المراقبات في أهم الشهور و الأوقات
الكاتب: آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي
لسان: العربية
الناشر: دار الصادقين - النجف اشرف - العراق
سنة النشر: 1435 هجري قمري|2014 میلادي
ص: 1
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 3
ص: 4
المراقبات في أهم الشهور و الأوقات
ص: 5
ص: 6
ص: 7
ص: 8
المشارطة والمحاسبة في أول السنة وآخرها وإحياء الشعائر الحسينية(1)
آليات للوصول الى الاستقامة:
ذكر علماء الأخلاق ثلاث آليات للوصول إلى الاستقامة والثبات عليها التي ندعو الله تبارك وتعالى بالهداية إليها يومياً في صلواتنا، وهي المشارطة والمراقبة والمحاسبة، فالأولى قبل العمل والثانية أثناء العمل والثالثة بعده.
ولنوضّح الفكرة بتطبيقها على مفردة في حياتنا وهو اليوم والليلة، فعندما يقوم الفرد من نومه صباحاً يشارط نفسه على أن لا يفعل إلا خيراً وطاعة ويجتنب كل ما يسخط الله تبارك وتعالى ويتعهد أمام الله تعالى بأن يبذل ما بوسعه لتحقيق ذلك فهذه هي المشارطة.
ثم يأتي دور المراقبة أثناء الفعاليات اليومية بالالتفات إلى كونها مطابقة للشريعة ولا يغفل عن شيء منها، وهكذا في كل مفردات حياته وبرنامجه اليومي وتكون المراقبة أكمل لو لاحظ حتى المستحبات والمكروهات، فيؤدي الأولى ويجتنب الثانية، والمراقبة المستمرة تضمن هذه المطابقة والموافقة.
وبعد انتهاء اليوم يأتي دور المحاسبة ليراجع نفسه وما قدّمت خلال اليوم، فإن وجد عملاً صالحاً شكر الله تعالى وسأله القبول والزيادة، وإن وجد سيئة استغفر الله تعالى وعقد العزم على عدم العودة بالاعتصام بالله تبارك وتعالى.
ص: 9
وإذا التزم الإنسان بهذه الآليات الثلاث فإنه سيقلّل الفجوات التي ينفذ منها الشيطان فيوقعه في الخطأ، والمطلوب الالتفات إليها يومياً، ولكن هذه المحطات اليومية تتعرض للغفلة والقصور والتقصير لذا أضيفت إليها محطات أخر.
إذ يظهر من آداب الشريعة إن الأسبوع والشهر والسنة لها أيضاً كيانات وشخصيات غير كيان اليوم، ولكل واحد منها التزاماته وتطبيق الآليات الثلاث عليه لتكثيفها وغلق المزيد من فرص الغفلة وغلبة الهوى والشيطان, فتوجد مثلاً للأسبوع محطة تجديد ومراجعة وانطلاق للأسبوع المقبل يوم الجمعة منها صلاة ركعتين بالحمد مرة والتوحيد سبعاً لكل منها ثم دعاء من سطر(1) واحد ليوم الجمعة بين الظهر والعصر وصلاة جعفر الطيار ضحى يوم الجمعة(2) وللشهر مثل ذلك من خلال صلاة أول الشهر بالحمد مرة والتوحيد ثلاثين في الأولى، والحمد مرة والقدر ثلاثين في الثانية. فإذا أتمّها تصدق بما تيسّر فإنه يشتري بذلك سلامة الشهر.
وفي ضوء هذا المنهج توجد صلاة(3) في اليوم الأخير من ذي الحجة باعتباره
ص: 10
اليوم الأخير من ذي الحجة باعتباره اليوم الأخير من السنة على المشهور يكون بمثابة مراجعة ومحاسبة ووقفة تأمل فيما صدر من العبد خلال العام، ونقطة انطلاق جديدة لعام جديد، فيسأل الله تعالى أن يغفر له ما سلف في عامه المنصرم وأن يعينه على ملأ الصحائف البيضاء للعام الجديد بما يرضي الله تبارك وتعالى، فإن العبد هو الذي يملي على الملكين ما يكتبان في صحيفة أعماله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) الحشر 18. ومن ثمرات هذه الصلاة والدعاء بعدها أن السنة تشهد عند الله تعالى أن هذا الرجل قد ختمها بخير.
فالمؤمن في مثل هذا اليوم الأخير من سنة منقضية سيُغلق ملفها ويحفظ إلى أن يعرض يوم النشور ويشهد بما فيه على صاحبه. وعلى مشارف سنة جديدة لم يسوّد صحائفها شيء، تكون له عينان، عين إلى تلك السنة المنصرمة هي عين المراجعة والمحاسبة فيها ندم على ما صدر منه من ذنوب وتقصيرات وشكر على ما وفق له من طاعات لكنه لا يصل إلى درجة الفرح للقلق من كونه مقبولاً أو لا.
وعين راجيه راغبة إلى السنة المقبلة هي عين المشارطة تسأل الله تعالى أن تكون أفضل من سابقتها وثقيلة الميزان بما يرضي الله تبارك وتعالى. والأمر راجع إلى العبد نفسه فهو الذي بيده قلم العمل يملي به صحائف الليالي والأيام بكامل إرادته.
ص: 11
ومن لطف الله تعالى أن سنتنا تفتتح بذكرى الإمام الحسين (عليه السلام) وفي اجواء التضحية والفداء والعشق الإلهي حيث نحر الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه في محراب الحب والفناء في الله تبارك وتعالى، وهذه الأجواء لها أثرها الذي لا ينكر في تقريب النفوس إلى الطاعة، حتى الفسقة والعصاة يتركون آثامهم في هذه الأيام ببركة الإمام الحسين (عليه السلام)، فتكون هذه الأيام في مفتتح السنة حافزاً لنجاح المشارطة والتعهد أمام الله تبارك وتعالى بأن لا نفعل في سنتنا إلا خيراً مستمدين العزم وقوة الإرادة والتضحية بشهوات النفس وأهوائها وإدامة ذكر الله تعالى من الإمام الحسين (عليه السلام).
ويندرج في ذلك أن يكون إحياؤنا لشعائر الإمام الحسين (عليه السلام) واعياً ملتفتاً إلى الأهداف الإصلاحية التي تحرك الإمام (عليه السلام) لتحقيقها لأن قيمة الأعمال بمضامينها وتحقيق أغراضها وليس بأشكالها، فهذه الصلاة التي هي عمود الدين واستشهد الإمام الحسين (عليه السلام) لإقامتها حق إقامتها
(أشهد أنك قد أقمت الصلاة) لا تكون لها قيمة إذا خلت من مضمونها الذي ذكرته الآية الشريفة (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ) العنكبوت 45 وقد ورد في رواية صحيحة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال
(والله إنه ليأتي على الرجل خمسون سنة وما قبل الله منه صلاة واحدة، فأي شيء أشدُّ من هذا، والله إنكم لتعرفون من جيرانكم وأصحابكم من لو كان يصلي لبعضكم ما قبلها منه لاستخفافه بها، إن الله لا يقبل إلا الحسن، فكيف يقبل ما يستخف به)(1).
ص: 12
فلابد أن نفهم إن المشاركة في الشعائر الحسينية والبكاء على الحسين (عليه السلام) لا يكفي وحده ما لم تجتمع فيه شروط القبول كما قال تعالى (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) المائدة 27 ولن تنال شفاعة الحسين (عليه السلام) وجده وأبيه وأمه وأخيه والأئمة المعصومين من بنيه (صلوات الله عليهم أجمعين) إلا بالتقوى ومن علاماتها الإهتمام بالصلاة في أوقاتها وأن يحسن أداءها، ففي رواية صحيحة عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال (لا تتهاون بصلاتك فإن النبي (صلى الله عليه وآله) قال عند موته: ليس مني من استخف بصلاته لا يرد علي الحوض لا والله)(1).
وعنه (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لكل شيء وجه ووجه دينكم الصلاة فلا يشيننّ أحدكم وجه دينه).(2)
فما يصوّره بعض الخطباء من أن اللطم على الإمام الحسين (عليه السلام) والبكاء عليه ولو جناح بعوضة يدخل الجنة بغير حساب وان ملأ الشخص صحيفة أعماله بالآثام كلام مخالف للقرآن الكريم والروايات الثابتة عن المعصومين (عليه السلام) وانحراف في الفهم وخداع للعامة، وهذا الطرح خطير على الدين لأنه يشوهه ويمحقه، وخطير على المجتمع لأنه يؤدي إلى التمادي في الانحراف ويعطي مشروعية للعكوف على المعاصي ما داموا قد حصلوا على صك الغفران.
فاحذروا أيها الأخوة من هذا الطرح المضلل.
ص: 13
وهنا أسجل استغرابي واستنكاري من حصول بعض حالات الفساد في المجتمع كالذي ينقل عما يجري في المقاهي من أعمال منكرة وتعاطي مخدرات، أو ما يجري في محلات المساج والعلاج الطبيعي من اختلاط منكر ودعوة إلى الرذيلة، أو انتشار الفساد المالي وهدر الأموال العامة التي هي ملك الشعب، أو وجود مافيات وميليشيات القتل والاختطاف والابتزاز والسرقة، كل ذلك يحصل في مدن وسط وجنوب العراق التي فيها أغلبية ساحقة من الموالين لأهل البيت (عليهم السلام), فإذا كان المشاركون في شعائر الحسين (عليه السلام) ثمانية ملايين أو أكثر بحيث نستطيع ان نقول ان كل شيعي موالي لأهل البيت عليهم السلام في هذه المدن يشارك بشكل أو بأخر في الشعائر كالمشي إلى مرقده الشريف أو خدمة الزوار أو المشاركة في مواكب العزاء أو المجالس الحسينية، إذن فمن الذي يقوم بتلك الأفعال المنكرة في المجتمع التي ذكرنا نماذج منها، وماذا استفاد هؤلاء من مبادئ الحسين (عليه السلام) وماذا فهموا من حركته المباركة؟ وهل يتوقعون قبول أعمالهم من الله تبارك وتعالى في ضوء الآيات الكريمة والروايات الشريفة.
إن هذا الذي نقوله لا يقلل من أهمية إقامة هذه الشعائر المباركة وفضلها عند الله تبارك وتعالى وعند النبي وآله الكرام (صلى الله عليهم أجمعين) ولا من تأثيرها في هداية الناس إلى ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، بل بلغني أن غير المسلمين تأثروا بها من خلال متابعتها على الفضائيات واعتنقوا عقيدة أهل البيت (عليهم السلام) ببركة هذه المسيرة الصامتة التي تتوجه إلى زيارة الأربعين التي لا يمكن تأويلها وتفسيرها بغير المبادئ الانسانية النبيلة التي انطلقت من أجلها تلك الثورة المباركة ولا يمكن التشكيك فيها أو تزييفها.
ص: 14
إن الحسين (عليه السلام) عندما كان يردد يوم عاشوراء (هل من ناصر) لم يكن يتوقع من أولئك الطغاة الذين طبع الله على قلوبهم هداية ولا صلاحاً وإنما كان يريد لها أن تبقى صرخة مدويّة لجميع الأجيال على مدى الأزمنة والدهور لينصروه في تحقيق أهدافه، ويبقى النداء ما دام الواقع الفاسد والظلم الذي قام الإمام الحسين (عليه السلام) لتغيره وانشاء البديل الصالح عنه - فلينصره كلٌ بحسبه ومن موقعه وبما يناسبه من عمل.
فقد يُقبل من البعض شكل من أشكال إحياء الشعائر الحسينية ولا يقبل من آخر لأن المطلوب منه غير ذلك فالتفتوا جيداً.
وبما أنكم من طلبة الجامعات فأذكر لكم شكلاً من أشكال النصرة لله ولرسوله وللإمام (عليه السلام) بأن تنظموا في الأقسام الداخلية أي محل إقامتكم وسكنكم ثلاث محاضرات اسبوعياً على مدى ثلاثة أيام وسط الأسبوع، كل يوم محاضرة بعد صلاة المغرب والعشاء جماعة أحداها في الفقه والأخرى في العقائد والثالثة في السيرة والأخلاق والمعارف القرآنية، ومن يحب يواصل تحصيل العلوم الدينية، وقد أبدى فضلاء الحوزة العلمية استعدادهم للقيام بهذه الخدمة إن شاء الله واعلموا أنكم بذلك تقتربون من معرفة الإمام الحسين (عليه السلام) لينطبق عليكم ما ورد في زيارته (عليه السلام) (عارفاً بحقه) وفقنا الله تعالى وإياكم لأن نكون من أنصار الإمام الحسين (عليه السلام) وممن يدخل السرور على قلبه الشريف بالسعي لتحقيق أهدافه بفضل الله تبارك وتعالى.
ص: 15
رسالة الأمة من خلال إحيائها لشعائر عاشوراء(1)
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما مكنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسلُ ربنا بالحق.
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.
لبّى الملايين من المسلمين في مختلف مدن العالم من شرق الأرض وغربها دعوة الله تبارك وتعالى (ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ودعوة الأئمة الطاهرين (أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا) وقولهم (على مثل الحسين (عليه السلام) فليبكِ الباكون) فأحيوا شعائر ذكرى استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه في العاشر من محرم، لا سيما في معاقل الولاء لأهل البيت (عليهم السلام) في العراق وإيران ولبنان واشترك حتى غير الشيعة بل حتى غير المسلمين، فقد رأيت في إحدى الفضائيات تجمّع العوائل المسيحية حول شاشات التلفزيون متابعين باهتمام المراثي الحسينية ومواكب العزاء، وعيونهم محمرّة من الدموع وتحدثوا عن مساهماتهم في بعض تلك الشعائر.
وقد بلغ التفاعل مع الحدث ذروته في (موكب النصرة) المعروف باسم (عزاء طويريج) حيث انحدر سيل مئات الآلاف من الملبّين لدعوة الإمام الحسين عبر الأجيال (هل من ناصر) وكلهم نداء واحد (لبيك يا
ص: 16
حسين) لأن وقفة الحسين (عليه السلام) في كربلاء حفظت الخط الناصع النظيف للإسلام وصانته من الفساد والانحراف والتمييع والإفراغ من المضمون الحقيقي.
وقد امتزجت في الشعائر مشاعر الحزن واللوعة لهول المأساة التي يستشعرها كل مؤمن خصوصاً في يوم عاشوراء وعبر عنها الإمام (عليه السلام):
(إن لجدي الحسين في قلوب المؤمنين لوعة لا تنطفئ أبداً) بمشاعر الفخر والسرور بديمومة هذا الولاء وهذا الارتباط الوثيق بالإسلام وقادته العظام.
إن المتتبع لهذه الشعائر وشعاراتها يستطيع أن يلخّص الرسالة التي توجهها الأمة بمحاور أساسية:
الأول: تأكيد الانتماء للإسلام المحمدي الأصيل الذي رسّخه أئمة أهل البيت (عليهم السلام) واستشهدوا ومعهم المخلصون من أصحابهم في سبيله، وكانت شعاراتهم مملوءة بالإصرار على مواصلة هذه المسيرة والاستعداد للتضحية من أجله، وكانوا واعين جداً للمؤامرات والتحديات التي تواجه هذا الخط.
الثاني: الرد على أعداء الأمة بتوجهاتهم المختلفة بلا فرق بين قوى الاحتلال والاستكبار الذين جاؤوا بمشروع واسع لمسخ هوية الأمة وإلحاقها بركبهم، وبين الإرهابيين الذين اتبعوا أساليب شتى لثني الأمة عن إحياء هذه الشعائر الدينية المقدسة، وأشاعوا خبر تسلل إرهابيين إلى كربلاء للإيغال في الجريمة وبين المضلّلين والحاقدين الذين لم يكلّوا عن تشويه صورة هذه الشعائر وتنفير الأمة منها لصرفها عن إقامتها لأنهم يعلمون أن لهذه الشعائر دوراً في حفظ الدين في حياة الناس فإذا منعوها بأي شكل فإنهم سيقضون على الدين تدريجياً.
هذا كله تحقق بفضل الله تبارك وتعالى لكن الجديد في احتفال هذا العام
ص: 17
نداء (لبيك يا محمد) الذي جاء ردّاً على الحملة المسعورة التي أشعلتها صحيفة في الدنمارك بنشرها لصورٍ مسيئة لشخصية النبي الكريم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم تبنتّها صحف ومجلات في دول أوربية أخرى بل إن صحيفة أردنية ومصرية نشرتها جرأةً على الله وعلى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى المؤمنين.
الثالث: أن الأمة موحَدّة وان القواسم المشتركة بينها كثيرة وعلى رأسها حب الله ورسوله وحب أهل بيته الأطهار فلا يفرق بينها انتماء طائفي أو حزبي أو عرقي أو جغرافي ولا تفرّقها المصالح، وها هي متوحدة على حب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أساؤوا إليه فتوحد المسلمون للدفاع عنه وعلى حب الحسين (عليه السلام) في ذكراه، فما بال السياسيين والمتصدين للحكم يتصارعون على المناصب ويتزاحمون على الدنيا وينهمكون في هذا التنافس غير الشريف وينشغلون عن قضايا الشعب المهمة والتحديات التي تواجهه فهم بذلك يغرّدون خارج سرب الأمة ولا تلبث حتى تلفظهم.
ص: 18
ص: 19
ص: 20
تهنئة زوار الحسين (عليه السلام) بالألطاف الإلهية(1)
استقبل سماحة الشيخ (دامت تأييداته) يوم الجمعة 21 صفر وفوداً ضمت عددا من المؤمنين الذين أدوا مراسيم زيارة الأربعين في كربلاء المقدسة، وتحدث سماحته عن الآثار المعنوية التي يتزود بها من يؤدي هذه الشعائر بإخلاص، والألطاف الإلهية التي تغمره سواء أحسّ بها أو لم يحس لكنه ينعم ببركاتها، وغبطهم على هذه النعمة التي يتحسر على فواتها الملايين في مختلف أصقاع الأرض.
ولو قسنا المعاناة والجهد الذي يبذله الزائر - مهما كان عظيماً - فإنه يسير بجنب ما أعد الله تبارك وتعالى، حيث أن أحد بركات هذه الزيارة أن تكتب لك حسنة وتمحى عنك سيئة بكل قدم ترفعها وتضعها، ولك شفاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وفاطمة الزهراء (عليها السلام) بمواساتك إياهم، ولك أجر إعزاز الدين وحفظ ملة سيد المرسلين وإعلاء كلمة الله رب العالمين ومواصلة الرسالة للأجيال.
وقارن سماحته بين الطاعة التي يذهب عناءها ويثبت أجرها، والمعصية التي تذهب لذتها وتبقى تبعتها، وهي مقارنة كافية للدلالة على الطريق لكل ذي بصيرة.
ص: 21
ثم أجاب عن سؤال لماذا موكب طلبة الجامعات فقال: لعدة أمور:
أولها: لإثبات انتماء جامعاتنا للإسلام وعدم تخلي شبابنا عن عقيدتهم وأخلاقهم رغم محاولات الإغراء والإفساد، ورداً على ما حاولوا تضخيمه خلال الأيام السابقة من استدراج عدد من الطلبة في جامعة البصرة للرقص والغناء واستدراج فئة معينة لضربهم وإهانتهم، وابتغوا بذلك هدفين: الأول الإيحاء بان طلبة الجامعات متحللون بعيدون عن الدين لا يراعون الحرمات الأخلاقية والاجتماعية، والثاني هو إظهار الذين يحملون واجهات إسلامية بصورة التخلف والهمجية ومصادرة الحريات وإكراه الآخرين بالعنف على معتقداتهم.
ولكن الحقيقة غير ذلك فإن من خالفوا الآداب الإسلامية في تلك السفرة لا يتجاوزون (52) طالباً من (385) شاركوا في السفرة من أصل (2850) طالباً في كلية الهندسة من حوالي (23) ألف طالب في جامعة البصرة فهم لا يمثلون صورة كلية الهندسة ولا جامعة البصرة ولا سائر الجامعات العراقية فجاءت هذه المسيرة لتؤكد الهوية الإسلامية لطلبة الجامعات العراقية، حيث شارك أكثر من عشرين ألف طالب في مسيرة ضخمة قطعت أكثر من (42) كيلومتراً بين الحلة وكربلاء سيرا على الأقدام.
ثانيها: للرد على من يصور شعائر الحسين (عليه السلام) وكأنها انفعالات عاطفية للعامة، ولا دور فيها للمثقفين والواعين، فتأتي هذه المسيرة لتؤكد أن الحسين (عليه السلام) مدرسة ينهل منها كل فرد بحسب استحقاقه ولا يستطيع أحد الاستغناء عنها سواء كان من القادة أو المصلحين أو الأحرار أو الرساليين أو العلماء أو المفكرين أو المثقفين وحتى العامة والبسطاء.
وثالثها: إبراز ضرورة تنظيم المشاركين في زيارة العتبات المقدسة في مسيرات موحدة منتظمة ذات شعارات ومطالب واعية ومحددة فإنها حينئذٍ
ص: 22
ستكون فاعلة وقادرة على تحقيق مطالبها، ولما كانت شريحة طلبة الجامعات أكثر الشرائح انتظاماً ومركزية كان التفكير بالبدء بها، إذ كان يمكن لهذه العشرات الآلاف أن تذوب ضمن ملايين الزوار من دون صدى ولا تأثير ولكن انتظامهم بهذا الموكب المهيب أحدث دوياً في الأوساط الاجتماعية ونحن نتطلع إلى اليوم الذي تستطيع كل محافظة أن تشكل لجان تنظيمية تمثل أهل الحل والعقد فيها من مكاتب العلماء والخطباء والأحزاب السياسية والعشائر والوجهاء والنخب لتنظم زائري كل محافظة بمواكب موحدة تضم مائة ألف أو مائتي ألف، وتكون شعاراتهم ومطالبهم واضحة ومحددة فإنها حينئذ ستقلب الموازين وتغير المعادلات ولنجعل من مواسم الزيارات الرئيسية (الأربعين، الشعبانية، الغدير) منطلقاً لهذا العمل المنظم الفعال.
ص: 23
17 صفر: أعطوا أكبر زخم ممكن للشعائر الحسينية شكلاً ومضموناً(1)
دور الإمام الرضا (عليه السلام) في احياء الشعائر الحسينية:
تصادف اليوم السابع عشر من صفر ذكرى استشهاد الإمام الرضا عليه السلام وقلّما يحتفل بشهادته لاندماج ذكراه في المشاركة الواسعة في الزيارة الأربعينية والسير على الأقدام إلى كربلاء المقدسة، وصحيحٌ إنَ الأئمة عليه السلام ذوبوا قضاياهم في القضية الحسينية الكبرى التي حفظت الإسلام وخلدت مبادئه كما قال الشاعر:
أنست رزيتُكم رزايانا التي *** سلفت وهونت الرزايا الآتية
ولكن هذا لا يعفينا من مسؤولية إحياء ذكرى الإمام الرضا عليه السلام في هذهِ الأجواء الحسينية ونشير هنا إلى واحدة من بركات الإمام الرضا عليه السلام على هذهِ الأمة فقد كان أول من عقد المآتم الحسينية علناً وبمشاركة جماهيرية واسعة حيث أستثمر الفرصة التي أُتيحت له حينما حاول المأمون العباسي كسب ود العلويين وتقريب الإمام الرضا عليه السلام وفرض ولاية العهد عليه لأهداف
ص: 24
أراد العباسي تحقيقها لم تكن لتخفى على الإمام الرضا عليه السلام فرفض الولاية، ولما أكرهه عليها أشترط عليه أن لا يمارس شيئاً من صلاحيات السلطة وأفشل بذلك مخططات المأمون، لعلم الإمام عليه السلام ان القضية شكلية والظروف غير مهيأة للقيام برسالة الإصلاح، لكنه عليه السلام مع ذلك أستثمر تلك الفرصة في عدة قضايا منها إحياء الشعائر الحسينية بشكل علني حيث كان يعقد المآتم الجماهيرية ويطلب من دعبل الخزاعي إنشاء تائيته المشهورة وكان دعبل يجوبُ بها الأسواق والساحات العامة وينشر فضائل ومظلومية أهل البيت عليهم السلام وغصب حقهم أما قبل الإمام الرضا عليه السلام فقد كان الأئمة عليهم السلام يعقدون المآتم الخاصة في بيوت لهم ولأهل بيتهم وخواص أصحابهم، كما هو واضح في سيرة الإمام الصادق عليه السلام والإمام الرضا عليه السلام نفسه قبل توفر هذهِ الفرصة.
وهكذا كان علماء الشيعة ومراجعهم (قدس الله أرواحهم) يستثمرون كل إنفراج سياسي وإنحسار في بطش السلطة ليوسعوا من مساحة هذه الشعائر وتفعيلها في أوساط الأمة، وخصوصاً في الفترات التي شهدت نشوء حكومات ترفع لواء التشيع وتدعم الحركة الشيعية لأمور خاصة بتلك السلطات ولا علاقة لها برسالة أهل البيت عليهم السلام ونوابهم، وقد شهدت هذه الفترة عصراً ذهبياً للحوزة العلمية وأنجبت أفذاذاً شغلوا ركيزة أساسية في تأصيل تعاليم أهل البيت عليهم السلام في العقيدة والفقه والأخلاق والتفسير وسائر العلوم وقاد هذه الحركة على مدى مئة عام أبن قولوية صاحب كامل الزيارات والشيخ الصدوق ومن ثم الشيخ المفيد وبعده السيد المرتضى ثم الشيخ الطوسي (قدس الله أرواحهم جميعاً) وفي هذا العصر أصبح يوم عاشوراء عطلة رسمية تعطل
ص: 25
فيها الأسواق وتنتشر مظاهر الحزن وشَهدَ أول ظهور للمواكب السيارة التي ترثي أبا عبد الله وصحبه الكرام وتبرز مظلوميتهم وأهداف حركته المباركة.
وهكذا كان التقدم والتوسع يتحقق في كل فرصة تحصل سواء في أيام الدولة الفاطمية في مصر أو الدول الحمدانية في الشام أو غيرها حتى العصر الحديث.
ونحن - أيها الأحبة من زوار أبي عبد الله عليه السلام - نعيش اليوم أوسع فرصة لممارسة هذا الدور فلنبذل قصارى جهودنا في إعطاء أكبر زخم ممكن للشعائر الحسينية شكلاً ومضموناً.
أما شكلاً فمن خلال هذهِ المشاركة الواسعة من قبل الملايين سواء ممن شاركوا في مواكب السير على الأقدام من أقصى الأماكن وقطعوا مئات الكيلومترات في هذا البرد القارس والأمطار الغزيرة، ومعهم من قاموا بخدمة هؤلاء الزوار ووفروا لهم الطعام والمأوى وكل أسباب الراحة لمواصلة المسير والذين انشغلوا بتوفير الخدمات الصحية والماء والحماية وكل الأمور الضرورية الأخرى، ونشهد في كل عام إزدياداً ملحوظاً للمتتبع من خلال عزاء طويريج والمسيرة المليونية لزيارة الأربعين والمآتم الحسينية العامرة بآلاف الحضور والتي تنقلها الفضائيات مباشرة أحياناً.
وأما مضموناً فمن خلال تجسيد مبادئ الثورة الحسينية وتحقيق أهدافها، فإن نداء الإمام الحسينعليه السلام «هل من ناصر» لازالَ يتردد في أرجاء الأرض، وهو لا يطلب أنصاراً بالسيف ونحوه لأن القضاء الإلهي جرى بإستشهاده وأهل بيته عليهم السلام وإنما يطلب أنصاراً يعينونه على إنجاز مشروعه وإكمال رسالته في
ص: 26
إصلاح الأمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوقوف في وجه أئمة الضلال وسلاطين الجور وتحرير الناس من اسر الطواغيت وشياطين الأنس والجن.
وها هي الشعوب المسلمة تتحرك في تونس وغيرها متأثرين بالإنجازات التي حققها الشعب العراقي بفضل الله تبارك وتعالى وأستنقذَ جزءاً كبيراً من حريته وكرامته، وهذا هو الواقع وأن لم تصرح تلك الشعوب بذلك لكن التأثر واضح وسيعم كل الشعوب الحرة الأبية.
أيها الأحبة نريدكم أن تُدخلوا السرورَ على قلب نبيكم وأمير المؤمنين عليه السلام والزهراء والحسن والحسين وإمامكم المهدي الموعود (صلوات الله عليهم أجمعين) بالالتفات إلى المضامين الرسالية لهذه الشعائر وأولها المحافظة على الصلوات المفروضة في أوقاتها فإذا حان وقت الصلاة وقال المؤذن (حي على الصلاة) قولوا (لبيك ربنا) وأوقفوا كل حركةٍ واصطفوا للصلاة في أي موضع كنتم فيه وادعوا ربكم لكل خير ولكل حاجة وستحظون بالإجابة إن شاء الله فإن فعلتم ذلك فإنَ الأخوة الآخرين سيتأسونَ بكم، ولا تأخروا الصلاة لأي مبرر كالوصول إلى موضع الاستراحة ونحوها، فإن الإمام الحسين عليه السلام أقامَ الصلاة جماعة في وقتها ظهر يوم عاشوراء والأعداء قد أحاطوه به وأمطروه بنبالهم.
والتزموا أيها الأحبة بكل فضيلة أخلاقية والتزموا بأداء الواجبات واجتنبوا المحرمات.
فعليكم - أيها الشباب - ببر الوالدين والإحسان إلى الآخرين، والتزمي - أيتها الأخت الفاضلة - بحجابكِ وعفافكِ وحيائكِ ولا تعطي فرصة لمن في قلبه مرض، وإذا استلزم الذهاب إلى الزيارة شيئاً من المحرمات فلا يجوز لكِ الذهاب.
ص: 27
لقد أختاركم الله تعالى أيها الأعزاء من أهل العراق لتكونوا دعامة الانطلاقة المباركة لمدرسة أهل البيت عليهم السلام, والطليعة في حركة التمهيد للظهور الميمون التي نلمس تأثيرها المبارك على العالم كله فصونوا الأمانة وكونوا بمستوى المسؤولية المُلقاة على عاتقكم وكل بحسب الموقع الذي أنتم فيه، فليواظب الطالب على دراسته ويجتهد لتحصيل أرقى الدرجات، وليكن الموظف دءوبا في عمله نزيهاً أميناً على ما كُلفَ به، وليقم طلبة الحوزة العلمية بدورهم في اكتساب العلوم والفضائل ونشرها في أوساط الأمة، وهكذا الجميع. أعاننا الله تعالى وإياكم على طاعته وبلغّنا رضاه وجمعَ بيننا وبين أحب خلقه إليه أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين (صلى الله عليهم أجمعين).
ص: 28
إلى المشكّكين بجدوى الزيارات المليونية(1)
يشكّك البعض بجدوى حضور الملايين في الزيارات، كعاشوراء والأربعينية ويناقش في صرف الأموال الطائلة لخدمة الزوار وتوفير احتياجاتهم، وينطلق بعض هؤلاء من التأثر بالأجندات الغربية التي لا تفقه الآثار المعنوية لهذه الحركة المباركة على الفرد والمجتمع.
فيجب أن نكون نحن على ثقة عالية بشريعتنا وشعائرنا التي باركها الشارع المقدّس، فنجيب على هؤلاء بمستويين من الجواب، يُسمى الأول في مصطلح الحوزة العلمية بالجواب النقضي، أي الرد على الإشكال بإشكال مثله من واقعهم وممارساتهم، ويُسمّى الثاني الجواب الحلّي بتقديم الدليل على جدوى هذه الشعائر وبيان الآثار المباركة التي تثمرها.
والجواب على المستوى الأول هو بما يصدر منهم هذه الأيام بمناسبة الاحتفالات برأس السنة، حيث تسود العالم الغربي وغيره احتفالات صاخبة ومهرجانات والعاب نارية وسفرات من غرب الأرض إلى شرقها وشراء هدايا (عمانوئيل) وأمثالها(2) من الممارسات التي تصرف فيها مليارات الدولارات
ص: 29
بلا معنى عقلائي يمكن الاقتناع به إلا تسويلات الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء من المتع واللذات الوقتية الكاذبة، وكان الأجدر بهم صرف هذه المليارات على جياع أفريقيا وتنمية اقتصاديات الدول الفقيرة وإنشاء المشاريع المفيدة في الدول التي يتباكون على فقرها وابتلائها بالأمراض الفتاكة والحروب والمشاكل الاجتماعية.
هذا غير ما يصرف من مليارات أخرى على غيرها من الفعاليات غير العقلائية كالدورات الأولمبية وبطولات كأس العالم مما يثقل ميزانيات الدول بمبالغ طائلة، وبين أيدينا اليونان التي اشترطت عليها الولايات المتحدة أموراً عند تنظيمها الدورة الأولمبية عام 2004 ولم تستطع واردات السياحة سدّها فغرقت في ديون باهضة شارفت بسببها على الإفلاس.
فالأولى بهؤلاء المنتقدين أن يعترضوا على هذه الممارسات والفعاليات التي لا فائدة فيها إلا متعة ولذة - كما يزعمون - وهي وقتية بمقدار لحظتها ووهمية ويبقى الفرد يعاني بعدها من مشاكل نفسية واقتصادية أيضاً لأن أغلب أفرادهم يقترض ليقوم بتلك السفرات أو شراء الهدايا ونحوها. فهؤلاء المعترضون ينطبق عليهم المثل المعروف بأنه يرى القذّة في عين الغير ولا يرى الجمل في عينه.
أما على صعيد المستوى الثاني من الجواب فقد تضمّنت خطاباتنا السابقة ذكر العديد من تلك الآثار المباركة، نشير إليها باختصار، وتُراجَع التفاصيل في مواضعها.(1)
إن التوجّه سيراً على الأقدام من مسافات بعيدة مع ما يرافقه من العناءب.
ص: 30
والمشقّة فيه تعبير عن عميق المودّة والولاء للإمام (عليه السلام) التزاماً بقوله تعالى (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (الشورى/ 23).
إنّ فيه إظهاراً لعظمة الإمام المقصود بما عظّمه الله تعالى، كما سار الإمامان الحسن والحسين (عليهما السلام) ماشيين إلى مكة المكرمة تعظيماً لبيت الله الحرام.
إنّ فيها إدخالاً للسرور على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام) ومواساة لهم على عظيم مصابهم، وفيه إحياء لأمرهم والتزام بما وجهوا إلهيا (أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا).
الثواب العظيم الذي رصد لمن يقصد زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ماشياً وقد وردت في ذلك روايات عديدة منها عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال
(من أتى قبر الحسين (عليه السلام) ماشياً كتب الله له بكل خطوة ألف حسنة ومحا عنه ألف سيئة ورفع له ألف درجة).(1)
إنها وسيلة هداية للآخرين، فقد اهتدى بشعائر الحسين (عليه السلام) إلى الحق كثيرون وعادوا إلى الصلاح والرشد في حين عجزت كل الوسائل عن إصلاحهم، وهذه من بركات الإمام الحسين (عليه السلام) فإنه
(مصباح هدى وسفينة نجاة).
إنها توحّد الأمة بكل طوائفها وقومياتها وتوجهاتها الاجتماعية والسياسية ومختلف انتماءاتها الجغرافية والعشائرية، وهذا واضح حيث يذوب الجميع في حب الإمام الحسين (عليه السلام) وبعضهم لبعض مما يستحيل تحقيقه في غير هذا الهدف قال تعالى (وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) (الأنفال/ 63).1.
ص: 31
إنّ المسيرات السلمية وسيلة حضارية تتبعها كل الأمم المتحضرة لإلفات النظر إلى قضاياها والمطالبة بحقوقها ودفع الآخرين للسؤال والفحص عن المشروع المحرِّك لها، وهذا ما تحقق إذ صار العالم كله يتساءل اليوم عن الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) والشيعة، والسؤال مفتاح الوصول إلى الحقيقة.
إنها تحبط محاولات الأعداء المتنوعين التي تستهدف الشعب العراقي الأبي وهذا البلد الكريم، لإفساده وإخضاعه وإرعابه وتدجينه وسلخه من هويته الإسلامية الأصيلة، فقد حاول الإرهابيون بكل وسائل القتل والتدمير والجريمة إخافته، وحاول الاحتلال تدجينه وتحويله إلى جزء من مشروع الشرق الأوسط الكبير بل رأس الحربة فيه، وحاولت تقنيات الإغراء والغواية والتضليل إفساده وإبعاده عن إسلامه الأصيل ففشل الجميع، ببركة هذه المسيرات المليونية.
إنها ممارسة تعبوية تحافظ على جاهزية الأمة وحضورها في الميدان على الدوام وبدونها يصاب الشعب بالخمول والكسل والاسترخاء فيكون مكشوفاً وهدفاً سهلاً لكل استهداف.
إنها تقوّي الإرادة والتحمل وتوطين النفس على الصعاب مما يعجز عن تحقيقه أي ممارسة أخرى وتشكّل بذلك فقرة مهمة من عملية الاستعداد لنصرة الإمام الموعود (عجل الله تعالى فرجه) والمشاركة الفاعلة في التمهيد لدولته المباركة ونصرته.
إن أجواء الزيارة والمشاعر الروحية فيها تعطي للنفس زاداً معنوياً وحصانة وغذاءاً روحياً يبقى تأثيره ولذته إلى أمد بحسب استحقاق كل شخص واستعداده، وكما يقال بحسب سعة إنائه ووعائه فإنه يغترف من هذه الألطاف الإلهية (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) (الرعد/ 17).
ص: 32
بهذه الحركة المليونية يبرز الشعب العراقي انتماءه للإسلام ولمذهب أهل البيت (عليهم السلام) ويبرز هويته في عملية إحصاء سكّاني صادق ودقيق لا يقبل الخطأ والتزوير وليردّ بذلك على بعض الجهات التي تحاول القفز على الواقع وتدّعي خلافه.
وقد وردت الإشارة إلى جملة من هذه الآثار المباركة في دعاء الإمام الصادق (عليه السلام) لزوار أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) في الرواية المعتبرة عن معاوية بن وهب البجلي وفيها (اغفر لي ولإخواني ولزوّار قبر أبيَ الحسين بن علي صلوات الله عليهما الذين أنفقوا أموالهم واشخصوا أبدانهم رغبة في برِّنا ورجاءاً لما عندك في وصلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيك محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإجابة منهم لأمرنا، وغيظاً أدخلوه على عدوِّنا، أرادوا بذلك رضوانك، فكافئهم عنّا بالرضوان)(1) إلى آخر الدعاء.).
ص: 33
28 صفر: الدعوة إلى توسيع الاحتفالات بذكرى وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(1)
تحدث سماحة الشيخ اليعقوبي (حفظه الله) إلى قناة الأنوار الفضائية ضمن تغطيتها لشعائر الاحتفال بذكرى وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشرح وجهاً للمعنى الوارد في حديث الكساء وغيره أن الكون خُلِقَ من أجل محمد وآل محمد (ص) فقال أن الآية الشريفة تقول (وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ) ، ولما لم يبلغ درجة العبودية الحقيقية لله تبارك وتعالى إلا محمد وآله (صلوات الله عليهم) فتكون النتيجة أن خلق الجن والإنس كان لأجل هذه الأنوار المباركة كمن يدعو ضيفاً شريفاً ويستضاف على شرفه كل مرافقيه، فكلنا نعيش ببركة النبي وآله الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين)، ولتقريب الفكرة نذكر أمثلة أخرى، مثلاً إن الدولة قد تحتاج في حساباتها إلى عدد من المهندسين والأطباء فتقبل أضعاف هذا العدد في المدارس الابتدائية ولا يصل منهم إلى تلك الدرجات المطلوبة إلا عددٌ قليل منهم فيصحّ أن يُقال أن كل تلك المبالغ التي صرفتها الدولة كانت لأجل هذا العدد القليل الذي بلغ الهدف، وكذا
ص: 34
الأموال الطائلة التي تصرفها الحوزة العلمية من أجل وصول عدد الأصابع إلى الاجتهاد فتكون تلك الجهود العلمية والمالية التي بُذلت هي من أجل هذا العدد القليل الذي حقق الهدف مع عدم إهمالنا للأدوار الأخرى لعلماء ومفكري وخطباء الحوزة العلمية.
ثم تحدث عن المعاناة والآلام والإساءات التي ألحقها به أتباعه والمنتسبون إليه فضلاً عن أعدائه، وما هذه الإساءات التي تعرض لها (صلى الله عليه وآله وسلم) من الصحف الغربية إلا بسبب سوء سلوك المحسوبين عليه صلى الله عليه وآله وسلم.
ورداً على هذه الإساءة دعا سماحة الشيخ المسلمين إلى تجسيد سيرته الحسنة في حياتهم، وإلى استغلال الأيام الواقعة بين ذكرى استشهاده في الثامن والعشرين من صفر وولادته في السابع عشر من ربيع الأول للإشادة بسيرته الشريفة كالذي فعلناه في محاضرات وكتاب (الأسوة الحسنة للقادة والمصلحين) خصوصاً وأن هذه الفترة تضم مناسبات جليلة كذكرى الهجوم على دار فاطمة الزهراء (عليها السلام) وذكرى استشهاد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).
ص: 35
ص: 36
ص: 37
ص: 38
مباركة المرجعية بحلول شهر رجب(1)
إن المتوقع من المؤمنين أن لا يُفَوِّتُوا فرصة التعرض إلى النفحات الإلهية الخاصة في هذا الشهر، فليراجعوا كتب السنن والمستحبات لمفاتيح الجنان ليطلعوا على برامج العمل التي تناسبهم في عموم الشهر أو في أيامه الفضلى خاصة وانه لمن نعم الله تعالى على العبد أن يواصل عليه هذه الفرص انطلاقا من الدعاء الشريف (واجعل الحياة زيادة لي في كل خير) وحينما يقوم أحد ممن وفقه الله تعالى لطاعته بمراجعة متأملة في أعمال هذا الشهر في كتاب (مفاتيح الجنان) فانه سيجد العجب العجاب من كرم الخالق مما لا ينبغي لعاقل التفريط فيها.
وما أحوجنا نحن العراقيين لمثل هذه العودة إلى الله تبارك وتعالى عسى أن يرفع عنا البلاء (وَ ما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الأنفال: 33).
إن مجرد الالتفات إلى انك في شهر رجب الذي تصب فيه الرحمة صبّاً واستذكار وهذا الشيء فيه خير كثير فكيف إذا أديت بعض أعماله من صوم أو دعاء أو استغفار أو صلاة حينئذ يحسُّ المؤمن انه في نعيم مهما حفت به من مكاره وصعوبات ومحن ولذا ورد في الحديث الشريف ما مضمونه: عجبت للمؤمن أن أمرضه الله كان خيرا له وان عافاه كان خيرا له وان أفقره كان خيرا له وان أغناه كان خيرا وهكذا فهو في خير دائم ما دام في رعاية الله ويعيش في ظل رحمة الله و العاقبة للمتقين.
ص: 39
أول رجب بداية السنة المعنوية(1)
المعروف أن بداية السنة الهجرية هو الأول من المحرم، وعند بعض المؤرخين أنه الأول من ربيع الأول باعتباره مبدأ هجرة الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) وعند البعض الأول من شهر رمضان بحسب ما يستفاد من بعض الأدعية، هذا ولكن السنة المعنوية عند طالبي الكمال والمشتاقين إلى رضا الله تبارك وتعالى تبدأ في الأول من رجب، البداية التي تعني الانطلاقة الجديدة، وتعبئة الهمة، وزيادة النشاط، ومراجعة صحائف الأعمال الماضية و الأمل بفتح صحائف جديدة بيضاء.
ولعل من الشواهد على ذلك أن أصحاب كتب السنن والمستحبات كمفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي ومصابيح الجنان للسيد عباس الكاشاني (رحمه الله) يبدأون أعمال أيام وشهور السنة بأعمال شهر رجب، ويذكرون صلاة لشهر جمادى الآخرة باعتباره آخر شهر في السنة.
إن عظمة شهر رجب تأتي من جهتين (أولهما) شرفه الذاتي، والقيمة الكبرى التي أعطيت لمن أدى عملاً فيه بما لا ترقى إليه نفس الأعمال في شهور السنة الأخرى بحسب ما ورد في الروايات الشريفة حتى سُمّي (رجب الأصب) لأن الرحمة تُصبّ فيه صبّاً، و (الثانية) أن الاستعداد لضيافة الرحمن في شهر رمضان
ص: 40
تبدأ منه، حيث يتنعم أولياء الله تعالى بعيدهم في الشهر الكريم، فمن أراد أن يحظى بتلك الضيافة، ويفرح بعطاء الله تعالى في ذلك العيد، فلابد أن يبدأ بالعمل وتقديم الطلبات - كما يقال - من شهر رجب، لينظر فيها في شهر شعبان، ويمضي القرار الإلهي بها في شهر رمضان، وهذا هو المدخل الطبيعي لنيل الألطاف الإلهية الخاصة، وإن كانت رحمة الله تعالى أوسع من ذلك.
وهذا وجه آخر غير ما ذكرناه في بعض المناسبات السابقة لمعنى ما ورد أن شهر رجب شهر أمير المؤمنين (عليه السلام) وشهر شعبان شهر رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) وشهر رمضان شهر الله تبارك وتعالى، فيكون معناه أن السعي لنيل رضا الله تبارك وتعالى وألطافه الخاصة تبدأ من شهر رجب عن طريق أمير المؤمنين (عليه السلام) لأنه باب رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) وولايته ميزان قبول الأعمال، ثم ينظر فيها في شهر شعبان بواسطة رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) باب الرحمة الإلهية والوسيلة إلى رضوان الله تبارك وتعالى، ويشهد له ما ورد في تفسير قوله تعالى:(فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (الدخان: 4) أنها ليلة النصف من شعبان، ثم يجري القضاء الإلهي بالفوز والفلاح وحسن الخاتمة في شهر رمضان بعد أن تكون مقدماته قد تحققت.
هذا هو شهر رجب في شرفه وفضله، وقد منّ الله تبارك وتعالى علينا بإدراكه، ولا شك أن الكثير من المؤمنين ملتفتون إلى ما فيه من أعمال مستحبة كالصوم في بعض أيامه المخصوصة وكلما زاد كان أفضل، وكالصلاة والذكر والدعاء والتسبيح وزيارة المعصومين (عليهم السلام) كزيارتي الإمام الحسين (عليه السلام) في الأول والنصف منه وزيارة المبعث النبوي الشريف، كما تستحب فيه زيارة الإمام الرضا (عليه السلام) والعمرة، وإحياء ذكريات المعصومين (عليهم السلام).
ص: 41
ولكن ما لا يُلتفت إليه إلا نادراً أعمال الجوانح لا الجوارح أي ما يهذّب النفس ويطهّر القلب، مع أنها المقياس الحقيقي للكمال والقرب من الله تبارك وتعالى، وانتم تعلمون أن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) لما انتهى من خطبته في استقبال شهر رمضان في آخر جمعة من شعبان، سأله أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أفضل الأعمال في هذا الشهر العظيم، فأجاب (صلى الله عليه و آله و سلم) انه الورع عن محارم الله، والورع ملكة جوانحية ليست من أعمال الجوارح وإن كانت تظهر آثارها عليها فتمتنع عّما حرّم الله تبارك وتعالى.
ولنذكر شاهداً على هذه التربية المعنوية التي قام بها المعصومون (عليهم السلام)، ففي الخصال للشيخ الصدوق (رضي الله عنه) بسنده عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم): لم يعبد الله عز وجل بشيء أفضل من العقل ولا يكون المؤمن عاقلاً حتى يجتمع فيه عشر خصال: الخير منه مأمول، والشرُّ منه مأمون، يستكثر قليل الخير من غيره، ويستقل كثير الخير من نفسه ولا يسأم من طلب العلم طول عمره، ولا يتبرّم بطلّاب الحوائج قبله، الذلّ أحبّ إليه من العز، والفقرُ أحبّ إليهِ من الغنى، نصيبهُ من الدنيا القوت، والعاشرة وما العاشرة لا يرى أحداً إلاّ قال هو خير مني وأتقى، إنما الناس رجلان فرجل هو خيرٌ منه وأتقى وآخر هو شرٌّ منه وأدنى فإذا رأى من هو خيرٌ منه وأتقى تواضع لهُ ليلحق به، وإذا لقي الذي هو شرٌّ منهُ وأدنى قال عسى خير هذا باطن وشرُّه ظاهر، وعسى أن يختم له بخير، فإذا فعل ذلك فقد علا مجده، وسادَ أهل زمانهموأ)(1).
هذه هي الصفات التي يكمل بها عقل المؤمن وتكون أفضل وسيلة لنيل رضا الله تعالى: أن يكون الخير منه متوقعاً في قوله وفعله وسائر حركاته3.
ص: 42
ومعاملاته مع الآخرين، والشر منه مأمون فلا يسيء إلى أحد ولا يعتدي على أحد ولا يجرح مشاعر الآخرين ولا يظلمهم ولا يبخسهم حقوقهم ولا يبغي عليهم، ولا يشهّر ولا يسقّط ولا يفتري، حتى لو أسيء إليه فلا يتوقع منه رداً عدوانياً.
يصنع المعروف إلى الناس من دون أن يصحبه مَنٌّ أو أذى بل لا يجد في نفسه أنه قدّم شيئاً يُذكر وان كان عملاً عظيماً كإنقاذ إنسان من موت أو تفريج كربة نكّدت حياته، لكنه إذا صُنِع إليه المعروف فإنه يجد نفسه مديناً لمن فعله ولا ينساه طول حياته حتى لو كان شيئاً بسيطاً لا يستحق أن يذكر كتقديم شربة ماء له.
وهكذا يستمر النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) في ذكر هذه الخصال الكريمة حتى يصل إلى العاشرة وما أدراك ما العاشرة، إنها التواضع للناس والذل الباطني والشعور بأنه أحقر هذا الخلق وأتفههم وأن كل الناس أفضل منه وأكرم عند الله تعالى، ويذكر (صلى الله عليه و آله و سلم) لذلك وجهين:
أن الآخر حتى لو كان سيئاً في جملة من أفعاله فلعل له خصلة كريمة عرفها الله تبارك وتعالى منه ولا نعلمها كالبرِّ الشديد بالوالدين أو حب الناس وإنصافهم أو الغضب لله تعالى. قد نالت رضا الله تبارك وتعالى فعفا وصفح عن ذنوبه بينما أن المتظاهر بالصلاح، لعل له خصلة سيئة أوجبت المقت الإلهي فحبطت بها الأعمال والعياذ بالله.
إن الأمور بخواتيمها فهذا الإنسان الذي تعتقد أنه سيئ الآن ولكنك لا تعلم كيف يُختم عمله، وكذا الإنسان الذي يظهر منه الصلاح، ولكن قد تنقلب الأمور إلى العكس، والعاقبة للمتقين والأمثلة كثيرة كالخاتمة الحسنة
ص: 43
للحر الرياحي، والخاتمة السيئة لمن انقلبوا على الأعقاب من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما وصفتهم الآية الشريفة.
إنّ من يتأمل في هذا الحديث الشريف وفي الدعاء الوارد في شهر رجب (يا من أرجوه لكل خير، وآمن سخطه عند كل شر يا من يعطي الكثير بالقليل، يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله ولم يعرفه تحنناً منه ورحمة) يجد مطابقة وانسجاماً بين جملة من فقراتهما، لأننا أمرنا بالتخلق بأخلاق الله وهذه المذكورة في الدعاء من أخلاقه تبارك وتعالى وهي نفسها التي يكمل بها عقل المؤمن، وكأنه إيحاء بأن شهر رجب باعتباره بداية انطلاقة جديدة للعمل ومراجعة للماضي لإصلاح ما فسد، وتكميل ما صلح، كأنّ هذا الشهر هو فرصة التأمل في هذه الخصال العشر والسعي الحثيث لتحقيقها بفضل الله تبارك وتعالى.
ص: 44
بمناسبة حلول أيام الله تبارك وتعالى في شهر رجب(1)
قال تعالى (وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيّامِ اللّهِ) (إبراهيم: 5) ولاشك أن شهر رجب من أيام الله تعالى لما ورد من أن الرحمة تُصَبُّ فيه صبّاً حتى سُمِّي رجب الأصب.
فهو شهر مبارك من حين إطلالة هلاله ومن أول ليلة منه فقد روى الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليهم أجمعين) قال
(كان يعجبه أن يفرِّغ نفسه أربع ليال في السنة، وهي أول ليلة من رجب، وليلة النصف من شعبان، وليلة الفطر، وليلة النحر)(2).
وليس هذا وحده، فبحلوله تبدأ أشهر ضيافة الله تعالى التي تبلغ ذروتها في شهر رمضان المبارك، فمن أراد أن يحظى بكرامة الله تبارك وتعالى وشرف دعوته فليهيّئ نفسه من شهر رجب؛ لأن بطاقة الدعوة إلى ضيافة الرحمن في شهر رمضان تُقدّم من شهر شعبان من قبل رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم)، والدخول إلى حضرة رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) يكون من خلال أمير المؤمنين (عليه السلام) في شهر رجب، وهذا واحد من معاني الحديث أن شهر رجب شهر أمير المؤمنين وشعبان شهر رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) وشهر رمضان شهر الله تعالى، فالنظر في مستحقي ضيافة الرحمن في شهر رمضان تكون من شهر رجب بواسطة
ص: 45
أمير المؤمنين (عليه السلام) وتُقدّم إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) لينظر فيها في شهر شعبان ويقدّمها إلى الله تبارك وتعالى وهو الذي وسعت رحمته كل شيء.
وهذا الترابط بين الأزمنة بحيث يكون القضاء في وقت والتقدير في وقت آخر يحلُّ لنا بعض الإشكالات، فمثلاً من المعلوم الذي وردت فيه الروايات الشريفة أن ليلة القدر تقدر فيها الأرزاق والآجال والعواقب، وورد في تفسير قوله تعالى (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (الدخان: 4) أنها ليلة النصف من شعبان، وهذا تعارض بحسب الظاهر بينهما، إلا أنه يندفع التعارض بين التفسيرين: بأن في ليلة النصف من شعبان يُنظر في قضاء الأمور وتوزيع الاستحقاقات والأرزاق في الدنيا والآخرة، أي يجري فيها القضاء من دون قدر أي حسم، وتقدم بما يسمى (مطالعة) في العرف المتداول، ثم تُحسم ويتحتم فيها القضاء والقدر في ليلة القدر، وفي بعض أدعية شهر رمضان إشارة إلى هذا الترابط (اللهم إني أسألك أن تجعل فيما تقضي وتقدِّر من الأمر المحتوم في الأمر الحكيم من القضاء الذي لا يردُّ ولا يُبدّل أن تكتبني من حجاج بيتك الحرام إلى آخره...).
وبهذا أيضاً يجاب على دخول ليلة التاسع عشر من شهر رمضان في ليالي القدر مع أن الروايات الصحيحة دلّت على كونها في العشر الأواخر من شهر رمضان، وتفسير ذلك أن في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان تُقدّم الطلبات وتُرفع الدعوات، وفي الليلة الحادية والعشرين يُنظر في الاستحقاقات وتقدَّر القواعد العامة لها من دون تطبيق تلك القرارات على الأفراد، حتى تُحسم في ليلة القدر، فمن أراد أن يكون من أهل ليلة القدر فلا يفوِّت العمل منذ ليلة التاسع عشر ولا يتوهم أنها ليست من ليالي القدر فيتهاون في العمل فيها، فإن تلك الليالي تبدأ بها فعلاً وتُقدَّم فيها الطلبات.
ص: 46
وإذا أردنا أن نمثل لمورد من الفقه للقضاء بقدر وللقضاء بدون قدر فهي الحدود والتعزيرات، فإن موجباتهما تشترك بأنها جنايات وجرائم وجنح تستحق العقوبات، فهي جميعاً مما قضى الله تعالى فيها بالعقوبات، إلا أنها تفترق بأن في موارد الحدود قُدّرت العقوبة، أما في التعزيرات فلم تقدَّر وترك تقديرها إلى ولي الأمر، فاجتمع في الحدود القضاء والقدر، أما في التعزيرات فقضاء بلا قدر.
ومن هذه المقدمة نتعرف على أهمية شهر رجب بأنها ليست فقط ناشئة من شرف نفس الشهر وكرامته والألطاف الإلهية العظيمة المتاحة للعباد فيه، بل لأنه بداية أشهر ضيافة الرحمن التي تكتمل في شهر رمضان.
فعلينا أن نؤهل أنفسنا لتلقي هذه الألطاف الإلهية، بمزيد من الالتفات والذكر والمراجعة لعلاقتنا مع الله تبارك وتعالى، وتكون هذه المراجعة والمحاسبة على عدة محاور وبعدّة اتجاهات، فالأعمال الصالحة التي كنّا نؤدّيها نداوم عليها ونحسِّن أداءها، والتي كنّا لا نؤديها نبادر إلى الإتيان بها، والتي كنا نؤدي جزءاً منها نكملها، وإذا وُجد في برامج حياتنا تضييع وتفريط بالوقت الثمين من أعمارنا فيما لا ينفعنا في الآخرة فعلينا أن نتجنبه ونحوّله إلى وقت مثمر ومنتج بالأعمال الصالحة.
فمن كان يؤدي الصلاة في أوقاتها وفي المساجد ويؤدّيها جماعة فليحافظ عليها وليواظب فإنّها كالدواء الذي له وقت معين لتناوله وإذا لم يلتزم بالوقت المحدّد فإنه يفقد جزءاً كبيراً من منفعته.
ومن كان لا يؤدي صلاة الليل أو يكتفي بركعتي الشفع والوتر منها ليضاعف همّته ويواظب عليها فإن المقامات المحمودة عند الله تبارك وتعالى لا تُنال بغير التهجّد بالليل قال تعالى مخاطباً نبيّه العظيم (صلى الله عليه و آله و سلم)(وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (الإسراء: 79).
ص: 47
ومن كان لا يؤدي النوافل اليومية ليقم ولو ببعضها كركعتي نافلة العشاء والصبح والغفيلة بعد صلاة المغرب وركعتين من نافلة الظهر والعصر حتى لا يُعدُّ من التاركين لها على الأقل.
وليتذكر أداء صلاة أول الشهر في أول يوم منه وهي ركعتان بالحمد و 30 مرة سورة التوحيد في الركعة الأولى، والحمد وثلاثين مرة سورة القدر في الركعة الثانية ثم يقرأ دعاءً قصيراً موجوداً في الكتب المخصّصة ثم يتصدق بما يتيسّر فإنه يشتري بذلك سلامة هذا الشهر.
وإذا لم يكن ممن يتصدق فليكن من أهل الآية الشريفة (يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ) (البقرة: 274) فيعزل مقداراً ولو يسيراً في أول الليل - أي بعد صلاة المغرب - ومقداراً في أول النهار - أي بعد صلاة الصبح - حباً لله تعالى ما دام هذا الفعل محبوباً لله تعالى وليدفع عنه وعن أهله السوء.
ولا يغفل عن صلاة جعفر الطيار ضحى يوم الجمعة فإنها تسمى الإكسير الأعظم لما فيها من أثر في الارتقاء والتكامل.
ومن الأعمال المميّزة في هذا الشهر الصوم، وكلما أكثر منه فهو خير بحسب ما تسمح قوته الجسمية وظروفه المحيطة به كطبيعة عمله، والمعدّل المناسب هو ثمانية أيام في مجموع الشهر لقول الإمام الباقر
(ومن صام ثمانية أيام من رجب فتحت له أبواب الجنة الثمانية فيدخلها من أيِّها شاء)(1).
وليحرص على توقيتها في الأيام الشريفة وهي:5.
ص: 48
1 - اليوم الأول فيه فضل عظيم.(1)
2 - ثلاثة أيام في الشهر التي أوصى بها رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) أمير المؤمنين (عليه السلام) ودعاه إلى الالتزام بسنّته فيها، وهي أول خميس من الشهر والأربعاء في العشرة الوسطى وآخر خميس من الشهر فمن صامها فكأنما صام الشهر كله، ومن واظب عليها في جميع الشهور فكأنما صام الدهر كلّه كما ورد في بعض الروايات.
3 - الأيام البيض الثلاثة (13، 14، 15)
4 - يوم السابع والعشرين وهو يوم المبعث النبوي الشريف،
5 - آخر ثلاثة أيام من الشهر
6 - ثلاثة أيام (الخميس والجمعة والسبت) من الأسبوع لما ورد من استحباب صوم مثل هذه الثلاثة في الأشهر الحرم ورجب منها.
فتحقق بذلك الثمانية مضافاً إلى الثواب المخصوص لبعض الأيام.
روى الشيخ الصدوق بسنده عن سالم قال (دخلت على الصادق (عليه السلام) في رجب وقد بقيت منه أيام، فلما نظر إليَّ قال لي: يا سالم: هل صمت في هذا الشهر شيئاً، قلت: لا والله يا ابن رسول الله، فقال لي: فقد فاتك من الثواب ما لم يعلم مبلغه إلا (الله عز وجل) إن هذا شهر قد فضّله الله وعظّم حرمته وأوجب للصائمين فيه كرامته، قال: فقلت له: يا ابن رسول الله، فإن صمت مما بقي منه شيئاً، هل أنال فوزاً ببعض ثواب الصائمين فيه؟ فقال: يا سالم من صام يوماً من آخر هذا الشهر، كان ذلك أماناً من شدة سكرات الموت،ب.
ص: 49
وأماناً له من هول المطلّع وعذاب القبر، ومن صام يومين من آخر هذا الشهر كان له بذلك جوازٌ على الصراط، ومن صام ثلاثة أيام من آخر هذا الشهر أمن يوم الفزع الأكبر من أهواله وشدائده وأعطي براءة من النار)(1)
وروايات كثيرة في (وسائل الشيعة) وغيرها محفزة على هذا العمل الصالح.
ولا يغفل عن ليلة الرغائب وهي أول ليلة جمعة من شهر رجب ولها أعمال مذكورة بعد أن يصوم أول يوم الخميس من الشهر.
ومما ينبغي المواظبة عليه في هذا الشهر الشريف إقامة الشعائر الدينية وزيارة الأئمة المعصومين (عليهم السلام) لوجود عدة مناسبات فيه لأهل البيت (عليهم السلام) ففي الأول منه ولادة الإمام الباقر (عليه السلام) وفي الثالث منه شهادة الإمام الهادي (عليه السلام) وفي العاشر ولادة الإمام الجواد (عليه السلام) وفي الثالث عشر ولادة أمير المؤمنين (عليه السلام) وفي النصف منه وفاة العقيلة زينب (عليها السلام) وفي الخامس والعشرين شهادة الإمام الكاظم وفي السابع والعشرين ذكرى المبعث النبوي الشريف.
وفيه زيارتان مخصوصتان مهمتان للإمام الحسين (عليه السلام) في الأول والنصف منه وسميت بالغفيلة لغفلة عامة الناس عن فضلها، وفيه الزيارة المخصوصة لأمير المؤمنين في المبعث النبوي الشريف.
وأكثروا من تلاوة القرآن الكريم كلما تيسّر لكم ذلك والأدعية الشريفة واذكروا الله تعالى في أوقات الغفلة.
واغتنموا هذه الأشهر لمراجعة النفس والعلاقة مع الأهل ومنهجهم في الحياة ومدى مطابقة سلوكهم لما يريده الله تبارك وتعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُواب.
ص: 50
أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَ الْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (التحريم: 6) برّوا بوالديكم وأظهروا لهم المودة والشفقة والرحمة، و صلوا أرحامكم وأصلحوا ذات بينكم وما فسد من أمور مجتمعكم، وأكثروا من الدعاء لصاحب الأمر الحجة الخلف الهادي المهدي (أرواح العالمين له الفداء)، وحسّنوا أخلاقكم، وادعوا الناس إلى كل خير وساعدوهم على اجتناب كل سوء أعاذنا الله وإيّاكم.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل رضاه ومن أهل طاعته في هذه الأشهر الكريمة وفي كل آن، والحمد لله الذي هذا لهذا وما كنّا لنتهدي لولا أن هدانا الله، وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
ص: 51
27رجب: الألطاف الإلهية في البعثة النبوية الشريفة(1)
من الأسماء الحسنى (اللطيف) ومنشأه أكثر من وجه:
الأول: إن اللطيف هو كل ما دقّ وصغر وشف بحيث تعجز العين عن إدراكه، والله تبارك وتعالى لطيف بهذا المعنى فهو لا تدركه الأبصار وبعُد حتى عن خطرات الظنون، وهو لطيف لعلمه بالأشياء اللطيفة فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وفي الحديث (الله لطيف لعلمه بالشيء اللطيف).
الثاني: من اللطف وهو الرفق، والله لطيف بعباده ومخلوقاته أي رفيق بهم.
ويمكن إرجاع أحد المعنيين إلى الآخر، فالألطاف الإلهية بالعباد خفية لا يدركونها وهم يتنعمون فيها ولذا قيل (وكم لله من لطف خفي).
واللطف في المصطلح هو كل ما يقرّب من الطاعة ويبعّد عن المعصية من دون أن يصل إلى درجة الإلجاء وسلب الاختيار ولذا ورد في الرواية (لا جبر ولا تفويض، قلت: فماذا؟ قال: لطف من ربك بين ذلك).
وألطاف الله تبارك وتعالى على العبد لا تعد ولا تحصى، فوجوده لطف
ص: 52
إذ لو كان معدوماً لما استطاع أن يعمل ويتكامل، والهداية إلى الإيمان بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لطف، فلو لم يهدنا الله تبارك وتعالى لما عرفنا الطريق الموصل إلى الكمال (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللّهُ) ، وأعضاء البدن لطف إذ لو لم يكن له بدن لما استطاع أن يقوم بالعبادات المقرّبة لله تبارك وتعالى، والمال لطف فبدونه لا يستطيع الإتيان بالكثير من القربات كالحج والزيارة والإنفاق في سبيل الله تعالى والتوسعة على العيال إلى مالا يحصى من الألطاف المقربة من الطاعة والمعينة عليها.
والأدعية والمناجاة وسائر الأذكار لطف، إذ بدونها لا نعرف ماذا نقول بين يدي الله تبارك وتعالى وما هو مقتضى آداب العبودية، بل لا نعلم هل يحق لنا أن نقف بين يديه تبارك وتعالى ونخاطبه، ونحن نرى أن إنساناً وضيعاً يتبوأ موقعاً لا قيمة له كوزير أو ملك، يوضع (أتكيت) لزيارته ومحادثته والآداب الواجب إتباعها بحضرته، بينما نخاطب رب العالمين متى شئنا وبما شئنا وبأي لغة نشاء وهو جل جلاله يقبل علينا ويسمع منا ويبادلنا من الحب والرحمة أكثر مما نعطي، لذا ورد في مناجاة الذاكرين (ومن أعظم النعم علينا جريان ذكرك على ألسنتنا، وإذنك لنا بدعائك وتنزيهك وتسبيحك).
ومن أعظم الألطاف الإلهية البعثة النبوية الشريفة التي نعيش عبق ذكراها، فقد شكلت أعظم نقلة في تاريخ البشرية لأمة كانت متهرئة متخلفة يقتل بعضها بعضاً وتتفاخر بالموبقات والجرائم كوأد البنات والزنا وشرب الخمر وهي مشتتة متفرقة أحاطت بها دول قوية تنهشها، حوت جميع المنكرات والمفاسد، فأصبحت ببركة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمة متحضرة مدنية تقود العالم وتهدي البشرية وتقدم لبني الإنسان أعظم قانون يكفل السعادة والصلاح.
ولو لم يبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتُركت الجاهلية على حالها فإنه لا يعلم
ص: 53
إلا الله تعالى ما صرنا إليه اليوم، إذا كان حال أولئك وهم أقرب عهداً للرسالات والديانات السماوية ولهم فرص أقل من الفساد هو ما ذكرناه فكيف إذا طال بهم الأمد إلى اليوم من تنوع أدوات الضلال والفساد والجريمة وتقنينه بالشكل الذي نعاصره.
فكل خير يصل إلينا وكل مكرمة يمكن أن توجد فينا بل كل وجودنا فنحن مدينون بفضله لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبركات بعثته الشريفة، التي هي من الألطاف الإلهية الخاصة لهذه الأجيال، فاعرفوا حق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأكثروا من الصلاة عليه والدعاء له.
وهنا نشير إلى نكتة وهي أن اسم (اللطيف) يستعمل في موارد اللطف، وهذا من بلاغة القرآن الكريم حيث تنتهي الآية بما يناسب مضمونها، فإذا كان المضمون حكماً صارماً وموقفاً حازماً - كآية القطع في السرقة - فإنها تنتهي بالعزيز الحكيم، وإذا كان مورد رحمة ورفق انتهت بالرؤوف الرحيم، وعلى هذا جرت السنة الشريفة، فدققوا في الموارد التي ذكر فيها اسم (اللطيف) لتعرفوا موارد اللطف، وأوضحها في أذهانكم حديث الثقلين المشهور الذي ألزم الأمة بالتمسك بالثقلين وفيه (وقد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض).
وأي لطف أعظم على الأمة بعد البعثة النبوية الشريفة من لطف حبلي القرآن والإمامة؟
ونريد هنا أن نأخذ درسين من هذا الاسم المبارك (اللطيف):
1 - إننا أمرنا بالتخلق بأخلاق الله تبارك وتعالى وأن نتصف بأسمائه الحسنى، ومنها هذا الاسم المبارك (اللطيف) فإن الله تعالى لطيف بعباده يقربهم من الطاعة ويبعدهم عن المعصية، قال تعالى (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي
ص: 54
قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ) (الحجرات: 7) وخصوصاً أنتم أتباع أهل البيت (عليهم السلام) فإنكم تحظون بألطاف خاصة دون غيركم لذا تجدون هذا الحماس والاندفاع والتضحية في سبيل الله تعالى مما لا يوجد عند غيركم وهذا يكشف عن هذه الألطاف الخاصة.
وقد مرّت علينا في الأسبوع الماضي ذكرى وفاة الإمام الكاظم (عليه السلام) ورأيتم قد زحفت الملايين رغم الحر الشديد الذي تجاوزت فيه درجة الحرارة نصف درجة الغليان - كما وصفت بعض القنوات - في الظل أما في الشمس فتتجاوز 70 درجة مئوية ورغم عمليات القتل الذي نفذها المجرمون طيلة ثلاثة أيام المناسبة، ومع ذلك لم يتوقف هذا الزحف المبارك، فهذا كله ناشئ من هذا التزيين الذي لطف به الله تبارك وتعالى.
فليكن كل منا لطيفاً بهذا المعنى أي يكون مقرباً للناس من الطاعة ويزينها لهم ويحثهم عليها، ويبعدهم عن المعصية ببيان مساوئها وأضرارها وأخطارها في الدنيا والآخرة ويوجد البدائل الصالحة عنها، وليعرف من يعمل على عكس ذلك أنه بعيد عن الله تعالى وغير متصف بأسمائه، كما نرى من بعض المتدينين صدور بعض التصرفات المنفرة عن الدين بحيث أن البعض ممن يراد هدايتهم ودعوتهم إلى الالتزام بالدين يجيب: لا حاجة لي بالدين وانظر إلى المتدينين كيف يفعلون كذا وكذا.
وهو مخطئ طبعاً بهذا التصور، ولكن هذه النتيجة قد حصلت على أي حال.
وقد يحصل التنفير من الطاعة بأن نحمل الناس ما لا يطيقون ولا نراعي الدرجات المتفاوتة لإيمانهم، فنثقل مثلاً على الشباب المهتدي حديثاً للإيمان
ص: 55
بقائمة طويلة من المستحبات والمكروهات ونحاسبه على بعض تصرفاته التي يمكن غض النظر عنها فينفر منها ومن الواجبات أيضاً.
إن كلاً منكم يستطيع أن يحقق صفة (اللطيف) بحسب عنوانه وموقعه ومساحة تأثيره ولا أقل من نفسه أولاً ثم أسرته وأصدقائه وزملائه في العمل، ولعل الحوزة العلمية تتمتع بأوسع الفرص من هذه الناحية، وأنتم كذلك يا طلبة الجامعات الذين قضيتم دورة سريعة في العلوم الدينية في رحاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف خلال العطلة الصيفية فتزودّتم بما يعينكم على هداية الناس وتقريبهم للطاعة.
2 - إن اللطف واجب على الله تعالى كما يقولون في كتب العقائد. بمعنى أنه نفسه كتب على نفسه اللطف بعباده وقد ظهر هذا - فيما ظهر - في بعث الأنبياء وإرسال الرسل وإنزال الكتب، ثم واصلها بنصب الأئمة الطاهرين (سلام الله عليهم).
ولا ينقطع اللطف بانقطاع الوجود الظاهري للائمة (عليهم السلام) لأن أسماء الله الحسنى ثابتة له تبارك وتعالى، فاللطف يقتضي وجود امتداد لهذه السلسلة المباركة من الأنبياء والأئمة متمثلاً بالعلماء السائرين على نهجهم والمقتفين لآثارهم ولا تخلوا الأرض منهم، ومرور أربعة عشر قرناً حافلة بالأساطين منهم شاهد على ذلك وسيبقى حتى ظهور القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وحينئذٍ فمن يقول: أننا لا نحتاج إلى المرجعية، أو أنه لا توجد مرجعية نقلدها، أو أن لدينا فقه يكفينا لكذا من السنين فلا نحتاج للرجوع إلى احد، فمثل هذا بعيد عن الصواب ولو حللنا كلامه فإنه ينكر هذا الاسم من الأسماء الحسنى والعياذ بالله.
ص: 56
رجب وشعبان إعداد وتأهيل لشهر رمضان(1)
ورد في دعاء الإمام السجاد لتوديع شهر رمضان قوله (عليه السلام):
(يَا مَنْ تَحَمَّدَ إلى عِبَادِهِ بِالإحْسَانِ وَالْفَضْلِ، وَغَمَرَهُمْ بِالْمَنِّ وَالطَّوْلِ، مَا أَفْشَى فِينَا نِعْمَتَكَ، وَأَسْبَغَ عَلَيْنَا مِنَّتَكَ، وَأَخَصَّنَا بِبِرِّكَ هَدَيْتَنَا لِدِينِكَ الَّذِي اصْطَفَيْتَ، وَمِلَّتِكَ الَّتِي ارْتَضَيْتَ، وَسَبِيلِكَ الَّذِي سَهَّلْتَ، وَبَصَّرْتَنَا الزُّلْفَةَ لَدَيْكَ، وَالْوُصُولَ إلى كَرَامَتِكَ) ثم يخص بالذكر منته تبارك وتعالى علينا بشهر رمضان التي هي من أعظم النعم فيقول:
(اللَّهُمَّ وَ أَنْتَ جَعَلْتَ مِنْ صَفَايَا تِلْكَ الْوَظَائِفِ، وَخَصَائِصِ تِلْكَ الْفُرُوضِ شَهْرَ رَمَضَانَ الَّذِي اخْتَصَصْتَهُ مِنْ سَائِرِ الشُّهُورِ، وَتَخَيَّرْتَهُ مِنْ جَمِيعِ الأَزْمِنَةِ وَ الدُّهُورِ) إلى أن يقول (ثُمَّ آثَرْتَنَا بِهِ عَلَى سَائِرِ الأمَمِ، وَاصْطَفَيْتَنَا بِفَضْلِهِ دُونَ أهل الْمِلَلِ).
ص: 57
ونعمة عظيمة كهذه تتطلب إعداداً لتحملها واستثمارها كأفضل ما ينبغي، لذا كان شهرا رجب وشعبان محطتي تدريب وتأهيل للدخول في شهر رمضان يتسامى فيهما المؤمن ويتكامل ويقترب من الله تبارك وتعالى ليدخل في ضيافة الله وهو على أتم الاستعداد، أما الذي يدخل شهر رمضان من دون إعداد فسيجده ثقيلاً خاوياً من السمو الروحي، ويحتاج إلى مرور أيام منه ليتفاعل معه، فيخسر بركة هذه الأيام وعطاياها وهي خسارة لا تعوض فإن لكل يوم من شهر رمضان مِنَحاً إلهية خاصة به.
من هنا تجد المماثلة بين أعمال الأشهر، الثلاثة فيستحب فيهما الغسل، وتشترك بالصوم حتى استحب صوم شهري رجب وشعبان جميعاً ووصلهما بشهر رمضان، وبالدعاء والصدقة ووجود صلوات وأدعية مخصوصة لليالي والأيام، وتتوزع فيها أيام مباركة لمضاعفة الأجر ولتعجيل التكامل وتسريعه كالأول والنصف من رجب وليلة الرغائب وهي أول ليلة جمعة من رجب وليلة المبعث ويومه والنصف من شعبان، كما أن الليالي البيض لها جميعا (13 و 14 و 15) لها أعمال مشتركة بعضها يكمل بعضاً، كما أنها تشترك جميعاً في أعمال خاصة لليوم الأخير منها وهذه المماثلة في الأعمال لها أثر بليغ في تعويد الإنسان على هذه الأعمال الشاقة (هي النفس ما عودتها تتعود) وجعل العمل عادة يقرب الإنسان من الالتزام به ويخفف من مشقته، كاستحباب تمرين الأطفال على التكاليف الشرعية قبل البلوغ بمدة.
ص: 58
والإعداد والتأهيل للمؤمن تجده واضحاً في هذين الشهرين لو التفتنا إلى عدة أمور: -
التدريجية في الأعمال كماً وكيفاً فيكون شعبان أكثر وأهم أعمالاً من رجب، وإن شهر رمضان أعماله أشد وأهم من شعبان، ومعها تتصاعد الهمة لأداء هذه الأعمال، فقبل شهر رجب قد يجد الإنسان صعوبة وضيقاً نفسياً من الصوم ولو يوماً واحداً، فإذا حلّ رجب تولدت الرغبة لديه لصوم عدد من الأيام وربما كله وتكون الهمة أكبر في شعبان وهكذا.
ازدياد تركيز المعصومين (عليهم السلام) على فضل الأشهر كلما تقدم المؤمن فيها، فشعبان أفضل من رجب، وشهر رمضان أفضل من شعبان، ليزداد اهتمام المؤمن وتوجهه إلى الطاعة كلما يشعر بأن الفضل والثواب يزداد، حيث نسب شهر رجب في بعض الروايات إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وشهر شعبان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشهر رمضان لله تبارك وتعالى، وتشهد لهذا المعنى ما ورد في دعاء الإمام السجاد في شعبان (وهذا شهرُ نبيِك سيدِ رُسُلِك شعبان الذي حفَفتَه مِنكَ بالرحمةِ والرضوانِ).
جعل أهم عمل فيهما هو الاستغفار والصدقة بل إن شهر رجب خص باسم شهر الاستغفار فعن الصادق (عليه السلام) أنه قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): رجب شهر الاستغفار لأمتي فأكثروا فيه الاستغفار فإنه غفور رحيم ويسمى رجب الأصب لأن الرحمة على أمتي تصب صباً فيه فاستكثروا من قول: استغفر الله واسأله التوبة)، وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): (ما أفضل ما يفعله فيه (أي شعبان) قال: الصدقة والاستغفار ومن تصدق بصدقة في شعبان رباها الله تعالى كما يربي أحدكم فصيله حتى يوافي يوم القيامة وقد
ص: 59
صار مثل أحد)(1).
ونحن نعلم اثر هذين العملين في تنقية قلب المؤمن وتهذيب نفسه لتتأهل للكمال، كالأرض إذا أريد لها أن تنتج ثماراً طيبة فلا بد أولاً من تنقية الأرض وتنظيفها من الشوائب، وهكذا النفس والقلب فإنهما قد تكدرا خلال السنة باتباع الهوى والخوض في أمور الدنيا مما يجعلهما غير مؤهلين لاستقبال النفحات الإلهية في شهر رمضان، فلا بد من تطهيرهما وتهذيبهما بالصدقة خصوصاً صدقة السر التي تطفئ غضب الرب كما في بعض الأحاديث، والاستغفار خصوصاً مع الالتفات إلى المعنى الحقيقي للاستغفار الذي شرحه أمير المؤمنين (عليه السلام) لرجل قال بحضرته: (أستغفر الله) فقال له (عليه السلام): (إن الاستغفار يقع على ستة معانٍ، أولها: الندم على ما مضى، والثاني العزم على ترك العود إليه أبداً، والثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم (المادية والمعنوية)(2).. والرابع: أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيّعتها فتؤدي حقها، والخامس أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان..، والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: أستغفر الله)(3).
إنك تجد في أعمال هذين الشهرين الإكثار من الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله بل قد كرست أدعية لذلك ومنها الصلوات المروية في الأعمال العامة لشهر شعبان (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ شَجَرَةِ النُّبُوَّةِ
ص: 60
وَمَوْضِعِ الرِّسَالَةِ... إلخ)، ومن الواضح أن محمداً وآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هم واسطة الفيض الإلهي(1) وأبواب رحمته ولا يصل الإنسان إلى الكمال إلا بولايتهم، فيكون من الضروري الإكثار من الدعاء لهم والتوسل بهم لرفع مستوى التأهيل والاستعداد لتقبل الإفاضات الإلهية، وفي الحديث المروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
(صلاتكم عليَّ مجوزَّة لدعائكم ومرضاة لربكم وزكاة لأبدانكم)(2).
الانتباه من الغفلة والتحذير منها من خلال تركيز الدعاء بالوقاية منها والاستعاذة بالله من الابتعاد عنه كقوله (عليه السلام):
(ولا تجعلني من الغافلين المبعدين)(3) وقوله (عليه السلام): (ولا تكلنا إلى غيرك) (اللهم إني أسألك أن تجعل لي إلى كل خير سبيلاً ومن كل ما لا تحب مانعا يا ارحم الراحمين) وتستمر هذه الصحوة من الغفلة ليدخل شهر رمضان وهو في التفات كامل وذكر دائم لله تبارك وتعالى.
استثارة أسباب الرحمة والعطف عند الله تعالى ليقبلنا الله تبارك وتعالى عبيداً تائبين عائدين إليه، وتجد هذا المعنى واضحاً من خلال الأدعية وبأشكال متعددة كالتسليم بغنى الله وفقر الإنسان كقوله (عليه السلام):
(اللهم أنت العلي العظيم وأنا عبدك البائس الفقير أنت الغني الحميد وأنا العبد الذليل اللهم صلِّ على محمد وآل محمد وأمنُن بغناك على فقري وبحلمك على جهلي وبقوتك على ضعفي يا قوي يا عزيز) ، وكالاعتراف بأن لا ملجأ منه تبارك وتعالى إلا إليهي.
ص: 61
(خَابَ الْوَافِدُونَ عَلَى غَيْرِكَ، وَ خَسِرَ الْمُتَعَرِّضُونَ إِلا لَكَ، وَ ضَاعَ الْمُلِمُّونَ إِلاّ بِكَ، وَ أَجْدَبَ الْمُنْتَجِعُونَ إِلاّ مَنِ انْتَجَعَ فَضْلَكَ)، وكالتوسل إليه بأحب أسمائه إليه (اللهم يا ذا المنن السابغة و الآلاء الوازعة والرحمة الواسعة و القدرة الجامعة والنعم الجسيمة و المواهب العظيمة والأيادي الجميلة و العطايا الجزيلة يا من لا ينعت بتمثيل و لا يمثّل بنظير و لا يغلب بظهير) إلى أن يقول (عليه السلام):
(يا من سما في العز ففاق نواظر الأبصار ودنا في اللطف فجاز هواجس الأفكار يا من توحد بالملك فلا ندَّ له في ملكوت سلطانه وتفرد بالآلاء والكبرياء فلا ضد له في جبروت شأنه يا من حارت في كبرياء هيبته دقائق لطائف الأوهام وانحسرت دون إدراك عظمته خطائف أبصار الأنام) إلى أن يقول: (أسألك بهذه المدحة التي لا تنبغي إلا لك..) إلخ.
وقد كان المعصومون (عليهم السلام) يهيئون شيعتهم في هذين الشهرين لاستقبال شهر رمضان وهم على أحسن حال فعن أبي الصلت الهروي قال: (دخلت على الإمام الرضا (عليه السلام) في آخر جمعة من شعبان فقال لي: يا أبا الصلت إن شعبان قد مضى أكثره وهذه آخر جمعة فيه فتدارك فيما بقي تقصيرك فيما مضى منه وعليك بالإقبال على ما يعنيك(1) وأكثر من الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن وتُب إلى الله من ذنوبك ليُقبل شهر رمضان إليك وأنت مخلص له عز وجل ولا تدعن أمانة(2) في عنقك إلا أديتها ولا في قلبك حقداً على مؤمن إلا نزعته ولا ذنباً أنت مرتكبه إلا أقلعت عنه واتق الله وتوكل عليه في سر أمرك وعلانيتك. وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ
ص: 62
قَدْراً وأكثِرْ في ما بقي من هذا الشهر قول: اللهم إن لم تكن غفرت لنا فيما مضى من شعبان فأغفر لنا فيما بقي منه، فأن الله تبارك وتعالى يعتق في هذا الشهر رقاباً من النار لحرمة هذا الشهر)(1) وهي وصية جليلة ينبغي مراعاتها على الدوام وتصلح أن تكون نبراساً لسلوك المؤمن.
وللتنبيه إلى فضل هذا الشهر (رجب) والأعمال الواردة فيه أنقل بعض الأحاديث عن المعصومين فعن أبي الحسن (عليه السلام):
(رجب شهرٌ عظيم يضاعف الله فيه الحسنات ويمحو فيه السيئات من صام يوماً من رجب تباعدت عنه النار مسيرة مائة سنة ومن صام يوماً من ثلاثة أيام وجبت له الجنة)(2) وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله:
(من صام يوماً من رجب إيماناً واحتساباً جعل الله تبارك وتعالى بينه وبين النار سبعين خندقاً عرض كل خندق ما بين السماء والأرض)(3) وعن أبي الحسن (عليه السلام):
(رجب نهرٌ في الجنة أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل من صام يوماً من رجب سقاه الله من ذلك النهر)(4) وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله:
(ومن أحيا ليلة من ليالي رجب أعتقه الله من النار وقبل شفاعته في سبعين ألف رجل من المذنبين ومن تصدق بصدقةٍ في ابتغاء وجه الله اكرمه الله يوم القيامة في الجنة من الثواب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)(5).
ص: 63
وعن سالم بسندٍ معتبر قال دخلت على الصادق (عليه السلام) في رجب وقد بقيت منه أيام فلما نظر قال لي:
(يا سالم هل صمت في هذا الشهر شيئاً قلت لا والله يا ابن رسول الله فقال لي فقد فاتك من الثواب ما لم يعلم مبلغه إلا الله عز وجل، إن هذا الشهر قد فضّله الله وعظّم حرمته وأوجب للصائمين فيه كرامته، قال فقلت له: يا ابن رسول الله فإن صمتُ مما بقي منه شيئا هل أنال فوزاً ببعض ثواب الصائمين فيه؟ فقال: يا سالم من صام يوماً من آخر هذا الشهر كان ذلك أماناً من شدة سكرات الموت وأماناً له من هول المطلع وعذاب القبر، ومن صام يومين من آخر هذا الشهر كان له بذلك جوازاً على الصراط، ومن صام ثلاثة أيام من آخر هذا الشهر أمن يوم الفزع الأكبر من أهواله وشدائده وأعطي براءة من النار)(1).
ومن أحاديث فضل شهر شعبان: ما عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
(من صام يوماً من شعبان إيماناً واحتساباً غفر له)(2) وما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام):
(وما من عبدً يكثر الصيام في شعبان إلا أصلح الله أمر معيشته وكفاه شر عدوه، إن أدنى ما يكون لمن يصوم يوماً من شعبان أن تجب له الجنة)(3) وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (كان السجّاد (عليه السلام) إذا دخل شعبان جمع أصحابه وقال: يا أصحابي أتدرون ما هذا الشهر؟ هذا شهر شعبان، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: شعبان شهري فصوموا هذا الشهر حباً لنبيّكم وتقرباً إلى ربكم، أقِسمُ بمن نفسي بيده لقد سمعت أبي الحسين يقول سمعت أمير المؤمنين يقول: من صام شعبان
ص: 64
حباً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقرباً إلى الله أحبّه الله وقربّه إلى كرامته يوم القيامة وأوجب له الجنة)(1).
ولأهمية هذين الشهرين كان السلف الصالح يستعدون لهما قبل حلولهما، ويستعدون لليالي والأيام الخاصة الشريفة قبل حلولها أيضاً لكي لا يفوتهم شيء من الثواب، فيسجلون في صحيفة خاصة أعمال الشهر، ويقسمونها إلى قسمين عامة وخاصة، فالعامة ما تكون مشتركة لجميع أيام الشهر ولياليه، والخاصة ما تختص ببعض هذه الأيام. وقد كفانا الشيخ صاحب مفاتيح الجنان (قدس سره) مؤونة البحث فجمعها وبوّبها وصنّفها، لكن هذا لا يعفينا من الاستعداد لاستقبال هذه الأشهر المباركة بأن نسجل نحن أيضاً عناوين هذه الأعمال في ورقة خاصة لتكون لنا دليلاً خلال الشهر، ولنذكّر أنفسنا بهذه الأعمال فإن إضاعة الفرصة غصة، وما يدرينا أننا باقون أحياء حتى رجب المقبل وكم شخص كان معنا في رجب الماضي وهو ليس معنا اليوم؟.
فعلينا أن لا نقصر قبل أن يأتينا الأجل ونقول:(رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) ويأتيهم الجواب (كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(2) (المؤمنون: 99).
ص: 65
أما انتم فكأنه قيل لكم نعم أرجعوا إلى الدنيا وها انتم فيها لننظر كيف تعملون.
والأعمال في هذا الشهر كثيرة منها الغسل والصدقة والاستغفار والدعاء بأدعية مأثورة، ومنها: زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) خصوصا ًفي الأول والنصف منه، ففيهما زيارتان عظيمتان يغفل أكثر الناس عن ثوابها ولأجل هذه الغفلة سميت زيارة النصف من رجب بالغفيلة، أما زيارة أول رجب فقد ورد فيها عن الأمام الصادق (عليه السلام)
(من زار الحسين صلوات الله عليه في أول يوم من رجب غفر الله له ألبتة)(1) وعن أبن أبي نصر أنه قال سألت الرضا (عليه السلام): (أي الأوقات أفضل أن نزور فيه الحسين (عليه السلام)؟ قال: النصف من رجب والنصف من شعبان)(2).
وقد تناقش في صحة بعض الأحاديث المتقدمة إلا أن ضعف سندها مجبور بما يعرف عند الفقهاء ب - (أحاديث من بلغ) وهي معتبرة السند مضمونها (أنه من بلغه شيء من الثواب على عمل فعمله طلباً لذلك الثواب كتب له وإن لم نقله) وهذا طبعاً من حسن الظن بالله تعالى والله عند حسن ظن عبده.
ومن أهم أعمال هذا الشهر الصوم فقد وردت في فضله أحاديث كثيرة، وأيامه على درجات متفاوتة في الفضل والأيام التي لها فضل ٌخاص اكثر من غيرها، اليوم الأول والأيام البيض (13، 14، 15) ويوم المبعث (27) والأيام الثلاثة الأخيرة من الشهر، فهذه أيام ثمانية لنعقد العزم على أن لا نفرط في صومها
ص: 66
إلا لعذر فمن أراد الزيادة فالخميس والجمعة من كل أسبوع، وإذا أراد الزيادة فليضف الاثنين، ومنتهى الفضل أن يصوم الشهر كله.
ومن ألأعمال التي يمكن الالتزام بها في شهر رجب صلاة ركعتين في كل ليلة بالحمد والكافرون ثلاث مرات والتوحيد فإذا سلم رفع يديه إلى السماء وقال: (لا إله ألا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حيٌ لا يموت بيده الخير وهو على كل شيءٍ قدير وإليه المصير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم صلِّ على محمد النبي الأُمي وآله) ويمرر يديه على وجهه.
لكن يجب الالتفات إلى نقطة مهمة يؤكد عليها علماء الأخلاق وهي ضرورة عدم تحميل النفس فوق طاقتها(1) فتعصي وتتمرد ويصعب حين إذن تحميلها حتى القليل، فلا بد من أخذها برفقٍ وتدريجٍ فإن النفوس متفاوتة في الاستعدادات لتحمل الطاعات فلا يأخذكم الحماس والاندفاع فتحملوها ما لا تطيق وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال:
(مرَّ بي أبي وأنا بالطواف وأنا حَدَثٌ وقد اجتهدت في العبادة، فرآني وأنا أتصابُّ عرقاً، فقال لي: يا جعفر يا بني إن الله إذا أحب عبداً أدخله الجنة ورضي عنه باليسير)(2)، وهذه وصية كل المربين وأساتذة الأخلاق والعمدة الإخلاص والتقوى.
اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا شهر رمضان وأعنا على الصيام والقيام وحفظ اللسان وغض البصر ولا تجعل حظنا منه الجوع والعطش يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
ص: 67
رجب وشعبان ورمضان تعجّل حصول نور الفرقان(1)
من السنن الجارية في الأمم مرورها بحالة التيه والضلال عند غياب أنبيائها، قال تعالى:(وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ) (آل عمران: 144)، ولكن كم هم الشاكرون الذين يثبتون على المسار الصحيح، قال تعالى (وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) سبأ 13، أما الأكثر فهم المنقلبون والمنحرفون عن طريق الحق والهدى، ومثل هؤلاء لا يضرّون إلا أنفسهم فإن الله تعالى غنيٌ عنهم.
وإنما تحصل هذه الحالة لأن غياب النبي والقائد يمثل مفترق طرق يجلس عنده شياطين الجن والإنس وأئمة الضلال وطلاّب الدنيا ويضيّعون العلامات الصحيحة التي تدل على الطريق وسط علامات مزيفة ينصبونها ويحيطونها بهالات قدسية فيتيه أكثر الناس كما فعل السامري ببني إسرائيل وما حصل بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ومادام الشاكرون قليلين فلا نأسى على قلّتهم (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ
ص: 68
أَحْبَبْتَ) (القصص: 56)،(وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (النحل: 9)، ولكننا يجب أن نسعى ونعمل بجدّ لنكون من هؤلاء القلّة، وتقع الكارثة علينا حينما نفشل في ذلك والعياذ بالله، فإن هذه سنة جارية في كل الأجيال من الأمة كلما غاب عنها قادتها الكبار الذين تلتف حولهم وتذوب فيهم، والنجاة في مثل هذه المفترقات من الطرق إنما تكون بنور الفرقان الذي يضيء في قلب المؤمن وينير له الدرب ويفرّق له بين الاتجاه الصحيح والمنحرف.
وفي ضوء هذا كانت الحاجة ملحة لكل من يرجو الفلاح والنجاة أن يعمر قلبه بهذا النور لئلا يتخبّط ويتيه ويضيع، وقد بيّن لنا ربنا كيف ينبلج هذا النور في القلب، قال تعالى:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (الأنفال: 29)، فالتقوى هي منشأ هذا الفرقان والمنتج له، قال تعالى:(وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) (البقرة: 197).
وقد تحتاج إلى مزيد من البيان والتفسير لهذه الآيات الكريمة نستقيها من السنة الشريفة التي وظيفتها شرح آيات القران وتفسيرها.
وحينئذ سنجد فيها حديثاً شريفاً يجعل قوام هداية المؤمن وسيره على بصيرة وحصول نور الفرقان في قلبه بعناصر ثلاثة(1):
(أولها) لطف من الله تبارك وتعالى واللطف هو كل ما يقرب إلى الطاعة ويحببها ويزيّنها ويبعّد عن المعصية وينفّر منها.8.
ص: 69
(ثانيها) ورع وتقوى يحركّه نحو ما يحب الله تبارك وتعالى ويبعده عمّا يسخطه عز وجل.
(ثالثها) أخ ناصح شفيق يدلّه على عيوبه ويعينه على الطاعة ويشير عليه بالخير.
فالعملية تحتاج إلى عناصر تنبع من داخل الإنسان وأخرى تفاض عليه من الخارج، وعلى الإنسان أن يسعى لتحصيلها بلطف الله تبارك وتعالى وتوفيقه.
ومن لطفه تعالى أنه جعل لنا محطات لتسريع عملية نيل هذه الألطاف ومنها هذه الأشهر الشريفة (رجب، شعبان، رمضان) حيث إن هذه الأشهر الثلاثة تساهم أكثر من غيرها في إيجاد وتحقيق هذه العناصر الثلاثة.
فلطف الله تعالى بعباده يزداد، حيث تحسّ وجدانا في هذه الأشهر إقبالا على الطاعة أكثر من غيرها، فمثلاً لا يؤدي أكثر المؤمنين السنة الشريفة التي تعدل صوم الدهر وهي صوم ثلاثة أيام في الشهر أول خميس وأخر خميس وأربعاء في الوسط رغم أنها سهلة الأداء في الشتاء، لكن كثيرين من المؤمنين يصومون أكثر من ثلاثة أيام من شهر رجب رغم أنه حلّ علينا هذه السنة في تموز حيث الحر الشديد والحاجة البالغة للماء، ومثال آخر هو زيارة المعصومين أو تلاوة القرآن أو إطعام الطعام فإن الهمة تزداد في هذه الأشهر للإتيان بها وهذه كلها شواهد على زيادة اللطف الإلهي بعباده.
وأما العنصر الثاني فتحقيقه أسرع في هذه الأشهر من عدة جهات نشير إلى احدها وهو حصول الصوم في هذه الأشهر بشكل مكثف، وهدف تشريع الصوم هو حصول التقوى كما ورد في الآية الشريفة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183).
ص: 70
وقد ورد في فضل الصوم في هذه الأشهر أحاديث كثيرة راجعها في كتاب مفاتيح الجنان، ومنها هذه الرواية عن ابن بابويه بسند معتبر عن سالم قال: دخلت على الصّادق (عليه السلام) في رجب وقد بقيت منه أيّام، فلمّا نظر إليّ قال لي: يا سالم هل صمت في هذا الشّهر شيئاً قلت: لا والله يا ابن رسول الله، فقال لي: فقد فاتك من الثّواب ما لم يعلم مبلغه إلا الله عز وجل، إن هذا شهر قد فضّله الله وعظّم حرمته وأوجب الصّائمين فيه كرامته، قال: فقلت له: يا ابن رسول الله فإن صمت ممّا بقي منه شيئاً هل أنال فوزاً ببعض ثواب الصّائمين فيه، فقال: يا سالم من صام يوماً من آخر هذا الشهر كان ذلك أماناً من شدّة سكرات الموت وأماناً له من هول المطّلع وعذاب القبر، ومن صام يومين من آخر هذا الشّهر كان له بذلك جوازاً على الصّراط، ومن صام ثلاثة أيّام من آخر هذا الشّهر أمن يوم الفزع الأكبر من أهواله وشدائده وأعطى براءة من النّار.
وأما العنصر الثالث فإن هذه الأشهر تشهد أكثر من غيرها فرصاً لاستفادة مثل هؤلاء الإخوة الناصحين لما تشهده من عبادات جماعية في المساجد وزيارات وإقامة للشعائر ومجالس لإحياء ذكر أهل البيت (عليهم السلام) ومناسباتهم.
وألفت نظر أحبتي المؤمنين إلى عبادة جامعة لكل خصال الخير هذه عزف عنها الناس رغم ما ورد فيها من حث أكيد عن المعصومين سلام الله عليهم في هذه الأشهر الشريفة وخصوصاً في العشر الأواخر من شهر رمضان وهي الاعتكاف في المساجد الجامعة فلا يغفل عنها من تتيسر ظروفه لأدائها، ولها أحكام وآداب مذكورة في كتب الفقه والرسائل العملية.
ص: 71
ص: 72
ص: 73
ص: 74
مائدة شعبان(1)
سُمي هذا الشهر (شعبان) لتشعب الخيرات فيه من لدن الله تبارك وتعالى - كما ورد في الرواية الشريفة - وتشعب الخيرات يمكن أن يكون له أكثر من معنى.
منها: إيجاد أسباب للخير خاصة بهذا الشهر الشريف وهذا معنى صحيح ويكفيه شرفا أن فيه ليلة تضاهي ليلة القدر و هي النصف منه، مع تضمنه لمناسبات جليلة تتجدد فيها أفراح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته ومواليه وتكون سبباً لإفاضة الخيرات وفيه أيضا أعمال مخصوصة من أدعية ومناجاة وزيارات، فهذه كلها أسباب لتشعب الخيرات خاصة بهذا الشهر.
ومنها: أن الإنسان يوفق فيه إلى الطاعات أزيد مما يوفق إليها في غيره من الشهور وهذا معنى صحيح أيضاً، فالصلاة و الصوم و الصدقة والبر بالوالدين وصلة الرحم وقضاء حوائج المؤمنين و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها كثير كلها طاعات ومستحبة في جميع الأزمنة لكن اندفاع الإنسان للقيام بها يكون في هذا الشهر أزيد بما لا يقاس به غيره، مما يعني أن هذا الشهر كان سبباً للتعرض لتلك الخيرات الموجودة أصلاً.
ص: 75
ومنها: إن الأجر الذي يعطى للعاملين في هذا الشهر يكون أزيد مما يعطي لهم في غيره من الشهور على نفس الأعمال، فالصوم حسن في كل زمان إلا انه في شعبان أحسن، و الصلاة حسنة في كل زمان إلا أنها في شعبان أحسن، وهكذا كل الأعمال الصالحة الأخرى وتفاوت الدرجات يوم القيام إنما يكون بحسب حسن العمل قال تعالى (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الملك: 2).
وهذه المعاني كلها متحققة في شعبان، فالإنسان الساعي نحو الكمال يعمل لتحصيلها جميعا، ومن أتى بأي شعبة من شعب الخير هذه يكون قد تعلق بغصن من أغصان شجرة طوبى كما ورد في الرواية(1) الشريفة.
فهذه هي مائدة شعبان التي أعدّها الله تبارك وتعالى ولو نظرت حولك وفي داخلك لوجدت ما لا يعد ولا يُحصى من الخيرات وسبل الطاعة الموصلة إلى رضا الله تبارك وتعالى بعكس ما يصوّر البعض من امتلاء الدنيا والناس بالفساد والمعصية، وهذا موجود فعلاً لكنك انظر إلى العالم الأول لا الثاني. كمن ينظر من خلال عدسة بيضاء شفافة فانه يرى الدنيا منيرة مشرقة، وآخر ينظر إليها من خلال عدسة سوداء قاتمة فيراها مظلمة، بل يستطيع الإنسان أن يجعل من نفس دنيا الفساد والمعصية والانحراف ساحة للطاعة من خلال ممارسة الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والهداية إلى الحق وغلق منافذ الفساد وأدواته.
إن نفس وجود هذا العدد من الشباب الرساليين العاملين في ناحية من نواحي محافظة الناصرية لهو دليل على سعة مساحة الخير وأهله، في حين مرّ علىن.
ص: 76
الأئمة (سلام الله عليهم) وأصحابهم دور لم يستطيعوا فيه كسب واحد إلى ولاية أهل البيت (عليهم السلام) كما يظهر من بعض الروايات.
فعلى الإنسان العاقل أن يغتنم وجود هذه الشعب من الخيرات والأغصان المتدلية من شجرة طوبى ليجتني من ثمارها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا يزهد في شيء منها فانه لا يعلم أيها أكثر سبباً للقرب من الله تبارك وتعالى.
فهذه هي مائدة شعبان التي أعدها الله تبارك وتعالى لعباده في هذا الشهر الشريف فأين منها المائدة التي طلبها الحواريون من النبي الكريم عيسى روح الله (عليه السلام)(إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشّاهِدِينَ، قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ) (المائدة: 112-114)
فقارنوا بين الموقفين وبين المائدتين، تلك مائدة طلبها الحواريون اختباراً لصدق نبيهم ومائدتنا انزلها الله اختياراً، وتلك مائدة مادية تنفد ولا تبقى ومائدتكم معنوية باقية خالدة، وهذا كله تشريف من الله تعالى لنبينا محمد (صلى الله عليه وآله) وتكريم وتبيان لشرفه وفضله، ولذلك كان من الطبيعي أن يكون من أعظم المستحبات في هذا الشهر الإكثار من الصلوات على النبي وآله (صلى الله عليهم أجمعين) ووردت في ذلك صلوات شعبانية عن الإمام السجاد (عليه السلام) وهي التي أولها (اللهم صل على محمد وآل محمد شجرة النبوة...) إلى آخر الدعاء لأنه الواسطة في هذا الفيض الإلهي المبارك.
ص: 77
ودع عنك إشكال بعض المهرّجين في الفضائيات على الشيعة بأنهم يتوسلون إلى الله تعالى بالنبي وآله (صلوات الله وسلامه عليهم) والله لا يحتاج إلى واسطة ولماذا لا يسألون - أي الشيعة - الله تبارك وتعالى مباشرة؟ ونحوها من الإشكالات التي لا قيمة لها لأنهم لو رجعوا إلى مصادرهم فضلاً عن مصادرنا لوجدوا مشروعية هذا التوسل بل استحبابه فإن الله تعالى يحبُّ أن يسأل ويحبّ أن يتوسّل إليه بمن اصطفاهم من عباده ليفيض من خلالهم على عباده بالعطاء لا لأنه يحتاج إلى واسطة فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ولكن ليظهر شرف وفضل وكرامة هؤلاء المصطفين الأخيار الأطهار.
ولنسأل هؤلاء المهرّجين: أليس الله بقادر على أن ينزل شرائعه وأحكامه إلى صدور عباده وقلوبهم وعقولهم بأي وسيلة من دون حاجة إلى توسيط الأنبياء والرسل (عليهم السلام) فلماذا يتخذ هؤلاء الوسائط؟
فكما أن الحكمة الإلهية اقتضت توسيط الأنبياء في الفيض التشريعي كذلك فإنها اقتضت التوسيط في الفيض التكويني بلا فرق بينهما، لو كان يعقل هؤلاء المتحجرون.
وهنا نشير إلى وجه من معاني الحديث الوارد بأن شهر رجب شهر أمير المؤمنين (عليه السلام) وشهر شعبان شهر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشهر رمضان شهر الله تبارك وتعالى، أي أن جملة من الخيرات والألطاف الإلهية التي يفيضها الله تعالى على عباده في رجب هي من بركات الإمامة، وجملة منها في شعبان هي من بركات النبوة الخاتمة، أما شهر رمضان ففيه ألطاف إلهية أوسع من ذلك كله.
ولذلك ورد عن الصادق (عليه السلام) (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان إذا رأى هلال شعبان أمر منادياً ينادي في المدينة: يا أهل يثرب: إني رسول رسول
ص: 78
الله (صلى الله عليه وآله) إليكم، ألا أن شعبان شهري، فرحم الله من أعانني على شهري)(1).
وإعانته (صلى الله عليه وآله) تكون بإتباعه والسير على هداه ليتعرضوا بذلك لتلك النفحات الإلهية الخاصة التي تفاض بسبب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فينالها من تعرض لها ويزداد بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) سروراً ورفعة لأنه السبب فيها ولا تتحقق هذه الإعانة إلا بإعانة الله تعالى وتوفيقه، قال الإمام السجاد (عليه السلام) في الصلوات الشعبانية (اللهم فأعنّا على الاستنان بسنته (صلى الله عليه وآله) فيه ونيل الشفاعة لديه، اللهم وأجعله لي شفيعاً مشفّعاً وطريقاً إليك مَهْيَعاً - أي واسعاً بيّنا - واجعلني له متبعا إلى آخر الدعاء، فلا تُنال تلك البركات المحمدية إلا بإتباعه والأخذ بسنته بتوفيق الله تبارك وتعالى.
وقد بيّن الدعاء جملة من تلك السنن والأسباب إلى الخير ومنها قوله (عليه السلام) (وارزقني مواساة من قتّرت عليه من رزقك بما وسّعت عليّ من فضلك) والفضل مطلق لا يختص بالمال فقد يكون للبعض فضل من جاه أو فضل من قوة بدنية أو فضل من موقع متنفذ أو فضل من علم ومعرفة أو فضل من أخلاق أو غيرها مما وسّع الله تعالى بها على عباده فليواسي بها الآخرين المحرومين من ذلك الفضل، فمن كان له فضل من مال فليوسّع على الفقراء المحتاجين، ومن كان له فضل من علم فليبذله لمن يجهلونه، ومن كان عنده فضل من أخلاق فليسع الآخرين بأخلاقه ويأخذ بأيديهم لإصلاح ما بهم، ومن كان له فضل من قوة فليُعنِ الآخرين وهكذا.
وأنتم بفضل الله تبارك وتعالى من السائرين على هذا الطريق المبارك فمنكم من انضمّ إلى).
ص: 79
مؤسسة قرآنية لنشر هذه المعارف الجليلة، ومنكم من انضم إلى مؤسسة إنسانية لمساعدة المحتاجين والمحرومين، وبعضكم انضمّ إلى مؤسسة علمية ثقافية لتوعية المجتمع وتثقيفه، وهذه كلها من شعب الخير والاستنان بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فطوبى لكم.
ص: 80
15 شعبان: في ذكرى ولادة الإمام المنتظر(1) (عجل الله تعالى فرجه الشريف)
استقبل سماحة الشيخ (دام ظله) للأيام من 13 ولغاية 15 من شعبان حشوداً من المؤمنين المشاركين في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ليلة النصف من شعبان وهنّأهم على هذه المنقبة العظيمة التي وُفّقوا لها، والألطاف الإلهية التي فازوا بها، ودعاهم إلى الاحتفاظ بالآثار المعنوية والتكامل الذي حصلوا عليه ليمدّهم بالطاقة الإيمانية لما يأتي من الأيام، وليس صحيحاً أن تزول هذه الآثار بمجرد العودة فهذه استفادة ناقصة وإنما تكون تامة إذا استمر هذا التأثير كما ورد عمّن سأل الإمام الصادق (عليه السلام) قال: كيف أعرف أن صلاتي مقبولة قال (عليه السلام): إذا نهتك عن الفحشاء والمنكر فمقدار قبولها بمقدار نجاحها في إيجاد هذا التغيير.
على انه مما يؤسف له أن كثيراً من الزائرين لم يعرف حق الزيارة ولا أهدافها فتجد كل همه أن يظهر ولاءه لزعيم سياسي أو ديني ويقدس صورته
ص: 81
ويرفعها في كل مكان، وآخرون أمضوا وقتهم في بعض المظاهر الاحتفالية الخارجة عن الحد الشرعي فأضاعوا على أنفسهم هذه الفرصة العظيمة للطاعة.
وقال سماحته تعليقاً على فعّالية فرح أقامها المحتشدون لزيارة سماحته بذكرى ميلاد الإمام (عليه السلام) وأعقبها مشاركة حزن لما تتعرض له الأمة من قتل وانتهاك وظلم وهضم حقوق، أنه من حقكم أن تفرحوا بهذه المناسبة ليس انتم فقط معاشر شيعة أهل البيت (عليهم السلام) بل كل البشرية التي تنشد العدالة والسعادة والرفاه والحرية بعد أن سأمت حياة النكد والظلم والاضطهاد والاستكبار في ظل الأيدلوجيات والنظم الأرضية، وكلمّا تصّورت أن هذا النظام سينقذهاوإذا به أسوأ من سابقه ففقدت الأمل في اليوم السعيد وهو ما عبر عنه الله تبارك وتعالى عن خليله إبراهيم (عليه السلام):(فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، فَلَمّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضّالِّينَ، فَلَمّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام: 76-79) وهكذا البشر على مرّ التأريخ كلما علق أمله بشيء دون الله تعالى ظهر فشله وعجزه وبقيت الآمال اليوم متعلقة بالله تعالى أن ينقذ البشرية بالمصلح الأعظم.
وتمتزج هذه الفرحة التي نحياها بالحزن الذي نعيشه بسبب ما نفقده من أحبة وأعزاء وأبرياء بفعل الإرهاب الأعمى، والطائفية المقيتة والإجرام الصدّامي، وبسبب الظلم الذي نتعرض له من الإخوة والأعداء على حد سواء ولا نقوم من فجيعة حتى تأتينا أخرى (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً وَ أُولئِكَ هُمُ
ص: 82
اَلْمُعْتَدُونَ) (التوبة: 10) كما وصفهم الله تعالى، يذبحون الناس على هوية التشيع لآل البيت عليهم السلام، ويقتلون صاحب محل لبيع اللحوم لأن عنوانه (محل الزهراء)، ويقتلون آخر لأنه يعلق صورة رمزية لأمير المؤمنين أو الإمام الحسين (عليه السلام) كما اعترفوا وأقرّوا بجرائمهم الفظيعة.
فهذا الامتزاج بين الفرح المشوب بالحزن هي شيمة هذه الحياة الدنيا على الدوام، فلا يجوز للعاقل أن يغترّ بها ويركن إليها وعليه أن يبقى متوجهاً إلى هدفه الحقيقي وهو رضا الله تبارك وتعالى، قال الإمام الحسين (عليه السلام):
(الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناءٍ وزوال متقبلة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته والشقيّ من فتنته).
ولنتعظ بمصير السابقين فقد كانوا أكثر أموالاً وجنداً وطغياناً كصدام ومن شابهه حيث كانت تحيط به عساكر تعدّ بالملايين ويتحكم بمليارات الدولارات من ثروة العراق كيف صار مصيره إلى حفرة كالجرذان أخرج منها ذليلاً.
ص: 83
ص: 84
ص: 85
ص: 86
مشاعرنا في استقبال شهر رمضان(1):
حينما يحلّ شهر رمضان ويتطلع المسلم إلى هلاله ينتابه شعوران:
الأول: الفرح لكونه ممن حظي فشهد هذا الشهر المبارك ولم يكن من الذين اخترمهم الأجل خلال العام الماضي فحرِم من هذه الفرصة الثمينة للتكامل والقرب من الله تعالى، فكم شخص كان بيننا في رمضان السابق وهو اليوم ليس فينا أما نحن فقد شملنا الله بلطفه وفتح لنا الباب على مصراعيه للاستزادة من الفضائل والحسنات والتقرب أكثر إلى الله تبارك وتعالى، كالطالب الذي تعطى له فرصة أخرى للامتحان في الدور الثاني ونحوه من أجل أن ينجح أو يحسّن درجته فحاله أفضل ممن يمنح فرصة واحدة.
وإن لله تبارك وتعالى ألطافاً ونفحات خاصة في شهر رمضان لا ينالها العبد في غيره وقد ورد في الحديث الشريف:
(إن لله تبارك وتعالى نفحات ألا فتعرضوا لها) ، هذه الألطاف والإمدادات الروحية يحسها حتى البعيدون عن الله تعالى فالمرأة السافرة تتحجب في شهر رمضان والذي يعاقر الخمرة يجتنبها احتراماً لهذا الشهر وتارك الصلاة يلتزم بها كل ذلك من بركات هذا الشهر الكريم.
من هذه الألطاف ما ذكرها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته التي ألقاها على المسلمين في آخر جمعة من شعبان ورواها أمير المؤمنين (عليه السلام)
ص: 87
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
(أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، أيها الناس: إن أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة فسلوا ربكم أن لا يغلقها عليكم، وأبواب النيران مغلقة فسلوا ربكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة فسلوا ربكم أن لا يسلطها عليكم.... الخ).
الثاني: الرهبة والهيبة لهذا الشهر الكريم لأنه شهر الله وله حرمة عظيمة فلذا أوجب الله تبارك وتعالى صومه من دون الشهور، وجعل فيه ليلة القدر وجعلها خيراً من ألف شهر وأنزل فيه القرآن ودعا عباده إلى ضيافته يرتعون في موائده ويغدق عليهم من كرمه وماذا تجد على تلك الموائد.
يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
(هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فسلوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وقيامه وتلاوة كتابه، فإن الشقي من حُرِم غفران الله في هذا الشهر العظيم).
فيشعر المؤمن بهيبة لهذا الشهر خشية أن يقصر فيه، ولا يكون أهلاً لضيافة الله تعالى فيحرم من بعض كرمه ويكون من الأشقياء، وعن هذه الحالة عبر الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) في دعائه، مخاطباً شهر رمضان:
(السلام عليك يا شهر الله الأكبر ويا عيد أوليائه السلام عليك يا أكرم مصحوب من الأوقات ويا خير شهر في الأيام والساعات، السلام عليك من مجاور رقّت فيه القلوب وقلّت فيه الذنوب، السلام عليك من ناصر أعان على الشيطان وصاحب سهل سبل الإحسان، السلام عليك ما كان أمحاك للذنوب وأسترك لأنواع العيوب).
ص: 88
ويمكن أن تقرب الصورة بمثال من الواقع: فلو أن ملكاً أو رئيساً دعا أحداً لضيافته فكم سيكون هذا المدعو حريصاً على آداب الضيافة وعدم الإخلال بها ليكون أهلاً لهذه الدعوة ويكون سعيداً وفخوراً بتوجيهها إليه، فكيف إذا صدرت بطاقة الدعوة من الله تبارك وتعالى خالق الخلق وجبار السموات والأرض وأوصلها إليك اشرف المخلوقات محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكم هي ثمينة وقيمة هذه الدعوى وكيف سيكون حرصك على أن تكون أهلاً لها.
ومن اقتران هذين الشعورين: الفرح والرهبة في القلب يندفع المسلم للعمل الصالح ويكون الحافز فيه مضاعفاً لطاعة الله تبارك وتعالى وأعمال البر والإحسان وصفاء القلوب والمودة والألفة ونزع ما فيها من غلّ وحقد وحسد وبغضاء ليكون من الفائزين يوم القيامة قال تعالى:(يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ، إِلاّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء: 88-89) أي خال من الغش للآخرين خصوصاً إذا التفت إلى عظمة العطاء الإلهي على أعمال الخير، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
(مَن حسّن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الأقدام، ومن كف فيه شره كف الله غضبه يوم يلقاه، ومن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه، ومن تطوع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار، ومن أدى فيه فرضاً كان له ثواب من أدى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن أكثر فيه من الصلاة علي ثقل الله ميزانه يوم تخف الموازين ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور).
ص: 89
تهنئة بالدخول في ضيافة الله تبارك وتعالى(1)
بحلول شهر رمضان المبارك الذي يحمل دعوة من الله تبارك وتعالى لعباده لينزلوا ضيوفاً على موائد رحمته ومغفرته وفضله وكرمه وخزائنه التي لا تنفد ولا يزيدها كثرة العطاء إلا جوداً وكرماً وقد بلّغ هذه الدعوة رسول الله الكريم في خطبته الجليلة التي استقبل بها شهر رمضان (شهرٌ دُعيتم فيه إلى ضيافة الله) وأي ضيافة! (أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة ودعاؤكم فيه مستجاب) فما أعظمها من دعوة وما أحرانا أن نستجيب لها بتطهير القلوب وتهذيب النفوس لنكون أهلاً لها (اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) (الأنفال: 24) وينبغي للمؤمنين أن يعرفوا حرمة هذا الشهر وما يجب أن يكونوا عليه وليقرأوا خطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في آخر جمعة من شعبان في (مفاتيح الجنان) ودعاء الإمام السجاد (عليه السلام) في استقبال هذا الشهر ووداعه في (الصحيفة السجادية) لينالوا الحظوة عند ربهم وعند إمامهم المهدي الموعود (عجل الله تعالى فرجه الشريف.
وليضاعفوا الهمة في العشر الأواخر من شهر رمضان فإن لها نفحات خاصة وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يشدد على نفسه فيها، واجتهدوا في أن يدعو بعضكم لبعض وان تتراحموا وتتواصلوا ليظلكم الله برحمته فلا تخرجوا من هذا الشهر إلا وقد أخرجكم الله من ذنوبكم وأدخلكم في رضاه.
ص: 90
دور طلبة الحوزة العلمية في تعطيل شهر رمضان(1)
يتضمن العنوان جهتين من الكلام الأولى عن التعطيل والثانية عن شهر رمضان:
ففي الجهة الأولى نقول: إن للتعطيل معنيين:
أ - التعطيل المطلق بمعنى أن طالب العلم يخلد إلى الراحة والنوم والكسل في العطلة - أية عطلة -، وهو معنى غير صحيح أكيدا فان الإنسان في هذه الحياة الدنيا في عمل دؤوب نحو الهدف وهو رضا الله سبحانه، وبلوغ المزيد من درجات التكامل ورأس ماله في هذا العمل وهذه التجارة ساعات عمره التي هي في انقضاء ومرور سريع، وأية ساعة يضيعها الإنسان من دون ان يوظفها في خدمة الهدف فإنها سوف تكون حسرة عليه يوم القيامة، ويشعر بالغبن حينما يرى غيره قد استثمرها فنال مرتبة أعلى منه، وفي الخبر أن ساعات عمر الإنسان تعرض أمامه على شكل خزائن تفتح له فان قضاها في خير وجد في تلك الخزينة خيرا أو في شر - والعياذ بالله - فيجد فيها شراً، وإذا قضاها في عمل غير هادف ولا مثمر فيجدها فارغة فيتحسر على فواتها عليه دون ان يملأها بما ينفعه (ولات حين مندم).
ويشبه بعضهم حال الإنسان بأنه كما لو كان مدلى بحبل في بئر عميق، وفي
ص: 91
قعره تنين عظيم فاتح فاه ينتظر اللحظة التي يسقط فيها هذا الإنسان المسكين ليلتهمه، وهناك جرذان في رأس الحبل تقرض به، وهو مع هذا الحال المرعب أقبل على عسل مخلوط بالتراب على جدران البئر يلعق به وينافس الزنابير والحشرات بدلاً من أن يفكر بنجاة نفسه.
هذه الصورة الرهيبة تمثل حالنا، فنحن متعلقون بحبل العمر ويقرض فيه الليل والنهار وتنين الموت ينتظرنا، فما يلبث عمرنا أن يتصرم حتى يلتهمنا الموت ونلاقي الدواهي العظمى، وبدلاً من أن نفكر في الاستعداد له والنجاة من عقبته الكؤود نضيع وقتنا الثمين في الراحة والكسل والصراع على الدنيا الزائفة التي شبهها أمير المؤمنين (عليه السلام) بالجيفة التي تزدحم عليها الكلاب.
وليس هذا من شأن المؤمن الذي يعيش بكل كيانه لهدف سامي, قال سبحانه وتعالى:(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (الانشقاق: 6) والكدح في اللغة العناء والتعب وفي نهج البلاغة
(ليكدح المؤمن حتى يلاقي ربه).
ب - التعطيل المقيد بمعنى أنه تعطيل عن الدروس الحوزوية المتعارفة فقط، وليس تعطيلاً عن كل عمل، وهذا المعنى هو الصحيح واللائق بالمؤمن الهادف الواعي.
فإن الطالب قد يتعب من الدرس والتحصيل وهذا شيء طبيعي فكيف يريح عقله؟! يريحه بالقيام بأعمال ومسؤوليات أخرى لا تقل وجوبا عن تحصيله الدراسي، وهي في نفس الوقت راحة له عن الجهد العقلي الذي بذله، فراحة طالب العلم في هذا التنويع في المسؤوليات، وهذا التنقل بين المسؤوليات ضروري على
ص: 92
الدوام لكي لا تجزع النفس وتتمرد، فإن لها حدوداً وقابليات فإذا كلفها فوق طاقتها نخشى عليها أن تعصي صاحبها فيخسر كل شيء، وإلى هذا التنوع أشار عليه السلام
(إن العقول لتمل أو لتكل كما تكل الأبدان، فروّضوها بطرائف الحكم) فمن حقها أن ترتاح بعد أن تبذل جهوداً مضنية، لكن راحتها ليس بالخمول والكسل وكثرة النوم وإنما بممارسة مسؤوليات وأداء واجبات مغايرة
فما هي المسؤوليات التي يمارسها طالب العلم في التعطيل: -
أولها وأهمها: نشر أحكام الله سبحانه وتوجيه المجتمع وإرشاده وتوعيته بالموعظة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال المنبر الحسيني، أو إلقاء المحاضرات، أو عقد الندوات، أو إجراء الحوارات، وهذا واجب الجميع والحوزة تكون مقصرة لو وجدت نقطة في أقصى البلاد لم تبعث إليها من يهدي أهلها ويرشدهم إلى سواء السبيل.
وقد أكد القران كثيراً هذا الدور المهم، قال تعالى:(وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران: 104) وأنتم يا رجال الحوزة القدر المتيقن من هذه الأمة، وقال تعالى:(فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة: 122).
وقد تفقهتم خلال سنة كاملة واستوعبتم كثيراً من المعلومات فبقي عليكم دور إيصالها إلى المجتمع، فإذا قمتم بهذا الدور فاستمعوا لما يعدكم الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأجر الجزيل والثواب الجميل، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) (من قوى مسكيناً في دينه ضعيفاً في معرفته على ناصبٍ فأفحمه لقنه
ص: 93
الله يوم يدلى في قبره أن يقول: الله ربي محمد نبيي وعلي وليي والكعبة قبلتي والقرآن لهجتي).
وعن معاوية بن عمار قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) رجل راوية لحديثكم يبث ذلك بين الناس ويشّدده في قلوبهم وقلوب شيعتكم، ولعل عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية أيهما أفضل؟ قال (عليه السلام): الراوية لحديثنا يشد به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد).
وروي عن علي (عليه السلام) أنه قال: (من كان من شيعتنا عالماً بشريعتنا فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به جاء يوم القيامة على رأسه تاج من نور، يضيء لأهل جميع تلك العرصات وعليه حلة لا يقوم لأقل سلك منها الدنيا بحذافيرها، ثم ينادي منادٍ من عند الله تعالى يا عباد الله هذا عالِم من بعض تلاميذ آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا فمن أخرجه في الدنيا من حيرة جهله فليتلبث بنوره ليخرجه من حيرة ظلمة هذه العرصات إلى نزهة الجنان، فيخرج من كان علمه في الدنيا خيراً أو فتح عن قلبه من الجهل قفلاً أو أوضح له شبهة).
ثانياً: الالتفات إلى تنقية القلب وتطهير النفس، فإننا قد أعطينا السنة كلها لغذاء العقل وهو على أهميته إلا أنه لا يكفي وحده بل لابد من الاهتمام بغذاء القلب من الموعظة والازدياد من المعرفة بالله سبحانه بالتدبر بالقران الكريم والأدعية الشريفة وقراءة كتب الأخلاق والوعظ والتهذيب، فمن وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام)
(يا بني أحيي قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة) وذات مرة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه (إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، قيل وما جلاؤها يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: قراءة القرآن وذكر الموت)(1).1.
ص: 94
فإذا تأمل الإنسان في مبدأه ومنتهاه وما يؤول إليه أمره من الموت وما بعد الموت فسيحصل على ثمار مهمة: الاستهانة بالدنيا وتحقير زخارفها، السمو عن الأعمال الدنيئة والانشداد إلى الله سبحانه والتعلق به.
وهذا العمل يعني إعمار القلب وتطهيره وإن كان ضرورياً على مدى السنة كلها، إلا أن شهر رمضان خير فرصة له لما فيه من أجواء سمو روحي، حيث تغل فيه الشياطين وتخمد شهوات النفس الأمارة بالسوء ويعيش الجميع أجواء الطاعة لله سبحانه.
وقد حشد الأئمة (عليهم السلام) عدداً وافراً من الأدعية والمناجاة لإعطاء هذا الشهر الشريف دفعة إلهية ضخمة، وليكرس الإنسان نفسه لله سبحانه، ويزداد هذا التكريس في العشر الأواخر من شهر رمضان حيث كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يطوي فراشه - كناية عن اجتناب النساء - ويشد مئزره للعبادة، وكان بعض المراجع ممن له مقام في العرفان يسد مكتبه في هذه الأيام ويمتنع عن لقاء الناس، والبعض الآخر كان يغادر أهله ولا يعرف احد أين يوّلي وجهه حتى نهاية الشهر.
إن غار حراء الذي دخله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومكث فيه متفرغا للتأمل والعبادة والمناجات والذكر الدائم مطلوب منا ان ندخله باستمرار، ولا أقل من هذا العشرة أيام بالسنة كما كان يفعل (صلى الله عليه وآله وسلم) لنجلو قلوبنا ونطهرها من الرين والصدأ المتراكم عليها من الذنوب والغفلة والاشتغال بفضول الدنيا من أكل أو نوم أو كلام، قال تعالى (كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين: 14).
ص: 95
ثالثها: مراجعة الدروس وتدارك ما فات منها، وسد الثغرات التي حصلت خلال المسيرة الدراسية.
رابعها: الاهتمام بالاتجاه الفكري أو ما نسميه بالوعي الاجتماعي فانه من مقومات شخصية العالم الديني ومع ذلك فان منهاج الدراسة الحوزوية المتعارفة خالية منه، فعليك أن تسعى لتحصيله بجهدك وتوفيق الله سبحانه، ومن أهم الكتب في هذا لمجال كتاب (في ظلال القران) وغيره لكبار مفكرينا المخلصين(1).
خامسها: تحصيل العلوم المكملة للدراسات الحوزوية مما لا يدخل في منهجها المألوف، كالتفسير والعقائد والتاريخ والرجال، مضافاً إلى الثقافة العامة والعلوم العصرية.
سادسها: تبادل الزيارات واللقاءات خصوصاً مع الأرحام، وتحسين العلاقات مع من تدّخل الشيطان بينك وبينه فحصل سوء تفاهم فتسعى لإصلاح ذات البين فانه أفضل من عامة الصلاة والصوم كما عبر أمير المؤمنين (عليه السلام).
سابعها: كتابة البحوث والدراسات وصقل هذه الموهبة، فانه من المؤسف حقاً أن تعيش النجف حاضرة الفكر ومصنع العلماء والمفكرين عقدين من الزمان خالية ممن يشخص قضايا المجتمع وسلبياتها ويعالجها، فلم تصنع الحوزة خلال هذه المدة مفكراً واحداً وهذا مما لا يمكن قبوله.
فعلى الإخوة الفضلاء والطلبة شحذ الهمم والتصدي لدراسة ما يعصف بالمجتمع من مشاكل وانحرافات وشبهات، وكتابة البحوث وعلاجها ومواجهتها،).
ص: 96
ويفضل ان تكون البحوث بحجم كراسات وكتيبات يسهل قراءتها ولا يتعذر بذل الثمن بإزائها ويكفي في هذه الكتابات تلخيص أفكار علمائنا أو مفكرينا الكبار وتجميعها وصياغتها بما يناسب واقعنا المعاش.
لماذا جعل الله تعالى الأعمال في هذه الأيام مضاعفة؟
قد يسأل سائل لماذا عين الله سبحانه أياماً مباركة وليالي شريفة اهتم بها وجعل الأعمال بها مضاعفة، هل لعظمتها في نفسها؟ أم لارتباطها بحوادث معينة؟ أم لا هذا ولا ذاك؟ قد تصح بعض الأجوبة أو كلها وقد يوجد غيرها، إلا أن احد الأجوبة الصحيحة إنها فرصة منحها الله سبحانه بلطفه وكرمه وتوفيقه لعباده ليضاعف لهم العطاء نظير ما يفعله البعض بتوفير فرصة (الجوكر) للمتسابقين فيأخذ بها المتسابق لتضاعف له النقاط التي يحرزها.
وقد وفر الله سبحانه لعباده عدة فرص خلال السنة لكن أهمها وأوفرها حظا شهر رمضان ففي دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) في وداع شهر رمضان، واني انصح بقراءته في استقبال شهر رمضان ليعرف الإنسان قيمته قبل الدخول فيه ويزداد معرفة بعظمته وجلالة قدره وعظمة نعمة الله سبحانه بتوفير هذه الفرصة لعباده وبإبقائهم أحياء حتى أدركوا هذه الفرصة مجدداً، وإلا فإن أشخاصاً عديدين كانوا معنا في شهر رمضان السابق ليسوا معنا الآن لكن الله بفضله ورحمته ولطفه أدرك بنا هذا الشهر العظيم وجدد لنا هذه الفرصة لينظر كيف نصنع.
دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) في وداع شهر رمضان:
قال الإمام السجاد (عليه السلام): (الذي زدتَ في السوم على نفسك لعبادك، تريد ربحهم في متاجرتهم لك، وفوزهم بالوفادة عليك، والزيادة منك، فقلت تبارك اسمك وتعاليت (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ
ص: 97
بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها) ، وقلت:(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) ، وقلت:(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) إلى أن يقول (عليه السلام):
(اللهم وأنت جعلت من صفايا تلك الوظائف، وخصائص تلك الفروض شهر رمضان الذي اختصصته من سائر الشهور، وتخيّرته من جميع الأزمنة والدهور، وآثرته على كل أوقات السنة بما أنزلت فيه من القرآن والنور، وضاعفت فيه من الإيمان، وفرضت فيه من الصيام، ورغّبت فيه من القيام، وأجللت فيه من ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر. ثم آثرتنا به على سائر الأمم، واصطفيتنا بفضله دون أهل الملل).
إلى أن يقول (عليه السلام):
(السلام عليك يا شهر الله الأكبر ويا عيدَ أوليائه. السلام عليك يا أكرم مصحوب من الأوقات، ويا خير شهر في الأيام والساعات. السلام عليك من شهر قربت فيه الآمال، ونشرت فيه الأعمال. السلام عليك من قرين جل قدره موجوداً، وأفجع فقده مفقوداً، ومرجوٍّ آلم فراقه. السلام عليك من أليف آنس مقبلاً فسرّ، وأوحش منقضياً فمضّ. السلام عليك من مجاور رقّت فيه القلوب، وقلّت فيه الذنوب. السلام عليك من ناصر أعان على الشيطان، وصاحبٍ سهّل سُبل الإحسان. السلام عليك ما أكثر عُتقاء الله فيك، وما أسعد من رعى حُرمتك بك. السلام عليك ما كان أمحاكَ للذنوب، وأسترك لأنواع العيوب. السلام عليك ما كان أطولك على المجرمين، وأهيَبك في صدور المؤمنين. السلام عليك من شهر لا تُنافسه الأيام. السلام عليك من شهر هو من كل أمرٍ سلامٌ، السلام عليك غير كريه المُصاحبة، ولا ذميم الملابسة. السلام عليك كما وفدت علينا بالبركات، وغسلت عنّا دنس الخطيئات. السلام عليك غير مودّع برماً ولا متروك صيامه سأماً. السلام عليك من مطلوب قبل
ص: 98
وقته، ومحزونٍ عليه قبل فوته. السلام عليكَ كم من سوء صرف بك عنّا، وكم من خيرٍ أُفيض بك علينا) إلى آخر الدعاء المليء بهذه المعارف الإلهية الجليلة.
ومما يستقبل به شهر رمضان أيضا خطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في آخر جمعة من شعبان التي رواها أمير المؤمنين (عليه السلام) والتي تمثل دستور عمل في هذا الشهر المبارك. أعاننا الله سبحانه على طاعته وجنبنا معصيته، وجعلنا ممن ينال غاية رضاه، وختم لنا بالحسنى، انه ولي النعم وهو حسبنا ونعم الوكيل. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.
ص: 99
ليلة القدر خير من ألف شهر(1)
كيف تكون ليلة القدر خيراً من ألف شهر؟
قال الله تبارك وتعالى في فضل وشرف ليلة القدر التي هي أفضل ليالي السنة:(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (القدر: 3) والمشهور في فهمها أن العمل فيها يتضاعف برحمة الله تعالى وفضله ليكون خيراً من عمل ألف شهر، وهو معنى صحيح مَنَّ الله تعالى به على عباده ليزيدهم من عطائه كرماً منه، وقد دلت عليه الروايات ففي الكافي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)،
(قال له بعض أصحابنا: كيف تكون ليلة القدر خيراً من ألف شهر؟ قال: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر) ، ويدلّ عليه وصفها بالمباركة في قوله تعالى:(إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ) (الدخان: 3) ومن بركاتها زيادة الأجر على الأعمال عن غيرها من الليالي والأيام.
وهذا المعنى مأخوذ من اسمها؛ لأن القدر - الذي هو بمعنى الشأن العظيم فيقال عالي القدر - متحقق فيها فلها قدر عظيم، كما أنه متحقق في غيرها
ص: 100
بدرجات متفاوتة من الفضل في أمكنة وأزمنة متعددة كالصلاة في المساجد الأربعة وعند أمير المؤمنين (عليه السلام) فإنها بآلاف الصلوات، وفي ليلة الجمعة ويومها وليالي شريفة متعددة تتضاعف الأعمال أيضاً.
وهناك معنى آخر لهذه الليلة مأخوذ من اسمها بالمعنى الآخر وهو القدر بمعنى التقدير أي اتخاذ القرار والبت في الأمر وقد ورد هذا التفسير في الكافي بإسناده عن الإمام الباقر (عليه السلام) في رواية جاء فيها:
(يقدّر في ليلة القدر كل شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل: خير وشر وطاعة ومعصية ومولود وأجل أو رزق فما قدّر في تلك الليلة وقضي فهو المحتوم ولله عز وجل فيه المشيئة).
ويكون معنى الآية حينئذٍ، أن الله تعالى يقدِّر في ليلة القدر مصائر العباد وأرزاقهم وأمورهم المستقبلية قال تعالى:(فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) ومعنى كونها خيراً من ألف شهر أن العبد قد يحظى بالتفاتة من ربه ويناله لطف خاص فيقدّر الله تبارك وتعالى له في هذه الليلة أمراً يساوي حياته كلها التي تمتد في المعدل ألف شهر وهي حوالي 83 سنة.
ولذا ورد في أدعية هذه الليلة (وإن كنت من الأشقياء فامحني من الأشقياء واكتبني من السعداء فإنك قلت في كتابك المنزل على نبيك المرسل صلواتك عليه وآله:(يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) فمثل هذا التغيير في القضاء إذا حصل في هذه الليلة فإنه يعادل العمر كله؛ لأن غاية سعي الإنسان في حياته هو بلوغ السعادة الحقيقية بفضل الله تبارك وتعالى.
وكان الأئمة (عليهم السلام) يعطون لهذه الليلة أهمية خاصة ويوجّهون شيعتهم
ص: 101
لإحيائها بما يقرّبهم إلى الله تبارك وتعالى. روى الشيخ الطوسي (رحمه الله) في التهذيب بسند معتبر عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:
(سألته عن ليلة القدر، قال: هي ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين، قلت: أليس إنما هي ليلة؟ قال: بلى، قلت: فأخبرني بها، قال: وما عليك أن تفعل خيراً في ليلتين)(1).
وعن الفضيل بن يسار قال: (كان أبو جعفر (عليه السلام) إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين أخذ في الدعاء حتى يزول الليل، فإذا زال الليل صلّى)(2).
وروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (أتى رسولَ الله (صلى الله عليه و آله و سلم) رجلٌ من جهينة فقال: يا رسول الله إن لي إبلاً وغنماً وغُلمة وعمَلةً فأحب أن تأمرني بليلة أدخل فيها فأشهد الصلاة، وذلك في شهر رمضان، فدعاه رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) فسارّه في أذنه، فكان الجهني إذا كانت ليلة ثلاثة وعشرين دخل بإبله وغنمه وأهله فبات تلك الليلة بالمدينة فإذا أصبح خرج بمن دخل به فرجع إلى مكانه)(3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
(إن ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان هي ليلة الجهني فيها يفرق كل أمر حكيم وفيها تثبت البلايا والمنايا والآجال والأرزاق والقضايا، وجميع ما يُحدث الله عز وجل فيها إلى مثلها من الحول، فطوبى لعبد أحياها راكعاً وساجداً ومثّل خطاياه بين عينيه ويبكي عليها فإذا فعل ذلك رجوت أن لا يخيب إن شاء الله تعالى)(4).7.
ص: 102
ولذلك ينبغي للمؤمن أن يلح في مثل هذا الطلب في ليلة القدر لعله يحظى بالقبول، فإن رحمة الله واسعة وفضله مبذول لمن سأله وأن يكون دعاؤه بالحال الذي وصفه رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم)
(فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة) وينبغي أن يقوم بالأعمال التي تحقق له أهلية الاستجابة والقبول في ليلة القدر - كالإكثار من الصلوات المستحبة كصلاة مائة ركعة والدعاء والرحمة بالآخرين وسماع الموعظة وذكر فضائل أهل البيت (عليهم السلام) ومصائبهم - مما يحيي القلب وينقيه ويخلص النية، ومن أعمالها المؤكدة زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ولو من بُعد لمن يتعذر عليه زيارة تربته المقدّسة فقد وردت فيها روايات عديدة منها ما في التهذيب عن الإمام الصادق (عليه السلام) وفيها: (نادى منادٍ تلك الليلة من بطنان العرش إن الله قد غفر لمن أتى قبر الحسين (عليه السلام) في هذه الليلة).
وإذا وجد في عمل رتابة وملل فلينوِّع ولينتقل إلى عمل آخر، فإن الأعمال المذكورة لهذه الليالي كثيرة ومتنوعة، وأحد أهداف تنوعها هو منع الكسل والملل والرتابة، ولإحداث الحيوية، ولإعطاء الفرصة لكل شخص أن يأخذ ما يناسبه ويتفاعل معه من أعمال الجوارح والجوانح.
وينبغي الاستعداد لليلة القدر من قبلها بالورع عن معاصي الله تبارك وتعالى والإقبال على طاعته، ومن أشكال الاستعداد أن يأتي بأعمالها منذ ليلة التاسع عشر كما هو مقرَّر مع أنها لا يحتمل أن تكون ليلة القدر لأنها تقع في العشر الأواخر من شهر رمضان لكنها جعلت منها وشملت بأعمالها ليوفّق
ص: 103
المؤمن لليلة القدر، ومن يتهاون بها فلعله يحرم من شيء من فضل ليلة القدر إلا أن يتداركه الله تعالى بفضله وكرمه.
ولتوضيح مسألة دخول ليلة التاسع عشر في أعمال ليالي القدر - مع أن الليلة متعينة في العشر الأواخر من شهر رمضان - نقول: إن أي طلب يمر بعدة مراحل من النظر فيه ثم دراسة كيفية تلبية وتهيئة ظروف استجابته، ثم اتخاذ القرار بالاستجابة له، ثم تنفيذ هذا القرار وتحقيق المراد، ففي الليلة التاسعة عشرة يبدأ المؤمنون بتقديم طلباتهم ويُنظر في تلبيتها لهم، وفي الليلة الحادية والعشرين: تتخذ القرارات بالاستجابة لمن يشمله اللطف الإلهي الواسع، لكن يبقى قلم المحو والإثبات لم يجفّ، وفي الليلة الثالثة والعشرين: تمضى تلك الأوامر نفياً أو إثباتاً، ولذا تكرر وصف القضاء الإلهي في ليلة القدر بأنه لا يرد ولا يبدَّل كما في دعاء الإمامين الصادق والكاظم (عليهما السلام) بعد كل فريضة، وفيه: (اللهم إني أسألك في ما تقضي وتقدّر من القضاء الذي لا يرد ولا يبدل) إلى آخر الدعاء.
وهذا المعنى ورد في رواية ذكرها الشيخ الكليني في الكافي بإسناده عن زرارة قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): التقدير في تسع عشرة، والإبرام في إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين).
ويكفي دليلاً على عظمة التغييرات التي تحصل للفرد وللبشرية جميعاً في ليلة القدر أن نزول القرآن كان فيها، القرآن الذي قلَبَ حياة البشرية وسما بها من حيوانية الجاهلية إلى قمة التوحيد وفتح آفاقاً واسعة للعلوم والمعارف والحضارات وأرسى أسس الحياة السعيدة، فكانت تلك الليلة خيراً من آلاف الشهور والسنين - لأن الألف لم تذكر للتحديد وإنما للتعبير عن الكثرة - التي قضتها البشرية في ظلمات الجاهلية.
ص: 104
وتبقى الأمة سعيدة ما دامت ملتفتة إلى عظمة ليلة القدر والقرآن الذي نزل فيها وملتزمة به ومستفيدة منه، وإلا فإنه لا يغنيها ما أصابته من عرض الدنيا وحطامها.
وبهذا المعنى كان من ألقاب الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أنها ليلة القدر؛ لأن موقفها صحّح مسيرة الأمة إلى قيام يوم الساعة، فهذا الانقلاب الإيجابي المضاد الذي أحدثته الزهراء (عليها السلام) بموقفها يعدل عمل الأمة آلاف السنين إلى آخر عمرها فيما لو لم تهتدِ إليه.
وكان لليلة القدر مكانة في قلب الزهراء (عليها السلام)، فقد روي
(أن فاطمة (عليها السلام) كانت لا تدعْ أحداً من أهلها ينام تلك الليلة (ليلة القدر) وتداويهم بقلة الطعام وتتأهب لها من النهار، وتقول: محروم من حُرِمَ خيرها)(1).
وعلى أي حال فإن الاهتمام بليلة القدر والتركيز على إحيائها لا يعني أن الإنسان يتكاسل في أيامه كلها ويتهاون ويفرّغ نفسه في الليالي المحتملة لليلة القدر، فهذا لا يناسب العاملين الراغبين فيما عند الله تبارك وتعالى، ولا أن ييأس إذا لم يشعر أنه قد وفق لإحياء ليلة القدر؛ لأن هذه الليلة وشهر رمضان وغيرها من أبواب اللطف الإلهي فإذا انقضت فإن رب شهر رمضان ورب ليلة القدر باقٍ ورحمته واسعة.
إنَّ نفس هذا المعنى الذي شرحنا به الآية ورد في موضوع آخر ففي الرواية
ص: 105
(تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة) وهو مضافاً إلى معناه المنسبق إلى الذهن وهو أن التفكير والتأمل والفهم هو حقيقة العمل والغاية المنشودة منه لا الحركات الخارجية التي إنما تكتسب قيمتها من محتواها وهو التفكر والتأمل المنتج للخشوع والحب والرغبة والرهبة.
فإن للحديث معنى آخر كالذي ذكرناه عن ليلة القدر وهو أن الإنسان قد يقف ساعة للتفكر والمراجعة والتحقيق في مسيرة حياته وهدفه الذي يريد أن يصل إليه، ونيته في أعماله، والقيادة التي يرجع إليها في أموره، وإذا به يتخذ قراراً يقلب كل مسيرة حياته ويغير وجهتها إلى الهدف الصحيح، فتكون هذه الساعة من المراجعة والتأمل خيراً من كل ما يؤديه خلال حياته عن غير بصيرة وهدى وكان يظن أنه يحسن صنعاً.
وأوضح مثال على هذه الحالة الحر الرياحي الذي أمضى ستين سنة من عمره بعيداً عن ولاية أهل البيت (عليهم السلام) وإتباع منهجهم، فوقف ساعة يوم عاشوراء وتأمل في حاله وأرجع نفسه واتخذ القرار الشجاع بالانتقال إلى معسكر الحسين (عليه السلام) وتحول من الشقاوة الأبدية إلى السعادة الأبدية، فقد كانت هذه الساعة هي كل حياته وليس تلك السنين الطويلة التي قضاها بعيداً عن الحق.
ومما ينبغي التركيز عليه في هذه الليلة الدعاء للإمام صاحب العصر (أرواحنا له الفداء) لأنه صلوات الله عليه وسلامه هو صاحب هذه الليلة ويزداد فيها شرفاً وكرامة، سُئل الإمام الباقر (عليه السلام) عما إذا كان يعرف ليلة القدر؟ قال (عليه السلام):
(كيف لا نعرف والملائكة تطوف بنا فيها)(1) ، وعليه (عليه السلام)
ص: 106
تنزَّل الملائكة وتعرض عليه ما قضى الله تبارك وتعالى به على العباد في تلك الليلة إلى العام المقبل فينظر (عليه السلام) فيها ويدعو لأصحابها بما يناسبهم، لأنه حجة الله تعالى الفعلية على المخلوقات، ويستحب الإكثار من دعاء (اللهم كن لوليّك الحجة بن الحسن) عسى أن نحظى بنظرة كريمة منه نستكمل بها الكرامة عند الله تبارك وتعالى ثم لا يصرفها عنا بجوده وكرمه.
وينبغي الالتفات أيضاً إلى أن أعمال ليلة القدر منتشرة في كتب السنن والمستحبات ك - (مفاتيح الجنان) و (مصابيح الجنان) تحت أكثر من عنوان، فتوجد أعمال خاصة بالليلة وتوجد غيرها تحت عنوان (الأعمال المشتركة لليالي القدر وأخرى تحت عنوان العشر الأواخر من شهر رمضان وأخرى تحت عنوان الأعمال العامة لشهر رمضان، فالتهيؤ والاستعداد يشمل تجميع هذه المفردات في برنامج عمل يأخذ منه كل شخص بما يناسبه وما ييسّره الله تبارك وتعالى.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل ليلة القدر وأن يقسم لنا فيها خير ما قسم لأحد من عباده الصالحين إنه واسع كريم.
ص: 107
تذكرة في العشر الأواخر من شهر رمضان(1)
أهمية العشر الأواخر:
تمثّل العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك روح الشهر وخلاصته، وفيها يحصد العبد ثمرة أعماله الصالحة ويستشعر نتائجها بفضل الله تبارك وتعالى، ويهب الله تبارك وتعالى فيها من الألطاف والمنن لعباده، والبركات على موائده ما يزيد على ما قدّمه في سائر أيام الشهر ولياليه.
ويكفي في شرفها وعظمتها أن فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وفيها الليلة الأخيرة التي ورد أن الله تعالى يعتق فيها رقاباً من النار كمثل ما أعتق في جميع الشهر(2).
ولذا حظيت هذه العشرة باهتمام كبير من لدن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، ففي رواية صحيحة عن الحلبي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا كان العشر الأواخر اعتكف في المسجد، وضربت له قبة من شعر، وشمّر المئزر وطوى فراشه)(3).
وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اعتكاف عشر في شهر رمضان تعدل حجتين وعمرتين) 3.
ص: 108
ومن الواضح أن المراد من الاعتكاف: روحه وجوهره، وهو الانقطاع عن كل ما يشغل عن الله تبارك وتعالى فضلاً عن المعاصي، وهذا ما قد يستطيع المؤمن تحقيقه في غير المسجد، أي في داره أو محل عمله، لكن الاعتكاف في المسجد الجامع الذي أقلّهُ ثلاثة أيام هو الراجح شرعاً وفضلاً في الشكل والمضمون.
وعلى هذا سار السلف الصالح متأسّين بنبيهم الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كانوا يخففون كثيراً من علاقاتهم الاجتماعية ويغيّرون نمط حياتهم ويتركون غير الضروري من المباحات ليتفرّغوا لعبادة ربّهم ومناجاته والاشتغال بما يقرّبهم إلى الله تبارك وتعالى.
إن الألطاف الإلهية الإضافية التي يمن الله تعالى بها على عباده في العشر الأواخر ليستشعرها المؤمن من خلال الشحنة الإضافية التي تدبّ فيه فينشط لطاعة الله تبارك وتعالى أكثر من غيرها، وتزيد همته للإتيان بما عجز عنه في غيرها.
وقد تضمنت كتب السنن والمستحبات أعمالاً لهذه الليالي تشكل برنامجاً يأنس به المؤمنون، ويشتاق إليه طلاب القرب من الله سبحانه، وهي موزعة تحت عدة عناوين كالأعمال العامة لشهر رمضان، والأعمال المشتركة للعشر الأواخر، والأعمال الخاصة بكل ليلة منها، مضافاً إلى الأعمال المشتركة والخاصة لليالي القدر في الليالي التي تحتملها.
وينبغي التفات إلى أنواع أخرى من الطاعات المعنوية كمحاسبة النفس وتذكر ما صدر من معاصي والندم عليها والاستغفار منها، والتفكر في العلاقة
ص: 109
مع الله تبارك وتعالى بكل جوانبها كحب الله تعالى أو الشعور بالتقصير أمام عظيم نعمه أو الخجل من عدم أداء وظائف العبودية، ومن الأعمال أيضاً سماع الموعظة وما يرقق القلب، ومطالعة وصايا المعصومين (عليهم السلام) وسير الصالحين للتأسّي بهم، وقضاء حوائج الناس وإدخال السرور عليهم.
إن أول شعور للإنسان المؤمن حينما يبلّغه الله تبارك وتعالى العشر الأواخر من شهر رمضان هو العجز عن أداء الشكر لله تعالى على بلوغ هذه الأيام الشريفة ولم يجعله من السواد المخترم قبلها، أي الذين جاءهم الموت واخترمهم الأجل فلم يدركوا هذه الليالي الشريفة، فإن هذه العشرة أولى بالفضل والشكر من العشرة الأولى من شهر ذي الحجة التي ورد في أدعيتها (اللهم هذه الأيام التي فضّلتها على الأيام وشرّفتها قد بلّغتَنيها بمنّك ورحمتك فأنزل علينا من بركاتك وأوسع علينا فيها من نعمائك).
إن مما يؤسف له أن الحالة العامة للناس هي التراخي والفتور في هذه الليالي على عكس ما هو مطلوب من زيادة الهمة ومضاعفة النشاط وتكريس الإنسان نفسه لطاعة الله تبارك تعالى، حتى أن البعض يتوقف عن تلاوة القرآن بعد أن يختمه في ليلة القدر، مع أن شهر رمضان كله هو ربيع القرآن، ولعل لهذا الفتور عدة أسباب:
الغفلة عن عظمة هذه الليالي وشرفها وما أعد الله تبارك وتعالى فيها للعاملين.
إرهاصات العيد والاستعداد له بشراء الملابس وتهيئة الأطعمة ووضع برامج الاحتفال.
ص: 110
التعب من فريضة الصوم واشتياق الإنسان للعودة إلى ممارسة المباحات.
انتهاء مجالس الوعظ والإرشاد والتوجيه والتبليغ والشعائر الدينية حيث تختم هذه المجالس في ليلة (21) أو (23) ونادراً ما تتجاوز ليلة (25).
تحول برامج التلفزيون بشكل ملحوظ نحو المجون والفسق والفجور.
فتساهم هذه الأسباب وغيرها في عزوف الناس عن ارتياد المساجد وسماع الكلمات التي تشدهم إلى الطاعة.
لذا ينبغي لنا ونحن نستقبل هذه الليالي أن لا نفرط في استثمارها من خلال عدة نشاطات:
المواصلة على حضور المساجد وإقامة صلوات الجماعة والأدعية الجماعية الحاشدة.
الحث على القيام بعبادة الاعتكاف لمن يتيسّر له ذلك، فإنها من أعظم السنن وعقدها في المساجد الجامعة لأهل المدينة مع الالتفات إلى الاعتكاف المعنوي الذي ذكرناه، ومراقبة النفس بشدة خشية وقوعها في العجب والرياء والتباهي أمام الناس؛ لأن هذه الفعالية مظنة للوقوع في تلك الآثام فيفسد الإنسان على نفسه.
الاستمرار بمجالس الوعظ والإرشاد والتوجيه وإحياء الشعائر الدينية وإلقاء المحاضرات.
استثمار فترة إقبال النفس للقيام ببعض الأعمال التي اشرنا إليها.
الإكثار من الدعاء والتوسل إلى الله تبارك وتعالى وطلب الفوز بالجنة
ص: 111
والعتق من النار والتعجيل لظهور بقية الله الأعظم وطلب قضاء حوائج الدنيا والآخرة له ولسائر المؤمنين.
اجتناب موارد الغفلة واللهو والعبث والصد عن ذكر الله تعالى كلعبة المحيبس ومتابعة التلفزيون وحضور مجالس البطالين.
فإذا علم الله تعالى منا الإخلاص ورأى حركة جماعية بهذا الاتجاه فسيرفع عنّا البلاء وسيعطينا فوق سؤلنا فإنه الكريم الرحيم الذي لا تنقص خزائنه ولا تزيده كثرة العطاء إلا جوداً وكرماً.
ص: 112
بركة الإقامة عند أمير المؤمنين (عليه السلام) في العشر الأواخر من شهر رمضان(1)
أهمية مصاحبة الصالحين:
يُشبِه الأخلاقيون اثر مصاحبة الصالحين في تهذيب الأخلاق و السير نحو الكمال بالنبات المتسلق الذي إذا تُرك وحده فانه ينمو ولكن قريباً إلى الأرض لا يستطيع أن يقف قائماً ويرتفع نحو الأعلى، ولكنه إذا أُسند إلى الحائط أو أي قائم ثابت فانه يتسلق نحو الأعلى ويرتفع، هذا مثال لتأثر مريد الكمال بالأجواء الإيمانية إذا آوى إليها وكان قريباً من أهلها وان لم يسمع منهم كلمة، كما أن مطالعة سير الصالحين تؤثر في روحية الإنسان وتدله على طريق الكمال، وان لم يسمع ولم يلتقِ بصاحب الكلام في الكتاب لكنه يلتقيه روحياً من خلال هذه الكلمات فكأنما يعيش معه.
فمن نعم الله تعالى عليكم إقامتكم إلى جوار أمير المؤمنين الذي لم تنقطع رعايته لمجاوريه ولشيعته بعد استشهاده كما ورد عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) في تفسير قوله تعالى:(وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة: 105) وعلي (عليه السلام) هو أمير المؤمنين فهو مطلع على أعمال
ص: 113
العباد ويدعو الله تعالى بالزيادة والقبول لحسناتهم بالمغفرة والصفح لسيئاتهم، وإن القلوب لتتلقى بحسب استعدادها من فيوضاته المباركة وهو (عليه السلام) باب مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم).
وبذلك فقد اخترتم المكان الأفضل و الزمان الأفضل وهي العشر الأواخر من شهر رمضان، وانتم بهذا العمر المفعم بالحيوية والنقاء والقرب من الفطرة والنشاط في العمل فكثير منكم لم يبلغ العشرين أو تجاوزها بقليل، وإذا عدنا إلى مثال النبات المتسلق، فإن إسناد هذا النبات إلى ما يُقوِّم نموه ويرفعه نحو الأعلى في أول تكوينه يكون أكثر إعطاء للنتائج المرجوة، مما لو حصل بعد أن نمى وكبر متشبثاً بالأرض وكثرت التواءاته وعقده.
ولا شك أنكم أحسستم وجداناً بركات هذه المجاورة لأمير المؤمنين (عليه السلام) وللعلماء والحوزة العلمية، وليس حالكم خلال هذه الأيام كحالكم قبل شهر رمضان وقبل قدومكم، ولكن عليكم أيها الأحبة أن تديموا هذا الآثار المباركة، ولا تجعلوها مرهونة بهذا الزمان وهذا المكان الشريفين، وانتم تعلمون أن قيمة الأعمال هي بمقدار آثارها المعنوية، فالصوم لا تُنال حقيقته بالامتناع عن المفطرات الظاهرية المدونة في كتب الفقه كالأكل و الشرب وان كان هذا المقدار مبرئاً للذمة، وإنما بكف النفس والجسد عّما حرّم الله تعالى وتفريغهما لطاعة الله تبارك وتعالى وإذا انضم إليهما القلب كان الحال أكمل بفضل الله تبارك وتعالى.
فإذا استطعنا التقدم في شهر رمضان في هذا المجال فلنحافظ عليه حتى ما
ص: 114
بعد شهر رمضان لأنها أمور مطلوبة على الدوام، وما شهر رمضان إلا باب من أبواب اللطف الإلهي لإعانة الإنسان وإعطائه دفعة كبيرة إلى الإمام، ولطف الله تعالى مبذول على الدوام وأبوابه مفتوحة، وإذا أغلقت باب شهر رمضان بانتهائه فتح الله تبارك وتعالى بكرمه ورحمته أبواب أخرى قد تكون أوسع، وإذا رفعت موائد شهر رمضان وليلة القدر و العشر الأواخر، وحصل كلُ واحد من الناس على مقدار ما يسره الله تعالى له، فإن موائد رب شهر رمضان الكريم مستمرة، وقد يتاح للعبد الحصول منها على أفضل مما حصل عليه غيره في شهر رمضان.
ولتقريب الفكرة نقول: عندما يدعو عالم عامل مخلص ناساً إلى مأدبة طعام، فإن من المدعوين من يتشرف بالتناول من مائدته ويخرج، ومنهم - وهم الخاصة - من ينتظر ما هو أفضل مما بذل على مائدة الطعام فيبقى بعد انفضاض عامة الناس ليتزود من الغذاء المعنوي ولذة مجالسة هذا العالم والأنس بلقائه والأخذ منه.
أليس غفران الذنوب من أعظم ما يطلبه المؤمنون في ليلة القدر كما نطقت به الأدعية الشريفة، فإن عندك على طول السنة سبباً للمغفرة بل أرقى من ذلك فانه سبب لتبديل تلك السيئات إلى حسنات: وهي الصلوات اليومية المفروضة في أوقاتها خصوصاً إذا صُليت جماعة في المساجد قال تعالى (وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذّاكِرِينَ) (هود: 114)، ورد في تفسيرها عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال (سمعت حبيبي رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) يقول: أرجا آية في كتاب الله - ثم ذكر الآية وقال - يا علي والذي بعثني بالحق بشيراً ونذيراً إن أحدكم ليقوم إلى وضوئه فتتساقط من جوارحه الذنوب فإذا استقبل الله بقلبه ووجهه لم ينفتل وعليه من
ص: 115
ذنوبه شيء كما ولدته أمه، فإن أصاب شيئا بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتى عَدَ الصلوات الخمس.
ثم قال: يا علي إنما مثل الصلوات الخمس لأمتي كنهر جار على باب احدهم فما يظّنُ احدهم إذا كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات أكان يبقى في جسده درن؟ فكذلك والله الصلوات الخمس لأمتي)(1).
وهكذا نُديم الآثار المباركة الأخرى، فمن استطاع أن يتجنب الغيبة شهر كاملاً احتراماً لصومه ولشهر رمضان وطلباً لرضا الله تعالى، فليأخذ شحنة إيمانية لبقية أيامه فيتجنب الغيبة دائماً، والنظر إلى ما لا يحل، وسماع ما حرمه الله تعالى، وسوء الأخلاق وسائر الأمور المذمومة الأخرى، وليستمر على ما وُفَق له في هذا الشهر كصلاة الليل وتلاوة القرآن ومساعدة الناس وزيارة الأئمة المعصومين (عليه السلام).4.
ص: 116
إحياء سنة الاعتكاف في العشر الأواخرمن شهر رمضان(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
ورد عن المعصومين (سلام الله عليهم) حثّ أكيد على الاعتكاف في المساجد خصوصاً في العشر الأواخر من شهر رمضان ففي حديث صحيح عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا كان العشر الأواخر اعتكف في المسجد وضربت له قبة من شعر، وشمّر المئزر وطوى فراشه).
وروى الشيخ الصدوق (رضوان الله تعالى عليه) عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبائه (عليهم السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): اعتكاف عشر في شهر رمضان تعدل حجتين وعمرتين) وقد نال هذا الفضل جملة من المؤمنين هذا العام فقد اعتكف حوالي مئة وخمسين ممن شملهم الله تعالى بلطفه في مسجد الرحمن في حي المنصور ببغداد على دفعتين وقامت إدارة المسجد بجهود مشكورة في توفير الطعام والشراب وسائر الخدمات اللائقة بهم ونظمت للمعتكفين برامج منوعة من العبادات والذكر واللقاءات والمسابقات القرآنية وأحسوا بأجواء روحية لم يشهدوها من قبل وشعر البعض وكأنه في أجواء مناسك الحج في مكة المكرمة.
ووجّه سماحة الشيخ اليعقوبي كلمات حفاوة وثناء وتبجيل لهذه المبادرة التي يُرجى لها الدوام لإحياء القلوب وتطهير النفوس ورجوع الناس
ص: 117
إلى الله تبارك وتعالى في زمن قاتم ملبّد بحب الدنيا والصراع على السلطة حتى انتهكت كل المقدسات.
وشكر للإدارة جهودها المخلصة في توفير كل أسباب الراحة والتفرغ للعبادة وإصرارها على المواظبة على هذه الشعيرة وإنجاحها في السنوات المقبلة بإذن الله تعالى حتى تعمّ بركاتها المجتمع كله.
وكان سماحته قد بادر إلى طبع كتاب الاعتكاف من رسالته العملية (سبل السلام) قبل شهر رمضان المبارك ليتفقّه المؤمنون بأحكام وآداب هذه الشعيرة المباركة.
وقد بعث المؤمنون الذين أحيوا هذه السنة المباركة برسالة إلى سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) نشرت في العدد (62) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 24 /شوال/ 1428 المصادف 2007/11/5 وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
(ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: 3)
عن داود بن الحصين، عن أبي العباس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان في العشر الأولى، ثم اعتكف في الثانية في العشر الوسطى، ثم اعتكف في الثالثة في العشر الأواخر، ثم لم يزل (صلى الله عليه وآله وسلم) يعتكف في العشر الأواخر.
نشكر الله تبارك وتعالى أولا ورسوله والأئمة الأطهار (صلوات الله عليه وعليهم)
ص: 118
لهذه النعمة العظيمة وهذه الفيوضات والألطاف الكريمة التي من بها علينا تبارك وتعالى برحمته وببركة رسوله (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين أئمتنا وسبل نجاتنا في الدنيا والآخرة.
ولا يفوتنا هنا أن نتقدم بأسمى آيات الشكر والتقدير والامتنان للمقام السامي للمرجعية الشاهدة المتمثلة بسماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) لهذه الالتفاتة العظيمة والمبادرة الكريمة - والتي عبر عنها سماحته بأنها أدخلت السرور على قلب الإمام المهدي (عجل الله فرجه) - بكل ما تحمل من آثار عظيمة وانعكاسات مهمة على واقع شعبنا الجريح وما يمر به من ماس ومحن والتي اثبت الواقع انه لا سبيل للخروج منها إلا بالهروب إلى الله عز وجل والتماس المخرج منه تبارك وتعالى، ونسأله تعالى أن يجعل مبادرة المرجعية الشاهدة حافزاً للآخرين على الدعوة إلى الله وإقامة شعائره العظيمة التي هي من تقوى القلوب خالصةً له وحده وخالية من أي عناوين وشعارات دنيوية ضيقة.
ونتمنى عليه أدام الله بقائه أن يشمل إخواننا المؤمنين بالدعوة إلى إقامة هذه الشعيرة المباركة في كافة محافظاتنا العزيزة للتوفر على النعمة التي رزقناها وهم أن شاء الله يمتلكون من الإمكانات والمؤهلات أكثر مما نمتلك.
وهنا نتوجه بنية صادقة إلى إخواننا متولي المساجد والجوامع والجهات القائمة على المقامات الشريفة والمراقد الطاهرة والمساجد المشهورة بالتوجه إلى إقامة هذه السنة المباركة في مناطقهم لما فيها من خير وبركة وتقارب للنفوس وانقطاع عن الدنيا.
ولا بد أن نسجل هنا تثميننا وتقديرنا للجهود الخيرة والمساعي الكبيرة التي قامت بها مؤسسة الرحمن الإسلامية والتي سخرت كل ما تملك من إمكانيات في سبيل إنجاح هذه التجربة المباركة وكذلك نشكر جميع الإخوة المؤمنين المتبرعين اللذين لم يقصروا في توفير
ص: 119
الكثير من الاحتياجات سائلين المولى عز وجل أن يخلف عليهم بالخير والبركة والرزق الحلال الطيب.
ونهمس هنا في آذان إخواننا السياسيين عامة وكل المتصدين للعمل الاجتماعي وخصوصاً الإسلاميين منهم وندعوهم إلى ممارسة هذه الشعيرة المباركة لكي يغرفوا منها ما يعينهم على تأدية دورهم الخطير في رسم طريق النجاة لهذا الشعب المظلوم الذي ينتظر منهم الكثير، وليخرجوا من جو السياسة والمادة الضيق إلى حيز الروح وفضاء التقرب إلى البارئ عز وجل.
وأخيراً ننتظر من ونتمنى على جميع مؤسسات المرجعية الرشيدة دعم هذه التجربة المعطاءة بكل الإمكانيات المادية والمعنوية وخصوصا في الجانب الإعلامي.
(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ، رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ، لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (النور: 36-38).
أبناء المرجعية المعتكفون في جامع الرحمن
بغداد / يوم القدر 23 من شهر الصيام / 1428 ه -
ص: 120
ص: 121
ص: 122
بالأمس فارقنا صاحب عزيز علينا، وهو شهر رمضان، وليس من حسن الصحبة أن يفارقنا بلا وداع، فقد أقام فينا هذا الشهر مقام حمد وصحبنا صحبة مبرورة، وكان سبباً لكثير من البركات والخيرات ومنها:
إنه الداعي، أي المبلغ لبطاقة الدعوة، إلى ضيافة الله سبحانه، فكنا ضيوفاً عنده تبارك وتعالى شهراً كاملاً، ولك أن تقدر وتتصور شرف وكرامة هذه الضيافة بمقارنتها بالضيافة الدنيوية فيما لو دعاك المرجع الديني مثلاً أو شخصية مرموقة في المجتمع لضيافته، وماذا كانت العطايا على مائدة الضيافة؟ (أنفاسكم فيهِ تسبيح ونومكم فيهِ عبادة وعمَلكم فيهِ مقبُول ودعاؤكُم فيه مستجاب...)
ص: 123
إلى آخر ما ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته.
إن هذا الشهر قد أربحنا أفضل أرباح العالمين؛ فإن التجارة مع الله سبحانه أربح التجارات، فهي أولاً لا تبور بل خالدة دائمة، ويصفها تبارك وتعالى:(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) (البقرة: 261)، فالواحد بسبعمائة ضعف، ثم يقول عز من قائل:(وَ اللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) ، وفي شهر رمضان تتضاعف هذه الأرباح بما لا يحصيها إلاّ الله سبحانه، فهنيئاً لمن استثمر ساعات عمره في اكتساب الحسنات وعمل الخيرات، ومن هذه الأرباح ما قاله (صلى الله عليه وآله وسلم):
(ومَن تطّوع فيهِ بصلاة كتبَ لَهُ براءة مِن النّار، ومَن أدّى فيهِ فرضاً كان لَهُ ثواب مَن أدى سبعينَ فريضة فيما سواه مِن الشهّور، ومَن أكثر فيهِ من الصلاة عليّ ثقل الله ميزانه يَوم تخفُّ الموازينَ، ومَن تلا فيهِ آية مِن القرآن كانَ لَهُ مثل أجر مَن ختم القُرآن في غَيرَه مِن الشهور).
إن فرص الطاعة تزداد في هذا الشهر لتصاعد الهمم وزيادة الرغبة في عمل الخير، فتجد أحدنا يحب أن يصلي المستحبات أو يزور المعصومين (عليهم السلام) خصوصا الإمام الحسين (عليه السلام).
وآخر يحب الإطعام، وآخر يكثر من تلاوة القرآن أو الدعاء بشكل لا يشابهه شي في بقية الشهور ببركة هذا الشهر العظيم.
إن فرص المعصية تقلّ في هذا الشهر وسببه واضح لأن مناشئ المعصية هي
ص: 124
الغرائز والشهوات للنفس الأمارة بالسوء، وفي هذا الشهر تخمد هذه الشهوات وتقلل بشكل كبير، لأن الإنسان يمتلك الإرادة في هذا الشهر على ترك المحلل من الطعام والشراب والنكاح، فكيف لا يكون قادراً على اجتناب المحرمات، لذا تجد المجتمع يبتعد عن المعاصي بشكل ملحوظ، فالسافرة تتحجب وتارك الصلاة يصلي والذي يطفّف في الميزان يترك هذا الفعل الشنيع والمعتاد على الكذب أو الغيبة والنميمة والنفاق يتركهما ويقول: (إني صائم).
وإلى هاتين النقطتين أشار (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال:
(أيها النّاس، إنّ أبواب الجنان - وهي على بعض التفاسير نفس الطاعات والأعمال الصالحة على القول بتجسم الأعمال - في هذا الشّهر مفتحة فسلوا ربّكم أن لايغلقها عَلَيكُم، وأبواب النيران - وهي السيئات والمعاصي بنفس التفسير السابق - مغلقة فسلُوا ربّكم أن لا يفتحها عَلَيكم والشيّاطين مغلولة فسلوا ربّكم أن لا يسلّطها عَلَيكُم) ، وبهذا التفسير نفهم ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان بين أصحابه يوماً فسمع هدّة عظيمة أفزعت الخليقة، فسئل عن ذلك (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: هذا رجل عمره سبعين سنة قضاها في المعاصي، فهو طول هذه المدة يهوي في جهنم بارتكابه المزيد من المعاصي حتى مات فاستقرَّ في قعر جهنم التي أعدها لنفسه.
لنطلع على المزيد من النعم التي من الله تبارك وتعالى علينا بها في هذا الشهر الشريف: (السَّلامُ عَلَيْكَ مِنْ مُجَاوِرٍ رَقَّتْ فِيهِ الْقُلُوبُ، وَ قَلَّتْ فِيهِ الذُّنُوبُ. السَّلامُ عَلَيْكَ مِنْ نَاصِرٍ أَعَانَ عَلَى الشَّيْطَانِ، وَ صَاحِبٍ سَهَّلَ سُبُلَ الإحْسَانِ السَّلامُ عَلَيْكَ مَا أَكْثَرَ عُتَقَاءَ اللَّهِ فِيكَ، وَ مَا أَسْعَدَ مَنْ رَعَى حُرْمَتَكَ بِكَ السَّلَامُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَمْحَاكَ لِلذُّنُوبِ، وَ أَسْتَرَكَ لأنْوَاعِ الْعُيُوبِ السَّلامُ عَلَيْكَ مَا كَانَ
ص: 125
أَطْوَلَكَ عَلَى الْمُجْرِمِينَ، وَ أَهْيَبَكَ فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ السَّلامُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْرٍ لا تُنَافِسُهُ الأيام.: السَّلامُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْرٍ هُوَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ السَّلامُ عَلَيْكَ غَيْرَ كَرِيهِ الْمُصَاحَبَةِ، وَ لا ذَمِيمِ الْمُلابَسَةِ السّلامُ عَلَيْكَ كَمَا وَفَدْتَ عَلَيْنَا بِالْبَرَكَاتِ، وَ غَسَلْتَ عَنَّا دَنَسَ الْخَطِيئَاتِ السَّلامُ عَلَيْكَ غَيْرَ مُوَدَّعٍ بَرَماً وَ لا متروك صِيَامُهُ سَأَماً. السّلامُ عَلَيْكَ مِنْ مَطْلُوبٍ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَ مَحْزُونٍ عَلَيْهِ قَبْلَ فَوْتِهِ. السَّلامُ عَلَيْكَ كَمْ مِنْ سُوءٍ صُرِفَ بِكَ عَنَّا، وَ كَمْ مِنْ خَيْرٍ أُفِيضَ بِكَ عَلَيْنَا، السلام عليك وعلى ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، السلام عليك ما كان أحرصنا بالأمس عليك وأشد شوقنا غداً إليك، السلام عليك وعلى فضلك الذي حرمناه وعلى ماضي من بركاتك سلبناه).
كثيراً من الناس لا يعي ولا يفهم معنى العيد بالشكل الصحيح كما يريده الله سبحانه وتعالى، فإنه يفهمه على أنه إيذان بانتهاء الحظر والمنع الذي فرض على ممارسة مشتهيات النفس بالحلال أو حتى بالحرام والعياذ بالله، فتراهم يتسامحون في أمر الدين ويتساهلون في تعاليمه، فيحصل الاختلاط بين الجنسين أثناء زيارات الأقرباء، وتضع النساء الزينة أمام غير المحارم، وربما جرت عادة بعض الناس على مصافحة النساء والرجال، أو التساهل بأمر الحجاب باعتبار أن الأيام أيام فرح وسرور، ويقصد بعضهم أماكن اللهو واللعب وحفلات الفسق والفجور ويشاهدون البرامج الفاسدة، وكأنَّ معنى العيد هو العودة إلى الحياة السابقة قبل شهر رمضان بكل ما تتضمنه من ابتعاد عن الله سبحانه، ويتخلى عن كل التقدم والتقرب إلى الله سبحانه الذي حققه في شهر رمضان، ويغفل عن الحديث النبوي الشريف:
(من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان أمسه خيراً من يومه فهو ملعون) ، فهل حاسبنا أنفسنا لنرى من أي هذه الأصناف نحن، من هنا وجب علينا أن نبين بعض النقاط التي ينبغي الالتفات إليها في مثل هذه المناسبة الشريفة:
ص: 126
إن العيد يمثل الوصول إلى الهدف الحقيقي، وهو نيل رضا الله سبحانه، باعتبار أن المؤمن يمرّ بتربية ومعاناة طويلة خلال الشهر من خلال ما يؤديه من طاعات، ويزداد تركيز هذه التربية في العشر الأواخر التي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها يطوي فراشه ويشدُّ مئزره للعبادة، وتتضمن ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فيأتي العيد تتويجاً لهذه المرحلة المضنية، حيث يمثل بلوغ الهدف والنهاية لهذه المرحلة من التربية والتكامل ويكون مستعداً لقبول المرحلة التالية من التكامل، باعتبار أن مراحل التكامل والتقرب إلى الله تبارك وتعالى لا نهائية، قال تعالى:(وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلاً) (الإسراء: 21)، فإذا كان هذا معنى العيد، فكيف يرجع الإنسان القهقرى وينزل إلى المراحل التي تجاوزها بعد جهد وجهاد طويلين.
إن من حق الناس أن يفرحوا بالعيد لكن فرحهم مع الأسف لأسباب دنيوية، فهو يفرح لإباحة الطعام والشراب والنكاح ولإزالة الموانع التي كانت مفروضة عليه في شهر رمضان، وكان المفروض عليه أن يحزن لفوات تلك البركات والنعم التي كان شهر رمضان سبباً لنزولها على العباد والتي ذكرنا بعضها في الخطبة السابقة، لذا قال الإمام السجاد (عليه السلام) في دعائه:
(فنحن مودعون وداع من عز فراقه علينا وغمنا وأوحشنا انصرافه عنا) ، وقال (عليه السلام):
(السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ قَرِينٍ جَلَّ قَدْرُهُ مَوْجُوداً، وَأَفْجَعَ فَقْدُهُ مَفْقُوداً، وَمَرْجُوٍّ آلَمَ فِرَاقُهُ).
والفرح الدنيوي - أعني ما كان لأسباب دنيوية كربح تجارة أو رزق مولود أو زيادة أموال أو تحصيل جاه أو منصب اجتماعي - مذموم عند الله تبارك وتعالى، لأنه لا يصبُّ في الهدف الحقيقي، قال تعالى في قصة قارون:(لا تَفْرَحْ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (القصص: 76)، وكان فرحه لأن الله آتاه ثروة طائلة وصفها تبارك وتعالى:
ص: 127
(وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) (القصص: 76)، وقال تعالى:(وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَ اللّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) (الحديد: 23)، وقد يؤدي هذا الفرح إلى البطر والاختيال والطغيان فيكون وبالا، كما حصل لقارون إذ كانت نتيجته (فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّهِ وَ ما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ، وَ أَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) (القصص: 81-82).
وكذا الحزن بفوات أمور دنيوية مذموم، قال تعالى:(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ) (الحديد: 21-22).
والصحيح أن يكون الفرح للأسباب الأخروية، فتفرح إذا وفقك الله تعالى لصلاة الليل، أو زيارة قبر الحسين (عليه السلام)، أو قضاء حاجة أخيك المؤمن، وتفرح إذا انتصرت على نفسك(1) ، مثلاً حصل سوء تفاهم بينك وبين أخيك المؤمن، فإن نفسك تستكبر وتنتظر من ذلك الطرف أن يأتي ويعتذر، فتنتصر عليها وتذهب أنت إلى أخيك وتعتذر إليه، أو تمر بك امرأة جميلة قد ظهرت بعض مفاتنها فتدعوك نفسك إلى النظر إليها، فتعصيها وتنتصر عليها بترك النظر إلى تلك المرأة، عندئذ ستشعر بلذة وسعادة في قلبك تكون منشأ لفرح حقيقي ومحمود عند الله تبارك وتعالى.).
ص: 128
وأنتم بحضوركم إلى هذا المسجد المبارك وإقامتكم لهذه الشعيرة المقدسة في حين راح غيركم يمرح ويلعب ويلهو إنما تعيشون فرحاً حقيقياً، لأنكم في طاعة الله سبحانه وفي رحاب بيته.
وكذا الحزن لا بدَّ أن يكون لفوات شي كان يمكن أن يستغل لتحقيق المزيد من القرب إلى الله تعالى، كانتهاء شهر رمضان الفرصة العظيمة لنيل رضا الله سبحانه.
إن يوم العيد يعتبر زمان إعلان النتائج لامتحان شهر رمضان - فإذا امتثل الإنسان لأوامر الله سبحانه وأدى التكاليف بالصورة التي ترضي الله سبحانه فهو من الناجين الفائزين، وإن لم يفعل ذلك فهو والعياذ بالله من الأشقياء الذين وصفهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم).
فمن حق الفائزين أن يفرحوا بنجاحهم في هذا الامتحان الكبير، ولكن هؤلاء الفرحين الذين يلهون ويلعبون ويضحكون في العيد هل اطلعوا على النتائج فوجدوا أنفسهم من الناجين؟ أم أخبرهم ثقة عن الله تبارك وتعالى أنهم في قائمة الفائزين؟ كل هذا لم يحصل، فكيف جاز لهم الفرح وهم لا يعلمون بالنتائج، فالإنسان الواعي يكون في حذر وتوجس عند انتهاء شهر رمضان، لأنه لا يدري هل كتب اسمه في ديوان المحسنين فيفوز أو في ديوان المسيئين والعياذ بالله فيهوي ويسقط.
إن الله تعالى قد جعل أزمنة شريفة وأمكنة مباركة ليزيد في إحسان المحسنين، فمن الأزمنة ليلة الجمعة ويومها، وليلة النصف من شعبان، وليلة القدر، والعيدين ونحوها، ومن الأمكنة المباركة المساجد عموماً، والأربعة منها خصوصاً، ومراقد المعصومين (عليهم السلام) بل سائر الأولياء والصالحين، كل ذلك لكي يضاعف لهم الحسنات أضعافاً كثيرة، فالمفروض أن يستغل الإنسان هذه الفرصة ويزداد من الطاعات، وإذا أضاعها ولم يستغلها فضلاً عما لو
ص: 129
شغلها باكتساب المعاصي والآثام والعياذ بالله فسيكون وبالاً عليه، لذلك تجد الأئمة (عليهم السلام) حشدوا لمثل هذه المواسم الشريفة أعمالاً ومستحبات من دعاء وزيارة وصلاة وذكر وغيرها، فلا ينبغي هدر هذه الفرصة الثمينة.
إن الله سبحانه قد حدد شرط قبول الأعمال وهو التقوى، فقال تعالى:(إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة: 37)، فهل هذه الممارسات التي تصدر من هؤلاء الناس هي من صفات المتقين؟ كلا بالتأكيد، فهم إذن ليسوا ممن تقبل أعمالهم، وهم بحاجة إلى البكاء والندم والاستغفار بدلا من الفرح والسرور، قال تعالى:(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً، اَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (الكهف: 103-104) ويقول تعالى في جزائهم وعاقبتهم:(فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (الكهف: 105) وفي دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة:
(إِلهِي كَمْ مِنْ طاعَةٍ بنَيْتُها وَحالَةٍ شَيَّدْتُها هَدَمَ اعْتِمادِي عَلَيْها عَدْلُكَ بَلْ أَقالَنِي مِنْها فَضْلُكَ) وهكذا نحن فإن كثيراً من الطاعات التي نتصور حسن الجزاء عليها حينما توزن بميزان العدل الإلهي تجدها بلا قيمة، بل الأمر أدهى من ذلك، فإنها تكون عبارة عن تقصير واستخفاف بمقام الربوبية، فبدلاً من الاعتماد عليها، صرنا نطلب من الله تبارك وتعالى أن يتفضل علينا بعدم المؤاخذة عليها.
ص: 130
العود الى الله في العيد(1)
كيف نخاطب الله تعالى؟
افتتح سماحة الشيخ الخطبة بالحمد والثناء على الله تبارك وتعالى والصلاة على نبيه وآله الطاهرين، وابتدأ الخطبة بقراءة نص من مناجاة الشاكرين للإمام السجاد (عليه السلام)، وقال تعليقاً على ذلك: إنه لولا أن الله تعالى والمعصومين (عليهم السلام) علّمونا كيف نخاطب الله تبارك وتعالى لما أمكننا ذلك، فإنك ترى في مقاييس أهل الدنيا أن صاحب الموقع الفلاني لا يمكن مخاطبته إلا وفق السلّم الفلاني، فكيف برب العزة والجلال؟!
وقد ركّز في الدعاء على قول الإمام (عليه السلام)
(فَكَيْفَ لِي بِتَحْصِيلِ الشُّكْرِ، وَشُكْرِي إِيَّاكَ يَفْتَقِرُ إلى شُكْرٍ؟ فَكُلَّما قُلْتُ: لَكَ الحَمْدُ، وَجَبَ عَلَيَّ لِذلِكَ أَنْ أَقُولَ: لَكَ الحَمْدُ) ففي هذا تربية عظيمة وبيان لجانب من حقيقة العبودية، لكيلا يسقط الإنسان في مستنقع (الأنا)، فيعجب بنفسه وبعمله ويطغى ويستكبر، فإذا استوعب هذا الدرس علم أنه لا شيء.
وتوخياً للفائدة العامة وللتركيز على المعنى الذي أراد الشيخ اليعقوبي إيصاله إلى أذهاننا أذكر النص الكامل للمناجاة.
ص: 131
(إِلهِي أَذْهَلَنِي عَنْ إقامَةِ شُكْرِكَ تَتابُعُ طَوْلِكَ، وَأَعْجَزَنِي عَنْ إحْصاءِ ثَنائِكَ فَيْضُ فَضْلِكَ، وَشَغَلَنِي عَنْ ذِكْرِ مَحامِدِكَ تَرادُفُ عَوائِدِكَ، وَأَعْيانِي عَنْ نَشْرِ عَوارِفِكَ تَوالِي أيادِيكَ، وَهذا مَقامُ مَنْ اعْتَرَفَ بَسِبُوغِ النَّعْماءِ وَقابَلَها بالتَّقْصِيرِ، وَشَهِدَ عَلى نَفْسِهِ بِالآمالِ وَالتَّضْيِيعِ، وَأنْتَ الرَّؤُوفُ الرَّحِيمِ البَرُّ الكَرِيمُ الَّذِي لا يُخَيِّبُ قاصِدِيهِ وَلا يَطْرُدُ عَنْ فِنائِهِ آمِلِيهِ، بِساحَتِكَ تَحُطُّ رِحالُ الرَّاجِينَ، وَبِعَرْصَتِكَ تَقِفُ آمالُ المُسْتَرْفِدِينَ، فَلا تُقابِلْ آمالَنا بِالتَّخْيِيبِ وَالإياسِ، ولا تُلْبِسْنا سِرْبالَ القُنُوطِ وَالإبْلاسِ، إِلهِي تَصاغَرَ عِنْدَ تَعاظُمِ آلائِكَ شُكْرِي، وَتَضاءَلَ فِي جَنْبِ إكْرامِكَ إيَّايَ ثَنائِي وَنَشْرِي، جَلَّلَتْنِي نِعَمُكَ مِنْ أَنْوارِ الإيمانِ حُلَلاً، وَضَرَبَتْ عَلَيَّ لَطائِفُ بِرِّكَ مِنَ العِزِّ كِلَلاً، وَقَلَّدَتْنِي مِنَنُكَ قَلائِدَ لا تُحَلُّ، وَطَوَّقَتْنِي أَطْواقاً لا تُفَلُّ، فآلاؤكَ جَمَّةٌ ضَعُفَ لِسانِي عَنْ إحْصائِها، وَنَعْماؤكَ كَثِيرةٌ قَصُرَ فَهْمِي عَنْ إدْراكِها، فَضْلاً عَنْ اسْتِقْصائِها، فَكَيْفَ لِي بِتَحْصِيلِ الشُّكْرِ وَشُكْرِي إِيَّاكَ يَفْتَقِرُ إلى شُكْرٍ؟ فَكُلَّما قُلْتُ: لَكَ الحَمْدُ، وَجَبَ عَلَيَّ لِذلِكَ أَنْ أَقُولَ: لَكَ الحَمْدُ.
إِلهِي فَكَما غَذَّيْتَنا بِلُطْفِكَ وَرَبَّيْتَنا بِصُنْعِكَ، فَتَمِّمْ عَلَيْنا سَوابِغَ النِّعَمِ، وَادْفَعْ عَنَّا مَكارِهَ النِّقَمِ، وَآتِنا مِنْ حُظُوظِ الدَّارَيْنِ أَرْفَعَها وَأَجَلَّها عاجِلاً وَآجِلاً، وَلَكَ الحَمْدُ عَلى حُسْنِ بَلائِكَ وَسُبُوغِ نَعمائِكَ، حَمْداً يُوافِقُ رِضاكَ وَيَمْتَرِي العَظِيمَ مِنْ بِرِّكَ وَنَداكَ، يا عَظِيمُ يا كَرِيمُ، بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.).
أصل كلمة العيد من العود، وقلبت الواو ياءً، فالعيد يحمل معنى العود والرجوع إلى الله تبارك وتعالى، فيوم العيد يكون من أيام الله تعالى التي قال فيها عزّ من
ص: 132
قائل (وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيّامِ اللّهِ) (إبراهيم: 5)، لذا حشد الأئمة (عليهم السلام) لمثل هذه الأيام عدداً من الأعمال الصالحة، كالصلاة والدعاء والذكر، ليُعبّئوا الإنسان - خصوصاً في أيام الأعياد وبقية الأزمنة الشريفة - لله وحده، وأنت تقرأ في ضمن أدعية الأعياد: (اللّهُمَّ مَنْ تَعَبَّأَ وَتَهَيّأ وَأَعَدَّ وَاسْتَعَدَّ لِوِفَاَدَةٍ إلى مَخْلُوقٍ رَجَاءَ رِفْدِهِ وَطَلَبَ نائِلِهِ وَجائِزَتِهِ، فَإِلَيْكَ يارَبِّ تَعْبِيَتِي وَاسْتِعْدادِي رَجاءَ عَفْوِكَ وَطَلَبَ نائِلِكَ وَجائِزَتِكَ)، من هنا كان للعيد معنى غير ما يفهمه عامة المجتمع ويسيئون به إلى أنفسهم وإلى دينهم ويسخطون به خالقهم، فالعيد الحقيقي كما عرّفه أمير المؤمنين (عليه السلام) هو: (كل يوم لا تعصي الله فيه فهو عيد)، وعن سويد بن غفلة قال: دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم عيد، فرأيت عنده طعاماً بسيطاً، فاستغرب سويد خصوصاً وإن اليوم عيد، فقال له الإمام (عليه السلام): (إنما هذا عيدُ مَنْ غُفِرَ لهُ)(1).
هذا هو الفهم الصحيح للعيد، لكن أولياء الشيطان وأتباع الشهوات وعبدة الهوى الذين لا يتركون فرصة إلا وسخّروها لإشباع غرائزهم النهمة أخرجوا العيد من معناه الحقيقي، فجعلوه فرصة لممارسة المعاصي وارتكاب الفواحش، ولا أريد أن أذكر أعمالهم في هذا المكان المقدس، لكن المؤسف أنه حتى الأُسر الملتزمة المتدينة (تتحرر) وتتخلى من بعض التزاماتها، فتظهر النساء متبرجات وقد أبدت زينتهن، وربما تبادلت المصافحة أو ما هو أسوء مع الأقرباء والأصدقاء باعتبار أن اليوم يوم فرح وسرور.
ولا أريد أن أطيل بهذا الكلام المقرح للقلوب الغيورة على الدين والأخلاق والشرف، فنحن لا نريد أن نفرغ حياتنا من الفرح والسرور، لكن ينبغي أن
ص: 133
نلتفت إلى أننا حينما نقرأ القرآن نجد ذمّاً ومدحاً للفرح، فهل هذا تناقض في كلمات القرآن؟ كلا طبعاً، لأنه صادر من الله العليم الحكيم (وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء: 82)، فالفرح المذموم هو ما كان لمحض الأمور الدنيوية المجردة عن الأغراض الأخروية، وفي مثلها قال الله تعالى بصدد بيان فرح قارون بما أُوتي من ثروة طائلة وأموال عظيمة:(وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللّهُ الدّارَ الْآخِرَةَ وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 76-77)، ولكن ماذا كانت عاقبته:(فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ) (القصص: 81)(وَ أَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) (القصص: 82).
فهذا نموذج للفرح المذموم، لأنه ليس فيه نصيب لله تعالى، وفي مقابل ذلك قال الله تعالى:(قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ) (يونس: 58).
الذي أريد أن أعرضه هنا هو كيف نحوّل إيماننا بالله تعالى من مستوى النظرية إلى مستوى التطبيق، يعني إذا كنّا كلنا نعلم أنّ هذا التصرف خطأ فلماذا نفعله؟ وإذا كنا نعلم أن هذا التصرف صحيح فلماذا لا نفعله؟ كيف نولّد في
ص: 134
أنفسنا الدواعي والدوافع نحو التطبيق بحيث نتعامل مع الله تبارك وتعالى كأننا نراه فإن لم نكن نراه فإنه يرانا؟ وهذا مما لا يشك فيه مؤمن.
فهذه المرأة التي لا تلتزم بالحجاب، وهذا الشاب الذي لا يصلي، وهذا الشخص الذي يلعب الطاولي والدومينو والمؤذن ينادي حيّ على الصلاة، وهؤلاء الذين يغشون في السوق ويأكلون المال بالباطل متذرعين بالحيل الشرعية، وهذا الذين يخون الأمانة، وهذه العشائر التي تحكم بغير ما أنزل الله وتتقاتل فتسفك الدماء وتُيتم الأطفال من أجل الأمور التافهة، وهؤلاء الشباب والشابات الذين يكونون علاقات غير مشروعة تحت عناوين مختلفة كالزمالة ونحوها، كل هؤلاء وغيرهم ألا يعلمون أنّ هذه أفعال محرمة لا يرضاها الله تبارك وتعالى؟ لابد أنهم يعلمون! فما الذي يُجرّئهم على الله؟! ألا يعلم هؤلاء أن أمامنا عقبةً كؤوداً هي الموت، وما بعد الموت أعظم وأدهى؟ أليس هؤلاء مسلمين ويؤمنون بالله - ولو نظرياً على الأقل - ويؤمنون بالآخرة والمعاد والحساب، فلماذا لا ينعكس هذا الإيمان على تصرفاتهم؟ أين الخلل؟
وهنا تذكرت كلمة أمير المؤمنين (عليه السلام):
(ما رأيت يقيناً أشبه بشكٍّ مثل الموت) ، فإنه يقين مائة بالمائة على مستوى النظرية، لكنك لا تجد من يؤمن به عملياً، بمعنى أنه يستعد له الاستعداد الكامل، وكأنه كُتبَ على غيره، فترى الإنسان إذا عزم على سفر قد لا يطول شهراً يُعدُّ كل ما يحتاجه أو يُحتمل أنه يحتاج إليه، ويهيّئ جميع أموره حتى الحقير منها، فلماذا لا يستعد بنفس الاستعداد لسفر الآخرة ويحضر زاده لهذا السفر الذي بينه القرآن الكريم:(وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) (البقرة: 197)، وقال الإمام الحسين (عليه السلام):
(وحصل زادك قبل حلول أجلك).
ص: 135
فكيف نرجع إلى الله تعالى ونعود إليه خصوصاً بمناسبة العيد الذي قلنا أن معناه العود إلى الله تبارك وتعالى؟ وكيف نحبب الإيمان إلى نفوسنا وقلوبنا استجابة للعتاب الرقيق الرحيم الذي يوجهه الله تبارك وتعالى إلينا نحن المؤمنين:(أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَ ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (الحديد: 16)، ثم يضرب لنا مثالاً لهذه القلوب التي تقسو بسبب الخوض في أمور الدنيا، لكنها ترقّ وتحيى بعد أن يزهر فيها الإيمان وتعمر بذكر الله تعالى، فيقول في الآية التالية:(اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الحديد: 16-17)، بل قد وصف في آية أخرى إعمار القلب بالإيمان وذكر الله بالحياة، فقال الله تعالى:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) (الأنفال: 24).
ونحن هنا نثير بعض المحفزات النفسية والعقلية والقلبية التي تحثنا نحو التطبيق:
إن من شأن كل عاقل أن يرد الجميل بالجميل ويجازي الإحسان بالإحسان (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ) (الرحمن: 60)(وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللّهُ
ص: 136
إِلَيْكَ) (القصص: 77)، ونعم الله تعالى علينا كثيرة سواء على صعيد أبداننا التي هي عبارة عن معامل ومصانع كثيرة تعمل بدقة وإتقان، وأبسط مراجعة لكتاب
(الطب محراب الإيمان)(1) تنبئك عن هذا مما يوقف شعر رأسك، أو على صعيد الحياة حولنا من كون متناسق وأرض طيبة معطاء ونعم لا تعد وتحصى (وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّهِ لا تُحْصُوها) (إبراهيم: 34)، وجزاء الإحسان إحسان مثله، ولما كان الله غنياً عن عباده ولا يمكن أن يصل إليه نفع من أحد، فرَدٌ الإحسان بالنسبة إليه طاعته، ومن أشكال شكر النعم أن تطيع المنعم بها، أمّا عصيانه مع نعمه الوفيرة فهذا مما لا يرضاه عاقل.
إنّ كل واحد منا يحب أن تزيد النعم عليه، وهي بيد الله سبحانه المنعم الحقيقي، وقد وعدنا سبحانه:(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم: 7)، وفي الحديث: (بالشكر تدوم النعم)، فعلى من يريد زيادة النعم كالمال والبنين والجاه والصحة وغيرها فعليه أن يطيع الله ويشكره ليزيده الله من النعم (وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ) (الأعراف: 96).
إنه إذا أخبرنا إنسان ثقة بأن حيواناً مفترساً في هذه الجهة، فإننا سنهرب بالاتجاه المعاكس، ونحذر منه ونتخذ الإجراءات الواقية من الوقوع في الخطر، فإذا أكّد هذا الخبر ثقة آخر ازداد استعدادنا لذلك وكنّا أكثر حزماً، وقد أخبرنا مائة وأربعة وعشرون ألف نبي ومثلهم من الأوصياء والعلماء أنه سيكون هناك يوم قيامة يثاب فيه المطيع على طاعته ويعاقب العاصي على عصيانه بنارٍ وقودهاب.
ص: 137
الناس والحجارة، أفلا يوجب هذا البيان المؤكد الحذر والابتعاد عن كل ما يورطنا في هذه النار المتأججة، وقد وصفها القرآن الكريم بمشاهد مرعبة، وأخبرنا أنّ معصية الله سبحانه توقعنا فيها، وأنّ طاعته تورثنا جنة عرضها السماوات والأرض فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (السجدة: 17)؟.
أن نسأل أنفسنا سؤالاً: ماذا يخسر الإنسان لو أطاع الله سبحانه واستقام على الشريعة؟!. لا يخسر شيئاً، بل هو يعيش ويتمتع بالحياة كما يفعل البعيد عن الله سبحانه، وفوق ذلك له المكاسب الدنيوية والأخروية التي يحققها له الإيمان بالله سبحانه والسير على شريعته، قال الله تعالى:(وَ تَرْجُونَ مِنَ اللّهِ ما لا يَرْجُونَ) (النساء: 104)، وقد اتبع هذا الأسلوب الإمام الصادق (عليه السلام) حين قال لأحدهم:
(يا هذا إن كان ما تقول أنت - بأنه لا جنة ولا نار ولا حساب حق - فنحن وأنتم سواء، فإننا نأكل كما تأكلون وننكح كما تنكحون، وإن كان الأمر كما نقول هلكتم ونجونا)(1) وهو أسلوب لا يستطيع أن يرفضه أي عاقل.
أن نلتفت إلى أن الله تعالى مطلّع علينا ولا تخفى عليه خافية في السماوات والأرض، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، وقد جعل على كل واحد منّا ملائكة يحصون الأعمال في كتابٍ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وجعل الشهود على ذلك من أعضائنا التي نمارس بها حياتنا (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ1.
ص: 138
أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمّا تَعْمَلُونَ، وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (فصلت: 20-23)، فإذا التفتنا إلى هذه الحقائق فسنكون دقيقين في تصرفاتنا، وسنحسب ألف حساب قبل أن نورط أنفسنا في المعصية.
إن الإنسان الذي يمتنع عن إعطاء شيء من نفسه أو ماله لطاعة الله تعالى فإنه سيدفع أكثر منها في معصية الله وهو راغم، وستكون عليه حسرة يوم القيامة، فلا يدفع الحقوق الشرعية في أمواله لكنه يدفع أموالاً كثيرة في أمور تافهة تجرّ عليه حسرة يوم القيامة، أو يقصّر في العبادة أو يتكاسل عن قضاء حوائج المؤمنين فيبتليه الله بمشاغل كان يمكن أن يدفعها الله عنه لو لم يقصر في طاعة الله فيفوز بالآخرة ويكفيه الله مؤونة الدنيا وتعبها.
إن من يطيع الله سبحانه ويتجنب معصيته يعيش لذة الانتصار على أعدى أعدائه، وهي النفس الأمارة بالسوء كما وصفها الحديث الشريف، وكلّما كان تمرد النفس على الترك قوياً كان الفعل أكثر لذة، مثلاً: تعرض أمامك امرأة متبرجة قد أظهرت مفاتنها أو طالبة جامعية أو زميلة في دائرة تبرعت بإنشاء علاقة عاطفية معك فتنتصر أنت على نفسك الطموحة إلى ذلك، فتعيش لذة الانتصار، وهو ما أشار إليه الحديث الشريف:
(النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن تركها لله تعالى أبدله الله نوراً وإيماناً يجد حلاوته في قلبه)، أو يغيظك شخص ويسيء إليك وأنت قادر على رد إساءته، فتتركها لله تعالى وتنتصر على نفسك التي ترغب بالتشفي والانتقام، وهذا معنى الحديث:
(ما جرعة أحبُّ إليّ من جرعة غيظ لا أكافي بها صاحبها)(1).2.
ص: 139
وتوجد نقاط كثيرة لا أعتقد أن الوقت يسع لها.
أسأل الله تعالى أن يوفقنا لطاعته، فتكون أيامنا كلّها أعياداً، والعيد الأكبر حين نلقاه تبارك وتعالى وهو راضٍ عنّا (وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 72).
ص: 140
دعاء الندبة والعيد(1)
لماذا نقرأ دعاء الندبة في العيد؟
من الأعمال المستحبة يوم العيد قراءة دعاء الندبة وهو دعاء جليل شريف يتضمن معاني عالية ودروس قيّمة ينبغي للمؤمن الواعي الرسالي أن يستفيد منها، ويمكن فهم وجود الدعاء ضمن الأعمال التي ورد استحبابها لهذا اليوم الشريف الأول من شوّال المكرم على أنه جزء من برنامج أعدّه الأئمة المعصومون (عليهم السلام) لشيعتهم لكي يعيشوا الأجواء الواقعية لهذا اليوم، ولا ينخرطوا في الحالة التي تدعوا لها النفس الأمّارة بالسوء من اللهو والعبث وممارسة الأفعال التي لا تخلو من المعاصي في أيام العيد، التي ينظر إليها أغلب الناس على أنها مناسبة اجتماعية وفرصة للاستجابة لمشتهيات النفس وتعويضها عما حرمت منه في شهر رمضان كما تظن -.
بينما هذا اليوم في الحقيقة مناسبة دينية شريفة لأنه كأيّ يوم توزَّع نتائج الامتحانات والمسابقات فيه يكون يوم ترقب وتوجّس وانتظار، ينظر المؤمن فيه تارة إلى رحمة الله تعالى وكرمه وعظيم مِننه فيتفاءل وينتعش الأمل في أن يحظى بالدرجات الرفيعة في جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار ورضوانٌ من الله أكبر
ص: 141
ذلك هو الفوز العظيم، ويلتفت تارة أخرى إلى عيوب نفسه وقصوره وتقصيره وظلمه في هذا الشهر المبارك وغيره فيتضاءل عنده الأمل بالنجاة.
وفي ظل هذه الموازنة يمضي الإنسان في حياته مندفعاً في الاتجاه الإيجابي الذي تقتضيه، ولا يوجد فيها مكان للعبث واللهو والانحدار في أفعال غير مرضية، لذا حفلت هذه الأيام بالأدعية والصلوات والأذكار التي تنسجم مع واقع هذا اليوم الشريف ومنها دعاء الندبة.
كما أن هذه الأعمال تؤدي وظيفة أخرى وهي تذكير الأمة بأن العيد الحقيقي لا يتحقق بثوب جديد أو موقع كبير أو مال جزيل، وإنما العيد الحقيقي أن تحيى في ظل طاعة الله تعالى وإدامة ذكره وعدم الغفلة عنه والارتباط المتواصل به، بحيث لا تندفع إلا إلى ما أمر به وحثّ عليه، ولا تنزجر إلا عمّا نهى عنه لذا ورد في الحديث الشريف (كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد)، فلا عيد لهؤلاء الذين يمضون ساعاته في الفسق والفجور والمجون كذلك الذي يقول:
رمضان ولّى هاتها يا ساقي *** مشتاقة تسعى إلى مشتاقِ
فإن أمثال هؤلاء تعساء وأشقياء لكنهم غافلون عن صورتهم الحقيقية، وعميت أبصارهم عن الالتفات إلى واقعهم المؤلم حتى إذا ماتوا فوجئوا بما صنعوا وبما قدّموا لأنفسهم (وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ، وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ، وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ، لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (قّ: 19-22) وفي الحديث الشريف
(الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا).
ص: 142
وإضافة إلى هذه المعاني العامة فإن لدعاء الندبة خصوصيات ترتبط بيوم العيد الشريف:
منها: أن أفراحكم لا تنسيكم مصائب أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم ومواليهم وكل العاملين الرساليين التي لا زالت تقع عليهم من كل حدب وصوب، يقول الإمام السجاد (عليه السلام) في يوم عيد بعد استشهاد أبيه الحسين (عليه السلام) وأصحابه البررة وهو كئيب حزين:
يفرح هذا الورى بعيدهم *** ونحن أعيادنا مآتمنا
وقد أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل بيته والسائرين على دربه بذلك فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
(أنتم المستضعفون بعدي) فيذكرُنا الدعاء بعدد من تلك المصائب والنكبات (فعلى الأطايب من أهل بيت محمد وعلي صلى الله عليهما وآلهما فليبك الباكون، وإياهم فليندب النادبون ولمثلهم فلتذرفَ الدموع وليصرخ الصارخون ويضجّ الضاجّون ويعجَّ العاجّون، أين الحسن أين الحسين؟ أين أبناء الحسين؟ صالحٌ بعد صالح وصادقٌ بعد صادق).
وحينما يحث الشارع على استثارة الحزن فليس ذلك لأنه يريد أن نعيش حياة التشاؤم والألم والانزواء، بل لأن الحزن والعاطفة عموماً خير محفّز للعمل ويزيل قسوة القلب التي يُستعاذ بها في الدعاء (من جمود العين وقسوة القلب) والواقع شاهد على ذلك) والمعنى مأخوذ من قصار كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة.
ومنها: ان يوم العيد وان كان له دور كبير في توحيد الأمة وزيادة أواصر
ص: 143
المحبة وصفاء القلوب بما يتضمن من زيارات وتبادل التهاني والتبريكات، وهي أعمال رغّب فيها الشارع المقدس وأشارت الأحاديث والأدعية الشريفة إليها، ففي دعاء الإمام السجّاد (عليه السلام) في وداع شهر رمضان (اللهم إنا نتوب إليك في يوم فطرنا الذي جعلته للمؤمنين عيداً وسروراً، ولأهل ملّتك مجمعاً ومحتشداً).
إلا أن دعاء الندبة يوجهنا إلى ركن آخر مهم ترتكز عليها وحدة الأمة، وهو التفاتها والتفافها حول قيادتها الحقيقية المتمثلة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) التي انتهت إلى بقية الله الأعظم (أرواحنا له الفداء)، وفي أثناء غيبته تتمثل بالفقهاء العدول المخلصين الواعين القادرين على سياسة الأمة ورعاية شؤونها والدفاع عن حقوقها، فإذا تفرقت الأمة عن مثل هذه القيادة ضاعت وتشتتت ولا تنفع المجاملات في يوم العيد ولا في غيره لجمعها وتوحيدها قال تعالى (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) (آل عمران: 103) وحبل الله هو القرآن والناطقون الحقيقيون به هم من ذكَرنا.
وقد نبّهت الصِدِّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء إلى هذا المعنى في خطبتها في مسجد أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) (وجعل إمامتنا نظاماً للملة)، ودعاء الندبة حافل بالإشارات إلى الأئمة الحقيقيين للأمة وبتسلسل دقيق إلى أن قال (فلما انقضت أيامه (صلى الله عليه وآله وسلم) أقام وليّه علي بن أبي طالب صلواتك عليهما وآلهما هادياً إذ كان هو المنذر ولكل قوم هاد فقال والملأ أمامه: من كنت
ص: 144
مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) من كنت أنا نبيّه فعليٌّ أميره).
ثم يشير إلى حال الأمة في التفرق عنهم (عليهم السلام)
(ولما قضى نحبه وقتله أشقى الآخِرين يتبع أشقى الأولين لم يُمتَثَل أمر رسول الله صلى الله عليه وآله في الهادين بعد الهادين والأمةُ مجتمعةٌ على قطيعة رحمه وإقصاء وُلْدِه إلا القليلَ ممن وفى لرعاية الحق فيهم).
ومنها: أن نفس الإنسان تطمح إلى الدنيا والتوسع فيها خصوصاً في مثل أيام العيد، فيريد الدعاء أن يكبح جماح هذه الرغبة ويزهّده في الدنيا باستعراض تقلبها بأهلها وجورها على أولياء الله تعالى ولو كان لها قيمة عند الله تعالى لاختصّ الله بها أولياءه كما في الحديث
(لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).
ويلفت الدعاء نظرنا إلى فكرة مهمة وهي أن من رغب في نيل الدرجات الرفيعة عند الله تعالى فإن شرط الله تعالى هو الزهد في هذه الدنيا وعدم الالتفات إليها والأخذ منها إلا بمقدار الحاجة وأول من استجاب لهذا الشرط ووفى به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل بيته والأنبياء والرسل الكرام، يقول الدعاء (اللهم لك الحمد على ما جرى به قضاؤك في أوليائك الذين استخلصتهم لنفسك ودينك إذ اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم الذي لا زوال له ولا اضمحلال بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنيّة وزخرفها وزبرجها فشرطوا لك ذلك وعلمت منهم الوفاء به فقبلتهم وقرّبتهم وقدّمت لهم الذكر العليَّ والثناء الجليّ وأهبطتَ عليهم
ص: 145
ملائكتك وكرّمتهم بوحيك ورفدتهم بعلمك وجعلتهم الذريعة إليك والوسيلة إلى رضوانك).
ووجه الاشتراط واضح لأن القلب المملوء بالتعلق بالدنيا لا يصلح بيتاً للرحمن ففي الحديث القدسي (لم يسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن) ثم قال تعالى:(وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ) (الحج: 26) لذا أدّبَ اللهُ تبارك وتعالى نبيه (وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى) (طه: 131).
والدعاء إضافة إلى ذلك كله مليء بالتلهف والشوق لِلِقاء إمام العصر والتأسّف على الحرمان من النظر إلى طلعته المباركة، فيقول الدعاء (هل إليك يا ابن أحمد سبيلٌ فتُلقى هل يتصل يومنا يومنا منك بغده فنحظى، متى نرِدُ مناهلك الرويّة فنروى، متى ننتقع من عذب مائك فقد طال الصدى، متى نغاديك ونراوحك فتقرُّ عيوننا، متى ترانا ونراك وقد نشرتَ لواء النصر تُرى أترانا نحفُّ بك وأنت تؤمُّ الملأ وقد ملأت الأرض عدلاً وأذقتَ أعداءك هواناً وعقاباً وأبَرْتَ العتاةَ وجَحَدةَ الحق وقطعتَ دابر المتكبرين واجتثثتَ أصول الظالمين ونحن نقول الحمد لله رب العالمين..) وصلى الله على رسوله والأئمة الميامين من آله وسلّم تسليماً كثيراً.
ص: 146
مشاعر يوم العيد بين الخوف والرجاء(1)
الحمد لله والحمد حقه كما يستحقه حمداً كثيراً، وأعوذ به من شرِّ نفسي إن النفس لأمّارةٌ بالسوء إلا ما رحمَ ربّي، وأعوذُ من شرِّ الشيطان الذي يزيدني ذنباً إلى ذنبي، وأحترزُ به من كلِّ جبارٍ فاجرٍ وسلطانٍ جائرٍ، وعدو قاهر.
اللهم صلِّ على محمدٍ خاتمِ النبيين وتمام عدة المرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه المنتجبين.
يقوم أكثر المسلمين باحتفالات صاخبة في العيد لا تنمُّ عن تحقق النتائج المرجوّة من صيام شهر رمضان وكأنهم يريدون أن يطلقوا لأهوائهم وشهواتهم العنان بعد أن كانت محبوسة طيلة الشهر، وفي الحقيقة فإن أمثال هؤلاء كانوا حتى خلال الشهر منساقين وراء شهواتهم وكل الذي يتغير هو التوقيت فهم يصومون في النهار ثم يعوِّضون في الليل ما فاتهم من لذيذ الأطعمة وإحياء الليالي الرمضانية بسفاسف الأمور.
لكن الأئمة المعصومين (سلام الله عليهم) يعلموننا ما ينبغي أن تكون مشاعرنا في يوم العيد، فقد روى جابر عن الإمام الباقر (عليه السلام) عن جدّه
ص: 147
النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال
(إذا كان أول يوم من شوال نادى منادٍ: أيها المؤمنون اغدوا إلى جوائزكم، ثم قال: يا جابر جوائز الله ليست بجوائز هؤلاء الملوك، ثم قال: هو يوم الجوائز)(1).
وروى الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه): (نظر الحسين بن علي عليهما السلام إلى أناس في يوم فطرٍ يلعبون ويضحكون، فقال لأصحابه والتفت إليهم: إن الله عز وجلّ جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى رضوانه، فسبق فيه قوم ففازوا وتخلّف آخرون فخابوا، فالعجب كل العجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يثاب فيه المحسنون، ويخيب فيه المقصّرون، وأيم الله لو كشف الغطاء لشُغِلَ محسنٌ بإحسانه ومسيءٌ بإساءته) 2.
وإنما يكون الإنسان فائزاً ومحسناً ويستحق الجائزة إذا أتى بالعمل المطلوب كما أراده منه ربُّه وتحقق لديه الهدف من التشريع، وما هو هذا الهدف؟
قال تعالى:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183).
فالهدف هو تربية الإنسان لتحصيل ملكة التقوى وهي حالة تحصل في قلب الإنسان تحرّكه نحو كل ما يرضي الله تبارك وتعالى سواء كان واجباً أو مستحباً وتمنعه عن اقتحام كل ما يوجب سخط الله تبارك وتعالى أو تقلل من مرتبة القرب إليه سبحانه سواء كان محرماً أو مكروهاً أو مباحاً، ويكون الإنسان هو الرقيب على نفسه في كل تلك الحركات والسكنات حتى في خلواته حينما لا يطّلع عليه أحد فإنه يُرَوِّضُ نفسه بالتقوى، قال تعالى في التمييز بين الفريقين (فَإِذا
ص: 148
جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى، وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى، فَأَمّا مَنْ طَغى، وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى، وَ أَمّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) (النازعات: 34-41).
فالمتقي هو من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى مطلق الهوى سواء كان محرّما أو مكروهاً أو مباحاً لا يليق بمقام ربّه. ولذا كانت التقوى خير الزاد ليوم المعاد (وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) (البقرة: 197)(وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9)(وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) (النور: 52).
وتكرر الحث على التقوى في آيات كثيرة في القرآن الكريم وربما تكررت في الآية الواحدة كالتي مرّت آنفاً، وقوله تعالى:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (الحشر: 18)(بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَ اتَّقى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (آل عمران: 76).
وإضافة إلى تلك الآثار الأخروية للتقوى فإن القرآن الكريم يلفت نظرنا إلى آثار مباركة عظيمة للتقوى في الدنيا والآخرة: -
ص: 149
(منها) تكفير السيئات؛ قال تعالى:(وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأَدْخَلْناهُمْ جَنّاتِ النَّعِيمِ) (المائدة: 65)(وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) (الطلاق: 5).
(ومنها) البركات المادية والمعنوية؛ قال تعالى:(وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف: 96).
(ومنها) إيجاد الفرج والمخرج والرزق بدون احتساب؛ قال تعالى:(مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (الطلاق: 2-4).
(ومنها) إلهام العلم؛ قال تعالى:(وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة: 282).
(ومنها) قذف البصيرة ونور الفرقان في القلب؛ قال تعالى:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الأنفال: 29).
وغيرها كثير مما لا يسعه المقام وتستحق إفرادها بكتاب مستقل.
وقد اختُصر تعريف التقوى (بأن لا يفتقدك الله حيث أمرك ولا يجدك الله حيث نهاك) والأمر أعم من الواجب والمستحب، والنهي أعم من الحرام والمكروه.
ص: 150
وتتحدث الروايات الشريفة عن كيفية إنتاج الصوم الحقيقي بدرجة من درجات التقوى تتكامل بانضمامها إلى نتائج العبادات الأخرى، فيقول أمير المؤمنين (عليه السلام):
[و انما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الفزع ] وعن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال:
(إنما أُمروا بالصوم لكي يعرفوا ألم الجوع والعطش فيستدلوا على فقر الآخرة، وليكون الصائم خاشعاً ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً عارفاً صابراً على ما أصابه من الجوع والعطش فيستوجب الثواب مع ما فيه من الإمساك عن الشهوات ويكون ذلك واعظاً لهم في العاجل ورائضاً لهم على أداء ما كلّفهم، ودليلاً لهم في الآجل، وليعرفوا شدة مبلغ ذلك على أهل الفقر والمسكنة في الدنيا فيؤدوا إليهم ما افترض الله لهم في أموالهم)(1).
وهذه بعض معالم التقوى وهي كثيرة وقد بيّن أمير المؤمنين صفات المتقين في خطبته المعروفة فليقم كل راغب في أن يكون من المتقين بتحقيق تلك الصفات في نفسه وفي سلوكه مستمداً العون من الله تبارك وتعالى.
فقيمة العمل إنما تعرف من مقدار مطابقة نتائجه مع الهدف المطلوب من العمل كما سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن كيفية معرفة أن الصلاة مقبولة أم لا؟ قال (عليه السلام): أنظر إلى مقدار نهيها لصاحبها عن الفحشاء والمنكر. تطبيقاً للآية الشريفة (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ) فكذلك الصوم الذي لا يربي في الإنسان ملكة التقوى ولا يمنعه من ارتكاب المحرمات لا
ص: 151
قيمة له في ميزان التكامل، روى السيد ابن طاووس عن الإمام الباقر (عليه السلام) قوله: (إن الكذبة لتفطر الصائم، والنظرة بعد النظرة والظلم قليله وكثيره)(1).
فالصوم المنتج للتقوى لا بد أن يشمل القلب وجميع الجوارح، فقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لجابر بن عبد الله: يا جابر هذا شهر رمضان من صام نهاره وقام ورداً من ليله وعفَّ بطنه وفرجه وكفّ لسانه خرج من ذنوبه كخروجه من الشهر، فقال جابر: يا رسول الله ما أحسن هذا الحديث! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا جابر ما أشدَّ هذه الشروط!)(2).
فالشعور الحقيقي للإنسان يوم العيد أن يكون متردداً بين الخوف والرجاء.
ومن المشاعر التي يلفت المعصومون (عليهم السلام) نظرنا إليها يوم العيد: المقارنة بينه وبين يوم النشور؛ فعن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (سلام الله عليهم) قال:
(خطب أمير المؤمنين يوم الفطر فقال: أيها الناس إن يومكم هذا يوم يثاب فيه المحسنون ويخسر فيه المسيئون، وهو أشبه يوم بقيامتكم، فاذكروا الله بخروجكم من منازلكم إلى مصلاكم خروجكم من الأجداث إلى ربكم، واذكروا بوقوفكم في مصلاكم وقوفكم بين يدي ربكم، واذكروا برجوعكم إلى منازلكم رجوعكم الى منازلكم في الجنة والنار. واعلموا عباد الله إن أدنى ما للصائمين والصائمات أن يناديهم ملك في آخر يوم من شهر رمضان: أبشروا عباد الله فقد غفر لكم ما سلف من ذنوبكم فانظروا كيف تكونون فيما تستأنفون)(3).
ص: 152
ومن مشاعرنا يوم العيد تجديد الحزن لاغتصاب آل محمد (صلى الله عليه وآله) حقهم، فعن عبد الله بن ذبيان عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال:
(يا عبد الله ما من يوم عيد للمسلمين أضحى ولا فطر إلا وهو يجدد الله لآل محمد عليهم السلام فيه حزناً، قال: قلت: لمَ؟ قال: إنهم يرون حقهم في أيدي غيرهم)(1).
لذا كان من مستحبات يوم العيد قراءة دعاء الندبة المليء بالتأسف والألم لما أصاب أهل البيت (عليهم السلام) وبنفس الوقت فإن الدعاء يحيي الآمال بتعجيل الظهور الميمون المبارك جعلنا الله تعالى من أنصاره وكبراء قادته. انه نعم المولى ونعم النصير.
ص: 153
أقام سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) صلاة عيد الفطر المبارك للعام 1425 ه - في باحة داره، حيث اجتمع العشرات من المؤمنين، وبعد الصلاة قام لأداء الخطبتين وافتتحهما بالحمد والثناء على الله تبارك وتعالى كما هو أهله وكما يستحقه حمداً كثيراً ثم قال:
توجد كلمة لأحد العلماء يقول: (بُني الإسلام على ركنين: كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة) وهي عبارة صادقة بدرجة كبيرة ولم تأتِ من فراغ وإنما هي مستقرأة من مجموعة وفيرة من النصوص الشريفة في القرآن والسنة وهذان الركنان تُساهم فعاليات العيد في ترسيخهما في نفوس وقلوب المؤمنين.
أما كلمة التوحيد - ولا نعني بها لقلقة اللسان فقط - فهي وإن كانت تمثل درجة من درجات الإيمان ومعبّرة عما في قلب الإنسان وضميره ومبرزة لهذا الاعتقاد الباطني، إلا أنها غير كافية كما قال تعالى (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الحجرات: 14) فالمطلوب من المسلم مراحل أخرى:
ص: 154
منها: انعقاد القلب على هذه الحقيقة بأن لا إله ولا مدبر ولا ربَّ ولا معبود ولا كامل وغيرها من المعاني إلا الله تبارك وتعالى.
ومنها: إشراق هذه المعاني على حياة الإنسان وتأثيرها في سلوكه فلا يخشى إلا الله تبارك وتعالى ولا يطيع أحد غيره ولا يرجو الخير إلا منه ولا يبغي رضا أحدٍ غيره ولا يتوكل إلا عليه... وهكذا.
وقد جعل الله تبارك وتعالى أزمنة شريفة - ومنها يوم العيد - فرصة كبيرة لتعميق هذه المعاني، فقام الأئمة (عليهم السلام) بحكم وظيفتهم الإلهية وهي الأخذ بيد العباد في طريق الهداية وإيصالهم إلى الكمال بوضع برنامج عمل تفصيلي لهذه الأيام، فعلمَّوا شيعتهم عدة صيغ للطاعة من الصلاة والدعاء والسنن والمستحبات وتضمنت الأدعية الحمد والثناء لله تعالى على جميل صنعه إذ وفق لصيام هذا الشهر العظيم، وأعان على قيامه وتلاوة كتابه الكريم في وقت حُرِم منها الكثيرون بحسب درجات الحرمان المتفاوتة، فأحدهم - وهو أسوأهم - لم يؤدِ ما فرض الله عليه من صيام وصلاة واشتغل بالمعاصي، وآخر صام ظاهراً بمعنى أنه امتنع عن الطعام والشراب لكنه لم يمنعه صومه عن الخوض في المحرمات كالغيبة وظلم الناس والمعاملات المحرمة والنظر إلى ما حرم الله وحضور مجالس البّطالين ونحوها فهو قد حُرِم من درجة من درجات العطاء الإلهي، وهكذا تمتد درجات الحرمان بمقابل درجات القبول والقرب من الله تعالى، وكل درجة من درجات القبول تقابلها درجة من درجات الحرمان (وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلاً) (الإسراء: 21).
ص: 155
ومما تضمنته الأدعية من معان: التوسل إلى الله تعالى بالمغفرة وعدم المؤاخذة على التقصير وقبول الأعمال بكرمه وان لا يعاملنا بعدله بل بفضله (اللهم أدِّ عنا حق ما مضى من شهر رمضان واغفر لنا تقصيرنا فيه ولا تؤاخذنا بإسرافنا على أنفسنا واجعلنا من المرحومين ولا تجعلنا من المحرومين) وفي دعاء آخر (إلهي ربح الصائمون وفاز القائمون ونجى المخلصون ونحن عبيدك المذنبون).
فإذن ليس كل عمل يأتي به الإنسان يكون مقبولاً وإن كان مطابقاً للشروط التي ذكرها الفقهاء (قدس الله أسرارهم) في رسائلهم العملية التي تتكفل بإبراء الذمة من التكليف، أما القبول فيتطلب درجة من درجات التقوى (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة: 27).
ومن الأجزاء الواجبة في خطبتي صلاة العيد التذكير بتقوى الله تبارك وتعالى كتلاوة الآية الشريفة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ) (التوبة: 119)(يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ) (النساء: 1)، وقد ورد مثل هذا الحث كثيراً في القرآن في إشارة واضحة إلى غياب هذه الحالة عن حياة الناس حتى المؤمنين.
فالعيد - بخطبتي صلاته - يعيد للمؤمنين هذه الحالة الروحية الوجدانية التي يستشعرها في حياته ويستحضرها في معاملاته وتصرفاته لتكون هي المقياس؛ لذا فسّروها في بعض الأقوال (أن يجدك الله حيث أمرك ويفتقدك حيث نهاك) فإذا أمرك بالصوم فيريد أن يجدك مع الصائمين وأمرك بالصلاة فلا بد أن يجدك
ص: 156
مع المصلين... وهكذا ونهاك عن الغيبة فيجب ان يفتقدك في مجالس الخائضين فيها... وهكذا.
وفي هذا السياق دعا الأئمة (عليهم السلام) شيعتهم إلى الإكثار من ذكر الله تعالى والعمل الصالح يوم العيد، وعدم جواز الاشتغال باللعب والضحك ومما ورد في هذا المجال عن الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) أنه نظر إلى ناس في يوم فطر يلعبون ويضحكون فقال لأصحابه والتفت إليهم: إن الله عز وجل جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى رضوانه، فسبق فيه قوم ففازوا وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب كل العجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يثاب فيه المحسنون ويخيب في المقصرون وأيم الله لو كشف الغطاء لانشغل محسن بإحسانه ومسيء بإساءته)(1).
وهكذا يعمق العيد هذا الركن الأول من ركني الإسلام في شخصية المؤمن).
ثم أنهى خطبته الأولى بقراءة سورة الكوثر، وبعد جلسة خفيفة قام إلى الخطبة الثانية.
فبدأها بالحمد لله تبارك وتعالى ثم الصلاة على النبي وآله بأسمائهم فرداً فرداً وقال: (إن العيد يتكفل بترسيخ الركن الثاني وهو توحيد الكلمة من خلال عملين:
الأول: الحث على التزاور والمعانقة والمصافحة ونبذ القطيعة والتباغض والتشاجر، وهذه الأساليب العملية لها دور فعال في حفظ تماسك المجتمع المسلم ووحدته وسيادة روح الألفة والمحبة بين أفراده فمن الأحاديث الواردة في
ص: 157
المصافحة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال
(إن المؤمنين إذا التقيا فتصافحا أدخل الله يده بين أيديهما واقبل بوجهه على أشدهما حباً لصاحبه فاذا اقبل الله بوجهه عليهما تحاتت عنهما الذنوب كما يتحات الورق من الشجر)(1) وغيرها كثير، ولما علم الله تبارك وتعالى أن الناس يشتغلون خلال السنة بتفاصيل حياتهم اليومية فتقل اللقاءات بينهم خصوصاً مع تعقيد الحياة المعاصرة؛ لذا جعل العيد فرصة ليجددوا هذه العلاقات ويزيلوا عنها ما شابها من الكدر ونزعات الشيطان.
وهذا التماسك والتآلف هو الأساس الرصين لبناء أمة مزدهرة متقدمة قوية، وترى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أول ما عمل حين صدع بدعوته المباركة هي المؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم، ثم بعد ما هاجر آخى بين المهاجرين والأنصار كأول خطوة قبل أن يبدأ عمله الرسالي الواسع العظيم، وكان أصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم) بمستوى المسؤولية فكان الأنصاري يتنازل للمهاجر عن نصف ماله حتى إذا كان له رغيفان أعطاه واحد وإذا كانت له زوجتان طلّق واحدة وتزوجها المهاجر.
وهكذا استطاع أن يبني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دولته المباركة الحصينة في المدينة وانطلق منها ليفتح العالم لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم أنه لا تستقيم له دولة ولا يستطيع أن يبلّغ رسالة ربه، وأصحابُه متقاطعون متباغضون يلعن بعضهم بعضاً، ويفسق بعضهم بعضاً فكان لا يسمع كلام أحدهم السيئ عن الآخر ويقول لهم (أحبّ أن امضي عنكم وأنا سليم الصدر)، وبذلك قطع هذه المادة الأساسية للتقاطع وسوء الظن وهي النميمة ونقل نقائص الآخرين وتشويه سمعتهم وتسقيطهم.
فما أحوجنا اليوم إلى وعي هذه العملية المباركة التي قام بها المصلح العظيم7.
ص: 158
وباني دولة الإسلام العظيمة، ولو سألتني عن أهم معوق للعمل الإسلامي في الفترة التي تلت بعد سقوط الطاغية لأجبتك إنه هذا التقاطع والتشنج في العلاقات والتزاحم على المواقع الدينية والسياسية والاجتماعية - رغم أنها كلها إذا خلت من الإخلاص لله تعالى فهي لا تعدو كونها دنيا زائفة وزائلة - مما أنهك الأمة وأضعفها وجعلها نهباً للأعداء يطمع فيها كل قريب وبعيد، وأضاع الكثير من فرص التقدم ومشاريع بناء الأمة المتكاملة وهدر الطاقات وأمات الآمال التي انتعشت في يوم ما.
إننا بإذن الله تعالى مقبلون على عملية انتخابات، وقد بذلت الأمة وقياداتها جهوداً مضنية لإقرارها حتى رضخت الأطراف المعنية، ونحن نريدها أن تكون نزيهة ومنافسة شريفة لتقدم الأكفاء وتحكيم إرادة الأمة في من يقودها، لكنهم سيعملون لتحقيق مصالحهم من خلال هذه العملية، وليس من الضروري أن تتطابق المصالح فستستمر حالة التجاذب والتدافع ليحقق كل طرف ما يريد (لَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40).
ومحل الشاهد أن من السلبيات المتوقعة والتي سيعمل الأعداء على ترسيخها هي حالة المهاترات الكلامية وتبادل الاتهامات ومحاولة التسقيط والتشويه والإلغاء والإقصاء التي ستتبعها الفئات المتنافسة بشتى الوسائل المتاحة من أجل إرضاء أنانياتهم وتحقيق مصالحهم الشخصية أو الفئوية، مما سيمزق الأمة بشكل أوسع وها نحن ننبه إلى هذا الخطر من وقت مبكر لأخذ الحيطة والحذر.
إن التنوع في التفكير والوصول إلى نتائج مختلفة استناداً إلى مقدمات
ص: 159
متباينة حالة طبيعية ودليل على الإبداع، ولكي لا يجوز لها ان تتجاوز حدودها الايجابية لتؤدي إلى التقاطع والتناحر.
إننا نشهد اليوم تمزقاً على صعيد الوطن فبعض الأكراد ينادون بالانفصال في الشمال وآخرون يطالبون بانفصال الجنوب وأسيئ معنى الفدرالية.
ونشهد تمزقاً على صعيد الدين فهؤلاء المتحجرون الجهلة الحاقدون يقتلون ويدمرون ويفجرون بلا رادعٍ من دين أو أخلاق أو إنسانية وبوسائل وحشية، وحوادث اللطيفية والمحمودية والسيارات المفخخة والاغتيالات بعض الشواهد على ذلك، يريدون أن يجروا البلاد والعباد إلى حرب طائفية تهلك الحرث والنسل، وينفذوا خطط أعداء الأمة من حيث يشعرون أو لا يشعرون، ولولا حكمة المرجعية الشريفة وحلمها وبصيرتها وورعها ووعي الأمة وطاعتها لقيادتها الدينية لما بقي المجتمع على حاله اليوم.
ونشهد تمزقاً داخل المذهب الواحد بسبب اختلاف التوجهات الفكرية والقناعات المتعددة وهكذا تستمر الانشقاقات بشكل لا يُسِّر الصديق ويدمي قلب كل غيور.
ومع هذا الوضع الخطير كيف ستبنى الأمة وتزدهر البلاد وكيف سنحقق السلام والسعادة لأبناء الشعب لذا يجب أن يثوب الجميع إلى رشدهم وينظروا بعين الناقد البصير ويعودوا إلى سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كان أول عمل هو تأليف قلوب أتباعه وتوحيد شملهم وبناء مجتمع متماسك محذراً إياهم من مغبة التفرق والتشتت التي يكون أول نتائجها ذهاب القوة والدولة (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ
ص: 160
أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) (آل عمران: 103).
ولمراسيم العيد وسننه ومستحباته الدور الكبير في سيادة روح المحبة والتصافي بين أفراد الأمة.
الثاني: التذكير وإلفات النظر إلى القيادة الحقيقية للأمة التي أمر الله تبارك وتعالى باتباعها (وجعل إمامتنا نظاماً للملة)(1) ، فالإمامة والقيادة الشرعية للأئمة المعصومين (عليهم السلام) وامتدادهم من الفقهاء العدول الجامعين للشرائط هو الحصن الذي يحمي الأمة من التفكك، وما تشتتت الأمة وما تمزقت إلا حينما أعرضت عن قيادتها الحقيقية.
وهذا المعنى يؤكده العيد ويرسخه في قلوب المؤمنين من خلال الحث الأكيد على زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) وفهم معاني ثورته المباركة، ومن خلال دعاء الندبة الذي ورد استحباب قراءته في الأعياد وهو دعاء جليل يذكّر الناس بالركب الكريم من أنبياء الله ورسله والأئمة المعصومين والأولياء الصالحين الذين بلّغوا رسالات ربهم وأدوا ما عليهم وقدمّوا التضحيات الجسيمة التي يشير إليها الدعاء.
ثم يركز في خطابه على الإمام المهدي (عليه السلام) باعتباره الإمام الفعلي والقائم بأعباء الرسالة الإلهية الشريفة والمدخر لإقامة الحق والعدل وإزالة الأمت والعوج، وليذكرنا أن العيد الحقيقي هو يوم إقامة حكم الله تبارك وتعالى في الأرض على يد الأمناء من عباده.).
ص: 161
هذا هو يوم العيد في شرفه، وهذا هو يوم العيد في معطياته وهذا هو دور يوم العيد في حياة المسلمين.
ويبقى (كل يوم لم تعصِ الله فيه فهو عيد) هو شعار المؤمنين وخلاصة نظرتهم إلى معنى العيد.
جعلنا الله وإياكم من أهل طاعته ورزقنا وإياكم مرافقة أوليائه في بحبوحة جناته إنه ولي النعم.
ص: 162
ص: 163
ص: 164
استقبال شهر ذي الحجة الحرام(1)
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيد خلقه أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين
يحلّ علينا بإذن الله تعالى بعد أيام شهر ذي الحجة الحرام وهو شهر شريف، تضاهي بعض أيامه أيام شهر رمضان المبارك في الفضل وعظيم البركة - على ما قيل - لذا روي أن صلحاء الصحابة والتابعين والسلف الصالح كانوا يترقبونه ويهتمون به ويضعون لهم برامج من العمل والعبادة.
ومن أيامه المباركة ذات الشأن العشر الأوائل منه وقد ورد في الروايات أنها الأيام المعلومات التي حث الله تبارك وتعالى عباده على ذكره فيها بكل ما تيسر من أشكال الذكر والطاعة والعبادة ففي معاني الأخبار روى الشيخ الصدوق (رضى الله عنه) بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال (قال علي (عليه السلام) في قول الله عز وجل (وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ) (الحج: 28) قال: أيام العشر)(2).
وورد في فضيلة هذه الأيام عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله (ما من أيام أزكى عند الله تعالى ولا أعظم أجراً من عشر الأضحى، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله
ص: 165
قال (صلى الله عليه و آله و سلم):
ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)(1)
فينبغي للمؤمن المراقب لنفسه الراغب في ما عند الله عز وجل أن يتحرى هذا الشهر ويتعرف على أوله حتى لا تفوته فرصة الأعمال المسنونة لهذه العشرة: وأول ذي الحجة لهذه السنة 1432 سيكون على الأرجح بمشيئة الله تعالى يوم السبت 2011/10/29 فمساء يوم الجمعة أي ليلة السبت ستكون الليلة الأولى من ذي الحجة بإذن الله تعالى عندها تبدأ أعمال العشرة الأولى من شهر ذي الحجة:
ومنها: صلاة كل ليلة بين المغرب والعشاء ركعتين يقرأ في كل منهما بعد الحمد سورة التوحيد وقوله تعالى (وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (الأعراف: 142) فقد ورد أن من صلاّها شارك الحجاج في ثوابهم وإن لم يحج.
ولا يخفى وجه ارتباط الآية بهذه العشرة، حيث ورد في الروايات أن الثلاثين هي شهر ذي القعدة والعشرة هي الأولى من ذي الحجة(2) وقد ذكر أكثر من وجه لأفراد العشرة عن الثلاثين وكان يمكن القول أربعين ليلة في جملة واحدة، والوجه الذي أقوله منسجماً مع ما نحن فيه، وملخّصه أن أفراد العشرة لإظهار الاعتناء بها والالتفات إلى فضلها الخاص.
ومنها صوم الأيام التسعة الأولى ويكره صوم يوم عرفة لمن يضعفه الصوم3.
ص: 166
عن الدعاء أو إذا كان خلاف في أول الشهر خشية أن يكون عيداً ففي رواية الشيخ الصدوق عن الإمام موسى بن جعفر أن من صام التسع كتب الله عز وجل له صوم الدهر(1).
ومن لم يتيسر له صومها كلها لضعف أو انشغال أو تقديم الأهم فليصم أول يوم فإنه يعدل صوم ستين أو ثمانين شهراً. ويصوم اليوم الثامن المسمى بيوم التروية فقد ورد فيه أن صومه كفارة سنة.
ومنها الأدعية والأذكار الموجودة في كتب السنن والمستحبات وقد ذكر بإزاء كل منها ثواب عظيم.
وينبغي مضاعفة الهمة أكثر ليلة عرفة ويومها وليلة العيد ويومه وتوجد أدعية ذات مضامين عالية في هذه الأوقات المباركة الشريفة، كما ينبغي عدم تفويت زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) المخصوصة في يوم عرفة ويوم العيد ولو من بعد لمن لم يتيسر له التشرف بلثم تربته المباركة.
وكذا ينبغي إحياء شعائر أهل البيت (عليهم السلام) ومنها ذكرى استشهاد الإمام الباقر (عليه السلام) في السابع من ذي الحجة.
إن من أعظم نعم الله تعالى على الإنسان توفير هذه الفرص الخاصة للألطاف الإلهية ليسرِّع الله تبارك وتعالى لعباده التكامل والرقي ويطوي لهم المسافات المعنوية نحو الكمال، لذا فإن من الذكر الذي أمرنا به في هذه الأيام المباركة، الالتفات إلى هذه النعم الخاصة والشكر عليها قولاً وفعلاً ولذا ورد في أدعية الأيام العشرة الأولى (اللهم هذه الأيام التي فضلتها على الأيام وشرّفتها وقدت.
ص: 167
بلغتنيها بمنك ورحمتك فأنزل علينا من بركاتك وأوسع علينا فيها من نعمائك) ولتكن طلباتك سامية كالتي ذكرها الدعاء لأن عطاء الله تعالى واسع فيها.
وأوّد ألفات نظر الأحبّة إلى انه توجد أعمال للشهر القمري كشهر بغضّ النظر عن أعمال أيامه، يستحب المواظبة عليها في كل شهر قمري، وإذا لم يتسنّ الالتزام بها في كل شهر فلا أقل من العمل بها في مثل هذه الأشهر الشريفة حتى لا يكون تاركاً لها، فللملتزم بعمل - كصلاة الليل - منزلة، ولمن لم يكن من تاركي العمل منزلة، فإن لم تكن من أهل الأولى فكن من أهل الثانية.
ومن الأعمال المتعلقة بكل شهر قمري:
صلاة أول الشهر وهي ركعتان يقرأ في الأولى الحمد مرة والتوحيد ثلاثين وفي الثانية الحمد مرة وسورة القدر ثلاثين، ثم يتصدق بما يتيسر ليشتري سلامة ذلك الشهر، والسلامة المذكورة مطلقة فلا تختص بالسلامة من الآفات والكوارث والمصائب وإنما تشمل السلامة المعنوية من الذنوب والمعاصي والتقصيرات والانشغال عن الله تبارك وتعالى.
وإنما يُذكر الثواب بإزاء العمل لتحفيز البعض من المؤمنين وإلا فإن مجرد كون العمل محبوباً عند الله تعالى ومطلوباً عنده كافٍ للمبادرة إلى فعله.
صوم ثلاثة أيام من الشهر والأفضل أن تكون أول خميس وآخر خميس والأربعاء في العشرة الوسطى وهذه سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي علّمها أمير المؤمنين (عليه السلام) وواظب عليها حتى وفاته (صلى الله عليه وآله).
ختم القرآن مرة واحدة كما ورد في الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) وإن لم يتيسّر في سائر الشهور ففي شهرين مرة.
إن هذه الأيام الشريفة محل للحديث النبوي الشريف
(إن لربكم في أيام
ص: 168
دهركم نفحات، إلا فتعرضّوا لها، ولا تعرضوا عنها) والعياذ بالله، والتعرض لها إنما يكون بالتعرض لأسبابها، والإعراض عنها إنما يكون بالأعراض عن أسبابها، فإن الفرص تمرّ مرَّ السحاب والعاقل من اغتنم الفرصة قبل أن يندم لفواتها ولا ينفع الندم. والله ولي التوفيق.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله كما هو أهله والحمد حقه كما يستحقه حمداً كثيراً وصلى الله على نبيه وسيد خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.
تحل علينا مع إطلالة شهر ذي الحجة الحرام أيام مباركة وصفها الدعاء المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) بأعظم الأوصاف: (اللهم هذه الأيام التي فضلتها على الأيام وشرفتها وقد بلغتنيها بمنك ورحمتك فأنزل علينا من بركاتك وأوسع علينا فيها من نعمائك، اللهم إني أسألك أن تصليَّ على محمدٍ وآل محمد وأن تهدينا فيها لسبيل الهدى والعفاف والغنى والعمل فيها بما تحب وترضى، اللهم إني أسألك يا موضع كل شكوى ويا سامع كل نجوى ويا شاهد كل ملأ ويا عالم كل خفية أن تصلي على محمد وآل محمد وان تكشف عنّا فيها البلاء وتستجيب لنا فيها الدعاء وتقوينا فيها وتعيننا وتوفقنا فيها لما تحب ربنا وترضى وعلى ما افترضت علينا من طاعتك وطاعة رسولك وأهل ولايتك...... إلخ).
هذه هي مشاعرنا ونحن نستقبل هذه الأيام الشريفة: إدامة الحمد والثناء لله تبارك وتعالى على إبلاغنا هذه الأيام وإدراكنا لها فنستزيد من طاعته وننال القرب منه والزلفى لديه، فإن العطاء الإلهي يتضاعف في مثل هذه الأيام الشريفة فمن أعظم المنة على الإنسان أن يبقيه الله تعالى لها ويوفقه لاستثمارها ولم يجعله فيمن اختطفهم الأجل في الأيام السابقة فيحرم من هذه الفرصة ويردد الكلمات
ص: 169
التي قالها الذين من قبله (.. رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) (المؤمنون: 99-100)، فليعتبر كل إنسان أنه قد أدركه الأجل ثم طلب من ربه أن يعيده ليعمل صالحاً وقد أعاده فماذا سيعمل وكيف يتدارك أمره؟
أما مطالبنا في هذه الأيام من مدبر الأمور ومسبب الأسباب فهي الهداية والتوفيق لما يحب ويرضى والإعانة على ذلك ودفع البلاء ونحوها.
وشهر ذي الحجة شهر شريف وكان صلحاء الصحابة والتابعين يهتمون بالعبادة فيه اهتماماً بالغاً، والعشر الأوائل من أيامه هي الأيام(1) المعلومات المذكورة في القرآن الكريم، وهي أيام فاضلة غاية الفضل وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
(ما من أيام العمل فيها أحب إلى الله عز وجل من أيام هذه العشر) لذا ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أعمال خاصة بهذه الأيام كالصوم عدا اليوم العاشر لأنه يوم العيد وعدا التاسع وهو يوم عرفة لمن يضعفه عن الدعاء، وصلوات مخصوصة منها ركعتان في كل ليلة من الليالي العشر يقرأ في كل ركعة بعد الحمد والتوحيد قوله تعالى:(وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (الأعراف: 142) ليشارك الحاج في ثوابهم، ويتأكد مضاعفة الهمة في يومي التاسع والعاشر أي عرفة وعيد الأضحى.).
ص: 170
فعلينا أن نستثمر هذه الفرص العظيمة للطاعة استجابة لقوله تعالى:(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) (البقرة: 148) وقال تعالى:(وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران: 133) فإن إضاعة الفرصة غصة، وقد لا نبقى أحياء حتى نمنح فرصة أخرى ورأس مال الإنسان في حياته هي هذه الساعات والدقائق والثواني:
دقّاتُ قلبِ المرء قائلة لهُ *** إن الحياة دقائق وثواني
والخيار مفتوح أمام الإنسان ليختار طريق الخير أو الشر (إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً) (الإنسان: 3).
فالاختيار له في كيفية استغلال هذا الوقت وما يزرعه اليوم يجنيه غداً:(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة: 7-8)(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ، فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَ يَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً، وَ أَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً وَ يَصْلى سَعِيراً) (الانشقاق: 6-12).
ص: 171
عشرة ذي الحجة شهر رمضان الأصغر(1)
العشرة الأولى من ذي الحجة في الأيام كشهر رمضان في الشهور بحيث يمكن اعتبارها شهر رمضان الأصغر، ليست هذه دعوى ندعيها، وإنما دلّت عليها كلمات المعصومين (عليهم السلام) والوجوه العديدة للتشابه بينهما.
فقد ورد في دعاء شهر رمضان (وهذا شهر عظمته وكرّمته وشرّفته وفضّلته على الشهور) وورد في دعاء العشرة الأولى من ذي الحجة (اللهم هذه الأيام التي فضّلتها على الأيام وشرّفتها) فتلاحظ وحدتهما في التشريف والتفضيل.
والسمة البارزة لأعمال كل منهما واحدة وهو - بعد الذكر والدعاء والاستغفار والعبادة - الصوم فهو محبوب ومطلوب في كليهما الا انه في شهر رمضان على نحو الوجوب وفي عشرة ذي الحجة على نحو الاستحباب عدا يوم العيد لحرمة الصوم فيه.
وكل منهما وصف بأنه أيام معدودات ومعلومات، قال تعالى عن شهر رمضان (أَيّاماً مَعْدُوداتٍ) (البقرة/ 184)، وقال تعالى (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ) (الحج/ 28) وقال تعالى (وَ اذْكُرُوا اللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ) (البقرة/ 203) وورد في بعض الروايات أن المقصود من عشرة ذي الحجة.
ص: 172
والعمل في كل منهما له زمان يبلغ فيه الذروة من حيث العطاء الإلهي ومضاعفة الجزاء، ففي شهر رمضان ليلة القدر، وفي عشرة ذي الحجة يوم عرفة، وكل منهما عيد لأولياء الله الصالحين، بحيث يمكن أن يقال أن يوم عرفة في الأيام كليلة القدر في الليالي.
ويشترك الزمانان بأن الشياطين فيها مغلولة كما ورد في خطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في استقبال شهر رمضان، وفي بعض الأخبار أنه ما من زمان يكون فيه الشيطان طريداً ذليلاً غضوباً أكثر من يوم عرفة، ووضع الشيطان في الأغلال أي الحد من تأثيره في غواية الإنسان وتزيين المعاصي له فيكون إقباله على الطاعة أكثر وهمّته فيها أعلى.
ولأن رقّة القلب وانكساره وحزنه تساعد على صفاته وصدق توجهه إلى الله تبارك وتعالى كما ورد في الحديث القدسي (أنا عند المنكسرة قلوبهم)، فقد مضى قلم التخطيط الإلهي بأن تسبق كلا الزمانين الشريفين مناسبة حزينة تتفجر لها قلوب المؤمنين لوعة وحزناً وألما، حيث تتزامن ذكرى شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) مع ليالي القدر، ويسبق شهادة الإمام الباقر يوم عرفة لترّق القلوب وتتنقى فتتهيّأ لتلقي الفيوضات الإلهية في هذه الأزمنة المباركة.
وتشترك ليلة القدر ويوم عرفة بزيارة مخصوصة للإمام الحسين (عليه السلام) ورد فيهما ثواب عظيم، ففي كامل الزيارات لابن قولويه (قده) - استاذ الشيخ المفيد (قده) - عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال (إن الله تبارك وتعالى يبدأ بالنظر إلى زوار قبر الحسين عشية عرفة قبل نظره لأهل الموقف) وفيه عنه (عليه السلام) قال (إن الله تبارك وتعالى يتجلى لزوار قبر الحسين (عليه السلام) قبل أهل عرفات ويقضي حوائجهم ويغفر ذنوبهم ويشفعهم في مسائلهم ثم يثنّي بأهل عرفات فيفعل بهم ذلك).
وفي مصباح المتهجد عن رفاعة النخّاس قال (دخلت على أبي
ص: 173
عبد الله (عليه السلام) فقال لي: يا رفاعة أما حججت العام، قلت: جعلت فداك ما كان عندي ما أحجّ به ولكنني عرّفت عند قبر الحسين (عليه السلام) فقال لي: يا رفاعة ما قصّرت عمّا كان أهل منى فيه، لولا أنّي أكره أن يدع الناس الحج لحدّثتك بحديث لا تدع زيارة قبر الحسين (عليه السلام) أبداً).
ومما تقدّم يتضح أن عشرة ذي الحجة محطة جديدة للتزوّد بالمعنويات اقتضت الألطاف الإلهية جعلها لعلم الله تعالى بأن الإنسان يغتر ويتراجع فيحتاج إلى شحنة جديدة تزيل الرين والقساوة عن قلبه بعد مرور شهرين على شهر رمضان، وان يوم عرفة لا ينحصر فضله وشرفه بمن كان على صعيد عرفات الطاهر وان كانوا اولئك يحظون بامتيازات ذلك المكان، الا ان عباد الله تعالى في كل أصقاع الأرض يحظون بشرافة الزمان وفضل العمل فيه كما سمعنا ما لزوّار الحسين (عليه السلام) من الكرامة.
وإذن يكون من الطبيعي جعل عيد الأضحى في نهاية هذا الموسم الكريم من الطاعة والعبادة كما يأتي عيد الفطر في نهاية موسم عبادي حافل في شهر رمضان.
وعلى هذا فإن عيد الأضحى عيد جميع عباد الله الصالحين الذين فازوا بضيافة الله تعالى في هذا الزمان الشريف واستثمروا عروف هذه النفحات، ولا يختص بمن كانوا في المشاعر المقدسة.
ص: 174
مواعظ من مناسك الحج(1)
من وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام):
(يا بنيَّ أحيِ قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة)(2) فالقلوب تحتاج إلى بعث الحياة فيها من جديد كلما اقتربت من الموت بسبب الرين والقساوة التي تطرأ عليها، وقد ورد في الرواية أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال يوماً لأصحابه
(إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد، قيل وما جلاؤها يا رسول الله. قال: ذكر الموت وتلاوة القرآن)(3).
فلا بد للمؤمن أن يتحرى الموعظة ليستثير في قلبه الحياة ويأخذ بأسبابها كالتي ذكرها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و إلا فإن الرين الذي ينشأ من خوض الإنسان في أفعاله الحياتية ولوازمها وما تقتضيه طبيعته البشرية فضلاً عن
ص: 175
ارتكاب المعاصي - والعياذ بالله تعالى - يتراكم على القلب فيسوّد ويقسو حتى يطبع عليه فيموت ولا تؤثر فيه الموعظة وأسباب الهداية.
ومن هنا جاء العتاب الرباني للذين لا يديمون إحياء قلوبهم بالموعظة، قال تعالى (أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَ ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (الحديد: 16) ثم يضرب مثلاً لحياة القلوب قال تعالى:(اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الحديد: 17).
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأخذ من كل شيء موعظة حتى من الحركات الاعتيادية كدخول الحمام فقد روى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) انه إذا رأى المال الساخن قال (نعم البيت الحمام: يزيل الدرن ويذكّر بالآخرة) فان ماءً سخّنه الإنسان ليغتسل به لا يطيق حرارته ما لم يعالجها بماء فائر فكيف بالماء الحميم الذي يسقى به أهل النار فقطّع أمعاءهم والعياذ بالله تعالى.
وقد حفلت روايات أهل البيت (عليهم السلام) بالكثير من المواعظ ومنها ما رووها عن الأنبياء والحكماء السابقين كعيسى روح الله ولقمان الحكيم، فاستفيدوا أيها الأخوة من الكتب التي جمعت هذه المواعظ كالبحار وتحف العقول وغيرهما واستمعوا إلى مواعظ الخطباء والفضلاء والمصلحين والتربويين، وقد تيسّرت اليوم كثيراً بفضل الله تعالى وتعرض قنواتنا الفضائية أنواعاً من الخطب والمجالس والأحاديث والكلمات.
والحج من أوله إلى آخره، حافل بالمواعظ ابتداءً من الاستعداد للسفر
ص: 176
والتزود له الذي يذكّرك بسفر الآخرة الطويل المجهول الأبدي والتزود له بالتقوى والأعمال الصالحة، قال تعالى:(وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى وَ اتَّقُونِ) (البقرة: 197).
ومصاعب السفر وغربته ووحشة الأهل والوطن والأحبة تذكّر بوحشة البرزخ وغربته خرج الإمام الكاظم (عليه السلام) في تشييع جنازة فلما وقف على شفير القبر قال: (إن شيئاً هذا أوله - وهي الآخرة - لحقيق أن يخاف من آخره، وان شيئاً هذه آخره - وهي الدنيا - لحقيق أن يزهد في أوله).
وبِقُرَناء السفر الصالحين كانوا أو مزعجين تتذكر قرينك في القبر وهو عملك فإن كان صالحاً آنسك وأسعدك وإلا كان بئس القرين الذي ينغّص ويكدّر ويؤلم.
وبلبس ثوبي الإحرام والتجرد عن كل متعلقاتك في الدنيا تتذكر أنك ستغادرها في يوم ما ملفوفاً بكفن كثوب الإحرام ولا تصحب منها شيئاً إلا ما قدمت لآخرتك (وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ) (البقرة: 110).
وهكذا تتوالى المواعظ التي يفهمها كل واحد بحسب مستواه، فإذا خرج إلى عرفات - وهي أرض تقع خارج الحرم - التفت إلى هذا الدرس وهو أن مقتضى استحقاق الناس بحسب سعيهم في الحياة الدنيا أن يخرجوا من حرم الله وجنانه وان يحرموا رضوانه، ولكنهم بعد أن يجأروا إلى الله تبارك وتعالى بالدعاء ويلحّوا بطلب التوبة يوم عرفة يؤذن لهم بالعودة التدريجية إلى حرم الله، ولكن بعد أن يطهروا أنفسهم بالدعاء وذكر الله تعالى في مزدلفة (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ
ص: 177
فَاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) (البقرة: 198)، ويستجمع العدة لمواجهة الشيطان ورد كيده - بجمع الحصى - ثم يتوجه إلى منى ليرمي الجمرات معبّراً عن رفضه لطاعة وعبادة كل ما سوى الله تبارك وتعالى (لا إله إلا الله) وينحر أطماعه وشهواته وأهواءه المضلّة، ثم يحلق رأسه علامة على الاستعداد التام لنصرة الله تبارك وتعالى والتضحية في سبيله (حيث أن حلق الرأس كان دليلاً على بلوغ أعلى درجات التضحية وشدة الاستعداد للحرب) وحينئذ يؤذن له بالعودة إلى بيت الله الحرام الآمن لأداء بقية المناسك تعبيراً عن رضا الله تعالى عنه وقبوله إياه ودخوله في جنانه وتحت ظلِّه.
ص: 178
الاستعداد للوقوف بعرفة(1)
ورد في الحديث الشريف
(إن لربكم في دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها) والمقصود هنا نفحات إلهية خاصة بالمتعرضين لها وليست تلك الألطاف الإلهية العامة لكل البشر حتى الملحدين والكافرين والعاصين والتي بها يُخلقون ويرزقون ويتنعمون.
والتعرض لها يكون بالتعرض لأسبابها وموجباتها، لأن نفس النفحات من شأن الخالق ولا نعلمها نحن حتى نتعرض لها، ومن أعظم تلك الموجبات وجودكم في هذه الأرض المقدسة المباركة: حرم الله الآمن الذي لم يؤذن لأحد بالدخول إليه إلا بعد أن يحرم ويتجرد عن كل متعلقاته بالدنيا ويزور البيت الحرام ويطوف بالكعبة ويصلي ويسعى وهذه خصوصية تتفرد بها هذه البقعة المباركة.
ووجودكم في هذا الزمان الشريف أيام الحج والعشرة الأولى من شهر ذي الحجة التي ورد فيها الدعاء (اللهم هذه الأيام التي فضلتها على الأيام وشرّفتها وقد بلغتنيها بمنك ورحمتك) فبلوغ هذه الأيام وعدم كون الإنسان من السواد المخترم قبلها نعمة وفضل إلهي يستحق الشكر والثناء.
وقد اقتربتم من أعظم أسباب النفحات الإلهية وهو الوقوف في عرفة وما
ص: 179
بعدها من المشاعر المقدسة فاغتنموا هذه الفرصة كسائر الفرص الممنوحة لكم كالتي ذكرها النبي (صلى الله عليه وآله) في وصيته لأبي ذر (رضوان الله تعالى عليه):
(يا أبا ذر اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك) وأنتم ترون كيف يؤدي كبار السن والعجزة مناسكهم بصعوبة وينوب عنهم غيرهم في كثير منها مما يحرمهم من أجور أدائها فاغتنم شبابك وحيويتك وعافيتك للازدياد من الطاعات.
وبين أيديكم أيام هي من أيام الله تبارك وتعالى تفيض فيها خزائنه بالعطاء الذي لا حدود له فاستعدوا له وأول الاستعداد أن تتقنوا أحكام حجكم ومناسككم وتتعلموا تفاصيلها لتؤدوها على أكمل وجه بإذن الله تعالى.
وضعوا لهذه الساعات المباركة برامج للعمل، فالوقوف بعرفة لا يزيد عن خمس أو ست ساعات (من الزوال إلى غروب شمس يوم التاسع) وهو وقت قصير بحساب الزمن لكنه ثقيل في حساب الأعمال فنظموا من الآن خطة العمل لاستثماره فإن الإنسان إذا لم يكن منظماً ومستعداً قد حضّر برنامجه فإنه سيعيش التشتت والإرباك والضيق وسوف لا يجد حلاً أمامه إلا النوم وكفى به مضيعة لهذه الجوهرة الثمينة.
وقد حفلت كتب السنن والمستحبات بأعمال وأذكار وأدعية كثيرة فاختر منها ما يناسبك وما تنسجم معه ولا تكره نفسك على طاعة تتضايق منها وتعاونوا فيما بينكم فقد تأنس باستماع الدعاء أو تلاوة القرآن أكثر مما تقرؤه فالأصلح حينئذ أن يقوم أحدكم بقراءته وهكذا.
ويوم عرفة يوم دعاء وتوبة وقد ضمن الله تبارك وتعالى الاستجابة لعباده. ففي رواية معتبرة عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال:
(ما وقف أحدٌ في تلك الجبال إلا استجيب له، فأما المؤمنون فيُستجاب لهم في آخرتهم، وأما الكفار فيستجاب
ص: 180
لهم في دنياهم) واستجابة الدعاء للكفار في دنياهم باعتبار أنهم يطلبون ذلك لقصور هممهم فإن الله تعالى لا بخل في ساحته وهو أرحم الراحمين.
ولا تقتصروا بالدعاء لأنفسكم ما دامت دعواتكم مستجابة فعمّموا لكل من أوصاكم بالدعاء ومن لم يوصكم ممن لهم حق عليكم، أو له مظلمة عليكم في نفسه أو في عرضه أو في ماله أو جرحتموه بكلمة أو منعتموه من حقله أو أسأتم: إليه أو انتقصتم منه أو قصّرتم في حقه خصوصاً الوالدين والأرحام والجيران فإنكم تعجزون عن رد المظالم لهم ويكون الجزاء يوم القيامة بأن يؤخذ من حسنات الظالم وتعطى للمظلوم حتى تنفد، وحينئذ يؤخذ من سيئات المظلوم فتضاف إلى أوزار الظالم. لكنكم بدعائكم له يتوسط الله تبارك وتعالى بإرضاء المظلوم عن الظالم من دون أن ينقص منه شيئاً ليدخلوا متحابين إلى الجنة، قال تعالى:(وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) (الحجر: 47).
وفي رواية صحيحة عن أبي حمزة الثمالي راوي الدعاء المشهور عن الإمام السجاد (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
(أنه لما وقف بعرفة وهمّت الشمس أن تغيب) وهو وقت الانتهاء من الجهد والعمل وترقب النتائج وجني الثمار الطيبة (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا بلال: قل للناس فلينصتوا، فلما أنصتوا قال: إن ربكم تطوّل عليكم في هذا اليوم وغفر لمحسنكم وشفّع محسنكم في مسيئكم فأفيضوا مغفوراً لكم).
قال الراوي: وزاد غير الثمالي أنه قال: (إلا أهل التبعات فإن الله عدل يأخذ للضعيف من القوي) وهذا بحسب عدل الله تبارك وتعالى فإن ظلم العباد للعباد ذنب لا يتركه الله تعالى حتى ينتصف المظلوم من الظالم. ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مظهر الرحمة الإلهية في الخلق وصاحب القلب الرؤوف
ص: 181
راجع ربّه في أن لا يستثني أحدٌ وأن يرضي المظلوم بما شاء من دون أن يعاقب الظالم المؤمن الذي لبى دعوة ربّه ووقف بين هذه الجبال. تقول الرواية (فلما كان ليلة جمع - وهي ليلة العاشر التي يقف فيها الحجاج على أرض مزدلفة - لم يزل يناجي ربّه ويسأله لأهل التبعات، فلما وقف بجمع قال لبلال: قل للناس فلينصتوا، فلما أنصتوا قال (صلى الله عليه وآله): إن ربكم تطوّل عليكم في هذا اليوم فغفر لمحسنكم، وشفع محسنكم في مسيئكم فأفيضوا مغفوراً لكم، وضمن لأهل التبعات من عنده الرضا).
وأكثروا من الدعاء لمولانا صاحب العصر والزمان فإنه أولى من أنفسنا وهو حجة الله على خلقه وبه قوام الوجود فاسألوا الله تعالى له الحفظ والتمكين والنصرة وتعجيل الفرج.
أيها الأحبة:
هذا هو النعيم الذي ينتظركم بعد أيام وهذه الحياة الطيبة التي دُعيتم إليها، وهذه هي التجارة التي لن تبور. في الكافي والفقيه بسندهما عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الحج والعمرة سوقان من أسواق الآخرة، العامل بهما في جوار الله، إن أدرك ما يأمل غفر الله له، وإن قصر به أجله وقع أجره على الله (عز وجل) وفي رواية معتبرة عن الإمام الصادق (عليه السلام): أنه (سأله رجلٌ في المسجد الحرام من أعظم الناس وزراً، فقال: من يقف بهذين الموقفين عرفة والمزدلفة، وسعى بين هذين الجبلين ثم طاف بهذا البيت وصلى خلف مقام إبراهيم (عليه السلام) ثم قال في نفسه وظنّ أن الله لم يغفر له فهو من أعظم الناس وزراً). وغيرها من الأحاديث التي لا يسعنا ذكرها.
ص: 182
من مناسك الحج رمي الجمرات الثلاث في منى بالحصى، وقد ورد في الروايات عن أصلها بأن خليل الرحمن إبراهيم (عليه السلام) لما أخذ ولده إسماعيل لذبحه امتثالاً لأمر الله تبارك وتعالى اعترضه إبليس في الموضع الأول ليردّه ويخذلّه ويحرّك عواطفه حتى يتراجع عن تنفيذ ما أمر الله تعالى فرماه إبراهيم (عليه السلام) بالحصى فانهزم اللعين، ثم تمثّل له مرة أخرى في الموضع الثاني والثالث وكان رد إبراهيم (عليه السلام) الحازم هو هو فتحوّل إلى منسك يؤديه الموحدّون لرمي الشياطين.
وقد يثار هنا إشكال حاصله إن رمي الجمرات في الإسلام تعبير عن نبذ أصنام الجاهلية ورفض عبادتها، وقد كان هذا العمل مبرراً وله وجه في صدر الإسلام حيث كانوا حديثي عهد بالجاهلية فأراد لهم الشارع المقدس قلع عبادة الأصنام بالكلية من داخل نفوسهم وترسيخ رفضها، أما اليوم حيث لم تعد توجد أصنام تُعبد من دون الله تعالى فلا يبقى معنى لأداء هذا المنسك. وأجوبة هذا الإشكال عديدة نريد أن نجعل واحداً منها محور خطبتنا:
وهو أن الأصنام والآلهة التي تُعبد من دون الله تعالى عديدة ومتنوعة وباقية ما بقي البشر إلا أن يملأ الله تبارك وتعالى الأرض قسطاً وعدلاً ويبسط كلمة التوحيد على إرجاء الأرض، ولئن زال أحد أشكالها وهي الأصنام والأوثان التي تُصنع من الحجر والخشب وربما التمر ثم تعبد من دون الله وتقدس وتقدم لها النذور والقرابين، فإن أشكالاً أخرى من الأصنام تعبد وتقدس وهي أشد وطئاً على
ص: 183
الإنسان وأكثر إذلالاً للبشرية وتكلف الناس أضعاف ما كانت تكلفهم تلك الأصنام، وأولها هوى النفس وشهواتها وأطماعها وغرائزها التي يطيعها الإنسان ويسعى لتنفيذ إرادتها ويخضع لسلطتها وإن كان في ذلك معصية الله تبارك وتعالى، فأصبح الهوى إلهاً يعبد من دون الله تعالى لأن معنى العبادة هي الطاعة والانقياد والاستسلام بحيث ورد في الحديث الشريف (من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان ينطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان ينطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان)، وقد سمى الله تبارك وتعالى الهوى إلهاً في قوله تعالى (أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ...) (الجاثية: 23)، كم من تاجر تعرض له معاملة مشبوهة ينهى عنها الشرع المقدس لكن ربحها يسيل لعابه ويثير طمعه فيرتكبها؟ وكم من امرأة تعلم أن السفور حرام وإن إبداء مفاتنها أمام الرجل الأجنبي معصية فتفعله إرضاءً لغرائزها؟ وكم من شاب يعلم أن الصلاة واجبة عليه وأنها عمود الدين وهوية المسلم لكنه يتركها كسلاً وحباً للراحة والدعة؟ أليس كل هؤلاء وأمثالهم قد نصبوا من أهوائهم وأنفسهم الأمّارة بالسوء أصناماً وآلهة يعبدونها ويطيعونها من دون الله تبارك وتعالى؟.
وثاني الآلهة التشريعات التي تُسنُّها عقول الناس القاصرة وبحسب ما يقدرونها من مصالح بنظرهم الضيّق ويتعبدون بها ويلتزمون بها ويعاقبون على مخالفتها من دون الرجوع إلى شريعة الله تبارك وتعالى تحت عناوين مختلفة كالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وحاكمية الشعب والقوانين والدساتير الوضعية وغيرها، وهذا الوضع قائم حتى في الدول التي تصف نفسها بأنها إسلامية، وقد ذكر الله تبارك وتعالى هذه الآلهة وهذه الأرباب في قوله تعالى:
ص: 184
(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ) (التوبة: 31) وورد في تفسيرها عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله:
(أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً فعبدوهم من حيث لا يشعرون) فانطبق عليهم اتخاذهم أرباباً من دون الله تعالى لأنهم شرّعوا لهم من أنفسهم قوانينَ تحكمهم من دون الرجوع إلى الشريعة الإلهية.
وهذه الرواية تنطبق على كثير مما يجري في مجتمعاتنا كبعض القوانين التي يسنّها البرلمان، والسنينة العشائرية التي يضعها ناس جاهلون بأحكام الشريعة وتفاصيلها فتأتي مليئة بالمظالم والفساد والانحراف.
ومن الآلهة الأخرى الأعراف والتقاليد الاجتماعية التي يضعها الناس ثم يعطونها قداسة وأهمية بحيث لا يستطيع الفرد الخروج عنها خشية العار والفضيحة والضغط الاجتماعي ونحوها.
فبعض السادة التزموا بعدم تزوج بناتهم العلويات إلا من سادة ولو أدى ذلك إلى عنوستهن وحرمانهن من هذا الحق المقدس رغم إقدام الشباب الأكفاء على خطبتهن، أو إلزامهن التزويج من أبن العم فلو نهى عليها ابن عمها فلا يحق لأي أحدٍ خطبتها ولو أعرض عنها ابن العم ولم يتزوجها.
أو المغالاة في المهور الذي حرم الكثير من الشباب عن التفكير في الزواج لعدم قدرته على هذه التكاليف الباهظة، وكل هذه الأعراف والتقاليد مخالفة للشريعة ولوصايا النبي (صلى الله عليه وآله) الذي روي عنه:
(إن جاءكم من
ص: 185
ترضون دينه وعقله فزوّجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير) وقوله (صلى الله عليه وآله)
(النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني) ومثلهم بعض النساء اللواتي يلزمن أزواجهن بتوفير احتياجات باهظة كلبس بدلة جديدة في كل مناسبة أو تغيير أثاث بيت في كل سنة أو موسم مما يكلف الزوج كثيراً وقد يضطر إلى الإغماض عن مصدر الأموال الواردة إليه ليلبي رغبة امرأته، فهؤلاء يعبدون هذه الأعراف والتقاليد ويقدّسونها من دون الله تعالى.
ومن تلك الآلهة الحكام والطواغيت الذين يريدون من شعوبهم الاستسلام لهم وتنفيذ أطماعهم ونزواتهم والتضحية من أجل إدامة حكمهم وتقديم الشعب كله قرابين لهم، وهكذا سائر النظم الاقتصادية والسياسية والقوانين الوضعية المتبعة في المحاكم والكيانات المتنفذة كالمصارف وغيرها مما صنعه البشر من دون الرجوع إلى حكم الله تعالى (آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ) (يونس: 59).
هذه نماذج من الآلهة التي تُُعبد وتطاع من دون الله تعالى ومن الأصنام التي لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً ولكنها تُقدَّس وتُتخذ أرباباً للبشر الذين يصنعونها بأيديهم ويعلمون أنها زائفة (يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ) (الحج: 73)، يَسخر الناس اليوم من عقول أسلافهم في الجاهلية ويسخفونهم حيث اتخذوا آلهة من أصنام يصنعونها بأيديهم وهاهم اليوم يفعلون فعلتهم وينقادون لأصنام وآلهة من صنعهم وإن كان من نوعٍ آخر.
ص: 186
هذه الحقيقة التي يدمغ اللهُ تبارك وتعالى بهاالناس في قوله تعالى:(وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف: 106).
نُقل عن الواعظ الشهير الشيخ جعفر الشوشتري (توفي عام 1303 هجرية) صاحب كتاب الخصائص الحُسينية وقد كان له منبر وعظ في الصحن الحيدري الشريف يحظره المجتهدون والعلماء والفضلاء وعامة الناس، نُقل عنه أنه قال يوماً: أيها الناس أن مئة وأربع وعشرين ألف نبي بعثهم الله تعالى كلهم يقولون للناس: (كونوا موحدين وأنا أقول كونوا مشركين) فتعجب الناس من كلامه ولم يفهموا مرامه فأمهلهم حتى قال لهم: (إنكم أصبحتم كلكم للدنيا وأنا أدعوكم إلى أن تجعلوا لله نصيباً من حياتكم فأشركوه في أعمالكم).
وستجدون في دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة:
(إلهي عميت عينٌ لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيباً) وهذه هي الخسارة الحقيقية أن لا يخلص الإنسان عمله لله تبارك وتعالى ويوحّد هدفه في هذه الحياة ليجعله رضا الله تبارك وتعالى، ولا يُثبت على الصراط المستقيم ويتيه يمنة ويسرة بين هذه الآلهة والأرباب المصطنعة.
إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بُعث ليحرّر الإنسان من هذه التبعية المقيتة التي تُكبّله بقيود وأغلال وآصار تعيقه عن التكامل ونيل رضوان الله تبارك وتعالى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ
ص: 187
اَلْمُفْلِحُونَ) (الأعراف: 157)، فلا يحق للإنسان الحر أن يعيد إلى عنقه تلك الأغلال ويحيط نفسه بتلك القيود.
وهذه بعض معاني رمي الجمرات أن نرفض كل الآلهة التي تُعبد وتُطاع والأرباب التي تتخذ من دون الله تبارك وتعالى.
ص: 188
أسبوع أمير المؤمنين ومعركة التأويل(1)
هذا الأسبوع الذي يبتدى من عيد الغدير هو أسبوع أمير المؤمنين بامتياز - كما يقال - لكثرة ما حباه الله تبارك وتعالى من مناقب في هذا الأسبوع، ففي الثامن عشر كان حفل تنصيبه خليفة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وإماماً وهادياً للأمة بعده وأولى بالناس من أنفسهم وأمر النبي (صلى الله عليه وآله) المسلمين ببيعته (عليه السلام) على ذلك، وهو عيد إكمال الدين وإتمام النعمة.
وفي الرابع والعشرين كانت مباهلة النبي (صلى الله عليه وآله) نصارى نجران بنفسه الشريفة وبأمير المؤمنين (عليه السلام) وبفاطمة الزهراء والحسن والحسين (عليهم السلام) ونزول آية المباهلة في حقهم.
وفيه أيضاً أدخلهم النبي (صلى الله عليه وآله) تحت كسائه ونزل جبرئيل بآية التطهير.
وفيه تصدّق أمير المؤمنين بخاتمه للسائل أثناء الركوع فنزلت آية (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ) (المائدة 55).
وفي الخامس والعشرين نزل في حقهم (عليهم السلام) سورة هل أتى لما تصدقوا بإفطارهم على المسكين واليتيم والأسير.
ص: 189
وفي هذا الأسبوع بعد خمس وعشرين سنة بويع لأمير المؤمنين (عليه السلام) بالخلافة بإجماع الأمة بعد حصار عثمان في الثامن عشر ومقتله(1).
وبذلك فقد شهد هذا الأسبوع البيعة الواقعية والظاهرية لأمير المؤمنين كي يتولى أمور الأمة.
ولما كان هذا الأسبوع لأمير المؤمنين (عليه السلام)، فإنه يكون اسبوعاً لكل ما كان يتصف به أمير المؤمنين (عليه السلام) من صفات الكمال، ولكل ما كان لعلّي (عليه السلام) من حقوق على الأمة، ولكل ما كان يمثله أمير المؤمنين (عليه السلام) من منازل ومواقع ومقامات، فهو أسبوع الولاية والإمامة والخلافة الإلهية والقيادة الربانية للأمة وللبشرية جمعاء.
لذا اقترحتُ في يومٍ ما قبل سنين أن يكون اسبوعاً للنزاهة وللعدالة وللمساواة ولإنصاف المظلومين ولاسترداد ما نهب من المال العام وللقضاء على الفساد المالي والإداري وخلع المتصدين للمواقع بغير حق وتعيين المؤهّلين فيها، لأن هذه المعاني كلها وغيرها جسّدها أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما تولى الخلافة.
وهو أسبوع بيان عظمة أهل البيت (عليهم السلام)، وعلّو منزلتهم ومقامهم التي كشفت عنها السور والآيات الكريمة النازلة فيهم بسورة هل أتى، وآية التطهير، وآية الولاية (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ) (المائدة 55)، وآية التبليغ (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إِنَّ اللّهَ).
ص: 190
لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (المائدة 67) وآية إكمال الدين وإتمام النعمة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (المائدة 3).
وهو أسبوع التصدق على الفقراء والمساكين ومواساتهم وإشعارهم بكرامتهم إلى حد إيثارهم على النفس كما فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) والزهراء (عليها السلام) والحسن والحسين (عليهم السلام جميعاً).
ومن أهم ما يميّز امامته (عليه السلام) جهاده وقتاله على التأويل كما قاتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على التنزيل، أي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قاتل العرب حتى يذعنوا للرسالة ويؤمنوا بأصل التوحيد والنبوة وعلى صدق ما جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى دخلوا الإسلام طوعاً أو كرهاً.
أما بعد وفاته (صلى الله عليه وآله) فقد بدأت معركة التأويل، وهي معركة ضد من أرادوا أن يحرّفوا الكلم من بعد مواضعه ويتكلموا في كتاب الله بغير سلطان أتاهم ويغيّروا السنن ويظهروا البدع، ويحرموا ما أحلّ الله ويحلّوا ما حرّم الله، ويبعدوا من قرّب الله ويقرّبوا من بعّد الله، ويولّوا أمور الأمة من يتّخذ مال الله دولاً وعباده خولاً ويحكم بغير ما أنزل الله تعالى وهم مع كل ذلك يدّعون الإسلام وينتسبون إليه.
وهذه المعركة كان يشير إليها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حياته ويعلن أن قائدها سيكون علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو حديث رواه العامة والخاصة عن طريق جمع غفير من الصحابة، ففي مستدرك الصحيحين، روى الحاكم بطريقين عن أبي سعيد قال (كنّا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فانقطعت نعله، فتخلّف
ص: 191
علي (عليه السلام) يخصفها فمشى قليلاً ثم قال: إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر، قال: أبو بكر: أنا هو؟ قال: لا، قال عمر: أنا هو؟ قال: لا، ولكن خاصف النعل يعني علياً (عليه السلام)، فأتيناه فبشرناه فلم يرفع به رأسه كأنه قد كان سمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال الحاكم: هذا حديث صحح على شرط الشيخين).(1)
وقد نظمها الصحابي الجليل عمار بن ياسر (رضوان الله تعالى عليه) في شعره الذي كان يرتجز به في معركة صفين التي استشهد فيها، فكان من رجزه:
نحن ضربناكم على تنزيله *** فاليوم نضربكم على تأويله
هذا الاستحقاق لأمير المؤمنين أعطى تفسيراً للقول المشهور عنه (عليه السلام)
(جمعت علوم القرآن في سورة الفاتحة: وجمعت علوم الفاتحة في البسملة، وجمعت علوم البسملة في الباء، وجمعت علوم الباء في النقطة وأنا تلك النقطة) ، وحاصل التفسير أن الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تكون قابلة للتأويل والتحريف والتلاعب والتزوير وافراغها من معانيها كما عبَّر (عليه السلام) عن القرآن بأنه (حمّال ذو وجوه) الا أن يقوم العالم بالقرآن والعارف بأسراره ومعانيه بإيضاح الحقائق، ووضع النقاط على الحروف كما يقال... لأن الحروف تتشابه في الهيئات كالباء والتاء والثاء والياء والنون، وإنما يميز بينها وضع النقطة على الحرف، فكما أن وضع النقطة هو الذي يعطى للحرف معناه، كذلك أمير المؤمنين هو الذي يبيّن حقائق التنزيل ويضع الأمور في نصابها ويرجع كل شيء إلى حقيقته وهو معنى التأويل.
ولولا ذلك الدور الذي قام به أمير المؤمنين (عليه السلام) لكانت تفاصيل العقائد1.
ص: 192
والأحكام مجملة ومبهمة مما يفسح المجال واسعاً لأن يقوم كل أحد بتأويلها حسب مشتهياته وأهوائه، وهذا حال من لم يرجع إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ليعرف تأويل المتشابهات (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (آل عمران/ 7).
إن معركة التأويل هي المعركة الأصعب التي تزلّ فيها الأقدام وتضلّ فيها العقول لأن الخصوم يلبسون نفس الثوب أي ثوب الدين ويدّعون لأنفسهم نفس الهالة من العناوين والألقاب والمقدّسة، وكلٌ يدّعي وصلاً بصاحب الرسالة والمشروع، ويضفي على حركته المشروعية ويستدل على أحقيته من نفس المصادر، فهناك تختلط الأوراق وتعصف الفتن وتكثر الشبهات.
وهذا الذي حصل بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) مباشرة حينما انقلبوا على الأعقاب وكان أثمن قربان يقدَّم في تلك المعركة هي فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وعندما تولّى أمير المؤمنين (عليه السلام) الخلافة فنكث البيعة قوم لهم عناوين كبيرة وقريبو الصلة برسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم قسط آخرون ومرق فريق ثالث ووقف على الحياد فريق رابع، لكن الصفوة الذين وعوا رسالة الإسلام واتبعوا تعاليم النبي (صلى الله عليه وآله) حقيقة كانوا ثابتين على الحق ولهم رؤية واضحة كعمار بن ياسر الذي كان يقاتل في صفين ويقول
(والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنّهم على الباطل).(1)
هذه المعركة التي مزقت بأحزانها وآلامها قلب أمير المؤمنين (عليه السلام) وملأته قيحاً وجعلته يتمنى الموت ويجده حرياً وجديراً به.
إن معركة التأويل ليست مختصة بزمان أمير المؤمنين (عليه السلام)، بل هير.
ص: 193
مفتوحة في كل زمان ومكان، روي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين كما ينفي الكير(1) خبث الحديد).(2)
وليس هذا فحسب بل انها تتعقد أكثر وتضيق حلقة البلاء وتشتد، فبعد أن كانت بين أئمة أهل البيت (عليهم السلام) واتباعهم من جهة وبين الحكام المنحرفين والسائرين في ركابهم واتباعهم من العامة من جهة أخرى، تطوّرت لتكون داخل مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بين من واصلوا إتّباعَ الأئمة (عليهم السلام) الاثني عشر واحداً بعد واحد وهم الإمامية وبين من انشق عنهم ليؤسس فرقاً عديدة، ثم ضاق البلاء واشتدّ الامتحان أكثرفي الدائرة الأخيرة بين مستحق نيابة المعصوم (عليه السلام) وبين من يتقمصها ويدعيها بغير حق، وفي كل دائرة كان يفشل جمع كبير ويسقط في الامتحان وهذا مصداق حديث الإمام الباقر
(هيهات هيهات، لا يكون فرجنا حتى تغربلوا ثم تغربلوا ثم تغربلوا، يقولها ثلاثاً حتى يذهب الله تعالى الكدر ويبقى الصفو).(3)
وحديث الإمام الكاظم (عليه السلام) لإبراهيم بن هلال (أما والله يا أبا إسحاق، ما يكون ذلك - أي الفرج بظهور الإمام (عليه السلام) - حتّى تُميّزوا وتُمحَّصوا، وحتى لا يبقى منكم إلاّ الأقل).(4)
وظاهر الرواية أن الخطاب موجّه فيها إلى الشيعة.
ولأهمية هذه المعركة وخطورة آثارها وتداعياتها على الدين وعلى المجتمع4.
ص: 194
فقد ورد التحذير الشديد من التقصير فيها، في كتاب المحاسن للبرقي بسنده عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) (قال: قال (عليه السلام) إن العالم الكاتم علمه يبعث أنتن أهل القيامة ريحاً تلعنه كل دابة حتى دواب الأرض الصغار).(1)
وفيه روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله
(إذا ظهرت البدعة في أمتي فليظهر العالم علمه فإن لم يفعل فعليه لعنة الله).(2)
وفي التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (إذا كتم العالم العلم أهله، وزهد الجاهل في تعلم ما لابد منه، وبخل الغني بمعروفه، وباع الفقير دينه بدنيا غيره جلّ البلاء وعظم العقاب) وهذا الحديث يلخّص لنا باختصار أسباب ما نحن فيه من البلاء والمحنة.
إن سلاح هذه المعركة هي المعرفة بالله تبارك وتعالى وطاعة رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) وولاية أهل البيت (عليهم السلام) وإتّباع المراجع العالمين المخلصين والتفقه في الدين والبصيرة في الأمور، والحكمة في التصرف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان الحقائق وتجلية المواقف، وتصحيح المفاهيم الخاطئة، وإصلاح المناهج والسلوكيات المنحرفة.
فهي إذن ليست وظيفة مراجع الدين والعلماء والحوزة العلمية فقط، وإنما يقع على كل فرد في المجتمع جزء من المسؤولية بحسب موقعه ومؤهلاته وما يتوفر لديه من أدوات المواجهة التي ذكرناها كما يظهر من رواية تفسير العسكري (عليه السلام) المتقدّمة، فبعضهم بعلمه وآخر بماله وثالث بنفوذه ووجاهته،2)
ص: 195
والجميع مطالبون بمشاركتهم في كل عمل وحركة لله تعالى فيها رضا وللأمة فيها صلاح، والله ولي التوفيق.
ص: 196
ص: 197
ص: 198
موعظة في ورأس السنة الميلادية(1)
يحتفل الأخوة المسيحيون وغيرهم في مثل هذه الأيام بعيد ميلاد السيد المسيح ورأس السنة الميلادية، ويعبّرون عن فرحهم باحتفالات صاخبة تتضمن الكثير من المعاصي والموبقات الكبيرة والأفعال الجنونية التي لا يجد لها العقلاء مبرراً، ولم يقف أحد وقفة تأمّل ليرى هل أن هذه المظاهر تعبير صحيح عن الفرح في هذه المناسبة؟ وما هي المشاعر الحقيقية التي يجب أن تغمرنا ونحن نعيش هذه الذكريات المرتبطة بواحدٍ من أعظم البشر على الإطلاق، النبي الكريم والرسول العظيم، وأحد أولي العزم الذين أمر الله تعالى نبيّه الكريم محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتأسى بهم قال تعالى في حقه (عليه السلام):(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (الأحقاف: 35).
لذا وجب الالتفات إلى عدة نقاط:
أحذروا المعاصي:
النقطة الأولى: إنّ إتيان المعاصي والمنكرات أمر مرفوض دائماً تعاقب
ص: 199
عليه الشرائع ويستهجنه العقلاء، فليس جزاء من أحسن إليك وأغدق عليك النعم حتى فاقت حدّ الإحصاء، كما في قوله تعالى:(وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّهِ لا تُحْصُوها) (النحل: 18) ويكفي أن تتخيّل صعوبة فقدان نعمة واحدة(1) من التي حباك الله بها لتحس بعظمتها.
أقول: فليس جزاءه أن تعصيه وبنفس النعم التي منّ بها عليك، قال تعالى مؤنّباً ومعاتباً:(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (الرحمن: 60-61)، فالمرجو من الإنسان العاقل أن يشكر الله على نعمته بطاعته ومحبته، والعمل بما يرضيه وتجنب ما يسخطه، وأولها ديمومة النعم وزيادتها (بالشكر تدوم النعم)، وقال تعالى:(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم: 7)، ويوم رأس السنة من مواطن الشكر حيث أطال الله عمر هذا (المحتفل) وأبقاه إلى سنة جديدة ليعطيه فرصة إضافية للتوبة والعودة للطاعة، وزيادة القرب من الله تعالى، ولم يكن ممن اختطفهم الأجل خلال العام المنقضي وانسدّ عليهم هذا الباب، ففي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انه قال: (من مات فقد قامت قيامته)(2) ؛ لأنّ فرصته للعمل وكسب الحسنات قد انتهت وختم على كتابه قال تعالى:(إِنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجاثية: 29)، فهل يكون الجزاء العصيان والتمرد؟ وإلى أمثال هؤلاء يشير القرآن الكريم:(أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ7.
ص: 200
اَللّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ) (إبراهيم: 28-29).
والمعاصي التي تُرتكب في ليلة رأس السنة تفوق كلّ الليالي والأيام ويُعدّ لها منذ مدة إعداداً شيطانياً محكماً لا يُبقي للعقل أي وجود، ويبقى الإنسان المخدوع أسير شهوته وأهوائه لا يستطيع النجاة من فخوخ شياطين الإنس والجن.
كيف يجب أن تكون مشاعرنا:
إنّ مشاعرنا ونحن نستقبل سنة جديدة يجب أن تكون مزيجاً من اتجاهين:
الأول: توجّس وقلق من حساب الله تعالى على ما صدر منّا من أعمال خلال العام الماضي، وقد ذهبت لذّته، وبقيت تبعته وعقابه، وقد نسيه العبد لغفلته، ولكن الله أحصاه وأحاط به، ولن يغفل عنه ويأتي اليوم الذي يحاسبه فيه على كلّ ما قدم.
الثاني: التفاؤل والأمل وحسن الظن بالله تعالى أن يلطف بنا ويوفقنا ويأخذ بأيدينا في العام الجديد ليجعله خيراً من العام الماضي، فيجنّبنا فيه المعاصي ويزيدنا من الطاعات قدر الإمكان انطلاقاً من الحديث الشريف عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
(من اعتدل يوماه فهو مغبون ومن كان غده شراً من يومه فهو ملعون)(1).
فإن كلّ سنة تمثل سجلاً وكتاباً يضم صحائف أعماله، وفي مثل ليلة رأس السنة يطوى سجل ويفتح سجل، يطوى سجل العام الماضي ويختم عليه بما فيه - وما أدراك ما فيه - ليعرض يوم النشور ويُحاسب على كلّ صغيرة وكبيرة، قال9.
ص: 201
تعالى:(وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (الكهف: 49)، ويفتح سجل للعام اللاحق بصحائف بيضاء؛ فبماذا سيملؤها هذا الإنسان المسكين؟ هل سيعود إلى نفس حياته السابقة أم أنهّ يثوب إلى رشده ويأخذ العبرة من الماضي؟
بالالتفات إلى أن زيادة كلّ ثانية ودقيقة إلى عمره يعني إعطاء فرصة إضافية للطاعة، فإن العمر رأس مال الإنسان يستطيع أن يستثمره في الطاعة، فيكسب رضا الله تبارك وتعالى والمنازل الرفيعة في الجنان، وصحبة خير خلق الله أو يقضيها بالمعاصي فيجرّ إلى نفسه عذاب الجحيم، وهذه الفرصة الإضافية التي تعطى للإنسان كالطالب الذي يُعطى حظاً ثانياً في امتحانات الدور الثاني لعلّه ينجح(1) ، فهل يُعقل منه أن يعود إلى نفس التقصير والإهمال وهو يعلم الكارثة التي تترتب على السقوط والفشل؟!
وأرى من المناسب أن أعظ نفسي وأعظكم بنقل هذا المشهد من مشاهد يوم القيامة كما يعرضه القرآن الكريم، وهو عبارة عن محكمة إلهية يقف فيها المذنب - وهم هؤلاء الذين قضوا حياتهم بالمعاصي والموبقات - وأمامه الشهود وهم نفس أعضائه التي مارس بها تلك المعاصي لكي لا يستكبر وينكر، ثمّ يُصدر
ص: 202
عليه الحكم العادل الذي جناه هو على نفسه، قال تعالى:(حَتّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمّا تَعْمَلُونَ، وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ، فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ، وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) (فصلت: 20-25).
هذه هي المشاعر التي يجب أن نحياها في ليلة رأس السنة، لا ما يفعله هؤلاء الغافلون السادرون في أودية الغي تسوقهم شياطين الإنس والجن أنىّ يشاءون، فيهدوهم إلى عذاب السعير.
وفي الحقيقة فإن المطلوب أن نحاسب أنفسنا في كلّ ليلة(1) ؛ حيث نختلي بأنفسنا مع خالقنا ونستعيد ما صدر منا خلال اليوم، فما كان من حسنة استزدنا الله منها وسألناه القبول ومضاعفة الأجر، وما كان من سيئة استغفرناه منها وعاهدناه تبارك وتعالى على عدم العود، وإذا تعلق بمظالم العباد استعنّاه على رد الظلامات إلى أهلها، وما كان من تقصير في عمل صالح سألناه المعونة والتوفيق
ص: 203
والتسديد، فلقد جاء عن الإمام الكاظم (عليه السلام) قال:
(ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم، فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه)(1)، وأيضاً من وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي ذر (رضي الله عنه) إنهّ قال:
(يا أبا ذر، حاسب نفسك قبل أن تحاسب؛ فإنه أهون لحسابك غداً، وزن نفسك قبل أن توزن، وتجهّز للعرض الأكبر يوم تعرض لا تخفى على الله خافية - إلى أن قال - يا أبا ذر، لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشّد من محاسبة الشريك شريكه؛ فيعلم من أين مطعمه ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه؟ أمن حلالٍ أو من حرام؟ يا أبا ذر، من لم يبال من أين اكتسب المال لم يبال الله من أين أدخله النار)(2)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال:
(ما من يوم يأتي على ابن آدم إلا قال له ذلك اليوم: يا ابن آدم، أنا يوم جديد، وأنا عليك شهيد، فافعل فيَّ خيراً واعمل فيَّ خيراً أشهد لك يوم القيامة فإنك لن تراني بعدها أبداً)(3)، وهذه المحاسبة تكون في نهاية السنة أشمل وأوسع كما يفعل الإعلاميون حين يصدرون ملفاً بأهم الأحداث السياسية أو الرياضية أو الاجتماعية التي شهدها العام المنقضي، وعلى كلّ واحد منّا أن يُراجع ملف أعماله في نهاية العام.
وهذه الموعظة لا أوجهها للمسلمين فقط، بل للاخوة المسيحيين، بل وحتى غيرهم، فقد أدّبنا الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) أن نضمر الخير والرحمة ونسعى لتحقيقه لجميع البشر، قال تعالى:(وَ ما أَرْسَلْناكَ
ص: 204
إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، فبركته (صلى الله عليه وآله وسلم) لجميع الإنسانية، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يوصي مالك الأشتر بجميع رعيته حينما ولاّه مصر: (فالناس صنفان: إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق)(1) لأنّ البشر جميعاً سيقومون للحساب يوم القيامة، ويُسألون عن أعمالهم، فلقد جاء في الذكر الحكيم:(وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (مريم: 71-72)، فنحن نريد لهم النجاة، وقال تعالى:(وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (النساء: 60) فقد غرّر بهم الكثير من أحبارهم ورهبانهم، وزيّنوا لهم المعاصي، وأحلوا لهم الحرام وحرّموا الحلال، وبّدلوا شريعة الله، ثمّ أوهموهم بعقائد فاسدة كفداء السيد المسيح، وصكوك الغفران التي جرأتهم على العصيان، وقد حذّرهم الله تعالى من هذه الطاعة للذين اتخذوا الدين وسيلة لنيل الدنيا التافهة، قال تعالى:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَ الرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النّاسِ بِالْباطِلِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ) (التوبة: 34)، وطاعة مثل هؤلاء شرك بالله تعالى:(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ) (التوبة: 31)
وقد فسّرها الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله:
(أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً فعبدوهم(2) من حيث لا يشعرون)(3).ي.
ص: 205
وأعتقد أنّ كلّ مسيحي نقي القلب والسريرة يعرف بوضوح أنّ الكثير مما غضّ عنه رجال دينهم أنظارهم هي معاصي لله تبارك وتعالى، ويتساءل سيدنا الأستاذ (قدس سره) في بعض خطبه: هل كان السيد المسيح يشرب الخمر، أو يزني، أو يستبيح دماء البشر من أجل المصالح الشخصية وحب الأنا؟ أم هل كانت مريم العذراء ترتمي في أحضان الرجال وتمشي وسطهم خليعة متبرجة؟ فالمسيحي الصادق يقتدي بهؤلاء الأنقياء العظماء، ولا يجد دستوراً كاملاً للصفات الكريمة التي تلحق بهم إلا في الإسلام إذا أراد لنفسه النجاة.
ص: 206
الاحتفال في رأس السنة لمن استثمر وقته خلالها(1)
لنستحضر الموعظة في كل الأوقات:
من كلمات الإمام الحسن السبط المجتبى (عليه السلام) وقد مرّ في يوم فطر بقومٍ يلعبون ويضحكون، فوقف على رؤوسهم فقال:
(إنّ الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه فيستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته فسبق قوم ففازوا وقصّر آخرون فخابوا، فالعجب كل العجب من ضاحك لاعبٍ في اليوم الذي يُثابُ فيه المحسنون ويخسرُ فيه المبطلون، وأيم الله لو كشف الغطاء لعلموا أنّ المحسن مشغولٌ بإحسانه والمسيء مشغولٌ بإساءته)(2) ثمّ مضى (عليه السلام).
علينا أن نستحضر هذه الموعظة في كل لحظات حياتنا، لأنّها كلّها مضمار للتنافس واستباق الخيرات لنيل أفضل الدرجات عند الله تعالى وها نحن اليوم في نهاية سنة ميلادية 2011 - وفق حساباتهم - وعلى أبواب سنة جديدة 2012 بإذن الله تعالى وقد كانت السنة المنقضية مضماراً تسابق فيه الخلق فالعجب كل العجب مما يشهده العالم من شرقه إلى غربه من احتفالات صاخبة بمناسبة يسمونها رأس السنة الميلادية، وتهدر فيها المليارات من الدولارات، وتُعطّل فيها الأعمال عدة أيام في بعض الدول، وهذه خسائر إضافية، وتعرض الفعاليات المنوّعة كالألعاب
ص: 207
النارية والرقص والغناء والحفلات الماجنة، ويشارك فيها المسلمون أيضاً من دون مراعاة لأخلاقهم وتعاليم دينهم ووصايا أئمتهم، وفي مثل هذه السنة 2012 سيكون أولها يوم استشهاد الإمام الحسن السبط المجتبى (عليه السلام).
وقد توسّع الاحتفال ليشمل كل شخص بعيد ميلاده السنوي.
وبغضّ النظر عن الأخطاء المتعددة في التاريخ الميلادي الذي بيّناه في بعض محاضراتنا السابقة من حيث السنة والشهر واليوم، فإننا نريد أن نتساءل عن معنى هذا الاحتفالات والفرح والسرور، وهل لها واقعية أم لا؟
إذ إننا نجد أن الأحرى بهم أن يحزنوا ويندموا ويتأسفوا لأن سنة مرّت عليهم ونقصت من أعمارهم، مما يعني أنهم اقتربوا من آجالهم من دون أن يستعدوا لها، بل عملوا على عكس ما يراد منهم وضيّعوا هذا الرصيد الذي تُشترى به الجنة ورضا الله تبارك وتعالى، واشتروا به سخط الله تعالى والنيران إلا من شملهُ الله تعالى بلطفه ورعايته الخاصة، فكانت الحياة لمثله زيادة له في كل خير كما في أدعية الإمام السجاد (عليه السلام)، ومع ذلك فإنه (عليه السلام) يقف بين يدي ربّه ذليلاً متواضعاً ويقول (ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب، أما آن لي أن استحيي من ربي)(1).
إن الإنسان عبارة عن رصيد من السنين والأيام يقدرها الله تبارك وتعالى فكلما انقضى يوم أو مرّت سنة فانه يعني أنه فقد جزءاً منه حتى ينتهي بالموت
ص: 208
ويصبح بلا قيمة إلا بمقدار ما قدّم لآخرته، مثل رصيد الهواتف المحمولة الذي يساوي عدداً من الدقائق فكل دقيقة من الاتصال تعني ذهاب جزء منه، قال أمير المؤمنين (عليه السلام)
(إنما أنت عدد أيام فكل يوم يمضي عليك يمضي ببعضك فحفّض في الطلب وأجمل في المكسب) وفي غرر الحكم لأمير المؤمنين (عليه السلام)
(العمر أنفاس معددة)(1) وعنه (عليه السلام)
(نفس المرء خطاه إلى قبره)(2).
وقد تحدثنا في كلمة سابقة عن أهمية الوقت وضرورة اشغاله بما يحقق رضا الله تبارك وتعالى ويقرّبنا منه لأنه هو الثمن الوحيد الذي يستحق صرف العمر فيه.
وقد اهتمّ الشارع المقدس بالوقت وربط به أغلب فعالياته ليكون الانسان ملتفتاً إليه ومراقباً له حتى لا يضيع منه، فالصلاة التي هي عمود الدين لها أوقات خمسة محددة يومياً تجب مراعاتها وفي ذلك قول الإمام الصادق (عليه السلام)
(امتحنوا شيعتنا... عند مواقيت الصلاة)(3) أي ليس المطلوب منه المحافظة على أصل الصلاة فقط بل على أوقاتها الخمسة، وهكذا بقية الطاعات فالصوم مرتبط بشهر رمضان في عدد أيامه وبالفجر والغروب يومياً، والحج مرتبط بأشهر الحج وأيامه، والخمس والزكاة مرتبطان بالحول، وهناك الشعائر الدينية والمناسبات والأدعية والزيارات المرتبطة بالأوقات، حتى جعل لكل يوم من أيام الأسبوع دعاء وكل يوم من أيام الشهر دعاء بل لكل ساعة من ساعات الليل والنهار دعاء، وكانت بعض
ص: 209
الأوقات تعرف ببعض الأوراد المقرّرة لها، كالذي نقل عن بني الحسن (عليه السلام) في سجن المنصور العباسي أنهم كانوا يعرفون أوقات الصلاة بأوراد مرتبة لعلي بن الحسن المثلث حفيد الإمام السبط (عليه السلام).
وللقيمة الكبرى للوقت فقد وردت الوصايا باغتنامه واستثماره، كما في وصية النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) لأبي ذر (رضى الله عنه)
(يا أبا ذر: اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك)(1) وفيها (يا أبا ذر نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)(2).
قد يتصوّر الإنسان صعوبة الاستمرار على الطاعة وان ادامتها شاقة لا تطاق وهذا نابع من غفلته، ويهوّل الشيطان له هذا الأمر، اما الواقع فهو خلاف ذلك لأنه لا يعيش عمره كله في هذه اللحظة حتى يستحضر كل الصعوبات فيها، بل هو يعيش لحظته وهي مما لا يعسر تحمّل العمل فيها، أما الزمان السابق فقد مرّ وانتهى، والزمان اللاحق لم يأت بعد فلماذا يحمل همَّه، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عليه السلام)
(إن عمرك وقتك الذي أنت فيه)(3) وقال (عليه السلام)
(المرء ابن ساعته)(4). وعن أمير المؤمنين (عليه السلام):
(انما الدنيا ثلاثة أيام يوم مضى بما فيه
ص: 210
فليس بعائد ويوم أنت فيه يحق عليك اغتنامه ويوم لا تدرى من اهله ولعلك راحل فيه، واما أمس فحكيم مؤدب واما اليوم فصديق مودع واما غداً فإنما في يديك منه الامل... وإياك والاغترار بالأمل ولا يدخل عليك اليوم هم غد... أو لا ترى ان الدنيا ساعة بين ساعتين ساعة مضت وساعة بقيت وساعة أنت فيها)(1). وفي الحديث الشريف:
(الطاعة صبر ساعة).
ولأن الله تعالى يعلم إن الإنسان تعتريه الغفلة والنسيان والكسل مما يضيع عليه كثيراً من رأسماله الثمين وهو عمره ووقته، مضافاً إلى النوم الذي هو ضروري للبدن لكن كثرته مذمومة وهو من أوسع أسباب تضييع العمر فإنه يستغرق ثلث العمر أو أكثر أي عشرين سنة ممن عمره ستون سنة، لذا ورد عن الإمام الكاظم (عليه السلام)
(إن الله عز وجل يبغض العبد النوّام الفارغ)(2) وفي غرر الحكم لأمير المؤمنين (عليه السلام)
(اربعٌ القليل منها كثير: النار والنوم والمرض والعداوة)(3) وفيها
(بئس الغريم النوم يفني قصير العمر ويفوّت كثير الأجر)(4).
أقول لأن الله تعالى يعلم ذلك من الإنسان فقد دلّه بكرمه على ما يحوّل هذا النوم إلى وقت مثمر بأن ينام على طهور حتّى ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام):
(من تطهر ثم آوى الى فراشه بات وفراشه كمسجد)(5)، وعن
ص: 211
النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
(من نام على الوضوء ان أدركه الموت في ليله مات شهيداً)(1)، خصوصاً إذا سبقه بتلاوة بعض الآيات والأدعية المباركة وان لا يتجاوز المقدار اللازم لتجديد نشاط البدن، وورد في نوم الصائم في شهر رمضان
(ونومكم فيه عبادة)(2).
كما ورد التطمين بلطف الله تعالى وكرمه أن من ضيّع جزءاً من عمره بما لا ينفع وقد يضرّ فإن الله تعالى سيكتبه عمراً صالحاً إذا رجع إلى ربّه والتفت وأصلح حاله فيما استقبل من عمره، عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم)
(من أحسن فيما بقي من عمره لم يؤاخذ بما مضى من ذنبه، ومن أساء فيما بقي من عمره أخذ بالأول والآخر)(3) ، قال تعالى:(إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (الفرقان: 70)، هذا كله مضافاً إلى ما ذكرناه في المحاضرة السابقة من إعطاء عمر جديد فوق العمر الطبيعي يستزيد فيه من الخيرات بعد الموت ولا ينقطع عمله به.
لقد قدّم لنا الأئمة المعصومون الأسباب المادية والمعنوية لإطالة العمر، وأعني بالمادية: ما يحفظ صحة البدن ويجنّبه ما يضرّه ويديم قدرته على القيام بالطاعات كالتوازن في الطعام والشراب كما وكيفا قال تعالى (وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) الأعراف 31.
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
(ما ملأ الآدمي وعاءً شراً من بطنه) والوصية بالصوم، كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
(صوموا تصحوا)(1) واستحباب صيام ثلاثة أيام في الشهر وهو عين ما توصل إليه العلم الحديث تواً حيث نصحوا بالامساك عن الطعام يوماً كل عشرة أيام للحفاظ على الصحة، مضافاً إلى الوصايا الكثيرة في تناول أطعمة وأشربة معينة وتجنب غيرها وكذلك الأمر ببعض الحالات والفعاليات الحياتية وتجنب غيرها مما لسنا بصدده(2).
وأما الوصايا المعنوية فمنها الدعاء باطالة العمر في خير وعافية وسعة رزق وسلامة في الحواس وأن يكون كل ذلك مكرساً لطاعة الله تعالى وطلب رضاه (اجعل قوتي في طاعتك ونشاطي في عبادتك)
(سلامة أقوى بها على طاعتك)(3) ومن المعنوية لإطالة العمر ما ذكرته الأحاديث الشريفة كقول النبي (صلى الله عليه وآله)
(اكثر من الوضوء يزيد الله في عمرك)(4) وقوله (صلى الله عليه و آله و سلم)
ص: 213
(من سرّه أن يُبسَط في رزقه ويُنسأ له في أجله فليصل رحمه)(1) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام):
(مَن أرادَ البَقاءَ - ولا بَقاءَ - فَليُباكِرِ الغِذاءَ، وَليُؤَخِّرِ العَشاءَ، وَليُقِلَّ غِشيانَ النِّساءِ، وَليُخَفِّفِ الرِّداءَ)(2) وعن الإمام الصادق (عليه السلام)
(من حسنت نيته زيد في عمره)(3) وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال
(من حسن بره بأهل بيته زيد في عمره)(4).
إن الطريق لتحقيق الاستثمار الأمثل للوقت هو في المبادرة إلى العمل وعدم التسويف والتأجيل لأن الفرص تمرّ مرّ السحاب ومن وصية النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) لأبي ذر
(إياك والتسويف بعملك، فإنك بيومك ولست بما بعده، فإن يكن غدٌ لك فكن في الغد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن غداً لك لم تندم على ما فرّطت في اليوم)(5).
وكذلك في تنظيم الوقت وتوزيعه بدقة على الأولويات بعد تحديدها طبعاً فتبرمج أولاً أوقات الفرائض اليومية وما يتيسر معها من مقدماتها وتعقيباتها وتلاوة القرآن، ووقت العمل والكسب، ووقت العائلة ومسؤولياتها، ووقت المطالعة وتجديد المعنويات والتأمل والتفكير، ووقت الالتزامات الاجتماعية الأخرى وهكذا.
هذا على صعيد وظائفه الفردية، وهناك وظائف اجتماعية لعلها الأكثر إيصالاً إلى رضوان الله تبارك وتعالى كالعمل الإنساني والخدمي وقضاء حوائج
ص: 214
الناس وإدخال السرور عليهم وكفالة الأيتام ورعاية المحتاجين والمسنين وإصلاح ذات البين بين الأفراد أو العشائر وغيرها كثير وقد شجّعنا مراراً على تأسيس منظمات المجتمع المدني لبلورة جهد جماعي يغطّي هذه الفعاليات والنشاطات.
وفي وصايا النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) لأبي ذر
(وعلى العاقل أن لا يكون ظاعناً - أي قاصداً ومتحركاً - الا في ثلاث: تزوُّدٌ لمعاد، أو مرّمة لمعاش، أو لذة في غير محرّم، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما يعنيه)(1) هذا هو الإطار العام لما يجب أن يكون عليه الإنسان في جميع حالاته ليكون في الاتجاه الصحيح بفضل الله تبارك وتعالى.
ويُحسن الاستفادة من تجارب وخطط العلماء الأكاديميين المتخصصين في إدارة الوقت (TIME MANAGEMENT) وهم وإن كانوا يقصدون بها وقت العمل والكسب والإنتاج إلا انها في خطوطها العامة يمكن أن تنفع في المجالات الأخرى من حيث كيفية تقسيم الوقت على الأعمال ووضع سقف زمني لإنجاز كل منها وهكذا، وإن كنّا مستغنين عنها لو التزمنا بوصايا أهل البيت (عليهم السلام) وتعليماتهم.
ومن دون تنظيم الوقت ومراقبته يضيع الكثير في الفوضى وعدم التخطيط والارتباك بحيث تفقد القدرة على استثمار الوقت إذا لم تضع برنامجاً، ويتحقق الغبن في العمر الذي تحدّث عنه رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم).
ص: 215
في بعض الروايات ان أجزاء عمر الإنسان وأوقاته تعرض عليه يوم القيامة على شكل صناديق فما قضاه في خير سرّه منظره، وما قضاه في سوء أفزعه مرآه، والأكثر يراها فارغة ضاعت عليه ولم يستثمرها فتشتد حسرته لكثرة ما ضاع منه وكان يكفيه اليسير منها لو شغلها بالطاعة كتسبيحه في ثوانٍ أو الصلاة على النبي وآله أو قراءة سورة قصيرة من القرآن الكريم أو استماع لموعظة أو التحدث بأمرٍ مفيد والعاقل هو من اتعظ بهذا وهو في الدنيا ليتمكن من التعويض. في غرر الحكم عن أمير المؤمنين (عليه السلام)
(لو اعتبرت بما أضعتَ من ماضي عمرك لحفظت ما بقي)(1).
إن لقاءنا هذا وحديثنا هو نمط مثمر لما يمكن أن تكون عليه الاحتفالات أي اننا احتفلنا أيضاً لكن بطريقتنا الخاصة كما يقال.3.
ص: 216
الحمد لله كما هو أهله وصلى الله على سيد خلقه وأحبهم إليه محمد وآله الطيبين الطاهرين.
يبدأ موسم الصيف يوم (6/21) ولا يتحقق باقتراب الشمس من الأرض كما هو المتوهم، بل على العكس فإن الشمس في الشتاء أقرب إلى الأرض منها في الصيف - وهذا من المفارقات - وإنما يتحقق الصيف برأسية الشمس على النصف الشمالي للأرض، أي إن أشعتها تصل إلى الأرض مباشرة وبصورة رأسية مقابل ميلان أشعة الشمس وانكسارها في توجهها إلى الأرض في فصل الشتاء، وهذا وحده كاف لنقل المناخ من طقس شديد البرودة يقل عن الصفر المئوي بكثير إلى طقس تزيد حرارته عن خمسين درجه مئوية، هذا والمسافة بين الشمس والأرض حوالي (93 مليون ميل) (على ما أتذكر)، فكيف والشمس تقترب من أرض المحشر يوم القيامة حتى تكون المسافة ميلاً واحداً فقط، هذا لو فرضنا إن شمس الآخرة كشمس الدنيا رقيقة هادئة خلقت ليتنعموا بدفئها ولتعم الحياة بوجودها، ولم يسجرها جبار السماوات والأرض غضباً على أهل المعاصي الذين تحدّوه في الدنيا وتمرّدوا عليه واستكبروا ونازعوه سلطانه، فما هو حالنا يومئذ؟ نستجير بالله من غضبه. وتستطيع أن تشبه الحال بما يفعله بعض
ص: 217
الغافلين من تقريب مصدر النار إلى إناء فيه بعض الحشرات ليحرقها بها، مع الفارق الكبير بين نار الدنيا والآخرة.
وتأسياً برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان يأخذ عِظة وعِبرة من كل ما حوله ليذّكر نفسه ويرقق قلبه، وهو الذي كان في ذكر دائم لله تعالى وقلبه عرش الله تبارك وتعالى، فالمروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان إذا دخل الحمام ونظر إلى الماء الساخن تذكر جهنم وحميمها الذي وصفه الله تبارك وتعالى (وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) (محمد: 15)، فيقول (صلى الله عليه وآله وسلم) عندئذ: (نِعم البيت الحمام؛ يزيل الدرن ويذكّر بالآخرة). وهو الذي ما غفل عنها طرفة عين، وقد حرص المعصومون على إلفات نظرنا إلى ذلك، فمثلاً ورد في خطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في آخر جمعة من شعبان والتي استقبل بها شهر رمضان قوله:
(و اذكروا بجوعكم و عطشكم فيه جوع يوم القيامة و عطشه).
وعندما جاء عقيل إلى أخيه أمير المؤمنين (عليه السلام) طالبا منه الزيادة في عطائه لأنه كثير العيال وهم شعث غبر، فأحمى أمير المؤمنين حديدة وأدناها منه وكان بصيراً، فظن أنها صرّة مال، فلما اكتوى بنارها انكفأ يئن من الألم، وقد وصف أمير المؤمنين (عليه السلام) نفسه هذه الحادثة فقال في بعض خطبه:
(فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً، ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا، فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا، وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ ميسَمِهَا - وهي المكواة - فَقُلْتُ لَهُ: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ،
ص: 218
يَا عَقِيلُ؛ أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ، وَتَجُرُّنِي إلى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ؟ أَتَئِنُّ مِنَ الأَذَى وَلاَ أَئِنُّ مِنْ لَظىً؟)(1).
ومحل الشاهد فما أحوجنا إلى الاتعاظ والاعتبار بكل ما يمر بنا أو نمر به، وها هو ذا فصل الصيف يحلّ علينا، فلنتذكر بحرِّه حرَّ جهنم وبزفيره زفيرها، وأنقل لكم بعض الأخبار في وصف نار جهنم وحرها وجحيمها، ولو لم نكن من أهل الغفلة لما احتجنا إلى تلك الأخبار، لأن شواهدها كثيرة حولنا، فكم جرب أحدنا ماءً ساخناً على النار أو في الحمام يلسع جلده الرقيق أو زيتاً أعد للقلي ينسكب على جلده فيتمزق ويتلف وربما أدى به إلى الوفاة!، هذه هي المفارقة التي يعيشها الإنسان: ضعف في القابلية ورقة لا يتحمل بها الأذى البسيط، لكنه يرتكب بحماقته ما يورده العذاب العظيم الخالد، كالمرأة السافرة، أو تارك الصلاة، أو الذي لا يؤدي حقوق الله في أمواله من خمس وزكاة وغيرها، أو رجل وامرأة تجمعهما علاقات جنسية غير مشروعة، أو يمارسون أفعالاً منكرة كالاستمناء والمساحقة ومشاهدة الأفلام الخليعة، أو يخوض في الغيبة وتفسيق المؤمنين والانتقاص منهم خصوصاً العلماء، فضلاً عن الذي يظلم الناس في أنفسهم وأموالهم بأي أشكال الظلم كالسرقة والغصب والغش والمعاملات المحرمة، فإن ظلم الناس ذنب لا يتركه الله تعالى.
أقول إن هؤلاء وأمثالهم لا يعلمون ماذا ينتظرهم، لكن الله تعالى يرثي
ص: 219
لحالهم ويقول:(فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النّارِ) (البقرة: 175) وهم لا يستطيعون الصبر على ما هو لا شيء بالنسبة إلى النار، ولكنها الغفلة والجهل واتباع الهوى والأنانية والاستكبار، هذه المفارقة التي يسجلها أمير المؤمنين في دعائه المعروف الذي علمه لصاحبه كميل بن زياد:
(يا رَبِّ ارْحَمْ ضَعْفَ بَدَني وَرِقَّةَ جِلْدي وَدِقَّةَ عَظْمي)، ثم يقول (يا رَبِّ وَأَنْتَ تَعْلَمُ ضَعْفي عَنْ قَليل مِنْ بَلاءِ الدُّنْيا وَعُقُوباتِها وَما يَجْري فيها مِنَ الْمَكارِهِ عَلى أهْلِها، عَلى أنَّ ذلِكَ بَلاءٌ وَمَكْرُوهٌ قَليلٌ مَكْثُهُ، يَسيرٌ بَقاؤُهُ، قَصيرٌ مُدَّتُهُ، فَكَيْفَ احْتِمالي لِبَلاءِ الآخِرَةِ وَجَليلِ وُقُوعِ الْمَكارِهِ فيها، وَهُوَ بَلاءٌ تَطُولُ مُدَّتُهُ وَيَدُومُ مَقامُهُ وَلا يُخَفَّفُ عَنْ أهْلِهِ؛ لأَنَّهُ لا يَكُونُ إلاّ عَنْ غَضَبِكَ وَاْنتِقامِكَ وَسَخَطِكَ، وَهذا ما لا تَقُومُ لَهُ السَّماواتُ وَالأَرْضُ، يا سَيِّدِي فَكَيْفَ بي وَأنَا عَبْدُكَ الضَّعيفُ الذَّليلُ الْحَقيرُ الْمِسْكينُ الْمُسْتَكينُ؟، يا إلهي وَرَبّي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ لأَيِّ الأُْمُورِ إِلَيْكَ أَشْكُو وَلِما مِنْها أَضِجُّ وَأَبْكي؟ لأليمِ الْعَذابِ وَشِدَّتِهِ، أَمْ لِطُولِ الْبَلاءِ وَمُدَّتِهِ)، ثم ينتقل إلى ذكر العقوبات الروحية التي هي أقسى من المادية فيقول: (فَلَئِنْ صَيَّرْتَني لِلْعُقُوباتِ مَعَ أعْدائِكَ وَجَمَعْتَ بَيْني وَبَيْنَ أهل بَلائِكَ وَفَرَّقْتَ بَيْني وَبَيْنَ أَحِبّائِكَ وَأَوْليائِكَ، فَهَبْني يا إِلهي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبّي صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلى فِراقِكَ؟، وَهَبْني صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إلى كَرامَتِكَ؟).
وأعود إلى نقل تلك الأخبار، فقد روي بسند صحيح عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت له: يا ابن رسول الله خوّفني(1) فإن قلبي
ص: 220
قد قسا. فقال: يا أبا محمد، استعد للحياة الطويلة، فإن جبرائيل جاء على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو قاطب وقد كان قبل ذلك يجيء وهو مبتسم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا جبرائيل جئتني اليوم قاطباً؟ فقال: يا محمد، قد وضعت منافخ النار. فقال: وما منافخ النار يا جبرائيل؟ فقال: يا محمد، إن الله عز وجل أمر بالنار فنفخ عليها ألف عام حتى ابيضت، ثم نفخ عليها ألف عام حتى احمرّت، ثم نفخ عليها ألف عام حتى اسودّت، فهي سوداء، مظلمة، لو أن قطرة من الضريع (الذي هو عرق أهل جهنم من قيح وصديد فروج الزناة يغلى في قدور جهنم ويسقى لأهل جهنم بدل الماء) قطرت في شراب أهل الدنيا لمات أهلها من نتنها، ولو أن حلقة واحدة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً وضعت على الدنيا لذابت الدنيا من حرّها، ولو أن سربالاً من سرابيل أهل النار علق بين السماء والأرض لمات أهل الدنيا من ريحه. قال: فبكى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبكى جبرائيل، فبعث إليهما ملكاً فقال لهما: إن ربكما يقرئكما السلام ويقول: قد أمنتكما أن تذنبا ذنباً أعذبكما عليه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جبرائيل مبتسماً بعد ذلك، ثم قال: إن أهل النار يعظمون النار، وإن أهل الجنة يعظمون الجنة والنعيم، وإن جهنم إذا دخلوها هووا فيها مسيرة سبعين عاماً، فإذا بلغوا أعلاها قمعوا بمقامع الحديد(1) أعيدوا في دركها، فهذه حالهم، وهو قول الله عز وجل:(كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (الحج: 22)، ثم تبدل جلودهم غير الجلود التي كانت عليهم، قال أبو عبد الله (عليه السلام): حسبك(2) ؟ قلت: حسبي، حسبي)(3).8.
ص: 221
وهذه الآية الشريفة التي استشهد بها الإمام تبين أحد المشاهد المهولة لنار جهنم(1) (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) وبارزوا الله بالمعصية وتمردوا عليه ولم يلتزموا بأوامره (تَقَطَّعَتْ) وفصّلت (لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) وهو الماء الساخن حيث (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَ الْجُلُودُ) ، وبعد (وَ لَهُمْ مَقامِعُ) أي سياط (مِنْ حَدِيدٍ) أحمته النار، يا للهول!! فيعجزون عن تحمل العذاب ويحاولون الفرار من هذا الغمِّ والبلاء الشديد،(كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) ويأتيهم الجواب بكل إهانة وإذلال:(وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (الحج: 12-22).
وفي آية أخرى (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (الدخان: 49) استخفافاً واستهزاءً بهم حيث كانوا يظنون في الدنيا أنهم أهل العزة والقوة والمنعة، فليست الآخرة كالدنيا يفعل فيها الظالمون مايشاؤون، أما في الآخرة فينادى:(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ) (غافر: 16).
وفي آية أخرى:(وَ لا تَحْسَبَنَّ اللّهَ غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ) أي يؤخر عقابهم (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أي لا تنطبق أبصارهم من الخوف والرعب وهول ما نزل بهم (مُهْطِعِينَ) مسرعين وينظرون في ذلّ وخشوع (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) رافعيها إلى السماء (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ)
ص: 222
فلا يغمضون عيونهم بل هي شاخصة دائماً (وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) (إبراهيم: 42-43) وهو كناية عن دهشتهم بحيث فقدوا عقولهم وأصبحت فارغة.
وفي آية مشابهة من سورة يس:(إِنّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ) هؤلاء المتمردين على طاعة الله تعالى (أَغْلالاً) وقيوداً تصفد أيديهم وتجمعها إلى رؤوسهم (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) جمع ذقن وهو موضع اللحية ومجمع عظمي اللحيين (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) (يس: 8) مرفوعة رؤوسهم لا يستطيعون خفضها.
إنها مشاهد تستوقف المتأمل طويلاً، وفي آية أخرى:(وَ تَرَى الْمُجْرِمِينَ) الذين استكبروا عن طاعة الله تعالى (يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ) أي مقرونين بعضهم إلى بعض أو إلى الشياطين أو أن أعضائهم كالأيدي والأرجل مقرنة (فِي الْأَصْفادِ) والقيود،(سَرابِيلُهُمْ) قمصانهم (مِنْ قَطِرانٍ) دهن أسود لزج منتن تشتعل فيه النار بسرعة أو من صفر متناهٍ حرّه (وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ النّارُ) (إبراهيم: 49-50)، تعلو وجوههم النار، وخصت بالذكر لأنها أعز الأعضاء وأشرفها، فعبر بها عن الكل، والآيات كثيرة في هذا المجال تحتاج إلى كتاب كامل لذكرها وتقريب صورتها للأذهان.
ونعود إلى الأخبار، ففي خبر عن الإمام الصادق (عليه السلام) إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (.. دخلت (ليلة المعراج) سماء الدنيا فما لقيني ملك إلا وهو ضاحك مستبشر، حتى لقيني ملك من الملائكة لم أر أعظم خلقاً منه
ص: 223
كريه المنظر ظاهر الغضب، فقال لي مثل ما قالوا من الدعاء، إلا انه لم يضحك ولم أر فيه من الاستبشار ما رأيت ممن ضحك من الملائكة، فقلت: من هذا يا جبرائيل؟ فإنني قد فزعت منه، فقال: يجوز أن تفزع منه، فكلنا يفزع منه، إن هذا مالك خازن النار لم يضحك قط ولم يزل منذ ولاه الله جهنم يزداد كل يوم غضباً وغيضاً على أعداء الله وأهل معصيته، ينتقم الله به منهم، ولو ضحك إلى أحد كان قبلك أو كان ضاحكاً إلى أحد بعدك لضحك إليك، ولكنه لا يضحك، فسلمت عليه، فرد السلام وبشرني بالجنة، فقلت لجبرائيل - وجبرائيل بالمكان الذي وصفه الله: مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ - ألا تأمره أن يريني النار؟ فقال له جبرائيل: يا مالك، أرِ محمداً النار. فكشف عنها غطاءها وفتح باباً منها، فخرج منها لهبٌ ساطعٌ في السماء وفارت وارتفعت حتى ظننت ليتناولني مما رأيت، فقلت: يا جبرائيل؛ قل له فليرد عليها غطاءها، فأمرها فقال لها: ارجعي، فرجعت إلى مكانها الذي خرجت منه...)(1).
وروي بسند معتبر عن الإمام الصادق (عليه السلام): ما خلق الله خلقاً إلا جعل له في الجنة منزلاً وفي النار منزلاً، فإذا سكن أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى منادٍ: يا أهل الجنة أشرفوا، فيشرفون على أهل النار وترفع لهم منازلهم فيها، ثم يقال لهم: هذه منازلكم التي في النار لو عصيتم الله لدخلتموها.. قال: فلو أن أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنة في ذلك اليوم فرحاً لما صرف عنهم من العذاب، ثم ينادي منادٍ: يا أهل النار، ارفعوا رؤوسكم(2) ، فيرفعون رؤوسهم فينظرون إلى
ص: 224
منازلهم في الجنة وما فيها من النعيم، فيقال لهم: هذه منازلكم التي لو أطعتم ربكم لدخلتموها، قال: فلو أن أحداً مات حزناً لمات أهل النار حزناً، فيورث هؤلاء منازل هؤلاء، وذلك قول الله (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ، اَلَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (المؤمنون: 10-11)(1).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:
(وأما أهل المعصية فخلّدهم في النار، وأوثق منهم الأقدام، وغل منهم الأيدي إلى الأعناق، وألبس أجسادهم(2) سرابيل القطران، وقطعت لهم مقطعات من النار, هم في عذاب قد اشتد حرّه، ونار قد أطبق على أهلها فلا يفتح عنهم أبداً، ولا يدخل عليهم ريح أبداً، ولا ينقضي منهم الغمّ أبداً، والعذاب أبداً شديد، والعقاب أبداً جديد، لا الدار زائلة فتفنى، ولا آجال القوم تقضى)(3).
وروي بسند معتبر عن الإمام الصادق(4) (عليه السلام): (إن في النار لناراً يتعوذ منها أهل النار، ما خلقت إلا لكل متكبر(5) جبار عنيد، ولكل شيطان مريد(6) ، ولكل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب, وكل ناصب لآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال: إن أهون الناس عذاباً يوم القيامة لرجل في ضحضاح(7) من نار، عليهيف
ص: 225
نعلان من نار وشراكان من نار، يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى(1) أن في النار أحداً أشد عذاباً منه، وما في النار أهون عذاباً منه).
وفي سورة الفرقان (الآيات 11-14):(وَ أَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسّاعَةِ) ويشمل العنوان من كذب عملياً بالعصيان والتمرد على أوامر الشريعة وإن كان يؤمن نظرياً بيوم الحساب(2) (سَعِيراً) وهي النار الشديدة (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي كانوا منها بمرأى الناظر في البعد (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً) أي صوت تغيظ (وَ زَفِيراً) كزفير المغتاظ، أو أن هذين الوصفين لزبانيتها ونسبا لها من باب حذف المضاف، كقوله تعالى:(وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ) (يوسف: 82) أي أهل القرية، فحذف المضاف(3) ،(وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ) قد قرنت أيديهم إلى أعناقهمجد
ص: 226
بالأغلال (دَعَوْا هُنالِكَ) في ذلك المكان الضيق الذي مرَّ وصفه(1) (مَثْبُوراً) ، أي دعوا على أنفسهم بالهلاك ليتخلصوا من هذا العذاب، فيأتيهم الجواب متهكماً ومنذراً بمراحل آتية من العذاب:(لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) لكثرة أنواع عذابكم، فلكل نوع ثبور، أو لدوامه فلكل وقت ثبور.
هذه بعض الصور المرعبة لنار جهنم، لكن الناس في غفلة هم أوقعوا أنفسهم فيها بأعراضهم عن آيات الله وبياناته الكثيرة التي لم تدع لأحد عذراً، لذلك يتأسف ربهم على وقوعهم بالمعصية رغم هذه الإنذارات المتكررة:(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ، أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ، وَ إِنْ كُلٌّ لَمّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) (يس: 30-32) ثم يتساءل الله تبارك وتعالى على لسان نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)(2):(قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَ مَصِيراً، لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) (الفرقان: 15-16).
وفصول يوم القيامة والمراحل التي يمر بها الإنسان في الآخرة كثيرة، يكفي أن أحدها الموت وثانيها القبر ووحشته وسؤاله وأهواله وما خفي أعظم(3) ، لكنيية
ص: 227
اكتفيت بفصل واحد منها وهو نار جهنم بحسب المناسبة، وهي الاتعاظ بحرارة الصيف، فهذا هو القسم الأول من الحديث، أما القسم الثاني فإرشاد وتصحيح لبعض الظواهر الاجتماعية المنحرفة التي تحصل في فصل الصيف ونتناولها بإذن الله تعالى ضمن نقاط:
(الظاهرة الأولى): تصدر كلمات من الناس عندما يشتد الحرُّ توحي بالتأفف والانزعاج والسخط، وهو يعني الاعتراض على قضاء الله تعالى ومشيئته، وهذا من الذنوب الكبيرة التي تنقص بها درجة الإنسان.
ولذلك يلفت الإمام الحسين (عليه السلام) نظر عائلته إلى هذا الأمر حين جاء ليودعهم الوداع الأخير، قال (عليه السلام): (ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من أجوركم)، لأن الإنسان المؤمن يتصف بالرضا على ما يختاره الله تعالى سواء على مستوى الأمور التشريعية كوجوب الصوم أو الخمس أو الجهاد أو ولاية أهل البيت (عليه السلام) أو حرمة الزنا والخمر، أو على مستوى الأمور التكوينية كالفقر والمرض وشدة الحر والبرد وإن خالفت هوى النفس، قال تعالى:(فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء: 65)، فترى أن من شروط الصدق في الإيمان عدم الاعتراض على ما اختاره الله تبارك وتعالى.
ص: 228
فيعتبر الاعتراض مرتبة من مراتب الشرك، بمعنى منافاتها للإخلاص، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): (لو أن قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا البيت وصاموا شهر رمضان، ثم قالوا لشيء صنعه الله أو صنعه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا صنع خلاف الذي صنع؟ أو وجدوا ذلك في قلوبهم، لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا هذه الآية: (فلا وربِّكَ..) ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): فعليكم بالتسليم)(1) ، وذمتهم الآية الشريفة:(وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ - سواء على مستوى التشريع أو التكوين كما قلنا - فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (محمد: 8-9).
ولذا ورد التحذير الشديد من الاعتراض على قضاء الله تعالى في جميع الأمور، والحث الأكيد على استشعار الرضا والتسليم لقضاء الله تبارك وتعالى، فعن الصادق (عليه السلام):
(إن أعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله عز وجل) ، وعن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال:
(الصبر والرضا عن الله رأس طاعة الله، ومن صبر ورضي عن الله فيما قضى عليه فيما أحب أو كره لم يقضِ الله عز وجل له فيما أحب أو كره إلا ما هو خير له)، وسئل الإمام الصادق (عليه السلام): بأي شيء علم المؤمن أنه مؤمن؟ قال (عليه السلام):
(بالتسليم لله والرضا فيما ورد عليه من سرور أو سخط) ، وعن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال:
(الزهد عشرة أجزاء، أعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، و أعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، و أعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا)، وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال:
ص: 229
(طوبى لمن ذكر المعاد وعمل للحساب وقنع بالكفاف ورضي عن الله سبحانه)(1).
فكيف نستشعر في قلوبنا الرضا والتسليم بقضاء الله تعالى في جميع الأمور والابتلاءات والمصائب والصعوبات والشدائد والمحن التي تمر بنا؟
نقول في الجواب: بالالتفات إلى عدة أمور تطبيقاً للمعنى الحقيقي لذكر الله على كل حال، الذي هو من أعظم الأعمال، وقلنا في تفسيره(2): إنك تستحضر في كل حال المعاني التي يريدها الله تبارك وتعالى منك في ذلك الحال، فتكون على اتصال دائم به، وتحيى معه دائماً، فمن هذه الأمور:
1 - إن الله رحيم وهو أرحم بعباده من أنفسهم ومن الأمِّ الشفيقة، فلا يختار لهم إلا ما يصلحهم، فقد ورد في الحديث القدسي: (إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فأغنيه، ومنهم من لا يصلحه إلا الفقر فأفقره، ومنهم من لا يصلحه إلا المرض فأمرضه) وهكذا، فكل ما يختاره الله تعالى لنا فهو خير، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال:
(عجبت للمرء المسلم لا يقضي الله عز وجل له قضاءً إلا كان خيراً له، إن قرض بالمقاريض كان خيراً له، وإن ملك مشارق الأرض ومغاربها كان خيراً له) ، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): قال الله عز وجل:
(عبدي المؤمن لا أصرفه في شيء إلا جعلته خيراً له، فليرض بقضائي، وليصبر على بلائي،
ص: 230
وليشكر نعمائي، أكتبه يا محمد من الصديقين عندي)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: إن فيما أوحى الله إلى موسى بن عمران (عليه السلام):
(يا موسى ما خلقت خلقاً أحب إلي من عبدي المؤمن، وإني إنما ابتليته لما هو خير له، وأعافيه لما هو خير له، وأزوي عنه لما هو خير له، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي، فليصبر على بلائي، وليشكر نعمائي، وليرض بقضائي، أكتبه في الصديقين عندي إذا عمل برضاي وأطاع أمري)(1).
وعليه أن يضيف إلى هذا الأمر جهله بعواقب الأمور، قال تعالى:(وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 216)، فما يدريك أن الحر الذي تنزعج منه هو شرٌّ لك، بل هو خير لك في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلفوائده الصحية والنفسية والاجتماعية والبيئية مما لا مجال لذكره الآن، وأما في الآخرة فلمجموع المعاني التي نحن بصددها، يكفي أن تعلم أن أهل المعرفة قالوا: إن النار نفسها رحمة للعباد، لأن بعض النفوس الخبيثة والقلوب القاسية لا تفلح كل شدائد البرزخ والقيامة في تطهيرها، فتحتاج إلى علاج أخير وهي النار، كما في المثل: (آخر الدواء الكيّ)، لتتأهل بعدها للدخول إلى الجنة، فنار جهنم رحمة أيضاً.
2 - إن قضاء الله جار في عباده سواء رضي الإنسان به أم لم يرض، فلماذا لا يجعل هذا القضاء فرصة للطاعة والقربة إلى الله تعالى مادام إن سخطه واعتراضهُ على البلاء لا يدفع عنه القضاء، لذا جاء في بعض الأحاديث
(إنه.
ص: 231
صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت موزور) فماذا تختار بربك؟(1).
3 - إن الإنسان المؤمن لابد أن يتعرض للبلاء في دار الدنيا:(الم، أَ حَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت: 1-2)، فعن الصادق (عليه السلام): (إن عظيم الأجر لمع عظيم البلاء، وما أحب الله قوماً إلا ابتلاهم)، وعنه (عليه السلام): (إنما المؤمن بمنزلة كفة الميزان كلما زيد في إيمانه زيد في بلائه)، وعن موسى ابن جعفر (عليه السلام): (أيٌّ من صفت له دنياه فاتهمه على دينه)(2) ، وذكر عند الإمام الصادق (عليه السلام) البلاء وما يخص الله به المؤمن، فقال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من أشد الناس بلاءً في الدنيا؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (النبيون ثم الأمثل فالأمثل، ويبتلي المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن أعماله، فمن صح إيمانه وحسن عمله اشتد بلاؤه، ومن سخف إيمانه وضعف عمله قل بلاؤه)(3) ، وفي ضوء هذه الأحاديث يستشعر الإنسان المؤمن السرور عند حلول البلاء به؛ لأنه يكشف عن إيمانه وتعاهد الله إياه بيد رحمته، وبالتأكيد فإن بلاءً يستطيع تحمله وقد تعود عليه - كالحرِّ - أسهل عليه من بلاء لا يعرفه ولا يعلم بقدرته على الصبر عليه ما دام لا بدَّ من بلاء.
4 - أن يتذكر ما وعد الله الصابرين على البلاء والمحتسبين له عند الله تعالى، فعن الإمام الصادق (عليه السلام):
(من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه، كان لهه.
ص: 232
مثل أجر ألف شهيد)، وعنه قال: (إذا دخل المؤمن قبره كانت الصلاة عن يمينه والزكاة عن يساره والبر مظلّ عليه، وتنحى الصبر ناحية، فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مسائلته، قال الصبر للصلاة والزكاة والبر: دونكم صاحبكم فإن عجزتم فأنا دونه)، وعنه (عليه السلام):
(الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان)(1) ، وللصبر أقسام كما نعلم: الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، والصبر على قضاء الله الذي نحن بصدده.
5 - إننا جميعاً ندعو أن نكون ممن يحظى بنصرة الإمام المنتظر (عليه السلام) وصحبته والجهاد بين يديه، فأيهما أسرع استجابة لدعوة الإمام ونصرته: المؤمن الذي خاض المحن والشدائد والصعوبات وواجهها بصبر وجلد، أم المترف المتنعم الذي يتبرم بأبسط بلاء يمر به؟ فإن رغبتم في نصرة الإمام (عليه السلام) فوطنوا أنفسكم على كل الصعوبات، فإنها من مؤهلاتكم لهذا الفوز العظيم، والذي يثقل عليه هذا البلاء البسيط لا يحظى بذلك الشرف كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في مثلها:
(إذا كنتم من الحر ومن البرد تفرون، فأنتم من السيف أفر).
6 - إن أي شيء لا ترضاه يصدر من محبوب لك، فلكي لا يؤثر فيك تأثيراً سيئاً تذكر ما يحبِّب(2) ذلك الشخص إليك، والله تبارك وتعالى لا تحصى نعمه عليك، فلماذا تنساها كلها وتذكر فقط هذا البلاء الذي نزل بك؟ وبهذا الصدد ينقل أهل المعرفة رواية واعية ومما جاء فيها: إن إخوة يوسف (عليه السلام) كانوا خجلين منه بعدما عرفوه لما صدر منهم اتجاهه، وكانوا يجلسون معه صباحاً6.
ص: 233
ومساءً إلى المائدة، ولشدة حيائهم منه طلبوا منه إعفائهم عن الحضور معه، قال لهم: أنتم سبب عزتي ورفعتي؛ لأن المصريين كانوا يعتبرونني قبل مجيئكم غلاماً وصلت إلى السلطنة، وعندما جئتم عرفوا أني لست غلاماً، بل ابن نبي ومن أولاد إبراهيم الخليل (عليه السلام)(1) ، هذا مع قبيح فعلهم معه، فكيف يكون موقفنا اتجاه المنعم المتفضل المنان؟
وقد عشنا في أيام صلاة الجمعة المباركة في مسجد الكوفة المعظم سنة 1998 موجة شديدة من الحر وصلت إلى 60 في الظل، وفي حر الظهيرة في شهر تموز كنا نجلس الساعتين والثلاث في الشمس المحرقة حتى كانت جباهنا تكتوي بحرارة موضع السجود مع ما يقتضيه الزي الديني من كثرة الملابس، وكنا جميعا مسرورين مشغولين بلطف الله علينا وكرمه الذي أتحفنا بهذه النعمة العظيمة، ورغم أنه كان يحجز لي مكان قرب إمام الصلاة وهو السيد (قده) إلا أنني كنت أتعمد الصلاة مع المؤمنين في باحة المسجد أحياناً، وفي الحقيقة فإن هذا معنى واسع تستطيع أن تطبقه في حياتك مع الآخرين أيضاً، فعندما يسيء لك شخص تذكر منه النقاط الإيجابية فسيتبدل غضبك عليه إلى حب له، لذا ورد في الحديث:
(اذكر اثنين وانسَ اثنين: اذكر إساءتك للآخرين وإحسان الآخرين إليك، وانسَ إحسانك للآخرين وإساءة الآخرين إليك)
(الظاهرة الثانية): وهي ليست بعيدة عن الأولى، فإن الكثير من الناس يهربون من الحر ويذهبون إلى (الاصطياف) في بعض المناطق السياحية أو البلدان الغربية، وهو عمل محرم إذا اقترن بمحرمات، كما ينقل عن بعض أثرياء الخليج الذين يهدرون أموالاً طائلة على الخمور والفاسقات في بعض الجزر الغربية فيجرون إلى أنفسهم عقاباً أليما خالداً من أجل لذة وقتية زائلة، وبعضهمة.
ص: 234
يذهب إلى أماكن مختلطة بشكل غير مشروع وفيها غناء وموسيقى إلى غيرها من المحرمات، وهو حال مؤلم أن يعود المسلمون إلى هذه الجاهلية الرعناء بعد أن هداهم الله للإيمان، ويقعون فريسة الأعداء، فيسلبونهم أموالهم وعزتهم وشرفهم، والأهم من ذلك دينهم وأخلاقهم، والأفضع من ذلك أن يذهبوا إلى هناك مع نسائهم.
ولو قلتَ: فإذا لم يكن الاصطياف مقترناً بأي محرم فما الضير فيه؟ قلتُ: لا إشكال فيه من ناحية شرعية، لكن فيه منقصة أخلاقية وإضاعة لفرص كبيرة من التكامل، تلك التي ذكرناها في النقطة السابقة ضمن أمور ستة، ويضاف لها أن هذه الأموال التي تصرف لأجل التمتع والتنزه وهي أموال طائلة يمكن أن تزوج بها مؤمناً فتحصنه من الحرام، أو تكسو نساءً لا يجدْنَ حجاباً يتسترن به، أو تدعم مشروعاً خيرياً فيه إعلاءٌ لكلمة الله تعالى، أو توفر عملاً لشاب مؤمن تغنيه عن طلب ما في أيدي الناس، أو تشتري دواءً لمريض يئن من الألم ولا يجد ما يخفف به آلامه، أو تطعم أيتاماً يقضون الليل يتضورون جوعاً، فكيف يصفو لك عيش وتلتذ لك نفس وأنت ترى كل هذه الحاجات حولك، فتغلق عينك عن رؤيتها وتصم أذنك عن سماعها، والأغرب من ذلك أن يكون من بين المصطافين بعض المحسوبين على الحوزة العلمية الشريفة ويقضون الصيف كله في السفرات السياحية، ويصرف أحدهم الملايين، فتذكروا جميعاً أن صرف المال في قضاء الحاجات السابقة أولى من صرفها في الحج المستحب الذي هو من أعظم الطاعات، نطقت بذلك الأحاديث، فكيف يسوغ صرفها في السفرات السياحية؟ نعم، قد يكون لهذه السفرات مبرراتها، ولكن ليقلل المدة بالمقدار الذي يندفع به هذا المبرر، ووفروا هذه الأموال لإغاثة الملهوفين وإعانة المحتاجين وإدخال السرور على المؤمنين؛ فإن في ذلك نعيم الآخرة وجنانها، ولا تكونوا من أهل
ص: 235
الغفلة (أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) (البقرة: 61).
(الظاهرة الثالثة): يكثر ارتياد المسابح في الصيف، والسباحة رياضة عقلائية استحبها الشارع المقدس وفيها فوائد جمة، لكن ينبغي التنبيه إلى عدة أمور:
1 - الملابس المتعارفة التي يرتديها السباحون مخالفة للشريعة، وهي عبارة عن قطعة صغيرة يغطي بها عورته، وغالباً تكون مجسمّة للعورة، فهذه الملابس غير شرعية، فإن عورة الرجل أمام الآخرين ما بين السرة والركبة، وإذا كان الأزيد من ذلك يوجب إثارة للشهوة والفتنة فيجب ستره، فالصحيح أن يكون لباس السباح مكوناً من سروال غير مجسم يصل قريب الركبة وقميص يغطي الصدر(1).
2 - تمارس الكثير من المحرمات في المسابح، كأصوات الموسيقى والغناء، وحالات الشذوذ الجنسي كاللواط وغيره، أو الاختلاط بين الجنسين وتبادل الكلمات البذيئة، والمراهنات عند إجراء بعض المسابقات.
3 - يجب على مالك المسبح توفير شروط الصحة والأمان، فعليه أن يعقم الماء مثلاً ويبدله وينظم درجة حرارته، ويتأكد من صحة وسلامة المشاركين، وأن يوفر رجال الإنقاذ والنجاة لمساعدة الذين يتعرضون لحالات الغرق، وإذا قصر في ذلك فهو ضامن لأي ضرر يحصل على المشاركين.
4 - يحرم على النساء(2) المشاركة في المسابح العامة، حتى لو لم تكن مختلطة وكانت خاصة بالنساء؛ لجملة أمور لا حاجة إلى بيانها.د.
ص: 236
(الظاهرة الرابعة): بسبب الحر يميل الإنسان إلى تخفيف ملابسه، فتنشأ جملة من المخالفات الشرعية:
1 - يلبس الرجال أثواب خفيفة حاكية لما تحتها، والملابس الداخلية قصيرة ومجسمة(1) ، أو يفتح أزرار قميصه فيظهر صدره بشكل مثير للشهوة(2).
وكذلك النساء تلبس ملابس خفيفة حاكية سواء في الشوارع العامة أو داخل الأسر والعوائل(3) ، رغم وجود رجال أجانب عليهن؛ كأخ الزوج وزوج الأخت وابن العم وابن الخال، والمطلوب الالتزام بالحجاب الكامل أمام الأجانب حتى داخل البيت، بل المطلوب الاحتشام وعدم لبس الملابس الخليعة أمام المحارم أيضاً(4) ، فقد سمعنا عن حالات كثيرة يوسوس فيها الشيطان بين الأب وابنته والأخ وأخته، فلا بد من منع فرص الشيطان وسد المنافذ أمامه.
2 - بعض المحجبات لا تلبس الجواريب، أو تلبس تحت العباءة ثوباً لا يغطيا.
ص: 237
جسمها إلى قدميها، أو تكون ذراعاها مكشوفة أو عنقها وأعلى الصدر، وهذه كلها مما يجب ستره ويحرم إظهاره.
3 - يخرج بعض الشباب بالسراويل القصيرة إلى الشارع، وفي هذا منافاة للآداب العامة وهتك لحرمة الأخلاق الاجتماعية.
وغيرها من الحالات التي تعرف قياساً إلى ما ذكرناه فلا بد من الالتفات إلى الحديث الشريف:
(حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة)، فالحرام حرام في الصيف أو الشتاء، في البيت أو الشارع؛ فالله الله بدينكم، لا يغلبنكم عليه هوى النفس واتباع الشيطان وبعض التقاليد المستوردة من الكفار.
(الظاهرة الخامسة): تنتشر في الصيف محلات المرطبات التي تكون أحياناً مرتعاً للشيطان، إذ فيها اختلاط غير مشروع بين الجنسين وتبادل للضحكات والكلمات المريبة والحركات المثيرة، حيث تأكل المرأة المرطبات بكل ميوعة وفتنة وسط الرجال، وقد علمت إن كثيراً من الشباب والشابات لا يرتادون هذه المحلات حباً بالمرطبات؛ وإنما استجابة لشهوة النفس الأمارة بالسوء، فلتتذكر هذه المرأة وهذا الشاب ما قلناه عما أعد الله للعاصين من العذاب، وإذا أرادوا أن يأكلوا المرطبات فليأكلوها في بيوتهم بعيداً عن الأنظار.
(الظاهرة السادسة): يقترن الصيف مع العطلة الصيفية لطلبة المدارس، والعطلة غالبا ما تعني التسكع وضياع الوقت وإمضائه بالتفاهات؛ لذلك ذكرنا توجيهاً في كلمتنا السابقة بمناسبة الامتحانات النهائية والعطلة الصيفية للطلبة بيّنا لهم فيها عدة أمور يمكن أن تجعل عطلتهم مثمرة ونافعة وهادفة، ومنها الالتحاق بالدورات السريعة للدراسة الحوزوية، وقد استجاب الكثير منهم لهذه الدعوة المخلصة جزاهم الله خير جزاء المحسنين، والذي أريد أن أضيفه هنا أنه
ص: 238
لا ينبغي للحوزة الشريفة أن تتأسى بالدراسات الأكاديمية، فتعطل في الصيف، لأن لها معاييرها الخاصة في الدراسة والتعطيل، فعندنا شهر رمضان والمناسبات الدينية عطلة وليس عندهم كذلك، فمن تضييع الوقت أن نعطل وفق كلا المعيارين، فهنا الجمع ليس أحوط كما يقول الفقهاء، بل على خلاف الاحتياط، ولنحتسب المعاناة التي نتعرض لها ونحن ندرس في الصيف في سبيل الله تعالى ليدفع بها عنا نار جهنم، وحتى لا تنطبق علينا الآية الشريفة:(وَ قالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة: 81)، والنفر لطلب العلم لا يقل أهمية عن النفر للجهاد كما نطقت الآية الأخرى(1) بصراحة:(فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) (التوبة: 122)، فليس هدفنا أهون من هؤلاء الكسبة والعمال الذين لم تمنعهم حمَّارة القيظ من العمل، وإني لأشعر بالخجل والتقصير وأنا أمر بهم في السوق وغيره وأشاهد حماسهم في العمل في شدة الحر، فلا يسبقونا إلى الخير. نعم؛ لا شك أن الجهد الفكري أعظم وأصعب من الجهد البدني ويحتاج إلى ظروف أفضل، مما يتطلب راحة أكبر، لكن لا على طول الصيف، بل نقتصر على فترة محدودة منه عند اشتداد الحر مثلاً(2).
(الظاهرة السابعة): تنتشر في المجتمع في فصل الصيف بعض الحالات السلبية، أشير إليها باختصار لضيق الوقت:
ص: 239
1 - استعمال مضخات سحب الماء، وهو عمل لا بأس به بمقدار رفع الضرورة والاحتياج المعقول، أما الأزيد منه وهدر الماء بلا فائدة فهو إضرار بالمسلمين، وهو محرم(1).
2 - يستغل البعض حاجة الناس إلى الثلج فيبيعه بأسعار خيالية لا يقدر عليها أكثر الناس، وهذه الحالة ناشئة من قسوة في القلب لا يحبها الله ولا يرحم صاحبها، فكيف يرضى شخص بأن ينتفع على حساب آلاف من الناس، وفيهم محتاجون إلى الثلج لأمر أو لآخر؟(2).
3 - تجلس النساء على أبواب الدور(3) وفي الطرقات لتبادل الأحاديث، خصوصاً في فترة العصر إلى المغرب، وفي المناطق الشعبية، مما يوقعهن في محرمات عديدة نبهنا عليها في كتاب (فقه العائلة) فراجعوه.
4 - تقوم بعض النسوة برش الماء على باب الدار لوقت طويل، مما يعرضها لنظر الأجنبي، وتنكشف حتماً بعض أجزاء جسدها كالمعصم ومقدم شعر الرأس وبعض الساقين، فما الضرورة إلى ذلك؟(4).في
ص: 240
5 - استشراف بعض أهل النظرات الخائنة إلى أعراض الناس، خصوصاً في الصباح الباكر، حيث إن العوائل لا زالت نائمة على أسطح المنازل، وفي هذا خيانة عظمى لله تعالى حيث قال:(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَ ما تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر: 19)، وفي الحديث:
(إن العين التي تمتلئ من النظر إلى الحرام يملأها الله ناراً يوم القيامة)(1).
6 - تنتشر هواية تربية الطيور واللعب بها وتحليقها في الجو، وفي هذه الهواية محرمات عديدة نبهنا إليها في استفتاءٍ مستقل(2).
7 - بسبب الضيق النفسي والتبرم من الحرِّ تحصل حالات الغضب السريع، سواءً داخل البيت أو في السوق أو بين سائق السيارة والركاب(3) ، مما يؤدي إلىن.
ص: 241
المخاصمات والاشتباكات بالأيدي، وهذا عمل محرم في الشريعة، والغضب خصلة مذمومة وهي شعبة من النار، وإن إبليس ليتسلط على الإنسان في حالة الغضب، فلماذا تعطوه هذه الفرصة؟.
كثير من الناس مبتلى بأمراض الحساسية في الأنف والصدر، وتهيج في فصل الصيف؛ لذا يجب على الناس تجنب أي شيء يؤذي المبتلين بالحساسية خصوصا التدخين
.
أسأل الله تعالى أن يجعل حظنا من الحرِّ حرَّ الصيف فقط، ويقينا جهنم
ص: 242
وسمومها وزفيرها، ويجعل أوقاتنا كلها خالصة له حتى يبلغ بنا غاية رضاه؛ إنه ولي النعم.
وأشكر بعض الأخوة الذين تعاونوا معي في إلفات النظر إلى عدد من الحالات السلبية المذكورة تطبيقاً للآية الشريفة:(وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ) (المائدة: 2)، وقوله تعالى:(وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر: 3)، والحمد لله رب العالمين، وسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطيبين الطاهرين.
ص: 243