مناهل الرجاء أعمال شهر شعبان

هوية الکتاب

الشیخ حسین کوراني مناهل الرجاء أعمال شهر شعبان

جميع حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1424 ه - 2003 م دارالهادی للطباعة والنشر والتوزيع هاتف: 01/550487 - 03/896329 - فاكس: 541199 - ص. ب: 286 / 25 غبيري - بيروت - لبنان E-Mail: daralhadi@daralhadi.com - URL: http://www.daralhadi.com

ص: 1

اشارة

مکتبة مؤمن قریش

ص: 2

مناهل الرجاء.. أعمال شهر شعبان الشيخ حسين كوراني دارالهادی للطباعة والنشر والتوزیع

ص: 3

جميع حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1424 ه - 2003 م دارالهادی للطباعة والنشر والتوزيع هاتف: 01/550487 - 03/896329 - فاكس: 541199 - ص. ب: 286 / 25 غبيري - بيروت - لبنان E-Mail: daralhadi@daralhadi.com - URL: http://www.daralhadi.com

ص: 4

تمهید

هذا هو الجزء الثاني من «مناهل الرجاء» في فضائل الأشهر الثلاثة رجب وشعبان وشهر رمضان.

وقد تم تقديم المادة في الأصل، في برنامج يومي من «إذاعة النور» صوت المقاومة الإسلامية في لبنان عام 1412 للهجرة، 1991 للميلاد، وأعيد بثه في هذه الأشهر الثلاث سنوات أخرى.

وفي اليوم السادس عشر من شعبان لعام 1413 کانت شهادة أمين عام حزب الله سماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد عباس الموسوي وزوجته وولدهما رضوان الله عليهم، الأمر الذي اقتضى توقف البرنامج عدة أيام، سجلت أحاديثها في السنة التالية 1413 لتكتمل حلقات البرنامج الثلاث والتسعون.

تضمن الجزء الأول منها ثلاثاً وثلاثين حول شهر رجب، وبين يديك ثلاثون تتحدث عن شهر شعبان، على أمل أن يتضمن الجزء الثالث باقي الأحاديث الخاصة بشهر الله تعالی.

ص: 5

والمنهج المعتمد هو تتبع كلمات كبار العلماء، خصوصاً الصدوق والمفيد والطوسي، واعتبار کتاب «الإقبال» لسيد العلماء المراقبين السيد ابن طاوس رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، المحور في ذلك كله، مع عناية خاصة بالمناسبات، والتأكيد على حقيقة أن الإستغراب لايُسوِّغ النفي، كما أن الإستقراب لايسوغ القبول.

أسأله عز اسمه أن يتقبله بكرمه، إنه ولي الإحسان والنعم، عادته الإحسان إلى المسيئين.

حسین کوراني 22 ج 1 / 1424 هجرية

ص: 6

1 شعبان

اشارة

* فضيلة شعبان

* مع العلماء

* في الروايات

* وصل شعبان بشهر رمضان

* صلاة الليلة الثانية

ص: 7

ص: 8

* فضيلة شعبان

ها قد انقضى شهر رجب المبارك لنحطّ الرحال في شهر شعبان. ودّعنا شهر أمير المؤمنين عليه السلام لنستقبل شهر المصطفى الحبيب صلی الله علیه و آله وسلم.

وفضائل شهر شعبان كثيرة جداً إلى حدّ أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، كان يوليه عناية خاصة ويحثّ المسلمين على الإهتمام به، والمزيد من أعمال البرّ فيه.

إن مقتضی واجب الإقتداء بالمصطفى الحبيب صلی الله علیه و آله وسلم، أن نهتمّ بهذا الشهر الشريف فنعرف آدابه ونحرص على الإتيان بها لما في ذلك من فوائد جليلة تحصّن النفس والمجتمع من الشيطان وأوليائه.

وعندما ندخل في التفاصيل لنعرف شيئاً من عظمة هذا الشهر، ينبغي أن نلتفت إلى مجاورته لشهر الله تعالى شهر رمضان، ونلتفت أيضاً إلى ليلة النصف من شعبان التي يشبه فضلها فضل ليلة القدر، والحقيقة أنه لو لم يكن في شهر شعبان إلاّ هذه الليلة، ليلة النصف التي هي ليلة مولانا الإمام المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف، لكفي.

أراد الله تعالى لهذا الشهر أن يحتضن عباد الله الصالحين الذين ارتقوا مدارج الكمال التي أتاحها لهم سبحانه في شهر رجب فأصبحوا

ص: 9

مهيّئين للتحليق في آفاق العبادة بقلوب أكثر تحرّراً ونفوسٍ أكثر تزكية ليصِلوا خلال شهر شعبان إلى الدرجة التي تجعلهم بمجرد انقضائه في طليعة ضيوف الرحمن فإذا أنفاسهم تسبيح، ونومهم عبادة، تفتح لهم أبواب الجنان ليزدادوا تخلّصاً من كلّ علائق الدنيا وتتعلّق قلوبهم بالملأ الأعلى فيتوجون بتيجان القرب والإخلاص والإصطفاء وبذلك يصبحون من أهل الفوز العظيم ويحقّ لهم أن يعيشوا بكلّ جوارحهم فرحة العيد.

* مع العلماء

عندما نتأمل كيف يتعامل العلماء الأبرار أولياء الله تعالى مع هذا الشهر نجد أنّ لهم معه حديثاً ذا شجون. إنّهم يرون فيه محطة كبری في الطريق إلى الله ومنزلاً مميزاً لا بدّ من النزول فيه والتزوّد من بركاته لمن أراد الوصول.

تحدّث آية الله التبريزي رحمة الله عليه في كتاب المراقبات عن أهميّة شهر شعبان فقال:

«وهذا المنزل من منازل العمر للسالك إلى الله تعالى له شأن عظیم وفضل كثير وفيه ليلة من ليالي القدر وقد وُلد فيها مولود وعد الله بالإنتصار على يديه لكل مظلوم من أوليائه وأنبيائه وأصفيائه من هبط أبونا آدم على نبينا وآله وعليه السلام إلى الأرض وأن يملأ به الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً. وكفي في شأن شهر شعبان أنّه شهر رسول الله فقد روي عنه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال: «شعبان شهري رحم الله من أعانني على شهري».

ص: 10

یضيف: «ومن عرف أهميّة هذه الدعوة العظمى من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، التي عبّر عنها بقوله: «رحم الله من أعانني على شهري» فلا بدّ أن يهتمّ ويعمل جاهداً لتشمله دعوة المصطفى ويكون من أهلها»(1).

وقد أورد السيد ابن طاوس الرواية المشار إليها فقال:

«عن الإمام الصادق علیه السلام، أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، كان إذا رأى هلال شهر شعبان أمر منادياً أن ينادي في المدينة: يا أهل يثرب إني رسول رسول الله إليكم: ألا إنّ شعبان شهري فرحم الله من أعانني على شهري».

ومن الواضح جداً إنّ هذا الإهتمام من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، يكشف عن دلالات هامّة، فلم يكتفِ المصطفى الحبيب صلی الله علیه و آله وسلم، بما يقوله للمسلمين عن هذا الشهر من خلال الخطبة والتوجيه في اللقاءات المتتالية في المسجد وغيره، بل عمد إلى هذا الأسلوب الملفت أن يأمر منادياً ينادي في شوارع المدينة وأزقتها ألا إنّ شعبان شهري رحم الله من أعانني على شهري، لينبه أهل المدينة والأجيال إلى أهمية اغتنام هذه الفرصة الفريدة، وهو ما يجعل النص عملاً إعلامياً يعتمد الإثارة والإلفات وشدّ الإنتباه ويدلّنا على واجبنا تجاه هذا الشهر خصوصاً في المجال الإعلامي.

ص: 11


1- آية الله الملكي، التبريزي، المراقباته 75 (ط: مكتبة الشفيعي، أصفهان). بتصرف. وليلاحظ أن المصدر الذي لاأذكر مشخصاته فهو بحسب نسخة برنامج المعجم الفقهي، الإصدار الثالث، كما تقدمت الإشارة في الجزء الأول «أعمال شهر رجب»

إنّ علينا أن نركّز على أهميّة شعبان وأعماله ليصل المسلمون إلى حالة متقدمة من التفاعل معه، فينتظرون قدومه وإذا قدم ينعمون بفيض بركاته.

حول الشهر عموماً وأهميته، وحول هذه الدعوة المباركة، تکلم السيد ابن طاووس عليه الرحمة فقال:

«واعلم أنّ شهر شعبان شهر عظيم الشأن فيه ليلة أغاث الله جلّ جلاله بمولودها ما كاد أن يطفيه أهل العدوان من أنوار الإسلام والإيمان، وهو منزل من المنازل ومرحلة من المراحل يسعد أهل التصديق والتوفيق بالظفر بفوائده والجلوس على موائده والورود على موارده، وكفاه شرفاً أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، اختاره لنفسه الشريفة بصريح مقاله ودعا لمن أعانه على صيامه فمن شاء أن يدخل تحت ظلّ هذه الدعوة المقبولة والرحمة الموصولة «فليساعد» رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم على شهره ويكون ممن شرّفه لسان محمد صلی الله علیه و آله وسلم»(1).

ومن المهم التنبه إلى معلم من معالم الأدب مع الله تعالى، يتضح من كلام السيد ابن طاوس عليه الرحمة، وهو حسن اتباع المصطفى الحبيب من خلال الحرص على الدخول في دعواته العامة ومنها دعاؤه لمن أعانه على شهرة، مما يجعل المؤمن كما لو أنه كان في زمن المصطفى الحبيب ودعا له.

إن من يصوم شيئاً من هذا الشهر المبارك يكون ممن دعا لهم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم حين قال: رحم الله من أعانني على شهري.

ص: 12


1- إقبال الأعمال، السيد ابن طاوس 3 / 287 - 288

* في الروايات

وفي النصوص ما يدلّ على أنّ شهر شعبان أفضل من شهر رجب، فقد روي أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم.. «تذاكر أصحابه عنده فضائل شعبان، فقال: شهر شريف وهو شهري وحملة العرش تعظمه وتعرف حقه، وهو شهر زاد (الله) نبه أرزاق العباد لشهر رمضان وتزين فيه الجنان، وإنما سمي شعبان لأنه یتشعب فيه أرزاق المؤمنين، وهو شهر العمل فيه مضاعف: ألحسنة بسبعين، والسيئة محطوطة، والذنب مغفور، والحسنة مقبولة، والجبار جل جلاله يباهي فيه بعباده وينظر الى صوامه وقوامه، فيباهي بهم حملة العرش. فقام علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله صف لنا شيئاِ من فضائله لنزداد رغبة في صيامه وقيامه ولنجتهد للجليل عزوجل فيه، فقال صلی الله علیه و آله وسلم: من صام أول يوم من شعبان كتب الله له عزوجل سبعین حسنة الحسنة تعدل عبادة سنة، ومن صام يومين.. الخ»(1).

كما روي عنه صلی الله علیه و آله وسلم:

«كم من سعيد في شهر شعبان» .. «وكم من شقي هنالك. ألاّ أنبؤكم بمَثَل محمد وآله؟ قالوا بلی یا رسول الله. قال محمد في عباد الله کشهر رمضان في الشهور، وآل محمد في عباد الله کشهر شعبان في الشهور وعلي بن أبي طالب عليه السلام في آل محمد صلی الله علیه و آله وسلم، كأفضل أيام شعبان ولباليه وهو ليلة نصفه ويومُه، وسائر المؤمنين في آل محمد

ص: 13


1- السيد ابن طاوس، الإقبال 3 / 292 نقلاً عن ثواب الأعمال، والأمالي، وانظر: الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال 62 والأمالية 76 والنص مصحح على الأمالي بتصرف يسير

- أي بالنسبة إليهم علیهم السلام - كشهر رجب في شهر شعبان وهم - أي سائر المؤمنین - درجات عند الله طبقات، فأجَدُّهم في طاعة الله أقربهم شبهاً بآل محمد صلی الله علیه و آله وسلم، ألا أنبؤكم برجل قد جعله الله من آل محمد كأوائل أيام رجب من أوائل أيام شعبان؟ قالوا: بلى يا رسول الله صلی الله عليه واله قال: منهم سعد بن معاذ»(1).

ويدل النص بوضوح على أنّ شهر شعبان أفضل من شهر رجب، على ماعرفت من علو مرتبة رجب وأهميته، فكيف ينبغي أن نتعامل مع دعوة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وكيف ستكون استجابتنا لقوله صلی الله علیه و آله وسلم: رحم الله من أعانني على شهري؟ يحدثنا الإمام الصادق عليه السلام، أنّ أمير المؤمنين عليه السلام، كان يقول:

«ما فاتني صوم شعبان منذ سمعت منادي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، ینادي في شعبان ولن يفوتني أيام حياتي صوم شعبان إن شاء الله تعالى، ثم كان علیه السلام يقول: صوم شهرين متتاليين، توبة من الله»(2). وعن صفوان الجمال: «قال لي أبو عبد الله (الإمام الصادق) علیه السلام: حث من في ناحيتك على صوم شعبان»(3). ومما يوضح لنا مدى اهتمام المولى أمير المؤمنین علیه السلام، بالإستجابة لدعوة المصطفى الحبيب صلی الله علیه و آله وسلم، نص طويل جداً، أورده المجلسي، أذكر جانباً منه:

ص: 14


1- المجلسي، بحار الأنوار 94 / 65
2- الشيخ الطوسي، مصباح المتهجده 825
3- المصدر ، والإقبال 3 / 287

«مرّ أمير المؤمنين عليه السلام على قوم من المسلمين ليس فيهم مهاجري ولا أنصاري وهم جالسون في بعض المساجد في أول يوم من شعبان بخوضون في أمر القدر وغيره مما اختلف الناس فيه وقد ارتفعت أصواتهم واشتد في ذلك جدالهم فوقف عليهم وسلّم فردّوا عليه وأوسعوا له وقاموا طالبين منه الجلوس إليهم فلم يحفل بهم.

ثمّ كلّمهم بكلامٍ طويل جاء فيه:

«یا معاشر المتكلمين فيما لا يعنيهم ولا يرد عليهم! ألم تعلموا أن الله عبادا قد أسكنهم خشيته من غير عِيِّ ولا بَكَم، وإنهم لهم الفصحاء العقلاء البالغون العالمون بالله وأيامه. ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انكسرت ألسنتهم، وانقطعت أفئدتهم، وطاشت عقولهم، وهامت حلومهم، إعزازاً لله، وإعظاماً وإجلالاً له، فإذا أفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية، یعدّون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين، وإنهم براء من المقصرين والمفرطين، إلا أنهم لا يرضون لله بالقليل، ولا يستكثرون الله الكثير، ولا يُدِلُّون عليه بالأعمال فهم فيما رأيتهم مَهيمون، مروّعون، خائفون، مشفقون، وجلون. فأين أنتم منهم؟ يا معشر المبتدعین، هذا يوم غرّة شعبان الكريم سمّاه ربّنا شعبان لشتعب الخیرات فيه، قد فتح ربّکم فيه أبواب جنانه وعرض عليكم قصورها وخيراتها بأرخص الأثمان وأسهل الأمور فأبيتموها، وعرض عليكم إبليس اللعين نشعب شروره وبلاياه فأنتم دائباً تنهمكون في الغي والطغيان، تتمسكون بشُعب إبليس وتحيدون عن شُعب الخير المفتوح لكم أبوابه، هذا غرة شعبان وشُعب خيراته الصلاة والصوم

ص: 15

والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبر الوالدين والقرابات، والجيران، وإصلاح ذات البين والصدقة على الفقراء والمساكين..»(1).

يتضح من هذه الجولة السريعة على الروايات وبعض أقوال العلماء مدی فضل شهر شعبان وأنّنا مدعوون فيه إلى التزوّد من خیراته وبأرخص الأثمان كما عبّر المولى أمير المؤمنين علیه السلام.

اللهم قوِّ على خدمتك جوارحنا واشدد على العزيمة جوانحنا.

* وصل شعبان بشهر رمضان

من الطبيعي أن يكون الحديث عن هذه النقطة في آخر شهر شعبان ولكني قدمت الحديث عنها باعتبار أنّ من يطلع على هذه الرواية في فضل صوم شهر شعبان وقد عرف ما تقدم حول شهر رجب، يتصور أن المطلوب منه أن يواصل صوم شعبان كلّه، فيقول: وغداً يأتي شهر رمضان! فيعرض عن الصيام في شعبان لأنه استصعب وصله بشهر رمضان.

لذلك أردت أن أنبّه هنا إلى أنّ بالإمكان الفصل بين صوم شعبان وصوم شهر رمضان ببعض الأيام، وطبيعي أن معرفتنا بذلك تساعدنا على مواصلة الإهتمام بصوم شعبان، لنأخذ منه بالنصيب الأوفي، بلحاظ أن أمامنا محطة استراحة نستجمع فيها قوانا لنستقبل شهر الله تعالی بهمة ونشاط.

ص: 16


1- المجلسي، بحار الأنوار 94 / 55 - 56 والنوري، مستدرك الوسائل 12 / 250

وإليك التوضيح:

ينقل السيد ابن طاوس عن الشيخ الصدوق عليهما الرحمة، عن مولاتنا أم المؤمنين، أم سلمة رضوان الله تعالى عليها أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، لم يكن يصوم من السنة شهراً تاماً إلاّ شعبان يصل به شهر رمضان. قال السيد:

«وفي حديث آخر من کتاب ثواب الأعمال عن أم سلمة رضي الله عنها: أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم لم يكن يصوم من السنة شهراً تاماً إلا شعبان يصل به شهر رمضان»(1).

غير أن هذا جانب من الصورة والجانب الآخر ما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام من أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم كان يصل شعبان بشهر رمضان، كما ورد عن أم سلمة، إلا أنّه كان ينهي الآخرين عن وصلهما، وهذا نص الرواية كما أوردها السيد:

«عن أبي جعفر علیه السلام: كان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يصوم شعبان وشهر رمضان یصلهما، وينهى الناس أن یصلوهما، وكان يقول: هما شهرا الله وهما كفارة لما قبلهما وما بعدهما من الذنوب»(2).

وهذا أيضاً جانب آخر من الصورة كما سينضح. وقد تحدث السيّد ابن طاوس حول هذه الرواية، فتوقف عند نقطتين:

ص: 17


1- الإقبال 3 / 291
2- المصدر عن ثواب الأعمال للشيخ الصدوق. أنظر: ثواب الأعمال 60 و التصحيح عليه، وقد أورد الشيخ الطوسي الرواية، إلا أنها لاتتضمن «وينهى الناس أن يصلوهما». أنظر: مصباح المتهجد 825

الأولى: عبارة «وكان يقول هما شهرا الله» حيث أن المعروف أنّ شهر رمضان هو شهر الله أمّا شهر شعبان فهو شهر رسول الله، فبين السيد أن شهر رسول الله هو لله تعالى، فالرسول وشهره له عزّوجل، ومن هناً یصحّ أن نقول عن أيّ شهر أنّه شهر الله، إلا أن هناك خصوصية لشهر رمضان جعلت له مزيد اختصاص به سبحانه، وإضافة إليه جل ثناؤه.

وينبغي أن يقف القلب عند هذا المعلم أيضاً من معالم الأدب مع الله تعالى، فلا يغفل أبداً عن أن كل ما ينسب إلى المصطفى الحبيب وآله المعصومين عليه وعليهم صلوات الرحمن، فإنما السبب فيه عبودیتهم التامة لله تعالى، والتمحض في ماهو أعلى من القرب منه عزوجل، ولذلك فاتباع المصطفى طاعته سبحانه، وولايته أو ولاية أهل البيت هي ولايته عزوجل، وبديهي أن يكون شهر رجب الذي ورد أنه شهر الأمير هو شهر الله تعالى، وكذلك شهر شعبان، الذي ورد أنه شهر المصطفى الحبيب صلی الله علیه و آله وسلم، فالعبد وما ملك لسيده، بل ليس للعبد مع مولی الموالي سبحانه وتعالى أي ملك.

الثانية: حول عبارة «وينهى الناس أن يَصِلوهما» قال السيد: «لعل المراد بذلك التخفيف عن الناس من موالاة شهرين متتابعين، فيراد منهم أن يفصلوا بينهما بيوم أو يومين»(1).

ثم ذكر السيد حديثين عن الإمام الصادق عليه السلام. الأول: «كان أبي - الإمام الباقر علیه السلام - يفصل بين شعبان وشهر رمضان بيوم».

ص: 18


1- اللإقبال 3 / 291

والثاني قول الإمام الصادق علیه السلام: «صوم شعبان حسن ولكن افصل بينهما بيوم، وفي حديث آخر: بيوم أو اثنين».

ثمّ قال السيّد ابن طاوس بعد ذلك: «فان كنت تريد كمال السعادات بصوم شعبان كله والظفر بما فيه من العنایات، فأنت المستظهر لنفسه قبل المماة، وان كان لك مانع مما أشرنا إليه فنحن ذاكرون فضائل أيام من شعبان فانظر ما تقدر على صومه منها، فاعتمد عليها»(1).

أي إذا أردت أن تصوم شعبان كلّه فذلك أفضل لك وأنت المستظهر لنفسه قبل مماته، والباذل من الجهد ما ينبغي،، والمحتاط في التزود للآخرة بما يقتضيه السفر إليها، وإلا فاعتمد صوم ما تختار من أيامه.

وهكذا يتضح أن كل الصورة هو كما يلي:

1- أن وصل شعبان بشهر رمضان مستحب، وأن صومهما معاً توبة من الله تعالى، ولذلك ورد «صوم شهرين متتابعين توبة» كما تقدم عن الإمام الصادق علیه السلام، وورد أيضاً النص على شهرين بالإسم وهما شعبان وشهر رمضان، فقد أورد الشيخ الطوسي، عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «صوم شعبان ورمضان توبة من الله تعالی»(2).

2- أن الرخصة وردت في عدم الإلتزام الإستحبابي بهذا المستحب، حتى للقادر على الوصل، فيمكن له الفصل بين الشهرين،

ص: 19


1- اللإقبال 3 / 291
2- الشيخ الطوسي، مصباح المتهجد 826

دون أن يشعر بحرج، وإن كان لايحصل على ما يحصل عليه من وصل بينهما وهو قادر على ذلك.

3- وغني عن البيان أن من لا يتمكن من الوصل بينهما، أو يضعفه ذلك عن صوم شهر رمضان، بأي درجة من الضعف، فإنه يتراوح حكمه بحسب حاله، فإذا علم أن الوصل بين الشهرين سوف يحرمه من إكمال صوم شهر رمضان، تعين عليه الفصل بين الشهرين ليحفظ قدرته على صوم شهر الله تعالی.

4- وبناء عليه فلايصح التفريط بهذا المستحب النوعي بحجة استحباب الفصل، ولا يصح كذلك الإفراط فيه بما يضيِّع شيئاً من القدرة على صوم شهر رمضان بالطريقة التي تمكن من أفضل الإفادة منه. وليس النهي عن وصلهما عاماً، وربما كان منصباً على حالات خاصة، والهدف رسم هذه الصورة المتقدمة، وإيضاح الحكم في هذا الإطار.

* أدعية شعبان

من الطبيعي أن يكون الدعاء في كل موسم عبادي، متناسباً مع أهمية الموسم نفسه، وحيث أن شعبان يأتي في الدرجة التالية لشهر الله تعالى، ويتشرف بأنه المدخل إليه، والمناخ الذي يتم إعداد العقل والقلب فيه لمايناسب حرمة ضيافة الله تعالى، فإن ذلك يستدعي عمق التدبر في كل أدعية شهر شعبان، وبشكل خاص مايلي:

1- المناجاة الشعبانية.

2- الصلوات التي تقرأ في كل يوم عند الزوال.

ص: 20

3- دعاء اليوم الثالث يوم مولد سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام، والدعاء الذي بعده الذي دعا به المولى يوم عاشوراء، حین کُوثر. أي تكاثر عليه الأعداء.

وقد أورد الجميع المحدث القمي في «مفاتیح الجنان» في بداية أعمال الشهر، والمناجاة الشعبانية هي التي تبدأ بقوله علیه السلام: اللهم صل على محمد وآل محمد واسمع دعائي إذا دعوتك. وهي شديدة الأهمية كما یأتني بحوله تعالى، فلنغتنم الإستزادة من قراءتها بمجرد دخول الليلة الأولى.

والصلوات هي التي تبدأ بقوله علیه السلام: «اللهم صل على محمد وآل محمد شجرة النبوة».

والدعاء الثالث: اللهم إني أسألك بحق المولود في هذا اليوم.

ويأتي الوقوف على أعتاب هذه الأدعية المباركة، والتدبر فيها بحوله تعالى، وإنما ذكرتهاهنا حتى لانحرم من بركات الأولين من أول يوم، وننتبه للثالث فلا يفوتنا.

* صلاة الليلة الثانية

لهذه الليلة الثانية - صلاتان:

الأولى: هي التي تقدم أنّها تصلي في الليلة الأولى وفي الليلتين الثانية والثالثة، وهي عبارة عن ركعتين تقرأ فيها الحمد مرّة وقل هو الله أحد عشر مرات، وهي جزء من عمل تقدم أنه بمثابة التأمين على المصير، وهو بالإضافة إلى هذه الصلاة في الليالي الثلاث، صوم الأيام الثلاثة الأولى من شعبان، مع تفصيل حول قيام الليالي، أو عدم

ص: 21

اشتراطه، تم التعرض له في حديث آخر يوم من رجب، فليراجع، وخلاصته الإشتراط ولكن عدم ترك الصيام والصلاة المذكورة عند عدم التمكن من السهر والقيام، ويأتي مزيد إيضاح.

الثانية: ورد الحثّ الكبير عليها، ويكفي في بيان فضلها أن من يصليها لا تكتب عليه سيئة إلى السنة القادمة وكأنّها أمان من التبعات والسيئات لمدّة سنة.

قال السيّد ابن طاوس عليه الرحمة: وجدناه - أي هذا العمل - مروياً عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم، قال: «ومن صلّى في الليلة الثانية من شعبان خمسين ركعة يقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة وقل هو الله أحد والمعوذتين مرة بأمر الله تعالى الكرام الكاتبين أن لا تكتبوا على عبدي سيئة إلى أن یحول عليه الحول وجعل الله تعالی له نصيباً في عبادة أهل السماء والأرض، والذي بعثني الحق نبياً لا يجتنب قيام تلك الليلة إلا شقي أو منافق أو فاجر، وذكر فضلاً كثيراً»(1).

ورغم أنّ هذه الصلاة طويلة نسبياً، إلاّ أنّ كون ما يقرأ في كلّ ركعة لا يستغرق وقتاً طويلاً، فإن ذلك ممايسهل الإتيان بها، وقد تقدم أن الصلاة المستحبة يمكن أن تكون من جلوس وإن كان بعض العلماء يشترط الركعتين من جلوس بدل الركعة من قيام، ثم إن بالإمكان الإستراحة بعد كلّ عدد من الركعات. ويتأكد الإهتمام بهذه الصلاة عندما نلاحظ في ثوابها أنّ الله عزوجل «يأمر الكرام الكاتبين أن لا تكتبوا على عبدي سيئة إلى أن بحول عليه الحول».

ص: 22


1- المصدر 301 - 302

وهو ثواب عظيم يستدعي بذل مايفوق الجهد الذي تستدعيه هذه الصلاة.

أما كيف لا يكتب على هذا العبد سيئة؟ وهل معنى ذلك أنّ الله عزّوجل يسدده فلا يخطئ؟ أم أنّ الله تعالى يغفر له أخطاءه في حق الله عزوجل، وإذا أخطأ في حق الناس فهو عزّوجل يرضي خصماءه؟ فالجواب: لنقم بماطلب منا ونترك ماهو مطلوب منه تعالى، فهو سبحانه الحكم العدل ولا بد من حمل عدم كتابة السيئات على هذا العبد على ما ينسجم مع العدل ولا يتنافى معه.

ولابد من توضيحين:

الأول: لعل المراد بقيام الليلة هو هذه الصلاة، لأنها القيام الوارد استحبابه فيها.

الثاني: أن اجتناب قيامها أوسع دائرة من عدم الإتيان بها، فرب شخص يحب أن يصليها، ولكن ظرفه لا يسمح له بذلك، فينطبق عليه أنه لم يصلها، ولكن لا ينطبق عليه وصف أنه اجتنبها، لأن الإجتناب فرع القدرة، وهو لم يكن كذلك.

وقد يوضح الأمر ماورد في الروايات من أن العبد يجد يوم القيامة ثواباً في صحيفته على عمل لم يعمله، وذلك لأنه كان يحب الإتيان به.

والنتيجة العملية أن لاننصرف عن المستحبات، ولنحاول تحقیق

ص: 23

علاقة الحب لها، لأن في ذلك خیراً كبيراً، فهو المنطلق إما للتوفيق لها، أو للحصول على ثوابها بدون أي جهد إلا في مجال تصحيح العلاقة، وتعاهد القلب ورعايته، ليحب ما أحبه الله تعالی.

إن لهذه الليلة من شعبان - إذاً - خصوصيّة كبيرة فلنحرص عليها.

* ولاننسى الإستعداد للإحتفال بيوم ذكرى مولد سيد الشهداء علیه السلام، في اليوم الثالث من شعبان باستقباله بما يفتح قلوبنا على أنواره بالعبادة، والبهجة، وإحياء الأمر.

أسأل الله عزّوجل أن يوفقنا لمراضيه بالنبي المصطفى وآله.

والحمدلله رب العالمین

ص: 24

2 شعبان

اشارة

*هل نعين المصطفی؟

* صوم يومين من شعبان

* الخميس من شعبان

* صلاة الليلة الثالثة

* الصلوات عند الزوال

ص: 25

ص: 26

* هل نعين المصطفی؟

نحن في اليوم الثاني من شهر شعبان وهذا الشهر كما تقدم، أفضل من شهر رجب وينبغي أن نأخذ بحظنا منه في طاعة الله عزو جل وعبادته سبحانه، فهو شهر رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، كما تصرح بذلك دعوته الكريمة المباركة التي وجّهها إلى المسلمين جميعاً من خلال المنادي الذي كان يأمره صلی الله علیه و آله وسلم، أن ينادي في المدينة المنوّرة:

«يا أهل یثرب إنّي رسول الله إليكم ألا إنّ شعبان شهري، فرحم الله من أعانني على شهري» ولكي نكون ممن يعين المصطفى الحبيب صلی الله علیه و آله وسلم على شهره شعبان، فإنّ علينا أن نشمّر عن ساعد الجدّ في هذا الشهر ونبذل كلّ ما نستطيع للإستزادة من الخيرات.

* صوم يومين من شعبان

أورد السيّد ابن طاوس عن الشيخ الصدوق عليهما الرحمة عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

«ومن صام يومين من شعبان حُطَّت عنه السيئة الموبقة»(1). (أي المهلكة).

ص: 27


1- السيد ابن طاوس، الإقبال 3 / 302

وأورد الشيخ الطوسي عليه الرحمة مايلي:

«روى الحسن بن محبوب عن عبد الله بن حزم الأزدي قال سمعت أبا عبد الله - الإمام الصادق - علیه السلام، يقول: «من صام أوّل يوم من شعبان وجبت له الجنة البتة». (أي قطعاً) ومن صام يومين نظر الله إليه في كلّ يوم وليلة في دار الدنيا ودام نظره إليه في الجنة»(1).

والمراد بنظر الله عزوجل إلى العبد العناية الإلهية الخاصة بالإضافة إلى العناية الدائمة والعامة، التي تشمل الجميع على تفاوت مراتبهم وفق ميزان العدل.

ومن الواضح أنّ العناية الخاصة منه تعالى،، منتهی حاجات السائلين، وغاية آمال العارفين، فلعل بعض تلك النظرات الرحيمة من تلك العناية، تكون كما جاء وصفها في دعاء الندبة «نظرة رحيمة نستوجب بها كرامة الدنيا والآخرة».

فرحم الله من صام هذين اليومين ودعا للغرقى في ظلمات بحار الأنانية والمعاصي.

* الخميس من شعبان

لكلّ يوم خميس من شعبان أهمية خاصّة، وقد يكون الخميس بداية الشهر، لذلك ينبغي أن نعرف ما يرتبط به، كي نبادر إلى الأعمال التي ورد الحثّ عليها والإكثار من العبادات التي هي عامّة إلاّ أنّ لها في يوم الخميس خصوصيّتها.

ص: 28


1- الشيخ الطوسي، مصباح المتهجد 825

قال السيّد ابن طاوس عليه الرحمة: وجدنا هذه الرواية العظيمة الشأن في أعمال شعبان عن مولانا علي بن أبي طالب عليه السلام، قال:

قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: تتزين السموات في كلّ خميس من شعبان فتقول الملائكة إلهنا اغفر لصائمه وأجب دعاءهم فمن صلى فيه ركعتين، يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وقل هو الله أحد مائة مرة، فإذا سلم صلى على النبي صلی الله علیه و آله وسلم مائة مرة، قضى الله له كل حاجة من أمر دينه ودنياه، ومن صام فيه يوماً واحداً حرم الله جسده على النار.

أضاف السيد: «أقول: ووجدت في رواية عن النبي صلى الله وآله: أن من صام يوم الإثنين والخميس من شعبان جعل الله تعالی له نصيباً، فمن صام يوم الإثنين والخميس من شعبان قضى لله له عشرين حاجة من حوائج الدنيا وعشرين حاجة من حوائج الآخرة»(1).

ملاحظات:

أ- «اغفر لصائمه وأجب دعاءهم» أورد هذه العبارة بهذه الصيغة الحر العاملي، نقلاً عن الإقبال، والظاهر أن الصواب: لصائمیه، والمعنى واحد.

ب- «ومن صام فيه يوماً واحداً حرّم الله جسده على النار»، يبدو أنّ الضمير في كلمة فيه هنا يرجع إلى الخميس من شعبان، أي من صام يوم الخميس من شعبان يوماً واحداً في أيام الخميس من شعبان التي تمرّ خلال الشهر، حرّم الله جسده على النار.

ص: 29


1- الإقبال 3 / 301. وقد أورد هذه الروايات جميعاً الحر العاملي، في الوسائل 10 / 493 نقلاً عن السيد، وقد وردت بنفس الصيغة، ومنها «نصيبا، فمن صام الخ»، فليلاحظ

ت- «جعل الله له نصيباً، فمن صام الخ» هكذا وردت العبارة في الوسائل نقلاً عن الإقبال، والظاهر أن فمن صام الخ تفسیر للنصيب الذي يجعله الله تعالی.

ث- تلاحظ في الرواية أن لكل اثنين وخميس من شعبان أهمية خاصة، والواقع أن هذه الأهمية للخميس وبدرجة تالية للإثنين، ألا تلاحظ أن الصلاة يؤتى بها مع صيام الخميس.

ج- ينبغي الإهتمام بهذه الصلاة، حيث توضح المقارنة بين الروايتين أن من صام الخميس وصلاها قضى الله له كل حاجة، ولكن من صام الخميس والإثنين ولم يصلها قضى الله له عشرين حاجة من حوائج الدنيا وعشرين حاجة من حوائج الآخرة.

ح- تقدم التأكيد مراراً في الجزء الأول على أن قبول الصلاة الواجبة رهن الإخلاص، وعليه فلا يعقل أن تقبل الصلاة المستحبة عندما يؤتى بها بدون مراعاة ذلك.

خ- وينبغي التنبه إلى «الطلبات الكبار» و «الطلبات العامة» وليكن الإهتمام بذلك قبل الطلبات الصغيرة الخاصة، فلنهتمّ بذكر الأمور التي تهمّ الأمة الإسلامية العالم الإسلامي، ولندع لإخواننا المسلمين في الأرض المحتلّة، وللمجاهدين منهم بشكل خاص، ولإخواننا وأهلنا في العراق، ولندع لأهلنا في لبنان، لنخرج في مجال طلب الحوائج من إطار الأمور الشخصية لنا أو لغيرنا وإن كان من الضروري أن نذكر هذه الحوائج أيضاً.

ص: 30

* صلاة الليلة الثالثة

في هذه الليلة أيضاً، صلاتان:

الأولى: هي الصلاة التي تقدّم الحديث عنها في الليلة الثانية وفي الليلة الأولى فهي مشتركة بين الليالي الثلاث، كما تقدم، وهي عبارة عن ركعتين يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرّة وقل هو الله أحد إحدى عشر مرّة، كما أنها جزء من عمل هو هذه الصلاة في ثلاث ليال، وصوم الأيام الأولى الثلاث من شعبان، مع تفصيل حول قيام الليالي، كما ذكر في الجزء الأول، وتقدمت الإشارة إليه في الحديث السابق.

الثانية: قال السيد:

«عن النبي صلوات الله عليه وآله قال: ومن صلى في الليلة الثالثة من شعبان ركعتين، يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وخمساً وعشرين مرة قل هو الله أحد، فتح الله له يوم القيامة ثمانية أبواب الجنة وأغلق عنه سبعة أبواب النار، و كساه الله ألف حلة وألف تاج»(1).

* الصلوات، عند الزوال

أُذكّر هنا بأهميّة هذه الصلوات التي هي عبارة عن دعاء يقرأ في كلّ يوم عند الزوال كما تقدم.

وقد سمي هذا الدعاء بالصلوات أو أطلق الشيخ الطوسي وغيره

ص: 31


1- الإقبال 3 / 302

هذه التسمية عليه بلحاظ أنّ عدة فقرات منه تبدأ بالصلاة على النبي وآله: «اللهم صلّ على محمد وآل محمد».

ولم أجد من تعرض لتحديد المراد بالزوال، هل هو عند الأذان و قبل الصلاة؟ وهو بعيد فيبدو أن المراد به «بعد صلاة الظهر».

قال الشيخ الطوسي عليه الرحمة: كان عليّ بن الحسین علیه السلام يدعو عند كلّ زوال من أيّام شعبان وفي ليلة النصف منه ويصلّي على النبيّ وآله بهذه الصلوات يقول ثمّ ذكر الدعاء - الصلوات.

وهذه وقفة تأمل في بنائه وبعض الدلالات:

1- يتألف الدعاء من ثماني فقرات، تبدأ ست منها بالصلوات «اللهم صل على محمد وآل محمد».

2- ثم تأتي السابعة فيقف القلب معها على أعتاب المصطفى الحبيب صلی الله علیه و آله وسلم «اللهم فأعنا على الإستنان بسنته فيه، ونيل الشفاعة لديه».

3- ثم تأتي الفقرة الثامنة لترسم معالم الهدف «رضا الله تعالی والقرب منه سبحانه في دار القرار ومحل الأخيار».

4- وهكذا يتضح أن هذه «الصلوات» يمكن تقسيمها إلى مراحل سير العقل والقلب والنفس إلى الله تعالى، فالبداية التي لايرضى الله سبحانه غيرها، اتباع القرآن الناطق الذي لاسبيل إلى اتباع القرآن الصامت، والثقل الأكبر إلا في هداه، وهكذا يتحقق الإتباع الذي أمر به الله عزوجل لنبيه المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي» لتتحقق بذلك طاعة الله عزوجل كما أمر، ويطاع من حيث أراد هو سبحانه، لا من حيث تقود الأهواء في مسارب السبل.

ص: 32

* اللهم صلّ على محمّد وآلِ محمّد شجرة النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومعدن العلم وأهل بيت الوحي.

ليست العلاقة بهم صلی الله علیه و آله وسلم إلا تجسيد العلاقة بشجرة النبوة، التي تبلغ عن الله تعالى وتحمل رسالته سبحانه إلى العالمين، ولذلك فشجرة النبوة هذه هي مختلف الملائكة، ومعدن العلم وليست العلاقة بهم فرع مجرد انتسابهم إلى رسول صلى الله عليه، بل فرع هذا الإنتساب الذي شرف بأنهم أهل بيت الوحي، وإنما كانت حقيقة «أهل البيت» متميزة لأنهم أهل بيت الوحي بما يدل عليه «الوحي» بوضوح: من أوحى، ومن أوحي إليه.

* اللهم صلّ على محمّد وآلِ محمد الفلك الجارية في اللجج الغامرة، يأمن من ركبها، ويغرق من تركها، المتقدم لهم مارق، والمتأخر عنهم زاهق، واللازم لهم لاحق.

بعد أن تم تركيز معالم العقيدة، اتخذ الحديث منحاه العملي، فالعقيدة للحياة، والحياة لجج غامرة، والدنيا بحر عميق، وليس الحديث هنا عن صعوبات الدنيا المادية وعقباتها المنظورة، فهي ليست أكثر من مؤشر إلى اللجج الغامرة في عالم القيم والمعنى، عالم الهداية والضلال.

كيف يمكن لهذا الضعيف الهلوع الجزوع، الخصيم المبين، «أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا»، أن يشق طريقه باختياره المنسجم مع كونه مخلوقاً، فيستقر وهو في الدنيا «فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» ليكون مافي الآخرة تظهير سعيه في رحاب رحمة الله تعالى «وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ».

ص: 33

لايمكن تحقق ذلك لأبناء من ركبوا السفينة، إلا بركوب السفينة.

جاء عن المولى أبي الحسن علي أمير المؤمنين عليه السلام قوله:

«أيها الناس، عليكم بالطاعة والمعرفة بمن لاتعذرون بجهالته، فإن العلم الذي هبط به آدم، وجميع مافضلت به النبيون إلى محمد خاتم النبيين، في عترة محمد صلی الله علیه و آله وسلم. فأين بتاه بكم؟ بل أين تذهبون؟ یامن نُسخ من أصلاب أصحاب السفينة! فهذه مثلها فيكم فاركبوها، فكما نجا من هاتیك من نجا، كذلك ینجومن هذي من دخلها. أنا رهين بذلك، قسماً حقاً، وما أنا من المتكلفين!! ألويل لمن تخلف ثم الويل!! أما بلغكم ما قال فيهم نبيكم حيث يقول في حجة الوداع: إني تارك فيكم الثَّقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما.

ألا هذا عذب فرات، وهذا ملح أجاج، فاجتنبوا»(1).

أكتفي بماتقدم فهي مجرد وقفة على أعتاب هذه الصلوات.

اللهم صلّ على محمّد وآل محمد واعمر قلبي بطاعتك ولا تخزني بمعصيتك «..» حتى ألقاك يوم القيامة عني راضياً وعن ذنوبي غاضباً قد أوجبت لي منك الرحمة والرضوان وأنزلتني دار القرار ومحل الأخیار.

ص: 34


1- المجلسي، بحار الأنوار 2 / 100 - 101

* أذكر بأن يوم الثالث من شعبان هو يوم مولد الإمام الحسين عليه السلام، فكيف نستقبل الذكرى؟ اللهم وفّقنا لمراضيك بالنبي المصطفى وآله.

والحمدلله رب العالمین

ص: 35

ص: 36

3 شعبان

اشارة

* مولد الإمام الحسين علي السلام

* بحق المولود في هذا اليوم

* الرجعة

* حديث الملَك فطرس

* يوم حرس الثورة الإسلامية

* صوم ثلاثة أيام

* صلاة الليلة الرابعة

* خصوصية يوم الغد

ص: 37

ص: 38

* مولد الإمام الحسين عليه السلام

هذا هو اليوم الثالث من شعبان يوم ذكرى ولادة سيدنا ومولانا الإمام الحسين عليه السلام. نرفع أسمى آيات التهاني إلى قائدنا وهدانا ونور أبصار الورى بقية الله في الأرضين الإمام المنتظر عجل الله فرجه الشريف، ونطلب منه أن يدعو الله لنا لنكون من أنصاره وجنوده الذين يرفعون شعار إقامة العدل في الدنيا كلها: «یا لثارات الحسین» ومن المستشهدين بين يديه في طريق سيد الشهداء عليه صلوات الرحمن.

كذلك أقدم التهاني إلى المسلمين جميعاً سيما جند أبي عبد الله، جند المهدي في المقاومة الإسلامية أعزّها الله تعالی.

وُلد عزیز رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وعزيز أمير المؤمنين، والصديقة الكبرى الشهيدة، والإمام الحسن وأهل البيت جميعاً الإمام الحسین علیه السلام، في المدينة المنوّرة في الثالث من شعبان على المشهور من السنة الرابعة للهجرة.

قال الشيخ الطوسي عليه الرحمة: «اليوم الثالث فيه ولد الحسين بن علي عليه السلام..»(1).

ص: 39


1- الشيخ الطوسي، مصباح المتهجد، 826، و 852 والعلامة الحلي، تذكرة الفقهاء (ط. ق) 1 / 278

ولكثرة الأحاديث التي يرويها المسلمون جميعاً شيعة وسنّة عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، في فضائل الإمام الحسين عليه السلام، فإنّ المسلمين يجمعون على حبّه وعلى البراءة من قاتليه، وفي حين يشكل حبّ أهل البيت علیهم السلام، أهم الأعمدة الأساسية التي يجب أن تبنى عليها الوحدة الإسلامية لأنّ حبّهم مبدأ قرآني، كما نصّ على ذلك علماء الفريقين فإن للمولى أبي عبد الله الإمام الحسين من بين أهل البيت موقعاً فريداً، في القاعدة الفكرية لمنظومة الوحدة.

ولئن كان المسلم مع مولانا الإمام الحسن عليه السلام - بمعنی ما وليس مطلقاً - في امتحان البراءة من معاوية، فإنه مع سيد الشهداء في امتحان لعن معاوية ويزيد وكل ظالم ظلم محمداً وآل محمد صلى الله عليه وعليهم.

فلنبحث عن الوحدة في ظلال سيد الشهداء، لأن المسلم هو من أشرق في قلبه نور الحسين الذي هو نور رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، كما نفهم جميعاً من حديثه المستفيض المتواتر «حسين مني وأنا من حسین».

من يهتم بمولد الحسين يهتم بمولد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، ومن يحزنه ما جرى في كربلاء وبعدها خصوصاً سبي عيال الإمام الحسين، عيال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم إلى الشام فهو مسلم محمدي، ومن تمر به هذه الأحداث وذكرياتها وكأنها لاتعنيه فعلی إسلامه السلام، وألف علامة استنكار.

استقبل المصطفى الحبيب ابنه الحسين حين ولادته بالبكاء، تتحدّث أسماء بنت عمیس عن ذلك فتقول:

ص: 40

«فدفعتُه إليه في خرقة بيضاء نفعل به كما فعل بالحسن - أي أذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى - وبکی رسول الله ثمّ قال إنّه سيكون لك حديث اللهم العن قاتليه. لا تعلمي فاطمة بذلك.

قالت أسماء: فلما كان يوم سابعه جاءني النبي فقال هلمّي إبني فأتيته به. - إلى أن تقول - «ثمّ قال: يا أبا عبد الله، عزيز عليّ، ثمّ بکی! وتسأله أسماء عن سبب بكائه، متعجبة، فيقول صلی الله علیه و آله وسلم:

أبكي على ابني هذا، تقتله فئة باغية كافرة من بني أمية لعنهم الله، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة، يقتله رجل يثلم الدين ويكفر بالله العظيم.

ثم قال اللهم إنّي أسألك فيهما (أي الحسنین) ما سألك إبراهيم في ذريّته اللهم أحبهما وأحب من أحبّهما والعن من يبغضهما ملء السماء والأرض»(1).

وعندما نرجع إلى الأحاديث الواردة عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، حول أبي عبد الله الإمام الحسين عليه السلام، نجد أن المصطفى كان دائم الحديث عن شهادته، وأنّ هذه الشهادة طبعت حياة المصطفى بالحزن الدائم المقيم، مما يجعل لزاماً على المسلم الحريص على واجب التأسي بنبيه العظيم، أن يكون حسينياً يعقد قلبه على حبّ الحسين حتى يردد قلبه قبل أن يلهج اللسان: «یا لیتنا کنا معك فنفوز فوزاً عظيما».

ص: 41


1- المجلسي، بحار الأنوار 44 / 250 - 251

من حقّنا إذاً في ذكرى ولادة الحسين عليه السلام، أن تختلط فينا الدمعة بالإبتسامة لأنّ المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم، بكى في يوم مولد أبي عبد الله.

سيدي ياحسين، يا أبا عبد الله! وهي أحب كنية لك لدى المصطفى الحبيب، ولذلك اختارها لك، مع أن المولى «عبد الله» أصغر أولادك. سيدي، نريد أن نكون في الدنيا معك وأن نكون في الآخرة معك، ونسأل الله سبحانه وتعالى بحقّك أن يمنّ علينا بإخراج حبّ الدنيا من قلوبنا فحبّ الدنيا هو الذي حمل الطاغية يزيد على قتلك وكذلك سائر الطواغيت ابن زياد وعمر بن سعد وشمر وغيرهم، ومثلهم جندهم من شيعة آل أبي سفيان.

أسأل الله تعالی بحقّك أن يوفقنا لحبّك، وحبّ أهل البيت جميعاً، الذي هو حبّ رسول الله، وحب الله تعالى، فنفوز فوزاً عظيماً.

* بحق المولود في هذا اليوم

ذكر هذا الدعاء، الشيخ الطوسي في المصباح والسيّد ابن طاوس في الإقبال، والشيخ الكفعمي في البلد الأمين، وأما الدعاء الذي يقرأ بعده مباشرةً، فقد قال عنه الشيخ الطوسي عليه الرحمة إنّ الإمام الحسين عليه السلام، دعا به يوم کُوثر، والمقصود بكلمة «كُوثر» عندما تکاثر عليه الأعداء في يوم عاشوراء.

قال الشيخ الطوسي عليه الرحمة:

«خرج إلى القاسم بن العلاء الهمداني وكيل أبي محمد عليه السلام أن

ص: 42

مولانا الحسين عليه السلام ولد يوم الخميس لثلث خلون من شعبان فصمه وادع فيه بهذا الدعاء:

اللهم إني أسألك بحق المولود في هذا اليوم الموعود بشهادته قبل استهلاله وولادته، بكته السماء ومن فيها والأرض ومن عليها، ولما يطأ لابتيها قتیل العبرة وسيد الأسرة، الممدود بالنصرة يوم الكَرَّة، المعوض من قتله أن الأئمة من نسله، والشفاء في تربته، والفوز معه في أوبته، والأوصياء من عترته، بعد قائمهم وغيبته حتى يدركوا الأوتار ويثأروا الثار ويرضوا الجبار ويكونوا خير أنصار صلی الله عليهم مع اختلاف الليل والنهار، اللهم فبحقهم إليك أتوسل وأسأل سؤال مقترف معترف مسئ إلى نفسه مما فرط في يومه وأمسه، بسألك العصمة إلى محل رمسه، اللهم فصل على محمد وعترته واحشرنا في زمرته، وبوئنا معه دار الكرامة ومحل الإقامة. اللهم وكما أكرمتنا بمعرفته فأكرمنا بزلفته وارزقنا مرافقته وسابقته واجعلنا ممن يسلِّم لأمره ويكثر الصلوة عليه عند ذكره وعلى جميع أوصيائه وأهل أصفيائه الممدودين منك بالعدد الإثني عشر، النجوم الزُّهر والحجج على جميع البشر، اللهم وهب لنا في هذا اليوم خير موهبة وأنجح لنا فيه كل طلبة كما وهبت الحسين لمحمد جده وعاد فطرس بمهده فنحن عائذون بقبره من بعده نشهد تربته وننتظر أوبته آمین رب العالمين.

قال الشيخ:

«ثم تدعو بعد ذلك بدعاء الحسين عليه السلام وهو آخر دعاء دعا به لي يوم کُوثر: اللهم متعالي المكان، عظیم الجبروت، شدید

ص: 43

المِحال، غنيٌّ عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما نشاء، قریب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء، قريب إذا دعيت، محيط بما خلقت، قابل التوبة لمن تاب إليك، قادر على ما أردت، ومدرك ما طلبت وشکور إذا شُكرت، وذَكورٌ إذا ذكرت، أدعوك محتاجاً، وأرغب إليك فقيراً، وأفزع إليك خائفاً، وأبكي إليك مکروباً، وأستعين بك ضعيفاً، وأتوكل عليك كافياً، احكم بيننا وبين قومنا فإنهم غرونا وخدعونا وخذلونا وغدروا بنا وقتلونا، ونحن عترة نبيك الذي اصطفيته بالرسالة وائتمنته على وحيك، فاجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً، برحمتك يا أرحم الراحمین»(1).

«قال ابن عياش: سمعت الحسين بن علي بن سفيان البزوفري يقول: سمعت أن أبا عبد الله عليه السلام يدعو به في هذا اليوم، وقال: هو من أدعية اليوم الثالث من شعبان وهو مولد الحسين عليه السلام»(2).

وبعد أن أورد المجلسي رحمه الله هذين الدعاءين عن المصباح والإقبال، قال:

«توضيح»: قوله علیه السلام: ولما يطأ لابتيها قال في النهاية: اللابة الحرة وهي الأرض ذات الحجارة السود التي قد ألبستها لكثرتها، والمدينة ما بين حرتين عظيمتين انتهى. فالضمير إما راجع إلى المدينة لظهورها بالقرائن وإن لم يسبق ذكرها، أو إلى الأرض، والمراد أيضا

ص: 44


1- الشيخ الطوسي، مصباح المتهجد 826 - 828. وعنه، السيد في الإقبال 303 - 304
2- المجلسي، بحار الأنوار 89 / 348. وإنما نقلت من البحار ما أورده الشيخ هنا عن ابن عياش عن البزوفري لأنه الأسلم من التحريف بلحاظ مافي نسختي المصباح والإقبال المتداولتين. فلاحظ

«اللابتان المخصوصتان، وعلى التقادير المراد قبل مشيه على الارض، والأسرة عشيرة الرجل وأهل بيته». قوله علیه السلام: « والأوصياء، أي أوبة الأوصياء إما بجره على مذهب الكوفيين أو نصبه بالعطف على المحل، أو يكون الواو بمعنى مع» قوله علیه السلام: «ويثأروا الثأر أي يطلبوا الدم وهو مهموز، وقد يقلب في الثار تخفیفاً، وهذه الفقرات تدل على رجعة جميع الأئمة علیهم السلام في الكرة». قوله «يوم كوثر على بناء المجهول أي صار مغلوباً» بكثرة العدو.

أضاف المجلسي رضوان الله عليه:

«ثم الظاهر أن الدعاء الأخير إنما يتلوه الداعي إلى قوله: احكم بيننا وبين قومنا ثم بذكر بعد ذلك حاجته»(1).

وهذا الدعاء وملحقه، من غرر الأدعية، لما تضمنه من إرساء أسس الإسلام وركائز التوحيد، فالعلاقة بسيد الشهداء تأخذ موقعها الطبيعي كتجسيد للعلاقة بالعترة قبل الكرة وبعدها، ليتخذ الحديث عن حركة الدين على وجه الأرض بعده الشمولي المرتبط جذرياً بأهل البيت، الذين تشكل العلاقة بهم بدورها، تجسيد العلاقة برسول الله صلی الله علیه و آله وسلم. وهو من تبذل المهج للقرب منه، لإثبات طلب القرب من الله تعالى، فإذا الذوبان في الحسين وأهل البيت علیهم السلام، والتفاني في حبهم، هو طاعة الله تعالى السبيل الذي لا طاعة للمصطفی الحبيب ولاحب له ولااتباع إلا به.

وأروع مافي اقتران الدعاء بملحقة الإلفات إلى أن هذه المسيرة

ص: 45


1- المصدر 348 - 349

الموالية قبل الكرة وبعدها، مسيرة حسينية كربلائية، تردد فيها القلوب دعاء سيد الشهداء يوم كوثر! وينبغي للقلب الوقوف بعناية عند ركنين في هذا الدعاء المنهج والمشروع والخطة:

الأول: «الرجعة».

الثاني: حديث الملَك فطرس.

* الرجعة

أما في الركن الأول: فقد ورد الحديث عن «الرجعة» في هذا الدعاء - على قِصره - ثلاث مرات:

1- الممدود بالنصرة يوم الكرة».

2- «والفوز معه في أوبته، والأوصياء من عترته، بعد قائمهم وغيبته حتى يدركوا الأونار ويثأروا الثار ويرضوا الجبار ويكونوا خير أنصار».

3- «وننتظر أوبته».

ويعتبر الإيمان بالرجعة من خصائص اتباع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وعلاماته الفارقة، وقد صرح علماؤنا بالإجماع على أصل مبدأ الرجعة، إلا أن هناك خلافاً في التفاصيل، وهو أقل مما يتراءى، فمن لا يتحدث عن رجوع الأئمة عليهم السلام جميعاً، لا ينفي ذلك وإنما يؤكد الكلي الذي ينطبق عليه، وهو «رجعة من محض الإيمان محضاً» كما سنری.

ص: 46

عن الإمام الصادق علیه السلام: «ليس منا من لم يؤمن برجعتنا...»(1).

وعنه علیه السلام: «ليس منا من لم يؤمن بكرتنا...»(2).

وفي تعريف الرجعة، والإجماع عليها، قال الطريحي:

«والرَجعة» بالفتح هي المرة في الرجوع بعد الموت بعد ظهور المهدي علیه السلام، وهي من ضروریات مذهب الإمامية، وعليها من الشواهد القرآنية وأحاديث أهل البيت علیهم السلام ما هو أشهر من أن يذكر، حتى أنه ورد عنهم علیهم السلام «من لم يؤمن برجعتنا ولم يقر بمتعتنا فليس منا»(3).

وممن أكد هذا الإجماع أبو الصلاح الحلبي (من علماء القرن الخامس) حيث يقول:

«وأجمعت الفرقة المحقة على إعادة من محض الكفر أو الإيمان من أمتنا في دولة المهدي عليه السلام»(4).

ويجد المتتبع أن الحديث عن الإجماع يرجع إلى ما صرح به العلمان، الشيخ المفيد والسيد المرتضی رضوان الله تعالى عليهما.

ص: 47


1- الفضل بن شاذان، الإيضاح 381 و الشيخ الصدوق، الهداية 266 و العلامة المجلسي، بحار الأنوار 100 / 320 والميرزا النوري، مستدرك الوسائل ج 14/ 451
2- الشيخ الصدوق، من لایحضره الفقيه 3 / 458 و الفيض الكاشاني، التفسير الصافي 1 / 440 والحر العاملي، وسائل الشيعة 12 / 7 - 8
3- الطريحي، مجمع البحرین 2 / 150
4- الحلبي، أبو الصلاح، الكاني في الفقه 487

قال الشيخ المفيد:

1- «وأما قوله علیه السلام «من لم يقل برجعتنا فليس منا» فإنما أراد بذلك «..» أن الله تعالى يحيي قوماً من أمة محمد صلی الله علیه و آله وسلم بعد موتهم، قبل يوم القيامة، وهذا مذهب يختص به آل محمد صلى الله عليه وعليهم»(1).

2- «والرجعة إنما هي لممحضي الايمان من أهل الملة وممحضي النفاق منهم دون من سلف من الأمم الخالية»(2).

3- «إن الله - تعالى - يرد قوماً من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها فيعز منهم فريقاً، ويذل فريقاً، ويديل المحقين من المبطلين والمظلومين منهم من الظالمين، وذلك عند قيام مهدي آل محمد علیهم السلام، وعليه السلام. وأقول: إن الراجعين إلى الدنيا فريقان: أحدهما من علت درجته في الإيمان، وكثرت أعماله الصالحات، وخرج من الدنيا على اجتناب الكبائر الموبقات، فيريه الله - عزوجل - دولة الحق ويعزه بها ويعطيه من الدنيا ما كان يتمناه، والآخر من بلغ الغاية في الفساد وانتهى في خلاف المحقين إلى أقصى الغايات وكثر ظلمة لأولياء الله واقترافه السيئات، فينتصر الله - تعالى - لمن تعدى عليه قبل المماة، ويشفي غيظهم منه بما يحله من النقمات، ثم يصير الفريقان من بعد ذلك إلى الموت ومن بعده إلى النشور وما يستحقونه من دوام الثواب والعقاب، وقد جاء القران

ص: 48


1- الشيخ المفيد، المسائل السروية 32
2- المصدر 35

بصحة ذلك وتظاهرت به الأخبار، والإمامية بأجمعها عليه إلا شذاذاً منهم تأولوا ما ورد فيه مما ذكرناه على وجه يخالف ما وصفناه»(1).

وقال السيد المرتضی، علم الهدی:

1- معنى الرجعة أن الله تعالى يحيي قوماً ممن توفي قبل ظهور القائم عليه السلام من مواليه وشیعته، ليفوز بمباشرة نصرته وطاعته وقتال أعدائه، ولا يفوتهم ثواب هذه المنزلة الجليلة التي لم يدركوها، حتى لا يستبدل عليهم بهذه المنزلة غيرهم، والله تعالى قادر على إحياء الموتی، فلا معنى لتعجب المخالفين واستبعادهم»(2).

2- «إعلم أن الذي يقول الإمامية في الرجعة، لا خلاف بين المسلمين بل بين الموحدين في جوازه، وأنه مقدور الله تعالى. وإنما الخلاف بينهم: في أنه يوجد لا محالة أو ليس كذلك. ولا يخالف في صحة رجعة الأموات إلا ملحد وخارج عن أقوال أهل التوحيد، لأن الله تعالى قادر على [إيجاد] الجواهر بعد إعدامها. وإذا كان عليها قادرا، جاز أن يوجدها متى شاء «...» وقد اجتمعت الإمامية على أن الله تعالی عند ظهور القائم صاحب الزمان علیه السلام يعيد قوماً «من أوليائه لنصرته والإبتهاج بدولته»، وقوماً «من أعدائه ليفعل بهم ما يستحق من العذاب. وإجماع هذه الطائفة قد بينا في غير موضع من كتبنا أنه حجة، لأن المعصوم فيهم، فيجب القطع على ثبوت الرجعة، مضافاً» إلى جوازها في القدرة»(3).

ص: 49


1- الشيخ المفيد، أوائل المقالات 77 - 78
2- الشريف المرتضی، رسائل المرتضی 2 / 302 - 303
3- المصدر 136

وقال الشيخ الصدوق:

«اعتقادنا في الرجعة أنها حق. وقد قال تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ». كان هؤلاء سبعين ألف بيت، وكان يقع فيهم الطاعون كل سنة، فيخرج الأغنياء لقوتهم، ويبقى الفقراء لضعفهم. فيقل الطاعون في الذين يخرجون، ويكثر في الذين يقيمون، فيقول الذين يقيمون: لو خرجنا لما أصابنا الطاعون، ويقول الذين خرجوا: لو أقمنا لأصابنا كما أصابهم. فأجمعوا على أن يخرجوا جميعاً من ديارهم إذا كان وقت الطاعون، فخرجوا بأجمعهم، فنزلوا على شط بحر، فلما وضعوا رحالهم ناداهم الله: موتوا، فماتوا جميعاً، فكنستهم المارة عن الطريق، فبقوا بذلك ما شاء الله. ثم مر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له أرميا، فقال: لو شئت یا رب لأحييتهم فيعمروا بلادك، ويلدوا عبادك، ويعبدوك مع من يعبدك. فأوحى الله تعالى إليه: أفتحب أن أحييهم لك؟ قال: نعم. فأحياهم الله وبعثهم معه. فهؤلاء ماتوا ورجعوا إلى الدنيا، ثم ماتوا بآجالهم.

«وقال تعالى: «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ». فهذا مات مائة سنة ورجع إلى الدنيا وبقي فيها، ثم مات بأجله، وهو عزیر».

ص: 50

«وأصحاب الكهف، «وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا». ثم بعثهم الله فرجعوا إلى الدنيا ليتساءلوا بينهم، وقصتهم معروفة»(1).

وقال الشيخ الصدوق أيضا في سياق آخر:

«وقال النبي صلی الله علیه و آله وسلم: يكون في هذه الأمة مثل ما يكون في الأمم السالفة، حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة. فيجب على هذا الأصل أن تكون في هذه الأمة رجعة»(2).

* حديث الملَك فطرس

وأما في الركن الثاني لهذا الدعاء، وهو حديث الملك فطرس، فينبغي ملاحظة مايلي:

تطالعنا في أخبار ولادة سيد الشهداء قصة غريبة، إلا أن الرجوع إلى المصادر المعتبرة، يوصل إلى ضرورة التركيز عليها، لأنها رغم غرابتها تحظى باهتمام كبار العلماء، کالشيخ الصدوق في الأمالي، والشيخ ابن قولويه في كامل الزيارات، وابن جرير الطبري الشيعي في دلائل الإمامة، وابن حمزة الطوسي، في الثاقب في المناقب، والشيخ الطوسي في اختيار معرفة الرجال، والمصباح، وابن شهر آشوب في مناقب آل أبي طالب، والسيد ابن طاوس في الإقبال وفلاح السائل، وصاحب السرائر ابن إدريس، والراوندي، في الخرائج والجرائح،

ص: 51


1- الشيخ الصدوق، الإعتقادات 60 - 62
2- المصدر

والشيخ محمد بن المشهدي في المزار، والمجلسي في البحار في عدة موارد، والسيد بحر العلوم، والخاقاني، والسيد الخوئي وغيرهم(1).

وهذا تلخيص لماجاء في هذه المصادر وغيرها، يشير إلى نقاط الإختلاف التي يمكن الجمع بينها بيسر.

ورد في الروايات - وأحاول استعراضها جميعاً - أنّ ملكاً من الملائكة اسمه فطرس كان من حملة العرش بعثه الله تعالى في أمرفأبطأ، أو عرضت عليه ولاية أمير المؤمنين عليه السلام فتلكأ، فكسر جناحه، وكان بعد ذلك في جزيرة في البحر، منفياً مهيض الجناح، أو معذباً بالإضافة إلى ذلك، فلما ولد الحسين عليه السلام، بعث الله تعالی جبرئیل علیه السلام، في ألف من الملائكة (أو أكثر) لتهنئة المصطفى الحبيب فمرّ جبرئیل بفطرس الملك و «كان له صديقاً» و «كانت بينهما خلة» أو «أخوة» فطلب منه فطرس أن يصطحبه، أو أن يستأذن الله تعالى في ذلك، لعلّ رسول الله يدعو له، فحمله جبرئیل معه فلما دخل جبرئیل على النبي صلی الله علیه و آله وسلم، وهنّأه من الله تعالى، ومنه بولادة الإمام الحسين عليه السلام، ثم أخبره بحال فطرس فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: يا جبرئيل أدخله، فدعا له النبي صلی الله علیه و آله وسلم، وقال له

ص: 52


1- الشيخ الطوسي، اختيار معرفة الرجال 2 / 849 ومصباح المتهجد 827 والسيد ابن طاوس، الإقبال 304 و وإبن إدريس الحلي، السرائر 3 / 580 و والشجري (من علماء القرن الخامس) فضل زيارة الحسين 35 و السيد بحر العلوم، الفوائد الرجدالية 3 / 268 والخاقاني، رجال الخاقاني 162 والسيد الخوئي، معجم رجال الحديث 17 / 166 - 168 وتورد الكتب الرجالية الخبر عادة في ترجمة محمد بن سنان، الذي شبه بفطرس لشفائه بركة الإمام الجواد علیه السلام، وعندما دعا له الإمام الجواد قال له ابن سنان: فطرسية، مما يدل على انتشار خبر فطرس بین أصحاب أهل البيت علیهم السلام

تمسّح بهذا المولود أي بالإمام الحسين علیه السلام، أو بمهده، وعد إلى مكانك، أو قال له: قد شُفعت فيك، فأقم في كربلاء. أو أن فطرس تمسح بالحسين عليه السلام، أو بمهده، وقال: يا رسول الله أما إنّ أمّتك ستقتله وله علىّ مكافأة أن لا يزوره زائر إلاّ بلغته عنه وأن لايسلّم علیه مسلّم إلاّ بلغته سلامه، ولا يصلي عليه مصلّ إلاّ بلغته صلاته عليه، ثم ارتفع.

وقد نظم الشعراء هذه الرواية، ومن متأخريهم الشاعر الفقيد الشيخ عبد المنعم الفرطوسي رحمه الله الذي يقول:

بمهدك آيات ظهرن لفطرس *** وأية عيسى أن تكلم في المهد

فإن ساد في أم فأنت إبن فاطم *** وإن ساد في مهد فأنت أبو المهدي

مولاي يا أبا عبد الله ماذا يفعل مهیض الجناح الذي سودت وجهه الذنوب وأثقلت ظهره غير أن يحاول التمسّح بذكرى ولادتك، يحاول التقرّب إليك وأنت الكريم إبن الكرام لا ترد طلب خالي الوفاض.

* ولعل من المفيد الإشارة إلى جملة من التساؤلات تثيرها هذه القصة:

1- أن الحديث عن معصية ملك، أمر مستغرب، والحديث عن تأديبه بكسر جناحه أكثر غرابة.

2- لو لم يكن مسموحاً له بطلب التوجه مع جبرئيل لماطلب.

3- لو لم يكن مأذوناً لجبرئيل أن يصطحبه لما فعل.

4- لو لم يكن شفاؤه وارتفاعه موکولاً بأمر الله تعالى إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، لما أذن له.

ص: 53

وبناء على ماتقدم فلا بد أن تكون ثمة علاقة بين الإمام الحسين علیه السلام، وبين هذا الملك، كان هو عالماً بها، وكان ينتظر مولده علیه السلام، ليعود إلى سيرته الأولى، وكان جبرئیل علیه السلام يعلم بذلك، وكان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أعلم منهما معا بتفاصيل الأمر وحقيقته، وكانت الحلقة الأخيرة في القصة أن يأذن له المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم، بالتبرك بالإمام الحسين علیه السلام، بمهده أو به على اختلاف في هذه النقطة في المصادر.

وتقودنا هذه التساؤلات بل المؤشرات في قصة الملك فطرس، إلى أن القصة في واقعها، أعظم دلالة، وأبعد أثراً ممايتراءى من ظاهرها، وأننا أمام إحدى الحقائق الكبيرة التي لانستطيع أن ندرك إلا السطح منها والقشر، شأنها في ذلك شأن الكثير من الحقائق التي نعرفها ولاننفد إلى عمقها، بدءاً من الكثير من الأمور العادية التي تحيط بنا وصولاً إلى الأمور العقائدية، وما ذلك إلا لأن الحقيقة شيء وإدراكها حق الإدراك، ومعرفتها حق المعرفة شيء آخر، قد يستدعي ذلك دورة الزمن دورات كثيرة ليتضح بعض ماخفي عن هذا الظلوم بانکاره استناداً إلى مايحلو له، رغم أنه الجهول بأكثر الحقائق، وقد يستدعي الأمر أن يظل محجوباً عنها، فيرفضها - كماهو الغالب - أويقبلها تعبداً، على أمل أن يفهمها يوم القيامة.

ومن الأمثلة التي توضح ماذكرت، في المجال العادي الذي تعایش:

أ- معرفتنا لبعضنا، والمفاجآت التي تحدث فيها، مما يفرض إعادة النظر في معرفة أنفسنا أو الآخر، جملة وتفصيلاً.

ص: 54

ب- معرفتنا بأن فلانا مجاهد، وعدم النفاذ إلى عمق دلالات ذلك.

ت. معرفتنا بوجود الغدة السرطانية، دون إدراك حقيقة ماتمثله من خطر علينا، فلو کنانعرف ذلك لأعطينا مواجهتها كل الأولوية على ماعداها.

ث- معرفتنا بالخطر الأمريكي، واستغراقنا المفرط في «المتعة» ببضائع أمريكا.

ج- إلى غير ذلك من آلاف الأمثلة.

ومن الأمثلة في المجال العقائدي:

أ- معرفتنا بتوحيد الله تعالى، الذي يجتمع مع التمرد عليه في محضره، وعبادة غيره، إلى حيث «ومايؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون.

ب- معرفتنا بالنبوة، وعظمة المعصوم، التي تجتمع مع الجهل بحقيقة المعصوم، والتعامل معه غالباً كعالِم نوعي شديد الخصوصية، وأحياناً دون ذلك بكثير.

ت- معرفتنا بالمعاد، التي تجتمع مع «كأن الموت على غيرنا کتب».

والأمثلة أيضاً، لاتكاد تحصی.

كل ذلك لأن الحقيقة التي لا لبس فيها ولا ارتياب، أن مانعلمه في جنب مانجهل، أقل بكثير مما تأخذ البعوضة بجناحها من ماء البحر، فتلك هي مرتبة آصف. «وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا».

ص: 55

هذا القليل لايخولنا إلا أن نصغي إلى المعصوم بتواضع الجاهل، يحدثنا عن فطرس الملك، فنعقد القلب على مايقول ولو لم نفهم، ونبذل كل جهد ممكن لكي نفهم، فلعل وعسي.

من هذا الجهد ماذكره بعض حملة الهم(1) من الربط بين فطرس والفطرة، ولا يفيض في هذا الربط إلا أنه يفتح أفق التفكير - شرط عدم الجزم - بأن عالم الظاهر انعکاس عالم المعنى، فللصدق في عالم الظاهر تمظهرات، وللكذب كذلك، وهكذا بالنسبة إلى كل القيم الفاضلة، وغير الفاضلة.

وللملائكة بإذن الله تعالى، علاقة بالتناسب بين عالم الظاهر والباطن، بين القشر واللب.

والسؤال الإحتمال: هل فطرس تظهير ينسجم مع عالم خاص للفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي التي بقيت مهددة بالخطر ولم ينقذها منه بإذن الله تعالى إلا الإمام الحسين علیه السلام.

ألم تكن كل الأديان السماوية المتجسدة بالدين الخاتم مهددة بالزوال لولا دم سید الشهداء عليه صلوات الرحمن؟ أليست الحقيقة الكبرى التي يريد المصطفى الحبيب لقلوبنا أن تتفاعل معها، أن الحسين عليه السلام في عصره «تجسيد خاتم الأنبياء» أي لوكان بالإمكان أن يكون أنبياء بعد المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم، لكان الحسين «خاتم النبيين».

ص: 56


1- الميرزا خلیل کوه کمره إي، عنصر شجاعت (فارسی، نسخة مصورة من مكتبة المقدس السيد المرعشي، قم)

أليس ذلك بعض مايجب استعراضه، ونحن نبحث في معاني «حسين مني وأنا من حسین»! إن دين الله تعالى هو المناخ الوحيد الذي يمكن أن تنمو فيه بذرة الفطرة، التي تشكل بمجموعها في كل أفراد البشر حقيقة واحدة، تبلغ ذراها مع القرآن الكريم، ليتخذ المشروع الإلهي «خلق الإنسان» أبعاده الواعدة، التي تستند إلى خزين التجارب البشرية عبر الأجيال كلها.

هذه الفطرة كانت مهيضة الجناح لولا الإمام الحسين عليه السلام.

وبالحسين سلام الله عليه، عادت سوية معافاة.

إنه مجرد احتمال، والهدف منه الإلفات إلى أن الحمأ المسنون، لايمكنه أن ينطلق من ضحالة ثمالته لينكر وجود البحر الزخار! إذاً، لعلَّ من دلالات ذكر «فطرس» في دعاء يوم مولد الإمام الحسين عليه السلام، الإلفات إلى الربط بين العلاقة بسيد الشهداء وبين سلامة الفطرة، وهي حقيقة أساسية من حقائق الإسلام الجوهرية، والشديدة الخصوصية، والتي لاشك فيها ولا شبهة تعتريها، إلا أن الربط بينها وبين قصة فطرس يبقى مجرد احتمال وجيه، والله تعالی العالم.

* يوم حرس الثورة الإسلامية

هذا اليوم الثالث من شعبان أيضاً يوم ذكرى تأسيس حرس الثورة الإسلامية في الجمهورية الإسلامية أعزّها الله تعالى وأدام نصرها.

وما أروع أن تكون ذكرى مولد من اسمه عنوان تحقق العدل على وجه الأرض، بداية انطلاقة جنده المحمديين.

ص: 57

إن لهؤلاء الكربلائيين والبدريين الأعزاء، حقاً في عنق كلّ مسلم، إذ ببرکات جهودهم التي وفقهم الله تعالى، كانت المقاومة الإسلامية والإنتفاضة الإسلامية، وإنبعثت روح الجهاد في كلّ أرجاء الوطن الإسلامي الكبير.

إنّهم التجربة الإسلامية الأولى في عصرنا، بل منذ قرون، هذه التجربة التي أعادت إلى واقعنا حقائق صدر الإسلام، ومعارك المسلمين فيه، فجعلتنا نعيش مجدداً أجواء بدرٍ و خیبر وحنين، فإذا بنا نتضوع شذاها والأريج، ونحاول إعادة صياغة نفوسنا وبيوتنا في سنا نورها المحمدي، دفاعاً عن التوحيد وذوداً عن حياض القيم وسلامة فطرة الإنسان.

إن من الوفاء لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ولسيد الشهداء عليه السلام، أن نهتم بذكرى تأسيس حرس الثورة الإسلامية، ونجدّد العهد على المضي في هذا الدرب الذي عبّدوه بالجماجم والأشلاء قربة إلى الله تعالى وإعلاء لكلمته سبحانه.

جزاهم الله تعالى عن الإسلام وأهله خير الجزاء.

* صوم ثلاثة أيام

في رواية أوردها الشيخ الطوسي عن الإمام الصادق تقدم أكثرها ورد قوله علیه السلام: «ومن صام من شعبان ثلاثة أيام زار الله في عرشه في جنّته كلّ يوم»(1).

ص: 58


1- الشيخ الطوسي، مصباح المتهجد 825

وبعد أن نقل هذه الرواية السيد ابن طاوس، علق عليها قائلاً:

«لعل المراد بزبارة الله في عرشه، أن يكون لقوم من أهل الجنة مكان من العرش، من وصل إليه يسمی زائر الله، كما جعل الله الكعبة الشريفة بينه الحرام، من حجها فقد حج (إلى) الله، وذكر الشيخ ابن بابویه رحمه الله في كتاب من لا يحضره الفقيه أن معنى هذا الحديث زيارة أنبياء الله وحججه في الجنان، وأن من زارهم فقد زار الله. وقد وردت أحاديث كثيرة: أن زيارة المؤمن وعبادته وإطعامه، وكسوته، منسوبة إلى أنها زيارة الله وموصوفة بأنها عملت مع الله(1).

* صلاة الليلة الرابعة

قال السيد في الإقبال: وجدناه مروية عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم، قال:

«ومن صلى في الليلة الرابعة من شعبان اربعبن ركعة، بقرا في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرة وخمسة وعشرين مرة قل هو الله أحد، كتب الله له بكلّ ركعة ثواب ألف ألف سنة، وبنى له بكل سورة الف الف مدينة، وأعطاه الله ثواب ألف ألف شهيد»(2).

وقد تقدمت في أعمال شهر رجب، إيضاحات وافية حول الثواب الكثير الذي تزخر به روایات المستحبات، وأُذكِّر هنا باختصار بأهم تلك الإيضاحات أو الشروط:

1- التقوى، فلايعطى هذا الثواب إلا لمن تحققت فيه خصوصية التقوى، ولو كانت تقواه بدأت مع هذا العمل كحالة

ص: 59


1- الإقبال 293 - 294
2- المصدره 305

يحرص على استمرارها، وهذا ما يمكن الجزم به في ضوء الثوابت، وقد بين الشيخ المفيد مايدل عليه عندما تحدث معقباً على رواية تتضمن ثواباً من هذا النوع فقال:

«هذا إذا كان الإنسان مؤمناً مجتنباً للكبائر الموبقات، كما قال الله عز اسمه: «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ».

2- الإخلاص، فقد يكون الشخص متقياً، ولكن يتفق صدور الرياء منه، وقد نص السيد ابن طاوس على اشتراط الإخلاص في هذه الأعمال، وتقدم ذكر كلامه والتأكيد عليه مراراً، حين دعت الحاجة.

3- عدم إحباطه، وهو شرط بقائه لمن أعطي له، فهذا الثواب الكثير كالجائزة الكبيرة و «الخطيرة» التي تجعل من حصل عليها أمام احتمالات المحافظة عليها وتنميتها، أو تبديدها التدريجي، أوتبديدها دفعة واحدة بالمقامرة بها وخسارتها.

4- في حين أنها مطلقة فهي خاصة بمن علم الله تعالى أنهم سيأتون بها، وليس كل من سمع بعمل أو اطلع عليه بأي نحو، قادراً على الإتيان به فالذنوب تقيد، ولنجرب فربما قدرنا أحياناً، وربما كان الغالب عدم القدرة.

إذاً ما المانع أن يكون الله عزّوجل وهو يعلم من سيصلي هذه الصلاة أو يصوم هذا الصوم، وماشابه، قد حدّد للذين سيتمكنون من الإتيان بها ثواباً معيناً، مع أن ذلك متاح للجميع من حيث المبدأ.

* خصوصية يوم الغد

أشير في الختام إلى أنّ يوم الغد يوم ولادة سيّدنا ومولانا أبي

ص: 60

الفضل العباس عليه السلام، فمن كانت له إلى الله حاجة فليصم يوم الرابع من شعبان لأنّه في حدّ ذاته قد ورد التأكيد على صيامه، فكيف إذا صامه المؤمن بنية إهداء هذا الثواب إلى أبي الفضل العباس عليه السلام، وطلب حاجته من الله تعالی ببركة باب الحوائج؟ وكيف إذا ضمّ المؤمن إلى صيامه عن روح أبي الفضل عدّة آلاف من «اللهم صلّ على محمّد وآل محمد» هدية إلى روح أم البنين، أم أبي الفضل علیه السلام؟ فلنجرب هذا النذر، ونطلب من الله تعالی حاجتنا ونحن نقف بباب الكريم إين الكرام، حامل راية كربلاء، وساقي العطاشی علیه السلام.

والحمدلله رب العالمین

ص: 61

ص: 62

4 شعبان

اشارة

* يوم أبي الفضل

* عظیم المنزلة

* من كراماته علیه السلام

* موم أربعة أيام

* صلاة الليلة الخامسة

ص: 63

ص: 64

* يوم أبي الفضل

هذا هو اليوم الرابع من شعبان، وهو يوم ذكرى سيدنا ومولانا أبي الفضل العباس ابن أمير المؤمنين عليه السلام.

ولد أبو الفضل العبّاس في الرابع من شعبان سنة 26 للهجرة،، وقد ورد في زيارته علیه السلام:

«السلام عليك يا أبا الفضل العباس بن أمير المؤمنين، السلام علیك با ابن سید الوصیین، السلام عليك يا ابن أول القوم إسلاماً وأقدمهم إيماناً، وأقومهم بدين الله وأحوطهم على الإسلام، أشهد لقد نصحت لله ولرسوله ولأخیك، فنعم الأخ المواسي، فلعن الله أمة قتلتك، ولعن الله أمّة ظلمتك، ولعن الله أمّة استحلت منك المحارم وانتهكت حرمة الإسلام، فنعم الصابر المجاهد المحامي الناصر والأخ الدافع عن أخيه والمجيب إلى طاعة ربّه الراغب فيما زهد فيه غيره من الثواب الجزيل والثناء الجميل..»(1).

كان أمير المؤمنين يكثر من الحديث عن كربلاء وشهادة الإمام الحسين في السفر والحضر وعلى المنبر ومع الناس وفي البيت إلى

ص: 65


1- المحدث القمي، مفاتیح الجنان

حدّ أنّ أصحابه كانوا يعرفون أنّ عمر بن سعد هو قاتل الحسين فكانوا إذا رأوا ابن سعد دخل مسجد الكوفة، قالوا جاء قاتل الحسين وذلك قبل أن يقتل بزمن طويل(1).

وإلى جانب تحذير أمير المؤمنين الناس من الخروج لحرب الحسين وحثهم على نصرته كان من الطبيعي أن يفكّر علیه السلام، بوجود عضد للإمام الحسين من أخوته ليكون حامل لوائه في هذا اليوم العصيب، يوم وحدته وغربته، يشارك أبا عبد الله في تسطير ملاحم الفخر والعزة والكرامة في سبيل الله تعالی.

لذلك - وكما هو معروف - طلب أمير المؤمنين من عقيل أخيه أن يختار له امرأة من بیت معروف بالشجاعة وذلك لتأثير الخؤولة في الولد فاختار له عقيل فاطمة بنت حزام العامرية، أم أبي الفضل العباس، وهي التي نعرفها باسم أم البنين.

ولاشك أن الأمير عليه السلام هو العليم بذلك وغيره بما آتاه الله تعالى، ولكن الحكمة في هذا الطلب في مايبدو هو أن تعرف الأجيال أن أبا الفضل مدخر ليوم كربلاء، ليكون الساعد الأيمن لسفينة النجاة، ويوم كربلاء قائم أبداً إلى يوم القيامة.

وفي هذه النقطة بالذات من عظيم الدلالات مايجعلنا أمام التقصير المقيم في فهم المهام الجسام التي قام بها أبو الفضل في کربلاء ومسارها من قبل ومن بعد. أوليس الشهيد حياً؟ فكيف بمن هو حامل لواء سفينة النجاة.

ص: 66


1- أنظر: الحر العاملي، إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، والشيخ المفيد، الإرشاد 131 - 132 وابن أبي الحديد، شرح النهج 3 / 169 - 170

رأت أم البنين أمير المؤمنين عليه السلام ذات يوم وقد أجلس وليدهما أبا الفضل العباس في حجره وشمّر عن ساعديه وقبّلهما وبکی! من الطبيعي أن يثير هذا المشهد الإستغراب في نفس الأم. وأن تبادر بدهشة إلى السؤال عن السبب.

وعندما سألت أخبرها الأمير علیه السلام، بما يجري في كربلاء فبكت(1).

يعز على رسول الله وأمير المؤمنين والصديقة الكبرى بكاؤك ياأم البنين.

إلا أن مايطيب خاطر مولاتنا أم أبي الفضل وإخوته الثلاثة، الشهداء جميعاً بين يدي سيد الشهداء عليه وعليهم صلوات الرحمن، هو عظيم منزلة أبي الفضل وإخوته عند الله تعالی.

* عظيم المنزلة

لقد أثبتت سيرة أبي الفضل أنّه كان الساعد الأيمن لأبي عبد الله صلوات الله وسلامه عليهما. ويكفي للدلالة على أهمية مواقفه في کربلاء وسمو منزلته عند الله تعالى، ما روي عن الإمام السجاد علیه السلام، حيث يقول:

«رحم الله عمّي العباس فلقد آثر وأبلی وفدى أخاه بنفسه حتى قطعت يداه فأبدله الله بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة كما

ص: 67


1- السيد عبد الرزاق الموسوي المقرم، العباس بن علي (دار الأضواء، بيروت، ط: 1) ص79، نقلاً عن كتاب «قمر بني هاشم» 21

جعل لجعفر بن أبي طالب وإنّ للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة یغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة»(1).

وقد تحدث عدد من المحققين حول هذه الرواية فاستظهر بعضهم منها أنّ لفظ «جميع» في قول سید الساجدين: «وإنّ للعباس عند الله تعالی منزلة یغبطه عليها جميع الشهداء» تفيد العموم فتشمل مثل الشهيدين الجليلين الحمزة أسد الله وأسد رسوله، وجعفر الطيار اللذين ورد في الروايات عن عظیم منزلتهما مايبهر العقول، ومن ذلك أنهما ينوبان عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في الشهادة لنبي الله نوح علیه السلام بتبليغ الرسالة(2).

وبناء عليه فأي شموخ وعظمة يبلغهما سُمُو مرتبة أبي الفضل العباس الذي يغبطه مثل الشهيدين الحمزة وجعفر، على منزلته عند الله عزّوجل.

إنها منزلة لايمكن أن توفي حقها إلا بأن توصف بأنها المنزلة التي تلي منزلة المعصومين مباشرة، ولكن هل تعرف منزلة المعصومین عليهم صلوات الرحمن حق المعرفة، ليمكننا أن نعرف منزلة المولي أبي الفضل؟! ومما يضيفه المحققون من علمائنا أيضاً، أن في العبارة المتقدمة من الرواية عن الإمام السجاد عليه السلام، أداة عموم ثانية هي «أل» في لفظ «الشهداء»(3).

ص: 68


1- الشيخ الصدوق، الأمالی 548
2- أنظر: الفيض الكاشاني، حق اليقين 2 / 182 ولم يحضرني الكتاب لأسجل مشخصات النسخة التي نقلت منها ذلك، والمجلسی، البحار 19 / 269 و 22 / 278
3- أنظر: المقرم، السيد عبد الرزاق الموسوي، العباس علیه السلام

وأن الجناحين كناية عن القوتين العلمية والعملية، اللتين بلغ بهما أبو الفضل مايتناسب معهما من مقام عند الله تعالى، كعَّميه الحمزة وجعفر، بالإضافة إلى مايختص به(1).

وعندما نرجع إلى عبارات علمائنا الأعلام في مجال الحديث عن سیدنا ومولانا أبي الفضل العباس نجدها تنضح بالدلالة على سمو مرتبته علیه السلام.

أذكر هنا أبياتاً للعالم الجليل الفيلسوف والأصولي آية الله الشيخ محمد حسين الأصفهاني في مدحه للعباس علیه السلام، في أرجوزته الشهيرة حيث يقول:

وكيف لا وذاته القدسية *** مجموعة الفضائل النفسية

له من العلماء والمآثر *** ما جلّ أن يخطر في الخواطر

وكيف وهو في علوّ المنزلة *** كالروح من نقطة باء البسملة

وهو قوام مصحف الشهادة *** تمّت به دائرة السعادة

لیس ید الله سوى أبيه *** وقدرة الله تجلت فيه

فهذا يدالله وهذا ساعده *** تغنيك عن إثباته مشاهده

يمثل الكرار في صولاته *** بل المعاني الغر من صفاته(2)

* من كراماته

وقد أثبتت الكرامات الجليلة التي ظهرت لأبي الفضل العباس سواءً في مرقده الطاهر أو بشكل عام مدى قربه من الله عزّوجل،

ص: 69


1- أنظر: السيد محمد علي القاضي «الشهيد» في تعليقته على كتاب المحدث الجزائري، الأنوار النعمانية 2 / 228
2- الأصفهاني، الأنوار القدسية (دیوانه)

الأمر الذي لاتجد معه تعبيراً أوفي بحقه من «باب الحوائج» إلى الله تعالی.

ومن الطبيعي أنّ المجال هنا لا يتسع لذكر الكثير من کراماته علیه السلام، فأحيل في جانب منها إلى كتاب «العباس بن علي» للعالم المحقق السيد عبد الرزاق الموسوي رحمه الله وأذكر هنا إحداها، وقد أورد في المصدر توثيقها(1) إذ نقلها عن صاحبها جماعة من أكابر العلماء والثقاة وهي إلى جانب كونها كرامة لأبي الفضل العباس عليه السلام، فإنّها ببركته كرامة أيضاً للشيخ الأنصاري رضوان الله تعالى عليه، وقد حدّث بهذه القصة أحد تلامذة الشيخ الأنصاري المشهور وأستاذ الفقهاء، وهو «الشيخ الجليل العلامة المتبحر الشيخ عبد الرحيم التستري» الذي قال: زرت الإمام الحسين علیه السلام، ثم قصدت أبا الفضل العباس وبينما أنا في الحرم رأيت زائراً من الأعراب ومعه فتى مشلول. جاء هذا الأعرابي إلى الضريح وربط الفتى بضريح العباس عليه السلام، وأخذ بالتوسل والتضرع وأنا أنظر إليه. وفجأة رأيت أنّ المشلول نهض سليماً معافىً كأنّه لم يكن أصيب بشيء، وتكاثر الناس عليه ومزقوا ثيابه تبركاً به.

يقول تلميذ الشيخ الأنصاري: هنا غرقت في بحر من الأفكار. كم مرة طلبت من العباس حاجاتي وحتى الآن لم أرَ أنّ هناك طلباً واحداً منها قد تحقّق، لا بهذه السرعة، ولا بما هو أقلّ منها بكثير.

ص: 70


1- السيد عبد الرزاق الموسوي المقرم، العباس بن علي 138 (ط: دار الأضواء، الأولی، بیروت 1422 هج)

وتذكَّر طلبين كان قد طلبهما من أبي الفضل، منذ مدة ولم يحصل على نتيجة، والطلبان هما عبارة عن شراء بيت، وأن يوفق لحج بیت الله الحرام.

يقول فلما رأيت ما رأيت من شفاء هذا الفتى اعتصرني الألم وتقدمت نحو الشباك وعاتبت أبا الفضل عتاباً مراً وقلت باللهجة العامية: يجي المعبدي (أي البدوي المفرط في البداوة) ويطلب منك حاجته فتقضيها له، وأنا أرجع خائباً مع ما أنا عليه من العلم والمعرفة. لن أزورك بعد هذا أبداً.

إلاّ أنّ تلميذ الشيخ الأنصاري سرعان ما تنبّه إلى خطإه، فما صدر منه، زلّة لسان خطيرة كما لايخفى، ولذلك فهو يقول: سرعان ما ندمت على ما قلت، وتألمت لفجاجة عتبي واستغفرت ربّي عزّوجل لإساءتي لعباس الهداية واليقين، ثم خرجت من كربلاء متوجهاً إلى النجف وأنا أفكر فيما شاهدت.

وهنا تكمن مفاجأة أخرى لم يكن يعلم أنها بانتظاره، يقول:

عندما وصلت إلى النجف الأشرف جاءني الشيخ الأنصاري قدس الله روحه الزاكية وأخرج صرّتين من المال وقال هذا ما طلبته من أبي الفضل العباس، إشتر داراً وحج البيت الحرام!! ولم يكن الشيخ الأنصاري قد عرف منه أو من غيره بذلك، لأنّه لم يكن قد تحدّث مع أحد بهذا الأمر أبداً، فأيقن أن الشيخ الأنصاري رضوان الله تعالى عليه علم بالأمر بطريق غيبي أي ببركة أبي الفضل العباس علیه السلام.

ص: 71

وقد عرفت هذه الكرامة آنذاك ونظمها بعض الشعراء، ومن ذلك ما قاله الشيخ محمد السماوي:

وما عجبت من أبي الفضل كما *** عجبت من أستاذنا إذ علما

لأنّ شبل المرتضی لم يُغرب *** إذا أتى بمعجز أو معجب

بكل يوم بل بكل ساعه *** لمن أتاه قاصداً رباعه

وهو من الشيخ عجيب بَيِّنُ *** لكن بنور الله يرنو المؤمن

ليس غريباً من العباس علیه السلام أن يأتي بالكرامة في كل يوم بل بكل ساعة، إلاّ أنّه من الشيخ عجیب! وهناك ما يدل على أنّ الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه لعلو مرتبته كانت تصله بعض الحوالات من قبيل ماتدل عليه هذه الكرامة، أقصد أنه كانت تحال عليه وإليه أمور من قِبل أهل البيت علیهم السلام.

و کرامات أبي الفضل عليه السلام، كثيرة جداً.

كلّ ما أريده هنا في هذا الحديث هو التأكيد على سموّ مرتبة المولى أبي الفضل العباس عليه السلام، وأنّها تختلف كثيراً عما نتصور، وقد تقدم أنه يأتي في درجة تلي المعصومين علیهم السلام، مباشرة. «أبی الفضل إلا أن تكون له أبا». فينبغي أن نبذل قصارى الجهد في معرفته صلوات الله عليه.

* وأذكر هنا بالمناسبة أنّ طلب الحوائج من الله عزّوجل بنذر يهدي ثوابه إلى أبي الفضل العباس عليه السلام، أو إلى أمّه مولاتنا أم البنين، هو من الأمور المجرّبة خصوصاً عندما نركز على أمور مهمة في النذر من قبيل أن يكون النذر عبارة عن مبلغ مالي معتنى به يدفع لعائلة نعرف استحقاقها، أو لامرأة هاشمية، أو لأي هاشمي محتاج، مع خصوصية مميزة في قضاء الحوائج لخدمة الهاشميات والعلويات

ص: 72

من نسل رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، ويهدي ثواب هذا العطاء إلى أبي الفضل عليه السلام، بل يكون بنية أنه من قِبله وباسمه، أو يهدي إلى أمّه سیدتنا أم البنين، أو يكون العمل باسمها ومن قِبلها، وكذلك عندما نختار بدل المبلغ المالي أو معه، عدداً من الصلاة على النبي وآله خمسة آلاف أو عشرة آلاف مرة حسب الحاجة. وقد جرب المؤمنون هذا النذر، وتجربته أيضاً في متناولنا فلنحاول.

* صوم أربعة أيام

أورد السيّد ابن طاوس عليه الرحمة في الإقبال عن الشيخ الصدوق بإسناده عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم:

«ومن صام من شعبان أربعة أيام وسّع الله عليه في الرزق»(1).

هناك ترابط بين الرزق وبين طاعة الله عزّوجل، ولا ينافي ذلك أنّ الكافر يرزق، فقد صرح القرآن الكريم بأن رزق من يكفر بالرحمن إبتلاء واستدراج، مما يعني أن الرزق الهنيء الذي يقال له رزق، هو شيء آخر، وهو المقصود هنا.

هناك أعمال ورد أنّها على علاقة بسعة الرزق منها صلاة الليل، وطبيعي أن يكون المراد بها التي تصلَّى من أجل الرزق، فهذه قربة «إلى الرزق» بل المراد أن تكون قربة إلى الله تعالى وعند ذلك فإن من جملة نتائجها سعة الرزق، وكذلك هو صيام أربعة أيام من شعبان، وكأن النتيجة التي تحصل من المواظبة على صلاة الليل تتحقق بطريقة أيسر أي بواسطة هذا الصوم، والله العالم.

ص: 73


1- الإقبال 3 / 305 وانظر: الحر العاملي، وسائل الشيعة (آل البيت) 10 / 499

* صلاة الليلة الخامسة

أوردها السيد ابن طاوس عليه الرحمة عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

«من صلى في الليلة الخامسة من شعبان ركعتين يقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة وخمسمائة مرّة قل هو الله أحد فإذا سلم صلی على النبي (وآله) سبعين مرة قضى الله له ألف حاجة من حوائج الدنيا والآخرة وأعطاه الله بعدد نجوم السماء مدينة في الجنة»(1).

ومن الطبيعي أن تعبير «وأعطاه الله بعدد نجوم السماء مدينة في الجنة» أمر مستغرب، لكن المنهج السليم أن لا نرد هذه الأمور بمجرد استغرابها، لأنّ الحديث عن الآخرة وكما تقدم حدیث تقریبي بالنسبة إلينا، فنحن لا ندرك أكثر حقائق الدنيا ومعادلاتها، وماندرکه هو عادة من الظاهر الذي قال عنه تعالى: «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ» الروم 7.

فكيف نسمح لأنفسنا بأن نحكم على حقائق الآخرة ونحن في الدنيا؟ إن ذلك أشبه ما يكون بجنين يرفض حقائق عالم الدنيا وهو لا يعرف عن هذا العالم شيئاً! وقد أجمعت كلمة قمم العقول من علمائنا وسيرتهم على نقل ماهو أشد غرابة من هذه الروايات بآلاف المرات، كمامر في الجزء الأول «أعمال شهر رجب» بالتفصيل.

نعم، لا بدّ من تفسير هذه العبارة ونظائرها بما يمكن وبما يتعقل، لمجرد التقريب إلى أذهاننا دون حصر للمعنى ولاجزم،

ص: 74


1- الإقبال 3 / 306

وعندما لا يكون هناك تفسير واضح، نقبل ماورد بعد التثبت منه تعبداً، ولا يجوز أن نرفضه. وهذا هو منهج علمائنا الأعلام.

يمكننا أن نتساءل: ما هو المراد بأنّ المصلي لهذه الصلاة يُعطى مدناً بعدد نجوم السماء؟ هل المراد من قبيل مايقال مثلاً: أعطي فلان الوسام الفلاني، وعندما نطّلع على خصوصيات هذا الوسام نجد أن من يعطاه بعامل «بروتوكولياً» بطريقة معينة، ويترتب له حق مالي على الدولة، يجري لورثته من بعده وغير ذلك، فتكون كلمة الوسام أو الوشاح أو الدرع مجرد تسمية تخفي تحتها مضامین معينة؟ هل هناك وسام إلهي اسمه «المدن بعدد نجوم السماء»؟ أم أن المراد أن ثمة في آفاق الأنفس وعوالمها مراتب إيمانية تعتبر مدن السماء التي خلقت كواكبها لخدمة الإنسان، تظهيراً لملكات النفس البشرية؟ أم أن المراد أن هذه المدن تكون له فعندما يتعرض للذنوب يفقد من رصيده، ويبدأ يخسر منه تدريجياً، ولايبقى له إلا مايحافظ عليه؟ إن الله عزّوجل يعطينا الكثير لأنّه يعرف أنّنا سنحرق الثواب الذي نأخذه بنيران الذنوب وهو أكرم الأكرمين يريدنا أن نصل، وهذا ماصرح به الحديث الذي مر ذكره عن الإمام الباقر عليه السلام: «ولولا ما يضاعف الله تبارك وتعالى للمؤمنين مابلغوا، ولكن الله يضاعف لهم الحسنات..»(1).

أسأل الله عزّوجل أن يوفقنا لمراضيه بالنبي وآله المعصومين.

والحمدلله رب العالمین

ص: 75


1- الحر العاملي، الفصول المهمة في أصول الأئمة 391

ص: 76

5 شعبان

اشارة

* أهم الأعمال العامة

* صوم خمسة أيام

* صلاة الليلة السادسة

ص: 77

ص: 78

ذكر العلماء الأعلام أعمالاً عامّة ينبغي الإهتمام بها في شهر شعبان والمقصود بالأعمال العامّة، الأعمال التي لم يحدد لها وقت خاص في هذا الشهر المبارك، بل يمكن أن يؤتي بها في أي وقت من شعبان.

وقد ذكرت في حديث أول يوم ما يعتبر مدخلاً إلى الأعمال العامّة، وهو قول أمير المؤمنين علیه السلام: «هذا غرة شعبان وشعب خيراته الصلاة والصوم والزكاة والامر بالمعروف، والنهي عن المنکر، و بر الوالدين والقرابات، والجيران، وإصلاح ذات البين والصدقة على الفقراء والمساكين..»(1).

* أهم الأعمال العامة

لقد جمع أمير المؤمنين عليه صلوات الرحمن، في هذا الجانب من النص كل ماينبغي أن نوليه اهتمامنا في شهر شعبان، وهذه وقفة سريعة عند هذه المفردات.

ص: 79


1- المجلسی، بحار الأنوار 49 / 56

1- الصلاة كيف نهتم بصلاتنا في شهر شعبان؟ إننا نستعدّ في هذا الشهر لضيافة الرحمن عزّوجل، ونريد أن نحط الرحال على أعتاب شهر الله عزّوجل ونحن أهل لهذه الضيافة، ومن الطبيعي أنّ من أهم آداب الضيف أن يكلّم صاحب البيت بحضور قلب وتوجّه، لا أن يتكلّم مع صاحب البيت وهو يفكّر في شؤونه الخاصّة، فلا يصحّ أن ندخل إلى شهر الله تعالى ولم نبذل جهداً في مجال الخشوع للصلاة، الذي هو أهم آداب الضيافة.

شهر شعبان فترة زمنية شرّفها الله تعالى بتشعب الخيرات فيها، بحيث أن باستطاعة المؤمن أن يتزود فيها ومنها بما لايمكنه عادة الحصول عليه، ومن ذلك الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها وهو هدف للمؤمن عزيز المنال.

فإذا راقب المؤمن قلبه في صلاته في شهر شعبان، وألح في الدعاء والطلب الحقيقي ليرتقي إلى مرتبة التوجّه إلى الله تعالى في صلاته، فيصليها بحضور قلب وخشوع فإنّ إمكانيّة الحصول على ذلك أكثر بكثير جداً منها في غير شعبان من الشهور باستثناء شهر الله تعالی.

ويجب التنبه إلى الصلاة التي يجب قضاؤها، فإن من عليه قضاء صلاة، وإن كان يمكنه أن يصلي استحباباً إلا أنه لا يجوز له أن يعرض عن قضاء ما وجب عليه قضاؤه.

2- الصوم وأما بالنسبة إلى الصوم، فنحن نريد أن نصوم في شهر الله

ص: 80

تعالی، شهر رمضان، فهل سنرضى أن يكون صومنا صوماً شكلياً لا يحمل من حقيقة الصوم إلا الإسم وربما مجازاً؟ مطلوب منا أن نتدرّب في شهر شعبان ليكون صومنا في شهر الله تعالى، من نوع خاص. وليس فقط صوماً عن الطعام والشراب وما شابه من المفطرات المتعارفة، وإنّما هو صوم عن المعاصي والذنوب.

يقول لنا أمير المؤمنين عليه السلام إن خيرات الله تعالى في شهر شعبان تجعل الصوم الحقيقي أيضاً كالصلاة الحقيقية في متناولنا، فهل نبذل الجهد المتناسب مع هذا الهدف العظيم والسامي؟ وينبغي التنبه إلى ماعلينا من قضاء الصوم، فمن كان عليه قضاء، فلا يجوز له أن يصوم استحباباً.

3- الزكاة وأما الزكاة فلها أحكامها الخاصّة وهي مهمّة جداً، وقد ورد التأكيد عليها في كتاب الله وفي الروايات كثيراً، ويقول بعض علمائنا إنّ الإهتمام بمسألة الزكاة لا يتناسب مع التأكيد الذي ورد في الآيات والروايات فينبغي الإلتفات إلى ذلك.

ومن المفيد جداً التنبه إلى أن من مفردات الزكاة الواجبة زكاة البدن أو زكاة الفطرة، وهي التي تُدفع صبيحة عبد الفطر، فلو فرضنا أن شخصاً منا لم يدفعها في سنوات سابقة لأنه لم يكن ملتزماً بالأحكام الشرعية، فليؤد ذلك الآن، ليتخلص من موانع قد تحول دون استقامة مسيرته الإيمانية وحُسن إسلامه.

ص: 81

4- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات بل بهما تقام كل الواجبات الأخرى، حتى الصلاة والصوم والجهاد، وبهما يتمّ تطبيق شريعة الله عزّوجل في هذا المكان أو ذاك من الأرض. إن علينا جميعاً أن نعتبر أنفسنا مسؤولين عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يمكننا الإلتزام بحديث رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته»(1) إلا إذا كنا نقوم بما يمكننا في مجال هذين الواجبين العظيمين.

ومن كان لا يستطيع أن يأمر أحداً بالمعروف أو ينهاه عن المنکر ولكن كان باستطاعته أن يوصل ذلك إلى من يمكنه القيام به، فليفعل.

إن من واجبنا أن نهتم بالتبليغ وإيصال الحقيقة إلى البعيدين عنها بأي طريقة ممكنة، ولا مجال إطلاقاً للفصل بين تهذيب النفس وتزكيتها وبين حمل الهم العام، وإلا لانقلب التدين إلى تقوقع وانغلاق، مما يفقده أي قيمة.

ويجب التنبه إلى من لايعزز في نفسه حب المعروف وإنكار المنکر، يذوب إيمانه كما تذوب حبة الملح في غمرات المحيط، ويصبح مصداق قوله تعالى «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا» الكهف 104.

ص: 82


1- العلامة الحلي، الرسالة السعدية 149. وقد ورد الحديث في مصادر الفريقين، أنظر مثلاً: محي الدين النووي، المجموع 1 / 26 بتعبير «ثبت في الصحيحين»

5- بر الوالدين و بر الوالدين أحد الأعمدة الأساسية في مجال التدين، فقد قرن الله عزّوجل طاعتهما بطاعته، فلا يُتصور تدينٌ أو تهذیب نفس وقطع مراحل التحلي بمكارم الأخلاق المحمدية إلا برضا الوالدين، ومهما كان الولد باراً فليستزد، أما إذا لم يكن باراً والعياذ بالله فيجب أن يضع في أولى اهتماماته إصلاح علاقته بوالديه، وشهر شعبان فرصة متاحة تساعده على تحقيق مالا يمكنه القيام به عادة.

6- صلة الأرحام وهي مادة الإمتحان الأصعب الذي يخضع له كل من يريد أن يكون تدينه صادقاً، ففي الأرحام مافي سائر الناس من صفات نفسية، والواجب العقلي والعملي مطابقان للواجب الديني كما هو الحال دائماً، فمن الواضح أن من يعجز عن علاقة حميمة بأرحامه - ولو كانت هذه العلاقة من طرفه فقط - سيكون أكثر عجزاً عن بناء علاقة غير مصلحية وحميمة مع غير أرحامه.

وتتوقف صلة الأرحام على تشذيب زوائد النفس وفضلاتها، وإقامة شجرتها على التواضع والعبودية، وحمايتها من عواصف الأنانية الهوجاء، وبديهي أن ذلك هو الأصل في سلامة الدين.

7- الإحسان إلى الجيران والفرق واضح بين عدم الإساءة إلى الجيران، وبين الإحسان إليهم، وكأن المراد أن عدم الإساءة أمر مفروغ منه، والمطلوب من المؤمن أكثر منه، وهو الإحسان إلى الجيران.

ص: 83

وطبيعي أن في الجيران الصالح والطالح، وربما المسلم وغيره، مما يضعنا أمام أصل إسلامي في حسن التعامل مع الناس، أوسع دائرة من العنوانين المتقدمين.

8- إصلاح ذات البين وهو عنوان ينطبق على الموارد التالية:

أ- السعي في الإصلاح بين أي متخاصمين.

ب- السعي في إرضاء من له حق علينا، نتج عنه فساد علاقتنا وذات بيننا، فنحاول أن نتسامح منه ونرضيه في شهر شعبان، لندخل إلى شهر رمضان ولا يبقى في قلب أحد غلّ علينا.

ت- السعي في إصلاح العلاقة مع من لنا حق عليه، لندخل إلى شهر الله تعالى بقلب نقي، وسريرة طاهرة، ولا نبقي غلاً في قوبنا على أحد.

9- الصدقة على الفقراء والمساكين و يأتي حديث عنها بشكل خاص.

وهناك عدّة روایات حول الأعمال العامّة لهذا الشهر يأتي استعراضها بحوله تعالى.

* صوم خمسة أيام

عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «ومن صام خمسة أيام من شهر شعبان حُبِّب إلى العباد»(1).

ص: 84


1- الإقبال2 / 499

أي حبب الله تعالى الناس به كما قال تعالى: «وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي» [طه 39] وكما ورد في الحديث: «إذا أحب الله عبداً حببه إلى خلقه»(1). ويدل عليه كل ماكان بمعنی «من تواضع لله عزّوجل رفعه الله» و «یا من بيده ناصيتي» وغيره كثير.

ولا سبيل إلى الجاه الحقيقي إلا بطاعة الله تعالى شرط أن لا يكون حب الجاه هو الباعث والسبب.

وماعدا ذلك فهو السراب الذي يحسبه الظمآن ماء، إنه وهم الجاه الذي سرعان ماسينکشف أنه هباء.

ولاشك أن الوصول إلى هذه المرتبة والحصول على هذا الشرف هدف مقدس، يستدعي تواصل بذل الجهد.

وتكشف العلاقة بين صيام خمسة أيام من شعبان وبين أن يصبح الشخص محبباً إلى عباد الله عزّوجل، أن بالإمكان تحقيق هذا الهدف بأقصر الطرق فلنغتنم.

* صلاة الليلة السادسة

قال السيّد ابن طاوس عليه الرحمة: وجدنا ذلك مروياً عن النبي صلوات الله عليه وآله، قال:

«ومن صلّى في الليلة السادسة من شعبان أربع ركعات يقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرة وخمسين مرة قل هو الله أحد، قبض الله روحه على السعادة، ووسع عليه في قبره، ويخرج من قبره ووجهه

ص: 85


1- علي بن يونس العاملي، الصراط المستقیم 2 / 51

كالقمر، وهو بقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله»(1).

إن أغلى الأماني على الإطلاق، أن ينتقل الإنسان إلى جوار الله تعالی فرحاً مسروراً.

وقد ورد في حالات السعداء عند الموت، أن المؤمن بمجرد أن يصل إلى سكرات الموت یری رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وأمير المؤمنين عليه السلام، وهما يشيران له ويقولان: «هلّم إلينا أما كنت تخافه فقد أمنه وأما ما كنت ترجوه فقد هجمت عليه»(2) عندها يودّ الإنسان أن ينتقل إلى جوار الله عزّوجل وقد ورد في بعض الروايات أن حبه للرحيل عن هذه الدنيا يجعله «يجود بنفسه» أي وكأنه يقدمها للملائكة بسخاء كما يقدم الكريم ما يتكرم به ويجود.

وبالإضافة إلى أن من يصلي هذه الصلاة، يموت على السعادة، فإن قبره يكون واسعاً فسيحاً، ويخرج من قبره ووجهه كالقمر وهو يقول: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، ومعنی ذلك أنّه يوفق ليكون موحداً حقيقياً.

اللهم ارزقنا، ووفقنا لما تحبّ وترضى بالنبي المصطفى وآله.

والحمدلله رب العالمین

ص: 86


1- الإقبال 3 / 306 وبهامشه في توثیق الحديث «عنه الوسائل 8: 101، مصباح الكفعمي: 539»
2- القاضي النعمان، شرح الأخبار 3 / 492 - 493 والحر العاملي، الفصول المهمة في أصول الأئمة 1 / 311 - 312 والمجلسي، بحار الأنوار 6 / 178

6 شعبان

اشارة

* الأعمال العامة: الإستغفار

* صوم ستة أيام

* صلاة الليلة السابعة

ص: 87

ص: 88

* الأعمال العامة

وعدت في الحديث السابق بمواصلة الحديث عن الأعمال العامة في شهر شعبان والمراد بها الأعمال التي يمكن أن تأتي بها في أي وقت من شعبان، وفي مايلي بعضها:

أولاً: الإستغفار

ورد في عدّة روايات التأكيد على الإستغفار في شهر شعبان.

عن الإمام الرضا علیه السلام: «من استغفر الله تبارك وتعالى في شعبان سبعين مرة غفر الله ذنوبه ولو كانت مثل عدد النجوم»(1).

والرواية صريحة في أنّ من استغفر في كلّ الشهر سبعين مرّة غفر الله تعالى ذنوبه مهما كانت.

وفي بعض الروايات الأخرى تأكيدً على الإستغفار سبعين مرّة يومياً، فقد روي أيضاً عن الإمام الرضا علیه السلام:

من قال في كلّ يوم من شعبان سبعين مرة استغفر الله وأساله

ص: 89


1- الشيخ الصدوق، الأمالي 68 و عیون أخبار الرضا علیه السلام 2 / 262 وعنه: الإقبال 3 / 294. والحر العاملي، وسائل الشيعة 10 / 510

التوبة كتب الله له براءة من النار وجوازاً على الصراط وأدخله دار القرار»(1).

ولا تعارض بين هذه الرواية وما قبلها لأن الأولى تبيّن أن من استغفر الله تعالى في الشهر سبعين مرة بأي صيغة من صيغ الإستغفار، غفر الله له ما تقدم من ذنوبه مهما كانت، وهذه الرواية تبين أنّ من استغفر الله تعالى في كلّ يوم سبعين مرة بصيغة خاصة هي استغفر الله وأسأله التوبة حصل على ثواب أكثر بكثير مما تقدم: كتب الله له براءة من النار، وجوازاً على الصراط، وأدخله دار القرار، وينسجم ذلك مع مغفرة الله تعالى ذنوبه كلها، ما تقدم منها وما تأخر.

وفي رواية ثالثة عن الإمام الصادق علیه السلام:

«من قال في كلّ يوم من شعبان سبعين مرة أستغفر الله الذي لا إله إلاّ هو الرحمن الرحيم، الحي القيوم وأتوب إليه كتبه الله تعالى في الأفق المبين. (قال الراوي) قلت وما الأفق المبين قال قاع بين يدي العرش فيه أنهار تطُّرد (تجري) فيه (أي في الأفق المبين) من القدحان (جمع قدح) عدد النجوم»(2).

ص: 90


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة 10 / 510 عن المجالس والعيون (الأمالي، وعيون أخبار الرضا علیه السلام)
2- الشيخ الطوسي، مصباح المتهجد 829 والإقبال 3 / 295 والحر العاملي، وسائل الشيعة 10 / 510 نقلاً عن الخصال وثواب الأعمال للشيخ الصدوق. وقد نبه السيد على أنّ الشيخ الطوسي عليه الرحمة أورد هذه الرواية في المصباح باختلاف يسير عما ذكره الصفار، فقد أضاف الشيخ كلمتي الرحمن الرحيم، وفي آخر الرواية كلمة السماء عدد نجوم السماء». لكني لم أجد هذه الإضافة الأخيرة في النسخة التي رجعت إليها من المصباح، وقد أورد في الوسائل الرواية عن الشيخ الصدوق بإضافة «الرحمن الرحيم»

توضح الرواية أن هناك مكاناً بين يدي العرش له خصوصيّة باعتبار قربه من العرش وباعتبار ما أعدّه الله تعالى فيه لأهله واسمه «الأفق المبين» أو أن ذلك يدل عليه، وعندما يقول المؤمن كلّ يوم من شعبان سبعين مرة أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الحي القيوم وأتوب إليه يكتب من أهل الأفق المبين، ويستحق هذه المرتبة العالية.

ولا بدّ من التنبه إلى حقيقة الإستغفار وروحه وهي التوبة، فهل يريد المستغفر أن يتوب حقيقة أم أنه يردد هذا الإستغفار وهو يطمع بثوابه دون أن يحقق في قلبه نية التوبة الصادقة؟ عندما نجد التأكيد على الإستغفار في شعبان فيجب أن نفهم أنه تأكيد على التوبة في شعبان.

والتوبة في كلّ آنٍ مطلوبة وهي بحسب فتاوی علمائنا واجب فوري تجب المبادرة إليه فوراً بمجرد أن يلتفت أحدنا إلى معصيته لله تعالی.

وبما أن شهر شعبان موسم خاص للتوبة وتجديدها، فينبغي للمسلم أن يغتسل غسل التوبة في أول الشهر ويبدأ بالإستغفار كما تقدم بإحدى الصيغ المتقدمة:

أ- أستغفر الله.

ب- استغفر الله وأسأله التوبة سبعين مرة يومياً.

ت- استغفر الله الذي لا إله إلاّ هو الرحمن الرحيم الحي القيوم وأتوب إليه سبعين مرة يومياً.

ص: 91

وهل يتصور أن يمضي أحد شهر شعبان وهو يسأل الله عزّوجل التوبة وهو يريد ذلك حقيقة ثم يرجع خائباً؟ حاشا كرم الله تعالى. إنه سبحانه أكرم من أن يردّ من طرق بابه طالباً متوسلاً متضرعاً، لقد أمرنا عزوجل أن لا نرد السائل عن بابنا «وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ» فلنكن واثقين بكرمه مهما كانت ذنوبنا، ومهما كانت جرأتنا عليه ومهما كان تمردنا.

ولیکن لسان الحال: إلهي من أنا حتى تغضب علي. فهو سبحانه لا يعاملنا بحسب ما نتصور وبحسب ما تحدّده عقولنا القاصرة ولذلك أمرنا بالرجوع إليه مهما أسرفنا على أنفسنا.

«مهما كانت ذنوبك حتّى إذا كنت قد قتلت مائة نبي فارجع إليّ فإنّي أقبلك. هذا الباب لا يَرُدُّ سائلاً»(1). اللهم بحق نبيّك المصطفى منّ علينا في شهره بالتوبة النصوح.

* صوم ستة أيام

أورد السيّد ابن طاوس عن الشيخ الصدوق رضوان الله عليهما، عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم، أنه قال:

«من صام من شعبان سنّة أيام صرف عنه سبعون لوناً من البلاء»(2).

ص: 92


1- مضمون شعر فارسی
2- الإقبال 3 / 306 - 307

إن الحاكم هو الله عزّوجل ولا حول ولا قوّة إلاّ به، بيده نفعنا وصرف هذا الضرر عنا أو عدم صرفه وفق موازین العدل، والله سبحانه وتعالى لا يريد أن يضرّ بأحد إنّما هي أعمالنا التي تجعلنا أهلاً لهذا البلاء أو ذاك، وصيام ستة أيام من شعبان سبب لأن يصرف عن صائمها سبعون لوناً من البلاء استحقها بما كسبت يداه، فليغتنم ذلك أصحاب الحوائج لاسيما المستعصية، خصوصاً وأن هذه الأيام الستة ليست محددة بأول الشهر، ولا بكونها متتالية، ولا غير ذلك، فالمهم صوم ستة أيام في شعبان كيفما تحقق ذلك.

* صلاة الليلة السابعة

قال السيد عليه الرحمة وجدناه مروياً عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم:

«ومن صلى في الليلة السابعة من شعبان رکعنين يقرأ فيها فاتحة الكتاب مرة ومائة مرة قل هو الله أحد في الركعة الأولى وفي الثانية الحمد مرة وآية الكرسي مائة مرة، قال النبي صلی الله علیه و آله وسلم: ما من مؤمن ولا مؤمنة صلى هذه الصلاة الا استجاب الله تعالی منه دعاءه وقضى حوائجه، وكتب له كل يوم ثواب شهيد ولا يكون عليه خطيئة»(1).

وهذه الصلاة تتضمّن «قل هو الله أحد» التي ورد حولها أنّها نسبة الله عزّوجل لأنّها تتحدث عن صفاته تقدست أسماؤه وصفاته، ولها موقع مهم بين سور کتاب الله تعالى، كما تتضمن آية الكرسي

ص: 93


1- المصدر 307

التي ورد في كثير من الروايات الحديث عن فضلها وأنّها أفضل آية في کتاب الله تعالی. مائة مرة التوحيد ومائة مرة آية الكرسي إلى جانب الحمد في ليلة خاصة في شهر خاص بين يدي أرحم الراحمين، فينبغي أن لا نستكثر هذا الثواب، بل أن نطلب أفضل مراتبه.

اللهم وفقنا لمراضيك بالنبي المصطفى وآله المعصومين.

والحمدلله رب العالمین

ص: 94

7 شعبان

اشارة

* الصلاة على محمد وآله صلی الله علیه و آله وسلم

* معناها، بعض بركاتها، وآدابها

* صوم سبعة أيام

* صلاة الليلة الثامنة

ص: 95

ص: 96

* الصلاة على محمد وآله صلی الله علیه و آله وسلم

من الأعمال العامّة في شهر شعبان، الإكثار من الصلاة على النبي وآله صلی الله علیه و آله وسلم، فقد روي عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «وأكثروا في شعبان من الصلاة على نبیّكم وأهله»(1).

* بعض الروايات

وفي حشد كبير جداً من الروايات تأكيد هو أيضاً كبير جداً على أهمية الصلاة على النبي وآله صلی الله علیه و آله وسلم، مطلقاً وفي أي وقت، إلا أن لشعبان ميزة في هذا المجال.

ومن الواضح أنّ هذا الذكر «اللهم صلّ على محمّد وآل محمد» يتضمن ذكر الله عزّوجل وذكر رسوله المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم، وذكر أهل البيت صلی الله علیه و آله وسلم، ولذلك فمن الطبيعي أن يكون شعارَ الإيمان الذي ينبغي الإكثار من ترديده واللهج به، واستنطاق العقل لمقتضيات معانيه، حتّى يستقر في شغاف القلب، وتتفاعل معه النفس فيطبع السلوك بطابعه.

ص: 97


1- المجلسي، بحار الأنوار 94 / 77

* معناها

إن عبارة «اللهم صلّ على محمّد وآل محمد» هي في الحقيقة تأكيد على سلامة الخط والنهج فهي بعبارة ثانية: إلهي ما زلت في الخط الذي أمرتني به، خط توحيدك واتباع رسولك المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم، واتباع أهل البيت علیهم السلام، من بعده.

عن الإمام الصادق عليه السلام: «من قال اللهم صل على محمد وآل محمد، فمعناه أني أنا على الميثاق والعهد الذي قبلت حين قوله: ألست بربکم قالوا بلى»(1).

والمراد قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ» [الأعراف 172].

وقد فسّرت الآية بأنّ الله تعالى أخذ الميثاق من بني آدم علیه السلام، في عالم الذر، أو فقل في «النشأة الأولى» قبل أن يأتي الناس إلى هذا العالم، وقال عز من قائل: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى»، فأودع الله تعالى هذا الميثاق في الحجر الأسود الذي استقر في الكعبة الشريفة أعزّها الله، ولذلك فإنّ الحاج عندما يصل إلى مقابله في نهاية كل شوط من الطواف، يقول:

«أمانتي أديتها ومیثاني تعاهدته، لنشهد لي بالموافاة»(2).

ص: 98


1- الشيخ الصدوق، معاني الأخبار 116، وعنه المجلسي، البحار 91 / 54
2- الشيخ المفيد، المسائل العكبرية 104 - 105، والمجلسي، البحار 6 /97 . وحول أخذ الميثاق وكيفيته، أنظر: العياشي محمد بن مسعود، تفسير العياشي 2 / 37 - 38 فقد أورد المحقق في الهامش آراء عدد من كبار العلماء، وتفسير القمي 1 / 247 ويرى الشيخ الطوسي في التبيان 5 / 30 أن ذلك خاص ببعض الناس، وانظر: الطريحي، تفسير غريب القرآن 217 والسيد الطباطبائي، تفسير الميزان 8 / 308 فما بعدها

وبديهي أننا عندما نجد أنّ شريط تسجيل عاديّاً يمكن أن يسجل كلّ ما نقوله فلا يصح أن نستغرب أن يكون للحجر الأسود خصوصيّة معيّنة هي فوق إدراكنا وفوق كل ما نتصوره منتهي «التقنية» وغاية التقدم والرقي، من ضغط المعلومات المودعة في قرص مدمج أو ممغنط، أو صلب، لا فرق بينه وبين الحجر من حيث الأصل.

وحول المعنى ورد أيضاً عن الإمام الكاظم عليه السلام أنّ الراوي سأله ما معنى صلاة الله وصلاة ملائكته وصلاة المؤمن في قوله تعالی: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا»؟ يريد الراوي أن يعرف ما معنى الصلاة من الله على النبي وما معنى الصلاة من الملائكة على النبي وما معنى الصلاة من المؤمن على النبي فقال الإمام الكاظم عليه السلام: «صلاة الله رحمة من الله، وصلاة الملائكة تزكية منهم له، وصلاة المؤمنين دعاء منهم له»(1) صلی الله عليه وآله.

وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن هذه الآية فقلت: كيف صلاة الله على رسوله، فقال: يا أبا محمد تزكيته له في السماوات العلى فقلت: قد عرفت صلاتنا علبه فكيف التسليم؟ فقال: هو التسليم له في الأمور.

وعلق العلامة المجلسي رحمه الله بقوله: فعلى هذا يكون معنی قوله: «وسلموا تسليما» انقادوا لأمره، وابذلوا الجهد في طاعته

ص: 99


1- المجلسي، البحار 83 / 96

وجميع ما يأمركم به، وقيل: معناه سلموا عليه بالدعاء، أي قولوا: السلام عليك يارسول الله(1).

وقال الطبري الشيعي:

«قال بعض الأفاضل: ألصلاة وإن كانت بمعنى الرحمة لكن المراد بها هنا الإعتناء بإظهار شرف النبي صلی الله علیه و آله وسلم ورفع شأنه. وجاءت الصلاة بمعنى التعظيم، قيل: ومنه «اللهم صل على محمد وآل محمد» أي عظمه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دعوته وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته ومضاعفة أجره ومثوبته»(2).

* أهميتها

من الروايات التي تؤكد على أهمية الصلاة على محمد وآل محمد مطلقاً في أي وقت:

1- عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «من ذكرت عنده فلم يصلّ علي فقد جفاني»(3).

2- وعنه صلی الله علیه و آله وسلم: «من صلى علي ولم یصل على آلي فقد جفاني»(4).

ص: 100


1- المجلسي، البحار 83 / 96. وللمزيد انظر: البحار 87 / 125 - 126 في معاني لفظ الصلاة، عن ابن خالويه رحمه الله
2- الطبري، محمد بن جریر (الشيعي) نوادر المعجزات 68. بتصرف يسير
3- أنظر: المجلسي، البحار 81 / 257 و 91 / 71 بصیغة مختلفة
4- الشيخ الصدوق، الأمالي 467 و الشيخ حسين عبد الصمد (والد الشيخ البهائي) وصول الأخبار إلى أصول الأخبار 196 وقال عنه «رووه في صحاحهم»

3. وفي تعريف للبخيل يقول المصطفى الحبيب صلی الله علیه و آله وسلم: إن البخيل كل البخيل الذي إذا ذكرت عنده لم يصل علي(1).

ويتحدث الشهيد الثاني رضوان الله تعالى عن آداب الكتابة، فيبين أنه ينبغي للكتاب أن يصلّي على النبي وآله صلی الله علیه و آله وسلم لفظاً وكتابة كلّما ذكره ولا يصحّ أن يتبرم من كثرة الصلاة على النبي وآله صلی الله علیه و آله وسلم مهما تكرّر إسمه المبارك ثمّ يحمل حملة شعواء على من يكتب بدل صلى الله عليه وآله (ص) أو (صلعم) أو ما شابه ويشير إلى أنّ من کتب صلی الله علیه و آله وسلم يُكتب له الأجر والثواب ما دامت هذه الكتابة قائمة، وإليك بعض ماقال:

وكلما كتب اسم الله تعالى أتبعه بالتعظيم، مثل: تعالى، أو سبحانه، أو عزوجل، أو تقدس ونحو ذلك، ويتلفظ بذلك أيضا، وكلما كتب اسم النبي صلی الله علیه و آله وسلم كتب بعده الصلاة عليه وعلى آله والسلام، ويصلي ويسم هو بلسانه أيضا. ولا يختصر الصلاة في الكتاب، ولا يسأم من تکریرها ولو وقعت في السطر مرارا كما يفعل بعض المحرومين المتخلفين من كتابة «صلعم» أو «صلم» أو «صم» أو «صلسم» أو «صله» فإن ذلك كله خلاف الأولى والمنصوص، بل قال بعض العلماء: إن أول من كتب «صلعم» قطعت بده. وأقل ما في الاخلال بإكمالها تفويت الثواب العظيم عليها، فقد ورد عنه صلی الله علیه و آله وسلم أنه قال: «من صلى علي في كتاب لم نزل الملائكة تستغفر له مادام اسمي

ص: 101


1- الشيخ المفيد، الإرشاد 2 / 169. وانظر: الطبرسي، مكارم الأخلاق 312. والمجلسي، البحار 70 / 306 وابن عابدین، حاشية رد المحتار 1 / 557 نقلاً عن الترمذي، شرح المنية، والسيوطي في الجامع الصغير

في ذلك الكتاب. وإذا مر بذكر أحد من الصحابة سيما الأكابر کتب «رضي الله عنه» أو «رضوان الله عليه» أو بذكر أحد من السلف الأعلام كتب «رحمه الله» أو «تغمده الله برحمته» ونحو ذلك. وقد جرت العادة باختصاص الصلاة والسلام بالأنبياء، وينبغي أن يجعل للائمة علیهم السلام، السلام، وإن جاز خلاف ذلك كله، بل يجوز الصلاة على كل مؤمن، كما دل عليه القرآن والحديث»(1).

4- وعنه صلی الله علیه و آله وسلم: «ما في الميزان شيء أثقل من الصلاة على محمد وآل محمد وإنّ الرجل لتوضع أعماله في الميزان فیمیل به فيُخرج صلی الله علیه و آله وسلم وسلم الصلاة عليه، فيضعها في ميزانه فيرجح»(2).

تحدثنا الرواية عن موقف الميزان في يوم القيامة، وقد اختلفت الآراء حول كيفية الوزن إلاّ أن القرآن الكريم صرّح بوزن الأعمال وأنّ الوزن يومئذٍ الحق، والإجماع قائم في تفسير ماورد في كتاب الله تعالى على أن هناك مرحلة من مراحل القيامة توزن فيها الأعمال.

وتبين الرواية أنّ أعمال الإنسان توضع في كفّة إلاّ أنّها تكشف عن أعمال قليلة أوليست ذات وزن لا يقيم الله تعالى لها وزناً وإن كانت كثيرة في الظاهر، فيأتي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، ويُخرج ثواب هذا الشخص الذي حصل عليه من الصلاة على النبي وآله صلی الله علیه و آله وسلم، فيضعها في ميزان صاحب هذه الأعمال وإذا بكفة حسناته ترجح.

ص: 102


1- الشهيد الثاني، منية المريدة 346 - 347
2- ابن فهد الحلي، عدة الداعي 152

ولاشك أن هذه الصلوات من أعماله، إلا أن عدم وضعها أولا يهدف إلى بيان موقع الصلوات من العمل، فهي أفضله، بل هي العمل الحقيقي، الذي يعطي لمفردات العمل الأخرى قيمتها والأهمية.

5- 6- ويبلغ التأكيد في الروايات حول أهمية الصلاة على محمد وآله صلی الله علیه و آله وسلم إلى حدّ التصريح بأنّ من قالها يخرج من الذنوب كيوم ولدته أمّه(1). وفي رواية لم يبقَ عليه ذرة من ذنوبه(2).

* ليس لها وقت محدد

7- وليس هناك وقت دون آخر للصلاة على النبي وآله صلی الله علیه و آله وسلم، فهي مستحبة في كلّ وقت حتى إذا كان المؤمن يؤذِّن، وذكر اسم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيستحب له الصلاة على النبي وآله.

عن الإمام الباقر عليه السلام، في بعض خصائص الأذان: «.. وأفصح بالألف والهاء، وصلّ على النبي وآله كلّما ذكرته أو ذكره ذاكر عندك في أذان أو في غيره..»(3).

* من بركاتها

8- وفي بعض الروايات ما يبين لنا بالإضافة إلى الثواب، الأثر العملي للصلاة على النبي وآله، فقد ورد عنه صلی الله علیه و آله وسلم: «أكثروا من

ص: 103


1- المجلسی، البحار 91 / 55
2- المصدر 63
3- العلامة الحلي، منتهى المطلب (ط. ق) 1 / 264

الصلاة عليّ فإنّ الصلاة علي نور في القبر ونور على الصراط ونور في الجنة»(1).

وتنشأ ظلمة القبر من ظلمات الذنوب، بالإضافة إلى الظلمة المادية، وما أحوج الإنسان في هذه الظلمة إلى النور. والصلاة على النبي وآله صلی الله علیه و آله وسلم نور في القبر، وقد ورد في بعض الروايات إنّ الميت تحيط به ست صور هي صور أعماله، وأبهي هذه الصور وأفضلها على الإطلاق صورة تتعجب منها سائر الصور فتسألها من أنت جزاك الله عنا خيراً فتقول أنا الولاية لآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين.

والصلاة عليهم تعزز الولاية في العقل وتجذرها في القلب والوجدان.

وظلمة الصراط مهولة، وأصحاب المعاصي يتهافتون في النار والعبور على الصراط ما أصعبه! وذلك بما کسبت أيدينا، فما أحوجنا على الصراط إلى النور، والصلاة على النبي وآله صلی الله علیه و آله وسلم نور على الصراط، فلنتزود ولنغتنم.

وأما النور في الجنة، فتكمن أهميته في كونه متلازماً مع مرتبة عالية، فقد روي أن أهل الجنة یرون نوراً ساطعاً فيقولون ما هذا لقد وعدنا ربنا أن لا نرى فيها شمساً؟ فيقال إنّ هذا نور مؤمن من المؤمنين.

كل الجنة نور، وهذا يعني أن من يكون له نور في الجنة،

ص: 104


1- المجلسي، البحار 91 / 70 - 71

فهو كالشمس الطالعة التي يغطي نورها نور ماسواها. إن هذا النور زيادة على سائر النور الموجود أصلاً في الجنة!

* طلب الحوائج بها

9. وقد رد التأكيد على أن نطلب حوائجنا من الله تعالی بوسیلة الصلاة على النبي وآله صلی الله علیه و آله وسلم.

عن أمير المؤمنین علیه السلام: كل دعاء محجوب حتى يصلي على محمد وآله صلی الله علیه و آله وسلم.

وقد نقل العلامة المجلسي في شرح دعاء الصباح عن بعض العلماء ماحاصله: إذا كانت لك إلى الله سبحانه حاجة فإبدأ بمسألة الصلاة على النبي وآله ثمّ إسأله حاجتك فإنّ الله أكرم من أن يسأل حاجتين فيقضي إحداهما ويمنع الأخرى، ألا ترى أن الأمير عليه السلام بدأ دعاء الصباح وختمه بالصلاة على النبي وآله صلی الله علیه و آله وسلم(1).

بل ورد عنه صلی الله علیه و آله وسلم: «إذا كانت لك حاجة فابدأ بمسألة الصلاة على النبي وآله ثم سل حاجتك فإن الله أكرم من أن يُسأل حاجنین فيقضى إحداهما ويمنع الأخرى»(2).

* رفع الصوت بها

10- ورد التأكيد في الروايات على رفع الصوت بالصلاة على النبي وآله والمراد بطبيعة الحال حيث يناسب ذلك.

ص: 105


1- المجلسی، البحار 91 / 253 - 254
2- الفتال النيسابوري، روضة الواعظين 323 وابن أبي الحديد، شرح النهج 19 / 279 والحويزي، تفسير نور الثقلين 1 / 171

عن الإمام الصادق علیه السلام: قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «إرفعوا أصواتكم بالصلاة عليّ فإنّها تذهب بالنفاق»(1).

كما ورد عن أبي جعفر (الإمام الباقر) علیه السلام أنه قال: «.. وكلما اشتد صوتك من غير أن تجهد نفسك كان من يسمع أكثر، وكان أجرك في ذلك أعظم»(2).

ألم يتقدّم أنّ الصلاة على النبي وآله صلی الله علیه و آله وسلم شعار الإيمان؟ وأنّ من قالها فمعنی کلامه أنّه يقول إنّي على الميثاق والوفاء؟ وكماهو الحال في أي شعاريردده الناس، فتفهم من نبرتهم مدى تفاعلهم معه، ومدى استعدادهم للدفاع عنه، كذلك هو الحال في أكثر شعارات التوحيد أهمية وقدسية «اللهم صل على محمد وآل محمد». كلّما كان هذا الذكر أوضح وأقوى كلّما كان تأثيره الإيجابي على النفس أكبر. وعندما يقول الإنسان اللهم صلّ على محمّد وآل محمد وهو يشعر بالفخر وبالقوة ويرفع الصوت بها فمعنى ذلك أنّه مستعد لبذل كلّ ما يمكنه في سبيل الدفاع عن حقيقة التوحيد وعن حقيقة النبوّة وعن استمرار النبوة الذي هو مبدأ الإمامة.

ينبغي أن نولي هذا الشعار الإلهي المميز مزيداً من الإهتمام خصوصاً في مجالسنا العامّة ولنتنبه إلى أن من معانيه البراءة من الطواغيت وكل الظالمين، فهو يتضمن شعار «الموت لأمريكا»

ص: 106


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة 7 / 200 (ط: ال البيت) باب استحباب رفع الصوت بالصلاة على محمد وآله صلی الله علیه و آله وسلم. والسمعاني، أدب الإملاءوالإستملاء 78
2- السيد محمد العاملي، مدارك الأحكام 2 / 288

و «الموت لإسرائيل» ويتضمن إعلان البراءة من كل ظلم على وجه الأرض، وهو بعدُ تأكيد حقيقة «لا إله إلا الله» في مسارها العملي الذي أمر الله تعالی به من خلال اتباع المصطفى الحبيب من باب أهل بيته الذين أوصى الأمة باتباعهم دون غيرهم.

ولعل من المفيد الإشارة إلى أهمية وحدة صيغة الشعار - أي شعار ۔ ليبقى له وقعه الخاص والمميز، وبما أننا في الصلاة على المصطفى الحبيب وآله الأطهار صلى الله عليه وعليهم، أمام صيغة توقيفية، أي حددها الشرع، فلنحافظ عليها كماهي «اللهم صل على محمد وآل محمد» دون إضافات أخرى، خلالها أو بعدها، والأول مثل سيدنا محمد وآل سيدنا محمد، فلا شك بأنا نتشرف بذكر ذلك، ولكن لهذه الصيغة الخاصة قدسيتها، والثاني - أي الإضافات بعدها - مثل: وعجل فرجهم، وهو أمر ورد الحث عليه، إلا أنه في المجالس العامة، يحرم من تردید الصلوات أكثر من مرة، ويؤثر على وحدة الشعار، فيردد البعض هذه الصيغة والبعض الآخر تلك، مما يضعف وقع الصلوات ودَویَّها المحبب.

وبديهي أن التأكيد على إعطاء الأولوية لهذا الشعار المقدس والشعيرة العبادية النوعية، لايهدف إلى أن نترك الشعارات الأخرى من قبيل الموت لأمريكا، والموت لإسرائيل، بل ينبغي أن نركز عليها باستمرار إلاّ إنّ التركيز على «اللهم صلّ على محمد وآل محمد» ينبغي أن يكون أكثر بكثير، مع الإلتفات إلى أهمية رفع الصوت بالصلاة على النبي وآله صلی الله علیه و آله وسلم، خصوصاً عندما تكون وتيرة الغارة التي يشنها الطواغيت على العالم الإسلامي وتيرة مرتفعة أو متصاعدة، كما هو الحال الآن.

ص: 107

* تصل إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم

11- وفي الروايات ما يبين لنا أنّ من قال اللهم صلّ على محمد وآل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم تصل صلاته هذه إلى النبي صلّى الله عليه وآله.

قال الشيخ المفيد رحمه الله: وقد روي عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم: «من صلّى عليّ عند قبري سمعته ومن صلّى عليّ من بعيد بلغته» وقال صلی الله علیه و آله وسلم: «من صلّى عليّ مرة صلّيت عليه عشراً ومن صلّى عليّ عشراً صلّيت عليه مائة فليكثر امرؤ منكم الصلاة عليّ، أو فليُقِلّ».

يضيف الشيخ المفيد عليه الرحمة:

«فبين أنه صلی الله علیه و آله وسلم بعد خروجه من الدنيا بسمع الصلاة عليه، ولا يكون كذلك إلا وهو حي عند الله تعالى، وكذلك أئمة الهدی صلوات الله عليهم، یسمعون سلام المسلم عليهم من قُرب، ويَبلُغُهم سلامه من بعد، وبذلك جاءت الآثار الصادقة عنهم، وقد قال الله تعالی:

«وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(1).

إذا كان المؤمن غير المعصوم الذي يصل إلى مرتبة الشهادة، من الأحياء «عند ربهم» فكيف بالمعصومين الذين لايقبل عمل أحد إلا بهم؟ 12- روى الشيخ الطوسي عن أبي جعفر (الإمام الباقر) علیه السلام، قال: إن ملَكاً من الملائكة سأل الله أن يعطيه سمع العباد فأعطاه الله،

ص: 108


1- المجلسي، البحار 6 / 254 نقلاً عن الشيخ المفيد في تصحيح الإعتقاد

فذلك الملك قائم حتى تقوم الساعة ليس أحد من المؤمنين يقول: صلی الله علیه و آله وسلم وسلم، إلا قال الملك: وعليك السلام، ثم يقول الملك: با رسول الله، إن فلانا يقرئك السلام، فيقول رسول الله: وعليه السلام(1).

* وبعد هذه الجولة في جانب صغير جداً من الروايات حول الصلاة على النبي وآله، أُذكِّر بالنص الّذي تقدم عن المصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله: «وأكثروا في شعبان من الصلاة على نبيكم وآله»، إن شعبان شهر رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، فمن الطبيعي الإكثار من الصلاة على نبي الله في شهره الخاص، ثم إن الصلاة عليه بدون ذکر آله علیهم السلام هي الصلاة البتراء المقطوعة التي نهانا عنها صلی الله علیه و آله وسلم.

أضف إلى ذلك أنّ شهر شعبان كما بيّن لنا المصطفى الحبيب صلی الله علیه و آله وسلم، هو بين الشهور كآل محمد صلی الله علیه و آله وسلم بين الناس، فهناك علاقة لشهر شعبان بالمصطفى، لأجلها قال عنه إنه شهره صلی الله علیه و آله وسلم، وهناك علاقة لشعبان بأهل البيت علیهم السلام، وربما كان هذا وذاك السبب في الحثّ على الإكثار في شعبان من الصلاة على النبي وآله، صلى الله عليه وعليهم.

أذكر هنا بأنّ بأنّ عدّة آلاف من هذا الذكر اللهم صلّ على محمّد وآل محمد نذر مهم لأي حاجة من حوائجنا وبمقدار أهمية الحاجة ينبغي أن يكون العدد أكبر فإلى جميع أصحاب الحوائج، وإلى المرضى بشكل خاص سيّما الأعزاء المتواجدين في المستشفيات

ص: 109


1- الشيخ الطوسي، الأمالي 678

أتوجه بالتأكيد على أهمية هذا النذر، أن ينذر صاحب الحاجة لله عزّوجل خمسة آلاف مرة أو عشرة آلاف مرة أو أقل أو أكثر اللهم صلّ على محمّد وآل محمد إذا منّ الله عليه بقضاء حاجته.

ومع أن هذا النذر عظیم النفع دائماً، إلا أن له بركة خاصة في شعبان، لما عرفت من تأكيد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، على الإكثار في شعبان من هذه الصلوات المباركة.

* صوم سبعة أيام

عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

«ومن صام سبعة أيام من شعبان عُصم من إبليس وجنوده وهمزه وغمزه»(1).

أي كان بمأمن من إبليس، يمنعه الله عزّوجل من تأثيره، والمراد بهَمزِه وغَمزِه، محاولته التأثير على الإنسان، أو فقل ما يقع في قلب الإنسان من وسوسة الشياطين كما ورد في تفسير قوله تعالى:

«وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ» [المؤمنون 97].

والهمز والغمز في الأصل بمعنى واحد يشبه النخس، والنتيجة إحداث نوع تغيير في الحالة الأساسية.

ص: 110


1- الإقبال 3 / 307. وبهامشه «ثواب الأعمال: 7، أمالي الصدوق: 29، عنهما البحار 97: 69». وقد ورد في المصدر: وجنوده دهره وعمره، وهكذا ورد في البحار 94 / 69 نقلاً عن ثواب الأعمال، إلا أن مافي المطبوع منه 62 «وهمزه وغمزه» وفي فضائل الأشهر الثلاثة للشيخ الصدوق «دهره وعمره» ومثله في أماليه 76، وكذلك في روضة الواعظين 403، للفتال النيسابوري. والحر العاملي، وسائل الشيعة 10 / 499 (ط: آل البيت). ومع ذلك فالأرجح ماورد في المتن. والله تعالی العالم

* صلاة الليلة الثامنة

أورد السيد عليه الرحمة عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «من صلّى في الليلة الثامنة من شعبان ركعتين يقرأ في الأولى فاتحة الكتاب مرّة وخمس مرات «آمن الرسول» إلى آخره، وخمس عشر مرّة قل هو الله أحد، وفي الركعة الثانية فاتحة الكتاب مرة و «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» مرة، وخمس عشر مرة قل هو الله أحد، فلو كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر لا یخرجه الله من الدنيا إلا طاهراً وكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان»(1).

المقصود بقوله «آمن الرسول إلى آخره» الآية 285 من سورة البقرة وقد تقدم الحديث عنها في صلوات شهر رجب.

وبقوله «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» الآية الأخيرة من سورة الكهف.

اللهم وفقنا لما تحبّ وترضى بالنبي المصطفى وآله، صلّى الله عليه وآله وسلّم.

والحد لله رب العالمیں

ص: 111


1- الإقبال 3 / 308. وبهامشه «عنه الوسائل 8: 101، مصباح الكفعمي: 539»

ص: 112

8 شعبان

اشارة

* كلمة التوحيد

* أفضل من الصلوات

* تهدم الذنوب

* تمحو السيئات

* خير العبادة

* شرطَ الإخلاص

* صوم ثمانية أيام

* صلاة الليلة التاسعة

ص: 113

ص: 114

* كلمة التوحيد

من جملة الأعمال العامّة في شهر شعبان التي يؤتي بها في أيّ وقت، ذكر «لا إله إلاّ الله» فقد ورد عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

«من قال في شعبان الف مرة لا إله إلاّ الله ولا نعبد إلاّ إيّاه مخلصين له الدين ولو كره المشركون، کتب الله له عبادة ألف سنة، ومحى عنه ذنب ألف سنة، ويخرج من قبره يوم القيامة ووجهه يتلألأ مثل القمر ليلة البدر، وكتب عند الله صِدِّيقاً»(1).

كلمة التوحيد «لا إله إلاّ الله» هي الكلمة التي من أجل حقيقتها كانت رحلة الأنبياء على نبينا وآله وعليهم جميعاً صلوات الرحمن. إن كلّ الجهود التي بذلت على وجه الأرض منهم ومن أتباعهم الصادقين، كانت من أجل تأكيد معنى كلمة التوحيد وحقيقتها.

* أفضل من الصلوات

وكلُّ ماعرفت من العظمة لشعار «اللهم صل على محمد وآل محمد» لايعدو كونه فرع عظمة «لا إله إلا الله» إنه السبيل إلى توحيد الله

ص: 115


1- الإقبال 3 / 294 - 295 وعنه مختصراً: الوسائل 10 / 511

تعالى كما أراد هو سبحانه باتباع نبيه المصطفى وأهل البيت صلی الله عليه وعليهم.

وكلمة التوحيد هي الشعار الذي رفعه المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم، حين تحدى كل العقبات، مصراً على إنقاذ الناس من براثن الجهل المطبق والضلال البعيد، فكان صلی الله علیه و آله وسلم يقول: قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا.

وقد ورد التأكيد على الإكثار من هذا الذكر والمواظبة عليه مطلقاً في أي وقت في شعبان وفي غيره، إلاّ أنّه ورد التأكيد في شعبان على صيغة خاصّة هي ما تقدم «لا إله إلاّ الله ولا نعبد إلاّ إيّاه مخلصين له الدين ولو كره المشركون».

وكأنّنا نستقبل شهر رمضان بالتأكيد على التوحيد، من خلال الإخلاص لله عزّوجل والتأكيد على التحدّي للمشركين الذين يصرّون على الخروج من ولاية الله عزّوجل، وعلى أن يُخرجوا غيرهم.

من قال في شعبان ألف مرة هذا الذكر «لا إله إلاّ الله ولا نعبد إلاّ إياه مخلصين له الدين ولو كره المشركون» كتب الله له عبادة ألف سنة. إنها دعوة إلهية كريمة تتيح لنا أن نجذر هذه المعاني ونؤصلها في نفوسنا في شهر شعبان، كي نكون عند حلول شهر الله تعالى من أهل الضيافة الإلهية الذين يحق لهم أن يكونوا ضيوف الرحمن في شهره عزّوجل.

* تهدم الذنوب

ورد في الروايات حول هذا الذكر لا إله إلاّ الله أنّه يهدم الذنوب!

ص: 116

فليتدبر كل منا أمره، وليخاطب نفسه: كم احتطبت على ظهري من الذنوب؟ أولاً أريد أن أتخلّص منها؟ هل أريد أن أنتقل إلى ربي حاملاً ثقلي على ظهري؟ عن الإمام الباقر علیه السلام: قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: لقنوا موتاكم لا إله إلاّ الله فإنّها تهدم الذنوب. فقالوا یا رسول الله فمن قال في صحته؟ أي إذا قالها المسلم وهو في وضع صحي طبيعي، قبل أن يصل إلى الإحتضار أو الموت، فهل يكون لها نفس التأثير في هدم الذنوب؟ فقال صلی الله علیه و آله وسلم: ذاك أهدم وأهدم. إن لا إله إلا الله أنس للمؤمن في حياته وعند موته وحين يبعث، (...) قال جبرئيل عليه السلام: يا محمد لو تراهم حين يبعثون هذا مبيضٌّ وجهه ينادي لا إله إلا الله والله أكبر، وهذا مسود وجهه ينادي یا ويلاه یا ثبوراه»(1).

«لا إله إلاّ الله» من الحي تهدم الذنوب بنسبة أكثر بكثير، وبأضعاف مضاعفة مما تهدمه لا إله إلاّ الله من الذنوب عند المحتضر الذي يلقن كلمة التوحيد.

ثم تتحدث الرواية حول أن الله تعالى يبعث الناس من قبورهم أشكالاً شتّى، كل على شاكلته، فقسم من الناس يبعثون بيض الوجوه ينادون لا إله إلاّ الله والله أكبر، وهؤلاء هم الموحدون حقيقة في الدنيا الذي كانوا يقولون لا إله إلاّ الله بصدق وقد عقدوا عليها

ص: 117


1- الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال 2

القلوب وخضعت لها الجوارح، فلا يطيعون الشيطان في معصية الله عزّوجل، أو اتخذوا قرارهم في عدم الإقدام على ذلك، ولم يتخذوا الهوى رباً من دون الله. فهم حريصون على توحيد الله عزّوجل بالعقل وبالقلب، وليس توحيدهم مجرد لقلقلة لسان.

وقسم آخر من الناس يبعثون وقد اسودت وجوههم ينادي كلّ منهم يا ويلاه یا ثبوراه أي يا ويلي وياهلاكي. وأيّ هلاك أشدّ من هذا الهلاك. خسر الدنيا والآخرة! اللهم بحبّك لنا، بحبّك لعبادك المسرفين على أنفسهم العاصين، هذا الحبّ الذي دللتنا عليه بقولك تقدست أسماؤك: «يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا...».

اللهم بحبّك لنا، وحبُّك لنا على قدرك، وما قيمة حبنا لك لنقول بحبنا لك اللهم بحبّك لنا منّ علينا بالهدى بالنور بحقيقة التوحيد برحمتك يا أرحم الراحمين.

* تمحو السيئات

وفي الروايات أنّ لا إله إلاّ الله تمحو السيئات.

عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «ما من مؤمن بقول لا إله إلاّ الله إلاّ محت ما في صحيفته من سيئات حتى تنتهي إلى مثلها من حسنات»(1).

ص: 118


1- المصدر 4

إذا عندما يرى أحدنا أنّه غارق في بحار الذنوب التي تراكمت، وتلاطمت، فما عليه إلا أن يكثر بإخلاص من كلمة التوحيد لا إله إلاّ الله.

ونجد في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام ما يوضح لنا الرواية المتقدمة، بما يعطينا أملاً أكبر حول معنی «حتى تنتهي إلى مثلها من حسنات».

يقول المولى أبو الحسن علیه السلام: «ما من عبد مسلم يقول لا إله إلاّ الله إلا صعدت تخرق كلّ سقف لا تمرّ بشيء من سيئاته إلاّ طلستها (أي محتها) حتّى تنتهي إلى مثلها من الحسنات فتقف»(1).

كأنّ الحسنات تمدّ الإنسان بنور وتحفظ في عليين، وأمّا السيئات فإنها بظلامها تحيط بصاحبها وتحفظ حيث ينبغي أن تحفظ من عوالم أسفل سافلين، وعندما يقول صاحب المعاصي بإخلاص: لا إله إلاّ الله فإن كلمة التوحيد تمر بالسيئات فتطلسها وتمحوها حتّى تلتقي بغيرها من الحسنات، وعلى هذا فيكون معني انتهائها إليها تواصلها معها، وإزالة حجب الظلام التي كانت محبطة بهذا العاصي. اللهم ارزقنا.

* خير العبادة

وقد ورد في عدّة روايات أنّ خير العبادة هو قول لا إله إلاّ الله. عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «خير العبادة قول لا إله إلاّ الله»(2).

ص: 119


1- المصدر 3
2- المصدر 4

عن الإمام الصادق عليه السلام: «من قال لا إله إلاّ الله مائة مرة كلّ بوم كان أفضل الناس ذلك اليوم عملاً إلاّ من زاد»(1) أي إلاّ إذا أتي شخص بعمل أكثر من عمله كأن يقول لا إله إلاّ الله أكثر من ذلك.

وعن الإمام الباقر علیه السلام: «ما من شيء أعظم ثواباً من شهادة أن لا إله إلا الله، لأن الله تعالى لایعدله شيء، ولايشركه في الأمر أحد»(2).

* شرطَ الإخلاص

ومن الطبيعي أنّ الذكر بأعلى مراتبه رهن تحقق الإخلاص أي أنّ هناك فرقاً جوهرياً بين من يقول لا إله إلاّ الله بإخلاص وبين من يقول ذلك، وهو يفكر بمقتضى هواه. يقول لا إله إلاّ الله وهو يفكر كيف سينتقم من فلان للخلاف الذي شجر بينهما، أو ما شابه.

وينبغي التنبه إلى أن المرتبة العالية تتوقف عادة على المراتب المتدنية، لذلك فإن فائدته الذكر كبيرة حتّى إذا لم يكن بمحض الإخلاص، ومن هنا يؤكد علماؤنا الأبرار ومنهم الإمام الخميني قدس سره، على أنّ أنّ الهدف من الذكر اللساني هو التلقين تماماً كما نلقّن الطفل الكلام ليتعلّم. نقول له الكلمة مرة، وثلاثاً وعشراً، ولا يستطيع أن يتلفظ بها إلا أنه أخيراً وبعد الجهد يتعلمها فتغمرنا الفرحة، وننسى التعب.

إن من يكثر من قول لا إله إلاّ الله، أو أي ذكرٍ بلسانه، فإنّ

ص: 120


1- المصدر
2- المصدر 3

القلب يحصل على نتيجته من ذلك، حتّى إذا كان اللسان يردد ذلك ذلك من دون توجه، أو بقليل من التوجه، إلاّ إنّ النتيجة قليلة، ولكنها تصبح يسيراً من رصيد يؤهله للحصول على جزء آخر ولو كان أيضاً يسيراً، ويظل هكذا ينمو ولو ببطء إلى أن يصبح شيئاً مذكوراً.

فالهدف من الذكر اللساني هو أن نقول باللسان لا إله إلاّ الله ونحن نريد لقلوبنا أن تقول ولو مرة واحدة لا إله إلاّ الله لأن القلب الذي يردد كلمة التوحيد بإخلاص ولو مرة واحدة فقد فاز فوزاً عظيماً.

وطبيعي أن لانتساهل فضلاً عن أن نهمل، فكلّ جد ونشاط للحصول على المزيد من التوجه والإخلاص يجعل الإنسان يصل إلى هذه النتيجة بسرعة أكبر. كلّما حسّن الذاكر نوعية ذكره كلّما كانت النتيجة في متناوله بطريقة أسرع وكلّما انصرف بقلبه عن الذكر كلّما قلّت النتيجة وقل التأثير، ولذلك نجد ورد في الروايات التأكيد على الإخلاص.

عن الإمام الصادق علیه السلام: «من قال لا إله إلاّ الله مخلصاً دخل الجنّة وإخلاصه بها أن يحجزه لا إله إلا الله عن ما حرّم الله عزّوجل»(1).

وتسأل: نحن نقول «لا إله إلاّ الله» ونبقى معرضين للوقوع في الحرام.

ص: 121


1- المصدره

فهل يدل هذا على عدم إخلاصنا؟ وهل معنى ذلك أنها لا تنفعنا؟ وقد روي عن الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان ما يصلح أن يكون جواباً على السؤالين معاً، قال: لا تزال لا إله إلا الله ترد غضب الرب جل جلاله عن العباد ما كانوا لا يبالون ما انتقص من دنياهم إذا سلم لهم دينهم، فإذا كانوا لا يبالون ما انتقص من دينهم إذا سلمت دنیاهم، ثم قالوها ردت عليهم ، وقيل كذبتم ولستم بها صادقين(1).

یُتصور الحجز عما حرم الله تعالى على مستويين: اتخاذ القرار بعدم المعصية، والتنفيذ العملي لذلك، وبينهما بون شاسع، إلا أن الثاني يبدأ في الحقيقة بالأول.

لئن كنا أعجز من أن نترك المحرمات كلها دفعة واحدة، فنحن قادرون على حب ترك المعصية، واتخاذ القرار بعدم المعصية، بحيث إذا زَلَّت قدمنا فإن ذلك دون سابق عمد وإصرار.

إذا تحققت فينا هذه المرتبة، فطبيعي أنّا قد بدأنا بالتدرج لنصل إلى حيث لا نبالي بما انتقص من دنيانا إذا سلم لنا ديننا، مع أننا نبقى والحال هذه معرضين للوقوع في المعصية، إلا أنها تتبع بتجديد التوبة والإستغفار، وهي بعدُ زلة قدم.

إن الله عزّوجل يعلم ضعفنا، والمطلوب أن نكثر من هذا الذكر ونحن نريد الوصول إلى مرتبة الإخلاص التام بلا إله إلاّ الله،

ص: 122


1- المصدر 5 - 6

وسنصل، طالت المدة أم قصرت، لأن قطع أي طريق يتوقف على مدى بذل الجهد فيه، والتدرجُ في كل شيء أمر طبيعي، فلماذا نميل إلى أن نفسر قول الإمام الصادق عليه السلام: «من قال لا إله إلا الله مخلصاً..» بمعزل عن سنة التدرج الطبيعية.

وإذا وصلنا فقد اكتمل الإخلاص الذي نسعى أن يكون في كل مرتبة من مراتبه غاية ما یمکننا، وهو حاجز بيننا وبين المعاصي بحسبه بل قل بحسبنا، وعندما يكتمل هذا الإخلاص يكتمل الحاجز بيننا وبين ما حرّم الله عزّوجل.

وحول الإخلاص في ذكر «لا إله إلاّ الله» ورد في هامش کتاب ثواب الأعمال للشيخ الصدوق: الإخلاص قوام العمل وروحه فإذا فارقه يصير العمل كالجثة الهامدة لا حراك لها ولا فائدة ترجى منها وكلمة لا إله إلاّ الله هي الفارقة بين الكفر والإيمان في هذه النشأة، لكن لا ثمرة لها في الآخرة إذا زايلها الإخلاص، وعلامة الإخلاص الذي معناه الإنقطاع إلى الله عزّوجل والتقرّب إليه والتبريّ عمّن سواه، هي الإجتناب عن جميع المحرمات والإتيان بالواجبات وذلك الذي يوجب دخول الجنة، وأمّا إذا قالها القائل لجر نفعٍ مذموم، أو کسب شرف موهوم دون أن يقصد التقرّب منه عزّوجلّ فلا تحجزه عن المحرمات ولا تحجزه كلمة التوحيد في الآخرة عن العقوبات.

والنتيجة العملية من جميع ماتقدم أنّ على من يقول «لا إله إلاّ الله» أو أي ذكر أودعاء أو وِرد، أن يقول ذلك بهدف التقرّب إلى الله عزّوجل.

ص: 123

من الخطأ أن نتعامل مع أي عمل نسمع أنّ ثوابه عظيم، كما ذكرت في حديث سابق کورقة «يانصيب» والعياذ بالله تعالى، بل ينبغي أن يكون الهدف التقرب إلى الله عزّوجل والحصول على رضوانه سبحانه، هذا معنى أن نتعامل مع القيمة كقيمة لا أن يكون أحدنا تاجراً غير نبيل، ينطلق من المصلحة الشخصية، ويُلَبِّس على الآخرين ويغشهم، لأنه يعبد مصلحته الشخصية وعلى الدنيا من بعده الطوفان.

ولئن كانت العبادة في بعض مراتبها تجارة فإنها كتجارة أصحاب الضمير من التجار، ولاعلاقة لها بالتجار عديمي الضمير الذين هم باللصوص أشبه، بل يمكن القول إذا أراد الإنسان في العبادة أن ينطلق من المصلحة الشخصيّة بلاضمير ولامشاعر إنسانية، فلا يمكن أن تتحقّق له أي مصلحة، لأنه يريد أن يعبد غير الله تعالى، ويصر على أن يعبد هواه، ويتقرب إليه.

من أراد أن يحصل من العبادة على ربح شخصي بمعنى أن تتبلور إنسانيته، ويصل إلى المراتب الإيمانية العالية، فليتوجه إلى الله تعالى، أما إذا توجه إلى ذاتيته وأنانيته فإنّه يكون قد سلك طريق تعزيز الحيوانية في شخصيته، لأن الحيوان لاعقل له يردعه عن الإنغلاق على ذاته، والطاعة العمياء لنزواته.

إننا أمام فرصة لغرس نبتة التوحيد في القلب في موسم مخصص لذلك هو شهر شعبان.

ص: 124

* صوم ثمانية أيام

عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «من صام ثمانية أيام من شهر شعبان لم يخرج من الدنيا حتى بسقى من حياض القدس».

ولعل المراد بحياض القدس، مرتبة عالية جداً من مراتب التوحيد، لها في الآخرة تظهيرها المتناسب معها.

جاء في المناجاة الشعبانية التي سيأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى: «وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلّقة بعز قدسك».

نجد هنا أن عز القدس والقدس قد استعملا بمعنى الوصول إلى التوحيد الحقيقي بكلّ معنى الكلمة، فيمكن أن يكون المراد بحياض القدس أن يسقى الإنسان في الدنيا بكأس من كؤوس المعرفة الإلهية الحقّة، والله تعالى العالم.

* صلاة الليلة التاسعة

أورد هذه الصلاة السيّد ابن طاوس عليه الرحمة عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «ومن صلّى في الليلة التاسعة من شعبان أربع رکعات (كل ركعتين بتسليمة) يقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرة وعشر مرات إذا جاء نصر الله والفتح، حرّم الله جسده على النار وأعطاه الله بكلّ آية ثواب إثني عشر شهيداً من شهداء بدر وثواب العلماء»(1).

ص: 125


1- الإقبال 3 / 308. وبهامشه «عنه الوسائل 8: 101، مصباح الكفعمي: 539

والمراد بناءٌ على ما تقدم من كلام السيّد ابن طاوس نفسه، أنَّ من صلّى هذه الصلاة فإنّ الله عزّوجل - بالإضافة إلى تحريم جسده على النار - يعطيه بكلّ آية ثواب اثني عشر شهيداً صلَّوا هذه الصلاة وثواب العلماء الذين يصلون هذه الصلاة، والله سبحانه العالم.

أسأل الله عزّوجل أن يوفقنا لمراضيه بالنبي وآله صلى الله عليه وعليهم.

والحمدلله رب العالمین

ص: 126

9 شعبان

اشارة

* ذِكرُ الله كثيراً

* في القرآن الكريم

* في الروايات

* صوم تسعة أيام

* صلاة الليلة العاشرة

ص: 127

ص: 128

* ذِكرُ الله كثيراً

من الأعمال العامة في كل وقت، وخصوصاً في شهر رجب وشعبان وشهر الله تعالى ذكر الله تعالى كثيراً».

تقدم الحث على الإستغفار، والتهليل، والصلاة على محمد وآله صلی الله علیه و آله وسلم، في شعبان.

وهي جميعاً من مفردات ذكر الله تعالی.

وتقدم أن العنوان العام الذي حدده المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم، للمؤمنين في شهر شعبان، هو إعانته صلی الله علیه و آله وسلم، على شهره «فرحم الله من أعانني على شهري».

وكيف تتحقق الإعانة؟ تتحقق بعد بذل الجهد في عدم المعصية، بالصوم، والصلاة، والذكر.

وبديهي أن المساحة التي يحتلها الذكر بمعناه الخاص أوسع من مساحة الصلاة والصوم، أما بالنسبة إلى الصلاة فأوضح، وأما بالنسبة إلى الصيام فهو على استغراقه للنهار كله لا يشمل الليل، ثم إن كثيراً ممن لايوفق منا للصوم والصلاة المستحبة في شعبان، يمكنهم أن يأخذوا بنصيب من الذكر.

ص: 129

من هنا كانت أهمية الذكر في شهر شعبان، بل الأشهر الثلاثة جميعاً، بل في أي وقت، أهمية استثنائية، تستند إلى الواقعية واليسر، وتشكل بدورها المنطلق للذكر بمعناه العام الذي يشمل الصلاة والصيام.

يسأل الراوي الإمام الرضا عليه السلام: «فما أفضل الدعاء في هذا الشهر؟ فقال: الإستغفار. إن من استغفر في شعبان كل يوم سبعين مرة كان كمن استغفر في غيره من الشهور سبعين ألف مرة، قلت: كيف أقول؟ قال: قل: أستغفر الله وأسأله التوبة»(1).

وكما يلاحظ الحث الكثير في الروايات على ماهو أيسر تناولاً، وهو الذكر، يلاحظ كذلك الحث بامتياز على ماهو من الذكر أيسر تناولاً من غيره.

والهدف دائماً «ذكر الله تعالى كثيراً».

والذكر من المفردات الأساسية في الثقافة الإسلامية، فهو القاعدة الرئيسة لبناء الشخصية الإسلامية، وعند الموقف السلبي منه ولو عملياً فقط، تفترق السبل وتتشعب، لتَفَرَّق بنا عن سبيله سبحانه وصراطه المستقيم.

لقد كان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم دائم الذكر لله تعالى، وكذلك كان أهل بيته الأطهار المعصومون، وكذلك هو حال قائمهم وبقيتهم، بقية الله تعالى في الأرضين أرواحنا لتراب مقدمه الفداء، وعلى هذا دارت

ص: 130


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة 10 / 511

القرون، وهذه هي مصادر الإسلام التي لايختلف حولها موحدان تصرح بذلك بكل جلاء، ومع ذلك كله فنحن نصر على عدم اعتبار الذكر أساس التربية الإسلامية المكين، الذي إذا أهملناه أو تهاوننا به، فقد اخترنا أن نربي أنفسنا والأجيال تربية الجاهلية «المتطورة» جاهلية الألفية الثالثة.

* في القرآن الكريم

1- المطلوب هو الذكر الكثير:

* «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» [الأحزاب: 41 - 42].

* «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا» [الأحزاب 21].

* «وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا» [الأحزاب 35].

* «كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا» [طه: 33 - 35].

* «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا» [الشعراء 227].

* «وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ» [الأعراف 205].

2- وهو طلب قائم أبداً:

* «فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» [الجمعة 10].

ص: 131

3- من «ربح» المال والأولاد وخسر الذكر:

* «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ» [المنافقون 9].

4- علامة العقل، وفي مختلف الحالات:

* «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» [آل عمران: 190 - 191].

5- حتى في أصعب الظروف:

* «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» [الأنفال 45].

6- خلافه، علامة النفاق:

* «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا» [النساء 142].

عندما يكون الذكر الكثير مطلوباً بهذا الوضوح، ويكون الذكر القليل من علامات النفاق، فهل يبقى أي مجال للدفاع عن السائد فينا وفي غالب أوساطنا؟! وبعد التصريح بتسبيح الله تعالى بكرة وأصيلاً، والظاهر الجليِّ لكل الآيات، هل يبقى مجال للمِراء بأن المراد هو الذكر القلبي؟ وهل يمكن تحققه إلا بالذكر اللساني؟ وماذا نصنع بهذا الفيض الهائل من الأذكار والأوراد، وكيف يمكن تفسيرها، ومامعنی «ودون الجهر من القول»؟!

ص: 132

* في الروايات

عندما نرجع إلى الروايات لنستوضح بعض ما في كتاب الله عزّوجل نجد - في حدود ما يسمح به هذا الحديث - مايلي:

1- عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «علبك بتلاوة القرآن وذكر الله كثيراً فإنّه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض»(1).

ومن الواضح أنّ هذه الرواية - وقد أوردت الذكر بعد تلاوة القرآن الكريم - لا تتحدث عن الذكر القلبي، وإنّما تتحدث عن الذكر اللساني الذي هو السبيل إلى الذكر القلبي الأهم.

2- وعنه صلی الله علیه و آله وسلم: ذاكر الله في الغافلین کالمقاتل في الفارين.

كم هو الفارق بين المجاهد الذي يصمد في ساحة الجهاد وبين الفارين من الزحف؟ كذلك هو الفارق بين الذاكر لله تعالى وبين الغافلين عن ذكره عزّوجل.

3- عن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام، في دعاء كميل رضوان الله تعالى عليه:

«أسألك بحقك وقدسك وأعظم صفاتك واسمائك أن تجعل أوقاتي من الليل والنهار بذكرك معمورة وبخدمتك موصولة وأعمالي عندك مقبولة حتّى تكون أعمالي وأورادي كلّها ورداً واحداً وحالي في خدمتك سرمداً «...» یا من اسمه دواء وذكره شفاء».

ص: 133


1- أنظر في جميع روایات الذكر، الريشهري، میزان الحكمة 3 / الذكر

4- عن الإمام السجّاد عليه السلام: وأستغفرك من كلّ لذة بغير ذكرك ومن كل راحة بغير أنسك ومن كلّ سرور بغير قربك ومن كلّ شغل بغير طاعتك».

5- عن أمير المؤمنین علیه السلام: «مداومة الذكر قوت الأرواح ومفتاح الصلاح».

كما أنّ الجسد لا بدّ له من القوت لكي ينمو ويتكامل، فإنّ الروح أيضاً لا بدّ لها من القوت لكي تنمو وتتكامل وقوت الأرواح في مداومة الذكر.

6- عن أمير المؤمنين عليه السلام: الذكر نور العقول وحياة النفوس وجلاء الصدور. قد يكون عقل الإنسان مظلماً وقد يكون منيراً، ولا سبيل إلى العقل المنير إلا بذكر الله تعالی.

7- 8- وكما تبيّن الروايات أنّ الذكر نور العقول تبيّن أنّه نور القلوب، عن أمير المؤمنین علیه السلام: دوام الذكر ينير القلب والفكر، وعنه علیه السلام: عليك بذكر الله فإنّه نور القلوب.

من منّا لا يريد أن يكون قلبه منيراً؟ هذا القلب الذي يزداد اشتباكه بشؤون الدنيا لا بدّ له من قوت، ولا بدّ له من نور.

9- وعندما تتراكم المعاصي من الإنسان، ويصبح غریق بحارها، فإنّ النتيجة هي أنَّ قلبه يموت. هذا القلب الميت في هذا الإنسان العاصي، هل من سبيل إلى حياته؟ تبين لنا الروايات أنّ ذكر الله عزّوجل يحيي القلوب.

ص: 134

عن أمير المؤمنين عليه السلام: بذكر الله تحيا القلوب وبنسيانه موتها. أي بنسيان الله موت القلوب.

أيها العزيز: من راقب قلبه فوجده كما في بعض الروايات كالخرقة البالية أو كالحجر أو أشد قسوة، فعليه أن يغتنم أدني فرصة يمكنه فيها أن يذكر الله تعالى، ليكون هذا الذكر قوتاً لروحه، ونوراً لقلبه، ويسهم في إحيائه.

10- عن أمير المؤمنين عليه السلام: من ذكر الله إستبصر.

11- وعنه علیه السلام: الذكر هداية العقول ونبصرة النفوس.

بمداومة الذكر مع الحرص على الطاعة واجتناب المعصية، يبدأ القلب يتعافي، إلى أن يصبح القلب مبصراً، ليمكنه أن يصبح «القلب السليم».

ومن واجبنا في رحلة الحياة الحرص على أن نكون من أهل البصائر، والذنوبُ تجعل القلب أعمى، وثمة ترابط بين ذكر الله عزّوجل وبين البصيرة، وطبيعي أنه عندما يكون هناك ترابط بين الذكر والنور أن يكون هناك ترابط بين الذكر والبصيرة.

12 - عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: إنّ الشيطان واضع خطمه على قلب إبن آدم فإذا ذكر الله خنس وإذا نسي التفم فذلك الوسواس الخناس.

كلنا نحمل همّ التحرّز من الشيطان، أن نكون بمأمن من همزه وغمزه ووسوسته وتسويلاته، والشيطان واضع خطمه أي أنفه أو مايشبه الأنف منه على قلب إبن آدم، کامن متربص، إذا ذكر إبن آدم الله عزّوجل خنس الشيطان واختبأ، وإذا نسي إبن آدم ذكر الله تعالى التقم

ص: 135

الشيطان قلبه، فالشيطان يوسوس تارة ويخنس ويختبئ تارة أخرى، يوسوس عند غفلتنا عن الذكر، ويختبئ عندما يجد ما يرعبه ويمنع تأثيره، ولذلك فإننا عندما نترك الذكر ونظل في غفلة عن ربّنا عزّوجل، نكون قد تركنا قلبنا مسرحاً للشيطان يتقاذفه تقاذف الكرة ويميل به حيث أراد، أما إذا ذكرنا ربنا عزّوجل فإنّ القلب يصبح في حرز الله تعالی بمنأى عن وسوسة الشيطان.

وهكذا تتضح أهمية ذكر الله تعالى على كل حال، ولو بشيء قليل جداً من حضور القلب، من قبيل أن يكون الشخص يذكر الله تعالى وهو يفكر ببعض أمور الدنيا ثمّ يرجع إلى نفسه فيحاول أن يكون ذکره بحضور قلب، ثم تشده شؤون الدنيا مجدداً وهكذا. مع ذلك سيبقى له في النتيجة من مجموع هذا الذكر، قليل من حضور القلب، ورغم أن أكثر هذا الذكر بدون حضور وتوجه، إلا أن هذه النتيجة على تواضعها مهمة جداً بل هي المدخل الطبيعي للمراتب العالية.

وهذه نقطة أساسية ينبغي التنبه لها في مواجهة أساليب الشيطان الذي قد يَلبس ثوب الواعظين ليقول لمن هذا حاله منا أي الذكر بقليل من التوجه: أنت لست من أهل الذكر، ألا تخجل أن تذكر الله تعالى وأنت تفكر بأمور تافهة.

يجب أن يقال له في الجواب:

أولا: إنّ هذا الذكر أفضل من عدمه.

ثانياً: إنه الطريق الحصري الذي يوصلني إلى مرتبة أعلى، وكل من سار على الدرب وصل.

ص: 136

عن هذه الخصوصية تحدث صاحب مستدرك الوسائل رحمة الله عليه في كتابه «دار السلام» فقال:

«لما كان الذكر يقابل السهو أو النسيان فحيث أُطلق يراد منه الذكر القلبي».. «والغالب إطلاقه على الذكر اللساني».. «إلا أن المنصرف في جميع هذه الموارد ما كان القلب حاضراً في ذكر اللسان وإلاّ فصاحبه كاللاهي واللاغي لا يترتب على عمله ما ورد في حقّه. نعم لو صحبه (حضور القلب) في الشروع ونوى به التقرّب إلى الله تعالى في أوّل البدء بالذكر، واستمرت نيته على ذلك إلى آخر الذكر، دخل في جملة العبادات. وفائدته أن يمنعه من التكلّم باللغو ویعتاد لسانه على الخير.

أضاف: قيل وقد يلقي الشيطان في قلبه أنّ حركة اللسان بدون توجّه القلب عيبٌ ينبغي تركه فاللائق بحال الذاكر أن يُحضر قلبه رغماً للشيطان أمّا إذا لم يكن باستطاعته أن يحضر قلبه رغماً للشيطان فاللائق به أن لا يترك الذكر باللسان رغماً لأنف الشيطان وأن يجيبه بأنّ اللسان آلة الذكر كالقلب ولا يترك أحدهما بترك الآخر فإنّ لكل عضو عبادة»(1).

يتلخص من جميع ما تقدم أنّ الذكر القلبي أفضل من الذكر اللساني، والمقصود بالذكر القلبي الذكر مع الإنتباه إلى المعنى، فيكون القلب حاضراً. لكن إذا لم يكن الذكر بهذه الطريقة كما هو

ص: 137


1- المحدث النوري، دار السلام 3 / 294 - 295 بتصرف

حالنا إن وفقنا لشيء، فهل يترك الذكر اللساني لعدم القدرة على الذكر القلبي؟ والجواب: كلا، لا يترك الذكر اللساني لأنّه المدخل إلى الوصول إلى مرحلة يصبح فيها الذكر الله عزّوجل ذكراً حقيقياً متكاملاً بحضور قلب، ولكن ليحاول على الأقل أن يبدأ الذكر بتوجه وحضور قلب.

نحن مدعوون إلى ذكر الله تعالى في كلّ حال في مختلف أحوالنا وباستمرار، وفي شهر شعبان هناك مزيد من التأكيد على هذه الدعوة، فقد عرض الله تعالى خيراته لنا بأرخص الأثمان، فلنتعرض لهذه النفحات الإلهية ولانعرض عنها. ورحم الله تعالى من أهدى شيئاً من عمله للأموات المنسيين، أولجميع المؤمنين.

* صوم تسعة أيام

عن رسول الله صلی االه علیه و آله وسلم: «ومن صام تسعة أيام من شعبان عطف عليه منكر ونكیر عندما یسألانه»(1).

أعظم المحطات الكبرى التي يسهل مابعدها إن مرت بسلام، والتي ينبغي الإستعداد لها بكل ما أوتينا من إمكانية، محطة سؤال منكر ونكير في القبر، وصوم تسعة أيام من شعبان سبب لعطف هذين الملكين الكريمين، وهذا أمر في غاية الأهمية، ومن عرف بعض مافي الروايات حول سؤال منكر ونكير وعذاب القبر، سيجد نفسه تلقائياً مشدوداً إلى صيام تسعة أيام من شعبان.

ص: 138


1- الإقبال 3 / 309 وبهامشه «ثواب الاعمال: 87، امالي الصدوق: 30، عنهما البحار 97: 69»

* صلاة الليلة العاشرة

أورد السيد في الإقبال عن رسول الله صلی االه علیه و آله وسلم:

«ومن صلى في الليلة العاشرة من شهر شعبان أربع ركعات یقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة وآية الكرسي مرة وإنّا أعطيناك الكوثر ثلاث مرات، فمن صلى هذه الصلاة يقول الله لملائكته اكتبوا له مائة ألف حسنة وارفعوا له مائة ألف درجة وافتحوا له مائة ألف باب ولا تغلقوا عنه أبد الأبد، وغفر له ولأبويه ولجيرانه»(1).

أسأل الله تعالى أن يوفقنا لمراضيه بالنبي وآله، صلوات الله عليهم أجمعين.

والحمد لله رب العالمین

ص: 139


1- الإقبال 3 / 309

ص: 140

10 شعبان

اشارة

* الصدقة

* في القرن الكريم

* في الروايات

* ثقافة الصدقة

* صوم عشرة أيام

* صلاة الليلة الحادية عشر

ص: 141

ص: 142

* الصدقة

من الأعمال العامّة في شهر شعبان، الصدقة، وهي وإن كانت شديدة الأهمية في أيّ وقت، إلاّ أنّ هناك حديثاً خاصاً عن الصدقة في شهر رجب كما تقدم، وعن الصدقة في شهر شعبان، ولعل من أسباب ذلك حشد كل عناصر إصلاح القلب في موسم التهيئة لشهر الله تعالى، حيث يبلغ الحث على الصدقة الغاية.

ومن الواضح أن للصدقة دورها الطليعي في مجال إصلاح القلب، بحيث لايمكن الفصل بين تهذيب النفس وبين التربية على الإنفاق المالي، ومن أكثر مفرداته تداولاً وسعة انتشار، مفردة الصدقة.

أورد العلامة المجلسي في البحار والشهيد الفتّال النيسابوري في روضة الواعظين وغيرهما من علمائنا عن الإمام الصادق عليه السلام: «من تصدق بصدقة في شعبان رباها الله جلّ وعز له كما یربي أحدكم فصيله (الفصيل ابن الناقة) حتّى توافي يوم القيامة وقد صارت له مثل جبل أحد»(1).

ص: 143


1- المجلسي، البحار 49 / 91 والفتال النيسابوري، روضة الواعظين 403. واللفظ للبحار

إن صدقة صغيرة يتصدق بها المؤمن في شهر شعبان ينميها الله عزّوجل إلى أن تصبح في يوم القيامة كجبل أحد.

وقد أورد السيد ابن طاوس عليه الرحمة هذه الرواية مع إضافات هامّة تبين لنا أن للرواية تتمة وهي كما يلي عن داوود بن كثير الرقيّ قال: «سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، عن صوم رجب فقال أين أنتم عن صوم شعبان؟ فقلت يا ابن رسول الله ما ثواب من صام يوماً من شعبان؟ فقال الجنّة والله! فقلت یا بن رسول الله ما أفضل ما يُفعل فيه فقال الصدقة والإستغفار، ومن تصدق بصدقة في شعبان ربّاها الله تعالى كما يربي أحدكم فصيله حتّى يوافي يوم القيامة وقد صارت مثل أحد»(1).

تبين هذه الرواية أولاً أهمية صوم شعبان وأنّه أفضل من صوم رجب، وثانياً: أنّ الجنّة هي ثواب من صام يوماً من شعبان. وثالثاً: أنّ أفضل الأعمال بعد الصوم - في شهر شعبان الصدقة والإستغفار. وإنما قلت بعد الصوم، لأنّه تقدم الحديث عنه في الرواية قبل الصدقة، وحُدد ثوابه بمالا مجال للمقارنة بينه وبين أحد وكل جبال الدنيا. والله العالم.

فالصدقة إذاً في موقع متقدم جداً من بين أعمال شهر شعبان، وهو ما يستدعي الحديث عن الصدقة بشكل عام، ثم عن الصدقة في شعبان.

عندما نرجع إلى النصوص للتعرّف على موقع الصدقة في الثقافة الإسلامية، والموقع الذي يجب أن تحتله الصدقة في واقعنا العملي

ص: 144


1- الإقبال 3 / 295

نجد أنّنا أمام حشد كبير جداً من الآيات والروايات تشترك كلّها في حثنا على الصدقة.

* في القرن الكريم

1- يتوقف البر على الإنفاق:

* «لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» [آل عمران 92].

2- فرصة العمر في الإستعداد للآخرة:

* «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ» [البقرة 254].

3- المال في خدمة القيم:

* «قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» [البقرة: 263 - 264].

يكون المال قيمة، إذا حفظت معه كرامة الإنسان، أما إذا أُتبع إعطاء المال بمَنِّ أو أذى فهو وزر على صاحبه.

4- الصدقة أربعة أقسام:

* «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» [البقرة 274].

ص: 145

5- وأفضلها صدقة السر:

* «إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» [البقرة 271].

6- قرين التوبة، يأخذها الله تعالى، وينميها:

* «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» [التوبة 104].

* «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ» [البقرة 276].

وأقتصر على هذه الآيات المباركة.

* في الروايات

1- في القبر ومابعده أ- عن رسول الله صلی االه علیه و آله وسلم: إنّ الصدقة لتطفي عن أهلها حرّ القبور وإنّما يستظلّ المؤمن يوم القيامة في ظلّ صدقته.

ب- عن الإمام الصادق عليه السلام: أرض القيامة نار ما خلا ظلّ المؤمن فإنّ صدقته تظله(1).

ت- عن أمير المؤمنين عليه السلام: الصدقة جُنة من النار.

فهي تطفيء حر القبر، وهي الظل من الحر اللاهب في أرض المحشر، والوقاية من النار في يوم القيامة.

ص: 146


1- أنظر في هذه الرواية ومابعدها، الريشهري، ميزان الحكمة 5 / الصدقة

2- تطفيء غضب الرب ث- عن رسول الله صلی االه علیه و آله وسلم: أنّ الصدقة لتطفئ غضب الرب.

حيث أن سلوكنا لضعفنا يجعلنا نستوجب غضب أرحم الراحمين، فإنا بأمس الحاجة إلى ما يرضيه سبحانه عنا، وأين من ذلك حاجة الإبن الشرير الذي لايكف لحظة عن عظيم الجرائر، إلى عطف الأب وحنان الأم. والصدقة هي السبيل.

ج- لذلك وجبت العناية الخاصة بها: عن رسول الله صلی االه علیه و آله وسلم: خِلتان (عادتان) لا أحب أن يشاركني فيهما أحد وضوئي فإنه من صلاتي، وصدقتي، فإنّها من بدي إلى يد السائل فإنّها تقع في يد الرحمن.

إذا، ينبغي الحرص على أن تصل الصدقة من المتصدق إلى مستحقها مباشرةً، أما إذا لم يتمكن من ذلك، وأراد أن يدفعها إلى من يوصلها بدوره إلى المستحق، فلا مانع، وقد ورد في بعض الروايات أنّ كلّ من مرت الصدقة في يده يؤجر، فينال الجميع ثواب الصدقة، إلاّ أنّ الأفضل هو دفع الصدقة إلى المستحق مباشرةً، دون أن يعلم بذلك أحد، وهذه هي صدقة السر التي هي أفضل أنواع الصدقة، كما تقدم، وفي مايلي مايؤكده.

ح- عن رسول الله صلی االه علیه و آله وسلم: صدقة السر تطفيء غضب الرب.

* ثقافة الصدقة

ولحسن الحظّ فإن ثقافة الصدقة منتشرة بيننا وعلى مستوى واسع جداً، وإن كان من الضروري أن يزداد هذا التوجّه نحو الصدقة

ص: 147

ويتعمق، ولعل أشد أوجه الحاجة في «ثقافة الصدقة» أن نتنبه إلى نية القربة الحقيقية في دفع الصدقة، فلا تتحول الصدقة إلى ما يشبه الرشوة التي شاع أمرها في البلاد وذاع حتى صارت من أصول الذكاء، ورجاحة العقل وحسن التدبير، ولاتتحول الصدقة إلى مبلغ يدفع لشراء «السلعة» التي نريد، وكأننا في متجر.

يجب التنبه بعناية إلى أن الله تعالی کما یرید حفظ کرامة من تُدفع إليه الصدقة، يريد كذلك حفظ کرامة من يدفع الصدقة، ويتوقف حفظها على عنايته بقلبه، فلا يُدخل فيه أو یُجذِّر نية وقيمة سيئتين، وإنما يبذر فيه ويتعاهد بالرعاية بذرة أن لب الصدقة هو العلاقة بالله تعالى وحب ما أحب سبحانه،، وأما دفع هذا المبلغ أو ذاك فهو القشر، فلا يصح إحلال القشر في موقع اللب، فإذا بالصدقة نوع تَبَجُّحٍ من الغني بماله الذي يظن أنه يمكنه أن يشتري به البلاد والعباد.

كل ما عند الخلق من أموال هو من الله تعالى، فلماذا يقيم سبحانه وزناً لدفع هذا اليسير منه، أو الكثير؟ إن السبب في ذلك ما یعمر القلب من تفاعل مع القيم الفاضلة:

1- اللجوء إلى من ينبغي اللجوء إليه، مال الملك، وخالق الخلق، وتجسيدُ معني «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ».

2- أن يخفق القلب بحب الآخرين، لالمصلحة شخصية، بل لأن في الخروج من قمقم الذات ومشاطرة الآخر المال رضا الله تعالی.

3- التعبير عن ذلك ببذل مايحب «لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ».

ص: 148

4- إدراك أن الفضل للآخذ وليس للمعطي، ليصبح للمعطي فضلٌ يستحق به مراتب الصدقة السامية.

5- عدم مسخ مفهوم الصدقة بتسييله وتحويله إلى بعض رنين المال في أذن من استفزه الشيطان، فليست الصدقة والمال توأمين، لأن البسمة في موقعها صدقة، وكف الأذى صدقة، والجهاد صدقة، ونشر أحكام الله تعالی صدقة، بل إن دفع المال إلى الفقير المستحق لايكون صدقة - كمامر - إذا لم يراعِ كرامة من يدفع إليه، فليس المال كل شيء، ولا بعض الشيء في حد ذاته. إن كل شيء في الصدقة هو الخلق الفاضل والقيمة الفاضلة اللذين يمنحان مایعطی من قليل المال غالباً أو كثيره أحياناً القيمة الحقيقية.

هكذا تأخذ «الصدقة» موقعها في منظومة «الثقافة الإسلامية» وعلى هذا الأساس ينبغي أن تشق طريقها في المسار العملي.

وهكذا يمكننا أن ندرك كيف تحقق الصدقة آثارها العجيبة التي تحدثت عنها الروايات، ومنها بالإضافة إلى ما تقدم:

3- تدفع البلاء ط- عن رسول الله صلی االه علیه و آله وسلم: الصدقة تدفع البلاء وهي أنجع دواء وتدفع القضاء وقد أبرم إبراماً ولا يذهب بالأدواء (الأمراض) إلاّ الدعاء والصدقة.

ي- عن رسول الله صلی االه علیه و آله وسلم: داووا مرضاكم بالصدقة.

ك- عن الإمام الصادق عليه السلام: داووا مرضاكم بالصدقة، وما على أحدكم أن يتصدق بقوت يومه؟ إن ملك الموت يُدفع إليه الصك بقبض روح العبد فينصدق فيقال رد عليه الصك.

ص: 149

وليس معنى ذلك عدم الذهاب إلى الطبيب، أو الإعراض عن الأسباب الظاهرية، بل المراد أن يتصدق ويعتقد أن الأمور بيد الله تعالى، ويأخذ بالأسباب التي جعلها الله تعالى لتوصل إلى النتائج بأمره، فقد تكون الصدقة مثلاً هي السبب الذي لأجله اهتدى الطبيب إلى تشخيصٍ دقيق للحالة المرضية، واختيارٍ سليم للدواء الأنسب من بين عدة أدوية لمثل هذه الحالة.

ل- وكم هي الحوادث التي نحن في معرض الضرر أو الموت بسببها، فهل نهتم بالصدقة أكثر أم بشركة التأمين، وهل هناك من تأمین حقيقي على الحياة والعمال والمصير إلا عند أرحم الراحمين.

4- تدفع ميتة السوء عن الإمام الباقر عليه السلام: إنّ الصدقة لتدفع سبعين علّة من بلایا الدنيا مع ميتة السوء. إنّ صاحبها لا يموت ميتة سوء أبداً.

5- تستنزل الرزق م- عن أمير المؤمنين عليه السلام: إستنزلوا الرزق بالصدقة.

ن- عن الإمام الصادق عليه السلام: إني لأُملِق أحياناً (أي أفتقر) فأتاجر الله بالصدقة.

* «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ».

6- أفضل الصدقة عندما يكون بين الأرحام محتاج يتعين تقديم مساعدته والصدقة عليه على الصدقة على غيره، بل إن الصدقة على الغير في مثل هذه الحال لاقيمة لها.

ص: 150

س- عن رسول الله صلی االه علیه و آله وسلم: لا صدقة وذو رحم محتاج.

ع- وعنه صلی االه علیه و آله وسلم: ألصدقة بعشرة، والقرض بثمانية عشر، وصلة الإخوان بعشرين، وصلة الرحم باربعة وعشرين(1).

وفي هذا السياق قصة تنقل، تدلنا على معنى «لا صدقة وذو رحمٍ محتاج» أن امرأة توفي زوجها كان لهما فتى يافع في أول مراهقته. أرادت هذه المرأة أن تتصدق عن روح زوجها فقررت الصدقة بقوتها وقوت ولدها لمدة ثلاثة أيام، وكانت تصنع الطعام ثم ترسله مع ولدها إلى بعض الفقراء، وقد أوصل الولد ماحمل في اليومين الأول والثاني، إلا أنه في اليوم الثالث ضاق ذرعاً، واستبد به الجوع فوضع الطعام أمامه وأتي عليه كله.

وفي تلك الليلة ترى المرأة زوجها في المنام يقول لها: هذه الليلة وصلتني الصدقة ولكن صدقة الليلتين الماضيتين لم تصلني.

وفي الصباح سألت الأم ابنها:هل أكلت الطعام في اليومين الأولين، واوصلته إلى الفقير في الثالث؟ قال الولد: على العكس تماما، وأخبرها بماجری.

عرفت الأم أن ولدها كان أولى، وأنه لا معنى للصدقة في مثل هذه الحال، فلاصدقة وذو رحم محتاج.

وإذا كان الرحم مقاطعاً، فإن الصدقة عليه أفضل.

ف- عن عليه السلام: قبل لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: یا رسول الله،

ص: 151


1- الطبرسي، مكارم الأخلاق 135

أي الصدقة أفضل؟ فقال رسول الله صلی االه علیه و آله وسلم: الصدقة على ذي الرحم الكاشح»(1).

7- لاتمحقوا صدقاتكم ينبغي بذل أقصى الجهد في محاربة أسوأ ظاهرة تمحق الصدقات، وهي أسوأ أنواع الأذى التي لايبقى معها مجال للحديث عن المَن، وهي ظاهرة التعاطي مع المحتاج على أساس أنه «شحاذ» أو التعاطي معه على قاعدة إسكاته بشيء، فلا تُبقي له هذه النظرة المغلوطة أي قيمة ليَمُنَّ المتصدق عليه، بل تجعله وجوداً هامشياً، ليس إلا عالة، و «شحاذاً».

إن أفضل صدقة يتصدق بها من يحمل هذه النظرة على نفسه، هي أن يعيد النظر في قناعته الجهنمية هذه! إذا كان احترام المحتاج والتصدق علیه بتواضع، ثم المَن عليه لاحقاً يبطل الصدقة ويمحقها، فماذا تفعل هذه النظرة بالصدقة؟ ألا تحيلها إلى كتلة من نار يضرب بها وجه صاحبها؟ فلنرحم أنفسنا ولنُرَبِّها على احترام المحتاجين الذين قد يكونون عند الله تعالى أفضل منا بما لامجال معه للمقارنة، وإذا لم يكونوا جميعاً كذلك، فينبغي احترامهم جميعاً بسبب من قد يكون كذلك.

وفي الختام: أفضل الأعمال في شهر شعبان الصدقة والإستغفار، فلنأخذ بالنصيب الأوفي منهما متنبهين دائماً إلى نية الصدقة قسمين: لليل والنهار.

ص: 152


1- الراوندي، قطب الدين، النوادر 83

* صوم عشرة أيام

عن رسول الله صلی االه علیه و آله وسلم: ومن صام عشرة أيام من شعبان وسع الله عليه قبره سبعين ذراعاً في سبعين ذراع(1).

والحديث عن الآخرة كما تقدم مراراً، تقريبي، لا يمكننا إلا التواصل معه من أبعد البعيد، وقد تقدم بعض حديث عن سعة القبر في أعمال شهر رجب.

* صلاة الليلة الحادية عشر

عن رسول الله صلی االه علیه و آله وسلم: «ومن صلّى في الليلة الحادية عشر من شعبان ثماني ركعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرّة وقل يا أيها الكافرون عشر مرات والذي بعثني بالحقّ نبياً لا یصلیها إلاّ مؤمن مستكمل الإيمان واعطاه الله بكلّ ركعة روضة من رياض الجنة»(2).

والرواية صريحة الدلالة على أن من يصليها فهو مؤمن مستكمل الإيمان.

أسأل الله عزّوجل أن يوفقنا لمراضيه بالنبي وآله، صلوات الله تعالى عليهم أجمعين.

والحمدلله رب العالمین

ص: 153


1- الإقبال 3 / 309 وبهامشه «ثواب الأعمال: 87، أمالي الصدوق: 30، عنهما البحار 97: 69». وليلاحظ أن مافي نسخة الإقبال - المعجم الفقهي مزج بين صوم عشرة أيام وبين ثواب صوم أحد عشر يوماً، والصحيح ماورد أعلاه، مصححاً على مافي ثواب الأعمال (نسخة المعجم الفقهي) 62. وقد ورد النص في روضة الواعظین 404 بدون في سبعين ذراع، كما ورد في الوسائل 10 / 499، استغفرت له الملائكة ووسع الله عليه قبره سبعين ذراعاً
2- المصدر 309 - 310

ص: 154

11 شعبان

اشارة

* المناجاة الشعبانية

* رواية ابن خالويه

* من كلمات العلماء

* ملاحظات هامة

* صوم أحد عشر يوماً

* صلاة الليلة الثانية عشر

* الإستعداد لليلة النصف ويومها

ص: 155

ص: 156

* المناجاة الشعبانية

من الأعمال العامّة لشهر شعبان «المناجاة الشعبانية» وقد تقدم التأكيد عليها في بداية الشهر.

وهذه المناجاة التي يدعي بها في كلّ يوم من هذا الشهر المبارك، بل ومطلقاً، هي غاية في الأهمية وقد ورد في الروايات أنّ الأئمة جميعاً علیهم السلام، كانوا يناجون الله تعالى بها في شهر شعبان.

* رواية ابن خالويه

أذكر أولاً ما أورده حولها السيّد ابن طاوس عليه الرحمة باعتبار أنّ كتابة «الإقبال» يعتبر المرجع الرئيس والأساسي في هذا المجال.

قال السيّد إنّ المناجاة مروية عن «ابن خالويه» وقد ذكر يسيراً من ترجمته، فقال: هو الحسين بن محمد بن خالويه، ثمّ نقل عن النجاشي في مدحه «أنه كان عارفا بمذهبنا مع علمه بعلوم العربية واللغة والشعر وسكن بحلب»(1).

كما نقل مدح أحد العلماء «ابن النجار» لابن خالويه وأورد قوله فيه: «كان إماماً أوحد أفراد الدهر في كلّ قسم من أقسام العلم

ص: 157


1- أنظر: النجاشي 67، الترجمة 161

والأدب وكانت إليه الرحلة من الآفاق وسكن بحلب وكان آل حمدان يكرمونه»(1).

ولدى الرجوع إلى كتب التراجم وغيرها، يتضح أن هناك شخصين يعرف كل منهما بابن خالويه: أحدهما الحسن بن محمد (أو أحمد(2)) بن خالويه وهو شيخ بعض مشايخ النجاشي(3).

والثاني: ابن خالويه أبو الحسن الفارسي، علي بن محمد بن يوسف بن مهجور (أو مهاجر(4)) شيخ مشايخ النجاشي(5).

والذي نسب السيد إليه رواية المناجاة الشعبانية هو الأول والأشهر، وهو من كبار الأئمة في النحو واللغة عموماً، وله كتب مرجعية عديدة، وقد مكنه موقعه العلمي من أن يفرض حضوره باحترام في أكثر مصادر اللغة، والتفسير، وبعض أمهات مصادر السيرة من خلال كتابه «الآل» الذي ذكر العلامة الحلي في وصفه أنه في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وقد اعتمده الأربلي في كشف الغمة بشكل رئيس، كما يذكر بعض الفقهاء ومنهم العلامة الحلي تصريحه

ص: 158


1- الإقبال 3 / 295
2- أنظر: القمي، الشيخ عباس، الكنى والألقاب 1 / 274 وكحالة، عمر، معجم المؤلفين 3 / 310 والذهبي، تذكرة الحفاظ 3 / 959 و سير أعلام النبلاء 16 / 341 وابن حجر، لسان الميزان 2 / 267 و 7 / 148 وحاجي خليفة، کشف الظنون 1397 وغيرهم. قال السيد الخوئي رضوان الله عليه: وعن اليافعي في تاريخه: أنه الحسين بن أحمد بن خالويه، وكذلك عن ابن خلکان والموجود في ما عندنا من نسخة الاقبال، الحسين بن محمد بن خالويه، والله العالم. معجم رجال الحدیث 6 / 252. ولم بورد النجاشی اسم أبيه
3- الشيخ آقا بزرك الطهراني، الذريعة 18 / 332
4- ذكر الإحتمالين العلامة الحلي في إيضاح الإشتباه 222. وانظر: النجاشي 268 الترجمة 699
5- الشيخ آقا بزرك، الذريعة 154 / 344 و 346

بأن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم مذهب أهل البيت وعليه إجماع الإمامية، وقد جرت مناظرات بينه وبين عدد من المشاهير ومنهم المتنبي في مجلس سيف الدولة بحلب حيث استقر ابن خالويه يكرمه بنو حمدان وينهلون من علمه، إلى أن توفي فيها عام 370 للهحرة، وله شرح على قصيدة أبي فراس في أهل البيت علیهم السلام.

ويستظهر بعض المتأخرين أن الذي يروي المناجاة الشعبانية هو الثاني(1) ولعل مستند هذا الإستظهار هو أن للثاني كتباً في عمل رجب وشعبان وشهر رمضان، إلا أن ذلك لا يشكل مایُركن إليه.

وسواء أكان الراوي للمناجاة الشعبانية الأول من الأشهرين بابن خالويه، أم الثاني، فكلاهما في غاية الوثاقة، إذ أن من القواعد المعروفة في توثيق مثلهما، أنه «من مشايخ النجاشي» هذا بالإضافة إلى مانقل حول كل منهما، وقد احتلت هذه المناجاة وماتزال مكانتها السامية الخاصة بها بين العلماء، نظراً إلى عظيم أهمية مضامينها، ونظراً إلى مكانة ابن خالويه الذي يأتي تصريحه بأن الأئمة جميعاً علیهم السلام كانوا يقرأونها.

* من كلمات العلماء

1- أورد السيد أن ابن خالويه يقول حول المناجاة الشعبانية:

«إنها مناجاة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام والائمة من ولده علیهم السلام، كانوا يدعون بها في شهر شعبان»(2).

ص: 159


1- الشيخ آقابزرك، الذريعة، والسيد محمد على الأبطحي، تهذيب المقال، 2 / 257 نقلاً عن الذريعة
2- الإقبال 3 / 296

2- أورد المناجاة العلامة المجلسي نقلاً عن الكتاب العتيق الغروي الذي يرمز له ب (ق) فقال: مناجاة مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وهي مناجاة الأئمة من ولده علیهم السلام كانوا يدعون بها في شهر شعبان، رواية ابن خالویه رحمه الله(1).

3- في معرض حديثه عن شهر شعبان، تحدث العارف الجليل آية الله الملكي التبريزي رضوان الله تعالى عليه عن هذه المناجاة فقال:

«ومناجاته الشعبانية معروفة، وهي مناجاة عزيزة على أهلها يحبونها ويستأنسون بشعبان من أجلها بل ينظرون مجيء شعبان ويشتاقون إليه من أجلها، وفي هذه المناجاة علوم جمة في كيفية تعامل العبد مع الله جلّ جلاله، وبيان وجوه الأدب التي ينبغي أن نلتزمها ونتأدب بها عندما نسأل الله تعالی حوائجنا، وندعوه سبحانه ونستغفره، واستدلالات لطيفة تليق بمقام العبودية لإحكام مقام الرجاء المناسب لحال المناجاة، ودلالات صريحة واضحة في معنى لقاء الله تعالى والقرب منه والنظر إليه جل جلاله ترفع شبهات السالكين وشكوك المنکرین.

«..» وهذه المناجاة من مهمات أعمال هذا الشهر، بل للسالك أن لايترك قراءة بعض فقراتها على مدار السنة، ويكثر المناجاة بها في قنوته وسائر حالاته السنية». «...» إنّ هذه المناجاة مناجاة جليلة ونعمة عظيمة من برکات آل محمد علیهم السلام يعرف قدر عظمتها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

ص: 160


1- البحار 94 / 96

يضيف: «ولعمري إنّ الأغلب لا يعرفون شأن نعمة هذه المناجاة وأنّ من شأنها علوماً عزيزة ومعارف جليلة، لا بطلع عليها وعلى أبعادها إلاّ أهل ذلك من أولياء الله الذين نالوا بها من طريق الكشف والشهود ما نالوا، ثمّ إنّ الوصول إلى حقائق هذه المناجاة عن طريق المكاشفة إنّما هو من أجلّ نعم الآخرة ولا يقاس الوصول إلى حقائق هذه المقامات بشيء من نعيم الدنيا وإليه أشار الصادق عليه السلام بقوله: لو علم الناس ما في فضل معرفة الله ما مدوا أعينهم إلى ما مُتّع به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا وكانت دنياهم أقلّ عندهم مما یطؤونه بأرجلهم وتنعّموا بمعرفة الله وتلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله...»(1).

ويهدف القسم الأخير من كلامه واستشهاده رضوان الله تعالی عليه بهذه الرواية عن الإمام الصادق علیه السلام، إلى توجيهنا نحو اللذة الروحية السامية التي تنتج عن العبادة بمختلف مظاهرها من مناجاة وصلاة وصيام، وأنّ الإنسان إذا عرف حقيقة اللذة الروحية فإنّه يراها أفضل بكثير من كلّ لذائذ الدنيا.

ومن الواضح أنه قد ذكر ذلك في سياق التأكيد على فرادة العلاقة بين المناجاة الشعبانية والكشف والشهود واللذة الروحية الناتجة عنهما ببركة هذه المناجاة.

4- قال المحدث الجليل الشيخ القمي رحمه الله: وهذه مناجاة

ص: 161


1- آية الله الملكي التبريزي، المراقبات 75 - 76. بتصرف

جليلة القدر منسوبة إلى أئمتنا علیهم السلام مشتملة على مضامین عالية ويحسن أن يدعى بها عند حضور القلب متى ما كان(1).

5- يقول الإمام الخميني في وصيته: «نحن نفتخر بأن لنا مناجاة الأئمة الشعبانية».

وأبرز انطباع يخرج به المتابع لنص الإمام هو تفاعله النوعي مع المناجاة الشعبانية.. بل إننا إذا أردنا البحث عن مكونات اللهيب الباطني عنده، لوجدنا أن المناجاة الشعبانية في الطليعة.

يكثر الإمام الإستشهاد بالمناجاة، وهذه وقفة مع ماورد في خطبه وكتبه حول أهميتها، وعظمة مضامينها.

ورد ذكرها باسمها «شعبانية» في خطبه في عشر خطب، وهو يذكرها في كل خطبة عدة مرات.

وحول أهميتها نجد الآتي:

أ- لو لم يكن في الأدعية إلا المناجاة الشعبانية لكفى ذلك دليلاً على أن أئمتنا هم أئمةٌ بحق لأنهم أنشأوا هذا الدعاء وواظبوا عليه(2).

ب- جميع المسائل التي أوردها العرفاء في كتبهم المبسوطة أو رووها موجودة في عدة كلمات من المناجاة الشعبانية(3).

ت- يتحدث الإمام عن ضيافة الله تعالى فيقول:

ص: 162


1- الشيخ القمي، عباس، مفاتیح الجنان، في آخر المناجاة
2- صحیفه نور، قرص مدمج (إصدار مرکز نشر آثار الإمام الخميني، الإصدار الثاني) بتاریخ 21 / 4 / 59 ه. ش = 80 م
3- نفس المصدر

«عندما تريد أن تذهب إلى ضيافة فإنك تهيء نفسك غالباً بشكل آخر من حيث الثياب وغير ذلك، بحيث يختلف وضعك عما كان عليه في البيت».

شهر شعبان فرصة لهذه التهيئة والإستعداد للضيافة، بحيث يختلف وضعك عما كنت عليه.

شهر شعبان هو لتهيئة الفرد والأمة الضيافة الله تعالى.. والعمدة في هذه التهيئة هي المناجاة الشعبانية. أنا لم أرَ في الأدعية دعاءً ورد حوله أن جميع الأئمة كانوا يقرأونه إلا هذا الدعاء.

المناجاة الشعبانية هي لإعدادك وإعداد الجميع وتهيئتهم لضيافة الله. إلى أن يقول: المناجاة الشعبانية (مناجاة) قلّ نظيرها(1).

ث- في خطبة أخرى بمناسبة النصف من شعبان يقول الإمام:

المناجاة الشعبانية من (..) أعظم المعارف الإلهية، ومن أهم الأمور التي يستطيع من هم أهلها أن يستفيدوا منها في حدود إدراكهم.

إلى أن يقول:

في المناجاة الشعبانية مسائل عرفانية يمكن أن يدركها الفلاسفة إلى حدود ما، أي أن يفهموا عناوينها، لكن حيث أنه لم يتحقق لهم

ص: 163


1- المصدر، بتاریخ 31 / 4 / 59 = 80 م ج 12 / 235

الذوق العرفاني فإنهم لن يستطيعوا أن يعيشوها. كم هي عظيمة هذه المناجاة..؟ ماذا أراد الأئمة عليهم السلام..؟ لم أرَ أن الأئمة علیهم السلام، جميع الأئمة.. كانوا يقرأون دعاء واحداً إلا هذه المناجاة..

هذا دليل على عظمة هذه المناجاة، بحيث أن الأئمة كلهم يقرأونها(1).

ج- ويصل تأكيد الإمام على المناجاة حد اعتباره أنها برنامج عبادي عملي، يتكفل بإيصال من اعتمده، فيقول:

«من يتابع هذه المناجاة الشعبانية ويفكر فيها يصل إلى مكان ما»(2).

***

* ملاحظات هامة

وفي ضوء ما تقدم من كلمات العلماء، ينبغي تسجيل الملاحظات التالية:

أولاً: أن موجة التفاعل مع المناجاة الشعبانية، القائمة فعلاً في كثير من ديار الإسلام، والمتصاعدة يوماً بعد يوم،، خمينية الطابع والمنهج.

ص: 164


1- المصدر، بتاریخ 7 / 3 / 62 = 81 م ج 17 / 264
2- المصدر، بتاريخ 30 / 12 / 66 / 87 م وليلاحظ أن جميع النصوص الواردة أعلاه، مأخوذة من مادة للكاتب بعنوان «وصايا الإمام الخميني» تم تدريسها في المركز الإسلامي في بيروت

ثانياً: لا تنحصر بركات المناجاة الشعبانية في حدود شهر شعبان، وإن كان هو موسمها الأساس ويمكن لمن أراد أن يقرأها في اليوم أكثر من مرة.

ثالثاً: لايصح اعتبار المعاني المغلقة في المناجاة أو في غيرها، مبرراً للإعراض عنها بحجة أن الفهم شرط القراءة، فالصحيح في الطريق إلى فهم المعاني التي هي نور يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء، أن القراءة - ممن يحرص على الطاعة وطهارة القلب، مع الحرص على النفاذ إلى بواطن اللفظ والمعنى - هي شرط الفهم.

عندما يتحدث الإمام الخميني عن بعض فقرات دعاء كميل «فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك» يقول رضوان الله عليه: «أنا الأعمى القلب لم أستطع أن أعرف ما هو هذا الحب في قلب أمير المؤمنین علیه السلام لله عزّوجل الذي يجعله يصبر على عذاب الله تعالى ولا يصبر على فراق الله تعالى»! يضيف: «ولذلك فأنا أقرأ هذه الفقرة بلسان علي»(1) أي أنّه ينوي في قلبه أن الإمام علياً عليه السلام، كان يقول ذلك ثمّ يقرأ العبارة.

وهكذا يتضح أننا إذا لم نعرف بعض المعاني فليس معنى ذلك أن لا نقرأ الفقرات التي تتضمن هذه المعاني وإنما نبذل كل جهد في سبيل الفهم ومنه أن نقرأها بلسان المعصوم الذي ورد الدعاء عنه إلى أن يمنّ الله تعالى علينا بعطاء من عطاياه وهو أكرم الأكرمين.

ص: 165


1- أنظر: الإمام الخميني (ترجمة الكاتب لعدد من رسائله) بلسم الروح 46 (دار التعارف، ط: 2، 1412 ه 1992 م). بتصرف

رابعاً: ينبغي أن يصغي القلب باهتمام إلى ما تقدم عن آية الله الملكي التبريزي، الذي يربط بين المناجاة الشعبانية والعلوم الجمة والكشف والشهود «وعند جهينة الخبر اليقين»، ويدل كلامه عليه الرحمة على أن المؤمن قد يحصل بسببها على علم التوحيد، أو اليقين وغير ذلك من المراتب السامية.

* صوم أحد عشر يوماً

عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «ومن صام من شعبان أحد عشر يوماً ضرب على قبره إحدى عشرة منارة من نور»(1).

تقدمت الإشارة إلى أنّ الإنارة في كلّ وقت بحسبه، فعندما كان يقال قديماً: نريد أن نضيء هذا المكان، كان المعنى مثلاً أن يوضع فيه سراج، لأنّ السراج كان واسطة الإنارة المتعارف عليها، أما الآن فعندما نقول ذلك فالمراد مايناسب كل بيئة من وسائل الإنارة.

ولئن كانت الإنارة تحتلف من زمن إلى زمن ومن بيئة إلى بيئة في هذه الكرة السابحة في زاوية من زوايا المجرات الماضية قدماً في الإتساع، فكم هي الفوارق الهائلة بين الإنارة في الدنيا وبينها في الآخرة.

وإذا كان المرفأ البحري أو الجوي يستدعي منارة من نور، أو منارات فكم يحتاج النعيم والملك الكبير من هذه المنارات؟!

ص: 166


1- الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال 62، وتقدم في هامش صوم عشرة أيام ذكر اختلال نص نسخة الإقبال، والتداخل فيها بين صوم عشرة أيام وتوتب أحد عشر يوماً، وقد ورد النصان باختلاف في ثواب صوم عشرة أيام واتفاق حول ثواب أحد عشر يوماً، في ثواب الأعمال، وروضة الواعظين، والوسائل

يبدو أن الحاجة أكبر من ذلك بكثير، مما يجعلنا نبحث عن الباقي في ثواب صوم أو عمل عبادي أخر.

* صلاة الليلة الثانية عشر

قال السيد ابن طاوس عليه الرحمة: «وجدناه مروياً عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم، أنه قال: ومن صلّى في الليلة الثانية عشر من شعبان إثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وألهاكم التكاثر عشر مرات غفر الله تعالى له ذنوب أربعين سنة ورفع له أربعين درجة واستغفر له أربعون ألف ملك وله ثواب من أدرك ليلة القدر»(1).

ولنتذكر ما ورد عن أمير المؤمنين علیه السلام، حول أنّ الله عزوجل عرض علينا جنته في شهر شعبان بأرخص الأثمان، فطبيعي إذاً، أن تكون الصلاة صغيرة إلا أن ثوابها كبير، لأنّ الله تعالی پرید لنا في هذا الشهر أن نصل.

* الإستعداد لليلة النصف ويومها

هنا ومن باب «وختامه مسك» ستطلّ علينا بعد أيام ذكرى ولادة سیدنا ومولانا بقية الله في الأرضين الإمام المهدي عليه صلوات الرحمان، فمن المفترض أنّ هذا اليوم هو الحادي عشر من شهر شعبان، وبعد ثلاثة أيام تطل ليلة النصف من شعبان وفيها ولد المهدي المنتظر أرواحنا لتراب مقدمه الفداء كما كان يعبر دائماً نائبه الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه.

ص: 167


1- الإقبال 3 / 310

ما أريد التنبيه عليه هنا لنفسي وجميع الإخوة والأخوات أن من واجبنا أن نعتبر أنفسنا مستنفرین لبذل أقصى الجهد في التحضير لإحياء ذكرى ولادة الإمام الحجة عجل الله فرجه الشريف، إنّه وصي المصطفى الحبيب، وإمام زماننا الذي أبقاه الله تعالى ليُظهر على يديه الدين على الدين كلّه ولو كره المشركون والكافرون. إنّه بقية رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وأميرِ المؤمنین علیه صلوات الله تعالى، وعزیز الصديقة الكبرى الشهيدة مولاتنا الزهراء عليها الصلاة والسلام، وعزیز أهل البيت علیهم السلام.

عندما ننظر في الروايات كيف يحدثنا المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم عن وصيه الإمام الحجة وتحقق آمال الأنبياء على يديه، أو كيف يحدثنا أمير المؤمنين عليه السلام، ويتلهف لرؤية أنصاره، أو كيف يحدثنا الإمام الصادق عليه السلام فيقول لو أدركته لخدمته أيام حياتي، وكيف أنّ الإمام الرضا علیه السلام بناء على ماذُكر، عندما سمع كلمة القائم في معرض الحديث عنه علیه السلام، وقف واستقبل القبلة ووضع يده على رأسه وانحنى إكراماً للإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.

وخلف الإمام المهدي سيصلي نبي الله عيسى على نبينا وآله وعليه السلام كما تؤكد ذلك كتب المسلمين جميعاً الشيعة والسنة، فينبغي أن نتعامل مع ذكرى ولادة الإمام المنتظر على أنها ذكرى ولادة قائد المسلمين جميعاً الذي سيلتزم العالم كله بقيادته بإذن الله تعالی.

ينبغي أن نتعامل مع الذكرى على أساس أنّه وصيّ رسول الله بل حجّة الله على العالمين، فهل نبدأ من الآن بالإستعداد لهذه الذكرى؟

ص: 168

ما أريد التركيز عليه هو أن نسعى لتعميم مظاهر الزينة والفرحة، مع عناية خاصة وبالدرجة الأولى بالمظاهر الشعبية، أي أن يبادر الناس فرادی ومجتمعين في كلّ حي وفي كلّ منطقة وكل بناية لإقامة مظاهر الزينة وللضيافة ولكل ما يمكن من الابتهاج والفرح واستقبال ذكرى ولادة بقية الله في الأرضين شريك القرآن إمام الإنس والجان صاحب العصر والزمان صلوات الله عليه، ببعض مايليق.

أسأل الله عزّوجل أن يوفقنا للقيام بواجبنا في هذا المجال وغيره.

والحمدلله رب العالمین

ص: 169

ص: 170

12 شعبان

اشارة

* في استقبال الذكرى

* ليلة النصف من شعبان

* صوم اثني عشر يوماً

* صلاة الليلة الثالثة عشر

* صلاة الليالي البيض

ص: 171

ص: 172

* في استقبال الذكرى

نحن الآن على أعتاب ذكرى ولادة الإمام المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشريف، فليس بيننا وبين وبين ليلة النصف من شعبان سوى ليلتين.

هذه الليلة التي اعتبر شعبان مهماً لاحتضانه لها، ترى ماذا أعددنا للإحتفال بذكرى ولادة وصي نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله وسلم، وإمام زماننا عليه السلام؟ أي جهد بدلناه حتّى الآن في هذا المجال، وهل يصحّ أن تمرّ الذكرى ولم نضيء بسنا أنوارها العقول والقلوب والنفوس.

من الواضح جداً أنّ مجرد الإعتقاد بالإمام المهدي المنتظر لا يكفي، أي أن هذا الإعتقاد إذا كان ضعيفاً باهتاً مشلولاً لا حراك فيه بحيث أنّ الإنسان لا يذكر إمامه إلاّ نادراً، فهو «اعتقاد» لا يحرّك صاحبه نحو العمل.

نحن الذين نقول إنّنا نعرف الإمام المهدي عليه السلام، يجب أن نرفع مستوى معرفتنا ونرفع سقف علاقتنا بإمام زماننا أرواحنا له الفداء.

ص: 173

من هنا فإنّ من الواجب التوحيدي الذي يحظى بالأولوية، هو أن نعمِّق أمر الإمام المنتظر في عقولنا والقلوب، وننشره بين الناس.

كم هي علاقتنا الروحية بالإمام الخميني رضوان الله عليه، أو بخليفته وليّ أمر المسلمين أدام الله ظلّه علاقة متينة. إن الأساس الشرعي لها هو أنّ كلاّ منهما نائب الإمام المعصوم بقية الله في الأرضين، لذلك فمن الطبيعي أن تكون علاقتنا الروحية بالإمام الحجّة أقوى بأضعاف مضاعفة من علاقتنا بالإمام الخميني رضوان الله عليه أو بخليفته رغم أنّنا مقصّرون حتّى في هذا المجال.

بل الصحيح أن لانفصل بين العلاقتين بمعنى أن علينا أن نستحضر في العلاقة بهما أنها من تجليات العلاقة به عليه صلوات الرحمان، كما أن العلاقة به من تجليات العلاقة بآبائه وأجداده خصوصاً خير خلق الله المصطفى الحبيب صلی الله علیه و آله وسلم، التي هي بدورها تجلي العلاقة بالله تعالى، وهو سبحانه أمرنا بالوقوف ببابهم لأنه بابه، والعكوف على حبهم لأنه حبه.

من شأن هذه العلاقة الحارة بالإمام الحُجّة أرواحنا فداه، أن تجعل المسلم يدرك بوضوح أنّه مرتبط بقائد الأمة الذي نصّ عليه المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم، بأمر من الله سبحانه وتعالی.

إنّ من شأن الإعتقاد الحي الحار بوجود قائد إلهي هو أحد أوصياء رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، أدّخره الله تعالی ليظهر دينه على الدين كلّه، أن يبعث الحرارة في كلّ مفردات المعتقد ويبعث الدفء في جميع

ص: 174

أوصال الأمة فيلمّ شملها ويجمع كلمتها على التقوى ويرفد المسيرة المؤمنة بمخزون إيماني هائل. عندها تصبح الأمة تشعر تلقائياً بالتواصل مع المسيرة المؤمنة في عصر آدم ونوح وإبراهيم وموسی وعيسى ومحمد المصطفى وجميع أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

إنّ من شأن هذا الإعتقاد الحار أن يجعلنا نفهم كتاب الله تعالی كما أنزل كتاباً للمستقبل فإذا بقصصه النابضة بالحياة يمكن أن تتكرّر، وإذا بأحكامه يجب أن تطبق، وستطبق ولو كره الكافرون، وإذا بالإسلام نهج حياة وليس تراثاً يريد من يصفه بذلك أن تعامل معه كما نتعامل مع التراث الإغريقي! إنّه الشريعة والنهج، وسترجع البشرية إليه بعد أن تيأس من كل سراب أودية الضلال البعيد، وإذا بالكعبة قبلة حقيقية لكل العالمين، وإذا بالقدس ملتقى المهدي والمسيح، وإذا بفلسطين أرض النبوات لا أرض الميعاد لقتلة الأنبياء. عندما نعمل لإحياء النفوس بذكراه علیه السلام، ونعتبر أنفسنا كما ذكرت في الحديث السابق مستنفرين في هذه الأيام من أجل أن تكون مظاهر الزينة والإحتفالات وكلّ مظاهر التكريم لهذه الذكري في هذه السنة مختلفة جذرياً عن السنوات السابقة، على أن لانعتبر مانصل إليه من الإهتمام بالذكرى نهائياً بل نواصل رفع المستوى والوتيرة في السنوات القادمة إذا قدّر الله عزّوجل.

إنّ من أهم الأعمال في زمن الغيبة إحیاء أمر الإسلام، أمر رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وأهل البيت علیهم السلام، فقد ورد في الحديث عن

ص: 175

الإمام الصادق علیه السلام، أنّه قال لأحد أصحابه «فُضيل»: «تجلسون وتتحدثون قال فُضيل نعم جعلت فداك قال علیه السلام إنّ تلك المجالس أحیها أحيوا أمرنا فرحم الله من أحيا أمرنا»(1).

وكذلك ورد عنه علیه السلام: «رحم الله من حَبَّبَنا إلى الناس ولم يُكَرّهنا إليهم»(2).

من هنا ينبغي أن ينصبّ الجهد في هذه الأيام على إحياء ذكرى ولادة الإمام المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشريف، وحثّ أنفسنا والناس على الإهتمام بهذه الذكرى مدركين بيقين أنّ هذا العمل أي الإعداد لإحياء ذكرى ولادة الإمام المنتظر أهم من جميع أعمال شعبان التي تقدم أو يأتي الحديث عنها، بمعنى أنّ من لم يكن له إلاّ متّسع معيّن من الوقت إمّا أن يصرفه في الصلوات المستحبة أو يصرفه في الإعداد لإحياء ذكرى ولادة المنتظر عليه صلوات الرحمان، فإنّ الأولى أن يهتمّ بإحياء هذه الذكری.

ما أريد التأكيد عليه هو أن يتمّ التحرّك في كلّ منطقة، وفي كلّ حيّ بمبادرات فردية، وسنكتشف أن الناس مستعدون لإحياء ذكرى صاحب الأمر عجل الله فرجه، وأننا بيسير من الجهد نحقق نتائج غير عادية.

فلنُذكِّر الناس بأنّ الذكرى قادمة، ولنستقبلها بمظاهر الزينة والإبتهاج والفرح، وإذا طالب البعض بمشاركة مركزية فلتُشكّل لجنة

ص: 176


1- إبن إدريس الحلي، مستطرفات السرائر 626. وانظر: الشيخ المفيد، الأمالي 32
2- المصدر 31

في كلّ منطقة للقيام بهذه المهمّة ودراسة الأمور ميدانياً، إلا أن المبادرات الفردية التي تحرص على التنسيق أولى وأفضل، ويمكن أن يقام في منطقة ما قوس نصر مثلاً، وفي منطقة أخرى نشر إنارة مميزة، وفي ثالثة نشر «حواجز محبة» لتوزيع الحلويات مع بيان صغير جميل بالمناسبة، وفي مكان آخر هناك مثلاً عدة مبان سكنية، يريد أهلها أن يقيموا إحتفالاً، وهكذا. من جملة الأمور التي يمكن الإهتمام بها بالإضافة إلى تعميم الزينة والإبتهاج إقامة الندوات والإحتفالات والحرص على المشاركة المكثفة فيها، والإهتمام بنظم الشعر وكتابة خواطر أو مقالات، والعناية الخاصة بشؤون الفقراء والمحتاجين، أي أنّه يمكن جمع مبلغ من المال ويوزّع نقداً، أو کمواد غذائية على الفقراء في المنطقة على أساس أنّ هذه هدية من الإمام صاحب الزمان أرواحنا فداه، ولنتنبه إلى أن يكون العمل دائماً بإسم الإمام صاحب الزمان عجل الله تعالی فرجه، لاباسم هذه الجمعية أو الجهة أو تلك.

كما ينبغي الإهتمام بإقامة مجالس الدعاء والزيارة له عليه صلوات الرحمان، خصوصاً دعاء العهد والندبة في وقته وهو يوم الجمعة، وزيارة «سلام على آل یاسین.

ويجب التنبه إلى المحافظة على قدسية الذكرى، فلا ننزل بها إلى مستوى الأساليب المبتذلة لتصبح الإجتماعات الخاصة بها وكأنها حفلات صفير وغناء وموسيقى صاخبة على غرار مجالس الفسق والفجور أو مايكاد يكون مثلها.

وفي طليعة الأمور التي ينبغي الإهتمام بها في مجال إحياء

ص: 177

نفوسنا في هذه الذكرى زيارة المجاهدين وعيادة الجرحى منهم باعتبار أنّهم جنوده علیه السلام، وقد ورد عن أهل البيت علیهم السلام: «من لم یقدر على زيارتنا فليزر صالحي موالينا يكتب له ثواب زیارتنا»(1) إن من واجبنا أن لا ننسى في أيّام ذكرى ولادة الإمام الحجّة أرواحنا فداه، جنده الأوفياء فنزور من نستطيع زيارته منهم وندعو لمن لا نستطيع الوصول إليهم خصوصاً من كان منهم في مواقع الجهاد في سبيل الله تعالى في كلّ مكان من العالم، وبالأخص الرهائن منهم في سجون الأعداء.

* ليلة النصف من شعبان

ولا بدّ من إهتمام خاص بنفس ليلة النصف من شعبان فهي أفضل ليلة في هذا الشهر وهي من ليالي القدر وإن لم تكن في شهر رمضان إلاّ أنّها كما في الروايات من ليالي تقدير الأمور وكأنّ الأمور تقدّر على مراحل، وإحدى مراحل التقدير تتمّ في ليلة النصف من شعبان، وقد ورد الحثّ الكبير على إحياء هذه الليلة فلنستعد لأن تكون ليلة النصف من شعبان ليلة إحياء في مختلف مناطقنا ومساجدنا وحسینیاتنا وبيوتنا إن شاء الله تعالى، وليسأل كلُّ منا نفسه باستمرار في هذه الأيام بين فترة وفترة: ماذا عملت من أجل الإعداد لاستقبال ولادة المنتظر عجل الله تعالی فرجه؟

* صوم اثني عشر يوماً

أورد السيّد ابن طاوس عن الشيخ الصدوق عليهما الرحمة ، عن

ص: 178


1- الشيخ هادي النجفي، ألف حديث في المؤمن 200

رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «و من صام من شعبان إثني عشر يوماً، زاره كلّ يوم في قبره تسعون ألف ملك إلى النفخ في الصور»(1).

وتسأل: تسعون ألف ملك يومياً؟! وفي الرواية المتقدمة أربعون ألفاً، وتريدون أن نتعقل هذه الأمور.

والجواب: هل تصفحت مواقع الأنترنيت ولاحظت أعداد الزوار الهائلة للمواقع الشهيرة؟ وهل أن مليون زائر في اليوم أقل من تسعين ألفاً؟! لماذا نحجِّم أنفسنا ونحاصر عقولنا في قمقم المزاج ثم نتطاول على عالم الغيب الذي لانعرف من ألفبائه حرفاً؟ ومن قال بأن الزيارة هي من نوع زیارات عالم الجسد والمادة والقشر؟ ولا يصح بطبيعة الحال أن ننفي ذلك، كما لايصح للطفل أو من هو مثله أن ينفي ما لاينسجم مع تفكيره الطفولي الجاهل.

إن الحديث عن عالم الآخرة حديث تقريبي كما تقدم.

ولنتذكر أهمية مسالة الأنس في القبر والوحشة في القبر «فمن يؤنس في القبر وحشتني» فلماذا لانحتمل أن تكون هناك آلية عمل معينة في الآخرة لإخراج المؤمن من وحشة القبر، ومن معالمها تواصل الملائكة معه، المعبر عنه بالزيارة؟

ص: 179


1- الإقبال 3 / 310 - 311، والوسائل 10 / 499، والبحار 94 / 69. وثواب الأعمال 62

* صلاة الليلة الثالثة عشر

عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «ومن صلّى في الليلة الثالثة عشر من شعبان ركعتين يقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة والتين والزيتون مرة فكأنما أعتق مائتي رقبة من وُلد إسماعيل عليه السلام، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، وأعطاه الله براءة من النار، ويرافق محمداً صلی الله علیه و آله وسلم»(1).

* صلاة الليالي البيض

هذه الليلة القادمة هي أولى الليالي البيض، وقد تقدم في الحديث عن الليالي البيض في أعمال شهر رجب ذكر رواية عن الإمام الصادق عليه السلام، أوردها هنا لمزيد الإهتمام بهذه الليالي:

قال جعفر بن محمد صلوات الله عليه: أُعطیَت هذه الأمة ثلاثة أشهر لم يعطها أحد من الأمم رجب وشعبان وشهر رمضان، وثلاث ليالٍ لم يعط أحد مثلها ليلة ثلاث عشر وليلة أربع عشرة وليلة خمس عشرة من كلّ شهر، وأعطيت هذه الأمة ثلاث سور لم يعطها أحد من الأمم هي ياسين وتبارك المُلك وقل هو الله أحد، فمن جمع بين هذه الثلاث فقد جمع أفضل ما أعطيت هذه الأمة فقيل: وكيف يجمع بين هذه الثلاث؟ فقال يصلي في كلّ ليلة من الليالي البيض من هذه الثلاثة أشهر، في الليلة الثالثة عشر ركعتين، يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وهذه الثلاث سور، وفي الليلة الرابعة عشر أربع ركعات، يقرأ في كل ركعة

ص: 180


1- الإقبال 3 / 311

فاتحة الكتاب، وهذه الثلاث سور، وفي الليلة الخامسة عشر ست رکعات، یقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وهذه الثلاث سور، فيحوز فضل هذه الأشهر الثلاثة ويغفر له كل ذنب سوى الشرك»(1).

فالصلاة التي يستحب الإتيان بها هذه الليلة «الثالثة عشر» هي عبارة عن ركعتين يقرأ في كلّ ركعة الحمد مرّة وياسين مرة وتبارك المُلك مرة وقل هو الله أحد مرة.

أسأل الله عزّوجل أن يوفقنا لما يحب ويرضى بالنبيّ المصطفى وآله، صلوات الله عليهم أجمعين.

والحمدلله رب العالمین

ص: 181


1- الإقبال 3 / 230

ص: 182

13 شعبان

اشارة

* التأهب لليلة النصف

* حب المهدي، تجلي التوحيد

* روايات في حبه والحنين إليه علیه السلام

* يانفس

* صوم ثلاثة عشر يوماً

* صلاة الليلة الرابعة عشر

* صلاة الليالي البيض

ص: 183

ص: 184

* التأهب لليلة النصف

غداً تطلّ علينا ليلة النصف من شعبان، أفضل ليلة في هذا الشهر، وهي تحتضن ذكرى ولادة الإمام المنتظر عجّل الله تعالی فرجه الشریف.

ماذا أعددنا لاستقبال هذه الذكرى العظيمة؟ وهل نحن على أهبة الإستعداد لإحياء هذه الليلة بالعبادة؟ ما يزال أمامنا متّسع من الوقت قبل أن نحط الرحال في رحاب ليلة النصف من شعبان، ويمكننا خلال هذه الفترة أن تُحسِّن استعدادنا أو نستعد إذا كنا لم نبادر إلى ذلك من قبل، وأقصد بالإستعداد هنا ما يشمل أولاً: الإستعداد للإحتفاء بالذكرى عن طريق مظاهر الزينة والإبتهاج وكل ما يعبِّر عن الفرحة، ويشمل ثانياً الإستعداد لإحياء هذه الليلة حتى الصباح بالعبادة.

من كان على ارتباط بموعد سابق ليلة النصف من شعبان عليه أن يتدبَّر الأمر لكي يتفرَّغ في هذه الليلة لعبادة الله عزوجل.. لأن لهذه الليلة أهمية قصوى كما سيأتي.

وفي مجال الإستعداد لإحياء نفوسنا بذكرى ولادة الإمام علیه السلام:

ص: 185

إن من واجبنا أن نعمل على نشر الشوق إلى الإمام المنتظر والحنين إليه ليصبح هذا الحنين بين الناس بشكل عام أشد بأضعاف مضاعفة من الشوق العارم الذي كان المؤمنون يحسُّون به تجاه نائبه الإمام الخميني رضوان الله عليه وما يزالون.

* حب المهدي، تجلي التوحيد

عندما نرجع إلى النصوص في كتاب الله تعالى وفي الروايات نجد أن من واجبنا أن نحب الله عزوجل ويتفرّع على حبه سبحانه وتعالی حب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وحب أهل البيت علیهم السلام.. قال الله تعالى «قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ» [التوبة 24].

وقال عزوجل «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»[الشورى 23].

في الآية الأولى نجد أن من واجبنا أن نحب الله عزوجل أكثر مما نحب آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأزواجنا وعشيرتنا وأموالنا وتجارتنا ومساكننا، وكذلك يجب أن يكون حبُّنا لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وسلّم أكثر من هذه المفردات جميعاً.

ومن الواضح أن حب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يتفرّع على حب الله عزوجل فالحب حق الله تعالى لا يشاركه فيه على وجه الإستقلال أحد، وهذا أوضح مقتضيات أننا نحب المصطفى الحبيب لأن الله تعالی

ص: 186

اصطفاه وأمر بحبه، ولأنه رسوله سبحانه، وكذلك الأمر في حب أهل البيت عليهم السلام، وخاتمهم إمام زماننا أرواحنا له الفداء.

ولولا أنهم عترة رسول الله وأقرب الخلق إليه، لما كان ثمة سبب لحبهم.

من هنا كان حبهم تجلي التوحيد الخالص، وقد أجمعت عليه الأمة، ومن خالف في ذلك وأبغضهم، فهو شر من الكفار.

يكفي للتدليل على سمو مرتبتهم المحمدية الإلهية، أن المسلمين أجمعوا أن صيغة الصلاة على رسول الله هي «صلّى الله عليه وآله» دون تقدیم سائر الأنبياء الآخرين، ولا الصحابة عليهم واعتبار أن من فصل في هذه الصيغة بين رسول الله وآله أو لم يذكر اله، صلی الله علیه و آله وسلم، فهو مبتدع.

وعلى كل مسلم أن يُعِدَّ ليوم العرض على الله تعالی جوابه على السؤال عن الآية الثانية واجب المودة في القربى، وقد أورد ابن حجر في صواعقه أنه روي عنه صلی الله علیه و آله وسلم: «استوصوا بأهل بيتي خيراً، فإني أخاصمكم عنهم غداً، ومن أكن خصمه أخصمه، ومن أخصمه دخل النار»(1).

وعلى كل مسلم أيضاً وفي كل عصر أن يبحث عن إمام زمانه من أهل البيت عليهم السلام، خصوصاً مع دلالة الآيات والروايات بكل وضوح على أن الأرض لا تخلو منهم من حجة، كما صرح ابن حجر في الصواعق المحرقة، حيث يقول:

ص: 187


1- إبن حجر الهيثمي، الصواعق المحرقة 2 / 441 (برنامج: مكتبة العقائد والملل، قرص مدمج، اعتمد من الصواعق طبعة مؤسسة الرسالة، بیروت 1997، الطبعة الأولى)

1- «وفي رواية صحيحة إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن تبعتموهما وهما كتاب الله وأهل بيتي عترتي، زاد الطبراني إني سألت ذلك لهما فلا تَقَدموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ولا تُعلموهم فإنهم أعلم منكم، وفي رواية كتاب الله وسنتي وهي المراد من الأحاديث المقتصرة على الكتاب لأن السنة مبينة له فأغنى ذكره عن ذكرها والحاصل أن الحث وقع على التمسك بالكتاب وبالسنة وبالعلماء بهما من أهل البيت ويستفاد من مجموع ذلك بقاء الأمور الثلاثة إلى قيام الساعة»(1).

2- يضيف: «وفي أحاديث الحث على التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة كما أن الكتاب العزيز كذلك ولهذا كانوا أمانا لأهل الأرض كما يأتي ويشهد لذلك الخبر السابق: في كل خَلَفٍ من أمتي عدول من أهل بيتي إلى آخره»(2).

3- وفي رواية صححها الحاكم على شرط الشيخين «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس». أضاف ابن حجر: «وجاء من طرق عديدة يقوي بعضها بعضاً إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا وفي رواية مسلم ومن تخلف عنها غرق وفي روایة: هلك»(3).

ص: 188


1- المصدر 2 / 439
2- إبن حجر الهيثمي، الصواعق المحرقة 2 / 442 (م. م)
3- المصدر 2 / 445

4- يضيف ابن حجر: «وقال بعضهم: يحتمل أن المراد بأهل البيت الذين هم أمان، علماؤهم، لأنهم الذين يُهتدى بهم كالنجوم والذين إذا فُقدوا جاء أهل الأرض من الآيات ما يوعدون وذلك عند نزول المهدي لما يأتي في أحاديثه أن عيسى يصلي خلفه ويقتل الدجال في زمنه وبعد ذلك نتتابع الايات بل في مسلم أن الناس بعد قتل عيسى للدجال يمكثون سبع سنين ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال حبة من خير أو إيمان إلا قبضه فيبقى شرار في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا الحديث قال: ويحتمل وهو الأظهر عندي أن المراد بهم سائر أهل البيت فإن الله لما خلق الدنيا بأسرها من أجل النبي جعل دوامها بدوامه ودوام أهل بيته لأنهم يساوونه في أشياء مر عن الرازي بعضها ولأنه قال في حقهم اللهم إنهم مني وأنا منهم ولأنهم بضعة منه بواسطة أن فاطمة رضي الله عنها أمهم بضعته فأقيموا مقامه في الأمان انتهي ملخصا»(1).

والذي مر عن الرازي هو ماذكره ابن حجر قبل ذلك حين قال: «وذكر الفخر الرازي أن أهل بيته يساوونه في خمسة أشياء: في السلام قال السلام عليك أيها النبي وقال تعالی سلام على آل ياسين الصافات 130 وفي الصلاة عليهم في التشهد، وفي الطهارة قال تعالى «طه» [طه: 1] أي با طاهر وقال «وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» [الأحزاب 133] وفي تحريم الصدقة، وفي المحبة قال تعالى فاتبعوني يحببكم الله آل عمران وقال قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربي الشورى 23»(2).

ص: 189


1- المصدر 2 / 446
2- المصدر 2 / 436 - 437

لقد ألف ابن حجر كتابه هذا في الرد على من أثبت صحة عقيدتهم، ولو لم يكن فيه إلا هذه الفقرات المتقدمة لكفى، والحمد لله الذي جعله مصداق قوله تقدست أسماؤه:

* «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» [الأعراف: 182 - 183].

ومايسمح به المقام من الوقوف عندما تقدم من كلامه، هو تأكيده مراراً على وجوب أن يكون من أهل البيت عليهم السلام، في كل عصر، من له أهلية التمسك به، وهو أصل شديد الأهمية كما لايخفی.

والحاصل: أما من عرف إمام زمانه صاحب العصر المهدي المنتظر عجل الله فرجه، فهو لا يواجه مشكلة في الإنسجام مع ماروي عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وهو يحب إمام زمانه المهدي المنتظر لأنه من أهل البيت الذين أمر الله تعالى بحبهم، ولتكون النتيجة أن حب هذا الموالي لإمام زمانه هو تجلي توحيده لله تعالى واتباعه للمصطفى الحبيب صلی الله علیه و آله وسلم.

وأما من لم يعرف إمام زمانه، فهو كابن حجر، مصداق من سيخاصمه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، ومصداق المتخلف عن أهل البيت الغارق والهالك.

* روایات في حبه والشوق إليه علیه السلام

أيها الموالي: «قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ» [الأنعام 91].

وتعال معي نتعرف على بعض واجباتنا تجاه ولي الله تعالى، وصي رسوله الحبيب مولانا صاحب العصر والزمان، جعلنا الله

ص: 190

تعالی من شيعته الصادقين، وجنده المستشهدين بين يديه. و ما ذلك على الله تعالى بعزيز، وإن لم نكن أهلاً له، فهو أهل لذلك وللرحمة خلقنا.

کم حدّثنا رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عن المهدي المنتظر، القائد الإلهي العظيم الذي يصلي خلفه نبي الله عيسى على نبينا وآله وعليه السلام؟ وكم حدّثنا عنه الأئمة من أهل البيت علیهم السلام؟ ترى كيف ينبغي أن تكون علاقتنا به صلوات الله عليه؟ من واجبنا أن تحنّ قلوبنا إليه، فنردّد بلسان الحال والمقال:

«هل إليك يا ابن أحمد سبيلٌ فتُلقی.

هل یتصل يومنا منك بعِدَةِ فنحظى متى نغاديك ونراوحك فنقرّ عينا، متی ترانا و نراك وقد نشرت لواء النصر، ترى أترانا نحفُّ بك وأنت تؤمُّ الملا وقد ملأتَ الأرض عدلاً»(1).

من الوفاء لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم حب وصيه وابنه المهدي المنتظر. ألا نريد أن نكون ممن يحبهم الله تعالی؟ 1- ورد عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أن الله عزوجل يحب الإمام المهدي ويحب من يحبه.

في حديث طويل عن ليلة الإسراء يتضمن أن المصطفى رأي علياً وفاطمة والأئمة من ذرِّيتها صلوات الله عليه وعليهم «والحجة

ص: 191


1- من دعاء الندبة الذي ورد الحث عليه في الأعياد الأربعة: عيدي الفطر والأضحى ويوم الغدير ويوم الجمعة

القائم كأنه كوكب دري في وسطهم» يقول النص عن لسان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم «فقلت: يا رب من هؤلاء؟ قال هؤلاء الأئمة وهذا القائم بحل حلالي ويحرِّم حرامي وينتقم من أعدائي با محمد أحببه، فإني أحبُّه وأُحب من يحبّه»(1).

2- وفي حديث آخر عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وردت فيه أسماء الأئمة عليهم السلام جميعاً إلى أن قال المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم:

«من أحب أن يلقى الله وقد كمُل إيمانه وحسُن إسلامه فليتول الحجة صاحب الزمان المنتظر فهؤلاء مصابيح الدجى وأئمة الهدی وأعلام التقى من أحبهم وتولاّهم كنت ضامناً له على الله تعالی بالجنة»(2).

3- كذلك نجد أن أمير المؤمنين عليه السلام يتشوَّق لرؤية المهدي كما ورد في حديث طول أن سائلاً سأل أمير المؤمنین عن المهدي عليه السلام فأخبره الإمام ببعض صفاته وعلاماته، إلى أن قال:

«اللهم فاجعل بيعته خروجاً من الغُمّة واجمع به شمل الأمة».

إلى أن يقول علیه السلام: «شوقاً إلى رؤيته»(3).

ص: 192


1- المجلسی، بحار الأنوار 36 / 223
2- المجلسی، البحار 36 / 296 وانظر 27 / 108 وأحمد بن عیاش الجوهري، مقتضب الأثر 31 - 14 وفيه: «فليتول ابنه المنتظر محمداً صاحب الزمان المهدي، فهؤلاء مصابيح الهدى الخ». وشاذان بن جبرئیل القمي، الفضائل 166 - 167 وفيه: «فليوال الحجة صاحب الزمان القائم المنتظر المهدي محمد بن الحسن، فهؤلاء مصابيح الدجى، وأئمة الهدى، وأعلام التقي، فمن أحبهم وتولاهم كنت ضامنا له على الله الجنة» وعلي بن يونس العاملي البیاضي، الصراط المستقیم 2 / 148
3- النعماني، الغَيبة 214

4- روى الشيخ الطوسي عليه الرحمة في حديث طويل أن بعض أجِلاّء أصحاب الصادق عليه السلام دخلوا عليه فرأوه يبكي بكاء مريراً، يفتت الأكباد، وهو يقول: سیدي غيبتك نفَت رقادي وضيّقت عليّ مهادي وابتزَّت مني راحة فؤادي.. سيدي غيبتك وصلت مصائبي بفجائع الأبد! وعندما سئل عليه السلام عن سبب حزنه البالغ وبكائه المرير قال: «إني نظرتُ صبيحة هذا اليوم في كتاب الجفر المشتمل على علم البلايا والمنايا وعلم ما كان ويكون إلى يوم القيامة الذي خصّ الله تقدّست أسماؤه به محمداً والأئمة من بعده علیهم السلام وتأملتُ في مولد قائمنا وغيبته وإبطائه وطول عمره وبلوى المؤمنين من بعده.. إلى أن يقول علیه السلام فأخذتني الرقّة واستولَت علىّ الأحزان..» والحديث طويل(1).

* يانفس

* وبعد ذكر حديث الصيرفي المنقدم هذا، قال المحدث النوري، صاحب المستدرك، في كتابه دار السلام: «فإذا كان هذا حال الإمام (الصادق) علیه السلام في حزنه على ما يرد على الشيعة في (غيبة صاحب العصر والزمان) فالحري بالمؤمن المبتلی بتلك المهلكة أن يطول حزنه ولا ينام ليله، ويشتد تأسفه في غيبة إمامه ويتواصل، ويتعاظم تحسره لفراقه في آناء ليله وأطراف نهاره، ويناجي ربه تارة:

ص: 193


1- الشيخ الطوسي، الغَيبة 147 - 168. وانظر: الشيخ الصدوق، کمال الدین وتمام النعمة 352 - 357

«اللهم أنت كشاف الكُرب والبلوى، وإليك أستعدي فعندك العدوى، وأنت رب الآخرة والأولى فأغث یاغیاث المستغيثين عُبيدك المبتلى، وأره سیده یاشدید القوى، وأزل عنه به الأسى والجوى، وبرِّد غليله يامن على العرش استوى، ومن إلبه الرجعی والمنتهى، اللهم ونحن عبيدك التائقون إلى ولیك المذكر بك وبنبيك..»(1).

ويخاطب نفسه طوراً، ويقول: ويحکِ يا نفس، إن كنت قد حرمت من النظرة إلى تلك الطلعة الرشيدة، والغرة الحميدة، ومنعتِ من الإقتباس من أنوار علومه الإلهية، وحكمته المحمدية، بمرأى من الناس ومسمع منهم، ومحضر من الخلق ومشهد، لمصالح وحكم يدور عليها نظام العالم، فإن أبواب الوصول إليه مفتوحة، ومناهل الظماء لديه مترعة، دخلها قوم لم يسلكوا غير طريقتهم، ونهل منها سربٌ لم يشربوا من غير آنيتهم، فارجعي البصر كرتين [ترينهم] بين الناس مختفين «..» فلو شابهتِهم في الأعمال والأقوال، وصرت كأحدهم في الأفعال والأحوال، لکنت معهم عند تقسيم هذا النوال، لكنك تدثرت بجلباب أعدائه، وأنخت راحلتك بغیر فنائه، تصبحين وتمسين ولا یجري ذكره على قلبك ولسانك، وتبتغين مرضاة رب العالمين وفضله، ولا تقدمي إمامك أمامك، فاتخذتِه وراء ظِهريّاً، وكأنه علیه السلام صار نسياً منسيا، فصرت محرومة من خصائص لطفه، ونفحات رحمته، فابكِ

ص: 194


1- من دعاء الندبة

يانفس طويلا، فقد عظم المصاب، وطال العذاب، وإلى الله المشتکی من اتصال الغفلة وسوء المآب»(1).

وهكذا يتضح أن من واجب الموحد المحمدي، في غيبة الإمام المنتظر عجّل الله تعالی فرجه الشريف، أن يعمق في عقله وقلبه وكل کیانه حب الإمام المهدي، ليعيش الشوق إلى رؤية الطلعة الرشيدة مردّداً بلسان القلب والحال:

«أین بقية الله التي لا تخلو من العترة الهادية. أين المُعَدُّ لقطع دابر الظلَمة أين المنتظر لإقامة الأمتِ والعِوَج. أين ابن النبي المصطفى وابن علي المرتضى وابن خديجة الغرّاء وابن فاطمة الكبرى. ليت شِعري أيَن استقرّت بك النوى بل أيُّ أرضٍ تُقِلُّك أو ثرى. إلى متى أحار فيك يا مولاي (بسبب ذنوبي) وإلى متى وأيَّ خطاب أصِفُ فيك وأيّ نجوی. بأبي أنت وأمي ونفسي لك الوقاء والحمى ياابن السادة المقربين. یاابن الهداة المهديين. یاابن الأطائب المطهَّرين، یاابن طه والمحكمات، یاابن يس والذاریات»(2).

فلنتأمل في ما تقدم، ولنلق نظرة على ما نحن عليه من علاقة بالإمام المنتظر عجّل الله تعالی فرجه الشريف، لنكتشف مدى التقصير، وبالتالي أي جهد يجب أن نبذل؟ وليلة النصف ويومه موسم نوعي شديد الخصوصية، لبذر هذه البذرة الفريدة في العقل والقلب.

والفرص تمر مر السحاب.

ص: 195


1- الكفعمي، الشيخ ابراهیم، محاسبة النفس 41 - 16، وقد أورد نص المحدث النوري، محقق الكتاب، الشيخ فارس الحسون جزاه الله تعالی خيراً، ليستشهد به على هذا المنحى لعلمائنا في مخاطبة النفس، وقد أوردته هنا بتصرف فليلاحظ
2- متفرقات من دعاء الندبة

* صوم ثلاثة عشر يوماً

أورد السيد ابن طاوس، عن الشيخ الصدوق عليهما الرحمة عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

«من صام ثلاثة عشر يوماً من شهر شعبان استغفرت له ملائكة سبع سماوات»(1).

هناك إذاً ترابط بين صيام ثلاثة عشر يوماً من شعبان وبين أن تستغفر لهذا الصائم الملائكة في السماوات السبع.

أما أن الملائكة يستغفرون لمن في الأرض، للناس، فهذا ما ورد التصريح به في كتاب الله عزوجل قال تعالى:

* «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» [غافر: 7 - 9].

وقال عزوجل: «وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» [الشورى 5].

هكذا نجد أننا أمام تصریح کتاب الله تعالی باستغفار الملائكة «للناس» و «لمن في الأرض».

ص: 196


1- الإقبال 3 / 310 - 311 وبهامشه «ثواب الأعمال: 87، أمالي الصدوق: 30، عنهما البحار: 97: 69». وانظر: الوسائل 10 / 499

كما حدثنا القرآن الكريم عن مضامین دعوات الملائكة لنا، فهم إذاً، يستغفرون لمن في الأرض دائماً، إلا أن هناك خصوصية لمن صام ثلاثة عشر يوماً من شعبان، وهي أن جميع الملائكة في السماوات السبع يستغفرون له وهو أمر عظيم جداً كما لا يخفى.

* صلاة الليلة الرابعة عشر

قال السيد ابن طاوس عليه الرحمة: وجدناه مروياً عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم قال: «من صلى في الليلة الرابعة عشر من شعبان أربع رکعات، يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة، والعصر خمس مرات، كتب الله له ثواب المصلّين من لدن آدم إلى يوم القيامة، وبعثه الله تعالی ووجهه أضوَء من الشمس والقمر وغفر له»(1).

* صلاة الليالي البيض

أذكّر هنا أيضاً بصلاة أخرى لهذه الليلة، تقدم الحديث عنها في الليالي البيض من شهر رجب، كما تقدم الحديث عنها في الحديث السابق، حين ذكرت الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام وخلاصتها: إن الله عزوجل أعطى هذه الأمة ثلاثة أشهر لم يُعطها لأمة من الأمم هي رجب وشعبان وشهر رمضان المبارك، وأعطى الله تعالى لهذه الأمة ثلاث ليالٍ لم تُعطَها أمة من الأمم هي الليالي البيض، وأعطى الله تعالى هذه الأمة ثلاث سُوَر لم تُعطَها أمة من الأمم هي يس وتبارك وقل هو الله أحد، وقد دعانا الإمام الصادق عليه السلام من خلال هذه الرواية إلى الجمع بين هذه الفضائل، وكيفية الجمع أن يصلّي من

ص: 197


1- الإقبال 3 / 311

يوفق لذلك، ليلة الثالث عشر من شعبان الصلاة التي تقدمت، ويصلي في الليلة الرابعة عشر من شهر شعبان أربع ركعات بتسليمتين، يقرأ في كل ركعة الحمد مرة ويس مرة وتبارك مرة وقل هو الله أحد مرة، وثواب هذه الصلاة أيضاً ثواب عظيم، كما تقدم.

في الختام أذكّر نفسي وإخواني وأخواتي بأن نكون مجنّدين في هذه الأيام للإعداد لاستقبال ذكرى مولد الإمام المنتظر عجّل الله تعالی فرجه الشريف، لننشر الإهتمام بهذا الأمر بين الناس، ولنرفع من سقف اهتمامنا نحن بهذه المناسبة الجليلة فإن ذلك من التعبُّد لله عزوجل والوفاء لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وهو الذي يؤهلنا للأخذ بنصيب وافر من العبادة والتهجد في ليلة النصف من شعبان.

أسأل الله عزوجل أن يوفقنا لمراضيه بالنبي وآله المعصومین، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

والحمدلله رب العالمین

ص: 198

14 شعبان

اشارة

* الليلة ومولودها

* انتظار الفرج

* ليلة النصف من شعبان

* في الروايات

* مع العلماء

* الأعمال

* صلاة الليالي البيض

ص: 199

ص: 200

* الليلة ومولودها

نحن في اليوم الرابع عشر من شهر شعبان، فالليلة القادمة هي ليلة النصف من شعبان أفضل ليلة في هذا الشهر، بل هي من ليالي القدر كما سيتضح إن شاء الله تعالی.

تكمن عظمة هذه الليلة في احتضانها لذكرى ولادة بقية الله في الأرَضين شريك القرآن إمام الإنس والجان وصي المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم صاحب العصر والزمان، أرواحنا لتراب مقدمه الفداء كما كان يعبِّر نائبه عبد الله المسدَّد الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه.

* انتظار الفرج

تظافرت الروايات حول أهمية انتظار ظهور المهدي المنتظر وانتظار فرج الأمَّة بتوَلِّيه لقيادة المسيرة بشكل ظاهر لا من خلال غيبته لینجز الله وعده ويعزّ جنده ويظهر دينه على الدين كله.

والروايات في هذا المجال كثيرة جداً أذكر بعضها.

1- عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم «أفضل أعمال أمني انتظار الفرج»(1).

ص: 201


1- المجلسی، البحار 50 / 318

2- وعنه صلی الله علیه و آله وسلم؛ «أفضل العبادة انتظار الفرج»(1).

وإذا كان ذلك ينطبق على انتظار فرج من كرب شخصي ألم بمؤمن، فكيف هو فضل انتظار الفرج من کُرب الإسلام والمسلمين، وخلاص البشرية من نير الضلال البعيد.

3- عن الإمام الصادق علیه السلام «من مات منكم على هذا الأمر منتظراً كان كمن هو في الفسطاط الذي للقائم»(2). أي وكأنه في معسكر الإمام القائم علیه السلام.

4- وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق علیه السلام: «من مات منتظرا لهذا الامر كان كمن كان مع القائم في فسطاطه لا بل كان بمنزلة الضارب بين يدي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بالسيف»(3).

والسؤال كيف نكون منتظرين لظهور بقية الله وصيّ المصطفى الحبيب صلی الله علیه و آله وسلم؟ وتوضح لنا الجواب الوافي رواية عن الإمام الصادق، حيث ورد عن أبي بصير، أنه علیه السلام قال ذات يوم: «ألا اخبركم بما لا يقبل الله عزوجل من العباد عملاً إلا به؟ فقلت: بلى، فقال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده [ورسوله] والإقرار بما أمر الله، والولاية لنا، والبراءة من أعدائنا - يعني الائمة خاصة - والتسليم لهم، والورع والإجتهاد والطمأنينة، والانتظار للقائم (عليه السلام)، ثم قال: إن لنا

ص: 202


1- المصدر 52 / 125
2- النعماني (محمد بن إبراهيم) الغَيبة 200
3- المجلسی، البحار 52 / 146

دولة يجيئ الله بها إذا شاء. ثم قال: من سره أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق، وهو منتظر، فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدرکه، فجدوا وانتظروا. هنيئا لكم أيتها العصابة المرحومة»(1).

وينبغي أن نلاحظ هنا أن الإنتظار كما تحدده الروايات «عمل» وهو صریح كونه أفضل الأعمال، فهو إذاً لا يعني السلبية والإنزواء والإمتناع عن أي عمل وأي لون من ألوان الجهاد كما يحلو للبعض أن يفهموه.

وهذا الأمر من أوضح الواضحات فإن من الطبيعي لمن انتظر قافلة ليسافر معها أن يكون على أتم استعداد للإنطلاق بمجرد إخباره بذلك. هكذا يكون منتظراً لهذه القافلة.

ومن ينتظر معركة لا بد وأن يكون قد تدرَّب وأعدَّ سلاحه، ليكون منتظراً للمعركة أما إذا لم يتدرّب ولم يُعِدّ نفسه وسلاحه فلا يصح أن يقال إنه منتظر بل هو في الحقيقة مهمل لا أُباليّ، يواجه واجبه باللامبالاة وعدم الإكتراث.

إن الإنتظار لكل أمر يستتبع استعداداً متناسباً مع ذلك الأمر المنتظَر.

من كان ينتظر سفراً قصيراً مثلاً فإن استعداده له يكون بحجم هذا السفر، أما إذا كان ينتظر سفراً طويلاً فإن استعداده بطبيعة الحال لا بد وأن يكون متناسباً مع طبيعة السفر الطويل.

ص: 203


1- النعماني، الغَية 200

إذا تبيَّن ذلك فإن من الواضح أن المنتظِر للإمام المنتظر عجّل الله تعالی فرجه الشريف ينتظر قائداً إلهياً سيقود مسيرة تحفُّ بها الملائكة وجمهورها الأساسي أهل التقوى والعبادة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذا القائد الإلهي سلام الله عليه سيخوض المعارك الحامية الوطيس واحدة تلو الأخرى.

إذا كانت الثورة الإسلامية المباركة في إيران التي قادها نائب الإمام المنتظر، قد أحدثت هذه الهزّة الكبيرة على مستوى العالم، فأي متغيّرات ستعصف بالعالم كله عند ظهور الإمام المنتظر عجّل الله تعالی فرجه الشريف، وكم هو المخزون الهائل من التقوى والمرابطة الذي ينبغي توفُّرُه للأمة لتستجيب لقائدها وهو يخطو بها من نصر إلى نصر.

عندما ندرك أن مسيرة الإمام المنتظر عجّل الله تعالی فرجه الشريف، مسيرة الملائكة وأهل التقوى والعبادة كما ورد ذلك في روايات كثيرة(1) وأن جمهور الثورة الأساسي هو جمهور أهل التقوى والعبادة، نستطيع أن ندرك بوضوح أن المنتظِر لا بد وأن يكون معنيّاً بتهذیب نفسه وتزكيتها، ليحقق في نفسه شيئاً من الإنسجام مع مسيرة المتقين والأبدال.

وعندما نلاحظ الأحاديث التي تبيِّن لنا الأحداث الجسام التي تقع في عصر الظهور والمعارك الطاحنة التي تدور رحاها نستطيع أن

ص: 204


1- حول كونها مسيرة الملائكة يمكن الرجوع إلى غيبة الشيخ النعمانی صفحه 195 - 234 - 243 - 307، وغيرها من الموارد، وكذلك في البحار جزء 52 صفحة 326 - 329 - 337

ندرك أهمية الجهاد الأصغر بعدما أدركنا أهمية الجهاد الأكبر في عملية الإنتظار.

وأذكر أولاً حديثاً عن أهمية الإستعداد في مجال الجهاد الأصغر ثم أذكر ما يؤكد لنا على أهمية الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر معاً.

عن الإمام الصادق علیه السلام «ما تستعجلون بخروج القائم فوالله ما لباسه إلا الغليظ وما طعامه إلا الشعير الجشب وما هو إلا السيف والموت تحت ظل السيف»(1).

إذاً هناك معارك طاحنة، ترافقها مصاعب وشدائد جمّة ستواجه المسيرة، وسيصبح الطابع العام طابع زهد وإعراض عن الدنيا والإنتقال من معركة إلى معركة ومن خندق إلى خندق. «فوالله ما لباسه إلا الغليظ وما طعامه إلا الشعير الجشب وما هو إلا السيف، والموت تحت ظل السيف».

إن على الذي يقول «عجّل الله فرجك يا مولاي» أن ينظر هل أعدَّ نفسه ليكون قادراً أن يتحمل مثل ذلك.

هل هو منتظر حقيقةً أم أنه يعيش وهم الإنتظار؟ وأما الحديث الذي يجمع بين أهمية الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر في الإنتظار، فهو عن الإمام الصادق علیه السلام، يصف أصحاب الإمام المنتظر عجّل الله تعالی فرجه الشريف، وقد ورد فيه:

«رجالٌ كأن قلوبهم زُبُرُ الحديد، لا يشوبها شك في ذات الله،

ص: 205


1- النعماني، الغَيبة 233

أشد من الحجر، لو حَملوا على الجبال لأزالوها، بتمسّحون بسرج الإمام عليه السلام بطلبون بذلك البركة، ويحفّون به بقُونه بأنفسهم في الحروب، ويكفونه مایرید، فيهم رجال لا ينامون الليل، لهم دويٌ في صلاتهم كدويّ النحل، یبيتون قياماً على أطرافهم ويصبحون على خيولهم، رهبان في الليل، ليوث بالنهار هم أطوَع له من الأمَة لسيدها، کالمصابيح، كأن قلوبهم القناديل وهم من خشية الله مشفقون یدعون للشهادة ويتمنّون أن يقتلوا في سبيل الله شعارهم یا لثارات الحسين إذا ساروا يسير الرعب أمامهم مسيرة شهر»(1).

أرأيت إلى هذا المزج الرائع بين الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر، وكم هو الفارق هائل بينه وبين مانحن عليه بشكل عام.

إذا أردنا أن نبحث عمّن تتوفر فيهم هذه المواصفات، فهل نجدها في غير مجاهدي المقاومة الإسلامية أعزّها الله تعالی؟ وطبيعي أن يشاركهم في ذلك، كل المجاهدين في سبيل الله عزوجل السائرين على اسم الله تعالى، أينما وجدوا.

ما أريد التأكيد عليه أن الإنتظار عملٌ دائب باتجاه تزكية النفس» الجهاد الأكبر» وحملٌ لهَمّ المسلمين لا ينفك عن الجهاد الأصغر.

ترى هل نحن منتظرون؟ اللهم اجعلنا منهم، من جند وليك صاحب العصر والزمان، وعجل اللهم فرجه الشریف.

ص: 206


1- المجلسی، البحار 52 / 308

* ليلة النصف من شعبان

هذه الليلة القادمة ليلة بلغ قدرها إلى حد أنها من الليالي القلائل التي ورد الحث الكبير على إحيائها، وعندما نرجع إلى الروايات نجد أننا أمام ليلة لا تفوقها ليلة سوى ليلة القدر، بل إن هناك قاسماً مشتركاً بين هذه الليلة وليلة القدر وهذا القاسم المشترك هو أن الأمور تقدَّر في ليلة القدر وتقدَّر في ليلة النصف من شعبان.

تحدث السيد ابن طاوس عليه الرحمة عن هذه النقطة في كتابه الإقبال، وذكر وجوهاً منها ماخلاصته: إذا وعدك شخص بأمر في وقت، ثم نفّذ هذا الوعد في وقت آخر فلكا الوقتين دخل في الوعد ووصول هذا الأمر إليك أو وصولك إليه، فيمكن أن يقال إن الأمور تُقدَّر بدرجة من التقدير في ليلة النصف من شعبان وبدرجة أخرى في ليلة القدر، ولكلا الوقتين دخلٌ في التقدير.

* في الروايات

والروايات التي تبيّن لنا أهمية ليلة النصف من شعبان كثيرة منها:

1- عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في حديث طويل: «إن لله خياراً من كل ما خلقه «..» فأما خياره من الليالي فليالي الجمع، وليلة النصف من شعبان وليلة القدر ولیلتا العيدين..»(1).

ص: 207


1- المصدر 93 / 373

2- وعنه صلی الله علیه و آله وسلم: «من أحيا ليلة العيد وليلة النصف من شعبان لم يمُت قلبه يوم تموت القلوب»(1).

3- كذلك أورد الشيخ الطوسي والعلامة المجلسي رحمهما الله عن الإمام الباقر وقد سئل عن فضل ليلة النصف من شعبان فقال علیه السلام: «هي أفضل ليلة بعد ليلة القدر، فيها يمنح الله تعالی العباد فضله، ويغفر لهم بمنِّه، فاجتهدوا في القربة إلى الله فيها، فإنها ليلة إلى الله تعالى على نفسه - أي أقسم الله تعالى على نفسه - أن لا یردّ سائلاً له فيها ما لم يسأل معصية، وإنها الليلة التي جعلها الله تعالي لنا أهل البيت بإزاء ما جعل ليلة القدر لنبيّنا صلی الله علیه و آله وسلم، فاجتهدوا في الدعاء والثناء على الله تعالى عزوجل فإنه من سبّح الله تعالى فيها مائة مرة وحمده مائة مرة وكبّره مائة مرة، غفر الله تعالى له ما سلف من معاصيه، وقضى له حوائج الدنيا والآخرة، ما التمسه منه - أي ما طلبه من الله عزوجل - وما علم حاجته إليه وإن لم يلتمسه منه، کرماً منه تعالى وتفضُّلاً لعباده»(2).

هذه الليلة إذاً، ليلة عظيمة المنزلة جليلة القدر وكذلك يومها يوم النصف من شعبان، إنهما أفضل أوقات شعبان على الإطلاق.

4- ومن الروايات حول أهمية ليلة النصف من شعبان، عن الإمام الصادق علیه السلام أن أمير المؤمنين عليه السلام «كان يعجبه أن يفرِّغ الرجل نفسه أربع ليالٍ من السنة، أول ليلة من رجب وليلة النحر وليلة الفطر وليلة النصف من شعبان»(3).

ص: 208


1- الإقبال 3 / 355 و المجلسی، البحار 88 / 132
2- الشيخ الطوسي، الأمالي 297، والمجلسي، البحار 94 / 85
3- المجلسي، البحار 88 / 123 و 128 و 94 / 36 و 39، نقلاً عن الصدوق في ثواب الأعمال 94 / 84

وليلة النحر هي ليلة عيد الأضحى، وليلة الفطر ليلة عيد الفطر.

وهناك روايات كثيرة غير ما تقدم حول عظمة ليلة النصف من شعبان، وفضيلتها وأهمية إحيائها، وأكتفي بماذُكر وبما سيرد في كلمات العلماء حول ليلة النصف من شعبان.

* مع العلماء

قال الشيخ المفيد رضوان الله تعالى عليه «وهي ليلة يعظمها المسلمون جميعا وأهل الكتاب»(1).

يبيّن لنا السيد ابن طاوس رضوان الله تعالى عليه، أن هذه النعمة الإلهية الجليلة نعمة الإمام المهدي هي إحدى بركات المصطفى الحبيب وكراماته صلی الله علیه و آله وسلم، فلقد وعد الله عزوجل رسوله المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم أن يُظهر دينه على الدين كله، ويتحقق هذا الوعد لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم على يد وصيه المهدي «فينبغي أن يكون تعظيم هذه الليلة لأجل ولادته عند المسلمين والمعترفين بحقوق إمامته على قدر ما ذكره جده محمد صلی الله علیه و آله وسلم ولست أجد القوة البشرية قادرةً على القيام بهذه الحقوق المعظمة الرضيّة إلا بقوة من القدرة الربانية فليقم كل عبد بما يبلغ إليه بما أنعم عليه الله جل جلاله من القوة والإجتهاد.

وقد تحدث السيد عليه الرحمة، مطوَّلاً في عدة مواضع من كتاب الإقبال حول أهمية ليلة النصف، فبيِّن في بعض هذه الموارد أن المؤمن في هذه الليلة أمام عروض إلهية عظيمة، غاية في السخاء والكرم، إنه کرم الله تعالى أكرم الأكرمين، إلى أن يقول السيد:

ص: 209


1- الشيخ المفيد، مسار الشيعة 62

«سيأتي وقت يُطوي فيه بساط الحياة بيد الوفاة، وتطوى فيه صحائف الأعمال فلا تقدر على الزيادة في الإقبال - أي إغتنم هذه الفرصة العظيمة فرصة ليلة النصف من شعبان - وإن توقفت نفسك عن العمل بجميع ما ذكرناه أو تكاسلت واشتغلت بما ضرُّه أكثر من نفعه أو بما لا بقاء لنفعه من شواغل دار الزوال فحدثها بما نذكره من المثال».

ثم ذكر مثالاً يوضح لنا من خلاله كيف ينبغي أن يكون اهتمامنا شديداً بكل لحظة من لحظات هذه الليلة.

وخلاصة مثاله رضوان الله تعالى عليه: لو أن ملِكاً من ملوك الدنيا دعاك ووضع بين يديك مختلف المراسيم والأوسمة وقال لك خُذ من هذه الأوسمة والمراسيم كل ما تريد: مرسوم منها يقضي مثلاً بتعيينك رئيس الوزراء، ومرسوم يقضي بامتلاك أراضي واسعة شاسعة، وثالث يخولك استلام مبالغ طائلة وما شابه من المراسيم والأوسمة ولكل مرسوم خصائصه النادرة، ولكل وسام مستلزماته النوعية، وقد أتيحت لك فرصة من الوقت محددة، هيهات أن تتكرر، التأخذ فيها ما أردت.

فكيف تتعامل مع هذه العطايا العظيمة من هذا الملك؟ هل تهمل لحظة أم أنك تكون حريصاً على أن تأخذ كل ما استطعت؟ يقول السيد رحمه الله كما تتعامل مع عطايا هذا الملك من ملوك الدنيا، فتعامل بنفس الإهتمام مع عطايا ملك الملوك عزوجل، إنه

ص: 210

سبحانه وتعالى رحمةً بنا عرض علينا في هذه الليلة كل موائد رحمته، ويستطيع أي شخص منا أن يأخذ بحسب إقباله واهتمامه فهل من اللائق أن ننشغل عن ربنا عزوجل وعن عطاياه ولو لحظة؟ ثم يبيّن السيد ابن طاوس عليه الرحمة أن هناك فارقاً ينبغي أن نلاحظه لأن عطايا ملك من ملوك الدنيا، مهما كانت، هي أمور تزول، بينما عطايا ملك الملوك عزوجل، عطايا خالدة باقية، فينبغي أن يكون الإهتمام بهذه العطايا، من نوع آخر.

ثم ختم رحمه الله بقوله: فاشتغل رحمك الله بدواء أسقامك وثبوت أقدامك.

كما أورد رضوان الله تعالى عليه رواية طويلة عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم جاء فيها أن جبرائیل علیه السلام أخبره عن ليلة النصف من شعبان أنها ليلة «تفتّح فيها أبواب السماء، فتفتح فيها أبواب الرحمة، وباب الرضوان، وباب المغفرة، وباب الفضل، وباب التوبة، وباب النعمة، وباب الجود، وباب الإحسان، يعتق الله فيها بعدد شعور النّعم وأصوافها، ويُثبِت فيها الآجال، ويقسِّم فيها الأرزاق من السنة إلى السنة، وينزل ما يحدث في السنة كلها، یا محمد من أحياها بتسبيح وتهليل وتكبير ودعاء وصلاة وقراءة وتطوع واستغفار کانت الجنة له منزلاً ومقيلاً وغفر الله له ما تقدم من ذنوبه وما تأخّر «..» فأحیها یا محمد، وأمر أمتك بإحيائها والتقرب إلى الله تعالى بالعمل فيها فانها لیلة شريفة، لقد أتيتك يا محمد وما في السماء ملَك إلا وقد صف قدميه في هذه الليلة بين يدي الله تعالى ، «..» فهم بین راكع وقائم وساجد وداعٍ ومكبِّر ومستغفر ومسبِّح. يا محمد إن الله

ص: 211

تعالى یطَّلع في هذه الليلة فيغفر لكل مؤمن قائم يصلي وقاعد يسبح وراكع وساجد وذاكر، وهي ليلة لا یدعو فيها داع إلا استجيب له، ولا سائل إلا أُعطي، ولا مستغفرٌ إلا غفر له ولا تائب إلا يتوب عليه، من حُرم خیرها یا محمد فقد حرم»(1).

ترى هل نحرص على إحياء هذه الليلة؟ هل سنرى أن المجالس العامة تُعقد في كل الأحياء لنُمضي ليلة ذكرى ولادة الإمام المنتظر عجّل الله تعالی فرجه الشريف بعبادة الله عزوجل متوسلين إلى الله تعالی بولیِّه، وصي المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم؟ أما سمع القلب ووعي أن المحروم، والخاسر الكبير من يُحرم هذه الليلة وخيرها وعطاءها.

ويبلغ تحذیر سید العلماء المراقبين السيد ابن طاوس عليه الرحمة إلى حد أنه يقول:

«إياك إياك أن تضيّع شيئاً من الوقت في هذه الليلة بما يضرّك من الحركات والسكنات أو بما لا ينفعك بعد المماة، فإن غلبك النوم بغير اختيارك حتى شغلك عن بعض عبادتك ودعائك وأذكارك فليكن نومك لأجل طلب القوة على العبادة كنوم أهل السعادة»(2).

فهو رضوان الله تعالى عليه يعتبر أن غلبة النوم لشخص بالإختيار في هذه الليلة، أي أنه يختار أن ينام في ليلة النصف من شعبان، هو

ص: 212


1- الإقبال 3 / 320 - 321
2- الإقبال 3 / 354

أمر لا ينبغي فعله، ولكن لو افترضنا أن شخصاً يريد أن لا ينام، إلا أن النوم غلبه بغير اختياره كأن يلح عليه النوم ولايعود باستطاعته مواصلة السهر، فيضطر إلى النوم الذي قد غلبه بغير اختياره. هنا كيف يكون نومه؟ ينبغي أن ينام بنية أن يستيقظ بعد ذلك ويواصل العبادة، لا أن ينام وكأن الليلة ليست ليلة النصف من شعبان! والفائدة العملية هي:

أولاً: أن يستعد المؤمن قبل ذلك، بأن ينام في النهار مثلاً لكي يبقى مستيقظاً حتى الصباح.

وثانياً: أن يكتب المؤمن الذي اضطر إلى النوم بحسب نيته هذه، في عداد من أحيوا ليلة النصف من شعبان.

ثم يؤكد السيد رضوان الله تعالى عليه في هذا السياق عليأمرين:

1- أن الإنسان مهما عمل في هذه الليلة، فلا يصح أن يحسن ظنه بنفسه، فيتداخله العجب، يقول في هذا المجال:

«ولا تحسن ظنك بنفسك وبطاعتك فكم من عمل عملته في دنياك بغاية اجتهادك وإرادتك ثم بانت لك فيه من العيوب ما تعجب من الغفلة عنه فكيف إذا كان الناظر في عملك الله عزوجل الذي لا يخفى عليه شيء»(1).

2- أهمية التوسل في آخر ليلة النصف من شعبان بأهل بيت العصمة صلوات الله عليهم أجمعين، ويقول في ذلك:

ص: 213


1- المصدر

«.. إذا كان أواخر هذه الليلة نصف شعبان، فاجعل تسليم أعمالك إلى من تعتقد أنه داخل بينك وبين الله جل جلاله في آمالك وتوسل إليه وتوجه إلى الله جل جلاله بإقبالك عليه، في أن يسلم عبادتك من النقصان ويحملها بالعفو والغفران، ويفتح بها أبواب القبول ويرفعها في معارج درجات المأمول»(1).

وتحدث آية الله الملكي التبريزي عن ليلة النصف من شعبان وكيف ينبغي أن يكون عملنا فيها والمحور الأبرز في كلامه رضوان الله تعالى عليه، أن نعمل في هذه الليلة عمل مودّع للدنيا، أي عمل من عرف أنه سيموت غداً. كيف يتضرع إلى الله تعالى؟ كيف يتذكر جميع ذنوبه ويبكي؟ إلهي إن لم ترحمني فمن يرحمني، إلهي أفنيتُ عمري في البعد عنك والإصرار، والغفلة والسهو والتمرد والجرأة عليك وها أناذا مقبل إليك فإن طردتني عن بابك فبمن ألوذ.

وتعبير «أن يعمل الإنسان في هذه الليلة عمل مودّع للدنيا» يراد من خلاله الإلفات إلى أهمية كل لحظة من لحظات الليلّة، أي إغتنم هذه الفرصة بغاية الإنتباه والجد، لأن المودّع للدنيا لا يضيّعً من ليلته الأخيرة أي لحظة يمكنه استثمارها.

قال التبريزي رحمه الله: هي من الليالي التي ورد التأكيد على إحيائها وقد وردت فيها أعمال و عبادات لم يرِد مثلها في غيرها حتى ليلة القدر.

ص: 214


1- المصدر 354 - 355

وهي ليلة ولد فيها مولود لم يولد مثله في تطهير الأرض والفرج العام للمؤمنين ونشر رایات عدل الله على أهل الأرض»(1).

وقد تقدمت الإشارة في كلام السيد ابن طاوس إلى أن الإمام المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشريف، بركة من بركات رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم.

ثم يقول آية الله التبريزي: «وإذا بلغ السالك هذا المنزل - إذا وصل إلى ليلة النصف من شعبان - فعليه أن يقطع أولاً نظره في هذه الليلة عن اللذة بالدنيا والراحة فيها ويعمل فيها عمل مودّع للدنيا، وإن رأي عملَين متساويين في الفضل فيؤثر ما هو الأشق على النفس»(2).

وهذا يدل على أهمية الليلة من حيث أن المرجّح للإنسان إذا رأي عملَين يتساويان في الفضل فليأخذ الأصعب والأشق على نفسه.

إلى أن قال رحمه الله ما حاصله: «ثم إن من أهم الأعمال في هذه الليلة التقرب إلى الله عزوجل بإمام الزمان وحجة العصر ولي الأمر وارث الأنبياء السبب المتصل بين الأرض والسماء «..» فليَظهر من حركاتك وأفعالك وأقوالك أنك فاقد إمامك، منتظر ظهوره، متوقع التشرف برؤية الطلعة الرشيدة»(3).

ص: 215


1- الملكي التبريزي، المراقبات 79. بتصرف
2- المصدر، بتصرف
3- المصدر 85 - 89. بتصرف

* الأعمال

أما أعمال هذه الليلة فهي كثيرة، وفي مايلي قائمة بها مع التأكيد على خصوصيات في الثواب لأكثرها:

1- الغسل، وهو يخفف الذنوب، وينبغي الحرص قدر الإمكان على الإتيان به في أول الليل. قال الشيخ المفيد عليه الرحمة:

«ويستحب في هذه الليلة الغسل»(1).

2- إحياء الليلة بالعبادة، وقد تقدم أن من أحياها لم يمت قلبه يوم تموت القلوب. قال الشيخ المفيد «واحياؤها بالصلاة والدعاء»(2).

3- زيارة الإمام الحسين علیه السلام، وهي أفضل الأعمال في هذه الليلة.

قال الشيخ المفيد: «وفي هذه الليلة تكون زيارة سيدنا أبي عبد الله الحسين بن علي عليه السلام «..» ومن لم يستطع زيارة الحسين بن علي علیه السلام في هذه الليلة فليزر غيره من الأئمة علیهم السلام، فان لم يتمكن من ذلك أومي إليهم بالسلام وأحياها بالصلاة والدعاء»(3).

وقال الشيخ الطوسي: «أفضل الأعمال فيها زيارة أبي عبد الله الحسین بن علي عليه السلام»(4).

ص: 216


1- مسار الشيعة 61
2- مسار الشيعة 61
3- المصدر 61 - 62
4- مصباح المتهجد 829

وظاهر الروايات وكلمات العلماء، أن المراد بزیارته علیه السلام، التواجد في كربلاء، ولكن لاتترك الزيارة من بعد، لورود روایات عامة حول زيارته علیه السلام من أي مكان «مرتفع»، في أي وقت، فكيف بمثل ليلة النصف.

4- دعاء بمناسبة مولد الحجة علیه السلام، قال الشيخ الطوسي: ويستحب أن يدعي فيها بهذا الدعاء: اللهم بحق ليلتنا ومولودها، وحجتك وموعودها التي قرنت إلى فضلها فضلك فتمت كلمتك صدفا وعدلاً، لا مبدل لكلماتك، ولا معقب لآياتك، نورك المتألق وضياؤك المشرق، والعَلَم النور في طَخياءِ الديجور، الغائب المستور جل مولده وكرم محتده والملائكة شُهَّدٌه، والله ناصره ومؤيده إذا آن میعاده، والملائكة أمداده، سیف الله الذي لا ينبو ونوره الذي لا يخبو وذو الحِلم الذي لا يصبو مدار الدهر ونواميس العصر وولاة الأمر والمنزل عليهم ما يتنزل في ليلة القدر وأصحاب الحشر والنشر تراجمة وحيه وولاة أمره ونهيه، اللهم فصلِّ على خاتمهم وقائمهم المستور عن عوالمهم، وأدرك بنا أيامه وظهوره وقيامه واجعلنا من أنصاره واقرن ثارنا بثاره، واكتبنا في أعوانه وخلصانه وأحینا في دولته ناعمين وبصحبته غانمين وبحفه قائمين ومن السوء سالمين يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين والمرسلين وعلى أهل بيته الصادقين، وعترته الناطقين، والعن جميع الظالمين، واحكم بيننا وبينهم یا أحکم الحاکمین»(1).

ص: 217


1- المصدر 842 - 843

5- دعاء علمه الإمام الصادق عليه السلام، قال الشيخ: «وروی إسمعيل بن الفضل الهاشمي قال: علمني أبو عبد الله علیه السلام دعاء أدعو به ليلة النصف من شعبان: اللهم أنت الحي القيوم العلي العظيم الخالق الرازق المحیي المميت البدي البديع لك الجلال ولك الفضل، ولك الحمد ولك المن، ولك الجود ولك الكرم، ولك الأمر ولك المجد ولك الشكر، وحدك لا شريك لك، يا واحد، يا أحد، یا صمد، یا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، صل على محمد وآل محمد واغفر لي وارحمني واكفني ما أهمني واقض ديني ووسع علي في رزقي فإنك في هذه الليلة كل أمر حكيم تفرق، ومن تشاء من خلفك ترزق فارزقني وأنت خير الرازقين، فإنك قلت وأنت خير القائلين الناطقين: واسألوا الله من فضله، فمن فضلك أسأل وإياك قصدت وابن نبيك اعتمدت، ولك رجوت فارحمني يا أرحم الراحمين».

6- دعاء «اللهم اقسم لنا من خشيتك» فقد ورد حوله:

«كان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم یدعو في ليلة النصف من شعبان، فيقول: اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به رضوانك، ومن اليقين ما يهون علينا به مصيبات الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقُوَتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا. واجعل ثارنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، برحمتك يا أرحم الراحمين»(1).

ص: 218


1- المصدر 843

وبعد أن ذكر السيد هذا الدعاء، نبَّه على أهميته فقال:

«وقد مضى هذا الدعاء في بعض مواضع العبادات وإنما ذكرناه هنا لأنه في هذه - ليلة نصف شعبان - من المهمات»(1). ومثل هذه الإشارات من السيد، ينبغي الإهتمام بها.

وقال المحدث القمي: «وفي کتاب «عوالي اللئالي» أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم، كان يدعو بهذا الدعاء في كافة الأوقات»(2).

7- صلاة وأذكار: ورد في الرواية التي تقدم ذكر شطر منها حول أن ليلة النصف أفضل ليلة بعد ليلة القدر، قال الراوي: فقلت لسيدنا الصادق عليه السلام، وأي شئ أفضل الأدعية؟ فقال: إذا أنت صليت العشاء الآخرة فصل ركعتين تقرأ في الأولى الحمد مرة، وسورة الجحد وهي قل يا أيها الكافرون، واقرأ في الركعة الثانية الحمد، وسورة التوحيد وهي قل هو الله أحد فإذا سلمت قلت: سبحان الله ثلاثاً وثلثين مرة، والحمد لله ثلاثاً وثلثين مرة، والله أكبر أربعاً وثلثين مرة، ثم قل: يامن إليه ملجأ العباد في المهمات وإليه بفزع الخلق في الملمات یا عالم الجهر والخفيات «الخ الدعاء» فو الله لو سألت بها بعدد الفطر لبلغك الله عزوجل إياها بكرمه وفضله»(3).

ص: 219


1- الإقبال 3 / 321
2- القمي، الشيخ عباس، مفاتیح الجنان 167 (ط. ق). وانظر: ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللئالی 159
3- الشيخ الطوسي، مصباح المتهجد 830 - 831 والإقبال 3 / 315 - 316

ويشتمل ماتقدم على تكرار الباقيات الصالحات مائة مرة، وهو ما يذكر أيضاً كعمل مستقل، وقد أورد ذلك الشيخ الطوسي في رواية عن الإمام الباقر، جاء فيها قوله علیه السلام: «فإنه من سبَّح الله تعالى فيها مائة مرة، وحمده مائة مرة وكبره مائة مرة، غفر الله له ما سلف من معاصيه وقضي له حوائج الدنيا والآخرة ما التمسه وما علم حاجته إليه وإن لم يلتمسه منة وتفضلا على عباده»(1).

8- قراءة دعاء: إلهي تعرض لك في هذا الليل المتعرضون، وقد أورده الشيخ الطوسي بعد الصلاة المتقدمة التي تتضمن دعاء «يامن إليه ملجأ العباد» فقال بعده مباشرة:

«وتقول: إلهي تعرض لك في هذا الليل المتعرضون وقصدك فيه القاصدون وأمل فضلك ومعروفك الطالبون، ولك في هذا الليل نفحات وجوائز وعطايا ومواهب تمن بها على من تشاء من عبادك وتمنعها من لم تسبق له العناية منك، وها أنا ذا عُبيدك الفقير إليك المؤمل فضلك ومعروفك، فإن کنت یا مولاي تفضلت في هذه الليلة على أحد من خلقك وعدت عليه بعائدة من عطفك، فصل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين الخيرين الفاضلين وجد علي بطَولِكَ ومعروفك يا رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وآله الطاهرين وسلم تسليما إن الله حميد مجيد، اللهم إني أدعوك كما أمرت فاستجب لي كما وعدت إنك لا تخلف الميعاد»(2).

ص: 220


1- المصدر 831
2- المصدر 833

9- دعاء السجود، كان يدعو به النبي صلی الله علیه و آله وسلم، في سجوده ليلة النصف من شعبان. «سجد لك سوادي وخیالي، وآمن بك فؤادي، هذه يداي وما جنيته على نفسي، یا عظیم ترجي لكل عظيم، اغفر لي العظيم فإنه لا يغفر الذنب العظيم إلا الرب العظيم. ثم رفع رأسه ثم عاد ساجدا «..» يقول: أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له السموات والأرضون، وانكشفت له الظلمات وصلح عليه أمر الأولين والآخرين من فجاءة نقمتك ومن تحويل عافيتك ومن زوال نعمتك، اللهم ارزقني قلباً تقياً نقياً ومن الشرك بريئاً لا كافرا ولا شقيا»(1).

10- صلاة مائة ركعة ورد التأكيد عليها كثيراً، بحيث أن من يطلع على الثواب الكبير الذي ورد على هذه الصلاة، يبذل أقصى جهد ممكن لئلا تفوته. وكل ركعتين منها بتسليمة، يقرأ في كل ركعة الحمد مرة وقل هو الله أحد عشر مرات، فإذا فرغ من الصلاة - أي أنهي المائة ركعة - قرأ آية الكرسي عشر مرات وفاتحة الكتاب عشر مرات وسبح الله مائة مرة.

وفي عظیم ثواب هذه الصلاة نقرأ مایلي:

«من صلی (هذه الصلاة) غفر الله له مائة كبيرة موبقة موجبة للنار - أي مائة ذنب من الكبائر المهلكة التي تسبب دخوله النار - وأعطاه بكل سورة وتسبيحة قصراً في الجنة وشفّعه الله في مائة من أهل بيته وشركه في ثواب الشهداء وأعطاه ما يعطي صائمي هذا الشهر وقائمي هذه الليلة من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً»(2).

ص: 221


1- الشيخ الطوسي، مصباح المتهجد 841 - 842
2- الإقبال 3 / 320

«قال راوي الحديث: ولقد حدثني ثلاثون من أصحاب محمد صلی الله علیه و آله وسلم أنه من صلى هذه الصلاة في هذه الليلة، نظر الله إليه سبعين نظرة، وقضى له بكل نظرة سبعين حاجة أدناها المغفرة، ثم لو كان شقياً وطلب السعادة لأسعده الله يمحو الله ما يشاء ويُثبِت وعند أمُّ الكتاب ولو كان والداه من أهل النار أُخرجا من النار بعد أن لا يشركا شيئاً، ومن صلى هذه الصلاة قضى الله له كل حاجة طلب وأعدّ له في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، والذي بعثني بالحق نبياً من صلى هذه الصلاة وهو بريد وجه الله تعالى جعل الله تعالى له نصيباً في أجر جميع من عبد الله في تلك الليلة، ويأمر الكرام الكاتبين أن يكتبوا له الحسنات ويمحوا عنه السيئات، حتى لا يبقى له سيئة، ولا يخرج من الدنيا حتى يرى منزله من الجنة، ويبعث الله إليه ملائكة يصافحونه ويسلمون عليه، ويحشر يوم القيامة مع الكرام البررة، فان مات قبل الحول مات شهيداً، ويشفع في سبعين ألفا من الموحدين. فلا يضعف عن القيام تلك الليلة إلا شقي»(1).

وبعد أن ذكر آية الله الملكي التبريزي، هذا النص قال: إرحم یا مسکین نفسك المرهونة بما أسلفت في الأيام الخالية، وعالج (بهذه الصلاة) العظائم من الأوزار التي احتطبتها على ظهرك بالأعمال القبيحة الماضية، فسيأتيك يوم تقول فيه: أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذٍ المستقرّ يُتبَّؤ الإنسان یومئذٍ بما قدّم وأخّر.

11- ورد الحث في هذه الليلة على قراءة دعاء كميل وأن له فضلاً عظيماً. قال الشيخ الطوسي: «روي أن كميل بن زياد النخعي

ص: 222


1- الإقبال 3 / 320 - 321 وأورده في المراقبات صفحة 80 وما بعدها

رأي أمير المؤمنين عليه السلام ساجداً يدعو بهذا الدعاء في ليلة النصف من شعبان»(1).

وقال السيد ابن طاوس: «ووجدت في رواية أخرى ما هذا لفظه: قال کمیل بن زیاد: كنت جالساً مع مولاي أمير المؤمنين عليه السلام في مسجد البصرة ومعه جماعة من أصحابه فقال بعضهم: ما معنى قول الله عزوجل: فيها یفرق كل امر حکیم؟ قال عليه السلام: ليلة النصف من شعبان، والذي نفس علي بيده إنه ما من عبدٍ إلا وجميع ما يجري عليه من خير وشر مقسوم له في ليلة النصف من شعبان الى آخر السنة في مثل تلك الليلة المقبلة، وما من عبد يحييها ويدعو بدعاء الخضر علیه السلام إلا أجيب له. فلما انصرف طرقته لیلاً، فقال علیه السلام: ما جاء بك با كميل؟ قلت: يا أمير المؤمنین دعاء الخضر، فقال: أجلس یا کمیل، إذا حفظت هذا الدعاء فادع به كل ليلة جمعة أو في الشهر مرة أو في السنة مرة أو في عمرك مرة تُكفَ وتُنصَر وتُرزق ولن تُعدم المغفرة، یا کمیل أوجب لك طول الصحبة لنا أن نجود لك بما سألت، ثم قال: اكتب: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شئ، وبقوتك التي قهرت بها كل شئ..»(2). وأورد الدعاء بتمامه.

12- صلاة جعفر الطیار رضوان الله تعالى عليه، فقد أورد الشيخ الطوسي أن الراوي قال: سألت أبا الحسن علي بن موسى الرضا علیه السلام عن ليلة النصف من شعبان قال: «هي ليلة یعتق الله فيها

ص: 223


1- مصباح المتهجد 844
2- الإقبال 3 / 330

الرقاب من النار ويغفر فيها الذنوب الكبار، قلت: فهل فيها صلاة زيادة على سائر الليالي؟ قال: ليس فيها شئ موظف، ولكن إن أحببت أن تتطوع فيها بشئ فعليك بصلاة جعفر بن أبي طالب علیه السلام وأكثر فيها من ذكر الله تعالى ومن الاستغفار والدعاء فإن أبي علیه السلاملي كان يقول: الدعاء فيها مستجاب»(1).

13- دعاء صلوات كل يوم من أيام شعبان عند الزوال، أورد الشيخ الطوسي والسيد ابن طاوس رواية جاء فيها:

«كان علي بن الحسين عليه السلام يدعو عند كل زوال من أيام شعبان وفي ليلة النصف منه ويصلي على النبي صلی الله علیه و آله وسلم بهذه الصلوات: اللهم صل على محمد وآل محمد شجرة النبوة وموضع الرسالة.. الخ»(2).

14- قال الشيخ المفيد عليه الرحمة والرضوان: «وقد روي عن الصادق جعفر بن محمد علیه السلام، أنه قال إذا كان ليلة النصف من شعبان أذن الله تعالى للملائكة بالنزول من السماء إلى الأرض، وفتح فيها أبواب الجنان، وأجيب فيها الدعاء، فلیُصلِّ العبد فيها أربع رکعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وسورة الاخلاص مائة مرة، فإذ فرغ منها بسط يديه للدعاء وقال في دعائه: اللهم إني اليك فقير، وبك عائذ، ومنك خائف، وبك مستجير، رب لا تبدل اسمي ولا تغير جسمي، وأعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ برحمتك من عذابك إنك كما أثنيت على نفسك،

ص: 224


1- مصباح المتهجد 838
2- الإقبال 3 / 299 - 300. وتجد الدعاء في مفاتيح الجنان

وفوق ما يقول القائلون، صل على محمد وآل محمد وافعل بي كذا وكذا، ويسأل حوائجه، وروي أن من صلى هذه الصلاة ليلة النصف من شعبان غفر الله سبحانه ذنوبه، وقضى حوائجه، وأعطاه سؤله»(1).

15- صلاة أخرى مروية عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، أنه قال:

«ومن صلى في الليلة الخامسة عشر من شعبان بين العشاءين (بين صلاة المغرب والعشاء) أربع ركعات يقرا في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وقل هو الله أحد، عشر مرات، وفي رواية إحدى عشر مرة فإذا فرغ قال يا رب اغفر لنا، عشر مرات، یا رب ارحمنا، عشر مرات، یا رب تُب علينا، عشر مرات، ويقرأ قل هو الله أحد إحدى وعشرين مرة ثم بقول سبحان الله الذي يحيي الموتى ويميت الأحياء وهو على كل شيء قدير عشر مرات استجاب الله تعالی له وقضى حوائجه في الدنيا والاخرة، وأعطاه الله كتابه بيمينه، وكان في حفظ الله تعالى إلى قابل»(2).

15- هناك كيفية لصلاة الليل خاصة بليلة النصف من شعبان، أوردها الشيخ الطوسي(3) وأوردها السيد في الإقبال(4) نقلاً عنه، وتتميز بأدعية خاصة بعد كل ركعتين ودعاء بعد الوتر.

ص: 225


1- الشيخ المفيد، مسار الشيعة 62. وقد أورد الشيخ الطوسي، مصباح المتهجد 837 - 838 هذه الصلاة ولكنه ذکر بدل المائة مرة قل هو الله أحد، مائتين وخمسن مرة في كل ركعة، وفي الدعاء أورد الشيخ عبارة «أنت كما أثنيت على نفسك» وهو المشهور
2- المصدر 3 / 313 - 314
3- مصباح المتهجد 842 - 843
4- الإقبال 3 / 351 - 354. وليلاحظ من يرجع إلى أحد المصدرين، أن المراد بتعبير «فإذا صليت صلاة الليل» أي إذا أردت أن تصليها، فصل ركعتين ثم ادع بهذا لدعاء «..» ثم صل ركعتين، ثم ادع بهذا الدعاء الخ

* صلاة الليالي البيض

وينبغي التذكير بصلاة الليلة من صلوات الليالي البيض، وهي ست رکعات تقرأ في كل ركعة الحمد وياسين وتبارك المُلك والتوحيد.

أسأل الله عزوجل أن يوفقنا لإحياء هذه الليلة، وأن يرضى عنا رضاً لأسخط بعده أبداً، إنه ولي الإحسان والنعم.

والحمدلله رب العالمین

ص: 226

15 شعبان

اشارة

* ملامح من شخصية الإمام عليه السلام

* ظروف الولادة

* الغيبة الصغرى والكبرى

* العمر الطويل

* صوم خمسة عشر يوماً

* صلاة الليلة السادسة عشر

ص: 227

ص: 228

* ملامح من شخصية الإمام

يوم النصف من شعبان، غاية في الأهمية، وقد ورد عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم التأكيد عليه وعلى ليلته(1) ولم يرِد عمل خاص لهذا اليوم وربما كان السبب أن ليلة الخامس عشر ليلة إحياء وهذا أمر يستدعي التخفيف عمّن أحيا هذه الليلة فلا يكلف بأعمال في يومها.

وهذا اليوم هو يوم عيد الفرحة بولادة الإمام المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشريف، ويجب أن نكون دائماً مع إمامنا بين يديه نزوره علیه السلام ونزور جنده مجاهدي المقاومة الإسلامية أعزّها الله وكذلك الجرحى منَّ الله تعالى عليهم بالشفاء، ونعتبر أن من واجبنا دائماً أن نقوّي من علاقتنا به عليه صلوات الرحمان، لأنه الطريق إلى الله تعالى، والدليل إليه سبحانه.

أسعد الله أيامكم بهذا العيد الكبير، عيد ذكرى ولادة مولانا الإمام المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشريف، وأسأله عزوجل أن يجعلنا من جنده والمنتظرين له الممهدين لدولته العالمية التي تأتي تجسيداً لإظهار الله تعالى هذا الدين على الدين كله ولو كره الكافرون.

ص: 229


1- البحار 94 / 65

في الأحاديث السابقة وقفتُ عند عدة أمور تُسهم في علاقتنا بالإمام المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشريف، وسأذكر هنا ملامح من شخصية الإمام، لا بد من معرفتها عنه سلام الله عليه.

* أبوه علیه السلام

كما نعلم هو ابن الإمام العسكري ينتهي نسبه إلى الإمام أمير المؤمنين وإلى الزهراء صلوات الله وسلامه عليهما.

بالنسبة لنا هذا الأمر معروف وواضح ولكن عندما نجد أن العديد من علماء السنَّة المشهورين يذكرون نسب الإمام المنتظر عجل الله فرجه الشريف، ويقولون أنه ابن الإمام العسكري وينتهي نسبه إلى الإمام أمير المؤمنين وإلى الزهراء صلوات الله عليها فهذا أمر ينبغي الوقوف عنده.

من هؤلاء العلماء السنّة المشهورين العالم الشهير محي الدين ابن عربي والشيخ الشعراني وابن الصبّاح المالكي بل والفضل بن روزبهان المعروف بتعصُّبه وردوده على العلامة الحلي رضوان الله عليه، فقد ذكر في أبيات شعرية أسماء الأئمة عليهم السلام واحداً واحداً ومنهم الإمام القائم عجل الله تعالی فرجه الشريف.

* أمه، علیه السلام

نجد لها في الروايات عدة أسماء ويظهر مما ذكره الشيخ الطوسي عليه الرحمة في كتاب الغيبة أن تعدُّد الأسماء كان لدواع أمنية، باعتبار أن بيت الإمام العسكري كان مراقَباً، وكان العباسيون يعرفون بظهور المهدي من ذرية رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، فقد كان ذلك

ص: 230

مشهوراً جداً بين المسلمين وكان العباسيون يتتبّعون أهل البيت ليحولوا دون أمر القائم وقد تمت مداهمة بيت الإمام العسكري عدة مرات لهذا الغرض.

كانت ولادة الإمام المنتظر أرواحنا فداه عام 256 للهجرة أو حواليها، وقد ولد علیه السلام في سامراء في العراق وكانت عاصمة العباسيين آنذاك وكان أبوه الإمام العسكري مقيماً فيها بطلب من الخليفة خوفاً من نفوذ الإمام في قلوب الناس، كما كان الأمر كذلك مع أبيه الإمام الهادي جدّ الإمام المنتظر عليهم جميعاً سلام الله.

* ظروف الولادة

تشبه ظروف ولادة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشريف، ظروف ولادة نبي الله موسى حيث تمّت الولادة في أجواء الخشية من الحاكم الظالم والتكتُّم على المولود، كما تشبه نشأة الإمام المهدي نشأة النبي عيسى، وكذلك غيبته كما ستأتي الإشارة لدى الحديث عن العمر الطويل إذا قدّر الله تعالی.

* إمامته علیه السلام

عاش الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف، مع أبيه خمس سنوات، وبعد أبيه قام بأعباء الإمامة وهو في هذا السن الخامسة من عمره الشريف.

يقول الشيخ المفيد رضوان الله تعالى عليه: « آتاه الله الحكمة كما آتاها من قبل يحيى صبياً وجعله الله سبحانه إماماً في هذا العمر كما جعل عيسى ابن مريم في المهد نبياً..»(1).

ص: 231


1- الشيخ المفيد، الإرشاد 2 / 339 بتصرف

أي أنه إذا كان البعض يستغرب أن يكون الإمام المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشريف، قام بأعباء الإمامة في هذا السن فليتذكر قوله تعالى «يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» [مریم 12].

كيف يمكن للمسلم أن يعتقد بأن نبي الله يحيي أوتي الحكم صبياً ثم يستغرب أن يكون حصل ذلك لغيره من عباد الله؟ وليتذكّر من يستغرب ذلك قوله عزوجل عن نبيه روح الله عیسی «قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا» فلم تُجب مريم وإنما أجاب عیسی عليه السلام وهو في المهد «قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا» ولا شك أن في تحمُّل رضيع هو نبي الله عيسى لأعباء النبوة أكثر غرابة من تحمُّل ابن خمس سنوات لأعباء الإمامة.

وتحدثنا الروايات بجوانب من علم الإمام المهدي عليه السلام وعمله في هذا السن بل قبله، فتكشف عن سرّ من أسرار الله تعالى أراده وتحقّق في هذا الوجود المبارك.

إذا كان هذا السر الإلهي قد تحقّق في نبي الله عیسی فلِمَ لا يتحقق في من يصلي نبي الله عیسی خلفه في بيت المقدس، فقد أجمع الشيعة والسنة على أن النبي عيسى يصلي خلف المهدي.

ومن الواضح أن هذه الحقيقة مستغرَبة لدى الكثيرين إلا أن المسلمين تلامذة مدرسة القرآن الكريم الذين يؤمنون بالغيب والذين ينطلقون في تفكيرهم من القواعد القرآنية، لا يرون أية غرابة في أن يتولى الإمام المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشريف الإمامة في هذا السن.

ص: 232

* الغيبة الصغرى والكبرى

للإمام المنتظر عجّل الله تعالی فرجه الشریف غیبتان، الأولى تسمى الغيبة الصغرى، استمرت حوالي سبعين سنة وانتهت سنة(1) وفي هذه الفترة كان للإمام المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشریف، وكلاء خاصّون عُرفوا باسم السفراء الأربعة، وكانوا همزة الوصل بينه وبين الأمة.

وعندما نريد أن نستوضح معنى الغيبة الصغرى يمكن القول أن وضع الأمة آنذاك لم يكن يسمح بانقطاع رعاية وصي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لها، بشكل مباشر، وكان لا بد من استمرار هذه الرعاية بدرجة أكبر مما يحتاجه الأمر في عصر الغيبة الكبری.

فالفارق إذاً بين الغيبتين الكبرى والصغرى - بالإضافة إلى الفارق الزمني - هو أن الإتصال بين الإمام والأمة يتم في الغيبة الصغرى عبر النواب الخاصين، المعبر عنهم بالسفراء الأربعة، أما في الغيبة الكبرى فليس هناك آلية اتصال به علیه السلام، وإن كانت هناك آلية التزام بنهجه وهداه المحمدي عبر نوابه العامين وهم الفقهاء ولاسيما المعبر عنهم بالمراجع.

كان أول حديث عن بدء الغيبة الكبرى في آخر أيام السفير الرابع للإمام المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشريف، وهو علي بن محمد السّمري حيث أبلغه الإمام عليه السلام في آخر أيامه أنه سينتقل قريبااً إلى

ص: 233


1- أنظر: الطبرسي، تاج المواليد 65 والشيخ الماحوزي، الأربعين 227 - 229 والنمازي، مستدرك سفينة البحار 5 / 233

جوار الله تعالى وأن عليه أن لا يوصي لأحد من بعده فقد وقعت الغيبة الثانية وفي بعض الروايات الغيبة التامة وسيأتي الحديث إن شاء الله تعالی عن هذا التوقيع وبعض ما يرتبط به.

* العمر الطويل

ولا بد من الوقوف في هذا التسلسل والسياق عند إشكالية العمر الطويل.

كيف يمكن لإنسان أن يعيش كل هذا العمر الطويل؟ وهذا السؤال في الحقيقة طبيعي لأننا في ما اعتدنا، نرى أن الإنسان يمكن أن يعيش مائة إلى مائة وخمسين سنة كما سمعت وشهدتُ معمراً على شاشة تلفزيون الجمهورية الإسلامية وحوله حوالي 275 شخصاً من أولاده وأحفاده، وعندما سئل عن عمره وذكر بعض الأحداث التاريخية تبين أن عمره يبلغ مائة وواحداً وخمسين سنة.

طبعاً هذا السن نادر جداً في ما نراه.

إذاً ما معنى أن يعيش إنسان من عام 256 للهجرة إلى يومنا هذا، ويعلم الله تعالی کم سیستمر عمره صلوات الله عليه؟ إن السؤال عن العمر الطويل طبيعي إلا أن علينا أن نفرّق بين أمرين، فتارةً نتحدث عن غرابة طول العمر وتارة نتحدث عن استحالته.

أنّ طول العمر غریب، صحيح، لكن أنه مستحيل فهو غير صحيح، لأنا إذا كنا نتكلم مع نصراني فإنه يعتقد بمسألة طول العمر ونجد في «كتابه المقدس» ما يدل على إمكانية طول العمر.

ص: 234

وإذا كنا نتكلم مع يهودي فنجد أيضاً في كتابه ذلك.

وإذا كنا نتكلم مع مسلم شيعي أو سني فإن في القرآن الكريم ما يدل على ذلك بكل وضوح. وإذا كنا نتكلم مع من لا ينتمي إلى ديانة، فهذه كتب التاريخ تتحدث عن معمّرین ما أكثرهم، وهو يعني أن مسألة العمر الطويل متسالم عليها.

صحيح أنها غريبة لأنها نادرة إلا أنها موجودة في مختلف مصادر الثقافة البشرية، وعند مختلف الناس، يطلقها المؤرخون إطلاق المسلمات.

وصحيح أنها رغم ذلك ليست متعارفة مألوفة، ولذلك تُستغرب، إلا أن الإستغراب لا يصلح أبداً لرفض أي فكرة، فقد كنا نحن قبل مدة من الزمن نستغرب مثلاً أن يجلس الإنسان في صندوق حديد كبير ويطير! ماذا كان يمكن أن يقال عمن يتحدث عن الطائرة قبل 150 أو 200 سنة، ألم يكن ذلك يبدو «حديث خرافة»! يمكن أن نتحدث الآن عن بعض الأمور ونستغربها أشد استغراب، إلا أنها بعد فترة تصبح من الأمور الطبيعية جداً.

عندما ننظر إلى تعامل الناس مثلاً مع الراديو «المذياع» في بداية ظهوره، أو السيارة في بداياتها، نجد أنهم استغربوا ذلك، وهو مايؤكد أنّ استغراب أمرمّا، لا يدل على عدم إمكانه وعدم صحته.

إن طول العمر أمر غريب لكنه ليس مستحيلاً؟ وعندما نريد أن ندخل في القليل من الأرقام والتفاصيل وبحسب ما يسمح به المجال، نجد الآتي:

ص: 235

1- أن النصارى واليهود مجمعون على طول عمر نبي الله آدم علیه السلام وأنه عاش تسعمائة وثلاثين سنة كما نجد في تاريخ مختلف الأمم والشعوب حديثاً عن معمّرين يذكر أن بعضهم عاش آلاف السنين، ففي تاريخ الفرس قبل الإسلام أن أحد ملوكهم وهو «جَم» عاش أربعة آلاف سنة، وهناك قوائم كثيرة بأسماء المعمّرين لا مجال لاستعراض شيء منها، غير أني أُحيل في الإطلاع على ذلك إلى کتاب الأخبار الطوال للدينَوَري، وكتاب المعارف لان قتيبة، و«کنز الفوائد» للكراجكي، الطرابلسي، وأمالي السيد المرتضى وغير ذلك من المصادر الكثيرة التي تحدثت عن المعمّرين. ومما قاله سبط ابن الجوزي في كتابه تذکرة الخواص: وفي التوراة أن ذا القرنين عاش ثلاثة آلاف سنة والمسلمون يقولون ألفاً وخمسماءة.

وسنجد بالرجوع إلى بعضها أن الغرابة التي نعيشها حول مسألة العمر الطويل ترجع في الحقيقة إلى أننا لم نقرأ حول ذلك، والناس أعداء ماجهلوا.

2- أن المسلمين مجمعون على طول عمر النبي نوح، وأقل رقم يذكر في عمره المبارك هو ألف ومائتان وخمسون سنة، وأن قول الله تعالى: «فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا» يتحدث عن فترة نبوته قبل الطوفان لاعن كل عمره قبل الطوفان وبعده، ولا عن كل عمره قبل الطوفان فقط، بل عن عمره منذ بعث نبياً وإلى أن فار التنور وكان الطوفان. أي أن عمره علیه السلام ينقسم إلى ثلاث مراحل: الأولى: قبل البعثة، الثانية: بعد البعثة وقبل الطوفان. الثالثة: بعد البعثة وبعد الطوفان.

ص: 236

وإذا كان النبي عادة يبعث بعد أن يكون قد أمضى أكثر عمره، أو شطراً كبيراً منه، فكم كان عمر النبي نوح على نبينا وآله وعليه السلام، عندما بعث؟ وكم بقي بعد الطوفان؟ إجمع هذا وذاك مع 950 سنة هي المرحلة الثانية، تعرف كم كان عمره الشريف.

وقد روي عن الإمام الصادق علیه السلام، أن عمر النبي نوح بلغ ألفي وخمسماية سنة(1).

3- ويجمع المسلمون أيضاً على طول عمر العبد الصالح الذي تحدث عنه القرآن الكريم «فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا» [الكهف 65].

والذي يذكر عادة أنه الخضر عليه السلام، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام، في حديث طويل: «إن الله تعالى لما كان في سابق علمه أن یقدر من عمر القائم علیه السلام في أيام غيبته ما يقدره، وعلم ما يكون من إنكار عباده بمقدار ذلك العمر في الطول، طَوَّل عمر العبد الصالح من غير سبب أوجب ذلك إلا لعلة الاستدلال به على عمر القائم علیه السلام، ليقطع بذلك حجة المعاندين لئلا يكون للناس على الله حجة»(2).

ص: 237


1- الشيخ الصدوق، کمال الدین وتمام النعمة 523
2- الشيخ الطوسي، الغَيبة 172 - 173

4- ويجمع المسلمون كذلك على أن نبي الله عیسی علی نبینا وآله وعليه السلام، ينزل ويصلي خلف المهدي، فأيهما أطول عمراً یا ترى ألسنا نعتقد أن نبي الله عيسى لم يقتل، «وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» «بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ» [النساء 157 - 158].

ما يزال إذاً حياً.

إن من يعتقد بهذا يعتقد بأن عمر النبي عيسى هو من حين ولادته إلى صلاته خلف المهدي ويستمر عمره بعد ذلك إلى ما شاء الله أيضاً، فيكون أطول عمراً، وبناء عليه فما المانع إذاً أن يبقى الإمام المهدي على قيد الحياة كل هذه الفترة بعد أن اعتقدنا ببقاء نبي الله عیسی فترة أطول من ذلك بكثير؟ وقد يقول قائل: أنتم تذكرون لنا النبي نوح والنبي عيسى والعبد الصالح الخضر الذي يحتمل کونه نبياً. ولايصح قياس غير الأنبياء عليهم، فهم استثناء، وطول العمر ممكن بالنسبة إليهم، إلا أنه لغيرهم ليس ممكناً؟ والجواب أولاً: إذا ثبت طول العمر للإنسان فإنه يثبت إمكان طول العمر، من حيث المبدأ.

ثانياً: إن بعض العلماء السنة - ومنهم الكُنجي الشافعي في كتابه «البيان» - يجيبون على هذه الشبهة ويدافعون عن طول عمر الإمام الحجة عجّل الله تعالی فرجه الشريف، فيقولون: ليس إمكان طول العمر ووقوعه من خصائص الأنبياء، بدليل أن إبليس قد أنظره الله تعالى وأمهله إلى يوم الوقت المعلوم.

ص: 238

كذلك يتفق المسلمون على الدجّال الملعون الذي طال عمره ويطول ويكون له شأن في عصر الظهور.

5- قال الشيخ الطوسي ماحاصله: وإن يكن طول العمر غريباً، فأشد منه غرابةً أن ينكره مسلم يؤمن بأن الله يخلد المثابين في الجنة شباناً لايبلون(1).

أوَلسنا نؤمن بالخلود، وهو طول عمر لا نهاية له، فما المانع إذاً أن يبقى إنسان على قيد الحياة لأمر أراده الله ألفي سنة أو ثلاثة آلاف سنة أو ما شاء عزوجل من السنين؟ 6- تجدر الإشارة إلى أن علم الطب لا يمنع إمكانية بقاء الإنسان حياً لفترة طويلة وقد تحدثت الأبحاث علمية عن هذا الأمر(2).

والنتيجة: ليست مسألة طول العمر مسألة مستحيلة وإنما هي ممكنة ويجمع المسلمون على ذلك.

7- ثم إن قصص التشرف بلقاء الإمام المنتظر عجّل الله تعالی فرجه الشريف، المتواصلة عبر القرون من ولادته علیه السلام، إلى الآن، خير دليل على ذلك، أي أننا نجد في كل عصر قصصاً عن التشرف بلقائه وأسانيدُها بين أيدينا، وهي تشهد بصحتها، ولو لم يكن يوجد أي دليل على بقاء الإمام علیه السلام إلا قصص التشرف بلقائه لكفى، لأننا نجد كبار العلماء بنقلون هذه القصص، ويؤكدونها(3).

ص: 239


1- المصدر 126
2- أنظر: الصافي الكلبايكاني (الشيخ لطف الله) منتخب الأثر، فقد أورد ثبتاً ببعض المصادر الطبية
3- أنظر: المؤلف، حول رؤية المهدي، وآداب عصر الغَيبة، وآداب شهر شعبان

ويأتي في الأحاديث القادمة مزيد إيضاح لهذه النقاط، إن شاء الله تعالی.

* صوم خمسة عشر يوماً

عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم «ومن صام خمسة عشر يوماً من شعبان ناداه رب العزة وعزتي لا أحرقتك بالنار»(1).

كم هو من الأهمية بمكان أن ينجو الإنسان من النار التي يوقدها بعمله الذي هو تظهير لأخلاقه ومعتقده، وكم هو هذا العطاء الإلهي عظيم! وهل من مظاهره في الدنيا التسديد للطاعة مكافأة له على هذا القليل المتقبل؟

* صلاة الليلة السادسة عشر

عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «ومن صلى في الليلة السادسة عشر من شهر شعبان ركعتين یقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وخمس عشرة مرة قل هو الله أحد فإن الله تعالى قال من صلى هاتين الركعتين أعطيته مثل ما أعطيتك على نبوّتك وبني له في الجنة ألف قصر».

ولعل المراد بأن الله عزوجل يعطي مصلي هذه الصلاة ما أعطى رسول الله على نبوته أنه يعطى أجر رسول الله على «النبوة» وما واجهه فيها من عقبات وأذى، لم يواجهه نبي من الأنبياء، دون أجره على أعماله وعباداته صلی الله علیه و آله وسلم، ثم إن أي عطاء إلهي لأمة المصطفى الحبيب، يرفع في درجته صلی الله علیه و آله وسلم، لأن ذلك ببركة توفيق الله تعالى له في هداية العالمين.

ص: 240


1- الإقبال 3 / 355

أما «ألف قصر» في الجنة فهولنا کما هي البناية أو «العَمرة» للبدوي في خيمته! وهو لنا كماهي ناطحات السحاب، لمالك البناية التي أمضى أربعين عاماً يجمع «جنى العمر» ليفرغه فيها.

وما قيمة الألف قصر في جانب «الملك الكبير»:

«وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِير» الإنسان 20].

لقد استمر أنا صغرنا والقمع الذي يمارس ضدنا، وتهميش الإنسان عموماً، فلم نعد نفقه أن «الإنسان» بحق أكبر من الأفلاك، ومن هنا يحملنا قصورنا على أن نستغرب «القصور».

أسأل الله عزوجل أن يوفقنا لمراضيه بالنبي المصطفى وآله المعصومين.

والحمدلله رب العالمین

ص: 241

ص: 242

16 شعبان

اشارة

* المهدي، ووحدة الأمة

* ماذا يقول العلماء السنة

* الكُنجي، نموذجاً

* صوم ستة عشر يوماً

* صلاة الليلة السابعة عشر

ص: 243

ص: 244

* ألمهدي، ووحدة الأمة

ما نزال في أجواء ذكرى ولادة الإمام المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشريف، ويتركز الحديث هنا حول عقيدة المسلمين السنّة في المهدي المنتظر.

أولاً: لا بد من الإشارة إلى أن الرجوع إلى المصادر النقية من لوثة البلاط وحكام الجور، أي إلى كتب العلماء بالله بحق من العلماء المسلمين السنّة والشيعة يجعلنا أمام ثقافة واحدة وفكر موحِّد تلتقي خطوطه العامة وتلتقي أيضاً تفاصيله وتذوب الفوارق والخلافات.

وإذا جئنا إلى التطبيق العملي وجدنا أن الإختلاف في واقع المسلمين أكثر منه بكثير في تراثهم بل يمكن القول أن الفكر الإسلامي لا يحمل بذور اختلاف وإنما الإختلاف في «تسييس الحقائق» وما نتج عنه من خلل في التطبيق.

نجد مثلاً أن المسلمين مجمعون على حب أهل البيت عليهم السلام يعتبرون هذا مبدءاً قرآنياً «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» وأن الصلاة على النبي ينبغي أن تكون بهذه الصيغة «صلّى الله عليه وآله» وهذا يكشف عن رأي المسلمين جميعاً في أهل البيت علیهم السلام.

ومن الواضح أن الإعتقاد بأهل البيت علیهم السلام يحسم الخلاف حول

ص: 245

كثير من الحقائق الإسلامية المتفرعة على موقع أهل البيت ومكانتهم لدى المسلمين، ولا ينبغي أن ينقضي العجب كيف أن المسلمين متفقون على حب أهل البيت عليهم السلام وكيف أنهم مختلفون حول أمور ترجع إلى أهل البيت علیهم السلام.

إنه التسييس، والخلل في التطبيق الناشيء منه.

في هذا السياق يأتي الحديث عما نجده في كتب الفريقين حول الإمام المنتظر أرواحنا له الفداء.

وفي الحقيقة أنه يمكننا عندما نريد أن نكتب في المهدي المنتظر، أن نضع كل المصادر الشيعية جانباً ونأخذ المصادر السنية ونكتب، وستكون النتيجة هي نفسها التي نخرج بها فيما إذا اعتمدنا المصادر الشيعية، بمعنى أن كل شيء ورد حول الإمام المهدي في كتبنا الشيعية موجود في الكتب السنية، حتى علامات الظهور بتفاصيلها! أما مسألة أنه ابن الإمام العسكري وأنه ولد فإنا نجد كثيراً من علماء السنّة الكبار يصرحون بذلك، ونخرج بنتيجة واضحة تبيّن لنا أن العقيدة التي يجب أن يحملها المسلم السني في المهدي هي نفس العقيدة التي يحملها الشيعي، لولا السياسة وسوء التطبيق.

ومن شأن هذه القناعة أن تزيد من وحدة الأمة المنتظرة لقائدها المهدي المنتظر فتنطلق في رحلة التمهيد له والإستعداد لاستقباله والسير تحت رايته الإلهية المحمدية بخطىَ أكثر ثباتاً وأشد تماسكاً وإصراراً.

ص: 246

صحيح أننا أنجزنا إنجازات معينة على طريق توحيد الأمة أعزّها الله، إلا أننا في الواقع ما زلنا نعاني من كثير من أثقال تراكمات القرون.

وما أروع أن تبني الوحدة الإسلامية على أسس عقيدية متينة، وإذا بحثنا قضية المهدي المنتظر عجّل الله تعالی فرجه الشريف، بحثاً علمياً موضوعياً وتوصّلنا إلى ثوابت إسلامية في هذا المجال، فكم سيسهم ذلك في الوحدة الحقيقية التي نسعي جاهدين للوصول إليها وسنصل بحوله عزوجل.

* ماذا يقول العلماء السنة

سأذكر هنا نقاطاً هي خلاصة ما يمكن أن يسجل لدى الإطلاع على كلمات العلماء الأعلام من الفريقين.

أولاً: نجد التطابق التام بين الروايات كما تقدم.

ثانياً: نجد أن الشيعة يقولون أن الإمام المهدي ولد وأنه إبن الإمام العسكري ونجد أن عدداً كبيراً من علماء السنة يتبنى هذا الرأي، إذاً لا يصح القول أن الشيعة يقولون بأن الإمام المهدي ولد، بينما يقول السنّة إنه سيولد. كلا، إن عدداً كبيراً جداً من علماء السنة يقولون بأنه ولد وأنه ابن الإمام العسكري.

ثالثاً: إن الذين لا يقولون بأن المهدي عليه السلام قد ولد لا يذكرون أي رواية تؤيد رأيهم فلا يوجد أي عالم سني من الذين يقولون أن الإمام لم يولد، يورد رواية واحدة في أنه يولد في آخر الزمان، أو وما يشبه ذلك، وإنما ينطلقون في قول أنه لم يولد من التعصب:

ص: 247

«تزعم الرافضة أنه ولد والحقيقة أنه لم يولد. هكذا وبدون أي دليل على الإطلاق».

رابعاً: الملفت أن هؤلاء الذين لا يصرحون أنه ولد على قسمين، مصرحٍ بولادة إبن للإمام العسكري هو محمد بن الحسن وساكت لا ينفي، وذلك مايعزز اليقين بأننا سنصل بالبحث العلمي الموضوعي إلى أن هذه الروايات في المهدي المنتظر لا تنطبق إلا على الإمام المهدي إبن الإمام العسكري علیه السلام وأن الخلاف في هذا الأمر طاريء نتيجة الخلط بين التعصب والعلم.

ما أرمي إليه من خلال ماتقدم هو بيان كيف تحوّل أحد أهم أعمدة الوحدة الإسلامية إلى مادة للتفريق والخصومة.

ومن أراد أن يعرف المزيد عن آراء العلماء المسلمين السنة حول ولادة الإمام فليراجع کتاب «کشف الأستار عن وجه الغائب عن الأبصار» للمحدث صاحب مستدرك الوسائل حيث ذكر أسماء أربعين عالماً سُنّياً من القائلين بولادة الإمام المهدي عليه السلام، وذكر أقوالهم الصريحة في ذلك، وكي لا يقال إنهم ليسوا من العلماء المرموقين، فقد ذكر المحدث أقوال بعض العلماء السنة في كل عالم من هؤلاء الأربعين ليتضح أنهم من كبار العلماء.

وفي مقدمة هذا الكتاب نجد أيضاً أن العدد يرتفع من أربعين إلى ثلاثة وثمانين عالماً، ثم نجد في مقدمة كتاب «موسوعة الإمام المهدي»(1) أن العدد يصل إلى مائة وعشرين عالماً من أعلام أهل

ص: 248


1- موسوعة الإمام المهدي، رسائل وفصول مختارة (من المصادر السنية) حول المهدي علیه السلام، مطبعة الخيام، قم شعبان 1401، نشر: مكتبة الإمام أمير المؤمنين علیه السلام، أصفهان

السنة في حقول معرفية مختلفة، وهم جميعاً يقولون بولادة الإمام عليه السلام، وقد تتبع المحقق السيد علي الميلاني أسماء عدد آخر، فأنهى ماتوصل إليه إلى مائتي عالماً(1).

وهناك عدد من العلماء السنّة ألّفوا كتباً حول الإمام عليه السلام، وقد ذكر البعض أن هذه الكتب بلغت ثلاثين كتاباً.

* الكُنجي، نموذجاً

وأذكر في ما يلي نصاً لأحد هؤلاء العلماء السنة حول ولادة الإمام المهدي علیه السلام.

قال الشيخ أبو عبد الله بن يوسف بن محمد الكنجي في كتابه البيان في أخبار صاحب الزمان:

«من الأدلة على كون المهدي حياً باقياً بعد غيبته وإلى الآن ومن الأدلة أنه لا امتناع في بقائه، بقاء عیسی بن مریم والخضر وإلياس من أولياء الله تعالى، وبقاء الأعور الدجّال وإبليس اللعين من أعداء الله تعالى، وقد ثبت بقاؤهم بالكتاب والسنة».

إنه يدافع بوضوح عن حياة الإمام المهدي وعن طول عمره الشريف.

وعندما ننطلق كمسلمين من هذه العقيدة الموحّدة في المهدي المنتظر التي يمكن أن نصل إليها بيسر، فإن من شأن هذا الأمل

ص: 249


1- أنظر أيضاً: مقدمة كتاب الغيبة للنعماني 13 - 16 والفصل الثالث من منتخب الأثر للشيخ لطف الله الصافي

الواعد أن ينفض عن الأمة كل تداعيات الضعف ويبدد سُحُب التشاؤم ويشحذ الهمم لتنطلق في ميادين الجهاد موقنة أكثر باقتراب النصر الإلهي.

* صوم ستة عشر يوماً

عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم «ومن صام ستة عشر يوماً من شعبان أطفأ الله عنه سبعين بحراً من النيران»(1).

يروي الشيعة والسنة مايدل على بحار من النار، وأن الدمعة من خشية الله تعالی تطفيء بحاراً من نار، من ذلك ماروي بطرق الفريقين - باختلاف - عن الإمام الباقر علیه السلام:

«ما اغرورقت عين بمائها من خشية الله عزوجل إلا حرم الله جسدها على النار، ولا فاضت دمعة على خد صاحبها فرهق وجهه قتر ولا ذلة يوم القيامة، وما من شيء من أعمال الخير إلا وله وزن أو أجر، إلا الدمعة من خشية الله، فإن الله یطفئ بالقطرة منها بحاراً من نار بوم القيامة، وإن الباكي ليبكي من خشية الله في أمة فيرحم الله تلك الأمة ببكاء ذلك المؤمن فيها»(2).

ومن الواضح أن إطفاء سبعين بحراً بصوم ستة عشر يوماً، أقل غرابة من إطفاء بحار من النار بدمعة.

ص: 250


1- الإقبال 3 / 356
2- الشيخ المفيد، الأمالي 143. وابن کثیر، البداية والنهاية 9 / 341 وفيه «بحور الخطايا» وانظر: عبد الرزاق الصنعانی، المصنف 11 /: 189

وليس هذا بيت القصيد، لننشغل به عن اللب والجوهر.

بيت القصيد هو هذه النفس الأمارة التي يبلغ ماتحتطبه كل هذه البحار من النار.

حقاً.. لئن كان تفجير الذرة يتسبب بحرائق من نوع هیروشیما، فأي بحار نار حاطمة تنتج عن تفجير النفس البشرية بيد الشيطان.

في حديث طويل، دار بین نبي الله عیسی وبین میت حادثه، قال الميت: أصبحنا في عافية وبتنا في الهاوية.

- وما الهاوية؟ - بحار من نار فيها جبال من النار! - ومابلغ بكم ماأري؟ - حب الدنيا، وعبادة الطاغوت! - وما بلغ من حبكم للدنيا؟ - كحب الصبي لأمه، إذا أقبلت فرح، وإذا أدبرت حزن! - ومابلغ من عبادتكم للطاغوت؟ - كانوا إذا أمرونا أطعناهم! «...»(1).

اللهم أعنا على أنفسنا، وعلى الطواغيت.

ص: 251


1- الشيخ الصدوق، معاني الأخبار 341

* صلاة الليلة السابعة عشر

عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

«ومن صلى في الليلة السابعة عشر من شعبان ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وقل هو الله أحد إحدى وسبعين مرة فإذا فرغ من صلاته استغفر الله سبعين مرة فإنه لا يقوم من مقامه حتى يغفر الله له، ولا يكتب عليه خطيئة»(1).

وكأن تعبير «لا بقوم من مقامه حتى یغفر الله له ولا يكتب عليه خطيئة» بمعنى أن الله تعالى يغفر له من ذنوبه ماتقدم منها وما تأخّر.

أسأل الله عزوجل أن يوفقنا لمراضيه بالنبي وآله المعصومین، صلوات الله عليهم أجمعين.

والحمدلله رب العالمین

ص: 252


1- الإقبال 3 / 356

17 شعبان

اشارة

* معرفة الإمام

* من علامات المعرفة

1- مهام الغَيبة، أو «التعطیل»

2- الإنتماء إليه

3- دائم الحضور

4- الإستعداد لظهوره

5- حمل هموم المسلمين

* صوم سبعة عشر يوماً

* صلاة الليلة الثامنة عشر

ص: 253

ص: 254

* معرفة الإمام

هذا هو اليوم السابع عشر من شعبان فما نزال إذاً في حرم محطة النصف منه، هذه المحطة الإيمانية التي ورد أنها أفضل المحطات بعد ليلة القدر، وقد زاد في شرفها احتضانها لولادة الإمام المنتظر عجّل الله تعالی فرجه الشریف.

ومن أهم واجباتنا کموحدين محمديين، أن نتزوّد من هذه المحطة الإيمانية المميزة المزيد من مخزون حبه وأدب العلاقة به لنعرف واجبنا تجاهه باعتباره عليه السلام ولي الله تعالى، ووصي رسوله المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم، حتى لا نبتعد عنه بابتعادنا عن النصف من شعبان، ونظلّ بين يديه نردد مع الشيخ البهائي عليه الرحمة عندما يخاطب الإمام المنتظر علیه السلام:

یا أخلائي بحزوی والعقيق *** مايطيق الهجر قلبي مايطيق

هل لمشتاقِ إليكم من طريق *** أم سددتم عنه أبواب الوصال(1)

ثمة حقائق لا بد من التفكير بها طويلاً، وهي ترتبط بمعرفة

ص: 255


1- الشيخ بهاد الدين العاملي الجبعي (البهائي) الكشكول الكامل 1 / 303 - 304. وسأورد في الحديث التالي جانباً من القصيدة

الإمام ومعرفة علامات الظهور حيث ورد الحثّ في الروايات على الإهتمام بمثل هذه الأمور.

روى الشيخ الطوسي عليه الرحمة في كتاب الغيبة «من عرف إمامه ثم مات قبل أن يرى هذا الأمر كان له من الأجر کمن كان مع القائم في فسطاطه».

وقد ورد الحثّ على معرفة إمام الزمان في الروايات بطرق الطرفين الشيعة والسنة، ومن المسلمات لدى الجميع مضمون «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية».

فلابد إذاً أن يطول وقوفنا في رحاب معرفة الإمام، إمام زماننا أرواحا فداه.

لا يصح أن نحمل في أذهاننا فكرة عنه علیه السلام، نتصور أنها صحيحة ثم إذا عرضناها على ما في الروايات نجد أنها بعيدة كل البعد عن الصورة السليمة الحقيقية.

* من علامات المعرفة

1- مهام الغَيبة، أو «التعطيل» هل ندرك أصلاً أن للإمام مهاماً يقوم بها في غيبته، أي أنه يتصدى لأمور الإمامة لكن بما يتناسب مع غيبته الكبرى؟ أو أننا نتصور أن الإمام عليه السلام لا علاقة له بشيء على الإطلاق؟ ألا يرجع ذلك في حقيقته إلى الإعتقاد بأن الله تعالى لايكلف أحداً بأي مهمة، وقد ترك الخلق ومايحلو لهم!

ص: 256

أليس ذلك بعض مظاهر «التعطيل»(1).

الصحيح أن الإمام عليه السلام في غيبته یدير الأمور بأمر الله تعالى وإذنه سبحانه في حدود المهام الكبرى والأساسية الموكلة إليه على مستوى الوجود كله.

ليست مهمة الإمامة في غيبة، وليس الإمام غائبا إلا عن الأبصار، إنه الحاضر رغم الغياب.

لاتجرد الغَيبة الإمام علیه السلام من مهمته الكبری، مهمة الإمامة، وإذا لم يكن مطلوباً منه الآن أن يباشر حكمه وإدارته الظاهرة في شؤون الحياة، فهو يباشر حكمه وإدارته الباطنة في مايشمل كل ماقدره الله تعالى وأنهاه إليه للتنفيذ.

وخير ما يوضح هذه الفكرة أمران:

الأول: ماتتحدث به نصوص ليلة القدر من الآيات والروايات حول أن الله تعالى يقدِّر مایکون إلى سنة في كل مجالات الوجود وينهيه إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، ثم إلى ولاة الأمر من بعده واحداً واحداً بما يحفظ تسلسل المراتب، إلى أن يصل إلى ولي الأمر الفعلي وصاحبه إمام هذا الزمان الذي يتحقق ذلك التقدير والإمضاء فيه.

عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، أنه قال لأصحابه: «آمنوا بليلة القدر، إنها تكون لعلي بن أبي طالب علیه السلام وولده الأحد عشر من بعدي»(2).

ص: 257


1- أنظر: توحيد المفضل، المفضل بن عمر الجعفي 83 والقرطبي، تفسير القرطبي 4 / 162
2- المحلسي، البحار 94 / 15

وقد جاء في بيان ذلك:

««فيها يُفرق» في ليلة القدر «كل أمر حكيم» أي يقدر الله كل أمر من الحق ومن الباطل، وما يكون في تلك السنة، وله فيه البداء والمشية، يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء من الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض، ويزيد فيها ما يشاء، ويلقيه رسول الله صلی الله عليه واله إلى أمير المؤمنين عليه السلام [ويلقيه أمير المؤمنين] إلى الأئمة علیهم السلام حتى ينتهي ذلك إلى صاحب الزمان صلوات الله عليه ويشترط (الله تعالی) له فيه البداء والمشية، والتقديم والتأخير»(1).

وقد سئل الإمام الصادق عليه السلام عن قوله تعالى فيها يفرق كل أمر حکیم فقال:

«تلك ليلة القدر يكتب فيها وفد الحاج، وما يكون فيها من طاعة أو معصية أو موت أو حياة ويحدث الله في الليل والنهار ما يشاء ثم يلقيه إلى صاحب الأرض قال الحارث بن المغيرة البصري فقلت: ومن صاحب الأرض؟ قال: صاحبكم»(2).

الثاني: ما نجده في سورة الكهف في قصة العبد الصالح مع النبي موسى عليه السلام كيف تدّخل في عدة أمور بإذن الله تعالى ولكن من خلف الحجب، ولم يكن واضحاً من الذي تدخّل في هذه الأمور، وليس المقصود حصر مهمة الإمام بمثل تلك الحوادث، وإنما هي مؤشرات على تصرف الغيب في عالم الشهادة.

ص: 258


1- المجلسي، البحار 4 / 101
2- المجلسي، البحار 94 / 23

وطبيعي أن يكون لمن عيّنه الله تعالى «صاحب الأمر» من الوسائط والأسباب ما يمكِّنه من القيام بهذه المهمة، ولئن كانت الملائكة «المدبرات أمراً» فإن لهذا الأمر صاحباً ينزل إليه الأمر من الآمر، مالك الملك الذي يقدر كل شيء ويمضيه، ويأذن بآلية تنفيذه ويشترط له في ذلك البداء.

هل ندرك في ضوء ما تقدم أن الله تعالى وهو الحاكم المطلق، لم يهمل العباد والبلاد، وإنما أمهلهم ليجرب كلٌ حظه وفق مبدأ كون الإنسان مخلوقاً مختاراً، فالناس لا يُعجزون الله تعالى، وأن الحاكم بإذن الله تعالى في فترة الإمهال هذه هو وصي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الذي أمره الله عزوجل أن يكون إعماله لسلطته منسجماً مع إعطاء المهلة للناس، ولا بد أن تنتهي هذه المهلة يوماً، فيحين ظهور الإمام أرواحنا فداه.

قد يبدو في فترة من الفترات أن الشيطان الأكبر «أمريكا» تهيمن على الدنيا، إلا أن ذلك تسطيح غبي للأمور، فالكون كله في قبضة الله تعالى والحاكم الحقيقي هو الله عزوجل، وحده لاشريك له، وجميع الناس مفتقرون إليه لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولاضراً.

* «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» [فاطر: 15 - 17].

2- الإنتماء إليه هل نقرن بين معرفة الإمام، والإنتماء إليه، بمعنى أن نتعامل معه بما يناسب مقامه الإلهي کولي وصي، وصاحب كل أمور العالمين، وأولى بالمؤمنين من أنفسهم باعتباره امتداداً لجده صلی الله علیه و آله وسلم.

ص: 259

أوليس الإنتماء إليه أولى من كل انتماء ذاتي، أو قبَلي، أو عرقي، وجغرافي، وسياسي، ومصلحي؟ أولا ينبغي أن يكون كل انتماء بل كل خیار رهن رضاه بما آتاه الله تعالى من خصائص ومهام؟ وهل تتصرف على هذا الأساس؟ هل نحن «جماعته» و «حزبه» أم أننا نعاني من فتك «ازدواجية الولاء» التي لايقبلها زيد من الساسة ولاعمرو، فكيف نغفل عن أنها في العلاقة بولي الله تعالى، و «صاحب الزمان» الأعظم، تماهيات الشرك الخفي بالله العلي العظيم، والإعراض عن رسوله الكريم صلی الله علیه و آله وسلم.

عندما نريد أن نعرف إمامنا ينبغي أن ندرك أنه ولي الله الذي يجب أن نتولی ونتبرأ في خطه، نتولى من يتولاه ونتبرأ ممن يتبرأ منه ويعاديه، ولو كان من أبعد الناس أو أقربهم.

3- دائم الحضور هل ندرك أن إمامنا علیه السلام، حاضر رغم الغياب، وأنه عين الله تعالى الموكلة بحراسة مسيرة البشرية، ضمن ضوابط الإمهال ولا إهمال.

أراد لنا أن ندرك أنه كالشمس غيَّبها عن الأنظار السحاب، فهل نحس بحضوره في كل مايجري على وجه الأرض، كما هي الشمس حاضرة في كل شيء، ولو من خلال نور القمر؟

ص: 260

وهل ندرك أنه يطّلع على أعمالنا بإذن الله تعالى، وحاشاه سبحانه أن ينصب للزمان صاحباً، ولا يمكنه من معرفة كل ما يرتبط بحسن الأداء. وقد ورد في الروايات أن الإمام إذا أراد أن يعرف شيئاً أعلمه الله إياه.

كما ورد الكثير من الروايات حول العمود من النور الذي يُرفع للإمام فیری به من خلاله ما أراد بإذن الله تعالی.

4- الإستعداد لظهوره خلاصة ما يجب أن نكون عليه في عصر الغَيبة في مجال ظهور الإمام المهدي عليه السلام، هو نفس مايجب أن نكون عليه في التعامل مع الدنيا والآخرة، والذي لخصه جده أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: إعمل الدنياك كأنك نعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.

يضع المؤمن نفسه دائماً أمام معادلة تقول: قد يتحقق الظهور في هذا اليوم، وقد يتأخر آلاف السنين.

ويحتم عليه ذلك أن يكون دائم الإستعداد لظهوره علیه السلام، استعداد الجندي المتأهب لتنفيذ الأمر بالإنطلاق.

وبديهي أن الإستعداد لمسيرة ولي الله تعالى التي تحف بها الملائكة، وتنتظم فيها القلوب السليمة، لا ينحصر بالبعد العسكري، بل لايشكل ذلك فيه - على أهميته - البعد الطليعي، وإنما الأصل والمحور هو «الجهاد الأكبر» أي بناء النفس في ضوء الهدى المحمدي القرآني.

والفائدة العملية العظمى لمثل هذا الإستعداد هي مراقبة خلجات

ص: 261

القلب لتنتظم في خط طاعة الله تعالى الذي كُلف عليه السلام بحراسته، وسياسة القلوب التي تسير فيه.

إن الفرق كبير كبير بين من يوقن بأن الإستعداد للظهورهو في صلب عملية تهذيب النفس، بل هما وجهان لحقيقة واحدة، وبين من يفصل بينهما.

5- حمل هموم المسلمين ومن علامات «معرفة الإمام الإقتداء به علیه صلوات الرحمن في حمل هموم المسلمين، ومواساته في ذلك بجهد المقِلّ.

هل تشعر أنه يحمل هم الإسلام، ويحزنه تحزب قوى الكفر في مواجهته، ويشتد تألمه للظلم الذي يلحقه الطواغيت بالمسلمين والمستضعفين؟ إن من الروافد التي تنمّي علاقتنا بالإمام المنتظر أرواحنا فداه، أن ندرك بعض مراتب الألم الذي يعتصر قلبه المبارك الطاهر، وكم تكسّرت النصال على النصال.

إذا كان جده أمير المؤمنين عليه السلام سمع بذمّية تُسلب خلخالها فقال: «.. لو أن امرءاً مسلماً مات من هذا أسفاً ما كان عندي ملوماً»(1) فكم هو حزن مولانا صاحب العصر والزمان علیه السلام عندما يواجه هذه المظالم التي تلحق بالمسلمين، والمستضعفين، وجميع الناس وعندما يرى إصرار الطواغيت على ربط لقمة الخبز بالمعاصي

ص: 262


1- الثقفي، الغارات 2 / 476

والحرام، وكيف أن مصّاصي الدماء لا يفكرون إلا بثرواتهم، ويُرخصون الإنسان إلى حيث يتحوّل إلى مجرد وسيلة للدعاية لسلعة! هل نحمل همّ الإمام في ما يحمله من هم الإسلام؟ 6- العناية بالبعد العبادي ثم هل ندرك أن البعد الأساسي في شخصيته علیه السلام الذي لأجله أصبح ولي الله ووصي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم هو البعد العبادي الذي يشمل كل الأبعاد؟ عندما نفكر بإمامنا لماذا نتطرّق مباشرة إلى الجانب السياسي والعسكري اللذين يرافقان حركة الظهور، ولا نعني بالبعد العبادي كما ينبغي؟ أقرب الناس من الإمام المنتظر أرواحنا فداه من يهتم بالعبادة «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» [الذاریات 56].

والعبادة التي تنفصل عن حمل هم الإسلام هي قشر بلا لب، فأقرب الناس إلى الإمام هو من يحمل هم الإسلام منطلقاً من قاعدة عبادة الله عزوجل، حريصاً على ثقافة الحكم الشرعي بأقسامه الخمسة. «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ».

ويجمع علامات المعرفة المتقدمة وغيرها، أن تكون معرفتا بالإمام نابضة بالحياة، لا أن نعيش فكرة على مستوى النظرية وحسب، أن هناك إماماً هو الإمام الثاني عشر، ونتولی من أردنا، ونتصرف كمايحلو لنا.

ص: 263

إن علينا أن نعيش معه باستمرار ونحیا بذكره امتثالا لأمر الله تعالى وأن نركّز في هذه المعرفة على إيجاد شيء من التناسب بيننا وبين مسيرته المباركة علیه السلام.

بعد ذلك كله، تحسن العناية المتوازنة بعلامات الظهور.

ويعني التوازن فيها أن نقرأها ونفقه أمرين:

1- أن النص على حتمية خمس علامات منها يعني أن كل ماعداها يمكن أن يتحقق.

2- أن التوقيت لايستند إلى دليل، للنهي عنه، ولاحتمال أن الإمام نفسه علیه السلام لايعرف وقت الظهور، فهو أمر بيد الله تعالی.

وسينتج عن ذلك حتماً أن نحاول تطبيق بعض العلامات على قاعدة الإحتمال وعدم الجزم، ومن باب القرائن لامن باب الأدلة ، ولا نسمح لأنفسنا بوصل قصور الدليل بمطاط الرغبة والتمني.

وينبغي التنبه جيداً إلى عدم الجزم بما يقابل ذلك، فلا يصح أن نقول إن هذا العصر حتماً ليس عصر الظهور، كما لايصح القول بأنه عصر الظهور حتماً، استناداً إلى فهمنا لأمور حصلت بلى يمكننا القول: هناك قرائن تشير إلى أننا في عصر الظهور والعلم عند الله عزوجل.

تقتضي التقوى وهي أساس الموضوعية أن نتعامل مع علامات الظهور بالدقة والتوازن لا أن نطِّلع على علامة تعجبنا فنتمسّك بها ونصّر على تطبيقها ولو بشكل خاطيء، أو غير قطعي.

ص: 264

* صوم سبعة عشر يوماً

أورد السيد عن الشيخ الصدوق علیهما الرحمة عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

«من صام سبعة عشر يوماً من شعبان غُلِّقت عنه أبواب النيران كلها»(1).

ولعل معنى ذلك والله تعالى العالم أن من صام سبعة عشر يوماً يستحق نوعاً من التسديد لترك المعاصي يحول بينه وبينها، فإذا سُدّد لترك المعاصي سدَّت عنه أبواب النيران وما ذلك على الله بعزيز.

«يامن يرحم من لايرحمه العباد».

ولنتذكر دائماً أننا في مجال الثواب الكثير بين يدي كرم أكرم الأكرمين.

* صلاة الليلة الثامنة عشر

وهي كما أوردها السيد ابن طاوس عليه الرحمة عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «ومن صلى في الليلة الثامنة عشر من شعبان عشر رکعات یقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وقل هو الله أحد خمس مرات قضى الله له كل حاجة بطلب في تلك الليلة، وإن كان قد خلقه شقياً جعله سعيداً، وإن مات في الحَول (أي في تلك السنة) مات شهيداً»(2).

ص: 265


1- الإقبال 3 / 356 وبهامشه «ثواب الأعمال: 87، أمالي الصدوق: 30، عنهما البحار 97: 7»
2- الإقبال 3 / 357

في عالم المعنى، هناك آثار لبعض الأعمال تفوق تصورنا المحدود بعالم اللفظ والقشر، من قبيل الصدقة التي ورد أنها تردّ القضاء وقد أُبرم إبراماً، فلماذا لايكون لمثل هذه الصلاة آثارٌ لاندرکها؟ إن الله عزوجل عالم قبل أن يخلق الخلق بأن هذا الإنسان بما سيكون عليه، يستحق أن يكتب من الأشقياء، وعندما يصل إلى منعطف معين، ويوفق لهذه الصلاة، فسيتم نقله من الشقاء إلى السعادة، وهو سبحانه يعلم مَن سوف يوفَّق لذلك ومن يُحرم منه بما تكسب يداه.

فلنحرص على هذه المستحبات، لأن مجرد إحتمال أنها تنفع في ذلك اليوم العبوس القمطرير، كافٍ في حملنا على أقصى الإهتمام بها لما لها من عظيم الآثار.

أسأل الله عزوجل أن يوفقنا لمراضيه بالنبي المصطفى وآله، صلى الله عليه وعليهم.

الحمدلله رب العالمین

ص: 266

18 شعبان

اشارة

* مقومات عمل الإنتظار

* التقوی

* المرابطة

* العزم على الجهاد بين يديه

* صوم ثمانية عشر يوماً

* صلاة الليلة التاسعة عشر

ص: 267

ص: 268

* مقومات عمل الإنتظار

ما نزال كذلك في حرم النصف من شعبان وينبغي أن يتواصل الحديث عن مولانا بقية الله في الأرَضين أرواحنا فداه.

ذكرت في الحديث السابق أن الإنتظار عمل وليس امتناعاً عن العمل، ولذلك ورد أن أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج، ومن مفردات عمل الإنتظار:

1- التقوی.

2- المرابطة.

3- والعزم على الجهاد بين يدي الإمام المنتظر عجّل الله تعالی فرجه الشریف.

وهذه وقفة مختصرة عند كل منها:

* التقوى

إن من شأن الإهتمام بالتقوى أن يجعل الإنسان منتظراً حقيقياً لأن من ينتظر مسيرة التقوى لا بد وأن يعزز في نفسه التقوى ليتناسب مع هذه المسيرة، وإلا كان انتظاره وهماً وعبثا، ولا يخرج من دائرة ذلك إلا بتلمس مكامن التقوى في قلبه، وتعاهدها بالرعاية، ليكون انتظاره حقيقياً مثمراً.

ص: 269

والتقوى هي في الحقيقة المنطلق والشرط الذي لا يُقبل بدونه عمل «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» والمسيرة التي سيقودها علیه السلام هي مسيرة أهل العبادة الذين تُطوى لهم الأرض، وأهل البصائر الذين لا ذنوب لهم تحجبهم عن رؤية الحقيقة حين تتطاير القلوب مطايرها، ومما یرشدنا إلى الترابط بين الإنتظار والتقوى ما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام:

«من سرّهُ أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر وليعمل بحُسن الأخلاق والورع وهو منتظر فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدرکه فجدّوا وانتظروا»(1).

وهذا النص من عيون الحديث، «فمَن سرّهُ أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر ولیعمل بالورع ومحاسن الأخلاق..».

من البديهي أن التقوى واجبة في كل حال إلا أن المقصود هو الإشارة إلى هذه العلاقة بينها وبين الإنتظار، لندرك أننا إذا أردنا أن نكون من جنده علیه السلام فعلينا أن نعتني بتهذيب أنفسنا لنحظى على الأقل بشيء من التناسب بيننا وبين هذه المسيرة الربانية التي سيملأ الله بها الأرض قسطاً وعدلاً.

وقد تقدم أن من أوصاف أنصار الإمام المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشريف، في الروايات «.. لهم دويٌّ في صلاتهم کدويّ النحل، یبیتون قياماً على أطرافهم ويصبحون على خيولهم، رهبان بالليل ليوث بالنهار، هم أطوَع له من الأَمَة لسيدها، کالمصابيح، كأن

ص: 270


1- النعماني، الغَيبة 200

قلوبهم القناديل، وهم من خشية الله مشفقون، يدعون للشهادة ويتمنون أن يُقتلوا في سبيل الله، شعارهم يا لثارات الحسين، إذا ساروا یسیر الرعب أمامهم مسيرة شهر..»(1).

وليست التقوى كلمة تقال ولا أمنية يعقد عليها القلب دون عمل، بل هي محاولة دائمة لتصحيح المسار من اتباع الهوى إلى التعبد بأحكام الله تعالى، ليمن الله تعالى بالتقوى على من يعلم صدقه في ما يبذل من جهد لتصحيح مساره في المجالات الثلاثة: العقائدية، والأخلاقية، والسلوكية، لأنه من خلال هذا الجهد المتواصل يردد بقلبه قبل اللسان:

«ومُدّني بالمعونة في جميع أحوالي، ولاتكلني إلى نفسي وغيري، فأَكِلَّ وأعطب، وزودني التقوى، واغفر لي في الآخرة والأولى، واجعلني أَوجَهَ من توجه إليك»(2).

ولا يتحقق الحرص على التعبد بأحكام الله تعالی مادامت المستحبات والمكروهات خارج دائرة الإهتمام، فضلاً عن أن تواجه الواجبات والمحرمات بذهنية التملص أو التسويف.

والمؤشر الضروري على الرغبة في التقوى هو السعي الجاد في معرفة حدود الله تعالى أي تعلم الأحكام الشرعية والإحاطة بما هو محل الإبتلاء من الرسالة العملية للمرجع الذي تحدد الثوابت الشرعية الرجوع إليه.

ص: 271


1- المجلسی، البحار 52 / 308
2- المحدث النوري، مستدرك الوسائل 8 / 131 نقلاً عن السيد ابن طاوس في «الأمان من أخطار الأسفار والأزمان 94» من أدعية الخروج من المنزل للسفر

* المرابطة

يتحقق الإهتمام بها عندما تكون روح المرابطة على ثغور الإسلام حاضرة في المؤمن بلا أدنى تردد، فإذا كان هناك ثغر يستدعي المرابطة رابط أو حاول، وإن لم يكن عاش المرابطة وعَمّق في نفسه الإستعداد لها، ويتوقف ذلك على المرابطة الأصل التي ليس ماتقدم إلا في سياقها وبعض التجليات.

حول قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا».

ويختلف تفسير المرابطة في الروايات كما يلي: 1- ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: «إصبروا على المصائب وصابروا على عدوكم ورابطوا عدوكم»(1).

2- أن المعني هو المحافظة على الصلوات وانتظارها واحدة واحدة(2).

3- أن المعنى «ورابطوا إمامكم»(3) وفي بعضها «ورابطوا إمامكم المنتظر»(4) وفي بعضها «ورابطوا على الأئمة»(5).

وعن الإمام الصادق علیه السلام أن معنى المرابطة في الآية «المقام مع إمامكم»(6).

ص: 272


1- المجلسي، البحار 24 / 216
2- الفيض الكاشاني، تفسير الصافي 1 / 412
3- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب 1 / 211
4- النعماني، الغَيبة 27
5- الكليني، الكافي 2 / 81
6- الميرزا محمد المشهدي، تفسیر کنز الدقائق 2 / 333

ويتضح بالتأمل أن المرابطة بمعنى «المرابطة في ثغر للدفاع عن الإسلام» لم تعرف في زمن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، ثم إن في بعض الروايات تصريحاً بأنه يتكلم عن بعض مصادیق المرابطة «من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة» فالمراد بالمرابطة حبس النفس على طاعة الله تعالى، ويتوقف ذلك على معرفة الإمام والتزام أوامره.

قال الطريحي:

«قوله: (صابروا ورابطوا) أي رابطوا من ارتباط الخيل في سبيل الله وقيل: وكل العبادات رباط في سبيل الله، وأصل الرباط الملازمة والمواظبة على الأمر وملازمة ثغر العدو كالمرابطة. والمرابطة أيضاً: حبس الرجل نفسه على تحصيل معالم الدين، بل هو أبلغ في اسم المرابطة، فإن مهام الدين أولى بالإهتمام من مهام الأبدان. والمرابطة أيضاً: انتظار الصلاة بعد الصلاة، لقوله علیه السلام «فذلكم المرابطة» يعني إن هذه الاعمال هي المرابطة، لأنها تسد طريق الشيطان عن النفس وتمنعها عن الشهوات، وهو الجهاد الأكبر لما فيه من قهر أعدى عدو الله تعالى»(1).

وبديهي أن ذلك يتوقف في زمن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بالرجوع إليه مباشرة، وبعده بالرجوع إليه من خلال من أمر بالتزامهم والمرابطة ببابهم، عليهم جميعاً ولاسيما قائمهم إمام زماننا أزكى التحية والسلام.

ص: 273


1- الطريحي، مجمع البحرین 2 / 132 - 133

* العزم على الجهاد بين يديه

والعزم معرفة وحب وقرار، ومن عرف إمامه ودّرب نفسه على المقام معه والمرابطة، أمكنه اتخاذ القرار.

ومن التدريب تفاعل العقل والقلب مع مضامين أدعية الغَيبة وزياراته علیه السلام، وبالخصوص «اللهم إن حال بيني وبينه الموت الذي جعلته على عبادك حتماً مقضياً، فأخرجني من قبري مؤتزراً كفني، شاهراً سيفي، مجرداً قناتي، ملبياً دعوة الداعي في الحاضر والبادي»(1).

حقاً.. أي عزم على الجهاد هذا الذي ضُمّت عليه الجوانح، فإذا به لايهب من نومه مجاهداً، بل يهب من «موته» فارساً مغواراً مصراً على أن يسطر الملاحم مؤتزراً كفنه! فلا متسع من الوقت لديه ليلبس لامة الحرب! أيُّ لهيب باطني تصاعد ضرمه في محيط هذا القلب الكبير الكبير، فإذا الآخرة والدنيا لديه ساحة جولته، ومضمار السباق، وحلبة الكر دون فَرّ؟! ندرك في ضوء ما تقدم أن من شأن العزم على الجهاد أن يحمل صاحبه على توفير مقدمات الجهاد، من تدريب وخبرة تركمها التجارب، وسلاح، والحد الأدني في البعد النفسي لمناخ الجهاد.

إن ذلك وحده الطريق الذي يتيح لمن سلكه أن يحقق في

ص: 274


1- من دعاء العهد المعروف. أنظر: مفاتیح الجنان

وجوده مثل هذا الضرم، ليصبح أهلاً بكل جدارة لمثل هذه النقلة من القبر إلى ميدان الجهاد بين يدي صاحب العصر والزمان! وقد سأل الإمامَ الباقر علیه السلام، موالٍ يدل كلامه على أنه من أهل العزم على الجهاد بين يدي إمام زمانه، فقال: فإن مت قبل أن أدرك القائم؟ فأجابه الإمام: «القائل منکم إن أدركتُ القائم من آل محمد صلی الله علیه و آله وسلم نصرته، كالمقارع معه بسيفه، (بل کالشهيد معه) والشهيد معه له شهادتان»(1).

والفائدة العملية أن نحمل أنفسنا على ما تكره في مجال الجهاد ومواجهة الأعداء وأن نحول بينها وبين الميل إلى الدعة، إيثاراً منها للإنغلاق في قمقم الذات والملذات، على حمل هموم المسلمين، وآلام المجازر التي تسيل منها دماؤنا جراء الغارة الأمريكية الصهيونية علينا.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن من يتقلب بين بضائع العدو المحارب ويستهلك سلعه ومنتجاته، مدعو إلى اعتبار ذلك الحاجز الذي ينبغي له أن يتخطاه ليبدأ بالحديث عن علاقة سليمة بالإمام المهدي أرواح العالمين له الفداء.

* صوم ثمانية عشر يوماً

أورد السيد عن الشيخ الصدوق عليهما الرحمة عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

ص: 275


1- المجلسي، البحار 52 / 116

«من صام ثمانية عشر يوماً من شعبان فتحت له أبواب الجنان كلها»(1).

بصيام سبعة عشر يوماً تُغلق أبواب النيران، وبصيام ثمانية عشر يوماً تفتح أبواب الجنان.

ومن الواضح أنه ليس المقصود أن من صام ذلك فليفعل ما يحلو له، فقد کُفي كل مؤنة، لأن من أغلقت له أبواب النيران وفتحت له أبواب الجنان لن يبقى أي مبرّر لعذابه مهما بلغت معاصيه، وأن باستطاعته أن يطمئن إلى حُسن عاقبته مهما فعل! بديهي أنه ليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود أنه يصبح مستحقاً للتسديد وعليه الإستمرار في مثل هذا الجهد، وسيعينه الله عزوجل في المنعطفات التي تواجهه، معونة تتناسب مع هذه الجائزة التي حصل عليها ولم يبددها، أما إذا اتخذ رحمة الله عزوجل وسيلة للجرأة عليه، فذلك انقلاب على الأعقاب وارتداد بعد الإسلام، والله تعالى العالم.

* صلاة الليلة التاسعة عشر

أورد السيد ابن طاوس عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

«من صلى ليلة التاسع عشر من شعبان ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وقل اللهم مالك المُلك خمس مرات غفر الله ذنوبه ما

ص: 276


1- الإقبال 3 / 357

تقدم منها وما تأخر ويتقبل ما یصلي بعد ذلك وإن كان له والدان في النار أخرجهما»(1).

وآية الملك هي قوله عزوجل:

* «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» [آل عمران 29].

ولنتذكر أنا قد نصلي الصلاة الواجبة ولا تُقبل منا، فكيف بالصلاة المستحبة؟ هناك إذاً شروط، وإن الله تعالى لايخدع عن جنته، إلا أنه سبحانه يريدنا أن نَبلغ ما لایمکننا عادة، فيضاعف لنا الثواب لنصل، كما تقدم في رواية عن الإمام الباقر عليه السلام.

أسأل الله عزوجل أن يوفقنا لمراضيه بالنبي وآله.

والحمدلله رب العالمین

ص: 277


1- الإقبال 3 / 357

ص: 278

19 شعبان

اشارة

* الحنين إلى الإمام عليه السلام

* المقام مع الإمام

* حنين الوالهين

* النموذج الأول

* النموذج الثاني

* النموذج الثالث

* صوم تسعة عشر يوماً

* صلاة الليلة العشرين

ص: 279

ص: 280

* الحنين إلى الإمام علیه السلام

في الحديث السابق كانت وقفة عند أهم مقومات الإنتظار:

التقوى، والمرابطة، والعزم على الجهاد بين يدي الإمام عليه السلام.

وهناك بُعد مترابط بهذه المقومات جميعاً، وبالثالث منها بشكل خاص، وهوالحنين إلى الإمام عليه السلام.

ولقد مر عرض بعض الروايات حول الشوق إليه علیه السلام، والمراد هنا بالحنين شدة الشوق، بحيث يصبح الحالة التي يعيش المؤمن تفاعلاتها، بل يصبح هو تلك التفاعلات والتجليات.

وتكمن أهمية هذه الحالة في أنها تخرج المؤمن من كل دوائر الجذب الشيطانية، ليغرد في سربه، ويحلق بعيداً، ليأخذ موقعه في مدار منظومة النور المحمدي، حزمة سناً من أنوار الكوكب الدري.

ويمكن تصور مراحل هذه الحالة كمايلي:

1- معرفة الإمام.

2- حب الإمام أو الشوق إليه.

3- الحنين إليه.

وبذلك تكتمل معرفة الإمام، لتبدأ رحلة معرفة المأموم لنفسه،

ص: 281

من خلال المقارنة بين ماهو المطلوب، وماهو الواقع، أي أن يعرض نفسه على أحكام الله تعالی ليرى مدى اتباعه لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، في خط طاعة الله تعالى والإلتزام بما أمر.

وليس الحنين إلى الإمام إلا تجلي الحنين إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم.

وتسأل: لماذا لاتبني علاقة الحب والحنين برسول الله صلی الله علیه و آله وسلم مباشرة، دون الحاجة إلى الإمام؟ والجواب:

أولاً: إن المغايرة المتوهمة التي لأجلها يطرح هذا السؤال، فرع تعدد النور، أي أن نور الإمام غیر نورالنبي صلی الله علیه و آله وسلم.

ثانياً: إن العلاقة بالآمر المباشر هي الإمتحان الحقيقي الذي يثبت مدى العلاقة بالآمر الأصل غير المباشر، ولذلك جعل الله تعالی طاعة الرسول دليل طاعته، فقال: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)».

والطاعة باختيار فرع القناعة، إلا أن الطاعة بامتياز فرع الحب، وبمقدار مايتعاظم الحب تتعاظم الطاعة، فتصل إلى «العبادة» وهل الدين إلا الحب؟ وقد قرن الله تعالی بین حبه سبحانه وحب رسوله «أحب إليكم من الله ورسوله» بل جعل حب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، الطريق والمدخل الحصري، بل التجلي الأصفى لحبه سبحانه: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ»! والإتباع حب وطاعة، وبمقدار مایکتمل، تكتمل، فالحب الشجرة، والطاعة الثمرة.

ص: 282

ومع الإمام نصبح أمام امتحان: إن کنتم تحبون رسول الله فاتبعوا وصيه.

ولا هدف في كلا الموردين إلا حب الله تعالى وطاعته.

* المقام مع الإمام

تقدم في الحديث السابق، في تفسير الآية الكريمة «اصبروا وصابروا ورابطوا» عن الإمام الصادق عليه السلام، أن المرابطة هي «المقام مع الإمام».

وهل يتصور المقام مع شخص إلا من خلال نبض العقل والقلب؟ ومتى كان القرب المادي قيمة؟ وهل هو أكثر من مؤشر إلى القرب الحقيقي؟ و «المقام مع» أعلى من القرب الحقيقي، فهو مرتبة اصطفاء، وثمرة المرابطة على ثغر القرب، وهو على سمو مرتبته، دون مرتبة «منا أهل البيت».

والطريق إلى هذه المراتب جميعاً، هو الحب والحنين.

وبمقدار ماتلفح حرارة شمس المعرفة المشرقة في العقل قلب المحب، يكون نضجه.

قد تطول الرحلة، وقد تقصر، ألا ترى الثمار على شجرة واحدة، تنضجها حرارة شمس واحدة، والمناخ واحد، ولكل منها أوانه؟

ص: 283

ولا ضرورة للبحث عن مواطن الإختلاف، بل يجب البحث في سبب التلاقي.

تلاقي القلوب في صراط العقل المستقيم على موعد للنضج متقارب.

والموعد الحصري هو ساحة «الرسالة العملية» وحرم «حدود الله» تعالی.

* «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» [النساء 13].

وينحصر الطريق إلى حرم حدود الله تعالى وكعبتها بالحنين إلى وليه عزوجل. لئن كان الشوق يوصل إلى الميقات، فالحنين إحرام منه للطواف.

بالحنين إلى وصي المصطفى الحبيب، يصبح هوى المؤمن مع إمامه.

أهوى أخيك معنا؟ فقال: نعم، بلى. قال علیه السلام: «فقد شهدنا ولقد شهدنا عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء سیرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان»(1).

وبمقدار مایکون هوى المؤمن مع إمامه تكون طاعته الله تعالى،

ص: 284


1- الریشهری، میزان الحکمة 4 / 3415. قاله أمير المؤمنين علیه السلام لمن ود لو أن أخاه شهد حرب الجمل مع الإمام

ورعايته لحدود سبحانه، والطواف حول كعبتها بين ركن الميثاق، ومقام التوحيد الإبراهيمي وهو محمدي.

أو ليست رعاية الحدود تجسيد نهي النفس عن الهوى.

* حنين الوالهين

أقف هنا على أدنى أعتاب ثلاثة نماذج من حنين الوالهين، لنتعلم منها كيف يكون الحنين إلى النور المحمدي، وكوكبه الدري.

* النموذج الأول: آية الله النجفي القوجاني يتحدث في كتابه القيم «السياحة في الغرب» بلغة حديثة تستند إلى الأصالة والمكاشفة، عن رحلته بعد الموت، فيصل إلى المحطة التالية:

وصدر الحكم لي بالجنة.

وجاء الملائكة يزفونني إليها.

وبعد أن سرت معهم قليلاً، ظهرت على وجهي علامات الحزن، فتركتهم وتنحيت جانباً، وجلست.

وحيث أن المؤمن أعظم حرمة من الملائكة، فلم يجرؤوا على الإعتراض.

وفيما كنت غارقاً في هواجسي، رن جرس التلفون! قالوا: إن الشهيد حبیب بن مظاهر على الخط! سلمت عليه، ورد السلام، ولأن التلفون كان من النوع المتلفز فقد كنت أراه وأسمع كلامه.

ص: 285

قال: ما الأمر؟ ماهو سبب امتناعك عن المجيء إلى الجنة؟ وانفجرت بالكلام والبكاء، وامتزج الحنين والأنين!!! یا حبيب، لقد جددت أحزاني! ياحبيب، دعني وشأني! ياحبيب، أنت عشت مع إمام زمانك، وجاهدت بين يديه، واستشهدت معه.

أما أنا فقد أمضيت عمري أتجرع غصة أمنية التشرف بلقاء إمام زماني، ثم حملت معي هذه الغصة إلى قبري، ومازلت أكابد تباريحها..

ياحبيب، أنا لا أريد الجنة، أريد إمام زماني!(1).

* النموذج الثاني: الشيخ عبد الحسين الأعسم، قال شعراً:

سلِّیا بالحديث غيرَ فؤادی *** بم یسلو عن الورود الصادي

بين جنبيَّ جذوة تتلظى *** مهجتي فوق حرِّها الوقاد

أين منها الخمود هيهات إلا *** بلقا من لقاه أقصی مرادي

منية النفس إن نأیمن سواد العين لم ينأ عن سويدا الفؤاد

لم يفز ناظري بلقیاه حتى *** في رقادي وأين مني رقادي

«...» من لقلبي بأن یفوز بمن یهواه بعد التیاعه بالبعاد

حبذا ساعة ألاقيه فیها *** ما أَلذّ السلسالَ في قلب صادي

صاحبيّ اشرحا بندبته صدري فقد ضاق الفضا في کل ناد

بأبي والعزيز من أهل بيتي *** أفتدي - ه وطارفي وتلادي

ص: 286


1- آیت الله نجفي قوجاني، سياحت غرب یا سر نوشت ارواح بعد از مرك (فارسي) 120 - 126. (ط: نشر صحيفه، مشهد). بتصرف

خاتم الأوصيا لخاتم رسل الله غوثُ الولي، حتفُ المُعادي

طال حمل النوی به فمتی یا *** فرج الله ساعة الميلاد

أيُّ يومٍ يشدو البشير بمن لم *** يحلُ في عينه تَرُّنمُ شاد

وتلاقي عيناي منه محیّاً *** بين عينيه نور احمد باد «..»(1)

* النموذج الثالث: الشيخ البهائي

جاء في قصيدة له في مدح الإمام صاحب الزمان عجل الله تعالی فرجه الشریف:

یا کراماً صبرنا عنهم محال *** إن حالي من جفاكم شر حال

إن أتي من حبكم ریح الشمال *** صرت لا أدري یمیني من شمال

***

یا أخلائي بحزوی والعقیق *** مايطيق الهجر قلبي مايطيق

هل لمشتاق إليكم من طريق *** أم سددتم عنه أبواب الوصال؟!

*** لاتلوموني على فرط الضجر *** ليس قلبي من حديد أو حجر

فات مطلوبي ومحبوبي هجر *** والحشا في كل آن في اشتعال

***

من رأی وجدي لسكان الحجون *** قال ما هذا هوىّ، هذا جنون

أيها اللوام ماذا تبتغون *** قلبي المضني وعقلي ذو اعتقال

***

یانزولاً بين سلع والصفا *** یاکرام الحي یا أهل الوفا

كان لي قلب حمول للجفا *** ضاع مني بين هاتيك التلال

***

ص: 287


1- السيد محسن الأمين، الدر النضيد في مرائي السبط الشهيد 95 - 96 (مطبعة الإتقان، دمشق، سنجقدار 1365 م 1946 م، منشورات مكتبة الداوري، قم)

یا رعاك الله ياريح الصبا *** إن تجز یوما على وادي قبا

سل أهیل الحي في تلك الربا *** هجرهم هذا دلال أم ملال؟

***

جيرة في هجرنا قد أسرفوا *** حالنا من بعدهم لا يوصف

إن جفوا أو واصلوا أو أتلفوا *** حبهم في القلب باق لا يزال

***

هم كرام ما عليهم من مزيد *** من يمت في حبهم یمضي شهيد

مثل مقتول لدى المولى الحميد *** أحمدي الخلق محمود الفعال

***

صاحب العصر الإمام المننظر *** من بما يأباه لا یجري القدر

حجة الله على كل البشر *** خبر أهل الأرض في كل الخصال

***

ذو اقتدار إن یشأ قلب الطباع *** صبر الإظلام طبعا للشعاع

وارتدي الإمكان برد الامتناع *** قدرة موهوبة من ذي الجلال

***

یا أمين الله ياشمس الهدی *** یا إمام الخلق یا بحر الندى

عجلن عجل فقد طال المدى *** واضمحل الدين واستولى الضلال

***

یاولي الأمر باكهف الرجا *** مسني ضرٌ وأنت المرتجی

والكريم المستجار الملتجا *** غیر محتاج إلى بسط السؤال(1)

***

ص: 288


1- الشيخ بهاء الدين العاملي، الكشكول الكامل 1 / 303 - 304 (ط: دار الزهراء، بيروت، الطبعة الثانية 1403 ه 1983 م)

وفي هذه النماذج مايكفي لرسم ملامح الطريق التي ينبغي سلوكها.

وحذار ياقلب أن يلتبس عليك الأمر أو تلبس على نفسك فتلجأ إلى البحث عن المربي والأستاذ، وعن البرنامج العبادي، أو عن الجو الإيماني الذي تدعي أنك تحن إليه.

ماهكذا تورد یاسعد الإبل.

وليست المشكلة في ماينبغي توفره، بل هي في طبيعة العمل بما نعلم مما توفر منذ زمن بعيد.

طهارة القلب - أيها القلب - هي الطريق إلى رحاب من أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

فاحذر ياقلب أن تكون من الرجس الذي يذهبه الله تعالی عنهم، وليشتد حذرك كلما تطاول زمن معرفتك لهم دون بذل الجهد للحصول على الحد الأدنى من التناسب بين المأموم والإمام.

اللهم أرِنا الطلعة الرشيدة واجعلنا من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه.

* صوم تسعة عشر يوما

أورد السيد عن الشيخ الصدوق عليهما الرحمة عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

«ومن صام تسعة عشر يوماً من شعبان أُعطي سبعين ألف قصر من الجنان من درٍّ وياقوت»(1).

ص: 289


1- الإقبال 3 / 358. وبهامشه «أمالى الصدوق: 30، ثواب الأعمال: 87، عنهما البحار 97: 70». وانظر: الشيخ الصدوق، فضائل الأشهر الثلاثة 48

وبديهي أن المضمون غريب جداً، إلا أن رفضه يتوقف على الجزم بعدم تصور وجه معقول يخرجه من الغرابة، ولا سبيل إلى هذا الجزم على الإطلاق، لأن الحديث عن عالم نحن أميون في التعامل مع كل مفرداته.

ولیکن بالبال دائماً كيف تعامل أصحاب العقول الكبيرة من علمائنا الأعلام مع مثل هذه الرواية التي أوردها الشيخ الصدوق في ثلاثة من كتبه، كما أورد الشيخ الطوسي في ثلاثة موارد من مصباحه ثواباً مشابها على صلاة في ليلة الإثنين ويومه ويوم الخميس أو الجمعة وليلتيهما(1) وقد نقلها عنه العلامة الحلي في بعض أبحاثه الفقهية(2).

وتبقى صحة السند الأصل والأساس.

وإذا كان القصر يعادل مرتبة من الحسنات، فيكون القصر وحدة قياسية، مما يجعلنا أمام احتمال أن يكون المقصود أن الإنسان يعطى ثواباً كثيراً جداً - هو تلك القصور - كي لاتأتي عليه ذنوبه بسهولة فيرجع فقيراً في الحسنات معدماً لايلوي على شيء، إلا أنه مع ذلك قد يبدده.

وفي بعض قصص الصالحين المعتضدة بالدليل أن عقوق الوالدين يحرق مايكون للعاق من القصور التي حصل عليها من قبل. والله تعالى العالم.

ص: 290


1- الشيخ الطوسي، مصباح المتهجد 252 - 253 و 254 و 260
2- منتهی المطلب (ط. ق) 1 / 361

* صلاة الليلة العشرين

أورد السيد ابن طاوس عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

«من صلى في الليلة العشرين من شعبان أربع ركعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وإذا جاء نصر الله والفتح خمس عشر مرة، فوالذي بعثني بالحق نبياً أنه لا يخرج من الدنيا حتى يرى في المتام «..» مقعده من الجنة ويحشر مع الكرام البررة»(1).

أسأل الله عزوجل أن يوفقنا لما يحب ويرضى بنبيه المصطفى وآله عليهم أفضل الصلاة والسلام.

والحمدلله رب العالمین

ص: 291


1- الإقبال 3 / 358

ص: 292

20 شعبان

اشارة

* طلب التشرف بلقائه

* توقيع السُّمَّري

* الطريق إلى الإمام علیه السلام

* صوم عشرين يوماً

* صلاة الليلة الواحدة والعشرين

ص: 293

ص: 294

* طلب التشرف بلقائه

من آداب غيبة الإمام المنتظر أرواحنا فداه طلب التشرُّف بلقائه.

قد تتساءل كيف يكون طلب التشرُّف من آداب الغيبة؟ لنتصوّر أننا في عهد أمير المؤمنين عليه السلام ولا نفكر بلقائه، أوليس ذلك كاشفاً عن الخلل بالعلاقة به علیه السلام.

وبما أننا الآن في عصر سیدنا بقية الله في الأرَضين الإمام المنتظر، فمن الطبيعي جداً أن نلحّ على طلب التشرُّف بلقائه أرواحنا له الفداء.

إننا في مجال شرف هذا اللقاء على قسمين:

1- من لايعتقد بإمكان ذلك، فيلغيه من دائرة اهتمامه إطلاقاً.

2- من يعتقد بإمكانية التشرف بلقائه علیه السلام، أو يحتمل ذلك، أويظنه، ولكنه لايهتم بهذا اللقاء، ولهذا القسم حالات:

أ- من لايرى نفسه أهلاً لهذا الشرف.

ب- من لايهتم به من باب اللامبالاة وعدم التفكير بهذا الأمر، فضلاً عن اتخاذ قرار فيه وموقف منه.

ص: 295

ت- من يفكر بالتشرف بلقائه علیه السلام، ولكن بشكل باهت وضعيف.

وأكتفي في مايرتبط بالقسم الثاني بجميع حالاته، بالتأكيد على أمرين:

الأول: أن الحالة الطبيعية جداً هي أن لايرى أحدنا نفسه أهلاً للتشرف بلقائه علیه السلام، رغم الجزم بإمكان ذلك ووقوعه، وأن يكون اللقاء هدفاً يسعى إليه على قاعدة التفضل لا الإستحقاق.

الثاني: أن المطلوب ممن يرجع عدم اهتمامه إلى اللامبالاة، أن ينسجم مع قناعاته، فمن احتمل إمكانية اللقاء أو ظنها، ينبغي له أولاً أن يتنبه إلى أن هذا المحتمل أو المظنون قد وقع كثيراً، وهذه قصص اللقاء الموثقة خير دليل.

وأما من يجزم وهو مع ذلك لايهتم، فإن هذا يكشف عن ثغرة فيه، في مجال العلاقة بولي الله تعالى ووصي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، ولا بد أن تُسَد فوراً لأنها قد تتحول إلى مؤشر خطير على خلل في العقيدة والعياذ بالله تعالی.

أكتفي بهذا المقدار، لتنصب الإجابة على القسم الأول.

والسؤال المركزي هنا: هل يمكن أن نتشرف بلقاء الإمام المهدي عليه السلام؟ لا بد من التوضيح أن هناك شبهة طُرحت في مسألة رؤية الإمام عليه السلام، ولدى التحقيق نجد أن هذا التشكيك لايستند إلى أي دلیل، وأن السبب فيه هو أن المشكك لم يرجع إلى ما قاله علماؤنا الأعلام ولم يحاول أن يدقق في الروايات، ليخرج بالنتيجة النهائية.

ص: 296

* توقيع السُّمَّري

إن منشأ شبهة أننا لا نستطيع رؤية الإمام عليه السلام في الغيبة الكبرى، هوالفهم الخاطيء لتوقيع السُّمَري.

والمراد بكلمة توقيع في مصادرنا «ما خرج من الناحية المقدسة» أي ما صدر عن الإمام المهدي عليه السلام من رسائل إلى أشخاص معيّنين، ومن هذه الرسائل رسالة إلى آخر السفراء الأربعة السُّمَري.

وتعرف هذه الرسالة بتوقيع السُّمَري، وقد ورد فيها:

«یا محمد بن علي السُّمَري أعظم الله أجر إخوانك فيك فإنك میّت بينك وبين ستة أيام فأجمِع أمرك، ولا نوص لأحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامة (وفي بعض النسخ الثانية) ولا ظهور إلا بعد إذن الله عزوجل وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جوراً وسيأتي شيعتي مَن يدّعي المشاهدة ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب ومفترٍ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».

وقد فهم البعض من هذا التوقيع دون تحقيق أنه ينفي إمكانية التشرُّف بلقاء الإمام عليه السلام في الغيبة الكبری.

ولكن الحقيقة واضحة تماماً والنتيجة التي لا نجد غيرها عندما نرجع إلى كلمات علمائنا الأعلام أن هذا التوقيع لا علاقة له بنفي اللقاءات التي تجتمع مع كون الإمام عليه السلام في الغيبة الكبرى إلا أن أشخاصاً تشرفوا برؤيته، دون ادعاء انتهاء الغيبة الكبرى، ودون ادّعاء النيابة الخاصة.

ص: 297

يريد هذا التوقيع أن ينفي أمرين:

1- نفي النيابة الخاصة بعد السفير الرابع، السمري، رضوان الله تعالی علیه.

2- ونفي الظهور قبل السفياني والصيحة.

وعلى هذا أجمعت كلمات علمائنا الأعلام بحيث أننا نجد في قائمة ممتدة من زمن الشيخ الطوسي والسيد المرتضى عليهم الرحمة إلى زمننا هذا أسماء كبار العلماء الذين صرّحوا بوقوع رؤية الإمام وعدم المنافاة بين الرؤية وتوقيع السُّمَري، أستثني فقط الشيخ الطوسي والسيد المرتضى حيث تحدّثا عن إمكانية الرؤية ولم يتحدّثا عن وقوعها.

فالعلماء إذاً مجمعون على إمكان الرؤية ومن عدا الشيخ الطوسي والسيد المرتضى عليهما الرحمة يتحدثان عن الإمكان والوقوع، أماهما فيتحدثان عن الإمكان.

من جملة العلماء الذين تحدثوا عن عدم المنافاة بين توقيع السُّمَري ومشاهدة الإمام في عصر الغيبة الكبرى السيد بحر العلوم رضوان الله عليه، والعلامة المجلسي، والمحقق الأردبيلي حيث صرّح في كتابه؟ «حديقة الشيعة» بأنه ذكر وجه عدم التنافي بين قصص التشرُّف بلقاء الإمام عليه السلام وبين توقيع السُّمَري، في كتابه المسمی بالنص الجليّ في إمامة مولانا علي علیه السلام.

وتلتقي كلمات العلماء الأعلام جميعاً عند نقطة أن المراد بلفظ «المشاهدة» الوارد في التوقيع مايقابل «الغَيبة» بدلیل ربط المشاهدة

ص: 298

بخروج السفياني والصيحة، ومن الواضح أن الذي يتحقق بعدهما هو ظهور الإمام عليه صلوات الرحمن، فهو المنفي إذاً طيلة المدة الفاصلة بين وفاة السمري وهاتين العلامتين، بالإضافة إلى نفي «النيابة الخاصة» في هذه الفترة، كما تقدم.

كما أن مصادرنا الأساسية تضم الكثير من قصص التشرُّف بلقائه علیه السلام، ووجود القصص في المصادر المعتبرة يكشف عن رأي هؤلاء المؤلفين الأعلام في مسألة التشرُّف بلقاء الإمام عليه السلام، وهناك استخارة يرويها الشهيد الأول عن العلامة الحلّي عن والده عن السيد رضي الدين الآوي - الذي يمدحه السيد ابن طاوس كثيراً - وقد آخاه، عن الإمام المهدي عجّل الله تعالی فرجه الشريف.

ومن الواضح أن نقل مثل الشهيد الأول، ومثل العلامة الحلّي ووالده هذه الإستخارة يكشف عن اعتقادهم بمسألة الرؤية، بالإضافة إلى أن بعض قصص التشرف تنسب إليبعضهم.

مسألة الرؤية إذاً أكثر من ممكنة وهي واقعة، بل ما أكثر وقوعها.

وقد استقصیت آراء العلماء في مختلف القرون، وتم طبع ذلك في كتيب باسم «حول رؤية المهدي» عليه السلام، ولا يتسع المجال هنا الأكثر مما تقدم.

ينبغي أن لا نحرم أنفسنا على الأقل من ثواب الحنين إلى الإمام والتشرُّف بلقائه، والإلحاح في طلب التشرُّف.

ثم إن مضامين الأدعية واضحة في ذلك «اللهم أرني الطلعة الرشيدة واکحل ناظري بنظرة مني إليه» «هل إليك يابن أحمد سبيل فتُّلقّي هل يتصل يومنا منك بعِدَةٍ فنحظى».

ص: 299

والنتيجة هي أن إصرار المؤمن على طلب التشرف بلقائه علیه السلام، أمر طبيعي جداً، وخلافه هو المستهجن.

* الطريق إلى الإمام علیه السلام

لدى استعراض القصص التي تذكر عادة تحت عنوان التشرف بلقائه علیه السلام، يتضح أمران:

الأول: أن أكثر هذه القصص مما لايمكن الجزم بأن من تمت رؤيته فيها، هو الإمام علیه السلام، ولكن الأمر مختلف تماماً في الباقي وهو الأقل.

الثاني: رغم أن الحديث في كثير من هذه القصص يمزج بين اللقاء وسببه، أي يتحدث عن عمل قام به شخص فحصلت معه هذه القصة، إلا أن المحور في كل الطرق التي تذكر كوسيلة للتشرف بلقائه علیه السلام، ليس هذا العمل أو ذاك، وإنما هو التقوى، والإضطرار، والقدرة على التحمل، ووجود مصلحة تستدعي اللقاء، وكل ذلك بدون التقوى هباء.

من هنا فإن الطريق الحصري إلى لقاء ولي الله تعالى، هو التقوى، أي أن يحرص المؤمن على أن يكون مطيعاً لله عزوجل لیرضى عنه ولي الله.

لا يمكن أن يرضى الإمام عن شخص مصِرّ على ارتكاب المعاصي.

نجد مثلاً في بعض قصص التشرُّف بلقائه أن الإمام علیه السلام يقول لمن رآه: قل لأستاذك فلان (العالم) الذي يطلب لقائي: إذا جاهد

ص: 300

نفسه وانتصر عليها كما جاهدتَ نفسك وتغلّبتَ عليها فإني أنا آتي إليه ولا داعي آنذاك أن يتعب نفسه ويأتي إليّ.

المهم أن ينجح الإنسان في ميدان جهاد النفس، والإهتمام الجاد بسفر الآخرة، فذلك هو الأصل في مجال التشرُّف بلقائه علیه السلام.

وهناك أعمال عبادية ورد أنها طرق إلى هذا اللقاء، والحقيقة أنها عادة عوامل مساعدة، ومنها:

1- المواظبة على عملٍ ما، لمدة أربعين يوماً بهدف التشرُّف بلقائه علیه السلام، ولم يُحدّد هذا العمل، مما يعني أن الباب مفتوح لكل شخص ليختار من الأعمال العبادية مايحب.

2- عمل الإستجارة، وهو يعني زیارة سيد الشهداء علیه السلام أربعين ليلة جمعة في كربلاء، أو زيارة مسجد السهلة أربعين ليلة أربعاء، أو زيارة مسجد الكوفة أو أي مسجد آخر أربعين ليلة جمعة كل ذلك بهدف التشرُّف بلقائه علیه السلام.

3- كذلك الدعاء الذي يُدعى بعد صلاة الصبح وربما يسمى دعاء العهد الصغير» وهو غير دعاء العهد المعروف وإن اشترك مع فقرة منه في أكثر الألفاظ،(1) وتجده في «مفاتیح الجنان» بعد دعاء الندبة مباشرة، وقد نُقل عن السيد الجليل ابن باقي في مصباحه أن من قرأه رأى الإمام علیه السلام، ويأتي في الحديث التالي مزيد إيضاح.

وهناك أعمال أخرى ذكر أنها طريق للتشرُّف بلقائه إلا أن الأساس كما تقدم هو الإصرار على التقوى وتهذيب النفس.

ص: 301


1- المجلسي، البحار 99 / 110 - 111

* صوم عشرين يوماً

أورد السيد عن الشيخ الصدوق عليهما الرحمة، عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «ومن صام عشرين يوماً من شعبان، زُوِّج تسعين ألف زوجة من الحور العين»(1).

وكما تقدم في ثواب صوم تسعة عشر يوماً، فإن المضمون غريب جداً، ولكن متى كانت الغرابة دليلاً؟ خاصة وأن الحديث عن عالم لانفقه منه شيئاً، ولو قيل للجنين إنك ستملك عدة بيوت، وتتزوج وتنجب العديد من الأولاد لما تعقل من ذلك شيئاً كما لا نتعقل نحن هذا المضمون.

* صلاة الليلة الواحدة والعشرين

أورد السيد عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم «ومن صلى في الليلة الواحدة والعشرين من شعبان ثمانية رکعات یقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وقل هو الله أحد والمعوذتين كتب الله له بعدد نجوم السماء من الحسنات ويرفع له بعدد ذلك من الدرجات ويمحو عنه من السيئات بعدد ذلك»(2).

والملفت في الرواية أن ذنوب هذه النفس الأمارة وسيئاتها، قد يبلغ عددها عدد نجوم السماء! اللهم وفقنا لمراضيك، وجنّبنا معاصيك، بالنبي المصطفى وآله، صلواتك عليهم أجمعين.

والحمدلله رب العالمین

ص: 302


1- الإقبال 3 / 358
2- المصدر 3 / 359

21 شعبان

اشارة

* من أدعية الغَيبة

* اللهم عرفني نفسك «المختصر»

* المُطَوَّل

* دعاء الغريق

* اللهم أدخل على أهل القبور السرور

* دعاء العهد الصغير

* الكبير

* کتاب العهد دعاء بعد صلاة الظهر

* دعاء الندبة

* صوم واحداً وعشرين يوماً

* صلاة الليلة الثانية والعشرين

ص: 303

ص: 304

* من أدعية الغَيبة

من آداب الغيبة، الدعاء، أي أن من جملة ما ينبغي أن نقوم به في عصر غيبة الإمام المنتظر أرواحنا فداه، هو الدعاء.

والمراد الدعاء له علیه السلام، الدعاء لحفظه ونصرته، والدعاء لنا لمعرفته والثبات على ولايته باعتباره باب الله الذي منه يؤتي، وحجة الله تعالى على الخلق، ومن الواضح أن القسم الأول يحقق الثاني بلطف.

وفي هذين المجالين: الدعاء له لحفظه ونصرته، والدعاء لمعرفته والثبات على ولايته وردت أدعية كثيرة أذكر هنا بعضها.

1- «اللهم عرفني نفسك». «المختصر» عن الإمام الصادق عليه السلام: «یا زرارة إن أدركتَ ذلك الزمان - زمان الغيبة - فالزم هذا الدعاء:

«اللهم عرّفني نفسك فإنك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف رسولك، اللهم عرّفني رسولك فإنك إن لم تعرّفني رسولك لم أعرف حجّتك، اللهم عرفني حجتك، فإنك إن لم تعرّفني حجّتك ضللتُ عن ديني»(1).

ص: 305


1- المجلسي، البحار 52 / 146 و 92 / 326 واللفظ من الأخير، وانظر: الشيخ الطوسي، الغَيبة 334 والنعماني، الغيبة 166. وأورده السيد ابن طاوس في الجمال الأسبوع» 314 - 315. بسنده إلى الكليني في الكافي

وهناك دعاء آخر يشترك معه في بعض الفقرات إلا أنه دعاء طويل، وهو الآتي.

2- «اللهم عرفني نفسك». «المُطوَّل» وهو دعاء آخر من أدعية الغيبة يبدأ بفقرات الدعاء المتقدم: اللهم عرّفني نفسك، فإنك إن لم تعرفني نفسك الخ. ولكنه أطول من سابقه بكثير، وهو في غاية الأهمية إلى حد أن السيد ابن طاوس عليه الرحمة في معرض تأكيده على قراءته بعد صلاة العصر من يوم الجمعة يقول:

«دعاء آخر يدعى له صلوات الله عليه، وأوله بشبه الدعاء المتقدم عليه وهو مما ينبغي إذا كان لك عذر عن جميع ما ذكرناه من تعقیب العصر يوم الجمعة، فاياك أن تهمل الدعاء به، فاننا عرفنا ذلك من فضل الله جل جلاله الذي خصنا به فاعتمد عليه»(1).

وبعد أن أورد صاحب «مکیال المکارم في فوائد الدعاء للقائم» کلام السيد المتقدم هذا، قال:

«وهذا الكلام يدل على صدور أمر في ذلك إليه من مولانا صاحب الزمان عجل الله فرجه، وهذا غير بعيد من مقامات السيد و کراماته..»(2).

ص: 306


1- السيد ابن طاوس، جمال الأسبوع 315
2- آية الله الحاج الميرزا محمد تقي الموسوي الأصفهاني، مکیال المکارم في فوائد الدعاء للقائم 1 / 85 (ط: ثالثة، 1404 ه، منشورات مؤسسة الإمام المهدي، قم). وقد أورد الدعاء الشيخ الطوسي في مصباح المتهجد، الكفعمي في البلد الأمين، والمجلسي في البحار

وتجد الدعاء في ملحقات «مفاتیح الجنان» تحت عنوان «الدعاء في زمن الغيبة».

3- ومن أدعية الغيبة «دعاء الغريق».

عن عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:

«ستصيبكم شبهة فتبقون بلا عَلَم یری، ولا إمام هدى، ولا ينجو إلا مَن دعا بدعاء الغريق. قلت: كيف دعاء الغريق؟ قال: يقول: يا الله با رحمان یا رحیم یا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك».

وأراد الراوي أن يرى هل حَفِظ الدعاء فقال: يا ألله یا رحمان یا رحیم یا مقلّب القلوب والأبصار (زاد كلمة الأبصار) ثبّت قلبي على دينك.

فقال الإمام الصادق علیه السلام: «إن الله عزوجل مقلّب القلوب والأبصار ولكن قل ما قلته لك يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك»(1).

ويكشف ذلك ضرورة التقيد التام بنص أي دعاء مروي، وعدم التصرف فيه، فقد يحرمنا هذا التصرف من بركات الدعاء، فالتلاعب في أسنان المفتاح يبقي صاحبه خارج البيت، ونقطة أو فارزة في عنوان الأنترنيت تمنع من الوصول.

3- دعاء «اللهم أدخِل على أهل القبور السرور» وقد ورد استحبابه بعد كل فريضة في شهر رمضان وهو من الأدعية المشهورة.

ص: 307


1- الشيخ الصدوق، کمال الدین وتمام النعمة 351 - 352

قال العلامة المجلسي:

«وجدت بخط الشيخ محمد بن علي الجبعي رحمه الله، نقلاً من خط الشيخ الشهيد (الأول) قدس سره، عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم: من دعا بهذا الدعاء في شهر رمضان بعد المكتوبة استغفرت ذنوبه إلى يوم القيامة، وهو:

«اللهم أدخل على أهل القبور السرور، اللهم أغن كل فقير، اللهم أشبع كل جائع، اللهم اكس كل عربان، اللهم اقض دين كل مدين، اللهم فرج عن كل مكروب، اللهم رد كل غريب، اللهم فك كل أسير، اللهم أصلح كل فاسد من امور المسلمين، اللهم اشف کل مریض، اللهم سد فقرنا بغناك، اللهم غير سوء حالنا بحسن حالك، اللهم اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر، إنك على كل شئ قدير»»(1).

وقد ورد الحثّ عليه بشكل خاص في ليلة الجُهَني ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان في ليالي القدر المباركة.

وأما العلاقة بينه وبين الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه، فقد ورد الحديث عنها في بعض قصص التشرُّف بلقاء الإمام المنتظر أرواحنا فداه، التي تتضمّن أنه علیه السلام قال عن هذا الدعاء ما خلاصته:

إن هذا الدعاء، دعاءٌ له علیه السلام، وأن رسول الله صلى الله عليه علَّمه للمسلمين ليدعوا له بالفرج، والدليل على ذلك أن هذه المضامين الواردة فيه لا تتحقّق إلا بعد ظهوره علیه السلام(2).

ص: 308


1- المجلسي، البحار 95 / 120 والمحدث النوري، مستدرك الوسائل 7 / 447 نقلاً عن البلد الأمين للكفعمي
2- السيد حسن أبطحي، ملاقات با امام زمان علیه السلام، فارسی

والمراد أن الله تعالى يدخل على أهل القبور السرور، ويغني كل فقیر، ويشبع كل جائع، ويكسو كل عريان، ويقضي دين كل مدين، ويفرج عن كل مكروب، ويصلح كل فاسد من أمور المسلمين عند ظهوره علیه السلام، وهو معنی دقیق يحمل على الإطمئنان إلى مضمونه، بقطع النظر عن أي شيء آخر، بعد صحة سند الدعاء.

5- ومن الأدعية في عصر الغيبة «دعاء العهد الصغير»(1) وقد تقدمت الإشارة إليه في الحديث السابق وهو غير دعاء العهد المعروف، قال السيد ابن طاوس «یزار به مولانا صاحب الزمان صلوات الله عليه كل يوم بعد صلاة الفجر» وهو كما يلي:

«اللهم بلّغ مولانا صاحب العصر والزمان أينما كان أو حيثما كان من مشارق الأرض ومغاربها سهلها وجبلها عني وعن والديَّ وعن ولدي وإخواني التحية والسلام عدد خلق الله وزنَة عرش الله وما أحصاه كتابه وأحاط به علمه، اللهم أجدد له في هذا اليوم وفي كل يوم، عهداً وعقداً وبيعة له في رقبتي. اللهم فكما شرفتني بهذا التشریف، وفضلتني بهذه الفضيلة، وخصصتني بهذه النعمة فصلِّ على مولاي وسيدي صاحب الزمان، واجعلني من أنصاره وأشياعه والذابين عنه، واجعلني من المستشهدين بين يديه، طائعا غير مكره، في الصف الذي نعتَّ أهله في كتابك، فقلت «صفاً كأنهم بنیان مرصوص» على

ص: 309


1- أطلق هذه التسمية، صاحب مکیال المکارم في كتابه «وظيفة الأنام في زمن غيبة الإمام» 29 (منشورات مدرسة الإمام المهدي - قم المقدسة)

طاعتك وطاعة رسولك وآله علیهم السلام، اللهم هذه بيعة له في عنقي إلى يوم القيامة»(1).

وقد ذكر السيد ابن طاوس، أنه يختم بما یشبه ختام دعاء العهد، فقال: «وجدت في بعض الكتب القديمة بعد ذلك: ويصفق بيده اليمني على اليسرى»(2).

وكأن ذلك تعبير عن تجديد البيعة للإمام عليه السلام.

6- ومن آداب الغيبة، قراءة «دعاء العهد» المعروف وهو من أبرز أدعية الغيبة التي اهتم بها العلماء بامتياز، وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أن «من دعا أربعين صباحاً بهذا الدعاء، كان من أنصار قائمنا،، فإن مات قبله أخرجه الله تعالى من قبره، وأعطاه بكل كلمة ألف حسنة ومحا عنه ألف سيئة»(3).

7- وهناك دعاء ثالث يمكن أن يصطلح عليه ب «كتاب العهد» يستحب أن يقرأه المؤمن في زمن الغيبة ولو مرة واحدة، وقد وردت روايته كما يلي:

«قال أبو جعفر (الإمام الباقر) علیه السلام: من دعا بهذا الدعاء مرة واحدة في دهره كتب في رق العبودية، ورفع في ديوان القائم علیه السلام. فإذا قام قائمنا نادي باسمه واسم أبيه، ثم يدفع إليه هذا الكتاب ويقال له: خذ، هذا كتاب العهد الذي عاهدتنا في الدنيا، وذلك قوله عزوجل «إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا» وادع به وأنت طاهر تقول:

ص: 310


1- محمد بن المشهدي، المزار 662 والمجلسي، البحار 99 / 110
2- أنظر: المجلسي، البحار 99 / 110. نقلاً عن السيد ابن طاوس
3- المجلسي، البحار 99 / 111

«اللهم يا إله الآلهة، یا واحد، يا أحد، یا آخر الآخرين، یا قاهر القاهرين، يا علي يا عظيم، أنت العلي الأعلى، علوت فوق كل عُلُوّ، هذا یا سيدي عهدي وأنت منجز وعدي، فَصِل یا مولاي وعدي، وأنجز وعدي، آمنت بك، وأسألك بحجابك العربي، وبحجابك العجمي، وبحجابك العبراني، وبحجابك السرياني، وبحجابك الرومي، وبحجابك الهندي، وأثبت معرفتك بالعناية الأولى فإنك أنت الله لا ترى وأنت بالمنظر الأعلى. وأتقرب إليك برسولك المنذر صلی الله علیه و آله وسلم، وبعلي أمير المؤمنين صلوات الله عليه الهادي، وبالحسن السيد، وبالحسين الشهيد سبطي نبيك، وبفاطمة البتول، وبعلي بن الحسین زین العابدین ذي الثفنات، ومحمد بن علي الباقر عن علمك، وبجعفر بن محمد الصادق الذي صدق بميثاقك وبميعادك، وبموسی بن جعفر الحَصور القائم بعهدك، وبعلي بن موسی الرضا الراضي بحكمك، وبمحمد بن علي الحَبرِ الفاضل المرتضى في المؤمنين، وبعلي بن محمد الأمين المؤتمن هادي المسترشدين، وبالحسن بن علي الطاهر الزكي خُزانة الوصيين. وأتقرب إليك بالإمام القائم العدل المنتظر المهدي إمامنا وابن إمامنا صلوات الله عليهم أجمعين. یا من جَلَّ فَعُظُم و [هو] أهل ذلك فعفی ورحم، یا من قدر فلطف، أشكو إليك ضعفي، وما قصر عنه عملي من توحيدك، وكُنَّهِ معرفتك، وأتوجه إليك بالتسمية البيضاء، وبالوحدانية الكبرى التي قصر عنها من أدبر وتولي، وآمنت بحجابك الأعظم، وبكلماتك التامة العليا، التي خلقت منها دار البلاء، وأحللت من أحببت جنة المأوی، آمنت بالسابقين والصديقين أصحاب اليمين

ص: 311

من المؤمنين [و] الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ألا توليني غيرهم، ولا تفرق بيني وبينهم غداً إذا قَدَّمتَ الرضا بفصل القضاء. آمنت بسَرِّهم وعلانيتهم وخواتيم أعمالهم، فانك تختم عليها إذا شئت، یا من أتحفني بالإقرار بالوحدانية، وحباني بمعرفة الربوبية، وخلَّصني من الشك والعمی، رضيت بك رباً، وبالأصفياء حُجَجَاً، وبالمحجوبين أنبياء، وبالرسل أدلاء، وبالمتّقين أمراء، وسامعاً لك مطیعا». هذا آخر العهد المذكور»(1).

8- ومن الأدعية في عصر الغيبة دعاء بعد صلاة الظهر.

أورد المجلسي، عن السيد ابن طاوس قوله:

«من المهمات عقيب صلاة الظهر الاقتداء بالصادق عليه السلام في الدعاء للمهدي علیه السلام الذي بشر به محمد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أمته في صحیح الروايات ووعدهم أنه يظهر في أواخر الأوقات «...» عن عباد بن محمد المدايني قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام بالمدينة حين فرغ من مكتوبة الظهر، وقد رفع يديه إلى السماء وهو يقول:

«أي سامع كل صوت أي جامع کل فوت أي بارئ كل نفس بعد الموت، أي باعث أي وارث أي سید السادة، أي إله الآلهة، أي جبار الجبابرة، أي ملك الدنيا والآخرة، أي رب الارباب، أي ملك الملوك، أي بطاش أي ذا البطش الشديد، أي فعالاً لما برید، أي محصي عدد الأنفاس، ونقل الاقدام، أي مَنِ السرُّ عنده علانية، أي مبدئ أي معيد،

ص: 312


1- المجلسي، البحار 92 / 337 - 338. نقلاً عن السيد ابن طاوس، مهج الدعوات. واللفظ كما تری، ولم أجد ما يمكن تصحيحه عليه

أسألك بحقك على خيرتك من خلقك، وبحقهم الذي أوجبت لهم على نفسك، أن تصلي على محمد وآل محمد أهل بيته، وأن تمن عليَّ الساعة بفكاك رقبتي من النار، وأنجز لوليك وابن نبيك الداعي إليك بإذنك، وأمينك في خلقك، وعينك في عبادك وحجتك على خلقك عليه صلواتك وبركاتك، وَعدَه، اللهم أيّده بنصرك، وانصر عبدك وقوِّ أصحابه، وصبَّرهم، وافتح لهم من لدنك سلطانا نصيرا، وعجل فرجه، وأمكنه من أعدائك، وأعداء رسولك يا أرحم الراحمين».

قال (الراوي): «أليس قددعوت لنفسك جعلت فداك؟ قال: قد دعوت لنور آل محمد و سابقهم والمنتقم بأمر الله من أعدائهم، قلت: متى يكون خروجه جعلني الله فداك؟ قال: إذا شاء من له الخلق والأمر، قلت: فله علامة قبل ذلك؟ قال: نعم علامات شتى، قلت: مثل ماذا؟ قال: خروج دابة من المشرق، وراية من المغرب، وفتنة تُظِلُّ أهل الزورا، وخروج رجل من ولد عمي زيد باليمن، وانتهاب ستارة البيت، ويفعل الله ما يشاء»(1).

9- ومن أدعية الغيبة أيضاً «دعاء الندبة»(2) وهو دعاء شهير نجد أن علماءنا الأبرار رضوان الله تعالى عليهم واظبوا عليه عبر القرون، وهم يكثرون من الإستشهاد بمضامينه في مؤلفاتهم، وقد ألّف بعض العلماء كتباً مستقلة في دعاء الندبة، وأسأل الله أن يوفق لنشر شيء من تحقیقات علمائنا الأبرار في بيان صحة سند هذا الدعاء وأهميته.

ص: 313


1- المصدر 83 / 62. نقلاً عن السيد ابن طاوس، فلاح السائل
2- محمد بن المشهدي، المزار 580 والسيد ابن طاوس، الإقبال 504 «يدعى به في الأعياد الأربعة». والمجلسي، البحار 99 / 107

وهناك أدعية أخرى كثيرة، وهي غير الزيارات التي يزار بها الإمام عليه السلام في زمن الغيبة.

* صوم واحداً وعشرين يوماً

أورد السيد عن الشيخ الصدوق عليهما الرحمة عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

«ومن صام واحداً وعشرين يوماً من شعبان رحّبت به الملائكة ومسحته بأجنحتها»(1).

من الطبيعي، أن ترحيب الملائكة على علاقة بالذين تتوفّاهم الملائكة طيبين وإذا بهم يتلقون التحية سلامٌ عليكم طبتم.

هل هذه التحية، وهل هذا الترحيب فقط عند التوفي والإنتقال إلى الدار الآخرة أم أن التحية قائمة في مختلف المراحل يُستقبلون عند الموت وفي أرض المحشر بالتحية مطمئنّين والناس خائفون ويُستقبلون عند باب الجنة بالتحية أيضاً، وعندما يتنقلون في أرجاء الجنة تستقبلهم الملائكة بالتحية. هنيئاً لأصحاب النعيم نعيمهم. ولقد تقدم المزيد حول ذلك في أعمال شهر رجب.

والسؤال هنا: هل يشمل الترحيب والتحية دار الدنيا؟ أما التحية فشمولها للدنيا طبيعي، لثبوت تنزل الملائكة على نوع خاص من المؤمنين «الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا» وأما الترحيب في الدنيا فلايحضرني ما يؤكده، إلا أن مسح الملائكة المؤمن

ص: 314


1- الإقبال 3 / 359

بأجنحتها، الذي تحدثت عنه الرواية يشعر بأنه تبرك الملائكة بولي الله، وهو فوق الترحيب. وأعلى منه أن «تضع الملائكة أحنجتها» كما ورد حول طالب العلم، علم التوحيد وعلم التقوى واليقين.

* صلاة الليلة الثانية والعشرين

أورد السيد ابن طاوس عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

«من صلى في الليلة الثانية والعشرين من شعبان ركعتين یقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وقل يا أيها الكافرون مرة، وقل هو الله أحد خمس عشرة مرة كتب الله تعالى إسمه في أسماء الصدّیقین، وجاء يوم القيامة في زمرة المرسلين وهو في ستر الله»(1).

إن مجرد احتمال أن يحصل الإنسان على هذا الثواب العظيم، يكفي في بذل الجهد لمحاولة آملة وواعدة.

أسأل الله عزوجل أن يوفقنا لمراضيه ويجعلنا في ستره، إنه خیر الساترین.

والحمدلله رب العالمین

ص: 315


1- المصدر

ص: 316

22 شعبان

اشارة

* شهادة العزيز أبي ياسر، أمين عام حزب الله

* الجمعة الأخيرة من شعبان

* صوم إثنين وعشرين يوماً

* صلاة الليلة الثالثة والعشرين

ص: 317

ص: 318

* شهادة العزيز أبي ياسر

توقفت حلقات هذا البرنامج أسبوعاً بسبب شهادة حجّة الإسلام والمسلمين الشهيد السعيد السيّد عباس الموسوي وحرمه المجاهدة الورعة الشهيدة أم ياسر وولدهما الشهيد العزيز حسین رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

أسبوع قضيناه في مجالس الفاتحة التشييع والبكاء والتفجّع لهذا المصاب الجلل الذي هو في نفس الوقت من الألطاف الإلهية الخفيّة.

قبل عشرة أيام من استشهاد الشهيد أبي یاسر رضوان الله تعالی عليه كان في لقاء علمائي يؤكد على الإستعداد لإحياء نفوسنا بذکری ولادة الإمام المنتظر عجل الله فرجه الشريف، ولم نكن نعلم أنّنا سنتمكن من استقبال هذه المناسبة بهذه المهابة وبهذا الجلال.

ص: 319

لم نكن نعلم أنّنا سنتمكن في النصف في شعبان أن نخاطب عزيز الزهراء عليهما صلوات الرحمن، ونقول له: يا مولانا یا صاحب العصر والزمان لقد علّمنا الشهيد السيّد عباس رضوان الله عليه، عملياً كيف يكون الإنتظار الحقيقي.

علّمتنا الشهيدة أم ياسر كيف ينبغي أن يكون حضور المرأة في ساحة الجهاد انتظاراً لصاحب العصر والزمان عجل الله فرجه.

علّمنا الشهيد العزيز حسین بشهادته أنّنا إذا كنّا نحب أولادنا فعلينا أن نربيهم على الشهادة ونتمنى لهم الشهادة.

تعلم سیدنا الشهيد أبو ياسر من أبي الفضل العباس سيّده وسیدنا كيف تكون نصرة الدين ونصرة إمام الزمان، فقدّم كلّ ما يمكن أن يقدمه في سبيل الله تعالی.

كأنّي به يقول إذا كان رأس أبي الفضل العبّاس قد انفصل عن جسده الطاهر وإذا كانت يداه قد قطعتا في سبيل إعلاء كلمة الله ونصرة الإمام الحسين إمام زمانه عليه السلام، فمهما قدمنا نحن فهو قليل قليل بل ليس شيئاً مذكوراً.

لو أنّ كلّ أجسادنا احترقت فإنّ ذلك لا يعادل عقدة من أصبع أبي الفضل العباس سلام الله عليه.

كأنّي بالشهيد أبي ياسر يقول: لو أنّ أجساد كلّ النساء احترقت في سبيل الله تعالى فإنّ ذلك لا يعادل لحظة من لحظات سبي زينب سلام الله عليها، ولو أن كل أولادنا احترقوا بنار حقد أعداء الله تعالی فإن ذلك لا يعادل قطرة من قطرات دم الموليعبد الله الرضيع.

ص: 320

لقد علّمنا الشهيد الكثير الكثير باستشهاده العظيم، وكذلك علمتنا الشهيدة أم ياسر، وعلّمنا العزيز الشهيد حسين كذلك الكثير الكثير.

إذا كنا من أهل الولاية الحقيقية لله تعالى ولرسوله وأهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فإنّ من الطبيعي أن نتعلّم كيف ينبغي أن نعمل حثيثاً لإخراج حبّ الدنيا من قلوبنا، فلا يجتمع في قلب إنسان حبّ الدنيا مع الولاية الحقيقية. إما الولاية للدنيا أو الولاية الله عزّوجل ورسوله وأهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

حبّ الدنيا هو الذي كان السبب في ظلم الزهراء عليهم السلام، وفي ظلم أمير المؤمنين والمولى أبي محمد الإمام الحسن، وفي ظلم سيد الشهداء الإمام الحسين، وظلم أهل البيت جميعاً عليهم أفضل الصلاة والسلام.

يجب على الموالي المحب المنتظر لإمام زمانه، أن يعمل بجد ليخرج حبّ الدنيا من قلبه، وإلا فإنه لن يسلب الإنتظار فحسب بل قد يسلب أدني علاقة بالإمام المهدي عليه صلوات الرحمن. علمنا شهداؤنا الأعزاء كيف يجب علينا أن نتضرّع إلى الله تعالی ليمنّ علينا بإخراج حبّ الدنيا من قلوبنا ويتقبلنا شهداء في طريقه من أجل إعلاء راية لا إله إلاّ الله محمد رسول الله في نفس الوقت الذي ينبغي أن نطلب النصر ونعدّ له عدته.

وسيكون ذلك أفضل السلوان، ورغم أنّ الفاجعة كبيرة فيجب أن

ص: 321

نشعر أنّنا أمام لطف إلهي خفي وكبير، ولقد أصبحت الآن برکات دماء الشهيد أبي ياسر وزوجته وولدهما واضحة جداً، ويحمل المستقبل بإذن الله تعالى من بركاتها المزيد الوافر، وستبقى بركات هذه الدماء الطاهرة حتّى يمنّ الله تعالی بظهور وليّه الأعظم أرواحنا لتراب مقدمه الفداء.

وأرى من واجبي هنا أن أقف عند الخطوة الموفقة التي أقدمت عليها قيادة حزب الله، هذه الخطوة التي شكلت جانباً مهماً وأساسياً من الردّ السياسي على استشهاد الأمين العام الشهيد أبي یاسر رضوان الله تعالى عليه حيث قامت قيادة حزب الله باختيار الأمين العام الجديد لحزب الله قبل إجراء مراسم دفن الشهداء، حيث تمّ كما نعلم جميعاً إختيار سماحة العلاّمة المجاهد الحبيب السيد حسن نصر الله حفظه الله أميناً عاماً لحزب الله، وكان ذلك بمثابة الصفعة الأولى التي وجهتها قيادة حزب الله إلى العدو المتغطرس الذي كان يريد إضعاف هذه المسيرة.

أسال الله عزّوجل أن يوفقنا لنبقى في خدمة قيادة حزب الله وبشكل خاص الأمين العام الجديد لنعبّر بذلك عن شيء من الوفاء لدماء شهدائنا ولنعبّر بذلك عن حرصنا علی رضی الله عزّوجل ورضي وليّه الأعظم الإمام المنتظر عجل الله فرجه الشريف، وطاعة نائبه وليّ أمر المسلمين آية الله السيّد الخامنئي المفدّى.

* الجمعة الأخيرة من شعبان

لا بدّ من وقفة عند الجمعة الأخيرة من شهر شعبان، فقد تقدّم أن شهر شعبان أهمّ من شهر رجب وهنا ينبغي أن يكون واضحاً أنّ

ص: 322

آخر شهر شعبان أهمّ من أوّله، وإذا لم يوفق أحدنا لخيرات شعبان المباركة، فلا أقلّ من اغتنام فرصة العشر الأواخر التي يمكن فيها تدارك ما فات.

يحدثنا الإمام الرضا علیه السلام، عن آخر جمعة من شهر شعبان، ويحدد لنا برنامجاً عملياً يجب أن نعطيه فيها الأولوية المطلقة.

عن أبي الصلت - من أصحاب الإمام الرضا علیه السلام - قال دخلت على الرضا عليه السلام، في آخر جمعة من شعبان فقال: يا أبا الصلت إنّ شعبان قد مضى أكثره، وهذا آخر جمعة فيه.

1- فتدارك فيما بقي منه تقصيرك فيما مضى منه.

2- وعليك بالإقبال على ما يعنيك وترك ما لا يعنيك.

3- وأكثر من الدعاء.

4- والإستغفار.

5- وتلاوة القرآن.

6- وتب إلى الله من ذنوبك ليقبل شهر الله اليك وأنت مخلص لله عزوجل.

7- ولا تدعن أمانة في عنقك إلا أديتها.

8- ولا في قلبك حقدا على مؤمن إلا نزعته. 9- ولا ذنباً أنت مرتكبه إلا أقلعت عنه.

10- واتق الله.

ص: 323

11- وتوكل عليه في سر أمرك وعلانيتك (ومن یتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدرا).

12- وأكثر من ان تقول فيما بقي من هذا الشهر «اللهم ان لم نكن قد غفرت لنا في ما مضى من شعبان فاغفر لنا في ما بقي منه، فإن الله تبارك وتعالى یعتق في هذا الشهر رقاباً من النار لحرمة شهر رمضان»(1).

وطبيعي أن يكون الهاجس الذي يعيشه المؤمن في هذه الأيام المتبقية: كيف يتدارك في ما بقي من شهر شعبان تقصيره فيما مضى؟ وفي هذا الحديث اثنا عشر توجيهاً، ويمكن اعتبار الأول منها عنواناً لكل ماينبغي فعله، لافي شعبان وحده، بل في كل وقت، فلا أقل من أن نعوِّد أنفسنا الإنصراف عما لايعنينا في جمعة هي على أبواب أفضل الشهور، فلعل وعسی.

كما يمكن اعتبار الثاني والثالث والرابع مقدمات التوبة، فإنها تلين القلب وتستصلحه ليصبح مستعداً لتقبل بذرة توبة صادقة نصوح.

ويتحقق الإكثار من الدعاء والاستغفار، بالإكثار من قول «أستغفر الله» وقد تقدم معنا أنّ من صيغ الإستغفار في شعبان «أستغفر الله وأسأله التوبة» أو: «أستغفر الله الذي لا إله إلاّ هو الرحمن الرحيم الحيّ القيوم وأتوب إليه» سبعين مرة يومياً.

ص: 324


1- الشيخ الصدوق، عیون أخبار الرضا علیه السلام 1 / 56 والحر العاملي، وسائل الشيعة 10 / 301 والسيد ابن طاوس، الإقبال 1 / 42 والمجلسي، البحار 94 / 73

ويبدو في ضوء بعض الروايات أن «الإكثار» يتحقق بعدد مائة، فمن قرأ يومياً في آخر جمعة من شعبان مائة آية، يُظن أنه انطبق عليه هذا العنوان، والزيادة نور على نور، علماً بأن أهمية هذه الجمعة الأخيرة، تستدعي تخصيص وقت كبير فيها لقراءة كتاب الله تعالی.

وأما التوبة وهي بيت القصيد، فينبغي التنبه إلى أن فترة الجمعة الأخيرة من شعبان موسم استثنائي لقبول التوبة، فلنغتنم فرصتها السانحة، وليكن نصب عيني القلب ماحدده الإمام الرضا هدفاً لنا في هذه الأيام التي تفصلنا عن شهر رمضان بقوله علیه السلام: «ليقبل شهر الله إليك وأنت مخلص لله تعالی».

هكذا يتضح أنّ هذه الأيام الأخيرة من شهر شعبان تكتسب أهمية خاصة باعتبارها الجو الطبيعي للإستعداد لاستقبال شهر رمضان، والمطلوب أن يتطهر الإنسان من كلّ شيء ويتوب إلى الله تعالى من ذنوبه.

ويتوقف تطهير النفس جذرياً على نزع الغِلِّ وهو الحقد من القلب، فمادام الحقد فيه فهو متنجس، وكيف يمكنه والحال هذه أن يدخل إلى ضيافة الرحمن؟ ينبغي أن يكون المؤمن محباً لاحقوداً، فالتدين حب وحنان ورحمة «وهل الدين إلا الحب؟» يحب المؤمن الله عزّوجل، ورسوله صلی الله علیه و آله وسلم، وأهل البيت علیهم السلام، ويحبّ الناس جميعاً، ویرید الخير للناس كلهم، ولا يستثني منهم إلا من استثنی نفسه وأصر على أن يُضر بنفسه والناس، ومع ذلك فإنه لا يستثنيه إلا بعد أن يبذل كل جهد ممكن في سبيل استصلاحه.

ص: 325

إن المؤمن حبٌّ محض، ولا يجتمع ذلك مع إقامته على الحقد، بسابق عمد وإصرار.

يمكن أن يعتصر الألم قلب المؤمن من شخص آذاه، أما أن يبقى حاقداً عليه مدة عشر سنين أو عشرين سنة فهذا شيء آخر.

وكيف نريد من الله تعالى أن يسامحنا ويرحمنا ويغفر لنا رغم أنا مَرَدنا على التمرد عليه سبحانه، ولانفكر بأن نسامح من أساء إلينا ونرحمه ونغفر له إساءته؟!! أيُّ قلب هذا القلب الذي يحمل الحقد الدفين أو غير الدفين كلّ هذا الزمان الطويل؟! ويعلمنا الإمام الرضا علیه السلام أن نهتم في آخر جمعة من شعبان خصوصاً بتقوى الله تعالى، وكأن الأعمال المتقدمة عوامل مساعدة لمرتبة متقدة من التقوى، أو فقل للوصول إلى تقوى حقيقية لامدعاة. اللهم أسعدنا بتقواك.

ومثل هذه المرتبة من التقوى تخول صاحبها الوصول إلى التوكل الذي هو جوهر التوحيد «وتوكل عليه في سرّ أمرك وعلانيتك ومن يتوكل على الله فهو حسبه إنّ الله بالغ أمره قد جعل الله لكلّ شيء قدراً».

ومِلاك التوكل اللجوء إلى الله تعالى حقيقة في كل شيء «اللهم إني بك ومنك أطلب حاجتي، ومن طلب حاجة إلى الناس فإني لا أطلب حاجتي إلا منك وحدك لاشريك لك»(1).

ص: 326


1- فقرات من دعاء الإمام الصادق علیه السلام في كل يوم من أيام شهر رمضان. (مفاتیح الجنان، بداية أعمال الشهر، نقلا عن الكافي)

هل يستطيع الذين نطمع بالحصول على حوائجنا منهم، أن يفعلوا أي شيء إلاّ بحول الله تعالى وقوّته؟ فكيف نعتمد على الفرع ونترك الأصل؟ لماذا لا يكون توكلنا على الله عزّوجل الذي يملك كلّ شيء وبيده خزائن كلّ شيء؟! اللهم إن لم تكن غفرت لنا في ما مضى من شعبان فاغفرلنا في ما بقي واجعل هذه الأيام التي تفصل بيننا وبين شهر رمضان من أيمن أوقاتنا، لنكون محمديين، من أهل المودة في القربى، أهل مکارم الأخلاق المحمدية، وتكرم علينا بضيافة خاصة في شهرك، فإن كنا بئس العبيد، فأنت نعم الرب. وما ذلك على كرمك ورحمتك بعزيز.

* صوم إثنين وعشرين يوماً

أورد السيد عليه الرحمة عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

«ومن صام إثنين وعشرين يوماً من شعبان کسي سبعين ألف حلة من سندس واستبرق»(1).

وقد تقدم الحديث عن السندس والإستبرق في بعض الحلقات فلا أعيد.

* صلاة الليلة الثالثة والعشرين

أورد السيد ابن طاوس عليه الرحمة عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

«ومن صلّى في الليلة الثالثة والعشرين من شعبان ثلاثين ركعة

ص: 327


1- الإقبال 3 / 360 وبهامشه «ثواب الأعمال: 87، أمالي الصدوق: 30، عنهما البحار 97: 70»

(يقرأ في كلّ ركعة) فاتحة الكتاب مرة و «إذا زلزلت الأرض» مرة، ينزع الله تعالى الغلّ والغشّ من قلبه وهو ممن شرح الله صدره للإسلام ويبعثه الله تعالی ووجهه كالقمر ليلة البدر ثمّ يقول السيّد إبن طاووس عليه الرحمة وذكر حديثاً طويلاً»(1).

أي أنّ السيد لم يذكر تتمة الرواية، مكتفياً بما تقدم من الثواب، وهو كما ترى ثواب عظيم، ولو لم يكن منه إلاّ نزع الغلّ والغشّ من القلب لكان من أهم غايات الطالبين، وليلاحظ أن الثواب یلتقي بالنقطة المركزية في الحديث المتقدم عن الإمام الرضا عليه السلام.

اللهم إنزع الغلّ والغشّ من قلوبنا واجعلنا ممن قلت فيهم.

* «وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ» [الحجر 47].

برحمتك يا أرحم الراحمين.

والحمدلله رب العالمین

ص: 328


1- الإقبال 3 / 360

23 شعبان

اشارة

* الإستعداد لشهر الله تعالی

* خطبة المصطفى الحبيب صلی الله علیه و آله وسلم

* مع بعض فقراتها

* صوم ثلاثة وعشرين يوماً

* صلاة الليلة الرابعة والعشرين

ص: 329

ص: 330

* الإستعداد لشهر الله تعالی

بيننا وبين شهر الله تعالى أسبوع، وهو من فرص العمر، وختام الشهرين اللذين أريد لهما أن يكونا دورة إعداد وتدريب للدخول إلى شهر الله عزّوجل بعزيمة مختلفة، وقلب منیر، ليتمكّن المؤمن من استثمار كلّ دقائق هذا الشهر المبارك.

يجب إذاً، أن نستثمر هذه الأيام بشكل خاص في مجال الإستعداد لاستقبال شهر الله تعالی. صحيح أن كلّ شهر رجب وكلّ شهر شعبان يجب أن يستثمرا وبأفضل وجه، إلاّ أنّ للأيام الأخيرة من شعبان أهميّةً خاصّة، تقدّم بيانها في الحديث السابق، من خلال الرواية التي تتضمن تعليمات من الإمام الرضا علیه السلام. ومنها أن يُقبل الإنسان على ما يعنيه، ويُكثر من الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن، وأن ينزع الغِلّ والحقد من قلبه ليدخل في شهر الله تعالی طاهراً مطهراً وقد تاب إلى الله تعالى من ذنوبه، وأقلع عن المعاصي، وأكثَرَ من قول: «اللهم إن لم تكن قد غفرت لنا في ما مضى من شهر شعبان فاغفر لنا فيما بقي منه».

يجب أن ندخل إلى هذا الشهر ونحن مؤهلون لضيافة الرحمن.

أفليس من الخطأ الفادح والغفلة القاتلة، أن يدعونا الله إلى ضیافته فلا نهتمّ بهذه الدعوة والضيافة.

ص: 331

لو أنّ شخصاً عادياً دعانا لَعبِّرنا عن اهتمامنا بهذه الدعوة بنسبة من النسب.

وكلّما كان صاحب الدعوة، الداعي، أهمّ وأعظم كلّما أصبح الإهتمام بهذه الدعوة أهم وأوجب. لنفترض أنّ أحدنا وجّهت إليه دعوة من ولي أمر المسلمين، نائب الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، فكيف يكون اهتمامه بهذه الدعوة؟ أو أنّ الإمام الخميني رضوان الله عليه في حياته كان قد وجّه دعوة إلى أحدنا لزيارته. ولنفترض أنّ أحدنا جاءه الإذن بلقاء صاحب الزمان أرواح العالمين له الفداء، وأبلغ من قبل الإمام أن يذهب إلى لقائه في اليوم الفلاني في المكان الفلاني، فكيف يكون اهتمامه بهذه الدعوة وكل من نتشرف بلقائهم يتمنون أن يحظوا منه بنظرة؟ وهكذا إلى أن نصل إلى ضيافة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم.

لقد أتاح لنا الله عزّوجل بكرمه ورحمته ومنّه أن نكون ضيوفه في شهر رمضان المبارك!! ألا ينبغي أن نكون من الآن قبل شهر رمضان خلية عملٍ دائم للإستعداد لهذه الضيافة؟ وكيف يرضى أحدنا أن يدخل حرم الضيافة، ضيافة الرحمن، وهو يحمل أوزاره على ظهره، ويرتكب هذا المحرم أو ذاك، مقصّراً في طاعته سبحانه.

من كان لا يصلّي فعليه أن يلتزم بالصلاة، ومن كان قد أساء إلى أحد فعليه أن يطلب المسامحة. ومن كان منا قد اغتاب فعليه أن يقلع

ص: 332

عن الغيبة ويستغفر، ويتسامح ممن اغتابه إذا لم يكن إخباره بذلك قد يؤدي إلى خلاف.

ومن كان لا يدفع خمس ماله، فإنّ عليه أن يطهّر نفسه، وعياله وبيته، بتعيين مافي ذمته بمراجعة مختص بذلك، حتى إذا لم يستطع الآن أن يدفع شيئاً، حيث يتم نقل الحق الشرعي المترتب عليه من عين الأشياء التي وجب فيها الخمس إلى ذمته، ويدفع لاحقاً ما يتوجب عليه حسب استطاعته، وهو الذي يحدد هذه الإستطاعة لاسواه.

إن علينا أن نغتنم هذه الفرصة الأخيرة والمثالية من شهر شعبان للإعداد والإستعداد، لندخل إلى حرم ضيافة الرحمن بأفضل ما يمكننا أن نكون عليه طاهرین مطهرين ليرضى عنّا ربّنا عزوجل.

وعلى الأقل يجب أن نحرص على ذلك، ونحاول أن نتطهر ليرحم مولانا - وهو نِعم المولى - عجزنا ومسكنتنا ويأخذ بأيدينا ويجعلنا من عتقائه الكثيرين من النار، في أخر شهر شعبان.

ألم يقل الإمام الرضا عليه السلام: «فإن الله تبارك وتعالى یعتق في هذا الشهر رقاباً من النار لحرمة شهر رمضان».

حقاً.. ما أروع أن يدخل شهر الله تعالى على المسلم، وقد من الله سبحانه عليه بهذه النعمة الكبری.

«يا من يعطي من لم يعرفه، اللهم جد علينا». «وليس من صفاتك ياسيدي أن تأمر بالسؤال وتمنع العطية».

ص: 333

* خطبة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في استقبال شهر رمضان

ومما يدلّ على أهميّة الإستعداد لشهر مضان في شهر شعبان الخطبة الشهيرة لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، والتي خطبها في آخر شهر شعبان ليكون هناك متسع من الوقت فيستعدّ المسلمون فيما بقي من الشهر لاستقبال شهر رمضان بحيث يكونون أهلاً لضيافة الرحمن.

وسأقف في الأحاديث المقبلة - بحوله تعالى - بشيء من الإيجاز عند هذه الخطبة لنتعلّم من سيّدنا ومولانا وقائدنا وهدانا وحبيب قلوبنا رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم كيف ينبغي أن نستعدّ لشهر الله تعالی، شهر رمضان.

وإليك أولاً الخطبة بتمامها، وهي كما يلي:

عن (الإمام) علي بن موسی الرضا، عن أبيه موسی بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه السيد الشهيد الحسين بن علي، عن أبيه سيد الوصيين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا ذات يوم فقال:

* أيها الناس، إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، وهو شهر دعيتم فيه الى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا الله ربکم بنیات صادقة وقلوب طاهرة، أن يوفقكم.. لصيامه وتلاوة كتابه، فان الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم.

ص: 334

واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدقوا على فقرائكم ومساکینکم، ووقروا كبارکم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم، وغضوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم، وعما لا يحل الإستماع إليه أسماعكم، وتحننوا على أيتام الناس... يتحنن على أیتامكم، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم، فانها افضل الساعات، ینظر الله عزوجل فيها بالرحمة إلى عباده، ويجيبهم إذا ناجوه، ويلبيهم إذا نادوه ويستجيب لهم إذا دعوه.

* أيها الناس، إن أنفسكم مرهونه بأعمالكم، ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم، فخففوا عنها بطول سجودكم، واعلموا أن الله عزوجل ذكره أقسم بعزته أن لا يعذب المصلين والساجدين، وأن لا یروِّعهم بالنار، يوم يقوم الناس لرب العالمين.

* أيها الناس، من فطَّر منکم صائماً مؤمناً في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق رقبة، ومغفرة لما مضى من ذنوبه، فقيل: یا رسول الله وليس كلنا نقدر على ذلك؟ فقال علیه السلام: إتقوا النار ولو بشق تمرة، إتقوا النار ولو بشربة من ماء.

* أيها الناس، من حسَّن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جواز. على الصراط يوم تزل فيه الاقدام، ومن خفف منكم في هذا الشهر عما ملكت يمينه خفف الله عليه حسابه، ومن كفَّ فيه شره كف الله عنه غضبه يوم يلقاه، ومن أكرم فيه یتيماً أكرمه الله يوم يلقاه، ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته یوم يلقاه، ومن قطع

ص: 335

فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه، ومن تطوع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار، ومن أدى فيه فرضاً كان له ثواب من أدى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن اكثر فيه من الصلاة علي ثقّل الله میزانه يوم تخف الموازين، ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور. أيها الناس، إن أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة فاسألوا ربكم أن لا بغلقها عليكم، وأبواب النيران مغلفة فاسألوا ربكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة فاسألوا ربكم ألا يسلطها عليكم.

* قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: فقمت وقلت: يا رسول الله، ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال: يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عزوجل، ثم بکی، فقلت: يا رسول الله، ما يبكيك؟ فقال: يا علي، لما يستحل منك في هذا الشهر، كأني بك وأنت تصلي لربك، وقد انبعث اشقی الأولين والآخرين، شقيق عاقر ناقة ثمود، فضربك ضربة على قرنك تخضب منها لحيتك.

قال أمير المؤمنين علیه السلام: فقلت: يا رسول الله، وذلك في سلامة من ديني؟ فقال علیه السلام: «في سلامة من دينك، ثم قال: يا علي، من قتلك فقد قتلني، ومن أبغضك فقد أبغضني، ومن سبك فقد سبني، لأنك مني کنفسي، روحك من روحي، وطينتك من طينتي، إن الله عزوجل خلقني وإياك، واصطفاني وإياك، واختارني للنبوة واختارك للإمامة، فمن أنكر إمامتك فقد أنكر نبوني. یا علي أنت وصيي، وأبو وُلدي،

ص: 336

وزوج ابنتي، وخليفتي على أمتي في حياتي وبعد موتي، أمرك أمري، ونهيك نهيي، أقسم بالذي بعثني بالنبوة وجعلني خير البرية، أنك حجة الله على خلقه وأمينه على سره وخليفته في عباده»(1).

***

ص: 337


1- السيد ابن طاوس، الإقبال 1 / 25 - 27، وقد أورد السيد هذه الخطبة المباركة، نقلاً عن كتاب «بشارة المصطفى لشيعة المرتضی»، لمحمد بن أبي القاسم الطبري، الذي أوردها بسنده إلى الحسن بن فضال عن الإمام الرضا علیه السلام، وقد ذكر محقق هذا الكتاب «بشارة المصطفى..» ص 534 أنه لم يجد الخطبة في النسخ (الناقصة) التي وصلت إلينا من الكتاب، فأوردها من الإقبال، وقد أورد الشيخ الصندوق هذه الخطبة المباركة بسندين (صحيحين) إلى الحسن بن فضال، في ثلاثة من كتبه هي عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 / 165 والأمالی / 153 - 154 وفضائل الأشهر الثلاثة / 77 - 78 وسنده في الأول (العيون) يختلف عن سنده في الثاني والثالث. ولدى محاولة معرفة السبب في اعتماد السيد ابن طاوس نص الخطبة كما ورد في «بشارة المصطفى..» وعدم اعتماد أحد كتب السيخ الصدوق التي يكثر النقل منها، نجد احتمالين: الأول: الإلفات إلى وجود طريق ثالث إلى الخطبة المباركة، غير طريقي الشيخ الصدوق. الثاني: رغم أن الإختلاف بين نص البشارة ونص كتب الشيخ، يسيرة وجزئية، إلا أن نص البشارة عموماً أسلم من التصحيف وأكمل. وقد اعتمدت هنا نص البشارة الذي أورده السيد مصححاً في بعض الموارد النادرة على مافي (العيون). تجدر الإشارة إلى أن الشهيد القتال النيسابوري، قد أورد الخطبة في روضة الواعظین 345 ولكن بدون سند، وأن الحر العاملي، الوسائل 10 / 313 والمجلسي، البحار 93 / 256 اعتمدا نص الشيخ الصدوق رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. والخلاصة أننا أمام نص صحيح السند، لاتعارض بينه بطرقه الثلاثة، بل هناك تفاوت يسير في بعض كلماته سببها التصحيف، إلا أنه لايضر بالمعنى إطلاقاً

* مع بعض فقراتها

* أيها الناس إنّ قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة.

سبحانك ما أكرمك، سبحانك ما أوسع رحمتك وأعظم مغفرتك.

إنه عزّوجل أرحم الراحمين في كلّ آن، وسعت رحمته كلّ شيء في كل حين، وهو يعطي من سأله ومن لم يسأله تحنّناً منه ورحمة، يغمر العاصين بالنعم لأنه أرحم الراحمين. وبالرغم من هذه الرحمة الواسعة فإنّ شهر رمضان شهر رحمةٍ من نوعٍ آخر، فأي رحمة هي هذه؟ وأيّ مغفرة؟ إنّه شهر مغفرة مميزة، تقصر العقول عن إدراكها، وإذا كان مفتتح موسم هذه الأشهر الثلاثة، بمستوى «أعطني بمسألتي إياك جميع خير الدنيا والآخرة»(1) فكيف سيكون منسوب الرحمة ومستواها في شهر رمضان؟! حقاً عندما نجد في بعض الروايات أنّ الله عزّوجل يعتق الملايين في أوّل ليلة من شهر رمضان وفي الليلة الثانية منه يضاعف ذلك، وفي الليلة الثالثة يضاعف المضاعف، وهكذا.. فإذا كانت آخر ليلة من شهر رمضان أعتق أضعاف ما أعتق في كلّ هذا الشهر. فأي رحمة واسعة إذاً هذه الرحمة؟ ولنتنبه إلى أن مقتضى ذلك أن يكون الثواب الذي نقرأ عنه في

ص: 338


1- من الدعاء الذي يدعى به في رجب بعد كل فريضة

روايات الأعمال، فوق مستوى إدراكنا، وأن العجيب أن لايكون كذلك.

* «شهرٌ هو عند الله هو أفضل الشهور.

هذه العبارة عبارة أفضل الشهور» تكفي في بيان أنّ شهر رمضان هو الشهر الأهم والأفضل، فلماذا أكد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، على هذا المعني بعبارات أخرى فقال: «وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات» وكأنّي به صلی الله علیه و آله وسلم، يريد أن يقول: يا من لم ينتبه، إنتبه جيداً، إن شهر الله أفضل الشهور. إن هذه حقيقة ينبغي أن تدركها بكلّ وجودك وكيانك. إن المقصود بوصفه بأفضل الشهور أنّ أيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي والأكثر من ذلك، يجب أن تُستثمر ساعاته لأنها أفضل الساعات.

نحن إذاً أمام بيان يحمل مزيداً من الأهمية استدعى من أفصح من نطق بالضاد، التفصيل بعد الإجمال، لتصل هذه الرسالة وتعيها أذن واعية.

* وهو شهرٌ دعيتم فيه إلى ضيافة الله.

من معاني هذه الدعوة، أني أنا العاصي الغريق في بحار الذنوب، أنا الذي يأمرني ربّي فأعصي، وينهاني فلا أرعوي، أنا صاحب الدواهي العظمى، يتعامل معي رب العالمين عزّوجل وكأنّي لست مذنباً ويدعوني إلى ضيافته لعلّي أصبح متقياً، ويهيء لي أفضل مناخ وأفضل جو لعليّ أعود وأصلح إعوجاجي وأستقیم «لعلکم تتقون».

ص: 339

يذوب القلب خجلاً عندما يواجه شخص من الناس إساءته بنبل، فكيف هي حال المجرم المقيم على الإصرار، وهو يستمع من أساء إليه واجترأ عليه، يخاطبه بلغة الأب الرؤوف، والأم الرؤوم، تلك اللغة التي لايشي حرف منها بأدني عتاب.

هل يمكنه إلا أن يقول «... ومنك مايليق بكرمك»! سبحانه ما أكرمه، يحسن إلينا وتترادف النعم، لعلّنا بسناً من فيوض هذه النعم نهتدي إلى الطريق.

شهرٌ دعيتم في إلى ضيافة الله!!! يا لسعادتي إذا استطعت أن أكون مؤدباً في ساحة ضيافته ويا لشقائي إذا واصلت قلّة الأدب والجرأة على المعصية، بل والوقاحة في المحضر الربوبي، في حرم ضيافة الله عزّوجل! * وجعلتم فيه من أهل كرامة الله.

إذا دخل ضيفٌ إلى بيت أحدنا فإنه يعامله معاملةً خاصة، وإذا أساء الضيف إليه يقول إنّه في بيتي، ويواجهه باللطف والحنان.

فأي لطف، وأي غامر حنان إلهي، ينبغي أن نتوقع في شهر ضيافة الله تعالی؟ أولا تُغتنم مثل هذه الفرصة من الناس العاديين لإصلاح ما فسد من العلاقة بهم؟ فهل نغتنم؟ وأي جرأة وجريمة وتمرد وتلاعب بالمصير يمثله عدم اغتنام

ص: 340

هذه الفرصة السانحة، واللجوء إلى التمادي في الضلال البعيد، والإساءة إلى «رب البيت» الذي نحن ضيوفه؟! نحن إذاً أمام شهرٍ، يمكننا أن نطمع فيه بحنانٍ اشتثنائي، وكلّ حنانه عزّوجل استثنائي، ولكنها لغة البشر تقصر عن التعبير ببعض مايليق بالمقام مما تدرکه عقولنا القاصرة أصلاً عن إدراك أدنى سفح لطفه والحنان. وفي الفقرات التالية مؤشرات إلى الدليل.

* أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب.

أرأيت ياقلب أنك أمام حنانٍ من نوعٍ آخر، أمام رحمة وكرامة تفوقان كل أحاسيسك ونبض العقل؟ عادة الضيف الدلال، وصاحب البيت الإكرام، وقد يصل توقع الضيف ودلاله حد التصرف وكأنه صاحب البيت، إلا أن ذلك كله فرع حسن العلاقة وتميزها، أما أن يكون قد «أوحش ما بينهما فرط العصيان» فلا مجال لتوقع ضيافة من هذا النوع على الإطلاق.

إلا أن ضيوف الله عزّوجل تبلغ كرامتهم إلى حدّ أن أنفاسهم تسبيح، وهذا يعني أني أنا العاصي الذي أعرف ما هي أنفاسي وأفكاري وسريرتي وباطني وظاهري، يعاملني الله تعالى بكلّ هذا الحنان والمغفرة واللطف!! وما أنا وما خطري، وما أنا وما عملي، وما نفسي، فضلاً عن نفسي؟!، لكن أكرم الأكرمين، يريد أن يعطينا الكثير حتى نبلغ ونصل.

ص: 341

كم هو حبّ الله تعالى لعباده؟ وهل نعرف الله تعالى لنعرف حبه، وحبه على قدره، متناسب مع عظمته «ليس كمثله شيء» رغم أنه «السميع البصير» «تراني وتعلم مافي نفسي، وتخبر حاجتي وتعرف ضميري، ولا يخفى عليك أمر منقلبي ومثواي، وما أريد أن أُبديء به من منطقي، وأتفوَّه به من طلبتي، وأرجوه لعاقبتي..»(1).

ومع ذلك فهو دائماً يخاطبنا بغاية الحبّ الشديد التي تعبّر عنه الآية «يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا» وكأنّه يقول يا أحبائي توقعوا الكثير الكثير لعلّكم تهتدون، لعلّكم تتقون.

كم هي السعادة التي تغمر القلب عندما يتنبه إلى أن له رصيداً هائلاً من فيض حب الله تعالى يمكنه أن يؤسس عليه وينطلق منه؟ وكم هو الشقاء والتعاسة عندما يكون العطاء الإلهي بهذه الأبعاد، وتكون الضيافة الإلهية بكل هذا الحنان وهذه المحبة، ثم يعرض المدعو إلى الضيافة عنها، إما لأنّه لا يريد أن يصوم، أو لأنه يريد أن يكون صومه عادياً، أي عن الطعام والشراب فقط، فلا يصوم عن المعاصي.

ماذا ينبغي أن نفعل في هذا الجو، جو الضيافة الإلهية؟ * فاسألوا الله ربّکم بنیّاتٍ صادقة وقلوبٍ طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه.

فلنجعل آخر جمعة من شعبان فرصة للتدرب على أن نسأل الله

ص: 342


1- من المناجاة الشعبانية

تعالی بنیات صادقة وقلوب طاهرة، ولنبدأ من الآن بالإستعداد الجاد لكي نكون من أهل ضيافة الرحمن.

عندما يصوم الإنسان في شهر شعبان صیاماً مستحباً ويراقب نفسه ويدربها على اجتناب الغيبة في صومه وبعد إفطاره، وعلى اجتناب الكلمة الحرام والنظرة الحرام، فهو يتدرب لشهر رمضان ويستعد له، وسيأتي أول يوم منه وقد رفع من مستوى صومه بدرجة عالية. أما إذا لم يستعد، وبقي مفطراً، وفجأة في اليوم التالي لشعبان يبدأ صيام شهر رمضان، فسيبقى يخطئ ويصيب ويقوم ويقع، إلى أن يمضي شهر رمضان أو قسمٍ كبير منه.

من الآن ينبغي أن نبدأ بتعويد أنفسنا على قراءة القرآن الكريم، فإن من كان لا يقرأ القرآن يومياً ودخل شهر رمضان وهو على هذه الحال، فسيخسر خسارة كبيرة إذا مرّ عليه يوم من شهر رمضان ولم يقرأ فيه القرآن. علينا إذاً على الأقل أن نحرص على التدرب على قراءة خمسين آية كما تؤكد أكثر الروايات، ليدخل شهر الله تعالى وقد اعتدنا على قراءة كتاب الله عزّوجل يومياً.

* صوم ثلاثة وعشرين يوماً

عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

«ومن صام ثلاثة وعشرين يوماً من شعبان أُتي بدايةٍ من نورٍ عند خروجه من قبره، فيركبها طیاراً إلى الجنّة»(1).

ص: 343


1- الإقبال 3 / 360

هنيئاً لأصحاب النعيم نعيمهم. قد يخرج الإنسان من قبره ذهلاً مذعوراً حاملاً ثقله على ظهره ينظر تارةً عن يمينه وتارةً عن شماله يعاني من أهوال يوم القيامة وشدّة وطأتها، وقد يخرج وهو يمشي باطمئنان لا يحزنه الفزع الأكبر، وقد يخرج الإنسان من قبره راكباً، ولعل المراد أنّه يكون داخل ماتشبهه الطائرة، أو السفينة الفضائية، وقد عُبر لنا نحن القاصرين عن فهم حقائق الأخرة بتعبير «دابة من نور» وتقدم أكثر من مرة احتمال أن يكون المقصود واسطة نقل تدب دبيباً ولذلك عبر عنها بالدابة.

قال تعالى: «يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا» [مريم 80].

وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام: سأل على علیه السلام، رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عن تفسير قوله تعالى: «يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا قال: يا علي إن الوفد لا يكون إلا ركباناً، اولئك رجال اتقوا الله فأحبهم الله واختصهم ورضي أعمالهم فسماهم الله المتقين...».

«وفي حديث آخر قال: إن الملائكة لتستقبلهم بنوق من نوق الجنة»(1).

بعض المؤمنين إذاً، لا يرون من المحشر حتى ازدحامه، لا يلجمهم العرق ولا تخلع أفئدتهم الأموال، بل إنهم أيضاً لا يمشون، فهم أكرم على الله من أن يمشوا في أرض المحشر وإنّما ينتقلون بواسطة النقل الخاصّة الإلهية التي هي من نور، ومن الطبيعي أن لهذا النورعلاقة بنور أعمالهم فيدخلون إلى الجنة مباشرة.

ص: 344


1- القمي (علي بن إبراهيم) تفسير القمي 2 / 53

والنتيجة أن هناك علاقة بين صوم ثلاثة وعشرين يوماً من شعبان، وبين الإنتقال إلى الجنة بواسطة نقل خاصة ربما كانت طائرة من طائرات الجنّة، أو سفينة فضائية من سفنها، أو فوق ذلك مما لا يخطر على قلب بشر وهو الصحيح. «اللهم ارزقنا».

* صلاة الليلة الرابعة والعشرين

أورد السيد ابن طاوس عليه الرحمة، عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

«ومن صلّى في الليلة الرابعة والعشرين من شعبان ركعتين يقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب وإذا جاء نصر الله والفتح عشر مرات أكرمه الله تعالى بالعتق من النار والنجاة من العذاب وعذاب القبر، والحساب اليسير وزيارة آدم ونوح والنبيين والشفاعة»(1).

قد يعتق شخص من النار بعد أن يدخلها، أو يعذب قبل دخولها، أو يحاسب حساباً عسيراً أو يسيراً، ولا يكون من أهل الشفاعة لغيره، ثم يعتق، أما أن يعتق من النار وينجو من العذاب بما يشمل عذاب القبر والبرزخ، ولا يحاسب أبداً ويكرم بزيارة النبيين وأن يشفع لغيره، فذلك شأن آخر مختلف جملة وتفصيلاً. إنه رشحة من مظهر الكرم الإلهي.

أسأل الله عزّوجل أن يوفقنا لمراضيه بالنبي المصطفى وآله صلوات الله تعالی وسلامه عليهم أجمعين.

والحمدلله رب العالمین

ص: 345


1- الإقبال 3 / 360

ص: 346

24 شعبان

اشارة

* واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه

* وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم

* وقروا كبارکم

* وارحموا صغاركم

* وصلوا أرحامكم

* صوم أربعة وعشرين يوماً

* صلاة الليلة الخامسة والعشرين

ص: 347

ص: 348

تقدم في الحديث السابق أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، ألقى خطبته المباركة حول شهر رمضان في آخر جمعة من شعبان، الأمر الذي يدلّ على أهميّة الإستعداد لشهر رمضان المبارك في آخر أيام شهر شعبان.

نحن إذاً في أيام ترتبط بشهر الله تعالی ارتباطاً وثيقاً، ومن واجبنا فيها أن نستعدّ لاستقبال الشهر العظيم ليطل هلاله ونحن أهلٌ لضيافة الرحمن عزّوجل.

* واذکروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه

لا يصحّ أن نبقى في غفلةٍ عن شهر رمضان ثمّ إذا دخل نصوم ولا نعرف كيف؟ يحتاج الصوم الحقيقي في شهر الله تعالى إلى شيء من الإستعداد مسبقاً، والفرق كبير جداً بين شخص صائم غافل عن الآخرة وعن الوقوف بين يدي الله عزّوجل، وبين صائم يتذكر الآخرة دائماً أو غالباً أو كثيراً، ويعيش بعض آثار الحياء من العرض على الله تعالى، وعندما يقول «إنّا لله وإنا إليه راجعون» يدرك بعض معاني الرجوع إلى الله عزّوجل، ويرى نفسه يُغِذُّ السير حثيثاً باتجاه الآخرة.

ص: 349

شئنا أم أبينا فإنّ كلّ نفَس تتنفسه، يدنينا من الأحرة بقدره، والمطلوب أن يذكّرنا جوعنا وعطشنا في شهر رمضان بجوع يوم القيامة وعطشه، ذلك اليوم العبوس القمطرير، الذي تبلغ مواقفه خمسين موقفاً، وكلّ موقف يمتدّ ألف سنة، «يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» [الحج 2].

هذا اليوم العظيم ينبغي أن يكون حاضراً في ذهن المسلم يفكّر فيه باستمرار لأنّ من شأن ذلك أن يصحح مساره، ويردعه عن معصية الله تعالی.

من يتذكّر الآخرة باستمرار، إذا أراد أن يظلم فإنه يتراجع، وإذا أراد أن يغتاب، أو يقطع رحمه، أو أن يقع في أي معصية يشرف على الوقوع فيها، فإنَّ تذكّر الآخرة يحمله على الثبات في صراط الطاعة المستقيم، وبمقدار حجم حضور الآخرة في ذهن المسلم بمقدار ما تكون سلامة سلوكه.

إن المطلوب في ضوء هذا التعليم النبوي «وأذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه» أن يهيئ المؤمن نفسه ليصل إلى شهر الله تعالى، فيكون صومه حقيقياً، أمّا أن يصوم صوم الغافلين - أي أنه يمتنع فقط عن الطعام والشراب - ولا ينفذ من خلال ذلك إلى تذكر الآخرة والوقوف بين يدي الله عزّوجل بدليل أنّه يعصي وهو صائم، ينظر النظرة الحرام، ويتكلم الكلمة الحرام، ويغضب ويتمادى في غضبه، فيؤذي الآخرين دون أي رادع، ويزعم أنه صائم، رغم أنّه يتجرأ على الله تعالى بهذه المعاصي أو تلك، فإن هذا الصيام يكشف عن قشرصوم لا لبّ له.

ص: 350

* وتصدّقوا على فقرائكم ومساکینکم

والصدقة مطلوبة في كل وقت، إلا أنها هنا ذات دلالة خاصة، فالمتصدق في محفل العطاء والكرم يحظى بعناية خاصة، كأنّ المتصدق يقول: «إلهي أنا المحدود أعطي لمن هو أفقر مني، لمن أراه محتاجاً، وأنت الغني المطلق، فأنت دائماً أولى بإعطائي، فكيف سيكون عطاؤك في موسم الكرم الإلهي العميم».

ومن البديهي أنّ مثل هذه النيّة لا تجتمع مع المنّ والأذى، بأن يبطل الإنسان صدقته بالمنّ أو يؤذي الفقير الذي يعطيه، لأنّ المنّ والأذي يتناقضان مع النيّة الصحيحة للصدقة التي تعني أنّ المتصدّق يقول: إلهي، أريد أن أنمّي إنسانيّتي بصدقتي وأريدها أن تكون سراً لأنّ صدقة السرّ تطفئ غضبك.

ويبدو أنّ المراد من الحث على الصدقة في شهر الله وعلى أبوابه، أن يتصدق الإنسان ليوفق لصيام هذا الشهر وقيامه ويتدرب على البذل من ماله الذي يحب عادة، ليتدرّب على العطاء مطلقاً.

* وقروا كبارکم

ما أعظم أن نتأدّب بأدب الإسلام في مختلف المجالات، فللكبير حرمته، وإذا كان هذا الكبير صاحب شيبة فإنّ لصاحب الشيبة في الإسلام أهمية خاصّة، لأنه شابَ وهو يقول لا إله إلاّ الله.

وفي عدد من مصادر الحدیث «باب استحباب إجلال ذي الشيبة المؤمن، وتوقيره وإكرامه»(1) ومن جملة الروايات فيه:

ص: 351


1- المحدث النوری، مستدرك الوسائل 8 / 391 - 394

1- «قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: من وقر ذا شيبة لشیبته، آمنه الله عزوجل من فزع يوم القيامة».

2- قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «من عرف فضل كبير لشيبته فوقره، آمنه الله تعالى من فزع يوم القيامة».

3- قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «وإن من أعظم إجلال الله تعالی إكرام ثلاثة: ذي الشيبة في الإسلام، والإمام العادل، وحامل القرآن غير العادل فيه، ولا الجافي عنه».

ولعل المراد بالعادل فيه أنه يعدل به غيره ويفضل غير القرآن عليه أو يجعله عِدلاً له ومساوياً.

4- وقال صلی الله علیه و آله وسلم: «بجِّلوا المشايخ، فان تبجيل المشايخ من إجلال الله عزوجل، ومن لم يبجِّلهم فليس منا».

5- وعن الصادق علیه السلام عن آبائه علیه السلام، قال: «جاء رجلان إلى إلى النبي صلی الله علیه و آله وسلم، شیخ وشاب، فتكلم الشاب قبل الشيخ، فقال النبي صلی الله علیه و آله وسلم: الكبير الكبير».

6- قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «ما أكرم شاب شيخاً، إلا قَّيض الله له عند شيبه من يكرمه».

7- وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ما مشی الحسين عليه السلام بين يدي الحسن علیه السلام قط، ولا بدره بمنطق إذا اجتمعا، تعظيماً له».

والحديث عنهما عليهما صلوات الرحمن في سياق مختلف، إلا أني

ص: 352

أوردته ليصغي القلب إلى المولى أبي عبد الله الحسين يحدثنا فعله بعظيم منزلة المولى أبي محمد الإمام الحسن عليها صلوات الرحمن وسلامه.

من النبل أن نوقر كبارنا، ومن الخفة وعدم التعقل والإسفاف أن لا نحترمهم ولا نوقرهم. يستطيع كلّ منا أن يلمس الفارق بين إنسان يوفر الكبير وبين إنسان يسيء إليه ويتجرأ عليه، ويدرك الإنسان بطبعه أن من الواجبات توقير الكبار، والمجتمع الذي يوقّرفيه الكبار مجتمع سلیم معافی ومهذب.

* وارحموا صغاركم

والكفة الأخرى في ميزان أدب الإسلام، لتوفير الكبار، هي رحمة الصغار، وهما معاً تجلي حالة واحدة للين القلب، ة وإن كان فتك الذنوب بالقلوب يظهرهما لأول وهلة من واديين.

كما أنّ من واجب الأصغر سناً أن يوقّر من هو أكبر منه، فإنّ من واجب الأكبر أن يرحم من هو أصغر منه، ورحمة الصغار تشمل أولادنا الصغار وكلّ صغير.

ويمكن الإستنتاج من هذين التوجيهين النبويين، أو نقل هذا التوجيه بصورتيه، أنّ علينا ونحن نريد الإستعداد لشهر الله تعالى، أن ننظر في تعاملنا مع بعضنا في بيوتنا وخارجها، هل يوقّر الأولاد أباهم وأمّهم والأكبر منهم من إخوتهم وقد ورد أن «الأخ الكبير بمنزلة الأب»(1).

ص: 353


1- علي بن بابویه، فقه الرضا علیه السلام / 355

وهل يرحم الأب والأم صغارهما؟ وهل الجوّ العام المسيطر على البيت جوّ أخلاقي، أو يحرص على السير في صراطه، أم أنّه جو سوء الخلق والإقامة عليه لا سمح الله؟ وبديهي أن تحقير الصغير وإشعاره بمهانته أمام إخوته، ليس من الرحمة في شيء، مما يستدعي أن تلحظ في حالات التأنيب الشديد التي يستحقها أن تكون على انفراد والتركيز على إيجابياته لحفظ توازنه النفسي الذي هو كل رأسماله في هذه المرحلة من حياته.

مطلوب إذاً من الصغير أن يحترم الكبير، وما قد نشاهده في بعض الحالات من نبرة خاصة من الإبن أو البنت مع الأب أو الأم، أو نظرة تكشف عن الترسّل الذي يزيد عن حدّه فينقلب إلى ضده استخفافاً وإهانة، فليس من قوة الشخصية أو الجرأة، وإنما هو وقاحة إن لم تكن إمعاناً في العقوق، فهي عقوق.

وأيضاً في الطرف الآخر، ما قد نشاهده أو نقوم به من قمع يمارسه الأب أو تمارسه الأم تجاه الأولاد هو أمر خاطئ وخطير، ومن يتصرّف بهذه الطريقة النشاز، فهو يحمل ظلماً.

«وقد خاب من حمل ظلما».

مهما كان توقير الكبار مطلوباً، فإن رحمة الصغار مطلوبة بدرجة أكبر، لأن الأول طلب من الكبار والثاني طلب من الصغار وكل بحسبه، كيف يمكن للإنسان الذي لا يستطيع أن يتحمّل إساءة من ولد صغير فيصرخ في وجه ولده دون حق، أو يضربه ضربة انتقام

ص: 354

بحيث إنّ هذا الطفل يرتجف قلبه قبل أن يظهر ذلك في بدنه، ويشعر كأنّ هناك زلزالاً يعصف به. كيف يمكن لصاحب هذا القلب أن يطمع بالرحمة وهو مقيم على عدم الرحمة لا يفكر بمغادرتها، وإنما يطمع بالرحمة من يرحم أو يحب أن يكون رحيماً، فلنرحم صغارنا لنطمع برحمة الله عزّوجل، وإذا كنا لانستطيع فليؤلمنا عجزنا وسوء خلقنا ليكون ذلك مدخلاً إلى الطمع برحمة أرحم الراحمين.

عندما يكون الأب جباراً في بيته، يعيش أولاده الرعب منه، أو زوجته وأولاده فما هي حقيقة صومه يا ترى؟ إنّه صیام الظالم، المتكبّر، صیام الجبّار، الذي يمارس القمع باستمرار.

والله عزّوجل لا يريد لعبده أن يكون ظالماً، بل يريد له أن يكون عادلاً، ولئن كان تحقيق العدالة على مستوى النفس صعباً جداً لطبيعة الحمأ المسنون، فإن حب ذلك وتمنيه وبذل شيء من الجهد، كفيل بحول الله تعالى ورحمته وضيافته أن تبلغنا مالانستطيعه عادة.

وتمس الحاجة في هذا المجال أن تتنبه المرأة إلى أنها قد تكون هي «الظالم» و «الجبار» الذي مرد على القمع في البيت، فرغم أن هذا المرض يصيب الرجال في الأعم الأغلب، إلا أن طبيعة النفس الشريرة لاتفرق بين رجل وامرأة، فإذا وجدت المرأة فرصة للتجبر أمعنت فيها وأوغلت.

والنتيجة أننا عندما نقرأ في خطبة المصطفى الحبيب صلی الله علیه و آله وسلم: «ووقروا كبارکم وارحموا صغاركم» فينبغي أن ننظر في أنفسنا هل نحن مؤهلون لاستحقاق ضيافة الرحمن؟

ص: 355

إذا كنا نظلم ولانريد التوبة فربما حرمنا أنفسنا من هذا الوسام، ولذلك ينبغي أن نعمل من الآن على نزع هذا الظلم بالقرار المدروس، والتوبة النصوح، على قاعدة «اللهم وإنه لاوفاء لي بالتوبة إلا بعصمتك».

* وصلوا أرحامكم

تقدّم في الحديث عن برکات شهر شعبان، بيان أهمية صلة الرحم، وفي هذه الخطبة المباركة نجد التأكيد على صلة الرحم أكثر من مرّة، وهو ما ينبغي أن يلفتنا إلى أهمية إدراك الترابط بين هذا الواجب وبين قبول الصوم.

لا يمكن للإنسان الذي لايخفق قلبه بالحنان تجاه رحمه، ولا يرحمه، أن يطمع برحمة الله تعالى، فمثل هذا الإنسان صاحب قلب قاسٍ، والقلوب القاسية بعيدة عن الله عزّوجل، «فويل للقاسية قلوبهم» ألا يدل على ذلك قول نبي الرحمة: «ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته یوم یلقاه».

سواء كان هذا الرحم الذي أفكر بصلته يبادلني هذا التفكير، ویرید أيضاً أن يصلني أم لا، فإن من واجبي أن أقوم بما علي في مجال صلته.

والروايات كثيرة في تفسير الآيات حول صلة الرحم، وعموماً، ومنها:

1- عن الصادق عليه السلام: إن رجلا من خثعم جاء إلى

ص: 356

النبي صلی الله علیه و آله وسلم، فقال: يا رسول الله أخبرني ما أفضل الإسلام؟ فقال: الإيمان بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: صلة الرحم، قال: ثم ماذا؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: فقال الرجل: فأي الأعمال أبغض إلى الله عزوجل؟ قال: الشرك بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: قطيعة الرحم، قال: ثم ماذا؟ قال: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف(1).

2- وعن حنان بن سدير رضي الله عنهما قال: كنا عند أبي عبد الله عليه السلام وفينا «میسر» (إسم شخص) فذكروا صلة القرابة. فقال أبو عبد الله علیه السلام: یا میسر قد حضر أجلك غير مرة ولا مرتين، كل ذلك يؤخر الله أجلك لصلتك قرابتك، وإن كنت تريد أن يزاد في عمرك فبُرَّ شيخيك». یعنی أبویه»(2).

3- عن أبي جعفر (الإمام الباقر) علیه السلام، قال: «في كتاب علي عليه السلام: ثلاث خصال لا يموت صاحبهن أبداً حتى يرى وبالهن: البغي، وقطيعة الرحم، واليمين الكاذبة يبارز الله بها، وإن أعجل الطاعة ثواباً لصلة الرحم»(3).

«وفي أحاديث العترة الطاهرة من أهل البيت علیهم السلام: أن صلة الرحم أعجل الطاعات ثواباً، ومعنى ذلك أن من وصل رحمه ينال ثواب صلته في الدنيا قبل الآخرة، كما أن قطيعة الرحم من أعجل الخطيئات عقوبة. فقد ورد عن الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام عن کتاب علي عليه السلام: إن أعجل الطاعة ثواباً لصلة الرحم، وإن القوم

ص: 357


1- العلامة الحلي، مختلف الشيعة 4 / 458، وعلي بن بابویه، فقه الرضا علیه السلام 376
2- القطب الراوندي، الدعوات 125 - 126
3- الشيخ محمد علي الأنصاري، الموسوعة الإسلامية الميسرة 2 / 84 - 85

ليكونون فجاراً، فيتواصلون فتنمى أموالهم ويثرون، وإن اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم ليذران الديار بلاقع من أهلها»(1).

ولاتنحصر صلة الرحم بالزيارة والتواصل العادي، بل تشمل مد يد العون مادياً للرحم، خصوصاً مع التمكن من ذلك:

قال الشهيد الأول: «ولا ريب أنه مع فقر بعض الأرحام - وهم العمودان - (عمود الأقارب من جهة الأب، وعمود الأقارب من جهة الأم) تجب الصلة بالمال، ويستحب لباقي الأقارب، ويتأكد في الوارث، وهو قدر النفقة، ومع الغني فبالهدية في بعض الأحيان بنفسه أو رسوله، وأعظم الصلة ما كان بالنفس - وفيه أخبار كثيرة - ثم بدفع الضرر عنها (أي الرحم) ثم بجلب النفع إليها، ثم بصلة من يحب، وإن لم يكن رحماً للواصل - كزوجة الأب والأخ ومولاه - وأدناها السلام بنفسه، ثم برسوله، والدعاء بظهر الغيب، والثناء في المحضر»(2).

ومن الضروري هنا تنبه الزوج والزوجة المرأة إلى أن صلة كل منهما لأهل الآخر «بيت العم» الذين يحبهم أولادهما، من مصادیق «صلة الرحم» وإذا كان الأولاد لايحبونهم وقد أسهم أحد الزوجين في ذلك فهو شريك في كبيرة من الكبائر الموبقة والعياذ بالله تعالی.

وقال الشهيد الثاني: «وإنما يستحب عطية الرحم حيث لا يكون محتاجاً إليها، بحيث لا يندفع حاجته بدونها، وإلا وجبت عيناً، لأن

ص: 358


1- المرجع، الشيخ محمد أمين زين الدين، كلمة التقوى 4 / 241
2- الأنصاري، الموسوعة الإسلامية 2 / 85 - 86. وانظر: الجواهري، جواهر الكلام 28 / 190

صلة الرحم واجبة عيناً على رحمه، وليس المراد منها مجرد الإجتماع البدني، بل ما يصدق معه الصلة عرفاً، وقد يتوقف ذلك على المعونة بالمال حيث يكون الرحم محتاجاً والآخر غنياً لا يضره بذل ذلك القدر الموصول به، بل قد يتحقق الصلة بذلك وإن لم يسع إليه بنفسه، كما أن السعي إلى زيارته بنفسه غير كاف فيها مع الحاجة على الوجه المذكور»(1).

إن علينا أيها العزيز أن لانفصل بين صوم حقيقي وبين مراجعة جادة لسلوكنا تجاه الأرحام.

* صوم أربعة وعشرين يوماً

أورد السيّد ابن طاوس عن الشيخ الصدوق عليهما الرحمة، عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

«و من صام أربعة وعشرين يوماً من شعبان شُفِّع في سبعين ألفاً من أهل التوحيد»(2).

حق الشفاعة للمؤمنين ثابتٌ في الروايات وكلمات العلماء تؤكّد ذلك، إلاّ أنّ للمؤمن الذي صام أربعة وعشرين يوماً من شعبان خصوصيّة، فهو يُشفّع في سبعين ألفاً من أهل التوحيد.

وما أعظمها من مفاجأة، أن يكون الشخص خائفاً على مصيره، فإذا بالرحمة الإلهية تجعله بهذا الصوم «من الشافعين» وبهذا العدد الكبير.

ص: 359


1- المصدر
2- الإقبال 3 / 361

* صلاة الليلة الخامسة والعشرين

أورد السيّد عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «ومن صلّى في الليلة الخامسة والعشرين من شعبان عشر ركعات (كل ركعتين بتسليمة) يقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب وألهاكم التكاثر مرة، أعطاه الله تعالى ثواب الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وثواب سبعين نبياً»(1).

وقد تقدّم رأي السيّد ابن طاوس عليه الرحمة في أنّك عندما تجد رواية من هذا القبيل.

«ثواب سبعين نبياً» فالمراد أن من صلّى هذه الصلاة يعطي ثواب سبعين نبياً صلّوا هذه الصلاة وليس بالمطلق، والله تعالى العالم.

أسأل الله تعالى أن يوفقنا لمراضيه بالنبي المصطفى وآله صلوات الله تعالى عليهم أجمعين.

والحمدلله رب العالمین

ص: 360


1- المصدر

25 شعبان

اشارة

* كيف نستعد لضيافة الرحمن

* ثلاثة أبواب للقلب

* واحفظوا ألسنتكم

* وغضوا عما لايحل النظر إليه أبصاركم

* وعما لايحل الإستماع إليه أسماعكم

* صوم خمسة وعشرين يوماً صلاة الليلة السادسة والعشرين

ص: 361

ص: 362

* كيف نستعد لضيافة الرحمن

من الواضح أنّ الإستعداد لكلّ عمل ينوي الإنسان القيام به يسهم في التمكّن من الأداء بهذا العمل بكيفيّة أفضل. بمقدار الإستعداد تكون الكيفيّة أفضل. وكلّما كان العمل أهم، كلّما استدعى الإستعداد الأهم.

وعندما نستقبل شهر الله تعالى، فكيف ينبغي أن نستعدّ له؟ إنه الموسم الإلهي الفريد إلى حدّ أن «الشقّي من حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم» أي أنّ رحمة الله تعالى الواسعة دائماً وأبداً، هي في هذا الشهر من حيث تسهیلات شروط الشمول تجسد العطاء الإلهي الأسمي.

من واجبنا أيها العزيز أن نحرص على تطهير قلوبنا ونفوسنا لنتمكن من استثمار كلّ لحظة من لحظات هذا الشهر.

ينبغي أن يطول وقوفنا مع أنفسنا، نتأمّل في زواياها، ونبحث جيداً في مطاويها، ونتفقد مساربها، وتشعباتها، لعلّ هناك خطأ كبيراً، واعوجاجاً خطيراً ونحن لا نشعر به.

من طبع الإنسان الرضا عن نفسه عادة، إلا أن المؤمن «نفسه

ص: 363

ظَنونٌ عنده» فهو يتهمها ويدقق في ميولها، والشيطان يحاول بشكل أو بآخر أن يبدي لنا إيجابياتنا ويخفي عنّا سلبياتنا.

يقول أمير المؤمنین علیه السلام: «وأعلموا أنه ما من طاعة الله شيء إلا يأتي في كُره، وما من معصية الله شئ إلا يأتي في شهوة. فرحم الله رجلاً نزع عن شهوته وقمع هوى نفسه، فإن هذه النفس أبعد شئ منزعاً، وإنها لا تزال تنزع إلى معصية في هوى. واعلموا عباد الله أن المؤمن لا يصبح ولا يمسي إلا ونفسه ظنون عنده، فلا يزال زارياً عليها ومستزيداً لها. فكونوا كالسابقين قبلكم والماضين أمامكم قَوَّضُوا من الدنيا َتقويضَ الراحل وطَوَوها طيَّ المنازل»(1).

من هنا وجب أن تكون الوقفة مع النفس جادة ونوعية ليكون استعدادنا لشهر الله تعالی متناسباً مع موقع الشهر في السفر إلى الله تعالی.

ومن نعم الله سبحانه علينا أنّه وضع بين أيدينا خطبة رسوله الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم وسلم، لتكون منهاجاً نحاول من خلاله أن نطهّر أنفسنا ليقبل شهر الله تعالى ونحن مستحقون لوسام ضيافة الرحمن، بفضله وكرمه.

* ثلاثة أبواب للقلب

جاء في الخطبة المباركة:

* واحفظوا ألسنتكم، وغضّوا عمّا لا يحلّ النظر إليه أبصاركم، وعما لا يحلّ الإستماع إليه أسماعكم

ص: 364


1- الإمام علي علیه السلام، نهج البلاغة خ 176

صحيح أنّ من واجبنا الإلتزام بهذه التوجيهات الثلاثة دائماً وفي أيِّ وقت، إلاّ أنّ للإلتزام بها في شهر رمضان أثراً خاصاً، وهو الذي يحتِّم علينا ونحن على أبوابه أن نولي التدرب عليها عناية خاصة.

أن يعصي الإنسان باللسان فيسيء إلى شخص، وكيفما كانت هذه الإساءة، فذلك حرام، ولكن أن تكون الإساءة في محضر خاص لله تعالى، وبين يديه، وهذا المسيء في ضيافته وفي بيته، فإنّ لهذه الإساءة، بعداً من نوع آخر.

إن الكلمة الحرام حرام في أيّ وقت إلاّ أن لها في شهر رمضان خطورة مختلفة.

وإن ذكر الله تعالى يؤثر إيجاباً في أيّ وقت إلاّ أنّ له في شهر رمضان تأثيره النوعيّ ووإيجابياته المميزة، وكذلك الأمر بالنسبة لطاعة العين والأذن.

إنها ثلاثة أبواب للقلب، بل هي الأبواب الرئيسة التي لاتفتح الأبواب الأخرى على مصاريعها إلا بها.

ولتوضيح ذلك يجدر أن نتذكر ما تقدم في أعمال شهر رجب نقلاً عن بعض الأعلام من أن أبواب الجنة الثمانية هي العقل إذا سيطر على الحواس الخمسة والوهم والخيال، وأن أبواب النار السبعة هي هذه الأبواب نفسها باستثناء العقل الذي لا وجود له في من لايخضع السبعة المذكورة لسلطان العقل.

ومن بين هذه السبعة يشكل اللسان والعين والأذن الأبواب الأكثر محورية لأنها تمد الباقي بالمادة الخام التي تجعلها مشرعة للمزيد.

ص: 365

ومن المفيد التنبه إلى أن المصطفى الحبيب صلی الله علیه و آله وسلم بعد أن تحدث في مفتتح الخطبة المباركة عن المناخ الذي يشكله شهر الله تعالى، تحدث عن القلب، ثم بدأ بالحديث عما يلينه ويصلحه ويصب فيه، مركزاً على هذه الأبواب الثلاثة، ثم عاد صلی الله علیه و آله وسلم إلى الحديث عن القلب.

التأمل معاً قوله صلی الله علیه و آله وسلم: فاسألوا الله ربکم بنیات صادقة وقلوب طاهرة، أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فان الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم. واذکروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدقوا على فقرائكم ومساکینکم، ووفروا كبارکم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم، وغضوا عما لا یحل النظر إليه أبصاركم، وعما لا يحل الإستماع إليه أسماعكم، وتحننوا على أیتام الناس... يتحنن على أیتامكم، وتوبوا الى الله من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في اوقات صلواتكم.

إن تأكيد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم للمسلمين جميعاً وعبر الأجيال، على الإهتمام بهذه الواجبات، في آخر جمعة من شعبان، يحمل معنىّ ينبغي الإلتفات إليه، وهو واجب الإستعداد لشهر رمضان المبارك قبل دخوله، ليطل علينا ونحن قادرون على أن نوقّر كبارنا ونرحم صغارنا، ونحفظ ألسنتنا ونغضّ عما لا يحلِّ إليه النظر إليه أبصارنا وعما لا يحلّ الإستماع إليه أسماعنا، وبمستوى أكبر بكثير يتناسب مع حرمة هذا الشهر العظيم وحرمة الضيافة الإلهية فيه.

تزداد خطورة مخالفة هذه الواجبات جداً مع بداية شهر رمضان، لأن هذه المخالفة آنذاك، تعني أن الضيف يقابل الضيافة بمنتهی سوء

ص: 366

الأدب، بل بالخيانة لأمانة العقل والقلب والنفس والروح والعمر، وعدم شکر نعمة الله تعالى عليه بالإيجاد بشراً، وتسخيرِ الأملاك والأفلاك لخدمته، وإرسال أفضل الخلق إليه رسولاً، وإقامة أفضل الخلق بعده حججاً وأدلة وهداة، والصفح عن معاصيه المتتالية، ودعوتِه إلى ضيافة الرحمن. هاهو رغم ذلك كله، يبارزالله تعالی بالمعصية.

وبديهي أن الإنسان كلما اقترب من الخطر أكثر، كلما وجب علیه شد الإنتباه بما يتناسب مع مايقدم عليه.

وبديهي أيضاً أن الإنسان كلما واجه إمكانية الربح بدرجة أكبر، كلما استدعى ذلك منه تحفزاً ومواصلة اليقظة وحضور القلب والإستنفار الدائم بنسبة تصاعدية.

ونحن في شهر رمضان أمام ربح لانظير له أو خسران لانظير له، إما العتق من النار والدرجات العلى، وإما الشقاء وأسفل سافلين.

ولسنا وحدنا في قاعة الامتحان، فربنا نعم الرب، عادته الإحسان إلى المسيئين «وهو معكم أينما كنتم» ولذلك كانت خطبة المصطفى الحبيب، فهي إنجاز تربوي نبوي استراتيجي، ومظهر رحمة الله تعالى لعباده، لتنبهنا إلى صراط النجاح في اغتنام هذه الفرصة الإلهية الأعظم.

ويعلم الله تعالی کم هم الذين نعموا بعظيم بركاتها وينعمون، کم هم الذين استحقوا الجنة ببركانها ويستحقون، ولنتصور ججم الخسارة لوأنها لم تكن.

ص: 367

إذا لم ينتبه من سيصوم شهر الله تعالى، إلى طريقته في الكلام، ومايتعرض له ويقع فيه من أذى وغيبة. إذا كان لا يحاسب نفسه على أبواب الشهر ولافيه، ليرى هل يحفظ لسانه أم لا، ثمّ دخل شهر رمضان المبارك، فكم هي الخسارة كبيرة.

صحيح أنّ الإستعداد لشهر رمضان يبدأ من أول شهر رجب، بل - كما تقدم في الحديث عن أوّل شهر رجب - ينبغي أن يستعد الإنسان على مدار السنة، تماماً كالذي يريد أن يشترك في إمتحان، إن كلّ درس يدرسه خلال السنة يؤثر في كيفية الإمتحان، وبمقدار إصغائه وانتباهه تكون الحصيلة الأساس، ثم إنه قبل الامتحان بفترة يراجع فروضه باهتمام، ثم يدخل قاعة الامتحان.

وعندما ينجح فلیست مراجعته وحدها هي التي حققت له النجاح، وإنّما أسهمت في ذلك بدرجة مركزية، كيفية تلقيه لدروسه على مدار السنة.

صحيح أنّه ينبغي للإنسان أن يكون كذلك، ملتزماً بالأحكام الشرعيّة دائماً، يصغي إلى نبض قلبه باستمرا، ملتفتاً إلى أنّه بين يدي الله عزّوجل، في محضر الربوبيّة المقدّس.

هذا صحيح لا ريب فيه، ولكننا البشر الخطاؤون! تغلب علينا الغفلة، وتستهوينا ألعابنا الخاصة بنا، كما تستهوي كل تلميذ كسول أو غير كسول ألعابه وأهواؤه وهواياته، فلا نؤدي فروضنا اليومية كما ينبغي.

وفي هذا السياق تقع نعمة شهري رجب وشعبان، كماهي فرصة

ص: 368

التحضير لاستحقاق الإمتحان والفوز بالشهادة، وإذا غلبت علينا الغفلة أو الشقوة في شهر رجب بل وشعبان أيضاً، فلا أقل من اغتنام فرصة الأيام الأخيرة من شعبان.

وفي هذا السياق بالذات تقع خطبة الرؤوف بالمؤمنين والرحیم بما آتاه الله تعالی، رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم.

يدرك المؤمن معها، أنّ عليه أن ينتبه جيداً. المسابقة قريبة. ضيافة الرحمن عزّوجل أمامي، ها قد وصلت. لا يفصلنا عنها سوی أيام، فيعود إلى نفسه، ويجعل الهموم المتعددة هماً واحداً، وبدل أن يفكر بالثوب والشكل، والمال والسيارة والبيت والموقع الإجتماعي، يفكر بنفسه التي ينساها أحدنا وهويظن أنه يبحث عنها.

هل صادفت شخصاً حصل ذلك له؟ إن لم تصادفه فلعمرك أني وإياك لكذلك.

فلنقبل على خطبة المصطفى الحبيب صلی الله علیه و آله وسلم، نقرأها مراراً، ونتدبر آياتها المحمدية «إن هو إلا وحي يوحى» وعندما يقرأ أحدنا فقرة منها فلينظر إلى تطبيقها في نفسه: وقّروا كبارکم.. هل أوقّر الكبار؟ أين يكمن الخلل في تعاملي مع الكبار؟ إرحموا صغاركم.. هل أرحم الصغار أم لا؟ صلوا أرحامكم.. ما هو موقفي من صلة الرحم؟ من فلان وفلانة؟ ألم أخطيء في ماحصل بيننا؟ أو ليس من واجبي أن أعيد التفكير بما تصورته حقاً، فلعله باطل؟ * واحفظوا ألسنتكم وهذا بيت القصيد بل بيت الداء الذي تتفرع منه أدواء وأمراض كثيرة، إن لم يكن الجميع.

ص: 369

عن الإمام السجاد عليه السلام: «إن لسان ابن آدم ليشرف كل يوم على جوارحه فيقول كيف أصبحتم؟ فيقولون بخبر إن تركتنا ويقولون: الله الله فينا، ويناشدونه ويقولون: إنما نثاب بك ونعاقب بك»(1).

ومن الروايات المشهورة جداً عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «وهل يكبّ الناس على مناخرهم في نار جهنّم إلا حصائد ألسنتهم» إلا أن من المفيد أن نعرف الرواية بتمامها، فهي كما يلي:

«جاء رجل إلى النبي صلی الله علیه و آله وسلم، فقال: يا رسول الله أوصني فقال: إحفظ لسانك، قال: يا رسول الله أوصني قال: إحفظ لسانك، قال: یا رسول الله أوصني، قال: احفظ لسانك، ويحك وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم»(2).

وتوضح لنا الروايات أنه بالإضافة إلى العقل الذي ينبغي أن يتحكم بحركة اللسان وبالإضافة إلى القلب الخازن للسان الذي يمكنه أن يخفق بالخوف من نتائج هذا الكلام فيسهم في حركة اللسان التي يصر على التفلت من حكم العقل - بالإضافة إلى ذلك - جعل الله تعالي أمام اللسان بابين الشفتين والأسنان وأمرنا عزّوجل أن نفكر ثمّ نتكلم، وليس الكلام مجانياً كما نتصوّر، فقد يحدّد کلام الإنسان مصيره، وربّ تهمةٍ يوجّهها إلى شخص فيبقى ممنوعاً من دخول الجنّة رغم أنّه يستحقّ دخول الجنّة حتّى يرضى عنه الذي وجّه إليه التهمة

ص: 370


1- الكليني، الكافي 2 / 115 والشيخ الصدوق، ثواب الأعمال 237. وانظر: ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللثالي 1 / 71
2- الكليني، الكافي 2 / 115

الباطلة، وربّ كلمة يقولها أحدنا فتهوي به في النار سبعين خريفاً، أو تكون سبب شقائه الأبدي.

ينبغي أن ندرك أنّ اللسان عندما يتحرّك قد يودي بصاحبه، وأن جراح اللسان أخطر من جراح السنان.

لايكاد خطرٌ يضاهي خطر أن يترك الإنسان لسانه يتحرك في كلّ ما يحلو له دون تفكير ودون تدبّر.

وتشتدّ الحاجة إلى ضبط حركة اللسان عندما يمتليء الإنسان حباً لأمر وجموحاً نحوه، أو يمتليء غيظاً وحنقاً لأنّ حركة اللسان في مثل هذه الحالات - عادة - حركة شيطانية، وكتلة من «لظى نزاعة للشوى».

ينبغي أن ندرّب أنفسنا على التحكّم بألسنتنا، وينبغي أن نضع أمامنا باستمرار أنّنا عندما نتكلّم فإننا نملي على ملكينا من الكرام الكاتبين، وما نمليه عليهما هو الذي سنجده في صحائف أعمالنا يوم القيامة.

کم سیکون ندم أحدنا عندما يرى أنّ لسانه أوصله إلى النار، عندئذٍ يُدرك مرارة إطلاق العنان للسانه لیتحرّك كما يحلو له.

هذا بعض مضامين هذا التوجيه النبوي الغالي: «إحفظوا ألسنتكم».

فلنعوّد أنفسنا في هذه الأيام التي تفصلنا عن شهر رمضان المبارك أن نحفظ ألسنتنا.

ص: 371

ما الداعي لكثرة الكلام، فليُعوّد أحدنا نفسه على قلّة الكلام وهي أمر ممدوح جداً في الروايات، وهي من جملة المضامين التي ورد أنّها مكتوبة على باب الجنّة «ليقل خيراً أو يسكت» إما أن يتكلّم بخير أو يسكت، إذا كان هناك داع للكلام، ولا يترتب عليه ضرر المعصية، فليتكلم، وإلا فليصمت.

أيها العزيز: وليس الوصول إلى حفظ اللسان أمراً سهلاً، ولا نحن بطبائعنا - التي هي نتاج الجاهلية، من الأولى وإلى ألفيتنا هذه الثالثة - قادرون على سلوك هذا الطريق أو غيره وحدنا، لذلك تمس حاجتنا في هذا المجال وغيره من مجالات بناء النفس إلى الإستغاثة والتوسّل بأولياء الله تعالى، والتضرّع إليه عزّوجل أن يعيننا على أنفسنا ويجعل عواقب أمرنا خيراً.

ولايذهبن بحلمك شيطان البهائية المقنعة التي تحاول التشكيك ثم النهي عن التوسل، واعتصم بحبل الله المتين، وتدبر في معنى قوله تعالی:

* «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» [النساء 64].

* وغضوا عما لايحل النظر إليه أبصاركم ورد في الروايات أنّ العين تزني وزناها النظر، وأن العين أقلّ الجوارح شکراً، فينبغي أن نعرف كيف نُجيل أبصارنا.

عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم، قال: «ان العين لتزني، وإن اللسان ليزني، إن

ص: 372

القلب ليزني، وان اليد لتزني، وإن الرِّجل لتزني، ويصدق ذلك كله ويكذبه الفرج»(1).

لماذا لا نشجّع عيوننا على الإقبال على ما لاضرر فيه ولاخيانة أودناءة؟ العين.. هذه النعمة الإلهية الكبيرة والخطيرة، لماذا نسمح لأنفسنا أن نستعملها في الحرام فتجرّنا إلى النار.

لماذا لا نربي فينا ملكة استعمال عيوننا في الحلال والإبتعاد بها عن الحرام.

أو ليس الجمال الحقيقي جمال الباطن، فلماذا نصر على أن تكون عيوننا طامحة مهرولة رعناء، لاتصغي إلى صوت العقل، بل تصر على أن تكون البديل عنه، كما هو دأب الأذن بدرجة تالية؟ إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يكون كذلك على مدار السنة فليحاول في شهر الله تعالى أن يعوّد نفسه على اجتناب الحرام الذي يُرتكب بالنظر، وليبدأ بالإعداد لهذه المحاولة من آخر شعبان، ليستطيع أن يبدأها جادة وواعدة بمجرد حلول أولى لحظات شهر رمضان.

وليكن في مرمى البصيرة أن الحث على الإهتمام بهذه القيم الأخلاقية والسلوكية، في موسم إلهي خاص يبشر بإمكانية الحصول عليها - خلال هذا الموسم - بأقصر الطرق وأيسرها، فليكن الإهتمام مقترناً بالثقة بمواعيد الله سبحانه واليقين بها.

ص: 373


1- المحدث النوري، مستدرك الوسائل 14 / 359 نقلاً عن: القطب الراوندي في لب اللباب

إذا حاول الإنسان ذلك صادقاً في شهر هو أفضل الشهور، وشهر الرحمة الإلهية والمغفرة والبركة فإنّ بإمكانه بحول الله تعالی وقوته أن يصبح كذلك في شهر رمضان، ويحافظ عليه بعده كخُلق وسجية وطبع يغلب كل تطبع، وإذا به بعد انقضاء هذا الشهر المبارك لا يمكنه أن يجيل بصره إلاّ في حلال.

وتبلغ أهمية «حفظ اللسان، وغض البصر» الغاية حيث قد جعلا معاً أبرز عناوين الأشهر الثلاثة رجب وشعبان وشهر رمضان، ويدل على ذلك بوضوح ماتقدم من أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «كان إذا رأى هلال رجب قال: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا شهر رمضان، وأعنا على الصيام والقيام، وحفظ اللسان، وغض البصر، ولا تجعل حظنا منه الجوع والعطش»(1).

ويأتي في الروايات حول السمع ماهو مشترك بينه وبين البصر.

* وعمّا لا يحلّ الإستماع إليه أسماعكم كما هو البصر الباب الرئيس - بعد اللسان - لتغذية القلب، كذلك هو السمع.

وحيث إن المدنية المادية تقوم على تغليب الحواس على العقل، فإن الطابع العام لما يسمى بالتقدم والتطور والحضارة طابع مادي صرف، يعتمد تغليب السمع والبصر «منهجاً» لصياغة الإنسان.

ولئن كانت مرحلة ما قبل التلفاز تخاطب الأذن، فإن مرحلته

ص: 374


1- السيد ابن طاوس، الإقبال 3 / 173

وما بعده من الأنترنيت والآتي بعدها، مرحلة مخاطبة البصر أولاً، إلا أن إقناعه وكسب وده يتوقف على شد انتباه الأذن، ليتضامنا، ويبادر اللسان إلى حمل رایتهما مدافعاً عن «منهجهما» و«منهجه» في خداع العقل، ومسخ مشاعر القلب، فإذا به مستنقع الأنانية البغيض.

وبمقدار ماتنفتح الآفاق البراقة الخادعة أمام البصر، وتتراقص موجات الأثير أمام الأذن، وتداف بهما حلاوة اللسان، يستحکم طوق تحويل الإنسان إلى حيوان «إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل» وصولاً إلى تحويل الإنسان إلى شيء «فهي كالحجارة أو أشد قسوة».

ولئن كان اللسان الأخطر، فإن العين والأذن البداية والمدخل.

وكما يتم خداع البصر بالبهارج، فإن للأذن بهارجها، وفي طليعتها الموسيقى الحرام والغناء.

وليس أصل الموسیقی حراماً، ولا أصل ترجيع الصوت، كما أنه ليس أصل الجمال الذي يُسمِّر العين ويسلب لب صاحبها، ولا أصل الكلام الذي يبطش به اللسان حراماً، إلا أن التمييز بين الحلال من ذلك والحرام، النافع والمضر، لايمكن أن يكون المرجع فيه هو هذه الحواس الأدوات، فإن ذلك يعني نصب المتهم حَكَماً واللص قاضياً.

إن تحكيم الحواس بمصير العقل والروح، إلغاء لهما وهو أساس كل مشاكل البشرية، ولا منشأ له إلا الإنسياق لبهارج العين والأذن.

وتكفي نظرة على السائد في مفتتح «الألفية الثالثة» لإدراك ماتبلغه خطورة شطب العقل والروح.

ص: 375

إن صورة الإنسان في عصر العولمة المدعاة، هي صورة الخلاعة والمجون والإباحية، والفسق والفجور وتعاطي المخدرات ومعاقرة الخمور، وإدمان الغرائزية والإنحلال، والموسيقى العبثية والصاخبة بشكل خاص، ومع ذلك فهذا العصر هو عصر الإدعاءات العريضة في احترام العقل والقانون والآداب الإجتماعية، ومایفسد هذا هو ذاك ولا مجال للجمع بينهما، ويبدأ الفساد باعتماد «منهج» تحكيم العين والأذن في العقل والروح، وهو أغلى أهداف عصر «العولمة».

إذا أردنا تكوين فكرة عن أي شخص ومهما علا كعبه في مجال الفكر والسياسة والفن والقانون وغير ذلك، فلننظر إليه في الحالات العادية خارج كل هذه الإدعاءات، وكيف يمضي وقته عندما يريد أن يرفه عن نفسه، فإن اهتماماته التي تظهر هنا هي التي تكشف شخصيته، وكذلك هو الأمر في عصر العولمة الكاذبة.

ماذا يجري في مجالس الفسق والفجور، وماهو مدى احترام الأسرة، والأخلاق، والقانون، والعقل؟!! وماذا يحمل جنون الموسيقى من معان ودلالات؟ وماهي الرسالة التي يؤديها الغناء؟ وماهي الثقافة التي تجعل صاحبها يفرط في متابعة كرة القدم بلهفة أين منها لهفة الفلسطيني لما يجري في ربی فلسطين، والعراقي لما يخطط له المندوب السامي «برایمر»؟!

ص: 376

وماهو المدلول «الحضاري» في مصارعة الثيران، بما يشمل مايجري على الحلبات؟! إن أصل مشاكل البشرية في تغبيب العقل. وإن أصل تغييب العقل في الإنسياق للحواس، وأصل ذلك الإنسياق اعتبار الأذن والعين الحكم والقاضي والعقل والضمير.

فهل نتعلم أن نفكر قبل أن نتكلم عما رأته العين وسمعته الأذن؟ «واحفظوا ألسنتكم، وغضّوا عمّا لا يحلّ النظر إليه أبصاركم، وعما لا يحلّ الإستماع إليه أسماعكم».

ما هي النتيجة التي يحصل عليها الإنسان من الإستماع إلى الغناء؟ هل يترك له الغناء شخصيته التي اختارها ويرفه عنه بعض الشيء، ليواصل القيام بمهامه وقد استعاد نشاطه وحيويته، أم أن هذا الغناء بشكله ومضمونه يبدأ يسلبه شخصيته شيئاً فشيئاً حتى لايبقي منها ولايذر! ينقل الإمام الخميني عن أستاذه أنه كان يقول «إن الغناء يسلب الإنسان العزم». والعزم هو لب الإرادة وسرها، وهذا يعني أن الإحتلال عبر نشر ثقافة الفساد أشد خطراً من الإحتلال العسكري!(1).

الغناء حرام، وهو سمّ ينفث في نفس الإنسان ويفسد هذه النفس.

ص: 377


1- الإمام الخميني، الأربعون حديثاً، الحديث الأول، فصل في العزم

ينبغي أن يكون الإنسان إنساناً بكل معنى الكلمة، يحمل الهمّ، ويفكّر بالمظلومين في العالم، ويفكّر بالأعداء الذين يعملون ليل نهار ويبذلون كلّ جهدهم لإذلال الشعوب المستضعفة.

كيف يقرّ للإنسان قرار وهو يرى ديار المسلمين مستباحة من الصهاينة؟ وكيف يستطيع هذا الإنسان أن ينصرف إلى الطرب والمجون.

ليس المراد أن لا يروّح الإنسان عن نفسه ولكن من الخطأ أن يروّح عنها بأمور تفسد شخصيّته، وبدل أن يكون عنصراً فعالاً في مجتمع مقاوم، يصبح عنصراً منحلاً ماجناً لايلوي على شيء، ولنفترض أن الكثيرين ممن يستمعون الغناء ليسوا كذلك الآن إلاّ أنّهم مرشحون للوصول إليه حتماً، فإن شخصية الإنسان تتحلّل وتفسد تدريجياً.

ومن أخطر الأمور التي ينبغي الإلتفات إليها في مجال السمع «الغِيبة».

قد يكون الإنسان لا يستمع الغناء، وإنّما يستمع ما هو أخطر منه وهو الغيبة، التي تكمن خطورتها في كونها اجتياحاً همجياً لحدود كرامة الإنسان المؤمن، وتدميراً لحصونها ونسفاً لمعاقلها. إن لكل مؤمن حرمته الرفيعة عند الله تعالى، ويشكل التعدي عليها تعدياً على حدود الله سبحانه، وقد ورد في الحديث القدسي «من أهان لي ولياً فقد أرصد لمحاربتي»! كما ورد في الحديث الشريف: المؤمن أعظم حرمة من الكعبة». وفي ماتقدم حول اللسان كفاية.

ص: 378

إذا لم نعوّد أنفسنا قبل شهر رمضان على تجنّب الغيبة فإنّنا سنقع فيها أو في استماعها بشكل خاص، في ضيافة الرحمن، ويا لها من تعاسة أن يكون الإنسان ضيف الله عزّوجل ويرتكب هذه المعصية الموبقة المهلكة التي هي في طليعة الكبائر.

وخاتمة المطاف أنا مدعوون إلى توجيه اللسان لينشغل بذكر الله تعالى، وتوجيه العين إلى قراءة القرآن الكريم، والمطالعة، وكل حلال، ومنع الأذن من الإستماع إلى مايضر ولاينفع لتكون هذه الحواس في الإتجاه السليم، وتسهم في صلاح القلب بدلاً من إفساده.

* صوم خمسة وعشرين يوماً

قال السيد ابن طاوس عليه الرحمة:

رويناه باسنادنا إلى أبي جعفر ابن بابویه في كتاب أماليه وكتاب ثواب الأعمال بأسناده إلى النبي صلی الله علیه و آله وسلم: «ومن صام خمسة وعشرين يوماً من شعبان يعطى براءة من النفاق»(1).

ونعرف أهمية البراءة من النفاق عندما ندرك أنّنا - أعاننا الله على أنفسنا - معرضون له باستمرار، والنفاق هو كل ظاهر يخالف الباطن.

عن الإمام الصادق علیه السلام «قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق».

وجاء في شرح الحديث: من صفات الإيمان: 1- تساوي خشوع القلب والجسد.

2- وزيادة الأول على الثاني.

ص: 379


1- الإقبال 3 / 362

وأما العكس فهو نفاق وإن كان المتصف به على هذا الأمر.

«أي وإن كان خاشعاً لكنه تظاهر بالزيادة»(1).

فمن صام خمسة وعشرين يوماً من شهر شعبان استحق وسام البراءة من هذا الوباء الخطير.

* صلاة الليلة السادسة والعشرين

أورد السيّد ابن طاوس عليه الرحمة، عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

«ومن صلّى في الليلة السادسة والعشرين من شعبان، عشر رکعات یقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة و «آمن الرسول» عشر مرات عافاه الله تعالى من آفات الدنيا والآخرة ويعطيه الله تعالى ستّة أنوارٍ يوم القيامة»(2).

و «آمَنَ الرَّسُولُ» هي الآية 285 من سورة البقرة: «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ».

أما الأنوار السنة، فعلمها عنده سبحانه وعند من أطلعه على غيبه، ولكن لا يمكن للقلب تجاوز ذلك دون الإشارة إلى تطابق العدد مع الإمام السجاد زین العابدین، وسید الساجدين، في منظومة الأنوار الأربعة عشر، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

أسأله الله عزّوجل أن يوفقنا لمراضيه بالنبي المصطفى وآله، صلوات الله عليهم أجمعين.

والحمدلله رب العالمین

ص: 380


1- المولی محمد صالح المازندراني، شرح أصول الكافي 10 / 91
2- الإقبال 3 / 362

26 شعبان

اشارة

* وتحنّنوا على أيتام الناس يُتحنّن على أيتامكم

* وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم

* صوم ستّة وعشرين يوماً

* صلاة الليلة السابعة والعشرين

ص: 381

ص: 382

ما يزال الحديث حول فقرات خطبة المصطفى الحبيب، حول شهر رمضان المبارك وقد وصلت في بيان هذه الفقرات إلى قوله صلی الله علیه و آله وسلم:

* وتحنّنوا على أيتام الناس يتحنّن على أيتامكم هناك مبدأ في تهذيب النفس يؤكده النص المعصوم، ويمكن أن نعبّر عنه بمبدأ «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا» [الإسراء 7] أو «كما تدين تدان» والمضامين المشابهة كثيرة جداً، وخلاصة هذا المبدأ أنّ أيّ عمل يعمله الإنسان فنتيجته تحيط به.

عن الأصبغ بن نباتة، أن أمير المؤمنین علیه السلام، قال لأصحابه: «اعلموا یقينا أن الله تعالى، لم يجعل للعبد - وإن عظمت حيلته، واشتد طلبه، وقویت مكائده - أكثر مما سمّى له في الذكر الحكيم، فالعارف بهذا العاقل له أعظم الناس راحة في منفعته، والتارك له أعظم الناس شغلا في مضرته، والحمد لله رب العالمين ورب منعَمٍ عليه مستدرَج، ورب مبتلي عند الناس مصنوع له، فأَبقِ أيها المستمع من سعيك، وقصِّر من عجلتك، واذكر قبرك ومعادك، فإن إلى الله مصيرك، وكما تدين تدان»(1).

ص: 383


1- الشيخ الطوسي، الأمالي 163 - 164. وانظر: الحر العاملي، وسائل الشيعة 17 / 50 (ط: آل البيت)

والظاهر أن المراد ب «ماسمى له في الذكر الحكيم» هو هذا المبدأ «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ» وكل مايدل عليه من قبيل: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى» [النجم: 39 - 41].

عندما أظلم شخصاً فأنا في الحقيقة أظلم نفسي، وعندما أؤذي شخصاً فالواقع أني أؤذي نفسي، وعندما أغتاب فإنّ الضرر يرتد علي.

إن الله عزّوجل الحَكَم العدل، والدنيا ليست متروكة كما نتصوّر بل تحكمها قوانين الله سبحانه وتعالى، وهو يُمهل ولا يُهمل، ويواجه كل منا في هذه الدنيا جزاء عمله، بل عمله جزاءً، وغداً في يوم القيامة، سنجد هذا المبدأ يتجلّى بأوضح صوره، على أساس القاعدة القرآنية «هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ». [النمل 90] ومن العبارات التي ورد في الروايات أنّها مكتوبة على باب الجنّة، «.. من أراد أن لا يُظلم فلا یَظلِم، ومن أراد أن لا يُشتم فلا یَشتِم، ومن أراد أن لا يُذَل فلا يُذِل...»(1). وبديهي أن يحصد الإنسان مازرع. قال الشاعر:

كما يدين الفتى يوما یدان به *** من يزرع الثوم لا يقلعه ریحانا(2) وعندما يميز الله الخبيث من الطيب، فمن الطبيعي أن يرجع كل شيء إلى أصله، وينجذب کل نظير إلى نظيره.

ص: 384


1- المجلسي، البحار 8 / 144
2- المصدر 4 / 207

في هذا السياق وعلى نفس القاعدة، ينبغي التعامل مع قوله صلی الله علیه و آله وسلم: «وتحنّنوا على أيتام الناس یُتحنّن على أيتامکم» فمن يتعامل مع الأيتام بحنان، لن يترك الله عزّوجل أيتامه، وسيقيِّض لهم من يتحنّن عليهم، فهو الذي حفظ الغلامين بصلاح أبيهما.

وينبغي التنبه إلى أمرين:

1- ليس المراد أن من لایتحنن على أيتام الناس فسوف يترك أيتامه دون أن تشملهم رحمة الله تعالى، وإنما المراد أنه ليس له أن يتوقع من الناس أن يكرموهم، لأنه لم يورث أولاده مايتوقع لهم ذلك بسببه، وليس له ما للمتحنن عليهم من طلب بذلك من الله تعالى، وقد يعاني أولاده في حدود ما لا ينافي «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ» فتكون معاناتهم من قبيل معاناة الأبناء الذين كان أبوهم كسولاً فلم يرثوا منه مالاً ولاعقاراً. والله العالم.

2- ليس المراد طبعاً أن يتعامل الإنسان في مسألة إكرام اليتيم تعاملاً تجارياً، فهو يريد أن يتحنّن على اليتيم فقط لكي يتحنّن على أيتامه - الذين قد يكونون أولاده أو من أولادهم، فهم يرجعون إليه - فإنّ كلمة «تحنّنوا» لا تنطبق إلاّ إذا أكرم الإنسان اليتيم بحنان، قربة إلى الله تعالى، فهو يكرم هذا اليتيم، بدافع الحنوّ والعطف.

والروايات حول إكرام اليتيم كثيرة جداً، وقد تقدّم جانب منها، ويأتي بعضها في وقفة أخرى عند اليتيم في نفس هذه الخطبة المباركة، وقد تكرر الحديث فيها عن الأيتام، كما تكرّر الحديث عن صلة الرحم مما يدلّ على أنّ لهذين الأمرين شأناً خاصاً.

ص: 385

وأشير هنا إلى أنّ من أسباب رقّة القلب مسح رأس اليتيم، فإذا رأى الإنسان قلبه قاسياً وأراد أن يحصل على رقّة القلب فليحرص على ذلك، وكأن اليتيم مصدر طاقة الحنان واللين والرحمة، يتزود منه الإنسان بمجرد المسح على رأسه بحنان.

ينبغي أن نستعدّ من الآن لإكرام اليتيم في شهر رمضان المبارك، وقد يتحقق ذلك بدعوة بعضهم إلى الإفطار في هذا الشهر الكريم، أو بالتوجه إلى المبرة وأخذ هدية لبعضهم، ومن لم يتمكن من شراء هدية قلتكن هديته زيارتهم والسلام عليهم والجلوس معهم، فهي أفضل من الهدية المالية أو الصدقة وأغلى.

* وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنّها أفضل الساعات ينظر الله عزّوجل فيها بالرحمة إلى عباده ويجيبهم إذا ناجوه ويلبيهم إذا نادوه ويستجيب لهم إذا دعوه.

ترى كيف يمكن للإنسان الذي لا يلتزم بالصلاة أوّل وقتها في غیر شهر رمضان أن يلتزم بالصلاة في أوّل وقتها في شهر رمضان، من كان حتى الآن أي إلى الأيام الأخيرة من شهر شعبان لا يلتزم بالصلاة في أول وقتها، فكيف سيلتزم بالصلاة في أوّل وقتها في شهر رمضان المبارك.

كل وقت من شهر رمضان المبارك مهم، إلا أن هناك خصوصيّة لوقت الصلاة، وهو أوّل الوقت، عندما يؤذن المؤذّن ويقوم الإنسان للصلاة، ووقت الصلاة وتعقيباتها.

صحيح أن أيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، ولكن أفضل ساعات هذا الشهر هي أوقات صلواتنا،

ص: 386

فمن فاتته في كلّ شهر رمضان صلاة واحدة في أوّل الوقت، فإن خسارته كبيرة، لأنّ من الممكن أنه كان سيستجاب له دعاء مهم في حاجة من حوائجه الكبيرة، وبقطع النظر عن قضاء الحوائج يخسر الثواب العظيم الذي كان سيضاف إلى رصيده بمجرد أنه صلى أول الوقت.

ومن كان لا يواظب دائماً على الصلاة أول وقتها ليستفيد من بركات كل أوقات الصلوات، فكيف يصبح مستعداً للصلاة في أول الوقت طيلة شهر بكامله؟ الا سبيل إلى ذلك عادة إلا بالإستعداد له قبل دخول شهر رمضان. صحيح أنّه لم يبق بيننا وبين شهر الله تعالى إلا عدّة أيام إلا أننا نستطيع خلال هذه الأيام أن ندرّب أنفسنا على الإلتزام بالصلاة أوّل الوقت.

ومن يحاول منا الإلتزام بذلك سيجد أن الشيطان يدخل على الخط مباشرةً: هناك أشغال وأعمال إلخ.. وهذه مهمة وتلك ضرورية، وليس له من هدف إلا فتح ثغرة في قراره، لينفذ منها ويعيده إلى ما كان عليه.

نقل بعض العلماء عن الشهيد بهشتي(1) أنّهم كانوا يرونه إثر انتصار الثورة الإسلامية في إيران، عندما يحين وقت الصلاة حتّى إذا

ص: 387


1- نقل ذلك آية الله الشيخ مهدوي کني، في أجواء تأبين الشهيد بهشتي، وهو آية الله الدكتور السيد محمد حسين حسيني بهشتي، كان أبرز أركان الإمام الخميني، وتولى عملياً رئاسة المجلس الذي وضع دستور الجمهورية الإسلامية، ومنصب مجلس القضاء الأعلى، وقد استشهد مع سبعين في حادثة تفجير مقر الحزب الجمهوري المعروفة، قال سماحة السيد القائد الخامنئي في مقابلة تلفزيونية حوله: إنه كان يخطو بالثورة إلى الأمام خطوة خطوة

كان في جلسة عمل شديدة الأهمية، فإنه بمجرّد أن يرتفع صوت المؤذّن يقف ويبدأ يستعدّ للصلاة في أوّل الوقت، يقول هذا العالم ذات مرة قيل له: إنّ هذا الأمر مهم يستحقّ تأخير الصلاة. تأخير الصلاة ليس حراماً. وهذا الأمر الذي نحن بصدده مهم جداً، فقال لهم: إنّ أعمال الدنيا لا تنتهي.

وقد تعلم الشهيد بهشتي وأمثاله ذلك من أمير المؤمنين عليه السلام، فقد رآه إبن عباس في ساحة المعركة في صفين، ينظر إلى الشمس فقال له: «يا أمير المؤمنين ما هذا الفعل، قال: أنظر إلى الزوال حتى لنصلّي، فقال له ابن عباس: وهل هذا وقت صلاة؟ إنّا لفي شغلٍ بالقتال عن الصلاة. فقال له علیه السلام: على ما نقاتلهم، إنما نقاتلهم على الصلاة»(1).

أيها العزيز: إن كلّ أعمالنا التي نقوم بها، كلّ ما نعتبره جهاداً في سبيل الله عزّوجل ونسأله تعالى أن يتقبله منا، فإنماهو من أجل إقامة الصلاة، من أجل عبادة الله عزّوجل، فكيف نرضى لأنفسنا أن لا نصلي في أوّل الوقت، ولا نهتم بتصحيح هذا الخلل الكبير.

وهل سنظل كذلك نؤخر صلاتنا حتى في شهر رمضان المبارك؟ ألا ينبغي أن نعوّد أنفسنا حتَّى نكون من المتأدبين بهذا الأدب الذي یریده لنا رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنّها أفضل الساعات ینظر الله عزّوجل فيها بالرحمة إلى عباده ويجيبهم إذا ناجوه ويلبيهم إذا نادوه ويستجيب لهم إذا دعوه».

ص: 388


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة 4 / 246

* صوم ستّة وعشرين يوماً

أورد السيّد عن الشيخ الصدوق عليهما الرحمة، عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

«ومن صام ستّة وعشرين يوماً من شعبان كتب الله له جوازاً على الصراط»(1).

إنها كلمات «جوازاً على الصراط» ربما نمرّ بها مروراً عابراً تماماً کشخصٍ لا يسافر ولا يعرف أهميّة جواز السفر، فإذا سافر أصبح يدرك قيمة جواز السفر بعض الشيء، فإذا كان في دار غربة وفقد جواز سفره ولم يكن باستطاعته أن يحصل على بديل ولايجد مكاناً يؤويه، فكم ستكون حسرته، وكم هي أهمية جواز السفر عنده آنذاك؟ والصراط هذا الجسر العظيم الهائل الممدود على جهنم والذي يمرّ عليه الناس جميعاً، من يحمل جوازاً للمرور على الصراط فإنّه يمزّ بسهولة، لا يقع، ولا تعني كل الحواجز والصعوبات والأهوال، بالنسبة إليه شيئاً، فهو يحمل جوازاً! هذا المجد يمكن الحصول عليه برحمة الله تعالى، بصوم ستة وعشرين يوماً من شعبان وقد علمت أن هذه الأعداد لايشترط فيها التتالي، بمعنى أن من كان حتى الآن قد صام أياماً متفرقة ويمكنه بصوم بعض ما يقي من الشهر أن يصل بها إلى ستة وعشرين فإن له هذا الثواب، بكرم الله تعالی.

ص: 389


1- الإقبال 3 / 362

* صلاة الليلة السابعة والعشرين

عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «ومن صلى في الليلة السابعة والعشرين من شعبان ركعتين يقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة وسبح اسم ربّك الأعلى عشر مرات، كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة ورفع له ألف ألف درجة وتوجّه بتاجٍ من نورٍ»(1).

والصلاة سهلة والثواب كبير، ولا يمكننا إدراك عظمته مادام يشمل هذا التاج من النور، بل يمكننا أن نعرف أن هناك من «نورهم يسعى بين أيديهم» وهناك من هم «على منابر من نور، مبيضة وجوههم» وهناك «تاج من نور». اللهم أنقذنا من ظلمات قلوبنا وذنوبنا بنورك المحمدي الأبهج، وكواكبه الدرية الزاهرة. بالزهراء وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لمراضيه بالنبي المصطفى وآله صلوات الله عليهم أجمعين.

والحمدلله رب العالمین

ص: 390


1- المصدر 363

27 شعبان

اشارة

* أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكّوها باستغفارکم

* وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخفّفوا عنها بطول سجودكم

* أن لا يعذّب المصلّين وأن لا يروّعهم بالنار

* وصل شعبان بشهر رمضان

* صوم سبعة وعشرين يوماً

* صلاة الليلة الثامنة والعشرين

ص: 391

ص: 392

* أيها الناس إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكّوها باستغفاركم

للنفس الإنسانية موقعٌ مهم جداً من وجهة نظر الإسلام. ولقد كرّم الله تعالى الإنسان حين أمر ملائكته بالسجود له عزّوجل تكريماً للإنسان، ونفخ سبحانه وتعالى في الإنسان من روحه، وجعل الإنسان خليفته في الأرض، وأحلَّه مكانةً مميزةً تصل إلى حدّ أنّ المؤمن ولي الله تعالى يدخله في درعه الحصينة، ومن أعلن الحرب على هذا الإنسان المؤمن فقد أعلن الحرب على الله تعالی.

صحيح أنّ سجود الملائكة في مجال التكريم للإنسان كان من أجل المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم، وأهل البيت علیه السلام إلاّ أنّ الصحيح أنّ كلّ إنسان يستطيع بتوفيق الله تعالى وبركة رسوله الأعظم وآله المعصومين صلى الله عليه وعليهم، أن يكون بطاعة الله سبحانه، ذلك الموجود العزيز على الله تعالى الذي تتشرف الملائكة بخدمته.

أما إذا انسلخ الإنسان عن إنسانيّته وأصرّ على تشويهها ومسخها إلى الحيوانيّة فإنّه يبدأ يرهن هذه النفس الإنسانية العزيزة المفطورة على التوحيد التي هي من حيث المبدأ شديدة الأهمية والفرادة، ويبدأ يُفقدها قيمتها بالمعاصي التي يرتكبها، تتراكم الذنوب ولا يتبعها

ص: 393

بالإستغفار، إلى أن تصل الذنوب إلى حدّ تصبح معه هذه النفس مرهونة بها.

«أيها الناس إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم».

لو أنّ شخصاً يمتلك قصراً غالياً ثمّ يبدأ يقترض مالاً ويبدده، ويكرر ذلك مرة بعد مرة وهو يعتمد على ملكيته للقصر، وتتراكم المبالغ التي اقترضها وتزداد هذه الأموال، إلى حيث تستوعب ثمن هذا القصر.

كذلك هو حال كل منا عندما نرتكب المعاصي، لأن هذه المعاصي تتجمع وتزداد، إلى حيث تصبح نفس هذا الإنسان مرهونة بسبب معاصيه، لقد أخطأ وتراكمت أخطاؤه إلى حدّ أنّه أصبح مرتهناً بعمله، وكما أن صاحب ذلك القصر عندما يأخذ في كل مرة مبلغاً صغيراً، لا يتصوّر أنّ هذه المبالغ سوف تصل إلى حدّ أنها تخرجه من قصره وتسلمه إلى غيره، فإننا عند ارتکابنا المعاصي، نرى أنّ هذه المعاصي المختلفة هي بالحجم الفلاني الذي نزعم، ولانقيم وزناً لكونها قد تسلبنا إنسانيتنا.

نرى الغيبة مثلاً أمراً صغيراً لا نقيم لها وزناً، فنرتكب الغيبة مرة بعد أخرى، وننظر النظرة الحرام، ونؤذي هذا، ونستخف بذاك، ونتهاون في هذه الصلاة أو تلك وربما يفوتنا وقت الصلاة ونظلّ لا ننتبه إلى أنّ هذه الأعمال التي نرتكبها خطيرة تصل خطورتها إلى حدّ أنّ كلاً منها قيد، يفقدنا حرية الحركة بحسبه، وعندما تزدحم القيود على جسد شخص يصبح مصداق

ص: 394

«قصرت بي أعمالي، وقعدت بي أغلالي، وحبسني عن نفعي بُعد أملي، وخدعتني الدنيا بغرورها ونفسي بجنايتها ومِطالي».

إن تراكم هذه القيود لا يفقدنا حريتنا وحسب، بل يفقدنا أنفسنا، فيجعلها مرتهنة، والرهن يجعل المِلك معلقاً لاهو ملك مطلق لصاحبه ولا هو خارج ملکه کلياً، وإنما هو ملکه بشرط أن يقوم بفك المرتهن ليمكنه بذلك استعادة حرية التصرف.

یرید رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، أن ينبهنا إلى أن ذنوبنا تجعل نفوسنا مرتهنة، وأننا أمام فرصة تمكننا من استردادها.

يولد الإنسان حراً، وينمو وهو يحافظ على هذه الحرية، ولا يفقد من حريته شيئاً إلى سن البلوغ، لأنّه لم يسجل عليه شيء، فما تزال الصحائف بيضاً، ولكن في سنّ البلوغ يبدأ الملكان يدوّنان أعماله، وقد لا يمرّ إلاّ فترة وجيزة، ويصبح مرتهناً بعمله.

ماذا يفعل المرتهن بعمله؟ هل يبقى لا يفكّر بذلك؟ أم أن عليه أن يحمل الهمّ الكبير؟ لو أنّ إنساناً التفت فجأة إلى أنّ كلّ ممتلكاته أصبحت مرتهنة وأنه مهدّد بالإفلاس الكامل بل هو مفلس، وعليه أن يتدارك إعلان هذا الإفلاس، فكيف يمضي وقته؟ هل يقرّ له قرار؟ ألا يظلّ يفكر بذلك باستمرار، وليل نهار؟ وأيّهما أصعب أن يكتشف الإنسان أن بينه وعقاراته مرتهنة، أو أن يكتشف أنّ نفسه مرتهنة؟ ترى هل أعرف أي مرتقىً صعباً أرتقي عندما أتجرأ على ربّي. أنا هذه الذرّة التائهة في الوجود أراد لي الله أن أكون إنساناً سوياً في

ص: 395

الصراط المستقيم، فلماذا أصرّ على سلوك السبل المعوجة إلى أسفل السافلين.

أما آن لهذه الغفلة أن تنتهي. أما آن لي أن أستحي من ربي.

«ویلي كلما طال عمري زادت معاصي ويلي كلّما كبر سنّي کثرت ذنوبي، فكم أتوب و كم أعود، أما آن لي أن أستحي من ربّي»(1).

هذه نفسي مرهونة بأعمالي، أهٍ من أعمالي! ومن كرم ربّي عزّوجل أنّه يرشدني إلى طريق فكاك نفسي من الرهن. يقول المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم: «ففكوها باستغفارکم».

ما أسهل الثمن!! عندما يكون للإنسان بيت أو قطعة أرض وترتهن، فكم يتعب من أجل فكاكها؟ وهل يستطيع أن يفكّها بكلام يقوله في بيته حتّى إذا أمضى فيه وقتاً طويلاً أو عمره كله؟ أما هذه النفس المرتهنة بالمعاصي فقد أتاح لنا الله تعالی بمنه وكرمه، أن نتمكن من فكاكها بالإستغفار، بأن نستغفر الله تعالى من «كلّ قلبنا» نعود إلى ربّنا ونتوب إليه توبةً نصوحاً صادقة.

أما أن يستغفر من يرى أن نفسه مرتهنة، وهو مصمّم على الإستمرار في المعصية والتجرؤ على ربه والتمرّد على طاعته عزّوجل، فإنّ هذا إستخفافٌ بالله تعالى، يضاف إلى ذنوبه. عن الإمام الرضا علیه السلام: من استغفر من ذنب وهو بعمله فكأنما يستهزئ بربّه(2).

ص: 396


1- من دعاء مسجد صعصعة، بجوار مسجد السهلة في الكوفة. أنظر: مفاتیح الجنان
2- المجلسي، البحار 90 / 282

فلا بد لكي يكون الإستغفار حقيقيا من التفكير والمحاسبة واتخاذ القرار بترك المعاصي وتغيير نمط السلوك، ولكن يمكن أن يحصل ذلك تدريجياً، فمن صعب عليه إحداث هذه النقلة في سلوكه فليضعها هدفاً أمام عيني قلبه، ويسعى جاداً لتحقيقه دون تسويف.

ويتوقف الإهتمام بالإستغفار على إدراك مدى فاعليته في تطهير القلب والتدرج بصاحبه في مدارج القرب من الله تعالى، وهو مایحتم الحرص على قراءة الروايات حوله بين الحين والآخر، وهذا بعضها:

1- عن أمير المؤمنين علیه السلام: قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: لكل داء دواء ودواء الذنوب الإستغفار فإنها الممحاة(1).

2- وعنه لي علیه السلام: العَجَبُ ممن يقنط ومعه الممحاة، قيل: وما الممحاة؟ قال: الإستغفار(2).

3- روي «أن رجلا أتي الحسن علیه السلام، فشكا إليه الجدوبة (عدم المطر) فقال له الحسن: استغفر الله، وأتاه آخر فشكا إليه الفقر فقال له: استغفر الله، وأتاه آخر فقال له: ادع الله أن يرزقني ابناً، فقال له: استغفر الله، فقلنا له: أتاك رجال يشكون أبواباً ويسألون أنواعاً فأمرتهم كلهم بالإستغفار؟! فقال: ما قلت ذلك من ذات نفسي، إنما اعتبرت فيه قول الله: استغفروا ربكم إنه كان غفارا(3) يرسلِ السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموالٍ وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا». نوح 10 - 12.

ص: 397


1- المحدث النوري، مستدرك الوسائل 5 / 316
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة 7 / 177
3- المصدر 178

4- عن الإمام الصادق علیه السلام: قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: خیر الدعاء الإستغفار(1).

5- وقال علیه السلام: إن للقلوب صدأً كصدأ النحاس فاجلوها بالاستغفار.

6- وعن الإمام الصادق علیه السلام: : إذا أكثر العبد من الإستغفار رفعت صحيفته وهي تتلألأ.

وأفضل أوقات الإستغفار وقت السحر، قال تعالی:

* «وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ» [آل عمران 107].

* «وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» [الذاريات 18].

والنتيجة: إن للإستغفار قیمته العليا في أيّ وقت، إلاّ أن للإستغفار في شهر الله تعالى شأناً آخر، وإذا جمع المؤمن بين فضيلة الإستغفار في شهر الله تعالى وفضيلة وقت السحر فذلك نور على نور. يهدي الله لنوره من يشاء.

اللهم اجعلنا من المستغفرين بالأسحار.

* وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخفّفوا عنها بطول سجودكم

نقرأ في دعاء الإمام السجاد عليه السلام، المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي رضوان الله عليه:

«أبكي لخروجي من قبري ذلیلاً حاملاً ثقلي على ظهري أنظر مرة عن يميني وأخرى عن شمالي إذ الخلائق في شانٍ غير شاني».

ص: 398


1- الراوندي (قطب الدين) الدعوات 249

وهو يدل على أن ثقل الذنوب يحمل على الظهر، وكون ذلك كناية غير معلوم، فأثقال عالم المعنى من عالم آخر.

وفي بعض الروايات حول تجسم العمل، عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، ما يبيّن لنا أنّ من يرتكب معصية، يحملها على ظهره، فلو فرضنا أن إنساناً سرق فسيأتي يوم القيامة وهو يحمل على ظهره ما سرق،(1) ونجد أنفسنا في هذا المجال أمام عبارات في الدعاء والروايات ترید أن توضح لنا أنّ هناك علاقة بين الظهر وبين الوزر أي المعصية، هي أكثر بكثير من علاقة تحمل المسؤولية.

ومهما يكن فإن حقيقة تجسم العمل الثابتة تدل على ماهو أكثر من أن هذه العلاقة محض معنوية كما قد يتصور البعض.

ولا يستطيع الغارق في بحار الذنوب مثلنا أن يدرك ثقل المعصية الحقيقي وتجسمه المرعب في الآخرة، إلا أننا نستطيع أن نلاحظ الفارق بين حالتي المعصية والطاعة، والإدبار والإقبال.

إن المذنب المدبر عن التوجه إلى الله تعالى لا يشعر بالراحة وتوثب الحركة والفكر، أما عندما يتوب فإنه يستطيع أن يشعر بذلك، لأنه قد تخلّص من ثقل كبير كان يعيق حركته، فإذا عاش في جوّ من الروحانيّة والخشوع لفترة، فهو يلاحظ فارقاً كبيراً بين ما كان عليه وبين ما أصبح عليه فعلاً. كان مكبّلاً مثقلاً وأصبح يشعر أنه خفيف نشيط متوثب كأنّه فكّ من شدّ وثاقه. وقد نُقل لي عن بعض أهل

ص: 399


1- السيد محمد حسين الطهراني، معاد شناسي (فارسي) 2 / 331 نقلاً عن: الغزالي، إحياء علوم الدين 2 / 121

العبادة أنّ الإلتزام بصلاة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم يجعله يشعر بخفّة في الجسد لا عهد له بها، وأنّه يستطيع أن يتحرّك بنشاط متميز، لم يكن يعهده في نفسه في ما سبق.

عندما نكون في أسر ذنوبنا ومعاصينا فهناك ثقل لا نشعر به لأنّنا ألفناه واعتدنا عليه.

ويمكننا أن نلجأ إلى طول السجود ونجرّب - في ضوء توجيه المصطفى الحبيب - الفرق الكبير بين القيود التي كنّا نعاني منها وبين الحريّة التي سنشعر بها بعد طول السجود.

ومن استثقل طول السجود أو صعب عليه، فليتذكّر مدى العلاقة بین طول السجود وشدّة التخفيف من الثقل على ظهره، ليكون ذلك دافعاً وحافزاً لحمله على إطالة السجود.

وعندما نرجع إلى الروايات نجد فيها أنّ أقرب ما يكون الإنسان إلى الله عزّوجل عندما يكون ساجداً(1) وفي بعضها «وهو ساجد يبكي»(2) والحثّ على السجود لا يكاد يضاهيه حثّ آخر وهو يكشف أن السجود الطويل من أقصر الطرق الموصلة إلى رضوان الله تعالی.

وخير الأذكار للسجود الذكر اليونسي «لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ». ويؤكّد بعض العلماء على أنّ لترديد هذا الذكر 400 مرة في السجود أهمية كبيرة، ومن استطاع المزيد فذلك أفضل، وليس هناك سقف فيمكنه أن يبلغ حيث استطاع.

ص: 400


1- الطبرسی، مجمع البيان 339
2- الراوندي، الدعوات 161

وإذا لم يكن الإنسان مستعداً لتحمّل هذا الوقت الطويل فليبدأ ولو بمرّة ثم يتدرّج إلى أن يصبح من أهل السجود الطويل، فالتدرج في العبادة هو الأصل الذي لايصح ترکه «إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق..».

* واعلموا أنّ الله عزّوجل أقسم بعزّته أن لا يعذّب المصلّين وأن لا يروّعهم بالنار يوم يقوم الناس بالعالمین بدأت هذه الفقرات بالحثّ على الدعاء في أوقات الصلاة ثمّ انتقلت بنا إلى الإهتمام بالإستغفار، وطول السجود وصولاً إلى التأكيد على الصلاة، فهي إذاً المحور، فلنحرص في شهر رمضان على الصلاة في أوّل وقتها علّنا نكون من هؤلاء المصلين الذين أقسم الله تعالى بعزته أن لايروّعهم بالنار.

إن الشهر شهر ضیافة الله، الذي يمكن للإنسان أن يحصل فيه على ثواب لا يمكن أن يحصل عليه في غيره، وقد يكون هذا الثواب أن يكتب من المصلين، ومن انطبق عليه عنوان أنّه من المصلين فقد فاز فوزاً عظيما، لأن صلاتنا التي نصليها عادةً قد لاتقبل، وإن كانت تسقط الواجب، إلا أنه لا يترتب عليها رفع الدرجة ولاغير ذلك من الثواب لأنها صلیت بدون حضور القلب وبالتالي لعدم التوجه بها إلى الله تعالی.

يصلي أحدنا وهو يفكّر في أموره الدنيوية، وقد يفكّر أنّه إذا انتهى من صلاته سيذهب إلى فلان ليخاصمه وما شابه! أي صلاة هي هذه؟ إننا في شهر الله تعالى أمام فرصة إلهية، فلنبذل كل جهد ممكن لنكون «من المصلين» في هذا الشهر العظيم،

ص: 401

والله عزّوجل أكرم الأكرمين فقد يشملنا برحمته ونُقبل لنكون من المصلين دائماً.

يتوقف ذلك على مدى العزم وحسن القصد والإرادة، وعلى مدى التضرع والتوسل.

* وصل شعبان بشهر رمضان

هناك روايات تؤكّد على إفطار الأيام الأخيرة في شهر شعبان، أي أن يفصل المؤمن في الصوم بین شعبان وصوم شهر رمضان بيومٍ أو يومين، وهناك روايات تؤكد على صوم شعبان كله، ورواية عن الإمام الصادق عليه السلام، تؤكد على صيام ثلاثة أيام آخر شعبان:

«من صام ثلاثة أيام من آخر شعبان ووصلها بشهر رمضان كتب الله تعالی له صيام شهرين متتابعين» فكيف نجمع بين هذه الروايات؟ ذكر السيد ابن طاووس عليه الرحمة ما خلاصته أن الجمع بين هذه الروايات ممكن بطريقة أنّه من صام شهر شعبان يستحبّ له أن يفطر في آخره لكي يرتاح ويستعد لصوم شهر رمضان المبارك، ومن لم يصم شهر شعبان يستحبّ له صوم آخره ويصل صیام هذه الشهرين(1).

ومن أوجه الجمع بينهما أيضاً أن الأمر في الفصل والوصل مختلف باختلاف قدرة الأشخاص، فمن لم يضر صومه المستحب بصيامه الواجب استحب له الوصل، وإلا تعين الفصل، وقد تقدم مزيد إيضاح في حديث اليوم الأول.

ص: 402


1- الإقبال 3 / 363

* صوم سبعة وعشرين يوماً

أورد السيّد عن الشيخ الصدوق عليهما الرحمة، عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

«ومن صام سبعة وعشرين يوماً من شعبان كتب الله له براءة من النار»(1).

* صلاة الليلة الثامنة والعشرين

أورد السيّد عليه الرحمة عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

«من صلّى في الليلة الثامنة والعشرين وشهر شعبان أربع ركعات يقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة وقل هو الله أحد والمعوذتين مرّة يبعثه الله تعالى من القبر ووجهه كالقمر ليلة البدر ويدفع الله عنه أهوال يوم القيامة»(2).

اليس هذا المصلّي فقط من الذين قال عنهم «نورهم يسعی بین أيديهم» وليس ممن يتوجون بتاج من نور، بل هو منير، وكالقمر ليلة البدر.

أسأل الله تعالى أن يوفقنا لمراضيه.

والحمدلله رب العالمین

ص: 403


1- الإقبال 3 / 362
2- المصدر 364

ص: 404

28 شعبان

اشارة

* عتق رقبة

* ومغفرة ما مضى

* الدين حسن الخُلق

* صوم ثمانية وعشرين يوما

* صلاة الليلة التاسعة والعشرين

ص: 405

ص: 406

* أيها الناس من فطّر منکم صائماً مؤمناً في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق رقبة، ومغفرة ما مضى من ذنوبه» فقیل یا رسول الله وليس كلّنا يقدر على ذلك فقال صلی الله علیه و آله وسلم: «اتقوا النار ولو بشقّ تمرة، اتقوا النار ولو بشربة من ماء.

* عتق رقبة

نحن في هذه الفقرة أمام حثٍ من المصطفى الحبيب صلی الله علیه و آله وسلم، على الإهتمام بإفطار المؤمن الصائم، وأنّ ثواب ذلك يصل إلى حدّ عتق رقبة، ومغفرة.

ومن الواضح مدى الأهمية التي يوليها الإسلام لمسألة تحرير العبيد، وعتق الرقاب، أي أن ينتقل الإنسان من العبوديّة التي فرضها على نفسه نتيجة ظروف معيّنة، وقناعات خاطئة، جعلته في الصفّ الذي يعلن الحرب على الله عزّوجل عبداً للباطل في حربه ضد الحق، وعندما انتصرت كلمة الله تعالى، ظهر عبد الباطل على حقيقته التي يأتي الإسترقاق تعبيراً عنها، فيُسترقّ.

وعندما ينتقل من هذه العبودية إلى الحريّة فإنه حصل على مكسب كبير، لقد وجد الحق فوجد نفسه، فأصبحت قضية تحريره عظيمة عند الله عزّوجل، إلى حد أنه برجمته يجعلها عنواناً للثواب الكثير جداً الذي يعطيه

ص: 407

لضيفه الذي يهتم بإفطار الصائمين، أي أنه سبحانه يدرجها في صلب «ضيافة الرحمن» ولهذا الإدراج ثلاث دلالات:

الأولى: شدة التأكيد على أهمية عتق العبيد، وحرية الإنسان الملتزم بالحق والقانون.

الثانية: أن الصوم حركة انفتاح على الآخرين وحمل همومهم، وليس حركة انغلاق على الذات.

الثالثة: أن الصوم هو عملية تحرير للعبيد الذين استرقتهم الذنوب، أي استرقهم تكرار الوقوف في صف الباطل ضد الحق، والإصرارُ على ذلك، وها هو شهر الله تعالى لحظة انتصار كلمة الله تعالی وانکشاف معسكر الأعداء من الشياطين الذين كانوا قد أغروا هؤلاء المحاربين واستنفروهم للمشاركة في الحرب ضد الله تعالى ورسوله وأوليائه صلى الله عليه وعليهم.

ألا تلمس كل القلوب أن شهر رمضان موسم غلبة القيم الفاضلة على ماسواها؟ ألسنا نشعر بالوجدان أن الجو العام في شهر الله تعالی جو استقامة ولو نسبية ومؤقتة؟ ألا يشبه ذلك مايحصل عند غلبة جيش الحق لجيش الباطل من انکشاف الحقيقة وتبدد ظلام الجهل والتزييف؟ ألا يقودنا ذلك إلى فارق جوهري بين «الإسترقاق» الذي يعقب غلبة الجيوش المنتصرة، وبين «التحرير» الذي يرافق لحظة انتصار كلمة الله تعالی؟

ص: 408

شاء الله عزوجل برحمته الواسعة أن تكون ضيافته موسماً للصفح الجميل والتصدق علينا بالعتق بلا مَنّ.

وشاء سبحانه أن يكون أدنی عملٍ نقوم به نبتغي تصحيح مسارنا والتقرب إليه وهو الحق، سبباً في عتقنا من النار التي نرمي أنفسنا فيها بملء اختيارنا.

وللإلفات إلى هذه المشيئة وتلك جاءت دعوة المصطفى الحبيب والرؤوف والرحيم بما آتاه الله تعالى، لتُشعرنا بلطف بأن ذنوبنا قد استرقتنا، وأننا أمام فرصة التحرر الكبری.

ألا ترى إلى هذا العطف المحبب «كان له عتق رقبة ومغفرة مامضى»! ألا ترى أن تعبير «عتق رقبة» يحتمل معنيين؟ ولولا الروايات التي تحث على عتق العبد الآخر، لكان لأي عبد منا أن يحصر دلالتها به، وأنه هو الرقبة التي تعتق.

* ومغفرة ما مضى

ما هي المفردات التي يجب أن نقف عندها من خلال هذا الحثّ، للحصول على هذه المرتبة، وخصوصاً مغفرة مامضى؟ إنها كما يلي:

* أولاً: بذل المال نجد أنفسنا أمام دعوة إلى بذل المال، فلا يستطيع الإنسان المؤمن إلاّ أن يكون منفقاً من ماله في سبيل الله تعالى، لأن من

ص: 409

خصائص المؤمن البذل والعطاء والإنفاق في كل المجالات، ولا بدّ لهذا المؤمن الذي يصل إلى حدّ بذل روحه في سبيل الله عزّوجل أن يتدرّب على البذل والعطاء، بل أن تكون حياته مزروعة بموارد البذل والعطاء، ويتدرج فيها إلى أن يصل إلى المصداق الأعلى من البذل «يجود بنفسه» و «يستشهد».

وقد يتصوّر البعض أنّ بذل المال مطلوب من الغني فقط، إلا أن الروايات تصرّح بخلاف ذلك، ومتى كانت «النخبة» مصب عملية التغيير، بل متى كان الغني في الإسلام امتیازاً يستتبع صفة «النخبوية».

إن الحث على الإنفاق موجه إلى جميع الناس، وللفقراء منهم - وهم الغالبية العظمى - قبل الأغنياء، ويكفي للدلالة على ذلك قوله تعالى «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ» [الحشر 9].

جاء حولها عن الإمام الصادق علیه السلام: «إن صاحب الكثير يهون علیه ذلك، وقد مدح الله عزوجل صاحب القليل فقال: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ...»»(1).

وروي عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: أفضل الصدقة جهد المُقِلّ.

وقبل له صلی الله علیه و آله وسلم: أي الصدقة أفضل؟ قال: «أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل البقاء وتخاف الفقر..».

وعن الإمام الكاظم عليه السلام أنّ فقيراً من أصحابه يسأله: إنّي أحصل على المال من خلال ما يقدمه لي إخواني من المساعدات فهل

ص: 410


1- أنظر فيه وما بعده: الري شهري، میزان الحكمة «الصدقة» ج 5

أتصدّق من ذلك فيأمره الإمام بالصدقة. ويكشف ذلك أهمية أن يُعوِّد الإنسان نفسه على البذل، وإذا تذرّع الفقير بفقره وامتنع عن البذل فإنّه قد يتأصّل فيه المنع والبخل وما ذلك إلاّ لعدم تعويد نفسه على العطاء، كما يكشف أن البعد الإنساني هو مصب الإهتمام في الصدقة بالدرجة الأولى، لاالمال، وهذا البعد الإنساني على قسمين: العناية بإنسان محتاج، وتعويد المعطي نفسه على البذل والإيثار، ولا عبرة بالمبلغ إلا إذا كانت قلته تكشف عن بعدٍ سيء في النفس هو التصدق بما لايحب.

وحيث اتضح أن جوهر الصدقة «إنسانية صاحبها» فقد اتضح أن تفطير الصائم يحمل من البعد الإنساني مافوق الصدقة، أما إن كان تفطير الصائم بدعوته إلى البيت فواضح، وأما إن كان بإرسال الطعام إليه فهو نوع تکريم يفوق الصدقة وإن لم يصل إلى مستوى دعوته إلى المنزل.

* ثانياً: إتقوا النار وكما نجد أنفسنا في هذه الفقرة أمام الحثّ على بذل المال فإننا كذلك أمام الحثّ على التقرّب إلى الله عزّوجل وطلب رضوانه بهذا العطاء، فإن اتقاء النار في قوله صلی الله علیه و آله وسلم: «اتقوا النار ولو بشقّ تمرة» يراد به أن تكون «التقوى» الباعث على هذا العمل وهي تعني اتقاء كل مايبعد عن الحق ويوقع في الباطل، وقد يكون هذا الدافع قوياً والمبلغ الملازم له قليلاً، وقد يكون العكس، والأهمية لهذا الدافع وليست للمبلغ كما تقدم.

ص: 411

* ثالثاً: روح الجماعة وفي هذه الفقرة أيضاً تأكيد الإهتمام بشدّ الأواصر الإجتماعية، وتقوية هذه العلاقات بين المؤمنين، فالمجتمع المؤمن مجتمع متراص متماسك، وليس الصوم عبادة فردية لأنّ المطلوب في الصوم أن يحرص الإنسان على نظافة علاقاته الإجتماعيّة فلا يؤذي، ولا يشتم، يغتاب، ومن المهم أن يتوّج صيام يومه بالإجتماع مع إخوانه يفطرون معاً، ويشكرون الله عزّوجل على نعمة الهداية والتوفيق.

* «أيّها الناس من حسّن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جواز على الصراط يوم تزلّ فيه الأقدام».

* الدين حسن الخُلق

لا أريد هنا أن أتحدث عن أهمية الأخلاق النظرية، بل أتناول المسألة الأخلاقية من الناحية العملية.

نحن عادةً نهتمّ بالإيمان كما نفهم، فيسأل كل منا نفسه - إن سألها -: هل أنا مؤمن؟ نتحاشى الكفر، ونتحاشي الشرك، والكبائر، ونعتبر أن ذلك تمام الإيمان، ولانتنبه إلى الخطأ الكبير الذي وقعنا فيه، فقادنا إلى هذا الإستنتاج، وهو أننا نفصل بين الأخلاق والإيمان، فيحرص كل منا على أن يكون مؤمناً، أي يصحح کلیات العقيدة، ويصلّي ويصوم، ويهتمّ بالطهارة، ويجتنب النجاسة، ويتعلم جملة من المسائل الشرعية، ويضيف إلى ذلك بعض المعلومات والمصطلحات ويظن أنه أحسن صنعاً.

أما أثر هذه العقيدة وتجليها في السلوك، وأثر هذه الصلاة

ص: 412

وسائر الأفعال والأحكام العبادي في صياغة الشخصية المحمدية المتحلية بمكارم الأخلاق في كل بحسبه، فهو مالا يحظى عادة بالعناية التي يستحق، والدليل أنّه يرى نفسه يغضب كثيراً، بل شديد الغضب، وإذا استبدّ به الغضب تحوّل كاسراً من الكواسر، ويتعايش مع ذلك ويبني أمره على السير في خطين متوازین: هذا التدين، وهذه الأخلاق.

تُری، لماذا يخفى علينا أنّ سؤال هل أنا مؤمن؟ يساوي هل أنا صاحب أخلاق حسنة؟ وعلى الأقل: هل أريد أن أحسِّن خُلقي؟ عندما أسأل نفسي هل أنا مؤمن قد يكون الجواب بدون تردد: نعم أنا مؤمن.

والسبب في عدم التردد هذا هو الفصل بين الإيمان وحسن الخُلق، فإذا سألت نفسي: هل أتحلى بمكارم الأخلاق، أو هل أنا ذو خُلق حسن؟ يتلعثم اللسان ويتهدج الصوت ويعلو الإرتباك! فلماذا عدم التردد هناك والتلعثم هنا؟ والجواب واضح: لأني أفصل بين الأخلاق الحسنة والإيمان.

فلأحاول بعد ذلك أن أعيد طرح السؤال الأول على نفسي بالصيغة التالية: حيث إن الدين حسن الخُلق، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فهل أنا مؤمن؟! عندها سيعرف كل منا أيّ إيمان هذا الذي حصل عليه وتصوّره موجوداً ومفروغاً منه قطعاً. ولدى الغفلة عن ضرورة عدم الفصل بين

ص: 413

الإيمان والأخلاق، فربما يصل الأمر ببعضنا إلى أن يتصوّر أنّه مؤمن إلاّ أنّ أخلاقه ليست حسنة! وهذا الكلام هوتماماً كما لو إنساناً يقول: فلانٌ مؤمن بالله إلاّ أنّه ليس موحداً! وإن كان هذا عجباً بل ومستحيلاً .- أي أن يتصور الشخص نفسه مؤمناً وغير موحّد - فإن العجب والمستحيل مثله تماماً هو أن يتصور نفسه مؤمناً وسيء الخُلق، لايريد جاداً أن يبذل الجهد للتخلص من أمراضه.

صحيح أن انتباهنا لذلك لن يحل المشكلة لأن الغالب فينا هو سوء الخلق، إلا أنه يضع حداً لبدعة الفصل بين الإيمان وحسن الخُلق، ويضعنا وجهاً لوجه أمام استحقاق يرقى إلى مستوى الهدف من بعثة المصطفى الحبيب صلی الله علیه و آله وسلم، بدل من أن نظل نَرُوغ منه ونحيد عنه، بل نشرِّع فرية أن سوء الخلق لايضر بالتدين والإيمان.

ما أريد أن أركّز عليه هنا، هو أن ندرك أهميّة وجود الأخلاق الفاضلة فينا، لتبدأ رحلة الجهاد الأكبر كما ينبغي، ولاتبتلى بتحجيمنا لها وتهميشها إلى أبعد الحدود.

وليست المشكلة أن أكتشف أنا وأنت أن ماينبغي أن نبذله من جهد في باب التحلي بمكارم الأخلاق يقتضي أن نبدأ من الصفر، وإنما المشكلة في أن نتعايش مع سوء الخلق ولانعتبر وجوده مضرا بتديننا أبداً، فنفاجأ عند الموت لاسمح الله بأن سوء الخلق قد أتی على كل أعمالنا الصالحة.

إذا كان الحسد وحده يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، فماذا يمكن أن يبقى للحسود؟

ص: 414

وإذا كان إيمان من لا صبر له كمن لا رأس له، فأي حصيلة إيمان يمكن أن تبقى لنا؟ وإذا كان الوثوب على حرام لاح، يجعل العمل الأبيض الناصع، هباء منثوراً، فما هي قيمة العمل القائم أصلاً على مثل هذا التوثب، مع غياب الرادع الخلقي؟(1).

أيها العزيز: والحديث عن حسن الخلق سهل، إلا أن التطبيق شأن آخر، يتوقف على معرفة النفس الأمارة والتواءاتها ودناءتها ومدی تركاضها في أودية الشيطان.

من السهل أن يظهر أحدنا أمام الناس بمظهر الأخلاق الحسنة، ولكن التحدي الأصعب أن تكون أخلاقه حسنة في الواقع.

ولا يمكن لأحد أن يحقق ذلك إلا بالكَبَدِ الدائم والمعاناة المستمرة والضراعة المتواصلة والتوسل بانکسار. إن الهدف كبير کبير، ولابد لتحقيقه من بذل الجهد المتناسب معه.

ويجب أن ينطلق التفكير ببناء النفس وتحليتها بالخلق الحسن، من التفكير بالعرض على الله تعالى «يوم تُبلى السرائر» ونُحشر كما نحن.

بأي صورة تجعلنا المعاصي نظهر أمام الخلائق؟!

ص: 415


1- إشارة إلى ما روي عن الإمام الصادق علیه السلام في تفسير قوله تعالى «وقدمنا إلى ماعملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورا» قال علیه السلام: أما والله إن كانت أعمالهم، أشد بياضاً من القباطي (الثياب المصنوعة من الكتان المصري، القبطي) ولكن كانوا إذا عرض لهم حرام لم يدعوه. البحار 68 / 197، وفي رواية أخرى «كانوا إذا لاح لهم شيء من الحرام وثبوا عليه»

ما هي صورة المرائي الذي يهتمّ بما يقوله الناس فيه ولا يريد أن يصلح باطنه، ويصر سلوكه العملي على كسب رضاهم وحدهم لا شريك لهم، وأن رضا الله عزّوجل ليس الأهمّ ولا المهم، - مع أنه لا أهميّة لغيره - بأي منظر رهيب يأتي هذا «الإنسان» يوم القيامة؟ قد يأتي بلسانين، أو بوجهين، لأنّه كان مع الله عزّوجل بوجه ومع الناس بوجه، يتحدّث أمام الناس بلغة وبينه وبين الله عزّوجل بلغة مغايرة جذرياً.

وماهي الصورة التي يحشر فيها من يؤذي كما يتنفس، کالعقرب والأفعى، وكالحيوان العقور أو المفترس، وهل تتركب الصورة الهائلة من ذلك كله؟ وماهي الصورة التي يحشر بها المحتال، الذي لايغادر الإقامة على اللف والدوران بدءاً من ألفاظ المجاملات الكاذبة، مروراً بالإستخفاف بكل التزاماته ومنها الوعد، وصولاً إلى محاولاته الرعناء في أن يخدع الله عن جنته؟ وعلى هذه النماذج يمكن قياس الباقي، إلى أن يصل المطاف بالصورة التي قد يكون أحدنا عليها يوم القيامة - والعياذ بالله تعالى - مزيجاً أخطبوطياً سرطانياً يتركب من ذلك كله!! أيها الحبيب: ينبغي أن يُدرك القلب أنّ قيمة القيم، والقيمة العليا هي مكارم الأخلاق، التي بُعث رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم من أجل تتميمها، فهل يُعقل أن نكون من أنباعه ونحن لا نولي الأهمية المطلقة لتهذیب نفوسنا، وقد لا نُعني بها إطلاقاً! هل ندرك أن ميزان الربح والخسارة هو حسن الخلق؟ وهل ندرك أن جعل ذلك المقياس والميزان يعني أننا إذا رأينا فلاناً من الناس في غاية الثراء، يمتلك البنوك والعقارات والمطارات إلخ لكنه

ص: 416

«بلا أخلاق» فما هي قيمته؟ إنها صفر، رغم أنّه ملأ الدنيا ضجيجاً وهديراً، إن ذلك جميعه بدون محتوى، وبدون أدنى قيمة.

أو مثلاً فلان موظف كبير يحتل مركزاً مرموقاً، أو مسؤول بارز، أو زعيم سياسي محنك، له من الخدم والحشم والأتباع ما شاء الله! لكنه بدون أخلاق فليس له قيمة أبداً.

وما هي قيمة من يقال عنه إنه إمام البلد وعالم المنطقة، أو مؤلف أو فقيه أو مجتهد، أو رئيس الجمهورية أو الملك، أو الحاكم أو السلطان، أو المخترع، أو الدكتور، إذا كان سيء الخلق مع زوجته وأولاده ومع أمه وأبيه، وأرحامه وجيرانه والناس بشكل عام، وهو مصلحي أناني، يفتقر إلى أبسط مواصفات الشهامة والنبل؟!! يكتسب الإنسان قيمته بمقدار حسن أخلاقه أو الحرص الحقيقي على تحسينها، وقد يكون الشخص عادياً لكنه خلوق، فيكون الرقم الصعب، وربما كان ولي الله تعالى، نظر سبحانه إليه فأحبه وجعله في درعه الحصينة التي يجعل فيها من يريد.

عن الإمام الصادق علیه السلام: «تجد الرجل لا يخطئ بلام ولا واو، خطيباً مصقعاً ولَقَلبُه أشد ظلمة من الليل المظلم، وتجد الرجل لا يستطيع یعبر عما في قلبه بلسانه، وقلبه يزهر كما يزهر المصباح»(1).

إن المحور إذاً هو حسن الخلق الفعلي، أو الذي يُبذل الجهد الحثيث للحصول عليه، ولا عبرة بأي عنوان آخر في حال عدم التحلي بمكارم الأخلاق، أو السعي الجاد للتحلي بها.

وحسن الخلق بتعبير آخر هو التقوى، فهي تعني إقامة العدل في

ص: 417


1- الريشهري، میزان الحكمة 4 / 3266

ساحة النفس البشرية، والحذر من أي ظلم، ولا يتحقق ذلك إلا بالوقوف طويلاً عند كل مفردة من مفردات الأخلاق الفاضلة وملاحظة حال النفس في مجالها، ليتم بناء النفس بها وفي هديها خطوة خطوة، فتتحقق التقوى ويقام سلطان العدل.

تعني التقوى في مجال الغضب مثلاً أن يواجه المتقي ما يستدعي الغضب فيتحكم بمشاعره وردة فعله، ويسيطر على نفسه، ولابدع غضبه يخرجه عن طوره ليظلم ويؤذي، والمرتبة الأعلى أن يواجه الإساءة بالإحسان فيتسامح ويصفح الصفح الجميل.

وبناء عليه، فلا مجال للفصل بين التقوى ومكارم الأخلاق، الأمر الذي يوضح أن هذه الدعوة النبوية «من حسّن منم في هذا الشهر خُلقه..» هي تفسير لقوله تعالى في بيان الهدف من الصوم «لعلكم تتقون».

وتتوقف الإفادة من هذا الهدف الإلهي وتفسيره النبوي، على الأمور التالية:

1- إدراك محورية الأخلاق في مسار التدين. 2- محاولة التعرف إلى النفس ودراسة خصائصها.

3- محاسبة النفس، ولو مرّة في الأسبوع محاسبة الشريك لشریکه. أين يكمن سوء خلقي؟ هل أنا متكبّر؟ حسود؟ حقود؟ إذا غضبت فهل أحاول السيطرة على غضبي والتخفيف من حدّة هذا الغضب؟ إلخ.

هكذا يبدأ الإنسان السير في الطريق الصحيح، أما أن يبقى اهتمامه منصباً على ما حوله، من الأمور الإعتباريّة التي تحيط به ويغفل عن نفسه فإنّه قد لا يستيقظ إلاّ وملائكة الرحمن جاؤوا لإلقاء القبض عليه «وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ» [الأنفال 50].

ص: 418

أيها الحبيب: خيرٌ لنا أن نستيقظ الآن، قبل أن توقظنا سياط العدل! وها هو الرؤوف الرحيم يخبرنا عن الله تعالى بأننا في شهر الله تعالی أمام فرصة إلهية تمكِّننا من تحسين الخلق. إن شهر رمضان المبارك أفضل موسم للحصول على مكارم الأخلاق. فهل نحاول وبإصرار.

إذا قررنا ذلك فليكن لسان حال القلب: إلهي أنا لا أستحقّ حتى أن أكون من ضيوف الرحمن، ومن أنا؟ وما عملي؟ الهي لاأطرق باب الإستحقاق بل باب التفضل والكرم. عادتك الإحسان إلى المسيئين.

أتوسّل إليك بأقرب خلقك إليك وأحبّهم، أتوسّل إليك بحرمة عبادك الصالحين إلاّ ما جعلتني من عبادك الصالحين، إلهي، وما أنا حتّى أتخلّص من الغضب والغيبة والحقد، والرياء والمراء والجدال، وسائر الأخلاق السيئة؟ ها أنا ذا بين يديك مقر مذعن معترف بأني لا حول لي ولا قوّة، إنّما أنا ذرّة تائهة في هذا الوجود، إلهي خذ بيدي لا تكلني إلى نفسي طرفة عينٍ أبداً، إنك أرحم الراحمین، نِعم المولى ونِعم النصير.

* صوم ثمانية وعشرين يوما

أورد السيّد عن الشيخ الصدوق عليهما الرحمة عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

ص: 419

«ومن صام ثمانية وعشرين يوماً من شعبان تهلّل وجهه بوم القيامة».

عندما تكون الوجوه إمّا مسودة أو ترهقها قترة، تعلوها غبرة... في ذلك اليوم ما أروع أن يكون الإنسان متهلّلاً وجهه، بل کالبدر المنير، رضي الله عزّوجل عنه، ويمكنه أن يلتحق برسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وأهل بيته علیهم السلام، فيقول بحق: معكم معكم لا مع أعدائكم. اللهم لاتحرمنا.

* صلاة الليلة التاسعة والعشرين

أورد السيّد عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

«ومن صلّى في الليلة التاسعة والعشرين من شهر شعبان عشر رکعات (كل ركعتين بتسليمة) يقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة وألهاكم التكاثر عشر مرات والمعوذتين عشر مرات وقل هو الله أحد عشر مرات، أعطاه الله تعالی ثواب المجتهدين، وثقّل ميزانه، ويخفّف عليه الحساب، ويمرّ على الصراط كالبرق الخاطف»(1).

أسأل الله عزّوجل أن يوفقنا لمراضيه بالنبي المصطفى وآله صلوات الله عليهم أجمعين.

والحمدلله رب العالمین

ص: 420


1- الإقبال 3 / 364 - 365

29 شعبان

اشارة

* ومن خفف منكم «..» عما ملكت يمينه

* ومَن كفّ فيه شرّه كفّ الله عنه غضبه يوم يلقاه

* صوم تسعة وعشرين يوماً

* صلاة الليلة الثلاثين

ص: 421

ص: 422

قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

* ومن خفّف منكم في هذا الشهر عمّا ملكَت يمينه خفّف الله عليه حسابه.

يجدر التأمل في التدرج من حسن الخلق إلى التخفيف عمّن حولنا، ثم ما سيأتي من كف الأذى، فهي عناوين وإن كانت متداخلة بلحاظ، إلا أنها متدرجة بلحاظ آخر، فإن حسن الخلق مثلاً يشمل حالات التخفيف وكف الأذى، ولكن هذا التدرج ينبهنا إلى أن نبدأ رحلة التحلي بالخلق الحسن بتحسين التعامل بعض الشيء مروراً بالتخفيف الذي يستدعي مستوى خاصاً من تحسين التعامل، وصولاً إلى كف الأذى الذي هو بيت القصيد، وبه تشرق شمس حسن الخلق - لا تحسینه - في أرض النفس وسمائها والأرجاء، حتى المسارب.

والمراد بما ملكت يمينه: الرقيق، العبد أو الأمّة، ومن الواضح أن الحثّ على التخفيف الوارد بعد الحثّ على تحسين الخُلُق في هذا الشهر المبارك، لا يراد منه التخفيف عمّا ملكت اليمين فقط وإنما يمتد ذلك ليشمل التخفيف مطلقاً، أي أن يخفّف الإنسان عن كل من هو تحت يده، أن يحسّن الإنسان خُلُقه، ويحسِّن تعامله مع كل من هو بحاجة إليه ويرتبط به بشكل أو بآخر.

ص: 423

ونجد في هذه الفقرة كذلك ربطاً بين تخفيف الإنسان عمّا ملكت يمينه وبين تخفيف الله تعالى الحساب عليه في القيامة، أي كمّا نُحاسِب نُحاسَب، فعندما يصرّ أحدنا على أن يحاسب غيره حساباً عسيراً، وأن يتعامل معه بصعوبة وعسر ونكد، يُلِحُّ في تتبع ثغراته وعثراته والمداقة في كلامه، كأن يقول: لمَ قلت كذا؟.. وماهو قصدك بكذا؟ ولو أنك قلت كذا؟ وماقلته يحتمل هذه الوجوه، وغير ذلك من سبل التضييق وشد الوثاق من مفردات المراء والمجادلة والنَكَد، والحساب العسير، فإن على هذا الإنسان أن يتوقع أن يكون حسابه يوم القيامة حساباً عسيراً، يعامله الله تعالى كما عامل، ولله عزوجل أن يعفو ويصفح إلا أنه إذا جازاه بعمله وما رضيه لنفسه فإن هذا أمر طبيعي جداً.

أما عندما يكون أحدنا حريصاً على اليسر مع الناس، والحساب اليسير، فلا يعقّد الأمور بل يسهّلها، ولا يضيِّق على غيره، بل يعتمد السهولة والتوسعة، ويتعامل بشهامة ونبل، فإن الله عزوجل يخفف عليه حسابه.

ونحن في شهر رمضان المبارك أمام دعوة كريمة من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لنحسّن تعاملنا مع بعضنا، فيحسّن الزوج تعامله مع زوجته، وأولاده، وكذلك الزوجة، فمن كان منهما نكداً يقف مع نفسه على أبواب الشهر ويقول بسلوكه أو بلسانه وسلوكه: أريد أن أدَع أهلي يصومون هذا الشهر براحة وهدوء بال، وكذلك الجار مع جاره خصوصاً عندما تكون هناك بعض الحساسيات بينهما، نفخ الشيطان في شعلة عود ثقابها، مغتنماً أدني فرصة ليؤجج نار الخلاف ويبقيها بين الجيران مضطرمة.

ص: 424

من أجل سطل النفايات!! - كرّمكم الله عن الخلاف لأجلها، وعنها - أو ما شابه من المهملات، تنشأ عداوة بين الجيران، وتمتد إلى غِيبة ونميمة، وشجار قائم دائم، وربما تطور إلى الأسوأ! إن أهمية الإنسان للإنسان، والمسلم للمسلم والمؤمن للمؤمن أهمية لا تُجاری، وفي هذه العلائق یکمن جوهر كل عمل سياسي وثقافي، فهي محور كل القيم الإجتماعية.

هذا إنسان مسلم فينبغي أن أحبه، وإذا كان غير مسلم فهو إنسان ينبغي أن أبني معه علاقة الإنسان مع الإنسان، علاقة القلب مع القلب، أما أن تكون علاقتنا علاقة مفترسة، كاسرة، فهو بلاء لا ينسجم مع ذرة من النبل، ولا مع أدني مسحة من الإنسانية.

أن يخفّف الإنسان عن مستَخدَمه، الذي هو خادم عنده في المكتب، في الشركة، أو خادمة في البيت، أو عامل يشرف هو عليه في المصنع أو الحقل، أوعدد من الموظفين يدير آلية عملهم هذا الموظف الأعلى منهم رتبة، أو التلامذة مع الأستاذ، وماشابه، ذلك هو الإمتحان الدائم الذي يحدد مدى سلامة العقل والقلب واستقامة السلوك، ونسبة الإنسانية أو نسبة الحيوانية.

كلنا مدعوون في هذا الشهر أن نحسّن تعاملنا، ولا يصح أن يكون تعاملنا في شهر رمضان كتعاملنا قبله، وإذا خفّفنا عمّن حولنا ومعنا، خفّف الله تعالی عنا. وهو جزاء يغري ببذل الجهد وأروع مافيه أنه لا يعود بالنفع إلا علينا، فليس فيه شائبة مصلحية لطرف آخر، وهكذا هي دائماً كل تعابير الجزاء الإلهي.

ص: 425

من منا لا يطمع برحمة الله تعالی؟ من منا لا يريد أن يكون حسابه يسيراً؟ من أراد ذلك فإن عليه أن يخفّف عمّن هو تحت يده. ينبغي أن يجعله يستشعر الراحة، ويتنفس الصعداء، ليسترد شعوره بکرامته.

إن الله تعالى يرضى عمن يستطيع أن يجعل من حوله يشعرون بكرامتهم، وهذا يعني أن قيمة الصوم في حفظ الكرامات! فكم هي إساءة الزوج الذي يجعل زوجته تعیش شهر رمضان وهي تتمنى سرعة انقضائه لتنجو من جحيم زوجها؟! ألأنك صائم فأنت دائما متموضع في حالة إطلاق النار، أو التنكيل والبطش؟ إن الآخرين أيضاً صائمون، فلماذا يجوز لك مالا يجوز لهم؟ لماذا يتصرف الإنسان تصرف الجبارین؟ إذا كان من هو تحت يدنا لا يستطيع أن يشكونا إلى أحد فإن الله عزوجل حاضر ناظر.

قد يكون ثمن تجبّري أو تجبرك على هذا المستضعف الذي لا حول له ولا قوة، ماورد حول المتكبرين من أن كلا منهم يُمسَخ يوم القيامة في صورة الذر، ويوضع تحت أرجل الناس يتوطّؤونه ویدوسون عليه بأقدامهم إلى أن يفرغ الناس من الحساب! ثم «إن في جهنم لوادياً للمتكبرين بقال له سقر، شكا إلى الله شدة حره، وسأله أن يتنفس فأذن له، فتنفس فأحرق جهنم»(1). وليس ذلك انتقاماً، بل

ص: 426


1- المجلسي، البحار 8 / 294

هو العلاج الوحيد الذي يختاره أي منا بملء إرادته إذا أصر على التكبر والتجبر ولم يتب فيقلع عن هذا العتوَّ الفرعوني، فبمقدار تسرب الماء يكون الهدم، وبمقدار اعوجاج الغصن وتطاول المدة يكون البتر لإعادة الأمور إلى نصابها، وبمقدار اعوجاج الحديد تكون حاجته إلى النار والمطرقة.

نحن مدعوون إذاً إلى سعة الصدر، وإلى التخفيف عمّن هم تحت أيدينا، وليست هذه مهمة سهلة، ولذلك فقد دلنا الله تعالى على موسمها الأفضل وهو شهر رمضان.

ويعلمنا الإمام السجاد عليه صلوات الرحمن درساً عملياً مهماً جداً في هذا المجال، فقد روي عنه علیه السلام، أنه كان في غير شهر رمضان يعامل الخدم بمنتهى الرفق والحنان، ومن ذلك أنه نادي «مملوکه مرتين فلم يجبه ثم أجابه في الثالثة فقال له: يا بُني أما سمعت صوتي؟ قال: بلى، قال: فما بالك لم تجبني؟ قال: أمنتك، فقال: ألحمد الله الذي جعل مملوكي آمناً مني. وكسرت جارية له قصعة فيها طعام، فاصفر وجهها فقال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله(1). إلا أن تعامله معهم في شهر الله تعالى، كان يتخذ منحى تصاعدياً من نوع آخر، حيث إنه كان إذا دخل شهر رمضان هيأ دفتراً يكتب فيه أخطاء المستخدَمين عنده، من العبيد والإماء - الذين كان يعتقهم في كل عام بعد أن يكونوا قد أمضوا سنة في رعايته النبوية الخاصة - وعندما يخطيء أحدهم لا يطالبه علیه السلام، وإنما يدوّن خطأه في هذا الدفتر،

ص: 427


1- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب 3 / 297

ويخطيء مرة ثانية وثالثة، وهكذا.. ولا يطالبه أبداً وإنما يدوّن علیه السلام ماحصل في هذا الدفتر، فإذا كانت آخر ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك طالب كلاً منهم وأحضرهم علیه السلام، جميعاً، وأمسك الدفتر بیده وقال: يا فلان أنت أخطأت في اليوم الفلاني، هل طالبتك؟ فيقول: كلا. وأنتِ يافلانة أخطأتِ في اليوم الفلاني، هل طالبتك؟ وهكذا إلى أن يسألهم جميعاً ويعترفوا بأنهم أخطأوا ولكنه لم يطالبهم، ثم يقوم علیه السلام وسطهم ويقول لهم: إرفعوا أصواتكم وقولوا: يا علي بن الحسين إن ربك قد أحصى عليك كل ما عملت، كما أحصيت علينا كل ما عملنا، ولديه کتاب ینطق عليك بالحق، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة مما أتيت إلا أحصاها، وتجد كل ما عملت لديه حاضرا، كما وجدنا كل ما عملنا لديك حاضراً، واصفح كما ترجو من المليك العفو، وكما تحب أن يعفو الملبك عنك، فاعف عنا تجده عفُوّاً، وبك رحيماً، ولك غفوراً، ولا يظلم ربك أحداً، كما لديك كتاب ينطق علينا بالحق، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة مما أتيناها إلا أحصاها. فاذكر يا علي بن الحسين ذل مقامك بين يدي ربك الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال حبة من خردل، ويأتي بها يوم القيامة، وكفى بالله حسيباً وشهيداً، فاعف واصفح بعفو عنك المليك ويصفح، فإنه يقول: * وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم *. «..» وهو ينادي بذلك على نفسه ويلقنهم، وهم ينادون معه، وهو واقف بينهم یبكي وينوح، ويقول: رب إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا فقد ظلمنا أنفسنا، فنحن قد عفونا عمن ظلمنا، كما أمرت، فاعف عنا فانك أولى بذلك منا ومن المأمورين، وأمرتنا أن لا نرد

ص: 428

سائلا عن أبوابنا، وقد أتيناك سؤّالا، ومساکین، وقد أنخنا بقِنائك وببابك، نطلب نائلك ومعروفك وعطاءك، فامنن بذلك علينا، ولا تُخيِّبنا فانك أولى بذلك منا ومن المأمورين، إلهي كرمت فأكرمني، إذ کنت من سؤّالك. وجدتَ بالمعروف فاخلطني بأهل نوالك با کریم.(1) ومن الواضح أنه لم يكن هدفه علیه السلام من إعداد هذا الدفتر وتسجيل هذه الأخطاء والمطالبة الشكلية بها إلا في ضوء أن علينا أن ننتبه إلى أن أخطاءنا تُحصي (أحصاه الله ونسوه) لندرك من خلال ذلك أيضاً أنه ليس المطلوب فقط، مجرد أن يخفّف الإنسان عمّا ملكت يمينه، وعمّن هو تحت يده دون أن يتّعظ ويتأثر سلوكه إيجاباً بهذه الحقيقة، وإنما المطلوب أن يستثمر هذا التخفيف ويقول: يا إلهي، أنا العبد المحدود عفَوت، ففي اليوم الفلاني أخطأ فلان معي ولم أعاقب، وفي اليوم الفلاني أخطأ آخر بحقي ولم أعاقب، وأنت يا إلهي، المطلق، أكرم الأكرمين، وما أحوجني إلى عفوك، فاعفُ عني.

إننا في هذا الشهر المبارك أمام هذه الدعوة المباركة والكريمة، فهل نستعد من الآن لنتعامل مع مَن هم تحت أيدينا بأسلوب جدید، وبطريقة أخلاقية نبيلة؟

ص: 429


1- ورد هذا المضمون بصيغتين، تصرح إحداهما بأن المطالبة كانت تتم في المجلس، ويظهر من الثانية (صيغة المناقب) أنها كانت تتم قبل المجلس، ويمكن الجمع بينهما بنا بنسجم مع الضوابط الشرعية من أن المطالبة مع ذكر الخطأ، كانت خاصة، والمطالبة دون تحديد الخطأ عامة أي في المجلس أمام الآخرين. أنظر: ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب 3 / 297 والمجلسي، البحار 46 / 104 نقلاً عن السيد في الإقبال، أنظر: أعمال وداع شهر رمضان 1 / 443 - 444

هل نقرر أن نخرج من أسر عاداتنا؟ إذا كان الغضب يستبد بنا فيستفزُّنا الشيطان ولا نعرف ماذا نقول في حالة غضبنا، فهل نحاول أن نمنع أنفسنا من الإستسلام لسَورة الغضب؟ هل يحاول كل منا أن يقول للشيطان: لن أدَعَك ولو مرة واحدة أن تستفزَّني، قد أفشل في المرة الأولى والثانية، قد أفشل عشرين مرة، مائة مرة، إلا أن المهم هو هذا القرار ببذل الجهد للإفلات من أسر الشيطان، وعندها سيصبح الفشل - ولو مئات المرات - حافزاً لمحاولات جديدة، وقد تكون بمخزون من العزم أقوى، ولا بد يوماً أن تنجح المحاولة، لأن الله عزوجل لا يتركنا وسيأخذ بأيدينا إنه أكرم الأكرمين.

* ومَن كفّ فيه شرّه كفّ الله عنه غضبه يوم يلقاه

تقدمت الإشارة إلى أهمية التدرج من تحسين الخلق إلى التخفيف، وصولاً إلى كف الأذي، الذي يشكل التخفيف عمن هو تحت الإشراف، أبسط مستوياته، كما يشكل هو بدوره أعلى مستويات تحسين الخُلق، ومستوى جيداً من مستويات الخلق الحسن وإن لم يكن الأعلى الذي هو مواجهة الإساءة بالإحسان «وأن تعفوا وتصفحوا خير لكم».

وبعبارة أوضح نحن أمام القائمة التالية:

1- تحسين الخلق، ليصبح الخلق أحسن مما كان، ولايعني ذلك حتماً الوصول إلى التحلي بالخُلق الحسن، أي الخلق الذي اكتمل حسنه، وإنما يعني مثلاً أن من كان خلقه سيئا بدرجة 90٪، أصبح سيئاً بدرجة 80٪ فقد حسن خلقه عشر درجات، إلا أنه مايزال الطابع العام له هو سوء الخُلق.

ص: 430

2- التخفيف عمن حولنا، وهو عادة يستدعي درجة متقدمة من «تحسين الخُلق» لمن يغلب عليه سوء الخُلق كما هو الغالب فينا بشكل عام، وهو نوع من أنواع «كف الأذى» إلا أنه أبسط مستوياته.

3- كف الأذى وهو يستدعي الوصول إلى مرتبة عالية من تحسين الخُلق أو التصرف بما يتناسب معها، بل هو أعلى مراتب تحسين الخلق.

4- حسن الخلق، وهو على مراتب تبدأ بالتحسين لتصل إلى «الحسن» أي يبدأ سيء الخُلق منا بتحسين خلقه إلى أن يصل إلى مرتبة تصبح نسبة الأخلاق الحسنة فيه هي الأكثر، فيقال مثلاً أخلاقه حسنة بنسبة لا بأس بها، وينتهي بالوصول إلى اكتمال الحد الأدنى من حسن الخلق.

5- الأخلاق الفاضلة، أو مكارم الأخلاق، ويبدأ حدها الأدنى بحسن الخلق بنسبة كبيرة وغالبة، ويبدأ حدها الأعلى بمواجهة الإساءة بالإحسان، ويجد المتأمل في النصوص من الآيات والروايات الفرق بوضوح بين مايجوز الوقوف عنده وهو الحد الأدنى، وما ينبغي الوصول إليه وهو الحد الأعلى وهو بدوره على مراتب كما لايخفی.

ويوضح المستويين الأخلاقيين المذكورين الجمع بين ماورد في آبتین، قال تعالى: «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ» [البقرة 194].

«وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» [النور 22].

ص: 431

وفي ضوء ما تقدم يتضح أن المطلوب منا في شهر رمضان أن نكفّ الأذى عن الناس، وأن المدخل الذي يساعد على ذلك هو القرار بتحسين الخلق، والتخفيف عمّن حولنا، وصولاً إلى كف الأذى الذي هو بدوره نتيجة يوفق لها من لا يتصرف في شهر رمضان مع الآخرين كما كان يتصرف معهم قبله، ليراعي حرمة شهر رمضان، وحرمة ضيافة الله تعالى، ويبذر في نفسه بذرة المستويات العالية من حسن الخلق في هذا الشهر الكريم، موسم بذار الأخلاق الفاضلة.

وعندما يتحدث علماء الأخلاق عن الأذى يؤكدون أنه من أخطر العقبات في طريق تزكية النفس، فمن أراد أن يزكّي نفسه فليس عليه إلا أن يكف أذاه عن الآخرين، وليؤذه الآخرون ما شاؤوا، فالمهم أن لا يصدر منه أذى لأحد، وتوضح الروايات حوله أن هذا ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن، ومن ذلك:

1- عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «إن الله تعالى يقول في الحديث القدسي: مَن أهان لي ولياً فقد أرصد لمحاربتي»(1).

2- وعن الإمام الصادق علیه السلام: قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، قال الله تعالى: (في الحديث القدسي) لِیأذن بحربٍ مني مَن آذى عبدي المؤمن»(2).

قال العلامة المجلسي، بعد ذكر الحديث الأول:

ص: 432


1- الطبرسي، مشكاة الأنواره 555. والحر العاملي، الجواهر السنية 332. والمجلسي، البحار 64 / 65. وج 72 / 155 بألفاظ مختلفة بعض الشيء، وما ورد أعلاه من الأخير
2- نفس المصدر 494. وابن فهد الحلي، عدة الداعي 182

«المراد بالولي المحب المبالغ بجهده في عبادة مولاه، المعرض عما سواه» فقد أرصد «أي هيأ نفسه أو أدوات الحرب».. «ومن فوائد هذا الخبر التحذير التام من أذى كلِّ من المؤمنين، لاحتمال أن يكون من أوليائه تعالى كماروى الصدوق باسناده عن أمير المؤمنین علیه السلام قال: «إن الله أخفى وليه في عباده، فلا تستصغرن شيئا من عباده فربما كان وليه وأنت لاتعلم»(1). وقد تقدم مزيد إيضاح.

ولا شك أن استحضار هذين الحديثين القدسيين، يساعدنا جداً على كفّ الأذى عن الناس، فمن منا لايخشی - إذا ظلّ مسترسلاً في طريقته في الغضب وفي استفزاز الآخرين، أو في الإستجابة لاستفزازهم - أن يكون من آذاه ولو مرة من هذه المرات العديدة ولياً من أولياء الله، فيعلن الله تعالى الحرب عليه، نعوذ بالله تعالى من إعراضه، فكيف بإعلانه الحرب!!! ومن هو الولي؟ أهو مكتوب على جبهته «ولي الله» بحيث يراها كل شخص فيجتنب خطورة ماينتج عن إهانته؟ أم أنه قد يكون أي مؤمن ونحن لانعلم، وربما لانتوقع؟ قد تكون الزوجة من أولياء الله، فإن آذاها زوجها أو أهانها استحق أن يعلن الله تعالى الحرب عليه!! وقد يبتلى الإنسان بمرض لأنه أهان زوجته، أو يخسر كل أمواله، أو يطرد من عمله، أو يواجه ماهو أسوأ، كل ذلك في النتيجة لمصلحته حتى لا يواجه بعقوبة الآخرة، أو يواجهها مخففة جداً.

ص: 433


1- البحار 72 / 155

وكذلك الزوجة عندما تهين زوجها وهو في الواقع وليّ من أولياء الله عزوجل، حتى إذا كانت لاتصدق بذلك من قريب أو بعيد، فضلاً عن أن يخطر لها ببال.

وكذلك الأمر أيضاً بالنسبة إلى أي شخص يراه أحدنا في الطريق أو في محل عمله ومهما كان عمله متواضعاً، فيهينه، ويكون هذا الشخص «العادي» وليّاً من أولياء الله عزوجل، فإذا بهذا الذي أهان قد أعلن الحرب على الله عزوجل، وخاضها عملياً، فيعلن الله الحرب عليه!! إن إعلان الحرب من قوة بشرية كأمريكا يجعل الكثيرين يخافون، بل إن أكثر الدول ترتجف من الشيطان الأكبر، لمجرد احتمال المطالبة بمخالفة الإرادة الأمريكية، مع أن باستطاعة مؤمن بدري، محمدي حسيني، بحول الله وقوته أن يرعب أمریکا، كما حدث في تفجير مقرّ المارينز، وكما يمكن أن يحدث في أي وقت، لأن الخير في هذه الأمة كثير، وما يزال وسيبقى إلى يوم القيامة كما وعدنا الله عزوجل.

حقاً.. ألسنا مدعوين إلى التفكير الدائم بمعنى «فليأذن بحرب مني من آذى عبدي المؤمن».

3- عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «من آذى مؤمناً فقد آذاني»(1).

من الضروري أن يلقن كل منا نفسه فيقول لها: عندما أكون

ص: 434


1- أنظر في هذا النص وما بعده: الريشهري، میزان الحكمة 1 / 66

جالساً في مجلس وأؤذي مؤمناً فأكون بذلك قد آذيت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، فكيف أدّعي أني أهتم بتربية نفسي إذا كنت أؤذي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وأيُّ خجل يغمرني إذا واصلت أذى هذا المؤمن وذاك، عندما أردد: أشهد أن محمداً رسول الله.

4- عن الإمام زین العابدین علیه السلام «كفُّ الأذى من كمال العقل وفيه راحة البدن عاجلاً وآجلاً».

فالعاقل هو من لا يؤذي، ويكفّ أذاه عن الناس، وبالإضافة إلى أن عقله مكتمل فبدنه في راحة، لأنه إن آذى الآخرين، فإما أنهم يستوفون منه في الدنيا ذلك وزيادة، وإما أن يستوفيه لهم الله تعالى في الدنيا أو في الآخرة، خاصة إذا كان المظلوم الذي آذاه الايجد ناصراً إلا الله سبحانه، أما إذا كفّ أذاه عن الآخرين فعقله مكتمل وبدنه مرتاح في الدنيا والآخرة، ولاراحة للبدن إلا براحة النفس كماهو واضح، ولكن قد يرتاح البدن ولا ترتاح النفس، ويبدو أن الإمام السجاد عليه السلام تحدث عن نتيجة راحة النفس لينبهنا على حصولها بأفضل وجه، وهي بعد راحة في الدارين، عاجلاً وآجلاً؟ 5- عن الإمام الصادق علیه السلام «من نظر إلى مؤمن نظرة يخيفه بها أخافه الله تعالى يوم لا ظل إلا ظلّه».

يانفس، هذا الرعب الذي عاشه المؤمن مني، سوف أدفع ثمنه، يوم القيامة فيُدخل الله - والعياذ بالله تعالى - الرعب إلى قلبي. إذاً، فلماذا أؤذي؟

ص: 435

* صوم تسعة وعشرين يوماً

أورد السيد عن الشيخ الصدوق عليهما الرحمة، عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «ومن صام تسعة وعشرين يوماً من شعبان نال رضوان الله الأكبر»(1).

من أبواب الجنة «باب الرضوان» وقد تحدثت عنه الروايات ومنها ماتقدم في فضيلة ليلة النصف من شعبان، وفي كتاب الله تعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» [التوبة 72] وفي ضوء ذلك فإن الرضوان الأكبر الذي يتاله من صام تسعة وعشرين يوماً، هو أسمى من الجنة. والله العالم.

* صلاة الليلة الثلاثين

أورد السيد عليه الرحمة، عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

«من صلى ليلة الثلاثين من شعبان ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسبّح اسم ربك الأعلى عشر مرات، فإذا فرغ من صلاته صلى على النبي صلی الله علیه و آله وسلم مائة مرة، فوالذي بعثني بالحق نبياً إن الله برفع له (يبني له) ألف ألف مدينة في جنة النعيم ولو اجتمع أهل السماوات والأرض على إحصاء ثوابه ما قدروا وقضى الله له ألف حاجة»(2).

ص: 436


1- الإقبال 3 / 365
2- الإقبال 3 / 365

وبمقدار مانستغرب الثواب الكبير جداً، كما هو الحال في ما نحن فيه، ينبغي استحضار أمور:

الأول: «وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» ومن الواضح أن ضحالة المعلومات لاتمكِّن من نفي مالاينسجم معها.

الثاني: إن الغربة عن بلد من بلدان هذه الدنيا لاتخوِّل الغريب الذي لم يزره، أن يصدر أحكاماً قطعية عما يجري هناك، فكيف يمكننا ونحن في الدنيا أن نصدر أحكاماً جازمة عما يكون ولايكون في عالم الآخرة.

الثالث: إن طبيعة الحديث التقريبي كحديث الأب المتخصص في صناعة الطيران مع ولده عن الطائرة، تعتمد رموزاً وتمثيلات لايصح لدى تحليل نصه أن نحملها على غير التمثيل والتشبيه.

وفي الختام: لا بد من الإشارة إلى مزيد تأكيد على استحباب صيام يوم الغد، إذا كان هو يوم الثلاثين من شعبان، ويأتي الحديث بالتفصيل إن شاء الله تعالی.

أسأل الله عزوجل أن يوفقنا لما يحب ويرضى إنه نعم المولى ونعم النصير.

والحمدلله رب العالمین

ص: 437

ص: 438

30 شعبان

اشارة

* ومن أكرم فيه يتيماً

* ومَن وصل فيه رحمه

* ومن قطع فيه رحمه

* ومن تطوّع فيه بصلاة

* ومن أكثر فيه من الصلاة عليَّ

* ومن قرأ فيه آية من القرآن

* صوم الثلاثين من شعبان

* الليلة الأولى من شهر رمضان

* الأدعية العامة للّيالي

* صلاة الليلة الأولى

ص: 439

ص: 440

قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم:

* «ومن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه»

تقدم الحثّ على التحنُّن على الأيتام في نفس الخطبة المباركة، بقوله صلی الله علیه و آله وسلم: «وتحنّنوا على أيتام الناس یُتحنّن على أیتامکم» وقد ذكرتُ هناك أن إكرام اليتيم بالتحنُّن عليه يُذكر في هذه الخطبة مرتين، وكذلك صلة الرحم الذي يأتي الحديث عنه مرةً ثانية بعد هذه الفقرة مباشرة.

مطلوب منا أن نهتم بإكرام اليتيم والتحنّن على اليتيم.

والنقطة المركزية التي تلتقي عندها نصوص كثيرة، هذا منها، أن على أحدنا أن يحرص على وجود الرحمة في قلبه وتنمية هذه الرحمة، ولدى الرجوع إلى النصوص نرى بوضوح أن الدين لا يمكن أن ينفصل عن رقة القلب، عن الحنان والمحبة، عن العطف والرأفة والرحمة. وفي المقابل، فإن الكفر بالله عزوجل لا يمكن أن ينفصل عن قسوة القلب «فويلٌ للقاسية قلوبهم».

هكذا نجد أنفسنا أمام طریق قصير وسهل لاختبار مدى تديُّننا، وهو التأمل في حجم الحنان في قلوبنا لنعرف من ذلك حجم تدیُّننا.

ص: 441

وقد يكون الإنسان في فترة من الفترات غير ملتزم بالأحكام الشرعية، إلا أنه إذا رأي في قلبه حناناً ورحمة وعطفاً، فباستطاعته أن يعرف من خلال ذلك أنه إلى خير إن شاء الله تعالی.

يقابل ذلك أننا إذا رأينا شخصاً «متديّناً» بمعنى أنه يصلي ويصوم ويهتم بالطهارة والنجاسة الظاهريتين، إلا أنه قاسي القلب فينبغي أن نخاف عليه، والأولى منه أن يخاف أحدنا على نفسه إذا كان كذلك لأن قسوة القلب تجعل الإنسان يبتعد عن الله عزوجل، ورقّة القلب تجعله يقترب من الله تعالی.

ويمكننا أن نفهم من الروايات التي تؤكد على أن الدين هو الحب مدى أهمية رقة القلب والرحمة والرأفة، ومدى خطورة قسوة القلب وقد ورد في الروايات أن مسح رأس اليتيم علاج لقسوة القلب.

ما يحرص عليه المؤمن في شهر الله تعالى هو أن يخرج من قسوة القلب ويصبح صاحب القلب الشفّاف الرؤوف الذي ينبض بكل معاني الحب والحنان والعطف، أو يصبح على الأقل في الصراط المؤدي إلى هذا المستوى الإنساني الراقي.

إذاً، ينبغي أن نهتم في شهر الله تعالى بشكل خاص بإكرام الأيتام، وينبغي أن يُدخِل كلٌّ منا ذلك في حسابه ويتعامل معه كعلاج لقسوة القلب، والإستزادة من رقته، والتخلص من أدران الذنوب وآثارها الخطيرة التي تفتك بالقلب، فتجعله كالحجارة أو أشد قسوة.

إن من حسن الإتباع للمصطفى الحبيب صلی الله علیه و آله وسلم حسن الإقتداء به،

ص: 442

وهو يتوقف على حسن إصغاء القلب إلى توجيهاته النبوية، وبشكل خاص إلى ماكرر الكلام حوله في خطبته صلی الله علیه و آله وسلم.

* ومَن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه ومن قطع فيه رحمة قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه

«تقدم الحديث عن صلة الرحم في إطار الحديث حول فقرة» وصِلوا فيه أرحامكم.

تقدم الحديث بالتفصيل في الحلقات السابقة حول أهمية صلة الرحم وهنا نجد أنفسنا أمام حديث عن صلة الرحم وأمام حديث عن قطع الرحم.

لو فرضنا أن إنساناً لم يصل رحمه في شهر رمضان فإنه يخسر، ولكن إذا قطع رحمه في شهر رمضان، فستكون الخسارة أكبر بكثير.

إذا كانت هناك مشكلة بين الأرحام وبقيت المشكلة على ما هي عليه في شهر رمضان، فإن هذا أسهل بكثير من أن يبادر أحد الطرفين إلى قطع رحمه في شهر رمضان وكأن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، بعد أن أكد على أهمية صلة الرحم، أراد تحصين مناخ عملية صلة الرحم، فلو فرضنا أن أحداً تأثّر بالحثّ على صلة الرحم، وذهب إلى أحد أقاربه ليصل رحمه، فإنه ورحمه معاً يصبحان أمام امتحان قطع الرحم، لأنه قد يسمع كلمة عتاب فيُستفز فيُسمعه أضعافها، كما أنه قد يواجَه من رحمه بالصد أو الطرد، وللحيلولة دون وقوع ذلك وحذراً من مخاطره، كان لابد من وقفة خاصة عند هذه الفقرة «ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمنه بوم بلقاء». مع أنها ليست خاصة بالقطع الذي يأتي في سياق محاولة الوصل.

ص: 443

وتُعتبر صلة الرحم النقطة المركزية التي تُبنى عليها عملية التواصل الإجتماعي بشكل عام، وتبلغ أهمية صلة الرحم إلى حد أن الله عزوجل أكد على تقواه والإهتمام بالرحم معاً: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ» [النساء 1].

فمن يعمد إلى قطع رحمه في ضيافة الله عزوجل فقد أساء إساءةً يستحق معها أن يقطع الله رحمته عنه يوم يلقاه!

* ومن تطوّع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار

أي من صلى صلاة مستحبة، وتطوّع بها دون أن تكون واجبة عليه، كانت هذه الصلاة المستحبة براءة له من النار.

إن شهر الله تعالى شهر الرحمة والمغفرة، ومن مظاهر الرحمة في هذا الشهر المبارك أن من صلى صلاة مستحبة فله بها هذا الثواب العظيم، ويمكننا أن نُطلّ من خلال هذا النص على أهمية المستحبات في صياغة شخصية الإنسان، فقد يتصور بعضنا أن المستحبات لا أهمية لها خاصة وأننا لا نأتي بكل الواجبات، ولا نترك كل المحرمات، ولكن الصحيح أن المستحبات تساعدنا على الإتيان بالواجبات، وقد ذكرت في ما مضى أن من بدأ بصلي الصلاة المستحبة سيلمس أن صلاته الواجبة قد تحسنت كيفيتها، وأصبحت بمستوى أفضل، خصوصاً إذا صلى بعض الصلوات المستحبة الطويلة كصلاة جعفر الطيار أو صلاة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أو صلاة أمير المؤمنين أو الزهراء علیها السلام، عند ذلك تصبح صلاته العادية التي يصليها يومياً بكيفية أخرى، فيختلف خشوعه في الصلاة، وكذلك قدرته على

ص: 444

التركيز والتوجه وبقطع النظر عن ذلك، وبما أن كل صلاة مستحبة في شهر الله تعالی تستوجب براءة من النار، فمن الطبيعي جداً أن نحرص على أكبر عدد ممكن من هذه البراءات، خصوصاً وأننا قد نحرق في يوم واحد براءات عديدة من النار، بما تكسب أيدينا من الذنوب، ونحتطب على ظهورنا من الأوزار. اللهم أعنّا على أنفسنا.

* ومن أدّى فيه فرضاً كان له ثواب من أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور

وإذا كان حال الصلاة المستحبة في شهر رمضان هو ما تقدم، فكيف بالصلاة الواجبة؟ قد يتصور أن ثواب الصلاة الواجبة أقل، فهي تعدل سبعين صلاة، بينما المستحبة تعادل براءة من النار، ولكن الصحيح أن المستحبة إنما تقبل ويكون لها هذا الثواب إذا قُبلت الواجبة التي «إن قبلت قبل ماسواها» والله تعالى العالم.

ولكن السؤال هنا: أيُّ صلاة واجبة هي التي تُقبل وينبغي أن نصلّيها؟ ولقد تقدم في الحديث حول فقرة «وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم» أن نحرص على أن تكون الصلاة صلاة بكل معنى الكلمة، بالمحافظة على أول الوقت وعلى حضور القلب والخشوع في الصلاة، أما إذا صلى الإنسان وهو لا يعلم ما يقول فإن هذه الصلاة بطبيعة الحال لا تُقبل، وإنما يكون المصلي قد أسقط الواجب أي أنه لا یُعطي عليها ثواباً ولا يُحاسب حساب من لا يصلي.

ص: 445

* ومن أكثر فيه من الصلاة عليَّ ثقّل الله میزانه يوم تخفّ الموازين

نحن إذاً أمام دعوة المصطفى الحبيب صلی الله علیه و آله وسلم إلى أن نكثر في شهر الله تعالى من الصلاة على النبي وآله.

وقد وقفت في ما مضى عند أهمية الصلاة على النبي وآله صلی الله علیه و آله وسلم، وأنَّها تثقِّل الميزان كما في غير هذه الرواية، وأشرت إلى أن ذكر «اللهم صلّ على محمد وآل محمد» في غاية الأهمية لأنه يجمع بين ذكر الله عزوجل وذكر رسوله المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم وذكر آل البيت عليهم صلوات الرحمن، فلنكثر من هذا الذكر الكنز ما استطعنا، ومن أهم الطرق التي يمكن أن يؤدَّي بها هذا الذكر النوعي أن يقول الذاكر مائة مرة اللهم صلِّ على محمد وآل محمد ويهديها إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ثم مائة ثانية ويهديها إلى أمير المؤمنین علیه السلام ثم مائة ثالثة يهديها إلى الزهراء عليها السلام ثم يبدأ بالإهداء إلى سائر الأئمة علیهم السلام إلى الإمام المنتظر أرواحنا لتراب مقدمه الفداء.

وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يأتي في يوم واحد بألف وأربعمائة مرة اللهم صلّ على محمد وآل محمد فليأتِ بها بهذا التسلسل ولو في عدة أيام.

والسبب في أهمية هذه الطريقة أن أي عمل يكتسب أهميته من علائقه، فإن القلم العادي الذي يمسكه شهید ویکتب به ولو مرة واحدة، يصبح مميزاً لهذه العلاقة بالشهيد، فكيف بذكرٍ له هذه المكانة الرفيعة بين الأذكار يصبح له بالإهداء إلى المعصوم نوع علاقة به؟!

ص: 446

وبديهي أن صدق النية في الإهداء وعمقها ودرجة معرفة المعصوم ومرتبة إيمان الذاكر، هي جميعاً عوامل مساعدة في رفع مستوى الذكر ونوع علاقته بالمعصوم.

حول الحديث الشريف «لايزال الدعاء محجوباً حتى يصلي على محمد وآل محمد» قال آية الله الملكي التبريزي عليه الرحمة:

«أمر الصلوات عظيم، وهي من شؤون الولاية، فكما أن الله تعالى لايقبل الإيمان إلا بالإقرار بهم وبولايتهم صلوات الله عليهم، فكذلك أمر الدعاء والصلوات. وليُعلم أن الصلوات مثل غيرها من الأعمال، لها صورة وروح، وروحها أن بعرف شأنهم ومقامهم من الله تعالی:

1- وأنهم الوسائل والشفعاء.

2- وأن الله لايقبل أحداً إلا بالتوسل بهم.

3- وأنهم علیه السلام أولى بالمؤمن حقيقة من نفسه. ورکن هذه الأمور الثلاثة هو المعرفة الجزئية الحقيقية التي تظهر آثارها في العمل بولايتهم، فإذا تحققت المعرفة المؤثرة، وصلى العبد عن هذه المعرفة مرة واحدة عليهم، صلى عليه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عشراً بل وأكثر، إلى مالانهاية، وإذا وقعت في الدعاء استجيب له»(1).

ومن آداب الصلاة على النبي وآله في المحافل العامة وحيث يمكن ذلك رفع الصوت بالصلاة على النبي وآله حيث ورد عن

ص: 447


1- آية الله الملكي، المراقبات (م. م) 118 - 119 بتصرف يسير

المصطفى الحبيب صلی الله علیه و آله وسلم أن رفع الصوت بها يُذهِب النفاق،(1) وبالإضافة إلى هذه الخصوصيات الكثيرة لهذا الذكر العظيم، فإن المجتمع الذي تكثر فيه الصلاة على النبي وآله مجتمع محصَّن، والبيت الذي تكثر فيه الصلاة على النبي وآله بيت محصَّن، كذلك الشخص الذي يكثر من الصلاة على محمد وآل محمد كذلك يحصّن نفسه من مسّ الشيطان.

* ومن قرأ فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور

ستأتي وقفة - بحول الله تعالى - حول أهمية قراءة القرآن في شهر رمضان المبارك، وما أريد أن أذكره هنا بإيجاز هو التركيز على أن نبدأ من الآن بترتيب وضعنا والإستعداد التام، بحيث نستطيع وبدءاً من أول ليلة من ليالي هذا الشهر المبارك أن نقرأ القرآن الكريم كثيراً. إن أهم عمل في هذا الشهر هو الإكثار من تلاوة كتاب الله تعالی.

وليس أمراً عادياً أبداً أن يكون مَن قرأ فيه آية من القرآن فإن له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور، إنه ثواب عظيم جداً، ولذلك نجد أن أئمتنا عليهم السلام يحرصون دائماً على الإكثار من تلاوة كتاب الله تعالى في شهر رمضان، وكذلك هي سيرة علمائنا الأبرار. من هنا تعين المزيد من الحرص على صرف أكبر مقدار ممكن من الوقت في تلاوة كتاب الله تعالى مع مزيد العناية بالتدبر «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا» والجمع بينهما ممکن بأن يكون لكل منهما وقت وأن يرافق القراءة التدبر قدر الإمكان.

ص: 448


1- تقدم ذكر الحديث وغيره، في أعمال شهر رجب، فلاحظ

ولنتنبه إلى أن من قرأ كتاب الله تعالى وهو يريد بصدق وطهارة قلب أن يدرك معانيه ويصل إلى باطنها، فإن الله عزوجل لا يحرمه، ويقذف في قلبه من أنوار كتابه المبارك، فإذا به إنسان من نوع آخر.

اللهم، الضيافة ضيافتك، والشهر شهرك والعبد عبدك.

* صوم الثلاثين من شعبان

أشرت في آخر الحديث السابق إلى أن صيام هذا اليوم مهم جداً، وأذكر هنا الرواية التي أوردها السيد ابن طاوس عليه الرحمة:

عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم: «ومن صام يوم الثلاثين من شعبان ناداه جبرئیل علیه السلام من قدّام العرش یا هذا استأنف «..» عملاً فقد غفر لك ما مضى وما تقدّم من ذنوبك، والجليل عزوجل يقول لو كانت ذنوبك عدد نجوم السماء وقطر الأمطار وورق الأشجار وعدد الرمل والثرى وأيام الدنيا لغفرتها لك وما ذلك على الله بعزيز بعد صيامك شهر شعبان»(1).

وهذا الثواب هو نفسه ثواب صیام ثلاثين يوماً من شهر شعبان بدليل الفقرة الأخيرة «وما ذلك على الله بعزيز بعد صيامك شهر شعبان» ثم إن صوم ثلاثين يوماً من شعبان لايتصور فيه عدم التتالي في الصوم كما هو الحال في ماعداه من الأعداد. فالمراد بصوم الثلاثين أنه صام من أول الشهر إلى آخره.

هنيئاً لمن وفّقهم الله تعالى لصيام هذا الشهر المبارك. والمأمول منهم نظرة عطف وحنان وكلمة دعاء.

ص: 449


1- الإقبال 3 / 366

* الليلة الأولى من شهر رمضان

أما مايتعلق بالليلة الأولى من شهر رمضان المبارك، فالمطلوب أولاً، أن نهتم قبل حلولها أو أول حلولها بالإستهلال فنكون جاهزین لذلك قبل غروب الشمس.

والإستهلال كما ذكرت في أول رجب وأول شعبان، ينبغي أن نوليه أهمية قصوى حتى في غير شهر رمضان المبارك لأننا عندما نجد عملاً معيّناً في اليوم الفلاني من ذي القعدة أو اليوم الفلاني من محرم، فإن الدقة في الإتيان به تستدعي الإهتمام بضبط أول الشهر خصوصاً هلال شهر رمضان المبارك.

ثم إن هذه الليلة الأولى هي افتتاح هذا الموسم الإلهي، موسم شهر الله تعالى، وبما أن كل التركيز على شهري رجب وشعبان من أجل شهر رمضان، وها قد أطل الشهر الكريم العظيم، فكيف نستقبله؟ لقد كان كل ما تقدم من اهتمام بمراقبة النفس والعبادة، من أجل أن نرفع من مستوى تفاعلنا واستقبالنا لشهر الله تعالی.

للساعات الأولى من الضيافة - أي ضيافة - أهمية خاصة، قد تترك ظلالها على كل فترة الضيافة، وقد تتحكم بالنتائج التي تحصل منها، ولابد للقلب من التنبه بامتياز لهذه الخصوصية، فيغتنم فرصة مستهل ضيافة الرحمن، ويأخذ بنصيب وافر من الدعاء، لاسيما وأن أجواء شهر الله تعالى لم تلؤث بعد بذنوبه ولا بذنوب غيره، وإن كان، فما تزال الأمور في بداياتها، وليحذر القلب من أن يكون حاله

ص: 450

كحال من شارك في ضيافة، وعندما أزفت ساعة الدخول إلى رحاب صاحب الدعوة انشغل عنه بأمور هامشية، رغم أنه يرى الجميع منصرفين إلى السلام عليه والحديث معه، والقيام بفروض التحية والإحترام.

إذا تنبه القلب لذلك عرف أن أول ليلة من شهر رمضان جديرة بالإستعداد لها لاغتنام كل ما أمكن من لحظاتها.

في ضوء ذلك يجدر أن نأخذ نصيبنا الوافي من بركات الإقبال والتوجه في فترة استقبال الشهر الكريم.

وقد وردت لليلة الأولى التي هي مستهل هذا الموسم الإلهي ومفتتحه، أعمال خاصة، وفيها يعتق الله تعالى أعداداً كبيرة من الخلق، فهل نعمل بما يرفع من مستوى رجائنا أن تكون رقابنا من بين تلك الرقاب؟ عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا كانت أول ليلة من شهر رمضان غفر الله لمن شاء من الخلق، فإذا كانت الليلة التي تليها ضاعفهم، فإذا كانت الليلة التي تليها ضاعف كل ما أعتق حتى إذا كانت آخر ليلة في شهر رمضان ضاعف مثلما أعتق في كل ليلة»(1).

وفي بعض الروايات ورد أن عدد من يعتقهم الله تعالى في الليلة الأولى كبير جداً(2) وفي الليلة الثانية يضاعف العدد، وكذلك في الليلة الثالثة، وهكذا إلى آخر ليلة من شهر رمضان فيصل العدد کما هو واضح إلى ملايمكن لنا تصوره.

ص: 451


1- الإقبال 1 / 28 بتصرف يسير
2- أنظر: علي بن بابویه، فقه الرضا علیه السلام 205

وقد أورد الشيخ المفيد عليه الرحمة والرضوان، في أماليه مايلي:

«وإن لله تعالى في آخر كل يوم من شهر رمضان عند الافطار ألف ألف عتيق من النار، فإذا كانت ليلة الجمعة ويوم الجمعة أعتق في كل ساعة منهما ألف ألف عتيق من النار وكلهم قد استوجبوا العذاب، فإذا كان في آخر [يوم من] شهر رمضان أعتق الله في ذلك اليوم بعدد ما أعتق من أول الشهر إلى آخره»(1).

عندما يهتم الإنسان بعتق رقبته من النار ويفتتح هذا الموسم الإلهي بطلب الرحمة فإنه يعبّر بذلك عن يقظة وتنبّه خاصين، وعن خروج من الغفلة، فيصبح أكثر استحقاقاً للرحمة الإلهية ويختلف حاله جذرياً عمّن يمضي هذه الليلة غافلاً عن افتتاح الموسم الإلهي الكبير، موسم الضيافة الخاصة والرحمة الأوسع، ورحم الله من بذل قصارى جهده في الدعاء لغيره، فإن في ذلك مظنة قبوله وقضاء جميع حوائجه.

وفي أدب الدخول إلى ضيافة الرحمن، قال السيد:

«ويكون على الجالس (في هذه الضيافة) المخالف لصاحب الرسالة، آثار الحياء والخجالة، لأجل ما كان قد أسلف من سوء المعاملة لمالك الجلالة، وليظهز عليه من حسن الظن والشكر للمالك الرحیم الشفيق كيف شرَّفه بالإذن له في الدخول والجلوس مع أهل الإقبال والتوفيق إن شاء الله تعالی»(2).

ص: 452


1- الشيخ المفيد، الأمالي 231
2- الإقبال 1 / 70

أضاف السيد عليه الرحمة والرضوان:

«واعلم انني لما رأيت ان شهر رمضان أول سنة السعادات بالعبادات، وأن فيه ليلة القدر التي فيها تدبير أمور السنة واجابة الدعوات، اقتضى ذلك أني أودِّع السنة الماضية وأستقبل السنة الآتية بصلاة الشكر کیف سلمني من أخطار ذلك العام الماضي، وشرفني بخلع التراضي واغناني عن التقاضي، وفرَّغني لاستقبال هذا العام الحاضر، ولم يمنعني من الظفر بالسعادة والعبادة فيه بمرض ولا عرض باطن ولا ظاهر «..» ثم إنني أحضر هذا الكتاب، عمل شهر الصيام، وأُقبِّله واجعله على رأسي وعيني، وأضمه إلى صدري وقلبي، وأراه قد وصل إلي من مالك أمري ليفتح به علي أبواب خیري وبري ونصري، وأتلقاه بحمدي وشكري وشكر الرسول الذي كان سببا لصلاح أمري، كما اقتضى حكم الإسلام تعظيم المشاعر في البيت الحرام وتقبيلها بفم الاحترام والإكرام «..» ثم إنني أبدأ بالفعل، فاسأل الله جل جلاله العفو عما جرى من ظلمي له وحيفي عليه، وكلما هوّنت به من تطهير القلب وإصلاحه لنظر الله جل جلاله إليه، والعفو عن كل جارحة أهملت شيئا من مهماتها وعباداتها والإجتهاد في التوبة النصوح من جناباتها والصدقة عن كل جارحة بما تهيأ من الصدقات، القول الله جل جلاله: إن الحسنات يذهبن السيئات. أتصدق عن أيام السنة المستقبلة عن كل يوم وليلة برغيف، لأجل ما رويناه من فضل الصدقة وفائدته»(1).

ص: 453


1- المصدر 71

وينبغي للمؤمن أن يعطي الأولوية المطلقة بدءاً من أول هذه الليلة، لقراءة القرآن الكريم، وذكر الله تعالى وخاصة الإستغفار، اللذين ورد الحث عليهما بعناية خاصة في جميع أوقات شهر الله تعالی.

عن الإمام الصادق عليه السلام: «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» فغرة الشهور شهر الله وهو شهر رمضان وقلب شهر رمضان ليلة القدر، ونزل القرآن في أول ليلة من شهر رمضان فاستقبل الشهر بالقرآن»(1).

وعنه عليه السلام: «قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: عليكم في شهر رمضان بكثرة الاستغفار والدعاء فأما الدعاء فيدفع به عنكم البلاء وأما الإستغفار فيمحي ذنوبكم»(2).

ويتضح بالتأمل في الروايات - وما ذكره السيد ابن طاوس عليه الرحمة، في تطبيقها - أهمية مراعاة هذا التسلسل في أعمال هذه الليلة:

1- أدعية رؤية الهلال وهي كثيرة جداً وقد استظهر السيد في الإقبال في استقصائها، فلتراجع، وفي «مفاتیح الجنان» عدد منها.

2- الغسل.

3- الصلاة الواجبة، وصلاة الشكر.

ص: 454


1- الشيخ الصدوق، من لایحضره الفقيه 2 / 99
2- الكليني، الكافي 4 / 88

4- زيارة سيد الشهداء عليه السلام، والأصل الزيارة من قرب.

5- أدعية الليلة.

6- الصلوات الخاصة.

وفي مايلي توضيحات حول كل منها:

* الدعاء عند رؤية الهلال

أول ما ينبغي أن نستقبل به هذه الليلة المباركة عند رؤية الهلال المبارك هو الدعاء، فقد روي عن الإمام الباقر علیه السلام «کان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، إذا أهل هلال شهر رمضان استقبل القبلة ورفع يديه فقال:

«اللهم أهله علينا بالامن والايمان، والسلامة والاسلام والعافية المجلل، والرزق الواسع ودفع الأسقام، اللهم ارزقنا صيامه وقيامه وتلاوة القرآن فيه، اللهم سلمه لنا وتسلمه منا وسلمنا فيه»(1).

وفي رواية ثانية:

اللهم أهِلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والعافية المجللة والرزق الواسع ودفع الأسقام، والعون على الصلاة والصيام والقيام، وتلاوة القرآن، اللهم سلّمنا لشهر رمضان وتسلّمه منا وسلّمنا فيه حتى ينقضي عنا شهر رمضان وقد عفوت عنا وغفرت لنا ورحمتنا»(2).

ص: 455


1- الكليني، الكافي 4 / 70 - 71
2- المحدث القمي، مفاتیح الجنان. والإقبال 1 / 63

كذلك ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: كان علي عليه السلام، إذا كان بالكوفة يخرج والناس معه بتراءى هلال شهر رمضان (أي ليستهل) فإذا رآه قال: اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام وصحة من السقم وفراغ لطاعتك من الشغل واكفِنا بالقليل من النوم، یارحیم»(1).

وهكذا نجد أننا أمام عناوين أساسية تحدد لنا ما ينبغي لنا أن نهتم به في شهر رمضان المبارك، وهو كما يلي:

1- القيام فيه، وعلى الأقل نهتم بالدعاء للتوفيق للقيام، وطلب ذلك من الله عزوجل، والمراد بالقيام الصلاة والتهجد.

2- الدعاء للتوفيق للصيام وهو يشمل، التوفيق لأصل الصوم، ثم لقبوله.

3- وتلاوة القرآن، فهو شهر القرآن الكريم، ومن أمضى الشهر ولم يكن له مع كتاب الله تعالی شأن خاص، فخسارته كبيرة جداً.

4- والحرص على الأمن والإيمان والسلامة، وهي مفردات متلازمة، فلا أمن ولا سلامة إلا بالإيمان.

5- وينبغي أن نقدم الدليل على صدق العزم في ما نطلب من الله عزوجل فنطلب بصدق أن نكتفي بالنوم القليل، إدراكاً لأهمية الشهر الإستثنائية، وانسجاماً مع الإعتقاد بواجب اغتنام الفرص، والتعرض للنفحات الإلهية وعدم الإعراض عنها بتقطيع الوقت بالنوم،

ص: 456


1- الإقبال 1 / 65 والمحدث النوري، مستدرك الوسائل 7 / 442 وانظر: بإضافة كلمة «يارحيم»

مما قد تكون النتيجة معه هو النوم في شهر رمضان أكثر من أي وقت آخر، وربما كان ذلك من علامات سوء التوفيق.

إننا أمام فرصة إلهية فريدة لا يصح أن نضيع شطراً منها بالنوم الذي إن زاد على حاجة الجسم فلا داعي له إطلاقاً، فينبغي أن يعرف الصائم المقدار الضروري لجسده من النوم، ليتفرغ للعبادة.

* الغُسل

من مستحبات الليلة الأولى من شهر رمضان المبارك، الغُسل، فقد ورد عن الإمام الصادق علیه السلام: «يستحب الغسل في أول ليلة من شهر رمضان وليلة النصف منه» وتحدد رواية وقت هذا الغسل «أول الليل» وفي رواية ثانية أنه «بين صلاة المغرب والعشاء» ولكن السيد ابن طاوس اختار أن وقته «قبل العشاء».

كما تتضمن رواية ثالثة فائدة هامة لهذا الغسل في أول ليلة من شهر رمضان، وهي أن من يصاب عادةً بالحكّة في جسده فإنه باستطاعته أن يداوي هذه الحكّة بهذا الغسل المستحب.

عن الإمام الصادق علیه السلام: «من أحب أن لا يكون به الحكّة فليغتسل أول ليلة من شهر رمضان فإنه من اغتسل في أول ليلة منه لا يصيبه حكّة إلى شهر رمضان من قابل»(1).

وفي رواية أخرى ذكر طريقة خاصة للغسل في هذه الليلة:

عن الإمام الصادق علیه السلام: «من اغتسل أول ليلة من شهر رمضان

ص: 457


1- أنظر في كل ما تقدم حول الغسل: الإقبال 1 / 55 و الكافي 3 / 40

في نهر جارٍ ويصب على رأسه ثلاثين كفاً من الماء، طَهُر إلى شهر رمضان من قابل»(1).

* صلاة الشكر

عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا أنعم الله عزوجل عليك بنعمة فصل ركعتين، تقرأ في الأولى بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد، وتقرأ في الثانية بفاتحة الكتاب وقل يا أيها الكافرون، ونقول في الركعة الأولى في ركوعك وسجودك: ألحمد لله، شكراً شكراً وحمداً، وتقول في الركعة الثانية في ركوعك وسجودك: ألحمد لله الذي استجاب دعائي وأعطاني مسألتي»(2).

والنية التي تنبغي في هذه الصلاة في بداية شهر رمضان، كما تقدم في كلام السيد، هي شكر الله تعالى على نعمة السلامة من أخطار السنة الماضية، ونعمة التوفيق للدخول في هذه السنة الجديدة، والإذن بالمشاركة في ضيافته سبحانه، والتوفيق للصيام.

* زيارة سيد الشهداء علیه السلام

وقد ورد في أعمال هذه الليلة التأكيد على زيارة سيد الشهدا علیه السلام.

عن الإمام الصادق علیه السلام: «انه سئل عن زيارة أبي عبد

ص: 458


1- المصدر. وانظر في استحباب الغسل في أول ليلة: الشيخ الصدوق، من لایحضره الفقيه 1 / 79 والشيخ المفيد، المقنعة 51 وفي توقيته: الحر العاملي، الوسائل 3 / 325
2- المجلسي، البحار 88 / 384 نقلاً عن مصباح المتهجد، ومكارم الأخلاق. وانظر: الشيخ المفيد، الأشراف 29 - 30، والطبرسي، مكارم الأخلاق 327

الله علیه السلام فقيل: هل في ذلك وقت هو أفضل من وقت؟ فقال: زوروه صلى الله عليه في كل وقت وفي كل حين فان زيارته علیه السلام خير موضوع، فمن أكثر منها فقد استكثر من الخیر ومن قلل قُلِّل له، وتحرَّوا بزيارتكم الأوقات الشريفة، فإن الأعمال الصالحة فيها مضاعفة، وهي أوقات مهبط الملائكة لزيارته. قال: فسئل عن زيارته في شهر رمضان؟ فقال: من جاءه عليه السلام خاشعاً محتسباً مستقبلاً مستغفراً، فشهد قبره في إحدى ثلاث ليال من شهر رمضان: أول ليلة من الشهر أو ليلة النصف أوآخر ليلة منه، تساقطت عنه ذنوبه وخطاياه التي اجترحها، كما يتساقط هشيم الورق بالريح العاصف، حتى أنه يكون من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه، وكان له مع ذلك من الأجر مثل أجر من حج في عامه ذلك واعتمر، وینادیه ملكان يسمع نداءهما كل ذي روح إلا الثقلين من الجن والإنس، بقول أحدهما: يا عبد الله طَهُرتَ فاستأنف العمل، ويقول الآخر: يا عبد الله أحسنت فأبشر بمغفرة من الله وفضل»(1).

والمراد في الرواية هو الزيارة من قرب أي أن يذهب الزائر إلى کربلاء، ويتشرف بزيارة الإمام علیه السلام، إلا أن الزيارة من بُعد أيضاً ذات فضل كبير فينبغي أن لا تُترك خصوصاً مع تمني الزيارة وعدم التمكن منها.

* أدعية الليلة الأولى

وأما الأدعية التي ينبغي أن تُقرأ في هذه الليلة المباركة فلا يتّسع

ص: 459


1- المصدر 1 / 45 - 46

المقام للحديث عنها بالتفصيل إلا أني أذكر بعضها وأشير إلى مصادر البعض الآخر.

1- دعاء الإمام السجاد علیه السلام عند دخول شهر رمضان، وهو الدعاء الرابع والأربعون من أدعية الصحيفة السجادية.

واعلم أن أول كل شهر هو عند رؤية هلاله، قال السيد:

«ورأيت في كتاب صغير عندنا أوله مسألة للمفيد محمد بن محمد بن النعمان في عصمة الأنبياء علیهم السلام أنه سئل عن أول الشهر أهو الليل أم النهار، فقال: أوله الليل»(1).

2- دعاء الإمام الكاظم علیه السلام، قال السيد ابن طاوس عليه الرحمة: ورويت هذا الدعاء بعدة طرق، وإنما ذكر هاهنا لفظ ابن بابويه من كتاب من لا يحضره الفقيه، فقال: ما هذا لفظه:

«وروي عن العبد الصالح موسی بن جعفر علیه السلام قال: أدع بهذا الدعاء في شهر رمضان مستقبل دخول السنة، وذكر أن من دعا به مخلصاً محتسباً لم يصبه في تلك السنة فتنة ولا آفة في دينه ودنياه وبدنه، ووقاه الله شر ما يأتي به في تلك السنة: اللهم إني أسألك باسمك الذي دان له كل شئ، وبرحمتك التي وسعت كل شيء، وبعزتك التي قهرت بها كل شيء، وبعظمتك التي تواضع لها كل شيء، وبقوتك التي خضع لها كل شيء، وبجبروتك التي غلبت كل شيء، وبعلمك الذي أحاط بكل شيء. یا نور یا قدوس، یا أول قبل

ص: 460


1- الإقبال 1 / 115

كل شيء، ويا باقي بعد كل شيء، يا الله يا رحمن صل على محمد وآل محمد واغفر لي الذنوب التي تغير النعم، واغفر لي الذنوب التي تنزل النقم، واغفر لي الذنوب التي تقطع الرجاء، واغفر لي الذنوب التي تديل الأعداء، واغفر لي الذنوب التي ترد الدعاء، واغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء، واغفر لي الذنوب التي تحبس غيث السماء، واغفر لي الذنوب التي تكشف الغطاء، واغفر لي الذنوب التي تعجل الفناء، واغفر لي الذنوب التي تورث الندم، واغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، وألبسني درعك الحصينة التي لا ترام، وعافني من شر ما أخاف بالليل والنهار في مستقبل سنتي هذه. اللهم رب السموات السبع، ورب الأرضين السبع وما فيهن وما بينهن، ورب العرش العظيم، ورب السبع المثاني والقرآن العظيم، ورب إسرافيل وميكائيل وجبرئیل، ورب محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين. أسألك بك وبما تسميت به، یا عظيم أنت الذي تمن بالعظيم، وتدفع كل محذور، وتعطي كل جزیل، وتضاعف من الحسنات الكثیر بالقليل وتفعل ما تشاء. يا قدير يا ألله يا رحمن، صل على محمد وآل محمد وألبسني في مستقبل سنتي هذه سترك، واضيء وجهي بنورك، وأحبَّني بمحبتك، وبلغ بي رضوانك، وشريف کرائمك وجزيل عطائك، من خير ما عندك ومن خير ما أنت معطيه أحداً من خلقك سوى من لا یعدله عندك أحد في الدنيا والآخرة وألبسني مع ذلك عافيتك. یا موضع كل شكوى، ويا شاهد كل نجوى، ويا عالم كل خفية، ويا دافع ما تشاء من بلية، با كريم العفو، یا حسن التجاوز، توفني على ملة إبراهيم وفطرته، وعلى دين محمد صلی الله علیه و آله وسلم وسنته، وعلى خير

ص: 461

الوفاة، فتوفني، موالياً لأوليائك ومعادياً لأعدائك. اللهم وامنعني [في هذه السنة] من كل عملٍ أو فعل أو قول يباعدني منك، واجلبني إلى كل عمل أو فعل أو قولٍ يقربني منك في هذه السنة یا أرحم الراحمين، وامنعني من كل عمل أو فعل أو قول يكون مني أخاف سوء عاقبته وأخاف مقتك إياي عليه، حذار أن تصرف وجهك الكريم عني، فأستوجب به نقصاً من حظ لي عندك، یا رؤوف یا رحیم. اللهم اجعلني في مستقبل هذه السنة، في حفظك وجوارك وكنفك، وجللني عافيتك، وهب لي كرامتك، عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك. اللهم اجعلني تابعاً لصالحي من مضى من أوليائك، وألحقني بهم، واجلعني مسلِّماً لمن قال بالصدق عليك منهم. وأعوذ بك با إلهي أن تحيط بي خطيئتي وظلمي وإسرافي على نفسي، واتّباعي لهواي واشتغالي بشهواتي، فيحول ذلك بيني وبين رحمتك ورضوانك، فأكون منسياً عندك متعرضاً لسخطك ونقمتك اللهم وفقني لكل عمل صالح ترضى به عني، وقربني إليك زلفى، اللهم كما كفيت نبيك محمداً صلواتك عليه وآله هول عدوه، وفرَّجت همه، وكشفت كربه، وصدَّفتَه وعدك، وأنجزت له عهدك. اللهم فبذلك فاكفني هول هذه السنة وآفاتِها، وأسقامَها وفِتَنَها وشرورَها وأحزانَها، وضيق المعاش فيها، وبلِّغني برحمتك كمال العافية، بتمام دوام النعمة عندي إلى منتهى أجلي. أسألك سؤال من أساء وظلم، واستکان واعترف، أن تغفر لي ما مضى من الذنوب التي حَصَرَتها حَفَظُتُك، وأحصاها کرام ملائكتك علي، وأن تعصمني اللهم من الذنوب فيما بقي من عمري الى منتهى أجلي. يا الله يا رحمن صل على محمد

ص: 462

وأهل بيت محمد، وآتني كلما سألتك ورغبت فيه إليك، فإنك أمرتني بالدعاء وتكفلت بالإجابة، يا أرحم الراحمین»(1).

3- وقال السيد أيضاً:

«دعاء آخر وجدناه في كتاب ذكر انه بخط الرضي الموسوي رحمه الله، فيه ادعية، يقول فيه: ويقول عند دخول شهر رمضان: اللهم إن هذا شهر رمضان الذي أنزلت فيه القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان قد حضر. یا رب أعوذ بك فيه من الشيطان الرجيم، ومن مكره وحیله، وخداعه وحبائله، وجنوده وخیله، ورَجله ووساوسة، ومن الضلال بعد الهدى، ومن الكفر بعد الإيمان، ومن النفاق والرياء والجنایات، ومن شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس. اللهم وارزقني صيامه وقيامه، والعمل فيه بطاعتك، وطاعة رسولك وأولي الأمر عليه وعليهم السلام، وما قرب منك، وجنبني معاصيك، وارزقني فيه التوبة والإنابة والإجابة، وأعذني فيه من الغيبة والكسل والفشل، واستجب لي فيه الدعاء، وأصح لي فيه جسمي وعقلي، وفرِّغني فيه لطاعتك وما قرب منك، یا کریم با جواد با کریم، صل على محمد وعلى أهل بيت محمد عليه وعليهم السلام، وكذلك فافعل بنا يا أرحم الراحمين»(2).

4- دعاء الجوشن الكبير، فقد ورد الحث الشديد على قراءته

ص: 463


1- الإقبال 1 / 116 - 118. مصححاً جزئياً على مانقاه عنه في البحار 94 / 341 - 343. وانظر: الكليني، الكافي 4 / 72
2- المصدر 1 / 118 - 119

في هذه الليلة، والثواب الذي يعطاه قارئه عظيم، وختام هذا الثواب أن من دعا بهذا الدعاء ينادي: «ادخل الجنة بغير حساب»(1).

وأدعية الليلة الأولى من شهر رمضان كثيرة جداً، وردت في الكافي والبحار والوسائل، وغيرها، وقداستقصاها السيد ابن طاوس عليه الرحمة والرضوان في «إقبال الأعمال»(2) ومن لم يتيسر له الرجوع إليه فيمكنه الرجوع إلى «مفاتیح الجنان» فقد أورد المحدث القمي شطراً منها ضمن القائمة الوافية التي أوردها لأعمال الليلة.

* الأدعية العامة للّيالي

وينبغي التنبه إلى أن ما تقدم كان حول الأدعية الخاصة بالليلة الأولى، وهناك أدعية تقرأ في كل ليلة بما يشمل الليلة الأولى، وأشهرها دعاء الإفتتاح، وينبغي البدء بأدعية الليالي، العامة في هذه الليلة فلیلاحظ.

ومن الأدعية العامة في كل ليلة، هذا الدعاء:

«اللهم رب شهر رمضان الذي انزلت فيه القرآن، وافترضت على عبادك فيه الصيام، صل على محمد وآل محمد وارزقني حج بيتك الحرام في عامي هذا وفي كل عام، واغفر لي تلك الذنوب العظام، فإنه لا يغفرها غيرك يا رحمن يا علام».

ص: 464


1- الكفعمي، (الشيخ ابراهيم، الوفاة حوالي 900 هج) المصباح 247 (ط: حجرية، مؤسسة الأعلمي، بیروت 1403 هج 1983 م) وانظر: المجلسي، البحار 78 / 331 و المحدث القمي، مفاتيح الجنان، ومنازل الآخرة 198 (ت: السيد ياسين الموسوي)
2- أنظر: الإقبال 1 / 44 و 63 و 76 و 110 و 145 - 148

وقد ورد في ثوابه: «من قال هذا الدعاء في كل ليلة من شهر رمضان غفرت له ذنوب اربعين سنة»(1).

* صلاة الليلة الأولى

ينطبق هذا العنوان على عدة صلوات، أهمها:

الأولى: قال السيد في الإقبال: «.. محمد بن أبي قرة في عمل أول يوم من شهر رمضان عن العالم صلوات الله عليه، قال: من صلی عند دخول شهر رمضان برکعتین تطوعاً قرأ في أولهما أم الكتاب وإنا فتحنا لك فتحاً مبيناً والأخرى ما أحب رفع الله عنه السوء في سنته ولم یزل في حرز الله إلى مثلها من قابل»(2).

ومن الواضح أن تعبير «عند دخول شهر رمضان» هو من الرواية، ويتحقق ذلك بحلول أول ليلة منه كما تقدم عن الشيخ المفيد، وليس في الرواية أن الصلاة من «عمل أول يوم».

والأولى الإحتياط بالجمع بين صلاتها أيضاً في اليوم الأول.

الثانية: خاصة بهذه الليلة، وهي مروية عن أمير المؤمنین علیه السلام في حديث طويل يذكر صلاة كل ليلة من ليالي شهر رمضان، وقد ورد فيها:

ص: 465


1- المصدر 1 / 144
2- المصدر 1 / 198، وعنه: الحر العاملي، الوسائل 8 / 41. وليلاحظ أن هذه الصلاة لم ترد بعنوان صلاة الليلة الأولى، بل بعنوان «عند دخول شهر رمضان» وقد نقلها السيد ابن طاوس عن كتاب ابن أبي قرة في «عمل أول يوم من شهر رمضان» إلا أن السيد - كما تقدم في فقرة أدعية الليلة الأولى - يصرح بأن أول الشهر هو أول ليلته الأولى، وعليه فيقتضي الإستظهار والإحتياط أن يؤتى بهذه الصلاة مرتين، في الليلة الأولى وفي اليوم الأول، مع إمكان الإكتفاء بالإتيان بها في الليلة الأولى. والله العالم

«من صلى في أول ليلة من شهر رمضان أربع ركعات يقرأ في كل ركعة الحمد مرة وخمس عشرة مرة قل هو الله أحد، أعطاه الله ثواب الصديقين والشهداء، وغفر له جميع ذنوبه وكان يوم القيامة من الفائزين»(1).

إلا أن أكثر الفقهاء لم يعتمدوا هذه الرواية في ترتيب نوافل شهر رمضان.

الثالثة: وهي صلاة تقع ضمن ترتيب معيّن لصلوات شهر رمضان المبارك، وهو الترتيب المعتمد غند أغلب الفقهاء، وحصة هذه الليلة من هذا الترتيب هي عشرون رکعة، ثماني ركعات منها بعد المغرب، واثنا عشرة ركعة بعد العشاء (كل ركعتين بتسليمة) يقرأ في كل ركعة الحمد مرة وقل هو الله أحد مرة أو ثلاث مرات أو خمس مرات أو سبع مرات أو عشر مرات، بختار المصلي العدد الذي يناسبه.

ويأتي الحديث عن ذلك بالتفصيل إن شاء الله تعالی.

أسأل الله تعالى أن يوفقنا لمراضيه بالنبي المصطفى وآله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين والحمد لله رب العالمين * * *

ص: 466


1- الحر العاملي، الوسائل 8 / 38. والشهيد الأول، الأربعون حديثاً 87، الحديث 40. وعنه: المجلسي، البحار 94 / 381

مناهل الرجاء.. أعمال شهر شعبان 617 هذا آخر ما وفق الله تعالى لإيراده من أعمال شهر شعبان، وقد وقع الفراغ من إعادة النظر فيه ، وإضافة مادعت الحاجة إليه ، صبيحة الجمعة الأول من رجب لسنة 1434 للهجرة، الواقع فيه التاسع والعشرون من شهر آب لسنة 2003 للميلاد.

راجية من المؤمنين الذين ينظرون في هذه الأوراق التكرم بالدعاء، والسلام عليهم جميعا ورحمة الله وبركاته .

حسین محمد كوراني بيروت - لبنان kourani@hotmail.com

ص: 467

ص: 468

فهرس المصادر

* القرآن الكريم.

* نهج البلاغة / أمير المؤمنين الإمام علي بن ابي طالب عليه السلام.

* إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات / الحر العاملي (محمد بن الحسن بن علي بن الحسين العاملي) * اختیار معرفة الرجال / الشيخ الطوسي (الطوسي، محمد بن الحسن).

* الاربعون حديثا الامام الخميني (الموسوي الخميني، روح الله).

* الاربعون حديثا / الشهيد الاول (محمد بن مكي العاملي الجزيني).

* الارشاد في معرفة حجج الله على العباد / الشيخ المفيد (محمد بن محمد بن النعمان).

* أصول الكافي / الكليني، محمد بن يعقوب.

* الاعتقادات / الشيخ الصدوق (ابو جعفر محمد بن علي بن الحسین بن بابويه القمي).

ص: 469

* إقبال الأعمال / السيد ابن طاووس (ابن طاووس، رضي الدين علي بن موسی بن جعفر).

* الأمالي / الشيخ الصدوق (ابو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابوية القمي).

* الأمالي / الشيخ المفيد (محمد بن محمد بن النعمان).

* الأمالي / الشيخ الطوسي (الطوسي، محمد بن الحسن).

* الانوار القدسية / الاصفهاني، الشيخ محمد حسین.

* اوائل المقالات / الشيخ المفيد (محمد بن محمد بن النعمان).

* ايضاح الاشتباه / العلامة الحلي (الحسن بن يوسف بن علي المطهر الحلي).

* الإيضاح / الفضل بن شاذان الازدي النيسابوري.

* بحار الانوار / المجلسي، محمد باقر.

* البداية و النهاية / ابن كثير (اسماعيل بن كثير الدمشقي).

* التبيان في تفسير القرآن / الشيخ الطوسي (الطوسي، محمد بن الحسن).

* تذكرة الفقهاء / العلامة الحلي (الحسن بن يوسف بن علي المطهر الحلي).

* التفسير الصافي / الفيض الكاشاني (محمد بن مرتضی).

* تفسير العياشي / العياشي السمرقندي، محمد بن مسعود.

ص: 470

* تفسير القمي / القمي، علي بن ابراهيم.

* تفسير غريب القرآن الكريم / الطريحي، فخر الدين.

* تفسیر کنز الدقائق / المشهدي القمي، الميرزا محمد.

* تفسير نور الثقلين / الحويزي، عبد علي بن جمعة العروسي.

* ثواب الأعمال / الشيخ الصدوق (ابو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي).

* جمال الاسبوع بكمال العمل المشروع / السيد ابن طاووس (ابن طاووس، رضي الدين علي بن موسی بن جعفر).

* حاشية رد المختار / ابن عابدين (محمد امین).

* دار السلام / المحدث النوري (الميرزا حسين النوري الطبرسي).

* الدر النضيد في مراثي السبط الشهيد / الامين، السيد محسن.

* الدعوات / القطب الراوندي (فضل الله بن علي الحسني الراوندي).

* الذريعة إلى تصانيف الشيعة / آقا بزرك الطهراني.

* رجال الخاقاني / الخاقاني، علي.

* رجال النجاشي / النجاشي الاسدي الكوفي، احمد بن علي.

* رسائل المرتضی / الشريف المرتضی.

* الرسالة السعدية / العلامة الحلي (الحسن بن يوسف بن علي المطهر الحلي).

* روضة الواعظين و بصيرة المتعظين / الفتال النيسابوري (محمد بن الفتال النيسابوري الشهيد).

ص: 471

* السرائر / الحلي، محمد بن ادريس.

* سیاحت غرب یا سرنوشت ارواح بعد از مرك (فارسي) / النجفي القوجاني.

* شرح اصول الكافي / المازندراني، المولى محمد صالح.

* وشرح الاخبار في فضائل الائمة الاطهار / القاضي النعمان (النعمان بن محمد التميمي المغربي).

* شرح النهج / ابن ابي الحديد (عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن الحسين المدائني).

* صحیفه نور (فارسي، مجموعة خطب و أقوال الامام الخميني قرص مدمج، الاصدار الثاني، مرکز نشر آثار الامام الخميني).

* الصراط المستقيم الى مستحقي التقديم / علي بن يونس العاملي النباطي البياضي.

* العباس بن علي / الموسوي المقرم، عبد الرزاق.

* عدة الداعي و نجاح الساعي / ابن فهد الحلي (احمد بن فهد الحلي).

* عنصر شجاعت (فارسي) / کوه کمره ای، الميرزا خليل.

* عيون اخبار الرضا عليه السلام / الشيخ الصدوق (ابو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي).

* الغارات / الثقفي الكوفي، ابراهيم بن محمد.

ص: 472

* الغيبة / الشيخ الطوسي (الطوسي، محمد بن الحسن).

* الغيبة / النعماني، محمد بن ابراهیم.

* الف حديث في المؤمن / النجفي، هادي.

* الفصول المهمة في اصول الائمة / الحر العاملي (محمد بن الحسن بن علي بن الحسين).

* فضائل الأشهر الثلاثة / الشيخ الصدوق (ابو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي).

* فضل زيارة الحسين عليه السلام / الشجري، محمد بن علي بن الحسن العلوي.

* فقه الرضا عليه السلام / علي بن بابویه.

* الفوائد الرجالية / السيد بحر العلوم (بحرالعلوم، السيد محمد مهدي).

* الكافي في الفقه / الحلبي، أبو صلاح.

* الكشكول الكامل / الشيخ البهائي (محمد بن الحسين بن عبد الصمد العاملي).

* كلمة التقوى / زين الدين، محمد امین.

* كمال الدين و تمام النعمة / الشيخ الصدوق (ابو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي).

* مجمع البحرين / الطريحي، فخر الدين.

ص: 473

* مجمع البيان في تفسير القرآن / الطبرسي، الفضل بن الحسن.

* محاسبة النفس / الشيخ الكفعمي (الكفعمي، ابراهيم بن علي).

* مختلف الشيعة / العلامة الحلي (الحسن بن يوسف بن علي المطهر الحلي).

* مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام / الموسوي العاملي، محمد بن علي.

* المراقبات / الملكي التبريزي، الميرزا جواد.

* المزار الكبير / محمد بن المشهدي.

* المسائل السروية / الشيخ المفيد (محمد بن محمد بن النعمان).

* المسائل العكبرية / الشيخ المفيد (محمد بن محمد بن النعمان).

* مسار الشيعة في مختصر تواريخ الشريعة / الشيخ المفيد (محمد بن محمد بن النعمان).

* مستدرك الوسائل و مستنبط المسائل / المحدث النوري (الميرزا حسين النوري الطبرسي).

* مستطرفات السرائر / الحلي، محمد بن ادريس.

* مصباح المتهجد / الشيخ الطوسي (الطوسي، محمد بن الحسن).

* معاد شناسی (فارسي) / الطهراني، محمد حسين.

* معاني الاخبار / الشيخ الصدوق (ابو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي).

ص: 474

* معجم رجال الحدیث و تفصيل طبقات الرواة / السيد الخوئي (الموسوي الخوئي، ابو القاسم).

* مفاتيح الجنان / القمي، عباس.

* مکارم الاخلاق / الطبرسي، الحسن بن الفضل.

* مكتبة العقائد و الملل، (قرص مدمج).

* مكیال المكارم في فوائد الدعاء للقائم / الموسوي الاصفهاني، الميرزا محمد تقي.

* ملاقات با امام زمان عليه السلام (فارسي) / ابطحي، حسن.

* من لا يحضره الفقيه / الشيخ الصدوق (ابو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي).

* مناقب آل ابي طالب / ابن شهر آشوب (محمد بن علي بن شهر آشوب).

* منتهى المطلب / العلامة الحلي (الحسن بن يوسف بن علي المطهر الحلي).

* منية المريد في ادب المفيد و المستفيد / الشهيد الثاني (زين الدين بن علي العاملي).

* الموسوعة الفقهية الميسرة / الانصاري، محمد علي.

* میزان الحكمة / ريشهري، محمد.

* الميزان في تفسير القرآن / الطباطبائي، محمد حسين.

ص: 475

* نوادر المعجزات في مناقب الائمة الهداة / الطبري الامامي، محمد بن جرير.

* النوادر / القطب الراوندي (فضل الله بن علي الحسني الراوندي).

* الهداية / الشيخ الصدوق (ابو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي).

* وسائل الشيعة الى تحصيل مسائل الشريعة / الحر العاملي (محمد بن الحسن بن علي بن الحسين).

* وصول الاخبار الى اصول الاخبار / حسين عبد الصمد العاملي (والد الشيخ البهائي).

ص: 476

الفهرس

تمهید...5

1 شعبان...7

* فضيلة شعبان...9

* مع العلماء...10

* في الروايات...13

* وصل شعبان بشهر رمضان...16

* أدعية شعبان...20

* صلاة الليلة الثانية...21

2 شعبان...25

* هل نعين المصطفی؟...27

* صوم يومين من شعبان...27

* الخميس من شعبان...28

* صلاة الليلة الثالثة...31

* الصلوات، عند الزوال...31

ص: 477

3 شعبان...37

* مولد الإمام الحسين (ع)...37

* بحق المولود في هذا اليوم...42

* الرجعة...46

* حديث الملَك فطرس...51

* يوم حرس الثورة الإسلامية...57

* صوم ثلاثة أيام...58

* صلاة الليلة الرابعة...59

* خصوصية يوم الغد...60

4 شعبان...63

* يوم أبي الفضل...65

* عظيم المنزلة...67

* من كراماته...69

* صوم أربعة أيام...73

* صلاة الليلة الخامسة...74

5 شعبان...77

* أهم الأعمال العامة...79

* صوم خمسة أيام...84

ص: 478

* صلاة الليلة السادسة...85

6 شعبان...87

* الأعمال العامة...89

أولاً: الإستغفار...89

* صوم ستة أيام...92

* صلاة الليلة السابعة...93

7 شعبان...95

* الصلاة على محمد وآله...97

* بعض الروايات...97

* معناها...98

* أهميتها...100

* ليس لها وقت محدد...103

* من بركاتها...103

* طلب الحوائج بها...105

* رفع الصوت بها...105

* تصل إلى رسول الله (ص)...108

* موم سبعة أيام...110

* صلاة الليلة الثامنة...111

ص: 479

8 شعبان...113

* كلمة التوحيد...115

* أفضل من الصلوات...115

* تهدم الذنوب...116

* تمحو السيئات...118

* خير العبادة...119

* شرطَ الإخلاص...120

* صوم ثمانية أيام...125

* صلاة الليلة التاسعة...125

9 شعبان...127

* ذِكرُ الله كثيراً...129

* في القرآن الكريم...131

* في الروايات...133

* صوم تسعة أيام...138

* صلاة الليلة العاشرة...139

10 شعبان...141

* الصدقة...143

* في القرن الكريم...145

ص: 480

* في الروايات...146

* ثقافة الصدقة...147

* صوم عشرة أيام...153

* صلاة الليلة الحادية عشر...153

11 شعبان...155

* المناجاة الشعبانية...157

* رواية ابن خالويه...157

* من كلمات العلماء...159

* ملاحظات هامة...164

* صوم أحد عشر يوماً...166

* صلاة الليلة الثانية عشر...167

* الإستعداد لليلة النصف ويومها...167

12 شعبان...171

* في استقبال الذكرى...173

* ليلة النصف من شعبان...178

* صوم اثني عشر يوماً...178

* صلاة الليلة الثالثة عشر...180

* صلاة الليالي البيض...180

ص: 481

13 شعبان...183

* التأهب لليلة النصف...185

* حب المهدي، تجلي التوحيد...186

* روايات في حبه والشوق إليه (ع)...190

* يانفس...193

* صوم ثلاثة عشر يوماً...196

* صلاة الليلة الرابعة عشر...197

* صلاة الليالي البيض...197

14 شعبان...199

* الليلة ومولودها...201

* انتظار الفرج...201

* ليلة النصف من شعبان...207

* في الروايات...207

* مع العلماء...209

* الأعمال...216

* صلاة الليالي البيض...226

15 شعبان...227

* ملامح من شخصية الإمام...229

ص: 482

* أبوه (ع)...230

* أمه (ع)...230

* ظروف الولادة...231

* إمامته (ع)...231

* الغيبة الصغرى والكبرى...233

* العمر الطويل...234

* صوم خمسة عشر يوماً...240

* صلاة الليلة السادسة عشر...240

16 شعبان...243

* المهدي، ووحدة الأمة...245

* ماذا يقول العلماء السنة...247

* الكُنجي، نموذجاً...249

* صوم ستة عشر يوماً...250

* صلاة الليلة السابعة عشر...252

17 شعبان...253

* معرفة الإمام...255

* من علامات المعرفة...256

* صوم سبعة عشر يوماً...265

ص: 483

* صلاة الليلة الثامنة عشر...265

18 شعبان...267

* مقومات عمل الإنتظار...269

* التقوی...269

* المرابطة...272

* العزم على الجهاد بين يديه...274

* صوم ثمانية عشر يوماً...275

* صلاة الليلة التاسعة عشر...276

19 شعبان...279

* الحنين إلى الإمام (ع)...281

* المقام مع الإمام...283

* حنين الوالهين...285

* صوم تسعة عشر يوماً...289

* صلاة الليلة العشرين...291

20 شعبان...293

* طلب التشرف بلقائه...295

* توقيع السُّمَّري...297

* الطريق إلى الإمام (ع)...300

ص: 484

* صوم عشرين يوماً...302

* صلاة الليلة الواحدة والعشرين...302

21 شعبان...303

* من أدعية الغَيبة...305

* صوم واحداً وعشرين يوماً...314

* صلاة الليلة الثانية والعشرين...315

22 شعبان...317

* شهادة العزيز أبي ياسر...319

* الجمعة الأخيرة من شعبان...322

* صوم إثنين وعشرين يوماً...327

* صلاة الليلة الثالثة والعشرين...327

23 شعبان...329

* الإستعداد لشهر الله تعالى...331

* في استقبال شهر رمضان...334

* مع بعض فقراتها...338

* صوم ثلاثة وعشرين يوماً...343

* صلاة الليلة الرابعة والعشرين...345

24 شعبان...347

ص: 485

* واذكروا بجوعكم وعطشكم...349

* وتصدقوا على فقرائكم...351

* وقروا كباركم...351

* وارحموا صغاركم...353

* وصلوا أرحامكم...356

* صوم أربعة وعشرين يوماً...359

* صلاة الليلة الخامسة والعشرين...360

25 شعبان...361

* كيف نستعد لضيافة الرحمن...363

* ثلاثة أبواب للقلب...364

* صوم خمسة وعشرين يوماً...379

* صلاة الليلة السادسة والعشرين...380

26 شعبان...381

* صوم ستّة وعشرين يوماً...389

* صلاة الليلة السابعة والعشرين...390

27 شعبان...391

* أيها الناس إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم...393

* وظهوركم ثقيلة من أوزاركم...398

ص: 486

* وصل شعبان بشهر رمضان...402

* موم سبعة وعشرين يوماً...403

* صلاة الليلة الثامنة والعشرين...403

28 شعبان...405

* عتق رقبة...407

* ومغفرة ما مضى...409

* الدين حسن الخلُق...412

* صوم ثمانية وعشرين يوما...419

* صلاة الليلة التاسعة والعشرين...420

29 شعبان...421

* ومَن كفّ فيه شرّه كفّ الله عنه غضبه يوم يلقاه...430

* صوم تسعة وعشرين يوماً...436

* صلاة الليلة الثلاثين...436

30 شعبان...439

* «ومن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه»...441

* ومَن وصل فيه رحمه...443

* ومن تطوّع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار...444

* ومن أدّى فيه فرضاً...445

ص: 487

* ومن أكثر فيه من الصلاة عليَّ...446

* ومن قرأ فيه آية من القرآن...448

* صوم الثلاثين من شعبان...449

* الليلة الأولى من شهر رمضان...450

* الدعاء عند رؤية الهلال...455

* الغُسل...457

* صلاة الشكر...458

* زيارة سيد الشهداء (ع)...458

* أدعية الليلة الأولى...459

* الأدعية العامة للّيالي...464

* صلاة الليلة الأولى...465

فهرس المصادر...469

الفهرس...477

ص: 488

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.