الدروس الرسالية من حياة الشهيدين الصدرين (قدس سريهما)

هویة الکتاب

الدروس الرسالية من حياة الشهيدين الصدرين (قدس سريهما)؛ مع ملحق في کلمات تأبین عدد من العلماء المعاصرين

الكاتب:آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي

لسان: العربية

الناشر: دار الصادقين - النجف اشرف - العراق

سنة النشر: 1434 هجري قمري|2013 میلادي

ص: 1

اشارة

الشهيدان الصدران:

تنوع أدوار ووحدة هدف

ص: 2

الشهيدان الصدران: تنوع أدوار ووحدة هدف

الاحتفال الواعي:

نستقبل خلال أيام الذكرى السنوية السابعة لاستشهاد(1)

سيدنا الأستاذ الشهيد السيد محمد الصدر (قدس سره) في الثالث من شهر ذي القعدة، وأعتقد أننا إلى الآن لم نحتفل بالسيد الشهيد (قدس سره) احتفالاً واعياً يستلهم من أفكاره ومشاريعه ورؤاه ومنهجيته في العمل ما يوجّه مسيرتنا الحاضرة والمستقبلية.

الماضي ينير للحاضر الوعي والبصيرة:

وقد قلنا أن الماضي إنما يكتسب أهميته ويكون ذا قيمة إذا وُظِّف لحل مشاكل الحاضر والمستقبل ومعالجة قضاياهما، أما الاقتصار على الاحتفال العاطفي وتعداد المناقب والانجازات فهذا وإن كان فيه وفاءٌ لصاحب الذكرى إلا أنه يعود إليه وقد لقي جزاءه الكريم عند ربّه الكريم فماذا قدّمنا نحن وماذا استفدنا من ذلك كله؟

ص: 3


1- للعام 1426 هجري الموافق: 2005 ميلادي.

ماذا يعني أن نستلهم التجارب من حياة العلما؟

ولا نعني باستلهام التجربة والاستفادة منها استنساخها وتكرارها مهما كان صاحب التجربة عظيماً؛ لأن الظروف الموضوعية وتغيّر الزمان والمكان لها كل التأثير في رسم خطة العمل وهذه ليست متطابقة، وإذا كان الأئمة (عليهم السلام) وهم معصومون لهم أدوار متنوعة وإن كان الهدف واحداً مشتركاً فما بالك بغير المعصوم؟

الفرق بين منهج الصدر الأول والثاني:

إذن ليس من المعقول أن يعيش اللاحق نفس منهج السابق وبرنامجه فالشهيد الصدر الأول (قدس سره) له ظروفه ومنهجيته، والشهيدالصدر الثاني (قدس سره) وكذا من يأتي بعده، وأشير هنا إلى بعض الفروق بين المنهجيتين:

1- نظم الشهيد الصدر الأول (قدس سره) عمل الأمة وخصوصاً الشباب الرسالي في تشكيل هو (حزب

ص: 4

الدعوة الإسلامية) لمّ-ا رأى ضرورةً لمشاركة الإسلاميين في الحراك السياسي وتنظيم عمل الحركة الإسلامية وكانت الفرصة مؤاتية لذلك حتى قُمع بكل بطش وقسوة واستشهد هو (قدس سره) وخير أبناء الأمة، فليس من المعقول أن يسير الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) على نفس الخط، لذا فإنه عبّأ الأمة ونظّمها بآلية أخرى هي الاتصال المباشر مع الأمة وبلغت ذروتها في صلاة الجمعة وخلق الوعي العام والحركة الجمعية التي حشّدت مئات الآلاف من المؤمنين يعجز عن تحشيده أكبر الأحزاب حجماً وأكثرها تنظيماً من دون أن يعطي للسلطة مبرراً لضربها.

2- إن الشهيد الصدر الأول (قدس سره) ركّز على بناء عقول أبناء الأمة ووعيها فكتب لهم في الاقتصاد والفلسفة والأسس المنطقية للاستقراء وغيرها ولكنه لم يركّز على تهذيب النفس وتطهير القلب مما يُعرف بعلم الأخلاق لا لغفلةٍ منه (قدس سره) عن الحاجة إليه! كيف وهو يرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يسميه (الجهاد الأكبر) وكان (قدس سره) يجسّد كل

ص: 5

الأخلاق الكريمة في حياته الشريفة، لكنه ربما كان يعتقد أن التربية العامة من خلال الخطباء والمواعظ وكتب الأخلاق كافية لتأمين هذا الجانب، او أنه (قدس سره) رأى أن التحدي الأكبر يومئذ هو فكري ايديولوجي.

لكنه فوجئ بعد ثلاثة عقود من العمل الإسلامي ومن بعض المواقف التي شهدها في أواخر حياته التي رواها الشيخ النعماني في كتاب (سنوات المحنة وأيام الحصار) أنه كان حسن الظن أكثر مما ينبغي، وعليه أن يركز على هذا الجانب أكثر من غيره فألقى خطبته المدوّية عن حبّ الدنيا فبكى وأبكى الحاضرين من طلبته في مسجد الطوسي قبيل استشهاده (قدس سره).

وقد عبّر هو عن هذا النقص في التربية حين قال (إننا استطعنا أن نربي الناس إلى نصف الطريق) وقد نقلها الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في بعض رسائله لي التي طبعتها بأنه (قدس سره) يقصد أنه ربّى عقول الناس ولم يربِّ قلوبهم ونفوسهم.

ص: 6

النقص في التربية الأخلاقية:

وهذا ما التفت إليه الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) فكان يغتنم الفرص لإلقاء المحاضراتالأخلاقية، ورسائله لي التي جمعتها في كتاب (قناديل العارفين) خطوة كبيرة في هذا المجال وقد استفدنا بفضل الله تبارك وتعالى من هذه التجارب وغيرها وحاولنا بلطف الله تعالى أن نختط المنهج المناسب للظروف التي نعيشها.

كل مشاكلنا بسبب النقص في التربية الأخلاقية:

وما نعانيه اليوم من كوارث ومظالم من الأقربين قبل الأبعدين إنما يعود إلى النقص في تربية النفس وتهذيبها ومخالفة هواها، حتى انه مرّت حوالي ثلاث سنين على سقوط الصنم ولا زال الناس يشعرون بالإحباط من عدم وجود تغيّر ملحوظ في حياتهم بسبب وجود هذا النقص عند الكثير من المتصدّين للحكم وإدارة البلد من دون أن نغمط المحسنين حقّهم التزاما بقوله تعالى (ولا تبخسوا الناس أشياءهم)، فالعمل في هذا الاتجاه –اتجاه تربية النفس وتهذيبها- من الأسس الرصينة للحركة

ص: 7

الإسلامية بالاتجاه الصحيح.

لنستلهم من الشهيدين الصدرين:

كنت قد كتبت كلمة بعنوان (لو كان الشهيد الصدر الأول (قدس سره) بيننا الآن لفعلماذا؟)(1)

وتحدثت عن عدة مشاريع استشرافية مستفادة من معالم هذه المدرسة الرسالية، وهي إحدى الآليات التي تفعّل هذا المنهج من دراسة سيرة العظماء والقادة والمصلحين، فلنكرر السؤال في ذكرى استشهاد السيد الصدر الثاني (قدس سره) لنستلهم منه (قدس سره) المشاريع والأفكار التي تبرمج حياتنا الحاضرة، وأنتم كلكم أكاديميون وربما عاش أكثركم الحركة الإصلاحية للشهيد الصدر (قدس سره) وتأثّر بها، فمساهمتكم في إجابة استبيان بهذا السؤال ستغني هذه الفعالية وتأتي بنتائج مباركة.

ص: 8


1- ستأتي الكلمة فقد أدرجناها في هذا الفصل.

وقد جرّبنا مثل هذه الآلية فحصلنا على جهود رائعة مثلاً كتاب (ثمار الخطابة بين المنبر الحسيني ومنبر الجمعة) والذي كان حصيلة استبيان عن الفرق بين المنبرين والنقلة الكبيرة التي أحدثها منبر الجمعة خلال فترة سنة وخرجنا بثلاثة وعشرين خصيصة لمنبر الجمعة، والكتاب مطبوع ويمكن الرجوع إليه.

مضافاً إلى أن مثل هذه الفعاليات ستنشّط الحركة الإسلامية في الجامعات وتعزز موقفها؛ لأني أسمع عن نشاط العلمانية والدعاة إلى الانحلال في أروقة الجامعات ويغذّيها بعضالأساتذة مع الأسف، وأحد أسباب ذلك خمول الإسلاميين وضعف أدائهم وعجزهم عن تقديم برامج مقنعة للشباب الجامعي، وكلما تراجع العمل الإسلامي نشط الآخر لأن الساحة لا تبقى فارغة فأما أن يملأها الصلاح أو الفساد والعياذ بالله، والمواجهة مفتوحة بين النور والظلام فكلما انسحب النور انتشر الظلام.

وكنت قد ألقيت قبل سنتين في مثل هذه المناسبة كلمة بعنوان (عوامل نجاح الحركة الإصلاحية للشهيد الصدر

ص: 9

الثاني (قدس سره))(1) وهي تندرج في هذا الاتجاه.

وحينما نطالب بالاحتفال الواعي في مثل هذه المناسبات فإننا لا نريد أن ننتقص من أهمية العاطفة واستثارتها فإنها عنصر قوة لا تقل عن قوة الوعي وإذا اجتمعا –كما اجتمعا في قضية الثورة الحسينية- تولد محرّك كبير للأمة وقدرة على صنع المعجزات.

ص: 10


1- ستأتي الكلمة وقد أدرجناها في هذا الفصل، فانتظر.

الشهيدان الصدران واستشراف المستقبل

اشارة

الشهيدان الصدران واستشراف المستقبل(1)

من مميزات القائد استشراف المستقبل:

مما يتميز به القائد عن غيره استشراف المستقبل ومعرفة متطلباته فيستعد له وينجز الأعمال المناسبة له إضافة إلى ما يقتضيه الواقع الحاضر، ولأن هذا المستقبل مجهول عند غيره فإن من حوله سيعترض ويشكك ويتمرد وكان عليه الإذعان والطاعة لقائده مادام قد وثق به واعتقد بجدارته.

خذ لذلك مثلاً الإمام الحسين (عليه السلام) فإنه كُشف له وعَلِم النتائج الباهرة التي ستتحقق بناءاً على حركته المباركة المضمّخة بالدماء الزكية فأقدم (عليه السلام)

ص: 11


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من المواكب والوفود القادمة لزيارته وتعزيته يوم السبت 4 ذ.ق 1430 المصادف 2009/10/24.

مسروراً على الشهادة، ولم يكتف بذلك بل كشف عن بصائر أصحابه بعد أن امتحن إخلاصهم وثباتهم فأراهم منازلهم في الجنة التي تعني على بعض الوجوه الآثار المباركة المترتبة على نصرتهم وثباتهم وتضحيتهم يوم عاشوراء والمستمرة إلى يوم القيامة وهي حسنات تضاف إلى رصيدهم والجنة هي تلك الأعمال الصالحة التي يوفق إليها المؤمن.

ولأن هذه الصورة غير واضحة لغير الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه فقد اعترض عليه كثيرون ومنهم بعض أولاد عمومته ورأوا أن حركته لا جدوى منها إذ ليس من المعقول أن يغيّر نظاماً طاغوتياً تمتد سلطته على بلاد مترامية الأطراف بعشرات من الأصحاب ومثلهم من النساء والأطفال، واعتراضهم هذا ناشئ من اقتصار نظرهم على واقعهم الحاضر من دون استشراف المستقبل ومتطلباته.

القائد هو من يصنع المستقبل بلطف الله تعالى:

وإذا أردنا أن نتقدم خطوة إلى الإمام في هذا التفكير

ص: 12

فنقول أن القائد هو الذي يصنع المستقبل ويحدّد مسار الأحداث ومآل الأمور بلطف اللهتبارك وتعالى من خلال المشروع والبرنامج الذي يسير عليه، وهنا أتذكر أن السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) سألني في اليومين الأولين من الانتفاضة الشعبانية عام 1991 عن موقف المرجعية المعروفة يومئذٍ من الأحداث فقلت يسوده الترقب وانتظار ما ستؤول إليه الأحداث، قال (قدس سره): حبيبي ومن الذي يصنع الأحداث؟!

البصيرة الثاقبة للشهيدين الصدرين:

من هذه المقدمة أريد أن أركّز على نقطة وردت في الخطاب الذي وجّهته إلى صلوات الجمعة الموحدة في أنحاء العراق أمس في ذكرى استشهاد السيد الصدر (قدس سره) وفحواها أن الشهيدين الصدرين (قدس الله روحيهما) أدركا ببصيرتهما

الثاقبة أن هذا العصر وما يليه هو كزمان الإمام الصادق (عليه السلام) من حيث تشكّل المذاهب والمدارس والأيديولوجيات التي ستتصارع لاجتذاب البشرية وإقناعها بها والتأثير عليها

ص: 13

وتوجيهها، والإسلام المحمدي الأصيل الذي نقله لنا أهل البيت (سلام الله عليهم) في وسط هذا التحدي بل هو المستهدف الأول، ولم يعُد كافياً أن نحيلهم إلى الرسالة العملية إذا سألونا عن مختلف قضايا الاقتصاد والاجتماع والسياسة والحكم والعلاقات الإنسانيةوالأخلاق وغيرها وسينفضّ الناس عن هذا الدين الحق إذا شعروا بالعجز عن إجابة الأسئلة وحل الإشكالات، فشعرا بالحاجة إلى بيان المعالم التفصيلية لهذا الدين ومواقفه من كل شؤون الحياة حيث عنون الشهيد الصدر الأول (قدس سره) عنوان أحد كتبه (الإسلام يقود الحياة).

عندما نستوحي من سيرة المعصومين (عليهم السلام):

كما أن مذهب التشيع لأمير المؤمنين (عليه السلام) وأهل البيت (سلام الله عليهم) كان معروفاً منذ عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانت علامته الولاء لعلي وأهل بيت النبي (صلوات الله عليهم أجمعين)

ص: 14

والأخذ عنهم لكن هذا البيان والطرح لم يكن كافياً في عهد الإمام الصادق (عليه السلام) حيث بدأت الحضارات والأيديولوجيات تتلاقح وتتصارع فتصدى الإمام (عليه السلام) إلى بيان حكم كل حالة والموقف من كل قضية وعلى رأسها التوحيد والإمامة والأخلاق والعلاقات الاجتماعية وأحكام الحلال والحرام فكانت عصا موسى التي تلقف ما يأفكون.

وهكذا رأى الشهيدان الصدران (قدس الله روحيهما) أن المدارس تتصارع وقد ألقى أتباع كل مدرسة عصاهم التي يخيّل إليهم من سحرهمأنها تسعى ليسحروا الناس ويجتذبوهم فلا بد لقادة الإسلام أن يلقوا بعصاهم التي تلقف ذلك السحر وتفضحه وتبين معالم الحق وأهله.

وهذا الاستشراف هو الذي دفع السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) إلى أن يبيّن مجموعة من الحقائق ويضع خصائص منهج الحوزة الناطقة مما جهله الآخرون فنصبوا له العداوة والبغضاء وافتروا عليه وخذلوه.

وهو (قدس سره) حينما قال: (لقد حرّرتكم من مخططات ألف عام) لا يريد بذلك الإساءة إلى السلف

ص: 15

الصالح الذين بذلوا جهوداً جبارة في حفظ علوم أهل البيت (سلام الله عليهم) بمقدار ما سمحت به الظروف، ولكنه (قدس سره) أراد أنه وضع للأمة منهجاً جديداً مواكباً لتحديات العصر فيه إضافة للمنهج السابق الذي لا يغني الاقتصار عليه لتحقيق هذه المواكبة فلا يرجعوا إليه.

ص: 16

ماذا سيفعل الشهيد الصدر الأول (قدس سره) لو كان حياً بيننا الآن?

اشارة

ماذا سيفعل الشهيد الصدر الأول (قدس سره) لو كان حياً بيننا الآن? (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أهم مميزات الشهيد الصدر الاول هي الفهم الواعي لأدوار الأئمة (عليهم السلام):

تهتم الاحتفالات المقامة لأحياء العظماء بسبرسيرتهم وتعداد آثارهم ومنجزاتهم وهو عمل جليل وفيه الكثير من الإنصاف لهؤلاء الذين تشكل حياتهم منعطفاً في

ص: 17


1- كلمة أعدّت لإلقائها في الاحتفال الذي يقيمه حزب الدعوة الإسلامية بمناسبة الذكرى الرابعة والعشرين لاستشهاد مؤسس الحركة الإسلامية في العراق السيد محمد باقر الصدر، وأقيم في كربلاء يوم 6/ 4/ 2004 وتحدث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) بمضمون الكلمة ارتجالاً من تلفزيون (العراقية) في بغداد وأعيد بثه عدة مرات.

حياة الأمة، إلا أنه مع ذلك يبقى صورة للماضي وإرشيفاً للتاريخ، فإذا أردنا أن يكون احتفالاً واعياً مثمراً فلابد من محاولة استلهام روح ذلك العظيم وقراءة أفكاره ومشاريعه؛ لنلتمس منها الحلول لمشاكلنا وقضايانا المعاصرة المستقبلية، وبذلك يتحوّل العظيم إلى مصدر للعطاء يرافقنا في كل مستجدات الحياة ويضع أيدينا بدقّة على الموقف المناسب .

هذا ما أراده السيد الشهيد الصدر (قدس سره) من محاضرة (دور الأئمة في الحياة الإسلامية) وهي محاضرة واحدة، إلا أنني إلى الآن قدّمت أكثر من عشرين محاضرة لشرحها وتعميق أفكارها وما زال الحديث مستمراً.

وفي عقيدتي إن أحد مناشئ عظمته (قدس سره) هو فهمه الواعي المستوعب للأدوار المشتركة التي عاشها الأئمة (عليهم السلام) في حياة الأمة، وقدرته على تمييز الحالة التي تناسب هذا التصرف أو ذاك، مما يبدو لأول وهلة أنها مواقف متناقضة إلا أنها في الحقيقة ادوار متبادلة والقائد الناجح من يستطيع ربط كل موقف بحالته

ص: 18

المناسبة، وبتعبير آخر ربط كلحكم بموضوعه الخاص، فإذا انضّم لهذه الدراسة المجموعية لحياة الأئمة فهم وتفسير موضوعي للقرآن الكريم يجمع شتات الموضوع الواحد من آيات متفرقة وينظر إليها نظرة واحدة ويرتب بين مفرداتها ليحصل على نظرة متكاملة إلهية لقضايا الكون والإنسان.

أقول: إذا انضّم هذان المكوّنان لشخصية الإنسان فإنه حتماً سيكون مؤهلاً لقيادة الأمة بحكمة حتى يوصلها إلى الكمال المنشود؛ لذا لم يكن غريباً أن تجد هذين العنصرين واضحين في شخصيات المصلحين العظام كالسيد الخميني والشهيدين الصدر الأول والثاني (قدس الله أسرارهم) .

قراءة واعية في مشاريع الشهيد الصدر الأول:

في ضوء هذه المقدمة نريد أن نقرأ أفكار وآثار ومشاريع السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) لنجيب عن تساؤل مهم يفترض أن يفكر فيه كل عامل مخلص يهمّه الوصول إلى حل للقضية العراقية لإخراج هذا البلد

ص: 19

العريق وشعبه الكريم من أزمته وبناء عراق حر كريم كما وصفه الشهيد (قدس سره) في خطاباته الأخيرة والتساؤل هو أنه لو كان الشهيد الصدر (قدس سره) حياً الآن لفعل ماذا ؟ وهو أبو العراق والعراقيين ومؤسس الحركة الإسلامية فيالعراق وباعث الروح فيها بل تجاوز تأثيره إلى غير العراقيين من المسلمين والى غير المسلمين من البشر فأصبح رمزاً عراقياً وإسلامياً وإنسانياً.

وحينما أسجل الأفكار التالية بالترتيب فإني لا أعني أنه سيسير فيها طولياً كالسلسلة فينتهي من حلقة ليدخل في الأخرى، بل أنه سيعمل لها جميعاً في خطوط متوازية وبعرض واحد، وهي مسؤولية شاقة وعظيمة إلا أنها ليست كثيرة على همة أهل العزم والإخلاص لله تبارك و تعالى وذوي الأهداف السامية الكبيرة حتى قيل (كم من همّة صنعت أمة) وشواهدها التاريخية كثيرة.

وبما أن العراق يواجه تحديات ستراتيجية ومرحلية فأنه (قدس سره) سيفكّر على كلا المستويين وسيقيم مشاريعه في كلا الاتجاهين.

ص: 20

تطوير الحوزة:

فيقوم بتطوير الحوزة العلمية الشريفة لتكون قادرة على تحمل هذه المسؤولية الجديدة، فيتوسع في قبول الطلبة فيها لأن النجف الأشرف ليست مسؤولة عن نفسها فقط ولا عن العراق فحسب، بل عن العالم كله وهذا يحتاج عدداً ضخماً من حملة الرسالة والدعاة إلى الله تعالى، وسيجعل شروطاً لقبولهم بأن يكونوا منالواعين للمسؤولية ولدورهم في حياة الأمة، ويحاول استقطاب حملة الشهادات الأكاديمية لأنهم يكونون أكثر تأثيراً في المجتمع أولاً وذوي ذهنية معمقة ثانياً ومستوعبين لواقع الأمة لأنهم عاشوه بكل تفاصيله ثالثاً، وسيعمل ضمن هذا الإطار على وضع برنامج إداري مركزي ينظم شؤونها يشابه النظام الأكاديمي ليتمكن من استثمار كل طاقاتها وقدراتها ولا يتحقق ذلك إلا بالنظام.

وسيهذِّب مفردات المنهج الدراسي فيحذف الكثير من المطالب التي تعتبر ترفاً فكرياً ولّدته ظروف موضوعية في حينها، ولم يعد لها الآن مبرر، والاستمرار بتدريسها يضيع الكثير من وقت الطالب الذي هو في حاجة إليه

ص: 21

وسيضع مناهج جديدة في بعض العلوم، يلاحظ فيها التدرج الدراسي والتدريب الذهني واللغة المعاصرة مع المحافظة على عمق المطالب، كما فعل في كتابه (دروس في علم الأصول) وجعله بحلقات ثلاث . ويضيف إلى العلوم المتداولة في الحوزة دروساً في الوعي السياسي والاجتماعي والنفسي والاقتصادي وتعليم اللغات الحية ويدخل الوسائل التعليمية وأدوات الاتصال المعرفي المتطورة .

البناء الأخلاقي لطلبة الحوزة:

كما أنه (قدس سره) سيهتم ببناء الجانب الأخلاقي لطلبة العلوم الدينية ويهذب نفوسهم ويسمو بأهدافهم ويعمّق صلتهم بالله تبارك وتعالى ويزهدهم فيما سواه، كما فعل في محاضرته الأخيرة عن حب الدنيا قبل استشهاده (قدس سره) حتى أبكى عيون الحاضرين وارتقى بهم إلى أجواء روحية صافية لازال يعيشها كل من سمعها، فإن العلم وحده غير كافٍ للتكامل وهداية الآخرين إذا لم يقترن بالعمل الصالح قال تعالى [إِلَيْهِ

ص: 22

يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ] (فاطر: 10).

نشر فقه أهل البيت (عليهم السلام):

وسيعمل على نشر الحوزات العلمية في جميع مدن العراق ليخلق واقعاً إسلاميا ً دينياً شاملاً بدلاً من اقتصاره على مدينة النجف الأشرف، ولأنه يعلم أن الحوزات العلمية هي حصون الأمة التي تحفظ لها هويتها وتقودها نحو الهدى وتجنبها الردى.

وسيعمر المساجد بالدعاة والمبلغين الرساليين الذين يحملون همّ الإسلام بين جوانحهم، ويسعون إلى إقناع الناس به حتى يحكّموه في حياتهم، وبذلك تنطلق من المساجد شعلة الإيمان المتدفقة كما كانت في عصر النبوة وصدر الإسلام فما دامت المساجد بخير وتؤدي وظيفتهافإن الأمة تكون بخير.

وسيعطي للمرأة والشباب حيّزاً كبيراً من مشاريعه فينشر المراكز الثقافية والتربوية، ويزودها بالكتب التي تنمي الوعي الإسلامي وتعرف المسلم بهويته وتعلمه تكاليفه،

ص: 23

ويرسم لهذه المراكز نشاطاتها من عقد الندوات والحلقات العلمية للفقه والأخلاق والتفسير والعقائد والسيرة، ويزودها بكل المرغبات التي تجذب إليها أبناء الأمة من الذكور والإناث، ويجعلها عامرة بالفعاليات وحافلة بالخدمات الاجتماعية والإنسانية.

وسيختار للمدن وكلاء من طراز خاص يفهمون رسالته، ويقومون بكل تلك الأدوار ليس للدنيا في حساباتهم نصيب.

وسيضع للأطفال برامج تثقيفية واجتماعية تنشئهم على الإيمان بالله تبارك وتعالى والالتزام بشريعته بالوسائل المحببة إلى نفوسهم.

تمثيل النموذج الحضاري الإسلامي:

وسيمثّل للإسلام والمسلمين نموذجهم الحضاري الأول في هذا الصراع الذي أعلنه الغرب في مواجهته للإسلام بما يسمونه (صراع الحضارات)، وسيعمل في مسارين مزدوجين.

أحدهما التعريف بالإسلام كشريعة وقانون قادر على

ص: 24

قيادة الحياة بكل أنشطتها ويغطي كلشاردة وواردة من فعاليات الإنسان، ويبين معالم هوية المسلمين كأفراد وكأمة وأسس حضارتهم ومبادئهم ومرتكزاتهم.

وثانيهما بيان نقائص الحضارة الغربية على مستوى النظرية والسلوك فيبين نقاط الخلل في الأيديولوجية التي يتبنونها والابتعاد عن الإنسانية في تصرفاتهم التي تهبط إلى مستوى الهمجية الحيوانية أحياناً.

وهو بذلك يفتح باباً واسعاً لحوار الحضارات لأنه ابن القرآن الذي دعا للحوار وللرجوع للثوابت المشتركة [قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] (آل عمران:64)، [لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] (البقرة: 256)، فليست العلاقة بين بني البشر هي الصراع والتزاحم بل التعاون البنّاء، فإن الأرض بخيراتها تسعهم جميعاً ولكل واحدٍ منهم مكان عليها ولن تضيق عن أحد.

ص: 25

من عطاء الشهيد الصدر على المستوى السياسي:

وعلى الصعيد السياسي فسيكون (قدس سره) البوتقة التي تنصهر فيها كل رؤى ومطالب أطياف الشعب العراقي الدينية والعرقية ليصوغها في نسيج موحد يحفظ لهم جميعاًحقوقهم ولا يحيف على أحد لمصلحة أحد، وسيكون أباً للجميع وصمام أمان لوحدة هذا الشعب لثقة العراقيين جميعاً بنزاهته وفكره النيّر وتجرده عن الأنا، وقلبه الكبير الذي وسع حتى أعداءه جلاوزة الأمن الذين كانوا يحاصرون بيته ومنعوا عنه أبسط حقوق الحياة، ومع ذلك فلما أطلّ من شرفته عليهم في يوم حار ورآهم يتصببون عرقاً أمر خادمه الشخصي بسقيهم الماء ، هذه الذات السامية سيجتمع عليها جميع العراقيين ويلتمسون عنده المخرج، وقد جربوا رجاحة عقله وعمق وعيه السياسي في حله للقضية الكردية حينما اجتمع به عدد من طلبة جامعة بغداد من الأكراد في ذروة الأزمة السياسية بينه وبين النظام، فقدم الأطروحة التالية التي رواها أحد أعضاء الوفد قائلاً :

(إن حل القضية الكردية في العراق سهلٌ وبسيط إننا

ص: 26

نؤمن أن تدار المناطق الكردية من قبل الأكراد وبأي تسمية كانت حكم ذاتي أو إدارة ذاتية وبعد إجراء انتخابات بهذا الخصوص لكي يحدد الأكراد أنفسهم طريقة الحكم . ونؤمن أن تكون اللغة الكردية اللغة الرسمية للمناطق الكردية (لغة تدريس وتداول ثقافة) على أن تكون عقيدة الرجال الذين يديرون المناطقالكردية مسلمون حقيقيون عقيدة وسلوكاً وهذا من حقنا حيث أن رؤساء مناطق الحكم الذاتي وجمهوريات الاتحاد السوفيتي هم من نفس عقيدة السلطة المركزية (أي الشيوعيين)).

وسيضع كل هذه الرؤى مع الضمانات الضرورية لتنفيذها في دستور متكامل ينظم عمل السلطات في البلاد والهيئات الدستورية المراقبة لها .

كل هذه وغيره كان يمكن أن يقدمه السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) للأمة، لولا أن مجرم العصر صداماً أقدم على جريمته النكراء بإعدامه وأخته العلوية الطاهرة بنت الهدى، وحرم الأمة من بركات عطائه، لكنه (قدس سره) لم يمت بل سيبقى محركاً للأجيال كي

ص: 27

تواصل مسيرته وتحقق له آماله كي تقر عيناه عسى الله أن يجمعنا وإياه في مستقر رحمته في جوار أجداده الطاهرين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الاقتصار على الاحتفال السياسي في ذكرى الشهيد الصدر (قدس سره) ظلم له

الاقتصار على الاحتفال السياسي في ذكرى الشهيد الصدر (قدس سره) ظلم له(1)

لا تتاجروا بالمرجعية:

لا زلنا في أجواء ذكرى استشهاد المرجع والمفكر والقائد والأسوة ومثال العالم العامل وهو السيد محمد باقر الصدر(قدس سره)، وقد ساءنا الاقتصار في إحياء ذكراه على الاحتفالات السياسية إذا كان التعبير دقيقاً.

وهذا المنحى - أعني اتخاذ الجهات السياسية للمراجع العظام والعلماء الكرام رموزاً للمتاجرة بها والتسلّق إلى مواقع السلطة من خلالها وتأطيرها بهذه الفئوية الضيقة - ظلم لأولئك الأعاظم وتحويل الإخلاص الذي عاشوه

ص: 28


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من الزوار من بينهم وفد عشائر بني زيد في الناصرية يوم الخميس 20/ربيع الثاني/1430 المصادف 2009/4/16.

والهم الإنساني والإسلامي الذي حملوه إلى دنيا زائفة يتصارعون إليها، وربما جرّ صراعهم إلى محاولة تنقيص كل جهة من رمز الجهة الأخرى وغيرها.

حب الدنيا رأس كل خطيئة:

وهذا المعنى التفت إليه السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) وحذر منه في آخر محاضراته عن حب الدنيا، وكان أكثر شيء آلمه وهو في أيامه الأخيرة بحسب ما يروي صاحب كتاب (سنوات المحنة وأيام الحصار) هو عندما عرض مشروع القيادة النائبة التي تخلف قيادة الحركة الإسلامية على بعضالمقرّبين منه فيسأله عن موقعه فيها فإن كان رأساً لها فهو وإلا فلا.

هذه الدنيا التي حذر من الوقوع في شراكها أغوت الكثيرين ووظّفوا كل شيء لها حتى ذكرى السيد الشهيد الصدر (قدس سره) فلم تشهد اهتماماً يُذكر بإبراز العظمة والإبداع في آثاره العلمية أو الفكرية أو الاجتماعية أو الأخلاقية ، أو الجهادية وغيرها، مع أننا مطالبون بإحياء هذه الجوانب لتتأسى بهم الأمة فتهتدي بهداهم وتسير على دربهم.

ص: 29

لماذا نحتفي بالعلماء؟

لا شك أن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) هم الأسوة الأعلى لأنهم الأكمل لكن هذا لا يغني عن دراسة سير العلماء الأعلام والمراجع العظام والشهداء الكرام وإحياء ذكراهم وإبراز مكامن القوة فيهم لأمور:

1- الوفاء لهم بإدامة ذكرهم بالخير والدعاء لهم والترحم عليهم (والذكر للإنسان عمرٌ ثاني).

2- لأنهم مظهر لصفات الكمال عند المعصومين (عليهم السلام) فإذا كان الشهيد الصدر(قدس سره) وهو أحد أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وممن نهل من علومهم بهذه الدرجةالرفيعة من العلم والأخلاق الكريمة والجهاد والتضحية فما هي درجة هذه الصفات عند الأئمة (سلام الله عليهم)؟.

3- إن حياتهم وآثارهم وسيرتهم تمثل قراءة وتجسيداً عملياً لسيرة المعصومين(عليهم السلام) إذ إن أغلب

ص: 30

الناس إلا من ندر يحتاجون إلى من يقرأ لهم سيرة المعصومين ويقدّمها لهم ولا يستطيعون فهمها مباشرة أو استيعابها فضلاً عن الإحاطة بها، فيكون دور العلماء تقريب تلك الصورة إلى الأجيال من الناس فمثلاً هناك إشكال يتردد بأنه لماذا صالح الإمام الحسن(عليه السلام) معاوية ويرفع الإمام الحسين (عليه السلام) السيف في وجه يزيد فيقدّم لنا السيد الشهيد الصدر (قدس سره) قراءة لذلك الواقع ويشرحه بأنه (تنوع أدوار ووحدة هدف) والهدف دائماً هو الإصلاح [إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ] (هود:88) وهو ما عبّر عنه الإمام الحسين(عليه السلام) بقوله: (إِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الاْصِلاحِ في أُمَّةِ جَدّي ( صلى الله عليه وآله ))(1).

ولذا فنحن بحاجة دائماً إلى فكر العلماء وعلمهم والاختلاط بهم واستجلاء سيرتهم ليعكسوا لنا من خلالها سيرة وعلم الأئمة (عليهم السلام)وعلى هذا نجد أن قدر هؤلاء العلماء يزداد بمقدار أخذهم من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وتجسيدهم لسيرتهم

ص: 31


1- بحار الأنوار: ج44 ص329.

نعرف الله تعالى من خلال المعصومين (عليهم السلام):

وفي الحقيقة فإن الأكمل في هذا أن ننتقل من صور المعصومين (عليهم السلام) وصفاتهم إلى الصفات الإلهية فإنهم مظهر لها بحسب ما يناسب إدراكاتنا المحدودة، فإن المثل الأعلى الذي يجب أن يتّخذ هو الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى [وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] (النحل:60).

فكان المعصومون (سلام الله عليهم) مظهرين لتلك الصفات الحسنى على أرض الواقع ليتعرف الناس على صور بمقدار ما من الصفات الإلهية الحسنى فحينما تطّلع على رحمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وعفوه وصفحه وكرم أخلاقه وهو يعفو عن قاتليه ويدعو لأعدائه بالمغفرة والهداية فإنك تأخذ فكرة مبسطة عن صفات الله تبارك وتعالى.

ص: 32

وهكذا أمرنا أن نأخذ من صفات الله تبارك وتعالى ونتخلّق بأخلاقه، فإن قيمة الإنسان تزدادبمقدار ما يتصف به من أخلاق الله، وهو وجه شرحنا به الحديث الشريف (قيمة كل امرئ ما يحسنه).

فمثلاً من صفات الله تبارك وتعالى (سريع الرضا) وهكذا يجب أن نكون في علاقاتنا مع الآخرين، لا ندع الغضب يتملّكنا ويسيطر علينا إذا أساء لنا الآخرون وإنما سرعان ما يتبدد ويتلاشى.

لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ:

ومن صفات الله تبارك وتعالى أنه [لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ] (الأنفال:51) فلنجتنب الظلم بكل أشكاله ابتداءً من ظلم النفس بالمعاصي وعدم إتباع الحق والتقصير في الواجبات، إلى الظلم داخل البيت للزوجة والأطفال وسائر أفراد العائلة، إلى ظلم الآخرين خلال التعاطي معهم وعلى رأسه ظلم المسؤولين والموجودين في السلطة للناس وعدم الإخلاص والتفاني في خدمتهم وانشغالهم بمصالحهم الشخصية والفئوية.

ص: 33

والظلم بكل هذه الأشكال ضارب بأطنابه عند كل الناس وإذا كان بعض الظلم مما يغفر ويعالج بالتوبة والندم وعقد العزم على عدم العود وتدارك ما فات كظلم الإنسان نفسه بالمعصية وظلمه لربه بالشرك والكفر [إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] (لقمان:13)، فإن بعضه ممالا يغفر وهو ظلم الآخرين وعدم تأدية حقوقهم والقيام بالواجبات تجاههم إلا بمعالجة كل هذه التقصيرات وتداركها وإلا فإن الحساب قاسٍ يوم القيامة ففي الحديث عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال (الظلم ثلاثة: ظلم يغفره عز وجل، وظلم لا يغفره، وظلم لا يدعه، فأما الظلم الذي لا يغفره فالشرك بالله عز وجل، وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم الرجل نفسه بينه وبين الله عز وجل، وأما الظلم الذي لا يدعه فالمداينة بين العباد)(1).

وما دمت بخدمة أبناء العشائر اليوم فلا بد أن أشير إلى المظالم المؤلمة في الأعراف والقوانين التي تحكم علاقاتهم خصوصاً ما يتعلق بالمرأة مع أن الحديث الشريف يقول

ص: 34


1- الكافي: ج2 ص331.

(ما أكرمهن إلا كريم ، وما أهانهن إلا لئيم)(1) فهي تعاني من قسوة التعامل داخل البيت وتحميلها ما لا تطيق، ومن أشكال الظلم (النهوة) التي تحرم المرأة من حق مقدس في الحياة وهو اقترانها بالرجل المناسب لها لمجرد أن أحد أعمامها نهى عن ذلك لا لشيء سوى الرغبة في الانتقام والإيذاء وهي من الشيطان.وبعض العشائر من السادة تحرم بناتها من نفس الحق للمنع من تزويج غير السادة العلويين مما يؤدي إلى إعضال المرأة وتركها كشيء لا قيمة له في البيت في الوقت الذي يعطي الرجل (السيد) لنفسه الحق في التزويج بمن يشاء من النساء.

ص: 35


1- كنز العمال: ج16 ص371.

فقدان العلماء يدعونا إلى التخطيط الجدي لإعداد البدائل

اشارة

فقدان العلماء يدعونا إلى التخطيط الجدي لإعداد البدائل(1)

صناعة العالم:

اعتاد المحتفلون برحيل أحد العلماء أن يستشهدوا بالحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) انه قال: (إذا مات العالم ثلم الإسلام ثلمةً لا يسُّدها شيء الى يوم القيامة)(2)

وهو تعبير صادق عن عظم المصاب ونكبة الأمة بفقدان علمائها، ولكن بعض الأحاديث الشريفة لم تقف عند هذا الحد و إنما بيّنت للأمة كيفية

ص: 36


1- تقرير بتصرف لحديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد مدينة الصويرة الذي زار سماحته يوم 7/ ذ.ق/1427معزياً بالذكرى الثامنة لاستشهاد السيد الصدر الثاني (قدس سره) ووفاة المرجع الديني في مدينة قم المقدسة الميرزا جواد التبريزي (قدس سره) الذي وافاه الأجل يوم 28/شوال/1427 المصادف2006/11/20 عن عمرٍ ناهز (83) عاماً، ومن حديث سماحته مع عدد من أعضاء أمانة حزب الفضيلة الإسلامي في محافظة بابل يوم 8/ ذ.ق/1427
2- المحاسن: ج1 ص364.

سد هذه الثلمة بقوله (إلا خلف مثله)(1)

ليعلّم الأمة أن عليها عدم الاكتفاء بالانفعالات العاطفية للتعبير عن شعورها إزاء هذه الخسارة وإنما عليها أن تعَّد وتهيئ البديل عن ذلك العالم الراحل ليقوم مقامه ويواصل مسيرته في تربية الأمة وقيادتها بحكمة نحو الكمال.

لا نبدأ بتهيئة العالم من وفاة العالم الذي قبله:

ولا يبدأ هذا الإعداد والتهيئة من حين وفاة العالم لان هذا الإعداد يتطلب ما لا يقلّ عن ثلاثين عاماً إلا لبعض الأفذاذ الذين توفرت لهم ظروف خاصة و قابليات نادرة ، ولا تستغرب من هذه المدة فإن درجة الاجتهاد الذي هو أحدشروط المرجعية وقيادة الأمة، وصفة العدالة التي تعني أعلى درجات السيطرة على أهواء النفس ونزغاتها والانضباط بتعاليم الشريعة حتى على مستوى المستحبات والمكروهات، وصفة الوعي والنضج والبصيرة بشؤون الأمة وتفاصيل الحياة وتجارب القادة وغيرها من الصفات والشروط مما يعُسُر إدراكه إلا بلطف

ص: 37


1- الخصال: ص504.

الله تعالى وجهد طويل. ويمكن تقريبها على مهنة الطب فإن الطبيب يدرس ست سنوات في كلية الطب غير دراسته الابتدائية والإعدادية ثم يقيم سنة في المستشفيات و أخرى في القرى والأرياف ثم يعود إلى المستشفيات كمقيم أقدم ويمارس لوناً من ألوان الاختصاص مدة ثم يدرس عدة سنوات لنيل شهادة البورد في ذلك الاختصاص ويدرس ما بعد الاختصاص ومع ذلك فانه لا يشار إليه ضمن الرموز الطبية المرموقة حتى يمارس اختصاصه عدة سنوات ويثبت كفاءة ومهنية عالية ونزاهة وإخلاص ليكون في مصاف المرجعيات الطبية، وقد تستغرق هذه الرحلة أكثر من ثلاثين عاماً منذ بداية التحصيل ، هذا وهو يتعلق بطب الأبدان الذي مهما كان دقيقاً فانه يبقى محدوداً في تفاصيله ومساحة تأثيره فكيف بطب الأرواح ورعاية شؤون الأمة وقيادتها إلى الكمالوالسعادة في الدارين.

على الحوزات أن تخطط لمستقبلها:

لذا فإن على الحوزات العلمية الشريفة أن تخطط

ص: 38

باستمرار لمستقبلها وتحسب كل الاحتمالات فإن عدد المجتهدين اليوم الذي لا يتجاوز عدد الأصابع إنما هو حصيلة ألاف من طلبة العلوم الدينية كانوا قبل أربعين عاما في النجف الأشرف فكم سيكون لدينا يا ترى من المجتهدين بعد عشرة أو عشرين عاماً مع هذا الوضع البائس الذي تعيشه الحوزة العلمية اليوم؟ هذه هي المسؤولية التي يجب أن نستشعرها ونتحملها باستمرار ويزداد الالتفات إليها والشعور بمرارتها في مثل هذه المناسبات حينما نجتمع لنتبادل التعازي بمناسبة رحيل العلماء العظماء.

وعي القيادة الرشيدة لزمانها:

حينما استشهد أستاذنا السيد محمد الصدر (قدس سره) في 3/ذ.ق/1419 المصادف 1999/2/19 عشت ومعي كل المحبين والموالين عواطف جياشة أشرت إليها إجمالا في كتابي (الشهيد الصدر الثاني كما أعرفه)، ولكن ذلك لم يكن عائقاً عن التفكير في آليات العمل لما بعد ذلك الحادث الأليم حيث إن كثيرامن القنوات التي

ص: 39

تحرك بها السيد الشهيد (قدس سره) وعلى رأسها صلاة الجمعة أصبحت متعذرة فقد ابلغنا جلاوزة النظام ونحن في مجلس العزاء بمنع إقامة صلاة الجمعة في الكوفة، وقد كان بعض الأخوة معنا في المكتب رغبوا إليَّ في إقامتها باعتباره (قدس سره) قد اختارنا لإمامة الصلاة في مسجد الكوفة في حياته ويكون هو (قدس سره) أحد المأمومين فيكون من الأولى إمامتها بعد استشهاده ، لكننا لم نجعل العواطف والانفعالات هي مصدر القرار و أمامنا تجربة الإمام السجاد (عليه السلام) حينما خطب في الكوفة بعد استشهاد أبيه الحسين (عليه السلام) ووبّخهم وعّرفهم بعاقبة فعلتهم الشنيعة فعرضوا عليه النصرة والثورة على ابن زياد ولكنه (عليه السلام) كان له دور طويل يؤديه خلال (34) عاما ورسالة عظيمة يؤديها للأمة لا تبتني على ردود الأفعال العاطفية.

وقد عشتُ مثل هذا الضغط الجماهيري الذي كان يطالبنا بالسير بنفس آليات السيد الشهيد (قدس سره) في تلك الأيام، إضافة إلى ضغط الطغاة والقتلة المجرمين الذين كانت سيوفهم تقطر دماً وتراقب الحركات و السكنات

ص: 40

وتتحسب لكل خطوة وحركة.إضافة إلى ضغط التقاليد والمعايير الحوزوية التي عانى منها السيد الشهيد الصدر (قدس سره) منها قبلي وحاصرته ومنعت جزءاً من عطائه.

ورغم كل ذلك فقد وضعت برنامجاً لعملي في تلك الأيام العصيبة على شكل نقاط ورؤوس أقلام تصل إلى العشرة ثم بعد أشهر وضعتُ تفصيلات هذه النقاط(1)

وسرتٌ عليها بمقدار ما يسّره الله تبارك وتعالى بلطفه وكرمه وحسن توفيقه وتفاجأ العالم كله بعد السقوط بسعة و قوة الحركة الإسلامية المباركة في العراق وما كان لذلك أن يتحقق ويستمر لولا رعاية الله تبارك وتعالى وتوفيقه لثلّة من عباده الصالحين العاملين المخلصين.

ص: 41


1- طُبعت بعد سقوط النظام بكراس عنوانه (المعالم المستقبلية للحوزة العلمية) ويمكن ملاحظة تأريخ كتابتهِا في نهايتهِ وهو لا يتضمن طبعاً مشاريع ما بعد سقوط النظام.

السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وتصحيح المفاهيم

اشارة

السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وتصحيح المفاهيم(1)

تصحيح المفاهيم:

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين..

السلام عليكم أيّها الحفل الكريم ورحمة الله وبركاته..

كثيرة هي المسؤوليات التي اضطلع بها السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) انطلاقاً من استشعاره لعظمة موقع نيابة المعصوم (علیه السلام) وسعة ما انيط به من أدوار في حياة الأمة.

ص: 42


1- الكلمة التي ألقاها سماحة الشيخ (دام ظله) على الفضلاء والأساتذة في درس البحث الخارج يوم الأحد 3/ذ.ق/1432 المصادف 2011/10/2 وألقيت بالنيابة عنه في الحفل التأبيني الحاشد الذي أقيم في اليوم السابق على قاعة المسرح الوطني ببغداد.

ونشير اليوم بمناسبة الذكرى الثالثة عشرة لشهادته إلى أحد تلك الأدوار وهو تصحيح بعض المفاهيم التي تؤثر في حركة الأمة، وذلك لأن كثيراً من الأعمال والسلوكيات يقوم بها أصحابها نتيجة لقناعة بنيت على فهم خاطئ لفكرة معينة، وقد تصل إلى حد ارتكاب الجرائمالشنيعة، ولو صحح المفهوم في أذهانهم لغيّروا طريقة حياتهم.

ومن أمثلتها اليوم ما تتعرض له البلاد من تخريب ودمار وقتل للأبرياء تحت عنوان المقاومة الذي هو بنفسه عنوان برّاق ومثير للحماس لكنهُ جُعِل غطاءاً لمثل تلك الجرائم، وغرّر بالكثيرين من البسطاء والجهلة والمخدوعين فانخرطوا فيه، وعنوان المقاومة بريء من هذه الأفعال المنكرة.

التصحيح مسؤولية العلماء والمفكرين:

فيكون حينئذٍ جزء كبير من الحل مبنياً على تصحيح هذه المفاهيم وإزالة الخلط والغموض، لما سُئل أمير المؤمنين

ص: 43

(علیه السلام) عن قتال الخوارج مع من بعده، قال (علیه السلام): (لا تقاتلوا الخوارج بعدي فإن من طلب الحق فأخطأه ليس كمن طلب الباطل فأدركه).

يقصد بالأول الخوارج وبالثاني من قاتلوه في صفين أي أن الخوارج ممن اختلطت عليهم الأوراق فظنوا أن ما يفعلوه حقاً فلا يجوز قتالهم إلا مع إمام الحق، أما البغاة عليه في صفين فيعرفون بطلان ما هم عليه، ويُنسبللسيد الخميني (قدس سره) قوله: (إن بعض ما يسميه الشباب استشهاداً هو انتحار).

فمن مسؤولية القادة والعلماء والمفكرين وصنّاع الرأي وثقافة الأمة أن يتصدوا لبيان المعاني الصحيحة للمصطلحات وإزالة الغبار عنها، وهذا ما قام به السيد الشهيد (قدس سره) واذكر بعض الموارد لذلك.

مفهوم الانتظار في فكر الشهيد الصدر الثاني:

1- مفهوم الانتظار الذي اقترن في أذهان الأجيال بالسلبية والانكماش والتخلي عن

ص: 44

ممارسة وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو في الحقيقة عكس ذلك إذ يتضمن معناه في بعده العملي السعي الجاد للإصلاح والتغيير والتمهيد لإقامة دولة العدل الإلهي، قال (قدس سره) (هذا الانتظار الكبير ليس إلاّ انتظار اليوم الموعود باعتبار ما يستتبعه من الشعور بالمسؤولية والنجاح في التمحيص الإلهي والمشاركة في إيجاد شرط الظهور في نهاية المطاف) وقال (قدس سره) (ونستطيع بكل وضوح أن نعرف أنه لماذا أصبح هذا الانتظار أساساً من أسس الدين، لأنّه مشاركة في الغرض الأساسي لإيجاد البشرية، ذلك الغرض الذي شارك فيه ركب الأنبياء والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً).(1)

الاجتهاد في فكر الشهيد الصدر الثاني:

ص: 45


1- تاريخ الغيبة الكبرى: 363.

2- (الاجتهاد) فإنه يعرّف مشهورياً بملكة استنباط الحكم الشرعي من مداركه الأصلية، وهو بهذا المقدار وإن كان كافياً لتحقيق إبراء الذمة أمام الله تبارك وتعالى في مقام العمل، إلاّ انه لا يثري مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) ولا يعمّق هذا العلم الشريف ولا يستطيع تقديم الإسلام كمشروع حضاري قادر على قيادة الحياة بكل شؤونها وتفاصيلها ومواجهة المشاريع والنظم الأرضية، ما لم ينضم إليه الإبداع والأصالة، لذا سمعتُه (قد سره) يعرّف الاجتهاد (بالنابعية) أي القدرة الذاتية على التأصيل والتقنين، وليس الالتقاطية من1- آراء الأساطين وأفكارهم وانتقاء ما يطمئن إليه.

روى أحد المراجع المعاصرين (قدس سره) عن المحقق النائيني (قدس سره) أنّه سأل تلامذته يوماً عن الذي يحفظ كيان الحوزة العلمية، فأجابوا بأنّه الاجتهاد لكنه (قدس سره) صحّح لهم وأجاب بأنّه التحقيق، وتعرف من لحن

ص: 46

كلامه (قدس سره) أنّه لم يكن يخاف من خلّو الساحة من المجتهدين، ولكنه يخشى عدم وجود محققين مبدعين فيهم، لأنّه (قدس سره) يدرك أكثر من غيره ان الذي يديم الحركة العلمية ويعمّقها هو التحقيق والإبداع والنابعية على تعبير السيد الصدر (قدس سره).

وهذا المعنى تبنّاه من قَبلُ السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) فيُنقل عن أحد تلامذته المبرّزين أنّه استجازه في الاجتهاد فوعده بأنّه سيحصل على الملكة بعد خمس سنوات من حضور البحث، وبعد انقضائها طلب السيد التلميذ تلك الشهادة، فقال (قدس سره) له إن هذه المدة كانت بلحاظ ملكة الاجتهاد على المستوى المتعارف، أمّاالاجتهاد بمستوى مدرسة الشهيد نفسه فإنّه يحتاج إلى مدة عشرين عاماً.

ص: 47

الجهاد والرسالية في فكر الشهيد الصدر:

3- الجهاد الذي يتبادر منه مواجهة الطواغيت والسعي لتغيير نظام الحكم والانخراط في العمل الاجتماعي ونشر الوعي الإسلامي، ولا شك أن هذه أعمال مباركة ثقيلة الميزان عند الله تبارك وتعالى لكن بشرط أن تبنى على الإخلاص لله تبارك وتعالى، ولا يحصل ذلك إلاّ بعد جهد وجهاد طويلين في ميدان تهذيب النفس وتطهير القلب والسير في مدارج الكمال، أمّا الانهماك في العمل الاجتماعي من دون النجاح في جهاد النفس فإنّه يجعل صاحبه من الأخسرين أعمالاً (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)الكهف104.

لا تكتفوا بالجهاد الأصغر:

ص: 48

وقد أولى (قدس سره) هذا المعنى اهتماماً كبيراً وتذكيراً مستمراً وكان يرثيلحال الغافلين عنه، وهو معنى مأخوذ من وصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) لسريّة من المقاتلين بالالتفات إلى الجهاد الأكبر - وهو جهاد النفس - وعدم الاقتصار على الجهاد الأصغر.

تربية النفس نقطة الانطلاق لإصلاح الآخرين:

ومن كلماته (قدس سره) في هذا المجال (وبحسب فهمي وتجاربي من الاتجاه الإسلامي الاجتماعي هو اهتمامه بمصالح المجتمع أكثر من اهتمامه بمصالح الفرد أو قل: اهتمامه بتربية الآخرين أكثر من اهتمامه بتربية النفس مع العلم أن النفس التي لم تصل في التربية إلى درجة معينة فإنها لا تكون صالحة لتربية الآخرين بالمرة أو في حدود تربية ناقصة وفاسدة، ولن يكون التلميذ أحسن من أستاذه ما لم تدركه رحمة الله عز وجل أو حسن التوفيق، وهذا حسب فهمي من الأخطاء أو النقصان

ص: 49

الذي عاناه ولا زال يعانيه الاتجاه الاجتماعي الإسلامي، الأمر الذي يجعل أفراده أقل صبراً وأضعف تحملاً من تحمل ما سيواجهون من مصاعب وبلاء في طريقهم الطويل.وهناك نتيجة أخرى مهمة في هذا الصدد نفسه وهو أن الهدف الأعلى للاتجاه الاجتماعي الإسلامي دنيوي بطبيعته، وهو الذي يجعله الناس مشجعاً ومرغباً للآخرين في تحمل المصاعب والصبر على الشدائد، وانك ستنال شهرة ومنصباً وقوة وكذا وكذا.. وسوف لن ينال الآخرون من خيراتنا ومن أنفسنا ومن التحكم فينا، ومع احترامي الشديد لهذه الأهداف، إلاّ أنها بطبيعتها دنيوية)(1).

الضعف أمام الدنيا:

ص: 50


1- من بحث بعنوان (في تربية الدين للنفس والمجتمع) نشرته في كتاب (الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه) ص297.

وقال مستشهداً بكلام للسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) منبهاً إلى النقص في التربية (وأريد أن أقول كلاماً أكثر صراحة، وهو ان التجارب السابقة مع المتدينين والواعين فيها وجدنا الأغلب منهم يتهاوون ويضعفون أمام الدنيا بمختلف الأسباب : أما المال أو الخوف في المجتمع أو التعذيب داخل السجون، وأكاد أقول : انه حتى كثير ممن قتل منهم إنما تم قتله بعد اخذ الاعتراف الكاذب منه ثم إدانته المحكمةباعتبار اعترافه، ولم يكن صامداً على طول الخط !!

مراجعات الشهيد الصدر تجاه الفاعلين في الحركة الإسلامية:

(ولذا صدر من سيدنا الأستاذ –يعني الشهيد الصدر الأول (قدس سره)- : أننا استطعنا ان نربي الآخرين إلى نصف الطريق ولم يقل إلى نهايته لأنه لو كان الأمر كذلك، لما حصلت أي شيء من تلك النتائج).

ص: 51

ولو كان أولئك المتدينون قد أصلحوا أنفسهم قبل إصلاح الآخرين، ومارسوا المقدمات المنتجة لصفاء النفس ونور القلب وعمق الإخلاص وقوة الإرادة وعفة الضمير، لما عانوا ما عانوا بل ولعلهم لم يحتاجوا في الحكمة الإلهية إلى كل هذا البلاء الذي وقع عليهم، وإنما كانوا مع شديد الأسف مصداقاً لقوله تعالى (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد/38) ولم يكونوا مصداقاً لقوله تعالى (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)، وليس ذلك إلا لأن الأفراد التامينالجهات الكاملين الأوصاف الجامعين للشرائط عددهم قليل، وأقل من الحاجة بكثير).(1)

المرجعية الرشيدة حملت مسؤولية التصحيح:

ص: 52


1- الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه: 302.

هذه أمثلة وشواهد على قيام السيد الشهيد الصدر (قدس سره) بهذا الجزء من المسؤولية الملقاة على المراجع القادة.

ولقد سرنا على هذا النهج إذ أن الحاجة إلى هذا التصحيح أوسع اليوم وأخطر وأعقد حيث تحوّل الاختلاف في المفاهيم والمعاني إلى خلاف وتطور الخلاف إلى صراع وقتال يدفع ثمنه الأبرياء والشعب المستضعف المغلوب على أمره، فحرّرت في خطاباتي معاني لجملة من المصطلحات محل الخلاف والجدل كالطائفية والفدرالية والعلمانية والشراكة في الحكم وحقوق المرأة وحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية وولاية الفقيه وغيرها مما هو مبثوث في المجلدات العديدة من كتاب (خطاب المرحلة).

أسأل الله تعالى أن ينوّر بصائرنا فيرينا الحق حقاً ويرزقنا إتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنااجتنابه، وأن يرفع درجة الشهيدين الصدرين وكل شهداء الإسلام وينعم على هذا الشعب بالسعادة والازدهار.

ص: 53

والحمد لله رب العالمين وصلّى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

ص: 54

عوامل نجاح الحركة الإصلاحية المباركةللسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره)

اشارة

عوامل نجاح الحركة الإصلاحية المباركةللسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.

لقد كان سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) قائداً ناجحاً على أكثر من صعيد فقد استطاع بفضل الله تبارك وتعالى إيصال صوت الهداية والإيمان إلى أقصى مكان، وقلل من الانحراف والجريمة بدرجة كبيرة خصوصاً في مناطق وسط وجنوب العراق التي أقيمت فيها صلاة الجمعة، وأعاد للحركة الإسلامية نشاطها وحيويتها بعد أن جمدت روحها في الثمانينيات بعد استشهاد السيد الصدر الأول، وهز أركان النظام الطاغوتي وأسياده، وأدخل عليهم الرعب، وشد الجماهير إليه، ودخل قلوبها إلى حد العشق والفناء.

ص: 55


1- كلمة ألقاها سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في الحفل التأبيني الذي أقامه منتسبو مستشفى الصدر التعليمي في النجف الأشرف يوم الأربعاء 7 ذ ق 1424 المصادف 2003/12/31.

عوامل نجاح الشهيد الصدر الثاني:

فما السر في ذلك وما هي العوامل التي ساهمت في تحقيق هذا النجاح؟عند تحليل شخصية السيد الصدر (قدس سره) وملاحظة الظروف المحيطة به نستطيع تحصيل عدة عوامل استعرضها باختصار لضيق الوقت، وهي في الحقيقة أسس نجاح كل قائد يريد أن يتصدى لإصلاح الأمة.

تهذيب النفس والسيطرة عليها:

1. تهذيبه لنفسه وسيطرته على غرائزها، وانتصاره على ذاته بحيث أصبح هو يملك زمام نفسه، وليست هي التي تملكه وكان معروفاً بنكران الذات، وطالما كان يكرر أنه يدوس ذاته بقدميه، ونجح بدرجة كبيرة في الجهاد الأكبر مما سهل عليه النجاح في ساحة العمل الاجتماعي وهو الجهاد الأصغر، ومن كلماته (قدس سره): إن النجاح في الجهاد الأصغر لا قيمة له إذا لم يقترن بالانتصار في الجهاد الأكبر، وهو معنى قرآني ذكرته كثيراً في كلماتي، وفي الحقيقة فإن أي شخص يراد تأهيله لتحمل المسؤولية

ص: 56

لا بد له من المرور بهذه المرحلة حتى يصل إلى درجة الإمساك بزمام نفسه، وقد خاض (قدس سره) هذه التجربة العملية على يد أكثر من شخص، وذكر لي في رسائله التي قاربت المائتي صفحة(1) نكتاً منهذه التربية.

وكان يحب الموعظة لأن فيها إحياءً للقلوب كما أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) ولده الحسن (عليه السلام): (يا بني أحيِ قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة)(2)

فكان يحث على مطالعة كتب الموعظة كإرشاد القلوب ومجموعة ورام وعموم جوامع الأحاديث الشريفة كتحف العقول والخصال، ولقد كانت هذه سيرته منذ نهاية السبعينيات، وحدثني انه كان ملازما لأستاذه وابن عمه الشهيد الصدر الأول الذي كان يحترم هذا المسلك ويدافع عنه، بل التزمه في أيامه الأخيرة كما هو واضح من محاضرته الأخيرة عن حب الدنيا ضمن محاضرات السنن التأريخية في القرآن الكريم، وكان (قدس سره) يود أن يأخذ من كل شيء عظة وعبرة تأسياً برسول الله

ص: 57


1- نشرت في كتاب (قناديل العارفين).
2- نهج البلاغة: الكتاب: 31.

(صلى الله عليه وآله وسلم) فمثلاً: حيث يدخل إلى الحمام ويرى الماء الحار يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): (نعم البيت الحمام يذهب الدرن ويذكر النار)(1)، وقد فصلنا شيئاً من الكلام في محاضرات (الأسوة الحسنة).

الارتباط بالله تعالى:

2.ارتباطه بالله تعالى وإدامه ذكره وجعله الهدف الوحيد الذي يسعى من أجله، وقد انتقد في أحدى خطب الجمعة ما يفعله أئمتها من الاكتفاء بسطر واحد أو أقل من الحمد والثناء على الله تبارك وتعالى ثم الخوض في موضوع الخطبة، أما هو (قدس سره) فكان ينقل مقطعاً من دعاء أو آيات قرآنية أو خطبة لأحد الأئمة (عليهم السلام) تعمق الصلة بالله تعالى وتعرف بصفاته الحسنى، وتبين حاجتنا وفقرنا إليه تبارك وتعالى، وكان مراقباً لله سبحانه، ومراعياً له في السر والعلن.

ومما أدبني به ما رواه عن أحد العلماء: أنه دخل عليه

ص: 58


1- شعب الإيمان للبيهقي: ج6 ص160.

شخص فرآه بزيه الكامل وهو جالس وحده في البيت فسأله عن ذلك، قال: لأني بحضرة الله تبارك وتعالى، وكان آخر لا يمدد رجليه حتى لو كان وحده لنفس السبب، ومما حكاه (قدس سره) لي عن سيرته: أنه مرة صلى ركعتين استغفاراً لأنه قال لشخص التقى به وكان غائباً عنه مدة: مشتاقين، وهي كلمة متعارفة، ويمكن أن تبرر إلا أنه خشي أن يكون كاذباً بهذه الدعوى.

وهذا – أعني العمل لله تبارك وتعالى – إحدى مميزات حركته عن قادة وعلماء آخرين عاشوا للإسلام، وأشربت قلوبهم حب الإسلام وهوعمل عظيم إلا أنه ليس كمن يعيش لله تبارك وتعالى، وبينهما فرق أوضحته في محاضرة سابقة، وهذا التعلق بالله تبارك وتعالى والإخلاص له ومحبته تجعل الشخص يفيض نوراً على الآخرين، ويلقي الله محبته وهيبته وتأثيره في قلوب الناس، وفي الرواية عن عن علي (عليه السلام) انه قال: (من أراد عزاً بلا عشيرة، وهيبة من غير سلطان، وغنى من غير مال، وطاعة من غير بذل، فليتحول من

ص: 59

ذل معصية الله إلى عز طاعته، فإنه يجد ذلك كله)(1)، وفي الحديث القدسي: (ما تقرب إلى عبدي بمثل أداء فرائضي وإنه ليتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت رجله التي يمشي بها ويده التي يبطش بها ولسانه الذي ينطق به وقلبه الذي يعقل به إن سألني أعطيته وإن دعاني أجبته)(2) فيكون دليلاً للخلق إلى الله تعالى.

معايشته للقرآن الكريم:

3. معايشته مع القرآن وتفاعله مع مضامينه، ففي وقت مبكر من حياته كان له دفتر يسجل فيه ما ينقدح في ذهنه من نفخات أثناء تلاوتهللقرآن، ويثبت فيه الآيات التي توحي له بخلق قرآني أو موقف إزاء حال معينة أو سلوك عليه أن يطبقه، وفي مرحلة أخرى أخبرني أن له نسخة من المصحف ثبت على هوامش صفحاته القراءات المتعددة للكلمات القرآنية، وقال (قدس سره): إنه كان يستفيد من هذه القراءات معاني لا توحيها الكلمات المرسومة، وأحياناً تحل له معضلة فقهية لا ينسجم حلها

ص: 60


1- امالي الطوسي: ص524.
2- كنز العمال: ج1 ص230.

مع القراءة الموجودة لكنها تنسجم تماماً مع قراءات أخرى، وختم حياته (قدس سره) وهو يلقي محاضرات (منة المنان في الدفاع عن القرآن)، ويمكن مراجعة كتاب (شكوى القرآن) لتطلع على بركات الحياة في ظل القرآن ودوره في صنع القادة والمصلحين.

دراسة سيرة الأئمة (عليهم السلام) بدقة:

4. دراسة سيرة الأئمة (عليهم السلام) بدقة وعمق وشمولية لمعرفة أدوارهم التي أدوها والمسؤوليات التي قاموا بها، وكيف كانوا يتخذون المواقف المناسبة اتجاه مختلف القضايا، ومن حكمة الله تعالى وعظيم مننه على الأمة جعل أدوارهم تجربة للأمة وظروفهم مختلفة ومدة إمامتهم طويلة (مائتين وخمسين عاماً) لتنضج تجربة الأمة وتحصل على كل ما تريده من سيرتهم المباركة، فعرف (قدس سره) متىينكمش ومتى يتحرك، وماذا عليه أن يفعل، وكيف يتعامل مع الآخرين أفراداً أو طوائف أو سلطات، فبينما يكتب لي في منتصف الثمانينيات وكنت شاباً متحمساً للعمل الإسلامي

ص: 61

فيقول: إننا في ظروف لعلها أشد من ظرف الإمام الحسن (عليه السلام)، وحاجته إلى الصمت والتقية تجده في سنته الأخيرة يقود تحركاً جماهيرياً مليونياً في وجه نفس السلطات العاتية.

الجد والاجتهاد في تحصيل العلوم:

5. الجد والاجتهاد في تحصيل العلوم، لأن العلم من الركائز الأساسية في بناء شخصية القائد المصلح حتى بلغ أسنى درجاته ونال ملكة الاجتهاد. كان يقول إنني اشتغل حوالي ثمان عشرة ساعة في اليوم بالدراسة والتدريس والكتابة والتأليف، وقال مرة (قدس سره): إنه أثناء اشتغاله بتأليف موسوعة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) كان ربما يكتب أربعين صفحة في اليوم الواحد وهو إنجاز ضخم يعرفه من مارس عملية التأليف والكتابة، وحتى حينما يذهب إلى بغداد لكي تزور زوجته أهلها فإنه لا يضيع الوقت بل يقضيه بالكتابة والتأليف، وقد أجمع زملاؤه وأقرانه على جده حيث بدأ بدراسة العلوم الدينية وانتمى إلى كلية الفقه سنة

ص: 62

1957 وهو في الرابعة عشر من العمر بعدامتحان أجراه له عميدها المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر وكان متفوقاً على أقرانه.

عدم الانفصال عن الواقع:

6. عدم انفصاله عن واقعهِ وما يجري فيه ومواكبته له،فتراه مثقفاً بثقافة العصر ويتابع تطوراته العلمية والسياسية والاجتماعية، ففي الثمانينيات نصحني بقراءة مجلة (علوم) العراقية التي كانت تعني بأحدث أخبار العلم وانجازاته، وكان يهمه منها أكثر باب العلوم الباراسايكولوجية لأنها أولاً تنسجم مع توجهاته النفسية وتعلقه بما وراء المادة، ولأن فيها حسب تعبيره لطمة للمادية الغربية التي تؤمن بالمادة والمحسوسات فقط.

وكان يستمع إلى الإذاعة ويطلع على ما يدور في العالم حتى حصلت عنده رؤية رصينة للأحداث. ومن بحوثه التي كتبها وأهداها لي – وهي محفوظة لدي- بحث بعشرات الصفحات بعنوان (فلسفة الأحداث في العالم

ص: 63

المعاصر والدروس والعبر المستفادة منه)(1)، وقد علقت عليه وأضفت إليه مثله فرغب إليَّ في أن أضمهما في كتاب.وكان مهتماً بأخبار الجمهورية الإسلامية في إيران وخطابات قائدها العظيم السيد الخميني (قدس سره)، ويستمع مباشرة باللغة الفارسية، وقال (قدس سره) في ذلك: لأنه تجري على لسانه نكات عرفانية وأخلاقية لا تعرضها الترجمة التي تهتم بالمقاطع السياسية والمتعلقة بالعمل الاجتماعي.

وبعد تحرير الجمهورية الإسلامية لأراضيها من القوات العراقية في معركة (المحمرة) في آيار 1982 وانتقال العمليات الحربية إلى الأراضي العراقية في تموز 1982 سارت الحرب سنين عجاف رتيبة ثقيلة باهظة التكاليف بشرياً واقتصادياً، فكان من وجهة نظره (قدس سره): أنه لا جدوى من استمرارها لأنه استنزاف لطاقات بلدين شيعيين (وهو توجه السيد الخامنئي رئيس الجمهورية آنذاك)، وعارضه الرأي القائل بضرورة استمرارها حتى

ص: 64


1- طبع في كتاب (الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه).

القضاء على المعتدي ومحاسبته وكان (قدس سره) يتخذ الموقف الأول بينما كنت مع الثاني وأردد ما كان يقوله الساسة الإيرانيون الآخرون كالرفسنجاني والأردبيلي وتبناه السيد الخميني (قدس سره): أن السلم المفروض أسوأ من الحرب المفروضة، فطلب مني أن نفتح حواراً عبر المراسلة طبعاً - لأنه كان تحت الإقامةالجبرية – لمناقشة الرأيين فكتبت بحثاً بعنوان (نظرات في الحرب والثورة) وقد أتلفته حين داهمتنا القوات الصدامية عقب الانتفاضة الشعبانية المباركة.

نزوله الى المجتمع ومخاطبته لجميع الناس:

7. نزوله إلى المجتمع ومخاطبته لجميع الناس بما يناسبهم وعدم الابتعاد عنهم فقد كان، إلى حين تصديه للمرجعية يذهب بنفسه إلى السوق ليوفر الحاجات المنزلية، وكان يحب أن يطلع على آلام المجتمع وآماله وهمومه من دون أن يتخذ حاجباً أو (سكرتيراً).

نقل أحدهم: أنه قلد السيد الصدر (قدس سره) بسبب الطماطة، قيل له: وكيف؟

ص: 65

قال: لأني سألت عدداً من المراجع وأنا أبحث عمن أقلده كم هو سعر الطماطة في السوق، فكان جوابهم جميعاً هو الزجر وان هذا ليس من اختصاصنا، إلا السيد الصدر فقد أجاب بالتفاصيل عن سعر الجيدة منها والرديئة فعلمت – والكلام له – إن هذا هو الرجل الذي يصلح لقيادة الأمة، وسواء صح هذا أو لم يصح لكن المهم أنه يعبر عن آلية للإيمان بالقيادة وصلاحيتها كما نقل عن ابن سينا وهو الفيلسوف العظيم: اللهم إيماناً كإيمان العجائز، أي أن هذه الوسائل الساذجة للإيمان بالحقائق قدتكون اثبت في القلب والنفس من طرق الاستدلال العقلية المتضخمة بالإشكالات والشبهات.

وقد رأينا في صلاة الجمعة كيف يتحدث بلغة المجتمع فيفهمه المجتمع ويشاركهم الحر والبرد ويعيش في أوساطهم بلا تمييز عنهم، ويشمل بخطاباته كل شرائح المجتمع فخاطب الحوزة والعشائر والمسؤولين السياسيين والديانات الأخرى حتى الغجر بحيث أحس الجميع انه منهم فيتأثرون به ولا يشعرون بالغربة والانفصال.

ص: 66

استثمار طبيعة العلاقة مع السلطة:

8. استثماره لطبيعة العلاقة مع السلطة الحاكمة التي شعرت بعد الانتفاضة الشعبانية المباركة وامتداد الحركة الإسلامية في العراق، بالحاجة إلى الحوار مع المرجعية الشريفة والانفتاح عليها وتخفيف القبضة الحديدية عن بعض ممارساتها الدينية لكي تتجنب حصول ثورة شعبية عارمة قد لا تنجو منها هذه المرة، ولكي تبقي على وجود للقيادة الدينية في النجف لأن انحسارها التام يعني رجوع الشيعة في العراق إلى القيادات الدينية في إيران، وفي ذلك خطر عظيم عليهم، لذا كانوا حساسين جداً من مقولة انتقال الحوزة إلى قم المقدسة، وحريصين علىعدم حصوله.

وهاتان الحاجتان كانتا تمسكان يد النظام بدرجة من الدرجات عن التعرض لبعض النشاطات الإسلامية للحوزة، في حين لم تكن تسمح بها أولاً ولا بأقل منها قبل ذلك فاستثمر السيد الشهيد (قدس سره) هذا الوضع لينطلق بمشاريعه الاجتماعية،وكانت قمتها

ص: 67

صلاة الجمعة، وحينما كان يحذر من بعض الخطوات التي يراها العارفون ببطش النظام أنها تؤدي إلى الخسارة كان يقول (قدس سره): إنما السلطة لنا كإشارات المرور، فنحن نسير حتى تشعل لنا ضوءاً أحمر فنقف ثم نتقدم وهكذاً.

هذا الاستغلال الدقيق الواعي للعلاقة مع السلطة أتاح الفرصة لانجازات عظيمة، في حين أن المتعارف على التصرف الشيعي أمام السلطات، أما المواجهة غير المتكافئة والتي نتيجتها إهلاك الحرث والنسل وإزهاق أرواح المؤمنين الذين تعبت أجيال من العلماء على تربيتهم، والذين يقول فيهم السيد الخميني (قدس سره) فيما ينقل عنه: (أن بعض ما يسميه الشباب استشهاداً هو انتحار)، أو الانكماش والانسحاب الذي يفوت الكثير من المصالح، أو الخضوع للحكام والانسياق وراء رغباتهم وفي ذلك تضييع الدين وأهله.هذا بعض ما استطعت أن أدوّنه بهذه العجالة، وهي أفكار ينفتح منا ألف باب لأولي الألباب.

ص: 68

أسأل الله تعالى أن يتغمد شهداءه خصوصاً العلماء الأعلام بالرحمة الرضوان، ويأخذ بيد الأمة والحوزة الشريفة لتسير على منهاجهم وتأخذ

ص: 69

المشروع السياسي للسيد الشهيد الصدر الثاني قدس سره

اشارة

المشروع السياسي للسيد الشهيد الصدر الثاني قدس سره(1)

تعريف المشروع السياسي:

س1: ونحن نعيش ذكرى استشهاد السيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره) نود أن نتحدث عن موضوع المشروع السياسي للسيد الشهيد الصدر الذي هو خافٍ عن الكثيرين نسأل هل كان للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) مشروع سياسي باعتباركم كنتم قريبين من سماحته منذ منتصف الثمانينات؟

ج:- بسم الله الرحمن الرحيم، من الواضح أن للسيد الشهيد الصدر (قدس سره) مشروعاً سياسياً أو على الأقل له عمل سياسي وهذا ليس خافياً على أحد، نعم قد تكون معالمه أو تفاصيله خفية، أما أصل

ص: 70


1- تقرير بتصرف للحوار الذي أجرته قناة العراقية الفضائية مع سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) يوم الجمعة 2/محرم/1429 المصادف 2008/1/11 وعُرض في الذكرى التاسعة لاستشهاد السيد الصدر الثاني (قدس سره) يوم 2008/2/19.

الموضوع فهو ثابت وقد دفع حياته الشريفة وحياة ولديه ثمناً لهذا النشاط وقد أثمر مشروعه المبارك في نخركيان صدام وزمرته بحيث عاد خاوياً متهالكاً سقط في أول صفعة وُجهت له 2003.

ولكي نفهم مشروعه السياسي علينا أن نعرف معنى هاتين المفردتين (المشروع والسياسة) فأنني اسمع أنهم يعرّفون السياسة بأنها فن الممكن وهذا التعريف غير دقيق فان الإنسان لا يستطيع أن يأتي إلا بالممكن في جميع حقول الحياة وليس في الحقل السياسي فقط، لذا فأنني اعرّف السياسة بأنها (فنّ رعاية المصالح العامة) وهذا التعريف ينطبق على معنى السياسة في الإسلام باعتبار أننا نخاطب الأئمة المعصومين (عليهم السلام) بأنهم (ساسة العباد) أي أنهم الراعي الأول لمصالح العباد، وينطبق على معنى السياسة عند العلمانيين الذين يقولون (لا توجد صداقات ثابتة ولا عداوات ثابتة وإنما توجد مصالح ثابتة).

نعم يختلف هذا التعريف بين المعسكرين في تفاصيله ومتعلقاته فالمصالح التي ترعاها السياسة

ص: 71

الإسلامية هي مصالح العباد والبلاد من دون تفريق بين أحد وآخر مهما كان دينه وقوميته ولونه وجنسه بينما المصالح عند السياسة غير الإسلامية هي المصالح الشخصية والفئوية.ويختلفان مثلاً من حيث الأُطر المحددّة لآليات العمل والبرامج فالسياسي الإسلامي يؤمن بمبادئ ثابتة لا يتجاوزها مهما كانت النتائج لأنه يعتقد بوجود الآخرة والحساب على الأعمال بين يدي الله تبارك وتعالى، ولا يمكن أن يفرّط بآخرته من اجل دنيا زائلة، وقد شرحنا هذه المبادئ في خطاب (المبادئ الثابتة في السياسة)، بينما السياسي الآخر لا يتحدد بمبادئ وإنما يؤمن بالميكيافيلية وان الغاية تبرر الوسيلة والوقائع الكثيرة تشهد على أنهم لم يتورعوا عن إزهاق ملايين الأرواح وتدمير الحياة من اجل إشباع نزواتهم وإتباع أهوائهم وشهواتهم.

أما (المشروع) فيعني البرنامج الذي يضع لنفسه أهدافاً يسعى لتحقيقها وآليات يتبعها للوصول إلى ذلك

ص: 72

الهدف فلا مكان فيه للعقوبة والارتجالية والتصرفات غير المحسوبة.

وحينئذ أقول في الجواب أن السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) لم يكن يصرّح أو يستطيع التصريح بأن له مشروعاً منتظماً للوصول إلى أهداف محددة وكان يكتفي بالعموميات ويخفي مراده أحياناً ما بين السطور، لان السلطة المعروفة ببطشها وقسوتها ستقضي على مشروعه وهو في المهد لان أي عمل منظم تشعر بأن فيه تهديداً لكيانها ولو كانباحتمال ضئيل جداً فأنها تفتك به حيث كان صدام يقول (إنني اقتل عشرة ألاف من دون أن يرفّ لي جفن) وإنما صَبَرت السلطة زمناً ما على حركة السيد الشهيد (قدس سره) لأنها تعتقد فيها أنها حركة عفوية عاطفية غير منتظمة في مشروع، وقد تعمّد السيد الشهيد (قدس سره) إيقاعها في هذا التصور حينما سُئل في بعض لقاءاته المسجّلة عن خطوته اللاحقة قال (أنني لا اعلم ماذا أفعل غداً، وكل ما في الأمر انه عندما يأتي الغد أجد نفسي مقتنعاً بأن أقوم بفعل ما) وهو (قدس سره) يعلم ان هذه الكلمات

ص: 73

تصل إلى السلطة لأنها تتابع بدقّة ما يصدر عنه من كلمات وخطب ومنشورات وتحللها.

قيادة الحركة الإسلامية في ظل البطش الصدامي:

س2: هنا يتبادر الى الذهن سؤال كيف استطاع سماحة السيد الشهيد أن يبدأ بمشروعه السياسي حتى وإن كان بشكل غير مباشر في ظل وجود سلطة ونظام قمعي سيما وان سماحته كان معتقلاً عند الأجهزة القمعية حيث كان مراقباً ومحاصراً؟.

ج: أظنّك تقصد اعتقاله في الانتفاضة الشعبانية في آذار/1991 وهو ليس اعتقاله الوحيد فقد اعتقل عام 1974 في مديرية امن الديوانية ضمن حملة شملت الكثير من طلبة السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) ومكثفيها حوالي أسبوعين وقد تحدث لي في بعض رسائله عمّا جرى له، هذا مضافاً إلى الإقامة الجبرية التي فرضت عليه عدة سنوات في الثمانينات، وهذا كله لتأكيد كلامك عن قساوة الظروف المحيطة بالسيد الشهيد (قدس سره) ومعرفته الجيدة بها لطول معاناته منها لذا

ص: 74

فقد تطلبت حركته الكثير من الحكمة حتى يكسب اكبر مدة زمنية تمكّنه من تحقيق أفضل النتائج.

ولا شك ان لطف الله تبارك وتعالى كان يرعاه ويحفظه وسلّمه من تلك المحن إذ لم يتبق في داخل العراق من طلبة السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) المعروفين والمؤهلين لمواصلة مسيرته المباركة إلا هو، وما دام قد ادّخره الله تبارك وتعالى لهذا الدور فلابد أنه سيحظى بلطف ورعاية إلهية خاصة.

وقد استطاع (قدس سره) بحكمته ونظرته الثاقبة أن يتعرف على واقع السلطة القائمة وما تفكر به والأساليب التي يمكن اتباعها من دون استفزازها، وعرف الكثير منها أيضاً خلال استجوابه في معتقل الرضوانية بعد الانتفاضة وحقق معه عدد من كبار الضباط. كما نقل لي (قدس سره) وعرف من خلالها السياسة الجديدة التي سيتبعها النظام مع المرجعية والحركة الإسلامية وعموم علاقتهبالشعب العراقي، والتي بدت واضحة على تصرفات النظام مع المرجعية والحوزة العلمية والشباب المؤمنين خلال التسعينات.

ص: 75

لذا استطاع (قدس سره) أن يسحب البساط بهدوء من تحت النظام ويفقده قدرته على السيطرة على ضبط الجماهير إلى أن تفاجأ النظام بحركته وقرر قراره المشؤوم، وقد جمعني به (قدس سره) لقاء خاص بعد أيام من الزيارة الشعبانية التي دعا الجماهير فيها إلى السير مشياً إلى كربلاء واندفع المؤمنون بحماس بالغ مما دعا النظام إلى تهديده بالقتل، فسحب الأمر عشية اليوم الذي كانت مدينة الصدر ومناطق أخرى من بغداد قد عقدت العزم على التوجه فيه بشكل مواكب بالآلاف إلى كربلاء وهو يوم الثلاثاء 11/شعبان/1419، وقلت له في ذلك اللقاء أن هذه الحركة رافقتها فعاليات تصعيدية في مواجهة النظام مما يستفزّه ويدفعه إلى اتخاذ قرارات قاسية، والأجدى الاستمرار بالطريقة الهادئة في سحب البساط من تحتها، وأن منبر الجمعة وحده كافٍ لتقويض أركان النظام، قال (قدس سره): ((نعم وقد سحب البساط من تحته بنسبة 75%، ولكنني لست مسؤولاً عن هذه التصعيدات فإنني لم أأمر بها)) وكان مقترحيأن لا يخرج أبناء بغداد على شكل تجمعات

ص: 76

ضخمة لأن ذلك يقلق النظام ويفشل المشروع فلو خرجوا على شكل مجاميع صغيرة وقد شرح (قدس سره) مبرر خروجهم في مواكب ضخمة وبصراحة فقد كنت أعتقد أن النسبة التي قالها (قدس سره) مبالغٌ فيها.

استثمار نتائج الانتفاضة الشعبانية المباركة:

س3:- هل افهم من كلام سماحتكم ان السيد الشهيد (قدس سره) استثمر التغيير الحاصل في سياسة النظام أبان الانتفاضة الشعبانية؟

ج:- نعم فقد أفرزت الانتفاضة عدة نتائج مهمة من كسر حاجز الخوف والرعب الذي كان يملك بها النظام نفوس الناس أكثر من مؤسساته ورجاله، وأثمرت الانتفاضة شجاعة كبيرة لدى الشعب، وازدهر التوجّه الديني وأصبحت النجف الأشرف والحوزة العلمية ومكاتب المرجعية تشهد إقبالاً واسعاً من الناس، وتصاعد الوعي الإسلامي وتداول الكتب والنشرات بما فيها الممنوعة التي كانت تستنسخ سراً، وهذه العوامل وغيرها دفعت النظام إلى ان يغيّر سياسته مع الحركة الدينية على الصورة التي تعامل بها مع الحركة إبان

ص: 77

مواجهتها للسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) فتغيّر سياسة النظام ليس لأنه تغيّر في نفسه وإنما اضطر لمجاراة الوضع الجديد الذي تميّز بانطلاقة قوية وواسعة للحركة الدينية.

المرجعية والعمل السياسي:

س4: المعروف إجمالاً في الأوساط الحوزوية عدم تدخل المرجعية في الشؤون السياسية وعادة ما تنأى الحوزة العلمية نفسها عن الأوساط السياسية، فما الذي دفع السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) لممارسة دور سياسي والخروج عن هذا التقليد المتعارف.

ج:- أفهم من كلامك أنك تجعل القاعدة في تصرف المرجعية والحوزة العلمية هو الابتعاد عن السياسة والشؤون العامة بحيث تكون ممارستها استثناءاً، والصحيح هو العكس فان الأصل في الشريعة الإسلامية أن يتصدى العلماء لرعاية شؤون الأمة وعلى رأسها ممارسة الدور السياسي، وأن الاستثناء هو التخلي عن هذا الواجب فقد كان النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) أكمل القادة والسياسيين،

ص: 78

ونَصِفُ المعصومين (عليهم السلام) في زيارة الجامعة الكبيرة بأنهم (ساسة العباد) وفي الروايات (المتقون سادة والفقهاء قادة) وفي الأحاديث الشريفة أيضاً ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): (من أصبح لايهتم بأمور المسلمين فليس منهم ومن سمع رجلاً ينادي: يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم).

وقال السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في بعض خطبه التي أثنى فيها على (الحوزة الناطقة) ويعني بها الحوزة المتحركة والتي لها شعور واسع بالمسؤولية تجاه كل شؤون المجتمع، قال فيها أن النبي (صلى الله عليه واله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) هم من الحوزة الناطقة، وقد تميّز في تاريخ المرجعية الدينية خطابان: أحدهما يمثل الحوزة الناطقة التي انهمكت في العمل السياسي النقي الصالح إضافة إلى مسؤوليتها العلمية والدينية والاجتماعية وثانيها الذي انغلق على نفسه واكتفى بالشؤون العلمية والفتوى، وكان السيد الشهيد يعلن انتماءه إلى الخط الأول كأستاذه الشهيد الصدر الأول (قدس سره) والسيد محسن الحكيم

ص: 79

والميرزا النائيني الذي آزر أستاذه الآخوند الخراساني في حركة الدستور المعروفة بالمشروطة أوائل القرن الماضي.

وقال لي مرة في بعض رسائله انه قال لأستاذه الشهيد الصدر الأول (قدس سره) أن المحقق الحلي (وهو من أعاظم فقهاء الشيعة كان في القرن السابع الهجري في مدينة الحلة ويُدَّرس كتابه شرائع الإسلام في الفقه إلى الآن)كان من العلماء الواعين –وهو تعبيره السابق عن الحوزة الناطقة- فأيّده الشهيد الصدر (قدس سره) في ذلك.

فحينما تسأل عن دوافع الشهيد الصدر لممارسة هذا الدور فلأنه من صميم مسؤولياته التي يؤمن بها ويرى لزوم القيام بها قال أمير المؤمنين (عليه السلام) ((لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم أو سغب مظلوم)) إلى آخر الكلام.

فالقيام بهذا الدور أمانة في أعناق العلماء، مضافاً إلى عوامل أخرى أثّرت في شخصيته ودفعته في هذا الاتجاه ومنها

ص: 80

1- تأثره بأستاذه الشهيد الصدر (قدس سره) واهتمامه باقتفاء أثره في كل شيء.

2- إن الإصلاح الواسع الذي كان يريد إحداثه في حياة الأمة لم يكن ممكن التحقيق والتأثير في الأمة إلا بالانخراط في العمل السياسي وتحدي السلطة وتنبيهها إلى المظالم التي ترتكبها.

3- طيبة قلبه وحبّه الخير لجميع الناس وقوة قلبه في نفس الوقت مما جعله لا يقرّ له قرار حتى يبذل كل ما في وسعه لإنصاف المظلومين ومساعدة المحتاجين ونصرة المحرومين.وكان يدعو الناس إلى التأكيد على صفة طيبة القلب وقضاء حوائج المؤمنين وإنفاق الأموال على مستحقيها لا (فيافي بني سعد) في المرجعية التي يتّبعونها بعد إحراز الاجتهاد والعدالة طبعاً وكان يركّز على هذه الصفات في البديل الذي يخلّفه.

ولرحمته الكبيرة فقد خاطب جميع شرائح المجتمع حتى الغجر في خطبته الأخيرة في الجمعة التي استشهد فيها.

ص: 81

ما الذي دفع الناس إلى اتباع السيد الشهيد الصدر(قدس سره) :

س5:- عذراً للمقاطعة سماحة الشيخ ، هل أن ما تفضلتم به من البساطة في المعيشة والتعامل مع الجماهير هو الذي دفع الكثير من الجماهير أن تؤمن بفكر السيد الشهيد الصدر (قدس سره) حيث التفّت الأوساط الشعبية حول مرجعيته وبدأت تتفقه في الدين؟

ج:- هذا أحد الدوافع؛ لأن الشرائح التي آمنت بحركة السيد الشهيد (قدس سره) واتبعته متنوعة وكلٌ منها ينطلق من فهمه الخاص له (قدس سره) فالحوزة العلمية رأت فيه العالم المبدع وكان درسه في الأصول مما يحتج (قدس سره) به لإثبات أعلميته ورسالته العملية في الفقه، والمثقفون والمفكرون اتبعوه لما لمسوا فيه من فكر خلاّق وقدرة على الدراسة والتحليل والموسوعية، والطبقة العامة أمنت بهلمواساته لهم ودفاعه عنهم وسعيه المخلص لإصلاح حالهم في الدنيا والآخرة، والسياسيون عقدوا عليه الآمال لأنهم وجدوا فيه المشروع الحقيقي لإزالة الطاغوت.

ص: 82

معالم المشروع السياسي للسيد الشهيد الصدر:

س6:- ما هي معالم المشروع السياسي الذي تبناه السيد الشهيد الصدر (قدس سره) ؟

ج:- يمكن أن نذكر على نحو الاختصار جملة من المعالم العامة لمشروعه السياسي

1- إنه مشروع إسلامي يستند إلى الإسلام في قراراته وآليات عمله والمبادئ التي تؤطر حركته فلا مجال فيه للبراغماتيه المحضة المتجردة من المبادئ.

2- إنه وطني فلم يقتصر في خطابه على أتباعه ولا على الشيعة فقط. بل وجّه خطابه إلى أبناء السنة وأمر بإقامة صلوات الجمعة الموحّدة وخاطب كل شرائح المجتمع بغضّ النظر عن انتمائهم والمتابع لخطبه يجد الكثير منها مخصصّة لشرائح معينة وكان آخرهم الغجر الذين وجّه لهم خطاب الإصلاح والهداية في الجمعة التي استشهد في مسائها وفي تلك الخطبة عدّد الشرائح التي خاطبها.

ص: 83

وحينما نقول إن مشروعه وطني فهذا لا يعني الانغلاق على بلده العراق فقط لأن رسالةالإسلام عالمية ولكن المتاح له كان ذلك مضافاً إلى أن المشروع الإسلامي العالمي لابد له من حاضنة وقاعدة يستند إليها وينطلق منها كما كانت المدينة المنورة قاعدة انطلاق رسول الله (صلى الله عليه وآله) وستكون الكوفة عاصمة الدولة العالمية المباركة التي يقيمها الإمام الموعود (عجل الله فرجه).

3- الجماهيرية وإشراك عامة طبقات الشعب في الحركة فلم يقتصر في خطابه ومشروعه على النخب بل تحدّث إلى جميع الناس مباشرة خصوصاً بعد إقامة صلاة الجمعة.

4- أصالة المرجعية الدينية وهذه نقطة مهمة إذ يوجد خلاف بين السياسيين الإسلاميين حاصله أنه من هو الأصل ولمن مرجعية القرار هل للمرجعية الدينية ويكون دور الحزب التنفيذ والعمل ضمن توجيهات المرجعية أم أن الأصل هو الحزب فهو الذي يقرر وينفذ ويكون دور المرجعية تقديم النصائح غير الملزمة.

ص: 84

وكان (قدس سره) يعيش تجربة مرة من بعض الأحزاب الإسلامية الشيعية التي تأسست برعاية المرجعية ثم خلفتها وراء ظهرها وأعطت لنفسها الحق في القيمومة على آراء المرجعية.ولإعادة العمل السياسي الإسلامي الى مساره الصحيح فقد أصّل (قدس سره) للرجوع الإلزامي إلى المرجعية الدينية ورسّخ هذه الثقافة وكانت كلمته المشهورة (لا تقولوا قولاً ولا تفعلوا فعلاً إلا بالرجوع إلى الحوزة العلمية) وهو (قدس سره) لا يقصد بالحوزة كل من وضع العمامة على رأسه ودرس بعض العلوم وإنما يريد بها المرجعية الدينية المتمثلة بالمجتهد العادل العارف بشؤون زمانه لذا وصف في بعض كلماته الشخص الذي يقود الناس وهو ليس بمجتهد ب(الكحف) وهو قشر الفاكهة الذي يرمى مع الفضلات.

وقد بنى تأصيله هذا على ما نؤمن به من الآخرة والحساب ومسؤوليتنا أمام الله تعالى والتي لا يحق لأحد النظر فيها واستنباط أحكام الحالات المختلفة من مصادر التشريع الإسلامي الأصلية والإنسان قبل أن

ص: 85

يكون سياسيا هو شخص مكلّف أمام الله تبارك وتعالى بواجبات وعليه حقوق.

وحتى على المقاييس الطبيعية فان المرجعية هي أولى الناس بالقيادة لاكتمال صفاتها فيها، فمن حيث العلم بالقانون المنظم للحياة تمثل المرجعية أرقى درجاته بحصول ملكة الاجتهاد وقضاء عشرات السنين فيالبحث والتدريس والتأليف والحوارات العلمية، ومن حيث النزاهة فهي في أعلى درجات ضبط النفس وكبح شهواتها وملك زمامها والورع والزهد الذي نسميه ب(شرط العدالة)، ومن حيث الخبرة فان المرجعية تمضي عشرات السنين في التحرك في أوساط المجتمع والاتصال بكل طبقاته وتلقي أنواع المشاكل والمقترحات والمشاريع والأفكار، فما الذي يمنع السياسيين من أعطاء المرجعية دورها الذي تستحقه؟

ولكي يطمئن السياسيون ونزيل مخاوفهم من تدخّل المرجعية في تفاصيل عملهم نقول: إن المرجعية تعرف المساحة التي تتحرك فيها والمساحة التي تتركها للآخرين لأنها لا تدعي المعرفة بكل شيء ولا أنها محيطة

ص: 86

بكل التفاصيل كما ورد في الحديث (رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه حتى لا يوردها موارد الهلكة).

النشاطات السياسية للسيد الشهيد الصدر :(قدس سره)

س7:- ما هي أبرز النشاطات والفعاليات التي قام بها سماحة السيد الشهيد (قدس سره) لتكون مصاديق لمشروعه السياسي؟

ج:- إذا أردنا أن يكون الجواب أكثر فائدة فتقسم هذه الفعاليات إلى مراحل:الأولى: في حياة أستاذه الشهيد الصدر الأول (قدس سره) وقد اختصرها (قدس سره) في بعض رسائله لي بأن عمله هو أتباع السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) فيما يقول ويفعل ويوجّه، واعتقل خلال هذه المرحلة عام 1974 في مديرية أمن الديوانية حوالي أسبوعين، لكنه لم ينتمِ إلى (حزب الدعوة) وقال (قدس سره) في سبب ذلك: أنني وجدت الحياة التي يجسدها المتحزبون فيها (أنانية حزبية) فما الذي جنيناه أذن حين نخرج من أنانية الفرد ونقع في أنانية الحزب.

ص: 87

وحينما سألته في بعض الرسائل عن عدم قيامه بدور قيادي بارز عند تصاعد حركة السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) في نهاية السبعينات فأرجعه إلى أمرين

أ- تأثير والده المرحوم السيد محمد صادق الصدر (قدس سره) عليه والذي كان له تأثيره حتى على الأول (قدس سره).

ب- انصرافه يومئذ إلى تهذيب نفسه وأتباع منهج أهل العرفان فابتعد عن الانهماك في العمل الاجتماعي الواسع.

الثانية: عقد الثمانينات: حيث انزوى في بيته بعد استشهاد أستاذه الصدر (قدس سره) ولم يكن يخرج إلا لضرورة وبعد أن شنت حملةجائرة لاعتقال السادة آل الحكيم عام 1983 وكان جاره واحداً منهم واستشهد لاحقاً وضع جلاوزة الأمن نقطة مراقبة عند باب داره فتكثَّف عمله بالتقية حتى وصفها في بعض رسائله بأنها اشد من التقية التي عاشها الإمام الحسن السبط (عليه السلام) وبقي في الإقامة الجبرية حتى حصل انفراج نسبي عام 1987 ثم كان الفرج أوسع بعد انتهاء الحرب

ص: 88

العراقية الإيرانية عام 1988 وعاد إلى نشاطه العلمي وبدأ بالتدريس في جامعة النجف الدينية.

الثالثة: دوره في الانتفاضة الشعبانية عام 1991 وقد شرحته مفصلاً في كتابي (الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما اعرفه) حين بايعته قيادة الانتفاضة مرشداً للثورة الإسلامية المباركة (بحسب وصفه (قدس سره) في خطابه الذي وجهه للجماهير في الصحن الحيدري الشريف) في اليوم الأخير قبل بدء هجوم قوات الحرس الجمهوري على المدينة واعتقل على أثرها في معتقل الرضوانية ببغداد ثم أفرج عنه. وقد خرج من هذه التجربة بنتيجة مؤلمة وهي أن الأمة ما زالت بحاجة كبيرة إلى تربية روحية حتى عبّر بأنه لم يكن معي من المخلصين إلا اثنان.

وأنه (قدس سره) بحاجة إلى البدء بمشروع إصلاحي يهدف إلى بناء المجتمع الصالح وبدونه يكون السعي لإسقاط النظام عبثاً ومن كلماته في بعض الرسائل ((إن الجهاد الأصغر_أي حمل السلاح في

ص: 89

مواجهة الطواغيت –لا يكون منتجاً إلا إذا اقترن بالجهاد الأكبر- أي مجاهدة النفس وإصلاحها)).

ومثل هذه النتيجة خرج بها السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) في نهاية حياته حينما قال: - بحسب رواية السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره)- ((إننا استطعنا أن نربي الناس إلى نصف الطريق ولم نكمل النصف الآخر)) ويفسرها الثاني (النصف الأول بتربية عقولهم بالعلوم المعمقة من دون تربية نفوسهم وتطهير قلوبهم من حب الدنيا واستهداف ما سوى الله تبارك وتعالى.

الرابعة: مرحلة تصّديه للمرجعية بعد الانتفاضة والتي نفّذ فيها مشروعه الإصلاحي المشار إليه وتصاعد فيه حتى بلغ الذروة في مواجهة النظام من خلال منبر الجمعة وأدت إلى استشهاده يوم 1999/2/19، وكان خلاله يأخذ بيد المجتمع ليرتقي به في سلم الكمال، وفي جوابه عن إحدى رسائلي وصفت فيها تقنين الفقهاء لمسألة أخذ الفوائد المصرفية بأنها حيلةشرعية منافية لروح الإسلام وان كانت بحسب

ص: 90

الظاهر على طبق القواعد والمفروض بالفقهاء أن ينشئوا البديل وهو المصرف الإسلامي الذي لا يتعامل بالربا وغيرها من المعاملات المحرمة فكان مما قال في جوابه مؤيداً (إننا يجب أن نرفع مستوى الواقع إلى مستوى الشرعية وليس بأن ننزل مستوى الشريعة إلى مستوى الواقع وتكييفها معه.

الطعنات من الخلف:

س8:- هل كان سماحة السيد يحظى بتأييد من أوساط دينية أو سياسية داخل الحوزة وخارجها؟

ج:- استطيع أن أقول بكل أسف: لا فقد كان موقفهم سلبياً ومعادياً واتخذ أشكالاً متعددة من الأساليب الخبيثة

س: السبب ؟

ج:- ليست الأسباب إلهية صحيحة طبعاً، ولو كان هدف الجميع مخلصاً لله تبارك وتعالى لاتحدوا واجتمعوا على طاعته، أما الجهات الدينية فلأنها ترى في مرجعيته الصاعدة والآخذة بالاتساع مزاحماً لسلطتها التي تعتقد أنه حق خالص لها، وبهذا الصدد قال بعض

ص: 91

ذيول أحدى المرجعيات ((مالهم ينازعون الناس سلطانهم)) أي ما للسيد الصدر (قدس سره) ينازع الناس الذوات الذين يجب أن تبقى المرجعية منحصرة فيهم هذا السلطان؟

وهذه نظرة أنانية جاهلية استعلائية قديمة، فقد كان الأمويون المحدقون بالخليفة الثالث يرون فيء المسلمين حقاً خالصاً لهم وأنّه بستان قريش لا يجوز لأحد منازعتهم فيه، وأن السلطة قميص ألبسهم الله تبارك وتعالى إياه وغيرها، أما نظرة الشريعة فان المرجعية مرتبة شريفة لها شروط فمن توفّرت فيه كان أهلاً لها مهما كان جنسه وقومه.

وأما الجهات السياسية فلانكشاف زيفها وإنها تتاجر بمظلومية الشعب العراقي وما يتعرض له من بطش من جلاوزة صدام فقد سحب البساط من تحت أرجلهم ولاح لكل مراقب ان السيد الصدر (قدس سره) هو الذي يقود المعارضة الحقيقية للنظام وجها لوجه داخل العراق وأنه يقوّض أركان النظام تدريجياً، فبدأت القوى المخلصة في إحداث التغيير تلتف حوله وتعرض عليه

ص: 92

الاشتراك معه أما أصحاب الدكاكين البائسة فقد كسدت بضاعتهم وكانوا يرون في السيد الصدر كابوساً يجثم على صدورهم فوجهوا سهام غدرهم إليه وكشفوا ظهره للنظام وطوقوه وحاصروه وتركوه وحيداً في مواجهة النظام.

وحينما أحس السيد الصدر (قدس سره) بعزم النظام على تصفيته فكّر بحماية نفسه من خلال توسيع مرجعيته خارج العراق وجعلها عالمية لإحراج النظام ومنعه من الإقدام على الجريمة فأرسل وفداً فيه المرحومان الشيخ علي صادق والشيخ محمد النعماني إلى عدد من الدول الإسلامية القريبة والمجاورة لكن الوفد جوبه بامتعاض شديد ورفض إهانة، وافتتح له مكتباً في الجمهورية الإسلامية ووجه في حفل الافتتاح خطاب صداقة وتأييد إلى القيادة والشعب الإيراني ولكن مكتبه أغلق بعد ثلاثة أيام فقط بسعي نفس الجهات.

وكان (قدس سره) شديد التألم من الحرب التي شُنّت عليه بهدف تسقيطه وإنهاء شرعيته بالكذب والافتراء وتوظيف الأبواق المأجورة وكان يقول عن تلك

ص: 93

الفترة ((تحملتها بأعصابي)) ويقول ((إن الوحيد الذي نصرني أيام الشدة الشيخ محمد اليعقوبي)) وفي آخر أيامه كان يقول عن تلك الفترة (إنني لا أستطيع أن أثبت براءتي إلا بدمي)) وكان يصف حرب الزعامات بأنها حرب قذرة لأنهم لا يقولون ما هو فيك بل يقولون ما ليس فيك.وقد ألفت عدة كتب في أرشفة تلك الحرب وتدوين فصولها والله المستعان على ما يصفون.

لماذا أجّل السيد الشهيد تصعيد المواجهة مع النظام؟

س9:- تحدثتم قبل قليل أنه (قدس سره) آجل المواجهة مع النظام في بداية مشروعه السياسي وفي بداية ظهوره وتصديه للمرجعية.

السؤال الذي يطرح نفسه لماذا آجل سماحته (قدس سره) المواجهة مع النظام فلما ظهر كانت إستراتيجيته أن لا يواجه النظام بشكل مباشر لكن بعد صلاة الجمعة التي أقيمت في معظم مناطق العراق يعني هكذا يفهم البعض انه سماحة السيد (قدس سره) أصبح

ص: 94

في مواجه مباشرة مع النظام السابق من خلال مطالبته بالخدمات العامة من خلال مطالبته بإطلاق سراح المعتقلين ومن خلال مناداته ومن خلال توجيهاته إلى جميع شرائح المجتمع حتى أنه في الخطبة الأخيرة يعني وجه كلامه إلى الغجر. فلماذا انتقل من إستراتيجية عدم المواجهة مع النظام إلى إستراتيجية المواجهة بعد صلاة الجمعة؟

ج:- قلنا إنه (قدس سره) واجه النظام بأعلى صور المواجهة فقد قاد الانتفاضة، اعني أنهم بايعوه على قيادتها لكنه لم يمهل إلا يوماًواحداً، فهو (قدس سره) خاض هذا المستوى من الاصطدام إلا أنه خرج بالنتيجة التي ذكرناها وغيّر تكتيكاته في العمل وبدأ بنمط جديد من العمل لكن الأهداف بقيت واحدة.

وربما كان وراء هذا التريث هدف آخر يفهمه كل قائد وصاحب مشروع إصلاحي، فإنه ما لم يطمئن إلى وجود البديل القادر على مواصلة المشروع وإتمامه بأحسن وجه لا يصعّد مسيرته ويعرّض نفسه للهلاك خوفاً على مشروعه أن يفشل وليس خوفاً على حياته

ص: 95

وإن كانت الأعمار بيد الله تبارك وتعالى يقيناً، وهذا ما ورد عن المعصومين (عليهم السلام) في تفسير خوف كليم الله موسى (عليه السلام) في قوله تعالى: [قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ. وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ. وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ] (الشعراء:12-14).

وقوله تعالى: [قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ. وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ] (القصص:33-34).

فقد ورد بأن خوفه (عليه السلام) كان من قتله مباشرة قبل أن يقوم بالتبليغ ويطمأن إلى وجود الخليفة الذي يواصل حمل الرسالةفاستجاب له تبارك وتعالى وشدّ عضده بأخيه هارون [وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي.هَارُونَ أَخِي.اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي.وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي] (طه:29-32).

وفي رسالة الإسلام كان إكمال الدين وإتمام النعمة وإقرار عين النبي محمد (صلى الله عليه واله

ص: 96

وسلم) بنصب أمير المؤمنين عليه السلام إماما وهادياً وخليفة من بعده.

لذا تحدث السيد الشهيد الصدر (قدس سره) في أكثر من مناسبة عن (البديل المماثل) الذي يُعِدّه، ولما صرّح باسمه في لقائه بطلبة جامعة الصدر الدينية يوم 5/جمادي الثانية/1419 أي قبل استشهاده بخمسة أشهر (الآن أستطيع أن أقول إن المرشح الوحيد من حوزتنا هو جناب الشيخ محمد اليعقوبي إذا كان الله أمد لي في العمر إلى وقت شُهد باجتهاده، فانا لا أعدو عنه هو الذي ينبغي ان يمسك الحوزة بعدي) صعّد من حركته في الزيارة الشعبانية وما بعدها ومضى سعيداً إلى الشهادة التي اختارها الله تبارك وتعالى.

التصدي للمرجعية أساس الانطلاق في المشروع الإسلامي:

س10:- كيف هيّأ السيد الشهيد (قدس سره) لمشروعه السياسي اجتماعياً؟

ج:- كانت الركيزة الأساسية لمشروعه والتي انطلق منها هي عرض مرجعيته لأنه يعتقد –وهو

ص: 97

الصحيح- بأن قمة هرم المشروع يجب أن يكون مجتهداً جامعاً لشروط المرجعية، وأي طرح غير مرجعي لا يمكن أن يكون صحيحاً، ومن بعد ذلك يمكن التفكير بالآليات المناسبة للعمل السياسي من تأسيس حزب أو حركة شعبية أو مؤسسات ونحوها.

وتصديه للمرجعية لم يكن بدوافع دنيوية كحب الجاه والقداسة والاستعلاء على الناس وجمع الثروة وغيرها وإنما كان لتأصيل الحركة وتثبيت شرعيتها، وإلا فانه لم يكن يفكّر قبل ذلك في المرجعية، ومن الشواهد على ذلك انني عرضت عليه في إحدى مراسلاتي بتأليف ما سميته (الفقه الشامل) وتحديث كتب الفتاوى للفقهاء لتكون شاملة لشؤون الحياة، فكان ردّه الاعتذار والسبب كما قال (قدس سره) لأنني لا أحتمل بقائي حياً إلى حين تحقق الفرصة للمرجعية ورجوع الناس إليَّ. مع أهليته لذلك فإنه كان يعتقد ببلوغه درجة الاجتهاد ومنذ العام 1977 في حياة أستاذه الشهيد الصدر الأول (قدس سره).

ص: 98

من تاريخ الحركة الإسلامية

اشارة

والسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره)1985 – 1990(1)

اللقاء الأول بالشهيد الصدر:

س1: متى كان لقاؤكم المباشر لأول مرة مع السيد الشهيد الصدر (قدس سره) وكيف؟ بعد ان كان تواصلكم عبر الرسائل فقط.

ج: بسم الله الرحمن الرحيم: كان ذلك في سنة 1987 حيث بدأ السيد الشهيد الصدر بالخروج عن عزلته الاجتماعية وأخذ يحضر بعض المناسبات الدينية كالمجالس الحسينية التي تقام في بعض البيوتات وكنت أراه لكنني لم أتحدث معه حتى استأذنته في بعض رسائلي إليه، فأجاب بالإيجاب ولكنه طلب مني صورة شخصية ليتعرّف علي إذا سلمتُ عليه لأنه كان يتوقع كل شيء

ص: 99


1- حوارية أجريت مع سماحة الشيخ اليعقوبي يوم 4/محرم/1431 الموافق 2009/12/21 لتغطية أحداث هذه الفترة وتتميم كتاب (الشهيد الصدر الثاني كما أعرفه) لسماحة الشيخ اليعقوبي.

فيحتمل أن رسائله وقعت بيد جلاوزة النظام وأن أحدهم تقمص شخصيّتي وجاء للإيقاع به، وقد أرسلت صورة حديثة إليه ومع ذلك طلب مني أن أعرّف نفسي حين ألقاه، وقد أرسل (قدس سره) صورته إليّ علىالعرف الجاري بين المتحابين في تهادي الصور التذكارية.

وبعد ذلك كنت ألتقيه في تلك المجالس وأخصّه بالسلام والحديث المقتضب دون غيره من العلماء الذين يجتمعون في مكان مخصص لجلوسهم رغم إن لي علاقات خاصة مع عددٍ منهم ومثل هذا التصرف غير مألوف لكنني لم أكن استطع تمالك نفسي دون أن أسلّم عليه.

ثم بدأت بزيارته (قدس سره) في داره واللقاء به، كما بدأ بإقامة مجالس العزاء في ذكرى وفاة المعصومين (عليهم السلام) وكان بيته في الحنانة يزدحم بالحضور وأغلبهم من المصلين في جامعة النجف الدينية حيث كان والده (قدس سره) يقيم صلاة الجماعة فيها وتزوّج اثنان من أولاد عميدها السيد محمد الكلانتر (قدس سره) من بنتي السيد الشهيد الصدر (قدس سره).

ص: 100

وكنت أرافقه في بعض المناسبات وندعوه في بعض مناسباتنا الاجتماعية كعقد قران بعض الأقرباء كما زارني في داري وفي محل الكسب الذي اتخذته لاحقاً، وصحبناه مرة أنا وأخي المرحوم الشيخ علي بسيارته إلى كربلاء المقدسة لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في ليلة الجمعة، وكان يذهب –كما قال في إحدى رسائله- في السنة مرة أو مرتين وكنت أستشيرهحتى في أموري الشخصية والاجتماعية كقضية تزويجي وأن تكون علوية، فأيد مطلبي هذا وقال: الأفضل أن تكون علوية من جهة الأبوين وهو ما قسمه الله تبارك وتعالى، وأبدى لي استعداده في دعمي - على حسب تعبيره- عند الخطبة من أي أسرة أرغب فيها.

س2: هل يعني هذا أن السيد الشهيد الصدر (قدس سره) هو الذي عقد قرانكم؟

ج: لم يتيسر لي ذلك، والأصح إنني لم اطلب منه (قدس سره) ذلك، لأن عقد قراني كان في بغداد ولم أشأ مزاحمته (قدس سره) وكنت أتوقع أن السفر إلى بغداد محرج له، وكانت لنا علاقة وطيدة بعدد من

ص: 101

العلماء، وقد أجرى العقد المرحوم آية الله السيد محيي الدين الغريفي (قدس سره).

الانفراج النسبي عن الشهيد الصدر:

س3: ما الذي حدث عام 1987 وصار السيد الشهيد (قدس سره) يأخذ حريته في الحركة والمشاركة في المناسبات الدينية و الاجتماعية ولو بشكل محدود بعد أن كان منعزلاً تماماً بحيث قال في احد لقاءاته المسجلة أبان مرجعيته، انه لا يسلم على أحد ولا يسلّم عليه أحد في تلك المرحلة.ج: التغيرات الاجتماعية لا تحصل دفعه وإنما بالتدرج، لذا لا يمكن تحديد تاريخ معين للتغير في الظروف المحيطة بنا يومئذ والتي أوحت إلى السيد (قدس سره) بإمكان أخذ حريته النسبية، والعام المذكور كان تاريخاً للحديث عن لقائنا المباشر.

وهذه التغيرات تحتاج إلى عناية خاصة من الباحثين و المفكرين لدراستها وتحليلها ومعرفة عوامل حصولها لأنها فترة مهمة من تاريخ الحركة الإسلامية خاصة

ص: 102

والعراق المعاصر عامة وقد أسست لانطلاقة جديدة لها بعد أن خمدت مطلع الثمانينات وأضرمت بانطلاقتها هذه انتفاضة عام 1991 وكسرت شوكة نظام صدام حتى إسقاطه عام 2003 وأعطاها السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) زخماً كبيراً عندما تصدى للمرجعية بعد الانتفاضة حتى توّجها باستشهاده عام 1999.

ولا زالت هذه الفترة مجهولة بل يتعمد الكتّاب والمؤلفون في تاريخ الحركة الإسلامية تجاهلها لأن أكثرهم كان خارج العراق في حينها ويدّعي زعامة المعارضة العراقية، فإبراز تاريخ الحركة الإسلامية داخل العراق في تلك الفترة يفضحهم ويظهر زيف معارضتهم المزعومة. على أي حال استطيع القول أن المعارك الكبيرةالتي شهدتها الحرب بين نظام صدام وإيران خلال سنوات 1982-1985 كبدّت العراقيين خسائر جسيمة بالأرواح وعمّت المصائب أغلب البيوت تقريباً وقد وقعت الخسائر في الشيعة الذين جعلهم صدام المقبور وقوداً للحرب، لذا كان رد الفعل الطبيعي هو التوجه إلى الله تعالى والتوسّل بأهل البيت (عليهم السلام) وقصد مراقدهم المقدسة

ص: 103

وإحياء الشعائر الدينية ولأكثر من سبب(1) فإن تحولاً نوعياً بدرجة ما قد حصل في كيفية تعاطي النظام مع نمو الظاهرة الدينية (وأسميها بهذا الإسم تمييزاً عن الحركة الإسلامية التي تعني بروز النخبة وقصدها للعمل الذي يكون نخبوياً عادة أما الظاهرة الدينية فهي حالة شعبية عامة).وأقصد بالتحول النوعي غضّ النظر عن جملة من الممارسات التي كان يعتبرها جريمة يعاقب عليها القانون كالتدين خصوصاً عند الشباب وارتياد المساجد وحضور صلوات الجماعة والشعائر الدينية وزيارة العتبات المقدسة ووجود الكتاب الديني التقليدي ونحوها التي كانت توجد مادة في قانون العقوبات تقضي بالسجن سبع سنوات على هذه الأمور بتهمة الطائفية.

ص: 104


1- منها شعور النظام بعدم وجود تهديد جدي في الداخل بعد القضاء على رموز المعارضة، أما المعارضة في الخارج فقد كان يسخر منها ومن عملياتها التي لا تملك أي قيمة في تهديده ولا تعدو إثبات الوجود ولضمان استمرار الدعم من الدول المساندة لتلك المعارضة، كما أن الحرب مع إيران لم تعد تهدد وجود نظامه وشعر بتوازن القوى بعد استخدامه للأسلحة الكيمياوية في عمليات هور الحويزة في شباط 1984 وغيرها من الأسباب

فصرنا بعد عام 1985 نشهد المجالس الحسينية الضخمة في المساجد والبيوت مما لم يكن مألوفاً من قبل وكان للسادة آل بحر العلوم (الذين قضى كثيرٌ منهم في السجن بعد الانتفاضة الشعبانية) دور بارز في إحياء تلك المجالس على طيلة شهري محرم وصفر وفي وفيات المعصومين (سلام الله عليهم) وأخصّ بالذكر الأعلام الأجلاء السيد علاء الدين والسيد عز الدين والسيد جعفر والسيد حسن الذين اعتقلهم النظام في الانتفاضة مع أولادهم وإخوانهم ومضوا شهداء على طريق ذات الشوكة.

ولشعور النظام بالثقة بنفسه فقد اصدر في مايس/1986 عفواً عاماً عن السجناء وأكثرهم من الشباب المتدينين، ونقل أخي المرحوم الشيخعلي الذي كان أحدهم أن عدد المفرج عنهم بلغ ثلاثين ألفاً، وكان على هؤلاء الالتحاق بالجيش الصدامي الذي دُعي للخدمة فيه كل من تقع أعمارهم بين 18-40 سنة، أما غيرهم فيجنّدون في ما يسمى بالجيش الشعبي.

وكنت التقي بمجاميع من هؤلاء الشباب المتدينين في كربلاء عند زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ليلة

ص: 105

الجمعة ولما لم يستطع بعضهم التعايش مع النظام فقد غادر قسم منهم العراق بشكل أو بآخر وشكل عدد آخر مجاميع مسلحة لمواجهة النظام، وكانت المجموعة (1) التي ترأسها المرحوم الشهيد حسين علوان اليعقوبي في النجف الأشرف من أشدها تهديداً للنظام وقامت بتصفية عدد من رموزه وازداد قلقه من عدم العثور على خيط يوصلهم إلى رجالها، حتى تمكنوا من ذلك واعتقلوا الشهيد المذكور وعذّبوه بأقسى وأشرس ألوان التعذيبالوحشي وحبسوا عائلته في البيت(2) واتخذوه مقراً لجلاوزة الأمن الصدامي للقبض على كل من يطرق الباب ومكثوا فيه أسابيع اعتقل فيها عدد من الأصدقاء والأقرباء بينهم عدد من النساء.

ص: 106


1- كانت للمجموعة عدة نشاطات غير العمل المسلح كمساعدة المحتاجين خصوصاً عوائل الشهداء والسجناء وتزويج الشباب المؤمنين ومساعدة المتخلفين عن الخدمة العسكرية والمجاهدين بإخفائهم وتنظيم الوثائق الثبوتية التي تتيح لهم الحركة، وقد استفدت أنا شخصياً من هذا العمل الأخير.
2- وهو دار أسرة آل اليعقوبي التاريخي في مدخل المدينة القديمة وتتوارثه الأسرة منذ أكثر من (160)عاماً.

وإنصافا نذكر هنا أن المرحوم آية الله السيد حسين بحر العلوم (قدس سره) كان يدعم هذا العمل مادياً ومعنوياً، كما كان للمرحوم الشهيد الخطيب الشيخ عبد الأمير أبو الطابوق الدور البارز في رفع مستوى الوعي والهمة والحماس في نفوس المؤمنين بما يلقيه من محاضرات رسالية تعبوية لم تكن معتادة خصوصاً في مثل تلك المجالس العلنية العامة كالمجلس الذي كان يقام في جامع الطوسي في العشرة الأولى من محرم الحرام ويمتلئ الحرم والساحة ويُفرش الشارع الخارجي (شارع الطوسي) ويتقطع مرور السيارات لامتلاء المكان بالناس، وقد دسّ إليه جلاوزة الأمن سماً قاتلاً آنذاك لكنه لم يمت ببركة دعاء المؤمنين وإنما شُلّت أعضاؤه وسقط شعر رأسه ثم قبض عليه في الانتفاضة ومضى شهيداً.على أي حال لقد استطردت إلى ذكر هذه الأجواء للأمانة التاريخية ولحثّ الكتّاب والمفكرين على تغطية هذه الفترة المهمة، ومحل الشاهد منها إن السيد الشهيد الصدر (قدس سره) أدرك أن جملة من النشاطات يمكن

ص: 107

أن يقوم بها ولم تعُد محظورة من قبل النظام فبدأ بالظهور الاجتماعي، ثم عاود التدريس في جامعة النجف الدينية وكان يرغب بتدريس البحث الخارج إلا أن خلو الجامعة –بحسب نظامها الداخلي- من هذا المستوى من البحث دفع السيد الشهيد (قدس سره) إلى القبول بتدريس عدد من الطلبة –كان عددهم ثلاثة- كتاب الكفاية في الأصول على أمل أن يبدأ معهم بحث الخارج عند إكماله. لكن الفرصة سنحت له لافتتاح البحث في أروقة الحوزة إلى جوار أمير المؤمنين (عليه السلام).

نمو المظاهر الدينية وأثرها على الحوزة:

س4: تتمة للاستطراد السابق هل أثّر هذا النمو للظاهرة الدينية على وضع الحوزة العلمية في النجف الأشرف؟

ج: نعم أثر إيجاباً فقد بدأ عدد من العراقيين بالالتحاق بالحوزة العلمية بعد أن انتهى وجودهم تقريباً وتفرّقوا بين إعدام واعتقال وتهجير ومن بقي سيق إلى الخدمة العسكرية أو توارى عنالناس، كما أن توقف الحرب مع إيران عام 1988 فتح الباب لمجيء طلبة العلم من

ص: 108

الخليج وغيرها، وعاد إلى التدريس من كان منكفئاً عنه كالسيد الشهيد الصدر (قدس سره)، فكان نمو الحراك العلمي في الحوزة واضحاً، كما تحسّن الوضع المالي بتوافد الزوار من دول العالم وكنت أتردد على مقر إقامة السيد الخوئي (قدس سره) في الكوفة وأرى هذه الوفود، وكذا في بيوت كبار العلماء كالسادة آل بحر العلوم والسيد محيي الدين الغريفي وغيرهم، لكن غزو صدام للكويت قضى على كل هذا التحسن وأعاد عقارب الزمن إلى الوراء.

تأليف ما وراء الفقه:

س5: ورد في بعض رسائله (قدس سره) معكم المنشورة انه طلب مساعدتكم في تأليف كتابه القيم (ما وراء الفقه) فما وجه هذه المساعدة وما حدودها؟.

ج: ذكر (قدس سره) في بعض رسائله بتواضعه المعروف انه يستفيد من رسائلي وذكر عدة فوائد، منها: أنها تفتح ذهنه على أفكار جديدة، وعنوان كتابه (ما وراء الفقه) جاء بعد ما بعثت له بمشروع للكتابة في (ما وراء

ص: 109

النص) أي النص الفقهي، وأصل البحث وتعليقاته (قدس سره) منشورة في كتابي (الشهيد الصدر (قدس سره) كما أعرفه).

ولما كان الكتاب يتناول المسائل الفقهية من جهة ارتباطها بالعلوم الأخرى ومنها العلوم العصرية، ويعرف السيد الشهيد (قدس سره) أنّ لي حصيلة مفيدة في هذا المجال فطلب مني مساعدته في توفير مثل هذه المعلومات وتدقيق ما يأخذه من المصادر، ومراجعة ما يكتب، ويوجد طلبه في تلك الرسائل.

فكان (قدس سره) يبعث بدفاتر المسودات التي وصلت إلى حوالي (28) كل منها فئة (200) ورقة حيث كان يكتب بصفحة واحدة هي اليسرى ويترك اليمنى المقابلة للإضافات والهوامش والتعليقات وقد اتبعته في ذلك في كتاباتي اللاحقة.

وكنت أؤشر بتعليقاتي على تلك المسودات وكانت التعليقات على كتاب الميراث غزيرة تعجب (قدس سره) من كثرتها وقد بقي بعضٌ منها ذكرته في كتاب (الرياضيات للفقيه).

ص: 110

وقد استفدت من مراجعة مسودات الكتاب كثيراً لأنها كانت أول قراءة منظمة لكتاب فقهي من أول الفقه إلى آخره حيث كنت لا أزال اعتمد على مطالعاتي الشخصية ولم انضمّ إلى كيان الحوزة العلمية.كما تولّد لي خلال المراجعة شعور بحاجة الحوزة العلمية إلى كتاب يقدّم لهم ما يحتاجون من علم الرياضيات في المسائل الفقهية ويراعى فيه الوضوح في إيصال المعلومة، فألّفتُ (الرياضيات والفقه) حيث نال رضاه (قدس سره) ورغب بطبعه في الجزء الثامن وإلحاقه بكتاب الميراث وأضفت له فقرة (التباديل والتراكيب) جواباً على طلبه (قدس سره) بأنه هل يمكن وضع قانون أو قاعدة لاستقصاء مسائل الميراث بدل الطريقة المتبعة لدى الفقهاء (قدس الله أرواحهم) بافتراض مسائل لا حدود لها وحلها، وقد كتبت أكثره في أوقات الفراغ في محل الكسب.

وبعد التحاقي بالدراسات الحوزوية عمّقت الكتاب وأضفت له موارد جديدة فكان كتاب (الرياضيات للفقيه) ولله الفضل والحمد أولاً وآخراً.

ص: 111

أثر انتهاء الحرب على العلاقة مع الشهيد الصدر:

س6: ما وقع قرار إيقاف الحرب بين العراق وإيران على السيد الشهيد الصدر (قدس سره) وعليكم؟

ج: كان السيد الشهيد (قدس سره) من المعارضين لاستمرار الحرب وكان يتمنى على القادة الإيرانيين لو قبلوا بقرار مجلس الأمن لإيقافها منذ عام 1982 بعد أن حرّروا جميعأراضيهم في أواخر مايس من تلك السنة وقد أشرتُ إلى هذا في كتاب (السيد الشهيد الصدر (قدس سره) كما أعرفه) لأنه كان يرى استمرار الحرب استنزافاً لطاقات البلدين المادية والبشرية وكانت الخسائر تقع في الشيعة الذي كان يرميهم صدام المقبور في الجبهات الأمامية، وكان (قدس سره) يدرك المؤامرة الدولية التي تريد إنهاء الشيعة في البلدين وثرواتهم، وكتب في هذا المجال بحثاً بعنوان (فلسفة الأحداث في العالم المعاصر) وبعثه إليّ للاطلاع والتعليق عليه، وقد ذكرتُ ذلك في الكتاب المذكور وهو مطبوع.

وكان الخلاف موجوداً بين القادة الإيرانيين أنفسهم حيث كان يرى البعض عدم وجود مبرر لدخول الأراضي

ص: 112

العراقية (الذي بدأ في عمليات شرق البصرة في تموز/1982 الذي صادف شهر رمضان المبارك) فيما كان يرى البعض الآخر ضرورة ملاحقة صدام في عقر داره وإنزال العقوبة به وإزاحته، وقد نجح الفريق الثاني في إقناع السيد الخميني (قدس سره) الذي كان صاحب القرار النهائي واستمرت الحرب حتى قبِل السيد الخميني (قدس سره) بقرار مجلس الأمن (598) ببيانه التاريخي الذي أصدره في 1988/7/20 الموافق السادس منذي الحجة بمناسبة الذكرى الأولى لسقوط المئات من الحجاج الإيرانيين شهداء وجرحى أثناء قيامهم لمسيرة البراءة في مكة المكرمة.

أما بالنسبة لي فقد شُغلتُ بنفسي و تخلّيت في حينها عن أغلب اهتماماتي ومنها مجريات الحرب فلم أتابع ما حصل من العمليات عام 1988، ولم اسمع بقرار وقف الحرب إلا من بعض أقربائي الذين قصدوني للتهنئة بانتهائها والسلامة وكنتُ قد انتقلت بسكني إلى النجف الأشرف منذ أوائل عام 1988. وسمعت خطاب السيد

ص: 113

الخميني (قدس سره) المتضمن لقبول قرار مجلس الأمن من التلفزيون العراقي.

ص: 114

دور السيد الشهيد الصدر الثاني(قدس سره) في الانتفاضة الشعبانية

اشارة

دور السيد الشهيد الصدر الثاني(قدس سره) في الانتفاضة الشعبانية(1)

عتب على المؤرخين:

أدلى سماحة المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بحديث مفصّل إلى إذاعة البلاد عن دور السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في الانتفاضة الشعبانية المباركة في ذكرى اعتقاله خلالها يوم 1991/3/14 وعتب في بداية حديثه على المؤرخّين والكتّاب لعدم تسجيل أحداث هذه الانتفاضة الواسعة وتخليد مآثرها وهي التي كسرت شوكة صدام وأزالت دولة الرعب التي صنعها في نفوس الناس وجعلت منه كياناً خاوياً سهّل لاحقا على قوات الاحتلال أن تسقطه بلا قتال.

ص: 115


1- نُشر في العدد (55) من صحيفة الصادقين الصادر في 15/ربيع الأول/1428 المصادف 2007/4/4.

نتائج الانتفاضة الشعبانية أهم من نتائج ثورة العشرين:

كما ساهمت هذه الحركة المباركة التي كان يحركها رفض الظلم ورفع الكبت والحصار عن الوعي الإسلامي ونشر تعاليم أهل البيت عليهم السلام وإقامة شعائرهم ساهمت في الانتشار الواسع للعودة إلى الله تبارك وتعالى الذي تفاجأ به القادمون من الخارج ولم يحسبوا له حساباً.

فهي في نتائجها أكبر من ثورة العشرين التي خلدّتها كتب عديدة رغم أنها لم تحقق الأهداف المرجّوة التي توازي التضحيات الجسيمة التي تكبّدها الثوار، لذا قال جدّي الشيخ محمد علي اليعقوبي (رحمه الله تعالى) وهو من رجالها:

سل ثورة العشرين أين رجالها

فجهادهم وجهودهم ذهبت سدى

ص: 116

أسباب إهمال ذكر الانتفاضة الشعبانية:

إن أحد أسباب إهمال تاريخ الانتفاضة الشعبانية - الآذارية ومرور ذكراها وذكريات رجالها من دون اهتمام أن المتصدّين اليوم لإدارة الدولة والمتاجرين بمواقف الأبطال لم يكن لهم فضلولا سابقة في تلك الانتفاضة ولا في الحركة الإسلامية الواسعة التي تلتها في التسعينات فهم يخافون من إحياءها لأنه سيكشف عن أحقية قوم قد أبعدهم هؤلاء المتصدّون وأخروهم وحاربوهم وحرموهم من حقوقهم وجعلوا لأنفسهم حق الوصاية عليهم.

لذا ينبغي للكتّاب والباحثين أن يولوا اهتماما لهذه الحقبة المهمة من تاريخ العراق والحركة الإسلامية واخصّ بالذكر طلبة الدراسات العليا ليجعلوها مادة لأطاريحهم.

قد وردت جملة من تفاصيل الانتفاضة في فصل خاص من كتاب (الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه).

ص: 117

الموعظة وأخذ الدرس:

وأضاف سماحته: إن الله تبارك وتعالى حثّ في القران الكريم على دراسة التاريخ والاعتبار به وأخذ الدروس والمواعظ من أحداثه لان سنن الله تعالى في خلقه لن تجد لها تبديلا ولن تجد عنها تحويلا فلا ينبغي لعاقل أن يبدأ من حيث بدأ الآخرون من دون أن يستفيد من تجاربهم ، فهل من الصدفة أن يصل السيدان الشهيدان الصدران الأول والثاني (قدس الله سريهما) في ذروة المواجهة مع النظام الطاغوتي إلى نتيجةواحدة وهي قلة الواعين المخلصين؟ فمثل هذه التجارب سواء كانت مرجعية أو سياسية أو اجتماعية أو عسكرية لا بد أن تمحّص ويستفاد منها.

ص: 118

الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وإعداد البديل

اشارة

الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وإعداد البديل(1)

على أبناء الحوزة أن يحصلوا ملكة الاجتهاد:

إن التعبير عن المشاعر وردود الأفعال إزاء مثل هذه

المناسبات الحزينة المؤلمة مختلفة بحسب مستويات الناس، فأنتم الفضلاء والأساتذة وطلبة البحث الخارج يكون تعبيركم المناسب هو ما نفهمه من ذيل الحديث الشريف(إذا مات العالم ثُلم في الإسلام ثُلمة لا يسدّها شيء إلا عالمٌ مثله) بوجوب مضاعفة الجهد وبذل الوسع لتحصيل ملكة الاجتهاد حتى نسدَّ هذه الثُلمة.

وهذا ما يقتضيه منهج أهل البيت (سلام الله عليهم أجمعين ) فإنهم أرجعوا الأمة في زمان غيبة الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) إلى المجتهد الجامع

ص: 119


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع الفضلاء الذين يحضرون بحثه الشريف في الفقه بمناسبة الذكرى العاشرة لاستشهاد السيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره) في 3/ ذو القعدة /1429المصادف 2008/11/2.

للشرائط ليقوم ببعض وظائف ومسؤوليات الإمام وهي تلك التي لا يستطيع القيام بها لأنها تتنافى مع المصلحة في غيبته أما وظائفه(سلام الله عليه ) الأخرى فهو قائم بها وعلى رأسها لطف وجوده المبارك.

مسؤولية المرجعية أن لا تخلي الأرض من المجتهدين:

إن اللطف الإلهي اقتضى أن لا تخلو الأرض من حُجة وإلا لساخت الأرض بأهلها كما ورد في الأحاديث الشريفة والمصداق الأكمل للحجة موجود (عجل الله تعالى فرجه) حتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ويقيم دولته المباركة، لكن الأمة بحاجة إلى نوع آخر من الحجة يكون نائباً للمعصوم (سلام الله عليه) ويقوم بتصريف الشؤون التي لا يستطيع مباشرتها بنفسه وبدونه تضّل الأمة عن الصراط المستقيم، لذا ورد في الدعاء (اللهم عرّفني نفسك فإنك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف نبيَّك، اللهم عرّفني رسولكفإنك إن لم تعرّفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرّفني حجتك فإنك إن لم

ص: 120

تعرّفني حجتك ضللتُ عن ديني)(1).

فمن مسؤولية الحوزة العلمية وخصوصاً المرجعية أن لا تُخلي الأرض من حجة بهذا المعنى الثاني بلطف الله تبارك وتعالى.

دعوة للاستعداد المبكر لتحصيل شروط المرجعية، والإشادة بالنبوغ والإبداع:

نعم، هذا الوجوب كفائي وإذا تصدى أحد للمسؤولية فإنه يسقط عن الآخرين ويمكن أن يكتفي به غيره، لكن علينا الاستعداد المبكر لمثل هذا اليوم لأن شروط المرجعية لا تتوفر إلا بعد جهد وجهاد طويلين قد يستمران عقوداً ولا تُعذر الحوزة العلمية أمام الله تبارك وتعالى إذا قصّرت في إعداد البديل، لقد كان السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) منصفاً في الإشادة بكل نبوغ علمي واجتهاد ويرى من مسؤولياته الإشارة إليه، ويشجّع السائرين الذين يؤمَّل لهم الوصول، كنتُ أناقشه باستمرار بعد انتهاء محاضرات البحث الخارج في الأصول

ص: 121


1- مفاتيح الجنان: ص94.

وفي أحد الدروس سنة 1417هجرية عرض رأياً للسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) وناقشته(حيث كان يرّكز في بحثه على مناقشة آراء أستاذيه السيدين الصدر والخوئي (قدس الله سرهما) فقلت له بعد الدرس إن هذه المناقشة ليست تامة لكذا وكذا والصحيح أن يُردَّ على كلام الشهيد الصدر (قدس سره) بكذا وكذا فنظر إلي مبتسماً وعليه علامات الفخر بتلميذه (إن هذه المناقشات تفرحني لأنها تقربك من الاجتهاد) هذا غير الكلمات التي نشرت بقلمه وبصوته (قدس الله نفسه).

الحوزة النجفية لم تصدر شهادة اجتهاد واحدة منذ أكثر من ثلاثين عاماً:

وسأكون إن شاء الله تعالى منصفاً كأستاذي وكما أمر الله تبارك وتعالى فأشيد بكل نبوغ واجتهاد وأشير إليه تحملاً لهذه الأمانة لأن حبس الاعتراف باستحقاق الآخرين ظلم لهم والله لا يحب الظالمين فاغتنموا فرصة وجود المنصفين لأن العقود الأخيرة شهدت - بكل أسف - حبس هذا الحق لذا لم تصدر شهادة اجتهاد واحدة في الحوزة النجفية منذ أكثر من ثلاثين عاماً، فهل هذا يعني إفلاس هذه الحوزة وعجزها عن أداء دورها فليعلنوا ذلك بشجاعة وموضوعية؟ أم أن وراء الأكمة ما وراءها، إذ أن الحوزة

ص: 122

النجفية منجبة بفضل الله تبارك وتعالى وفيها عدد يُفتخر به من الطاقاتالواعدة.

مفارقة مؤلمة:

إن من المفارقات المؤلمة أن نجد أساتذة الجامعات من الأكاديميين لا يبخلون على طلابهم بالاعتراف بنيل الشهادات العليا بعد الإشراف عليهم ومناقشة رسائلهم فيمنحونهم ما يستحقون وبتقديرٍ عال ٍ رغم أن ذلك يعني منافسة هؤلاء الأساتذة الجدد لهم في مواقعهم التدريسية والوظيفية ولم يمنعهم ذلك من الشهادة بإنصاف لهم، مع أنهم في الغالب علمانيون، فهل هؤلاء أنبل وأكثر إنصافا من مما يجري في أروقة الحوزة العلمية؟ هذا إذا عقدنا المقارنة على هذا المستوى وإلا فبين أيدينا شواهد على قيام كبراء الحوزة العلمية بقتل الإبداع والنبوغ ووضع العراقيل في طريقه وتسقيط

ص: 123

صاحبها وتطويق مسيرته فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولكن الأمل بالله تبارك وتعالى أن يرعى بلطفه هذه الحوزة المباركة ويقيّض لها في كل جيل أمناء على حلاله وحرامه حتى يسلّموا الراية لبقيته وحجته في أرضه المهدي الموعود (أرواحنا له الفداء).

ص: 124

الملحق: كلمات في تأبين العلماء واستلهام الدروس الرسالية

اشارة

ص: 125

ماذا استهدفوا بعملية يوم الجمعة الدامي وماذا علينا أن نفعل

اشارة

ماذا استهدفوا بعملية يوم الجمعة الدامي وماذا علينا أن نفعل(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد كانت المصيبة التي وقعت يوم الجمعة الأول من رجب عام 1424 جليلة وعظيمة انتهكت فيها حرمة الإسلام والمذهب والحوزة العلمية والنجف الأشرف، فقد نفذت الجريمة في واحدة من أقدس بقاع الأرض في جوار مرقد أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب (عليه السلام) حيث تعدل الصلاة الواحدة عنده مائتي ألف صلاة تشريفاً لهذه البقعة، وفي واحدة من أشرف اللحظات وهي الساعة التي تعقب صلاة الجمعة والتي قال فيها الله تبارك وتعالى [فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأرض وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ

ص: 126


1- بيان أصدره سماحة الشيخ أثر التفجير الإجرامي الذي أدى إلى شهادة سماحة آية الله السيد محمد باقر الحكيم وأكثر من ثمانين شخصاً بعد أداء صلاة الجمعة في الحرم العلوي الشريف يوم 1 رجب/ 1424 هجرية الموافق: 29 آب/ 2003.

كَثِيراًلَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (الجمعة:10) ويكو ن المصلي حينها قد غفرت ذنوبه كلها وعاد كيوم ولدته أمه وتقول له الملائكة استأنف العمل فقد غفر لك، وفي يوم الأول من رجب أحد الأيام المباركة المخصوصة، وفي مدينة النجف مركز الإشعاع الفكري ومستقر المرجعية الشريفة ومصنع رجالات الفكر والعلم والجهاد والفضيلة ومهوى أفئدة المسلمين في العالم، وقد كانت عظيمة بالخسائر التي نتجت عنها كمّاً وكيفاً فقد استشهد أحد رموز العمل الإسلامي السياسي والاجتماعي والفكري والديني وهو آية الله السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) والعشرات من المؤمنين ناهز عددهم المائة لأن مكان الجريمة يزدحم عادة بالمصلين والزوار في مثل هذه الساعة المباركة.

وقد كان المجرمون الذين نفذوا العملية ملتفتين إلى كل الجوانب ومتعمدين لها فماذا استهدفوا من ذلك؟

1 خلق الفتنة بين أبناء المجتمع لأن أصابع الاتهام ستتجه إلى هذا وذاك وتجري أعمال أخذ الثأر ورد الاعتبار من كل من يحتمل ولو ضعيفاً أنه خصمٌ للسيد الحكيم

ص: 127

(قدس سره) الشخص أو النوع سواء داخل المذهب أو خارجه ومن دون تروٍّ وتأمل وتورّع، وقدتؤدي إلى حرب أهلية لا يعلم مداها إلا الله تعالى وربما كما من خطط المنفذين أن يقوموا بعمليات مماثلة ضد الأطراف المقابلة للسيد الحكيم (قدس سره) شخصاً أو نوعاً لتعزيز هذه الفتنة وتأكيد الاحتمالات، وقد حدث فعلاً بعد الجمعة التالية اعتداء على مسجد لأبناء السنة في مدينة الشعب ببغداد، وإن اختيارهم لمرقد أمير المؤمنين (عليه السلام) وللزمان الشريف وتكثير عدد الشهداء والجرحى إنما هو تفعيل للفتنة وتعظيم لتداعيات الحادث حتى تفلت زمام الأمور من العقلاء.

2- نشر الرعب والفوضى وإرباك الوضع والمنع من الأمن والاستقرار لربوع البلد وهذه هي النتيجة التي أرادوها أيضاً بتفجير مكتب الأمم المتحدة في بغداد وقتل فيها ممثل الأمين العام للأمم المتحدة الذي قيل أنه عمل لإعادة العراق إلى وضعه الطبيعي حتى سمي (صديق الشعب العراقي) ومثل هذا الاستقرار يضّر بوضع بعض عصابات المجرمين لأنه سيسّهل القبض عليهم ويعرقل

ص: 128

حركتهم ونشاطهم كما أنه يسلب مبررات وجود آخرين.

3- التأثير في المعادلة السياسية الجديدة التي بدأت تتبلور بعد سقوط النظام البائد لمصلحة الإسلام وخط أهل البيت (عليهم السلام) خاصة،ولا شك أن السيد الحكيم (قدس سره) كان عنصراً مؤثراً في هذه المعادلة الآن وفي المستقبل بما يمتلك من رصيد فكري وسياسي واجتماعي وديني فيمكن أن يكون عائقاً من تمرير الحالة التي يريدونها للعراق الجديد بمعارضته العملية أو النظرية على الأقل من خلال الخطب والكلمات التي كان يلقيها ويوعي الجماهير ويلفت أنظارهم إلى هذه الهواجس حسب تعبيره (قدس سره).

4- تعويق الحركة الإسلامية المتصاعدة بتصفية رموزها العاملين وهو أحد الأهداف الرئيسية التي جاءوا من أجلها لذا ليس من المصادفة أن يستهدف الشيخ احمد ياسين مؤسس حركة حماس في غزة بعد حادث الجمعة بأيام.

إذا عرفنا ذلك فماذا علينا أن نعمل:

1- العمل أزيد من ذي قبل على توحيد الأمة ونبذ

ص: 129

الخلافات والالتفات إلى القضايا المصيرية التي تهمنا، وقد أبدى الشارع العراقي سنة وشيعة عرباً وأكراداً وتركمان مسلمين مسيحيين تفهمه للحاجة إلى هذه الوحدة من خلال المشاركة المليونية في التشييع وكانت هذه ثمرة كبيرة هوّنت المصاب الجليل، والمطلوب هو مواصلة العمل لترسيخ هذه الوحدة وإعادة النظر في الاختلافات السابقة وتنسيق مواقفالجميع وتوحيدها على خط رضا الله تبارك وتعالى ومصلحة الأمة.

2- مضاعفة الهمّة والجهد لإعداد جيل من العلماء والمفكرين والقادة ليعوضوا الخسارة، فإن العالم إذا مات ثلم في الإسلام ثلمه لا يسدها شيء إلا عالم مثله فمثل هذه الأحاديث الجليلة تحملّنا مسؤولية إضافية خصوصاً نحن الحوزة الشريفة - لتعويض هذا النقص وإدامة الحركة الإسلامية المباركة وتكثير مشاريعها سواء على صعيد تأسيس الحوزات العلمية في كل مكان وفتح المراكز والمجمعات الثقافية وإقامة المجالس والشعائر الدينية وعقد الندوات والمحاضرات والمسابقات وتكثيف اللقاءات ونشر وتوزيع الكتب والإصدارات الواعية ومن العناصر

ص: 130

المهمة في هذه الحركة هو أعمار المساجد بكل ما يناسبها من الأنشطة الدينية والثقافية والاجتماعية.

3- توعية الأمة وتثقيفها سياسياً لتكون على بصيرة بالأمور وتستطيع أن تشخص مصالحها وتميّيز النافع من الضار من القرارات التي تصدر في حقها وحتى تتوفر لها القابلية الكاملة على قراءة الأحداث وتحليلها وها هي تواجه قضية مهمة في تأريخها وهي كتابة الدستور الذي هو المرجع والفيصل في قضايا البلادويمكن أن تكتب فيه فقرة على غفلة أو جهل من الشعب فتقوده إلى الكارثة.

ص: 131

في تأبين المرجع العارف الشيخ محمد تقي بهجت

في تأبين المرجع العارف الشيخ محمد تقي بهجت(1)

إنا لله وإنا إليه راجعون.

نقلت لنا وسائل الإعلام خبر رحيل المرجع العارف والعالم العامل سماحة الشيخ محمد تقي بهجت (أعلى الله درجته) إلى جوار ربه الكريم عن عمر ناهز (96) عاماً.كان الفقيد آخر من بقي من ثمار مدرستين عظيمتين:

(الأولى) في الفقه والأصول التي شيدها الأساطين الثلاثة الميرزا النائيني (ت 1355 ه) والشيخ محمد حسين الأصفهاني (ت 1361) والشيخ ضياء الدين العراقي (ت 1363) وخرّجت الفحول من المراجع والعلماء وقد أدركها الفقيد الراحل حيث وصل النجف مهاجراً من

ص: 132


1- تقرير الكلمة التي تحدث بها سماحة الشيخ إلى طلاب بحثه الخارج في الفقه يوم الاثنين 22/ج1/1430 الموافق 2009/5/17 بمناسبة وفاة المرجع الشيخ بهجت الذي وافته المنية عصر الأحد ودفن يوم الثلاثاء إلى جوار حرم فاطمة المعصومة في قم المقدسة.

مدرسة قم عبر مدرسة كربلاء عام 1354 ه وحضر عند هؤلاء الأعاظم واستفاد منهم وعاد إلى قم عام 1364 مكتفياً عن الحضور إلا قليلاً وكان مشاركاً فاعلاً في مجلس البحث الخاص الذي كان يعقده المرجع الراحل السيد البروجردي (قدس سره) ويشارك فيه المراجع العظام كالسيد الخميني والسيد الكلبايكاني (قدس الله سريهما) واشتغل بالبحث والتدريس والتأليف طيلة خمسين عاماً حتى وافاه الأجل وترك آثاراً مباركة.

(الثانية) مدرسة السلوك والعرفان التي انتهت إلى المرحوم السيد علي القاضي الطباطبائي والشيخ الطالقاني (قدس الله سريهما) وقد استفاد منها الفقيد الراحل إيّما استفادة ووجد فيها بغيته إذ كان منذ صباه نقياً طاهراً مقبلاً على عبادة ربه تبارك وتعالى، ويتحدث أقرانه في هذهالمدرسة –وهم من أهل المعرفة كالشيخ عباس القوجاني والسيد محمد حسين الطهراني- عن مرتبة سامية بلغها الفقيد الراحل، ثم أضاف إليها بعد عودته إلى قم ما حباه الله تبارك وتعالى من ألطاف وفتح له من آفاق المعرفة وسبل الوصول إلى الكمال، ولم تكن

ص: 133

سيرته وتوجيهاته (قدس سره) إلى الآخرين تخرج عمّا سنّة المعصومون (سلام الله عليهم)، لذا كان ينتقد من ينصبون أنفسهم شيوخاً ومعلمين للسلوك ويبتدعون برامج وأعمال لمريديهم وأتباعهم، ويقول (قدس سره) ساخراً: لو كان شيء من هذا خيراً لأخبرنا به المعصومون (عليهم السلام) لأن غرضهم كان هداية الخلق وسعادتهم فلم يخفوا شيئاً مما يحصّل هذا الغرض.

وحينما نحاول دراسة شخصية المرجع الراحل لنتلمّس العناصر التي صنعته نجد على رأسها إخلاصه لله تبارك وتعالى وإعراضه عن الدنيا وهمّته العالية والجد والاجتهاد في تحصيل العلم والمعرفة ومراقبته نفسه، واجتنابه مضيعة الوقت بما لا ينفعه في طريق الكمال حتى المباحات التي يمكن أن تأخذ عنواناً راجحاً كالترويح عن النفس، يروى عنه أن أحد مريديه كان يكرر الدعوة عليه ليزور بستانه يوم العطلةوالشيخ يسوّف إلى أن استجاب له وحضر في الموعد المحدد ومعه دفتر وقلم ليستغل الوقت بالبحث.

ص: 134

كان (قدس سره) يرى أن خير معلم هو العمل بما تعلم تطبيقاً للحديث الشريف (من عمل بما علم، ورّثه الله علم ما لم يعلم)(1) والحديث (العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل)(2)، ويوجه إلى تصيد الموعظة والاتعاظ بها، وما أكثر المواعظ في أنفسنا وفي الآفاق ولكن ما أقل الاتعاظ. وكما يروى عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما أكثر العبر وأقل الاعتبار)(3).

إن المدّعين للسلوك والعرفان كثيرون لكن الصادقين قليلون ومنهم الفقيد الراحل (قدس سره) لأنه استقاه من العين الصافية وهم أهل بيت النبوة (صلوات الله عليهم أجمعين)، وكان ينصح من يطلب منه برنامجاً لتهذيب النفس أن يفتح أبواب (آداب العشرة) من كتاب الحج وكتاب (جهاد النفس) وكتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) في وسائل الشيعة ويلتقط حديثاً ثم لا يفارقه إلى غيره حتى يعوّد نفسهعلى مضمونه، وإذا احتاج المبتدئون إلى شرح فليستفيدوا من كتاب (جامع

ص: 135


1- البحار: ج40 ص128.
2- الكافي: ج1 ص44.
3- نهج البلاغة: الحكمة: 297.

السعادات) للنراقي و (المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء) للفيض الكاشاني (قدس الله سريهما).

فلا يشكُوَنَّ أحدٌ من عدم وجود المعلم أو المربي وبين أيدينا هذه الكتب الناطقة التي حملت إلى الأجيال غرر كلمات المعصومين (سلام الله عليهم) فهم حاضرون بيننا بآثارهم المباركة، أترى لو أننا كنّا في زمانهم (عليهم السلام) هل سنحصل على أكثر من سؤال فيجيبونه أو مشكلة يحلونها أو يبتدأوننا بكلمة تنفعنا وهذه كلها قد وصلت إلينا عبر هذه الأحاديث المباركة.

ولا أستغرب أن أجد توجيهاته (قدس سره) متطابقة مع ما استفدناه من سيدنا الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وما نوصي به فإن الأصل واحد.

وكان (قدس سره) يهتم كثيراً بطلب العلوم الدينية ويراه أكمل الطرق للوصول إلى الحق تبارك وتعالى ويحثّ الكلّ عليه، ومع تحرّزه من التصرف بالحقوق الشرعية إلا أنه (قدس سره) كان يرى صرف

ص: 136

طالب العلم منه على نفسه أمراً راجحاً إذا كان يعينه على التفرغ له.وحينما نقرأ في بداية تحصيله (قدس سره) أنه أخذ مقدمات العلوم في مدينة (فومن) التي ولد فيها وهي من مدن محافظة كيلان شمال إيران نسجّل بإكبار هذا السبق للحوزة العلمية في إيران التي أخذت على عاتقها نشر حوزاتها ومدارسها في كل مدن إيران وأتاحت بذلك الفرصة لكل من يرغب بالدراسة، وفتحت أعين الناس على هذا المسلك المبارك، ولو بقيت محصورة في قم المقدسة لما وردها إلا قليل لجهل الناس بتفاصيلها، ولكنها لما وصلتهم أينما كانوا واحتضنتهم ووفرت لهم أسباب التحصيل وعرفوها فعشقوها فالتحقوا بها فاكتسبت بذلك جماً غفيراً من العلماء والفضلاء تلقّى أكثرهم المقدمات في مدنهم البعيدة وخففوا بذلك على حواضر العلم التي يفترض فيها أن تكون معهداً للدراسات العالية.

وهذا ما سعينا لتحقيقه من خلال نشر فروع جامعة الصدر الدينية وجامعة الزهراء (عليها السلام) في

ص: 137

مدن وسط وجنوب العراق بلطف الله تبارك وتعالى عسى أن تنضج وتتحول إلى حوزات علمية متكاملة في جميع مدن العراق بلطف الله تبارك وتعالى.

إن فقد الشيخ بهجت العالم العامل سبّب ثغرة وثلمة في الإسلام لا يسدّها شيء أبداً إلابمواصلتكم طريق العلم والعمل الصالح حتى تصبحوا مثله بلطف الله تبارك وتعالى [ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ واللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] (الحديد: 21).

ص: 138

في تأبين المرجع الراحل الشيخ المنتظري (قدس سره)

في تأبين المرجع الراحل الشيخ المنتظري (قدس سره)(1) )لم ينحدر الفقيد الراحل الشيخ المنتظري (قدس سره) من أسره علمية فأبوه قروي بسيط لكنه متديّن طيب كان شغوفاً بأن يسلك ولده طريق العلماء فوَّجهه إلى ذلك وبذل ما يمكنه لتحقيق هذه الأمنية، ورافقت تحصيله صعوبات جمّة لا تقتصر على الجوع والفقر والحرمان.وهي على ما يبدو سنة جارية في كيفية صنع العلماء والعظماء، وطلاب الكمال عموماً حتى يتأسى بهم المتأسون ولا يستوحشوا الطريق الوعر وإن قلّ سالكوه.

ورغم ذلك فقد ارتقى الفقيد الراحل في مدارج العلم والعمل حتى فاق اقرأنه وأصبح علماً من أعلام العصر، ولا أستبعد ما سمعته من بعضهم حين نقل عن السيد

ص: 139


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي(دام ظله) في تأبين المرجع الشيخ المنتظري الذي وافته المنية يوم 2/ محرم/ 1431 الموافق 2009/12/19 وكانت الحوزة العلمية في تعطيل أيام عاشوراء ولما بدأت الدراسة يوم 17/ محرم افتتح سماحة الشيخ بحثه الشريف بتأبين المرجع الراحل.

الخوئي (قدس سره) قوله في الشيخ المنتظري: أنه احذق فقهاء عصره، فالفقيه لا يعرفه إلا فقيه مثله.

لقد نبغ مبكراً وطويت له مسافة تحصيل العلوم فحظي باهتمام أستاذه المرجع الكبير السيد حسين البروجردي (قدس سره) (توفي 1380ه /1961م) وقد قرّر أبحاث أستاذه في الفقه فحرّر كتاب (البدر الزاهر في صلاة المسافر) عام 1368 أي قبل أكثر من ستين عاماً وهو في الثامنة والعشرين من العمر (ولد عام 1340ه).ولم تقتصر آثاره على الفقه والأصول فقد اعمل فكره الشريف في قضايا عقائدية واجتماعية وسياسية وفكرية.

وصفه احد المجتهدين من تلامذته لي قبل سنتين تقريباً بأنه (حر) وهذا الوصف على اختصاره بكلمة واحدة إلا أنه يختزن الكثير من خصال الخير والملكات الشريفة.

فمن علامات ذلك نبذه منذ صغره لحياة أقرانه وحبس نفسه على حياة طلب العلم وسائر الكمالات وتحمّل الصعوبات، ومن ذلك رفضه الظلم والاستبداد منذ نعومة أظفاره وانخراطه في العمل الإسلامي فلحقه من

ص: 140

الأذى ما لحقه فسُجن سنين وعُذّب وحكم عليه بأقسى العقوبات.

وكان من المتحمّسين لوحدة المسلمين والتقريب بين طوائفهم ومتواصلاً مع جهود دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة من خلال سكرتيرها الشيخ محمد تقي القمي الذي اختاره السيد البروجردي (قدس سره) لها.

وكان متفاعلاً مع قضايا الأمة الإسلامية حتى خارج إيران وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

وكان متحمساً أيضاً للإصلاح في الحوزة العلمية والنهوض بواقعها لتكون بمستوى تحمّل المهام الواسعة المطلوبة منها وساعياً لحلالمشاكل والاختلاف في وجهات النظر التي تحصل أحياناً كما يروي في مذكراته عن مساعيه لدى السيد البروجردي (قدس سره) والسيد الطباطبائي صاحب الميزان بسبب ما حصل لبعض الطلبة من تدريس الأخير لكتاب (الأسفار الأربعة).

وكان السيد الخميني (قدس سره) يعرف مكانة الشيخ المنتظري (قدس سره) وجهاده فعيّنه خليفة له بعد انتصار

ص: 141

الثورة الإسلامية كما تولى مهام ثورية عديدة حتى عزله السيد الخميني قبل عدة أشهر من وفاته عام 1989 إلا أنه وجّه الفضلاء للاستفادة من علمه، وإن عزله كان من أدواره السياسية فقط لمصالح رآها السيد (قدس سره) ولا يؤثر ذلك على منزلة الشيخ العلمية.

إنه ليحزننا أن يرحل عنّا الشيخ المنتظري في مثل الظرف الذي رحل فيه فلم ينل ما يستحقه من التأبين والرثاء والتكريم وعرفان الجميل، وهذا من أخطار السياسة على الدين، فنحن وإن كنّا نؤمن بشمول الدين لكل نواحي الحياة ومنها السياسة والحكم ، إلا أن العلاقة بين العلماء والحكام أو كما يقال بين السياسة والدين لا بد وأن تُحكم بقوانين وضوابط وحدود، ومتى ما تجاوزت السياسة حدودها وأرادت توظيف الدين لمصلحتها أضرّت بالدين وأهله، ولاشيء عندنا يعدل الدين، فكل شيء لا بد أن يوظف لإعلاء كلمة الله تبارك تعالى وهداية الناس وصلاح شؤونهم.

لقد كان الشيخ المنتظري (قدس سره) من حفاّظ الشريعة وأمناء الأمة ومن الرعيل الأول من الفقهاء الذين افنوا

ص: 142

أعمارهم في إرساء دعائم مدرسة أهل البيت(سلام الله عليهم) ونقول فيه: كما قال الإمام الصادق (عليه السلام) في بعض أصحابه (لقد أوجع قلبي موت أبان)(1) (لولا زرارة لاندرست أحاديث أبي)(2).

كنّا نعرض آراءه الشريفة في بحثنا ونناقشها ونقول عنه(دام ظله الشريف) واليوم نقول عنه(قدس الله سره الشريف) وفي ذلك عبرة لنا ف [كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام) ليلة وفاته وهو مسجى بين أهله وأصحابه(أنا بالأمس صاحبكم، واليوم عبرة لكم، وغداً مفارقكم)(3) فإِنَّا لِلّهِ وَإِنَّ-ا إِلَيْهِ رَاجِعونَ، ونسأل الله تعالى أن يجمعنا وإياهم في مستقر رحمته تحت ظلّه، يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه.

ص: 143


1- الوسائل: ج30 ص23.
2- مستدرك الوسائل: ج17 ص314.
3- الكافي: ج1 ص299.

في تأبين الفقيد سماحة آية الله الشيخ عبد الهادي الفضلي

في تأبين الفقيد سماحة آية الله الشيخ عبد الهادي الفضلي(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

فُجع العالم الإسلامي برحيل سماحة آية الله الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي، وفقد بوفاته عالماً رسالياً مصلحاً مثقّفاً أديباً حصيفاً، ونحنبأمسِّ الحاجة لجهود

ص: 144


1- من العلماء الأعلام في المملكة العربية السعودية، ولد في البصرة سنة 1935/1354 ودرس مقدمات العلوم الدينية على والده ثم التحق بالحوزة العلمية في النجف الأشرف سنة 1368 وأكمل دراسة المقدمات والسطوح والتحق بأبحاث الخارج عند السيد الخوئي والسيد الحكيم والسيد محمد باقر الصدر والشيخ محمد رضا المظفر والشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي وغيرهم (قدس الله أرواحهم جميعاً). التحق بالدفعة الأولى من طلبة كلية الفقه وتخرج فيها عام 1962/1382 وحصل على الماجستير من كلية الآداب في جامعة بغداد عام 1971/1391 وعلى الدكتوراه من جامعة القاهرة بدرجة امتياز عام 1976/1396. غادر العراق إلى جدة عام 1971/1391 حيث عُيِّن استاذاً في جامعة الملك عبد العزيز وبقي مدرساً حتى عام 1409 حيث أحيل على التقاعد، واستقر في الدمام شرق المملكة. أجيز بالرواية من المرحوم الشيخ آغا بزرك الطهراني عام 1953/1374، توفي يوم 27/ج1/1434 المصادف 2013/4/8.

أمثاله ممن اجتمعت فيه هذه الصفات الكريمة لحل مشاكل الأمة والارتقاء بأبنائها.

عرفتُ سماحة الشيخ الفقيد منذ عقود حينما قرأت ما كان ينشر في مجلة الإيمان التي كان يصدرها والدي المرحوم الشيخ موسى اليعقوبي في النجف الأشرف منذ العام 1383/1963، حيث شخّص بفطرته ووعيه وإخلاصه منذ سنوات دراسته المبكرة حاجة المناهج الدراسية في الحوزة العلمية إلى التحديث وإعادة النظر لتواكب متطلبات الحياة المعاصرة وتحدّياتها، ولا عجب في ميله إلى المدرسة الإصلاحية فقد كان من طلبة العلاّمة المجدد الشيخ محمد رضا المظفر (قدس سره) في الحوزة العلمية وفي كلية الفقه فتأثّر بآرائه وأفكاره، واختار صفحات مجلة الإيمان ومجلة أضواء التي كانت يصدرها جماعة العلماء في النجف الأشرف ليطلق دعواته تلك، ولم تقف عند حدود التمنّيات والتنظير بل وضع فعلاً بعض الخلاصات للمنطق وأصول الفقه تأسّياً بأستاذه المظفر (قدس سره) واستمر بالدراسة والتدريس حتى

ص: 145

حضر بحوث الخارج عند أبرز مراجع وعلماء العصر (قدس الله أرواحهم).كما أدرك (رحمه الله تعالى) في ذلك الوقت الفجوة الكبيرة بين الحوزات العلمية والجامعات الأكاديمية بل الشباب والمثقفين عموماً الذين انخرطوا في الحركات السياسية والأيدلوجيات البعيدة عن الدين، فرأى لزاماً عليه أن يعمل ما بوسعه لردم هذه الفجوة المصطنعة بمكر أعداء الإسلام وجهل أبنائه والمدّعين لسدانة مؤسسته الإلهية المباركة، وعرف أن العمل المثمر يكون بولوج هذه الجامعات من أبوابها بأن يكون عنصراً فاعلاً وصاحب قرار فيها فالتحق بكلية الفقه التي أسسها المرحوم الشيخ المظفر وكان من طلبة الدفعة الأولى التي تخرجت عام 1962 ثم واصل دراسة الماجستير والدكتوراه وحصل عليها من القاهرة بامتياز.

ومضافاً إلى ذلك فقد كان أديباً وعضواً في جمعية الرابطة العلمية الأدبية في النجف الأشرف التي أسّسها المرحوم جدّي الشيخ محمد علي اليعقوبي ونخبة من زملائه سنة

ص: 146

1931 وبقي عميداً لها أكثر من 30 سنة حتى وفاته عام 1965.

كل هذا يدل على أنه كان ذا همّة عالية وشعور كبير بالمسؤولية وأمل عريض برفعة الإسلام وعزّة أبنائه، ولم يكتف في عطائه بعمره في الدنيا الذي ناهز الثمانين، بل أضاف له عمراًثانياً ممتداً بإذن الله تعالى حين طبّق الحديث النبوي الشريف (إذا مات المرء انقطع عمله إلاّ من ثلاث) فترك لنا مؤلفات نافعة ومؤسسات مثمرة وأنجالاً صالحين لتكون له صدقات جارية.

لقد رحل فقيدنا الجليل والجميع بحاجة إلى مساعيه الحكيمة للقضاء على الفتن والتوترات التي يعاني منها أحبتنا في أرض الحرمين الشريفين المباركة حرسها الله وأهلها من كل سوء ووقاها شر الأعداء المتربّصين، ونراهن على حكمة العقلاء من جميع الأطراف لتطويق الأزمة وفك عقدها بالحوار البنّاء والابتعاد عن الانفعال والتعصّب، وان يكون هاجس الجميع ازدهار البلد ورفاه أبنائه وعزّتهم وكرامتهم.

ص: 147

تغمّد الله تعالى فقدينا الراحل برحمته الواسعة وألحقه بالصالحين من عباده، وجعل روحه الطاهرة مصدر إلهام لإخواننا في المملكة ولجميع المسلمين في فعل الخيرات، والله ولي المؤمنين.

محمد اليعقوبي - النجف الأشرف

28/ج1/1434ه 2013/4/9

ص: 148

تأبين الفقيد الكبير المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله (قدس الله سره)

(إذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء) الإمام الصادق (عليه السلام).

إن انثلام الإسلام يعني غلق نافذة كانت تطل منها البشرية النكدة المتعبة على الإسلام لتقتبس من نوره ما يضيء لها درب السعادة والطمأنينة.

ويعني حصول ثغرة في حصن الإسلام والمسلمين حيث يقف العلماء العاملون عليها للدفاع عن عقائد الأمة ومبادئها وأخلاقها وحاضرها ومستقبلها.

ويعني النقص في العلوم والمعارف والبركات والألطاف التي كانت تنزل على الأمة بإفاضة العلماء الربانيين.هذا ما حصل اليوم عندما رحل عنّا صاحب النفس المطمئنة فقيدنا الكبير سماحة المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله (قدس الله روحه الزكية) ورجع إلى ربّه راضياً مرضياً فألحقه الله تبارك وتعالى بدرجة آبائه الصالحين.

ص: 149

لقد كان الفقيد الراحل مثالاً للعالم العامل بعلمه، والطبيب الدّوار بطبّه، ولسمو الذات، وعفّة السلوك، فقد تسامى عن الأمور الدنيّة وترفّع حتى عن الرد على من أساء إليه.

لم توقفه المحن والصعوبات والإرهاب ومحاولات التصفية الجسدية والمعنوية عن مواصلة درب الجهاد وتوعية الأمة ومسيرة الإصلاح واستمر على ذلك أكثر من خمسين عاماً، ويجد الكثير من الرساليين العاملين أنفسهم مدينين لجهاده وجهده المباركين، وتشهد بكل ذلك كتبه التي أنتجتها أنامله الشريفة في مختلف العلوم والمعارف، ومؤسساته الخيرية والثقافية في أصقاع المعمورة التي تساهم في إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى ونشر مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ونصرة المظلومين والمستضعفين، ومساعدة المحرومين وبهذه المناسبة نرفع أحرّ التعازي إلى مقام مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا له الفداء) ولذوي الفقيد وللعلماء العاملين الذين عرفوافضل الراحل الكبير

ص: 150

وثمّنوا عطاءه، ولعموم المسلمين خصوصاً أتباعه ومريديه ومحبّيه.

وعزاؤنا أن يسدّ هذه الثلمة الخلف الصالح من العلماء السائرين على طريق ذات الشوكة، لأنه من الصعب التعويض بمثله لأنه كان أمة وحده.

وأملنا أن تبقى المؤسسات الخيرية والعلمية والثقافية التي شادها بروحه وعمره الشريف وآزره عليها ثلة من المؤمنين الصالحين الذين هداهم الله تعالى إلى فعل الخير بإذنه، وأن تستمر بأداء دورها المبارك المعطاء.

ونقول لذوي الفقيد الراحل: لكم في مصائب أجدادكم الطاهرين سلوة وفي صبرهم الجميل أسوة، وما عند الله خير وأبقى ولنعم دار المتقين.

أنستْ رزيتكم رزايانا التي

سلفت وهوّنت الرزايا الآتية

محمد اليعقوبي – النجف الأشرف

21/رجب/1431 الموافق 2010/7/4

ص: 151

في تأبين المرحوم العلامة الشيخ محمد علي العمري

رحل عنّا اليوم ملتحقاً بالرفيق الأعلى علمٌ من أعلام الشيعة العاملين وهو العلامة المرحوم الشيخ محمد علي العمري (1)(رفع الله في الجنان درجته) فعظّم الله أجر سيدي ومولاي صاحب العصر والزمان (أرواحنا له الفداء) بفقد أحد أنصاره، وعظّم الله تعالى أجور المسلمين بغياب مفخرة من مفاخرهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

لقد جاهد الفقيد في إعلاء صرح مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) في المدينة المنورة ومنطقة غرب المملكة، فكان عمله المبارك مصداقاً لقول الإمام الصادق (علیه السلام): (وأما الجهاد الذي هو سُنّة فكل سُنّة أقامها الرجل وجاهد في

ص: 152


1- ولد سنة 1329/ 1911 , وفي سنّ الساسة عشرة اصطحبه والده الشيخ علي بن احمد العمري إلى النجف الاشرف لدراسة العلوم الدينية حيث درس عند عدد من الأعلام كلشيخ محمد رضا والشيخ محمد حسين المظفرين والشيخ محمد جواد مغنية والسيد باقر الشخص والسيد مسلم الحلي وغيرهم . ثم عاد إلى وطنه المدينة المنورة ليكون من علمائها العاملين .. وهو من شهود هدم قبور أئمة البقيع علیهم السلام عام 1926/1344.

إقامتها وبلوغها و إحيائها فالعمل والسعي فيها من أفضل الأعمال، لأنها إحياء سُنّة، وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : من سنّ سُنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بهاإلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء)(1). وكأنّ الله تعالى قد أعدّه لهذا الدور؛ إذ بسط له في العمر وفي العلم وفي الحكمة والشجاعة وفي الجاه الاجتماعي والودّ في قلوب المؤمنين، مما مكّنه من تحقيق هذا التقدم الكبير الذي يعجز فردٌ بل أفراد عن إنجازه، فلله دَرُّه وقد وقع على الله تعالى أجره.

التقيته (w) قبل ثلاثة أشهر حينما تشرّفت بزيارة روضة النبي (صلى الله عليه وآله الكرام) ومسجده الشريف في طريقي إلى الحجّ، وحرصت على أن يكون أول شخص أزوره، وتحدثنا معه بحضور ولده فضيلة الشيخ كاظم وجمعٍ من الفضلاء والمؤمنين، وكان قوي الذاكرة مهيب الشخصية لم تنل الأعوام المائة التي عاشها من ذاكرته، وأبدينا ما تقتضيه المسؤولية من الشكر لتضحياته الجسيمة وعمله الدؤوب في إعزاز أتباع

ص: 153


1- الكافي: ج5 ص10.

أهل البيت (علیهم السلام) وتقوية وجودهم، والنمو المستمر في مشاريعه المباركة التي تجولت فيها فوجدتها تَسرُّ كلَّ موالٍ، ورأيت كيف أن قوافل الحجيج تتوافد على الحسينية العامرة وتتبرك بتناول الطعام في المضيف الذي أنشأه باسم الإمام الحسن (علیه السلام)، ويرى الكثيرون –علماء وفضلاء ومسؤولونومؤمنون- أن من الواجب عليهم زيارة سماحته تثميناً لدوره المبارك وتاريخه الحافل، واعترافاً بفضله على الموالين لأهل البيت (علیهم السلام).

كان شجاعاً ذا عزيمة قوية صادقاً مع الله تعالى فيما عاهده عليه، لم يُثنهِ الخوف والوعيد والصعوبات التي اعتاد التعرض لها، ومضى قُدُماً في طريق ذات الشوكة حتى شيَّد أركان هذا المجد، وأمدّ الله تعالى في عمره المبارك ليرى بعينه ثمرة تلك الجهود وذلك الجهاد قبل أن يُريَهُ جزاءه الحسن في جنات النعيم.

نقدّم تعازينا لذوي الفقيد الراحل، ونخصّ بالذكر ولده فضيلة الشيخ كاظم الذي لمسنا فيه الهمّة والحماس لمواصلة هذا العمل المبارك ووعيه لمسؤولياته وعلمه

ص: 154

بضخامة الإرث الذي تركه الفقيد، والذي أصبح مهوى أفئدة المؤمنين من كل حدب وصوب.

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) الأحزاب/23

محمد اليعقوبي –النجف الأشرف

الاثنين 19/ صفر/ 1432 - 2011/1/24

ص: 155

في ذكرى السيد عبد الوهاب الطالقاني شهيد انتفاضة شهر صفر/ 1977

في ذكرى السيد عبد الوهاب الطالقاني شهيد انتفاضة شهر صفر/ 1977(1)

الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على خير خلقه المعبوث رحمة للعالمين أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

كنت عام 1977 طالباً في الدراسة الإعدادية في بغداد وكان والدي الشيخ موسى (w) يقيم كعادته مجالس الوعظ والإرشاد الحسيني فيشهر صفر/ 1397 في مناطق متعددة من بغداد خطيباً واعظاً ذاكراً لفضائل أهل البيت (علیهم السلام) ومصائبهم.

وكان في تلك الأيام منشّداً بقوة إلى ما تغلي به النجف الأشرف من روح الولاء لأهل البيت (علیهم السلام) والاندفاع الشجاع لمقاومة محاولات السلطة الجائرة للقضاء على

ص: 156


1- تنادى جمع من الأدباء والكتّاب في النجف الأشرف لإحياء ذكرى شهداء انتفاضة النجف الأشرف في الزيارة الأربعينية صفر/1397 الموافق شباط/1977، وقد طلب صاحب المشروع من سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) كتابة خاطرة عن المرحوم الشهيد السيد عبد الوهاب الطالقاني فاستجاب سماحته بهذه الكلمة.

الشعائر الحسينية، وكان (ره) يتتبع الأخبار ويحفي السؤال عنها، وكنّا نطّلع من خلال ذلك على تطورات الأحداث في النجف.

وكان اسم المرحوم الشهيد السيد عبد الوهاب الطالقاني من ألمع تلك الأسماء وأمضاها موقفاً حتى بلغنا نبأ اعتقاله واستشهاده مع ثلّة من الذين مضوا على طريق ذات الشوكة وصانوا الدين ورسالة أهل البيت بدمائهم وضحوا بزهرة دنياهم وشبابهم شوقاً للقاء الأحبة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين).

ومنذ ذلك اليوم أحببت هذا الشهيد المؤمن الصابر المحتسب، وأحببت موكب (علي بن الحسين) الذي أسّسه في النجف ليكون رائداً في الإحياء الواعي للشعائر الحسينية والحركة المنظمة وتوسيع قاعدة المشاركة، بعيداً عنالأطر الحزبية والجماعات التنظيمية، لكنه تفوّق عليها في همّته وشعاراته الواعية وإجهاره بعقائده الحقّة وقيادته للجماهير النجفية في المناسبات الدينية لأهل

ص: 157

البيت (علیهم السلام) أو لإظهار مكانة المرجعية الدينية وعمق تأثيرها في الناس.

وقد عرفت المرجعية الدينية وعلماء الحوزة العلمية له هذا الإخلاص والحركة المباركة فأشادوا به، وأيّدوا حركته، وأمدوا نشاطاته بالدعم المادي والمعنوي.

لقد مرّت الأمة في تلك الأيام من صفر عام 1397/ شباط- 1977/ في أوج عنفوان السلطة وتفرعنها بمنعطف مهم في حياتها ومفترق طريق، أما أن تسير نحو المجد والخلود والبقاء ورضا الله تبارك وتعالى والنبي وآله (صلى الله عليهم أجمعين) بما يتطلب ذلك من تضحيات جسيمة، أو المضي في حالة الخنوع والاستسلام ظناً منها أن ذلك يخلصها من بطش النظام وقسوته مع ما فيه من محق لهويتها ودينها وإلغاء لوجودها.

وفي مثل هذه المنعطفات تجتمع شياطين الجن والإنس وتحشد كل قواها لتصدِّ الناس عن طريق الحق وتقودهم إلى طريق الضلالوالانحراف (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ . ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ

ص: 158

خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف:16- 17).

وفي مثل تلك اللحظات الحاسمة تحتاج الأمة بشدة إلى الرجال الذين ملئوا معرفة وإخلاصاً وشجاعة لتتغلب على هذه الشياطين ووسوستها للنفوس الأمّارة بالسوء، ولتدل الأمة على طريق الهداية والصلاح، وكان الشهيد السيد عبد الوهاب الطالقاني وإخوانه البررة وبدعم كامل من المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) أبطال ذلك الزمن الصعب، وأسّسوا بذلك للضربات المتلاحقة التي وُجِّهت للنظام حتى أصبح خاوياً وسقط بلا مقاومة تذكر عام 2003.

فالأمة مدينة بوجودها وحياتها واستقامتها على الصراط لأولئك الصادقين الذين وفوا بما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا.

(وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص/5)

ص: 159

محمد اليعقوبي- النجف الأشرف

5/ ج1/ 1433

2012/3/28

ص: 160

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.