فلنرجع الى الله تبارك وتعالى

هویة الکتاب

فلنرجع الى الله تبارك وتعالى

الكاتب: آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي

لسان: العربية

الناشر: دار الصادقين - النجف اشرف - العراق

الطبعة الاولى

السنة 2020-1442

ص: 1

اشارة

فلنرجع الى الله تبارك وتعالى

دعوة لتحريك الدوافع العقلية والنفسية والقلبية

الشيخ محمد اليعقوبي

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

التعريف

هذا البحث أعدَّه سماحة الشيخ اليعقوبي لإلقائه على شكل محاضرات تربوية توعوية لاستقبال شهر رمضان إبان حكم الطاغية صدام المقبور في الفترة 2000-2003 التي تصدى فيها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) لقيادة حركة الوعي الاسلامي داخل العراق بعد استشهاد استاذه السيد الصدر الثاني (قدس سره) عام 1999.

ص: 3

وقد تضمنت مسودّة البحث اشارات كثيرة لأفكار كان سماحته يريد إضافتها للبحث ولم يتسّع الوقت لذلك. لكن سماحته أضاف إليه عند طبعه بعض الاشارات النافعة بإذن الله تعالى. ومنها المقدمة في تفسير الآية الكريمة كما أنه (دام ظله) تطرّق إلى الكثير مما كان يريد أن يضيفه الى البحث في خطاباته وكلماته اللاحقة وهي منشورة في موسوعة (خطاب المرحلة) وتفسير (من نور القرآن)وكتبه الاخرى مثل (الاسوة الحسنة). ويلاحظ ان اغلب الأحاديث الشريفة كتبها سماحته بالمضمون اعتماداً على ذاكرته لعدم توفّر المصادر والكتب يومئذٍ لديه وعدم وجود التقنيات الالكترونية ووسائل التواصل الموجودة اليوم وقد خرّجنا النصوص من مصادرها.في ذكرى البعثة النبوية الشريفة27 / رجب / 144122/ 3 / 2020

ص: 4

(وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)

(النور:31)دعوة موجّهة إلى جميع المؤمنين ليتوبوا إلى الله تعالى، وهي موجّهة إلى غيرهم من باب أولى، فالجميع مطالبون بالتوبة أي الرجوع إلى الله سبحانه لأن التوبة تعني الرجوع عن الذنب والعودة إلى الصراط الذي أمر الله تعالى به.والاستجابة المطلوبة لهذه الدعوة لها مستويات متعددة بحسب مستويات الأشخاص أنفسهم وشكل الذنوب التي تصدر منهم فيتوب الله تعالى على العبد فيرجع على عبده بالتوفيق والجذب والدعوة للطريق الصحيح فان استجاب العبد وتاب بمستوى معين، تاب الله عليه ورجع عليه برحمة أخص ونقله الى مستوى أعلى وهكذا تكون العلاقة التكاملية درجة بدرجة وخطوة بخطوة حتى يتحقق الفلاح قال تعالى (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (التوبة:118).وتذكر آية أخرى هذه العلاقة العاطفية بين الله تعالى و عباده وتبيّن ان هذا الحرص من الله تعالى على عودة العباد اليه

ص: 5

ناشئ من المودّة والرحمة قال تعالى (وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) (هود:90).وقد تكررت هذه الدعوة للمؤمنين في اكثر من آية من القرآن الكريم كقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التحريم:8).وقد حثّ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اتباعه على الاستجابة للدعوة مبادراً اليها بنفسه الشريفة تطبيقها على نفسه الشريفة، فقد روي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله (إنه ليغان على قلبي وإني لاستغفر الله في كل يوم سبعين مرة)(1) وروي في كل يوم مئة مرة(2) وفي

ص: 6


1- جامع أحاديث الشيعة: 15/ 497 عن لب اللباب للراوندي: 1/ 397 ودرر اللئالي لابن ابي جمهور(2) شرحنا في خطاب سابق معنى استغفار رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والمعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) (راجع موسوعة خطاب المرحلة: ج7/ص233)

الدر المنثور عن البخاري ومسلم والبيهقي عن ابي رافع قال (سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول: أيها الناس توبوا إلى الله جميعاً فإني أتوب إليه كل يوم مائة مرة)(1) .والتوبة ليست فقط من ذنوب حاصلة في أي مستوى كانت بل تحسن التوبة مما يمكن أن يحصل لو لا لطف الله وعنايته وصرفه عن العبد (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء) (يوسف:24).وهذا المعنى ليس غريباً فإن تقديم سبب التوبة والاستغفار على الذنب نفسه وارد في الروايات كجزاء لبعض الاعمال الصالحة(2) فكما ان الاعمال الصالحة تكفّر الذنوب اللاحقة كذلك التوبة والاستغفار من الذنوب اللاحقة والمحتملة .

ص: 7


1- الدر المنثور:5/ 44(2) ورد عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال من زار قبر الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليلة في ثلاث ليالي غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر ليلة الفطر وليلة الاضحى وليلة النصف من شعبان) (وسائل الشيعة: 14/ 475، ابواب المزار، باب54 ح1.

وترقى درجات التوبة لتصل الى مستوى التوبة للحفاظ على درجة العصمة وتكاملها والبقاء في القمة وهو أحد وجوه استغفار المعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) التي ذكرناها في خطاب سابق.وتتحقق التوبة الصادقة عندما تكون صادرة عن الشعور بقبح الفعل لما فيه من الجرأة على الله تعالى الخالق المنعم ومقترنة بالعزم على عدم العود إلى مثلها وتدارك ما فات مما يمكن تداركه كقضاء الصلاة والصيام الفائتين وإرجاع حقوق الناس التي غصبها وهكذا، وقد وصفت التوبة الصادقة في الآية المتقدمة بالنصوح للدلالة على المبالغة في النصح لنفسه أي صدق التائب مع نفسه وهذه التوبة النصوح كفيلة بمحو السيئات والنجاة من العذاب ودخول الجنة برحمة الله تعالى.والله تعالى يعلم أن العبد مهما صدق في توبته فأنه معرّض للوقوع مرة أخرى في الذنب بأحد مستوياته لذا دعاه إلى التوبة النصوح مرة أخرى.

ص: 8

روى الشيخ الكليني في الكافي بسند صحيح عن ابي بصير قال: قلت لأبي عبدالله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا)؟ قال: هو الذنب الذي لا يعود فيه أبداً) فقلت: وأيُّنا لم يعد، فقال: يا ابا محمد إن الله يحب من عباده المفَّتن التواب)(1).ومثلها رواية محمد بن الفضيل في نفس الباب.ومقام التوبة من المقامات المحمودة عند الله تعالى قال عزّمن قائل (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة:222) وأضاف الله تعالى وصف التوابين إلى ذوي الدرجات الرفيعة عنده تبارك وتعالى (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة:112) وللمعصومين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وهم سادة الخلق ادعية طويلة في طلب التوبة.

ص: 9


1- الكافي: 2/ 314، ح 4

فالمؤمنون جميعاً مدعوون للتوبة كغيرهم لأن عندهم ذنوباً أيضاً وإن كانت لا تشابه ذنوب الكفار والفسقة وفي هذا تحذير للمؤمنين وموعظة حتى لا يغتّر مؤمن بعمله أو يعجب به أو يجعل لنفسه منزلة أفضل من الآخرين وقد تتطلب إعادة العبد الى ربه شيئاً من الابتلاء والأذى رحمة بالعبد وشفقة عليه ليضطرّ إلى اليقظة والعودة إلى الله تعالى، قال سبحانه (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (السجدة:21) وقد ورد في ادعية ليالي شهر رمضان (إِلهي لا تُؤَدِّبْني بِعُقُوبَتِكَ) أي لا تجعلني بحال احتاج الى عقوبة وابتلاء لكي اعود الى الطريق الصحيح بل اعود بلطفك وعنايتك.وتوجد مضافاً إلى ذلك ذنوب لا يلتفت إليها عادةً أشرنا إليها في خطاب مفصَّل منشور تضمّن شاهداً على ذلك(1) من وحي دعاء للإمام السجاد (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) اللهم اني اعتذر اليك من

ص: 10


1- خطاب المرحلة: ج 7 / ص102

مظلوم ظلم، بحضرتي فلم انصره، ومن معروف اسدي اليَّ فلم اشكره، ومن مسيء اعتذر اليَّ فلم أعذره).هذا اذا نظرنا بلحاظ المسؤولية الشخصية، اما اذا نظرنا بلحاظ المسؤولية الاجتماعية فسنجد ذنوباً جديدة نتحملها بسبب عدم بذلنا الوسع في إصلاح المجتمع وتخليصه من المعاصي المنتشرة فيه جهلاً أو تهاوناً أو تمرداً أو لأي سبب آخر وهذا كله تقصير في اداء أعظم وظيفة في الاسلام وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1).ولعل هذا أحد وجوه ورود هذه الدعوة في نهاية الآيات الآمرة بالحجاب والناهية عن التبرج من سورة النور مع أنه ليس جميع نساء المؤمنين متبرجات لكنهم جميعاً مسؤولون عن وجود هذه المعصية في المجتمع إن لم يكونوا مبتلين فعلاً بدرجة من درجات هذه المعاصي الاجتماعية فانتشار الخلاعة

ص: 11


1- راجع كتابنا عن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والمجون يصيبهم بالنظرة المحرمة والإثارة غير المشروعة ونحو ذلك والعياذ بالله.

صور من انحراف المجتمع:_

ونحن بين يدي شهر رمضان الذي هو من أعظم أسباب التوبة والاستغفار فإنه شهر المغفرة والعتق من النار ومما ورد في خطبة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) التي استقبل بها شهر رمضان في آخر جمعة من شعبان قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ أَنفُسَكُم مَرهُونَةٌ بِأَعمَالِكُم، فَفُكُّوهَا بِاستِغفَارِكُم، وَظُهُورَكُم ثَقِيلَةٌ مِن أَوزَارِكُم، فَخَفِّفُوا عَنهَا بِطُولِ سُجُودِكُم)(1).ففي مجتمعنا (المسلم) مشاهد عديدة تستوقفنا وتجعلنا نطيل التأمل فرجل مسلم اشتعل رأسه شيباً يسمع المؤذن ينادي (حي على الصلاة) وهو يجلس في المقهى ويلعب الدومينو ويخوض في أحاديث الباطل وكأن النداء ليس موجهاً إليه.

ص: 12


1- مفاتيح الجنان /ص172.

وآخر اذا جنّ عليه الليل عاد الى داره ثملاً قد سلبت الخمر عقله. أو امرأة مسلمة تمشي بين الرجال سافرة قد كشفت عن شعرها وبعض اجزاء جسدها. أو شابٌ مسلمٌ تارك للصلاة غارق في اللهو واللعب يتخذ من فنّان فاسق قدوة له يقلّده في أفعاله وأقواله ويحمل على ملابسه علامات الكفار وصور الفساق أو تراه مفطراً في نهار شهر رمضان. أو ناس مؤمنون يخوضون في الغيبة وانتقاص الناس وتسقيطهم والافتراء عليهم والايقاع بهم. وآخر يغض النظر عن معاملاته ويحاول ان يجد الف طريقه لتبرير الربح غير المشروع. أو طالب وطالبة جامعية وهما ينشأن علاقه (حب) خارج الصيغ الشرعية و يجلسان معاً بعيداً عن أعين النظار في اجتماع غير شريف يكون ثالثهما الشيطان.

ص: 13

أو ثريّ ينفق المبالغ الضخمة لأمور تافهة لمجرد الجري على الاتيكيت الرائج بين اقرانه أو للرياء والمباهاة واذا طلبت منه اخراج حق الله سبحانه المتعلق بماله أو مساعدة شاب فقير يريد ان يحصّن نفسه بالزواج أو ارامل وايتام لا معيل لهم اعرض وناء بجانبه وربما نهر السائل واهانه. وقد تجد عشيرتين تتقاتلان من اجل امور تافهة فتذهب الضحايا وتتلف الأموال. أو دولتين مسلمتين تتصارعان فتزهق الأرواح و يهلك الحرث والنسل من اجل ما يسمونه بالمصالح أو غيرها من الدعاوي الوهمية وهم يعلمون ان الارض لم تنفد خيراتها بل هي تكفى لهم ولأضعافهم وانهم ليحرقون الحبوب واللحوم من اجل الحفاظ على سعر السوق. أو تجمعات قد اغواها الشيطان فجمعها على الحرام في مسرح أو ملهى أو غيرها من مراتع الشيطان.

ص: 14

أو الآفاً وملايين من الناس قد اضاعت أموالها وأوقاتها وقد حبست انفاسها و فقدت وعيها من اجل كرة جلديه تافهة تدخل في هذا المرمى أو ذاك وتقوم الدنيا ولا تقعد اذا تغلب احدهما على الآخر ولا اعرف ماذا قدموا بذلك من خير للبشرية.

المعاصي القلبية:_

هذا على المستوى الظاهري واما على المستوى (المعنوي) فان المعاصي أيضاً لها مصاديق واسعة لان من كانت طاعته ظاهرية اي كان مستواه ظاهرياً ورضى ان يحاسب حساباً ظاهرياً فمعاصيه كذلك اي يؤاخذ على المعاصي بالمعنى الشرعي فقط روى الشيخ الكليني في الكافي عن زرارة عن الإمامين الباقر أو الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: (إن الله تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريته من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة ومن هم بحسنة وعملها كتبت له بها عشرا ومن هم بسيئة ولم

ص: 15

يعملها لم تكتب عليه (سيئة) ومن هم بها وعملها كتبت عليه سيئة)(1) .ومن كانت طاعاته قلبية باعتباره ممن التفت إلى تطهير القلب وتصفية الباطن فمعاصيه قلبية فيحاسب على الخواطر والنوازل القلبية ويستغفر لذنوب لا يحاسب عليها أهل الظاهر، مثلاً ورد في الحديث النبوي الشريف: (ثلاث لم يسلم منها أحد: الطيرة والحسد والظن، قيل وما نصنع، قال: اذا تطيرت فامض واذا حسدت فلا تبغ، واذا ظننت فلا تحقق)(2) .فاذا مرّت هذه الخواطر على القلب والتزم بما ذكره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فلا شيء عليه على المستوى الظاهري لكن المشتغل بتنقية القلب يعتبر نفسه في معصية قلبية لمجرد وجود هذه الخواطر

ص: 16


1- الكافي: ج2/ص428(2) تحف العقول: 50، الطبعة الثانية 1404 تعليق علي أكبر الغفاري وفي المتن ذكر الجزء الثاني من الحديث فقط ، وفي كنز العمال: (ثلاثة لازمات لأمتي: سوء الظن والحسد والطيرة، فاذا ظننت فلا تحقق، واذا حسدت فاستغفر الله، واذا تطيرت فامض) (ج16 ص20 رقم الحديث 43788)

في قلبه اذ يفهم ان قلبه لم يطهر تماماً أو قل انه ليس من أصحاب (القلب السليم) بدليل عدم خلّوه من هذه الخواطر، هذا القلب الذي لا ينجو غداً الا أهله قال تعالى (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء:88-89) ويمدح خليله ابراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بانه من اهل هذا القلب، قال تعالى (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الصافات:83-84).وتصفيةُ القلب من هذه الاغلال قد لا يكون الا في يوم القيامة ويكون من نعم الله سبحانه على عباده الفائزين (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ) (الأعراف:43) (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ * لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ) (الحجر:45-48) ومن هذه الاغلال ان يمتعضّ قلبك عند مدّح أحد تحسده أو تفرح عندما ينتقص رغم عدم مشاركتك في الكلام.

ص: 17

وانما أصبح زواله اي الغل نعمة لأنه ينكد الحياة ويمنع من افراغ القلب لله سبحانه (لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن)(1) والسعادة الحقيقية لا تتحقق الا في هذه المرتبة. عندما أرى أو أسمع أو أقع - الا ان تتداركني رحمة ربي - في هذه المظاهر وغيرها من اشكال السلوك المنحرف في هذه البشرية التائهة الضالّة أتأمل طويلاً ويملأ التفكير أعماقي وأتساءل: الا يعلم هؤلاء ان هذه افعال محرمة لا يرضاها الله سبحانه؟ أو انها مبعدة عنه تبارك وتعالى وموجبة لتقليل الدرجات يوم القيامة؟ فان علموا ذلك فما الذي يجرئهم على معصية الله سبحانه؟ الا يعلم هؤلاء أن امامنا عقبة كؤودا هي الموت وما بعد الموت أعظم وأدهى! وعلى تعبير الامام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عندما وقف على جنازة تلحد في قبرها قال (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بزفره وكلّه تحقير لهذه الدنيا ((ان شيئاً هذا آخره - وهي الدنيا -

ص: 18


1- بحار الأنوار: ج55، ص39

لحقيق ان يزهد في أوله، وان شيئاً هذا أوله - وهي الآخرة - لحقيق ان يخاف من آخره))(1) .وأتسّاءل اليس هؤلاء مسلمين ويؤمنون بالله - ولو نظرياً - ويؤمنون بالآخرة والمعاد والحساب؟ فلماذا لا ينعكس هذا الايمان على تصرفاتهم؟ فأين الخلل؟ ان كل هذا يكشف عن ان المشكلة ليست على مستوى النظرية اي اقامة الدليل على كل ذلك فان الكتب حافله بما يقنع من له ادنى مسكة عقل، ولم يقصّر علماءنا ومفكرونا في حشد كل ما يمكن ان يقرّب الايمان و يقنع به وانما المشكلة على مستوى التطبيق. وعلمت عندئذٍ اننا لم نعد - كما كنّا في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي - بحاجه الى اثبات وجود الله سبحانه فهذه حقيقة لم يبق من يشكك فيها أو قل ان

ص: 19


1- ميزان الحكمة، ج2، ص1171

أولياء الشيطان لم يعودوا يفتنون المؤمنين من هذه الجهة(1) وما عادت مهمتنا اثبات هذه الحقيقة بل ان اعداء الله جاءوا بخطه جديدة تقتضي المحافظة على الشكل الظاهري والقالب الخارجي للدين و نخره من الداخل وتمييع العقيدة في النفوس وافراغها من محتواها وإماتة الوازع الديني بحيث لا يبقى له ادنى تأثير في سلوك المسلم؟؟ فنحن بحاجة إذن إلى زرع وإيقاظ الاحساس بوجوده تبارك وتعالى والتعامل معه على انه موجود فعلاً وليس ايماناً نظرياً فقط وتذكرت الحديث عن الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : (ما خلق الله عز وجل يقينا لاشك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت)(2) فانه يقين مئة بالمئة على مستوى النظرية لكنك لا

ص: 20


1- لاحظ ان تاريخ البحث قبل سقوط صدام المقبور عام 2003 حيث لم تكن دعوات علنية للإلحاد وإنما حصلت بعد السقوط عندما دخلت المنظمات والمؤسسات الدولية المختلفة، وتيسّرت للناس وسائل التواصل الاجتماعي.(2) الفقيه: 1 / 194 / 596

تجد من يؤمن به عملياً بمعنى انه يستعد له الاستعداد الكامل وكأنه كتب على غيره. فترى الانسان اذا عزم على سفر قد لا يطول شهراً يُعدُّ كل ما يحتاجه أو يحتمل انه يحتاج اليه ويهيئ جميع أموره حتى الحقير منها فلماذا لا يستعد بنفس الاستعداد لسفر الآخرة ويحضرّ زاد هذا السفر الذي بيّنه القرآن الكريم (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (البقرة: 197) وقال الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (وحصّل زادك قبل حلول أجلك) خصوصاً وإنا نعلم ان الحكم - وهو الله تبارك وتعالى - بصير لا تخفى عليه خافيه في السماوات والأرض وهو أقرب الينا من حبل الوريد وشهوده كُثر ومنهم هذه اعضائنا التي نعصيه بها (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يس:65).أعود الى التساؤل اذن كيف نحمل الناس على الالتزام بالشريعة الإلهية وكيف ندفعهم الى التطبيق؟ ولا يُفهم من كلمه

ص: 21

(نحمل) و(ندفع) القصر والإجبار والإكراه فهذا اسلوب مرفوض ولا ثمرة فيه وقد قال تعالى (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة:256) فهذا من خيانة التعبير فأننا نريد ان نتعرف على الاسلوب الذي يحبّب الايمان والاسلام الى الانسان ويزيّنه له بحيث ينجذب اليه، تلقائياً ويجده الطريق الوحيد الذي يكفل له سعادته في الدنيا والآخرة ويكرّه اليه الفسوق والعصيان بالضبط عك__س ما يفعله الشيطان اللعين (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الحجرات: 7-8).فوجدت ان ذلك يمكن تحقيقه على ثلاثة مستويات تمثّل عوالم الانسان الثلاثة:

المستوى الاول: النفس

فقد يجد الانسان في الإسلام والإيمان تحقيق نزعاته النفسية وارضاء للقوى والشهوات الغريزية الكامنة فيه فيؤمن لأن

ص: 22

الايمان يحقّق له المال أو الجاه أو اي شيء آخر و لا يُفهم من هذا أنه يشمل التوسل بالأمور المحرمة كما لو اردنا ردعه عن الزنا فنجوّز له اللمس او النظرة للأجنبية فان الغاية لا تبرر الوسيلة في نظر الإسلام مهما كانت الغاية سامية لكن مثلاً نريد أن نحث رئيس عشيرة على تطبيق شريعة الإسلام في السنينة العشائرية فلا حاجة إلى الغاء رئاسته ونظام عشيرته بل نبقيه في موقعه ونعطيه الصلاحيات التأديبية التي يحتاجها باعتبار ان الإسلام قد وضع تعزيرات على التصرفات المحرمة وترك تحديدها بيد الحاكم الشرعي أو من ينيبه فيحصل رئيس العشيرة على السند الشرعي بتخويل الفقيه الجامع للشرائط.أو نريد ترغيب شاب في الحضور في المساجد واداء الصلاة جماعة في أوقاتها فنقول له : ان هذا يعطيك فرصة للتعرف على وجوه المجتمع فاذا عرفوك وثقوا بك فيمكن ان يوجدوا لك عملاً تجارياً معهم أو يتكفلون زواجك إن كان لا يستطيع ذلك .

ص: 23

وهذا الاتجاه وان كان بعيداً عن ذوق الإسلام في التكامل الا انه امضاه وارتضاه لأنه يعلم ان الخطوة الأولى وان لم تكن لله تبارك وتعالى لكن المهم ان يلتفت إلى الإسلام ويعيش في احضانه ويستنشق عبيره وشذاه فان ذلك كافٍ لان يتخلّى عن اهدافه الدنيوية تلك ويصلحها إلى اهداف ربّانية مخلصه وهكذا كانت هداية رجال اصبحوا من عظماء الإسلام فقد روي ان حمزه بن عبد المطلب سيد الشهداء أسلم حينما أدركته العصبية لعشيرته وهو يرى قريش تؤذي ابن أخيه وتصبّ جام غضبها عليه وليس له ناصر الا الله سبحانه فادركه العرق الهاشمي وانتصر لابن أخيه وأعلن إسلامه ارغاماً لقريش فكانت تلك فاتحه الخير له وللإسلام(1) .

ص: 24


1- روي عن الامام زين العابدين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال (لم يدخل الجنة حمية غير حمية حمزة بن عبدالمطلب وذلك حين أسلم غضباً للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حديث السِلّا الذي ألقي على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)) (بحار الأنوار:18/ 211، 73/ 285). والسلا هو ما يرافق جنين الحيوان حين ولادته كالجلد الرقيق الذي يحيط به وان ابا جهل وضع سلا جزور على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو يصلي.

ويندرج في هذا المستوى تخصيص جزء من الزكاة للمؤلفة وهم الذين لم يستقر الايمان في قلوبهم فيأتلفهم بالمال ليحسن اسلامهم وهكذا فعل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حينما وزّع غنائم حنين على مشركي قريش بالأمس وطلقائه اليوم بعد فتح مكة ولم يعطِ الانصار شيئاً فظنّوا ان ذلك لموجدة في قلبه عليهم فجمعهم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقال: ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعباً ، لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار. وأبناء أبناء الأنصار. قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظا. ثم انصرف رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتفرقوا)(1) .

ص: 25


1- صحيح البخاري: ج3 /ص69،70،71

وورد هذا الاتجاه في طلب العلم فقد روى عنهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أنهم قالوا (تعلموا العلم ولو لغير الله فإنه سيصير لله)(1) اذ بعد ان يمس العلم شغاف القلب و يتنور بالمعرفة فانه سيعود الى الله تبارك وتعالى والمهم هي البداية.بل ان هذا الاتجاه مقبول ومشروع على مستوى الآخرة فترى القرآن الكريم يطمع المؤمنين بحور عين وولدان مخلدين ولحم طير مما يشتهون وانهار من عسل مصفى وخمر لذة للشاربين في جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وفوق ذلك ما تشتهيه الأنفس وتلذ العيون بل ما لا عين رأت ولا اذن سمعت وهي عبادة التجار على تقسيم أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهي دون عبادة الأحرار.

ص: 26


1- شرح نهج البلاغة ج20 __ ابن أبي الحديد، ص267/ ح98

وقد نقل لي بعض المتقدمين(1) في درجات السلوك الصالح انه سأل استاذه اننا كيف نجاهد أنفسنا ونمنعها من لذاتها من اجل أنفسنا ولذاتها في الآخرة طبعاً فقال: هكذا أدبنا المعصومون (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).وتوجد أجوبه أخرى (منها) ان هذه زائله وتلك باقية - وفيه - انه لا يغير من الاشكال شيء (ومنها) ان جنة هؤلاء ليست من قبيل هذه النعم وانما لذات معنوية. ومما ينبغي ملاحظته هنا انه لا ضير من ان يكون لحم الطير وحور العين حتى لأصحاب اللذات المعنوية والمقامات العالية كما انهم في هذه الدنيا في جنتهم الحقيقية ومع ذلك فهم يأكلون ويشربون وينكحون غاية الأمر ان أفعالهم هذه ليست مطلوبة في نفسها ولا للتلذذ بها وإنما لقضاء حاجة الجسم

ص: 27


1- هو السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في بعض رسائله الاخلاقية الى سماحة الشيخ ولم يذكر الاسم مراعاة للظروف آنذاك وقد نشرت الرسائل لاحقاً في كتاب قناديل العارفين.

فتكون الاستفادة منها موظفة لخدمة الهدف وتكون جزءاً من التكامل لا عائقاً عنه وإنما الذي نجلّهم عنه ان يكون هدفهم هذه الجنة وسد الحاجات ودفع ألم الحاجة كما يقولون جزء من السعادة وأحد مقوماتها.

المستوى الثاني: العقل

بأن نقيم الأدلة والبراهين والحجج المقنعة على صحة المعتقدات و طريقة الشرع ووجوب الالتزام بالشريعة الإلهية فاذا كان الإنسان منصفاً فلا يجد محيصاً عن الإيمان بنتائج تلك البراهين، اما المجادل والمكابر ومن اتبع هواه فلا ينفع معه دليل ولا برهان (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ) (البقرة:145) اي هدفك وغايتك (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ) (الحجر:14-15) ولقد أُلّفت كتب كثيرة بهذا الاتجاه بحيث لم تترك عذراً (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ

ص: 28

شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (الانعام:149) وفتح علم خاص لهذا المجال وهو علم الكلام أو العقائد. وقد وردت أحاديث(1) كثيرة في فضل العلماء الذين يتصدون لنفي الشبهات عن العقائد الحق وحماية الناس من الضلال والانحراف وان أفضل المجاهدين والمرابطين في سبيل الله هم العلماء المرابطون على ثغور ابليس يردّون عن عباد الله اباطيله وضلالاته وان أشد من يتيم الأبوين يتيم انقطع عن أبيه المعنوي وهو إمامه الذي يتكفل برعايته وتربيته في حياته المعنوية فهو أولى بالرعاية والعطف والحنان وأعظم اجراً عند الله تبارك وتعالى.وان من مسؤوليات العالم المخلص ان يظهر علمه عند الفتن وانتشار الشبهات حتى يظهر الحق ويزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا ليوهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة.

ص: 29


1- راجعها في بحار الأنوار: 2/ 1-15

المستوى الثالث: القلب

واعني به تلك اللوحة الربانية البيضاء الناصعة التي ان صفت ونقت مما يكدّرها وتعب صاحبها علي جلائها كانت مرآة صافية تعكس الحقائق عن اللوح المحفوظ من دون كسب وتحصيل فيجد صاحبها كله حاضراً عنده ومنقوشاً في باطنه، والقلب هو ساحة الصراع بين جند الشيطان وقوى النفس الامّارة بالسوء وشهواتها واهوائها ودواعي السوء فيها وبين جند العقل وأدلته وبراهينه ومعارفه (وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) (يوسف:24) فان تغلّب العقل كان منيراً بنور معرفة الله سبحانه وتعالى وبألطافه طافية وفي فيوضاته، ففي الحديث القدسي (لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن)(1) . وتجلّت فيه صفات الكمال وغُلَّت النفس الأمّارة بالسوء وكانت ميولها وشهواتها مهذبة ومؤدبة بأدب الله تبارك وتعالى لا تحيد عنه و زمامها بيد الشرع الحنيف.

ص: 30


1- بحار الأنوار: ج55، ص39

وإن غلب جند الشيطان - والعياذ بالله - كان مظلماً ومأوى للشياطين ويُغلُّ العقل ويُسخّر لخدمة الشهوات كما تراه في أولياء الشيطان واتباعه الذين ما فتئت عقولهم تتفتق عن المزيد من الحيل الشيطانية لتحقيق شهواتهم ومطامعهم. وعندما تأمّلت في تجارب المصلحين وسبرت اغوار التأريخ لأجد اي هذه المسؤوليات أعمق تأثيراً وأعظم انتاجاً، ودققت النظر أكثر في أعظم نقلة عاشتها البشرية وهي التي حصلت في صدر الإسلام على يد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حيث سمت البشرية من حضيض الجاهلية إلى قمة الإسلام الرفيعة وفي فترة قياسية هي قصيرة جداً في عمر الزمان.ولمعرفه عظمه هذه النقلة تستطيع ان تقارن بين حال الأمة قبل الإسلام وحالها بعده فكانوا قبل الإسلام يرتكبون جريمة وأد البنات - اي يدفنونهن في التراب وهن احياء خوف العار - ويغير بعضهم على بعض فيقتل ويسلب وينتهك الأعراض، والقوي يأكل الضعيف قد تفشّت فيهم الفواحش من الزنا

ص: 31

وشرب الخمر وهم عاكفون على عبادة حجارة لا تضر ولا تنفع، فكيف أصبحوا بفضل الله ورحمته؟ اصبحوا متآخين متحابّين يؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة حتى لو كان لأحدهم رغيف من الخبز أعطى نصفه لأخيه واكتفى بالنصف الآخر، واذكر مثالاً واحداً كشاهد على عظمة تلك النقلة فقد روى العدوي انه سمع جريحاً في معركة القادسية يطلب الماء فجاءه ليسقيه فسمع آخر يطلب الماء فقال الجريح اسق أخي أولاً فلما اتاه سمع ثالثاً يطلب الماء فقال اسق أخي فلما أتاه وجده قد مات فرجع إلى الثاني فوجده قد مات وكذا الأول، مثل هذا المستوى الرفيع خلقه الإسلام في تلك الأمة، ولا أريد ان أدخل في تفاصيل هذه التجربة العظيمة فأنها تستحق أفراد كتاب(1) مستقل لها لبيان الدروس المستفادة من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في هذا المجال تطبيقاً للآية الشريفة (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ

ص: 32


1- أنجز هذا الكتاب لاحقاً وطبع بعنوان (الأسوة الحسنة) .

وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21) عسى الله ان يوفقنا لإنجازه، والذي اريد ان أقوله هنا ان حديثاً آخر يقول (ان اواخر هذه الأمة لا تصلح الا بما صلح به اوائلها) وقد صلحت اوائل هذه الأمة بهذا العلاج الشافي: القرآن الكريم(1) كما وصف نفسه انه هدى ورحمة وشفاء لما في الصدور وببركة المعالج وهو رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وجهوده الجبارة وصبره المضني ومهمتنا في إصلاح المجتمع اسهل بالتأكيد لأننا نتعامل مع ناس مسلمين أولاً مهما كان درجه ابتعادهم عن الله سبحانه ومتحضرين ومثقفين ثانياً ونأتي على خلفيه تربية طويلة قام بها الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من بعد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومن بعدهم العلماء الأبرار المخلصون عبر هذه القرون الطويلة وعندما نريد ان نستفيد من تجربة القرآن نجد أنه قد كرّس نفسه طيلة مدة النبوة في مكة (وهي ثلاث عشرة سنة أي الجزء الأكبر من زمان النبوة) لإحياء القلوب

ص: 33


1- تناول سماحته هذه النقلة العظيمة في حياة الأمة في كتابه (شكوى القرآن) وفي (الأسوة الحسنة).

والعقول وتطهير النفوس ولم يبلّغ الاحكام الشرعية الا بعد ان وصلت الأمة إلى درجة من السمو الروحي والنضج العقلي والايمان الراسخ وحينئذٍ حمّلهم الاحكام فاستجابوا لها وامتثلوها بلا أدنى تردد فكان ذلك المجتمع المثالي الذي لم تشهد له البشرية مثيلاً فلا انحراف ولا جناية ولا مشكلة الا ما ندر جداً مما لا يكاد يذكر فنحن __ كحوزة شريفة __ محتاجون إلى هذا الاحياء اكثر من حاجتنا الى تبليغ الأحكام، وان إيصال الأحكام الفقهية __ مهما كان مهماً __ الا أنه وحده لا يكفي بل لابد معه من احياء القلب والضمير والعقل والا فأن الأحكام الفقهية المثبتة في الرسائل العملية لا تكون فاعلة ومؤثرة ومحركة الا اذا امتزجت بما يحيي القلب ويوقظ العقل ويحرّك الضمير.وأنت اذا سبرت آيات القرآن الكريم فستجد انه حرّك المسارات الثلاثة المتقدمة واستفاد مننها ووظّفها في عملية الهداية والإصلاح.

ص: 34

فعلى الصعيد الأول وهو المستوى النفسي تجده يربط بين الايمان وتوافر النعم (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ) (الأعراف:96) (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً) (الجن:16) (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) (نوح:10-12) ويربط بالمقابل بين العصيان ونزول النقم (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورى:30) (فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (يونس:98) (وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) (الأعراف:96) هذا في الدنيا واما في الآخرة فمن الواضح الذي لا يحتاج إلى بيان لكثرته وتواتره ما أعدّ الله تعالى للمطيعين من النعم مما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر) وما اعدّ للكافرين من الوان العذاب ومن يتصفح القرآن

ص: 35

خصوصاً في قسمه المكي يطّلع على الصور المشرقة السعيدة لحياة المؤمنين والحياة النكدة المعذبة الشقيّة للكافرين.وعلى المستوى الثاني فقد ضمّ القرآن استدلالات وبراهين واحتجاجات كثيره على مختلف العقائد والمعارف الإلهية كقوله تعالى في اثبات التوحيد (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)(الانبياء:22) وقوله (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ) (لقمان:11) وأكّد على ضرورة الحوار (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) (آل عمران:64) وإقامة البرهان و عدم جواز التقليد من غير دليل (قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:111) ، (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي) (هود:88) ، (قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) (يونس:59) .واما على المستوى الثالث وهو الأهم والأعمق تأثيراً والأشد رسوخاً لأن الإيمان اذا كان عن دليل عقلي محض فيمكن ان تزيله مغالطة عقلية لا يفهم الشخص وجه الشبهة فيها اما اذا كان

ص: 36

عن طريق القلب واستقر فيه فلا يزيله شيء، من هنا قال ابراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (البقرة:260)، من هنا كان أفضل مدخل لصنع شخص مليء بالإيمان من رأسه إلى أخمص قدميه هو قلبه فترى القرآن تارة يثير في القلب مشاعر الحب لله سبحانه بما يبين من أوصاف الكمال فهو الرحيم بعباده أكثر من الأم الحنون بولدها وهو الساتر عليهم والحليم عنهم والرازق لهم وهو الهادي والمنعم والكريم و العليم والقوي والقادر و غيرها من الاسماء الحسنى و اذا احبّ الانسان شيئاً اندفع إلى طاعته و تلبية رغباته من دون ان ينتظر مكافئة او أجر فالأب يسعى بكل ما عنده لإدخال السرور على أولاده واسعادهم وكذا الأم وقد يضحيان بحياتهما من اجلهم لا لمطمع عندهم ولا للخوف منهم سوى الحب لهم. وتارة أخرى يثير مشاعر الرهبة والخوف بما يصف من مشاهد يوم القيامة ويحكي من أحوال ما بعد الموت.

ص: 37

محفزات للتشجيع على التوبة:-

فكيف نستفيد من هذه التجربة القرآنية، و كيف نستثمر هذه الاتجاهات الثلاثة لهداية الناس وجذبهم الى طاعه الله سبحانه وكيف ننزع من عقول الناس وقلوبهم بان الالتزام بالشريعة تقييد للحريات وانها تكليف وعبئ ثقيل نبدله الى سعادة وسرور بهذا التشريف الإلهي العظيم، نحاول هنا - بإذن الله تعالى- اثارة عدة محفّزات تندرج ضمن هذه الاتجاهات الثلاثة وهو ما اتبعه الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فإنما كانوا يعظون الناس ويهدونهم بطرق شتى فواحد من جهة النفس كذاك الناصبي الذي اغدق عليه الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) العطاء فتحوّل الى موالي وهو يقول (الله اعلم حيث يجعل رسالته) وآخر من جهة الدليل والبرهان ككثير من اليهود والزنادقة وآخر من جهة القلب بإثارة العلاقة الوجدانية مع الله تعالى والتذكير بالموت وحساب الآخرة كأسلوب الامام الكاظم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع بشر الحافي في القصة المعروفة .

ص: 38

ومن ذلك ما روي ان رجلاً قال للامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (يابن رسول الله دلني على الله ما هو فقد كثر عليَّ المجادلون وحيروني، فقال له : ياعبد الله هل ركبت سفينة قط، قال: نعم، قال فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك؟ قال: نعم، قال: فهل تعلق قلبك هنالك أن شيئا من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟ قال: نعم، قال الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): فذلك الشيء هو الله القادر على الانجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث(1). وهو ما يسمى بالوجدان وهذا ناشئ من اختلاف المؤثرات على الناس فمن الضروري ان تتعدد الأساليب والمصلح الذكي المسدّد هو الذي يعرف أفضل باب يدخل منها وعندئذ سيجدون أكثر من مبرر للحرص على طاعة الله سبحانه والتعلّق بها والتضحية من اجلها والشعور بالسرور والسعادة لدى الالتزام بالشريعة.

ص: 39


1- بحار الأنوار: ج 3 / ص 41

الاول:

ان التكاليف الشرعية ليست طوقاً في عنق الإنسان ثقيلاً يريد ان يتحرر منه بل هو تشريف له، واضرب لك مثالاً معاشاً فلو ان الملك أراد أمراً معيناً كافتتاح مشروع فأناب إنساناً بدلاً عنه كم سيكون هذا الإنسان محظوظاً ان ينال شرف النيابة عن الملك ويتحدث باسمه فكذلك الانسان اختاره الله سبحان ليكون خليفته في هذه الأرض (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة:30) والله ملك الملوك وربهم وخالقهم فكم تكون عظمه النعمة ان يستخلف أحداً ويسخر له كل ما في الارض (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا) (البقرة:29) وينقل عن شخص عارف انه احتفل يوم بلوغه سن التكليف الشرعي لأنه يوم تشريفه بأعظم النعم.

الثاني:

ان الشريعة الإلهية إنما وضعها الله سبحانه لتنظيم حياه البشر وهدايتهم إلى ما فيه صلاحهم لأنه خالقهم وهو العارف بما يصلحه فان اي جهاز يعطل نرجع الى الشركة المصنّعة للجهاز

ص: 40

تعرف عيبه و طريقة إصلاحه والله هو خالق الإنسان وصانعه فهو العارف بمناشئ انحرافه وطرق علاجها ومن القبيح والمستهجن ان نرجع إلى نفس الإنسان التائه الضال ليرسم لنا طريق الصلاح و قد جرّبت البشرية كل النظم الوضعية فزادتها سوءاً على سوء وظلماً على ظلم ومازالت تتجرع ويلات تلك النظم البشرية، والنتيجة ان الالتزام بالتعاليم الإلهية هو الطريق الوحيد الذي يضمن للبشرية سعادتها واستقرارها وطمأنينتها وانت ترى بعينك وتحس سعادة المؤمن واستقرارها الروحي حتى وان مرّت به الوان المصائب وانواع المصاعب في مقابل الكافر الفاسق وصراعه النفسي وانحرافاته نتيجة الخواء الروحي الذي يعيشه فتجد حياته نكدة معذبة وهو في ذروه الرخاء المادي وربما آل به الأمر إلى الإنتحار مما لا تجده في المجتمعات المؤمنة (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً) (طه:124). وهؤلاء الذين يريدون اسقاط الدين والغائه من الحياة باسم الحرية الذي هو مصطلح شفاف وتهفو له النفوس، اسألهم ماذا تعنون بالحرية

ص: 41

هل الانفلات واللانظام وعدم الخضوع لأية ضوابط وكل واحد يفعل ما يشاء ويحلو له؟ سيقولون لا طبعاً لان هذا معناه الهمجية والفوضى ولا يقوم اي تجمع بشري الا على نظام وقانون ينظم حياه البشر ويقنّن العلاقات بينهم ويحدد الحقوق والواجبات و يرصد المخالفات و يجعل لها العقوبات وبدونه لا تستقيم حياة البشر قلنا: عندئذٍ فأي قانون أفضل يضعه الله سبحانه خالق البشر والعارف بما يصلحهم والمطّلع على سرائرهم ذوالقدرات اللامتناهية والكمالات غير المحدودة من العلم والقدرة والرحمة والحكمة والعدل والغنى وغيرها ام يضع القانون بشر قاصر يقول اليوم شيئاً ويتراجع عنه غداً ويلغي اليوم ما قرره بالأمس وهو بين هذا وذاك لا يعرف نفسه فضلاً عن ان يعرف غيره.

الثالث:

ان من شأن كل عاقل ان يرد الجميل بالجميل ويجازي الاحسان بمثله (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) (الرحمن:66)

ص: 42

(وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (القصص:77)، ونعم الله تعالى علينا كثيرة سواء على صعيد ابداننا التي هي عبارة عن معامل ومصانع كثيرة تعمل بدقة واتقان وابسط مراجعة لكتاب (الطب محراب الإيمان) تنبئك عن هذا مما يوقف شعر رأسك أو على صعيد الحياة حولنا من كون متناسق وأرض طيبة معطاء ونعم لا تعد ولا تحصى (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا) (النحل:18) وجزاء هذا الإحسان إحسان مثله ولما كان الله غنياً عن عباده ولا يمكن ان يصل إليه نفع من أحد فردُّ الإحسان بالنسبة إليه طاعته ومن اشكال شكر النعم ان تطيع المنعم بها اما عصيانه مع نعمه الوفيرة فهذا مما لا يرتضيه عاقل.

الرابع:

ان كل واحدٍ منا يحب ان تزيد النعم عليه وهي بيد الله سبحانه المنعم الحقيقي وقد وعدنا سبحانه (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم:7) وفي الحديث (بالشكر تدوم النعم) فعلى من يرجو إفاضة النعم وزيادتها وكل إنسان مجبول على حب

ص: 43

الاستزادة من المال والبنين والجاه والصحة وغيرها من نعم الله سبحانه فعليه أن يطيع الله سبحانه ويشكره ليزيده الله سبحانه من النعم (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ) (الأعراف:96) .

الخامس:

أنه اذا أخبرنا إنسان ثقة بأن حيواناً مفترساً في هذه الجهة فأننا سنهرب بالاتجاه المعاكس ونحذر منه ونتخذ الاجراءات الواقية من الوقوع في الخطر ، فاذا أكد هذا الخبر ثقة آخر ازدادت استعداداتنا لذلك وكنّا أكثر حزماً ، وقد أخبرنا مئة وعشرون الف نبي انه سيكون يوم القيامة ويثاب فيه المطيع على طاعته ويعاقب العاصي على معصيته بنارٍ وقودها الناس والحجارة افلا يوجب هذا الحذر والابتعاد عن كل ما يورطنا في هذه النار المتأججة وقد وضعها القرآن الكريم بمشاهد مرعبة وأخبرنا أن معصية الله سبحانه توقعنا فيها وان طاعته تورثنا جنة عرضها السماوات والأرض فيها ما لا عين رأت ولا اذن سمعت

ص: 44

ولا خطر على قلب شر (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم) (السجدة :17).

السادس:

علينا ان نتذكر ان وراءنا عقبة كؤوداً وشدائد وأهوال أوّلها وأيسرها الموت الذي وُصف بأن نشراً بالمناشير وقرضاً بالمقاريض أهون من سكرة من سكرات الموت هذه الأهوال التي يستغيث منها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أكمل الخلق فيقول في نزعه الأخير ((حبيبي جبرئيل عند الشدائد لا تخذلني))(1) ويقول أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) نفس رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في تلك الحال ((وعليكم السلام يا رسل ربي) ، وقال: (لِمِثْلِ هذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) (سورة الصافات:61)))(2) ويبكي الامام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في لحظاته الأخيرة فيُسأل عن سبب بكائه فيقول:

ص: 45


1- بحار الأنوار: ج 22/ ص510(2) وفاة الإمام أمير المؤمنين

((أبكي لفراق الأحبة وهول المطّلع))(1) هكذا يعرف الموت من كشف له الواقع اما نحن ففي غفلة عنه حتى نراه (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (ق:19) ولكن ليس من شأن المؤمن الواعي ان لا يلتفت إلى الشر والخطر حتى يقع فيه وقد نبّهنا إليه الراسخون في العلم: محمد وآل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ووصفوه بأبلغ وصف (خصوصاً في نهج البلاغة) لا يقدر عليه حتى من عاشه ورآه ودخل فيه، هذا ما ينتظرنا فماذا أعددنا له؟! معصية الخالق تبارك وتعالى والاعراض عنه والتمرد على شريعته التي هو غني عنها وانما هي لخيرنا وسعادتنا.وعلى الانسان البعيد عن الله سبحانه ان يعي حقيقة ان الموت لا يعرف صغيراً ولا كبيراً .

ص: 46


1- أمالي الصدوق ص133 ، العيون ص168

فكم من صحيح عاش من غير علة

وكم من عليل عاش حيناً من الدهر

وكم من فتى يمسي ويصبح غافلاً

وقد تُسجت اكفانه وهو لا يدري

إن حالنا في هذه الدنيا يمكن تصويره بشخص مدلّى في حبل داخل بئر عميق وفي قعر البئر تنين عظيم فاتح فاه ينتظر سقوط هذا الشخص ليلتهمه وتوجد فأرتان تقرضان بالحبل من أعلاه ولا يدري هذا الشخص متى يتم قرض الحبل فيقع فريسة لهذا التنين وهو في هذا الجو المرعب بدلاً من ان يعدّ العدة لتدارك هذا الخطر والاستعداد لمواجهته (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (البقرة:197) أقبل على عسل مخلوط بالتراب على جدران البئر يلعق به ويزاحم الحشرات والديدان المتهالكة عليه ، هذا هو حالنا فالتنين هو الموت والحبل هو العمر والفأرتان هما الليل والنهار اللذان يُبليان كل جديد والعسل هذه الملذات الدنيوية المليئة بالمنغصات وهي لذة ساعة لكنها تورث حسرة دائمة.

ص: 47

السابع:

اننا خلقنا لهدف واحد وهو إعمار الحياة بما يرضي الله سبحانه والتكامل في طريق الوصول وقد اعطينا رأس المال الذي نتجر به ونكسب ونجني منه ثمار هذا الطريق ونحن في معاملاتنا الدنيوية عندما نتجر برأس مال فأننا نستقصي التجارة التي تدر أكثر ارباحاً ولا نفرّط في شيء من رأس مالنا وتأخذنا الحسرة والندامة لو فرّطنا في فرصة كان يمكننا ان نحصل على ربح أكثر وهذه الصورة نفسها نعيشها نحن بوجودنا في الحياة الدنيا فرأس مالنا هو العمر والهدف من التجارة نيل رضا الله سبحانه وقد منَّ الله سبحانه علينا بنعم كثيرة فكلما استثمرناها في تحقيق الهدف كانت تجارتنا أكثر ربحاً وكلّما قصّرنا فسنعضُّ على أصابع الندم (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ __ والظالم كل من فعل معصية __ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا) (الفرقان:27-29) نندم

ص: 48

على كل لحظة مرّت علينا لم نوظّفها فيما يرضي الله سبحانه فضلاً عن هدرها في معصيته __ والعياذ بالله __ ومن اسماء يوم القيامة أنه يوم التغابن راجع سورة التغابن وفيها قوله تعالى (ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) (التغابن:9) وقد ورد ان الجميع يشعرون بالغبن حتى المؤمنون لأنهم ينظرون إلى المراتب الأعلى منهم وكانوا يستطيعون الحصول عليها لو استغلّوا وقتهم بالشكل الصحيح فيتأسفون على إضاعة الفرصة ومن هنا جاء في وصية رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر (ره) (يا أبا ذر اغتنم خمساً قبل خمس..) وفي الأخبار ان عمر الانسان بكل لحظاته يعرض عليه على شكل خزائن تفتح له الواحدة تلو الأخرى فما كان منها مستثمراً في طاعة الله سبحانه وجد في تلك الخزينة روحاً وريحان وان كانت معصية والعياذ بها هبّت عليه منها نار محرقة وان لم تكن لا من هذه ولا هذه بأن قضاها في المباحات الخالية من نية القربة كالنوم والطعام والنكاح فسيراها فارغة فيندم على ما أضاع من عمره ويجب ان نلتفت إلى ان هذه المباحات أيضاً

ص: 49

يمكن أن تكون طاعات يتقرب بها إلى الله سبحانه فيما لو صبّت في الهدف فينام ليريح بدنه ويجدّد نشاطه لعمل جديد ويأكل ليتقوى على طاعة الله سبحانه وينكح النساء ليحصن نفسه وزوجته من الحرام وليزيد عدد النسمات التي توحّد الله تبارك وتعالى على هذه الأرض ويفرّغ همه لطاعة الله سبحانه وهكذا إلى ما شاء الله من النيّات الصالحة المقرّبة إلى الله سبحانه وبهذا المضمون ورد حديث رواه الصحابي الجليل ابو ذر الغفاري عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)في وجوه الصدقات الى أن قال(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)(وفي بُضع أحدكم صدقة) قالوا يا رسول الله : أياتي احدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟، قال(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): (ارأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر فكذلك اذا وضعها في الحلال كان له أجر) (1).خبر على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال لأبي ذر لأبي ذر __ ضمن وصية جامعة له __ : ولك في جماعك زوجتك أجرٌ.. قال أبو ذر: كيف يكون لي أجرٌ في شهوتي؟ .. فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) :

ص: 50


1- صحيح مسلم 330 كتاب الزكاة، باب 16، ح(1006):.

أرأيت لو كان لك ولد، فأدرك ورجوت خيره، فمات، أكنت تحتسبه؟ قلت: نعم، فقال : فأنت خلقته؟ ، قال: بل الله خلقه، قال: أفأنت هديته؟ ، قال: بل الله هداه، قال: فأنت ترزقه؟، قال: بل الله كان يرزقه، قال: كذلك فَضعَهُ في حلاله، وجنبه حرامه، فإن شاء الله احياه، وإن شاء أماته، ولك أجر.أفبعد هذا كله يلهو الانسان ويلعب أو يضيع وقته في الأمور التافهة فضلاً عن ان يجرّ على نفسه الويلات بما يجترح من السيئات (رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) (النور:37).

الثامن:

انه لابد للإنسان من اله يعبد فأن لم يكن الله سبحانه هو اله المعبود فسيقع في عبادة الإلهة الأخرى وكفى بذلك ضلالاً لا وخسراناً مبيناً (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ)

ص: 51

(الصافات:22-23) فما هي هذه الإلهة التي يطيعها الإنسان البعيد عن الله سبحانه لأن معنى العبادة هو الطاعة والانصياع لذا ورد في تحف العقول عن الامام (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (من أصغى إلى ناطق فقد عبده) فالذي يطيع نفسه الأمارة بالسوء ويلبي شهواتها فقد اطاعها وعبدها قال تعالى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (الجاثية:23) ومن الإلهة الأخرى (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (يس:60) (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ) (التوبة:31) ، (مَا نَعْبُدُهُمْ __ الأصنام __ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) (الزمر:39) ، (إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا) (الأحزاب:33)، (إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ) (الأعراف:173) فأي عاقل يرضى بأن يخرج من حصن ولاية الله العظيم وطاعته إلى ولاية هذه التوافه التي لا تملك لنفسها فضلاً عن غيرها ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياءاً

ص: 52

ولا نشورا وفي مقابلهم من أخلص الطاعة لله سبحانه (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ * وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ) (الزمر:11-20) استمع الى الله سبحانه يحكي لك الحوار الذي سيدور بين العاصي لله سبحانه وآلهته التي اطاعها من دونه تبارك وتعالى والتي أهمها النفس الأمارة بالسوء التي وصفها

ص: 53

أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء الصباح (فَبِئْسَ الْمَطِيَّةُ الَّتي امْتَطَتْ نَفْسي مِنْ هَواه_ا فَواهاً لَها لِما سَوَّلَتْ لَها ظُنُونُها وَمُناها، وَتَبّاً لَها لِجُرْاَتِها عَلى سَيِّدِها وَمَوْلاها) وفي دعاء آخر (وَتَجْعَلُنِي عِنْدَكَ أَهْوَنَ هالِك)(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ) (الشعراء: 90-103) وهم كاذبون في هذه الدعوى قال تعالى (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ) (الأنعام:28).هذا الاعتزاز والسمو بعبادة الله سبحانه ونبذ ما سواه هو ما عبّر عنه أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك

ص: 54

عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً، إلهي أنت لي كما أحب فوفقني لما تحب)(1) . والمفارقة الصارخة التي تجعل هؤلاء العصاة يدسّون رؤوسهم في التراب ان تكاليف عبادة ما سوى الله سبحانه هي أضعاف تكاليف عبادة الله سبحانه بغض النظر عن العاقبة(2) في الآخرة فالمرأة المحجبة لا تحتاج إلى أزيد من غطاء لرأسها وازار لجسمها بينما السافرة تحتاج ان تشتري انواع البدلات و الثياب لأن (الاتيكيت) لا يرضى لها ان تثبت على لباس واحد و ان تصفف شعرها على أحدث الموديلات و ان تضع انواع المساحيق والعطور وأدوات التجميل وغيرها من المستلزمات لهذا العرف الشيطاني من حقائب وأحذية والآت الزينة و الغرب الكافر حينما جرّ مجتمعنا الإسلامي إلى هذا الوضع المنحدر لم

ص: 55


1- بحار الأنوار: ج 91/ ص 94(2) لبيان تفصيل هذه الفكرة راجع تفسير قوله تعالى: (فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً)، موسوعة خطاب المرحلة ج10 / ص73 ، من نور القران ج3/ص369.

ينظر إلى هزيمة ديننا واخلاقنا ونظامنا الاجتماعي المتماسك بل استهدف أيضاً إلى الجانب الاقتصادي حيث أصبحت بلادنا سوقاً رائجة لتصريف منتجاته الشيطانية. هذا مثال على الصعيد الفردي ومثال آخر على الصعيد الاجتماعي مثل الأمة قد تحتاج إلى تقديم عدد معين من الضحايا والقرابين لنيل حريتها وكرامتها وشرفها لكن تخضع وتستكين للذل وتقاعس عن اداء الواجب فتدفع أضعاف ذلك العدد وهي على ما هي عليه من الهوان والضِعة فالإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عندما طلب من الأمة ان تقول كلمة الحق في وجه يزيد وتقف في وجه انحرافاته ولو كلّفها بعض التضحيات ولمّا أخلدت إلى الأرض وتعلّقت بالدنيا وتشبثت بها وبخلت على الله تعالى بالقرابين اذاقها الذل والهوان كما حذرهم الامام الحسين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (سُلِّط عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم) ودفعوا في وقعة واحدة هي واقعة الحرة: عشرة الاف انسان. وهذه سنة الله سبحانه جارية في الأمم جميعاً.

ص: 56

فهؤلاء البعيدون عن الله سبحانه انما يلهثون وراء سراب (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (النور:39).

التاسع:

نقول له: ماذا يخسر الانسان لو اطاع الله سبحانه؟! لا يخسر شيئاً بل هو يعيش ويتمتع بالحياة كما يفعل البعيد عن الله سبحانه وفوق ذلك له المكاسب الدنيوية والأخروية التي يحققها له الايمان بالله سبحانه والسير على شريعته، قال تعالى (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الأعراف: 32) وفي آية أخرى (وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ) (النساء:104). وقد اتبع هذا الاسلوب الامام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حين ق____ال لابن ابي العوجاء: - وهو من زعماء الملحدين- : في موسم الحج وكان يسخر من الطواف حول الكعبة (إن يكن الأمر على

ص: 57

ما يقول هؤلاء وهو على ما يقولون يعني أهل الطواف فقد سلموا وعطبتم، وإن يكن الأمر على ما تقولون وليس كما تقولون فقد استويتم وهم) (1). وهو اسلوب لا يستطيع ان يرفضه اي عاقل.

العاشر:

أنه لو خُيّرتَ بأنك هل تريد أن تدخل في تجارة تعطي فيها ديناراً فيردّ عليك بسبعمائة دينار والله يضاعف لمن يشاء فتصلي خمس صلوات في اليوم وتصوم شهراً في السنة وتحج مرة في العمر إن استطعت وتجتنب الخمر والخنزير والزنا والسرقة لمدة سبعين سنة مقابل ان يدخلك الله جنة عرضها السماوات والأرض تجد فيها كل ما تشتهي حاضراً عندك من دون عناء ولا منغصات خالداً فيها وان تلك الحياة الدنيا لا تشكّل الا جزءاً يسير يوم من الحياة الخالدة (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ)

ص: 58


1- بحار الأنوار: ج 3 / 43 عن كتاب التوحيد للصدوق:125 باب 9 ح4.

(الحج:22) فأي عاقل لا يرضى بهذه المعاوضة فيعطي التراب ويأخذ الذهب؟ كلّنا عُرض علينا هذا الأمر فوافقنا عليه وأخذ الله سبحانه منّا العهود والمواثيق على الالتزام بهذا العهد فلما خرجنا إلى الدنيا نسيناه (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) (الأعراف:172-173).

الحادي عشر:

ان حقيقة يجب أن نصدّق بها ونعيشها في وجداننا وهي ان الله تعالى معنا أينما كنّا من حيث الزمان أو المكان وفي مختلف أحوالنا (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الحديد:4) وانه كما وصف تعالى (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق:50) ويعلم كل شيئاً عنّا (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ)

ص: 59

(الأنعام:3)، (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء) (آل عمران:5). وامام هذه الحقيقة الدامغة لا يسعنا الا ان نلتزم بآداب العبودية بين يدي الخالق العظيم في جميع أحوالنا، ومن وصايا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأبي ذر (رضوان الله تعالى عليه) ((أعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فأنه يراك))(1) .

الثاني عشر:

إن كل ما عندنا من مال وجاه وبنين وصحة واستقرار وسائر النعم الأخرى التي لا تعد ولا تحصى (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا) (النحل:18) هي مما أفاضه الله تعالى على عبده (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) (النحل:53).واي عاقل يرى أن من غير الانصاف أن تقابل هذه النعم بالمعاصي والتمرد بل بالشكر والعمل بطاعة الله تعالى، واذا أصرَّ

ص: 60


1- بحار الأنوار: ج 74/ ص 74

العبد على المعاصي فليرجع هذه النعم إلى خالقه وليعص الله بأدوات من صنعه إن قدر على ذلك، لكنه سوف لا يملك شيئاً يعصي به الله تعالى لأن كل ما عنده من الله تعالى وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فكيف يعصيه إذن وبهذا المعنى ورد الحديث القدسي (من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر على نعمائي فليعبد رباً سوائي، وليخرج من أرضي وسمائي)(1) .

ص: 61


1- شرح أصول الكافي: ج 1/ ص 219

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.