تفعيل مبدأ تكريم الإنسان انطلاقاً من قوله تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا»(3).

ويلحظ المتتبع لتراثنا الإسلامي البون الشاسع بين المعاملة التي كانت تمارس ضد المرأة في عصر - ما قبل الإسلام القائمة على إلغاء الآخر (المرأة) واختزال اغلب الممارسات السياسية والاجتماعية - إن لم تكن كلها - في ذات الرجل، وتغييب دور المرأة وجعلها هامشية الإدارة والواقع استعلائية البلاغة والتصوير، بمعنى أنَّها كانت تستخدم أداة تصويرية تستكمل بناء المنظومة البلاغية العربية التي يقف الشعر متربعاً على عرشها وبين معاملة الإسلام للمرأة

ص: 189


1- ظ: الإمام علي عليه السلام صوت العدالة الإنسانية: 1 / 119
2- ظ: الإمام علي عليه السلام وحقوق الإنسان: ضیاء الموسوي، الموقع الالكتروني: .asah/10/book-26/01. htm .http://www.haydarya.com/maktaba_mokt
3- الإسراء / 70

ونظرته لها، ويبدو أنَّ المرأة كانت تتعامل على مضض مع تلك القيم التي تضطهدها على أنها أمر واقع وقانون ثقافي اجتماعي ينبغي قبوله والعمل به، على الرغم من أنّ الأدب العربي لا يخلو أبدا من التصريح بمساواة الرجل والمرأة، فقد قيل في أمثال العرب (إنّ النساء شقائق الأقوام) والشقائق جمع شقيقة وهي كل ما يشق نصفين، وفي ذلك اشعار الى المرأة بمساواتها مع الرجل فلها مثل الذي له وعليها ما عليه(1)، وهذا ما أثبتته كل التجارب السابقة قبل الإسلام في مجال الحقوق المادية والمعنوية كالوأد على سبيل المثال، وقد بين الحق تعالى في المنظومة القرآنية اغلب تلك الممارسات والعادات التي كانت تتلقاها الأنثى في عصر - ما قبل الإسلام:

«وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ»(2).

وقوله تعالى:

«وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ»(3).

ص: 190


1- ظ: المرأة في الشعر الجاهلي: د. أحمد الحوفي: 536
2- النحل / 58 - 59
3- التكوير / 8 - 9

وبهذا الصدد نجد کلاماً للإمام علي عليه السلام يذكر فيه حال الأمم السابقة التي كانت تأد الأنثى، يقول فيه: «فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَهٌ، وَ اَلْأَیْدِی مُخْتَلِفَهٌ، وَ اَلْکَثْرَهُ مُتَفَرِّقَهٌ، فِی بَلاَءِ أَزْلٍ، وَ أَطْبَاقِ جَهْلٍ! مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَهٍ، وَ أَصْنَامٍ مَعْبُودَهٍ، وَ أَرْحَامٍ مَقْطُوعَهٍ، وَ غَارَاتٍ مَشْنُونَهٍ»(1).

وقد كانت هذه الأعراف المشينة بحق المرأة لا تقتصر على المؤسسة العربية فقط، بل إنَّ الحضارات الأخرى كان لها النصيب الأوفر من استحقار المرأة ووضعها في خانة الطبقة الدونية في تقسيمات الحياة المختلفة(2)، ففي القرون الوسطى وصل الأمر إلى الكنيسة إلى حد التساؤل هل المرأة لديها روح أم لا(3).

وكأنّ الأمم السابقة كانت على وصاية واحدة على الرغم من التباعد ألزماني والمكاني فيما بينها على استعباد المرأة وجعلها في الطبقة الدونية، فضلاً على الإكثار والاستغراق من النظرة الشبقية لها في التمتع الجسدي والخدمي بها.

ص: 191


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 7 / 113
2- كانت اليونان تضع المرأة في خانة ممتلكات ولي أمرها قبل الزواج هي ملك لأهلها وبعد الزواج هي ملك لزوجها، وترى الدراسة إن مثل هكذا تصورات اجترت إلى واقعنا الحالي المعاش، وكانت تعامل عند الرومان کالطفل أو المجنون، وعند اليهود كانت تعامل المرأة كخادمة مع حرمانها من الميراث. ظ: المرأة في القران الكريم: محمد متولي الشعراوي: 11 - 12
3- ظ: إشكالية المجتمع العربي - قراءة من منظور التحليل النفسي: 105

فالمرأة كانت تقطن مجالاً خاصاً سكونياً غير دينامي اجتماعياً وحتى غير متمایز، فالنساء والمجال الخاص بهنَّ كانا غائبين بكل بساطة(1)؛ هذا كله كان على مرأى ومسمع بل وتشجيع من السلطات الحاكمة والشخصيات الدينية المتنفذة في تلك المجتمعات، لأنه لو كان الأمر خلاف ذلك أي عدم قبول السلطات المحلية المتمثلة بحكام المدن الصغرى أو القبائل، والسلطات المركزية كما نسميها اليوم والمتمثلة بمركز الحكم الذي يكون شبه مسيطر على كافة التقسيمات الإدارية المتوزعة في أرجاء الدولة، لكانت تلك الممارسات شبه مضمحلة، أو غير موجودة، أو قل اخف وطأة بكثير مما هي عليه؛ ووفقاً لذلك كانت الشعوب على دین ملوكها، على الرغم من عدم المشروعية الدينية السماوية التي تتصرف بها تلك المجتمعات تجاه الجنس الإنساني الآخر؛ لأنَّ كل الديانات السماوية كانت لا تبيح تلك التصرفات غير الإنسانية.

هذه الممارسات والضغوط وسردية الاستعباد للمرأة ماذا لو قلبت وأصبح الرجل مكان المرأة؟ هذا ما أدركته (مي زيادة) بفطرة أنثوية ثاقبة فقالت: لو أبدلنا المرأة الرجل وعاملته بمثل ما عاملها فحرمناه النور والحرية دهوراً، فأي سورة هزلية يا ترى تبقى لنا من ذياك الصنديد المغوار، عند ذلك

ص: 192


1- ظ: الرجولة المتخيلة - الهوية الذكورية والثقافة في الشرق الأوسط الحديث: مي عصوب و ایما سنكلير: 15

قد نجد تاریخاً مختلفاً وبوناً شاسعاً أبطاله نساء فاعلات ومؤثرات وصانعات للأحداث، عندها تبرز قيمة الأنوثة الايجابية(1) التي مازالت النساء إلى الآن وفي مجتمعاتنا المتحضرة تحاول إبرازها.

ولكن ذلك كله ما لبث أن توارى عندما بزغ فجر الإسلام الذي أعطى الحقوق الكاملة للأنثى وشملها بكل الاستحقاقات الإنسانية التي كانت تفتقر إليها في محورية الديانات السابقة، فالدين الإسلامي كان حريصاً على إدراج المرأة مع الرجل على السواء في العقاب / الثواب، الحرية / العبودية وهلم جرى من جوانب الحياة المختلفة ليعيشوا سوية آتون الحياة الدنيا، وكان ذلك واضحاً في کلام الحق تعالى:

«إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا»(2).

وقوله تعالى:

ص: 193


1- ظ: المؤلفات الكاملة: می زیادة. مؤسسة نوفل، بیروت، لبنان، ط 1، 1975: 1 / 650
2- الأحزاب / 30

«أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى»(1).

وقوله تعالى:

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»(2).

فتساوي المرأة والرجل استدعی تساوي الشعوب والقبائل، ونقاط الضعف والقوة موجودة لدى طرفي الإنسان وليس بمنأى احدهما على الآخر.

(يروى أنَّ امرأتين أتتا علياً عليه السلام عند القسمة إحداهما من العرب والأخرى من الموالي؛ فأعطى كلّ واحدة خمسة وعشرين درهماً وكرّاً من الطعام، فقالت العربية: يا أمير المؤمنين إني امرأة من العرب وهذه امرأة من العجم؟ فقال علي عليه السلام: «إني لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلاً على بني إسحاق»(3).

يتحدث النص آنف الذكر عن قضايا عدة وجوانب كانت المرأة إحداها، فعلى الرغم من أنّ النص يتعلق بقراءة العطاء والمساواة فيه، إلا أنَّ هناك قراءة خاصة داخل قراءة اعم واشمل، فالمساواة في العطاء قضية شغلت فكر المسلمين

ص: 194


1- آل عمران / 195
2- الحجرات / 13
3- الغارات أو الاستنفار والغارات: 46

بين الرجال المجاهدين وغيرهم، إلا أنَّه من الممكن أن تحدث عدة خدوش في مساواة الانثى لو أطلقنا عليها هذا المسمى ومن الممكن تجاوز نقاط الخلل التي قد تحدث باعتبار اجترار ضعف هذا الجنس من الناس في السابق من جهة وبالطبع لا اقصد من الضعف ضعفه هو من حيث تركيبته الجسانية والسيكولوجية... الخ، بل إنَّ المقصود هو القوة المسلطة عليه التي جعلت منه ضعيفاً فيما بعد، ومن جهة أخرى يمكن تضعيف الجانب الجهادي للمرأة مما يخفف من حدة الاضطراب الذي يحدث في المساواة، وعلى كل حال فان لا هذا ولا ذاك حدث في منظومة تعامل الإمام علي عليه السلام مع تلك المرأتين وان اختلفت مسمياتهما، ولم يجرح المرأة لغير العربية ولو بكلمة قد تحبط آمالها في عدالة الإمام علي عليه السلام؛ وذلك إيماناً منه بمبدأ العدالة التي أقرتها السماء وسار عليها النبي محمد صلى الله عليه وآله سلم هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان يرى الناس سواسية وقد أكد ذلك عليه السلام في قوله عن الناس إنّهم صنفان: «مّا اُخٌ لَکَ فِی الدّینِ، وَ إمّا نَظیرٌ لَکَ فِی الْخَلْق»(1) فلا فرق بين البشر والكل سواسية ولا فرق بين عربي أو أعجمي إلاّ بالتقوى، لا استغلال ولا عبودية ولا هيمنة لفئة او أمة على أخرى، وإنَّما العبودية المطلقة إلى الله عزوجل، فالكل أحرار، هذا يعني أنّ المقياس الأول

ص: 195


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 9 / 23

والأخير في تحديد الحق بينك وبين الآخرين هو حدود الله عزوجل، فلا مجال للأهواء والمصالح والمتغيّرات، هذا النص يكشف عن أنَّ رابطة الاشتراك في الدين لا تلغي رابطة الاشتراك في الخلق، بل هي تحفز إدراك الإنسان على هذه العلاقة المتينة بين هذين الرابطتين، وتجعل منهما دستوراً له يسير عليه في معاملته للآخرين، الأمر الذي جعل هذه الكلمات المدوية في صوت العدالة الإنسانية وثيقة إنسانية اجتماعية عالمية امتداداً إلى وقتنا الحاضر، فضلاً على أنَّ هذا التصرف ينبئ عن عدم اجترار التأثيرات الجاهلية على الإمام علي عليه السلام بخصوص هذه المسألة.

إنَّ في قصة المرأتين تلك تتداخل وتتفاعل الأنساق الثقافية المبنية على أسس العنصرية، فنسق العروبة / العجمية حاضرٌ في النص يتمثل في المرأتين اللتين إحداهما من العرب والأخرى من العجم، ينطلق منه نسقٌ آخر يمكن أن يشتغل على محورية التفريق بين المرأة وبنت جنسها أيضاً، وهذه الأنساق سوف تكون محوراً لعملية التأثر والتأثير في شخصية الحاكم ومعاملته لهما، إلا أنَّ الإمام عليّاً عليه السلام كان فطناً لهذه الأنساق وطريقة تعامله مع تلك المرأتين كانت على درجة من الإنسانية بحيث لم تسمح للأنساق بالتغلغل داخل شخصية الحاكم.

وإنَّ المعطى الثقافي من منظومة الإمام عليّ عليه السلام في حقوق المرأة ما هو إلاّ امتداد لرؤية الإمام الكلية لحقوق الإنسان التي يجب أن يتمتع بها بغض

ص: 196

النظر عن أي معطى أو صفة أخرى، إذ تأتي مسالة تأكيدها في إطار يتضمن تعزيز وضع المرأة في هذا المضمار فضلاً على وجود حقوق خاصة في رؤية الإمام للمرأة تطرق إليها الإمام بكل وضوح ودقة(1)، فقد كانت حقوق المرأة مضمونةً في السلم والحرب، وفي السراء والضراء، والخفي والعلن لدى الإمام عليّ عليه السلام، فها هو عليه السلام يوصي عسكره في الحرب بعدم الاعتداء على النساء حتى وان اعتدّنّ عليهم: (ولا تهيجوا امرأة بأذى، وان شتمن أعراضكم وتناولن أمراءكم وصلحاء کم ... ولقد كنّا وإنّا لنؤمر بالكفّ عنهنّ وإنهنّ لمشركات، وان كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالهراوة أو الحديد فيُعيّر بها عَقِبَهُ من بعدهِ)(2).

فالإمام عليه السلام جعل العدل أساس التنظير والتطبيق فيما بينهما، متخذاً من ميزان التقوى بين الإنسان بصنفيه أساس التفاوت، إذ إنّ الله عزوجل جعل من كفتي الميزان متساوية بين الرجل والمرأة دون تفضيل احد على الآخر في مسالة الكرامة التي أساسها التقوى، فالفرد الأتقي هو الأكرم عند الله عزوجل سواء أكانَ رجلاً أم امرأةً.

إنّ الحاكم الإسلامي - في منطق القرآن وحسب تشريعه ليس من يأخذ

ص: 197


1- حقوق الإنسان عند الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام رؤية علمية: د. غسان السعد: 244
2- وقعة صفين: نصر بن مزاحم ألمنقري ت (212) ه: 204

بزمام الجماعة كيفما كان، ويحكم بما تشتهيه نفسه، ويحكم على الناس لمجرّد السلطة وشهوة الحكم، بل هو ذو مسؤولية كبيرة وثقيلة، والمرأة إحدى هذه المسؤوليات الكبيرة في حكومة الإمام علي عليه السلام وهذا ما تقیّد به علي وأمر عماله أن يتقيّدوا به، فهو لم يأمرهم إلّا بالحق يقول في ذلك عليه السلام: «وَلاَ تَهِیجُوا النِّسَاءَ بِأَذیً، وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَکُمْ، وَسَبَبْنَ أُمَرَاءَکُمْ، فَإِنَّهُنَّ ضَعِیفَاتُ الْقُوَی وَالْأَنْفُس وَالْعُقُولِ؛ إِنْ کُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالْکَفِّ عَنْهُنَّ وَإِنَّهُنَّ لَمُشْرِکَاتٌ؛ وَإِنْ کَانَ الرَّجُلُ لَیَتَنَاوَلُ الْمَرْأَهَ فِی الْجَاهِلِیَّهِ بِالْفَهْرِ أَوِ الْهِرَاوَهِ فَیُعَیَّرُ بِهَا وَعَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ»(1)، لقد أراد تذكيرهم بأنّ المرأة في الجاهلية كان لا يتعرّض لها أحد في الغالب وإن سبّت وشتمت ونالت من المقاتلين، والإسلام زادها رفعةً وشأناً أكثر من الجاهلية بأن حفظ لها حقوقها وواجباتها وعفتها وحيائها، وهذه نظرة عميقة وإحساس بشعور الآخرين حتّى مع إساءتهم واعتدائهم شعوراً معهم بالمصاب الذي أحاط بهم.

وهذا لا ينفي بالطبع التحام الوعي الجماعي ما قبل الإسلام واستذکاره لدى المسلمين في عصر الإسلام الأول، ويخطر لي في أثناء هذه المحاورة حادثة دارت بين امرأة مسلمة وهي أسماء بنت عمیس زوج جعفر بن أبي طالب مع عمر بن الخطاب حينما دخل على حفصة فوجد أسماء عندها (فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عمیس. قال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية

ص: 198


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 8 / 66

هذه؟)(1). لقد كان عمر يعرف من هي أسماء بنت عمیس وأنَّها جالسة مع حفصة بنت عمر نفسه، فهو بذلك أراد تمييزها عن قرينتها من النساء اللواتي يجلسن بقربها، أنَّه كلام يدل على امتداد ذهني وثقافي مختلف عما هو مألوف من روح الإسلام وابتعاده عن ذي قبل، انه استفهام لا يخلو من السخرية والاستهزاء من قبل عمر يعبر عن القيمة التبخيسية المتبقية من سردية العداء والاستبعاد القديمة(2)، وهنا يحضر مجاز اللون الأسود بوصفه نسقًا ثقافيًّا يتضمن دلالات الإقصاء والاستضعاف والقُبح(3) ويظهر المرأة ومن تنتمي لهم كجنس تابع ومهيمن عليه، فعمر هنا اراد من خلال هذا الخطاب اعلاء نسقه الثقافي الاخلاقي او العرقي والحط من نسبها ونسقها الثقافي اللا اخلاقي، من خلال ابراز العرق واللون وما يصحبه من سمات سلبية ثابتة في مخيلة المجتمع عنها (هم).

وإنّ ما حدث من قبل عمر بن الخطاب تجاه أسماء بنت عمیس المرأة المسلمة، ما هو الاّ نسق متراکم من الأفكار المترسبة في الذهنية الثقافية له، إذ يمكن تفکیکه عبر إجراء قفزة تاريخية إلى الوراء، إلى ما قبل الإسلام، إذ تدلل

ص: 199


1- صحیح مسلم: أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ت (261) ه: 4 / 1946
2- ظ: تمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيل العربي الوسیط: 82
3- ظ: المصدر نفسه: 53

هذه القفزة على اجترار هذه النزعة من عصر ما قبل الإسلام وبقائها في المتخيل الجماعي، يروي ابن هشام أنّ عمر كان يعذب امرأة مسلمة جارية من بني مؤمل، حي من بني عدي بن كعب، لتترك الإسلام، وهو يومئذ مشرك، حتى إذا مل قال لها: إنّي اعتذر إليك، إنّي لم اترك إلا ملالة، فتقول: كذلك فعل الله بك(1).

وإنَّ عدم المساواة بين الرجل والمرأة أصبح أمراً من الصعب التكتم عليه في ظل الممارسات التي لا يرى فيها الإسلام صواباً إبان العصر الإسلامي الأول، فما بالك بالتفريق بين منظومة المرأة ذاتها، بين أبناء جنسها (الإناث)، وهذه الممارسات ما هي إلا شفرات ثقافية ودلالات واضحة المعالم على اتجاهٍ كان يُمارس في ظل العصر الإسلامي الأول؛ ففي كل عصرٍ لابد أن يكون (هناك شفرات ثقافية في كل مجتمع، وهي تركيبة خفية... تشکل سلوكنا، وتتناول هذه الشفرات الأحكام الجالية والمعتقدات الأخلاقية)(2).

وممارسة الضغوط على المرأة هي إحدى الشفرات الثقافية لذلك العصر -، وهذه المعاملات جاءت استجابةً لحاجات الذاكرة الجماعية، وقد كان ذلك كثير الحدوث في ظل بعض الحكومات الإسلامية ما بعد الحكومة المحمدية. إذ یروی

ص: 200


1- ظ: السيرة النبوية لابن هشام: تحقيق مصطفى السقا و آخرون: ج 1، 319
2- النقد الثقافي - تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسية: آرثر ایزابر جر، ت: وفاء إبراهيم ورمضان بسطاويسي: 132

أنَّه (لما مات خالد بن الوليد اجتمع في بيت ميمونة نساء يبكين، فجاء عمر ومعه ابن عباس ومعه الدرة، قال: يا عبدالله! ادخل على أم المؤمنين فأمرها فتحتجب، وأخرجهن عليّ، فجعل يخرجهن عليه وهو يضربهن بالدرة، فسقط خمار امرأة منهن، فقالوا: يا أمير المؤمنين خمارها! فقال: دعوها، فلا حرمة لها وكان يعجبُ من قوله: لا حرمة لها)(1)، هكذا كانت تعامل المرأة في عصرٍ احتل التسامح واحترام حقوق الإنسان المرتبة الأولى في قوانينه ودستوره السماوي. وتری الدراسة إنّ تغليب الرجل على المرأة وإشعارها بدونيتها ومحاولة المساس بكرامتها في أغلب جوانب المسيرة الإنسانية، ما هو إلاّ محاولة تثبيت ثقافةٍ وإبرازها بشكل علني وعفوي؛ لأنّه (من اجل أن تصبح ثقافة ما هي نفسها بشكل حقيقي وان تنتج شيئاً على هذه الثقافة وأفرادها أن يقتنعوا بأصالتهم الخاصة، بل وحتى - إلى حد ما - بتفوقهم على الآخرين)(2).

يروي الذهبي في تاريخه (قال غسان بن مضر: حدثنا أبو هلال، قال: حدثنا حمید بن هلال، إنّ عقيلاً سأل علياً عليه السلام فقال: إني محتاج وفقي،. فقال: «اصبر حتى يخرج عطائي»، فالح عليه، فقال لرجل: «خذ بيده، فانطلق به إلى الحوانيت»، فقال:

ص: 201


1- کنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: 15 / 730
2- الأسطورة والمعنى: كلود ليفي شتراوس، ترجمة: د. شاكر عبد الصمد: 39

دق الأقفال وخذ ما في الحوانيت»، فقال : تريد أن تتخذني سارقاً! قال: «وأنت تريد أن تتخذني سارقاً وأعطيك أموال الناس»، قال: لآتين معاوية. قال: «أنت وذاك»، فأتی معاوية، فأعطاه مئة ألف، ثم قال: اصعد على المنبر فاذكر ما أولاك عليّ وما أوليتك، قال: فصعد المنبر فحمد الله ثم قال: يا أيها الناس إني أخبركم إني أردت عليّاً على دينه، فاختار دينه عليّ، وأردت معاوية على دينه فاختارني على دينه)(1).

ولكي يكون القائد فذاً ومثالاً يحتذى به من قبل العامة والخاصة لابد له من تذويب العلائقيات بينه وبين العامة من الناس، ويتم ذلك من خلال قهر السلطة بعدم التفريق بين زيد وعمر من الخاصة والعامة ومن كل طبقات المجتمع المختلفة والمتنوعة، وأكثر تلك العقبات الكؤودة هي مسالة تقريب الأقربين وإعطائهم حصانة تجعلهم يمرحون ويسرحون أني ومتى يشاؤون في أروقة الحكومة.

وتبعاً لما متعارف عليه، بأنَّ صلة القرابة بين عقيل والإمام عليّ عليه السلام؛ ولذلك من المفروض أن لا يبخل الإمام عليّ عليه السلام على عقيل بالأمور المادية البسيطة والصعبة في الوقت نفسه؛ لأن الأخوّة أقوى أواصر الارتباط وأكثرها مسؤولية على عاتق الطرفين، لكننا لاحظنا أنّ الإمامَ عليّاً عليه السلام أبي أن تكون رابطة الأخوّة مؤثراً يستوجب خرق القوانين الإسلامية والأعراف التي تربى عليها الإمام عليّ عليه السلام، نراه يرفض طلب عقيل ولكن بأدب

ص: 202


1- تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام: محمد بن أحمد الذهبي ت (748) ه: 2 / 423

وبطريقة جعلت عقيل يرتد خائباً من مسعاه، مقتنعاً معتقداً و مؤمناً بصحة تصرف الإمام عليّ عليه السلام، مما دعاه إلى أن يتفوه بكلام کسر أفق التوقع لدى معاوية وجمهوره، بمدح الإمام عليّ عليه السلام وذم معاوية على الرغم من تقديم الأخير التسهيلات المادية التي احتاجها عقيل بل وزادها عليه.

ويمكن لنا أن نستجلي ملامح الحكومة الإسلامية وصفات الحاكم الإسلامي من كلام الإمام عليّ عليه السلام الذي يرسم لنا ما على الحاكم الإسلامي تجاه رعيته، إذ يقول في وضوح کامل: «وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلاً وَقَدْ أَمْلَقَ حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً، وَرَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ، غُبْرَ الأْلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ، كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ، وَعَاوَدَنِي مُؤكِّداً، وَكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً، فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعِي، فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي، وَأَتَّبِعُ قِيَادَهُ، مُفَارِقاً طَرِيقَتِي، فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً، ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا، فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا، وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا فَقُلْتُ لَهُ: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ، يَا عَقِيلًُ أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ، وَتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ! أَتَئِنُّ مِنَ الأْذَى وَلاَ أَئِنُّ مِنْ لَظَى! وَاللّهِ لَوْ أُعْطِیتُ الْأَقَالِیمَ السَّبْعَهَ بِمَا تَحْتَ أَفْلاَکِهَا، عَلَی أَنْ أَعْصِیَ اللّهَ فِی نَمْلَهٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِیرَهٍ مَا فَعَلْتُهُ»(1)، إذ يشير عليه السلام في

ص: 203


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 6 / 166

هذه الخطبة إلى واحدة من أنصع القوانين الإسلاميّة؛ وهو قانون التسوية بين جميع أفراد الأُمّة الإسلاميّة حكّاماً ورعيّة، وبذلك ينسف فكرة الحاكم الذي يقول: أنا فوق الرعيّة، هذا عدل علي في ذات الله يبعث على العجب والدهشة؛ ولذلك أراد عليه السلام أن يراعي مشاعر أقل الرعية، يقول عليه السلام في خطبته: من بركم أي بر المسلمين، وليس ملکه الشخصي - ولا يحق لأي أحد التصرف في حق المسلمين بطريقة لا ترضي الشريعة ألإلهية.

كان الإمام عليّ عليه السلام شديد الاكتناه بالسلطة وهذا ما يلاحظ حقيقةً على طرق معالجته للأمور، فقد (كان عليّ عليه السلام في السلطة ليقهرها ويجعلها طيعة في يده ليحمل عليها وبها حقوق الناس، وأمنهم، وخيرهم، سيما الفقراء والبسطاء وعموم الأمة)(1)، فنسق القربي يعد أحد أهم واخطر الأنساق التي تتحكم بمسار الإنسان وتوجهاته خاصة إذا كان من ضمن هرم السلطة، والتعامل مع هذا النسق بحذر هو احد نقاط الضعف والقوة في السلطة، فالسلطة تُمارس انطلاقاً من نقاط لا حصر لها وعلاقات متحركة لا متكافئة(2) تكون القرابة أحداها.

كانت القرابة احد أسباب نقمة الشعب على عثمان بن عفان، فقد كانت

ص: 204


1- الإمام عليّ و حروب التأويل، دراسة دينية تاريخية عسكرية معاصرة: الحسين أحمد السيد: 2 / 564
2- ظ: جينيالوجيا المعرفة: ميشيل فوكو، ت: أحمد السلطاتي وعبد السلام بنعبد العالي: 107

وبالاً عليه فيما بعد، نظراً للدور الذي لعبه حاشية عثمان وأقاربه وعشيرته في مجريات الحكومة التي كان عثمان على رأس هرمها، ومروان بن الحكم(1) احد أولئك المقربين الذين قربهم عثمان إليه وجعل لهم اليد الطولى في الحكم على الرغم من كل النقد والتوجيهات التي وجهت إليه من الصحابة وأهل المعرفة والخبرة والسياسة.

إنّ تلك التقريبات الشخصية النفعية على حساب الرعية وأبناء الجلدة وعلى حساب بناء المجتمع أيضا، من شأنها أن تقوض بناء الإنسان اولاً، من خلال فقده الثقة بحاکمه وسلطته، وبالنتيجة تتزعزع أركان الدولة وتفقد الحكومة كل مقومات البناء، ويتم (هذا التقويض على الأغلب من خلال السلطة، التي مثلها الحاكم، عندما قرب فرداً على حساب فرد، أو فرداً على حساب جماعة)(2).

ص: 205


1- المعارف: أبو محمد عبد الله بن مسلم ت (276) ه: 1 / 353. وكان مروان يكنى أبا عبد الملك وأبوه الحكم ابن أبي العاص كان طرید رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يوم فتح مكة ومات في خلافة عثمان، وكان سبب طرد رسول الله صلى الله عليه و آله إياه أنه كان يفشي سره، فلعنه وسيره إلى بطن وج فلم يزل طريداً، حياة النبي صلى الله عليه و آله و خلافة أبي بكر وعمر، ثم أدخله عثمان وأعطاه مائة ألف درهم
2- جماليات النقد الثقافي - نحو رؤية للأنساق الثقافية في الشعر الأندلسي: 31

فقد روى الطبري: (عن عامر بن سعد، قال: كان أول من اجترأ على عثمان بالمنطق السيئ جبلة بن عمرو الساعدي، مر به عثمان وهو جالس في ندىَّ قومه، وفي يد جبلة بن عمرو جامعة، فلما مر عثمان سلّم، فرد القوم، فقال جبلة : لم تردون على رجل فعل كذا وكذا! قال: ثم أقبل على عثمان، فقال: والله لأطرحنّ هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه. قال عثمان: أي بطانة! فو الله إني لأتخير الناس؛ فقال: مروان تخيرته! ومعاوية تخيرته! وعبد الله بن عامر بن کریز تخيرته! وعبد الله بن سعد تخيرته! منهم من نزل القرآن بدمه، وأباح رسول الله دمه)(1).

وكان مروان كما هو معروف يقود ركب الحكومة المتمثلة بعثمان؛ ولذلك فصورته تمثل العديد من الصور الأخرى المشابهة والمقاربة له، فكما يمكن لشيء واحد أن يمثل العديد من الأشياء، يمكن لعدد من الصور المختلفة أن تجمع في صورة واحدة مشابهة لها(2)، وتعد هبة عثمان إياه خمس افريقية أول درجة ارتقي منها مروان السلّم(3)، وبالنتيجة أخضعت الدولة في عهد عثمان من خراسان شرقاً إلى شمال أفريقيا غرباً لحكام من بيت واحد كان اغلبهم من الطلقاء ومروان احد

ص: 206


1- تاريخ الطبري - تاريخ الرسل والملوك: 4 / 365 - 366
2- ظ: النقد الثقافي - تمهید مبدئي للمفاهيم الرئيسية: 176
3- ظ: الكامل في التاريخ: ابن الأثير أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد الجزري ت (630) ه: 484

هؤلاء الطلقاء الذين كانوا لا يصلحون لتولي زعامة الحركة الإسلامية(1)، إنَّ هذه الممارسات والفعاليات ما هي إلا رسائل افرزها النسق التأريخي بينت وأظهرت إلى العلن الحالة الحقيقية التي كانت عليها الأمة وحكامها آنذاك.

ص: 207


1- ظ: الخلافة والملك: أبو الأعلى المودودي: 65 - 66

المبحث الثاني

لا يختلف اثنان على أنّ حضور النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم على رأس السلطة الإدارية والأخلاقية والدينية لمجتمع العرب الإسلامي الأول كان له الدور الأبرز في تسيير عجلة الدولة نحو الأمام؛ نظراً لتأييد الله عزوجل له أولاً ثم للدور المهم التي حظيت به شخصيته وإنسانيته التي هيأته لهذا الدور الصعب، على الرغم من المصاعب الجمة التي واجهت دولة الرسالة الإسلامية وقائدها، ومن جملة الجوانب التي اهتم بها النبي صلى الله عليه وآله سلم الجانب الديني الفقهي المتعلق بقضايا العبادات والمعاملات وما شاكل ذلك.

لم يترك الدين الإسلامي زمان النبي صلى الله عليه واله وسلم شاردةً أو واردةً إلاّ وأورد لها حكماً معيناً استعان به وأبداه النبي محمد صلى الله عليه وآله سلم للمسلمين وغيرهم على السواء؛ وتبعاً لذلك فأنّ قيادة الأمة جاءت على وفق مقررات الدين الإسلامي الجديد، وتبعه في ذلك الإمام عليّ عليه السلام،

ص: 208

فقد كان الإمام عليّ عليه السلام قريباً من النبي صلى الله عليه وآله سلم قرابة الذراع من العضد، يقول في ذلك: «وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلاَقِهِ عَلَماً، وَيَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ. وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي»(1)، إنَّه أسلوب بیاني جمالي يكشف عن الإعداد الرسالي للإمام عليّ عليه السلام، إذ أنَّ الفصيل لا يشعر بالطمأنينة والأمن إلا في أحضان الأم أو بالقرب منها، هذا يعني أنَّ الإمام عليّ عليه السلام كان ملازماً للنبي صلى الله عليه وآله سلم في كلّ شيء، في حلّه وترحاله، في خلقه، علمه، سلوكه، عبادته، تعامله مع الناس، لقد ربی نفسه على ذلك، نجد تلك المعاني متجسده في وجود الإمام علي عليه السلام تأتي من الشواخص الواقعية لحياته وسيرته، فيما قدمه من حلول غابت حتى عن الذين استخلفوا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله.

إنَّ الإتباع مسألة مهمة وتقف على مفترق طريقين: أمّا إتباع من يسير على الطريق الحق الصواب الذي لا غبار عليه، أو إتباع الآخر المجانب للصواب أو الذي تحوم حوله الشكوك، وهذه الحالة سارية المفعول على أي جانب من جوانب الحياة المختلفة الدينية والسياسية والأدبية... الخ، ولا شك في أنّ إتباع من يمثل السماء قولاً وفعلاً هو إتباع الحق بعينه متمثلاً بشخص النبي محمد صلى الله عليه

ص: 209


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 7 / 129

وآله سلم. فالإمام عليّ عليه السلام أكدّ في جميع مواقفه انه على مسافة واحدة وطريق واحد وهو طريق القران والسنة النبوية لن يحيد عنهما مهما كلفته الظروف، وترى الدراسة أنَّ الإمام عليّاً عليه السلام ضحى بالكثير من حقوقه الشخصية لحساب (اشهد أن لا اله إلا الله واشهد أنَّ محمدا رسول الله) وعاني كثيراً بسبب هذا الإتباع الذي لم يكن يرضي البعض، ثم يقول: «وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعي مِنْ رَسُول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالقَرابَةِ القريبَة، وَ المَنزِلَةِ الخَصيْصَة... وَکَانَ یَمْضَغُ الشَّیْءَ ثُمَّ یُلْقِمُنِیهِ، وَمَا وَجَدَ لِی کَذْبَهً فِی قَوْلٍ، وَلَا خَطْلَهً فِی فِعْلٍ»(1).

إنّ هذه القرابة المادية، النفسية، المعرفية للإمام عليّ عليه السلام من النبي صلى الله عليه واله وسلم جعلته يستوحي منه ويتبعه في فقهه وقضائه وكافة أعماله العبادية القولية والفعلية، متخذاً من القرآن الكريم مصدراً رئيساً لذلك، فهو قد (أمعن النظر في القرآن وموضوعه الدين إمعاناً ينساق إليه المفكرون انسياقاً)(2).

إنّ قرابة وصحبة النبي صلى الله عليه وآله تزيد المرء شرفاً ومنزلةً لكنها لا توجب النجاة من النار ما لم تتخللها تطبيقات فعلية على ارض الواقع

ص: 210


1- المصدر السابق: 301
2- الإمام علي عليه السلام صوت العدالة الإنسانية: 114

وممارسات تمس شريان الحياة(1).

وما استعمال الإمام عليّ عليه السلام عبارة «وَکَانَ یَمْضَغُ الشَّیْ ءَ ثُمَّ یُلْقِمُنِیهِ» إلا كناية عن تلقين النبي صلى الله عليه وآله له في كل شيء، فهو بالتأكيد لم يكن يقصد بذلك المضغ الأكل فقط، فالمضغ هو كنايةً عن التلقين والتعليم والتدريب وفهم الأحكام وليس إتباعها فقط، فمضغ اللقمة يحتاج إلى الصبر والتروي وعدم الاستعجال، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الباقي، هذه هي ثقافة الإمام عليّ عليه السلام الدينية والتي كانت له عوناً وسنداً في كل الظروف التي مرّ بها، والعصر الإسلامي الأول بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خير دليل على ذلك.

ويخبرنا الإمام عليّ عليه السلام عن تلك القراءة الإنسانية للرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم التي يعامل بها الناس المسلم منهم والكافر، المخطئ والمصيب، وحتى مرتكب الجناية ومن حق عليه الحد لم يحرمه النبي محمد صلى الله عليه وآله من الفيء والعطاء، أو حقه من المال العام: «وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ رَجَمَ الزَّانِیَ الْمُحْصَنَ، ثُمَّ صَلَّی عَلَیْهِ، ثُمَّ وَرَّثَهُ أَهْلَهُ؛ وَقَتَلَ الْقَاتِلَ وَوَرَّثَ مِیرَاثَهُ أَهْلَهُ، وَقَطَعَ السَّارِقَ وَجَلَدَ الزَّانِیَ غَیْرَ المُحْصَنِ، ثُمَّ قَسَمَ

ص: 211


1- ظ: مدارك نهج البلاغة: الهادي کاشف الغطاء: 17 - 18

عَلَیْهِمَا مِنَ الْفَیْءِ، وَنَکَحَا الْمُسْلِمَاتِ؛ فَأَخَذَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ بِذُنُوبِهمْ، وَأَقَامَ حَقَّ اللّهِ فِیهمْ، وَلَمْ یَمْنَعْهُمْ سَهْمَهُمْ مِنَ الاْءِسْلاَمِ، وَلَمْ یُخْرِجْ أَسْمَاءَهُمْ مِنْ بَیْنِ أَهْلِهِ»(1).

تسلّم الإمام عليّ عليه السلام زمام الخلافة وقيادة الدولة الإسلامية في وقت كانت فيه الدولة في ظرف سیاسي حاد انتشر فيه استغفال الضمير الجمعي، كما كانت الدولة في اشد حالات التفكك الإداري والمالي والعسكري، كذلك حالة منظومة القيم الدينية التي لم تكن خافية على أحد؛ بسبب الأحداث التي وقعت في عهد عثمان بن عفان والتي أدت إلى مقتله، ووصول الدولة الإسلامية إلى حالة فوضوية بسبب تلك الأحداث.

وقد كان المجتمع الإسلامي في تلك الحقبة يتمثل في فئات متنوعة ومختلفة عقائديّا وإنسانياً واجتماعيّاً، اخذ البعض منها على عاتقه إيصال هذه الأمة إلى ما لا يحمد عقباه، من خلال توظيف الشعائر الدينية والرموز وتصعید مظاهرها، لبث إشارات الخطر على الدين بوصفهم قوة جمعتهم غايات سياسية، استثمرت التوجه العاطفي لدى الغوغاء من الجماهير، وتتضح أيديولوجية الإمام عليّ عليه السلام في الوقوف صراحةً أمام أصحاب الشحن العاطفي المزيف و تحرير الجماهير من سرقة مشاعره، من خلال کشف المزيف

ص: 212


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 8 / 267

من مكبوتات تاريخ الفئات القيادية وإبراز تناقضاتهم، ومن استقراء نصوص الإمام عليه السلام وبعض من نصوص أخرى تحدثت عن شخصيته وسيرته تتضح الأيدلوجية الفكرية التي سار عليها في تحقيق إصلاحاته المنشودة، لأنه (كلما كان العمل تعبيراً صادراً عن مفكر أو عن كاتب عبقري، كلما أمكن فهمه في ذاته من دون أن يلجأ المؤرخ إلى سيرة الكاتب أو إلى نواياه، ذلك إنّ الشخصية الأكثر قوة هي التي تتطابق بكيفية أفضل مع حياة الفكر، أي مع القوى الجوهرية للوعي الاجتماعي في مظاهره الفعالة والمبدعة)(1)، كما أنَّ (شخصية المرء أو هويته تعرف من مصادرها الحقيقية، أي من الحياة نفسها، تعرف من شکل ممارسته لذاته ومن كيفية تعامله مع الناس والأشياء)(2).

ويعد الجانب المالي في مقدمة الجوانب التي قام الإمام عليّ عليه السلام بإصلاحها وأعطاها أهمية كبيرة؛ لارتباطها وتأثيرها على حياة الناس، ومما تناولته إصلاحات الإمام عليّ عليه السلام في هذه الناحية إلغاء كل مبدأ يقول بأفضلية احد على آخر وإحلال قانون المساواة في العطاء والحقوق والواجبات(3)، وإشعار

ص: 213


1- البنيوية التكوينية والنقد الأدبي: لوسيان غولدمان وآخرون: 19
2- نقد الحقيقة: 130
3- قد يلحظ القارئ إنَّ فعل الإمام عليّ عليه السلام يتطابق مع فعل أبي بكر من هذه الناحية، ونراه مختلفاً لعدة أسباب ملحوظة أبرزها الإمام عليّ عليه السلام برفضه اجترار أفعال أبي بكر وعمر بن الخطاب علناً و أمام الجماهير في اللجنة السداسية، وثبتها على أنّه سائرٌ وفق الأولية المحمدية دون غيرها، وهذا يبرز بشكل واضح المسكوت الذي لم يفصح عنه الإمام عليه السلام والذي بينته ممارساته فيما بعد عند استلام الحكم / السلطة

الجميع بأنه واحدٌ منهم، إلا أنّ الواجب أملى عليه أن يكون قائدهم، والحق يجب أن يناله الجميع، يقول عليه السلام: «الذَّلِیلُ عِنْدِی عَزِیزٌ حَتَّی آخُذَ الْحَقَّ لَهُ، وَالْقَوِیُّ عِنْدِی ضَعِیفٌ حَتَّی آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ»(1).

فهو يوزع الأموال والفيء بالتساوي ويعطي كل ذي حق حقه، ولا يرضى بسلب حقوق ناس على حساب أناسٍ آخرين، الهدف من ذلك إطاعةً لأوامر الله عزوجل وإقامة علاقة صحيحة بين البشر على أساس العدل والإحسان والسلام وتطبيق العدالة الكليّة الشاملة بينهم، يقول عليه السلام في ذلك من ضمن کلام له كلّم به عبدالله بن زمعة وهو من أصحابه حينما قَدِمَ عليه يطلبُ منه مالاً: «إِنَّ هَذَا اَلْمَالَ لَیْسَ لِی وَ لاَ لَکَ، وَ إِنَّمَا هُوَ لِلْمُسْلِمِینَ، وَ جَلْبِ أَسْیَافِهِمْ، فَإِنْ شَرِکْتَهُمْ فِی حَرْبِهِمْ کَانَ لَکَ مِثْلُ حَظِّهِمْ، وَ إِلاَّ فَجَنَاهُ أَیْدِیهِمْ لاَ تَکُونُ لِغَیْرِ أَفْوَاهِهِمْ»(2)، أراد عليه السلام العودة بالناس إلى سياسة العصر - الإسلامي الأول كما ساسها الرسول الكريم صلى الله عليه واله وسلم، وقد قام الإمام عليّ عليه السلام بإعطاء (أصحاب الفيء حقوقهم وساوى بينهم في العطاء، وأمر أصحاب

ص: 214


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد 2 / 403
2- المصدر نفسه: 13 / 9

الأموال بدفع حقوقهم إلى بيت المال بالأسلوب الرشيد، وسامح أصحاب الأراضي من الخراج في سنوات القحط، ثم ندد بأولئك الذين يأكلون أموالهم بالباطل، سواء بالغصب أو السرقة أو الرشوة أو الاحتكار، واعتبر أعظم الجرائم، اغتصاب مال الله من بيت المال، الذي هو حق الأرملة واليتيم والمسكين)(1).

وكان الإمام عليّ عليه السلام سبّاقاً للإعلان عن مساواته في العطاء ولا فضل لأحد على احد إلا بالتقوى، والمتقي جزاءه عند الله عزوجل، ولا فضل للمهاجرين على الأنصار، ولا للعربي على غيره، ونلفت النظر هنا إلى أنّ هذا المنهاج في التوزيع كان مخالفاً تماماً للمنهاج الذي أتبعه عمر بن الخطاب في قضية المفاضلة بين المهاجرين والأنصار والبدريين على من لم يحضروا بدراً وغيرها(2)، وقد أثار هذا القانون الجديد القديم سخط الحرس القديم مع الرأسماليين من قبيلة

ص: 215


1- تصنیف نهج البلاغة: لبيب بیضون، 622
2- تاريخ اليعقوبي: أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح الكاتب ت (292) ه: 2 / 44 - 45. اختلف عطاء عمر بن الخطاب في توزيعه على الناس اختلافاً أصبح من العسير علينا فهم مغزاه، فهو يجعل الإمام علي عليه السلام خمسة ألاف، ومن شهد بدراً من قريش ثلاثة آلاف، ومن الأنصار أربعة آلاف، و أبو سفيان / ومعاوية خمسة آلاف، ونساء النبي صلى الله عليه و آله ما بين اثني عشر ألفا وستة آلاف وهن كلهن زوجات النبي صلى الله عليه وآله ولنفسه أربعة آلاف

قريش، الذين استعادوا عنصريتهم القلبية في الفضل والسابقة، وبدأت ذاكرتهم السردية تسترجع مقتل عثمان وتناقضات المشهد، ومخيّلة وريث المقتول والارتداد بالمجتمع نحو العنف حلًّا للنزاع، ظالماً أو مظلوماً، في طقوسٍ مارسها جمعُ ممن يمثلون الصفوف الأولى ضد حاكمهم الجديد الذي استثار مواقعهم في لحظة؛ ولذلك فإنّ فرح الجماهير طقس طارئ؛ لان هذه الفئة بدأت تتكلم عن حرمانها من الحقوق من قبل الإمام عليه السلام لأنها الأقرب للدين - کما تری - والأسبق زمناً وغيره من المطالبات التي تواطؤا جميعاً على عدها درعاً واقياً في مواجهة الإمام عليه السلام، والتي لا تمت بصلة إلى روح الإنسانية السمحاء وقانونها الأخلاقي.

للإمام عليّ عليه السلام منهج متميز في سياسته المالية، فهو لم يعدّه وسيلة للمقايضة السياسية والاجتماعية، بل صيغة ووسيلة لبناء الإنسان وتشذيب المنطق البشري الطبيعي استمراراً للوجود من اجل الأضعف وتحقيق السعادة المنشودة، فهو يرى إنَّ المال الذي تملكه الدولة الإسلامية ليس ملكاً لأحد، بل هو ملك الله عزوجل تعالى ويجب إنفاقه على عباده وقضاء حوائجهم به وإنقاذهم من الفقر والبؤس والحرمان، وليس فيه تنازل لفئة تراكم الثروات، حتى لو صعّدت هذه الفئة من وتيرة نوازعها العدوانية وخبراتهم في المكر والخديعة يقول في ذلك: «أَتَأْمُرُونِّی أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِیمَنْ وُلِّیتُ عَلَیْهِ وَاللّهِ لَا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ

ص: 216

سَمِیرٌ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِی السَّمَاءِ نَجْماً لَوْ کَانَ الْمَالُ لِی لَسَوَّیْتُ بَیْنَهُمْ، فَکَیْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللّهِ»(1)، فالعطاء يجب أن يغمر الجميع ويشعر به كلٍ حسب عمله في مجتمعه، وما عوائد الدولة إلاّ وسيلة لتحقيق رفاهية الرعية، بوصفهم لب الرسالة المحمدية والدافع الرئيس لبناء علاقة بين العبد وربه زد على ذلك إنَّ هذه الرفاهية تكون ضمن إطار الشريعة الصحيحة، وهذا ما سهرت عليه حكومة الإمام عليّ عليه السلام حينما قرأت العطاء بعيون نبوية، يقول لافوازيي: (الهدف الحقيقي لكل حكومة يجب أن يكون الزيادة في مجموع المتع في حجم السعادة وفي رفاه کل الأشخاص)(2)، وهذه السياسة المهنية التي انتهجها الإمام عليّ عليه السلام لم تكن على مصرٍ دون أخرى، بل شملت كل الأمصار الإسلامية التي تحت حكمه، فمن کتاب بعثه إلى عامله مصقلة بن هُبَيرة الشيباني وهو عامله على أردشير خُرّة(3):

«بَلَغَنِی عَنْکَ أَمْرٌ إِنْ کُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ إِلَهَکَ، وَ أَغْضَبْتَ إِمَامَکَ: أَنَّکَ تَقْسِمُ فَیْءَ الْمُسْلِمِینَ الَّذِی حَازَتْهُ رِمَاحُهُمْ وَ خُیُولُهُمْ، وَ أُرِیقَتْ عَلَیْهِ دِمَاؤُهُمْ، فِیمَنِ

ص: 217


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 8 / 266
2- روح الأنوار: تزفيتان تودوروف: 100
3- أعلام نهج البلاغة: هاشم مرتضى: 215. هو مصقلة بن هُبَيرة بن شبل بن يثربي بن أمريء القيس الشيباني كان عامله على اردشير، قيل إنَّه هرب إلى معاوية خوفاً من مطالبة الإمام عليّ عليه السلام له بما اقتطعه من مال الله عزوجل. اردشیر خرّة: بلدة من بلاد العجم

اعْتَامَکَمِنْ أَعْرَابِ قَوْمِکَ، فَوَالَّذِی فَلَقَ الْحَبَّهَ، وَ بَرَأَ النَّسَمَهَ، لَئِنْ کَانَ ذَلِکَ حَقّاً لَتَجِدَنَّ لَکَ عَلَیَّ هَوَاناً، وَ لَتَخِفَّنَّ عِنْدِی مِیزَاناً، فَلَا تَسْتَهِنْ بِحَقِّ رَبِّکَ، وَ لَا تُصْلِحْ دُنْیَاکَ بِمَحْقِ دِینِکَ، فَتَکُونَ مِنَ الْأَخْسَرِینَ أَعْمَالاً أَلَا وَ إِنَّ حَقَّ مَنْ قِبَلَکَ وَ قِبَلَنَا مِنَ الْمُسْلِمِینَ فِی قِسْمَهِ هَذَا الْفَیْ ءِ سَوَاءٌ، یَرِدُونَ عِنْدِی عَلَیْهِ، وَ یَصْدُرُونَ عَنْه»(1).

كان هذا التشديد والمراقبة والإحصاء لكل صغيرة وكبيرة على كل الولاة الذين يوليهم الإمام عليه السلام سبباً في بروز نسق التخاذل / الاختلاف عن الحق لدى بعض الولاة؛ لأنهم ما كانوا يرضون بالحق، ومسألة الانحراف مسألة طبيعية لدى البعض رغم الجهود الحثيثة والجبارة التي بذلها الإمام علي عليه السلام لإصلاحهم وتزكيتهم وتربيتهم الا أنَّهم أستحبوا العمی والضلالة على الهدى.

بهذا الإجراء الحازم جسَّد الإمام عليه السلام مفهوم التسوية في العطاء بين جميع الناس الذين يتمتعون بحق المواطنة الإسلامية الإنسانية في كل بقاع الدولة الإسلامية من دون تمييز، وهي محاولة منه للقضاء على شرعية التفاوت الطبقي التي سار عليها بعض عاملي الخلفاء السابقين الذين لم يتقبلوا حقيقة فقدان امتیازاتهم وتراکم ثرواتهم في تجربةٍ أرادت تأسيس بناء يهدم ما توارثوه من تجيير للدين والثروة بيد واحدة، نعم، هم الذين انتهزوا كل الفرص المتاحة لتحقيق

ص: 218


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 8 / 298

مآربهم الشخصية ومنافعهم الاقتصادية، وكان الإمام عليّ عليه السلام دائماً من خلال أقواله وأفعاله يؤكد وبصرامة لا لبس فيها ولا مواربة على أنّه (لا يجوز لأي حاکم، بقدر ما يتصرف بصفته حاکماً، أن يتوخى أو يفرض ما يصب في مصلحته الخاصة، فكل ما يقوله ويفعله سيقال ويتحقق بموجب ما هو مفيد وملائم للرعية التي من اجلها يمارس مهنته)(1).

ویدلّنا اعتراض الحرس القديم والرأسماليين من قريش على منهجية التوزيع للإمام عليّ عليه السلام ومساواتهم مع غيرهم من المسلمين على ملحظ خطير وهو قائم على سريان نظرية التفوق وامتهان الآخر في جميع حقوقه وثقافة عدم الطاعة للمؤسسة الحاكمة وانتشار ثقافة المنفعة الشخصية التي ولدتها الحكومة السابقة، هذه الثقافة أصبحت فيما بعد سبباً رئيساً للخروج والانشقاق وإعلان حالة العصيان والتمرد على الإمام عليّ عليه السلام من قبل تلك الفئات ومن يسير على خطاها من القطعان البشرية المسيسة المسخرة لصناعة الكائن المهان.

إنَّ ثقافة العصيان والتمييز تحولت فيما بعد إلى نسقٍ مهيمنٍ على عقول فئة من الناس يسيرهم بوعي منهم أو من دون وعي، إنَّه (نسق من التفكير يفرض نفسه... على زمرة من الناس، توجد في أوضاع اقتصادية واجتماعية متشابهة، أي

ص: 219


1- المجتمع المدني - التاريخ النقدي للفكرة: 32

على بعض الطبقات الاجتماعية)(1)، ويراودنا شعور كبير في إنَّ الإمام عليّ عليه السلام كان يرى تطبيق العدالة الإنسانية بين الناس وعلى أرض الواقع أفضل من التظاهر بالعبادات الأخرى؛ فكل شيء مخلوق لسعادة الإنسان، وكل شيء مهيأ لخدمة الإنسان مشروطاً بحسن الاستخدام، وما العبادات التي نتقرب بها إلى الله عزوجل إلاّ طقوسُ تعلمنا حسن التعامل مع الذات والآخر وتعطينا دروساً روحية في تطبيق العدالة مع الآخر.

وإنً مراعاة الآخر حتى في أصعب المواقف وأكثرها حساسية وهي جباية الضرائب، أو الجزية، أو الزكاة، أو الصدقات، أو أيّ تسمية أخرى تطلق على مسالة جباية الأموال، نجده واضحاً في وصيةٍ للإمام عليّ عليه السلام لعماله ومن استعملهم عليها: «انْطَلِقْ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَ لَا تُرَوِّعَنَّ مُسْلِماً، وَ لَا تَجْتَازَنَّ عَلَيْهِ كَارِهاً، وَ لَا تَأْخُذَنَّ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِي مَالِهِ. فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَى الْحَيِّ فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ، ثُمَّ امْضِ إِلَيْهِمْ بِالسَّكِينَةِ وَ الْوَقَارِ، حَتَّى تَقُومَ بَيْنَهُمْ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ، وَ لَا تُخْدِجْ بِالتَّحِيَّةِ لَهُمْ، ثُمَّ تَقُولَ: عِبَادَ اللَّهِ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِيُّ اللَّهِ وَ خَلِيفَتُهُ، لِآخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ، فَهَلْ لِلَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنْ حَقٍّ فَتُؤَدُّوهُ إِلَى وَلِيِّهِ؟ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَا، فَلَا تُرَاجِعْهُ، وَ إِنْ أَنْعَمَ لَكَ مُنْعِمٌ فَانْطَلِقْ

ص: 220


1- البنيوية التكوينية والنقد الأدبي: 15

مَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخِيفَهُ أَوْ تُوعِدَهُ أَوْ تَعْسِفَهُ أَوْ تُرْهِقَهُ»(1)، بل إنَّه يسير إلى أبعد من ذلك في وصيته، فهو يوصي بالرفق بما هو اقل شأناً ومرتبةً من الإنسان(2)، إنّها العدالة الإنسانية التي تشق طريقها إلى كل مخلوقات الله تعالى ولا تستثني منهم أحداً.

تتعرض كل الممارسات - الفقهية منها - والفعاليات بوصفها أحداثاً واقعية بين بني البشر إلى المساءلة والمعالجة والمصانعة النقدية من دون مخاتلة(3).

وتبعاً لذلك فان هذه الممارسات التي تخلق النصوص تكون قابلة للقراءة النقدية التي من المفروض أن تكون قراءة غير مؤدلجة.

ونقول من المفترض لأنّ اغلب القراءات وأعمها هي ذات صبغة أيديولوجية، فالتوسير يؤكد على أنّه لا توجد ثمة قراءة بريئة؛ نظراً للعلاقة الجدلية بين الباحث والنص وبين الماضي والحاضر(4).

ص: 221


1- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 8 / 94
2- المصدر نفسه: 15 / 95. «وَلَا تُنَفِّرَنَّ بَهِيمَةً وَلَا تُفْزِعَنَّهَا، وَلَا تَسُوأَنَّ صَاحِبَهَا فِيهَا... فَإِذَا أَخَذَهَا أَمِينُكَ فَأَوْعِزْ إِلَيْهِ: أَلَّا يَحُولَ بَيْنَ نَاقَةٍ وَبَيْنَ فَصِيلِهَا، وَلَا يَمْصُرَ لَبَنَهَا فَيَضُرَّ ذَلِكَ بِوَلَدِهَا، وَلَا يَجْهَدَنَّهَا رُكُوباً، وَلْيَعْدِلْ بَيْنَ صَوَاحِبَاتِهَا فِي ذَلِكَ وَبَيْنَهَا...»
3- ظ: المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب: دومينيك مانغونو: 11
4- ظ: الثابت والمتحول في رؤيا ادونيس للتراث: نصر أبو زيد، (مقال): 241

قال تعالى: «قَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ»(1).

يعد مبدأ تحقيق العدل والمساواة بين الناس، من أهم الأسس والمبادئ التي جاءت بها الديانات السماوية ونادت بها ومن بينها الدين الإسلامي الحنيف؛ بوصفها نابعة من العلاقات الروحية للنظام المحمدي الجديد؛ لذلك فإنّ محل العدالة الإنسانية من الإسلام محل (القطب من الرحی)، وارتباطها بالتشريعات الإسلامية بات ارتباطاً مباشراً، والعدالة والقسط بين الخلق في مقدمة المبادئ التي حمل لواءها النبي محمد صلى الله عليه وآله سلم والتي تمثلت في تحقيق العدالة الاجتماعية وإلغاء الامتيازات والتراتبية الطبقية، وكانت دعوة الإسلام في جوهرها دعوة لتأسيس العدل في مجال السلوك الاجتماعي(2)، فالهوية الإيرانية الإسلامية أقصى غاية في أيديولوجيتها تتمثل في الرحمة للناس.

وتتمثل الهوية الإسلامية في تحقيق العدالة الإلهية المتمثلة بالقسط بينهم، إذ نص الدين الإسلامي على وفق ما جاء في الذكر الحكيم على أنّ أموال الناس وممتلكاتهم أمانة في أعناق السلطة والحاكم المتنفذ، والتوزيع العادل لتلك الأموال إنما هو نوع من أنواع الحكم العادل الذي أمر به الحق تعالى، وليس لأحد الحق في

ص: 222


1- الحدید / 25
2- ظ: نقد الخطاب الديني: 101

التصرف بهذه الأمانات بطرق غير صحيحة، أو طرق غير عادلة قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا»(1).

وقد اجتهد النبيُ صلى الله عليه و آله سلم في تشييد أركان المساواة بين الناس التي عُدت الفعل الأفضل للجماهير في صورتها الأولى، وهي تصوغ أجوبتها أمام ثقافة الجماهير من الطبقات الاجتماعية المختلفة، الأسياد والعبيد، فالنبيُ صلى الله عليه وآله سلم الجم كل الغرائز العدوانية التي ضربت عمقاً في مجتمعاتهم، وجعل التقوى هي الخط الفاصل للتمييز بين الناس على المستوى الديني مستأصلاً بذلك تفاضلهم الاجتماعي والاقتصادي، وبالخصوص ماله مس مباشر بواقع الإنسان على سبيل المثال لا الحصر ما يتعلق بتوزيع عوائد الدولة وقضاء حاجات الناس المعيشية وكل ما يخص الفرد ولا أقول المسلم فقط لأنه صلى الله عليه وآله سلم تعامل مع الناس - كل الناس - وفق رؤی وأيديولوجية إنسانوية خالصة متجاوزةً العرق والنسب.

وهذه السمة هي عينها سمة الإسلام الإلهي المصدر المحمدي المبعث، ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله يفرق بين أحد من خلق الله عزوجل، أو يميز بين

ص: 223


1- النساء / 5

فئة أو طبقة وأخرى.

يقول (توماس كارليل Thomas carlysle) عنه: (قد شرّف العرب فجعلهم حاملي النور والعلم)(1).

وتبعه في ذلك بالإمام عليّ عليه السلام وما مشورة الصحابة على أبي بكر ومن بعده عمر وعثمان على الاستعانة الدائمية بالإمام عليّ عليه السلام في القضايا الفقهية بالخصوص، إلا دليلاً واقعياً يثبت أنَّ (عليّ أقضاکم) تلك الكلمة التي قالها وكررها النبي محمد صلى الله عليه وآله سلم مراراً، وكررها بعده وصرح بها الكثيرون ومنهم عمر بن الخطاب إذ يقول: (أقضانا عليّ)(2)؛ نظراً لما رأوا منه من كفاءة علمية وأخلاقية كونت له رصيداً من الألق والثراء لم نجده في غيره، فالقضاء وظيفة تتصل بالحياة لا بل أنَّ موضوعه هو الحياة في أحداثها ومشاكلها، ومحوره هو الإنسان، وهو القائل في ذلك: «فَلَأَنْقُبَنَّ اَلْبَاطِلَ حَتَّی یَخْرُجَ اَلْحَقُّ مِنْ جَنْبِهِ»(3)، شأنه في ذلك شأن المنقب في البحر عن اللؤلؤ، فهو لا يصل اليه مالم يكن له به حيطة وعلم فمعاصري الإمام عليّ عليه السلام (لم يعرفوا من هو افقه منه وأصلح فتوى، ولعلمه الكثير وفقهه؛ كان موضع ثقة أبي بكر الصديق وعمر

ص: 224


1- ماذا يقول الكتاب المقدس عن محمد صلى الله عليه واله وسلم: أحمد ديدات: 30
2- ظ: الطبقات الکبری: محمد بن سعد بن منيع الزهري ت (230) ه: 2 / 293
3- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 1 / 342

بن الخطاب في ما تعسر حله من المشكلات والمعضلات کما کان مرجعهم الأخير في الاستشارة)(1).

ومما لاشك فيه أنّ القوة المؤثرة في المجتمع العربي الإسلامي، والنسق الرئيس الذي تستمد منه الدولة الإسلامية خطوطها العريضة في مجالات الحياة المختلفة هو القرآن الكريم، ثم يأتي بعده ما جاء به النبيُ صلى الله عليه وآله سلم قولاً وفعلاً وتقريراً بوصفه مكملاً ومفصلا للقران الكريم وشارحاً لما اخُتلِف فيه، ذلك بحكم العلاقة بينهما والتي هي علاقة حاشية بمتن، وصدورهما عن رؤية واحدة، ونظام فكري إنساني واحد(2)، فالقران الكريم هو المتن الذي فصلته وفسرته الحاشية الفعلية والتقريرية التي وضعها النبي محمد صلى الله عليه وآله سلم.

قال تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(3).

ص: 225


1- الإمام علي عليه السلام صوت العدالة الإنسانية: 112 - 113. وظ: صحيح البخاري: 1098
2- ظ: التلقي والسياقات الثقافية - بحث في تأويل الظاهرة الأدبية: د. عبد الله إبراهيم: 101 - 102
3- الأنفال / 222

يعد نسق العطاء المتعلق بالجانب المادي احد أهم القضايا الفقهية التي شغلت مساحة واسعة من الجانب الديني بين الناس إلى جانب العبادات والقضايا الفقهية الأخرى. اعتمد النبي صلى الله عليه وآله سلم في توزيع الفيء والغنائم التي تأتي للدولة من الفتوحات وغيرها على القران الكريم التي هي صريحة جداً وواضحة في هذا المجال، على وفق هذه التوزيعة سار النبي محمد صلى الله عليه وآله في انجاز العمليات المالية للدولة الإسلامية طيلة حياته، ويلاحظ الدارس لجوانب الحكومة المحمديّة في هذا الصدد، التلاقح الكبير الناجح والمطابق تماماً بين مضمون هذه الآية الكريمة وتقسيماتها وبين الأحداث والظروف التي مرّت بها الدولة الإسلامية في هذا الجانب من جوانب الحياة العامة، الأمر الذي ولّد نتائج مذهلة على مستوى تقوية الحكومة الإسلامية، والسيطرة شبه التامة على مجريات الدولة المادية، مع إنّ الغرائز التي تربى البعض في أحضانها من الجيل الأول، لم تلغ أو تمح نهائياً، لكن النبي صلى الله عليه وآله سلم استطاع تذويبها وتشذيبها وتعديلها نحو تغيير عناصر وجودها وربط أفكارها بمتغيرات الخير والشر.

يبدو أنَّ مسألة توزيع الغنائم والعطاءات من أشد الجوانب التي كانت مصدر قلق للنبي صلى الله عليه و آله سلم والإسلام؛ إذ إنها عاملُ مهمُ في إثارة النعرات القبلية والطائفية من لدن مسلمي المال والغنيمة، ومسلمي الجماعة

ص: 226

وليس الإسلام؛ لأن مسار تعديل غرائزهم وتهذيبها في حقيقته تهذيب لمسار الدوافع لديهم وفق ظرف آني، على أنّ النبي صلى الله عليه وآله سلم بحنكته ودرايته استطاع تجاوز هذه المسالة بيسر وعدالة وفق قانونية التشريع الإلهي الإنساني، ويلاحظ من جانب آخر أنَّ فعاليات العطاء (تضمر في عمقها انساقا تعلي من شان الجماعة ضد الواحد الفرد، إذا استأثر بالسلطة وغلب على المجتمع، أو العكس تماماً)(1).

حينما أصبح أبو بكر خليفة قسم العائدات المالية بين الناس على وفق مخططات معينة، إيماناً منه بما قام به النبي محمد صلى الله عليه وآله سلم، وكان أبو بکر جرياً على العادة النبوية يعطي نصيب المؤلفة قلوبهم أما بالأموال، أو الصدقات والهبات النقدية والعينية، وللهبات أثرها الفعّال في تغيير مجرى الكثير من الجوانب واخص بالذكر السياسية منها، فالهبة تؤكد الالتزام المتبادل بين الجانبين، وهي الأمانة التي يرمز لها بتبادل الأشياء والعلامات، فلكي يظل المبرر المركزي حاضراً دائماً، ينبغي تغذيته بتداول الأشياء(2).

وقد عُرف عنه بتحريمه سهم ذوي القربي من الخمس بحجة أن هذا

ص: 227


1- جماليات النقد الثقافي - نحو رؤية للأنساق الثقافية في الشعر الأندلسي: 31
2- ظ: الشيخ والمريد - النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة، عبد الله حمودي: 77

السهم كان لهم حال حياة النبي فقط، وليس لهم بعد مماته(1) ثم حرمانهم من الميراث فيما بعد(2)، ومن يحاول تصويبهم يكون ضحيةً لهم، وبالطبع فإنّ هناك فئة من المسلمين لم ترق لهم طريقة التوزيع تلك؛ لذلك قاموا بالاعتراض على هذه القسمة وإعادة البشرية إلى مبدأ التغليب، وطلبوا منه تفضيل أهل السابقة والقدم والفضل وكان جواب أبي بكر: إن ذلك ثوابه على الله، وهذا معاش فالأسوة فيه خير من الأثرة(3)، یروی: بعدما (استخلِفَ أبو بكر قيل له في الحكم بن أبي العاص، فقال: ما كنت لأحلّ عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وآله)(4)، أنّ هكذا مفارقات تحمل في طياتها مخاتلة مواجهة الذات نحو تكيفات جديدة، تارةً تصطف في السير على نهج السنة النبوية الشريفة في بعضٍ من جوانب الحياة،

ص: 228


1- کنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: العلامة علاء الدين الهندي البرهان ت (975) ه: 5 / 605
2- لما جاءت فاطمة (عليها السلام) إلى أبي بكر وطلبت میراثها بحضور العباس والامام علي عليه السلام، فاحتج أبي بكر بحديث للرسول صلى الله عليه وآله: (لا نورث ما تركناه صدقة) فاحتج عليه الامام علي عليه السلام بآيات من القران الكريم، لكن أبا بكر لم يقنعه الاستدلال بالقران الكريم. ظ: المصدر نفسه: 5 / 625. على الرغم من أنّ فدك كانت مما (لم يوجف عليه بخيل ولا رکاب، فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وآله)، معجم البلدان: یاقوت الحموي ت (26) ه 4 / 238
3- ظ: قراءات في الفكر الإسلامي، عبد الرحمن الشرقاوي: 28
4- کنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: 639

وتارةً تكيفت مع آليات الابتعاد عنها في جوانب أخرى تبدو أكثر مساساً بحياة الناس؛ ذلك لان الذات البشرية في أحيان كثيرة تقيم علاقاتها مع الموضوع عن طریق حواسها المعيشية، لا عن طرق ثبتها الشرع سلفاً أو القانون(1).

ومما لاشك فيه أنّ الدور الرئيس الذي يلعبه الجانب المالي في حياة الإنسان منذ القدم له الأثر البارز في تحويل المجتمعات أو الأفراد من حال إلى آخر بحسب العلاقة بينهما؛ بوصفه يتجاوز الروابط القيمية أو الدينية، بل إنَّه يستطيع أن يلغي أو ينيم تأثيرات الضمير الجمعي، ومرجعياته الاجتماعية، فضلاً على أنّه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بديمومة الحياة بسبب كونه عاملاً في مواجهة اغلب مشاكل الإنسان وحاجاته المعيشية اليومية من جهة ايجابية، ومن جهة أخرى سلبية حين يصبح العامل المادي من اشد واخطر انواع الفتن التي قد تصيب الإنسان وتزحزحه عن جادة الصواب إذا ما أحسن التعامل معه، وهذه الخلافات التي حدثت في توزيع العطاءات إن دلت على شيء تدل على فضيحة كبيرة لمسلمي المال الذين ما فتئوا

ص: 229


1- ظ: فصول من تاريخ الإسلام السياسي: هادي العلوي: 62. المفارقة تكمن في الالتزام بما سنته السنة النبوية كقضية رفض أبو بكر استبدال أسامة بعد مشورة عمر بن الخطاب وزجره إياه مثلاً، والمجافاة عن السنة أحيانا کما حصل في قضية خالد بن الوليد ومالك بن النويرة وعدم إقامة الحد على خالد من قبل أبي بكر، وتأييده لجرائم خالد بن الوليد بحق بني يربوع، وأمره بإحراق إياس بن الفجاءة وشجاع بن ورقاء

يثيرون المشاكل خوفاً على زوال مكاسبهم المادية ومنافعهم الشخصية وطمعاً في زيادة ثرواتهم إلى ما لا حدود له.

إنَّ مسالة توزيع العطاءات لیست هوية منفصلة عن المجتمع المحمدي، إنها ضرورة موضوعية ملحة لإرضاء الذوات نحو بناء عادل للضمير الجمعي بغرائزه المختلفة، إلا أنّ هناك بعض الممارسات تحاول جعل العطاءات من منظومة عقائدية فقهية سياسية إلى قوة تلحق بجهاز الدولة، بمعنی سلاح للخصام مع الآخر، ويبدو أنَّ إلغاء العطاءات والهبات للمؤلفة قلوبهم التي انتهجها عمر بن الخطاب قد أحدثت شرخاً نفسياً واجتماعياً واقتصادياً بين الدولة والمؤلفة قلوبهم - الجزء الذي لا يمكن تناسيه من المجتمع - الذين كانوا يستدعون القران الكريم للحكم في هذه المسالة الفقهية استناداً إلى قوله تعالى:

«إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(1).

ويبدو أنَّ هذا المنع قد وجد حاضنةً من ذوي المنازل الاجتماعية والعصبية القبلية والطبقية التي تحاول أن تعيد إنتاج هويتها على حساب الإسلام وبالتالي

ص: 230


1- التوبة / 60

تتحول إلى بنية قارّة مع طول الممارسة، هذه الحاضنة تكيفت مع هذا الإعلان وهيأت له مناخاً اجتماعياً ملائماً.

لأنه يتناسب جداً مع مقتضياتهم ومصالحهم آنذاك، وبما إن القرانَ الكريم صريحُ في بيان رأي الشريعة الإسلامية من موقف المؤلفة قلوبهم كما في الآية السابقة؛ تبعاً ذلك لابد من الرجوع إلى القران الكريم.

لأنه هو الحكم الفصل في الخلاف، قال تعالى:

«وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ»(1).

والسنة النبوية اللذين كانا صريحين جداً في هذا الجانب، وحسب الضوابط أن على عمر بن الخطاب أن يتبع ما ورد في القران الكريم بهذا الخصوص لأنه يقول: (عندنا كتاب الله حسبنا)(2).

وقد كان النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم يؤلّف قلوب فئة من الناس إمّا اتقاءً لشرهم وشر أتباعهم وقبائلهم على المسلمين ووقاية الدولة من ضررهم، أو مداراةً لهم للوقوف على الحياد في الحرب مع أعداء الدولة الإسلامية، هذا الامتثال للقران الكريم قد يكون فيه تماهي مع الظروف، أو نوعاً

ص: 231


1- الشورى / 10
2- صحيح البخاري: 41، باب (كتابة العلم)

من التكتيك الأيديولوجي استعمله النبي صلى الله عليه وآله لكسب اكبر عدد ممكن من الناس لتوطيد أركان الدولة النبوية الإسلامية، أو لشعورٍ من لدنه - النبي محمد - صلى الله عليه و آله بدخول هذه الفئة المتنفذة نوعاً ما في أقوامها للإسلام طمعاً في الهبات والعطايا والصدقات التي لم يبخل الإسلام بها على أتباعه، على وفق (لا فضيلة لأحدٍ فيه) سيدهم ومولاهم، عبدهم وحرهم وعلى غيرهم من الأعاجم والموالي، أما الذين لم يرق لهم - مسلمي الغنيمة - هذه القسمة فالإسلام لم يكن لهم إلاّ حزباً.

وقد كان عمر بن الخطاب شديد التحسس من هذا الموضوع (العطاء والفيء)، وهذا المنصب يحتم عليه العمل بدقة متناهية لكي لا تخدش بيضة الإسلام، وكما هو معروف إنّ العصر الراشدي تلا مباشرة الدولة المحمدية.

لذلك فمن المفروض أن تكون قوانين الدولة كما وضعها التشريع الإسلامي إبّان القيادة المحمدية، وفي هذه الحقبة الزمانية يلفت نظرنا ملحظ مهم عبّر عنه هادي العلوي وهو (إنّ حرمان الخليفة من حق التصرف الكيفي يشير من وجه آخر إلى وجود مصدر يستقي منه ما يجب فعله وترکه.

ومن الواضح إنّ هذا المصدر هو القران الذي اكسب أوامره ونواهيه في مرحلة ما بعد الهجرة صفة الإلزام، وقد عني القران بالنص على وجوب الالتزام

ص: 232

بأحكامه واعتبر الخروج عليها مقارنا للكفر)(1)، كما في قوله تعالى:

«وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ»(2).

إنّ كثرة المسلمين وقوة الإسلام، تلك الحجة التي على أساسها منع العطاء عن تلك الفئات، لم تكن إلاّ رادعا شكلياً للذين لم تؤلف قلوبهم، فهم يعملون سراً للإطاحة بكل ما يمت بصلة للإسلام، وذلك باستغلال الشحنات العصبية، والعودة إلى سلطة الغريزة، وبذلك قویت شوكتهم والدليل على ذلك كثرة الفتن والاضطرابات التي اعملها بعض من أولئك المتنفذين الذين قطعت عنهم العطاءات، في حين نرى في دولة الإسلام المحمدية انخراط أولئك النفر في الحياة العامة بشكل مدهش محاولين قدر الإمكان عدم التدخل في شؤون المسلمين؛ والسبب في ذلك كما يبدو يرجع إلى كسب ثقة القائد النبي محمد صلى الله عليه واله سلم وتقوية ارتباطهم به بوصفه الحل المباشر لنزع فتيل عدم الثقة بهم، فضلاً على القوة المالية المتربعة على عرش عقلية أولئك الناس، إذ إنّ عطايا النبي صلى الله عليه واله وسلم أنعشتهم كثيراً بعد الخسائر الفادحة التي تكبدوها أثناء حروبهم مع الإسلام، هذا من جهة، ومن جهة ثانية الهبات والغنائم التي توزع

ص: 233


1- فصول من تاريخ الإسلام السياسي: 56
2- المائدة / 44

عليهم تشعرهم بإعادة بناء مركزهم الاجتماعي الذي فقدوه، وعليهم في ظل هذا الصراع الحاد أن يزنوه بدقة بالغة، كي لا تستثار الأحقاد، فتوزيعة المؤلفة قلوبهم من وجهة نظر النبي صلى الله عليه واله وسلم هي قراءة لهم من الوجه الإنساني من الطراز الأول قبل كل شيء، فهم أناس من خلق الله عزوجل قبل كل شيء.

ولم تكن المؤلفة قلوبهم الفئة الوحيدة التي منع عنها العطاء، فهناك أفراد سری عليهم حکم قطع العطاء، امثال صبيغ الكوفي، نتيجة الاختلاف بينهم وبين القائم على العطاء(1). ومن زاويةٍ مهمةٍ اخرى نلاحظ أنَّ عمر بن الخطاب بطريقة توزيعه للعطاء ومنهجه في تقسيم الناس وتقديم احدهم على الآخر حسب ضوابط وضعها هو بوصفه حاكماً قد ساعد على ظهور روح العصبية القبلية الطبقية التي نهى عنها الإسلام وذمّها، إذ كان نظام الجند الذي سنّه عمر بن الخطاب قائماً على أساس السابقة في الإسلام والقرابة من النبي صلى الله عليه واله وسلم، فضلاً على تراتبية القبائل والاجناس ما يؤدي بدوره إلى تمایزٍ واضح بين الناس(2).

ص: 234


1- ظ: کنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: 2 / 333 - 335
2- ظ: الزواج و تطور مجتمع البحرين: عادل أحمد سر کیس: 231

المبحث الثالث

يعدّ التراث مسألة قدسية نوعاً ما في نظر اغلب أبناء المجتمعات، وما نطمح اليه في منهجنا ان نحلل ونقوم بمسائلة الخطابات والممارسات والفعاليات التي ترد في التراث، فضلاً على أنَّ المنهج الذي نتبناه (يضع الناقد على حد الشفرة بين النظام المؤسساتي الذي يدير فعل الناقد، وبين الثقافة التي تتحدى فعل النقد في حيويتها كحدث غير ممنهج)(1)، كما أنَّه يكشف عن (الأنساق الثقافية، ويقوم بتعرية مضامينها، وكشف أنماطها التي تتداخل مع أنماط المجتمع، فترسخ من خلال ذلك هيمنتها عليها، ثم تعمم هذه الهيمنة عبر وسائل الإنتاج الثقافي والاجتماعي المختلفة)(2)، الذي يحدث أنَّ بعض الممارسات تمرر تحت أقنعتها انساقاً ثقافية ضدية مع ظاهر ما تحمله من أنساق خاصةً إنَّ (العقلية العربية تعاني من

ص: 235


1- النقد الثقافي - قراءة في الأنساق الثقافية العربية: 51
2- قراءة نقدية في كتاب النقد الثقافي للدكتور عبدالله الغذامي: د. يوسف حامد جابر: 1

التحيز الفكري للنموذج المعرفي بمرجعياته الماضية، إذ تتمركز الذات الفاعلة على نفسها دون المحاولة لإعادة النظر بالأصول المرجعية وتقويمها أو تخليصها مما علق بها من خرافات)(1).

وتبعاً لذلك فان التحليل الثقافي يجب أن يتجاوز النص والقيم والمؤسسات، بمعنى أن يذهب إلى أبعد منها في تحليل النصوص والفعاليات(2).

الاشك في أنَّ التراث بمجموعه يشكل قوی و طبقات أيديولوجية متنوعة ومختلفة، وهو بذلك (ليس مشكلة نظرية فكرية فحسب، وإنما هو مشكلة سياسية واجتماعية)(3)، ويعبر التراث - من ضمن ما يعبر عنه - عن الفكر والعقل الدينيين وغير الدينيين؛ لأنهما يقبعان تحت كل أشكاله ويقفان وراءه ويمثلان نتيجة محصلته التي تكون صورته المنتقاة للمتلقي(4).

هذه التجارب التراثية التي تكون على شكل ممارسات أو خطابات ستشكل حضوراً مهماً في وعي القارئ والمتلقي، تبعاً لذلك لا ينبغي الإغفال عن إمكانية توظيف التراث والفعاليات التراثية الإسلامية توظيفاً أدبياً نقدياً بوصفها انساقاً

ص: 236


1- النقد الثقافي في الخطاب النقدي العربي - العراق إنموذجاً: د. عبد الرحمن عبد الله احمد: 69
2- ظ: إشكالية المنهج في النقد الثقافي: 83
3- الثابت والمتحول - بحث في الإتباع والإبداع عند العرب: ادونیس 3 / 228
4- ظ: الإسلام، أوربا، الغرب - رهانات المعني وإرادات الهيمنة: 234

ثقافيةً تبرز المسكوت عنه في التراث العربي الإسلامي، وذلك انطلاقاً من أنَّ الممارسة التراثية تشكل ظاهرة سوسيولوجية ثقافية تنتشر - داخل الأنسجة السوسيولوجية لتطور الفكر الديني(1).

وبما أنَّ التراث الإسلامي الديني وغير الديني يجب أن لا يستبعد (عن حقل البحث والحفر والاستنطاق)(2)، وحتى مساءلة النصوص، سنسعي جاهدين في الصفحات القادمة إلى محاولة قراءة التراث قراءة نقدية ثقافية، الغرض منها کشف مضمر الممارسات التي حدثت على ارض الواقع، أو الخطابات والنصوص الإسلامية التراثية، فضلاً على كشف النزعة الإنسانية فيها أو العكس، کما يطلق عليها محمد أركون(3).

وتنبثق فكرة هذا المبحث الذي نحن بصدده من متابعة ممارسات الحاكميّة وصورتها في كتب التراث التي اهتمّت بهذا الجانب سواءُ أعلنت عن ذلك الاهتمام، أو لم تعلنه، فضلاً على قيمة ذلك الاهتمام أكان إيجابيًّا أم سلبيًّا، ولا يفوتنا أن ننوه إلى أنَّ كتب التراث تتمایز عن كتب التاريخ بقصدية الانتاج، فكتب

ص: 237


1- ظ: ابستومولوجيا النص بين التأويل والتأصيل في المنظومتين الفكريتين لنصر حامد أبو زيد ومحمد أركون: د. علاء هاشم مناف: 11
2- التراث والمنهج بين أركون والجابري: د. نايلة الجابري: 426
3- ظ: نحو تاریخ مقارن للأديان التوحيدية: محمد أركون: 31

التاريخ تنتج من مبدعيها لغرض التاريخ، وكتب التراث وإن كانت تحمل سرداً تاريخيّاً الا أنَّ قصدية انتاجها لم تكن للغرض التاريخي وإنما لغرض تراثي، وهذه هي العلامة الفارقة بينهما.

جوانب كثيرة تلك التي تتمثل فيها صورة الحاكم وتكون صورة طبق الأصل عن حياته التي يعيشها، وتقاليده التي يرعاها وأعتاد عليها، وثقافته التي نشأ ولازال ينشأ عليها. واهتمام الحاكم بالرعية من مبدأ كونه ليناً معهم ومتسامحاً ومتفهماً لأمورهم، ومبيناً الجوانب الفكرية والثقافية والسياسية والدينية الغامضة والملتبسة عليهم، أمرُ لا مفر للحاكم العادل من إتيانه إياهم وفق الشريعة ومقتضيات الحالة.

يروى انه قيل لعمر بن الخطاب (إنا لقينا رجلاً يسأل عن تأویل مشکل القران، فقال عمر: اللهم أمكني منه، فبينا عمر ذات يوم جالس يغدي الناس إذ جاء وعليه ثياب وعمامة صفراء، حتى إذا فرغ قال: يا أمير المؤمنين: «وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا»(1)، فقال عمر: أنت هو، فقام إليه وحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته، فقال: والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقاً لضربت رأسك، البسوه ثياباً واحملوه على قتبٍ...)(2).

ص: 238


1- الذاريات / 1 - 2
2- کنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: 2 / 333 - 334

وإنَّ صبيغَ الكوفي وهذا هو اسم الرجل الذي أتى يسأل عمراً بن الخطاب عن مسألةٍ في القران الكريم، لم يقدم على فعل حرمه الإسلام، أو نهت عنه الشريعة الإسلامية، أو أنّ النبيَ صلى الله عليه وآله قد رده ذات مرة، فالإسلام لم يضع حاجزاً بينه وبين الآخر وان كان كافراً، فما بالك إذا كان مسلماً ينشد غاية محددة، والأمر برمته لا يتعدى السؤال عن تأويل مشكل القران، وهذا الجانب هو من اشد الجوانب غموضاً والتباساً في العصر الإسلامي الأول، والمسلمون وغير المسلمين بوصفهم يقرؤون الكتب السماوية الأخرى وهم اطلاع عليها، كانوا حديثي عهد بالقران وآياته، خاصةً إذا علمنا إنَّ القران كتب بلغة قريش القوية السبك والتي قد تصعب أحياناً على بعض غير القرشيين، وثمة ملحظٍ آخر هو عدم وجود أي دلائل أو قرائن تشير إلى أنَّ صبيغاً حاول النيل من القران أو ما شاكل ذلك، وحتى لو فرضنا جدلاً أنَّ صبيغاً رامَ ذلك، أصبح تحصيل حاصلٍ أن يقوم الحاكم بالدفاع عن القران بتفسير وتوضيح المبهم منه كما فسره صاحب الرسالة الرسول محمد صلى الله عليه وآله سلم، ولكن بيسر وسهولة ولين ف «من لانت كلمته وجبت محبته»(1).

كما يقول الإمام عليّ عليه السلام، والمحبة قد توجب الاتباع، مما قد يمكن مستقبلاً تغيير الوجهة التي يكون عليها المشكك أو أيا كانت تسميته، كما حدث

ص: 239


1- تصنیف غرر الحکم و درر الكلم: عبد الواحد بن محمد التميمي الآمدي ت (510) ه: 250

ذلك زمن الرسول محمد صلى الله عليه و آله سلم بدخول الكثير إلى الإسلام؛ نظراً لانبهارهم من أحقية القران الكريم في كل ما نزل به، وطبعاً يعود الفضل في ذلك إلى الرسول محمد صلى الله عليه وآله سلم الذي أحسن تأويل ما تشابه منه إلى الناس عامة مع حسن معاملته في تنوير الآخرين وتلبية حاجاتهم الفكرية والعملية.

وإنَّ استخدام العقوبة القصوى لشخص يسأل عن شيء مبهم، أو قل لشيء غير مقتنع به وبالنتيجة يريد توضيح ما التبس عليه منه، ما هو إلا استدعاء التراث الثقافي الذي يتخذ أشكالاً وسبلاً مختلفة ويعد منطق القوة والإقصاء الفردي احدها، وبالذات في خفايا جسد الحاكم يلعب الضمير الإنساني الدور الأكبر في تسيير كل معاملاته مع الآخر وتسييسها (فالضمير الإنساني الذي لم يألف العمل على حدود الثقافات، ما زال تسيطر عليه عادات جذبية مزمنة تحمله على أنَّ يرى الأشياء من زاوية ضيقة)(1)، وقضية الاختلاف والمعارضة مع الآخر بشتى أصنافها ومسمياتها تأتي إذ يكون الهامش الذي يتواجه فيه المختلف فيه مع المهيمن في مواجه صارمة(2)، ولا يخفى أنَّ (معظم الحكومات التاريخية للإسلام تخلت عن الفرد وقمعته بمبرر ديني تستدعيه من وعاظ السلاطين عادةً

ص: 240


1- مشكلة الثقافة: مالك بن نبي: 99
2- ظ: مسرحيات باكثير - دراسة ثقافية: 7

يعود هذا المفهوم بشكل وآخر إلى مفهوم الجماعة ودعوى حفظها، وبالنتيجة كانت الجماعة هي المفهوم المناوئ الذي امتص قيمة الفرد)(1).

وبالنتيجة عبر هذا الإقصاء والتعامل لم يستوضح المبهم لدى صبيغ، واتخذ الطابع الديني شکلاً مغايراً لديه، ذلك الدين الذي حاول صبيغ اكتناهه عبر القائم بدور الحاكم، لكن هذا الدين جاء بنهاية حتمية لم يكن صبيغ يتوقعها، تلك النهاية التي أودت به وحيدا فريدا منبوذاً بين أبناء جلدته، بل تعدى الأمر ذلك إلى حرمانه عطاءه ورزقه(2) بأمر من حاكم المسلمين؛ لأنّه سأل حاكم المسلمين عن أمور تخص المسلمين!

قام ابن الكواء إلى الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام وهو قائم على المنبر بعد أن قال: سلوني قبل أن لا تسألوني، ولن تسألوا بعدي مثلي، قال ابن الكواء: يا أمير المؤمنين ما «وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا»(3)، قال: «الرياح»، قال: فما «فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا»(4)، قال: «السحاب»، قال: فما «فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا»(5)، قال: «السفن»،

ص: 241


1- جمهورية النبي أهرامات الأنبياء: 17
2- ظ: کنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: 2 / 335
3- الذاريات / 1
4- الذاريات / 2
5- الذاريات / 3

قال: فما «فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا»(1)، قال: «الملائكة»(2).

وقد أجاب الإمام عليّ عليه السلام السائلَ عما اشتبه عليه وما جهله من معرفة الآيات القرآنية الكريمة إجابة واضحة لا مخاتلة فيها، تلك الإجابة المقنعة التي حاز عليها الرجل، والتي تمثل حقاً مشروعاً له ولأمثاله من السائلين، ألجمت تلك المحاورة العلمية الأدبية الثقافية الأفواه التي أرادت أن تتصيد الماء العكر بمحاولة إظهار الحاكم بمظهر الجهل بالقران، وبالنتيجة تنعكس القضية على صورة الحاكم الإسلامي الذي يمثل رأس الهرم في الحكومة الإسلامية وعليه

يعتمد فيها .

بعد الحكومة الإسلامية بقيادة النبي محمد صلى الله عليه و آله سلم برز نسقُ نمطيّ تواری سابقاً في حقبٍ محددة، وهو نسق الأسئلة المحرجة في الدين، هذا النسق أصبح فيما بعد نسقاً متحركاً في لا وعي المجتمع، تلك الأسئلة هي ضرورة ملحة على الأغلب من جهة؛ نتيجة عدم معرفة اغلب الناس کما قلنا سلفاً بكل محاور القران الكريم والدين الإسلامي ومستجداته، ومن جهة أخرى فأنّ هذه الأسئلة نسقاً يستفز الحكام الإسلاميين لجهلهم بالقرآن وما حواه من مفاهیم،

ص: 242


1- الذاريات / 4
2- المستدرك على الصحيحين: محمد بن عبد الله بن محمد الضبي الشافعي المعروف بالحاكم النيسابوري ت (405) ه، 2 / 506. نقلاً عن: کتاب وعتاب: قيس بهجت العطار: 219

مصدر تلك الإشكالات هم أناسٌ مختلفي التوجهات، قد يكونوا من أصحاب الديانات الأخرى أو ممن قالوا بالشهادتين خوفاً وطمعاً، أو من مسلمي الفتوح في عهد الخلفاء ونحو ذلك، وبالنتيجة سيبني فيما بعد على تصرف الحاكم تجاه هذه القضية أو تلك بأنه تصرف إسلامي من حاكم إسلامي، وذلك حسب نوعية السلوك، وفي الحقيقة توقف هذا النسق، أو قلت دینامیکیته؛ نظراً للجهد الكبير الذي بذله الإمام عليّ عليه السلام في الإجابة على كل الأسئلة والمحاور من کل الأديان والمذاهب والوفود التي تأتي لهذا الغرض.

فالإمام عليّ عليه السلام في كل ذلك كان يستدعي ثقافته الإنسانية الدينية والعلمية؛ لان الثقافة (ستمد الإنسان ببني معرفية قادرة على ترصين المناعة الاجتماعية التي تتحفز ذاتياً في مواجهة الدخيل، وتنتج أمصال الوقاية الكافية للوقاية الجوهرية من أوبئة التمدد الثقافي الذي يرافق التغييرات السياسية)(1)، وتكون الثقافة في مثل هذه الحالة آلية الدفاع الرصينة ضد مخاطر اللاوعي، فكلما داهمت الجماعة مؤثرات خارجية بقصد الإذابة أو الإلغاء الذي يطال البنی المركزية، تعمد الثقافة الأصيلة على بناء مصدات دفاع معرفية؛ لأجل أن تظل الذات الجمعية في منأى عن التهديد، أو النيل الذي تحاول المتغيرات تعميمه من

ص: 243


1- الجذور الأسطورية المؤسسة للخطاب الثقافي العراقي - دراسة في جينيالوجيا الثقافة العراقية: 56

هذه الثقافة أو تلك(1).

ويروي لنا التراث عن (سهل بن أبي سهل التميمي عن أبيه، قال: حج معاوية، فسأله عن امرأة من بني كنانة كانت تنزل بالحجون، يقال لها دارمية الحجونية؛ وكانت سوداء كثيرة اللحم، فاخبر بسلامتها؛ فبعث إليها فجيء بها؛ فقال: ما حالك يا ابنة حام؟ فقالت: لست لحامٍ إن عبتني؛ أنا امرأة من بني كنانة، قال: صدقت... علام أحببت علياً وأبغضتني وواليته وعاديتني؟ قالت: أو تعفني، قال: لا أعفيك، قالت: أما إذا أبيت، فانّي أحبت عليّاً على عدله في الرعية، وقسمه بالسوية... وحبه المساكين، وإعظامه لأهل الدين... وعاديتك على سفكك الدماء، وجورك في القضاء، وحکمك بالهوى، قال: فلذلك انتفخ بطنك، وعظم ثدياك، وربت عجيزتك... ثم قال: أما والله لو كان عليّ حيّاً ما أعطاك منها شيئاً، قالت: لا والله، ولا وبرة واحدة من مال المسلمين)(2).

علّمنا القران الكريم دوماً، أنَّ الاختلاف في الألوان هو آية من آيات رب العالمين وبرهان واضح الدلالة للبشر على قدرة الله في الخلق:

«وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ

ص: 244


1- ظ: المكان نفسه
2- العقد الفريد: أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي ت (328) ه: 1 / 352 - 353

فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ»(1).

ولم يعلّمنا القران أبداً أنَّ اختلاف الألوان هو موضع سخرية واستهزاء وتفرقة بين امرئ وآخر، ولم نجد يوماً ولا ظاهرة واحدة في دستور الإسلام ومعجم النبي محمد صلى الله عليه وآله سلم تدل على التمييز العرقي واللوني بن الناس، بل على العكس تماماً نجد في مؤسسة الإسلام ونبيه صلى الله عليه وآله سلم (إن ألأساس فيها هو أن يغدوا الفرد هرماً، ولتبق الخيام لرمالها)(2)، فضلاً على أنَّ الإسلام قام بخطوة في غاية الأهمية في هذا الصدد، وهي انه أعطى الأولوية للمبدأ الديني وذوّب المبدأ الإثني والعرقي تذويباً كاملاً على مستوى النظرية والتطبيق(3).

إنّ طلب معاوية مثول المرأة أمامه أمرٌ في ظاهره ينبئ بشعور الحاكم تجاه المنسيين من أبناء الدولة والسؤال عنهم وعن أحوالهم، إلا أنّنا لا نجد أيا من هذا أو ذاك حدث بعد تلك المحاورة القاسية بين الطرفين، الحاكم / المحكوم، الفرد / السلطة. تلك المحاورة التي أبرزت النسق المضمر في سؤال معاوية الحاكم عنها

ص: 245


1- الروم / 22
2- جمهورية النبي أهرامات الأنبياء: 16
3- ظ: مدخل إلى علم اجتماع الإسلام من الأرواحية إلى الشمولية: 118

وعن حالها، إذ إنَّ في سؤاله عنها وعن حالها كان يخفي تحت أقنعته تلك السخرية اللاذعة عن لون بشرتها وعظم جسدها فضلاً على ولائها للإمام عليّ عليه السلام وهذا هو أكثر نسق مضمر في الواقعة يبغي معاوية الوصول إلى اكتناهه، إنَّه نسقٌ مضمرٌ سلبيٌّ مسكوت عنه أبرزه خطاب معاوية، وهو بذلك فضح الصورة النمطية الدونية المتدنية التي كونها المتخيل العربي الثقافي عن الأسود والتي تسمه دائماً بالحيوانية ونقص الإنسانية وفساد الطبع والأخلاق وغيرها من رذائل الصفات(1)، وقد اسمعها قبل ذلك خطاباً لا أخلاقيا(2) يصدر من حاكم إسلامي، وعلى الرغم من أنَّ البناء الإسلامي لرؤية الذات والآخر يؤمن بالتعدد، ويعدّه سنة في جميع الخلائق، هذه الرؤية الإسلامية تلغي من المخيال الحدود التي ترسمها الجغرافيا السياسية والثقافية اللونية أو العرقية لتؤصل لمبدأ الإنسانية مقرراً لا حيد عنه البتة(3).

وقد كان خطاباً مزدوجاً ومتناقضاً في آنٍ واحد، ويقوم على مبدأ الكيل بمكيالين؛ ففي مواجهة (دارمية) استعمل كل أدوات النبذ للهيمنة والقهر الثقافي

ص: 246


1- شعر المهمشين في عصر ما قبل الإسلام: 70
2- العقد الفرید: 1 / 353. كان خطابه جنسانياً، إذ عيرها بكبر وانتفاخ أعضاء جسمها، الأمر الذي دفعها إلى تذكيره بماضيه وماضي أسرته
3- مسرحيات باكثير - دراسة ثقافية: 13

بحجة الحاكمية، بمساندة آليات الإقصاء القائمة على اللاتكافؤ والتحيز على أساس الفارق الإثني الثقافي بين المركز وهوامشه في تلك الحقبة الزمانية، ولكن كل ذلك اللاتكافؤ لم يمنع (دارمية) من السكوت والوقوف بوجه السلطة، بل أعطاها جرعة كافية لانبثاق مماحكة(1) إنسانية حضارية وثقافية دينية بينها وبين المركز (معاوية)، فالعربي له حكاية طويلة تمتد قروناً مع حاکمیه، الأمر الذي يدفعه احيانا إلى التعبير عن مكبوتاته بكل الطرق والوسائل المتاحة(2)، والمماحكة هي إحدى هذه الوسائل المتاحة. إنَّ المشكلة تكمن في هيمنة المركز وسطوة السلطة على الفرد مع إصرار المركز على مشروع الإقصاء للإطاحة بما دونها من الطبقات الأخرى ومنعها حتى من التفكير بالمساواتية مع طبقة السلطة المركزية.

(لست لحامٍ)، هذه الجملة النسقية التي قالتها (دارمية) الحجونية بوجه معاوية بينت فكرة حصيفة مفادها إنها امرأة ليست عذرية من الجانب الثقافي الإنساني، ولا شك في أنّ انفعالها الذي ظهر بعد كلمات الاستهجان من معاوية الذي أراد النيل من كرامتها وإنسانيتها هو انفعال ايجابيُ من جهتها وسلبيُّ من جهة الحاكم الذي أظهره بمظهر لم يحب أن يظهر عليه في حساباته، وهذه الجملة

ص: 247


1- المُنازعة في الكلام والتمادي في اللَّجاجَة عند المُساوَمة والغَضب. ظ: لسان العرب مادة (محك)
2- ظ: المكان والزمان في النص الأدبي - الجاليات والرؤيا: د. وليد شاکر نعاس: 12

التي قالتها كانت بمثابة (تحذير من وقوع الظلم صانع اللاانسجام في الحياة، أو تعبير إلى حد ما عن رفض تصرفات السلطة / المركزي)(1)، وهنا بدأ المعنى المخفي والمكبوت بالظهور إذ أضاء الوجود المعتم واندفع بشدة صوب جوهر العلاقة بين الحاكم والمحكوم، مجسداً المشهد بكل تياراته السياسية والفكرية والدينية والإنسانية والاجتماعية(2).

إنَّ قضية المركز / السلطة مقابل الهامش / الفرد أو الجماعة، أصبحت الأكثر شيوعاً وظهوراً عند معاينة أوجه الصراع الثقافي والسلطوي في مسار الدولة التي يرأسها معاوية ويقبع في أسفلها (دارمية) ومن يماثلها من أفراد المجتمع، إذ تفصح الحادثة السابقة والنص الذي يسرد تلك الحادثة والذي خرج من صميم ثقافة تلك الحقبة الزمانية، يفصح عن جذر ثقافي تمتد جذوره العميقة إلى وقت ليس بقريب لتلك الواقعة، مورست هذه الثقافة على أبناء الجلدة الواحدة الذين ينتمون لإنسانية واحدة وعالم واحد واله واحد بل وحتى نبي واحد، اکسب هذا الجذر فيما بعد سمة اللامبالاة عند الحاكم وسوغ مبدأ اللاعتراف بالآخر.

ويروى أنَّ الربيع قال للإمام عليّ عليه السلام: (إني أشكو إليك عاصم بن

ص: 248


1- جماليات النقد الثقافي - نحو رؤية للأنساق الثقافية في الشعر الأندلسي: 55
2- ظ: مسرحيات باكثير - دراسة ثقافية: 69

زیاد. قال: «وما له؟»، قال: لبس العباء، وترك الملاء، وغم أهله، واحزن ولده، قال: «عليّ عاصماً».

فلما أتاه، عبس في وجهه، وقال: «ويلك يا عاصم! أترى الله أباح لك للذات وهو يكره منك أخذك منها؟ أنت أهون على الله من ذلك...»، قال عاصم: فعلام اقتصرت أنت يا أمير المؤمنين على لبس الخشن واكل الحشف؟ قال: «إن الله افترض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بالعوام، لئلا يشنع بالفقير فقره»)(1).

وقد كان مجتمع عصر ما قبل الإسلام مجتمعاً اتباعياً بالدرجة الأولى من خلال تقليد الآباء والأجداد في مختلف جوانب الحياة، ذلك المجتمع الشائب الممتلئ بأدران الآلهة والأوثان من البشر ومن غير البشر، فبعض السلوكيات الجاهلية تحيل إلى تضخيم الذات عند البشر وارتقائها إلى مستوى الآلهة، ونجد ذلك واضحاً عند الموازنة بين طبقات المجتمع المختلفة والمتنوعة. وقد اجتر هذا الإتباع إلى العصر الإسلامي الأول؛ ولكن الإسلام ما فتئ يحارب الاتباعية العمياء والتقليد المنطوي على تهميش الفكر وتجميد العقل، وعلى الرغم من ذلك بقيت هذه الصفة تلازم بعضاً من أبناء المجتمع الإسلامي الأول الذين غالوا في

ص: 249


1- العقد الفريد: 214. وظ: شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 6 / 25

اتباعية الرموز الإنسانية والاجتماعية المزامنة لهم.

في واقعةٍ هي واحدة من وقائع كثيرة شابت المجتمع الإسلامي، ذلك الموقف الذي حدث بين الإمام عليّ عليه السلام والربيع، فالربيع كان زاهداً حد الضغط على نفسه وإرهاقها وعلى الآخرين من ذويه، وهذا ما لا تقبله الشريعة السمحاء بالطبع، فكل إضرار بالنفس وبالأخرين ليس من المقبولية في شيء، وهنا يأتي دور الحاكم الإسلامي ليبين للرعية التعامل الإسلامي مع الله والنفس والآخر، ويلعب الجانب الثقافي الديني والإنساني دوراً كبيراً في إيضاح ذلك (فالثقافة في مهمتها التاريخية تقوم... بوظيفة الدم بالنسبة للكائن الحي، فالدم ينقل الكريات البيضاء والحمراء التي تصون الحيوية والتوازن في الكائن، کما تكون جهاز مقاومته الذاتي)(1)، وكذلك يكون الجانب الثقافي جهازاً مناعياً ضد التطرفات التي قد تشوب الجهاز الإسلامي السليم، فمن يخالف التعاليم الإسلامية السليمة التي أقرتها الشريعة وطبقها النبي محمد صلى الله عليه وآله سلم سيكون في حاجة ملحة إلى جرعة إنسانية ثقافية دينية منشطة لجهازه المناعي ومبرئة لكل الأجسام الخارجية التي تحاول النيل من إنسانيته و تجرید من تطبيق الموازين الشرعية والأخلاقية والإنسانية في تعامله مع نفسه ومع الآخرين، وهذا ما قام به الإمام عليً عليه السلام في تبيين الاختلاف بين الفرد والحاكم، لا على

ص: 250


1- مشكلة الثقافة: 104

أساس طبقي وتفريقي سلبي، بل على أساس إنساني يصب في مصلحة المجتمع والارتقاء نحو بناء الإنسان، فالحاكم كما يبين الإمام عليّ عليه السلام عليه أن يتمثل بأقل طبقات المجتمع وان يساوي نفسه بهم في الحقوق، وان يعيش ما يعيشوه ويشعر بم يشعرون به، وذلك يملي عليه بطبيعة الحال أن يتنازل عن الكثير من ملذات الدنيا ورغباتها. ذلكم هو الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام الذي أصدرت بحقه هيأة الأمم المتحدة في نيويورك(1)، لجنة حقوق الإنسان عام 2002 قراراً عدّته اعدل حاكم في تاريخ البشر - على الإطلاق مستندة بوثائق شملت 160 صفحة باللغة الإنجليزية.

ص: 251


1- ظ: مفهوم الخلافة في دولة الإمام علي عليه السلام: د. رضا العطار، مقال على شبكة الانترنت، موقع Islamic Books

ص: 252

الخاتمة

ص: 253

ص: 254

الخاتمة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ القائل في محكمِ كتابِهِ الكريم:«خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ»(1)، والصلاةُ والسلامُ على من ختمت بهِ الرسالاتُ وعلى آلهِ وصحبهِ المستحفظين وبعدُ:

فنحمدُ اللهَ أن يسرَ لنا إنجاز الدِراسَة بخاتمتِهاِ المتواضعةِ هذ؛هِ لتكونَ مسكاً عبقاً يحسُهُ كلُّ باحثٍ في فِكرِ الإمامِ عَليّ عليه السلام، وقد خلُصَت مَسيرةُ الدراسة إلى جملةٍ مِنَ النتائجِ أهمها:

- لعلّ اهم ما توصل اليه البحث إنَّ مسار الحاكميّة لدى الإمام عليّ عليه السلام يتأتى بوضوح من خلال فهم مسار الحاكميّة لدى سابقيه ومعاصریه،

ص: 255


1- المطففين / 26

فاستحضار الذات لا يتأتى الا من استحضار الاخر؛ كانت الثقافة المهيمنة الحاكميّة الإمامِ عَليّ عليه السلام تتحدّث بصوتٍ واحد وشمولي حيال الجميع وتسعى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية التي طبقها من ذي قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله، بينما نرى أنَّ حاکميّة الآخر تسعى إلى امتلاك كل أدوات التمثيل امتلاکاً كليًّا، مع عدم إتاحة الفرصة لأي صوت معارض آخر.

- كان للبيئة الثقافية في عصر ما قبل الإسلام بعد اجتراراها دور كبير في تشكل ممارسات وخطابات الحاكميّة لدى حكام العصر - الإسلامي الاول، إذ ولّدت لديهم متخيلاً مضمرة يدفع بأحكام مسبقة قد تكون مأساوية تجاه ابناء المجتمع.

- كانت حاکميّة الامام عليّ عليه السلام معبرةً عن سياسته وإدارته لأمور الخلافة والحكم، وما كان عليه من منهج إحقاقٍ للحق وتثبيت دعائم السلطة.

- كشفت الدراسة من خلال ابراز - ممارسات الحاكميّة لدى مختلف الحكام - مقابلة بين سلطات تحقق السعادة والطمأنينة لأبناء المجتمع، وبين سلطات اخرى انطوي تحتها كل معاني التعصب والتسلط وحرمان الانسان من ابسط حقوقه.

- للنسق الثقافي هيمنة يصعب التخلص من سطوتها، وقد رأينا كيف تمكنت بعض الانساق السلبية من التحكم بمخيلة افرادٍ ينتمون لحاضنة عربية

ص: 256

اسلامية نددت بكل قوة بما له مساس بسلب حقوق الانسان.

- يبدو النسق الثقافي الإنساني واضحًا في حاکميّة عليّ عليه السلام ومُحرِّکًا لها؛ ذلك يبدو جليّاً من خلال صيانة حقوق الإنسان، ومنحه فُرصة كسب حريّته والحصول على حقوقه كاملةً غير منقوصة.

- كان الإمام عليّ عليه السلام يسير على وفق الحاكمیّة الشرعية لله عزوجل، فالحاكميّة الأولى والاخيرة تعود لله عزوجل ولكن بأمرة الانسان، إذ لابد (للناس من أمير بر أو فاجر).

- المارسة او الخطاب ليس نسقاً مغلقاً على ذاته، بل هو مساحة مفتوحة لإمكانية قراءات وتأويلات جديدة تكشف خبايا مواطن الجمال والقبح فيها.

- إنَّ المعنى الاصطلاحي للحاكميّة يوافق المعنى المعجمي لها، إذ يدلان كلاهما على المنع.

ص: 257

ص: 258

المصادر والمراجع

ص: 259

ص: 260

القرآن الكريم

الكتاب المقدس

(أ)

ابستومولوجيا النص بين التأويل والتأصيل في المنظومتين الفكريتين لنصر حامد أبو زيد و محمد أركون: د. علاء هاشم مناف، دار التنوير بيروت، لبنان، 2011.

الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية - رؤية معرفية: هشام عوض أحمد جعفر، المعهد العالي للفكر الإسلامي، فيرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، ط 1، 1995.

الاحتجاج: أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي ت (620) ه، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بیروت، لبنان، ط 1، 1981.

أحكام أهل الذمة: شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية ت (751) ه تحقيق يوسف البكري وتوفيق العاروري، رمادي للنشر، الرياض، السعودية، ط 1، 1997.

ص: 261

أديان ومعتقدات العرب قبل الإسلام: د. سميح دغيم، دار الفكر اللبناني، بیروت، لبنان، ط 1، 1995.

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد: أبو عبد الله بن محمد بن النعمان العكبري ت (336)، تحقيق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، بیروت، لبنان، ط 1، 1995.

الأسطورة والمعنى: كلود ليفي شتراوس، ترجمة د. شاكر عبد الصمد، مراجعة د. عزيز حمزة، دار الشؤون الثقافية، بغداد، العراق، ط 1، 1986.

الإسلام، أوربا، الغرب - رهانات المعني وإرادات الهيمنة: محمد أركون: ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، لبنان، ط 1، 1995.

الإسلام معطلاً - العالم الإسلامي ومعضلة الفوات التاريخي: فریدون هویدا، ترجمة حسين قبيسي، دار بترا، دمشق، سوريا، ط 1، 2008.

الإسلام وأصول الحكم - بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام: علي عبد الرازق، دار التنوير، بیروت، لبنان، ط 1، 2013.

الإسلام والسياسة - دور الحركة الإسلامية في صوغ المجال السياسي: عبد الإله بلقريز، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط 1، 2001.

أسواق العرب في الجاهلية والإسلام: سعيد الأفغاني، دار الفكر، بیروت، لبنان،

ص: 262

ط 4، 1974.

إشكالية المجتمع العربي - قراءة من منظور التحليل النفسي: مصطفی صفوان وعدنان حب الله، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط 1، 2008.

أصالة الحضارة العربية: ناجي معروف، مطبعة التضامن، بغداد، العراق، 1969.

أصل الدين: فيور باخ، ترجمة د. أحمد عبد الحليم عطية، المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط1 ، 1991.

الأصنام: ابن المنذر هشام بن محمد بن السائب ابن الكلبيت (204) ه، تحقيق أحمد زكي باشا، دار الكتب المصرية، القاهرة، مصر، ط3 ، 1995.

الاعتداءات الباطنية على المقدسات الإسلامية: كامل سلامة الدقس، القاهرة، مصر، ط 1، 1989.

أعلام نهج البلاغة: هاشم مرتضی، د. ط، 2012.

الآلهة التي تفشل دائماً: إدوارد سعيد، ترجمة حسام الدين خضور، التكوين للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 02003 الإمام عليّ عليه السلام وحروب التأويل - دراسة دينية - تاريخية - عسكرية

ص: 263

معاصرة: الحسين أحمد السيد، دار العلوم، بیروت، لبنان، ط 1، 2009.

الإمام علي عليه السلام صوت العدالة الإنسانية: جورج جرداق ت (1435) ه، دار الأندلس، بیروت، لبنان، ط 1، 2010.

الإمامة والسياسة: أبو محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ت (276) ه، تحقیق علي شيري، دار الأضواء.

الأموال: أبو عبيد القاسم بن سلامت (224) ه، تحقيق د. محمد عمارة، دار الشروق، القاهرة، مصر، ط 1، 1989.

انساب الأشراف: الإمام أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري ت (279)، تحقيق محمد حمید الله، دار المعارف، القاهرة، مصر.

انساب الأشراف: الإمام أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري ت (279) ه، حققه:

د. سهیل زکار ود. ریاض زرکلي، دار الفکر، بیروت، لبنان، ط1 ، 1996.

(ب)

البدء والتاريخ: البلخي ت (322) ه،، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.

البداية والنهاية: أبو الفداء إسماعيل بن کثیر ت (774) ه، حققه وخرج أحاديثه: د. رياض عبد الحميد مراد و محمد حسان عبيد، مراجعة: عبد القادر ارناؤوط

ص: 264

ود. بشار معروف، دار ابن کثیر، بیروت، لبنان، ط 2، 2010.

بناء القادة في منهج أهل البيت (عليهم السلام): فوزي آل سيف، الكويت.

بني المقدس عند العرب قبل الإسلام وبعده: د. يوسف شلحد، ترجمة د. خليل أحمد خليل، دار الطليعة، بیروت، لبنان، ط 1، 1996.

البنيوية التكوينية والنقد الأدبي: لوسيان غولدمان وآخرون، ترجمة محمد سبيلا، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، لبنان، ط 2، 1986.

البنيوية وما بعدها: جاك ستروك، ترجمة جابر عصفور، عالم المعرفة، الكويت، 1999.

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: الشيخ محمد تقي التستري، مطبعة سبهر، طهران، ایران، ط 1، 1997.

بويطيقا الثقافة - نحو نظرية شعرية في النقد الثقافي: د. بشری موسی صالح، دار الشؤون الثقافية، بغداد، العراق، ط 1، 2012.

بين الجاهلية والإسلام: الشيخ محمد مهدي شمس الدين، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، ط 4، 1995.

(ت)

ص: 265

تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام: شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ت (748) ه، تحقيق د. بشار معروف، دار العرب الإسلامي، بیروت، لبنان، ط 1، 2003.

التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للشرق الأوسط في العصور الوسطى: أ. أشتور، ترجمة عبد الهادي عبلة واحمد غسان سبانو، دار قتيبة، دمشق، سوريا، ط 1، 1985.

تاريخ الطبري - تاريخ الرسل والملوك: أبو جعفر محمد بن جریر الطبري ت (310)، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، مصر، ط 2.

تاريخ العرب السياسي والحضاري في العصرين القديم والوسيط: محمود السباعي وآخرون، تعديل: عبد الرحمن بدر الدين، وزهير حمدان، مطبعة دار الكتاب بیروت، لبنان، 1977.

تاريخ العرب في الجاهلية وعصر - الدعوة الإسلامية: رشيد الجميلي، جامعة ميتشغان، أمريكا، 1972.

تاريخ اليعقوبي: أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح الكاتب ت (292) ه، تحقیق عبد الامير مهنا، مطبعة الأعلمي، بيروت، لبنان، ط 1، 2010.

ص: 266

تاریخ قریش: د. حسين مؤنس، الدار السعودية للنشر والتوزيع، السعودية، ط1 1988.

تاریخ نظريات الاتصال: أرمان و میشال ماتلار، ترجمة د. نصر الدين العياضي ود. الصادق رابح، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط 3، 2005.

تأويل الثقافات: كليفورد غيرتس، ترجمة محمد بدوي المنظمة العربية للترجمة، بیروت، لبنان، ط 1، 2009.

التجديد والتحريم والتأويل - بين المعرفة العلمية والخوف من التكفير: نصر - حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط 1، 2010.

التحليل الثقافي: بيتر ل بيرجر وآخرون: ترجمة فاروق أحمد مصطفى وآخرون، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، مصر، 2009.

تدوین الدستور الإسلامي: سيد أحمد حسن أبو الأعلى المودودي، مؤسسة الرسالة، 1980.

التذكرة الحمدونية: ابن حمدون محمد بن الحسن بن محمد بن علي ت (562) ه، تحقيق إحسان عباس وبكر عباس، دار صادر، بیروت، لبنان، ط 1، 1996.

التراث والمنهج بين أركون والجابري: د. نايلة الجابري، الشبكة العربية للأبحاث

ص: 267

والنشر، بيروت، لبنان، ط1 ، 2008.

تصنیف غرر الحکم و درر الكلم: عبد الواحد بن محمد التميمي الآمدي، تحقيق مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، قم، إيران، ط 2، 1420 ق - 1378 ش.

تصنیف نهج البلاغة: لبيب وجيه بيضون، مكتب الإعلام الإسلامي، قم، إيران، ط 3، 1417 ق، 1375 ش.

تكوين العقل العربي: محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية بیروت، لبنان، ط 10، 2009.

تكوين النظرية في الفكر الإسلامي والفكر العربي المعاصر: ناظم عودة، دار الكتاب الجديد، بيروت - لبنان، ط 1، 2009.

التلقي والسياقات الثقافية - بحث في تأويل الظاهرة الأدبية: د. عبد الله إبراهيم، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط 2، 2010.

تمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيل العربي الوسيط : د. نادر کاظم، بیروت، لبنان، ط1 ، 2004.

تهذيب اللغة: أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري ت (370) ه، تحقیق عبد الكريم العرباوي، مراجعة: محمد علي النجار، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة،

ص: 268

مصر.

(ث)

الثابت والمتحول - بحث في الإتباع والإبداع عند العرب: ادونیس (د. علي أحمد سعيد إسبر)، دار الساقي، بیروت، لبنان، ط 7، 1994.

ثقافة الأسئلة - مقالات في النقد والنظرية: د. عبد الله محمد الغذامی، دار سعاد الصباح، الكويت، ط 2، 1993.

(ج)

الجامع لأحكام القران: ابو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي ت () ه، دار الكتب المصرية، القاهرة، مصر، 1938.

جماليات التحليل الثقافي - الشعر الجاهلي نموذجاً: د. يوسف عليمات، عمان، الأردن، ط 1، 2004.

جماليات النقد الثقافي - نحو رؤية للأنساق الثقافية في الشعر الأندلسي: أحمد جمال المرازيق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، ط 1، 2009.

جمهرة خطب العرب في العصور العربية الزاهرة: أحمد زكي صفوت، المكتبة العلمية، بيروت، لبنان، ط 1.

ص: 269

جينيالوجيا المعرفة: ميشيل فوكو: ترجمة أحمد السطاتي وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال، الدار البيضاء، المغرب، ط 2، 2008.

(ح)

الحاكميّة: أبو القاسم الحاج حمد، دار الساقي، بيروت، لبنان، ط1 ، 2010.

الحاكميّة بين النص والديمقراطية: العلامة محمد السند، دار الأميرة، بیروت، لبنان، ط1 ، 2012.

حضارة العرب: غوستاف لوبون، نقله إلى العربية: عادل زعيتر، مطبعة عیسی ألبابي الحلبي وشركاؤه، القاهرة، مصر، 1969.

حقائق الإسلام وأباطيل خصومه: عباس محمود العقاد، دار النهضة، القاهرة، مصر.

حقوق الإنسان عند الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام رؤية علمية: د. غسان السعد، بغداد، العراق، ط 2، 2008.

الحياة العربية من الشعر الجاهلي: أحمد محمد الحوفي، دار القلم: بیروت، لبنان.

الحياة والموت في الشعر الجاهلي: د. مصطفى عبد اللطيف جیاووك، دار صنعاء، عمان، الأردن، ط 1، 2012.

ص: 270

(خ)

الخطاب في نهج البلاغة - بنيته وأنماطه ومستوياته دراسة تحليلية: د. عبد الحسين العمري، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 2010.

الخلافة والملك: أبو الأعلى المودودي، ترجمة أحمد إدريس، دار القلم، الكويت، ط 1، 1978.

(د)

دراسات في الأديان الوثنية القديمة: د. أحمد علي عجيبة، دار الآفاق العربية، القاهرة، مصر، ط 1، 200.

دراسات وترجمات في العلوم الدلالية والتداولية: صابر الحباشة، منشورات وزارة الثقافة، بغداد، العراق، ط 1، 2013.

دليل الناقد الأدبي: د. ميجان الرويلي ود. سعد البازعي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط 3، 2003: 306 - 307.

الدولة والتعدد الثقافي: باتريك سافيدان: ترجمة المصطفى الحسوني، دار توبقال، الدار البيضاء، المغرب، ط 1، 2011.

الدين والثورة في مصر: د. حسن حنفي، مكتبة مدبولي، القاهرة، مصر، 1981.

ص: 271

الدين والسلطة قراءة معاصرة للحاكمية: د. محمد شحرور، دار الساقي، بیروت، لبنان، ط 1، 2014.

(ر)

الربا آثاره وأضراره في ضوء الكتاب والسنة: د. سعيد بن علي القحطاني، مطبعة سفير، الرياض، السعودية.

ربيع الأبرار ونصوص الأخبار: أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري ت (538) ه، تحقیق عبد الأمير مهنا، مؤسسة الأعلمي، بيروت، لبنان، ط1 ، 1992.

الرجولة المتخيلة - الهوية الذكورية والثقافة في الشرق الأوسط الحديث: مي عصوب و ایما سنكلير، دار الساقي، بيروت، لبنان، 2002.

الرسول المتخيل - قراءة نقدية في صورة النبي صلى الله علیه و آله في الاستشراق (مونتمغري واط ومکسیم رودنسون): نبيل فازيو، منتدى المعارف، بیروت، لبنان، ط1 ، 2011.

الرق في الإسلام: أحمد شفيق بك، ترجمة أحمد زكي، المطبعة الأهلية الأميرية ببولاق، القاهرة، مصر، ط 1، 1982.

الرق ماضيه وحاضره: عبد السلام الترمانيني، سلسلة عالم المعرفة، الكويت،

ص: 272

1990.

روح الأنوار: تزفيتان تودوروف: تعريب: حافظ فويعة، دار محمد علي للنشر، تونس، ط 1، 2007.

(ز)

الزعيم السياسي في المخيال الإسلامي بين المقدس والمدنس: محمد الجويلي، دار سراس للنشر، تونس، 1992.

الزواج وتطور مجتمع البحرين: عادل أحمد سركيس المحامي، مكتبة مدبولي، القاهرة، مصر، 1989.

(س)

سوشيولوجيا الثقافة والهوية: هارلمبس وهولبورن، ترجمة حاتم حميد حسن، دار کیوان، دمشق، سوريا، ط 1، 2010.

سير أعلام النبلاء: الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ت (748) ه، أشرف على تحقيقه: شعيب الأرنؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة، 2004.

السيرة النبوية: ابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وآخرون، دار إحياء التراث

ص: 273

العربي، بيروت، لبنان.

سيرة سيد الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه و آله: رسول جعفریان، ترجمة علي هاشم، إيران، ط 3، 1428 ق، 1386 ش.

(ش)

الشخصية العربية ومقارباتها الثقافية: د. قیس النوري، بیروت، لبنان، ط 2، 2011.

شدو الّربابة بأحوال مجتمع الصحابة: خليل عبد الكريم، سينا للنشر، ط 1، 1997.

شذرات الذهب في أخبار من ذهب: الإمام ابن العماد شهاب الدين أبي الفلاح عبد الحي بن أحمد بن محمد العكري الحنبلي الدمشقي ت ( 1089) ه، حققه: محمود الأرناؤوط، اشرف على تحقيقه: عبد القادر الأرناؤوط، دار ابن کثیر، دمشق، سوریا، ط 1، 1986.

شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: ت (656) ه، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الكتاب العربي، بغداد، العراق،، ط1 ، 2007.

شعر المهمشين في عصر ما قبل الإسلام - دراسة على وفق الأنساق الثقافية:

ص: 274

هاني نعمة حمزة، منشورات ضفاف، بیروت، لبنان، ط 1، 2013.

الشيخ والمريد - النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة، عبد الله حمودي، ترجمة عبد المجيد جحفة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، ط 4، 2010.

(ص)

الصحابة في الميزان: عباس محمد، مؤسسة المحبين، قم، إيران، ط 1، 2006.

صحيح البخاري: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ت (256) ه، دار ابن کثیر، دمشق، سورية، ط 1، 2002.

صحیح مسلم: أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشیيري النيسابوري ت (261)، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة، مصر، ط 1، 1991.

الصداقة والأصدقاء: محمد هادي، دار المحجة البيضاء، بیروت، لبنان، ط1 ، 2001.

صراع قريش مع النبي صلى الله عليه وآله، شريط لفعاليات قبائل قريش ضد النبي صلى الله عليه و آله سلم: علي الكوراني العاملي، مركز المصطفى للدراسات

ص: 275

الإسلامية، إيران، ط1 ، 2006.

الصواعق المحرقة في الرد على اهل البدع والزندقة: ابن حجر الهيتمي المكي ت (974) ه، مکتب الحقيقة، اسطنبول، تركيا، 2003.

(ض)

ضحى الإسلام: أحمد أمين، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، مصر، 1959.

(ط)

الطبقات الكبرى: محمد بن سعد بن منيع الزهري ت (230) ه، تحقيق د. علي محمد عمر، مكتبة الخانجي، القاهرة، مصر.

الطفل بين الوراثة والتربية: الشيخ محمد تقي فلسفي، تعريب: فاضل الحسيني الميلاني، توزیع مكتبة اليقين، النجف الأشراف، العراق، 1386 ه

(ع)

عبقرية الإسلام في أصول الحكم: منير العجلالي، دار النفائس، بیروت، لبنان، ط 1، 1985.

العصبية القبلية وأثرها في الشعر الأموي: د. إحسان النص، دار اليقظة العربية،

ص: 276

بیروت، لبنان.

العقد الفريد: أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي ت (328) ه، تحقيق د. مفید محمد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1983.

العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته: محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط 4، 2000.

علم الاجتماع الديني: د. زيدان عبدالباقي، مكتبة غريب، القاهرة، مصر 1981.

علم النفس الثقافي: برتران تروداك، ترجمة حكمت خوري، دار الفارابي، بیروت، ط 1، 2009.

عيون الأخبار: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ت (276) ه، دار الكتب المصرية، القاهرة، مصر، ط 2، 1996.

(غ)

الغارات أو الاستنفار والغارات: أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن هلال الثقفي، حققه وعلق عليه: عبد الزهراء الحسيني، دار الاضواء، بيروت، لبنان، ط 1، 1987.

(ف)

ص: 277

الفاكهة المحرمة - أخلاقيات الإنسانية: بول كيرتز، ترجمة ضياء السومري، منشورات الجمل، بغداد، العراق، ط1 ، 2012.

فتح أمريكا، مسألة الآخر: تزفيتان تودوروف، ترجمة بشير السباعي، سينا للنشر، القاهرة، مصر، ط 1، 1992.

الفتنة جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر: هشام جعيط، ترجمة د. خليل أحمد خليل، دار الطليعة، بيروت، لبنان، ط 4، 2000.

فصول من تاريخ الإسلام السياسي: هادي العلوي، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، نيقوسيا، قبرص، ط 2، 1999.

فكر أبن خلدون العصبية والدولة: د. محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط 6، 1994.

فلسفة النظام السياسي في الإسلام: د. عبدالله حاجي ألصادقي، تعريب: حسن علي مطر الهاشمي، مركز الهدف للدراسات، ط 1، 2010.

في الأدب الجاهلي: د. طه حسين، القاهرة، مصر، ط 3، 1933.

في السيرة النبوية، تاريخية الدعوة المحمدية المكية: د. هشام جعيط، دار الطليعة، بیروت، لبنان، ط1 ، 2007.

ص: 278

في النقد لتطبيقي - صيادو الذاكرة: رضوى عاشور، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1 ، 2001.

في ظلال القران في الميزان: د. صلاح عبد الفتاح الخالدي، دار عمار، عمان، الأردن، ط 2، 2000.

(ق)

قراءات في الفكر الإسلامي، عبد الرحمن الشرقاوي، دار الوطن العربي، 1975.

قصة الحضارة: ول وابریل دیو رانت، ترجمة محمد بدران، بیروت، لبنان.

(ك)

الكامل في التاريخ: ابن الأثير أبو الحسن عليّ بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري ت (630) ه، تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1987.

الكتاب المعجم الموضوعات نهج البلاغة: كاظم الأرفع، مؤسسة الفيض الكاشاني، قم، إيران.

الكتاب المقدس - العهد القديم: دار الكتاب المقدس، مصر، ط 5، 2006.

کتاب وعتاب - رسالة مفتوحة إلى كلية أصول الدين / جامعة الأزهر من بغداد

ص: 279

إلى القاهرة: قيس بهجت العطار، دار الغدير، قم، إيران.

کنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: العلامة علاء الدين بن حسام الدين الهندي البرهان ت (975) ه، ضبط و تصحیح: بكري الحياني و صفوة السقا، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط 5، 1985.

(ل)

لسان العرب: أبو الفضل جمال الدين محمد بن مکرم بن منظور الإفريقي المصري ت (711) ه، دار صادر، بیروت، لبنان.

لسانيات الخطاب وانساق الثقافة - فلسفة المعني بين نظام الخطاب وشروط الثقافة: د. عبد الفتاح أحمد يوسف، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1 ، 2010.

لصوص الله - إنقاذ اليوتوبيا الإسلامية: عبد الرزاق الجبران، دار إنسان، بیروت، لبنان.

(م)

ماذا يقول الكتاب المقدس عن محمد 6: أحمد ديدات، تر و تحقيق إبراهيم خلیل احمد، تقديم: د. عوض الله جاد حجازي، دار المنار، مصر، 1988.

المائدة الأدبية: د. حواس محمد، دار المنارة، بيروت، لبنان، 2005.

ص: 280

المثقفون في الحضارة العربية - محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد: د. محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط 2، 2000.

المجتمع المدني - التاريخ النقدي للفكرة: جون إهرنبرغ، ترجمة د. علي حاكم صالح، د. حسن ناظم، مراجعة: د. فالح عبد الجبار، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط 1، 2008.

المجتمعات الإسلامية في القرن الأول: د. شکري فيصل، دار العلم للملايين، ط 3، 1973.

مجمع الأمثال: أبو الفضل أحمد النيسابوري الميداني ت (518) ه، حققه وفصله وعلق على حواشيه: محمد محي الدين عبد الحميد، مكتبة المنة الحيدرية.

مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي المصري ت (807) ه، تحقيق محمد عبد القادر أحمد عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 2001.

محاضرات في تاريخ العرب: د. صالح أحمد العلي، أعيد طبعه على مطابع مؤسسة دار الكتب للطباعة والنشر في جامعة الموصل، العراق، 1981.

ص: 281

محاضرات في علم اللسان العام: فردیناند دي سوسير، ترجمة عبد القادر قنیني، أفريقيا الشرق، المغرب، 2008.

محمد صلى الله عليه وآله سلم في مكة: ویلیام مونتجمري وات، ترجمة د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ، راجع الكتاب وعلق عليه: د. أحمد الشلبي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، 1415 ه.

محمد 6 المثل الأعلى: توماس کار لیل ت (1871) م، ترجمة محمد السباعي، تقديم: د. محمود النجيري، القاهرة، مصر، ط 1، 2008.

مدارك نهج البلاغة: الهادي کاشف الغطاء، مطبعة الراعي، النجف الأشرف، العراق، ط 1، 1345 ه.

مدخل إلى علم اجتماع الإسلام من الارواحية إلى الشمولية: د. يوسف شلحت، ترجمة د. خليل أحمد خليل، بيروت لبنان، ط 1، 2003.

مدخل إلى علم السياسة: جان مینو، ترجمة جورج يونس، منشورات عويدات، بیروت، لبنان، 1982.

المدخل إلى علم النحو والصرف: عبد العزيز عتیق، دار النهضة، بیروت،

ص: 282

لبنان، 1972.

مدخل في نظرية النقد الثقافي المقارن - المنطلقات المرجعيات المنهجيات:

د. حفناوي بعلي، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1 ، 2007.

المرأة في الشعر الجاهلي: د. أحمد الحوفي، دار الفكر العربي، بیروت، لبنان، ط 2.

المرأة في القران الكريم: حمد متولي الشعراوي، مكتبة الشعراوي الإسلامية، القاهرة، مصر، 1998.

المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيكية: د. عبد العزيز حمودة، عالم المعرفة الكويت، 1998.

مروج الذهب ومعادن الجوهر: أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي ت (346) ه، اعتنی به کمال حسن مرعي، المكتبة العصرية، بيروت، لبنان، ط1 ، 2005.

المستدرك على الصحيحين: أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري ت (405) ه، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت،

ص: 283

لبنان، ط 2، 2002.

المستدرك على الصحيحين: محمد بن عبد الله بن محمد الضبي الشافعي المعروف بالحاكم النيسابوري ت (405) ه، دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد الدكن، 1335 ه.

مسرحيات باكثير - دراسة ثقافية: مها المحمدي، ناشري للنشر الالكتروني، 2012.

مسؤولية المثقف: د. علي شريعتي، ترجمة د. ابراهيم الدسوقي، دار الأمير، بیروت، لبنان، ط 1، 2005.

مشكلة الثقافة: مالك بن نبي، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق، سورية، ط 4، 1984.

المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب: دومینیك مانغونو، ترجمة محمد يحاتن، منشورات الاختلاف، الجزائر، الجزائر، ط 1، 2008.

المعارف: أبو محمد عبد الله بن مسلم ت (276)، تحقيق د. ثروت عكاشة، دار المعارف، القاهرة، مصر، ط 4، 1981.

ص: 284

معالم في الطريق: سيد قطب، دار الشروق، بیروت، لبنان، 1980.

معجم البلدان: یاقوت الحموي ت (626) ه، دار صادر، بیروت، لبنان، ط 2، 1995.

المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والانكليزية واللاتينية: د.

جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، 1982.

معجم مقاییس اللغة: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زکریا، ت (395) ه، تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار الفکر، بیروت، لبنان، 1979.

المعرفة والسلطة: ميشال فوکو، ترجمة عبد العزيز العيادي، المؤسسة الجامعية، بیروت، لبنان، ط 1، 1994.

المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: د. جواد علي، ساعدت على نشره جامعة بغداد، ط 2، 1993.

مقاربة الآخر - مقارنات أدبية: د. سعد البازعي، دار الشروق، القاهرة، مصر، ط 1، 1999.

المقامات السرد والأنساق الثقافية: عبد الفتاح كليطو، ترجمة عبد الكبير

ص: 285

الشرقاوي، دار توبقال، الدار البيضاء، المغرب، ط 2، 2001.

المقدّمَة: عبد الرحمن بن محمد بن خلدون ت (808) ه، اعتناء ودراسة:

أحمد الزعبي، دار الأرقم بن أبي الرقم، بیروت، لبنان.

المكان والزمان في النص الأدبي - الجماليات والرؤيا: د. وليد شاکر نعاس، تموز للنشر والطبع والتوزيع، دمشق سوريا، ط 1، 2014.

مكانة المرأة ودورها: مرکز نون للتأليف والترجمة، ط 2، 2010.

مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام: محمد عبدا لله عنان، القاهرة، مصر، ط 4، 1962.

الموضوعية في العلوم الإنسانية - عرض نقدي لمناهج البحث: د. صلاح قلنصوة، دار التنوير، بیروت، لبنان، 2007.

المؤلفات الكاملة: مي زیادة. مؤسسة نوفل، بیروت، لبنان، ط 1، 1975.

ميثولوجيا أديان الشرق الأدنى قبل الإسلام: محمد الناصر صديّقي، مطبعة جداول، بیروت، لبنان، ط 1، 2014.

الميزان في تفسير القرآن: السيد محمد حسين الطباطبائي: مؤسسة الأعلمي

ص: 286

للمطبوعات، بیروت، لبنان، ط 1، 1997.

(ن)

نحو تاریخ مقارن للأديان التوحيدية: محمد أركون، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، بیروت، لبنان، ط 1، 2011.

نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام: علي سامي النشار، دار المعارف، القاهرة، مصر، ط 9، 1980.

نظام الحكم والإدارة في الإسلام - عهد عليّ بن أبي طالب عليه السلام المالك الأشتر نموذجاً: فلاح حسن شنشل، دار المحجة البيضاء، بیروت، لبنان، ط 1، 2011.

النظرية الأدبية: جوناثان كلير، ترجمة رشاد عبد القادر، وزارة الثقافة، دمشق، سوريا، 2004.

نظرية الثقافة: محمد جواد أبو القاسمي، ترجمة حيدر نجف، بیروت، لبنان، ط 1، 2008.

النظرية والنقد الثقافي - الكتابة العربية في عالم متغير واقعها سياقاتها وبناها

ص: 287

الشعورية: د. محسن جاسم الموسوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بیروت، لبنان، ط 1، 2005.

النقد الثقافي - تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسية: آرثر ایزابرجر، ترجمة وفاء إبراهيم ورمضان بسطاويسي -، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، مصر، ط 1، 2003.

النقد الثقافي - قراءة في الأنساق الثقافية العربية: د. عبدالله الغذامي، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، ط 3، 2005.

النقد الثقافي في الخطاب النقدي العربي العراق أنموذجاً: د. عبد الرحمن عبد الله، دار الشؤون الثقافية، بغداد، العراق، ط1 ، 2013.

نقد الحقيقة: علي حرب، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، ط 1، 1993.

نقد الخطاب الديني: د. نصر حامد أبو زيد، سينا للنشر، القاهرة، مصر، ط 2، 1994.

نهج البلاغة: الشريف الرضي، شرح الشيخ محمد عبده، دار المعرفة، بیروت، لبنان.

ص: 288

نواب الأرض والسماء، حوار العقل المقدس: نصر حامد أبو زيد وآخرون، دار ریاض الريس، ط 1، 1995.

(ه)

هاجس المؤامرة في الفكر العربي بين التهوين والتهويل: علي بن إبراهيم النملة، الرياض، السعودية، ط 1، 2009.

(و)

وقعة صفين: نصر بن مزاحم المنقري ت (212) ه، تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، بیروت، لبنان، 1990.

(ي)

يجب الدفاع عن المجتمع: ميشيل فوكو، ترجمة وتقديم وتعليق: د. الزواوي بغوره، دار الطليعة، بيروت، لبنان، ط 1، 2003.

اليد واللسان - القراءة والأمية ورأسمالية الثقافة: د. عبد الله الغذامي، سلسلة كتاب المجلة العربية، الرياض، السعودية، 2001.

يوتوبيا - جدل العدالة والمدينة الفاضلة من أفلاطون إلى ابن خلدون: د.

ص: 289

طه جزاع، الإنس للطباعة والنشر، بغداد، العراق، 2011.

الرسائل والاطاريح الجامعية

الآخر في نهج البلاغة - قراءة في المرجعيات المشكلة للذات ولصورة الأخر:

سلام عبد الواحد جبارة، رسالة ماجستير، كلية التربية، جامعة البصرة، 2013.

بناء الشخصية في كتاب أيام العرب قبل الإسلام: محمد هادي علوان، رسالة ماجستير، كلية الآداب، جامعة البصرة، 2011.

الثنائيات الضدية في شعر الصعاليك والفتاك إلى نهاية العصر الأموي: مي وليم عزیز بطي، أطروحة دكتوراه، كلية الآداب، جامعة بغداد، 2008.

جدلية الأنساق المُضمرة في الشعر الجاهلي - دراسة بحسب النقد الثقافي -:

سحر کاظم حمزة الشجيري، أطروحة دكتوراه، كلية التربية، جامعة القادسية 2014.

الجذور الأسطورية المؤسسة للخطاب الثقافي العراقي - دراسة في جينالوجيا الثقافة العراقية: ناجي عباس مطر، أطروحة دكتوراه، كلية التربية، جامعة البصرة، 2012.

ص: 290

الحاكمیّة في ظلال القرآن الكريم: عبد الحميد عمر عبد الحميد عبد الواحد، رسالة ماجستير، جامعة النجاح، فلسطين، 2004.

مشروع الحداثة الشعرية في العراق في إطار النقد الثقافي : کریم شغیدل مطرود، أطروحة دكتوراه، كلية الآداب، الجامعة المستنصرية، 2008.

المجلات والدوريات

أثر الأنساق الثقافية في تشكيل الخطاب السردي الصوفي - قراءة نقد ثقافية في (حلية الأولياء والرسالة القشيرية): د. ناهضة عبد الستار، بحث منشور في مجلة جامعة القادسية للعلوم الإنسانية، م 11، ع 4، 2008.

إشكالية المنهج في النقد الثقافي: صلاح رزق، مجلة علامات، م 13، ج 51، مارس 2009.

التعصب ماهيةً وانتشاراً في الوطن العربي: د. علي اسعد وطفة ود. عبد

ص: 291

الرحمن الأحمد، مقال مجلة عالم الفكر، الكويت، مج 3 ع 3، مارس، 2002.

الثابت والمتحول في رؤيا ادونيس للتراث: نصر - أبو زيد، (مقال)، مجلة فصول، ع 1.

جمهورية النبي صلى الله عليه وآله سلم أهرامات الأنبياء: عبد الرزاق الجبران، مجلة المنهج، العراق، السنة السادسة، ع 22، ط 1، 2013.

الظعينة في قصيدتي الهجاء والمديح عند بشر بن أبي خازم الاسدي قراءة تأويلية ثقافية: د. يوسف عليمات، المجلة الأردنية في اللغة العربية وآدابها، م 3، ع 3، 2007.

عتق الرقيق وولاء العتاقة عند العرب قبل الإسلام وعصر - الرسالة: رنا سالم محمد، بحث منشور في مجلة آداب الرافدين، ع 57، 2010.

قراءة نقدية في كتاب النقد الثقافي للدكتور عبد الله الغذامي: د. يوسف

ص: 292

حامد جابر، مجلة دراسات في اللغة العربية وآدابها، السنة الثالثة، ع 9، 2012.

المفارقة: نبيلة إبراهيم، مجلة فصول، المجلد السابع، ع 3 و 4، 1987.

المفارقة الروائية والزمن التاريخي: أمينة رشید، مجلة فصول، م 11، ع 4، 1993.

المفارقة في شعر أمل دنقل: سامح عبد العزيز الرواشدة، مجلة دراسات للعلوم الإنسانية، م 22، ع 6، 1995.

مفهوم السلطة السياسية: مساهمة في دراسة النظرية السياسية: د. رعد عبد الجليل، مجلة دراسات دولية، العدد 37.

نحو تأصيل لمنهج النقد الثقافي: زرقاوي عمر، مجلة علامات، ج 57، م 15، 2005.

ص: 293

شبكة المعلومات

مفهوم الخلافة في دولة الإمام علي عليه السلام: د. رضا العطار، مقال على شبكة الانترنت، موقع Islamic Books.

من مقال في موقع هدى القران الالكتروني ./http://www.hodaalquran.com الموقع الالكتروني - ويكيبيديا الموسوعة الحرة .http://ar.wikipedia.org/wiki الإمام علي عليه السلام وحقوق الإنسان: ضیاء الموسوي، مقال، http://www.haydarya.com/maktaba_moktasah/10/book- 26/01.

.htm

ص: 294

جدول المحتويات

الإهداء...7

مقدمة المؤسسة...9

المقدمة...13 التمهید...21

أولاً: الحاكميّة... مقاربة المفهوم...23

الحاكمية لغةً:...23

المقاربات الأولى لمفهوم الحاكميّة:...24

مفهوم الحاكميّة عند المعاصرين...29

الفصل الأول...45

المبحث الأول...47

أولاً: الرؤى الاجتماعية:...47

ثانيا: الرؤى الدينية...66

ثالثا: الرؤى الاقتصادية...73

المبحث الثاني...81

ص: 295

المبحث الثالث...100

الفصل الثاني...117

المبحث الأول...119

البيعة / السلطة... نموذج الصدفة...119

المبحث الثاني...142

المبحث الثالث...166

الفصل الثالث...185

المبحث الأول...187

المبحث الثاني...210

المبحث الثالث...238

الخاتمة...255

المصادر والمراجع...261

الرسائل والاطاريح الجامعية...292

المجلات والدوريات...293

شبكة المعلومات...296

ص: 296

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.