الأخلاق في القرآن من مواهب

هوية الكتاب

الأخلاق في القرآن من مواهب السيد عبد الأعلى السبزواري

جمیع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولى

1432 ه - 2011م

دار الكاتب العربي للطباعة والنشر والتوزيع

هاتف، 03/257984 - فاكس: 01/553456 - ص.ب: 25/355 - غبيري - بيروت

Daralkatebalarabi@hotmail.com

ص: 1

اشارة

ص: 2

الأخلاق في القرآن

من مواهب السيد عبد الأعلى السبزواري

إعداد السيد إبراهيم سرور

دار الكاتب العربي

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرین.

وبعد،

كان الحاج العارف السيد عبد الأعلى السبزواري مثالاً للأخلاق وأنموذجاً يحتذى بكل سلوكياته ويقتدى به، لأنه استلهم كل تفاصيل حياته الأخلاقية من الرسول وأهل بيته (عليهم السلام) .

فهو بحق عالم أخلاقي جليل، كان أخلاقياً بحركاته وسكناته وتفاصيل حياته قبل أن يكتب في الأخلاق، ويتحدث في هذا المجال، فاستحق لقب العارف الأخلاقي الكبير، ولذا كانت ولا زالت كتاباته ونفحاته تعطي منهجاً سلوكياً ومربياً لكل عالم ومتعلّم.

ونحن بدورنا ولأجل تخصيص الفائدة في علم الأخلاق وإعطاء منهج متكامل في هذا العلم للسيد عبد الأعلى السبزواري اخترنا مجموعة من البحوث الأخلاقية من التفسير الذي كتبه (قدس سره) لما لها من القيمة المعنوية الكبيرة والتأثير الكبير في النفوس والأرواح فأتت على هذه

ص: 5

الشاكلة، نسأله تعالى أن تتغمد الرحمة روح السيد (قدس سره) بما قدَّم وأعطى في كافة المجالات وسائر العلوم.

والحمدلله أوّلاً وآخراً

السيد إبراهيم سرور

27 محرَّم 1431ه

ص: 6

الأخلاق في القرآن

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). [الآية 177 من سورة البقرة].

تدعو الآية الشريفة إلى الإيمان باللّه واليوم الآخر والملائكة، والكتب والرسل، وإتيان الأعمال الصالحة، وتهذيب النفس بالأخلاق الفاضلة، وقد وصف سبحانه العامل بما تضمنته هذه الآية الشريفة، بأنه من الصدّيقين، وأنه من المتّقين، وقد أعدّ لهم من الدرجات المعنوية والمنازل العالية كما بيّنها في آيات أُخرى، وهي تشرح حقيقة الإنسان من حيث نظر القرآن الكريم، وكلّ واحد من هذه الأمور له آثار خاصة، تؤثّر في النفس، وتظهر في العمل وحياة الفرد في الدنيا والعقبي، بما يجلب له السعادة في الدارين. ونشير هنا إلى بعض ما هو المقصود في القرآن الكريم من الاعتقاد المطلوب شرعاً.

وقد أمر سبحانه الإنسان بالإيمان باللّه واليوم الآخر في مواضع كثيرة من القرآن الكريم؛ والمراد به الإيمان الذي يترتب عليه الآثار التي ذكرها

ص: 7

في هذه الآية، وآيات أخرى في سياقها، التي تكون كاشفة عنه في مقام الإثبات، على نحو كشف المعلول عن العلة، وهي:

الأول: أن الإيمان المطلوب، ما كان يدعو إلى العمل الصالح، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا)الكهف، الآية 107.، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(1)، إلى غير ذلك من الآيات التي يقترن الإيمان والعمل الصالح فيها، فإن ذلك من الجمع بين المتلازمین .

الثاني: أن الإيمان المطلوب، هو الذي يبعث على اتباع الرسول وما جاء به الأنبياء، قال تعالى : (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)(2)، وقال تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)(3) .

الثالث: أن الإيمان المطلوب هو الذي يبعث السكينة لصاحبه، والراحة في النفس، والإطمئنان في القلب، قال تعالي: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)(4)، وقال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(5)، وقال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا

ص: 8


1- الأعراف، الآية 42.
2- البقرة ، الآية 143.
3- آل عمران، الآية 31.
4- الفتح، الآية 26.
5- الرعد، الآية 28.

حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)(1).

الرابع: أن الإيمان المطلوب هو ما كان باعثاً على حب اللّه ورسوله، بحيث يكونان أحبّ إليه من غيرهما، قال تعالى : (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)(2).

الخامس: أن الإيمان الصحيح يدعو صاحبه على الصبر في الحوادث والمصائب، لأن صاحبه يعلم بأن المصيبة إنما هي في الدين، وأنها أشد من المصائب في النفس والمال، قال تعالى : (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)(3).

السادس : أن الإيمان يدعو صاحبه إلى اجتناب المحارم، وإنّه إذا عرضت له المعاصي والآثام أعرض عنها، ولو صدرت منه معصية لغفلة أو جهل أو نسيان، يبادر إلى التوبة والإنابة ، قال تعالى : («وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) (4).

السابع: أن الإيمان المطلوب ما كان يدعو إلى التسليم والرضا بالقضاء والقدر، قال تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ

ص: 9


1- الأنعام، الآية 125.
2- التوبة، الآية 24.
3- البقرة، الآية 156.
4- آل عمران، الآية 135.

قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)(1)، وقال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)(2).

الثامن: أن الإيمان الصحيح يدعو صاحبه إلى مراقبة النفس وتزكيتها بأنواع البر، والاجتهاد في طلب مرضات اللّه تعالى، وتهذيب النفس بالأخلاق الفاضلة.

التاسع: أن الإيمان باللّه واليوم الآخر، ما كان يدعو إلى الإيمان بالغيب وجميع ما أنزل اللّه تعالى، قال عزّ وجلّ : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)(3).

العاشر : أن الإيمان الصحيح هو ما يجلب لصاحبه سعادة الدارین، وما أعدّه اللّه تعالى للمؤمنين من المنازل والدرجات، وهي مذكورة في آيات كثيرة .

وأجمع آية تشتمل على كثير مما ذكرناه في الإيمان المطلوب، هي الآية التي سبق تفسيرها، فإنها تبيّن المراد من الإيمان، وأنه الداعي لإتيان الأعمال الصالحات ، والباعث التهذيب النفس وتزيينها بالأخلاق الفاضلة ، الموجب كل ذلك لكون المتصف بها من الصدّيقين والمتّقین، فللإيمان كمال ونقص، والكامل منه ما ذكرناه .

ص: 10


1- الحج، الآية 34.
2- آل عمران، الآية 142.
3- البقرة ، الآية 3-4.

بحث أخلاقي

اشارة

الآية الشريفة التي تقدّم تفسيرها من أجمع الآيات القرآنية لصنوف البرّ والأخلاق الفاضلة، وهي - بانضمام آیات أخرى من القرآن الكريم - تبيّن مفهوم الأخلاق في الإسلام، فإن له نظراً خاصاً فيه، يخالف سائر المذاهب الأخلاقية، ولكنه في ذاته يعتبر امتداداً لسائر الاتجاهات الأخلاقية الصحيحة.

وبتعبير آخر: أنّه يكون تركيباً لتراكيب، فهو يشتمل على روح التوفيق لشتى النزعات في المذاهب الأخلاقية الأخرى، فهو واقعي ومثالي، ومحافظ، وتقدّمي، وتطوري، وعقلي، وصوفي، ومتحرّر ونظامي. كما أنه يلبِّي جميع المطالب الفردية والاجتماعية، الشرعية والأخلاقية . ولا يمكن الإلمام بجوانب هذا المفهوم القرآني للأخلاق إلّا بعد معرفة النظريات الأخرى - ولو على سبيل الإيجاز - ثم الحكم بأفضليّته وأكمليّته من الجميع .

المذاهب الأخلاقية

يختلف العلماء والباحثون في علم الأخلاق النظري في تقسیم المذاهب الأخلاقية المتعدّدة، بين مفصّل لها بتعداد سائر الاتجاهات، وبين مجمل لها بذكر أصولها، والسبب في ذلك أن طائفة منهم ربطت المذاهب الأخلاقية بالمذاهب الفلسفية في المعرفة الإنسانية، من الواقعية

ص: 11

والمثالية والعقلية، والحدسية، والتجربية، والمادية، والتشكيكة وغير ذلك .

وهذا المسلك وإن أمكن تطبيقه على بعض المذاهب الأخلاقية، فإنه يكون امتداداً لتلك المسألة إلا أنّه لا يمكن تطبيقه على البعض الآخر مثل الأخلاق المسيحية، فإن لها خصائص ما يخاف تلك الاتجاهات .

وطائفة أخرى ارجعت الاختلاف بعينه إلى الاختلاف في الغاية ، وأنها هي المنفعة - سواء كانت فردية أو اجتماعية - وابتغاء اللذة والسرور، ودفع الآلام والشرور.

وهذا المنهج كسابقه، فإن كثيراً من المذاهب يخرج عن هذا التقسيم.

وطائفة ثالثة ذهبت إلى أن المناط هو الوجدان والزهد والتقشّف؛ كما يراه الاتجاه الصوفي.

والحقّ أنّ شيئاً مما ذكر لا يصلح لأن يكون المناط في تقسيم المذاهب الأخلاقية، بل إنّ جميعها تتّفق على أن الكمال والسعادة هما الغاية القصوى والمقصد الأسنى للإنسان، وإنّما الاختلاف في ما يصدق عليه الكمال والسعادة ، فالاختلاف في المصداق فقط، وعلى هذا الأساس يمكن تقسيم المذاهب الأخلاقية إلى ثلاثة :

الاتجاه العقلي:

الاتجاه الذي يعتبر العقل هو الذي يحدد الغاية في حياتنا، وأنه الباعث الذي يحفّزنا إلى ابتغاء الحياة السعيدة والعزوف عن الذات، وأنّه الداعي إلى الطاعة لأوامر الشرع أو العقل، وأصحاب هذا الاتجاه يعترفون بأصول مسلّمة لا يمكن العدول عنها، كحُسن العدل، وقبح الظلم وأمثال

ص: 12

ذلك، فلا بد للإنسان - الذي يتميّز عن سائر الكائنات بطبيعته العاقلة - أن يتصرّف وفق القوانين المجعولة من قبل العقل أو الشرع، وفي ذلك ابتغاء السعادة . ويشمل هذا الاتجاه من المذاهب الأخلاقية المذهب الحدسي، والواقعي، والمثالي، وبعض المذاهب اليونانية القديمة، أمثال الرواقيين والأفلاطونيين وغيرهم .

الاتجاه المادي:

وهذا الاتجاه يرفض كلّ القيم الإنسانية المسبقة، التي تحدّد للإنسان سلوكه، والتي لها التأثير في تشكيل حياته، بل يعتبر عامل المادة له الأثر الكبير في سلوك الإنسان، وزاد بعضهم أن الأفكار والمشاعر والرغبات والقيم الخلقية والجمالية، هي وليدة النظام الاقتصادي وما يستلزمه من العلاقات بين الأفراد بعضهم مع بعض، وأن المنفعة سواء في شكلها الحسي أو العقلي، هي وحدها الخير الأقصى والمرغوب لذاته، وأنها السعادة، والضرر والألم وحده هو الشر الأقصى، فالأفعال الإنسانية لا تكون خيراً إلّا إذا حقّقت النفع مطلقاً، وإذا جلبت ضرراً أو عاقت عن وصول النفع، كانت شراً.

وبالجملة : أنّ في هذا الاتجاه - على اختلاف مذاهبه - يتوجه النظر على نتائج الأفعال وآثارها، بلا فرق بين أن تكون المنفعة فردية حسية عاجلة، كما في مذهب القورنائيين، أو حسيّة وعقلية وروحية، كما في مذهب الأبيقوريين، وجميعهم أصحاب اللذة الفردية الأنانية .

نعم، تحول بعض المذاهب إلى منفعة المجموع والقول بالصالح العام، ولكنه لا تخرجها عن ابتغاء اللذة والمنفعة، ولذا دعوا جميعا ب(الأنانيين) حتى في تصورهم للصالح العام، وتشترك جميع هذه المذاهب

ص: 13

في تقييد حرمة الفرد، والقول بالجبر الأخلاقي والفوضى في الأخلاق . ومن ذلك يعرف أنّه لا علاقة بين الفكر الفلسفي والمذهب الخلقي في هذا الاتجاه .

الاتجاه الصوفي:

وفي هذا الاتجاه يتنكّر الإنسان للمادة في جميع مظاهرها، وأنّ العزوف عن ملاذ الدنيا هو المناط في الأخلاق الفاضلة، ويرى أصحابه أن السعادة هي الابتعاد عمّا يشغل بال الإنسان عن التفكّر، والكمال هو الوصول إلى مرحلة يصل بها إلى درك الحقائق، وفي هذا الاتجاه تعتبر المحبّة أصلاً لكلّ خير .

هذه هي الاتجاهات الأساسية للمذاهب الأخلاقية المختلفة المتعدّدة، وهي جميعها قد أخفقت في حلّ المشكلات الخلقية للإنسان، سواء الفردية أو الاجتماعية، ولم يصل الفرد بها إلى ما يصو من السعادة والكمال، بل لم تجلب للإنسان إلّا الشقاوة، والوقوع في صراعات فكرية لا يجتنى منها فائدة تذكر.

المفهوم الأخلاقي في القرآن

إنّ الطابع العام الأخلاقي الذي يستمد من القرآن الكريم يختلف كثيراً عمّا ذكرناه في المذاهب الأخلاقية المختلفة، سواء من الناحيتين النظرية والعملية، فهو يحلّ جميع المشكلات الخلقية، ويضع كل شيء في موضعه المعيّن، ويربط بين الفضل والفضيلة، فطالما يكون المرء فاضلاً ولا يعرف الفضيلة، ولذا ترى أن المفهوم الأخلاقي في القرآن الكريم لا يقتصر على الحاجة العقلية فقط؛ بل إنّ الجانب النظري

ص: 14

والعملي كلّ واحد منهما مكمل للآخر، وتكون لهما وحدة خاصة تشبع الحاسة الأخلاقية، التي أودعها اللّه تعالى في الإنسان.

كما أن المفهوم الأخلاقي فيه يمتاز عن غيره في أنه يشتمل على روح التوفيق بين سائر النزعات الأخلاقية، ويلبي جميع المطالب للإنسان، فهو ينظر إلى الفرد كما ينظر إلى المجتمع، ويعطي لكل واحد منهما حقه، ولهذه النزعة الأخلاقية خصائص يمكن تلخيصها في العنوان اللاحق.

ص: 15

خصائص الأخلاق في القرآن

الأولى : أن في الإنسان انبعاثاً داخلياً فطرياً إلى الأخلاق، يسایر جميع مراحله يمكن التعبير عنه به (الحاسة الأخلاقية)، التي يميز بها بين الخير والشر، كما يميز بالحاسة الجمالية المودعة فيه بين الجميل والقبيح، قال تعالى : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)(1).

ومن هذه الحاسة الخلقية نستطيع أن نؤسس القواعد الخُلقية والقانون الأخلاقي العام.

ولكن قد يلقي هذا النور الباطني الفطري موانع توجب طمسه، وهي كثيرة، مثل العادات، والوراثة، والبيئة، وشواغل الحياة المادية، بل إن نفس القواعد الخلقية الفطرية لم تكن كافية في إرضاء الجميع، بحيث تكون قاعدة عامة تجلب رضاء الكل، ولهذا كان لا بد من بعث الأنبياء ذوي النفوس المصطفاة ، الملهمة بالوحي، ليثيروا للناس دفائن العقول، ويزيلوا الغشاوة عن النور الفطري، ويكملوا ما كانوا يحتاجون إليه في إكمالهم، فكان نور الوحي الإلهي مكملاً لنور الفطرة التي أودعها اللّه في الإنسان، فكان «نور على نور».

الثانية : أن القواعد الخلقية هي تلك القواعد التي تخاطب الضمير

ص: 16


1- الشمس، الآيتان 7 و 8.

الإنساني، ويرغب إليها الإنسان لأجل الحقيقة ذاتها وأهميتها الخلقية ، فهي لم تكن غريبة عليه، فكانت لها صفة الإلزام، قال تعالى: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)(1)، ويظهر ذلك بوضوح في تلك الآيات القرآنية التي ترجع الإنسان إلى عواطفه، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)(2)، وقال تعالى: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)(3) .

الثالثة : إن القرآن الكريم يقرر أن الإنسان مسؤول عن عمله، فقد أظهر فكرة المسؤولية الأخلاقية الفردية والاجتماعية بالمعنى الكامل، قال تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)(4)، وقال تعالى : (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)(5)، فكل شخص مسؤول بالشروط المقررة عن أفعاله الخاصة، الشعورية، والإرادية ، كما أنه فرد من مجتمع يحمل جانباً من المسؤولية الاجتماعية .

الرابعة : أن الإنسان حر في اختيار أفعاله الإرادية ، ولا شيء - سواء كان داخلياً أو خارجياً - يستطيع إرغامه وسلب حريّته، قال تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ)(6)، وقال تعالى : (إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)(7)، بل يعتبر القرآن أن

ص: 17


1- القيامة، الآيتان 14 - 15.
2- الحجرات ، الآية 13.
3- الحجرات ، الآية 12.
4- النجم، الآية 39.
5- الإسراء، الآية 15.
6- البقرة ، الآية 284.
7- الأحزاب، الآية 54.

أساس المسؤولية هي الحرية، وقد مضى في ضمن الآيات القرآنية البحث عن ذلك مفصّلاً، وقد تنبه إلى ذلك الفيلسوف الغربي (كانت) بقوله : «يستحيل علينا أن نتصور عقلاً في أكمل حالات شعوره، يتلقى بشأن أحكامه توجيهاً من الخارج.. فإرادة الكائن العاقل لا تكون إرادته التي تخضه بالمعنى الحقيقي، إلا تحت فكرة الحرية».

الخامسة : الجزاء الأخلاقي، وفقاً لقانون أن كل مسؤولية لا بد لها من جزاء. وقد بين القرآن الكريم أن كل عمل له جزاء خاص يلائمه، وقد تقدم في الآيات السابقة ما يرتبط بالمقام.

السادسة : النية وأن كل عمل لا بد له من نية، وإعطاء الأهمية للنية والبواعث الكامنة في النفس وراء العمل، ويعتبر أن قيمة كل عمل تدور مدار شدة التنزه، وأن الهدف من كل عمل هو ابتغاء وجه اللّه تعالی.

السابعة : أن كل عمل لا بد أن يقرن بالاعتقاد، كما هو ظاهر الآيات الشريفة التي يقرن فيها بين الإيمان والعمل الصالح، قال تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(1)، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ)(2).

ص: 18


1- سبا، الآية 4.
2- العنكبوت، الآية 9.

الإنسان كائن أخلاقي

اشارة

يتميز الإنسان عن سائر الكائنات الحية في أنه مزيج قوى متخالفة متصارعة، فهو مركب من عقل، وقلب، وإرادة، أي : له حياة عقلية ، وانفعالية، وفاعلة . ولكل واحدة من هذه الثلاث آثارها ووظائفها، التي من امتزاجها في هذا الكائن الخاص يكون إنسانا، وهذا مما لا ريب فيه ، وقد دلت عليه التجارب وأثبتته البراهين العلمية .

وبتعبير آخر : وهو المتبع في علم الأخلاق إن الإنسان مركب من قوى ثلاث هي:

القوة الشهرية، التي هي مصدر الرغائب، من محبة المال والنساء وغيرهما من الشهوات الحيوانية، والأفعال المنسوبة إلى هذه القوة هي الأفعال التي تجلب المنفعة؛ كالأكل والشرب ونحو ذلك.

والقوة الغضبية، وهي مصدر العواطف كالشجاعة، والغضب ، والأفعال المنسوبة إليها هي الأفعال التي تدرأ المضار، كالدفاع عن النفس والمال والعرض وغير ذلك.

والقوة العاقلة، وهي التي تدبر البدن وتسوسه، والأعمال الفكرية كلها منسوبة إلى هذه القوة.

ولكل واحدة من هذه القوى الثلاث آثارها وخصائصها، وهي متباينة في صفاتها وذواتها، ولكن من اجتماعها ينشأ الإنسان المفكر الدرّاك ،

ص: 19

و باتحادها تنشأ وحدة تركيبية تصدر منها أفعال خاصة، وبها يبلغ الإنسان إلى سعادته التي خلق لأجلها، ووظيفته هي أن يحافظ على هذه الوحدة التركيبية، وأن لا تخرج قوة من هذه القوى الثلاث عن حد الاعتدال إلى حدي الإفراط أو التفريط، وأن بذلك يصل إلى الغاية المرجوة من خلقه ، وهي السعادة الفردية والنوعية في الدنيا والآخرة، ولأجل ذلك كان الإنسان أخلاقية دون سائر الكائنات الحية.

وعلم الأخلاق يبحث عن كيفية المحافظة على الحد الوسط، التي هي الفضيلة، والاجتناب عن طرفي الإفراط والتفريط اللذين هما الرذائل، لتصدر منه أفعال يصل بها إلى السعادة المرجوة .

الاعتدال في الأخلاق

ذكرنا أن وظيفة الإنسان - ككائن أخلاقي - هي المحافظ على حذا الاعتدال لكل واحدة من القوى الثلاث المتقدمة . والمراد بعد الاعتدال - هو الوسط الأخلاقي - أي استعمال كل قوة على ما ينبغي لجلب بها السعادة .

وقد جعل العلماء حد الاعتدال في القوة الشهرية هي العفة، والجانبين - الإفراط والتفريط - الشره، والخمول. وفي القوة الغضبية الشجاعة، والجانبين التهور، والجبن. وفي القوة الفكرية الحكمة، والجانبين الجربزة، والبلادة .

ثم قالوا: إن في اجتماع تلك الملكات في النفس تحصل ملكة رابعة، وهي العدالة، والمراد بها هي وضع كل شيء موضعه الذي ينبغي له، وبها يمكن الإنسان أن يحافظ على حد الاعتدال في القوى الثلاث، فيخرج عن الظلم والانظلام .

ص: 20

وهذه الأربعة هي أصول الأخلاق الفاضلة، تكون نسبتها إليها كنسبة الجنس إلى النوع، وهي كثيرة - كالجود والسخاء والقناعة والشكر والصبر ونحو ذلك - كما هو مفضل في كتب الأخلاق.

وهذا هو التقسيم الشايع بين علماء الأخلاق منذ عصر أرسطو، وهو لا يخلو عن المناقشة، ولكن الأمر سهل بعد أن كان ذلك لأجل تصنيف الفضائل والرذائل، والتمييز بينها.

إلا أنّ للقرآن نظرية خاصة في الوسط، تغاير النظريات الأخرى، فقد اعتمد القرآن على التقوى التي ورد ذكرها فيه أكثر من مائتين وخمسين مرة، قال تعالى : (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)(1)، واعتبرها محور الكمالات الإنسانية ومعيار الفضائل، قال تعالى : (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا)(2)، وقال تعالى: (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)(3)، وقال تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)(4)، وقال تعالی: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(5)، وقال تعالى : (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)(6)، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)(7)، وقال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(8).

والمراد من التقوى في نظر القرآن : هي الجهد المحمود - الحاصل

ص: 21


1- الشمس، الآية 8.
2- البقرة، الآية 189.
3- النمل، الآية 53.
4- المائدة، الآية 27.
5- آل عمران، الآية 102.
6- البقرة، الآية 197.
7- التوبة، الآية 7.
8- التوبة، الآية 123.

من الفرد - المتواصل في خدمة التكليف، في جميع نشاطاته وعلاقاته مع نفسه، ومع ربه، والناس أجمعين، وهذا هو المراد ممّا ورد في النصوص الكثيرة بأنها «إتيان الواجبات وترك المحرمات».

وتظهر أهمية هذا الملاك عن نظرية «الوسط العادل»، أي : تجنب الإفراط والتفريط في أنه يربط بين العمل والنية، فلا يمكن التفكيك بينهما، فيعتبر العمل بلا نية، لا قيمة له، كما أن النية الخالية عن أي عمل، لا ثمرة لها، كما يظهر ذلك بوضوح من الآيات التي تقارن بين التقوى والعمل الصالح، كما تقدم. قال تعالى : (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)(1).

كما أن بالتقوى يصير الإنسان بارّاً، ويصبح من الصديقين، وإن بها يتهيّأ لقبول الملكات الفاضلة، ويحدد سلوكه الأخلاقي، وبها يصير الإنسان عادلاً موفقاً بين رغباته وأحاسيسه وعواطفه، فهي المقياس الحسي للفضائل، يسهل معرفته لكل أحد، ويسلم عن الخطأ والإلتباس من دون أن يقع في متاهات لاكتساب الفضائل وإزالة الرذائل. وأخيراً هي القاعدة العامة التي يمكن التوفيق بها بين سائر التكاليف، ويجلب بها الكمال، والدين الذي أمرنا باتباعه. وبها صارت هذه الأمة وسط في جميع الشؤون.

نعم، لها مراتب، كما تقدم سابقاً .

ص: 22


1- الشعراء، الآية 110.

طرق اكتساب الأخلاق الفاضلة

ذكرنا أن الأساس الذي يبتني عليه الأخلاق في القرآن هو التقوى، فإنها الطريق إلى التخلق بالأخلاق الفاضلة، واكتساب الفضائل وإزالة الرذائل، وتقدم أن التقوى هي الجهد المتواصل من الفرد، فلا تتحقق إلا بالتواصل والعمل الدؤوب، وتكرار الأعمال الصالحة، لتتمكن الأخلاق الفاضلة في النفس ويتعذر إزالتها. وفي التقوى يرتبط العمل بالنية، فكل ما كانت النية خالصة لله تعالى خالية عن الأغراض الدنيوية، ازدادت قيمة العمل، وقرب إلى القبول، وصلح للجزاء الأوفي.

بل يعتبر القرآن أن الغايات المرجوة من الأعمال، سواء كانت لجلب النفع، أو لدفع الضرر، هي نقص في مقابل الكمال المطلق، قال تعالى: (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)(1)، وقال تعالى: (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)(2)، وغير ذلك من الآيات الكثيرة، التي تحصر الكمال فيه عز وجل. ولهذا الأمر أثر كبير في النفس، حيث يجعل العمل خالصاً لوجه اللّه منزهاً عن كل غاية من غير اللّه تعالى، وأن الغاية هي اللّه تعالی والتخلق بأخلاقه، وهذا مسلك جديد لم يكن معروفاً من قبل نزول القرآن، ويختلف عن سائر المسالك المتبعة في تهذيب النفس بوجهين :

ص: 23


1- النساء، الآية 139.
2- البقرة ، الآية 197.

الأول: أن في هذا المسلك يعد الإنسان إعداداً علمياً وعملياً لقبول الأخلاق الفاضلة والمعارف الإلهية، بحيث لا يبقى مجال للرذائل، وفيه تختلف الفضائل عن غيره من المسالك.

الثاني : أن في هذا المسلك يكون الفعل صادراً عن العبودية المحضة والحب العبودي ، فيكون الغرض هو وجه اللّه تعالی فقط، فهو مبني على التوحيد الخالص، بخلاف غيره .

وهناك مسالك أخرى في تهذيب الأخلاق :

أحدها: هو تهذيب النفس بالآراء المحمودة والعقائد العامة الاجتماعية في الحسن والقبح والغايات الصالحة الدنيوية، وهذا هو المعروف في علم الأخلاق، فهذا المسلك يدعو إلى الخلق الاجتماعي، والغاية هي حياة سعيدة دنيوية يحمدها كل الناس ؛ ولم يرد في القرآن الكريم ما يدل على حسن هذا المسلك.

نعم، في بعض الموارد إشارة إلى بعض الأمور الاجتماعية، قال تعالى: (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ)(1)، حيث علل الحكم بأن لا يكون للناس عليكم حجة. وقال تعالى : (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)(2)، حيث علل ترك الصبر أو الاتحاد، بالفشل وذهاب الريح. ولكن ذلك كله يرجع إلى الثواب والعقاب الأخرويين .

ثانيهما : تهذيب النفس بما جاء به الأنبياء (عليهم السلام) والكتب السماوية من العقائد والتكاليف الدينية والآراء المحمودة بالغایات الأخروية، وقد

ص: 24


1- البقرة، الآية 150.
2- الأنفال، الآية 46.

ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على ذلك، قال تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ)(1)، وقال تعالى: (اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ)(2)، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)(3)، وقال تعالى : (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)(4)، وغير ذلك من الآيات الشريفة التي ذكر فيها الأجر الأخروي بألسنة مختلفة.

ومن مباديء هذا المسلك هو إعداد الإنسان علمياً، بأن كل ما يصدر منه من الأفعال، وما يقع من الأمور كلها، صادرة عن قانون القضاء والقدر الإلهي؛ قال تعالى : (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(5).

وإنه لا بد من التخلق بأخلاق اللّه تعالى، والتذكر بأسمائه الحسنی، حتى يمكن تهذيب النفس بالغابات الأخروية المتكفلة لسعادة الدارین، فإن الكمال الحقيقي والسعادة الواقعية هي الحياة السعيدة في الآخرة، وتلازمها سعادة هذه الدنيا أيضا.

وهذا المسلك هو الغالب في الديانات الإلهية، وقد دعا إليه الأنبياء والمرسلون، وهو متين يغاير المسلك الأول في الغاية والسبب.

ص: 25


1- الأعراف، الآيتان 156 - 157.
2- لقمان، الآية 21.
3- الكهف، الآية 30.
4- الزمر، الآية 10.
5- التغابن ، الآية 11.

ثالثهما: التغير في الأخلاق والتبذل في الفضائل، والقول بالتطور والتكامل في الأخلاق، فلا يمكن أن يكون للحسن والقبح أصول مسلمة مطلقاً، والمناط كله هو ابتغاء المنفعة ودفع المضرة، سواء أكانتا فرديتين، أو اجتماعيتين، وهذا مذهب قديم في الأخلاق دعا إليه بعض الماديين - كما أشرنا إليه سابقاً . وهو مذهب فاسد، وسيأتي في الموضع المناسب ذكر حججهم ودحضها(1).

ص: 26


1- م- ن، ج2، ص343 - 357.

صفات المنافقين في القرآن

اشارة

ذكر سبحانه جملة من صفات المنافقين في هذه الآيات الشريفة : منها قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) فنفى الإيمان عنهم. وإنما خص سبحانه الإيمان باللّه واليوم الآخر بالذكر، ولم يحك عنهم الإيمان بالأنبياء، لاستلزام الإيمان بالمبدأ والمعاد الإيمان بالأنبياء أيضاً، كما عرفت سابقاً.

وما يقال : من أن للمنافقين أعمالاً حسنة في حد نفسها أيضاً، فكيف يعدون من الكفار بقول مطلق؟

مردود : بأن الأعمال الحسنة من المنافق إما صدرت لأجل أغراضهم الشريرة، فلا وجه لترتب الأثر الحسن عليها، فنفي حقيقة الإيمان عنهم يجزي عن هذه التكلفات.

ومنها قوله تعالى : (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا). الخدع : المكر . وهو إظهار شيء وإخفاء خلافه، وهو من أقبح الرذائل وشر الصفات .

وعن بعض الأُدباء: أن المخادعة من فعل الطرفين، وجعلوا هو الأصل في صيغ المفاعلة، وتبعهم جمع من المفسرين ثم قالوا: إن المخادعة محالة على اللّه، وغير لائقة بالمؤمنين، لأنه من فعل المنافقين .

ولكن ذلك مردود : بأن صيغة المفاعلة إنما تدل على إنهاء الفعل إلى الغير واقعاً أو اعتقاداً وأما أن الغير يفعل مثل ذلك بالنسبة إلى الفاعل

ص: 27

الأول فهو غير مأخوذ فيها، فقد يكون وقد لا يكون. نعم، الجزاء على المخادعة مع اللّه ورسوله شيء ومخادعة اللّه ورسوله شيء آخر، لا ربط الأحدهما بالآخر، وإنما ذكرت الخادعة لبيان أن هذا العمل يتكرر عنهم .

وأما مخادعتهم مع اللّه ورسوله تكون بالنسبة إلى اعتقاد المنافق لا بالنسبة إلى الواقع، إذ لا معنى لمخادعة من هو عالم السر والخفيات، ومع ذلك نسبها سبحانه إلى نفسه ابتداءً تسلية للمؤمنين لئلا يثقل تحملها عليهم، لشدة صفاء قلوبهم، فوحدة السياق نحو تلطف منه تعالی بالمؤمنين كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)(1)، وغير ذلك من الآيات المباركة.

وأما خداعهم مع المؤمنين فبإظهار الإيمان وإخفاء الكفر والعمل ریاء وسمعة، وذلك لأجل الإطلاع على اسرار المؤمنين وإذاعتها الأعدائهم.

قال تعالى: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) ، أي : ضرر عملهم راجع إليهم فهم المخدوعون.

وأصل الشعور هو التوجه والإلتفات والفطنة بالشيء ولا يقال إلّا في ما دق وخفي، ولذلك لا يوصف به سبحانه لعدم خفاء شيء عليه.

ومعنى الآية المباركة : أن المنافقين لا شعور لهم في إدراك قبح عملهم لفرض أن بناءهم على النفاق والفساد، وهم مسخرون تحت طبيعتهم الشريرة كما في قوله تعالى: (فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ)(2).

ص: 28


1- الفتح، الآية 10.
2- المنافقون، الآية 3.

ثم إن مفاد هذه الآية المباركة يجري في جميع الرذائل النفسانية التي طبعت في قلوب أهلها، فالمورد وإن كان خاصا ولكن الحكم (وما يشعرون) عام.

قال تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) . المراد بالقلب في الآيات المباركة : منشأ الفهم والإدراكات ، فينطبق عليه النفس والروح والعقل أيضاً . والمرض هو الخروج عن الاعتدال، سواء كان في الجسم أو في القلب . والمراد بمرضها ضعف إدراكاتها وعدم تعقلها للدين وأسراره وأحكامه ، ويجمع ذلك عدم التفقه لها كما قال تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا)(1).

قال تعالى: (فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) . يمكن أن تكون هذه الجملة المباركة دعاء عليهم كقوله تعالى : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ)(2)، ويمكن أن تكون جرياً على سلسلة الأسباب المنتهية إليه تعالى، فإنه عز وجل بعث الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنزل القرآن وأتم الحجة فكذبوا بها وأبوا أن يتبعوه حسداً واستكباراً فزاد ذلك مرضاً على مرضهم، فنسب المرض بالسبب القريب إلى اختيارهم، وبالسبب البعيد إلى إرسال الرسول والدعوة إلى الإسلام، والكل ينتهي إليه تعالى في سلسلة الأسباب .

وفي تنكير المرض إشارة إلى ثبوت جميع أنواعه حسب مفاسد أخلاقهم واستقرارها في قلوبهم.

قال تعالى : (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) . أي : كان العذاب لأجل كذبهم، لأن المنافق كاذب، ويستلزم ذلك تكذيبهم للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فلا فرق في قراءة (يكذبون) بين المجرد اللازم والمزيد المتعدي .

ص: 29


1- الأعراف، الأية 179.
2- التوبة، الآية 127.

وإنما ذكر تعالی خصوص هذه الصفة (كذب) لكونه مصدر كل شر وأساس كل نفاق.

أليم: صفة للعذاب بمعنى المؤلم، وإطلاقه يشمل كل ألم وفي أي مرتبة كانت من مراتب العظمة، كما يدل قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا)(1)، فيكون عذابهم أشد من عذاب الكافرين.

الثاني : الصفات التي تضاف إلى الغير فلا تحقق لها بدونه، كالظلم وحسن الخلق والأذى ونحوها، ومنها النفاق.

الثالث : الصفات الإضافية المختلفة باختلاف الجهات، وسيأتي بيان ذلك في الآيات المناسبة لها إن شاء اللّه تعالی.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) .

و من صفات المنافقين التي ذكرها اللّه تعالى في هذه الآيات الفساد في الأرض، والاستهزاء بالمؤمنين، وتوصيفهم بالسفاهة وعدم شعورهم بجهالتهم، وتلك الصفات كلها من أخس الصفات وأرذلها التي كانت فيهم.

ص: 30


1- النساء، الآية 145.

قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ).

الفساد خروج الشيء عن الاعتدال، وتغيره عن سلامة الحال، وضده الصلاح. ومادة الفساد في أي هيئة استعملت تدل على المبغوضية والاشمئزاز، قال تعالى : (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)(1)، ولا سيما هيئة الإفساد ومتفرعاتها فإن المتلبس بها مذموم عند الجميع. ويقابل ذلك مادة الصلاح، فإنها في أي هيئة استعملت تدل على المحبوبية والرغبة ومیل النفس، خصوصا هيئة الإصلاح وما يتفرع منها، فإنها ممدوحة عند الجميع قال تعالى : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)(2).

وإنما ذكر تعالى القول بفلظ المجهول ليشمل كل ناه عن المنكر ، رسولاً كان أو ولياً أو كان من عَرَض الناس، كما أنه سبحانه ذكر الأرض وحدها لأنها محل إفساد المفسدين قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)(3).

ثم إن الخروج عن الاعتدال والاستقامة الذي هو معنى الفساد تارة : يكون بالنسبة إلى الشخص نفسه في ما بينه وبين اللّه تعالی، كالرياء . وأخرى: بالنسبة إلى شخص آخر مثله، كالغش مثلاً. وثالثة : بالنسبة إلى المجتمع، كالخيانة بالنسبة إليهم. ولهذه الحالات مراتب متفاوتة، وفي الجميع إما أن يكون الشخص متوجهاً إلى ما يفعل، أو لا يكون كذلك بل يری فساده صلاحاً وإصلاحاً، والآية المباركة تبين هذا القسم.

ومعنى الفساد في الآية الشريفة ارتكاب المعاصي سواء كانت صغيرة

ص: 31


1- البقرة، الآية 205.
2- النساء، الآية 128.
3- الروم، الآية 41.

أو كبيرة، ويدخل فيها مذام الأخلاق، وذلك لأن أفعال الإنسان إما أن تكون موافقة للشرع، أو تكون موافقة الموازين الاجتماع، وإن كانت مخالفة للشرع. وثالثة : أن تكون موافقة لمعتقدات الشخص، وإن كانت مخالفة للأولين. والنفاق أو الفساد في الآية المباركة من أحد الأخيرين، وقد أكد تعالی بطلان معتقداتهم في قوله: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) بأن لا صلاح في معتقداتهم إذ ليس كل صلاح اعتقادي صلاحاً واقعياً.

قال تعالى : (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) .

لظهور آثار الفساد في أفعالهم كتفريق المسلمين وإلقاء النفاق بينهم وإفشاء أسرارهم.

قال تعالى : (وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ).

لأن كثرة انهماكهم في الغي والضلالة أوجبت أنهم يرون باطلهم حقا، فنفى اللّه تبارك وتعالى نسبة الشعور عنهم بكلمة (لا) الظاهرة في نفي نسبة المدخول في مثل المقام والدال على الاستمرار فالآية الشريفة في مقام توبيخ المنافقين والتشنيع عليهم، حيث وصفهم بعدم الشعور والإدراك.

ولعل نفي الشعور عنهم مرتين تارة : بقوله تعالى (وَمَا يَشْعُرُونَ) وأخرى: بقوله تعالى : (لَا يَشْعُرُونَ) للإشارة إلى نفي أصل الشعور عنهم أولاً، ونفي أنهم لا يشعرون بذلك فيكون من إثبات الجهل لعدم الشعور

قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ).

ذكر تعالی صفة أخرى من صفات المنافقين وه بالسفاهة، وهذه

ص: 32

الصفة تلازمهم، ولا بد وأن يكونوا كذلك لأن من ليس أهلاً للحق ولا يقبله من أهله كان ذلك من الجهل المركب عنده، ویری سوء عمله حسناً كما يرى من سواه فاسداً مالكاً. وقد أعيت هذه الفرقة جميع أنبياء اللّه عز وجل وأولياء في كل عصر، لولا أن تداركهم العنايات الخاصة الإلهية جل شأنه، ويشهد لما ذكرناه قوله تعالى : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)(1)، وقال تعالى: (مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ)(2).

وإنما أتی سبحانه وتعالى القول بصيغة المجهول تنبيهاً إلى عدم اختصاص القائل بشخص مخصوص، بل يشمل كل من أظهر الحق كما تقدم في الآية السابقة.

قال تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ) .

الناس والإنسان والبشر ألفاظ مترادفة معنى لهذا الحيوان الناطق المستوي القامة، الذي يتفاوت أفراده بین أوج الكمال وأدنى مرتبة الحضيض، فالمراد بهم في المقام من دخل في الإسلام، وتقدم معنی الإيمان .

قال تعالى : (أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ).

السفه: هو الخفة وقلة التمييز بين الخير والشر والنفع والضرر، سواء كان في الأمور الدنيوية أو الأخروية فمن لا يعرف نفعه من ضره وخيره من شره بالنسبة إلى الجهات الأخروية يعدُّ سفيهاً بالنسبة إليها، ولو كان رشيداً وملتفتاً إلى الأمور الدنيوية التفاتاً دقيقاً كان أن كل من كان

ص: 33


1- الشعراء، الآية 111.
2- هود، الآية 27.

متوجهاً وملتفتاً إلى أموره الأُخروية وغير دقيق في أموره الدنيوية يعد عند الناس سفيهاً. وهذا نزاع قديم بين الفريقين، فأهل الدنيا يعدُّون أهل الآخرة سفهاء، وأهل الآخرة يعدون أهل الدنيا من السفهاء.

ولا نزاع في الحقيقة، لأن المراد من السفيه السفه من جهة لا من كل جهة، فمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها لا يعد سفيهاً بالنسبة إلى الآخرة، وإن عدَّه بعض أهل الدنيا سفيهاً بالنسبة إلى بعض جهات الدنيا، ومن أراد الدنيا وسعى لها سعيها معرضاً عن الآخرة يعد سفيهاً بالنسبة لي الآخرة - كما في المقام - لأنه ترك الحياة الدائمة الباقية لأجل الحياة الزائلة، ويأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالی .

قال تعالى : (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ).

ولا ريب في مطابقة ذلك للواقع، لأن كل من ترك الحياة الدائمة وأخذ بغيرها سفيه بلا شك. وإنما عبر بقوله تعالى هنا (لَا يَعْلَمُونَ) وفي الآيات السابقة عبر تعالی ب(لَا يَشْعُرُونَ) تنبيهاً على أنهم متوغلون في الجهالة وأنها من سنخ الجهل المركب، وتأكيداً لنفي الإدارك عنهم بجميع أنحائه من نفي الشعور، ونفي العلم، ونفي الفقه والعقل كما في قوله تعالى : (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ)(1)، وقوله تعالی : (فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ)(2).

قال تعالى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ).

هذه الآية المباركة تبين صفة أخرى للمنافقين وهي المداهنة بإظهار

ص: 34


1- الحشر، الآية 14.
2- المنافقون، الآية 3.

شيء وإضمار خلافه، ولا تكون هذه إلَّا فيمن بلغ في فساد الأخلاق حداً بعيداً، فيظهر بوجهين، ويتكلم بلسانين، يلقی كلّا بحسب ما تقتضيه المصلحة، وهم يرون ذلك من مصالحهم الفردية والاجتماعية، وهذه الفئة من المنافقين لم تكن تختص بعصر التنزيل بل توجد في كل عصر وزمان ، ولا ينافي ذلك الحكاية عنها بصيغة الماضي، وتقدم الكلام في ذلك .

وقد بيَّن تعالى أن المنافقين بداهنون في دينهم، فإذا رأوا المؤمنین قالوا: آمنا بما أنتم به مؤمنون، كذباً وزوراً. وإذا اجتمعوا بشياطينهم قالوا: إنا معكم في العقيدة والعمل، وإنما نحن نستهزيء بالمسلمين ودينهم. وقد فضحهم اللّه تعالى وأعد لهم شديد العقاب .

والمراد بالشياطين هم المتمرِّدون، من الشطن وهو البعد والتمرُّد، فكلما بَعُد الإنسان عن الخير والصَّلاح وقَرُب الباطل والفساد يقرب من الشيطان. والمقصود بهم رؤوسهم، ومَن يدبرهم في مذام الأخلاق وشعب النفاق سواء أكانوا من الإنس أم الجن، كما في قوله تعالى : (جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)(1).

ويستفاد من الآية الشريفة أن كونهم مع أهل الإيمان إنما هو بمجرد المرور والملاقاة فقط، وأما معیَّتهم مع الشياطين فكانت بعنوان التفهيم والاستفادة من نواياهم الفاسدة.

ثم إن الخلوة مع الشياطين تارة : تكون على نحو الاستفادة وأخذ الآراء الفاسدة والعقائد السيئة. وأخرى: تكون لارتكاب الفحشاء والمنكرات. وثالثة : تكون على نحو التفكر في ما لا ينفع للدين والدنيا،

ص: 35


1- الأنعام، الآية 112.

فإنَّ الأوهام والخيالات الفاسدة والأماني الباطلة من أقوى سبل الشيطاين المستولية على الإنسان، الموجبة لحرمان عقله عن قرب الرحمن. وعن علي (عليه السلام) : «الأماني بضائع النُوكي» أي: الحمقى. وأما الخلوة معهم لأجل هدايتهم إلى الحق فهي ممدوحة بل قد تجب .

قال تعالى : (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) .

الاستهزاء هو الاستخفاف والسخرية. والمد: هو الزيادة . والطغيان : التجاوز عن الحد. والعمة : التحيُّر .

والمعنى : إن اللّه سبحانه وتعالى يجازيهم بالعقاب، ويعاملهم معاملة المستهزيء بهم، ويدعهم ويمهلهم في فعلهم، وتسمية ذلك بالاستهزاء من باب التجانس اللفظي فقط، كما في قوله تعالى : (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)(1)، قوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)(2) ، فإن جزاء الظلم ليس بظلم.

واستهزاء اللّه تعالی بهم لا يختص بعالم دون عالم ولا بأمر دون آخر فمن ذلك سلب توفيقاته وتأییداته ، أو إجراؤه تعالى أحكام الإسلام عليهم في الدنيا وليس لهم حظ منها في الآخرة، وكونهم في الدرك الأسفل من النار . وهذا من أشد أنحاء الاستهزاء بهم، ويزيدهم في تحيُّرهم وعدم اهتدائهم للصواب والحق جزاءٌ بما كانوا يعملون، وعقوبة لهم على استهزائهم.

وهذه الآية مثل سائر الآيات المباركة التي سبقت مسافها كقوله تعالى: (فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(3)، وقوله

ص: 36


1- الشورى، الآية 40.
2- البقرة، الآية 194.
3- يونس، الآية 11.

تعالى : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا)(1)، وغيرها من الآيات الشريفة الموافقة لقانون الطبيعة بالنسبة إلى النفوس الشريرة . وتقدم في خداعة اللّه تعالى لهم بعض الكلام فراجع.

وهذه الآية في مقام التسلية للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسائر أنبيائه قال تعالى : (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)(2) والمؤمنين أيضاً، وحيث أن الاستهزاء بأنبياء اللّه يرجع إلى الاستهزاء باللّه تعالی فنسب جزاء المستهزئين بهم إلى نفسه فقال تعالى : (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ، وقال تعالى : (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)(3)، وقال تعالى : (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)(4)، فإن إحاطة نفاقهم بهم من لوازم فعلهم. والكل يرجع إليه سبحانه وتعالى بنحو الاقتضاء - كما مرَّ - فيصح أن يقال : (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) جزاء لأعمالهم أو (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ).

قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ).

يطلق الاشتراء على الاستبدال مع رجاء النفع، أي : أن المنافقين استبدلوا الهداية بالضلالة والعمى لغرض من الأغراض الفاسدة الدنيوية ، فتركوا استعداد فطرتهم، فلم تربح تجارتهم وكانوا من الخاسرين.

والخسران في هذه المعاملة من الواضحات لكل عاقل بعد التأمل ولو قليلا وقد بين تعالى ذلك في آية أخرى بما هو أظهر فقال سبحانه :

ص: 37


1- المائدة، الآية 64.
2- یس، الآية 30.
3- الشعراء، الآية 6.
4- الزمر، الآية 48.

(أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)(1)، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(2).

وفي جملة من الآيات المباركة التعبير بالثمن القليل قال تعالى: (وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)(3)، وقال تعالى : (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)(4).

ويمكن أن يفرق بين التعبيرين بأن استبدال الهداية والإيمان بالضلال والكفر تارة : يكون لأجل الكفر والجحود، والشقاوة المنبعثة عن اقتضاء الذات بمجرد الاقتضاء لا العلية، وهذا هو استبدال الهداية بالضلالة والإيمان بالكفر، وقد أشار إلى ذلك سبحانه وتعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(5).

وأخرى : يكون الاستبدال لأجل الأغراض الفاسدة الخيالية الدنيوية وهذا هو الاشتراء بالثمن القليل، فإن كل غرض إذا صدر من الإنسان مع قطع النظر عن إضافته إليه عز وجل فهو من المعاملة الخاسرة، وإذا صدر منه من جهة إضافته إليه تعالى مع تأييد ذلك بالشرع فهو من المعاملة الرابحة. والمائز بين الغرضين هو الشرع، أو العقل المقرر بالشرع، لما سيأتي في محله من أن نسبة الشرع إلى العقل نسبة الصورة إلى المادة ، فكما لا أثر للمادة بدون الصورة فكذا لا أثر للعقل بدون الشرع، فالعامل

ص: 38


1- البقرة، الآية 170.
2- آل عمران، الآية 177.
3- النحل، الآية 95.
4- آل عمران، الآية 187.
5- فصلت، الآية 17.

بالعقل التارك للشرع يضل في هديه والعامل بالشرع التارك للعقل يبطل سعيه ومسعاه، ويأتي تفصيل هذا الإجمال إن شاء اللّه تعالی.

ثم إنه يصح أن يكون قوله تعالى : (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) من باب ذكر اللازم وإرادة نفي أصل الملزوم، فيكون المعنى أنه لا تجارة لهم أصلا في الواقع وإن كانت بحسب الظاهر، لأن التجارة ما كان فيها اقتضاء الاسترباح في الجملة لا ما بنيت على الخسران والضلالة .

وفي الآية المباركة نحو استعارة ومجاز لإسناد الربح إلى التجارة، ومنه يعلم وجه قوله تعالى: (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) فتصح نسبته إلى تجارتهم الخاسرة، أو إلى جميع شؤونهم التي منها تجارتهم.

بحث روائي

عن الصادق (عليه السلام) سئل فيما النجاة غداً؟ فقال: «إنما النجاة في أن لا تخادعوا اللّه فيخدعكم، فإنه من يخادع اللّه يخدعه ويخلع منه الإيمان ونفسه يخدع لو يشعر» ، فقيل له : كيف يخادع اللّه؟ فقال (عليه السلام) : «يعمل بما أمر اللّه عز وجل به ثم يريد به غيره، فاتقوا اللّه واجتنبوا الرياء فإنه شرك باللّه عز وجل إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء : یا كافر، یا فاجر، یا غادر ، یا خاسر، حبط عملك، وبطل أجرك، ولا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له».

أقول: وقريب من هذه الرواية روايات أخرى كثيرة، الظاهرة في حصر النجاة في يوم القيامة في الخلوص والإخلاص، وترك المخادعة، وهو كذلك لأن المخادعة توجب سلب الأجرة على العمل لفرض أن المخادع يأتي بعمله لغيرة تبارك وتعالى فلا أجر له منه .

وعن الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى : (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) فقال (عليه السلام) : «إن اللّه لا يستهزيء، ولكن يجازيهم جزاء الاستهزاء» .

ص: 39

أسباب النفاق

للنفاق سببان، الأول : السبب الفاعلي، الثاني : السبب الغائي. أما سببه الفاعلي فالعمدة فيه ترجع على عدم العقيدة بالمبدأ والمعاد أصلاً، أو قلتها وضعفها، فلو اعتقد الإنسان بمبدأ قيوم مراقب له في جميع جهاته وأفعاله لا يحصل منه النفاق الذي هو أُم مساوىء الأخلاق وكلما اشتد الاعتقاد بالمبدأ وإحاطته تعالى يضعف النفاق. والسبب القريب فيه يرجع إلى حب النفس والجاه ، وقد بيَّنهما النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «حبُّ الدنيا رأس كل خطيئة».

وأما سبب الغائي فلا ريب في أنه ليس له غاية عقلية، وإنما تكون له غابات جزئية وهمية خيالية، ربما يستنكر نفس المنافق تلك الغاية لو فرض كمال عقله وإيمانه .

وأما شُعَبُه ومراتبه فهي كثيرة منبثة على الجوانب والجوارح، فالمنافق يمكن أن ينافق بقلبه كالرياء - كما تقدم في البحث الروائي - أو بكل واحدة من جوارحه أو بجميعها، والوجوه المتصوّرة في هذه الصفة الشريرة على أقسام :

الأول : كونها من سنخ الطبائع غير القابلة للتغير والتبدل كسائر الطبائع المودعة في الأشياء كلها من جواهرها وأعراضها التي يصح أن يعبر عنها بالصفة غير القابلة للتخلف والتغيير .

ص: 40

الثاني : كونها من مجرد الاقتضاء الذاتي القابلة للتغير والتبدل والاشتداد والتضعيف .

الثالث : كونها من مجرد الاكتسابيات المحضة بلا علية ولا اقتضاء أبداً.

الرابع : كونها في مبدأ الأمر من مجرد الاقتضاء المحض وصيرورتها بالممارسة من سنخ الطبيعة واللوازم غير المنفكة.

وقال بكل من ذلك قائل من الفلاسفة والمتكلمين، ويمكن أن يكون جميع ذلك صحيحاً إن أراد القائل بالأول مرتبة خاصة من الاقتضاء لا العلية التامة المنحصرة كسائر الطبایع غير الإرادية الاختيارية فإنه لو قيل بها لزم محاذير كثيرة يشكل الجواب(1).

ص: 41


1- مواهب الرحمن، ج1، ص100 - 113.

الهداية في القرآن

قال تعالى: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا).

الضمير في قالوا يرجع إلى أهل الكتاب، و(أو) للتنويع، والجملة البيان عقيدتهم.

أي : قالت اليهود إن دينهم على الحق، وأن الهداية محصورة في اليهودية، وكذلك ادّعت النصارى، بل إن ذلك معتقد كل ذي دين أن دينهم خير الأديان، وأن كتابهم أبدي لا يقبل التغيير والتبديل، وطرق الهدايا منحصرة في دينه، ومقتضى ذلك أن يدعو كل واحد من الفريقين الناس إلى دينه .

وهذا النوع من المنهج من الفطريات لكل من يعتقد بشيء ويری صحته، وهو من الجهل المركب، وداء ابتلي به جميع الأمم حتی بعض فرق المسلمين، الذي يعتقد صحة مذهبه أو عقيدته وبطلان غيرهما، وقد أبطل سبحانه مدّعاهم بدليل إلزامي لهم، فقال مخاطباً لنبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إتماماً للحجة والبيان، وتلقيناً للبرهان، وتثبيتاً لشريعته ونبوته، بل إظهاراً للوحدة بين أصل الوحي وقول الموحى إليه في الحجية، وتوطئة لأمر المسلمين بهذا المقال.

قال تعالى : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) .

مادة (حنف) تأتي بمعنى الميل، أي: الميل من الضلالة إلى

ص: 42

الهداية ، ومن الباطل إلى الحق، فصارت تطلق على الموحد التابع لدين الحق، وهي بخلاف (جنف) فإنه الميل من الحق إلى الباطل.

وقد استعملت هذه المادة بالنسبة إلى ملة إبراهيم في القرآن الكريم كثيراً، قال تعالى : (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)(1)، وقال تعالى : (دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)(2)، وقال تعالى: («إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(3).

وتطلق على أصل الملة والدين أيضاً، قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا)(4)، وفي الحديث: «أحب الأديان إلى اللّه تعالى، الحنيفية السمحة» .

والوجه في إطلاق الحنيفية على إبراهيم وملته دون غيره من الأنبياء السابقين، أن إبراهيم كان في قوم مشركین، عبدة الأوثان، وقد جاهد (عليه السلام) في دعوتهم إلى التوحيد ونبذ الأوثان وعبادتها، وابتلی من قومه بما ابتلى حتى اختاره اللّه تعالى لأقصى درجات الخلة والإمامة ، ومنحه الملة التي كانت بمنزلة المادة لجميع الأديان الإلهية الكبرى - اليهودية والنصرانية والإسلام - مع أنه (عليه السلام) يعتبر مؤسسة حركة التوحيد في العالم، وبه ابتدأت الشرائع الإلهية .

وأما شرائع من قبله من الأنبياء، فلم تكن لها تلك الأهمية التي جعلها اللّه ملة إبراهيم، ولذلك كانت ملته الملة الحنيفية الجامعة للمعارف الإلهية، والكاملة في التوحيد ونفي الشرك، والارتقاء في معارج الكمال،

ص: 43


1- آل عمران، الآية 95.
2- الأنعام، الآية 161.
3- النحل، الآية 120.
4- الروم، الآية 30.

وقد أنزلها تبارك وتعالى حسب المصالح ومقتضيات الظروف حتى انتهى الأمر إلى الإسلام، الدين الجامع لجميع الكمالات والمشتمل على أقصى المعارف الإلهية.

ومن ذلك يعرف أن اختلاف المفسرين في معنى الحنيف وبیان الأخذ لا وجه له، بل هو اختلاف مصداقي. والجامع هو الصحة والتمامية والسهولة وعدم الضيق والحرج.

وإنما ذكر سبحانه إبراهيم (عليه السلام) ، وأمرهم باتباع ملته، لأنه لا ينازع أحد من أهل الكتاب في أنه كان مهتدياً، بل يعتبر إمام المهتدين، فإذا كان ادعاء كل واحد منهم صحيحاً، لكان إبراهيم (عليه السلام) غير مهتد، وهم لا يقبلونه.

ومن ذلك يستفاد أن الهداية منحصرة في اتباع ملة إبراهيم (عليه السلام) ، وأن موسى وعيسی (عليهما السلام) أيضاً كانا متبعين لملته، لأنها الدين الحنيف القائم على الصراط المستقيم، والمبني على التوحيد والإخلاص ونفي الشرك، والحق أحق أن يتبع.

قال تعالى: (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

أي : لم يكن إبراهيم من المشركين باللّه تعالى، وفيه إشارة إلى اختلاط اليهودية والنصرانية المخترعتين لنوع من الشرك والتناقض، على ما يأتي تفصيله.

قال تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ).

الأسباط : جمع سبط، وهو بمعنى الانبساط في سهولة، وسمي ولد الولد سبطاً لانبساطه وتفرعه من الجد، ومنه سمي الحسن والحسين (عليهما السلام) سبطي الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ص: 44

والأسباط في بني يعقوب كالقبائل في بني إسماعيل، وكانوا اثني عشر سبطأ، كل سبط ينتهي إلى ولد من ولد يعقوب، كل واحد منهم أمة وجماعة من الناس، قال تعالى: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا)(1)، ولذلك لم يستعمل في القرآن إلا جمعاً. وسموا بذلك أيضاً في التوراة وغيرها.

والنزول مساوق للإيتاء في الجملة، لأنه يشمل الجواهر والأعراض والتشريعات، قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)(2)، وقال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى)(3)، وقال تعالى:

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)(4)، وقال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)(5)، إلى غير ذلك من موارد استعمالات هذه المادة في القرآن الكريم، التي هي كثيرة جدة بهيئات مختلفة.

فأصل المادتين - الإيناء والإنزال - متحدتان في جامع قريب هو الإيصال والوصول، إلا أنه لوحظ في النزول الانحطاط من العلو في الجملة، بخلاف الإيتاء، لكنه إذا أُضيف الممكن إلى الواجب بالذات ، والمخلوق إلى الخالق الغني بالذات، ينطبق عليه الانحطاط من العلو - لوحظ ذلك أو لم يلحظ - فكل إيتاء منه عز وجل إنزال دون العكس .

ولعلّ الوجه في التعبير بالنسبة إلى إبراهيم (عليه السلام) ومَن تبعه بالإنزال

ص: 45


1- الأعراف، الآية 160.
2- الحديد، الآية 25.
3- الأعراف، الآية 26.
4- الحجر، الآية 21.
5- المائدة، الآية 44.

والإعلان بأنه مؤسس الحركة الدينية والملة الحنفية، فلا بد من إفاضة ذلك من عالم الغيب .

ثم إنه قد يستدل على أن الأسباط كانوا أنبياء بالآية المباركة، وبقوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى)(1).

وفيه : أن الآية المباركة أعم من حدوث الوحي وإبقائه، ومناط النبوة هو الأول دون الثاني، فيكون مَن حفظ الوحي غير مَن أنزل الوحي عليه ابتداء، كما ستعرف قريباً .

وفي بعض الأحاديث : «إن اللّه تعالى جعل النبوة في ولد بنیامین ونزعها من ولد يوسف».

وعن أبي جعفر (عليه السلام) نفي كون الأسباط أنبياء، ولكنهم كانوا أسباطاً أولاد الأنبياء، ولم يكونوا فارقوا الدنيا إلّا سعداء .

ومن ذلك يظهر الوجه في قول نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «علماء أُمتي كأنبياء بني إسرائيل»، أي في جهة حفظ الدين والوحي المبين، فإن العلماء أمناء اللّه تعالى في أرضه ما لم يميلوا إلى الدنيا .

وهذه الآية المباركة دعوة عقلية إلى نبذ الاختلاف والعصبية والأهواء، وهي تدعو الناس إلى الوحدة والاتحاد بین جميع أفراد البشر في المبدأ والتشريع والمعاد، والترغيب إلى الإيمان بأصل الدين، الذي لا خلاف فيه بين جميع أنبياء اللّه تعالى، فكما أن البشر متحدون في أصل التكوين الإلهي، كذلك لا بد وأن يكون بينهم اتحاد في نظام التشريع الربوبي. والاختلاف إنما

ص: 46


1- النساء، الآية 163.

ينشأ من المصالح الزمنية، وما يقتضيه السير التكاملي في الإنسان، كما أنه يختلف حفاظ الوحي باختلاف العصور والقرون.

والمراد بقوله تعالى : وما أنزل إلينا القرآن وجميع المعارف والتشريعات الإلهية التي أتى بها نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وباعتبار النزول عليه وعلى سائر الأنبياء صدق النزول علينا أيضا.

كما أن المراد بقوله تعالى : (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ) الصحف التي أُنزلت عليه وملته الحنفية المقدسة التي أمر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) باتباعها .

وإن المراد بما أُنزل على إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ذلك أيضا، لأنهم الحفظة للملة الحنيفية علماً وعملاً وبياناً، وإلّا لم يعهد نزول كتاب عليهم، كما أن علماء أُمة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كذلك، كما عرفت.

قال تعالى : (وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) .

مادة (ا ت ي) تأتي بمعنى المجيء بسهولة، وتستعمل في الأعيان والأعراض، والخير والشر.

والكل مذكور في القرآن الكريم، قال تعالى : (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(1)، وقال تعالى: (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)(2)، وقال تعالى: (وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)(3)، إلى غير ذلك من الآيات المباركة .

وما أوتي موسى وعيسى عبارة عن التوراة والإنجيل، وما حباهما اللّه تعالى من كرامة الوحي وسائر المعجزات الباهرات.

ص: 47


1- الشعراء، الآية 89.
2- التوبة، الآية 70.
3- الأنبياء، الآية 47.

وإنما خصهما بالذكر لكثرة الاهتمام بهما، ولأن المقام مقام المحاجة مع اليهود والنصارى والاحتجاج عليهما، وإلا فهما كسائر أنبياء اللّه تعالی يدعوان إلى التوحيد والإسلام، ولذا أكد سبحانه وتعالى بعد ذلك ب:

قال تعالى : (وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) .

فلم یكن لك خاصاً بموسى وعيسی، فیكون تعميماً بعد التخصيص، وإيضاحاً للسبيل، وإتماماً للحجة، والإشارة إلى أن أنبياء اللّه تعالی متحدون في الدعوة إلى الحق، وهو أيضاً أعم من المعارف التشريعية والمعجزات التي خص اللّه تعالى بها كل نبي .

قال تعالى : (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) .

أي : قولوا لا نفرق بين أحد من الرسل والأنبياء، ونحن اللّه تعالی مسلمون.

قال تعالى : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) .

(الباء) في (بمثل) بمعنى التشبيه فقط، ولفظة «مثل» تفيد معنى الآلية التي ينظر بها، جيء به إتماماً للحجة، وقطعاً للخصومة، وهذا شایع و متعارف عند الناس، فليست الكلمة زائدة ، بل بمعنى التوسعة في المثلية في جميع القرون اللاحقة.

قال تعالى : (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ).

التولي: هو الإعراض، ومادة (ش ق ق) تأتي بمعنى الثقب والخرم، ويلزمهما الفصل والتجزئة، وهي تستعمل في القرآن كثيراً، قال تعالى : (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا)(1)، وقال تعالى: (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)(2)، وقال تعالى : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ)(3) .

ص: 48


1- عبس، الآية 26.
2- الحج، الآية 53.
3- ص، الآية 2.

وللشقاق مراتب كثيرة بالنسبة إلى الأصول والفروع والأخلاق، والشقاق بالنسبة إلى اللّه ورسله بمعنى الكفر والضلال ؛ فالكافر في شق والمؤمن في شق، والمصلي في شق وتارك الصلاة في شق آخر، والعادل في شق والفاسق في شق آخر، وهكذا.

فكل شيء وغيره يمكن أن يكونا من شقين ولو كانا من صنف واحد في الجملة، وفي أحاديث آخر الزمان : «لا بد من فتنة يسقط فيها الحاذق الذي يشق الشعرة شعرتين» أي بحذاقته وفكره .

قال تعالى : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) .

كفی : يأتي بمعنی سد الخلة وبلوغ المراد في الأمر، قال تعالى : (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ)(1)، وقال تعالى : (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)(2)، وغير ذلك من الاستعمالات القرآنية التي يأتي التعرض لها.

فهو السميع لأقوالهم، العليم بأعمالهم وما في ضمائرهم وما يقدره على عباده وما ينفذه فيهم، فهو الكافي من كل شيء ولا يكفي منه شيء.

والآية الشريفة من البرهان العقلي الذي قرره القرآن الكريم، بأن يقال : الإيمان بالأنبياء والرسل سبب للهداية، فكل من كان على إيمانهم فهو مهتد، فاليهود والنصارى إن كانوا على إيمانهم فهم مهتدون، ثم نقول إنهم ليسوا على إيمان الأنبياء والرسل، وكل من كان كذلك فهو في شقاق مع اللّه ورسله، فاليهود والنصارى في شقاق مع اللّه ورسله، وكذا كل من يكون مثلهما في المخالفة الاعتقادية أو العملية مع اللّه ورسله، هذا بالنسبة إلى أصل ثبوت الموضوع.

ص: 49


1- الأحزاب، الآية 25.
2- الحجر، الآية 95.

وأما الأثر المترتب عليه، فهو أن اللّه تعالى يكفي أنبياءه ورسله والمؤمنين بهم من كيد أهل الشقاق ونفاقهم، كما يتقضيه نظام التكوين والتشريع.

وفي الآية المباركة تسلية للمؤمنين بالنصر، ووعد لهم بالكفاية ، ولن يخلف اللّه وعده، وقد ظهر صدقه مراراً، وسيظل كذلك في ما بعد إلى آخر الزمان .

كما أن هذه الآية المباركة من أدلة نبوّة نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ورسالته .

قال تعالى : (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) .

الصبغة : اسم لليكفية الحاصلة من صبغ الشيء، فكما أن للأجسام ألوانا تظهر للبصر، كذلك للنفوس والأرواح ما هو بمنزلة اللون، يظهر لأهل البصائر والبصيرة من بياض وسواد، وصفاء وكدر، ونور وظلمة ، وطهارة وخباثة .

وأخرى: تضاف إلى غيره تعالى، وهي الظلمة والكدورة التي تحجب عن مبدأ النور .

فيكون المراد بالصبغة هو العقل الذي يُعبد به الرحمن ويكتسب به الجنان، الذي تجتمع فهي الشرائع الإلهية - على ما يأتي من التفصيل - المعبر عنها بالفطرة السليمة، وما سوى ذلك من صبغة اللّه تعالی.

فصبغة اللّه تعالى هي الطهارة عن كل دنس روحي ومعنوي، ولا يمكن أن تجتمع مع الشرك والكفر والنفاق والرذائل النفسانية، فلا تتأثر بالتقاليد والأهواء والعصبية، وإنما هي من صنع اللّه تعالى التي تبقى وتدوم، وهي المؤثرة في الإنسان في جميع العوالم التي ترد عليه.

وهي التي تميز من كان على الصبغة الإلهية - التي يظهر أثرها

ص: 50

الكريم من التوحيد والأخلاق الفاضلة والأعمال الشريفة - من غيرها الذي يكون على الصبغة البشرية ، التي هي في اضطراب وتعدد وتفرق .

فما يفعله النصارى من تعميد أولادهم لا ينفع لدنياهم - مع ما هم عليه من الكفر - إلا إذا كان ما قرره الإنجيل مصدقاً بالقرآن، فحينئذٍ ينفعهم التعميد، لأنه من دين اللّه تعالی.

وبالجملة : صبغة اللّه ترجع إلى ارتباط العبد مع اللّه تعالی بنحو ما يشاء اللّه تعالی ویریده، لا بما يشاؤه العبد ويريده، كما يدل عليه صدر الآية المباركة وذيلها، فإن قوله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ) ، وقوله تعالی : (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) ، بيان للصبغة والعلة لتحققها، والإيمان والعبودية إنما يتحققان بما يشاء اللّه المعبود بالحق، لا بما يشاؤه العابد.

ومن ذلك يظهر أن تفسير الصبغة بالإسلام، أو ملة إبراهيم، أو دین اللّه تعالى، كل ذلك صحيح وينبیء عن شيء واحد، وهو التوجه إلى اللّه تعالى والانقطاع عن غيره؛ كما سيأتي في البحث الروائي .

ثم إن هذه الصبغة تنسب إلى اللّه تعالى نسبة الفعل إلى الفاعل، كما تنسب إلى العبد نسبة الشيء إلى قابله، وكل منهما على نحو الاقتضاء، لا العلية التامة .

ومن ذلك يظهر أحسنية هذه الصبغة من حيث الذات والمورد والفاعل، فأصل اللون هو التوحيد والإيمان ومكارم الأخلاق، ومورده المؤمن، وفاعله هو اللّه عز وجل، وغايته السعادة والخلود في الجنان .

ومن آثارها العبودية التي كنهها الربوبية، فلا يتصور في العالم شيء أفضل وأحسن من هذه الصبغة، وفيها قال تعالى : (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ

ص: 51

النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)(1).

قال تعالى : (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) .

أي: لا نشرك في العبادة والألوهية غيره تعالى، وهو في موضع الحال، وبيان العلة لأحسنية الصبغة.

كما أن نصب «صبغة اللّه» بالفعل المقدر، أي : اتبعوا، أو بدل من ملة إبراهيم، وإن كان الأخير هو الأوفق، كما عرفت .

ثم إن كمالات النفس الإنسانية على أقسام ثلاثة :

الأول: ما تكون للدنيا ومن الدنيا وفيها أيضاً ولا تتجاوز عنها، وهذا هو الكثير الذي ابتلي عامة الناس به، ولا ربط له بصبغة اللّه تعالی أبداً .

نعم، هو مورد قضاء اللّه وقدره .

الثاني : ما تكون للدنيا والآخرة معا، بحيث يجعل الدنيا وسيلةً وذريعةً للوصول إلى الكمال الأُخروي.

الثالث: ما تكون للآخرة فقط، بحيث لا نظر إلى الدنيا إلا على نحو الآلية والمرآتية، كما قال علي (عليه السلام) : «صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى».

والقسمان الأخيران من صبغة اللّه تعالى؛ ولكل منهما درجات متفاوتة ومراتب كثيرة .

ص: 52


1- الروم، الآية 30.

قال تعالى : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ).

. المحاجة : المجادلة، ومادة (ح ج ج): تأتي بمعنى القصد والطلب، ومنه: «حج البيت»، وحيث إن كل واحد من المتخاصمين والمتنازعين يطلب الغلبة على الآخر ويقصد جذبه، أُطلقت عليه المحاجة .

وتستعمل في كل من الحق والباطل؛ قال تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ)(1)، وقال تعالى: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ)(2). والعلوم الاستدلالية مشحونة من الاحتجاجات المتضادة المتناقضة مع العلم بكذب أحد الطرفين، والعلماء وضعوا علماً مستقلاً مفصلاً لبيان الحجة الصحيحة مادة وصورة، والتمييز بينها وبين أنحاء المغالطة .

والمعنى: أتجادلوننا في اللّه وتدعون أنكم أحباء اللّه وأبناؤه والموحدون له، وأن دینكم الحق، وأن النبوة فيكم، مع أن رحمته وسعت كل شيء وكل عبيده، ولا تختصُّ رحمته بقوم دون آخرين، وجميع تلك المقترحات باطلة، وأن اللّه يختار ما يشاء، و(مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(3)، وكيف يخصكم برحمته دون غيركم؟ (وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) ، والجميع عباده، ورحمته واسعة؛ وهو الرب والكل مربوبون له.

قال تعالى : (وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) .

ص: 53


1- الأنعام، الآية 83.
2- الأنعام، الآية 80.
3- القصص، الآية 68.

مادة خلص؛ تأتي بمعنى ذات الشيء وخاصته وزوال كل ما يشوبه وينافيه، وقد استعملت في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، قال تعالى: (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ)(1)، وقال تعالى: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ)(2)، وقال تعالى: (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(3)، وقال جل شأنه: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)(4)، إلى غير ذلك من الآيات المباركة .

وكل ما قيل في حقيقة الإخلاص يكون دون حده ورتبته، وقد قال علي (عليه السلام) : «بالإخلاص يكون الخلاص، وطوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء» .

وهو من الأمور الإضافية ، فيضاف إلى أصل التوحید تارة بدرجاته ، وفي مقابله الشرك بمراتبه.

وإلى العبادة أخرى، وفي مقابلها الرياء بمراتبه.

وإلى سائر الأعمال ثالثة، وفي مقابلها كثير من مفاسد الأخلاق .

والجامع بين الجميع الإخلاص في الدين.

والعلماء والعرفاء ذكروا للخلوص والإخلاص معانٍ متعددة ، فعن الفقهاء: أن معناه إتيان العمل اللّه تعالى، بأن يكون الداعي على إتيانه هو اللّه تعالى؛ وقد فصلنا القول فيه في الفقه .

وعن بعض العرفاء: أن الإخلاص؛ سر من أسرار اللّه تعالی، يستودعه قلب من يحب مَن عباده .

ص: 54


1- ص، الآية 46.
2- الزمر، الآية 2.
3- الحجر، الآية 40.
4- الزمر، الآية 3.

وعن آخر: أنه لا يحب أن يحمد على شيء من عمله .

وقد ينسب هذان القولان إلى الحديث أيضا.

والحق : أنه من الحقائق التي لها مراتب كثيرة جداً، فأولی مرتبته أن يكون الداعي على إتيان العمل هو اللّه تعالى، وأقصى مراتبه ما تنتهي إلى حبه تعالى، وفي هذه المرتبة أيضاً درجات غير محدودة حتى ينتهي إلى ما أثبتوه من الفناء في اللّه ، الذي هو عين البقاء باللّه تعالی.

وبالجملة : أصل الحقيقة وجدانية عملية، لا أن تكون قولية بيانية ؛ فكم من حقائق تقصر الألفاظ عن بيانها . وإن كثرت - والعبارات عن شرحها - وإن تعددت -.

والمعنى: أن التفاضل يأتي من ناحية الأعمال، فكل امرىء رهين عمله، إن خيراً فخير وإن شراً فشرّ، والدار على الإخلاص، وفيها تعريض لهم بعدم الإخلاص لهم.

والآية من الآيات التي تبين كيفية رد مَن يخاصم الإسلام، سواء أكان من أهل الكتاب أم من غيرهم.

ونظير الآية المباركة بوجه أبسط من المقام قوله تعالى : (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)(1)، وهذه الآية شارحة لجميع الآيات الواردة في هذا السياق.

والمستفاد منها أن منشأ النزاع والتخاصم مع دين الإسلام إما أن

ص: 55


1- الشورى، الآية 15.

يرجع إلى المبدأ، أو إلى المعاد، أو إلى أحقية دين الإسلام، أو إلى جهات أخرى دنيوية .

وجميع ذلك غير مقبول بالنسبة إلى الإسلام.

أما الأول : فإذا كان المعادي من لا يعترف بالمبدأ، فلا بد له من الرجوع إلى الأدلة العقلية والبراهين الساطعة التي يثبت بها المبدأ، وقد أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله : واللّه را ورثكمه .

وأما الثاني : فلأنَّ إثبات الجزاء للأعمال يستلزم الاعتراف بالمعاد، لأن العمل لا يعقل بدونه بعد الاعتقاد بالمبدأ، فهما متلازمان ثبوتاً وإثباتاً، ويدل عليه قوله تعالى : (وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) ، وهو من قبيل ذكر اللازم وإرادة الملزوم.

وأما الثالث : وهو أحقية الإسلام - ويندفع بالآيات البينات والمعجزات الباهرات - وإليه يشير قوله تعالى: (وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ).

وأما الرابع : وهو الأغراض الدنيوية كالتي يدعيها اليهود والنصارى، فإخلاص دين الإسلام اللّه عز وجل ينفي ذلك كله، إذ لا معنى للدين الخالص إلا ما كان له تعالى، فكل ما سواه باطل، خصوصاً ما يتعلق بمعبودیته وعبادته .

قال تعالى: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى).

بيّن تعالی حجة أخرى لإبطال دعواهم بأحسن بيان وأتم حجة، أي : أتقولون إن إبراهيم (عليه السلام) وأولاده وأحفاده كانوا هوداً أو نصاری، وإن اليهودية أو النصرانية هما المرضيتان عند اللّه ، ولا ينجو إحد إلا بهما، وإن ما عداهما كفر وضلال؟!

ص: 56

كيف، وقد كان إبراهيم (عليه السلام) وأبناءه وأحفاده على الملة الحنفية المرضية - التي بدأت بخليل الرحمن وختمت بسيد المرسلين - الداعية إلى أصول المعارف الإلهية في المبدأ والمعاد .

والأحكام الشرعية، والبداهة والبرهان تدلان على كذبهم، وأن اليهودية والنصرانية إنما حدثتا بعد إبراهيم (عليه السلام) وأولاده وأحفاده بقرون، وهذا ادعاء باطل، قال تعالى : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)(1).

إلا إذا ادعوا أنهم كانوا شهداء حين حضر هؤلاء الأنبياء الموت، فأوصوا لأعقابهم بالتهود والتنضر، وهذا كسابقه باطل، ولذا رد عليهم سبحانه .

وفي قوله تعالى : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ) توبیخ وتعيير لهم بإبطال جميع محتملات كلامهم، ثم إظهار ما هو الحق.

و«أم» متصلة ومعادلة لما قبلها، أي : إن كانت المحاجة في اللّه تبارك وتعالى فأنتم والمسلمون تعترفون بأنه تعالى رب الكل، وإن كانت في أن إبراهيم (عليه السلام) وأولاده وأحفاده كانوا هوداً أو نصاری، فهو خلاف الوجدان والبرهان، لأن التوراة والإنجيل نزلا بعد إبراهيم بقرون، وأن اللّه هو الجاعل النبوة لإبراهيم وأولاده، وأنه أنزل الكتب السماوية على رسله، فهو أعلم بذلك منكم.

قال تعالى : (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) .

أي : أنتم أعلم بالواقع - مع اذعائكم الباطل - أم اللّه الذي أخبر بأن

ص: 57


1- آل عمران، الآية 65.

إبراهيم كان حنيفاً، وأنه ارتضى لكم ملته؟! أو أن أولاده رضوا بعبادة اللّه إلهاً واحداً - كما عرفت - وأنه أنزل الكتب السماوية على رسله، فهو أعلم بذلك منكم. ولا ريب في أنهم يعترفون بالثاني، فيكون اذعاؤهم باطلاً.

قال تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ).

كتم: بمعنی ستر، وكتم الشهادة أي سترها، وهو وشهادة الزور من المعاصي الكبيرة .

والمراد من الشهادة في المقام شهادة التحمل - كما هو الظاهر - فيكون التوبيخ والتعيير حقيقياً، لأجل كتمان الواقع وإيقاع النفس في الكبيرة الموبقة والهلاك الأبدي .

ومثل هذا كثير في القرآن الكريم، قال تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)(1)، وقوله تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ)(2)، إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

والمراد بالمشهود عليه : إما رسالة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد أخبر اللّه تعالى اليهود بأنه يقيم لهم نبياً من إخوتهم ويجعل كلامه في فيه، كما أخبر المسيح برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، وقد كتموا هذه الشهادة تعصباً وإنكاراً للحق.

أو الشهادة بأن إبراهيم (عليه السلام) كان على دين الحق والإسلام والملة الحنفية ، ولم يكن يهودياً ولا نصرانياً .

وقد كتموا الشهادتين ظلماً.

ص: 58


1- الأنعام، الآية 21.
2- الزمر، الآية 32.

ومن المحتمل أن يكون المراد شهادة الأداء، أي من أظلم من اللّه لو كان قد كتم الشهادة على أن إبراهيم (عليه السلام) كان يهودياً أو نصرانياً، وقد بيّن خلافها، فيكون الشرط تقديرياً، ويصح مثل هذا التعبير في المحاورات حتى مع امتناع المتعلق، كما في جملة كثيرة من القضايا الشرطية وما في سياقها.

ویكون المراد من مثل هذا التعبير هو إيهام الطرف بأن كتمان الشهادة من الظلم القبيح، وفيه من المفسدة العظيمة ولا سيما إذا كانت الشهادة في المعارف الإلهية والأمور الدينية، فيكون أظلم، ولذا أوعد عليه تبارك وتعالى ب:

قال تعالى: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) .

تقدم معنى الغفلة في آية (75) من هذه السورة، وقد ذكرت هذه الكلمة في القرآن العظيم كثيراً، قال تعالى : (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(1)، وقال تعالى : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(2)، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة. وبعد فرض إحاطته تعالى بما سواه إحاطة ربوبية قیومية تستحيل العفلة بالنسبة إليه جل شأنه، لأنه من الجمع بين النقيضين، فالغفلة منه ممتنعة وتقع من عباده بالنسبة إليه تعالى، ولها مراتب كثيرة جداً.

هذا، ولكن ليس من القبيح عقلاً ولا شرعاً غفلته تعالى عن سيئات عباده ، وهي في الحقيقة ترجع إلى تغافله تبارك وتعالی عنها.

ص: 59


1- النمل، الآية 93.
2- آل عمران، الآية 99.

قال تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)).

تقدم معناها، وإنما كررت تأكيدة لسوء أخلاقهم، وبياناً لعدم اقتداء الخلف بالسلف الصالح، فكانت إحدى الآيتين بالنسبة إلى أصل الحدوث الطائفة، وهم الأنبياء والرسل، والأخرى كانت ناظرة إلى البقاء بالنسبة إلى طائفة أخرى، أي : أنهم يسألون عن أعمالهم مع هذا الدين الجديد ومعاملتهم مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

والآية المباركة تشير الى إنكار رذيلة الاستكبار عن قبول الحق والإصرار على الباطل، والافتخار بالدعاوى التي لا واقع لها، والتعلل زورة بمن مضى.

وفي تكرارها تأكيد أيضاً إلى ارتباط السعادة بالعمل الصالح، الذي أكد القرآن الكريم عليه ، فكل يجزى بعمله، ولكن ذلك لا ينافي ثبوت أصل الشفاعة . كما لا تدل عليها، فإن انتفاع الناس بعضهم ببعض في الدنيا والآخرة مما لا ريب فيه عقلاً و شرعاً، فالمقام كالآيات الشريفة الدالة على عدم تملك نفس عن نفس شيئاً؛ قال تعالى: (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)(1)، التي لا تنفي الشفاعة(2).

ص: 60


1- الانفطار، الآية 19.
2- 76 - 91 (ج2).

التزكية

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [سورة البقرة : 150 - 151].

أصل الزكاة : هو النمو الحاصل من بركة اللّه تعالى، سواء أكان في الأمور الدنيوية، أم الأُخروية، أم هما معاً.

وقد استعملت في القرآن الكريم بأنحاء شتی ..

فتارة : تضاف إلى اللّه عز وجل، قال تعالى : (بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ)(1).

وأخرى : إلى نبيّنا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، كما في المقام .

وثالثة : إلى ذات الفاعل، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)(2). وهذا هو شأن جميع الصفات ذات الإضافة .

والتزكية: هي الطهارة والتقديس عن الأدناس والأرجاس الظاهرية ،

ص: 61


1- النساء، الآية 49.
2- الشمس، الآيتان 9 و10.

أو الرذائل المعنوية، سواء كانت بالنسبة إلى النفس، كما في بعض النفوس السعيدة مما يفيض عليها اللّه تعالى على نحو الاقتضاء، كما قال تعالى : (غُلَامًا زَكِيًّا)(1)، أو بالنسبة إلى الأعمال والأفعال.

والرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو المثل الأعلى في التركية بجميع مراتبها، والقدوة الحسنة في الأخلاق الفاضلة والسجايا الكريمة، لا يدانيه أحد ولا يجاریه فرد، ولقد جاهد في تزكية أُمته بدينه وتعاليمه وتشريعاته، وبنفسه الشريفة، قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)(2). وتطهيرهم من رذائل الأخلاق وسوء الاعتقاد، فإن بالتزكية يتخلى الإنسان عن الرذائل والخبائث، ويتحلى بالفضائل، فهي التربية العملية التي لها الأثر العظيم في مطلق التربية والتعليم.

وترتب التركية على التلاوة من قبيل ترتب المقتضی (بالفتح) على المقتضي (بالكسر)، وقد يكون من قبيل ترتب المعلول على العلة التامة ، كما في بعض النفوس المستعدة .

ثم إنه تعالى قدم التزكية على التعليم في هذه الآية الشريفة، وأخرها عنه في دعاء إبراهيم (عليه السلام) ، قال تعالى: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ)(3).

ولعل الوجه في ذلك أن للتزكية مراتب كثيرة، منها الإرشاد المحض وإتمام الحجة ، ومنها التخلي عن الرذائل، ومنها التحلي بالفضائل، ومنها

ص: 62


1- مريم، الآية 19.
2- الأحزاب، الآية 21.
3- البقرة، الآية 129.

التجلي بمظاهر الأسماء والصفات الربوبية، ولكل واحدة منها درجات، فيحمل ما قدمت فيها التزكية على بعض المراتب؛ وما أخرت فيها على البعض الآخر.

قال تعالى : (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ) .

لأن بالتعليم يرتقي الإنسان من أدنى درجات البهيمية إلى أقصى درجات الإنسانية، فقد كان الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المعلم الهادي لأُمته، يبين لهم ما انطوت عليه شريعته، وما اشتمل عليه كتابه الكريم من الأسرار والمعارف الربوبية .

قال تعالى : (وَالْحِكْمَةَ) .

تقدَّم معنى الحكمة في الآية 32 من هذه السورة .

فإن قلنا بمقالة الفلاسفة من أن الحكمة ..

تارة : علمية، وهي: العلم بحقائق الموجودات بقدر الطاقة البشرية .

وأخرى : عملية وهي صيرورة الإنسان أكبر حجة اللّه تعالى في خلقه، فإن عظمة مقامها معلومة لكل أحد.

وإن قلنا بما يستفاد من الكتاب والسنة المقدسة - وهي متابعة الشريعة أصولاً وفروعاً، ومعرفة حجة اللّه على الخلق - فالامر أظهر وأبين، وسيأتي شرح الحكمة في قوله تعالى: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)(1).

قال تعالى : (وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ).

(1)

ص: 63


1- البقرة ، الأية 269.

بفهم أسرار الكتاب العظيم، وأخبار الأمم الماضين، والعلوم التي تهمكم وتزيد في علومكم، وتكون سبباً في تهذیب نفوسكم، مما لم تكونوا تعلمونه سابقاً .

وهذه الآية على اختصارها تحتوي على أصول التربية والتعليم بالترتيب الذي أراده القرآن العظيم، ابتداءً بالتلاوة والتذكر بآيات اللّه تعالى، ثم تزكية النفس من الرذائل وتحليتها بالفضائل، لتستعد لإفاضة العلوم عليها، ثم التعليم، ثم معرفة الأشياء بحقائقها، والعمل بما عرفه، كل ذلك من طريق الشرع المبين .

وعليه ترجع التلاوة والحكمة إلى الكتاب الذي هو القرآن العظيم، فإنهما وإن اختلفتا في المؤدی، ولكنهما متحدتان مصداقاً، لكن الكتاب يظهر بأطوار مختلفة.

قال تعالى: (وَاذْكُرُونِي).

الذكر .. تارة : يطلق ويراد به التوجه والالتفات الفعلي، وهو عبارة أخرى عن الحفظ، والفرق بينهما بالاعتبار، فإن الثاني يقال له باعتبار ذاته، والأول يقال له باعتبار التوجه الفعلي إلى الشيء، ولو لوحظ ذات الحضور من حيث هو فهما سواء من هذه الناحية .

وقد يطلق أخرى : ويراد به إظهار الشيء باللسان، أو القلب أو الجوارح، فمن الأول آيات كثيرة منها قال تعالى : (هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي)(1).

ومن الثاني قوله تعالى: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ)(2)، فإنه عام لذكر القلب واللسان.

ص: 64


1- الأنبياء، الآية 24.
2- البقرة، الآية 200.

ومن الأخير قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)(1) ، حيث إن الصلاة ذكر اللّه تعالى بالجوارح أيضاً.

بل يطلق الذكر على نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي هو الفرد الأكمل والمرآة الأتم لصفات الجلال والجمال، قال تعالى : (قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ)(2)، بناءً على لفظ «رسولاً» من لفظ «ذكراً»، كما أُطلقت «الكلمة» على عیسی بن مریم (عليهما السلام) ، قال تعالى : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ)(3).

وقد يكون بمعنى الشرف وعلو المنزلة، قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ)(4)، وقال تعالى : (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)(5).

والذكري كثرة الذكر وأبلغ منه، قال تعالى : (رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ)(6)، وقال تعالى : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)(7).

والمراد به في المقام هو الالتفات الفعلي إليه تعالی، قلباً وقولاً وعملاً، عكس قوله تعالى : (نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)(8).

والالتفات إليه تعالى يتحقق بتذكر نعمه تعالى، وإدمان الشكر عليها، والطاعة والعبادة له، وإتيان ما اختاره اللّه تعالى، مما فيه السعادة في الدارين، فإن الالتفات إليه عز وجل كذلك مبدأ العبودية المحضة

ص: 65


1- طه، الآية 14.
2- الطلاق، الآيتان 10 -11 .
3- النساء، الآية 171.
4- الزخرف، الآية 44.
5- الشرح، الآية 4.
6- ص، الآية 43.
7- الذاريات، الآية 55.
8- الحشر، الآية 19.

المنتهية إلى الكمال المطلق، لما ثبت في الفلسفة العملية من : أن آخر مقام الفناء في مرضاته تعالى، أول مقام البقاء به عز وجل، وأن أخريات درجات التحلي، مبشرات لأوليات مقامات التجلي.

وذلك لأن أنس النفس بالكامل بالذات والكمال المطلق، والخير المحض العام، والفيض الأقدس التام، يوجب ترقي النفس وتعاليها عن حضیض البهيمية حينئذ إلى أوج الكمالات الحقيقية، وكلما ازداد الأُنس ازداد الارتقاء، وأساس هذا الأُنس يدور مدار الالتفات الفعلي إليه عز وجل، كما يريده تعالى، وهو المعبّر عنه ب(الذكر) في الكتاب والسُنّة الشريفة، وبعبارات مختلفة أخرى، كالتوجه، والتقرب، والتولية وغيرها .

والمناط كله أمران :

الأول : الالتفات الفعلي إلى اللّه تبارك وتعالى، المعبَّر عنه في الفقه ب(القربة)، كما يعبر عنه علماء الأخلاق ب(الحضور، والتوجه)، ونحو ذلك .

الثاني: كون ما يذكر به اللّه عز وجل مأذوناً فيه من قبله تعالى، فقد ورد الإذن فيه في الشريعة المقدسة بشرائطه المعينة، التي لا بد من مراعاتها، كما فضلها الفقهاء، فكل ما يكون مرضياً لله تعالى، ويؤتى به لوجهه عز وجل، فهو ذكر اللّه تعالى، سواء أكان من العقائد أم الأخلاق الحسنة، أم العبادات والمعاملات أم غير ذلك، فإن ذكره تعالی - كرحمته - وسع كل شيء إذا لوحظ فيه التوجه إليه، وقد جعله تعالى بهذه التوسعة تسهيلا لوصول عباده إليه عز وجل، وما ورد في الفلسفة العملية من: «أن الطرق إلى اللّه تعالى بعدد أنفاس الخلائق»، فيه إشارة إلى ما ذكرناه ، فكما لا حد للمذكور، كذلك لا حد لمراتب الذكر :

ص: 66

فإن الذكر اللفظي، كالتسبيح، والتحميد، والتهليل، والشكر النعمائه . والذكر العملي هو العبادة، والطاعة، والأفعال المرضية له تعالى، كعيادة المرضى، وتشييع الموتى، والسعي في قضاء حوائج الإخوان .

والذكر القلبي هو التوجه والخلوص والتقرب إليه تعالی .

وكلما ازدادت عبودية العبد لربه ازداد مقام توجهه إليه؛ ولذا ورد عن نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لي مع اللّه حالات لا يسعني فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل». وفيه إشارة إلى بعض توجهاته الخاصة إلى مقامات ربه، أو قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إني أبِيتُ عند ربي، فيطعمني ويسقيني ربي».

ثم إن ترتيب قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي) على الآيات السابقة، ترتیب عقلي واجب من باب وجوب شكر المنعم، الذي يحكم به العقل المستقل.

والمتحصل من جميع ما ذكرناه أمور:

الأول: أن الذكر منبث على القلب واللسان والجوارح، ولا يختصُّ بخصوص الذكر اللفظي، بل كل ما كان مضافاً إليه عز وجل، وكان مأذوناً فيه من قبله تعالى، وتقابله المعصية فإنها لا تصدر إلا مع الغفلة عنه عز وجل.

الثاني : أن حقيقته هو التوجه الفعلي إليه عز وجل، أي العلم الفعلي بأصل العلم، لا مجرد العلم فقط، ولذلك مراتب كثيرة، منها ما ذكره بعضهم: «أن ينسى العبد ما سوى اللّه تعالى، ويكون مقصوده من جميع حركاته وسكناته وأفعاله وأقواله - بل وخطرات قلبه - هو اللّه تعالى».

الثالث : أن أمره بالذكر شامل لجميع المراتب، ولا يختصُّ بخصوص بعضها.

ص: 67

الرابع : أن ما يقترفه الناس في كيفية ذكره تعالى لا أصل له إلَّا إذا ورد من الشرع المقدس الإذن فيه، وقد ورد في الأحاديث في ما يتعلق بالذكر - كمية وكيفية ، زماناً ومكاناً - ما يشفي العليل ويروي الغليل، وقد وضع الأعلام فيه كتباً ورسائل .

الخامس: أقسام الذكر ستة ..

فنارة : يتعلق بالنعم الطبيعية، قال تعالى: (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا)(1).

وأخرى : يتعلق بالنعم العارضة التي أفاضها اللّه سبحانه على الإسنان، قال تعالى: (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)(2).

وثالثة: يكون محبوباً بذاته على كل حال، ومجرداً عن الإضافة قال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا)(3).

ورابعة : يكون عند اهتمام النفس بشيء غير مرضي له تعالى، فيذكر اللّه ويرتدع عنه، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)(4)، وقال تعالى : (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)(5).

وخامسة: يكون بعد الارتكاب، فيذكر طلباً لرضائه، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ)(6).

ص: 68


1- مريم، الآية 67.
2- الحج، الآية 34.
3- الشعراء، الآية 227.
4- الأعراف، الآية 201.
5- العنكبوت، الآية 45.
6- آل عمران، الآية 135.

وسادسة: حين ارتكاب ما لا يرتضيه اللّه تعالى، وقد ورد في الدعاء : «وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك ، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك جاهل، ولا لعقوبتك متعرض، ولا لنظرك مستخف، ولكن سولت لي نفسي».

إن قيل : ذكره تعالی حین ارتكاب ما لا يرتضيه اللّه عز وجل، كيف يكون محبوباً له تعالی؟

يقال : إن الذكر إذا كان على نحو الاستخفاف والاستهانة - نعوذ باللّه - فلا ريب في أنه ليس من الذكر، بل يوجب الكفر والبُعد عن ساحة الرحمن.

وأما إذا كان من باب أنه تعالى ستار العيوب، وغفار الذنوب، فهذا يوجب الحياء منه تعالی ولو في ما بعد، فينتهي إلى التوبة والاستغفار، فيكون محبوباً له.

قال تعالى : (أَذْكُرْكُمْ).

للمفسّرين في بيان متعلق الذكر أقوال :

منها: اذكروني بطاعتي، أذكركم برحمتي، أو أذكركم بمعونتي .

ومنها : اذكروني بالشكر على نعمائي، أذكركم بالزيادة، إلى غير ذلك مما قالوه .

والحق هو الحمل على العموم، وهو ذكر اللّه تعالى في كل مظهر من مظاهر العبودية حتى يدرك ذكر اللّه تعالى في كل مظهر من مظاهر رحمته وجوده، ومنه ما ورد في الحديث: «أنا عند ظن عبدي المؤمن إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منه - الحديث -» وهو يجازي عبده بالجزاء الأوفي، ويَعِدُ له باللطف

ص: 69

والكرامة والإحسان ومزيد من النعم، ويضاعف لمن يشاء إنه ذو فضل عظيم.

فلا يختصُّ ذكره تعالى لذاكره بعالم دون آخر، ولا بحالة دون أخرى .

ثم إن ترتب قوله تعالى : (أَذْكُرْكُمْ) به على «اذكروني» من باب ترتب المعلول على العلة التامة، لأن التوجه الفعلي من العبد إلى اللّه عز وجل، ذكر منه تعالى للعبد بعناياته الخاصة، فيكون هذا المعنى من الذكر من الصفات ذات الإضافة، فإن أُضيف إلى العبد، يكون ذكراً منه، وإن أُضيف إليه عز وجل، يكون من ذكر اللّه تعالی له.

وقد يكون من باب ترتب المقتضی (بِالْفَتْحِ) على المقتضي (بالكسر)، لاختلاف مراتب الذكر والذاكر كما هو معلوم، والظاهر أن ملازمة الذكر للذكر، من الملازمات المتعارفة بين العقلاء، فهو حسن لديهم، يكون من اللّه تعالی أحسن.

قال تعالى : (وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) .

مادة : (ش ك ر) كمادتي (ك ش ر)، و(ك ش ف) تأتي بمعنی الإظهار، ويقابلها مادة : (ك ف ر) التي تأتي بمعنى الستر، ويختلف ذلك باختلاف المتعلق اختلافاً كثيراً. والجامع القريب في الأولى الإظهار، وفي الثانية الستر.

فإظهار وحدانية اللّه تعالى، وصفاته الحسنى، وأفعاله العليا، إيمان، وستر ذلك كفر، ولهما مراتب .

كما أن إظهار نعمه شكر وسترها كفر، ويطلق عليه الكفران أيضاً.

والإظهار تارة : يكون الاعتقاد .

ص: 70

وأخرى: بالقول.

وثالثة : بالعمل، إما بفعل ما أوجبه اللّه تعالى، أو ترك ما نهاه عنه تعالى، وقد قال علي (عليه السلام) : «شكر كل نعمة، الورع عن محارم اللّه تعالی».

والمعنى : أظهروا نعمائي، ولا تكفروا بسترها.

وإنما قال تعالى : (وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) ، ولم يقل : واشكروا لي أشكركم، لأمور:

أحدها: الإعلان بقبح الكفر والكفران استقلالاً.

ثانيها: التنبيه على عظم النعمة، وأنه بمنزلة كفر الذات .

ثالثها: أنه استفيد من مقابلة الذكر بالذكر - في قوله تعالى: (اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) - بالملازمة، فلا وجه للتكرار بعد ذلك.

ص: 71

أقسام الشكر

ثم إن الشكر من أجل الصفات الحسنة، ومن أرفع مقامات العبودية ، وهو على أقسام:

الأول: أن يكون من المخلوق للخالق، وقد رغب إليه الكتاب والسنة المقدسة، ترغیباً بليغاً بأنحاء مختلفة، بأن أضاف الشكر ..

تارة : إلى نفسه، قال تعالى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)(1)، وقال تعالى: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ)(2)، إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

وأخرى: إلى نعمه، قال تعالى: (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ)(3). وهو يرجع إلى الأول، لأن كل ما بالعرض لا بد أن ينتهي إلى ما بالذات .

وثالثة: إلى نفس الشاكر، قال تعالى (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ)(4)، فإن غاية الشكر إنما يرجع إلى نفس الشاكر، كقوله تعالی : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ)(5)، ولا فرق في هذا القسم بين أن يكون

ص: 72


1- لقمان، الآية 14.
2- البقرة ، الآية 172.
3- النحل، الآية 114.
4- لقمان، الآية 12.
5- الإسراء، الآية 7.

الشكر على الآراء والمعتقدات الحسنة والمعارف الحقة، أو على النعم الخارجية، وجميع ذلك مذكور في القرآن الكريم، قال تعالى : (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(1)، وقال تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)(2)، وقال تعالى : (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(3)، وهو مطابق للقواعد العقلية، لأن أساس معرفة اللّه تعالی مبني على وجوب شكر المنعم عقلاً . وهذا الوجوب عقلي، لا أن يكون شرعية - ومعرفة اللّه تعالى من أرفع المقامات والكمالات الإنسانية التي وصل الإنسان إليها بحكم عقله .

الثاني: أن يكون من الخالق للمخلوق، قال تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا)(4)، وقال تعالى : (وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا)(5)، بل الشكور من أسمائه الحسنى، فإن من عادة العظماء التشكر مما يستحسنونه من أعمال الرعايا، وله دخل كبير في سوق العباد إلى العمل، وجلب قلوبهم.

الثالث : أن يكون من الخلق لآخر مثله ، وهو من مكارم الأخلاق، وقد ورد في الحديث : «مَن لم یشكر المخلوق لم یشكر الخالق»، لانتهاء المخلوق ونعمه إلى الخالق، فالشكر له ينتهي بالآخرة إلى شكر نعمائه ، وترك شكر المخلوق ينتهي إلى ترك شكر الخالق في سلسلة الأسباب .

ثم إن الشكر.. تارة : يكون لله تعالى، لذاته بذاته ، بلا لحاظ عناية أخرى، لأنه مبدأ الكل ومنتهاه، فيستحق الشكر، وهو شكر أخص الخواص، وأخلص أنواع الشكر وأعظمها.

ص: 73


1- المائدة، الآية 89.
2- النحل، الآية 78.
3- الأنفال، الآية 26.
4- النساء، الآية 147.
5- الإنسان، الآية 22.

وأخرى : يكون على ما يرد منه تعالى على عبده من البلايا والمحن، فيشكر عليها كشكره على النِعَم، وهو شكر الخواص، وهو الأول من أجل مقامات العارفين باللّه تعالی.

وثالثة : يكون بإزاء النعمة، وهو شكر العامة من الأنام، وسيأتي في قوله تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)(1) ما يناسب المقام إن شاء اللّه تعالی .

ص: 74


1- إبراهيم، الآية 7.

بحوث المقام

بحث دلالي:

تتضمن الآيات الشريفة أموراً:

الأول: أن في اختيار صيغة التكلم في قوله تعالى : (أَرْسَلْنَا) ، أو قوله تعالى : (آيَاتِنَا) ، ثم توجيه الكلام إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إشارة إلى أن الاستكمال في المعارف الإلهية لا بد وأن ينتهي إليه عز وجل، وأن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ذلك واسطة محضة.

وفيه : إشارة إلى الاتحاد في هذه الجهة بينه تعالى وبين نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، حيث شبك الكلام بالضمير الراجع إلى ذاته الأقدس، والضمير الراجع إلى نبيه المقدس.

الثاني: أن الآيات المباركة تدلُّ على نبوَّة نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، الذي لم يكن من ذاته شيء وله من ربه كل شيء، فجعله منشأ الفيوضات التامة في عالم الغيب والشهادة، فإنه (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى)(1).

الثالث: أنها تدعو الناس إلى جميع أنحاء الكمالات الظاهرية والمعنوية بالتعليم .

ص: 75


1- النجم، الآية 4.

الرابع: أن مقتضى المطابقة والمجازاة بين ذكر العبد وذكره تعالی، أنه بكل وجه تحقق ذكر العبد، يتحقق ذكره تعالی له، بمثله ونظيره مع الزيادة، لفرض سعة رحمته وفضله، فإن ذكره العبد في نفسه، يذكره اللّه عز وجل كذلك، وإن ذكره في ملأٍ من الناس، يذكره اللّه تعالى في ملأٍ من الملائكة، وإن ذكره الدنيا أو الآخرة، يكون ذكره تعالى لعبده كذلك، ويمكن أن يكون صرف وجود ذكره تعالى لعبده منشأ لسعادته الأبدية التي لا حد لها ولا حصر، وذلك يختلف باختلاف الاستعدادات والنفوس . هذا بناء على ما هو ظاهر الآية الشريفة من سباق الشرط والجزاء الظاهري.

وأما بناءً على ما أشرنا إليه من رجوع المعنى : إن أذكركم فلا تغفلوا عني. فللمقام لطائف أخرى نشير إليها في الآيات الأخرى.

الخامس: أن في قوله تعالى : (اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) لطف وعناية ، وتعليم للغير بمجازاة الخير بالخير .

السادس : أن في قوله تعالى : (وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) تحذيراً لأمة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أن لا يتركوا ما أمرهم اللّه تعالى، ولا يكفروا بما أنعم اللّه عليهم، لئلا يقعوا في ما وقعت فيه الأمم السابقة، بعدما كفرت بأنعم اللّه تعالی.

السابع: أن في ذكر العنوان الإثباتي بقوله تعالى : (وَاشْكُرُوا) ، والعنوان السلبي بقوله عز وجل: (وَلَا تَكْفُرُونِ) ، إشارة إلى الاهتمام بالموضوع أولاً؛ ونفي أنحاء الكفر حتی كفران النعمة ثانياً، وإلا فيصح الاكتفاء بأحد العنوانین .

ص: 76

بحث روائي:

في الكافي عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : «مكتوب في التوراة التي لم تغير، أن موسی سأل ربه فقال (عليه السلام) : يا رب أقريب أنت مني فأناجيك أم بعيد فأناديك فأوحى اللّه عز وجل إليه : یا موسى أنا جليس من ذكرني . فقال موسى (عليه السلام) : فمن في سترك يوم لا ستر إلا سترك؟ قال: الذين يذكرونني فأذكرهم ويتحابون في فأحبهم فأولئك الذين إن أردت أن أصيب أهل الأرض بسوء ذكرتهم، فدفعت عنهم بهم».

أقول: الروايات المتواترة بين الفريقين في فضل الذكر والتحابب في اللّه والتباغض فيه، بل في بعضها: «ليس الإيمان إلا الحب في اللّه والبغض في اللّه».

والمراد من قوله تعالى : (ذكرتهم فدفعت عنهم) التوجه الخاص الذي يكون بالنسبة إلى الأولياء، ولأجلهم. خلق هذا العالم ويدار هذا النظام، أي : «العلة الغائية»، كما عبروا عنها في الفلسفة الإلهية .

وفي عدة الداعي قال: روي: «أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خرج على أصحابه، فقال: ارتعوا في رياض الجنة، فقالوا: يا رسول اللّه ، وما ریاض الجنة؟ قال : مجالس الذكر، اغدوا وروحوا واذكروا، ومن كان يحب أن يعلم منزلته عند اللّه، فلينظر كيف منزلة اللّه عنده، فإن اللّه تعالی ينزل العبد حيث أنزل البعد اللّه تعالى من نفسه، واعلموا أن خير أعمالكم عند مليككم وأزكاها وأرفعها في درجاتكم، وخير ما طلعت عليه الشمس، ذكر اللّه تعالى، فإنه تعالى أخبر عن نفسه ، فقال : أنا جليس مَن ذكرني، وقال تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) بنعمتي، أذكروني بالطاعة والعبادة ، أذكركم بالنعم والإحسان والراحة والرضوان».

ص: 77

أقول: المراد من قوله (عليه السلام) : «ارتعوا في رياض الجنة»، الترغيب في المسارعة إلى مجالس ذكر اللّه تعالى، إن كانت المجالس وكان الذكر مستجمعا لجميع الشرائط التي ذكرها الفقهاء.

والمراد من المنزلة توجه قلب المؤمن وإخلاصه من كل جهة إلى اللّه تعالى، ولازم ذلك ارتفاع منزلته عند اللّه تعالى، فتكون القضية حينئذٍ من الملازمات العقلية، لأن الانقطاع من جميع الجهات إليك تبارك وتعالی، بحيث لا يشوبه شيء آخر يوجب أن تكون عنایاته متوجهة إليه، بل نفس هذا الانقطاع إليه هكذا، عناية خاصة منه تبارك وتعالی.

والمراد من قوله : (أنا جليس من ذكرني) نهاية القرب إليه جدا عظمته، والدنو المعنوي منه، كما يقرب إلينا جليسنا ويدنو منا، لا أن يكون المراد منه القرب المكاني.

وفي الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إن اللّه عز وجل يقول: مَن شغل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي مَن سألني».

أقول: إن شغل النفس بذكره تعالى عن بيان الحاجة، يكون على قسمين :

الأول : ما إذا كان لسان حاله، أن علمك بحالي يغني عن مقالي.

الثاني : ما إذا نسي ذلك كله وتوجه إليه تعالى من كل جهة، وفي القسمين يحصل التوجه التام بالنسبة إليه، فيغفل عن شؤونه .

وفي المعاني عن الحسين البزاز قال: «قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) : ألا أحدثك بأشد ما فرض اللّه على خلقه؟ قلت: بلى، قال : إنصاف الناس من نفسك؛ ومواساتك لأخيك، وذكر اللّه في كل موطن، أما أني

ص: 78

لا أقول سبحانه اللّه والحمد لله ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر، وإن كان هذا من ذاك ، ولكن ذكر اللّه في كل موطن إذا هجمت على طاعة أو معصية».

أقول: المراد بهذا الذكر - ما تقدم في أقسام الذكر - هو الذكر العملي الخارجي عن إرادة الطاعة، أو إرادة المعصية، بحيث يكون الذكر اللفظي كاشفا عنه.

في الكافي : عن بشير الدهان، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال اللّه عز وجل: يا ابن آدم اذكرني في ملإٍ أذكرك في ملإٍ خير من مَلَئِك» .

أقول : تقدم في ضمن الآية المباركة ما يرتبط بهذا الحديث .

وفي المحاسن : عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال اللّه عز وجل : ابن آدم، اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، ابن آدم اذكرني في خلإٍ أذكرك في خلإٍ، ابن آدم اذكرني في ملإٍ أذكرك في ملإٍ خير من ملئك . وقال : ما من عبد ذكر اللّه في ملإٍ من الناس، إلا ذكره اللّه في ملإٍ من الملائكة».

أقول: الروايات في ذلك مستفيضة بل متواترة بين الفريقين، وهذا الحديث مبين لبعض أقسام الذكر، فإنها إما نفسي قلبي، أو باللسان في مكان خلوة، أو باللسان في الملإ، والذكر في الملإ إن أوجب ذكر الملإ لله تعالى، فلا ريب في أن ذلك يوجب تشعب أذكار كثيرة، كلها من ناحية الذاكر، فيترتب عليه الثواب مضاعفاً، وإن لم يوجب ذكر غيره، يكون من إتمام الحجة على الغير، فيكون كسابقه.

و في الكافي : عن السكوني، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «أوحى اللّه إلى موسى: يا موسى، لا تفرح بكثرة المال، ولا تدع ذكري على كل حال، فإن كثرة المال تنسي الذنوب، وإن ترك ذكري يقسي القلوب».

ص: 79

وفي الدر المنثور : أخرج الطبراني وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود، قال : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : مَن أُعطي أربعاً، وتفسير ذلك في كتاب اللّه : مَن أُعطي الذكر ذكره اللّه، لأن اللّه يقول : اذكروني أذكركم، ومن أُعطي السؤال أعطي الإجابة. لأن اللّه يقوله: أدعوني أستجب لكم. ومَن أُعطي الشكر أُعطي الزيادة : لأن اللّه يقول : لئن شكرتم لأزيدنكم. ومَن أُعطي الاستغفار أُعطي المغفرة، لأن اللّه تعالى يقول : استغفروا ربكم إنه كان غفّاراً» .

أقول: وروي قريب منه عن علي (عليه السلام) ، ولا بد من تقييد ذلك بما إذا وقع من العبد بشرائطه.

وفي الدر المنثور، قال : «رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من أطاع اللّه فقد ذكر اللّه، وإن قلت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن. ومَن عصى اللّه فقد نسي اللّه، وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن».

أقول: يستفاد من أمثال هذه الروايات، أن منشأ كل معصية هي الغفلة عن اللّه تعالى، وتدل على ذلك آيات كثيرة نتعرض للتفصيل فيها إن شاء اللّه تعالی.

في الكافي: عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ما من قوم اجتمعوا في مجلس فلم يذكروا اسم اللّه عز وجل، ولم يصلوا على نبيهم، إلا كان ذلك المجلس حسرة ووبالاً عليهم».

أقول: الوبال هو سوء العاقبة والعذاب، وكون المجالس وبالاً لتحقق الغفلة عن اللّه تعالى، لأنها منشأ كل معصية ولا وبال أشد منها.

والوجه في كون ذكره (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من ذكر اللّه تعالى، لفرض أنه رسوله وينبیء عنه، وكذا جميع أولياء اللّه تعالى، الذين يدعون إليه تعالی.

ص: 80

وفي تفسير العياشي: عن سماعة بن مهران، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال : «قلت له : للشكر حد، إذا فعله الرجل كان شاكراً؟ قال (عليه السلام) : نعم. قلت: وما هو؟ قال؟ : الحمد لله على كل نعمة أنعمتها علي، وإن كان لكم في ما أنعم عليه حق أداء منه، ومنه قول اللّه : الحمد اللّه الذي سخر لنا هذا».

أقول: هذا بيان لأدنى مرتبة حد الشكر، لإتمام مراتب الشكر .

عن العياشي - أيضاً -: عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال : «الكفر في كتاب اللّه على خمسة أوجه: فمنها كفر النعم، وذلك قول اللّه يحكي قول سليمان : (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) ، وقال : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) ، وقال : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) .

أقول: تقدم ما يتعلق بأقسام الكفر في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)(1)، وفي البحث الروائي منه.

ص: 81


1- البقرة، الآية 1.

مراتب الذكر

من أجل مقامات العارفین مقام الذكر، بل هو من أعظم مظاهر حب الحبيب لمحبوبه، فإن «مَن أحب شيئاً، أكثر من ذكره»، ومن علامات الحبيب الاستهتار بذكر حبيبه، وقد قالوا: إن المحب إذا صمت هلك، والعارف إذا نطق هلك ، لأن الأول مجبول على ذكر الحبيب، والثاني مأمور بستر الأسرار، ونسب إلى سيد الساجدین (عليه السلام) .

یارب جوهر علمٍ لو أبوحُ بهٍ *** لَقيلَ لي أنتَ ممن تَعبد الوثنا

والذكر - عندهم - على أقسام ثلاثة :

الأول : ذكر اللسان المستمد من القلب .

الثاني : ذكر القلب مع عدم حركة اللسان، ويسمى مناجاة الروح والاستجماع للمذكور بالكلية، وهذا ذكر الخواص .

الثالث : ذكر السر، ومعناه غيبة الذاكر في المذكور - في الجملة - فكأن المذكور يكون هو الذاكر، وهذا ذكر أخص الخواص. ومثلوا لكل ذلك بأمثلة مذكورة في محالها، كما بينوا لكل واحد منها ثمرات ونتائج.

ولو أضفنا إلى ما ذكروه من الأقسام، ذكر عامة الناس الذي يقوم بالجارحة اللسانية فقط من دون استمداد من القلب ، تصير الأقسام أربعة، ولعلهم لم يذكروا هذا القسم لتنزههم عن مثل هذا الذكر .

ص: 82

ثم إن ذكر الذاكر إنما ينقوم بحبه للمذكور، ولولاه لم يذكره، والمذكور قد يحب الذاكر، قال تعالى: («قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(1)، بل حبه لجميع خلقه مما أثبتته الأدلة العقلية - كما برهن في الفلسفة الإلهية - والنقلية، فيقع التجاذب في البين لكل من الحبيبين، وبعد تحقق مراتب الحضور بينهما كيف يتحقق التخالف؟! لأن ذكر الحاضر من تمام الجهات قبيح، قال الشاعر :

أما ترى الحق قد لاحت شواهده *** وواصل الكل من معناه معناكا

والبحث نفسي جداً، لو وجدت لهذا العلم الشريف حملةً .

ص: 83


1- آل عمران، الآية 31.

أهمية التربية

يتضمن قوله تعالى : (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) أهم المناهج في تربية الإنسان في استكماله، ومثله في القرآن الكريم كثير .

وقد أشار سبحانه وتعالى إلى بعض الأصول المهمة في هذا المنهج - كما هو دأبه عز وجل في القرآن الكريم - فعلى الإنسان الجد والاجتهاد في التفريع عليها، وتطبيقها على مجالات الحياة .

ولا ريب في أهمية التربية والتعليم وارتباطهما الوثيق بالإنسان، ودخلهما في جميع جوانب حياته، وبهما يستكمل الفرد وينال السعادة في الدارين. ولا يمكن لأي فرد من أفراد الإنسان الاستغناء عنهما في أي دور من أدوار حياته، وبهما يقوم النظام الاجتماعي، ولا يوجد أمر آخر يكون له هذا الاتصال بالواقع الإنساني وتكون له هذه الشمولية، وهما قرین الإنسان منذ أول الخليقة في جميع أدواره، ولا يعقل بالنسبة إليه تعالی إهمال هذا الجانب المهم في الإنسان، مع علمه عز وجل بما يترتب على إهماله من الآثار، ولم يشرع شريعة إلا لتهذيب الناس وتكميلهم وإيصال الفرد إلى السعادة .

ومنهج التربية والتعليم - كسائر المناهج والعلوم - قد طرأ عليه تغییرات ولم يصل إلى حده الفعلي إلا بفضل جهود العلماء والمربين، ووضع النظريات العلمية، مما أوجب التغلب على كثير من الصعاب.

ص: 84

وللتربية والتعليم مناهج متعددة، وقد وضعوا في كل واحد منها كتباً ورسائل كثيرة جداً .

وأهم تلك المناهج هو : المنهج العقلي، والمنهج المادي، والمنهج التجريبي، وجميع هذه المناهج قاصرة عن الإيصال إلى المطلوب، إلا المنهج الإسلامي المبين في القرآن الكريم والسنة الشريفة، والسبب في قصورها عدم كفاءتها في رفع المشكلات الإنسانية إلا في حدود معينة وصلت إليها أفكارهم القاصرة، ولذا نرى الاختلاف والتناقض فيها بخلاف المنهج الإسلامي، الذي يصدر عن منبع محیط بكل الجهات وفي كل زمان .

ويمتاز هذا المنهج القرآني عن غيره بوجوه عديدة أهمها:

الأول: أن المنهج التربوي والتعليمي في الإسلام ليس مادياً صرفاً، ولا عقلياً بحتاً، بل هو يشمل الجانبين، ويعطي لكل جانب حقه.

الثاني : أنه يراعي الجانب التطبيقي، ويعطي للعمل أهميته ويهتم بالمربين والمعلمين قبل كل شيء، فهو يأمر بالتزكية وإتيان العمل الصالح، ولا يكتفي بالجانب النظري فقط.

الثالث: أنه يهدف الكمال الإنساني، ويبغي سعادة الفرد والمجتمع، ووضع لكل ذلك أسساً وقواعد لا يمكن التخلي عنها.

الرابع : أنه عام يشمل جميع مراحل الإنسان، وجميع جوانب حياته، بل يشمل مرحلة ما بعد الموت أيضاً بحسب الآثار.

الخامس: أنه مرتب ترتیباً دقيقاً، يبتدىء بالتلاوة ثم التزكية ، فالتعليم وطلب الحكمة، والتجاوز عن هذا الترتيب لا يوصل إلى ما يريده الإسلام .

ص: 85

وفي القرآن الكريم إشارات إلى كل واحد من الأمور المتقدمة، وفي السنة الشريفة شرح ذلك، ويأتي في الآيات المناسبة التعرض لها إن شاء اللّه تعالی .

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) .

الآيات متسقة منتظمة، كلها وردت في سبيل استكمال الإنسان، ولذة النداء والخطاب في أولها ترفع عن العبد ثقل التكليف.

وقد بين سبحانه وتعالى فيها أن الإنسان في طريق استكماله وإشاعة الحق ومقارعة الباطل، يقترن أنحاء من البلاء والمحن في الأنفس والأموال، ولا يمكن التغلب عليها إلا بالصبر والتوجه إليه تعالى في كل أمر. وقد لطف سبحانه وتعالى على عبيده بما يهون عليهم احتمال المكاره، ويخفف عنهم عظم المصاب، بما أعده سبحانه للصابرين من البشارة العظمى، ولمن قتل في سبيله الأجر الجزيل.

ولا يسعنا في ذلك إلا أن نقول بما قاله الإمام زین العابدین (عليه السلام) في صحيفته: «ولو دل مخلوق من نفسه على مثل الذي دللت عليه عبادك منك، كان موصوفاً بالإحسان ومنعوتاً بالامتنان ومحموداً بكل لسان».

فهذه الآيات المباركة تكفي في عظمة الموحي والموحى إليه والوحي، لكل من كان له سمع أو ألقى السمع وهو شهيد.

قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) .

ص: 86

قد ورد هذا الخطاب في القرآن الكريم في ما يقرب من تسعين مورداً، وفيه من التحبب والملاطفة مع عبيده ما لا يخفى، والمنساق من سیاقه تلبس المخاطب بالإيمان في الجملة، وهو يقتضي أن يكون الخطاب مَدَنياً لا مكياً. وتقدم ما يتعلق به في الآية 104 من هذه السورة ، فراجع.

قال تعالى : (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) .

الصبر هنا مقاومة النفس مع ما يرد عليها من المكاره والأذى، وحذف متعلقه يفيد العموم - كما هو المعروف في العلوم الأدبية - أي استعينوا بالصبر في جميع أموركم فإنه مفتاح النجاح، وهو في كل شيء حسن، ولا يتعلق بشيء إلا وصار محبوباً، فهو أُمّ الفضائل والجامع لجميع جهات استكمال الإنسان، إذا كان الصابر مراعياً لتكاليف المولی .

والاستعانة بالصبر استعانة بأهم الأسباب المؤدية إلى المطلوب، وأعظم السبل في نيل المقصود، والحاجة إليه في تأييد الحق ومقارعة الباطل واحتمال المصائب، معلوم لكل أحد، وآثاره ظاهرة لكل فرد، وتقدم ما يتعلق به في الآية 45 من هذه السورة .

وأما الاستعانة بالصلاة، فإنها استعانة بأبرز مظاهر العبودية لرب العالمين، وأهم أبواب مناجاته تعالى، والاستغاثة به عز وجل، لما تشتمل على عظيم الآثار، فإنها معراج المؤمن، وإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وبها يحصل للنفس سكونها واطمئنانها عن الحوادث الواردة عليها، لأن فيها ارتباط بعالم الغيب المحيط بهذا العالم - والإنسان خلق من ذلك العالم، وفإذا طابقت سنخية الذات مع العمل يحصل الانقطاع عن العلائق، ويشتد الارتباط مع رب الخلائق، فينتظم النظام على الوجه الأصلح .

ص: 87

وفي الحديث: «كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إذا حزبه أمر - أي اشتد عليه . فزع إلى الصلاة»، وتقدم نظير هذه الآية في هذه السورة آية 45، إلا أن في الأولى مدح سبحانه الصلاة، وفي هذه مدح الصبر وبشر الصابرین.

والوجه في التكرار، التأكيد على أهمية الصبر والصلاة في تنفيذ الأمور وتكميل النفوس، وتوطينها لاحتمال المكاره وتحصيل السعادة في الدارین.

قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) .

لفظ «مع» يأتي بمعنى الجمع والمصاحبة في الجملة، ويختلف اختلافاً كبيراً بحسب الموارد والخصوصيات، ويستعمل في الخالق والمخلوق، قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(1)، وقال تعالى حكاية عن نوح: (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(2).

والمعية نحو ارتباط حاصل ..

تارة : بين الخالق والمخلوق حدوثة وبقاء، قال تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)(3) ، ويعبر عنها بالمعية القومية، وتلازمها المعية الزمانية والمكانية، والجامع ما ذكره علي (عليه السلام) : «مع كل شيء لا بالمجانسة ، وغير كل شيء لا بالمباينة».

وأما معية المخلوق مع خالقه فيعبر عنها بعبارات مختلفة، أولها العبودية وآخرها الفناء في اللّه تعالى، ونتيجة الجميع البقاء باللّه تعالی .

ص: 88


1- التوبة، الآية 123.
2- الشعراء، الآية 118.
3- الحديد، الآية 4.

وأخرى : تحصل من عونه ونصرته وتوفيقه، وتسبيب أسباب الخير، ومنها معينه تعالى مع الصابرين والمُتقين والأنبياء والصالحين، فتكون معيته تعالى لهم من جهنین جهة قيوميته تعالى، وجهة فعله وعنايته ونصرته لهم. وهناك معان أخرى للمعية تأتي في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالی.

قال تعالى : (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) .

المراد من القول هو الأعم من الاعتقاد والتعبير بالألفاظ، فاستعمل في الجامع.

والقتل إزهاق الروح عن الجسد إذا لوحظ فيه الإضافة إلى الفاعل . وأما إذا لوحظ فيه الإضافة إلى المقتول فيصح التعبير عنه بالموت أيضاً. هذا بحسب الشايع المتعارف وإلا فيصح إطلاق القتل بالنسبة إلى الجنين الذي لم تتعلق به الروح بعد كما ورد في بعض أحاديث دية الجنين.

كما لا يختص بإزهاق روح الإنسان بل يشمل الحيوان أيضاً قال تعالى : (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)(1) والنصوص في هذا الإطلاق مستفيضة من الفريقين.

بل يطلق القتل على إزالة المعارف الحقة عن النفوس المستعدة أو دفعها عنها. فإنَّ من تسبب في جهل الناس بالمعارف الإلهية فقد قتلهم شر قتلة لأنه أزال حياتهم الأبدية السرمدية كما يأتي التفصيل.

وقد ذكر القتل ههنا بهيئة المضارع، وفي قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا)(2) بهيئة الماضي، ولا فرق بينهما من هذه الجهة، لما ذكرناه

ص: 89


1- المائدة ، الآية 2.
2- آل عمران، الآية 169.

من القاعدة الكلية المؤيدة بالدليل العقلي بانسلاخ الأفعال عن الزمان بحسب ذاتها والخصوصيات الزمانية تستفاد من القرائن الخارجية .

والسبيل هو الطريق الذي فيه السهولة، ويستعمل في كل ما يتسبب به إلى المطلوب - خيراً كان أو شراً . قال تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا)(1).

وقد ذكرت جملة «سبيل اللّه» في القرآن الكريم ما يزيد على ستين موردة وهو يدل على سعته وشموله وعظمته وأهميته، وتقدم الفرق بينه وبين الصراط في سورة الحمد عند قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) وقد ذكر في القرآن الكريم والسنة المقدسة بعض المصادیق : مثل بذل النفس في إحياء كلمة التوحيد وتأييد الحق وقمع الباطل، وبذل المال للضعفاء، وإنشاء الأخلاق الحسنة بين الناس، وخدمة الوالد، وصلة الأرحام، وإغاثة اللّهفان، وعون الضعيف وغير ذلك مما لا حد له ولا حصر، وتقدم قول: «إن الطرق إلى اللّه بعدد أنفاس الخلائق».

والمراد به في المقام الجهاد لإعلاء التوحيد ونصرة الحق ومقارعة الباطل وقمعه.

وذكر القتل في سبيل اللّه بعد قوله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) من باب ذكر أهم الأفراد وأعظم الأمور التي لا بد من الاستعانة بالصبر فيها، يعني إن اللّه تعالى مع كل صابر خصوصاً هذا القسم من الصابرین فإنه آخر درجة التصبر والاصطبار، فيمنحهم اللّه تعالى المعونة والأجر الجزيل.

قال تعالى : (أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ).

ص: 90


1- الأعراف، الآية 146.

أي: لا تقولوا: في شأن مَن قتل في سبيل اللّه أنهم أموات مفقودون عن الحسن ذهبوا إلى دار الفناء بل هم أحياء حياة أبدية ولكن لا تشعرون بها، لأن حياتهم في غير هذا العالم المحسوس المدرك بالمشاعر .

والمراد بالحياة هنا الأعم من الحياة في عالم البرزخ والحياة الحقيقية لأجل إحياء الدين، والحياة في الذكر واللسان، نظير ما ورد عن علي (عليه السلام) : «هلك خزان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلبو موجودة» وهو من باب ذكر بعض الأفراد الذي لا يبقى لا من باب الحصر.

وقد ذكر المفسرون في معنى الحياة هنا ما لا يرجع إلى محصل كما يأتي تفصيل الكلام فيها .

ص: 91

أقسام الحياة

الأول : الحياة الدنيوية الظاهرية المتقومة بتدبير النفس في البدن وإعمالها للقوى الظاهرية والباطنية في الجسم الدنيوي فقط.

الثاني : الحياة الذكري عند الناس بعد ارتحال النفس عن البدن كما في العظماء والأكابر الذين خلدت أسماؤهم في التاريخ تعظيماً لجهودهم في العلم والأعمال الخيرية الصادرة منهم في حياتهم.

الثالث : الحياة الأبدية الخالدة التي لا يعلمها إلا اللّه تعالی.

وظاهر الآية المباركة والنصوص الواردة في حياة المقتول في سبيل اللّه ، هو القسم الأخير، لفرض أنه بذل نفسه ونفيسه في سبيل الحي القيوم الأزلي الأبدي، طلباً لرضائه وامتثال أمره، ولا تحديد في هذه الحياة ، كما بالنسبة إلى القسمين المتقدمين. وتتبع هذه الحياة، الحياة بالمعنی الثاني، فما عن بعض المفسرين من أن المراد خصوص القسم الثاني فقط، تخصيص للعموم بدون وجه .

إن قيل : مثل هذه الحياة ثابتة لكل فرد من أفراد المؤمنین ومعلومة لهم، فلا وجه لتخصيصها بالشهيد.

يقال : إن أصل الحياة بعد الموت وإن كانت ثابتة للمؤمنين ومعلومة

ص: 92

لهم، لكن المستفاد من مجموع الآيات الشريفة والنصوص الواردة في حياة الشهيد، أن فيها مزايا خاصة فوق أصل الحياة بمراتب كثيرة، كما يدل عليها قوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(1).

والخطاب في الآية عام، لا يختص بطائفة خاصة، لا المشافهين ولا غيرهم، لما ثبت في علم الأصول من أن الخطابات الواردة في الشريعة المقدسة - خصوصاً ما ورد منها في القرآن الكريم - من قبيل القضايا الطبيعية الشاملة لجميع الأفراد.

فَمَن قال باختصاص الخطاب في المقام وفي قوله تعالى : (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(2) بطائفة خاصة.

لا وجه له، إذ لا دليل عليه، بل هو مخالف لطريقة العرف والعقلاء في محاوراتهم، ولا سيما هذا الخطاب الوارد في مقام الترخم على العباد، والترؤّف بهم.

والقتل في سبيل اللّه تعالى هو الشهادة في سبيله تعالى، والشهيد مشتقٌ منها، إلا أن الأول باعتبار أصل الحدوث، والثاني باعتبار الثبوت، والشهيد من أسماء اللّه تعالى، وهو بمعنى الحضور الفعلي بالنسبة إلى جميع ما سواه، ولعل إطلاق الشهيد على مَن قتل في سبيل اللّه تعالى، إنما هو لأجل حضوره لديه عز وجل متلبساً بما عاناه من الصعاب والاضطهاد، أو حضور الملائكة لديه مبشرین له بأعلى المقامات وأرفع الدرجات التي أُعدت له، ويصح الحمل على المعنى العام أي حضوره

ص: 93


1- آل عمران، الآية 169.
2- آل عمران، الآية 169.

لديه للانتصار، وحضور الملائكة لديه لبشارته بالجزاء ، والمراد من حضوره تعالى هو توجهه الخاص به.

فالشهادة هي السفر من الخلق إلى الحق، ولا تختص بخصوص مَن بذل دمه في سبيل اللّه، بل تشمل كل من تحمل الأذية مطلقاً في سبيله عز وجل، وفي جملة من الأحاديث: «المؤمن شهید ولو مات في فراشه»، إلا أن للشهيد الذي بذل دمه أحكاماً خاصة، ويأتي تتمة الكلام في الآيات المناسبة .

والآية تدلُّ على تجرد النفس، وهو حق لا ريب فيه، كما ثبت بالأدلة الكثيرة، وهو المستفاد من الكتب السماوية والقرآن المبين والنصوص المتواترة من السُنّة الشريفة، ويأتي في البحث الفلسفي تفصيل الكلام فيه.

قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) .

مادة : (بَلا) تأتي بمعنى الامتحان والاختبار، وتقدم ما يتعلق بها في قوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ)(1).

والشيء من الألفاظ العامة الشاملة للقليل والكثير، والجواهر والأعراض.

والخوف توقع المكروه - مظنوناً كان أو معلومة - بعكس الرجاء، فإنه توقع المحبوب كذلك.

والمعنى: لنمنحنكم بشيء من الخوف من العدو، أو بشيء من الجوع .

ص: 94


1- البقرة ، الآية 124.

ولم يذكر سبحانه وتعالی متعلق الامتحان ولا مورد الخوف والجوع، تعميماً للاختبار والامتحان في كل زمان ومكان، وبالنسبة إلى كل شخص.

ولهما مراتب كثيرة يحتمل أن يكون الامتحان بالنسبة إلى كل مرتبة بما تقتضيه المصلحة الإلهية .

قال تعالى : (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ) .

النقص يأتي بمعنى الخسران، وهو في مقابل التمام.

والمراد من الأموال الأعم من الأعيان والمنافع، وما يهتم الإنسان بحفظه، فيشمل الحيوان والعبيد وكل ما يبذل بإزائه المال.

كما أن المراد بالأنفس كل ما يتأثر الإنسان بفقده وورد النقص عليه - سواء كان من النقص في قوى النفس أو عروض الموت عليها - فيشمل النفس والأقارب والأصدقاء.

والثمرات جمع ثمرة، وهي وإن كانت داخلة في الأموال غالباً، لكن أفردها سبحانه وتعالى لتشمل ما ينبت في الأرض بالطبيعة، مما لا يملك لها فعلاً وينتفع بها الإنسان، كالمرعى، وجملة كثيرة من النباتات التي لها منافع هامة للإنسان وتكون غذاء للحيوان.

ويصحّ أن يراد بالثمرات - مضافاً إلى ما ذكرناه - ثمرات القلوب أيضاً، وهي الأولاد، كما يعبر عنهم بها كثيراً، وفي الحديث عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إذا مات ولد العبد قال اللّه تعالى للملائكة: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون: نعم. فيقول اللّه تعالى: ماذا قال عبدي؟ فيقولون : حمدك واسترجع، فيقول اللّه تعالی : ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بیت الحمد» .

ص: 95

والآية تشير إلى ملازمة ما تقدم من الأمور لدار الدنيا، المعبر عنها في الفلسفة ب(دار الكون والفساد)، كما أنها تفيد بأن الإيمان باللّه تعالى لا يتقضي سعة الرزق ودفع الآلام ورفع المخاوف، بل إن ذلك يجري حسب قانون السببية، وما سنّه اللّه تعالى في عباده ، وإنما يجريها حسب المصالح والحِكَم، ولذا نرى أن المؤمن يرى من البلاء ما لا يراه غيره، ليعلم مقدار صبره، أو يكمل إيمانه بها، ويتهذب بالأخلاق الفاضلة.

ثم إن اختبار الناس من قبله تبارك وتعالى إنما يكون لأجل حكم ومصالح متعددة منها: توطني النفس على المصائب، وتهذيب النفس وتكميلها، والتأدب بمقاومة الحالات، وإتمام الحجة، والتمييز بين الصابر وغيره، وقوة البصيرة، وصفاء السريرة، وتعلم اللاحقين من السابقين كيفية مجاهداتهم واستقامتهم في الدين، وما يترتب على ذلك من البشارة العظمى والأجر الجزيل كما في ذيل الآية الشريفة.

ولا أثر لهذا الامتحان بالنسبة إلى علمه عز وجل، فإن الناس قبل الامتحان وبعده في علمه التام الأزلي على حد سواء.

ولأجل ذلك لا يختص الاختبار ببعض الأفراد دون بعض، بل يشمل جميع أفراد الإنسان، حتى الأنبياء والأولياء، بل نقول إن ذلك من سنن الحياة الإنسانية .

نعم، تارة : يكون الامتحان لإتمام الحجة على نفس الممتحن (بالفتح)، كما مرَّ وهذا هو القسم الشايع.

وأخرى : يكون لأجل إتمام الحجة على الناس بأن هذا الشخص خرج عن الامتحان وقابل للنبوة والإمامة، كما بالنسبة إلى إبراهيم (عليه السلام) .

وأما بالنسبة إلى سيد الأنبياء، فإنه حاز مرتبة الجمع، ويجلّ عن

ص: 96

ذلك، فإنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أول الخلق كان كاملاً ومكمّلاً، وأن «آدم ومن دونه تحت لوائه يوم القيامة»، ولو كان عيسي وموسى (عليهما السلام) حين لم يسعهما إلا اتباعه كما ورد في الحديث، وروى الفريقان أنه قال : «لي مع اللّه حالات لا يسعني فيها ملك مقرب، ولا نبي مرسل»، وعلى فرض وقوع الامتحان فإنما يكون لتثبيت علو مقامه عند الناس، كما عرفت آنفاً .

قال تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ).

أي : وبشر الصابرين على تلك المصائب الذين رضوا بقضاء اللّه تعالى وقدره، وسلموا أمورهم إليه، ولم تصدهم المحن والمصائب عن شكر اللّه تعالى ولا عن عبادته وطاعته.

وإنما أطلق سبحانه وتعالى البشارة، لعدم إمكان تحديد المبشّر به بحدّ معين، فإنه يختلف باختلاف مراتب الصبر والرضا، والمناط هو أهلية الصابر لتحمل البلاء والمحن، خصوصاً إذا اقترن مع الرضا والتسليم، فإنه يكون حينئذٍ من أعلى الفضائل وأسناها، كما قال عز وجل.

قال تعالى : (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) .

مادة (ص وب) تستعمل في كل ما يصيب الإنسان من الخير والشر قال تعالى: (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ)(1)، وقال تعالي: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)(2).

واستعملت المصيبة في كل ما يؤذي الإنسان في نفس ، أو مال أو أهل. ولكن اختصت عند العرف بالنائبة فقط، وفي نصوص كثيرة أن كل

ص: 97


1- التوبة، الآية 50.
2- النساء، الآية 79.

ما يؤذي المؤمن فهو مصيبة حتى انقطاع شسع نعله، والشوكة تدخل في بدنه، فتكون المصيبة في الشريعة بمعناها في اللغة من مطلق الإصابة .

والرجع والعودة بمعني مصير الشيء إلى ما كان عليه أولاً نظير قوله تعالى : (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)(1).

أي : إن كل ما لنا من الحياة والنِّعَم هو من عند اللّه تعالى وملك له ، فهو اعتراف بالملكية له تعالی ذاتاً وتدبيراً وتسليماً ورضاءً بقضائه وحكمته .

وقول (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) إقرار بالرجوع إليه تعالى والجزاء على الأعمال. وفيه تسلية لكل مصاب ومظلوم وتوعيد لكل جائر وظالم.

والمعنى: وبشر الصابرين الذين يقولون: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ المعبرين بلسان مقالهم عن الإيمان بالقضاء والقدر والتسليم لأمره.

وقوله (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) إقرار بالمبدأ والمعاد لله تعالی بالمطابقة، وحيث إن مبدأ الكل ومرجعهم يستلزم وحدة الذات والفعل وإلا لزم الخلف، فهذه الآية تدل على توحيد الذات وتوحيد الفعل بالملازمة، ولعظمة هذه الجملة قال نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أعطيت هذه الأمة شيئاً لم يعطه الأنبياء قبلهم وهو إنا لله وإنا إليه راجعون».

والرجوع إلى اللّه تعالى إما غير اختباري أو اختياري، والأول هو المعاد الذي دلت عليه جميع الكتب السماوية خصوصاً القرآن الكريم الذي أكد في هذا الموضوع تأكيداً بليغاً. وهو من الموضوعات التي ينبغي التأكيد عليها لأن به يثبت المبدأ ووحدانيته وإذا ثبت المبدأ ثبت المعاد لا محالة.

ص: 98


1- الأعراف، الآية 29.

وأما الثاني أي الرجوع الاختباري إليه عزَّ وجلَّ فهو أن يهيىء الإنسان نفسه للحضور لدى الحي القيوم العالم بالسرائر والضمائر حضور مجازاة لما فعل وعمل لا مطلق الحضور إذ الجميع حاضر لديه تعالی بهاذ النحو من الحضور .

وبعبارة أخرى : إن هبوط الإنسان من الحل الأرفع الأعلى إلى الحضيض الأسفل لا يوجب أن ينسى الإنسان ما نزل منه وأن يتدنّس بما وقع فيه، ولا بد له من التفكّر بالعروج والصعود وهذا هو الاسترجاع العملي ولا ينفع مجرد الاسترجاع القولي. وللاسترجاع العملي مراتب كثيرة و مقامات شريفة فضلها العرفاء في كتبهم العرفانية .

قال تعالى : (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) .

بيان لبعض مراتب البشارة بعد ذكر الوصف الذي يستحقون به البشارة .

والصلاة هي التحية، والتزكية، والبركة والثناء الجميل، والجمع باعتبار الكثرة والتعدد من نوع واحد أو أنواع متعددة حسب مراتب المصيبة وشدتها.

وأما الرحمة فهي مطلق النعمة عاجلها أو آجلها . وإنما أتى بالجنس تعميمة لكل رحمة يكون المورد قابلاً لها في العاجل وهي حسن العزاء والتوفيق للرضا والتسليم بالقضاء، وفي الآجل من المغفرة والأجر الجزيل، فهو تعالی رحیم بهم أي رحمة مما يجدون أثرها في هذه الدنيا والآخرة.

قال تعالى : (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).

الإهتداء إصابة طريق الحق في الدنيا، والجئة في العقبي فهم

ص: 99

المستعدون لنيل سعادة الدارين. ولا ريب في تحقق الاهتداء في الإسترجاع القلبي العملي.

وإتيان الجملة الإسمية المعرفة الطرفين، والتأكيد بضمير المنفصل يؤكد أن هذه الأوصاف لا تكون إلا في مَن صبر و سلم الأمر إلى اللّه تعالی واعترفوا بأنهم لله وأنهم إليه راجعون(1) .

ص: 100


1- م. ن، 164 - 190، ج (2).

مفهوم القصاص في الإسلام

اشارة

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

ما ورد في الآيتين من التشريعات الكلية النافعة في النظام الفردي والاجتماعي للإنسان، وقد لوحظ فيهما بقاء النوع وتهذيبهم بالأخلاق الفاضلة، ونبذ الانتقام والعدوان، وقد اعتبر في القصاص المساواة بين القاتل ومن يراد الاقتصاص له. وفيهما إشارة إلى بعض العادات السيئة التي كانت متبعة قبل هذا التشريع، ولذلك كله لا تخلو من الارتباط بالآيات السابقة.

التفسير

قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) .

تقدم الكلام في مثل هذا الخطاب في آيتي 104 و 153. وكتابة هذا التشريع على المؤمنين لأجل الشرف، لا يدل على نفيه عن غيرهم.

قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) .

الأصل في مادة (كتب) هو الجمع والتثبت في جميع موارد

ص: 101

استعمالاتها، سواء لوحظ ذلك بالنسبة إلى علم اللّه تعالى، أو اللوح المحفوظ، أو الكتب النازلة من السماء، أو الإيجاب على العباد - تكليفاً أو وضعاً - أو التحقّق العيني الخارجي، فالكل كتاب ، والجميع يدل على الثبوت والدوام، والتحفظ .

والمارد به في المقام هو الفرض والإيجاب .

ومادة (قَ صَ صَ) تأتي بمعنی تتبع الأثر، وحيث إن ولي المقتول، يتبع أثر القاتل ليأخذ منه جريمة ما فعله ، وكذا المجروح يتبع أثر الجارح كذلك، يقال له القصاص.

ومنه القصة والقصاص، لأنها فيها تتبع أثر ما وقع في الخارج، كما أن منه القاص، لأنه يتبع الآثار والأخبار .

والمراد بالقصاص شرعا، هو أخذ الجاني بمثل جنايته إن أراد وَليّ المقتول ذلك، وهو مطلق لا بد من تقييده بما إذا كانت الجناية عمدية ، الخروج الجناية الخطاية عن تحت هذه الآية بقوله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ)(1).

والآية تبين أصل تشريع القصاص ؛ وقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ).

وفي الآية إشعار بأنه لا بد من التساوي بين المقتول ومَن يراد القصاص منه، وأنه لا بد من العدل في القصاص وملاحظة المثلية. وفي ذلك رد على ما كان يفعل في الجاهلية من المغالاة في سفك الدماء وقتل الأبرياء، كالاقتصاص من رئيس القبيلة والسيد في قتل العبد ظلماً وعدواناً.

ص: 102


1- النساء، الآية 92.

والقتلي: جميع القتيل بمعنى المقتول، والقتل زوال الروح إذا أُضيف إلى المتعدي إليه (أي مَن وقع عليه القتل)، وإذا أُضيف إلى ذات الشخص، فهو موت، فلا فرق بينهما إلا بالإضافة والاعتبار، كما يقال : مات بالشهادة ، أو مات بالقتل، ومات بالمرض.

نعم، يصح اعتبار التغائر بينهما بلحاظ السبب، كما قال تعالى : (أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ)(1)، والجامع هو زوال الروح.

وعموم الخطاب يشمل الوضعي والتكليفي، كما في جملة من الخطابات المتعلقة بإتلاف الأموال، ففي المقام الأولى، والأحكام التكليفية هي الأحكام الخمسة المعروفة.

وأما الأحكام الوضعية، فهي ما تعلق بها غرض الشارع المقدس، ولم تكن من الخمسة التكليفية، وهي كثيرة كالضمان، والولاية، والطهارة، والنجاسة، وقد يجتمع الحكمان في شيء واحد، كاشتغال الذمة بعوض، فهو وضعي، ووجوب تفريغها تكليفي، وقد ذكر التفصيل في محله فراجع كتابنا «تهذيب الأصول» .

ثم إنه ذكر سبحانه وتعالى بعض موارد المساواة والتكافؤ بين المقتول، ومن يراد الاقتصاص منه.

قال تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ).

الحر: خلاف العبد لخلوصه عن الرقية، والحر من كل شيء خالصه، وأحرار البقول ما يؤكل غير مطبوخ.

والعبد مَن فيه الرقية، وفي اصطلاح الكتاب والسنة هي المملوكية للغير بالملكية الظاهرية .

ص: 103


1- آل عمران، الآية 144.

وعند جمع من أهل العرفان : كل مَن كان له علاقة بغير اللّه تعالی فهو عبد له، وقالوا: إن عبد الشهوة والهوى أشد رقية من العبد المملوك للغير، واستشهدوا لذلك بأدلة عقلية ونقلية، لعلنا نتعرض لذلك في محله .

وكيف كان، والمراد منه هذا المعنى الأول.

وفي الأية من البلاغة ما لا يخفى، وفيها إشارة إلى بيان ذكر المثلية إجمالاً.

قال تعالى : (وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى).

كان في أهل الجاهلية بغي وحمية، وكانت القبائل تتحكم بحسب القوة والمنعة، فإن قتل من حي أهل منعة وعز أحد، لا بد لهم من الاقتصاص، وكانوا لا يكتفون من القاتل فقط، وإذا قتل منهم أُنثى، لا يقتصون من أُنثى مثلها، بل يقتصون من الذكر. وقد أنكر الشارع هذه العادة، وحكم بالمساواة بين القاتل والمقتول، فإذا كان القاتل أُنثی، فلا بد وأن يقتص منها لا من غيرها، وفيها بيان للمثلية أيضاً، أي الحرة بالحرة، والأمة بالأمة.

قال تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) .

بعد أن ذكر وجوب القصاص، وأنه أساس العدل في الجنايات، وأنه الأصل في ردع الجاني من الاستمرار في الجناية، بين هنا جواز العفو، بل رجحانه، وهو تعالى ينظر إلى الجانب الأخلاقي في هذا التشريع، ويعطي أهمية خاصة إلى التراحم والتعاطف بين أفراد البشر، في ظرف تسيطر على النفس الغرائز الدفينة والعادات السيئة الموروثة من الجاهلية، فكان هذا التشريع موفّقاً في الجمع بين الجانب العاطفي في الإنسان، والجانب الغريزي والشهري فيه .

ص: 104

ومادة عفو: تأتي بمعنى المحو والزوال ونفي الأثر، والتجافي عن الذنب، ولها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم، قال تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)(1)، وقال تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ)(2)، وقال تعالى : (وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ)(3).

والعفوّ - بالتشديد - من أسماء اللّه الحسنى، وفي بعض الدعوات : اللّهم إني أسألك العفو والعافية، والمعافاة». والأول محو الذنب ، والثاني الصحة من الأسقام والأمراض، والأخير الحفظ عن أن يظلم أحدة، أو أن يظلمه أحد.

والفرق بين العفو والغفران، أن الثاني يختتم استعماله باللّه تعالی غالباً، وإن استعمل في غيره تعالى أحياناً ؛ قال سبحانه: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(4)، بخلاف الأول فإنه يستعمل في غيره عز وجل كثيراً، قال تعالى: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)(5)، وقال تعالى : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) (6). ويقال : عَفَتِ الدار إذا انمحت آثارها.

ويمكن الفرق بينهما باعتبار المورد أيضاً، فإن العفو يصح استعماله بالنسبة إلى مطلق سوء الأخلاق، وإن لم يكن من الذنب الشرعي، كما يصح استعماله بالنسبة إليه أيضا، بخلاف الغفران .

ص: 105


1- الأعراف، الآية 199.
2- المائدة ، الآية 95.
3- الشورى، الآية 25.
4- التغابن ، الآية 14.
5- البقرة، الآية 237.
6- البقرة، الآية 237.

والتعبير بالأخ، ترغيب إلى العفو، والمراد به ولي الدم.

و«شيء» صفة للمفعول المطلق النائب عن الفاعل، أي بعض العفو وشيء منه، وهو حق الاقتصاص أولاً، ويشمل البدل والمبدل أيضاً.

والمعنى: ومَن عفا لأخيه عن جنايته، ولم يرد القصاص، ورضي بالدية، فهو خير له.

قال تعالى : (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ).

المعروف: ضد المنكر، ومعناه كلفظه ؛ والمراد به كل ما حسن عند العقلاء ولم ينه عنه الشرع، سواء كان واجباً، أو مندوباً، أو مباحاً. وهو يختلف باختلاف الأعصار والأمصار. وقد وقع هذا اللفظ في القرآن الكريم والسنة الشريفة كثيراً، قال تعالى : (الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ)(1)، وقال تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(2)، وقال تعالى : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى)(3)، إلى غير ذلك مما يقرب من أربعين مورداً. وعن نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «كل معروف صدقة» .

والمعنى : إن رغب في العفو عن القصاص، لا بد له من اتباعه بالمعروف على الجاني، بأن لا يرهقه في الدية ، أو ينظره إلى الميسرة إن كان ذا عسرة، أو الطلب منه بالرفق، أو يعفو عن بعض، ونحو ذلك مما لا يستنكره العرف، وذلك مرغوب فيه، لا سيما في هذه الحال التي يكون الإنسان فيها أقرب إلى قوى البطش والانتقام منها إلى العقل .

ص: 106


1- البقرة ، الآية 180.
2- البقرة ، الآية 228.
3- البقرة ، الآية 263.

قال تعالی : (وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ).

أي أداء من الجاني إلى الولي بالإحسان، كما أحسن إليه بالعفو وإتباعه بالمعروف.

قال تعالى : (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ).

أي: أن تشريع القصاص والعفو عنه، والانتقال إلى الدية والاتباع بالمعروف والأداء بالإحسان، كلها تخفيف على الأولياء والجانين ورحمة لهم، لأنه جل شأنه قادر أن يشرع عليكم بما يكون أشد من ذلك، فقد راعى عز وجل الوسط بين الإفراط والتفريط. مع أن في هذا التشريع الجديد تخفيفاً بالنسبة إلى ما كانوا قد اعتادوا عليه في الجاهلية، فقد كان ذلك ثقة كبيراً عليهم، ورحمة عليكم في الامتناع عن إراقة الدماء ظلماً وعدواناً، فلا يبقى بعد ذلك مجال للظلم والاعتداء.

قال تعالى : (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .

أي : فمَن اعتدى وانتقم من الجاني بعد العفو، أو تعدي عن الحد الذي قرره اللّه تعالى، له عذاب أليم، لأنه متعد عن القانون الإلهي، وكل متعد كذلك لا بد وأن يعاقب عقلاً و شرعاً، فيكون مصيره إلى النار.

قال تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) .

بعد أن شرع تعالى القصاص، وحكم بأنه لا بد من التساوي والتكافؤ بين الدماء، ذكر هنا حكمة هذا التشريع الجديد وعلته بأفصح بيان وأبلغه، وأوجز عبارة تفي بالمطلوب. فكان أحسن كلام يقرع الأسماع، وأبلغ نظم يؤديه البيان، قرن فيه بين التلطف والعتاب ، فما أجمل هذا الخطاب، فاح نسيم الوحي من السماء فانفتح الكمام وتواضع كل مَن يدعي الفصاحة أمام حسنه، واعیی كل مَن جهد نفسه في البلاغة ،

ص: 107

ولو قورنت هذه العبارة مع ما قيل في مثل المقام، كقولهم: (القتل أنفی للقتل)، وقولهم: (قتل البعض إحياء للجميع)، وقولهم (أكثروا القتل ليقل القتل)، لكان ما ورد في القرآن كالنور في الظلماء، والنار على المنار من حيث البلاغة والفصاحة، وسيأتي في البحث الأدبي ما يتعلق بذلك.

والمعنى: أن في القصاص المذكور الحياة للفرد والمجتمع، أما بالنسبة إلى المجتمع، فإنه أحسن رادع عن الإقدام على قتل النفوس، وإن فيه حفظ الناس عن اعتداء بعضهم على بعض، وأما بالنسبة إلى الفرد فإن فيه حفظ نفسه ومَن أراد قتله، ولو فعله كان ذلك عبرة لغيره ممن يرد الإقدام على ذلك ، ففي القصاص حياة الناس والأفراد، بل فيه تسلية لولي المقتول، حيث يخفف عنه لوعة المصاب، فكانت الغاية من القصاص وما يجتنی من عواقبه حميدة، يعرفها كل من أعطي حق التأمل في هذا الحكم.

قال تعالى : (يَا أُولِي الْأَلْبَابِ).

الألباب جمع اللب ، وهو العقل الخالص عن الشوائب، لأن لب الشيء خالصه وصفوته، ولذا جعل اللّه تعالى أُولي الألباب مورد خطابه وعنايته في جملة كثيرة من الآيات القرآنية، لأن ذا اللب هو الذي يعرف حقائق الأشياء وموازينها، وآثارها وما يترتب عليها . قال تعالى : (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)(1)، وقال تعالى : (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)(2)، وقال تعالى : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ)(3)، إلى غير ذلك من الآيات المباركة .

ص: 108


1- البقرة ، الآية 197.
2- الزمر، الآية 9.
3- الزمر، الآية 21.

وقد فسر سبحانه اللب في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)(1).

ولم يرد لفظ اللب مفرداً في القرآن الكريم، كما لم يرد لفظ العقل كذلك. والمتأمل في الآيات المتضمنة لذكر أولي الألباب، يعلم أنها وردت في مدحهم، بخلاف العقل، فإنه ليس كذلك، قال تعالى : (أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)(2)، وقال تعالى : (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(3).

ولعل السر في عدم ورود المفرد لهذين اللفظين، الإشارة إلى أنهما من الحقائق التي لا تحصل إلا من الاجتماع، إما بعضهم مع بعض، أو مع الأنبياء والإيمان بهم والعمل بما جاؤوا به، مع أن مثل هذه الخطابات نوعية اجتماعية ملقاة إلى المجتمع، لا إلى الفرد المعين.

واللب والعقل هما من أسرار اللّه تعالى التي أودعها في الإنسان، وقد قال عز وجل حين خلقه - كما في الحديث -: «وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحب إلي منك، إياك آمر، وإياك أنهى، وبك أُثيب وأعاقب»، وهو أصل الإنسان وما سواه من القشر، وهو مبدأ الاستكمالات و إليه المنتهى، وبالعمل والتقوى والصلاح، يرتقي العقل واللب ، ومنهما ينشأ الخير، فيصح أن يقال : قد اجتمعت العلة الفاعلية والغائية فيهما.

والحاصل: أن اللب والعقل والفلاح والصلاح والتقوى، كلها مفاهیم مختلفة لمعنى واحد، إذا لوحظت المنشآت فإنها مرتبطة بعضها مع

ص: 109


1- الزمر، الآية 18.
2- الأنبياء، الآية 67.
3- النور، الآية 61.

بعض؛ فإن «الدنيا مزرعة الآخرة» كما قال نبينا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خصوصاً بناء على الحركة الجوهرية التي أثبتها بعض أعاظم الفلاسفة.

نعم، أصل هذه المزرعة وأساس العمل، وبه يرتقي العقل، ثم منه ينشأ الخير الذي يرجع بالآخرة إلى العقل أيضاً.

وإنما ذكرهم في المقام للتنبيه على أن هذا الحكم بما فيه من المصالح والآثار لا يعلمها إلَّا أولوا الألباب، الذين يفقهون سر هذا الحكم باستعمال عقولهم.

ولذلك فمن ينكر هذا الحكم، فهو ممن ليس له لب وعقل، فكان هذا الدليل لما تقدم.

قال تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

أي لعلكم تتقون اللّه في كل أموركم حيث شرع لكم هذا التشريع العظيم، الذي ينبىء عن الحكمة والعلم، أو تتَّقون الظلم خوفاً عن القصاص، فتكفون عن سفك الدماء، أو يتقي بعضكم بعضاً حرصاً على الحياة .

ومنه يستفاد أن اللب السليم يرشد إلى التقوى، وسبب استكمال ذوي الألباب(1).

ص: 110


1- م - ن، ص358 ۔ 365، ج (2).

بحوث المقام

بحث أدبي:

إن قوله تعالى :(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) أبلغ آية في القرآن الكريم وأفصحها، وهي في إيجازها قد ارتقت سماء الإعجاز، لما اشتملت على فنون البلاغة والإيجاز، وجمعت بين قوة الاستدلال وبراعة اللفظ ؛ فتحدّت فرسان الفصاحة والبيان، وقد أفادت حكماً لم يكن من قبل معروفاً في أسلوب رصين وعذوبة في الألفاظ، وتضمّنت من الفوائد والحكم في تنظيم النظام ما لا يبلغ به عقول الأنام، واشتملت على أنحاء من البلاغة ما لا يوجد في أي أثر منقول عن العرب، ونحن نذكر بعضاً منها:

الأول : الطباق بين القصاص والحياة، فإن الأوّل يفوّت الثاني، فهو في مقابلها .

الثاني : فصاحتها في تلائم الألفاظ وعذوبتها وسلامتها، ورصانتها في الأسلوب، والإيجاز في العبارة، فقد جمعت بين جمال اللفظ وسموّ المعني.

الثالث : اشتمالها على جعل الضد متضمّناً لضده، أي الحياة في الإماتة .

ص: 111

الرابع: تعريف القصاص بلام الجنس، ليشمل كلّ أنواع القصاص، من القتل والجرح والضرب .

الخامس: تنكير الحياة للإشعار بأنّ في الحكم حياة عظيمة لا يمكن الاستهانة بها، أو لأجل أن القصاص لم يكن سبباً لمطلق الحياة ، بل لنوع من أنواعها، فيكون التنوين فيها إما لأجل التعظيم، أو لأجل التنويع.

السادس : جعل القصاص ظرفاً للحياة، لبيان أن القصاص يحمي الحياة من الآفات، وهذا من غرائب الحكم.

السابع : تقرير أن الحياة هي المطلوبة، وأن القصاص وسيلة إليها، وهذا من أسمى الحكم في جعل هذا التشريع.

الثامن : الإطراد في أن كل قصاص حياة .

التاسع : اشتمالها على التسلية لأولياء المقتول .

العاشر : اشتمالها على التخويف والارتداع، لمَن تسول له نفسه الجريمة.

الحادي عشر: تحريض المجتمع - الذي تقوم به الحياة النوعية - على حفظ الأفراد.

الثاني عشر : خلو الآية المباركة من التعقيد والتكرار والإبهام، وغير ذلك مما ذكروه في المأثور عن العرب في المقام.

وهذا نزر يسير مما يمكن ذكره في هذه الآية الشريفة، وقد صنف بعض العلماء كتاباً في الأنحاء الأدبية لهذه الآية الكريمة، وهو لم يصل إلى الغاية ، كيف وقد صدرت ممن لا نهاية لكماله، ولهذه الآية وقع في النفوس في مثل المقام، فإن فيه توطينة على تقبل هذا التشريع الجديد،

ص: 112

وإن براعتها وعذوبتها لتخفف ما يترتب على هذا الحكم من إزهاق النفوس، فسبحان من جلت آلاؤه وبهرت آیاته وتمت حكمته.

بحث فقهي:

هذه الآية الشريفة تتضمن من الأحكام ما يلي :

الأول : يستفاد من قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، أن الحكم الأولي في الجنايات مطلقاً هو القصاص، والتبديل إلى الدية إنما يكون لجهات أخرى، ولفظ «كتب» يشمل الحكم الأولي والثانوي.

الثاني : أنها مسوقة لبيان التساوي والتكافؤ بين الدماء، خلاف ما كانت عليه العادة في الجاهلية ، كما تقدم. وقد ذكر فيها بعض الأفراد إلا أنها لا تدل على الحصر فيهم، وقد وردت في السنة الشريفة ما يبين حصول التكافؤ والتساوي في القصاص، ومن ذلك التفرقة بين ديء الرجل والمرأة، وقتل واحد لجماعة، أو بالعكس، وقتل العبد للحر، فإن لكل واحد من هذه أحكاماً خاصة مذكورة في الفقه مفصلاً.

الثالث : أن إطلاق قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) ، يدل على القصاص في الجناية ، سواء كانت في القتل أو القطع أو الجرح، كما هو مفصل في قوله تعالى : (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ)(1).

ص: 113


1- المائدة، الآية 45.

الرابع: أنّ إطلاقها يشمل ما إذا كانت الجناية عمدية أو خطأية ، ولكنها خصصت بالأولى، لقوله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ)(1).

كما أنها خصصت بموارد :

منها : قتل الأب لابنه وإن كان عمدية، للإجماع والنصوص .

ومنها: قتل الحر للعبد، إجماعاً ونصوصاً.

ومنها: قتل المسلم للكافر، على ما هو المفضل في الفقه، ومن شاء فليراجع كتابنا (مهذب الأحكام) .

بحث روائي:

في الكافي : عن الصادق (عليه السلام) في رواية الحلبي في قوله تعالی : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) ، قال (عليه السلام) : «ينبغي للذي له الحق أن لا يعسر أخاه إذا كان قد صالحه على دية ، وينبغي للذي عليه الحق أن لا يمطل أخاه إذا قدر على ما يعطيه، ويؤدي إليه بإحسان».

وعنه (عليه السلام) في قوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ). قال (عليه السلام) : «هو الرجل يقبل الدية أو يعفو أو يصالح، ثم يعتدي فيقتل، فله عذاب أليم، كما قال اللّه عزّ وجلّ».

أقول: روي مثله في عدة روایات .

في تفسير العياشي: عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) قال (عليه السلام) : «لا يقتل الحر بعبد، ولكن يضرب

ص: 114


1- النساء، الآية 92.

ضرباً شديداً، ويغرم دية العبد، وإن قتل رجل امرأة فأراد أولياء المقتول أن يقتلوا، أدوا نصف ديته إلى أهل الرجل».

أقول: الحديث يفسر التكافؤ في الدماء والجراحات، كما هو مفصل في الفقه .

في الاحتجاج : عن علي بن الحسين (عليهما السلام) في قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) : «لكم يا أُمة محمد في القصاص حياة ، لأن مَن هَمَّ بالقتل فعرف أنه يقتص منه فكف لذلك عن القتل، كان حياة للذي هم بقتله، وحياة للجاني الذي أراد أن يقتل، وحياة لغيرهما من الناس إذا علموا أن القصاص واجب، لا يجترءون على القتل مخافة القصاص - الحديث -» .

أقول: ذكر أُمة محمد من باب ذكر أفضل الأفراد لا التخصيص، لأن الحكم عام للجميع .

وفي تفسير القمي، قال: «لولا القصاص لقتل بعضكم بعضاً» .

وفي الدر المنثور، في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) : «كان بين حيّين من أحياء العرب قتال، وكان لأحد الحيين طول على الآخر، فقالوا: نقتل العبد منا الحر منكم، وبالمرأة الرجل، فنزلت هذه الآية».

أقول: تقدم وجه ذلك.

بحث علمي:

ذكرنا آن آية القصاص نزلت في قوم كان الانتقام متبعاً بينهم بأقبح الصور، فقد كانوا يقتلون الواحد جماعة، وربما قتل الحر بالعبد، أو الرجل بالمرأة، والرئيس بالمرؤوس، بل ربما وقعت حروب وغارات

ص: 115

بسبب قتل حيوان من قوم ذوي منعة وشرف، وكان المناط كله على قوة القبائل وضعفها، والمتبع هو القتل والانتقام، والاقتصاص من دون أن يكون في البين قانون يحدده، أو قواعد تهذب تلك العادات ، كما هي عادة الأقوام البدائية والشعوب الهمجية .

نزلة آية القصاص ولم يكن أحد يعرف الصلح والوائم بدل القتل والانتقام، وكان ذلك تشدیداً منهم على أنفسهم؛ كما يستفاد من ذيل الآية الشريفة، قال تعالى : (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) .

ومن المعلوم أنه لا ينكر أحد أن حب الانتقام طبيعة من طبائع الحيوان فضلاً عن الإنسان، وأن دفع التعدي غريزة من غرائزه، وأنه على ذلك مجبول ومفطور.

كما أنه ليس ثمة من ينكر أن العفو والرحمة غريزة أخرى من غرائز الإنسان ، بها يحنو على بني نوعه، ويدفع عن أهله البلاء، ويكافح في سبيلهم للعيش والرفاه.

وبحسب تلك الأسس والغرائز نزلة آية القصاص؛ وقررت تشريع حق الاقتصاص لولي الدم، وأهدرت دم الجاني لولي المجني عليه فقط، ومهدت له السبيل وأمكنته كل التمكين من القصاص بشروط خاصة ، لإشباع غريزة الانتقام في الإنسان، فكان ذلك أول خطوة في تهذيب هذه الغريزة .

لكنه تعالى لم يغفل عن الغريزة الأخرى الكامنة فيه، فحبب إليه العفو بمختلف الأساليب ..

فتارة : رغب إليه العفو بأخذ الدية، وأداء إليه بإحسان .

وأخرى: بالثواب في الآخرة، ورضاء اللّه تعالى، والعفو والمحبة

ص: 116

للمحسنين، قال تعالى : (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)(1)، وقال تعالى : (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(2).

ولقد راعى الإسلام في هذا التشريع جميع مَن يهمه هذا التكليف، القاتل، والمقتول، ووليه، والمجتمع، والصالح العام، فحكم بالمعادلة بين القاتل والمقتول، فقال عز وجل: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) ، فحفظ بذكل التهجم على الدماء، ووقف الإسراف في القتل .

واهتم عز وجل بالجانب التربوي، فحبب إلى الإنسان الرحمة والعطف، ورغب الناس على نبذ مسلك الانتقام والوعد لمَن راعي هذا الجانب بعظيم الأجر والإحسان .

ولذلك كان هذا التشريع موفقاً كل التوفيق في رفع الخصام، وحلول الصلح والوئام، الذي هو السبب في حفظ الأمن والنظام، هذا بالنسبة إلى الإسلام.

أما بالنسبة إلى سائر التشريعات الإلهية، فإنها تختلف بين إثبات تشريع القصاص والإلغاء؛ ففي التشريع اليهودي اعتبر الحكم في الجنايات هو القصاص، ولم يسن للعفو والدية أحكاماً إلا في حالات معينة، راجع ما ورد في التوراة في الفصل الحادي والعشرين، والثاني والعشرين من سِفر الخروج، والخامس والثلاثين من سفر العدد، كما حكی عنها القرآن الكريم، فقال تعالى : (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ)(3).

ص: 117


1- الشورى، الآية 40.
2- آل عمران، الآية 134.
3- المائدة ، الآية 45.

وأما التشريع في الدين المسيحي، فلا يرى في مورد الجنايات إلا العفو والدية، وليس للقتل والقصاص فيه سبيل إلا في موارد خاصة .

وأما سائر التشريعات - سواء كانت وضعية أو غيرها . فهي تختلف في هذا الحكم، ولا يمكن جعلها تحت ضابطة كلية، وإن كانت لا تخلو عن القصاص في الجملة.

ومما ذكرنا يعرف أن الإسلام اختار الطريق الأمثل، وسلك مسلكاً وسطاً بين الإلغاء والإثبات، فحكم بالقصاص ولكن ألغي تعيينه، فأجاز العفو والدية، ولاحظ جميع جوانب هذا الحكم وأحكمه أشد الإحكام، و سد باب الجدال والخصام، وأبطل شبهات المعترضين .

ومع ذلك، فقد اعترض على تشريع القصاص في الإسلام خصومه ، فادعوا أنه خلاف إنسانية الإنسان، وأنت بعد الإحاطة بما ذكرناه تعلم أن ما ذكروه في المقام واضح الفساد .

وقد استدل على إلغاء هذا الحكم بأمور هي:

الأول: أن تقرير حق الاقتصاص إقرار للعادات السيئة التي كانت سائدة في الشعوب الجاهلية، والأقوام البدائية .

وهذا باطل.. أما أولاً: فلأن نظر الإسلام في هذا الحكم هو تربية الإنسان تربية صالحة، يرفض معها كل ظلم وانتقام، ولم يكن ينظر إلى تقرير عادة ، أو إبطالها.

وثانياً : ذكرنا أن حب الانتقام غريزة من غرائز الإنسان، والإسلام إنما أراد تهذيبها وكبح جماحها، خلاف ما كانت بين الأقوام وقت نزول القرآن .

ص: 118

وثالثاً: فائدة تشريع القصاص إنما ترجع إلى الجماعة والصالح العام، شأنه شأن غالب التكاليف الإلهية .

الثاني : أن القوانين الوضعية التي وضعتها الملل الراقية لا ترى جواز عقوبة الإعدام مطلقاً، وترفض إجراءها بين البشر، معتمدين في ذلك على أن القتل مما ينفر عنه الطبع، ويستهجنه وجدان كل إنسان.

وأن القتل على القتل يكون فقداً على فقد.

وأن القتل بالقصاص فيه من القسوة والانتقام زيادة على نفس القتل الواقع من الجاني، ولا بد من إزالة هذه الصفة من بين الناس بالتربية العامة، وعقاب القاتل بما هو أدون، كالسجن والأعمال الشاقة.

الثالث: أن المجرم إنما يكون مجرماً وأقدم على الجريمة الأجل عذر له، إما للجهل، أو عدم التربية الصالحة، أو لمرض عقلي، فيجب في هذه الحالة علاجه إما بالتربية الصالحة، أو معالجة مرضه.

وأن إبقاء الفرد الجاني أولى من إفنائه، لأن في إبقائه منفعة للمجتمع، ولا ملزم لأن نقبل عقوبة القصاص إلى الأبد، فيعاقب الجاني بما يعادل القتل، وفي نفس الوقت نستفيد منه، فيكون توفيقاً بين حق المجتمع وحق أولياء الدم، وغير ذلك من الوجوه .

ولأجل ذلك عدلت القوانين الوضعية عن القصاص والقتل إلى عقوبات أخرى لردع الجناة، أشدها عقوبة الحبس؛ سواء كان محدوداً بوقت أو غير محدود به ، مع الأشغال الشاقة مثلاً.

ولكن كل ذلك باطل ..

أما أولاً: فلأن في تشريع القصاص تهذيبة للطبيعة الإنسانية في حب الوجود وملاحظة الجانب التربوي في هذا التكليف، بل جميع تكاليف

ص: 119

الإسلام وقوانينه إنما وضعت لأجل ذلك، ولذلك حث على العفو، ولم يكن الإسلام ليمنع من فرع هذه العقوبة بعد التربية الصالحة، وإعداد الأفراد في صالح المجتمع، ونبذ التخاصم والانتقام، والأُمم الراقية إنما ذهبت إلى ذلك بعد جهد جهيد في تربية الأفراد وتنفير القتل بينهم، وهذا شيء حسن لم ينكره أحد، وهو ما يريده الإسلام، كما تشير إليه نفس الآية الشريفة .

وثانياً : فلأن الإسلام إنما لاحظ في هذا التشريع الصالح العام ومصالح النوع، كما هو شأن كل قانون، سواء كان إلهياً أو وضعياً، ويعتبر أن الاعتداء على فرد كالاعتداء على الأُمة(1).

ص: 120


1- م- ن، ص366- 373.

الإيمان والكمال الإنساني

(وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) .

بعد أن ذكر سبحانه وتعالى بعض الأحكام الشرعية التي تهدي الإنسان إلى الكمال وتوجب له الطهارة، وحذره جل شأنه عن المخالفة والمعصية. وأمره بالتقى، ذكر هنا بعض الأحكام العامة في الإيمان، وبين أن من التقوى الاجتناب عن الحلف باسم اللّه تعالى في كل شيءٍ، فإنه ماع عن البر والتقوى والإصلاح، التي لا بد أن يبتغيها المؤمن في كل أعماله، ثم بين سبحانه أنه لا يؤاخذكم بالأيمان اللاغية، التي لا يعقد العزم عليها، فإنه لا كفارة فيها ولا عقاب، وإنما يؤاخذ اللّه تعالى الإنسان بالنيات التي يعقد عليها ثم بشره بالغفران.

قال تعالى: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ).

. مادة (عرض) تأتي بمعنى الإظهار للغير لمصلحة فيه، ولهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم قال تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)(1)، وقال تعالى: («وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى

ص: 121


1- الأحزاب، الآية 72.

النَّارِ)(1)، وقال تعالى: (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا)(2)، ولم تستعمل هيئة (عُرْضَةً) إلا في المقام فقط .

والأيمان : جمع يمين، وهي بمعنى الحلف والقسم، تذكّر وتؤنّث، وهي فعيل من اليُمن بمعنى البركة، لأنها تحفظ الحقوق، أو لأجل أن العرب كانت تضرب اليمين على اليمين عند الحلف فسمِّي الحلف يميناً . وقد وردت جميع مشتقات اليمين والحلف في القرآن الكريم .

ومن عادة الناس الحلف بالعظماء والأكابر، وما هو محترم لديهم على اختلاف مذاهبهم ومللهم.

وفي القرآن الكريم حلف الخالق بالمخلوق، والمخلوق بالخالق، ولعل أحلى قَسَمه تعالى قوله عز وجل: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)(3) ، ومن أشده وأعظمه قوله جل جلاله : «وعزتي وجلالي وعلو قدري وارتفاع مقامي، لأقطعن أمل كل مؤمل أمل غيري».

والمعنى : لا تجعلوا اللّه تعالى في معرض حلفكم إذا أردتم أن تحلفوا، وهذا يشمل المرة الواحدة فضلاً عن الزائد، لأن عظمته تعالی غير متناهية ولا يمكن دركها بالعقول مطلقا فكيف يحلف بما لا يدرك إلا مفهوم لفظه .

قال تعالى : (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ).

بيان لأيمانكم، أي : لا تجعلوا اللّه في معرض الحلف به في هذه الأمور الثلاثة هي التي مرضية له تعالى، فضلاً عما لا يكون مرضياً له، أو

ص: 122


1- الأحقاف، الآية 34.
2- الكهف، الآية 100.
3- الحجر، الآية 72.

شككتم في أنه مرضي له تعالى، فتشمل الآية الحلف على ترك البر والتقوى والإصلاح بين الناس بالأولى.

وإنما ذكر سبحانه هذه الأمور لأن سائرها يرجع إليها، أو لأنها أهم الأمور النظامية الاجتماعية، أو لأنها مورد النذور والأيمان بين الناس غالبا، فتشمل الآية غيرها بالأولى، ويؤيد هذا المعنى بعض الروايات كما يأتي.

وللمفسرين في تفسير هذه الآية الشريفة أقوال :

منها : أن هذه الآية غاية الحكم، أي النهي في (لَّا تَجْعَلُوا) ، أي : لا تحلفوا باللّه لأن تبروا وتتقوا وتصلحوا، فتكون تعليلاً لما تقدم.

ومنها : أن قوله تعالى : (أَنْ تَبَرُّوا) تقدير (أن لا تبروا)، أي : لا تكثروا الحلف باللّه فإنه يؤدي إلى أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس، فإن مَن أكثر الحلف بشيءٍ أدى إلى استصغار ما أقسم به، فلا يبالي الكذب ولا الحنث.

ومنها: لا تجعلوا اللّه بواسطة الحلف به مانعاً وحاجزاً عما حلفتم على تركه، فإنه لا يرضى أن يكون اسمه حاجباً عن الخير . وغير ذلك من الوجوه، ولكن الوجه الذي ذكرنا أنسب وأشمل، وإن أمكن إرجاع بعض الوجوه المتقدمة إلى ما قلناه .

قال تعالى : (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

أي: أن اللّه سميع لأيمانكم وجميع أقوالكم، علیم بنیاتكم وأحوالكم، ولا يخفى عليه شيء في السموات والأرض، وفي الآية نوع من التهديد، وفيها إرشاد إلى مراقبة الإنسان لأقواله ونياته .

قال تعالى : (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) .

ص: 123

الأخلاق في القران

مادة (لغو) تأتي بمعنى ما لا فائدة فيه ولا نفع، ويطلق اللفظ على صوت الطير والعصافير من هذه الجهة.

والمراد به في المقام : الحلف الخالي عن القصد الاستعمالي الجدي، الذي تدور عليه المحاورات المتعارفة بين الناس، فإنه إذا لم يحرز ذلك لا يترتب الأثر على الكلام، بلا فرق بين الإخباريات والإنشائيات والوضعيات والأحكام مطلقاً.

فيكون الأصل في بيان المراد والظهور هو القصد الاستعمالي الجدي، وعليه يبتني التفهيم والتفهم والمؤاخذات، والكلام بدونه تكون لغواً بالنسبة إلى المعنى المطلوب لا فائدة فيه، ولا يترتب عليه الأثر

المقصود.

والآية المباركة تبيِّن أن الأيمان الخالية عن القصد الاستعمالي الجدي تكون لغواً لا يترتب عليها الأثر، فلا يؤاخذ اللّه تعالى الناس عليها .

وتقع مثل هذه الأيمان في حشو الكلام وتجري على اللسان كثيراً من دون أن يعقد صاحبها على أنها يمين، ويدل على ما ذكرنا قوله تعالى : (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ)(1).

والمراد بعدم المؤاخذة، عدم الكفارة وعدم العقاب .

قال تعالى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ).

المراد من كسب القلب في المقام: القصد الجدِّي والنية والعزم، أي : ولكن يؤاخذكم بما نوت قلوبكم في الأيمان من المخالفة العمدية

ص: 124


1- المائدة، الآية 89.

والكذب والحنث، وما يكسبه الإنسان من الإثم فيما عقد قلبه بالأيمان .

والآية تدل على أن قسماً خاصاً من اليمين يكون مورد المؤاخذة ، وهو ما تصلح النية فيه، وفي غيره لا مؤاخذة فيه، للقاعدة العقلية من انتفاء الحكم بانتفاء الموضوع.

ويستفاد من الآية الكريمة كمال الأهمية للنبات، فإن علهيا بدور صلاح الأعمال وفساها والثواب والعقاب، وظاهر اللفظ إنما يكون معتبراً الأجل كونه كاشفاً عن النيات.

قال تعالى : (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

الغفور والحليم من أسماء اللّه تعالى الحسني، والأول مبالغة في التجاوز والغفران عن الذنب بالشرائط المقرَّرة في الشريعة، والثاني عبارة عن الإمهال وترك التعجيل في العقوبة.

وتعقيب هذه الآيات المباركة بهذين الاسمين الشريفين للإشارة والترغيب إلى عدم اليأس من رحمة اللّه تعالى، لو تحققت المخالفة لبعض تلك الأحكام أحياناً لإغواء الشيطان، فيتوب إليه تعالى وبرغم أنف الشيطان، فذكر جل شأنه هذين الاسمين للإعلام بزيادة التوجه والتنبيه ، والمبالغة في عدم حصول اليأس عند صدور المعصية .

ص: 125

بحوث المقام

بحث أدبي

قال تعالى : (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) فيه وجوه من الإعراب:

الرفع: على أنه مبتدأ والخبر محذوف، أي البر والتقوى والإصلاح، أولى من اليمين باللّه تعالی.

والنصب: إما على تأويل لا تمنعكم اليمين باللّه تعالى البر والتقوى والإصلاح.

أو على أنه مفعول لأجله، أي: لأجل أن تبروا وتتقوا وتصلحوا .

أو على أنه منصوب بنزع الخافض .

وقيل : إن التقدير : أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا. وحذف كلمة «لا» كثير، مثل قوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)(1)، أي : أن لا تضلوا.

وقال الخليل والكسائي: إنه في موضع خفض، والتقدير : في أن تبروا، فأضمرت وخفضت بها .

ص: 126


1- النساء، الآية 176.

بحث فلسفي

من الألفاظ الشائعة في القرآن الكريم والسنة المقدسة : القلب، وهو من التقلب، والصرف والتصرف، وله إطلاقان:

الأول: العضو المعروف في جسم الحيوان، أي : اللحم الصنوبري النابت في الطرف الأيسر من الحيوان، وهو كمضخة للدم السائل في العروق.

الثاني : اللطيفة الربانية أو العقل العملي أو النفس الناطقة الإلهية في مقام فعليتها، أو النفس اللوامة الفعلية، أو الجميع بحسب مراتبها المختلفة شدة وضعفاً، لأنه على أيِّ تقدير من الحقائق التشكيكية، وإن كان الحق هو الأخير، كما هو المستفاد من الأخبار الشريفة وكلمات العلماء.

ومن هذا الإطلاق قوله تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ)(1)، ومفهوم قوله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا)(2)، وقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)(3)، وما ورد في الحديث: «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» ، وفي القدسیات : «لا يسعني أرضي ولا سمائي، وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن»، وما ورد في الحديث : «سأل موسى ربه أين أجدك یا رب؟ قال عز وجل: أنا عند المنكسرة قلوبهم».

ومن أسمائه الحسنى المباركة : «يا مقلب القلوب»، إلى غير ذلك مما هو كثير .

ص: 127


1- الشعراء، الآيتان: 193 و194.
2- الأعراف، الآية 179.
3- ق، الآية 37.

وعن بعض أكابر الفلاسفة أن القلب بهذا المعنى من أبواب الجنة ، وبه تصير ثمانية ، بخلاف النار، فإن أبوابها سبعة، وليس لها باب القلب ، واستظهر ذلك من الآيات المباركة، منها قوله تعالى : (نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ)(1)، وقد تحير العلماء في ذلك .

ولعل إطلاق القلب وإرادة الروح أو النفس، أو الإنسان نفسه في بعض الآيات ، كقوله تعالى : (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ)(2)، وقوله تعالى : (وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ)(3)، وقوله تعالى : (يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)(4)، لأجل أنه مبدأ الروح، وبتلفه يتلف الحيوان، ولذا ينسب إليه عند العرف كل ما فيه شوب درك، مثل الحب والبغض ونحوهما.

كما يطلق عندهم الصدر ويراد به القلب، باعتبار الحال والمحل، كقوله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ)(5)، وقال تعالى حكاية عن موسى (عليه السلام) : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي)(6)، وغير ذلك من الآيات الشريفة .

بحث روائي

في تفسير القمي: عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى : (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ) ، قال : «هو قول الرجل في كل حاله: لا واللّه ، وبلى واللّه» .

ص: 128


1- الهمزة، الآيات 6، 7، 8 و9.
2- البقرة، الآية 283.
3- ق، الآية 33.
4- البقرة، الآية 225.
5- الأنعام، الآية 125.
6- طه، الآية 20.

وفي تفسير العياشي: عنه (عليه السلام) أيضاً في الآية المباركة، قال (عليه السلام) : «هو قل الرجل: لا واللّه ، وبلى واللّه» .

أقول: إن إطلاق الرواية يشمل جميع ما ذكر في تفسير الآية الشريفة، ولفظ الجلالة من باب المثال لكل اسم مختص به عز وجل.

وفي الكافي : عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى : (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ) ، قال : «إذا دعيت لتصلح بين اثنين فلا تقل عليَّ يمين أن لا أفعل».

وفي تفسير العياشي: عن الباقر والصادق (عليهما السلام) في قوله تعالی : (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ)، يعني: «الرجل يحلف أن لا يكلِّم أخاه وما أشبه ذلك، أو لا يكلم أُمه».

أقول: إن الرواية تدل على أن المعتبر في الحلف الرجحان أو التساوي، فلا ينعقد في المرجوح، فتكون بياناً لبعض معاني قوله تعالی : (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا).

وفيه - أيضا . قال (عليه السلام) : «یا سدير، مَن حلف باللّه كاذباً كفر ، ومَن حلف باللّه صادقاً أثم إن اللّه عز وجل يقول : (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ) ، قال (عليه السلام) : «اللغو قول الرجل: لا واللّه ، وبلى واللّه ، ولا يعقد على شيء».

أقول: روی مثله العياشي عن أبي الصباح، والمراد بذلك أن لا يكون له قصد استعمالي جدِّي.

روى الواحدي في أسباب النزول في قوله جل شأنه: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ)، قال الكلبي: «نزلت في عبد اللّه بن رواحة بنهاه عن قطيعة ختنه بشير بن النعمان، وذلك أن ابن رواحة حلف أن لا يدخل

ص: 129

عليه أبداً ولا يكلِّمه ولا يصلح بينه وبين امرأته، ويقول: قد حلفت باللّه أن لا أفعل ولا يحل (لي) إلا أن أبر في يميني، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية».

أقول: تقدم ما يدل على ذلك أيضاً .

بحث فقهي

يستفاد من الآية الشريفة أحكام :

الأول: أن الأيمان على ما يستفاد من الآية الشريفة، بضميمة ما ورد في شرحها من السنة المقدسة على أقسام ثلاثة :

1- يمين التأكيد والتثبيت، كما إذا قال : واللّه إن هذا اليوم يوم الجمعة، وهو كذلك .

2- ما تقرن بالطلب والسؤال، وحث المسؤول على إنجاح المقصود، كقول الحالف: «أسألك باللّه أن تقضي لي حاجتي»، والدعوات المأثورة مشحونة بذلك.

3- ما تقع تأكيداً لما التزم به، كقول القائل : «واللّه لا أرضى» مثلاً.

ولا يترتب شيء على القسم الأول سوى الإثم لو كان كاذباً في حلفه، وهي من المعاصي الكبيرة، وتسمى باليمين الغموس، لأنها تغمس صاحبها في النار، وفي بعض الأخبار : «إنها تذر الدِّيار بلاقع من أهلها».

وكذا لا أثر بالنسبة إلى القسم الثاني ولا كفارة أيضاً على الحالف، ولا على المحلوف عليه لو لم ينجح المقصود.

وأما القسم الأخير ففيه شرائط مذكورة في الفقه، ويترتب على حنثه الإثم والكفارة .

ص: 130

الثاني : لا أثر لليمين إلا إذا كانت باللّه عز وجل أو بأسمائه المقدسة المختصة به لفظة أو بالقرينة الظاهرية، فاليمين بغير ذلك لا أثر لها ولو كان عظيما .

الثالث : الأيمان الصادقة كلها مكروهة، سواء كانت على الماضي أو المستقبل، وتتأكد الكراهة في الأول، فعن أبي عبد اللّه لي في الموثق : «لا تحلفوا باللّه صادقين ولا كاذبين، فإنه عز وجل قال : (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ) .

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في موثق ابن سنان قال : «اجتمع الحواريون إلى عيسى (عليه السلام) فقالوا: يا معلم الخير أرشدنا، فقال : إن موسی نبي اللّه (عليه السلام) أمركم أن لا تحلفوا باللّه كاذبين، وأنا آمركم أن لا تحلفوا باللّه كاذبين ولا صادقين».

نعم، لو أراد بها دفع مظلمة عن نفسه أو عرضه أو غيرهما، جاز بلا كراهة، والتفصيل يطلب من الفقه.

الرابع : يتعلق اليمين بكلِّ مباح فيه غرض صحیح غیر منهي عنه شرعاً، كما يتعلق بترك كل حرام أو مكروه، وبفعل كلِّ واجب أو مندوب، ولا يتعلق بغير ذلك، بل يكون لغواً وباطلاً.

بحث عرفاني

كل مَن أحب شيئاً وعشقه لا يحلف بمحبوبه ومعشوقه إلا نادراً، بل لا يحلف به في الأمور المهملة، وإذا حلف يبر بحلفه ولا يحنث ولو أدى إلى بذل النفس والنفيس، واللّه تعالى أحب الموجودات إلى خلقه، وهو تعالى يطلب من خلقه أن يكونوا عباداً له عز وجل، يأتمرون بأوامره

ص: 131

وينتهون عن نواهيه، مطيعين له يراقبونه في جميع أمورهم، وتنظيم نظام العبودية يقتضي أن لا يبادروا إلى الحلف به.

كما لا يحلف أحد بمحبوبه فإنه تعالى المحبوب الحقيقي لكلِّ موجود، ولو حلفوا به فإن عبوديتهم له عز وجل تقتضي الوفاء به بكلِّ ما أمكنهم(1).

ص: 132


1- م- ن، ص 342 - 351، ج (3) .

الخمر والميسر من الآفات الأخلاقية

من الأمور التي اهتم الإسلام بها واعتنى بها اعتناءً بليغاً وشدد النكير على ارتكابها، ونهى عنها بأساليب مختلفة، ووصفها بأوصاف متعدِّدة تنبیء عن أنها من شرِّ الرذائل وأخبث الأمور، الخمر والميسر، فقد ذكرهما في مواضع متعدِّدة من القرآن الكريم ووصفهما بأنهما من خطوات الشيطان الذي يريد أن يوقع بهما بين أفراد الإنسان والعداوة والبغضاء ، وأثبت فيهم الإثم الكبير، كما اعتبرهما من الرِّجس الذي يجب الاجتناب عنه، وأصر الإسلام على ذمهما والاستهانة بهما، ففي السنة الشريفة من ذلك الشيء الكثير، ويكفي في خستهما أنهما من أفعال أهل الجاهلية ، فقد كانا منتشرين قبل الإسلام، ونزل القرآن ينهى عنهما على سبيل التدرج، فنزل قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) ، فذكر فيه الإثم والمنفعة، ورجح الإثم عليها، وكان ذلك كافياً في الردع، ثم نزل قوله تعالى في الخمر : (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى )(1)، وأخيراً ورد الأمر بتركهما في قوله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ)(2) .

وقد ذكر سبحانه كلمة جامعة تكشف عن جميع ما يتعلق بهما وما

ص: 133


1- النساء، الآية 43.
2- المائدة ، الآية 90.

ينطوي فيهما من الأضرار والمخاطر، فقال عز وجل: (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) ، وإذا أُلقي هذا الخطاب الكريم إلى العاقل يستفيد أنه تعالی نفى عنهما جميع المنافع، لما أثبت الإثم الكبير فيهما، فإن المنافع إما دنيوية أو أُخروية، ولا وجه لثبوت الأخيرة مع وجود الإثم الكبير، بل لا يمكن اجتماعهما في مورد

وأما المنافع الدنيوية، فهي إنما يرغب إليها الإنسان إذا جلبت له الخير أو دفعت عنه الضرر، وهما منفيان في الخمر والميسر، سوی ما يتخيل من المنفعة اليسيرة الوهمية، ولا يقدم عليها عاقل.

ومن ذلك يستفاد أن الخمر والميسر يخلوان من الخير مطلقاً .

وقد تصدى العلماء في مختلف العلوم لذكر أضرارهما ومفاسدهما الفردية والاجتماعية، فذكر الأطباء تأثير الخمر على صحة الإنسان وما تجلبه من الأسقام والآلام، واعتبر علماء النفس الخمر من أشد الأشياء تأثيراً على النفس، لأنها تسبب الأمراض النفسية التي تعاود صاحبها حتى الممات، وقد بحث عنها علماء الدِّين من حيث تأثيرهما في سعادة الإنسان وشقاوته في الدنيا والآخرة .

وأما أضرارهما الاقتصادية ، فهي غير خفية على أحد حتى اعتبرهما علماء الاقتصاد من الأسباب التي تعيق الكمال الاقتصادي في المجتمعات، ولا أظن أن موضوعاً كان له هذه الأهمية والتأثير من جوانب متعددة من حياة الإنسان المادية والمعنوية والصحية والنفسية والعقلية ، الفردية والاجتماعية، ولأجل ذلك ورد عن نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أن الخمر رأس كل إثم» .

وعن الباقر والصادق (عليه السلام) : «إن اللّه جعل المعصية بيتاً، ثم جعل

ص: 134

للبيت باباً، وجعل للباب غلقاً، ثم جعل للغلق مفتاحاً، فمفتاح المعصية الخمر»، وعن الصادق (عليه السلام) : «إن الخمر أُم الخبائث ورأس كل شر».

وعن الباقر (عليه السلام) : «أفاعيل الخمر تعلو على كلِّ ذنب، كما تعلو شجرتها على كلِّ شجرة».

وعن الأئمة الهداة (عليهم السلام) : «إن اللّه جعل اللّه للشر أقفالاً، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب».

وقد ألف العلماء في كلِّ واحد من الخمر والميسر كتباً مستقلة تشتمل على فوائد جليلة، مَن شاء فليرجع إليها.

وتحريمهما لا يختص بهذه الشريعة، بل حرمتهما جميع الأديان الإلهية، ففي الحديث عن الصادق (عليه السلام) : «ما بعث اللّه نبياً قط إلا وفي علم اللّه أنه إذا أكمل له دینه كان فيه تحريم الخمر، ولم تزل الخمر حراما، إنَّ الدِّين إنما يحول من خصلة إلى أخرى، فلو كان ذلك جملة قطع بهم (بالناس) دون الدين».

ونحن نتكلم في هذا البحث عن الجانب الخلقي للخمر وتأثيرها في الصفات الخلقية للإنسان إجمالاً.

من المعلوم أنه لم يخلق اللّه جل جلاله خلقاً أعز وأشرف لديه من العقل، الذي جعله مدار إنسانية الإنسان، وبه امتاز عن سائر المخلوقات وفاق به عليها، وهو مناط التكليف، وعليه يدور الثواب والعقاب ، كما أن به يقوم الجزاء في يوم الحساب . وتدل على ذلك الأدلة الكثيرة العقلية والنقلية، فكل ما يضاد العقل وينافيه ، أو يسلبه ويعاديه ، يكون من أبغض الأشياء لدى اللّه وجميع الأنبياء والمرسلين والملائكة أجمعين، والخمر لا أثر لها إلا ذلك، فهي أم الخبائث كما كناها به نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد لعن شاربها.

ص: 135

فعن الصادق (عليه السلام) : «مَن شرب جرعةً من خمرٍ لعنه اللّه وملائكتُه ورسلُه والمؤمنون».

ومن غير المعقول أن يرتكب عاقل ملتفت أُم الخبائث، وما يزيل النظم والانتظام عما يصدر منه من أعمال جوارحية وأفكار جوانحية، فعدُّ شرب الخمر من المقبَّحات العقلية أولى من عده من المحرمات الشرعية ، مع أنهما متلازمان كما ثبت في محلِّه، ويدل على ذلك قول الأئمة الهداة : «إن اللّه حرم الخمر لفعلها وفسادها».

فمن الآثار الخُلقية المترتبة على شرب الخمر : أنها تسلب لبَّ شاربها، وتجعل زمام عقله بيد الأهواء والنفس الأمارة، فعن الصادق (عليه السلام) : «السَّكران زمامه بيد الشيطان، إن أمره أن يسجد للأوثان سجد، وينقاد حيثما قاده» .

ومن الآثار أنها تذهب الإيمان، ففي الحديث عن يونس بن ظبيان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «يا يونس، أبلغ عطية عني أنه مَن شرب الخمر حتى يسكر منها نزع روح الإيمان من جسده، وركِّبت فيه روح سخيفة خبيثة ملعونة».

وفي حديث آخر عن الصادق (عليه السلام) أيضاً قال: قال رسول اللّه (عليهم السلام) : مدمن الخمر يلقي اللّه يوم يلقاه كافراً»، وفي كثير من الروايات: «أن مدمن الخمر يلقى اللّه كعابد وثن».

ومن الآثار: أن الخمر تذهب بنور شاربها، فتستولي على قلبه الحجب الظلمانية، فلا يعرف ربه فيكون في حيرة وضلالة، فيجسر على ارتكاب المحرَّمات وتهون عليه المعاصي والآثام، فعن ابن يسار عن الصادق (عليه السلام) : «إن شارب الخمر يصير في حالٍ لا يعرف معها ربَّه» .

ص: 136

وعن الصادقين (عليهما السلام) : «ما عصي اللّه بشيءٍ أشد من شرب المسكر ، إن أحدهم يدع الصلاة الفريضة ويثب على أُمه وبنته وأخته وهو لا يعقل» .

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «قيل له : إنك تزعم أن شرب الخمر أشد من الزنا والسرقة؟ قال (عليه السلام) : نعم، إن صاحب الزنا لعله لا يعدو إلى غيره، وإن شارب الخمر إذا شرب الخمر زنا، وسرق، وقتل النفس التي حرم اللّه، وترك الصلاة»، إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.

ومن الآثار : أنها تورث الندامة وتأنيب الضمير، ففي الحديث عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) : «أنه قال لأم خالد العبدية ، لا تذوقي منه - النبيذ - قطرة، لا واللّه لا آذن لك في قطرة منه، فإنما تندمين إذا بلغت نفسك هاهنا . وأومی بيده إلى منحره - يقولها ثلاثاً».

ومن الآثار: أنها تجعل الإنسان مضطرب البال غير مستقرِّ النفس، تحدثه نفسه بارتكاب الجناية، لم يكن للآخرين عنده منزلة وكرامة، فهو في عداوة دائمة مع غيره، قال اللّه تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ)(1).

ومن الآثار: أنها توجب الضد عن ذكر اللّه تعالى، الذي هو أقوى رادع عن ارتكاب المعاصي، فلا يراقب اللّه في أقواله وأفعاله، قال تعالى : (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)(2).

ومن الآثار : أنها تورث سوء العاقبة، فعن مسعدة بن زیاد، عن أبي عبد اللّه، عن آبائه (عليهم السلام) ، عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يجيء مدمن الخمر المسكر

ص: 137


1- المائدة، الآية 91.
2- المائدة ، الآية 91.

يوم القيامة مرزقَّةً عيناه، مسودّاً وجهه، مائلاً شدقه، يسيل لعابه، مشدوداً نصايته إلى إبهام قدميه، خارجاً يده من صلبه، فيفزع منه أهل الجمع إذا رأوه مقبلاً إلى الحساب».

وعن الباقر (عليه السلام) : «مَن شرب المسكر ومات وفي جوفه منه شيء لم يتب منه، بُعث من قبره مخبّلاً مائلاً شدقه، سائلاً لعابه ، يدعو بالويل والثبور»، إلى غير ذلك من الأخبار التي تدل على سنخية العقاب مع المعصية، وتناسب الجزاء مع العمل كما هو واضح.

إلى غير ذلك من الآثار التي تترتب على شرب الخمر، ويشترك الميسر في كثير من تلك الآثار وهي وجدانية يعرفها كل مرتكب لهذه المعصية، فجدير بالإنسان أن يترك هذا الإثم الكبير كما وصفه الجليل في كتابه الكريم.

(وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

بعد أن ذكر سبحانه وتعالى أن حب الإنسان لشيءٍ أو كرهه له لا يغيِّر الواقع، بل هو محفوظ في حدِّ نفسه ولا يعلمه إلا اللّه تعالى، وأن شأن الإنسان أن يبغي الصلاح في أفعاله، ذكر تعالى في هذه الآية المباركة من مصادیق ذلك القاعدة نكاح المشركات والمشركين، وحكم بأنه ليس من صلاح المؤمن نكاح المشركة وإن أعجبه هذا النكاح، بل لا بد للناس أن يذكروا اللّه تعالى ويختاروا ما يدعو إليه في الدنيا والآخرة(1).

ص: 138


1- ص 305-310 ، ج(3).

في الرجاء

الرجاء : فضيلة عالية، وله منزلة كريمة سامية، ومن الأخلاق الفاضلة أُمرنا بالتخلق بها، وهو يورث المجاهدة بالأعمال والمواظبة على الطاعات، وهو من دعائم الإيمان وركائز الأعمال، لا يليق إلا بمن كان مؤمناً مجاهداً، وقد اعتبره علماء الأخلاق والسلوك من جملة مقامات السالكين وأحوال الطالبین .

بل هو من ملازمات الحياة التي لا ينفك عنها الإنسان، وبدونه لا يمكن الفوز بنِعَم الحياة ، ولا الظفر بالعيش الهنيء. فهو والرغبة والأمل من الأمور الدخيلة في نظام هذا العالَم، فإن بالآمال يتقبل الإنسان المشكلات ويقتحم الصعاب. وبالرغبات تقوم الأسواق وتتحقق أنواع التجارات، وبالأماني تُقضي الحاجات وتقبل الطلبات، وبالرجاء يعمل الإنسان ويكافح في سبيل العيش والبقاء. ولنعم ما قيل :

أعلِّل النَّفس بالآمال أرقبها *** ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

وبالجملة : أن للرجاء أثراً كبيراً في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية، وله الأهمية الكبرى في الجانب التربوي والدِّيني له، مضافاً إلى كونه من أركان الإيمان إذا كان متعلقاً باللّه تعالى، فإنه يكشف عن عبودية صاحبه له عز وجل، وقوة معرفته به وخوفه منه، لأنه يرجع إلى حسن الظن باللّه تعالى الذي هو مجمع جملة من الأخلاق الفاضلة، ولذا ورد الأمر به في كثير من الروايات .

ص: 139

فالرجاء يضاعف العزيمة، ويجعل صاحبه مثابراً على العمل بالصبر والثبات ، وهو عامل من عوامل النصر والغلبة، قال تعالى: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)(1).

ولقد ورد ذكر الرجاء في مواضع متعدِّدة من القرآن الكريم، واعتبره من الأخلاق الفاضلة التي ينبغي للمؤمن أن يتحلى بها، بل اعتبره من أجزاء الإيمان، قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)(2)، وقد أدرجه الأنبياء والمرسلون (عليهم السلام) في جملة ما يدعون إليه، قال تعالى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ(3)، وقد نوه الجليل عز وجل بعظيم فضله، حيث وعد المؤمنين الصالحین تحقیق رجائهم، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ(4)، ويعرف كمال أهميته أن الحرمان منه يعد عند اللّه تعالی استكباراً، قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا)(5)، وقد أوعد مَن لا يرجو لقاء اللّه بعظيم العذاب، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(6)، كما

ص: 140


1- النساء، الآية 104.
2- الكهف، الآية 110.
3- العنكبوت، الآية 36.
4- فاطر، الآية 29.
5- الفرقان، الآية 21.
6- يونس، الآيتان 7 و 8.

أهمله عز وجل، قال تعالى: (فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(1)، ولذلك كان اليأس - الذي هو ضد الرجاء من المعاصي الكبيرة التي توجب البعد عن اللّه سبحانه، والانحراف عن الصراط، قال تعالى: (قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ)(2)، وقد ورد في السنة الشريفة أخبار كثيرة تبيِّن فضله، يأتي ذكر بعضها في ضمن هذا البحث.

ولا تختص هذه الفضيلة بالإسلام، بل يعتبر الرجاء ثانية الفضائل الثلاث عند المسيحيين، وهي الأمانة، والرجاء، والمحبة، وهو عندهم فضيلة عظمى ينتظر بها أنواع الثعم في الدنيا، والسعادة في الآخرة.

ثم إن الرجاء، والتمنِّي، والأمل وإن كانت مفاهیم مختلفة إلا أنها في أصل الحقيقة واحدة، والفرق بينها اعتباري فقط، فإن الأمل يطلق على رغبة ما هو مرضي ومحمود، والتمنِّي يطلق في المجهول المطلق وما لم يعلم بحصول المتوقَّع، بل حتى مع استحالته أيضاً، بخلاف الرَّجاء فإنه يطلق في الأعم مما هو مرضي ومحمود، كما أنه لا يطلق إلا على انتظار المتوقع إذا حصل أكثر أسبابه، ولأجل ذلك كان الرجاء ممدوحاً والتمنِّي مكروهاً، ففي الحديث : «الأماني بضائع التوكي» أي الحمقى.

فالرجاء : هو تعلق النفس بما هو المحبوب عند تحقق أكثر أسبابه ، ولذا يرتاح القلب من انتظاره، لأن الإنسان يشتاق إلى حصول نتيجة عمله وثمرة جهده .

قال الشاعر:

أماني إن تحصل تكن غاية المني *** وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا

ص: 141


1- يونس، الآية 11.
2- الحِجر، الآيتان 55 - 56.

وقد اعتبر علماء الأخلاق الرجاء من العوامل الداعية إلى العمل، ويجعل صاحبه صبوراً يتحمل في سبيل تحقيق غرضه أنواع المشاق، ذا عزيمة قوية، والوجه في ذلك معلوم، لأن العلم بالمراد تصوّراً وتصديقاً من مقدِّمات الإرادة ، وبدونه لا يتحقق لها موضوع، كما ثبت في علم النفس، ولذا كان طلب المجهول المطلق محالاً، وإذا حللنا ذلك بالدقة العقلية، نرى أنه بنحل إلى العلم بالمراد إجمالاً، والتصديق بفائدته كذلك، والرجاء بترتبها عليه والخوف عما يوجب البعد عنه، فيرغب إلى ارتفاعه ويرجو زواله، فيكون الرجاء والخوف مأخوذين إجمالاً في تحقيق الإرادة ، بلا فرق في ذلك بين الأمور التشريعية وغيرها.

فيكون للرجاء والخوف دخل في أصل الأعمال، وهما متلازمتان ويتقابلان في الوجود والعدم، فإن الخوف عن عدمه يلزمه الرجاء وجوداً، واعتبرهما علماء الأخلاق جناحين يطير بهما المؤمنون إلى كلِّ مقام محمود، ومطيتين يقطع بهما العامل كل طريق مخوف حتى يصل إلى المطلوب. فهما جزءا إرادته ، يكشفان عن شدة تعلق صاحبهما بمتعلقهما ومحبته لهما، فكل حبٍّ مصحوب بالخوف والرجاء، وعلى قدر تمكنه من قلب المحب يشتد خوفه ورجاؤه، فإن التطلع إلى رؤية المحبوب ورجاء ملاقاته يصحبهما توقع حدوث المكروه، ولا أقل من احتمال صرفه عن رؤية المحبوب، فيظل الإنسان دائماً بين الخوف والرجاء، وهو يعيش بينهما آمناً مطمئنَّ النغس إذا كانا متعلقين باللّه تعالى، قال عز وجل: (يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ)(1)، وفي الحديث: «ما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن - أي عند النزع - إلا أعطاه اللّه ما رجا، وآمنه مما يخاف».

ص: 142


1- الإسراء، الآية 57.

ومما ذكرنا يظهر أن حقيقة الرجاء تقوم بأمور:

الأول: أنه جزء من الإرادة في الإنسان، التي بموجبها صارت أفعاله ذات قيمة أخلاقية .

الثاني : أنه يتعلق بما هو متوقع الحصول بعدما مهد جميع أسبابه الاختيارية، ولم يبق إلا الأسباب الخارجة عن الاختيار، فيرجو تمهیدها ورفع الموانع عن تحقيق المرجو، ولأجل ذلك لا ينفك الرجاء عن العمل، وهذا ما أكد عليه القرآن الكريم في مواضع متعددة ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ)(1)، أي إن الرجاء لا يليق إلا بهؤلاء فلا يستحقه غيرهم. وقال تعالى : (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)(2)، ولقد ذم الإسلام مَن يرجو الغفران بدون العمل والإيمان، قال تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا(3)، وقال نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الأحمق مَن أتبع نفسه هواها، وتمنى على اللّه الجنة».

وفي الكافي : عن الصادق (عليه السلام) قيل له : إن قوماً من مواليك يلمون بالمعاصي، ويقولون: نرجوا، فقال (عليه السلام) : «كذبوا ليس لنا بموالٍ أولئك قوم ترجحت بهم الأماني، مَن رجا شيئاً عمل له، ومَن خاف شيئاً هرب منه»، وعنه (عليه السلام) أيضاً: «لا يكون مؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو».

ص: 143


1- البقرة، الآية 218.
2- الكهف، الآية 110.
3- الأعراف، الآية 169.

فالرجاء لا بد وأن يكون مقروناً بالعمل ومع فقده يكون غروراً، مثل مَن يلقي البذر في الأرض السبخة، وقد عزم على عدم تعهد الزرع بالسقي، وتنقية الأرض، وهو يرجو جني الثمار من بذره، وهذا لا يكون إلا غروراً . بخلاف مَن ألقى البذر في أرض طيبة، وقد بني على التعهد والتنقية وسوق الماء، وتحقيق كلِّ ما هو داخل تحت اختياره في سبيل الحصول على الثمار من زرعه، ثم يرجو اللّه تعالى أن يدفع عن زرعه الحوادث والصوارف ، فيكون رجاؤه محموداً، وكذا مَن يرجو اللّه تعالی والدخول في رضوانه ورحمته، لا بد له من الإيمان به، ومتابعة أنبيائه، وتطهير القلب من الأخلاق الرذيلة والتحلِّي بالأخلاق الفاضلة، ثم التعهد بإتيان الطاعات وترك المعاصي والسيئات، فيرجو حسن الخاتمة والثبات على الإيمان والمغفرة، ومثل هذا الرجاء يكون محموداً في نفسه، وباعثاً على القيام بما يقتضيه الإيمان، ويوجب العزيمة في المؤمن ويجعله مثابراً على العمل.

الثالث : أن المرجو منه لا بد أن يكون أهلاً لما يرجى منه وقادراً على الإجابة، وهو منحصر به عز وجل، لأن غيره في معرض الزوال، ولأن عروض الحوادث وأسبابها الخفية غير معلومة لأحد إلا اللّه تعالی.

نعم، حيث إن الدنيا دار الأسباب، ولا تجري الأمور فيها إلا بأسبابها، لا بد من تهيئة الأسباب الظاهرية والجد والاجتهاد فيها، ویرجی من اللّه رفع الموانع التي هي غير معلومة لنا، فانحصر الرجاء المطلق بالحيِّ القيوم، لأن غيره يفنى ولا يدوم.

ثم إن للرجاء مراتباً ودرجات، أعلاها ما إذا كان متعلقاً باللّه تعالی وبأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وهذا هو الرجاء المحمود الذي مدحه القرآن الكريم، واعتبره أساس العمل الصالح والإيمان الصحيح، وموجباً

ص: 144

للغفران والارتقاء إلى الدرجات العليا، بل ذكرنا أن الرجاء الحقيقي لا يكون إلا هذا، ويكون العمل مع هذا الرجاء أعلى من العمل مع الخوف، فإن مثل هذا الرجاء ينبیء عن عبودية صاحبه له عز وجل، وقوة معرفته به، وخوفه منه، ويكشف عن محبة صاحبه اللّه تعالى، وعلى قدر قوة المعرفة وشدة الحب والإخلاص تكون درجات الرجاء، وعلى ذلك يحمل ما ورد في القرآن الكريم من الاختلاف في ذكر المرجو، قال تعالى :

(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ)(1)، وقال تعالى : (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا)(2) وقال تعالى : (أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ)(3)، وقال تعالى : (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ)(4)، وقال تعالى: (يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ)(5) .

ثم إن الرجاء - كسائر الفضائل - لا بد أن يخرج عما هو المطلوب وإلا كان مذموماً، وهو الحد الوسط بين اليأس والقنوط وبين الرجاء بلا عمل.

وللرجاء فوائد وحِكَم ظاهرة في الدنيا والآخرة، نذكر المهم منها :

منها : تمامية الإيمان والخلوص والإخلاص فيه، والحب لله تعالی .

ومنها : ظهور العبودية المحضة لله تعالى على القلب والجوارح، وإحساس الافتقار إليه عز وجل.

ص: 145


1- الأحزاب ، الآية 21.
2- الكهف، الآية 110.
3- البقرة، الآية 218.
4- العنكبوت، الآية 36.
5- فاطر، الآية 29.

ومنها : جعل صاحبه مثابراً على الجد والاجتهاد .

ومنها: حصول الاطمئنان والسعادة، فإن الرجاء بالمبدىء القيوم الحي، يؤثر في النفس ويبعد عنها القلق والاضطراب، لأنه يرى نفسه متعلِّقة بالمبدىء القيوم الذي لا حد لقدرته وفضله، ولذا نرى أن المؤمنين الراجين أسعد الناس بالاً، وأبعدهم عن القلق والاضطراب .

ومنها : حصول المراقبة التي هي أفضل مقامات الأولياء .

ومنها: أنه ارتباط معنوي وذكر حالي لله جلت عظمته، في جميع الأحوال.

ومنها: أنه يرغب صاحبه على العمل، ويحرِّضه على الجهد والاجتهاد، ويبعده عن التكاسل والتهاون.

ومنها : أن العمل معه أقرب إلى القبول، لأن اللّه يحب من عباده أن يرجوه ويسألوه من فضله، كما في الحديث.

ومنها: محبوبية الراجين اللّه تعالی عند الناس، وتوجه القلوب إليهم، كما كان كذلك سيرة الأنبياء والأولياء، قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ)(1) - (2).

ص: 146


1- الأحزاب، الآية 21.
2- م-ن، 283 - 290، ج (3).

الإسلام - السلم - السلامة

قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً).

الخطاب مدني - كما مر - والإضافة تشريفية لا اختصاصية ، والتعبير - ب(ادْخُلُوا) لكمال الأهمية كما يأتي.

ومادة (سلم) تأتي بمعنى التعرِّي عن العيوب والآفات، سواء كانت ظاهرية أم باطنية، في الدنيا أو الآخرة.

وهي من المواد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات مختلفة ومنها الإسلام، والسلام، والسلامة . ولعل أعذب استعمالاتها قوله تعالی في وصف المتقین: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)(1)، وقوله تعالی :

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)(2).

وهذه المادة في جميع هيئاتها محبوبة عند الناس، قد أطلقها اللّه تعالى على ذاته الأقدس في جملة من أسمائه الحسنى، قال تعالى : (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ)(3)، فهو تعالی سلام فوق ما نتعقله من معنى السلام، وسبيله تعالى سبيل السلام، وعباده

ص: 147


1- الفرقان، الآية 63.
2- الأنفال، الآية 61.
3- الحشر، الآية 23.

الصالحين سلام من سلام، وداره دار السلام، الذي هو مظهر غيبي وصورة حقيقية لهذه الآية، فهما متحدتان في الذات ومختلفتان بالاعتبار ، إحداهما جوهر قائم بالذات وهو عالم الآخرة، والأخرى عرض قائم بالغير .

تكون وتبدل العرض بالجوهر وبالعكس سهل في نظام التكوين، فضلاً عن قدرة العزيز الحكيم، والجميع عبارة عن الصراط المستقيم الذي له أطوار من الظهور في عالم البقاء ودار الغرور، ولكن الحقيقة واحدة التي هي عبارة عن العبودية الواقعية، فهو من أعظم تجليات اللّه تعالی لبني آدم وأعظم عنایاته على خلقه، لأن يخرجه من الظلمات إلى النور .

و(كَافَّةً) هنا بمعنى الجمع، والجميع حال من ضمير الجمع في قوله تعالى : (ادْخُلُوا) ، جيء به ليشمل جميع الأفراد، للإعلام بأن الأمر متعلق بالأُمة بقدر ما هو متعلق بالأفراد، فإن الجهات الاجتماعية الإسلامية يتقوم المجتمع بها كما ينتفع الفرد منها لا محالة ، بقرينة ذكر فرق الناس قبل ذلك.

ويحتمل أن تكون (كَافَّةً) تأكيداً للسلم، فتشمل جميع التكاليف الفردية والاجتماعية، والكمال الفردي والنوعي.

والأولى أن يكون قوله تعالى : (كَافَّةً) تأكيداً لجميع ما سبق، ليشمل جميع ما ذكرناه ، بل بينهما ملازمة في الجملة .

والخطاب للمؤمنين - كما ذكرنا - لكونهم أفضل الأفراد، وأقرب إلى الرشاد، ولتكميل الإيمان باللّه تعالى بالتسليم له سبحانه والإخلاص له عز وجل، والبقاء عليه، فيكون أمراً بالثبات والدوام، كقوله تعالی : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ

ص: 148

وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ)(1)، فعبّر بالدخول للإشارة إلى أن المطلوب في الكمالات المعنوية والمعارف الإلهية إنما هو الإدامة والبقاء، لا مجرد الحدوث فقط، بل كل فضل وكمال شأنه كذلك، فإن المطلوب فيه هو الاستقامة والدوام، لأن المعارف الإلهية الحاصلة للنفس بالاختيار، إنما تؤثر في ذات الإنسان بواسطة الملكات الحاصلة منها، حتى تصير النفس بالمواظبة عليها وممارستها شعاعاً من أشعة عالَم الغيب على النفس، فتنبعث عن الذات الأفعال الخيرية، فتصبح الذات من الذوات المقدسة .

فيكون المعنى: يا أيها الذين آمنوا اثبتوا على الطاعة والتسليم لأمر اللّه تعالى، ولا تختلقوا وتتفرقوا، ولا تتبعوا الهوى، فإن في ذلك هلاككم وذهاب سعادتكم.

ومقتضى إطلاق الآية الشريفة خصوصاً بعد التأكيد بقوله تعالی : (كَافَّةً) بناءً على كونه تأكيداً للسلم، شمولها لجميع ما يتعلق بالشريعة المقدسة الإسلامية بأصولها وفروعها، فإن جميع ذلك سلم حقيقي للإنسان، صدر عن سلام مهيمن على الكل.

وإرشاد إلى الدعوة إلى العقل المقرر بالشريعة والشريعة المتممة للعقل، إذ لا فرق بينهما في الواقع.

وعلى هذا يشمل جميع ما ذكر في معنى الآية، فإن عنوان السلم للحق الواقعي ينطبق على ذلك كله، كما ينطبق على الإنسانية الكاملة والقرآن، الخلافة الإلهية لتلازمها مع السلم للحق الواقعي.

والمراد بالسلم: السلم الواقعي لا الادعائي، وهو يتحقق بعد الإيمان باللّه تعالى، والاعتقاد بأصول الشريعة اعتقاداً تاماً، والعمل بما

ص: 149


1- النساء، الآية 136.

اعتقده، وجميع ما ورد في الروايات في تفسير هذه الآية الكريمة، وما ذكره المفسرون ليس إلا من بيان التطبيق والمصداق، وعمومها يشمل السلم الشخصي والنوعي، والدنيوي والأُخروي، لانطواء الكل في السلم الذي يدعو إليه عز وجل.

وتشمل الآية الحدوث والبقاء، والثاني أشد من الأول بمراتب، ويُعلم من ذلك كلِّه كثرة ما عليه الناس من المخالفة لمثل هذه الآية .

ومفهومها الالتزامي يدل على أن مخالفة السلم للحق المطلق لا يكون إلا باطلاً، فيكون ذيل الآية بياناً للمفهوم الالتزامي المستفاد من صدر الآية المباركة .

وإنَّما عبَّر سبحانه وتعالى ب«السلم» دون الإسلام، لمحبوبية السلم حتى عند المنافقين أيضاً، فيكون مفاد الآية نظير قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ)(1).

وهذه الآية من الآيات التي تدل على ثبوت مراتب للإيمان، لأنه عز وجل جعل موضوع الحكم و (الَّذِينَ آمَنُوا) ، وأمرهم بالدخول في السلم.

قال تعالى : (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) .

الخطوات : جمع خطوة، وهي تتبع الأثر، وخطوات الشيطان عبارة عن جميع ما يدعو إلى الباطل والضلال، وجميع مصائده ومكائده في سبيل الانحراف عن الصراط المستقيم، وما يدعو إليه الرب الرحيم.

وذكره في المقام بيان للمفهوم الالتزامي لصدر الآية الشريفة، وقد تقدم ما يتعلق بهذه الآية في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)(2).

ص: 150


1- النساء، الآية 136.
2- البقرة ، الآية 168.

قال تعالى : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) .

بيان للسبب في النهي عن اتباع خطوات الشيطان، وهذا التعليل علة عقلية له، فإن العاقل، بل كل ذي شعور لا يتبع عدوه المبين في العداوة ، وقد ذكرت عداوة الشيطان للإنسان في آيات كثيرة من القرآن، قال تعالى : (إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ)(1)، وفي بعض الآيات المباركة عدو مضل مبين، قال تعالى : (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ)(2)، وفي بعضها: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)(3)، وقد اهتم القرآن - بل جميع الكتاب السماوية - ببيان عدواته بطرق مختلفة، لأنه أساس أنحاء الكفر والنفاق، والفساد، وسلب السعادة عن الإنسان، وقد أقسم بعزة اللّه تعالى لإغواء العباد، فقال : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)(4).

وتنشأ هذه العداوة من أسباب عديدة :

أولاً: إنها ذاتية، حيث قال : (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(5)، ولا أثر للنار إلا إزالة الطِّين وتفريقه.

وثانياً: إنها إرادية، إذ لا إرادة له إلا الفساد والضلال بخلاف المؤمنين فإنهم لا يريدون إلا ما أراده الحق تعالی.

وثالثاً: دركه لكرامة الإنسان وفضيلته عليه ، قال تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)(6)، وقال تعالى حكاية عن الشيطان : (أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا)(7) .

ص: 151


1- يوسف، الآية 5.
2- القصص، الآية 15.
3- فاطر، الآية 6.
4- ص، الآية 82.
5- الأعراف، الآية 12.
6- الإسراء، الآية 70.
7- الإسراء، الآية 62.

ورابعاً : طرده - لخبث ذاته - عن عالم النور إلى مهوى الغرور، قال تعالى : (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)(1).

وخامساً: شعوره بأنه لا حظ له في دار النعيم، بل انحطاطه إلى أسفل درك من الجحيم، بخلاف الإنسان، فإنه يدرك في الجملة أن له مقامات عالية إن أطاع ربه الكريم، قال تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ)(2).

وسادساً: اللعن والطرد والرجم من اللّه تعالى والإنسان، في كلِّ حين وآن، قال تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ)(3)، وقال تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ)(4).

والعجب من الإنسان مع أنه يلعن الشيطان، لا ينفك عن اقتفاء أثره وتتبع خطواته، فالآية الكريمة - بصدرها وذيلها - أجل دعوة بأعذب لفظ وأحسن أسلوب للإنسانية الكاملة، والتحذير عن المخالفة، مع التضمن للدليل والبرهان، خصوصاً بعد ملاحظة الآيات اللاحقة.

قال تعالى : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ) .

الزلة: هي العثرة والاسترسال من غير تعمد وقصد. أي : فإن أعرضتم عن الدخول في السلم، واتبعتم خطوات الشيطان بعدما جاءتكم الحجج الواضحات من تشريعاته المباركة وأحكامه المقدسة، وبعدما تبين لكم عداوة الشيطان وشقاوته وضلاله وإفساده، فلا عذر لكم في الميل عن الحق والإعراض عن الصراط المستقيم.

ص: 152


1- الأعراف، الآية 13.
2- الدخان، الآية 51.
3- ص، الآية 78.
4- الحجر، الآية 35.

والتعبير بالزلة . وهي ما يصدر من غير عمد والتفات - للإعلام بأن التعمد في التقصير بعد تمامية الحجة مفروض العدم. وفيها كناية عن أنه لا ينبغي أن يصدر من العاقل ذلك، والكناية أبلغ من التصريح في المحاورات .

ولم يذكر عز وجل العقاب مع الزلة، لأنها كالعثرة تكون بلا قصد، فلا وجه لثبوت العقاب في ما لا قصد فيه ولا اختیار، نعم توعدهم على ذلك .

قال تعالى: (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

العزيز : القدير الذي لا يُغلَب، وهو من أسمائه الحسنى، وقد أُطلق عليه تعالى في القرآن الكريم فيما يقرب من ثمانین مورداً، مع تعقبه غالباً بالحكيم أو الرحيم أو العليم أو الحميد أو الكريم وغيرها.

ولعل وجه اتباعه لهذه الأسماء الحسني المقدسة، أنه يطلق مجرَّداً على غيره تعالى، كقوله سبحانه حكاية عن بني يعقوب : (يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ)(1)، وقال تعالى حكاية عن إخوة يوسف: (قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)(2)، وقد استعمل في غيره تعالی موصوفاً أيضاً، كقوله عز وجل : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)(3)، لكنه التهكم.

والحكيم هو الذي يفعل بمقتضى الحكمة.

والمعنى : فإن زللتم عن السلم واتبعتم خطوات الشيطان، فاعلموا

ص: 153


1- يوسف، الآية 88.
2- يوسف، الآية 78.
3- الدخان، الآية 49.

أن اللّه تعالی مقتدر غير مغلوب في إنفاذ أمره، يفعل فيكم بمقتضى حكمته المتعالية بلا إلجاء

وفي إتيان حكمته المطلقة المتعالية مع قدرته وعزته، للإعلام بأن قدرته وعزته مقهورتان تحت حكمته التامة ، التي هي تنظيم الأشياء على وفق النظام الأحسن الرباني، وليست هي مرسلة من كلِّ جهة حتى ولو حصل محذور في البين.

وفيه إرشاد للناس بأن لا يعملوا عزتهم وقدرتهم كيف ما شاؤوا وأرادوا من دون فكر وروية، بل لا بد من تطبيقها على النظام العقلي والشرعي، وإلا فقد يكون وبالا على العزيز القادر، وقد وردت في السنة الشريفة، أحاديث كثيرة في ذلك.

وقد ذكر تبارك وتعالى العزة والحكمة في المقام للإشارة إلى مكان العفو والغفران، إذ القدرة على الانتقام شيء، والانتقام الفعلي المنجز شيء آخر، كما هو معلوم لكلِّ مَن تدبر .

ومن ذلك يُعلم أن في الآية روعة الأسلوب في بيان المعنى المقصود، وتقدم الوجه في أمثال قوله تعالى : (فَاعْلَمُوا) ، وذكرنا أن هذا التعبير أشد في التذكير والعتاب .

قال تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ) .

بيان لقوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، المتضمن للتوعيد، فيكون احتجاجاً آخر لعل الناس يرتدعون به عن العناد واللجاج، ويتركون متابعة الشيطان، ويدخلون في الصراط المستقيم بأحسن أسلوب في بيان الحجة .

وقد تغير فيه الخطاب من الناس إلى خطاب الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، كما أنه

ص: 154

اختلف فيه الأسلوب، ففيه الالتفات من الخطاب إلى الغيبة للإيهام بأن من يزِلّ عن الصراط المستقيم غير لائق بالخطاب، وللإعلام بأن الأمة قد يتغير حالهم ويزلون عن الطريق المستقيم ويقع فيهم الاختلاف والتفرق، فيشملهم ما أوعده اللّه تعالى في هذه الآية المباركة .

والاستفهام إنكاري بمعنى النفي.

ومادة (نظر) تدل على الطلب لإدراك الشيء، وهو الجامع القريب بين جميع استعمالاتها الكثيرة، سواء كان بالبصر أم البصيرة، أم كان بمعنى الانتظار والإمهال، لأن فيهما يطلب وقوع الشيء بعد ذلك.

نعم، إذا استعملت بالنسبة إلى اللّه عز وجل، كما في قوله تعالی : (وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(1)، فإنه يكون بمعنى إنزال الرحمة ورفع العذاب، لأنه من صفات فعله المقدس.

وفي المقام يكون بمعنى الانتظار، أي ينتظرون هذا الأمر وقضاءه فيهم.

والظلل : جمع ظلة، وهي ما يتستر به، وسمي السحاب والغمام بذلك. ولم يرد لفظ «ظلل» في القرآن الكريم إلا في أربعة مواضع، وجميعها كناية عن التهويل والعظمة، كما هو المستفاد في استعمال هذا اللفظ في المحاورات.

والغمام: السحاب الأبيض الرقيق، سمِّي به لأنه يغم، أي يستر، والمشهور بین المفسرين القول بالمجاز والحذف في مثل الآية، فإما أن يكون المحذوف (العذاب)، بقرينة قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ

ص: 155


1- آل عمران، الآية 77.

بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ)(1)، وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كثير في المحاورات الفصيحة.

أو يكون أمره تعالى بقرينة قوله جل شأنه: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)(2)، وقوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ)(3)، وغير ذلك مما يصح إضماره، ولا بد من المصير إلى ذلك - كما هو كثير في القرآن الكريم - فيما لا تلائم نسبته إلى ذاته الأقدس. والكل يرجع إلى إرادته المقدسة.

والملائكة عطف على اسم الجلالة، أي: تأتي الملائكة الموكلة بقضائه .

ولعل الحذف وإسناد الفعل إلى الذات إنما هو لأجل أن يعمَّ الجميع، وليذهب المخاطب إلى أيِّ مذهب ممكن، ولزيادة التوعيد والتخويف.

ويمكن أن تكون الآية المباركة على المعنى الحقيقي من دون إضمار شيء في الموردين، أي يأتي اللّه تعالى وتأتي الملائكة، ويكون المراد من الظلل من الغمام الحجب، كما ورد في الحديث: «إن اللّه تعالی سبعین ألف حجاب من نور، وسبعين ألف حجاب من ظلمة، لو كشفت لأحرقت سبحات وجهه كل ما انتهى إليه بصره»، فيكون مفاد مثل هذه الآية المباركة عبارة عن بعض أفراد التجلِّي له جلت عظمته . ولعل اللّه تعالی يوفقنا لبيان معنى الحجب وكشف بعض أسرارها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالی .

ص: 156


1- يونس، الآية 50.
2- النحل، الآية 1.
3- النحل، الآية 33.

ولا يستفاد من قوله تعالى : (يَأْتِيَهُمُ) في المقام وغيره أنه قد نسب إليه صفة من صفات الأجسام، فإنه تعالى منزه عنها بالأدلة القطعية الضرورية، بل المراد به بعض مراتب التجلِّي، أو الإحاطة أو غيرهما مما يليق بالذات الربوبي، لا الإتيان الظاهري، وسيأتي في البحث الفلسفي ما يرتبط بالمقام.

ويمكن أن يكون المراد من قوله تعالى : (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ)، ما يكون بمنزلة الجنود لبيان الأهمية، وإلا فإن جنود ربك كثيرة، قال تعالى: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)(1)، وقال تعالى : (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا)(2).

ولعل إنزال القهر والعذاب في الغمام عند إرادة التعذيب والانتقام يكون أشد، والقهارية أظهر، قال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)(3)، وهذه سنته تعالى في عباده ، فيبلي العصاة والظالمين بما يراد فيه النفعن وينتفع أولياؤه بما يئسوا من نفعه، وتنحصر هممهم في الانتفاع من النافع العظيم والملك البار القديم.

وكيف كان، فالآية الشريفة متضمنة لتوعيد آخر، وفيها بيان لبعض آثار متابعة خطوات الشيطان .

يعني: ما ينتظر من يتبع خطوات الشيطان إلا نزول عذاب اللّه تعالي، الذي له طرق كثيرة تختلف حسب اختلاف الجهات

ص: 157


1- الفتح، الآية 7.
2- الأحزاب، الآية 9.
3- الأحقاف، الآية 24.

والخصوصيات ، فقد ينزل العذاب على الإنسان وتحيط به النقمة، كإحاطة الغمام بالأرض فيسترها عن الشمس، كذلك يستره عن رحمة اللّه تعالی .

وهذه الجملة المباركة تشير إلى أمرين :

أحدهما: السّتر عن الحقائق الواقعية، وعدم الوصول إليها، وأن متابعة خطوات الشيطان تستر شمس الحقيقة عن البصائر، كما تُستر الشمس عن الأبصار بالغمام.

الثاني : أنه تحيط به المكاره والمتاعب كإحاطة ظلل الغمام بما أظلت عليه، وإن كان الإنسان لا يدرك ذلك ما دام متابعاً لخطوات الشيطان، والوجه في ذلك معلوم، فإن التابع إنما يتبع المتبوع في ما يدعو إليه حتَّى يصير مثله، وتسري فيه غريزته وطبيعته، فإذا كان المتبوع من أهل الضلال والفساد، تسري في التابع هذه الغرائز، فيصير نسخة أخرى من المتبوع، فإذا اشتدت وقويت هذه الغرائز في الناس واستفحل الأمر ولم تنفعه النصائح والنذر، لا بد من نزول العذاب في ظلل كالغمام، لتحسم به مادة الفساد وتنقلع أسباب الضلال.

والحاصل : أن ما ورد في الآية الشريفة يبين الحكم الوضعي لمتابعة الشيطان والزلل عن الدخول في السلم، ويستفاد منها سنخية العذاب مع المعصية، وملائمته مع الإثم.

وفيها إشارة إلى بعض كیفیات عذاب الاستقبال وعذاب الآخرة، فيرجع محصل معنى الآية الشريفة : هل ينتظر هؤلاء علامات قیام الساعة ، وانقضاء الأمر بالنسبة إلى أهل الجنة وأهل النار، وحينئذٍ فلا تنتفع كل نفس بإيمان لم تكن آمنت به من قبل.

ففي الآية تهويل عظيم وتوعيد شديد لأمر متوقع الحصول في هذه الدنيا، فتكون مرآة لما يقع في الآخرة.

ص: 158

ومن ذلك يعلم أن العذاب لا يختص بالدنيا فقط أو الآخرة كذلك، بل تكون وعيداً لما سيقع في الدنيا والآخرة .

قال تعالى : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ).

جملة حالية، أي: حضر زمان القضاء وفصل الأمر فيقضي بالحق ولا راد لقضائه، وحذف الفاعل المعلوم في المقام للتهويل وإظهار الكبرياء، كما هو كثير في المحاورات الفصيحة.

قال تعالى : (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

بیان لصدر الآية المباركة، فإن من ترجع إليه الأمور بجميع جزئياتها وكلياتها، لا بد وأن يكون مبدأ لجميع تلك الأمور، لما أثبتناه سابقاً من تلازم المبدأ والمرجع.

وفي الآية الشريفة من التهديد وتهويل الأمر ما لا يخفى، وإعلام بأن مَن كان يتوجه إليه في الجملة لا بد وأن يعد نفسه للرجوع إليه تعالی .

قال تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ).

تثبيت وتأكيد لما ذكر في الآيات السابقة، وقد أورد عز وجل من أحوال بني إسرائيل بعدما ذكر من الوعيد للاعتبار من أحوال الماضين، وللإعلام بأنه يجري في المخاطبين ما جرى في الأمم السابقة وما جرى عليهم، وفيه من الفوائد الكثيرة، بل هو أمر فطري في الجملة، حتى لقد ارتكز في النفوس: «أن التأريخ يعيد نفسه»، ولعلنا نتعرض للبحث عنه في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالی.

وكيف كان، ففي الآية المباركة تسلية لنبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأنها تشير إلى أن الجحود واللجاج طبيعة واحدة وإن تعددت مظاهرهما في الأُمم المختلفة، كفوم إبراهيم، وقوم لوط، وقوم موسى، ومشركي

ص: 159

العرب، وكل ذلك ينشأ من الصِّراع بين الحق والباطل الذي هو قدیم، هو الصِّراع بين العقل والجهل.

وقد ذكر سبحانه بني إسرائيل لأنهم كانوا وثيقي الصلة بالعرب، وكانوا مجاورين لهم، يعرفون من أخبارهم ويتتبعون آثارهم فهم بمرأى منهم ومنظر .

والمعنى: أن هؤلاء - بني إسرائيل - قد آتاهم اللّه الآيات البينات التي تهديهم إلى الحق، وتوضح لهم طريق السعادة، وترشدهم إلى سبيل الرشاد فاسألهم أيها الرسول الكريم كم آتيناهم من آية بينة فأنكروها وكذبوها، فعاقبهم اللّه تعالى أشد العقاب وعذبهم بسوء العذاب، فاعتبروا بحالهم وما آل إليه أمرهم من سوء العاقبة وذهاب الملك والنبوة عنهم.

وفي السؤال تقريع وتوبيخ لهم بما صدر عنهم من الطغيان والكفران، بعدما أنعم اللّه عليهم بأنواع النِّعَمِ والإحسان.

قال تعالى: (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).

بيان لسنة اللّه تعالى في خلقه، وتطبيق للكلِّي، أي ومَن يغيِّر نعمة اللّه تعالى بالكفران والجحود ويضعها غير موضعها، بعدما جاءته من الآيات البينات التي أرسلها اللّه لتكون سبباً في سعادته، فإن اللّه تعالی يعاقبه أشد العذاب ، واللّه شديد العقاب، لأنه يرجع إلى وجوب شكر المنعم الذي هو أصل جميع الكمالات الإنسانية ودرك المعارف الربوبية، فشدة العقاب إنما هي أمر وضعي يترتب على مَن رضي بالذل والهوان ، والهم والخسران، وقد عاقب نفسه بنفسه فحصلت له الندامة العظمی، قال تعالى: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(1) .

ص: 160


1- النحل، الآية 118.

وفي الآية الشريفة تهدید وتوعيد لمن يتعدى حدود ما أنزله اللّه تعالى، وبيان لسنّته الجارية في خلقه، وتقدم في الآيات السابقة نظير هذه الآية .

وقد نسب سبحانه العقاب إلى نفسه في المقام و غیره، مع أن الفعل منسوب إلى العبد بسبب سوء أعماله، ولكن نسبته إلى العبد بنسبة العلة الفاعلية، وأما جزاء الفعل فإنه منسوب إليه بنسبة العلة الغائية، وليس من اللّه تعالى إلا جعل القانون وبيان الجزاء على الموافقة والمخالفة، وهو داخل في باب الإرشاد، وقد رجحنا في أصول الفقه - تبعاً للمحققين - أن الأوامر والنواهي في التشريعيات إنما هي إرشاد إلى المصالح اللازمة الدرك، أو المفاسد اللازمة الدفع، وبعد ذلك يحكم العقل باللزوم.

فالآية المباركة تبيَّن حكماً من الأحكام المستقلة العقلية، وهو وجوب شكر المنعم، وقد ابتنى الفلاسفة جملة من المسائل العلمية عليه.

قال تعالى : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا).

الزينة معروفة، وهي إما نفسانية كالعلوم والمعارف الحقة، أو بدنية كالجمال ونحوه، أو خارجية كالمال والجاه ونحوهما.

والقسم الأول: إما دنيوية، أو دنيوية وأخروية معاً، كالمعارف الحقة والاعتقادات الحسنة والأخلاق الفاضلة.

وبالجملة الزينة إما واقعية حقيقية، أو وهمية خيالية، التي هي ما سوى ما ينفع في الآخرة .

ثم إن الزينة المستعملة في القرآن الكريم ..

تارة : تنسب إلى اللّه تعالى، قال سبحانه وتعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ)(1).

ص: 161


1- الحجرات، الآية 7.

وأخرى: إلى الشيطان، قال تعالى : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(1).

وثالثة: تستعمل من دون أن تنسب إلى أحد، قال تعالى: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ)(2).

والآية في موضع التعليل لما تقدم في الآيات، وذلك أن السبب في الزلل، وعدم الدخول في السلم، وتغيير نِعَمِ اللّه تعالى، والجحود بآياته عز وجل، إنما هو تزيين الحياة الدنيا، وحبها، هو الذي رأس كل خطيئة كما في الحديث، وهذه قضية وجدانية، وذلك لأن كل إنسان محفوف بالشهوات الكامنة فيه، التي خلقها اللّه تعالی لحفظ النظام الأحسن، فإذا كان معتقداً بالمبدأ والمعاد يكون مانعاً من أن يتابع شهوات النفس ويعمل بها، وكل ما قوي هذا الاعتقاد يضعف المقتضي عن الفعلية، حتى يصل إلى مرتبة بنعدم الرادع والمانع، فيصير المقتضي علة تامة للغواية، وكذا بالعكس، وحينئذٍ يكون حب الدنيا وزينتها سبباً في صرف النفس عما يوجب كمالها، والإعراض عما يؤثر في إصلاحها وتهذيبها، فلا يعمل إلا ما ترتضيه نفسه وهواه، ولا يكون همه إلا إعمال شهواته، وتكون الدنيا أكبر همه فلا تنفع فيه النذر والزواجر، ولا يؤثر فيه ما أنزل اللّه من الآيات البينات.

ومن ذلك يعلم أن الأمر لا يختص بالكافرين، بل يشمل كل من جرى فيه ما ذكرناه، فتشمل الآية الشريفة كل مَن بذل النعيم الأبدي والسعادة الدائمة بالزخرف العاجل الفاني من المسلمين وغيرهم، الذين

ص: 162


1- الأنعام، الآية 43.
2- الرعد، الآية 33.

نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم، بل ربما كان العقاب فيهم أشد لتمامية الحجة عليهم بعد الاعتقاد بالإسلام ومعارفه .

وتزيين الدنيا إما أن يكون من الشيطان وميل النفس الأمارة إليها، كما في قوله تعالى: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(1)، وقوله جل شأنه : (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(2)، وقوله تعالى : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ)(3)، أو يكون قد زينها اللّه تعالى للناس لأجل الامتحان وابتلائهم، كما في قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)(4)، وفي هذه الصورة إن وقعت الدنيا وزينتها في طريق اكتساب المعارف الإلهية والكمالات الإنسانية وتهذيب النفس وإصلاحها، فهي ممدوحة من كلِّ جهة، بل هي الآخرة بنفسها. وأما إذا لم تكن كذلك، بل كانت صارفة عنها ومضيعة لها، فهي الدنيا المذمومة، وبذلك يجمع ما ورد في السنة المقدسة من ذم الدنيا، وما ورد في مدحها، فتحمل الذامة على الثانية والمادحة على الأولى(5).

ص: 163


1- الأنفال ، الآية 48.
2- النحل، الآية 63.
3- النمل، الآية 24.
4- الكهف، الآية 7.
5- م - ن، ص213 - 226، ج (3) .

الدعاء في القرآن

(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).

تحريض للدعاء بأسلوب بليغ، يشعر بالعطف والحنان والمحبة ، وترغيب الإنسان بالوصول إلى الفيض المطلق وغاية الكمال، وهي الرشاد، وفي الآية الشريفة تلميح لبعض شروط الدعاء، التي إذا توفرت تجعل الدعاء مستجاباً، وفي تعقيب شهر رمضان بهذا الخطاب فيه من الحث على الدعاء في هذا الشهر، وأن له اختصاصاً به والقبول فيه، مما يخفف ثقل التكليف بالصوم فيه، وهذا مما دلت عليه السنة المقدسة، ففي بعض الأخبار : «مَن فاته الدعاء في شهر رمضان، فلنتظر يوم عرفة، ومن فاته الدعاء فيه، فلينتظر شهر رمضان المقبل».

قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي).

السؤال : طلب معرفة شيء واستدعاؤها، أو طلب مال.

وفي الأول يتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه تارة، وبحرف الجر أخرى، تقول: سألته كذا، وسألته عن كذا، قال تعالى : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ)(1)، وقال تعالى : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ)(2)، وقال تعالى : (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ)(3).

ص: 164


1- الأنفال، الآية 1.
2- البقرة، الآية 189.
3- المعارج، الآية 1.

وإذا كان لطلب المال يتعدى إليه بنفسه أيضاً، وب(من) أخرى، قال تعالى : (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ)(1).

والمعروف أن الطلب إذا كان من العالي إلى السافل، فهو أمر، وإذا كان بالعكس فهو سؤال، وإذا كان من المساوي فهو استفهام، وقد ذكرنا في الأصول أنه لا كلية في ذلك .

ويختلف الدعاء عن السؤال في أن الأخير بمنزلة الغاية للأول .

والعبد، والعبودية ، والعبادة : بمعنى التذلل والخضوع، وتقدم في سورة الحمد ما يتعلق به .

وللعبد في القرآن دلالات :

الأولى: في مقابل الحر، وهو الذي يباع ويشتري كسائر الأمتعة ، وله أحكام خاصة في الإسلام، مذكورة في الكتب الفقهية، قال تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى)(2).

الثانية : المخلصون من عباده تعالى، الذين لهم مع اللّه جل جلاله حالات، وله عز وجل معهم عنایات، ولهم في القرآن قصص وحكايات ، وهم الذين استثناهم الشيطان عن غوايته ، فقال تعالى حكاية عنه : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(3)، لأنهم اتخذوا اللّه تعالی بذاته الأقدس معبوداً لأنفسهم، بتمام عني العبودية الحقيقية، فاتخذهم اللّه تعالى عباداً لنفسه، ومدحهم بأبلغ المدائح، ولعل أرثها قوله تعالی : (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)(4).

ص: 165


1- الأحزاب، الآية 53.
2- البقرة، الآية 178.
3- ص، الآية 82- 83.
4- الفرقان، الآية 63.

الرابعة : عبد اللّه تعالى، ولكنه يطيع الشيطان ويتبعه، قال تعالى حكاية عنه : (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا)(1)، سواء كان مسبوقاً بالكفر ثم آمن كذلك، أم لم يكن، والجميع عبيده عز وجل، لكثرة رأفته وعنايته بخلقه، ويدل على ذلك قوله تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(2)، وقوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ)(3) ، مع أنهم كانوا من سحرة فرعون، فإن المنساق من هذه الآيات أن مجرد الإيمان باللّه جلت عظمته في مقابل الكفر به ، يكفي في شمولها له، وهو مقتضى الرحمانية والرحيمية المطلقة له عز وجل.

وفي الكلام من العناية واللطف ما لا يخفى .

قال تعالى : (فَإِنِّي قَرِيبٌ).

القرب معلوم.

والقريب من أسماء اللّه الحسنى - وجميع أسمائه المقدسة حسنی، وإنما الوصيف إضافي، لا أن يكون حقيقياً - وهو إما أن يلحظ بالنسبة إلى الذات المقدسة، قال تعالى : (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ)(4)، وقال تعالى : (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ)(5)، ويبيِّن هذا المعنى قوله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)(6)، وقد فضل ذلك في الفلسفة تفصيلاً دقيقاً، لعلنا نشير إليه في ضمن المباحث الآتية .

ص: 166


1- النساء، الآية 118.
2- الحجر، الآية 49.
3- الشعراء، الآية 52.
4- هود، الآية 61.
5- سبأ، الآية 50.
6- الحديد، الآية 4.

أو يلحظ بالنسبة إلى رحمته الواسعة، قال تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)(1).

ويطلق القرب بالنسبة إلى المكان، كقوله تعالى: (فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ)(2)، وهو كثير في القرآن.

وأخرى : بالنسبة إلى الزمان، قال تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ)(3).

وثالثة : بالنسبة إلى الفعل، كالتصرف وغيره، قال تعالى : (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ)(4)، وقال عز وجل: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا)(5)، وقال تعالى : (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ)(6).

ورابعة : بالنسبة إلى النسب، كقوله تعالى : (أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى)(7)، وقال تعالى : (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى)(8).

كما يطلق ويراد به القرب المعنوي من طرف الخلق، قال تعالى : (وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)(9)، وقال تعالى: (وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)(10)، وقال تعالى : (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ)(11).

ص: 167


1- الأعراف، الآية 56.
2- التوبة، الآية 28.
3- الأنبياء، الآية 1.
4- الإسراء، الآية 34.
5- الإسراء، الآية 32.
6- الأنعام، الآية 151.
7- النور، الآية 22.
8- النساء، الآية 36.
9- النساء، الآية 172.
10- آل عمران، الآية 45.
11- المطففين، الآية 28.

والقرب المعنوي : إما من اللّه تعالى بالنسبة إلى خلقه، ويصح أن يعبر عنه باللطف، والعناية ، والرعاية ، والقدرة ، ونحو ذلك.

وإما من المخلوق بالنسبة إليه عز وجل، وهو حالة انقطاع إلى اللّه تبارك وتعالى، بحيث لا يعلم حقيقتها إلا المتقرب إليه جلت عظمته والعبد المتقرَّب منه، ولا يحيط بها إلا اللّه عز وجل، ولكل ما ذكرناه مراتب كثيرة .

والمراد بقربه تعالى - في المقام -: القرب باللطف والرحمة والإجابة، الذي لا حد له ولا نهاية، لا أن يكون قرباً زمانياً أو مكانياً، فإنَّه تعالى يجل عنهما، وهو محيط بهما بالإحاطة القومية الحقيقية .

وربما يكون القرب فيه من قبيل قرب العلة الحقيقية من المعلول المحتاج إليها، حدوثاً وبقاءً، وقد ورد في بعض الدعوات المأثورة عن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) : «يا جاري اللصيق، یا ركني الوثيق»، كما ورد في بعض مخاطبات اللّه تعالى مع موسی بن عمران : «یا موسى أنا بدك اللازم» .

وكيف كان، وفيه الكناية اللطيفة، فإن فيه تمثيلاً لحاله في سهولة إجابة دعائه ، وسرعة إنجاح حاجة مَن سأله، بحال مَن قرب مكانه .

قال تعالى : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ).

مادة (ج و ب) تأتي بمعنى القطع، ولها استعمالات كثيرة في القرآن بهیئات مختلفة، والجواب يطلق غالباً في مقابل السؤال.

والسؤال إن كان لطلب المقال، فجوابه المقال، وإن كان لطلب المنال، فيكون جوابه المنال .

ص: 168

ومن الأول قوله تعالى : (أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ)(1).

ومن الثاني قوله تعالى : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا)(2)، أي أعطيتُ سؤلَكما .

والاستجابة : التحري والتهيؤ للجواب، يعبَّر بهما عن الإجابة ، لعدم الانفكاك بينهما غالباً، لا سيما بالنسبة إلى الغني المطلق والرحيم بعباده في جميع العوالم.

فهذه المفاهيم الثلاثة : أي : الدعاء، والإجابة ، والاستجابة، من المفاهيم الإضافية بالنسبة إليه عز وجل، قال تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(3)، وقال تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ)(4)، وقال تعالى : (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى)(5).

فالآية الشريفة في المقام تشتمل على على الحكم، أي : أن الداعين لكونهم عباد اللّه ، فإن اللّه قريب منهم، وقربه إليهم موجب لإجابة دعواتهم، وذلك أن عباده ملك له بالملكية الحقيقية، وهذه هي المقتضية لكونه قريبا منهم على الإطلاق، وإلا فإن ما سواه تعالی فقير بحد ذاته ، وإنما يملك بالملكية الاعتبارية بتمليك الملك الحقيقي للأشياء له، وهو اللّه سبحانه وتعالى، فلو لم يشأ الملكية لم يملك أحد، كما يظهر من قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(6).

ثم ذكر سبحانه أن استجابة الدعاء منوطة بأمرين:

ص: 169


1- الأحقاف، الآية 31.
2- يونس، الآية 89.
3- غافر، الآية 60.
4- آل عمران، الآية 172.
5- الرعد، الآية 18.
6- فاطر، الآية 15.

أحدهما: أن يكون الداعي داعياً بحسب الحقيقة، كما يدل عليه قوله تعالى : (إِذَا دَعَانِ) ، فلا بد للداعي الذي يدعو لحاجته أن يكون عالما بحقيقة الدعاء ، صادقاً عليه التوجه إلى اللّه جل شأنه، ومتوجهاً إليه صادراً عن معرفة بحكمته وسعة رحمته، دون ما يدور في اللسان مع الغفلة عنه تعالى، وترشد إلى ذلك الآيات التي تدل على استجابة السؤال إذا كان عن فطرة، مثل قوله تعالى : (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)(1) ، وذلك لأن الاستحقاق كان بحسب الذات، فالسؤال كان عن الفطرة، ومن ذلك يظهر السر في إطلاق السؤال دون الدعاء على السؤال الصادر عن الفطرة، وإن لم يكن للسان فيه عمل، وهذا بخلاف الدعاء .

والأمر الثاني ما ذكره تعالى بعد ذلك :

قال تعالى : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي).

أي أنهم إذا أرادوا الإجابة والاستجابة، وإذا كان اللّه تعالی قریباً منهم، لا يحول بينه وبين دعائهم شيء، فلا بد لهم من الاستجابة فيما دعاهم إليه، والعمل بما أمرهم من الإيمان والعبادات، التي فيها صلاحهم وسعادتهم ورشدهم، ولا بد لهم من الإيمان بما يتصف به من الصفات الحسنى، ولا بد لهم من المعرفة بأنه قريب يجيب دعوة الداع .

قال تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).

الرشاد: ضد الغي. أي أن الأعمال والدعاء إذا صدرت عن روح الإيمان، يكون صاحبها راشداً مهتدياً، وقد تقدم الوجه في إتيان كلمة (لعل) في أمثال المقام .

ص: 170


1- الرحمن، الآية 29.

بحوث المقام

بحث أدبي

الآية الشريفة تشتمل على مضمون رفيع، بأحسن بیان، وأرق أسلوب، وأبلغ خطاب يلقى إلى السامع، وهو يُشعر بالعطف والحنان، واستقرار النفس بأن خالقها قريب منها، يسمع دعاء مَن يدعوه بكل ما يدعوه، وهي تتضمن من الأنحاء الأدبية ما يلي :

الالتفات عن خطاب المؤمنين بأحكام الصيام إلى خطاب الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وفيه من التذكير لهم بالدعاء والطاعة، والتنويه بشرف الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعظمته .

إلقاء صيغة التكلم للدلالة على كمال العناية بالدعاء والمدعوين .

دلالة قوله تعالى : (عِبَادِي) على كمال الرأفة والاعتناء بالخلق، والاهتمام بالأمر، ولو قال : (خلقي أو الإنسان) وما أشبههما، لما أفاد ذلك .

إتيان الصيغة المؤكدة في قوله تعالى : (فَإِنِّي قَرِيبٌ) دون الفعل، للدلالة على ثبوتها ودوامها، كما أنه حذف الواسطة ولم يقل «فقل إني قریب»، ليدل على أن الإجابة منحصرة فيه تعالی.

إتيان الفعل في قوله تعالى : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ)، للدلالة على استمرار الإجابة وتجددها .

ص: 171

ويأتي في البحث الدلالي وجه إتيان ضمير المتكلم مفرداً .

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور :

الأول : إتيان ضمير المتكلم المفرد في قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) ، للدلالة على مزيد العطف والعناية ، ومن سنته جل شأنه في القرآن الكريم أنه إذا كان في مقام إظهار الاقتدار والكبرياء والهيمنة، يأتي بضمير الجمع غالباً، مثل قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ)(1)، وقوله جل شأنه: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا)(2)، وقوله عزّ وجل : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ)(3)، وقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)(4)، وقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)(5)، وغير ذلك مما هو كثير .

وإذا كان في مقام الامتنان والرأفة والتحن وإظهار المعيّة، يأتي بضمير المفرد، قال تعالى : (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)(6)، وقال تعالى : (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا)(7)، وفي المقام قال تعالى : (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) ، فهو مشعر بالتوجه والأُلفة، وتهييج الشوق - كأنه مما يشبه اختلاط المتكلم مع المخاطبين - ما لا يدركه الإعلام، ويقصر دون بيانه الأعلام.

ص: 172


1- ق، الآية 43.
2- يس، الآية 12.
3- الأحزاب، الآية 72.
4- الدخان، الآية 3.
5- القدر، الآية 1.
6- طه، الآية 46.
7- طه، الآية 14.

الثاني : الوجه في إلقاء الخطاب إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقوله تعالی : (وَإِذَا سَأَلَكَ)، لأنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قائد الأمة ورأسها ورئيسها، بل إن ذلك ثبات له بالنسبة إلى جميع الخليقة، للإشارة إلى أن الدعاء لا بد من وروده من بابه ، وهو خاتم الأنبياء ، فإنه الواسطة في الفيوضات الإلهية، وخاتمة جميع المعارف الربوبية، فهو الخاتم لما سبق، والفاتح لما استقبل.

وفيه نحو تعليم للناس في أن يسألوا أمهات الأُمور الدينية من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أو مَن يتبع طريقه علماً وعملاً، مع أن أسرار الحبيب لا يعرفها إلا الحبيب .

الثالث : أن شأن العبد بالنسبة إليه عز وجل هو الدعاء، وقد وعد تعالى الإجابة إن كان الدعاء جامعاً للشرائط، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)(1).

وأما السؤال عن كنهه وذاته سبحانه وتعالى، فهو مرغوب عنه، إذ لا يدرك الممكن كثيره، ولا ينفع قليله، بل ربما يضر، ولذا ورد النهي في السنة عن التعمق في ذاته تعالى، ويستفاد ذلك من قوله تعالى : (فَإِنِّي قَرِيبٌ) ، ولا معنى للسؤال عما هو قریب حاضر .

ومن العجائب أن أكون مسائلاً *** عن حاضرٍ لا زلت أصحبه معي

الرابع : تكريم الداعي السائل بالإضافة التشريفية المعبودية في قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) ، وفيه من الأدب ما لا يخفى، وتعليم للعلماء باحترام السائل عن الحق.

الخامس : تضمين الأمر بالدعاء معنى الإجابة في قوله تعالی : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) ، فإنه بشارة باستجابة الدعاء ، ثم التأكيد بقوله تعالی :

ص: 173


1- آل عمران، الآية 9.

(وَلْيُؤْمِنُوا بِي)، فإنه سواء كان خاصاً بخصوص هذه الآية، أم عاماً لجميع التشريعات، فإنه يدل على تحقق مفاد الآية، واتباع ذلك بقوله تعالی : (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)، وهو تأكيد آخر، ولبيان أن الدعاء سبب الرشد، الذي هو إصابة الحق والخير، وإليه يشير قول نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إن أعجز الناس مَن عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل عن السلام».

السادس : أن قوله تعالى : (إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) ، يدل على شروط استجابة الدعاء، أحدها سيق لبيان الموضوع، وهو قوله تعالى : (إِذَا دَعَانِ) ، فإنه معلوم مما قبله، ولكنه ذكر لأجل التنبيه على أنه ليس كل من يدعو اللّه لحاجة هو داعياً اللّه بحقيقة الدعاء ، لفقد الانقطاع وعدم التوجه إليه تعالى، فلا يكون هناك مواطاة بين القلب واللسان، ولا يكون دعاء، بل التبس الأمر على الداعي، فيسأل ما يجهله، أو ما لا يريده لو انكشف الأمر له، أو يكون سؤال لكن لا من اللّه تعالى وحده، ولذا ورد أن اللّه لا يستجيب دعاءً من قلب لاه، متعلق بالأسباب المادية ، أو الأمور الوهمية، فلم يكن دعاؤه خالصاً لوجه اللّه تعالى، فلم يسأله بالحقيقة.

وهذا هو المستفاد من مجموع الآيات الواردة في الدعاء والأحاديث الشارحة لها.

السابع : أن إفراد الضمير في (عنِّي) و(إنِّي)، و(أُجِيبُ)، فيه إشارة إلى أن إجابة الدعاء منحصرة به تعالى، ولا دخل لغيره فيها، لأنه تصرف من عالَم الملكوت الأعلى في عالَم الملك الأسفل، ولا يليق بذلك غيره عز وجل.

نعم، الاستشفاع والتوسل بعباد اللّه الصالحين، الذين جعلهم اللّه تعالى واسطة الفيض لديه شيء آخر، لا ربط له بإجابة الدعاء، كما لا يخفی .

ص: 174

مع أن الحنان والرأفة وجذب الداعي إلى مقام القرب يقتضي توحید الضمير ، لئلا يعرض على قلب الداعي هيبة العظمة، فتشغله عما يحتاجه من قليل أو كثير .

كما أن في تكرار ضمير الأفراد في (عنِّ)، و(إنِّي)، إشارة إلى أن المسؤول عنه نفس القريب المجيب وعينه، ولا فرق إلا بالإضافة الاعتبارية . فإنه إذا أُضيف إلى السائل يكون مسؤولا عنه، وإذا أضيف إلى نفسه الأقدس يكون قريباً مجيباً، وإن كانت إضافته من صفات فعله لا من صفات ذاته، وفي المقام سر آخر، لعله يظهر في الآيات المناسبة .

بحث روائي

في الكافي : عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «أفضل العبادة الدعاء».

وفي عدة الداعي: عن نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أفضل العبادة الدعاء ، وإذا أذن اللّه لعبد في الدعاء فتح له أبواب الرحمة، إنه لن يهلك مع الدعاء أحد».

أقول: الروايات في فضل الدعاء وآدابه وكيفيته كثيرة متواترة بين المسلمين، يأتي التعرض لبعضها في البحوث الآتية .

في تفسير العياشي: عن ابن أبي يعفور، عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي)، قال (عليه السلام) : «یعلمون أنِّي أقدر على أن أعطيهم ما يسألون».

أقول: يرید (عليه السلام) أنه ليس المراد بهذا الإيمان الإيمان بأصل التوحيد في مقابل الشرك، بل الإيمان باستجابة الدعاء .

وفي المجمع: عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى : (وَلْيُؤْمِنُوا

ص: 175

بِي)، أي : «وليتحققوا أني قادر على إعطائهم ما سألوه»، (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)، أي: «لعلهم يصيبون الحق، أي يهتدون إليه».

أقول: يظهر وجهه مما سبق .

وعن ابن عباس: «قالت اليهود: كيف يسمع ربنا دعاءنا، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام، وغلظ كل سماء ذلك؟ فنزلت الآية : (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)».

وروي أن قوما قالوا للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد ربنا فنناديه؟ فنزلة الآية المباركة».

وروي أن سبب نزولها: «أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سمع المسلمين يدعون اللّه بصوت رفيع في غزوة خيبر، فقال لهم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أيها الناس أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمّاً ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم» .

أقول: يمكن أن تكون جميع هذه الأخبار معتبرة كل بحسب طائفة وقوم، فتختلف باختلاف الجهات .

أما الأول : فبحسب مزاعم اليهود، حيث زعموا أن سمعَ اللّه يكون كسمعنا، يحجب بالحجاب، ولكنه باطل، لأن المراد بسمعه تبارك وتعالى : العلم بالمسموعات، والإحاطة بها، كما في جملة من الروايات، ولذا لا يشغله سمع عن سمع، لأن علمه الإحاطي يشتمل على جميع ما سواه .

أما الثاني : فيكشف عن جهلهم بالحقائق .

وأما الأخير : فهو ناشٍ عن سوء أدبهم، فإن الآية المباركة ترشد إلى

ص: 176

نبذ بعض العادات السيئة التي كانت سائدة عندهم، فيكون مثل قوله تعالى: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا)(1)، وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)(2).

بحث علمي

الدعاء من أقوى الأسباب في نجح المطلوب، وأعظمها في نيل المقصود، ومن أشد روابط القرب إلى المعبود، ولا ينفك عنه الإنسان في جميع مراحله وأطواره، وجميع نشآته، سواء بلسان الاستعداد والفطرة، أم بلسان المقال، ولا يخلو كتاب إلهيّ من الحث عليه، وهو العبادة التي أُمرنا بإتيانها، والراغب عنه عد من المستكبرين عن رحمة الرحمن، قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)(3)، وعن السجاد علي بن الحسين (عليهما السلام) في صحيفته الملَكوتية ، بعد ذكر الآية المباركة : «فسميتَ دعاءَك عبادةً ، وتركه استكباراً، وتوعدت على تركه دخول جهنم داخرين، فذكروك بمنِّك وشكروك بفضلك، ودعوك بأمرك، وتصدقوا لك طلباً لمزيدك ، وفيها كانت نجاتهم من غضبك وفوزهم برضاك»، والبحث في الدعاء من جهات كثيرة، نذكر في المقام الأهم منها، ويأتي المهم في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالی.

ص: 177


1- النور، الآية 63.
2- الحجرات ، الآية 4.
3- غافر، الآية 60.

فضل الدعاء

للدعاء فضل كبير، وقد أُمرنا به في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، وقد عبر عنه بالعبادة في الآية الشريفة المتقدمة، ويكفي في فضلها قوله تعالى : (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ)(1)، فهو سبب اعتناء اللّه تعالی بخلقه، وقوله تعالى : (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي)(2)، فإنه كفي فضلاً في أنه تعالى بنفسه الأقدس، يجيب دعوة الداع من دون واسطة في البين، وقوله تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(3)، حيث رتب الاستجابة على الدعاء ، وهذا من عظيم الفضل.

وأما السنة : فقد وردت روايات كثيرة متواترة من الفريقين في فضل الدعاء، واستحبابه مطلقا :

فعن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيما رواه الفريقان : «الدعاء سلاح المؤمن، وعمود الدين، ونور السماوات والأرض».

وعن الصادق (عليه السلام) : «الدعاء يرد القضاء، بعد ما أُبرم إبراماً» .

وعن أبي الحسن موسی بن جعفر (عليه السلام) : «عليكم بالدعاء، فإن

ص: 178


1- الفرقان، الآية 77.
2- البقرة، الآية 186.
3- غافر، الآية 60.

الدعاء والطلب إلى اللّه عز وجل یرد البلاء وقد قدر وقضي، فلم يبق إلا إمضاؤه، فإذا دعي اللّه وسئل صَرفَ البلاء، صَرَفه» .

وعن الصادق (عليه السلام) : «إن الدعاء يرد القضاء المبرم وقد أُبرم إبراماً ، فأكثر من الدعاء، فإنه مفتاح كل رحمة، ونجاح كل حاجة، ولا ينال ما عند اللّه إلا بالدعاء، فإنه ليس من باب یكثر قرعه إلا أوشك أن يفتح لصاحبه».

وفي الكافي، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «عليكم بالدعاء، فإنكم لا تتقربون بمثله، ولا تتركوا صغيرة لصغرها أن تدعوا بها، إن صاحب الصغار هو صاحب الكبار».

وعن الصادق (عليه السلام) : «إن اللّه تبارك وتعالى يعلم ما يريد العبد إذا دعاه، ولكنه يحب أن تبث إليه الحوائج، فإذا دعوت فسمِّ حاجتك».

وفي الكافي: عن ميسر عن الصادق (عليه السلام) : «یا میسر، ادع ولا تقل: إن الأمر قد فرغ منه، إن عند اللّه عز وجل منزلة لا تنال إلا بمسألة».

وعن الصادق (عليه السلام) أيضاً في رواية ابن القداح : «الدعاء كهدف الإجابة ، كما أن السحاب كهف المطر».

وعن زرارة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «الدعاء هو العبادة، التي قال اللّه : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) ادع اللّه عز وجل، ولا تقل إن الأمر قد فُرغ منه».

وعن أمير المؤمنین (عليه السلام) : «الدعاء تِرس المؤمن، ومتى تكثر قَرع الباب يفتح لك» .

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في رسالة طويلة إلى أصحابه : «أكثروا من

ص: 179

أن تدعوا اللّه ، فإن اللّه يحب من عباده المؤمنين أن يدعوه، وقد وعد عباده المؤمنين الاستجابة، وإليه مصير دعاء المؤمنين يوم القيامة، لهم عملاً یزیدهم في الجنة».

وعن الباقر (عليه السلام) : «ولا تمل من الدعاء ، فإنه عند اللّه بمكان» .

وعن علي (عليه السلام) : «الدعاء مخ العبادة» .

وعن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أفضل العبادة الدعاء، وإذا أذن اللّه لعبد في الدعاء ، فتح له أبواب الرحمة، إنه لن يهلك مع الدعاء أحد».

وعن الرضا (عليه السلام) : عليكم بسلاح الأنبياء، فقيل: ما سلاح الأنبياء؟ قال (عليه السلام) : الدعاء» .

وعن الصادق (عليه السلام) : «الدعاء أنفذ من السنان» .

وعن العبد الصالح (عليه السلام) : «الدعاء جُنّة منجية، ترد البلاء وقد أُبرم إبراماً» .

وعن علي (عليه السلام) : «الدعاء مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح، وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقي وقلب تقي، وفي المناجاة سبب النجاة ، وبالإخلاص يكون الخلاص، فإذا اشتد الفزع فإلى اللّه المفزع».

وقال نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ألا أدلُكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم، ويدر أرزاقكم؟ قالوا: بلى. قال : تدعون ربكم بالليل والنهار، فإن سلاح المؤمن الدعاء» .

وعنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ادفعوا أبواب البلاء بالدعاء»، إلى غير ذلك من الأخبار المذكورة في كتب الفريقين .

ص: 180

حقيقة الدعاء

اشارة

الدعاء : هو الوسيلة بين العبد وخالقه، واتصال من عالَم المُلك بعالَم المَلكوت، الذي هو من أهم الأسباب الطبيعية الاختيارية الواقعية ، النجح المطلوب والنيل إلى المقصود، فإنه كما تترتّب المسببات على الأسباب المقتضية لها، فإن قانون السببية الذي جعله اللّه تعالى وسيلة التحقق المسببات الوجودية من دون أن يكون في البين فيض من الأسباب مستقلة من دون اللّه تعالى، كذلك فإن للإنسان شعوراً باطنياً وحسّاً وجدانياً، أن له ملجأ يأوي إليه في حوائجه ليقضيها، وأن له سبباً معطياً، لا ينضب معينه، وهو مسبِّب الأسباب، وهو ليس كالأسباب الظاهرية التي يمكن أن يتخلف عنها أثرها. وهذا الشعور الباطني يكن أن يشتد عند فرد، بحيث لا يرى للمسببات إلا سبباً واحداً، وينقطع عن أي سبب دونه، فيعتصم به، ولا يتخلى عنه، ويتوكل عليه في كلِّ حوائجه، فتنكشف لديه الأشياء على حقائقها، ويری زيف الأسباب .

نعم، قد يعرض على هذا الشعور الباطني والحسّي الوجداني بعض الظلمات والأوهام، فيوجب طمس هذا النور الفطري أو خفائه ، تبعاً لشدّة ما يتخيله وضعفه، فيتخيل خلاف ما هو المركوز في فطرته، وهذا لا يختص بهذا النور الفطري، بل يشمل جميع ما يتعلق بالفطرة والشعور الباطني، ولذا قد يرجع ويفيء إلى فطرته عند تزاحم المشاكل وعدم نفع أي سبب في رفعها، كما ورد في قضية مَن ركب البحر، فانكسرت به

ص: 181

السفينة وأيقن بالهلاك ، فعند ذلك يدعو مَن ينجيه، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)(1).

ولا يُستفاد من ذلك أنه حينئذٍ لا يمكن تخلف المدعو عن الدعاء ، إذا كان الأمر كذلك، فإن أمر الدعاء والمسببات الظاهرية في ذلك سواء ، فإنه كثيراً ما كانت هناك عوامل تثبّط الأسباب وتمنعها عن الأثر، فكذلك في الدعاء ، فإن هناك موانع كثيرة عن تحقق المدعو به، قد ندركها، وقد لا ندركها، بل الأمر في الدعاء أشد، لفرض أنه ارتباط مع عالم الغيب غير المتناهي الخارج عن الحس، فلا بد أن تكون الأسباب الموصلة إليه أدق وأرق، وهذا محسوس في عالَم الماديات أيضاً، فإن كلما كان الشيء ألطف وأدق، كان السبب الموصل إليه كذلك .

فحقيقة الدعاء هي الشعور الباطني في الإنسان بالصلة والارتباط بعالَم لا مبدأ له ولا نهاية، ولا حد ولا غاية لسعة رحمته وقدرته وإحاطته بجميع ما سواه، فوق ما نتعقل من معنى السعة والإحاطة والقدرة، يقضي له حوائجه، بحيث يجعل المدعو تحت قدرة الذاعي جميع وسائل نجح

طلباته، فيقع التجاذب بين الموجودات الخارجية وبين قلب هذا الداعي، فيصير موجداً وفاعلاً لما يدعو به، فيتحد الداعي والدعوة والمدعو به في بعض المراتب ، ولا تحصل هذه المرتبة إلا لمَن انسلخ عن ذاته بالكلية ، وفني في مرضاة الواحدية الأحدية، فلا يرى في الوجود سوى المدعو، سواء كان ذلك ملكة أم حالاً، فيتحد العاقل والمعقول، كما أثبته بعض

ص: 182


1- يونس، الآية 22.

أكابر الفلاسفة، ولعله المراد من الاسم الذي هو غيب الغيوب والسر المحجوب، فروح الدعاء هي ارتباط الداعي مع اللّه عز وجل بالشرائط المقررة المذكورة في محالها.

ما أورد على الدعاء:

بينا أن حقيقة الدعاء هي ارتباط خاص بين الإنسان وعالَم لا مبدأ له ولا حد، ولكن أُورد على الدعاء إيرادات كثيرة، أهمها هي:

الأول : ما عن الماديين الذين ينكرون الغيب، أي : ما وراء المادة من المبدىء الحي الأزلي، وإنكار ربط الحوادث به، وارتباط العالَم بالمادة فقد على نحو العلية التامة ، ولذلك أنكروا الدعاء والتوسل إليه في نيل المطلوب ونجحه.

ویرده : ما أثبته جميع الفلاسفة من وجود مبدىء غيبي، وأن الحوادث جميعها مستندة إليه، وأن الشرائع الإلهية قد أثبتت ذلك بألسنة مختلفة، وتفصيل البحث موكول إلى الفلسفة الإلهية وعلم الكلام. وأن المادة والجهد من قبيل المقتضيات، لا العلل التامة، ولذلك لا بد من التوسل إليه، والإفاضة منه بعد السعي والجد، لتمهيد السبيل للنيل إلى المطلوب .

الثاني : أن المبدىء موجود، وأنه حي أزلي، ولكن الحوادث الجزئية الخاصة غير مستندة إليه، بل أصل حدوث العالَم وخلقه في الجملة ينتهي إليه بخلافها، وقد تشعب عن هذا الرأي مذاهب :

منها: ما عن اليهود كما حكاه اللّه تعالی عنها: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ)(1)

ص: 183


1- المائدة، الآية 64.

ومنها: ما نسب إلى بعض، من أن مناط الحاجة الحدوث في الجملة فقط دون البقاء، حتى قال : «لو جاز على الواجب العدم، لما ضر عدمه وجود العالَم».

وهناك مذاهب أخرى قد تعرضوا لها كل في محله، ولذلك أنكروا الدعاء، وقالوا إنه لا يسمن ولا يغني من جوع.

ويرده : ما أثبتوه بالأدلة العقلية من أن مناط الحاجة الإمكان، وهو حلیف ما سوى اللّه تعالى، حدوثاً وبقاءً، في جميع الأزمنة والأمكنة، وإذا كان كذلك ، فلا بد من التوسل إليه، والإفاضة منه، لفرض الافتقار إليه في ما سواه تعالی، بلا فرق في تلك المذاهب .

الثالث : أن الحوادث معلومة عنده جلت عظمته، ولا تغير في العلم، فلا تغير في الحوادث أيضاً، فلا مجال للدعاء حينئذٍ في الحوادث بعد فرضَ تعلق علمه تعالی بها.

ويرد.. أولاً: أن هذا مبني على كون علمه تعالی علة تامة منحصرة المعلوماته عز وجل، وهو باطل عقلاً ونقلاً، كما ثبت في الفلسفة الإلهية ، وسنتعرض في الآية المناسبة له إن شاء اللّه تعالی.

وثانياً : العلم تعلق بها متغيِّراً، فالتغير في المعلوم بالعرض، لا في العلم والمعلوم بالذات، إذن لا إشكال في صحة التوسل إليه تعالى، والدعاء للنيل إلى ما هو الصالح.

الرابع : أن الحوادث التي ترد على عالمنا مقدرة ومقضية أزلاً، ولا تغير ولا تبدل في القضاء والقدر ، فلا معنى للدعاء والتوسل بعد نزول الحادثة، وقد عبِّر عن هذا الإيراد بتعابير مختلفة أخرى .

ويرده: أن القضاء والقدر من مراتب فعله جل شأنه، وليسا في مرتبة

ص: 184

الذات، وفعله تعالی قابل للتغير مطلقاً، وقد ورد في بعض الروايات أن الدعاء يرة القضاء وقد أُبرم إبراماً، فيصخ التوسل إليه لأجل زوال الحادثة، أو تغيير الحال .

الخامس: أن الدعاء من قبيل تحقق المعلول بلا علة، وهو محال كما ثبت في محله .

ویرده : أن الدعاء لا ينافي قانون العلية والمعلولية، أو سائر نوامیس الطبيعة، بل إنه يكون سبباً لتحقق المسبب المستند إلى سببه الخاص .

السادس : أن الآيات الشريفة الدالة على الحث على العمل، ونیل الأجر به، تنافي سبل الدعاء، مثل قوله تعالى : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ)(1)، وقوله تعالى : (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)(2)، وقوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)(3) وغيرها من الآيات المباركة، فإن ظاهرها حصر التأثير في العمل، وأن الأجر منحصر فيه.

ويرده .. أولاً : أنه لا تنافي بين تلك الآيات المباركة وبين ما أمر بالدعاء، مثل قوله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)(4)، وقوله تعالی : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(5)، لأن الدعاء بلا عمل لا أثر له، وإنه مما لا يستجاب ، كما يأتي في الروايات .

ص: 185


1- التوبة، الآية 105.
2- الكهف، الآية 30.
3- النجم، الآيتان 39 -40.
4- الأعراف، الآية 55.
5- غافر، الآية 60.

وثانياً : أن الدعاء بنفسه عمل خاص وتوجه إليه تعالى، فلا تنافي بین ما دل على الترغيب بالعمل، وبين أن يأمر بالدعاء.

وهناك دعاوى أُخرى نسبت إلى مَن لم يعتقد بالدعاء، أدلتها مرهونة جداً، أعرضنا عن ذكرها.

ص: 186

الدعاء ارتباط روحي

ذكرنا أن حقيقة الدعاء هي الاتصال بمبدىء لا نهاية لعظمته وقدرته ومالكيته وقهاريته، والتوسل إليه بالترابط الروحي بين الداعي والمدعو، يلتمس منه الداعي نجح مطلوبه، وقضاء حاجته، فيلهم اللّه تعالى الداعي ما يرشده إلى مطلوبه، فيكون الدعاء ضرباً من التأثير الروحي، وذلك يتوقف على معرفة اللّه جل شأنه رب الأرباب وله السلطان التام، وأن جميع الأسباب راجعة إليه عز وجل، والإذعان بأنها الواسطة في التأثير فقط، وأن المؤثر هو اللّه وحده، وإلى ذلك بشير ما ورد عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لو عرفتم اللّه حق معرفته، لزالت لدعائكم الجبال».

والوجه في ذلك واضح، فإن الجهل بمقام الربوبية العظمى،

والاعتقاد بقانون السببية التامة في الأسباب والمسببات الخارجية، يوجب البعد عن ساحة الرحمن، والإذعان بحقيقة التأثير للأسباب العادية ، وينتهي إلى الغفلة عنه، ويقابل ذلك التوجه إليه ومعرفته تبارك وتعالى، فإن مقتضى مالكيته جلت عظمته لجميع ما سواه، وربوبيته العظمى لها، واستغناؤه عز وجل عن الكل، واحتياج الكل إليه، هو سؤال الكل منه عز وجل، ودعاؤه له بلسان الحال والاستعداد، لأن مناط السؤال والدعاء إنما هو الحاجة، وهي من لوازم الإمكان. وكل ممكن، سواء كان من المجردات، أم الماديات بجواهرها وأعراضها، جميعاً داع له، وسائل منه

ص: 187

بلسان الافتقار إليه، والانقهار لديه، وإن لم نفقه سؤال كثير من الممكنات .

نعم، السؤال، والدعاء القصدي الاختياري، والتوجه الفعلي من شؤون الإنسان، فإن له شأناً ومنزلة عنده تعالى، يحب السماع إليه، فیلتذ أولياء اللّه تعالى بالدعاء والمناجاة ، ويبنهج اللّه جلت عظمنه بذلك ابتهاجا، لا يحيط به غيره، ففي الحديث: «إن اللّه يعلم حاجتك، وما تريد، ولكن يجب أن تبثّ إليه الحوائج، فإذا دعوت فسمّ حاجتك»، وفي أخبار كثيرة أن اللّه تعالى قد يؤخر إجابة دعاء عبد، لأن يسمع صوته وتضرعه، ويعجل إجابة بعض الدعوات ، لأنه تعالى لا يحب سماع صوت داعيه وتضرعه.

ولكن ذلك لا يوجب إلغاء ناموس العلية والمعلولية بين الأشياء، بل قد أثبتنا في المباحث السابقة أن هذا القانون حق لا ريب فيه، وأنه «أبی اللّه أن يجري الأمور إلا بأسبابها»، إلا أن الدليل العقلي أثبت الواسطة لها دون الانحصار، والدعاء داخل تحت هذا القانون، وأنه من طرق العلية للأشياء، والتقريب بين الأسباب والمسببات ، واقعاً وإن لم ندركه ظاهراً، وإليه يشير ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لابنه الحسن (عليه السلام) : «ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه، بما أذن لك فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته، واستمطرت شآبيب رحمته، فلا يقنطنك إبطاء إجابته» .

ص: 188

شروط الدعاء

للدعاء شروط كثيرة جداً، مذكورة في القرآن الكريم والسنة المقدسة، وهي تنقسم إلى شروط الصحة، فلا يصح الدعاء بدونها، وشروط كمال له.

أما شروط الصحة فهي:

الأول: الإيمان باللّه تعالى، قال عز وجل: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)(1).

الثاني : الإخلاص في الدعاء وعقد القلب عليه، وحسن الظن بالإجابة، قال تعالى: (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) ، وقال تعالى: (وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ)(2).

وفي الكافي : عن الصادق (عليه السلام) : «إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئاً إلا أعطاه، فليأس من الناس كلهم، ولا يكون له رجاء إلا عند اللّه ، فإذا علم اللّه ذلك من قلبه لم يسأل اللّه شيئاً إلا أعطاه»، وعن

ص: 189


1- البقرة، الآية 186.
2- يونس، الآية 106.

الصادق (عليه السلام) : «إذا دعوت فأقبل بقلبك، وظن حاجتك بالباب»، وفي وصية النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام) : «لا يقبل اللّه دعاء قلب ساه» .

وفي الكافي: عن سليمان بن عمرو، قال : سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول : إن اللّه عز وجل لا يستجيب دعاءً بظهر قلب ساه ، فإذا دعوتَ فأقبل بقلبك، ثم استيقن بالإجابة» .

وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «إن العطية على قدر

النية».

وفي عدة الداعي : عن نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال اللّه : «ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السموات وأسباب الأرض من دونه، فإن سألني لم أعطه، وإن دعاني لم أجبه . وما من مخلوق يعتصم بي دون خلفي إلا ضمنت السموات والأرض رزقه، فإن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته، وإن استغفرني غفرت له»، والحديث ظاهر في أن إجابة الدعاء منوطة بالإخلاص.

وفي الحديث القدسي: «أنا عند ظنِّ عبدي بي، فلا يظن بي إلا خيراً»، وهو ظاهر في أن في التردد واليأس لا تكون إجابة ، فلا بد من

العزم على السؤال .

وفي الحديث عن نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ادعوا اللّه وأنتم موقنون بالإجابة»، إلى غير ذلك من الأخبار، وقد تقدم الوجه في ذلك أيضاً، بأن في الإعراض والسهو والغفلة لا تتحقق حقيقة الدعاء .

الثالث : اليأس من غير اللّه تعالى، لأنه رب السموات والأرض، عنده مفاتيح الغيب، يعطي لمن يريد، ويمنع عمن يريد، والعلم بأنه تعالى إنما يقضي الحوائج حسب المصلحة، فإن الإنسان لا يعرف

ص: 190

الحقائق ويجهلها، وربما يسأل ما هو شر وأن اللّه تعالى يبدله إلى الخير ، وربما يسأل الخير فيؤخره، إذ المصلحة في التأخير، ففي نهج البلاغة عن على (عليه السلام) : «وربما أُخرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم الأجر السائل، وأجزل العطاء الآمل، وربما سألت الشيء فلا تؤتاه وأُوتيت خيراً منه ، عاجلاً أو آجلاً، أو صرف عنك لما هو خير لك، فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك أو أُوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله، وينفي عنك وباله، والمال لا يبقى لك ولا تبقى له».

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : قال اللّه عز وجل: مَن سألني وهو يعلم أني أضر وأنفع، استجبت له»، وذلك لأن إجابة دعاء الداعين لا بد أن تكون على طبق الحكمة البالغة والعناية التامة، المحيطة بالحقائق، كلياتها وجزئياتها، لا على طبق مشتهيات الداعين والسائلين، قال تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)(1). فإن الإنسان كثيراً ما يهتم بشيءٍ حتى إذا ما تحقق وجده ضاراً، أو يكره شيئاً حتى ما إذا تحقق وجده نافعاً، وهذا وجداني محسوس لدى كل فرد، فالدعاء بما يتخيله الإنسان أنه نافع شيء، وما هو الواقع الذي في علمه تعالى شيء آخر. فإن التسرع في إجابة الدعاء وقضاء الحوائج بلا تأمل في اللوازم والملزومات والآثار، نقض في الحكمة، وهو محال بالنسبة إليه تعالی .

نعم، نفس الدعاء والمسألة من سن العبودية، ولا بد من تحققها

من العبد، وأما الاستجابة فهي منوطة بالحكمة البالغة والعلم الأزلي .

ص: 191


1- البقرة، الآية 216.

الرابع: أن يكون المراد خيراً ممكناً، بأن لا يكون من المحالات الذاتية أو العادية، ومما لا نفع له ؛ أو مما يضر بحال الآخرين، أو نهی عنه الشارع ونحو ذلك، فإن مثل هذا الدعاء مما لا يستجاب، وذكل لأن اللّه تعالى: «أبی أن يجري الأمور إلا بأسبابها»، وقد تقدم في أحد المباحث السابقة أنَّ المستحيلات وإن كانت تحت قدرته تعالى، ولكنه عز وجل لم يفعلها، لاستلزامه نقض الحكمة، ففي الحديث عن علي (عليه السلام) : «اثنوا على اللّه عز وجل وامدحوه قبل طلب الحوائج، یا صاحب الدعاء لا تسأل ما لا يحل ولا يكون».

وفي الكافي : عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) : «لا تمل من الدعاء ، فإنه من اللّه بمكان، وعليك بالصبر وطلب الحلال، وصلة الرحم»، إلى غير ذلك من الروايات.

الخامس: طيب المكسب والعمل الصالح، ففي الحديث عن الصادق (عليه السلام) : «مَن سره أن تستجاب دعوته، فليطب مكسبه»، وفي وصية النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأبي ذر : «يا أبا ذر، يكفي من الدعاء مع البر ما يكفي الطعام من الملح، يا أبا ذر، مثل الذي يدعوه بغير عمل، كمثل الذي يرمي بغير وتر، يا أبا ذر، إن اللّه يصلح بصلاح العبد ولده وولد ولده ، ويحفظه في دورته، والدور حوله ما دام فيهم.

وعن زرارة عن الصادق (عليه السلام) : «الداعي بلا عمل، كالرامي بلا وتر».

وفي عدة الداعي: «إن اللّه أوحي إلى عيسى: قل لظلمة بني إسرائيل: لا تدعوني والسحت تحت أقدامكم، والأصنام في بيوتكم، فإني آليت أن أُجيب مَن دعاني، وإن إجابتين إياهم لعناً عليهم حتى يتفرقوا» .

ص: 192

وفي الحديث القدسي: «لا تحجب عنِّي دعوة، إلا دعوة آكل الحرام».

وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لرجل حين ما قال له : أحب أن يستجاب دعائي، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «طهر مأكلك، ولا تدخل بطنك الحرام».

السادس : أداء مظالم الناس وحقوقهم، فقد ورد عن الصادق (عليه السلام) : قال اللّه عز وجل: «وعزتي وجلالي، لا أُجيب دعوة مظلوم دعاني في ظلمة، أو لأحد عنده مثل تلك المظلمة».

وفي عدة الداعي: «أوحى اللّه إلى عيسى: قل لظلمة بني إسرائيل : إني لا أستجيب لأحد منهم دعوة، ولأحد من خلقي عندهم مظلمة»، وتقدم في بحث التوبة ما يتعلق بالمقام.

ص: 193

شروط الكمال للدعاء

تقدم أن من الشروط في الدعاء هي شروط الكمال له، ولا ريب في حسن مراعاتها في هذه الحالة، التي يرغب الداعي استجابة دعواته، وهي كثيرة .

الأول: الطهارة من الحدث والخبث، لقوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)(1)فاطر، الآية 10.(2).

الثاني : الدعاء بالمأثور عن المعصومين، لأنه تكلم مع اللّه عز وجل، كما أن القرآن تكلم اللّه مع العبد، فينبغي في الدعاء أن يكون مأثوراً، ومستنداً إلى الشرع، قال تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)2)، وقال عز وجل: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ)(3).

وعن صدر المتألهين (قدس اللّه نفسه الشريفة): «فكما أن أجساد البشر تكتم بكرامة الروح، فكذلك أصوات الكلام، تكرم وتشرف بشرافة الحكمة التي فيها»، فلا بد للدعاء من نزوله من محل أمين، ومهبط شریف، وإرساله من نفوس زكية ذكية، حتى يناسب الخطاب مع العظيم، كما تدل عليه روايات كثيرة .

ص: 194


1- البقرة ، الآية
2- .
3- الحج، الآية 24.

نعم، فرق بين الدعاء والمسألة، فإن الأخيرة لا يشترط فيها ذلك، بل يكفي بكل ما جرى على اللسان، حتى يوجهه تعالى إلى الطريق الصحيح، أو يقضي حوائجه ويحل مشاكله، قال زرارى للصادق (عليه السلام) : «علمني دعاء، فقال (عليه السلام) : إن أفضل الدعاء ما جرى على لسانك»، والمراد به المسألة وطلب الحاجة.

الثالث : أن يكون الدعاء بالأسماء الحسنى وغيرها من أسماء اللّه تعالى، فعن الرضا (عليه السلام) ، عن آبائه عن علي (عليهم السلام) ، قال : «قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لله عز وجل تسعة وتسعون اسماً، مَن دعا اللّه بها استجيب له، ومَن أحصاها دخل الجنة»، وقال اللّه عز وجل : (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) ، وعن الصادق (عليه السلام) : «وأكثر من أسماء اللّه عز وجل، فإن أسماء اللّه كثيرة».

الرابع : تقديم تمجيد اللّه والثناء عليه، والإقرار بالذنب والاستغفار منه، ففي الكافي: عن الحارث بن المغيرة قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول : إياكم إذا أراد أحدكم أن يسأل من ربه شيئاً من حوائج الدنيا والآخرة، حتى يبدأ بالثناء على اللّه عز وجل، والمدح له، والصلاة على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ثم يسأل اللّه حوائجه».

وعن معاوية بن عمار، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أيضا: «إنما هي المدحة ، ثم الثناء ، ثم اللإقرار بالذنب، ثم المسألة، إنه واللّه ما خرج عبد من ذنب إلا بالإقرار» .

وعن علي (عليه السلام) : «السؤال بعد المدح، فامدحوا اللّه عز وجل، ثم اسألوا الحوائج، أثنوا على اللّه عز وجل وامدحوه قبل طلب الحوائج»، والمراد بالثناء والتمجيد، مطلق ما يكون ثناءً وتمجيداً .

ص: 195

الخامس: أن يشتمل على ذكر محمد وآل محمد، لأنهم وسائط الفيض ووجهاء الخلق، ففي الكافي : عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «كل دعاء يدعي اللّه عز وجل به، محجوب عن السماء حتى يصلي على محمد وآل محمد»، وعن هشام بن سالم، عن الصادق (عليه السلام) : «لا يزال الدعاء محجوبة حتى يصلي على محمد وآل محمد».

وعن صفوان الجمال، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أيضاً: «كل دعاء يدعي اللّه عز وجل به، محجوب عن السماء حتى يصلي على محمد وآل محمد».

وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنه قال : «قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : صلاتكم علي إجابة لدعائكم، وزكاة لأعمالكم».

السادس : أن يكون الدعاء بعد الانقطاع إليه عز وجل، ورقة القلب والبكاء، ففي الكافي : عن أبي بصير، عن الصادق (عليه السلام): «إذا رق أحدكم فليد، فإن القلب لا يرق حتى يخلص».

وعن الصادق (عليه السلام) : «إذا اقشعر جلدك ودمعت عيناك ، فدونك دونك فقد قصد قصدك».

وعن سعد بن يسار: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : إنِّي أتباكی في الدعاء وليس لي بكاء، قال (عليه السلام) : نعم، ولو مثل رأس الذباب».

وعن عنبسة العابد عن الصادق (عليه السلام) : «إن لم تكن بكاءً فتباك».

وقد اعتبر بعض العلماء (رحمهم اللّه تعالى) أن بعض مراتب الانقطاع التام إليه عز وجل إذا كانت الحالة جامعة للشرائط من الاسم الأعظم، وقد جربت ذلك في بعض أسفاري إلى بيت اللّه الحرام بعد انقطاع الرجاء إلا منه .

ص: 196

فكان ما كان مما ليست أذكره *** فظنَّ خيراً ولا تسأل عن الخبر

السابع : الدعاء في الأوقات المعينة، وهي كثيرة، منها السَحَر وآخر الليل، فعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «خير وقت دعوتم اللّه الأسحار».

وعن الصادق (عليه السلام) : «مَن قام من آخر الليل فذكر اللّه تناثرت عنه خطاياه، فإن قام من آخر الليل فتطهَّر وصلى ركعتين وحمد اللّه وأثنى عليه وصلى على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لم يسأل اللّه شيئاً إلا أعطاه، إما أن يعطيه الذي يسأله بعينه، وإما أن يدخر له ما هو خير له منه».

ومنها: الصباح والمساء ، فعن الصادق (عليه السلام) : «إن الدعاء قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، سنة واجبة مع طلوع الشمس والمغرب».

ومنها: عند نزول المطر، وزوال الشمس، وهبوب الرياح، وقتل الشهيد، وقراءة القرآن، والآذان، وظهور الآيات. ففي الكافي : عن زید الشحام، قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «اطلبوا الدعاء في أربع ساعات: عند هبوب الرياح، وزوال الأفياء، ونزول المطر، وأول قطرة من دم القتيل المؤمن، فإن أبواب السماء تفتح عند هذه الأشياء» .

وعن الصادق (عليه السلام) ، عن أمير المؤمنین (عليه السلام) ، قال : «اغتنموا الدعاء عند أربع، عند قراءة القرآن، وعند الآذان، وعند نزول الغيث، وعند القتاء الصفين للشهادة».

وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال : «كان أبي إذا كانت له إلى اللّه حاجة، طلبها في هذه الساعة، يعني زوال الشمس».

وعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «مَن أذى لله مكتوبة، فله في إثرها دعوة مستجابة» .

ومنها: الأزمنة المتبركة، مثل ليلة الجمعة، وليالي القدر، وشهر

ص: 197

رمضان، وشهر رجب، وليلة النصف من شعبان، وليلة عرفة ويومها، والعيدين، وغيرها مما هو كثير كما في كتب الأدعية .

الثامن : الدعاء في الأمكنة المتبركة، مثل الحرم الإلهي المقدس، والمسجد الحرام، ومسجد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وعند الأئمة الكرام، أو المساجد الأربعة وغيرها من المساجد.

التاسع: الدعاء بعد تقديم الصدقة وشم الطيب، فعن الصادق (عليه السلام) : «كان أبي إذا طلب الحاجة طلبها عند الزوال، فإذا أراد ذلك قدم شيئاً فتصدق به، وشم من طيب، وراح إلى المسجد ودعا في حاجته بما شاء اللّه».

العاشر : مراعاة الأدب، وتجنب اللحن في الدعاء، ففي عدة الداعي عن أبي جعفر الجواد (عليه السلام) قال: «ما استوى رجلان في حسب ودین قط، إلا كان أفضلهما عند اللّه عز وجل أأدبهما، قال: قلت: جعلت فداك ، قد علمت فضله عند الناس في النادي والمجالس، فما فضله عند اللّه عز وجل؟ قال : بقراءة القرآن كما أُنزل، ودعائه اللّه عز وجل من حيث لا يلحن، وذلك أن الدعاء الملحون لا يصعد إلى اللّه عز وجل».

ويمكن أن يستفاد ذلك من كراهة اختراع الدعاء من نفس الداعي، فإن في الدعوات المأثورة عن نبينا الأعظم والأئمة الهداة غنى وكفاية ، فهم أعرف بالأدب مع اللّه تعالى، وكيفية التكلم معه من سائر الرعية، لأنهم سدنة الملك وعيبة علم اللّه وخزان وحيه.

الحادي عشر: رفع اليدين حال الدعاء، ففي عدة الداعي: «إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا، كما يستطعم المسكين».

وعن محمد بن مسلم قال : «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول اللّه عز

ص: 198

وجل: (فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) . قال (عليه السلام) : الاستكانة هي الخضوع والتضرع رفع اليدين والتضرع بهما» .

وعن الباقر (عليه السلام) : «ما بسط عبد يده إلى اللّه عز وجل، إلا استحييى اللّه أن يردها صفراً، حتى يجعل فيها من فضله ورحمته ما يشاء، فإذا دعا أحدكم فلا يرد بده حتى يمسح بها على رأسه ووجهه»، والروايات في رفع اليدين والتبصبص بالأصابع كثيرة، مروية عن الفريقين . وكل ذلك من جهة حصول الخضوع والخشوع للذاعي، وتقربه إلى المدعو، لا لأجل أنه تعالى يختص بمكان دون مكان وزمان دون آخر.

الثاني عشر: الدعاء سرّاً، ففي الكافي : عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: «دعوة العبد سراً، دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية»، والوجه في ذلك لأنه أحفظ في الإخلاص، وأبعد عن شوائب الرياء.

الثالث عشر: العموم في الدعاء، فإنه آكد في الاستجابة، ففي الكافي: عن ابن القداح، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال : «قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إذا دعا أحدكم، فليعُمَّ، فإنه أوجب للدعاء» .

وعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «مَن صلى بقوم فاختص نفسه بالدعاء دونهم، فقد خانهم»، وقد وردت روايات كثيرة على أن دعاء المؤمن لأخيه المؤمن مستجاب، وأن للداعي مثل ما يدعو لأخيه وأكثره.

الرابع عشر: لبس الداعي خاتم عقيق أو فيروزج، فقد روى ابن بابویه عن الصادق (عليه السلام) : ما رفعت كفت إلى اللّه أحب من كف فيها عقیق» .

وفي عدة الداعي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال

ص: 199

رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : قال اللّه عز وجل : إني لأستحيي من عبدي، يرفع يده وفيها خاتم فيروزج فأردها خائبة» .

الخامس عشر: أن يكون الدعاء لتحميل النفس، والحوائج الشرعية وسؤال المغفرة ورضوان اللّه ونِعَمِ الجنة، أي يكون جامعاً للدنيا والآخرة ، بحيث يكون نفعه غير منقطع، وأثره لا يضمحل، وفي الدعوات المقدسة المأثورة من ذلك شيء كثير، منها: ما يسمى بدعاء الفرج، وهو مذكور في كتب الأدعية .

ثم إن الدعاء مطلوب لنفسه، ومحبوب لذاته ، ولا تختص محبوبيته بوقت دون وقت، ولا مكان دون آخر، ولا بلغة دون أخرى، بل هو محبوب في جميع الأحوال والأوقات والأمكنة.

نعم، لبعض الأيام والليالي والأمكنة المقدسة، دخل في مراتب فضله، لا في أصل صحته ومحبوبيته، وإذا توفرت شروط صحة الدعاء ، وشروط كماله، ووقع الدعاء مورد الاستجابة ، فإنه قد يوجب التغيير في العالَم، مما يوجب تحير ذوي الألباب، ولا ريب في ذلك كما مر، فإن الدعاء عظيم أثره، لأنه حضور العبد الذليل لدى المولى الجليل، وتوجه نحو التوحيد الفطري، فلا تغفل عنه، ولا تعرض بوجهك عنه، فإن المحروم مَن حرم من الدعاء، ولا تجعل للشيطان على عقلك سبيلاً بشبهاته ، فإنه عدو للإنسان، يحاول أن يجنب العبد عن الدعاء، لأنه من أعظم السبل في رده، واللّه الهادي وهو المولى ونعم النصیر.

ص: 200

مراتب السلوك

لا ريب في أن أقوی مراتب سلوك السالكين إلى اللّه جلت عظمته، وأهم مقامات سیر هم وسفرهم، إنما هو السفر من الخلق إلى الحق، أي : التوجه التام، بحيث ينقطع عما سواه تعالى، وهو السير في الحق بالحق .

وهذا السفر الروحاين يصح أن يعبَّر عنه : بأنه سفر من المحدود من كل جهة إلى غير المحدود من جميع الجهات، وعطف وحنان ممن لا حد لرحمته وحنانه وعنايته، إلى ما هو المحتاج على الإطلاق، وهذا السفر، وهذه الرحمة والعطف، يتحققان في حقيقة الدعاء مع الإيمان باللّه جلت عظمته، وبما جاء به نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لأن هذه الحقيقة مع ذلك عبارة عن تخلي النفس عن جميع الرذائل، وطهارة روحية عن جميع الصفات الذميمة والأهواء الشريرة، وارتباط روحي مع عالم الغيب .

وإن قلت : إنها تجلي الرحمة الرحيمية والرحمانية بالنسبة إلى الداعين.

أو قلت: إنها عروج النفوس المستعدة عند الانقطاع عما سوى رب العالمين إلى أعلى الدرجات التي أُعدت لها، ولذا قال تعالى: (مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ)(1)، وقال الصادق (عليه السلام) كما تقدم : «الدعاء مخ

ص: 201


1- الفرقان، الآية 77.

العبادة»، ولذا كان الأنبياء والأوصياء والعلماء العارفون باللّه تعالى، يواظبون عليه أشد المواظبة في جميع أحوالهم، حالاً ومقالاً.

وهناك أمور أخرى مهمة مرتبطة بالدعاء، نتعرض لها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالی.

بقي هنا أمران:

الأول : الفرق بين الدعاء وغيره من الأسباب المؤثرة، مثل السحر والعين مثلاً، فإن الأول - أي الدعاء - تأثير غيبي في عالم الشهادة ، كما مرّ، ولما سواه تأثیرات من هذا العالم وفيه، وهي غير مرتبطة بعالم الغيب والملَكوت أصلاً، بل بعضها منهي عنه شرعاً.

الثاني : أن الدعاء إنما يؤثر بحسب معتقدات الداعي، فربما يكون الدعاء الصادر من الذي لا يعتقد بالمبدأ يؤثر بحسب معتقده، وهو خلاف الواقع، قال تعالى : (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ)(1)، وتدل عليه السنة المقدسة، بل التجربة، ويأتي التعرض لها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالی(2).

ص: 202


1- الرعد، الآية 14.
2- م - ن، 47 - 76، ج (3).

العفو والمغفرة

اشارة

(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ).

الآيات الشريفة من جلائل الآيات التي يذكر فيها أهم الخصال الحميدة الفردية والاجتماعية، وه يتهدي الإنسان إلى استكمال نفسه ومجتمعه، وتعلمه كيفية علاج الذائل النفسانية، فهي تدعوه إلى الخير والإحسان، والتحلي بمكارم الأخلاق والانزجار عن الشر والسوء ومساويء الأخلاق.

وقد عدد سبحانه وتعالى جملة من الأخلاق الكريمة والخصال الحميدة وهي المسارعة إلى الخير، والإنفاق في سبيل اللّه في السراء والضراء، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس، والتوبة عن المعاصي والذنوب التي تبعد الإنسان عن خالقه وتوقعه في الورطات والمشاكل .

ص: 203

وقد أمر عز وجل بنيل الإحسان وكل خير فردي و اجتماعي، وبين سبحانه وتعالى أن في التخلق بها وفي إفشائها يحقق للإنسان الحياة السعيدة وتأمنه من الوقوع في المهالك وتوجب له النجاة من الشدائد، وبها تثبت الوحدة بين أفراد المجتمع ويشد بعضهم بعضاً.

فهذه الآيات الشريفة تبين الصراط المستقيم الذي مَن سلكه لا يضل ولا يشقى، وقد ذكر سبحانه في الآيات السابقة أهم ما يمنع الإنسان من السير على ذلك الصراط المستقيم، وما يعيقه من تكمیل نفسه ومجتمعه، وهو الربا الذي يعد في نظر الإسلام من أهم الموانع المادية والمعنوية التي تحرم الإنسان عن الحياة السعيدة، وتمنع من الإنفاق الذي يعد من أهم الأسس في نيل السعادة .

وقد عدّ عز وجل أن التعدي عما ذكره والإعراض عما بينه يؤذي إلى الشقاء والحرمان، وأمر عز وجل بالاعتبار عما جرى في الأمم السابقة التي أعرضت عما ارتضاه اللّه تعالى لهم.

التفسير

قال تعالى : (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ).

دعوة عامة إلى الغفران، وبشارة عظيمة لجميع أهل الذنوب والعصيان، واستضافة من الجواد الغني لجميع الواردين عليه، وترغیب إلى العباد في إزاحة جميع الأغشية والظلمات، ودفع أنواع الجهالات ، ووعد منه عز وجل لمَن أطاع اللّه وأطاع الرسول، وقد ذكر جزاء المتقين المطبعين اتباعاً للوعيد بالوعد الجميل، واقتراناً للترهيب بالترغيب، كما هو سنّته عز وجل.

والمسارعة المبادرة والاشتداد في السرعة، وهي في الخير ممدوحة

ص: 204

وفي الشر مذمومة، والمسارعة إلى الخيرات هي المبادرة إليها . وإنما أمر سبحانه وتعالى بالمسارعة إليها بإطاعة اللّه تعالى والرسول، للتنبيه على ترك التسويف الذي يفوت به الأجر والحظ، وكثرة المثبطات ووسوسة الشيطان التي توهن العزائم.

ويمكن أن يكون قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)، مبيناً للمغفرة في هذه الآية الشريفة، كما أن قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) مبيناً للمسارعة إلى الجنة .

وكيف كان، فإن أسباب المغفرة والدخول في الجنة معروفة مذكورة في القرآن الكريم والسنة الشريفة، كما أن أسباب الدخول في النار كذلك .

قال تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ).

العرض خلاف الطول، وهو أقصر الامتدادین عادة، ویكنّی به عن السعة، واستعماله في ذلك شائع، يقال : بلاد عريضة، أي واسعة، ومنه قولهم : أعرض في المكارم إذا توسع فيها، وفي الحديث عنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لقد ذهبتم فيها عريضة»، أي الأرض الواسعة، وقد قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذلك عندما هرب جماعة يوم أُحد فراراً من الزحف.

ومن ذلك يظهر أنه لا وجه لما ذكره بعض من أنه إذا كان العرض كذلك فأين الطول وما مقداره، مع أنه لا يجري ذلك إذا فرضنا كروية الجنة .

ويمكن أن لا يكون التعبير كنائياً، بل كان على الحقيقة، إما بناءً على عدم تناهي الأبعاد، كما عن جمع من الفلاسفة، فالأمر واضح. وإما بناء على التناهي كما عن بعض، فلا ريب في أنه على فرض صحته إنما هو في الدنيا، وأما في الآخرة فهي غير متناهية من جميع الجهات، زماناً ومكاناً، وسعة ونعمة، وغير ذلك .

ص: 205

وقد ذكر المفسرون في معنى العرض في المقام بما لا يرجع إلى محصل.

ونقل عن أبي مسلم بن بحر : أن المراد من العرض في الآية الشريفة هو من عرضك الشيء على البيع، والمقايضة، أي لو عرضت الجنة بالسماوات والأرض لكانتا ثمناً .

وهذا تأویل باطل.

وكيف كان، فالآية الشريفة ترمز إلى معنی جمیل، ترغب المخاطبين إلى المراد بأسلوب لطيف وجار على ما يتصوره الناس من التمثيل بالموجود في الخارج، وتبين بلوغ الجنة في السعة بحيث لا يمكن أن يحدها حد وهمي، وهذا مما يوجب اطمئنان الإنسان بأن له ما تشتهيه النفس من جميع الجهات، ففي بعض الأحاديث القدسية : «أعددت العبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»، وهذا هو شأن النعمة التي أُعدت من غير المتناهي من كل جهة إلى المنعم عليه المتناهي من كل جهة، وهذه هي الحياة الكاملة الأبدية التي لا ينبغي للإنسان إلا السعي في دركها.

قال تعالى : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) .

الإعداد: التهيئة، وهو إما علمي أو خارجي، في هذه النشأة أو في نشأة أخرى أو في عالم الملكوت الذي يكون كالصورة والمرأة لهذا العالم بجميع جزئياته وكلياته ، ويمكن أن يعبر عنه بعالم المثال الخارجي، وهو موجود بوجود روحاني معنوي، ودخله سيد الأنبياء (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في معراجه واطلع على خصوصياته ، فيكون الإعداد مطابقة للوجود العلمي الأزلي، والوجود الخارجي في الدنيا والوجود الأخروي في ما لا يزال .

ص: 206

والتقوى هي سبب معدّ للجنة، فتكون حقيقة التقوى منزلة من العلم الأزلي مثل بالوجود المثالي، ثم نزلت إلى هذا العالم وستعود إلى المحل الذي أعدته لنفسها، كما أنها حقيقة العصيان والطغيان والكفر كذلك ، ولكل منها مظاهر خاصة تناسب عالم ظهورها، ويمكن التمثيل له في هذا العالم أيضاً، فإن بعض الأراضي لا قابلية لها إلا لزراعة مثل الزعفران، وقطعة أخرى لا تصلح إلا أن تكون سبخة يعلوها الملح. وذلك كله بنحو الاقتضاء لا العلية التامة، ومن ذلك يعلم المراد من قولهم (عليهم السلام) : «كل ما هناك لا يعلم إلا بما هنا»، أو : «إن الدنيا مزرعة الآخرة»..

وإنما أتى عز وجل الفعل مجهولاً، للإشارة إلى أن لفعل الفاعل دخلاً في الإعداد، وأُضيفت الجنة إلى المتقین، لبيان أن الوصف . وهو التقوى - علة هذا الإعداد .

ونظير هذه الآية قوله تعالى : (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)(1)، ولعل الاختلاف في التعبير بالمسارعة والمسابقة، لأجل أن المسارعة تكليف للجميع من غير اختصاص بفرد، والمسابقة تكليف فردي بأن يتسابق كل فرد فرداً آخر حين المسارعة، فتكون المسابقة أخص من المسارعة، ويكون المراد بالجنة في آية المسابقة جنة خاصة، عرضها كعرض السماء والأرض، فإن اللّه تعالی جنات كثيرة، بل غير متناهية .

كما أن المراد بالجنة في آية المسارعة الجنس التي يكون عرضها السماوات والأرض، ويصح أن يراد بالسماء في آية المسابقة الجنس، فيتحد مفاد الآيتين حينئذٍ .

ص: 207


1- الحديد، الآية 21.

ثم إنه تعالى ذكر المتقين في المقام لغرض الأوصاف التي وصفهم بها، وهي أوصاف جامعة لمكارم الأخلاق وهي تفيد المجتمع كما تفيد الأفراد، أُمروا بالتحلي بها لغاية تهذيبهم وتكميلهم، وقد نزلت هذه الآيات بعد غزوة أُحد، وقد جرى على المسلمين ما جرى، كما صدر منهم ما صدر، فاستلزم ذلك تنبيه المؤمنين وتهذيبهم وإعدادهم لما ستجري عليهم من الحوادث.

وقد وصف عز وجل المتقين بأوصاف خمسة، وهي :

قال تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ).

السراء : من السرور، وهو الرخاء والفضل، والضراء من الضرر، وهو الشدة والعسر والضيق . أي : الذين ينفقون لوجه اللّه تعالى في حالة الرخاء والسرور، وحالة الشدة والضيق والعسر .

وظاهر الآية الشريفة أن السراء والضراء حالتان للمنفق، ويحتمل أن تكونا حالتين للإنفاق في حالة الرخاء والسرور، وحالتي الضيق والشدة ، فمن الأول الإنفاق في التوسعة على العيال، ومن الثاني الإنفاق لرفع ما يضطرون إليه.

وإنما حذف عز وجل متعلق الإنفاق ليشمل القليل والكثير، وكل ما يصلح للإنفاق، سواء كان مالاً أم غيره .

وقد بدأ سبحانه وتعالى من بين الأوصاف بالإنفاق مقابلة للربا الذي نهی عنه عز وجل في الآية السابقة، الماحق لكل فضل وفضيلة، ولأن الإنفاق في الحالتين يكشف عن محبة المنفق اللّه تعالى وتقواه، لأن أنفق أحب الأشياء لنفسه، ولأن الإنفاق أنفع للناس من سائر الصفات، فإن فيه يظهر التعاون بين أفراد المجتمع، وبه ترتفع المشكلات وتنحل

ص: 208

المعضلات، ويخفف من هموم الفقراء ويبعث في نفوسهم الأمل ويشدهم مع سائر أفراد المجتمع.

قال تعالى : (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ).

وصف ثان، ومادة (كظم) تدل على الحبس والإمساك، ومنه الحديث : «إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع»، أي يحبسه مهما أمكن، ويقال : كظم البعير، أي أمسك عن الجرة، وكظم القربة شد رأسها عند الامتلاء، والغيظ شدة الغضب وفوران الدم للانتقام.

قال تعالى : (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ).

وصف ثالث، وهو من أجل مكارم أخلاق اللّه تعالى، فإن بعفوه يتم تدبیر نظام العالم. ومن أسمائه تعالى العفو، وهو المبالغة في العفو الذي هو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، وأصله المحو والطمس والعفو عن الناس هو ترك مؤاخذتهم مع القدرة عليها والتجاوز عن عقوبة مَن استحقها، وهو أقرب للتقوى، وفي الحديث: «سلوا اللّه العفو والعافية والمعافاة» ، أما العفو فمحو الذنوب، والعافية أن تسلم من الأسقام والبلايا وهي الصحة، والمعافاة هي صرف أذى الناس عنك وأذاك عنهم، ويغنيك عنهم ويغنيهم عنك.

وإنما حذف المتعلق ليشمل كل ما يدخل تحت حقه.

وهذا الوصف يكشف عن كرم المتصف به وحسن سريرته وضبط نفس الأمارة تحت إرادته وحكمته، فتكون مرتبة هذا الوصف أعلى من مرتبة كظم الغيظ، فإن الشخص قد يكظم غيظه ولكن على عقد وضغينة ، والعفو دليل على انتفائهما .

قال تعالى: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

ص: 209

وصف رابع، وهو الإحسان الذي له المرتبة الأعلى من بين جميع ما سبق، بل هو أكرم المكارم، ولعله لأجل ذلك لم يعطفه على ما سبق.

والإحسان : صفة كريمة تتصف بها النفس يكشف بها كظم الغيظ والعفو عن الناس، فإن هذه نعوت معدة لكسب الإحسان والتحلي به، والإحسان : هو جعل الأشياء في موضعها وإتيان الأعمال على الوجه اللائق بها، وبالإحسان يتم الإنفاق الذي لا بد أن يعرى عن جميع ما يشينه ويكمل كظم الغيظ والعفو عن الناس، ولذلك كان للمحسنين أجر عظیم و منزلة كبيرة، قال تعالى : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(1)، ويكفي في منزلة هذا الوصف أن اللّه يحب المحسنين ويثيبهم على إحسانهم، وكفى بذلك فخراً وفوزاً.

قال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ).

وصف خامس، وهو أعظم آية في القرآن الكريم في تهييج رجاء العبد، وفيها التنويه بمقام العفو والإحسان، وتذكر المتقين بعدم اليأس لو صدر منهم ذنب، فإنه بعد أن ذكر أوصاف المتقين - من كظم الغيظ والعفو والإحسان - عقبه سبحانه بأعظم ما منَّ به على العباد، وهو العفو عن المذنبین والإحسان بهم، تعليماً لهم وتنويهاً لمقامهما وإعلاماً بأن الإنسان لا يخلو عن الذنب إلا أن يكون معصوماً بعصمة اللّه تعالى، فهو محتاج إلى العفو والإحسان، فتكون الجملة معطوفة على المتقین، (وأولئك) في الآية التالية إشارة إلى الجميع.

والفاحشة من الفحش، وهو مجاوزة الحد في السوء، فتكون الفاحشة كل اشتد قبحه من الذنوب والمعاصي، وشاع استعماله في الزنا

ص: 210


1- العنكبوت، الآية 69.

باعتبار أنه أظهر أفراد الفحشاء ؛ وكل خصلة قبيحة فهي فاحشة من الأقوال والأفعال، وفي الحديث: «إن اللّه لا يحب الفحش والتفاحش».

والمراد بها في الآية الشريفة - بقرينة المقابلة للظلم - المعصية الفاحشة في قبحها، سواء كانت مقتصرة على النفس، كترك الصلاة ونحوه، أم متعدية إلى الغير، كالقتل والغيبة ونحوهما. والظلم ما دون ذلك، كما يصح أن يكون الفرق بينهما كالفرق بين الكبيرة والصغيرة .

قال تعالى : (ذَكَرُوا اللَّهَ) .

أي : تذكروا عظمة اللّه تعالى وآياته الموجبنين للخشية منه، وأنه مرجعهم في كل خوف ورجاء، بعد أن أغفلهم الشيطان وأنساهم ذكر ربهم حين الذنب، فيسرعون إلى الاستغفار وطلب المغفرة .

والمراد بذكر اللّه هو الذكر الحقيقي الذي يكون داعياً إلى ترك الذنب واستشعار الخوف والرجوع إليه تعالى، لا مجرد الذكر اللفظي مع البقاء على الذنب، فإنه حينئذٍ يكون كالمستهزیء به تعالی.

قال تعالى : (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ).

أي : حين ما ذكروا اللّه وتذكروا جلاله وكبرياءه أحبوا التقرب إليه بعد أن انصرف عنهم طائف الشيطان، فتابوا إليه طالبين المغفرة منه عز وجل لجميع ذنوبهم.

والآية الشريفة في مقام التمييز بين مَن يفعل المعاصي محادة وعناداً ولجاجاً، فإنه بعيد عن الاستغفار ولا يوفق إليه أبدا. وبين مَن تذكر اللّه تعالى حين المعصية وارتدع عنها خوفاً، فتاب إليه تعالى وطلب المغفرة منه، فإن لهم مقام معلومة .

قال تعالى : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ).

ص: 211

بشارة عظيمة، وتطييب للنفوس، وتشويق إلى التوبة والاستغفار، وتنبيه للمذنبين بالالتجاء إلى اللّه تعالى وعدم اليأس منه عز وجل، فإنه لا منجی من الذنوب ولا ملجأ في الغفران إلا إلى اللّه تعالى، وهذا مما يؤكد الفزع والرجوع إليه عز وجل.

والآية المباركة - بأسلوبها البديع وخطابها البليغ - تؤثر في المخاطبين أبلغ التأثير، وينبه الضمير الإنساني الذي تأثر بارتكاب الذنوب والمعاصي بالرجوع إلى اللّه والإنابة إليه، لإزالة ما يوجب ضلاله وإغوائه .

وفي هذا الخطاب وجوه من الدلالة على المعنى المراد، كإظهار اسم الجلالة، وإسناد المغفرة إلى ذاته المقدسة المستجمعة لجميع الصفات الكمالية، ودلالة ذلك على الغفران الواسع وانحصاره فيه عز وجل، لأنه المسلط على ذلك كله، فإن مَن بيده أصل الخلق وتدبیر شؤونهم، يكون مسلطاً على الغفران بالأولى، وليس لغيره هذا الحق، وهذا ما يدل عليه الحصر المستفاد من النفي والإثبات. : وفيه الإنكار على مَن يطلب المغفرة من الأوثان أو الأفراد الذين لم يأذن لهم اللّه تعالى بالاستشفاع لديه في غفران الذنوب بالخصوص .

ويؤكد ذلك ورود الخطاب على هيئة الإنشاء دون الإخبار.

وفي ذكر الجمع المحلي باللام الدال على العموم، إعلان بأن اللّه جل شأنه يغفر جميع الذنوب، صغائرها وكبائرها، فيكون المذنب بعد الاستغفار والتوبة عنده كمَن لا ذنب له، كما في الحديث.

ثم إن مجيء هذا الخطاب بعد ذكر الفاحشة وظلم النفس، فيه الدلالة على سعة غفران اللّه تعالى وعدم مبالاته فيه، فإن الذنوب مهما كبرت وجلت، ولكن عفوه وغفرانه أجل وأعظم وأكبر .

ص: 212

قال تعالى: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

الإصرار على الشيء: المداومة عليه وملازمته، وأكثر ما يستعمل في الشر والذنوب، وفي الحديث: «ويل للمصرين الذي يصرون على ما فعلوه وهم يعلمون»، وقد تقدم اشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالی : (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ)(1).

«وهم يعلمون» حال من فاعل الإصرار و متعلق به .

والمعنى : أنهم لم يداوموا على الذي فعلوه من الذنوب والمعاصي وهم عالمون بقبحها وبالنهي عنها والوعيد عليها.

وإنما قيد الإصرار على الفعل بالمعصية، لبيان أن مجرد الإصرار على المعصية مع الجهل بها لا يكون إصراراً شرعاً، كما يبينه قوله تعالی : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ)(2).

والآية الشريفة ترشد الناس إلى ترك الإصرار في المعاصي، لأنه بوجب عدم المبالاة برحمات اللّه تعالى والاستكبار عليه والاستهانة بأحكامه المقدسة، ويجعل النفس ميالة إلى الطغيان والخروج عن الطاعة ، فتنتفي العبودية وتخرج عن الفطرة المستقيمة، فلا ينفع حينئذٍ ذكر اللّه تعالى الذي كان يمنع عن المعصية والإقامة على الذنب.

قال تعالى : (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا).

وعد منه عز وجل للمتقين الموصوفين بما تقدم من الأوصاف ،

ص: 213


1- آل عمران، الآية 117.
2- النساء، الآية 17.

وبيان للأجر الجزيل والثواب الكبير المعد لهم، وهو المغفرة والجنات العظيمة التي تجري من تحتها الأنهار زيادة في بهجتها، ولتمامية النعمة أنهم خالدون فيها لا يشوبها نقص.

ويمكن أن يكون ما ورد في هذه الآية المباركة هو نفس ما ذكره عز وجل في الآية السابقة من الأمر بالمسارعة إلى المغفرة وجنة عرضها السماوات والأرض، فتكون تلك الأوصاف من المعدات والأسباب للمغفرة والدخول في الجنة، وتكون هذه الجئات ضمن تلك الجنة الفسيحة .

وقد أضاف سبحانه وتعالى الجزاء إلى ضمير «هم» تشریفاً، وفي ذكر الرب المضاف إلى «هم»، لبيان العلة في نيلهم لذلك الجزاء العظيم وتربيته تعالى المعنوية لهم.

قال تعالى : (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ).

تأكيد للوعد الجميل وتشويق لهم إلى العمل، أي : تلك المغفرة والجنات إنما تكون على تلك الأعمال الحسنة التي تعد النفس إعداداً صالحاً، وتهيئوها لنيل تلك المراتب العالية .

والخطاب على إيجازه يشتمل على وجوه من الدلالات المحسّنة، الدالة على عظمة الموضوع والاهتمام به، وتهييج الشوق والمسارعة إلى نیله .

منها : إقامة الأجر مقام الجزاء، إعلاماً بإنجاز الوعد وتحققه، مما يزيد في شوق العامل وتنشيطه للعمل، فكان العامل يستحق ذلك.

ومنها : ذكر الجمع المحلي باللام وإقامته مقام الضمير تأكيداً ، وللدلالة على حصول المطلوب.

ص: 214

ومنها : إتيان هذه الجملة بعد ذكر الجزاء وتفصيله لبيان الاهتمام بالوعد، والتأكيد على المسارعة لدركه .

قال تعالى : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ).

أمر بالاعتبار بما جرى على الأُمم الغابرة والنظر في ما بقي من آثارهم، زيادة في التحريض على العمل والاستعداد لنيل الكمال، وتشويقاً للجزاء الذي أعده اللّه تعالى للعاملين، وتنبيهاً للمؤمنين على عدم الغفلة ، وتذكيراً لمن خالف الرسول الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وتسلية للمؤمنين، وتوبيخاً لمن أعرض عن آيات اللّه تعالى وأحكامه المقدسة وغفل عن الاستكمال ، وتشنيعاً على من أدرج نفسه في عداد المكذبين بعد إتمام الحجة، التي يكون منها الرجوع إلى أحوال الماضين والسير في الأرض والنظر في ما خلفته تلك الأمم من الآثار، فقد خلت عن أصحابها بعدما كانت قصوراً شاهقة أو عروشاً جمعت كل أسباب البهجة والسرور، وقد ابتهج ساكنوها وعمارها مدة فيها، أو كنوزاً امتلأت بكل أسباب العيش الهنيء، أو ذخائر عظيمة لم تدخل في الحسبان، وقد جرت عادته عز وجل أنه يرجع المخاطبين - بعد سرد جملة من الحوادث وبيان الأحكام الفردية والاجتماعية - إلى سنن الأُمم الغابرة، والأمر بالاعتبار بها والنظر في آثارهم لمزيد التنبيه، والاستفادة من تجاربهم ولئلا تتكرر ما جرى عليهم على هذه الأمة، وأن يسلكوا الطريق المستقيم الذي سلكه الصالحون منهم، والإعراض عن سبل المكذبين لئلا يدخلوا في زمرتهم فينالوا جزاءهم، وقد جعل القرآن الكريم هذا الأمر من سبل إتمام الحجة على العباد .

وخلت بمعنی مضت، والسنن جمع سنة، وهي الطريق المعبدة المسلوكة، وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في ما يقرب من

ص: 215

سبعة عشر موضعاً، قال تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ)(1) ،وقال تعالى: (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ)(2).

والنظر في سنن الماضين من سبل الرشاد، وفيها وجوه من الحكمة ، منها الاعتبار بها، وإتمام الحجة على اللاحقين، وتسلية لما يجري عليهم، والاستفادة من تجاربهم وغير ذلك، ولذا اهتم بها عز وجل فذكرها في مواضع متعددة .

وبالجملة: فهو إرشاد إلهي .

والمراد بها في المقام منهاج الماضين وما جرى عليهم، سواء كان سنة المؤمنين الصادقين المجاهدين في سبيل اللّه تعالى والعاملين المستعدين للقائه والدار الآخرة، وما كابدوا من عتاة زمانهم وجبابرتهم وصعوبة العيش، فرضوا بما قسمه اللّه لهم وصبروا وآثروا الآخرة على الحياة الدنيا الفانية، وسنة الكاذبين الكافرين الذين آثروا الحياة الدنيا على الآخرة ونعيمها، لانهماكهم في الضلال والشهوات مع وضوح الحجة ومعرفة البينات، والأمر بالسير في الأرض لزيادة الاعتبار من آثار الماضين والتبصر منها، ويدخل في السير في الأرض السير في حالات أهل الأرض من خلال التأريخ والحوادث الواقعة فيهم.

قال تعالى : (فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ).

المراد بالنظر هو التأمل والتبصر بأنه كيف كان علاقة المكذبين مع المؤمنين، وما جرى من الصراع بين الحق والباطل، وما آل أمر المؤمنین

ص: 216


1- الأنفال، الآية 38.
2- الحجر، الآية 13.

إليه، وعاقبة أمر المكذبين وما حل بهم من العذاب والهلاك بسوء أعمالهم، فإن النظر في ذكل كله يزيد المعرفة ويوجب التسلية بما يجري على المؤمنين، ويفيد العظة والأعتبرا، والتوبيخ للمكذبين الكافرين .

قال تعالى : (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) .

الإشارة راجعة إلى ما ورد في الآيات السابقة من ذكر غزوة أُحد والمضامين العالية التي احتوتها تلك الآيات، والتقسيم باعتبار حالات الناس ومدى تأثرهم بالقرآن الكريم، فبعضهم يكون القرآن بالنسبة إليه بلاغاً وبياناً، والبعض الآخر يكون هدىً وموصلاً له إلى الهداية وموعظة تدعوه إلى الاتعاظ والاعتبار وزيادة الإيمان وثباته، كل ذلك لا بد أن يكون للذين أعدوا أنفسهم لقبول الهداية والاتعاظ، وهم المتقون الذين يتأثرون بالبيان وينتفعون منه ويهندون بهداه ويتعظون بمواعظه دون

سواهم.

ص: 217

بحوث المقام

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على أمور:

الأول : قد جمعت الآيات المباركة المتقدمة وجوه البرّ ومكارم الأخلاق التي لا بد من التحلي بها ولا يسع لأحد الإعراض عنها، فإنها فاتحة الكمالات وجامعة للخيرات، وهي من المكارم الفردية والاجتماعية، بها يعيش الفرد حياة سعيدة خالية عن ما ينغصه من الكدورات والشرور، وبها يصلح المجتمع.

ومن هذه الآيات الشريفة نستفيد المنهج الأخلاقي في الإسلام، فإنا ذكرنا في أحد مباحثنا الأخلاقية : أن المنهج الأخلاقي في الإسلام يختلف عن المناهج الأخرى في الأصول والأسلوب والطريقة، وأن الإسلام ينظر إلى التقوى والعمل أولاً وبالذات، وأنه السبيل الوحيد لنيل الكمال والوصول إلى الغاية، وهذه الآيات تبين المنهج العملي، ونظير هذه الآيات قوله تعالى : («لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ

ص: 218

وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)(1)، فراجع ما ذكرناه هناك .

الثاني : إنما قدم عز وجل المغفرة على الجنة، لأن المغفرة سبب للدخول فيها، وكل سبب مقدم على المسبب، مع أن الجنة دار طهر لا يصلح لدخول غير المطهرين فيها، وبالمغفرة يطهر المذنب فيصلح للدخول فيها.

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)، أن التقوى هي السبب في إعداد الجنة وتهيئتها للمتقين وحضورها لهم.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى : (عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) ، كمال الجنة من جميع الجهات وتمامية النعمة فيها، فإن الجنة التي تكون سعتها كذلك فلا بد أن تكون محفوفة بجميع موجبات البهجة والسرور، وفيها الحياة الكاملة كما قال عز وجل: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ)(2).

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، أن كل وصف سابق معد للوصف اللاحق، فإن الإنفاق يوجب ترويض النفس المحبة للأموال والملذات والسيطرة عليها، فتستعد لكظم الغيظ، وهذا موجب للعفو عن الناس، وهو موجب لمزيد الإحسان.

السادس: يستفاد من قوله تعالى : (ذَكَرُوا اللَّهَ) ، أن ذكر اللّه تعالی هو السبب في انقلاع العبد عن المعصية والانزجار عن الذنوب وعدم العود إليها والتوبة إلى اللّه تعالى وطلب المغفرة منه عز وجل، لأن غفران

ص: 219


1- البقرة، الآية 177.
2- العنكبوت، الآية 64.

الذنوب تحت سلطته عز وجل، وأن الإصرار على المعصية يسلب التوفيق عن تذكر اللّه تعالى، وهم يعلمون بأن الإصرار يكون كذلك، ويوجب التجري على اللّه تعالى والاستكبار علیه وعدم المبالاة بحرماته، وتزول عنه حالة الندم والخوف عن نفسه.

السابع: إنما جعل عز وجل قصص الماضين - سواء الصالحين منهم أم الظالمين - خاتمة لتلك التعاليم الإسلامية، عبرة للاحقين ودستوراً للعمل ومنهاجاً في سيرهم وسلوكهم، مضافاً إلى كونها مواعظ يتعظ بها المتعلمون، ويصلح بها الفاسد.

بحث روائي

في المجمع: عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه سئل إذا كانت عرضها السماوات والأرض فأين تكون النار؟ فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «سبحان اللّه إذا جاء النهار فأين الليل».

أقول: روى السيوطي أيضا في الدر المنثور هذا الجواب منه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إقناعياً إسكانياً. كما يمكن أن يكون على وجه التحقيق، بأن نقول إن خلق النار تبع لخلق الجنة، فهي لا تنفك عنها، كما أن خلق الليل لا ينفك عن خلق النهار، وأما وجه التبعية، فلقوله تعالى : (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا)(1))، و«سبقت رحمته غضبه».

وفي الخصال : عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) ، قال لي : «إنكم لن تنالوها إلا بالتقوى».

أقول: لما تقدم من أن التوقي سبب لحصول الجنة فلا يعقل نيلها

ص: 220


1- غافر، الآية 7.

إلا بالتقوى، ولا بد من تعميم التقوى إلى التوبة والاستغفار، كما في صدر الآية الشريفة .

وفي الكافي : عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال : «ما من عبد كظم غيظاً إلا زاده عزّاً في الدنيا والآخرة، قال اللّه عز وجل : والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس واللّه يحب المحسنين».

أقول: وردت روايات كثيرة في شأن كظم الغيظ ، سيأتي في المحل المناسب التعرض لبعضها.

وفي الكافي - أيضاً -: عن الصادق (عليه السلام) قال : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : عليكم بالعفو، فإنه لا يزيد العبد إلا عزّاً، فتعافوا يعزكم اللّه».

أقول: لأن العفو من صفات اللّه تعالى، فيعز العبد العافي بعزه، ويأتي في الموضع المناسب شرح ذلك.

وفي المجمع والإرشاد للمفيد: «أن جارية لعلي بن الحسين (عليه السلام) جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها فشجه فرفع رأسه إليها، فقالت له الجارية : إن اللّه تعالى يقول: والكاظمين الغيظ، فقال لها: كظمت غيظي، قالت: والعافين عن الناس . قال : عفا اللّه عنك. قال : واللّه يحب المحسنين، قال : اذهبي فأنت حرة لوجه اللّه».

أقول: رواه السيوطي في الدر المنثور أيضاً عن البيهقي، والحديث يدل على أن الإحسان أمر زائد على أصل العفو، ومثل ذلك كثير في العالمين العاملين بعلمهم.

ص: 221

وفي الكافي وتفسير العياشي: عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا) ، قال (عليه السلام) : «الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر اللّه ، ولا يحدث نفسه بتوبة، فذلك الإصرار».

أقول: الأحاديث في ذلك كثيرة، وقد تقدم ما يشهد لذلك، وسيأتي ما يرتبط بذلك أيضاً.

وفي تفسير العياشي في حديث قال: «وفي كتاب اللّه نجاة من الرديء وبصيرة من العمى، وشفاء لما في الصدور في ما أمركم اللّه به من الاستغفار والتوبة، قال اللّه تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ، فهذا ما أمر اللّه به من الاستغفار واشترط معه التوبة والإقلاع عما حرم اللّه ، فإنه يقول: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) وبهذه الآية يستدل على أن الاستغفار لا يرفعه اللّه إلا بالعمل الصالح والتوبة».

أقول: تقدم مكرراً أن العمل الصالح من الإيمان، فلا إيمان إلا به .

وفي المجالس: عن عبد الرحمن بن غنم الدوسي في قوله تعالی : (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) ، نزل في بهلول النباش وكان ينبش القبور فنبش قبر واحدة من بنات الأنصار فأخرجها ونزع أكفانها - وكانت بيضاء جميلة - فسول له الشيطان فزنى بها ثم ندم، فجاء إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فرده ثم اعتزل الناس وانقطع عنهم يتعبد ويتبتل في بعض جبال المدينة ، حتى قبل ونزل فيه القرآن» .

وفي أسباب النزول للواحدي : عن ابن عباس في رواية عطا قال : «نزلت الآية وهي قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) في نبهان التمار

ص: 222

أتنه امرأة حسناء تبتاع منه تمراً، فضمها إلى نفسه وقبلها ثم ندم على ذلك، فأتى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؛ وذكر ذلك له فنزلت هذه الآية».

أقول: قد وردت روایات متعددة في شأن هذه الآية، وهي على فرض صحتها لا تكون مخصصة للآية، بل هي بعمومها تشمل كل فاحشة تاب صاحبها عنها.

وفي المجالس: عن الصادق (عليه السلام) قال : لما نزلت هذه الآية (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً)، صعد إبليس جبلاً بمكة يقال له ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه فقالوا له: يا سيدنا لِمَ تدعونا؟ قال : نزلت هذه الآية فمَن لها؟ فقام عفريت من الشياطين فقال : أنا لها بكذا وكذا. فقال : لست لها. فقام آخر فقال مثل ذلك . فقال : لست لها . فقال الوسواس الخناس : أنا لها. بماذا؟ قال : أعدهم وأمنهم حتى يواقعوا الخطيئة ، فإذا واقعوها أنسيتهم الاستغفار . فقال : أنت لها، فوكلها بها إلى يوم القيامة».

أقول: روي مثله من طرق الجمهور أيضاً .

ص: 223

الإصرار على الذنب

الإصرار على الذنب - سواء كان صغيرة أم كبيراً - من القبائح العقلية التي يحكم العقل بقبحه وشناعته، بل هو من أشد القبائح، لأنه يوجب شقاوة النفس والجرأة على اللّه تعالى، وقد يصل إلى حد الاستهزاء بحرماته عز وجل، وهو على حد الكفر. والإصرار على الذنب على أقسام :

الأول: إتيان الذنب ثم تكراره، والبناء على إتيانه مكرراً من دون تخلل التوبة والاستغفار .

الثاني : إتيان الذنب والبناء على الإصرار والتكرار، ولكن لم يتهيّأ له أسباب إتيانه مع السعي في مقدمات الإتيان.

الثالث : نفس الصورة السابقة مع عدم السعي في المقدمات .

الرابع : أن يأتي بالذنب، وكان بانياً على الإتيان قلباً من دون صدور عمل خارجي منه أصلاً.

الخامس : أن يأتي بذنب، ثم يتوب به ثانياً.

وغير الأخير كله من الإصرار بحسب مراتبه، وأما الأخير فمقتضی قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار» محو الأول

ص: 224

وزواله بسبب التوبة، فلا يتحقق موضوع الإصرار حينئذٍ، والإصرار كما يتحقق بفعل المعصية يتحقق بترك الواجب عصياناً أيضاً.

وظهر مما مز انعقاب أصل المعصية شيء وعقاب الإصرار شيء آخر، فيتعدّد العقاب ولا موجب لتداخله، فإن تعدد المنشأ والسبب يستلزم تعدد المسبب لا محالة.

ثم إن الغفلة عن اللّه جل جلاله، وعدم الاعتقاد بحضوره تعالي هي من أشد الذنوب، والمداومة على هذه الحالة ذنب عظيم، بل هي أُم المفاسد ورأسها، والكتب الإلهية وأنبياء اللّه تعالى إنما اهتموا لإزالة هذه الحالة وإرجاع العبد إلى اللّه تعالى، ويتحقق التوجه إليه عز وجل بإتيان الصلاة، فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما نطق به التنزيل.

ص: 225

العفو والمغفرة

لا ريب في أن عالم الدنيا متقوم بالخيالات والأوهام والجهالات، والناس بعيدون عن الحقائق والواقعيات، وموجبات الإغراء بالشهوات كثيرة ومتعددة، والآيات الشريفة المتقدمة ترشد الإنسان إلى أهم الحقائق التي بها يستقيم الفرد وينتظم نظام المجتمع، وحقيقة هذه الآيات ترجع إلى التغافل عن ما يصيب الفرد من المكروه والأذى من الغير، وذل أحب الأشياء لديه وهو المال والجاه ، وترويض النفس وجعلها تحت إمارة العقل والحكمة، واعتبار الفرد نفسه من أفراد المجتمع وجزءاً لا يتجزّأ منه، بحيث يعتبر ما يكون كمالا للمجتمع كمالاً له وما يصيبهم من السوء يصيب نفسه .

وقد أكد عز وجل إرساء قواعد العفو والمغفرة بين الناس، فإن كل فرد أحوج من غيره إلى العفو والمغفرة لما يصدر منه من الذنوب والمعاصي، فبالعفو عن إساءة الغير وبذل ما عنده إليه يدخل في زمرة مَن تخلق بأخلاق اللّه تعالى، التي من أهمها بالنسبة إلى الإنسان العفو والمغفرة، فإن الدنيا مزرعة الآخرة، فما يزرع فيها يحصد في الآخرة ، وقد فتح اللّه تعالى باب التوبة والرجوع إليه عز وجل بأي وجه أمكن، فإن لها جهتان، جهة تكوينية وهي تربية الإنسان، وجهة تشريعية وهي تكثير صفوف المتقين، وقد اهتم اللّه عز وجل اهتماماً بليغاً وأعلن في جميع الكتب السماوية - خصوصاً القرآن الكريم - بأنه الغفور الرحيم، وجهز

ص: 226

بقبول التوبة والدعوة بالرجوع إليه، وهذا هو عين ما يدعو إليه العقل المجرد، فما ورد في تلك الآيات الشريفة كله من الأحكام العقلية النظامية ، صدر عن خالق العقل وموجده(1).

ص: 227


1- م - ن، 308 - 327، ج (6).

التوكل في القرآن والسنة

قال تعالى : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ).

التفات من خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لأن الخطاب يتضمن اللوم والعتاب لما صدر عنهم في أُحُد، وقد استحقوا بسببه التوبيخ من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، والتعنيف، فقد فعلوا ما أوجب الهزيمة وما يمس النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالاعتراض عليه، فإنهم قالوا: إن النبي هو الذي أورد مَن قتل منهم إلى ذلك، ولكن عظمة رحمة اللّه تعالى التي أنزلها على رسوله الكريم شملت الجميع فخاطب رسوله الكريم لأنه أرسله رحمةً للعالمين، كما قال عز شأنه : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(1).

ومما ذكر يظهر أن الفاء في قوله تعالى : (فَبِمَا رَحْمَةٍ) هو لترتيب مضمون الكلام على ما سبق .

والمعروف أن «ما» زائدة جائت مؤكدة للكلام، وأُدعي الإجماع عليه.

ولكنه موهون، لأنه ليس في القرآن الكريم حرف زائد، مضافاً إلى ذهاب جمع إلى الخلاف في المقام، وسيأتي في البحث الأدبي ما يتعلق بذلك.

ص: 228


1- الأنبياء، الآية 107.

قال تعالى : (لِنْتَ لَهُمْ).

مادة (لَيَنَ) تدل على ضد الخشونة والصلابة، وفي حديث أوصاف المؤمنين : «يتلون كتاب اللّه ليّناً»، أي : سهلاً على ألسنتهم لكثرة تلاوتهم

والمعنى: مع كون المؤمنين على ما وصفناهم فبرحمة من اللّه تعالی عليك - حيث جعلك متصفاً بمكارم الأخلاق - لأن جانبك ورؤفت بالمؤمنين وصرت تحتملهم وتعطف علهيم وتعفو عنهم وتشاورهم في الأمر، مع ما هم عليه من اختلاف الآراء والأحوال وما صدر عنهم مما أجب اللوم والعتاب والتعنيف وعدم رضا اللّه تعالی عنهم، وبسبب هذه الرحمة العظيمة التي مَنَّ بها عز وجل عليهم - وبواسطة الفيض - دخلوا تحت لوائه واهتدوا بهداه وأُقيم عمود الدين وانتظمت شؤون الإسلام وانقمعت شوكة لكفر والطغيان .

قال تعالى : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) .

الفظاظة : هي الخشونة والشراسة في الأخلاق.

وغليظ القلب: أي قسي القلب، والثاني سبب للأول، فإن غلظة القلب وقساوته سبب للفظاظة، وقدمها لظهورها في بادىء الأمر، وإنما أكد عليهما عز وجل لأنه يتبعهما كل صفة ذميمة.

والانفضاض: التفرق، قال تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا)(1)، وتستعمل في موارد التفرق الموجب للسقوط في الهاوية والردى .

ص: 229


1- الجمعة، الآية 11.

والآية المباركة ترشد إلى أهم ما يجب على الزعيم الروحي أن يتحلى به وهو نبذ كل ما يوجب نفرة الناس منه قولاً أو فعلاً، فإنه مهما كثرة فضائله وعمت نوائله وفواضله، لكنهم يتفرقون عنه ويتركونه وشأنه إذا رأوا منه ما يوجب تنفيرهم عنه، فلا ينتظم أمره ولا يستقيم بشأنه وتفوته الغاية التي بعث الأنبياء لأجلها، وهي الهداية والإرشاد والدعوة إلى الطاعة والعبودية .

وهكذا يقرر الإسلام صفات القائد الإلهي، كالرسول العظيم الذي هو متصف بمكارم الأخلاق وبالمؤمنين رؤوف رحیم مهتم بإرشادهم وحريص على هدايتهم.

قال تعالى : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ).

بيان لسيرته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع المؤمنين وتقريره تعالى لها، وقد أمره عز وجل بعدم الترتيب على أفعالهم أثر المعصية إذا خالفوه في أمر الجهاد والقتال وما يرجع إلى نفسه المقدسة، ويطلب لهم من اللّه تعالى المغفرة في ذلك

قال تعالى : (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ).

المشاورة: والمناظرة والمراجعة في أخذ الرأي واستخلاصه من الغير قيل إنه مأخوذ من شُرتُ العسل إذا اجتباه واستخرجه من موضعه، والاسم الشورى والمشورة بسكون الشين وفتح الواو .

والمراد بالأمر هو ما يهتم بشأنه كالحرب وما يتعلق بها، كما هو المنساق من الآيات الشريفة، ولا تشمل الآية المباركة أمور الدين وما يتعلق به أو ما أُنزل فيه الوحي من أمور الدنيا ..

يعني: وشاورهم في ما يعرض عليك من الأمور فيما يهتم بشأنه

ص: 230

لمصالح كثيرة، منها استصلاحهم وتطميعاً لهم في الدخول في مكارم الإسلام والتخلق بفضائل الأخلاق، واستمالة لقلوبهم وتعليماً لأُمّته بعدم تركها في أمورهم. وإلا فإنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يكن بحاجة إليهم ولم تفده المشاورة - علماً أو سداداً أو صلاحاً - كيف وهو المسدَّد من قبل اللّه تعالى، وقد قال عز وجل في شأنه (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)(1)، وعن الحسن بن علي (عليه السلام) : «قد علم اللّه أنه ما به إليهم حاجة ولكن أراد أن يستن به من بعده»، وعن ابن عباس عنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أما إن اللّه ورسوله لغنيان عنها - أي المشاورة - ولكن جعلها اللّه تعالى رحمة لأمتي، فمَن استشار منهم لم يعدم رشداً، ومَن تركها لم يعدم غيّاً».

والآية الشريفة تدل على إمضاء سيرته عز وجل مع المؤمنين كالآية السابقة في المشاورة معهم، واللّه تعالی راض عنه، وقد استشار مع أصحابه في عدة مواطن، منها: غزوة بدر الكبرى حينما نزل عند أدنى ماء بدر فأشاروا عليه أن ينزل أدني ماء من القوم. وكاستشارته في غزوة أُحُد عندما كان رأيه أن يبقى في المدينة ويحارب فيها وقد أشاروا عليه الخروج عنها إلى أُحُد.

وكيف كان، فللشورى فوائد جمة ومصالح كثيرة، وقد وردت روايات كثيرة في مدحها، ففي الحديث عنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ما تشاور قوم قط إلا هُدُوا لأرشد أمرهم»، وعن علي (عليه السلام) : «لا ظهير كالمشاورة، وما ندم مَن استشار».

قال تعالى : (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ).

إرشاد إلهي بعدم الاتكال على المشاورة .

ص: 231


1- النجم، الآية 4.

والعزم : عقد القلب والإمضاء على إتيان الفعل بعد المشورة، وعزم قلبه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنما يكون بنور اللّه تعالى وتسديده له.

والتوكل على اللّه: هو تفویض الأمر إليه عز وجل، فإنه الأعلم بمصالح العباد وهو يقضي ما يشاء ويحكم ما يريد، والمشورة والفكر وإحكام الرأي وإمضائه لا تكفي في النجاح إلا بتوفيق من اللّه تعالی وتسديد منه، ولا تؤثر الأسباب إلا به تعالى، فإن الموانع كثيرة لا يعلمها ولا يقدر أحد أن يزيلها إلا اللّه عز وجل.

ومن ذلك يعرف أن التوكل إنما يتم إذا استحكم الإنسان أمره واستكمل العدة وراعي الأسباب العادية الظاهرية، ولكن لا يعول عليها ولا يتكل على حوله، بل على حول اللّه وقدرته عز وجل، فلا ينافي التوكل مراعاة الأسباب العادية .

وللتوكل فوائد جمة أيضاً منها: إظهار العجز والعبودية وغيرها، كما يأتي في البحث الأخلاقي إن شاء اللّه تعالی.

وإنما أتى عز وجل اسم الجلالة البيان أن هذه الذات المستجمعة لجميع الصفات الكمالية تستدعي التوكل عليه، ولا ينبغي للإنسان أن يتكل على نفسه، وهو العاجز عن تدبيرها .

قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).

المنقطعين إليه الواثقين به، وإذا أحب اللّه تعالى أحداً كان ولياً وناصراً له ولم يخذله بحال، ومحبة اللّه تعالى هي من أعظم الكمالات التي يسعى الإنسان إليها، وهي الخير بجميع معنى الكلمة.

قال تعالى : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ). جملة مستأنفة ترغِّب المؤمنين إلى طاعة مَن يستمد منه النصر،

ص: 232

وتُحذرهم عن عصيان مَن يكون عصبانه سبباً للخذلان، والخطاب فيها تشريفاً للمؤمنين يدعوهم إلى التوكل، ببيان وجه من وجوه الحكمة في وجوب التوكل على اللّه تعالى، وهو أن الإنسان إذا استعد للعمل وهيأ مقدماته على قدر المستطاع وهو لا يعلم عواقب الأمور، فتوكل على مَن يعلمها ويدبرها على النحو الأحسن، فلا محالة تحصل في نفسه ثقة واطمئنان بتحققه، وقد اقتضت حكمته محبة المتوكلين عليه ونصرتهم، فإذا نصرهم فلا يغلب أحد عليه.

وقوله تعالى : (فَلَا غَالِبَ لَكُمْ) يبين نفي الجنس بنفي جميع أفراد الغالب ذاتاً وصفة، وهذا أبلغ من قول: «لا يغلبكم أحد»، لأنه يدل على نفي الصفة فقط.

قال تعالى : (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ).

أي : وإن أراد تعالی خذلانكم بسبب معاصيكم وعدم توتكلكم عليه ، فلا أحد يملك نصركم بعد خذلانه. والاستفهام إنكاري يفيد نفي التأخير ، والكلام في قوله تعالى : (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ) على حد قوله تعالى : (فَلَا غَالِبَ لَكُمْ) من نفي الجنس بنفي جميع أفراد الناصرين ذاتاً وصفة.

وإنما لم يذكر سبحانه النفي صريحة في هذه الآية المباركة كما ذكره في جواب الشرط الأول، تلطفاً بالمؤمنين، حيث لم يصرح سبحانه بأنه لا ناصر لهم، واكتفى بعدم الغلبة لهم، وإن كان هذا يفيد ذلك أيضاً .

قال تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

أي : أن إيمان المؤمنين يستدعي التوكل على اللّه تعالى، فإنه لا ناصر ولا معين لهم إلا هو عز وجل، المستجمع لجميع صفات الكمال، وهو الذي وعد المؤمنين بالنصر يوققهم إلى ذلك وإليه يكون التجاؤهم.

ص: 233

بحوث المقام

بحث أدبي

تقدم أن المعروف بین المفسرين أن «ما» في قوله تعالى : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ) زائدة جاءت مؤكدة، وادعى الطبرسي والزجاج الإجماع عليه.

ولكنه موهون، لذهاب جمع إلى الخلاف، حيث ذهب جماعة إلى أنها نكرة بمعنى (شيء)، و«رحمة» بدل منها.

وقال جمع آخر: إن «ما» لتفخيم قدر الرحمة التي لان بها لهم، ويرجع هذا إلى قول من قال بأن (ما) استفهامية للتعجب والتقدير، والتنوين في رحمةٍ للتفخيم، يضاف إلى ذلك أنه لم يرد شيء في القرآن الكريم إلا لمعنى مفيد ولم يكن حرف من حروف القرآن زائدة .

والفاء في قوله تعالى: (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) لبيان ترتیب ما بعدها على ما تقدم من غلبة المؤمنين، على تقدير نصر اللّه لهم أو مغلوبيتهم وخذلانه إياهم، والعلم بذلك يستدعي قصر التوكل عليه عز وجل.

وقد اشتملت الآية الشريفة : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) على أسلوب لطيف وترتيب حسن يقبله الذوق السليم والطبع المستقيم، فقد أمر عز وجل بالعفو عن الحقوق التي ترجع إلى

ص: 234

نفسه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ثم طلب الاستغفار من اللّه تعالى لهم فيما يتعلق بحقوقه عز وجل بالمشورة معهم، ثم أمر بإظهار العبودية لله تعالى وعدم الاعتماد على غيره عز وجل بالتوكل عليه تعالى والانقطاع إليه ، فإنه لا ملجأ إلا إليه ولا منجا إلا به .

بحث دلالي

يستفاد من الآيات الشريفة أمور:

الأول : يستفاد من قوله تعالى : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) إلى آخر الآية الشريفة، أن النبؤات السماوية تتقوم بأمرين:

الأول : المظهرية التامة الأخلاق اللّه تعالى والمرآتية الكاملة للوحي المبين.

الثاني: اجتماع جميع الجهات الإنسانية في النبي من دون نقص فيها.

بالأول يستفيض من اللّه تعالى، وبالثاني يخالط الناس ويعاشرهم فيفيدهم، وتدل على ما قلناه الأدلة العقلية والنقلية، قال تعالى : (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ)(1)، وقال تعالى : (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ)(2)، وقال تعالى حكاية عن الكافرين : (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ)(3)، وهذا الأمر لا يختص بنبي دون آخر، فهو جار في جميع الأنبياء والمرسلين، بل يجري بالنسبة إلى أولياء اللّه الداعين إليه، المستمدین علومهم من قوله تعالی :

ص: 235


1- الأنعام، الآية 9.
2- الكهف، الآية 110.
3- الفرقان، الآية 7.

(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ)(1)، وأما سيد الأنبياء وخاتمهم، فمقامه الجمع الجمعي من أجل المقامات وأعلاها، ففي كل آنٍ له سفران، سفر من الخلق إلى الحق المطلق، لأن يأخذ منه الكمالات المعنوية التي بها يربي العباد تربية حقيقية كاملة، وسفر من الحق إلى الخلق، لتربية النفوس المستعدة، وأسفاره الجسمانية وإن كانت محدودة، ولكن أسفاره الروحانية لا تعد ولا تحصى، كيف وهو (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ربي»، بل قول خلیل اللّه : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ )(2)، يدل على أن لهم (صلوات اللّه عليهم) عالماً خاصاً غير ما نحن فيه وإن كانوا يشتركون معنا في كثير من الأمور.

والآيات الشريفة التي تقدم تفسيرها تدل على ما ذكرناه ، فهو (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مظهر الرحمة الإلهية وأخلاق اللّه تعالى، كما أنه بشر كسائر البشر، وقد أمر بأن يخالط الناس ويتشاور معهم.

الثاني : الآيات الشريفة تدل على أن الرحمة واللين مع الخلق والتودد معهم والرحمة لهم من أجل صفات اللّه تعالى، فأفاضها على نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فصارت من سيرته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، كما أن العفو عنهم، والاستغفار لهم، والمشاورة معهم كانت كذلك، واللّه سبحانه وتعالی راض عن فعله .

الثالث : يتضمن قوله تعالى : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)، على شروط التوكل على اللّه تعالى، وهي المخالطة مع الناس بأحسن وجه وتهيئة الأسباب

ص: 236


1- البقرة، الآية 282.
2- الشعراء، الآیات 78 - 80 .

والمقدمات والمشاورة معهم، وتبیین الوجه الصحيح وعزم النية وعقد القلب ثم التوكل عليه عز وجل في إصلاح الأمور وإنجاحها، وسيأتي في البحث الأخلاق تفصيل ذلك.

الرابع: يدل قوله تعالى : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ) على أن الأثر المهم المترتب على التوكل على اللّه هو النصر على الأعداء والظفر بالمراد، ولا يمكن أن يدفع ذلك أحد مهما كانت مرتبته أو عظمت سلطته، لأنه يدخل في سلطان اللّه تعالى، وهو القوي الذي لا يغلب .

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أن شأن المؤمن أن يتوكل على اللّه، ولا ينبغي له التخلي عنه بعد أن آمن به عز وجل وعلم بأنه مسبب الأسباب، وأن الأمور تحت إرادته ومشيئته ، ولا ناصر له غيره عز وجل، فلا محيص من التوكل عليه، ولذا كان التوكل من شأن جميع الأنبياء والمرسلين وأولياء اللّه الصالحين.

السادس: يدل قوله تعالى : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) على أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مثال الإنسانية الكاملة والمرآتية الكبرى لله جل جلاله ، وقد خلق من رحمته عز وجل، كما أرسله رحمة للعالمين، فصار ليناً لهم كما هو شأنه عز وجل فقد سبقت رحمته غضبه، وعلى هذا يكون قوله تعالى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) قضية فرضية امتناعية، كما هو شأن غالب استعمالات كلمة «لو»، فإن صدقها إنما يكون بصدق لزوم ترتب الجزاء على الشرط، لا الوقوع الخارجي، فتصدق هذه القضية مع الامتناع للشرط مهما كان ترتب الجزاء على الشرط لازماً ولو امتنع الشرط.

وكيف كان، فهذا الخطاب البليغ - مع إيجازه - يبين أقصی مراتب الإنسانية الكاملة.

ص: 237

بحث روائي

في الخصال : عن عبد اللّه بن الفضل الهاشمي، قال : «سألت أبا عبد اللّه جعفر بن محمد (عليهما السلام) عن قوله عز وجل : (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ) وقوله عز وجل: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ)، فقال (عليه السلام) : إذا فعل العبد ما أمره اللّه عز وجل به من الطاعة كان وفقا لأمر اللّه ، سمي العبد موفقاً، وإذا أراد العبد أن يدخل في شيء من معاصي اللّه فحال اللّه تبارك وتعالى بينه وبين المعصية فتركها كان تركه لها بتوفيق اللّه تعالى، ومتى خلى بينه وبين المعصية فلم يحل بينه وبينها حتى يركبها، فقد خذله ولم ينصره» .

أقول: مثل هذا الحديث يبين حقيقة الإيمان وكيفية انسلاخ العبد عنه وبيان مراتب التوفيق له، فيكون كل ذلك بمنشأية نفسه والإمدادات الغيبية، فالخذلان من نفس العبد إذا تجري على المعاصي، كما أن الوصول إلى المراتب يكون من نفسه أيضاً .

وفي تفسير العياشي: عن علي بن مهزیار : «كتب إلي أبو جعفر الجواد (عليه السلام) : أن اسأل فلاناً يشير عليَّ ويتخير لنفسه ، فهو يعلم ما يجوز في بلده وكيف يعامل السلاطين فإن المشورة مباركة، قال اللّه تعالى لنبيه في محكم كتابه: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) . فإن كان ما يقول مما يجوز كنت أصوب رأيه ، وإن كان غير ذلك رجوت أن أضعه على الطريق الواضح إن شاء اللّه . (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) قال (عليه السلام) : يعني الاستخارة» .

أقول: الاستخارة من المؤمن من إحدى مراتب التوكل، لفرض أن المستخير يكل أمره إلى اللّه تعالى، والمراد من قوله (عليه السلام) : «ويتخير لنفسه» أي: اختيار مورد المشورة لنفسه وبيانه لغيره .

ص: 238

مقام التوكل

اشارة

التوكل: فضيلة من الفضائل السامية وخُلق كریم من مكارم الأخلاق وخصلة حميدة، ومنزل شريف من منازل الإيمان، ومقام رفيع من مقامات الموقنین، بل أفضل مقامات الإنسانية الكاملة، به يظهر المؤمن صدق إيمانه وثبات اعتقاده، ويجتمع فيه كثير من الفضائل والخصال الحميدة ، فهو قرين الصدق والعز والاستعانة باللّه العظيم وغيرها، وبه ينتظم العلم والحال والعمل. وكفى به فضلاً ومنقبة أن اللّه تعالى يحب المتوكلین، وهو من أخلاق الأنبياء العظام، ولمكانته السامية فقد أمر به عز وجل نبيه الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالتحلي به في عدة مواطن من كتابه الكريم، وقد ورد في فضل التوكل ومدحه والترغيب إليه من الكتاب الكريم والسُنّة الشريفة الشيء الكثير، ونحن نذكر في هذا البحث ما ورد في التوكل من الفضل، ومعنى التوكل، وحقيقته، وشروطه، وآثاره .

فضل التوكل:

قد ورد في مدح التوكل وفضله والترغيب إليه والحث على التحلي به في الكتاب الكريم والسنة الشريفة ما يبهر منه العقول.

التوكل في الكتاب الكريم

وردت مادة (وكل) في القرآن المجيد على ما يناهز السبعين موضعاً، وغالب استعمالاتها تدل على مدحه والترغيب إليه، قال تعالى :

ص: 239

وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)(1)، وقال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(2)، وقال تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)(3).

وقد ورد قوله تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(4)، في عدة مواضع، وكذا قوله تعالى : (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)(5)، وقال تعالى : (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(6)، ويستفاد منه أن الإيمان منوط بالتوكل، وقال تعالى : (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(7)، وهذه الآية المباركة تبين حقيقة التوكل على ما ستعرف.

ويستفاد من الآيات الواردة في شأن الأنبياء أن التوكل كان من سيرتهم، وأنه فضيلة مشتركة بينهم، قال تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه السلام) والذي معه: (رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(8)، وقال تعالى حكاية عن يعقوب (عليه السلام) : (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)(9)، وقال تعالى حكاية عن موسى (عليه السلام) : (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا

ص: 240


1- الطلاق، الآية 3.
2- الأنفال، الآية 49.
3- آل عمران، الآية 159.
4- آل عمران، الآية 160.
5- إبراهيم، الآية 12.
6- المائدة ، الآية 23.
7- الشوری، الآية 36.
8- الممتحنة، الآية 4.
9- يوسف، الآية 17.

رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(1)، وقال تعالى حكاية عن شعیب (عليه السلام) : (وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ)(2)، وقال تعالى حكاية عن هود (عليه السلام) : (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(3)، وقال تعالى حكاية عن صالح (عليه السلام) : (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)(4)، وقال تعالى حكاية عن نوح (عليه السلام) : (إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ)(5)، وقد تحدث سبحانه وتعالى عن جمع من الرسل (عليهم السلام) وحكي عن شأنهم، وذكر أن التوكل من عمدة صفاتهم ومن سيرتهم، وهو والصبر قرينان لديهم، قال تعالى : (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)(6).

ويكفي من فضله أن اللّه تعالى قد أمر به نبيه الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، قال تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)(7)، وقال تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا

ص: 241


1- يونس، الآيتان 84 - 85.
2- الأعراف ، الآية 89.
3- هود، الآية 56.
4- هود، الآية 88.
5- يونس، الآية 71.
6- إبراهيم، الآيتان 11 - 12.
7- النساء، الآية 81.

هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(1)، وقال تعالى : (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)(2)، والمستفاد من جميع ذلك أن التوكل فضيلة سامية، وأنه من أعلى مقامات التوحيد، وهو يدل على كمال إيمان المؤمنين، ولذا كان من صفات الأنبياء الكرام والمؤمنين المخلصين، بل هو توحيد عملي يكشف عن درجة الإيمان وشدة اعتمادهم على اللّه عز وجل، قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(3). ويستفاد منه أن التوكل أجلى برهان وأحكم علامة على ثبات عقيدة المؤمن ورسوخ التوحيد في قلبه، لأنه لا يرى لغيره عز وجل سلطة وشأناً، فهو خاضع له يطلب منه وحده تهيئة الأسباب وتدبيرها، قال تعالى في الشيطان : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(4)، وسيأتي مزید بیان .

التوكل في السنة الشريفة:

وردت أحاديث كثيرة عن نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الهداة (عليهم السلام) تدل على فضل التوكل على اللّه، وجميعها - سواء القولية والفعلية - تحكي سيرتهم التي تدل على شدة اعتمادهم على اللّه تعالى وتفويضهم الأمر إليه وتحريض الناس عليه، ففي الحديث عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «مَن انقطع إلى اللّه عز وجل كفاه اللّه كل مؤونة ورزقه من حيث لا يحتسب، ومَن انقطع إلى الدنيا وكله اللّه إليها».

ص: 242


1- التوبة، الآية 129.
2- آل عمران، الآية 159.
3- الأنفال، الآية 2.
4- النحل، الآية 99.

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لو أنكم تتوكلون على اللّه حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً» .

وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «مَن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما عند اللّه أوثق منه بما في يده».

وروي عن الصادق (عليه السلام) : «أوحى اللّه تعالى إلى داود: ما اعتصم عبد من عبادي بي من خلقي عرفت ذلك من نيته، ثم تكیده السماوات والأرض ومَن فيهن، إلا جعلت له المخرج من بينهن، وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلق عرفت ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماوات والأرض من يديه وأسخت الأرض من تحته، ولم أُبال بأي وادٍ هلك» .

وعنه (عليه السلام) : «أن الغنى والعز يجولان، فإذا ظفران بموضع التوكل أوطنا» .

وعن الكاظم (عليه السلام) في قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)(3)» قال : «التوكل على اللّه على درجات، منها أن تتوكل على اللّه في أمورك كلها، فما فعل بك كنت عنه راضياً، تعلم أنه لا يألوك خيراً وفضلاً، وتعلم أن الحكم في ذلك له، فتوكل على اللّه بتفويض ذلك إليه وثق به وفي غيرها» .

وقال الصادق (عليه السلام) : «مَن أُعطي ثلاثاً لا يمنع ثلاثاً، من أُعطي الدعاء أُعطي الإجابة، ومَن أُعطي الشكر أُعطي الزيادة، ومَن أُعطي التوكل أُعطي الكفاية ، ثم قال : أتلوت كتاب اللّه عز وجل: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)، وقال: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)، وقال تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)». إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الدالة على فضل التوكل ومدحه والترغيب إليه، وإنه خُلق كریم يجب على المؤمن التحلي به، ويدل عليه العقل أيضاً.

ص: 243

معنى التوكل:

التوكل مشتق من الوكالة، يقال : وكل فلان الأمر إلى غيره، أي : فوضه إليه واكتفى به لاعتماده عليه أنه ينجزه ووثق به، ويسمى المفوض إليه متكلاً ومتوكلاً عليه.

وأما الوكيل : فإنه فعيل يأتي بمعنى المفعول - وهو الذي يوكل الأمر إليه أو موكول إليه الأمر، ويأتي بمعنى الفاعل فيكون بمعنى الحافظ والناصر والرقيب والمطلع، لأنه الذي يرعى الأمور ويحفظها ويتعهدها وينصر من يركن إليه، ومنه قوله تعالى: (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(1)، ولأنه هو الذي يتعهد الأمور التي وكلت إليه من عباده ، وناصره و حافظه ، والاسم التكلان (بضم التاء).

وإذا رجعنا إلى اللغة نرى أن التوكل تارة يُطلق ويراد منه التولي للغير، يقال : توكلت لفلان، إذا صرت وكيلاً عنه وتوليت له، ومنه الوكالة (بفتح الواو) أو (بالكسر على لغة)، وهي الوكالة المعروفة في الفقه . ويطلق أخرى ويراد به الاعتماد على الغير والوثوق به.

والتوكل على اللّه تعالى هو تفویض الأمر إليه عز وجل والاكتفاء به، ويشبه التوكل التفويض من هذه الجهة، فهما يشتركان في تسليم الأمر إليه عز وجل، قال تعالى حكاية عن شعيب : (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)(2)، أي : أُسلّم الأمور إليه عز وجل فهو الذي يكفيكها، وفي الحديث : أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يدعو فيقول: «اللّهم إني أسلمت نفسي وفوضت أمري إليك» .

ص: 244


1- آل عمران، الآية 173.
2- غافر، الآية 44.

لكن التوكل يزيد على التفويض في أنه يتضمن طلب النصرة منه، والوثوق بأنه ينجزها، ويحفظ من یكل إليه أمره، والرضا بفعل اللّه عز وجل بعد الاعتراف بالعجز والقصوره أمام عظمته وكبريائه .

ص: 245

حقيقة التوكل

التوكل على اللّه تعالى هو الاعتماد عليه عز وجل قلباً واطمئنان النفس به والوثوق بأنه لم يهمله، بعد الاعتراف بعجز الإنسان أمام قدرته وعلمه وإحاطته وقيموميته، والاعتقاد بأنه تعالى هو الفاعل لا غيره، وأن الارب غيره، فيعلم علماً قطيعاً بأنه لا حول ولا قوة إلا باللّه ، يضع الأشياء في مواضعها بحكمته، وهو القادر على كل شيء في السماوات والأرض.

ومن ذلك يظهر السر في ذكره عز وجل العزة والحكمة في قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، لأن الاعتقاد بأنه حكيم يضع الأشياء في مواضعها، وعزیز قادر لا يمتنع عليه شيء إذا أراد فلا محالة يذعن المؤمن بأنه تعالی ناصره ومعينه وهو حسبه وكافيه، ويحصل له الاعتقاد بأن كل ما يسوقه إليه ربه هو طيب وكريم وحسن وخير ويعتمد عليه في جميع أموره، وتحصل الثقة باللّه العظيم فيتوكل عليه عز وجل.

فالتوكل إنما هو ارتباط عالم الشهادة المتناهية من كل جهة، بعالم الغيب غير المتناهي كذلك، ولذا نرى أنه والتوحيد قرينان لا يتحقق أحدهما من دون الآخر، فمَن لا توحيد له لا توكل له، ومَن لا توكل له لا إيمان له، ويدل عليه قوله تعالى : (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

ص: 246

بل يمكن أن يقال بأن التوكل طريق لمعرفة إيمان المؤمن، بل هو محقق له، لأنه لا يرى لغير اللّه تعالى أثراً، فالجميع مسخر تحت إرادته ، وإنما جعل لها نظاماً معيناً أقام أمور العالم به، فتجري وفق قانون الأسباب والمسببات خاضعة له لا تتخلف عنه، إلا أنها عاجزة عن أي نفع وضرر، لأنها لا تفعل شيئاً إلا بإرادته ومشيئته عز وجل، والمؤمن يذعن بهذا النظام الذي أقام اللّه تعالى هذا العالم به ، ويطلب كل شيء عن طريق سببه ويعمل ويكافح على إيجاد الأسباب الظاهرية المنوطة بها المسببات ويطلبها وفق ما أمره اللّه تعالی طلباً تكوينياً أو تشريعياً، ولكنه يعترف بالعجز أمام قدرة اللّه تعالى ويذعن بالجهل أمام المقادير التي قدرها عز وجل، ويعلم بأن الأسباب الظاهرية التي عمل لأجلها شيء والمقادير والقضاء والقدر والأسباب الخفية التي يجهلها شيء آخر، وجميعها خاضعة له عز وجل، مسخرة أمام إرادته ومشيئته، وهو عاجز عنها فيوكل أمره إليه معتقد بأنه حسبه وناصره ومعينه .

ومن جميع ذلك يعلم بأن التوكل لا ينافي الأسباب الظاهرية، بل الاعتقاد بها والعمل عليها من جملة أساسيات فضيلة التوكل. ويدل على ذلك قوله تعالى : (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(1).

ويستفاد من هذه الآية الشريفة أمران :

الأول: أن الإنسان لا يمكن له التغاضي عن متاع الحياة الدنيا الذي هو من نِعَم اللّه تعالى عليه، فهو الذي يقضي به مآربه ويحقق مقاصده ويعيش عليه في هذه الحياة الدنيا، وأما ما عند اللّه فهو خير من هذا المتاع

ص: 247


1- الشورى، الآية 36.

القليل في الكمية والكيفية، وإنما جعل اللّه هذه الدنيا وسيلة لنيل ما هو أعظم منها، ولا يمكن تحصيل هذا المتاع إلا بأسباب خاصة معروفة يجري عليها نظام هذا العالم، فالتوكل على اللّه تعالى والاعتماد على الأسباب الظاهرية قرينان، بل هي من طرق تحصيل التوكل عليه عز وجل كما عرفت ، ويدل عليه قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اعقلها ثم توكل».

الثاني : أن التوكل من شروط الإيمان الصحيح، بل هو من أعلى مقامات التوحيد، فإنه التوحيد العملي الذي اعتنى به اللّه تعالى في كتابه الكريم واهتم به الأنبياء والمرسلون، فهو يبين الجانب العملي في الإيمان، لأن التوكل وظيفة من وظائف القلب، فإن به تطمأن النفس ويسكن القلب، وبه يدخل المؤمن تحت الآية المباركة : (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي)(1).

وبالجملة : لما كن هذا العالم متقوماً بالأسباب والمسببات الطولية والعرضية، ولا بد من انتهاء تلك إلى سبب غيبي وربوبية عظمى لا يعقل فوقها ربوبية وقيمومية كبرى ليس وراءها قيم أصلاً، فيكون الجميع مسخراً تحت إرادته ومشيئته التامة ، فلا الماديات تعوق مشيئته ولا التكثرات تمنع قهاریته، ولا ريب في تحقق ما ذكر في هذا النظام الأحسن، وآثار عظمته وإبداعه ووحدانيته ظاهرة في كل شيء، والتوحيد عبارة عن الاعتقاد بهذه الحقيقة، والتوكل هو الاعتماد على مدبر هذا العالم وخالقه وصانعه، فإن طابق الاعتقاد مع الواقع على ما هو عليه تتجلى حقيقة التوكل وإلا فلا توكل.

ومن ذلك يظهر السر في ما ورد عن الأئمة (عليهم السلام) : أن قول القائل :

ص: 248


1- الفجر، الآیات 27 - 30.

لولا أن فلاناً لهلكت، شرك، قيل له (عليه السلام) : فكيف نقول؟ قال (عليه السلام) : تقول لولا أن مَنَّ اللّه عليَّ بفلان لهلكت»، كما يظهر السر في قوله تعالی : (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(1)، فالتوكل الحقيقي هو الاعتقاد باستناد الكل إليه عز وجل وانبعاث الجميع منه تعالى، ويستلزم ذلك الاعتقاد بتسبيب الأسباب والسعي في تحصيلها، فإن التوكل بدون ذلك لا ثمرة فيه، بل هو لغو وباطل، فترجع حقيقة التوكل إلى إرجاع الأمور - لا يتعلق بها عقولنا من تحصيل المقتضيات - إلى اللّه تعالى، لأنه مسبِّب الأسباب ومسهِّل الأمور الصعاب.

ومن ذلك كله يظهر أن التوكل عنوان التوحيد وهو داع إليه، فهما متلازمان، وبه ينتظم حال الإنسان وعلمه وعمله. وبما ذكرناه يرتفع الغموض من حيث أن ملاحظة الأسباب والاعتماد عليها شرك في التوحيد، والتباعد عنها خلاف طريقة العقل والشرع، والتوكل يرفع الغموض والعسر عن ذلك كله .

ص: 249


1- يوسف، الآية 106.

شروط التوكل

للتوكل على اللّه تعالی شروط لا يتحقق إلا بها، تظهر من التمعن في ما ذكرناه في حقيقة التوكل، وهي:

الأول : الاعتقاد باللّه تعالى وأنه الرب القيوم المدبر لجميع ما سواه ، وأنه العزيز لا يمنعه شيء، الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها وفق إرادة وعلم بجميع الخصوصيات .

الثاني : الاعتقاد بأنه لا فاعل في هذا العالم إلا اللّه تعالى، وأن ما سواه مربوب له ومقهور تحت قهاریته العظمی، فهو الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

الثالث : الإذعان بأن هذا العالم ينتظم بقانون خاص لا يمكن التخلف فيه، وأن اللّه تعالى هو الذي جعل هذا القانون، وهو قانون الأسباب والمسببات، ولا يمكن فيه التغيير والتبديل ولا التخطي عنه .

الرابع : تحصيل الأسباب والمعدات والمقتضيات التي تقع تحت تصرف الإنسان، والسعي في تهيئتها وإعدادها، وأما غيرها من الأمور الخفية التي لا يعلمها إلا اللّه تعالى، فلا بد من الرجوع فيها إليه تعالی والتضرع لديه في تحقيقها .

ص: 250

الخامس : حسن الظن باللّه تعالى واستسلام القلب له عز وجل، والخضوع لديه في رفع الموانع والعوائق في ترتب النتيجة على المقدمات والمسبب على الأسباب.

السادس : أن يكون التوكل على ان يكون قادراً على جميع الأمور ومستجمعاً لجميع الشرائط ، وهو ينحصر في اللّه تعالى، قال عز وجل في عدة موارد من كتابه الكريم : (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)(1)، وقال تعالی محكياً عن المؤمنين: (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(2)، فينحصر التوكل عليه عز وجل قال سبحانه : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)(3).

السابع : تفويض الأمر إلى اللّه تعالى وتوكيله في جميع الأمور والشؤون، فإنه القادر على تحقيقها، يضعها وفق حكمته المتعالية، لأنه العالم بحقائق الأمور وجميع خصوصياتها.

وإذا تحققت جميع هذه الشروط تحصل للإنسان راحة نفسية واطمئنان قلبي، فتحصل له حالة التوكل عليه عز وجل ويدخل في زمرة المتوكلين الذين يحبهم اللّه تعالى، كما ورد في جملة من الآيات الشريفة ، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)(4)، وقال عز وجل: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(5).

ص: 251


1- الأحزاب، الآية 3.
2- آل عمران، الآية 173.
3- النساء، الآية 81.
4- آل عمران، الآية 159.
5- المائدة، الآية 23.

درجات التوكل

للتوكل درجات و منازل تختلف حسب شدة اليقين وضعفه، وحسب كثرة الأمور المتوكل فيها وقلتها، وهي:

الأولى : أن يكون المتوكل على درجة كبيرة من اليقين والثبات في العقيدة والخضوع والطاعة اللّه تعالى، بحيث لا يرى شيئاً إلا يرى اللّه تعالی معه يثق بكرمه وعنايته، ويعبر بعض علماء الأخلاق عن هذه الدرجة بتوكل خاص الخاص، وفي هذا المنزل يفوض المتوكل جميع أموره إلى اللّه تعالى ويرضى بحكمه، فيكون بين يديه تعالی كالميت الملقي بين يدي الغاسل، ولعل الآية المباركة تشير إلى هذه الدرجة : (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)(1)، فإن من اتقى اللّه تعالی ووثق به عز وجل وتوكل في جميع أموره علیه عز وجل، اطمأنت نفسه بأن اللّه ناصره وهو حسبه، وهذه المرتبة عزيزة الوجود في الناس وتختص بالأنبياء وأولياء اللّه تعالى المخلصين له، وقد حكى اللّه جل شانه عن الأنبياء والمرسلين في كتابه الكريم ما يشهد لذلك.

الثانية : أن لا يكون على الدرجة من اليقين والثبات في العقيدة والاطمئنان بما قسمه اللّه تعالى لعباده، ولكن يعتمد في أموره على اللّه

ص: 252


1- الطلاق، الآيتان 2-3.

تبارك وتعالى، يفزع إليه ويعتمد عليه ولا يترك الدعاء والتضرع في كل مسألة وأمر، مثل الصبي الذي يفزع إلى أُمّه ويتعلق بها وقد فني في أُمّه ولا يرى غيرها، وفي هذه الحالة يفنى المتوكل في الموكل عليه ولا يلاحظ الواسطة، ويعبر بعض علماء الأخلاق عن هذه الدرجة بتوكل الخواص .

وتفترق هذه الدرجة عن الدرجة السابقة في أن المتوكل في الأولى لا يرى شيئاً إلا اللّه تعالى قد وثق بكرمه ولطفه وعنايته، فربما يترك الدعاء والمسألة وثوقاً منه به عز وجل في قضاء الحوائج، كما قال إبراهيم الخليل (عليه السلام) : «حسبي من سؤالي علمه بحالي»، وفي هذه الدرجة لا يترك الدعاء والمسألة والتضرع، وإلى هذه الدرجة يشير قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)(1)، فقد توكلوا في جميع أمورهم عليه عز وجل وأفنوا جميع حيثياتهم في اللّه تعالى وقد أعرضوا عن غيره .

الثالثة : أن يكون كثير الاعتناء بالأسباب، فيرى للتدبير والاختيار في تهيئة الأمور الأثر الكبير ولكن لا يترك التوكل عليه عز وجل، وهو يعتمد على توكله ويلتفت إليه دائماً في أموره لا يغض النظر عنه، وهذا هو الشغل الصارف عن الموكل إليه، ولأجل ذلك اختلفت هذه الدرجة عن سابقتها في أن المتوكلين في الدرجة الثانية يعتمدون على المتوكل عليه وحده، كما يعتمد على التضرع لديه بالدعاء والابتهاء إليه عز وجل، وإلى هذه الدرجة يشير قوله تعالى : (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(2).

وتختلف أيضاً عن السابقة في أن هذه الحالة قد تدوم أياماً كثيرة أو

ص: 253


1- آل عمران، الآية 159.
2- آل عمران، الآية 160.

في جميع الحالات لدى المؤمنين، بينما في الدرجة الثانية لا تدوم إلّا أياماً قليلة .

وقد عبر بعض العلماء (رحمة اللّه تعالی علیه) عن هذه الدرجة يتوكل العامي، وربما يكون توكلهم في جميع الأمرو وربما يكون في بعضها.

وبالجملة : أن درجات التوكل تختلف باختلاف قوة الإيمان باللّه عز وجل والاعتقاد به تعالی وتفويض الأمور إليه والتسليم بقضائه وقدره والرضا بما قسمه على عباده ، كما أنها تختلف باختلاف تفويض جميع الأمور أو بعضها وشدة الاعتماد على الأسباب وقوة الاعتقاد بها.

ص: 254

آثار التوكل

إذا حصل التوكل على اللّه تعالى فإنه يخلِّف آثاراً كبيرة على المتوكل، نحن نذكر بعضاً منها:

الأول : التوكل يحقق الإيمان ويزيد فيه ويثبت دعائمه في المؤمن، ويثبت عقيدة التوحيد في قلبه، قال تعالى : (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(1).

الثاني : التوكل سبب إلى النصر والفوز بالمراد، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)(2).

الثالث : التوكل يفتح أمام صاحبه طريقاً إلى الجنة فيدخل ويُرزَق فيها بغير حساب، قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(3).

الرابع : أن التوكل يورث محبة اللّه تعالى والرضا الإلهي للمتوكل، قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)(4)، وكفى بذلك فخراً.

ص: 255


1- المائدة، الآية 23.
2- الطلاق، الآية 3.
3- العنكبوت، الآيتان 58 - 59.
4- آل عمران، الآية 159.

الخامس: التوكل يجعل كل ما يسوقه اللّه تعالى إلى العبد حسناً طيباً وخيراً.

السادس: التوكل يورث الاطمئنان في قلب المتوكل والراحة في نفسه .

هذا موجز ما أردنا أن نذكره في هذه الفضيلة الكبيرة، وهو غيض من فيض، فإن كل ما يقال في هذا الخلق الكريم قليل، وكفى بذلك داعياً في التخلق بهذه الفضيلة والمسارعة إلى هذا الخير العظيم(1).

ص: 256


1- م - ن، 6-26، ج (7).

الذنوب الكبيرة

اشارة

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا).

الآية الشريفة على إيجازها البليغ وأسلوبها البديع تشتمل على الترغيب والترهيب والوعد والوعيد والأمل والرجاء بالسعادة، فهي تدل على وجوب الاجنناب عن المناهي، التي يوجب ارتكابها الشقاوة والعذاب العظيم .

كما أنها تدل على أن الارتداع عن الكبائر المنهية يوجب الدخول في النعيم الأبدي، ويستلزم السعادة الحقيقية، ولا يخفى ارتباطها بما قبلها من الآيات التي تضمنت جملة من الأحكام الشرعية والمناهي الإلهية التي شرعها اللّه تعالى لأجل مصالح الإنسان .

التفسير

قال تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ) .

الاجتناب أبلغ من الترك، لأنه ملحوظ فيه النفور والاشمئزاز، وهو مأخوذ من الجنب الذي هو الجارحة. وإنما بني عنه الفعل على سبيل الاستعارة ، فإن الإنسان إذا أعرض عن شيء تركه جانباً، والاجتناب هو الابتعاد عن الشيء وملازمة تركه، وقد وردت هذه الكلمة في القرآن

ص: 257

الكريم في أربعة عشر موضعاً كلها تدل على أهمية المنهي عنه كالطاغوت، قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ))(1).

والرجس، قال تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ)(2).

وقول الزور، قال تعالى : (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)(3).

وعبادة الأصنام، قال تعالى : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)(4).

والنار، قال تعالى : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى)(5).

وسوء الظن، قال تعالى : (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ)(6).

والتجنب تارة يحصل بالنسبة إلى الشيء قصداً وفعلاً دائماً من أول التمييز إلى حين الموت.

وأخرى: بالنسبة إلى القصد فقط دون العمل، بأن يقصد الاجتناب عن الكبائر مطلقاً، ولكن يتفق صدور بعضها عنه غفلة.

وثالثة : يكون اجتنابة عرفياً، بحيث يصدق على الشخص أنه مجتنب عرفاً، فيكون له وللارتكاب مراتب متفاوتة.

ومقتضى القواعد الشرعية - وهو الموافق لسعة رحمته تبارك وتعالی - اعتبار الأخير، ولكن مقتضى الجمود على ظاهر اللفظ هو الثاني .

ص: 258


1- النحل، الآية 36.
2- الحج، الآية 30.
3- الحجر، الآية 30.
4- إبراهيم، الآية 35.
5- الليل، الآية 17.
6- الحجرات، الآية 12.

والكبائر : جمع كبيرة، وهي الصغيرة من الأمور الإضافية. والآية الشريفة تدل على أن المعاصي قسمان كبيرة وصغيرة، والأولى هي الفعلة القبيحة من الذنوب المنهي عنها شرعاً، العظيم أمرها كالقتل، والزنا، والفرار من الزحف ونظائرها.

وإن كانت المعاصي كلها تشترك في أصل المخالفة والعصيان على اللّه تعالی فهي كبيرة من هذه الجهة، فإن ذلك مقياس الذنب بين الإنسان المربوب المخلوق الضعيف، وبين اللّه تعالى الذي لا منتهى لعظمته وسلطانه ، فلا فرق في أفراد المعاصي حينئذٍ.

وهنا لا ينافي كونها تتصف بالكبيرة والصغيرة إذا لوحظت فيما بينها كما هو الشأن في الأمور الإضافية، فإن كبر المعصية يدل على أهمية النهي عنها وعظم المخالفة، إذا قيس بالنسبة إلى النهي عن الآخر.

فهما وصفان للمعاصي والآثام والذنوب، وفي المقام حذف الموصوف وأُقيم الوصف مقامه، وإن الصغر والكبر من المبينات العرفية ، وبهذا المعنى العرفي وقع في الكتاب والسنة واصطلاح العلماء في علمي الفقه والأخلاق، فالنظر إلى الأجنبية مثلاً صغيرة إذا قيس إلى سائر الاستمتاعات بها، والمخالفة في الثاني أعظم وأكبر من المخالفة في الأول، ويدل على ذلك قوله تعالى : (مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ)، فإن المستفاد منه اختلاف المناهي في العظمة والأهمية، ولا بد من استفادة الأهمية من الشرع أيضاً.

وقد ذكر العلماء (قدس اللّه أسرارهم) طرقاً كثيرة، وأهمها ما ذكره في الفقه وهو: أن كل ذنب أوعد عليه بالنار، أو تعدد الخطاب فيه، والنهي عن الإصرار والتكرار .

ص: 259

وهذا هو المقياس في تحديد الكبائر في الإسلام، وربما تكشف النصوص بعض الكبائر وتنص عليها بأنها كبيرة، فتكون غيرها بالنسبة إليها صغيرة. وقد ذكر العلماء في تعريف الكبائر والصغائر وتمييز كل واحدة منها عن الأخرى وجوهاً، سيأتي في البحث الأخلاقي في ما يتعلق بذلك.

وربما يتوهم أن الإضافة في قوله تعالى : (كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ) بيانية، فتدل الآية الكريمة على اجتناب جميع المعاصي، وتكون معنی الآية المباركة حينئذٍ : إن تجتنبوا المعاصي جميعاً نكفر عنكم سيئاتكم، ولا سيئة مع اجتناب المعاصي، فتكون من قبيل السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع.

ويرد عليه أنه خلاف ظاهر الآية الشريفة، إلا أن يقال : إنه يرجع إلى تكفير سيئات المؤمنين قبل نزول الآية المباركة .

وفيه : أنه يلزم تخصيص الآية الشريفة بمَن حضر عند النزول، وهو خلاف ظاهر الآية الكريمة أيضاً.

قال تعالى : (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ).

مادة (كفر) تدل على الستر، وكفر الشيء إذا غطاه، ويقال للفلاح: كافر، لأنه يكفر البذر، أي : يستره، قال تعالى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ)(1)، ومنه كفر النعمة والإحسان إذا غطاها بترك الحمد والشكر عليها أو جحدها، وفي الحديث : «رأيت أكثر أهل النار النساء الكفرهن، قيل: أيكفرن باللّه؟ قال: لا، ولكن يكفرن الإحسان ویكفرن العشير»، أي: يجحدن إحسان أزواجهن ويسترنه، ومنه سمي الكافر

ص: 260


1- الحديد، الآية 20.

أيضاً؛ لأنه كفر بالصانع والمبدأ، وكفر اللّه عنه الذنب، إذا ستره ومحاه عن العبد.

وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يزيد عن خمسمائة مورد، أغلبها استعملت في مورد الكفر باللّه والأنبياء واليوم الآخر.

ولكن ذكر التكفير عن السيئات في القرآن الكريم ورد في نحو ثلاثة عشر مورداً متعدياً بكلمة (عن).

والمستفاد من موارد استعماله في القرآن الكريم أن المراد منه العفو عن السيئات وحطّ وزرها عن المسيء، والإحباط نقيضه التكفير، وإنما يتحقق بفعل الطاعات وترك الكبائر ، فيكون تكفير السيئات حينئذٍ من اللّه جلت عظمته محو الذنب وإسقاطه بالمرة، فلا يضر فعله بالعدالة إلا بالإصرار على الصغائر، فيكون من الكبائر، فلا يتحقق حينئذٍ شرط التكفير وهو الاجتناب عن الكبائر ، وهذا من أحسن التدبيرات الإلهية في عباده ، حيث لا يبعدهم عن رحمته الواسعة بمجرد ارتكاب المخالفة .

نعم، الإصرار إنما يتحقق بعدم تخلل التوبة بين ارتكاب صغيرة وصغيرة أخرى، وإما مع تخللها، فلا موضوع حينئذٍ للإصرار.

ثم إن السيئات جميع السيئة، وقد أُطلقت في القرآن الكريم على معانٍ، منها كل ما يكرهه الإنسان ويسؤه، قال تعالى : (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)(1)، وقال تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ)(2).

ومنها: نتائج المعاصي والآثام، سواء كانت دنيوية أم أُخروية، قال

ص: 261


1- النساء، الآية 79.
2- الرعد، الآية 6.

تعالى : (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا)(1)، وقال تعالى : (سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا)(2).

ويمكن إرجاع هذا المعنى إلى الأقل أيضاً، فإن تلك الآثار قد جلبها الإنسان على نفسه بسبب ارتكابه المحرمات والمعاصي، وهي تسؤه في الدنيا أو الآخرة.

ومنها: مطلق المعصية، قال تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)(3)، والإطلاق فيه يشمل الكبائر والصغائر .

وأما السيئات في الآية الشريفة : (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) ، فإن لوحظت مقابلتها للكبائر، تنحصر لا محالة في الصغائر، وإن لوحظت سعة رحمته جل شأنه وسعة تكفيره وغفرانه، تعم الكبائر أيضاً، فيراد حينئذٍ بقوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ) ، صرف وجود الكبيرة، وإنما أتى عز وجل بالجمع باعتبار جميع أفراد الناس، ومقتضی الجمود على ظاهر اللفظ هو الأول، ولكن مقتضى ما ورد في سعة رحمته عز وجل غير المتناهية هو الثاني، ويقتضيه ظاهر الامتنان في الآية المباركة، خصوصاً مع ما ذكره الفقهاء وعلماء الأخلاق من إنهاء الكبائر إلى سبع وسبعين، التي لا يخلو عنها غالب الناس، وما ورد عن نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من الجمعة إلى الجمعة كفارة من الذنوب»، وما ورد في غفران شهر رمضان، وما ورد في الغفران في يوم عرفة، قال (عليه السلام) : «ما

ص: 262


1- النحل، الآية 34.
2- الزمر، الآية 51.
3- الجاثية، الآية 21.

وقف بهذه الجبال أحد إلا غفر اللّه تعالی له، من مؤمن الناس وفاسقهم» ، وغير ذلك مما ذكرناه في مبحث التوبة .

وكيف كان، فالآية الكريمة تدل على انقسام المعاصي إلى الكبائر والصغائر، سواء أكان الانقسام بحسب ملاحظة نفس المعاصي بعضها مع بعض، أم بحسب ملاحظة صدورها من الفاعل، فربما يكون بعض الصغائر بالنسبة إلى شخص كبيرة وبالنسبة إلى شخص آخر صغيرة، كما ورد : «حسنات الأبرار سيئات المقربين».

قال تعالى : (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا).

المدخل - بضم الميم وفتح الخاء - والمعروف أنه اسم مكان، والمراد به في الآية الشريفة الجنة، فيكون منصوباً على الظرفية ، وقيل : إنّ مصدر منصوب، فيكون مفعول (نُدْخِلْكُمْ) الجنة ادخالاً.

وقيل : إنه منصور بفعل مقدر، والأصح هو الوجه الأول .

وكيف كان، فالمراد به الجنة التي وعدها اللّه تعالى للصالحين .

والكريم: هو الحسن الطيب، ومن أسمائه جل شأنه «الكریم» ، أي : الجواد المعطي الذي لا ينفد عطاؤه، فهو الكريم المطلق، والكريم الجامع لأنواع الخير والشرف والفضائل، فلا حد لكرمه ولا يمكن عد نعمائه .

وقد وصف عز وجل ذلك المكان به أيضاً، قال تعالى: (وَمَقَامٍ كَرِيمٍ)(1)، والمقام الكريم ذلك المقام الذي يسعد الداخل فيه بحسن الثناء وعظيم النعمة، ويتصف به الرزق أيضاً، قال تعالى: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ

ص: 263


1- الدخان، الآية 26.

كَرِيمٌ)(1)، كما يتصف به الرسول أيضاً، قال تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)(2)، ويتصف به غير ما ذكر كما ورد في الآيات الشريفة .

والمعنى: وندخلكم الجنة في الآخرة التي يكرم بها مَن يدخلها فيسعد فيها، فإن الجنة لا يدخلها أحد إلا بعد التطهير من الدنس ورذائل الصفات ، قال تعالى : (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ)(3).

وفي إضافة الإدخال إلى ذاته المقدسة فيها غاية اللطف ونهاية العناية وكمال المحبة، حيث إنه تعالى بعد المخالفة وكفران السيئات باجتناب الكبائر يدخل العبد مدخلاً كريماً .

ص: 264


1- الحج، الآية 50.
2- الحاقة ، الآية 40.
3- الأعراف، الآية 43.

بحوث المقام

بحث دلالي

تدل الآية الشريفة على أُمور :

الأول: أن الآية المباركة بأسلوبها الجذاب الدال على اللطف والحنان والمحبة، وسياقها الظاهر في الزجر عن ارتكاب المعاصي والمتضمن للوعد للتائبين بعظيم الجزاء - تدل على أن المنهي في الشريعة منه ما هو كبير ومنه ما هو صغير، والمستفاد منها أن المقياس في الكبائر والصغائر هو نسبة بعضها إلى بعض حيث جعل عز وجل الكبائر مقابل السيئات، ولم يبين سبحانه وتعالى الوجه في تشخيص كون المعصية كبيرة أو صغيرة، وقد تعرضت السنة الشريفة إلى بيان المقياس في ذلك، وسيأتي في البحث الأخلاقي في تفصيل ذلك.

والآية المباركة رد على مَن زعم أن المعاصي كلها كبائر، حتى قال بعضهم : إنه لا يمكن أن يقال في معصية إنها صغيرة إلا على معنى أنها تصغر عند اجتناب الكبائر، فالمعاصي كلها كبائر، وهذا اجتهاد منهم في مقابل النص، إلا أن يراد أنها كبيرة بالنسبة إلى أصل المخالفة وعصيان اللّه تعالی وعظمته عز وجل، كما عرفت آنفاً، وأشار إلى ذلك بعضهم فقال : إنهم كرهوا تسمية المعصية صغيرة، نظراً إلى جلال اللّه تعالی وعظمته وشدة عقابه ، فإن المعاصي إذا لوحظت بالنسبة إليه تعالى كبيرة.

ص: 265

وما ذكره مسلم لا إشكال فيه ولم ينكره أحد، إلا أن الكلام في مفاد الآية الشريفة بعد تقسيمها للمعاصي إلى الكبيرة والصغيرة .

الثاني : يستفاد من قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) شروط التكفير للسيئات والوصول إلى الرضوان

وما وعد به الرحمن.

فمنها : أن يكون ترك الكبائر عن قدرة وإرادة، وهي متوقفة على معرفة الكبائر والصغائر والتمييز بينهما، فإن المكلف إذا عرف أنها حرمات اللّه تعالی عزم همه على تركها، بل قيل بوجوب معرفتها مقدمة للاجتناب عنها، بل التهاون فيها كبيرة أيضاً يجب الاجتناب عنه، وإن لم يكن يجب اتقاء جميع المعاصي مخافة الوقوع في الكبائر والابتلاء بارتكابها، على ما هو مفضل في الفقه .

ومنها : أن يكون النهي الشرعي منجزاً، وإلا فلا يجب الاجتناب كما في مورد الجهل بالموضوع وعدم بلوغ الحكم ونحو ذلك مما هو مفضل في أصول الفقه، راجع كتابنا (تهذيب الأصول).

ومنها : أن يكون الاجتناب عن المعاصي الكبيرة عن إعراض النفس وعزوفها عن ارتكابها .

وبعبارة أخرى : أن يكون الاجتناب عن أثر في النفس، لما تدل عليه كلمة الاجتناب الواردة في الآية المباركة. وقال تعالى: (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)(1).

الثالث : الآية الشريفة في مقام الامتنان على المؤمنين بأنهم إذا اجتنبوا بعض المعاصي، كفر عنهم البعض الآخر.

ص: 266


1- النازعات، الآيتان 40 - 41.

الرابع: يدل قوله تعالى: (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) على الذنب، وأن التخلية مقدمة على التحلية، وأنها لا تتحقق إلا بعد التكفير والتزكية .

الخامس: إطلاق التكفير يشمل جميع الآثار الدنيوية والأُخروية ، ونسبة التكفير إلى نفسه الأقدس يدل على أهمية الموضوع وعظمته وكمال الاعتناء بشأن المؤمنین .

وقال بعضهم: إن ظاهر الآية الشريفة وجوب تكفير السيئات والصغائر عند اجتناب الكبائر، وهذه من صغریات كبری غفران الذنوب بعد التوبة، وقد ذكرنا في مبحث التوبة في سورة البقرة، قلنا: إن من قبيل ترتب المعلول على العلة مع تحقق جميع الشرائط.

بحث روائي

و الروايات الواردة عن الفريقين في تفسير هذه الآية الشريفة مع كثرتها هي على طوائف متعددة، تبين كل منها جانباً من الجوانب التي تضمنتها الآية المباركة، ونذكر المهم منها :

ص: 267

ما ورد في تحديد الكبيرة

في الكافي : بسنده عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عز وجل : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) ، قال : «الكبائر التي أوجب اللّه عليها النار».

اقول : ومثله ما عن علي بن جعفر، عن أخيه موسی بن جعفر (عليهما السلام) .

وفي الفقيه : عن عباد بن كثير النوا قال : «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الكبائر ، فقال : كل ما أوعد اللّه عليه النار».

أقول: ومثله ما عن تفسير العياشي، ويستفاد من هذه الروايات تحديد شرعي للكبائر التي وردت في الكتاب والسنة، وإيجاب النار أعم من أن يكون بالمطابقة أو بالملازمة، سواء أكان في كتاب اللّه تعالى أم في حديث المعصوم، وسواء رتب الشارع عليها الحد في هذه الدنيا - كالزنا وشرب الخمر - أم لا. فما عن بعض من حصر الكبيرة في كل ذنب رتب عليه الشارع الحد في هذه الدنيا - كما يأتي في البحث الأخلاقي - منافٍ لما تقدم من الروايات.

وفي معاني الأخبار بإسناده عن الحسن بن زیاد العطار، عن الصادق (عليه السلام) قال : قد سمى اللّه المؤمنين بالعمل الصالح مؤمنين، ولم

ص: 268

يسمّ مَن ركب الكبائر وما وعد اللّه عز وجل عليه النار مؤمنين في القرآن ، ولا نسميهم بالإيمان بعد ذلك الفعل».

أقول: تقدم أن للإيمان مراتب، ومَن ارتكب الكبيرة ولم يخرج عن الإسلام لم يكن من الكمل إلا إذا تاب . وإنها كالروايات المتقدمة في تحديد الكبيرة بالوعيد، وسيأتي في البحث الأخلاقي ما يتعلق بالمقام.

وفي ثواب الأعمال عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (عليه السلام) في قول اللّه عز وجل: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) ، قال : «مَن اجتنب الكبائر، وهي ما أوعد اللّه عليه النار، إذا كان مؤمنا كفر اللّه عنه سيئاته» .

أقول: ومثله ما في الكافي عن ابن محبوب. ويستفاد منها أن التكفير مشروط بالإيمان، كما هو المنساق من الآية الكريمة، وأن الكافر لو اجتنب لا يوجب التكفير عنه.

نعم، يمكن أن يكون له أثر في الدنيا أو في عالم البرزخ، ولا تنافي بينها وبين ما ورد في الفقيه عن الصادق (عليه السلام) : «مَن اجتنب الكبائر كفر اللّه جميع ذنوبه، وذلك قول اللّه عز وجل»، أي : مع الإيمان باللّه تعالی.

وكيف كان، فالمستفاد من هذه الروايات وغيرها مما ورد من طرق الجمهور عن نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسائر المعصومين (عليهم السلام) ، أن الكبيرة ما أوعد بالنار، والصغيرة هي الذنب الذي لم يوعد بالنار، أو لم يماثل في الروايات بذنب أُوعد فيه.

ص: 269

ما ورد في أعداد الكبائر

الروايات في أعداد الكبائر مختلفة، ففي جملة منها أنها سبع، وإن اختلفت هذه في المعدود منها وأبدال كبيرة بأخرى في الذكر، كما يأتي.

وفي بعضها تسع، وفي آخر ثمان، وفي بعضها ثلاث .

وعن ابن عباس في الدر المنثور عدّها ثمان عشرة، وفي الكافي عن عبد العظيم الحسني عن أبي جعفر الثاني عن الصادق (عليهما السلام) أنها عشرون - كما يأتي - وعن ابن عباس أنها أقرب إلى التسعين.

ولعل السر في اختلاف هذه الروايات أنها في مقام بيان المهم من الكبائر بل أكبرها، أو باعتبار اقتضاء المقام، ونحن نذكر جملة منها على سبيل الاختصار وهي:

في التهذيب : بسنده عن معلی بن خنیس عن أبي الصامت عن الصادق : «أكبر الكبائر سبع : الشرك باللّه العظيم، وقتل النفس التي حرم اللّه عز وجل إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين، وقذف المحصنات، والفرار من الزحف، وإنكار ما أنزل اللّه تعالی».

أقول: هذا الحصر إما بالنسبة إلى أكبر الكبائر، كما قال (عليه السلام) في صدر الحديث، أو إنه إضافي؛ لأنها أكثر من السبع.

وفي الكافي : عن ابن محبوب قال: «كتب معي بعض أصحابنا إلى

ص: 270

أبي الحسن (عليه السلام) يسأل عن الكبائر كم هي وما هي؟ فكتب : الكبائر مَن اجتنب ما وعد اللّه عليه النار كفر عنه سيئاته إذا كان مؤمناً، والسبع الموجبات: قتل النفس الحرام، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، والتعرب بعد الهجرة، وأكل مال اليتيم ظلمة، وقذف المحصنات، والفرار من الزحف».

أقول: ومثله ما عن الصدوق في ثواب الأعمال . وهذا الحصر إضافي، فلم يرد فيها الشرك باللّه تعالى، وقد عد في الرواية السابقة من أكبرها، ولكن قوله (عليه السلام) : «إذا كان مؤمنا»، يدل على أنه منها.

وفيه - أيضاً -: عن عبيد بن زرارة قال : «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الكبائر؟ فقال : هن في كتاب علي (عليه السلام) سبع: الكفر باللّه، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وأكل الربا بعد البينة، وأكل مال اليتيم ظلماً ، والفرار من الزحف، والتعرب بعد الهجرة . فقلت: هذا أكبر المعاصي؟! فقال : نعم. قلت : فأكل الدرهم من مال اليتيم ظلماً أكبر أم ترك الصلاة؟ قال : ترك الصلاة. قلت: فما عدّدت ترك الصلاة في الكبائر؟ قال : أي شيء أول ما قلت لك؟ قلت: الكفر . قال : فإن تارك الصلاة كافر، يعني : من غير علة» .

أقول: الحصر فيه إضافي أيضاً، وأما كون تارك الصلاة عن عمد واختيار كافراً؛ لأنه يرجع إلى إنكارهان وتقدم في الرواية السابقة أن إنكار ما أنزل اللّه تعالى من الكبائر.

وفي صحيح محمد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام) قال: «الكبائر سبع: قتل المؤمن متعمداً، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، والتعرب من الهجرة، وأكل مال اليتيم ظلماً، وأكل الربا بعد البينة، وكل ما أوجب اللّه النار».

ص: 271

أقول: عدّ الشرك منها إما لأجل المفروغية ، كما تقدم في الروايات السابقة، أو أنه داخل في القاعدة الكلية المذكورة في ذيل الرواية .

فهي تنطبق على كثير من المعاصي أيضاً، كالكذب والغيبة، والرشوة، وشرب الخمر، والسرقة، والزنا وغيرها.

وفي الكافي بسنده عن عبد اللّه بن سنان قال : سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: إن من الكبائر عقوق الوالدين، واليأس من روح اللّه ، والأمن من مكر اللّه».

أقول: لأن جميع ذلك مما أوعد اللّه عليه النار، أو من الخسران، أو بمنزلة الكافر الذي أوعده اللّه النار كما يأتي.

وفي تفسير العياشي: عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : «كنت أنا وعلقمة الحضرمي وأبو حسان العجلي وعبد اللّه بن عجلان ننتظر أبا جعفر (عليه السلام) ، فخرج علينا فقال : مرحباً وأهلاً، ولله إني أحب ریحكم وأرواحكم، وإنكم لعلى دين اللّه، فقال : علقمة فمَن كان على دين اللّه نشهد أنه من أهل الجنة ؟ قال : فمكث هيئة . قال : نوروا أنفسكم، فإن لم تكونوا اقترفتم الكبائر، فأنا أشهد. قلنا: وما الكبائر؟ قال : هي في كتاب علي (عليه السلام) سبع. قلنا: فعدها علينا جعلنا اللّه فداك . قال : الشرك باللّه العظيم، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا بعد البينة، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، وقتل المؤمن وقذف المحصنة . قلنا: ما منا أحد أصاب من هذه شيئا، قال : فأنتم إذاً» .

أقول: تدل هذه الرواية على أن مَن اجتنب الكبائر يكون من أهل الجنة بشهادة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) .

وفي تفسير العياشي - أيضاً -: عن معاذ بن كثير عن الصادق (عليه السلام)

ص: 272

قال: «يا معاذ، الكبائر سبع، فينا أنزلت ومنا استحقت، وأكبر الكبائر الشرك باللّه ، وقتل النفس التي حرم اللّه، وعقوق الوالدين وقذف المحصنات، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف، وإنكار حقنا أهل البيت - الحديث -».

أقول: ما تضمنته الرواية إضافي، ويكون من باب ذكر بعض المصادیق .

وفيه - أيضاً -: عن أبي خديجة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال : « الكذب على اللّه وعلى رسوله وعلى الأوصياء من الكبائر».

أقول: الرواية ليست في مقام الحصر حتى الإضافي منه، وإنما هي في بيان ذكر بعض المصادیق . وأمثال هذه الرواية كثيرة.

وفي الكافي : عن عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني قال : حدثني أبو جعفر الثاني (عليه السلام) ، قال : سمعت أبي موسى بن جعفر (عليهما السلام) يقول : دخل عمرو بن عبيد على أبي عبد اللّه (عليه السلام) فلما سلم وجلس تلا هذه الآية: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ) ثم أمسك. فقال له الصادق (عليه السلام) : ما أسكتك؟ قال : أحب أن أعرف الكبائر من كتاب اللّه عز وجل، فقال : نعم يا عمرو، أكبر الكبائر : الإشراك باللّه ، يقول اللّه : (مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)، وبعده اليأس من روح اللّه؛ لأن اللّه عز وجل يقول: (لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ). ثم الأمن من مكر اللّه؛ لأن اللّه عز وجل يقول : (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ). ومنها: عقوق الوالدين؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى جعل العاق جباراً شقياً. وقتل النفس التي حرم اللّه إلا بالحق؛ لأن اللّه عز وجل يقول : (فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا). وقذف المحصنة؛ لأن اللّه عز وجل يقول: (لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ). وأكل مال اليتيم؛

ص: 273

لأن اللّه عز وجل يقول: (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) . والفرار من الزحف؛ لأن اللّه عز وجل يقول : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) . وأكل الربا؛ لأن اللّه عز وجل يقول: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ). والسحر؛ لأن اللّه عز وجل يقول: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ). والزنا، لأن اللّه عز وجل يقول: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا). واليمين الغموس الفاجرة؛ لأن اللّه عز وجل يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ). والغلول؛ لأن اللّه عز وجل يقول : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). ومنع الزكاة المفروضة؛ لأن اللّه عز وجل يقول: (فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ). وشهادة الزور وكتمان الشهادة؛ لأن اللّه عز وجل يقول: (وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ). وشرب الخمر؛ لأن اللّه عز وجل نهى عنها كما نهى عن عبادة الأوثان، وترك الصلاة متعمداً أو شيئاً مما فرض اللّه عز وجل؛ لأن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال : مَن ترك الصلاة متعمداً فقد بريء من ذمة اللّه وذمة رسوله. ونقض العهد وقطيعة الرحم؛ لأن اللّه عز وجل يقول: (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ). قال : فخرج عمرو وله صراخ من بكائه، وهو يقول: هلك من قال برأيه ، ونازعكم في الفضل والعلم».

أقول: هذه الرواية لا تنافي ما تقدم من الروايات، لما عرفت من أن الحصر فيها ليس حقيقياً، وإنما كان إضافياً. وهذه الرواية تعد الكبائر المأخوذة من كتاب اللّه تعالى، كما عرفت .

وفي الخصال : بإسناده عن الصادق (عليه السلام) قال : «وجدنا في كتاب

ص: 274

علي (عليه السلام) الكبائر خمسة: الشرك، وعقوق الوالدين وأكل الربا بعد البينة، والفرار من الزحف، والتعرب بعد الهجرة» .

أقول: لا تنافي بينه وبين ما تقدم، لما عرفت من أن الحصر في هذه الروايات إضافي وليس حقيقياً .

وفي العلل بإسناده عن عبيد بن زرارة قال: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : أخبرني عن الكبائر . فقال : هن خمس، وهن مما أوجب اللّه عليهن النار، قال اللّه تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) ، وقال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ).. إلى آخر الآية. وقال عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا). ورمي المحصنات المؤمنات، وقتل مؤمن متعمدة على دينه» .

أقول: يستفاد من التعليل التعميم؛ لأن العلة قد تعمم وقد تخصص .

وفي رواية أبي خديجة عن الصادق (عليه السلام) : الكذب على اللّه وعلى رسوله وعلى الأوصياء من الكبائر .

وفي كنز الفوائد : عن الصادق (عليه السلام) : «الكبائر تسع، أعظمهن : الإشراك باللّه عز وجل، وقتل النفس المؤمنة، وأكل الربا وأكل مال اليتیم، وقذف المحصنات، والفرار من الزحف، وعقوق الوالدين واستحلال البيت الحرام، والسحر، فمَن لقي اللّه عز وجل وهو بريء منهن، كان معي في جنة مصاريعها الجنة» .

ص: 275

أقول: جميع هذه الروايات تدل على ما ذكرنا من أن الحصر إضافي وليس حقيقياً.

وفي الخصال بإسناده عن الأعمش، عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) في حدیث شرائع الدين قال : «والكبائر محرمة، وهي: الشرك باللّه، وقتل النفس التي حرم اللّه، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم ظلماً، وأكل الربا بعد البينة، وقذف المحصنات».

وبعد ذلك الزنا واللواط والسرقة، وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير اللّه به من غير ضرورة، وأكل السحت، والبخس في الميزان والمكيال، والميسر، وشهادة الزور، واليأس من روح اللّه ، والأمن من مكر اللّه ، والقنوط من رحمة اللّه، وترك المعاونة المظلومين، والركون إلى الظالمين، واليمين الغموس، وحبس الحقوق من غير عسر، واستعمال التكبر والتجبر، والكذب، والإسراف، والتبذير، والخيانة، والاستخفاف بالحج، والمحاربة لأولياء اللّه ، والملاهي التي تصد عن ذكر اللّه عز وجل مكروهة، كالغناء وضرب الأوتار، والإصرار على صغائر الذنوب» .

أقول : عد (عليه السلام) في هذه الرواية الغناء من الكبائر ، ولكن عبر عنها في الحكم بالكراهة ، والمراد منها الحرمة كما في قوله تعالى: (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا)(1).

وفي الدر المنثور: أخرج جماعة عن ابن عباس أنه سئل عن الكبائر : «أسبع هي؟ قال : هي السبعين أقرب».

وفيه - أيضا -: عن ابن جبير عن ابن عباس : «هي إلى السبعمائة أقرب إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار».

ص: 276


1- الإسراء، الآية 38.

أقول: لا شك أن أكبر الكبائر الشرك باللّه العظيم حتى ولو كان خفياً، وما سواه كبیر باختلاف المراتب، فلا تنافي بين الروايات الدالة على السبع أو الخمس أو التسع أو السبعين أو أقل أو أكثر ما عرفت .

ص: 277

ما ورد في شمول الشفاعة لأهل الكبائر

كما أن التوبة تمحو الكبيرة وآثارها، كذلك الشفاعة تمحو الكبيرة وآثارها، وتدل على ذلك روايات كثيرة .

منها ما في التوحيد عن ابن أبي عمير، قال : «سمعت موسی بن جعفر (عليهما السلام) يقول: مَن اجتنب الكبائر من المؤمنين لم يسأل عن الصغائر، قال اللّه تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا)، قلت : فالشفاعة لمَن تجب؟ فقال : حدثني أبي، عن آبائه، عن عليّ (عليهم السلام) عنه ، قال : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمتي، فأما المحسنون فما عليهم من سبيل. قال ابن أبي عمير فقلت له : يابن رسول اللّه، فكيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر واللّه تعالى يقول: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)، ومَن يرتكب الكبائر لا يكون مرتضى، فقال : يا أبا أحمد، ما من مؤمن يذنب ذنباً إلا ساءه ذلك وندم عليه، وقد قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : كفی بالندم توبة . وقال : مَن سرته حسنته وسائته سيئته فهو مؤمن، فمَن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن، ولم تجب له الشفاعة - إلى أن قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - : لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار».

أقول: الروايات الدالة على أن شفاعته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مدخرة لأهل الكبائر من أمته مستفيضة بين الفريقين، وأنها تغفر بالشفاعة، وأن المؤمن لا

ص: 278

يخلد في النار، فإن التخليد فيه مختص بأهل الكفر والجحود، وأهل الضلال وأهل الشرك ، كما في الرواية .

ومنها في الدر المنثور : أخرج عبد اللّه بن أحمد في زوائد الزهد عن أنس قال : سمعت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: ألا إن شفاعتي لأهل الكبائر من أُمتي، ثم تلا هذه الآية : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)».

أقول: ومثلهما غيرهما من الروايات ومقتضاها أن الشفاعة تختص بأهل الكبائر التي لا يخرج مرتكبيها عن الإيمان، كالشرك باللّه العظيم، كما تقدم في الروايات السابقة، فالمؤمن على قسمين:

الأول : ما إذا اجتنب الكبائر، فيدخل الجنة إن شاء اللّه تعالی بمتقضي الآية الشريفة والرواية المتقدمة .

الثاني : ما إذا ارتكب الكبائر وكان مؤمناً، فهو أيضاً من أهل الجنة بالشفاعة .

ص: 279

ما ورد في تحريم الإصرار على الصغيرة

الإصرار على الذنب هو: أن لا يتخلل الاستغفار، ولا يحدث نفسه بالتوبة، كما يأتي في الرواية عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، وأن الإصرار على الصغيرة كبيرة من الكبائر، كما تقدم في الروايات السابقة، ففي الكافي: بسنده عن السكوني عن الصادق (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من علامات الشفاء جمود العين، وقسوة القلب، وشدة الحرص في طلب الدنيا، والإصرار على الذنب».

أقول: المراد من الشقاء هو الشقاء في الآخرة، والمراد من جمود العين هو قسوة القلب، فيكون العطف بيانياً، فللقسوة مظهر خارجي، وهو جمود العين، ومنشأ واقعي وهو قسوة القلب .

وفي الكافي - أيضاً -: بسنده عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: لا واللّه ، لا يقبل اللّه شيئاً من طاعته على الإصرار على شيء من معاصيه» .

أقول: للقبول مراتب متفاوتة جداً، فلا ينافي أن يكون الإصرار على الذنب حراماً، ومعه لا يحصل المرتبة الكاملة من القبول، وسيأتي في البحث الأخلاقي ما يرتبط بالمقام.

وفي الروضة بإسناده عن الصادق (عليه السلام) في رسالته إلى أصحابه قال : «وإياكم أن تشره أنفسكم إلى شيء حرم اللّه عليكم، فإنّ مَن انتهك

ص: 280

ما حرم اللّه عليه هاهنا في الدنيا، حال اللّه بينه وبين الجنة ونعيمها ولذتها وكرامها القائمة الدائمة لأهل الجنة أبد الآبدين - إلى أن قال - : وإياكم والإصرار على شيء مما حرم اللّه في القرآن ظهره وبطنه ، وقد قال : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

أقول: شره كفر، وهو الطلب مع الحرص أو بدونه، والمراد من الرواية ما حرمه القرآن بظاهره - كما تقدم - أو بباطنه، أي : بواسطة السنة الشريفة.

ص: 281

الكبائر والصغائر

ذكرنا أن الآية الشريفة تدل على تقسيم المعاصي إلى كبائر وصغائر ، ويدل عليه قوله تعالى أيضاً في آية أخرى : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ)(1)، وتدل عليه السنة الشريفة، كما تقدم في البحث الروائي.

والكبيرة والصغيرة من الأمور الإضافية النسبية، وهما يختلفان شدة وضعفاً، فما من ذنب إلا وهو كبير بالإضافة إلى ما دونه، وصغير بالنسبة إلى ما فوقه، والجميع كبائر بالنسبة إلى مخالفة مولی الموالي، وهتك حجاب العبودية والتعدي في سلطانه عز وجل، وقد اختلف العلماء في تعريف الكبيرة اختلافاً عظيماً.

فقيل: إن كل ما نهى عنه عز وجل فهو كبيرة، وينسب هذا القول إلى ابن عباس، ولكن ذكرنا آنفاً أن كون الذنوب كلها كبائر بما هو القياس إلى حال الإنسان مع خالقه ومولاه الذي يجب إطاعته في جميع الحالات، لا بلحاظ بعضها إلى بعض.

وقيل : إن الكبيرة كل ما يسعر بالاستهانة بالدين وعدم الاكتراث به .

ويرد عليه : أنه أخص من المدعي، فإن بعض الذنوب ينطبق عليها

ص: 282


1- النجم، الآية 32.

الكبيرة وإن لم تكن بهذا العنوان، مضافة إلى أن كل اقتراف للذنب والآثام مع التعمد ينطبق عليه عنوان الطغيان والاعتداء، الذي هو من إحدى الكبائر أيضا.

وقيل : إن الكبيرة ما حرمت لنفسها، لا لعارض .

وفيه : أن بعض الذنوب يطرأ عليها عنوان الطغيان، فتصير كبيرة .

وقيل: إن الكبيرة كل ما أوعد اللّه تعالى عليه بالنار في القرآن الكرمي أو السنة الشريفة، أو ما مثله بالذنب الذي أوعد عليه النار، وهذا هو المشهور.

وفيه : أنه وإن كان صحيحاً في الجملة، لكن لا كلية له في انعكاسه، فليس كل ما لم يعد عليه اللّه تعالى بالنار صغيرة.

وقيل : إن الكبائر ما ورد في سورة النساء من أولها إلى الآية التي تقدم تفسيرها.

وفيه : أنه تقييد لإطلاق الآية الشريفة، فكأن القائل يريد أن قوله تعالى : (كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ) إشارة إلى تلك المحرمات التي ذكرها اللّه تعالى في الآيات السابقة، وهو تخصيص بلا دلیل.

وقيل : إن الكبيرة ما يكبر عقابه من ثوابه، والصغيرة ما نقص عقابه من ثواب صاحبه. ونسب هذا القول إلى بعض المعتزلة.

وفيه : أنه لا دليل عليه من عقل أو نقل.

وقيل : إن الكبيرة كل ما أوعد اللّه عليه في الآخرة عقاباً ووضع له في الدنيا حدّاً.

وفيه : أن الأمر ليس كذلك، فإن بعض الكبائر لم يوضع لها حد،

ص: 283

مثل الغيبة والإصرار على الصغائر، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف، وأكل الربا وغيرها.

ونسب إلى الغزالي في كتاب الأحياء جامعاً بين الأقوال وخلاصته : أن مقياس الكبائر والصغائر على نحوين، إما بقياس بعضها إلى بعض، أو بملاحظة الأثر المترتب على المعصية ، فقال : «أما الأول، فإنها بملاحظة بعضها إلى بعض تكون كبيرة وصغيرة، وإن كانت بعض المعاصي تكبر بانطباق العناوين المهلكة الموبقة عليه، كالإصرار على الصغائر ، فتصير المعصية كبيرة بعدما لم تكن منها . ثم هي مع ذلك تنقسم إلى قسمين بالنظر إلى اثر الذنب ووباله وأثر الطاعة، فتكون لهما حالات ثلاثة، فأما أن يحبط أثر الذنب الثواب بغلبته عليه أو نقصه عنه إذا لم يغلبه، فيزول بزوال مقدار ما يعادله من الثواب، فإن لكل طاعة تأثيراً حسناً في النفس، يوجب رفعة مقامها وتخلصها من قذارة البعد وظلمة الجهل، كما أن لكل معصية تأثيراً سيئاً فيها - على خلاف أثر الطاعة - فيوجب انحطاط محلها وسقوطها في هاوية البعد وظلمة الجهل. وأما أن يتصادم الأثران ويتحقق التحابط في ما إذا فعل الطاعة والمعصية، فيتصادم اثر الأولى مع أثر الثانية، فإن غلبت ظلمة المعصية نور الطاعة وظهرت عليه أحبطته، وهذه هي المعصية الكبيرة، وإن غلبت الطاعة بما لها من النور والصفاء، أزالت ظلمة الجهل، وبوار الذنب ببطلان مقدار منها يعادل نور الطاعة، فيبقى منه شيء تصفوا به النفس، وهذا هو التحابط بمعنى غفران الذنوب الصغيرة وتكفير السيئات. وهذا النوع من المعاصي هي المعاصي الصغيرة. وإما أن تنكافأ السيئة والحسنة بما لهما من العقاب والثواب ، فهو وإن كان مما يحتمله العقل بدواً ولازمه صحة فرض إنسان أعزل لا طاعة له ولا معصية، ولا نور لنفسه ولا ظلمة، لكن يبطله قوله تعالی : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ).

ص: 284

ورد الفخر الرازي في تفسير بأنه يبتني على أصول المعتزلة الباطلة عندنا.

وشدد النكير على الرازي بعض المفسرين وقال : إن إنكار الأشاعرة الانقسام المعاصي إلى الصغيرة والكبيرة، أرادوا به مخالفة المعتزلة ولو بتأويل، كما يعلم من كلام ابن فورك، فإنه صحح كلام الأشعرية وقال : معاصي اللّه كلها كبائر ، وإنما يقال لبعضها صغيرة وكبيرة لا بإضافة، بل بحسب القصود، وقالت المعتزلة : الذنوب على ضربين، صغائر وكبائر ، وهذا ليس بصحيح.

أقول: هذا الموضوع واحد من تلك الموضوعات التي كثر الجدال فيها بين المعتزلة والأشاعرة، وتعصّب كل فريق لمذهبه، واستدل عليه بأمور عقلية ونقلية حتى حدى ببعضهم إلى تأويل الآيات الكريمة والروايات لنصرة رأيه ، ولو كان لأجل مخالفة المذهب الآخر، وقد شغل هذا النحو من الجدال مصنفات الأعلام، وغلب على أفكارهم، فصرفوا جل اهتمامهم إلى ذلك، فحرموا غيرهم، بل حتى أنفسهم من قريحتهم الفذة، فصاروا وكتبهم فتنة افتتن بهما مَن بعدهم، وأصبحت وسيلة

الطمس الحق وأهله.

أما مقالة الغزالي، فهي وإن كانت حسنة ثبوتاً، ولكن لا دليل عليها في مقام الإثبات، بل هي تطويل - للمعاصي الكبيرة والصغيرة بما بينها اللّه تعالى في كتابه الكريم والسنة المقدسة - بلا طائل تحته، كما فصّله الفيض(قده) في إحياء الأحياء، والنراقي(قده) في جامع السعادات ، وكلمات الغزالي مشحونة من مثل هذه التشقيقات، كما لا يخفى على مَن راجعها، وسيأتي الكلام في الإحباط والتحابط بالنسبة إلى الثواب والعقاب، ولا ربط لهما بالكبيرة والصغيرة، مع أن ظواهر الآيات الشريفة

ص: 285

والروايات تقسم الذنب إلى الكبيرة والصغيرة بالنسبة إلى حيثية الصدور، لا حيثية الأثر، فخلط بين الحيثيتين. وكم له من هذه المغالطات. وهناك وجوه أخرى لا يخفى فسادها على مَن راجعها.

والحق أن يقال : إن اختلاف العلماء في تعريف الكبائر وتعيينها لا يرجى زواله، ولعل الحكمة في عدم تعيين الشرع لها، هي الإبقاء على إبهامها وإجمالها، ليكون العباد على وجل منها، فلا تهتك حرمات اللّه تعالى فيها، فلا يتجرؤوا على ارتكابها اعتماداً على التكفير، بل يعزموا على ترك المعاصي كلها، لاحتمال وجود الكبار فيها، كما أنهم عز وجل بعض الأمور أيضاً، مثل الاسم الأعظم، ليواظبوا على جميع الأسماء الحسنى، وليلة القدر ليعظم جد الناس واجتهادهم في المواظبة على الطاعة في جملة من الليالي. وولي اللّه تعالى بين الناس ليحترموا جميع الأفراد، فلا يسيئوا الظن بأحد منهم، وساعة الاستجابة في الأيام وغير ذلك .

مع أن لنا نقول: إن الكبائر قد بينها القرآن الكريم والسنة المقدسة في الجملة، فإن من المعاصي ما قد جعل لها الإسلام حدّاً معلوماً في الدنيا، كالزنا واللواط والسرقة والقذف ونحو ذلك من موجبات الحدود المعروفة في الفقه، وهذه لا إشكال عند أحد في كونها كبيرة، وكذا تكون المعصية كبيرة إذا كانت العقوبة عليها النار، بنص من الشرع المبين كتاباً أو سنّة، فتكون كبيرة لكون العقاب عظيماً.

وأما غير ذلك، فإنه يحتمل أن تكون كبيرة وقد أبهم الأمر فيها عز وجل، ليكون الناس على حذر منها .

ثم إن الذنوب والمعاصي لها إضافات متعددة :

ص: 286

الأولى: الإضافة إلى اللّه عز وجل، وبحسب هذه الإضافة تكون كبيرة، فإن ارتكابها جرأة على اللّه تعالى، وعلى هذا يحمل ما ورد في بعض الأخبار من أن الذنوب كلها كبيرة، كما عرفت آنفاً .

الثانية : الإضافة إلى الفاعل العاصي.

الثالثة : إضافة بعضها إلى بعض، وبحسب هاتين الإضافتين تتحقق الكبيرة والصغيرة في الذنوب، وحينئذٍ فإما أن تكون كبيرة مطلقاً ولا صغيرة فيها، كالكذب والغيبة والبهتان وإيذاء المؤمن، وأكل مال الناس ونحو ذلك . وإما أن تكون صغيرة ولا كبيرة فيها إلا مع الإصرار، كوضع اليد على مال الغير بدون إذنه، والنظر إلى الأجنبية . وإما أن تكون فيه الكبيرة والصغيرة، كالظلم والشتم بغير حق، والضرب والقتل كذلك، فبعض مراتب الأول صغيرة والأخرى كبيرة .

ص: 287

موجبات الكبائر

إن إتيان المعاصي - صغيرة كانت أو كبيرة - وصدورها، يكون باختيار العبد وجرأته، ولكن ذكر علماء الأخلاق أن أسباب الكبائر مندرجة في أمور ثلاثة :

الأول: اتباع الهوي، والهوى : میلان النفس إلى ما يستلذ به، فيقع الإنسان في جملة من الكبائر، كالزنا واللواط وقطع الرحم وقذف الحصنات أو كترك الصلاة وترك الطاعات وغيرها.

الثاني: حب الدنيا، فإنه السبب للوقوع في كثير من الكبائر، كالقتل والظلم والغصب، وأكل مال اليتيم، وشهادة الزور والحيف في الوصية وغيرها، قال نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أتاني جبرئيل وقال : إن اللّه تعالى قال وعزتي وجلالي، إنه ليس من الكبائر كبيرة هي أعظم عندي من حب الدنيا»، وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «حب الدنيا رأس كل خطيئة».

الثالث: رؤية الغير، فإنها منشا للرياء (الشرك الخفي)، والنفاق والعجب بالنفس والشرك باللّه العظيم، قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) ، وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اليسير من الرياء شرك».

ص: 288

طرق تمييز الكبيرة

ذكرنا أنه لم يرد في القرآن الكريم تحديد الكبيرة وبيان خصوصياتها، وإنما أبهم عز وجل الأمر فيها لطفاً بعباده ، ولأنه من إحدى طرق التهذيب والإصلاح لئلّا يجترىء الإنسان المغرور على ارتكاب غیرها اتكالاً على التكفير، غفلة منه كما عفرت، ولكن ذكر العلماء لتمييز الكبيرة عن الصغيرة أموراً:

الأول: التوعيد بالنار، وقد دلت عليه نصوص كثیر متواترة بين الفريقين، وتقدم في البحث الروائي نقل جملة منها، وهو مورد إجماع المسلمين أيضاً.

ويمكن الاستدلال عليه بالدليل العقلي، فإنه ليس بأعظم من النار شيئاً، فإذا كانت المعصية هي الموجبة لورودها، فلا بد أن تكون كبيرة وعظيمة لعظم الغاية، وتختص معرفة ذلك بما ورد في الكتاب والسنة.

الثاني: الإصرار على الصغيرة، إجماعاً ونصوصاً، كما تقدمت جملة منها، وقد ورد في تفسير قوله تعالى : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر ولا يحدث نفسه بتوبة، فذلك الإصرار، وقد تقدم في تفسير الآية الشريفة : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(1)، بعض الكلام فراجع .

ص: 289


1- آل عمران، الآية 135.

الثالث : ثبوت الحد الشرعي في الدنيا على المعصية، ذكره جمع من العلماء، وهو صحيح في الجملة، فإن ثبوت الحد يدل على كبر المنهي عنه في الشرع، كالزنا والسرقة ونحوهما.

الرابع: استصغار الذنب، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «تصغروا ما ينفع يوم القيامة، ولا تصغروا ما يضر يوم القيامة، فكونوا في ما أخبركم اللّه كمن عاين»، وهذا لا إشكال فيه ظاهراً واستصغار الذنب إما لأجل جعل التمكن من ذلك نعمة منه عز وجل، أو لأجل السرور بفعل المعصية الصغيرة، وإما بالاغترار بستر اللّه تعالى وعدم المبالاة بفعل المعصية وغير ذلك، ويجمعها غرور النفس والغفلة .

الخامس: أن يكون الفاعل ذا منزلة كبيرة اجتماعية، بحيث يقتدي الناس بفعله ، فإن المعصية الصغيرة حينئذٍ تكون كبيرة إذا فعله بحضرة من الناس أو بحيث إذا اطلعوا عليه منه فعلوها اقتداءً به.

السادس : أن يكون الأثر المترتب عليه كبيراً جداً .

السابع : شدة النهي عنها، فإنها تدل على كون المنهي عنه كبيرة .

ثم لا يخفى أن الكبائر في حد أنفسها تكون مختلفة، فبعضها تكون أفظع وأعظم من الأخرى، وفي بعض الأخبار كما مز: «أكبر الكبائر الشرك باللّه العظيم».

ص: 290

موجبات محو الذنوب

اشارة

وهي كثيرة كما هي المستفادة من الكتاب والسنة، وقد ذكرنا جملة منها في بحث التوبة في سورة البقرة، ونذكر المهم منها في المقام، وهي:

الأول : التوبة على ما عرفت التفصيل فيها، ويدل عليه الكتاب الكريم، والسنة الشريفة، والإجماع المحقق بين المسلمين، فمن الكتاب آيات كثيرة، قال تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)(1) وقال تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى)(2)، وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)(3)، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا)(4)، وغير ذلك من الآيات

المباركة وإطلاقها يشمل التوبة عن الذنوب الصغيرة والكبيرة .

ومن السنة الشريفة ما تقدم في بحث التوبة فراجع، ويمكن إقامة الدليل العقلي عليه على ما عرفت التفصيل .

ص: 291


1- النساء، الآية 17.
2- طه، الآية 82.
3- الشورى، الآية 25.
4- النساء، الآية 48.

الثاني : الطاعات، فإنها مكفر للسيئات، بل تمحوا آثارها، قال تعالى : (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)(1)، وإطلاقه يشمل جميع السيئات، الصغائر والكبائر ، وقال نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الصلوات الخمس مكفرة لما بینها، ما اجتنب الكبائر»، وفي حديث آخر عنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر»، ويقيد إطلاق الآية الشريفة بمثل هذه الأخبار .

الثالث : اجتناب الكبائر كما تدل عليه الآية الشريفة المتقدمة، والمستفاد منها أن الاجتناب بنفسه مكفر للسيئات كالتوبة والطاعة، لا أن الاجتناب عن الكبائر يوجب التخلية بين الصغائر والطاعات الحسنة وهذه الأخيرة تكفر السيئات ، فيدخل تحت قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)، بل للاجتناب دخل في التكفير، وله خصوصية خاصة.

بل يمكن إقامة الدليل العقلي على المطلوب، وهو: أن الأخذ بالصغائر بعد الاجتناب عن الكبائر، مداقة منه عز وجل في الحساب، ولا ينبغي ذلك بالنسبة إليه تعالى، لأنه الجواد المطلق والغفور الرحيم.

ثم إن إطلاق الآية الشريفة يشمل جميع الكبائر، وهي تكفر عن السيئات جميعاً، ما تقدم منها وما تأخر، إلا أن تكون من حقوق الناس، فإنها لا تكفر إلا بأدائها إلى أصحابها، وقد ذكرنا شروط التكفير فيما تقدم .

والمستفاد من هذه الآية الشريفة ترتيب الثواب على اجتناب الكبائر والابتعاد عنها؛ لقوله تعالى : (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا)، مضافاً إلى ما ورد في بعض الأخبار الوعد بالثواب .

ص: 292


1- هود، الآية 114.

بحث فقهي في المقام

تختص السيئات المكفرة باجتناب الكبائر بحقوق اللّه تعالى، وأما حقوق الناس فلا تشملها الآية الشريفة، وتدل على ذلك الأخبار الكثيرة ، مثل قوله (عليه السلام) : «مَن ترك من أخيه حقاً يطلبه به يوم القيامة»، مع أن جملة منها داخلة في الكبائر التي يكون اجتنابها شرطاً للتكفير، ويشهد لما ذكرناه ما دل على أن «أول قطرة من دم الشهيد في سبيل اللّه تعالی توجب غفران ذنوبه إلا ما كان من حق الناس».

بحث عرفاني في المقام

الآية الشريفة من الآيات الداعية إلى الاستكمال، وهي تتضمن دعوة من الكمال المطلق الحقيقي لتوجيه النفس إلى التربية والتهذيب والإصلاح بترك كل ما يوجب البعد عن معدن الرحمة والعظمة والجلال والكبرياء، وتوجب القسوة وكدورة النفس، وقد فتح اللّه تعالى على عباده باباً سمّاه التوبة ودعاهم إلى السلوك فيه والدخول منه، وهو حرم اللّه الأكبر الذي مَن دخله كان من الآمنين، وجعل الطريق إليه اجتناب الكبائر والتكفير بالنسبة إلى علم اللّه تعالى الأزلي المحيط بحقائق الممكنات - كلياتها وجزئياتها . فالبحث عن السبق واللحوق لا وجه له حينئذ .

وأما إذا لوحظ ذلك بالنسبة إلى المتدرجات الزمانية ، فهل يقتصر بالنسبة إلى الماضي أو المستقبل أيضاً؟ مقتضی كمال رأفته وعنايته الأزلية بعباده هو الأخير، ويمكن أن ينشهد له بما ورد في بعض الروايات من تأخير غفران الذنوب من عرفة إلى عرفة أخرى، أو من شهر رمضان إلى شهر رمضان قابل(1).

ص: 293


1- م - ن، ص117 - 144، ج (8).

الورع وأقسامه

إن الورع على أقسام:

الأول : ورع التائبين وهو ما يخرج المكلف به عن الفسق ويوجب قبول شهادته .

الثاني : ورع الصالحين، وهو ما يخرج المكلف به عن الشبهات .

الثالث: ورع المتقين، وهو ترك الحلال الذي يتخوف انجراره إلى الحرام، وفي الحديث عن نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم): «لا يكون الرجل من المتقين حتى يدع ما لا بأس به مخافة أن يكون فيه بأس»، مثل أن يترك الكلام مع الغير مخافة الوقوع في شبهة الحرام.

الرابع: ورع الصديقين، وهو الإعراض عن غير اللّه تعالی خوفاً من ضياع ساعة من العمر فيما لا فائدة فيه. رزقنا اللّه تعالی رشحةً من رشحاته .

ولكل من هذه الأقسام مراتب ودرجات. كما أن الفرح كذلك، خصوصاً عنده جلت عظتمه، ولكن رحمته سبقت كل شيء وفضله عم.

وذيل الرواية من باب ذكر أكمل الأفراد وأجل المصادیق، وبهذا المعنى وردت روايات أخرى، ففي بعضها أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من النبيين وعلي (عليه السلام) من الصديقين والشهداء الحسن والحسين (عليهما السلام) ،

ص: 294

والصالحون حمزة، وحسن أولئك رفيقاً سائر الأئمة (عليهم السلام)، وفي بعضها : والصالحون هم الكمل من المؤمنين. وفي بعضها: الصالحون ابنتي فاطمة (عليها السلام) وأولادها، فلا منافاة بينها لما تقدم.

وفي الكافي عن الصادق (عليه السلام) : «المؤمن مؤمنان، مؤمن وفي اللّه بشروطه التي اشترطها عليه، فذلك مع النبيين والصديقين والشهداء الصالحين وحسن أُولئك رفيقا، وذلك ممن يشفع ولا يشفع له؛ وذلك ممن لا تصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الآخرة. ومؤمن زلت به قدم، فذلك كخامة الزرع كيف ما كفأته الريح انكفأ، وذلك يصيبه أهوال الدنيا وأهوال الآخرة، ويشفع له، وهو على خير».

أقول: لعل المراد من أهوال الدنيا أهوال البرزخ، وإلا فقد ورد : «أنه كلما زيد في إيمان المؤمن، زيد في بلائه»، وقد ورد: «أنه هل كتب البلاء إلا على المؤمن». أو أن المراد بأهوال الدنيا ما يوجب ضعف عقيدته والتشكيك في دينه .

وكيف كان، فإن التقسيم الوارد فيها حسب مراتب الإيمان، فإن أجل مراتبه وأكمله ما ورد في المؤمن الذي وفي اللّه تعالی بشروطه، كما في الرواية، وفي هذا المعنى ورد قوله تعالى: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)(1). وقد وردت روايات كثيرة عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) : «المؤمن يشفع يوم القيامة» ؛ لأن للإيمان الحقيقي الواقعي آثاراً، منها أنه تعالى يخول إلى المؤمن صحائف الخلق في يوم المعاد، فيشفع فيهم حسب إرادته عز وجل .

ص: 295


1- يونس، الآية 63.

والخامة : ألفها منقلبة عن واو وهي الغصنة اللينة من الزرع، وفي الحديث : «مثل المؤمن مثل الخامة يفينها الرياح» .

وفي أمالي الشيخ بإسناده إلى علي (عليه السلام) قال: «جاء رجل من الأنصار إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال : يا رسول اللّه ، ما أستطيع فراقك، وإني لأدخل منزلي فأذكرك فأترك ضيعني وأقبل حتى أنظر إليك حباً لك، فذكرت إذا كان يوم القيامة وأدخلت الجنة فرفعتَ في أعلى عليين، فكيف لي بك يا نبي اللّه؟! فنزل قوله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)، فدعا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الرجل فقرأها عليه وبشره بذاك».

أقول: وقريب منها ما في الدر المنثور وأسباب النزول للواحدي وغيرهما باختلاف يسير لا يضر بأصل المعنى، فإن الحب الواقعي الذي يوجب اتباع المحبوب في كل ما يريده، يستلزم عدم الفراق بينهما في العوالم كلها، فعن نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم): «المرء مع مَن أحب». وعن سيد العرفاء علي (عليه السلام) في دعائه الملكوتي: «فهبني يا إلهي .. صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك»، فنكون الآية المباركة من باب التطبيق .

وفي صحيح مسلم وسنن النسائي وغيرهما، عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال : «كنت أبيت عند النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأتيه بوضوئه وحاجته . فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم): سل، فقلت : يا رسول اللّه أسألك مرافقتك في الجنة . قال : أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك ، قال : فأعني على نفسك بكثرة السجود».

أقول: السجود اللّه تعالي مع شرائطه له آثار وضعية وثواب عظيم، منها ما ذكره النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم)، فالرواية من باب التطبيق.

ص: 296

أخرج ابن جرير عن الربيع قال : «إن أصحاب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قالوا : قد علمنا أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) له فضل على مَن آمن به في درجات الجنة ممن تبعه وصدقه، فكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضاً؟ فأنزل اللّه تعالى هذه الآية في ذلك، فقال له النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم): إن العليين ينحدرون إلى مَن هو أسفل منهم فيجتمعون في رياضها، فيذكرون ما أنعم اللّه عليهم ويثنون عليه».

أقول: على فرض صحة الرواية، انحدار العليين لأجل ذكر نِعَم اللّه تعالى وبيانهم لغيرهم والثناء عليه تعالى، أو لأجل اشتهائهم فتحصل المعاشرة والمصاحبة قهراً، والرواية من باب التطبيق، وأما صعود مَن هو أسفل إلى العليين في الجنة فلا يتحقق ؛ لأن لكل مؤمن درجة وشأناً ولياقة، وذلك لا ينافي قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ)(1)، فإن ذلك لا يتجاوز حدود اللياقة والأهلية إلا إذا شاء اللّه تعالی .

العياشي عن عبد اللّه بن جندب، عن الرضا (عليه السلام) ، قال : «حق على اللّه أن يجعل وليناً رفيقة للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا» .

أقول: المراد من صدر الرواية أنه تعالى ألزم على نفسه حسب إرادته أن يجعل المؤمن الواقعي رفيقاً لتلك الطوائف في الجنة، وذلك من باب ترتب المسبب على السبب، والرواية من باب ذكر أجلى المصادیق وأكملها .

ص: 297


1- فصلت، الآية 31.

مراتب الطاعة

المراد من الطاعة - التي هي الوسيلة للوصول إلى الدرجات الرفيعة السامية والأفق القريب منه جل شأنه، وهي التي أكدت عليها الآيات الشريفة ودعي إليها الأنبياء والأولياء بألسنة مختلفة واهتموا بها؛ لأنها المبعث لتكريم الإنسان ونيله أشرف المراتب وأجل المقامات، وهي الانقياد الكامل والامتثال مع الإخلاص لجلب رضا الحق وترك ما سواه .

ولها مراتب كثيرة - بل متفاوتة - حسب إخلاص العبد ومقام العبودية ، بل حسب درجات الحب والمحبة له جلت عظمته، ففي الأثر : «إن اللّه تعالى أودع أنوار الملكوت في أصناف الطاعات». فأعلى مراتبها قتل النفس في الحقيقة وقمع هواها التي هي حياتها، قال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)(1)، وبالخروج عن عالم المادة. ومن مراتبها تسليم النفس إليه تعالی ودوام المراقبة لها، كما ورد ذلك في روایات مستفيضة عن المعصومين (عليهم السلام) وفي الدعوات المأثورة عنهم، وفي الأثر: «كنا في طريق مكّة، فإذا بشاب قائم في ليله بناجیه ربه ويقول : يا مَن شوقي إليه، وقلبي محب له، ونفسي له خادم، وكلي فناء في إرادتك ومشيئتك، فأنت ولا غيرك، متى تنجيني - إلى آخره - قلت له: رحمك اللّه ، ما علامة حبه؟ قال : اشتهاء لقائه. قلت: فما علامة

ص: 298


1- الشمس، الآيتان 9 - 10.

المشتاق؟ قال : ليس له قرار ولا سكون في ليل ولا نهار من شوقه إلى ربه. قلت: فما علامة الفاني؟ قال : لا يعرف الصديق من العدو، ولا الحلو من المر من فنائه عن رسمه وجسمه. قلت: فما علامة الخادم؟ قال : إنه يرفع قلبه وجوارحه وطعمه من ثواب اللّه - إلى آخره»، وعن نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا يكون أحدكم كالعبد السوء إن خاف عمل، ولا كالأجير السوء إن لم يعط لم يعمل». وعن سيد العرفاء علي (عليه السلام) : «إلهي عبدتك لا خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك، بل وجدتك أهلاً لذلك فعبدتك».

وبالطاعة الحقيقية ينال الإنسان الدرجات الرفيعة والمراتب الشريفة ، ويتجاوز عن حد الكمال ويصل إلى درجة التكميل، فتكون له المعيّة في الدرجة لا في الاتحاد - كما في بعض الروايات - لأن التسايو في كل جهة معه محال ، كما ثبت في الفلسفة الإلهية .

كما أن العصيان والتجري بالإعراض عن طاعة الرحمن والإقبال على طاعة الشيطان، يصل الإنسان إلى أسفل الهاوية ومنتهى الهلاك، وإن له أيضاً مراتب، ومَن أبي؟ قال: مَن أطاعني دخل الجنة، ومَن عصاني فقد أبی»، فإن إطاعته إطاعة اللّه تعالى، كما أن عصيانه كذلك، كما تقدم.

وإنما جعل سبحانه وتعالى في هذه الآية المباركة جزاء الطائعين لله والرسول مرافقة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ولم يجعل - كما في غير الطاعة - الجنّات التي تهفوا إليها القلوب وتخلد فيها النفوس؛ لأن الطاعة ليست تكليفاً محضاً حتى يجعل في مقابلها جزاءً، وإنما هي وسيلة لرقي النفس وسبيل للوصول إلى المرتبة الكاملة والنيل إلى المرتقی .

ص: 299

ومعنى رقي النفس ورفعها بالوصول إلى الشاهق الأعلى، هو معاشرتها ومصاحبتها مع سنخها من النفوس القدسية، كالأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، لما ثبت في الفلسفة الإلهية وغيرها من أن السنخية في جميع الأشياء وفي جميع العوالم لازمة وموجودة، فمقتضى قانون السنخية في عالم المصاحبة والمعاشرة - الذي يكون في عالم الشهادة وعالم البرزخ وعالم الآخرة - هو أن تكون النفوس الأخيرة مع أمثالها والنفوس الشريرة كذلك ؛ لما بينهما من التباعد والتباين، فلا تلائم بین الصنفين أيضاً، فإن أرواح المطيعين ونفوس المؤمنين لا تميل ولا تستقر إلا مع النفوس التي تماثلها وتكون قريبة بينهم وفي أُفقهم، أي من سنخهم، وهي النفوس الرفيعة القدسية .

على أن ذلك يلازم دخول الجنات التي تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها. ولعل التعبير بقوله تعالى : (أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) ، وقوله تعالى في ذيل الآية المباركة: (ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ)، يدلان على ما ذكرناه، واللّه العالم بالحقائق.

وفي الآية الشريفة إشارة إلى أنه ينبغي للمؤمن أن يسعى في تكميل نفسه بالصلاح، ويترقى إلى مرتبة الشهادة، ثم إلى مرتبة الصديقية، التي ليست بينها وبين مرتبة النبيين أية واسطة إلا الوحي.

والحسن الوارد في قوله تعالى : (وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) من الصفات التي لها مراتب متفاوتة شدة وضعفاً وكمالاً. وأن المراد من الحسن الحسن في الرفاقة في عالم الدنيا، ويستلزم الحسن في عالم الآخرة، بل لا يتم حسن إلا به(1).

ص: 300


1- م - ن، ص14 - 19، ج (9).

المعروف

اشارة

المعروف: كل ما يستحسنه العقل ويقرره الشرع من أصناف الجميل وأنواع البر ومكارم الأخلاق، فهو في مقابل ما تكرهه النفوس - سواء كان مشتملاً على رجحان أم لا - فيعم الواجب والمندوب وغيرهما مما يدخل في الحُسن.

وللمعروف مراتب أحسنها ما كان فيه الصلاح والإصلاح - بلا فرق بين أن يتعلق بالفرد أو الأُسرة بأقسامها - وأسماها ما كان فيه صلاح المجتمع وإصلاحه، وقد عد من المعروف، كما في بعض الروايات ما لو كان فيه صلاح الحيوان، أو ما فيه نفع يعود له أو يحميه من الأذى.

والجميل قد لا يختلف فيه أحد واتفق العقلاء على حسنه وبمدح فاعله، كإغاثة الملهوف، وإصلاح ذات البين، أو الخدمات التي فيها نفع المجتمع، وقد لا يكون كذلك فيتصف بالإضافة لا محالة، وحينئذٍ لا بد وأن يرجع إلى القوانين الشرعية، فما وافقها ولم تنكره فهو من المعروف ، وإلا فلا يكون منه لاحتوائه على مفسدة أو ضرر وإن لم يدركا فعلاً؛ لما ثبت في محله أن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد وإن لم يكشف العقل المادي عنهما.

والترغيب إلى فعل المعروف يعم جميع المجتمعات الإنسانية والأديان السماوية بل الملل المستحدثة المختلفة، فيمكن أن يقال : إن

ص: 301

إقامة المعروف نحو حق على أفراد المجتمع - تحكم به الفطرة الخالصة - لأجل سوق مجتعهم إلى الكمال المنشود، ولإصلاحه عن الطوارىء الفاسدة، وهذا الحق ثابت على أفراده ما لم يتحقق الهدف المقصود ولم تحصل الصلة المفقودة ولم تثبت السعادة المنشودة لذلك المجتمع.

أقسام المعروف

يختلف المعروف حسب اختلاف الفقر والحاجة إليه ، فتارة : يكون الاحتياج شخصياً وفردياً، سواء كان ذلك من الكمالات المعنوية أو المظاهر الخارجية . وأخرى : يكون نوعياً عامان وفي كل منهما قد يكون المعروف خلقياً وقولياً أو غيرهما، ولجميع ذلك مراتب وآثار خاصة.

والمعروف قد يصدر من الإنسان عن شعور واختبار - سواء كان بباعث ديني أو إلهام سماوي - وقد لا يكون ذلك، فجميع أقسامه حسن إلا أن ما فيه الإخلاص لله جل شأنه يكون أكثر نفعاً وأطول وزماناً وأشد تقرباً له عز وجل .

آثار المعروف

يستفاد من الأحاديث الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) في شأن المعروف ومدحه والترغيب إليه أن له آثاراً وضعية تخص صاحبها وفاعلها لا تنالها يد الاختيار، وأنها تترتب على المعروف كترتب الأثر على المقتضي التام.

بل يمكن إقامة الدليل العقلي على ذلك؛ لأن الأفعال الحسنة التي تصدر عن الإنسان تخلف في نفس عاملها آثاراً خاصة وحالات مخصوصة، توجب ارتياح النفس وبعدها عن القلق النفسي الموجب للأمراض المتنوعة، على خلاف الأفعال السيئة التي تخلف التأنيب

ص: 302

الضميري والصراع النفسي، كما أثبتها علماء النفس قديماً وحديثاً، فمَن كان صادقاً - مثلاً - في كلامه دائماً أو يغمض عن إساءة الغير له ويعفو عنه ولا يكون في مقام الانتقام، يشعر بالراحة النفسية ويكون بعيداً عن الضيق والهمّ النفسي، وفي الحديث عن الصادق (عليه السلام) : «صنایع المعروف تدفع ميتة السوء»، وعنه (عليه السلام) أيضاً: «صنایع المعروف تقي مصارع الهوان» ، أي : الذل، وغيرهما من الأحاديث . وفي المأثور عن بعض الصلحاء: «أن امرأة وضعت لقمة في فم سائل ثم ذهبت إلى مزرعتها فوضعت ولدها في موضع فأخذه الذئب ، فقالت : يا رب ولدي، فأخذ عنق الذئب رجل واستخجر ولدها من غير أذى، ثم قال : هذه اللقمة بتلك اللقمة التي وضعتها في فم السائل»، فآثار المعروف تظهر على صاحبه في هذه الدنيا قبل الآخرة.

نعم، للزمان فيها دخل قد يؤجل لمصالح لا يعلمها إلا اللّه تعالی .

وأما آثار المنكر والقبيح قد تظهر على صاحبه وقد تؤجل إلى عالم الآخرة، فإن مقتضی رحمته تعالى أنه عز وجل يظهر الجميل ويستر القبيح، وأن أثره القبيح قبيح يستره اللّه ويؤجله إلى دار الآخرة والخلود .

عوائق المعروف

لا شك أن الفطرة المستقيمة الإنسانية تميل إلى المعروف وإقامته إلى الجميل وصنعه، وإلى البر وفعله ما لم تعوقها السبل عن مسيرها الاستكمالي، فعن اللّه تبارك وتعالى في القدسیات: «خلقت عبادي حنفاء» ، أي: مستعدين لقبول الحق وإقامة المعروف، فالفطرة بخلقتها الأولية قابلة للترقي بالتربية والوصول إلى أعلى مراتب الكمالات وأسماها بالإرادة والاختيار، ويتحقق ذلك بفعل المعروف وبثّه وترك المنكر وإزالته .

ص: 303

كما أن الفطرة لها قابلية النزول عن خلقتها المستقيمة مع الإرادة والاختبار بالانحراف الذي يحصل من أمور أهمها حب البقاء، والجهل، والخوف وحب المال، ويجمعها «حب الدنيا»، وهو السبب لتنزل الفطرة تدريجياً وبلا شعور - كما في الروايات - عن استقامتها المنفطرة بقوله تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ).

والأسباب كلها - سواء كانت للرقي أو للنزول - إرادية اختيارية، ولو كان هناك أسباب غير اختيارية، فإنها ترجع بالآخرة إلى الاختيار وإن كان مع الواسطة أو الوسائط، كما ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة .

ومن عوائق المعروف والمانع عن تحققه الذنوب التي توجب البُعد عن ساحته تعالى وتطمس نور الفطرة وتكون صدّاً في الطريق إلى الكمال و مانعاً عن الاستكمال، وللبحث ذیل يأتي في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالی بعد رفع هذه الشدائد وكشف هذه الغمة وزوال الظلم وأهله بحوله وعنايته، إنه هو الرؤوف الرحيم.

ص: 304

الإخلاص

اشارة

الأفعال الصادرة عن الإنسان في حقيقتها - تكون كالأشياء النامية - لها صورة خارجية وروح يمتاز بها عن أفعال سائر الحيوانات، فالإنسان الذي هو أشرف المخلوقات في عالم الإمكان مركب في واقعه من جسم وروح، وكذا أفعاله لها صورة - وهي عبارة عن ما يشتخص في الذهن من الكيفيات، وهذا يعم جميع أفعال الحيوانات - وروح يتفرد بها عن بقية الحيوانات، وهي أمر معنوي يحصل من التوجه إلى الباري جل شأنه والسوق إلى الخالق جل عظمته - ولا ربط له بالإرادة - وأثره إفراد القلب له تعالى بارتباطه إلى ساحة كبريائه والتبري عن كل ما دونه تعالى، وهو الباعث لتحقق الإضافة إليه تعالى، التي هي السبب لتحقق الفعل خارجاً ، وإذا وجد الفعل بدونها كان مجرد صورة، كالأفعال التعليمية .

ويعبر عنه في الكتاب والسنة بالإخلاص في الأفعال العبادية أو المضافة إليه تعالى، المتفرد بها الإنسان عن غيره، قال تعالى : (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ)(1)، وقال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(2)، فكما لا قيام للأشباح إلا بالأرواح وإلا كانت ميتة ساقطة، كذلك الأعمال العبادية، فلولا الإخلاص والروح المعنوي فيها كانت

ص: 305


1- الزمر، الآية 2.
2- البينة، الآية 5.

مجرد شبح وهيكل. مراتب الإخلاص كدرجاتها تختلف حسب درجات الإيمان، كما يأتي .

حقيقة الإخلاص

وهي من الحقائق المحجوبة، ولا تعرف إلا بالأثر، ولا يمكن وصفها وإن أدركها العرفاء الشامخون فإنها تشرق على القلب وتنور النفس ويتشرف المؤمن بالإخلاص إلى أعلى مراتب الكمال بلذة ذل العبودية له تعالى، وبه يخرق الحجب ويصل إلى معدن العظمة، فعن نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أنه سئل عن الإخلاص فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : حتى اسأل جبرائیل، فلما سأله قال : اسأل رب العزة، فلما سأله قال له: هو سر من أسرار أودعه قلب مَن أحببت من عبادي، لا يطلع عليه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده»، وعن سيد العرفاء أمير المؤمنین (عليه السلام) : «هو أن تعبد اللّه كأنك تراه»، فحقيقة الإخلاص يدركها الخلص من عباده ، ولكنها لا توصف، والإخلاص من أعلى مراتب التفويض .

درجات الإخلاص

كما أن للعبودية درجات، ولكل منها مراتب، ولكل مرتبة منزلة حسب درجات الإيمان ومراتب المعرفة ومنازلهما، وأن التقرب لديه جل شأنه يحصل بجميعها، وأن أسمى المراتب وأعلى الدرجات قبوله عز اسمه بالعبودية - وإن كان للقبول مراتب أيضاً - فإنه هو الفوز العظيم، فعن بعض العرفاء : «قيل له بعد وفاته - في الرؤيا -: كيف حالك مع الملكين (النكير والمنكر)؟ فقال : لما قالا لي: مَن ربك؟ قلت لهما: اسألا ربي، فإن قال : هو عبدي وأنا ربه، يكفي، وإلا فلو قلت : هو ربي وأنا عبده مراراً لا يفيد بلا قبوله»، كذلك الإخلاص له درجات، وفي كل

ص: 306

منها مراتب، وفي كل مرتبة أنواع أهمها وجامعها أقسام ثلاثة : إخلاص العوام، وإخلاص الخواص، وإخلاص أخص الخواص، وإن شئت قلت : مطلق الإخلاص، وإخلاص المحبين، وإخلاص الموحدین .

والأول: هو الإخلاص في العبادة لأجل الحظوظ - سواء كانت دنيوية أم أُخروية - كحفظ البدن وسعة المال والقصور والحور.

والثاني : لأجل السعادة الأُخروية والدخول في الجنة دون الحظوظ الدنيوية .

والثالث : هو إخراج الحظوظ بالكلية، بل الإخلاص لأجل جنة الشوق بالقرب له جلت عظمته: «وفؤادي ليس فيه غيره».

ولكل من هذه الأقسام مراتب كما مر، وأن جميعها حسن إلا أن أسماها وأعلاها القسم الأخير، وفي دعاء كميل : «هب لي صبرت على حر نارك، فكيف أصبر على فراقك»، وعن سيد العرفاء المتألهین الشامخين أمير المؤمنين (عليه السلام) : «إلهي عبدتك لا خوفاً من نارك ولا طمعاً لجنتك ، بل رأيتك أهلاً لذلك فعبدتك»، وعن بعض العرفاء المتألهين :

ليس سؤلي من الجنان نعيماً *** غير أني أحبها لأراكا

ولهذا القسم درجات و مراتب، نسأل اللّه العظيم الفوز بمرتبة منها، ولا تنال هذه النعمة الكبرى إلا لمَن عصمه اللّه تعالى وأمده بحق اليقين بالتجلي له، وكشف الأسرار له بإفاضة العلوم عليه، وقربه إلى ساحته بخلع الأنداد عنه، وكرمه بتطهير النفس بمخالفة الهوى ونبذ الأغيار، وشرفه بالرقي إلى مقام عرفانه بالتوجه إليه والقرب لديه .

منافيات الإخلاص

الصفات الحميدة تقابلها الحالات السيئة، وتفسدها الصفات المنافية

ص: 307

لها، فالشجاعة مثلاً يفسدها الخوف؛ لأنه ينافيها ولا يمكن الجمع بين المتنافيين في النفس وكذا القناعة ينافيها الحرص والجشع، كما أن الزهد ينافيه طول الأمل، وكذا غيرها من الصفات .

والإخلاص ينافيه أمور كثيرة؛ لأن سبب الإخلاص لله تعالى المعرفة والخوف، فإذا زال أحدهما لم يتحقق الإخلاص. وأهم ما ينافي الإخلاص أمور:

منها : الريا - نستجير باللّه العظيم منه . فعن نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن اللّه تعالى في القدسیات : «انا أغنى الشركاء، مَن أشرك معي غيري تركته الغيري»، وعنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أخوف ما أخاف على أُمتي الشرك الخفي، وهو الريا»، وغيرهما من الروايات، وأنه دقيق جداً، «أدق من دبيب النمل في صخرة ملساء»، وسببه حب الدنيا بأقسامه، وللتخلص منه طرق كثيرة لا يسع المجال للتعرض لها.

ومنها: العجب بالعمل، فإنه مناف للإخلاص وقادح في كمال العمل، وقد ورد في ذمه روايات كثيرة .

ومنها : الاستهانة بالعمل - تحقيره - كما دلت عليه روايات كثيرة.

ومنها : الإيكال في الأمور على غيره تعالى، سواء كان على النفس أو غيرها.

ومنها: التعمق في حكمة الأشياء والبحث عن حِكَم الأحكام الشرعية، فإنه منافٍ للإخلاص، كما دل عليه بعض الروايات، فعن نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إياكم والغلو في الدين»، أي : البحث عن عللها وغوامض متعبداتها، وعن بعض مشايخنا من أهل العرفان اذعاء التجربة في ذلك .

ص: 308

ومنها: عدم الثقة باللّه العظيم، فإن ذلك مناف للإيمان، فكيف بالإخلاص، وإنه من المعاصي الكبيرة على ما فضل في محله .

وهناك أمور أخرى منافية للإخلاص، ذكرها علماء الأخلاق ومشائخ العرفان في كتبهم ورسائلهم، ومَن شاء فليرجع إليها .

الفرق بين الرضا والإخلاص

تقدم أن الإخلاص مراتب، أدناها مرتبة الرضا، بل هو كتمهيد له؛ ولذا أن الإخلاص يتضمن الرضا ولا عكس، هذا كله في العبيد. وأما رضائه تعالى، فهو عين محبته، وإن محبته عين إخلاصه، فلا يمكن التفكيك بينهما.

ومما ذكرنا يظهر أن للرضا مراتب ودرجات، وأن أسماها هو التفويض، وأن أعلى مراتب التفويض الإخلاص، الذي هو مختص بالأولياء والصالحين .

وإن الصفات الحسنة المذكورة في الآية المباركة من الصدقة والمعروف، والإصلاح بين الناس، إذا كانت صادرة لابتغاء مرضاته تعالی وخالصاً لوجهه الكريم، كان ذلك مظهراً من مظاهر أسمائه، ويكون أدوم وأنفع للمجتمع - كما تقدم - وإلا فالأمر إضافي(1).

ص: 309


1- م - ن، ص 271 - 278، ج (9).

الأمراض الروحية

أن الآية الشريفة : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، تدل على أن للقلوب مرضاً كما أن للأبدان مرضاً، بل لا يخلو من ارتباط المرضين بعضهما مع البعض لشدة ارتباط القلوب بالأبدان، ومن المعلوم أن المرض إذا أحل في مكان، فلا بد أن لا تكون هناك صخة، إذ المرض والصحة متقابلان، تقابل العدم والملكة، لا يتحقق أحدهما في محل إلا بعد إمكان تلبسه بالآخر، فإنه لا يتصف الجدار بالمرض لعدم شأنيته للصحة، وقد ورد ذكره في القرآن الكريم في أكثر من عشرة مواضع، قال تعالى : (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ)(1)، وقال تعالى: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا)(2). والمستفاد من مواضع استعماله أن مرض القلب يخرج صاحبه عن الاستقامة ويوجب انحراف الشخص عن سواء الطريق ويجعل صاحبه في معرض الشك والارتياب، كما قال عز وجل عنهم في الآية السالفة :

(مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) ، فيكدر صفو الإيمان باللّه ورسوله، ويسلب الطمأنينة إلى آیاته وتشريعاته ، ويوجب خلط الإيمان بالشرك، فلا يقدر صاحبه على التمييز بين ما هو نافع له أو ضار . ولذلك ترى أنه

ص: 310


1- الأنفال، الآية 49.
2- الأحزاب، الآية 12.

يصدر عن صاحب هذا القلب في مقام العمل ما يناسب الشرك والكفر باللّه تعالى وآياته، حتى يصل إلى حد الكفر.

ويختلف هذا المرض كسائر الأمراض الجسمانية شدة وضعفاً وكثرة وقلة، كما تدل عليه الآية الشريفة : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا)(1)، وقال تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ)(2).

ويستفاد من الآية الشريفة أن هذا المرض ربما يزيد ويستقر في القلب حتى يطبع المريض في مرضه، ثم ينجر به إلى الهلاك والموت على الكفر، لكثرة معاصيه وموبقاته، قال تعالى : (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ)(3).

ثم إن ظاهر قوله تعالى : (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)(4)، أن الذين في قلوبهم مرض غير المنافقين، وإن كانا يشتركان في كثير من الأفعال والآثار، إلا أن النفاق لا يكون إلا في موت القلب والكفر الخالص، ولكن مرض القلب يجتمع مع ضعف الإيمان والشك والتردد، فيميل مع كل ريح ويتبع كل ناعق. وأما المنافق فهو يبطن الكفر ويظهر الإيمان ليستميل المؤمنين ويكون معهم ظاهراً، لتنفيذ مآربه كما حكی عنهم عز وجل في مواضع من القرآن الكريم، وربما يشتركان في عدم استقرار الإيمان وعدم اشتمال باطنهم منه، كما يتفقان في بعض الأفعال. وقد يكون مبدأ النفاق هو مرض القلب، فإذا لم يعالجه صاحبه

ص: 311


1- البقرة ، الآية 10.
2- التوبة، الآية 125.
3- الروم، الآية 10.
4- الأنفال، الآية 39.

ينتهي به إلى الكفر والنفاق ، كما قال عز وجل: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) إلى أن قال تعالى: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا)... (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ)(1)، فإن المستفاد منها أن القوم كانوا في ابتداء أمرهم مرتابین فزادهم اللّه مرضاً حتى هلكوا بإنكارهم الحق واستهزائهم له. ثم إن مرض القلب تقابله سلامته التي هي الاستقامة مع الإيمان والطاعة لله عز وجل والرسول واتباع أحكامه وعدم اتباع الهوى والإعراض عما سوى اللّه تعالى، قال عز من قائل: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(2)، فإنه يدل على أن سلامة القلب إنما تكون في الانقطاع إليه عز وجل والخلوص والإخلاص له والإعراض عما سواه تعالی. وعلى اختلاف درجات الانقطاع إليه والخلوص له تختلف درجات السلامة، وبذلك يمكن أن يعالج مرض القلب، فإنه يتحقق بالإيمان به عز وجل والاعتصام بحبله وإصلاح النفس والإسراع بالتوبة إليه عما فعل من الموبقات، وترويض القلب على الطاعة وحسن النية والعمل الصالح، وقد ورد جميع ذلك في القرآن الكريم، وقد تقدم في قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ)(3)، الذي جمع الكمالات الواقعية المعنوية والظاهرية وطرق معالجة الأمراض النفسية التي تؤثر على حياة الإنسان المادية والمعنوية .

وفي خصوص مرض القلب الذي أوجب محبة أعداء اللّه تعالی فقد

ص: 312


1- البقرة ، الآیات 7 - 20.
2- الشعراء، الآية 89.
3- البقرة ، الآية 177.

ذكر عز وجل كيفية معالجته في قوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا * إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا)(1).

ص: 313


1- النساء، الآية 146.

أحكام اجتماعية أخلاقية

إن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) ، يدل على النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء، وذكرنا أنه حكم اجتماعي يحفظ به كیان الإسلام وهوية المسلمين. وأن من أهم آثار هذا الفعل - أي : التودد إليهم بالمحبة والنصرة - أنه يعتبر منهم ويكون حكمه حكمهم في الآثار الوخيمة المترتبة على الكفر، لأنه من ما يبغضه رب العباد ويوجب الابتعاد عن الحق، ولا يمكن اجتماع محبة اللّه تعالى ومحبة أعدائه في قلب واحد، وكلما ضعفت إحداهما تشتد الأخرى، فإذا استولت إحداهما على المشاعر لا يصدر من صاحبها إلا ما يناسبها من الخبر والعمل الصالح والتوجه إلى اللّه عز وجل والإخلاص له إن كانت المحبة اللّه تعالى، أو الشر والعمل الطالح إن كانت المحبة لأعدائه الذين لا مناسبة بينهم وبين الحق، ومن المعلوم أن النوايا وخفايا القلوب لها الأثر الكبير في حياة الإنسان العملية. وقد ورد التأكيد على الإعراض عما يبعد الإنسان عن اللّه تعالى، والابتعاد عن أعدائه عز وجل، وفي بعض الأحاديث: «لا تلبسوا ملابس أعدائي، ولا تسكنوا مساكنهم، لأنها من مظاهر العدوان، وهي مبغوضة عند اللّه تعالى، والمحب لا بد أن يبتعد عما هو مبغوض لدى جنابه ، فإن لها الأثر في سلوك المحب، فمَن يريد التقرب إلى اللّه تعالى ومظاهر صفاته وأسمائه العليا، لا بد أولاً أن يبتعد عما يكدر القلوب ويزيل صفاءها،

ص: 314

فإنها مجبولة على حب اللّه والاقتراب إلى الحق والعمل به، ومن أعظم ما يكون سبباً في ذلك تولي أعداء اللّه تعالى ومحاكاتهم في الأقوال والأعمال، فإذا تحقق ذلك يميل الإنسان إلى التقرب إليه عز وجل بتنفيذ أحكامه وشرائعه، فإن ذلك كمال الإنسان ولا كمال فوقه، وأن فيه سعادة الدارین(1).

ص: 315


1- م - ن، ص 308 - 312 .

مكارم أخلاق المؤمن

أن الإنسان يختلف عن غيره من المخلوقات ، إنه كائن أخلاقي له استعداد فطري بالاتصاف بمكارم الأخلاق أو بمساويها، فهو يسعد أو يشقى بمكوناته الأخلاقية، وذكرنا أن نظرية القرآن تختلف عن سائر المذاهب الأخلاقية، فإن المهم في نظر القرآن الكريم أن يتّصف الإنسان بالتقوى والسعي في تحصيل هذه الملكة التي تجتمع فيها جميع الفضائل .

ولا تعير أهمية لما يقال في هذا المضمار من المذاهب والنظريات، التي تبعد الإنسان عن الواقع والحقيقة أكثر مما تلتمس حلاً لهذه المشكلة التي طالما كتب عنها الفلاسفة والعلماء، وقد ذكرنا نبذة منها في قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)(1)، فراجع هذا بالنسبة إلى كسب الكمال واكتساب المكارم والتحلي بالفضائل .

وأما ما يتعلق بما يضاد تلك من مساويء الأخلاق ورذائلها، فإن القرآن الكريم قد عد جملة منها وبين آثارها السيئة التي تؤثر في النفس

ص: 316


1- البقرة، الآية 177.

والفرد والمجتمع، إلا أن المستفاد من الآيات التي تقدم تفسيرها أن النفاق يجمع كثيراً من الخصال السيئة والأخلاق الرذيلة .

ويمكن القول بأن الآيات الشريفة تدل على أن النفاق والتقوى على طرفي النقيض في مساويء الأخلاق ومكارمها، فقد ذكر عز وجل جملة من الصفات السيئة التي اتصف بها المنافقون، التي تعد من أُمهات الأخلاق السيئة وإليها ترجع سائرها، وهي:

الأولى : التذبذب في الإيمان، والترامي في الكفر وانهماكهم فيه الطول أُنسهم به، ويعتبر الكفر والشرك من أعظم الرذائل وأخسّها، قال تعالی حاكياً عن لقمان: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(1)، لأن الكفر والشرك خروج عن ناموس الفطرة، وهدم للقاعدة التي يمكن أن يعتمد عليها الإنسان في حياته الأخلاقية .

الثانية : موالاة الكافرين الذين هم أعداء الحق؛ لأن فيها الإعراض عن تهذيب النفس بالاعتماد على إنسان تغلب عليه الشر والتماس النفع المادي والمعنوي منه، وهي مع كونها في نفسها سيئة كبيرة ورذيلة أخلاقية، تستلزم سلب الثقة عن اللّه تعالى، والاستهتار بالقيم الأخلاقية ، وتذليل للنفس التي جعلها اللّه أبية ذات عزيمة وإرادة .

الثالثة : الاستهزاء بآيات اللّه تعالى وتعاليمه المقدسة، فإنه يبعد الإنسان عن منبع الكمال ومصدر الإتقاء، وكيف يمكن لأحد أن يلتمس خيراً من شيء هو يستهزأ به. وفي هذا هدم للإنسانية التي تبتني على قواعد حكيمة وأصول قديمة.

الرابعة: المخادعة مع اللّه تعالى في إظهار الإيمان في مجالس

ص: 317


1- لقمان، الآية 13.

المؤمنين، وهو يبطن الكفر، والاستهزاء بآيات اللّه تعالى وبالمؤمنین .

والمخادعة تؤثر في النفس وتجعلها مشككة وتسلب الثقة عنها بالكلية .

الخامسة : الرياء والكسل في العبادة، فإن مَن لا يؤمن باللّه العظيم ولا يعتقد بآياته الكريمة وتوجيهاته القيمة، ويطلب المنفعة في جميع أفعاله، وقد سلب الثقة عن جميع ما حوله، لا تصدر عنه العبادة، ولا رغبة له فيها، بل يأتي بها لأجل تحقق أغراضه وإرضاء نزواته المادية .

والكسل في العبادة من آثار سلب التوفيق، ولم يكن شيء أعظم أثراً على الإنسان من سلب التوفيق، ولا يمكن أن يشعر به إلا مَن تخلى عن تلك الرذائل.

هذه هي الصفات التي عدّها عز وجل من النفاق، وهي بحق أمهات الرذائل، وتتشعب كل واحدة منها إلى صفات أخرى مهلكة، فيكون النفاق مجمع الرذائل؛ ولذا كان الجزاء عليه عظيماً، وإن كان يشترك مع الكفر في نار جهنم إلا أن النفاق في الدرك الأسفل منها، ويدل عليه الشروط التي اشترطها عز وجل في التوبة منه؛ لأن النفاق يؤثر في جميع جوانب الإنسان النفسية، والتربوية، والأخلاقية، والعقائدية، والفردية، والاجتماعية، فهو الداء العضال الذي لا يمكن أن يزول بأدنی استغفار كما في سائر المعاصي؛ لما له من الجذور التي يعصب قلعها من النفس، ويأتي التفصيل في موضع آخر إن شاء اللّه تعالی.

ثم إن للنفاق وجوهاً مختلفة، فقد يكون في الاعتقاد، سواء كان بالنسبة إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن يظهر الإيمان بعلمه مثلاً وهو يعتقد جهله والعياذ باللّه تعالی ونحو ذلك .

أو بالنسبة إلى المؤمنين، كأن يظهر حسن النية والتصرف معهم، وهو يعتقد فسقهم وفسادهم ونحو ذلك.

ص: 318

أو يكون في الأعمال، كأن يصلي مع المؤمنين وهو يريد الخديعة بهم أو يحضر مجالسهم وهو يريد الإيقاع بهم، أو بصلي رياءً، أو ينفق وهو يطلب المنفعة أو الخديعة بالمنفق عليهم. ومن هذا القسم إظهار الطاعة العلانية وعصيان اللّه تعالى في الخفاء، وقد حذرنا عز وجل من هذا القسم في عدة مواضع من القرآن الكريم، قال تعالى : (لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ)(1)، وقال تعالى: (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ)(2).

أو يكون في الصفات والملكات، كأن يظهر الحلم وهو على خلاف ذلك، أو يظهر السخاء وهو بخيل، ونحو ذلك.

أو يكون في الأخلاق، كما إذا أحسن القول صدقاً وعفواً وهو على خلاف ذلك، وأعظم النفاق ما إذا استولى على جميع مشاعر الإنسان وجوارحه وجوانحه، والآيات الشريفة المتقدمة بينت هذا القسم وعظيم أثره وترمي إلى بقية الوجوه، كما لا يخفى .

وكيف كان، فإن النفاق في أي وجه كان ربما يكون على دقة لا يمكن التمييز بين الاعتقاد السليم عن غيره، وقد ورد في الحديث: «أنه لا يغرنكم كثرة صلاة أحدكم وصيامه، ولكن انظروا إلى حسن عقيدته».

ولكن لا يخفى أن ذلك لا ينافي ما ورد من الحكم بإسلام المرء إذا صلى وصام وعاشر المسلمين، فإن ما ورد في النفاق إنما هو بينه وبين اللّه تعالى، وأن اللّه عز وجل يخدعه لو أراد خديعته تعالی.

وفي الآيات المباركة إيماء بأن نفاق الإنسان يظهر على أفعاله وأقواله

ص: 319


1- المائدة ، الآية 94.
2- الأنبياء، الآية 49.

واعتقاداته ، بعيداً أم قريباً، مهما اجتهد على إخفائه، وسيظهر أثره السيء على نفسيته ما لم يتب منه توبة نصوحاً، كما فضله عز وجل(1).

ص: 320


1- م - ن، ص82 - 85، ج (10).

حب الشهوات الدنية

اشارة

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ).

الآيات الشريفة تبين حقيقة الدنيا والآخرة، وأن الأولي محفوفة بحب الشهوات وما يوجب الضلال والخروج عن الصراط المستقيم، وأن رغائب النفوس ودوافع الغريزة هي التي تشغل الناس عن التبصر والاعتبار والتوجه إليه سبحانه وتعالى، وتحجبهم عن منابع النور والحكمة، كما تحرمهم عن نعيم الآخرة.

وقد عد سبحانه وتعالى في الآية الأولى أصول الشهوات المنسوبة إلى نفس الإنسان وأنها التي توجب الزيغ والضلال، وأن قلوب الناس ملئت حبها وجعلت مشغوفة بها، وهي الستة - النساء، والبنون، والأموال، والخيل، والأرض المخصبة، والأنعام - التي تتدخل في سلوك الإنسان في الدنيا وتعيّن مستقبله في العقبي، فهي قضايا حقيقية تصدقها

ص: 321

العقول، فتكون الآية الشريفة بمنزلة الشرح لحقيقة حال مَن يعتقد أن الاستغناء إنما يكون بالتلذذ بالنساء والأولاد والأموال وما وهبه اللّه تعالى، فأعرضوا عنه عز وجل، لانهماكهم في المشتهيات وحب الدنيا، وبين عز وجل أن ما في الدنيا من جميع المشتهيات هي متاع زائل لا قرار له.

وفي الآية التالية ذكر سبحانه وتعالی نعم الآخرة ولذائذها، وهي جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة، وأهمها رضوان من اللّه، وقد بين عز وجل ما يوجب الاستمتاع به والدخول في رضوانه جل شأنه والوسيلة لكسب السعادة في العقبي، كما بين الطريق الذي لا بد من سلوكه ليوصلنا إليه عز وجل، وهو الإيمان به تعالی واللجوء إليه والصبر والإنفاق والتوبة والإنابة ، ثم الصدق في جميع ذلك والخضوع لديه عز وجل.

التفسير

قال تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ) .

مادة (زين) من المواد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات شتى، قال تعالى : (وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ)، وقال تعالى : (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ)(1)، وقال تعالى: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ)(2)، وفي حديث الاستسقاء : «اللّهم أنزل علينا في أرضنا زينتها»، أي نباتها الذي يزينها .

والزينة من الأمور الإضافية المختلفة بحسب اختلاف العادات

ص: 322


1- يونس، الآية 24.
2- القصص، الآية 79.

والأعصار والأمصار، وأنها من الجماليات التي يكون حسنها ممدوح وجذاب للنفوس، بل إن بعض مراتبها مما يدرك بالح، ولا يمكن وصفها باللفظ، والزينة الحقيقية هي ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وغيرها مما يوجب الشين في حالة دون أخرى، فهي زينة بالوجه والاعتبار، وليست هي حقيقية على الإطلاق.

والزينة على أقسام ثلاثة : زينة نفسانية ، كالعلم والاعتقادات الحسنة والكمالات النفسانية المقررة في الشريعة، وزينة بدنية جسمانية، كالشمائل الظاهرية الحسنة، قال علي (عليه السلام) : «زينة المرء حسن أدبه، وجمال الجمال في عقولهم، وعقول النساء في جمالهن»، وزينة خارجية كالمال والبنين والاعتبار. وقد ذكر تعالى جميع ذلك في مواضع من القرآن الكريم .

فتارة : نسبها إلى نفسه عز وجل، قال تعالى : (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ)(1)، وقال تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ)(2).

وأخرى : إلى الشيطان، قال تعالى: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(3).

وثالثة: لم يسم فاعلها - كما في المقام - والوجه في ذلك أن اللّه تعالى خلق الدنيا وما عليها وسيلة إلى نيل الكمال والوصول إلى غاية

ص: 323


1- الحجرات، الآية 7.
2- الأعراف، الآية 32.
3- الأنعام، الآية 43.

حميدة ، وهي الدار الآخرة، فكانت الدنيا متاعاً ودام مقام ينزل إليها الإنسان في برهة من الزمن، ليتزود منها إلى سفر آخر طويل، فكلما كان الزاد أحسن وأبقى، كان العيش في الآخرة أهنا وأحسن، وقد خلق اللّه تعالى الدنيا زينة ليرغّب إليها الإنسان، وتكون وسيلة للتزود منها ويتوسل بها إلى الدخول في رضوان اللّه تعالى، قال عز وجل: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا)(1)، وإلى ذلك يشير كل ما ورد من الآيات التي تنسب الزينة إليه تعالی.

وأما إذا جعل الإنسان الدنيا وما عليها من الزينة محط نظره، واعتبرها أمرا مستقلا وجعلها هي الغاية من دون أن تكون وسيلة وذريعة إلى الدخول في رضوانه تعالى، وأحبها حتى وصل بهم الأمر إلى أنهم جعلوا ما في الدنيا من الأموال والأولاد تغني عنهم، فزينت لهم أعمالهم، فكانت الدنيا وبالا عليهم، فتكون الزينة مستندة إلى الشيطان أو إلى نفس الإنسان، وإن كانت الدنيا مخلوقة لله تعالى، وقد أذن للإنسان أن يتمتع بها، ليتم النظام، ولكن لم يزين الدنيا لتلقي الإنسان بها ويعرض عن ذكره عز وجل، فإن اللّه تعالى أعز وأمنع من أن يدبر خلقه بما لا غاية له، أو يوصل الإنسان إلى غاية فاسدة، فالتعبير بالمجهول في (زين) للتنبيه على ما تقدم كما سيأتي.

وتقدم معنى الحب في آية 165 من سورة البقرة .

ومادة (شهوة) تأتي بمعني نزوع النفس إلى ما تريده. وهي إما صادقة، أي ما يقوم بها البدن ولا تتم الحياة البشرية إلا بها، وتكون من

ص: 324


1- الكهف، الآيتان 7-8 .

أتم ما بني عليه النظام الأحسن، بحيث لو اختلت لبطل النظام وتعطلت أمور الأنام، فإنها من سنن الحياة المستلذة بها. وإما كاذبة، وهي الشهوة المذمومة، أي الإغواء أو الدافع الشيطاني، وإنها مستقذرة حذرت الأديان الإلهية منها، وجعلتها محور الانحرافات والأخلاق الذميمة، سواء كانت خفية، أي الصفات الذميمة والأخلاق السيئة التي يضمرها صاحبها ويصر عليها، كما في الحديث عن نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية»، أم كانت ظاهرية، وهي ما كانت ظاهر من العمل.

والشهوات : جمع شهوة، وهي توقان النفس للملائم أو الملذ لها، وهي من أهم القوى التي خلقها اللّه تعالى في الحيوان، ولولاها لما قام له أصل ولا بنیان .

وسباق الآية المباركة يدل على أن فاعل التزيين هو الشيطان أو النفس، لأن حب الشهوات مذموم، ويشتد الذم كلما اشتد الحب، ويخف كلما خف حتى يصل إلى مرتبة الحب النظامي الذي هو من لوازم الطبيعة في الإنسان والحيوان، فتزول المذمة رأسة، بل يكون ممدوحة ويكون خلافه نقصا ومذمومة، وعلى ذلك يحمل ما ورد عن سيد الأنبياء (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أحببت من دنياكم ثلاث : الطيب والنساء، وقرة عيني الصلاة»، وسيأتي

وجه آخر لحمل كلامه.

ويمكن أن تكون الآية الشريفة في مقام بيان طبيعة الإنسان وما يتدخل في سلوكه، فإذا وفق بين الحب والطبيعة، بحيث يتحكم العقل بالتوفيق بينهما، كانت النتيجة فاضلة والأثر عظيماً، ويكون حباً ممدوحاً، وهو الذي يشاؤه اللّه ويريده ويرتضيه، ولا ريب في أنه ممدوح عقلاً أيضاً، فيكون تزيين اللّه تعالى هو إذنه وبيان حدوده، فقد زین حب

ص: 325

المذكورات في الآية الشريفة المتقدمة وفق الحكمة المتعالية ليكون وسيلة التنظيم النظام وبقاء النوع وحسن الاجتماع، وأما إذا ألهى القلب عن التوجه إلى اللّه تعالى وأوجب الغفلة عنه عز وجل، فهو من تزيين الشيطان ووساوسه، وهو مذموم عقلاً أيضاً.

قال تعالى: (مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ).

ذكر سبحانه وتعالى أمورة ستة من المشتهيات، وهي الأمور التي تتدخل في شؤون الإنسان وسلوكه وتحدد مصيره .

و(من) بيانية، والبنين جمع ابن، وهو الذكر من الأولاد، ولكن في المقام يشمل الذكور والإناث، بقرينة قوله تعالى : (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ)(1)، وقوله تعالى: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى)(2)، وقوله تعالى: (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(3) ، وإنما أتى عز وجل بصبغة الذكور إما تغليباً، أو يكون كناية عن حبهم المذموم الذي كان دائراً بينهم.

وإنما زین حب البنين مع كونه من حب النساء أيضاً، لأن البنين هم الغاية القصوى من حب النساء، وهم النتيجة لذلك الحب.

والقناطير : جمع القنطار، وهو المال الكثير، وفي بعض الأخبار ملأ مسك ذهباً، وقيل : ملأ جلد ثور ذهباً. وقيل غير ذلك، وهو اسم لمعيار خاص أيضاً، وسمي المال بالقنطار، لأن صاحبه يعبر بواسطته الحياة

ص: 326


1- التغابن ، الآية 15.
2- سبا، الآية 37.
3- الممتحنة، الآية 3.

الدنيا، ويختلف ذلك اختلافاً كثيراً بحسب الأشخاص والأزمنة والأمكنة وغيرها، كالغني الذي لا يمكن تحديده بحد خاص، ومن حددهما إنما يحددهما بحسب الجهات الخارجية، لا بحسب ذاتهما.

والمقنطرة اسم مفعول جيء به للتثبيت والتوكيد، كما هو عاد العرب في توصيف الشيء بما يشتق منه للمبالغة وتثبيت معناه له. وهذا التعبير مشعر بالكثرة والاقتناء.

وتعداد المشتهيات باعتبار كون الإنسان ذا أصناف، فإن بعضاً منه يتعلق حبه بالنساء، وبعضاً آخر يتعلق بجمع المال وتخزينه، وثالثاً بالأولاد البنين منهم بالخصوص، ورابعاً بالأنعام والحرث. وربما يجتمع في فرد أكثر من واحد من تلك المشتهيات، فإن الشهوة ذات مراتب متفاوتة شدة وضعفاً بالنسبة إلى شخص واحد في حالات مختلفة، فضلاً عن الأشخاص.

فالآية المباركة تبين طبع الإنسان على نحو القضية الحقيقية، كما أنها ليست في مقام حصر الشهوات ، فقد يتعلق حب الإنسان بالجاه والمقام ونحو ذلك، وإن كانت المشتهيات الأخرى - التي لم تذكر في الآية الشريفة - أقل تاثيراً مما ذكر فيها، فهي أمور وهمية تتعلق بها الرغبة ومقصودة ثانوية ، فيكون الحصر إضافياً، فلا منافاة بين هذه الآية الشريفة وبين قوله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)(1)، وسيأتي في البحث العلمي ما يتعلق به .

وتعلق حب الإنسان بهذه الثلاثة واضح، لأن بها ينتظم النظام الاجتماعي في هذه الدنيا، بل النظام الفردي والاقتصادي فيها، وبها

ص: 327


1- الكهف، الآية 46.

تتحقق أغلب رغباته، وبقدر اشتداد هذه المشتهيات وضعفها يتحدد سلوك الإنسان ويتعين خلقه في الدنيا ومصيره في الآخرة، فإن بالنساء تتحقق المعاشرة الزوجية إليهن وتسكن النفوس، وهن الطرف الآخر من الحياة التي عليهن مسؤوليات كثيرة في الكفاح والعيش، فالمرأة والرجل متشابكان في عموم المنافع وانتظام النظام، ولأجل ذلك أسس العلماء قاعدة اصطلحوا عليها بقاعدة الاشتراك، أي اشتراك النساء مع الرجال في الأحكام، إلا ما خرج بالدليل، وقد حدد الشرع المقدس هذه الشهوة بحدود خاصة تحدد مسؤولية كل واحد منهما في هذه الحياة وتنظيم شؤونهما، والتعدي عنها يوجب الفساد والدمار .

وإنما لم يذكر عز وجل حب النساء للرجال - مع أن الناس في صدر الآية الشريفة يشمل كلاً منهما، كما أن بقية الشهوات عامة لهما - إما لأن من أدب القرآن الكريم والسنة الشريفة الستر على النساء مهما أمكن، أو لأجل أن كثيراً من الأمور التي تتعلق بهذه الشهوة إنما يتعلق بالرجال وتقل في جانب النساء، فإن الأشد ولعاً بحب النساء واتخاذهن صواحب في اللذائذ ونحو ذلك هم الرجال، كما أنهن أشد تأثيراً على الرجال، إذا اشتد الغرام والتعشق بهن .

قال تعالى : (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ) .

المسومة : إما بمعنى الراعية من سامت الإبل سوما إذا ذهبت الترعى، أو بمعنى المعلمة لتعرف من غيرها من السمة بمعنى العلامة ، ومنه قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم بدر : «سوموا فإن الملائكة قد سومت»، أي اعملوا لكم علامة يعرف بها بعضكم بعضا، وهي تلك الخيل التي يقتنيها الأغنياء وغيرهم للافتخار والتباهي، مضافاً إلى كونها مما يبذل بازائها المال الكثير .

ص: 328

والأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، وإنها أموال أهل القرى والبادية ، ومنها يكون معاشهم وثروتهم.

والحرث اسم لكل ما يحرث، أي المغروس والمزروع، فيشمل نفس الزرع وتربيته، فيكون فيه معنى الكسب . والحاجة إليه أشد من غيره، وحبه لا يكون ضاراً بأمور الآخرة، ولذلك أخره عن الأنواع السابقة، وبذلك تتم جميع ما يزين أصناف الناس ، فقد ذكر سبحانه الأنواع التي توجب الإفتنان بكل صنف، فالذهب والفضة لأهل التجارة والخيل للملوك وأهل الجاه والمقام، والأنعام لأهل البادية، والحرث لأهل القرى والأرياف، فتصلح الآية الشريفة لكل عصر ومصر من دون اختصاصها بنصف خاص مورد كذلك.

قال تعالى : (ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) .

المتاع اسم لكل ما يتمتع به، ويعبر عنه لكل ما هو في معرض الزوال والاندثار، والتعبير به للتزهيد في الدنيا والترغيب للآخرة، التي هي دار البقاء والحيوان، أي : ما ذكر من المشتهيات هي أمور يتمتع بها في هذه الدنيا الفانية التي يتزود منها برهة من الزمن، يقضي بها حوائجه من دون أن تكون باقية دائمة .

قال تعالى : (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) .

المآب : المرجع، وحسن المآب هو المرجع الذي لا فناء فيه ولا عناء والمنزه عن كل نقص وعیب، فلا يشغل المتاع الزائل في الدنيا عن الخير الآجل والمطلق في العقبی .

وفي الآية المباركة كمال الترغيب إلى الآخرة، وتحقير الدنيا والتقليل من شأنها .

ص: 329

قال تعالى : (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ).

تفصيل لما أجمل سابقاً، وبيان لقوله تعالى : (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) ، فقد أمر سبحانه وتعالى نبيه ببشارة المتقين، بأن لهم عند اللّه تعالى ما هو أعظم من هذه المشتهيات الزائلة المحدودة، التي لا تبقى ولا تدوم، وهو الخير للإنسان، فلا خير في ما سواه، وهو وإن كان مشابهاً لما في هذه الدنيا ومجانساً للشهوات الإنسانية، ولكنها أجلُّ النعم وأعظمها، وهو خال عن النقص وبريء عن القبح والشرور، وقد ذكر سبحانه ذلك في كلام بلیغ تتوجه إليه النفوس وتهتز من فرح اللقاء الأرواح والقلوب. وفيه جذبة ربوبية من الملكوت الأعلى للمتقين المسجونين في سجن الدنيا، وقد وعدهم الجنة ومطهرات الأزواج والرضوان.

ومن إطلاق الخير يستفاد أنه خير في ذاته ومن جميع شؤونه وجهاته .

وإما أتی سبحانه بالكلام على صورة الاستفهام، لتوجيه النفوس إلى الجواب وتشويقهم إلى العمل، وهو أسلوب فصيح يؤثر في النفس ويستفزها على إصغاء الجواب .

قال تعالى: (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ) .

جملة (للذين اتقوا) خبر مقدم، وجملة: (جنات تجري) مبتدأ مؤخر. والتقوى هي إتيان الواجبات الشرعية واجتناب المحرمات الإلهية ، وهي المراد بالعمل الصالح الذي كثر الاهتمام به في القرآن الكريم، كما أنها الورع الذي حثت عليه السنة القدسية بألسنة شتى، فقد ورد: «أن مَن

ص: 330

اجتنب محارم اللّه فهو من أورع الناس»، وهي أساس الكمالات وقرة عين الأنبياء والمرسلين، وهي السبب المتصل بين أهل الأرض والسماء، وبها ينتظم نظام الدنيا والعقبی .

ولفظ الجنّات يدل على كثرة الأشجار واستتار الأرض بها وتعددها وجريان الأنهار من تحت الأشجار إنما هو لأجل تمامية بهجة الجنات وازدياد رونقها، وكون الجئات كذلك من أجلى مظاهر الفرح والانبساط، لا سيما إذا استيقن الإنسان بدوام تلك النعمة، ولذا عقبها قوله تعالی : (خَالِدِينَ فِيهَا)، لتمامية النعمة، بخلاف نعیم الدنيا.

ولجريان الأنهار أنواع كثيرة، منها ما إذا كان منبع الأنهار من غير تحت الأشجار، ومنها ما إذا كان المنبع من تحتها، ومنها ما إذا كان نزول الماء من الفوق في الأنهار ثم الجريان منها صاعدة (على نحو الفوارة) بالقدرة الأزلية الخلاقة إلى غير ذلك، وبالجملة أن هذه الجئات تشتمل على جميع اللذائذ بأعلى مراتبها.

والأزواج المطهرة هي تلك الأزواج التي يرغب إليها الإنسان، التي تكون طاهرة من جميع الرذائل ومبرأة من كل عيب وذم ونقصان، خلقاً وخُلقاً بما يلائم طبع الإنسان، فهي في غاية الملاحة والبشاشة والسرور، وفي ذلك تمام النعمة.

وقد خص اللّه تعالى الأزواج بالذكر من بين سائر اللذائذ الجسمانية ، لأن النساء أعظم المشتهيات النفسانية، والوقاع من أشد اللذائذ عند الإنسان.

قال تعالى : (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ).

الرضوان بكسر الراء أو ضمها من الرضا مصدران، وهو ملائمة الشيء لنفس صاحبه و سرورها به .

ص: 331

وقد تكررت مادة (رضی) في القرآن الكريم بهيئات شتى تبلغ سبعين موردة، وقد ينسب الرضا إلى اللّه عز وجل ويراد به عناية خاصة غير محدودة بأي حد من النعم المعنوية، بلا فرق بين أن يكون رضاؤه تعالی بالنسبة إلى أفعال العباد وطاعتهم له عز وجل، أو صفاتهم وأحوالهم، أو بالنسبة إلى أمر آخر يتعلق بهم، قال تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ)(1)، وقال تعالى : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)(2)، وقال تعالى : (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)(3).

وقد ينسب إلى العبد، وهو أخر مقامات العبودية الخالصة الذي هو التخلق بأخلاق اللّه تعالى، والتفاني في حبه، ولذلك درجات كثيرة، منها رضاء العبد عن اللّه تعالى لجزائه الحسنى وحكمه، قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(4).

ورضوان اللّه تعالى هي الغاية القصوى لكل ذي لب، وهي أعلى مراتب اللذائذ الروحانية، وذكره بالخصوص إنما هو لأجل بيان أن الرضا هو أقصى ما يشتهيه الإنسان من مشتهيات الدنيا، بل هو الغاية منها، فلا بد من السعي إلى رضوان اللّه تعالى الذي هو أعظم اللذائذ عند المتقين وذوي الألباب، فهو الخير الذي لا يتصور أعظم منه، لا ما يتصوره الإنسان من الخير في المال والقناطير، فإن ذلك إنما يكون برضائه تعالى،

ص: 332


1- الفتح، الآية 18.
2- المائدة، الآية 3.
3- الزمر، الآية 7.
4- التوبة، الآية 100.

ولذلك اعتنى عز وجل به وأفرده بالذكر في مقابل الجنات والأزواج المطهرة في هذه الآية وفي سائر الآيات التي اقترن بغيره من اللذائذ، قال تعالی : (فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا )(1)، وقال تعالى : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ)(2)، وقال تعالى : (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ)(3).

وقد جمع سبحانه وتعالى في هذه الآية الشريفة اللذائذ الجسمانية في الآخرة، وهي الجنات والأزواج المطهرة، واللذة المعنوية الروحانية ، وهي : الرضوان الذي يحده حد ولا يشوبه نقص.

ويستفاد من الآية الشريفة اختلاف درجات المتقين في الآخرة، وأن لأهلها مراتب وطبقات، فمنهم مَن لا يليق به إلا اللذائذ الجسمانية، كالجئات والأزواج المطهرة، ومنهم مَن عظمت منزلته وارتقى إدراكه وعلا قربه ، فلا يليق به إلا رضوان اللّه تعالی.

قال تعالى : (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ).

أي : واللّه خبير بعباده عليم بأفعالهم وما تطويه ضمائرهم، فلا تخفى عليه خفاياهم وأمورهم، فيجازي كل فرد بما يكسبه وما يليق بأفعاله.

ويستفاد من الآية الشريفة أن امتیاز كل فرد من أفراد الإنسان بما يشتهيه الداخل في عواطفه وسلوكه في حياته الدنيوية والأُخروية تحت إرادة اللّه تعالى وحكمته البالغة، وهو عالم بمصالحهم وجزائهم لا تخفى عليه أمورهم، فهذه الآية الشريفة بمنزلة التعليل لجميع ما سبق ذكره .

ص: 333


1- المائدة ، الآية 2.
2- التوبة، الآية 22.
3- الحديد، الآية 20.

قال تعالى: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) .

بيان لصفات المتقين المدلول عليهم بقوله تعالى : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) ، وهي من الصفات الحميدة، وفيه إشارة إلى بعض صفات المحبين المخلصين، وبعض مقامات العارفين، كل ذلك في خطاب بليغ إلى أعز حبيبه وأطهر قلب من الشرك وأنواع العيب، وفيه تظهر المعبودية المحضة للمعبود الحقيقي، كما أن فيه وعد الاستجابة للطائعين والعابدین .

والقول : مطلق ما يشعر بالحكاية عما في الضمير ، بخلاف الكلام فإنه أعم من القول. فكل كلام قول ولا عكس، والمراد به في المقام مطابقة ضمائرهم مع ما يقولون بألسنتهم، وسياق الآية الشريفة شاهد لما قلناه .

ومادة (غفر) تأتي بمعنى إزالة الوسخ والدنس، يقال : «اغفر ثوبك في الوعاء ليذهب عنه وسخه»، وهي من الموارد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات مختلفة جداً، وقد أضافها اللّه تعالى إلى نفسه الأقدس في مواضع متعددة من القرآن الكريم، فهو الغفار والغفور، وأن منه المغفرة، قال عز وجل: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ)(1)، وقال تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ)(2)، وقال تعالي: (أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)(3)، وقال تعالى: (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ)(4)، وقال تعالى : (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(5).

ص: 334


1- الرعد، الآية 6.
2- طه، الآية 82.
3- هود، الآية 11.
4- آل عمران، الآية 35.
5- يوسف، الآية 98.

ومادة (ذنب) تأتي معنى التبعة، أي القبح الذي يتبع صاحبه، والفرق بينه وبين الجرم بالاعتبار، لأنه بمعنى القطع، أي يقطع ارتباط صاحبه باللّه تعالى، فكل مجرم مذنب وكذا العكس .

والآية المباركة في مقام بيان استنجاز الوعد بعد الإيمان باللّه تعالی ولذا فرع غفران الذنوب على الإيمان، يعني: أننا وفينا بما عهد إلينا وهو الإيمان، فانجز اللّه بوعدك بستر ذنوبنا بعفوك وخلاصنا من عذابك . وعهد اللّه تعالى هذا مذكور في جملة من الآيات صريحاً وضمناً، منها قوله تعالى : (وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ)(1)، وقوله تعالى : (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)(2)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(3)

ومعنى الآية الشريفة : الذين يؤمنون ويعترفون بحقيقة العبودية لله تعالى والإيمان به عز وجل، ويجعلون ذلك وسيلة لطلب غفران الذنوب ونجاتهم من عذاب النار، لهم جنات تجري من تحتها الأنهار .

والآية المباركة ليست في مقام المنة عليه عز وجل، بل له تعالی المنّة على عباده أن هداهم إلى الإيمان .

وإنما خضوا اسم الرب في دعائهم لما فيه من إظهار العبودية والاسترحام .

ص: 335


1- الأحقاف، الآية 31.
2- الزمر، الآية 53.
3- الصف، الآيات 9-12 .

وإطلاق الآية المباركة يشمل جميع الذنوب الكبيرة والصغيرة، وقد قرر عز وجل إيمانهم مع ذلك، فتكون الآية الشريفة حجة على مَن قال بان ارتكاب الكبيرة لا يجتمع مع الإيمان .

نعم، لو أراد أنه حين الارتكاب يزول إيمانه العملي بخصوص ما ارتكبه ، كما هو المستفاد من قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا يزني الزاني وهو مؤمن»، فله وجه، لكنه لا ينافي بقاء أصل الإيمان بنحو الجملة والإجمال.

والوقاية من عذاب النار والنجاة منها أعم من المغفرة والدخول في الجنة، وإنما طلبوا النجاة من عذاب النار لأنها الوسيلة للوصول إلى الجنة ومقدمة له.

قال تعالى: (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ).

الصابر هو الحابس نفسه عن ارتكاب المعاصي والملازم لامتثال الأوامر، والصادق المخبر بالشيء على ما هو عليه، والقانت المطيع، والقنوت لزوم الطاعة مع الخضوع، وقد فسر بكل واحد منهما أيضاً، ولكن إذا استعمل في الأنبياء والأولياء وعباد اللّه المخلصين يراد به هما معا، قال تعالى : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ)(1)، والإنفاق هو بذل ما هو راجع بذله، فيشمل المال والجاه والعلم وقضاء حوائج الناس، والأسحار جمع سحر، وهذه المادة في أية هيئة استعملت تفيد معنی الخفاء والإخفاء. وفي المقام عبارة عن اختلاط ظلام آخر الليل بضياء الفجر، وهو اسم لذلك الوقت، وهو أفضل الأوقات وأشرفها وأحسنها للعبادة، وأطيبها لحضور القلب والإقبال على الدعاء والمناجاة مع الرب،

ص: 336


1- النحل، الآية 120.

وأبعدها عن مداخلة الرياء، وكلما قيل في مدحه وفضله فهو قليل، فكم اللّه تعالى فيه من نفحة عطرة من بها على مَن يشاء وجائزة موفرة يخص بها مَن أخلص في الدعاء ، وكم من عبادة فيها هبت عليها نسمات القبول، ودعوة من ذي طلبة مشفوعة بالمأمول، فهو وقت العلماء العاملين والعرفاء المتعبدين، وهو وقت نجوى الحبيب مع الحبيب ، بلا تخلل مغاير أو رقيب، فالسعيد مَن أدرك هذا الوقت الشريف واستفاد من رحمة الرب اللطيف.

وهذا الوقت من آخر معلوم، وهو اختلاط ظلام الليل بضياء النهار ، وأما من أوله، فعن جمع هو السدس الأخير من الليل، وعن آخرين أنه الثلث الأخير منه، وعن آخر أنه الثمن، والكل صحيح بحسب مراتب الفضل، وقد تعرضنا لبعض الكلام فيه في كتابنا [مهذب الأحكام] فراجع.

والآية المباركة تشتمل على خمس خصال وصف بها المتقون، وهي أمهات الصفات الحسنة والخصال الحميدة والأخلاق الكريمة، فبالصبر ينال الإنسان أعلى المقامات ويتحلى بمحاسن الأخلاق، وبدونه لا يمكن أن يصل إلى درجة التقوى، ولذا قدمه سبحانه في الكلام. وإطلاقه يشمل الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية والصبر عند المصيبة، وهو والصدق من أعلى مقامات السالكين إلى اللّه تعالى وأفضل درجات أهل الحق واليقين، خصوصاً إن عممنا الصدق ليشمل صدق اللسان والحركات و خطرات الجنان وتطابق الظاهر مع الباطن، فحينئذٍ لا يتصور للعبودية مقام فوق ذلك إن طابق كل ذلك مع الشرع المبين واقترن مع الخضوع والتذلل لله تعالی.

وهذه الخصال الخمس تستجمع جميع الخصال الحميد والأخلاق

ص: 337

الكريمة، ولا يشذ منها كل متق، وهي خصال متكاملة تشيد صرح الإنسانية الكاملة وتبلغها إلى أوج السعادة وأقصى الدرجات .

وبالأولى منها ينال الإنسان تلك الصفات والخصال الكريمة التي تعلق بالنفس وتبعدها عن رذائل الأخلاق.

وبالصدق يتحلى بالصفات التي تتعلق بالظاهر .

وهاتان الخصلتان ترجعان إلى نفس الإنسان وتصلحان سريرته وعلانيته .

والقنوت اللّه تعالى يجعل الإنسان خاضعاً ذليلاً بين يدي عظمته، مطيعة لإرادته عز وجل، وهذ الخصلة تصلح ما بينه وبين اللّه تعالی.

والإنفاق يبعده عن رذيلة الشح ويجعله يشعر بما يجري على أخيه الإنسان، فيتحسّس بالمسؤولية، فهذه الخصلة تصلح بينه وبين الناس.

وأما القيام بالسحر، فهو ارتباط مع عالم الغيب طلباً منه العون في جميع أموره والاستعاذة من الشيطان والنفس الأمارة .

والاستغفار بالأسحار هو القيام آخر الليل والصلاة فيه وطلب الرحمة والمغفرة، كما فسرته السنة المقدسة بذلك، وما ورد في الآيات الكريمة بالنسبة إلى السحر على أقسام ثلاثة :

الأول : هذه الآية الشريفة وقوله تعالى : (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)(1).

الثاني : قوله تعالى : (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا

ص: 338


1- الذاريات، الآیات 17 - 19.

وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(1).

الثالث : قوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)(2)، والتهجد بالليل هو الاستيقاظ بالعبادة من قراءة القرآن والدعاء والصلاة ونحوها من العبادات، ويستفاد من الجميع مطلوبية أصل الاستغفار في خصوص هذا الوقت الشريف، ولها مراتب كثيرة، منها أن يكون في الوتر من صلاة الليل، وهي أفضلها وأشرفها، ومنها أن يكون في ضمن الدعاء والمناجاة ولو كانا في غير الصلاة، ومنها نفس كلمة : «استغفر اللّه ربي وأتوب إليه»، ومقتضى الإطلاق مطلوبية الجميع مع اختلاف المراتب .

والاستغفار بالسحر يوجب التوفيق لترك الذنوب في أثناء النهار، فيكون سبأ لمحو الذنب السابق، ومقتضياً لترك الذنب اللاحق، فتستعد نفوس المستغفرين في الأسحار بذلك للاستعانة بأنوار الجلال والاستفادة من فيوضات الرحمن التي لم تزل ولا تزال.

ص: 339


1- السجدة، الآيتان 17 - 18.
2- الإسراء، الآية 79.

بحوث المقام

بحث دلالي

يستفاد من الآيات الشريفة أمور :

الأول : يدل قوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ) ، على أن جميع ما يلهي الإنسان عن ذكر اللّه تعالى وما يؤثر في سلوكه في دار الدنيا إنما هي هذه المذكورات في الآية الشريفة، وهي رد على مَن ذهب إلى أن عواطف الإنسان وأحاسيسه إنما توجهها الشهوة الجنسية فقط، فهي التي تحدد سلوكه في حاضره ومستقبله وتوجب الكآبة والأمراض النفسية أو الجسمية إن كبتها الفرد، ولذلك دعي إلى الإباحة الجنسية، وسيأتي في البحث العلمي تتميم الكلام.

الثاني : يستفاد من سياق الآية المباركة أن الفاعل لتزيين المذكورات فيها إنما هو الشيطان الذي يزين أعمال الإنسان، كما ورد في جملة من الآيات الشريفة القرآنية، قال تعالى : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ)(1)، وقال تعالى : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(2)، فيكون حب

ص: 340


1- العنكبوت، الآية 38.
2- الأنعام، الآية 43.

هذه الأشياء صارفاً عن محبة اللّه تعالى ما لم يجعلها الإنسان في طريق السعادة والفوز بالفلاح، ولا ينافي ذلك أن يكون أصل هذه الأشياء وطبايعها من صنع اللّه تعالى الخالق الحكيم القيوم على خلقه المدبر لهم تدبیر علم وحكمة فإن من سنته عز وجل أنه خلق الإنسان حرّاً مختاراً في أعماله، وأودع في خلقه بديع صنع وأرسل الرسل لهداية الناس وأنزل معهم الكتاب والحكمة لسعادتهم، وقد خلق إبليس الذين يوسوس للإنسان ويصرفه عن طريق الخير والسعادة على نحو الاقتضاء، كما لم يمنع الإنسان من اتباعه، كل ذلك لئلا يثبت الجبر فيبطل الثواب والعقاب، ولإتمام الحجة والامتحان وتمييز المؤمن عن غيره، وإثبات التكليف والتشريع وتثبيت قانون الجزاء.

الثالث : أن التزيين على حب الشهوات دون نفسها، للدلالة على أن تلك الأمور بنفسها لم تكن مذمومة، فإن الشهوات الإنسانية لها دخل في الحياة وبها يتم النظام، ولكن إن تعلق الحب بها بحيث يكون صدّاً عن اللّه تعالى، فيرجع تزیین حبها للناس إلى جعل هذه الأمور في أعينهم بحيث يكون شغلهم الشاغل، والتولية فيها سبباً للإعراض عن اللّه تعالى، بأن يجعلوها أهدافاً لهم فقط لا وسيلة، فيكون هذا الحب مذموماً وتزداد المذمة كلما اشتد الحب، وتخف كل ما خف وضعف حتى يصل إلى مرتبة الحب النظامي الذي هو من لوازم الطبيعة الإنسانية ووسيلة تنظيم الحياة لكسب مرضاة اللّه تعالى، فتزول المذمة رأساً، ويكون خلافه نقصاً ومذموماً، ويستفاد ما ذكرناه من جملة الآيات الشريفة، منها قوله تعالی : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(1)، وقوله تعالى: (وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ

ص: 341


1- الأعراض، الآية 32.

مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)(1)، إلى غير ذلك من الآيات المباركة، وعلى ذلك يحمل ما ورد عن المعصومين (عليهم السلام) في مدح بعض المشتهيات، منها ما عن نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أحببت من دنياكم ثلاث : الطيب، والنساء، وقرة عيني الصلاة».

الرابع: قد ورد في الآية الشريفة أقسام الشهوات التي تختلف رغبات الناس فيها - كما مر - فهم على أصناف بالنسبة إلى حبها، فمنهم مَن يتعلق حبه بالنساء ولاهم إلا التعشق بهن وصرف همه في المؤانسة بهن ومصاحبتهن، وإن استلزم المحرمات ووجوه الفساد، ومنهم مَن يحب التكاثر والتقوي بالأولاد، وهذا لا يكون إلا بالبنين دون البنات، ولهذا خص ذكرهم دونهن، ومنهم مَن هو مغرم بالمال وجمعه، وهذا يتحقق بالذهب والفضة اللذين بهما يتقوم سائر الأشياء، ويكون حبه لغيرهما بالتبع، ومنهم مَن يحب الحرث والزرع أو اتخاذ الأنعام، ومنهم مَن يحب الفروسية فيتخذ الخيل المسومة.

وربما يتحقق في شخص واحد قسم واحد من هذه الشهوات، وربما يجتمع أكثر من واحد، وقلما يجتمع جميعها في شخص واحد، فالآية الشريفة مع أنها في مقام بيان تعداد المشتهيات وتكثرها، تكون في مقام بيان أصناف الناس واختلافهم في حب هذه المشتهيات بالملازمة.

الخامس: يدل قوله تعالى: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا)، على أن ما في الآخرة مشابه لما في الدنيا، وأن الإنسان يلتذ بنعيم الآخرة كما يلتذ بنعيم الدنيا من المأكل والمشرب والمناكح وغير ذلك، وأن الفرق هو أن نعيم الآخرة لا يشوبه نقص وأنه يختص

ص: 342


1- القصص، الآية 77.

بالمؤمن، بخلاف نعیم الدنيا، وذلك لأن وجود الإنسان في الآخرة عين وجوده في الدنيا، فهو بنفسه متقوم بالاستفادة من اللذائذ دنيوية كانت أو أُخروية، ولكل منهما أسباب خاصة تختلف باختلاف العوالم، وهو لا يوجب الاختلاف بحيث يعرض عن نعيم الآخرة وتكون باطلة وعبثا بالنسبة إليه، ويدل على ما قلناه جميع الكتب السماوية، خصوصاً القرآن الكريم في مواضع متعددة، ويؤكد ذلك في قوله تعالى في آخر هذه الآية : (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام إن شاء اللّه تعالی.

السادس: يدل قوله تعالى : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) ، على نوعين من الجزاء ..

أحدهما: جسماني، وهو الجينات التي تجري فيها الأنهار والأزواج الطاهرة.

والثاني العقلي الروحاني الذي هو من أعظم اللذات، وهو رضوان من اللّه تعالى الذي لا يتصور فوق لذة.

السابع: يدل قوله تعالى : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي) على مراتب الجنة، واختلاف درجات أهل الجنة، وأنهم على مراتب ودرجات.

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : (ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أن هذه الشهوات هي أمور دنيئة بالنسبة إلى ما عند اللّه عز وجل من الرضوان والجنان، وأن هذه الشهوات هي أمور زائلة وقتية ليست مبنية على الحقيقة والواقع، وإنما خلقها اللّه تعالى لإقامة هذه الحياة الفانية الزائلة وتكوين الاجتماع الإنساني، وبدونها يعرض الاختلال بل الفناء عليه .

ص: 343

التاسع: إنما قدم سبحانه وتعالى النساء على جميع الشهوات، لأنهن حرث بني آدم، وأن شهوة النساء هي أكثر الشهوات إعمالاً عند الناس، وهي من أعظم اللذائذ الجسمية عند الإنسان، بل هي الركن الأساسي في الحياة، ولذا ورد في الحديث : «أن مَن تزوج فقد أحرز نصفه دينه أو ثلث دینه»، ولكن ليست هي الركيزة الوحيدة في الإنسان، كما يدعيه بعض علماء النفس.

العاشر : إتيان لفظ «الجنات» في قوله تعالى: (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)، يدل على تعددها لكل واحد من المتقین، مجهزة بكل ما يتصور فيه من الفرح والانبساط والسرور والراحة، كماً وكيفاً، وذلك لأجل تعدد موجبات استحقاق الجنان في هذه الدنيا، كما هو واضح.

الحادي عشر : يدل قوله تعالى : (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ)، على أن رضوان اللّه تعالى هو من مشتهيات الإنسان في الدارين، لأنه إنما يطلب مشتهيات الحياة الدنيا لأجل رضاء النفس بها وراحتها، فهو من مشتهياته إما بحد ذاته، أو بالملازمة، ولذا جعله تعالى في مقابل الجنات والأزواج في هذه الآية الشريفة، وفي مقابل الفضل والمغفرة والرحمة في آيات أخرى، قال تعالى : (فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا)(1).

وقال تعالى : (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ)(2)، وقال تعالى : (بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ)(3).

وإنما أطلق سبحانه الرضوان في المقام للدلالة على شموله للنفس، والصفة والفعل وجميع الخصوصيات .

ص: 344


1- المائدة ، الآية 2.
2- الحديد، الآية 20.
3- براءة ، الآية 21.

الثاني عشر : يدل قوله تعالى : (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، على تفصيل ما أجمله سبحانه في قوله تعالى : (اتَّقَوْا). أي أن التقوى إنما تتحقق بما ذكر في الآية الشريفة، وهي الإيمان باللّه ، وإظهار العبوية له عز وجل، والاسترحام منه تعالى في طلب العفو والغفران، والصبر على الطاعة وعن المعصية وفي الخطوب ، والصدق في القول والفعل، والخضوع له عز وجل، والإنفاق في سبيله تعالى، وقيام الليل والتهجد فيه بالاستغفار .

الثالث عشر: إنما قرن سبحانه الاستغفار بالإنفاق في الآية الكريمة، للدلالة على أن شح النفس من أقوى موجبات الحرمان عن قربه عز وجل.

الرابع عشر: إنما أجمل تبارك وتعالى الاستغفار والدعاء في السحر للإشارة إلى كثرة أهمية هذا الوقت، ولا بد أن لا يفوت فضله على الإنسان بالدعاء وطلب الغفران.

بحث روائي

في الكافي : عن الصادق (عليه السلام) : «ما تلذذ الناس في الدنيا والآخرة بلذة أكثر لهم من لذة النساء، وهو قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ) ، ثم قال: وإن أهل الجنة ما يتلذذون شيء من الجنة أشهى عندهم من النكاح، لا طعام ولا شراب.

أقول: رواه العياشي في تفسيره أيضاً. والوجه أنه تعالى لم يخلق ألذ من النساء في الجنة، لأنهن من منشآت اللّه تعالی مباشرة، كما قال عز وجل: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا)(1)، فإنهن الجزء

ص: 345


1- الواقعة، الآیات 35 - 37.

الأعظم من النظام الأتم كما تقدم، ولأنها المؤانسة بما خلق من رحمته جلت عظمته، هذا بحسب اللذائذ الجسمانية، وأما غيرها، فله شأن آخر سيأتي في البحث الفلسفي إن شاء اللّه تعالی.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) ، قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «القناطير جلود الثيران مملوءة ذهباً».

أقول: رواه في المجمع عن الباقر والصادق (عليه السلام) أيضاً، وهو من أحدى معاني القناطير المقنطرة، وتقدم تفسيرها بالمال الكثير الجامع الجميع ذلك .

وفي تفسير القمي - أيضاً -: قال (عليه السلام) : «الخيل المسومة الراعية والأنعام، والحرث يعني الزرع».

أقول: تقدم ما يرتبط بذلك في التفسير .

وفي تفسير العياشي: في قوله تعالى : (فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ) ، عن الصادق (عليه السلام) : «لا يحضن ولا يحدثن».

أقول: هذا من مصادیق الطهارة، وإلا فهن طاهرات من كل خبث ودنس ورذيلة.

وفي الفقيه والخصال عن الصادق (عليه السلام) : «مَن قال في وتره إذا أوتر : استغفر اللّه وأتوب إليه سبعين مرة وهو قائم، فواظب على ذلك حتى تمضي سنة ، كتبه اللّه تعالی عنده من المستغفرين بالأسحار ووجبت له المغفرة من اللّه تعالی».

وفي المجمع: عن الصادق (عليه السلام) قال : «مَن استغفر سبعين مرة في وقت السحر فهو من أهل هذه الآية».

ص: 346

أقول: الروايات في فضل الاستغفار - خصوصاً في الليل - كثيرة جدّاً تعرضنا لبعضها سابقاً، ويمكن أن يستفاد وجوب المغفرة من استجابة اللّه تعالى دعاء المؤمنين ف بهذه الآية الشريفة : (فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا)(1).

ص: 347


1- م. ن، ص 109-129 ، ج (5).

الغرور

الغرور : هو استعظام النفس أو عمل من أعمالها أو صفة من صفاتها، بحيث يوجب قصر النظر وانحصاره في ذلك وقطعه عن خالقه ومدبره ومديره، وهو من مبادىء الشرك، بل نفسه لدى النفوس القدسية، قال تعالى : (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(1).

والغرور رذيلة من الرذائل الخلقية، بل يمكن أن يسمى بأُم الرذائل والخبائث .

وقد استعملت مادة (غرر) في القرآن الكريم في موارد شتی مقرونة بالذم، قال تعالى : (وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا)(2)، وقال تعالى : (إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ)(3)، ويكفي في ذم الغرور أن الدنيا تسمى بمتاع الغرور، قال تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)(4)، لأنها من مراتع الشيطان، وهو يوجب الحرمان عن جملة من مكارم الأخلاق والبعد عن ساحة الرحمن.

وإذا لاحظ المغرور نفسه رأى أنه ممكن من الممكنات، وحقيقة

ص: 348


1- یوسف ، الآية 106.
2- الإسراء، الآية 64.
3- الملك ، الآية 20.
4- الحديد، الآية 20.

الممكن هي العدم المحض بالنسبة إلى ذاته، وإنما يكون له حظ من الوجود من حيث الإضافة إلى جاعله وخالقه بحسب ما قدر له، فهو الرب المدبر لأحواله وجميع شؤونه وإضافاته وخصوصیاته، وأن ما يحصل له يكون في معرض الزوال، فهو لا حول له ولا قوة له إلا باللّه العلي المدبر العظيم، فلا يبقى موضوع للغرور، وما يعتقده المغرور إنما هو وهم وخيال، ومن نشأ في عالم الأضداد ودار الكون والفساد وتزاحم الآراء واختلاف الأهواء مع غلبة مشيئة العزيز الجبار، كيف يصلح له أن يغتر بشيء. وكيف يرى شأناً لنفسه من نفسه، فإنه من أعظم أنواع كفران المنعم ونسيان النعمة والانهيار في الهاوية، وهذه من المقامات التي تحط دونها الرحال وتزل فيها أقدام الرجال.

وينحصر علاج هذا الداء العظيم المهلك بالتفكر في عظمة اللّه تعالی وفناء الدنيا وما فيها، والتفكر في الحوادث الواقعة بين أيدينا، وبعد التأمل في جميع ذلك يزول الغرور لا محالة، كما نرى في حالات الأنبياء والأولياء وعباد اللّه المخلصين، فإنهم لا يرون لأنفسهم شأناً إلا بإضافة أنفسهم إلى اللّه تعالى، قال علي (عليه السلام) : «كفى بي فخراً أن أكون لك عبداً، وكفى بي عزّاً أن تكون لي ربّاً»، وقد سأل شخص مولانا الباقر (عليه السلام) : «أنت من علماء أمة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال (عليه السلام) : لست من جهالها»، وفي الصحيفة الملكوتية السجادية : «اللّهم لا ترفع لي درجة عند الناس إلا حططتني عند نفسي مثلها»(1).

ص: 349


1- م - ن، ص 172 - 173، ج (5) .

البر والإنفاق في القرآن

اشارة

(لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ * كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) .

بعد أن ذكر سبحانه وتعالى جملة من أحوال الكافرين، وبين الميثاق الذي أُخذ منهم، وحاجهم في ما ادعوه من الإيمان، ثم سرد أقسام الكافرين، وبين أن قسماً منهم تقبل توبتهم إذا كانوا في مقام الإصلاح وأتوا بالعمل الصالح.

يذكر عز وجل في المقام أن الإيمان لا بد وأن يقترن بالعمل بالأحكام الإلهية التي أنزلها اللّه تعالى على رسله، وأن الميزان الصحيح هو متابعة ملة إبراهيم ونبذ الشرك والكفر والعناد، وأن من أهم مظاهر الإيمان والعمل الصالح هو الإنفاق في سبيل اللّه تعالى، بل أن البر هو الثمرة الظاهرة للإيمان ، فلا بد أن يقترن ذكره، لأن البر يكشف عن محبة اللّه تعالى والزهد في حطام الدنيا والرغبة إلى ثوابه عز وجل ورضائه ، فمن آثر شهوة المال وجمعه كان ممن آثر حب الدنيا على محبة اللّه تعالى، فالإنفاق في سبيل اللّه تعالى هو الميزان الفارق بين الإيمان الحقيقي والادعائي .

ص: 350

ثم بين بعض مفتريات اليهود على اللّه تعالى، وفند مزاعمهم ووبخهم على التعدي في أحكام اللّه والشرك به ، وأوعدهم العذاب .

التفسير

قال تعالى : (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).

النيل هو الإصابة والوصول، وفي الحديث : «خرج بلال بفضل وضوء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فبين ناضح ونائل»، أي مصيب منه وآخذ.

والبر: هو كل ما يصح أن يتقرب به إلى اللّه تعالى من الخير والإحسان والفعل المرضي، ومن أسمائه تعالى: «البر» بالفتح، أي العطوف على عباده ببره ولطفه، وتقدم في قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)(1)، بعض ما يتعلق باشتقاق هذه الكلمة .

والمشهور أن الخطاب للمؤمنين، ولكن يمكن أن يكون الخطاب للجميع، لا سيما بعد وورد هذه الآية بعد الآيات التي بينت أقسام الكافرين، وما سيذكره عز وجل من بیان خلاف اليهود وافترائهم.

والمراد بنبل البر : هو الدخول في زمرة الأبرار، والوصول إلى الدرجات العالية والثواب الجزيل الذي أعده اللّه تعالى لهم، وقد اختلف المفسرون في المراد بالبرّ الذي يناله المنفق في المقام، فقيل : إنه الجنة، وقيل : إنه بر اللّه تعالى وإحسانه، وقيل غير ذلك، ولكن كل ذلك يرجع إلى ما ذكرناه ، وما ذكروه يكون أحد أفراده .

والبر كما يشمل الأفعال الخيرة كعبادة اللّه تعالى والطاعة له عز وجل بإتيان الواجبات وترك المحرمات والإنفاق في سبيل اللّه تعالی،

ص: 351


1- البقرة، الآية 177.

يشمل أيضاً ما هو فعل القلب، كالإيمان باللّه عز وجل وكتبه ورسله، والاعتقاد الحق، والنية الصادقة، وتهذيب النفس بمكارم الأخلاق، ويدل عليه قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)(1)، فإنه تعالى جمع القسمين من البر : الأفعال القلبية والأفعال الجوارحية.

كما أن الإنفاق عام يشمل الإنفاق من الأموال وغيرها، ولكنه بقرينة ما يأتي يختص بتلك الأشياء التي يرغب إليها الإنسان ويعتز بها الأفراد ويهواها ويحبها، وهو يعم المستحب وغيره، ولا معنى للنسخ حينئذٍ، لأن وجوب بعض أفراد الإنفاق لا ينافي استحباب بعضها الآخر.

وإنفاق المحبوبات والمشتهيات في سبيل اللّه تعالى من أعظم ما يختبر به الإيمان الصحيح عن الإيمان الفاسد، لأن فيه يظهر الاعتزاز بالإيمان باللّه ومحبته عزوجل، التي لا بد أن تعلو على محبة الأموال وغيرها، التي يعتز بها الإنسان وتشح بها نفسه ويرغب في ادخارها، فهو كاشف عن رضى اللّه تعالى والرغبة في ثوابه والإيمان الصادق، فيكون الإنفاق في حبه براً يرضاه اللّه تعالى بالشروط التي ذكرها عز وجل في آیات الإنفاق في سورة البقرة.

وذكر بعض المفسرين أنه يفهم من الحصر المستفاد من النفي والإثبات - أي : من إثبات البر في الإنفاق ونفيه عن غيره، وأن الإنفاق

ص: 352


1- البقرة، الآية 177.

غاية لا ينال البر إلا بها - أن مَن أنفق مما يحب كان براً، وإن لم يأت بسائر شعب البر من الإيمان بجميع أركانه .

ولكنه باطل، لأن هذه الآية - بانضمام سائر الآيات الواردة في الإنفاق - يستفاد منها أن إنفاق المحبوب هو أحد أركان الإيمان، وقد جمع سبحانه وتعالى الإنفاق مع سائر أركان الإيمان وشعبه في سورة البقرة الآية 177. وإنما جعل الإنفاق غاية لنيل البر هنا للاهتمام به، لما يترتب عليه عظيم الفائدة، ولما فيه الآثار الكبيرة التربوية والنفسية والاجتماعية، ولأن الإنفاق من أهم الأساليب في ترويض غريزة النفس في حب الدنيا وما فيها، يكون فقد المال موجباً لتأمله بخلاف غيره، كما قال علي (عليه السلام) : «ينام الإنسان على الثكل، ولا ينام على الحرب»، وقد تقدم في آيات الإنفاق في سورة البقرة بعض ما يتعلق به.

يضاف إلى ذلك أن قوله: (مِمَّا تُحِبُّونَ) يدل على أن الشيء الذي يبذل لا بد أن يكون مرضياً لله تعالى، فإن الشيء الزهيد الذي لا ترضونه لا يدخل في الإنفاق المحبوب، لأن القصد هو التقرب إلى اللّه تعالی وابتغاء وجهه الكريم، وهو من أحد طرقه، وبقية الأركان هي من شروطه.

ومن جميع ذلك يستفاد أن الألف واللام في «البر» إما للحقيقة ، أي حقيقة البر التي بيّنها عز وجل في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، أو للعهد، أي ذلك البر المعهود الذي جعله اللّه تعالى للأبرار، وهم المؤمنون الصادقون المتقون.

قال تعالى: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ).

ترغيب للإنفاق، وترهيب عن تركه وتطييب لنفوس المنفقين، بأن ما

ص: 353

ينفقونه لا يذهب هدراً، واللّه تعالى عليهم بإنفاقهم ونباتهم وإخلاصهم، ويجازيهم على ذلك ويضاعف لهم الجزاء، كما وعدهم به، فلا يخشی أحد بعد ذلك من الإنفاق، ولكن لا بد من الإخلاص فيه ليفوز بالجزاء الأوفي.

وترشد الآية الشريفة إلى حسن الإخفاء في الإنفاق والحث عليه، فإن اللّه تعالی علیم به، وإن خفي عن الناس ولم يعلم به سوى المنفق .

قال تعالى : (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ) .

الطعام : ما يطعم ويتغذى به، وفي الحديث: «ما لنا طعام إلا الأسودان، التمر والماء»، وإن كان يطلق عند أهل الحجاز على البر خاصة، وينصرف عند الإطلاق إليه عندهم، وفي حديث أبي سعيد: «كنا تخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير»، ويأتي بمعنی المطعوم.

والحل: مصدر بمعنى المفعول، كالحل مقابل العقد، وهو ضد الحرام، وهما قسمان من أقسام الأحكام الخمسة التكليفية، وفي الحديث عن نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «مَن أكل من حلال القوت صفا قلبه ورق ودمعت عيناه ، ولم يكن لدعوته حجاب».

وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وهي كلمة عبرانية مركبة، ومعناها المحارب أو المجاهد في اللّه أو جندي اللّه، وقد ذكر المؤرخون من اليهود في وجه تسمية يعقوب بهذا الاسم أنه صارع اللّه أو الملاك عند فنوئيل، وهو اسم موضع. وهذا مما يكذبه القرآن الكريم والعقل السليم. وأُطلق على الأسباط الاثني عشر عموماً، ويعرفون ببني

ص: 354

إسرائيل، وبعد ذلك صار اسماً للمملكة الشمالية التي لم تكن لقابئل يهوذا و بنیامین، ولاوي، ودان، وشمعون شركة فيها. وبعد سبي بابل اتخذ الراجعون من السبي إسرائيل اسماً لأمتهم، مع أن أكثرهم كانوا من مملكة يهوذا. وفي القرآن الكريم يطلق على من دان بدین موسى بن عمران.

والمعنى : كل الطعام بجميع أصولها كانت حلالاً لبني إسرائيل، إلا ما استثناه عز وجل من تحريم يعقوب على نفسه بعض المطعومات. وهذا الحكم إرفاقي وامتناني بالنسبة إليهم، كجملة كثيرة من الأحكام الامتنانية التي شرعها اللّه جل جلاله عليهم ابتداءً، ولكنهم ظلموا فحرم عز وجل عليهم بعض الطعام، تأديباً لهم وعقوبة لما فعلوه من الجرائم، كما حكی عز وجل في موضع آخر فقال: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا)(1).

ويستفاد من قوله تعالى: «على نفسه»، أن التحريم لم يكن عاماً يشمل جميع بني إسرائيل، بل كان مختصاً به لأجل مصالح خاصة كانت تتعلق به .

وقد اختلف المفسرون في النوع الذي حرمه، فنسب إلى ابن عباس أنه الشحم الباطن والكليتان وزائدتا الكبد. وعن آخر أنه لحوم الأنعام، وعن ثالث أنه حرم لحوم الإبل وألبانها، ونقل الحاكم عن ابن عباس أنه (عليه السلام) كان به عرق النسا، فنذر إن شفي لم يأكل أحب الطعام إليه ، وكانت تلك أحب الطعام إليه».

ولكن نقل شيخنا البلاغي أنه: «لم تذكر التوراة أن إسرائيل حرم على نفسه شيئاً، بل إنما تذكر أن إسرائيل ضربَ على حُق فخذه على

ص: 355


1- النساء، الآية 160.

عرق النسا، لذلك لا يأكل بنوا إسرائيل عرق النسا إلى هذا اليوم، فتوراتهم تقول إن ذلك تشريع منهم لا من إسرائيل، كما في الفصل الثاني والثلاثين من سفر التكوين».

والآية الشريفة مجملة من هذه الجهة، فلم تعين شيئاً، ولعل الغرض من ذلك إثبات أن التحريم كان لبعض أنواع المطعومات لشخص معین، لا لجميع الشعب، وأن اللّه تعالى قد أحل لهم جميعها، فما تقوله اليهود في هذا المجال افتراء على اللّه تعالی.

وقال بعض المفسرين : إن المراد من إسرائيل الشعب كله ، كما هو شايع في الاستعمال عندهم، لا يعقوب فحسب.

ويرد عليه : أنه استعمال غير معهود في القرآن الكريم، بل عند العرب في عرض النزول، وقد ورد لفظ بني إسرائيل في ما يقرب من أربعين مورداً. مع أن ذكر بني إسرائيل أولاً شاهد على أن المراد من إسرائيل هو يعقوب (عليه السلام) ، ولا يتصور وجه لحذف المضاف من الكلمة الثانية في موضع الإبهام والالتباس، يضاف إلى ذلك رجوع الضمير المفرد في (عَلَى نَفْسِهِ) إليه، فلو كان بني إسرائيل لكان الضمير ضمير الجمع.

قال تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ).

الظاهر أنه متعلق ب«حرم».

والمعنى : أن اللّه تعالى يحرم من الطعام شيئاً على بني إسرائيل قبل نزول التوراة إلا ما حرم إسرائيل على نفسه.

وذكر بعض المفسرين أنه متعلق ب(كَانَ حِلًّا).

وأورد عليه بأنه يلزم الفصل باجني وهو جملة (إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ)، المشعرة بتمام ما قبلها، فيلزم التعقيد والإبهام .

ص: 356

وأجيب عنه بأنه لا يضر الفصل بالاستثناء، إذ هو فصل جائز، لأنه من متممات الكلام.

وكيف كان، فالمعنى على كلا التقديرين واضح، وهو إثبات الحلية العامة والحرمة الخاصة قبل نزول التوراة .

والاحتمالات في الآية الكريمة ثلاثة :

الأول: أن تكون الآية الشريفة مقولة قول اليهود، ومن مزاعمهم الفاسدة، ويؤيده ذيل الآية المباركة: (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، الذي هو في مقام الرد عليهم بالرجوع إلى توراتهم.

فيصير معنى الآية : أن بعض أهل الكتاب قالوا إن جميع المطعومات كانت حلالاً لبني إسرائيل قبل أن تحرم التوراة بعضاً منها واستثنوا من ذلك ما حرمه إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ، فنزلت هي بتحريمه .

وجميع ذلك كذب منهم وافتراء، فإن التوراة حرمت الرجس عليهم، كما في العدد الثالث من الفصل الرابع من سفر التثنية، ونضت في الفصل الحادي عشر من سفر اللاويين على حرمة الحيوانات البرية والمائية والطيور، فيكف يكون الرجس حلالاً عليهم قبل نزول التوراة ، كما أن التوراة لم تذكر أن إسرائيل حزم على نفس شيئاً . كما عرفت آنفاً - فما ذكروه افتراء وكذب.

الثاني: أن تكون الآية جملة خبرية في مقام الإنشاء، وهذا كثير شايع في المحاورة، واعتمد عليه في علم الأصول، نظير قوله تعالی : (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ)(1) وغير ذلك.

ص: 357


1- البقرة، الآية 80.

وحينئذ فالآية في مقام الاستفهام الإنكاري، حذفت منه أداة الاستفهام لدلالة المقام عليه، فيكون قوله تعالى : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) تفسيراً وإثباتاً لمضمونها.

الثالث : أن يكون قوله تعالى: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ) ، حكاية عن قول اليهود الذي أوردته الإلقاء الشبهة على المؤمنين، ونفي كون الإسلام دين الفطرة وعلى ملة إبراهيم، وهي أن الرسول لو كان صادقاً لما أخبر بالنسخ، وأن حرم الطيبات لظلمهم بعدما كانت حلالاً لبني إسرائيل، ويكون قوله تعالی : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) واردة في دفع الشبهة لإظهار كذبهم وإبطال شبههم، فأمرهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بتعليم من اللّه عز وجل بالرجوع إلى التوراة ، فإنها الفصل في الدعوى ورد لمزاعمهم، وهي دالة على حلية كل الطعام، فإن أبيتم الإتيان بالتوراة وتلاوتها فاعلموا أنكم المفترون على اللّه كذباً وأنكم الظالمون، وأن الرسول هو الصادق في دعوته وأن ملته على ملة إبراهيم.

وقد ذكر بعض المفسرين في المقام وجوهاً لم يقم دليل على صحتها، بل بعضها خلال ظاهر الآية الشريفة فراجع.

قال تعالى : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) .

خطاب إلى الرسول الكريم بالمحاجة معهم لإظهار حقيقة مدعاهم، وأمرهم بإتيان التوراة وتلاوتها في الموارد التي حاجوا المؤمنين وافتروا على اللّه الكذب فيها ليتبين أي الفريقين على الحق وأي منهما كاذب في دعواه .

وفي الآية الشريفة دلالة على صحة دعوة نبؤة نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ،

ص: 358

فإنه أخبر عن أن التوراة تدل على كذبهم وهو لم يقرأها، وهذا لا يكون إلا عن وحي من اللّه تعالی.

قال تعالى: (فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) .

الخطاب توبیخي للفريق الكاذب بعد المحاجة معهم، وقد ذمهم عز وجل بافترائهم على اللّه بعد قيام الحجة، والأمر بالكف عن الافتراء على اللّه، وإلا كانوا ظالمين لأنفسهم يستحقون العقاب .

والافتراء : هو الكذب المخترع. وأصله القطع، وكأن المفتري يقطع صلة كلامه بالواقع والحقيقة فيكون كذباً .

قال تعالى : (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ) .

أي : أعلمهم بأن اللّه تعالی صادق في جميع ما أخبر به، وأني لم أستطع أن أُنبئكم بذلك لولا وحي اللّه تعالى إلي، فإذا عرفتم صدقي في الدعوة وأني على حق فلا بد من متابعة ديني والاعتراف بأني على ملة إبراهيم، وفي الآية الشريفة تثبت لدعواه ونبوته .

قال تعالى : (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

تفريع على معرفة الحق وثبوت صدق الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإنما أمرهم بمتابعة ملة إبراهيم لأنهم كانوا معترفين بملته (عليه السلام) ، وليبان أن شريعته على ملة إبراهيم التي هي على دين الفطرة، والمبتنية على الإخلاص لله تعالى والتسليم لوجهه الكريم ونبذ كل أنحاء الشرك، وللإرشاد إلى أن عدم قبول الإسلام يستلزم عدم متابعة ملة إبراهيم كما تزعمون، وهذه حجة أخرى على بطلان مزاعمهم وإظهار كذبهم. وإنما وصف إبراهيم بكونه حنيفاً وعدم كونه من المشركين، لإظهار عظیم منزلته وجلالة قدره، ولبيان أن شريعته كذلك أيضاً، وفيه التعرض لهم بأنهم على الشرك.

ص: 359

بحوث المقام

بحث أدبي

الطعام: مصدر منعوت، وكل مصدر منعوت يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع، وهو بمنزلة الجنس، وكل في قوله تعالی : (كُلُّ الطَّعَامِ)، لتأكيد الاستغراق المفهوم من الجنس المعرف بالألف واللام (الطعام).

وذكر شيخنا الأديب النيسابوري الأول رحمه اللّه أن بعض الآيات القرآنية تجيء في النظم والأسلوب وزان الشعر، مع أنه ليس ذلك مراد المتكلم، وهو يدل على نهاية الفصاحة والبلاغة، وكان يعدّ جملة كثيرة من الآيات الكريمة منها هذه الآية الشريفة : (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، التي هي من البحر السابع وهو بحر الرمل. ومنها قوله تعالى: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)(1)، وهو من بحر الرَجَز .

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور:

الأول : كلمة البر الواردة في قوله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ)، موضوعة

ص: 360


1- الأنفال، الآية 38.

لذات البر وطبيعته بلا اختصاص له بنوع دون آخر، فتشمل البر المادي والمعنوي بجميع مراتبهما.

كما أن لفظ الإنفاق كذلك، فإنه يشمل إنفاق الماديات والمعارف الحقة والكمالات الإنسانية، وذلك لأن الألفاظ موضوعة في حد ذاتها للمعاني العامة، من غير تقييد في حاق الواقع بنوع دون آخر، ولا لعالم مخصوص دون سائر العوالم، وإنما التقييد والتخصيص يحصل من ناحية الاستعمال بلا التفات إليهما، وقد جعل بعض الأعاظم ذلك من الأصول العقلائية النظامية، وأثبتها علماء الأدب والأصول بأدلة كثيرة، فالأية المباركة بعمومها تشمل من حيث المعنى جميع ما يمكن أن يفرض من الكمالات الإنسانية الفردية والاجتماعية والنوعية والشخصية، وهذه الآية نظير قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)(1)، في جمعها للكمالات الإنسانية ، وإنما الاختلاف بينهما بالإجمال والتفصيل.

الثاني: لعل وجه ارتباط قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ) بآية البر من حيث المفهوم ببيان الطيف وأسلوب رفيع، وهو أن غير الإخلاص والصدق ليس من البر حتى ينفق، اعتقاداً كان أو قولاً أو عملاً، فلا بد في جميع ذلك من الإخلاص والصدق ليكون براً يقبله اللّه تعالی ویثب عليه بالجزاء الأوفي، فما ورد

ص: 361


1- البقرة ، الآية 177.

في الآية من الحلية والحرمة إذا كانتا من افتعال اليهود فلا ربط لها بالبر وهما خارجان عن البر موضوعة، وأما إذا كانتا من شرائع اللّه تعالی فهما عين البر، فيشملهما قوله تعالى : (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) . التعريض باليهود في أنهم يكذبون ولا يصدقون، وأنهم لا يعلمون أحكام اللّه تعالى ويستهزئون بها، مع أن اللّه تعالى في مقام الامتنان عليهم والتسهيل لهم.

الرابع: بدل قوله تعالى: (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) على تحريف التوراة وأنهم يكذبون في كثير من الأمور التي ينسبونها إليها، وليس المراد بالتوراة في الآية الشريفة هي التوراة المحرفة التي هي بين أيدي اليهود، بل المراد منها التوراة التي نزلت على موسى (عليه السلام) ، والتي لم تنلها يد التحريف، فإن اللّه تعالی أمرهم بالرجوع إليها وطرح التوراة المحرفة، فالآية الشريفة من الآيات الكثيرة التي تدل على تحريفها، وتنهاهم عن الكذب والافتراء على اللّه تعالى وتأمرهم بالرجوع إلى الحق، ويشهد لذلك الآية التي تدل على أنهم يفترون على اللّه الكذب، بقرينة قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) .

الخامس : يدل قوله تعالى : (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) على أنهم هم الظالمون الذين عرفوا بتحريف أحكام اللّه تعالی و تبدیل آیاته عز وجل، وأن مقابلهم على الصدق والحق. كما تدل عليه الآية التالية ، فيكون تفريع قوله تعالى : (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) من قبيل ترتب النتيجة على المقدمات المعلومة .

ص: 362

بحث روائي

في الكافي وتفسير العياشي: عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى : (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ، قال (عليه السلام) : هكذا فاقرأها» .

أقول: هذه قراءة أهل البيت، والفرق بينها وبين قراءة المشهور أن الأولى تبين مصداق المحبوب عند المنفق، والثانية تبين فرداً من كل محبوب، فيشمل المصداق أيضاً.

وفي المجمع: عن ابن عمر قال : «سئل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن هذه الآية : (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) هو أن ينفق العبد المال وهو شحيح، يأمل الدنيا ويرجو الغنى ويخاف الفقر».

أقول: وردت ورايات كثيرة عن أهل البيت (عليهم السلام) في ذلك، وإنما عدد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هذه الجهات لأن كل واحدة منها من الأمور التي تورث محبة الشيء، فإذا اجتمعت وأنفق المال معها كان جزاؤه أعظم ونيله للبر أكثر .

وفي تفسير القمي: في قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ) ، قال : «إن يعقوب كان يصيبه عرق النسا فحرم على نفسه لحم الجمل، فقال اليهود: إن لحم الجمل محرم في التوراة ، فقال عز وجل لهم : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) إنما حرم إسرائيل على نفسه ولم يحرمه على الناس، وهذا حكاية عن اليهود ولفظه لفظ الخبر».

أقول: ذكرنا سابقاً المحتملات في الآيات الشريفة وهذا من أحدها .

وفي الكافي وتفسير العياشي: عن الصادق (عليه السلام) : «إن إسرائيل كان إذا أكل لحم الإبل هيج عليه وجع الخاصرة، فحرم على نفسه لحم الإبل، وذلك قبل أن تنزل التوراة، فلما نزلت التوراة لم يحرمه ولم يأكله» .

ص: 363

أقول: لا منافاة بين وجع الخاصرة الذي ورد في الحديث وعرق النسا الذي ورد في الحديث السابق، الإمكان اجتماعهما، ويظهر منه أن التحريم لم يكن تحريماً شرعياً، بل كان تنزيهاً لأجل ذلك العارض.

ومعنى قوله (عليه السلام) : «لم يحرمه ولم يأكله»، أي لم يحرمه إسرائيل بعنوان التشريع السماوي، ولكنه لم يأكله خيفةً من عروض ذلك العارض عليه . ويحتمل أن يرجع الضمير فيهما إلى موسى (عليه السلام) المدلول عليه بقوله تعالى : (فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ).

وفي أسباب النزول للواحدي : في قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) ، قال أبو رَوق والكلبي : نزلت حين قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أنا على ملة إبراهيم، فقالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها؟! فقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : كان ذلك حلالاً لإبراهيم فنحن نحله، فقالت اليهود: كل شيء أصبحنا اليوم نحترمه فإن كان محرّماً على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا، فأنزل اللّه عز وجل تكذيباً لهم : (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ).

أقول: على فرض اعتبار الرواية، فإن ما ورد فيها يكون من جملة الاحتمالات التي ذكرناها سابقا، وتقدم أن مقالة اليهود كذب وافتراء .

ص: 364

أفضل البر

من أفضل البر وأهمه هو الانقياد لأوامر اللّه تعالى وإطاعته في كل ما شاء وأراد، والتفاني في مرضاته عز وجل الذي هو آخر حد الإمكان وأول حد الوجوب، كما أن أعلى المحبوبات عند الناس هو حب الجاه والشرف والعزة، ولا بد من إنفاق هذا المحبوب في ساحته جل جلاله لينال العبد الغاية القصوى من البر بالمعنى المطلق، وعليه سيرة أولياء اللّه المخلصين، ونسب إلى سيدهم علي (عليه السلام) :

«إلهي كفي بي عزّاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً، أنت كما أحب فاجعلني كما تحب»، حيث لم يجعل لنفسه عزّاً ولم ينسب إليها فخرّاً مقابل جلال اللّه تعالی وعظمته، وما ورد في هذا المعنى من أولياء اللّه أكثر من أن يحصى(1).

ص: 365


1- م - ن، ص 131 - 144، ج (6).

كمال النفس البشرية

اشارة

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ).

هذه الآيات من جلائل الآيات الكريمة التي وردت في تكميل النفوس الإنسانية وتنظيم نظام الدنيا والآخرة بالنحو الأحسن الأكمل الذي تعترف به جميع العقول وتقبله الفطرة المستقيمة، وهي مرتبطة بالآيات السابقة، فإنه تعالى بعدما حذر المؤمنين من مكائد الكافرين وفتن أهل الكتاب وإضلالهم، أمرهم بالاعتصام بحبل اللّه جلت عظمته، ليهديهم إلى الصراط المستقيم ويوفقهم للدين القويم ويحفظهم من المهالك.

ويبين سبحانه في هذه الآيات المباركة الصلة به تعالی، تلك التي يحبها كل قلب مؤمن، وهي التقوى لأنها من سبل الاعتصام باللّه ، بل من

ص: 366

أهمها، فكل ما اقترب العبد من اللّه بتقواه اشتاق إلى مقام أرفع مما بلغ إليه.

وقد دعا سبحانه وتعالى في هذه الآيات الشريفة أيضاً إلى الاعتصام بحبل اللّه ، من الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فهي كلها من سبل الاعتصام به .

ثم أمرهم بالاجتماع وعدم التفرق ونهاهم عن الاختلاف، ووعدهم الحسني والخير إن هم قاموا بالوظيفة التي أمرهم بها.

فهذه الآيات المباركة تعتبر تتمة الآيات السابقة، فإن السياق في الطائفتين واحد.

التفسير

قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) .

تقدم ما يتعلق بهذا الخطاب في أول سورة البقرة وغيره من الآيات الشريفة، وفي تكراره لا يخفى من اللطف بالمؤمنين والتشريف لهم، لا سيما بعد خطاب :(مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)(1).

والتقوى كما تقدم مكرراً هي الطاعة اللّه تعالى والاحتراز عن الوقوع في ما يوجب سخطه وعذابه، ويلزم ذلك الشكر لنعمه، وإنما أمرهم بالتقوى لأنها جوهرة الكمالات الإنسانية ومفتاح السعادة وأساس مكارم الأخلاق، وبها يفوز العبد بالقرب إلى اللّه تعالى والبُعد عن النار، وهي تحفظ إيمان المؤمن وتزيده قوة وثباتاً .

هذا، ولكن التقوى على نحوین، تقوی ظاهرية خالية عن الخلوص

ص: 367


1- البقرة، الآية 101.

والإخلاص، وباطنية حقيقة مشتملة عليهما، وهي التي لا يشوبها باطل ولا فساد، وهي ذكر المنعم بلا نسيان وطاعته بلا عصيان . وبالجملة ، فهي العبودية المحضة التي لا كمال بعدها، وهذا النحو من التقوى هو حق في نفسه. وحق اللّه تعالى، وهي التي تليق بساحته تبارك وتعالى دون غيرها .

وقد ورد مثل هذا التعبير في ستة مواضع من القرآن الكريم، قال تعالى: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ)(1)، وقال تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ)(2)، وقال تعالى: (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)(3)، وقال تعالى : (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)(4)، ومثله في سورة الحج، الآية 74 وسورة المزر، الآية 67، والمستفاد من هذا التعبير هو الأمر بالحقيقة الخالصة من شوائب الأوهام، وتدل تلك الجملات على كمال الأهمية بالمورد، حتى أنه تعالى نفي الحقية عن غيره كما هو المستفاد من النفي والإثبات ، و عرفان الحق لا يحتاج إلى البيان. فإنه نفس واقع الشيء على ما هو عليه في ذاته .

ويحتمل أن يكون المراد في قوله تعالى: «حق تقاته»، آخر مراتب التقوى وأعلاه درجاتها التي من صفات الأنبياء والأولياء، وهي حقيقة التقوى التي أوحاها عز وجل إلى أنبيائه، وبشرت بها رسله، وغيرها خارج عن تلك الحقيقة وليست شيئة زائداً عليها.

نعم، الاشتداد والتضعف الجاريان في كل مقولة يجريان في هذه

ص: 368


1- البقرة، الآية 121.
2- الحج، الآية 78.
3- الحديد، الآية 27.
4- الأنعام، الآية 91.

الحقيقة أيضاً، ولكن الآية المباركة ليست ناظرة إلى هذه الجهة، كما أنها ليست منسوخة ولا ناسخة، فيكون تعميم الخطاب في صدر الآية لجميع المؤمنین تشریفاً لهم شيئاً وطلب حق التقوى شيئاً آخر، وطلب الموت على الإسلام في ذيل الآية الشريفة شيئاً ثالثاً، فيصير صدر الآية وذيلها شاهدين على أن ليس المراد بالتقوى هنا خصوص تقوى الأنبياء والأولياء فقط، بل هي عامة تشمل الآية جميع المراتب كل على حسب ما يقدر عليه.

ويحتمل التنزيل على مراتب القدرة والاستطاعة، بل هي ظاهر الآية الشريفة، فالصحيح يصلي قائماً مثلاً والمريض جالساً، وهكذا كل على قدر استطاعته. وعلى هذا، فيكون قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(1)، شارحاً لهذه الآية الشريفة.

ومحصل معنى الآيتين : أن مراتب التقوى، كمراتب أصل التكليف، كما أن الأخير لا يتعلق إلا بالمستطاع وينحل إلى مراتب كثيرة، وكذلك التقوى فكل مؤمن لا بد أن يحظى بالتقوى على قدر استطاعته وطاعته .

كما أنه يحتمل أن يكون المراد من قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(2) ، الترغيب إلى إتيان المندوبات، والتنزه عن إتيان المكروهات، لأن الأولى من شؤون الواجبات والثانية من شؤون المحرمات، وكل ذلك من حمى اللّه تعالى كما في بعض الروايات. وعليه فلا ربط لها لهذه الآية الشريفة .

قال تعالى: (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) .

ص: 369


1- التغابن ، الآية 16.
2- التغابن، الآية 16.

تحريض على مداومة التقوى بعد الأمر بتحصيل حقيقتها والخلوص فيها. فيكون المراد من الإسلام في الآية هو الإسلام الحقيقي الاستمراري حتى الانتقال إلى النشأة الأخرى ووقوع الموت، الذي هو أمر غيبي في حال الإسلام والتسليم.

وعلى هذا، لا وجه للتفصيل يكون الطلب في الآية الشريفة متعلقاً بأمر تكويني أو بجامع من الأمر التكويني والاختياري، فإن ظاهر الآية هو الأمر بتحصيل المداومة على التقوى حتى الموت، وتقدم بعض الكلام في آية 189 من سورة البقرة .

والمراد بالإسلام هو الطاعة لله تعالى وعدم المحادة له بالمعصية، وهذه هي التقوى التي أمرنا اللّه تعالى بها سابقاً .

وذكر بعض المفسرين أن المراد بالإسلام هو الإيمان القلبي، لأن الأعمال حال الموت مما لا تكاد أن تتأتی.

وفيه من التكلف ما لا يخفى، فما ذكرناه أظهر من الآية الشريفة وأنسب إلى الأمر بالتقوى كما عرفت .

وكيف كان، ففي الآية المباركة التأكيد على ترك طاعة أهل الكتاب .

قال تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا).

الاعتصام: هو التمسك والالتجاء، وتقدم اشتقاق الكلمة في الآية السابقة .

والحبل: معروف ويستعمل في سبب منيع يوصل إلى البغية والحاجة، وفي الدعاء: «يا ذا الحبل الشديد»، والمراد به القرآن أو الدين أو السبب، كما ورد في صفة القرآن : «كتاب اللّه حبل ممدود من السماء

ص: 370

إلى الأرض»، أي نور هداه يكون كذلك، وفي حديث آخر: «وهو حبل اللّه المتين».

وقيل : المراد عهده وأمانه الذي يؤمن من العذاب .

وقيل : المراد منه العهد والميثاق .

وقيل غير ذلك، وجميعها من باب التفسير بالمصداق .

والمراد به في المقام ما جعله اللّه تعالی سبباً عاصماً من الوقوع في الضلالة والمهالك، والمعروف أن في الكلام استعارة تمثيلية، بأن شبه التمسك بما جعله اللّه عاصماً من الوقوع في المهالك بالتمسك بالحبل المتدلي من مكان رفيع وثيق مأمون الانقطاع، الذي يمنع التمسك من السقوط والهلكة .

وجميعاً: حال من فاعل اعتصموا، أي : مجتمعين، فيكون قوله تعالى: (وَلَا تَفَرَّقُوا) تأكيداً، والنهي عن التفرق باتباع السبل المختلفة ، فيوجب البعد عن سبيل اللّه تعالى، كما قال عز وجل: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)(1).

واختلف المفسرون في المراد بالحبل في هذه الآية الشريفة .

فقيل: إنه كتاب اللّه .

وقيل : إنه الإسلام.

وقيل : إنه الطاعة والجماعة .

والحق أن يقال إنه بعد أن بين عز وجل في الآية السابقة أن التمسك

ص: 371


1- الأنعام، الآية 152.

بآيات اللّه تعالى، وبالرسول اعتصام باللّه تعالی مضمون له الهدي ومأمون من الضلال والهلاك ، فإن كل واحد منهما يكمل الآخر ويفسره. والرسول كتاب ناطق، كما أن القرآن رسول صامت، فيكون التمسك بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تمسكاً بالقرآن، لا سيما بعد أمر القرآن بذلك، قال تعالى : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(1)، وقد أمرنا سبحانه وتعالى بالاعتصام بحبل اللّه في هذه الآية، فتكون النتيجة أن حبل اللّه هو الكتاب والرسول، ولكن بما أن الحكم في الآية السابقة معلق على شخص الرسول الكريم، باعتباره جامعاً لجميع الكمالات وملتزماً للطاعات ومعصومة من المعاصي والزلات شارحاً للكتاب المبين ومفسراً لرموزه ودقائقه، فمن يكون مثل الرسول من هذه الجهة يكون من مصادیق حبل اللّه ، ويدل على ذلك حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين : «إني مخلف فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي». فإن الكتاب والرسول وعترته كلها مشاعر هدایته عز وجل و مصادیق حبل اللّه، وأن حقيقة هذا الحبل هي الإنسانية الكاملة، التي هي في الحقيقة الصراط المستقيم، وأن الكتب السماوية والأنبياء والمرسلين تدعو إلى الاهتداء إليها، وهي حقيقة الجنة التي وعد اللّه عباده بها، وهي التي توجب مخالفتها النار، فلهذه الحقيقة صورة كثيرة مختلفة في جميع العوالم والنشآت.

فتارة : يكون موسی بن عمران والتوراة .

وأخرى : يكون عیسی بن مریم والإنجيل .

وثالثة : يكون حبيب اللّه محمد بن عبد اللّه والقرآن الكريم .

ص: 372


1- الحشر، الآية 7.

ورابعة : يكون عترته الطاهرة، لأنهم شراح القرآن وامتداد لشخص الرسول الكريم كما عرفت، وحينئذٍ يكون الأمر بالاعتصام بحبل اللّه أمراً حقيقياً واقعياً تكوينياً، وهو عبارة عن الإضافة بين العلة والمعلول، أو المقتضي (بالكسر) مع المقتضی (بالفتح)، أو بين الخالق والمخلوق، فالخطاب من سنخ الخطابات التكوينية التي لا يختص بزمان دون زمان ولا بقوم دون آخرين.

نعم، أفضل مصادیقه الإنسان الكامل والإسلام، لأنهما أفضل الممكنات.

ومن ذلك كله يعرف أنه ليس المراد بالاعتصام القولي منه فقط أو الاعتقادي، بل الاعتصام العملي والطاعة اللّه تعالى بكل ما شاء وأراد، ومثل هذا الاعتصام تحكم بحسنه فطرة العقول، لأن اعتصام الفقير المطلق بالغني كذلك مما تحكم بلزومه الفطرة، بل أن الممكن بذاته معتصم لمبداه ، لا سيما بعد أن أثبت المحققون من الفلاسفة أن مناط الحاجة هو الإمكان لا الحدوث، ولا بد وأن يظهر الإنسان هذا الاعتصام الذاتي في الاعتقاد والقول والعمل، بأن يطابق ما يصدر عنه لما هو المحبوب لدى المعتصم به.

وإنما أمر سبحانه وتعالى بالاعتصام بحبل اللّه على نحو الجمع في قوله : «واعتصموا»، ثم أكده بقوله تعالى: «جميعاً»، وثالثة بقوله: «ولا تفرقوا»، لأن اختلاف الأمة أحزاباً وأشياعاً أضر شيء بالنظامن ويستفاد من أن هذا الحكم لا يتحقق حدوثاً وبقاءً إلا على نحو الجمع والاجتماع، فالاعتصام الفردي من دون الجماعة لا يثبت المطلوب والغرض من هذا الحكم، فيكون عدم الاجتماع على هذا الحكم من موجبات التفرق والاختلاف والوقوع في المهالك، فالآية السابقة تتعرض لحكم الفرد من حيث التقوى والموت على الإسلام، وهذه الآية لحكم الجماعة .

ص: 373

قال تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ).

دعوى إلى تذكر نعم اللّه تعالى التي فيها الموعظة والعبرة، وفيها الحث على الاجتماع إلى الاعتصام بحبل اللّه تعالى المؤدي إلى التالف وزوال الأضغان والنفرة بين أفراد المجتمع.

وفي الآية الشريفة دعوة إلى تعلم العلل والأسباب التي تؤدي إلى خير الإنسان وسعادته، وتهديه إلى الحق والتوفيق إلى الإيمان الصحيح ونبذ التقليد الأعمى، الذي لا يجني منه الخير . وهذا هو الأصل القويم الذي اعتمد عليه القرآن الكريم في تعليم الإنسان وهديه إلى سعادته، فإنه يأمره بالعلم النافع والعمل الصالح، ليمكنه معرفة الحقائق وارتباط بعضها مع البعض، ثم كيفية ارتباطها مع مسبب الأسباب والمبدأ الفياض ورجوعها إلى اللّه تعالى والأمر بالاعتصام بحبله والتسليم لأمره، فإن في ذلك السعادة الحقيقية وفي غيره الجهل والبعد عن الحقيقة، وقد نهى عز وجل عن التقليد الأعمى الذي يسلب الإرادة عن الإنسان وينفي عنه التفكر الصحيح، ويشوه الحقائق. وقد أقام سبحانه أدلة ثلاثة على ما حث عليه من التذكر وندب إليه من التفكر، اثنتان منها تشهد عليهما التجربة ، والثالث مبني على البرهان القطعي.

قال تعالى : (إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ).

هذا هو الدليل الأول، وهو تذكر العداوة التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي الفاسد والبغضاء التي كانت قائمة بينهم، وقد قاسوا مرارتها وكابدوا شدائدها وأهوالها، فقد كانت الحروب والقتل والدمار والضغائن والأحقاد ملتهبة وبلغت ذروته أبان الدعوة الإسلامية، فألف عز وجل بين القلوب بالإسلام والرسول الكريم الأمين، فزالت تلك الأحقاد وحل الصلح والوئام وقد تألفت قلوبهم، وهو أكبر دليل على حقيقة

ص: 374

الإيمان باللّه والاعتصام بحبله وتذكر نعمه فإنه لولا الإسلام لما ذاق الاجتماع حلاوة المحبة والأخوة، ولما زالت مرارة العداوة والفرقة .

قال تعالى : (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا).

هذا هو الدليل الثاني، والإخوان جمع الأخ. وقيل إن أكثر ما يجمع أخو الصداقة على الإخوان، والأخ في النسب على الإخوة، وقد ورد في أخ الصداقة قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(1)، وفي النسب قوله تعالى : (أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ)(2)، وقوله تعالى : (أَوْ بُيُوتِ أَخَوَانِكُمْ)(3).

والمراد بها وقوع التالف في القلوب، كعادة الإخوة الأشقاء في كونهم يداً واحدة بقلوب مؤتلفة. وفي تكرار هذه المئة التنبيه على ما ذكرناه والحث على التمسك بحبل اللّه والاعتصام به وتذكر نعمه التي توصلكم إلى السعادة وتهديكم إلى الرشادن فإن في الأُخوة التي منها اللّه تعالى عليهم الاجتماع والتآلف .

قال تعالى : (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا).

عطف علی كنتم «أعداء»، وهذا هو الدليل الثالث المبني على البرهان، وشفا حفرة أي طرف الحفرة وحافتها، فإن شفا كل شيء جرفه وحافته. ومنه حديث علي (عليه السلام) : «نازل بشفی جُرُف هار» أي جانبه، وفي المأثور: «لا تنظروا إلى صلاة أحد ولا إلى صيامه، ولكن انظروا إلى ورعه إذا شفی»، أي أشرف على الدنيا وأقبلت عليه، ويقال : «أشفى على الهلاك»، أي ورد على شفاه .

ص: 375


1- الحجرات، الآية 10.
2- النور، الآية 31.
3- النور، الآية 61.

وقيل إن كلمة «شفي» لا تستعمل إلا في الشر.

وقد تستعمل في القليل أيضاً، يقال : «ما بقي منه إلا شفا»، أي قليل، ويثني على شفوين والجمع أشفاء، ويضاف إلى الأعلى وإلى الأسفل، وكنتم على شفا حفرة أي مشرفين على السقوط فيها.

والمراد من النار هي التي أوقدوها بأعمالهم ومعتقداتهم التي كانت سبباً للنار الحقيقي وهي نار جهنم، ونار الدنيا التي هي الحروب والمنازعات، فإنها استعملت فيها كثيراً في المحاولات الصحيحة، كقوله تعالى : (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ)(1).

وكيف كان، فالآية الشريفة تبين حالهم في المجتمع الجاهل الفاسد المبني على الضغائن والحروب والمنازعات والتنافر والافتراق، كما تبين مآلهم الذي يصلون إليه، وهو الدخول في النار في الآخرة وسلب الطمأنينة والأمن، فقد جلبت لهم الشقاوة والعناء والزوال في الدنيا. وقد أنقذهم اللّه تعالى من مآلهم الفاسد بالإسلام الذي جلب لهم الطمأنينة والأمن والرفاه والعيش الهنيء والسعادة، وقد شاهدوا بدخولهم في الغسلام ما لم يتخيلوه في الحسبان، فلذلك كان هذا البرهان أوقع في النفوس من غيره، لأنه كان به خلاصهم من العذاب في الآخرة والشقاء والحرمان في الدنيا، وهذا الدليل حاصل مضمون الدليلين المتقدمين المشتملين على الحسن والوجدان، دون محض التقدير ومجرد الحسبان .

قال تعالى : (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

أي يبينها برهاناً ووجداناً ومشاهدةً، لأجل اهتدائكم إلى حقيقة الإيمان والاعتصام بحبل اللّه المبين، وتدخلون في الصراط المستقيم وتتذكرون نعمه التي أنعمها اللّه تعالى على المسلمين .

ص: 376


1- المائدة، الآية 64.

قال تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).

أمر سبحانه وتعالى بتكميل الغير بعدما أمرهم بتكميل أنفسهم، حيث إن الاعتصام بحبل اللّه تعالى المادة المهيأة لتوارد الصور الكمالية عليها. ومن المعلوم أن المادة لا فعلية لها إلا بالصورة ، كما هو ثابت في الفلسفة الإلهية، فلا بد من السعي في تحصيل تلك الصورة، وهي الدعوة إلى الخير، سواء كان من النبي أم الوصي أو مَن يقوم مقامهما في هذا الشأن.

وإنما تكون الدعوة إلى الخير بمنزلة الصورة الفعلية للاعتصام باللّه تعالى، والدعوة إلى الخير هي من أهم الأسباب التي تكون دخيلة في رقي الأمة وتقدمها في كل المجالات، فهي تحفظ العلم عن الضياع والعمل عن الفساد، والمجتمع عن الانهيار في مملكة الشرور، فهي جامعة السعادة ومانعة الشقاوة، وأن القوانين المجعولة - خالقية كانت أم خلقية - إنما يترتب الأثر عليها من حيث البقاء ومداومة العمل بها، لا بمجرد حدوثها فقط، وأن البقاء يتقوم بأمرين:

الأول: العمل بها بشرائطها المقررة .

الثاني : الترغيب إلى فعلها والترهيب عن تركها، وبعبارة أخرى أن القوة المجرية لها في مقام حفظ القانون هي الدعوة، ويعبر عنها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذا كانت لهما المنزلة العظيمة في الشرائع السماوية، بل في القوانين المجعولة، ولولاهما لاختل النظام وتعطلت الأحكام، ولأنبياء اللّه العظام وأوصيائهم الكرام الزعامة الكبرى في التصدي لهذين التكليفين العظيمين.

ص: 377

والمراد من الخير كل ما له دخل في الاعتصام بحبل اللّه ، سواء كان من المعارف الحقة أم الأعمال الصالحة أو مكارم الأخلاق، وما ذكره عز وجل في المقام ترغیباً إلى الخير الذي تدعو إليه فطرة العقول ويحبه كل إنسان، ولا يمكن أن يجهله أحد، ولبيان أن المجتمع الذي يكون الخير هو مطلبهم ومنهاجهم وعملهم هو المجتمع السعيد والأمة الراقية .

وقد اختلف المفسرون في معنى الخير في المنام، فقيل: إنه الإسلام.

وقيل : إنه اتباع القرآن وسنة الرسول، وقيل غير ذلك.

والحق أن ما ذكروه من مصادیق مطلق الخير، والصحيح ما ذكرناه ، فإن جميع ذلك دواع إلى الاعتصام بحبل اللّه تعالی.

والأمة : الجماعة التي تؤم أمرا معينة، وقد أُطلقت في القرآن الكريم كثيراً على اتباع الأنبياء لأنهم اجتمعوا على قصد واحد، وهو اتباع الحق وراء قدوة شخص معين، وتطلق أيضاً على الدين والملة، قال تعالى : (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ)(1)، وعلى السنين، قال تعالى : (واذكر بعد أمة)(2)، والجميع يرجع إلى معنى واحد، وقد تقدم في قوله تعالی : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً)(3)، وكذا في قوله تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ)(4) بعض الكلام في اشتقاق هذه الكلمة .

والدعاء إلى الخير هو الدعاء إلى كل ما فيه صلاح الأمة ديناً ودنياً

ص: 378


1- الزخرف، الآية 22.
2- يوسف، الآية 45.
3- البقرة، الآية 128.
4- البقرة ، الآية 141.

وآخرة، كما عرفت . وفي الحديث : «سأخبركم بأول أمري: دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسی»، دعوة إبراهيم (عليه السلام) هي قوله تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ)(1)، وبشارة عيسى هي قوله تعالى :

(وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)(2).

والمعروف : كل ما هو خير وحسن عقلاً ولم ينه عنه شرعاً، فهو اسم جامع يشمل طاعة اللّه جل جلاله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس، وفي الحديث : «أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة»، يعني مَن بذل معروفه في الدنيا وأحسن العشرة مع الناس، آتاه اللّه جزاء معروفه في الآخرة، وروي عن ابن عباس في معنى الحديث : «يأتي أصحاب المعروف في الدنيا يوم القيامة فيغفر لهم بمعروفهم وتبقى حسناتهم جامة (جامدة) فيعطونها لمَن زادت سيئاته على حسناته، فيغفر له ويدخل الجنة، فيجتمع لهم الإحسان إلى الناس في الدنيا والآخرة» .

والمنكر : هو ما أنكره العقل والشرع، فيكون ضد المعروف.

وعطف الأمر بالمعروف على دعوة الخير ، يكون عطفاً تفسيراً لبيان أن دعوة الخير هي الأمر بالعروف والنهي عن المنكر، ولمعلومية الخير ومحبوبيته لدى الجميع، فلا بد أن يكون المعروف والمنكر معلومین عند الداعي إلى الخير، وللإعلام بأن المجتمع الذي بلغ من الكمال بالاعتصام بحبل اللّه تعالی صار المعروف عندهم هو الخير والمنكر هو الشر، كما أنه يمكن أن يكون أيضا لأجل أن المعروف والمنكر عند الشرع هو الخير والشر، المعروفان عند العقل وتدعو إليهما الفطرة.

ص: 379


1- البقرة، الآية 129.
2- الصف، الآية 6.

وقيل : إن عطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على دعوة الخير، هو من عطف الخاص على العام، فيكون من قبيل عطف أفضل الأفراد على الكلي.

ولا ينافي ذلك ما ذكرناه .

وكيف كان، فالآية الشريفة تدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا شك في ذلك.

وإنما البحث والخلاف في كونه كفائياً أو عينياً، والظاهر أنه يرجع إلى دلالة «من» ، فقيل : إنها للتبعيض، فيكون الوجوب كفائياً.

وقيل : إنها بيانية . والمعنى : كونوا أمة كذلك، فيكون الوجوب عينياً.

وسياق الآية الشريفة يدل على الأول، ويرجحه أن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما تكون واجبة لأجل البعث على الطاعات والزجر عن القبائح والمعاصي، ولا معنى لوجوبهما بعد حصول الغرض من البعض، فالخطاب وإن كان متعلقاً بالجميع لكن الغرض يحصل من أي فرد كان، وبما أن المقام يحتاج إلى التعاضد والتعاون حتى يكون له التأثير القوي في حصول الغرض، وليسا كغيرهما من الواجبات، كان الأمر متعلقاً بالجميع، وبعد ذلك فلا وقع للنزاع في كون «من» تبعیضية أو بيانية، فإن الأمر متعلق بالجميع بقدر ما يتعلق بالأفراد والبعض، فإن هذا التكليف لطف إلهي يتعلق بالجميع، ولا بد من التعاضد والتعاون ولا يمكن ترك القائم به لوحده والإعراض عنه، وقد ذكرنا في الأصول أنه لا فرق بين الوجوب الكفائي والوجوب العيني بحسب ذات الوجوب، وإنما الفرق بينهما باعتبار سقوط التكليف عن

ص: 380

الكل بعد قيام البعض به في الأول دون الثاني . وهذا يكون من باب تعذد الدال والمدلول، لا باعتبار حقيقة الوجوب، ولذا اشتهر بين الفقهاء أن في ترك الجميع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعاقب الكل لا البعض، فراجع ما ذكرناه في [مهذب الأحكام]، ويدل على ما ذكرناه ذیل الآية الشريفة الظاهر في الرجوع إلى الموصوفين بهذه الصفة .

قال تعالى : (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

جملة استينافية، أي الداعون إلى المعروف والناهون عن المنكر هم الكاملون في الفلاح، كما هو قضية الحصر .

ويستفاد من الآية الشريفة كمال الأهمية لهذ التكليف الإلهي والمنصب الرفيع، بل هما من مناصب الأنبياء والأوصياء والأولياء الصالحين، وقد ورد في فضلهما روايات كثيرة، يأتي في البحث الروائي نقل بعضها، ولهما شروط وآداب كثيرة، يستفاد بعضها من هذه الآية الشريفة والبقية من غيرها.

ويستفاد من مجموع الأدلة الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كتاباً وسنّة، أن هذه الدعوة من صفات الباري جل جلاله، كالحكم بين الناس بالعدل، وقد فوض اللّه تعالى ذلك إلى أنبيائه وأوصيائه والقائمين مقامهم، وهذه الدعوة ترجع إلى التخلق بأخلاق اللّه تعالی والتخلي عما لا يرضاه اللّه والتحلي بما يرضاه، وتفاني الدنيا في عالم العقبي، فيصير الكل باقياً ببقاء اللّه تعالى، ولعل ما ورد في الحديث : «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق اللّه تعالى، مَن أحياهما أحياه اللّه تعالی»، يرجع إلى ذلك، فإن الخلق إنما يعتبر في مرتبة الفعل لا في مرتبة الذات، والمراد بالإحياء الأعم من الإحياء الدنيوي والأخروي، وسبب الإحياء معلومن لأنه اتصال فعلي بالحي القيوم.

ص: 381

قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ).

بعدما أكد سبحانه الدعوة إلى الاتحاد والاعتصام بحبل اللّه تعالی والدعوة إلى الخير، بين سبحانه وتعالى في هذه الآية ما يترتب على الإعراض عن ذلك والإحجام عن ما أمرهم في سبيل الوحدة والاتحاد بین أفراد المجتمع، فإنه لا يمكن أن تختلف أمة إذا اجتمعت على مقصد واحد وهدف معين واتفقت عقائدهم، وكانت بعيدة عن الأهواء الباطلة وما يوجب الضلال، وتحقق التعاون والتناصر بين أفرادها، وقويت أواصر الوحدة فيهم، وبعدت عما يوجب الافتراق والاختلاف بينهم، فهذه الآية كالدليل على لزوم متابعة ما ورد في الآيات السابقة.

والتفرق إنما يكون في ما يجب فيه الاجتماع مما فيه الصلاح والإصلاح، ويكون ابتداءً في الأبدان والابتعاد عما يوجب اتحاد الأفراد .

وأما الاختلاف إنما يكون في العقائد والآراء ويوجبه الافتراق في الكلمة ، فهو كالمقدمة التي توصل إلى الاختلاف في العقائد والآراء، فإن كل اختلاف في الرأي إنما ينشأ عن التفرق في الكلمة وتباعد أفراد المجتمع، والاختلاف هذا إنما يكون عن ضلال الأهواء والبغي، ولذا نسب سبحانه وتعالى الاختلاف إلى البغي في عدة آيات، منها قوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)(1)، فإن الاختلاف بعد مجيء الآيات للحق الموجبة للاتحاد والاجتماع إما يكون عن إعراض عنها، فيكون عن بغي وضلال .

والمعنى : ولا تكونوا كالذين تفرقوا في الكلمة ولم يجتمعوا على ما

ص: 382


1- البقرة، الآية 213.

أمرهم اللّه تعالى وخرجوا عن الجماعة، فأوجب التباغض بينهم والتباين في آرائهم والاختلاف في عقائدهم، فصاروا شيعاً وأحزاباً، وفي ذلك زوال سعادتهم ووقوعهم في الشقاق والنفاق والحروب والمنازعات ، فتذهب كرامتهم واستقلالهم وأمنهم وأمانهم.

ويستفاد من الآية الشريفة أن الاختلاف المذموم هو ما إذا كان البغي والضلال، وأما غيره فلا ضرر فيه، بل هو ضروري لاختلاف الأفهام والإدراكات، ويكون سببا للرقي والاستكمال ولكن لا بد أن لا يصل إلى

حد يوجب التباغض والتنافر .

قال تعالى: (وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .

جملة استينافية هي نتيجة للسابق، أي : أن الذين افترقوا واختلفوا في دين اللّه لهم عذاب عظيم، جزءاً لظلمهم وعدوانهم لما أوجدوا من التفرق والاختلاف.

وإنما ختم سبحانه وتعالى هذه الآية الشريفة بهذه الجملة مقابلةً للآية السابقة، فإن النتيجة إذا كان فيها الفلاح والنجاح فلا محالة يكون في عكس ذلك الخسران والعذاب.

قال تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ).

تفريع على التقسيم السابق، وبيان لجزاء الطائفتين المتقدمتین، ويكون التقسيم من اللف والنشر المشوش المصطلح عليه في علم البديع، فتكون وجوه المفلحين مبيضة ووجوه الظالمين مسودة.

وإنما ذكر عز وجل الوجوه من بين سائر الأعضاء، إعلاناً لرفعة شأن المفلحين في الآخرة، حتى يعرفهم جميع أهل المحشر وينظروا إليهم، وتبيينة لخسة الظالمين وإذلالهم حتى يكونوا منفعلين في الآخرة كما كانوا كذلك في الدنيا .

ص: 383

وقد خص سبحانه وتعالى من نِعَم الآخرة وعذابها بياض الوجه وسواده ، لأن المفلحين لما كانوا معتصمين بحبل اللّه تعالی تلحقهم البشارات الإلهية في كل آن وكانوا مجتمعين في الاعتصام به عز وجل، كانت الطلاقة والبشاشة ظاهرة في وجوههم في الدار الدنيا، فيكونون كذلك في الدار الآخرة، وأما الظالمون الذين أعرضوا عن الاعتصام بحبله، فانقطعت عنهم البشارات الربانية، ووقعوا في النزاع والتباغض والاختلاف، فكانوا مخذولين قد ظهر على وجوههم الانكسار والانفعال في الدنيا، فلحقهم مثل ذلك في الدار الآخرة، فكان الجزاء مناسباً الأعمالهم وصفاتهم.

قال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ).

تفصيل بعد إجمال. والجملة مركبة من الشرط، وهو: (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ)، والجواب فيقال لهم : (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)، وحذف القول واستتباع الفاء في الحذف له شايع في كلمات الفصحاء، وإنما الممنوع حذفها وحدها.

وعن بعض المفسرين يجوز أن يكون الجواب : «فهم في عذاب أليم» كما يدل عليه قوله تعالى : (فَذُوقُوا الْعَذَابَ)، ويناسب قوله تعالی في الآية الأخرى : (فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، وفائدة ذلك التهويل بالجواب ليقدره السامع بكل نحو يشعر به المقام من الهول، وهو باب واسع في البلاغة.

ولكن، يمكن أن يقال إنه لا وجه لهذا الاختلاف في الأسباب التوليدية، كما أثبتناه في علم الأصول، سواء كان الجواب السبب أم المسبب، مع أن هذا التهويل والتخويف يستفاد من لفظ العذاب المعهود الموصوف بالعظمة .

ص: 384

وكيف كان، ففي قوله تعالى : (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) التفات لغرض التوبيخ والتقريع . وإنما قدم عز وجل جزاء الظالمين لمجاورته لقوله تعالى : (وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ)، وتوبيخاً لهم وتشنيعاً لفعلهم، مع أنه عز وجل ابتدأ بذكر أصل الثواب، واختتم بجزاء المفلحين، ليكون الابتداء والاختتام بما يشرح الصدر ويسر الطبع، وللإعلام بأن رحمته سبقت غضبه . وحقيقة هذا الخطاب عامة بالنسبة إلى الدنيا والآخرة.

والمراد بالإيمان الظاهري منه، أي الذين آمنوا به، كما أن المراد بالكفر ترك الاعتصام بحبل اللّه ، فتفرقوا واختلفوا وبدلوا دين اللّه تعالی وهتكوا حرماته فكفروا بأنعم اللّه، وحينئذٍ لا تختص الآية الشريفة بطائفة خاصة كما قيل، بل تعمّ جميع مَن آمن صورة وترك العمل بما آمن به وكفر بأنعمه عز وجل.

قال تعالى : (فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).

إنما أطلق عز وجل العذاب ولم يصفه بأمر، تعظيماً له وتهويلاً، والأمر للإهانة، والفاء للإيذان بأن العذاب مترتب على الكفر، كما يدل عليه ذيل الآية الشريفة : (بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) ، والباء للسببية .

وإنما جمع عز وجل الفعل الماضي والمستقبل، للدلالة على استمرارهم على الكفر، وكأنه صار طبعهم، وبذلك استحقوا الجزاء الأليم، وأن ذلك العذاب جزاء أعمالهم، اختاروه بسوء أعمالهم.

قال تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

الرحمة عامة شاملة لجميع مواهبه تعالى وإفاضاته بالنسبة إلى عباده المؤمنين، دنيوية كانت تلك الرحمة أو أُخروية، وكل ما يكون في الدنيا

ص: 385

يتمثل في العقبی بصورة حسنة، وكل ما هو في الجنة يكون في صورة الفلاح والنجاح، فهما متحدان ذاتاً، فيكون الجزاء في الطائفتين مناسباً لأفعالهم، فكل ما يصدر عنهم في الدنيا يكون لهم أو عليهم في العقبي.

قال تعالى : (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ).

الظرف متعلق بالآيات، كما يصح تعلقه بقوله: «نتلوها»، لأن المتلو عين تلك الآيات، وهي عين ما يتلوها اللّه تعالى على نبيه، فلا فرق بین تعلق الظرف بالتلاوة أو بالآيات المتلوة، وهو قيد توضيحي، لأن كل ما يصدر عنه تبارك وتعالی حق بجميع معنى الكلمة.

والمراد بالآيات والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أن المراد بالحق نفس الأمر الواقعي، الذي يقوم به نظام الدنيا والآخرة، فإن الأحكام التي شرعها اللّه تعالى لعباده تتضمن سعادتهم الدنيوية والأخروية، بل لأجلها شرعت.

قال تعالى: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ) .

بيان لمعنى الحق، فإن ما هو الحق واقعاً لا يعقل منه الظلم، لأنه إنما يكون لترميم النقص وتكميله، والمفروض أنه محال عليه تعالى، فهو عام يشمل جميع أنحاء الظلم تشریعاً وجزاءً، كما تدل عليه الآية الشريفة ، فإن الظلم نكرة واقعة في سياق النفي.

والعالمين جمع محلى باللام، يفيد الاستغراق يشمل كل عالم في سلسلة الزمان، كما يشمل عالم البرزخ والآخرة إلى ما لا نهاية له. وهذه الآية تأكيد لقوله تعالی : (فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) ، فإن العذاب إذا كان نتيجة الكفر لا وجه لاحتمال الظلم بالنسبة إلى العامل الذي اختار الجزاء بنفسه، فتكون جميع المساوي والشرور التي تصيب الإنسان في

ص: 386

العالمين - الدنيا والآخرة - من ترك الاعتصام بحبل اللّه تعالی عملاً، ومن التفرق والاختلاف كما تقدم

ص: 387

بحوث المقام

بحث أدبي

نصب «حق» في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) على النيابة عن المفعول المطلق المضاف إليه ، لأنه من صفاته .

واللام في قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) للأمر، والجمهور على إسكانها، وقرىء بكسرها على الأصل، و(تكن) إما من كان التامة، فتكون «أمة» فاعلاً وجملة «يدعون» صفته، ومنكم متعلق ب (تكن)، أو بمحدوف يكون صفة لأُمة قدم عليها فصار حالاً، وإما من كان الناقصة فتكون «أُمة» اسمها و(يدعون) خبرها و(منكم) إما حال من أُمة، أو متعلق بكان الناقصة.

وإنما أتی «یدعون» مذكراً باعتبار إرادة الجماعة من الذكور من الأُمة، وتدخل النساء تغليباً، إن لم نقل باشتراك الصيغة للمذكر والمؤنث .

ونصب يوم في قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ) للظرفية، قيل: إن العامل فيه «عظيم»، ويجوز أن تعمل فيه الجملة في معنى يعذبون يوم.

وقيل: إنه منصوب على الظرفية، أي (لهم)، لأن فيه معنی الاستقرارية .

ص: 388

وقيل : إنه منصوب بإضمار (اذكر) على أنه مفعول.

وقيل : إنه ظرف لفلاح المفلحين وعاقبة المتفرقين .

والحق أن يقال : إن النصب لما كان يدل على الإعلان والإظهار والتفخيم، فيكون المقدر «أعلن يومَ تبيض وجوه وتسود وجوه»، فتدل الآية المباركة على عظمة هذا الخطاب وتجليله وتعظيمه، بحيث يجذب القلوب وتصير العقول صرعی .

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على أمور :

الأول : قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) ، على مراعاة التقوى والمبالغة فيها في جميع الأحوال، بحيث لا تشوبها غفلة فلا يتركها أحد قدر المستطاع، ولذا قسم أهل العرفان التقوى على مراتب ثلاث : تقوى العوام، وهي الاجتناب عن ما لا يرضاه اللّه تعالى، وتقوى الخواص وهي الاجتناب عن كل مرجوح حتى المكروهات، وتقوى أخص الخواص، وهي الاجتناب عما سوى اللّه تعالى في الكونين.

الثاني : يدل قوله تعالى: (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، على لزوم الإسلام في جميع الأزمان، وعدم الانصراف عنه في وقت من الأوقات، والتمسك به حتى يقع الموت وهو على الإسلام، بحيث لا تصرفه الشبهات ولا تعوقه المشكلات عن العمل بأحكام الإسلام، فلا يرده بعد إيمانه كافراً، فإن الحشر إنما يكون على ما يقع عليه الموت، وقد ورد عن نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «كما تعيشون تموتون وكما تموتون تحشرون»، فإذا مات على دين الإسلام والالتزام به اعتقاداً وعملاً، حشر على هذه

ص: 389

الحالة وفاز بالسعادة والرضوان من حين موته ، ومن ذلك يظهر الوجه في التأكيد والحصر الواردين في الآية الشريفة .

كما أنه يمكن أن يستفاد من هذه الآية أيضا أن المعصية قد توجب الصرف عن الإيمان حين الموت، فيتحقق الخسران لا محالة، فلا بد من ترك المعصية مطلقاً حتى لا يكون للشيطان فيه مطمع، وعلى هذا يكون ترتب هذه الآية على قوله تعالى : (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) به من قبيل ترتب المقتضی (بالفتح) على المقتضي (بالكسر)، واللازم على الملزوم.

الثالث : يستفاد من قوله : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) أن الاعتصام بحبل اللّه تعالى إنما هو أمر من الأمور الاجتماعية التي تؤثر في المجتمع ولا يمكن أن ينال الأثر المطلوب منه إلا بعمل جميع أفراد المجتمع به وعدم التفرق عنه بوجه من الوجوه، وعلى هذا لا بد أن يكون هذا الحبل ذا أثر اجتماعي قويم وله التأثير الكبير في المجتمع، ويكون مقبولاً لديهم، وهم مأمورون بالتمسك به عملاً، وهو بمنزلة الروح للأمة، ولولاه لما كان للأفراد أثر أصلاً، بل كانوا كالجسم بلا روح. والروح الاجتماعية في الإسلام إنما هي الاعتصام بحبل اللّه تعالی عملا، وهذه الروح هي النعمة الحقيقية على المجتمع. ومثل هذا الحبل في الإسلام هو القرآن الكريم ومَن أُنزل عليه ومَن شرح القرآن حق الشرح.

ومن ذلك يعرف السر في تعقيب هذه الآية بقوله تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). فإنه تعالى يبين بعض وجوه التفرق والإعراض عن الاعتصام بحبل اللّه في عصر ما قبل الإسلامن ثم ما وصل إليه الأمر بعد التمسك بحبل اللّه في عصر ما قبل الإسلام، ثم ما وصل إليه الأمر بعد التمسك بحبل اللّه

ص: 390

والالتفات حول الرسولم الكريم والاجتماع على الإخوة، كما عرفت في التفسير. فيكون الاعتصام بحبل اللّه حق الاعتصام علة تامة منحصرة لحفظ الاجتماع عن الخلاف والاختلاف حدوثاً وبقاءً ، كما أن الانفصام عنه علة تامة منحصرة للنفاق والتفرق والخلاف والسقوط في هاوية الهلاك ، والعيان في كل ذلك يغني عن البيان والبرهان .

الرابع: يستفاد من التأكيد في إتيان لفظ «جميعا»، والنهي عن التفرق في قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) ، أن جعل الداعي إلى الاجتماع والمانع عن الخلاف والاختلاف أمر حقيقي خارجي وقاعي وواحد، لا أن يكون اعتقادياً، بأن يدعي كل أحد أنه معتصم بحبل اللّه تعالى ولا يلزم الخلاف الباطل بضرورة العقل، فيصح أن يقال إنه كل ما حصل الخلاف والاختلاف، لم يتحقق الاعتصام الحقيقي بحبل اللّه ، فيرجع محصل معنى الآية : أن اجعلوا أنفسكم من مظاهر الاعتصام باللّه . ولعل من أحد أسرار هذا التأكيد على الاجتماع والنهي عن الاختلاف هو ما كان يعلمه اللّه تعالى من مستقبل هذه الأمة من وقوع الاختلاف فيها، وأنها تختلف كما اختلف غيرهم من اليهود والنصارى . وهذا هو دأب القرآن الكريم، أنه إذا بالغ في التحذير عن شيء إنما يريد التنبيه على ترتب وقوعه، وهو من ملاحم القرآن الكريم .

الخامس : يدل قوله تعالى : (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) على وجوب النظر في الأدلة والآيات والتفكر الصحيح المنتج، فإن في ذلك الهداية للإنسان .

السادس : يستفاد من قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) ، أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد أمر عز وجل الأمة إلى تحمل هذه المسؤولية أولا، لأن المقام يحتاج إلى التعاون

ص: 391

والتعاضد، فلا يمكن ترك المتصدي وحده كما مر في التفسير، ثم أمر طائفة خاصة منها إلى التصدي لهما، لأنه يشترط فيهما العلم والقدرة، ومن المعلوم عدم تحقق جميع الشروط في كل فرد، ثم ثبوت الجزاء الجزيل على ذلك وتشديد النكير على تركه .

وأخيراً، أن هذا التكليف من أسباب التكميل والتهذيب والصلاح والإصلاح وترويض النفس وتزيينها بالفضائل والكمالات وسعادة الفرد والمجتمع وتحسين نظام الاجتماع والمدنية، ولذا كان التكليف جارياً على أحسن نهج وما هو الأوفق بالحكمة، فهو من أعظم صفات اللّه تعالى، أوكلها إلى أنبيائه ورسله.

ويدل على ذلك جملة من الأحاديث، فقد ورد عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) في حديث: «إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء و منهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتؤمن من المذاهب، وتحل المكاسب، وترد المظالم، وتعمر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر - الحديث-».

السابع: يستفاد من قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) مراتب هذه الدعوة، فإنها تبتني على كونها باعثة على الانقياد، وداعية إلى زجر ورادعة عن المنكر من القول والفعل وسائر الأمور المحصلة لهذا الغرض، وإن كان في بعض المراتب يتوقف على إذن ولي الأمر، فإن عموم الدعوة يشمل جميع هذه المراب القولية والعملية وغيرهما.

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ)، أن الدار الآخرة وما فيها من النعيم والجحيم بمنزلة المرأة للدار الدنيا (أو كالصورة)، فكل ما هناك لا يعلم إلا بما هاهنا.

ص: 392

كما تدل الآية الشريفة على سنخبة الثواب والعقاب مع العمل، ويصح أن يراد باليوم في قوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ)، طبيعة اليوم المنطبقة على يوم الآخرة وأيام الدنيا، فإن المفلحين مبيضة وجوههم في هذا العالم قبل يوم الآخرة، والظالمين عكس ذلك، ويكون البياض كناية عن الراحة النفسية واستقرار الضمير واعتماد الناس عليه. وفي الآيات الكريمة والسنة المقدسة شواهد كثيرة يأتي في المحل المناسب شرح ذلك إن شاء اللّه تعالی.

التاسع: بدل قوله تعالى: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ)، أن ترك التكاليف الإلهية يوجب اختلال النظام وسوء الحال في كل عام، فيكون كل ظلم يرد على الإنسان إنما يرد من ناحيته. وأما التكاليف، فقد وضعها اللّه تعالى على عباده لسعادتهم وتحسين نظامهم وصلاحهم وإصلاحهم وحسن معيشتهم ورفع الظلم من بين أفراد الناس(1).

ص: 393


1- م - ن، ص182 - 206، ج (6).

الخصال الحميدة

اشارة

(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ).

الآيات الشريفة من جلائل الآيات التي يذكر فيها أهم الخصال الحميدة الفردية والاجتماعية، وه يتهدي الإنسان إلى استكمال نفسه ومجتمعه، وتعلمه كيفية علاج الذائل النفسانية، فهي تدعوه إلى الخير والإحسان، والتحلي بمكارم الأخلاق والانزجار عن الشر والسوء ومساوىء الأخلاق.

وقد عدد سبحانه وتعالى جملة من الأخلاق الكريمة والخصال الحميدة وهي المسارعة إلى الخير، والإنفاق في سبيل اللّه في السراء والضراء، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس، والتوبة عن المعاصي والذنوب التي تبعد الإنسان عن خالقه وتوقعه في الورطات والمشاكل .

ص: 394

وقد أمر عز وجل بنيل الإحسان وكل خير فردي و اجتماعي، وبين سبحانه وتعالى أن في التخلق بها وفي إفشائها يحقق للإنسان الحياة السعيدة وتأمنه من الوقوع في المهالك وتوجب له النجاة من الشدائد ، وبها تثبت الوحدة بين أفراد المجتمع ويشد بعضهم بعضاً.

فهذه الآيات الشريفة تبين الصراط المستقيم الذي مَن سلكه لا يضل ولا يشقى، وقد ذكر سبحانه في الآيات السابقة أهم ما يمنع الإنسان من السير على ذلك الصراط المستقيم، وما يعيقه من تكمیل نفسه ومجتمعه، وهو الربا الذي يعد في نظر الإسلام من أهم الموانع المادية والمعنوية التي تحرم الإنسان عن الحياة السعيدة، وتمنع من الإنفاق الذي يعد من أهم الأسس في نيل السعادة .

وقد عد عز وجل أن التعدي عما ذكره والإعراض عما بينه يؤذي إلى الشقاء والحرمان، وأمر عز وجل بالاعتبار عما جرى في الأمم السابقة التي أعرضت عما ارتضاه اللّه تعالى لهم.

التفسير

قال تعالى : (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ).

دعوة عامة إلى الغفران، وبشارة عظيمة لجميع أهل الذنوب والعصيان، واستضافة من الجواد الغني لجميع الواردين عليه، وترغیب إلى العباد في إزاحة جميع الأغشية والظلمات، ودفع أنواع الجهالات، ووعد منه عز وجل لمَن أطاع اللّه وأطاع الرسول، وقد ذكر جزاء المتقین المطيعين اتباعاً للوعيد بالوعد الجميل، واقتراناً للترهيب بالترغيب، كما هو ستته عز وجل.

والمسارعة المبادرة والاشتداد في السرعة، وهي في الخير ممدوحة

ص: 395

وفي الشر مذمومة، والمسارعة إلى الخيرات هي المبادرة إليها، وإنما أمر سبحانه وتعالى بالمسارعة إليها بإطاعة اللّه تعالى والرسول، للتنبيه على ترك التسويف الذي يفوت به الأجر والحظ، وكثرة المثبطات ووسوسة الشيطان التي توهن العزائم .

ويمكن أن يكون قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)، مبيّناً للمغفرة في هذه الآية الشريفة، كما أن قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) مبيناً للمسارعة إلى الجنة .

وكيف كان، فإن أسباب المغفرة والدخول في الجنة معروفة مذكورة في القرآن الكريم والسنة الشريفة، كما أن أسباب الدخول في النار كذلك .

قال تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ).

العرض خلاف الطول، وهو أقصر الامتدادین عادة، ویكنّی به عن السعة، واستعماله في ذلك شائع، يقال : بلاد عريضة، أي واسعة، ومنه قولهم : أعرض في المكارم إذا توسع فيها، وفي الحديث عنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لقد ذهبتم فيها عريضة»، أي الأرض الواسعة، وقد قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذلك عندما هرب جماعة يوم أُحد فراراً من الزحف.

ومن ذلك يظهر أنه لا وجه لما ذكره بعض من أنه إذا كان العرض كذلك فأين الطول وما مقداره، مع أنه لا يجري ذلك إذا فرضنا كروية الجنة.

ويمكن أن لا يكون التعبير كنائياً، بل كان على الحقيقة، إما بناءً على عدم تناهي الأبعاد، كما عن جمع من الفلاسفة، فالأمر واضح. وإما بناءً على التناهي كما عن بعض، فلا ريب في أنه على فرض صحته إنما هو في الدنيا، وأما في الآخرة فهي غير متناهية من جميع الجهات، زماناً ومكاناً، وسعة ونعمة، وغير ذلك.

ص: 396

وقد ذكر المفسرون في معنى العرض في المقام بما لا يرجع إلى محصل.

ونقل عن أبي مسلم بن بحر : أن المراد من العرض في الآية الشريفة هو من عرضك الشيء على البيع، والمقايضة، أي لو عرضت الجنة بالسماوات والأرض لكانتا ثمناً.

وهذا تأويل باطل.

وكيف كان، فالآية الشريفة ترمز إلى معنی جمیل، ترغب المخاطبين إلى المراد بأسلوب لطيف وجار على ما يتصوره الناس من التمثيل بالموجود في الخارج، وتبين بلوغ الجنة في السعة بحيث لا يمكن أن يحدها حد وهمي، وهذا مما يوجب اطمئنان الإنسان بأن له ما تشتهيه النفس من جميع الجهات، ففي بعض الأحاديث القدسية : «أعددت العبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»، وهذا هو شأن النعمة التي أُعدت من غير المتناهي من كل جهة إلى المنعم عليه المتناهي من كل جهة، وهذه هي الحياة الكاملة الأبدية التي لا ينبغي للإنسان إلا السعي في دركها.

قال تعالى : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).

الإعداد: التهيئة، وهو إما علمي أو خارجي، في هذه النشأة أو في نشأة أخرى أو في عالم الملكوت الذي يكون كالصورة والمرأة لهذا العالم بجميع جزئياته وكلياته، ويمكن أن يعبر عنه بعالم المثال الخارجي، وهو موجود بوجود روحاني معنوي، ودخله سيد الأنبياء (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في معراجه واطلع على خصوصياته، فيكون الإعداد مطابقاً للوجود العلمي الأزلي، والوجود الخارجي في الدنيا والوجود الأُخروي في ما لا يزال.

ص: 397

والتقوى هي سبب معد للجنة، فتكون حقيقة التقوى منزلة من العلم الأزلي مثّل بالوجود المثالي، ثم نزلت إلى هذا العالم وستعود إلى المحل الذي أعدته لنفسها، كما أنها حقيقة العصيان والطغيان والكفر كذلك، ولكل منها مظاهر خاصة تناسب عالم ظهورها، ويمكن التمثيل له في هذا العالم أيضاً، فإن بعض الأراضي لا قابلية لها إلا لزراعة مثل الزعفران، وقطعة أخرى لا تصلح إلا أن تكون سبخة يعلوها الملح. وذلك كله بنحو الاقتضاء لا العلية التامة، ومن ذلك يعلم المراد من قولهم (عليهم السلام) : «كل ما هناك لا يعلم إلا بما هنا»، أو : «إن الدنيا مزرعة الآخرة».

وإنما أتى عز وجل الفعل مجهولاً، للإشارة إلى أن لفعل الفاعل دخلا في الإعداد، وأُضيفت الجنة إلى المتقین، لبيان أن الوصف - وهو التقوى - علة هذا الإعداد.

ونظير هذه الآية قوله تعالى : (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ)(1)، ولعل الاختلاف في التعبير بالمسارعة والمسابقة، لأجل أن المسارعة تكليف للجميع من غير اختصاص بفرد، والمسابقة تكليف فردي بأن يتسابق كل فرد فرداً آخر حين المسارعة، فتكون المسابقة أخص من المسارعة، ويكون المراد بالجنة في آية المسابقة جنة خاصة، عرضها كعرض السماء والأرض، فإن اللّه تعالی

جنات كثيرة، بل غير متناهية .

كما أن المراد بالجنة في آية المسارعة الجنس التي يكون عرضها السماوات والأرض، ويصح أن يراد بالسماء في آية المسابقة الجنس، فيتحد مفاد الآيتين حينئذٍ .

ص: 398


1- الحديد، الآية 21.

ثم إنه تعالى ذكر المتقين في المقام لغرض الأوصاف التي وصفهم بها، وهي أوصاف جامعة لمكارم الأخلاق وهي تفيد المجتمع كما تفيد الأفراد، أُمروا بالتحلّي بها لغاية تهذيبهم وتكميلهم، وقد نزلت هذه الآيات بعد غزوة أُحد، وقد جرى على المسلمين ما جرى، كما صدر منهم ما صدر، فاستلزم ذلك تنبيه المؤمنين وتهذيبهم وإعدادهم لما ستجري عليهم من الحوادث .

وقد وصف عز وجل المتقين بأوصاف خمسة، وهي :

قال تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ).

السراء: من السرور، وهو الرخاء والفضل، والضراء من الضرر، وهو الشدة والعسر والضيق. أي : الذين ينفقون لوجه اللّه تعالى في حالة الرخاء والسرور، وحالة الشدة والضيق والعسر .

وظاهر الآية الشريفة أن السراء والضراء حالتان للمنفق، ويحتمل أن تكونا حالتين للإنفاق في حالة الرخاء والسرور، وحالتي الضيق والشدة ، فمن الأول الإنفاق في التوسعة على العيال، ومن الثاني الإنفاق لرفع ما يضطرون إليه .

وإنما حذف عز وجل متعلق الإنفاق ليشمل القليل والكثير، وكل ما يصلح للإنفاق، سواء كان مالاً أم غيره .

وقد بدأ سبحانه وتعالى من بين الأوصاف بالإنفاق مقابلة للربا الذي نهى عنه عز وجل في الآية السابقة، الماحق لكل فضل وفضيلة، ولأن الإنفاق في الحالتين يكشف عن محبة المنفق لله تعالى وتقواه، لأن أنفق أحب الأشياء لنفسه. ولأن الإنفاق أنفع للناس من سائر الصفات، فإن فيه يظهر التعاون بين أفراد المجتمع، وبه ترتفع المشكلات وتنحل

ص: 399

المعضلات، ويخفف من هموم الفقراء ويبعث في نفوسهم الأمل ويشتهم مع سائر أفراد المجتمع.

قال تعالى : (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ).

وصف ثان، ومادة (كظم) تدل على الحبس والإمساك، ومنه الحديث : «إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع»، أي يحبسه مهما أمكن، ويقال : كظم البعير، أي أمسك عن الجرة، وكظم القربة شد رأسها عند الامتلاء، والغيظ شدة الغضب وفوران الدم للانتقام.

قال تعالى : (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ).

وصف ثالث، وهو من أجل مكارم أخلاق اللّه تعالى، فإن بعفوه يتم تدبیر نظام العالم. ومن أسمائه تعالى العفو، وهو المبالغة في العفو الذي هو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، وأصله المحو والطمس، والعفو عن الناس هو ترك مؤاخذتهم مع القدرة عليها والتجاوز عن عقوبة من استحقها، وهو أقرب للتقوى، وفي الحديث : «سلوا اللّه العفو والعافية والمعافاة»، أما العفو فمحو الذنوب، والعافية أن تسلم من الأسقام والبلايا وهي الصحة، والمعافاة هي صرف أذى الناس عنك وأذاك عنهم، ويغنيك عنهم ويغنيهم عنك.

وإنما حذف المتعلق ليشمل كل ما يدخل تحت حقه .

وهذا الوصف يكشف عن كرم المنصف به وحسن سريرته وضبط نفس الأمارة تحت إرادته وحكمته، فتكون مرتبة هذا الوصف أعلى من مرتبة كظم الغيظ، فإن الشخص قد يكظم غيظه ولكن على عقد وضغينة، والعفو دليل على انتفائهما .

قال تعالى : (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) .

ص: 400

وصف رابع، وهو الإحسان الذي له المرتبة الأعلى من بين جميع ما سبق، بل هو أكرم المكارم، ولعله لأجل ذلك لم يعطفه على ما سبق .

والإحسان : صفة كريمة تتصف بها النفس يكشف بها كظم الغيظ والعفو عن الناس، فإن هذه نعوت معدة لكسب الإحسان والتحلي به، والإحسان : هو جعل الأشياء في موضعها وإتيان الأعمال على الوجه اللائق بها، وبالإحسان يتم الإنفاق الذي لا بد أن يعرى عن جميع ما يشينه ويكمل كظم الغيظ والعفو عن الناس، ولذلك كان للمحسنين أجر عظیم و منزلة كبيرة، قال تعالى : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(1)، ويكفي في منزلة هذا الوصف أن اللّه يحب المحسنين ويثيبهم على إحسانهم، وكفى بذلك فخراً وفوزاً.

قال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ).

وصف خامس، وهو أعظم آية في القرآن الكريم في تهييج رجاء العبد، وفيها التنويه بمقام العفو والإحسان، وتذكر المتقين بعدم اليأس لو صدر منهم ذنب، فإنه بعد أن ذكر أوصاف المتقين - من كظم الغيظ والعفو والإحسان - عقبه سبحانه بأعظم ما منَّ به على العباد، وهو العفو عن المذنبين والإحسان بهم، تعليماً لهم وتنويهاً لمقامهما وإعلاماً بأن الإنسان لا يخلو عن الذنب إلا أن يكون معصوماً بعصمة اللّه تعالى، فهو محتاج إلى العفو والإحسان، فتكون الجملة معطوفة على المتقین، (وأُولئك) في الآية التالية إشارة إلى الجميع.

والفاحشة من الفحش، وهو مجاوزة الحد في السوء، فتكون الفاحشة كل اشتد قبحه من الذنوب والمعاصي، وشاع استعماله في الزنا

ص: 401


1- العنكبوت، الآية 69.

باعتبار أنه أظهر أفراد الفحشاء ؛ وكل خصلة قبيحة فهي فاحشة من الأقوال والأفعال، وفي الحديث : «إن اللّه لا يحب الفحش والتفاحش».

والمراد بها في الآية الشريفة - بقرينة المقابلة للظلم - المعصية الفاحشة في قبحها، سواء كانت مقتصرة على النفس، كترك الصلاة ونحوه، أم متعدية إلى الغير، كالقتل والغيبة ونحوهما. والظلم ما دون ذلك، كما يصح أن يكون الفرق بينهما كالفرق بين الكبيرة والصغيرة.

قال تعالى : (ذَكَرُوا اللَّهَ) .

أي : تذكروا عظمة اللّه تعالى وآياته الموجبتين للخشية منه، وأنه مرجعهم في كل خوف ورجاء، بعد أن أغفلهم الشيطان وأنساهم ذكر ربهم حين الذنب، فيسرعون إلى الاستغفار وطلب المغفرة .

والمراد بذكر اللّه هو الذكر الحقيقي الذي يكون داعياً إلى ترك الذنب واستشعار الخوف والرجوع إليه تعالى، لا مجرد الذكر اللفظي مع البقاء على الذنب، فإنه حينئذ يكون كالمستهزیء به تعالی.

قال تعالى : (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ).

أي : حين ما ذكروا اللّه وتذكروا جلاله وكبرياءه أحبوا التقرب إليه بعد أن انصرف عنهم طائف الشيطان، فتابوا إليه طالبين المغفرة منه عز وجل لجميع ذنوبهم.

والآية الشريفة في مقام التمييز بين مَن يفعل المعاصي محادة وعناداً ولجاجاً، فإنه بعيد عن الاستغفار ولا يوفق إليه أبداً. وبين مَن تذكر اللّه تعالى حين المعصية وارتدع عنها خوفاً، فتاب إليه تعالى وطلب المغفرة منه، فإن لهم مقامة معلوماً.

قال تعالى: (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) .

ص: 402

بشارة عظيمة، وتطييب للنفوس، وتشويق إلى التوبة والاستغفار، وتنبيه للمذنبين بالالتجاء إلى اللّه تعالى وعدم اليأس منه عز وجل، فإنه لا منجی من الذنوب ولا ملجأ في الغفران إلا إلى اللّه تعالى، وهذا مما يؤكد الفزع والرجوع إليه عز وجل.

والآية المباركة - بأسلوبها البديع وخطابها البليغ - تؤثر في المخاطبين أبلغ التأثير، وينبه الضمير الإنساني الذي تأثر بارتكاب الذنوب والمعاصي بالرجوع إلى اللّه والإنابة إليه، لإزالة ما يوجب ضلاله وإغوائه .

وفي هذا الخطاب وجوه من الدلالة على المعنى المراد، كإظهار اسم الجلالة، وإسناد المغفرة إلى ذاته المقدسة المستجمعة لجميع الصفات الكمالية، ودلالة ذلك على الغفران الواسع وانحصاره فيه عز وجل، لأنه المسلط على ذلك كله، فإن مَن بيده أصل الخلق وتدبير شؤونهم، يكون مسلطاً على الغفران بالأولى، وليس لغيره هذا الحق، وهذا ما يدل عليه الحصر المستفاد من النفي والإثبات.

وفيه الإنكار على من يطلب المغفرة من الأوثان أو الأفراد الذين لم يأذن لهم اللّه تعالی بالاستشفاع لديه في غفران الذنوب بالخصوص .

ويؤكد ذلك ورود الخطاب على هيئة الإنشاء دون الإخبار .

وفي ذكر الجمع المحلي باللام الدال على العموم، إعلان بأن اللّه جل شأنه يغفر جميع الذنوب، صغائرها وكبائرها، فيكون المذنب بعد الاستغفار والتوبة عنده كمن لا ذنب له، كما في الحديث .

ثم إن مجيء هذا الخطاب بعد ذكر الفاحشة وظلم النفس، فيه الدلالة على سعة غفران اللّه تعالى وعدم مبالاته فيه، فإن الذنوب مهما كبرت وجلت، ولكن عفوه وغفرانه أجل وأعظم وأكبر .

ص: 403

قال تعالى : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

الإصرار على الشيء : المداومة عليه وملازمته، وأكثر ما يستعمل في الشر والذنوب، وفي الحديث : «ويل للمصرين الذي يصرون على ما فعلوه وهم يعلمون»، وقد تقدم اشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالی : (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ)(1).

«وهم يعلمون» حال من فاعل الإصرار و متعلق به .

والمعنى: أنهم لم يداوموا على الذي فعلوه من الذنوب والمعاصي وهم عالمون بقبحها وبالنهي عنها والوعيد عليها .

وإنما قيد الإصرار على الفعل بالمعصية، لبيان أن مجرد الإصرار على المعصية مع الجهل بها لا يكون إصراراً شرعاً، كما يبينه قوله تعالی : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ)(2).

والآية الشريفة ترشد الناس إلى ترك الإصرار في المعاصي، لأنه يوجب عدم المبالاة برحمات اللّه تعالى والاستكبار عليه والاستهانة بأحكامه المقدسة، ويجعل النفس ميالة إلى الطغيان والخروج عن الطاعة ، فتنتفي العبودية وتخرج عن الفطرة المستقيمة، فلا ينفع حينئذٍ ذكر اللّه تعالى الذي كان يمنع عن المعصية والإقامة على الذنب.

قال تعالى: (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا).

وعد منه عز وجل للمتقين الموصوفين بما تقدم من الأوصاف ،

ص: 404


1- آل عمران، الآية 117.
2- النساء، الآية 17.

وبيان للأجر الجزيل والثواب الكبير المعد لهم، وهو المغفرة والجنات العظيمة التي تجري من تحتها الأنهار زيادة في بهجتها، ولتمامية النعمة أنهم خالدون فيها لا يشوبها نقص .

ويمكن أن يكون ما ورد في هذه الآية المباركة هو نفس ما ذكره عز وجل في الآية السابقة من الأمر بالمسارعة إلى المغفرة وجنة عرضها السماوات والأرض، فتكون تلك الأوصاف من المعدات والأسباب للمغفرة والدخول في الجنة، وتكون هذه الجنات ضمن تلك الجنة الفسيحة .

وقد أضاف سبحانه وتعالى الجزاء إلى ضمير «هم» تشريفاً، وفي ذكر الرب المضاف إلى «هم»، لبيان العلة في نيلهم لذلك الجزاء العظيم وتربيته تعالى المعنوية لهم.

قال تعالى : (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ).

تأكيد للوعد الجميل وتشويق لهم إلى العمل، أي : تلك المغفرة والجنات إنما تكون على تلك الأعمال الحسنة التي تعد النفس إعداداً صالحة، وتهيئوها لنيل تلك المراتب العالية.

والخطاب على إيجازه يشتمل على وجوه من الدلالات المحسنة ، الدالة على عظمة الموضوع والاهتمام به، وتهييج الشوق والمسارعة إلى نيله.

منها : إقامة الأجر مقام الجزاء، إعلاماً بإنجاز الوعد وتحققه، مما يزيد في شرق العامل وتنشيطه للعمل، فكان العامل يستحق ذلك.

ومنها: ذكر الجمع المحلي باللام وإقامته مقام الضمير تأكيداً ، وللدلالة على حصول المطلوب .

ص: 405

ومنها: إتيان هذه الجملة بعد ذكر الجزاء وتفصيله لبيان الاهتمام بالوعد، والتأكيد على المسارعة لدركه .

قال تعالى : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ).

أمر بالاعتبار بما جرى على الأُمم الغابرة والنظر في ما بقي من آثارهم، زيادة في التحريض على العمل والاستعداد لنيل الكمال، وتشويقاً للجزاء الذي أعده اللّه تعالى للعاملين، وتنبيهاً للمؤمنين على عدم الغفلة ، وتذكيراً لمن خالف الرسول الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وتسلية للمؤمنين، وتوبيخاً لمن أعرض عن آيات اللّه تعالى وأحكامه المقدسة وغفل عن الاستكمال، وتشنيعاً على مَن أدرج نفسه في عداد المكذبين بعد إتمام الحجة، التي يكون منها الرجوع إلى أحوال الماضين والسير في الأرض والنظر في ما خلفته تلك الأمم من الآثار، فقد خلت عن أصحابها بعدما كانت قصوراً شاهقة أو عروشاً جمعت كل أسباب البهجة والسرور، وقد ابتهج ساكنوها وعمارها مدة فيها، أو كنوزاً امتلأت بكل أسباب العيش الهنيء، أو ذخائر عظيمة لم تدخل في الحسبان، وقد جرت عادته عز وجل أنه يرجع المخاطبين - بعد سرد جملة من الحوادث وبيان الأحكام الفردية والاجتماعية - إلى سنن الأُمم الغابرة، والأمر بالاعتبار بها والنظر في آثارهم لمزيد التنبيه، والاستفادة من تجاربهم ولئلا تتكرر ما جرى عليهم على هذه الأُمة، وأن يسلكوا الطريق المستقيم الذي سلكه الصالحون منهم، والإعراض عن سبل المكذبين لئلا يدخلوا في زمرتهم فينالوا جزاءهم، وقد جعل القرآن الكريم هذا الأمر من سبل إتمام الحجة على العباد .

وخلت بمعنی مضت، والسنن جمع سنة، وهي الطريق المعبدة المسلوكة، وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في ما يقرب من

ص: 406

سبعة عشر موضعاً، قال تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ)(1)، وقال تعالى: (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ)(2).

والنظر في سنن الماضين من سبل الرشاد، وفيها وجوه من الحكمة ، منها الاعتبار بها، وإتمام الحجة على اللاحقين، وتسلية لما يجري عليهم، والاستفادة من تجاربهم وغير ذلك، ولذا اهتم بها عز وجل فذكرها في مواضع متعددة .

وبالجملة : فهو إرشاد إلهي .

والمراد بها في المقام منهاج الماضين وما جرى عليهم، سواء كان سنة المؤمنين الصادقين المجاهدين في سبيل اللّه تعالى والعاملين المستعدين للقائه والدار الآخرة، وما كابدوا من عتاة زمانهم وجبابرتهم وصعوبة العيش، فرضوا بما قسمه اللّه لهم وصبروا وآثروا الآخرة على الحياة الدنيا الفانية، وسنة الكاذبين الكافرين الذين آثروا الحياة الدنيا على الآخرة ونعيمها، لانهماكهم في الضلال والشهوات مع وضوح الحجة ومعرفة البينات، والأمر بالسير في الأرض لزيادة الاعتبار من آثار الماضين والتبصر منها، ويدخل في السير في الأرض السير في حالات أهل الأرض من خلال التأريخ والحوادث الواقعة فيهم.

قال تعالى : (فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ).

المراد بالنظر هو التأمل والتبصر بأنه كيف كان علاقة المكذبين مع المؤمنين، وما جرى من الصراع بين الحق والباطل، وما آل أمر المؤمنین

ص: 407


1- الأنفال، الآية 38.
2- الحجر، الآية 13.

إليه، وعاقبة أمر المكذبين وما حل بهم من العذاب والهلاك بسوء أعمالهم، فإن النظر في ذكل كله يزيد المعرفة ويوجب التسلية بما يجري على المؤمنين، ويفيد العظة والأعتبرا، والتوبيخ للمكذبين الكافرين .

قال تعالى : (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ).

الإشارة راجعة إلى ما ورد في الآيات السابقة من ذكر غزوة أُحد والمضامين العالية التي احتوتها تلك الآيات، والتقسيم باعتبار حالات الناس ومدى تأثرهم بالقرآن الكريم، فبعضهم يكون القرآن بالنسبة إليه بلاغاً وبياناً، والبعض الآخر يكون هدىً وموصلاً له إلى الهداية وموعظة تدعوه إلى الاتعاظ والاعتبار وزيادة الإيمان وثباته، كل ذلك لا بد أن يكون للذين أعدوا أنفسهم لقبول الهداية والاتعاظ، وهم المتقون الذين يتأثرون بالبيان وينتفعون منه ويهتدون بهداه ويتعظون بمواعظه دون سواهم، وقد تقدم نظير ذلك في أول سورة البقرة، فراجع .

ص: 408

المنهج الأخلاقي في الإسلام

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على أمور:

الأول: قد جمعت الآيات المباركة المتقدمة وجوه البرز ومكارم الأخلاق التي لا بد من التحلي بها ولا يسع لأحد الإعراض عنها، فإنها فاتحة الكمالات وجامعة للخيرات، وهي من المكارم الفردية والاجتماعية، بها يعيش الفرد حياة سعبدة خالية عن ما ينغصه من الكدورات والشرور، وبها يصلح المجتمع.

ومن هذه الآيات الشريفة نستفيد المنهج الأخلاقي في الإسلام، فإنا ذكرنا في أحد مباحثنا الأخلاقية : أن المنهج الأخلاقي في الإسلام يختلف عن المناهج الأخرى في الأصول والأسلوب والطريقة، وأن الإسلام ينظر إلى التقوى والعمل أولاً وبالذات، وأنه السبيل الوحيد لنيل الكمال والوصول إلى الغاية، وهذه الآيات تبين المنهج العملي، ونظير هذه الآيات قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ

ص: 409

وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)(1)، فراجع ما ذكرناه هناك.

الثاني: إنما قدم عز وجل المغفرة على الجنة ، لأن المغفرة سبب للدخول فيها، وكل سبب مقدم على المسبب، مع أن الجنة دار طهر لا يصلح لدخول غير المطهرين فيها، وبالمغفرة يطهر المذنب فيصلح للدخول فيها.

الثالث : يستفاد من قوله تعالى: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) ، أن التقوى هي السبب في إعداد الجنة وتهيئتها للمتقين وحضورها لهم .

الرابع : يستفاد من قوله تعالى : (عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ)، كمال الجنة من جميع الجهات وتمامية النعمة فيها، فإن الجنة التي تكون سعنها كذلك فلا بد أن تكون محفوفة بجميع موجبات البهجة والسرور، وفيها الحياة الكاملة كما قال عز وجل: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ)(2).

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، أن كل وصف سابق معد للوصف اللاحق، فإن الإنفاق يوجب ترويض النفس المحبة للأموال والملذات والسيطرة عليها، فتستعد لكظم الغيظ، وهذا موجب اللعفو عن الناس، وهو موجب لمزيد الإحسان.

السادس : يستفاد من قوله تعالى : (ذَكَرُوا اللَّهَ) ، أن ذكر اللّه تعالی هو السبب في انقلاع العبد عن المعصية والانزجار عن الذنوب وعدم العود إليها والتوبة إلى اللّه تعالى وطلب المغفرة منه عز وجل، لأن غفران

ص: 410


1- البقرة ، الآية 177.
2- العنكبوت، الآية 14.

الذنوب تحت سلطته عز وجل، وأن الإصرار على المعصية يسلب التوفيق عن تذكر اللّه تعالى، وهم يعلمون بأن الإصرار يكون كذلك، ويوجب التجري على اللّه تعالى والاستكبار علیه وعدم المبالاة بحرماته، وتزول عنه حالة الندم والخوف عن نفسه.

السابع : إنما جعل عز وجل قصص الماضين - سواء الصالحين منهم أم الظالمين - خاتمة لتلك التعاليم الإسلامية، عبرة للاحقين ودستوراً للعمل ومنهاجاً في سيرهم وسلوكهم، مضافاً إلى كونها مواعظ يتعظ بها المتعلمون، ويصلح بها الفاسد.

بحث روائي

في المجمع: عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه سئل إذا كانت عرضها السماوات والأرض فأين تكون النار؟ فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «سبحان اللّه إذا جاء النهار فأين الليل» .

أقول: روى السيوطي أيضاً في الدر المنثور هذا الجواب منه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إقناعياً إسكاتياً. كما يمكن أن يكون على وجه التحقيق، بأن نقول إن خلق النار تبع لخلق الجنة، فهي لا تنفك عنها، كما أن خلق الليل لا ينفك عن خلق النهار، وأما وجه التبعية، فلقوله تعالى : (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا)(1)، و«سبقت رحمته غضبه».

وفي الخصال : عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) ، قال (عليه السلام) : «إنكم لن تنالوها إلا بالتقوى».

أقول: لما تقدم من أن التوقی سبب لحصول الجنة فلا يعقل نيلها

ص: 411


1- غافر، الآية 7.

إلا بالتقوى، ولا بد من تعميم التقوى إلى التوبة والاستغفار، كما في صدر الآية الشريفة.

وفي الكافي : عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «ما من عبد كظم غيظاً إلا زاده عزّاً في الدنيا والآخرة، قال اللّه عز وجل : والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس واللّه يحب المحسنين».

أقول: وردت روايات كثيرة في شأن كظم الغيظ، سيأتي في المحل المناسب التعرض لبعضها.

وفي الكافي - أيضاً -: عن الصادق (عليه السلام) قال : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : عليكم بالعفو، فإنه لا يزيد العبد إلا عزّاً، فتعافوا يعزكم اللّه».

أقول: لأن العفو من صفات اللّه تعالى، فيعز العبد العافي بعزه، ويأتي في الموضع المناسب شرح ذلك.

وفي المجمع والإرشاد للمفيد: «أن جارية لعلي بن الحسين (عليهما السلام) جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها فشجه فرفع رأسه إليها، فقالت له الجارية : إن اللّه تعالى يقول: والكاظمين الغيظ، فقال لها: كظمت غيظي، قالت: والعافين عن الناس . قال : عفا اللّه عنك . قال : واللّه يحب المحسنين، قال : اذهبي فأنت حرة لوجه اللّه».

أقول: رواه السيوطي في الدر المنثور أيضاً عن البيهقي، والحديث يدل على أن الإحسان أمر زائد على أصل العفو، ومثل ذلك كثير في العالمين العاملين بعلمهم.

وفي الكافي وتفسير العياشي: عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في قوله

ص: 412

تعالى: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا) ، قال (عليه السلام) : «الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر اللّه ، ولا يحدث نفسه بتوبة، فذلك الإصرار».

أقول: الأحاديث في ذلك كثيرة، وقد تقدم ما يشهد لذلك، وسيأتي ما يرتبط بذلك أيضا.

وفي تفسير العياشي في حديث قال: «وفي كتاب اللّه نجاة من الرديء وبصيرة من العمى، وشفاء لما في الصدور في ما أمركم اللّه به من الاستغفار والتوبة، قال اللّه تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، وقال تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا)، فهذا ما أمر اللّه به من الاستغفار واشترط معه التوبة والإقلاع عما حرم اللّه ، فإنه يقول: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) وبهذه الآية يستدل على أن الاستغفار لا يرفعه اللّه إلا بالعمل الصالح والتوبة».

أقول: تقدم مكررّاً أن العمل الصالح من الإيمان، فلا إيمان إلا به .

وفي المجالس: عن عبد الرحمن بن غنم الدوسي في قوله تعالی : (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً)، نزل في بهلول النباش وكان ينبش القبور فنبش قبر واحدة من بنات الأنصار فأخرجها ونزع أكفانها - وكانت بيضاء جميلة - فسول له الشيطان فزنى بها ثم ندم، فجاء إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فرده ثم اعتزل الناس وانقطع عنهم يتعبد ويتبتل في بعض جبال المدينة، حتى قبل ونزل فيه القرآن».

وفي أسباب النزول للواحدي: عن ابن عباس في رواية عطا قال : «نزلت الآية وهي قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) في نبهان التمار

ص: 413

أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرة، فضمها إلى نفسه وقبلها ثم ندم على ذلك، فأتى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وذكر ذلك له فنزلت هذه الآية».

أقول: قد وردت روایات متعددة في شأن هذه الآية، وهي على فرض صحتها لا تكون مخصصة للآية، بل هي بعمومها تشمل كل فاحشة تاب صاحبها عنها.

وفي المجالس: عن الصادق (عليه السلام) قال: «لما نزلت هذه الآية (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) ، صعد إبليس جبلاً بمكة يقال له ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه فقالوا له: يا سيدنا لِمَ تدعونا؟ قال : نزلت هذه الآية فمَن لها؟ فقام عفريت من الشياطين فقال : أنا لها بكذا وكذا. فقال : لست لها . فقام آخر فقال مثل ذلك. فقال : لست لها. فقال الوسواس الخناس : أنا لها. بماذا؟ قال : أعدهم وأمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة ، فإذا واقعوها أنسينهم الاستغفار . فقال : أنت لها، فوگلها بها إلى يوم القيامة».

أقول: روي مثله من طرق الجمهور أيضاً.

ص: 414

التوبة في القرآن

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).

لما ختم سبحانه وتعالى الآيات السابقة بالتوبة، وبين أن بها تسقط العقوبة والحد الشرعي، ذكر عز وجل في هاتين الآيتين الشريفتين حقيقة من الحقائق الإلهية التي امتاز بها الإسلام عن سائر الأديان السماوية، فبين عز وجل حكم التوبة وأنها حق من حقوق العبد على خالقه ومربيه، وقد وصف نفسه بالرحمة وذكر شروط التوبة ومواردها التي تقبل من الإنسان، والموارد التي لا تقبل.

كما بين عز وجل أن التوبة إنما تكون وفق النظام الربوبي المتقن المبني على الحكمة والعلم.

والآية من الآيات المتعددة التي ترغب العاصين إلى هذه الموهبة الربانية وتحرضهم إلى التوبة قبل فوات الأوان. وإنما ذكر عز وجل هذه الحقيقة ضمن الأحكام الإلهية، لما لها من الأهمية الكبرى في تربية الإنسان وهدايته إلى السعادة والكمال، ولا تخلو الآيتان من الارتباط بالآيات الأخرى.

ص: 415

قال تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ).

بيان الحقيقة من الحقائق الإلهية التي كشف عنها القرآن الكريم بما الم يكشف عنها كتاب سماوي آخر، فإنه بين حقيقة التوبة وشروطها و مواردها وآدابها وآثارها. ويمكن اعتبارها بحق من التعاليم المختصة بهذا الكتاب العزيز، وأنها لم تكن بهذه الخصوصية في سائر الشرایع الإلهية ، وقد اهتم القرآن المجيد بها اهتماماً بليغاً حتى ورد ذكرها فيه بما يزيد على ثمانين مورداً، وسميت سورة من سور القرآن المجيد باسم التوبة .

والتوبة في نظر الإسلام من الأمور المعدودة التي لها جوانب متعددة، فهي عملية تربوية تربي الإنسان تربية دينية مبنية على الحقيقة دون الوهم والخيال، كما أنها عملية إصلاحية، تصلح النفوس الفاسدة وتهذبها وتزكيها وتصلح المجتمع وتجعله في المسار الصحيح، كما أنها فضيلة أخلاقية، وهي من أجل مكارم الأخلاق. ونحن ذكرنا ما يتعلق بها في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(1)، فراجع الآية الكريمة .

ومادة (توب) تدل على الرجوع، سواء استعملت بالنسبة إليه عز وجل أم استعملت بالنسبة إلى العبد، قال تعالى : (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا)(2)، وتوبة اللّه تعالى على العبد هي الرجوع عليه بالرحمة والتوفيق وغفران الذنوب، وتوبة العبد هي الرجوع إلى اللّه تعالى بالندامة والانصراف عن المعصية .

ص: 416


1- البقرة ، الآيتان 159 - 160.
2- التوبة، الآية 118.

والمستفاد من الآيات الواردة في هذا الموضوع أن توبة العبد محفوفة بتوبتين من اللّه تعالی :

إحداهما: التوفيق لها، لأن العبد محتاج بذاته وهو الفقير إليه عز وجل، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(1)، فإذا وفقه اللّه تعالى للتوبة، تاب ورجع إليه عز وجل بالندامة والانصراف عن المعصية .

الثانية : توبة اللّه تعالى عليه بالقبول والغفران، فتكون مطهرة للعبد مما أصاب نفسه بسبب المعصية من القذارات والنجاسات المعنوية، فيحصل بها التقرب إليه عز وجل.

و(على) في قوله تعالى : (عَلَى اللَّهِ) تفيد اللزوم والثبوت، وهو يرادف الوجوب، وإنما وجبت التوبة لأنها من أفراد رحمته التي أوجبها على نفسه، قال تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)(2)، واستعمال (على) في الوجوب واللزوم كثير ولا ضير في ذلك.

إلا ما يقال : من أن استعمال الوجوب بالنسبة إليه عز وجل أمر مستنكر، بل لا يصلح لأنه لا سلطة على اللّه تعالی يوجب بها عليه، ولذا ذكر بعض المفسرين أن هذه العبارة وأمثالها التي هي ظاهرة في وجوب بعض الأشياء على اللّه قد جاءت على طريق العرب في التخاطب ، ولا يفهم منه إلا أنه واقع لا محالة.

ولا يخفى أن ذلك تطويل لا طائل تحته، وما ذكره أنما هو تغيير في ظاهر اللفظ، فلا مانع من إيجاب اللّه تعالى على نفسه أموراً تقتضيها

ص: 417


1- فاطر، الآية 15.
2- الأنعام، الآية 54.

حكمته المتعالية، وقد نطق بها القرآن الكريم وشهد بها العقل السليم من دون أن يكون لغيره سلطة عليه يوجب عليه شيئاً أو يكلفه بتكليف ، فإذا كانت التوبة من مصادیق الرحمة الإلهية التي وعد بها عباده، واللّه لا يخلف الميعاد، فيجب عليه قبول توبة عباده من هذه الجهة أيضاً.

ثم إن إطلاق الآية الشريفة يشمل جميع أقسام التوبة من الفكر والشرك والضلال وأنحاء الفسق والعصيان، إلا ما يستثنیه سبحانه وتعالى بعد ذلك.

نعم، تختلف أنحاء التوبة، ففي بعض المعاصي تكون بالإيمان باللّه تعالى، وفي البعض الآخر تكون بأداء الحقوق، وفي ثالث بإيقاع الحد، وفي رابع باجتناب الكبائر، وفي خامس بالطاعة والمواظبة على الصلاة ، وقد ذكرنا جميع ذلك في مبحث التوبة، فراجع آية 160 من سورة البقرة .

قال تعالى : (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ).

(للذين) خبر، و(التوبة) مبتدأ، و(على اللّه) متعلق بما تعلق به الخبر، وقيل غير ذلك، و(بجهالة) حال من فاعل (يعملون) والباء للسببية، و(السوء) هو العمل القبيح الذي يسوء فاعله بارتكابه، وهو لا يليق به سواءً كان كفراً أم معصية كبيرة أم صغيرة، و(الذين) عام يشمل المؤمن والكافر معاً، فالجملة تبين حالهما، لأنهما معاً يعملان السوء . والعمل) أعم من الجوارح أو عمل القلوب. والتعبير به - مع أن الكفر من أعمال القلوب - البيان أن الكفر سيئة ومنشأ للأعمال السيئة.

والجهالة من الجهل مقابل العلم، والمراد بها إما عدم العلم بالموضوع أو الحكم أو هما معاً، قصوراً أو تقصيراً، وفي الكل لا يتحقق العصيان حتى يتحقق موضوع التوبة، لأن مقتضى ما هو المتواتر بین

ص: 418

المسلمين عن نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «رفع عن أمتي ما لا يعلمون»، عموم الحكم لجميع أفراد عدم العلم. إلا أن يدعى الانصراف عن مورد التقصير، كما عن جمع من العلماء من تحقق العصيان في الجهل التقصيري، وهو مقتضى ظاهر بعض الأخبار أيضاً، فلا تكون الجهالة في المقام بهذا المعنى بلا إشكال.

أو المراد بالجهالة في المقام فعل كل ما لا ينبغي صدوره عن العاقل المتوجه إلى نفسه والعارف - ببصيرته . ما فيه صلاحه عن ما يسوؤه، كما في قوله تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام) : (قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ)(1)، فما يصدر حينئذٍ عن الفرد إنما يكون من داع نفساني غالب على ما تقتضيه القوة العاقلة، فيكون مغلوباً لنفس أمارة وداعية شهرية أو غضبية، وغواية الشيطان الذي يمني الإنسان بالسوء وحب العاجل والتغاضي عن الجزاء، فإن جميع ذلك توجب الغفلة والوقوع في الجهالة، فيغفل عن وجه قبح الفعل وذمه مع كون الفاعل إنما يفعل عن علم وإرادة، وعلى هذا تكون الجهالة قيداً توضيحياً، لكل معصية تصدر عن الهوى، وغلبة الشهوى والغضب، فتكون صادرة عن الجهالة، ولذا لو سكنت ثائرة الغضب وخمد لهيب الشهوة ورأى جزاء عمله عاد إلى العلم وزالت الجهالة وندم على فعلهن ومما ذكرنا يظهر السر في قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «كفی بالندم توبة».

هذا إذا لم يكن صدور الذنب عن المكابرة للحق وعناد معه، وإلا فإن ذلك يرجع إلى خبث الذات ورداءة الفطرة، ومعهما لا يرجع إلى الحق بالتوبة ويستمر على ذلك طول حياته، إلا إذا لحقته العناية الربانية

ص: 419


1- يوسف، الآية 89.

فيرجع عن عناده ولجاجته وتلحقه الندامة، وفي غير هذه الحالة لا يكون المعاند نادمة، وإن أظهر الندامة فإنما يكون لحيلة يحتالها لنفسه فرارة عن الجزاء ونحوه، ويدل عليه رجوعه إلى غيه ولجاجته لو ارتفعت الضرورة ، كما قال تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)(1).

ومما ذكرنا يظهر أن القيد يمكن أن يكون احترازياً أيضاً، فيكون المراد به أن لا يكون الذنب عن عناد و لجاجة واستعلاء على اللّه تعالى، ويشهد لذلك عدم تقييد عمل السينات بالجهالة في الآية التالية، فإن المنساق منها هو التعمد والتجبر على اللّه تعالى، كما يشهد قوله تعالى : (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) ، فالحالة التي تكون بين الموت وعمل السيئة على أقسام:

الأول: أن يكون مبادراً إلى التوبة بعد عمل المعصية، فهذا تقبل التوبة منه.

الثاني : أن يكون بانياً على الطغيان والعصيان إلى أن يحضر بعض علامات الموت فيتوب حينئذ، والمنساق من الآيات الشريفة عدم قبول التوبة حينئذ، قال تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ)(2)، لأن التوبة إنما تقبل في ظرف اختيار العبد وتمشي القصد الجدي منه، وهو لا يتحقق في وقت ظهور علامات الموت وورود الإنسان في الإشراف على أول منازل الآخرة وهو البرزخ، إذ لا اختيار له.

ص: 420


1- الأنعام، الآية 28.
2- غافر، الآيتان 84- 85.

الثالث : ما إذا كان بانياً على التوبة بحسب الفطرة، ولكن تساهل فيها لغلبة الشهوات الدنيوية، حتى إذا حضر بعض علامات الموت التي لا تسلب الاختيار ويتحقق منه القصد الجدي في الطاعة والمعصية ويترتب عليهما الآثار الشرعية والعرفية فتاب عن قصد، فحينئذٍ تقبل التوبة إن كانت جامعة للشرائط ، كما تقبل وصيته، قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)(1)، والروايات الدالة على قبول التوبة حتى إذا بلغت النفس الحلقوم تختص بهذه الصورة، فتقبل التوبة التحقق موضوعها.

وبالجملة : بعد إرجاع بعض الآيات إلى بعض يستفاد منها أن عدم قبول التوبة إما لأجل عدم تحقق الموضوع، كما في صورة العناد واللجاج، أو لأجل عدم تحقق ظرفها وهو الاختيار والقصد للطاعة والمعصية، ونرجو منه جلت عظمته أن يدخل عباده في قوله عز شأنه في القدسیات : «اغفر ولا أُبالي».

وقد ظهر من جميع ذلك أن الاحتمال الأول وهو كون القيد احترازياً، وإن كان أوفق للقواعد، فإن المعروف أن الأصل في القيود أن يكون احترازية إلا أن كونه توضيحية أوفق لسعة رحمته .

قال تعالى : (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ).

القريب من الأمور الإضافية وله مراتب كثيرة، وقد استفاد العلماء من هذا اللفظ الفورية العرفية في التوبة، وهي في نفسها حسن، لأن العصيان حجاب بين العبد والمعبود ودرن للروح، والعقل يحكم بإزالة

ص: 421


1- البقرة، الآية 180.

الدرن والنجاسة عن اللباس والبدن فضلاً عن الروح، وهذا لا ينافي أن تكون الجملة إشارة إلى المسارعة وعدم التساهل، فيكون المراد من القريب الزمان القريب قبل ظهور الموت وبروز آیات الآخرة، بحيث لا يعدّ تساهلاً في أمر التوبة حتى تفوت الفرصة بحضور علامات الموت .

وبالجملة : المراد من قوله تعالى : (مِنْ قَرِيبٍ) التوبة في عهد قريب من قبل أن تموت الشهوات وتسقط دواعي المعصية، بل تكون في حال صراع النفس مع القوة العاقلة، فترغم النفس الأمارة ويقلع عن المعصية ندماً، ويرغب في الطاعة شوقاً إلى رضاء اللّه تعالى وطلباً لعفوه وغفرانه، ويؤدي حقوق الناس وحقوق اللّه سبحانه وتعالى لو كانتا عليه، ففي كل وقت صخ إبراز ما في الضمير والإرادة الجدية من القلب تقبل التوبة ، كما عرفت آنفاً.

قال تعالى : (فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ).

أولئك اسم الإشارة الموضوع للبعيد، وهو مبتدأ وخبر جملة : «يتوب اللّه عليهم»، وعديت التوبة ب(عليهم) لتضمنها معنى العطف والرحمة، أي : أنه تعالى يعطف عليهم بقبول التوبة ويعود بالرحمة.

وإنما أشار إليهم بالبعيد إعلاماً بعلو قدرهم وتعظيم شأنهم، لأنهم تابوا على حقيقة التوبة، والتفريغ بالفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها، ولبيان أن قبول التوبة من مصادیق ذلك الوعد الذي قرره تعالى في صدر الآية الكريمة .

قال تعالى : (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا).

أي : أن اللّه تعالی عالم بحقيقة الحال، فيعلم شؤون عباده

ص: 422

ومصالحهم، ويعلم المخلص في توبته، حكيم في أفعاله، قد وضع التوبة وفق نظام محكم، فلا تغزه ظواهر الأحوال وصريف الأقوال.

وإنما ذكر هذين الاسمين لبيان أهمية الموضوع وأنه تابع لعلمه الأتم وحكمته المتعالية ، يضع التوبة في مواضعها وهو أرحم الراحمين .

قال تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ).

بيان لحال مَن لا تقبل توبتهم، وهم طائفتان :

إحداهما: لأجل عدم تحقق موضوع التوبة منهم، وهم الذين يعملون السيئات دوماً ولا يتحقق منهم الندم حتى إذا حضرهم الموت وانتفى أسباب العمل فلا داعي فيهم لعمل السيئات، لانقطاع آمالهم وموت شهواتهم، فلا تقبل توبتهم.

وإنما ترك عز وجل إعادة اسم الجلالة (على اللّه) لبيان انقطاع العناية الإلهية عنهم، وللإعلام بأن التوبة الصحيحة لا تقع منهم، لنفي موضوعها كما عرفت آنفاً .

وإنما جمع عز وجل السيئات وأفردها في الآية السابقة، وقال : (يَعْمَلُونَ السُّوءَ)، للدلالة على إحصاء سيئاتهم الكثيرة العديدة ، واستمرارهم على فعلها وإصرارهم على التكرار، بلا فرق بين أن تكون السيئة المكررة من أنواع مختلفة أو من نوع واحد، فإن التكرار يوجب التعدد لا محالة.

قال تعالى : (حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ).

أي : حتى إذا حضر الموت برؤية علاماته لاهية قلوبهم، والجملة تدل على استهانتهم بالتوبة واستحقارهم لموجبات الرحمة والمغفرة، فهم

ص: 423

يدعون التوبة حال العجز ولم تتحقق حقيقتها عندهم، ولم ترغب نفوسهم عن الذنب ، فإذا زال عنهم المهلكة عادوا إلى الذنب ورجعوا إلى المخالفة والعصيان، كما يخبر عن ذلك قوله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا)(1).

قال تعالى : (قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ).

أي: أنه في حال العجز واليأس يردد على لسانه التوبة في تلك الحال فقط، من دون أن يكون ذلك من حاق نفسه.

والآية تدل على تحقق التوبة اللسانية مرة واحدة بلا استمرار عليها، بخلاف الآية السابقة التي دلت على الاستمرار المستفاد من هيئة المضارع في قوله تعالى : (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)، وهذه تؤكد ما ذكرناه آنفاً من أن التوبة منه ليست على الحقيقة، فإنه التجأ إليها عند مشاهدة سلطان الآخرة وانقطاع أمله عن الدنيا بحضور الموت، ولذا ذكر عز وجل : (قَالَ إِنِّي)، ولم يقل : (تاب) ونحو ذلك، تحاشياً عن تسمية ما قاله توبة ، ونظير ذلك قوله تعالى حكاية عن المجرمين: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ)(2).

قال تعالى: (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) .

بيان لحال الطائفة الثانية، وهم الذين يصدر عنهم الذنب عناداً ولجاجاً واستكباراً على اللّه تعالى، فلا توبة لهؤلاء، كما لا توبة لأولئك لأنهم تمادوا في الكفر فماتوا وهم كافرون، فلم تصدر عنهم السيئات بجهالة، بل عن عناد و لجاج، فإذا مات الإنسان على هذه الحالة لا تنفعه

ص: 424


1- الأنعام، الآية 28.
2- السجدة ، الآية 12.

التوبة ولا نجاة له بعد الموت، وقد أكد القرآن الكريم ذلك في مواضع متعددة ، قال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ)(1).

قال تعالى : (أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).

أي: أولئك الفريقان قد أعتدنا لهم وهيانا لهم عذاباً أليماً مؤلماً، جزاءً لأعمالهم السيئة التي قدموها في دار الأعمال. وقد ذكرهم باسم الإشارة للدلالة على بعدهم عن ساحة القرب والعناية الربانية .

ص: 425


1- البقرة، الآيات 159 - 162.

بحوث المقام

بحث دلالي

يستفاد من الآيات الشريفة أمور :

الأول : يستفاد من الحصر الوارد في قوله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ) أن التوبة من الأمور المختصة به عز وجل، ومن مظاهر ربوبيته العظمى، ومن مصادیق رحمته الواسعة التي وسعت كل شيء، وهو رد على كل مَن يدعي أن هذا الأمر يمكن أن يتصديه بعض الأفراد، إما ولي من أولياء اللّه تعالى، أو الكنيسة كما في الديانة المسيحية التي اعترفت لها غفران الذنوب حتى بلغ من إفراط الكنيسة أنها كانت تبيع صكوك الغفران بعدما كانت التوبة في هذه الديانة من الأمور غير النافعة للإنسان، لأن المسيح (عليه السلام) فدى بنفسه لأجل خلاص الإنسان، على ما هو المعروف عندهم.

فالآية الشريفة رد على جميع المزاعم، فإنها صريحة في أن التوبة من شؤون الباري عز وجل، وأنها محصورة عليه تبارك وتعالى لا شأن الأحد غيره فيها.

الثاني : تدل الآية الشريفة على فضل التوبة، وأنها من مظاهر رحمته عز وجل وفضله العظيم، وقد منَّ بها على عباده ، ومن المعلوم أنه لا شيء يوجب رحمته عليه، ولكن لا ينافي ذلك وجوب هذا القسم من

ص: 426

الفضل علیه بإيجاب من نفسه على نفسه لا من إيجاب غيره عليه، وقد ذكرنا ما يتعلق بذلك في مبحث التوبة في سورة البقرة الآية 162.

وأما ما ذكره بعض المفسرين من أن اللّه تعالی غیر مجبور في قبول التوبة، لأن له الأمر والمُلك يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، واستدل على ذلك بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ)(1)، وقوله تعالى، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا)(2).

فإنه يرد عليه : أن اللّه تعالى قد وعد عباده بقبول التوبة - كما اعترف به هذا المستدل - وكل وعد منه عز وجل واجب الوفاء عليه، كما قال في كتابه العزيز : (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)(3)، والآيات الشريفة التي استدل بها تدل على عدم قبول توبة المتمادي في الكفر، وهذا ما استثناه عز وجل من القبول في المقام أيضاً كما عرفت.

وكيف، فالآية الشريفة من الآيات التي تعتني بشأن العاصين، وتأمرهم بالتوبة من الشرك والضلال والسيئات والمعاصي كلها.

وللتوبة آثار عظيمة، فإنها من سُبل الصلاح والتقوى، وتجلب السعادة وتزيل درن الشقاء والرذيلة من القلب الذي هو محل الصلاح والفساد معاً. وتصفي النفوس التي انكدرت بالعصيان، وتزيل الغشاوة عن القلوب، وترفع الموانع عن طريق سير الإنسان نحو السعادة والكمال، وتخلص الناس من بوار الذنب وهلاك المعصية، وهي الوسيلة للفلاح، قال تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(4).

ص: 427


1- آل عمران، الآية 90.
2- النساء، الآية 137.
3- آل عمران، الآية 9.
4- النور، الآية 31.

ومن آثار التوبة أيضاً أنها تجعل قلب المذنب متعلقاً بالرحمة الإلهية وتبعث روح الرجاء بعد انخماد نور النفس بظلمة الذنب، وتمحو الآثار السيئة التي تترتب على الحياة بسبب العصيان وعمل السيئات. والآية المباركة تعد البشارة العظمى للمذنبين.

ثم إن للتوبة مظاهر مختلفة كالندم، والاستغفار، والانقلاع عن المعصية، وإتيان الطاعة، والتلبس بالعمل الصالح، وأداء الحقوق، وغير ذلك مما ذكره علماء الأخلاق، وتقدم في مبحث التوبة، وهي تبذل السيئات بالحسنات .

الثالث : يستفاد من الآية الشريفة أن التوبة أمر اختياري، فإنها رجوع إلى اللّه تعالى بعد البُعد عنه بسبب فعل السيئة وإتيان المعصية، بالدخول في سلك الطاعة والعبودية بعد الإعراض عنه عز وجل، وذلك لا يتحقق إلا في ظرف الاختيار، وكون العبد مخيراً بين طريقي الصلاح والسعادة ، والطلاح والشقاوة، وفي غير ذلك فلا توبة له، لما يدل عليه ذيل الآية الشريفة.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى : (بِجَهَالَةٍ) أن كل ذنب يصدر عن جهالة قابل للعفو والغفران من اللّه تعالى، وبهذا القيد يخرج كل ذنب يصدر عن لجاج وعناد مع الحق واستكباراً على اللّه تعالى، وقد عرفت في التفسير أن الجهالة في المقام - وفي باب الأعمال على العموم - هي الغفلة عن وجه قبح الفعل وفساده، لغلبة الشهرة واستيلاء الهوى، ولكن ذلك لا يسلب نسبة الفعل إلى الفاعل، لأنه صدر عنه عن علم وإرادة، كما يسمى الشاب قليل التجربة جاهلاً، لأجل غلبة العواطف والنزوات الشهوانية عليه.

والخامس: يستفاد من قوله تعالى: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) أن

ص: 428

المؤمن إذا صدر عنه الذنب ينبغي أن يبادر إلى التوبة بعده ولا يسوف في ذلك، فهو في صراع مع النفس الأمارة ، وتوبة مستمرة يرجو رحمة ربه ، وهذا ينبیء عن حسن السريرة وشدة الأمل باللّه تعالى، ولعل ما ورد في بعض الروايات : «طوبى لمن كان له تحت كل سيئة توبة»، إشارة إلى ذلك، ويستفاد من قوله تعالى: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) ، أولوية التوبة من الذنب من ترك الذنب رأساً، فإن اللّه تعالی مدح التائبين من الذنب وأدخلهم تحت رحمته وقربهم إليه. وقال بعض العلماء : إن ترك الذنب مطلقاً أحسن وأولی من ارتكابه ثم التوبة عنه، لأن اللّه تعالی مدح هؤلاء بما لم يرد في غيرهم، وهم المختصون لمقام العبودية التشريفية .

ولكن، یمكن اختيار الأوّل لكثرة ما ورد من الترغيب إلی التوبة كتاباً وسنّة، وقد ورد عن نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «التائب من الذنب كمَن لا ذنب له»، فيصير التائب من الذنب مساوياً له من هذه الجهة، أي : عدم الذنب ، ويكون تذلله مما في نفسه عند ربه لتصوره لما صدر منه من المعصية موجباً لترجيح هذا المقام بنفسه عند اللّه تبارك وتعالی .

نعم، مَن عصمه اللّه من الزلل كالأنبياء والأئمة الهداة (عليهم السلام) والأولياء، لهم مقام خاص وهبه اللّه تعالى لهم.

وفي حديث آخر: «لولا أنكم تذنبون اللّه ثم تستغفرونه لذهب بكم، ثم يأتي بأقوام يذنبونه ثم يستغفرونه»، وهذا هو المطابق لما هو المتسالم بين أذواق المتالهين من أن كل اسم من أسماء اللّه المقدسة لا بد له من مظهر خارجي، ومن أسمائه جلت عظمته التواب والغفور، ولا مظهر لذلك إلا بعد الذنب والتوبة .

ص: 429

مع أن حالة الندامة والاستحياء من اللّه تعالى من حالات العبد وأحسنها، ولا تتحقق تلك الحالة إلا بذلك.

السادس: يدل قوله تعالى : (فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) على وعد منه عز وجل للمذنبين بقبول توبتهم، وهو لا يخلف الميعاد. كما أنه يدل على أن التوبة الصحيحة الجامعة للشرائط تمحو الذنوب وتزيلها.

السابع: يمكن أن يكون المراد من قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) موت الأمزجة والقوی، فمَن كانت معاصيه من سنخ أعمال الشهوة الجنسية ووصل إلى سن الأربعين مثلاً وترك تلك المعاصي لأجل عوارض عرضت عليه، فلا توبة له حينئذٍ، وكذلك سائر القوى، لأنه لا توبة بعد انتفاء القدرة على ارتكاب المعاصي، وهذا الاحتمال وإن كان مخالفة لما استفدناه من الآيات المباركة، ولكنه احتمال حسن يوجب المسارعة إلى التوبة والاستعداد لها في حال القدرة .

الثامن : إطلاق الآية الشريفة : (فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) ، يشمل التوبة من الشرك وجميع المعاصي، ويشمل أيضاً المؤمن والكافر إذا تاب عن كفره، فيكون إسلامه توبة لما صدر عنه في حال كفره، لقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الإسلام يجب ما قبله» وأما توبته عن معصية فيها حق اللّه في حال كفره، مع بقائه على الكفر فيشكل قبولها.

نعم، إذا كان الذنب من حقوق الناس كالسرقة وإيذاء الناس ونحوهما، فأرضى الناس، سقط هذا الذنب منه لزوال موضوعه، ويمكن أن يستفاد ذلك من مفهوم قوله تعالى: (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ)، أن توبة الكافرين في حال حياتهم مقبولة، إلا أن يستظهر ذلك بخصوص إسلامهم .

ص: 430

التاسع: يستفاد من قوله تعالى: (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) ، أن التوبة من اللّه تعالی تشمل العاصين من المؤمنين إذا استغفر لهم الأحياء ولو بعد مماتهم، بخلاف الكافر المعاند الذي مات على الكفر ، بلا فرق بين أقسامه .

بحث روائي

في الكافي : عن جميل بن دراج ، قال : «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول : إذا بلغت النفس هاهنا - وأشار بيده إلى حلقه - لم يكن للعالم توبة ، ثم قرأ: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ) .

أقول: أراد (عليه السلام) بالعالم هو اللجوج المستكبر على اللّه تعالى، وإطلاق الآية الشريفة لا ينافي ما ذكرناه سابقاً، ويمكن أن يجمع بذلك بین ما ورد من عدم قبول التوبة حين ظهور علامات الموت، وما ورد من قبولها حينها، بحمل الأول على العالم العامد المستكبر على اللّه تعالی كفرعون ونحوه، والثاني على غيره .

وفي تفسير العياشي: عن أبي عمرو الزبيري، عن الصادق (عليه السلام) قال: «كل ذنب عمله العبد وإن كان عالماً به فهو جاهل حین خاطر لنفسه في معصية ربه، وقد قال في ذلك تبارك وتعالى يحكي عن قول يوسف الإخوته : (هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ)، فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية اللّه عز وجل < ).

أقول: يشهد ذلك على ما قلناه في معنى الجهالة .

وفي تفسير العياشي - أيضاً -: عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : «إذا بلغت النفس هذه - وأهوى بيده إلى حنجرته - لم يكن للعالم توبة، وكانت للجاهل توبة» .

ص: 431

أقول: يشهد ذلك على ما جمعنا به بين الروايات آنفاً .

وفي الكافي : عن محمد بن مسلم، عن جعفر (عليه السلام) قال : «یا محمد بن مسلم، ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورة له، فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة، أما واللّه أنها ليست إلا لأهل الإيمان ، قلت : فإن عاد بعد التوبة والاستغفار في الذنوب وعاد في التوبة؟ فقال : یا محمد بن مسلم، أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه فيستغفر اللّه منه ويتوب ثم لا يقبل اللّه توبته؟! قلت : فإن فعل ذلك مراراً، يذنب ثم يتوب ويستغفر؟ فقال : كلما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة ، عاد اللّه تعالى عليه بالمغفرة، وإن اللّه غفور رحيم يقبل التوبة ويعفو عن السيئات، فإياك أن تقنط المؤمنين من رحمة اللّه» .

أقول: ورد في بعض الروايات إلى سبعين مرة، ويشهد لذلك تحذير الإمام (عليه السلام) الراوي في ذیل الرواية، ويستفاد ذلك من قوله تعالى : (* قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(1)، إذ المراد بالجميع الكثرة العددية، ثم إنه قد ذكرنا الروايات الواردة في التوبة في مبحث التوبة، فراجع سورة البقرة الآية 160.

ص: 432


1- الزمر، الآية 53.

محبوبية التوبة

التذلل لدى المعبود الحقيقي الجامع لجميع الكمالات غير المتناهية، والاعتراف بالقصور والتقصير عنده ، محبوبان لديه عز وجل. والعبودية التي هي غاية مقامات العارفين وأولياء اللّه المخلصين، متقومة بهما، فإنه لا ريب في تحقق الارتباط بين الممكن والواجب، كالارتباط بين المعلول مع العلة التامة، والمخلوق مع الخالق، والأثر مع المؤثر بلا فرق في ذلك بين المجردات والماديات والأملاك والأفلاك، فإن جميعها متعلقة بالإرادة الأزلية حدوثاً وبقاءً وبزوالها بنعدم جميع ما سوى اللّه تعالى، ولا يبقى إلا وجهه الواحد القهار، ولكن الإنسان يرتبط مع اللّه جل جلاله بارتباطين :

الأول : الارتباط العام القهري، الذي يعم جميع الخلق وما سواه تعالی.

الثاني : الارتباط الاختياري، أي : الطاعة والامتثال والانقياد، وهذا هو الأصل والأساس في علاقة الإنسان مع اللّه عز وجل، فإذا زال يبقى الارتباط الأول، وهو يعلم الجميع - الحيوان والجماد - على حد سواء.

والإنسانية إنما تظهر في الارتباط الثاني، ولا يزول إلا بالطغيان والعصيان، وحينئذٍ لا بد من التوبة والرجوع إلى اللّه تعالی ليعود الارتباط إلى ما كان عليه وتستكمل به الإنسانية، وتزول الشقاوة وتحل محلها

ص: 433

السعادة الأبدية ، إذ القرب من ينبوع الحكمة والعلم والكمال المطلق يوجب بلوغ الإنسانية إلى الكمال ويتم به العقل والدين، كما أن البعد عنه يوجب زوال ذلك كله، فللتوبة الحقيقية دخل في استكمال الإنسانية والدين والعقل، ويكفي في فضلها أن فيها يتجلى المبعود الأعظم للتائبين بقوله عز وجل: (وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) ، فالعبد يعترف بما هو مَن زي العبودية ، والمعبود يظهر بما هو من شأن الربوبية الواقعية، ولذا ترى أن أحب حالات المتعبدين إلى اللّه تعالى هي حالة الاعتراف بالتقصير ، كما هو واضح في الدعوات المأثورة عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، لا سيما الصحيفة الملكوتية السجادية على صاحبها ومنشئها (عليه السلام) ، وليس الاعتراف بالتقصير مع عدم صدور ذلك عنهم كذباً، لأنهم يعلمون أن تلك الحالة محبوبة لله عز وجل وتقربهم إليه تعالى، ويعترفون بذلك في جملة من دعواتهم الشريفة، وهذا كاشف عن اشتياقهم إلى هذا المقام من العبودية .

ثم إن ظاهر الآية الشريفة: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) ، إنما هو في الموت الطبيعي الذي هو مسير كل ذي حياة، وأما الموت الاختياري الذي هو غاية آمال العارفين وقرة عين أهل التوقي واليقين، فهو فوق التوبة بمراتب كثيرة إذا وفق له ولي من أولياء اللّه تعالی بشرطه وشروطه)(1).

ص: 434


1- م - ن، ص 331 - 345، ج (7).

الصلاة وتزكية النفس

من أسباب تزكية النفس ورقيها الصلاة، بل هي من أهمها وأسماها - لما علم اللّه تعالى من وجود الشره المؤدي إلى الهلاك والخسران في الإنسان، جعل الطاعات والعبادات - خصوصاً الصلاة صوناً للنفس وحفظاً لها عن الهلاك والخسران، بل لرقتها إلى مراتب الكمال ، ففي الحديث : «ما افترض اللّه على خلقه بعد التوحيد شيئاً أحب إليه من الصلاة، ولو كان شيء أحب إليه من الصلاة تعبد به ملائكته، فمنهم راكع وساجد وقائم وقاعد»، فبها يزول الدنس كما في بعض الروايات، وإنها مطهرة للقلوب من المساوىء والعيوب، وبها تفتح أبواب الغيوب، وبها تطمئن القلوب، وبها ترفع الدرجات، وفيها المناجاة برفع الأستار، وتتسع فيها میادین الأسرار، وبها تشرق شوارق الأنوار، وبها تزال الحجب والأستار بالقرب إليه، وبها تصفو المحبة من كدر الجفاء ويتصل المحب مع حبيبه في محل الصفا.

ولقد علم اللّه تعالى ضعف الإنسان ووساوس الشيطان، فقئل أعدادها وفرض في ليلة المعراج خمس صلوات في خمس أوقات بشفاعة نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهذا لعوام الخلق، وإلا فالعارفون من الخواص : (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ)(1)، منحهم ديمومة الصلاة من الأزل إلى

ص: 435


1- المعارج، الآية 23.

الأبد، وهذا لا يدرك بالعقول القاصرة المشوبة بالمادة الزائلة، فلا يعقلها إلا العالمون باللّه تعالی.

وإن المقصود والأثر المطلوب من إقامة الصلاة معنوياتها، لا مجرد وجودها وشبحها، فإن الإقامة هي الإكمال والاتقان، يقال : (فلان أقام داره)، أي : أكملها وجعل فيها كل ما يحتاج إليه. وإن إقامة الصلاة تعديلها من جميع الجهات - بالتوجه فيها إليه تعالى والتقرب بها لديه جل شأنه وحفظ أركانها وشرائطها حتى تترتب آثارها - فليس كل مصل مقيم ، وكم من مصل ليس له من صلاته إلا التعب، وفي بعض الأحاديث: «مَن لم تنه صلاته من الفحشاء والمنكر، لم تزده من اللّه إلا بُعداً»، وعن نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إذا صلى العبد فلم يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها، لُفت كما يلف الثوب الخَلِق ثم يضرب بها وجهه»، فالمصلون كثيرون والمقيمون قليلون وأهل الأشباح كثير وأهل القلوب وأرباب المعرفة قليل.

والتعبيرات الواردة في القرآن الكريم في مدح المصلين أكثرها وأغلبها جاء بلفظ الإقامة أو بمعنى يرجع إليها، قال تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ)(1)، وقال تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه السلام) : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ)(2)، وقال تعالى: (وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ)(3)، وقال تعالى : (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ)(4)، ولما ذكر المصلين بالغفلة قال تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ)(5)، ولم يقل سبحانه

ص: 436


1- البقرة، الآية 3.
2- إبراهيم، الآية 40.
3- الحج، الآية 35.
4- التوبة، الآية 18.
5- الماعون، الآية 5.

وتعالى : فويل للمقيمين الصلاة، وفي الحديث: «إن العبد إذا قام إلى الصلاة رفع اللّه الحجاب بينه وبينه وواجهه بوجهه وقامت الملائكة من الدن منكبه إلى الهوى يصلون بصلاته»، إلى غير ذلك من الروايات والأحاديث.

والتوجه أو الخشوع فيها على مراتب :

الأولى: خشوع، خوف، إذلال وانكسار لعظمته ونهاريته، وهي للعباد الزفاد .

الثانية : خشوع تعظيم وهيبة وإجلال، وهي للمتقين الأبرار .

الثالثة: خشوع فرح وسرور وإقبال، وهي للمقربين العارفین، ويسمى هذا المقام بقرة العين، قال تعالى: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(1).

الرابعة : الجمع في مقام الجمع، وهذه تختص بالأولياء والمقربين، فيها تتم التصفية وتظهر المحبة وتفتح الأبواب ويرتفع الحجاب ، فتخرج الروح من ضيق الأشباح إلى فضاء الكمال في عالم الأرواح، أو من ضيق الملك إلى سعة عالم الملكوت .

ولا شك أن إمداداته وإفاضاته جلت عظمته غير محدودة بحد ولا بزمان معین؛ لصدورهما عن ذات غير المتناهي.

نعم، ترد على العبد حالات خاصة وظروفاً معينة يكون التوجه فيهما إليه أشد وأكثر، فلها آثار مخصوصة لنجح المقاصد وإنجاز المطالب، منها حالة الصلاة، خصوصاً عن الانقطاع إليه تعالی كالسفر والخوف

ص: 437


1- السجدة، الآية 29.

والمرض وغيرها، ولأجل ذلك ورد الاستعانة بها وقالوا: إن الصلاة لا تسقط في أي حال؛ لأنه لا بد للعبد من حفظ الصلة بينه وبين ربه، وبها تتم المحبة وتحصل المودة(1).

ص: 438


1- م - ن، ص 230 - 232، ج (9).

التقوى وتهذيب النفس

اشارة

(لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا * إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) .

تتضمن الآيتان الشريفتان على حكم تربوي إصلاحي له الأثر الكبير في تهذيب النفس، وتوحيد صفوف المجتمع الإسلامي الذي طالما تمنى الأعداء تقويضه باستعمال كل الأمور والأساليب في إيجاد ثغرات ينفذون منها في تشتيت كلمتهم، وكان من أهم الأمور التي تفتت عضد المسلمين وتشل قواهم وتهدد كيانهم، وتقدح الفتنة بينهم، هي الأقوال السيئة التي تؤجج البغضاء والعصبية، فإن ما يصدر من اللسان هو من أهم المؤثرات في الإنسان، سواء أكانت إيجابية أم سلبية، وقد ورد في الحديث : «وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم»، أي : ما يقطعونه من الكلام الذي لا خير فيه.

والآيتان الشريفتان تعالجان هذا الموضوع من جوانب متعددة ، فمن جانب تثبت فيه حكماً شرعياً، وهو التحريم بأسلوب لطيف يجعل المؤمن بشعر شعوراً داخلياً بأن الأمر مكروه وله مخاطر عديدة على النفس والمجتمع، فقال عز وجل: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) ، ويكفي للمؤمنين هذا الخطاب الربوبي في إثبات إحساس داخلي متصل بالحي القيوم بالإنتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه .

ص: 439

ومن جانب آخر يثبت الموضوع السوء من القول ويعتبره من أفراد الظلم الذي تشمئز منه النفوس وتنفر منه الطباع وتنكره الفطرة، وتعميمه بحيث يشمل جميع أفراده قولاً كالبهتان والشتم والسباب، أو عملاً كالهمز، وجميع ما يوجب إثارة الشحناء والبغضاء.

وإنما خص عز وجل السيء من الأقوال العظيم أثرها في النفوس؛ ولأنها الوسيلة الوحيدة في تضعيفها، وانتشاء السيء من الأفعال ومنها ينفذ الأعداء، ثم يعالج الفرد الواقع منه في المجتمع بأسلوب تربوي يحد من انتشار أمثاله ويقلل من تأثيره على الإنسان المظلوم، فأباح له مثل ما ظلم به من سيء القول، ولم يبح له أكثر من ذلك، فقال عز وجل : (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ)، وأعطى الضمان عز وجل لهذا الحكم فقال عز من قائل: (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) ، فإن اللّه تعالى يسمع أقوال الظالمين فيجازيهم عليها، كما يعلم شكاوي المظلومين وتظلمهم، فأباح لهم التظلم بإظهار ما ظلموا به .

وهذا الحكم وإن لوحظ في الجانب التربوي للتحديد من الظلم إلا أنه لم يكن حاسماً للموقف، فحبب إليهم الخير واعتبره عز وجل هو الأصلح في هذا الموقف الذي لا بد من إزالة الشحناء وتطويق الخلاف، واعتبره حكماً إصلاحياً للنفوس بالترويض على الخير وجعله مستولياً على جميع مشاعرها، فلا يتقصر على الخير في حالة واحدة ، بل من الأفضل تعميمه لجميع الحالات.

وخص من أفراد الخير العفو عن السيء كلها؛ لأنه من صفات الباري عز وجل، ولأنه يزيل ما أوجب كدر الصفو بين الأفراد، ويرجع الثقة بينهم، فتضمنت هاتان الآيتان حكماً تربوياً إصلاحياً، واشتملتا على خلق كریم نبيل هو من أخلاق اللّه عز وجل، وقد عرفت في التفسير أن

ص: 440

هذا الخلق له الأثر العظيم في ما إذا كان عند المقدرة، دون العفو التابع من الذلة ، فإنه ليس بتلك المثابة ولم يعد أن يكون خلقاً كریماً .

وتعلق حبه تعالى بأمر عقلي كقوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(1)، يدل على أن ذلك لا يختص بهذا الدين الحنيف، وإنما يعم جميع الأديان السماوية ؛ لأن محبة المحسنين أمر فطري، وكذا عدم حبه لشيء تبغضه الفطرة، فيكون قبح الجهر مما لا يختص بهذا الدين .

وإن قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ) يمكن أن يكون إشارة إلى المراتب في العمل، فمن كان قادراً على الإبداء والجهر بأن صان نفسه عن المهالك - كالرياء والعجب والغرور - يبدي في العمل، وإلا فيخفي حفظاً عنها وصوناً عن الشوائب والمكائد الشيطانية .

بحث روائي

في تفسير العياشي بإسناده عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى : (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ)، قال: «من أضاف قوماً فأساء ضيافتهم، فهو ممن ظُلم، فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه».

أقول: قريب منه ما في الدر المنثور، ومعنى الرواية أنه لا يجوز التعدي عن ما لاقاه الضعيف من سوء الضيافة، فغاية ما يجوز له أن يقول مثلاً: (لم يحسن ضيافتي، أو أساء في ضيافته)، فإن ذلك نوع من الظلم الخُلقي، ومن المعلوم أن للظلم أنواعاً، ولكل نوع مراتب، وفي كل مرتبة درجات، والرواية من باب ذكر أحد المصادیق كما هو واضح منها .

وفي تفسير العياشي عن أبي الجارود عن الصادق (عليه السلام) : (الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) قال : أن يذكر الرجل بما فيه».

ص: 441


1- البقرة، الآية 195.

أقول: لا بد وأن يقيد بما لم يكن من المستثنيات.

وفي تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ) قال: «لا يحب اللّه أن يجهر الرجل بالظلم والسوء ولا يظلم، إلا مَن ظُلم، فقد أطلق له أن يعارضه الظلم».

أقول : المراد من ذيل الرواية بما لا يوجب التعدي عليه أو ينافي الشرع، وإلا فلا يجوز كما تقدم، وفي بعض الروايات : «إن اللّه تعالی جعل لكل شيء حدّاً، وجعل على مَن تعدى الحدّ حدّاً» .

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ) إن جاءك رجل وقال فيك ما ليس فيك من الخير والثناء والعمل الصالح، فلا تقبله منه فكذبه فقد ظلمك».

أقول: إما عدم القبول لعدم الحقيقة ونفي الواقع، وإما تكذيبه الإرشاده إلى الواقع، والمراد من قوله (عليه السلام) : «فقد ظلمك» ؛ لأنه قال فيك ما ليس فيك، فإنه يوجب حب الثناء والمحمدة، ويعتبر ذلك عند علماء الأخلاق أُم الفساد وأصل المهلكات؛ لما يستلزم الغرور وصرف النفس عن نيل الكمال والبُعد عن الحقائق والوقوع في المساوىء والضلال، وذلك ظلم كبير .

وفي المجمع: قال في الآية المباركة : «لا يحب اللّه الشتم في الانتصار، إلّا مَن ظلم، فلا بأس له أن ينتصر ممن ظلم بما يجوز الانتصار في الدين».

أقول: الروايات الدالة على أن اللّه تبارك وتعالى يبغض القول السيء أو الشتم كثيرة جداً، إلا مَن ظلم بما يجوز في الدين، فلو حصل التعذي أو مما لا يجوز في الدين، فلم يرخصه الشارع.

ص: 442

وفي الدر المنثور: «إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال : مَن دعا على مَن ظلمه فقد انتصر».

أقول: ورد في الروايات المستفيضة أن دعاء المظلوم لا يرد، وأنها تخرق الحجب السبع. وقد أخذ المظلوم حقه مما يهبه سبحانه وتعالى له ؛ ولذا انتصر.

وفي بعض التواريخ يحكي عن ابن السكيت (رضوان اللّه تعالی عليه) معلم أبناء المتوكل : جلس معه المتوكل يوماً فجاء المعتز والمؤيد ابنا المتوكل، فقال له: أيما أحب إليك إبناي، أم الحسن والحسين (عليهما السلام) ؟ فقال ابن السكيت : واللّه إن قنبر خادم علي (عليه السلام) خير منك ومن ابنيك ، فقال المتوكل العباسي: سلوا لسانه من قفاه، ففعلوا فمات، ومن العجب أنه أنشد قبل ذلك للمعتز والمؤيد.

يصاب الفتى من عثرة بلسانه *** وليس يصاب المرء من عثرة الرجل

فعثرته في القول تذهب رأسه *** وعثرته في الرجل تبرأ على مُهل

أقول: لعل ابن السكيت رحمه اللّه رأى تكليفه في إظهار الحقيقة والواقع، وعلم أن المتوكل أراد قتله على أي حال استعمل التقية أو لم يستعملها، وإلا كان له الفرار من البلاء بذريعة التقية أو بغيرها ولم يتجاهر بعقيدته أو بالواقع؛ لقاعدة تقديم الأهم وهو حفظ النفس المؤمنة على غيره وهو المهم، أو هيجه حبه لأهل البيت (عليهم السلام) ، وكيف كان فرضوان اللّه تعالى عليه .

بحث عرفاني

يمكن أن تكون الآية الشريفة : (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ).

ص: 443

إشارة إلى ما تعرض على النفس من الحالات التي يتأثر المؤمن بها، كالتحدث مع النفس في الخواص، سواء أكان ذلك في العقائد أم في العوائد، ولا فرق في العوائد بين أن تكون نفسية باطنية - كحب الجاه والرياسة، وطلب الخصوصية، وحب المدح، وخوف الفقر وغيرها - أم ظاهرية، مثل كثرة المخاصمة والعتاب وغيرها (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) بداعي البشرية غير الاختيارية كالابتلاء بالاضطرار، ودفع الحرج وغيرهما، فما يعرض على قلب المؤمن من الأوهام التي يتألم ويتأثر بها بلا أثر خارجي لتلك الأوهام ويصير المؤمن مظلوماً، فلا عتاب عليه من المحبوب.

أو (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ) بالخطرات التي تختلج على قلب أخص الخواص، فإنها توجب النزول عن سمو مقامهم - كما في بعض الروايات - لأن ما تمر على قلوبهم لها دخل في حط تقربهم لديه جل شأنه وإن لم يكن كذلك عند الخواص فضلاً عن العوام، فإن «حسنات الأبرار سيئات المتقربين»، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)(1)، (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) بالمنع من التمتع بحضرة قدسه بشهود الجمال بالاشتغال في أمور العباد التي توجب هدايتهم إلى معرفة رب الأرباب ، ونجاتهم من المهالك والظلمات.

أو (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ) بإفشاء أسرار الربوبية وإعلام المواهب الألوهية على مَن لا يليق بالتشرف لساحة قدسه، وران على قلبه، وتاه في الظلمات فعمى عليه معرفة الخير من الشر (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) بغلبات الأحوال من إظهار شيء من الحجة والبرهان، لا بإفشاء الأسرار ورفع الحجب .

ص: 444


1- المجادلة، الآية 11.

وعلى أي حال، (كَانَ اللَّهُ) في الأزل والأبد (سَمِيعًا) لأقوالكم و (عَلِيمًا) بأحوالكم ومقاماتكم. و(إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا) مما أفاض عليكم من النعم والحالات وما وهب لكم من المكاشفات بترقي النفوس إلى المقامات ووصلوها إلى أعلى الدرجات، (أَوْ تُخْفُوهُ) حفظاً عن الشوائب وصوناً عن المكائد (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) بترك إعلام ما جعل اللّه إظهاره سوءاً، أو تعفوا بما تدعوكم به النفس الأمارة بالسوء بأن لا تتبعوها أو تصفحوا عن المسيء كما يصفح عنكم الجليل، (فَإِنَّ اللَّهَ) كان في الأزل والأبد رحيماً، وبمقتضی رحمته كان (عَفُوًّا) عنكم لو اتصفتم بمظاهر أخلاقه جل شأنه، (قَدِيرًا) على كل شيء، فإنه قادر على أن لا يعفو عن أحد ويذل عبده برده إلى نفسه وهواه وإيكاله إلى نفسه مع الاختيار ويؤاخذه لكفرانه ، فإنه (لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)(1)، ولكن رحمته التي وسعت كل شيء، ومحبته لخلقه ورأفته لهم تقتضيان أن يعفو عن الجميع، فإنه (يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)(2)، ويعفو عن المسيء مهما توغل في الظلمات وبَعُدَ عن ساحة قدس رب السموات.

ص: 445


1- إبراهيم، الآية 34.
2- الزمر، الآية 53.

الغيبة

من المعاصي الكبيرة الغيبة، وهي: أن يذكر خلف إنسان ما هو مستور يغمه لو سمعه، فإن كان صدقاً سمي غيبةً وإلا فهو البهتان الذي هو أشد من الغيبة ، بل من الموبقات.

ولا فرق في الغيبة بين أن يكون بقصد الانتقاص أو لم يكن كذلك لإطلاق ما يأتي من الأدلة، كما لا فرق في العيب المستور بين أن يكون في بدنه، أو في خلقه، أو في نسبه، أو في قوله، أو في دينه، أو دنياه ، وسواء كان الذكر بالقول أو الكتابة أو بالحكاية بوجود العيب في الشخص المغتاب (بالفتح)، كالإشارات والتمثيليات، ففي جميع ذلك تتحقق الغيبة .

وتدل على أنها أم الرذائل الأخلاقية ومن المعاصي الكبيرة الأدلة الأربعة :

فمن الكتاب قوله تعالى: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)(1)، فشبه سبحانه وتعالى لما يناله المغتاب (بالكسر) من عرض المغتاب (بالفتح) بأفحش وجه كما هو معلوم. وقال تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)، أي: الذي

ص: 446


1- الحجرات، الآية 12.

لا يبالي بالغيبة وهتك أعراض الناس، وقال تعالى: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) ، فإن الجهر بالسوء سواء كان أمام الطرف أو خلفه مبغوض عند اللّه تعالى، وإن إطلاق السوء فيها كان يشمل الغيبة والبهتان يشمل الكذب، بل يشمل ترك التقنية المكلف بها أيضاً؛ فإنه سوء للعامل أو الفاعل.

ومن السنة روايات كثيرة بلغت حد التواتر، فعن نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «مَن اغتاب امرءاً مسلماً بطل صومه ونقض وضوءه وجاء يوم القيامة تفوح من فيه رائحة من الجيفة يتأذى بها أهل الموقف، وإن مات قبل أن يتوب مات مستحلاً لما حرمه اللّه تعالی»، المحمول في بطلان الصوم ونقض الوضوء على المرتبة النازلة من الكمال، أو على الاستحباب بالقضاء أو التجديد، والمراد من الاستحلال عدم المبالاة في ارتكاب الغيبة .

وعن الصادق (عليه السلام) : «الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه»، إلى غير ذلك من الروايات المذكورة في كتب الأحاديث .

ومن الإجماع ما هو مسلم بين المسلمين بجميع مذاهبهم، بل عد حرمتها من الضروريات الدينية .

ومن العقل حكمه بالقبح؛ لأنه نوع من التعدي على الغائب وظلم عليه ؛ لفرض أنه يغمه ويتأذى لو سمع بذكر ما فيه.

ويعتبر فيها أمور:

الأول: وجود سامع بقصد إفهامه، فلو لم يكن سامع لا تكون غيبةً .

ص: 447

الثاني : تعيين المغتاب وتشخيصه، فلو قال : واحد من أهل البلد سارق، لا يكون غيبة، أو قال : أحد أولاد زيد جبان، لا يكون غيبة، أو قال : أحد أولاد الجار فاسق، لا يكون غيبة وإن حزم من جهة انطباق عنوان آلهتك أو الإهانة بالانتقاص .

الثالث : أن لا يكون المغتاب (بالفتح) داخلاً في المستثنيات التي سنذكرها.

الرابع : أن يكون المغتاب (بالكسر) جامعاً لشرائط التكليف ، ولو فقد أحد هذه الشروط انتفى الحكم وإن تحقق مفهوم الغيبة لغة في بعض الموارد

وقد استثنی من حرمة الغيبة موارد كثيرة مذكورة في كتب الفقه، ولكن أهمها هي:

الأول: المتجاهر بالفسق، فتجوز غيبته في العيب المتجاهر فيه - دون العيب المستتر فيه - إن قصد من غيبته ارتداعه عن فسقه بعد وصول الخبر إليه أو يحذر الناس عنه، فعن نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «اذكر الفاسق بما فيه كي يحذره الناس»، فإذا علم أنه لا يؤثر فيه كغالب الفساق الذين انحرفوا عن الصراط المستقيم وران قلوبهم - ففي غيبته إشكال من إمكان شمول قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)(1)، ودعوى سباق الآية الشريفة في غير المورد تحتاج إلى دليل، ومن شمول إطلاق بعض الروايات مثل قوله (عليه السلام) : «من ألقى جلباب الحياء، فلا غيبة له» إن لم يدع الانصراف عن المورد . نعم تجوز من جهة تحذیر الناس في عدم وقوعهم في المهالك.

ص: 448


1- النور، الآية 19.

الثاني : الظالم لغيره، فيجوز للمظلوم غيبته في ظلمه للانتصار وبلا تعدي؛ لقوله تعالى : (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) ، وإطلاق الآية الكريمة يشمل جميع أنواع الظلم ومراتبها، إلا إذا كان الظلم على نحو لا يعتنى به لدى عرف المتشرعة ولا يحصل منه إيذاء ، فالآية المباركة منصرفة عنه.

ولا فرق في ذلك بين ما كان في مجلس عام أو لم يكن فيه، كما لا فرق في الظلم من أن يطرأ على المغتاب، أو على مَن ينتسب إليه، كما إذا غصب زید دار عمرو فمات عمرو، فيجوز لورثته غيبة زيد انتصاراً لحقهم، وكذا لا فرق بين أن يكون الظالم حياً أو ميتاً، كل ذلك لإطلاق الآية الشريفة .

وهل تجوز الغيبة في ما لو وقع الظلم على شخص لا ينتسب إلى المغتاب (بالكسر) أصلاً إلا من باب الأُخوة الإيمانية ولم يرد إليه نفعاً؟

مقتضى الأدلة عدم الجواز إلا من باب النهي عن المنكر إن توقرت شرائطه .

الثالث: نصح المستشير لو استشاره شخص في أمر ذي بال كالتزويج، وشراء عقار، أو جعل وكیل، أو اتخاذ أجير وغيرها، فيجوز نصحه ولو استلزمت الغيبة، ولا فرق في ذلك بين أن يكون ابتداءً ومن دون الاستشارة أو معها.

وهناك موارد أخرى مذكورة في الكتب الفقهية، كالخوف على الدين، فيجوز غيبته لئلا تترتب عليه مفسدة دينية، أو كجرح الشهود، وقدح المقالات الباطلة وغيرها(1).

ص: 449


1- م - ن، ص92 - 100، ج (10).

الزهد في الدنيا والإعراض عن الشهوات

قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ).

بيان لشدة غضبه عز وجل على الذين كفروا من بني إسرائيل ولم يؤمنوا بالنبي وما أُنزل إليه، واللعن هو البعد عن الرحمة الإلهية التي لا يستغني عنها المخلوق في حياته المادية والمعنوية، ولعنهم إنما كان من اللّه تعالى على لسان أنبيائهم ولعله لأجل ذلك أتي الفعل بالمجهول، إما لبيان الكبرياء والعظمة، أو لأجل أن اللّه تعالی منبع كل خير ورحمة وقد لعنا (عليهما السلام) من كفر من بني إسرائيل باللّه وواحد من رسله وفيه من التعريض لهم بأنهم ملعونون على لسان أنبيائهم أنفسهم وذلك لعصيانهم وتمردهم على الحق وأحكام اللّه تعالى كما ذكره عز وجل في ما يأتي والآية تدل على أن اللعن كان بلسانهم دون الكتابة واللغة كما قيل وهو أدل على تقبيحهم وبعدهم.

قال تعالى : (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ).

تأكيد لما سبق وبيان السبب في استحقاقهم اللعن، فإن كان بسبب العصيان له عز وجل واستمرارهم على العدوان، والجمع بين صيغتي

ص: 450

الماضي والمستقبل لبيان الامتداد والاستمرار الذي ذكرناه ، والآية الشريفة تدل على أن اللعن إنما هو بحسب أعمالهم القبيحة وتجاوز الحد في العصيان واعتداءهم المتكرر المستمر دون غيرهما.

قال تعالی : (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ).

بیان خصوصيات العصيان والاعتداء المستمر فإنهم أصروا على ذلك غاية الإصرار وهاية الاعتداء على حدود اللّه وتجاوز الحد في العصيان والتناهي من التفاعل الدال على الشدة في فعل المنكر وتماديهم فيه، فهم جمعوا بين فعل المنكر والتجاهر به وعدم النهي عنه في ما بينهم، فكان لا ينهي بعضهم بعضاً ولا يتناهون عنه لو صدر منهم، والمنكر هو كل فعل منهي عنه والجملة مفسرة لما قبلها من المعصية والاعتداء ومفيدة لاستمرارها، والنهي عن المنكر مما لا ريب في حُسنه عقلاً ووجوبه شرعاً لما فيه من حفظ الدين والمنع عن تجرؤ الفساق على إظهار فسقهم وفجورهم، وإذا ترك سيتجرأ الكثيرون على اقتراف المنكرات مما يوجب شيوعها في المجتمع الذي سيؤول إلى الضياع والفساد ويستحق الطرد من الرحمة الإلهية التي بها حياة الفرد والمجتمع. وقد ذكرنا ما يتعلق بالأمر المعروف والنهي عن المنكر، فراجع.

قال تعالى : (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

تعجيب من سوء فعلهم وتأكيد حاصل من القسم - لذم ما كانوا يعملونه من المعاصي والآثام، وفي الآية الشريفة زجر شديد لمن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

قال تعالى : (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا).

تأكيد آخر لما سبق بالاستشهاد بالحس وبذكر بعض أحوال

ص: 451

الحاضرين التي هي من آثار فعل السلف وسيرتهم الراسخة الدالة على كونهم معتدين على دين اللّه الذي إذا أحبوه وقدروه حق التقدير لتولوا أهل التوحيد وآمنوا باللّه ورسوله ولما تولوا أعداء اللّه من الذين كفروا وهو مشركوا قريش الذين عاندوا الحق، وقد ذكرنا سابقاً أن تولي الكفار يوجب الانخراط معهم والدخول في سلكهم وذلك ينبیء عن ضعف العقيدة وعصيان اللّه والتمرد على أحكامه.

قال تعالى : (لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ).

ذم آخر مؤكد لما قدموه لأنفسهم وهو تولي الكفار في الدنيا ليلقوا جزائه ووباله في العقبی وفي ذكر (أَنْفُسُهُمْ) الدلالة على أن الولاية إنما كانت عن هوى النفس وميولها المادية لا عن عقيدة بمن تولوهم.

قال تعالى : (أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ).

بيان للجزاء العظيم والوبال الكبير الذي استحقوه وفي الآية كمال الذم والتسفيه لهم إن وضع جزاء العمل وعاقبته موضع العمل كأن أنفسهم قدمت لهم جزائه بتقديم نفسه.

وذكر الدخول في العذاب والخلود بعد استيلاء السخط عليهم لبيان أنهم لا محبص لهم عن الدخول في العذاب ولا يحيدون عنه مصرفة لأن النجاة منه إنما يكون برضاء اللّه تعالى عنهم وهم لم يعملوا إلا ما أوجب سخطه ونقمته عليهم.

قال تعالى: (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ).

بيان لسبب تولي هؤلاء اليهود للذين كفروا وهو عدم الإيمان باللّه وإعراضهم عما كانوا يقدسونه ويحترمونه، فإنهم لو كانوا كذلك لكانوا

ص: 452

آمنوا باللّه والنبي وما أنزل إليه من الهدى والفرقان ولما اتخذوا أولئك الكافرين من عبدة الأصنام والأوثان أولياء وأنصار إلا أنهم أشباههم في الكفر فانجذبوا إليهم، بخلاف ما إذا كانوا مؤمنين، فإن الإيمان يقطع كل سبب سوى حب اللّه تعالی ویكون رادعاً عن تولي الذين كفروا قطعاً ويحتمل أن يرجع الضمير إلى الذين كفروا، أي ولو كان الذين كفروا ۔ وهم المشركون - يؤمنون باللّه وبالنبي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وما أنزل إليه من الفرقان والهدى لما اتخذوا اليهود أولياء لأن الإيمان فيهم يستدعي قطع الصلة عن توليهم، ولكن الظاهر هو المعنى الأول بقرينه ذيل الآية الشريفة.

قال تعالى: (وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ).

إضراب عما سبق ولبيان العلة في عدم الإيمان لأن الكثير من هؤلاء اليهود فسقوا عن الدين وخرجوا عن طاعة رب العالمين ولا عبرة بالقليل فإنه لا يؤثر في أخلاق الأمة وسيرتها .

قال تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) ، تفصيل في أخلاق الطائفتين اليهود والنصارى بالنسبة إلى أصل الإيمان بعد بيان اشتراكهما في بعض الرذائل النفسانية وذكر ما اختص به بعضهما كقول اليهود (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) وقول النصارى (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) والوجدان يتعدى إلى مفعولين وهما أشد واليهود.

وفي (لَتَجِدَنَّ) تأكيد أن اللام ونون التوكيد، والجملة عامة تشمل الناس واليهود في عصر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والتنزيل وبعده أيضاً، كما هو المعروف والمحسوس ولعله لهذا عبر عز وجل بقوله (لَتَجِدَنَّ) الدال على الوجود المحسوس وفي تقديم اليهود على الذين أشركوا إشعار في تقدمهم عليهم في العداوة وفي التعبير بالذين أشركوا دون المشركين مع

ص: 453

أنه أخصر للمبالغة في الدم، كما أن التعبير بالذين آمنوا لأنه أظهر في علية ما في حيز الصلة، وعداوة اليهود والذين أشركوا معروفة منذ ظهور الإسلام إلى يومنا هذا لأن الكلام سيق لبيان الضابط العام كما في كثير من الآيات النازلة في شأنهم، فلا تختص الآية بعصر التنزيل كما ذكره بعض المفسرين وإنما أشرك عز وجل اليهود والمشركين لتضاعف كفرهم وتمردهم على الحق واستمرارهم على تكذيب الأنبياء ومعاداتهم وانهماكهم في اتباع الهوى ، وكونهم على التقليد، وانفظاظ قلوبهم.

قال تعالى: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى).

بيان الشدة عطف النصارى ورقة قلوبهم ولين جانبهم وحسن إقبالهم على الحق، فهم الذين قالوا: (نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ) ؛ فكان ابتغاؤهم نصرة اللّه ، فهم لم يكافحوا الحق بالرد كما كافحه اليهود ولعله لأجل ذلك لم يعبر عز وجل بالنصاری كما قل جل شأنه اليهود لصلابتهم وامتناعهم عن الانقياد . وإنما ذكر عز وجل في (أَقْرَبَهُمْ) دون غيره ولم يجعل جل شأنها ما به الاشتراك شيئاً واحداً قد تفاوتا فيه بالشدة واضعف كأن يقال : «لتجدن أبعد الناس مودة» أو أضعفهم مودة ونحو ذلك لبيان شدة التفاوت بينهما وكمال التباين بين الفريقين فإن أحدهما في أقصى المراتب من أحد النقيضين والآخر في أقرب النقيض الآخر.

قال تعالي: (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ).

بیان السبب في كونهم أقرب مودة للذين آمنوا وقد ذرك عز وجل أموراً ثلاثة :

الأول: إن فيهم قسيسين وهم طائفة العلماء الذين يتولون تعليم

ص: 454

المسيحيين وتربيتهم الدينية والرؤساء فيهم في هذا المجال والقس والقسيسين مأخوذ من تقسيس الشيء إذا تتبعه سمي به لتتبعه آثار العلم والمعاني، وهي رتبة دينية عند النصارى دون الأسقف، ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم إلاهنا، ولا بد أن يكون أصل إطلاقه على بعض العلماء منهم حقاً لأن القرآن الكريم يذكرهم في مقام المدح لهم ثم انحرفوا كما هو الشأن في كثير من الأمور الدينية عند اليهود والنصاری، ولعل السبب ما ذكره بعض العلماء أن النصارى ضيعت الإنجيل وأدخلوا فيه ما ليس منه وبقي من علمائهم واحد على الحق والاستقامة يقال له قسيس، فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس، وكيف كان فهم علماء يذكرون قومهم مقام الحق ومعارف الدين ويرشدونهم إلى ما هو الأصلح لهم.

الثاني: الرهبان وهو جمع الراهب وهو المتبتل المنقطع في الصومعة أو الدير للعبادة وحرمان النفس من النعم الدنيوية كالزواج والولد ولذات الطعام والزينة، وهو من الرهبة أي المخافة مع تحرز، والترهب التعبد والرهبانية من فرط الرهبة غلو في تحمل التعبد، والرهبانية يكون جمعاً ويكون واحداً وجمعه رهابين، كذا قيل.

والرهبنة دخلت في المسيحية لأسباب عديدة ولا يمكن أن نتغاضى عن السبب الأهم وهو أن الانقطاع عن العلائق الدنيوية أمر مركوز في الإنسان فقد يطغى الجانب الروحي في الإنسان ولأسباب معروفة فيتبتل للعبادة والطاعة وينقطع عن الدنيا وعلائقها وزخارفها، وقد يتغلب الجانب المادي فيحدث الإقبال على الدنيا والإعراض عن الجانب الآخر، وهذه الرهبانية قد تكون ممدوحة إذا كانت مطابقة لروح الشريعة الإلهية وأحكامها وقد تكون مذمومة إذا خالفتها، كما قال تعالى : (وَرَهْبَانِيَّةً

ص: 455

ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) ، وفي الحديث «لا رهبانية في الإسلام»، وقد ذكروا أسباباً عديدة لدخول الرهبانية في النصارى، بعضها لا تخلو من المناقشة وإن كان لتعاليم المسيحية وإدراك بعض علمائهم بطلان هذا العالم وخداع مظهره الخلاب ووقوع بعض الاضطهاد عليهم في ابتداء أمرهم وغير ذلك من الوجوه الأثر الكبير في دخولها فيهم، وقد مرت عندهم بمراحل متعددة متطورة بدءاً من الهروب من الناس إلى الاختلاء في الكهوف بقصد محاربة النفس والإكثار من العبادة والتأمل مع المحافظة على الوحدة والتفرد، وبمرور الزمن كثر عددهم وصار عندهم نوع من العشرة والاجتماع بينهم بعد تعرضهم إلى المخاطر، فبنيت لهم الصوامع فنشأت الأديرة وكثرت ثم صار لها أسباب وقواعد، فأصبح الالتحاق بهذا السلك أمراً ليس بالهين، وكيف كان فالرهبانية الموجودة عندهم وإن كانت بدعة ولكن لا ينافي تأثيرها في تقريب النصارى من مودة المسلمين، ولما كان القساوسة والرهبان بكثرة في النصارة، بل صارت عقيدة، وفكرة عندهم أوجبت نسبة المودة إلى جنس النصاری .

الأمر الثالث: أنهم لا يستكبرون أي بأنهم لا يستكبرون عن اتباع الحق والإعان له لما فيهم من روح التواضع حتى صار شعارهم وأشهر آدابهم وأمروا بمحبة الأعداء.

والآية الكريمة تدل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والزهد في الدنيا والإعراض عن الشهوات محمودة أينما كانت وأن اجتماعها في أي فرد يوجب الإذعان للحق وذلك لأن الإنسان إذا أراد السعادة في الدارين فلا بد أن يتوخاها في علم ليدرك به حقيقة الدين وأحكامه ومعارفه ليتمكن من العمل بها فإن العلم والعمل متلازمان ولا ينفك أحدهما عن الآخر في نيل السعادة وهما لا يتحققان إلا مع إزالة

ص: 456

الموانع من النفس وأهمها الاستكبار عن الحق بجميع هيئاته المتمثلة في العصبية والعادات والتقاليد الموروثة والبيئة التي يعيش فيها والتربية الفاسدة التي تربي بها، كل تلك موانع وحجب تمنع النفس من العلم الحق وحق العمل وهذا من الأمر المحسوس وقد دلت عليه البراهين العقلية والفعلية فإن العصبية في النفس تمنع من الخضوع للحق والعلم به ، كما أن العادات السيئة لها الأثر الكبير في باب الأعمال فإن استقرارها في النفس لا يبقى لها فراغاً لأن تتفكر في أمرها أو تتدبر في الخلاص منها فهي مانعة من العمل الصالح لا سيما إذا استقرت في المجتمع والمحيط الذي يعيش فيه الفرد، حينئذٍ يصعب إزالتها وتركها ولكن لا تصل إلى الامتناع كما هو المعلوم، فإن النفس وإن وقعت في الحرج والمشقة في ابتداء الأمر إذا كان الفعل الصادر منها مخالفاً لتلك العادات إلا أنها تسهل إذا استمرت عليها حتى تصير عادات بالتكرار وتصبح طبيعية ثانوية فإن الطبایع عادات ولها الأثر الكبير في النفس والمجتمع في تصحيحها أو إفسادها وحينئذٍ إذا علم الإنسان بالحق ونزع العناد واللجاج عن النفس فأذعن وخضع له صار العلم داعياً للعمل وتقبل النفس إتيانه، ولا بد أن لا ننسى أن ما ذكرناه ممكن وواقع في الخارج وإن كان التلقي العمل يختلف شدة وضعفاً مع وجود الحواجب النفسانية كما عرفت ولكن الأرضية الخصبة هي الإعراض عن الدنيا والزهد فيها فإنها تسهل كثيراً للنفس ممارسة العمل الذي يدعو إليه العلم الحق ومن كل ذلك يعلم أن الآية الشريفة تشير إلى حقيقة من الحقائق الاجتماعية التي طالما اختلف فيها علماء الاجتماع والنفس في العادات والتقاليد ورواب النفس التي لها الأثر الكبير في الفرد والمجتمع وكيفية التخلص منها ومدى تأثيرها في الأجيال واختلاف القيم بسببها، والقرآن الكريم يرشدنا إلى أوضح السبل في الحد من تأثيرها والتغلب عليها ثم إزالتها، فالمجتمع إذا اشتمل على علماء

ص: 457

يهتمون بتربية الأفراد وتعليمهم ورجال يمثلون الجانب التطبيقي للعلم الحق ليذعن عن العامة بتطابق العلم مع العمل وإمكانه حتى مع وجود عادات سيئة متفشية بينهم فتعتاد على قبول الحق والخضوع له وعدم الاستكبار إذا انكشف لهم الواقع، ولأجل ذلك كان النصارى أقرب مودة للحق وأسلس قياداً لقبول الإسلام والإذعان له لوجود تلك الحقيقة فيهم، فإن منهم علماء لا يزالون يذكرونهم الحق والدعوة اللّه تعالى، ثم فيهم زهاد يعرضون عما يوجب البعد عن السعادة ، فكان من نتيجة التطابق بينهما إن أثرت التربية الدينية والعملية فيهم لأنهم لا يستكبرون عن قبول الحق، وهذه الأمور إذا تحققت في أي مجتمع كان أقرب إلى قبول دین الحق.

وهذا بخلاف اليهود الذين خلوا عنها وقد وصفهم عز وجل في مواضع عديدة من القرآن الكريم بأنهم يستكبرون وفيهم علماء لا يذعنون للحق بل لا يدعون رذيلة إلا قترفوها فنشأ على ذلك مجتمعهم واستحكمت فيهم عادات سيئة لا يمكن إزالتها بسهولة، ومن هنا يظهر سر قوله تعالى فيما سبق (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ) فصاروا قرناء مع المشركين الذين فقد فيهم العلماء الزهاد وفيهم رذيلة الاستكبار ولا ينفع وجود القلة إذا كان الكثير منهم على ذلك، كما بينه القرآن الكريم ولا سيما في الآيات السابقة (وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ).

قال تعالى : (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ).

مظهر من مظاهر التواضع للحق وعدم الاستكبار من قوله وبيان لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم ومسارعتهم لقبول الحق، والفيض الصباب عن امتلاء، وفاضت العين بالدمع أي سال دمعها بكثرة إما لامتلائها حتى

ص: 458

يتدفق الدمع من جوانبها، أو يراد منها المبالغة أي كان الأعين ذابت وصارت دمعاً جارياً، و(من) في قوله تعالى : (مِنَ الدَّمْعِ) للابتداء متعلقة بمحذوف حال من (الدمع) أي حال كونه ناشئا من معرفة الحق.

وقيل إنها للسبب متعلقة بتفيض وما مصدرية .

ومن في قوله تعالى (مِنَ الْحَقِّ) بيانية ل(ما) بناءً على أنها موصولة وقيل إنها للتبعيض متعلقة ب(عَرَفُوا) على معنى أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم، فكيف لو عرفوه كله، وهذا يلائم قول من يخص الآية الشريفة بواقعة معينة كالتي ورد في النجاشي وجماعته، والأول أولى لبيان أن ذلك شأنهم عند سماع القرآن . وكيف كان فالآية الشريفة تبين خصيصة من خصائص الذين قالوا أنا نصارى التي عرفوا بها وهي الرقة، المعروفة عندهم

مما توجب العبرة والاستعبار والدموع الغزيرة فيكون الخطاب عاماً .

قال تعالى : (يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ).

بيان لمقالهم بعد بيان حالهم من الحق فيقولون عند معرفتهم له بریدون به إنشاء الإيمان متضرعين لدى اللّه عز وجل في قبوله وجعلهم ممن شهد على الحق بأنه حق وهي منزلة عظيمة لا ينالها إلا ذو حظ عظيم في الاعتقاد والعلم والعمل، وقد كان من صفاء سريرة هؤلاء أن عرفوا الحق وتواضعوا له حق التواضع وجرت دموعهم بغزارة عظيمة فرحة لوصولهم إلى الحق شوقاً إلى الحقيقة والوصول إليها، فألهمهم اللّه تعالى أن يطلبوا منه الدخول في زمرة الشاهدين وإن كانوا في بدء إسلامهم وهذا المعنى قد حرم منه قوم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإنهم لجفوتهم وقساوة قلوبهم وبعدهم عن الحق والحقيقة ولانتفاء المعرفة فيهم مع أن الرسول الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين ظهرانيهم لم يدركوا تلك المعاني السامية التي وصل إليها الذين قالوا أنا نصاری .

ص: 459

قال تعالى: (وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ) .

تقرير لما سبق، وتثبيت لإيمانهم باستبعاد ما يوجب انتفاءه مع قيام الداعي فيهم وهو الطمع والانخراط مع الصالحين، وهذه الأمور مطلوبة في تثبيت الإيمان وتوكيده، فإن مجرد القول والاعتقاد لا يضمن البقاء لكثرة الشواغل وما يوجب الانصارف وهم في بدء إسلامهم مع ما يرونه من الفتن والامتحان فيحتاج هذا الأمر المهم إلى ما يوجب التوكيد والتثبيت ليضمن به الاستمرار والبقاء وديمومة الإيمان .

وفي مقالهم هذا بيان لسر طلبهم من اللّه أن يكتبهم من الشاهدين وهو استقرار الإيمان في القلوب وعدم خلوفهم منه ليتم بذلك سبب الشهادة فإنها بمعنى الشهود وهو الحضور، فإذا لم يستقر الإيمان ولم يستقر القلب عليه وكان متزلزلاً فكيف يمكن أن يدخل في زمرة الشاهدين.

ومما ذكرنا تعرف الوجه في الاستفهام فلا يصغي إلى ما قيل فيه، فراجع.

قال تعالى : (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ).

بيان لرسوخ الإيمان في قلوبهم فطمعوا في اللّه تعالى أن يجعلهم مع القوم الصالحين وهم الذين خلصت نواياهم من كل شين وصلحت نفوسهم بالفضائل وتزكت أعمالهم باستقامتها وتطابقها لما يرضاه اللّه تعالى. والجملة مستأنفة لبيان رسوخ الإيمان بعدما نفوا عنهم ما يوجب عدول الإيمان عنهم وفي الإتيان بلفظ (مَعَ) دلالة على الدخول في مداخلهم والانخراط معهم.

قال تعالى: (فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا).

ص: 460

الإثابة المجازاة أي جزاهم اللّه تعالى ومنحهم من الثواب الجزيل بقولهم الذي عبر عن خلوص و اعتقاد راسخ كما دل عليه قوله تعالی : (مِمَّا عَرَفُوا) فإن القول إذ اقترن بالمعرفة كما الإيمان، وهذا ما دلت عليه الآية الكريمة، كما عرفت والجزاء كان عظيماً وهو جنات تجري من تحتها الأنهار ليتم بها البهجة والسرور خالدين فيها أبدا.

قال تعالى : (وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ).

أي أن ذلك الأمر الجليل من الثواب الجزيل جزاء كل محسن الذي اعتاد الخير والإحسان، فيشملهم ذلك الجزاء إما بالمطابقة أو بالأولى، والآية الشريفة على قبول مناجاتهم مع اللّه ودعواتهم بذكر اللازم.

قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ).

بيان للترهيب والوعيد بعد ذكر الوعد والترغيب لتتم المقابلة التي جرت عليها عادة القرآن الكريم وليتم التحذير من المخالفة بعد الترغيب إلى الثواب فإنه بعدما ذكر للمؤمنين من الأجر الجزيل والثناء الجميل ذكر ما أعد للكافرين المكذبين من الجزاء الوبيل فتم ذلك باستيفاء الأقسام وتبين الأشياء .

ص: 461

بحوث المقام

بحث أدبي

إفراد اللسان في قوله تعالى: (عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أحد الاستعمالات الثلاثة المشهورة في مثل ذلك، وقيل أن الإفصاح منها أنه إذا فرق بين الجزئين اختير لفظ الأفراد على غيره، ولذلك جاء على لسان مفرداً ولم يأتِ على لساني داود وعیسی بن مریم ولا على ألسن داود وعيسى، وأما إذا كان المتضمنان غير مفترقین اختير لفظ الجمع على لفظ التثنية وعلى الأفراد نحو قوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)(1).

و(مُنْكَرٍ) في قوله تعالى: (عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ) للنوع، والتنوين للوحدة النوعية لا الشخصية، ويكون وصفه بالفعل الماضي في تعلق النهي به لأن متعلقه فرد من أفراد ما يتعلق النهي به والصحيح أن يقال أن الانتهاء عن مطلق المنكر باعتبار تحققه في ضمن أي فرد من أفراده فلا يبقى إشكال فني الآية الشريفة حيث ذكر بعضهم بأنها مشكلة باعتبار ذم القوم بالنهي عما وقع وإنما يكون عن الشيء قبل وقوعه، فلا بد من تأويلها بأن المراد النهي عن العود إليه إما بتقدير مضاف أي معاودة منكر أو الفهم من السياق أو المراد فعلوا مثل، أو يحمل على أرادوا فعله .

ص: 462


1- التحريم، الآية 4.

والجميع كما ترى خلاف ظاهر الآية الشريفة وهي واضحة لا تحتاج إلى هذه التأويلات الباردة ، فراجع.

وقوله تعالى : (أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ).

هو المخصوص بالذم على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه تنبيهاً على كمال التعلق والارتباط بينهما ومبالغة في الذم والمعنی موجب سخط اللّه عليهم وإنما اعتبروا المضاف لأن نفس سخط اللّه تعالی شأنه باعتبار إضافته إليه سبحانه ليس مذموماً بل المذموم ما أوجبه من الاسباب والخلاف في إعراب مخصوص نعم وبئس معروف مذكور في كتب النحو، فراجع.

وقد اختلفوا في إعراب قوله تعالى : (وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ)، فقيل في موضع الحال، متسبب عما قبله، وليس هو داخلاً في حيز الحرف المصدري إعراباً .

وقيل (أَنْ) مخففة عاملة في ضمير الشأن بتقدير أنه سخط اللّه عليهم وفي العذاب هم خالدون.

وقيل : أنه معطوف على ثاني مفعولي (تَرَى) بجعلها علمية أي تعلم كثيراً منهم يتولون الذين كفروا ويخلدون في النار، وفي كلا القولين من التعسف ما لا يخفى، ولم يدخل اللام في جواب لو في قوله تعالی : (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ) لأنه الأفصح بل دخول اللام عليه قليل والوجدان في قوله تعالى : (لَتَجِدَنَّ) متعد لاثنين أولها (أَشَدُّ) والثاني (الْيَهُودُ) وما عطف عليه، وقيل بالعكس ولا يغير التقديم والتأخير بعد ورود الدليل على الترتيب، وهو واضح في المقام كذا قيل و (عَدَاوَةً) تمييز واللام الداخلة على

ص: 463

الموصول متعلقة بها، ولا يضر كونها مؤنثة لأنها مبنية عليه، وقيل تعلقها بمحذوف وقع صفة لها أي عداوة كائنة للذين آمنوا ولا يخفى أنه خلاف الظاهر .

ورهباناً منسوب إلى الرهبنة بزيادة الألف والتنكير لإفادة الكثرة.

وقوله تعالى: (تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) من أبلغ العبارات فإن الأصل فاض دمع العين ثم حولت إلى فاضت عينه دمعاً ثم حولت إلى نسبة الفعل إلى العين مجازاً ومبالغة، وجوز بعض أن تكون (مِنَ) هي الداخلة على التمييز .

وأما قال تعالى: (وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ) ، فإن الاستفهام فيه لأجل التحقق وتثبيت الإيمان وقد جعله بعضٌ للإنكار الذي هو متوجه للسبب والمسبب جميعاً كما في قوله تعالى : (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي)(1)، وأمثاله .

وقال بعض: إنه جواب سائل ، قال : لم آمنتم، واعترض عليه بأن العلماء صرحوا بأن الجملة المستأنفة الواقعة جواب سؤال مقدر لا تقترن بالواو، إذ الجواب لا يعطف على السؤال وأجيب بأن الواو زائدة، ولكن كل ذلك تطويل بلا طائل تحته، وقد عرفت مكرراً أنه لا معنى للزيادة في القرآن الكريم.

ونطمع استیناف أخبار منهم، وقيل أنه في موضع حال عطفاً على قوله تعالى : (لَا نُؤْمِنُ) فيكون في حيز النفي وقيل غير ذلك فراجع.

ص: 464


1- الانشقاق، الآية 2.

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على أمور:

الأول : يدل قوله تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) على أن اللعن جائز شرعاً إذا تحقق موجبه وهو العصيان والاعتداء على حرمات اللّه تعالى المتحققان في الفكر باللّه وآياته وتشريعاته المقدسة وإنما ذكر بني إسرائيل من باب المثال فيشمل غيرهم ولعل الإتيان بالفعل مبنياً للمفعول لأجل أن اللعن يتحقق من كل من يمكن أن يصدر منه اللعن سواء كان اللّه تعالى أو الأنبياء أو اللاعنين من غيرهما على كل من كان من شأنه الاعتداء ويستفاد ذلك أيضاً من تعليق الحكم على الوصف وهو العصيان فيستفاد من العلية منه كما هو معروف من مثل هذا الأسلوب وإلا فإن السبب معلوم من الكفر السابق .

الثاني : يستفاد من قوله تعالى : (وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)، إن اقتراف المعاصي والآثام والتمرد على الأحكام وعصيان اللّه عز وجل يوجب الاستهانة والاستهزاء بكل المقدسات فلا تبقى في النفس حرمة لها وينعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يتناهی عنه، فلو تحقق لا ينتهي عن المنكر وهذا هو السبب في ذم اللّه تعالى لأفعالهم التي أوجبت وقوعهم في هذا النوع من الذنب الذي له الأثر العظيم في فساد الفرد

والمجتمع.

الثالث: يدل قوله تعالى : (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) على أن ترك النهي عن المنكر وعدم الانتهاء عنه لو تحقق منهم من الفعل الشنيع الذي ذمة اللّه تعالى لعظيم أثره في الأفراد والمجتمعات وتأثيره الكبير في الجرأة على هتك الحرمات وعدم احترام النفوس للتكاليف، وإذا تحقق ذلك في أي فرد أو مجتمع يوجب ضیاع عن كل كمال ويستلزم فساده

ص: 465

الذي له الأثر في النوع والنظام الكياني، وقد قال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) وقد بين عز وجل بعض آثاره الفظيعة على النفوس والأعمال وما استوجب من الجزاء العظيم وهو سخط اللّه تعالى الذي كان السبب في دخولهم النار مأوى العاصين ومظهر الغضب الإلهي .

الرابع: بدل قوله تعالى : (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ) على أن الإيمان باللّه والنبي وما أنزل إليه من القرآن والمعارف والأحكام درع حصين من الدخول في زمرة الكافرين وموالاتهم وتعدد مصاديق الإيمان لأجل ثبوت أصل الإيمان في القلب ورسوخه في النفس، فيكون إيمانه خالصاً عن كل نفاق فيكون على طرف نقيض من الذين كفروا من عبدة الأوثان المعرضين عن كل كمال وتحدث البينونة بينهما فكيف يمكن والحال هذه أن يوالي الكافرين؟ فموالاتهم دلیل نفاقهم وعدم رسوخ الإيمان في قلوبنهم وعلى هذا لا فرق بين إرجاع الضمير في (كَانُوا) إلى بني إسرائيل أو إلى المشكرين فإن البينونة الحاصلة بين الطائفتين والفرقة الحادثة بينهما تنفي الموالاة فإذا تحققت لا بد أن يكون لأجل عدم الإيمان الموجب لاشتراكهما وإتيان النبي مجردة عن الإضافة لبيان أن الأنبياء (عليهم السلام) هم رسل اللّه تعالى لهداية الإنسان فلا فرق بينهم من هذه الجهة، فإن الإيمان بالنبي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يدعو إلى الإيمان بموسى (عليه السلام) وكذلك الأمر معكوساً والجميع يدعون إلى اللّه تعالى والإيمان به وبهم يقطع كل صلة مع الكافرين، كما عرفت مكرراً.

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) ، إن الإيمان الظاهري الذي يعم جميع من يعتقد به غير كاف في ثبوت الآثار الواقعية المترتبة عليه فيهم، فإن الكثير الذين يوالون الكافرين

ص: 466

ويعملون المعاصي والآثام هم الذين خرجوا عن ربقة المؤمنين وصاروا بذلك فاسقين فهم السبب في دفع الآثار الواقعية فتبقى القلة الذين آمنوا وأعرضوا عن موالاة الكافرين مسلوبوا التأثير ولكن مع ذلك ذكرهم اللّه وهو من نصفة القرآن حيث أثبت لهؤلاء القلة الحق ولم ينكره عليهم.

السادس: يستفاد من قوله تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)، أصناف العباد بالنسبة إلى المؤمنين من حيث القرب والبعد والعداوة والمحبة فطائفة منه يعادونهم وهذا هو المشاهد المحسوس منهم وذلك لأسباب معروفة ومعلومة ذكرها عز وجل في هذه الآيات وغيرها، منها موالاة الكافرين والعصيان المتكرر فيهم والاعتداء المستقر في النفوس وعدم احترام المقدسات والحرمات الإلهية ، ففي أي قوم استقرت فيهم هذه الصفات وتمكن في النفوس النفاق كانوا على عداء مع القوم المؤمنين وتختلف مراتبه حسب شدة الأسباب وضعفها، ولذا كانت اليهود على الأشد لأنهم على أقصى درجات الاستكبار والنفاق والطائفة الأخرى على قرب من المؤمنين ومحبة لهم وذلك لأسباب معلومة أيضا وهي وجود العلماء العارفين الذين يدعون أقرانهم إلى الإيمان والطاعة، والزهاد الذين أعرضوا عما يوجب البعد عن اللّه تعالى والتواضع للحق وعدم الاستكبار عنه وهذه أمور عالية في غاية الكمال وإذا تحققت في أي قوم توجب الإذعان للحق وحب أهله ، وتختلف أيضا المحبة شدة وضعفة بحسب زيادة الأفراد وقلتهم وضعف الاستكبار، وكانت النصارى أقربهم مودة للذين آمنوا لكثرة مثل هؤلاء العلماء والزهاد وضعف الاستكبار منهم، ولعل التعبير بالوجدان لأجل معلومية تلك في النفوس وأنسها بها في الأمور المادية .

ص: 467

وتدل الآية على أن الزهد عن ملاذ الدنيا ووجود الزاهدين في كل قوم له الأثر في نفوس الآخرين وكذلك وجود العلماء الداعين إلى اللّه تعالى فيهم، فإن المؤانسة بين الأفراد لا محالة تؤثر وإن النفوس مجبولة على الرجوع إلى العلماء الداعين والزاهدين فتتأثر بها ولعل انتفاء الاستكبار من بينهم لأجل وجود هاتين الطائفتين في المجتمع فإن العلم إذا اقترن بالعمل في الخارج زاد في المعرفة وهي تدعو إلى التواضع وإذا أخذ ذلك في الشريعة أيضاً تم المطلوب وانتفى كل عناد و لجاج، وقد ذكرنا ما يتعلق بذلك في التفسير فراجع.

السابع : يدل قوله تعالى : (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ)، على أن النفوس المستعدة والقابلة لتلقي الفيض تنهضها مجرد سماع الحق ولا تحتاج إلى أمر زائد عن ذلك فترى أن القوم سمعوا القرآن الكريم فتأثروا به وأول أثر خارجي شوهد فيهم هو فياض أعينهم من الدمع الكاشف عن رقة القلوب وابتهاجها بعرفان الحق، ولعل ذكر الدموع الغزيرة من دون سائر الصفات لبيان الجانب الروحي المتغلب عليهم وانقطاع أنفسهم إلى عالم الغيب فإن الإنسان قد تبرق عليه بارقة فينقطع بها إلى تلك العوالم التي كانت الأرواح فيها ومحل أنسها وإذا استغلها بأحسن وجه وعرف عظيم أثرها لرأي العجب العجاب ولا تخلو لحظة يمر كل فرد فيها.

وأما طلبهم أن يجعلهم مع الشاهدين الذين عرفوا الحق وآمنوا به وأصبحوا شهوداً على قومهم بإيمانهم وصاروا شهداء على الحق بإيمانهم وأعمالهم فإذا كانوا كذلك فلم يؤمنوا باللّه وما جاءهم من الحق الذي عرفوه؟ وما هو السبب في إعراضهم وقد صاروا شهوداً عليه؟ ولا مبرر لهم في ترك الحق حينئذ فهم صلحاء في عقائدهم وقد خلب الحق قلوبهم

ص: 468

فلم لا يطمعون في الدخول مع القوم الصالحين الذين صلحت سرائرهم وأعمالهم وخلص إيمانهم؟!

الثامن : يدل قوله تعالى : (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) على أن الإيمان المستقر في القلوب الذي يكون باعثاً على العمل الصالح يكفي في أن يجعل الفرد من القوم الصالحين وذلك بلطفه العمي ومنه الكريم، فإن النوايا الحسنة والإيمان الصادق الباعث للعمل الصالح هما الموجبان لتلقي الثواب والدخول مع زمرة الصالحين الذين أعد لهم اللّه تعالى الثواب العظيم والأجر الجميل ويستفاد منه مصبوبة الطمع من فضل اللّه العظيم إذا تحققت القابلية لتلقي الفيض وأن كان مذمومة في أمور الدنيا.

التاسع: يدل قوله تعالى : (وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) ، على أن عرفان الحق والإيمان به إحسان محض والمعتقد به یكون من المحسنين، وقد وصف هؤلاء بأوصاف ثلاثة تدل على عظیم منزلتهم وهما كونهم من الشاهدين والصالحين والمحسنین.

والأول: حصل من عرفان الحق والتواضع له وخلبه لمشاعرهم حتى فاضت دموعهم وانبهروا من شروق نوره على نفوسهم المستعدة .

والثاني : لأن الحق استقر في القلب وسيطر على المشاعر فصلحت نفوسهم ولم يصدر منهم إلا الصلاح فاستقاموا بالبقاء .

والثالث : حصل لهم بعد التجليات الباهرات .

بحث روائي

في الكافي بإسناده عن أبي عبيدة الحذاء عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عز وجل: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ

ص: 469

وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)، قال (عليه السلام) : الخنازير على لسان داود والقردة على لسان عیسی بن مریم .

أقول: رواه القمي والعياشي كما روى الجمهور في ذلك أيضاً عن قتادة ومجاهدة وغيرهما، ويكون المراد من اللعن على لسان هذين النبيين (عليهما السلام) نزول العذاب فعلاً عليهم فمسخهم قردة وخنازير وإن كانوا ملعونين على السن سائر أنبيائهم ولأجل ذلك خضهما اللّه تعالى بالذكر .

وفي المجمع عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) : «أما داود فإنه لعن أهل إيلة لما اعتدوا في سبتهم وكان اعتداؤهم في زمانه ، فقال : اللّهم ألبسهم اللعنة مثل الرداء ومثل المنطقة على الخصرين، فمسخهم اللّه قردة، وأما عيسى فإنه لعن الذين نزلت عليهم المائدة ثم كفروا بعد ذلك، قال : فقال أبو جعفر (عليه السلام) : يتولون الملوك الجبارين ويزينون لهم هواهم ليصيبوا من دنیاهم».

أقول: يستفاد من الحديث أن المقصود من الذين كفروا من بني إسرائيل في الآية الشريفة هم أهل إيلة الذين مسخهم اللّه قردة بدعاء داود عليهم لما اعتدوا في سبتهم، وقد ورد ذكرهم في القرآن الكريم في موضعين أحدهما سورة البقرة: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)(1)، والثاني في سورة الأعراف : (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)(2)، (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)(3).

ص: 470


1- البقرة، الآية 65.
2- الأعراف، الآية 163.
3- الأعراف، الآية 166.

ولكن هذا الحديث ينافي مع ما ورد في الحديث المتقدم من أن الممسوخين على لسان داود كانوا خنازير وليسوا قردة، ويمكن رفع التنافي إما بتعدد الواقعة، ففي إحداهما مسخوا خنازير وفي الثانية قردة أو في واقعة واحدة مسخ بعضهم قردة وهم أصحاب السبت المعروفون المتجاوزون على حدود اللّه وأحكامه المقدسة والبعض خنازير حسب درجات أعمالهم الشنيعة وما يناسب ملكاتهمن ولم يبين في الحديث الممسوخ على لسان عیسی بن مريم وإنما تحقق اللعن عليهم منه (عليه السلام) ولكن الحديث المتقدم بينه، وأما ذيل الحديث «يتولون الملوك الجبارین ..» فإنه إنما يكون من مسخ القلوب التي مارست الذنوب والآثام فأعرضت عن اللّه تعالی وركنت إلى الدنيا ونسيت كل خير ومكرمة وتولت الملوك الجبارين وغيرهم من أصحاب المعاصي والآثام للسنخية الحاصلة بينهم، وهذا الأمر لا يختص ببني إسرائيل بل يجري في غيرهم، ويشهد لما ذكرنا ما رواه القمي عن مسعدة ابن صدقة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال : سأله رجل عن قوم من شيعته يدخلون في أعمال السلطان ويعملون لهم ويجبون لهم ويوالونهم قال (عليه السلام) : ليس هم من الشيعة، ولكنهم من أولئك ثم قرأ أبو عبد اللّه (عليه السلام) هذه الآيات : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ).

وما رواه السيوطي في الدر المنثور عن معاذ بن جبل قال : قال

ص: 471

رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «خذوا العطاء ما كان عطاء فإذا كان رشوةً عن دینكم فلا تأخذوا ولن تتركوه يمنعكم من ذلك الفقر والمخافة، إن بني ياجوج قد جاءوا، وإن رحى الإسلام سیدور فحيثما دار القرآن فدوروا به، يوشك السلطان والقرآن أن يقتتلا ويتفرقا، إنه سيكون عليكم ملوك يحكمون لكم بحكم ولهم بغيره، فإن أطعتموهم أضلوكم، وإن عصيتموهم قتلوكم».

قالوا: يا رسول اللّه كيف بنا إن أدركنا ذلك؟

قال : تكونوا كأصحاب عیسی نشروا بالمناشير، ورفعوا على الخشب، موت في طاعة خير من حياة في معصية، إن أول ما نقض في بني إسرائيل أنهم كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر سنة التغرير فكان أحدهم إذا لقى صاحبه الذي كان يصيب عليه آكله وشاربه وكأنه لم يعب عليه شيئاً فلعنهم اللّه على لسان داود، وذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر أو ليسلطن اللّه عليكم أشراركم، ثم ليدعون خياركم فلا يستجاب لكم، والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم فلتأطرن عليه أطرة أو ليضربن اللّه قلوب بعضكم ببعض.

أقول: يبين (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعض ما يحصل في أمته من بعده يعفى القرآن الكريم ويعرض عنه ويحكم السلطان فيحكم فيهم بغير ما أنزل اللّه تعالی ویكثر الفساد، وحينئذٍ فلا بد من إظهار العالم علمه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحرم المداهنة وإلا استحقوا اللعن كما استحق الذين كفروا من بني إسرائيل اللعن على لسان داود وعيسى ثم ذكر (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن هذه الأمة تدخل مداخل اليهود إذا أعرضوا عن القرآن الكريم وما أنزله اللّه تعالى، وأخيراً بين بعض الآثار السيئة التي تترتب على ترك الأمر

ص: 472

بالمعروف والنهي عن المنكر وهي تسلط الشرار وعدم استجابة الدعاء وإنشاء الحقد والضغائن بين الناس، إلا إذا أحيط على يد الظالم وأرغم على إقامة الحق والنهي عن المنكر .

وروى السيوطي في الدر المنثور عن ابن مسعود قال : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن بني إسرائيل لما عملوا الخطيئة نهاهم وعلماؤهم تغريراً، ثم جالسوهم وأكلوهم وشاربوهم كأن لم يعملوا بالأمس خطيئة تذكر، فلما رأى اللّه ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان نبي من الأنبياء. ثم قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «واللّه لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر ولتأطرن على الحق أطراً أو ليضرب اللّه بقلوب بعضكم على بعض وليلعنكم كما لعنهم».

أقول: الأحاديث في هذا المضمون وبيان الآثار السيئة التي تترتب على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كثيرة ، فراجع.

العياشي عن محمد بن الهيثم التميمي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)، قال (عليه السلام) : «أما إنهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم ولا يجالسون مجالسهم ولكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم وأنسوا بهم».

أقول: إذا كان اللعن مترتباً على مداهنة المذنبين فقط فكيف إذا ما دخلوا مداخلهم.

ابن بابویه في ثواب الأعمال عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : لما وقع التقصير في بني إسرائيل جعل الرجل منهم يرى أخاه في الذنب فينهاه فلا ينتهي فلا يمنعه ذلك من أن يكن أكيله وجليسه وشريبه حتى ضرب اللّه

ص: 473

قلوب بعضهم ببعض ونزل فيهم القرآن حيث يقول عز وجل : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا).

وفي تفسير العياشي عن مروان عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال : ذكر النصارى وعدواتهم فقال قول اللّه تعالی : (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) ، قال (عليه السلام) : أولئك كانوا قوماً بين عيسى ومحمد ينتظرون مجيء محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

أقول: عموم الآية الشريفة يشمل الجميع إلا إذا خرج النصارى عن الطريقة، وما ذكره اللّه تعالى، فلم يكن فيهم علماء يدعونهم إلى الصلاح ولا زهاد يرغبونهم في الزهد عن الدنيا ولم يكن لهم تواضع للحق فيكونوا كسائر الأمم حتى أمة الإسلام إن خرجوا عن الطريقة وغيروا أنفسهم بارتكاب الموبقات

وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعيد بن جبير في قوله : (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا) ، قال : «هم رسل النجاشي الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه كانوا سبعين رجلاً اختارهم من قومه الخير فالخير في الفقه والسن».

وفي رواية أخرى : بعث من خبار أصحابه إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثلاثين رجلاً فلما أتوا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) دخلوا عليه فقرأ عليهم سورة (يس) فبكوا حين سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق فأنزل اللّه فيهم (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا) ، ونزلت هذه الآية فيهم أيضاً (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) ... (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا).

أقول: يمكن رفع اختلاف العدد في الروايتين على محامل منها أن

ص: 474

في ابتداء الأمر اختار سبعين، ولكن الذي وصل منهم إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثلاثون.

وفي تفسير القمي في الآية، كان سبب نزولها أنه لما اشتدت قريش في أذى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه الذين آمنوا به بمكة قبل الهجرة فأمرهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يخرجوا إلى الحبشة وأمر جعفر بن أبي طالب أن يخرج معهم فخرج معهم ومعه سبعون رجلاً من المسلمين حتى ركبوا البحر، فلما بلغ قريشاً خروجُهُم بعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى النجاشي ليردوهم وكان عمرو وعمارة متعاديين فقالت قریش : كيف نبعث رجلين متعاديين، فبرئت بنو مخزوم من جناية عمارة وبرئت بنو سهم من جناية عمرو بن العاص، فخرج عمارة وكان حسن الوجه شاباً مترفاً فأخرج عمرو بن العاص أهله معه فلما ركبوا السفينة شربوا الخمر فقال عمارة لعمرو بن العاص : قل لأهلك تقبلني فقال عمرو أيجوز هذا؟ !! سبحان اللّه فسكت عمارة فلما انتشى عمرو وكان على صدر السفينة فدفعه عمارة وألقاه في البحر فتشبث عمرو بصدر السفينة وأدركوه فأخرجوه فوردوا على النجاشي وقد كانوا حملوا إليه هدایا فقبلها منهم فقال عمرو بن العاص : أيها الملك إن قوما منا خالفونا في ديننا وسبوا آلهتنا وصاروا إليك فردهم إلينا فبعث النجاشي إلى جعفر فجاءه فقال یا جعفر ما يقول هؤلاء؟ فقال جعفر(رضي اللّه عنه) : أيها الملك ما يقولون؟ قال سألوني أن أردكم إليهم، قال أيها الملك سلهم أعبيد نحن لهم؟ قال عمرو: لا بل أحرار كرام، قال : فسئلهم ألهم علينا ديون يطالبون بها؟ قال ما لنا عليكم ديون قال : فلكم في أعناقنا دم تطالبون به؟ قال عمرو : لا، قال : فما تريدون منا؟ آذيتمونا فخرجنا من بلادكم. فقال عمرو بن العاص : أيها الملك خالفوننا في ديننا وسبوا آلهتنا وأفسدوا شبابنا وفرقوا

ص: 475

جماعتنا فردهم إلينا لنجمع أمرنا، فقال جعفر : نعم أيها الملك خلقنا اللّه ثم بعث فينا نبياً أمرنا بخلع الأنداد وترك الاستقسام بالأزلام وأمرنا بالصلاة والزكاة وحرم الظلم والجور وسفك الدماء بغير حقها والزنا والربا والميتة والدم ولحم الخنزير وأمرنا بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربی وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي. فقال النجاشي: بهذا بعث اللّه عیسی ابن مريم، ثم قال : يا جعفر هل تحفظ شيئاً مما أنزل اللّه على نبيك؟ قال : نعم فقرأ عليه سورة مریم فلما بلغ إلى قوله : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا) ، فلما سمع النجاشي ذلك بكی بكاءً شديداً، وقال : هذا واللّه هو الحق فقال عمرو بن العاص : أيها الملك إنه مخالف لنا فرده إلينا، فدفع النجاشي يده فضربها وجه عمرو ثم قال : اسكت واللّه لئن ذكرته بسوء لأفقدنك نفسك، فقام عمرو ابن العاص من عنده والدماء تسيل على وجهه وهو يقول: إن هذا كما تقول أيها الملك فإنا لا نتعرض له، وكانت على رأس النجاشي وصيفة له تذب عنه فنظرة إلى عمارة بن الوليد وكان فتى جميلاً فأحبته ، فلما رجع عمرو بن العاص إلى منزله قال لعمارة : لو راسلت جارية الملك فراسلها فأجابته فقال له عمرو : قل لها تبعث إليك من طيب الملك شيئاً فقال لها فبعثت إليه فأخذ عمرو من ذلك الطيب فكان الذي فعل به عمارة في قلبه حين ألقاه في البحر، فأدخل الطيب على النجاشي فقال : أيها الملك إن حرمة الملك عندنا وطاعته علينا وما يكرمنا إذا دخلنا بلاده ونأمن فيه أن لا نغشه ولا نريبنه وإن صاحبي هذا الذي معي قد أرسل إلى حرمتك وخدعها وبعثت إليه من طيبك، ثم وضع بين يديه، فغضب النجاشي وهمَّ بقتل عماره، ثم قال : لا يجوز قتله فإنهم دخلوا بلادي بأماني، فدعا النجاشي السحرة، فقال لهم : اعملوا به شيئاً أشدّ عليه من القتل فأخذوه ونفخوا في إحليله الزيبق فصار مع الوحش يغدو ويروح،

ص: 476

وكان لا يأنس الناس فبعثت قریش بعد ذلك فمكنوا له في موضع حتى ورد الماء مع الوحش فأخذوه ما زال يضطرب في أيديهم حتى مات . ورجع عمرو إلى قريش وأخبرهم أن جعفراً في أرض الحبشة في أكرم كرامة، فلم يزل بها حتى هادن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قریشاً وصالحهم وفتح خیبر فوافي بجميع من معه، وولد لجعفر بالحبشة من أسماء بنت عمیس عبد اللّه بن جعفر، وولد للنجاشي ابن فسماه محمداً.

وكانت أم حبيبة بنت أبي سفيان تحب عبد اللّه، فكتب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى النجاشي يخطب أم حبيبة فبعث إليها النجاشي فخطبها لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأجابته فزوجها منه وأصدقها أربعمائة دينار وساقها عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبعث إليها بثياب وطيب كثير وجهزها وبعثها إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبعث إليه بمارية القبطية أم إبراهيم وبعث إليه بثياب وطيب وفرس وبعث ثلاثين رجلاً من القسيسين فقال لهم، انظروا إلى كلامه ومقعده وإلى مطعمه ومشربه ومصلاه. فلما وافوا المدينة دعاهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الإسلام وقرأ عليهم القرآن : (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ).

فلما سمعوا ذلك من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكوا وآمنوا ورجعوا إلى النجاشي فأخبروه خبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقرأوا عليه ما قرأ عليهم فبكی النجاشي وبكى القسيسون وأسلم النجاشي ولم يظهر للحبشة إسلامه وخافهم على نفسه فخرج من بلاد الحبشة إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلما عبر البحر

ص: 477

توفي فأنزل اللّه : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ)... (وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ).

أقول: رواه بهذا المضمون مع اختلاف في بعض المفردات جمع كثير من المؤرخين والرواة وأصحاب السير.

وذكرنا أن الظاهر من الآية العموم ولا تختص بالنجاشي وقومه وتقدم ما يرتبط بذلك ، فراجع.

بحث عرفاني

الآياتُ الشريفة المتقدمة تبين قسمين من الخصائص التي يمكن أن يرتقي بها إلى الكمالات أو يحبط بها إلى الدرجات السفلي فيخرج عن طور الإنسانية ويدخل في زمرة أدنى البهائم حسب الملكات التي اكتسبها من تكرر الأفعال والمداومة على العصيان .

وقدم عز وجل هذه الأخيرة لتقدم التخلية طبعاً إلا من أدركته العناية الإلهية بالكمالات وتنهار سيئات الملكات ورذائل الصفات، وقد ذكر صنفین مما يوجب الانخراط في الحيوانات أحدهما يتعلق بالنوايا وهي الاستمرار على العصيان والأخرى بالأفعال وهي المداومة على الاعتداء وارتكاب المحرمات وهتك الحرمات ، فإذا استولى العصيان على النيات فلم يكن له نية خيرة ولا همة شريفة حيث غلب الشر قلوبهم فلم يرج منها الصلاح وظهرت على أفعالهم وانهمكوا في ارتكاب المعاصي والآثام فلا يتوسهم فيهم الخير ولا يتناهون عن المنكر إذ استوعب المنكر شعورهم ومشاعرهم فاستحقوا اللعن ممن يعرف أن يضع اللعن في مواضعه والطرد عن الرحمة الإلهية التي هي أساس كل خير ومنبع كل كمال وسبب كل هداية ، فمسخوا قردة وخنازير بما يناسب تلك الملكات التي اكتسبوها

ص: 478

باختيارهم وبقدر بعدهم عن الرحمة الإلهية، ابتعدوا عن الذين آمنوا واضمروا العداوة الشديدة لهم واقتربوا إلى الكفار المنكرین لوحدانية اللّه تعالى والعابدین للأوثان الذين هم مظاهر غضبه وسخطه فسخط عليهم بمثل ما سخط على هؤلاء فكانوا مشركين في العذاب وهم فيه خالدون لخلودهم في العصيان والعدوان، ولو عاشوا أبد الآبدين، وقد بين عز وجل لهم طريقاً يمكن لهم التخلص مما هم فيه وهو الإيمان باللّه وبالنبي وما أنزل إليه ويصلحوا ما يمكن إصلاحه مما فسد فيهم ولكن أنَّ لهم ذلك وفيهم من الكفر والخروج عن طاعة اللّه ما سد عليهم طريق الرجوع وفي مقابل هؤلاء طائفة أخرى استفادوا من ضمائرهم وركنوا إلى إنسانيتهم التي أودع فيها الخير والسعادة وتشرفوا بمودة أهل الإيمان لأنهم آثروا نصرة اللّه ودينه الحق وهذبوا أنفسهم بالزهد عن ما يوجب الانخراط في الدنيا ويشغلهم عن عبادة اللّه وتسلموا بسلاح الذي يتبين به الأمور فيعرف صحيحها من سقيمها وخيرها من شرها وكان المقتضى الأكبر فهم أنهم لم يجعلوا ذهاب تلك المجاهدات هدراً وبدون فائدة، فأخلصوا النية وعمدوا إلى التواضع للحق مهما كان ولم يستكبروا عن قبوله أينما كان فصاروا بذلك أهل الأنس فسمعوا ما تهفوا إليه النفوس الروحانية فأثارت فيها الشوق إلى عالمها فأفاضت عيونهم من الدمع الغزير لما تنبهت تلك النفوس المرتاحة من محيطها المادي الذي تزجرها بالابتعاد عن عالمها الروحاني الفسيح ورجعت إلى ما تحن إليه من الحق العتيد. وهذا هو شأن الإنسان الذي عرف قدره ومصدره ومنتهاه فإنه لم يزل الجانب الروحاني منه يحنو إلى مقام الأنس الذي كان فيه قبل خلق الأجساد، فإذا استغل هذا الجانب على الوجه الصحيح لما تعدي عن الحق أبداً ولذا تری أن الآية الكريمة التي هي من جلائل الآيات في هذا المجال قد بينت أموراً لا غنى عنها للسالك وطالب السير والسلوك والعرفان ولا يمكن الوصول

ص: 479

إلى تلك المرحلة العظيمة إلا بعد إزالة الموانع والحجب عن هذا الطريق(1).

ص: 480


1- 308 - 340 ، ج (12).

معرفة النفس

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(1).

آية عظيمة في معرفة النفس والرجوع إليها وتهذيبها بالأخلاق الفاضلة وتكميلها بالكمالات الحقيقية، فيامر عز وجل المؤمنين رحمة بهم بأن يكون شغلهم الشاغل لزوم أنفسهم والنظر فيها ورفع نقائصها، وأن يصرفوا همهم في التخلية والتحلية ليتجلى لهم الرب فينبئهم بما عملوا ولا يضرهم عمل الغير وضلاله إذا لم يكن قابلاً للهداية فلا يمنعكم ضلالهم إذا كنتم على هداية ولا يوحشكم فقدانهم، وقد بين عز وجل في هذه الآية الكريمة مواقع النفوذ إلى النفس والتسلط عليها ومن ذلك يعلم وجه الارتباط بما سبقها من الآيات التي بينت بعض عيوب النفس والعادات السيئة التي كان عليها أهل الضلال، وهي من الأمثال القرآنية التي تضرب بها الأمثال .

قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ).

خطاب لأهل الإيمان لما فيهم من الأهلية للتخاطب معهم، وإن لهم القابلية لمراعاة المضمون والالتزام بالمقصود. والمراد بقوله (عَلَيْكُمْ

ص: 481


1- المائدة، الآية 105.

أَنْفُسَكُمْ) أي الزموها بالصلاح والتزكية واحفظوها من اقتراف المعاصي وارتكاب الآثام.

فعليكم من كلم الإغراء وهو اسم فعل أمر، و (أَنْفُسَكُمْ) على النصب مفعوله، وقرىء بالرفع فيكون الكلام حينئذ مبتدأ وخبراً أي لازمة عليكم أنفسكم.

قال تعالى : (لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ).

أعظم آية في بيان السلوك الذي يسلكه العارف وينقطع إليه القاصد ويتحراه الميطع الواله ، ومن المعلوم أن الضلال والاهتداء إنما هما من صفات الطريق المسلوك وربما يتصف بهما السالك بالعناية ، فلا بد للإنسان أن يسلك طريقاً فإما طريق الهداية والسعادة والعاقبة الحسني التي بيَّنها عز وجل في حكم كتابه الكريم، أو طريق الضلال والغواية والشفاء وبالآخرة سوء العاقبة التي ذكر تعالی خصوصیاتها فقد قال تعالى : (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)(1)، وقال تعالى:(إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)(2).

ولا ريب أن من التزم طريق الاهتداء سواء قلنا بأنه الصراط المستقيم الذي ذكره عز وجل في الفاتحة وأمرنا بطلب الهداية منه وتوفيقنا بسلوكه فتكون طرق الضلال هي السبل المنحرفة التي تتفرق بنا عن سبيله، أو قلنا بأن الضلال والاهتداء وصفان لطريق واحد، فمن لازم متن الطريق يوصله إلى المقصد والغاية المطلوبة، وإن خرج عن مستواه كان ضلالاً فلا يصل إلى الغاية المنشودة ولا يدرك الكمال والسعادة المطلوبة، فمن لزمه نجا و من تقدم أو تأخر ضل وغوى.

ص: 482


1- البلد، الآية 10.
2- الدهر، الآية 4.

الآية الشريفة تبين أموراً في هذا المجال :

الأول : أنه لا بد من طريق يسلكه الإنسان في حياته العملية وهناك طريقان طريق الهداية وطريق الضلال وكلاهما يرجعان إلى اللّه تعالى، كما ستعرف. وتأمر المؤمنين بلزوم أنفسهم بحملها على الطاعة والانقياد إلى خالقها والاعتناء بشأنها فلا يضيعوها باقتراف المعاصي والآثام .

الثاني : أنه لا بد من غاية في هذا السفر وهي تختلف بحسب اختلاف أفراد الإنسان والجميع يرغب في ثواب اللّه وإنما يناله المهتدون السالكون طريق الهداية ويحرم عنه الضالون السالكون طريق الضلال فالكل ينتهي إليه سبحانه وتعالى وعنده الغاية المقصودة إلا أن الطرق مختلفة، فبعضها يوصل الإنسان إلى الفلاح والسعادة، وآخر يضرب عليه الخيبة والحرمان ويوقعه في الشقاء الأبدي والعناء الدائم، وتدل على ذلك آيات كثيرة ، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)(1) فإذا كان الجميع سائرين إليه وأن الطرق لا بد أن تنتهي إلى ما عنده ولكن باختلاف الغاية كما عرفت، فلا بد للإنسان أن يسعى في معرفة الطرق الموصلة إلى الغاية المنشودة وتمييزها عن غيرها من الطرق التي لا تنتهي إلا إلى الهلاك والبوار، وأن على المؤمن أن يشتغل بنفسه ويصلحها ولا يهمه ضلال غيره وما هم عليه من المعاصي والآثام فإنه كفى بنفسه شاغلاً، وقد تقدم في قوله تعالى: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) مایرشد إلى ذلك فإن العاقل اللبيب إذا رأى كثرة المعاصي واهتمام الناس بالخيانة وهتك الحرمات يزداد ثباتاً في وجه الباطل ولا يشغله ذلك وإن كثر أفراد

ص: 483


1- الانشقاق، الآية 6.

عن التمسك بالحق وإن قل طلابه فإن الجميع سيحاسبون وتعطى كل نفس هداها، وقد قال عز وجل: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(1).

الثالث : تطمين المؤمنين المشغولين بأنفسهم المشتغلين بإصلاحها وتهذيبها بالوصول إلى الغاية المرضية وأنه لا يصيبهم ضرر من غيرهم الضالين الذين عكفوا على الضلال وارتكاب الآثام والصد عن الحق فلا يتأثروا من ضلال هؤلاء ولا يوجب ذلك صرفهم عن أهم أمر في حياة الإنسان العملية وهو إصلاح النفوس.

الرابع: إن الآية الشريفة تدل بالدلالة الالتزامية على نهي المؤمنین من التأثر من ضلال الضالين المعاندين للحق الصادين لأهله فلا يحملهم ذلك على ترك طريق الهداية فينشغلوا بهم وينسوا أنفسهم وحينئذٍ يصيرون مثلهم ثم يتعذرون بأمور واهية ويتعللون بعلل فاسدة، وقد كان لهم في كل زمان أعذاراً، فطوراً كانوا يقولون بما حكی عنهم عز وجل : (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا)(2)، وطوراً آخر يقولون إن الذي يبغون صار بالياً وأن المدنية الحاضرة لا تساعد على ذلك، وقد قالوا أموراً أخرى جميعها ترجع إلى النكوص عن الحق والابتعاد عنه بوجه من الوجوه مع أن العهد الذي أخذ منهم إنما هو الدعوة إلى الحق بما أراده اللّه عز وجل وما ورد في الشرع المبين، وإنما يتحقق ذلك بالطرق المتعارفة العادية التي فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجدال الحسن وغير ذلك من الأسباب المتعارفة، وأما تحقق المسببات فلا بد من إيكال أمرها إلى اللّه تعالى فليس المؤمن مأمورة بأكثر من ذلك ولا يجب

ص: 484


1- البقرة ، الآية 134.
2- القصص، الآية 57.

عليه إهلاك نفسه في سبيل إنقاذ غيره، كما قال تعالى : (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)(1)، وغير ذلك من الآيات التي تنهي المؤمنين عن إيقاع أنفسهم في الحرج والمشقة والضرر، ومن ذلك يعرف أن هذه الآية الكريمة لا تنافي آيات الدعوة إلى الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكيف تكون منافية مع أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى اللّه من أهم طرق استكمال النفس ومن شؤون الاشتغال بها؟! أليس ذلك من أحكام هذا الدين ومن أهم أسسه وقواعده وأركانه، وقد قال عز وجل: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)(2)، وقال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) بالشروط المطلوبة فيهما، من دون إيقاع النفس في المهلكة والضرر فعند ذلك يسقط عنه هذا التكليف.

الخامس: إن الآية الشريفة تدل على أن نفس المؤمن هي الطريق الذي أمر بسلوكه ولزومه والتحفظ عليها أن تكون في طريق الهداية الذي ينتهي به إلى السعادة والفوز بالفلاح، كما قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ)(3)، وهذه الآيات المباركة تبين كثيراً من الأمور التي تضمنتها الآية التي نحن بصدد تفسيرها وترفع الإجمال الذي فيها ويستفاد منها أن النفس الإنسانية هي الطريق وقد

ص: 485


1- الكهف، الآية 6.
2- يوسف، الآية 108.
3- الحشر، الآية 20.

اجتمعت في النفس الإنسانية علل متعددة وإن فيها يتحد الدال والمدلول وأن المقصد من هذا المسير الاستكمالي هو اللّه تعالى ولا بد من المراقبة التامة والتذكر المستمر لجميع ما له دخل في هذا المسير، فعلى المؤمن أن يكون دائباً على ذكر به ولا ينساه فإنه المقصد والمرجع، كما عرفت فإن نسيان المقصد والغاية يوجب نسيان الطريق فيفقد الأهلية للتزود بالزاد الذي يهنأ في حياه الأخرى، ومن ذلك تعرف سر قوله تعالى : (نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ). ولا ريب أن الاشتغال بالنفس لا يوجب نسيان الآخرين ومساعدتهم ومعونتهم في أعمال البر كما قال عز وجل:(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)(1)، فإن المؤمن يرى أن سعادة الآخرين من سعادته بل هي من صميم الدين الذي أمر المؤمنين بإقامته وهو يعتبر أن الإحسان إلى الآخرين من الإحسان إلى النفس، قال تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا)(2). السادس : الآية الشريفة تأمر المؤمنين بلزوم أنفسهم إذا اهتدوا ، ومن المعلوم أن الاهتداء هو جعل النفس في المسير الاستكمالي الذي يطلبه اللّه تعالى ويرتضيه الشرع المبين، وأن عملية الاهتداء لا بد أن تكون مستمرة تامة صادرة من المؤمن الذي على ذكر ومراقبة للنفس كما عرفت وهي تتحقق في الاعتقادات والأعمال القلبية مع الأعمال الجوارحية، وبعبارة أخرى هو تطبق الأعمال الجوانحية والجوارحية على الشرع والسير على ذلك مع المراقبة والذكر، فالنفس هي الطريق والأعمال هي الزاد ، والغاية والمقصد هو اللّه عز وجل كما تقدم، وهذا الطريق ضروري لا بد من أن يسلكه الإنسان في حياته مطلقاً مع اختلاف الأطوار التي يمر بها

ص: 486


1- المائدة، الآية 2.
2- الإسراء، الآية 7.

ويشترك في ذلك المؤمن والكافر سواء كان على التفات أو على غفلة وعمی .

والآية الشريفة تنبه المؤمن على ذلك وإن كان أمراً تكوينياً لا بد منه ، ليكون على التفات ومراقبة تامة للنفس لئلا تضل فتخرج عن الهداية وتغفل عن ذكر ربها فتكون من المنسيين فيتزود من الزاد الذي ينفعها في يوم الجزاء فلا يكون سعيها خائبة فتكون من الخاسرين.

فهذه الآية الشريفة من هذه الجهة لا تخرج عن تلك الآيات التي تدل على أن غاية الإنسان ومستقر أمره من حيث السعادة والشقاء والفلاح والخيبة إنما تكون حسب الزاد الذي يتزود به في هذه الدار وما يقدمه من صالح الأعمال أو طالحها، أو تقوى وفجور كما قال عز وجل : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)(1)، وقال تعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى)(2)، وغير ذلك من الآيات الواردة في هذا الأمر فهي وإن كانت تبين الجانب الوضعي للأعمال وهو ترتب الجزاء على ما يقدمه الإنسان من أعمال ومعتقدات إلا أنها لا تغفل الجانب التكويني من الإنسان فهي تبين أن الإنسان هو المخلوق السوي الذي لا يخرج عن وضع سائر المخلوقات من أنها واقعة تحت التربية الإلهية وإن اللّه تعالى هو القيوم عليها يحيطهم بعنايته ويكلؤهم برعايته وتربيته، فهو الرب العظيم المهيمن عليها لا يفوته شيء منها، كما قال تعالى: (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ

ص: 487


1- الشمس، الآية 10.
2- طه، الآية 126.

بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(1)، وإن جميعها ترجع إليه، قال تعالى : (أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)(2).

إلا أنه اختص الإنسان من بين سائر المخلوقات بأن عاقبته ومستقبل أمره إنما يكون تحت اختياره، فإما أن تكون الحسنى أو الخيبة والخسران وذلك بتزكية النفس أو دسها بعدما ألهمه اللّه طريق الخير والصلاح وما يوجب الشر والفساد فهو لا يخرج عن هذه الفطرة التكوينية في مسيره ولا يتخطى عنها، إلا أنه لا بد من التنبه التام والمراقبة الكاملة للنفس حتى لا تحيد عن الطريق الذي يوصله إلى المقصد العظيم وهو الفلاح الذي يطلبه بفطرته ويجتهد في مسيرته العملية كما عرفت، فهذه الآية الكريمة على إيجازها البليغ تشتمل على حقائق واقعية ومطالب عالية تكفلت بيانها عدة آيات أخرى متفرقة في مواضع أخرى من القرآن الكريم.

قال تعالى : (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا).

بیان المقصد بعد بيان السالك والمسلوك، وهي حقيقة من الحقائق الواقعية التي لها دخل في الجانب التكويني من الإنسان كما عرفت سابقاً وفي الجانب الوضعي التشريعي منه فإن الإنسان بعدما علم أنه في حياته سائر في مسيرة لا بد من أن يقطعها من أول تكوينه إلى أن ينتهي إلى ربه كما قال عز وجل: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)(3)، وهذا الطريق مما لا مناص للإنسان عن سلوكه ويشترك فيه جميع أفراد الإنسان مطلقاً، ولا ريب أن بیان الطريق والسلوك والسالك يكفي في تعيين المقصد والمنتهى إذ أن كل طريق له بداية ونهاية، لكن ذكر المقصد فيه خصوصية خاصة لا يمكن

ص: 488


1- هود، الآية 56.
2- الشورى، الآية 53.
3- النجم، الآية 42.

دركها في بيان تلك الأمور فإن السالك إذا تنبه إلى حقيقة موقفه من اللّه تعالى وأن له ميزة خاصة لم تكن لسائر المخلوقات حصل له حالة خاصة يشعر فيها أنه منقطع عن ما سواه مما يحيط به ويتوجه إلى بارئها المدبر لها المحيط بها إحاطة علمية قيومية وسائرة تحت ربوبيته العظمى على خلقه وإن هذه الإحاطة التامة التي يشعر بها الفرد المؤمن لكفيلة له بأن ينقطع على ربه ويخلو بنفسه ويخلصها مما يشينها عند ربها ويهذبها ويكملها بما يزينها إذا رجعت إلى اللّه تعالى فلا يغفل عنها لحظة، ولعل هذا هو السر في إتيان المقصد والتوجه إليه بعد قوله تعالى : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ)، وعندئذٍ يسطع عليها نورٌ من اللّه بقدر أن يخرج من الظلمات ليدفع به ظلمات الناس المضلين، وظلمات المعاصي والآثام كما بين عز وجل في قوله : (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(1)، وحينئذٍ يدرك تلك الحقيقة الواقعية وتشعر النفس بحقيقتها وتدرك ما عليه وتهجر كل ما يوجب الظلمات وتهاجر أهل الشرك والكفر وتدخل في مقام العبودية وتستعد لدرك مقام التوحيد وتبعد عنها ما ينافي الوحدانية وتنتهي إلى تكميل النفس بالكمالات الواقعية وتزيل عنها النقائص بعد أن أشرق عليها النور الرباني وأدركتها العناية الإلهية ، وهذه المقامات هي حقائق قد لا يدركها الحس إلا أن النفس تشعر بها بأسبابها الخاصة وكيف يمكن أن تدركها الحواس وقد ركنت إلى المادة وخلدت إلى الأرض وأحبت الدنيا التي هي دار اللعب واللّهو فلا يمكن لها أن تدرك إلا الزخارف المادية التي استوعبت جميع مشاعر الإنسان، وقد قال عز وجل: (ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)(2)، لكن الغور في فهم معاني القرآن والغوص في بحر دقائقه

ص: 489


1- الأنعام، الآية 122.
2- النجم، الآية 30.

الأخلاق في القرآن

ورموزه يكشف لنا أن وراء ذلك عالماً فسيحاً جداً لا يمكن الوصول إليه ولأدرك حقائقه إلا بالرجوع إلى النفس ولزوم مراعاتها ودرك حقائقها ودوام مراقبتها وجعلها في المسلك الذي عينه اللّه تعالى والتنبه التام للمقصد الذي ترد عليه والوقوف عنده فهناك تظهر الحقائق وتتبين آثارها ويتم التصديق بها ولا يمكن التغاضي عنها والرجوع إلى غيرها وعندئذٍ يتبين حقيقة قوله تعالى : (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا) وسر الرجوع إليه عز وجل.

قال تعالى : (فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ).

وعد ووعيد للفريقين اللذين مر ذكرهما في ابتداء الكلام، فهو عز وجل المرجع الذي يرجع إليه في استخبار حال الفريقين فينبئهم بحالهما من الثواب والعقاب بما كانوا يعملونه في الدنيا من أعمال الهداية والضلال فلا يؤاخذ أحد بعمل غيره عقاباً أو ثواباً .

ومما ذكرنا يظهر أن هذه الآية الكريمة من أعظم الآيات في طريق السير والسلوك وأهمها في بيان أركانه من المسلك والمقصد والغاية والسالك وقلنا تبين الآية اتحاد المسلك والسالك واجتمع العلة المادية والفاعلية التي هي النفس وإن مضمونها من الحقائق التي لها من العمومية والحيطة التي تشمل جميع الأفراد وتضم جميع الأزمان فلا يختص بزمان دون آخر، فما ذكره جمع كثير من المفسرين في حصر هذه الآية وأن عصرها لم يأت بعد، أو لم يجيء تأويل لها حتى هذا اليوم، أو أن مضمونها من المغيبات التي لا يظهر تأويلها إلا بعد عصر التنزیل. فإن جميع ذلك لا دليل عليه وإنما هو تجريد للآية عن المعنى المقصود وتأويلها بالرأي واللّه العالم وهو المسدد للصواب .

ص: 490

بحوث المقام

بحث أدبي

ذكرنا أن قوله تعالى : (عَلَيْكُمْ) من كلم الإغراء وله باب معقود في النحو، وأنه من أسماء الأفعال، فإن كان الفعل متعدياً كان اسمه متعدياً ، وإن كان لازماً فهو لازم، وفي المقام بمعنى الزم وهو متعدٍ، ولذلك نصب (أَنْفُسَكُمْ) على أنه مفعول به .

وقوله تعالى : (لَا يَضُرُّكُمْ) على الرفع على أنه كلام مستأنف في موضع التعليل ويحتمل الجزم جواباً للأمر، والمعنى إن لزمتم أنفسكم لا يضركم، وضمت الراء اتباعاً لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة

والأصل لا بضرركم.

بحث دلالي

تدل الآية الكريمة على أمور :

الأول : يدل قوله تعالى : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) على أن النفس هي محط الكمالات ومحور الملكات أما الفاضلة أو الرديئة الفاسدة كل حسب ما يعمله من الاهتداء والضلال، والوسيلة الوحيدة لتثبيت تلك الملكات إنما هي الأعمال الصادرة من الفرد، فإن وافقت الشرع على هداية واهتداء من صاحبها نفعته وأوصلته إلى المقصد والغاية الحميدة وهي ثواب اللّه

ص: 491

تعالى، وأما إذا كانت مخالفة لما عليه الشرع وكان صاحبها على ضلال وغواية كانت الغاية هي العقاب وإن كان مقصد الجميع واحداً وهو اللّه تعالى الذي عنده الجزاء، كما عرفت .

فالآية تحرض المؤمنين إلى الاهتداء والتزود بالزاد الحسن للوصول إلى الغاية الحسني فلا يكون همهم إلا ذلك، فإن تذليل النفس في مقام العبودية وحملها على الطاعة مع كونها نفوراً لا يمكن السيطرة عليها بالسهولة من أقصى الكمالات وأبلغ المجاهدة، فلا ينبغي للمؤمن أن يخاف ممن هو على ضلال وغواية ولا يمكنه أن يضر المؤمن بعد أن كان يخاف اللّه تعالى وحده وكان جميع همه هو الوصول إلى مقام قربه والتنزه عما يوجب البعد عنه، ولا فرق حينئذٍ بين أن نحمل الخطاب على آحاد المؤمنين وأفرادهم أي جعل الخطاب إفرادياً أو نحمله على الخطاب الجمعي أي مجموع المؤمنين ومجتمعهم بأن يكون المراد إصلاح مجتمع المؤمنين باتخاذ طريق الهداية والاهتداء بهدي الرسالة والاحتفاظ بالأعمال الصالحة والشعائر الإسلامية نظير قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)(1)، الشامل للأفراد وللمجتمع لأن صلاح المجتمع بصلاح الأفراد وأن أحدهما مكمل للآخر فكما أن الفرد لا يصح أن يخرج عن الهداية والاهتداء بنور الشرع والتكاليف الآلهية والتعاليم الربانية وإن رأى من أهل الضلال ما يرى من اتباع الشهوات وإضاعة الصلوات كذلك ليس للمجتمع المؤمنين أن يخرجوا عن سبيل الهداية لما يرونه من المجتمعات الضالة التي انهمكت في اتباع الشهوات والتمتع بزخارف الدنيا نظير قوله تعالى: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)(2).

ص: 492


1- آل عمران، الآية 103.
2- آل عمران، الآية 197.

ومن ذلك يعرف أن لا وجه لصرف الإطلاق إلى خصوص إحدى الجهنين فإن الخطابات القرآنية لها من الشمولية والإحاطة ما لا يكون في أي خطاب آخر.

الثاني : يستفاد من قوله تعالى : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) إمكانية السيطرة على النفس وتقويمها وإخراجها عن ما يشينها وما يلقيها في المهالك ويوردها المخاطر كما أنه يمكن إخراجها من مرتبة إلى مرتبة أخرى من الكمال.

وهذه الآية الكريمة رد لمن يزعم أن النفس إذا اعتادت على شيء لا يمكن تغييرها لأنها صعبة عنيدة لا تسلس لقائدها، وهذه مزاعم وأعذار واهية. نعم إن النفس إذا شبت على شيء واعتادت على أمر لا يمكن قلعها عنه بسهولة إلا أن ذلك ممكن بمجاهدة خاصة وتوفیق رباني وإلا لبطلت الشرائع ودعوات الإيمان وإرشادات الأولياء، وقد تقدم في بعض المباحث السابقة بعض الكلام.

الثالث : يدل قوله تعالى : (لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ) على تبديل إيمانهم وعقائدهم أو مجتمعهم إلى غير الحق.. وأن أضرارهم منفية عن المؤمنين فهم في أمن من أضرار الأفراد والمجتمعات الضالة فلا يفزعوا مما هم عليه من كثرة الأموال والأفراد والعدة والعدد، كما قال تعالى (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ)(1).

وقد وعدهم اللّه تعالى النصرة والغلبة فليس بواجب على المؤمنين الجد في إيمان هؤلاء وإيقاع أنفسهم في المشقة والحرج زيادة على ما هو متعارف في الدعوة، فإن القلة المؤمنة العارفة المشغولة بإصلاح أنفسها

ص: 493


1- آل عمران، الآية 111.

خير من الكثرة التي لا هم لها إلا التمتع بالحياة الفانية، فإن العبرة بالقلوب النبهة العارفة الزاكية لا الأبدان الضخمة البالية .

الرابع: يدل قوله تعالى : (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) على أن شرط إصلاح النفس والأمن من أضرار المضلين هو الاهتداء ولا ريب أنه الدخول في الهداية والإصرار على البقاء عليها والمداومة على تحقيق شروطها وإتيان الأعمال المفروضة، ولا يتم الاهتداء إلا بعد إتمام الحجة وبيان التكاليف، قال تعالى : (قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ)(1)، فالاهتداء اعتقاد بالجنان وعمل بالأركان واستقامة

عليها.

الخامس : يدل قوله تعالى : (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا) ، على أن الضمان لعمل المؤمنين المهتدين هو الرجوع إلى اللّه عز وجل الذي عنده الجزاء فيثيب المهتدين المطيعين ويعاقب العاصين الضالين فيكون مزيداً لهمة المهتدين وتنبيهاً للضالين.

ويستفاد من قوله تعالى: (مَرْجِعُكُمْ) أن الجميع على علم بالرجوع والعود إليه بعد ما كان البدء منه أيضاً، فإن الإنسان إذا كان على علم من هذا الأمر وأنه محاط بالمبدأ والمعاد ولا يمكنه الخروج عن الطريق الذي يكون مبدأ منه عز وجل ومعاده إليه تعالي يكون ذلك أدعى إلى اليقظة والتنبه التام لئلا يخرج عن ذلك الطريق فلا يسعة التخطي عن ذلك ولو بخطوة، بخلاف من غفل عن ذلك ونسي الواقع الذي لا مفر منه والمرجع الذي لا بد من الرجوع إليه فيغفل عن نفسه لا محالة ويقع في الضلال والغواية فلا يكون حينئذ إلا الخسران كما عرفت في التفسير (2).

ص: 494


1- يونس، الآية 108.
2- م - ن، 523 - 538، ج (12).

آداب الدعاء

الأدب المبحوث عنه في كتب الأخلاق وما ورد فيه في كتب الدعاء إنما هيئة حسنة، والصفة الخاصة التي يتلبس بها الداعي أو الشخص لملاقات شخص عظيم بلا فرق بين أن تكون في المنظر أو اللباس أو الأفعال والأقوال فتختص بما إذا كان الفعل محبوباً في حد نفسه فلا تشمل الممنوعات شرعاً وتشمل جميع الأفعال الاختيارية الحسنة وهذا مما اتفق عليه العقلاء وإن اختلفت المجتمعات في مصاديقها فالأدب محبوب بذاته تدعو إليه الفطرة ويتعاملها العقلاء ويستحسنونه مطلقاً واختلافهم في المصادیق والأفراد لا يضر بأصل حسنه بحيث يكون أدب كل مجتمع حاكياً عما عليه من العادات والتقاليد والأخلاق . إلا إن في الإسلام آداباً خاصة تنبيء عن حقائق متأصلة وهي عامة تشمل جميع مظاهر الحياة وتدل على كمال الإسلام ورقيه عن جميع ما يكون مبتذلاً، ولما كانت دعوة الإسلام إلى التوحيد وتطبيقه في الاعتقاد والعمل به في جميع وجوه الحياة الدنيوية فكان الأدب في الإسلام موظفاً في هذا السبيل بحيث يرجع العبد في تطبيقه للأدب إلى جعل نفسه عبداً خاضعاً لله تعالی تظهر سمات العبودية على جميع جهات وجوده وأطواره ظاهراً وباطناً فكل من اشتد تأذبه مع اللّه تعالی كانت سمات العبودية عليه أظهر ولا ريب أن الأنبياء والأولياء والصالحين من عباده لهم الحظ الأوفر وهم الأساس المتين في العبودية فيكون أدبهم مع اللّه تعالى أشد وأظهر وأعمق ولذا صاروا مربين

ص: 495

ومعلمين لأممهم بهم يتقدي في عنوان العبودية ومظاهرها ويتعلم منها سمات الأدب لأنهم علموا وعملوا بما علموه فصاروا مظاهر قدوة لغيرهم وتأثرت نفوسهم القدسية فصاروا مظاهر العبودية لخالقهم وتهذبت بالتعاليم الربانية واشتغلوا بالطاعة لبارئهم فتأثرت النفوس المستعدة بهم فكانوا مربين حقيقيين وانقادت النفوس إليهم ومن المستحيل أن ينقاد شخص لآخر في العظة والنصيحة، والواعظ لم يعمل بما يعظ به غيره وهذا أمر فطري مركوز في النفوس لقد أرشد إلى هذه الفطرة قوله تعالی : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(1).

وقد أكد الإسلام على العمل ولم يكتف بالقوانين العامة والكليات العقلية ما لم تنطبق على المجالات العملية ولذا كان المربي في الإسلام قدوة حسنة في العلم والعمل وفيه شروط معينة لا يمكن أن يكون مربياً ما لم يكن متصفاً بما يصفه للمتعلم ومتلبساً بما يريد أن يخلعه على غيره .

ويمكن تقسيم الأدب إلى أقسام متعددة كالأدب العملي المنطبق على العمل والأدب القولي الذي يتحقق في القول الذي يحكي طبيعة نفس المتكلم ويدور فيها من كفر أو نفاق أو إيمان فإن في الكلام الصادر من كل متكلم جهتين متمیزتين الدلالة الوضعية التي تلازم جهة الصلاح غالباً ، والدلالات الالتزامية التي تدل على ما يكمن في النفس من الصفات ولا يمكن أن يعرفها إلا من كان على بصيرة من الأمر، وقد قال تعالى في وصف المنافقين (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)(2)، وإذ تتبعنا كلامه عز وجل في ما يحكي عن حالات الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) يتنضح ما يتجلى فيها

ص: 496


1- يونس، الآية 35.
2- محمد، الآية 30.

من غاية الأدب الإلهي في جميع حالاتهم مع اللّه تعالى أو مع الخلق وهي شواهد صدق على حسن تأدبهم وإن بنفسها تعليماً عملياً لغيرهم ممن يريد الأسوة الحسنة وقد قال تعالى في حق أنبيائه الكرام (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)(1)، ولا ريب أن الهداية المأمور بالاقتداء إنما هي الهداية إلى التوحيد ونبذ الشرك وقد ذكرنا أنه لا بد من أن تظهر في الأعمال والأقوال والاعتقاد وتكون حاكية عن الاعتقاد الخالص الذي يتجسم في العمل فكان كل واحد منهما حاكية ومرآة للتوحيد التام .

ومن هنا ترى أنهم في أدبهم العام في حياتهم العملية أنهم على خضوع وخشوع لله عز وجل فتراهم سجداً وبكياً ولا شبهة أنهما من أقوى مظاهر التوحيد واستيلاء صفة العبودية على جميع مشاعرهم ونفوسهم القدسية فلا يفترق عندهم الحال بين الخلوة مع اللّه العزيز المتعال أو مع خلقه، فهم في جميع الأحوال على أدب إلهي مع اللّه ومع الناس جميعاً وجميع أطوارهم على نهج واحد، وهذا الأدب إن كان انفرادياً لكل رسول ونبي ولكنهم لم يخرجوا عن المجتمع فهم من أفراده ولهم أدب خاص وهم المسمى بالأدب الاجتماعي وقد جمعهما اللّه تعالى في آيات متعددة في القرآن الكريم. قال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)(2) ، فقد أمرهم عز وجل بالأكل من الطيبات والتصرف فيها والتنزه عن الخبائث التي تتنفر منها الطباع وإتيان العمل الصالح الذي يجعل الإنسان من الصالحين وما ينبغي أن يكون صالحاً لأن يقدمه إلى رب العزة والجلال، وهذا الأدب مما يتعلق بالأفراد منهم (صلوات اللّه عليهم أجمعين).

ص: 497


1- الأنعام، الآية 90.
2- المؤمنون، الآية 52.

وأما الأدب الذي يتعلق بالناس بينهم بأن يكونوا أمة واحدة لا اختلاف فيها بلا فرق بين الرسول والمرسل إليهم وأن يجتمعوا على عبادة الرب ويتفقوا على كلمة التقوى وبذلك ينقطع دابر الفرقة والاختلاف بينهم فيتحقق مجتمع توحيدي لا اختلاف بين أفراده الذين اتفقوا على عبادة اللّه الواحد الأحد وقد سرى الأدب الإلهي بين الأفراد في جميع أحوالهم وأطوارهم فلا تتعدى السعادة عنهم حينئذٍ أبداً، والآيات في ذلك كثيرة.

وأما أدب الدعاء الذي امتاز الأنبياء والمرسلون به فقد بلغ أعلى مراتبه وأقصى درجات العبودية والخلوص والإخلاص فيه، وقد حكی عز وجل جملة منها في كتابه الكريم ولا نريد أن ندخل في تفاصيل أدب كل رسول كما حكاه عز وجل في كتابه الكريم وما ورد في السنة الشريفة، إلا أننا نذكر ما يتعلق بعيسى ابن مريم (عليه السلام) وحالاته مع الرب العظيم وقد تجلى فيه الأدب الإلهي على مظاهر وجوده الشريف، وندع غيره في المواضيع المناسبة إن شاء اللّه تعالی.

فالآيات الكريمة التي وردت في هذه السورة المباركة قد بينت كثيراً من الوجوه من حياته الشريفة والانقطاعية مع اللّه عز وجل وما تضمنته أفعاله وأقواله من الأدب الجليل العميق الظاهر عليه سمات العبودية المحضة الدالة على غاية الخضوع والخشوع إلى اللّه المتعال وحسن تأدبه معه وقد تقدم في قصة المائدة إذ قال عز وجل حكاية عنه : (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

فإنه (عليه السلام) استعمل في كلامه ما يدل على غاية خضوعه وخشوعه الخالقه العظيم بعد مواجهته لسؤال الحواریین عنه في نزول المائدة وما تضمن سؤالهم من الجفاء بظاهره وما لا يوافق الأدب العبودي وإن كان

ص: 498

اصل قصدهم معروفاً عنده، مضافاً إلى أن طلبهم كان اقتراحاً منهم لآية جديدة مع آياته الكثيرة الباهرة الواضحة التي استوعبت أغلب مجالات حياتهم المادية وأحاطت بهم من كل جهة وقد عددها عز وجل قبل قصة المائدة تسجيلاً عليهم لإتمام الحجة عليهم ورفع كل ريب وشك فكان اختيارهم لآية جديدة يعود نفعها لأنفسهم يشبه اللعب بالآيات وهم منزهون عنه كما قال (عليه السلام) عند الاستخبار عن نواياهم (اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فأظهروا منوياتهم فاستجاب لطلبهم ودعا اللّه تعالی بدعاء ذي أدب رفيع وأدرج فيه اقتراحهم بما يناسب مقام العظمة والكبرياء ونحن نذكر السمات المشتركة في أدب الأنبياء أولاً ثم نذكر الأدب الخاص به (عليه السلام) من جميع الآيات الواردة في شأنه .

الأول: إظهار العبودية المحضة الشاملة لجميع مظاهر وجودهم المبارك قال تعالى حكاية عنه :(إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ) ، ومن لوازم مثل هذه العبودية السمع والطاعة فقالوا (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) لا كغيرهم إذ قالوا (سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) .

الثاني : إبطال شأنهم مقابل معدن الكبرياء والعظمة فقال : (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) فقد عرفت أنه لم يجعل لنفسه مرتبة حتى ينفي القول عن نفسه بل نفاه بنفي لازمه وهذا من الأدب العبودي المتصف به هو وسائر الأنبياء العظام، ومن لوازم هذا النوع أن الأنبياء كلهم لم يتمنوا على اللّه بإيمانهم وطاعتهم شيئاً بل كانت طاعتهم عبادتهم عبادة الأحرار كما وصفها أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنه «وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك» وفي الآيات الكريمة ما فيه الإشارة إلى ذلك فقال حكاية عنهم (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا) بخلاف غيرهم فإن عبادتهم تختلف وقد حكى عز وجل عن اليهود حيث قالوا (سَيُغْفَرُ لَنَا).

ص: 499

الثالث: تنزيه ساحة الكبرياء والعظمة عن كل ما يتوهم النقص كما قال عيسى (عليه السلام) : «سبحانك ربنا» .

الرابع : اشتمال كلامهم على منتهى الثناء والابتهال بأبلغ بیان وأحسن وجه كما عرفت في آخر آیات هذه السورة وغيرها، وقال تعالى حكاية عن داود وسليمان (عليهما السلام) : (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ)(1).

الخامس: تصدير دعواتهم المباركة بكلمة الرب كما قال عیسی (عليه السلام) : «اللّهم ربنا أنزل علينا مائدة» الدال على حضوره عز وجل ومراعاة خلقه وتربيتهم لهم كما في دعوات إبراهيم المباركة (رب إني أسكنت) وكذا غيره من الأنبياء والمرسلين .

السادس: إن جميع أحوالهم وألفاظهم تشتمل على ما يوافق آداب الحضور فكأن كل واحد منهم حاضر لدى جنابه عز وجل كما ذكرنا في قوله : (وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) .

السابع : اشتمال دعواته المباركة على ما يرجع إلى الصالح العام، قال (عليه السلام) : «إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم» وقد عرفت أنه كان هذا الدعاء منه بأسلوب إيكال الأمر إليه عز وجل حتى لا يدخل في ضمن الدعاء للكافرين المرغوب عنه واستعمل من الأسماء العظام بما يناسب المقام وهم قد ألهموا علم الأسماء فيعلمون كيف يستعملون أسمائه المقدسة التي لها آثار خاصة، وقد قال تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه السلام) : «رب ارزق أهله من الثمرات» وقال أيضاً :

ص: 500


1- النمل، الآية 15.

«رب اغفر لي ولوالدي ولجميع المؤمنين»، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، وفي دعوات نبينا الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما يبهر العقول.

الثامن : إنهم إذا أرادوا حاجة لأنفسهم أشركوا معهم غيرهم ليعم النفع وقد عرفت دعاء إبراهيم (عليه السلام) : «رب اغفر لي لوالدي ولجميع المؤمنين»، وفي دعاء عیسی (عليه السلام) : «وارزقنا وأنت خير الرازقين» .

التاسع: أنهم إذا أرادوا من اللّه شيئاً بما يرجع على أممهم عند المخالفة الإمساك عن طاعتهم فلم يبق بعد الجهد الأكيد في التبليغ أن يرجعوا إلى اللّه تعالی بعد إتمام الحجة عليهم ونفاذ كل الوسائل في هدايتهم لم يستعملوا الألفاظ الصريحة بل هم يكنون في دعواتهم فقد حكی عز وجل عن موسى بن عمران عندما أمر قومه بالدخول إلى القرية (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا) ، فقال موسى: (رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) فقد كنی عن الإمساك عن أمرهم وتبلغيهم ما أمره ربهم مرة أخرى بعد تلك المواجهة العنيفة منهم، ومن ذلك أيضاً دعاء شعیب علی قومه إذ قال : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ)(1) ، فإنه استنجاز منه للوعد الإلهي بعد اليأس من نجاحه دعوته فيهم، نعم ورد في قصة نوح (عليه السلام) التصريح بطلب العذاب لكنه بيَّن السبب في ذلك، فكان من أدب دعائهم بالشر أن تذكر الأمور التي يبعث إلى الدعاء بالكناية بخلاف الدعاء بالخير فإن التصريح بالأسباب ادعي في المطلوب كما في دعاء موسى (عليه السلام) حيث قال تعالى حكاية عنه : (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) عند دعائه على فرعون ولم يأت بتفاصيل أخرى بخلاف الدعاء في طلب الخير

ص: 501


1- الأعراف، الآية 89.

فقد حكى عز وجل دعاء عيسى في نزول المائدة التي ذكر فيها التفاصيل فراجع.

العاشر : إنهم كانوا يراعون منتهى الأدب مع قومهم وهو يرجع إلى التبليغ العملي الذي يضاهي التبليغ القولي، وفي القرآن الكريم الشيء الكثير .

قال تعالى حكاية عن نوح في المحاورة التي جرت بينه وبين قومه :(قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(1) ، فهي محاورة عجيبة تعج بالأدب الجميل والثناء والتبليغ مع اللّه تعالى والأدب اللطيف الذي يقبله مع طغاة قومه، ولذا كان نوح (عليه السلام) أول الأنبياء الذي فتح باب الاحتجاج في الدعوة إلى التوحيد ويعثر المتمعن في محاوراتهم على الطائف دقيقة.

ومن فروع هذا الأدب الرفيع أنهم لم يستعملوا في كلماتهم وأقوالهم ما يسوء المخاطبين وإن كانوا من العتاة والجهلة والجبابرة ولم يخاطبوهم بكلمات نابية تدل على الإهانة والازدراء والشتم، وقد نال منهم المخالفون بشتى أنواع السب والشتم والاستهزاء والسخرية ولكنهم لم يجابهوهم إلا بالتي هي أحسن، قال تعالى حكاية عن عاد قوم هود (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ)(2)، وقال تعالى حكاية عن فرعون: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا

(1) (2)

ص: 502


1- هود، الآية 34.
2- هود، الآية 55.

رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)(1)، وقال تعالى حكاية عن قوم خاتم الأنبياء : (وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا)(2)، وغير ذلك من الآيات التي تحكي عن الأمم في محاوراتهم ومحاججتهم مع أنبيائهم المشتملة على أنواع الإهانة والشتم . وكان من أدبهم أنهم ينزلون أنفسهم منزلة آحاد الناس يكلمون كل طبقة منهم على قدر معرفة ومنزلته من الفهم وقد قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم»، ومن أدبهم أنهم كانوا يتحملون أنواع الأذى في سبيل هداية الخلق وإرشادهم إلى الحق فليس لهم هم إلا التبليغ والإرشاد فهم تلبسوا بالحق وتنزهوا عن الباطل بكل أنحائه ولأجل ذلك أنهم كانوا متصفین بصراحة القول وصدق اللّهجة وإن كان في بعض الموارد لا يقتضي ذلك كما هو الحال في المجتمعات غير الدينية التي تتبع سنة المداهنة والتساهل والأدب الكاذب ولهذا الأدب الاجتماعي وجوه مختلفة تجلت في معاشرتهم مع الناس بجميع طبقاتهم الفقير والغني والحاكم والمحكوم والعبد والمولى، والرجل والمرأة والصغير والكبير فقد كانوا مثالاً للحق بكل معنى الكلمة هذا بالنسبة إلى أدب الأنبياء الذين تأدبوا بالأدب الإلهي بجميع أنحائه وأطواره(3).

* * *

ص: 503


1- الشعراء، الآية 28.
2- الفرقان، الآية 9.
3- م - ن، 684 - 692، ج (12).

ص: 504

الفهرس

مقدمة...5

الأخلاق في القرآن...7

بحث أخلاقي...11

المذاهب الأخلاقية...11

الاتجاه العقلي...12

الاتجاه المادي...13

الاتجاه الصوفي...14

المفهوم الأخلاقي في القرآن...14

خصائص الأخلاق في القرآن...16

الإنسان كائن أخلاقي...19

الاعتدال في الأخلاق...20

طرق اكتساب الأخلاق الفاضلة...23

صفات المنافقين في القرآن...27

بحث روائي...39

أسباب النفاق...40

الهداية في القرآن...42

التزكية...61

ص: 505

أقسام الشكر...72

بحوث المقام...75

بحث دلالي...75

بحث روائي...77

مراتب الذكر...82

أهمية التربية...84

أقسام الحياة...92

مفهوم القصاص في الإسلام...101

التفسير...101

بحوث المقام...111

بحث أدبي...111

بحث فقهي...113

بحث روائي...114

بحث علمي...115

الإيمان والكمال الإنساني...121

بحوث المقام...126

بحث أدبي...126

بحث فلسفي...127

بحث روائي...128

بحث فقهي...130

بحث عرفاني...131

الخمر والميسر من الآفات الأخلاقية...133

في الرجاء...139

ص: 506

الإسلام - السلم - السلامة...147

الدعاء في القرآن...164

بحوث المقام...171

بحث أدبي...171

بحث دلالي...172

بحث روائي...175

بحث علمي...177

فضل الدعاء...178

حقيقة الدعاء...181

ما أُورد على الدعاء...183

الدعا ارتباط روحي...187

شروط الدعاء...189

شروط الكمال للدعاء...194

مراتب السلوك...201

العفو والمغفرة...203

التفسير...204

بحوث المقام...218

بحث دلالي...218

بحث روائي...220

الإصرار على الذنب...224

العفو والمغفرة...226

التوكل في القرآن والسُنّة...228

بحوث المقام...234

ص: 507

بحث أدبي...234

بحث دلالي...235

بحث روائي...238

مقام التوكل...239

فضل التوكل...239

التوكل في الكتاب الكريم...239

التوكل في السنة الشريفة...242

معنى التوكل...244

حقيقة التوكل...246

شروط التوكل...250

درجات التوكل...252

آثار التوكل255

الذنوب الكبيرة...257

التفسير...257

بحوث المقام...265

بحث دلالي...265

بحث روائي...267

ما ورد في تحديد الكبيرة...268

ما ورد في أعداد الكبائر...270

ما ورد في شمول الشفاعة لأهل الكبائر...278

ما ورد في تحريم الإصرار على الصغيرة...280

الكبائر والصغائر...282

موجبات الكبائر...288

ص: 508

طرق تمييز الكبيرة...289

موجبات محو الذنوب...291

بحث فقهي في المقام...293

بحث عرفاني في المقام...293

الورع وأقسامه...294

مراتب الطاعة...298

المعروف...301

أقسام المعروف...302

آثار المعروف...302

عوائق المعروف...303

الإخلاص...305

حقيقة الإخلاص...306

درجات الإخلاص...306

منافيات الإخلاص...307

الفرق بين الرضا والإخلاص...309

الأمراض الروحية...310

أحكام اجتماعية أخلاقية...314

مكارم اخلاق المؤمن...316

حب الشهوات الدنية...321

التفسير...322

بحوث المقام...340

بحث دلالي...340

بحث روائي...345

ص: 509

الغرور...348

البر والإنفاق في القرآن...350

التفسير...351

بحوث المقام...360

بحث أدبي...360

بحث دلالي...360

بحث روائي...363

أفضل البر...365

كمال النفس البشرية...366

التفسير...367

بحوث المقام...388

بحث أدبي...388

بحث دلالي...389

الخصال الحميدة...394

التفسير...395

المنهج الأخلاقي في الإسلام...409

بحث دلالي...409

بحث روائي...411

التوبة في القرآن...415

بحوث المقام...426

بحث دلالي...426

بحث روائي...431

محبوبية التوبة...433

ص: 510

الصلاة وتزكية النفس...435

التقوى وتهذيب النفس...439

بحث روائي...441

بحث عرفاني...443

الغيبة...446

الزهد في الدنيا والإعراض عن الشهوات...450

بحوث المقام...462

بحث أدبي...462

بحث دلالي...465

بحث روائي...469

بحث عرفاني...478

معرفة النفس...481

بحوث المقام...491

بحث أدبي...491

بحث دلالي...491

آداب الدعاء...495

ص: 511

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.