الحوزة الشريفة أدوارها ومسؤولياتها

هویة الکتاب

الحوزة الشريفة أدوارها ومسؤولياتها

الكاتب: آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي

لسان: العربية

الناشر: دار الصادقين - النجف اشرف - العراق

ص: 1

الفصل الأول:الحوزة الشريفة والمسؤوليات الثابتة والمتغيرة

اشارة

ص: 2

المسؤوليات الثابتة والمتغيرة

اشارة

المسؤوليات الثابتة والمتغيرة (1)

لكي نؤدي مسؤوليتنا:

قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ» (الصافات: 24)؛ فمسؤولية الإنسان إذن لا تنتهي بالموت، بل لا بد من وقوفه في يومٍ للسؤال عن كل ما صدر منه صغيراً كان أو كبيراً «فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى» (طه: 52) وسيقف الإنسان يومئذٍ مبهوتاً متعجباً مستسلماً «وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» (الكهف: 49).

ولو أنا إذا مِتنا تُركنا *** لكان الموتُ غايةَ كل حيِّ

ولكنّا إذا متنا بُعثنا *** ونسألُ بعدها عن كلّ شيِّفعلى الإنسان أن يستعد ليوم السؤال وأن يحضّر أجوبته عن كل أفعاله ومعتقداته لكي لا يُفاجأ بصحائف أعماله ويجد فيها ما جنت يداه ولا يستطيع التدارك فلا ينفعه الندم «وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ» (ص: 3) وأن يعي مسؤولياته أي ما سيُسألُ عنه -لأن المسؤولية اسم شيء مشتق مما يُسألُ عنه- لكي يؤديها بالشكل الصحيح.

ص: 3


1- خطبتا صلاة عيد الأضحى المبارك التي أقامها سماحة الشيخ اليعقوبي في داره يوم 2007/12/21 .

أصناف المسؤوليات:

والمسؤوليات على صنفين: ثابتة ومتغيرة؛ ولا نعني بالمتغيرة: أن حكمها يتغير لأن (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة) وإنما نعني حصول التغيّر في الموضوع والعناوين فيتغير الحكم تبعاً لها، فالخمر حرام لكن إذا عولجت وانقلبت خلاً صارت حلالاً لتغير الموضوع، والميتة حرام ولكن لمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ تكون حلالاً لطروّ عنوان ثانوي عليها وهو الاضطرار، فالتغير ليس في أصل الأحكام وإنما في تطبيقاتها.

والتكاليف الثابتة معلومة على مستوى العقائد كالإيمان بوجود الله تبارك وتعالى ووحدانيته وصفاته الحسنى والأنبياء والرسل والأئمة سلام الله عليهم، وعلى مستوى الأحكام كوجوب الصلاة والصوم والخمس وحرمة شرب الخمر والزنا والغيبة وغيرها أو على مستوى الأخلاق كمحبوبية الصدق والكرم والحلم ومبغوضية الحسد والأنانية والتهور وغيرها.

أما المتغيرة فيمكن أن تتأثر بعناصر عديدة:-

التأثر بالموقع:

منها: الموقع؛ فإن الإنسان العادي مسؤول عن نفسه وأهله وما يرتبط به، وحينما يكون وزيراً مثلاً فإنه مسؤول عن مؤسسات كاملة وإدارة كل الشؤون المرتبطة بوزارته ورعاية مصالح جميع الناس بما يرتبط بوظيفته، وحينما يكون إماماً في مسجد فإنه يكون مسؤولاً عن أبناء تلك المنطقة فيتفقدهم ويصلهم ويقضي حوائجهم ويساعدهم ويهديهم ويصلح شأنهم، فإذا أصبح قائداً أو مرجعاً دينياً شملت مسؤوليته الملايين من الناسفي شرق الأرض وغربها؛ ولذا نجد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول وهو بالكوفة (ولعلَّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له

ص: 4

بالشبع)، ويروي التأريخ أن المعتصم العباسي وصلته استغاثة امرأة في عمورية من بلاد الروم نادت: وامعتصماه؛ فقاد جيشاً كبيراً وخرج بنفسه لتأديب الروم وإغاثة المرأة.

وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم ومن سمع رجلاً ينادي: يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم)(1).

وكم من فقير وجائع ومكروب ومهجّر ومريض ومسجون بغير حقٍّ ينادي اليوم: يا للمسلمين، يا للحكومات، يا لعلماء الدين، يا للمرجعيات.

فليعلم كل واحدٍ مسؤوليته وإذا عجز عن حل المشكلة وقضاء الحاجة فلا أقل من التفاعل مع القضايا ونصرة أصحابها بالكلمة والموقف؛ عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (إن المؤمن لترد عليه الحاجة لأخيه فلا تكون عنده فيهتمّ بها قلبُه فيدخله الله تبارك وتعالى بهمِّه الجنة)(2)،

أما الذين في موقع يسعهم قضاء حوائج الناس ويقدرون عليها فلا يهتمون ويقصرون في إنجازها فقد خرجوا من ولاية الله تبارك وتعالى، ففي الحديث عن موسى بن جعفر (عليه السلام) (من قصد إليه رجل من إخوانه مستجيراً به في بعض أحواله فلم يُجره بعد أن يقدر عليه فقد قطع ولاية الله عز وجل)(3)، وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: (لم يَدَعْ رجلٌ معونةَ أخيه المسلم حتى يسعى فيها ويواسيه إلا ابتلي بمعونة من يأثم ولا يؤجر)(4).

تأثر المسؤولية بالظروف المحيطة:

ومنها: الظروف المحيطة به؛ فنحن في العراق نعيش حالة احتلال وصراع سياسي وفقر وحرمان وقتل وتهجير واختطاف وفساد إداري وسرقة للمال العام واعتقال للأبرياء

ص: 5


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب فعل المعروف، باب18، ح3.
2- المصدر السابق، ح4.
3- المصدر السابق، باب 37، ح4.
4- المصدر السابق: ح5.

وغيرها من القضايا التي تحتم اتخاذ مواقف بإزائها لم نكن مكلفين بها قبل وجودها، ولا يعذر الإنسان حين يصمّ آذانهعن كل هذه القضايا من دون أن يقوم بواجبه تجاهها، كما لا تعذر الحكومة حين تصمُّ آذانها عن مطالبة عوائل الأبرياء المعتقلين للإفراج عنهم أو تصمّ آذانها عن سماع الشعب العراقي المحروم الذي يطالب بتوفير مفردات البطاقة التموينية وتحسينها فتَفعل الحكومة العكس وتعلن عزمها على تقليل المفردات إلى النصف.

تأثر المسؤولية بالبلد:

ومنها: البلد الذي يؤثر في نوع المسؤولية، فالشخص الذي يسكن العراق له تكاليف تختلف عن الذي يسكن في بلاد الغرب مثلاً فهذا تبرز عنده وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه يعيش في وسط مجتمع مسلم فوظيفته تقويم الانحراف داخل المجتمع المسلم بهذه الوظيفة، أما المقيم في الغرب فتبرز عنده وظيفة الدعوة إلى الإسلام لأنه يحاور غير المسلمين.

ويؤثّر في حجم المسؤولية ومقدارها وجرّبتم لو أن مجموعة من الطلبة الجامعيين ينتمون إلى محافظات متعددة صدر منهم تصرف معين فإن الطالب النجفي يحاسب أكثر من غيره، ومعذّريته أقل.

تأثر المسؤولية بالعلم:

ومنها: العلم؛ فكلما ازداد الإنسان علماً ازدادت مسؤوليته بكلا شقّيها أي من حيث الثواب على الإحسان والعقاب على الإساءة لذا ورد في الحديث أن الجاهل يغفر له سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد.

نأثر المسؤولية بالمعرفة الإلهية:

ومنها: المعرفة بالله تبارك وتعالى؛ فكلما ازدادت معرفته ازدادت مسؤوليته، فقد تكون حالة مباحة وليست في دائرة المسؤولية ضمن مستوى معين ولكنها تكون ضمن دائرة

ص: 6

المسؤولية في المستوى الآخر، لذا ورد في الحديث الشريف (حسنات الأبرار سيئات المقرّبين) فهي ليست سيئات بالمعنى المتعارف وإلا لما أصبحت حسنات بالنسبة للأبرار، فهي سيئات بالمعنى المناسب للمقربين.

مثلاً يستغفر البعض لأنه غفل فلبس الحذاء الأيسر قبل الأيمن على خلاف الاستحباب، وروي عن بعض العلماء أنه كان يبكي لما دنت منهالوفاة رغم أنه أنفق كل ما عنده لقضاء حوائج الناس لكنه يبكي لأنه كان يستطيع أن يستعمل جاهه لخدمة مزيد من الناس.

روى سيدنا الشهيد الصدر (قدس سره) أنه صلى ركعتي استغفار ذات مرة لأنه التقى بشخص لم يره منذ مدة فقال له: مشتاقين. ولما عاد إلى نفسه خشي أن لا يكون صادقاً.

ومستويات الناس من هذه الناحية متباينة جداً ومتفاوتة بدرجات لا تنتهي لأن الكمال لا ينتهي، وقد ورد ما يدلّ على ذلك في حديث عن الأمام علي بن الحسين (عليه السلام) أنه جاء إليه رجل فسأله (فقال له: ما الزهد؟ فقال: الزهد عشرة أجزاء فأعلى درجات الزهد أدنى درجات الورع، وأعلى درجات الورع أدنى درجات اليقين، وأعلى درجات اليقين أدنى درجات الرضا، وإن الزهد في آية من كتاب الله عز وجلّ «لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ»)(1).

الإيمان عشر درجات:

وقد ورد عن المعصومين (عليهم السلام) عدم جواز استعلاء صاحب الدرجة الأرقى على من هو دونه والاستخفاف به أو عدم مراعاة حاله، ففي كتاب الخصال للشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله لأحد أصحابه واسمه عبد العزيز: (يا عبد العزيز الإيمان عشر درجات بمنزلة السُلّم له عشر مراقي وترتقي منه

ص: 7


1- (1) الخصال للشيخ الصدوق، باب العشرة، ص 437.

مرقاة بعد مرقاة فلا يقولن صاحب الواحدة لصاحب الثانية لست على شيء، ولا يقولن صاحب الثانية لصاحب الثالثة لست على شيء ... حتى انتهى إلى العاشرة، قال: وكان سلمان في العاشرة، وأبو ذر في التاسعة، والمقداد في الثامنة، يا عبد العزيز لا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك، إذا رأيت الذي هو دونك فقدرت أن ترفعه إلى درجتك رفعاً رفيقاً فافعل، ولا تحملنَّ عليه ما لا يطيقه فتكسره فإنه من كسر مؤمناً فعليه جبره)(1).

قصة للجد الشيخ اليعقوبي مع الميرزا النائيني:

وروى السيد الصدر (قدس سره) أن جدي اليعقوبي كان يقيم مجالس العزاء الحسيني في دار الميرزا النائيني (قدس سره) المرجع الديني في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي فإذا أنهى المجلس قال الناس: أحسنت وأمثالها إلا النائيني فكان يقول: غفر الله لك، فسأله الشيخ اليعقوبي عن سرّ ذلك فقال له النائيني (قدس سره): لأنك تأتي في كلامك بروايات لم تثبت صحتها فأطلب لك المغفرة لذلك، فالتزم الشيخ اليعقوبي (قدس سره) في اليوم التالي بالتحقيق في سند الروايات وعدم ذكر إلا ما يصحّ منها فلم يؤثر في الجالسين ولم تتحرك عواطفهم ولم يتفاعلوا مع المصيبة فأذن له الشيخ النائيني (قدس سره) بالعودة إلى طريقة التسامح في الروايات أي ما يسمى بقاعدة التسامح في أدلة السنن والمستحبات، وعلّق السيد الصدر (قدس سره) بأن (حال) اليعقوبي أو درجته هي (من بكى أو أبكى أو تباكى كان له كذا من الأجر) وحال الشيخ النائيني (قدس سره) «مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» فتكليفهما مختلف.

تأثر المسؤولية بالانتماء:

ومنها: الانتماء؛ فالذي يوالي أمير المؤمنين (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) عليه مسؤوليات أكثر من غيره من المسلمين والذي ينتمي إلى المرجعية الناطقة

ص: 8


1- (2) الخصال للشيخ الصدوق، أبواب العشرة، ص 448.

الحركية يشعر بالمسؤولية عن دينه ومجتمعه أكثر ممن ينتمي إلى المرجعيات التقليدية الساكنة لذا تجد الحيوية والاندفاع والسبق إلى تنفيذ المشاريع التي تعلي كلمة الله تبارك وتعالى وترفع راية الإسلام في أتباع المرجعية الأولى أكثر.

مسؤولية الإيمان بالإمام المهدي (عليه السلام):

ولعل من أهم المسؤوليات التي يتحملها من ينتمي إلى مدرسة أهل البيت (سلام الله عليهم) هو الإيمان بالإمام المهدي (عجل الله فرجه) والتفاعل مع قضيته واستشعار مراقبته ورعايته واطلاعه على أعمال العباد والعمل على تعجيل ظهوره الشريف وإقامة دولته المباركة.

ما الذي نفهمه من دعاء الفرج؟

وأشير هنا إلى واحدة من تلك المسؤوليات وهي ما ورد في الدعاء الشريف (اللهمّ كُنْ لِوليِّكَ الحجةِ بن الحسنِ صَلواتُكَ عَليهِ وعلى آبائِهِ) إلى أنيقول (حتى تُسكِنهُ أرضك طوعاً) أي طواعية وسلماً من دون قتال أو صعوبات أو معوقات. والدعاء عند أهل البيت ليس فقط كلمات تتلى للثواب وإنما هو وسيلة لإلقاء العلوم والمعارف إلى شيعتهم.

ويمكن أن نفهم هذه الفقرة بعدة أشكال:

1- الطلب من الله تبارك وتعالى أن يذلل للإمام (سلام الله عليه) السماوات والأرض والبحار فتكون في أوضاع مناسبة لحركته المباركة وأن توظف لخدمته وتكون عوامل مساعدة لعمله المبارك كما نصر الله تبارك وتعالى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في معركة بدر بألفٍ من الملائكة والنعاس والمطر والرعب في قلوب الكفّار؛ قال تعالى «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ، وَمَا جَعَلَهُ اللهُ

ص: 9

إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ، إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ» (الأنفال: 9-12) وكيف أرسل الله تبارك وتعالى الرياح العاتية على الأحزاب فقلّعت خيامهم وهزمتهم حتى انسحبوا «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً» (الأحزاب: 9).

2- أن يمكّن المؤمنين من الوصول إلى مواقع النفوذ والسلطة والحكم في البلاد التي ينطلق منها الإمام (عجل الله فرجه) لتأسيس دولته الكريمة وهؤلاء يهيئون تسليم الحكم للإمام (عجل الله فرجه) بكل طاعة وولاء أما إذا كانت بأيدي المنافقين والكفار والمعادين فإن الإمام سيبذل كثيراً من الجهد والتضحيات لفتح هذه البلاد، وقد وردت روايات تسمي فيها بعض القيادات الصالحة التي تلتحق بالإمام (عليه السلام) مع قواتها سلماً وتسلّم له القيادة في العراق في حين تحاربه جيوش من بعض الدول المجاورة وبعض المنافقين في هذه البلاد.

3- إن البشرية ستكون قريباً من الظهور مستعدة لاستقبال المصلح الموعود بسبب الأزمات الخانقة التي تعجز عن حلها سواء كانت سياسية أو

ص: 10

اقتصادية أو اجتماعية أو بيئية أو صحية أو عسكرية وغيرها فحينما تبلغهم دعوة الإمام (عجل الله فرجه) لإقامة الحق والعدل وسعادة البشرية وإنصاف المظلومين والمحرومين واجتثاث أصول الفساد فسينقادون إليه ويؤمنون به، ويساهم السيد المسيح (عليه السلام) بدور فاعل في إذعان الأمم المسيحية للإمام المهدي (عجل الله فرجه)، بحسب ما ورد في الروايات.

فكلّ من هذه المحاور يوجب تكليفاً بإزائه، فالشكل الأول يدعو إلى ديمومة الدعاء للإمام (عجل الله فرجه)، والشكل الثاني يدعو شيعة الإمام (عجل الله فرجه) التواقين لظهوره الميمون أن يزيدوا من خبرتهم في الإدارة والحكم وينظموا صفوفهم ويعبئوا طاقاتهم للوصول إلى هذه المواقع وبذل الوسع في النجاح في أداء مهامهم حتى يتمكنوا في الأرض وينجحوا ثم يسلّموا مقاليد الأمور إلى بقية الله الأعظم (عجل الله فرجه).

والشكل الثالث يقضي بأن لا يقصّر المؤمنون في عرض الإسلام النقي الأصيل كما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله الطاهرين (عليه السلام) على شعوب العالم وأن يبينوا لهم محاسنه ويرغبوهم بالدخول فيه ويشوّقونهم إلى اليوم الذي تسود فيه مبادئ الإسلام -التي هي مبادئ الإنسانية- الأرضَ كلها مستفيدين من وسائل الإعلام والاتصالات التي بلغت حداً عظيماً، ويشرحون لهم الحال المزرية التي أوصلتهم إليها أنظمتهم التي وضعها البشر بجهله وغروره من أمراض فتاكة كالآيدز ومن قلق ورعب ومستقبل مجهول وتفكك اجتماعي وضياع وأزمات اقتصادية وتلوث بيئة وغيرها من المشاكل المستعصية.

لا تكونوا من المطففين:

إن كل العناصر السابقة كولاية أهل البيت (عليهم السلام) أو الكون في موقع مهم يمكن أن تكون سبباً لامتيازات يحصل عليها الإنسان في الدنيا والآخرة، ومقتضى

ص: 11

العدالة والإنصاف أن يفي بالمسؤوليات التي تقابلها وإلا كان من المطففين الذين يأخذون أكثر مما يعطون فهدّدهم الله تبارك وتعالى بالويل «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ» (المطففين: 1-6).

روي أن الإمام الحسين (عليه السلام) كان يذهب إلى مكة ماشياً على قدميه وإن النجائب المعدّة للركوب تُقاد بين يديه تعظيماً لله تبارك وتعالى، ولكنه كان يتنكب عن الطريق العام فقيل له في ذلك، فقال (عليه السلام): (أخشى أن أأخذ من رسول الله أكثر مما أعطيه) فالحسين (عليه السلام) صاحب أعظم عطاء في البشرية يستقلّ ما يقدم إزاء ما يأخذ من امتيازات كالتقديس والحب والتبرك وغيرها.

لنحاسب أنفسنا على ما أدينا من مسؤوليات:

أيها الأحبة:

أمام هذه المديات الواسعة والتنوع الكبير والتباين الهائل في المسؤوليات والاستحقاقات والامتيازات ينبغي للإنسان أن يراجع نفسه ويقيّم أعماله ويجري محاسبة يومية انطلاقاً من الأحاديث الشريفة كقول الإمام الكاظم (عليه السلام): (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه)(1) وقول الإمام الصادق (عليه السلام) (فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها، فإن للقيامة خمسين موقفاً كل موقف مقداره ألف سنة، ثم تلا قوله تعالى «فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ»)(2)، ولا أقل من استغلال الأيام الشريفة لهذه المراجعة والتأمل فيما قدّم وأخّر كيوم عرفة يوم التوبة العالمي والاستغفار والإنابة إلى الله تعالى وفي يوم العيد الذي يعني العود والرجوع إلى الله تبارك وتعالى، وكان من المعالم البارزة لإحياء هذه الشعائر الحشد

ص: 12


1- وسائل الشيعة: ج11، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب69، ح1، 2.
2- وسائل الشيعة: ج11، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب69، ح1، 2.

الكبير الذي غصّ بهم الصحنالحسيني المطهّر أمس لتلاوة دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة وهم يبكون ويتضرّعون ونقلته لنا بعض الفضائيات، ومثل هذا الاجتماع المبارك سبب مهم لرفع البلاء عن هذه الأمة.

ما الذي يقتضيه الشعور بالمسؤولية؟

إن الشعور بهذه المسؤوليات والالتفات إليها يقتضي عملين:

الأول: رفع التقصير عما لم يقم به الإنسان والندم عليه وتداركه.

الثاني: شحذ الهمّة والعزيمة ورفع مستوى الطموح ليبلغ أعلى هذه الدرجات ويستوعب أكبر مساحة من المسؤوليات ليحظى بأعلى الامتيازات عند الله تبارك وتعالى «وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (التوبة: 72) «قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ» (آل عمران: 15-17).

المرجعية الرشيدة العارفة بزمانها:

كان بودّي –لو سمح الوقت- أن أتحدث بمناسبة مرور عام على صدور تقرير بيكر – هاملتون- يوم 2006/12/6 الذي ضمّ (79) توصية سميت ب(الطريق إلى الأمام) لنرى كم من هذه التوصيات نُفّذت خلال هذا العام ليأخذ الساسة العراقيون وفي عموم المنطقة هذه التوصيات على محمل الجد وعدم النظر إليها على أنها مقترحات غير ملزمة.

ص: 13

الحوزة العلمية وأداء شكر النعمة

اشارة

الحوزة العلمية وأداء شكر النعمة (1)الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أكمل الخلق أجمعين أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

السلام على رسول الله أمين الله على وحيه، وعزائم أمره، الخاتم لما سبق، والفاتح لما استقبل، والمهيمن على ذلك كله ورحمة الله وبركاته.

السلام على صاحب السكينة، السلام على المدفون بالمدينة، السلام على المنصور المؤيد، السلام على أبي القاسم محمد بن عبد الله ورحمة الله وبركاته.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مع ذكرى مصابنا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

عظم الله تعالى أجورنا وأجوركم بمصابنا المتجدد بفقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي لم تُصَب الدنيا بمثله وفيه قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (بأبي أنت وأمي طبتَ حياً وطبت ميتاً، انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممن سواك من النبوة والإنباء، خصصتَ حتى صرتَ مسلياً عمن سواك، وعممت حتى صار الناس فيك سواء)(2).

وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (لما قُبضَ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بات آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بأطول ليلة حتى ظنوا أن لا سماء تظلّهم

ص: 14


1- خطاب سماحة آية الله العظمى الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في المؤتمر العام الثالث لجماعة الفضلاء المنعقد في النجف الأشرف في الذكرى السابعة لتأسيسها بمناسبة وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يوم السبت 28/صفر/1431 الموافق 2010/2/13.
2- بحار الأنوار: 527/22 عن المجالس للشيخ المفيد.

ولا أرض تقلّهم)(1).

لقد انقطع بموته (صلى الله عليه وآله وسلم) التنزيل، ورفع أمان لأهل الأرض «وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأنتَ فِيهِم» (الأنفال: 33).

واستضعف أهل الحق وعلى رأسهم أهل بيته الطاهرون كما أخبر (صلى الله عليه وآله وسلم): (أنتم المستضعفون بعدي) وانقلبت الأمة على الأعقاب «أفَئِنْ مَاتَ أو قُتِلَ انقَلبْتُم عَلى أَعقَابِكُم» (آل عمران: 144).

النجاة بالتمسك بالعلماء العاملين:

وفي هذه المناسبة نستذكر حديثاً مروياً عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد خطب في أصحابه يوماً فقال: (أيها الناس إن في القيامة أهوالاً وأفزاعاً وحسرة وندامة... ) إلى أن قالوا: يا رسول الله ما النجاة من ذلك؟ فقال:(اجثوا على ركبكم بين يدي العلماء تنجوا منها ومن أهوالها فإني أفتخر يوم القيامة بعلماء أمتي، فأقول: علماء أمتي كسائر الأنبياء قبلي، ألا لا تكذبوا عالماً ولا تردّوا عليه ولا تبغضوه وأحبُّوه، فإن حبهم إخلاص وبغضهم نفاق، ألا ومن أهان عالماً فقد أهانني ومن أهانني فقد أهان الله ومن أهان الله فمصيره إلى النار، ألا ومن أكرم عالماً فقد أكرمني، ومن أكرمني فقد أكرم الله ومن أكرم الله فمصيره إلى الجنة).

من هم العلماء؟

أيها الأحبة:

إن القدر المتيقن من العلماء المشار إليهم في الحديث هم المعصومون من أهل بيت النبي (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) وإنما تشمل عموم علماء الأمة باعتبارهم مبلغين عن الأئمة الطاهرين (سلام الله عليهم) وناقلين لرسالتهم ومتأسّين بهم وقائمين

ص: 15


1- بحار الأنوار: 537/22.

بوظائفهم ومتحملين لمسؤولياتهم.

والتكليف العام الذي يجب تلقيه من الحديث الشريف هو وجوب طاعة العلماء السائرين على نهج الأئمة الأطهار والأخذ منهم وإكرامهم وحسن الظن بهم والتحذير من مغبّة الإعراض عنهم والقدح فيهم وتوهينهم.

كونوا من العلماء:

لكن النخبة الرسالية من الأمة يفهمون منه تكليفاً آخر وهو الالتحاق بركب العلماء وأن يكونوا منهم، فإنهم لا يكتفون بنجاة أنفسهم وإنما يعملون بما ييسر الله لهم من الأسباب لإنقاذ الأمة من الأهوال والفتن والأخذ بأيديهم نحو الفوز والفلاح. ويتحقق ذلك في أوضح أشكاله بالانخراط في سلك الحوزة العلمية الشريفة وبذل الوسع في تحصيل العلوم وتهذيب النفس وتحصيل الكمالات حتى يصبح من العلماء الذين وصفهم الحديث الشريف وبيّن دورهم.

بِفَضلِ اللهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلكَ فَليَفرَحُوا:

وقد حباكم الله تعالى بفضله فجاء بكم من شتى بقاع الأرض على تنوع ثقافاتكم وانتماءاتكم لتكونوا جزءاً من هذا الكيان الشريف الممتد في أعماق التأريخ والضارب بأطنابه في جذور الأرض «ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء» (إبراهيم: 24).إن الشعور بالانتماء إلى سلسلة من الشموس والكواكب يقف في رأسها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرون والأنبياء والرسل (صلوات الله عليهم أجمعين) والشهداء والصديقون والعلماء الصالحون حتى تصل إلى جيلنا الحاضر، إن هذا الشعور يزيد الهمة ويعطي مزيداً من الثقة بالنفس وبالمنهج الذي ينتمي إليه.

إذن كم هو عظيم فضل الله تبارك وتعالى على من انتمى إلى هذا الخط الشريف

ص: 16

«قَلْ بِفَضلِ اللهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلكَ فَليَفرَحُوا هُوَ خَيرٌ مِمَا يَجمَعُونَ» (يونس: 58) «وَفي ذَلِكَ فَليَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ» (المطففين: 26) حتى أنني أستغرب من غفلة أكثر الناس عن هذا الفضل العظيم، وأتساءل ماذا يوجد في غيره من خير لا يوجد فيه حتى يعرض عنه من يعرض؟

الوفاء لنعم الله تعالى علينا:

أيها الأساتذة والفضلاء وطلبة العلم:

من حق الله تعالى علينا أن نعرف عظيم نعمته، ونقدّم بين يديه عجزنا عن الشكر، وأن نكون أوفياء لنعمته ونقوم بحقوقها وما تقتضيه من واجبات والتزامات تجاه خالقنا تبارك وتعالى ونبينا وأئمتنا (صلوات الله عليهم) خصوصاً إمام العصر الشاهد على أفعالنا وأقوالنا (عجل الله تعالى فرجه ومكن له) وتجاه أمتنا التي تنتظر الكثير من الحوزة العلمية الشريفة.

لكي نعيش الواقع لا المصطلحات:

إن نجاة الأمة على يد العلماء لا تتحقق بالقعود والكسل والاكتفاء بتعاطي المصطلحات العلمية، وإنما تتحقق بالعمل الدؤوب ورصد الثغور التي يتسلل منها شياطين الإنس والجن ليثيروا الشبهات والفتن والفساد، وليحرفوا مسيرة الأمة عن صراطها المستقيم الذي حدده لها الله تبارك وتعالى، وفي ذلك قال إبليس: «قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ» (الأعراف: 16-17) وحكى تعالى عنه قوله: «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» (ص: 82-83).

إن الله تبارك وتعالى ذم المتقاعسين المتواكلين الذين لا يريدون أن يقدّموا جهداً أو

ص: 17

تضحية وينتظرون من الغير إنجاز العمل وينشغلون هم بالتشكيك والاعتراض، ولقد ذكر الله تبارك وتعالى مثالاً لهم من قوم موسى«يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فإن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ» لكن الله تبارك وتعالى أثنى على المبادرين إلى العمل المستجيبين لأوامر نبيهم «قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ». فكانت عاقبة التخاذل والتمرد والتشكيك التيه جيلاً كاملاً حتى استبدل بهم ربهم غيرهم «قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ» (المائدة: 21-26).

النهضة المباركة:

لذا فإننا بحاجة إلى بذل المزيد من الجهود لننهض بهذه المسؤوليات الإلهية. وقد مرّت سبع سنوات على تأسيس هذه الجماعة المباركة(1) وأثمرت جهودها عن مشاريع مهمة أذهلت المطلعين عليها، حين يرون وجود عشرات الفروع من جامعتي الصدر والزهراء (عليها السلام) والعشرات من المؤسسات الإنسانية والثقافية والدينية وإقامة العشرات من صلوات الجمعة وإنشاء العديد من المراكز المشتركة بين الحوزات العلمية والجامعات الأكاديمية، واعترفوا بأن مرجعياتٍ لها إمكانياتُ دولة عجزت عن مثل هذه الإنجازات، لكن همم العاملين وزهدهم في الدنيا وقناعتهم بأن ما عند الله تعالى خير وأبقى هو الذي بعث الحياة في كل هذه المشاريع النبيلة وأدامها بفضل الله تبارك وتعالى.

ويبقى طموحنا أكبر بكثير مما أنجز، لأن الكمال لا حدود له فطالِبوه لا يقفون عند حد، ولأن التحديات التي تحيط بنا والمسؤوليات الملقاة علينا والأمانة الثقيلة التي تحملناها

ص: 18


1- والمقصود جماعة الفضلاء، انظر في تأسيسها والغايات والأهداف التي تتوخاها في خطاب المرحلة: ج3 ص42. وأدرجنا ما يرتبط بالموضوع في الفصل الخامس من هذا الكتاب.

لا زالت تستنهض المزيد من الجهود.

خطوات عملية على عاتق الحوزة:

إننا نأمل من مؤتمركم الشريف هذا أن يحقق نقلة في طريق العمل الصالح ويغنينا بالأفكار والخطوات العملية التي ينبغي اتخاذها في المرحلة القادمة، وفي محاور متعددة منها:1- الاهتمام بالتبليغ الإسلامي وانتشار الخطباء والمبلغين والمرشدين في أصقاع الأرض داخل العراق وخارجه وأن يأخذ الطلبة والطالبات في فروع جامعات الصدر والزهراء في المحافظات وسائر المدارس الدينية دورهم في أداء هذه الرسالة الشريفة، وقد كانت تجربة عدد من الإخوة العاملين المخلصين الذين انتشروا في محافظة ديالى خلال الموسمين الماضيين تجربة مثيرة للفخر والاعتزاز وتستحق التأسي والثناء.

2- الارتقاء بشخصية الحوزوي ليكون قائداً حقيقياً في المساحة التي يشغلها وهذا يتطلب جدّاً واجتهاداً في التحصيل العلمي وفي تهذيب النفس والسلوك والانفتاح على حاجات المجتمع ومشكلات العصر وأنواع الثقافات السائدة والاطلاع الواسع على الكتب والنشرات والمجلات وسائر وسائل المعلومات العصرية ليكون مواكباً لعصره ويحافظ على تقدمه على المجتمع حتى يجد الناس عنده ما يحتاجون إليه، وإلا فهم سيخلّفونهم وراء ظهورهم.

3- نشر الحوزات العلمية والمدارس الدينية والمعاهد القرآنية في جميع المدن لتعليم الفقه والعقائد والأخلاق والتعريف بفضائل أهل البيت (عليهم السلام) وسيرتهم المباركة، فإن مثل هذه الحوزات هي مصدر الإشعاع ومفتاح البركات للمجتمعات التي تحتضنها.

4- إغناء خطاب الجمعة بكل ما يلامس واقع الأمة وهمومها والانسجام مع وظائف هذا المنبر المقدس وتوجّهات المرجعية الدينية، وأن يكون ملبياً لتنوع الحضور ومستوياتهم.

5- محافظة الحوزة العلمية على وحدتها وألفتها مهما اختلفت وجهات النظر والتعاطي معها بحسن الظن ما دامت تصب في الهدف الإلهي المبارك، والتعامل مع هذا

ص: 19

الاختلاف في الأساليب على أنه تنوع أدوار بحسب ما تقتضيه ظروف العمل، ولا يمكن أن يكون ذلك سبباً للتقاطع والتباعد فإنه غير مشروع وهو سبب فشل المؤسسات وانهيارها، قال تعالى: «وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» (الأنفال: 46).

6- النهوض بواقع الشعائر الدينية وخصوصاً الشعائر الحسينية لتكون محققة للأهداف التي سالت تلك الدماء الزواكي الطواهر من أجل تحقيقها، لأننا نلمس مع الأسف تسطيحاً لهذه الشعائر وتراجعاً في الممارسات لتصبح غالباً خالية من تلك الأهداف ولا تترك تأثيراً حقيقياً على نفوس الملايين إلا في وقت ممارستها، مع الإشادة التامة بالنبل والمواقف الكريمة التي تجلتفي الزيارة الأربعينية والتي تستحق أن يُفرد لها كتاب خاص لتطلع البشرية على التجليات الإنسانية فيها. لكن هذه المسيرة المليونية يمكن أن تساهم بشكل كبير في تعجيل الظهور الميمون المبارك إذا أبرَزت بشكل أكبر الأهداف والمبادئ التي أعلنها الإمام الحسين (عليه السلام)، وإنما يتحقق التأسي به (عليه السلام) بمقدار تجسيد تلك المبادئ والمحافظة عليها وليس بمقدار شجّ الرؤوس بالسيوف وإدماء الظهور بالسلاسل والمشي على الجمر وبعض الممارسات التي تشوه الصورة الناصعة لمدرسة أهل البيت (سلام الله عليهم).

7- إن من وظيفة الحوزة العلمية الإصلاح وتغيير الواقع الفاسد ومقاومة الظلم والانحراف على جميع الأصعدة، ومنها السلطة والحكم، وقد أتيحت لهذا الجيل فرصة لم تكن متاحة من قبل لتحقيق ما يمكن تحقيقه من خلال صناديق الاقتراع في الانتخابات، ورغم وجود تحفظات لدينا على سير هذه العملية وملابساتها، إلا أنها تبقى الطريق المتيسر الآن للتغيير، ولا يعذِر المجتمع من حاول التغيير بغيرها، ولا شك أنه يوجد في المرشحين من يُؤمَّل منه الخير ويُرجى فيه الصلاح والإصلاح. كما لا يُعذر من تقاعس عنها لسبب أو لآخر، وقد جرّب من تخلّف عن المشاركة فلم يجنِ إلا الضعف والتقصير ووخز الضمير.

ص: 20

الأمة بخير ما دامت الحوزة بخير:

أيها السادة المحترمون:

إن الأمة تكون بخير ما دامت الحوزة العلمية بخير وتؤدي دورها بشكل فاعل وتأثيرها في صلاح الأمة وفسادها –والعياذ بالله- أشد من تأثير الحكام، وقد قربنا ذلك في بعض كتبنا(1) عندما شرحنا الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي، وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل: يا رسول الله ومن هما؟ قال: الفقهاء والأمراء)(2).

العلماء امتداد صالح للأنبياء والرسل:

وإن من تابع تاريخ الأمم السالفة وحتى أمة الإسلام يجد أن سنة الله تعالى جارية فيهم على حد سواء «فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً» (فاطر: 43) فما دام هناك امتداد صالح للأنبياء والرسل فإن الأمة تبقى عصية على الانحراف والابتعاد عن الشريعة، وإذا لم يكن مثل هؤلاء العلماء الصالحين من أمناء الرسل على شرائعهم فإن الأمة تضيع وتغرق في التيه وتخلّف الحق وراء ظهورها ولا تنفعها البينات والحجج التي جاءهم بها نبيهم الكريم، كأهل مصر بعد يوسف (عليه السلام) على رغم ما رأوه على يديه من معجزات وكرامات وإنقاذ حياتهم من الجوع والقحط وتخليصهم من جور الظلمة، قال تعالى: «وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ» (غافر: 34)، وهكذا الأمم الأخرى، أما شريعة سيد المرسلين (صلى

ص: 21


1- المعالم المستقبلية للحوزة العلمية: 13.
2- الخصال للشيخ الصدوق: 36 باب الاثنين.

الله عليه وآله وسلم) فقد حفظها الله تبارك وتعالى بأئمة معصومين هداة مهديين ومن بعدهم بعلماء عاملين مخلصين صادقين حتى يظهر الله تعالى دينه على يد بقية الله الأعظم (عجل الله تعالى فرجه)، ولذا ورد في الحديث الشريف الذي بدأنا به الكلام أن النجاة في الدنيا والآخرة تكون بمتابعة العلماء، فكونوا منهم ليس فقط بالزي والشكل والعناوين البراقة وإنما بالعلم والعمل الصالح والسير على خطى رسولنا الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين).

ص: 22

دور الحوزة الشريفة في حياة الأمة

اشارة

دور الحوزة الشريفة في حياة الأمة(1)

لكي لا نفهم الشريعة بفهم ضيق:

حينما قسم الفقهاء المسائل الفقهية إلى (عبادات) و(معاملات) وقسموا المعاملات إلى(عقود) و(إيقاعات) و(أحكام) فإنهم انطلقوا من ناحية علمية وفنية لتبويب وتصنيف مسائل الفقه حتى يسهل أخذها، فانطلقوا بتقسيمهم على أساس أن فعل المكلف إما مشروط بقصد القربة أو لا فالأول هي العبادات والثاني المعاملات وهي إما متقومة بطرفين كالبيع والنكاح أو بطرف واحد كالعتق والطلاق أو غير متقومة بأي أحد كالحدود والديات والمواريث فالأولى هي العقود والثانية هي الإيقاعات والثالثة هي الأحكام.

ولم يَدُرْ في خلد هؤلاء الفقهاء أن هذا التقسيم الفني العلمي سيتحول إلى ممارسة خاطئة وفهم ضيق لدور الشريعة في حياة الأمة، حيث رسخ هذا التقسيم في أذهان الناس أن عبادة الله تعالى ومراعاة الشريعة إنما يختص بالقسم الأول وتراهم يسألون عن تفاصيل جزئية في الوضوء والصلاة والصوم وهو شيء حسن، لكن السيئ أنهم أقصوا الشريعة عن المعاملات ولم يحكّموا دين الله فيها، ويشرعون من أنفسهم قوانين تحكم المعاملات كقوانينالأحوال الشخصية والسنينة العشائرية وسائر القوانين الوضعية الأخرى فتقوقع الدين وانحسر دوره خلافا لقوله تعالى «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا

ص: 23


1- من حديث سماحة الشيخ (دامت تأييداته) في حفل تخرج دفعة جديدة من كلية التوجيه الديني والإصلاح الاجتماعي من جامعة الصدر الدينية في النجف الأشرف وارتدائهم الزي الديني يوم الاثنين 1 ذي الحجة 1426 المصادف 2006/1/2 ومن حديث سماحته مع طلبة جامعة الصدر الدينية - الفرع الأول في الرصافة من بغداد في اليوم التالي ومن حديث سماحته مع طالبات جامعة الزهراء الدينية فرع البصرة يوم الخميس 26 ذي القعدة 1426 المصادف 2005/12/29.

شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا» (النساء:65) فهذا التسليم المطلق وتحكيم الشريعة جار ومطلوب في كل تفاصيل الحياة(1).

من المقولات المغلوطة (لا مشاحة في الاصطلاح):

وأنا هنا لا ادعي أن هذا التقسيم هو السبب الوحيد في هذه النتيجة السيئة وإنما توجد أسباب أخرى، لكنني أريد أن أتوصل إلى فكرة أن اختيار العناوين والمصطلحات مهم؛ لأن أي خطأ فيه يسري إلى خطأ في المعنون والمضمون والتطبيق ولا يقتصر على الجهة النظرية فقط، فليس صحيحا ما يتردد في كتب الدراسة الحوزوية من قولهم (لا مشاحة في الاصطلاح) فإن عدم الدقة فيه تؤدي إلى مثل هذه النتيجة الخاطئة.

مصطلح (الحوزة العلمية):

ومن هذا الشرح المختصر للفكرة و المثال عليها انطلق إلى القول بان توصيف الحوزة الشريفة بالعلمية فيقال (الحوزة العلمية) وان كان له ما يبرره باعتبار أن النشاط الأوضح فيها هو تحصيل العلوم الدينية وتعميقها والإبداع فيها ونشرها وتدوينها، إلا أن هذا الوصف رسخ في أذهان أبنائها أن وظيفتهم هو طلب العلم وتدريسه ونحوه من الشؤون، وصار الكثير من المرجعيات التقليدية وأتباعهم يردد أن وظيفتهم الدرس ونحوه وعدم التدخل في شؤون الأمة، وهو تحجيم لدورها وإفراغ لمحتواها فهي ليست كالجامعات الأكاديمية عبارة عن كيان علمي صرف، بل أن الحوزة وعلى رأسها المرجعية تمثل الكيان القيادي للأمة بما تقتضيه مسؤوليات القيادة من نشاط سياسي واجتماعي وأخلاقي وتربوي وفكري وإنساني وحتى اقتصادي.

وقد مارست القيادات الدينية الواعية والمخلصة هذه الأدوار في حياة الأمة،

ص: 24


1- تجد توضيحاً لهذه الإشكالية في كتاب (شكوى القرآن) وبحث (الجاهلية الحديثة وأسلوب مواجهتها) و(دليل سلوك المؤمن) في كتاب (الشهيد الصدر الثاني كما أعرفه).

فعلى الصعيد السياسي تجد أن كل حركات التحرر والنهضةالحديثة قادها علماء الدين ومعلمو القرآن كعمر المختار في ليبيا والخطابي في المغرب وابن باديس وعبد القادر الجزائري في الجزائر ومحمد عبده في مصر وعبد الرحمن الكواكبي في سوريا وأمين الحسيني في فلسطين وناهيك عن القيادات الشيعية في العراق وإيران ولبنان. وعلى الصعيد الاجتماعي فإن الحوزة الشريفة تجد نفسها مسؤولة عن إصلاح ذات البين بين المتخاصمين من عشائر وأفراد والسعي للتوفيق في تزويج المؤمنين والمؤمنات ومشاركة الأمة في مناسباتها الاجتماعية وحل مشاكلها.

وأما الدور التربوي والأخلاقي والإصلاحي فإنه الدور الأوضح للفضلاء والخطباء وأئمة المساجد والجماعات في حياة الأمة، وبفضل هذا الجهد المبارك حافظت الأمة على أخلاقها وأعرافها ولم يجد الانحراف والانحلال والانهيار الخلقي الذي تعاني منه مجتمعات الغرب مكانا واسعا له في المجتمعات المتدينة، يكفي أن تعلم أن مرض الايدز الذي فتك إلى الآن بعشرين مليون إنسان لم يسجل له وجود يذكر في امتنا المحافظة.

أما على الصعيد الإنساني من باب الشاهد نقول أن المساعدات التي قدمتها المرجعية للبائسين والمحرومين ومعالجة المرضى في فترة الحصار كان لها اثر مهم في حفظ حياة هؤلاء ومصابرتهم وصيانة كرامتهم.

وأما الجهد الفكري والعلمي فإن أكثر نتاج المطابع وما تتلاقفه دور الطبع فهو من تأليف علماء الحوزة الشريفة وفضلائها ومفكريها.

وقس على هذا نشاطهم في الحقول الحيوية الأخرى.

التناسب بين التحديات وقوة الإيمان:

وفي ضوء هذا يجب على طلبة الحوزات الشريفة -رجالاً ونساء- أن يستوعبوا مسؤولياتهم ووظائفهم التي يقتضيها وجودهم في هذا الكيان الشريف، وهي إن بدت واسعة وثقيلة إلا أنها تكون يسيرة مع الإخلاص لله تبارك وتعالى والهمة وقوة العزم

ص: 25

والتعاون مع كل العاملين.

بل قد يشعر الإنسان أن سعة المسؤوليات وقوة التحدي دليل على أن إيمانه بخير وان مستواه ليس متدنياً حيث اختاره الله تبارك وتعالى لهذا الدور الكبير فهو من مواطن الشكر لله تعالى على لطفه بعبده حين اختاره لهذا الدور الشريف ووفقه لاستجابة دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» (الأنفال:42)، وأنه مع هذه الثلةالقليلة الصالحة التي استجابت من بين الملايين من المسلمين لقوله تعالى «فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» (التوبة:122) وحظي من دون كل أولئك بما اعد الله تعالى من الكرامات لطالب العلم الذي يستغفر له من في السماوات والأرض وأن الملائكة تفرش له أجنحتها وأن حلق العلم روضة من رياض الجنة وان من ترك ورقة فيها علم نافع كانت حجابا بينه وبين النار وغيرها من الألطاف الإلهية.

ولا بد أن لا نكتفي بالشكر اللساني فإنه أدنى مراتب الشكر وإنما علينا أن نؤدي الشكر العملي بان نؤدي وظائف النعمة ونقوم باستحقاقاتها التي تقدم ذكرها مع الاعتراف بعجزنا عن شكر ولو نعمة واحدة بان كل شكر هو نعمة تستحق الشكر من جديد فأنى للإنسان أن يؤدي حق الشكر.

لا تتركوا مسؤولياتكم الدينية بخديعة الشيطان:

إنني أسمع عن البعض انه حينما تعرض عليه مسؤولية دينية معينة كإمامة الجماعة أو التدريس فإنه يرفضها ظناً منه أن ذلك تورع وحفظ للنفس من الرياء والعجب ونحوها، وهو قد يكون حسن النية وقد يكون تكليفه ذلك لكن هذا تصرف سلبي وتحقيق لمراد الشيطان بلباس الدين، فإن إبليس لا يريد أن يعبد الله تبارك وتعالى «لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ» (الأعراف:16) فحينما تنسحب من الأعمال الإيمانية فقد أعطيت

ص: 26

لإبليس مراده ووقعت في حبائل خداعه، فإن المسجد إذا خلى من صلاة الجماعة سوف لا يقصده المصلون وتعطل شعائر الله ويفتقد الناس الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة والأخ المخلص حيث يجد كل هذا المسجد.

التصرف الصحيح هو تهذيب النفس:

أما التصرف الايجابي فهو تهذيب النفس وتأهيل الشخصية لممارسة هذه الوظائف ولا نكون كذاك الرجل الذي كانت زوجته تكره التدخين وعاش صراعا بين الاحتفاظ بزوجته وعادة التدخين وأخيراً قال لصاحبه لقد تركتها، قال الآخر: تقصد عادة التدخين قال الرجل: لا.. فقد تركت زوجتي، فهذا سير في الاتجاه الخاطئ في مثل هذه المنعطفات التأريخية فعليه أن يتوكل على الله ويخلص نيته ويشد عزمه ويكون ذا مصداقية فيطابق قوله عمله، وحينئذ سيكون التصدي للمسؤولية فرصة لتحقيق التكامل فإن الارتقاء في سلمالتكامل يحصل من أعمال ورياضات فردية.، ويحصل بدرجة أكبر من خلال الانخراط في العمل الجماعي وأداء الوظائف الاجتماعية.

فإن المؤمن يشعر بدرجة من المسؤولية أمام ربه فيؤدي الواجبات ويتجنب المحرمات حتى في السر فإذا انخرط في سلك الحوزة الشريفة وارتدى الزي الديني فإن شعوره سيزداد وسيترك بعض التصرفات المحللة لمجرد أنها غير لائقة بوضعه الجديد، فإذا صار إماماً للجماعة فسيكون أكثر مراقبة لنفسه لأنه صار محل ثقة عدد من الناس يصلون خلفه ويعتقدون بعدالته ولا بد من مطابقة ظاهره لباطنه لكي لا يصير منافقاً، وهكذا يرتقي في السعي نحو الكمال حتى إذ بلغ المرجعية وقيادة الأمة فإنه سيكون في درجة عالية من النزاهة والعفة والطهارة لأنه يشعر بمسؤوليته عن مصير ملايين المسلمين في أرواحهم وأموالهم وأعراضهم وعزتهم وكرامتهم.

ص: 27

نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ:

إنكم حين كرستم أنفسكم لخدمة الدين وإعلاء كلمة الله تعالى وحفظ مصالح الناس أصبحتم من أنصار الإمام الموعود والممهدين له فحينما يدعو الإمام (عليه السلام) كما دعى عيسى روح الله «مَنْ أَنْصَارِي إلى اللَّهِ» ستجيبون كما أجاب الحواريون «نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ» (آل عمران:52).

إن يوم ارتدائكم الزي الديني وإعلانكم اتخاذ هذا السلك منهجا لحياتكم هو أهم منعطف في حياتكم وأعظم قرار تتخذونه، وسيكافئكم الله بالحسنى لأن موقفا شجاعا يقوم به الإنسان يكون كافيا لملئ حياته بالنفحات الإلهية «وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ» (القصص:60) «وَلَلآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولى» (الضحى: 4) كما أني اعتقد أن بركات كثيرة نلتها في حياتي ببركة توفيق الله تعالى لي حينما رفضت خدمة النظام الصدامي المجرم ولو لحظة بعد تخرجي من الكلية عام1982م.

ص: 28

الفصل الثاني: التقصير في الانتماء الى الحوزة الشريفة

اشارة

ص: 29

تنبيه الأمة إلى تقصيرهافي امتثال آية النفر إلى الحوزات العلمية

اشارة

تنبيه الأمة إلى تقصيرهافي امتثال آية النفر إلى الحوزات العلمية(1)

الحث الإلهي على النفر:

قال تعالى: «فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» (التوبة: 122).

والآية تحث المؤمنين على النفر إلى حواضر العلم ومعاهد الدراسة لتحصيل الأحكام الشرعية والمعارف الإلهية التي ترشد الأمة إلى طاعة الله تبارك وتعالى وتأخذ بأيديها نحو الكمال، وقد حددت مجموعة تنتدبهم الأمة للتفرغ إلى تحصيل العلم بأن تنفر من كل فرقة طائفة، فإذا التزمنا أن تعداد الفرقة هي بضعة آلاف واقل عدد يصدق عليه طائفة في اللغة ثلاثة، فتكون نسبة من يتخصص لتحصيل العلم في الحوزات العلمية الشريفة هو واحد بالألف وهي نسبة معقولة جداً، فإن لكل ألف إنسان يكون من الضروري أن يوجد لهم عالم ديني يوجههم ويرشدهم ويزكيهم ويطهرهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.

هذا هو مقتضى الحث الإلهي الأكيد، فكم هو تقصير الأمة في الامتثال له؟ وكم هي ظالمة لنفسها في عدم الاستجابة لهذه الدعوة الإلهية؟ حيث لا يوجد في المحافظة التي

ص: 30


1- من كلمة سماحة الشيخ (دامت تأييداته) مع وفد من مثقفي ونخب ناحية الكرمة التابعة لقضاء سوق الشيوخ في الناصرية وبحضور عدد من أبناء جلولاء وأهالي الغزالية ببغداد وإدارة مستشفى الجملة العصبية في بغداد يوم السبت 14 ربيع الأول 1426، وذكر نفس المعنى في لقائه بطلبة جامعة الصدر الدينية فرع ذي قار وكربلاء يوم الخميس 19 ربيع الأول 1426. وقد نشر في الصفحة الأولى من العدد (22) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 26 ربيع الأول 1426 الموافق 5 آيار 2005.

يصل تعداد سكانها مليون إنسان إلاّ خمسة أو عشرة والمفروض أن يكون فيها ألف من الدعاة إلى الله تبارك وتعالى والأدلاء على طاعته.

تكليفنا نحن في العراق:

هذا بحسب التكليف العام ويضاف على أهل العراق خاصة تكليف إضافي ذلك بان أنظار العالم كلها متوجهة إليهم والى حوزتهم المباركة لما لها من سمو روحي وإبداع علمي، تطلب منهم العلماء والمفكرين والخطباء والكتاب، مما يجعل الحوزة العلمية في النجف الأشرف توسع من شعورها بالمسؤولية تجاه العالم كله.

هذا ما دعانا –كواحدة من الخطوات العملية لتحمل هذه المسؤولية الإلهية- إلى نشر الحوزات العلمية النظامية في محافظات القطر من خلال تأسيس فروع جامعة الصدر الدينية ذات النظام(1)

والمفردات العلمية المواكبة لتطور العلم والفكر وتجدد التحديات والآليات، وإذا كان عذر كثيرين هو عدم القدرة وتوفر الظروف للدراسة في النجف الأشرف فها هي الحوزة العلمية المباركة جاءتكم تقدم خدماتها لكم فلماذا التقصير وعدم الاستجابة؟!

على الشباب الرسالي أن ينخرط في الحوزة:

أن كثيرين يتحدثون عن الخلل القيادي في المرجعية الدينية، أو سوء الإدارة وتوزيع الأموال، أو ضعف الخطاب الديني، أو تصدي حوزويين غير قادرين على التعاطي مع واقع الأمة المعقد بمشاكله وهمومه وقضاياه وآماله، وهذه الكلمات وغيرها قد تكون صحيحة بدرجة من الدرجات، وحينئذٍ يكون دور الشباب الرسالي والطليعة الواعية للأمة أن تلتحق بالحوزات العلمية وتجدّ وتجتهد في تحصيل العلوم الدينية والمعارف الإلهية والاتجاهات الفكرية حتى الوصول إلى أسنى الدرجات أعني التأهيل للمرجعية الرشيدة

ص: 31


1- راجع كتاب (المعالم المستقبلية للحوزة العلمية) للتعرف على هوية هذه الجامعة ونظامها الداخلي.

والقيادة الحكيمة، لتساعد على تجاوز هذا الخلل وهذا الضعف، فإن وجود العنصر النظيف الكامل القوي في أي ساحة سوف لا يبقي مجالا للعناصر الضعيفة غير القادرة على تحمل المسؤولية، وسوف تتحول الأمة إلى من هو الأفضل والأكفأ والأقدر وان طال الزمن. أما الانزواء والاكتفاء بالنقد فهذه حالة سلبية لا توصل إلى حل بل تبقي الخلل والنقص على ما هو عليه حتى يتجذر في واقع الأمة ويؤدي أمرها إلى الضياع.

الحرب مع أهل المصالح:

وليعلم العاملون الرساليون أن مشروعهم سيلقى معارضة شديدة وحربا شعواء من الدنيويين المنتفعين بالحالة الموجودة؛ لأنهم يعلمون أن النور يطرد الظلام والحق يطرد الباطل ولا يبقى له وجود وان لم يتفوه بكلمة، لكن عطاءه الثرّ والفاعل في حياة الأمة سيسحب البساط من تحت أقدام المعسكر الآخر، وهذا الذي كان يدعو الطغاة إلى محاصرة الأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السلام) والعلماء والهداة والقضاء عليهم رغم أنهم لا يجدون عندهم جيشاً ولا سلاحاً ولا أموالاً، لكنهم يعلمون أن وجودهم المبارك الذي يفيض إشراقاً على الأمة سوف لا يبقي أحدا يلتفت إلى أولئك الفارغين العابثين المتسلطين بغير حق.

إن إصلاح حالة البلد وازدهار الأمة ورقيها لا يقوم به إلاّ أهله الذين عاشوا معاناته وفهموا قضاياه واستوعبوا آماله؛ لأنهم جزء منه فيستطيعون التفاعل مع مطالبه، وبنفس الوقت تكون الأمة قد عرفت تأريخهم وجهادهم وعملهم الدؤوب لنفع الأمة واختبرت مواصفاتهم الشخصية، وهكذا كان الأنبياء والرسل (عليهم السلام) يختارهم الله تبارك وتعالى من قومهم «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ» (الجمعة: 2)، «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ» (التوبة:128).

ص: 32

فقد لبث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قومه أربعين سنة عرفوا فيها صدقه وأمانته وطهره ونزاهته وترفعه عن الدني من الأقوال والأفعال. فليأخذ العراقيون لأنفسهم هذا الدرس ويستوعبوه ويأخذوا بمقتضاه.

أسأل الله تعالى أن يجد ندائي هذا ودعوتي المخلصة هذه آذاناً صاغية (وتعيها إذن واعية) عند الشباب المخلصين والنخب الواعية وينهضوا بهذه المسؤولية المباركة فإنها تجارة لن تبور.

ص: 33

الانتماء للحوزة الشريفة والتقصير في آية النفر:

الواجبات الاجتماعية من آية النفر:

يشترك المجتمع والحوزة في التقصير تجاه الآية الشريفة: «فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(التوبة:122)، والفرق أنّ المجتمع مقصر في تطبيق الشق الأول منها وهو قوله تعالى: «فَلَوْلا نَفَرَ...» والحوزة مقصرة في أداء التكليف الثاني: «وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ»، إذ تتضمن الآية واجبين اجتماعيين(1).الأول: وجوب النفر(2)

على طائفة وأقلها ثلاثة من كلّ فرقة، والفرقة لها مصاديق عديدة كالمدينة والحي والقرية والعشيرة وبعضها كالمدن الكبيرة تمثل عدداً من الفرق.

فهل يا ترى نفر من كلّ عشيرة أو مدينة طائفة؟ وأنت ترى إنّ مدناً كثيرة وعشائر واسعة لم ترسل ولا واحداً من أبنائها إلى الحوزة الشريفة ليتفقهوا في الدين، لذلك وقعوا

ص: 34


1- بحسب المصطلح الذي بيناه في مناسبات عديدة، أنظر: خطاب المرحلة: ج1 ص286: (الفقه الاجتماعي ضرورة حضارية).
2- جاء في الكافي في باب فرض العلم و وجوب طلبه و الحث عليه: عن أبي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ: (تَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ مِنْكُمْ فِي الدِّينِ فَهُوَ أَعْرَابِيٌّ إِنَّ اللهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: «لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ». وجاء في البحار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (تفقهوا في دين الله ولا تكونوا أعراباً فإن من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة ولم يزك له عملاً). تحف العقول.

في التيه والضلال كما وقع فيه بنو إسرائيل من قبل حذو النعل بالنعل كما في الحديث الشريف.

الثاني: وجوب التبليغ والإنذار والتوجيه على الذين نفروا إلى معاهد العلم ونهلوا العلوم الشريفة(1)، أمّا أن يتلقى الحوزوي أنواع العلوم من دون عطاء وإيصال إلى المجتمع فهذا خلل في تطبيق الآية الشريفة.

الانفصام بين الحوزة والمجتمع:

ونتيجة لهذا التقصير المشترك بين الحوزة والمجتمع انفصمت العروة الوثقى بين الحوزة التي هي بمثابة الرأس والمجتمع الذي هو بمثابة الجسد، وراح الناس يتخبطون بالفتن والضلالات، وتلقفتهم الفئات الضالة والمنحرفة والمعادية للإسلام بعد أن تخلت الحوزة عن احتضانهم ولم تكن بمستوى طموحاتهم وآمالهم، ونحن نعلم أنّ أغلب الناس ينعقون مع كلّ ناعق ويميلون مع الريح، فلماذا لا تكون ريح الحوزة قوية وفاعلة ومؤثرة حتى تكون هي الريح التي يميلون معها؟ ولماذا ريح الحوزة ضعيفة وربما معدومة؟

ص: 35


1- عن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَنَّهُ قَالَ في كَلامٍ لَهُ: (الْعُلَمَاءُ رَجُلانِ رَجُلٌ عَالِمٌ آخِذٌ بِعِلْمِهِ فَهَذَا نَاجٍ وَ عَالِمٌ تَارِكٌ لِعِلْمِهِ فَهَذَا هَالِكٌ وَ إِنَّ أَهْلَ النَّارِ لَيَتَأَذَّوْنَ مِنْ رِيحِ الْعَالِمِ التَّارِكِ لِعِلْمِهِ وَ إِنَّ أَشَدَّ أَهْلِ النَّارِ نَدَامَةً وَ حَسْرَةً رَجُلٌ دَعَا عَبْداً إلى اللَّهِ فَاسْتَجَابَ لَهُ وَ قَبِلَ مِنْهُ فَأَطَاعَ اللَّهَ فَأَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَ أَدْخَلَ الدَّاعِيَ النَّارَ بِتَرْكِهِ ==عِلْمَهُ وَاتِّبَاعِهِ الْهَوَى وَ طُولِ الامَلِ أَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ وَ طُولُ الأمل يُنْسِي الآخرة) الكافي. وعَنْ أبي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَالَ (جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْعِلْمُ قَالَ: الإنصات، قَالَ ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: الاسْتِمَاعُ قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ الْحِفْظُ قَالَ ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ الْعَمَلُ بِهِ قَالَ ثُمَّ مَهْ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ نَشْرُهُ). الكافي عَنِ الرِّضَا (عليه السلام) قَالَ: (رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً أَحْيَا أَمْرَنَا قُلْتُ كَيْفَ يُحْيِي أَمْرَكُمْ قَالَ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ فإن النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلامِنَا لاتَّبَعُونَا).

الحوزة وأصناف طلابها:

وأُقدم لك مثالاً لشكلين من الحوزة: أحدهما يؤلف الرسالة العملية ويقعد في بيته وينتظر من يطرق بابه ويسأله، والآخر يتوسل بمختلف الأساليب لإيصال الوعي الديني إلى المجتمع، فإذا فشلت وسيلة جرّب غيرها، فمثالهما كأمّين، إحداهما تطبخ الطعام وتتركه إلى جانب ولدها المريض الضعيف المحتاج إلى الطعام، فإن شاء أكل وإن شاء لم يأكل، وهو لا يعرف ما يصلح حاله، فينتهي أمره إلى الهلاك، وأخرى لا تكتفي بتهيئة الطعام، بل تتفنن في إقناع الطفل بالأكل، وكلما فشلت وسيلة أو لم يرغب بالطعام أعدت غيره وبوسيلة أخرى حتى يأكل ويسترد عافيته.

إن المجتمع كالطفل المريض؛ أما أنه كالطفل فلأنه قاصر ويحتاج إلى من يرعاه ويربيه ويحتضنه، ومريض لأنه مليء بالأمراض الاجتماعية ويعمّه الفساد والانحراف وهو لا يعرف من أين وكيف يأخذ طعام المعرفة والإيمان ليعالج أمراضه، والحوزة هي الأم الحنونة الرحيمة الرؤوفة الشفيقة الحريصة، فأي الأُمَّين في المثالين أجمع لهذه الصفات الكريمة التي هي مشتقة من الأسماء الحسنى، وقد أمرنا بالتحلي بها كما في الحديث الشريف: (تخلقوا بأخلاق الله تبارك وتعالى) فأي الأُمَّين حنونة رحيمة رؤوفة شفيقة حريصة؟ الثانية طبعاً.

أصناف الطلبة وتجسيد العمل بآية النفر:

وأمامي صنفان من طلاب الحوزة الشريفة:

1- صنف جاء إلى النجف الأشرف لطلب العلم واستقر فيها ونسي عشيرته وأهله الذين ينتظرونه ليفيض عليهم مما رزقه الله تعالى، فصار يطلب العلم للعلم لا للعمل.

ص: 36

2- صنف بقي شعوره بالمسؤولية بين جوانحه، وبقي الحس الاجتماعي في أعماقه، كلما وجد فسحة في الدرس أو عطلة عن التحصيل عاد إلى أهله ووطنه يرشدهم ويدعوهم إلى الله تبارك وتعالى.

لاشك أن الثاني هو مصداق الآية الشريفة، فإنّه قد جسد العلم بالعمل، فيكون محلاً لإفاضات جديدة لأن (العلم يزكو بالإنفاق)(1)، و(بذله لمن لا يعلمه صدقة)(2)، والصدقة بسبعمائة ضعف وأزيد، بل لا قيمة للعلم بلا عمل سواء على صعيد النفس أو المجتمع، وفي الحديث: (العلم مقرون بالعمل، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلاّ ارتحل)(3)،

ولنتأمل في المثال القرآني: «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً»(الجمعة:5) أعيذكم بالله تعالى أن تكونوا ممن عنتهم الآية.

وبصراحة أقول لكم: (إنّ طالب العلم الذي أجده ماكثاً في النجف في مواسم التبليغ والإرشاد ولا ينتشر في الأرض ليؤدي رسالته ينقص في عيني إلاّ أن يكون ممن يمارس ذلك في النجف نفسها، ولا أجد أي مرجح على ذلك كالتأليف ومراجعة الدروس ونحوها، فإنها مما يمكن إتيانها في غير هذه المواسم)(4)، وإذا كان هذا مما يزعجكم فاعلموا إنّ هذا مما ينقصكم في عين الله ورسوله وأمير المؤمنين والإمام الحجة أرواحنا له الفداء.

لماذا تضاعفت مسؤولياتنا في الوقت الحاضر؟

وقد تضاعفت هذه المسؤولية في الزمان الحاضر لابتلائنا بقضيتين مرتبطتين ببعضهما هما:

ص: 37


1- بحار الأنوار: 75 / 76.
2- المصدر السابق: 1 / 166.
3- نهج البلاغة: 4 / 85.
4- كانت هذه الكلمة مؤثرة على طلبة العلوم الدينية حيث انطلقوا بهمّة وحماس إلى التبليغ والوعظ والإرشاد ولم يبقَ في النجف الأشرف خلال التعطيل إلا القلة من كبار العلماء والمستوطنين فيها.

1- الهجمة الشرسة التي يتعرض لها المسلمون في العالم تحت عناوين مظللة ومموهة يستطيعون بها تمرير خططهم و تحشيد أكبر عدد من المؤيدين، واختاروا لذلك عنوان الإرهاب، ولم يضعوا تعريفاً واضحاً محدداً له ليمكن تمييز الأفراد الداخلة عن غيرها، فبقي مبهماً ومفتوحاً لشمول كلّ من يقف في طريقهم ولا يخضع لهم، وبهذا العنوان المبهم المثير للاشمئزاز جندوا الكثير في حربهم القذرة رغباً ورهباً.

وهذا الأسلوب من الخداع والتضليل ليس جديداً، فهم أبناء أولئك الذين جندوا جيوشهم لحرب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ووضعوا عناوين مظللة له بأنه ساحر كذاب، سفه آلهتنا، وكذلك لحرب أمير المؤمنين (عليه السلام) لأنّه قتل عثمان، ولحرب الحسين (عليه السلام) لأنّه خارجي خرج على إمام زمانه، وللحرب الصليبية لنصرة الصليب المقدس، والحقيقة غير هذا كله، فلا شيء وراء كلّ هذه الحروب إلاّ المحافظة على المصالح والامتيازات وجلب المزيد منها.

والذي يتابع تصريحات الساسة الغربيين يكتشف هذه الحقيقة كما جرت على لسان الرئيس الأمريكي ورئيس وزراء إيطاليا ورئيسة وزراء بريطانيا السابقة، لأنّهم يشعرون بعد انهيار الاتحاد السوفيتي كقطب عالمي مقابل لهم، أن العدو المقبل والوحيد هو الإسلام، فقد أكّد صموئيل هانتنج تون(1)

صاحب نظرية صدام الحضارات التي نشرها أول مرة في مجلة شؤون خارجية في عددها سنة 1993 يقول:

ص: 38


1- صموئيل هانتنج تون: بروفيسور أمريكي من أصل يهودي متخصص في الإدارة العامة ومدير لمعهد جون أولين للدراسات الاستراتيجية في جامعة هارفارد وقد كرس حياته المهنية لموضوع الاستراتيجية العسكرية بحثاً وتدريساً واهتم بصورة مباشرة بالدراسة المقارنة في مجال السياسة الأمريكية وسياسات دول العالم الثالث وقد أسندت إليه ما بين عامي 1977 - 1978 مسؤولية قسم التحليل والاستشراف بمجلس الأمن القومي الأمريكي) عن كتاب قضايا في الفكر المعاصر / محمد عابد الجابري. صفحة 93.

(إنالصراع القادم سوف لن يكون آيديولوجياً مثلما كان إبان الحرب الباردة بقدر ما سيكون صراعاً بين الحضارات، لا سيّما الحضارة الإسلامية والغربية) وقال ما نصه: (أن التفاعل العسكري الذي يمتد عمره قروناً بين الغرب والإسلام ليس من المرجح أن ينحسر بل قد يصبح أكثر خطراً)(1)، وقد جاءت هذه النظرية بشكل مستعجل ومضطرب وفاقدة للأدلة والشواهد العلمية الدقيقة - كما هو شأن الحقائق العلمية – مباشرة بعد أطروحة (نهاية التأريخ) لفرانسيس فوكا ياما الأمريكي من أصل ياباني، فلماذا حصل هذا رغم أنهما يشتركان في أصل الفكرة، وهو (إن النموذج الغربي هو الأمثل، ولابد أن يخضع له العالم أجمع، ففوكا ياما أكد في نظريته أنّ الديمقراطية الليبرالية هي نهاية التأريخ في ضوء انتصارها على الشيوعية، بل أنهّ لم يتوانَ عن دعوته إلى فرض النموذج الغربي على كلّ دولة في العالم، بحجة أنهّ(2)

من أجل رقي مجتمع ما يجب على الدولة أن تكون ديمقراطية وأن تكون على اتصال بنظام السوق العولمي)(3).

وما دامت النظريتان تشتركان في أصل الفكرة، فلماذا تنال نظرية صدام الحضارات ترويجاً، وتُهمل نظرية نهاية التأريخ؟!!

والسر في ذلك يرجع إلى الوظيفة التي تؤديها الفكرة، إنّ فكرة (نهاية التأريخ) تتحدث عن الماضي، وبالتالي تبعث على الاطمئنان على مستقبل أمريكا وتؤكد على الانتصار النهائي لليبرالية، الشيء الذي يجعل مثلاً التساؤل عن جدوى

ص: 39


1- الفكر الإسلامي المعاصر والعولمة/سناء كاظم كاطع عن صِدام الحضارات: صموئيل هانتنج تون وآخرون من مركز الدراسات والبحوث والتوثيق، بيروت 1995 صفحة 25.
2- المصدر السابق: ص25.
3- المصدر السابق: ص2.

تخصيص مبالغ هائلة للدفاع في ميزانية الولايات المتحدة تساؤلاً مشروعاً(1)،

أما نظرية صدام الحضاراتفتتحدث عن المستقبل وتنذر بخطر المواجهة والحرب، وتدعو إلى الاستعداد للدفاع عن النموذج الأمريكي وعن المصالح التي يقوم عليها، وبالتالي تخصيص أموال لذلك(2).

قد سمعنا(3)

أن ميزانية هذا العام (2002م) تضمنت زيادة 48 مليار دولار على الشؤون العسكرية، وما كانوا يستطيعون إقناع شعبهم بهذه الزيادة إلاّ من خلال هذه الحرب الحضارية، وتقول تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا عام 1991م: لقد قضينا على الشيوعية وبقي علينا أن نقضي على الإسلام(4).

وحربهم هذه على الإسلام ليست جديدة وإن تركزت اليوم وتوسعت، فمن قبل قال رئيس الوزراء البريطاني تشرشل بعدما رفع المصحف لجنوده: (انزعوا هذا الكتاب من حياة المسلمين أضمن لكم السيطرة عليهم)، وقال لويس التاسع ملك فرنسا عند هزيمته في الحملة الصليبية وإطلاق سراحه عام 1250 مخاطبا جنده: (إذا أردتم أن تهزموا المسلمين فلا تقاتلوهم بالسلاح وحده فقد هزمتم أمامهم في معركة السلاح، ولكن حاربوهم في عقيدتهم فهي مكمن القوة فيهم) وقال المبشر وليم جيفورد: (متى توارى القرآن ومدينة مكة من بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى

ص: 40


1- إذا انتهى التأريخ وانتصرت أمريكا وسيطرت الحضارة الغربية، فلماذا هذه المليارات للتسلح والاحتياطات الأمنية وحرب النجوم وغيرها من المشاريع لوزارة الدفاع؟!!.
2- قضايا في الفكر المعاصر: ص84.
3- كان سماحة الشيخ يتابع نشرات الأخبار ويدوّن في سجلّ أهم الأحداث، ومنه ينقل بعض الشواهد التي يحتاجها في حديثه، وقد تضمنت محاضراته وبياناته الإشارة إلى جملة منها.
4- الفكر الإسلامي المعاصر والعولمة: ص169.

العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداً عن محمد وكتابه)(1)، فهدفهم إخراج المسلمين من قيمهم ودينهم وتفتيت الوحدة الإسلامية وتمزيقها(2).وماذا يريدون من حربهم الحالية ضد الإسلام والمسلمين؟ يقول البروفسور ريتشارد كروسمان المسؤول السابق لقسم الحرب النفسية في بريطانيا: (هدف هذه الحرب تحطيم أخلاق العدو وإرباك نظرته السياسية، ودفن جميع معتقداته ومثله التي يؤمن بها، والبدء بإعطائه الدروس الجديدة التي نود إعطاءَها له ليصار بالتالي إلى أن يعتقد بما نعتقد به نحن)، فانظر إلى الكلمات المرعبة التي اختارها: (حرب – تحطيم – عدو – إرباك - دفن) فهل نحن في مرحلة الحرب أم الإرباك أم الدفن والعياذ بالله؟

2- إن اليوم الموعود للظهور المبارك قد قرب بشكل ملحوظ وقد يقال بتحقق جملة من علاماته، والأهم من ذلك توفر شروطه، فإن العلامات قد يحصل فيها البداء كما إنها واردة بألفاظ مجملة ورمزية وقابلة للانطباق على كثيرين، فالمهم مراعاة الشروط، لأن الشرط جزء من أجزاء العلة التامة، فلا بدَّ من اكتمالها، ولا أريد الدخول في بيان التفاصيل فإنها موكولة إلى كتاب شكوى الإمام (عليه السلام).

ظروف ظهور الإمام (عليه السلام) بنحو الإجمال:

أذكر باختصار بعض ما يتعلق بالمقام فإننا نجد اليوم ظروفاً ممهدة لقيام الإمام الحجة (عليه السلام) بالأمر، منها:

ص: 41


1- فركز على القرآن لأنه رمز قيمهم ومبادئهم وأخلاقهم وعلى مكة لأنها رمز وحدتهم ولم صفوفهم.
2- الفكر الإسلامي المعاصر والعولمة: ص161.

1- امتلاء الأرض بالظلم والجور والتعسف والعدوان، وهو ما بدا واضحاً بعد انفراد الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في العالم، وازداد وضوحا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام (2001م) حيث أظهرت أمريكا ومن ورائها الصهيونية من الظلم ما لم يسبق له مثيل، ولم يسلم من قنابلهم لا المسجد( ) ولا المستشفى ولا سيارات الإسعاف ولا السجون ولا النساء ولا الشيوخ، وقتل الأطفال وهم في أحضان آبائهم، ودمرت البيوت واقتلعت الأشجار وحوصر الأبرياء، ونشروا المواد التي تسبب الأمراض الخبيثة، وأعتقد أنّ الشواهد الكثيرة على كلّ ذلك حاضرة في أذهانكم، ولازالوا مكشرين عن أنيابهم لافتراس كلّ من ليس معهم ولا يخضع لإرادتهم ولا يركع لهم.

2- وصول الإسلام والمذهب الحق إلى كلّ بقعة من بقاع الأرض، وآخر معقل اقتحمه الإسلام هو الولايات المتحدة نفسها، فقد أجري فيها استطلاع للرأي العام قبل مدة للإجابة عن سؤال: ماذا تعرف عن الإسلام؟ فأجابت الأغلبية: لا نعرف شيئاً.

أما الآن فقد حصل إقبال على الإسلام بشكل لا نظير له، ونفدت الكتب التي تتحدث عن الإسلام بالإيجاب أو السلب - أي كتاب فيه بحث عن الإسلام اقتناه الأمريكيون - وازداد عدد المسلمين في أمريكا بعد أحداث 2001/9/11م إلى أربعة أضعاف وفق ما أعلنته إحدى المؤسسات المتخصصة في الموضوع، واضطر الرئيس الأمريكي نفسه أن يبين محاسن الإسلام وفضائله وارتباطه بالله، بعد أن كانوا يشوهون صورته ويظهرونه وكأنه دين بداوة وتخلف.

ص: 42

وكل هذا الانتشار للإسلام ليس بفضل جهود المسلمين مع الأسف، وإنمّا لعظمة مبادئ الإسلام وأحكامه، فهو بنفسه ينتشر، فبالرغم من حاجته لأبنائه إلاّ أنهّ إذا قصر المسلمون فإنهّ يمشي بنفسه، أما المسلمون فهم ثمانية ملايين في أمريكا لم يحملوا همّ الإسلام مع الأسف، وعاشوا أنانيتهم ولم يعملوا لإيصال صوته إلاّ بمقدار بعض المظاهر الدينية البسيطة، يصلون ويصومون وغير ذلك، أما اليهود فهم ستة ملايين، وهم أقل عدداً من المسلمين، ولكنهم مسيطرون على السياسة والاقتصاد والإعلام وكل شيء في حياة الأمريكيين.

3- وصول عدد معتد به من المسلمين إلى درجة التضحية الكاملة في سبيل الإسلام، وهو ما لم يكن معهوداً من قبل، وأوضح دليل على ذلك الاستشهاديون اللبنانيون والفلسطينيون الذين أذاقوا الصهاينة الرعب، وهم بذلك يعيدون ذكرى أعظم استشهاديين في التأريخ، وهم أصحاب الحسين (عليه السلام)، حيث كان الواحد منهم يقذف نفسه وسط سبعين ألفاً ويريهم العجائب من الشجاعة حتى يقضي شهيداً، وهذا المستوى من التضحية والإقدام على الموت بشكل اختياري وبكل سرور ينتظره الإمام من أنصاره ليستطيع بهم فتح العالم.

4- انتشار الوعي الديني في المجتمع وعودة الناس إلى ربهم ودينهم، والتفاتهم إلى تطبيق الحكم الشرعي في كل تفاصيل الحياة، وما كان مثل هذا من قبل، بل كان المتدينون قلة قليلة ويتحاشون إظهار ذلك، لأن المتدين يوصف بالرجعية والتخلف.

5- مرور المجتمع بألوان من الابتلاءات التي يعجز عن تحملها الكثير وخصوصا المجتمع العراقي بعد الحصار الجائر والعدوان الغربي المستمر، وخروجه من

ص: 43

جميع هذه الامتحانات ناجحاً من خلال التمسك بدينه والولاء لأئمته (عليهم السلام)، ولعمري إنّ العراق يثبت جدارته لاحتضان الإمام الموعود (عليه السلام) واستعداده الكامل لتحمل كلّ أنواع الصعوبات معه، وهذا سر المعاناة التي يمر بها مجتمعنا؛ لأنهّ المجتمع الذي يحتضن الإمام، لا ما يشاع من أنّ العراقي مستحق للعذاب لخبث أفعاله وسوء معدنه، فهذه فكرة أنشأها فينا أعداؤنا ليفقدونا الثقة بأنفسنا، وإلاّ فقد جرب الذين اختلطوا بمختلف الشعوب أنّ العراقيين هم أطيب قلباً وأكرم أخلاقاً وأكثر استجابة لداعي الدين والتمسك به.

فهذه الظروف الخمسة التي اختصرناها لكم، والباقي في كتاب (شكوى الإمام (عليه السلام).

المحاور التي يجب أن نكرس لها جهدنا:

بعد الالتفات إلى هذه المسؤوليات الملقاة على عاتقنا كمسلمين، علينا - خصوصا كحوزة في هذا البلد المستهدف الأول اليوم وغداً - مسؤوليات، فماذا أعددنا لهذا الصراع الحضاري الذي أعلنوه علينا؟ أنواجهه بالإهمال والتسكع؟ أم بالتمزق أم بتضييع الوقت بأمور تافهة لا تسمن ولا تغني منجوع؟ أم بالخلاعة والمجون ونشر الفساد والانحلال الخلقي(1)؟

فنعينهم على أنفسنا ونحقق لهم مرادهم مجاناً وبلا ثمن؟ فما أخسرها من صفقة!

فلنتعاون معا لاستخلاص المحاور التي يجب أن نكرس لها جهدنا وعملنا في مثل هذه المواسم، وهذه المحاور هي:

ص: 44


1- بمثل هذه الإشارات كان سماحته يعرّض بأفعال السلطة ويندّد بها.

1- بيان العقائد الحقة وترسيخها بالأدلة المبسطة، خصوصاً الوجدانية منها تأسياً بالقرآن الكريم من دون إشغال الفكر بالبراهين العقلية الدقيقة، فأنها خاصة بأهلها، ومن مصادر ذلك كتاب (أصل الشيعة وأصولها) للشيخ كاشف الغطاء بالمقدمة التي كتبتها فإن فيها فائدة.

2- نشر الأخلاق الفاضلة والتذكير بسيرة من جسّدوا تلك الأخلاق في حياتهم العملية، وهم الأسوة الحسنة محمد وآله، وتوجد عدة كتب نافعة في هذا المجال(1).

3- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتنبيه إلى الظواهر الاجتماعية المنحرفة، وقد صدرت كتب عديدة في هذا المجال، وخصوصاً محاضرتي التي صدرت في ذكرى مولد الإمام الحسين (عليه السلام).

4- الاهتمام بالقرآن الكريم وتفعيل دوره في المجتمع من خلال عدة جهات، خصوصاً الاستفادة من طريقته في إصلاح النفس والمجتمع وقد شرحت ذلك في كتاب (شكوى القرآن).

5- الارتباط بالحوزة الشريفة و أطاعتها ومراجعتها في كل شؤون الحياة التزاماً بقول الإمام (عليه السلام): (فأنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله والراد عليهم كالراد علينا).

6- بث الموعظة وإحياء القلوب بها وتهذيب النفوس، وهي وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام): (أَيْ بُنيَّ... أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ، وَأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ)، وجاء في الحديث: (إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد، وجلاؤها

ص: 45


1- تأتي محاضرات في هذا المجال ونُشر عدد منها في كتابي (الأسوة الحسنة للقادة والمصلحين) و (دور الأئمة في الحياة الإسلامية).

ذكر الموت وتلاوة القران)، وتوجد كتب عديدة في هذا المجال منها: نهج البلاغة، إرشاد القلوب، مجموعة ورام.

7- شرح الأحكام الفقهية، خصوصاً الابتلائية منها، لتصحيح أفعال الناس وفق الشريعة المقدسة.

8- الاستفادة من التأريخ لتلمس المواقف الصحيحة من الحوادث، وإن أمة تمتلك مثل تأريخنا الزاهر يفترض أنهّا لا تتيه ولا تضلّ، لأنّ فيه حلولاً لكلّ المشاكل.

9- شرح محاسن الإسلام وتكامل تشريعاته وشموليتها لكلّ نواحي الحياة، وقدرته على تلبية حياة البشرية على مدى العصور، وتكفله بتوفير السعادة لها، وعرض نظرياته ونظمه على أنه النظام الوحيد الصالح لقيادة البشرية.

10- فضح النموذج الغربي على مستوى النظرية والتطبيق، أي بمناقشة أصل مرتكزات حضارته(1)، أما على مستوى التطبيق ففضحه بتوعية المجتمع وإلفات نظره إلى جرائم المثل الغربي الأعلى (أمريكا)، ولا يحتاج ذلك إلى مؤونة كبيرة بعد أن ارتكبوا ما لا يصدق من الأفعال المنكرة وعلى رؤوس الأشهاد، حتى أنيّ سمعت من كاتب في رأس السنة الميلادية الحالية - وهم بصدد تقييم أحداث العام الماضي – فقال: أثبتت الأحداث أنا لسنا بحاجة إلى التقدم التكنولوجي، وإنمّا بحاجة إلى أخلاق وقيم روحية لتوفير السعادة والاطمئنان، فهم إذن بدأوا يناقشون حضارتهم، فعليكم أن تعمقوا هذا الإحساس الموجود وتظهروه.

ص: 46


1- مثلا هم يقولون نحن نعرف المصالح !!! ونحن نقول: (كيف ذلك؟ فيوجد مُثُل وأخلاق ومبادئ، فالمصالح ليست مقياساً بشرياً) فهذا على مستوى النظرية أي كشف المرتكزات وبيان الخلل فيها.

11- الاعتزاز بالشخصية الإسلامية وبيان مقوماتها وتجسيدها في سلوكنا وأفكارنا، ونفي التبعية للغرب في كل شيء، سواء في الملابس أو قصّات الشعر أو الأفكار والمعتقدات أو الأعراف والتقاليد، فإن هذه التبعية تؤدي إلى ذوبان القيم والأخلاق والعقائد(1)، فنحن اليوم نقلدهم بقصّات الشعر، وبعده بالأتكيت والعرف، وبعده نقلدهم بالأفكار، وبعده نقلدهم بالمعتقدات، فنضيع في جاهليتهم الحمقاء.

وهم من هذه الناحية لا أقول أذكياء، بل خبثاء ماكرون، فقد صدّروا لنا حضارتهم من خلال نماذج حسية كالرياضيين أو الممثلين، فنعجب بالرياضي أو الممثل فنقلد حركاته وقصة شعره ونتطبع بشخصيته، فتضيع شخصية المسلم، لعلمهم باستئناس البشر بالحسيات، فتغير شبابنا وراء هذه النماذج وأضاعوا قدراتهم الكامنة التي يزخر بها تأريخهم وحاضرهم، فالمسؤولية عليكم مضاعفة أن تعوضوا المجتمع بقدوات حسنة ونماذج كاملة(2).

12- الحث على الحضور في المساجد وتأدية الشعائر الدينية فيها كصلاة الجماعة أو المجالس الحسينية أو قراءة الأدعية بشكل جماعي، كدعاء كميل ليلة الجمعة، ودعاء الندبة ضحى الجمعة.

13- المحافظة على وحدة الحوزة والمجتمع وعدم التركيز على نقاط الخلاف، فإنها مهما تكن لا تصل إلى أهمية القواسم المشتركة الكثيرة التي تجمعنا، فهل من المعقول أن نفترق بسبب نقطة واحدة وبيننا (99) نقطة مشتركة، وهم يجتمعون على نقطة

ص: 47


1- صدرت استفتاءات وبيانات عديدة لسماحة الشيخ لبيان هذا التكليف، أنظر خطاب المرحلة: ج2 ص283 وما بعدها.
2- تجعلون المجتمع مقتنعاً بكم، بدل أن يقتنع بالرياضي الفلاني والفنان الفلاني اجعلوه يقتدي بكم ويقتنع بكم.

واحدة وبينهم (99) نقطة اختلاف، فبأي مقياس نقبل هذا، إنهّا معادلة مؤلمة ومقرحة للقلوب.

14- إثارة قضية الإمام المهدي (عليه السلام) والدفاع عنها وتثبيتها، وبيان تكليف المجتمع تجاهها ونشر ذكره والتوسل به واستدرار ألطافه.

الإسلام محتاج إلى جميع أبنائه:

ولا أخص بكلامي الرجال فقط، بل النساء أيضا، بل النساء مسؤوليتهن أعظم بهذا الاتجاه، لان الخلل في شريحتهن أكثر والغفلة عنهن أكثر وقلة المهيئات منهن للقيام بالمسؤولية.

في يوم كنت أكتب استفتاءً، فضمن الجواب كتبت كلمة (إنّ الإسلام محتاجٌ إلى جميع أبنائه)، كلمة واضحة، ولكني شعرت في حينها أنها من ألطاف الإمام (عليه السلام) ومن إيحاءاته، وخرجت منها بدروس كثيرة، ومن هذه الدروس أن الذين يعادونني ويحاولون تسقيطي وتشويه صورتي(1) لا أرد عليهم بالمثل، وأبقى محتضناً لهم، لأنهم – مهما يكن – أبناء الإسلام، والإسلام محتاج إلى كل أبنائه، فمهما أساؤوا لي فصدري واسع لهم، ومهما حاولوا من تشويه صورتي والنيل مني فإني أبقى محتضناً لهم وأحبهم.

ما هي الفائدة من القيام بهذه المحاور؟

وليعلم إخواننا المؤمنون أن القيام بهذه المسؤوليات يتضمن فائدة مزدوجة:

ص: 48


1- بعضهم كان حاضراً.

1- مواجهة التحديات الغربية وإفشال مؤامراتهم التي تستهدف فصلنا عن ديننا وسلخنا عن مبادئنا، قال تعالى: «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً»(النساء:89)، وقوله: «وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم»(البقرة:120)، فكلما حافظنا على إسلامنا كنّا أكثر نجاحاً في مواجهتهم، وكلّما تخلينا عن إسلامنا كنّا أقرب إلى تحقيق ما يريدون، فهذه المرأة السافرة وهذا الشاب الفارغ والتارك للصلاة والعاكف على شرب الخمر والمهمل لتعاليم القران، والذي يثير الفتن والضلالة في المجتمع، كلّ هؤلاء يساهمون من حيث يعلمون أو لا يعلمون في إنجاح خطط الأعداء «إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ»(المزمل:19).

2- التعجيل بظهور صاحب الزمان (عليه السلام) من خلال توفير شروط الظهور( )، ففي الحديث: (ما من قوم إلاّ ويلون أمر الناس قبل ظهور القائم؛ لئّلا يقول أحدهم: إننا لو ولينا لصرنا مثل هذا الرجل)( )، ولعل آخر نموذج تجرّبه البشرية –من غير المسلمين- قبل اليوم الموعود هو النموذج المادي الغربي بحسب الظاهر، فكلما عجلنا بفضحه وتنفير البشرية منه فإننا نعجّل بظهور الإمام (عليه السلام)، فلا تبقى قناعة إلاّ بالإسلام وحده، ويبقى معه بخط موازٍ (خط فضح النموذج الغربي).

ص: 49

أدوات رسالة التبليغ والإصلاح:

قلنا: إنّ فضح النموذج الغربي يمشي بخط موازٍ لخط عرض الإسلام الأصيل الناصع السليم على مستوى النظرية وعلى مستوى التطبيق( )، بمعنى تجسيدها عملياً في حياتنا، ومن هنا نعلم إنّ ممارسة الشعائر الدينية بشكل واسع له تأثير رئيسي لمواجهة العدوان الأمريكي على بلدنا.

ولأداء هذه الرسالة (رسالة التوجيه والإصلاح) أدوات كثيرة كالندوات والمسابقات والحوارات والإصدارات المختلفة، إلاّ إنّ الوسيلة الأهم هي الخطابة بكل أشكالها، خصوصاً خطابة المنبر الحسيني الذي يمزج العاطفة بالوعي، فإذا انضم إليها الولاء والإخلاص والإيمان فقد تكاملت لديه أسباب النجاح، وقد قلت في بعض الكلمات: إنّ من النقص في الحوزوي أن لا يكون خطيباً، ومن النقص في الخطيب أن لا يكون حوزوياً؛ فإن الحوزة لا تستطيع أن تؤدي واجبها كاملاً إلاّ من خلال الخطابة، والخطيب لا يكون ناجحاً ومفيداً إلاّ إذا تربى في الحوزة الشريفة، وهو ما نستفيده من الآيات الكريمةالتي أناطت هذه المسؤولية بثلة خاصة أُعدّوا إعداداً كافياً: «فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ..» طائفة تتميز وتعد إعداداً كاملاً وأخرى: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوف»(آل عمران:104) إشارة إلى القلة التي تتوفر فيها هذه الصفات.

ص: 50

أهمية العاطفة في المجالس الحسينية:

ومن الإساءة لهذا الموقع الشريف أن يتصدى له إنسان فارغ لا يجيد إلاّ التغني بالمراثي، وما عدا ذلك فانه لا يملك إلاّ أساطير وخرافات ودعاوى مكذوبة، فيوقع المجتمع في ضلالات وشبهات، فيورط نفسه في نار جهنم.

وأنا لا أريد أن أحرم الناس من جانب الإثارة والعاطفة، فأنا شخصياً حريص عليها، وكان المعصومون (عليهم السلام) يتحرونها، فعندما ينشد دعبل الخزاعي قصيدته التائية:

مدارسُ آياتٍ خلتْ من تلاوةٍ *** ومنزلُ وحيٍ مقفرُ العرصاتِ

يقول له الإمام الرضا (عليه السلام): (يا دعبل عرّج بنا على كربلاء)، فيقول:

أفاطمُ، لو خلت الحسين مجدّلاً *** وقد مات عطشاناً بشطّ فراتِ

فالعاطفة أمر ضروري وتعطي دفعة كبيرة نحو التكامل، ولكن لا نقتصر عليها.

القرآن علاج لأمراضنا الاجتماعية:

ولنكرّس جهدنا في الاستفادة من قابلية القرآن وقدرته على علاج أمراض البشرية والارتقاء بها في سلم الكمال، فإن القرآن خالد وحي ومعطاء إلى يوم القيامة ومن خلوده قدرته على تشخيص الداء وتقديم الدواء لكل مجتمع وكل زمان ومكان وما علينا إلا أن نستثير كوامن القرآن ونلتمس منه دواء دائنا وأمراضنا الاجتماعية والفردية.

فإذا أصيبت الأمة بالتمزق والتشتت فدواءهم قوله تعالى: «وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ»(آل عمران: 103)، بعد معرفة أن حبل الله هما القرآن وأهل البيت (عليهم السلام) بحسب الحديث الشريف.

ص: 51

وإذا أصيبت الأمة بالجبن والخور فعلاجهم قوله تعالى: «أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ» (النساء: 78)،«قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فإنه مُلاقِيكُمْ»(الجمعة: 8).

وإذا مر المجتمع ببلايا ومصاعب ومحن فشفاؤهم في قوله تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ»(البقرة: 214).

وإذا شعروا بالإحباط واليأس فعلاجهم قوله تعالى: «وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ» (يوسف: 87)، «وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ» (الحجر:56)، «إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ»(غافر: 51).

وإذا ألقينا مسؤولية الانحراف والظلم على غيرنا أو على الزمن فلنقرأ قوله تعالى:«وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ»( النساء: 79) «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ»(الرعد: 11)، «وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»(آل عمران: 117).

وإذا انصاع الناس وراء الكثرة الكاثرة ولسان حالهم (حشر مع الناس عيد) بلا تعقل وروية وبصيرة، أجابهم القرآن: «وَمَا أكثر النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (يوسف: 103)،«وَإِن تُطِعْ أكثر مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ»(الأنعام: 116) «وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ» (يوسف: 106).

ومن الأمراض الاجتماعية التي عالجها القرآن (الإشاعة)(1) وهو داء فتاك يفرق المجتمع ويزلزل كيانه ويبلبل، أفكاره فقال فيها وفي علاجها: «وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ

ص: 52


1- صدر لاحقاً كتيب عن هذا الموضوع ضمن سلسلة (نحو مجتمع نظيف).

مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً» (النساء: 83)، وغيرها الكثير مما يعالج عللنا المزمنة.

دروس مستفادة من طريقة القرآن في إصلاح المجتمع:

وهنا ينبغي الإشارة إلى بعض الدروس المستفادة من طريقة القرآن في إصلاح المجتمع وهدايته:

1 - الالتفات إلى جانب العلل أكثر من المعلولات عند معالجة حالة معينة وهو شيء مهم وضروري، فعندما يراجع المريض طبيبا ويشرح له الأعراض التي يعاني منها فإن أهم ما يقوم به الطبيب تشخيص العلة وتعيين العلاج لها، أما الاكتفاء بمعالجة الأعراض المرضية كوجع الرأس وألم البطن أو ارتفاع درجة الحرارة من دون أن يشخص العلة فهذا من خطل التفكير، فمثلا إن من يريد أن يعالج ظاهرة التبرّج، أو ميوعة الشباب وتقليدهم للغرب، أو امتناع الناس عن دفع الخمس أو أداء الصلاة، أو ارتكابهم للفواحش كشرب الخمر واللواط، أو قل: عموم ابتعاد الناس عن تطبيق شريعة الله وتعمدهم مخالفتها لا يكتفي بأن يقول لهم هذا واجب فافعلوه وهذا حرام فاتركوه لأنهم مسلمون ويعرفون ذلك، فلا بد من تشخيص العلة لضعف الوازع الديني عندهم الذي هو الدافع للتطبيق ومن ثم علاجه، وضعف الوازع الديني إنما منشأه ضعف الجانب الأخلاقي والعقائدي لدى المجتمع، لذا ركز القرآن في مكة - أي في أوائل نزوله - على هذين الجانبين. بما طرح من عقائد ودافع عنها بالأدلة المختلفة ورد الإشكالات الموجهة إليها، وغالبا ما كان يثير كوامن فطرتهم لأنه دليل وجداني مرتكز في باطن كل إنسان ولا يستطيع أحد إنكاره والتنصل منه، واهتم بعرض مشاهد يوم القيامة وسنن الله في الأمم السالفة وعرض الكثير من مواقف العظةوالعبرة حتى أيقظ عقولهم وطهر قلوبهم وعندئذ كلفهم

ص: 53

بالأحكام فاستجابوا لها طواعية، ونحن نعلم ان فترة التربية في مكة كانت أكثر منها في المدينة ومن هذا يعلم الاهتمام المتزايد بجانب العلل أكثر من المعلولات.

2 - ومن هنا ينفتح الكلام عن الدرس الثاني المستفاد من طريقة القرآن في إصلاح النفس والمجتمع وهي ضرورة بناء الجانب الأخلاقي والعقائدي لشخصية المسلم، وقد اعتمد القرآن في هذا البناء على عدة أساليب ذكرتها في دروس (فلنرجع إلى الله) وقلنا هناك: أنه سلك طريق العوالم الثلاثة التي يعيشها الإنسان (العقل، القلب، الروح) فمثلاً يربط بين منع السماء بركاتها والأرض خيراتها وتسلط الأشرار وعدم استجابة الدعاء فيجعل علتها ابتعاد الناس عن شريعة الله وترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن أراد أن يتخلص من هذه النتائج السيئة فليؤدّ هذه الفريضة. ففي الحديث: (إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نزعت عنكم البركات ونزلت عليكم البليّات وسلطت عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم)(1).

وكان على رأس هذه الأساليب ما أشرنا إليه من عرض مشاهد وأهوال الموت وما بعده ويوم القيامة وحوار الكافرين والفاسقين في النار ومع شياطينهم والتذكير بسنن الله تبارك وتعالى في المعرضين عن طاعته. قال تعالى: «دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا» (محمد: 10)،«فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ» (آل عمران: 11)، وتعداد نعمه على العباد التي لا تعد ولا تحصى مع إقرارهم بحقيقة فطرية: «هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ» (الرحمن: 60)، ثم بيان السعادة التي تعمر قلب الإنسان وحياته ومجتمعه لو طبق شريعة الله. قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ»(الأعراف:96).

ص: 54


1- تهذيب الأحكام: 6 / 176.

إن العقيدة والأخلاق هما اللذان يرسمان الهدف الذي يعيشه الإنسان وبالتالي فهما يُحدّدان معالم مسيرته، فمثلاً إذا أريد التبرع لمشروع خيري أو مساعدة محتاج فأيهما الذي يبادر إلى المشاركة: المؤمن الذي يبتغي رضا الله سبحانه ويرجو العوض منه أم البعيد عنالدين الذي غاية همّه الاستزادة من الدنيا والذين هم«قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ» (الممتحنة: 13)، فالأول أسرع للمشاركة. فهذا مثال على اثر العقيدة والأخلاق في دفع الإنسان إلى التطبيق،فالمؤمن هدفه الله تبارك وتعالى، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، وإنما انحدرت الأمة وضلت لأنها أضاعت الهدف الذي تعيش من أجله فتفرقت بهم السبل. قال تعالى: «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (الأنعام: 153).

فما علينا إلا ملء هذا الفراغ في عقول وقلوب المجتمع حتى تصح مسيرته وتنتظم حياته وفق ما أراد الله تبارك وتعالى، وان نأخذ بطريقة القرآن في إحياء القلوب وترقيقها وتهذيب النفوس وتغذيتها بالعقائد الحقة التي هي منشأ الأخلاق الفاضلة. قال تعالى: «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ» (الحديد: 16).

وهذا باب ينبغي للمفكرين والمربين الولوج فيه وهو أسلوب القرآن في الموعظة وإحياء القلوب وجميع الآيات الشريفة فيه التي لو تأملها العاقل لأعاد النظر في منهج حياته، كقوله تعالى في سورة الدخان:«كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ، كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ، فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ» (الدخان: 25 - 29).

وإني أنصح بقراءة كتاب (القلب السليم) الذي يتألف من جزئين أولهما في العقائد والآخر في الأخلاق وهما صادران من قلب مخلص طاهر.

ص: 55

3 - التدريجية في الهداية والإصلاح والأخذ بأيدي الناس برفق ومثالهم الرئيسي على ذلك: التدريج في تحريم شرب الخمر - باعتباره عادة راسخة في المجتمع وقد أشربت في قلوبهم وعقولهم - فتدرج في المنع على مراحل، أوّلها:«يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ» (البقرة: 219)، فقال بعضهم لا نشربها لأنها إثم وقد حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم، وقال بعضهم نشربها بمقدار المنافع فيها، ثم نزل قوله تعالى: «لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىحَتَّىَ

تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ» (النساء: 43)، فامتنع بعضهم وقالوا لا نتناول شيئا منافياً للصلاة، ثم نزلت آية المائدة التي أفادت المنع المؤكد الجازم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ» (المائدة: 90).

ونفس نزول القرآن نجوماً أي مبعضاً على مدى (23) سنة إنما يهدف - فيما يهدف إليه - المعالجات الآنيّة آخذاً بنظر الاعتبار الزمان والمكان والظروف الموضوعية وتباين مستوى الناس واستعدادهم للتلقي والتطبيق.

ويمكن أن يكون التدرج بعدة أشكال فعندما يراد معالجة ظاهرة اجتماعية متأصلة - كالسنينة العشائرية مثلاً - فنبدأ أولاً بإثارة الإشكالات حول مدى صحتها وجدواها والتشكيك فيها ثم طرح البدائل والخيارات الأخرى المقابلة لها فإذا زرع في النفوس هذا التشكيك وبدأ الالتفات إلى البديل الأفضل فستنشأ القناعة بإبدالها، وعندئذ يمكن التصدي لنقضها، أما محاولة نقضها مباشرة ومن دون هذه التهيئة فإنه يعني الفشل الذريع، وما دامت راسخة ومتأصلة وقد جبل الإنسان على احترام ما هو مألوف ومورث عنده والتعبد به فسيكون هؤلاء المتعبدون كلهم ضد اية محاولة لتغيير هذه الظاهرة الاجتماعية.

فعندما بُعث الرسول (صلى الله عليه وآله) بالنبوة لم يتعرض للأصنام مباشرة بل كان يعبد الله تعالى هو (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) وخديجة (عليها

ص: 56

السلام) بمرأى ومسمع من قريش من دون أن تتعرض له بسوء، لكنه (صلى الله عليه وآله) فتح الباب للعديد من التساؤلات: ماذا يفعل هؤلاء الثلاثة ولمن يعبدون ولماذا تركوا طريقة قومهم وما هذه الشجاعة والإيمان الراسخ في قلوبهم الذي يجعلهم يقفون بكل اطمئنان مقابل الجميع . . . هذه التساؤلات أدت إلى إسلام جماعة - راجع قصة عبد الله بن مسعود في كتب السيرة - ولم تعارضه قريش لأنه لم يستفزها ولم يُثر حفيظتها فيما لو تعرض للأصنام مباشرة.

4 - الاهتمام وإلفات نظر الأمة إلى المرتكزات الأساسية لكيان الأمة الذي لا يحفظ إلا بها خصوصاً تلك التي يعلم إعراض الأمة عنها وإهمالها لأمرها من بعده (صلى الله عليه وآله) فشدد عليها كثيراً، مثلا، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإمامة والولاية للمؤمنين ومشاققةالكافرين ومودة ذوي القربى والاعتصام بالقرآن والعترة والمواظبة على المساجد والجماعات والجمعات، وما أن غاب شخصه (صلى الله عليه واله) حتى أهملت الأمة هذه الأسس الرصينة لحفظ كيانها فبدأ العد السريع للانحراف فأي عودة للصلاح والإصلاح لابد لتحقيقها من إعادة دور هذه الأمور في حياة الأمة إلى بحوث مستقلة بإذن الله تعالى.

5 - التسلية وتطييب الخاطر والتخفيف عن المصاعب والأتعاب التي تواجه الشخص الذي يسعى إلى إصلاح المجتمع وهدايته أو ما سميناه بحامل القرآن كرسالة إصلاح، قال تعالى: «المص، كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ»(الأعراف: 1-2)، و«فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ» (هود: 12)،«وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ، إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ» (النحل: 127 - 128)،«لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذىً كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فإن ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ» (آل

ص: 57

عمران: 186)، وأرقّ تعبير وألطفه قوله تعالى: «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا» (الطور:48)، عين الرعاية واللطف والرحمة والحراسة والتوجيه والبصيرة وغيرها.

وتجد سوراً كاملة نزلت لهذا الغرض كسورة يوسف التي تحس إنها نزلت في الفترة العصبية التي عاشها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مكة قبل الهجرة حيث فقد الناصر بموت أبي طالب وخديجة (عليهما السلام) ويأس عمليا من إسلام قريش وحاول ان يجد مأوى آخر غير مكة كالطائف فلم يفلح فضاقت الدنيا بالمؤمنين، وفي ذلك الحين نزلت عليهم سورة يوسف تقص عليهم كيف تآمر الأخوة على أخيهم الصغير ورموه في الجب وهو يعني الموت بحسب الأسباب الطبيعة، لكن الله تعالى يرسل قافلة تستنقذه ويباع إلى بيت ملك مصر ثم يقع في محنة امرأة العزيز وباقي النساء فيسجن سنين لكن الله تعالى ينقذه من السجن ويعلمه تأويل الأحاديث، فنال ببركة ذلك موقع أمين خزائن مصر، ثم أصبح ملكا عليها بعد أن ملك قلوب الناس بأخلاقه وحسن تدبيره. وهنا يأتي أولئك الإخوة المتآمرون ذليلين بين يديه فيعفو عنهم بنفسه الكبيرة وقلبه الرحيم ويقول لهم: «لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَيَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» (يوسف: 92)، ويجمع الله شمله مع أبيه وأخيه. واستعار رسول الله (صلى الله عليه وآله) نفس الكلمة حين فعلت قريش نفس الفعل حتى نصره الله عليهم ومكنه من رقابهم في عقر دارهم مكة فأعاد عليهم كلمة أخيه الكريم يوسف (عليه السلام) وقال (صلى الله عليه وآله): (لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فانتم الطلقاء) بعد أن استنطقهم: ما تروني فاعلاً بكم، قالوا (أخ كريم وابن عم كريم)(1)،

وهذا إقرار منهم بسمو ذاته (صلى الله عليه وآله) .

6 - الحث على طلب العلم والتعلم والتفقه بكل ما يقرب إلى الله سبحانه ويزيد من المعرفة به، وقيل أن في القرآن أكثر من خمسمائة آية تحث على العلم والتفكر وتثني

ص: 58


1- تفسير نور الثقلين: 2 / 460.

على العلماء وتذمّ الجهل والجهلاء وتصف عاقبتهم، حتى جعل القرآن صفة الفقه والعلم والمعرفة بالله تبارك وتعالى سببا لمضاعفة قوة المؤمنين على أعدائهم عشرة أضعاف بحسب التعليل المستفاد من ذيل الآية الشريفة، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ» (الأنفال: 65) بينما جعل الصبر الذي هو من الأسباب المهمة للنصر بمثابة زيادة القوة ضعفاً واحداً فقط: قال تعالى: «الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فإن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ»(الأنفال: 66).

من فقه المواجهة مع الكفار والطواغيت:

وهذا الفقه شامل لكل نواحي الحياة، فماذا ضخ القرآن من أفكار تندرج في ما يمكن تسميته فقه المواجهة مع الكفار؟ قال تعالى: «وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيماً» (النساء: 104)، فلماذا الفرار من لقائهم ما دامت الأضرار تحل بالطرفين؟ والفرق أنكم ترجون ما عند الله في الآخرة فلا خسارة، بينما هم لا يرجون ما عند الله شيئاً إلا العذاب الأليم.وقوله تعالى: «وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ» (الحشر: 2).

وقوله تعالى: «مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً

ص: 59

إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ» (التوبة: 120 - 121) فلماذا التقاعس والتقصير في تقديم ما تقتضيه طاعة الله تبارك وتعالى من جهد ومال ولماذا سوء الظن بالله تعالى هذا الذي يعتري الناس حين يطلب منهم دفع ما بذمتهم من حقوق شرعية كالخمس والزكاة ونحوهما؟

ومنها قوله تعالى:«ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ» (يونس: 103).

ومنها هذه الآيات المباركة من سورة محمد، وإذا استطعت أن تنتقل بروحك وفكرك وقلبك إلى تلك الفترة الزمنية السعيدة من حياة البشرية وتتصور أنك ضمن الجماعة المؤمنة المحيطة برسول الله (صلى الله عليه وآله) التي واكبته من الزمان الصعب أول الرسالة عندما كانوا قلة مستضعفين تسومهم قريش سوء العذاب حتى هذه الفترة التي دب فيها العجز واليأس لدى المشركين بعد وقعة الأحزاب حيث أصبح زمام المبادرة بيد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتوالت انتصاراتهم من فتح الحديبية إلى فتح خيبر وفتح مكة والطائف ثم اليمن والجزيرة كلها، فتصور انك هناك وينزل عليك هذا الخطاب القرآني العظيم ومن لدن ربك ومدبر أمورك وخالق السموات والأرض يتحدث إليك مباشرة ليقول لك: «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ، فإذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّىتَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي

ص: 60

سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ(1)، إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ، وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ، أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ» (محمد:1-14)،«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (النور: 55).

وهو أثناء ذلك يحذر من محاولات المنافقين الذين يخذلون المؤمنين عن مواجهة الأعداء ويسخرون من ضعف إمكانياتهم متغافلين عن سر قوة المؤمنين وهي اتصالهم بالله تبارك وتعالى، فاسمعه سبحانه يقول: «إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فإن اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(الأنفال: 49).

ص: 61


1- وهذه الآية تمثل الإطار العام لهذه المقابلة ا المؤمنين لهم مولى يرعاهم ويتولى تربيتهم وسعادتهم وصلاحهم وهو الله تبارك وتعالى بينما الكفار لا مولى لهم وإنما مولاهم الشيطان الضعيف الذي يفر عند المواجهة ويخذلهم «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ» (سورة الأنفال: 48).

وتندرج في هذا السياق - أعني فقه المواجهة مع الكفار - كل الوعود الإلهية بالنصر والغلبة ووراثة الأرض، وأن العاقبة لهم، وأن الله معهم، وتنزل الملائكة عليهم بالسكينة من ربهم، ورفع الخوفوالحزن عنهم، وعقد صفقة الشراء معهم فيشتري منهم أنفسهم وأموالهم والثمن الجنة، وكذا مضاعفة القرض لله تبارك وتعالى والإنفاق في سبيله. ولا يسع هذا المختصر كل التفاصيل.

والحقيقة الكبرى التي يثبتها القرآن الكريم بهذا الصدد أن النصر والهزيمة أمام العدو الخارجي - الكفار - إنما هي فرع النصر والهزيمة مع العدو داخل النفس الأمارة بالسوء وهو الشيطان، فتراه عندما يعد المؤمنين بخلافة الأرض ووراثتها ومن عليها فإنه يجعل الخطوة الأولى في ذلك إصلاح الذات وتطبيق المنهج الإلهي على النفس أولا، قال تعالى: «وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ»(القصص: 5 - 6)، فأولاً جعلهم أئمة وهو يعني تطهير ذواتهم وتنزيهها، ويؤكد أن لا قيمة للنصر على الكفار إذا لم يكن مقترناً بالنصر على الشيطان وإخلاص العمل لله سبحانه لأن العمل أن لم يكن ابتغاء مرضاة الله فهم والكفار على حد سواء وكلاهما أهل دنيا وما لهما في الآخرة من نصيب.

فمثلاً في خضم هزيمة المسلمين في معركة أحد والخسارة الأليمة التي حلت بهم يخاطبهم سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ»( آل عمران: 155) فهزيمتهم وإدبارهم كان بسبب ما اكتسبوا من السيئات، وبالمقابل يقول تعالى: «إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ»( محمد: 7)، ونصر الله يكون بطاعته تبارك وتعالى وإلا فإنه غني عن العالمين، والآية المتقدمة «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ»، ومن هنا خاطب رسول الله (صلى الله عليه واله

ص: 62

وسلم) سرية مجاهدين عادت من القتال: (مرحبا بكم، قضيتم الجهاد الأصغر وبقي عليكم الجهاد الأكبر. قيل: وما هو يا رسول الله؟ قال: جهاد النفس)(1).

الكيان الصهيوني من الأعراض المرضية فعالجوا أصل المرض:

فعندما يهتم المسلمون اليوم بأمر الدولة الصهيونية اللقيطة ويسعونَ إلى إزالتها، عليهم أن يلتفتوا إلى أن هذه الدولة ما هي إلا أحدالأعراض المرضية التي تظهر على جسد الأمة الإسلامية نتيجة وجود مرض كامن فيها هو الأصل والعلة لهذه الأعراض، والمرض هو ابتعاد المسلمين عن المنهج الإِلهي في حياتهم فلا ينبغي لهم الاهتمام بالأعراض المرضية والغفلة عن علة هذه الأعراض، ويكون مثلهم كما يجري في ساحة مصارعة الثيران - على تشبيه احد المفكرين(2)

- فالثور الهائج يركز كل همه وعدائه وغضبه وقوته على الخرقة الحمراء ويغفل عن المصارع الحامل لها، فراح هذا المصارع يغرز في عنقه الخناجر التي تصيب مقتله وهو غافل عنه حتى يموت ويفنى. فلا يكون حالنا كحال ذلك الثور؟! وأنت ترى أن الأمة تقترب من النصر على أعدائها كلما اقتربت من النصر على أنفسها وبمقدار ما تعود وترجع إلى الله تبارك وتعالى.

فائدة تكرار القصص في القرآن:

7 - تكرار واستمرار جرعات العلاج وعدم الاكتفاء بعرض العلاج لمرة واحدة عند التصدي لتصحيح حالة منحرفة أو سد نقص أو علاج خلل موجود في فكر الأمة أو عقيدتها أو سلوكها، فمثلاً تجد قصص بعض الأنبياء قد تكررت أكثر من عشر

ص: 63


1- الكافي: 12/5 ، باب: وجوه الجهاد.
2- وهو: الشيخ جودة سعيد.

مرات وكل طرح له ذوقه وأثره ودوره في تحقيق الغرض ويترك انطباعا غير الذي يتركه الآخر وان كان الجميع بنفس المضمون.

فعندما نريد أن تناول قضية تبرّج المرأة أمام الرجل وخلاعتها ونصب نفسها شيطاناً يصد عن ذكر الله تعالى وطاعته لتجسيد قول إبليس عملياً: «لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ» (الأعراف: 16 - 17)، وهذه الفاسقات يستعملنَ شتى الأساليب لغواية الرجال وإيقاعهم في المعصية من السفور المتبرج في الشارع إلى الحركات المتميعة في الجامعات إلى إبداء مفاتن الجسد إلى الرياضة إلى المشاهد الخليعة في الفن.

فعندما نريد أن نتصدى لمواجهة هذا الداء الفتاك في المجتمع فيمكن معالجته في كتاب عن الظواهر الاجتماعية المنحرفة وكتاب عن قضاياالمرأة وكتاب عن اثر الرياضة والفن في تدمير أخلاقيات المجتمع وكتاب عن مشاكل طلبة الجامعات وهمومهم وتطلعاتهم وكتاب بنفس المضامين عن الشباب وكتاب عن فقه العائلة ويتضمن الروابط الأسرية والاجتماعية وفق تعاليم الشريعة وهكذا لان هذه المشكلة الخطيرة تدخل في جميع هذه المحاور، وتناولها في كل المحاور يعطيها صورة ونمطا غير الذي يعطى عند عرضها في محور آخر، ولا اقل من ازدياد عدد الشرائح التي تخاطبها هذه الكتب وبالنتيجة تكون الصورة متكاملة عندما تُتناول من جميع الاتجاهات(1).

8 - سلوك مختلف الطرق لهداية الإنسان ولما كان له عوالم ثلاثة هي النفس والعقل والقلب فتجده قد سخرها جميعا ووظفها لاستمالة البشر إلى طاعة الله تبارك وتعالى وقد شرحت ذلك بشيء من التفصيل في دروس (فلنرجع إلى القرآن).

وتجده كثيراً ما يستنطق الفطرة ويستثيرها وقد وصف علة إنزال القرآن في بعض الأحاديث أنه: (ليستثير كوامن فطرتهم) فإن الوجدان أوضح دليل وأصدقه لا

ص: 64


1- تم إصدار كتيبات ونشرات تغطي كل هذه المحاور المذكورة بفضل الله تبارك وتعالى.

يناقش فيه أحد، فاستمع إليه تعالى وهو يخاطب الفطرة في إثبات الصانع: «أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ، أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ»،«أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ، أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ»،«أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ»،«أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ»(الواقعة: 58 - 72)، أو يقول تعالى وهو في مقام عتاب الإنسان العاصي: «هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ» (الرحمن: 60)، وأنت ترفل في نعم الله تبارك وتعالى: «وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا» (إبراهيم: 34).

كيف السبيل إلى إعادة تفعيل دور القرآن؟

والآن نقول: كيف السبيل إلى إعادة القرآن إلى الحياة والاستفادة منه، ويتحمل مسؤولية ذلك طرفان: المجتمع والحوزة الشريفة التي هي عنوان ورمز وعي الأمة وفكرها ومستواها الديني فقد قلنا إن أهم وظيفة تقوم بهاالحوزة في المجتمع هي طرح مفاهيم القرآن ورؤاه وتصوراته وأخلاقه وعقائده - التي أشرنا إلى بعضها - إلى المجتمع بالفهم الصحيح النقي كما يريده القرآن وبالشكل المناسب ليكون دوره فاعلا في حياة الأمة ويكون ذلك بعدة قنوات كالمنبر الحسيني والمحاضرات والندوات وخطب الجمعة والجماعة والكتب والمجلات والنشرات ونحوها.

ولكن قبل ذلك يجب إعادة القرآن إلى مناهج الدراسة الحوزوية ويتم ذلك على مستويين:

الأول: الدراسات الأولية أي مستوى المقدمات والسطوح الابتدائية فيعطون المناهج التالية(1):

ص: 65


1- أدخل سماحة الشيخ هذه المفردات كلها في برامج الدراسة في جامعة الصدر الدينية التي يشرف عليها.

1 - حفظ وتلاوة القرآن الكريم وضبطه بالشكل وفق قواعد اللغة العربية وإتقان قواعد تجويده ضمن الإطار الشرعي.

2 - تفسير إجمالي للألفاظ ولو على نحو شرح المفردات كما في تفسير شبر ونحوه،ليأخذ الطالب أفكاراً عامة عن معاني القرآن .

3 - دراسة علوم القرآن، وأفضل كتاب في ذلك (البيان) أو مقدمة كتاب آلاء الرحمن المطبوعة في أول تفسير شبر.

4 - إقامة المسابقات في العلوم المختلفة عن القرآن وتخصيص جوائز للفائزين والمتفوقين.

الثاني: الدراسات العالية ويكون على شكل عدة خطوات:

1 - فتح باب التخصص في الدراسات القرآنية، وأفضل وقت له هو بعد إكمال السطوح العالية حيث يعد الطالب المتخصص منهجاً خاصاً به ويمكن أن يسُتفاد من بعض الكتب الموجودة بعد أن يجرى اختبار معين لاكتشاف أهلية الطالب الذي يريد التخصص في هذا المجال ويفرغ لهذه الدراسة مع توفير المصادر ذات الصلة ليكون مدرساً أو مفسراً أو باحثاً قرآنياً.

2 - دراسة تفسير القرآن بشكل معمق أما كل القرآن أو آيات ومقاطع منتقاة منه تخدم هدفا معينا، ويمكن ان يتخذ احد التفاسير متناً يتولى المدرس شرحه والتعليق عليه وإضافة ما يمكن إضافته من المعلومات النافعةالمستفادة من التفاسير والمصادر الأخرى، وفي رأيي القاصر إن أفضل مصدرين هما الميزان وفي ظلال القرآن لأن لكل منهما اتجاهاً خاصاً في التفسير غير الآخر يعلمه من نهل من معارفهما.

3 - وضع مناهج للدروس في مفاهيم القرآن وتصوراته ونظرياته وأطروحاته وفلسفته في الكون والحياة بعد أن يكون الطالب قد أخذ تفسيراً اجمالياً لألفاظ القرآن في دراسته السابقة، وتحصل هذه الأمور بدراسة آيات القرآن دراسة موضوعية وليس بالطريقة التجزيئية المتعارفة وإن كانت هذه الطريقة هي الأساس لتلك، وقد قارنت

ص: 66

بين المنهجين في كتابي المخطوط (مدخل إلى تفسير القرآن) الذي يعد هذا البحث مقدمة له.

ويركز على المواضيع العلمية أي التي لها واقع معاش سواء على صعيد العقائد أو الأخلاق أو الفكر، فتتناول مثلاً: التقوى، الصبر، الفقه، التوحيد، الإمامة، الولاية، الشيطان، المعاد، المجتمع المسلم مقومات بنائه وعوامل انهياره، الرجاء والأمل، الموعظة والعبرة، سنن الله في الأمم والمجتمعات، وهكذا، وعندئذ ستتغير الكثير من أفكارنا لأن المعاني المتداولة الآن للألفاظ القرآنية لا تنطبق بالضبط على الفهم القرآني لها بحسب استقراء موردها في القرآن بسبب ما تراكم من غبار التأويلات والتفسير بالرأي وتحكيم الأهواء والتعصبات وحملات المغرضين وغيرها.

الفقه والفقيه في المصطلح القرآني:

وقد عرضنا قبل قليل مفهوم الجاهلية في المصطلح القرآني وصفات وخصائص المجتمع الجاهلي والبدائل الإلهية التي يقدمها القرآن وهكذا كنموذج لمفهوم اجتماعي.

وأقدم الآن الفهم القرآني للفظ حوزوي وهو (الفقه) كمثال آخر، فالفقه يتداول عندنا على انه العلم بالأحكام الشرعية رغم أنه في المصطلح القرآني بمعنى المعرفة بالله تبارك وتعالى ولا ملازمة بينهما كما هو واضح بل النسبة بينهما العموم من وجه.

ففي الآية الشريفة: «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» («269») ونحن نعلم ان الحذر والتقوى لا ينشآن من المعرفة بالأحكام الشرعية بل للحذر مناشئه الروحية والنفسية والعقلية وبعد حصول التقوى والمعرفة في القلب يندفع إلىتعلم الأحكام الشرعية وتطبيقها وتستطيع أن تجرب ذلك بنفسك فاقرأ كتب الفقه وتعمق فيها من أولها إلى آخرها هل تراها غذت قلبك بشيء أو زادت فيه الحذر والتقوى؟ وكم رأينا فقيها بالمعنى الاصطلاحي وهو مكب على الدنيا وبعيد كل البعد عن الله تبارك وتعالى.

ص: 67

والقرآن يقص علينا خبر مثل هذا الفقيه: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (الأعراف: 175 - 176).

ومن الشواهد على أن معنى الفقه هو المعرفة بالله تعالى جعل محله القلب في الآيات الشريفة وهو محل المعرفة الحقيقية بالله تعالى، بينما الأحكام الشرعية محلها العقل، قال تعالى: «رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ» (التوبة: 87)، وقال تعالى: «لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا» (الأعراف: 179).

لذا جعلت الآية هذا الفقه أي المعرفة الراسخة بالله والمبدأ والمعاد سببا لمضاعفة القوة عشرة اضعاف. قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ» (الأنفال: 65).

ويؤكد هذا المعنى ما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (ألا أخبركم بالفقيه حقاً؟ من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يؤمنهم من عذاب الله ولم يؤيسهم من روح الله، ولم يرخص في معاصي الله ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره، ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقه)(1)

هذا في كتاب الوسائل. وللحديث بقية في مصدر آخر(2)

كالتالي: (فإنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد: يا أيها الناس إن أقربكم من الله تعالى مجلساً أشدكم له خوفاً، وإن أحبكم إلى الله أحسنكم عملاً، وإن أعظمكم عند الله نصيباً أعظمكم فيما عنده رغبة، ثم يقول عز وجل: لا أجمع لكم اليوم خزيالدنيا وخزي الآخرة، فيأمر

ص: 68


1- بحار الأنوار: 49/2، باب: صفات العلماء وأصنافهم، حديث 8.
2- مدينة البلاغة: صفحة 98، عن كتاب الجعفريات.

لهم بكراسي فيجلسون عليها، وأقبل عليهم الجبار بوجهه وهو راض عنهم وقد أحسن ثوابهم).

فترى أن صفات الفقيه كل ما يقرب إلى الله تبارك وتعالى، وفي حديث عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) قال: (كانت الفقهاء والحكماء إذا كاتب بعضهم بعضاً كتبوا ثلاثاً ليس معهن رابعة: من كانت الآخرة همته كفاه الله همه من الدنيا، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح فيما بينه وبين الله عز وجل أصلح الله فيما بينه وبين الناس)(1).

وفي حديث عن أبي الحسن (عليه السلام): (من علامات الفقه الحلم والعلم والصمت، إن الصمت باب من أبواب الحكمة وإن الصمت يكسب المحبة وإنه دليل على كل خير)(2).

ويمكن استفادة هذا المعنى بالجمع بين حديثين ففي الخصال عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي: الأمراء والفقهاء)(3)

وفي الوسائل عن الأمالي. بدل العلماء القراء فإذا ضممنا إليه الحديث الآتي في صفة القراء نحصل على المعنى المذكور.

فبين الفقيه بالمصطلح القرآني والفقيه بالمعنى الحوزوي عموم من وجه إذ قد يكون فقيها بالمعنى القرآني وهو ليس كذلك بالمعنى الحوزوي إذ يوجد الكثير من أولياء الله العارفين ولهم الكرامات المشهودة مع أنهم لم يبلغوا درجة عالية في العلوم الحوزوية وقد يكون العكس فتجد شخصاً امتلأ ذهنه بالنظريات والأفكار الأصولية والعقلية والمسائل الفقهية بحيث تجده ملماً حتى بدقائق المسائل لكن قلبه غير معمور بذكر الله تعالى ولو سألته عن أبسط مسألة في تهذيب النفس والسلوك الصالح إلى الله تبارك وتعالى وتصفية الباطن

ص: 69


1- الخصال: صفحة 129 باب الثلاثة.
2- الاختصاص: 232.
3- تقدم مصدره في بداية الكتاب.

وتطهير القلب لبقي متحيراً، فمثل هذا ليس فقيها بالمعنى القرآني، والكامل هو من جمع المعنيين كما هو شأن علمائنا المقدسين الذين بلغوا مقاماً عالياً في الفقه والأصول وشامخا في العرفان،وهم المقصودونفي الحديث الشريف: (الفقهاء أمناء الرسل)(1)

، وبمثل هذا المنظار القرآني يجب أن نفهم الأحاديث الشريفة لئلا تضيع علينا معانيه السامية.

مسؤولية الحوزة عن تفعيل دور القرآن:

وإني هنا أذكر حديثاً واحداً فقط يبين مسؤولية الحوزة الشريفة عن توعية المجتمع وهدايته وإصلاحه فقد روي أن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) (خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر طوائف من المسلمين فأثنى عليهم، ثم قال: ما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتفطنون؟ والذي نفسي بيده ليعلمن جيرانهم أو ليتفقهن أو ليتفطنن أو لأعاجلهم بالعقوبة في دار الدنيا، ثم نزل ودخل بيته،فقال أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من يعني بها الكلام؟ قالوا: ما نعلم يعني بهذا الكلام إلا الأشعريين فقهاء علماء ولهم جيران جفاة جهلة.

فاجتمع جماعة من الأشعريين فدخلوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: ذكرت طوائف من المسلمين بخير وذكرتنا بشر فما بالنا؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لتعلمن جيرانكم ولتفقهنم ولتأمرنهم ولتنهنّهم أو لأعاجلنكم بالعقوبة في دار الدنيا، فقالوا: يا رسول الله فأمهلنا سنة ففي سنة ما نعلمهم ويتعلمون فأمهلهم سنة ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ، كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ» )(2).

ص: 70


1- بحار الأنوار: 36/2 حديث 38.
2- الميزان في تفسير القرآن: 6 / 84 في تفسير الآية، عن كتاب الدر المنثور.

هذه هي بعض المقترحات التي أقدمها بين يدي الحوزة الشريفة في هذا المجال والوظيفة المشتركة للجميع هي المواظبة على تلاوة القرآن والاستفادة منه آناء الليل وأطراف النهار وستعرف الكثير عن هذا من خلال الأحاديث الشريفة الآتية.

وهذه الوظيفة للحوزة لا تخصهم وإنما خاطبناهم بها لوجوبها عليهم أكثر من غيرهم، وإلا فالمجتمع كله مسؤول عن اتباع هذه الخطوات بحسبما يناسب كل فرد،فذوو المعرفة القليلة يبدأون بقراءة التفاسير المبسطة كتفسير شبر.

وإني أنصح كل مسلم - وهو ما جربته أنا - أن يبدأ حياته مع القرآن بأن يتلوه في مصحف مفسر كالذي ذكرناه ليتسنى له فهم مفردات الآيات خلال تلاوتها، ويستمر على هذا الحال عدة ختمات إلى أن يمتلك معرفة إجمالية بالقرآن، ثم يعود إلى نسخة المصحف يتلو فيها مع تطوير قابليته بقراءة كتب التفسير المتقدمة كالميزان وفي ظلال القرآن ويقرأ الكتب التي شرحت مفاهيم القرآن أو تناولت القرآن بحسب الموضوعات، حيث يتخذ احدها عنوانا للبحث ثم يستقرئ القرآن فتجتمع كل الآيات المتعلقة بذلك العنوان ثم يستنتج من المجموع تصور القرآن ونظريته - وأنا هنا استعير هذه المصطلحات الفكرية لأجل استئناس الأذهان بها مع بعض التحفظات - لهذا الموضوع الذي يفترض فيه أن يعالج مشكلة واقعية يعيشها المجتمع سواء كانت عقائدية أو أخلاقية أو فكرية أو غيرها.

وقد يكون من الأفضل متابعة ذلك مع بعض فضلاء الحوزة الشريفة ليوجهوهم ويجيبوا عن تساؤلاتهم ويرشدوهم لما ينفعهم فإن المجتمع والحوزة احدهما يكمل الآخر، فالحوزة توجه المجتمع والمجتمع يضغط على الحوزة لتكون بمستوى المسؤولية وبمستوى حاجة الأمة وطموحاتها ومواكبة للزمان الذي تعيشه وعندئذ ستنفرز العناصر الكفوءة من الحوزة عن غيرها وستعرف الأمة من هو الأصلح لها.

إن القرآن لا يفهم حق فهمه إلا عندما يحمله الإنسان كرسالة يصلح بها نفسه والذين من حوله ويواجه بها الخطأ والانحراف الذي يضرب بأطنابه على البشرية، عندئذ

ص: 71

يعيش في مثل الأجواء التي نزل فيها وعندئذ تنفتح له أسراره، ولا تكفي قراءته لمجرد التبرك وإن كان في ذلك فضل لا ينكر.

ومن الضروري أن تتناول إحدى الدراسات القرآن بحسب تأريخ نزول آياته وإن كان الإلمام بذلك تفصيلاً أمراً متعسَّراً لعدم وجود دليل قطعي عليه إلا أنه يمكن اقتناص بعض موارده ويستفاد من هذا البحث فوائد كثيرة في مجال معرفة خطوات القرآن في إصلاح المجتمع باعتباره نزل تدريجياً بحسب الوقائع والحوادث.

إن هذا التنزيل المتدرج للقرآن بدلاً من النزول دفعة واحدة له وقعه المباشر وتأثيره الفعال في الحالات التي عالجها، قال تعالى: «وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُلِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً» (الإسراء: 106)، وما دام هو كتاب تربية وهداية وإحياء فلا بد أن يكون تدريجياً وبلطف فيصف العلاج المناسب في الوقت المناسب وبالجرعة المناسبة لا أقل ولا أكثر ولا قبل الموعد ولا بعده، وهكذا أخذ القرآن بيد هذه الأمة برفق لتجد نفسها بعد عقدين من الزمان في قمة السمو والكمال والرفعة والعزة والمنعة.

ص: 72

لزوم التحاق النخب بالحوزات العلمية

اشارة

لزوم التحاق النخب بالحوزات العلمية(1)

كل آيات القرآن تشكو الى الله تعالى:

يشكو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أمته يوم القيامة لهجرهم كتاب الله تعالى، قال تعالى: «وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً» (الفرقان:30)، وورد مثله في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (علیه السلام): (ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل: مسجد خراب لا يصلي فيه أهله، وعالم بين جهال، ومصحف معلّق قد وقع عليه غبارٌ لا يُقرأ فيه)(2)،

والهجران الذييشكو منه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس فقط من ترك قراءته وتلاوته، بل الأخطر من ذلك هو هجران العمل به، قال الإمام الباقر (علیه السلام) وهو يذكر أنواع قرّاء القرآن: (ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيّع حدوده وأقامه إقامة القدح(3)،

فلا كثّر الله هؤلاء من حملة القرآن).

وليس فقط القرآن ككل يشكو بل تشكو كل آية من آياته التي لم يُعمل بمضمونها، فتشكو آية «قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» (الشورى:23) من الذين تتبعوا

ص: 73


1- الخطبة الثانية لصلاة عيد الأضحى المبارك سنة 1432.
2- الخصال: 142/1 باب الثلاثة، ح163.
3- القِدْح هو السهم، وكان العرب يستقسمون بالأزلام باستعمال القِداح، وقال الطريحي في المجمع (كأنه الذي يستقسم ويلعب به –يعني القرآن في الحديث أعلاه- كما يستقسم بالقداح، والله العالم) ولعل استعمال الإمام (علیه السلام) للتشبيه من باب أن السهم يوضع بالمقلوب في جفير السهام. وربما يكون اللفظ (القَدَح) وهو الإناء الكبير قال الطريحي: (وفي حديث النبي n (لا تجعلوني كقَدَح الراكب) يعني لا تؤخروني في الذكر، لأن الراكب يعلق قدحه في آخر رحله عند فراغه من رحاله ويجعله خلفه) مجمع البحرين: 462/3، وجميع المعاني المحتملة مقبولة في وصف شأن الناس مع القرآن.

عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت كل حجر ومدر قتلاً وسجناً وتعذيباً وتشريداً أو أقصوهم عن مقامهم الذي يستحقونه.

وتشكو آية «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» (المائدة: 67) من الذين انقلبوا على الأعقاب ولم يعملوا بوصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأئمة من بعده.

وتشكو آية «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (البقرة:179) من الذين عطلوا هذا الحكم ولم يوقّعوا على إعدام الإرهابيين القتلة رغم ثبوت الجرائم الفظيعة عليهم بحجة معاهدات حقوق الإنسان ونحوها. وهكذا بقية الآيات الشريفة.

شكوى آية النفر:

ونحن اليوم بين يدي شكوى آية كريمة وهي قوله تعالى: «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» (التوبة:122).

ففي الآية دعوة لنخب من الأمة لكي ينفروا لطلب العلم والتفقه في الدين ثم التحرك بهذا العلم والفقه إلى سائر الناس ليرشدوهم ويعلموهم ويأخذوا بأيديهم إلى ما فيه صلاحهم، ففي الآية تكليفان الأول لعموم الأمة، والثاني للنخبة الذين التحقوا بمعاهد العلم والحوزوات الدينية ليؤدوا الرسالة التي تحملوها، والتقصير متحقق بكلا الاتجاهين، وسنتحدث هنا عن التكليف الأول وهو حث الأمة على التفقه في الدين؛ لأن الثاني نوجهه إلى الحوزة العلمية.

وإنما قلت للنخب من الأمة لأنه ليس الكل مؤهلين لهذه الوظيفة الإلهية وهذا التشريف المبارك، كالآية الأخرى في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ص: 74

قال تعالى: «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ» (آل عمران:104) ثم شرحت الرواية صفات هذه الجماعة المكلفة بهذه الوظيفة(1).

اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ:

إن هذا الحث الإلهي «فَلَوْلاَ نَفَرَ» مصداق لقوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ» (الأنفال:24) والتفقه في الدين هو الذي يحيي العقول ويطهر القلوب ويهذب النفوس ويسمو بالروح، فلا يسع الأمة إلا الاستجابة لهذه الدعوة.

وتحدد الآية النسبة المعقولة لعدد النافرين إلى الحوزات العلمية للتفقه في الدين بطائفة من كل فرقة والطائفة في اللغة أقلها ثلاثة، ومعدل الفرقة ثلاثة آلاف، فالنسبة المعقولة هي واحد من كل ألف، وأن لا يقتصر الانضمام إلى الحوزة العلمية على فئة أو شريحة أو مدينة أو أسرة بل المطلوب أن تنفر طائفة من كل فرقة من المسلمين سواء أكانت الفرقة عشيرة أو أهل مدينة أو ريف أو حي سكني ونحوها.وما زالت الأمة بعيدة كل البعد عن تحقيق الاستجابة لهذه الدعوة على صعيد شعبنا في العراق فكيف إذا لاحظنا مسؤوليتها عن حركة الإسلام في العالم كله لأن النجف الأشرف والعراق عاصمة الإسلام ومنطلق الدعوة العالمية لدولة الحق والعدل.

لنحقق التفقه في أنفسنا:

ألسنا جميعاً ندعوا بما علمنا به الإمام المهدي (علیه السلام) في زمان الغيبة أن ندعوا: (اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة) وفيه (وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك)

ص: 75


1- راجع وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب2.

فكيف نكون من طالبي هذه الدولة الكريمة والممهدين لها والدعاة إلى طاعة الله تعالى والقادة إلى سبيله من دون التفقه في الدين وتحصيل العلوم الدينية الشريفة.

تكليف النخب:

وتتحدث الآية عن تكليف موجه للنخب من الأمة ليتفقهوا في الدين وهو غير تكليف عموم الأمة بمعرفة أساسيات دينها، حيث تحفل كتب الحديث بالروايات التي تلزم الناس بالتفقه في الدين، والحد الأدنى منه الذي لا يعذر فيه أحد هو التفقه في العقائد والأحكام الابتلائية كأحكام الطهارة والصلاة والصوم والخمس ونحوها، والأحكام المختصة بالعمل الذي يعمل فيه كالتاجر في تجارته، والمعلم في مدرسته والطبيب في مستشفاه والسياسي عند ممارسة عمله المليء بالمزالق والمرديات وهكذا.

الحث على العلم والتفقه في الروايات الشريفة:

في الكافي بسنده عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (عليكم بالتفقه في دين الله ولا تكونوا أعراباً فإن من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة، ولم يزكِّ له عملاً).

وعنه (علیه السلام) قال: (لوددت أن أصحابي ضُربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا).وروي أنه (قال له رجل: جُعلتُ فداك رجل عرف هذا الأمر –إمامتهم (علیهم السلام)- لزم بيته ولم يتعرف إلى أحدٍ من إخوانه، قال: فقال: كيف يتفقه هذا في دينه؟).

وسُئل الإمام الكاظم (علیه السلام) (هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون إليه؟ فقال: لا)(1).

ص: 76


1- هذه الأحاديث في الكافي: ج1، كتاب فضل العلم، باب 1.

وروى الإمام الصادق (علیه السلام) عن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أُفٍّ لرجل لا يُفرِّغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه)(1).

وعن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: (تذاكر العلم دراسةٌ والدراسة صلاةٌ حسنةٌ).

وورد في لزوم تفقه التاجر في أعمال السوق قول الإمام الصادق (علیه السلام): (من أراد التجارة فليتفقه في دينه ليعلم بذلك ما يحل له مما يحرم عليه، ومن لم يتفقه في دينه ثم اتجر تورط في الشبهات)(2) وبحسب مناسبة الحكم والموضوع يُعلم أن الوجوب متوجه لكل شخص لكي يتفقه في عمله.

مستويات التفقه:

فهذا هو النحو من التفقه الذي يشمل بوجوبه كل الناس وله مستويان، عام: أي في المسائل الابتلائية التي يشترك فيها كل الناس كالطهارة والصلاة والصوم والخمس، وخاص: أي بخصوص مسؤولياته كعمله أو إدارة أسرته كالعلاقة مع الوالدين أو الزوجة أو الأبناء وتربيتهم وهكذا.

ومن نعم الله تعالى على أهل هذا الزمان وجود منافذ كثيرة لهذه المعرفة كالمحاضرات الدينية في المساجد وخطب الجمعة والمجالس الحسينية والكتب والنشرات وما تعرضه الفضائيات الدينية من برامج نافعة.أما النحو الآخر من التفقه وهو الالتحاق بالحوزات العلمية لتحصيل علوم أهل البيت (علیهم السلام) في العقائد والأخلاق وأحكام الشريعة ثم إيصالها إلى عموم الناس لهدايتهم فهو تكليف نخب من الأمة.

ص: 77


1- هذا الحديث والذي يليه في أصول الكافي، ج1، كتاب فضل العلم، باب سؤال العام وتذاكره، ح5، 9.
2- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، باب 1، ح4.

وقد ذكرنا أن العدد الذي يريده الله تبارك وتعالى لم يتحقق بعد ولا زالت الحاجة على أشدها لالتحاق النخب المخلصة الواعية المثقفة العارفة بأمور زمانها بالحوزة العلمية، حتى لو قلنا أنه وجوب كفائي كما قيل فإنه لا يسقط حتى يتحقق الواجب وإلا يأثم الجميع وقد اتضح أن العدد لم يتحقق، فهل نفر من المحافظة التي سكانها مليونان ألفان لطلب العلم؟ إذن لا زالت المسافة بعيدة لنخرج من عهدة هذا التكليف.

نشر جامعة الصدر الدينية في العراق كله:

ولقد اتخذنا هنا عدة خطوات لتوسيع هذه الفرصة أمام الجميع فنشرنا فروع جامعة الصدر الدينية في لمحافظات حتى تجاوزت عشرين فرعاً، فمن لم يتيسر له الإقامة في النجف للدراسة نقلنا حوزة النجف إليه ووفرنا المتطلبات التي تُيَسِّر الدرس والتحصيل، مع تشجيع المؤهلين لمواصلة الدراسة في النجف الأشرف، كما تتوفر الأقراص المدمجة التي تضم دروس أساتذة متخصصين لجميع مراحل الدراسة ولكل مفرداتها، وهذا أسلوب آخر ميسّر لتحصيل العلوم الدينية والارتقاء فيها.

العلم توفيق خاص:

وينبغي الالتفات إلى أن سلوك هذا الطريق لا يتيسر لكل أحد إلا بلطف خاص من الله تعالى، وليس كل أحد يوفق إليه ويوفق فيه، فألحّوا في الدعاء والطلب من الله تعالى وأصلحوا أنفسكم وأخلصوا نياتكم كي يختاركم الله تعالى لحمل هذه الأمانة الإلهية العظيمة، لما ورد من الفضل العظيم والدرجة الرفيعة لحملة العلم، وأنقل لكم رواية واحدة تغنيكم عن الباقي وهي كافية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

ص: 78

ففي رواية صحيحة عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة وإن الملائكة لتضعأجنحتها لطالب العلم رضاً به، وإنه يستغفر لطالب العلم مَنْ في السماء ومن في الأرض حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورّثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر)(1).

وأنقل لكم رواية في منزلة أحد حملة علوم أهل البيت (علیهم السلام) ورواة أحاديثهم لتكونوا كلكم مثله وفي منزلته ولا يكلفكم ذلك شيئاً كما كلفهم في ذلك الزمان، ففي رواية صحيحة أن الإمام الصادق (علیه السلام) لما بلغه وفاة بكير بن أعين قال: (أما والله لقد أنزله الله بين رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما) وعن عبيد بن زرارة بن أعين قال: (كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) فذكر بكير بن أعين فقال: رحم الله بكيراً، وقد فعل، فنظرت إليه وكنت يومئذٍ حديث السن، فقال: إني أقول إن شاء الله)(2).

التفقه في الدين كل الدين:

إن مسؤوليتنا لا تقف عند حدود تلقّي العلوم المتعارفة في الحوزة العلمية والتي تختص بالأحكام الشرعية وما يرتبط بها، مع أن المطلوب في الآية الشريفة هو التفقه في الدين كل الدين(3)

كالعقائد وتفسير القرآن والمعرفة بالله تعالى وتهذيب النفس بالأخلاق الفاضلة وسيرة المعصومين (علیهم السلام) وكل ما يتصل بالدين من علوم ومعارف وما نحتاجه في حركة الإسلام العالمية ونشره وإقناع البشرية به والدفاع عنه ورد الشبهات ومواجهة الفتن والحوار

ص: 79


1- أصول الكافي: ج1، كتاب فضل العلم، باب ثواب العالم والمتعلم.
2- الروايتان أوردهما الكشي في رجاله ونقلهما السيد الخوئي (قدس سره) في معجم رجال الحديث: 353/3.
3- شرحنا معنى مفردة (الفقه) بحسب المصطلح القرآني في كتاب (شكوى القرآن).

مع الأديان والحضارات والأيديولوجيات الأخرى، وهذا باب واسع ينكشف منه بوضوح الجهل والتقصير اللذان يكتنفان الأمة بكل طبقاتها.

إن أيسر شيء اليوم وأبخس الأشياء ثمناً هو الكتاب ووسائل التثقيف والتعلم والاطلاع، فلا عذر لأي أحد في عدم التفقه في الدين، في حين كان أحدهمفي الأزمنة السابقة يدفع حياته ثمناً للحصول على كتاب ديني وكانوا يتبعون مختلف أساليب التمويه والتستر للوصول إلى المعلومة.

إن للمسلمين أن يفخروا بأن دينهم سبق المجتمع البشري بقرون في الاهتمام بالعلم والعلماء وتفضيلهم ولزوم طلب العلم وإلزام العلماء بتعليم الأمة وإرشادها مما يعرف اليوم بالتعليم الإلزامي ومكافحة الأمية.

وظيفة المرجعية ليست علمية فقط:

إن وظائف المرجعية والحوزة العلمية المرتبطة بالمرجعية ليست علمية فقط بل هي مسؤولة عن قيادة الأمة والدفاع عن كيانها وهويتها وتحقيق مصالحها وحل مشاكلها ورفع الحيف والظلم عنها مضافاً إلى الدور العالمي في إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى ونشر الإسلام وتعاليم أهل البيت (علیهم السلام) وهذا يتطلب قاعدة واسعة من العاملين الرساليين المخلصين، ولذا قلنا بعدم الاستغناء بوسائل تحصيل العلوم الدينية عن الالتحاق بالحوزات العلمية.

وهذا كله يكشف عن فظاعة التقصير في تطبيق هذه الآية الشريفة ويدعونا إلى يقظة وحركة نحو رفد الحوزات العلمية بالكفاءات المخلصة الواعية ونشر الكتاب الديني وتحبيب مطالعته إلى الناس والله الموفق.

ص: 80

ص: 81

الفصل الثالث: النظام العلمي والإداري في الحوزة الشريفة جامعة الصدر نموذجاً

اشارة

ص: 82

مسؤولية المدرسين عن انتظام التحصيل في الحوزة العلمية الشريفة

اشارة

مسؤولية المدرسين عن انتظام التحصيل في الحوزة العلمية الشريفة(1)

الحوزة مقدسة بأهدافها:

الحوزة العلمية كيان مقدس اكتسب قدسيته من الهدف الذي يبتغيه وهو رضا الله تبارك وتعالى، ومن العمل الذي يؤديه وهو إعلاء كلمته تبارك وتعالى وهداية البشر والحفاظ على الشريعة الإلهية وصيانتها من الانحراف، واكتسب قدسيته أيضاً من انتسابه إلى النبي والأئمة الطاهرين الذين أجاب الله بهم دعوة خليله إبراهيم «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ»(إبراهيم:37) «سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ –في قلوب المؤمنين- وُدّاً»(مريم:96) «وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ»(الشعراء:84) فالحوزة الشريفة فيها نفحة من تلك الدعوة المباركة، واكتسبت قدسيتها من نزاهة أبنائها ونكرانهم للذات وتحليهم بالأخلاق الفاضلة والصورة النقية التي يعرضونها في حياتهم.

ولكن الحوزة لا تخلو من السلبيات التي تحتاج إلى أن نتعاون على معالجتها تحقيقاً للآية الشريفة «وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ»(العصر:3)، وأخص بالذكر في حديثي هذا كثرة التعطيلات وعدم وجود مواعيد محددة لأيام التحصيل والتعطيل.

ص: 83


1- خطاب وُجّه إلى أساتذة الحوزة العلمية الشريفة متزامناً مع بدء العام الدراسي محرم 1423ه.

المنة الإلهية على المدرسين في الحوزات:

وأرى أن للمدرسين دوراً كبيراً في هذا الاتجاه فهم عنصر مهم في تركيب هذا الكيان الشريف وبهم قوامها وديمومتها وهذا يعني أمرين:

الأول: استشعار عظمة نعمة الله تبارك وتعالى عليهم أن جعلهم في هذا الموقع المقدس، وممن يساهم في تشييد هذا الصرح العظيم أعني الحوزة الشريفة التي حفظت الدين والمذهب طيلة أربعة عشر قرناً حتى وصل إلينا غضاً طرياً كأنه نزل اليوم.

وقد قلت في مناسبة سابقة أني كلما قرأت أو سمعت قول تعالى «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(التوبة:122) استشعر عظيم المنة واللطف الإلهي بي إذ جعلني بفضله من أهل هذه الآية. فإن كل العطاء الإلهي الذي ذكرته الأحاديث لطالب العلم شامل له _أي المدرس- بالأولوية بل أنه يحظى بألطاف خاصة فإنه يبذل العلم وينفقه على المحتاجين إليه وينشره، وبذل العلم لمن لا يعلمه صدقة، وأنه يزكو بالإنفاق، وهذا ما جربناه عملياً فإن إفاضات يحصل عليها المدرس أثناء وبعد إلقائه المحاضرة لم يحصل عليها أثناء الدراسة، والمراجعة و (المذاكرة به تسبيح والعمل به جهاد)(1).

وبالمدرّسين تنعقد حلق العلم التي ورد فيها أنها (روض من رياض الجنة)(2) وأنه (ترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم وفي صلواتها تبارك عليهم ويستغفر لهم كل رطب ويابس حتى حيتان البحر وهوامهوسباع البر وأنعامه، فطوبى لمن لا يحرمه الله من حظه)(3) وفي حديث آخر (لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم من العلماء الداعين إليه والدالين عليه والذابين عن دينه. بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ومن

ص: 84


1- بحار الأنوار: 1:171.
2- بحار الأنوار:71:188.
3- بحار الأنوار: 1:166.

فخاخ النواصب الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك السفينة سكانها لما بقى أحد إلا ارتد عن دين الله أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل)(1)

وفي حديث رواه الإمام الصادق (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (يجيء الرجل يوم القيامة، وله من الحسنات كالسحاب الركام أو كالجبال الرواسي، فيقول: يا رب أنى لي هذا ولم أعملها؟ فيقول: هذا علمك الذي علمته الناس يعمل به بعدك)(2).

الشعور بالمسؤولية:

الثاني: الشعور بالمسؤولية تجاه هذه النعمة فإن من واجب النعمة أن تشكر، ومن وجوه الشكر أن تؤدي حقوق هذه النعمة وفروضها كما ينبغي لها بإخلاص، فإن الله تبارك وتعالى إذا علم الإخلاص من عبده رضي منه بالقليل ووفقه للكثير.

وقد أحسن الظن بي بعض فضلاء الحوزة الشريفة ممن يحمل وعياً اجتماعياً وحسا مرهفاً بعظم المسؤولية، فطلب مني وضع جدول للمواعيد الثابتة لتعطيل الدراسة في الحوزة الشريفة كخطوة في طريق الالتزام بالتحصيل، ومنع الفوضى والإرباك الذي يحصل في سير الدراسة في غياب هذه المواعيد المنظمة والذي نعاني منه جميعاً ونشكو من تبعاته وآثاره السلبية التي أدت إلى ضعف المستوى العلمي، وقلة الاستفادة من الدروس، وبطئ عملية صقل المواهب وإنضاج الكفاءات، ليتسنى توفير العدد الكافي من المجتهدين والعلماء والفضلاء والأساتذة خصوصاً في الأزمان المتأخرة.

ص: 85


1- بحار الأنوار: 2:6.
2- بحار الأنوار: 2:18.

العلاج الرئيسي بيد المدرسين:

وأرى أن الجرعة الرئيسية من العلاج بيد المدرسين فإذا ملكوا زمام أنفسهم، والتزموا بالحضور فإن الطلبة سيلتزمون وسيشعر أحدهم بالخجل لو غاب عن الدرس بلا ضرورة قصوى.

وقد وعدت هذا الأخ بالإجابة ولكن في بداية السنة الهجرية لتأسيس ارتكاز حوزوي إن لنا عاماً دراسياً منتظماً يبدأ في شهر محرم وينتهي في شهر ذي الحجة، مقابل الوضع القائم الآن من عدم معرفة سنة دراسية واضحة.

الخطة السنوية للدراسة:

وإذا انتظم لنا عام دراسي فإنه سيكون مفتاحاً للكثير من البركات فسنحدد مواعيد الامتحانات ومراحل الدراسة الحوزوية فهذا في السنة الأولى وذاك في الثانية، وما دمتم في بداية السنة الثانية من درس (كفاية الأصول) فأنتم في المرحلة السادسة من مراحل (دراسة السطوح) التي تستمر سبع سنين يتأهل بعدها الطالب لحضور بحث الخارج في الفقه والأصول والمقرّر له ست سنين، فيكون الطالب بعد ثلاث عشرة سنة من التحصيل مهيأ لإفاضة ملكة الاجتهاد على نحو الاقتضاء طبعاً لا العليّة.

وسيُحدّد وفق هذا الارتكاز أنّ هذا امتحان نصف السنة وذاك امتحان آخرها، وسنستطيع وضع (الخطة السنوية للدراسة)(1)

بأن نحدد عدد الأسابيع الدراسة وهي (34) أسبوعاً بالمعدل فإذا كان عدد المحاضرات المعطاة أسبوعياً (5) محاضرات فهذا يعني (170) محاضرة في السنة فإذا حددنا معدل ما يدرس خلال المحاضرة الواحدة أمكن معرفة ما يجب إنجازه خلال العام الدراسي.

ص: 86


1- طبّق سماحته هذه الأفكار في مشروع (جامعة الصدر الدينية) وألزم المدرسين بوضع مثل هذه الخطة.

وفي ضوء هذه الخطة يحدد الأستاذ نسبة إنجاز عمله المقرر له، وقد لا يحتاج الكتاب هذا العدد من المحاضرات وإنما تكفيه (85) محاضرة مثلاًفيخصص له موسم واحد (أو ما يسمى في النظام الأكاديمي كورس) ويكون الامتحان عند الانتهاء منه امتحاناً نهائياً.

وقد لا يحتاج الدرس إلى خمس محاضرات أسبوعياً وهكذا تعرف كل هذه التفاصيل في ضوء الخطة السنوية ويكون المدرس مسؤولاً أمام الله تعالى قبل أي أحد عن تنفيذها، كما أن المدرس يستطيع مراقبة عمله فإذا حصل أي تأخر في المقدار المطلوب منه فإنه يستطيع ترتيب نفسه لتلافيه.

خلاصة تجربتي في التدريس:

وبحسب خبرتي في التدريس التي أرجو أن تكون نافعة فإني أقدم بين يدي إخواني المدرسين بعض الأمور المفيدة:-

1- أن يخلص نيته لله تبارك وتعالى ولا يستهدف غيره من حب الجاه والدنيا وكثرة الإتباع فإن ذلك منشأ الوقوع في الرذائل الخلقية، فينبغي أن يتساوى عنده قلة الحضور وكثرتهم ولا يتغير قلبه على من يترك حلقة الدرس ولا يفرق بينه وبين من يحضر عنده.

2- الشعور الكامل بالمسؤولية أمام الله تعالى وصاحب العصر (أرواحنا له الفداء) فإن هذا الشعور هو الدافع الحقيقي للجد والاشتغال والالتزام، وإذا لم يتوفر عنده فلا تنفع في ضبطه كل المؤثرات الخارجية الأخرى.

ص: 87

3- أن يكون صدره واسعاً يستوعب كل الطلبة على اختلاف مستوياتهم الأخلاقية والعلمية والاجتماعية، وان لا يجرح مشاعر أحد حتى ولو صدر منه سؤال تافه أو تصرف سيء وإنما ينبهه بلطف وبإشارة خفية أو سراً أو يتلافى الموقف بلباقة.

4- أن لا يتصدى لتدريس أي مادة إلا أن يتسلط عليها بشكل كامل وتكون له القدرة الذاتية على استيعابها، والإحاطة بها وعرضها ولا يتكل على الحواشي والشروح، فإني ما درست أصول الفقه للمظفر إلا بعد أن أكملت درس الكفاية تقريباً وكنت في عرضه أحضر البحث الخارج. وهكذا ومن دون ذلك فإن المدرس يظلم نفسه والطلبة الذين يحضرون عنده.

5- وان يتولى توجيه الطلبة وإرشادهم إلى ما ينفعهم في حياتهم العلمية والعملية ولا يبخل عليهم بالنصيحة أو إلفات النظر إلى ما يطور قابليتهم ويصلح حالهم.

6- التحضير بشكل جيد للدرس وعدم الاستهانة به ولا بالطلبة وتلافي التقصير في الدرس اللاحق.

7- أن يكون بمثابة الأب لطلبته وهو أب فعلاً (فالآباء ثلاثة أب ولدك وأب زوجك وأب علمك) فيتولى رعايتهم والسؤال عنهم ومتابعة التزامهم بالدرس فإذا غابوا تفهم أسباب ذلك، وأن يسعى لقضاء حوائجهم بالمقدار الممكن.

8- العناية المكثفة بذوي الكفاءات في أي مجال والتركيز عليهم لأنهم الهدف من الحوزة كلها، وإنما تبذل الجهود والأموال من أجل تحصيل هذه النماذج وإعدادها لتواصل حمل الأمانة.

ص: 88

9- أن لا يتجاوز وقت المحاضرة (45) دقيقة ولا يقل عن (30) وعدم إضاعة الوقت بالإشكالات والتفريعات التي تشتت المطلب وتشغل بال الطالب بأمور زائدة.

10- أن يتبع الأسلوب المناسب لإيصال الأفكار إلى الطالب كتكثير الأمثلة ووضوح البيان وإعادة الشرح بصيغ مختلفة وتلخيص المطلب بعد نهاية الشرح وتقريره باختصار قبل الدخول في تفاصيله وهكذا.

11- أن لا يجعل المدرس درسه منبراً للتعبير عن ميوله واتجاهاته وصب انتقاداته على من لا يوافقه في الرأي فإن هذا مما ينفي بركة الدرس ويذهب ببهاء المدرس.

12- أن يحترم صاحب الكتاب الذي يدرسه ويحاول الدفاع عنه ما أمكن ولو كان الدليل لا يساعد عليه، فإن المتون إنما تدرس لا لتبني آراء أصحابها وإنما لاطلاع الطالب على نظريات العلم وأراء أصحابه، ولا يكثر الانتقاد عليه فإنه مما يقلل اهتمام الطالب بالكتاب ويجرئه على انتقاص العلماء ويسلب التوفيق من المدرس والطالب معاً.

13- أن يتحلى بالأخلاق الفاضلة المذكورة في الكتب الأخلاقية لأن الطلبة يتأثرون بأستاذهم ويتخذونه قدوة حتى في ألفاظه وحركاته وطريقة حياته، فكلما كان نموذجاً كاملاً نفع في تكامل طلابه.

14- أن لا يقتصر درسه على العلم الذي يعطيه، بل يغتنم كل فرصة ليعطي الفائدة الأخلاقية والموعظة والنصيحة الاجتماعية، وألفات نظر الطلبة إلى مسؤولياتهم تجاه أنفسهم وحوزتهم ومجتمعهم، وأن يطعم درسه بالقصص والروايات المرتبطة بالبحث فإنها تشد الطالب وتعينه على فهم الدرس وتذكره.

ص: 89

15- إجراء الاختبارات بشكل مستمر بأي شكل يراه مناسباً، ليحث الطلبة على المراجعة والتحضير، ولتمييز الطالب المثابر عن غيره، وليعطي كل ذي حق حقه من غير غبن لأحدهم، فإن المساواة بين الجميع تدعوا إلى ضعف همة الجيد واستوائه مع الضعيف.

موعظة في حق المعلم والطالب:

ونختم الكلام بذكر مقطع من رسالة الحقوق للإمام السجاد (عليه السلام) ذكر فيها حق المعلم على الطالب وبالعكس فقال (وحق سايسك بالعلم: التعظيم له والتوقير لمجلسه وحسن الاستماع إليه والإقبال عليه وأن لا ترفع عليه صوتك ولا تجيب أحداً يسأله عن شيء حتى يكون هو الذي يجيب، ولا تحدث في مجلسه أحداً، ولا تغتاب عنده أحداً وأن تدفع عنه إذا ذكر بسوء وأن تستر عيوبه، وتظهر مناقبه، ولا تجالس له عدواً ولا تعاد لهولياً فإذا فعلت ذلك شهد لك ملائكة الله بأنك قصدته وتعلمت علمه لله جل اسمه، لا للناس).

(وأما حق رعيتك بالعلم فإن تعلم ن الله عز وجل إنما جعلك قيماً لهم فيما آتاك من العلم، وفتح لك من خزائنه، فإن أحسنت في تعليم الناس ولم تخرق بهم. ولم تضجر منهم، زادك الله من فضله وإن أنت منعت الناس علمك أو خرقت بهم عند طلبهم العلم منك.كان حقاً على الله عز وجل أن يسلبك العلم وبهاءه ويسقط من القلوب محلك).

ملاحظة: سيكون افتتاح العام الدراسي 1423 ه يوم السبت 15 محرم بإذن الله تعالى...

ص: 90

الصورة

ص: 91

الصورة

ص: 92

الانتماء إلى الحوزة الشريفة

سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام عزه)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

توالت على بلاد الإسلام المقدسة قرون طويلة مفتقرة إلى الإصلاح والسعادة وقريبة من الفوضى والفساد بسبب الابتعاد عن الحوزة الشريفة والدين القويم.

وبما أن النجف هي مهد الإسلام ومركز المسلمين ومهوى قلوب العالم، وإنها الأرض التي تحتضن بفخر واعتزاز مرقد الإمام علي (عليه السلام) الوصي الأمين لرسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولوجود تلك الحملة الإصلاحية التي تبنتها الحوزة الشريفة، نوجه إليكم بعض الأسئلة التي نريد منكم التفضل بالإجابة عليها، راجين توجيه هذا الخطاب إلى الشباب الواعين الذين التحقوا بالحوزة الشريفة رغم كل الصعوبات والعراقيل يرخصون في سبيلها الأموال وبعد المسافة وفراق الأهل والأحبة، وكذلك توجيهه إلى من لا يستطيع الالتحاق بالحوزة الشريفة وهم يتحرقون شوقاً ويذوبون وجداً إلى الوصول والحياة في رحاب هذه الأجواء الإلهية المقدسة، ومن هذه الأسئلة :

1- هناك بعض الطلبة من طلاب الحوزة الشريفة سامحهم الله يمنعون هؤلاء الشباب عندما يطلبون منهم النصيحة في المجيء، يكون جوابهم (بقاؤكم خارج أفضل!!) وغيرها من الأعذار التافهة التي لا داعي لذكرها.

2- وهناك بعض آخر يقومون بنقل بعض السلبيات التي لا قوام لها إلى العوام، وبالتالي يؤثر على المركز القيادي للحوزة الشريفة بصورة عامة وعلى طالب العلم بصورة خاصة.

ص: 93

3- هناك بعض الموجهين والفضلاء الذين اعتزلوا الحوزة الشريفة لشرائهم جهاز الكمبيوتر، وأصبحوا يأتون فقط في يوم الراتب مما أثر على الطلبة الجدد في تحصيلهم الدراسي.

بسمه تعالى:

إن هؤلاء (الطلبة) الذين يقدمون هذه (النصائح) غير عارفين بمسؤولياتهم وما ينبغي عليهم فعله، ومثلهم لا يؤتمن على نصيحة، فالحوزة الشريفة من أوسع الطرق الموصلة إلى الله تبارك وتعالى حيث تنفتح لك من خلالها أبواب للطاعة وزيادة الأجر مما لا يحصي ثوابه إلا الله تبارك وتعالى، ولا يعرف طعم الحياة وقيمة الوجود أحد أكثر ممن سلك هذا الطريق، واني أتحسر على من لم ينتم للحوزة لأنه محروم من هذه النعم.

وأجد من اللازم شرعاً على من يجد في نفسه الكفاءة لطلب العلم والتحصيل وتتوفر فيه شروط حمل هذه الرسالة الشريفة ألاَّ يتخلف عن الالتحاق بها، فإن وجوب رفد الحوزة الشريفة بالطاقات النافعة وجوب عيني وليس كفائياً على أمثالهم، وأنت ترى مصداق ذلك في الفراغ الذي يعيشه مجتمعنا من العلماء والفضلاء والمرشدين والمصلحين، وسيكون الأمر أكثر إيلاماً عندما تعلم أن مسؤولية الحوزة إيصال صوت الحق إلى كل بقاع العالم، فكيف يتحقق ذلك ونحن إلى الآن لم نملأ حاجة مجتمعنا القريب؟!

أما السلبيات الحاصلة من بعض المنتسبين إلى الحوزة فلا يجوز أن تنعكس على الحوزة ككيان، فما من شريحة إلا وفيها منحرفون لا يمثلون الخط الصحيح لتلك الشريحة، فهؤلاء الذين يحملون اسم الإسلام وهم يجترحون الكبائر ويبارزون الله بالمعاصي والموبقات هل يمكن أن نلوم الإسلام إذا كانوا هم أساؤوا التطبيق؟ فيا عزيزي كن أنت مستقيماً ولا يضرك انحراف الآخرين، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» (المائدة: 105).

ص: 94

وأما الدراسة بالكمبيوتر فإنها لا تغني عن الالتحاق بالحوزة الشريفة لعدة أمور أذكر بعضها باختصار :

1 - إن كيان الحوزة ليس كياناً علمياً فقط حتى يعوّض بالكمبيوتر، بل هو كيان تربوي وتوجيهي وإصلاحي ينظم حياة المسلمين ومعاملاتهم.

2 - إن من يدرس من خلال الكمبيوتر يفقد البركات والآثار العظيمة التي يفيضها الله تبارك وتعالى على حلقات العلم، وأحدها ما جاء في الحديث : (حلق العلم روضة من رياض الجنة)، هذا غير بركات جوار أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد جربت بنفسي أنه عندما أغيب عن الدرس - وهو نادر جداً - وأتلقى الدرس بالكاسيت يفرق تماماً عن الدرس الذي أتلقاه مباشرة من الأستاذ (رغم أن الكاسيت هو درسه نفسه).

3 - إن الكمبيوتر لا يعدو كونه كتاباً مسموعاً، فهو كالكتاب المقروء من هذه الناحية، فهل يغني الكتاب عن الأستاذ.

4 - إن اللقاء المباشر مع الأستاذ فيه تفاعل وحوار وانشداد وإيضاح مما يفقدها درس الكمبيوتر، وغير هذا كثير.

ومع ذلك فإن الدراسة بالكمبيوتر والاستفادة من خدماته يمكن أن تكون في أكثر من اتجاه :

أ - في البحث والتحقيق في المصادر، فإن الجهد الذي يوفره للباحث والدارس في بطون الكتب مما لا يمكن أن يأتي به جهد شخصي .

ب - مواصلة الدراسة وتلقي العلوم من خلال أقراصه وبأشراف حوزوي طبعاً ومع تقرير المطالب التي تلقى فيه، وذلك لمن لا يتسنى له مواصلة الدراسة في الحوزة الشريفة لمانع أو لآخر خصوصاً النساء.

والخلاصة إن الكمبيوتر يصلح أن يكون مساعداً لطالب العلوم الدينية لا بديلاً عن الالتحاق بها، وينبغي الالتفات إلى أن الذي يدرس على الكمبيوتر وليس في أروقة

ص: 95

مدارس الحوزة العلمية ومساجدها لا يستحق المال الذي تخصصه المرجعية الشريفة لطلبة الحوزة.

وأكرر القول أني أعد من أعظم النعم عليَّ وجودي ضمن هذا الكيان الشريف، وكلما استمعت إلى الآية الشريفة: «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» (التوبة:122)، أعيش سعادة روحية ما بعدها سعادة شكراً لله تعالى أن جعلني من أهل هذه الآية، وأقول كم أن مجتمعنا مقصر في تطبيقها، فإذا كان الله تبارك وتعالى يحث على أن ينفر من كل فرقة طائفة (وهي لا تقل عنثلاثة) إلى مراكز العلم والحوزة الشريفة ليتفقهوا في الدين ومن ثم يعودون إلى قومهم يعلمونهم أحكام دينهم ويدلونهم على طاعة الله تبارك وتعالى ويجنبونهم معاصيه، فلماذا نرى مدناً كبيرة وعشائر عظيمة ولا يوجد واحد من أبنائنا من النافرين إلى الحوزة الشريفة؟ أترى كيف حرمنا أنفسنا من هذه النعمة الكبيرة وحرمنا مجتمعنا الذي يحرص على سماع كلمة الحق في مواجهة أبواق الضلالة ودعاة الفساد والانحراف، فلماذا نصدَّ أسماعنا عن هذه الآية المباركة الشريفة؟!

إن حبي للناس يدفعني إلى أن أدعو الله تبارك وتعالى لهم جميعاً بالالتحاق بهذا الكيان الشريف ذكوراً وإناثاً، فالإسلام يحتاجهم جميعاً ليوصل صوته إلى البشرية جمعاء حتى تعيش بسعادة وسلام وطمأنينة، ولكنني أعلم أن الفرصة ليست متاحة للجميع، وحينئذ يمكن أن يؤدي كل دوره في الهداية والإصلاح بالطريقة التي تناسبه.

وتفصل الكلام في كتاب خاص عن الشؤون والشجون الحوزوية(1)،جعلنا الله ممن ينتصر بهم لدينه ويبلغنا غاية رضاه إنه ولي النعم.

ص: 96


1- طبع لاحقاً كتاب (المعالم المستقبلية للحوزة الشريفة).

دراسة العلوم الدينية خارج الحوزة العلمية

دراسة العلوم الدينية خارج الحوزة العلمية(1)

بالرغم من اعتقادي إن الانتماء إلى الحوزة العلمية وجوداً ووظيفة لا يمكن تحقيقه من خلال الدراسة على الكومبيوتر لجملة أمور ذكرتها في نصيحة بعنوان (الانتماء إلى الحوزة الشريفة). إلا أن الواقع الذي تعيشه الحوزة العلمية في النجف الأشرف الذي يعاني من عدة أزمات وتحديات، وبسبب ما يراد للحوزة النجفية من تسطيح وإضعاف وتهميش بأفعالٍ متعمدة أو غير متعمدة من داخل الحوزة الشريفة ومن خارجها، حتى بلغت أيامالتحصيل في العام الماضي أربعة أشهر على ما قيل(2)

وفي ذلك هدرٌ وتضييع لجهود وأعمار الطلبة خصوصاً النابهين منهم، لذلك فقد رأينا أن أحد الردود العملية على هذا التقصير بفتح الدراسة الخارجية حيث يقوم طالب العلوم الدينية بتعويض التأخير والنقص بتلقي علومه على جهاز الكومبيوتر، وتُقَّنن العملية بالتوجيهات التالية

1- استناداً إلى المادة (57) من النظام الأساسي لجامعة الصدر الدينية: تتولى إدارة جامعة الصدر الدينية في النجف الأشرف تنظيم الدراسة الخارجية والإشراف عليها.

2- تختص الدراسة الخارجية بالطلبة الذين أكملوا المرحلة الثالثة في جامعة الصدر الدينية في النجف أو فروعها في المحافظات.

3- يجب توفر الشروط التالية في الطالب قبل قبوله في هذه الدراسة

أ- أن يكون من المتفوقين والمجدّين في تحصيله للمراحل السابقة.

ب- تعهّده بالوفاء بكافة الالتزامات التي تطلبها منه إدارة الجامعة.

ج- تُجرى له مقابلة مع لجنة متخصصة للتعرف على أهليته وتوفّر الظروف المناسبة له.

ص: 97


1- نُشر في صحيفة الصادقين العدد (61) بتأريخ 9/شوال/1428 المصادف 2007/10/21.
2- حَسبتُ فترة التحصيل في السنة الأولى من إلقائي البحث الخارج من شعبان/1427 حتى شعبان/1428 فكانت (33) أسبوعاً أي حوالي ثمانية أشهر وهو معدل نادر حتى في الدراسات الأكاديمية المنتظمة.

4- بعد نجاح الطالب في المقابلة تحدد إدارة الجامعة الأستاذ المشرف للطالب بالتشاور معه ليتابع معه الاستحقاقات المطلوبة منه.

5- يمنح الطالب كافة الامتيازات التي تُمنح لطالب العلم في الحوزة العلمية إذا وفى بما يلي:

أ- استيفاء كل المواد العلمية المطلوبة منه بتلقيها عند أحد الأساتذة المعروفين.

ب- تدوين الشرح الذي يستمع إليه من الأستاذ من خلال الجهاز في سائر الدروس الأساسية لان جودة التقرير جزء من تقييم درجة الطالب ولان هذا الشرح ينفعه لاحقاً عند تدريس المادة.ج- الحضور لأداء الامتحانات في السنة مرتين بالمادة التي يقررها الأستاذ المشرف.

د- ارتداء الزي الديني في المحافل الاجتماعية والفعاليات الدينية في النجف أو في غيرها.

ه- الحضور في درس واحد على الأقل في الحوزة العلمية للمواصلة مع أجوائها.

و- تدريس المراحل الدنيا حينما يكلَّف بذلك أو توجد ضرورة له في جامعة الصدر أو خارجها.

ز- إنجاز ما يُكلَّف به من بحوث ودراسات وملخصات ومنها ما يغطى العلوم التكميلية التي تطلب منه

6- لا تشمل الدراسة الخارجية بأي حالٍ من الأحوال مرحلة البحث الخارج

ص: 98

فروع جامعة الصدر الدينية الأهداف والاستحقاقات

اشارة

فروع جامعة الصدر الدينية الأهداف والاستحقاقات(1)

مشروع جامعة الصدر:

(جامعة الصدر الدينية) مشروع طموح ولد قبل عشر سنين تقريباً استجابة للشعور بالحاجة إلى تطوير مناهج وأداء وتنظيم الحوزة العلمية الشريفة والى معالجة عدة نقاط ضعف في الجوانب الإدارية والمالية والعلميةوالأخلاقية

والفكرية والاجتماعية وقد اشرنا بشيء من التفصيل إلى ذلك في كتاب (المعالم المستقبلية للحوزة الشريفة) الذي يمثل الصورة النظرية للمشكلة وعلاجها وكتاب (جامعة الصدر الدينية: الهوية والانجازات) الذي يمثل التطبيق لتلك الأفكار.

وزادت الحاجة إلى هذا المشروع بعد أن أعلن الغرب صراعه الحضاري ضد الإسلام. ولا ينهض بهذه المواجهة الواسعة الشاملة المفتوحة على كل الجبهات إلا مشروع متكامل يشخص ببصيرة هذه الجبهات والثغرات وينشئ بإزائها المؤسسات التي تتكفل بإدارة الصراع.

جامعة الصدر قلب المشروع الرسالي:

وتمثل جامعة الصدر القلب الذي يدير هذا المشروع ويمدّه بالحركة والدماء المتدفقة فجميع أذرع المشروع الإسلامي من حزب الفضيلة الإسلامي الذي يمثل الواجهة السياسية، ورابطة بنات المصطفى التي تمثل تنظيم العمل الاجتماعي للنساء، وجامعة

ص: 99


1- من حديث سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع مدراء فروع جامعة الصدر الدينية في النجف الأشرف والمحافظات يوم 28 ج1 1426 المصادف 2005/7/5.

الزهراء التي تتكفل بنشر الحوزات العلمية للنساء إلى سائر المؤسسات الأخرى تستند في عملها وتستمد وجودها ورصيدها الجماهيري من (جماعة الفضلاء) وهذه تزود بالعناصر القادرة على حمل الرسالة من مصنع الفضلاء الرئيسي وهي جامعة الصدر الدينية.

نشر جامعة الصدر في المحافظات:

وقد بقي هذا المشروع حبيس النجف الأشرف مهد العلم والولاية حتى زوال الصنم، حيث أتيحت الفرصة لتمدد الجامعة المباركة ونشر فروعها في المحافظات حيثما توفرت مقومات نجاح المشروع وديمومة عمله، حتى بلغت اليوم ثمانية عشر فرعاً تضم حوالي (1500) طالب وتوجد طلبات عديدة بعد سنتين من البدء بتأسيس الفروع لفتح فروع من مدن أخرى داخل العراق وخارجه نلبّيها عند توفر المقدرة بلطف الله تبارك وتعالى.

دواعي إنشاء فروع جامعة الصدر:

أن دواعي إنشاء هذه الفروع عديدة ويتولد من كل منها استحقاق على مديري الفروع أن يقوموا به

الأول: توفير الفرصة لأكبر عدد من أبناء الإسلام ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون تطبيقاً للآية الشريفة، إذ لايتسنى لكثير من الراغبين في تحصيل العلوم الدينية القدوم والمكث في النجف الأشرف، والمستفاد

الشريفة أن يتصدى واحد من كل ألف لدراسة العلوم الدينية هذا بلحاظ حاجة المجتمع نفسه أما إذا نظرنا إلى الحاجة الإضافية الناتجة من مسؤولية الحوزة العلمية في النجف الأشرف عن نشر المبلغين والهداة إلى الله تبارك وتعالى في سائر أرجاء العالم لما للنجف من خصوصيات في قلوب الناس فسيكون العدد المطلوب أكبر.

الثاني: تخفيف العبء عن النجف الأشرف فإنها غير قادرة على استيعاب كل

ص: 100

القادمين إليها خصوصاً إذا تحسنت الأوضاع في العراق، وحينئذٍ سيزداد إقبال الراغبين من مختلف الدول للمجيء إلى النجف الأشرف، فلا داعي إلى تحميل الحوزة النجفية دروس المقدمات والسطوح الأولية، كما أن كثيراً من الذين ينهُون هذه المراحل الأولية يكتفون بها وينطلقون إلى مدنهم للتوجيه والإرشاد وإمامة الجماعة والجمعة وحينئذٍ يمكن تأمين ذلك لهم في محافظاتهم وتبقى النجف للراغبين في مواصلة الدروس العالية.

الثالث: أن الحوزة العلمية حيثما تحل وتبسط وجودها فإن الهداية تنتشر معها ويتّسع الالتزام الديني ويتحرك العمل الإسلامي ويكفي مجرد وجودها وإن لم تتحدث بمشروعها، وحينما يحدث انفصال بين المجتمع والحوزة العلمية تحصل حالة استرخاء وابتعاد عن الأجواء الدينية وحينئذٍ يجب علينا نشر الحوزات العلمية في كل مكان لتأمين منطلقات للعمل الإسلامي المبارك.

استحقاقات على جامعة الصدر:

وتترتب على هذه الدواعي استحقاقات

1- مراعاة التوزيع الجغرافي في قبول الطلبة بحيث يكون التنوع مستوعباً لمركز المحافظة والأقضية والنواحي والأرياف والعشائر المحيطة بها، ويتحقق ذلك بالإعلام الواسع عن فتح باب القبول والتأكيد على حث القرآن الكريم والأحاديث الشريفة على تحصيل العلوم الدينية للترغيب في الانضمام وتوفير مستلزمات النقل والخدمات الأخرى.

2- أن يتصف الطلبة بالشروط المطلوبة للقبول من حيث المستوى العلمي والفكري والأخلاقي.

3- اكتشاف قابليات الطلبة وتوجهاتهم ورغباتهم، فالمتفوق علمياً يرسل إلى النجف الأشرف لمواصلة الدروس العالية، والذي له قدرة علىالكتابة والتأليف تُنمى فيه هذه القابلية، والمؤهل للوعظ والإرشاد وارتقاء المنبر الحسيني أو إمامة الجمعة والجماعة توفّر له هذه الفرصة ليستفاد منه وهكذا. وعلى مدير الفرع أن يضع الآليات لتفجير الطاقات

ص: 101

واكتشافها، كتكليف الطلبة بكتابة بحث عن موضوع معين للتعرف على قدراتهم على التأليف، كما أن نتائج الامتحانات كفيلة بإبراز الطاقات العلمية الجيدة وهكذا.

4- وضع خطة لاستيعاب الخريجين من فروع الجامعة وتوزيعهم بحسب المسؤوليات المناسبة لهم، والتي اشرنا إليها في النقطة السابقة إذ لا يعقل أن تصرف هذه الجهود والأموال على الفروع ثم تذوب وتضمحل بعد تخرجهم.

5- أن يعي الطلبة في الفروع هذه الأهداف لأني ألمس في الكثير من المنتمين إليها شعوراً بأن هدف وجودهم هو نفع نفسه بالتفقه في الدين، وهو هدف جيد في ذاته إلا أنه غير كافٍ ولا نرضى بالوقوف عليه، وإنما عليه أن يعي أن الجامعة تريد منه أن ينفع المجتمع بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة والعمل الصالح من أجل الأمة وان يعي موقع جامعة الصدر من المشروع الإسلامي الحضاري الذي أشرنا إليه، وقد قلنا في كلمة سابقة أن وعي المشروع من العوامل التي تحفز العاملين الرساليين وتستثير فيهم الهمة والحماس.

6- اهتمام الفروع بالنشاط الثقافي والاجتماعي من خلال إصدار النشرات والبيانات وعقد الندوات واستضافة الشخصيات والمشاركة في الفعاليات الفكرية والاجتماعية والدينية.

أن فروع الجامعة حالياً تتمكن بإمكانياتها المتوفرة من الوصول بالطالب إلى نهاية المرحلة الثالثة ويمكن لها عند توفر القدرات المؤهلة أن تستمر حتى إكمال السطوح العالية واقتصار الدراسة في النجف الأشرف على البحث الخارج.

ص: 102

ص: 103

الفصل الرابع: الدور الأخلاقي لطلبة الحوزة الشريفة

اشارة

ص: 104

دور طلبة الحوزة الشريفة في تعطيل شهر رمضان

اشارة

يتضمن العنوان جهتين من الكلام الأولى عن التعطيل والثانية عن شهر رمضان:

معاني التعطيل:

ففي الجهة الأولى نقول: إن للتعطيل معنيين:

التعطيل المطلق بمعنى أن طالب العلم يخلد إلى الراحة والنوم والكسل في العطلة –أية عطلة-، وهو معنى غيرأ- صحيح أكيدا فان الإنسان في هذه الحياة الدنيا في عمل دؤوب نحو الهدف وهو رضا الله سبحانه، وبلوغ المزيد من درجات التكامل ورأس ماله في هذا العمل وهذه التجارة ساعات عمره التي هي في انقضاء ومرور سريع، وأية ساعة يضيعها الإنسان من دون ان يوظفها في خدمة الهدف فإنها سوف تكون حسرة عليه يوم القيامة، ففي الحديث الشريف (ما من ساعة تمر على ابن آدم لم يذكر الله فيها إلا خسر عليها يوم القيامة)(1)

ويشعر بالغبن حينما يرى غيره قد استثمرها فنال مرتبة أعلى منه، وفي الخبر أن ساعات عمر الإنسان تعرض أمامه على شكل خزائن تفتح له فان قضاها في خير وجد في تلك الخزينة خيرا أو في شر – والعياذ بالله- فيجد فيها شراً، وإذا

ص: 105


1- كنز العمال: 1819.

قضاها في عمل غير هادف ولا مثمر فيجدها فارغة فيتحسر على فواتها عليه دون ان يملأها بما ينفعه (ولات حين مندم).

ويشبه بعضهم حال الإنسان بأنه كما لو كان مدلى بحبل في بئر عميق، وفي قعره تنين عظيم فاتح فاه ينتظر اللحظة التي يسقط فيها هذا الإنسان المسكين ليلتهمه، وهناك جرذان في رأس الحبل تقرض به، وهو مع هذا الحال المرعب أقبل على عسل مخلوط بالتراب على جدران البئر يلعق به وينافس الزنابير والحشرات بدلاً من أن يفكر بنجاة نفسه.

هذه الصورة الرهيبة تمثل حالنا، فنحن متعلقون بحبل العمر ويقرض فيه الليل والنهار وتنين الموت ينتظرنا، فما يلبث عمرنا أن يتصرم حتى يلتهمنا الموت ونلاقي الدواهي العظمى، وبدلاً من أن نفكر في الاستعداد له والنجاة من عقبته الكؤود نضيع وقتنا الثمين في الراحة والكسل والصراع على الدنيا الزائفة التي شبهها أمير المؤمنين (عليه السلام) بالجيفة التي تزدحم عليها الكلاب.وليس هذا من شأن المؤمن الذي يعيش بكل كيانه لهدف سامي, قال سبحانه وتعالى: «يَا أيُّهَا الإنسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدحاً فَمُلاقِيهِ» (الانشقاق:6) والكدح في اللغة العناء والتعب وفي نهج البلاغة (ليكدح المؤمن حتى يلاقي ربه).

ب- التعطيل المقيد بمعنى أنه تعطيل عن الدروس الحوزوية المتعارفة فقط، وليس تعطيلاً عن كل عمل، وهذا المعنى هو الصحيح واللائق بالمؤمن الهادف الواعي.

ص: 106

كيف يريح الطالب عقله ؟

فإن الطالب قد يتعب من الدرس والتحصيل وهذا شيء طبيعي فكيف يريح عقله ؟! يريحه بالقيام بأعمال ومسؤوليات أخرى لا تقل وجوبا عن تحصيله الدراسي، وهي في نفس الوقت راحة له عن الجهد العقلي الذي بذله، فراحة طالب العلم في هذا التنويع في المسؤوليات، وهذا التنقل بين المسؤوليات ضروري على الدوام لكي لا تجزع النفس وتتمرد، فإن لها حدوداً وقابليات فإذا كلفها فوق طاقتها نخشى عليها أن تعصي صاحبها فيخسر كل شيء، وإلى هذا التنوع أشار عليه السلام (إن العقول لتمل أو لتكل كما تكل الأبدان، فروّضوها بطرائف الحكم) فمن حقها أن ترتاح بعد أن تبذل جهوداً مضنية، لكن راحتها ليس بالخمول والكسل وكثرة النوم وإنما بممارسة مسؤوليات وأداء واجبات مغايرة.

ما هي المسؤوليات التي يمارسها طالب العلم في التعطيل؟

فما هي المسؤوليات التي يمارسها طالب العلم في التعطيل؟

أولها وأهمها: نشر أحكام الله سبحانه وتوجيه المجتمع وإرشاده وتوعيته بالموعظة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال المنبر الحسيني، أو إلقاء المحاضرات، أو عقد الندوات، أو إجراء الحوارات، وهذا واجب الجميع والحوزة تكون مقصرة لو وجدت نقطة في أقصى البلاد لم تبعث إليها من يهدي أهلها ويرشدهم إلى سواء السبيل.

وقد أكد القران كثيراً هذا الدور المهم، قال تعالى: «ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروفِ وينهون عن المنكرِ» (آلعمران:104) وأنتم يا رجال الحوزة القدر المتيقن من هذه الأمة، وقال تعالى: «فَلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرقَةٍ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِيْن ِ وَلِيُنذِرُوا قَومَهُم إذا رَجَعُوا إليهِم لَعَلَّهُم يَحذَرُونَ» (التوبة: 122).

وقد تفقهتم خلال سنة كاملة واستوعبتم كثيراً من المعلومات فبقي عليكم دور إيصالها إلى المجتمع، فإذا قمتم بهذا الدور فاستمعوا لما يعدكم الله ورسوله (صلى الله عليه

ص: 107

وآله وسلم) من الأجر الجزيل والثواب الجميل، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) (من قوى مسكيناً في دينه ضعيفاً في معرفته على ناصبٍ فأفحمه لقنه الله يوم يدلى في قبره أن يقول : الله ربي محمد نبيي وعلي وليي والكعبة قبلتي والقرآن لهجتي).

وعن معاوية بن عمار قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) رجل راوية لحديثكم يبث ذلك بين الناس ويشّدده في قلوبهم وقلوب شيعتكم، ولعل عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية أيهما أفضل؟ قال (عليه السلام): الراوية لحديثنا يشد به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد).

وروي عن علي (عليه السلام) أنه قال: (من كان من شيعتنا عالماً بشريعتنا فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به جاء يوم القيامة على رأسه تاج من نور، يضيء لأهل جميع تلك العرصات وعليه حلة لا يقوم لأقل سلك منها الدنيا بحذافيرها، ثم ينادي منادٍ من عند الله تعالى يا عباد الله هذا عالِم من بعض تلاميذ آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا فمن أخرجه في الدنيا من حيرة جهله فليتلبث بنوره ليخرجه من حيرة ظلمة هذه العرصات إلى نزهة الجنان، فيخرج من كان علمه في الدنيا خيراً أو فتح عن قلبه من الجهل قفلاً أو أوضح له شبهة).

ثانياً: الالتفات إلى تنقية القلب وتطهير النفس، فإننا قد أعطينا السنة كلها لغذاء العقل وهو على أهميته إلا أنه لا يكفي وحده بل لابد من الاهتمام بغذاء القلب من الموعظة والازدياد من المعرفة بالله سبحانه بالتدبر بالقران الكريم والأدعية الشريفة وقراءة كتب الأخلاق والوعظ والتهذيب، فمن وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام) (يا بني أحيي قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة) وذات مرة قال رسول الله

ص: 108

(صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه (إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، قيل وماجلاؤها يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال : قراءة القرآن وذكر الموت)(1).

فإذا تأمل الإنسان في مبدأه ومنتهاه وما يؤول إليه أمره من الموت وما بعد الموت فسيحصل على ثمار مهمة: الاستهانة بالدنيا وتحقير زخارفها،

السمو عن الأعمال الدنيئة والانشداد إلى الله سبحانه والتعلق به.

شهر رمضان خير فرصة لتطهير القلب:

وهذا العمل يعني إعمار القلب وتطهيره وإن كان ضرورياً على مدى السنة كلها، إلا أن شهر رمضان خير فرصة له لما فيه من أجواء سمو روحي، حيث تغل فيه الشياطين وتخمد شهوات النفس الأمارة بالسوء ويعيش الجميع أجواء الطاعة لله سبحانه.

وقد حشد الأئمة (عليهم السلام) عدداً وافراً من الأدعية والمناجاة لإعطاء هذا الشهر الشريف دفعة إلهية ضخمة، وليكرس الإنسان نفسه لله سبحانه، ويزداد هذا التكريس في العشر الأواخر من شهر رمضان حيث كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يطوي فراشه –كناية عن اجتناب النساء - ويشد مئزره للعبادة، وكان بعض المراجع ممن له مقام في العرفان يسد مكتبه في هذه الأيام ويمتنع عن لقاء الناس،والبعض الآخر كان يغادر أهله ولا يعرف احد أين يوّلي وجهه حتى نهاية الشهر.

إن غار حراء الذي دخله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومكث فيه متفرغا للتأمل والعبادة والمناجات والذكر الدائم مطلوب منا ان ندخله باستمرار، ولا أقل من هذا العشرة أيام بالسنة كما كان يفعل (صلى الله عليه وآله وسلم) لنجلو قلوبنا ونطهرها من الرين والصدأ المتراكم عليها من الذنوب والغفلة والاشتغال بفضول الدنيا من

ص: 109


1- عوالي اللئالي: 279/1.

أكل أو نوم أو كلام، قال تعالى «كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكسِبُونَ» (المطففين :14).

ثالثها: مراجعة الدروس وتدارك ما فات منها، وسد الثغرات التي حصلت خلال المسيرة الدراسية.رابعها : الاهتمام بالاتجاه الفكري أو ما نسميه بالوعي الاجتماعي فانه من مقومات شخصية العالم الديني ومع ذلك فان منهاج الدراسة الحوزوية المتعارفة خالية منه،فعليك أن تسعى لتحصيله بجهدك وتوفيق الله سبحانه، فراجع الكتب في هذا لمجال لكبار مفكرينا المخلصين(1).

خامسها: تحصيل العلوم المكملة للدراسات الحوزوية مما لا يدخل في منهجها المألوف، كالتفسير والعقائد والتاريخ والرجال، مضافاً إلى الثقافة العامة والعلوم العصرية.

سادسها: تبادل الزيارات واللقاءات خصوصاً مع الأرحام، وتحسين العلاقات مع من تدّخل الشيطان بينك وبينه فحصل سوء تفاهم فتسعى لإصلاح ذات البين فانه أفضل من عامة الصلاة والصوم كما عبر أمير المؤمنين (عليه السلام).

سابعها: كتابة البحوث والدراسات وصقل هذه الموهبة، فانه من المؤسف حقاً أن تعيش النجف حاضرة الفكر ومصنع العلماء والمفكرين عقدين من الزمان خالية ممن يشخص قضايا المجتمع وسلبياتها ويعالجها، فلم تصنع الحوزة خلال هذه المدة مفكراً واحداً وهذا مما لا يمكن قبوله.

فعلى الإخوة الفضلاء والطلبة شحذ الهمم والتصدي لدراسة ما يعصف بالمجتمع من مشاكل وانحرافات وشبهات، وكتابة البحوث وعلاجها ومواجهتها، ويفضل ان تكون

ص: 110


1- لم نكن نستطيع التصريح بأسمائهم كالشهيدين الصدرين والسيد الخميني والشيخ المطهري (قدس الله أرواحهم جميعاً).

البحوث بحجم كراسات وكتيبات يسهل قراءتها ولا يتعذر بذل الثمن بإزائها ويكفي في هذه الكتابات تلخيص أفكار علمائنا أو مفكرينا الكبار وتجميعها وصياغتها بما يناسب واقعنا المعاش.

ص: 111

كيف تعرف الحوزة نجاحها في شهر رمضان:

نحن كحوزة علمية إذا أردنا أن نعرف مدى نجاحنا في شهر رمضان فعلينا أولاً أن نلتفت إلى الامتحانات التي حملناها في هذا الشهر الكريم لنعرف ماذا أنجزنا على طريق النجاح فيها، ومن ثم نكون مسؤولين عن الاستمرار بالنجاح هذا والمحافظة على الروحية العالية التي حصلت لنا بفضل الله تبارك وتعالى وببركات هذا الشهر، فقد كانت مسؤوليتنا بعدة اتجاهات:

1- مراقبة أنفسنا وتهذيبها ومنعها من الانسياق وراء الشهوات والمطامع من حب الجاه والمال وكثرة الأتباع.

2- تحصيل الإخلاص لله تبارك وتعالى وتعميق الارتباط به والمعرفة به تبارك وتعالى من خلال القرآن الكريم والأدعية والأحاديث المأثورة(1).3- مضاعفة الهمة والجد والاشتغال والدرس والتحصيل لتشييد هذا الصرح العظيم الخالد، حتى تسليمه إلى راعيه الأول أرواحنا له الفداء، صرح الحوزة العلمية وفقه أهل البيت (عليهم السلام).

4- وفي حفظ إلفتنا ومودتنا ووحدتنا واجتماع قلوبنا على توحيد الله تبارك وتعالى وولاية محمد وآل محمد (صلى الله عليهم أجمعين) وكفى بذلك جامعاً مشتركاً، وقد عشنا السمو والصفاء بلطف الله تبارك وتعالى في جميع هذه الاتجاهات وبروح عالية خصوصاً في الليالي والمناسبات الشريفة، فلا ينبغي لنا التراجع عنها وخسارتها(2).

5- وفي أداء مسؤولياتنا تجاه المجتمع من قضاء حوائجهم وحلّ مشاكلهم ورعايتهم وهدايتهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي هذا الاتجاه بالذات وجدت تقصيراً واضحاً لدى الحوزة الشريفة خلال شهر رمضان المبارك، حيث قعد الكثيرون عن

ص: 112


1- راجع كتاب شكوى القرآن لسماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله).
2- راجع كتاب الصراع الحضاري بين الإسلام والغرب لسماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله).

أداء وظيفتهم منشغلين بمسؤوليات أقل أولوية، كالكتابة ومراجعة الدروس رغم أنه لا منافاة بينها أصلاً، فيستطيع القيام بها جميعاً بتوفيق الله تبارك وتعالى، فإذا لم نؤدِّ وظيفة الوعظ والإرشاد والتوجيه في شهر رمضان، فمتى نؤديها؟ وأي فرصة أنسب منه حيث تجد القلوب عامرة بالإيمان ومتوجهة لداعي الله والمساجد مكتظة بالمؤمنين «يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَْرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (الأحقاف: 30-32).

وفي الحقيقة فإن لطف الله تعالى بعباده ومدّ حبل الرحمة إليهم ليجذبهم إليه ليست منحصرة بشهر رمضان وإن كان هو أبرزها، بل هناك ليلة الجمعة ويومها وبعض الأزمنة الشريفة الأخرى، وهناك أمكنة كالمشاهد المعظمة للأئمة الأطهار (عليهم السلام) والمساجد عموماً ومجالس الوعظ والإرشاد وذكر أهل البيت (عليهم السلام) وصلوات الجماعة بل الصلاة عموماً، فإنها معراج كل تقي وفرصة لإعادة الصلة بالله تبارك وتعالى وتجديد الروح المعنوية، وجرعة مستمرة لردع النفس ونهيها عن الفحشاء والمنكر.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيه محمد وآله الطاهرين.

ص: 113

الجاه نعمة يُسأل عنها الإنسان

اشارة

الجاه نعمة يُسأل عنها الإنسان(1)

الرزق المادي والمعنوي:

يظنُّ أكثر الناس أن الرزق هو خصوص المال، وربما بالغ بعضهم فاعترض وسخط لأنه لم يرزق المال الذي يريده، ولا شك إن المال من أعظم الرزق، لان الإنسان يستطيع بالمال أن يقضي حوائجه ويحفظ كرامته، ويستثمره في الكثير من فرص الطاعة لله تبارك وتعالى كالحج والعمرة وزيارة العتبات المقدسة وأداء الحقوق الشرعية ومساعدة الناس وغيرها.

لكن معنى الرزق أوسع من ذلك، وإن بعضه مادي وبعضه معنوي ، من الأرزاق المعنوية : نعمة الإسلام وولاية أهل البيت (عليهم السلام) والالتزام بالدين والزوجة الصالحة والذرية الطيبة وغيرها كثير، ومن الرزق الجاه الاجتماعي والسمعة الطيبة والقدرة على التأثير على الآخرين وإقناعهم.

وهذا رزق عظيم لا يقل تأثيره عن المال، ويستطيع صاحبه فعلاً أن يوظفه في كثير من الطاعات التي لا يتمكن غيره من أدائها، كالإصلاح بين الناس الذي هو أفضل من عامة الصلاة والصيام بحسب ما روي في بعضالأحاديث الشريفة، وكالسعي لقضاء حوائج الناس لدى المسئولين أو المتنفذين ولو جاء غير ذي الجاه بها لما وجد من يستمع إليه، وكالتوسط في تزويج المؤمنين الذي هو أعظم بناء في الإسلام كما في الحديث الشريف، أو حلّ الخصومات واستنقاذ الحقوق لأهلها وغيرها من القربات العظيمة عند الله تبارك وتعالى.

ص: 114


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من زعماء عشائر ووجهاء ونخبة من المثقفين في منطقة الحسينية - الراشدية في بغداد يوم السبت 24 ربيع الثاني 1431ه المصادف 2010/4/10.

نعمة الجاه:

وقد منّ عليكم بهذه النعمة باعتباركم زعماء عشائر ووجهاء في مجتمعكم كما منّ به على الحوزة العلمية الشريفة حيث يتمتع العالم الديني بمثل هذا الجاه.

وهذه النعمة يُسأل عنها الإنسان، كما يسأل عن المال : مم أكتسبه وفيم أنفقه، قال تعالى «ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ» (التكاثر: 8) وهو كل ما أنعم به الله تبارك وتعالى على الإنسان لذا ورد في الحديث الشريف (الولد نعمة يُسأل عنها الإنسان) والجاه نعمة فيسأل الإنسان عنه نُقل أن أحد العلماء شوهد متألماً ساعة احتضاره، فقيل له لماذا أنتم متألم ولم تدّخر مالاً أو علماً إلا أنفقته في سبيل الله تعالى، قال نعم. ولكن عندي جاه أيضا وأخشى ألاّ أكون قد بذلت كل جاهي في سبيل الله تعالى.

إن هذا السؤال وهذه المسؤولية تدفع الإنسان للتفكير ملياً في ما يستخدم فيه جاهه، فقد يُحسِن في استعماله كما في الموارد التي ذكرناها، وقد يُسيء كما سمعنا في الانتخابات الأخيرة أن بعضاً من زعماء العشائر والوجهاء بذلت لهم أموال للتصويت لأشخاص أو جهات فاسدة أساءت إلى الشعب ولا يُرجى منها الخير، من دون الالتفات إلى أن الصوت أمانة ومسؤولية لان الناخب عندما يصوّت إلى شخص فهو شريك له في إحسانه إن أحسن، وإساءته - والعياذ بالله- إن أساء لأنه هو وغيره ممن صوّتوا له أجلسوه في هذا المجلس.

ومثل الجاه أيضاً في النعم : القدرة على التأثير على الآخرين وإقناعهم، وهذه نعمة لان صاحبها يستطيع أن يوفّّر بقدرته هذه جهود كبيرة ووقتاً كثيراً ويحقّق ما لا يستطيع أن يحقق غيره. وقد جربتم انتم كزعماء عشائر ووجهاء تأثير الإنسان المتكلم الذي يستطيع أن ينتزع من الأخر الحق الذي يريد.

وهكذا يجب على الإنسان أن يكون دقيقاً في تصرفاته وملتفتاً إلى عناصر القوة التي زودّه الله تبارك وتعالى فإن الغافل يتورط في معصية الله تبارك وتعالى من حيث يشعر ومن حيث لا يشعر، والله الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 115

موعظة وتذكر لأساتذة الحوزة العلمية الشريفة

اشارة

موعظة وتذكر لأساتذة الحوزة العلمية الشريفة (1)

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق المبعوث رحمة للعالمين محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين.

التعاطي بالمسائل العلمية يزيل التشنج:

موضوع بحثنا الاستدلالي هي المسائل الخلافية ولا نعني بها مطلق المسائل التي تعددت فيها آراء الفقهاء واختلفت لأن ذلك يعني استغراق أبواب الفقه كلها إذ لا توجد مسائل تحقق فيها إجماع مطبق إلا في الضروريات، ويتضح الحال من التحقيق في كثير من الإجماعات المدعاة كما سيظهر من البحث.

وإنما نريد بالمسائل الخلافية تلك المسائل التي أصبحت ساحة لسجال علمي عميق ودقيق بين الفقهاء وهي معدودة ويشار لها بالبنان في كتب الفقه. ومثلها تُعجّل في صقل المواهب وتختصر الطريق لأن العمر أقصر من استيفاء الخوض في كل المسائل.

على أننا سنلاحظ في المسائل المختارة حيثيات أُخر كأن تكون المسألة ابتلائية كَثُر السؤال عنها ويراد معرفة تفاصيل حالاتها كمسألة من طُلقت طلاقاً غير صحيح في المحاكم الرسمية وتزوجت آخر، أو يستفاد منها في علاج مشكلة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية

ص: 116


1- الكلمة التي افتتح بها سماحة الشيخ اليعقوبي(دام ظله) بحثه الاستدلالي في الفقه يوم الأحد 2/شعبان/1427 المصادف 2006/8/27.

أو أنها تتضمن بحوثاً من العلوم الأكاديمية العصرية كالرياضيات والفلك والفيزياء والكيمياء؛ للتأكيدعلى أهمية توظيف هذه العلوم في عملية الاستنباط الفقهي والذي تترتب عليه ثمرات عديدة أشرنا إليها في مقدمة كتابنا (الرياضيات للفقيه).

كما أن إشاعة مثل هذه البحوث التي هي جزء من ثقافة الحوار مع الآخر وفهم حججه مهما كان الموقف منها تساهم في التقارب وإزالة التشنج إذا تم التعامل مع الآراء بموضوعية وإنصاف لأنها ستكسر حواجز الانغلاق والتعصب. وستجد العذر والدليل لمواقف الآخرين مما يخفف الاحتقان تجاههم، ونقصد بالآخر التنوع الفقهي داخل مدرسة أهل البيت (سلام الله عليهم) ومع المدارس الأخرى خارجها، حيث سنتعامل معها بنفس الإنصاف والموضوعية والمعايير العلمية للترجيح.

وفي ضوء هذا نعلم القيمة الكبرى لمثل كتاب (الخلاف) للشيخ الطوسي (قدس سره) الذي يمثل مدرسة علمية منفتحة ومنصفة وموضوعية.

الإثراء العلمي:

ولإثراء البحث الاستدلالي باعتبار أن هذا النمط منه –أي البحث الاستدلالي في المسائل الخلافية- لا يكتفي بالتعامل مع الدليل أي لا يكفي بالاستدلال على القول المختار في المسألة كما هو شأن البحوث الاستدلالية، وإنما يتوسع ليشمل وجهات النظر المعروضة من قبل الأساطين وغير المعروضة مما يحتمل ورودها في المسألة ويقارن بينها بعد تحليلها وتقييمها ومعرفة أسباب اختلاف الفقهاء ومناشئ أقوالهم وسينمي تلاقحاً فكرياً عميقاً. وسيعطي قدرة أكبر وصورة أوضح لاختيار الرأي الأصوب؛ لأنه يتيح رؤية هذه الصورة الأوسع للأقوال والاحتمالات في المسألة مع الاستدلال على تلك الأقوال.

وبناءً على ذلك فإن مرتبة البحوث الخلافية أرقى من البحوث الاستدلالية وأوسع أفقاً وإدراكاً؛ لأن الثانية تكتفي بالاستدلال على الحكم في المسألة مع إجابة ما يمكن أن يرد

ص: 117

عليه من الإشكالات، أما الثانية فتتوسع لمناقشة الآراء المحتملة في المسألة وهذا يتطلب ذهنية وقّادة لإدراك تلك المحتملات، واطلاعاً واسعاً لمعرفة تلك الأقوال، وتحقيقاً معمقاً لمعرفة مباني وأدلة تلك الأقوال أو ما يمكن أن يكون كذلك؛ لأن بعض الفقهاء ليس لهم كتب استدلالية فلا بد من صناعة الدليل لهم.

وهذه المراحل قطعها الشيخ الطوسي (قدس سره) عند تأليف كتابه (الخلاف)، فقد ألف أولاً كتاب (النهاية) في الفقه وذكر فيه المسائل الفقهية المتلقاة من نصوص المعصومين (عليهم السلام)، ثم ألّف كتاب (المبسوط) وذكر فيه الفروع الفقهية المستنبطة من تلك المسائل الأصلية، ثم ألف كتاب (الخلاف) وذكر فيه ((مسائل الخلاف بيننا وبين من خالفنا من جمع الفقهاء من تقدم منهم ومن تأخر، وذكر مذهب كل مخالف على التعيين، وبيان الصحيح منه وما ينبغي أن يعتقد))(1).

هذه كلها ثمرات وفوائد توخّيناها عندما اخترنا البحث في المسائل الخلافية، وهي لعمري تستحق أن يُبذل الغالي والنفيس في سبيل تحقيقها بلطف الله تبارك وتعالى.

عندما نفهم الفقه كمنظمة متكاملة:

وللبحث –مضافاً إلى ذلك- خصائص أُخر لا تخفى على المتأمل، ولعل من أوضحها أنه يقدم المسألة كمنظومة كاملة من مقدماتها وأجزائها وتفاصيلها وفروعها والمسائل المرتبطة بها في أبواب الفقه كافة؛ لتظهر الروايات والأحكام فيها كبناء متسق يُعرف موضع كل جزء منها، خلافاً للطريقة التقليدية التي تتناول كل مسألة على حدة مما قد يؤدي إلى عدم اكتمال الصورة وربما حصول التناقض بين موارد ذكرها في الأبواب المتعددة من الفقه، وإن هذا الاتساق في البناء أصبح قرينة لاعتماد بعض الروايات ضعيفة السند أو غير واضحة الدلالة.

وقد جعلت عنوانه (فقه الخلاف) لا (الفقه المقارن) الذي هو أليق بالمصطلحات

ص: 118


1- مقدمة كتاب فقه الخلاف لسماحة الشيخ (دام ظله).

المعاصرة لما قيل من أن الثاني يقتصر على سرد الآراء المختلفة والاكتفاء بعرضها دون الاستدلال عليها والحكم بترجيح بعضها الذي يتكفل به الأول والتعريف محل خلاف «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً» (النساء : 82).

موعظة لطالب العلوم الدينية:

ولا يفوتني هنا أن أعظ نفسي بما نُقل عن المرحوم الشيخ الأنصاري (قدس سره) أنه دخل المسجد يوماً فوجد أستاذاً يدرّس كتابه المكاسب وهويشرح المطالب بعيداً عن مراد مؤلفه الأنصاري فجلس ناحية يبكي ولما سُئل عن السبب أجاب إن هذا الأستاذ إنما ناقش مطالبي بسبب أنه لم يفهم مرادي ولعلّي أنا حينما ناقشت الفقهاء العظام لم أكن أفهم مرادهم فتكون إساءة بحقهم.

أقول: على هذا الأدب الرفيع يجب أن تسير نقاشاتنا، وبحسن الظن هذا والإكبار والإجلال نؤسس للحوار والنقاش، ليبارك لنا الله تعالى في حركتنا فننتفع أعظم النفع والفائدة مما سطّره السلف الصالح ونستنطق علومهم وأفكارهم ونوصل ذلك كله إلى الفضلاء من طلبة العلم ليستفيدوا وليرتقوا في مراتب العلم وليواصلوا حمل الأمانة التي تفضّل علينا الله تبارك وتعالى بها وهي نشر فقه أهل البيت (سلام الله عليهم) وعلومهم ومعارفهم.

وإن في هذا إدخالاً للسرور على النبي وآله (صلى الله عليهم أجمعين) فقد ورد عنهم (عليهم السلام) (أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا) ولتبقى الحوزة العلمية الشريفة منجبة للفقهاء الذين يقول الإمام الباقر (عليه السلام) لأحدهم وهو أبان بن تغلب (اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس فإني أحب أن يُرى في شيعتي مثلك)(1).

وبالمقابل فقد كان يحزن الأئمة (سلام الله عليهم أجمعين) لموت العلماء وتعطيل حلقات العلم فلما مات أبان بن تغلب قال الإمام الصادق (عليه السلام) (أما والله لقد

ص: 119


1- معجم رجال الحديث: 20/1.

أوجع قلبي موت أبان) وكان إذا قدم المدينة تقوضت إليه الحلَق وأُخليت له سارية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

وورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في عدد من كبار الفقهاء من أصحابه (بشّر المخبتين بالجنة: بريد بن معاوية العجلي، وأبا بصير ليث بن البختري المرادي ومحمد بن مسلم وزرارة أربعة نجباء أمناء الله على حلاله وحرامه لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست)(2)

وقال (عليه السلام) فيهم (هم أحبُّ الناس إليّ أحياءً وأمواتاً)(3)

وورد عن جدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (من حفظَ من أمتي أربعين حديثاً مما يحتاجون إليه منأمر دينهم بعثه الله يوم القيامة فقيها عالماً)(4)

ويريدون عليهم السلام بالحفظ حفظ الدراية والوعي وعدم الاقتصار على حفظ الرواية.

اذكروا نعمة الله عليكم:

فتذكروا عظيم نعمة الله عليكم إذ يسّر لكم هذا السبيل وزيّنه لكم ووفقكم الله بلطفه وتذكروا أن الفقيه حينما يبلغ درجة الاجتهاد ويصبح قادراً على الاستنباط وممارسة الاستدلال الفقهي والتعاطي مع نصوص القرآن الكريم وأقوال المعصومين (عليهم السلام) فإنه يتلقى الأحكام من المعصوم (عليه السلام) مباشرةً من خلال النص الذي يتعامل معه بعد أن يطمئن إلى صدوره من المعصوم (عليه السلام) في حين كان قبل ذلك يتلقى الأحكام من الفقهاء ويعمل برؤيتهم وهم مهما بلغوا من جلالة القدر لا يرقون إلى درجة المعصوم وهذا التلقي المباشر من المعصوم شرف ما بعده شرف.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من حفظة دينه وناشري الهداية والدعاة إلى الله الأدلاء

ص: 120


1- معجم رجال الحديث: 21/1.
2- معجم رجال الحديث: 7/223-225.
3- نفس المصدر والموضع.
4- الخصال للصدوق، أبواب الأربعين وما فوقه، باب 15.

على طاعته حتى يحشرنا مع الأنبياء والأئمة والصالحين وحسُنَ أولئك رفيقاً.

ص: 121

كيف يكون منزلك بين رسول الله وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما)

كيف يكون منزلك بين رسول الله وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما)(1)

سأنقل لكم رواية تكفي (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (ق/37) (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) (الحاقة/ 12)، ليتوجه إلى طلب العلوم الدينية والتفقه في دين الله تعالى، ونشره بين الناس.

وقد وصلت الرواية بسند وُصِف بالصحة وهي في حق بُكير بن أعين أخي زرارة وعبد الملك وحمران بني أعين وهم من العلماء الرواة الثقاة وفيها (إن أبا عبد الله –الصادق (علیه السلام)- لما بلغه وفاة بكير بن أعين قال: أما والله لقد أنزله الله بين رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما).(2)

فما الذي يقعدنا عن بلوغ هذه المنزلة، وبكير لم يكن من المعصومين حتى يقال أن درجتهم لا يمكن الوصول إليها، بل كان رجلاً عادياً يعمل ويكسب لكنه امتلك همة ورغبة في تحصيل علوم أهل البيت (علیهم السلام) ونشرها بينالناس ومع أن الظروف اليوم مؤاتية وميسّرة، وليست بتلك القساوة التي عاشها أولئك الأصحاب في زمن الأمويين والعباسيين.

ص: 122


1- خاطرة ذكرها سماحة الشيخ اليعقوبي في حفل التتويج بالعمامة لعدد من طلبة جامعة الصدر الدينية فرع الحسينية/ بغداد يوم22/ ج1/ 1432.
2- معجم رجال الحديث للسيد الخوئي (قدس سره): 353/3.

أحب أن يُرى في شيعتي مثلُك

أحب أن يُرى في شيعتي مثلُك (1)

كان أبان بن تغلب جليل القدر عظيم المنزلة، لقي ثلاثة من الأئمة (السجاد والباقر والصادق(علیهم السلام)) وروى عنهم وكانت له عندهم خطوة وقدم، وقال له أبو جعفر الباقر (علیه السلام) (أجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس، فإني أحب أن يُرى في شيعتي مثلُك).

نريد أن نأخذ درساً من هذا الوسام الرفيع الذي قلّده الإمام الباقر (علیه السلام) لهذا العالم الجليل وهو أن يقوم كل من له إبداع في مجال ما ينفع به المجتمع وينصر به الدين وينشر به الصلاح فليبرزه وليظهره ولينشره، لأن إمام العصر يحب أن يَرى في شيعته مبدعين نافعين في كل مجالات الحياة وليس في الفقه فقط، كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والطب والهندسة والقانون والعلاقات الدولية والمنظمات الإنسانية وهكذا.

وهذا يحتّم علينا أن نبذل أقصى الجهود ونحسن اختيار المجال المثمر والمناسب لقدراتنا وقابلياتنا لنبرز فيه ونتفوق ونتميز، فندخل السرور على قلب الإمام (علیه السلام) ونكون مصداقاً لدعوة الإمام الصادق (علیه السلام) (كونوا لنا دعاة صامتين) ونكون فخراً وزيناً لمدرسة أهل البيت (علیهم السلام).

خصوصاً أنتم الشباب في مقتل العمر وعلى أبواب الجامعات فضاعفوا همتكم وجهدكم لتملئوا كل الاختصاصات بإبداعاتكم وتفوقكم، وسيشملكم الإمام (علیه السلام) بألطافه ويرعاكم بإذن الله تعالى.

ص: 123


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من طلبة السادس الإعدادي في مدينة قلعة سكر يوم 30/ج1433/1 المصادف 2012/2/23.

الفصل الخامس: جماعة الفضلاء الأهداف والمسؤوليات

اشارة

ص: 124

الكلمة التأسيسية لجماعة الفضلاء

اشارة

الكلمة التأسيسية لجماعة الفضلاء(1)

بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله كما هو أهله وصلى الله على النبي وآله وسلم تسليماً.

أود أن أقدم تعريفاً بفكرة تأسيس الجماعة وأهدافها وطبيعة عملها وآلياته:

جماعة الفضلاء والغرض من تأسيسها:

(جماعة الفضلاء) تجمع يهدف إلى النهوض بواقع الأمة لتكون بمستوى التحديات، وهو مفتوح لكل فضلاء وأساتذة الحوزة الشريفة وأئمة الجُمعات والجماعات وخطباء المنبر الحسيني، وكل المؤمنين الرساليين العاملين على رفعة الإسلام ونشره وعزة المسلمين مهما كانت انتماءاتهم واتجاهاتهم الحوزوية وتنفتح الجماعة في عملها على جميع الجهات الأخرى في المجالات التي تلتقي بها معها.

والغرض من تأسيسها أمران:

1 - تنظيم آلية عمل الحوزة الشريفة في أداء المسؤوليات ومواجهة التحديات بتشكيل اللجان المختلفة، فالجماعة ليست بديلاً عن المرجعية في قيادة الأمة، وإنما هي أداة بيدها لتقوم بمسؤولياتها وتؤدي وظائفها.

2 - توحيد اتجاهات الحوزة مرجعياً وفكرياً، وتقريب وجهات نظرها وتنسيق المواقف بينها وتمثيل الحوزة في المؤتمرات والمناسبات باعتبار انضمام الفضلاء من مختلف الاتجاهات إليها، وانبثاق هذه اللجان المشتركة كممثلة للجميع.

ص: 125


1- ألقيت في المؤتمر التأسيسي لجماعة الفضلاء في مقرها العام في النجف الأشرف يوم27 صفر 1424 المصادف 2003/4/30 وقد حضره المئات من فضلاء وأساتذة الحوزة وحظي بتغطية إعلامية واسعة.

والمسؤوليات المشار إليها يمكن إجمالها بما يلي:

1- إصلاح الناس وهدايتهم وتكميل نفوسهم وتقريبهم إلى طاعة الله بإيجاد فرص الطاعة وتكثيرها، فمثلاً حينما يدعى إلى صلاة الجمعة أو يُفتح مشروع خيري فهذا إيجاد لفرص جديدة للطاعة وتجنيبهم المعصية بتقليل فرص المعصية ومنعها.

2- تبليغ الأحكام وتعليم مسائل الحلال والحرام في مختلف شؤون الحياة.

3- الدفاع عن الشريعة ضد الشبهات الفكرية والعقائدية وأي خطر يهدد كيان الأمة.

4- تنظيم حياة المجتمع وبسط العدل فيه وإيصال الحقوق إلى أهلها وقضاء حوائج الناس.

6- العمل على وحدة الصف ومقاومة أي محاولة لزرع الشقاق بين أهله والانتباه والتحذير لهذه المحاولات.

أشكال التحديات ودور الحوزة الشريفة منها:

أما التحديات فيمكن ملاحظة عدة أشكال منها:

1 السياسية: حيث يسعى الشعب لاغتنام الفرصة في نيل حقه للمشاركة في إدارة البلد وعدم فرض حكومة لا يرتضيها سواء من جهة عناصرها كونهم متورطين في جرائم النظام أو غير كفوئين لشغل المواقع أو من جهة نسب توزيعها أو شكلها واتجاهها.

2- العقائدية والأخلاقية: فإن الانفتاح المقبل والحرية المدعاة ستحمل معها الكثير مما يتنافى مع مبادئ الإسلام وتعاليمه، وسيكون ذلك مدعاة للتمحيص والابتلاء الشديد الذي لا ينجو منه إلا من امتحن الله قلبه للإيمان وتمسك بدينه وأطاع ولاة أمره الحقيقيين، وهذا الاختراق الأخلاقي والفكري يتوقع حصوله من خلال عدة قنوات، أولها وسائل الإعلام المؤثرة وثانيها الوافدين إلى البلد من أبنائه المهاجرين وغيرهم الذين يحملون ذلك الفكر والسلوك الغريبين.

ص: 126

3- الاجتماعية: فإن النظام العالمي الجديد الذي يراد للعراق أن يكون جزءاً منه يتطلب نظماً وأوضاعاً اجتماعية لا تتلاءم مع تركيبته الإسلامية الأصيلة وستتغير أنماط العلاقات والمعايير المتحكمة فيها.

إن مما يؤسف له انشغال الأمة وحتى الحوزة بالهم السياسي فقط، والاندفاع لتحصيل مكاسب سياسية، وانصبت المحاضرات والخطب والكلمات على هذا الاتجاه، رغم أن بناء شخصية المسلم والمحافظة على سلوكه وإصلاح المجتمع أهم وأولى، وقد تحصل مكاسب سياسية بمقدار معين وبآخر، ولكن يبقى الهدف الرئيسي للحوزة هو هذا اعني هداية البشر ومساعدتهم على تكميل نفوسهم، وهذا ما استفدناه من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) فلم يكونوا يهتمون بالمواقع الدنيوية سواء حصلت في حالة توفر ظروفها الموضوعية أم لم تحصل، لكن الواقع الآن هو العكس فلا أحدفكر في إنشاء مراكز ثقافية أو حوزات(1) علمية في مختلف المدن أو رابطة للمرأة المسلمة تعمل على تثقيف النساء وتعليمهن أو جمعيات خيرية بل قد انحسر عدد المصلين في المساجد وترك أئمة المساجد خطبهم ومحاضراتهم ودروسهم إلا ما ندر، وهذه هي الهزيمة الحقيقية التي استدرجنا إليها ونحن ما زلنا في أول الأزمة فكيف ستكون النهاية؟

إن هذا يوم له ما وراءه كما يقولون فإن المجتمع يتلقف كل جديد ويتأثر به ويتخذه طريقة دائمة لحياته، فإذا وجهناه وعبأناه بهذا الاتجاه أعني الانخراط في المراكز الثقافية والحوزات العلمية والمنتديات الأدبية والدينية فسيأخذ هذا الطريق وإلا فالعكس وحينئذ لا نلوم إلا أنفسنا.

ص: 127


1- قام سماحة الشيخ بنشر فروع جامعة الصدر الدينية في المحافظات بعد سقوط الصنم الصدامي، وفتح المراكز الثقافية والمنظمات الاجتماعية والإنسانية والروابط النسوية وفروع جامعات الزهراء (عليها السلام) لهن.

أهمية العمل الجماعي:

ولضخامة هذه المسؤوليات وقوة هذه التحديات لا بد من تنظيم العمل وتوجيهه ووحدة العاملين وتنسيق جهودهم، أو قل لا بد من ترتيب بيتنا الحوزوي أولاً.

ومن واقع هذه المسؤوليات والتحديات تنشأ الحاجة إلى تشكيل لجان ومكاتب تتوزع على أعضائها أعمال وتكون لها فروع في مختلف المدن تقوم بنفس المسؤوليات والوظائف.

تنسيق العمل وتوزيع المهام:

ونشير إلى هذه اللجان إجمالاً على أن تضع كل لجنة لاحقاً برنامج عملها ووظائفها بإشراف الأمانة العامة:

1- لجنة أئمة الجمعات والجماعات: حيث تقوم باختيار الكفوئين علماً وعملاً لهذه المواقع ومتابعة نشاطهم وتقييمه ومساعدتهم في إعداد الخطب والكلمات وتحديد محاور الكلام.

2- المكتب الثقافي والعلمي: يقوم بنشر الكتب والإصدارات النافعةلجميع الاتجاهات المرجعية وتشخيص حالات الخلل والانحراف وإعطاء العلاج لها وإعلان رأي الجماعة في مختلف القضايا الفكرية والأخلاقية والعقائدية وتصدر عنه مجلة أو جريدة ناطقة باسمها كما ينقل المكتب أولاً بأول ما يصدر من المرجعيات الشريفة من استفتاءات وتوجيهات اجتماعية ويقوم بتفجير الطاقات العلمية والثقافية وتشجيعها وتطويرها.

3- لجنة خطباء المنبر الحسيني: تفتح معهداً لإعداد الخطباء وتأهيلهم وتضع له المناهج اللازمة، وتشرف على اختيار الخطباء الكفوئين وتوزيعهم ومتابعة نشاطاتهم.

4- لجنة الشعائر الدينية والتجمعات الجماهيرية: حيث تتولى أقامة الاحتفالات الدينية وتوجيه الشعائر وتوظيفها في خدمة القضايا المصيرية والدعوة إلى عقد التجمعات للمطالبة بأمور محددة.

ص: 128

5- المكتب الإعلامي: ينشر نشاطات الجماعة ويتابع الأخبار ويحللها وينشر تعليقات الجماعة على هذه الأخبار وتحليلها.

6- لجنة التنسيق بين المرجعيات واستعلام مواقفها وآرائها.

7- لجنة الرعاية الاجتماعية: فيما يتعلق بحضورها مناسبات الناس كإقامة الفاتحة وعيادة المرضى وغير ذلك من النشاطات التي تعكس العمل الإنساني للجماعة.

7- لجنة شؤون المرأة المسلمة: فإنه يوجد إغفال تام لدور المرأة ولم توضع آليات وبرامج عمل لتثقيف المرأة وتعليمها من خلال تأسيس مراكز ثقافية حتى ولو في البيوت وإعداد دروس في الفقه والعقيدة والأخلاق والتفسير مناسبة لطبيعتهن.

هل للجماعة عمل سياسي:

ليست الجماعة تشكيلاً سياسياً بالمعنى المتعارف لكنه مستعد لمشاركة الأحزاب والحركات السياسية ضمن الإطار الذي حددته الجماعة لنفسها وباعتبار أن الجماعة تضم بحسب العنوان فضلاء من جميع الاتجاهات الحوزوية فيمكن للجماعة أن تمثل الحوزة في الفعاليات السياسية، وبذلك تحل هذه المعضلة التي يتحدث عنها كل أطراف القضية العراقية الذين يتساءلون من هي الحوزة التي يعلن الشعب باستمرار عن كونها الممثل الوحيد له.

إن أهم قضية تواجهنا هي قضية الدستور لأنه المرجع في كل قضاياالبلاد، فلا بد أن يكون وفق الشريعة الإسلامية التي تكفل حقوق جميع البشر، ولكي يتحقق ذلك يجب تصدي مجموعة من الفقهاء للإشراف على صياغة الدستور ومراقبته، ومن مسؤوليات هذا المجلس مراجعة أطروحات وبرامج عمل الحركات والأحزاب السياسية التي تود دعم الحوزة لها ولو بشكل غير مباشر وإعطاء الضوء الأخضر لما صح منها أو ترشيح عناصر مستقلة، وسيؤثر موقف الحوزة هذا كثيراً في فوز تلك الأحزاب أو النقابات أو الحركات في

ص: 129

الانتخابات.

وتحث الجماعة كافة المؤمنين على تشكيل النقابات النظيفة والجمعيات الثقافية والحركات الوطنية والإسلامية المخلصة بإشراف الحوزويين لتشارك في الحياة السياسية مستقبلاً ودعم من يعمل على تحقيق المطالب الشرعية للشعب.

وأعتقد أن هذا هو المقدار الذي يمكن للحوزة بمستوياتها العليا المشاركة فيه فإن لها دور الإشراف والرعاية والأبوة والتوجيه للجميع ولا يمكن تحجيمها في حزب سياسي ونحوه.

سلبيات العمل غير المنظم:

إن العمل غير المنظم وغير المنسق يؤدي إلى سلبيات عديدة:

1 ضعف النتائج وقلة الثمرات التي ينبغي قطفها.

2 إهمال الكثير من الأعمال لقصور العمل الفردي عن القيام بها وقلة فاعليته.

3 كثرة الأخطاء، بينما بالمشاورة والمشاركة يمكن اجتناب الكثير منها (من شاور الرجال شاركهم في عقولهم).

فنحن مدعوون أيها الأخوة إلى تضافر الجهود والتجرد من العناوين الشخصية والفئوية والعمل سوية للنهوض بالواقع الذي نعيشه إلى مستوى الطموح الذي نأمله ويريده منا الله تبارك وتعالى وأمامنا المهدي الموعود عجل الله فرجه، وأرجو أن تبارك مرجعيتنا الشريفة هذا العمل وتشد من أزر العاملين.

إن ركيزة الانطلاق في هذه المسؤوليات الجبارة هي المساجد فلا بد من تفعيل دورها وإعادة الحياة إليها، وليكن كل مسجد بالإضافة إلى كونه محلاً للصلاة مركزاً ثقافياً ومدرسة دينية ومحلاً للشعائر الدينية والتجمعات الجماهيرية ومقراً لانعقاد الجمعيات والمؤتمرات، فإن المسجد إذا أخذ دورهالحقيقي كما كان في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن الأمة تكون بخير وتسترد عافيتها.

ص: 130

جماعة الفضلاء: الأهداف والأعمال

اشارة

جماعة الفضلاء: الأهداف والأعمال(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما أهله وصلى الله على نبيّه وآله الطيبين الطاهرين.

بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ:

كثيراً ما نسأل عن مشروع جماعة الفضلاء والهدف من تأسيسها، وهل أن توقيتها مرتبط بظروف المرحلة الراهنة، وما هي أنشطتها فأود أن أجيب عن هذه الأسئلة المشروعة في هذا الجمع المبارك، وليصل الصوت من خلالكم إلى جميع المؤمنين؛ لأنه بحسب فهمي إن تفعيل دور جماعة الفضلاء الآن هي خطوة مهمة في طريق تحقيق آمال الشعب، ولتبقى الحوزة الشريفة عند حسن ظن الموالين لها وشوكة في عيون أعدائها.

وإنما أخاطبكم لأنكم جميعاً من الفضلاء قال تعالى «قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ» (يونس:54) والرحمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لقوله تعالى «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» (الأنبياء: 107)، والفضل هو علي بن أبي طالب كما ورد في التفسير عن أهل البيت (عليهم السلام)وأنتم أبناء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) فانتم من الفضلاء، ولكم الفرصة كاملة في الاشتراك بأنشطة الجماعة التي سنبينها بأذن الله تعالى.

ص: 131


1- الكلمة التي ألقاها سماحة الحجة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على جموع أهل بغداد الذين وفدوا لمبايعته وإعلان الولاء له يوم الاثنين 22 ربيع الثاني 1424 الموافق 2003/6/22.

لماذا جماعة الفضلاء؟

إن انبثاق فكرة الجماعة مرتبط بمتطلبات المرحلة التي نعيشها بكل ما تتضمنه من تحديات وأخطار، وتقتضيه من مسؤوليات وأعمال، بحيث لا يستطيع فرد أو جهة مهما كثر عدد أفرادها أن تنهض بها وحدها، بل لا بد من تضافر الجهود واجتماع القلوب، أو قل الانتقال من العمل الفردي الذي دأبت عليه الحوزة الشريفة في الأزمنة السابقة ولها مبرراتها وقد أدّت ما عليها بمقدار ما تستطيع، إلى العمل المجموعي الذي يكون أكثر عطاءً وأقل أخطاءً باعتبار انضمام العقول ومشاورتها وقد أوصى الإمام (عليه السلام) شيعته ب (نظم أمرهم) أي تنظيم أمورهم ووضعها في إطار (جماعة) بل لعله المستفاد … من قوله تعالى «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ» (آل عمران: 104)، وهذه الأمة والجماعة هي النخبة المثقفة الواعية الملتزمة التي تقوم بهذه الوظائف فهذا هو الدافع الأول.

الثاني: إننا كثيراً ما نطالب بوحدة الحوزة الشريفة وهو مطلب حق وضروري، وإذا تحقق فإنه سيأتي ببركات كثيرة فماذا نعني بتوحيد الحوزة؟ لا نريد بذلك طبعاً وحدة الفتوى الصادرة منهم، فإن هذا متوقف على ما يراه الفقيه حجة بينه وبين الله تعالى ولا يمكن أن تفرض على فقيه فتوى معينة، وإنما نعني بالوحدة وحدة المواقف إزاء القضايا العامة والمصيرية التي تواجه الأمة، أو على الأقل عدم التقاطع بينهم، وهذا إنما يتحقق بتشكيل جماعة تضم علماء وفضلاء يمثلون مختلف الجهات المرجعية الموجودة، ويتدارسون القضايا التي تواجه الأمة ويقررون اتخاذ موقف موحد بإزائها.

الثالث: إننا وبعد أن سنحت الفرصة لاسترداد حقوق الشعب نطالب بأن يكون للحوزة دور في الكثير من الأمور، كصياغة الدستور وشكل الحكم، والأشخاص المؤهلين له وتعيين القضاة وغيرها، فحينئذ من الذي يمثل الحوزة وفيها مرجعيات متعددة قد تختلف رؤاها، ويستطيع الخصم أن يلعب على هذا الوتر فيقول إن هذا لا يمثل الحوزة كلها وإنما جهة معينة منها، فيرفض كل مطلب بهذا العذر.

ص: 132

فإذا نجحنا في تأسيس جماعة ينضم إليها فضلاء وأساتذة من جميع الجهات المرجعية، فحينئذ يصبح له كل الحق في أن تتحدث باسم الحوزة، وتعبّر عن مطالبها، وتشارك باسمها على مختلف الأصعدة، وبذلك نخرج من هذه العقدة المستعصية والإشكالية الراسخة عند السؤال (من هي الحوزة) و(من الذي يمثل الحوزة) فإنها عنوان مجمل ومبهم لدى الكثير من المهتمينبهذه القضية.

الرابع: استقطاب الطاقات والكفاءات والنخب المثقفة من الشعب وجعلهم ضمن إطار ينتمون إليه، فإن بقاءهم بلا انتماء رغم نزوع الإنسان الفطري إلى الانتماء سيدفعهم إلى الانخراط في أي حزب أو تنظيم، مما يؤدي إلى ضياعهم وتشتتهم، فالجماعة وجدت كأطروحة للوحدة، وكحل لإشكالية مستعصية وكأسلوب للعمل المجموعي البناء، وليست هي بديلاً عن المرجعية الشريفة ولا تتقاطع معها بل هي آلية من آليات عمل المرجعية.

وأعلن أمامكم أنني والجماعة سوف نعمل في إطار المرجعية الشريفة خصوصاً المتحركة منها في الساحة ولا نتجاوزها ما دامت ملبية لطموحات الأمة، من أجل تحقيق وحدة الموقف الإسلامي عموماً، والشيعي خصوصاً فإن من عناصر قوتنا في هذه المرحلة العصيبة من حياة الأمة أن تتوحد المواقف وتتسق الأعمال وتتقارب الرؤى.

قوتنا في رص الصفوف:

وأنتم أيها الأحبة وإن بذلتم الكثير من الجهد والعناء، وأصابكم العنت من أجل زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام)، والوصول إلى هذا العبد القاصر ولتعلنوا تأييدكم له، وهذا عمل نبيل اسأل الله تعالى أن لا يضيّعه لكم وأن يجازيكم به بما يسَّر قلوبكم يوم تلقونه، إلا أنني أكرر أن قوتنا في وحدتنا ولا تتحقق الوحدة إلا برص الصفوف وتجنب الخلاف والعمل سوية في إطار المرجعية الشريفة، هذه وصيتي فمن كان يحبّني فليعمل بها ليكون ذلك أعظم رد توجهونه إلى الأعداء الذين يتربصون بكم الدوائر عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم، حتى لو استفّزكم بعضهم بكلام عليَّ أو عليكم وتشويه صورتي

ص: 133

ومحاولة تسقيطي في أعين الناس فلا تردّوا عليهم بالمثل ولا تذكروا الجهة التي يرجعون إليها بسوء، ألا يكفيكم في الجواب عليهم قول الأمام (عليه السلام): (كفى بك نصراً على عدوك أن يعصي الله فيك)؛ لأنه سيقحم نفسه في كبائر عديدة كالغيبة والكذب والبهتان، ألا يكفيكم في جوابه قول الإمام (عليه السلام) (من روى رواية على أخيه المؤمن يبتغي بها شينه وهدم مروته وليسقطه في أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان ثم لا يقبله الشيطان)؟ ألا يكفيكم في رده قوله تعالى «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فإذا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» (فصلت:34)؟ ألا يكفيكم في رده هذهالوفود المباركة التي جاءت لتعلن عن وعيها وقدرتها الكاملة على التمييز بين الضار والنافع وعدم تأثرها بتلك الأباطيل.

إذن أيها الأحبَّة أنا لا أرضى بما يحصل في الشارع من التقاطع وتبادل الاتهامات، فإن عاقبته وخيمة وكلكم أبناء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وأبناء الإسلام، والإسلام اليوم أكثر من أي يوم محتاج إلى جميع أبنائه، ولا نريد أن نخسر أي أحد من أبناء الإسلام لا مادياً ولا معنوياً.

هذا باختصار ما دفعنا إلى الإعلان عن فكرة تأسيس الجماعة والعمل على إخراجها إلى حيّز الواقع، وكلما كان تفهَّم الحوزة لفكرة الجماعة ولمضمون عملها ولدورها أكثر ومشاركتها أوسع كلما كان دور الجماعة فاعلاً ومؤثراً في تحقيق الأهداف.

وينبغي الإشارة هنا إلى أن فكرة الجماعة قد تكون في محافظة أنجح منها في محافظة أخرى، باعتبار تعاون الحوزويين في تلك المحافظة في الاجتماع والتآلف وتنظيم أمورهم وتوزيع المسؤوليات عليهم، وعلى أي حال فإن الباب ما زال مفتوحاً والأهداف ما زالت قائمة والتحديات آخذة بالازدياد ولنعلم جميعاً أن الحوزة كلما كانت أكثر وعياً وانسجاماً وتنظيماً فإن الأمة تكون كذلك والعكس بالعكس.

ص: 134

أنشطة الجماعة:

إن الدور الذي تؤديه الجماعة في حياة الأمة نابع من مسؤولياتها التي تحملتها باعتبارها جزءاً من الحوزة الشريفة التي هي وارثة للأنبياء والأئمة (عليهم السلام) كما في الحديث (العلماء أمناء الرسل وورثة الأنبياء) ويمكن أن تكون بعدة صور:

1- الثقافية: من خلال نشر الكتب والإصدارات والنشرات والأقراص وأشرطة التسجيل لعلماء ومفكري الإسلام، وإقامة الندوات والمحاضرات والفعاليات المختلفة لتوعية الأمة وتعريفها بهويتها الإسلامية الأصيلة وإنشاء المراكز والجمعيات الثقافية.

2- الإعلامية: بإصدار الصحف والمجلات لتثقيف الأمة بقضاياها المصيرية والتحديات التي تواجهها والمسؤوليات الملقاة عليها فإن أموراً مهمة في حياة الأمة ومستقبلها نجدها غائبة عن أذهان المجتمع كوضعالدستور للبلاد وتشكيل الحكومة الانتقالية.

3- الاجتماعية: برعاية اسر الشهداء وقضاء حوائج المؤمنين وتزويج شبابهم والسعي للإصلاح بينهم والتقريب بين المؤمنين.

4- الدينية: بإنشاء الجوامع والحسينيات وإحياء ما هو موجود منها بإقامة صلاة الجماعة والجمعة وإقامة الشعائر الدينية.

5- الحوزوية: بفتح حوزات علمية لتدريس مختلف العلوم الإسلامية في كل المحافظات والأقضية والنواحي.

6- إحاطة المرأة والطفل برعاية خاصة وإعداد مناهج دراسية وبرامج عمل وفعاليات خاصة لتوعيتهم وتربيتهم بالاتجاه الإسلامي الصحيح.

7- الاهتمام بالمنبر الحسيني ووضع خطة لإعداد خطباء ومبلغين كفوئين وقادرين على تربية الأمة وتوجيهها وبمستوى حاجة الأمة.

هذه عناوين عريضة لما يمكن أن تؤديه الجماعة من أعمال وانتم جميعاً مسؤولون عن انجازها والتعاون لتحقيقها.

ص: 135

التنظيم والعمل السياسي:

ومن ضرورات المرحلة تنظيم أموركم واستجماع قواكم ليكون لكم دور فاعل في إدارة شؤون البلد ورسم حياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لا حباً في الدنيا ولا طمعاً في المناصب، ولكن كما قال الإمام (عليه السلام) لأننا نأسى أن يغلب على هذه الأمة سفهاؤها فيتخذون عباد الله خولا ومال الله دولا) أي يتداولون ثروات الشعب بينهم، وقد ذقتم الأمرّين من تسلّط الناس غير النظيفين مما جعل أكثر الشعب يعيش حالة الحرمان والاضطهاد والكبت وحرموا من أبسط حقوقهم المشروعة.

فاعملوا على أن يكون لكم دور فاعل ووجود مؤثر في جميع النقابات كنقابة الأطباء والمهندسين والمعلمين والمحامين والصيادلة والعمال وغيرهم، والاتحادات كالطلاب والمرأة وغيرهم وانتم بحمد الله كثيرون ومن السهل فرض وجودكم، ولا يحتاج الأمر إلى أزيد من التجمع والانضمام وتنظيم الصفوف فلا يغلبنكم عليه غيركم.

وليكون لكم بعد ذلك الدور الكبير في الحياة السياسية للبلد بالشكل الذي تكفل لكم حقوقكم ويعوضكم عن الظلم والاضطهاد الذي عانيتم منه، ومن أولويات جماعة الفضلاء رعاية ودعم هذه التحركات إذ من غير المعقولتغييب صوت الأكثرية(1)

ومع أنهم أكثر عدداً فإنهم ذوو كفاءات وقدرات عالية.

عزّزوا ثقتكم بالله تبارك وتعالى وعمقوا صلتكم به فإنه وعد أن يذكركم إذا ذكرتموه «اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» (البقرة: 152)، واعلموا أن رصيدكم الحقيقي إنما هو في سعيكم المخلص في كسب رضاه تبارك وتعالى (ماذا وجدَ مَن فَقَدَك وماذا فقد من وجدك، عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل لها من حبّك نصيباً) وأكثروا من ذكر الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وادعوا له دائماً بالحفظ والنصر والتأييد والتعجيل بظهوره الميمون ليعزّ به الدين ويظهره على الدين كله ويكسر شوكة الكافرين.

ص: 136


1- عملت الأحزاب السياسية التي كانت في خارج العراق ودخلت مع قوى الاحتلال في صفقات واتفاقات على الاستئثار بالحكم والسلطة وأقصت القوى الفاعلة في معارضة النظام داخل البلاد.

الفصل السادس:الإسوة الحسنة في الإصلاح والتربية

اشارة

ص: 137

ماذا سيفعل الشهيد الصدر الأول (قدس سره) لو كان حياً بيننا الآن?

اشارة

ماذا سيفعل الشهيد الصدر الأول (قدس سره) لو كان حياً بيننا الآن?(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أهم مميزات الشهيد الصدر الاول هي الفهم الواعي لأدوار الأئمة (عليهم السلام):

تهتم الاحتفالات المقامة لأحياء العظماء بسبر سيرتهم وتعداد آثارهم ومنجزاتهم وهو عمل جليل وفيه الكثير من الإنصاف لهؤلاء الذين تشكل حياتهم منعطفاً في حياة الأمة، إلا أنه مع ذلك يبقى صورة للماضي وإرشيفاً للتاريخ، فإذا أردنا أن يكون احتفالاً واعياً مثمراً فلابد من محاولة استلهام روح ذلك العظيم وقراءة أفكاره ومشاريعه؛ لنلتمس منها الحلول لمشاكلنا وقضايانا المعاصرة المستقبلية، وبذلك يتحوّل العظيم إلى مصدر للعطاء يرافقنا في كل مستجدات الحياة ويضع أيدينا بدقّة على الموقف المناسب .

هذا ما أراده السيد الشهيد الصدر (قدس سره) من محاضرة (دور الأئمة فيالحياة الإسلامية) وهي محاضرة واحدة، إلا أنني إلى الآن قدّمت أكثر من عشرين محاضرة لشرحها وتعميق أفكارها وما زال الحديث مستمراً.

وفي عقيدتي إن أحد مناشئ عظمته (قدس سره) هو فهمه الواعي المستوعب للأدوار المشتركة التي عاشها الأئمة (عليهم السلام) في حياة الأمة، وقدرته على تمييز الحالة التي

ص: 138


1- كلمة أعدّت لإلقائها في الاحتفال الذي يقيمه حزب الدعوة الإسلامية بمناسبة الذكرى الرابعة والعشرين لاستشهاد مؤسس الحركة الإسلامية في العراق السيد محمد باقر الصدر، وأقيم في كربلاء يوم 6/ 4/ 2004 وتحدث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) بمضمون الكلمة ارتجالاً من تلفزيون (العراقية) في بغداد وأعيد بثه عدة مرات.

تناسب هذا التصرف أو ذاك، مما يبدو لأول وهلة أنها مواقف متناقضة إلا أنها في الحقيقة ادوار متبادلة والقائد الناجح من يستطيع ربط كل موقف بحالته المناسبة، وبتعبير آخر ربط كل حكم بموضوعه الخاص، فإذا انضّم لهذه الدراسة المجموعية لحياة الأئمة فهم وتفسير موضوعي للقرآن الكريم يجمع شتات الموضوع الواحد من آيات متفرقة وينظر إليها نظرة واحدة ويرتب بين مفرداتها ليحصل على نظرة متكاملة إلهية لقضايا الكون والإنسان.

أقول: إذا انضّم هذان المكوّنان لشخصية الإنسان فإنه حتماً سيكون مؤهلاً لقيادة الأمة بحكمة حتى يوصلها إلى الكمال المنشود؛ لذا لم يكن غريباً أن تجد هذين العنصرين واضحين في شخصيات المصلحين العظام كالسيد الخميني والشهيدين الصدر الأول والثاني (قدس الله أسرارهم) .

قراءة واعية في مشاريع الشهيد الصدر الأول:

في ضوء هذه المقدمة نريد أن نقرأ أفكار وآثار ومشاريع السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) لنجيب عن تساؤل مهم يفترض أن يفكر فيه كل عامل مخلص يهمّه الوصول إلى حل للقضية العراقية لإخراج هذا البلد العريق وشعبه الكريم من أزمته وبناء عراق حر كريم كما وصفه الشهيد (قدس سره) في خطاباته الأخيرة والتساؤل هو أنه لو كان الشهيد الصدر (قدس سره) حياً الآن لفعل ماذا ؟ وهو أبو العراق والعراقيين ومؤسس الحركة الإسلامية في العراق وباعث الروح فيها بل تجاوز تأثيره إلى غير العراقيين من المسلمين والى غير المسلمين من البشر فأصبح رمزاً عراقياً وإسلامياً وإنسانياً.

وحينما أسجل الأفكار التالية بالترتيب فإني لا أعني أنه سيسير فيها طولياً كالسلسلة فينتهي من حلقة ليدخل في الأخرى، بل أنه سيعمل لها جميعاً في خطوط متوازية وبعرض واحد، وهي مسؤولية شاقة وعظيمة إلا أنها ليست كثيرة على همة أهل العزم والإخلاص لله تبارك و تعالى وذوي الأهداف السامية الكبيرة حتى قيل (كم من همّة صنعت أمة) وشواهدها التاريخيةكثيرة.

ص: 139

وبما أن العراق يواجه تحديات ستراتيجية ومرحلية فأنه (قدس سره) سيفكّر على كلا المستويين وسيقيم مشاريعه في كلا الاتجاهين.

تطوير الحوزة:

فيقوم بتطوير الحوزة العلمية الشريفة لتكون قادرة على تحمل هذه المسؤولية الجديدة، فيتوسع في قبول الطلبة فيها لأن النجف الأشرف ليست مسؤولة عن نفسها فقط ولا عن العراق فحسب، بل عن العالم كله وهذا يحتاج عدداً ضخماً من حملة الرسالة والدعاة إلى الله تعالى، وسيجعل شروطاً لقبولهم بأن يكونوا من الواعين للمسؤولية ولدورهم في حياة الأمة، ويحاول استقطاب حملة الشهادات الأكاديمية لأنهم يكونون أكثر تأثيراً في المجتمع أولاً وذوي ذهنية معمقة ثانياً ومستوعبين لواقع الأمة لأنهم عاشوه بكل تفاصيله ثالثاً، وسيعمل ضمن هذا الإطار على وضع برنامج إداري مركزي ينظم شؤونها يشابه النظام الأكاديمي ليتمكن من استثمار كل طاقاتها وقدراتها ولا يتحقق ذلك إلا بالنظام.

وسيهذِّب مفردات المنهج الدراسي فيحذف الكثير من المطالب التي تعتبر ترفاً فكرياً ولّدته ظروف موضوعية في حينها، ولم يعد لها الآن مبرر، والاستمرار بتدريسها يضيع الكثير من وقت الطالب الذي هو في حاجة إليه وسيضع مناهج جديدة في بعض العلوم، يلاحظ فيها التدرج الدراسي والتدريب الذهني واللغة المعاصرة مع المحافظة على عمق المطالب، كما فعل في كتابه (دروس في علم الأصول) وجعله بحلقات ثلاث . ويضيف إلى العلوم المتداولة في الحوزة دروساً في الوعي السياسي والاجتماعي والنفسي والاقتصادي وتعليم اللغات الحية ويدخل الوسائل التعليمية وأدوات الاتصال المعرفي المتطورة .

البناء الأخلاقي لطلبة الحوزة:

كما أنه (قدس سره) سيهتم ببناء الجانب الأخلاقي لطلبة العلوم الدينية ويهذب نفوسهم ويسمو بأهدافهم ويعمّق صلتهم بالله تبارك وتعالى ويزهدهم فيما سواه، كما فعل في محاضرته الأخيرة عن حب الدنيا قبل استشهاده (قدس سره) حتى أبكى عيون الحاضرين

ص: 140

وارتقى بهم إلى أجواء روحية صافية لازال يعيشها كل من سمعها، فإن العلم وحده غير كافٍ للتكامل وهداية الآخرين إذا لم يقترن بالعمل الصالح قال تعالى «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» (فاطر: 10).

نشر فقه أهل البيت (عليهم السلام):

وسيعمل على نشر الحوزات العلمية في جميع مدن العراق ليخلق واقعاً إسلاميا ً دينياً شاملاً بدلاً من اقتصاره على مدينة النجف الأشرف، ولأنه يعلم أن الحوزات العلمية هي حصون الأمة التي تحفظ لها هويتها وتقودها نحو الهدى وتجنبها الردى.

وسيعمر المساجد بالدعاة والمبلغين الرساليين الذين يحملون همّ الإسلام بين جوانحهم، ويسعون إلى إقناع الناس به حتى يحكّموه في حياتهم، وبذلك تنطلق من المساجد شعلة الإيمان المتدفقة كما كانت في عصر النبوة وصدر الإسلام فما دامت المساجد بخير وتؤدي وظيفتها فإن الأمة تكون بخير.

وسيعطي للمرأة والشباب حيّزاً كبيراً من مشاريعه فينشر المراكز الثقافية والتربوية، ويزودها بالكتب التي تنمي الوعي الإسلامي وتعرف المسلم بهويته وتعلمه تكاليفه، ويرسم لهذه المراكز نشاطاتها من عقد الندوات والحلقات العلمية للفقه والأخلاق والتفسير والعقائد والسيرة، ويزودها بكل المرغبات التي تجذب إليها أبناء الأمة من الذكور والإناث، ويجعلها عامرة بالفعاليات وحافلة بالخدمات الاجتماعية والإنسانية.

وسيختار للمدن وكلاء من طراز خاص يفهمون رسالته، ويقومون بكل تلك الأدوار ليس للدنيا في حساباتهم نصيب.

وسيضع للأطفال برامج تثقيفية واجتماعية تنشئهم على الإيمان بالله تبارك وتعالى والالتزام بشريعته بالوسائل المحببة إلى نفوسهم.

تمثيل النموذج الحضاري الإسلامي:

ص: 141

وسيمثّل للإسلام والمسلمين نموذجهم الحضاري الأول في هذا الصراع الذي أعلنه الغرب في مواجهته للإسلام بما يسمونه (صراع الحضارات)، وسيعمل في مسارين مزدوجين.

أحدهما التعريف بالإسلام كشريعة وقانون قادر على قيادة الحياة بكل أنشطتها ويغطي كل شاردة وواردة من فعاليات الإنسان، ويبين معالم هوية المسلمين كأفراد وكأمة وأسس حضارتهم ومبادئهم ومرتكزاتهم.

وثانيهما بيان نقائص الحضارة الغربية على مستوى النظرية والسلوك فيبيننقاط الخلل في الأيديولوجية التي يتبنونها والابتعاد عن الإنسانية في تصرفاتهم التي تهبط إلى مستوى الهمجية الحيوانية أحياناً.

وهو بذلك يفتح باباً واسعاً لحوار الحضارات لأنه ابن القرآن الذي دعا للحوار وللرجوع للثوابت المشتركة «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» (آل عمران:64)، «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» (البقرة: 256)، فليست العلاقة بين بني البشر هي الصراع والتزاحم بل التعاون البنّاء، فإن الأرض بخيراتها تسعهم جميعاً ولكل واحدٍ منهم مكان عليها ولن تضيق عن أحد.

من عطاء الشهيد الصدر على المستوى السياسي:

وعلى الصعيد السياسي فسيكون (قدس سره) البوتقة التي تنصهر فيها كل رؤى ومطالب أطياف الشعب العراقي الدينية والعرقية ليصوغها في نسيج موحد يحفظ لهم جميعاً حقوقهم ولا يحيف على أحد لمصلحة أحد، وسيكون أباً للجميع وصمام أمان لوحدة هذا الشعب لثقة العراقيين جميعاً بنزاهته وفكره النيّر وتجرده عن الأنا، وقلبه الكبير الذي وسع حتى أعداءه جلاوزة الأمن الذين كانوا يحاصرون بيته ومنعوا عنه أبسط حقوق الحياة، ومع ذلك فلما أطلّ من شرفته عليهم في يوم حار ورآهم يتصببون عرقاً أمر خادمه الشخصي بسقيهم الماء ، هذه الذات السامية سيجتمع عليها جميع العراقيين ويلتمسون

ص: 142

عنده المخرج، وقد جربوا رجاحة عقله وعمق وعيه السياسي في حله للقضية الكردية حينما اجتمع به عدد من طلبة جامعة بغداد من الأكراد في ذروة الأزمة السياسية بينه وبين النظام، فقدم الأطروحة التالية التي رواها أحد أعضاء الوفد قائلاً :

(إن حل القضية الكردية في العراق سهلٌ وبسيط إننا نؤمن أن تدار المناطق الكردية من قبل الأكراد وبأي تسمية كانت حكم ذاتي أو إدارة ذاتية وبعد إجراء انتخابات بهذا الخصوص لكي يحدد الأكراد أنفسهم طريقة الحكم . ونؤمن أن تكون اللغة الكردية اللغة الرسمية للمناطق الكردية (لغة تدريس وتداول ثقافة) على أن تكون عقيدة الرجال الذين يديرون المناطق الكردية مسلمون حقيقيون عقيدة وسلوكاً وهذا من حقنا حيث أن رؤساء مناطق الحكم الذاتي وجمهوريات الاتحاد السوفيتي هم من نفس عقيدة السلطة المركزية(أي الشيوعيين)).

وسيضع كل هذه الرؤى مع الضمانات الضرورية لتنفيذها في دستور متكامل ينظم عمل السلطات في البلاد والهيئات الدستورية المراقبة لها .

كل هذه وغيره كان يمكن أن يقدمه السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) للأمة، لولا أن مجرم العصر صداماً أقدم على جريمته النكراء بإعدامه وأخته العلوية الطاهرة بنت الهدى، وحرم الأمة من بركات عطائه، لكنه (قدس سره) لم يمت بل سيبقى محركاً للأجيال كي تواصل مسيرته وتحقق له آماله كي تقر عيناه عسى الله أن يجمعنا وإياه في مستقر رحمته في جوار أجداده الطاهرين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 143

السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وتصحيح المفاهيم

اشارة

السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وتصحيح المفاهيم(1)

تصحيح المفاهيم:

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين..

السلام عليكم أيّها الحفل الكريم ورحمة الله وبركاته..

كثيرة هي المسؤوليات التي اضطلع بها السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) انطلاقاً من استشعاره لعظمة موقع نيابة المعصوم (علیه السلام) وسعة ما انيط به من أدوار في حياة الأمة.ونشير اليوم بمناسبة الذكرى الثالثة عشرة لشهادته إلى أحد تلك الأدوار وهو تصحيح بعض المفاهيم التي تؤثر في حركة الأمة، وذلك لأن كثيراً من الأعمال والسلوكيات يقوم بها أصحابها نتيجة لقناعة بنيت على فهم خاطئ لفكرة معينة، وقد تصل إلى حد ارتكاب الجرائم الشنيعة، ولو صحح المفهوم في أذهانهم لغيّروا طريقة حياتهم.

ومن أمثلتها اليوم ما تتعرض له البلاد من تخريب ودمار وقتل للأبرياء تحت عنوان المقاومة الذي هو بنفسه عنوان برّاق ومثير للحماس لكنهُ جُعِل غطاءاً لمثل تلك الجرائم، وغرّر بالكثيرين من البسطاء والجهلة والمخدوعين فانخرطوا فيه، وعنوان المقاومة بريء من هذه الأفعال المنكرة.

ص: 144


1- الكلمة التي ألقاها سماحة الشيخ (دام ظله) على الفضلاء والأساتذة في درس البحث الخارج يوم الأحد 3/ذ.ق/1432 المصادف 2011/10/2 وألقيت بالنيابة عنه في الحفل التأبيني الحاشد الذي أقيم في اليوم السابق على قاعة المسرح الوطني ببغداد.

التصحيح مسؤولية العلماء والمفكرين:

فيكون حينئذٍ جزء كبير من الحل مبنياً على تصحيح هذه المفاهيم وإزالة الخلط والغموض، لما سُئل أمير المؤمنين (علیه السلام) عن قتال الخوارج مع من بعده، قال (علیه السلام): (لا تقاتلوا الخوارج بعدي فإن من طلب الحق فأخطأه ليس كمن طلب الباطل فأدركه).

يقصد بالأول الخوارج وبالثاني من قاتلوه في صفين أي أن الخوارج ممن اختلطت عليهم الأوراق فظنوا أن ما يفعلوه حقاً فلا يجوز قتالهم إلا مع إمام الحق، أما البغاة عليه في صفين فيعرفون بطلان ما هم عليه، ويُنسب للسيد الخميني (قدس سره) قوله: (إن بعض ما يسميه الشباب استشهاداً هو انتحار).

فمن مسؤولية القادة والعلماء والمفكرين وصنّاع الرأي وثقافة الأمة أن يتصدوا لبيان المعاني الصحيحة للمصطلحات وإزالة الغبار عنها، وهذا ما قام به السيد الشهيد (قدس سره) واذكر بعض الموارد لذلك.

مفهوم الانتظار في فكر الشهيد الصدر الثاني:

1- مفهوم الانتظار الذي اقترن في أذهان الأجيال بالسلبية والانكماش والتخلي عن ممارسة وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو في الحقيقة عكس ذلك إذ يتضمن معناه في بعده العملي السعي الجاد للإصلاح والتغيير والتمهيد لإقامة دولة العدل الإلهي، قال (قدس سره) (هذا الانتظار الكبير ليس إلاّ انتظار اليوم الموعود باعتبار ما يستتبعه من الشعور بالمسؤولية والنجاح في التمحيص الإلهي والمشاركة في إيجاد شرط الظهور في نهاية المطاف) وقال (قدس سره) (ونستطيع بكل وضوح أن نعرف أنه لماذا أصبح هذا الانتظار أساساً من أسس

ص: 145

الدين، لأنّه مشاركة في الغرض الأساسي لإيجاد البشرية، ذلك الغرض الذي شارك فيه ركب الأنبياء والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً).(1)

الاجتهاد في فكر الشهيد الصدر الثاني:

2- (الاجتهاد) فإنه يعرّف مشهورياً بملكة استنباط الحكم الشرعي من مداركه الأصلية، وهو بهذا المقدار وإن كان كافياً لتحقيق إبراء الذمة أمام الله تبارك وتعالى في مقام العمل، إلاّ انه لا يثري مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) ولا يعمّق هذا العلم الشريف ولا يستطيع تقديم الإسلام كمشروع حضاري قادر على قيادة الحياة بكل شؤونها وتفاصيلها ومواجهة المشاريع والنظم الأرضية، ما لم ينضم إليه الإبداع والأصالة، لذا سمعتُه (قد سره) يعرّف الاجتهاد (بالنابعية) أي القدرة الذاتية على التأصيل والتقنين، وليس الالتقاطية من آراء الأساطين وأفكارهم وانتقاء ما يطمئن إليه.

روى أحد المراجع المعاصرين (قدس سره) عن المحقق النائيني (قدس سره) أنّه سأل تلامذته يوماً عن الذي يحفظ كيان الحوزة العلمية، فأجابوا بأنّه الاجتهاد لكنه (قدس سره) صحّح لهم وأجاب بأنّه التحقيق، وتعرفمن لحن كلامه (قدس سره) أنّه لم يكن يخاف من خلّو الساحة من المجتهدين، ولكنه يخشى عدم وجود محققين مبدعين فيهم، لأنّه (قدس سره) يدرك أكثر من غيره ان الذي يديم الحركة العلمية ويعمّقها هو التحقيق والإبداع والنابعية على تعبير السيد الصدر (قدس سره).

ص: 146


1- تاريخ الغيبة الكبرى: 363.

وهذا المعنى تبنّاه من قَبلُ السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) فيُنقل عن أحد تلامذته المبرّزين أنّه استجازه في الاجتهاد فوعده بأنّه سيحصل على الملكة بعد خمس سنوات من حضور البحث، وبعد انقضائها طلب السيد التلميذ تلك الشهادة، فقال (قدس سره) له إن هذه المدة كانت بلحاظ ملكة الاجتهاد على المستوى المتعارف، أمّا الاجتهاد بمستوى مدرسة الشهيد نفسه فإنّه يحتاج إلى مدة عشرين عاماً.

الجهاد والرسالية في فكر الشهيد الصدر:

1- الجهاد الذي يتبادر منه مواجهة الطواغيت والسعي لتغيير نظام الحكم والانخراط في العمل الاجتماعي ونشر الوعي الإسلامي، ولا شك أن هذه أعمال مباركة ثقيلة الميزان عند الله تبارك وتعالى لكن بشرط أن تبنى على الإخلاص لله تبارك وتعالى، ولا يحصل ذلك إلاّ بعد جهد وجهاد طويلين في ميدان تهذيب النفس وتطهير القلب والسير في مدارج الكمال، أمّا الانهماك في العمل الاجتماعي من دون النجاح في جهاد النفس فإنّه يجعل صاحبه من الأخسرين أعمالاً (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)الكهف104.

لا تكتفوا بالجهاد الأصغر:

وقد أولى (قدس سره) هذا المعنى اهتماماً كبيراً وتذكيراً مستمراً وكان يرثي لحال الغافلين عنه، وهو معنى مأخوذ من وصية رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لسريّة من المقاتلين

ص: 147

بالالتفات إلى الجهاد الأكبر - وهو جهاد النفس - وعدم الاقتصار على الجهاد الأصغر.

تربية النفس نقطة الانطلاق لإصلاح الآخرين:

ومن كلماته (قدس سره) في هذا المجال (وبحسب فهمي وتجاربي من الاتجاه الإسلامي الاجتماعي هو اهتمامه بمصالح المجتمع أكثر من اهتمامه بمصالح الفرد أو قل: اهتمامه بتربية الآخرين أكثر من اهتمامه بتربية النفس مع العلم أن النفس التي لم تصل في التربية إلى درجة معينة فإنها لا تكون صالحة لتربية الآخرين بالمرة أو في حدود تربية ناقصة وفاسدة، ولن يكون التلميذ أحسن من أستاذه ما لم تدركه رحمة الله عز وجل أو حسن التوفيق، وهذا حسب فهمي من الأخطاء أو النقصان الذي عاناه ولا زال يعانيه الاتجاه الاجتماعي الإسلامي، الأمر الذي يجعل أفراده أقل صبراً وأضعف تحملاً من تحمل ما سيواجهون من مصاعب وبلاء في طريقهم الطويل.

وهناك نتيجة أخرى مهمة في هذا الصدد نفسه وهو أن الهدف الأعلى للاتجاه الاجتماعي الإسلامي دنيوي بطبيعته، وهو الذي يجعله الناس مشجعاً ومرغباً للآخرين في تحمل المصاعب والصبر على الشدائد، وانك ستنال شهرة ومنصباً وقوة وكذا وكذا.. وسوف لن ينال الآخرون من خيراتنا ومن أنفسنا ومن التحكم فينا، ومع احترامي الشديد لهذه الأهداف، إلاّ أنها بطبيعتها دنيوية)(1).

الضعف أمام الدنيا:

ص: 148


1- من بحث بعنوان (في تربية الدين للنفس والمجتمع) نشرته في كتاب (الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه) ص297.

وقال مستشهداً بكلام للسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) منبهاً إلى النقص في التربية (وأريد أن أقول كلاماً أكثر صراحة، وهو ان التجارب السابقة مع المتدينين والواعين فيها وجدنا الأغلب منهم يتهاوون ويضعفون أمام الدنيا بمختلف الأسباب : أما المال أو الخوف في المجتمع أو التعذيب داخلالسجون، وأكاد أقول : انه حتى كثير ممن قتل منهم إنما تم قتله بعد اخذ الاعتراف الكاذب منه ثم إدانته المحكمة باعتبار اعترافه، ولم يكن صامداً على طول الخط !!

مراجعات الشهيد الصدر تجاه الفاعلين في الحركة الإسلامية:

(ولذا صدر من سيدنا الأستاذ –يعني الشهيد الصدر الأول (قدس سره)- : أننا استطعنا ان نربي الآخرين إلى نصف الطريق ولم يقل إلى نهايته لأنه لو كان الأمر كذلك، لما حصلت أي شيء من تلك النتائج).

ولو كان أولئك المتدينون قد أصلحوا أنفسهم قبل إصلاح الآخرين، ومارسوا المقدمات المنتجة لصفاء النفس ونور القلب وعمق الإخلاص وقوة الإرادة وعفة الضمير، لما عانوا ما عانوا بل ولعلهم لم يحتاجوا في الحكمة الإلهية إلى كل هذا البلاء الذي وقع عليهم، وإنما كانوا مع شديد الأسف مصداقاً لقوله تعالى (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد/38) ولم يكونوا مصداقاً لقوله تعالى (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)، وليس ذلك إلا لأن الأفراد التامين الجهات الكاملين الأوصاف الجامعين للشرائط عددهم قليل، وأقل من الحاجة بكثير).(1)

ص: 149


1- الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه: 302.

المرجعية الرشيدة حملت مسؤولية التصحيح:

هذه أمثلة وشواهد على قيام السيد الشهيد الصدر (قدس سره) بهذا الجزء من المسؤولية الملقاة على المراجع القادة.

ولقد سرنا على هذا النهج إذ أن الحاجة إلى هذا التصحيح أوسع اليوم وأخطر وأعقد حيث تحوّل الاختلاف في المفاهيم والمعاني إلى خلاف وتطور الخلاف إلى صراع وقتال يدفع ثمنه الأبرياء والشعب المستضعف المغلوب على أمره، فحرّرت في خطاباتي معاني لجملة من المصطلحات محلالخلاف والجدل كالطائفية والفدرالية والعلمانية والشراكة في الحكم وحقوق المرأة وحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية وولاية الفقيه وغيرها مما هو مبثوث في المجلدات العديدة من كتاب (خطاب المرحلة).

أسأل الله تعالى أن ينوّر بصائرنا فيرينا الحق حقاً ويرزقنا إتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يرفع درجة الشهيدين الصدرين وكل شهداء الإسلام وينعم على هذا الشعب بالسعادة والازدهار.

والحمد لله رب العالمين وصلّى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

ص: 150

عوامل نجاح الحركة الإصلاحية المباركة للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره)

اشارة

عوامل نجاح الحركة الإصلاحية المباركة للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.

لقد كان سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) قائداً ناجحاً على أكثر من صعيد فقد استطاع بفضل الله تبارك وتعالى إيصال صوت الهدايةوالإيمان إلى أقصى مكان، وقلل من الانحراف والجريمة بدرجة كبيرة خصوصاً في مناطق وسط وجنوب العراق التي أقيمت فيها صلاة الجمعة، وأعاد للحركة الإسلامية نشاطها وحيويتها بعد أن جمدت روحها في الثمانينيات بعد استشهاد السيد الصدر الأول، وهز أركان النظام الطاغوتي وأسياده، وأدخل عليهم الرعب، وشد الجماهير إليه، ودخل قلوبها إلى حد العشق والفناء.

عوامل نجاح الشهيد الصدر الثاني:

فما السر في ذلك وما هي العوامل التي ساهمت في تحقيق هذا النجاح؟

عند تحليل شخصية السيد الصدر (قدس سره) وملاحظة الظروف المحيطة به نستطيع تحصيل عدة عوامل استعرضها باختصار لضيق الوقت، وهي في الحقيقة أسس نجاح كل قائد يريد أن يتصدى لإصلاح الأمة.

تهذيب النفس والسيطرة عليها:

1. تهذيبه لنفسه وسيطرته على غرائزها، وانتصاره على ذاته بحيث أصبح هو يملك زمام نفسه، وليست هي التي تملكه وكان معروفاً بنكران الذات، وطالما كان يكرر أنه يدوس

ص: 151


1- (1) كلمة ألقاها سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في الحفل التأبيني الذي أقامه منتسبو مستشفى الصدر التعليمي في النجف الأشرف يوم الأربعاء 7 ذ ق 1424 المصادف 2003/12/31.

ذاته بقدميه، ونجح بدرجة كبيرة في الجهاد الأكبر مما سهل عليه النجاح في ساحة العمل الاجتماعي وهو الجهاد الأصغر، ومن كلماته (قدس سره): إن النجاح في الجهاد الأصغر لا قيمة له إذا لم يقترن بالانتصار في الجهاد الأكبر، وهو معنى قرآني ذكرته كثيراً في كلماتي، وفي الحقيقة فإن أي شخص يراد تأهيله لتحمل المسؤولية لا بد له من المرور بهذه المرحلة حتى يصل إلى درجة الإمساك بزمام نفسه، وقد خاض (قدس سره) هذه التجربة العملية على يد أكثر من شخص، وذكر لي في رسائله التي قاربت المائتي صفحة(1) نكتاً من هذه التربية.

وكان يحب الموعظة لأن فيها إحياءً للقلوب كما أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) ولده الحسن (عليه السلام): (يا بني أحيِ قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة) فكان يحث على مطالعة كتب الموعظة كإرشاد القلوب ومجموعة ورام وعموم جوامع الأحاديث الشريفة كتحف العقول والخصال، ولقد كانتهذه سيرته منذ نهاية السبعينيات، وحدثني انه كان ملازما لأستاذه وابن عمه الشهيد الصدر الأول الذي كان يحترم هذا المسلك ويدافع عنه، بل التزمه في أيامه الأخيرة كما هو واضح من محاضرته الأخيرة عن حب الدنيا ضمن محاضرات السنن التأريخية في القرآن الكريم، وكان (قدس سره) يود أن يأخذ من كل شيء عظة وعبرة تأسياً برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فمثلاً: حيث يدخل إلى الحمام ويرى الماء الحار يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): (نعم البيت الحمام يزيل الدرن ويذكر الآخرة)، وقد فصلنا شيئاً من الكلام في محاضرات (الأسوة الحسنة).

الارتباط بالله تعالى:

2.ارتباطه بالله تعالى وإدامه ذكره وجعله الهدف الوحيد الذي يسعى من أجله، وقد انتقد في أحدى خطب الجمعة ما يفعله أئمتها من الاكتفاء بسطر واحد أو أقل من الحمد والثناء على الله تبارك وتعالى ثم الخوض في موضوع الخطبة، أما هو (قدس سره) فكان ينقل

ص: 152


1- نشرت في كتاب (قناديل العارفين).

مقطعاً من دعاء أو آيات قرآنية أو خطبة لأحد الأئمة (عليهم السلام) تعمق الصلة بالله تعالى وتعرف بصفاته الحسنى، وتبين حاجتنا وفقرنا إليه تبارك وتعالى، وكان مراقباً لله سبحانه، ومراعياً له في السر والعلن.

ومما أدبني به ما رواه عن أحد العلماء: أنه دخل عليه شخص فرآه بزيه الكامل وهو جالس وحده في البيت فسأله عن ذلك، قال: لأني بحضرة الله تبارك وتعالى، وكان آخر لا يمدد رجليه حتى لو كان وحده لنفس السبب، ومما حكاه (قدس سره) لي عن سيرته: أنه مرة صلى ركعتين استغفاراً لأنه قال لشخص التقى به وكان غائباً عنه مدة: مشتاقين، وهي كلمة متعارفة، ويمكن أن تبرر إلا أنه خشي أن يكون كاذباً بهذه الدعوى.

وهذا – أعني العمل لله تبارك وتعالى – إحدى مميزات حركته عن قادة وعلماء آخرين عاشوا للإسلام، وأشربت قلوبهم حب الإسلام وهو عمل عظيم إلا أنه ليس كمن يعيش لله تبارك وتعالى، وبينهما فرق أوضحته في محاضرة سابقة، وهذا التعلق بالله تبارك وتعالى والإخلاص له ومحبته تجعل الشخص يفيض نوراً على الآخرين، ويلقي الله محبته وهيبته وتأثيره في قلوب الناس، (من أراد عزاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فليخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته)، وفي الحديث القدسي: (إن العبد ليتقرب لي بالنوافل حتى يكون سمعي وبصري) فيكون دليلاً للخلق إلى الله تعالى.

معايشته للقرآن الكريم:

3. معايشته مع القرآن وتفاعله مع مضامينه، ففي وقت مبكر من حياته كان له دفتر يسجل فيه ما ينقدح في ذهنه من نفخات أثناء تلاوته للقرآن، ويثبت فيه الآيات التي توحي له بخلق قرآني أو موقف إزاء حال معينة أو سلوك عليه أن يطبقه، وفي مرحلة أخرى أخبرني أن له نسخة من المصحف ثبت على هوامش صفحاته القراءات المتعددة للكلمات القرآنية، وقال (قدس سره): إنه كان يستفيد من هذه القراءات معاني لا توحيها الكلمات المرسومة، وأحياناً تحل له معضلة فقهية لا ينسجم حلها مع القراءة الموجودة لكنها تنسجم

ص: 153

تماماً مع قراءات أخرى، وختم حياته (قدس سره) وهو يلقي محاضرات (منة المنان في الدفاع عن القرآن)، ويمكن مراجعة كتاب (شكوى القرآن) لتطلع على بركات الحياة في ظل القرآن ودوره في صنع القادة والمصلحين.

دراسة سيرة الأئمة (عليهم السلام) بدقة:

4. دراسة سيرة الأئمة (عليهم السلام) بدقة وعمق وشمولية لمعرفة أدوارهم التي أدوها والمسؤوليات التي قاموا بها، وكيف كانوا يتخذون المواقف المناسبة اتجاه مختلف القضايا، ومن حكمة الله تعالى وعظيم مننه على الأمة جعل أدوارهم تجربة للأمة وظروفهم مختلفة ومدة إمامتهم طويلة (مائتين وخمسين عاماً) لتنضج تجربة الأمة وتحصل على كل ما تريده من سيرتهم المباركة، فعرف (قدس سره) متى ينكمش ومتى يتحرك، وماذا عليه أن يفعل، وكيف يتعامل مع الآخرين أفراداً أو طوائف أو سلطات، فبينما يكتب لي في منتصف الثمانينيات وكنت شاباً متحمساً للعمل الإسلامي فيقول: إننا في ظروف لعلها أشد من ظرف الإمام الحسن (عليه السلام)، وحاجته إلى الصمت والتقية تجده في سنته الأخيرة يقود تحركاً جماهيرياً مليونياً في وجه نفس السلطات العاتية.

الجد والاجتهاد في تحصيل العلوم:

5. الجد والاجتهاد في تحصيل العلوم، لأن العلم من الركائز الأساسية في بناء شخصية القائد المصلح حتى بلغ أسنى درجاته ونال ملكة الاجتهاد. كانيقول إنني اشتغل حوالي ثمان عشرة ساعة في اليوم بالدراسة والتدريس والكتابة والتأليف، وقال مرة (قدس سره): إنه أثناء اشتغاله بتأليف موسوعة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) كان ربما يكتب أربعين صفحة في اليوم الواحد وهو إنجاز ضخم يعرفه من مارس عملية التأليف والكتابة، وحتى حينما يذهب إلى بغداد لكي تزور زوجته أهلها فإنه لا يضيع الوقت بل يقضيه بالكتابة والتأليف، وقد أجمع زملاؤه وأقرانه على جده حيث بدأ بدراسة العلوم

ص: 154

الدينية وانتمى إلى كلية الفقه سنة 1957 وهو في الرابعة عشر من العمر بعد امتحان أجراه له عميدها المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر وكان متفوقاً على أقرانه.

عدم الانفصال عن الواقع:

6. عدم انفصاله عن واقعهِ وما يجري فيه ومواكبته له،فتراه مثقفاً بثقافة العصر ويتابع تطوراته العلمية والسياسية والاجتماعية، ففي الثمانينيات نصحني بقراءة مجلة (علوم) العراقية التي كانت تعني بأحدث أخبار العلم وانجازاته، وكان يهمه منها أكثر باب العلوم الباراسايكولوجية لأنها أولاً تنسجم مع توجهاته النفسية وتعلقه بما وراء المادة، ولأن فيها حسب تعبيره لطمة للمادية الغربية التي تؤمن بالمادة والمحسوسات فقط.

وكان يستمع إلى الإذاعة ويطلع على ما يدور في العالم حتى حصلت عنده رؤية رصينة للأحداث. ومن بحوثه التي كتبها وأهداها لي – وهي محفوظة لدي- بحث بعشرات الصفحات بعنوان (فلسفة الأحداث في العالم المعاصر والدروس والعبر المستفادة منه)(1)، وقد علقت عليه وأضفت إليه مثله فرغب إليَّ في أن أضمهما في كتاب.

وكان مهتماً بأخبار الجمهورية الإسلامية في إيران وخطابات قائدها العظيم السيد الخميني (قدس سره)، ويستمع مباشرة باللغة الفارسية، وقال (قدس سره) في ذلك: لأنه تجري على لسانه نكات عرفانية وأخلاقية لا تعرضها الترجمة التي تهتم بالمقاطع السياسية والمتعلقة بالعمل الاجتماعي.

وبعد تحرير الجمهورية الإسلامية لأراضيها من القوات العراقية في معركة (المحمرة) في آيار 1982 وانتقال العمليات الحربية إلى الأراضي العراقيةفي تموز 1982 سارت الحرب سنين عجاف رتيبة ثقيلة باهظة التكاليف بشرياً واقتصادياً، فكان من وجهة نظره (قدس سره): أنه لا جدوى من استمرارها لأنه استنزاف لطاقات بلدين شيعيين (وهو توجه السيد الخامنئي رئيس الجمهورية آنذاك)، وعارضه الرأي القائل بضرورة استمرارها حتى القضاء

ص: 155


1- طبع في كتاب (الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه).

على المعتدي ومحاسبته، وكنت معه وأردد ما كان يقوله الساسة الإيرانيون الآخرون كالرفسنجاني والأردبيلي وتبناه السيد الخميني (قدس سره): أن السلم المفروض أسوأ من الحرب المفروضة، فطلب مني أن نفتح حواراً عبر المراسلة طبعاً - لأنه كان تحت الإقامة الجبرية – لمناقشة الرأيين فكتبت بحثاً بعنوان (نظرات في الحرب والثورة) وقد أتلفته حين داهمتنا القوات الصدامية عقب الانتفاضة الشعبانية المباركة.

نزوله الى المجتمع ومخاطبته لجميع الناس:

7. نزوله إلى المجتمع ومخاطبته لجميع الناس بما يناسبهم وعدم الابتعاد عنهم فقد كان، إلى حين تصديه للمرجعية يذهب بنفسه إلى السوق ليوفر الحاجات المنزلية، وكان يحب أن يطلع على آلام المجتمع وآماله وهمومه من دون أن يتخذ حاجباً أو (سكرتيراً).

نقل أحدهم: أنه قلد السيد الصدر (قدس سره) بسبب الطماطة، قيل له: وكيف؟

قال: لأني سألت عدداً من المراجع وأنا أبحث عمن أقلده كم هو سعر الطماطة في السوق، فكان جوابهم جميعاً هو الزجر وان هذا ليس من اختصاصنا، إلا السيد الصدر فقد أجاب بالتفاصيل عن سعر الجيدة منها والرديئة فعلمت – والكلام له – إن هذا هو الرجل الذي يصلح لقيادة الأمة، وسواء صح هذا أو لم يصح لكن المهم أنه يعبر عن آلية للإيمان بالقيادة وصلاحيتها كما نقل عن ابن سينا وهو الفيلسوف العظيم: اللهم إيماناً كإيمان العجائز، أي أن هذه الوسائل الساذجة للإيمان بالحقائق قد تكون اثبت في القلب والنفس من طرق الاستدلال العقلية المتضخمة بالإشكالات والشبهات.

وقد رأينا في صلاة الجمعة كيف يتحدث بلغة المجتمع فيفهمه المجتمع ويشاركهم الحر والبرد ويعيش في أوساطهم بلا تمييز عنهم، ويشمل بخطاباته كل شرائح المجتمع فخاطب الحوزة والعشائر والمسؤولين السياسيين والديانات الأخرى حتى الغجر بحيث أحس الجميع انه منهمفيتأثرون به ولا يشعرون بالغربة والانفصال.

ص: 156

استثمار طبيعة العلاقة مع السلطة:

8. استثماره لطبيعة العلاقة مع السلطة الحاكمة التي شعرت بعد الانتفاضة الشعبانية المباركة وامتداد الحركة الإسلامية في العراق، بالحاجة إلى الحوار مع المرجعية الشريفة والانفتاح عليها وتخفيف القبضة الحديدية عن بعض ممارساتها الدينية لكي تتجنب حصول ثورة شعبية عارمة قد لا تنجو منها هذه المرة، ولكي تبقي على وجود للقيادة الدينية في النجف لأن انحسارها التام يعني رجوع الشيعة في العراق إلى القيادات الدينية في إيران، وفي ذلك خطر عظيم عليهم، لذا كانوا حساسين جداً من مقولة انتقال الحوزة إلى قم المقدسة، وحريصين على عدم حصوله.

وهاتان الحاجتان كانتا تمسكان يد النظام بدرجة من الدرجات عن التعرض لبعض النشاطات الإسلامية للحوزة، في حين لم تكن تسمح بها أولاً ولا بأقل منها قبل ذلك فاستثمر السيد الشهيد (قدس سره) هذا الوضع لينطلق بمشاريعه الاجتماعية،وكانت قمتها صلاة الجمعة، وحينما كان يحذر من بعض الخطوات التي يراها العارفون ببطش النظام أنها تؤدي إلى الخسارة كان يقول (قدس سره): إنما السلطة لنا كإشارات المرور، فنحن نسير حتى تشعل لنا ضوءاً أحمر فنقف ثم نتقدم وهكذاً.

هذا الاستغلال الدقيق الواعي للعلاقة مع السلطة أتاح الفرصة لانجازات عظيمة، في حين أن المتعارف على التصرف الشيعي أمام السلطات، أما المواجهة غير المتكافئة والتي نتيجتها إهلاك الحرث والنسل وإزهاق أرواح المؤمنين الذين تعبت أجيال من العلماء على تربيتهم، والذين يقول فيهم السيد الخميني (قدس سره) فيما ينقل عنه: (أن بعض ما يسميه الشباب استشهاداً هو انتحار)، أو الانكماش والانسحاب الذي يفوت الكثير من المصالح، أو الخضوع للحكام والانسياق وراء رغباتهم وفي ذلك تضييع الدين وأهله.

هذا بعض ما استطعت أن أدوّنه بهذه العجالة، وهي أفكار ينفتح منا ألف باب لأولي الألباب.

ص: 157

أسأل الله تعالى أن يتغمد شهداءه خصوصاً العلماء الأعلام بالرحمة الرضوان، ويأخذ بيد الأمة والحوزة الشريفة لتسير على منهاجهم وتأخذ

ص: 158

الفصل السابع: الأدوار الرسالية للحوزة العلمية

اشارة

ص: 159

لا يحقّ للشباب الرسالي أن يخلّفوا الحوزة العلمية وراء ظهورهم

اشارة

لا يحقّ للشباب الرسالي أن يخلّفوا الحوزة العلمية وراء ظهورهم(1)

التخلية من الرذائل والتحلية بالفضائل:

أثرنا أكثر من مرة سؤالاً: ما الذي يقرّبنا من الإمام المنتظر (أرواحنا له الفداء )؟ وما الذي يساعد على تعجيل ظهوره الميمون؟

وقد أجبنا بعدة وجوه بحسب ما تقتضيه المناسبة.

ويمكن الجواب باختصار فيقال: كن صالحاً وهو جواب صحيح ولكنه مختصر لا يلبي حاجة السائل لأننا نعرف جميعاً أن هدف بعثة آلاف الأنبياء والأوصياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) والعلماء على آثارهم إنما هو هذا «إنْ أُرِيدُ إلا الإصْلاحَ مَا استَطَعتُ» فلا بد أن يتقدم المجيب خطوة فيالتفصيل، وهنا يقول علماء الأخلاق: إن عملية الإصلاح والوصول إلى النتائج المرجوّة تتضمن محاور ثلاثة (التخلية، التحلية، التجلية) والأولان يتناولهما علم السير والسلوك والأخلاق والثالث يتناوله العرفان.

ونحن إنما يهمّنا عملياً علم السلوك لأنه الوصفة العملية باتجاه تهذيب النفس وتطهير القلب والسير نحو الكمال أما الثالث فيتعلق بالآثار والنتائج التي يمنّ الله تبارك وتعالى بها على عباده الصالحين.

ويراد بالتخلية: تطهير النفس من الرذائل والأغلال والآصار التي تنشأ من إتباع الهوى والنفس الأمارة بالسوء وتسويلات شياطين الجن والإنس، أما التجلية فيراد بها تعويد النفس على الفضائل وانطواء القلب على معاني الخير وسعي الجوارح للأعمال الصالحة التي ذكرها علماء الأخلاق وبعض هذه الأمور ملزمة كفعل الواجبات وترك المحرمات، وبعضها راجحة كفعل المستحبات وترك المكروهات.

ص: 160


1- من حديث سماحة الشيخ مع حشد من الزوار الذين قدموا للتهنئة بميلاد صاحب العصر والزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف) يوم الخميس 14 شعبان 1430 المصادف 2009/8/6.

وهذه الخطوة في الجواب وإن كانت مختصرة أيضاً إلا أنها وضعت ما يسمونه ب (خارطة الطريق) التي يضعها كل باحث –وأولاهم الباحث عن الحقيقة والكمال- لتكون دليلاً له في مسيرته نحو الحق.

توجيه الشباب الرسالي باتجاه الأهداف التي رسمناها لهم:

ولسنا الآن بصدد بيان التفاصيل إلا أنني قدمت هذه المقدمة العامة لأصل إلى تشخيص حالة لدى الشباب الرسالي تدخل في باب التخلية فيجب نبذها واجتنابها والتخلي عنها، ذلك أننا لما أثنينا على ثقافة ووعي الرساليين وأهليتهم ليكون لهم دور ريادي في بعض مؤسسات المشروع الرسالي لإعطائهم زخما له و ليشعروا بالثقة بأنفسهم وأنهم قادرون على أن يكونوا جزءاً منه وليسوا مجرد أرقام لتكثير السواد لأننا نرى فيهم فعلاً القدرة على ذلك ولتحقيق عدة أهداف:

1- توفير فرصة العمل الرسالي لهم من خلال مؤسسات المشروع.

2- إبراز طاقاتهم وإمكانياتهم وتطويرها من خلال الممارسة وتحمّل المسؤولية.

3- إعطاء المشروع الرسالي زخماً بإشراك هذه الطاقات وعدم الاقتصار على فضلاء وطلبة الحوزة العلمية كما هو المعروف تقليدياً.

ملء مساحات العمل الرسالي الواسعة بسعة التحديات والمسؤوليات1- والأهداف مما لا تستطيع شريحة معينة شغلها لوحدها.

الحذر من العجب والغرور وعدم الانصات الى الآخرين:

وقد تحققت الكثير من هذه النتائج بفضل الله تبارك وتعالى، لكن الذي حصل أن جملة من هؤلاء الشباب تعاظمت لديه الثقة بالنفس حتى بلغ حد الغرور والتعالي وعدم الإنصات للآخرين، وربما بلغ الغرور ببعضهم أن تعالى عن فضلاء الحوزة العلمية وطلبتها ويرى نفسه أفضل منهم فلا يرجع إليهم وربما لا يصلي خلفهم ويجعل نفسه قيّماً عليهم

ص: 161

وحسيباً عليهم وهو بذلك يضع نفسه على حافة الهاوية، لأن العلماء ومن يأخذ منهم من طلبة العلم هم الأدِلاء على الخير، وإن مساحات من العلم والعمل الصالح لا يعرفها غيرهم ولا يهتدي إليها إلا من خلالهم لأنه لم يأخذ من المعين الذي نهلوا منه، وإن جملة من الوظائف الدينية المقدسة جرى العرف على أن لا يتصدى إليها إلا من درس في الحوزة العلمية وأخذ بسيرتها، فالترفع عنهم يعني الحرمان من بركات تلك الوظائف المقدسة، فلا هو استفاد بهذا الابتعاد، ولا الحوزوي يستطيع أن يؤدي دوره إذا لم يجد المناخ المناسب للعمل فيخسر الجميع.

حافظوا على مكانة الحوزة ودورها:

فلا بد أن تحفظ مكانة الحوزة العلمية الشريفة ودورها، وبنفس الوقت طلبنا من الحوزويين أن يطوروا قابلياتهم العلمية والفكرية والاجتماعية ويتكاملوا أخلاقياً ليحافظوا على أهليتهم لممارسة هذا الدور الشريف ويحافظوا على مقامهم وليكون عندهم شيء لا يجده الناس إلا عندهم حتى يقصدوهم لحاجتهم إليهم.

علينا جميعاً أن نعي الحديث (رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه فلم يوردها موارد الهلكة) وأنتم تعرفون عدداً ممن شكّكوا وأشكلوا وأساؤوا الظن وتمردوا واغترّوا وتعالوا عن العمل بتوجيهات المرجعية: سقطوا وانحرفوا وفي أحسن الأحوال وصلوا إلى طريق مسدود ولم يعودوا يعرفون ماذا يصنعون فانزووا وتركوا بعض ما عليهم من واجبات تجاه دينهم وأمتهم وأنفسهم، فعادوا يلقون التهم والتشكيك هنا وهناك وربما أشكلوا على المرجعية، مع أنهم هم السبب «وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»، إذأن المرجعية امتداد لأهل بيت النبوة الذين وصفهم الدعاء في شعبان بأن (المتقدم لهم مارق والمتأخر عنهم زاهق واللازم لهم لاحق).

ص: 162

الحوزة العلمية والعمل الاجتماعي

اشارة

الحوزة العلمية والعمل الاجتماعي (1)

فضيلة العالم:

أودُّ أن اعرض عليكم اليوم بعض الأحاديث التي تحفز فضلاء الحوزة العلمية لبذل أقصى الوسع في إرشاد الناس إلى الحق واستنقاذهم من المعصية والانحراف وتعليمهم ما يقرّبهم إلى الله تبارك وتعالى. ومن تلك الأحاديث ما ورد في الاحتجاج وتفسير العسكري قال : قال علي بن أبي طالب (عليه السلام) : من كان من شيعتنا عالماً بشريعتنا فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به : جاء يوم القيامة وعلى رأسه تاج من نور يضيء لأهل جميع العرصات ، وعليه حُلّةً لا يقوم لأقل سِلْكٍ منها الدنيا بحذافيرها ، ثم ينادي منادٍ يا عباد الله : هذا عالم من تلامذة بعض علماء آل محمد (صلى الله عليه وآله) : ألا فمن أخرجه في الدنيا من حيرة جهله فليتشبث بنوره ليخرجه من حيرة ظلمة هذه العرصات إلى نزه الجنان فيخرج كل من كان علمه في الدنيا خيراً أو فتح عن قلبه من الجهل قفلاً أو أوضح له عن شبهة)(2).

وهناك جملة من الروايات في نفس المعنى موجودة في المصدر نفسه، ولعلنا سنتناول جوانب منها في مناسبات(3)قادمة بإذن الله تعالى.

ص: 163


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع المشاركين في المؤتمر العام الثاني لأئمة الجمعة والجماعة ومدراء مكتب التنسيق الحوزوي في محافظات العراق , وقد انعقد في النجف الأشرف يوم الاثنين 4 ج1 1431ه المصادف 2010/4/19.
2- بحار الأنوار : 2/2 الحديث الثاني.
3- وقد تحقق ذلك في خطبة الزيارة الفاطمية الآتية صفحة 225 بعنوان (هل تريد أن تكون من الصديقة الزهراء (عليها السلام) في درجتها؟).

أفبعد هذه الجوائز والمكافئات المعدًّة لمن قام بخدمةٍ من هذا القبيل يمكن لأحد ممن تعلّم شيئاً نافعاً للأمة أن يتقاعس ويعتريه الكسل عن القيام بهذه الوظيفة الإلهية؟

تشخيص الأسباب التي أدت الى عدم القيام بالواجبات الاجتماعية:

ولو أردنا أن نحلل سبب عدم قيام بعض أفراد الحوزة العلمية بهذه الواجبات الاجتماعية لأمكن تشخيص أكثر من سبب:

1- التأسي بنمط موروث لدى شريحة من الحوزة العلمية من علاماتها الترفّع عن مخالطة الناس والحديث معهم بل حتى السلام عليهم ، وإذا أحرجهم أحد فسلَّم عليهم أكتفوا برده بالإشارة والإيماء ليحيطوا أنفسهم بهالة من القداسة المصطنعة.

وهذا النهج مخالف لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) فقد كانوا يجالسون العبيد ويؤاكلونهم ويبتدئون الناس بالسلام ، ويشاركونهم في أفراحهم وأحزانهم وهمومهم ويتفقدونهم ، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) طبيباً دواراً بطبّه ويجلس مع الأعرابي في معاطن الإبل.

2- التهرّب من إبراز هوّيته والتعرف على الجهة التي يرجع إليها ، إما خوفاً من أن يصيبه ضررهم أو يحرموه عطائهم ونحوها وهذا من قلة الثقة بالله تبارك وتعالى ، والمداهنة المنهي عنها شرعاً وإلا فإنهم ينتمون إلى جهة جامعة لشروط المرجعية والقيادة الاجتماعية والفكرية، ولنتذكر هنا قوله تعالى «الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ» (آل عمران: 173-174).

3- تسويلات النفس التي تميل إلى الدعة والراحة والتنصّل عن المسؤولية فتتذرع بما هو حجة عليها كالانشغال بطلب العلم ، مع إن العلم إنما يطلب للعمل به وليس للمراء والجدال، والعلم يزكو بالإنفاق، وأشد الناس حسرةً يوم

ص: 164

القيامة من تعلّم علماً ولم يعمل به.

لنتقدم خطوة في الإصلاح:

إن المجتمع توّاق للهداية والصلاح ، وقد جرّب بعض الفضلاء العاملين الرساليين - جزاهم الله خير الجزاء- حينما انطلقوا بكلمة الهداية والصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كيف أستقبلهم الناس وأخذوا عنهم واندفعوا إلى التطبيق، بل اهتدى إلى مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) من كان بعيداً عنها كما حصل في محافظة ديالى في المواسم الأخيرة بفضل الله تبارك وتعالى.

ومن أكثر وسائل الاتصال بالمجتمع بركة هي صلاة الجمعة مع ما يرافقها من الشعائر الدينية وأشيد هنا بجهود الأخوة الفضلاء الذين نشروا صلاة الجمعة في أصقاع عديدة ، خصوصاً وأنني أفتي بوجوب إقامتها إذا توفر العدد وإمام يخطب مع مراعاة المسافة عن الصلوات الأخرى.

لقد أطلعت على التوصيات التي خرج بها مؤتمركم وهي خطوة بل خطوات في الاتجاه الصحيح من حيث مضامين الخطب وتنوعها وشمولها لشؤون الحياة كافة ومواكبتها للحدث والتفاعل مع القرآن الكريم وسنة المعصومين (سلام الله عليهم). وبيان المستجدات سواء على صعيد الفتاوى المستحدثة أو المواقف العامة وغيرها.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يسدّدكم في القول والعمل وينفع بكم إنه ولي النعم.

ص: 165

الإصلاح مسؤولية كل إفراد المجتمع

اشارة

الإصلاح مسؤولية كل إفراد المجتمع (1)تحدثتم عن صور من عدم مراعاة حرمة مدينة الكاظمية المقدسة، وحرمة الإمامين الكاظمين الجوادين (سلام الله عليهم)، ولا شك أن مسؤولية الإصلاح تقع على جهات عديدة، احدها أمانة العتبة الكاظمية الشريفة، والمسؤولين والمتنفذين في تلك المدينة المقدسة.

الإصلاح غير منحصر برجال الحوزة:

لكن المشكلة أكبر من ذلك فقد دبّ الفساد والانحراف في شرائح المجتمع في المدن المقدسة وغيرها، مما يلقي بالمسؤولية على جميع المؤمنين ولا تنحصر الوظيفة برجال الحوزة العلمية.

وأعرض عليكم الآن واحدة من آليات العمل لإصلاح المجتمع وتطويق الفساد وتحجيمه حتى القضاء عليه، وهي أن نتعهد مع أنفسنا على أن يقوم كل واحد منا بنقل أي مسألة شرعية يتعلمها أو موعظة يتأثر بها أو نصيحة نافعة أو قصة هادفة، ينقلها إلى أهله وأصدقائه وزملائه في العمل والمحلة وأقرانه، وحينئذ سيحصل عندنا انتشار على شكل متوالية هندسية تتضاعف فيها أعداد المستفيدين، وتتضاعف معها حسنات العاملين، فالواحد يعلّم عشرة، والعشرة يعلمون مئة وهكذا، وستلمسون بركة هذا العمل الشريف.

ممارسة النساء للإصلاح:

ولا تقتصر هذه الآلية على الرجال فقط بل تعم النساء، فأنكم تتحدثون عن سفور

ص: 166


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من أبناء الكاظمية المقدسة وشبابها الرسالي يوم السبت 9 ج1 1431 المصادف 2010/4/24.

أو حجاب غير مطابق للحدود الشرعية عند الحرم الشريف، فلو جنَّدت بعض الأخوات أنفسهن للزيارة يومياً أو في الأيام التي يكثر فيها الزوار، وكلما شاهدت امرأة أو أكثر غير محتشمة اقتربت منها وسلمت عليها وعرضت خدماتها عليها كقراءة الزيارة أو أية مساعدة وبعد حصول الألفة بينهنّ توجهها برفق وتعلمها، لأنني أعتقد أن السبب الأكبر للابتعاد عن الدين هو الجهل والغفلة وهما يزولان بالتعليم والموعظة الحسنة.

قصة نافعة في الاتعاظ:

ولنطبق هذه الفكرة بأن أروي لكم قصة نافعة وعليكم بالاتعاظ بها ونقلها للآخرين، فقد حكي أن رجلاً فقيراً لم يكن يملك ما يشتري به شيئاً لأهله إلا اليسير جداً، فرأى سمكة متعفنة عند بائع لم يرغب بها أحد فاشتراها منه وسلّمها لأهله كي تعدّها للطعام، فلما شقت بطنها وجدت فيبطنها لؤلؤة فرحوا بها، وذهب ليبيعها في سوق الصاغة، فقالوا له أنها ثمينة جداً ولا نستطيع تدبير ثمنها فاذهب إلى الحاكم فانه يملك خزائن البلد ولعله يقدر على دفع ثمنها، فذهب إلى الحاكم وعرضها عليه، فاستشار الحاكم خبراء الصنعة، فقالوا له أنها لا تقدّر بثمن، والحل أن تفتح له خزائن الملك ليأخذ منها ما يشاء، فقال الحاكم للرجل الفقير؛ هذه ثلاث خزائن وهذه مفاتيحها وأمنحك ثلاث ساعات لتأخذ من الخزائن ما تشاء وليس لك حق بعد الساعات الثلاث، ففتح الرجل الفقير الخزينة الأولى فوجد فيها ذهباً وجواهر وأشياء ثمينة، وفتح الثانية فوجد فيها أفرشة الحرير الناعمة التي تتنعم فيها بنوم مريح، ووجد في الثالثة ما لذ وطاب من الأطعمة.

ففكر ماذا يصنع، ثم قرر أن يقسّم الساعات الثلاث إلى ساعة للأكل وساعة للنوم والاستراحة وساعة يجمع فيها ما يستطيع من الجواهر، فتلذذ بالأطعمة في الساعة الأولى وملأ بطنه، ثم جاء واسترخى على الفراش الوثير في الثانية فأخذه النوم حتى أيقظه الحراس في نهاية الساعة الثالثة، وقالوا له لقد انتهت المدة فاذهب، فتوسّل إليهم أن يمهلوه ولو

ص: 167

لحظة ليأخذ جوهرة تنفعه لتحسين حاله فلم يسمحوا له بشيء لانتهاء اجله، فراح يعض يديه ندماً وحسرة حيث لا ينفعه الندم.

قد نسخر جميعاً من عقل هذا الرجل ونعتبره مجنوناً إذ ترك الذهب والجواهر التي كان يمكن له أن يعيش بها بأحسن حال ويشتري باليسير منها ما لذّ من الأطعمة والراحة، وانشغل بدلاً من ذلك بما لا ينفعه إلا وقتياً.

لكن يا أخوتي هذا هو حالنا في هذه الدنيا التي وصفها أمير المؤمنين بأنها جيفة تنهشها الكلاب من طلاّبها ومنحنا الله تعالى فيها لؤلؤة ثمينة هي العمر الذي نستطيع به اكتساب الجنان حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت، لكن اغلب أهل الدنيا انشغلوا بمتاعها الزائل الذي سيفارقونه حتى إذا حلّ أجلهم وجاء ملك الموت لم يمهلهم لحظة ليكتسبوا بها حسنة تنفعهم يوم القيامة، وكان يمكنهم أن يستثمروا كل ساعة بل كل دقيقة بل كل ثانية باكتساب حسنة كتسبيحة أو استغفار، نسأل الله تعالى أن يوقظنا من نومة الغافلين ويدخلنا في الصالحين.

ص: 168

اللهم اجعلنا من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك

اشارة

اللهم اجعلنا من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك (1)

الدعاء طلب وتحقيق لحالة الاتصال بالله تعالى:

علّمنا الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) مجموعة من الأدعية لندعو بها في زمن الغيبة، وأقول لندعو بها وليس لنقرأها، لأن مجرد قراءة الدعاء وتحريك اللسان به لا يحقّق معناه وتأثيره وإن كان هذا العمل لا يخلو من ثواب، لكن حقيقة الدعاء هي الطلب فلابد أن نحقق صدق الطلب في أنفسنا ليكون دعاءاً حقيقة. فهل يُعقل أن يطلب الإنسان الذرية الصالحة وهو لا يسعى للتزويج وتهيئة مقدماته، أو يقرأ دعاءاً لطلب الرزق وهو كسول جالس في مكانه لا يتحرك لكسب الرزق واستثمار الفرص المتاحة، فلا معنى للدعاء إلا إذا وفّر حقيقته وهو الطلب الصادق. والعمل الجدي لتحقيق ما دعا به وحينئذ سيجد الله تعالى حاضراً ومُلبياً طلبه بإذن الله تعالى.

دعاء الدولة الكريمة:

ومن تلك الأدعية المباركة المشهورة (اللهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة) هذا الدعاء الجليل الذي يلخص الهدف من بعثة الأنبياء والرسل وانزال الشرائع بل الهدف من خلقة البشرية وهو إقامة التوحيد والعدل (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)

ص: 169


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع مجموعة طلبة العلوم الدينية من مدغشقر الذين يدرسون في النجف وعددهم (21) طالب مع مدير المدرسة يوم الخميس 14/ذ.ق/1432 الموافق 2011/10/13.

(الذاريات/56) ليعبد الله حق عبادته وتسود كلمة التوحيد والحكم بالعدل، ولا يتحقق المعنى الكامل لهذا الغرض إلا حينما تقام دولة العدل الإلهي المباركة.

الدعاء والعمل جنباً الى جنب:

ومن فقرات هذا الدعاء (وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك) وقد قلنا أن المطلوب في الدعاء حقيقة الطلب والسعي الجدي لتهيئة مقدمات الاستجابة، ولكي يكون من الدعاة إلى طاعة الله تبارك وتعالى والقادة إلى سبيله عليه أن يوفّر في نفسه جملة من الصفات والمؤهلات، ومن أبرزها التفقه في الدين وتحمّل علوم أهل البيت (علیهم السلام)، وإلا فكيف يكون بدونها دليلاً إلى الله تعالى وهادياً إلى رضوانه.

التفقه لا يتحقق إلا بالاصطفاء الإلهي:

ومن الغريب أن تقرأ ملايين الشيعة هذا الدعاء ولا يندفع إلا اليسير منهم لتحقيق مقدماته، ولكن هذا الاستغراب يزول عندما نعلم أن الانضمام إلى هذا الكيان الشريف (الحوزات العلمية) وتلّقي علوم أهل البيت (علیهم السلام) وتحمّلها ونقلها إلى الناس من الألطاف الإلهية الخاصة التي لا يؤتاها الإنسان إلا باصطفاء من الله تبارك وتعالى.

وأنتم –يا طلبة العلوم الدينية من مدغشقر- لم توفقوا إلى تحصيل العلوم في النجف الأشرف وتأتون من البلد الأفريقي البعيد (مدغشقر) مع بعد الشُقّة وضعف الإمكانيات واختلاف اللغة والثقافة وصعوبة الحياة إلا لخصلة كريمة فيكم ارتضاها الله تبارك وتعالى أو فعل كريم صدر منكم كالبر الشديد بالوالدين أو خوف الله تعالى في موقف عرض فيه الشيطان الحرام وزيّنه لكم فاتقيتم الله تبارك وتعالى، او عمل إنساني نبيل أو غيرها مما لاحظه الله تعالى فيكم وأكرمكم عليه وأوجب رضاه، وليس اعتباطاً أن توفّقوا أنتم مع

ص: 170

الصعوبات التي ذكرناها للدراسة في النجف ويحرم منها أهل النجف أنفسهم وهم على مقربة من أمير المؤمنين (علیه السلام) والمرجعية الدينية والحوزة الشريفة.

وحينما أقول هذا فإنه لا يعني أن تلتفتوا إلى أنفسكم لتبحثوا عن هذا الشيء الحسن الذي فيكم، لأن المخلص لا يعطي قيمة لنفسه ويزدريها دائماً، وإذا كان فينا شيء حسن فالله تعالى هو الذي يعرفه والحسن ما نال رضاه تبارك الله.

وأول شعور ينتابكم أمام هذه الألطاف الإلهية الخاصة هو الشكر لله تعالى وإدامة هذا الشكر والشعور بالامتنان لله تبارك وتعالى، والتقصير والعجز عن أداء حق هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى، وأن يكون شكرنا شكراً عملياً بمعنى أن نكون بمستوى النعمة التي حبانا الله تبارك وتعالى بها فنبذل وسعنا في تحصيل هذه العلوم المباركة التي هي علوم أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، ألا ترون بركة هذه النعمة والسعادة التي حققها الله تعالى لكم، فتكحلون أعينكم يومياً بالحرم العلوي المطهر وتطالعون في كتبكم يومياً أسماء الأئمة الطاهرين (علیهم السلام) وأصحابهم الكرام، وتلتقون يومياً بأقرانكم من المؤمنين الصالحين المتعلمين على سبيل نجاة، وتترددون بين المساجد والمشاهد المشرّفة وبيوت العلماء، فأي بركة أعظم من هذه.

فاحرصوا على أن تكونوا أهلاً لهذه النعم ومن أهل هذا العنوان (الدعاة إلى طاعة الله والقادة إلى سبيله) ولا ينال ذلك إلا بالإخلاص لله تبارك وتعالى وتنقية العمل من الشوائب والأشواك الداخلية والخارجية، أما الداخلية فهي النابعة من داخل النفس كطلب العلم للتباهي والاستعلاء على الناس وتحصيل مكانة مرموقة، أو استدرار المال، أو لكي يحظى بقداسة وجاه ونفوذ في المجتمع ونحوه، وشيئاً فشيئاً تنمو هذه الشجرة الخبيثة في داخل الإنسان ويستدرجه الشيطان إلى ما هو أسوأ واشقى حتى يصير كل همه طلب الدنيا ويطلب العلم لأجلها فيكون من الأخسرين أعمالا (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (الكهف/104).

ص: 171

نسأل الله تعالى أن يسدّد خطاكم وأن يزيدكم علماً نافعاً وعملاً صالحاً وأن يجعلكم من أهل هذا العنوان المبارك: الدعاة إلى الله تعالى والقادة إلى سبيله، وما عليكم إلا الصبر والمصابرة والمثابرة والجد وإخلاص النية إن شاء الله تعالى. وستجدون عند الله تعالى وعند رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعند أمير المؤمنين (علیه السلام) ما يسركم ويقر أعينكم بفضل الله تبارك وتعالى.

ص: 172

اسعوا لتكونوا قادة في المشروع الرسالي وليس فقط جزءاً منه

اشارة

اسعوا لتكونوا قادة في المشروع الرسالي وليس فقط جزءاً منه(1)

عباد الرحمن:

مدح الله تبارك وتعالى عدة شرائح من الناس وصرّح بحبّه تبارك وتعالى لهم وهو شرف ما بعده شرف والإنسان يفخر بحب شخص ذي جاه أو منزلة اجتماعية أو دينية فكيف به إذا حظي بحب الخالق العظيم.

وكذا حينما يمدح تبارك وتعالى (عباد الرحمن) فيقول عنهم «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً» (الفرقان:63)، وفي نهايتها يذكر الرب الكريم جزاءهم «أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً، خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً» (الفرقان: 75-76).

وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً:

ومن الصفات التي ذكرها في عباد الرحمن دعاؤهم «رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً» (الفرقان:74)، فهم لم يكتفوا بطلب أن يكونوا من المتقين الذين وصفهم أمير المؤمنين في خطبته المعروفة أمام همام بن غالب(2)

ص: 173


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع أعضاء مكتب فضلاء النجف الأشرف يوم الثلاثاء 5 ذي الحجة 1427ه المصادف 2006/12/26 ومع وفد ضم عدداً من أساتذة كلية الآداب في جامعة ذي قار وآخر ضم عدداً من طلبة الأقسام الداخلية في جامعة البصرة يوم 24 ذي القعدة 1427ه المصادف 2006/12/16.
2- أنظر نهج البلاغة: الخطبة: 193.

فصعق ومات وإنما يطلبون أن يكونوا من أئمة المتقين، وهذا يكشف عن هممهم العالية وعزائمهم القوية وانضباطهم الراسخ وهو على أي حال طموح مشروع بل محمود ومشكور لأن لطف اللهتعالى وكرمه متاح للسائلين ولا يمنع منه إلا استحقاق العبد نفسه فلماذا لا يرنون بإبصارهم إلى كل مقام رفيع.

السعي لان نكون قادة:

ومثل هذه المعاني ترد في الأدعية المأثورة كما في دعاء الافتتاح المشهور والمروي عن الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وجاء فيه (اللهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة)(1) فيعلمنا الإمام أن نسعى لان نكون قادة في دولته الكريمة لننال كرامة الدنيا والآخرة وان كان مجرد الكون جزءاً من تلك الدولة الكريمة هو شرف عظيم ومنزلة رفيعة.

من هنا نواصل حثّنا للفضلاء والشباب الرساليين أن لا يقفوا عند كونهم جزءاً من المشروع الإسلامي الرسالي الذي يمهد لدولة الحق المباركة، وإنما يحسُن بهم أن يكونوا قادة فيه ولهم أدوار فاعلة وبنّاءة في مفاصله الأساسية.

التدرج الرسالي:

إن كل مؤمن ملتزم بدينه هو جزءٌ من هذا المشروع المبارك وقد يتقدم فيه فيصبح من الدعاة إليه بالدعوة الصامتة (كونوا لنا دعاة صامتين... كونوا لنا دعاة بأفعالكم لا

ص: 174


1- إقبال الأعمال: ص280.

بأقوالكم)(1)، أي بعملكم الحسن وأخلاقكم الفاضلة وصمتكم الرافض للمنكر والفساد والانحراف ومثل هذا الأسلوب من الدعوة له ظروفه ومبرراته لذلك كان الطغاة وأئمة الجور يحمّلون الأئمة المعصومين (عليهم السلام) مسؤولية كل الحركات الرافضة للواقع الفاسدوالظلم الذي كان يمارسه الحكّام المنحرفون رغم إنهم لم يجدوا أي وثيقة تثبت ذلك أو مال أو سلاح في بيت الإمام (عليه السلام) عندما يداهمونه لكنهم يعلمون أن الأئمة (عليهم السلام) بترفعهم عن الدنيا التي يتكالب عليها الطغاة وبسلوكهم الطاهر العفيف ومعايشتهم لألام الأمة وسعيهم الجاد لإنصاف المظلوم ومساعدة المحتاج كانوا يبينّون السيرة الصحيحة لقادة الأمة وأولياء أمورها ويكشفون زيف أولئك الطغاة في ادعائهم ولاية أمر الأمة.

وهكذا فعل أصحابهم البررة فحينما أرسل عثمان إلى أبي ذر بصرة فيها نفقة على يد عبد له (وقال: إن قبلها فأنت حر، فأتاه بها، فلم يقبلها ،فقال: اقبلها يرحمك الله؛ فإن فيها عتقي. فقال: إن كان فيها عتقك، ففيها رقي، وأبى أن يقبلها)(2).

فمثل هذا الرفض للتصرف غير المشروع بالأموال العامة والإثراء عل حساب حقوق المحرومين ألفت نظر الأمة إلى انحراف من مات وخلف من ورائه من الذهب ما يكسر بالفؤوس وأمثاله، فتحركت الأمة وثارت لتغيير الواقع الفاسد الذي جسّدته بطانة الخليفة في ما وصفها سيد قطب صاحب تفسير (في ظلال القران) أول ثورة إسلامية حقيقية في التاريخ.

ص: 175


1- مستدرك الوسائل: ج1 ص116.
2- لباب الآداب ص 305 وأعيان الشيعة ج 4 ص 231 عنه ، وشجرة طوبى ج 1 ص 75.

التدرج الى الدعوة الناطقة:

وإذا تيسرت الظروف للرسالي انتقل إلى الدعوة الناطقة، وعن السجاد (عليه السلام) حينما سئل عن الكلام والسكوت أيهما افضل؟ فقال (عليه السلام): (...لان الله عز وجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، إنما بعثهم بالكلام، ولا استحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت، ولا توقيت النار بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام)(1) أي بالكلمة الصادقة والموعظة الحسنة والحكمة «فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى»(طه:44)، وهكذا يتدرج الرسالي حتى يصبح قائداً في المشروع الإلهي العظيم.

ولكن لما كان (أول الدين معرفته)(2) كما ورد في كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) فإن الكون في هذه المواقع الشريفة يتطلب معرفة المعالم العامة للمشروع والأسس التي يستند إليها في حركته التي تكون بمثابة الدستور الذي تنطلق منه وتتفرع عنه القوانين التفصيلية المتغيرة في آلياتها وبرامجها لكن الأسس تبقى ثابتة.

الأسس العامة للمشروع الرسالي:

وهذه الأسس يمكن تحصيلها وانتزاعها بالاستقراء والمقارنة وضم الأفكار بعضها إلى بعض، وقد حاولت تخفيفاً عنكم وطياً للمسافة أمامكم أن استخلص لكم هذه الأسس المبادئ والتي هي لا تزال في دائرة العموميات وهي عشرة:

1- الإخلاص لله تبارك وتعالى وان يكون رضا الله سبحانه وتعالى هو الهدف من كل حركة أو سكنة، وأساس نجاح العمل تذكر الهدف و برمجة العمل على أساسه و ضبط الحركة في إطاره.

ص: 176


1- البحار: ج71 ص274.
2- نهج البلاغة: الخطبة: 1.

2- التأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين من ذريته (عليهم السلام) واعتماد القران و السنة الشريفة مصدراً للتشريع و السلوك ومنهجاً لقيادة الحياة.

3- تكريم الإنسان و جعله القيمة العليا و توظيف كل شي من اجل إسعاده وحفظ كرامته و ازدهار حياته.

4- الوحدة و التآلف و التنوع في أداء الأدوار و التسامي عن التقاطع و التشاحن و التزاحم المؤدي إلى الفرقة و التشتت.

5- الدقة في اختيار قيادة الأمة وفق المعايير الدقيقة لان إمامة الأمة وقيادتها هو المحور الذي تنتظم حوله الأمة.

6- تهذيب النفس بالأخلاق الفاضلة وتطهير القلب حتى يأتي الله بقلب سليم.

7- تخليص الأمة من الجهل والتخلف و سوء الظن وخلق حالة الوعي والتدين و الورع .

8- تعريف الإسلام الحقيقي و إبراز عناصر القوة و العظمة فيه و إقناع الناس بالالتزام به وإتباعه وألفات النظر إلى عيوب الحضارة المادية و ضعفها وقصور النظريات والنظم المادية عن توفير السعادة و الكمال للإنسان.

9- التنظيم و الدقة في العمل المؤسساتي بحيث ينصهر الجميع في خلية عمل متكاملة .

10- مقاومة الفساد والانحراف والظلم والأنانية والاستئثار والتسلّط بغير حق وإنصاف المظلومين بكل الآليات المتاحة.

ص: 177

تطبيق هذه الأسس:

إن هذه الأسس العامة التي تبتني عليها حركة المشروع الرسالي تتطلب عمقا اكبر لتحليلها وتحويلها إلى مشاريع تفصيلية وتنفيذها على الأرض ومتابعة كل مشروع ليبقى محافظاً على الأساس الذي انطلق منه وتفرع عنه.

فمثلاً من تطبيقات النقطة العاشرة كان تشكيل كيان سياسي يجمع المخلصين الكفوئين النزيهين ليؤدي هذا الدور، فتأسيس هذا الكيان كان من نتائج تحليل هذه النقطة وعلى أعضائه أن يضعوا له البرامج والآليات التي تتكفل بتحقيق هذه النقطة ويراقبوا مسيرته ليبقى في إطارها.

وفي ضوء النقطة الرابعة نفهم أن تعدد الجهات العاملة في الساحة لا يُعُّد منافسة أو مزاحمة وبالتالي يؤدي إلى التنافر والتسقيط والتشهير وربما المواجهة المسلحة وكلها من الكبائر التي تسخط الباري عز وجل، وإنما نفهمها تنوعاً في الأداء يغني الحركة ويثريها؛ لأن جهة واحدة لا تستوعبكل نواحي العمل ولا تملا كل مساحات النشاط المطلوب، وقد لا تتناسب سعة مسؤولياتها مع القيام ببعض الأدوار، فمثلا في عصر الإمام الصادق (عليه السلام) اندلعت عدة ثورات للعلويين لمواجهة ظلم العباسيين وطغيانهم وكانت تستقطب الكثير من القواعد الموالية لأهل البيت (عليهم السلام) ولم يشعر الإمام (عليه السلام) بحساسية إزاءها لأنه يرى فيها تنوعاً للأدوار، وبالعكس فقد كان يبدي ارتياحه لمثل هذه الحركات وان كان لا يتبناها بنفسه بل يمنع خواصّه من الانخراط فيها بحسب ما أفادت الروايات؛ لأنه لم يكن مؤمنا بصدق وإخلاص عدد منها لكنه (عليه السلام) كان يردد (لوددتُ أن الخارجي من آل محمد خرج وعليَّ نفقة عياله)(1) ويقول (عليه السلام) (لا ازال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد)(2) وقد شرحنا تفصيل هذا الموقف

ص: 178


1- الوسائل: ج15 ص54.
2- السابق.

في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية) وعليها تعليقات سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره)(1).

ولتحقيق النقطة الثانية فقد ذكرنا الكثير من الدروس المستفادة من سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بناء ألذات في كتاب (الأسوة الحسنة) وفي النشاطات الاجتماعية للمعصومين (عليهم السلام) من خلال كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية)، وذكرنا خصائص برنامج عمل الحركة الإلهية الإصلاحية في كتاب (شكوى القران) وهكذا.

ص: 179


1- دور الأئمة b في الحياة الإسلامية: ص279.

العمل الإسلامي والأمة الوسط

اشارة

العمل الإسلامي والأمة الوسط (1)

أصناف العاملين الرساليين:

لو أردنا -كمراقبين- أن نقيم العمل الاجتماعي للإسلاميين سواء كانوا من الحوزة العلمية أو الأحزاب الإسلامية أو المفكرين والمثقفين الإسلاميين لوجدنا فيهم خطين بارزين.

الأول: من انهمك في العمل الاجتماعي واندفع فيه غافلاً عن بناء نفسه وتهذيبها وتكاملها فنسي الهدف الذي بدأ العمل من اجله وانقلبت عنده المعايير فأصبح يرى الحق باطلاً والباطل حقاً (كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً) وتحول عمله إلى صراع على الدنيا وتحولت مشكلته مع الطاغوت إلى الفوز بكرسي السلطة وليس تغيير الظلم وإقامة العدل والإصلاح والحياة الكريمة وابتعد شيئاً فشيئاً عن مبادئه دون أن يشعر، لأن تأثير السلطة على نفسية الشخص المتسلط سيكولوجي «نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (الحشر:19) ومن النادر أن يشعر به الإنسانويثوب إلى رشده إلا إذا حظي بلطف من الله تبارك وتعالى أو كان له ناصحٌ أمين أو توجد في قلبه وضميره بقية حياة ينبض بها أما إذا لم تتوفر له هذه العوامل الثلاثة فانه سينحدر إلى الهاوية «وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ» (ص:3) حيث لا ينفعهم ندم والعياذ بالله تبارك وتعالى، وأوضح مثال على هذا الصنف الأحزاب المتسلطة التي ترفع شعار الإسلام.

الثاني: من آثر الانعزال والانكفاء على الذات وأصيب بالخمول وفقَدَ همته

ص: 180


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد أمانة الرصافة الثانية في بغداد لحزب الفضيلة الإسلامي يوم 21 شعبان 1429 المصادف 2008/8/23 بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد عضو الأمانة المهندس أبي عبد الله عباس ومع وفد مكتب حزب الفضيلة الإسلامي في مدينة علي الغربي.

وحماسه للعمل، وجعل أقصى همه شؤونه الخاصة، أما بسبب فشل تجربة الفريق الأول فانعكس سلباً عليه حيث لحق به عاره أو لعجزه عن أداء رسالته أو ليأسه من الإصلاح والتغيير فحصل عنده شعور بالإحباط فكان رد فعله التخلي عن العمل الاجتماعي، وهذا الخط واضح في عدد كبير من طلبة وفضلاء الحوزة العلمية في النجف الأشرف وغيرها، فهاهي النجف رغم احتضانها لآلاف طلبة العلم لكن أهلها - فضلاً عن المدن الأخرى- المبتلون بالجهل والغفلة وقسوة القلب لا يجدون من يمد إليهم يد الإرشاد والتوجيه والهداية ويعالج الانحراف والجهل بأحكام الدين وآدابه.

ابتعاد كلا الخطين عن الشريعة والأمة والوسط:

ولا شك أن كلا الخطين قد ابتعد عن الصراط المستقيم الذي تسير عليه الأمة الوسط «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» (البقرة:143) ولا يستحق أي منهما أن يكون شاهداً على الناس بمقتضى هذه الآية الشريفة لنقصانه.

أما الأول فابتعاده عن الشريعة واضح بل إنه في الحقيقة يتورط في كثير من الكبائر والموبقات المهلكة وأولها التقصير في شؤون من ولي أمورهم فإن من تولى رئاسة قوم والمسؤولية عنهم - ولو كانوا عدد الأصابع- فإنه مسؤول عن كل صغيرة وكبيرة من شؤونهم لذا فإن موقفه سيطول بين يدي الله تبارك وتعالى.

نموذج من سورة القصص:

كنت أقرأ في سورة القصص حتى وصلت في نهايتها إلى ذكر قارون الذي آتاه الله تبارك وتعالى «مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ» وكان وضعه مغرياً لكثيرين أن يكونوا في موقعه «فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِفِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» لكن المؤمنون لم ينخدعوا بهذه الزينة

ص: 181

الزائفة «وَقَالَ الذِينَ أوتُوا العِلمَ وَيلَكُم ثَوَابُ اللهِ خَيرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إلا الصَابِرُونَ» فماذا كانت نتيجة غروره بالدنيا «فَخَسَفنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ» وهنا صحا المخدوعون به واللاهثون وراءه من غفلتهم «وَأصبَحَ الذِينَ تَمَنَّوا مَكَانَهُ بِالأَمسِ يَقُولُونَ وَيكَأَنَّ الله يَبسُطُ الرِزقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ وَيَقدِرُ لَولا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَينَا لَخَسَفَ بِنَا وَيكَأنَّهُ لا يُفلِحُ الكَافِرُونَ» (القصص: 79 -82).

فليست الدنيا حتى مثل دنيا قارون وهارون تستحق أن يتخلى الإنسان عن هدفه من اجلها وسيكتشف من يتمنى أن يكون بدل فلان وفلان في مواقع السلطة أن الله تبارك وتعالى أراد به خيراً حين حماه من الوقوع في شراكها.

من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم:

وأما الخط الثاني فانه قد تخلى عن هموم أمته وقد ورد في الحديث (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم) وتخلى عن مسؤوليته في إعلاء كلمة الله تعالى ونشر تعاليم دينه لأن لديه العلم والمعرفة ومن تحمل العلم كانت عليه مسؤولية تبليغه وإيصاله إلى الآخرين، خصوصاً مع توفر الفرصة اليوم بأوسع أبوابها للعمل الإسلامي المبارك، وإذا فشل شخص أو جهة ممن يحمل لافتة إسلامية في عمله فهذا لا يعني التراجع والنكوص مهما كانت العوائق والأشواك كما نقرأ في زيارة أبي الفضل العباس (عليه السلام) (أشهد انك لم تهن ولم تنكل) وهذه هي الأمة الوسط التي أرادنا الله تبارك وتعالى أن نكون منها ولا يخلو أي زمان من هذه الأمة مهما غلت التضحيات وعظمت العقبات والضغوط والتشكيكات والإحباطات «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً» (الأحزاب:23).

ورد في كتاب الأمالي للشيخ الصدوق (قدس الله نفسه) عن الإمام الصادق (عليه السلام) لما سُئل عن تفسير قوله تعالى «قُلْ فَللهِ الحُجّةُ البَالِغَةُ فَلَو شَاءَ لَهَدَاكُم أجمَعِينَ»

ص: 182

(الأنعام:149) أنه (عليه السلام) قال: (إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالماً، فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملتَ بما علمت؟ وان قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلمت حتى تعمل؟ فيخصمه، فتلك الحجة البالغة).

ص: 183

هل تريد أن تكون مع الصديقة الزهراء (عليها السلام) في درجتها؟

اشارة

هل تريد أن تكون مع الصديقة الزهراء (عليها السلام) في درجتها؟(1)قد يبدو توجيه السؤال غريباً ومعروف الجواب سلفاً، إذ لا يوجد عاقل لا يريد أن يكون مع الصديقة الطاهرة الزهراء (عليها السلام) في درجتها، ولكن وجه السؤال هو معرفة ما يصل به الإنسان إلى تلك الدرجة.

وأين هي درجة الزهراء (عليها السلام)؟ إنها مع أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعلها وبنيها (صلوات لله عليهم أجمعين) «فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ » (القمر:55) «أُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً » (النساء:69)، بل هم (صلوات الله عليهم وسلامه) الجنة الحقيقية، قال تعالى: «وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ » (التوبة: 72) ورضا الله تعالى رضاهم كما ورد في الحديث النبوي المتواتر: (إن الله يرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها)(2)

وقال الإمام الحسين (عليه السلام): (رضا الله رضانا أهل البيت)(3).

معنى (فاطمة بضعة مني):

وقد أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه المعيّة والملازمة بينه (صلى الله عليه وآله وسلم) وبينهم (صلوات الله عليهم أجمعين) في حديث الثقلين المشهور عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (إني تاركٌ فيكم الثقلين كتاب الله عز

ص: 184


1- («1» ) الخطاب الذي ألقاه سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) على الآلاف من المؤمنين الذين احتشدوا في ساحة ثورة العشرين في النجف الأشرف صباح يوم الثلاثاء 3 ج2 1431 المصادف 2010/5/18 قبل انطلاق التشييع للنعش الرمزي للصديقة الطاهرة الزهراء في الزيارة الفاطمية.
2- («1»)ا لإمامة والسياسة لابن قتيبة : 14/1، أعلام النساء : 314/3.
3- («2») الملهوف: ص126.

وجل وعترتي، كتاب الله حبلٌ ممدودٌ من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإن اللطيف أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض فانظروا بمَ تخلّفوني فيهما)(1).

وفي حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أمير المؤمنين علي (عليه السلام): (وأنت معي في قصري في الجنة مع فاطمة ابنتي)(2)

وحينما يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ابنته الزهراء :(فاطمة بضعة منيفمن أغضبها فقد أغضبني)(3)

فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يريد أن الزهراء (عليها السلام) ابنته وتولدت منه فهي جزء منه، لأن هذا المعنى عام يشترك فيه كل الناس ولا خصوصية لفاطمة من هذه الناحية حتى تستحق البيان، فكل ابن وبنت هما بضعة من والديهما، وإنما يريد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أن فاطمة (عليها السلام) جزء من وجوده المعنوي وامتداد مبارك له وأنها شعاع من شمسه المنيرة. لذا فرّع على هذا المعنى أن من أغضبها فقد أغضبه (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد أكّد الإمام الحسين (عليه السلام) هذا المعنى في خطابه الذي ألقاه في مكة المكرمة قبل خروجه إلى العراق ومما قال (عليه السلام): (رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تقرّ بهم عينه، وينجز بهم وعده)(4).

المعية مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

أيها الأحبة: لقد كفانا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤونة البحث عن إجابة السؤال الذي جعلناه عنواناً للخطاب، ودلّنا على ما يوجب اللحوق به (صلى الله

ص: 185


1- الحديث من مسند أحمد بن حنبل، وتجد مصادره من كتب العامة في كتاب (فضائل الخمسة من الصحاح الستة): 52/2-62.
2- كنز العمال: 400/5 الحديث 36345 ومصادر الحديث من كتب العامة في (فضائل الخمسة من الصحاح الستة): 129/3-131.
3- هذا نص البخاري في صحيحه وتوجد مصادره في المصدر السابق.
4- مقتل الحسين (عليه السلام): للسيد المقرم: 193.

عليه وآله وسلم) وببضعته الطاهرة (عليها السلام) في أحاديث عديدة، كالذي رواه الترمذي في صحيحه وأحمد بن حنبل في مسنده وغيرهم من علماء العامة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه (أخذ بيد حسن وحسين (عليهما السلام) فقال: من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة)(1)

ولكن هذه الأحاديث يجب أن تُفهم في سياقاتها الطبيعية أي المعنى الحقيقي للحب ولوازمه وآثاره.

من كفل يتيماً كان معهم (عليهم السلام):

والذي نريد أن نجعله محوراً لكلامنا اليوم ما رواه الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (صلوات الله عليهم أجمعين) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (من كفل يتيماً وكفل نفقته كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وقرن بين إصبعيه المسبّحة والوسطى)(2).

وفي رواية أخرى قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة إذا اتقى الله عز وجل) وأشار بالوسطى والتي تليها)(3)، والحديث مشهور، وإن كان ينقل من دون جزئه الأخير الذي هو شرط قبول الأعمال، قال تعالى: «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ » (المائدة:27) لكنه هنا شرط لكون كافل اليتيم في درجة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس شرطاً لإعطاء الجزاء، لأن أعمال البر والإحسان يثاب عليها الإنسان ولو لم يقصد بها وجه الله تعالى.

ص: 186


1- تجد مصادر الحديث في كتاب (فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 299/1-300.
2- بحار الأنوار: 3/75 عن قرب الإسناد بسند مقبول.
3- تفسير نور الثقلين: 597/5.

فضل كافل اليتيم:

اشارة

إذن هذا سبيل يوصلك لتكون مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في درجته بلطف الله تبارك وتعالى وكرمه، وقد تواترت الأحاديث في فضل كفالة اليتيم ورعايته منها ما روي عن رسول الله قوله: (إن في الجنة داراً يقال لها دار الفرح لا يدخلها إلا من فرّح يتامى المؤمنين)(1)

وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من قبض يتيماً من بين المسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنة ألبتة إلا أن يعمل ذبناً لا يغفر)(2).

وعن أبي الدرداء قال: (أتى النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل يشكو قسوة قلبه، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): أتُحبُّ أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك)(3).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما من مؤمن ولا مؤمنة يضعيده على رأس يتيم إلا كتب الله له بكل شعرة مرّت يده عليها حسنة)(4).

وعن الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام): (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من عال يتيماً حتى يستغني عنه أوجب الله عز وجل له بذلك الجنة كما أوجب الله لآكل مال اليتيم النار)(5).

الأيتام المعنويون:

ويوجد أيتام من نوع آخر هم أكثر عدداً يكاد يمثلون أغلب الناس، وكفالتهم لا تحتاج إلى المال، بل إلى الجهد والهمة والإخلاص، وكافلهم يكون أقرب إلى رسول الله

ص: 187


1- كنز العمال: ح6008.
2- الترغيب والترهيب: 347/3.
3- الترغيب والترهيب: 349/3.
4- بحار الأنوار: 4/75.
5- بحار الأنوار: 4/75.

(صلى الله عليه وآله وسلم) من الأول، تعرّفهم لنا جملة من الأحاديث الشريفة(1) وتبين منزلتهم (الكافلين) عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام) عن الإمام أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام) قال: (حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: أشد من يُتم اليتيم الذي انقطع عن أبيه يتم يتيم انقطع عن إمامه ولا يقدر على الوصول إليه ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلى به من شرائع دينه ألا فمن كان من شيعتنا عالماً بعلومنا وهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره ألا فمن هداه وأرشده وعلمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى)(2).

وعن أبي محمد العسكري (عليه السلام) قال: (قال الحسن بن علي (عليهما السلام): فضل كافل يتيم آل محمد المنقطع عن مواليه الناشب في رتبة الجهل يخرجه من جهله، و يوضح له ما اشتبه عليه، على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه كفضل الشمس على السها(3).وعنه (عليه السلام) قال: (قال الحسين بن علي (عليهما السلام) من كفل لنا يتيماً قطعته عنا محبتنا(4)

باستتارنا فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتى أرشده وهداه، قال الله عز وجل: يا أيها العبد الكريم المواسي أنا أولى بالكرم منك، اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كل حرف علّمه ألف ألف قصر، وضموا إليها ما يليق بها من سائر النعم).

ص: 188


1- هذه المجموعة من الأحاديث أثبتها العلامة المجلسي (قدس سره) في بحار الأنوار: 2/ 2-6 في الباب 8 من كتاب العقل والعلم والجهل، أبواب العقل والجهل، عن التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام) وكتاب الاحتجاج للطبرسي.
2- الأحاديث من بحار الأنوار الباب المذكور على التسلسل: 1، 4، 5، 9، 10، 11.
3- السها في لغة العرب كويكب صغير خفي الضوء، والناس يمتحنون به أبصارهم لصغره وخفائه.
4- أي كان سبب انقطاعه عنا رغبتنا في الاستتار رعاية لحكمة إلهية عظمى. وفي نسخة (محنتنا) وهو أظهر.

وعنه (عليه السلام) قال: (قال موسى بن جعفر (عليهما السلام): فقيه واحد ينقذ يتيماً من أيتامنا المنقطعين عنا وعن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشد على إبليس من ألف عابد؛ لأن العابد همّه ذات نفسه فقط، وهذا همّه مع ذات نفسه ذات عباد الله وإمائه لينقذهم من يد إبليس ومردته، فذلك هو أفضل عند الله من ألف ألف عابد، وألف ألف عابدة).

وعنه (عليه السلام) قال: (قال علي بن موسى الرضا (عليهما السلام): يقال للعابد يوم القيامة: نِعم الرجل كنت همتك ذات نفسك وكفيت الناس مؤونتك فادخل الجنة، ألا إن الفقيه من أفاض على الناس خيره، وأنقذهم من أعدائهم، ووفّر عليهم نعم جنان الله وحصل لهم رضوان الله تعالى. ويقال للفقيه: يا أيها الكافل لأيتام آل محمد الهادي لضعفاء محبيهم ومواليهم قف حتى تشفع لمن أخذ عنك، أو تعلَّم منك فيقف فيدخل الجنة معه فئاماً وفئاماً وفئاماً(1)حتى قال عشراً).

وعنه (عليه السلام) قال: (قال محمد بن علي الجواد (عليهما السلام): من تكفل بأيتام آل محمد المنقطعين عن إمامهم المتحيرين في جهلهم، الأُسراء في أيدي شياطينهم، وفي أيدي النواصب من أعدائنا فاستنقذهم منهم، وأخرجهم من حيرتهم، وقهر الشياطين برد وساوسهم، وقهر الناصبين بحجج ربهم ودليل أئمتهم لَيُفضّلون عند الله تعالى على العباد بأفضل المواقع بأكثر من فضل السماء على الأرض و العرش والكرسي والحجب على السماء، وفضلهم على هذا العابد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء).

الزهراء (عليها السلام) تكفل الأيتام:

وقد كانت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تحذو حذو أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) في أقواله وأفعاله وخصاله الكريمة وهديه وسمته، ومع أن علم الله

ص: 189


1- فئام: الجماعات الكبيرة من الناس، وطبقت في بعض الموارد –كيوم الغدير- على مئة ألف.

تعالى سابق بأنها (صلوات الله عليها) في درجة أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) في الجنة إلا أنها مع ذلك كانت حريصة (صلوات الله عليها) على أن تقوم بكل ما يقربها إلى الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويجعلها معه في درجته ولم تتكل على ذلك الاستحقاق والعطاء السابق، بل عزّزته بالمثابرة والعمل الدؤوب وتحمّل كل المشاق في القيام بمسؤولياتها والصبر عليها، فتأكد استحقاقها لتلك الدرجة الرفيعة، وقد ورد في زيارتها (سلام الله عليها) يوم الأحد (السلام عليك يا ممتحنة، امتحنك الذي خلقك قبل أن يخلقك، وكنت لما امتحنك به صابرة) فقد أدت ما عليها ووفت بما عاهدت ربها عليه من الالتزامات فنجحت في الامتحان بأعلى درجات النجاح.

الأيتام بكلا النوعين:

ومن مورد صدقها فيما امتُحنت به كفالة الأيتام بالمستويين اللذين ذكرناهما.

أما الأول فقد شهد الله تبارك وتعالى لها ولزوجها أمير المؤمنين وولديها الحسن والحسين (صلوات الله عليهم) في القرآن الكريم بإطعامهم اليتيم مع حاجتهم للطعام حباً لله تبارك وتعالى وإخلاصاً لوجهه الكريم «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُوراً » (الإنسان: 8-9).

ونقرأ في سيرتها (صلوات الله عليها) أنها طحنت بالرحى حتى مجلت يداها وأشعلت التنور حتى دكنت ثيابها وما ذلك لإطعام زوجها وبنيها لأنهم خمص البطون، وكانوا يكتفون من الطعام بما يسد رمقهم، وإنما كان ذلك لكثرة من تطعمهم وتتكفل بهم كما تشهد به روايات أخر، ولم تغب عنها الوصية بالأيتام وهي تودع الحياة الدنيا، روي أنه جاء في وصيتها (عليها السلام) لأمير المؤمنين (عليه السلام) بالحسن والحسين (عليهما السلام): (يا أبا الحسن ولا تَصِحْ في وجهيهما فإنهما سيصبحان يتيمين من بعدي، بالأمسفقدا جدهما واليوم يفقدان أمهما)(1).

ص: 190


1- بحار الأنوار: 178/43.

وأما على المستوى الثاني لكفالة الأيتام فقد كانت لها حركة دؤوبة وهمة لا تعرف التواني والتقصير، روي عن الإمام أبي محمد العسكري (عليه السلام) أنه قال: (حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) فقالت: إن لي والدة ضعيفة وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألك، فأجابتها فاطمة (عليها السلام) عن ذلك، فثنت فأجابت ثم ثلثت إلى أن عشّرت فأجابت ثم خجلت من الكثرة فقالت: لا أشق عليك يا ابنة رسول الله، قالت فاطمة: هاتي وسلي عما بدا لك، أرأيت من اكترى يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل وكراه مائة ألف دينار يثقل عليه؟ فقالت: لا. فقالت: اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً فأحرى أن لا يثقل عليّ، سمعت أبي (صلى الله عليه وآله) يقول: إن علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدهم في إرشاد عباد الله حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلة من نور ثم ينادي منادي ربنا عز وجل: أيها الكافلون لأيتام آل محمد (صلى الله عليه وآله)، الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم فاخلعوا عليهم خلع العلوم في الدنيا فيخلعون على كل واحد من أولئك الأيتام على قدر ما أخذوا عنهم من العلوم حتى أن فيهم يعني في الأيتام لمن يخلع عليه مائة ألف خلعة وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلم منهم، ثم إن الله تعالى يقول: أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين للأيتام حتى تتموا لهم خلعهم، وتضعفوها لهم فيتم لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم، ويضاعف لهم، وكذلك من يليهم ممن خلع على من يليهم. وقالت فاطمة (عليها السلام): يا أَمَة الله إن سلكة من تلك الخلع لأفضل مما طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة وما فضل فإنه مشوب بالتنغيص والكدر)(1).

وروي عنه (عليه السلام) قال: (قال علي بن أبي طالب (عليه السلام): من قوّى مسكيناً في دينه ضعيفاً في معرفته على ناصب مخالف فأفحمه لقنه الله يوم يُدلى في قبره أن

ص: 191


1- بحار الأنوار: الموضع السابق، ح3.

يقول: الله ربي، ومحمد نبيي، وعلي وليي، والكعبة قبلتي، والقرآن بهجتي وعدتي، والمؤمنون إخواني. فيقول الله: أدليت بالحجةفوجبت لك أعالي درجات الجنة فعند ذلك يتحول عليه قبره أنزه رياض الجنة)(1).

مسؤوليتنا عن كفالة كلا النوعين من الأيتام:

أيها الأخوة والأخوات: لنتأسّ بالصديقة الطاهرة الزهراء (عليها السلام) حتى نكون معها ومع أبيها الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما) في درجتهما في الجنة بكفالة كلا النوعين من الأيتام.

فبلدنا اليوم يعج بمئات الآلاف من الأيتام بسبب ما تعرض له من جرائم القتل والبطش والحروب والمقابر الجماعية في عهد صدام ولجرائم القتل المنظم والإرهاب والفوضى المتعمدة والقتل العشوائي في عهد الاحتلال، وهؤلاء الأيتام في الوقت الذي يشكّلون فيه مسؤولية على الأمة جميعاً تقتضي احتضانهم ورعايتهم وتربيتهم، وإلا تحولوا إلى جيل كامل من المجرمين والقتلة والمرضى النفسيين والمنحرفين أخلاقياً والحاقدين على المجتمع، في الوقت نفسه هم يمثلون فرصة عظيمة للطاعة امتثالاً للتوجيهات النبوية الشريفة المتقدمة.

أما النوع الثاني من اليتيم فهو صفة أكثر الناس فإنهم بين جاهل بالشريعة لا يعرف حتى الأحكام الأساسية التي يبتلى بها يومياً كالوضوء والصلاة والغسل وبعض المعاملات، وبين مفتون قد اضطربت في ذهنه الأفكار وعصفت به الضلالات، وبين متورط في المعاصي بسبب غفلته وعدم وجود من يعظه ويذكره بالله تعالى، وبين إمّعةٍ ينعقون مع كل ناعق -كما وصفهم الحديث الشريف- وبين ضعيف أو مستضعف يحتاج إلى من يقوي فيه عقائده ويشدّ إيمانه، ولعلكم تعرفون أكثر مني مصاديق ذلك من خلال احتكاككم بالناس واطلاعكم على البيئة التي تعيشون فيها، ولعل بعضكم اطلع

ص: 192


1- بحار الأنوار: الموضع السابق، ح14.

على الكثير مما ذكرت من خلال التجمعات الكبيرة التي تحصل في بعض المناسبات الاجتماعية والدينية وغيرها.

فأمامكم فرصة واسعة لنيل القرب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء برعاية الأيتام من النوع الأول وكفالتهم بالمساعدات المالية ورعايتهم وتربيتهم وإنشاء مؤسسات الحضانةوالتعليم والترفيه لهم ونحوها، وقد أذنت المرجعية بصرف قسم كبير من الحقوق الشرعية لكفالة الأيتام.

والفرصة الأوسع التي أمامكم هي كفالة الأيتام من النوع الثاني وهي متاحة للجميع إذ ما من أحد منا إلا ويعرف مسألةً شرعيةً أو حديثاً شريفاً أو نصيحةً مفيدةً فلنُنظّم جميعاً ببركة الزهراء (عليها السلام) حملة واسعة نقوم خلالها بتعليم الناس كل كلمة مفيدة أو موعظة تسمعونها أو مسألة شرعية تتعلمونها أو عمل صالح تهتدون إليه، أو نصيحة ترشدهم وتصحح أخطاءهم وغيرها كثير.

فلا تبخلوا بكل ذلك على الناس سواء داخل الأسرة أو لزملائكم في العمل أو المنطقة أو رفقائك في السفر، وانقلوها لأكبر عدد منهم ليزداد أجركم وتحظون برضا الله تبارك وتعالى والمنزلة الرفيعة عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) والصديقة الطاهرة الزهراء (صلوات الله عليها)، فهذه الوظيفة ليست حكراً على الحوزة العلمية ونحوها بل هي مسؤولية كل من تعلم ولو مسألة واحدة وأنتم شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) فاحفظوا وصيته بالأيتام عند وفاته (صلوات الله عليه) وقد رويت في الكافي بسند صحيح ومما جاء فيها: (الله الله في الأيتام؛ فلا تغبّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم، فقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: من عال يتيماً حتى يستغني أوجب اله عز وجل له بذلك الجنة كما أوجب الله لآكل مال اليتيم النار)(1).

ص: 193


1- الكافي: 51/7-52 باب صدقات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفاطمة والأئمة (عليهم السلام) ووصاياهم، ح7.

التأسي بصاحب الزمان (عليه السلام):

وتأسّوا بإمامكم المهدي الموعود (صلوات الله عليه) فإنه مع ما يعانيه من ألم الغيبة عن ممارسة دوره الكامل في حياة الأمة فإنه لم يغفل لحظة عن رعاية شيعته، قال (عليه السلام): (نحن وإن كنا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أرانا الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الفاسقين، فإننا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم، مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً ونبذوا العهد المأخوذ وراءظهورهم كأنهم لا يعلمون. إنا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء فاتقوا الله جل جلاله..)(1).

ص: 194


1- الاحتجاج للطبرسي: 323/2.

أوجه نشاط الإمام الصادق (عليه السلام) والمرحلة الراهنة

أوجه نشاط الإمام الصادق (عليه السلام) والمرحلة الراهنة(1)

سفر جامع لكل ما تحتاجه البشرية:

إن سيرة أهل البيت (عليهم السلام) سفر جامع لكل ما تحتاجه البشرية من آراء ومواقف وحلول وبرامج عمل لمختلف القضايا التي تواجهها، ولا عجب في ذلك فإنهم عدل الكتاب العزيز وصنوه وقد وصف القرآن نفسه بكونه «تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ»(النحل:89) و«مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ»(الأنعام:38) فهم كذلك

وبمناسبة ذكرى وفاة الإمام الصادق (عليه السلام) نريد أن نستلهممن حياته (عليه السلام) بعض المعالجات لمشاكلنا، ونتعلم منه (عليه السلام) كيف نصمد أمام التحديات التي تحاول تقويض شخصيتنا ومسخ هويتنا، ونعرض ذلك باختصار من خلال نقاط:

تحديات المرحلة والاستلهام من الإمام الصادق (عليه السلام):

الأولى: إن الفترة التي نعيشها تشابه تلك التي عاشها الإمام الصادق (عليه السلام) من حيث أنها شهدت ضعف وانحلال دولة هي الأموية، وظهور دولة جديدة هي العباسية، فكان أهم عمل قام به في هذه الفترة الانتقالية وتخفيف قبضة الظالمين عنه هو نشر علوم أهل البيت (عليهم السلام) وتثبيت الركائز الفكرية والعلمية الرصينة لهذه المدرسة، حتى لقد نسب المذهب إليه فقيل المذهب الجعفري

ص: 195


1- (1) محاضرة ألقيت بمناسبة ذكرى استشهاد الامام الصادق (عليه السلام) في 25 شوال 1424 المصادف 2003/12/20.

لأن جهده (عليه السلام) كان هو الأوضح في تأسيس هذا الصرح الشامخ، وقد قطع الإمام شوطاً واسعاً في هذا المجال فقد تخرج على يديه أربعة آلاف عالم في مختلف العلوم والفنون، فأبو حنيفة شيخ أئمة المذاهب من تلاميذه (عليه السلام) وله كلمته المشهورة (لولا السنتان لهلك النعمان)(1) وجابر بن حيان مؤسس علم الكيمياء من طلابه (عليه السلام) وغيرهم كثير، وقد انتشر هؤلاء في الأمصار ونقلوا معهم ما تعلموه.

وكان (عليه السلام) يحث على طلب العلم ويقول: (لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا)(2)

وخاطب (عليه السلام) أصحابه: (عليكم بالتفقه في دين الله ولا تكونوا أعراباً فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر إليه يوم القيامة ولم يزكِّ له عملاً)(2) ونقل (عليه السلام) عن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أفٍ لرجل لا يفرغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه)(3).

ونحن إذ نعيش اليوم زوال أيام النظام الجائر الذي حرمنا منكثير من حقوقنا، ونشوء دولة جديدة، يكون من أولوياتنا تأسيس الحوزات العلمية الشريفة والمؤسسات الثقافية في جميع المدن، لخلق واقع جديد من انتشار مراكز العلم والمعرفة يكون أساساً تبنى عليه الحياة الجديدة حتى يتسع الوضع الحالي الذي يفترض وجود الحوزة العلمية في مدينة النجف الأشرف؛ لأن مجرد وجود الكيان العلمي الديني في مدينة ما يعني دفعة قوية للحركة الإسلامية والالتزام الديني، فضلاً عما لو تحرك هذا الكيان ليبلّغ الأحكام ويعظ ويوجه ويرشد فإنه سيملأ تلك المدينة ولا يترك فراغاً

ص: 196


1- أنظر المراجعات: ص15.
2- و (2) و (3) الكافي:1/ 31، 40.

يمكن أن يشغله غيره ويحاصر الفساد والانحراف ويسد عليه منافذ الحركة.

بيان المعالم الصحيحة لشخصية المسلم:

الثانية: بيان وتوضيح المعالم الصحيحة لشخصية المسلم بعد أن مسخها الحكام الظلمة بما كانوا يصورون للأمة من جوانب مخزية لشخصيتهم، وبما كانوا ينشئون في حياة المجتمع الإسلامي من واقع فاسد من فسق وفجور وخيانة وجور وانكباب على الدنيا وتقاتل من أجلها وولع بالخمر وعدوان على أهل الحق.

وكان وعاظ السلاطين السائرون في ركابهم يرقعون لهم هذه المخازي بضلالاتهم فضاعت الصورة الحقيقية للمسلم خصوصاً عند الأقوام التي دخلت الإسلام جديداً وليس لهم عمق تأريخي فيه وحرموا من التعرف على أئمتهم الحقيقيين.

فنهض الإمام (عليه السلام) بمسؤولية هذا التعريف، وكان يركز اهتمامه أكثر على شيعته باعتبارهم طليعة هذه الأمة التي عرفت الحق واتبعته فتكون المسؤولية عليهم أكبر قال (عليه السلام): (فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق في حديثه وأدّى للناس الأمانة وحسن خلقه معهم وقيل هذا شيعي يسرني ذلك ويدخل عليَّ منه السرور ومن كان غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعاره)(1)

وقال (عليه السلام): (والله ما شيعة علي إلا من عف بطنه وفرجه وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخافعقابه)(2) ويروي الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (خرجت أنا وأبي حتى إذا كنا بين القبر والمنبر إذا هو بأناس من الشيعة فسلم عليهم ثم قال من كلامٍ (واعلموا أن ولايتنا لا تنال إلا بالورع والاجتهاد من ائتم منكم بعبدٍ فليعمل بعمله)(3)

وقال

ص: 197


1- الكافي: 636/2.
2- الكافي: 233/2.
3- الكافي: 213/8.

(عليه السلام): (أوصيكم بتقوى الله والعمل بطاعته واجتناب معاصيه وأداء الأمانة لمن ائتمنكم وحسن الصحابة لمن صحبتموه وان تكونوا لنا دعاة صامتين فقالوا: يا بن رسول الله وكيف ندعو إليكم ونحن صموت؟ قال: تعملون بما أمرناكم به من العمل بطاعة الله وتتناهون عن معاصي الله وتعاملون الناس بالصدق والعدل وتؤدون الأمانة وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ولا يطلع الناس منكم الا على خير فإذا رأوا ما أنتم عليه عملوا أفضل ما عندنا فتنازعوا إليه)(1).

ومجتمعنا اليوم يتعرض لحملة عالمية منظمة مدعومة بأحدث التقنيات والوسائل الإعلامية كالصحف والمجلات والتلفزيون والستلايت، من أجل سلخه عن عقيدته وأخلاقه وأعادته إلى الجاهلية التي استنقذهم الله تبارك وتعالى منها، فلكي نحافظ على هويتنا الإسلامية في العقيدة والسلوك علينا أن نحشد طاقاتنا ونبتكر الأساليب والوسائل المناسبة للتصدي لتلك الحملة المنظمة، فنعّرف بعناصر شخصية المسلم ومعالمه التي تميزه عن غيره، وقد كتبت بحثاً بعنوان عناصر شخصية المسلم في آثار أهل البيت (عليهم السلام) ونُشر في كتاب نحن والغرب(2).

مواجهة التيارات الفكرية المنحرفة:

الثالثة: الوقوف في وجه التيارات الفكرية التي تنشأ من داخل المجتمع المسلم، أو تفد عليه من الخارج والتي تهدد عقيدة الأمة أوسلوكها، فعندما نشأت شبهة القول بالجبر وأن الله قد قهر العباد على أفعالهم وساهمت السلطات الحاكمة على ترويجها لتبرير ظلمهم للعباد، وقف الإمام (عليه السلام) بحزم لتفنيدها وخصص

ص: 198


1- مستدرك الوسائل: ج1 ص116.
2- أنظر خطاب المرحلة: ج1 ص305.

عدداً من أصحابه للحوار والجدال، وانتشرت كلمته التي تعبر باختصار عن مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وهي: (لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين)(1).

وكذا واجه حملات الإلحاد وإنكار الصانع لهذا الكون وقد تبناها عدد من الزنادقة والدهريين وكانوا يصرحون بها ويدافعون عنها ويطلبون من يناظرهم فيها ويستغلون موسم الحج لنشر ضلالاتهم وتسفيه عقائد المسلمين في شعائر الحج، وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يقف لهم بالمرصاد فيفحمهم ويرد كيدهم إلى نحورهم وينصر المؤمنين ويشد على قلوبهم ويعزز إيمانهم.

وكذا وقف بقوة ضد الفقهاء الذين بدأوا العمل بالقياس لاستنباط الأحكام الشرعية، وحذرهم مغبة عملهم وقال لهم إياكم أن يقف الناس يوم القيامة فيقولون قال الله ورسوله وتقولون قسنا ورأينا وقال لهم (ن السنة إذا قيست محق الدين)(2)، واثبت بطلان العمل بالقياس بموارد ثابتة من الفقه تخالف أقيستهم، ولولا هذه الوقفة الشجاعة لكانت الأحكام الشرعية الآن مخالفة تماماً لما أراده الله ورسوله بحيث تؤدي إلى محق الدين كما عبر الإمام (عليه السلام).

لنتأسى بالإمام (عليه السلام) ونواجه الشبهات الفكرية:

وتأسياً بالإمام (عليه السلام) فيجب على العلماء والمفكرين والمثقفين التصدي للشبهات والتيارات الفكرية والاجتماعية التي تهدد كيان الأمة كالإلحاد وإنكار الخالق والقول بالصدفة أو الطبيعة وكالعلمانية ودعوات تحرير المرأة التي لا تعني إلا تدمير أخلاقالمجتمع تحت هذه العناوين البراقة الخادعة، ومثل دعوات التغريب التي

ص: 199


1- الكافي: ج1 ص160.
2- السابق: ج1 ص57.

يراد منها إلحاق المجتمع الشرقي المسلم بالغربي بجميع أنماط الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية رغم البون الواسع في مرتكزات كل منهما.

تصحيح التصرفات المنحرفة:

الرابعة: التصدي لتصحيح التصرفات المنحرفة التي تنشأ عن الجهل والغرور والحماقة فمنها ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) انه قال: (قوله عز وجل «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ »الفاتحة:6، أرشدنا للزم الطريق المؤدي إلى محبتك والمبلغ إلى جنتك من أن نتبع أهوائنا فنعطب، ونأخذ بآرائنا فنهلك، فإن من اتبع هوائه وأعجب برأيه كان كرجل سمعت غثاء الناس تعظمه وتصفه، فأحببت لقائه من حيث لا يعرفني لا نظر مقداره ومحله فرأيته في موضع قد احدقوا به جماعة من غثاء العامة فوقفت منتبذاً عنهم ، متغشياً بلثام أنظر إليه وإليهم، فما زال يراوغهم حتى خالف طريقهم، وفارقهم، ولم يقر. فتفرقت جماعة العامة عنه لحوائجهم، وتبعته أقتفي أثره، فلم يلبث أن مر بخباز فتغفله فأخذ من دكانه رغيفين مسارقة، فتعجبت منه، ثم قلت في نفسي: لعله معاملة، ثم مر بعده بصاحب رمان، فما زال به حتى تغفله فأخذ من عنده رمانتين مسارقة، فتعجبت منه، ثم قلت في نفسي: لعله معاملة ثم أقول وما حاجته إذا إلى المسارقة، ثم لم أزل أتبعه حتى مر بمريض، فوضع الرغيفين والرمانتين بين يديه، ومضى وتبعته، حتى استقر في بقعة من صحراء، فقلت له: يا أبا عبد الله لقد سمعت بك وأحببت لقائك، فلقيتك لكني رأيت منك ما شغل قلبي، وأني سائلك عنه ليزول به شغل قلبي. قال: ما هو؟ قلت: رأيتك مررت بخباز وسرقت منه رغيفين، ثم بصاحب الرمان فسرقت منه رمانتين. فقال لي: قبل كل شيء حدثني من أنت؟ قلت: رجل من ولد آدم من أمة محمد صلى الله عليه وآله. قال : حدثني ممن أنت؟ قلت: رجل من أهل بيت رسول

ص: 200

الله. قال: أين بلدك؟ قلت: المدينة. قال: لعلك جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟ قلت: بلى. قال لي: فما ينفعك شرف أصلكمع جهلك بما شرفت به، وتركك علم جدك وأبيك، لأنه لا ينكر ما يجب أن يحمد ويمدح فاعله. قلت: وما هو؟ قال : القرآن كتاب الله. قلت: وما الذي جهلت؟ قال: قول الله عز وجل: «مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا»الأنعام160، وأني لما سرقت الرغيفين، كانت سيئتين، ولما سرقت الرمانتين، كانت سيئتين، فهذه أربع سيئات، فلما تصدقت بكل واحد منها كانت أربعين حسنة، أنقص من أربعين حسنة أربع سيئات، بقي ست وثلاثون. قلت: ثكلتك أمك! أنت الجاهل بكتاب الله! أما سمعت قول الله عز وجل: «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ»المائدة27، إنك لما سرقت رغيفين، كانت سيئتين، ولما سرقت الرمانتين كانت سيئتين، ولما دفعتها إلى غيرها من غير رضا صاحبها، كنت إنما أضفت أربع سيئات إلى أربع سيئات، ولم تضف أربعين حسنة إلى أربع سيئات، فجعل يلاحيني فانصرفت وتركته)(1).

وكم يوجد مثل هذا الرجل في زماننا وكل زمان حيث يقومون بأفعال يظنون أنها تقرّبهم إلى الله تعالى وهي لا تزيدهم منه إلا بعداً كالذين ينفذون التفجيرات الإجرامية وينشرون العنف فيقتلون الأبرياء ويخرّبون الممتلكات العامة تحت عنوان المقاومة وأمثالها، أو يحرصون على فعل المستحبات ويتركون الواجبات كالذي ينفق ماله في إقامة الولائم على حب أهل البيت (عليهم السلام) وهو لا يدفع ما بذمته من الحقوق الشرعية وهو بذلك يسرق حقوق مستحقيها.

ص: 201


1- الاحتجاج: ج2 ص129.

توحيد المسلمين:

الخامسة: حرصه (عليه السلام) على وحدة المسلمين والتأليف بين قلوبهم، فرغم أنه (عليه السلام) وأهل بيته ظُلِموا وغُصِبت حقوقهم إلا أنه لم يثر فتنة وسلّم لهم من أجل أن تسلم أمور المسلمين كما قال جده أمير المؤمنين (عليه السلام): (لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري ووالله لأسلِّمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّخاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه)(1).

وضربوا (عليهم السلام) لذلك مثلاً في امرأتين تنازعتا في ولدٍ كل واحدة تقول هو لي وتحيّر الخليفة الثاني في كيفية حل النزاع فالتجأ إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فما كان منه (عليه السلام) إلا أن دعا بسيفه وقال سأقطع الولد نصفين لكل واحدة نصف، فصاحت أم الولد الحقيقية لا تفعل يا أمير المؤمنين واحفظ الولد سالماً ولتأخذه المرأة الأخرى، فقال لها (عليه السلام) أنت أمه الحقيقية ودفعه إليها، فكان كل إمام يشعر أنه أم الولد وعليه أن يضحي حفاظاً لسلامة كيان الأمة من التمزق والتشتت وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: (ولدني أبو بكر مرتين)(2) تأليفاً لقلوب العامة.

الاهتمام بأمور المسلمين:

ص: 202


1- نهج البلاغة: الخطبة: 74.
2- قيل في تفسيره أن أمه هي أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وكانت في غاية الجلالة والكرامة بحيث قيل للإمام الصادق (عليه السلام) ابن المكرمة وكانت من أتقى نساء زمانها وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر (معجم رجال الحديث: 49/14، ومنتهى الآمال مج2).

السادسة: الاهتمام بأمور المسلمين وقضاء حوائجهم ومساعدة ضعفائهم بحيث يصل إلى درجة التعبير عمن لم يهتم بأمور المسلمين بأنه ليس منهم، وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يطوف بالبيت الحرام فجاء رجل إلى أحد أصحابه طالباً منه قضاء حاجة فاجله إلى حين انتهاء الطواف فلم يرض الإمام عليه وطلب منه قطع الطواف حتى يقضي حاجة أخيه المؤمن ويعود إلى طوافه، ومر المعلى بن خنيس وهو من خواص أصحاب الإمام (عليه السلام) بمسلمين يتنازعان على مالٍ فدفع منه مالاً يرضيهما ولما استغربا من عظيم صنعه، قال: والله ليس هو من مالي وإنما وضعه عندي سيدي ومولاي جعفر بن محمدللمساعدة في إصلاح الخلافات بين المؤمنين وحل نزاعاتهم.

وفي هذه السيرة المباركة دروس لكل من يلي شيئاً من أمور الرعية أن يحافظ على وحدة الشعب وزرع الألفة بينهم، وأن يتفانى في خدمتهم وتحقيق السعادة لهم.

المواقف السياسية للإمام الصادق (عليه السلام):

شهدت الفترة الأخيرة من الدولة الأموية اجتماعات عديدة كان يعقدها العلويون والعباسيون لإعلان الثورة، وقد حاولوا إقناع الإمام (عليه السلام) بالانضمام إليهم إلا أن الإمام (عليه السلام) كان يبين موقفه بوضوح بأننا لسنا طلاب دنيا وليس لنا مطامع في السلطة، وإنما نريد الإصلاح وتهذيب النفوس وتكاملها ورقيها وهو ما يجب أن نعمل لأجله ومن دون وصول الأمة إلى مستوى رفيع من التربية الإيمانية لا يمكن أن تنجح فيهم سيرة الإمام (عليه السلام) في الحكم بين الناس.

وعندما كتب إليه أبو سلمة الخلال أحد قادة جيوش العباسيين التي أطاحت بالأمويين يعرض عليه الدعوة إليه بعدما تكشفت له نوايا القوم بالاستئثار بالسلطة

ص: 203

دون العلويين، قال الإمام (عليه السلام): (ما أنا وأبو سلمة وهو شيعة لغيري)(1)، ثم قال لخادمه: (أدن السراج مني) فأدناه منه فوضع الكتاب على النار حتى احترق بكامله، فقال له الرسول: ألا تجيبه؟ قال له الإمام (عليه السلام: (قد رأيت الجواب)(2).

ولما جاء أبو مسلم الخراساني قائد جيوش العباسيين يعرض عليه تسليم الأمر إليه بعدما أحس بخيانة العباسيين الذين بنوا حركتهم على الدعوة إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قال (عليه السلام): (ما انت من رجالي، ولا الزمان زماني)(3).

التصدي للسلطة وسيلة لإحقاق الحق:

فالتصدي للسلطة عند الإمام (عليه السلام) وسيلة لإحقاق الحق وإقامة شريعة الله تبارك وتعالى، وليست شهوة وغاية في نفسها، فلذا نأى بنفسه عن الخوض في هذه الحياة بل تركها لأهلها الذين رضوا بهذه الدنيا الدنية ثمناً لدخولهم نار جهنم، وتفرغ هو لبناء النفس المطمئنة والقلب السليم والمجتمع الإسلامي النظيف.

الاستفادة من زخم الثورات من غير الاندفاع فيها:

ولكنه (عليه السلام) كان يرى أن بعض الثورات التي تنطلق بين حين وآخر بقيادة العلويين كزيد الشهيد وبني الحسن (عليه السلام) كانت مخلصة وضرورية

ص: 204


1- موسوعة الإمام الصادق (عليه السلام) للقرشي: ج9 ص90.
2- موسوعة الإمام الصادق (عليه السلام) للقرشي: ج9 ص91.
3- الملل والنحل: ج1 ص241، عن السابق: ج9 ص94.

لإبقاء إرادة الأمة حية ولتعميق وإدامة رفض الظلم والظالمين، وهو (عليه السلام) وإن لم يتبناها بشكل مباشر وحرص على أن لا يدان بشيء متصل بها إلا أن تعاليمه وخطه الفكري والتربوي والأخلاقي كان يصب في إشعال هذه الثورات، لذا كانت السلطات تعتبره المرشد لها وكان (عليه السلام) يقول: (لا زالت أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد)(1) أي الثوار الرافضون لظلم الطواغيت ويقول: (ولوددت أن الخارجي من آل محمد خرج وعلي نفقة عياله)(2).

فهو وإن لم يكن يرى أن المقاومة المسلحة هي الحل الأمثل لبناء الأمة، إلا أنه يراها قوة له وتصب في مصلحة الإسلام العليا.

وكتب (عليه السلام) رسالة تفصيلية إلى عبد الله المحض وأخوته وأولاده وبني عمومته من بني الإمام الحسن (عليه السلام) بعد أن اعتقلهم المنصور العباسي في الهاشمية للضغط على ولديّ عبد الله محمد النفس الزكية وإبراهيم أحمر العينين حتى يتركا الثورة ويستسلما، وضمَّنَ الرسالة كل معاني المواساة والصبر والمصابرة والتسلية.

وحينما قتل قائد شرطة الوالي العباسي على المدينة مولاه المعلىبن خنيس، قصد مقر السلطة بنفسه على غير عادته وطالب بالاقتصاص من القاتل وبعد محاولات عديدة للتخلص من الموقف، قابلها الإمام (عليه السلام) بالإصرار على إقامة العدل استسلم الوالي وقدم الجاني للقصاص.

حق الإمام الصادق (عليه السلام) على الأمة:

بهذه النشاطات الكبيرة والمتعددة التي كان يؤديها الإمام (عليه السلام) نجح

ص: 205


1- بحار الأنوار: 172/46.
2- الوسائل: ج15 ص54.

في إدامة الروح الدينية في الأمة وتوعيتها، وبناء الأسس الرصينة لشخصيتها، لذا حظيّ بتقدير الأمة بجميع طبقاتها وصدرت منهم أعلى كلمات الثناء والإطراء، قال مالك بن أنس أحد أئمة المذاهب (ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً) وقال فيه أبو حنيفة (ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد) وقال ابن أبي العوجاء –من زعماء الملحدين- عندما قصد الإمام الصادق (عليه السلام) ليناظره وقد قال له الإمام: ما يمنعك من الكلام، فقال له: إجلالاً لك ومهابة منك ولا ينطق لساني بين يديك وإني شاهدت العلماء وناظرت المتكلمين فما تداخلني من هيبة أحد منهم مثلما تداخلني من هيبتك يا ابن رسول الله، وكان المنصور على شدة عداوته للإمام (عليه السلام) يقول: إن جعفر بن محمد من السابقين بالخيرات ومن الذين اصطفاهم الله من عباده وأورثهم الكتاب.

وظيفة وكلاء المرجعية

وظيفة وكلاء المرجعية(1)

بسمه تعالى

إلى سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)من المشاكل المهمة التي نحس أن لها واقع وموجودة فعلاً ولها دور في إضعاف الصوت الإسلامي وإلقاء الفتنة في أوساط المجتمع تلك التي تتعلق بوكلاء المرجعية ومن يحيطون بهم فنرجو الإجابة عن هذه الأسئلة التي تمثل بعض المشاكل:

ص: 206


1- نشر على الصفحة الرابعة من العدد التاسع من صحيفة الصادقين الصادرة بتأريخ 3 ذ.ق 1425 الموافق 16 كانون الأول 2004.

أولاً: ما هو الدور الأساسي للوكيل.

ثانياً: هل يعتبر الوكيل قيادة مصغرة للمرجعية كما يعتبره البعض.

ثالثاً: ما هو رأيكم بمن يجعل قيادات مصغرة في نفس خط المرجعية التي يقلدها فيصنعون قيادات يكنون لها الولاء إلى حد أنهم لا يصلون وراء غيرها.

بسمه تعالى

وكيل المرجعية واسطة بينها وبين الأمة يوصل إليهم فتاواها وأوامرها وتعاليمها ومواقفها تجاه القضايا المختلفة ويعمل على تربية الأمة في الاتجاه الذي تحدده المرجعية، إضافة إلى مسؤولياته غير المرتبطة بالوكالة وهي تبليغ الأحكام وتعليم الناس وتهذيب نفوسهم بالموعظة والإرشاد وإقامة الشعائر الدينية، وإنما يكتسب قيمته من مقدار تطبيقه لتوجيهات المرجعية وطاعته لها وفهمه لمنهجها، كما أن المرجع نفسه يكتسب قيمته من مقدار طاعته لله تبارك وتعالى وإخلاصه وحرصه على الأمة.

محمد اليعقوبي

21 شوال 1425 الموافق 2004/12/4

ص: 207

الفصل الثامن:كيف نعيد لصلاة الجمعة بريقها

اشارة

ص: 208

كيف نعيد لصلاة الجمعة بريقها

كيف نحمي شعيرة صلاة الجمعة؟

نُقل لي وتؤيده بعض الشواهد أن توجه الناس إلى الشعائر الدينية اقل مما كان في زمن النظام المهزوم، وحتى صلاة الجمعة المباركة التي كان يتوقع لها أن تكون أمضى سلاح في عملية التغيير والتربية والإصلاح لم يعُد لها ذلك البريق والجاذبية الروحية التي كنّا نحسّها حين أقامها السيد الشهيد الصدر (قدس سره)، وكانت من أعلى درجات المواجهة مع الطغاة، وكان المفروض زيادة عدد المصلين الآن بعد زوال المانع من الحضور ومشاركة عدد من الجهات المرجعية في دعمها وإقامتها.

لكن الذي حصل هو انحسار عدد المصلين ولا نجد فيهم ذلك الحماس الجماهيري والروح الثورية التي كانت تتدفق من المؤمنين وهم يزحفون بشجاعة وصبر إلى محاّل أقامتها فلماذا حصل هذا وكيف نحمي الشعائر المقدسة من هذه التداعيات التي تقلل من تأثيرها، في تحقيق أهدافها وهي تزكية النفوس وتطهير القلوب ولمّ الشمل وتقوية الصف وعزة الدين والمذهب وتحقيق وحدة الموقف بإزاء القضايا المصيرية.

عدم الشعور بعنصر التحدي:

وإذا استقرأنا الواقع ودرسناه برؤية تحليلية عميقة فسنجد لذلك أسباباً ومناشئ يكون تشخيصها والتعرف عليها الخطوة الأولى، والمهمة في وضع الحلول المناسبة، إلا أنني أودّ الإشارة إلى أحد تلك الأسباب، وهو عدم شعور الناس بعنصر التحدي والمواجهة بإقامة هذه الصلاة، بعكس ما كان في زمن النظام المقبور حيث كان كل مصلَّ يشعر بحضوره ومشاركته في هذه الشعيرة أنه يسجل موقفاً معارضاً للسلطة ورافضاً لوجودها

ص: 209

ومتحدياً لأساليبها وأعمالها الوحشية في القمع والمنع، وهذا الشعور كان يدفع الكثيرين للحضور والتضحية من أجل المشاركة بكل شيء حتى النفس ولا يُنكر أثر هذا الحافز في التحرك والفعالية والهمة والنشاط وهذا واضح ومجرب فمثلاً الطالب عليه أن يحضّر الدرس من قبل تلقيه والمدرس عليه التحضير كذلك قبل إلقائه،لكن اهتمام المدرس بذلك أكبر لوجود تحدي من قبل الطلبة، إذ ربما يسأله أحدهم أو يعترض وتشكل عليه فيستعد المدرس ليكون بمستوى هذا التحدي، بعكس الطالب الذي وظيفته التلقي، نعم إذا توقع الطالب امتحاناً فإنه سيشكل له تحدياً وسيدفعه إلى بذل الجهد.

معرفة العدو:

وقد التفتت القوى المستكبرة إلى هذه النقطة لذا فإنها توجّه شعبها دائماً نحو عدو سواء كان حقيقياً أو وهمياً لكي تقنعه بمخططاتها ومشاريعها التي لولا هذا التحفيز باتجاه العدو لما وجدت الشعب متجاوباً معها ومؤيداً لها فلا يتحمس لتنفيذها فقضوا عشرات السنين في حرب باردة مع الاتحاد السوفيتي وكلما احتاجوا إلى تمرير أمر على شعوبهم سخنوا هذه الحرب وهوّلوا من أخطارها ونشروا القلق والرعب من مستقبلها، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وجدوا في الإسلام عدوهم الجديد الذي يحشّد الناس من ورائهم فضخّموا من خطورة هذا العدو ونعتوه بأوصاف مقززة ومثيرة للاشمئزاز والكراهية والنفور، واستطاعوا بذلك إقناع شعوبهم بأمور مخالفة للمبادئ التي يؤمنون بها، فخصصوا زيادات بمليارات الدولارات للميزانية العسكرية، وسنّوا قوانين منافية لحقوق الإنسان التي يتشدقون بها، وأجازوا لأنفسهم الحرب الاستباقية والتدخل في شؤون البلدان الأخرى تحت ذرائع شتى ومصادرة أرادة الشعوب

وحينما جاؤوا إلى هنا أباحوا كل شيء وسمحوا بحرية الصحافة والنشر وإقامة الشعائر، واندفع الجميع نحو التمتع بهذا الحق فالكل يكتب والكل ينشر والكل يتحدث ويتكلم والكل يتدخل في السياسة من غير رؤية واضحة وعمل منظم وتوزيع دقيق

ص: 210

للمسؤوليات، حتى لم يبق قارئ حينما تكتب ولا مستمع حينما تتحدث ففقدت الكلمة بريقها وتأثيرها وصار الكثير منها ينطلق في فراغ.

وهكذا صلاة الجمعة والجماعة وإقامة المجالس الحسينية لم يعد يشعر الفرد بأهمية لإقامتها والمشاركة فيها بعد أن أصبحت في متناول الجميع أو قل إن الدوافع الموجودة غير كافية لتحقيق الحماس والاندفاع الكافيين.

محاولة أعداء الإسلام تمييع الشعائر الدينية:

وحصول هذا الشعور خاطئ بل خطير وقد اتضح ذلك من خلال الشواهد التي ذكرناها أول الكلام فلابد من توعية الأمة باتجاهه، وهنا يمكن إثارة عدة نقاط:-

الأولى: إن هؤلاء الذين جاءوا ليحررونا بزعمهم ويعطونا الفرصة الكاملة لممارسة شعائرنا لا يحبّون هذه الشعائر ويخافون منها ومن تأثيرها، ويعملون على منعها والحد منها، لكن بأساليب مختلفة ومنها أنهم يتركون فرصة العمل للجميع ويبقون هم مراقبين ليتعرفوا على الشكل المناسب لمواجهتها، فوجدوا مع الأسف أن هذا كافٍ لتمييعها وإفراغها من محتواها وإعراض المجتمع تلقائياً عنها بسبب سوء التطبيق والاستفادة من هذا الحق فتصدى الجميع لإقامتها من دون مراعاة لشروط الصحة بالنسبة لصلاة الجمعة، وأصبحت سبباً للفرقة والتنازع وصار هذا الموقع الشريف مثاراً للحسد والتباغض والتقاطع، فتحملّت هذه الشعيرة المباركة آثاراً سلبية بسبب عدم الوعي في الاستفادة منها وتوظيفها في الاتجاه الصحيح، فعلى جميع الأطراف أن يعيدوا النظر في طريقة أداء هذه الفريضة الإلهية ويفكروا في الطريقة المثلى لإعادة رونق هذه الفريضة وتأثيرها العظيم في النفوس والقلوب، لتكون كما أريد لها الأداة الأقوى في مواجهة التحديات الفكرية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية وغيرها.

فهذا هو العنصر الأول من التحدي الذي يمكن أن يعيد لهذه الفريضة مكانتها وهو إفشال مخطط الأعداء في تمييعها وتفريغها من محتواها ويجعلها أداة للفرقة والاختلاف بدلاً

ص: 211

من الوحدة والشعور بالعزة والقوة.

الالتفات الى العدو الداخلي (النفس المارة بالسوء):

العنصر الثاني: من التحدي هو اتجاه النفس الأمارة بالسوء فإن الأعداء الخارجيين الذين نتحمس لمواجهتهم مهما ضعفوا وانهزموا أو تلاشوا يبقى العدو الأول الذي نحمله في داخلنا وهي النفس الأمارة بالسوء التي تدعوا إلى اتباع الشهوات وإشباع الغرائز بأي وسيلة كانت ولو كانت محرمة، وتورث عذاب الله الأليم وتميل إلى الراحة والدعة والسكون وعدم الامتثال لأوامر الله تبارك وتعالى حتى جاء في الحديث الشريف (اعدي أعدائك نفسك التي بين جنبيك)، وحتى سمي الوقوف في وجه اندفاعة النفس للشهوات وتحقيق الرغبات بالجهاد الأكبر، في حين إن جهاد الأعداء الآخرين بكل ما يمتلكون من قوة وعدة وعدد هو جهاد أصغر لأن الأول دائمي ومستمر ولأنه يخفىعلى غير البصير الذي وفقه الله تبارك وتعالى ونال ألطافه، ولأنه صعب عسير التحمل ولأنه ضد مشتهيات النفس بينما يمكن أن يكون الآخر موافقاً لها لما فيه من سمعة ورياء وامتيازات أخرى تحببه إلى النفوس فهذا هو التحدي الثاني الذي نواجهه ويولد فينا الحماس والاندفاع للمشاركة في العبادات والطاعات بأوسع أشكالها وذلك لقهر النفس وتهذيبها وترويضها لتأتي آمنةً يوم الفزع الأكبر على تعبير أمير المؤمنين (عليه السلام).

فالالتفات إلى هؤلاء الأعداء وما تتطلبه مواجهتهم من عمل دؤوب سيعيد هذه الشعائر الإلهية إلى مكانتها السامية وهي مسؤولية الجميع أئمة ومأمومين.

أسال الله تعالى أن يبصّرنا وإياكم طريق الحق ويأخذ بأيدينا للسير عليه إنه ولي النعم.

ص: 212

كيف ينجح إمام الجمعة في أداء وظيفته

اشارة

كيف ينجح إمام الجمعة في أداء وظيفته (1)

عوامل نجاح خطيب الجمعة:

يشعر أئمة الجمعة المباركة أن إقبال الناس على الشعيرة المباركة قد ضعُف ولم يعودوا يتحمسون لها كما كانوا في زمان السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وأنها فقدت الكثير من قوة التأثير.وقد تحدّثنا عن هذه الحالة في أكثر من مناسبة سابقة وشخصّنا جملة من أسبابها، ونشير هنا إلى عدد من العوامل التي تنجح أداء إمام الجمعة بلطف الله تبارك وتعالى وبعضها يعود إلى الناس وبعضها يعود إليه.ومنها

1- التذكير بين فترة وأخرى بالأحاديث الشريفة الدالة على فضل صلاة الجمعة وثواب من يحضر إليها بحيث يقال لمؤديها ارجع مغفوراً لك، وأنّه ما من قدمٍ سعت إلى الجمعة إلا وحرّمها الله تبارك وتعالى على النار وغيرها كثير مع ما دل على وجوب الحضور إليها، وأنها ليست نزهة أو سفرة اختيارية حتى يتخلف عنها المسلم برغبته، وإنما هي فريضة يعاقب تاركها بالنار ولا يعذر المكلف بهذه الأعذار الواهية التي نسمعها كعدم حسن إلقاء الخطيب أو عدم ثورية خطابه ونحوها.

2- أن يكون إمام الجمعة قريباً من الجميع على مسافة واحدة فلا ينحاز إلى أحد أو فئة وليشعر الجميع أنهم سواء عنده وإذا أحسَّ من أحد أنه يشعر بداّلةٍ عليه فليبعده وليعّرفه انه ليس اقرب من غيره ويمنع وجود الحواشي المقربين حوله فإنهم حجاب بينه وبين الناس وينفّرون الآخرين منه.

ص: 213


1- من حديث سماحة الشيخ مع ثلة من أئمة الجمعات بمناسبة الذكرى العاشرة لإقامة أول صلاة جمعة في زمن السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) والتي تزامنت مع ذكرى ميلاد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء في العشرين من جمادي الثاني عام 1428 المصادف 2007/7/6.

3- أن يترفع إمام الجمعة عن الخوض في الدنيا حتى المحلل منها إذا كان منافياً للمروءة كما عبّرت الكتب الفقهية فإن الخوض مع الخائضين يذهب بهيبته وانقياد الناس إليه. وعليه أن يعرف قدسية الموقع الذي تصدى إليه بحيث يصفه الإمام السجاد (عليه السلام) في دعائه ( اللهم إن هذا مقام خلفائك وأصفيائك ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها).

4- أن يتابع شؤون المجتمع ومجمل القضايا التي تحيط به ويناقشها ويوجّه الأمة بالاتجاه الصحيح إزائها حتى يشعر الناس بالحاجة إلى منبره لأنه سيكون البلسم الذي يشفي جراحهم والأمل الذي يمدّهم بالحياة والنور الذي يضيء لهم درب الهداية والإصلاح، وهذا يتطلب منه التواصل مع مرجعيته وفهم خطاباتها وأحاديثها ويتعلم منها متابعتها للأحداث وبيان المواقف منها، وبذلك يعطي لمنبر الجمعة حيوية وديناميكية تشد المستمعين إليه وتجعلهم لا يستطيعون التخلف عنه.

5- أن يتميز خطاب الجمعة بالتنوع لان أذواق الحاضرين شتى وتوجهاتهم مختلفة ورغباتهم متنوعة فلا يجعل نفسه حبيساً لمنهج واحد ومضمون ثابت، فإذا تنوعت المادة التي يضّمنها خطبه فانه سيلبّي حاجةالجميع ولا يشعر أحدهم بالملل والرتابة، بل يحس الحاضرون أنهم يحصلون على بغيتهم وعلى الجديد في كل خطبة.

6- إذا تطرقتم للنقد وبيان الاستياء من حالة معينة فاجعلوا حديثكم منصباً على تلك الحالة لا على الأشخاص لكي لا يُصَّور النقد على انه مشكلة شخصية ونحن لا مشكلة لنا مع الأشخاص بل مع الحالات السيئة فننتقدها وندعو إلى إصلاحها، أما الايجابية فنشيد بها وندعهما ونكرّمها، أما توجيه النقد مباشرة إلى الأشخاص فانه يعطي فرصة لخلط الأوراق على الناس وتقليل تأثير النقد بتحويلها إلى عداء شخصي.

7- أن يقرن الواعظ العلم بالعمل فيطبق ما يدعو إليه ويجتنب عما نهى عنه ويعكس في سلوكه التعاليم السامية للإسلام العظيم بكل ما يزخر به من مبادئ إنسانية

ص: 214

عليا، وفي هذا الصدد ورد عن أمير المؤمنين (ما أمرتكم بطاعة إلا كنت أول من يقوم بها، ولا نهيتكم عن معصية إلا كنت أول من يجتنبها).

8- أن تتوفر في الإمام كل الصفات والملكات التي ينبغي توفّرها فيه وقد أشرنا إليها في كتاب (وصايا ونصائح إلى الخطباء وطلبة الحوزة العلمية) وغيره.

ص: 215

الخطاب الديني وتأثير الإعلام المعاصر

اشارة

الخطاب الديني وتأثير الإعلام المعاصر(1):

اشكالية العصر والخطاب الملائم له:

نشير هنا الى اشكالية موجودة ونحن نتلمسها بوضوح وهي عدم ارتقاء مستوى التبليغ والتوعية بأمور الدين إلى ما يناسب التحديات المتصاعدة والقوية والمنوعة لا من حيث الخطاب ولا من حيث الآليات ولا من حيث القدرات الذاتية والمؤسساتية.

وهذا الكلام ليس موجّهاً إلى الحوزة العلمية فقط بل إلى كل المؤمنين خصوصاً الشباب الرساليين، لأن وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شاملة للجميع، ولقد كان الخطاب الديني –بغض النظر عن مستواه- هو المصدر الأساسي لثقافة الناس والمؤثر في توجيههم بلا منافسة تذكر من أحد وكانت المساجد والمنابر والكتب والاستفتاءات هي القنوات التي يستقي منها الناس معارفهم وهي كلها منافذ تطل منها الحوزة العلمية على الأمة، لذا لم تكن صناعة الرأي العام تحتاج إلا إلى سطر واحد بل نصف سطر لخلق موقف موحد تجاه قضية معينة كتحريم السيد الشيرازي لاستعمال التبغ في نهاية القرن التاسع عشر أو فتوى الشيخ الشيرازي بوجوب الجهاد ضد الاحتلال الإنكليزي في ثورة العشرين أو فتوى المرجعية بوجوب المشاركة في الانتخابات عام 2005 لبناء عملية سياسية صحيحة في العراق.أما اليوم فقد تنوعت مصادر الثقافة المؤثرة على صناعة الرأي فأصبحت الفضائيات وشبكة الإنترنت والمجلات ونحوها من وسائل الإعلام تنافس الخطاب الديني وتزاحمه وتحاول القضم من مساحة تأثيره. مما يوجب على الحوزة العلمية وجميع أبناء الحركة

ص: 216


1- ورد هذا المقطع قبل ذلك في حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع العاملين في إذاعة سبل السلام التي تبث برامجها من مدينة الناصرية يوم 2 شعبان 1429 المصادف 2008/8/4.

الإسلامية أن يحدّثوا في خطابهم وآليات عملهم ليحافظوا على قوة تأثيرهم لهداية الناس وإرشادهم إلى ما يصلحهم في دنياهم وآخرتهم «إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصلاح مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا باللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» (هود: 88).

تحديث آليات العمل الإسلامي:

وأذكر مثالين لتنويع الآليات للإشادة بهما:

1- المسرح الجوّال: حيث قام نخبة من العاملين بإنشاء مسرح ينقلونه من مكان لآخر يعرضون من خلاله مسرحيات تصوّر السيرة العطرة لأهل البيت (سلام الله عليهم أجمعين) وأخرى تجسد الأخلاق الفاضلة أو تحذّر من حالة سيئة وتبيّن آثارها الخطيرة بأساليب قصصية جذّابة مما يؤثر في تلقي وقبول المشاهدين أكثر من التأثّر بسماعها في المحاضرات، وتنشر الأعمال الناجحة منها على الجمهور من خلال الأقراص، وقد بلغني الرواج الذي لاقاه قرص «رَبّ ارجِعُونِ».

2- قدّم أحد الفضلاء في مدينة العمارة مقترحاً بتنظيم درس فقهي لرؤساء العشائر يشرح فيها المسائل الابتلائية التي يتعرضون لها من خلال إدارتهم لشؤون عشائرهم كالفصل والنهوة وغيرها، وشجّعته على المشروع، وأن تعقد الدروس في مضايف رؤساء العشائر أنفسهم تكريماً لهم وإعزازاً لشأنهم بشكل دوري وتُعرض فتاوى جميع العلماء الذين يرجع إليهم هؤلاء الرؤساء بالتقليد فلاقت الفكرة استحساناً وتأييداً لدى أكثرهم واستمرت الدروس طيلة شهر رمضان المبارك بهمّة ورغبة مما شجّع غيرهم على الانضمام إليها وطالبوا بمواصلة هذه الدروس لما وجدوا فيها من النفع والعزة والكرامة.

وأنا أحيي من هذا المنبر كل الذين ساهموا في إنجاح هذه المشاريع المباركة، وغيرها مما لم أذكر وهي لا تقل إبداعاً وهمّة عن هذين المشروعين.

ص: 217

أيها الأحبة:

روى أبو الصلت الهروي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: (رحم الله عبداً أحيى أمرنا، قلت: كيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلم علومنا، ويعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا)(1).

فما علينا إلا أن نحسن كيفية إيصال صوت الحق والهداية والصلاح إلى الناس، ونشعرهم بالحاجة إلينا، فما داموا مستغنين عنّا ولا يحتاجوننا فإنهم يعرضون عنّا ولا يلتفتون إلينا، ومتى يحتاجون إلينا؟ عندما يجدون عندنا ما لا يجدونه عند غيرنا، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (أحسِنْ إلى من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره) وهما معنيان متقابلان فالحاجة إليك هي أن يجد عندك القدرة على الإحسان إليه عندئذٍ ستصلح أن تكون إماماً وأميراً له. فعلى المبلّغ الرسالي أن يوفّر للناس ما يحتاجونه ولا يجدونه عند غيره من العلم والمعرفة وفضائل الأخلاق والسير على نهج أهل البيت (سلام الله عليهم)، لاحظ مثلاً أن خطيباً يرتقي المنبر ويدخل في مهاترات سياسية وتصفية حسابات شخصية أو حزبية مع آخرين، وآخر يتحدث في الموعظة ونشر أحكام الدين ويجعل بعض الأحداث السياسية شواهد وموارد لأخذ العظة والعبرة، فإن الناس لا تتفاعل مع الأول لأن هذا الكلام تجده مبذولاً ومملولاً لكثرة السياسيين الذين يتعاطونه، أما الثاني فيصغون إليه لأنهم يحصلون منه على شيء لا يجدونه عند غيره وهو الفقه والموعظة والأخلاق والعقائد ونحوها.

وصايا لإنجاح العمل الرسالي

وصايا لإنجاح العمل الرسالي(2):

ولكي تنجح في عملك الرسالي فإليك جملة وصاياً مضافاً إلى ما سبق:

>>حبب نفسك إلى الناس بالكلمة الطيبة والمواقف النبيلة وشاركهم في أفراحهم

ص: 218


1- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 8، ح52.
2- ورد هذا المقطع قبل ذلك في حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع عدد من فضلاء مدينة النجف الأشرف يوم 30 شعبان 1429.

وأحزانهم واهتم بما يهتمون به لا فرق بين صغير أو كبير، غني أو فقير، وجيه معرّف أم مجهول من عامة الناس، واسعَ في قضاء حوائجهم بمقدار ما تستطيع، وإن لم تستطع فتعاطف معه وتفاعل مع قضيته.

>>وتنزّه عما في أيدي الناس واستغنِ عنهم ولا تنتظر منهم جزاءً ولا شكوراً.

>>وترفّع عن التحزب والتعنصر لجهة سياسية أو دينية أو عشائرية أو اجتماعية.

>>وادعُ إلى الحق والعدل، واجعل هدفك رضا الله تبارك وتعالى.

>>والاهتداء بسنة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله الأطهار (عليهم السلام).

ص: 219

الخطاب الديني لا يكون مؤثراً إلا إذا حرك كل العوالم المكونة لشخصية الإنسان

الخطاب الديني لا يكون مؤثراً

إلا إذا حرك كل العوالم المكونة لشخصية الإنسان(1)استقبل المرجع الديني سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دامت تأييداته) مساء الخميس 26 شوال 1425 وفداً من مثقفي البصرة الرساليين بينهم حوالي عشرين طبيباً، وبعد أن ألقى ممثل الوفد كلمة تعرّض فيها لتخبط عدد كبير من الناس بسبب عملهم برأيهم وعدم الالتزام بخط المرجعية الرشيدة، واستشهد خلالها بكلمات شريفة لأمير المؤمنين (عليه السلام) يتعجب فيها من مثل هؤلاء الناس حيث أصبح كل واحد منهم إمام نفسه حسب تعبير الإمام (عليه السلام)، وبعد انتهائه قدم الإخوة الأطباء ملفاً يتضمن عشرات الأسئلة التي تتعلق بمهنتهم الجليلة، وطلبوا من سماحة الشيخ أن يضع لهم دليلاً شرعياً لعملهم في ضوء إجابته عن هذه الأسئلة لخلو المكتبة الإسلامية من مثله.

وبعد أن وعدهم سماحة الشيخ خيراً بمقدار ما يلطف الله تبارك وتعالى(2)

به، بدأ حديثه من هذه النقطة فقال توجد عدة كتيبات وكراريس تناولت مثل هذا الموضوع أحدها لسيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني(قدس سره) إلا إنكم تبحثون عن نمطٍ آخر من الإجابة تعودتموه منا لا يقتصر على الإجابة الفقهية فقط، وإنما يعطي للمسألة أبعادها الأخلاقية والاجتماعية والعلمية وهي طريقة قرآنية لمعالجة قضايا وهموم وتطلعات البشرية فإنه لم يكتفِ ببيان الأحكام الشرعية وإلا لما احتاج إلى أزيد من خمسمائة صفحة وكانت تكفيه عدة صفحات لذكرها إلا إن الله تبارك وتعالى خالق الإنسان يعلم إن هذا المقدار من البيان غير كاف لتحريكه نحو الامتثال، وإنما لا بد من إثارة الحوافز والدوافع في جميع

ص: 220


1- نشر على الصفحة الثانية من العدد التاسع من صحيفة الصادقين الصادرة بتأريخ 3 ذ.ق 1425 الموافق 16 كانون الأول 2004.
2- صدرت هذه الأجوبة في حلقات تحت عنوان (في محراب الطب والأطباء).

عوالم و أبعاد الإنسان الجسد والنفس والعقل والروح فالإنسان ليس هذا الكيان المادي المحسوس و إنما هو كيان واسع لذا قيل فيه:

أتحسب انك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر

وإن ذلك الطبيب الغربي على حق حين سمى كتابه (الإنسان ذلك المجهول).

والذي انطلق منه الدكتور(خالص جلبي) ليكتب رسالة الدكتوراه في الطب بعنوان (الطب محراب الإيمان) في جزئين، صدر في بداية السبعينات من القرن الماضي حينما كانت حركة الربط بين العلم والدين في قمة نشاطهافصدرت كتب (العلم يدعو إلى الإيمان) (التكامل في الإسلام) (الله يتجلى في عصر العلم) وغيرها.

وبعد أن استعرض سماحة الشيخ أسباب نمو هذه الحركة عاد إلى أصل الحديث قائلاً إننا إذا أردنا تحقيق السعادة للإنسان فلا بد أن نلبي حاجة كل هذه العوالم فإن السعادة إنما تتحقق بتحقق ما يلائم، والإنسان ليس جسداً فقط حتى تتحقق سعادته بتوفير المتع واللذائذ الحسية كالطعام والجنس والمأوى المريح، فإن كثيراً من أمم الغرب تجد لها حياة مترفة ومملوءة بالمتع ومع ذلك هم أكثر الناس انتحاراً لأن أرواحهم وقلوبهم خاوية لم تجد ما يصلحها ولا تتحقق السعادة إلا بتوفير الأجواء الملائمة لجميع مكونات الإنسان.

ثم انتقل سماحة الشيخ إلى الحديث عن المسؤولية الكبيرة الملقاة على أبناء البصرة التي لا تتحمل مسؤولية نفسها فقط وإن كانت ليست بالقليلة لأن البصرة تمتلك عناصر و مقومات دولة قوية وثرية وهي - إضافة إلى ذلك - تتحمل مسؤولية الارتقاء بمستوى المحافظات الأخرى فكرياً ودينياً واقتصاديا ثم أشار سماحة الشيخ (دامت تأييداته) باختصار إلى هذه المسؤولية.

ثم نبّه سماحته إلى ضرورة تفعيل دور خطب أمير المؤمنين الموجودة في نهج البلاغة في تربية الأمة وتوعيتها من خلال الندوات والمحاضرات والمنبر الحسيني فإن فيها حياة القلوب والعقول، وأبدى أسفه لابتعاد مدرسة الخطابة الحسينية عن نهج البلاغة عكس ما كان عليه السلف الصالح حيث كانت خطب الإمام (عليه السلام) مادة أساسية

ص: 221

لمجالسهم وكانوا يحفظون عدداً وفيراً منها، واستشهد سماحته بما نقله جده لأبيه الشيخ محمد علي اليعقوبي في كتابه البابليات عن الشيخ مهدي وهو جده لأمه أنه كان يحفظ ثلاثة أرباع نهج البلاغة.

ص: 222

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.