الوفاء بالعهد أسٌّ من أسس بناء الدولة والمجتمع

هوية الکتاب

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1875 لسنة 2018م

مصدر الفهرسة : IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف BP250.65.K87 2018 :LC

المؤلف الشخصي : الكريطي، حاكم حبيب. مؤلف.

العنوان : الوفاء بالعهد أس من أسس بناء الدولة والمجتمع /

بيان المسؤولية : تأليف أ. د. حاكم حبيب الكريطي.

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: العراق، كربلاء : العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج

البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة.

الوصف المادي : 55 صفحة ؛ 15x21 سم.

سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة ، 429).

سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة، 138 وحدة الدراسات الاجتماعية

سلسلة دراسات في عهد الامام علي (ع) لمالك الأشتر (ره) ؛ 43).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن هوامش، لائحة المصادر (الصفحات 49-53).

موضوع شخصي : علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة -

40 للهجرة - احاديث.

مصطلح موضوعي : العهود الاسلام).

مصطلح موضوعي : الاخلاق الاسلامية .

مصطلح موضوعي : الاسلام والمجتمع.

اسم هيئة اضافي : العتبة الحسينية المقدسة. مؤسسة علوم نهج البلاغه، جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

ص: 2

سلسلة دراسات في عهد الإمام

على (عليه السلام) لمالك الأشتر( رضی الله عنه) (63)

وحدة الدراسات الاجتماعية

الوفاء بالعهد

أسٌّ أسس بناء الدولة والمجتمع

تأليف

أ. د. حاكم حبيب الكريطي

اٍصْدَار

موسسه علوم نهج البلاغه

فٍيْ العَتَبةٍ الحُسْيْنيَّةٍ المُقَدَسَةٍ

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

العتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1439ه - 2018م

العراق - كربلاء المقدسة -مجاور مقام علي الأكبر عليه السلام

مؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف: 07728243600 - 07815016633

الموقع الألكتروني: www.inahj.org

الإيميل: Info@ Inahj.org

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة المؤسسة

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بها أهم والثناء بیا قدم من عموم نعمٍ ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد و آله الطاهرین.

أما بعد:

فإن من أبرز الحقائق التي ارتبطت بالعترة

النبوية هي حقيقة الملازمة بين النص القرآني والنص النبوي ونصوص الأئمة المعصومين (علیهم السلام).

وإن خير ما يُرجع إليه في المصادیق لَحديث

ص: 5

الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي» هو صلاحية النص القرآني لكل الأزمنة متلازماً مع صلاحيّة النصوص الشريفة للعترة النبوية لكل الأزمنة.

وما كتاب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) لمالك الأشتر ( رحمه الله ) إلا أنموذجٌ واحدٌ من بين المئات التي زخرت بها المكتبة الإسلامية التي اكتنزت في متونها كثيراً من الحقول المعرفية مظهرة بذلك احتياج الإنسان إلى نصوص الثقلين في كل الأزمنة.

من هنا:

ارتأت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تخصص حقلا معرفياً ضمن نتاجها المعرفي التخصصي في حياة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) وفكره، متّخذة من عهده الشريف إلى مالك الأشتر (رحمه الله ) مادة خصبة للعلوم الإنسانية التي هي أشرف

ص: 6

العلوم ومدار بناء الإنسان وإصلاح متعلقاته الحياتية وذلك ضمن سلسلة بحثية علمية موسومة ب (سلسلة دراسات في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (رحمه الله)، التي تصدر بإذن الله تباعاً، حرصاً منها على إثراء المكتبة الإسلامية والمكتبة الإنسانية بتلك الدراسات العلمية والتي تهدف إلى بيان أثر هذه النصوص في بناء الإنسان والمجتمع والدولة متلازمة مع هدف القرآن الكريم في إقامة نظام الحياة الآمنة والمفعمة بالخير والعطاء والعيش بحرية وكرامة.

وكان البحث الموسوم ب(الوفاء بالعهد أسٌّ من أسس بناء الدولة والمجتمع) دأب على تقديم المشروع المتكامل الذي أراده الإمام (عليه السلام) في بناء الدولة، وذلك من خلال عهده إلى مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، فاعتمد على مرتكز أساسي صار بمثابة حجر الزاوية الذي

ص: 7

يربط الإسلام بالدولة، لإقامة دولة إسلامية تؤمن بالتعددية وتكفل حق الآخر، ذلك من خلال فضيلة كانت من طلائع فضائل الإسلام وهي (الوفاء بالعهد) بالاستناد إلى التشريع الإلهي بقوله تعالى «وَأ َوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا» الاسراء: 43.

فمن هذه المسؤولية الشرعية انطلق البحث ليؤسس دولة مسؤولة عن تنظيم شؤون رعاياها.

فجزى الله الباحث خير الجزاء فقد بذل جهده وعلى الله أجره، والحمد لله رب العالمين.

السيد نبيل قدوري الحسني

رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 8

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

بين يدي الباحث

يهتم هذا البحث بدراسة الوفاء بالعهد)، بوصفه أُسّاً من الأُسس التي أوصى بها الإمام علي - عليه السلام - الأشتر النخعي، ليقيم بها ولايته على مصر. وقد جعل عليه السلام هذه القيمة الدينية والأخلاقية ضرباً من ضروب الأمانة التي أمر الله - عزّ وجل - بصيانتها والتمسّك بها في قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ...» النساء58، ومن هنا أوجب الإمام عليه السلام على المسلمين التضحيةَ بالنفسِ من أجلِ الوفاءِ بالعهد، وهذا رفع لشأن هذه القيمة التي تُسهمُ في بناءِ المجتمع، وترصّنُ العلاقات بين أبنائه. لقد أراد

ص: 9

الإمام عليه السلام أنْ يبني حياة المسلمين على الوجه الذي يحقّقُ لهم سلامة دينهم ودنياهم، بهذه القيمة العالية، فخصّها بجزء من عهده إلى الأشتر، ليُبصّره بذلك، ويبصّر المسلمين عامة من خلاله، لأن الوالي هو الأجدر بتطبيق ما يريده الإمام عليه السلام؛ ليكون قدوة لرعيته في قيادته لهم. وسوف يُعطي هذا التشديد من الإمام عليه السلام، بشأن الوفاء بالعهد للأعداء، صورة عن ساحة الإسلام، وحرص المسلمين على بناء الإنسان على الوجه الذي يريده الله تعالى، إذْ يحرم عليهم الإخلال بالعهود مع غيرهم، ويحتّم عليهم التمسّك بهذه الفريضة.

إنّ الوقوفَ على معاني الجذر (عهد) في

ص: 10

الاستعمال الاجتماعي، يهيء لنا الاطلاع على الفضاء الدلالي الذي تتحرك فيه المعاني التي تحتضنها السياقاتُ التي ترد فيها تلك المفردات. وعودةٌ إلى لسان العرب تُعطينا المعاني الآتية(1):

1- العهد: كلٌّ ما عُهِدَ اللهُ عليه. 2

2- العهد: كلٌّ ما بين العباد من مواثيق.

3- العهد: تولّي أمر اليتيم.

4- العهد: اليمينُ يحلفُ عليها الرجلُ.

5- العهد: الوفاء.

6- العهد: الأمان.

إن نظرةً أولى على هذه المعاني، تبرّز لنا المعنى العام المشترك بينها للجذر (عهد)، وهو: (الوفاء بها أخذه الإنسان على نفسه، ومن هنا اقترن

ص: 11


1- ينظر : لسان العرب (عهد).

ذكرُ العهد بذكرِ الوفاءِ، وتوحّدا دلاليّاً، وصار أحدهما يدلّ على الآخر من دون ذكر صنوه، وصار وجود العهدِ يعني: أنّ ثمةَ وفاء ملتبسٌ به، ولا يمكنُ التفريق بينهما في حدود الدلالات المشار إليها.

وعودةٌ إلى المعاني السابقة بنظرة تفصيليّة،

تُعطينا الدلالات الآتية:

فالمعنيان الأول والثاني، يُحتّمان على الإنسانِ أن يكونَ وفيّاً مع الله سبحانه وتعالى من جهة، ومع عباده من جهةٍ أخرى، بما يُلزم نفسه به، بعد أن أضيف (الوفاء) للعهد، فصارا کالكلمة الواحدة ومن هنا صار الوفاءُ وسيلةً ونتيجةً لذلك في آنٍ معا. فتوحّد المعنيان في هذه الدلالة المكثّفة، بعد أن أُضيف (الوفاء) للعهد

ص: 12

أما المعنى الثالث، فإنّ تولّي أمر اليتيم عمل جلیل، أمر به اللهُ تعالى، وتظهر قيمتُهُ الأخلاقية والدينيّة بالوفاء به، والوفاء هنا يعني: التمسك بإصلاح حال اليتيم حتى يبلغ أشدّه، على وصف القرآن في قوله تعالى: «وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا »(1)، وفي آيات أخر(2).

ويأتي المعنى الرابع، وهو الوصية، أي ما يعهد به الإنسان إلى الوصّي، وهنا يتعهّد الوصّي بتنفيذ ما وُصّيَ به، فيكون الوفاء شرعيا وأخلاقيّا، لا مناص من الوفاء به، وبهذا يتعاضد العهدُ والوفاءُ في هذه الجزئيّةِ من المعنى العام مرّة أخرى، بعد الاستجابة لما يأمر به الله تعالى .

ص: 13


1- الاسراء: 34.
2- الأنعام: 152، الفجر: 17.

ويبقى المعنى الأخير للعهد، وهو(الأمان)، وهذا المعنى، وإنْ كانت المعاني السابقة تُنتجه، لأنّ تحقّقها يعني حصول الأمان للمتعاهدين، إلّا إنّه هنا يقوّي من شأنِ الدلالةِ ويوسّعها، بما يجعلُ العهدَ هو الأمانُ الّذي يريده الله تعالى العباده، لا بوصفه نتیجةً ينتجُها الوفاءُ فقط ، وإنّما يكونِ الوفاءُ أماناً. وهذا المعنى يجمع المعاني السابقة كلّها، ويجعلُ التوسّعَ الدلاليَ الذي قدّمته ينفتحُ على هذا المعنى الواسع، الذي سيتجسد فيما أراده الإمام علي - عليه السلام - من مالك الأشتر، بقوله « هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ عَلِيٌّ أَمِيرُالْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلَّاهُ مِصْرَ»(1). فجعل کتاب التولية عهدا، لأنّ كلّ ما جاء فيه يحتاج إلى الوفاءِ

ص: 14


1- نهج البلاغة: 3/ 106.

به، حتى يتحقّق الأمان لمصر وأهلها. وليكونَ ذلك منهاج عمل للولاة في ولاياتهم، ووسيلةً بيد المسلمين لمراقبة ما يطبّقه الوالي من العهد، فضلا عمّا فيه من بيان لغير المسلمين ليُبصروا علاقاتهم مع المسلمين من خلاله، واستنادا إلى هذه الرؤية، يكون هذا العهد، أساسا متينا لدولة العدل الإلهي التي بناها الإمام عليه السلام، وأراد من ولاته أن يتمثّلوه، وهم يسوسون العباد.

الوفاء بالعهد في الجاهلية:

أراد الإمام - عليه السلام - من مالك الأشتر ومن المسلمين، أن يستحضروا القيم العربية التي كانت سائدة في العصر الجاهلي، ورفع الإسلام من شأنها، فبقيتْ محافظة على مكانتها في النفوس، وفي مقدمة تلك القيم التي

ص: 15

أقرها الإسلام، قيمة الوفاء بالعهد.

أشار الإمام - عليه السلام - في عهده إلى ما كان من تعظيم المشركين للوفاء بالعهد في الجاهلية بقوله «... وَقَدْ لَزِمَ ذَلِکَ الْمُشْرِکُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ؛ فَلاَ تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ»(1).

ذكّرَ الإمامُ مالكاً والمسلمين، بأنّ المشركين، على الرغم من جاهليتهم وشركهم، ألزموا أنفسهم بالوفاء بالعهود، وجعلوا الغدر مذمّةً ، وعارا يلحق صاحبه؛ لأنّ عواقبه مهلكةٌ، لذا راحوا يفتّشون عن أيّة وسيلة يمكن أن تفضح الغادر من جهة، وتنفّر الناس من الغدر من جهة أخرى. ومن ذلك ماعُرف عنهم أنّه إذا

ص: 16


1- نهج البلاغة: 3/ 106.

((غدر رجلٌ، أو جنى جناية، انطلق أحدهم حتی يرفعَ له رايةَ غدرٍ بعكاظ، فيقوم رجلٌ يخطبُ بذلك الغدرِ، ويقول: ألا إنّ فلاناً غدر، فاعرفوا وجهه، ولا تُصاهروهُ ولا تُجالسوهُ ولا تسمعوا منه قولا.))(1). وهذا النصُّ يكشفُ عن المهلكة التي يجلبها الغدرُ لصاحبه - أيضا، فهي تُميته في المجتمع وإن كان حيّا، وتضرب عليه خيمة من الذل. وقد صوّر الشاعر الحادرة الذبياني أنفته وأنفة قومه من الغدر، حينما خاطب حبيبته بقوله:

أسميَّ - ويحكِ - هل سمعتِ بغدرةٍ

رُفعَ اللواءُ لنا بها في مجمعِ(2)

ص: 17


1- الأزمنة والأمكنة 288/1 ، وينظر أيضا 537/1 . صورة الأسواق في الشعر الجاهلي (بحث) 320-321.
2- ديوان الحادرة الذبياني : 310.

ومن هنا نفهم مراد الإمام عليه السلام، وهو يدفع المتلقي إلى استحضار هذه القيمة التي

ظلّتْ على ما كانتْ عليه بعد مجئ الإسلام. الارتباطها بتنظيم حياة الناس، بما يكفل لهم العيش بأمان، ويُيسر عليهم سبل بناء الحياة، ليكون هذا وسيلة إلى الوصول إلى رضا الله تعالى.

الوفاء بالعهد في الإسلام:

أشار الإمام عليه السلام إلى أنّ (الوفاء بالعهد) فرضٌ من الله تعالى على عباده بقوله: «... فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ شَيْءٌ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اجْتِمَاعاً، مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ وَتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ، مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ»(1). فكيف يُفهم هذا الكلام؟.

ص: 18


1- نهج البلاغة: 3/ 109..

إنّ الاجابة عن هذا السؤال، تقتضي أن نقف على معنى (الفرض) في اللغة، لنأخذ منه تصوّرا لما يريده الإمام عليه السلام، وفي اللغة معناه ((ما أوجبه الله عزّ وجلّ... وفرض الله علينا و كذا افترضه، أوجبه))(1). فالوفاء بالعهد فرض أوجبه الله تعالى على عبادة ليمكّنهم من تنظيم شؤون حياتهم، ويمكّن أعدائهم من العيش بأمان من دون أنْ يخشوا غدرا. ولیوفّر لهم فسحة للتفكير من أجل ترك معاداة المسلمين من دون أنْ يفقدوا شيئا مما يخشونه، وعلى هذا النحو يسعى الإمام عليه السلام إلى بناء الإنسان.

والإمام علي - عليه السلام -، في رؤيته هذه،

ص: 19


1- لسان العرب: (فرض).

يصدر - كما هو شأنه - عن رؤية قرآنيّة للوفاء بالعهد، فقد أوجب الله تعالى ذلك على المسلمين، وجعله – أي الوفاء بالعهد - سمةً من سمات المتّقين، وليس من سمات المسلمين بشكل عام، ويمكن أنْ نجد هذه الدلالة في قوله تعالى:«بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ » (1)وفي قوله عزّ وجلّ: «إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ»(2)، فمحبةُ الله تعالى في هذه الآيةِ مرتبطةٌ بالمحافظةِ على العهد، والوفاء به، وهي موجّهةٌ إلى المتقين، الذين نالوا مرتبةَ التقوى في هذه الآية بالوفاء بالعهد، يقول السيد الطباطبائي عن هذه

ص: 20


1- آل عمران: 76.
2- التوبة: 4.

الجزئية: ((في مقام التعليل لوجوب الوفاء بالعهد ما لم ينقضه المعاهد المشرك، و ذلك يجعل احترام العهد و حفظ الميثاق أحد مصاديق التقوى المطلق الذي لا يزال يأمر به القرآن))(1).

وأمر النبي صلى الله عليه وآله بالوفاء بالعهد، فهو سيده، وجعل ذلك شعبة من شعب الإيمان، التي ينبغي أن يتحلى بها الإنسان المسلم، وقد جسّد ذلك في حياته الاجتماعية، فقد ورد في سيرته الطاهرة، أنّ امرأة دخلت عليه (( فَهَشَّ لَهَا، وَأَحْسَنَ السُّؤَالَ عَنْهَا، فَلَمَّا خَرَجَتْ قَالَ: «إِنَّهَا كَانَتْ تَأْتِينَا أَيَّامَ خَدِيجَةَ وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الإِيمَانِ))(2)، إنّ رفق النبيّ

ص: 21


1- الميزان: 9/ 84. وينظر : التبيان: 5/ 172.
2- عيون الأثر: 2/ 602، وينظر: الحديث في بحار الأنوار 8/16، والمعجم الكبير 14/22.

صلى الله عليه وآله وسلم بهذه المرأة على النحو الذي تشير إليه الرواية، يجسّد لنا المراد من حفظ الجوار والوفاء به، على الرغم من أّنّ العهد كان مع السيدة خديجة، وحفظه یکون بحفظ ذكراها، وذكراها هنا جسّدته هذه المرأة التي ارتبطت بها في ذلك الزمان. ومن هنا يتبيّن لنا قيمة الوفاء بالعهد على وفق هذه الرؤية النبوية.

إنّ هذه الرؤيةَ القرآنيّةَ والرؤيّةَ النبويّةَ والرؤيةَ العلوّية للوفاء بالعهد، جعلتْه واجبا مفروضاً من الله - عزّ وجلّ - على من يُعطيه لغيره، أي أنّ العهدَ يستمدُّ وجوبَهُ منْ انعقاده بين

طرفين، وإذا تمّ العقدُ تمّ وجوبُهُ، وصار الإخلالُ بهِ إخلالاً بأُسًّ من أُسسِ الإسلام.

ص: 22

واستنادا إلى هذا سنعود لننظر في هذه الجزئية من عهد الإمام عليه السلام فنقول أنّه نبّه مالكا إلى التمسك بالوفاء بما يعقده من عهود مع غير المسلمين، لأنّ هذا سيقوّي مكانة المسلمين في النفوس، بما يقدمونه لأعدائهم من قيم اسلامية عليا، ستجذبهم إلى حوزة الإسلام حتما، أو عدم معاداته في أقلّ تقدير. بل إنّ القرآن الكريم ذمّ المشركين بأنّهم لا يرعون حرمة للمسلمين إنْ استطاعوا، قال تعالى: «كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ »(1). ليرسّخ ما أشرنا إليه من التمسك بالعهود. إذ أضاف عدمُ مراقبتِها فسقا إلى شرك المشركين على ما

ص: 23


1- التوبة:8.

بيّنته الآية الكريمة(1).

إنّ ما أراده الإمام عليه السلام، لا ينطبق على مالك الأشتر هنا فقط، وإنّما يشملُ جميع المسلمين، لأنّ ما يُوصي به عليه السلام پریده للجميع، وكلّ مسلم يأخذ منه بالقدر الذي يحتاج إليه في حياته الإسلاميّة المستقيمة، يؤيد هذا الحديث النبوي الشريف عن المسلمين عامة: ((يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أدناهُم، أَيْ إِذَا أعْطَى أحدُ الجَيْشِ العَدُوَّ أمَاناً جَازَ ذَلِكَ عَلَى جَميعِ المُسْلِمِينَ، وَ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ یُخْفِرُوه، وَ لَا أَنْ يَنْقُضوا عَلَيْهِ عَهْده. ))(2).

ص: 24


1- ينظر : الأمثل 5/ 540
2- النهاية في غريب الحديث 198/2 . وينظر قول للإمام الصادق عليه السلام بهذا المعنى في شرح أصول الكافي .402/7

ويستمر الإمام عليه السلام في احاطة مالك الأشتر علما بتفاصيل الوفاء بالعهد، فيخاطبه بقوله ((وَإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَکَ وَبَيْنَ عَدُوِّکَ عُقْدَةً، أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْکَ ذِمَّةً، فَحُطْ عَهْدَکَ بِالْوَفَاءِ، وَارْعَ ذِمَّتَکَ بِالاَْمَانَةِ، وَاجْعَلْ نَفْسَکَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ)) (1).فالإمام عليه السلام سمّى العهد هنا عقدا، ودلالة مفردة العقد تُعطي وثوقاً أكثر مما تُعطيه مفردة العهد نفسها، فقد ورد في المعجم العربي، أنّ العقد هو العهد، والجمع عقود، وهي أوكد العهود، وإذا قلت: عاقدته أو عقدتُ عليه، فتأويله أنّك ألزمته ذلك باستيثاق، والمعاقدة: المعاهدة(2) .

(3)

ص: 25


1- نهج البلاغة: 3/ 106.
2- ينظر : نهج البلاغة: 106/3
3- م.ن. 3/ 106

واستنادا إلى هذه الدلالات، فإنّ استعمال الإمام عليه السلام للفظة العقد يفصحُ عن تشديد أراده بشأن ما يعقده المسلمون مع أعدائهم ومع بعضهم البعض. ومن هنا ذهب بعض العلماء إلى القول، إنّ قوله تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (1)،

((يعمّ العقود التي عقدها الله سبحانه وتعالى على عباده، وألزمها إياهم من التكاليف، وما يعقدون بينهم من عقود الأمانات، والمعاملات ونحوها مما يجب الوفاء به))(2). واستنادا إلى هذا نقول: إنّ انتقاء الإمام عليه السلام لهذه الصياغة المتضمّنة لدلالة الجذر (عقد)، ينبئ

ص: 26


1- المائدة : 1.
2- تفسير البيضاوي 2/ 113، وينظر أيضا: تفسير الثعلبي .7/4

عن الأهمية التي أراد أن يلفت أنظار المسلمين إليها بشأن حُرمة العهود.

أما اللباس الذي قرنه الإمام عليه السلام بالعقد، فيشير إلى ما يمكن أن يوفّره من سكينة وستر للأعداء، فينعمون بذلك، وهنا لا يُمكنهم انکار هذه النعمة، ولا يجوز لهم تجاهلها، وسيغريهم هذا كلّه بالتفكير بالانضمام إلى حضيرة الإسلام اختيراً، وهذا وجه من وجوه بناء الدولة والمجتمع الذي يريده الإمام

عليه السلام.

ويزيد الإمام من تحذيره من خدش فريضة

الوفاء بالعهد، فيُضيف متمّا كلامه عن ذلك فيقول: ((فَلاَ تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِکَ، وَلاَ تَخِيسَنَّ بِعَهْدِکَ، وَلاَ تَخْتِلَنَّ عَدُوَّکَ، فَإِنَّهُ لاَ يَجْتَرِئُ عَلَى اللهِ إِلاَّ

ص: 27

جَاهِلٌ شَقِيٌّ))(1).

فقول الإمام عليه السلام هنا (فلا تغدرنّ بذمتك) ينطوي على تحذير للأشتر النخعي، من الغدر، وعلى الرغم ممّا في الغدر من بشاعةٍ، فإنّ هذه الصورةَ تزداد قُبحاً حينها يُنسبُ الغدر إلى ذمّة الإنسان الغادر وليس إلى خصمه المتعاقد معه بالعهد، وهذا ما جلّاهُ کلام الإمام عليه السلام، فلم يعد الغدرُ مخالفة لفرض رباني، ولا بُعدا عن قيمة أخلاقية یُجلّها المجتمع، وإنما صار ضررا يقع على الغادر نفسه، وهكذا يصل إلى غاية القبح حينما يرتدُّ ضرره على صاحبه، وهذا ما يحتّم على الإنسان أنْ يبتعد عن هذه الخصلة، بعد

ص: 28


1- نهج البلاغة : 3/ 106.

أنّ بصّره الإمام عليه السلام بعواقبها على النحو الذي تكشف لنا.

أما قوله عليه السلام (وَ لاَ تَخِیسَنَّ بَعَهْدِكَ)، فعل الرغم من أنّ الجذر (خيس) يعني في اللغة: غدر وخان، إلا أنّ انتقاء الإمام عليه السلام له هنا، يأتي للإيغال في تبشيع صورة الغدر من خلال ما يؤدّيه من معان أخرى، تنطوي على ذلك، فمن معانيه التي تُظهر ماتُشير إليه المعاني الآتية: ((خاس الشيءُ يخیس: تغيّر وفسد وأنتن... وخاس هو ذلّ

ویُقال: إنْ فعل فلانٌ كذا، فإنّه يُخاسُ أنفُهُ أي يُذلُّ أنفه))(1). وهذا التوجيه يُعطينا تصوّرا الاستعمال الإمام للمفردات، بحيث تقدم

ص: 29


1- لسان العرب ( خيس).

المفردة الواحدة عددا من المعاني، من دون أنْ يعترض السياق على ذلك، بل إنّه - أي السياق - يحتضنُ المعاني الناتجة عن ذلك، بمرونةٍ

تعين القارئ على تأويل الكلام إلى اتجاهات كثيرة من دون تعسّف، وهذا وجهٌ من وجوه المرتبة العليا للبلاغة عند إمام البلاغة عليه

السلام.

وينهى الإمام عليه السلام الأشتر النخعي عن مخاتلة العدو (ولا تختلنّ عدوّك)، ليحصّن العهد المتعاقِد عليه مع العدو، من أيّة ثلمة قد يُحدثها التفكير بإيذائه، وهنا اختار الإمام عليه السلام لفظة (تختلّن)، ليُنفّرَ المتلقّي من هذا الفعل، فاختل في اللغة يعني: الخداع عن غفلةٍ... يختل الرجل ليطعنه، أي يداوره

ص: 30

ويطلبه من حيث لا يشعر(1)، وهذه الدلالات من وسائل محاربة العدو في ميادين المعارك، ولكنّ الإمام نهی عن الاقتراب منها مع العدو الذي عقد المسلمون معه عهدا، وصار المرغوب فيه مرغوبا عنه في هذا الموطن الذي يشير إليه الإمام.

أوجب الإمامُ عليه السلام على المسلمين من خلال عامله الأشتر النخعي، التمسك بهذه المضامين، وعدّ الإخلال بها تعدّيا على حدود الله عزّ وجلّ، يقول عليه السلام في بيان ذلك: ((فَإِنَّهُ لاَ يَجْتَرِئُ عَلَى اللهِ إِلاَّ جَاهِلٌ شَقِيٌّ. وَقَدْ جَعَلَ اللهُ عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ، وَحَرِيماً يَسْکُنُونَ إِلَى

ص: 31


1- ينظر : لسان العرب (خیس)

مَنَعَتِهِ، وَيَسْتَفِيضُونَ إِلَى جِوَارِهِ(1).

فالجرأۃُ على الله عزّ وجلّ من أفعال الجهلاء الأشقياء، فالجاهل يفعل ذلك لأنّه لا علم له بما يقدم عليه، من جهة، ويفعلُ ذلك من الجهل بالله عزّ وجلّ ورسوله وشرائع الدين، من جهة أخرى، والراجح أنّ هذا المعنى - ربما يكون أكثر ملائمة لما یرید الإمام عليه السلام، لأنّه كفيل بتنفير الناس من الإقتراب مما يشين العهد.

أما الشقيّ فهو الذي لا يستشعر لذّة السعادة في حياته، لأنّه يعيش في شدّۃٍ وعُسرةٍ، وهذا آتِ من الجرأة على الله عزّ وجلّ

وثمة مفهوم آخر للشقيّ، يبسطه الإمام

ص: 32


1- نهج البلاغة 107/3

عليه السلام في موضع آخر من نهج البلاغة، إذْ يقول عنه: ((فإنّ الشقيّ من حُرم نَفْعَ ما أُوتيَ من العقلِ والتجربة))(1)، والعقل يقتضي - حقّا- أن لا يجترأ عبد مسلم على حدًّ من حدود الله.

إنّ هذا التشديد الذي أظهره الإمام عليه

السلام، لا يُبقي حُجّةً لمن يريد أن ينقض عهدا، بداعي الحرص على المسلمين من أعدائهم، لأنّ ما يوفّره الوفاء بالعهد أكثر نفعا للمسلمين، ونفعه أولا يتمثل بالامتثال لما أمر به الله تعالى من الوفاء بالعهود، فالأصل في الإسلام التمسّك بالثوابت التي تصون

الدین

ص: 33


1- نهج البلاغة 3/ 137.

الوفاء بالعهد أمان للعباد:

يلتفت الإمامُ عليه السلام إلى وجه آخر من وجوه الوفاء بالعهد، وهو وجه الأمان الذي يريده الله لعباده، يقول عليه السلام ((.. وقد جعل الله عهده وذمّته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريا يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جواره.))(1).

إنّ إشارة الإمام عليه السلام هذه تجعل العهد ضرباً من ضروبِ الأمن التي أرادها الله العباده، رحمة منه بهم، ليعيشوا في دعة وأمان وسكينة، فيبنوا ويعمّروا، ولولا الأمنُ لما قدّر لهم أن يتمكنوا من ذلك، ولما قدّر للوالي أن يدبّر أمور العباد، لأنّ تدبير الأمور يقتضي

ص: 34


1- نهج البلاغة 3/ 107.

أمنا وأمانا.

ثم يجعل الإمام عليه السلام العهد حريا يسكن العباد إلى منعته، والحريم يعني: كلّ ما حُرّم فلا یُلمس، ولا يُدني منه(1). وهذه دلالة المنعة التي وصف الإمام عليه السلام بها الحريم، حيث توفّر للعباد سکنا في ظلّ الأمن المقترن بها. فالقلق والخشية والترقّب التي تقترن بعدم الأمن، تأخذ من العباد أسس الطُمأنينة التي ينشدونها، فإذا جاء العهد بأمنه، و فّر لهم ما فقدوه من ذلك كلّه.

ثم يأتي قوله عليه السلام (فيستفيضون إلى جواره)، أي يُسرعون إليه، واستعمال الإمام

(2)

ص: 35


1- نهج البلاغة 3/ 107.
2- م.ن.

عليه السلام لهذه اللفظة، ينطوي على بيان ما يمكن أن يشعر به الإنسان من الأمن الذي یُشيعه العهد، فلفظة (يستفيضون) تحمل دلالة السرعة والكثرة والانبساط والزحف والدفع في السير...(1). وهذه المعاني كلّها ترسم صورة الحال الناس وهم يندفعون صوب أمن العهد، الذي بسطه الإمام في هذا الجزء من قوله. وفي الوقت نفسه، يُغري المسلمين بالبقاء على ثباتهم على صيانة مايتعهّدون به أمام خصومهم، لأنّ في هذا سلامة لدينهم.

شروط صحة العهد:

يُنهي الإمام عليه السلام كلامه عن الوفاء

ص: 36


1- ينظر: تاج العروس (فیض).

بالعهد، ببيان الشروط التي ينبغي توفّرها فيه، من أجل سلامته، لأنّ في هذه السلامة سلامة للمتعاقدين عليه، بما يوفّره من مناخ أمن، يتيح للعباد بناء الحياة. وجاءت هذه الشروط في قوله الآتي: ((لفَلاَ إِدْغَالَ وَلاَ مُدَالَسَةَ وَلاَ خِدَاعَ فِيهِ. وَلاَ تَعْقِدْ عَقْداً تُجَوِّزُ فِيهِ الْعِلَلَ، وَلاَ تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ قَوْل بَعْدَ التَّأْکِيدِ وَالتَّوْثِقَ))(1).

والآن ننظر في قول الإمام عليه السلام النقف على ما يؤديه كلّ شرط من هذه الشروط، وهي على النحو الآتي:

1- لا ادغال في العقد: الادغال في اللغة يعني الفساد، وأدغل في الأمر: أدخل فيه ما

ص: 37


1- نهج البلاغة 3/ 107.

يُفسده ويُخالفه)(1). فمن يدخل في العقد ما ليس فيه يُفسده بهذا الفعل، والادغال ليس من خُلُق المؤمن. يقول الإمام عليه السلام في موطن آخر: ((ليس المؤمن بالمُدغل))(2)فهذا التعارض بين الإيمان والادغال، يحتّمُ على المؤمن أن يتجنب هذا الفعل الذي يُخرجه من دائرة الإيمان، فكيف إذا كان الادغال في فرض من فرائض الله تعالى وهو العهد؟.

2- لا مدالسة في العقد: الدَّلَسُ بالتحريك: الظلمة، والمدالسة: المخادعة، وفلان لا يُدالسك، ولا يُخادعك، ولا يُخفي عليك الشئ، فكأنه يأتيك به في الظلام(3). وهذه الدلالة

ص: 38


1- ينظر : لسان العرب ( دغل).
2- النهاية في غريب الحديث 2/ 123.
3- ينظر : لسان العرب ( دلس).

للمدالسة تنطوي على خداع غير ظاهر، يستر المُخادِعُ خداعه كأنّه لايُري، وهذا لا يستقيم مع أخلاق الإسلام، لأنّ من يُخادع الله تعالى في العهد يستحق غضب الله تعالى، وقد ورد في الأحاديث أن النبي سُئل ((فيم النجاة غدا ؟ فقال: النجاة أن لا تُخادعوا الله فيخدعكم، فإنّه من يُخادع الله يخدعه، ويخلع منه الإيمان، ونفسه يخدع لو يشعر))(1). فالذي يخدع من يعاهده يخدع نفسه، والله عزّ وجلّ ((خادعه بخذلانه عن حسن البصيرة بما فيه نجاة نفسه في آجل معاده))(2). واستنادا إلى ما تقدّم، فإنّ المدالسة في العقد تكون مدعاة لسخط الله وغضبه، وبهذا يبتعد عنه المسلمون، ويبتعد عنه الوالي قبل

ص: 39


1- تفسير العياشي: 1/ 283، وينظر الميزان 121/5
2- تفسير الطبري 1/ 173.

غيره، لأنّه المعني أولا بتفيذ ما يريده الله تعالى، ليكون قدوة للرعية.

3- لا تجوز العلل في العهد: وهذا منعٌ آخر من الإمام عليه السلام لتحصين المسلمين من الانزلاق إلى مهاوي عصيان الله تعالى، فقد يعمد صاحب العهد إلى محاولة صرفه عن وجهه من خلال كتابته بألفاظ غير واضحة في بيان المراد، وكأن الإمام عليه السلام يقول المالك الأشتر: اختر ((للإيجاب و القبول ألفاظا واضحة في معناها، صريحة في دلالتها، يفهم منها أهل العرف انك قصدت المعني الظاهر، و ألزمت به نفسك))(1). وبهذا يبتعد عن أسباب الجدال والاختلاف والتنازع، ممّا

ص: 40


1- في ظلال نهج البلاغة 1/ 110.

قد يقود إلى إبطال العهد من دون وجه حقًّ.

4- تجنّب الّلحن في العهد: ووقفة على دلالة مفردة اللحن ربا تُعيننا على الاقتراب من مراد الإمام عليه السلام. فاللحن في اللغة يعني: أنّ القائل يُميل قوله بالتورية عن المفهوم الواضح، فهو إذاً ميلٌ عن جهة الاستقامة، والانحراف عن صحيح المنطق(1). وإن كان ظاهرهُ يعطي غير المخفي، وهذا هو ما أراد الإمام عليه السلام أن يبعد المسلمين عنه، لأنّ الطرف الآخر غافلٌ عمّا يراد به واستنادا إلى هذا، اشترط الله تعالى (العدل) في من یکتب بين الناس «يَا أَيُّهَا وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ» (2). ولا تقتصر الكتابة هنا على

ص: 41


1- ينظر : لسان العرب ( لحن).
2- البقرة: 282.

الدَين فقط، وإنّما تعمّ العهود والمواثيق كافة(1).

إنّ هذه الدلالة تُعطي للنصّ إمكانية التأويل على وجوه مختلفة، وصرف الكلام إلى أكثر من معنی، وتجعل من يريد الجنوح بدلالة ألفاظ العهد إلى غير الوجهة المتّفق عليها قادرا على ذلك، من خلال التكنية أو التعريض، وهذا مانهی عنه الإمام عليه السلام، لأنّ من وثّق عهده باليمين، لا يصحّ أن يُعوّل على لحن القول المشار إليه. وحتى يقطع الإمام عليه السلام طريق التّنصل من الإبقاء على العهد ممن يبغي ذلك، قال قولته هذه.

ويوصي الإمام - عليه السلام - الأشتر مشدّدا على الوفاء بالعهد، وعدم اللجوء إلى البحث

ص: 42


1- ينظر: تفسير القرطبي 2/ 276.

عن مسوّغات للتخلص من قيوده، بقوله: ((... وَلاَ يَدْعُوَنَّکَ ضِيقُ أَمْر لَزِمَکَ فِيهِ عَهْدُ اللهِ، إِلَى طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)(1).

قديقع الوالي في أمر يضيق به، ويقدّر أنْ لا منجی له ممّا هو فيه، إلا بطلب انفساخ العقد بغير الحقّ، فيذهب إلى ذلك، إما باللجوء إلى ما منع عنه الإمام عليه السلام کا مرّ بنا قبل قليل، وإما بفعل ذلك من دون حجة، لأنّ من يُجافي الحق، قد لا يحتاج إلى حجة ليسوّغ فعله. وهذا منهيّ عنه في قول الإمام عليه السلام ، لأنّ الوفاء تمثّل لأمر الله تعالى، الذي يُلزم صاحبه التمسك به.

ويختم الإمام عليه السلام وصيته لمالك

ص: 43


1- نهج البلاغة 3/ 107.

الأشتر بشأن الوفاء بالعهد بقوله: ((فَإِنَّ صَبْرَکَ عَلَى ضِيقِ أَمْر تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وَفَضْلَ عَاقِبَتِهِ، خَيْرٌ مِنْ غَدْر تَخَافُ تَبِعَتَهُ، وَأَنْ تُحِيطَ بِکَ مِنَ اللهِ فِيهِ طِلْبَةٌ، لاَ تَسْتَقْبِلُ فِيهَا دُنْيَاکَ وَلاَ آخِرَتَکَ))(1). وهذا الجزء من قول الإمام عليه السلام، مرتبط بالجزء السابق المتعلق بضيق الأمر الذي يواجه صاحب العهد، فالصبر هنا يندرج في حقل الصبر على ما يكره الإنسان، وهو واحدٌ من صبرين، وصفها الإمام عليه السلام بقوله ((ا اَلصَّبْرُ صَبْرَانِ صَبْرٌ عَلَى مَا تَكْرَهُ وَ صَبْرٌ عَمَّا تُحِبُّ))(2). وهذا الصبرُ يُنتظر معه فرج الله - عزّ وجلّ ، والجزاء الأوفي، الذي يُظهره فضل العاقبة التي ذكرها الإمام

ص: 44


1- نهج البلاغة 107/3
2- نهج البلاغة 3/ 107.

عليه السلام، وقد وعد الله عزّ وجلّ الصابرین بقوله: «... إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ »(1). وصبر المسلم على التمسّك بعهد الله عزّ وجلّ خير من غدر يخاف تبعته، لمعرفته وجميع المسلمين بعواقب الغدر - کابان ذلك من قبلُ. وذكّر الإمام عليه السلام بأنّ من يقترف ذلك تُحدق به طِلْبَةٌ من الله تعالى، وتُحيط به من الجوانب كلّها وتستدير به، فلا يبقى له منها منجی، ولا يُقیله الله تعالى منها، لأنّ التبعةَ المشار إليها لزمته في الدنيا والآخرة.

لقد ختم الإمام عليه السلام عهده للأشتر بتذكيره، بعاقبة الخير التي تنتظر من یکون وفيّا بعهده، متمسّكا بعقده، وإنْ ضاق به أمرٌ،

ص: 45


1- الزمر: 10

ورأى أنّ انفراجه_کما يظنّ _يكون بالتحرر منه، فهنا يكون الصبر هو المعول عليه في اجتياز ذلك.

ص: 46

خاتمة البحث

أكّد الإمام عليه السلام على أهمية (الوفاء بالعهد)، في حياة المسلمين، لأنّ في هذه القيمة، مع غيرها من القيم، ما يشكّل بعضاً من الأسس المتينة لبناء الدولة والمجتمع، وقد تبینت هذه الأهمية في البحث من خلال ما يأتي:

1-ذكّر الإمام عليه السلام عامله الأشتر النخعي خاصة والمسلمين عامة، بتمسّك المشركين بالوفاء بالعهد، وبجعلهم الغدر منقصة يسبُّ بها الغادرون. فالأولى بالمسلمين أن يصونوا عهودهم ممايشينها.

2- صارتْ قيمة الوفاء بالعهد)، قیمة عربية

ص: 47

إسلامية، أمر القرآن بصيانتها، وحثّ النبيُّ على ذلك، وشدّد الإمام عليه السلام على الحفاظ عليها، بعد أنْ أصبحتْ فرض من فرائض الله تعالى.

3- جعل الإمام عليه السلام (الوفاء بالعهد) أماناً من الله تعالى لعباده، يعيشون في كنفه بسكينةِ وهدوء وطمأنينة، وجعل الغدر دناءة لا يقربها مسلم.

4- وضع الإمام عليه السلام شروطا ومواثيق للعهود لا يصحّ انعقادها من دونها، وفي مقدمة تلك الشروط، كتابة العهد بألفاظ و تراکیب واضحة، تدلّ على معانيها بيسر، ولا تقبل التأويل الذي قد يُستند إليه في فسخ العقود بحجج لا أصل لها.

ص: 48

5- انتقى الإمام عليه السلام من الألفاظ والصياغات ما يُظهر وجوب الوفاء بالعهد، وما يبرّز مواطن رحمة الله تعالى في ذلك، بدقةٍ بالغةٍ كما هو معهود في كلامه عليه السلام، من خلال مراعاة ما تؤدّيه جذور الألفاظ من معانٍ متقاربة بشكل عام، ومختلفة في دلالاتها الخاصة في آنٍ معاً.

6- أراد الإمام عليه السلام من خلال عهده إلى عامله مالك الأشتر، أنْ يبنيَ مجتمعا اسلاميّاً، يعيش في ظلّ نظام دولة عدل إلهيًّ، بعد أن وضع له أُسس البناء، وكان الوفاء بالعهد من الأسس المكينة لذلك كلّه.

ص: 49

فهرس المصادر والمراجع

* القرآن الكريم.

1- الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي (أبوعلي

أحمد بن محمد بن الحسن الأصفهاني ت 421 ه)، دار الكتب العلمية، بيروت،

لبنان 1417 ه.

2- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ

مکارم شيرازي، منشورات مدرسة الإمام - عليه السلام - ط 1، التصحيح

الثالث، 1426 ه.

3- بحار الأنوار، الشيخ محمد باقر المجلسي،

مؤسسة الوفاء، بیروت - لبنان، ط3،

1403 ه . 1983م.

4- تاج العروس من جواهر القاموس، محمد

مرتضى الزبيدي ت 1205 ه ، مكتبة الحياة،

ص: 50

بیروت، لبنان.

5_ التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي

(ت 460ه)، تحقيق أحمد حبيب قصير العاملي، مكتب الاعلام الاسلامي، ط1، 1409 ه، قم.

6- تفسير البيضاوي (أنوار التنزيل وأسرار التأويل)، البيضاوي، (ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي ت 685ه)، تحقيق محمد عبد الرحمن المرعشلي ، دار احیاء التراث العربي، بیروت، لبنان، ط1، 1418 ه.

7- تفسير الثعلبي (الكشف والبيان عن

تفسير القرآن (ابو اسحق الثعلبيت 427ه)، تحقيق محمد بن عاشور، دار

إحياء التراث العربي، بیروت، 1422 ه،.

8- تفسير الطبري (الجامع في تأويل القرآن)،

الطبري (محمد بن جریرت 310 ه)،

ص: 51

تحقيق أحمد محمد شاکر، مؤسسة الرسالة، ط1، 1420ه- 2000م.

9- تفسير العياشي، العياشي (النضر بن محمد بن مسعود بن عياش السمرقندي ت 320ه)، تحقيق الحاج السيد هاشم الرسولي المحلاتي، المكتبة العلمية الإسلامية، طهران، د.ت.

10- تفسير القرطبي (الجامع لأحکام

القرآن)، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ت 671ه، دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي

1405 ه.

11-ديوان الحادرة، تحقيق الدكتور ناصر

الدين الأسد، دار صادر، ط 2، بیروت،

لبنان 1393ه.

12- شرح أصول الكافي، شرح المولى محمد

صالح المازندراني، تعليق الميرزا أبو الحسن

ص: 52

الشعراني، تصحیح علي أكبر الغفاري،

ط1، المكتبة الاسلامية م، ایران.

13- صورة الأسواق في الشعر الجاهلي،

الاستاذ الدكتور حاکم حبيب عزر الكريطي (بحث)، مجلة الاستاذ، مجلة كلية التربية / ابن رشد، جامعة بغداد،

العدد 23.

14- عيون الأثر، ابن سيد الناس ت 734ه،

تحقيق إبراهيم محمد رمضان، دار القلم،

بیروت، ط1، 1414 ه- 1993م

15- في ظلال القرآن، سید قطب (ابراهیم

حسين الشاذلي ت 1385 ه)، بيروت -

القاهرة، ط17، 14612 ه.

16- لسان العرب، ابن منظور، دار صار،

بیروت، لبنان.

17- المعجم الكبير، الطبراني، تحقيق حمدي

عبد المجيد السلفي، دار احیاء التراث

ص: 53

العربي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، ط 2

18- الميزان في تفسير القرآن، العلامة السيد

محمد حسين الطباطبائي ت 1402 ه مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين، قم، إيران.

19- النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن

الأثير، تحقیق: طاهر أحمد الزاوي و محمود محمد الطناحي، مؤسسة اسماعیلیان، قم،

ط 4.

20- نهج البلاغة، الإمام علي بن أبي طالب -

عليه السلام .، جمع الشريف الرضي، تحقیق الشيخ محمد عبدة، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان.

ص: 54

المحتويات

مقدمة المؤسسة ... 5

بين يدي الباحث ... 9

الوفاء بالعهد في الجاهلية : ... 15

الوفاء بالعهد في الإسلام: ... 18

الوفاء بالعهد أمان للعباد: ... 33

شروط صحة العهد: ... 36

خاتمة البحث ... 46

فهرس المصادر والمراجع ... 49

ص: 55

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.