نحو سیاسة نظیفة

هویة الکتاب

نحو سیاسة نظیفة

الكاتب: آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي

لسان: العربية

الناشر: دار الصادقين - النجف اشرف - العراق

سنة النشر: 1434 هجري قمري|2013 میلادي

ص: 1

اشارة

ص: 2

نحو سیاسة نظیفة

محمد یعقوبی

ص: 3

ص: 4

هذا الكتاب:

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين وصلى الله تعالى على أشرف خلقه أجمعين

محمد وآله الطيبين الطاهرين.

يترنم هذا الكتاب بذكر التأسيسات اللازمة للعمل السياسي الإسلامي، وصياغة المبادئ الأخلاقية والرسالية له، من خلال مواكبة للواقع الإسلامي والتحري الدقيق عن مشكلاته واحتياجاته الفكرية والعملية.

ولا ريب في أن ولوج هكذا تنظيرات يحتاج الى الرجوع المستفيظ والمتميز للمرجعيات المعرفية المتمثلة بالقرآن الكريم والسنة الشريفة، وهي مهمة لا تتيسر لأغلب الأبحاث.

من هنا فإن هذا الكتاب قد أشتمل على الكثير من ذلك، فهو مما خطه يراع أحد جهابذة الفقه في النجف الأشرف، سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الشريف)، ونأمل بتقديمه الى القرّاء الأعزاء أن نكون قد ألممنا بالكثير من تأسيسات العمل الإسلامي وضوابطه ومبادئه، ومعه يتسع القول للحديث عن سد فراغات واسعة دشنها الكتاب في متابعته للتأسيسات والميدانيات التي خاضتها الحركة الإسلامية.

إن المشكلة الأساسية في السياسة ليست في الوصف والتحليل فحسب، بقدر ما هي مشكلة صناعة الواقع الذي تمارس فيه هذه الحلول.

فالواقع العملي هو العقبة الكأداء الذي وقف حجر عثرة بوجه كل المشاريع الإصلاحية التي أرادت أن تنهض أو تثور أو تغير.

وهذا هو ما يمكن أن نصف به هذه الأبحاث، والتي هي بالأصل خطابات وجهها سماحة الشيخ المرجع (دام ظله) الى الأمة والنخبة معاً. وقد

ص: 5

اقتنصناها بطولها من كتاب خطاب المرحلة، والذي يعد بحق منظومة من المعارف الإسلامية لتربية الأمة وتنشئتها. فهي تمثل انفتاح الإسلام على وعي الإنسان المعاصر، ومشكلاته، وتأصيل خطاب يتزن للسياسة والدين وواقع العصر,

ونرى في هذه الخطابات أنها لم تحجم نفسها في بوتقة المصطلحات السياسية الرائجة، أو الثقافية المحدثة، من دون أن تنفتح عليها جميعاً، وتخاطب الإنسان من عمق عوالمه الروحية والفكرية والمادية.

اللهم وفقنا للهدى والصلاح، وأجعل خير أيامنا يوم نلقاك فيه، واعصمنا من الذنوب خير العصم، برحمتك يا أرحم الراحمين..

ص: 6

الفصل الأول: تأصيلات إسلامية لشرعية العمل السياسي وآليات تطبيقه

اشارة

ص: 7

ص: 8

العمل السياسي من الواجبات الشرعية

الواجبات في الشارع:

العمل السياسي من الواجبات الشرعية(1)

تقسم الأعمال التي أوجب الشارع المقدس أداءها إلى قسمين:

الواجبات الفردية: وهي التي يتعين على الفرد القيام بها أمام الله تبارك وتعالى سواء قام غيره بمثل ذلك العمل أم لا كالصلاة والصوم فإن الصلاة واجبة على الفرد سواء صلّى غيره أم لا.

الواجبات الاجتماعية: وهي الأعمال التي يجب على مجموع الأمة القيام بها، فإن تصدى واحد أو أكثر لانجاز هذا الواجب سقط التكليف عن الآخرين وإن لم تقم الأمة به أثم الجميع لتقصيرهم كمهنة الطب، فلا بد أن يدرس الطب عدد من أبناء الأمة حتى يقوموا بهذه المهنة الإنسانية فإذا لم يتوفر العدد الكافي لتلبية حاجة المجتمع حوسب الجميع على التقصير.

وقد شرحت التفاصيل في محاضرة (الأسس العامة للفقه الاجتماعي) وهي منشورة في كتاب مستقل وضمن كتاب (نحن والغرب)(2) ، ويبدو أن

ص: 9


1- محاضرة ألقاها سماحة آية الله الشيخ اليعقوبي (دام ظله) على العشرات من طلبة معهد التطوير الاجتماعي الذين انهوا محاضراتهم في الدورة الأولى في المعهد وقد أسس المعهد المرحوم الشهيد مؤيد الكعبي بمباركة سماحة الشيخ وقد اقترح الشهيد أن تكون آخر محاضرة يتلقاها الطلبة من سماحة الشيخ، بتأريخ: 27 ج 1425 1 الموافق 2004/7/15.
2- أنظر خطاب المرحلة: ج 1 ص 286.

المصطلح جديد على أذهان المتفقهين لأن الأول يسمى (الواجب العيني) والثاني (الواجب الكفائي)، لكنني ذكرت في تلك المحاضرة مبررات هذه التسمية وأثبتُّ وجود هذا الفهم في ذهن الفقهاء وإن لم يطلقوا عليه هذه التسمية.

اهتمام الشريعة بالواجبات الاجتماعية:

وقد عُلِم من ذوق الشريعة اهتمامها البالغ بالواجبات الاجتماعية وأعطتها قيمة اكبر من الفردية، كتفضيل العالم على العابد بدرجات كبيرة وان

(صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام)(1)، والجهاد الذي وصفه أمير المؤمنين

(باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه)(2) وليس لأوليائه فحسب، وكوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي رتّبت عليها الأحاديث الشريفة مصالح حيوية للأمة فبها تقام الفرائض وتحيى السنن وتحل المكاسب ويأمن العباد إلى غيرها من الثمرات، ومثل هذه الثمرات الكبيرة لم تُعط للواجبات الفردية وان كانت تكتسب شيئاً منها باعتبار آثارها الاجتماعية ككون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وهي ثمرة اجتماعية ونحوها.

منشأ وجوب العمل السياسي:

ولعل من أهم الواجبات الاجتماعية إدارة شؤون الأمة على جميع المستويات وحفظ مصالحها وإقامة الحق والعدل في البلاد، وتفهم هذه الأهمية من واقعة يوم الغدير حينما أمر الله تبارك وتعالى نبيه الكريم (صلى الله عليه واله وسلم) أن ينصب علياً أمير المؤمنين قائداً للأمة من بعده وإماماً لها وجعل هذا العمل في

ص: 10


1- الكافي: ج 7 ص 51.
2- نهج البلاغة: الخطبة: 27.

كفة وتبليغ أحكام الشريعة كلها في كفة أخرى فقال تعالى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (المائدة: 67) 1 وحينما يوصي أمير المؤمنين (عليه السلام) شيعته بالتقوى ونظم الأمر فإنما يقصد بتنظيم الأمر هذه الواجبات الاجتماعية لا الفردية التي لا تحتاج إلى نظم الأمر.

هذا هو منشأ وجوب العمل السياسي وهذه هي أهميته بحيث إن الإمام الحسن السبط (عليه السلام) يجعله من أهم وظائف الإمامة

(إن الله تعالى ندبنا لسياسة الأمة)(1) ويقول الإمام الحسين (عليه السلام)

(إن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه)(2).

وإن أحببت دليلاً إضافياً على الوجوب فنقول إن العمل السياسي هو من أوضح آليات وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأوسع القنوات للقيام بها فوجوبه من وجوبها؛ لأن الفرد العامل يستطيع من خلال موقعه الإداري إصلاح الكثير من الفساد والانحراف وقضاء حوائج المؤمنين وحل مشاكلهم ورد الحقوق إلى أهلها وإقامة العدل في الرعية وهذه الأعمال هي المصاديق الرئيسية لهذه الوظيفة الإلهية ولا تتحقق بمعناها الواسع إلا من خلال التصدي لإدارة شؤون الأمة.

وكثيراً ما ننتقد وجود الفساد الإداري واختلاس أموال الأمة والأنانية والفئوية والطائفية وعدم الاكتراث بمطالب الشعب ومعاملتهم بالقسوة والبطش والظلم ولا نعلم أننا أحد الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة بالعزوف عن العمل السياسي وترك الساحة لأولئك العابثين بمقدرات الأمة، فهذا تقصير غير مغتفر وإذا كان له عذر في الزمان الماضي فليس له عذر اليوم.4.

ص: 11


1- سفينة البحار: ج 1 ص 258 باب الحاء بعده السين.
2- تحف العقول: 238 ومستدرك الوسائل: ج 17 ص 315-316 ب 11 ح 21454.

فهي مسؤولية كل إنسان كفوء نزيه قادر على أن ينصف الناس ويعطي لكل ذي حق حقه ويقيم النظام ويبسط الأمن ويسير بالعدل ويمنع الظلم والفساد والانحراف بمقدار ما يستطيع، وهذه هي السياسة في الإسلام التي كان على رأس من باشرها رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وأمير المؤمنين والهداة من أهل بيته بحيث نخاطبهم في الزيارة بأنهم

(ساسة العباد وأركان البلاد)(1).

السياسة في الإسلام:

فالسياسة في الإسلام نظيفة في أهدافها؛ لأنها تبتغي رضا الله تبارك وتعالى وإعلاء كلمته والرفق والرحمة بالعباد وتخليصهم من الظلم والاستعباد، ولا تجعل هدفها (المصالح) المادية الضيقة التي تستتبع الأنانية والاستئثار والشح والاستغلال والقهر والقسوة وهي نظيفة في وسائلها فإنها تحافظ على المبادئ والقيم السامية التي تؤمن بها(2).

ولا تخالفها من أجل متاع زائل بعكس سياسة أهل الدنيا التي تبرر لهم كل وسيلة همجية يربأ عنها حتى وحوش الغاب.

وهذه الفروق نابعة من الأيدلوجية التي يستند إليها كل من الطرفين، ونضرب مثلاً على ذلك من سيرة أمير المؤمنين الذي كان يعلم أن عبد الرحمن بن ملجم المرادي سيقتله وطالما سمع تهديده بذلك ولكنه لم يتخذ ضده أي إجراء ويقول (عليه السلام) (لا يجوز القصاص قبل الجناية) وحاول أصحابه (عليه السلام) القضاء على مؤامرته إلا أنه (عليه السلام) منعهم وقال:

(دعوه فإن قتلني فالحكم فيه لولي الدم)(3).

ص: 12


1- الزيارة الجامعة الكبيرة.
2- لاحظ وصايا رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وأمير المؤمنين للقادة والولاة الذين يعينونهم.
3- مستدرك الوسائل: ج 18 ص 259 ب 55 ح 22691.

أما الحكومات المتسلطة حتى التي تدعي الديمقراطية فإنها تجوب البلاد بعدّتها وعددها شرقاً وغرباً لتعتقل أو تعاقب كل من تتهمه بأنه يهدد أمنها، ولو لمجرد الظن والاحتمال، وها هي الولايات المتحدة عنوان حضارة الغرب تسن القوانين التي تبيح لها الضربة الاستباقية في أي بلد على الأرض لإجهاض أي عمل يمكن أن يُعد تهديداً لمصالحها بالمعنى المطاط الواسع الذي شرعته لنفسها.

العمل السياسي في اطار الإسلام ودور المرجعية فيه:

فالعمل السياسي الذي جعلناه من الواجبات هو ما كان في إطار الإسلام تشريعاً وتطبيقاً، نعم، قد تختلف آلياته بحسب الفرص المتاحة، والشيء المناسب اليوم هو تشكيل التنظيمات الحزبية والنقابية والشعبية والاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني، لا لتعيش الأنانية الحزبية والعصبية المقيتة لها بل لتكون قنواتٍ للعمل وواجهات وكيانات تدافع عن الفرد وتعبر عن مطالبه وتخوض باسمه ومن أجله العملية السياسية.

وقد أوضحت جانباً من هذه الوظيفة الشرعية في بيان سابق بعنوان (ضرورة مشاركة العراقيين في العملية السياسية)(1) وشرحت فيه دور الحوزة العلمية والمرجعية الشريفة في احتضان هذا العمل ورعايته ودعمه وتوجيهه لأننا نعتقد إن الوقائع الاجتماعية التي تمس حياة الأمة سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو فكرية أو أخلاقية هي من أوضح وأهم مصاديق (الحوادث الواقعة)

ص: 13


1- أصدر سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) هذا البيان في 2003/12/30، 6 ذ. ق 1424، وانطلق سماحته من الحديث الشريف: (ما من واقعة إلا ولله فيها حكم) معنبراً الأحداث السياسية من أهم تلك الوقائع؛ لأنها تتعلق بالأمة جميعاً، ومنها تسلّم العراقيين إدارة شوؤن بلدهم وسحب الذرائع لبقاء قوات الاحتلال، وقد أدرجنا هذا الخطاب في هذا الكتاب، فانتظر.

التي قال عنها إمام العصر صاحب الزمان الحجة بن الحسن (عجل الله تعالى فرجه الشريف)

(وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم)(1).

ويبقى على الأمة مباشرة تفاصيل العمل بهمة وحماس وإخلاص حتى لا تترك ثغرة يمكن أن ينفذ منها من لا وازع أخلاقي ولا ديني ولا أنساني له فيعيث في الأرض فساداً ويهلك الحرث والنسل والأمة بمجموعها آثمة لتقصيرها ووقوفها مكتوفة الأيدي حتى ملك زمامها مثل هؤلاء.

وهنا علينا أن نلتفت إلى نقاط:

قيمومة المرجعية في العمل الإسلامي:

1. إن العمل السياسي بالشكل المتقدم - أعني تشكيل الأحزاب والمنظمات ونحوها - لا يعني التخلي عن الخيار المرجعي في قيادة الأمة لأنه النظام الأكمل والأقدر على تصحيح مسار الأمة وفق المنهج الإلهي، وقد خطط له أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ووضعوا له أسسه وقواعده، روي عن الإمام الحسين (عليه السلام) قوله:

(مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه)(2) وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام)

(فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه)(3)، وأمر الإمام المهدي (عليه السلام) في حديثه المتقدم بالرجوع إلى الفقهاء العارفين بالكتاب والسنة.

ص: 14


1- وسائل الشيعة كتاب القضاء باب 11 ح 9.
2- مستدرك الوسائل: ج 17 ص 315.
3- وسائل الشيعة: ج 18، باب 10، ح 14.

بل إن عمل هذه التشكيلات إنما يكتسب مشروعيته في نظر الجماهير حتى تندفع لتأييده ورفده بالعناصر المؤهلة للعمل إذا توفر له الغطاء الشرعي من المرجعية الرشيدة وقد أوضحنا ذلك في بيان بعنوان

(الأسس النظرية لحزب الفضيلة الإسلامي)(1).

التحلي بالأخلاق:

2. ضبط أخلاق المهنة فللتعليم أخلاق وللطب أخلاق وللتجارة أخلاق حتى قال الإمام (عليه السلام)

(التاجر فاجر ما لم يتفقه في دينه) ، فللعمل السياسي أخلاق هي صمام أمان له من الزيغ والانحراف عن أهدافه السامية فلا بد من دراستها ومراقبة النفس باستمرار خلال التطبيق(2).

وقد حفلت جوامع الحديث بوصايا المعصومين (عليهم السلام) في هذا المجال وإذا تعذر استخلاص الدروس منها فيمكن مراجعة كتب بحثت هذا الموضوع ككتاب (السياسة من واقع الإسلام) للسيد صادق الشيرازي و (الراعي والرعية) للمرحوم توفيق الفكيكي وهو شرح عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر لما ولاه مصر والفصل الرابع من كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية) الذي عنوانه (هل كان الأئمة (عليهم السلام) يحاولون استلام الحكم).

التواصل مع الشعب:

3 - إن وظيفة هذه التشكيلات السياسية ليس الدوران في أروقة السياسة والاحتجاب عن الأمة، بل إن وظيفتها جماهيرية فمكانها ليس المكاتب الفارهة

ص: 15


1- سيأتي ذكره قريباً إن شاء الله تعالى حيث أدرجناه في هذا الفصل.
2- صدر لاحقاً ضمن خطابات المرحلة (المبادئ الثابتة في السياسة) وهو قانون ينظم عمل السياسيين ويضبط أخلاق المهنة، وقد أدرجناه في هذا الكتاب، فانتظر.

الخاوية من المعاني الروحية، وإنما مكانها قلوب الناس وعقولهم وأماكن تجمعاتهم من خلال عطائها للجماهير، فهي تعيش في وعي الأمة وفكرها وهمومها ومشاكلها ومشاريعها الخيرية، وقد نبهت إلى جملة من هذه الخطوات العملية في بيان رقم (53) من سلسلة خطاب المرحلة عن كيفية استثمار العطلة الصيفية للطلبة(1).

على الأمة أن تمتلك الوعي:

4 - إن وجوب العمل السياسي على الأمة لا يعني أنها كلها تترك أعمالها وتعمل بالسياسة فلكل إنسان ما يناسبه وحاجات المجتمع متنوعة وكلها ضرورية لحياته وإنما يتحقق امتثال هذا الوجوب بتصدي النخبة المؤهلة لأداء هذا العمل، نعم، على الأمة أن تمتلك وعياً سياسياً ويكون لها حضور فاعل في قضاياها المصيرية ولا تبقى متفرجة إزاء الأحداث فساحة العمل ليست كساحة كرة القدم يلعب بها اثنان وعشرون ويبقى الآلاف متفرجين بل الكل يشترك بحسب دوره المناسب.

تجنب الأنانية:

5 - على العاملين في الأحزاب والحركات وسائر التنظيمات أن يتجنبوا الأنانية الحزبية، فمن أهم علامات المؤمن الرسالي انه يعيش هم الأمة والرسالة الإلهية العظيمة ويذوّب نفسه وحزبه وعشيرته وكل شيء في الله تبارك وتعالى، فهو يقدّم الأكفأ وينتخبه ولو كان منتمياً لجهة أخرى وهذه الأنانية هي التي أوجبت نفور شرائح اجتماعية واسعة من العمل التنظيمي وفي ذلك خسارة كبيرة للأمة.

ص: 16


1- أنظر خطاب المرحلة: ج 3 ص 361.

تطوير القابليات:

6 - من الضروري للقائمين على العمل السياسي والفاعلين فيه إنشاء المعاهد لتطوير المهارات والخبرات السياسية والإشعار بأهمية ومسؤولية الأمة عن القيام به حتى يكون الدافع ذاتياً ولا يتوقف على أمر الآمر وتُدَّرس فيها أخلاق المهنة التي اشرنا إليها.

استماع الموعظة وقراءة القرآن الكريم:

7 - اهتمام العاملين في هذا المجال باستماع الموعظة وقراءة القرآن وحضور الشعائر الدينية وعمل كل ما يحيي القلب؛ لأن هذا العمل مهما كانت نيته مخلصة لله تعالى فانه يبقى من أمور الدنيا التي تقسي القلب كالكسب وغيره، وهذه القساوة إذا استمرت بلا جلاء وتنقية فإنها تؤدي إلى الطبع على القلوب فلا تسمع صوت الحق والهدى والعياذ بالله ويذهب نور الإيمان، وإنما يكون جلاؤها بما ذكرناه قال أمير المؤمنين (عليه السلام) موصياً ولده الإمام الحسن (عليه السلام):

(يا بني أحيي قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة)(1) وقال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) يوما لأصحابه: (إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء، قيل وما جلاؤها؟ قال (صلى الله عليه واله وسلم): كثرة ذكر الموت وتلاوة القرآن).

ص: 17


1- نهج البلاغة: الكتاب: 31.

ص: 18

وضع قوانين تنّظم أخلاق ممارسة كل مهنة:

العلم لوحده لا ينفع:

تسعى الجامعات والمعاهد العلمية والأكاديميات العسكرية لوضع برامج للطلبة تتضمن كل المفردات التي يحتاجها الطالب عندما ينهي دراسته ويبدأ بممارسة مهنته كالطب أو الهندسة أو التعليم أو الإعلام أو العمل الأمني والعسكري وهي تؤهِّل بدرجة معتد بها من هذه الناحية.

إلا أن هذه البرامج والخطط تفتقد إلى دروس في أخلاقيات ممارسة المهنة التي يتعلمها، وهذا نقص كبير لان العلم وحده لا يكفي ما لم تنضم إليه آداب وأخلاقيات ممارسة تلك المهنة، لذلك تجد الأخطاء الفاحشة والفظيعة في سلوك هؤلاء عند ممارسة العمل، وقد تصل إلى الكوارث والانتهاكات الخطيرة في حقوق الإنسان والأمة فإن الطبيب لا تكتمل أهليته إذا لم يكن قلبه مفعماً بالرحمة ونفسه نقية من الجشع والكذب والتضليل، والمهندس لا يكون نافعاً إذا لم يتحلى بالنزاهة والإخلاص والدقة والصراحة، والإعلامي يكون ضاراً إذا أصبح مأجوراً يبيع قلمه لمن يدفع ويذبح بذلك شرف مهنته، والعسكري يهلك الحرث والنسل إذا لم يحمل شرف المقاتل ونبل الرجال، والسياسي يكون وبالاً على أمته وبلده إذا لم يكن مخلصاً لهما ويعمل بجد لعزتهما وكرامتهما وازدهارهما.

ص: 19

الإسلام يمتلك التأسيسات لضبط الأخلاق:

وقد علمنا قادة الإسلام العظام وعلى رأسهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) أنهم لا يرسلون والياً أو إداريا أو قائدا عسكريا إلا وحملوه سجلاً حافلاً بالوصايا والتعاليم والآداب، رغم أن من يرسلونهم كانوا على درجة من الإيمان والوعي لمبادئ الإسلام ولكن للتذكير وللتأكيد على ضرورة التمسك بتلك المبادئ.

لذا فنحن بحاجة إلى أن تتصدى نخبة من الاختصاصيين التربويين والمفكرين لوضع قوانين لأخلاق كل المهن، وقد وضعنا نحن أسس هذه العملية حينما سجلنا الخطوط العريضة لآداب وضوابط أغلب المهن كالأطباء والصيادلة والموظفين و المعلمين والعسكريين والعمال وسائقي السيارات والخياطين والحلاقين المصورين والصيادين والفلاحين وطلبة الجامعات وخطباء المنابر والصاغة، حتى كتبنا للعاملين في تجارة العتيق وهي مطبوعة ومنشورة وممكن أن تتخذ هذه الكتيبات وثائق أساسية للمباشرة في هذا المشروع، وسنتكفل بطبع ونشر ما تجود به قرائح هذه النخب، ومن الجهود المشكورة في هذا المجال (قانون ذوي المهن التعليمية) للأستاذ المربّي محمد جواد رضا وقد نشر قبل أربعين عاماً في مجلة الإيمان النجفية في المجلد الثالث منها.

آمل أن تجد هذه الدعوة قلباً مفتوحاً من لدن وزارة التعليم العالي وكل الجهات والمؤسسات المسؤولة عن تنظيرها لتبدأ بتشكيل اللجان ووضع المناهج وإدخالها في مفردات الدراسة في الجامعات والمعاهد لنصل إلى اليوم الذي نجد فيه أصحاب كل مهنة ذوي قلوب مفعمة بهذه القيم وعقول واعية لما تقتضيه مسؤولياتهم.

ص: 20

دور المرجعية في الحياة السياسية في العراق:

موقعية المرجعية في الإسلام:

قبل الحديث عن العنوان لابد أن نتحدث عن موقع المرجعية في قلوب وعقول الأمة، إذ يعتقد المسلمون الذين تلقوا تعاليم الإسلام عن طريق أهل بيته المعصومين (صلوات الله عليهم) أجمعين إن الذي يمثل قمة الهرم في قيادة الدولة الإسلامية هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعده الأئمة المعصومون الاثنا عشر الذين عينهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأسمائهم جيلاً واحداً بعد الآخر.

وقد سنحت الفرصة لممارسة هذا الدور لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة المنورة ولأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) مدة خمس سنين بعد مقتل الخليفة الثالث ولولده الحسن بن علي سنة واحدة بعده، أما الأئمة المعصومون الآخرون (سلام الله عليهم) فلم تتوفر لهم هذه الفرصة.

وهم - بحسب ما تتمتع به قيادتهم من خصائص - لا يكرهون الناس على اتباعهم بالقوة بل يقنعون الأمة بمشروعهم فإذا اقتنعت الأمة بقيادتهم مارسوها، وإلا مارسوا دورهم الإيجابي المبني على الحوار و الإقناع.

ولما اقتضت المشيئة الإلهية خفاء الإمام الثاني عشر بعنوانه لا بشخصه وإلا فإنه موجود بين الناس ويعيش كما يعيشون لكن الناس لا تعرفه بشخصه خصوصاً بعد مرور هذه المدة الطويلة على وجوده، وقد ادخره الله سبحانه

ص: 21

ليؤسس دولة الحق والعدل حينما تفشل كل النظم التي يبتدعها البشر ويقتنعون بها وسيتطلّعون تلقائياً إلى المنقذ العظيم.

ولأن حاله غياب القائد عن الاتصال المباشر بأتباعه غريبة عن الناس فلذا مهّد لها الأئمة الذي سبقوا الإمام الثاني عشر بالتثقيف والتوعية وبيان المبررات وبالممارسات العملية أحياناً كانقطاع الإمام عن جماهيره مدة ونصب وكلاء له حتى أصبحت الأمة قادرة على التعايش مع هذه الحالة، فوقعت غيبة الإمام الثاني عشر ووضّح لأتباعه معالم طريقهم فلم يعيّن له خلفاء محدّدين بالاسم وإنما وضع شروطاً فمن انطبقت فيه هذه الشروط كان هو النائب عن الإمام وعلى الأمة أن تتبعه كما تتبع الإمام المعصوم حيث قرنت الأحاديث الشريفة طاعة المرجعية الدينية الجامعة للشروط الآتية بطاعة الإمام (عجل الله فرجه الشريف).

ومن هذه الشروط بلوغ أعلى الدرجات العلمية المعروفة ب - (الاجتهاد) وحصول القدرة على التوصل إلى الحكم الشرعي من مصادر التشريع الأصلية ولا يتلقاه تقليداً من الفقهاء السابقين مهما بلغوا من الرقي العلمي وهذا الشرط يتطلب اتقاناً وعمقاً في علوم عديدة.

والشرط الآخر: هو الدرجة العالية من ضبط جماح النفس وكبح شهواتها والعمل الجاد على تحليتها بفضائل الأخلاق وتهذيبها من الرذائل الخلقية التي تنافي إنسانية الإنسان ونهت عنها الشرائع الإلهية المقدسة.

والشرط الآخر: الخبرة بشؤون الحياة وتفاصيلها وما يكتنف الأمة من أحداث وتحديات. ويستعين بالخبراء في مختلف الاختصاصات إذا لم يكن محيطاً بها بالمقدار المطلوب.

وتقوم هيأة من العلماء القادرين على التحقق من توفر هذه الشروط في

ص: 22

المجتهد لتعترف له بالمرجعية وتدعو الناس إلى تقليده والرجوع إليه في الأحكام الشرعية.

فالدور الذي تؤديه المرجعية الدينية في حياة الأمة هو امتداد لدور الأئمة المعصومين سلام الله عليهم الذي هو امتداد لدور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد عرضنا العشرات من محاور هذا الدور ووقائع تفصيلية كتطبيقات لها في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية).

كما إننا شرحنا الخصائص النفسية والملكات الفاضلة التي ينبغي توفرها في شخصية القيادة الإسلامية من خلال دراسة سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتاب (الأسوة الحسنة للقادة والمصلحين).

الخطوط العامة لوظائف المرجعية الرشيدة:

ثم لخّصنا الخطوط العامة لدور المرجعية الدينية في حياة الأمة في مقدمة كتابنا (سبل السلام) الذي يتكفل ببيان الأحكام الشرعية وحلول المشاكل التي يمكن أن يواجهها المسلم في حياته ابتداءً من الطقوس العبادية التي يؤديها لربّه كالطهارة والصلاة والصوم ومروراً بعلاقاته الاجتماعية كالزواج والمعاملات الاقتصادية وانتهاء بالأحكام العامة كالقضاء وفضّ النزاعات.

وهذا كله مستند إلى نصوص وقواعد مأخوذة من مصادر التشريع الإسلامي التي ثبتت بطريق صحيح.

وهو يؤكد مصداقية الشريعة المقدسة في ادعائها القدرة على استيعاب كل تفاصيل الحياة وشؤون الناس ولذا قلنا في تلك المقدمة أن وظيفة الفقيه لا تنحصر بالفتوى وبيان الأحكام الشرعية وإنما له وظيفتان أخريان وهما:

1 - القضاء بين الناس وفض الخصومات.

ص: 23

2 - تدبير شؤون الأمة وولاية أمرها.

ثم ذكرنا ضمن النقطة الثانية الخطوط العريضة لهذه الوظيفة.

خصائص المرجعية الرشيدة:

ومن خصائص رسالة المرجعية الدينية:

1 - اعتماد سياسة الحوار لإقناع الآخرين (راجع المسألة 30 والمسألة 31 ص 28 من الجزء الأول من سبل السلام) وهذا هو مبدأ قرآني أصيل (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125)(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت: 34).

2 - العالمية: فهي تحس بآلام وهموم البشر جميعاً لأن قلبها مملوء بالرحمة وحب الخير لكل الناس تأسياً بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي خاطبه الله تبارك وتعالى:(وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (الأنبياء: 107) ومن كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى مالك الأشتر لما ولاّه مصر (وأشعِر قلبك الرحمة للرعية فإنهم صنفان، أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) فتجد مرجعية النجف حاضرة بتعليقاتها ومواقفها في إعصار تسونامي في جنوب شرق آسيا(1) وإعصار كاترينا في الولايات المتحدة(2) والاضطرابات في فرنسا(3) ويَهنئ الحبر الأعظم بابا الفاتيكان بأعياد ميلاد السيد المسيح (عليه السلام) ويذكر القيمة المشتركة بين الديانتين الإسلامية والمسيحية(4).

ص: 24


1- راجع المجلد الثالث من كتاب خطاب المرحلة (صفحة 502).
2- راجع المجلد الرابع كذلك (صفحة 403).
3- المجلد الرابع أيضاً (صفحة 420).
4- المجلد الرابع (صفحة 436) كذلك.

أما حضورها في قضايا المسلمين خاصة فمشهود ومن أمثلة ذلك رسالة المرجعية إلى الرئيس الفرنسي جاك شيراك حينما كان بصدد تشريع منع ارتداء الحجاب في المدارس الرسمية(1).

ورسالة أخرى إلى الشعب الفلسطيني المظلوم(2) ويناقش بشفافية العلمانية(3) ويتحدث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان(4) ، وغيرها.

3 - الشمولية: أي شعورها بالمسؤولية إزاء كل القضايا التي تمر بها الإنسانية لأنها تمثل الشريعة والقانون ونحن نعتقد أن الشريعة الإسلامية غطّت كل شؤون الحياة بالنصوص المباشرة أو وضعت القواعد التي يُستنبط منها الحكم والحل والموقف إزاء مختلف القضايا، ولذا فإن الشريعة حينما أعطت هذا الدور الواسع للفقيه فإنها لم تعط له كشخص حتى يستكثر عليه وإنما أعطته للقانون الذي يمثله كالقاضي في النظم المتحضرة المعاصرة حيث لا سلطة للحكومة ولا لغيرها عليه وينفذ قراره على الجميع وهذه الهيمنة ليست له كشخص وإنما للقانون الذي يحكم به.

وانطلاقاً من هذه المسؤولية تجد المرجعية تشخص بدقة أسباب العجز عن مكافحة مرض الإيدز ونتائجه الوخيمة ثم تدل على العلاج في بيان بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الإيدز(5) وكذا في اليوم العالمي لمكافحة التدخين(6).

4 - المبدأية ونظافة الأساليب: والأهداف، فهي لا تؤمن بأن (الغاية تبرر).

ص: 25


1- المجلد الثالث (صفحة 205).
2- المجلد الثالث (صفحة 187).
3- المجلد الثالث (صفحة 155).
4- المجلد الرابع (صفحة 38).
5- المجلد الثالث (صفحة 441).
6- المجلد الرابع (صفحة 53).

الوسيلة) ولا تجعل القيمة العليا في أعمالها ومشاريعها وسياستها للمصالح بل للمبادئ وكل مصلحة تتعارض مع المبادئ فهي مفسدة وللمرجعية خطاب تفصيلي ردّت فيه على عقيدة السياسيين بأنه لا توجد صداقات ثابتة ولا عداوات ثابتة وإنما توجد مصالح ثابتة فكان الرد بأنه توجد مبادئ ثابتة(1).

5 - الشفافية في التعاطي مع الجماهير وعدم اتباع سياسة الخداع والتجهيل والتضليل لأنها قوية بحقها فلا تخشى أحداً ولأنها لا تريد مكسباً لنفسها وإنما تريد الخير للآخرين(2).

6 - الحرص على إعمار الحياة وإقامة النظام المتحضر للمجتمع والمحافظة على الدولة والمؤسسات التي تحفظ النظام الاجتماعي العام ونعتقد أن الشريعة هي الأصل والسابق لبناء المجتمع المدني المتحضر ومؤسساته ومنظماته (لاحظ مجموعة الخطابات عن ضرورة تأسيس منظمات المجتمع المدني)(3) ، والمرجعية تضحي بكل حقوقها وامتيازاتها من أجل هذا الهدف حتى لو لم يكن النظام السياسي مبنياً على الإسلام (المسألة 29 من سبل السلام).

دور المرجعية في العراق:

وتأسيساً على هذه النقاط فقد كان للمرجعية الدينية في العراق الدور الإيجابي والبناء في منع انهيار المجتمع وانزلاقه إلى دوامة العنف والاقتتال رغم شراسة المؤامرات التي استهدفته وحافظت المرجعية على ممتلكات الدولة ومؤسساتها ومنعت من الأخذ بالثأر الانفعالي في بيان وتوجيهات إلى الأمة

ص: 26


1- المجلد الرابع (صفحة 45).
2- خطاب المرحلة (90) مبادئ الشفافية ومظاهرها، المجلد الرابع (صفحة 119). وسيأتي ذكره في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
3- أنظرها في كتاب خطاب المرحلة.

صدرت يوم 2003/4/6 أي قبل سقوط النظام لما تعلمه وتتوقعه من حصول هذه التداعيات(1).

وفي ضوء ما تقدم يظهر أن عنوان هذا البحث يتحدث عن مفردة جزئية من حركة المرجعية الدينية ومسؤوليتها فإن وظيفتها أوسع من العمل السياسي، وهمومها تتجاوز حدود العراق.

برز الدور السياسي للمرجعية الدينية بعد سقوط النظام السابق عام 2003 وهذا لا يعني عدم وجود دور لها في التاريخ السابق ولكن الفرصة اتسعت بعد السقوط وحظيت حركة المرجعية بتسليط وسائل الإعلام.

وقد بادرت المرجعية إلى ممارسة دورها قبل 4/9 حينما بدأت إرهاصات الغزو والاحتلال وقبيل السقوط عندما بدأ النظام يترنح أصدرت توجيهاتها للشعب ركّزت فيها على وحدة الصف والحفاظ على الممتلكات العامة وحمايتها وتشكيل اللجان المحلية لمليء الفراغ بعد غياب الدولة وتحريم تصفية الحسابات بسبب ممارسات النظام السابق الإجرامية بحق الشعب وكان ذلك يوم 2003/4/6(2) ، وقد نجحت المرجعية بما سمّاه الدكتور محسن عبد الحميد الأمين العام للحزب الإسلامي بالمعجزة في زيارته للمرجعية في النجف عندما كان رئيساَ لمجلس الحكم المؤقت.

ودعت في وقت مبكر إلى ضرورة إجراء انتخابات حرة نزيهة لاختيار ممثلين حقيقيين للشعب ولإنهاء ذرائع وجود الاحتلال بإقامة حكومة وطنية تقوم على أساس إرادة الشعب وقدّمت مشروعاَ متكاملاً لإدارة المرحلة الانتقالية في العراق إلى حين تهيئة الظروف لأجراء الانتخابات(3).).

ص: 27


1- المجلد الثالث (صفحة 16).
2- المجلد الثالث (صفحة 26).
3- نص المشروع تجده في المجلد الثالث (صفحة 112).

وقد أخذت به سلطات الاحتلال بعد عام تقريباً حينما اضطرت إليه وهكذا فإن السلطات الحاكمة (احتلالية أو عراقية) لا تأخذ بالنصائح والتوجيهات حتى تجد نفسها مضطرة إليها بعد أن يكون الشعب والبلد قد خسر الكثير، لعدم وجود إرادة حقيقية وصادقة للحل (راجع خطاباً بهذا العنوان وخطاب بعنوان إذا لم تحترق مصالح السياسيين بالنار فإنهم لا يفكرون في الحل(1).

وشجعت الكفاءات الوطنية النزيهة القادرة على ممارسة العمل السياسي إلى تأسيس الأحزاب للنهوض بمشروع وطني خالص لا يخضع للأجندات الأجنبية وقنّنت عمل الأحزاب وفق الشريعة الإسلامية وخوض العملية الديمقراطية باعتبارها النظام الأفضل الذي توصلت إليه المجتمعات البشرية(2).

وظائف تقوم بها المرجعية الرشيدة:

وبقيت مواكبة للعملية السياسية تؤدي الوظائف التالية:

1 - تقديم الأفكار والمشاريع والرؤى التي فيها صلاح للعملية السياسية ونجاحها وإعطائها دفعة للأمام كمشروع إدارة العراق للمرحلة الانتقالية المتقدم ومشروع الإصلاح الوطني وإنقاذ العراق(3) ، ومشروع تفعيل دور المعارضة الإيجابية كجزء مقوّم للعملية الديمقراطية(4).

2 - بيان الموقف الشرعي والوطني للجماهير إزاء مختلف الأحداث

ص: 28


1- انظر: المجلد الرابع: ص 303.
2- راجع المجلد الثالث (صفحة 289): الأسس النظرية لحزب الفضيلة الإسلامي. وقد أدرجناه في هذا الكتاب، وسيأتي ذكره قريباً.
3- المجلد الثالث (صفحة 112).
4- المجلد الرابع صفحة (339).

والقضايا التي تواجهه كالانتخابات وتفجير سامراء(1) ، وفي قمة تأجيج العواطف واشتعال الفتنة بعد هذا التفجير المروّع تتحدث المرجعية عن أن الأمة بحاجة إلى مشاريع إعمار الآن أكثر من حاجتها إلى مشاريع استشهاد(2).

3 - تقويم العملية السياسية والتنبيه إلى الأخطاء لتصحيحها وتشخيص الخلل والإشادة بالمحسنين وتوبيخ المقصّرين ومساعدتهم في علاج التقصير وتجاوزه.

4 - المساعدة في اختيار العناصر الكفوءة النزيهة القادرة على خدمة الشعب وترشيحها إلى مواقع المسؤولية مستندة في ذلك إلى معرفتها التفصيلية بكثير من هؤلاء بسبب الاحتكاك المباشر والعمل المشترك.

5 - حشد الرأي العام وتثقيفه لدعم الخطوات الايجابية في العملية السياسية التي تصب في مصلحته وغيرها كثير

وفي موازاة ذلك فإن المرجعية لا تغفل عن تربية الأمة على الأخلاق الفاضلة والتمسك بالتعاليم السامية وكل خصال الخير لأنها تعتقدأن (كل إناء ينضح بالذي فيه) فإذا كانت النفوس صالحة أفرزت مجتمعاَ صالحاَ وحكومة صالحة والعكس بالعكس.).

ص: 29


1- المجلد الرابع (صفحة 216).
2- المجلد الرابع (صفحة 245).

ص: 30

الأسس النظرية لحزب الفضيلة الإسلامي

اشارة

الأسس النظرية لحزب الفضيلة الإسلامي(1)

كثرت التساؤلات عن حزب الفضيلة الإسلامي، متى تأسس ولماذا وما هي أهدافه وبرنامج عمله ومدى ارتباطه بالمرجعية، والتزامه بمواقفها وما هي أسسه النظرية وغيرها مما سيتضح بإذن الله تعالى، وقد وجدت حفلكم المبارك هذا فرصة مناسبة للإجابة عن هذه التساؤلات بعد التمهيد بعدة مقدمات مختصرة:

الدعوة الى تنظيم أمر الأمة:

الأولى: إن تنظيم أمر الأمة في التشكيلات المؤسساتية التي تعتمد العمل المجموعي لا الفردي ضرورة اجتماعية يمليها تشعب الحاجات الإنسانية وتنوعها واحتياجها إلى التخصص من دون استغناء أحدها عن الآخر، فلا بد من انضمام الجهود بعضها إلى البعض في خلية واحدة ليتكامل العطاء وينضج ويكون فاعلاً ومؤثراً ومثمراً.

وقد حث القرآن الكريم على مثل هذا العمل المنظم ودعا إلى تشكيل الجماعات، قال تعالى (وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران: 104) وهذه الأمة التي يراد لها تحمل المسؤولية لها

ص: 31


1- كلمة سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) التي ألقيت بالنيابة عنه في حفل افتتاح أمانة حزب الفضيلة الإسلامي في البصرة، بتأريخ 15 محرم 1425 المصادف 2004/3/7.

خصوصياتها وشروطها وأهدافها التي تسعى لتحقيقها، وقد بينتها آيات قرآنية عديدة.

وأوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض كلماته بتقوى الله تبارك وتعالى ونظم أمر الأمة(1).

وهذه الضرورة تأكدت في المرحلة الراهنة لأن طبيعة العمل تقتضيها.

المعاني الإيجابية من حركة الأحزاب الإسلامية:

الثانية: إن العمل ضمن الإطار الحزبي يكون ايجابياً إذا كان نظيفاً في سلوكه وأهدافه أي من حيث النظرية والتطبيق، بأن ينظر إلى الحزب على أنه قناة أو آلية للعمل البناء في سبيل الوصول إلى الأهداف الصحيحة، لكنه أحياناً يقترن بالأخطاء حينما تنزل النظرية إلى حيز التطبيق، كما أن خللاً ما قد يحصل في فهم النظرية أو برنامج العمل بسبب القصور أو التقصير في فهم مصادر التشريع وكيفية استفادة الأحكام منها.

وهذا أحد الأسباب التي دعت عدداً من العلماء (قدس الله أسرارهم) إلى اتخاذ مواقف سلبية من الأحزاب، فالاعتراض ليس على أصل التشكيل وإنما على الانحراف في الفهم والتطبيق.

ثم إن انحرافاً آخر كثيراً ما يقترن بالعمل الحزبي وهو ظهور (الأنا) الحزبية فقبل أن ينتهي من العمل على تذويب الأنا الشخصية لمصلحة المبادئ العليا تراه يسقط في أنانية جديدة هي التعصب للحزب، وقد عرّف الإمام السجاد (عليه السلام العصبية، فقال: (العصبية التي يأثم عليها صاحبها ان يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب

ص: 32


1- نهج البلاغة: ج 3 ص 76.

الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم)(1) ، وهذه العصبية هي التي تؤدي إلى التقاطع والتناحر والعداوات وما يستلزم ذلك من محرمات كبيرة كالافتراء والبهتان والكذب والغيبة والإساءة إلى المؤمنين وتشويه سمعتهم فلا يبقى لله تبارك وتعالى أي نصيب في العمل وإن حاول الحزبي المتعصب إقناع نفسه بغير ذلك.

فلنجعل دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) نصب أعيننا دائماً (إلهي خسرت صفقة عبد لم تجعل له فيها من حبك نصيباً)(2) ، والأحزاب مبتلاة بهذا الداء فإنها تكافح من أجل أن تدفع بعناصرها إلى الواجهة وإن حصل لها العلم بوجود عناصر أفضل وأقدر على تحمل المسؤولية من الآخرين فإذا أردنا أن نلتزم بقوله تعالى (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ) (هود: 121) فإن الاستقامة تقتضي التجرد عن الأنانية والتعصب مع الاحتفاظ بالقناعة والأسلوب والنظرية اللتين تطمئن بسلامتها ونظافتها.

نظام الحكم في الإسلام هو ولاية الفقيه:

الثالثة: إن نظام الحكم في الإسلام يبتني على ولاية الفقيه الجامع للشرائط من الاجتهاد والعدالة والكفاءة فهو قمة الهرم في القرار وإليه ترجع السلطات، وله مستشارون يرجع إليهم في التعرّف على حقيقة القضايا المعروضة واستنباط الأحكام الشرعية المنطبقة عليها، وتهيئة مقدمات القرار له، ويستمد مشروعيته من نيابته للإمام المنتظر (عليه السلام) التي لا يستحقها إلا بعد توفر ملكات وخصائص وصفات، وبعد شهادة أهل الخبرة في هذا المجال باجتماع الشروط فيه، وينزع عنه هذا القميص متى ابتعد عن هذه الشروط

ص: 33


1- الوسائل: ج 15 ص 373.
2- أنظر مفاتيح الجنان: دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة.

وزلت أقدامه والعياذ بالله، قال الإمام الصادق (عليه السلام):

(إذا رأيتم العالم محباً لدنياه فاتهموه على دينكم)(1). وكذا إذا فقد الأهلية للقيام بمسؤوليات هذا الموقع المشرف.

موانع تطبيق نظام ولاية الفقيه:

وبالرغم من أن الحجة الشرعية قائمة على صحة هذا النظام، إلا أن موانع عديدة تحول الآن عن السعي لتحقيقه على أرض الواقع، ومنها باختصار:

1 - ديمغرافية الشعب العراقي وتكوّنه من قوميات وأديان وطوائف بعيدة عن هذا النظام وترفضه.

2 - شهرة القول بعدم ولاية الفقيه في أروقة الحوزة العلمية في النجف الأشرف وعند مرجعياتها، وسعة قواعد هذه المرجعيات.

3 - تشتت مراكز القرار وعدم وجود قيادة دينية يلتف حولها الأكثر.

وغيرها من الأسباب.

الخيار الاضطراري في الحكم في الإسلام:

لذا فإن الخيار الأقرب للشرعية هو أن يقوم الشعب بقيادة نفسه بنفسه وفق الآليات الديمقراطية المعمول بها ومنها: إجراء الانتخابات لاختيار ثلة تقوم بإدارة البلد، على أن يرجعوا في أمورهم الى توجيهات القيادة الدينية الواعية المخلصة.

ومستند هذه الشرعية تفويض الناخبين لهذه الثلة باعتبار أن الأصل عدم ولاية أحد على أحد إلا إذا فوضه بذلك ولكن مشروعيته تبقى مقيدة بحدود

ص: 34


1- الكافي: ج 1 ص 46.

الشريعة الإلهية ولا يحق مخالفتها؛ لأن الحاكمية لله تبارك وتعالى وحده، وهو المصدر الوحيد للتشريع (فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الحجرات: 14).

فحينما نطالب بالانتخابات لإدارة العملية السياسية فلا بد أن نلتفت إلى هذه الحقيقة المهمة بأن هذه الطريقة ليست هي القاعدة في حكم الأمة المسلمة، وإنما هي الاستثناء الذي يلجأ إليه عند وجود المانع من إجراء القاعدة، كأكل الميتة الذي يحل عند الضرورة وحليته هذه لا تعني إن حكم الميتة ذلك بالعنوان الأولي بل بالعنوان الثانوي، وإدراك هذه الحقيقة مهم وضروري نظرياً وعملياً؛ لكي لا تختلط علينا الأمور وتضيع معالم شخصيتنا وهويتنا الإسلامية العظيمة التي شيد أركانها أهل البيت (عليهم السلام) وننساق وراء الأطروحات الغربية البراقة، وحتى نبقى ملتزمين بأن الأصل في العمل السياسي هو طاعة المرجعية، وليس قرار الحزب.

الأحزاب الإسلامية ضرورة عصرية:

الرابعة: إن هذه النمط من العمل السياسي أعني التداول السلمي للسلطة عن طريق صناديق الاقتراع يتطلب أن يكون لأبناء الشعب واجهات أو عناوين تعبر عن آمالهم، وتطالب بحقوقهم وتسعى لتحقيق طموحاتهم وتدخل نيابة عنهم في كل تفاصيل العملية السياسية ابتداءً من المجالس البلدية إلى البرلمان والحكومة ورئاسة الجمهورية وقد تتعدد هذه الواجهات بحسب تعدد القناعات بها.

الحاجة الى حزب الفضيلة الإسلامي:

الخامسة: مع احترامنا الكبير للجهات السياسية التي تساهم بإخلاص في

ص: 35

بناء عراق حر كريم، إلا أنها غير مستوعبة لتوجهات كل الشعب وحائزة على قناعته فتوجد شرائح أخرى من المجتمع غير منتمية لها ولا يمكن تجاهلها وإهمال دورها في بناء العراق الجديد.

فمن هنا نشأت الحاجة إلى انبثاق حزب من هذه الشريحة يمثلها ويتحدث باسمها، إلا أنه لا ينغلق عليها بل هو منفتح لكل من يؤمن بأهدافه ويقتنع ببرنامج عمله، ويكون دور هذا الحزب مكملاً لفعاليات الجهات الأخرى وسانداً لها وعاملاً معها لتحقيق الأهداف المشتركة، وليس بديلاً عنها ولا لاغياً لدورها أو مزاحماً لها، ويكون الجميع كالروافد التي تلتقي على نهر واحد، فنحن ننظر إلى الأحزاب والحركات المخلصة على أنها رؤى متعددة وآليات متعددة في العمل إلا إنها تصب في هدف واحد هو رضا الله تبارك وتعالى وصلاح الأمة وبناء البلد وعلى هذا الأساس فستكون العلاقة بينهم جميعاً متصفة بالتآلف والتآزر والتنسيق والتشاور.

هذه هي الحاجة لتشكيل حزب الفضيلة الإسلامي وهذه أسسه النظرية وعلاقته مع الآخرين، وقد سارعنا إلى جمع عدد من النخب المثقفة والكوادر المتخصصة في العمل السياسي والفكري والإداري والاجتماعي بعد سقوط الطاغية بأيام، وهم ممن تعرفنا عليهم وعملوا معنا قبل سقوط الطاغية بسنين، وكنا نعدهم لمثل هذه المرحلة ونأمل منهم وممن التحق بهم الخير.

الخطوط العريضة لعمل الأحزاب الإسلامية:

وقد وضعت لهم الخطوط العريضة لعملهم وأوضحت كل علاقتهم مع المرجعية الشريفة والمعالم العامة لأهدافهم التي لخصتها ما يلي:

1. نشر الفضيلة في المجتمع ومنع الفساد والانحراف.

ص: 36

2. إيصال العناصر الكفوءة والنزيهة إلى المواقع المسؤولة في إدارة البلد على جميع المستويات.

3. الارتقاء بمستوى الوعي والثقافة والعلم لدى أبناء المجتمع.

4. تحقيق العدالة في الأمة واستقرار الأمن وإنعاش الوضع الاقتصادي.

5. الحفاظ على وحدة البلد وتركيبته الاجتماعية واستقلاله.

6. توفير الحقوق والحريات لجميع فئات الشعب وطوائفه وأعراقه بما لا ينافي الفقرات أعلاه.

7. وضع دستور للبلد يضمن النقاط أعلاه ولا يتقاطع مع الشريعة.

8. الحوار مع جميع التيارات الممثلة لفئات الشعب والانفتاح عليها.

9. تنسيق المواقف تجاه القضايا العامة مع الأحزاب والحركات الإسلامية.

الفضيلة عنواناً للبديل الحضاري:

إن اختيار (الفضيلة) عنواناً له جاء منسجماً مع أهدافه وطبيعة الصراع الجاري في هذه المرحلة، فإن الحكومات الغربية وعلى رأسها الإدارة الأمريكية جاءت إلى هنا لتنفذ المشروع الذي وضعته لتغيير المعالم الثقافية والأخلاقية والعقائدية والسلوكية وإلحاقها بالنموذج الغربي الذي نختلف معه في أسسه الحضارية ومنطلقاته الفكرية وأهدافه وغاياته، وقد اعترفوا بأنهم جاءوا ليخوضوا (صراع حضارات) وماذا تعني حضارتهم بغض النظر عن التطور العلمي والتكنولوجي. غير الظلم والفساد والانحراف والرذيلة حتى باتوا يئنون من ويلاتها وآلامها وغرقوا في رعب وخوف من مصيرهم المشؤوم الذي سيحل بهم عن قريب، فمرض الأيدز يفتك بحياة (8) ملايين سنوياً وعجزوا عن الحد من استفحاله فضلاً عن مقاومته والقضاء عليه.

ص: 37

أما حضارتنا فيمكن تلخيصها بالفضيلة في العقيدة والسلوك والأخلاق.

ولكي لا أطيل عليكم فإني أحيلكم لمعرفة تفاصيل هذه الأفكار وغيرها إلى عدة من إصداراتنا ككتاب (نحن والغرب) الذي يصور الصراع بين الإسلام والغرب وما هو تكليفنا فيه، وكتاب (خطاب المرحلة) بأجزائه لزيادة الوعي باستحقاقات هذه المرحلة وكتاب (المعادل الموضوعي) الذي شرح فيه أحد أعضاء المكتب السياسي للحزب الأسس النظرية للحضارتين الإسلامية والغربية وأهدافهما، وخصائص النموذج الإسلامي المعادل والمقابل للنموذج الغربي، وكتاب (نظام الحكم المناسب في العراق) للأستاذ الدكتور الأمين العام لحزب الفضيلة الإسلامي.

وقد اشتركت كوادر الحزب مع فضلاء الحوزة العلمية بإشراف المرجعية في تقديم أعمال ناضجة كمشروع الحل السياسي للمرحلة الانتقالية الذي أنجز قبل تأسيس مجلس الحكم، وهو مشروع مفصل يقدم الحل عبر مراحل تضمنت خطوات العمل حتى توقيتات هذه المرحلة، وكان يمكنه لو أخذ به أن يعجل بتصحيح الوضع السياسي القائم إلا أنهم بعد عدة أشهر من المعاناة والخسائر اخذوا ببعضه وافرغوا البعض الآخر من محتواه باتفاق 15 تشرين الثاني.

واشتركت هذه النخبة أيضاً في إجراء استطلاع للرأي حول عدد من القضايا السياسية المهمة تضمن (19) سؤالاً مع مقدمات تعريفية بالأفكار المستفتى عنها.

نسأل الله تعالى أن يزيد بصيرتكم ويسدد خطاكم ويخلص نياتكم ويؤيدكم بنصرة ويؤلف قلوبكم ويجري الخير على أيديكم إنه نعم المولى ونعم النصير.

ص: 38

المبادئ الثابتة في السياسة

مصالح ثابتة أم مبادئ ثابتة؟

المبادئ الثابتة في السياسة(1)

لا شك أن انشغالكم بالمسؤوليات العظيمة في هذه الفترة العصيبة من حياة الأمة توجب على الجميع مؤازرتكم ومساعدتكم بحسب ما نحسنه وما يرتبط بوظيفتنا، لذا رأيت من المناسب أن أقدم بين أيديكم هذه الأفكار التي تنجح عملكم بإذن الله تعالى.

اشتهر بين السياسيين قولهم (لا توجد عداوات ثابتة ولا صداقات ثابتة وإنما توجد مصالح ثابتة)، ونحن نقول توجد (مبادئ ثابتة)، والمصالح الحقيقية ليست هي التي نقررّها نحن وإنما التي تنسجم مع هذه المبادئ، وفي الحقيقة فإن الابتعاد عن هذه المبادئ هو الذي أدى بعلمائنا إلى الابتعاد عن العمل السياسي وإنشاء الأحزاب التي تعمل لإقناع الأمة بالإسلام فكراً ومنهج حياة، وإلا فإن مشروع تكوين الأحزاب والجماعات والتنظيمات ورد في القرآن الكريم (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة: 22)(وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران: 104).

ص: 39


1- تقرير الكلمة التي تحدث بها سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في اجتماع الأمانة العامة لحزب الفضيلة الإسلامي في داره يوم الجمعة 4 ربيع الثاني 1426 المصادف 2005/5/13، وبعثها برسالة إلى رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس الجمعية الوطنية ونوابهم والوزراء وأعضاء الجمعية الوطنية المنتخبين.

وقد أسس أمير المؤمنون (عليه السلام) أول حزب بالمعنى المتعارف وسمى أعضاءه (شرطة الخميس) وانضم إليه عيون أصحابه وعظمائهم.

فالمشكلة إذن ليست في أصل تشكيل الأحزاب ولا ممارسة العمل السياسي بل هي من صميم العمل الإسلامي، وإنما المشكلة في التطبيق الذي ينحرف عن المبادئ الثابتة للعمل والأطر العامة التي تحدده.

المبادئ التي يراعيها الساسة:

فما هي المبادئ التي يجب أن يراعيها الساسة؟

أولاً: سمو الهدف: بأن يكون هدفه ابتغاء رضوان الله تعالى في كل جزئيات عمله فلا شيء يستحق أن يعمل من أجله إلا الله تبارك وتعالى، وما عداه فهو زخرف وسراب لأنه زائل فلا قيمة له حيث تذهب لذته وتبقى تبعته:

ألا كل شيء ما خلا الله باطلُ *** وكل نعيم لا محالة زائلُ(1)

وحينما يعيش الإنسان هدفاً كبيراً فإنه تزداد همته وتقوى عزيمته وتذوب عنده الكثير من الأمراض المعنوية كالحسد والتنافس على شيء من الأمور الدنيوية وسيترفع عن الكثير من الأفعال التي يبتلى بها غيره، وقد وضع علماء الأخلاق امتحانات للنفس الإنسانية ليروا صدقها ونجاحها، فمثلاً لكي يختبر الإنسان إخلاصه لينظر انه لو نافسه أحد على موقع وكان الآخر أولى منه هل يتنازل عنه بكل رحابة صدر؟ وإذا قدّم أعمالا جبارة ولم يذكره أحد وإنما بقي مجهولاً معتّماً عليه لا تذكره وسائل الإعلام فهل يتأذى من ذلك؟

إن المخلص يعلم أن عمله بعين الله تبارك وتعالى فلا يضيره أن يجهله أهل الأرض عكس الذي يستهدف حب الظهور والجاه والثناء والموقع ونحوها

ص: 40


1- من أشعار لبيد بن المغيرة، أنظر: مستدرك سفينة البحار: ج 5 ص 490.

فإنه يسعى إليها (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران: 188)(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً، اَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (الكهف: 103-104).

وتوجد عدة عوامل تساهم في تحقيق الإخلاص لله تبارك وتعالى عند الإنسان:

1 - قوة القلب والشجاعة والإرادة الصلبة في اتخاذ الموقف وعدم الضعف أمام المغريات؛ لأن كثيراً ممن يطلبون غير الله ويعملون لغير الله يعلمون بعدم جدوى ذلك، إلا أنهم يضعفون أمام أهوائهم ونزواتهم ولو كانوا ذوي عزم لما خيروا بين أمرين إلا اختاروا أرضاهما لله تبارك وتعالى ومن هنا أشار القرآن الكريم إلى العزم في عدة موارد (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (الأحقاف: 35)(فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (طه: 115).

2 - العلم والمعرفة فإن الإنسان كلما ازداد علماً ومعرفة بمصالح الأفعال - في الدنيا - كان أكثر اندفاعاً للقيام بها، وكلما كان اعرف بمفاسدها كان أكثر اجتناباً لها وكذا على صعيد الآخرة أي العلم بالثواب والعقاب، فكل من العلمين يساهم في الدفع بالاتجاه الصحيح، فمثلاً نجد أن ملايين في الغرب اجتنبوا الخمر والتدخين اقتناعاً بإضرارهما ومفاسدهما فكيف إذا انضم إليها معرفة المصير في الآخرة.

3 - المستشار الناصح الذي لا يبخل بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة التي تزيد في الهدى وترد عن الردى وتسوق نحو الصلاح والسعادة، فجعل الله تبارك وتعالى أثمن هدية للأخ المؤمن هي النصيحة.

4 - لطف وتوفيق من الله تبارك وتعالى وهذا حاصل ابتداء لكن الإنسان

ص: 41

بإخلاصه يستنزل المزيد ومن مظاهر هذا اللطف قوله تعالى (وَ لكِنَّ اللّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ) (الحجرات: 7) بعكس الشيطان والنفس الأمارة بالسوء اللذين يزينان المعصية (وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (النساء: 60)(أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ) (الجاثية: 23)(إِنَّ النَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (يوسف: 53).

وبهذه البصيرة التي يكشف بها الله لعبده حقائق الأمور يزداد المؤمنون إيماناً وتسليماً وتثبيتاً فينفر من حب الدنيا لأنه يرى حقيقتها عبارة عن جيفة تتنافس عليها الكلاب، ويرى المرأة التي تدعوا إلى المعصية على صورتها الباطنية الشوهاء فيبتعد عنها بلا تكلف كما حصل لنبي الله يوسف (عليه السلام).

ثانياً: نظافة الوسائل: فنحن نرفض ما يقال (الغاية تبرر الوسيلة) ولا نكتفي بكون الهدف نبيلاً وإنما يجب أن تكون وسيلة الوصول إلى الهدف نظيفة، ولا قيمة للنتائج التي تحقق بوسائل لا إنسانية كما يفعل السياسيون عدا من التزم بالشريعة الإلهية، ولذا كان رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) كلما بعث أميرا أو قائداً عسكرياً أوصاه بجملة وصايا رغم أنهم كانوا من الصحابة الذين عايشوه واستمعوا إلى الوحي والتنزيل فيقول لهم:

(سيروا باسم الله و بالله و في سبيل الله وعلى ملة رسول الله ولا تغلوا ولا تمثّلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخا فانياً ولا صبيّاً ولا امرأة ولا تقطعوا شجرة)(1) ونهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحرق النخل أو أن يغرق بالماء أو أن يلقى السم في بلادهم أو أن يجهز على جريح لهم وأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعرض عليهم الإسلام أولاً (وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) (الأنفال: 61) وغيرها من الوصايا)(2) ، وكان يبادر إلى معالجة أي خطأ يقع3.

ص: 42


1- الوسائل: ج 15 ص 58.
2- أنظر الوسائل: ج 15 ص 59، ص 73.

فيه قادته ويبرأ إلى الله مما يفعلون، كما تبرأ علناً من فعل أحد أمراء جيشه حينما قتل شخصاً تشهد الشهادتين فاعتقد الأمير أن إسلامه ليس حقيقياً وإنما كان خوفاً من السيف(1).

ثالثاً: الترفع عن حب الدنيا: بكل أشكالها التي جمعتها الآية الشريفة (زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ) (آل عمران: 14) وهي مصاديق ذكرها القرآن ويمكن أن تنطبق العناوين على غيرها، ولعل أشدها فتكاً بدين الإنسان حب الجاه والموقع الذي يدفع بصاحبه إلى ارتكاب أقبح الجرائم من أجل نيله وهو أكثر المظاهر الدنيوية تشبثاً بقلب الإنسان حتى ورد في الحديث (آخر ما ينزع من قلوب الصديقين حب الجاه)، وقد نقل التأريخ جرائم كبرى بحق الإنسانية جمعاء كان دافعها هذا الداء الوبيل، لذا حذرنا الله تعالى والأنبياء والأئمة والصالحون من حب الدنيا ووصفوه بأنه رأس كل خطيئة ومنشأ كل رذيلة، وطريق معالجة هذا الداء نظرياً بالاستزادة من الموعظة والتذكير بالعاقبة والتعرف على النتائج القبيحة لمن آثر حب الدنيا (وَ أَمّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) (النازعات: 40-41) وعلاجها عملياً بعدم الانسياق وراء بهرجة الدنيا وزخرفها مهما تجملت وأبدت محاسنها ومفاتنها، وشيئاً فشيئاً يستطيع الإنسان أن يبني نفساً قوية لا تميل إلى شيء من هذا كله، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام)

(وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر)(2).

رابعاً: تذويب الأنانيات: سواء كانت الشخصية أي جعل المصلحة5.

ص: 43


1- انظر: البحار: ج 22 ص 21.
2- نهج البلاغة: الكتاب: 45.

الشخصية فوق كل اعتبار أو الحزبية أو الطائفية أو العرقية أو أي شيء آخر، ولا يعني هذا أنك لا تعمل لقومك ولجماعتك فهذا مطلوب منك ولكن المرفوض هو التعصب الذي هو من سمات الجاهلية بحيث ترى شر قومك أفضل من خير الآخرين، فيستأثر المتعصب بالأمور له ولعصبته من حزب أو قبيلة أو قومية، ويقرب من ينتمي إليه وإن كان سيئاً فاسداً، ويقصي من لا ينتمي إليه وإن كان كفوءاً مخلصاً.

وهذه الأنانية هي التي توجب التشاجر والتقاطع والتنافس غير المحمود وتؤدي إلى القتال، فلا بد أن يكون الانتماء - الذي لا يخلو منه إنسان - للحزب أو المدينة أو الطائفة أو القومية ذا دور بنّاء من دون الاعتداء على الآخرين أو غمط حقوقهم (وَ لا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ) (هود: 85).

خامساً: حب الناس والرحمة بهم والعمل من اجلهم وإفشاء العدل والسلام بينهم وإيصال حقوقهم، وهو الهدف الأسمى من بعثة الأنبياء وإنزال الشرائع السماوية (وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (الأنبياء: 107) وفي عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر

(وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق)(1).

وقد ضمت جوامع الحديث توصيات جمة بهذا المجال حتى جعلت هذه الأعمال الإنسانية من قضاء حوائج الناس وإدخال السرور عليهم ورد لهفتهم والتفريج عن مكروبهم والتخفيف عن آلامهم وتحقيق أمانيهم أفضل القربات إلى الله تبارك وتعالى وأكثر أجرا من العبادات الفردية كالصلاة والصوم، وفي بعض الروايات أن امرأة معروفة بالفسق والفجور دخلت الجنة في قطة عطشى سقتها ماءً.3.

ص: 44


1- نهج البلاغة: الكتاب: 53.

فيجب أن يتحلى السياسي بقلب مملوء بالرحمة والعطف ويفيض بالعواطف الجياشة كما كان قلب رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وقادة الإسلام العظماء، أما قاسي القلب فلا نتوقع منه خيراً للرعية فلتجعل ضمن اختبارات الساسة والقادة هذا الحس المرهف والعاطفة الجياشة، كما نقل عن بعض القادة التأريخيين أنه عاقب أحد مساعديه لأنه سحق برجله وردة، والآخر حذرّ ممن لا يحب الموسيقى لأنها تعني أن عواطفه وأحاسيسه جامدة وإن كنا لا نحتاج إلى هذه الأمثلة لأننا في غنى عنها بما ورد في سيرة نبي الإسلام (صلى الله عليه واله وسلم) والأئمة الهداة، فقد وبخ النبي (صلى الله عليه واله وسلم) أحد أصحابه لأنه اصطاد عصفوراً لهواً وقال له: استعد للمساءلة يوم القيامة فإن العصفور سيخاصمك ويقول يا رب سل هذا لماذا قتلني وهو غير محتاج للحمي، وغيرها كثير مما لا يسعها هذا البيان المختصر.

سادساً: الحوار والعمل المشترك مع كل من ترتبط به بقواسم مشتركة سواء أكانت دينية أو وطنية أو إنسانية فإنه ادعى لتحقيق الرفاه والسعادة وتجنب المشاكل والأخطار وحماية الأمة من الكوارث والويلات، والالتزام بهذا الأسلوب ما وجد إليه سبيلا فإنه يريح البال ويوفر الدعة والأمان والسلام للرعية ويوفر الفرصة للإعمار والبناء عكس لغة العنف والمواجهة والاحتراب.

سابعاً: الصراحة مع الأمة فقد تعود الساسة التضليل والدجل وخلط الأوراق والتعتيم على الحقيقة والتظاهر بغير ما هو الواقع، وهذا يولد انفصالاً بين القيادة والأمة وينزع الثقة منها، ويؤدي إلى تقاعس الأمة عن التفاعل مع مشاريعها وحركتها، بعكس الصراحة والشفافية فإن لها عدة ثمرات: زيادة الرابطة بين القيادة والأمة، عذر القيادة في حالة قصورها عن تحقيق كل أماني الأمة، زيادة وعي الناس السياسي، مشاركة الأمة في تحمل مسؤولية القرار، وغيرها.

ص: 45

وتجد هذا واضحاً في سيرة قادة الإسلام فإن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) صارح الذين خرجوا معه لاعتراض قافلة قريش أنها قد أفلتت وقد تعين عليهم خوض الحرب معهم، وصارح الحسين (عليه السلام) الخارجين معه من مكة إلى كربلاء انه ليس ذاهباً لتسلم ملك أو سلطة بل انه قادم على الموت، وغيرها من الشواهد.

وقد شهدت جماهيرنا حالة من التعتيم خلال الأشهر الثلاثة التي تلت الانتخابات(1) فتولد لها امتعاض شديد على الذين جازفت بحياتها من أجل انتخابهم، وهذه حالة سلبية يجب على القادة تجنبها مع الاحتفاظ طبعاً بالأسرار التي لا يمكن إذاعتها.

ثامناً: أن القيمة العليا تعطى للإنسان ولحقوقه المشروعة ولا يجوز انتهاك حرمته لأي مبرر مهما كان مهماً عند أصحابه، قال تعالى (وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (الإسراء: 70) وما أنزلت الشرائع وبعث الأنبياء إلا لتنظيم حياة هذا الإنسان وتوفير السعادة له، وعلى هذا فيجب احترام إرادة الإنسان وحقوقه، ولا يجوز سوقه كرهاً باتجاه إشباع نزوات الحاكم وأهوائه وأطماعه الجنونية، لذا اتجهت الدول المتحضرة إلى كتابة الدساتير التي تضمن حقوق الإنسان وتبين صلاحيات السلطة لتحدَّ من الطموحات غير المشروعة للحكام.

تاسعاً: المصداقية ومطابقة القول للفعل، قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) (الصف: 2-3) فلا بد لكل إنسان وخصوصاً السياسي الذي يتصدى لقيادة الأمة، أن يكون صادقاً مع نفسه وصادقاً مع ربه وصادقاً مع الآخرين، وأسوأي.

ص: 46


1- هي المدة التي استغرقتها تقريباً مفاوضات تشكيل الحكومة الانتقالية برئاسة الدكتور الجعفري.

الخيانة خيانة الأمة وأفظع الغش غش الأئمة إلى درجة يقول أمير المؤمنين بعد أربع سنوات قضاها في الكوفة رئيساً لدولة مترامية الأطراف

(لو خرجت منكم بغير القطيفة التي جئتكم بها من المدينة لكنت لكم خائناً)(1).

هذه إشارة مختصرة بمقدار ما تتسع له المناسبة وتوجد تفاصيل كثيرة لهذه النقاط في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية) المطبوع وسلسلة محاضرات (الأسوة الحسنة في بناء الذات وإصلاح المجتمع) وهي دراسة تحليلية في أعظم وأغنى قيادة إنسانية وهي قيادة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم).9.

ص: 47


1- أنظر نحوه في: الكامل في التأريخ: ج 3 ص 399.

ص: 48

مبادئ الشفافية ومظاهرها

اشارة

مبادئ الشفافية ومظاهرها(1)

ترد كلمة الشفافية كثيراً على ألسنة السياسيين وعموم المتصدين للعمل الاجتماعي ويطالب الجميع بأن يكون العمل شفافاً، ولكن لم يشرح لنا أحد حقيقة الشفافية وكيف يكون التعامل شفافاً، أي ما هي مظاهر الشفافية؟ وكيف يمكن تدريب النفس عليها أي ما هي المبادئ والخصائص التي يجب توفرها في النفس لتنطلق منها التعاملات الشفافة؟

وبصفتنا عاملين في الحقل الاجتماعي فإن من وظيفتنا تشخيص معوقات العمل ومشاكله ومقومات نجاحه، كما تحدثنا في كلمة سابقة عن عناصر رفع الهمة وخلق الحوافز للاندفاع نحو مزيد من العمل.

وفي ضوء هذه الرؤية فقد وجدنا أن من بين المشاكل الرئيسية التي يعاني منها العمل الاجتماعي. ويعاني منها أكثر العاملين في الحركة الإسلامية - هو عدم التعامل مع الآخرين بشفافية - وهي صفة لا تختص بالعمل فقد يوصف القانون بأنه شفاف أي مرن وقابل لاستيعاب الحالات الاستثنائية ويأخذ الأعذار بنظر الاعتبار وليس جامداً حدياً، فالشفافية إذن من الأسس المهمة لإنجاح العمل ولضمان تطبيق القوانين والاستجابة لها بسلاسة، وهي من أهم مميزات القانون الإسلامي وقادته العظماء.

ص: 49


1- كلمة سماحة الشيخ (دامت تأييداته) في المؤتمر العام الأول لرابطة بنات المصطفى بتأريخ 21-22 جمادى الثانية 1426 المصادف 28-2005/7/29. وحضرته ادارات الفروع في بغداد والمحافظات وأعضاء البرلمان من الرابطة.

أصول الشفافية في الإسلام:

وسنشير في حديثنا إلى مظاهر الشفافية في الإسلام ومبادئها وأصولها النفسية مستنداً إلى مجموعة مباركة من الأحاديث الشريفة وستكون الإشارة مجملة تاركاً بيانها التفصيلي إلى الفضلاء والمفكرين لاغتناء مصادرنا الإسلامية بهذه الأحاديث المباركة:

1 - إنصاف الآخرين من نفسك: فإذا كان رأي الآخر صحيحاً فكن شجاعاً وقل له ذلك وتنازل عن رأيك واعترف بخطئك، لذا قالوا أن الاعتراف بالخطأ فضيلة، وقد وبّخ الله تعالى من يتمسك بموقفه ورأيه رغم اعترافه في داخله بصحة رأي الآخر وحقه فقال تعالى:(وَ إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ) (البقرة: 206) وقال تعالى:(وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (النمل: 14)، ودعا تبارك وتعالى عباده إلى إعطاء الآخرين حقهم من غير غمط ولا بخس، قال تعالى (وَ لا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ) (الأعراف: 85).

وهذه الصفة شاقة على النفس ولا يتحلى بها إلا من روّض نفسه ودرّبها وملك زمامها؛ لذا جاء في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

(يا علي ثلاث لا تطيقها هذه الأمة: المواساة للأخ في ماله وإنصاف الناس من نفسه، وذكر الله على كل حال، وليس هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولكن إذا ورد على ما يحرم خاف الله عز وجل عنده وتركه)(1).

2 - المشاورة وعدم الاستبداد بالرأي وعدم الاستكبار عن سماع رأي

ص: 50


1- بحار الأنوار: ج 72 ص 34.

الآخرين ونصيحتهم، فإنها قوة إضافية لك لانضمام عقولهم إلى عقلك فكأنك تفكر بمجموع عقولهم وهو كمال ونضج للرأي؛ لذا جاء فيما أوصى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً (عليه السلام):

(لا مظاهرة أوثق من المشاورة ولا عقل كالتدبير)(1) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام):

(من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها عقولها)(2) وعن الصادق (عليه السلام): (ما يمنع أحدكم إذا ورد عليه ما لا قبل له به أن يستشير رجلا عاقلاً له دين وورع، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) أما أنه إذا فعل ذلك لم يخذله الله بل يرفعه الله، ورماه بخير الأمور وأقربها لله)(3).

وأعطانا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) الدروس العملية في ضرورة المشورة وهم أكمل الخلق وسادتهم والمتصلون بالتسديدات الإلهية التزاماً بقوله تعالى (وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ) (آل عمران: 159)، ووصف عباده المفلحين بقوله عزّ من قائل (وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38)، وعن بعض أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام): قال: قال لي الصادق (عليه السلام): (أشر عليّ برجل له فضل وأمانة، فقلت: أنا أشير عليك، فقال شبه المغضب: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يستشير أصحابه ثم يعزم على ما يريد الله)(4).

3 - اعتماد مبدأ الحوار: وعدم فرض الرأي على الآخر مهما كنت مقتنعاً به فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعلم أنه على حق ومع ذلك أمره الله تعالى بالحوار مع الآخرين (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ) (آل عمران: 64)،1.

ص: 51


1- الكافي: ج 8 ص 20.
2- بحار الأنوار: ج 72 ص 104.
3- بحار الأنوار: ج 72 ص 102.
4- بحار الأنوار: ج 72 ص 101.

وقوله سبحانه:(وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت: 46).

وقد ثقف الإسلام أتباعه على حرية التعبير عن الرأي واختيار العقيدة قال تعالى (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) (البقرة: 256)، ويبلغ هذا المبدأ أوفى حالاته وأكملها حينما يأمر الله تبارك وتعالى المسلمين أن يوفّروا الأمن والحماية لمن يريد من المعسكر الآخر أن يستمع إلى هذا الدين ثم يعيده إلى بلاده آمناً ليختار بكل حرية (وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (التوبة: 6). فهل يوجد حث على الحوار وهل توجد شفافية أكثر مما في الإسلام.

4 - التواضع: لأن التكبر والنظر إلى الأنا والإعجاب بالنفس يصد عن سماع الحق ويعمي البصيرة ويذل صاحبه، وعلى العكس منه فإن التواضع يرفع صاحبه ففي الحديث: (من تواضع لله رفعه الله)(1) ، وفي دعاء مكارم الأخلاق للإمام السجاد (عليه السلام):

(ولَا تَرْفَعْنِي فِي النَّاسِ دَرَجَةً إِلَّا حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا، ولَا تُحْدِثْ لِي عِزّاً ظَاهِراً إِلَّا أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً بَاطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِهَا)(2) فلا تتكبر على الآخرين وتواضع لأدنى خلق الله فقد يجري الله الكلمة المفيدة النافعة الصالحة على لسان من لا تأبه بهم، ومما روي عن سيرة عيسى روح الله (عليه السلام) انه قال: (يا معشر الحواريين لي إليكم حاجة اقضوها لي، قالوا: قضيت حاجتك يا روح الله، فقام فغسل أقدامهم، فقالوا: كنا نحن أحق بهذا يا روح الله! فقال: إن أحق الناس بالخدمة العالم إنما تواضعت هكذا لكيما تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم، ثم قال عيسى (عليه السلام):2.

ص: 52


1- الكافي: ج 2 ص 122.
2- الصحيفة السجادية: ص 92.

بالتواضع تعمر الحكمة لا بالتكبر، وكذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل)(1).

5 - سعة الصدر: وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله:

(آلة الرياسة سعة الصدر)(2) ولا نفهم من الرئاسة أنها المناصب الحكومية الرفيعة فقط، بل كل ولاية أمر لمجموعة هي رئاسة فالمعلم رئيس لطلابه وشيخ العشيرة رئيس لأبناء عشيرته والعالم الديني وإمام الجماعة رئيس لمريديه وأتباعه والأم رئيسة في بيتها فكل واحد محتاج إلى سعة الصدر لكي ينجح في عمله، ولا بد أن تتناسب سعة الصدر مع عظم المسؤولية فكلما كبرت وازداد عدد المرؤوسين وجب أن يتسع الصدر لاستيعابهم جميعاً، ومما أوصى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله

(إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم)(3) فيمكن للإنسان بسعة صدره أن يكسب الناس من حوله ويزيد ثقتهم بقيادته.

6 - الحب للناس جميعاً: فليس في قلب المؤمن حقد ولا غل ولا كراهية لذلك جعل الله من نعمه على أهل الجنة انه يزيل ما بقي في صدورهم وقلوبهم من هذا قال تعالى:(وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) (الحجر: 47)؛ لأن هذا الغل والحقد والكراهية أول ما يؤذي صاحبه فيجعل حياته منكدة ومعذبة وباله مشغولاًً بهذه الدوّامة من التفكير مما يقعده عن القيام بالكثير من الأعمال الناجحة، أما لو نقّى قلبه منه فسيكون سعيداً فارغ البال للمسؤوليات المهمة، لكن الناس متفاوتون في تطهير قلوبهم حتى المؤمنين، لذا يوجد من يدخل الجنة وهو لم يكمل تنقية قلبه مما ينكد1.

ص: 53


1- الكافي: ج 1 ص 37.
2- نهج البلاغة: الحكمة: 176.
3- الوسائل: ج 12 ص 161.

عليه صفو الحياة في نعيم الجنان فيتم الله نعمته عليه بنزع الغل من قلبه ولكن بعد ألم طويل، فلماذا لا يعمل الإنسان على إزالته من الدنيا لينعم بالسعادة مباشرة ويملأ قلبه بحب الخير للناس جميعاً ولا ينال السعادة الكاملة (إِلاّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء: 89) خصوصاً بين المؤمنين العاملين في مشروع إسلامي واحد حتى لو اختلفوا في الرأي وفي آليات العمل فلا يؤثر ذلك على روح الصفاء، أما ما نراه من تحول المودة إلى تقاطع وانتقاص للآخر وتشويه لصورته وما يتبعه من غيبة ونميمة وسوء ظن وكلها من الكبائر فهذه ليست من أخلاق الإسلام، ولنتأس بالإمام الحسين (عليه السلام) الذي بكى على أعدائه يوم عاشوراء معللا ذلك بأنهم سيدخلون النار بسببي وهم المحتشدون لقتله واستئصال أهله وخاطب الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم (وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) الأنبياء 107 أي جميع العوالم من المخلوقات وليس للبشر فقط فضلاً عن المسلمين من أتباعه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلنحمل هذا القلب الكبير المملوء بالرحمة والحب وإرادة الخير ولنتأس بالنبي وآله الطاهرين (صلى الله عليهم أجمعين).

7 - حسن الخلق مع الناس والتآلف معهم فمن صفات المؤمن انه يألف ويؤتلف، وهذه من أهم مظاهر الشفافية ويوجد في جوامع الحديث حشد هائل من الأحاديث التي تبني في الإنسان مكارم الأخلاق والخصال الحميدة، قال الإمام الصادق عليه السلام:

(ما يقدم المؤمن على الله عز وجل بعمل بعد الفرائض أحب إلى الله تعالى من أن يسع الناس بخلقه)(1)وعنه (عليه السلام):

(إن الخلق الحسن يميث الخطيئة كما تميث الشمس الجليد)(2)، وعنه (عليه السلام):

(إن الله تبارك وتعالى ليعطي العبد من الثواب علىق.

ص: 54


1- الكافي: ج 2 ص 100.
2- السابق.

حسن الخلق كما يعطي المجاهد في سبيل الله يغدو عليه ويروح)(1). وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

(التودد إلى الناس نصف العقل)(2). فما أجمل أن تستقبل الناس دائماً بالبشاشة والانفتاح وتتودد لهم والبسمة دائماً على وجهك حتى في أحلك الظروف وليس أن تكون عبوساً في وجوه الناس.

8 - حمل الآخرين على الصحة والتماس العذر لهم أن لم يعجبك شيء من تصرفاتهم، لذا ورد في الحديث: احمل أخاك على سبعين محمل حسن. وهو رقم يضرب للكثرة لا للتحديد فلو احتجت إلى واحد وسبعين تفسيراً فاحمل عليه، فقد وصلت تربية الأئمة لشيعتهم إلى حد انه يُسأل الإمام الكاظم (عليه السلام) من قبل أحد أصحابه فيقول له:

(جعلت فداك الرجل من إخواني يبلغني عنه الشيء الذي أكرهه، فأساله عنه فينكر ذلك وقد أخبرني عنه قوم ثقات، فقال لي: يا محمد كذب سمعك وبصرك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسامة (أي خمسون رجلاً يقسمون عندك) وقال لك قولا فصدقه وكذبهم، ولا تذيعن عليه شيئاً تشينه به، وتهدم به مروته)(3).

المحافظة على حدود الصداقة التي حدها الأئمة المعصومون عليهم السلام فعن الإمام الصادق (عليه السلام):

(لا تكون الصداقة إلا بحدودها، فمن كانت فيه هذه الحدود أو شيء منها فانسبه إلى الصداقة ومن لم يكن فيه شيء منها فلا تنسبه إلى شيء من الصداقة

فأولها: أن تكون سريرته وعلانيته لك واحدة.

والثانية: أن يرى زينك زينه وشينك شينه.5.

ص: 55


1- السابق: ج 2 ص 101.
2- السابق: ج 2 ص 642.
3- الوسائل: ج 12 ص 295.

والثالثة: أن لا تغيره عليك ولاية ولا مال.

والرابعة: أن لا يمنعك شيئاً تناله مقدرته.

والخامسة: وهي تجمع هذه الخصال: أن لا يسلمك عند النكبات)(1).

10 - المواساة: بل الإيثار، فعن بعض أصحاب الإمام الباقر (عليه السلام) قال: قال لي الباقر:

(أرأيت من قِبلكم إذا كان الرجل ليس عليه رداء وعند بعض إخوانه رداء يطرحه عليه؟ قال: قلت: لا، قال:... فضرب بيده على فخذه ثم قال: ما هؤلاء بأخوة)(2).

ووصف القرآن الكريم علاقة المؤمنين فيما بينهم بأكمل من ذلك فقال:(وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) (الحشر: 9).

هذه هي المظاهر الرئيسية للشفافية اختصرتها لكم وهي تتطلب الكثير من الصبر والمصابرة والتربية للاتصاف بها والالتزام بمضمونها وعدم الاكتفاء بإلقاء الكلمات من دون تطبيق لذلك يقول الإمام لشيعته

(أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد)(3). فالتقوى والورع والصبر وعلو الهمة والإخلاص تساعد على المضي في طريق الكمال قال تعالى:(وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخاشِعِينَ) (البقرة: 45)، وعلى الله نتوكل ليأخذ بأيدينا وأيديكم لتحقيق هذه الصفات لنستحق شفاعة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ونفوز بمجاورة الأحبة محمد وآله الطاهرين صلى الله عليهم أجمعين5.

ص: 56


1- الكافي: ج 2 ص 639.
2- الوسائل: ج 12 ص 26.
3- نهج البلاغة: الكتاب: 45.

مسؤولية الكلمة

أهمية الكلمة ودورها:

مسؤولية الكلمة(1)

(الكلمة) من أوسع القنوات الموصلة إلى رضا الله تبارك وتعالى فمن خلالها تكون النصيحة وبها تتم الموعظة وتجري الهداية ويتحقق الإصلاح وينتشر العلم والمعرفة وتُبنى الحضارة وتتقدم الإنسانية وتتكامل التربية فهي وعاء لهذه الطاعات العظيمة وغيرها.

لذلك جاء رجل إلى الإمام السجاد (عليه السلام) وسأله: عن الكلام والسكوت أيهما أفضل؟ فقال (عليه السلام):

(لكل واحد منهما آفات فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت، قيل: وكيف ذاك يا بن رسول الله؟ فقال: لأن الله عز وجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، إنما بعثهم بالكلام، ولا استحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت، ولا وقيت النار بالسكوت، ولا تجنب سخط الله بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام)(2). قال تعالى:(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ) (النساء: 114) حتى عُدّت

(الكلمة الطيبة صدقة)(3) في بعض الأحاديث.

ص: 57


1- كلمة سماحة الشيخ محمد اليعقوبي التي ألقيت نيابة عنه في احتفال أقيم يوم 4 رجب 1426 المصادف 2005/8/10 في وزارة الثقافة بمناسبة مرور عام على افتتاح إذاعة البلاد وقد أضاف سماحته عليها مقاطع مهمّة.
2- الوسائل: ج 12 ص 188.
3- السابق: ج 5 ص 233.

وفي المقابل فإن الكلمة السيئة لها ضرر بليغ ومدمّر وإن كثيراً من الكبائر التي وعد الله بها النار مرتبطة بالكلمة كالغيبة والنميمة والبهتان والكذب والافتراء والسب والشتم والإيذاء وإشاعة الفاحشة وغيرها لذا ورد في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال:

(وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم)(1) وألّف العلماء والمربّون والأخلاقيون كتباً في (آفات اللسان).

تهذيب الكلمة:

لذلك خصص المشرع الأقدس حصة كبيرة من تعاليمه لتهذيب هذه الكلمة وتوجيهها لتكون نافعة بنّاءة فرسم ملامح الكلمة الطيبة (كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ، تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) (إبراهيم: 24-25) وحذر من ضرر الكلمة الخبيثة (وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) (إبراهيم: 26) وحذر من مغبّة الكلمة الضارة.

فمثلاً اعتبر من يقول ولو شطر كلمة في المشرق فقُتل بها شخص في المغرب اعتبره قاتلاً، كما يفعل اليوم صناع ثقافة التكفير والقتل والظلم والعدوان فيطيعهم وينخدع بضلالاتهم شخص في المشرق أو المغرب ويقوم بعملية إجرامية يكون وزرها الأول على صانع هذه الثقافة.

ويوجد بهذا الصدد حديث شريف مهم ويشكّل ضربة قاضية لهؤلاء الذين يروّجون صناعة القتل والرعب لمجرد الاختلاف في الرأي أو تضرّر المصالح فقد روى الإمام الصادق (عليه السلام) عن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال

ص: 58


1- الكافي: ج 2 ص 155.

(يعذّب اللهُ اللسان بعذابٍ لا يعذّبُ به شيئاً من الجوارح فيقول: أي ربِّ عذّبتني بعذابٍ لم تعذّب به شيئاً، فيقال له: خرجت عنك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها فسفك بها الدم الحرام وعزّتي لأعَذّبنَّك بعذابٍ لا أعذّبُ به شيئاً من جوارحك)(1).

فإذا استشعرنا هذه الأهمية فإن هذا الشعور سينظّم برامج التعامل مع الكلمة وسيراقبها ويتحكم بها، فإن الكلمة في وثاقك وتحت سيطرتك ما دمت لم تطلقْها فإذا أطلقتها فستكون أنت في وثاقها وتتحمل تبعتها ومسؤوليتها، وكم شخص ذهب ضحية الكلمة سواء في الدنيا أو في الآخرة كقاضي القضاة للمعتصم العباسي الذي وشى بالإمام الجواد (عليه السلام) وهو يعلم أن ذلك سيخلّده في النار كما قال هو نفسه.

استثمار الاتصالات الحديثة لصالح الإسلام:

ونحن اليوم نشهد ثورة معلوماتية هائلة وتكنولوجيا اتصالات عظيمة لم تحلم بها البشرية من قبل، تفتح لنا الأبواب الواسعة لإيصال خطاب السلام والسعادة للبشرية، ولم يعد الطغاة قادرين على حبس الكلمة ومنع وصولها إلى الناس كما كانوا يفعلون عبر التأريخ ولسانهم واحد (ما أُرِيكُمْ إِلاّ ما أَرى) (غافر: 29)، واضطر الإسلام لحمل السيف في وجوه هؤلاء الطغاة ليحرّر شعوبهم من عبادتهم ويترك لهم الخيار في اعتناق العقيدة التي يقتنعون بها تحت شعار (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) و (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (الأنفال: 42) و (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29) و (إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً) (الإنسان: 3) وشجّع الحوار وثقافة

ص: 59


1- وسائل الشيعة، مج 8، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 4، ح 4.

الرأي الآخر (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) (البقرة: 111)(وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت: 46)(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125).

كما أننا نعيش بفضل الله تبارك وتعالى فرصة عظيمة لإيصال الكلمة الطيبة إلى مسامع العالم التوّاق للسلام والسعادة والخير، بعد أن فشلت أمامه كل الأيديولوجيات وبعد أن فشل غير اتباع أهل البيت (عليهم السلام) في عرض الإسلام بشكله الصحيح مما اوجب نفوراً وارتداداً لدى معتنقيه، فالعالم كله ينتظر منكم يا اتباع أهل البيت (عليهم السلام) أن تعكسوا لهم الصورة النقية الناصعة للإسلام المملوءة بالرحمة وحب الخير والسلام والطمأنينة لكل البشر.

عوامل نجاحنا في إيصال كلمة الإسلام:

وقد مرّت علينا عقود من سنيّ الكبت وسلب الحرّيات والحجر على الكلام، وقد أزاله الله تعالى ليبلوَنا أنشكر ونؤدي حق هذه النعمة، أم نكفر والعياذ بالله ونسيء استخدام هذه الحرية.

فهذه عوامل ثلاثة:

1 - وسائل الاتصالات المتطورة.

2 - فشل الإيديولوجيات في تحقيق السعادة للبشرية وتوفير الأمن والسلام والطمأنينة لها.

3 - توفر الحرية الكاملة لممارسة الدعوة إلى الله تبارك وتعالى والحق والهداية والصلاح.

تضاعف علينا مسؤولية استثمار (الكلمة) في أداء الرسالة التي ائتمنا الله تبارك وتعالى وقبلنا حملها بعد أن اعتذرت السماوات والأرض وسائر المخلوقات عن حملها (إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) الأحزاب 72.

ص: 60

طريق الوصول الى السلطة في نظر أهل البيت (عليهم السلام)

وصول الثلة الصالحة إلى السلطة له أسلوبان:

طريق الوصول الى السلطة في نظر أهل البيت (عليهم السلام)(1)

وصول الثلة الصالحة إلى السلطة له أسلوبان:

وهذه الفكرة على صعيد العمل السياسي وسعي الثلة الصالحة لتسلم السلطة فإنه أمامنا أسلوبان:

الأول: السعي المباشر لتسلم السلطة عبر انقلاب عسكري أو تحالفات أو غيرها.

الثاني: تربية الأمة وزيادة قناعتها بالإسلام حتى تكون القواعد المؤمنة هي الأوسع في المجتمع بحيث أنها تفرز تلقائياً حكومة صالحة تطبق الإسلام في برامج عملها.

ومن الواضح أن الأئمة عليهم السلام ساروا على الطريق الثاني لأنه يمتلك الديمومة والثبات ولأنه يخلق حالة من الانسجام بين الأمة وقيادتها وتصل الأمة إلى كمالها المنشود، أما على الأول فإن القيادة ستعيش عزلة عن الأمة البعيدة عن التربية الإلهية، وستخذل الأمة قيادتها وتتآمر عليها ويحسب الفشل على الإسلام وقياداته.

ص: 61


1- من حديث سماحة الشيخ (دام ظله) مع وفد مدرسة أم البنين الثانوية الدينية للنساء من مدينة الشعلة في بغداد يوم 21 شوال 1426 المصادف 2005/11/24، وهي واحدة من عدة مدارس أسسها ديوان الوقف الشيعي تضيف إلى المنهج الأكاديمي الرسمي دروساً دينية لتنشئ جيلاً مثقفاً إسلامياً.

لذا لم يستجب الإمام الصادق (عليه السلام) لدعوات أبي مسلم الخراساني وأبي سلمة الخلال، والإمام الرضا (عليه السلام) لعرض المأمون في ولاية العهد، بل واصلوا المسيرة المضنية الطويلة بالأسلوب الثاني، وتابعها بعدهم العلماء حتى أثمرت هذه الحركة الإسلامية المباركة التي غطت مساحات واسعة من الأمة.

طريقة المرجعية في إيصال الثلة الصالحة الى الحكم:

فنحن في نفس الوقت الذي ندفع فيه المؤمنين القادرين على رعاية شؤون الأمة إلى المشاركة في الانتخابات والتنافس الشريف لإيصال الثلة الصالحة إلى مفاصل الدولة، فإننا نواصل تربية الأمة حتى تصل إلى كمالها المنشود بلطف الله تبارك وتعالى وحينئذٍ ستتأهل الأمة لممارسة دور الشهادة والمراقبة على القيادة (وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143)، وستكون هذه التربية رافدة للحالة المعنوية للمتصدين للحكم والسلطة أو مجددة للعطاء الروحي، وإذا كان الإمام المعصوم يقول:

(إن لنا في كل ليلة جمعة سروراً... ولولا ذلك لنفد ما عندنا)(1) فما أحوج غيرهم لهذه الإمدادات الروحية حتى تبقى شعلة الإيمان والتواصل مع الله تبارك وتعالى والإخلاص له وحب الناس والترفع عن الأنانية وحب الذات.

إن القوى المستكبرة اليوم مصداق للأعور الدجال لأنها تنظر إلى الحياة والبشر بعين واحدة هي عين التفوق المادي والتكنولوجي وتغفل عن الركن الآخر المهم لقيادة البشرية وهو تعزيز ذلك التقدم بالقيم المعنوية السامية فمثلاً صنع القنبلة الذرية شيء عظيم من الناحية العلمية ولكن هذا الانجاز العلمي

ص: 62


1- البحار: ج 17 ص 151.

حينما خلا من المبادئ الإنسانية العليا أصبح وبالاً على البشرية وفتك بها وما زالت تئن من ويلاتها رغم مرور ستين عاماً على إلقائها وقد جسد قادة الإسلام هذه المثل العليا في حياتهم مما لا يسع المجال لذكره وقد أشرنا إلى تفاصيلها في كتبنا العديدة.

ص: 63

ص: 64

اسعوا لتكونوا قادة في المشروع الرسالي وليس فقط جزءاً منه

عباد الرحمن:

اسعوا لتكونوا قادة في المشروع الرسالي وليس فقط جزءاً منه(1)

عباد الرحمن:

مدح الله تبارك وتعالى عدة شرائح من الناس وصرّح بحبّه تبارك وتعالى لهم وهو شرف ما بعده شرف والإنسان يفخر بحب شخص ذي جاه أو منزلة اجتماعية أو دينية فكيف به إذا حظي بحب الخالق العظيم.

وكذا حينما يمدح تبارك وتعالى (عباد الرحمن) فيقول عنهم (وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) (الفرقان: 63)، وفي نهايتها يذكر الرب الكريم جزاءهم (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً، خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً) (الفرقان: 75-76).

وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً :

ومن الصفات التي ذكرها في عباد الرحمن دعاؤهم (رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) (الفرقان: 74)، فهم لم يكتفوا بطلب أن يكونوا من المتقين الذين وصفهم أمير المؤمنين في خطبته

ص: 65


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع أعضاء مكتب فضلاء النجف الأشرف يوم الثلاثاء 5 ذي الحجة 1427 ه - المصادف 2006/12/26 ومع وفد ضم عدداً من أساتذة كلية الآداب في جامعة ذي قاروآخر ضم عدداً من طلبة الأقسام الداخلية في جامعة البصرة يوم 24 ذي القعدة 1427 ه - المصادف 2006/12/16.

المعروفة أمام همام بن غالب(1) فصعق ومات وإنما يطلبون أن يكونوا من أئمة المتقين، وهذا يكشف عن هممهم العالية وعزائمهم القوية وانضباطهم الراسخ وهو على أي حال طموح مشروع بل محمود ومشكور لأن لطف الله تعالى وكرمه متاح للسائلين ولا يمنع منه إلا استحقاق العبد نفسه فلماذا لا يرنون بإبصارهم إلى كل مقام رفيع.

السعي لان نكون قادة:

ومثل هذه المعاني ترد في الأدعية المأثورة كما في دعاء الافتتاح المشهور والمروي عن الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وجاء فيه (اللهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة)(2) فيعلمنا الإمام أن نسعى لان نكون قادة في دولته الكريمة لننال كرامة الدنيا والآخرة وان كان مجرد الكون جزءاً من تلك الدولة الكريمة هو شرف عظيم ومنزلة رفيعة.

من هنا نواصل حثّنا للفضلاء والشباب الرساليين أن لا يقفوا عند كونهم جزءاً من المشروع الإسلامي الرسالي الذي يمهد لدولة الحق المباركة، وإنما يحسُن بهم أن يكونوا قادة فيه ولهم أدوار فاعلة وبنّاءة في مفاصله الأساسية.

التدرج الرسالي:

إن كل مؤمن ملتزم بدينه هو جزءٌ من هذا المشروع المبارك وقد يتقدم فيه فيصبح من الدعاة إليه بالدعوة الصامتة (كونوا لنا دعاة صامتين... كونوا لنا

ص: 66


1- أنظر نهج البلاغة: الخطبة: 193.
2- إقبال الأعمال: ص 280.

دعاة بأفعالكم لا بأقوالكم)(1) ، أي بعملكم الحسن وأخلاقكم الفاضلة وصمتكم الرافض للمنكر والفساد والانحراف ومثل هذا الأسلوب من الدعوة له ظروفه ومبرراته لذلك كان الطغاة وأئمة الجور يحمّلون الأئمة المعصومين (عليهم السلام) مسؤولية كل الحركات الرافضة للواقع الفاسد والظلم الذي كان يمارسه الحكّام المنحرفون رغم إنهم لم يجدوا أي وثيقة تثبت ذلك أو مال أو سلاح في بيت الإمام (عليه السلام) عندما يداهمونه لكنهم يعلمون أن الأئمة (عليهم السلام) بترفعهم عن الدنيا التي يتكالب عليها الطغاة وبسلوكهم الطاهر العفيف ومعايشتهم لألام الأمة وسعيهم الجاد لإنصاف المظلوم ومساعدة المحتاج كانوا يبينّون السيرة الصحيحة لقادة الأمة وأولياء أمورها ويكشفون زيف أولئك الطغاة في ادعائهم ولاية أمر الأمة.

وهكذا فعل أصحابهم البررة فحينما أرسل عثمان إلى أبي ذر بصرة فيها نفقة على يد عبد له (وقال: إن قبلها فأنت حر، فأتاه بها، فلم يقبلها، فقال: اقبلها يرحمك الله؛ فإن فيها عتقي. فقال: إن كان فيها عتقك، ففيها رقي، وأبى أن يقبلها)(2).

فمثل هذا الرفض للتصرف غير المشروع بالأموال العامة والإثراء عل حساب حقوق المحرومين ألفت نظر الأمة إلى انحراف من مات وخلف من ورائه من الذهب ما يكسر بالفؤوس وأمثاله، فتحركت الأمة وثارت لتغيير الواقع الفاسد الذي جسّدته بطانة الخليفة في ما وصفها سيد قطب صاحب تفسير (في ظلال القران) أول ثورة إسلامية حقيقية في التاريخ.

التدرج الى الدعوة الناطقة:

وإذا تيسرت الظروف للرسالي انتقل إلى الدعوة الناطقة، وعن

ص: 67


1- مستدرك الوسائل: ج 1 ص 116.
2- لباب الآداب ص 305 وأعيان الشيعة ج 4 ص 231 عنه، وشجرة طوبى ج 1 ص 75.

السجاد (عليه السلام) حينما سئل عن الكلام والسكوت أيهما افضل؟ فقال (عليه السلام):

(... لان الله عز وجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، إنما بعثهم بالكلام، ولا استحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت، ولا توقيت النار بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام)(1) أي بالكلمة الصادقة والموعظة الحسنة والحكمة (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (طه: 44)، وهكذا يتدرج الرسالي حتى يصبح قائداً في المشروع الإلهي العظيم.

ولكن لما كان

(أول الدين معرفته)(2) كما ورد في كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) فإن الكون في هذه المواقع الشريفة يتطلب معرفة المعالم العامة للمشروع والأسس التي يستند إليها في حركته التي تكون بمثابة الدستور الذي تنطلق منه وتتفرع عنه القوانين التفصيلية المتغيرة في آلياتها وبرامجها لكن الأسس تبقى ثابتة.

الأسس العامة للمشروع الرسالي:

وهذه الأسس يمكن تحصيلها وانتزاعها بالاستقراء والمقارنة وضم الأفكار بعضها إلى بعض، وقد حاولت تخفيفاً عنكم وطياً للمسافة أمامكم أن استخلص لكم هذه الأسس المبادئ والتي هي لا تزال في دائرة العموميات وهي عشرة:

1 - الإخلاص لله تبارك وتعالى وان يكون رضا الله سبحانه وتعالى هو الهدف من كل حركة أو سكنة، وأساس نجاح العمل تذكر الهدف و برمجة العمل على أساسه و ضبط الحركة في إطاره.

ص: 68


1- البحار: ج 71 ص 274.
2- نهج البلاغة: الخطبة: 1.

2 - التأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين من ذريته (عليهم السلام) واعتماد القران و السنة الشريفة مصدراً للتشريع و السلوك ومنهجاً لقيادة الحياة.

3 - تكريم الإنسان و جعله القيمة العليا و توظيف كل شي من اجل إسعاده وحفظ كرامته و ازدهار حياته.

4 - الوحدة و التآلف و التنوع في أداء الأدوار و التسامي عن التقاطع و التشاحن و التزاحم المؤدي إلى الفرقة و التشتت.

5 - الدقة في اختيار قيادة الأمة وفق المعايير الدقيقة لان إمامة الأمة وقيادتها هو المحور الذي تنتظم حوله الأمة.

6 -- تهذيب النفس بالأخلاق الفاضلة وتطهير القلب حتى يأتي الله بقلب سليم.

7 - تخليص الأمة من الجهل والتخلف و سوء الظن وخلق حالة الوعي والتدين و الورع.

8 - تعريف الإسلام الحقيقي و إبراز عناصر القوة و العظمة فيه و إقناع الناس بالالتزام به وإتباعه وألفات النظر إلى عيوب الحضارة المادية و ضعفها وقصور النظريات والنظم المادية عن توفير السعادة و الكمال للإنسان.

9 - التنظيم و الدقة في العمل المؤسساتي بحيث ينصهر الجميع في خلية عمل متكاملة.

10 - مقاومة الفساد والانحراف والظلم والأنانية والاستئثار والتسلّط بغير حق وإنصاف المظلومين بكل الآليات المتاحة.

تطبيق هذه الأسس:

إن هذه الأسس العامة التي تبتني عليها حركة المشروع الرسالي تتطلب

ص: 69

عمقا اكبر لتحليلها وتحويلها إلى مشاريع تفصيلية وتنفيذها على الأرض ومتابعة كل مشروع ليبقى محافظاً على الأساس الذي انطلق منه وتفرع عنه.

فمثلاً من تطبيقات النقطة العاشرة كان تشكيل كيان سياسي يجمع المخلصين الكفوئين النزيهين ليؤدي هذا الدور، فتأسيس هذا الكيان كان من نتائج تحليل هذه النقطة وعلى أعضائه أن يضعوا له البرامج والآليات التي تتكفل بتحقيق هذه النقطة ويراقبوا مسيرته ليبقى في إطارها.

وفي ضوء النقطة الرابعة نفهم أن تعدد الجهات العاملة في الساحة لا يُعُّد منافسة أو مزاحمة وبالتالي يؤدي إلى التنافر والتسقيط والتشهير وربما المواجهة المسلحة وكلها من الكبائر التي تسخط الباري عز وجل، وإنما نفهمها تنوعاً في الأداء يغني الحركة ويثريها؛ لأن جهة واحدة لا تستوعب كل نواحي العمل ولا تملا كل مساحات النشاط المطلوب، وقد لا تتناسب سعة مسؤولياتها مع القيام ببعض الأدوار، فمثلا في عصر الإمام الصادق (عليه السلام) اندلعت عدة ثورات للعلويين لمواجهة ظلم العباسيين وطغيانهم وكانت تستقطب الكثير من القواعد الموالية لأهل البيت (عليهم السلام) ولم يشعر الإمام (عليه السلام) بحساسية إزاءها لأنه يرى فيها تنوعاً للأدوار، وبالعكس فقد كان يبدي ارتياحه لمثل هذه الحركات وان كان لا يتبناها بنفسه بل يمنع خواصّه من الانخراط فيها بحسب ما أفادت الروايات؛ لأنه لم يكن مؤمنا بصدق وإخلاص عدد منها لكنه (عليه السلام) كان يردد

(لوددتُ أن الخارجي من آل محمد خرج وعليَّ نفقة عياله)(1) ويقول (عليه السلام)

(لا ازال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد)(2) وقد شرحنا تفصيل هذا الموقف في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية) وعليها تعليقات سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره)(3).9.

ص: 70


1- الوسائل: ج 15 ص 54.
2- السابق.
3- دور الأئمة في الحياة الإسلامية: ص 279.

ولتحقيق النقطة الثانية فقد ذكرنا الكثير من الدروس المستفادة من سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بناء ألذات في كتاب (الأسوة الحسنة) وفي النشاطات الاجتماعية للمعصومين (عليهم السلام) من خلال كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية)، وذكرنا خصائص برنامج عمل الحركة الإلهية الإصلاحية في كتاب (شكوى القران) وهكذا.

ص: 71

ص: 72

معالجات لمشكلة الفساد الإداري والمالي :

معالجات لمشكلة الفساد الإداري والمالي(1):

إن من أعظم ما يعانيه بلدنا وشعبنا هو الفساد الإداري والذي بلغ حدا مهولا واستشرى في كل مفاصل الدولة، ونعده اليوم الخطر الأهم والسبب الرئيسي للخراب الذي حل بالبلد والحرمان والظلم الذي ينكد حياة الشعب، وهو مصدر رئيسي لتفريخ الإرهاب ودعمه وانتشاره.

أسباب الفساد وجذوره:

ورغم وجود مؤسسات لمعالجة الفساد والخيانة كمفوضية النزاهة وديوان الرقابة المالية والمفتشين العامّين في الوزارات إلا أنها عجزت عن الحد من انتشار هذا الفساد فضلا عن إيقافه ومحاسبة المقصرين، ولذلك أسباب عديدة:

(منها) إداري تنظيمي فمثلا إن المفتشين العامين في الوزارة يرتبطون بالوزير ومن صلاحياته تقديم طلب بعزلهم، فكيف يستطيعون مراقبة عمل الوزارة ومحاسبة المفسدين إذا كانوا جزءا منها إداريا. فالمفروض استقلالية هؤلاء المفتشين وارتباطهم بديوان خاص بالتفتيش العام يرتبط به هؤلاء المفتشون ويكون رئيس الديوان بدرجة وزير.

(ومنها) سياسي وهو الأصل في المشكلة لان هؤلاء المسؤولين عن النزاهة والتفتيش لا يستطيعون الخروج عن هيمنة رؤساء الكتل السياسية الفاعلة

ص: 73


1- بيان صدر بتأريخ 29 شعبان 1427 المصادف 2006/9/23.

والمؤثرة، وتتوزع ولاءاتهم على هذه الكتل إما خوفا منها لقدرتهم على العزل متى شاؤوا أو لأنه يحتاجهم ليتقوى بهم، أو لأنهم هم الذين أوصلوه إلى هذا الموقع فلا بد أن ينفذ مصالحهم، فلا يوجد مستقل حقيقي في هؤلاء المسؤولين عن محاربة الفساد، لأنه ببساطة لا يستطيع مستقل أن يصل إلى هذه المؤسسات (المستقلة) إذا لم ترشحه الأحزاب المؤثرة وتدعمه.

لذا نجد مؤسسات النزاهة والتفتيش لا تمس أحدا ممن يتكئ على هذه الكتل السياسية ويداري مصالحها اللامشروعة ولا تظهر من الأسماء والفضائح إلا بمقدار ما يسمح به هؤلاء القادة لغير المرتبطين بهم والويل لهم إذا مسّوا مصالح هؤلاء المتنفذين.

وقد استاء بعض قادة البلد حينما استعملتُ في أحد خطاباتي(1) المثل المتداول (حاميها حراميها) وكان عليهم أن يستاءوا من الواقع المؤلم الذي تعيشه مؤسسات الدولة وإني لم أنقل إلا الواقع وما يشعر به الشعب، وكان عليهم أيضا أن يراجعوا أنفسهم لا أن يستاؤوا من كلمة حق ولو كانت مرة، وإلا فمن المسؤول عن هذا الفساد الذي لا نظير له في العالم إذا لم يكونوا هم؟ أليست الوزارات بأيديهم وبيدهم مقاليد الأمور؟ فلماذا لا نصارح الناس ونعمل بإخلاص لحفظ حقوقهم وثرواتهم وإنفاقها وفق المعايير الصحيحة.

إن هذه الحالة أنهكت شعبنا وبددت ثرواتهم ونخرت مؤسساتهم وأفقدت الثقة لدى كل مستثمر يحاول أن يساهم في إعمار العراق وإصلاح حال أهله، وان معالجتها تتطلب تضافر جهود كثيرة على مدى طويل.7.

ص: 74


1- راجع الخطاب (127) في كتاب خطاب المرحلة: ج 3 ص 327.

الحلول الناجعة:

إن أي نجاح نحققه في هذا المجال سيساهم بقوة في القضاء على الإرهاب وتجفيف منابعه وتقطيع أوصاله، ومن العبث بذل الجهود والأموال في المجالات الأخرى وغض النظر عن الحلول الحقيقية لمعالجة الفساد الإداري والمالي الذي هو الشريان الحيوي للإرهاب والخراب والدمار والحرمان الذي أضر بالبلد وأهله، وبعض هذه الحلول إستراتيجية نبدأ بها من الآن، كتربية الأمة على الشعور بالمسؤولية، وحرمة المساس بالمال العام أو الإضرار بمصالح البلد ومؤسساته ونشر ثقافة حب الخير لكل الناس

(اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم)(1) والرحمة بهم والمساواة في الحقوق والواجبات وأن

(خير الناس من نفع الناس)(2)، والتسامي عن الأنانيات والمصالح الشخصية والحزبية، وهذه وظيفة علماء الدين والمفكرين والخطباء والكتاب والإعلاميين.

آليات للقضاء على الفساد:

وبعض الحلول آنية كإعادة النظر في تقييم الأشخاص والمؤسسات وهيكلتها الإدارية، وجعل المفتش العام في الوزارة مستقلا عنها ويؤسس ديوان التفتيش العام يرتبط به المفتشون العامّون ويكون رئيس الديوان بدرجة وزير والمفتش العام في الوزارة بدرجة وكيل وزير.

وهنا أود اقتراح مشروع وهو أن يكون ترشيح الأشخاص المستقلين إلى

ص: 75


1- نهج البلاغة: ج 3 ص 45.
2- غرر الحكم: 5001.

المؤسسات الحكومية المسؤولة عن النزاهة والتفتيش ومحاربة الفساد عن طريق الأحزاب والفعاليات السياسية غير المشاركة في الحكومة، إما لاختيارها لنفسها أن تكون في صف المعارضة الايجابية والنقد البنّاء، أو أن مقاعدها في البرلمان لايؤهلها لتحصيل حقيبة وزارية، أو أنها تمتلك حضورا سياسيا وشعبيا فاعلا لكنها لم تحصل على مقعد في البرلمان لسبب أو لآخر، مع مراعاة ما يقتضيه النظام الداخلي لعمل هذه المؤسسات من الاستقلالية والمهنية وغيرها من الشروط، وبذلك نحقق عدة نتائج مهمة:

1 - اكتمال العملية الديمقراطية بوجود معارضة ايجابية فاعلة تمارس دورها المؤثر في تقويم المسيرة ورصد الأخطاء ومعالجتها وتقديم الحلول.

2 - مصداقية مؤسسات الرقابة والتفتيش وصيانة المال العام بعد تحريرها من هيمنة الكتل التي تدير الوزارات والمتهمة بمباشرة الفساد أو عدم السعي الجاد لإصلاحه.

3 - تخفيف الاحتقان السياسي الناشئ بسبب إقصاء وتهميش أو غياب عدد من الكيانات عن المشاركة في الحكومة، وستكون حينئذ هذه المشاركة ممارسة مهمة لدورها مما ينزع فتيل الأزمة.

4 - انسيابية تشكيل الحكومة وتجنب حالات الشد والجذب والتلكؤ والتأخير الذي بلغ عدة أشهر، وكان أحد أسبابه حرص الجميع على أن يكون له مكان في الحكومة؛ لأن وجوده السياسي مرتبط بهذا المكان مما يولد حالة تدافع وتصادم في المصالح والاستحقاقات تجعل مخاض ولادة الحكومة عسيراً، فإذا اطمأن عدد من الكيانات السياسية أن وجوده محفوظ من خلال المشاركة في بناء هذه المؤسسات المراقبة لعمل الحكومة فانه سيقلل من حالة التدافع هذه.

ص: 76

إني آمل أن يجد هذا المشروع آذانا صاغية لدى البرلمان الموقر فيكلف هذه الكيانات بتشكيل هيأة لإعادة دراسة وضع هذه المؤسسات وتقييم أشخاصها ووضع هيكلية مناسبة لعملها وتفعيل دورها بالحزم والشجاعة والإخلاص لله والوطن والشعب وعدم المجاملة والمداهنة.

ص: 77

ص: 78

الفصل الثاني: تأصيلات أخلاقية في العمل السياسي

اشارة

ص: 79

ص: 80

شكوى الإمام (عليه السلام) من قلة المخلصين

أصحاب القائم (عليه السلام):

شكوى الإمام (عليه السلام) من قلة المخلصين(1)

أصحاب القائم (عليه السلام):

ورد في الروايات أن أصحاب الإمام المهدي الموعود (أرواحنا له الفداء) الذين يبدأ بهم حركته المباركة هم ثلاثمائة وثلاثة عشر كما روى الشيخ الطوسي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال:

(يبايع القائم بين الركن والمقام ثلاثمائة ونيف عدة أهل بدر، فيهم النجباء من أهل مصر، والأبدال من أهل الشام والأخيار من أهل العراق، فيقيم ما شاء الله أن يقيم)(2).

وفي حديث عن أمير المؤمنين ع جاء فيه

(... وبقي المؤمنون، وقليل ما يكونون ثلاث مائة أو يزيدون)(3).

أين المشكلة؟

ومثل هذه الروايات تدفعنا إلى السؤال بتعجب: ألا يوجد في هذه الملايين من الموالين لأهل البيت (سلام الله عليهم) ثلاثمائة وثلاثة عشر ممن يقتنع بهم الإمام (عليه السلام) لينطلق بحركته المباركة خصوصاً وإنهم يمتلكون السلطة

ص: 81


1- من حديث سماحة الشيخ مع وفد من مدينة الحلة يوم 16 /ع 1 ووفود من الناصرية وطلبة مدينة تلعفر المهجرين إلى جامعة الكوفة وكلية الهندسة في جامعة البصرة يوم 18 /ع 1428/1 المصادف 2007/4/7.
2- الغيبة للطوسي: 477، ح 502.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 137/52.

والنفوذ في أكثر من دولة ويرفعون فيها شعار طاعة المرجعية الدينية وولاية الفقيه النائب عن الإمام (عليه السلام)؟! فأين المشكلة؟

والجواب توضّحه الروايات فقد روى جابر الجعفي قال: (قلت لأبي جعفر عليه السلام متى يكون فرجكم؟ فقال: هيهات هيهات لا يكون فرجنا حتى تغربلوا ثم تغربلوا يقولها ثلاثاً حتى يذهب الكدر ويبقى الصفو)(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال

(كيف أنتم إذا بقيتم بلا إمام هدى، ولا علم، يبرأ بعضكم من بعض فعند ذلك تميَّزون وتمحصَّون وتغربلون إلخ)(2).

وشبّه الإمام الباقر (عليه السلام) هذه الصفوة المنتجبة بطعام في بيت (فأصابه آكل - أي تسوّس - فنقّي ثم أصابه آكل فنُقّي حتى بقي منه ما لا يضرُّه الآكل، وكذلك شيعتنا يُميَّزون ويُمحصَّون حتى يبقى منهم عصابة لا تضُّرها الفتنة)(3).

الإخلاص شرط النهوض:

فلا زالت سنة التمحيص والغربلة جارية حتى يثبت المخلصون وقليلٌ ما هم، من لدن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى اليوم والشواهد كثيرة، فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي عاش بين أظهرهم (23) سنة يبلغهم رسالات ربهم ويخبرهم بما في خلجات أنفسهم وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى من لدن ربهم الذي هو أقرب إليهم من حبل الوريد ويعلم ما توسوس به أنفسهم، ولم يردعهم ذلك عن قول (إن الرجل ليهجر)(4) حينما طلب منهم قرطاساً ودواة ليكتب لهم كتاباً

ص: 82


1- الغيبة للطوسي: 339، ح 278.
2- كمال الدين: 348، ح 36.
3- غيبة النعماني: 211، باب 12، ح 18.
4- صحيح البخاري: ج 3 ص 60، وج 4 ص 5 و 173، وج 1 ص 21 و 22، وج 2 ص 115.

لن يضلَّوا من بعده أبداً، وانقلبوا على الأعقاب ولم يستجب لدعوة أمير المؤمنين (عليه السلام) لنصرته واسترداد حقه إلا عدد الأصابع.

والإمام الحسن (عليه السلام) اضطر إلى مهادنة معاوية بعد فشل أصحابه في الثبات على الحق والإمام الحسين (عليه السلام) لم يثبت معه إلا سبعون من هذه الدنيا الواسعة، ورغم أنه عبّأ لحركته بمختلف الوسائل حيث أقام عدة أشهر في مكة والتقى بوفود مختلف المدن وبعث بالرسائل إلى الوجوه وكانت حركته معلنة وواضحة حتى قال (عليه السلام):

(إن الناس عبيد الدنيا، والدين لَعِقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درَّت معائشهم، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الدَّيّانون)(1).

ولقي عباد البصري علي بن الحسين (عليهما السلام) في طريق مكة فقال له: يا علي بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته، وأقبلت على الحج ولينه، وإن الله عز وجل يقول:(إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) فقال الإمام (عليه السلام): أتم الآية، فقال:(التّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السّائِحُونَ) إلى قوله تعالى (وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) فقال الإمام عليه السلام

(إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج)(2).

هذه اللوعة وهذا الألم من قلة المخلصين عبّر عنه الإمام الصادق (عليه السلام) في كلامه مع سدير الصيرفي حين دخل على الإمام (عليه السلام) (فقال: يا أبا عبد الله ما يسُعُك القعود، فقال عليه السلام: ولِمَ يا سدير، فقال: لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك، فقال (عليه السلام): يا سدير وكم عسى أن يكونوا؟ قال: مائة ألف فقال الإمام (عليه السلام) مستغرباً: مائة ألف، قال: نعم ومائتي ألف، فقال3.

ص: 83


1- تحف العقول: ص 245، والمناقب: ج 4 ص 68.
2- وسائل الشيعة كتاب الجهاد باب 12، ح 3.

(عليه السلام) له: لو كان عندي عدد أصحاب النبي صلى الله عليه وآله في بدر لنهضت)(1).

وهكذا تستمر الشواهد إلى أن نصل إلى عصرنا الحاضر وقد ذكرنا في حديث سابق ألم وأسف الشهيد الصدر الأول (قدس سره) قبيل استشهاده والشهيد الصدر الثاني (قدس سره) بعد الانتفاضة الشعبانية عام 1991.

أزمة الإخلاص في حديث الشهيد الصدر (قدس سره):

إن الجهاد الذي يتبادر منه مواجهة الطواغيت والسعي لتغيير نظام الحكم، والانخراط في العمل الاجتماعي، ونشر الوعي الإسلامي، الذي قادته الحركة الإسلامية في العراق وغيره.

ولا شك أن هذه أعمال مباركة ثقيلة الميزان عند الله تبارك وتعالى؛ لكن بشرط أن تبنى على الإخلاص لله تبارك وتعالى، ولا يحصل ذلك إلاّ بعد جهد وجهاد طويلين في ميدان تهذيب النفس وتطهير القلب، والسير في مدارج الكمال، أمّا الانهماك في العمل الاجتماعي من دون النجاح في جهاد النفس، فإنّه يجعل صاحبه من الأخسرين أعمالاً (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) الكهف: 104.

وقد أولى السيد الصدر الثاني (قد سره) هذا المعنى اهتماماً كبيراً وتذكيراً مستمراً، وكان يرثي لحال الغافلين عنه، وهو معنى مأخوذ من وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لسريّة من المقاتلين بالالتفات إلى الجهاد الأكبر - وهو جهاد النفس - وعدم الاقتصار على الجهاد الأصغر.

عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث سرية، فلما رجعوا

ص: 84


1- دور الأئمة في الحياة الإسلامية: 329.

قال: مرحباً بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس، وقال: أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه)(1).

ومن كلماته (قد سره) في هذا المجال: (وبحسب فهمي وتجاربي من الاتجاه الإسلامي الاجتماعي هو اهتمامه بمصالح المجتمع أكثر من اهتمامه بمصالح الفرد، أو قل: اهتمامه بتربية الآخرين أكثر من اهتمامه بتربية النفس، مع العلم أن النفس التي لم تصل في التربية إلى درجة معينة فإنها لا تكون صالحة لتربية الآخرين بالمرة، أو في حدود تربية ناقصة وفاسدة، ولن يكون التلميذ أحسن من أستاذه، ما لم تدركه رحمة الله عز وجل، أو حسن التوفيق، وهذا حسب فهمي من الأخطاء أو النقصان الذي عاناه ولا زال يعانيه الاتجاه الاجتماعي الإسلامي، الأمر الذي يجعل أفراده أقل صبراً وأضعف تحملاً من تحمل ما سيواجهون من مصاعب وبلاء في طريقهم الطويل.

وهناك نتيجة أخرى مهمة في هذا الصدد نفسه، وهو أن الهدف الأعلى للاتجاه الاجتماعي الإسلامي دنيوي بطبيعته، وهو الذي يجعله الناس مشجعاً ومرغباً للآخرين في تحمل المصاعب والصبر على الشدائد، وانك ستنال شهرة ومنصباً وقوة وكذا وكذا... وسوف لن ينال الآخرون من خيراتنا ومن أنفسنا ومن التحكم فينا، ومع احترامي الشديد لهذه الأهداف، إلاّ أنها بطبيعتها دنيوية)(2).

وقال مستشهداً بكلام للسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) منبهاً إلى7.

ص: 85


1- معاني الأخبار: ص 160.
2- من بحث بعنوان (في تربية الدين للنفس والمجتمع) نشر في كتاب (الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه): ص 297.

النقص في التربية: (وأريد أن أقول كلاماً أكثر صراحة، وهو أن التجارب السابقة مع المتدينين والواعين فيها وجدنا الأغلب منهم يتهاوون ويضعفون أمام الدنيا بمختلف الأسباب: أما المال أو الخوف في المجتمع أو التعذيب داخل السجون، وأكاد أقول: انه حتى كثير ممن قتل منهم إنما تم قتله بعد اخذ الاعتراف الكاذب منه، ثم إدانته المحكمة باعتبار اعترافه، ولم يكن صامداً على طول الخط!!

ولذا صدر من سيدنا الأستاذ - يعني الشهيد الصدر الأول (قدس سره): أننا استطعنا أن نربي الآخرين إلى نصف الطريق، ولم يقل إلى نهايته لأنه لو كان الأمر كذلك، لما حصلت أي شيء من تلك النتائج.

ولو كان أولئك المتدينون قد أصلحوا أنفسهم قبل إصلاح الآخرين، ومارسوا المقدمات المنتجة لصفاء النفس، ونور القلب، وعمق الإخلاص، وقوة الإرادة، وعفة الضمير، لما عانوا ما عانوا، بل ولعلهم لم يحتاجوا في الحكمة الإلهية إلى كل هذا البلاء الذي وقع عليهم، وإنما كانوا مع شديد الأسف مصداقاً لقوله تعالى (وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) محمد: 38، ولم يكونوا مصداقاً لقوله تعالى (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) الحج: 41، وليس ذلك إلا لأن الأفراد التامين الجهات الكاملين الأوصاف الجامعين للشرائط عددهم قليل، وأقل من الحاجة بكثير).(1)

الطمع وحب الدنيا في العمل السياسي:

والذي يراقب عمل المتصدين اليوم في الحكومات التي ترفع لواء التشيع

ص: 86


1- الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه: ص 302.

والولاء للإمام (عليه السلام) (فضلا عن غيرهم) يصل إلى نفس النتيجة، فقد طغى حب الدنيا وقست القلوب (وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) وشيئاً فشيئاً سقطوا في الفتنة، وتخلّوا عّما تعلمّوه من أهل البيت (سلام الله عليهم)، ولم يتورعوا عن ارتكاب المحرمات حتى ولغوا في الدماء التي شدّد الله تبارك وتعالى في حرمتها حتى جعلها اشد من حرمة الكعبة! ومن أجل ماذا؟ من أجل دنيا زائفة سمّوها مصالح عليا.

ولا زال دم العراقيين الأبرياء ينزف لأنه أريد له أن يكون كبش فداء لهذه المصالح العليا لمن يرفعون لافتات الإسلام في العراق ودول الجوار، ولا أعلم شيئا عند الله أكرم من الإنسان الذي خلق كل ما في الدنيا من أجل كماله ورقيه وسعادته.

إن الإمام المهدي (سلام الله عليه) بمرأى وبمسمع من كل هذه الأفعال بنص الآية الشريفة (وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة 105) حيث تعرض أعمال العباد عليه لأنه حجة الله على خلقه.

قد يقال أن هذا الكلام يزرع اليأس في قلوب الناس وأنا أقول العكس فإنه: يزرع الأمل ويدفعنا للعمل لنكون من تلك القلّة التي حماها الله تبارك وتعالى من الوقوع في الفتنة حتى تشملها ألطاف صاحب العصر (عليه السلام) وتحظى برضاه ونكون ممن يمهّد لدولته المباركة، ونزداد بذلك شكراً الله تبارك وتعالى.

وإنه يحذّر الأمة من الوقوع في شراك الشعارات البراقة فيجعلها الآخرون وقوداً يحترق لتستمر ماكنة مصالح أولئك الآخرين بالعمل فينالون بذلك خزي الدنيا وعذاب الآخرة ويكونون من أشد الناس حسرة وندامة يوم القيامة الذين باعوا دينهم لدنيا غيرهم كما في الحديث الشريف.

ص: 87

وإنه يخفّف عن الرساليين العاملين حين يطمأنون بأن ما يجري خاضع لسنة الله في خلقه (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر 43) وليتيقنوا أن المعيار الحقيقي هو بناء الإنسان الصالح المخلص وليس ما يلهث وراءه الآخرون من دنيا زائلة وإن رفعوا شعارات برّاقة.

العدو الحقيقي:

إن الاحتلال والإرهاب وغيرهما أعداء حقيقيون لكنهم واضحون، والأخطر منهم عدو خفي يكمن في النفوس الأمارة بالسوء ولذا سمّى النبي (صلى الله عليه واله) مواجهته بالجهاد الأكبر، فلا يحق لإنسان يطمح إلى الكمال أن ينشغل بذاك عن هذا.

وليعلم السبب الحقيقي الذي يعطّل حركة الأئمة نحو بناء المجتمع الذي يقوم على أساس الحق والعدل، أما الأعداء الآخرون فهم كما وصفهم الله تبارك وتعالى (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت 41).

ص: 88

نوازع الخير والشر كامنة في داخل النفس وتستثيرها العوامل الخارجية

اشارة

نوازع الخير والشر كامنة في داخل النفس وتستثيرها العوامل الخارجية(1)

إن وجود القيادة والزعامة الجامعة للشروط في الأمة لا يكفي وحده لإحداث التغيير والإصلاح وبلوغ الأهداف المنشودة ما لم تتحرك وتتحفز نوازع ودوافع الخير لدى الإنسان بداخله، وبالمقابل فإن عوامل الفساد والتخريب الخارجية لا يمكن أن تؤثر إذا لم تجد استجابةً لها من قبل بعض النفوس المريضة المنحرفة.

وهي سُنّة ثابتة في هذه الخليقة ويضرب القرآن الكريم أمثلة لها فامرأتا النبيين العظيمين نوح ولوط (صلوات الله عليهما وعلى نبينا الكريم وعلى جميع الأنبياء) أتيحت لهما أعظم فرصة للهداية والاستقامة (ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ) ولكنهما لم تستثمرا هذه الفرصة ولم تستفيدا منها (فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلاَ النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ) (التحريم: 10) وبالمقابل امرأة فرعون التي عاشت في بيت الطاغية فرعون الذي يريد أن ينازع الله تبارك وتعالى في الربوبية لكنها استثارت عوامل الصلاح ونوازع الخير في داخلها فأصبحت مثلاً للنجاح (وَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ

ص: 89


1- (1) من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد مدينة الدغارة التابعة لمحافظة القادسية معزين سماحته باستشهاد الشيخ ناظم البديري مدير مكتب جماعة الفضلاء في الديوانية، جرى اللقاء يوم 25 /شعبان/ 1428 المصادف 2007/9/8.

اِبْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ) (التحريم: 11) وعناصر كلا الاتجاهين موجودةٌ في داخل النفس (وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد: 10) وهو الذي يغلّب بعضها على بعض بإرادته ونوع استجابته للمؤثرات الخارجية قال تبارك وتعالى في الزوجين المتخاصمين (وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا) أي الزوجان (إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) (النساء: 35) فالإنسان بإرادته يستطيع أن يمنح النصر في هذا الصراع الداخلي لأحد المعسكرين.

مشاكلنا هي بسبب عدم التهذيب والتربية الصالحة:

بالأمس القريب شهدت كربلاء المقدسة إلى جوار الحضرة الحسينية المطهرة وفي أشرف ليلة بعد ليلة القدر هي ليلة النصف من شعبان، وأعظم مناسبة هي ذكرى ولادة أمل البشرية الموعود المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) أحداثاً(1) دامية ذهب ضحيتها (52) شهيداً ومئات الجرحى ستبقى وصمة عار في جبين كل الأطراف الذين خططوا ونفذوا وشاركوا في

ص: 90


1- كانت مجاميع من الشباب الأحداث تدخل كربلاء قادمة من بغداد بأهازيج تمجّد قائدها مما دفع قوة الحماية قرب الحرمين الموالية لجهة أخرى إلى استفزازهم وقال مراقبون أنها عملية مدبرة لاستدراجهم فحصل إطلاق نار من قوة الحماية فقتل (6) على الأقل وجرح العشرات وأكثرهم من الزوار المحتشدين استعدادا لزيارة النصف من شعبان، وقع هذا الحادث بعد ظهر 13 /شعبان/ 1428 المصادف 2007/8/27 وانقطعت الاصطدامات مساءً وظن الزوار انتهائها فعادوا إلى \ \ \ \نسكهم ولكنها اندلعت نهار اليوم التالي بشكل أعنف وأوسع حيث استعد الطرفان لها وانتشرت مجاميع المتمردين بين الحرمين وأحرقت عدة فنادق وسيارات شرطة وكان القنّاصون يستهدفونهم من أعلى أسطح البنايات والروضة الحسينية الشريفة التي أغلقت أبوابها واحترقت جدرانها مما يلي باب القبلة وكانت حصيلة المواجهات في كربلاء المقدسة) (52) قتيلاً و (200) جريحاً، وامتدت العمليات الانتقامية بين الطرفين إلى عدة مدن من العراق.

تلك الأعمال المشينة التي ستقف أمامها الأجيال الآتية مدهوشة عاجزةً عن استيعاب ما حصل.

ومهما قيل من أسباب خارجية كالاحتلال وتدخل دول الجوار والصداميين فإنها لا تبرر ما حصل لأن الذين جرت على أيديهم الأحداث هم ممن ينتسبون للتشيع ويدينون بالولاء للإمام الحسين (عليه السلام) والإمام المهدي (عجل الله فرجه) وهذه العوامل الخارجية مهما بالغنا في وصف تأثيرها فإنها لا تكون فاعلة إذا لم تجد استجابةًً من النفوس المتبعة للهوى وحب الدنيا والسائرة على غير هدى من الله تبارك وتعالى.

العلاج بعيد عن شغاف الحقيقة:

وحتى حينما تقدم مشاريع لمعالجة المشاكل التي تعصف بالبشرية وتفتك بها فإنها لا تمس شغاف الحقيقة لأنها لا تهتم ببناء النفوس الصالحة والنوايا الخيرة والضمائر الحيّة، ولا ينفع ألف حلٍ من الخارج إذا لم يستند إلى عملية تغيير من داخل النفس وهذا ما وجدناه في سيرة الأئمة الأطهار (سلام الله عليهم) فإنهم لم يسعوا إلى تسلم الحكم بالانقلابات والثورات وغيرها، وحتى حينما وصلت إليهم في فترات نادرة لم يعبئوا بها لأن المهم عندهم (عليهم السلام) بناء الإنسان الصالح ومن ثم المجتمع الصالح، أما تسلم الحكم من دون إنشاء هذه القاعدة الرصينة فسيحول الحالة إلى صراع على الدنيا والنفوذ والاستئثار بالثروات وهذا ما نشهده على الساحة السياسية اليوم ويفسر أحداث كربلاء الأليمة.

ولا أجد جهة اليوم تهتم بهذه الركيزة الأساسية لذا فالمعوَّل عليكم أنتم أتباع المرجعية الرشيدة أن تلتفتوا إلى هذا النقص الخطير وتقودوا حركة بناء المجتمع الصالح تأسياً بما قام به الأنبياء والمرسلون والأئمة المعصومون (سلام الله عليهم)

ص: 91

وقد حظي هذا الخط الشريف بنخبة المجتمع من المثقفين والأكاديميين والمتدينين الواعين المخلصين واعترف الخصم قبل الصديق بهذه الحقيقة والآمال معقودةٌ عليكم.

صحيحٌ أن هذا العلاج طويل الأمل ولا يؤتى ثمره في الزمن القريب لكنه هو الطريق الصحيح للوصول إلى السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة (وإنما يعجلُ من يخاف الفوت)(1) ولا يخاف الفوت من سار بهذا الطريق على هدى الصالحين، وان تسبب في تحمل التضحيات والحرمان والإقصاء الذي يمارسه الحاسدون المستأثرون، فإن العاقبة لعباد الله المخلِصين (وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (القصص: 5).0.

ص: 92


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 490.

الدولة الكريمة والفرج الحقيقي يبدآن من داخل النفس

معنى الفرج:

الدولة الكريمة والفرج الحقيقي يبدآن من داخل النفس(1)

معنى الفرج:

حينما نطلب في الدعاء (اللهم إنا نرغب إليك بدولة كريمة...)(2) فهذا لا يعني أن أملنا يتحقق ودعاؤنا يستجاب بقيام حكومة يترأسها وتضمّ رجالاً يرفعون لافتات إسلامية أو يتظاهرون بالارتباط بالمرجعية الدينية، وإنما تتحقق الدولة الإسلامية بأن نعيش الإسلام في كل تفاصيل حياتنا ونحكّمه في كل أمورنا وقضايانا وتصرفاتنا (فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء: 65)، وهذا واضح من أوصاف هذه الدولة في الدعاء (تُعزُّ بها الإسلام وأهله، وتُذلُّ بها النفاق وأهله)، فلا تكون الدولة كريمة إلا حينما يكون رعاياها أحراراً يعيشون بعزة وكرامة وأعداؤهم أذلاء مقهورين.

من معاني الدولة الكريمة:

وقد يتحقق هذا المعنى للدولة الكريمة عند المؤمنين وهم بعيدون عن

ص: 93


1- يعود تاريخ هذه الكلمة إلى صيف عام 2003 حينما أقيمت في جامع المنتظر في مدينة الحرية ببغداد دورات للأطفال في العطلة، وفي نهاية الدورة استقبل سماحة الشيخ المشرفين عليها ومعلمات الأطفال المشاركين، حيث قام البراعم ببعض الفعاليات في مكتبه ثم تحدّث سماحته، كان ذلك بتاريخ 2003/8/28.
2- الكافي: ج 3 ص 424.

الحكم وليس لهم في السلطة نصيب، كما كان عند أهل البيت (سلام الله عليهم) ومن الشواهد على ذلك - وإن كانت القضية لا تحتاج إلى شاهد - ما روي عن الإمام الهادي (عليه السلام) لما جلبه المتوكل العباسي من المدينة إلى سامراء وأنزله خان الصعاليك فدخل عليه أحد أصحابه وهو صالح بن سعيد، فبكى رقّةً لحال الإمام (عليه السلام) حيث لم يكتفِ الظلمة بجلبه وإبعاده عن مدينة جده (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أنزلوه هذا المكان البائس فهوّن عليه الإمام (عليه السلام) عن صالح بن سعيد قائلاً له: (ههنا أنت يا ابن سعيد؟ ثم أومأ بيده وقال: انظر فنظرت، فإذا أنا بروضات آنقات وروضات باسرات(1) ، فيهن خيرات عطرات وولدان كأنهن اللؤلؤ المكنون وأطيار وظباء وأنهار تفور، فحار بصري وحسرت عيني، فقال (عليه السلام): حيث كنا فهذا لنا عتيد، لسنا في خان الصعاليك)(2).

الفرج الحقيقي يبدأ من النفس:

وهكذا فحينما ندعو لإمامنا المهدي (عليه السلام) بالفرج وتعجيل الظهور فإن الفرج الحقيقي يبدأ من داخل أنفسنا حينما نهذّبها بطاعة الله تبارك وتعالى وتسير نحو الكمال، وإلا فما الذي نجنيه من ظهور الإمام (عليه السلام) إذا لم نحقق هذه الدرجات في داخلنا؟ ربما سنكون في الصف المعادي له أو مع المتخاذلين عن نصرته حرصاً على مصالح دنيوية أو وضع اجتماعي أو مكاسب سياسية ونحوها.

فالدولة الكريمة والفرج يبدآن من داخل النفس ثم يشرقان على الآخرين فإذا عاش المجتمع أجواءً إسلامية وكان سلوكه إسلامياً، وتفكيره مبنياً على أساس الإسلام فهذه هي الدولة الكريمة وهذا هو الفرج الحقيقي.

ص: 94


1- لأنق: الفرح والسرور، والبسر: الغض من كل شيء والماء الطري القريب العهد بالمطر، والبسرة من النبات أولها وفى بعض النسخ بالياء: بمعنى الحسن والجمال.
2- الكافي: ج 1 ص 498.

متى يتحقق الفرج؟

وهذا لا يتحقق إلا بمواصلة العمل الدؤوب على صعيد تهذيب النفس وعلى صعيد أقامة المشاريع الإسلامية الإصلاحية في المجتمع وإدامتها وأن لا يكتفي بالعمل الارتجالي الذي دافعه وهج العاطفة أو ردود الأفعال وعلينا أن نفهم الأعداء قبل الأصدقاء من الكبار والصغار.

إن اندفاعة هذا الشعب الكريم نحو الإسلام ونشر تعاليم أهل البيت (عليهم السلام) ليس رد فعل على طول حرمانهم من ممارسة شعائرهم من قبل الطواغيت كما ربما يصوّر البعض، ولا إنها فرار من الواقع المرير وتعلّق بالغيب للشعور العميق بالإحباط واليأس كما يصوّر البعض الآخر، وإنما هو نزوع نحو الكمال مبني على القناعة والمعرفة، ولا يمكن إيصال هذه الرسالة إلا بإدامة هذه المشاريع المباركة وبذل الوسع في تأصيلها وترسيخها.

ص: 95

ص: 96

الحل والعلاج في العودة إلى الله تبارك وتعالى

علة البلاء:

الحل والعلاج في العودة إلى الله تبارك وتعالى(1)

علة البلاء:

من الحقائق التي بينها الله تبارك وتعالى من خلال القرآن الكريم لتثبيتها في قلوب وعقول المؤمنين أن ما يصيبهم من بلاء وعنت وضيق وشدة فإنما هي نتيجة أعمالهم السيئة (وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى: 30) (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (النحل: 34)(ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (النساء: 79)، ويلفت أنظار المسلمين من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم في قمة المواجهة العسكرية مع مشركي قريش في معركة أحد أن هزيمتهم كانت بسبب عدم تهذيب أنفسهم فهذا هو السبب الحقيقي وليس الأسباب المادية (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) (آل عمران: 155).

الله تعالى يعلمنا طريق الحل:

وفي نفس الوقت يعلمنا الحل وسبيل النجاة من هذه المعاناة.

انه بالعودة إلى الله تبارك وتعالى والتضرع إليه والتوسل إليه تبارك وتعالى

ص: 97


1- من النصائح والمواعظ التي كان يوجهها سماحة الشيخ (دام ظله) إلى الأمة من خلال أئمة الجمعة خلال فترة المواجهات المسلحة، عام 2004.

وتصفية القلوب مما فيها من غلٍّ وضغائن ورذائل كالحسد والعجب والكراهية والأنانية (وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَ هُمْ نائِمُونَ أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ أَ وَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (الأعراف: 96-100).

والمراد بالبأس هنا ليس الاستئصال كما كان يحصل للأمم السابقة على الإسلام، فإن مثل هذا العذاب قد رُفع عن هذه الأمة ببركة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن الأمة بقيت معرضة - بسوء تصرفها - لألوان أخرى من العذاب: نقص الثمرات، وقوع الفتن والحروب بينهم فيذيق بعضهم بأس بعض، تداعي الأمم الأخرى عليهم لاستعبادهم، وهذه البلاءات كلها قد نزلت بالأمة والعياذ بالله. وقال تعالى (وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (الطلاق: 2-3)، ويخاطب الأمم التي تتخبط في جهلها وغفلتها وبعدها عن الطريق الحقيقي (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلّهِ مَثْنى وَ فُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) (سبأ: 46) أي أن تلتفتوا إلى أنفسكم فتعودوا إلى الله تبارك وتعالى أفراداً وجماعات وتجأرون إلى الله بالدعاء والاستغاثة.

وهذا لا يعني أن هذا القيام لله تبارك وتعالى واللجوء إليه مختص بحال الاضطرار، إذ المطلوب أن يكون الإنسان في كل حالاته ذاكراً لله تعالى مستجيراً به طالباً منه التوفيق والتثبيت على الإيمان والزيادة من عمل الخير والتأييد، بل إنه سبحانه يعرض مستغرباً مثل هذا النموذج الذي لا يعرف الله إلا في أوقات الضيق والشدة كانقطاع السبل في البحر الهائج (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمّا نَجّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) (العنكبوت: 65)، ولا يقصد الشرك الظاهري أي عبادة الأصنام ونحوها لأنه خلاف دعوتهم لله مخلصين، وإنما يريد الشرك الخفي أي الإعراض عن الله والالتجاء إلى الأسباب من دونه.

ص: 98

ويضرب لنا مثلاً في قوم يونس فإنهم قدأحيطوا بعذاب، وظن نبيهم أنهم قد أُخذوا ولم تبق فرصة لنجاتهم، فغادر المدينة إلا أنهم عادوا إلى الله وخرجوا جميعاً مستغيثين بالله أن يرفع عنهم البلاء، فاستجاب الله تبارك وتعالى لهم ونجاهم (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (يونس: 98).

وابتغوا إليه الوسيلة:

ولا يتم هذا الاتصال بالله تبارك وتعالى وينتج ثمراته إلا بولاية أهل البيت والتوسل بهم إلى الله تبارك وتعالى وإدامة ذكرهم وإقامة شعائرهم والاستغاثة بالإمام القائم بالأمر (عجل الله تعالى فرجه)، قال تعالى (وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) (طه: 124) وقد ورد في الروايات أن الذكر هي ولاية أهل البيت (عليهم السلام) فمن لم يتمسك بهم يكن في عيشة ضيقة تعيسة خالية من الإمدادات الروحية.

يروى عن الإمام الهادي (عليه السلام) قوله عن دعاء (يا من تحل به عقد المكاره...) (إنه دعاء آل محمد (عليهم السلام) عند إشراف البلاء وظهور الأعداء وخوف الفقر وضيق الصدر)(1). وهو من أدعية الصحيفة السجادية ويوجد في كتاب مفاتيح الجنان.

هكذا علمنا الله تبارك وتعالى وهكذا أدبنا أهل البيت (عليهم السلام) فأين نحن من ذلك التأديب الذي يراد منه نفعنا وسعادتنا؟

الانفعال والارتجالية:

أنا لا أنكر تقدم المستوى الإيماني لدى هذا الجيل بفضل الله تبارك

ص: 99


1- مفاتيح الجنان: ص 148.

وتعالى بشكل أذهل الأعداء وأصاب خططهم بالخيبة والخسران، إلا أنه مع الأسف في كثير من حالاته عبارة عن وهج عاطفي وحرارة متدفقة غير مقترن بوعي عميق وتربية راسخة للقلب والنفس، مما يجعل هذه الاندفاعة في مهب الريح - والعياذ بالله إذا لم نتداركها بما يصلحها.

وإلا بماذا تفسر انتشار الافتراء والبهتان والتسقيط والتشويه بين المؤمنين بل أصبح شغل الكثير من أهل الغفلة هو ذم العلماء والمراجع والقدح فيهم وانتقادهم، ولا أدري من أين نال هؤلاء القيمومة على الآخرين ليعطوا لأنفسهم الحق في تقييم أعمال المراجع والمفكرين؟! ألم يسمعوا الحديث الشريف

(إن حرمة المؤمن أعظم من الكعبة)(1)، فالاعتداء على سمعة المؤمن وكرامته وتشويه صورته اشد من الاعتداء على الكعبة، أو على العتبات الطاهرة للأئمة المعصومين (عليهم السلام) - رغم أنها من الجرائم الشنيعة -، فهل التفت المؤمنون إلى هذه الكبائر التي تورطوا فيها، وعميت بصائرهم عن رؤيتها حتى تنشر صحائف أعمالهم أمام الحكم العدل (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (قّ: 22).

هل غضبنا لله تعالى أم لأنفسنا؟

وهل غضبوا لانتهاك حرمات المؤمنين أم على العكس إنهم خاضوا في هذه الكبائر وشربوا كأسها حتى الثمالة، حتى أن بعض أئمة الجمعات استغلوا هذا الموقع الآلهي الذي يعبر عنه الإمام (عليه السلام)

(اللهم إن هذا مقام أوليائك وخلفائك)(2) استغلوه للمهاترات الكلامية وتصفية الحسابات الشخصية ولانتقاد العلماء.

ص: 100


1- مستدرك سفينة البحار: ج 2 ص 271.
2- أنظر: مصباح الزائر: ص 44، وراجع البحار: ج 100 ص 160.

التربية الى نصف الطريق:

عن هذا النقص في تربية المشتغلين بالعمل الاجتماعي الإسلامي والأسف من عدم اكتمال التربية قال الشهيد السيد محمد باقر الصدر رائد الحركة الإسلامية في العراق 1: (إننا استطعنا أن نربي الآخرين إلى نصف الطريق) وعلق عليه الشهيد السيد محمد الصدر (قده): (ولم يقل إلى نهايته لأنه لو كان الأمر كذلك لما حصل أي شيء من تلك النتائج. ولو كان أولئك المتدينون قد أصلحوا أنفسهم قبل إصلاح الآخرين، وما رسوا المقدمات المنتجة لصفاء النفس ونور القلب وعمق الإخلاص وقوة الإرادة وعفة الضمير لما عانوا ما عانوا، بل ولعلهم لم يحتاجوا في الحكمة الإلهية إلى كل هذا البلاء الذي وقع عليهم، وإنما كانوا مع شديد الأسف مصداقاً لقوله تعالى (وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (محمد: 38) ولم يكونوا مصداقاً لقوله تعالى (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج: 41)، وليس ذلك إلا لان الأفراد التامين من جميع الجهات والأوصاف الجامعين للشرائط عددهم قليل، وأقل من الحاجة بكثير)(1).

المعركة الكبرى:

إننا مطالبون بمحاربة الشياطين في أنفسنا الأمارة بالسوء قبل كل شيء، ومهما تعاظمت شياطين الجن والأنس فإنها دون هذا العدو الأكبر الذي وصفه الحديث الشريف

(أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك)(2)، بل إن كل شياطين

ص: 101


1- الشهيد الصدر (قدس سره) كما أعرفه: ص 302.
2- البحار: ج 67 ص 36.

الإنس هي ثمرة هذا الشيطان ولو أصلحنا ما في نفوسنا لم يبق شيء من تلك الشياطين؛ لذا سمى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جهاد النفس بالجهاد الأكبر ومعناه أن العدو في هذا الجهاد هو العدو الأكبر. وجهاد الأعداء الآخرين مهما تفرعنوا بالأصغر.

النصر الحقيقي:

إن نصرنا الحقيقي حينما نستطيع سحق أهوائنا وأنانياتنا ونزيل الغل والحقد والكراهية وحب الدنيا بكل أشكالها (وأخطرها حب الرئاسة والتسلط وتصفيق الجماهير) والحسد والرياء والعجب والتكبر والعنجهية والاستعلاء وغيرها من الرذائل، ونملأ قلوبنا بالحب والرحمة والشفقة والعفو والصفح والتآلف والمودة والصبر وكظم الغيظ وغيرها من الفضائل.

هذه هي وصايا أهل البيت (عليهم السلام) وهذه تربيتهم، حتى حينما كان يظن شيعتهم أن الفرصة قد حانت وان الثمرة قد آن قطافها، كانوا (عليهم السلام) دائماً يذهبون في الاتجاه الآخر غير الذي يفكر به الآخرون مهما قربوا من الإمام (عليه السلام)، وهو اتجاه محاسبة النفس ومراقبتها وعرضها على الميزان الذي نصبه أهل البيت (عليهم السلام)، وأقرأ كشواهد على ذلك أقوال الإمام الصادق (عليه السلام) لمن عرضوا عليه النصرة وتسليم مفاتيح السلطة بعد القضاء على الأمويين، ونصائح الإمام الرضا (عليه السلام) للذين خرجوا لاستقباله على طول الطريق من المدينة المنورة إلى مرو.

ابتعادنا عن أدب السلف الصالح:

إننا ضيعنا حتى الحد الأدنى من ذكر الله تعالى وهو الالتجاء إليه عند الاضطرار، فها هو البلاء يحيق بنا والأعداء يتربصون بنا ولا أجد المؤمنين يعقدون مجالس الدعاء والتوجه إلى الله تعالى والاستغاثة بالمعصومين (عليهم السلام) والتوسل إلى صاحب الأمر (عجل الله تعالى فرجه) كي يتولانا برعايته مع عدم الإخلال بالواجبات الأخرى طبعاً، يروي لنا سلفنا انه

ص: 102

إذا مر بهم بلاء اجتمعوا في المساجد والحسينيات للدعاء ولذكر مصائب أهل البيت (عليهم السلام) وزيارتهم، وكان طلبة العلم في النجف يتوجهون مشياً على الأقدام إلى مسجد السهلة مستغيثين بالإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) أو كربلاء لزيارة الحسين (عليه السلام) أو أي مسجد جامع لأبناء المدينة فيرفع الله عنهم البلاء، كما فعل بقوم يونس، بل ما حصل لنفس النبي يونس (عليه السلام) فانه لما نادى (لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ) (الأنبياء: 87) جاءه الغوث والخلاص (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء: 88) وقال تعالى (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (الصافات: 143-144).

لذا يبين الإمام المهدي (عليه السلام) امتعاضه من شيعته لأجل هذه الغفلة عن الله تعالى وعن أهل البيت (عليهم السلام) في كثير من اللقاءات معه (عليه السلام) ومنها قصة السيد الرشتي المذكورة في مفاتيح الجنان لما ضلَّ الطريق في ظروف صعبة قال له موبخاً لماذا تتركون زيارة عاشوراء والنافلة وزيارة الجامعة الكبيرة 1.

هذا هو الحل وهذا هو طريق النجاة أن نقوم لله تعالى مثنى وفرادى متآلفين ومتحابين أنقياء القلوب أصفياء النفوس ونعمل بوصايا المعصومين (عليهم السلام) ونتأدب بأدبهم ونترك التعصب والتشنج والتطرف والأنانية وحب الدنيا.

(قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ رَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفِيقِي إِلاّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ)

ص: 103

ص: 104

على المسؤولين أن يتصفوا بالأبوية

إن كثيراً من الأنبياء اشتغلوا بالرعي وفي ذلك درس لنا بأنّ من يتولى أمور المجتمع وسياسة الأمة لا بد أن يتدرب على رعاية الناس وحفظ مصالحهم والقيام على شؤونهم، فكما أن راعي الأغنام يطعمها ويسقيها ويتفقد الضائع منها ولا ينام الليل حتى يطمأن إلى حسن إيواء جميع القطيع في الحظيرة، هذا مع الحيوان فكيف بمن يتولى شؤون الناس؟

إن كل اهتما م المرجعية بأن ترى حال الناس.. كل الناس بخير، وأن تقوم دولة القانون والمؤسسات التي يتساوى فيها الجميع، وأن يكون المسؤول أباً لجميع العراقيين، وأن يوفر الأمن والخدمات للناس.

ص: 105

ص: 106

تذويب المصالح لله تعالى

تذويب المصالح لله تعالى(1)

إني أعلم بوجود استياء من أداء الحكومة وتقصيرها واعلم أن توزيع المقاعد لم يكن مناسبا لثقل الكيانات في الساحة، وأعلم أن أسماءً في القوائم الانتخابية ليسوا مرضيين عند هذا الطرف أو ذاك وأنا اسلم بصحة كل هذه الإشكالات، لكن هذه كلها مطالب جزئية يجب تذويبها في المصلحة العامة لأنك حينما تذهب إلى صناديق الاقتراع فانك لا تنتخب شخصاً بعينه ولا حتى القائمة في محافظتك وان كنت تعطيها صوتك وإنما تنتخب كياناً وخطاً واتجاها سوف يجمع كل هؤلاء المرشحين، ولا شك أنه يضم الكثيرين ممن يمثلون وجهة نظرك ويدافعون عن حقوقك وتأمنهم على مستقبلك فحينما تعطي صوتك في السماوة لقائمة ليس لحزبك فيها مقعد فإن هذا لا يضر؛ لأن الآخر يعطي صوته لك في البصرة أو الناصرية التي لك فيها أكثر من مقعد وبالتالي سوف يجتمع كل هؤلاء تحت مظلة الجمعية الوطنية.

وأعتقد أنهم جميعاً متوافقون على المبادئ الأساسية كوحدة العراق وسيادته الكاملة على أراضيه، وطرد المحتل وبناء مستقبل زاهر للشعب واحترام حقوق الإنسان والمساواة أمام القانون والتوزيع العادل للثروة، وقطع

ص: 107


1- من حديث لسماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من المؤمنين من مختلف المدن العراقية لحثهم على المشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة بعد ما وجد إعراضاً من شرائح واسعة من المجتمع عن المشاركة بسبب سوء أداء الحكومة والهجمة الإعلامية المضلّلة.

يد الإرهاب والاقتصاص من القتلة والمجرمين ومراعاة ثقافة الشعب ودينه وأعرافه وغيرها، ومادامت هذه المبادئ متفقاً عليها لدى الائتلاف فما الضير في أن يكون زيد أو عمرو أعضائه.

هذه الأخلاق وان كانت ستحرمنا من مصالح معينة ويعتبرها السياسيون اللاهثون وراء المصالح الشخصية والفئوية (مثالية) لا واقع لها، لكنها هي سياسة أهل البيت (عليهم السلام) التي ربّوا شيعتهم عليها، ونحن مدعوون إلى الالتزام بها أن كان ذلك صعبا على النفس لكن اعتبروها خطوة في طريق (الجهاد الأكبر) وسوف لا يفوتكم الكثير والعاقبة للمتقين.

لقد كانت مشاركة العراقيين في الاستفتاء على الدستور(1) قوية وفعالة فاقت الحسابات التي توقعت تراجع المشاركة بسبب الاستياء من أداء الحكومة وضغط الإرهاب والضجيج الإعلامي المعادي، لكن نسبة المشاركة بلغت (63%) أي أكثر من نسبة المشاركة في الانتخابات السابقة وأكثر بكثير من حجم المشاركة من حجم الانتخابات(2) في دول مستقرة كمصر التي بلغت (23%) في انتخابات الرئاسة و (52%) في الولايات المتحدة مما يعني أن الشعب العراقي واعٍ لدوره وأهمية صوته وتأثيره في تغيير التوازنات في العملية السياسية.ة.

ص: 108


1- جرى الاستفتاء على الدستور في يوم السبت 11 رمضان 1426 المصادف 2005/10/15 حيث هب أكثر من عشرة ملايين من أصل حوالي (15.5) مليون عراقي ممن يحق لهم الانتخاب بمناظر مثيرة وبذلوا جهوداً كبيرة للوصول إلى مراكز الاستفتاء لوجود حظر على حركة السيارات ورغم معارضة القوى الإرهابية والمعادية لتحرر الشعب والضجيج الإعلامي المضلل الذي قامت به الفضائيات.
2- المقصود بها عملية انتخابات رئيس الجمهورية في هذا العام أما الانتخابات التشريعية في مصر والتي بدأت مرحلتها الأولى يوم الأربعاء 6 شوال 1426 المصادف 2005/11/9 فلم تزد نسبة المشاركة عن 24% رغم التحشيد الإعلامي والتعبئة الجماهيرية للأحزاب المشاركة والحكومة.

ونأمل منهم أن يكونوا بنفس الاندفاع والهمة و الحماس للمشاركة في الانتخابات المقبلة واختيار الأفضل من حيث الكفاءة والنزاهة والإخلاص، وعلى القادة السياسيين أن يقدروا لهذا الشعب وقفاته الشجاعة والمباركة ويعملوا بكل تفانٍ وإخلاص لإسعاده ورفع الظلم عنه وإيصال حقوقه إليه، وعلى المثقفين والمفكرين والخطباء والمبلغين مواصلة الجهد لرفع مستوى الوعي لدى الأمة حتى تتمكن من ممارسة حقها بدقة وتختار الأصلح، وأن يفهم الناس أن هذا حق لهم وينبغي أن يكونوا حريصين به كسائر حقوقهم ولا يحتاج أن نوجبه شرعًا لكي يندفعوا للمشاركة.

ص: 109

ص: 110

على الكيانات كما على الأفراد أن تحاسب نفسها

على الكيانات كما على الأفراد أن تحاسب نفسها(1)

بعد الاتفاق على ضرورة انعقاد مثل هذه المؤتمرات لمحاسبة النفس وتقييم الواقع ومراجعة الذات فإن الحديث الشريف

(ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم)(2) ليس مختصاً بالأفراد فقط وإنما يشمل الكيانات التي يجب عليها أن تراجع نفسها في كل مدة لتعذّر إجرائها في كل يوم؛ لأن العمل يستلزم حصول الأخطاء والابتعاد عن الهدف أحيانا وبمرور الوقت يزداد الانحراف والبعد عن الهدف والغفلة حتى تتراكم وتستعصي على الحل، ومن هنا يصبح (ليس منا) من لم يقم بالمراجعة والتقييم والتوقف لتصحيح الأخطاء وتعديل المسيرة.

ص: 111


1- من كلمة سماحة الشيخ (حفظه الله تعالى) في المؤتمر العام الثاني لجماعة الفضلاء الذي عُقد في النجف الاشرف ليلة 3 ج 1427 2 الموافق 2006/6/29.
2- الاختصاص: ص 26.

ص: 112

العيد والمصالحة الحقيقية

السبب هو في النفوس الجامحة للسلطة:

العيد والمصالحة الحقيقية(1)

السبب هو في النفوس الجامحة للسلطة:

لست الآن بصدد تعداد كل اسباب العنف الذي يضرب العراق وتأثير الاحتلال والأجندات الإقليمية والدولية لأن هذه كلها على خطورتها يمكن تحجيم أثرها إذا توفرت لدى ساسة العراق الإرادة الصادقة لحل المشاكل وإنقاذ البلد وأهله؛ قال تعالى (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُما) (النساء: 35)، ولكنني أريد أن أُنبِّه إلى سبب مهم أشرتُ إليه في نفس رسالتي إلى المؤتمر(2) ويمثّل الخطوة الثانية من بناء عملية مصالحة حقيقية بعد الخطوة الأولى وهي التوقيع والتعهد بالالتزام ببنود الوثيقة فقلت في حينها (إن العنف الذي يشهده العراق ليس طائفياً فقد عشنا في كل الأزمنة السابقة وحتى الآن سُنَّةً وشيعةً متآخينَ متحابِّينَ وإنما هو في الغالب سياسي ويتولى كِبْرَهُ سياسيون طامعون في السلطة والإثراء بغير حق (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً) (التوبة: 8)، وإنما يلبسونه ثوب الطائفية ليعبّئوا لمعركتهم هذه مَن يسير على غير هدى، لذا لا بد من الشروع فور البدء بالالتزام بوثيقة مكة المكرمة بإصلاحات سياسية جذرية، وقد تداولت مع عدد من الأخوة المسؤولين بأفكار مهمة في هذا المجال تجعل كل شيء قابلاً للنقاش إلا ما حرَّمَ حلالاً أو أحلَّ حراماً في شريعة سيّد المرسلين).

ص: 113


1- الخطبة الثانية لصلاة عيد الفطر السعيد لعام 1428 ه -.
2- مؤتمر مكة الذي عُقد مساء الجمعة: 26 رمضان 1427 ه الموافق 2006/10/20. وقد نشر سماحة الشيخ الوثيقة الصادرة عنه في خطاب المرحلة: ج 4 ص 346.

هذه هي الخطوة الثانية التي لم يقم بها السياسيون، وبقي الجميع متمسّكين بمواقعهم ومواقفهم.

أهمية الخروج من الاصطفافات الطائفية:

إن التذرع بالدستور وصناديق الاقتراع وحده لا يكفي في بلد جديد العهد بالتجربة الديمقراطية ويعاني من موروثات معقدة ومخلّفات عهود طويلة مظلمة، وتتشكل فيه الكتل السياسية على أساس المكونات الاجتماعية وليس البرامج السياسية الوطنية، وهذا أحد أسباب دعوتنا الكتل السياسية لتغيير اصطفافاتها والخروج من تخندقها الطائفي والقومي. فلا بد في المرحلة الحالية من بناء العملية السياسية على التوافقات التي تعتمد الشراكة الحقيقية والثقة المتبادلة.

ومن المفارقات أنك تجد هؤلاء المتذرعين بالدستور والديمقراطية يغضّون الطرف ويتجاوزن على الدستور وشرعية الانتخابات حينما تقتضي مصالحهم ذلك مما يُضعِف الثقة بقدرتهم على بناء دولة القانون والمؤسسات، مثلاً تراهم يطالبون بالعمل بفقرات مختلف فيها قبل إقرار التعديلات الدستورية التي حُدِّدت لإجرائها مدة بضعة أشهر وقد مرَّ ما يقارب السنتين دون تحقيق أي اتفاق حولها، ومع أن فقرة إجراء التعديلات حاكمة على الفقرات الأخرى ما دامت مشروطة بالتعديل وسن قانون لتفاصيلها ولا يجوز العمل بفقرة قبل إقرار التعديلات النهائية.

فشل اطروحة حكومة الأغلبية:

قال البعض: لقد آن لنا أن نعمل بنظام الأغلبية وليس التوافق ولا حاجة

ص: 114

إلى حكومة وحدة وطنية ويكفي أن نشكل حكومة أغلبية برلمانية، وأنا ألفت نظر السادة المحترمين إلى جملة من الأمور قد تكون غابت عليهم وهي ضرورية لتصحيح رؤيتهم في إدارة العملية السياسية:

1 - إن نظام الأغلبية لا يمكن اعتماده في اتخاذ القرارات المصيرية في مثل العملية السياسية الجارية في العراق لأنها بُنيت على أساس التمثيل الطائفي والعرقي فاعتماد الأغلبية يعني إلغاء دور نصف مكونات الشعب العراقي تقريباً فكيف سيكون رد الفعلأ إذن؟

إن الأغلبية إنما تُعتمد حينما يكون تشكيل الأحزاب والكتل على أساس البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تلتزم بها الأحزاب ويكون التفاضل بين هذه البرامج أما في العراق فإن الأحزاب والكتل أُسست على أساس تمثيل الطائفة والعرق وحينئذٍ سيكون التفاضل والتمييز بين مكونات الشعب وإن إبعاد شريحة يعني استعداءها ودفعها باتجاه الأعمال الشريرة.

2 - إن فهم الديمقراطية على أنها تحكيم رأي الأغلبية هو نظر بعين واحدة إليها، أما العين الأخرى فيجب أن تنظر إلى حفظ حقوق الأقلية وهذا غير موجود؛ لأن من لا يكون ضمن دائرة السلطة والنفوذ فإنه يحرم من حقوقه بل يُستأصل ويُنهى وجوده مع أنه جزء من الدولة العراقية وله حقوقه التي تقتضيها المواطنة حتى وإن لم يكن جزءاً من الحكومة أما جعل الدولة هي الحكومة والحكومة هي الدولة بحيث تكون مؤسسات الدولة ملكاً للأحزاب الحاكمة فهذه من مخلفات عصور الديكتاتورية فإن الحكومات تنتهي والدولة تبقى.

3 - إن طول عهد الأنظمة الطاغوتية التي حكمت العراق بأشد البطش والقسوة وطول حرمان الشعب من ممارسة حقه في المشاركة في الحكم ولّد رغبة جامحة لدى الجميع في المشاركة، وإذا حُرِمَ منها فإنه لا يسكت عن المطالبة بحقه، فاعتماد نظام الأغلبية يحتاج إلى زمن طويل من التثقيف

ص: 115

والترويض والثقة بالشركاء إلى أن يتم تجاوز تلك العقد الموروثة من الزمن الماضي.

4 - ليتصور هؤلاء السادة الذين يريدون الاكتفاء بحكومة الأغلبية أنه لو جمّع الآخرون أغلبية واكتفوا بما عندهم ولم يشركوا هؤلاء في الحكم فهل سيقتنعون بهذه النتيجة (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (الصافات: 154).

5 - إذا كان الموجودون في الحكم قد امتلكوا الأغلبية البرلمانية في بداية تشكيل الحكومة فلا بد لهم أن يحافظوا عليها بالوفاء بالتعهدات والمواثيق التي اتفقوا عليها مع كل شركائهم وليس لهم أن ينفردوا بعدئذٍ لأنهم لم يصلوا إلى مواقع الرئاسات إلا بهذه التوافقات السياسية وبعضها تم التصويت عليها بالثلثين فلا يحقُّ لهم النكول بها وهذه حقيقة يغفل عنها البعض مع الأسف. حتى لم يعودوا يمتلكون الأغلبية البرلمانية فضلاً عن كونها حكومة وطنية، والشاهد على ذلك فشلهم في تحقيق هذه الأغلبية لنيل الثقة بالوزراء الذين أُريد لهم ملئ المقاعد الشاغرة منذ عدة أشهر؟! فهذا دليل على أنهم لا يمتلكون هذه الأغلبية، ولذا أصبح البرلمان مشلولاً منقسماً على نفسه بين موالٍ للأحزاب الموجودة في الحكومة ويبرّر لها كل ما تقوم به مهما كانت النتائج، وبين معارضٍ يدأب على وضع العصي في العجلات لإعاقة العمل، وبين هذا وذاك ضاع العراق الجريح والشعب المضطهد المحروم الذي لا يجد ناصراً ولا معيناً إلا الله تبارك وتعالى وثلّة مخلصة لا تُسمن ولا تُغني من جوع.

وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ :

وفي ضوء هذه الحقائق أُوجِّهُ كلامي إلى الموجودين في السلطة وأقول لهم: إنني ما قلت لهم هذه الكلمات إلا بدافع النصيحة فأنا (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) (الأعراف: 68)،(أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 62)،(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ

ص: 116

تَقُومُوا لِلّهِ مَثْنى وَ فُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) (سبأ: 46)، وإن الله تعالى مُسائلكم عن هذه المواقع التي أنتم فيها (وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ، ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) (الصافات: 24-25) والدنيا مهما طالت فإنها تنتهي بالموت وسوف لا ينفع يومئذٍ مال ولا بنون ولا جاه ولا موقع ولا حمايات ولا ينجو إلا من أتى الله بقلبٍ سليمٍ خالٍ من الغشّ والحقد والأنانية وحبّ الدنيا وظلم الآخرين وحرمان الناس من حقوقهم والاستئثار دونهم بالامتيازات، وإنما يفوز يوم القيامة من جاء ربّه بقلبٍ مليءٍ بالرحمة والحب والصفح والتسامح وإرادة الخير للناس جميعاً كما يريده لنفسه بل أن يؤْثِر الآخرين على نفسه ويضحّي من أجلهم.

التنازل لله تعالى:

فعلى جميع الأطراف أن تبذل كل ما في وسعها وتقدم كل التنازلات الضرورية ليحصل الوئام والانسجام والاشتراك في إنقاذ البلد من محنته وترفيه الشعب وإسعاده.

وليعلم كل طرف أن ما يقدمه من تنازلات ليس هو للطرف الآخر حتى يشعر بالهزيمة، وأن هناك طرف رابح وآخر خاسر وإنما هو تنازل لله تبارك وتعالى وللشعب ولمستقبل هذا البلد وهذا كله ربح لا خسارة فيه.

المصالحة الحقيقية:

أيها المؤمنون: إن من أعظم شعائر العيد هو التواصل بين المؤمنين وإنهاء كل الخلافات بينهم وإسقاط كل التبعات التي لبعضهم على البعض الآخر، والتنازل عن أي شيء ممكن من أجل أن يلتقي مع الآخر، ولنستفد من بعض الأحاديث الشريفة الواردة بهذا الصدد، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (يحق على المسلمين الاجتهاد في التواصل، والتعاون على التعاطف،

ص: 117

والمواساة لأهل الحاجة، وتعاطف بعضهم على بعض حتى تكونوا كما أمركم الله عز وجلّ رحماء بينهم متراحمين مغتمّين لما غاب عنهم من أمرهم، على ما مضى عليه معشر الأنصار على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)(1) ومن وصية للإمام الصادق (عليه السلام) قال:

(تواصلوا وتبارّوا وتراحموا وكونوا إخوة أبراراً كما أمركم الله عز وجل)(2) وفي فضل الوساطة بين المختلفين لتقريب وجهات النظر قال الإمام الباقر (عليه السلام):

(رحم الله امرءاً ألّف بين وليّين لنا، يا معشر المؤمنين تآلفوا وتعاطفوا)(3).

وفي الحث على قبول العذر من المخطئ تمهيداً لتحقيق الوئام والانسجام نقل الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه عليهم السلام أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أوصى علياً (عليه السلام) فقال:

(يا عليّ من لم يقبل العذر من متنصّلٍ عذراً صادقاً أو كاذباً لم ينل شفاعتي)(4).

وفي استحباب التلاقي والمصافحة قال الإمام الباقر (عليه السلام) إن المؤمنين إذا التقيا فتصافحا أدخل الله يده بين أيديهما، وأقبل بوجهه على أشدّهما حباً لصاحبه فإذا أقبل الله بوجهه عليهما تحاتّت عنهما الذنوب كما يتحاتّ الورق من الشجر).(5)

ويتعاظم هذا الفضل والأجر الكريم حينما تكون العلاقة هكذا بين القادة والسياسيين الذين تتوقف على تلاقيهم وتآلفهم وتواددهم نجاة ثلاثين مليون إنسان من محنتهم فكونوا كما أرادكم الله تبارك وتعالى ورسوله الكريم محمد صلّى الله عليه وآله وسلم.7.

ص: 118


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة، باب 124، ح 2، 3، 5.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة، باب 124، ح 2، 3، 5.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة، باب 124، ح 2، 3، 5.
4- نفس المصدر، الباب 125، ح 1.
5- نفس المصدر، الباب 126، ح 7.

تذكير للمشغولين بالعمل الرسالي

معنى الرسالي:

تذكير للمشغولين بالعمل الرسالي(1)

معنى الرسالي:

عرّفنا المؤمن الرسالي بأنه من لا يتوقف عند حدود إصلاح نفسه وإرادة الخير له وإن كان في هذا كفاية لمن يروم النجاة، ولكنه بما يحمل من حب ورحمة بالآخرين يتحرك بعمل دؤوب لإصلاح مجتمعه وتحقيق السعادة لهم، وهذا هو ديدن الرسل والعلماء الصادقين مع الله تبارك وتعالى (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللّهَ وَ كَفى بِاللّهِ حَسِيباً) (الأحزاب: 39)،(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) (الجن: 28).

وهذه النية الصادقة والعمل المخلص لهداية الآخرين وإصلاحهم هي من أعظم القربات إلى الله تبارك وتعالى وقد وردت أحاديث كثيرة في تفضيل العالم العامل على العابد الزاهد المنزوي والمنكفئ على ذاته. فالعمل الرسالي يمثل مرحلة متقدمة على مرحلة إصلاح النفس وتهذيبها.

إصلاح النفس وتهذيبها:

وهنا أريد أن اذكَر العاملين الرساليين بأنهم أحيانا ينهمكون في العمل

ص: 119


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد كبير من طلبة الدراسة الإعدادية المنضوين في رابطة الطالب الرسالي في الناصرية يوم 4 /شوال / 1428 المصادف 2007/10/16.

الاجتماعي بكل حماس وهمّة ويغفلون في خضّم ذلك عن أمور يفترض فيهم أنهم حققوها في المرحلة السابقة أي مرحلة إصلاح النفس وتهذيبها، وهذا نقصٌ بالتأكيد.

الغفلة عن البر بالوالدين:

ومادمتم شباباً في مقتبل العمر فإنني أذكر لكم مثالاً لتلك الغفلة، إذ لا يخفى عليكم اهتمام الشارع المقدس ببر الوالدين وحرمة إيذائهما حتى على مستوى قول (أُفٍ) لهما، ففي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال:

(لو يعلم الله شيئاً أدنى من أفٍ لنهى عنه، وهو من أدنى العقوق، ومن العقوق أن ينظر الرجل إلى والديه فيحدَ النظر إليهما)(1) وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أحزن والديه فقد عقّهما)(2) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): ثلاثة من الذنوب تعجّل عقوبتها ولا تؤخَر إلى الآخرة: عقوق الوالدين والبغي على الناس وكفر الإحسان)(3) وعن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:

(من أسخط والديه فقد أسخط الله، ومن أغضبهم فقد أغضب الله، وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فأخرج ولا تحزنهما)(4) وعن الإمام الصادق (عليه السلام)

(عقوق الوالدين من الكبائر لأن الله عز وجل جعل العاقَ عصياً شقياً)(5) وعنه (عليه السلام)

(من نظر إلى والديه نظر - ماقت وهما ظالمان له - لم تقبل له صلاة)(6).

ص: 120


1- الوسائل: ج 21 ص 502.
2- النوادر للراوندي: ص 93.
3- أمالي الطوسي: ص 13.
4- مستدرك الوسائل: ج 15 ص 193.
5- الوسائل: ج 15 ص 328.
6- مستدرك الوسائل: ج 15 ص 195.

وقد عايشت الكثيرين ممن عملوا بحماس في الحركة الإسلامية منذ أكثر من ثلاثين عاماً فوجدت منهم تفريطاً في هذه الخصلة الكريمة (بر الوالدين) التي قرنها الله تبارك وتعالى بتوحيده وعبادته في قوله عزَ من قال:(وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (الإسراء: 23) طبعاً نحن لا نتحدث عن مستوى فيما لو أمر الوالدان بمعصية الله تعالى كشرب الخمر أو نزع الحجاب ولا فيما إذا نهيا عن طاعة كالصلاة المفروضة وصوم رمضان فإن حقوقهما تقف عند هذه الحدود كما ورد (لا طاعة لمخلوق بمعصية الخالق)(1).

ولكننا نتحدث عما هو دون ذلك إذ إن الإباء قد يقدّمون نصائح وتوجيهات إلى أبنائهم انطلاقاً من طول تجربتهم بالحياة وخبرتهم بأحداثها والوضع الاجتماعي العام والولد لا يقتنع بذلك فيخالفهما ويعاندهما فيتورط في هذه الكبيرة وهي إيذاء الوالدين، وهذا مضرٌ بعلاقته مع ربّه وبعاقبته.

وإذا أردت أن أتحدث عن مثال في تلك الفترة فهو أن الظرف الذي عشناه كان قاسياً من جهة بطش جلاوزة صدام وأمثاله، وكما عبّر هو نفسه - يقتل عشرة ألاف دون أن يرفَ له جفن -، وكان الشباب مندفعين بأعمال يراها الآباء لا تستحق الاصطدام مع ذلك النظام الجائر، وإنهم يمكن أن يحافظوا على دينهم وحياتهم من دون إعلان، لكن بعض الشباب كان يعارض أباه وينتقده على هذا الخنوع من وجهة نظره الحماسية، بينما ينطلق الأب من خبرته بقسوة وبطش هؤلاء الطواغيت منذ أن حكموا عام 1963 ثم عادوا إلى الحكم عام 1968 فلم يتورعوا عن التذويب بأحواض التيزاب والقتل بثرامة اللحم والدفن أحياء واغتصاب الحرائر وجلد الأطفال الرضّع بالأرض حتى يتناثر دماغهم، وعلى أي حال فقد حصل الذي حصل ولله عاقبة الأمور.5.

ص: 121


1- نهج البلاغة: الحكمة: 165.

مع السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره):

وأتذكر أنني سألت السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) - وهذا مثبّت في كتاب قناديل العارفين - عن سبب عدم ممارسته لدورٍ ميداني في حركة السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) وانعزاله في الأيام الأخيرة فقال: لسببين، أحدهما إن أبي (وهو العلامة السيد محمد صادق الصدر الذي صلى على جثمان السيد الشهيد الأول) كان يمنعني من ذلك وكانت له هيبة وطاعة عليّ وعلى السيد الشهيد الأول نفسه، فانظر إلى عاقبته حيث أطاع أباه كيف قيّض الله تباك وتعالى له الدور الكبير في بعث روح الإسلام والعودة إلى الله تبارك وتعالى حينما حانت له الفرصة بعد انتفاضة العام 1991.

قصة سعد بن معاذ:

كان سعد بن معاذ من سادة الأنصار الذين بايعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في العقبة قبل الهجرة وعاهدوه على النصرة والفداء وطلبوا منه الهجرة إليه، وكان بيته مقراً للحركة الإسلامية ودعوة الناس إلى الإسلام في يثرب قبل الهجرة، وخاض مع رسول الله صلى الله عليه واله معارك الإسلام الكبرى بدراً و أحداًوالأحزاب وأصيب بسهم في معركة الخندق

وبقي جريحاً إلى أن توفي وشيّعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأصحابه، وعن الصادق (عليه السلام) انه قال: أتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقيل له: إن سعد بن معاذ قد مات. فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقام أصحابه معه فأمر بغسل سعد وهو قائم على عضادة الباب(1) ، فلما أن حنط وكفن وحمل على سريره، تبعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بلا حذاء ولا رداء، ثم كان يأخذ يمنة السرير مرة ويسرة السرير مرة حتى انتهى

ص: 122


1- عضادتا الباب: الخشبتان المثبتتان على جانبي الباب.

به إلى القبر، فنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى لحده وسوى اللبن عليه وجعل يقول: ناولوني حجراً، ناولوني تراباً رطباً، يسد به ما بين اللبن، فلما أن فرغ وحثا التراب عليه وسوى قبره، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إني لأعلم أنه سيبلى ويصل البلى إليه، ولكن الله يحب عبدا إذا عمل عملا أحكمه. فلما أن سوى التربة عليه قالت أم سعد: يا سعد، هنيئا لك الجنة. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا أم سعد مه، لا تجزمي على ربك، فإن سعداً قد أصابته ضمة. قال: فرجع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ورجع الناس، فقالوا له: يا رسول الله، لقد رأيناك صنعت على سعد ما لم تصنعه على أحد، إنك تبعت جنازته بلا رداء ولا حذاء؟ فقال (صلى الله عليه وآله): إن الملائكة كانت بلا رداء ولا حذاء، فتأسيت بها، قالوا: وكنت تأخذ يمنة السرير مرة ويسرة السرير مرة؟ قال: كانت يدي في يد جبرئيل (عليه السلام) آخذ حيث يأخذ. قالوا: أمرت بغسله، وصليت على جنازته ولحدته في قبره، ثم قلت: إن سعدا قد أصابته ضمة؟ قال: فقال (صلى الله عليه وآله): نعم، إنه كان في خلقه مع أهله سوء)(1).

انتبهوا لتهذيب أنفسكم:

وأقول لكم إن كل الذين لم ينتبهوا إلى إصلاح أنفسهم وتطهير قلوبهم وتهذيب أخلاقهم فإن عملهم منقوص وبائس مهما تصدّروا الواجهات الإسلامية وحملوا من ألقاب دينية أو اجتماعية، وربما أدى بهم خبثهم الباطني إلى الهلاك بعد العمر الطويل، وكل الذين لم يلتفتوا إلى هذه التربية فأنهم ذاقوا بدرجة من الدرجات ألواناً من العذاب عاجلاً أم آجلاً وفضحوا.

وأنت ترى اليوم الكثيرين ممن كانوا في عمركم قبل ثلاثين أو أربعين عاماً ويزعمون أنهم انخرطوا في العمل الإسلامي منذ ذلك الزمان تراهم اليوم

ص: 123


1- أمالي الصدوق: ص 468.

قد تخلّوا عما امنوا به وراحوا يتصارعون بقسوة الحيوانات المفترسة على الدنيا وينتهكون من اجل تحقيق مأربهم الأنانية ما حرمه الله تبارك وتعالى، ولو كانت أسس بنائهم سليمة لبقوا مستقيمين.

فانتبهوا أيها الأحبة لإصلاح أنفسكم وتحليتها بالأخلاق الفاضلة ولا تغفلوا عن هذا (الجهاد الأكبر) مهما انهمكتم في العمل الرسالي وخدمة المجتمع فإنه يبقى (جهاداً اصغر) وان الله تعالى يعينكم ما دمتم في طاعته، واعلموا أن النفس بعيدة الأغوار معقدة التأثيرات والتجاذبات ولا يفلح في ترويضها وكبح جماحها وتوجيهها إلى الله تبارك وتعالى إلا من أدركه الله سبحانه بلطفه وتولاه برعايته لتجتازوا الامتحان الصعب، كما اجتازه الحر الرياحي حينما وقف يوم عاشوراء وكان قائداً كبيراً في جيش الخليفة الأموي يخيّر نفسه بين الجنة التي هي مع الحسين وأصحابه وان كان ثمنها الصبر على الموت ساعة، وبين النار التي هي مع جيش يزيد وكانت مزخرفة بالشهوات والسلطة والنفوذ والدنيا الواسعة فاختار الجنة ومضى شهيدا ووقف الإمام الحسين على مصرعه وقال له (حرٌ كما سمتك أمك حر، حرٌ في الدنيا وسعيدٌ في الآخرة)(1) فكانت هذه الشهادة وساماً قلّده إياه سيده ومولاه ليأخذ الجائزة فوراً من رب العزة والجلال.

وهكذا بقي الحر الرياحي رمزاً لكل من انتصر على نفسه حينما يتعرض لمثل هذا الامتحان الصعب، كما بقي في تاريخنا المعاصر الشهيد الشيخ عارف البصري رمزاً لكل العاملين الرساليين الذين ترفّعوا عن الدنيا واخلصوا لله تبارك وتعالى وتفانوا في إعلاء كلمته ونصرة المحرومين والمستضعفين فمضى شهيدا وهو في ريعان الشباب وخلف هذا الذكر الخالد.4.

ص: 124


1- تاريخ الأمم والملوك: ج 3 ص 325، واللهوف: ص 104، وبحار الأنوار: ج 45 ص 14.

طوبى لمن أدى دوره في المواجهات الحضارية الجارية في العراق

حديث في الموعظة:

طوبى لمن أدى دوره في المواجهات الحضارية الجارية في العراق(1)

حديث في الموعظة:

أحب أن أفتتح كلامي بحديث شريف في الموعظة لحاجتنا جميعاً لها، لأن الانهماك في العمل - ليس السياسي فقط - حتى لو نوى صاحبه بالقيام به قربة إلى الله تعالى وكان مخلصاً فيه - كما هو المفروض بكل مسلم - فانه عبادة وطاعة يؤجر عليها لكن هذا الانهماك يوجب غفلة ورينا على القلب وجلاؤه وتطهيره يكون بالموعظة، وهذا ما أشرت إليه في كلمة سابقة بعنوان (العمل السياسي من الواجبات الشرعية).

وقد اخترت الحديث الشريف المروي عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام فقد سئل (كيف أصبحت يا ابن رسول الله؟ قال أصبحت مطلوباً بثمان خصال: الله تعالى يطلبني بالفرائض، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسنة، والعيال بالقوت، والنفس بالشهوة، والشيطان بالمعصية، والحافظان بصدق العمل، وملك الموت بالروح، والقبر بالجسد، فأنا بين هذه الخصال مطلوب)(2)

ص: 125


1- عقدت الأمانة العامة لحزب الفضيلة الإسلامي اجتماعها الدوري ليوم الجمعة 11 /شوال/ 1427 المصادف 2006/11/3 في النجف الأشرف برعاية سماحة الشيخ اليعقوبي؛ لخطورة الأوضاع التي يمر بها العراق الحبيب والتعقيدات البالغة التي تواجهها الأمة، وحضر اللقاء أعضاء كتلة الفضيلة في البرلمان وأعضاء المكتب السياسي ومسؤولو المكاتب في الأمانة العامة وأمناء فروع الحزب في بغداد والمحافظات. وهذا الخطاب هو تقرر للحديث الذي تفضل به سماحته.
2- بحار الأنوار: ج 37 ص 15.

ويستبطن الحديث كل معاني الشفقة والعطف على من يعيش هذه التجاذبات وعليه أن يؤدي هذه الاستحقاقات التي يعرف صعوبة الخروج من عهدتها بالشكل الكامل مثل الإمام السجاد (عليه السلام)، فما حال الناس الغافلين والمقصرين.

مراعاة الواجبات التي في أعناقكم:

وهذه الاستحقاقات الثمانية مطلوبة من كل أحد وعليه أن يؤدي لكل ذي حق حقه فهي تمثل الحد المشترك لكل الناس، وتضاف إلى هذه الوظائف، مسؤوليات أخرى حينما يتقدم الإنسان في تحّمل شغل المواقع والوظائف فمثلّا انتم مسؤولون في حزب له قواعد جماهيرية تنتظر منكم رعاية مصالحها وحقوقها وحمايتها ورفع المظالم عنها وتمثيلها بجدارة والوفاء لها بتطبيق البرنامج الذي أعلنه حزبكم فاقتنعوا به والتفّوا حولكم. وأنتم يا أعضاء البرلمان تحمّلّّتم مسؤولية إضافية؛ لأن جماهيركم انتخبتكم فأصبحتم ممثلين لها وللمدن التي أتيتم منها وهذا يعني إنكم مطالبون بعدة استحقاقات:

أولاً: وطنية كونكم ممثلي الشعب وعليكم تشريع القوانين التي تحفظ كيان البلد ووحدته وأمنه وسيادته وازدهاره فتعملون على جمع المعلومات والخبرات الكافية قبل المشاركة باتخاذ أو اقتراح أي قانون. كما أن وجودكم ضمن لجان برلمانية كلجنة الصحة والتربية والتعليم أو النزاهة أو الخدمات وغيرها يوجب عليكم تكريس جهودكم لإنجاح عمل هذه اللجان على أكمل وجه.

ثانياً: محلية أعني مشاكل وقضايا ومقترحات محافظاتكم التي تمثلونها حيث أرى خللاً واضحاً في هذا المجال فلم يقم لحد ألان أعضاء البرلمان بواجباتهم تجاه مطالب محافظاتهم التي انتخبتهم.

ص: 126

ثالثاً: سياسية باعتباركم تمثلون أحزابا وكتلا ذات أجندات وبرامج محددة اختارتكم قواعدكم على أساسها.

والملحوظ أن المتصدين للعملية السياسية - إلا من عصم الله - اهتموا بقضايا أحزابهم ومصالحها أو مصالحهم الشخصية وتركوا الاستحقاقات الأخرى وهذا ما أدى بالبلاد إلى الخراب والدمار والمفروض بكم أن توازنوا بين كل هذه الالتزامات وتؤدوا حقها وتخرجوا من عهدتها.

دور الإخلاص لله تعالى في النجاح:

قد تقولون أن هذا صعب أن يفي الإنسان بكل هذه الالتزامات مع الاستحقاقات الثمانية التي وردت في حديث الإمام السجاد (عليه السلام) وأنا أشاطركم هذا الشعور، لكن هذه الصعوبة تذوب بالإخلاص لله تبارك وتعالى وبالتسامي عن الأنانية الشخصية والفئوية وبالهمة العالية والتفاني في العمل، واعلموا أن الألطاف الإلهية والنفحات المعنوية تختصر لكم الطريق وتطوي المسافة وتقرب البعيد وتذلل العسير قال تعالى (وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) .(وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) (الطلاق: 2، 4-5).

وتوجد رواية تهديكم إلى الكثير من الحلول لمشاكلكم وتفتح لكم آفاق المخرج من التعقيدات التي تواجهكم، خصوصاً في الساحة العراقية التي غاصت في وحلها أرجل الكبار والصغار، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله:

(ما من أحد أحبِّنا وأخلص في معرفتنا وسُئِل عن مسألة إلا ونفثنا في روعه جواباً لتلك المسألة).

تجنب المواقع السياسية إذا أضرت بالدين:

وإذا عجز الإنسان عن القيام بالمسؤوليات الملقاة على عاتقه فليتجنب

ص: 127

الموقع وليترك الفرصة لغيره، فإن حركة البشرية نحو التكامل لا تتوقف لموت أحد أو انسحابه من العمل ولا حاجة إلى أن يتمادى في جهله وظلمه لنفسه فيتقمص موقعاً ليس من أهله ويكفيه ما قال فيه خالقه:(إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب: 72).

وقد يجد الإنسان نفسه أحياناً ناجحاًُ في عمله ومؤدياً لواجباته عكس ما ينظر إليه الآخرون فلا يفهم سبب اعتراض الآخرين أو توبيخهم، وما ذلك - في بعض وجوهه - إلا لفقدانه القدرة على قياس درجة النجاح وضياع المعايير الصحيحة للتقييم عنده لأنه غافل عن ما يجب عليه الوفاء به من استحقاقات، ولو التفت إليها لعرف حجم تقصيره ولكنه ينظر إلى جهةٍ واحدة ويرى نفسه ناجحاً فيها و يعمم النتيجة.

أهمية المواجهة اليوم:

إن الله تعالى خلقكم في زمان يغبطكم عليه أهل الأجيال الأخرى كما نغبط نحن جيل الصحابة الذين عاشوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبنوا بقيادته الحكيمة صرح الإسلام العظيم، فكان لهم بكل من اهتدى بنور الإسلام صدقة جارية توجب لهم المزيد من الأجر.

ونغبط أصحاب الإمام الحسين عليه السلام لأنهم صنعوا مستقبل الأمة إلى نهاية التاريخ وأرجعوا مسيرة الأمة إلى اتجاهها الصحيح وصانوها من الانحراف والتزييف فلهم على كل مسلم فضل ومنّة بموقف وقفوه عدة ساعات من النهار.

ومن قبل نشكر الله تعالى انه خلقنا في زمان الإسلام والهدى، هذه النعمة التي سجّلها الإمام الحسين عليه السلام في دعاءه يوم عرفة (لم تخرجني

ص: 128

لرأفتك بي ولطفك لي وإحسانك إليّ في دولة أئمة الكفر الذين نقضوا عهدك وكذّبوا رسلك لكنك أخرجتني للذي سبق لي من الهدى الذي له يسرتني وفيه أنشأتني)(1).

أصناف من المواجهات:

فقد أصبح العراق اليوم ساحة لعدة مواجهات فاصلة في التاريخ تحدّد معالم حركة التاريخ في المستقبل:

الأولى: المواجهة الحضارية بين الغرب المادي الذي يريد أن (يعولم) الشعوب ويصبغها بلون ثقافته وسلوكه وعقيدته ونمط حياته وتوجهاته الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية.

وبين الشرق المسلم الذي يريد أن يحافظ على دينه وأخلاقه وأصالته وأعرافه.

الثانية: بين الأنظمة الدكتاتورية والمستبدة التي تسلّطت على شعوبها بالقوة وصادرت إرادتهم واستعبدتهم واستأثرت بخيراتهم وكرست الجهل والخنوع والاستسلام في نفوسهم، وبين حياة حرة كريمة تحترم إرادة الأمة وتجعل القيمة العليا للإنسان وتكون الدنيا وما فيها من اجله ويكون هو لله تبارك وتعالى، فلم تعد الشعوب آلات يحقق بها الحاكم شهواته ومطامعه ونزواته (ما أُرِيكُمْ إِلاّ ما أَرى) ،(أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) .

الثالثة: المواجهة بين أدعياء الإسلام زوراً والمتقمصين ظلماً وعدواناً لإمامة الأمة وقيادتها، وبين أتباع الإمامة الحقّة التي عيّنها الله تبارك وتعالى

ص: 129


1- أنظر مفاتيح الجنان، من دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة.

وبلغ بها رسوله الكريم وما زالوا منذ أربعة عشر قرناً يدفعون على هذا الطريق دماء زكية قدسّها الله تعالى ورفع من شأنها.

إنها مواجهات لإحقاق الحق والدفاع عن عزة الأمة وكرامتها وضمان سلامة مسيرتها (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (الصافات: 60)،(لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) (الصافات: 61)،(خِتامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) (المطففين: 26).

ص: 130

لا تنسوا الغاية في كل الحالات

درس من سورة النصر:

لا تنسوا الغاية في كل الحالات(1)

درس من سورة النصر:

القرآن الكريم رسالة هداية وإصلاح وتكامل من الله تبارك وتعالى إلى خلقه، فما أحرى بالعباد أن يطيلوا النظر والتعمق والتأمل والإعادة في سطور هذه الرسالة الصادرة من الحبيب جل وعلا.

ومن دروس القران الكريم ما أدب به نبيه المصطفى (صلى الله عليه وآله) في سورة النصر، حيث أن للنصر نشوة وسكرا تتبعها غفلة وانسياقاً وراء نزوات النفس وشهواتها خصوصا في مثل النصر الذي تحقق لرسول الله (صلى الله عليه وآله) على طواغيت قريش ودخل مكة فاتحا منتصرا وأذعنت له جزيرة العرب، فماذا كان التوجيه الذي صدر من الله تبارك وتعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله) وهو في ذروة ذلك النصر (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوّاباً) . أن تسبح الله وتنزهه عن كل ما يخالط النفس من أهواء ونزوات وشياطين تطاع من دون الله، وان تحمد ربك الذي ما أصابك من خير إلا بلطفه ورعايته، واستغفره من كل ما خالطك من غفلة أو شعور بالزهو والخيلاء، واعتقاد بأن لك يداً في تحقيق النصر أو ما صادف من تصرف لا يليق بالعبد في محضر ربه المتعال.

ص: 131


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي يوم 29 ربيع الأول 1431 ه - المصادف 2010/3/13 م مع حشد من أبناء المرجعية جاؤوا للتعبير عن سرورهم بفوز مرشحيهم بالانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت يوم 2010/3/7.

من أدب رسول الله:

وقد كان رسول الله صلى الله عليه واله الذي يقول (أدبني ربي فأحسن تأديبي) في مستوى ما يريده الله تبارك وتعالى منه، ففي الروايات انه صلى الله عليه واله دخل مكة وقد طأطأ رأسه الشريف حتى يكاد يلصق برحله تواضعا لله تبارك وتعالى وامتناناً لفضله واحتراما لبيته وخشية منه تبارك وتعالى. والقاسم المشترك لكل هذه التوجيهات هو أن تتذكر الهدف والغاية الحقيقية التي خلقت لأجلها، ولا يشغلك شيء عنه مهما كان ذلك الشيء مهماً وعظيما كالنصر المؤزر على الخصوم، لأن قيمة ما تناله من الأشياء إنما تكون بمقدار ما تؤدي إلى تلك الغاية وهو رضا الله تعالى والقرب منه والزلفى لديه.

الغفلة عن الهدف:

أما الغافلون عن ذلك الهدف فتراهم سادرين في غيّهم فرحين بما لا يدوم لهم بل يكون وبالاً عليهم، وربما ساقهم ذلك إلى التنافس غير الشريف والصراع المحموم الذي تنتهك فيه الحرمات ويُعتدى خلاله على المقدّسات ويُظلم الأبرياء، وهذا هو شأن الفريقين، فريق يعمّر دار آخرته ويوظف كل ما عنده لإعمار حياته الباقية، وآخر يعمّر دار فنائه التي وصفها الإمام الحسين (علي السلام) بأنها دار بلاء وزوال متغيرة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته والشقي من فتنته.

ويشبّه بعض الأخلاقيين حال الفريقين بصورتين من السجناء الذين تدفع لهم الحكومات عادة مبالغ يسيرة أو كبيرة كمصروف جيب، فمنهم من يصرف منها بمقدار الضرورة على نفسه ويرسل الباقي مع أهله عندما يأتون لمواجهته

ص: 132

ليشتروا له داراً أو يفتحوا له مشروعاً تجارياً ينفعه عند خروجه من سجنه ويصرف منه على أهله فعندما يخرج يجد له وضعاً مريحاً ويبدأ بحياة سعيدة، وفريق آخر من السجناء يصرف كل ما يأتيه على إعمار موضعه من السجن وتزيينه ووضع النقوش عليه وفجأة يقال له أخرج من السجن فلا يجد أمامه شيئاً يمكن أن يبدأ به حياته فيندم على ما ضيّع من أموال وجهود على شيء لا يدوم له.

وهكذا نحن في هذه الدنيا، فإنها سجن للبشر لا بد أن يتحرّر منه الإنسان في يومٍ ما ويموت وينتقل إلى العالم الآخر (وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اتَّقُوا اللّهَ) (وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) وقد ضرب الله تبارك وتعالى لنا في القرآن الكريم الكثير من الأمثلة، وحث على التدبر فيها والتأمل في حقائقها، ومن فائدة الأمثال أنها تقرّب الفكرة وتقنع الإنسان بها لأنسه بالصورة المحسوسة عنده.

مثال عن الإنسان المغرور:

فالإنسان المغرور الذي يقول (أنا ربكم الأعلى) ويعتقد أنه قادر على فعل ما يريد ويعيش نشوة السلطة وسكر الجاه والقوة وكثرة الأتباع، ولا يقتنع بحقيقته العاجزة القاصرة التي لا تملك ضراً ولا نفعاً، ولكن إذا ضرب له مثل لضعفه وعجزه (يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ) (الحج: 73) فإنه يصحو من غروره وجهله ويذعن إلا من يجحد الحقائق، وقد استيقنت بها أنفسهم ظلماً وعتوّا.

ومما يضرب به الأخلاقيون من أمثال لحقيقة الفريقين الذين ذكرناهما،

ص: 133

بشخصين كتب عليهما السفر لأداء فريضة الحج واتخذا راحلتيهما للسفر، فواحدٌ جهّز راحلته بما يحتاج لسفره وحينما حان وقت السفر خرج إلى مقصده فوصل وأدى ما عليه وبلغ أمنيته، وآخر انشغل بتزيين دابته والاعتناء بها وبمظهرها حتى فاته وقت السفر وفاتته الرحلة، فانشغل بالوسيلة عن الهدف.

هذه الأمثلة قد تبدوا غريبة لكنها حاكية بدقة عن واقع الناس اليوم فهم ينشغلون بالوسائل التي مكنّهم الله تبارك وتعالى منها كالمال والجسد ويغفلون عن الهدف الذي خلقوا من أجله وهو رضا الله تبارك وتعالى، فلا بد من اليقظة من الغفلة، ولا بد من المعرفة ومن المراقبة ومن الموعظة المستمرة، ونشر هذه المواعظ والمعارف في المجتمع خصوصاً من قبل الفضلاء والمبلّغين وأئمة الجماعة وخطباء الجمعة والمنبر، و المثقفين الرساليين، والله الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 134

الجاه نعمة يُسأل عنها الإنسان

الرزق المادي والمعنوي:

الجاه نعمة يُسأل عنها الإنسان(1)

الرزق المادي والمعنوي:

يظنُّ أكثر الناس أن الرزق هو خصوص المال، وربما بالغ بعضهم فاعترض وسخط لأنه لم يرزق المال الذي يريده، ولا شك إن المال من أعظم الرزق، لان الإنسان يستطيع بالمال أن يقضي حوائجه ويحفظ كرامته، ويستثمره في الكثير من فرص الطاعة لله تبارك وتعالى كالحج والعمرة وزيارة العتبات المقدسة وأداء الحقوق الشرعية ومساعدة الناس وغيرها.

لكن معنى الرزق أوسع من ذلك، وإن بعضه مادي وبعضه معنوي، من الأرزاق المعنوية: نعمة الإسلام وولاية أهل البيت (عليهم السلام) والالتزام بالدين والزوجة الصالحة والذرية الطيبة وغيرها كثير، ومن الرزق الجاه الاجتماعي والسمعة الطيبة والقدرة على التأثير على الآخرين وإقناعهم.

وهذا رزق عظيم لا يقل تأثيره عن المال، ويستطيع صاحبه فعلاً أن يوظفه في كثير من الطاعات التي لا يتمكن غيره من أدائها، كالإصلاح بين الناس الذي هو أفضل من عامة الصلاة والصيام بحسب ما روي في بعض الأحاديث الشريفة، وكالسعي لقضاء حوائج الناس لدى المسئولين أو المتنفذين

ص: 135


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من زعماء عشائر ووجهاء ونخبة من المثقفين في منطقة الحسينية - الراشدية في بغداد يوم السبت 24 ربيع الثاني 1431 ه - المصادف 2010/4/10.

ولو جاء غير ذي الجاه بها لما وجد من يستمع إليه، وكالتوسط في تزويج المؤمنين الذي هو أعظم بناء في الإسلام كما في الحديث الشريف، أو حلّ الخصومات واستنقاذ الحقوق لأهلها وغيرها من القربات العظيمة عند الله تبارك وتعالى.

وقد منّ عليكم بهذه النعمة باعتباركم زعماء عشائر ووجهاء في مجتمعكم كما منّ به على الحوزة العلمية الشريفة حيث يتمتع العالم الديني بمثل هذا الجاه.

وهذه النعمة يُسأل عنها الإنسان، كما يسأل عن المال: مم أكتسبه وفيم أنفقه، قال تعالى (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (التكاثر: 8) وهو كل ما أنعم به الله تبارك وتعالى على الإنسان لذا ورد في الحديث الشريف عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

(البنون نعيم والبنات حسنات، والله يسأل عن النعيم ويثيب على الحسنات)(1)، والجاه نعمة فيسأل الإنسان عنه نُقل أن أحد العلماء شوهد متألماً ساعة احتضاره، فقيل له لماذا أنتم متألم ولم تدّخر مالاً أو علماً إلا أنفقته في سبيل الله تعالى، قال نعم. ولكن عندي جاه أيضا وأخشى ألاّ أكون قد بذلت كل جاهي في سبيل الله تعالى.

إن هذا السؤال وهذه المسؤولية تدفع الإنسان للتفكير ملياً في ما يستخدم فيه جاهه، فقد يُحسِن في استعماله كما في الموارد التي ذكرناها، وقد يُسيء كما سمعنا في الانتخابات الأخيرة أن بعضاً من زعماء العشائر والوجهاء بذلت لهم أموال للتصويت لأشخاص أو جهات فاسدة أساءت إلى الشعب ولا يُرجى منها الخير، من دون الالتفات إلى أن الصوت أمانة ومسؤولية لان الناخب7.

ص: 136


1- الكافي: ج 6 ص 7.

عندما يصوّت إلى شخص فهو شريك له في إحسانه إن أحسن، وإساءته - والعياذ بالله - إن أساء لأنه هو وغيره ممن صوّتوا له أجلسوه في هذا المجلس.

ومثل الجاه أيضاً في النعم: القدرة على التأثير على الآخرين وإقناعهم، وهذه نعمة لان صاحبها يستطيع أن يوفّر بقدرته هذه جهود كبيرة ووقتاً كثيراً ويحقّق ما لا يستطيع أن يحقق غيره. وقد جربتم انتم كزعماء عشائر ووجهاء تأثير الإنسان المتكلم الذي يستطيع أن ينتزع من الأخر الحق الذي يريد.

وهكذا يجب على الإنسان أن يكون دقيقاً في تصرفاته وملتفتاً إلى عناصر القوة التي زودّه الله تبارك وتعالى فإن الغافل يتورط في معصية الله تبارك وتعالى من حيث يشعر ومن حيث لا يشعر، والله الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 137

ص: 138

الفصل الثالث: نحو تصحيح العمل السياسي

اشارة

ص: 139

ص: 140

حاجتنا إلى مشاريع إعمار

اشارة

حاجتنا إلى مشاريع إعمار(1)

قد ينقدح في الذهن سؤال حاصله إن الأمة إذا تكاملت بتربيتها إلى هذه الدرجة من الإقدام على التضحية بالنفس تحت راية مرجعيتها الرشيدة التي هي نائبة الإمام المعصوم إذن فما الذي يؤخر الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ويقعده عن القيام بحركته الإصلاحية المباركة، ما دام السبب المتوارث تأريخياً هو عدم وجود ناس كذاك الذي أمره الإمام الصادق عليه السلام برمي نفسه في التنور المسجور ففعل فوراً من دون تردد أو مناقشة وقد أجبت عن هذا السؤال في خطاب سابق بعنوان (ما الذي ينتظره الإمام من شيعته) وقلنا إن عليكم الآن أمرين:

الأول: زيادة درجة الوعي لدى الأمة حتى تمتلك الحصانة من التضليل والانحراف والتشويش المؤدي إلى الإرباك وتعويق حركة الإصلاح المنشود.

الثاني: تنمية القدرات على إدارة المجتمع وبناء دولة المؤسسات التي تحكم بين الناس بالعدل والتي تقدم للبشرية نموذجاً حضارياً مزدهراً راقياً يذهل البشرية ويدفعها - لعجزها عن مجاراته - إلى الإذعان بأحقيتها في قيادة البشرية.

ص: 141


1- من حديث سماحة الشيخ مع إحدى المجاميع الشعبية من حي المعارف ببغداد وقد ارتدوا الأكفان يوم 11 ربيع 1427 1 المصادف 2006/4/10 ومن حديث سماحته مع حشود المؤمنين الذين وفدوا لتهنئته بذكرى المولد النبوي الشريف ومن حديث سماحته مع طلبة مدرسة أهل البيت للعلوم الدينية في النجف الأشرف يوم 5 ربيع 1427 1.

الحلقة الوسطية:

فيا أحبتي إن الإمام ينتظر وجود الحلقة الوسطية بين القائد والقواعد الشعبية المهيأة لنصرة المشروع الإلهي العظيم واعني بهم الثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً الذين يقود بهم الناس، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال:

(كأني أنظر إلى القائم على منبر الكوفة وحوله أصحابه ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلا عدة أهل بدر، وهم أصحاب الألوية وهم حكام الله في أرضه على خلقه)(1).

وأعتقد أنكم تشاطرونني القناعة إن المتصدين للعملية السياسية والقيادة الاجتماعية لم يقدموا لنا ثلاثة عشر نموذجاً صالحاً لهذا الدور فضلاً عن الثلاثمائة الآخرين فأين من تسير به همته ليكون من هؤلاء (وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) (المطففين: 26)؟

وأنا لا أدعي عدم وجودهم لأنهم قد يكونون موجودين في أوساط الأمة ولكننا لجهلنا وقصورنا وتقصيرنا لم نتوصل إليهم، لكن الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) يعرفهم بأسمائهم وأعيانهم وسوف يجمعهم من أصقاع الأرض أما نحن فليس لنا تلك المعرفة، ولذا طالما دعونا ذوي الكفاءات والقدرات حتى يعرِّفوا أنفسهم كما فعل الصديق يوسف (عليه السلام) حينما قال لعزيز مصر (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف: 55) وما التلكؤ الذي يحيط بحركة المرجعية الرشيدة إلا بسبب هذا النقص والخلل في الحلقة الوسيطة.

حاجتنا الى مشاريع اعمار كما نحن بحاجة الى مشاريع استشهاد:

إنني أسمع منكم أنكم (مشاريع استشهاد) وإنكم تأنسون بالموت

ص: 142


1- البحار: ج 52 ص 326.

استئناس الطفل بمحالب أمه إذا أمرت المرجعية الرشيدة بمواجهة الظلم بالسلاح.

ولكن يا أحبتي إن موقف الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء كان يوماً واحداً من (57) سنة عاشها الإمام الحسين عليه السلام ورغم علمي إن موقفاً كذاك كافٍ لصنع الحياة ومستقبل البشرية كلها والواقع يشهد بذلك حيث إننا منذ أربعة عشر قرناً ولا زلنا نحيا بركات ذلك اليوم الحسيني العظيم ولكن لا يجوز لنا أن نغفل بقية الأيام الحسينية من عمره الشريف ومساهمتها في بناء صرح الإسلام العظيم من جميع جوانبه.

فنحن كما إننا محتاجون لمشاريع الاستشهاد حينما يدعونا الواجب إليها كذلك نحن بحاجة إلى مشاريع أعمار لكل أنشطة الحياة الفكرية والأخلاقية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والهدف الذي خلقنا من أجله (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) (هود: 16) فلا بد أن تتصدى كل شريحة من المجتمع لوجه من هذه النشاطات التي يكمل بعضها بعضاً بحسب قابليته كل شخص واستعداده انطلاقا من الحديث النبوي الشريف:

(كل ميّسر لما خلق له)(1)، فلكل حالة طريقتها المناسبة لمعالجتها وليس السلاح والاستشهاد دائما هو الحل فهذا تحجيم لطاقات الأمة بل يكون أحياناً هدراً لها وتضييعاً بلا مبرر.

حكمة حمل السلاح:

إن مقتضى الحكمة أن حمل السلاح والقتال لا يكون لمجرد القتال وإبراز العضلات والفتّوة وطلباً للسمعة والجاه وحتى يقال انه رجل شجاع

ص: 143


1- البحار: ج 4 ص 282.

ومقاتل شرس أو لكي تمجّده الفضائيات ويملأ شاشات التلفزيون وإنما يكون حمل السلاح وسيلة لتأسيس مشروع فيه خير الأمة وصلاحها ويكون الملاذ الأخير حينما تعجز كل الوسائل.

وهكذا فإن الإسلام لم يأمر بالقتال ليبسط نفوذه وليجني أموالاً ودنيا أو لمجرد تلبية غرائز حب التسلط على رقاب الناس، وإنما قاتل ليحرر الناس من عبادة الطواغيت ويترك لهم الخيار والحرية التامة في اعتناق العقيدة التي يشاؤون ولو إذن كسرى لصوت الإسلام أن يُعرض على الفرس ويسمح لهم بالاختيار بحرية لما قاتله المسلمون، ولكنه لما عتى وتجبَّر وأصرَّ على استعباد قومه قاتله المسلمون وكسروا شوكته، ولما أمَّنوا هذه الحرية للناس تركوا لهم حرية المعتقد، وكان أتباع أهل الديانات الأخرى يعيشون في عاصمة الإسلام وغيرها من الحواضر وتوفر الدولة كل حقوقهم حتى أن أمير المؤمنين عليه السلام وبخ أصحابه حينا رأى مسيحياً يستعطي في عاصمته الكوفة لأنه كبر وعجز عن العمل وأمر أصاحبه بصرف راتب تقاعدي له من بيت مال المسلمين.

ويؤكد قوله تعالى هذه الحقيقة (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ولكن بعد أن تؤمن حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر للناس جميعاً. ولذا قاتل المسلمون بشرف وجسدوا أسمى ثقافة للقتال، فعندما دخل المسلمون مكة فاتحين، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتيبته الخضراء، وكان في تلك الكتيبة وجوه المهاجرين والأنصار، وفيها الألوية والرايات، وكلهم منغمسون في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق، وكان في الكتيبة الفا درع، وراية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع سعد بن عبادة(1) ، فأخذه زهو الانتصار، وتراءى له شريط طويل من ذكريات الظالمة المعتدية مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاخذ يرتجز ويقول:8.

ص: 144


1- البحار: ج 21 ص 108.

اليوم يوم الملحمة *** اليوم تُسبى الحُرَمة

فخلى العباس الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال له: بأبي أنت وأمي أما تسمع سعد، وذكر القول، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): ليس مما قال سعد شيء، ثم قال لعلي (عليه السلام): أدرك سعداً فخذ الراية منه، وأدخلها إدخالاً رفيقاً، فأخذها علي (عليه السلام) وأدخلها كما أمر)(1).

وفي رواية انه بلغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الموقف من ابو سفيان، فناداه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

(يا أبا سفيان بل اليوم يوم المرحمة)(2).

هذه هي أخلاق الإسلام وأهدافه ومبادئه التي جاء لتأصيلها في الأمة (وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) الأنبياء 107 فكلُّه خير وعطاء ونفع عميم للبشرية ومواقف أمير المؤمنين مع خصومه الذين شنّوا عليه الحروب وأزهقوا ألاف النفوس مما يطأطئ له الرأس إجلالاً وإعظاماً.

الانفعالية والارتجالية تخدم الأعداء:

إن الردود الانفعالية والتصرفات الارتجالية تخدم مصالح أعدائنا فينقل عن وزير الخارجية الأمريكية رايس أنها تتبنى سياسة (الفوضى الايجابية) أو (الفوضى البنّاءة) تصوّروا كيف تكون الفوضى بما تستلزم من خراب وتدمير وإزهاق أرواح بنّاءة وايجابية وإنما كانت كذلك من وجهة نظرهم لأنها - في العراق - تخدم مصالحهم، حيث يتصارع أبناء البلد الواحد وتتوجه أسلحة بعضهم إلى البعض وبذلك تضعف قوتهم وشوكتهم وينشغلون عن عدوهم المشترك، وسوف يضطرون جميعاً - لعدم إمكان تحقيق الغلبة في مثل هذه

ص: 145


1- البحار: ج 21 ص 131.
2- السابق: ج 21 ص 109.

الصراعات - إلى الولايات المتحدة لتنقذهم من أزمتهم ويرون فيها المخِلص الوحيد.

فعلينا أن نكون واعين ونحسب تصرفاتنا بدقة ونشخص أهدافنا بوضوح، وهنا يكون دور نخب الأمة وطليعتها من فضلاء وأساتذة ومفكرين ومثقفين وسياسيين وخطباء ضرورياً في ضبط إيقاع حركة الأمة بما ينسجم مع توجهات القيادة لأن المتقدم عليهم مارق والمتأخر عنهم زاهق واللازم لهم لاحق، لأنه ليست كل الأمة قادرة على أن تقرأ أو تفهم إذا قرأت أو تهتدي إلى طريقة التنفيذ إذا فهمت أو تنفذ بصورة صحيحة وغيرها من المشاكل.

وهذه السلسلة من خطابات المرحلة لا تجد فيها اختلافاً ولا تناقضاً بفضل الله تبارك وتعالى وليس فيها تراجع أو تغيير بل تضم مشاريع محكمة ومتواصلة مع قضايا الأمة والتحديات التي تواجهها.

ورغم أن كثيراً من الآخرين لا يأخذون بهذه الأفكار والمشاريع إلا إنني أجدهم يعودون إليها ولو بعد مدة لأنهم يجدون فيها الحل السليم لمشاكل الأمة، ولا احتاج إلى ضرب الأمثلة وما عليكم إلا مراجعتها منذ أن عرضنا مشروع الحكومة الانتقالية قبل تأسيس مجلس الحكم ولم يأخذوا به ثم عادوا إليه بعد سنة من التخبط.

وتناولنا مختلف قضايا الأمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والفكرية والفضل في ذلك كله لله وحده المتفضّل المنان.

إن البعض ما زال يفكر بعقلية المعارضة فيشكل الخلايا السرّية ويخطط لساعة الصفر ونحوها وهذا جهل وتخلّف لأن الحالة تغيرت والأمة تستطيع أن تعبّر عن إرادتها بكل حرية وكل صاحب مشروع يستطيع أن يقنع الأمة به فتنتخبه ليبرهن قدرته على تنفيذ المشروع وبذلك انتقلت الأمة من حالة

ص: 146

المعارضة إلى حالة الحكم، فلا بد لها أن تفكر بهذه العقلية الجديدة وتخطط لبناء دولة المؤسسات وسلطة القانون والإعمار والازدهار في جميع أوجه الحياة.

وهذه الثقافة - أي ثقافة الحكم - لا بد من استيعابها ووضع البرامج التفصيلية لها وهذا موضوع مهم ربما تسنح فرصة أخرى لشرحه بإذن الله تعالى.

ص: 147

ص: 148

الأمة في تكامل فمتى يلحق بها المسؤولون؟

علينا أن ننوع من آليات الإصلاح:

الابتلاء والفتنة والاختبار سنة إلهية جارية في العباد منذ أن وجدوا على هذه الأرض لتحقيق أهداف عديدة لسنا الآن بصدد بيانها ولكل معسكر من معسكري الخير والشر أدوات وآليات في هذه المواجهة وهي متنوعة ومتفاوتة من حيث قوة التأثير واستعداد الإنسان للتأثر بها، لذا علينا أن ننوع في آليات الإصلاح والدعوة إلى الخير بحسب تنوع آليات الدعوة إلى الشر والفساد و قوة تأثيرها، وهذا واضح لدى المصلحين والعاملين الرساليين.

وقد يستدل المؤمن الصالح على علو همته وحصانته وتمسكه بالنهج الإلهي القويم من خلال قوة ما يستعمله عدوه من أجل إبعاده عن هذا النهج، كما أن الجيوش المتحاربة تستعمل آلة حربية مناسبة لعدة وعدد الخصم.

فنحن في العراق حينما نرى أن شياطين الإنس جاؤوا بأنفسهم إلى هذه الأرض بعد أن كانوا مكتفين بعملائهم لتنفيذ مخططاتهم، فإن هذا يعني أن الحركة الإسلامية المباركة في ارض الأئمة الأطهار قد بلغت من القوة والتجذر بحيث احتاجت أن (يبرز الشرك كله إلى الإيمان كله) لأنهم ماذا بقي عندهم أزيد من هذه التعبئة، كما حصل يوم معركة الخندق حينما عبأ المشركون وأحلافهم كل قوتهم لمواجهة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) حينئذ كلمته المشهورة عندما خرج علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمبارزة فارس الأحزاب عمرو

ص: 149

بن عبد ود العامري (برز الإيمان كله إلى الشرك كله)(1) وبانتصاره (عليه السلام) كسرت شوكة المشركين ولم تقم لهم قائمة بل توالت انتصارات المسلمين حتى فتح مكة.

ونحن نرى اليوم أن قوى الشر استجمعت كل قدراتها العسكرية و الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية والإعلامية لتجعل من ارض العراق المباركة ساحة لمواجهة المد المتنامي لمدرسة الحق.

تقدم التكامل في التربية الإلهية:

وهذا التقدم في تكامل التربية الإيمانية لدى الأجيال المتعاقبة دليل على صحة المسيرة والعمل الفعلي على التمهيد لليوم الموعود المبارك وتوجد شواهد كثيرة على هذا التقدم، ولنأخذ فتنة النساء كمثال ففي عهد صدر الإسلام حيث لا سفور ولا خلاعة ولا تبرج في المجتمع المسلم تنقل الروايات أن شابا من الأنصار رمق امرأة فظل يتابعها بذهول حتى شج عينه عظم ناتئ من حائط وان امرأة كانت تمتطي دابة في يوم مطير فسقطت فرمقها المسلمون في حين أشاح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بوجهه عنها فظهرت إنها متسرولة وأطلق (صلى الله عليه وآله وسلم) كلمته الشريفة (رحم الله المتسرولات)(2) وان أصحاب أمير المؤمنين مرت بهم امرأة فرمقوها فقال (عليه السلام):

(إن أبصار هذه الفحول طوامح)(3).

فهؤلاء المسلمون رغم إنهم في حضرة سيد الخلق ومصدر التشريع ومهبط الوحي ومع ذلك (فُتنوا) بوجه امرأة بدا لهم بينما تجد شبابنا اليوم

ص: 150


1- البحار: ج 20 ص 215.
2- كنز العمال: ج 15 ص 326.
3- ننهج البلاغة: ج 4 ص 98.

تعرض النساء أمامهم مفاتنها وتحيط بهم صور الفاسقات أينما ولّوا وجوههم ومع ذلك هم متمسكون بدينهم وأخلاقهم وذاكرون لربهم غير غافلين عنه رغم فقد نبينا وغيبة إمامنا وشدة الفتن بنا وتظاهر الزمان علينا.

وكمثال آخر نأخذه للمقارنة هو أن دعوة الإمام الحسين (عليه السلام) طالبا النصرة لم يستجب لها آنذاك إلا سبعون بينما لو علت اليوم دعوة مثلها فإن سبعين ألفاً أو أكثر سيلبوّنها ويقفون مثل ذلك الموقف المشرف.

فيحق للمؤمنين أن يفرحوا بنصر الله تبارك وتعالى إذ جعلهم بهذه المرتبة وهذا المقام الكريم، وبنفس الوقت علينا أن نحذر هنا وننبه إلى أن هذه النتيجة الطيبة لا يجوز لنا أن نتكل عليها ويأخذنا العجب بأنفسنا فإن هذا ما كان ليتحقق لولا لطف الله تبارك وتعالى وتسديده، فإذا غفل الإنسان واتكل على نفسه فإنه سيندثر كما ورد في الدعاء (وإن خذلني نصرك عند محاربة النفس والشيطان فقد وكلني خذلانك إلى حيث النصب والحرمان)(1) وعلى الإنسان أن يبقى لائذا بربه مستجيرا برحمته متخوفا من الزلل والحرمان.

علينا أن لا ننخدع في انتصارات جزئية:

وعلينا أن نتذكر أيضا أن منافذ الفتنة كثيرة وأبوابها إلى النفس الأمارة بالسوء والميالة إلى اللعب واللهو كثيرة، وقد ينجح الإنسان في اختبار باتجاهٍ ما لكنه يفشل في الاتجاه الآخر بشكل فضيع، وهذا مضمون ما ورد في الحديث عن الإمام السجاد انه إذا رأيت الرجل لا ينخدع بالدينار والدرهم فرويدك رويدك ولا تحكم عليه بالصلاح فلعله يفشل في الامتحان أمام النساء فإذا نجح فلا تغتر به فلعله يسقط في فتنة حب الجاه وهكذا.

ص: 151


1- أنظر: مفاتيح الجنان: دعاء الصباح.

أتذكر إننا في أيام الانتفاضة الشعبانية المباركة عام 1991 كان الصحن الحيدري الشريف مليئا بالناس المتحمسين الذين يلوحون بالسلاح فرحين بالنصر ومتهيّئين لأية مواجهة، والحناجر تصدح بالشعارات، ولكن حينما يرتفع صوت المؤذن بالصلاة لم يكن يحضر صلاة الجماعة خلف سيدنا الشهيد الصدر (قدس سره) في داخل الروضة المطهرة إلا عدد الأصابع فهل يمكن أن نعتبر هذا نجاحاً حقيقيا؟! وأنا لا أريد أن أوبخ أولئك الثائرين بقدر ما أريد إلفات النظر إلى عناصر التربية المتكاملة بينما يقيم الإمام الحسين (عليه السلام) صلاة الظهر جماعة يوم عاشوراء وسط صليل السيوف واصطكاك الأسنة وأشلاء الشهداء، وفي معركة صفين وفي ليلة الهرير التي وصفت بأنها لا يسمع فيها إلا صوت الحديد على الحديد كأصوات الرعد في السماء، وإذا هو (عليه السلام) قائم يصلي(1) ، وقال له ابن عباس في صفين: (يا أمير المؤمنين ما هذا الفعل؟ حيث كان (عليه السلام) يراقب الشمس، فقال له: أنظر الى الزوال حتى نصلي، فقال له ابن عباس: هل هذا وقت الصلاة؟! إن عندنا لشغلاً عن الصلاة! فقال له (عليه السلام): فعلى ما نقاتلهم؟! إنما نقاتلهم على الصلاة!)(2).

وهذا التسلسل في الاختبار نجده اليوم فبعضهم يسقط في اختبار الدينار و (الدولارات) حيث يدلُّ قوات الاحتلال أو الإرهابيين على المؤمنين ليقتلوهم أو يختطفوهم من أجل ثمن بخس يدفع لهم، وكذا ما سمعت عن بعض رؤساء العشائر في أيام الانتخابات أنهم قبضوا بعض الأموال ليعطوا أصواتهم إلى ناس غير صالحين، وبعض آخر يسقط في اختبار النساء حيث يفقد كل مقاومته ومناعته أمام إغراء يعرض عليه.3.

ص: 152


1- انظر: البحار: ج 41 ص 17.
2- ارشاد القلوب: ص 217، والبحار: ج 83 ص 23.

والابتلاء الأكبر هو في المواقع الدنيوية - على تفاهتها - التي جعلت الإخوة يتقاطعون ويسقط احدهم الآخر ويكيد له ويفتري عليه ويدخلوا الأمة في فتنة عمياء يهرم عليها الكبير ويشيب فيها الصغير وتدفع الأبرياء ثمنها فلا أمن ولا خدمات ولا ابسط حقوق الإنسان.

فهل ذهب أحد هؤلاء المتهالكين على الدنيا إلى مخيمات العوائل المهجرة(1) ليرى حالة البؤس والشقاء التي يعيشون فيها؟

أيعقل أن التبرعات التي قدمها المحسنون إلى عوائل شهداء جسر الأئمة(2) لم تصل إليهم إلى الآن رغم مرور أزيد من تسعة أشهر مع أنها لا تحتاج إلى موافقة وزارة المالية ولا البلديات ولا العمل وإنما هي أموال وضعت في صناديق لتصل إلى مستحقيها؟!

هل من المعقول أن تتبجح الحكومة بفائض ميزانية قدره (14) مليار دولار(3) والشعب جائع فقير لا يملك مكانا يأوي إليه ويفتقر البلد إلى ابسط6.

ص: 153


1- شهدت الفترة بعد تفجير الروضة العسكرية الشريفة في سامراء تصعيدا في الحرب الطائفية ومن نتائجه تهجير أكثر من عشرة آلاف عائلة تحت ضغط التهديد بالقتل من المناطق (الساخنة) إلى محافظات الوسط و الجنوب.
2- على اثر وقوع فاجعة جسر الأئمة في ذكرى استشهاد الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) في 25 رجب 1426، الموافق 2005/8/31، وسقوط أكثر من ألف ضحية غرقاً أو خنقاً، وتعاطف الناس في الداخل والخارج مع ذوي الضحايا، وفتح أستوديو قناة العراقية باب التبرع لضحايا الحادث وانهالت عليه التبرعات المالية والعينية في موقف نبيل عزّ نظيره توحدت فيه كل طوائف الشعب وجمعت في صناديق لتوزيعها على عوائل الشهداء والمصابين، ومرت مدة ولم يتحقق ذلك حتى شكى بعضهم إلى المرجعية الرشيدة فتحركت لإيصال هذه الحقوق إلى أهلها ولم نسمع عن تحقق ذلك إلا ما نقلته الأخبار يوم السبت 1427/4/15 المصادف 2006/5/13 من أن الدكتور الجعفري رئيس الحكومة المنتهية ولايتها استقبل (65) عائلة من أصل (865) لتسليم استحقاقاتهم وكانت حصة كل عائلة (28) مليونا و (727) ألف ومئة دينار.
3- هذا ما أعلنته حكومة الدكتور الجعفري في نهاية عام 2005 وكررته عند تسليم الأمور إلى حكومة الأستاذ المالكي في مايس 2006.

الخدمات ويختلط ماء المجاري بماء الشرب فهل فكرت الحكومة أن هذه النقطة لها أم عليها؟ أليس مثلهم كمثل الأب الذي يفتخر بان جيبه مليء بالمال وهو يترك أبناءه جياعا بلا مأوى؟

من مشاكلنا الرئيسية:

إن مشكلتنا ليست مع الاحتلال وحده ولا مع الإرهابيين وحدهم وإنما يضرب الظلم والفساد بأطنابه في كل مكان، وتدفع الأمة المسكينة وحدها الثمن ومع ذلك فإن بيد الأمة وحدها الحل حينما تستطيع أن تتعرف على أبنائها الصالحين الذين يخلصون في خدمتها ويضحون من اجلها ويكونون مؤتمنين على ثرواتها، ولا تأخذهم في الله لومة لائم ويسعون لاسترداد حقوقها مهما كلف الثمن وطال الزمن.

وعلى من يلون أمر الأمة أن يتوحدوا وان يترفعوا عن الأنانيات والمصالح الضيقة وان يعتمدوا الشفافية (التي ذكرنا عناصرها في خطاب سابق)(1) في عملهم ومنها الحوار والنصيحة وحسن الظن.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يأخذ بيد الأمة نحو ما فيه صلاحها وسعادتها في الدنيا والآخرة، إنه ولي كل نعمة وصاحب كل حسنة.

ص: 154


1- مر ذكر الخطاب في الفصل السابق.

على أعضاء البرلمان أن يمثلوا الشعب وليس أحزابهم

على أعضاء البرلمان أن يمثلوا الشعب وليس أحزابهم(1)

يفترض أن أعضاء البرلمان يمثلون الشعب فينقلون مطالبه وهمومه وآراءه إلى مصادر القرار حتى تناقش وتنضج وتتخذ فيها القرارات المناسبة، لكن الواقع على الأرض أن أعضاء البرلمان منهمكون بقضايا أحزابهم ومصالحهم الفئوية ولا يكترثون بهموم أبناء المحافظات التي انتخبتهم، وإن أكثر أبناء المحافظات لا يعرفون ممثليهم في البرلمان لأنهم غير متفاعلين مع أوضاعهم.

فأنتم يا أبناء العمارة تحدثتم عن مطالب عديدة كفتح جامعة ميسان ومعبر حدودي مع إيران لتحريك عجلة السياحة و الاقتصاد في المحافظة وعن إنشاء مركز صحي تخصّصي وجسر وغيرها، وقد سعينا لكم بهذه المطالب وأنجز بعضها بفضل الله تبارك وتعالى، لكن هذه الآلية غير صحيحة أن نتوجه بكل مطالبنا التفصيلية إلى المرجعية؛ لأنها تعجز عن متابعتها جميعاً، فمثل هذه الأمور عليكم أن تتوجهوا بها إلى أعضاء البرلمان ليؤدوا دورهم كممثلين للشعب، واضغطوا عليهم إذا قصّروا، وأحرجوهم أمام الجماهير، فأنتم لم تنتخبوهم لسواد عيونهم وإنما ليكونوا معبرين عن آمالكم وطموحاتكم ومطالبكم المشروعة.

فعلى المخلصين من أعضاء البرلمان السعي لإصدار قرار يُلزم كل عضو

ص: 155


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد من مدينة العمارة، ونُشر في العدد (43) من صحيفة الصادقين الصادر في 18 / ج 1427/1 المصادف 2006/6/15.

في البرلمان أن يفتح مكتباً له في محافظته؛ ليعرفه الناس فيقصدوه بحوائجهم إضافة إلى مكتب للكتلة البرلمانية من الدائرة الانتخابية لتلك المحافظة من جميع القوائم لتتابع عمل المؤسسات الحكومية في تلك المحافظة، وبذلك فستحصل حالة حركة وتنافس وتفاعل مع الأمة وستمّيز الأمة بين العاملين المخلصين و المتقاعسين.

ص: 156

إشكالية الكيانات السياسية

إشكالية حكم الحركات الإسلامية:

إشكالية الكيانات السياسية(1)

إشكالية حكم الحركات الإسلامية:

الإشكالية الكبيرة التي تتعرض لها الكيانات الإسلامية حيث تصدت للسلطة من دون أن تقدم فرقا واضحا في الأداء عن غير الإسلاميين فلا الوزارات التي تسلموها طهرت من الفساد ولا قدمت وزاراتهم خدمات أفضل من غيرها ولا عرضت برامج وخططا فيها مسحه مميزة لهم عن غيرهم ولا شهدت وزاراتهم ازدهارا للبلد في اختصاصاتها، بل على العكس كان اشد الفئات تضررا بأداء الحكومة هم من انتخبوها وضحوا من اجل إيصالها إلى السلطة.

لقد غابت الرسالية في أداء المتصدين وذهبت أدراج الرياح الأهداف التي تحرك المخلصون من اجلها وسادت بدلاً عنها الأنانيات والمصالح الشخصية. ويبدو أن الإسلاميين مشمولون بالحديث الشريف عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (دولتنا آخر الدول، ولن يبقى أهل بيت لهم دولة إلا ملكوا قبلنا لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله عز وجل (وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) *)(2) والحديث يشعر بفشل كل تلك التجارب وعجزها عن تقديم النظام الصالح.

ص: 157


1- تأريخ اللقاء 25 /ج 1427/2 المصادف 2006/7/22 ونشر في العدد (45) من صحيفة الصادقين.
2- البحار: ج 52 ص 332.

ولكن في مقابل ذلك توجد ثلة صالحة تعمل في السر أو العلن في السلطة أو خارجها على التمهيد لدولة العدل الإلهي وانتنّ بالإخلاص وتهذيب النفس والهمة في العمل يمكن أن تكونَنَّ منهم.

التنازل للغرب:

الوقوع في فخ الاستفزازات خصوصاً في مجال المرأة حيث يقوم الإسلاميون بتغيير مناهجهم وتقديم (تنازلات) ليوحوا للغرب أننا منفتحون ومتحضرون ونحوها من العناوين البرّاقة التي يراد منها تمييع الشخصية الإسلامية وإفراغها من محتواها وخصوصياتها وقد حذَّرَنا الله تبارك وتعالى بقوله (وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لاَ النَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدى وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ) (البقرة: 120).

على مؤسساتنا أن تضع الخطط الاستراتيجية لعملها وان لا تقتصر على القرارات الارتجالية وردود الأفعال فإن ذلك لا ينضّج مشروعا إصلاحياً تغييرياً وهو ما تنتظره الأمة من الكيانات الإسلامية.

ص: 158

توجهات الناخبين أثبتت انتصار مشروع المرجعية

اشارة

لقد أثبتت توجهات الناس، نجاح المشروع الوطني ومبادئ الإصلاح السياسي التي عرضتها المرجعية الرشيدة خلال السنوات الماضية في خطاباتها وأحاديثها، وجاهدت من أجل توعية الناس بها وتثبيتها كمعايير لتقييم المتصدين لإدارة البلاد، ولم تثنها عن المضي في طريق الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) الإغراءات ولا ما لاقته بسبب ذلك من العنت والمشقة والتسقيط والتشويه، كما تعرّض أتباعها إلى الحرمان والإقصاء والتصفية؛ لأن مصالح البعض كانت مبنية على إبقاء العقد والأزمات والتناحر والضعف والتشتت.

واليوم يرى جميع المراقبين كيف تحولت تلك الأفكار والمشاريع إلى ثقافة عامة حتى أن الذين سخروا من تلك المبادئ حين عرضها وقاوموها بكل ما أوتوا من سلطة وإعلام وأموال تبنّوها اليوم وأصبحت مادتهم في الدعاية الانتخابية وأصبحت هي الفيصل في كسب أصوات الناخبين ففاز في الانتخابات من تبنّاها، وخسر من بقي على ثوبه القديم.

المبادئ العملية لنجاح العملية السياسية:

وسنذكّركم بجملة من تلك المبادئ والآليات العملية وتجدون تفصيلاتها في خطابات المرحلة والأحاديث والخطوات العملية التي أعلنتها المرجعية الرشيدة خصوصاً تلك التي أعقبت اشتعال الفتنة الطائفية مطلع عام 2006 حتى اليوم ومنها:

ص: 159

1 - نبذ الطائفية والخروج من التخندق الطائفي وتفكيك الائتلافات المكوّنة على أساس طائفي أو عرقي وتشكيل الكتل على أسس الوطنية والبرامج الصالحة.

2 - صيانة وحدة العراق ورفض كل أشكال التقسيم. وتأجيل النظر في تطبيق الفيدرالية.

3 - تقوية الحكومة المركزية مع إدارة لا مركزية للمحافظات لتقويتها وتنمية كوادرها وإصلاح شؤونها.

4 - إقامة دولة القانون وحكومة ملتزمة به وليس حكومة أحزاب.

5 - حل الميلشيات والقضاء على الإرهاب والجماعات المسلحة وحصر السلاح بيد السلطة الشرعية.

6 - الجدّية في إجراء المصالحة الوطنية ومعالجة كل القرارات الخاطئة التي صدرت في الفترة السابقة كحل الجيش والتوظيف السياسي لقانون الاجتثاث ونحوها.

7 - بناء قوات مسلحة قوية وقادرة على حفظ أمن البلاد وحماية حدوده وسيادته تمهيداً للانسحاب الكامل للقوات الأجنبية.

8 - التوزيع العادل للثروة فإنها ملك الشعب وضمان الحياة الكريمة للإنسان.

9 - تعديل الدستور ومعالجة كل الفقرات التي تسبب الاحتقان وتبقى قنابل موقوتة تثير التوترات باستمرار.

10 - مكافحة الفساد المالي والإداري.

11 - جعل معايير التقييم وتقلّد المناصب هي الكفاءة والنزاهة والوطنية

ص: 160

والإخلاص للشعب، وأن يكون معيار نجاح المسؤول هو مقدار خدمته للناس وإسعادهم.

12 - إعطاء العشائر دورها الذي تستحقه في المساعدة على استتباب الأمن والإعمار.

13 - تنشيط القطاع الخاص وإصلاح الواقع الزراعي والصناعي والتعليمي لأنها الثروة الحقيقية والبنية التحتية للبلد.

14 - عدم المتاجرة بالدين وتوظيفه للأغراض السياسية.

15 - تحسين الخدمات ليشعر المواطن بالتغيير خصوصاً في الصحة والكهرباء والماء والمجاري والتعليم.

إننا حينما نذكر هذه النقاط نستهدف:

1 - إنها أمانة تاريخية أن تحفظ الحقوق لأهلها.

2 - ليجعل الشعب نصب عينيه هذا البرنامج حتى يحاسب المتصدين في المرحلة الجديدة على تنفيذهم لهذه الوعود.

3 - لإلفات نظر الناس خصوصاً الواعين إلى أن يميّزوا (فأن من طلب الحق فأخطأه ليس كمن طلب الباطل فأدركه)(1) على تعبير أمير المؤمنين (عليه السلام).

ص: 161


1- نهج البلاغة: ص 94، الوسائل: ج 15 ص 83.

ص: 162

التحذير من الأساليب الخاطئة في الدعاية الانتخابية

التحذير من الأساليب الخاطئة في الدعاية الانتخابية(1)

إن هذا التنافس سيؤدي إلى المهاترات الكلامية ومحاولة إبراز نقائص الآخرين وإلصاق التهم بهم لتسقيطهم في أعين الناس بتوهم أن هذا سيدفع الناخبين للتصويت لمصلحته، وهذا خلل أخلاقي كبير ومخالفة شرعية شديدة، فأمتنا ليست كالأمم الغربية التي لا تستحي من شيء ولا يرون بأساً في إظهار رئيس الولايات المتحدة على شاشات التلفزيون متهماً بفضيحة جنسية مع موظفة في مكتبه، أما نحن فمن أمة تلتزم بالأخلاق الفاضلة وتصون حرمات الآخرين، وقد أدبها رسول الله (صلى الله تعالى عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرون (عليهم السلام) بهذا الأدب الرفيع الذي جاء فيه عن الإمام الصادق (عليه السلام) انه قال:

(من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مرؤته ليسقط من أعين الناس، أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان)(2).

فلا يجوز للمرشحين في الانتخابات أن ينسوا في خضم هذه العملية مبادئهم و أحكام شريعتهم وأخلاقهم وإذا أرادوا أن يدفعوا الناس لانتخابهم فليقنعوهم بمشروعهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي من دون النيل من الآخرين.

ص: 163


1- نشر على الصفحة الثانية من العدد التاسع من صحيفة الصادقين الصادرة بتأريخ 3 ذ. ق 1425 الموافق 16 كانون الأول 2004.
2- الكافي: ج 2 ص 358.

وقد ذكرت في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية) إن من استقرأ مناظرات الأئمة مع مخالفيهم سيجدها على قسمين:

الأول: مع المخالفين لهم في أصل الدين والاعتقاد كالمشركين والزنادقة والدهرية، ومع مثل هؤلاء ينصب كلام الإمام عليه السلام على تفنيد عقائدهم وتسخيف آرائهم.

الثاني: مع المخالفين لهم في الفروع الموافقين لهم في أصل الدين، هنا لا نجد الإمام ينال من رموزهم أو يستخف بمذهبهم، وإنما يركز الإمام على قوة حجته وبرهانه ونقاط القوة في مذهبه.

وهذا الدرس يجب أن نستوعبه في مناظراتنا اليوم من أجل الانتخابات وغيرها إذ ينبغي أن يكون تركيزنا فيها على قوة المشروع الذي نحمله ونسعى إلى تحقيقه والإيجابيات المتضمنة فيه، ونترك الحرية للناس لكي يقتنعوا به ولا يجوز بأي حال من الأحوال تسقيط الآخرين والنيل منهم.

ولعلي أستطيع أن أقول إن من أهم الأهداف التي أرادها الأعداء حين رضخوا لمطالب المرجعية والشعوب وقبلوا بإجراء الانتخابات هو المراهنة على تمزيق وحدة الشعب وتفتيته وتناحره، فلا بد من الحيطة والحذر وتوعية الأمة لهذه المخاطر، ومن هنا كانت خطواتنا العملية بالمشاركة في قائمة ائتلافية حتى يشعر الجميع أن القائمة قائمتهم وتتوجه كل أصواتهم باتجاه واحد.

ص: 164

اللوم الكثير على الفعل إغراء به

اللوم الكثير على الفعل إغراء به(1)

في الحديث النبوي المشهور (إن من الشعر لحكمة)(2) ، وأحد من مصاديق ذلك قول الشاعر المشهور:

دع عنك لومي فإن اللومَ إغراءُ *** وداوني بالتي كانت هي الداءُ

وبغضّ النظر عن الشطر الثاني، فإن الشطر الأول فيه حكمة مفيدة في تقويم السلوك الاجتماعي، فإن في كثرة لوم الآخر على فعلٍ ما: إغراءً له ودفعاً له باتجاه القيام بذلك العمل.

فقد يكون الشخص متستراً بفعل ما - كشرب الخمر والعياذ بالله - أو قد يكون راغباً فيه لكنه لم يقم به حياءً أو لأي مانع آخر، فإذا قام شخص آخر علم بفعل هذا الشخص أو برغبته في فعله بلومه وتقريعه والحديث عنه علناً فإنه سيدفعه إلى القيام بذلك الفعل ويتحمل اللائم المسؤولية لأنه هو الذي أغراه بالفعل بعد أن هتك ستره وأزال عنه ما كان يمنعه من الفعل.

والتطبيقات الاجتماعية لهذه الحكمة كثيرة، كزوج يُسمع زوجته باستمرار كلمات الشك بها كلما رنّ الهاتف أو خرجت زوجته لقضاء حاجة أو

ص: 165


1- تعليق لسماحة الشيخ في مجلسه العام يوم الاثنين 12 /ج 1432/2 على اتهام جهة معينة بفعل ما وقع في حينها، نشر في العدد (100) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 7 /رجب/ 1432 الموافق 2011/6/10.
2- الأمالي للصدوق: ص 718.

سمع ذكر رجل أمامه وهكذا وهي بريئة من ذلك كله، فإنه سيدفع ذات النفس الضعيفة المتردّدة إلى الانحراف بعد أن لم يبقِ زوجها لها كرامة وعفاف باتهاماته وتشكيكاته.

أو امرأة تكثر الشك بزوجها بأن له علاقة مع امرأة أخرى وهو لم يفعل ذلك حباً بزوجته ودفعاً للمشاكل، لكن زوجته لما جعلت هذه المشاكل أمراً واقعاً بشكها وهواجسها وأوهامها. لم تبقِ له شيئاً يحذر منه ويخاف من وقوعه فيندفع لفعل ما كان يفكر فيه.

فهذا درس اجتماعي علينا تعلمه والاستفادة منه في سلوكنا وتعاملنا مع الآخرين والله الموفق.

ص: 166

إذا لم يحترق السياسيون بالنار فإنهم لا يحلّون مشاكل البلاد

حينما تتغلب المصالح الفئوية:

إذا لم يحترق السياسيون بالنار فإنهم لا يحلّون مشاكل البلاد(1)

حينما تتغلب المصالح الفئوية:

إن الحل متوقف على قناعة السياسيين المتصدين للحكم وصدقهم في إرادة الحل، أما إذا بقوا على سلوكهم الحالي الذي لا يبالي بأرواح المواطنين ولا بتخريب البلد، والمهم عندهم سرقة أموال الشعب ومداراة مصالحهم الشخصية والحزبية فإنه ستبقى المشكلة.

وحينما أقول هذا فإنه لا يعني أن هؤلاء السياسيين الذين لا يفترقون عن أمراء الحرب الذين شهدناهم في عدة دول من العالم في العقود الأخيرة يمتلكون الحل، فإنهم عاجزون عن قيادة أنفسهم وكبح جماح شهواتهم وأهوائهم ومطامعهم فكيف يحلون مشاكل الناس ويصلحون حالهم، وإنما أقول هذا لأنهم سبب المشكلة ومتى ما جنبونا شرورهم فإن الأمور ستعود إلى نصابها فهم سبب المشكلة لا سبب الحل، وقد رأينا كيف أن قناعة الفرقاء في الحرب الطائفية في لبنان بعد خمسة عشر عاماً من قتل العباد وتخريب البلاد أنهت الحرب في يوم واحد عندما اجتمعوا في الطائف.

ومن النفاق و الاستخفاف بمشاعر الناس اجتماع هؤلاء السياسيين على

ص: 167


1- يوم الثلاثاء 22 /ج 1427/2 المصادف 2006/7/18. عقب الحادث المروع الذي وقع في الكوفة صباح ذلك اليوم حيث قام مجرم بتفجير سيارته في مجمع للعمال فقتل أكثر من ستين وجرح أكثر منهم

موائد الطعام الفاخرة التي تظهرها شاشات التلفزيون في حين يتضور الملايين جوعا وبلا مأوى وتراهم يتبادلون الضحكات وأحياناً القبلات، إذن فلمن تنتمي هذه الجماعات المسلحة التي تنشر القتل والدمار والرعب في الشارع ومن الذي يؤويها؟ ومن الذي يقدم الدعم المادي واللوجستي؟ ومن الذي يدافع عنهم حينما يقعون في أيدي القضاء ويضغط لإصدار العفو عنهم؟ في حين يقع الأبرياء في السجون ظلماً و عدواناً من دون أن يدافع عنهم احد.

لا يتحركون إلا إذا احترقت مصالحهم:

فما دامت النار لم تحرق هؤلاء السياسيين ولم تضُر بمصالحهم الشخصية وتبقى مقتصرة على الأبرياء البائسين، فإنهم سوف لا يحلون المشكلة وسيبقون يطمعون في تحقيق مكاسب أكثر على حساب الفرقاء الآخرين باستمرار هذه الويلات والكوارث، وهذا من شر البلاء الذي ابتلينا به أن يفتقد هؤلاء لكل المشاعر الإنسانية والإسلامية والوطنية ولكل حرص على المواطن ورحمة بالضعفاء والمساكين والمحرومين.

أننا الآن لسنا بصدد بيان سيناريوهات الضغط على السياسيين لكي يجتمعوا ويحلوا المشكلة، وإنما نقول إننا نستطيع ذلك إذا تم حرمان الجهات السارقة لأموال الشعب وأمراء الحروب من هذه الثروة التي يسيل لعابهم لها ويسفكون الدم الحرام من أجلها ونحوها من الخيارات التي أحلاها مرّ.

ولكن قد لا يجد الشعب طريقاً أمامه بعد اليأس من إيجاد الحلول إلا ارتكاب أحداها (وما حيلة المضطر إلا ركوبها). وإنا لله وإنا إليه راجعون.

ص: 168

ماذا علينا أن نستفيد من تجربة العملية السياسية؟

ماذا علينا أن نستفيد من تجربة العملية السياسية؟(1)

أود الإشارة إلى أمرين يجب الالتفات إليهما للاستفادة منهما في التجارب الآتية لتشكيل الحكومة ومواصلة العملية السياسية.

الأول: الجد والاجتهاد في تأهيل المخلصين من أبناء الشعب خصوصاً الشباب الرسالي المتحمس للتغيير والإصلاح وبناء العراق الجديد وخدمة الأمة وتطهير البلاد من العناصر الفاسدة، ولا بد أن يشمل التأهيل كل الجوانب المؤثرة في إنجاح عمل المسؤول، فمن الجانب العلمي على من يجد في نفسه القدرة أن يبلغ أسنى الدرجات العلمية وأدق الاختصاصات وفي جميع حقول العلم والمعرفة ومساحات عمل الوزارات كافة لنقطع الطريق على من يدعي عدم وجود الكفاءات في هذه الشريحة المخلصة من الشعب.

وعليهم أن يتعلموا فن الإدارة بممارسة ناجحة لأي خلية ابتداء من الأسرة إلى العلاقات الاجتماعية إلى الوظائف المختلفة، وأن يستفيدوا من تجارب الآخرين وليعرضوا أنفسهم لممارسة إدارية، كالأسرة فإنهادائرة لا تخلو من التعقيد خصوصاًَ إذا شهدت تجاذبات ورغبات متناقضة كما لو كانت

ص: 169


1- من حديث سماحة الشيخ (دامت تأييداته) مع وفد ضم مدير وعدد من أساتذة وطلبة معهد التدريب النفطي في البصرة يوم الخميس 10 ربيع الثاني 1426، ونشر في الصفحة الأولى من العدد (24) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 24 ربيع الثاني 1426 الموافق 2 حزيران 2005.

عنده أم وزوجة وأخوة وأخوات وأولاد، فإن تنظيم العلاقة المتوازنة مع كل هؤلاء وحفظ حقوقهم بإنصاف وموضوعية، والنجاح فيها يعني وجود قابلية وملكة الإدارة الناجحة في المسؤوليات الأوسع، ولعل هذا أحد أوجه فهم الحديث الشريف

(خيركم خيركم لأهله)(1) أي خيركم وأصلحكم لإداره شؤون الأمة هو خيركم وأنجحكم في إدارة عائلته.

ومثل هذه التجارب التأهيلية للقادة وتقييم نجاحهم فيها قبل تصديهم لولاية أمر الأمة مما نجده في سيرة حياة أغلب الأنبياء، حيث مارسوا مهنة الرعي لتطّلع أممهم على حسن رعايتهم لمن يتولونهم حين يجدونه يرحم الحمل الرضيع والكسير ويحمله ويحتضنه حتى يبلغ كماله، وإذا افتقد واحداً من القطيع فإنه لا ينام الليل ولا يقرّ له قرار حتى يأتي به إلى الحضيرة ويطمأن عليه و يتفقدها بالطعام والشراب والراحة، ويوفر لها الحماية والأمن من كل سوء فإذا كانت ولايته على الحيوانات بهذا الشكل فسيكون أكثر رفقاً ورحمة بالناس حين يتولى أمورهم.

الثاني: تهذيب النفس وتحصينها من الوقوع في مزالق الدنيا المذمومة ونسيان الله تبارك وتعالى والانشغال بالتكالب على حطام زائل، ولا بد أن يقطع شوطاً معتداً به في هذا الطريق قبل التصدي للمسؤولية كما ورد في الحديث الشريف

(إن الله أدب نبيه فأحسن تأديبه، فلما ائتدب فوض إليه)(2).

فليعمل أحبائي وأخواني على العمل بكلا الاتجاهين ليستعدوا لتحمل المسؤولية في المراحل المقبلة بإذن الله تعالى.6.

ص: 170


1- الوسائل: ج 20 ص 171.
2- السابق: ج 14 ص 366.

الاقتصار على الاحتفال السياسي في ذكرى الشهيد الصدر (قدس سره) ظلم له

اشارة

الاقتصار على الاحتفال السياسي(1) في ذكرى الشهيد الصدر (قدس سره) ظلم له

في أجواء ذكرى استشهاد المرجع والمفكر والقائد والأسوة ومثال العالم العامل وهو السيد محمد باقر الصدر (قدس سره)، وقد ساءنا الاقتصار في إحياء ذكراه على الاحتفالات السياسية إذا كان التعبير دقيقاً.

وهذا المنحى - أعني اتخاذ الجهات السياسية للمراجع العظام والعلماء الكرام رموزاً للمتاجرة بها والتسلّق إلى مواقع السلطة من خلالها وتأطيرها بهذه الفئوية الضيقة - ظلم لأولئك الأعاظم وتحويل الإخلاص الذي عاشوه والهم الإنساني والإسلامي الذي حملوه إلى دنيا زائفة يتصارعون إليها، وربما جرّ صراعهم إلى محاولة تنقيص كل جهة من رمز الجهة الأخرى وغيرها.

التحذير من حب الدنيا:

وهذا المعنى التفت إليه السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) وحذر منه في آخر محاضراته عن حب الدنيا، وكان أكثر شيء آلمه وهو في أيامه الأخيرة بحسب ما يروي صاحب كتاب (سنوات المحنة وأيام الحصار) هو عندما عرض مشروع القيادة النائبة التي تخلف قيادة الحركة الإسلامية على بعض المقرّبين منه فيسأله عن موقعه فيها فإن كان رأساً لها فهو وإلا فلا.

ص: 171


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من الزوار من بينهم وفد عشائر بني زيد في الناصرية يوم الخميس 20 /ربيع الثاني/ 1430 المصادف 2009/4/16.

هذه الدنيا التي حذر من الوقوع في شراكها أغوت الكثيرين ووظّفوا كل شيء لها حتى ذكرى السيد الشهيد الصدر (قدس سره) فلم تشهداهتماماً يُذكر بإبراز العظمة والإبداع في آثاره العلمية أو الفكرية أو الاجتماعية أو الأخلاقية، أو الجهادية وغيرها، مع أننا مطالبون بإحياء هذه الجوانب لتتأسى بهم الأمة فتهتدي بهداهم وتسير على دربهم.

ص: 172

استئثار السلطة والعنف السياسي

استئثار السلطة وعدم صبر المحكوم:

استئثار السلطة والعنف السياسي(1)

استئثار السلطة وعدم صبر المحكوم:

توجد ظاهرتان في العلاقة بين السلطة والشعب هما السبب في حصول الفجوة والافتراق بينهما وتعمل عدة عوامل أخرى على توسيعها وتأجيجها، هما استئثار الحكام وعدم صبر المحكوم، فإذا التفت المتسلطون إلى أنانياتهم وكرّسوا جهدهم للتفرد بمغانم السلطة وجني المكاسب الشخصية مما يسبّب الحيف والظلم والجور على عامة الشعب الذين قد يصبرون على مستوى معين من الحرمان والتعسف لكن صبرهم لا يستمر إلى ما لا نهاية، وعندما يصل الحرمان من ابسط حقوق الحياة الإنسانية الكريمة إلى درجة لا تطاق فإن الصبر والتصبّر لا يجدي حينئذٍ وينفجر الوضع، وهذا ما عبر عنه الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري (عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج شاهراً سيفه)(2).

الحاكم والمحكوم في نهج البلاغة:

هاتان الظاهرتان جمعهما أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما سُئِل عن قضية مقتل

ص: 173


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع عدد من العلماء والأساتذة من السنة والشيعة الذين حضروا ندوة (واقعة الغدير... الدلالات والمعطيات) التي عقدتها المؤسسة الإسلامية للدعوة والتبليغ والإرشاد بالتعاون مع البيت الثقافي التابع لوزارة الثقافة في النجف الأشرف يوم 22 /ذو الحجة/ 1427 المصادف 2006/1/12 بمناسبة ذكرى عيد الغدير المبارك.
2- أنظر البحار: ج 70 ص 247، وفي ظلال نهج البلاغة: ج 4 ص 284.

الخليفة عثمان فأجاب (عليه السلام) باختصار (استأثر فأساء الأثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع، ولله حكم واقع في المستأثر والجازع)(1).

فلو لم تستأثر بطانة الخليفة بعائدات الدولة الإسلامية ووزعت الحقوق على أصحابها بعدالة وإنصاف أو على الأقل كفلت للرعية الحد المعقول من مستوى المعيشة لما حصلت الفتنة، ولو أنَّ الناس حين حرمت من بعض حقوقها التي يمكن التنازل عنها صبرت على الحال وكظمت غيظها لتجنبت ما هو أسوا حيث حصل ذلك الجرح العميق في جسد الأمة الذي ظل ينزف دماً إلى اليوم.

التأسي بالحكمة والوعي:

وهو (عليه السلام) في الشق الثاني من جوابه يشير إلى إنهم لم يتأسوا به (عليه السلام) في كيفية تصرفه إزاء تلك الظاهرتين حيث ضرب (عليه السلام) لنا أسمى المُثل لمعالجتها، فحينما غصب حقه في خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الثابت له بالنص أولاً وبالاستحقاق ثانياً حيث كان من الواضح لدى جميع الصحابة أفضليته عليهم حتى اشتهر عن الخليفة الثاني عمر قوله

(لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن)(2) وقول عبد الله بن العباس حبر الأمة وترجمان القران كما يصفونه لما سئل عن مقارنة علمه بعلم علي (عليه السلام) قال

(وعلم علي من علم النبي وعلمي من علم علي وما علمي وعلم أصحاب محمد في علم علي إلا كقطرة في سبعة أبحر)(3)، وهم يروون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أقواله الشريفة

(أعلمكم

ص: 174


1- نهج البلاغة: الخطبة: 30.
2- البحار: ج 109 ص 36.
3- مناقب آل أبي طالب: ج 1 ص 310.

علي)(1) (أقضاكم علي)(2) (علي مع الحق والحق مع علي)(3) وغيرها مما رواه الفريقان.

النصيحة للحكام:

ومع هذا كله فقد صبر عليٌ (عليه السلام) وتحَّمل وكان ناصحاً للخلفاء ويسدد حركتهم بالمشورة الصائبة، كنصيحته للخليفة الثاني بأن لا يخرج بنفسه لقتال الفرس في القادسية حتى لا يستكلبوا عليه ويقولوا هذا رأس العرب إن قتلناه تخلصنا منهم واستمع الخليفة لنصيحته بعد أن أشار عليه الصحابة بالخروج وهكذا مواقفه الأخرى، وبقي خمسة وعشرين عاماً مقصياً عن الحكم لكن دوره الايجابي العظيم في حفظ هيبة الدولة الإسلامية ووحدة الأمة وسموها وازدهارها بقي معطاء زاخراً ولو كان خرج بالسيف ودعا إلى نفسه والتّف حوله شطر من الأمة الوليدة لكان مصيرها الاندثار.

ولما اجمع أهل الحل والعقد على استخلافه مع امتناعه الشديد أثار عليه الفتن والحروب من كانوا بالأمس مستأثرين بفيء الأمة وترك احدهم بعد وفاته من الذهب ما يكسر بالفؤوس، وخرجوا من المدينة وقد حملوا على الإبل صناديق جمعوا فيها تلك الأموال لما سمعوا علياً يصعد المنبر بعد توليه السلطة يقول (ألا وإن كل قطيعة أقطعها عثمان أو مال أعطاه من مال الله، فهو مردود على المسلمين في بيت مالهم، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، والذي فلق

ص: 175


1- الكافي: ج 7 ص 424، تهذيب الأحكام: ج 6 ص 306، خصائص الأئمّة (عليهم السلام): ص 84.
2- الاستيعاب: ج 3 ص 38 هامش الإصابة، مواقف القاضي الإيجي: ج 3 ص 276، شرح ابن أبي الحديد: ج 2 ص 235.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2 ص 297.

الحبة وبرأ النسمة، لو وجدته قد تزوج به النساء ومُلِكَ به الإماء وتفرق في البلدان لرددته على حاله فإن في الحق والعدل لَسِعةً، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق، وأقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم)(1).

وعلق عليه أحد المؤرخين(2) (وكانت هذه الخطبة مما سُرَّ به وسكن إليه المؤمنون المخلصون وأهل الحق والبصائر، واستوحش منه المنافقون والذين في قلوبهم مرض، وكل من تطاعم الأثرة أو كان في يده شيء منها لما تواعد به صلوات الله عليه من استرجاع ذلك من أيديهم، ورده إلى بيت مال المسلمين).

وقال (عليه السلام)

(وَوَاللهِ لأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِا جَوْرٌ إِلاَّ عَلَيَّ خَاصَّةً)(3).

النهي عن الاستئثار في الحكم:

وكان مما يوصي به عمّاله على الولايات الابتعاد عن الاستئثار والاختصاص بشيء دون الرعية مما يفترض مساواتهم فيه، فقد جاء في عهده العظيم إلى مالك الأشتر لما ولاه مصر قوله (عليه السلام)

(ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ولا تولَّهم محاباة وأثرة، فإنهما جماعٌ من شعب الجور والخيانة، وتوخَّ منهم أهل التجربة والحياء، من أهل البيوتات الصالحة)(4).

أي كلّفهم بالولاية والإدارة بعد امتحانهم وإثبات نجاحهم لا محاباة ومجاملة وميلاً منك لهم وأثرة أي استبداداً بلا مشورة، فإن المحاباة والأثرة من

ص: 176


1- أنظر البحار: ج 32 ص 16، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 1 ص 269.
2- شرح الأخبار للقاضي النعماني المغربي 373/1.
3- نهج البلاغة: الخطبة 74.
4- نهج البلاغة: ج 3 ص 583، الكتاب: 53.

مصاديق الجور والخيانة. ويقول (عليه السلام) له

(وإياك و الاستئثار بما الناس فيه أسوة)(1) أي لا تختص لنفسك بامتيازات ومنح يفترض أن الناس سواسية فيها.

وهذا ما وضّحه الإمام الحسين (عليه السلام) حينما حلّل الخلفية التاريخية لثورته المباركة في كتابه إلى رؤوس الأخماس في البصرة

(أَمّا بَعْدُ، فَإِنَّ الله اصْطَفى مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله) عَلى خَلْقِهِ، وَأَكْرَمَهُ بِنُبُوَّتِهِ، وَاخْتارَهُ لِرسالَتِهِ، ثُمَّ قَبَضَهُ اللهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ نَصَحَ لِعِبادِهِ، وَبَلَّغَ ما أُرْسِلَ بِهِ (صلى الله عليه وآله) وَكُنّا أَهْلَهُ وَأَوْلِياءَهُ وَأَوصِياءَهُ وَوَرَثَتَهُ، وَأَحَقَّ النّاسِ بِمَقامِهِ فِي النّاسِ، فَاسْتَأْثَرَ عَلَيْنا قَوْمُنا بِذلِكَ، فَرَضينا وَكَرِهْنَا الْفُرْقَةَ وَأَحْبَبْنَا الْعافِيَةَ، وَنَحَنُ نَعْلَمُ أَنّا أَحَقُّ بِذلِكَ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْنا)(2).

وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحذّر أمته من استئثار الحكّام بعده فعندما ورد معاوية المدينة المنورة وخرج صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأنصار لاستقباله سألهم هل أخبركم النبي عن هذا الحال الذي انتم فيه قالوا نعم قال (صلى الله عليه وآله وسلم)

(إنكم ستلقون بعدي أثرة قال معاوية: وبماذا أوصاكم؟ قالوا: أوصانا بالصبر قال معاوية - بتهكم - إذن فاصبروا)(3) وشرحها ابن الأثير في النهاية فقال أي

(يستأثر عليكم فيفضل غيركم في نصيبه من الفيء)(4).

الانفصام بين الشعب والحاكم:

وهاتان الظاهرتان تفسران الكثير من حالات العنف وانفصام العلاقة بين السلطة والشعب، وحينئذ ينزلق البلد إلى الهاوية وينشغل بصراعاته الداخلية

ص: 177


1- السابق.
2- تأريخ الطبري: ج 3 ص 280، مثير الأحزان: ص 27، بحار الأنوار: ج 44 ص 340، أشار المصدران إلى آخر الحديث فقط، أعيان الشيعة : ج 1 ص 590، وقعة الطفّ: ص 107.
3- كتاب الأربعين للشيخ الماحوزي: ص 386، والبحار: 33 ص 285.
4- البحار: ج 33 ص 285.

وتبدأ الحكومة بصرف ثروات البلد على حماية نفسها من غضب الجماهير وتحيط نفسها بأسيجة عديدة من الجلاوزة والمأجورين وتصرف عليهم المال الكثير، بينما لو أنفقت بعضه القليل على مصالح الشعب لما احتاجت إلى كل هذا الهدر للأموال.

وهذه الحقيقة يتعامى عنها كل الساسة من الطواغيت والظلمة والمستبدين والمستأثرين. فمثلا الولايات المتحدة حينما مضت لوحدها في حساب مصالحها خسرت اقرب حلفائها وهم دول الاتحاد الأوربي التي ذهبت بعيداً إلى اتخاذ مواقف لا مبرر لها إلاّ معارضة سياسات الولايات المتحدة التي تحذّرها من التغريد خارج سربها(1).

ومثل الأزمة القلقة التي تعيشها لبنان بسبب هذه الظاهرة وكذا كل الدول التي لا تعيش الشراكة الحقيقية لكل مكونات الشعب في الحقوق والواجبات.

ومن أوضح أمثلتها ما يعيشه العراقيون اليوم من قتل وتدمير وتخريب للبلاد بسبب استئثار بعض الكيانات السياسية المهيمنة على القرار بثروات البلد وخيراته وتوجيهها للقرارات بما يحلو لها وفق مصالحها من دون اكتراث لحقوق للآخرين من دون أن يصبر الآخرون ويعطوا للوسائل السلمية والسياسية حقها ولا يجعلون آخر الدواء الكي، فسقط العراق في هذا المستنقع الآسن لا لشيء إلا هذه المصالح المتعارضة وإن حاول كل فريق أن يلبس ثوباً ينفعه في تحشيد اكبر عدد من ورائه كثوب الطائفية أو القومية والحقيقة غير ذلك إذ إنهم لا يعرفون إلا مصالحهم الخاصة.ي.

ص: 178


1- إشارة إلى تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية في لندن قبل أيام (من هذا الخطاب) تلمح لقرار فرنسا بإرسال مبعوث لمناقشة الملف النووي الإيراني.

سمو موقف المرجعية:

لقد علّمت المرجعية الرشيدة هؤلاء المستأثرين درساً في السمو والنبل حين أمرت أبناء الفضيلة بالانسحاب من تشكيلة الحكومة لتريهم أن ما يتصارعون عليه هو وهم زائل وسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءاً ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تسفك الدماء و تخرب البلاد وتهجّر العوائل الآمنة ونعطل الحياة من أجلها.

ورغم انسحابهم فقد أمرتهم المرجعية بالتصويت ب - (نعم) في البرلمان عند التصويت على نيل الحكومة ثقة البرلمان لإعطائها الفرصة حتى تعمل كل ما يصلح حال الشعب ويبني البلد.

وهذا الموقف لا يفهمه هؤلاء المتسلطون الغارقون في أنانياتهم كما لم يفهم الكثيرون سمو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وربما خطأوه في تصرفاته، ولا يستطيع أحد أن يجاهد نفسه ويتخذ هذه المواقف الحكيمة إلا إذا تربّى في مدرسة علي بن أبي طالب (عليه السلام) ونهل من أدابة وعلومه ومعارفه.

فمتى يثوب السياسيون إلى رشدهم ليعوا هذه الحقيقة؟

ص: 179

ص: 180

ضبط مسيرة الأحزاب الإسلامية

الهدف السامي:

ضبط مسيرة الأحزاب الإسلامية(1)

الهدف السامي:

جرت العادة في مثل هذه المناسبات أي الذكرى السنوية لتأسيس حزب أو ميلاد شخص أو توليه منصباً رفيعاً أو قيام دولة ونحوها على تبادل التهاني وهو تصرف سليم أن يُهَّنأ الإنسان على نعمة انعم الله تبارك وتعالى بها عليه.

ولا شك أن وجود الفرد ضمن مشروع رسالي نبيل يهدف إلى إنصاف المظلومين وإصلاح المجتمع واستنقاذ حقوق المستضعفين وأعمار الحياة وازدهارها لتحي البشرية سعادة الدارين ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ليس فقط جزءاً من المشروع وإنما يتأهل ليكون قائداً فيه كما ذكرنا في خطاب سابق هو نعمة تستحق التهنئة مادام سعيه مخلصاً نحو تحقيق هذه الأهداف.

حركة العمل الرسالي:

إن الأحزاب والتنظيمات هي بمثابة القلب الذي ينبض بالحياة في جسد الأمة ويحركها وينظم هذه الحركة وإذا توقفت عن العمل خمدت حركة الأمة وماتت، أما المرجعية الرسالية الرشيدة والعلماء المرتبطون بها فهم بمثابة العقل الذي يوجّه حركة الأمة ويرّشد مسيرتها.

ص: 181


1- تقرير بتصرف للكلمة التي تحدث بها سماحة الشيخ اليعقوبي بمناسبة احتفال أمانة حزب الفضيلة الإسلامي في البصرة بالذكرى السنوية الثالثة لتأسيسها يوم 15 /محرم/ 1428 المصادف 2007/2/4.

والأحزاب قد لا تستطيع تنظيم ما يزيد عن واحد بالألف من الشعب وهذا أمر طبيعي لان عموم الناس منشغلون بأعمالهم وشؤونهم الحياتية الأخرى ولا نتوقع أن النجاح في العمل الحزبي يقاس بمقدار عدد المنتمين إليه من الناس وإنما تقاس فاعلية الأحزاب وسعة قاعدتها بقدرتها على تعبئة الأمة وتحشيدها إزاء قضية معينة، وهذه القدرة مرتبطة بتوفر عناصر النجاح في عمل الحزب ومدى مصداقيته في تحقيق الأهداف المعلنة للجماهير والتي تزيد من قناعتها به.

المحاسبة للذات وللمؤسسة:

ومن المظاهر المهمة في مثل هذه الذكريات إجراء المراجعة والتقييم ومحاسبة الذات فإن الحديث الشريف

(ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم)(1) لا ينحصر تطبيقه بمحاسبة الشخص لنفسه ومراجعة أعماله وإنما يتعدى إلى محاسبة الكيان كالحزب والجماعة والتنظيم لنفسه وإجراء تقييم موضوعي ومراجعة منصفة لمسيرته وليكن ذلك في كل عام مرة على الأقل إذا تعذر بأقل من ذلك.

وإذا عجزت الأحزاب عن ضبط مسيرتها وفق الأهداف السليمة فإنها عن ضبط مسيرة الأمة اعجز لذا تبتلى الأمة حينئذ بما وصفه أمير المؤمنين

(بخبط وشماس وتلّون واعتراض)(2) يؤدي إلى تشتتها وتمزقها وانهيارها، وهاهم المسلمون اليوم يبلغ عددهم أكثر من مليار ومائتي مليون شخص وهم في أضعف حال وبؤس وشقاء يتحكم فيهم أراذل الناس رغم اكتنازها لكل مقومات القوة والغلبة والتقدم، وهذا ما سيثيره الإمام المهدي (أرواحنا له

ص: 182


1- الاختصاص: ص 26.
2- نهج البلاغة: الخطبة: 3.

الفداء) فإنه بالثلّة الصالحة المخلصة المنظمة القادرة على توحيد الأمة وضبط حركتها وتفجير طاقاتها سيقود حركة عالمية تبدأ بعدد لا يتجاوز الثلاثمائة بقليل وسيعبئ هذه الأعداد الضخمة كلها في حركته المباركة.

أدب المراجعة والتقييم:

إننا حين نستعيد أعمال الحزب خلال عام لا يعني إننا نركز على الانجازات والايجابيات مهما كانت مهمة لأن هذا واجبهم وهو العمل المطلوب من أعضائه فإذا أداها فأحسن ما يقال فيه انه لم يقصر بواجبه وأنه حفظ الأمانة التي تحملها وهو مقتضى الأدب المستفاد من الحديث الشريف

(اذكر اثنين وانس اثنين، اذكر إساءتك إلى الآخرين وإحسان الآخرين لك، وانس اثنين: إحسانك إلى الآخرين وإساءة الآخرين لك).

فلا بد أن تتذكر وتركز على ما صدر منك من أخطاء وتقصيرات لتعمل على إصلاحها وتلافيها وتذكر إحسان الآخرين إليك كإعطاء أصواتهم في الانتخابات ليجلسوك في هذه المواقع الكبيرة فإن هذا يدفعك إلى بذل المزيد من العطاء والجهد لرد الجميل إليهم، قال تعالى (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ) (الرحمن: 60).

ومهما قدمت لهم فانك عاجز عن مجازاتهم لأنهم المبتدئون بالفضل.

وبالمقابل عليك أن تنسى إحسانك إلى الآخرين لأنك لم تفعله ليشاد بك وإنما قربة إلى الله تعالى وابتغاء رضوانه، ولأنك إذا ركزت على انجازاتك فسيؤدي بك إلى الغرور والعجب والرضا عن النفس وهذا يؤدي إلى الوهن والعطب والكسل ولما ذكرناه قبل قليل من أن هذه الانجازات ليس فيها شيء زائد لأنها مما تقتضيه طبيعة عملك.

ص: 183

ولا بد أن تنسى إساءة الآخرين إليك لأنك مأمور بالصفح والعفو والتسامح ليقابلك الله تعالى على أخطائك بنفس الكرم وأكثر منه (وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور: 22).

انفتاح المرجعية على الجميع:

إنني حينما أتحدث إليكم فهذا لا يعني إنني لكم فقط وان خطابي منغلق عليكم لان المرجعية الرسالية هي رحمة وخير حتى لأعدائها وخصومها، ولكن تحجيم دورها إنما يكون بلحاظ المتلقي الذي يصمُّ إذنه عن سماع ما ينفعه كما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو رحمة للعالمين جميعاً وليس فقط للبشر ومع ذلك لم يتبعه إلا القليل وهذا لا يعني تضييقاً في رسالته أو انغلاقاً على فئته لكننا لا ننكر رعايته الخاصة للفئة المؤمنة به مع سعة رحمته ورعايته للآخرين، كما أن أئمتنا (عليهم السلام) كانت أعمالهم المباركة تشمل الجميع لكن لهم مزيد عناية بشيعتهم باعتبارهم الشريحة المؤمنة بمشروعهم الرسالي والمطيعة لهم.

هذا مع خصوصيات أخرى في حزب الفضيلة الإسلامي كونه ولد من رحم معاناة الذين تحملّوا بطش صدام وقسوته ولم يغادروا بلدهم العراق وبقوا مرابطين فيه ليحافظوا على جذوة الإيمان وولاية أهل البيت (عليهم السلام) وإدامتها ولذا فهم مستقلون عن أي تدخل من الشرق ولا من الغرب، بينما ولد الآخرون في أحضان جهة ما كدولة أو فئة معينة تدعمهم وتخطط لهم، لذا كان على المرجعية أن تحتضنهم وتوفر لهم أسباب الحياة والنمو والازدهار بلطف الله تبارك وتعالى، وهذه الخصوصية جعلت مسيرتهم معتدلة متوازنة لم يخوضوا في الفتنة ولا كانوا جسراً يعبر عليه الآخرون ليحققوا مآربهم ويدفع العراقيون الثمن فكان العراق والعراقيون ضحية هذه السياسات الخاطئة.

ص: 184

لا تنشغلوا بالنجاحات:

لكنني أحذركم من أن تشغلكم بعض النجاحات التي تحققوها عن التفكير في تلافي التقصيرات وإصلاح الأخطاء ورفع المظالم عن الناس وتوفير كل أسباب الحياة الحرة الكريمة، فإن التقصير في ذلك مما لا يغفره الله تبارك وتعالى ولا رسوله أو المؤمنون ولا تسكت عنه المرجعية الرشيدة حتى لو سكت الناس عن حقوقهم لطيبتهم وكرم أخلاقهم لكن الله أخذ على العلماء عهداً

(أن لا يقارّوا على كِظّةِ ظالم ولا سغب مظلوم)(1) كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام).

ص: 185


1- نهج البلاغة: الخطبة: 3.

ص: 186

كفارة العمل في السلطة الإحسان إلى الشعب

الوفاء للشعب:

كفارة العمل في السلطة الإحسان إلى الشعب(1)

الوفاء للشعب:

إن أمراً واضحاً يلزمكم بالإحسان إلى الشعب وخدمته وهو الوفاء بالعقد معه حين أجلسكم في هذه المواقع سواء مباشرة بانتخابكم أو بصورة غير مباشرة حين انتخب مسئوليكم وهم عيّنوكم والنتيجة واحدة وهي إنكم ملزمون بأداء الأمانة إلى أهلها والوفاء للشعب. وقد شرحنا ذلك في الخطاب الأخير (يوم الزهراء يوم الفرقان)(2).

وهناك أمرٌ آخر يلزمكم بنفس الشيء قد يخفى على كثير منكم وهو إن من وليّ شيئاً من أمور السلطة يترتب عليه اثر لا يزيله إلا الإحسان إلى الناس وهو مستفاد من الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام):

(كفارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان)(3) وفي رواية أخرى أن الإمام (عليه السلام) قال لعلي بن يقطين:

(كفارة عمل السلطان الإحسان إلى الإخوان)(4) والكفّارة لفظ معناه الستر والتغطية لذلك جعل الشارع المقدس الكفارات لمعالجة أمور

ص: 187


1- 1 من حديث سماحة آية الله العظمى الشيخ اليعقوبي مع وفد ضّم مسؤولين وموظفين في مديرية توزيع المشتقات النفطية في بابل يوم السبت 15 /ج 1428/2 ه - المصادف 2007/6/30 م
2- أنظر خطاب المرحلة: ج 5 ص 133.
3- الوسائل: ج 17 ص 192.
4- تحف العقول: ص 410.

تحتاج آثارها وتداعياتها إزالةً وستراً وتطهيراً، ككفارة القتل والإفطار في نهار شهر رمضان والحنث باليمين والنذر والعهد وغيرها.

كفارة العمل السياسي:

ومن المعلوم أيضاً أن التوبة والندم والاستغفار والقيام بأعمال صالحة كفارة للذنوب (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (هود: 114)(وَ ما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الأنفال: 33).

ولكن هناك ذنوباً لا يزيل أثرها الاستغفار وإنما لها كفارة خاصة فقد ورد في الحديث

(إن من الذنوب ما لا يكفرها إلا الهم بطلب المعيشة)(1) فيبيّن الله تعالى عظمة السعي لطلب الرزق للعيال ورعايتهم وتوفير احتياجاتهم بجعله كفارة لذنوب لا تغفر إلا به.

ومن هذا القبيل الحديث الذي ذكرناه فإن العمل في أي موقع من مواقع السلطة (عمل السلطان) أي العمل في إطار السلطة يوجب آثاراً وضعية لا يمكن إزالتها والنجاة منها إلا بالإحسان إلى الناس.

قصة ابن يقطين:

حينما ولي علي بن يقطين الوزارة لهارون العباسي قال له الإمام الكاظم:

(يا علي اضمن لي خصلة واحدة وأنا أضمن لك ثلاث خصال، قال: وما هي يا سيدي؟ قال: أضمن لي أن لا ترى موالياً لنا إلاّ أكرمته، وأنا أضمن لك أن لا يصيبك حرّ حديد ولا غمّ سجن ولا ذلّ فقر أبداً)(2).

ص: 188


1- المحجة البيضاء: ج 3 ص 71.
2- أنظر: مشكاة النوار: ص 338.

وقد يبدو أن هذا الأمر - أعني عدم التقصير في حوائج الناس وخدمتهم وإدخال السرور عليهم - صعب لكن النتيجة العظيمة المترتبة عليه تستحق بذل الوسع فيه.

ثواب قضاء الحوائج:

(لما قدم الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) العراق، قال علي بن يقطين: أما ترى حالي وما أنا فيه (يعني وزارته للظالم هارون)؟ فقال: يا علي إن لله تعالى أولياء مع أولياء الظلمة ليدفع بهم عن أوليائه وأنت منهم يا علي)(1).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال:

(ما أدخل أحد على قلب مؤمن سرورا إلا خلق الله من ذلك السرور لطفا فإذا نزلت به نائبة كان أسرع إليها من السيل في انحداره حتى يطردها عنه كما يطرد غريبة الإبل)(2).

وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) انه قال:

(إذا بعث الله المؤمن من قبره خرج معه مثال يقدم أمامه، كلما رأى المؤمن هولاً من أحوال يوم القيامة قال له المثال: لا تفزع ولا تحزن وأبشر بالسرور والكرامة من الله عز وجل، حتى يقف بين يدي الله عز وجل فيحاسبه حساباً يسيراً ويأمر به إلى الجنة والمثال أمامه فيقول له المؤمن: يرحمك الله نعم الخارج خرجت معي من قبري وما زلت تبشرني بالسرور والكرامة من الله حتى رأيت ذلك، فيقول من أنت؟ فيقول: أنا السرور الذي كنت أدخلت على أخيك المؤمن في الدنيا خلقني الله عز وجل منه لأبشرك)(3).

ص: 189


1- معجم رجال الحديث: ج 13 ص 246.
2- البحار: ج 17 ص 314.
3- الكافي: ج 2 ص 90.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام):

(من تولّى أمراً من أمور الناس فعدل وفتح بابه ورفع ستره ونظر في أمور الناس، كان حقاً على الله عز وجل أن يؤمن روعته يوم القيامة ويدخله الجنة)(1).

واقع السياسيين بعيد عن تعاليم أهل البيت (عليهم السلام):

لكن الواقع المر الذي نعيشه اليوم مخالف لهذه التوصيات الكريمة، وما حادثة دار الحنان لشديدي العوق(2) عنكم ببعيد حيث أبكت حالتهم الأجانب أما السيد وزير العمل والشؤون الاجتماعية (وهو محمود الشيخ راضي) الذي تتبع الدار وزارته (وهو من أسرة دينية في النجف الأشرف وأنجبت جملة من العلماء) فيريد مقاضاة القوات الأمريكية لاكتشافها هذه الكارثة الإنسانية ويعتبرها تشهيراً بوزارته، رغم إن ذوي المعاقين لم يرفعوا شكواهم إلى الأمريكان والجيش العراقي إلا بعد يأسهم من معالجة الحال لكثرة الشكاوى التي رفعوها إلى كل المستويات في الوزارة.

لكن السيد الوزير وأمثاله من المحميين بالكتل السياسية المهيمنة سلم من المسائلة فضلاً عن اتخاذ الإجراءات الرادعة للمسؤولين، وهذا - والعياذ بالله - سبب نزول البلاء على الأمم الذي ورد في الحديث النبوي الشريف:

(إنما هلك الذين ممن كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه)(3).

ص: 190


1- البحار: ج 75 ص 340.
2- داهمت القوات الأمريكية هذه الدار بعد وصول شكوى إليهم من ذوي الأطفال النزلاء فيها وعجز الجهات المختصة عن اتخاذ الإجراءات المناسبة وكشفت القوات الأمريكية عن إهمال الإدارة للأطفال ورميهم مربوطين على الأرض وعراة والتعامل معهم بقسوة وحرمانهم مما يخصّص لهم من أغذية وألبسة وفُرش، وكانت المشاهد التي عرضتها القنوات مؤلمة وقاسية.
3- كنز العمال: 6497، 8611..

وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما يسمي السارق الأول شريفاً بلحاظ المعايير الاجتماعية التي تعتبر مثل أبي جهل وأبي لهب وأبي سفيان شريفاً في قومه لا بلحاظ الواقع لأن السارق ليس شريفاً.

وهذا الذي حذر منه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نعيشه في العراق حرفياً حيث أبلغ السيد رئيس الوزراء هيئة النزاهة(1) بعدم جواز محاسبة أي وزير من حكومته أو الحكومة السابقة إلا بعد مراجعته ليرى إن كان من الكتل السياسية التي يخشى سطوتها وله مصالح معها فإنه يحميه أو من غيرها فيقيم عليه الحد.

فإلى الله المشتكى وعليه المعول في الشدة والرخاء (وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (الرعد: 31).ء.

ص: 191


1- أصدر رئيس الوزراء المالكي قراراً بذلك رغم ما يقال من استقلال الهيئة العامة للنزاهة والقضاء.

ص: 192

لا يقرّ للمسؤول المخلص قرار حتى يكون جواب كل واحد من الناس: أنا سعيد

الإخلاص لله تعالى وانصاف الناس:

لا يقرّ للمسؤول المخلص قرار حتى يكون جواب كل واحد من الناس: أنا سعيد(1)

الإخلاص لله تعالى وانصاف الناس:

من كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) مع الجيش الأموي الذي زحف لقتاله وقتله (إن الله ابتلانا بكم وابتلاكم بنا) ومفردة الابتلاء وإن استعملها الإمام (عليه السلام) نفسها في كلا الاتجاهين إلا أن مضمونها ومعناها واستحقاقها مختلف بين ابتلاء الإمام والقائد بالأمة عن ابتلاء الأمة بإمامها.

فمن وظائف القائد اتجاه أمته الإخلاص في رعايتهم وإصلاح شأنهم وهدايتهم من دون أن ينتظر من أحد جزاءاً ولا شكوراً، هذه الكلمة التي قالها الإمام الحسين (عليه السلام) مع أبيه أمير المؤمنين وأمه الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وأخيه الحسن (عليه السلام) في حياة جدّهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعمرهْا بضع سنوات (وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً، إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً) (الإنسان 8-9)(2) ، فهم يفعلون الخير حباً لله تبارك وتعالى الذي يحب الخير ولوجه الله تعالى.

ص: 193


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع وفد منطقة المعامل ببغداد يوم 23 /ذ. ح/ 1428 المصادف 2008/1/3 ومع وفود معلمي الحلة والشعلة ببغداد وطلبة معهد التدريب النفطي في البصرة وطلبة كليتي العلوم والهندسة في جامعة البصرة ونقابة ذوي المهن الهندسية فروع واسط يوم 25 /ذ. ح/ 1428 المصادف 2008/1/5.
2- مجمع البيان: ج 9-10 ص 404.

هذا الإحسان الخالص لله تعالى له مشهد آخر بعد أكثر من خمسين عاماً حينما كان الإمام الحسين (عليه السلام) متوجهاً بأصحابه وعياله من مكة إلى العراق، لاقاه الحر الرياحي على رأس ألف فارس من أتباع الأمويين وهم مأمورون باعتقال الإمام (عليه السلام) ومن معه وجلبهم إلى عبيد الله بن زياد والي يزيد على الكوفة وقد بلغ بهم العطش أشده وأشرفوا على الهلاك فسقاهم الإمام (عليه السلام) بيده الشريفة عن آخرهم وسقى خيولهم، والتقى بهم الإمام (عليه السلام) يوم عاشوراء وقد حبسوا عنه الماء وطلب منهم شربة ماء لرضيعه واحتجّ عليهم أنواع الحجج، ولكنه لم يذكر أبداً إنني ألم أسقكم في الطريق وكدتم تهلكون فقابلوا ذلك الإحسان بسقي هذا الطفل الرضيع؟... لم يقل الإمام (عليه السلام) شيئاً من هذا لأنه فعل ما فعل لوجه الله لا نريد منكم جزاءاً ولا شكورا وهي الكلمة التي قالها قبل أكثر من خمسين عاماً.

فالأئمة (عليه السلام) أخلصوا للأمة ولم يدخروا عنها جهداً، فهل قابلتهم الأمة بأن أعطت كل ما عندها في طاعة الإمام (عليه السلام) يقول الإمام الباقر (عليه السلام)

(بلية الناس علينا عظيمة، إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا)(1).

المعاني الايجابية والسلبية للبلاء:

هذا الابتلاء هو سنة إلهية جرت في عباده،(لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (الأنفال: 42)، ولو لم يكن هناك ابتلاء وامتحان واختبار كيف سيثبت إحسان المحسن وإساءة المسيء وسوف يجادل المسيء في استحقاقه العقوبة ويجادل المحسن بطلب أكثر من استحقاقه (وَ كانَ الْإِنْسانُ

ص: 194


1- البحار: ج 26 ص 253.

أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (الكهف: 54)، وهو لا يكتفي بأن يحتج عليه ربّه بعلمه المسبق بحاله واستحقاقه ما لم يختبره في دار الدنيا ليكتشف الإنسان أمام نفسه مقدار استحقاقه.

والابتلاء يتنوع بحسب تفاوت المسؤوليات والدرجات الذي اشرنا إليه في خطبتي عيد الأضحى، وما دامت الحاجة موجودة فالابتلاء بها متحقق لمن هو قادر على قضائها أو الاهتمام بها والتفاعل معها، فإذا وجد فقير فهو ابتلاء للآخرين وإذا وجد مريض أو سجين أو مخطوف أو مظلوم أو مسلوب الحقوق العامة كحقه في الصحة والتعليم والخدمات والرفاهية والحياة الكريمة فهو ابتلاء للمسؤول المتصدي.

ومجتمعنا - أعانه الله وسلّمه من كل مكروه - يعاني من كل هذه الأنواع من الابتلاءات، ومنطقتكم منطقة المعامل ببغداد واحدة من النماذج التي تعاني من كل هذه المظالم والتقصيرات والاحتياجات فانتم ابتلاء لكل من هو قادر بحكم موقعه أو مسؤوليته أو بما منّ عليه الله تعالى من فضله أن يؤدي ما عليه لأداء واجبه، وأنتم حجة عليه سواء كان مسؤولاً حكومياً أو جهة دينية أو إنسانية أو أفراد أو أحزاباً ومنظمات.

وينبغي الالتفات إلى أن الابتلاء لا يتضمن معنى السلبية والأذى والمحنة بل يمكن أن يكون له معنى ايجابياً بأن يكون فرصة لطاعة الله تبارك وتعالى ونيل رضوانه وذلك هو الفوز العظيم، فلو لم يوجد فقير كيف سنحصل على ثواب الصدقة عليه، وإذا لم يوجد محتاج فستنسدُّ فرصة نيل ثواب مساعدة المحتاج وإدخال السرور عليه.

فالإنسان بإرادته واختياره هو الذي يجعل من الابتلاء سبباً للنجاح والفلاح والفوز بعلّو الدرجات أو يكون سبباً للوقوع في الهاوية بالتقصير

ص: 195

والإهمال واللامبالاة والعياذ بالله تعالى (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الملك: 2)،(أَ حَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (العنكبوت: 2-3).

جوهر مشاكلنا هو فقدان الإخلاص:

إن مشاكلنا في العراق كثيرة ومعاناتنا كبيرة، ويحاول المسؤولون الحكوميون أن يعلّقوها على شماعة الإرهاب وتَرِكة النظام السابق والديون وغيرها، وهي أعذار واهية تعجز عن تفسير كل ما يحصل بالبلد من قتل وخراب، وكل الدول تمر بأخطار وحروب ولا يوقفها ذلك عن مواصلة الأعمار وتوفير الخدمات وفرض هيبة القانون والنظام فالحكومة تتوزع مسؤولياتها على أكثر من عشرين وزارة ومكافحة الإرهاب تختص به وزارتا الدفاع والداخلية والأجهزة الساندة الأخرى.

فما وظيفة الوزارات الأخرى وأين هي انجازاتها وماذا قدمت خلال هذه السنين؟

إن جوهر مشاكلنا هو فقدان الإخلاص لله تبارك وتعالى ولهذا الشعب المظلوم وللبلد الجريح وهو الذي ينتج الأخطار التي أحدقت بنا وعلى رأسها الفساد المالي والإداري الذي ينخر بكيان الدولة ويضيف يومياً المزيد من الفقراء والمحرومين والمظلومين.

التحرك الإيجابي لاستنقاذ الحقوق:

والله تبارك وتعالى يطالبنا بالتحرك بكل ما أوتينا لتحمل هذه المسؤولية (وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا

ص: 196

مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظّالِمِ أَهْلُها وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) (النساء: 75).

ولا نقتصر في فهم القتال على المواجهة بالسيف فهناك جهاد أكبر وأصغر وكل من سعى للإصلاح وإقامة مشاريع الخير وإنصاف المظلومين فهو مجاهد في سبيل الله تعالى كما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام):

(الجهاد على أربعة أوجه...) إلى أن قال (عليه السلام):

(وأما الجهاد الذي هو سنة فكل سنة أقامها الرجل وجاهد في أقامتها وبلوغها وإحيائها فالعمل والسعي فيها من أفضل الأعمال)(1).

فلا نتصور أن واجباتنا تقف عند حدود الصلوات الخمس وصوم رمضان وأداء الخمس ونحوها. الم يكن الإمام الحسين (عليه السلام) يؤدي كل تلك الواجبات؟ فما هذا الابتلاء الإضافي الذي يتحدث عنه الإمام (عليه السلام) بقوله (بلية الناس علينا)، انه هذا الابتلاء بحاجات الناس ووجوب بذل الوسع في قضائها ولا يقرّ للمسؤول قرار حتى يكون جواب كل واحد من الشعب إذا سألناه: هل أنت سعيد؟ بقول: نعم أنا سعيد.

ولا ينال ذلك إلا بعون الله تبارك وتعالى وتسديده ولطفه ورعايته.1.

ص: 197


1- وسائل الشيعة، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 5 ح 1.

ص: 198

ضرورة مشاركة العراقيين في العملية السياسية

الوقائع المستحدثة ووظيفة العلماء:

ضرورة مشاركة العراقيين في العملية السياسية(1)

الوقائع المستحدثة ووظيفة العلماء:

إن الأحداث السياسية التي يمر بها البلد اليوم من أهم الوقائع التي نتكلم عنها ونقول من ما واقعة إلا ولله فيها حكم؛ لأنها تتعلق بالأمة جميعاً وتؤثر سلباً أو إيجاباً في مستقبلها سياسياً وثقافياً وأخلاقياً ودينياً واجتماعياً، فهي من أهم مستحدثات المسائل الفقهية المرتبطة بأفعال المكلفين كأفراد، فالتعرف عليها وبيانها والعمل على تنفيذها - أي الأحكام الاجتماعية العامة - أكثر إلحاحاً وأشد وجوباً.

من هنا كان لزاماً على علماء الإسلام (أيدهم الله تعالى) توعية الأمة وإرشادها إلى ما يجب أن تتخذه من مواقف بإزاء القضايا التي تعترضها، ومن تلك القضايا تسلّم العراقيين بأنفسهم إدارة شؤون بلدهم وبناء مؤسساته التي تحفظ كيانه وتوفر للشعب حقوقه كافة، وحتى لا تبقى ذريعة لقوات الاحتلال في البقاء، ولا تتحقق هذه النتيجة إلا من خلال خطوات:

1 - توعية الأمة بمطالبها الحقيقية ومصالحها المشروعة والإصرار عليها وضرورة المشاركة الجدية الفاعلة في تحقيقها.

ص: 199


1- أصدر سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) هذا البيان في 2003/12/30، 6 ذ. ق 1424، وانطلق سماحته من الحديث الشريف: (ما من واقعة إلا ولله فيها حكم) ليحدد المسؤوليات المتبادلة بين العلماء والأمة لمواجهة تحدي الاحتلال والتمهيد الواعي لتسلم العراقيين مسؤولية ادارة بلدهم.

2 - تنظيم شؤون الأمة وترتيب أمورها من خلال تأسيس الاتحادات والنقابات أو إنشاء الأحزاب والجمعيات والحركات التي تتبنى تلك المطالب وتتخذ المنهج المناسب لتحقيقها.

3 - وحدة الصف بإزاء القضايا المصيرية وإن تعددت الرؤى واختلفت المناهج، فإن هذا أمر طبيعي ما دام هناك عقل يفكر ويقتنع بما يتوصل إليه ولكن يجب أن ننظر إلى هذا التعدد على أنه حالة إيجابية باعتباره تنويعاً لآليات العمل التي تصب في الهدف الواحد، لتتمكن من استيعاب كل شرائح المجتمع ذي القناعات المتعددة وعندئذ تجتمع هذه التشكيلات وتنسق أعمالها وتوحّد مواقفها وتتفق على مرشحيها في قوائم موحدة لتقف كلها صوتاً واحداً وراء هؤلاء المرشحين النزيهين الكفوئين مهما كانت انتماءاتهم بعيداً عن الأنانية والمصالح الحزبية أو الشخصية ولا يكون حالة سلبية إلا إذا لبس ثوب الأنانية والفئوية والشخصية فيتعصب كلٌ لحزبه ويحاول إلغاء الآخر وتسقيطه.

4 - الشعور بالمسؤولية وتحملها بشكل كامل ولا يلقيها على غيره وليعود نفسه هذه المعاناة ولا يخلد إلى حياة الراحة والكسل ولا يكونوا كالذين قالوا لنبيهم (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ) بل كالذين (قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) .

تعبئة الأمة لأداء دورها الرسالي:

وقد وجدت كثيراً من الناس الأكفاء الذين يتمتعون بثقة الناس ينسحبون من المسؤولية وكأنهم لطول حرمانهم من المواقع السياسية والوظيفية العليا ألِفُوا الحياة في الظل، ولم يستطيعوا الخروج إلى النور ليروا أن اللذة الحقيقية في التعب والعناء لنيل رضا الله تبارك وتعالى، قال تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (الانشقاق: 6)، وكلما كان العنت والمشقة في سبيل

ص: 200

الله تعالى وإدخال السرور والسعادة على البشرية فهذا عمل مرضي لله تبارك وتعالى، فإن الأمة كالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فأي تقصير من قبل العناصر الملتزمة النزيهة في ملئ المواقع الوظيفية والإدارية من أدناها إلى أعلاها يعني إعطاء الفرصة للعناصر الفاسدة في إشغالها وسيكونون وبالاً على الأمة التي لا تلوم إلا نفسها على هذا التقصير.

وتتحمل الحوزة العلمية الشريفة مسؤولية كبيرة في القيام بهذه الخطوات وتعبئة الأمة لأداء دورها الرسالي وأن تتولى رعايتها على طول الخط وفي جميع المراحل.

الحوزة الشريفة وأداء الدور الرسالي:

والحوزة العلمية قد عملت بالوسائل التي تراها مناسبة للضغط على الأطراف المعنية بالقضية العراقية مما دفعهم إلى الرضوخ إلى مطالب الشعب المشروعة وتسليم السيادة إليهم وتمكينهم من إدارة البلد بأنفسهم، ونحن قد قدمنا مشروعاً لحل المشكلة السياسية في المرحلة الانتقالية قبل عدة أشهر ويبدو أنهم احتاجوا إلى كل هذه المعاناة والخسائر وتدهور الوضع ليقتنعوا بتنفيذه ومع ذلك فإنهم التفوا عليه وصادروا عدة نقاط مهمة فيه وخصوصاً إجراء انتخابات حرة مباشرة لكل الشعب لاختيار أعضاء البرلمان الانتقالي، ولجأوا إلى هذه التفاصيل والآليات المعقدة والطويلة.

مسؤولية الشعب:

وعلى أي حال فإن على الشعب أن يشارك لاستنقاذ ما يمكن تحصيله من حقوقه وتختلف طبيعة المشاركة بحسب مؤهلات الشخص لموقع المسؤولية

ص: 201

فيرشح من يجد نفسه أهلاً لموقع ما، في انتخابات تلك الموقع ولكي تتوحد الأصوات وراء مرشح واحد جامع للصفات يكون على المرشحين التفاهم فيما بينهم لكي ينسحب الجميع لمصلحة واحد منهم حتى لا تتشتت الأصوات فتضيع وتتحول القوة والكثرة إلى ضعف وهزيمة.

ويجب على الشعب الاستمرار بالمطالبة في إشراكه في الاختيار من خلال انتخابات حرة مباشرة من أدنى موقع إلى أعلاه سواء على مستوى المجلس البلدي أو المحافظ أو البرلمان أو رئاسة الجمهورية أو لجنة وضع الدستور، وإذا تعذر ذلك بأوسع أشكاله فيمكن القبول بدرجة أقل منه إلا أنه لا بد أن تمنح الفرصة الكافية للشعب ليختار ممثليه ليكتسب المسؤولون شرعيتهم، وإلا فإن الفجوة تبقى قائمة بل تتعمق وتزداد حالة الإحباط والشعور بالغبن والظلم مما يؤدي إلى عواقب وخيمة.

ويجب استغلال الوقت وعدم إضاعته بل ينبغي الاستفادة من كل لحظة لتعبئة الطاقات وحشدها وتوحيدها واختيار المؤهلين وتعريفهم للجماهير وحثهم على دعمهم وانتخابهم وتسخر كل الوسائل والقنوات والآليات وتوظيفها لهذه العملية وتوعية الأمة بمواصفات وشروط من ينتخبونه، فإنها أمانة ثقيلة يجب أن تؤدى إلى أهلها.

الخطاب السياسي الشيعي في العراق:

وأحب أن أذكر هنا جواب سؤال وُجِّه إليّ عن الخطاب السياسي الشيعي وأهدافه وآلياته.

س: هل تعتبرون أن الخطاب السياسي الشيعي ناضج في هذه المرحلة أم لا؟ وعلى من تقع مسؤولية هذا الخطاب، على الحوزة العلمية أم على الأحزاب الإسلامية؟

ص: 202

ج -: بسمه تعالى: إن الخطاب السياسي يعني الأطروحة والرؤية وبرنامج العمل الذي يقدمه أي حزب أو تنظيم لتحقيق الأهداف التي يعمل من أجل تحقيقها، والخطاب السياسي الشيعي فيه مطالب عامة يشترك فيها مع جميع الطوائف والتيارات الممثلة للشعب، وأخرى خاصة بالطائفة نفسها لما فيها من خصوصيات في هذا البلد كوجود المرجعية الدينية والعتبات المقدسة والحوزة العلمية الشريفة، والمظلومية وغمط الحقوق التي تعرضت لها خلال العقود السابقة.

والخطاب السياسي الشيعي لا بد أن يشمل جميع هذه المحاور وتتحمل الحوزة العلمية والأحزاب السياسية مسؤولية كلا الخطابين، وسوف أؤجل الحديث عن الخطاب الثاني الخاص، أما الخطاب الأول العام فيمكن للحوزة أن تشارك فيه من خلال عدة خطوات:

1 - وضع الأهداف العامة التي يجب السعي لتحقيقها.

2 - الانفتاح على الأحزاب والتشكيلات السياسية الإسلامية الموجودة في الساحة والاطلاع على برنامج عملها، لمعرفة مدى وعيها لهذه الأهداف وقدرتها على تحقيقها ونظافة آليات عملها ونزاهة وإخلاص القائمين عليها وتقييم دورها.

3 - دعوة المؤمنين المخلصين لتشكيل النقابات والاتحادات والجمعيات المتخصصة وغيرها لاستقطاب وتجميع الطاقات الكفوءة والنزيهة، وحثها على العمل السياسي والإشراف على برامج عملها وأطروحتها، والحفاظ على جاهزيتها لممارسة دورها في إدارة البلد.

4 - دعم وإسناد الأحزاب والتشكيلات المؤهلة لتحقيق الأهداف

ص: 203

المطلوبة وتوجيه الجماهير نحوها بالآليات المتعددة كإخراج المسيرات وعقد التجمعات.

ونستطيع أن نضع جملة من الخطوط العريضة لمطالب الأمة التي يراد تحقيقها، وعلى الأحزاب بلورة وصياغة هذه الأفكار في خطاب سياسي وآليات عمل تفصيلية كأي اختصاصي في مجال معين، وتتفاوت الخطابات والأطروحات السياسية في النضج تبعاً لكفاءة وخبرة القائمين عليها ووعيهم وإخلاصهم لقضيتهم، والمهم هي الجدية في الانجاز، ومنها:

1 - نشر الفضيلة في المجتمع ومنع الفساد والانحراف والمحافظة على هويتنا الإسلامية الأصيلة.

2 - وصول العناصر الكفوءة والنزيهة إلى موقع المسؤولية والإدارة.

3 - الارتقاء بمستوى العلم والمعرفة والوعي لدى أبناء الأمة لتكون بالمستوى الحضاري المعاصر.

4 - تحقيق العدالة في الأمة واستقرار الأمن وإنعاش الوضع الاقتصادي للبلد.

5 - الحفاظ على وحدة البلد وتركيبته الاجتماعية واستقلاله.

6 - توفير الحقوق والحريات لجميع فئات الشعب وطوائفه وأعراقه بما لا ينافي الفقرات أعلاه.

7 - وضع دستور للبلد يضمن النقاط أعلاه ووسائل تفعيلها ولا يتقاطع مع الشريعة.

8 - ضمان انتخابات حرة نزيهة لاختيار برلمان وحكومة تمثل بصدق تركيبة المجتمع العراقي وتحترم إرادته بحسب التوزيع السكاني.

ص: 204

ولكي يتحقق ذلك لابد من الحوار بين جميع التيارات الممثلة للشعب وانفتاح بعضها على بعض خصوصاً الإسلامية منها لتنسيق المواقف اتجاه القضايا العامة.

فمسؤولية وضع الخطاب السياسي والعمل على انجازه على ارض الواقع تقع على الحوزة الشريفة والتشكيلات السياسية وعموم المؤمنين كل بحسبه، ولكل فرد في الأمة تأثير في مستقبلها السياسي كالمشاركة في التصويت على الدستور بعد فهمه واستيعابه أو انتخاب ممثليه في البرلمان والحكومة.

أسأل الله تعالى أن يأخذ بيد هذه الأمة لما فيه صلاحها وفلاحها ونجاحها في الدنيا والآخرة إنه نعم المولى ونعم النصير (وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (القصص: 5).

ص: 205

ص: 206

المسؤوليات الثابتة والمتغيرة

لكي نؤدي مسؤوليتنا:

المسؤوليات الثابتة والمتغيرة(1)

لكي نؤدي مسؤوليتنا:

قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم (وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (الصافات: 24)؛ فمسؤولية الإنسان إذن لا تنتهي بالموت، بل لا بد من وقوفه في يومٍ للسؤال عن كل ما صدر منه صغيراً كان أو كبيراً (فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى) (طه: 52) وسيقف الإنسان يومئذٍ مبهوتاً متعجباً مستسلماً (وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (الكهف: 49).

ولو أنا إذا مِتنا تُركنا *** لكان الموتُ غايةَ كل حيِّ

ولكنّا إذا متنا بُعثنا ونسألُ بعدها عن كلّ شيِّ

فعلى الإنسان أن يستعد ليوم السؤال وأن يحضّر أجوبته عن كل أفعاله ومعتقداته لكي لا يُفاجأ بصحائف أعماله ويجد فيها ما جنت يداه ولا يستطيع التدارك فلا ينفعه الندم (وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ) (ص: 3) وأن يعي مسؤولياته أي ما سيُسألُ عنه - لأن المسؤولية اسم شيء مشتق مما يُسألُ عنه - لكي يؤديها بالشكل الصحيح.

ص: 207


1- خطبتا صلاة عيد الأضحى المبارك التي أقامها سماحة الشيخ اليعقوبي في داره يوم 2007/12/21.

أصناف المسؤوليات:

والمسؤوليات على صنفين: ثابتة ومتغيرة؛ ولا نعني بالمتغيرة: أن حكمها يتغير لأن (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة)(1) وإنما نعني حصول التغيّر في الموضوع والعناوين فيتغير الحكم تبعاً لها، فالخمر حرام لكن إذا عولجت وانقلبت خلاً صارت حلالاً لتغير الموضوع، والميتة حرام ولكن لمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ تكون حلالاً لطروّ عنوان ثانوي عليها وهو الاضطرار، فالتغير ليس في أصل الأحكام وإنما في تطبيقاتها.

والتكاليف الثابتة معلومة على مستوى العقائد كالإيمان بوجود الله تبارك وتعالى ووحدانيته وصفاته الحسنى والأنبياء والرسل والأئمة سلام الله عليهم، وعلى مستوى الأحكام كوجوب الصلاة والصوم والخمس وحرمة شرب الخمر والزنا والغيبة وغيرها أو على مستوى الأخلاق كمحبوبية الصدق والكرم والحلم ومبغوضية الحسد والأنانية والتهور وغيرها.

أما المتغيرة فيمكن أن تتأثر بعناصر عديدة: -

التأثر بالموقع:

منها: الموقع؛ فإن الإنسان العادي مسؤول عن نفسه وأهله وما يرتبط به، وحينما يكون وزيراً مثلاً فإنه مسؤول عن مؤسسات كاملة وإدارة كل الشؤون المرتبطة بوزارته ورعاية مصالح جميع الناس بما يرتبط بوظيفته، وحينما يكون إماماً في مسجد فإنه يكون مسؤولاً عن أبناء تلك المنطقة فيتفقدهم ويصلهم ويقضي حوائجهم ويساعدهم ويهديهم ويصلح شأنهم، فإذا

ص: 208


1- الوسائل: ج 30 ص 196.

أصبح قائداً أو مرجعاً دينياً شملت مسؤوليته الملايين من الناس في شرق الأرض وغربها؛ ولذا نجد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول وهو بالكوفة

(ولعلَّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع)(1)، ويروي التأريخ أن المعتصم العباسي وصلته استغاثة امرأة في عمورية من بلاد الروم نادت: وامعتصماه؛ فقاد جيشاً كبيراً وخرج بنفسه لتأديب الروم وإغاثة المرأة.

وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم ومن سمع رجلاً ينادي: يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم)(2).

وكم من فقير وجائع ومكروب ومهجّر ومريض ومسجون بغير حقٍّ ينادي اليوم: يا للمسلمين، يا للحكومات، يا لعلماء الدين، يا للمرجعيات.

فليعلم كل واحدٍ مسؤوليته وإذا عجز عن حل المشكلة وقضاء الحاجة فلا أقل من التفاعل مع القضايا ونصرة أصحابها بالكلمة والموقف؛ عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال:

(إن المؤمن لترد عليه الحاجة لأخيه فلا تكون عنده فيهتمّ بها قلبُه فيدخله الله تبارك وتعالى بهمِّه الجنة)(3) ، أما الذين في موقع يسعهم قضاء حوائج الناس ويقدرون عليها فلا يهتمون ويقصرون في إنجازها فقد خرجوا من ولاية الله تبارك وتعالى، ففي الحديث عن موسى بن جعفر (عليه السلام)

(من قصد إليه رجل من إخوانه مستجيراً به في بعض أحواله فلم يُجره بعد أن يقدر عليه4.

ص: 209


1- نهج البلاغة: الخطبة: 45.
2- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب فعل المعروف، باب 18، ح 3.
3- المصدر السابق، ح 4.

فقد قطع ولاية الله عز وجل)(1) ، وعن الإمام الصادق عليه السلام قال:

(لم يَدَعْ رجلٌ معونةَ أخيه المسلم حتى يسعى فيها ويواسيه إلا ابتلي بمعونة من يأثم ولا يؤجر)(2).

تأثر المسؤولية بالظروف المحيطة:

ومنها: الظروف المحيطة به؛ فنحن في العراق نعيش حالة احتلال وصراع سياسي وفقر وحرمان وقتل وتهجير واختطاف وفساد إداري وسرقة للمال العام واعتقال للأبرياء وغيرها من القضايا التي تحتم اتخاذ مواقف بإزائها لم نكن مكلفين بها قبل وجودها، ولا يعذر الإنسان حين يصمّ آذانه عن كل هذه القضايا من دون أن يقوم بواجبه تجاهها، كما لا تعذر الحكومة حين تصمُّ آذانها عن مطالبة عوائل الأبرياء المعتقلين للإفراج عنهم أو تصمّ آذانها عن سماع الشعب العراقي المحروم الذي يطالب بتوفير مفردات البطاقة التموينية وتحسينها فتَفعل الحكومة العكس وتعلن عزمها على تقليل المفردات إلى النصف.

تأثر المسؤولية بالبلد:

ومنها: البلد الذي يؤثر في نوع المسؤولية، فالشخص الذي يسكن العراق له تكاليف تختلف عن الذي يسكن في بلاد الغرب مثلاً فهذا تبرز عنده وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه يعيش في وسط مجتمع مسلم فوظيفته تقويم الانحراف داخل المجتمع المسلم بهذه الوظيفة، أما المقيم في الغرب فتبرز عنده وظيفة الدعوة إلى الإسلام لأنه يحاور غير المسلمين.

ص: 210


1- المصدر السابق، باب 37، ح 4.
2- المصدر السابق: ح 5.

ويؤثّر في حجم المسؤولية ومقدارها وجرّبتم لو أن مجموعة من الطلبة الجامعيين ينتمون إلى محافظات متعددة صدر منهم تصرف معين فإن الطالب النجفي يحاسب أكثر من غيره، ومعذّريته أقل.

تأثر المسؤولية بالعلم:

ومنها: العلم؛ فكلما ازداد الإنسان علماً ازدادت مسؤوليته بكلا شقّيها أي من حيث الثواب على الإحسان والعقاب على الإساءة لذا ورد في الحديث أن الجاهل يغفر له سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد.

نأثر المسؤولية بالمعرفة الإلهية:

ومنها: المعرفة بالله تبارك وتعالى؛ فكلما ازدادت معرفته ازدادت مسؤوليته، فقد تكون حالة مباحة وليست في دائرة المسؤولية ضمن مستوى معين ولكنها تكون ضمن دائرة المسؤولية في المستوى الآخر، لذا ورد في الحديث الشريف (حسنات الأبرار سيئات المقرّبين) فهي ليست سيئات بالمعنى المتعارف وإلا لما أصبحت حسنات بالنسبة للأبرار، فهي سيئات بالمعنى المناسب للمقربين.

مثلاً يستغفر البعض لأنه غفل فلبس الحذاء الأيسر قبل الأيمن على خلاف الاستحباب، وروي عن بعض العلماء أنه كان يبكي لما دنت منه الوفاة رغم أنه أنفق كل ما عنده لقضاء حوائج الناس لكنه يبكي لأنه كان يستطيع أن يستعمل جاهه لخدمة مزيد من الناس.

روى سيدنا الشهيد الصدر (قدس سره) أنه صلى ركعتي استغفار ذات مرة لأنه التقى بشخص لم يره منذ مدة فقال له: مشتاقين. ولما عاد إلى نفسه خشي أن لا يكون صادقاً.

ص: 211

ومستويات الناس من هذه الناحية متباينة جداً ومتفاوتة بدرجات لا تنتهي لأن الكمال لا ينتهي، وقد ورد ما يدلّ على ذلك في حديث عن الأمام علي بن الحسين (عليه السلام) أنه جاء إليه رجل فسأله (فقال له: ما الزهد؟ فقال: الزهد عشرة أجزاء فأعلى درجات الزهد أدنى درجات الورع، وأعلى درجات الورع أدنى درجات اليقين، وأعلى درجات اليقين أدنى درجات الرضا، وإن الزهد في آية من كتاب الله عز وجلّ (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ)(1) .

الإيمان عشر درجات:

وقد ورد عن المعصومين (عليهم السلام) عدم جواز استعلاء صاحب الدرجة الأرقى على من هو دونه والاستخفاف به أو عدم مراعاة حاله، ففي كتاب الخصال للشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله لأحد أصحابه واسمه عبد العزيز: (يا عبد العزيز الإيمان عشر درجات بمنزلة السُلّم له عشر مراقي وترتقي منه مرقاة بعد مرقاة فلا يقولن صاحب الواحدة لصاحب الثانية لست على شيء، ولا يقولن صاحب الثانية لصاحب الثالثة لست على شيء... حتى انتهى إلى العاشرة، قال: وكان سلمان في العاشرة، وأبو ذر في التاسعة، والمقداد في الثامنة، يا عبد العزيز لا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك، إذا رأيت الذي هو دونك فقدرت أن ترفعه إلى درجتك رفعاً رفيقاً فافعل، ولا تحملنَّ عليه ما لا يطيقه فتكسره فإنه من كسر مؤمناً فعليه جبره)(2).

ص: 212


1- (1) الخصال للشيخ الصدوق، باب العشرة، ص 437.
2- (2) الخصال للشيخ الصدوق، أبواب العشرة، ص 448.

قصة للجد الشيخ اليعقوبي مع الميرزا النائيني:

وروى السيد الصدر (قدس سره) أن جدي اليعقوبي كان يقيم مجالس العزاء الحسيني في دار الميرزا النائيني (قدس سره) المرجع الديني في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي فإذا أنهى المجلس قال الناس: أحسنت وأمثالها إلا النائيني فكان يقول: غفر الله لك، فسأله الشيخ اليعقوبي عن سرّ ذلك فقال له النائيني (قدس سره): لأنك تأتي في كلامك بروايات لم تثبت صحتها فأطلب لك المغفرة لذلك، فالتزم الشيخ اليعقوبي (قدس سره) في اليوم التالي بالتحقيق في سند الروايات وعدم ذكر إلا ما يصحّ منها فلم يؤثر في الجالسين ولم تتحرك عواطفهم ولم يتفاعلوا مع المصيبة فأذن له الشيخ النائيني (قدس سره) بالعودة إلى طريقة التسامح في الروايات أي ما يسمى بقاعدة التسامح في أدلة السنن والمستحبات، وعلّق السيد الصدر (قدس سره) بأن (حال) اليعقوبي أو درجته هي (من بكى أو أبكى أو تباكى كان له كذا من الأجر) وحال الشيخ النائيني (قدس سره)(ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) فتكليفهما مختلف.

تأثر المسؤولية بالانتماء:

ومنها: الانتماء؛ فالذي يوالي أمير المؤمنين (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) عليه مسؤوليات أكثر من غيره من المسلمين والذي ينتمي إلى المرجعية الناطقة الحركية يشعر بالمسؤولية عن دينه ومجتمعه أكثر ممن ينتمي إلى المرجعيات التقليدية الساكنة لذا تجد الحيوية والاندفاع والسبق إلى تنفيذ المشاريع التي تعلي كلمة الله تبارك وتعالى وترفع راية الإسلام في أتباع المرجعية الأولى أكثر.

ص: 213

مسؤولية الإيمان بالإمام المهدي (عليه السلام):

ولعل من أهم المسؤوليات التي يتحملها من ينتمي إلى مدرسة أهل البيت (سلام الله عليهم) هو الإيمان بالإمام المهدي (عجل الله فرجه) والتفاعل مع قضيته واستشعار مراقبته ورعايته واطلاعه على أعمال العباد والعمل على تعجيل ظهوره الشريف وإقامة دولته المباركة.

ما الذي نفهمه من دعاء الفرج؟

وأشير هنا إلى واحدة من تلك المسؤوليات وهي ما ورد في الدعاء الشريف

(اللهمّ كُنْ لِوليِّكَ الحجةِ بن الحسنِ صَلواتُكَ عَليهِ وعلى آبائِهِ) إلى أن يقول

(حتى تُسكِنهُ أرضك طوعاً) أي طواعية وسلماً من دون قتال أو صعوبات أو معوقات. والدعاء عند أهل البيت ليس فقط كلمات تتلى للثواب وإنما هو وسيلة لإلقاء العلوم والمعارف إلى شيعتهم.

ويمكن أن نفهم هذه الفقرة بعدة أشكال:

1 - الطلب من الله تبارك وتعالى أن يذلل للإمام (سلام الله عليه) السماوات والأرض والبحار فتكون في أوضاع مناسبة لحركته المباركة وأن توظف لخدمته وتكون عوامل مساعدة لعمله المبارك كما نصر الله تبارك وتعالى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في معركة بدر بألفٍ من الملائكة والنعاس والمطر والرعب في قلوب الكفّار؛ قال تعالى (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ، وَ ما جَعَلَهُ اللّهُ إِلاّ بُشْرى وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَ مَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَ لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ، إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) (الأنفال: 9-12) وكيف أرسل الله تبارك وتعالى الرياح العاتية على الأحزاب فقلّعت خيامهم وهزمتهم حتى انسحبوا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ كانَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) (الأحزاب: 9).

ص: 214

2 - أن يمكّن المؤمنين من الوصول إلى مواقع النفوذ والسلطة والحكم في البلاد التي ينطلق منها الإمام (عجل الله فرجه) لتأسيس دولته الكريمة وهؤلاء يهيئون تسليم الحكم للإمام (عجل الله فرجه) بكل طاعة وولاء أما إذا كانت بأيدي المنافقين والكفار والمعادين فإن الإمام سيبذل كثيراً من الجهد والتضحيات لفتح هذه البلاد، وقد وردت روايات تسمي فيها بعض القيادات الصالحة التي تلتحق بالإمام (عليه السلام) مع قواتها سلماً وتسلّم له القيادة في العراق في حين تحاربه جيوش من بعض الدول المجاورة وبعض المنافقين في هذه البلاد.

3 - إن البشرية ستكون قريباً من الظهور مستعدة لاستقبال المصلح الموعود بسبب الأزمات الخانقة التي تعجز عن حلها سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو بيئية أو صحية أو عسكرية وغيرها فحينما تبلغهم دعوة الإمام (عجل الله فرجه) لإقامة الحق والعدل وسعادة البشرية وإنصاف المظلومين والمحرومين واجتثاث أصول الفساد فسينقادون إليه ويؤمنون به، ويساهم السيد المسيح (عليه السلام) بدور فاعل في إذعان الأمم المسيحية للإمام المهدي (عجل الله فرجه)، بحسب ما ورد في الروايات.

فكلّ من هذه المحاور يوجب تكليفاً بإزائه، فالشكل الأول يدعو إلى ديمومة الدعاء للإمام (عجل الله فرجه)، والشكل الثاني يدعو شيعة الإمام (عجل الله فرجه) التواقين لظهوره الميمون أن يزيدوا من خبرتهم في الإدارة والحكم وينظموا صفوفهم ويعبئوا طاقاتهم للوصول إلى هذه المواقع وبذل الوسع في النجاح في أداء مهامهم حتى يتمكنوا في الأرض وينجحوا ثم يسلّموا مقاليد الأمور إلى بقية الله الأعظم (عجل الله فرجه).

والشكل الثالث يقضي بأن لا يقصّر المؤمنون في عرض الإسلام النقي

ص: 215

الأصيل كما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله الطاهرين (عليه السلام) على شعوب العالم وأن يبينوا لهم محاسنه ويرغبوهم بالدخول فيه ويشوّقونهم إلى اليوم الذي تسود فيه مبادئ الإسلام - التي هي مبادئ الإنسانية - الأرضَ كلها مستفيدين من وسائل الإعلام والاتصالات التي بلغت حداً عظيماً، ويشرحون لهم الحال المزرية التي أوصلتهم إليها أنظمتهم التي وضعها البشر بجهله وغروره من أمراض فتاكة كالآيدز ومن قلق ورعب ومستقبل مجهول وتفكك اجتماعي وضياع وأزمات اقتصادية وتلوث بيئة وغيرها من المشاكل المستعصية.

لا تكونوا من المطففين:

إن كل العناصر السابقة كولاية أهل البيت (عليهم السلام) أو الكون في موقع مهم يمكن أن تكون سبباً لامتيازات يحصل عليها الإنسان في الدنيا والآخرة، ومقتضى العدالة والإنصاف أن يفي بالمسؤوليات التي تقابلها وإلا كان من المطففين الذين يأخذون أكثر مما يعطون فهدّدهم الله تبارك وتعالى بالويل (بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، اَلَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (المطففين: 1-6).

روي أن الإمام الحسين (عليه السلام) كان يذهب إلى مكة ماشياً على قدميه وإن النجائب المعدّة للركوب تُقاد بين يديه تعظيماً لله تبارك وتعالى، ولكنه كان يتنكب عن الطريق العام فقيل له في ذلك، فقال (عليه السلام):

(أخشى أن آخذ من رسول الله أكثر مما أعطيه) فالحسين (عليه السلام) صاحب أعظم عطاء في البشرية يستقلّ ما يقدم إزاء ما يأخذ من امتيازات كالتقديس والحب والتبرك وغيرها.

لنحاسب أنفسنا على ما أدينا من مسؤوليات:

أيها الأحبة:

أمام هذه المديات الواسعة والتنوع الكبير والتباين الهائل في المسؤوليات

ص: 216

والاستحقاقات والامتيازات ينبغي للإنسان أن يراجع نفسه ويقيّم أعماله ويجري محاسبة يومية انطلاقاً من الأحاديث الشريفة كقول الإمام الكاظم (عليه السلام): (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه)(1) وقول الإمام الصادق (عليه السلام) (فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها، فإن للقيامة خمسين موقفاً كل موقف مقداره ألف سنة، ثم تلا قوله تعالى (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ)(2) ، ولا أقل من استغلال الأيام الشريفة لهذه المراجعة والتأمل فيما قدّم وأخّر كيوم عرفة يوم التوبة العالمي والاستغفار والإنابة إلى الله تعالى وفي يوم العيد الذي يعني العود والرجوع إلى الله تبارك وتعالى، وكان من المعالم البارزة لإحياء هذه الشعائر الحشد الكبير الذي غصّ بهم الصحن الحسيني المطهّر أمس لتلاوة دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة وهم يبكون ويتضرّعون ونقلته لنا بعض الفضائيات، ومثل هذا الاجتماع المبارك سبب مهم لرفع البلاء عن هذه الأمة.

ما الذي يقتضيه الشعور بالمسؤولية؟

إن الشعور بهذه المسؤوليات والالتفات إليها يقتضي عملين:

الأول: رفع التقصير عما لم يقم به الإنسان والندم عليه وتداركه.

الثاني: شحذ الهمّة والعزيمة ورفع مستوى الطموح ليبلغ أعلى هذه الدرجات ويستوعب أكبر مساحة من المسؤوليات ليحظى بأعلى الامتيازات عند الله تبارك وتعالى (وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 72) (قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ

ص: 217


1- وسائل الشيعة: ج 11، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 69، ح 1، 2.
2- وسائل الشيعة: ج 11، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 69، ح 1، 2.

جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ، اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ النّارِ، اَلصّابِرِينَ وَ الصّادِقِينَ وَ الْقانِتِينَ وَ الْمُنْفِقِينَ وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) (آل عمران: 15-17).

المرجعية الرشيدة العارفة بزمانها:

كان بودّي - لو سمح الوقت - أن أتحدث بمناسبة مرور عام على صدور تقرير بيكر - هاملتون - يوم 2006/12/6 الذي ضمّ (79) توصية سميت ب - (الطريق إلى الأمام) لنرى كم من هذه التوصيات نُفّذت خلال هذا العام ليأخذ الساسة العراقيون وفي عموم المنطقة هذه التوصيات على محمل الجد وعدم النظر إليها على أنها مقترحات غير ملزمة.

كما أشير باختصار إلى أن جملة من الوقائع على الأرض تشير إلى قرب حصول حدث سياسي كبير(1) وقد بنيت توقعاتي هذه على عدة معطيات ابتداءً من تشكيل التكتل الرباعي الذي لم يعرف له المحللون وجهاً إذ من غير المعقول أن ينفصل الحزبان الشيعيان عن كتلة برلمانية هي الأكبر - أي الائتلاف العراقي الموحد - ويضيّعا فرصة قيادة العملية السياسية ويشكلا بالمناصفة مع الحزبين الكرديين هذا التكتل، حتى الإدارة الأمريكية علّقت في حينه بأن لا جديد في هذا التكتل لأنه ضمّ نفس المتحالفين في السلطة، لكن يبدو أن أهداف الذين سعوا إلى تشكيل هذا التكتل قد وضحت لوزيرة الخارجية الأمريكية أو أنها كانت واضحة لديها لكن حصلت القناعة الآن بها حيث قالت في زيارتها قبل أيام للعراق إن التكتل الرباعي يمثل خارطة طريق لعملية سياسية صحيحة.

ص: 218


1- لمعرفة المقصود أنظر خطاب المرحلة: ج 5 ص 247.

ولم يهتدِ أحد إلى هدف تشكيل التكتل، ويمكن أن نضع ضمن هذه المعطيات ما أعلنه مصدر مقرب من رئيس جمهورية العراق قبل يومين أن رئيس الجمهورية سيطلق بعد العيد مبادرة لإصلاحات سياسية(1) تتضمن تشكيل حكومة وحدة وطنية حقيقية (على تعبيره) وعلى أنها على أي حال فلا يتسع الوقت لبيان تفاصل هذه المعطيات والله العالم وهو مدبّر الأمور ولا رادَّ لقضائه.ق.

ص: 219


1- () انظر السابق.

ص: 220

الشعب غير معذور إذا لم يختر الكفوئين المخلصين

اشارة

الشعب غير معذور إذا لم يختر الكفوئين المخلصين(1)

بحسب المقرر من النظام المعمول به حالياً في العراق فإن الانتخابات ستجري بإذن الله تعالى في موعدها أو في غير موعدها وحينئذٍ سيقول الشعب كلمته في من يمثله وإذا كان معذوراً في المرة السابقة بسبب قلة الخبرة والمعرفة بالأشخاص وحداثة التجربة والمزايدات الطائفية والقومية والمتاجرة ببعض الرموز الدينية وغيرها من المؤثرات فاختار أشخاصاً لم يكونوا أمناء على المسؤولية ولم يعملوا لمصلحة شعبهم فانه هذه المرة غير معذور في عدم اختيار أبنائه الكفوئين النزيهين الوطنيين الذين يتفانون في حب وطنهم وخدمة شعبهم، بعد أن ذاقوا الأمرّين من الموجودين وحرموهم من ابسط حقوقهم في الحياة الحرة الكريمة.

الله تعالى لا يستجيب لمن انتخب الظالمين بأيديه:

تتحدث الروايات الشريفة عن حالات لا يُعذر فيها الناس ولا يُسمع لهم دعاء برفع البلاء لأنهم مسؤولون عن الظلم الذي وقع بهم ومنها رواية صحيحة عن الوليد بن صبيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

(كنت عنده وعنده جفنة من رطب فجاء سائل فأعطاه ثم جاء سائل آخر فأعطاه، ثم

ص: 221


1- من حديث سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع وفد من مدينة الكوفة المقدسة ضمّ شيوخ عشائر ووجهاء ومسؤولي منظمات مجتمع مدني يوم السبت 24 ج 1429 2 المصادف 2008/6/28.

جاء آخر فأعطاه، ثم جاء آخر فقال: وسَّع الله عليك، ثم قال: إن رجلاً لو كان له مال يبلغ ثلاثين أو أربعين ألفاً، ثم شاء أن لا يبقى منه شيء إلا قسّمه في حقٍ فعل فيبقى لا مال له، فيكون من الثلاثة الذين يُردّ دعاؤهم عليهم، قال: قلت: جُعِلت فداك من هم؟ قال: رجل رزقه الله عز وجل مالاً فأنفقه في وجوهه ثم قال: يا رب ارزقني فيقول الله عز وجل أولم أرزقك، ورجل دعا على امرأته وهي ظالمة له فيقال له: ألم أجعل أمرها بيدك، ورجل جلس في بيته وترك الطلب، ثم يقول: يا رب ارزقني فيقول الله عز وجل: ألم أجعل لك السبيل إلى طلب الرزق)(1).

ويفهم الفقيه العارف بالروايات ومن مناسبات الحكم والموضوع - كما يصطلحون عليها - أن القضية غير مقتصرة على هؤلاء الثلاثة، لذا ذكر حديث آخر مثله خمسة عناوين(2) وإنما يترتب هذا الأثر - وهو عدم استجابة الدعاء برفع الظلم وعدم المعذورية - لكل من رضي بالظلم وخنع له وهو ممن شارك في جلب هذا الظلم وإقامته.

فإذا أعطيتم أصواتكم في الانتخابات المقبلة سواء كانت المحلية أو العامة للذين لا تعرفون منهم مؤهلات التصدي للمسؤولية فلا تلوموا إلا أنفسكم إذا جوّعوكم وأعطوكم مواداً غذائية مسرطنة(3) وغير صالحة للاستهلاك البشري، أو إذا حرموكم من خدمات الماء والكهرباء والنفط والغاز وغيرها، أو إذا اعتقلوا أبناءكم لا لذنب إلا لأنهم يخالفون رؤاهم، أو إذا قسّموا الوطن الواحد وجعلوا أهله شيعاً، أو إذا أطلقوا يد ميليشياتهمق.

ص: 222


1- كتاب (الخصال) للشيخ الصدوق، أبواب الثلاثة، الحديث 208 ص 160.
2- حديث معتبر في باب الخمسة، ح 71 ص 299.
3- هذه الأمور المذكورة بعض مظاهر الفساد والظلم في عمل الحكومة يومئذٍ وكلها مثبتة بوثائق.

وجماعاتهم المسلحة لينشروا القتل والدمار والخطف والسرقة، أو إذا وزّعوا على المرضى أدوية ملوثة بفيروسات الايدز وغيرها من الأمراض الفتاكة، أو إذا حرموا أبناءكم من فرصةٍ للعمل يكسبون منها قوتهم مادمت لا تنتمي إلى أحزابهم، أو إذا باعوا الوطن إلى الأجنبي بصفقات بخسة، أو إذا جعلوكم ضحية ووقوداً لتنفيذ أجندات إقليمية ودولية وغيرها من المآسي التي فاقت التصور والحصر.

وسوف لا يسمع الله تعالى لكم دعاءاً لأنكم قادرون على رفع كل هذه المظالم بوعي وإدراك أهمية أصواتكم التي تلقونها في صناديق الاقتراع وأتعبتم أنفسكم في التعرف على من يخدمكم ويخلص لكم.

صفات الذين تنتخبوهم:

إن الله تبارك وتعالى يبيّن لنا صفات أولياء الأمور من خلال التعريف بصفات رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) فقال تعالى (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) (التوبة: 128)، فهو ليس قادماً من خارج مجتمعكم وإنما هو ابنكم وعاش محنتكم ومعاناتكم وعرف همومكم ومشاكلكم ولم يعزل نفسه عنكم في قصر الخضراء(1) ، ولا المنطقة الخضراء (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) ، فهو يعزّ عليه ويصعب عليه أن يصيبكم عنت ومشقة وألم وصعوبة وحرمان لحبّه لكم ولأنه (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) فيحميكم من كل سوء ويبذل وسعه لجلب الخير لكم (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) قد مُلئ قلبه بالرحمة والرأفة بل إنه ما أرسل إلا رحمة للعالمين.

ص: 223


1- القصر الملكي لمعاوية في دمشق بينما كان أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب يلتقي بعامة الناس ويجلس معهم ويتفقدهم.

يُروى عن أحد المراجع قبل مائتي عام يعرف ب - (صاحب الفصول) لشهرة كتابه الفصول في الحوزات العلمية أنه سأله احد تلامذته النابهين العارفين بقيمة الحياة ومنزلة العلماء: (لو أخبرك ملك الموت أنك ستموت بعد ساعة فبأي عمل ستقضيها) ليعرف ما هي أولويات الأعمال وترتبها بالأهمية فقال (أضع لي كرسياً على باب الدار لأقضي حوائج الناس مهما كانت الحاجة بسيطة).

هذه وغيرها هي صفات المسؤولين الذين يتولون شؤون الأمة ومن لم يتصف بها فهو خارج عن أخلاق رسول الله (صلى الله عليه واله) وفيها تنبيه لكم أن لا تختاروا إلا من توفرت فيه هذه الصفات وإلا فإنكم تجنون على أنفسكم، لأنكم كما ترون أن كل تفاصيل حياتكم من الأمن والغذاء والخدمات والصحة والتعليم والعمل والاقتصاد وغيرها كلها مرتبطة بمن تختارونه لمواقع السلطة، فالأمر لكم والخيار بأيديكم، أقول هذا وأنا اعلم أن صناديق الاقتراع سوف لا تكون وحدها القول الفصل، لان المتسلطين سيمارسون عملية التزوير بمقدار ما يستطيعون، ولكن مع ذلك علينا أن نبذل ما بوسعنا لكي تكون إرادة الأمة هي الحكم.

نسأل الله تعالى أن ينوّر بصائرنا ويزيد من رشدنا وحكمتنا ويوفقنا لاختيار الشخص المناسب بمعونة المخلصين العارفين، ففي الدعاء (اللهم صل على محمد وآل محمد، وأرني الحق حقاً حتى أتبعه، وأرني الباطل باطلاً حتى أجتنبه)(1) أي أننا نسأل الله تعالى أولاً أن يعرّفنا الحق لان أهل الدنيا يخلطون الأوراق فتشتبه الأمور ثم نطلب ثانياً أن يرزقنا إتباعه، لأنه ليس كل من عرف الحق اتبعه فإن قوماً وصفهم الله تبارك وتعالى بقوله (وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا) (النمل: 14).9.

ص: 224


1- البحار: ج 83 ص 119.

مسؤولية المرجعية عن منع الانتهازيين من التسلق باسمها

مسؤولية المرجعية عن منع الانتهازيين من التسلق باسمها(1)

لا توجد في مذهب أهل البيت (عليهم السلام) مرجعيات دينية وأخرى سياسية ومحاولة الفصل بينهما يعد مصادرة للدور المهم الذي تؤديه المرجعية في حياة الأمة امتداداً لدور المعصومين (سلام الله عليهم)، فالمرجعية واحدة وتقوم بكِلا الدورين عبر التاريخ بحسب ما تقتضيه الظروف الموضوعية.

إن تدخل المرجعية الدينية في العملية السياسية هو من باب اهتمامها بأمور الناس ورعاية شؤونهم وجلب المصلحة لهم ورفع المظلومية عنهم ومعالجة الفساد والانحراف فهذا جزء من وظيفتها فقد أصبح اليوم كل شيء مرتبطاً بالسياسة كالخدمات والأمن وقوت الشعب وغيرها، نعم هي لا تتدخل في تفاصيل شؤون الدولة وعمل مؤسساتها، لأنها من وظائف المسؤولين الحكوميين، لكنها لا تجد نفسها معذورة إذا قصرت في مقاومة الظلم والفساد والانحراف بالوسائل المتيسرة ولم تقدّم النصائح والتوجيهات التي تسدّد عمل المتصدين لإدارة البلاد وفيها صلاح العباد والبلاد.

كما ونذكّر المراجع العظام (أدام الله وجودهم الشريف) بمسؤولياتهم في منع استخدام السياسيين الانتهازيين والوصوليين لكيانها الشريف للتسلق إلى مطامعهم، مؤكداَ على وجوب حماية الدين والمرجعية من السياسيين من دون تخلي المرجعية عن دورها في رعاية شؤون الأمة وتحري المصلحة لها.

ص: 225


1- صحيفة الصادقين العدد (73) الصادر بتاريخ 25 رجب 1429 المصادف 29 تموز 2008.

فحماية الدين وعلمائه من انحراف السياسيين شيء وفصل الدين عن السياسة الإسلامية النقية شيء آخر.

إن المرحلة القادمة تختزن الكثير من التحديات المتنوعة التي ستنزل بقوة إلى الشارع، فماذا اعددنا لمواجهة هذه التحديات ونحن بهذا الحال البائس من التقاطع والخصام؟

ص: 226

النقد الذاتي فيما يتعلق بعمل الحكومة

اشارة

النقد الذاتي فيما يتعلق بعمل الحكومة(1)

يشعر الكثير من أبناء الشعب بالامتعاض من أداء جملة من السياسيين سواء على صعيد الحكومة المركزية أو الحكومات المحلية، ويعبرون عن خيبة أملهم بهؤلاء الذين انتخبوهم وتحملوا الأخطار في سبيل إيصالهم إلى هذا الموقع ومعهم حق في الشعور وهو دليل وعيهم ومتابعتهم للعملية السياسية، وقد نصحنا هؤلاء المتصدين في عدة بيانات وخطب ومنها الرسالة الموجهة إليهم بعنوان (المبادئ الثابتة في السياسة)(2) أن يصارحوا الأمة ويكونوا واضحين معها في بيان أسباب هذا الضعف وهذا التلكؤ والإهمال، وهل هو قصور بسبب ظروف خارجة عن إرادتهم، أم تقصير يسعون لتلافيه ومعالجته لتعذرهم الأمة وتتفاعل مع حركتهم وتسندهم، ولتشعر بالأمل بغدٍ أفضل، ولا يمكن تبرير إهمال هذه المشاعر والسكوت عنها ومقابلتها باللامبالاة والإعراض وكأن شيئاً لم يحصل.

تكليف الأمة تجاه نقد الحكومة:

أما تكليف الأمة تجاه هذه الحالة فيتمثل في أمور:

الأول: وعي هذه الحالة والالتفات إليها ومراقبتها فإن الشعب الذي يُظلم

ص: 227


1- ملخصات من حديث سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع عدد من الوفود التي زارته يوم 26 جمادى الأولى 1426 المصادف 2005/7/3.
2- أدرجناها في الفصل السابق، فراجع.

وتصادر حقوقه وهو ساذج وسادر في غفلته لا يتمكن من النهوض ولا يتقدم.

الثاني: استشعار الرفض والغضب داخل النفس إزاء هذه المظالم والتقصيرات مهما كان مصدرها؛ لأن هذا الشعور هو الحافز والدافع للتغيير والإصلاح ومن دون حصول هذه المقدمة لا تحصل تلك النتيجة، ولكن يجب التحكم في هذا الغضب ليبقى في دائرة الايجابية والسيطرة على ردود الفعل وعدم خروجها عن دائرة التكليف الشرعي وأوامر القيادة الصالحة.

الثالث: تعبئة الطاقات القادرة على الإصلاح والتغيير وزجها في العملية السياسية لتحل محل المقصر وغير الكفوء.

ذم التقاعس والانكفاء:

فليس الحل بالانكفاء والانزواء والشعور باليأس والإحباط والسخط من المرجعية التي أحسنت الظن بالمتصدين ولا يلزم منه فشل المشروع كلياً لأن الفشل هو فشل هؤلاء فقط ولا يمكن تعميمه، فهل يمكن أن نعترض على أمير المؤمنين (عليه السلام) أو نحكم على مشروعه بالفشل لمجرد أن واليه على بلاد فارس سرق بيت المال وهرب إلى معاوية؟!

وإن العامل المتحرك يقع في الأخطاء أما المتقاعس المستسلم إلى الدعة والراحة في الظل فإنه لا يعمل حتى يخطئ، وليس من المروءة والإنصاف أن يكتفي القاعد في الظل بتوجيه اللوم والتقريع والتوبيخ والنقد إلى المتصدي لحمل المسؤولية والمتحرك وسط هذه الحالة المعقدة المحفوفة بالأخطاء والضغوط.

فهذا الذي نسمعه من عدد من الناس من الاعتراض على دعم المرجعية للعملية السياسية وانه ماذا جنينا منها وأننا سوف لا نشارك فيها حتى لو دعتنا

ص: 228

المرجعية إلى المشاركة ليس رداً صحيحاً ولا يمكن تعميم فشل بعض المتصدين إلى فشل المشروع كله، بل علينا أن نعين المرجعية بعد أن تحرينا فيها شروط القيادة الصالحة وندعم جهودها في رفد العملية السياسية بالأصلح والأكفأ ولتشترك الأمة مع مرجعيتها في تحمل هذه الأمانة الثقيلة.

وخذوا درساً من سيرة الرسول الكريم موسى بن عمران (عليه السلام) إذ انه سمح لسحرة فرعون أن يلقوا هم أولا ما هم ملقون لأنه لا يخشى ما عندهم وهو واثق من نفسه ونصر الله تبارك وتعالى له (فَلَمّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) الأعراف 116، ولكن الرسول الكريم ألقى عصاه (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) الأعراف 117، وهناك خر السحرة ساجدين لرب موسى وهارون.

وأنتم أيها الرساليون دعوا الآخرين يلقون بمشاريعهم وإيديولوجياتهم وأعطوهم الفرصة الكاملة لممارسة دورهم، ولا تخشوا ولا تخافوا فوت الفرصة فإن عندكم مشروعاً عظيماً متكاملاً ستقتنع الأمة به وتتبعه بمجرد أن تعرضوه عليها، بعد أن تجرب بنفسها ضعف وخواء وسوء تلك المشاريع والتجارب، وإنما يتحقق لكم ذلك باتباعكم المرجعية الرشيدة التي تتصف بالشروط التي وضعها الأئمة المعصومون عليهم السلام.

ص: 229

ص: 230

الفصل الرابع: ما الذي نستفيده من حياة المعصومين (عليهم السلام)؟

اشارة

ص: 231

ص: 232

ماذا تعلمنا من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)

أهمية ذكر المناقب:

ماذا تعلمنا من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)(1)

أهمية ذكر المناقب:

جرت العادة أن تتضمن الاحتفالات في مثل هذه المناسبات الشريفة(2) ذكر مناقب أهل البيت (عليهم السلام) ومكارمهم كميلاد أمير المؤمنين في الكعبة وهي حالة لم يسبقه إليها أحد ولن يلحقه بها أحد وهي حقاً شرف عظيم له ولوالدته السيدة الهاشمية الجليلة فاطمة بنت أسد التي قال عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنها أمي بعد أمي(3) ، وقد غفل أرباب المعاجم والسيَر مع كل الأسف التأليف في سيرة هذه المرأة العظيمة وتحدثنا عنها بشيء من التفصيل في مثل هذه المناسبة قبل سنوات(4).

وذكر مناقب أهل البيت عليهم السلام ضروري لتعزيز إيمان المؤمنين وإقامة الحجة على المنكرين، ولمواجهة السعي الحثيث الذي يقوم به خصوم أهل البيت لطمس مآثرهم ومع ذلك ظهر منها ما يُحيّر الألباب حتى قال القائل:

(ما أقول في رجل أخفت أولياؤه فضائله وأخفت أعداؤه فضائله حسدا

ص: 233


1- تقرير حديث سماحة الشيخ مع الوفود التي هنأته بميلاد أمير المؤمنين (عليه السلام) ومنهم رابطة الأطباء والعشرات من ذوي المهن الصحية في العمارة يوم 12 رجب 1426 المصادف 2005/8/18. وأعيد تسجيلها لقناة النعيم الفضائية في شعبان/ 1434 المصادف حزيران/ 2013.
2- كيوم ميلاد أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي صدر هذا الخطاب بمناسبته.
3- مجمع الزوائد: ج 9 ص 256.
4- خطاب المرحلة: ج 2 ص 51.

وشاع من بين ذين ما ملأ الخافقين)(1)، إذن لو كُتب التأريخ بأمانة وموضوعية وحفظه وتناقله المنصفون لرأيت من ابن أبي طالب العجب العجاب.

محاولات بائسة للنيل من الإمام علي (عليه السلام):

ولقد اتبع خصوم عليّ (عليه السلام) مختلف الوسائل الخسيسة والخبيثة في هذه المواجهة، فيرصد معاوية لسمرة بن جندب أربعمائة ألف درهم كي يروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن قوله تعالى:(وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ، وَ إِذا تَوَلّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ..) (البقرة: 204-205) نزل في علي بن أبي طالب وأن قوله تعالى:(وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَ اللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (البقرة: 207) أنزل في عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي(2).

وهكذا زوّروا التأريخ وحرّفوه ودسّوا فيه ما يوافق أهواءهم ومصالحهم فقالوا أن حكيم بن حزام ولدته أمه في الكعبة برواية تحمل كذبها في طيّاتها، وكان لمسجد الكوفة باب يسمى باب الثعبان منه انساب الثعبان ليهمس في إذن أمير المؤمنين وهو يخطب في المسلمين في المسجد ويعود، ولم يرُق لمعاوية هذا الإعجاز فربط إلى هذا الباب فيلاً بعد دخوله الكوفة اثر صلح الإمام الحسن (عليه السلام) فشاع بين الناس انه باب الفيل ونُسيَ اسمه الأول(3).

ص: 234


1- أنظر أعيان الشيعة: ج 6 ص 468.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4 ص 73، وسفينة البحار: ج 1 ص 654.
3- أنظر: أعلام الورى: ص 179، والإرشاد للمفيد: ص 183-184.

سبيل المواجهة في إحياء مجالس أهل البيت (عليهم السلام):

فإحياء ذكر أهل البيت (عليهم السلام) وتعداد مناقبهم أمر ضروري لمواجهة هؤلاء الذين يغيّرون الكلم من بعد مواضعه لأن هذا الذكر ليس تأريخاً يتلى ولا أرشيفا يوضع في المتاحف، وإنما هو منهل يرده القادة والمصلحون والمفكرون والعلماء والمربّون وطلاب الحق والخير وهو نبراس يضيء للبشرية طريق العقيدة الحقّة والأخلاق الفاضلة والحياة السعيدة، ولم يتركوا لنا شاردة وواردة إلا وقنّنوا لها الحالة الصحيحة حتى في الأمور الحياتية العادية التي لا يلتفت إليها الناس كالأكل والجماع والتخلي والنوم ودخول الحمام ونحوها مما تفتقده الشرائع الوضعية وتعجز عن تلبية الحاجات البشرية.

الإحياء الواعي:

والذي أريد أن أقوله هنا أن إحياءنا لهذه المناسبات لا ينبغي أن يكون أرشيفيا تراثياً تأريخياً وإنما يجب أن يكون إحياء واعياً يستمد من الماضي ما يعين على الحاضر ويخطط للمستقبل؛ ليكون أكثر فاعلية في حياة الأمة.

ومن ذلك ما فعلته قبل ثلاث سنوات(1) في مثل هذه المناسبة حينما اخترت عنوان (من هم شيعة علي بن أبي طالب) الذين نزل فيهم قوله تعالى في سورة البيّنة (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (البينة: 7) وفسّرها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لجابر أنهم عليّ وشيعته إذ لا يكفي أن يولد الإنسان من أبوين شيعيين أو يعيش في بيئة شيعية، أو يؤدي شعائر الشيعة ليدخل في هذا العنوان الشريف بحيث يقول الإمام (عليه السلام) (إنما شيعة علي: الحسن والحسين وسلمان وأبو ذر والمقداد وعمار)، لذا كان علينا أن نجري دراسة تحليلية استقرائية في أحاديث أهل

ص: 235


1- أنظر: خطاب المرحلة: ج 1 ص 309.

البيت (عليه السلام) لنستنبط منها أوصاف وخصائص شيعة علي (عليه السلام) والعناصر المكونة لشخصية المسلم من منظور أهل البيت (عليهم السلام)، والمحاضرة منشورة في كتاب (نحن والغرب) و (شكوى الإمام (عجل الله فرجه)(1).

ماذا تعلمنا؟

واليوم نريد أن نسأل أنفسنا باعتبار أننا نوصف بشيعة علي (عليه السلام) والتشيع يعني المشايعة والمتابعة فنقول: (ماذا تعلمنا من أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب؟) فإن الله تعالى حثنا على التأسّي برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والاستنان بسنته الشريفة فقال عز من قائل (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً) (الأحزاب: 21) وعليٌّ اخو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصنوه، فالآية تدعونا إلى التأسّي بأمير المؤمنين (عليه السلام)، خصوصاً وأن التأسي تعلَّق بموقع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم تقل الآية (في محمد) أي شخص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فالتأسي حالة مطلوبة من الأمة دائماً ضمن علاقتها مع قادتها الصالحين الذين هم ورثة الأنبياء وحصون الإسلام.

فهل تعلمنا من علي إخلاصه لله تبارك وتعالى وتكريس حياته الشريفة فيما يرضي الله تعالى، من دعائه (عليه السلام) المعروف بدعاء كميل

(أن تجعل أوقاتي في الليل والنهار بذكرك معمورة، وبخدمتك موصولة، وأعمالي عندك مقبولة، حتى تكون أعمالي وأورادي كلها ورداً واحداً وحالي في خدمتك سرمداً)(2)، ويقول (عليه السلام):

(الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنة فان الجنة فيها رضا نفسي، والجامع فيها رضا ربي)(3).

ص: 236


1- انظر: خطاب المرحلة: ج 1 ص 305.
2- مفاتيح الجنان: دعاء كميل بن زياد.
3- البحار: ج 80 ص 362.

فهل تعلمنا من علي شجاعته في كل الميادين فصولته في ساحات القتال معلومة وفي قول كلمة الحق حينما قال الخليفة الثاني: ماذا تفعلون لو دعوتكم إلى ما تنكرون وما لا تعرفون من الشريعة؟ فقال (عليه السلام): إذن لقوّمناك بسيوفنا(1).

هل تعلمنا من عليّ أمانته على المال العام ونزاهته حينما كان يأخذ عطاءه كواحد من المسلمين وهو رئيس الدولة ويأتيه أخوه عقيل طالباً المساعدة لأنه كثير العيال وقد أملق حتى عاد أولاده شعثاً غبراً فأرجأه إلى أوان عطائه فيعطيه فقال: وما يصنع لي عطاؤك أريد من بيت المال فأحمى حديده وقرّبها إليه فجزع عقيل من حرّها فقال له كلماته العظيمة: (أتئنُّ من حديدة أحماها إنسانها لِلعبه وتجرّني إلى نار سجّرها جبارها لغضبه)(2).

ووقف على منبر المسلمين ليسنّ للحكام قانون محاسبة المسؤولين وإجراء الجرد المالي لممتلكاتهم قبل توليهم وبعده فيقول (عليه السلام):

(لو خرجت منكم بغير هذه القطيفة التي جئتكم بها من المدينة لكنت خائناً)(3) وفي بعض الروايات انه (عليه السلام) غلظ على احدى بناته لأنها استعارت حلية من بيت المال لتتزين بها يوم العيد وتردها، وحذرها بأنها لو لم تردها أقام عليها حد السرقة(4).

فلم يكن بحاجة إلى هيئة نزاهة أو ديوان الرقابة أو المفتش العام أو أي شيء آخر مما اضطرت إليه الدول المتحضرة اليوم لكثرة الفضائح واختلاس الأموال العامة والرشاوى تحت عناوين متعددة فضلاً عن غيرها بل يقف هو أمام مواطنيه ليحاسب نفسه.2.

ص: 237


1- المناقب، للخوارزمي، 98-99، راجع كتاب دور الأئمة في الحياة الإسلامية: ص 24.
2- نهج البلاغة: الخطبة: 224.
3- أنظر نحوه في: الكامل في التأريخ: ج 3 ص 399.
4- الوسائل: ج 28 ص 292.

هل تعلمنا من علي (عليه السلام) شعوره بالمسؤولية عن كل رعاياه وحمله هموم كل الناس في شرق الأرض وغربها فيقول:

(أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش)(1)، وقال (عليه السلام): ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع)(2).

هل تعلمنا من علي رحمته وشفقته حينما مرّ على دار في الكوفة وسمع أطفالاً يبكون لم يهمل الحالة فطرق الباب، خرجت امرأة سألها عن سبب بكاء الأطفال قالت: أن أباهم استشهد في صفين وبقيت وحدي لهم وأنا حائرة بين إسكاتهم وخبز أقراص لهم فبكى أمير المؤمنين لحالهم ولما تسبّب به تمرد معاوية من إزهاق أرواح الآلاف وجاء (عليه السلام) بتمر ولوز وأخذ يضاحك الأطفال ويلاعبهم وتفرغت المرأة للخبز وهو يقول(3):

ما إن تأوهتُ من شيءٍ رُزِئتُ به *** كما تأوهتُ للأيتام في الصغرِ

قد مات والدهم من كان يكفلهم في النائبات وفي الأسفار والحضرِ

ما أحوج البشرية اليوم إلى رحمة علي بن أبي طالب والى من يمسح على رؤوسهم بيد حانية بعد أن عبثت بها مخالب المستكبرين والجشعين والمستبدين والطغاة فإلى من تفزع؟

وهل تعلمنا من علي بن أبي طالب مبدأيته وعدم مساومته على الحق، توّلى الخلافة في ظرف عصيب والمدينة تعجّ بالغاضبين الناقمين ويتربص بها الانتهازيون والمنافقون وأعداء الإسلام والمسلمين فعزل الولاة السابقين وأرسله.

ص: 238


1- نهج البلاغة: الكتاب: 45
2- السابق.
3- البحار: ج 33 ص 47 قريب منه.

آخرين وفق معاييره، فقال عبد الله بن عباس لو تركت معاوية على الشام حتى تستتب لك الأمور فتعزله من موقع قوة، وهو عملٌ ربما يقوم به كل السياسيين وفق حسابات المصالح إلا أن علياً لم يكن يعمل لحالة مؤقتة حتى يخضع لحساباتها وإنما يؤسس لمُثل إنسانية عُليا تبقى مشعلاً يضيء للبشرية طريق السمو والكمال فلا غرو أن يضحي بالحسابات الدنيوية كما ورد عن ابن عباس قال: أتيت علياً (عليه السلام) بعد مبايعة الناس له فوجدت المغيرة بن شعبة مستخلياً فقلت له بعد أن خرج عنه: ما كان يقول لك هذا؟ فقال: قال لي قبل يومه: إن لك حق الطاعة والنصيحة وأنت بقية الناس وإن الرأي اليوم يحرز ما في غد وأن الضياع اليوم يضيع به ما في غد وأشير عليك بشور وهو أن تقرر معاوية وابن عامر وعمال عثمان على عملهم حتى تأتيك بيعتهم وتسكن الناس ثم اعزل من شئت منه وأبقي من شئت فأبيت عليه ذلك وقلت: لا أداهن في ديني، ولا أعطي الدنية في أمري، قال: فإن كنت أبيت علي فانزع من شئت واترك معاوية فإن لمعاوية جرأة وهو في أهل الشام يطيعونه ويسمعون منه وذلك حجة في إبقائه فإن عمر بن الخطاب ولاه الشام في خلافته فقلت: لا والله لا أستعمل معاوية يومين...)(1).

هل تعلمنا من علي عدالته وإنصافه للناس، ففي الرواية انه استعدى رجل على علي بن أبي طالب (عليه السلام) عمر بن الخطاب وعلي جالس فالتفت عمر إليه، فقال: قم يا أبا الحسن فاجلس مع خصمك، فقام فجلس معه وتناظرا، ثم انصرف الرجل ورجع علي عليه السلام إلى محله، فتبين عمر التغير في وجهه، فقال: يا أبا الحسن، ما لي أراك متغيراً! أكرهت ما كان؟ قال نعم قال: وما ذاك قال: كنيتني بحضرة خصمي، هلا قلت: قم يا علي فاجلس مع خصمك!3.

ص: 239


1- شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي: ج 8 ص 629، ومروج الذهب: ج 2 ص 363.

فاعتنق عمر علياً، وجعل يقبل وجهه، وقال بأبي أنتم! بكم هدانا الله، وبكم أخرجنا من الظلمة إلى النور)(1).

ويمر في طريقه في الكوفة على شيخ مكفوف كبير يسأل، فقال

أمير المؤمنين (عليه السلام): ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين نصراني، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه، أنفقوا عليه من بيت المال)(2).

هل تعلمنا من علي (عليه السلام) نكران ذاته وتقديم المصلحة العامة على الشخصية، فإنه صاحب أعظم حق في الإسلام وهي خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنص قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ) (المائدة: 67)، ولما رأى الأمة غير واعية لهذه المسؤولية ولا مستعدة لتحملها ورأى أن إصراره على استحصال حقه يوقع في الأمة فتنة كبيرة ليس هو المسؤول عنها وإنما الذين خالفوا وصية نبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فآثر الإعراض بعد إلقاء الحجة على الأمة.

ومع ذلك لم يبخل على الحكام بالنصيحة والمؤازرة، وحين عزم الخليفة الثاني على الخروج لملاقاة الفرس استشار أصحابه فأشاروا عليه بذلك إلا أمير المؤمنين فإنه قال:

(إنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك. إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك)(3) فالصحيح أن تبقى6.

ص: 240


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 17 ص 65.
2- الوسائل: ج 15 ص 66.
3- نهج البلاغة: الخطبة: 146.

في المدينة ردءاً وفئة تسعفهم وتمدّهم بالرجال والمؤونة وتبعث إليهم من أهل الحزم والشجاعة.. إلى آخر وصيته التي أخذ بها الخليفة. أما السياسيون اليوم فإن همهم إسقاط المنافسين لهم وإن كان على حساب الأمة والوطن والدين.

أقول: هذا وأنا أعلم أن علياً قمة سامقة فاق من قبله إلا ابن عمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واتعب من بعده فلم يسبقه سابق ولا يلحقه لاحق وقد قال للناس:

(ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد)(1).

فمن كان له برنامج عمل لا يستطيع أن يحققه كله فإنه ينفّذ ما يتيسر له ويطمح للارتقاء لاستيعاب الباقي وهكذا فإن علياً يمثل أرقى برنامج حياتي إنساني فلنضعه نصب أعيننا ونُجهد أنفسنا للتأسّي به وسيوفقنا الله تبارك وتعالى ويأخذ بأيدينا (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل: 128).

(وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69).5.

ص: 241


1- نهج البلاغة: الكتاب: 45.

ص: 242

أمير المؤمنين (عليه السلام) ومكر طلّاب الزعامات

عالم متهتك:

أمير المؤمنين (عليه السلام) ومكر طلّاب الزعامات(1)

عالم متهتك:

كان من أقوى الأسلحة التي فتكت بجيش أمير المؤمنين (عليه السلام) ومجتمعه وأوهنت دولته وأضعفتها هو مكر الاعداء وخُدعهم حتى عبّر عنه بقاصم الظهر قال (عليه السلام)

(ما قصّم ظهري إلا رجلان: عالم متهتك وجاهل متنسك, هذا ينفّر عن حقه بهتكه, وهذا يدعو الى باطله بنسكه)(2) ومحل الشاهد هو الاول وهو الذي عنده علم وفكر وفطنة إلا انه يستخدمها في المكر وخداع الناس وإبعادهم عن الحق.

أمير المؤمنين (عليه السلام) ومواجهته لألوان المكر:

وقد واجه الامام (عليه السلام) الوان المكر والخداع من اول لحظة لتحملّه مسؤولية الإمامة وقيادة الأمة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه و آله) عندما نفى زعماء الانقلاب موت رسول الله (صلى الله عليه و آله) وهددوا بالقتل كل من يقول بذلك حتى لا تتوجه الأمة الى الخليفة الشرعي وليكسبوا الوقت حتى يعدّوا العدّة ويهيئوا الأمور لمن يريدون وهذا ما حصل، وقد تناولته في خطاب سابق.

ص: 243


1- ) الخطبة الثانية التي ألقاها سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الشريف) لصلاة عيد الفطر السعيد يوم الجمعة عام 1434 الموافق 9 /آب/ 2013 م.
2- غرر الحكم / 9665.

والى أيام خلافته وتصدّيه لشؤون الأمة حين واجه العتاة والدهاة والماكرين كمعاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة كخدعة رفع المصاحف في معركة صفّين التي شقّت جيش الإمام (عليه السلام) فنشأت فرقة الخوارج، وكان (عليه السلام) يلام على انه ليس بمستوى دهائهم وانه غير مؤهل لقيادة الدولة لان الدهاء والخداع من مقومات السياسة وتدبير السلطة, فيتأسف (عليه السلام) لهذه الانتكاسة في الأمة وانقلاب الموازين في تصوراتها، قال (عليه السلام)

(ولقد أصبحنا في زمانٍ قد اتخذ أكثر أهله الغدر كَيساً - أي الفطنة والذكاء -، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة، ما لهم - قاتلهم الله - قد يرى الحُوّل القُلّب - وهو البصير بتحولات الأمور وتقلبيها - وجه الحيلة, ودونها مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين)(1) فيصف نفسه بأنه عارف بالأمور ووجوهها وعواقبها ويعرف كيف يحقق مراده ويصل الى مطلوبة لكن كثيراً من تلك الوسائل مخالفة لأوامر الله تعالى, فيتركها لله تعالى وهو قادر عليها, لكن خصومه لا يتورعون في دينهم وليس عندهم تقوى تحدّد له بوصلة سلوكهم فيقتحمون تلك الوسائل الشيطانية.

سياسة المبادئ وسياسة المكر في نظر أمير المؤمنين (عليه السلام):

ومن كلام له (عليه السلام) في نفس السياق قال (عليه السلام)

(والله ما معاوية بأدهى منّي، ولكنه يغدرُ ويفجُرُ. ولولا كراهيةُ الغدر لكنت من أدهى الناس. ولكن كلّ غَدرة فَجرة وكلّ فَجرة كَفرة، ولكلّ غادرٍ لواءٌ يُعرف به يوم القيامة. والله ما أُستغفل بالمكيدة ولا أُستّغمز بالشديدة)(2).

ص: 244


1- ) نهج البلاغة: 115 الخطبة (41)
2- نهج البلاغة: 432 الخطبة (198).

فالإمام (عليه السلام) وإن كان لا يستعمل الدهاء والمكر لأن فيه سخط الله تعالى إلا ان ذلك لا يعني أنه مغفّل تنطلي عليه المكائد ولا يلتفت اليها, ولا انه ممن يضغط عليه ويستضعف بالقوة ليغيّر مبادئه التي يؤمن بها.

ويعلل الإمام (عليه السلام) في الخطبة السابقة سبب رفضه لتلك السياسات بقوله (ولا يغدِرُ من عَلِم كيف المرجِع)(1) أي أن من علم أن مآل الأنسان إلى الموت والدنيا إلى الفناء ثم يحشر ليحاسب على أعماله فانه لا يقدم على ما يضّره في اخرته.

أساليب من السياسات الماكرة:

وهذا التباين الذي ذكره الإمام (عليه السلام) بين سياسته وسياسة خصومه يمثّل المفارقة الدائمة بين المنهجين ولا يختص بزمان دون زمان حتى زماننا الحاضر, واليكم بعض الأساليب الماكرة التي تدَّبر اليوم لخداع الشعوب والسيطرة عليها والتحكم فيها وسوقها الى ما يريده الحكام:

1 - ما يسمى بالمصطلح (ركوب الموجة) بان يستغل السياسيون مطالب حقيقية ومشروعة للشعب فينادي بها لكسب الجماهير اليه والتقوّي بهم للضغط على خصومه لتحصيل مكاسب اكبر سواء كانوا داخل الحكومة او خارجها، كمطلب تحسين الخدمات وإيجاد وظائف للعاطلين او معالجة الخروقات الأمنية او الغاء الرواتب التقاعدية الباهظة للبرلمانيين وأمثالهم وهي مطالب مشروعة نؤيدها وندعمها لكن جهات شبابية مجهولة تحاول تحريك الناس تحت عنوان هذه المطالب لأغراض معينة على راسها السيطرة على توجيه المجتمع والتحكم بحركته وانتزاع قيادته لتكون بيد جهات خفية تعمل على

ص: 245


1- نهج البلاغة: الخطبة: 41.

مواقع التواصل الاجتماعي وبدعم داخلي وخارجي مالياً واعلامياً وسياسياً وليضغطوا بذلك على الجهات الفاعلة على الارض حتى تسير في ركابهم.

2 - الهاء الشعوب بالألعاب والمتع واللهو والعبث لأشغالهم عّما يجري من فساد وظلم وطغيان وتحويل انتباههم الى اللهو واللعب بدلاً من القضايا الحيوية والاهداف الحقيقية والحركة الواعية البناءة الى ترفض ظلم وفساد اولئك الحكام, وهذه السياسة يسمونها (استراتيجية الالهاء)(1) وتشمل سيلاً لا ينتهي من الالعاب والبطولات والمسابقات والمهرجانات ونحو ذلك.

3 - خلق المشاكل وافتعال الازمات لتمرير سياسات معينة تكون مرفوضة في الوضع الطبيعي مثلاً يريدون تخفيض دعم السلع الاساسية او الضمان الاجتماعي او الخدمات العامة كالصحة والتعليم فيخلقون ازمات مالية ليقنعوا الشعب بضرورة اتخاذ هذه الاجراءات.

او يريدون مثلاً وضع الشعب تحت المراقبة والتجسس عليه وجمع المعلومات التفصيلية عنه وتقييد حرياته وحركته، او اعتقال وتصفية المعارضين، فيفتعلون مشكلة أمنية كتفجيرات مثلاً او اظهار اعترافات شبكة تجسس وهمية وهكذا مما يجعل اتخاذ تلك الاجراءات أمراً مقبولاً وتسمى هذه السياسة (ابتكر المشاكل ثم قدّم الحلول)

4 - استراتيجية التدرّج: باعتماد التدريجية في تطبيق التكتيكات حتى يصلوا الى النتيجة التي يريدونها ولو فعلوها مباشرة لأحدثت ضجة وثورة عارمة كبعض الاجراءات الاقتصادية والاجتماعية, وقد تطول المدة او تقصر بحسب).

ص: 246


1- بعض هذه الكلمات لخصّها أحد الاخوة الواعين من كتاب (أسلحة صامتة لحروب هادئة) لعالم الاجتماع الأمريكي (افرام نعوم تشومسكي).

أهمية القضية مثلاً يريدون تقليل الرواتب فيتركون حالة البطالة تزداد ويستقدمون عمالة اجنبية رخيصة فيرضى المواطن بأقل ما يمكن.

5 - استثارة العاطفة بدل الفكر لتعطيل حالة الوعي والتأمل والتحليل وتمييز ما هو عقلاني عن غيره فيفقد الأنسان قدرته على النقد البنّاء الذي يقود عملية الاصلاح كما ان استعمال المفردات العاطفية يسمح بالمرور الى اللاوعي حتى يتم زرعه بأفكار ورغبات ومخاوف ونزعات او سلوكيات.

6 - إبقاء الشعب في حالة جهل وحماقة بطريقة يكون غير قادر على استيعاب الطرق المستعملة للتحكم به واستعباده بان تكون نوعية التعليم المقدّم للطبقات السفلى هي النوعية الافقر حتى تبقى الهوّة المعرفية التي تفصل الطبقات السفلى عن العليا غير مفهومة من قبل الطبقات السفلى.

7 - التعويض عن الثورة ورفض الظلم والفساد بالإحساس بالذنب بجعل الفرد يعتقد انه المسؤول الوحيد عن تعاسته وان سبب مسؤوليته تلك هو نقص في قدراته وقابلياته او تقصير في جهوده فيقوم بامتهان نفسه بدل التحرك للتغيير والاصلاح.

المتلفعين بالدين:

ولا يخفى عليكم سريان بعض هذه الاساليب الى الشعائر الدينية وهو ما نبهنا عليه في خطابات سابقة.

هذه نماذج من وسائلهم لترويض الشعوب وتسييرها في ظل الديمقراطيات الشكلية مستفيدين من ماكنة إعلامية مؤثرة وتمويل ضخم مصدره ما سرقوه من أموال هذه الشعوب المغلوبة على أمرها.

وأما المكر المستخدم لتحصيل المواقع الدينية المقدّسة فهو لا يقل دهاءاً

ص: 247

عن هذه ويقترب من جملة منها كالذي ذكرناه من فعل الانقلابيين بعد رسول الله (صلى الله عليه و آله) او ما تقوم به بعض الجهات المتنفذّة بصناعة الزعامة التي يريدون ويسوّقونها الى الاتباع والمريدين الذين لا يتمكنون من المناقشة والتأمل لطول سياسة التجهيل المتبعة معهم ولأنهم اوهموهم بأن في ذلك خروجاً عن الدين ونحو ذلك فيسلّمون بالنتيجة وهذه أخطر حالات المكر التي تتعرض لها الأمة وهي راضية بحالها مستسلمة للأغلال التي كبلّوها بها ولا تسمع الى العلماء المخلصين العاملين الواعين.

ص: 248

كيف نستفيد من حياة الإمام السجاد (عليه السلام) في مواجهة التحديات الراهنة؟

اشارة

كيف نستفيد من حياة الإمام السجاد (عليه السلام) في مواجهة التحديات الراهنة؟(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما هو أهله وصلى الله على نبيه محمد وآله الطاهرين

أهل البيت عليهم السلام عدل القرآن:

وصف الله تبارك وتعالى القرآن بأنه (تبيان لكل شيء) وقال عز من قائل عنه (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: 38) وما على الإنسان إلا أن يستثير كوامنه ويستخرج درره وجواهره بالوسائل التي تؤهله لهذا الحرث (فمن يرد حرث الآخرة نزد له في حرثه) وأولها الإخلاص لله تبارك وتعالى وتطهير القلب من الرذائل والنفس من الأهواء وثانيها طلب العلم والمعرفة على يد المؤهلين الصادقين (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) عبس 24.

وقد دلّت الأحاديث الشريفة بل الآيات المباركة على أن أهل البيت (عليهم السلام) هم عدل الكتاب وصنوه كما في حديث الثقلين المشهور، وإنهما لن يفترقا فحيثما تجد القرآن تجد أهل البيت (عليهم السلام) وكل ما تريد أن تعرفه من الكتاب تجده في صدور أهل البيت (عليهم السلام) مجسداً في سلوكهم لذا لما قيل لإحدى

ص: 249


1- محاضرة ألقيت بمناسبة ذكرى ميلاد الإمام السجاد (عليه السلام) 4 /شعبان/ 1424 المصادف 2003/10/1.

أمهات المؤمنين صفي لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

(قالت: كان خلقه القرآن)(1)، فلو حولّت القرآن إلى سيرة عملية لكانوا هم (عليهم السلام)، ولو دوّنت سيرتهم (عليهم السلام) في كتاب لكان هو القرآن فهم (عليهم السلام) كتاب الله الناطق قال تعالى (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة: 78، 79) أي أن حقائق هذا القرآن ومعارفه في اللوح المحفوظ المكنون ولا يصل إلى هذه الحقائق ويطلّع عليها إلا المطهرون الذين أذهب الله عنهم الرجس وهم أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنص القرآن الكريم (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب: 33)(2).

سيرة أهل البيت عليهم السلام كتاب مفتوح لكل الإنسانية ومشاكلها:

ومحل الشاهد من هذه المقدمة العميقة أن سيرة أهل البيت (عليهم السلام) كتاب مفتوح تجد فيه العلاج الناجح لكل مشاكلنا وأمراضنا والجواب الشافي لكل هواجسنا وتساؤلاتنا؛ لأن في سيرتهم تبياناً لكل شيء وما علينا إلا أن نفهمها فهما صحيحاً ومعمقاً وجديدا بعد أن نقرأ الواقع الخارجي بدّقة، ونشخص مواطن العلة وما أحوجنا نحن المسلمين اليوم إلى أن نستلهم من تلك السيرة المباركة ما نواجه به التحديات المتكثرة والمتنوعة وأريد أن اتخذ من حياة الإمام السجاد زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) في ذكرى مولده مضماراً للشواهد على ذلك.

فنحن على أبواب انفتاح واسع على ثقافات العالم من خلال وسائل الاتصال المتطورة، كالبريد الالكتروني والستلايت مما يهّدد هوية المسلم في

ص: 250


1- مسند أحمد: ج 6 ص 91.
2- راجع كتاب شكوى القرآن في الكتاب الأول (خطاب المرحلة: 83/1).

عقيدته وأخلاقه وسلوكه بالتمييع والانحراف والإعراض بعد أن تأخذه حالة الانبهار بتلك الثقافات، وهو غير متسلح بما يحمي عقيدته ويحفظ له توازنه والإنسان مجبول على الإعجاب بكل جديد، والتهديد الآخر الذي تواجهه الأمة هو الرخاء المادي الذي يمكن أن يحصل في البلد وفق الوضع الاقتصادي الذي بدأت معالمه تتضح، ونحن نعلم أن حياة الدعة والترف تؤدي إلى التوسع في الماديات، والإخلاد إلى الأرض والابتعاد عن القيم الروحية والأخلاقية فيزداد اللهاث وراء الدنيا ولا يقف طمع الإنسان وحرصه على حد.

ومن جهة أخرى فإن حملة موجهة لإفساد الأخلاق وإشاعة الفاحشة والانحلال من خلال الصحف والمجلات والأقراص ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة وهي حملة قوية بما تمتلك من مقدرة ساحرة على التأثير ومدعومة بتقنيات هائلة إضافة إلى موافقتها لشهوات النفس الأمّارة بالسوء والميّالة للهوى.

الأخطار التي واجهت الأمة في عهد الإمام السجادعليه السلام:

مثل هذه الأخطار واجهتها الأمة في فترة إمامة زين العابدين حيث اتسعت رقعة البلاد التي شملتها الفتوحات الإسلامية في عهد عبد الملك بن مروان وإخوته وبنيه من تخوم الصين شرقا إلى المحيط الأطلسي غرباً، وقد كانت ثقافة المسلمين وإيمانهم دون المستوى الذي يؤهلهم لاستيعاب هذه الأقوام التي خضعت للمسلمين بثقافاتهم ودياناتهم وأخلاقهم وتذويبهم في الإسلام، بل على العكس فإن عقائد المسلمين تزعزعت وسرى الشك إلى قلوبهم وانتشرت الفاحشة في بلاد المسلمين وشجّع على ذلك ملوك بني أمية الذين كانوا يرون في الإسلام الحقيقي عدوّهم الوحيد، لذلك رحّبوا بهذا الانحراف وعملوا على تكريسه بحيث وصل الأمر إلى أن يصبح الفاسق عمر

ص: 251

بن أبي ربيعة المخزومي أشهر رجل في مكة المكرمة، فيتسكع سكراناً في شوارعها وحوله الفاجرات من أمثاله ينشدهن الشعر وهنَّ يغنينه، هذا ولم يمر قرن من الزمان على وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزول الوحي ولازال ثلة من الصحابة على قيد الحياة، فإذا كان هذا هو حال الحرمين المقدسين فما هو حال بقية مدن وحواضر الإسلام ما دام ملك المسلمين يشرب الخمر على منبرهم ويتقيأها في محرابهم ويرمي المصحف الشريف بالسهام مهدّداً إياه.

وقد رافق كل ذلك توسع وترهّل في الحياة الاقتصادية لغزارة واردات الدولة من تلك الفتوحات، ولم ينل المسلمون القسط الكافي من التربية الروحية بسبب عزل قادته الحقيقيين والهداة إلى الله تبارك وتعالى وإبادتهم والتنكيل بهم.

الإمام السجادعليه السلام يعلمنا كيف نواجه التحديات:

فكيف واجه الإمام السجاد (عليه السلام) هذه الأخطار، واجهها بالإعداد الروحي والأخلاقي وتزويد الأمة بعقيدتها الصحيحة من خلال الدعاء الذي يعتبر وسيلة لا تثير قلق الحكام باعتباره لا يهدّد مصالحهم ولكنه (عليه السلام) كان من خلال الأدعية يعبّئ المسلم ويثير في عقله وقلبه ما يعينه على مواجهة تلك الهجمة الشرسة ونوازع النفس ونزغات الشيطان.

وفي روضة الكافي أنّ الإمام السجاد (عليه السلام) كان يعظ الناس في مسجد جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كل جمعة(1) وكان يعقد حلقات الدرس في مختلف العلوم والمعارف حتى تخرج على يديه فقهاء وعلماء كثيرون انتشروا في الأمصار، واعترف له بذلك حتى أعداؤه فقد قال له عبد الملك بن مروان

ص: 252


1- الكافي: 72/8 حديث 29.

(ولقد أوتيت من العلم والدين والورع ما لم يؤتَه أحد مثلك قبلك إلا من مضى من سلفك)(1).

إثارة قوى الإيمان لدى المسلم هو ما نحتاجه اليوم:

وهذا الإعداد الروحي وإثارة قوى الإيمان عند المسلم هي ما نحتاجه اليوم فعلى خطبائنا ومثقفينا ومفكرينا استغلال كل مناسبة لهذه التربية الروحية، خصوصاً في هذه الأشهر المباركة رجب وشعبان ورمضان التي تمتاز بألطاف ونفحات إلهية خاصة يتكامل بها الإنسان أضعاف ما يحصل له في غيرها من الشهور، فإذا فشلت لا سامح الله في استغلالها فسوف تكون خسارة عظيمة ولا تتوقع تعويضها في غيرها من الشهور، وإذا كان الإمام المعصوم يقول لولا أننا نزداد في كل ليلة جمعة لنفد ما عندنا فكم نحتاج نحن من هذه الشحنات المتدفقة علماً وإيماناً وحياة للقلب.

كلمات أهل العصمة عليهم السلام تحيي القلوب:

إننا لا نحتاج إلى مؤونة كبيرة في معرفة الزاد فإن كلمات المعصومين فيها الكثير مما يحيي القلوب ويهذّب النفوس والصحيفة السجادية حافلة بالمعاني السامية التي تصف العلاقة بالله تبارك وتعالى فله (عليه السلام) دعاء في الحمد والثناء على الله تبارك وتعالى، وآخر في اللجوء إليه، وآخر في الرضا بقضائه، وآخر في الشكر وآخر في التذلل له سبحانه وآخر في طلب الستر والوقاية وآخر في الإلحاح وآخر في الاستعاذة ثم يصلي على النبي وآله والملائكة وحملة العرش والأنبياء والرسل.

ولا يترك مناسبة إلا أحياها فله (عليه السلام) دعاء في الفطر والأضحى وعرفة

ص: 253


1- بحار الأنوار: 57/46.

ويوم الجمعة وأيام الأسبوع واستقبال شهر رمضان ووداعه، بل في كل صباح ومساء ليكون العبد على ذكر دائم واتصال مستمر بربه وخالقه ومدبّره ومولاه (واجعل أوقاتي من الليل والنهار بذكرك معمورة وبخدمتك موصولة) وهذا الذكر المتواصل وعدم الغفلة هو صمام الأمان للإنسان من الوقوع في الخطأ والانحراف فليس من المعقول أن يرتكب الذاكر لله تعالى معصية.

دروس الأخلاق والاجتماع في الصحيفة السجادية:

وضمت الصحيفة أيضاً دروساً في الأخلاق وتنظيم العلاقات مع الآخرين وبيان حقوقهم فله (عليه السلام) دعاء لأبويه وآخر لولده وآخر لجيرانه وأوليائه، ودعاء طويل في طلب مكارم الأخلاق وتعليمها بهذا الأسلوب أي الدعاء فمن ذلك قوله (عليه السلام)

(وأَجْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدِيَ الْخَيْرَ ولَا تَمْحَقْه بِالْمَنِّ، وهَبْ لِي مَعَالِيَ الأَخْلَاقِ، واعْصِمْنِي مِنَ الْفَخْرِ) ويقول (عليه السلام)

(ولَا تَرْفَعْنِي فِي النَّاسِ دَرَجَةً إِلَّا حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا، ولَا تُحْدِثْ لِي عِزّاً ظَاهِراً إِلَّا أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً بَاطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِهَا... اللَّهُمَّ لَا تَدَعْ خَصْلَةً تُعَابُ مِنِّي إِلَّا أَصْلَحْتَهَا، ولَا عَائِبَةً أُوَنَّبُ بِهَا إِلَّا حَسَّنْتَهَا، ولَا أُكْرُومَةً فِيَّ نَاقِصَةً إِلَّا أَتْمَمْتَهَ) (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِه، وسَدِّدْنِي لأَنْ أُعَارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْحِ، وأَجْزِيَ مَنْ هَجَرَنِي بِالْبِرِّ، وأُثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالْبَذْلِ، وأُكَافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ، وأُخَالِفَ مَنِ اغْتَابَنِي إِلَى حُسْنِ الذِّكْرِ، وأَنْ أَشْكُرَ الْحَسَنَةَ، وأُغْضِيَ عَنِ السَّيِّئَةِ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِه، وحَلِّنِي بِحِلْيَةِ الصَّالِحِينَ، وأَلْبِسْنِي زِينَةَ الْمُتَّقِينَ، فِي بَسْطِ الْعَدْلِ، وكَظْمِ الغَيْظِ... والْقَوْلِ بِالْحَقِّ وإِنْ عَزَّ، واسْتِقْلَالِ الْخَيْرِ وإِنْ كَثُرَ مِنْ قَوْلِي وفِعْلِي، واسْتِكْثَارِ الشَّرِّ وإِنْ قَلَّ مِنْ قَوْلِي وفِعْلِي)(1).

ص: 254


1- الصحيفة السجادية: ص 92.

التخطيط للاستقلال النقدي في مرحلتنا الراهنة:

ومما نستفيده من حياة الأمام السجاد (عليه السلام) في مرحلتنا الراهنة تخطيطه للاستقلال النقدي للدولة الإسلامية عن الروم، حينما حاول ملك الروم إذلال المسلمين وإخضاعهم لمطاليبه وإلا سكّ الدنانير الرومية التي كانت هي العملة المتداولة في الدولة الإسلامية بسب نبي الإسلام، فاضطرب عبد الملك بن مروان وقال: أحسب أنني أشأم مولود في الإسلام ولم يجد حلاً لهذه المشكلة فاستنجد بالإمام السجاد (عليه السلام) الذي أرسل له ولده الباقر (عليه السلام) وشرح له كيفية صّب عملة جديدة وإلغاء التعامل بالعملة الرومية ونفذ عبد الملك ذلك، وفرج الله تبارك وتعالى عنه وعن دولة الإسلام ببركة الإمام (عليه السلام) الذي أنقذ الدولة وحفظ لها استقلالها وأرادتها.

ونحن نواجه اليوم خططاً محبوكة ومبرمجة لربط الاقتصاد العراقي بالنظام العالمي الجديد الذي وضعه الغرب ليجعل العالم يدور في فلك مصالحه وسلب قدرته على التخطيط لنفسه، فيحيطونه بشراك من الديون والفوائد والقوانين الصارمة بحيث لا يستطيع الخلاص منها ولا يملك إلا الاستسلام لإملاءاتهم والخضوع لمطاليبهم، فتفقد الدول استقلالها السياسي بسبب خضوعها الاقتصادي فلنتعلم من الإمام السجاد (عليه السلام) كيفية الاستقلال الاقتصادي وحرية اتخاذ القرار.

الإمام السجادعليه السلام ومحاربة الأعراف والتقاليد المنحرفة:

ومما نجده في حياة الإمام السجاد (عليه السلام) عمله الدؤوب على محاربة الأعراف والتقاليد المنحرفة فقد كانت سياسة الأمويين عنصرية ترفع من شأن العرب وتحط من قدر غيرهم وهم الموالي ويعيرون من يتزوج من أمة مملوكة خصوصاً إذا كان سيداً قرشياً، لكن الإمام السجاد (عليه السلام) وهو من اشرف الناس

ص: 255

نسباً يتزوج أمة مملوكة مما عرّضه إلى انتقاد شديد من قبل ملوك الأمويين وكان يجيبهم بأجوبة مسكتة في مراسلات متبادلة تجد نماذج منها في المجلد الرابع عشر من وسائل الشيعة وقد ولدت الأمة لهُ زيداً الشهيد.

وذات مرة استدعى هشام بن عبد الملك زيداً وقال له موبخاً: أتطمح نفسك للخلافة وأنت ابن أمَة فقال زيد (رضي الله عنه): (إن النبوة خير من الخلافة وقد كان إسماعيل الذبيح نبياً وهو ابن أمة، فأفحمه)(1). وكان الإمام (عليه السلام) يشتري العبيد فيثقفهم ويعلمهم حتى إذا أتقنوا العلوم الإسلامية أعتقهم لينتشروا في الأمصار ويعلموا الناس الإسلام الصحيح حتى كان جلّ فقهاء الأمصار نهاية القرن الأول الهجري من الموالي.

تعرية الظالمين وكشف زيفهم:

ومما حفلت به سيرته استخدام مختلف الأساليب لتعرية الظالمين وكشف زيفهم وتحريض الجماهير عليهم، فحينما جاءه وفد الكوفة يسألونه عن مشروعية المشاركة في ثورة المختار الثقفي لاستئصال قتلة الحسين (عليه السلام) قال سبحان الله لو كان عبداً حبشياً لوجبت نصرته وبُعث رأس عبيد الله إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) فادخل عليه وهو يتغدى فسجد شكرا الله تعالى وقال: (الحمد لله الذي أدرك لي ثأري من عدوي، وجزى الله المختار خيراً، أُدخلت على عبيد الله بن زياد وهو يتغدى ورأس أبي بين يديه، فقلت: اللهم لا تمتني حتى تريني رأس ابن زياد)(2).

وكان يحشد الأمة ضد بني أمية بإثارة عواطفهم وإلفات نظرهم إلى

ص: 256


1- تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 325، أنساب الأشراف: ج 8 ص 422.
2- البحار: ج 45 ص 386.

مظلومية أهل البيت (عليهم السلام) فقد بكى أباه الحسين (عليه السلام) أربعة وثلاثين عاماً وكان يمزج طعامه وشرابه بدموع عينيه(1) ولا يترك مناسبة إلا واستغلها في هذا المجال، يمر في سوق القصابين فيسمع جزاراً يقول لغلامه: هل سقيت الكبش ماءً فيلتفت الإمام (عليه السلام) إلى الجزار ويقول له: أنتم معاشر القصابين لا تذبحون الكبش حتى تسقوه الماء قال: نعم سيدي يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لكن أبي الحسين (عليه السلام) ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذبحوه عطشاناً إلى جنب الفرات، هذه الإثارة الواعية للأمة ضد الظلم أتت ثمارها بعد فترة قصيرة بانهيار ملك بني أمية.

أسأل الله تعالى أن يعرّفنا حق أهل البيت (عليهم السلام) ويأخذ بأيدينا على مناهجهم وهديهم ولا يفرّق بيننا وبينهم إنه نعم المولى ونعم النصير.3.

ص: 257


1- الملهوف: ص 233.

ص: 258

أوجه نشاط الإمام الصادق (عليه السلام) والمرحلة الراهنة

سفر جامع لكل ما تحتاجه البشرية:

أوجه نشاط الإمام الصادق (عليه السلام) والمرحلة الراهنة(1)

سفر جامع لكل ما تحتاجه البشرية:

إن سيرة أهل البيت (عليهم السلام) سفر جامع لكل ما تحتاجه البشرية من آراء ومواقف وحلول وبرامج عمل لمختلف القضايا التي تواجهها، ولا عجب في ذلك فإنهم عدل الكتاب العزيز وصنوه وقد وصف القرآن نفسه بكونه (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل: 89) و (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: 38) فهم كذلك

وبمناسبة ذكرى وفاة الإمام الصادق (عليه السلام) نريد أن نستلهم من حياته (عليه السلام) بعض المعالجات لمشاكلنا، ونتعلم منه (عليه السلام) كيف نصمد أمام التحديات التي تحاول تقويض شخصيتنا ومسخ هويتنا، ونعرض ذلك باختصار من خلال نقاط:

تحديات المرحلة والاستلهام من الإمام الصادق (عليه السلام):

الأولى: إن الفترة التي نعيشها تشابه تلك التي عاشها الإمام الصادق (عليه السلام) من حيث أنها شهدت ضعف وانحلال دولة هي الأموية، وظهور دولة جديدة هي العباسية، فكان أهم عمل قام به في هذه الفترة الانتقالية

ص: 259


1- محاضرة ألقيت بمناسبة ذكرى استشهاد الامام الصادق (عليه السلام) في 25 شوال 1424 المصادف 2003/12/20.

وتخفيف قبضة الظالمين عنه هو نشر علوم أهل البيت (عليهم السلام) وتثبيت الركائز الفكرية والعلمية الرصينة لهذه المدرسة، حتى لقد نسب المذهب إليه فقيل المذهب الجعفري لأن جهده (عليه السلام) كان هو الأوضح في تأسيس هذا الصرح الشامخ، وقد قطع الإمام شوطاً واسعاً في هذا المجال فقد تخرج على يديه أربعة آلاف عالم في مختلف العلوم والفنون، فأبو حنيفة شيخ أئمة المذاهب من تلاميذه (عليه السلام) وله كلمته المشهورة (لولا السنتان لهلك النعمان)(1) وجابر بن حيان مؤسس علم الكيمياء من طلابه (عليه السلام) وغيرهم كثير، وقد انتشر هؤلاء في الأمصار ونقلوا معهم ما تعلموه.

وكان (عليه السلام) يحث على طلب العلم ويقول: (لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا)(2) وخاطب (عليه السلام) أصحابه: (عليكم بالتفقه في دين الله ولا تكونوا أعراباً فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر إليه يوم القيامة ولم يزكِّ له عملاً) 2 ونقل (عليه السلام) عن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أفٍ لرجل لا يفرغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه) 3.

ونحن إذ نعيش اليوم زوال أيام النظام الجائر الذي حرمنا من كثير من حقوقنا، ونشوء دولة جديدة، يكون من أولوياتنا تأسيس الحوزات العلمية الشريفة والمؤسسات الثقافية في جميع المدن، لخلق واقع جديد من انتشار مراكز العلم والمعرفة يكون أساساً تبنى عليه الحياة الجديدة حتى يتسع الوضع الحالي الذي يفترض وجود الحوزة العلمية في مدينة النجف الأشرف؛ لأن مجرد وجود الكيان العلمي الديني في مدينة ما يعني دفعة قوية للحركة الإسلامية والالتزام الديني، فضلاً عما لو تحرك هذا الكيان ليبلّغ الأحكام0.

ص: 260


1- أنظر المراجعات: ص 15.
2- و (2) و (3) الكافي: 31/1، 40.

ويعظ ويوجه ويرشد فإنه سيملأ تلك المدينة ولا يترك فراغاً يمكن أن يشغله غيره ويحاصر الفساد والانحراف ويسد عليه منافذ الحركة.

بيان المعالم الصحيحة لشخصية المسلم:

الثانية: بيان وتوضيح المعالم الصحيحة لشخصية المسلم بعد أن مسخها الحكام الظلمة بما كانوا يصورون للأمة من جوانب مخزية لشخصيتهم، وبما كانوا ينشئون في حياة المجتمع الإسلامي من واقع فاسد من فسق وفجور وخيانة وجور وانكباب على الدنيا وتقاتل من أجلها وولع بالخمر وعدوان على أهل الحق.

وكان وعاظ السلاطين السائرون في ركابهم يرقعون لهم هذه المخازي بضلالاتهم فضاعت الصورة الحقيقية للمسلم خصوصاً عند الأقوام التي دخلت الإسلام جديداً وليس لهم عمق تأريخي فيه وحرموا من التعرف على أئمتهم الحقيقيين.

فنهض الإمام (عليه السلام) بمسؤولية هذا التعريف، وكان يركز اهتمامه أكثر على شيعته باعتبارهم طليعة هذه الأمة التي عرفت الحق واتبعته فتكون المسؤولية عليهم أكبر قال (عليه السلام):

(فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق في حديثه وأدّى للناس الأمانة وحسن خلقه معهم وقيل هذا شيعي يسرني ذلك ويدخل عليَّ منه السرور ومن كان غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعاره)(1) وقال (عليه السلام):

(والله ما شيعة علي إلا من عف بطنه وفرجه وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه)(2) ويروي الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (خرجت أنا وأبي

ص: 261


1- الكافي: 636/2.
2- الكافي: 233/2.

حتى إذا كنا بين القبر والمنبر إذا هو بأناس من الشيعة فسلم عليهم ثم قال من كلامٍ (واعلموا أن ولايتنا لا تنال إلا بالورع والاجتهاد من ائتم منكم بعبدٍ فليعمل بعمله)(1) وقال (عليه السلام):

(أوصيكم بتقوى الله والعمل بطاعته واجتناب معاصيه وأداء الأمانة لمن ائتمنكم وحسن الصحابة لمن صحبتموه وان تكونوا لنا دعاة صامتين فقالوا: يا بن رسول الله وكيف ندعو إليكم ونحن صموت؟ قال: تعملون بما أمرناكم به من العمل بطاعة الله وتتناهون عن معاصي الله وتعاملون الناس بالصدق والعدل وتؤدون الأمانة وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ولا يطلع الناس منكم الا على خير فإذا رأوا ما أنتم عليه عملوا أفضل ما عندنا فتنازعوا إليه)(2).

ومجتمعنا اليوم يتعرض لحملة عالمية منظمة مدعومة بأحدث التقنيات والوسائل الإعلامية كالصحف والمجلات والتلفزيون والستلايت، من أجل سلخه عن عقيدته وأخلاقه وأعادته إلى الجاهلية التي استنقذهم الله تبارك وتعالى منها، فلكي نحافظ على هويتنا الإسلامية في العقيدة والسلوك علينا أن نحشد طاقاتنا ونبتكر الأساليب والوسائل المناسبة للتصدي لتلك الحملة المنظمة، فنعّرف بعناصر شخصية المسلم ومعالمه التي تميزه عن غيره، وقد كتبت بحثاً بعنوان عناصر شخصية المسلم في آثار أهل البيت (عليهم السلام) ونُشر في كتاب نحن والغرب(3).

مواجهة التيارات الفكرية المنحرفة:

الثالثة: الوقوف في وجه التيارات الفكرية التي تنشأ من داخل المجتمع

ص: 262


1- الكافي: 213/8.
2- مستدرك الوسائل: ج 1 ص 116.
3- أنظر خطاب المرحلة: ج 1 ص 305.

المسلم، أو تفد عليه من الخارج والتي تهدد عقيدة الأمة أو سلوكها، فعندما نشأت شبهة القول بالجبر وأن الله قد قهر العباد على أفعالهم وساهمت السلطات الحاكمة على ترويجها لتبرير ظلمهم للعباد، وقف الإمام (عليه السلام) بحزم لتفنيدها وخصص عدداً من أصحابه للحوار والجدال، وانتشرت كلمته التي تعبر باختصار عن مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وهي:

(لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين)(1).

وكذا واجه حملات الإلحاد وإنكار الصانع لهذا الكون وقد تبناها عدد من الزنادقة والدهريين وكانوا يصرحون بها ويدافعون عنها ويطلبون من يناظرهم فيها ويستغلون موسم الحج لنشر ضلالاتهم وتسفيه عقائد المسلمين في شعائر الحج، وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يقف لهم بالمرصاد فيفحمهم ويرد كيدهم إلى نحورهم وينصر المؤمنين ويشد على قلوبهم ويعزز إيمانهم.

وكذا وقف بقوة ضد الفقهاء الذين بدأوا العمل بالقياس لاستنباط الأحكام الشرعية، وحذرهم مغبة عملهم وقال لهم إياكم أن يقف الناس يوم القيامة فيقولون قال الله ورسوله وتقولون قسنا ورأينا وقال لهم

(ن السنة إذا قيست محق الدين)(2) ، واثبت بطلان العمل بالقياس بموارد ثابتة من الفقه تخالف أقيستهم، ولولا هذه الوقفة الشجاعة لكانت الأحكام الشرعية الآن مخالفة تماماً لما أراده الله ورسوله بحيث تؤدي إلى محق الدين كما عبر الإمام (عليه السلام).

لنتأسى بالإمام (عليه السلام) ونواجه الشبهات الفكرية:

وتأسياً بالإمام (عليه السلام) فيجب على العلماء والمفكرين والمثقفين التصدي

ص: 263


1- الكافي: ج 1 ص 160.
2- السابق: ج 1 ص 57.

للشبهات والتيارات الفكرية والاجتماعية التي تهدد كيان الأمة كالإلحاد وإنكار الخالق والقول بالصدفة أو الطبيعة وكالعلمانية ودعوات تحرير المرأة التي لا تعني إلا تدمير أخلاق المجتمع تحت هذه العناوين البراقة الخادعة، ومثل دعوات التغريب التي يراد منها إلحاق المجتمع الشرقي المسلم بالغربي بجميع أنماط الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية رغم البون الواسع في مرتكزات كل منهما.

تصحيح التصرفات المنحرفة:

الرابعة: التصدي لتصحيح التصرفات المنحرفة التي تنشأ عن الجهل والغرور والحماقة فمنها ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) انه قال: (قوله عز وجل (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) الفاتحة: 6، أرشدنا للزم الطريق المؤدي إلى محبتك والمبلغ إلى جنتك من أن نتبع أهوائنا فنعطب، ونأخذ بآرائنا فنهلك، فإن من اتبع هوائه وأعجب برأيه كان كرجل سمعت غثاء الناس تعظمه وتصفه، فأحببت لقائه من حيث لا يعرفني لا نظر مقداره ومحله فرأيته في موضع قد احدقوا به جماعة من غثاء العامة فوقفت منتبذاً عنهم، متغشياً بلثام أنظر إليه وإليهم، فما زال يراوغهم حتى خالف طريقهم، وفارقهم، ولم يقر. فتفرقت جماعة العامة عنه لحوائجهم، وتبعته أقتفي أثره، فلم يلبث أن مر بخباز فتغفله فأخذ من دكانه رغيفين مسارقة، فتعجبت منه، ثم قلت في نفسي: لعله معاملة، ثم مر بعده بصاحب رمان، فما زال به حتى تغفله فأخذ من عنده رمانتين مسارقة، فتعجبت منه، ثم قلت في نفسي: لعله معاملة ثم أقول وما حاجته إذا إلى المسارقة، ثم لم أزل أتبعه حتى مر بمريض، فوضع الرغيفين والرمانتين بين يديه، ومضى وتبعته، حتى استقر في بقعة من صحراء، فقلت له: يا أبا عبد الله لقد سمعت بك وأحببت لقائك، فلقيتك لكني رأيت منك ما شغل قلبي، وأني سائلك عنه ليزول به شغل قلبي. قال: ما هو؟ قلت: رأيتك

ص: 264

مررت بخباز وسرقت منه رغيفين، ثم بصاحب الرمان فسرقت منه رمانتين. فقال لي: قبل كل شيء حدثني من أنت؟ قلت: رجل من ولد آدم من أمة محمد صلى الله عليه وآله. قال: حدثني ممن أنت؟ قلت: رجل من أهل بيت رسول الله. قال: أين بلدك؟ قلت: المدينة. قال: لعلك جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟ قلت: بلى. قال لي: فما ينفعك شرف أصلك مع جهلك بما شرفت به، وتركك علم جدك وأبيك، لأنه لا ينكر ما يجب أن يحمد ويمدح فاعله. قلت: وما هو؟ قال: القرآن كتاب الله. قلت: وما الذي جهلت؟ قال: قول الله عز وجل:(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها) الأنعام 160، وأني لما سرقت الرغيفين، كانت سيئتين، ولما سرقت الرمانتين، كانت سيئتين، فهذه أربع سيئات، فلما تصدقت بكل واحد منها كانت أربعين حسنة، أنقص من أربعين حسنة أربع سيئات، بقي ست وثلاثون. قلت: ثكلتك أمك! أنت الجاهل بكتاب الله! أما سمعت قول الله عز وجل:(إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) المائدة 27، إنك لما سرقت رغيفين، كانت سيئتين، ولما سرقت الرمانتين كانت سيئتين، ولما دفعتها إلى غيرها من غير رضا صاحبها، كنت إنما أضفت أربع سيئات إلى أربع سيئات، ولم تضف أربعين حسنة إلى أربع سيئات، فجعل يلاحيني فانصرفت وتركته)(1).

وكم يوجد مثل هذا الرجل في زماننا وكل زمان حيث يقومون بأفعال يظنون أنها تقرّبهم إلى الله تعالى وهي لا تزيدهم منه إلا بعداً كالذين ينفذون التفجيرات الإجرامية وينشرون العنف فيقتلون الأبرياء ويخرّبون الممتلكات العامة تحت عنوان المقاومة وأمثالها، أو يحرصون على فعل المستحبات ويتركون الواجبات كالذي ينفق ماله في إقامة الولائم على حب أهل9.

ص: 265


1- الاحتجاج: ج 2 ص 129.

البيت (عليهم السلام) وهو لا يدفع ما بذمته من الحقوق الشرعية وهو بذلك يسرق حقوق مستحقيها.

توحيد المسلمين:

الخامسة: حرصه (عليه السلام) على وحدة المسلمين والتأليف بين قلوبهم، فرغم أنه (عليه السلام) وأهل بيته ظُلِموا وغُصِبت حقوقهم إلا أنه لم يثر فتنة وسلّم لهم من أجل أن تسلم أمور المسلمين كما قال جده أمير المؤمنين (عليه السلام):

(لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري ووالله لأسلِّمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه)(1).

وضربوا (عليهم السلام) لذلك مثلاً في امرأتين تنازعتا في ولدٍ كل واحدة تقول هو لي وتحيّر الخليفة الثاني في كيفية حل النزاع فالتجأ إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فما كان منه (عليه السلام) إلا أن دعا بسيفه وقال سأقطع الولد نصفين لكل واحدة نصف، فصاحت أم الولد الحقيقية لا تفعل يا أمير المؤمنين واحفظ الولد سالماً ولتأخذه المرأة الأخرى، فقال لها (عليه السلام) أنت أمه الحقيقية ودفعه إليها، فكان كل إمام يشعر أنه أم الولد وعليه أن يضحي حفاظاً لسلامة كيان الأمة من التمزق والتشتت وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يقول:

(ولدني أبو بكر مرتين)1 تأليفاً لقلوب العامة.

ص: 266


1- نهج البلاغة: الخطبة: 74.

الاهتمام بأمور المسلمين:

السادسة: الاهتمام بأمور المسلمين وقضاء حوائجهم ومساعدة ضعفائهم بحيث يصل إلى درجة التعبير عمن لم يهتم بأمور المسلمين بأنه ليس منهم، وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يطوف بالبيت الحرام فجاء رجل إلى أحد أصحابه طالباً منه قضاء حاجة فاجله إلى حين انتهاء الطواف فلم يرض الإمام عليه وطلب منه قطع الطواف حتى يقضي حاجة أخيه المؤمن ويعود إلى طوافه، ومر المعلى بن خنيس وهو من خواص أصحاب الإمام (عليه السلام) بمسلمين يتنازعان على مالٍ فدفع منه مالاً يرضيهما ولما استغربا من عظيم صنعه، قال: والله ليس هو من مالي وإنما وضعه عندي سيدي ومولاي جعفر بن محمد للمساعدة في إصلاح الخلافات بين المؤمنين وحل نزاعاتهم.

وفي هذه السيرة المباركة دروس لكل من يلي شيئاً من أمور الرعية أن يحافظ على وحدة الشعب وزرع الألفة بينهم، وأن يتفانى في خدمتهم وتحقيق السعادة لهم.

المواقف السياسية للإمام الصادق (عليه السلام):

شهدت الفترة الأخيرة من الدولة الأموية اجتماعات عديدة كان يعقدها العلويون والعباسيون لإعلان الثورة، وقد حاولوا إقناع الإمام (عليه السلام) بالانضمام إليهم إلا أن الإمام (عليه السلام) كان يبين موقفه بوضوح بأننا لسنا طلاب دنيا وليس لنا مطامع في السلطة، وإنما نريد الإصلاح وتهذيب النفوس وتكاملها ورقيها وهو ما يجب أن نعمل لأجله ومن دون وصول الأمة إلى مستوى رفيع من التربية الإيمانية لا يمكن أن تنجح فيهم سيرة الإمام (عليه السلام) في الحكم بين الناس.

وعندما كتب إليه أبو سلمة الخلال أحد قادة جيوش العباسيين التي أطاحت بالأمويين يعرض عليه الدعوة إليه بعدما تكشفت له نوايا القوم

ص: 267

بالاستئثار بالسلطة دون العلويين، قال الإمام (عليه السلام):

(ما أنا وأبو سلمة وهو شيعة لغيري)(1)، ثم قال لخادمه: (أدن السراج مني) فأدناه منه فوضع الكتاب على النار حتى احترق بكامله، فقال له الرسول: ألا تجيبه؟ قال له الإمام (عليه السلام: (قد رأيت الجواب)(2).

ولما جاء أبو مسلم الخراساني قائد جيوش العباسيين يعرض عليه تسليم الأمر إليه بعدما أحس بخيانة العباسيين الذين بنوا حركتهم على الدعوة إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قال (عليه السلام):

(ما انت من رجالي، ولا الزمان زماني)(3).

التصدي للسلطة وسيلة لإحقاق الحق:

فالتصدي للسلطة عند الإمام (عليه السلام) وسيلة لإحقاق الحق وإقامة شريعة الله تبارك وتعالى، وليست شهوة وغاية في نفسها، فلذا نأى بنفسه عن الخوض في هذه الحياة بل تركها لأهلها الذين رضوا بهذه الدنيا الدنية ثمناً لدخولهم نار جهنم، وتفرغ هو لبناء النفس المطمئنة والقلب السليم والمجتمع الإسلامي النظيف.

الاستفادة من زخم الثورات من غير الاندفاع فيها:

ولكنه (عليه السلام) كان يرى أن بعض الثورات التي تنطلق بين حين وآخر بقيادة العلويين كزيد الشهيد وبني الحسن (عليه السلام) كانت مخلصة وضرورية لإبقاء إرادة الأمة حية ولتعميق وإدامة رفض الظلم والظالمين، وهو (عليه السلام) وإن لم يتبناها

ص: 268


1- موسوعة الإمام الصادق (عليه السلام) للقرشي: ج 9 ص 90.
2- موسوعة الإمام الصادق (عليه السلام) للقرشي: ج 9 ص 91.
3- الملل والنحل: ج 1 ص 241، عن السابق: ج 9 ص 94.

بشكل مباشر وحرص على أن لا يدان بشيء متصل بها إلا أن تعاليمه وخطه الفكري والتربوي والأخلاقي كان يصب في إشعال هذه الثورات، لذا كانت السلطات تعتبره المرشد لها وكان (عليه السلام) يقول:

(لا زالت أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد)(1) أي الثوار الرافضون لظلم الطواغيت ويقول: (ولوددت أن الخارجي من آل محمد خرج وعلي نفقة عياله)(2).

فهو وإن لم يكن يرى أن المقاومة المسلحة هي الحل الأمثل لبناء الأمة، إلا أنه يراها قوة له وتصب في مصلحة الإسلام العليا.

وكتب (عليه السلام) رسالة تفصيلية إلى عبد الله المحض وأخوته وأولاده وبني عمومته من بني الإمام الحسن (عليه السلام) بعد أن اعتقلهم المنصور العباسي في الهاشمية للضغط على ولديّ عبد الله محمد النفس الزكية وإبراهيم أحمر العينين حتى يتركا الثورة ويستسلما، وضمَّنَ الرسالة كل معاني المواساة والصبر والمصابرة والتسلية.

وحينما قتل قائد شرطة الوالي العباسي على المدينة مولاه المعلى بن خنيس، قصد مقر السلطة بنفسه على غير عادته وطالب بالاقتصاص من القاتل وبعد محاولات عديدة للتخلص من الموقف، قابلها الإمام (عليه السلام) بالإصرار على إقامة العدل استسلم الوالي وقدم الجاني للقصاص.

حق الإمام الصادق (عليه السلام) على الأمة:

بهذه النشاطات الكبيرة والمتعددة التي كان يؤديها الإمام (عليه السلام) نجح في إدامة الروح الدينية في الأمة وتوعيتها، وبناء الأسس الرصينة لشخصيتها، لذا حظيّ بتقدير الأمة بجميع طبقاتها وصدرت منهم أعلى كلمات الثناء والإطراء، قال مالك بن أنس أحد أئمة المذاهب (ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً) وقال فيه أبو حنيفة (ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد) وقال ابن أبي العوجاء - من زعماء الملحدين - عندما قصد الإمام الصادق (عليه السلام) ليناظره وقد قال له الإمام: ما يمنعك من الكلام، فقال له: إجلالاً لك ومهابة منك ولا ينطق لساني بين يديك وإني شاهدت العلماء وناظرت المتكلمين فما تداخلني من هيبة أحد منهم مثلما تداخلني من هيبتك يا ابن رسول الله، وكان المنصور على شدة عداوته للإمام (عليه السلام) يقول: إن جعفر بن محمد من السابقين بالخيرات ومن الذين اصطفاهم الله من عباده وأورثهم الكتاب.

ص: 269


1- بحار الأنوار: 172/46.
2- الوسائل: ج 15 ص 54.

ص: 270

الفصل الخامس: مع الحركة الإصلاحية للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره)

اشارة

ص: 271

ص: 272

السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) و تصحيح المفاهيم

اشارة

السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) و تصحيح المفاهيم(1)

كثيرة هي المسؤوليات التي اضطلع بها السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) انطلاقاً من استشعاره لعظمة موقع نيابة المعصوم (عليه السلام) وسعة ما أنيط به من أدوار في حياة الأمة.

ونشير اليوم بمناسبة الذكرى الثالثة عشرة لشهادته إلى أحد تلك الأدوار وهو تصحيح بعض المفاهيم التي تؤثر في حركة الأمة، وذلك لأن كثيراً من الأعمال والسلوكيات يقوم بها أصحابها نتيجة لقناعة بنيت على فهم خاطئ لفكرة معينة، وقد تصل إلى حد ارتكاب الجرائم الشنيعة، ولو صحح المفهوم في أذهانهم لغيّروا طريقة حياتهم.

مسؤولية التصحيح:

ومن أمثلتها اليوم ما تتعرض له البلاد من تخريب ودمار وقتل للأبرياء تحت عنوان المقاومة الذي هو بنفسه عنوان برّاق ومثير للحماس لكنهُ جُعِل غطاءاً لمثل تلك الجرائم، وغرّر بالكثيرين من البسطاء والجهلة والمخدوعين فانخرطوا فيه، وعنوان المقاومة بريء من هذه الأفعال المنكرة.

ص: 273


1- الكلمة التي ألقاها سماحة الشيخ (دام ظله الشريف) على الفضلاء والأساتذة في درس البحث الخارج يوم الأحد 3 /ذ. ق/ 1432 المصادف 2011/10/2 وألقيت بالنيابة عنه في الحفل التأبيني الحاشد الذي أقيم في اليوم السابق على قاعة المسرح الوطني ببغداد، وحضره كبار مسؤولي الدولة، وسفراء عدة دول عربية وإسلامية، راجع تمام الكلمة في خطاب المرحلة: ج 7 ص 163.

فيكون حينئذٍ جزء كبير من الحل مبنياً على تصحيح هذه المفاهيم وإزالة الخلط والغموض، لما سُئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن قتال الخوارج مع من بعده، قال (عليه السلام): (لا تقتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه كمن الباطل فأدركه)(1).

يقصد بالأول الخوارج وبالثاني من قاتلوه في صفين أي أن الخوارج ممن اختلطت عليهم الأوراق فظنوا أن ما يفعلوه حقاً فلا يجوز قتالهم إلا مع إمام الحق، أما البغاة عليه في صفين فيعرفون بطلان ما هم عليه، ويُنسب للسيد الخميني (قدس سره) قوله: (إن بعض ما يسميه الشباب استشهاداً هو انتحار).

فمن مسؤولية القادة والعلماء والمفكرين وصنّاع الرأي وثقافة الأمة أن يتصدوا لبيان المعاني الصحيحة للمصطلحات وإزالة الغبار عنها، وهذا ما قام به السيد الشهيد (قدس سره) واذكر بعض الموارد لذلك:

العمل السياسي غير المقرون بتهذيب النفس:

كالجهاد الذي يتبادر منه مواجهة الطواغيت والسعي لتغيير نظام الحكم والانخراط في العمل الاجتماعي ونشر الوعي الإسلامي، ولا شك أن هذه أعمال مباركة ثقيلة الميزان عند الله تبارك وتعالى لكن بشرط أن تبنى على الإخلاص لله تبارك وتعالى، ولا يحصل ذلك إلاّ بعد جهد وجهاد طويلين في ميدان تهذيب النفس وتطهير القلب والسير في مدارج الكمال، أمّا الانهماك في العمل الاجتماعي من دون النجاح في جهاد النفس فإنّه يجعل صاحبه من الأخسرين أعمالاً (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (الكهف: 104).

ص: 274


1- نهج البلاغة: الخطبة: 61.

وقد أولى (قدس سره) هذا المعنى اهتماماً كبيراً وتذكيراً مستمراً وكان يرثي لحال الغافلين عنه، وهو معنى مأخوذ من وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لسريّة من المقاتلين بالالتفات إلى الجهاد الأكبر - وهو جهاد النفس - وعدم الاقتصار على الجهاد الأصغر.

ومن كلماته (قدس سره) في هذا المجال (وبحسب فهمي وتجاربي من الاتجاه الإسلامي الاجتماعي هو اهتمامه بمصالح المجتمع أكثر من اهتمامه بمصالح الفرد أو قل: اهتمامه بتربية الآخرين أكثر من اهتمامه بتربية النفس مع العلم أن النفس التي لم تصل في التربية إلى درجة معينة فإنها لا تكون صالحة لتربية الآخرين بالمرة أو في حدود تربية ناقصة وفاسدة، ولن يكون التلميذ أحسن من أستاذه ما لم تدركه رحمة الله عز وجل أو حسن التوفيق، وهذا حسب فهمي من الأخطاء أو النقصان الذي عاناه ولا زال يعانيه الاتجاه الاجتماعي الإسلامي، الأمر الذي يجعل أفراده أقل صبراً وأضعف تحملاً من تحمل ما سيواجهون من مصاعب وبلاء في طريقهم الطويل.

وهناك نتيجة أخرى مهمة في هذا الصدد نفسه وهو أن الهدف الأعلى للاتجاه الاجتماعي الإسلامي دنيوي بطبيعته، وهو الذي يجعله الناس مشجعاً ومرغباً للآخرين في تحمل المصاعب والصبر على الشدائد، وانك ستنال شهرة ومنصباً وقوة وكذا وكذا.. وسوف لن ينال الآخرون من خيراتنا ومن أنفسنا ومن التحكم فينا، ومع احترامي الشديد لهذه الأهداف، إلاّ أنها بطبيعتها دنيوية.)(1)

وقال مستشهداً بكلام للسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) منبهاً إلى7.

ص: 275


1- من بحث بعنوان (في تربية الدين للنفس والمجتمع) نشرته في كتاب (الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه) ص 297.

النقص في التربية (وأريد أن أقول كلاماً أكثر صراحة، وهو أن التجارب السابقة مع المتدينين والواعين فيها وجدنا الأغلب منهم يتهاوون ويضعفون أمام الدنيا بمختلف الأسباب: أما المال أو الخوف في المجتمع أو التعذيب داخل السجون، وأكاد أقول: انه حتى كثير ممن قتل منهم إنما تم قتله بعد اخذ الاعتراف الكاذب منه ثم إدانته المحكمة باعتبار اعترافه، ولم يكن صامداً على طول الخط!!

(ولذا صدر من سيدنا الأستاذ - يعني الشهيد الصدر الأول (قدس سره) -: أننا استطعنا أن نربي الآخرين إلى نصف الطريق ولم يقل إلى نهايته لأنه لو كان الأمر كذلك، لما حصلت أي شيء من تلك النتائج).

ولو كان أولئك المتدينون قد أصلحوا أنفسهم قبل إصلاح الآخرين، ومارسوا المقدمات المنتجة لصفاء النفس ونور القلب وعمق الإخلاص وقوة الإرادة وعفة الضمير، لما عانوا ما عانوا بل ولعلهم لم يحتاجوا في الحكمة الإلهية إلى كل هذا البلاء الذي وقع عليهم، وإنما كانوا مع شديد الأسف مصداقاً لقوله تعالى (وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (محمد: 38) ولم يكونوا مصداقاً لقوله تعالى (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج: 41)، وليس ذلك إلا لأن الأفراد التامين الجهات الكاملين الأوصاف الجامعين للشرائط عددهم قليل، وأقل من الحاجة بكثير).(1)

دور المرجعية الرشيدة في التصحيح:

هذه أمثلة وشواهد على قيام السيد الشهيد الصدر (قدس سره) بهذا الجزء من المسؤولية الملقاة على المراجع القادة.

ص: 276


1- الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه: 302.

ولقد سرنا على هذا النهج إذ أن الحاجة إلى هذا التصحيح أوسع اليوم وأخطر وأعقد حيث تحوّل الاختلاف في المفاهيم والمعاني إلى خلاف وتطور الخلاف إلى صراع وقتال يدفع ثمنه الأبرياء والشعب المستضعف المغلوب على أمره، فحرّرت في خطاباتي معاني لجملة من المصطلحات محل الخلاف والجدل كالطائفية والفدرالية والعلمانية والشراكة في الحكم وحقوق المرأة وحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية وولاية الفقيه وغيرها مما هو مبثوث في المجلدات العديدة من كتاب (خطاب المرحلة).

أسأل الله تعالى أن ينوّر بصائرنا فيرينا الحق حقاً ويرزقنا إتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يرفع درجة الشهيدين الصدرين وكل شهداء الإسلام وينعم على هذا الشعب بالسعادة والازدهار.

ص: 277

ص: 278

عوامل نجاح الحركة الإصلاحية المباركة للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره)

اشارة

عوامل نجاح الحركة الإصلاحية المباركة للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره)(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.

لقد كان سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) قائداً ناجحاً على أكثر من صعيد فقد استطاع بفضل الله تبارك وتعالى إيصال صوت الهداية والإيمان إلى أقصى مكان، وقلل من الانحراف والجريمة بدرجة كبيرة خصوصاً في مناطق وسط وجنوب العراق التي أقيمت فيها صلاة الجمعة، وأعاد للحركة الإسلامية نشاطها وحيويتها بعد أن جمدت روحها في الثمانينيات بعد استشهاد السيد الصدر الأول، وهز أركان النظام الطاغوتي وأسياده، وأدخل عليهم الرعب، وشد الجماهير إليه، ودخل قلوبها إلى حد العشق والفناء.

عوامل نجاح الشهيد الصدر الثاني:

فما السر في ذلك وما هي العوامل التي ساهمت في تحقيق هذا النجاح؟

ص: 279


1- كلمة ألقاها سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في الحفل التأبيني الذي أقامه منتسبو مستشفى الصدر التعليمي في النجف الأشرف يوم الأربعاء 7 ذ ق 1424 المصادف 2003/12/31.

عند تحليل شخصية السيد الصدر (قدس سره) وملاحظة الظروف المحيطة به نستطيع تحصيل عدة عوامل استعرضها باختصار لضيق الوقت، وهي في الحقيقة أسس نجاح كل قائد يريد أن يتصدى لإصلاح الأمة.

تهذيب النفس والسيطرة عليها:

1. تهذيبه لنفسه وسيطرته على غرائزها، وانتصاره على ذاته بحيث أصبح هو يملك زمام نفسه، وليست هي التي تملكه وكان معروفاً بنكران الذات، وطالما كان يكرر أنه يدوس ذاته بقدميه، ونجح بدرجة كبيرة في الجهاد الأكبر مما سهل عليه النجاح في ساحة العمل الاجتماعي وهو الجهاد الأصغر، ومن كلماته (قدس سره): إن النجاح في الجهاد الأصغر لا قيمة له إذا لم يقترن بالانتصار في الجهاد الأكبر، وهو معنى قرآني ذكرته كثيراً في كلماتي، وفي الحقيقة فإن أي شخص يراد تأهيله لتحمل المسؤولية لا بد له من المرور بهذه المرحلة حتى يصل إلى درجة الإمساك بزمام نفسه، وقد خاض (قدس سره) هذه التجربة العملية على يد أكثر من شخص، وذكر لي في رسائله التي قاربت المائتي صفحة(1) نكتاً من هذه التربية.

وكان يحب الموعظة لأن فيها إحياءً للقلوب كما أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) ولده الحسن (عليه السلام):

(يا بني أحيِ قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة)(2) فكان يحث على مطالعة كتب الموعظة كإرشاد القلوب ومجموعة ورام وعموم جوامع الأحاديث الشريفة كتحف العقول والخصال، ولقد كانت هذه سيرته منذ نهاية السبعينيات، وحدثني انه كان ملازما لأستاذه وابن عمه

ص: 280


1- نشرت في كتاب (قناديل العارفين).
2- نهج البلاغة: الكتاب: 31.

الشهيد الصدر الأول الذي كان يحترم هذا المسلك ويدافع عنه، بل التزمه في أيامه الأخيرة كما هو واضح من محاضرته الأخيرة عن حب الدنيا ضمن محاضرات السنن التأريخية في القرآن الكريم، وكان (قدس سره) يود أن يأخذ من كل شيء عظة وعبرة تأسياً برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فمثلاً: حيث يدخل إلى الحمام ويرى الماء الحار يقول (صلى الله عليه وآله وسلم):

(نعم البيت الحمام يذهب الدرن ويذكر النار)(1)، وقد فصلنا شيئاً من الكلام في محاضرات (الأسوة الحسنة)(2).

الارتباط بالله تعالى:

2. ارتباطه بالله تعالى وإدامه ذكره وجعله الهدف الوحيد الذي يسعى من أجله، وقد انتقد في أحدى خطب الجمعة ما يفعله أئمتها من الاكتفاء بسطر واحد أو أقل من الحمد والثناء على الله تبارك وتعالى ثم الخوض في موضوع الخطبة، أما هو (قدس سره) فكان ينقل مقطعاً من دعاء أو آيات قرآنية أو خطبة لأحد الأئمة (عليهم السلام) تعمق الصلة بالله تعالى وتعرف بصفاته الحسنى، وتبين حاجتنا وفقرنا إليه تبارك وتعالى، وكان مراقباً لله سبحانه، ومراعياً له في السر والعلن.

ومما أدبني به ما رواه عن أحد العلماء: أنه دخل عليه شخص فرآه بزيه الكامل وهو جالس وحده في البيت فسأله عن ذلك، قال: لأني بحضرة الله تبارك وتعالى، وكان آخر لا يمدد رجليه حتى لو كان وحده لنفس السبب، ومما حكاه (قدس سره) لي عن سيرته: أنه مرة صلى ركعتين استغفاراً لأنه قال لشخص التقى به وكان غائباً عنه مدة: مشتاقين، وهي كلمة متعارفة، ويمكن أن تبرر إلا أنه خشي أن يكون كاذباً بهذه الدعوى.

ص: 281


1- شعب الإيمان للبيهقي: ج 6 ص 160.
2- أنظر: خطاب المرحلة: ج 1 ص 263.

وهذا - أعني العمل لله تبارك وتعالى - إحدى مميزات حركته عن قادة وعلماء آخرين عاشوا للإسلام، وأشربت قلوبهم حب الإسلام وهو عمل عظيم إلا أنه ليس كمن يعيش لله تبارك وتعالى، وبينهما فرق أوضحته في محاضرة سابقة، وهذا التعلق بالله تبارك وتعالى والإخلاص له ومحبته تجعل الشخص يفيض نوراً على الآخرين، ويلقي الله محبته وهيبته وتأثيره في قلوب الناس، وفي الرواية عن عن علي (عليه السلام) انه قال:

(من أراد عزاً بلا عشيرة، وهيبة من غير سلطان، وغنى من غير مال، وطاعة من غير بذل، فليتحول من ذل معصية الله إلى عز طاعته، فإنه يجد ذلك كله)(1)، وفي الحديث القدسي:

(ما تقرب إلى عبدي بمثل أداء فرائضي وإنه ليتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت رجله التي يمشي بها ويده التي يبطش بها ولسانه الذي ينطق به وقلبه الذي يعقل به إن سألني أعطيته وإن دعاني أجبته)(2) فيكون دليلاً للخلق إلى الله تعالى.

معايشته للقرآن الكريم:

3. معايشته مع القرآن وتفاعله مع مضامينه، ففي وقت مبكر من حياته كان له دفتر يسجل فيه ما ينقدح في ذهنه من نفخات أثناء تلاوته للقرآن، ويثبت فيه الآيات التي توحي له بخلق قرآني أو موقف إزاء حال معينة أو سلوك عليه أن يطبقه، وفي مرحلة أخرى أخبرني أن له نسخة من المصحف ثبت على هوامش صفحاته القراءات المتعددة للكلمات القرآنية، وقال (قدس سره): إنه كان يستفيد من هذه القراءات معاني لا توحيها الكلمات المرسومة، وأحياناً تحل له معضلة فقهية لا ينسجم حلها مع القراءة الموجودة لكنها تنسجم تماماً

ص: 282


1- امالي الطوسي: ص 524.
2- كنز العمال: ج 1 ص 230.

مع قراءات أخرى، وختم حياته (قدس سره) وهو يلقي محاضرات (منة المنان في الدفاع عن القرآن)، ويمكن مراجعة كتاب (شكوى القرآن) لتطلع على بركات الحياة في ظل القرآن ودوره في صنع القادة والمصلحين.

دراسة سيرة الأئمة (عليهم السلام) بدقة:

4. دراسة سيرة الأئمة (عليهم السلام) بدقة وعمق وشمولية لمعرفة أدوارهم التي أدوها والمسؤوليات التي قاموا بها، وكيف كانوا يتخذون المواقف المناسبة اتجاه مختلف القضايا، ومن حكمة الله تعالى وعظيم مننه على الأمة جعل أدوارهم تجربة للأمة وظروفهم مختلفة ومدة إمامتهم طويلة (مائتين وخمسين عاماً) لتنضج تجربة الأمة وتحصل على كل ما تريده من سيرتهم المباركة، فعرف (قدس سره) متى ينكمش ومتى يتحرك، وماذا عليه أن يفعل، وكيف يتعامل مع الآخرين أفراداً أو طوائف أو سلطات، فبينما يكتب لي في منتصف الثمانينيات وكنت شاباً متحمساً للعمل الإسلامي فيقول: إننا في ظروف لعلها أشد من ظرف الإمام الحسن (عليه السلام)، وحاجته إلى الصمت والتقية تجده في سنته الأخيرة يقود تحركاً جماهيرياً مليونياً في وجه نفس السلطات العاتية.

الجد والاجتهاد في تحصيل العلوم:

5. الجد والاجتهاد في تحصيل العلوم، لأن العلم من الركائز الأساسية في بناء شخصية القائد المصلح حتى بلغ أسنى درجاته ونال ملكة الاجتهاد. كان يقول إنني اشتغل حوالي ثمان عشرة ساعة في اليوم بالدراسة والتدريس والكتابة والتأليف، وقال مرة (قدس سره): إنه أثناء اشتغاله بتأليف موسوعة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) كان ربما يكتب أربعين صفحة في اليوم الواحد وهو إنجاز ضخم يعرفه من مارس عملية التأليف والكتابة، وحتى حينما

ص: 283

يذهب إلى بغداد لكي تزور زوجته أهلها فإنه لا يضيع الوقت بل يقضيه بالكتابة والتأليف، وقد أجمع زملاؤه وأقرانه على جده حيث بدأ بدراسة العلوم الدينية وانتمى إلى كلية الفقه سنة 1957 وهو في الرابعة عشر من العمر بعد امتحان أجراه له عميدها المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر وكان متفوقاً على أقرانه.

عدم الانفصال عن الواقع:

6. عدم انفصاله عن واقعهِ وما يجري فيه ومواكبته له، فتراه مثقفاً بثقافة العصر ويتابع تطوراته العلمية والسياسية والاجتماعية، ففي الثمانينيات نصحني بقراءة مجلة (علوم) العراقية التي كانت تعني بأحدث أخبار العلم وانجازاته، وكان يهمه منها أكثر باب العلوم البارا سايكولوجية لأنها أولاً تنسجم مع توجهاته النفسية وتعلقه بما وراء المادة، ولأن فيها حسب تعبيره لطمة للمادية الغربية التي تؤمن بالمادة والمحسوسات فقط.

وكان يستمع إلى الإذاعة ويطلع على ما يدور في العالم حتى حصلت عنده رؤية رصينة للأحداث. ومن بحوثه التي كتبها وأهداها لي - وهي محفوظة لدي - بحث بعشرات الصفحات بعنوان

(فلسفة الأحداث في العالم المعاصر والدروس والعبر المستفادة منه)(1)، وقد علقت عليه وأضفت إليه مثله فرغب إليَّ في أن أضمهما في كتاب.

وكان مهتماً بأخبار الجمهورية الإسلامية في إيران وخطابات قائدها العظيم السيد الخميني (قدس سره)، ويستمع مباشرة باللغة الفارسية، وقال (قدس سره) في ذلك: لأنه تجري على لسانه نكات عرفانية وأخلاقية لا تعرضها الترجمة التي تهتم بالمقاطع السياسية والمتعلقة بالعمل الاجتماعي.

ص: 284


1- طبع في كتاب (الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه).

وبعد تحرير الجمهورية الإسلامية لأراضيها من القوات العراقية في معركة (المحمرة) في آيار 1982 وانتقال العمليات الحربية إلى الأراضي العراقية في تموز 1982 سارت الحرب سنين عجاف رتيبة ثقيلة باهظة التكاليف بشرياً واقتصادياً، فكان من وجهة نظره (قدس سره): أنه لا جدوى من استمرارها لأنه استنزاف لطاقات بلدين شيعيين (وهو توجه السيد الخامنئي رئيس الجمهورية آنذاك)، وعارضه الرأي القائل بضرورة استمرارها حتى القضاء على المعتدي ومحاسبته وكان (قدس سره) يتخذ الموقف الأول بينما كنت مع الثاني وأردد ما كان يقوله الساسة الإيرانيون الآخرون كالرفسنجاني والأردبيلي وتبناه السيد الخميني (قدس سره): أن السلم المفروض أسوأ من الحرب المفروضة، فطلب مني أن نفتح حواراً عبر المراسلة طبعاً - لأنه كان تحت الإقامة الجبرية - لمناقشة الرأيين فكتبت بحثاً بعنوان (نظرات في الحرب والثورة) وقد أتلفته حين داهمتنا القوات الصدامية عقب الانتفاضة الشعبانية المباركة.

نزوله الى المجتمع ومخاطبته لجميع الناس:

7. نزوله إلى المجتمع ومخاطبته لجميع الناس بما يناسبهم وعدم الابتعاد عنهم فقد كان، إلى حين تصديه للمرجعية يذهب بنفسه إلى السوق ليوفر الحاجات المنزلية، وكان يحب أن يطلع على آلام المجتمع وآماله وهمومه من دون أن يتخذ حاجباً أو (سكرتيراً).

نقل أحدهم: أنه قلد السيد الصدر (قدس سره) بسبب الطماطة، قيل له: وكيف؟

قال: لأني سألت عدداً من المراجع وأنا أبحث عمن أقلده كم هو سعر الطماطة في السوق، فكان جوابهم جميعاً هو الزجر وان هذا ليس من

ص: 285

اختصاصنا، إلا السيد الصدر فقد أجاب بالتفاصيل عن سعر الجيدة منها والرديئة فعلمت - والكلام له - إن هذا هو الرجل الذي يصلح لقيادة الأمة، وسواء صح هذا أو لم يصح لكن المهم أنه يعبر عن آلية للإيمان بالقيادة وصلاحيتها كما نقل عن ابن سينا وهو الفيلسوف العظيم: اللهم إيماناً كإيمان العجائز، أي أن هذه الوسائل الساذجة للإيمان بالحقائق قد تكون اثبت في القلب والنفس من طرق الاستدلال العقلية المتضخمة بالإشكالات والشبهات.

وقد رأينا في صلاة الجمعة كيف يتحدث بلغة المجتمع فيفهمه المجتمع ويشاركهم الحر والبرد ويعيش في أوساطهم بلا تمييز عنهم، ويشمل بخطاباته كل شرائح المجتمع فخاطب الحوزة والعشائر والمسؤولين السياسيين والديانات الأخرى حتى الغجر بحيث أحس الجميع انه منهم فيتأثرون به ولا يشعرون بالغربة والانفصال.

استثمار طبيعة العلاقة مع السلطة:

8. استثماره لطبيعة العلاقة مع السلطة الحاكمة التي شعرت بعد الانتفاضة الشعبانية المباركة وامتداد الحركة الإسلامية في العراق، بالحاجة إلى الحوار مع المرجعية الشريفة والانفتاح عليها وتخفيف القبضة الحديدية عن بعض ممارساتها الدينية لكي تتجنب حصول ثورة شعبية عارمة قد لا تنجو منها هذه المرة، ولكي تبقي على وجود للقيادة الدينية في النجف لأن انحسارها التام يعني رجوع الشيعة في العراق إلى القيادات الدينية في إيران، وفي ذلك خطر عظيم عليهم، لذا كانوا حساسين جداً من مقولة انتقال الحوزة إلى قم المقدسة، وحريصين على عدم حصوله.

وهاتان الحاجتان كانتا تمسكان يد النظام بدرجة من الدرجات عن التعرض لبعض النشاطات الإسلامية للحوزة، في حين لم تكن تسمح بها أولاً

ص: 286

ولا بأقل منها قبل ذلك فاستثمر السيد الشهيد (قدس سره) هذا الوضع لينطلق بمشاريعه الاجتماعية، وكانت قمتها صلاة الجمعة، وحينما كان يحذر من بعض الخطوات التي يراها العارفون ببطش النظام أنها تؤدي إلى الخسارة كان يقول (قدس سره): إنما السلطة لنا كإشارات المرور، فنحن نسير حتى تشعل لنا ضوءاً أحمر فنقف ثم نتقدم وهكذاً.

هذا الاستغلال الدقيق الواعي للعلاقة مع السلطة أتاح الفرصة لانجازات عظيمة، في حين أن المتعارف على التصرف الشيعي أمام السلطات، أما المواجهة غير المتكافئة والتي نتيجتها إهلاك الحرث والنسل وإزهاق أرواح المؤمنين الذين تعبت أجيال من العلماء على تربيتهم، والذين يقول فيهم السيد الخميني (قدس سره) فيما ينقل عنه: (أن بعض ما يسميه الشباب استشهاداً هو انتحار)، أو الانكماش والانسحاب الذي يفوت الكثير من المصالح، أو الخضوع للحكام والانسياق وراء رغباتهم وفي ذلك تضييع الدين وأهله.

هذا بعض ما استطعت أن أدوّنه بهذه العجالة، وهي أفكار ينفتح منا ألف باب لأولي الألباب.

أسأل الله تعالى أن يتغمد شهداءه خصوصاً العلماء الأعلام بالرحمة الرضوان، ويأخذ بيد الأمة والحوزة الشريفة لتسير على منهاجهم وتأخذ

ص: 287

ص: 288

الفصل السادس: الاستماع إلى الأخبار في أوقات الأزمات

اشارة

ص: 289

ص: 290

الاستماع إلى الأخبار في أوقات الأزمات

الحضارة الغربية بنيت على نظام المصالح:

الاستماع إلى الأخبار في أوقات الأزمات(1)

الحضارة الغربية بنيت على نظام المصالح:

لقد بني كيان الغرب اليوم وسائر الكيانات المادية على أساس (المصالح) والسعي المستمر للازدياد من الثروة كما وصفهم الحديث الشريف بأن طالب المال منهوم لا يشبع ولا يملأ فمه إلا التراب. وقد أدى بهم هذا الجشع والحرص إلى حب التسلط على الآخرين واستعبادهم والتحكم بشؤونهم للانتفاع بهم من جهتين:

الأولى: نهب ثرواتهم.

والثانية: استخدامهم لتحقيق أغراضهم وجعلهم أسواقاً لتصريف بضائعهم.

وتدير هذه السياسة العدوانية مؤسسات ضخمة ذات إمكانيات عالية وتقنيات متطورة، وقد رأت هذه المؤسسات أن من الضروري الإيحاء لشعوبهم والخاضعين لسيطرتهم بوجود عدو - سواء كان حقيقاً أو وهمياً - وخلق ضجة باتجاهه وهذا يحقق لهم عدة نتائج:

ص: 291


1- صدر بتأريخ 26 ذو القعدة 1423 الموافق 2003/1/30 عند تصاعد إرهاصات الهجوم الأمريكي على العراق الذي بدأ يوم 16 محرم 1424 المصادف 2003/3/20 وانتهى بسقوط الصنم في ساحة الفردوس وهزيمة الطاغية وأزلامه يوم 6 صفر 1424 المصادف 2003/4/9.

1 - بعث الهمة والحماس والنشاط في العمل بالاتجاه الذي يريدونه هم ومن يتأثر بهم.

2 - خلق المبررات لاستمرار وجودهم وإقناع الناس بصحة عملهم والحاجة إليهم.

3 - التشويه والتعتيم على أي شخص أو عقيدة يمكن أن تتهددهم.

4 - تمرير الأفكار والسلوكيات المنحرفة والهدامة تحت عناوين براقة ومزخرفة وهي ستأخذ مجراها بسرعة لانشغال الناس بالضجة المفتعلة.

5 - هدر طاقات الأمة المادية والمعنوية وتبديدها من أجل لا شيء.

العدو الجديد:

وقد قضى الغرب عقودا في حرب (باردة) مع الشيوعية ومعقلها الاتحاد السوفيتي، واستطاع في ظل هذه الحرب أن يحقق الكثير من الأهداف المتقدمة مما لا يسع المجال لشرحها، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وزوال هذا العدو لم يبق أمامهم ما يبرر الكثير من أفعالهم فاحتاجوا إلى إيهام شعوبهم بعدو جديد يتهدد كيانهم وينذر بزوالهم ذلك هو الإسلام، وهم يستطيعون أن يجدوا الكثير من النقاط التي تقنع المخدوعين والمتأثرين بإعلامهم المزيف بهذا العدو الذي ليس هو عدو للشعوب، بل على العكس هو يريد السعادة والخير وسيادة العدل والمحبة في المجتمع الإنساني برمّته، وإنما هو عدو للمستبدين والمستكبرين والظلمة والمعتدين على الشعوب الذين يريدون إن يخرجوا الناس من عبادة الله الواحد التي تدعوهم إليها الفطرة السليمة إلى عبادة الطواغيت والآلهة المزيفة التي يصنعونها ويجّددون فيها فما إن تملّ البشرية إلهاًً حتى يصنعوا له آخر.

ص: 292

دور الإعلام في صناعة السياسة الغربية:

ومن أهم وسائلهم لتنفيذ هذه الخطط، الإعلام بكل قنواته المسموعة والمرئية والمقروءة، وقد سخّروا لها إمكانيات هائلة لتشد إليها الإنسان وتأخذ بمجامع قلبه وعقله وتسلب منه رشده وقدرته على التفكير، ويبقى منصاعاً لها ومصدقاً بها حتى لا تبقى عنده فرصة للتأمّل والتمييز بين ما هو صحيح وما هو فاسد وما هو ضار أو نافع أو حق أو باطل، حتى في نشرات الأخبار التي يوهمون الناس أنهم ينقلونها بكل أمانة وموضوعية وحياد فتراهم يضعون السم في العسل ويخترقون أفكارك وقناعتك بل وحتى معتقداتك من حيث لا تشعر، ويخلقون فيك الشك والحيرة والتردد وهي الخطوة الأولى في طريق الضياع والانحراف.

أساليب في التوهيم الإعلامي:

ولهم في ذلك أساليب متعددة، منها الالتقاء بناس ضعيفي الحجة لا يستطيعون إقناع الآخرين بحقهم، بينما يلتقون بشخص قوي الحجة في الباطل، أو يوجهون أسئلة إلى طرف الباطل يريدون إيصال أجوبتها إلى الناس بينما لا يسألون أهل الحق عما يريد الناس معرفته، أو ينقلون أخبارنا ويعلقون عليها بأنها (لم تثبت من مصادر مستقلة)، بينما تؤخذ أخبارهم كمسلّمات وغير قابلة للمناقشة، أو تنقل تفسيراتهم للأحداث بشكل مقنع أما تفسيراتنا فتعرض ممزوجة بالتشكيك، وهكذا.

دور الوعي في قراءة الأحداث:

لذا وأمام هذه الهجمة الشرسة يجب أن نكون واعين حذرين مدققين في الأمور ولا نكون همجاً رعاعاً ينعقون مع كل ناعق، وأشَّبه سماع الأخبار من

ص: 293

الإذاعات بقراءة كتب التأريخ، إذ من غير المعقول أن نصدق كل ما فيها من غث أو سمين ونحن نعلم أن جملة نقائض فيها، فقد كتب بعضها تزلفاً إلى السلطات ولتبرير أفعالها، وكتب بعض آخر لتأييد عقيدة أو مذهب، وكتب غيرها لتسقيط شخص مخالف وتشويه صورته أو لرفع شخص وتأييده، مضافاً إلى أنها كتبت من وجهة نظر الكاتب التي قد لا تعبر عن الحقيقة وليست مستوعبة لتفاصيل الحدث، لذا فإن الباحث المنصف يحتاج إلى تأمل وغربلة في الكتب وجمع القرائن والأدلة لتمييز الصادق عن المكذوب.

نقاط للوعي:

وهكذا يجب أن نكون تجاه ما تبثه وسائل الإعلام فنحن لا نستطيع أن نتخلى عن متابعة الأخبار لأنها حاجة نفسية ملحة ولكن علينا أن نلبي هذه الحاجة بشكل نظيف ومفيد وغير مشوه وليس فيه ضرر، بالالتزام بعدة نقاط:

1 - إن الإذاعات متفاوتة في درجة الاطمئنان إليها فبعضها واضح الكيد والتضليل والتشويه وبعضها أقل، فلا بد أن يتفاوت الحذر منها بمقدار درجة الاطمئنان إليها.

2 - الوعي والتأمل في مضمون الخبر والتثبت منه فإن القائمين على هذه الإذاعات المعادية للإسلام فسقة لا ورع لهم، وقد قال تعالى:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) (الحجرات: 6).

3 - الرجوع إلى الحوزة الشريفة والواعين المخلصين من المثقفين لمعرفة تقييمهم للخبر والأثر المترتب عليه التزاماً بقوله تعالى:(وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ

ص: 294

لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاّ قَلِيلاً) (النساء: 83).

4 - عدم المبالغة والإفراط في الاستماع إلى الأخبار، والاكتفاء بنشرتين من إذاعتين مختلفتين مع التعليقات التي تتعقبها فإن العمر ثمين وهو رأس مال الإنسان المعد للتجارة مع الله تعالى، ويستطيع إن يستثمر كل دقيقة وكل ثانية في طاعة الله تعالى بعمل صالح ونافع دينياً أو دنيوياً للفرد أو للعائلة أو للمجتمع. وليجرب كل فرد أن قضاء عدة ساعات مع نشرات الأخبار هل تعطيه أزيد مما يحصل عليه لو تابع ما اكتفينا به من نشرتين مع تعليقهما؟ فلماذا هذه المضيعة للوقت؟

5 - إن كثرة الاستماع إلى الأخبار يؤدي إلى التشويش الفكري وانشغال القلب والعقل بالأفكار المتضاربة، مما يفوّت على الفرد فرصة الازدياد من العلم والمعرفة والتفقه فيما هو ضروري له فلا تبقى له همة بمطالعة الكتب والتأمل فيها والانتفاع منها واستنتاج ما هو جديد ونافع، رغم أن كل مسلم مطالب بالكثير من القراءات في العقائد والأخلاق والسيرة والفقه والثقافة والتأريخ والأدب والتفسير.

ولو ثنيت لي الوسادة لألزمت كل فرد بقراءة كتاب واحد على الأقل في كل من هذه المجالات ك - (عقائد الإمامية) أو (أصل الشيعة وأصولها) في العقائد و (مرآة الرشاد) أو (إرشاد القلوب) في الموعظة والأخلاق و (رسالة عملية مختصرة) في الفقه و (مختصر تفسير الميزان) أو (تفسير شبر) في التفسير و (نفحات من السيرة) في سيرة المعصومين (عليهم السلام) وهذا يمثل الحد الأدنى من الالتزام بقول الإمام الصادق (عليه السلام):

(لوددت أن السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا في الدين).

ص: 295

كما أني من موقع المسؤولية الأخلاقية والشرعية ألزم كل فرد بقراءة كتاب (تأريخ الغيبة الكبرى) لسيدنا الأستاذ (قدس سره) وفهمه وتلخيص أفكاره ومعرفة ما ينبغي علينا معرفته والعمل به وجعل الكتاب محوراً للمناقشات والحوارات والمسابقات وجعل نسخ الكتاب والكتب المتقدمة هدايا للفائزين.

6 - ولكي يكون استماعنا للأخبار هادفاً وواعياً علينا أن نتصيد الدروس والعبر منها لندعم بها عقائدنا (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا) (المدثر: 31) فإن الله تبارك وتعالى يوالي الحجج على البشر، لكن غفلتهم وانشغالهم بالماديات واتباع الهوى يصدهم عن الاتعاظ بها، فعلى الواعين إلفات نظرهم إلى ذلك، واذكر لكم مثالاً واحداً ذكرته في إحدى محاضراتي، ففي صيف 2002 م اجتاحت أوربا موجة من الفيضانات، أتلفت الكثير من الأنفس والممتلكات وشرّدت الآلاف وكلّفت الملايين من الأضرار، خصوصاً في ألمانيا والنمسا وجيكوسلوفاكيا، وعجزت تكنولوجيتهم التي صوروها وكأنها الذراع التي لا تعجز عن شيء من مواجهة هذه الكارثة. وهذا درس مهم لمعرفة ضآلتهم أمام الطبيعة التي هي إحدى مخلوقات الله فكيف ينصبون أنفسهم أرباباً على البشر من دون الله تعالى يريدون من الناس جميعاً أن يطيعوهم ويأتمروا بأمرهم؟ فهذا درس استفدناه.

والدرس الأخر الأهم أن التعليقات على الأخبار قالت إن أوربا تحمّل الولايات المتحدة مسؤولية حصول هذه الكارثة لأنها امتنعت عن التوقيع على معاهدة (كيوتو) للمحافظة على البيئة والتي من بنودها عدم تشغيل المعامل في وقت واحد فأدى عدم الالتزام بها إلى الاحتباس الحراري وارتفاع درجة الحرارة فزيادة الأمطار فحصول الفيضانات، فهذا شاهد معترف به من قبلهم

ص: 296

على أن معاصي البشر وسوء تصرفاتهم وفسادهم وانحرافهم يؤدي إلى حصول الكوارث الطبيعية لأن السنن الإلهية المتحكمة في الكون والمخلوقات واحدة.

فقبل هذا الشاهد وأمثاله لا نستطيع إقناعهم بهذه الملازمة بين (فساد الإنسان وحصول الكوارث الطبيعية) لأنهم لا يؤمنون بالغيب وتأثيراته فأرجو - ولا أريد أن أكثر من كلمة ألُزم - من كل فرد من المجتمع أن يسجل يومياً في دفتر خاص ما يمكن استفادته من الأخبار من دروس وعبر وسأكون أنا والأخوة من فضلاء الحوزة الشريفة بخدمتهم في مراجعة هذه الدفاتر وتقييمها والاستفادة منها ونشر ما هو نافع منها.

7 - ولكي لا يأخذ الاستماع لنشرات الأخبار وقتاً كثيراً فيمكن جعله مزامناً لعمل أو وظيفة لا تتنافى معه كالأعمال اليدوية الروتينية أو حين تناول الطعام - مع عدم الغفلة عن آداب المائدة كالتسمية والحمد لله وغيرها - أو حين الاستلقاء للراحة، وإبقاء الأوقات الفعالة للمسؤوليات الأخرى كالعمل لكسب المعيشة والقراءة والعبادة واللقاء بالإخوان وقضاء الحوائج ونحوها.

8 - تقوية الثقة بالنفس وحسن الظن بالله تعالى والرضا بما قضى وقدّر، فإن المحن والبلايا إن كانت من الله تبارك وتعالى فلا راد لقضائه، وإن كانت من مظالم العباد وشرورهم، كما لو اعتدت دولة متجبرة على شعب آمن فإن فيه جهتين: جهة منسوبة إلى المعتدي، ونتيجتها الخزي والعار في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة، وجهة منسوبة للمظلوم وهي مواجهة الظالم بالصبر والإيمان والثبات وحسن الظن بالله تعالى:(إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل: 128)، و (إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (الزمر: 10)، و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) (محمد: 7)،

ص: 297

وكل هذه الأمور تتطلب عزماً وهمة من المجتمع في طاعة الله تعالى ووعياً وفهماً صحيحاً للأمور وتصرفاً سليماً تجاه الأحداث.

خطر الأخبار والآليات الإعلامية على الأمة:

إن عدم الالتفات إلى كل أو بعض النقاط المتقدمة يجعل هذه الأخبار تسبب آثاراً تدميرية في المجتمع، منها:

1 - إضعاف القوة المعنوية وتحطيم نفسية الأمة، وتحقيق العجز عن التفكير فيما هو نافع.

2 - بث الشك وفقدان الثقة بالنفس أولاً، وبأولي الأمر ثانياً، وبالدين والعقيدة والمبادئ ثالثاً.

3 - أحداث التفرقة والاتجاهات المتباينة وتمزيق وحدة الصف ونشر الخلافات و (إن من المؤسف حقاً أن تصبح العواطف الدينية لعبة بيد صانعي الحروب النفسية يستخدمونها في المواقف الحرجة ليجنوا هم ثمارها بخبث ودهاء وما فتنة رفع المصاحف في صفين عنك ببعيد)(1).

4 - خلق أزمات اجتماعية وإرباك اقتصادي يؤدي إلى إهدار الطاقات وتبديد القدرات في أمور قد تكون وهمية أو مبالغاً فيها.

5 - تغيير أخلاق المجتمع وسلوكياته وأنماط حياته وأفكاره وفق الرؤية التي يريدون، وهو ما يسمونه (بالعولمة) و (النظام العالمي الجديد) الذي هو ليس بجديد، وإنما قالها فرعون من قبل:(ما أُرِيكُمْ إِلاّ ما أَرى) (غافر: 29)

ص: 298


1- عن كتاب (الشائعات وآثارها في المجتمع) للشيخ مرتضى النجفي وكان مخطوطاً حينئذٍ وطبع لاحقاً ضمن سلسلة (نحو مجتمع نظيف).

وهذا ما يسمونه ب - (غسيل الدماغ) حيث يمارسون تضليلاً إعلامياً وتشويهاً وتزييفاً للحقائق حتى يجعلوا الآخرين يقتنعون برؤيتهم التافهة المنحطة.

موعظة لمستمعي الأخبار:

وأخيراً تذكروا عتاب الله تعالى ومساءلتَه قال تعالى:(أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ، وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد: 8-10)، وقوله تعالى:(إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (الإسراء: 36)، فهذه الجوارح المُوهوَبة لنا من الله تعالى لا بد أن نوظفها في طاعته ونحميها من معصيته، وإلاّ فإنها أول الشهود على الإنسان.

وللاستزادة في هذا المجال أوصي بقراءة كتب مثل: (نحن والغرب) و (الشائعات وآثارها التدميرية في المجتمع).

تعاليم أخلاقية في أقات الأزمات:

وفي خضم هذه الأزمات - أعاذنا الله منها - يكون الجميع مطالبين بالتعاون والمودة والرحمة والعطف، وعدم التقصير في قضاء حوائج الناس، وقد ذكرت ذلك في مناسبات سابقة، إلا إنني اذكر هنا ما يتعلق بالأزمات الاجتماعية والاقتصادية فقد روي حماد بن عثمان قال: (أصاب أهل المدينة قحط حتى أقبل الرجل الموسر يخلط الحنطة بالشعير ويأكله ويشتري ببعض الطعام وكان عند أبي عبد الله (عليه السلام) طعام جيد قد اشتراه أول السنة فقال لبعض مواليه: اشتر لنا شعيراً فاخلطه بهذا الطعام أو بعه فإنا نكره أن نأكل جيداً ويأكل الناس رديئاً)(1).

وعن معتب قال: قال أبي عبد الله (عليه السلام):

(وقد يزيد السعر بالمدينة كم

ص: 299


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، باب 32، ح 1، 2.

عندنا من الطعام؟ قال: قلت عندنا ما يكفينا أشهر كثيرة، قال: أخرجه وبعه، قال: قلت له: وليس بالمدينة طعام، قال: بعه. فلما بعته قال: اشتر مع الناس يوماً بيوم، وقال: يا معتب اجعل قوت عيالي نصفاً شعيراً ونصفاً حنطة فإن الله يعلم أني واجد أن أطعمهم الحنطة على وجهها ولكنني أحببت أن يراني الله قد أحسنت تقدير المعيشة)(1).

فالإمام (عليه السلام) يعطي عدة تعاليم أخلاقية واقتصادية في أوقات الأزمات:

(منها): مواساة الآخرين ومشاركتهم في الصعوبات.

(ومنها): عدم الإقبال على شراء كميات كبيرة من المواد الضرورية لان تخزين المواد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار والإجحاف بغير القادرين عليها بل على العكس فإن المطلوب أن يعرض كل واحد السلع المدخرة عنده في البيت ليساهم في تخفيض الأسعار.

(ومنها): حسن التدبير في المعيشة وعدم الإسراف والتبذير سواءٌ في كمية المواد المستهلكة أو في نوعيتها والمحافظة على الوسط بين الإفراط والتفريط (ومنها): مراقبة الله في جميع التصرفات لأنه (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَ ما تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر: 19)، و (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) (الحاقة: 18)، فإذا تعاملنا معه تبارك وتعالى بهذا الشكل فإن الكثير من التصرفات ستتغير.

أسأل الله تعالى أن يجنب الإنسانية جميعاً كل شر وظلم وأن يوحّد قلوبهم على الرحمة والحب وينتقم من كل من يريد بعباده الغوائل وأن يعجل للبشرية بسعادتها المنشودة على يد بقيته الأعظم (أرواحنا له الفداء) وما ذلك على الله ببعيد.2.

ص: 300


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، باب 32، ح 1، 2.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.