نهضة كربلاء والعزة الحسينية

هوية الکتاب

نهضة كربَلَاء والعزّة الحسينية

الشيخ عدنان فرحان

« أبو أنس »

الطبعة الأولى 1433ه - 2012م

جميع حقوق النشر محفوظة ومسجلة للناشر ولا يحق لأي شخص أو مؤسسة أو جهة إعادة طبع او ترجمة أو نسخ الكتاب او أي جزء منه إلا بترخيص

خطي من الناشر تحت طائلة الشرع والقانون

بيرُوت - لبنٰان

لبنان: 009613461595 009611472192 العراق: 009647802150376

E-mail:daralsalamco@hotmail.com

ص: 1

اشارة

نَهضَة كربَلَاء والعِزّة الحُسَينيَّة

ص: 2

نَهْضَة كربَلَاء والعِزّة الحُسَينيَّة

دراسة تحليلية موضوعية في نهضة الإمام الحسين علیه السلام

ودورها في عزة الأُمة الإسلامية وكرامتها

الشيخ عدنان فرحان

« أبو أنس »

بیرُوت - لبنٰان

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 4

وعلى الأُف۟قِ من دِماءِ الشهیدَی__نِ عليٍّ وَنج۟لاهِ، شاهِدانِ

فَهُما، في أواخِر اللَّي۟لِ، فجرا

نِ، وَفي أُولياتِهِ شفقانِ(1)

ص: 5


1- المعري - أبو العلاء، دیوان سَق۟ط الزندِ

الإهداء

إلى أبطال المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان الذين سجلوا بدمائهم الزكية

أروع ملاحم البطولة والفداء والتضحية .

إلى المضحين من أجل كرامة الأُمة الإسلامية وعزتها. إلى أهلنا الصامدين في مواجهة تحديّات الاسكتبار العالمي . إلى سيّد المقاومة الإسلامية ورمز عزّتها وشموخها . السيّد حسن نصر الله. أهدي هذا الكتاب ، مع خالص حبّي وتقديري واعتزازي .

المؤلف

ص: 6

تقديم

بقلم سماحة الكاتب الكبير العلّامة الشيخ باقر شريف القرشي (حفظه الله)

بسم الله الرحمن الرحيم

الثورة الحسينية صفحة مشرقة بالوعي والنور والبصيرة، أقامت مجداً للإسلام وعزاً للمسلمين ، وحفلت بكل ما تسمو به الإنسانية من القيم الكريمة والمثل العليا التي أوجدت نهضة عارمة ضد الظلم والتخلّف.

فقد كان الحكم الأموي قد وضع المناهج التربوية والسياسية لاماتة الإسلام واخماد نوره، وكان ذلك بارزاً في سياسة معاوية الذي أمات القيم الإسلامية وفرض سبّ الإمام أمير المؤمنين على المنابر في صلاة الجمعة والأعياد وجعل ذلك جزء من العقيدة الإسلامية ، فانبری أهل بيت النبي وسبطه إلى الإصلاح الاجتماعي واعادة الحياة الإسلامية إلى مناهجها الأصلية، ولم يكن ذلك مستطاعاً للإمام إلّا بالتضحية الكاملة ، فقدم نفسه والبراعم من أبنائه وأبناء أخيه وأصحابه قرابين لوجه الله تعالى.

وقد انبری سماحة حجة الإسلام شيخنا المعظم الشيخ عدنان فرحان إلى تأليف دراسته القيمة (نهضة كربلاء والعزة الحسينية) وامتازت دراسته بأُسلوب بارع

ص: 7

وتحليل رائع إلى المكاسب التي أحرزها الإمام في نهضته والتي قد خلّدت للمسلمين العز والكرامة واني أُهنيه وأُبارك له هذا الجهد الخالد سائلاً من الله تعالى أن يمد في حياته المباركة وأن يجعله مصدر عطاء للعالم الإسلامي إنه تعالى ولي ذلك والقادر عليه .

النجف الأشرف 14 / ذي القعدة / 1432 ه_

باقر شريف القرشي

ص: 8

مقدمة الطبعة الثالثة

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد جسدت نهضة كربلاء التي قام بها حفيد رسول الله(صلی الله علیه و اله) ، وسيّد شباب أهل الجنة ، والصفوة المضحية من أهل بيته وصحبه، كلّ القيم الحضارية والإنسانية ، التي يتطلع لها الإنسان عبر كدحه الطويل إلى الله.

ولم تكن هذه النهضة من الأحداث الآنية التي يحددها الزمان والمكان، وإنما اجتازت هذه النهضة الكريمة حدود الزمان والمكان من خلال شعاراتها، وسمو غاياتها، وعلو أهدافها ، وتفاني قائدها وسمو ذاته .

فأصبحت النهضة رمزاً لكل الأحرار والثوار وصانعي الحضارات، وكل الأُمم والشعوب التي تتوق إلى الحياة الحرة الكريمة بعيداً عن الاذلال والخنوع والانسحاق.

وأضحى الإمام الحسين بن علي (علیه السلام)سيداً للشهداء، ورمزاً للتضحية والفداء ، وشعاراً تردده شفاه الثائرين، منذ أن قام لله، وأعطى لله ، وجاد بنفسه لله ، لترقي روحه إلى الملكوت الأعلى ، ولتستقر هناك عند مليك مقتدر، «مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا». ولقد عشنا بعض فصول هذه النهضة المباركة من خلال أبحاث كتابنا (نهضة کربلاء والعزة الحسينية)، والذي تلقاه القراء بأطيافهم المختلفة بقبول حسن، فكان محل ثناء الكثير منهم، سیها بعض العلماء والباحثين وكبار خطباء المنبر الحسيني .

ص: 9

وقد طبع الكتاب بطبعته الأُولى سنة (1428 ه) من قِبل منشورات المكتبة الحيدرية في النجف الأشرف ، ثمّ أعدنا طباعته من دون أي تغيير ، في طبعة ثانية سنة (1429 ه) من قِبل دار المحجة البيضاء في بيروت.

وهذه الطبعة الجديدة التي نقدمها بين يدي القارئ الكريم هي الطبعة الثالثة للكتاب ، والتي صححنا فيها اخطاء الكتاب في الطبعتين السابقتين، مع التقويم الجديد لبعض نصوصه، وتوثيق بعض المصادر والمراجع ، بالاضافة إلى الاخراج الفني، فهي طبعة جديدة، مصححة ومنقحة ومزيدة.

وقد تفضّل مشكوراً فضيلة الكاتب الكبير العلّامة الشيخ باقر شريف القرشي ( حفظه الله) بمطالعة فصول الكتاب ، وقدّم للكتاب تقریضاً كريماً ، أثنى فيه على موضوع الكتاب، وثمن الجهد الذي بذله کاتبه ، فله الشكر منا موصولاً. ونسأل الله أن يمد في عمره الشريف ، مع موفور الصحة والعافية .

وفي الختام :

نشكر جميع العلماء والفضلاء والخطباء والأكاديميين ، والكتّاب ، والمثقفين ، والقرّاء الكرام، ممن طالعوا الكتاب وأبدوا ملاحظاتهم حولموضوعه، وفصوله وأبوابه ، فلهم منّا كل الشكر والتقدير والمحبة.

والله نسأل أن يجعل عملنا هذا خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفعنا به عنده . وهو سبحانه ولي التوفيق والسداد.

المؤلف 20/ ذي الحجة / 1432 ه

النجف الأشرف

ص: 10

مقدمة الطبعتين (الأُولى والثانية)

نهضة الإمام الحسين (علیه السلام)وعزّة الأُمة الإسلامية وكرامتها : روي عن الإمامالحسين(علیه السلام) أنه قال : «مَوتٌ في عِزٍّ خيرٌ مِن۟ حياةٍ في ذُلٍّ»(1) .

يتجسَّد تاريخ البشرية - في وجهه المشرق - في سلسلة من النهضات والثورات التي قام بها أفراد وجماعات وأقوام من أجل إحقاق الحق، وإزهاق الباطل ، وإصلاح الانحرافات الكبرى التي جسَّدها أئمة الكفر والظلم والجور وأعوانهم.

وقاد هذه النهضات والثورات وفي مختلف الأزمنة والأمكنة، الأنبياء والرُّسل وأئمة الهدى، والثائرون والمصلحون ودعاة الحق.

وتأتي نهضة الإمام الحسين (علیه السلام)في سياق هذه النهضات المباركة، بل ومن أعظمها وأكثرها حماساً وقوة، لأنها جسدت الإسلام في كلّٙ تعاليمه وشعاراته ، ومثلت شعور الأُمة الإسلامية المتمثل في عِزَّتها وكرامتها، فأضحت بذلك مبدأ ومنطلقاً لحركات كثيرة في التأريخ الإسلامي، ومنبعاً فياضاً للثائرين والقائمين بالحق منذ انطلاقها وإلى يومنا هذا، وإلى حين من الدهر لا يعلمه إلّا الله سبحانه .

ص: 11


1- ابن شهر آشوب : المناقب 68/4 ، والبحار : 44/ 192، وموسوعة كلمات الإمام الحسين : 499

يقول أحد الباحثين في نهضة الإمام الحسين (علیه السلام): «إنّ فاجعةَ كَربلاء قد دخلت في الضَّمير الإسلامي، وانفَعَلَ بها المجتمعُ الإسلاميّ بصفةٍ عامَّة انفعالاً عَميقاً ، ولقد كان هذا كفيلاً بأن يبثَ في الرُّوح النضاليّة الهامدة جذوةً جديدة ، وأن يُرسِلَ في الضَّمير هزةً تُحييه ...»(1).

ولو تتبعنا هذه النهضة المباركة التي قام بها سيّد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) والثلّة المؤمنة من أهل بيته وأصحابه ، ومن خلال الكلمات والخطب والمواقف التي جسدها الإمام الحسين منذ انطلاقه من المدينة رافضاً بيعة يزيد، وإلى حين استشهاده في منتصف اليوم العاشر من المحرم سنة (61ه)، لوجدنا أن بواعث هذه النهضة لدى قائدها ولدى الرأي العام، ولدى الثائرين معه، تتجسد في جملة من الأهداف الدينية والإنسانية والاجتماعية ... والتي تؤول بمجملها إلى قضية صيانة عِزَّة الأُمة الإسلامية وكرامتها.

وذلك لأننا عندما ندرس ونتأمل في جميع التفاصيل التي سجلتها كتب التاريخ والمقاتل لهذه النهضة الحسينية المباركة، وجميع المواقف الكريمة التي جسَّدها أبو الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) وأصحابه (علیهم السلام)، نجد أن الإمام الحسين(علیه السلام) لم يكن يستهدف نصراً آنياً يستولي من خلاله على مقاليد الحكم والسلطان، لأنه (علیه السلام)كان مدركاً استحالة ذلك عسكرياً ؛ لعدم تكافؤ الجبهتين.

فلابد اذن من البحث عن أهداف وبواعث أُخرى كامنة في ثنايا هذه النهضة تتجاوز المألوف في دراسات الباحثين عن الثورات والمواجهات العسكرية ونتائجها الميدانية .

ص: 12


1- شمس الدین، محمد مهدي : ثورة الحسين، ط. المؤسسة الدولية للدراسات والنشر - بیروت، الطبعة السابعة، 1997م

وسوف يتبين لنا من خلال هذه الدراسة في نهضة الإمام الحسين (علیه السلام)، أن الأهداف والبواعث الإنسانية والدينية والسياسية التي طرحها الإمام الحسين(علیه السلام) کمبررات أساسية لنهضته الخالدة، والتي ضحى من أجلها بنفسه وبأهل بيته وأصحابه ، هي التي تصون وتحفظ عزَّة وكرامة الأُمة الإسلامية من أيدي الظالمين والمستبدين والعابثين بمقدراتها، والذين تمثلوا في حكم بني اُمية وولاتهم في زمانه ، وتمتد لتشمل كل زمان ومكان يظهر فيهما حاكم مستبد ظالم متجبر يحاول أن يسوم الناس ضيماً وظلماً وذلاً وقهراً .

ولهذا غدت واقعة الطف ونهضة سيد الشهداء الإمام الحسين(علیه السلام) ، مصدر إلهام وعزيمة لكل الثورات الإسلامية داخل الدولة الإسلامية وخارجها، ومنها استلهم الكثير من قادة الحركات الثورية دروس النهضة والشهادة في وجه الظلم والظالمين.

وتحولت صرخة الحق الحسينية التي أطلقها الإمام الحسين بقوله : «هيهات منّا الذلة» إلى شعار ثوري لكل المستضعفين في العالم، وأصبح الحسين ونهضته بمثابة القدوة والأُسوة لكل الناهضين والثائرين والمجاهدين من أجل الحق والعدل والعزّة والكرامة الإنسانية.

وإنَّ الأُلي بالطَّفِ مِن۟ آلَ هاشمٍ

تآسوا فسنُّوا للكرام التآسيا

بالإضافة إلى ما تجسد في ثنايا وقائع هذه النهضة المباركة من القِيم الأخلاقية والتربوية والانسانية ، فغدت مدرسة كبرى يتعلم منها الأجيال قيم الحق والعدل والإنسانية.

وهذه الدراسة التحليلية عن نهضة الإمام الحسين (علیه السلام)، ما هي إلّا حصيلة سنوات طويلة من البحث والدراسة والتأمل في كتب التاريخ والمقاتل التي دونت وقائع هذه الواقعة بكل جزئياتها وحوادثها، بالاضافة إلى المعايشة المستمرة سنوياً لمجالس الإمام الحسين وفي أماكن مختلفة من الدول الإسلامية والعربية .

ص: 13

ولا ندّعي أننا في هذه الدراسة قد استوعبنا كل تفاصيل هذه النهضة وكل بواعثها وأهدافها وآثارها والتي كشفت عن بعضها بعض الدراسات التحليلية الجادة والعميقة(1)، ولا يزال الكثير منها يحتاج إلى بحوث ودراسات اُخرى أكثر عمقاً وشموليةً، لتسلط الأضواء على فصولها ومفرداتها.

والذي يهمنا في هذه الدراسة ، هو الوقوف عند بعض المواقف والكلمات والخطب والتي جسدت بشكل عميق وواضح مواطن العزة والكرامة في هذه النهضة المباركة، وإن كانت كل جزئیات وأحداث هذه النهضة تصب في نفس هذا الهدف المقدس. إلّا اننا لا يمكننا استيعابها في هذه الدراسة، ولا نرى ضرورة لذلك بعد أن سطرتها كتب التاريخ والمقاتل ، وتناقلتها ألسنة الخطباء والوعاظ ، وتحولت بذلك من مجرد كونها واقعة تاريخية حدثت وقائعها بداية سنة إحدى وستين للهجرة، إلى واقعة حياتية تعيش مع الإنسان في تفاصيل حياته الإيمانية والجهادية والسياسية.

وكما أحدثت نهضة الحسين(علیه السلام) زلزالا في كيان الأُمة الإسلامية، وهزة عنيفة أيقظتها من سباتها ونومها العميق وسكوتها المطبق أمام ما جرى ويجري عليها من ألوان المظالم والاذلال والاستخفاف.

كذلك أصبحت هذه النهضة بفضل أهدافها وبواعثها وشرف وسيلتها إلى مشعل هداية ينير الدرب للثائرين والقائمين من أجل الحق والعدل .

ص: 14


1- يمكن الاشارة إلى ما كتبه المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين في أبحاثه وكتبه حول ثورة الحسين (علیه السلام)، كذلك دراسات وبحوث الشيخ محمد مهدي الآصفي ، والشيخ باقر شریف القرشي، والشيخ عبد الله العلايلي، والكاتب المصري : عباس محمود العقاد. وغيرهم من الكتاب والباحثين في نهضة الحسين(علیه السلام)

فيا أيها الوترُ في الخالدين فذاً إلى الآن لم يُشفَع

ويا عظة الطامحين العظام للاهين عن غدهم قنّع

تعاليت مِن مفزعٍ للحتوف فبورك قبرك من مفزع

وسوف نسير مع الحسين (علیه السلام)، ونتابع خطوات مسيرته المباركة، من المدينة رافضاً بيعة يزيد بن معاوية ، وإلى مكة حيث تباين المواقف وتقاطعها اتجاه رفضه للبيعة وخروجه إلى العراق، ومن ثمَّ نُسايره (علیه السلام)في منازل الطريق بين مكة والعراق وما جرى فيها من أحداث ولقاءات ومواقف، إلى حين وصوله إلى كربلاء. وما جرى فيها من مواقف وخطب وشعارات .

وبما أن أحداث الكوفة وما جرى فيها من وقائع - تمثلت في دعوة ونُصرة وبيعة، ثُمَّ خذلان وانتكاسة ونكث ، وانقلاب عجيب في التاريخ كان نتيجته استشهاد رسول الحسين(علیه السلام) مسلم بن عقیل رضی الله عنه - تعتبر من أهم فصول وأحداث الثورة الحسينية ، لذا توقفنا عند مفردات هذه الأحداث محللين المواقف ومستخلصين النتائج والعبر والدروس.

هذه هي أهم الموضوعات التي سوف تتناولها أبواب وفصول و مباحث هذه الدراسة التحليلية، آملين أن نتعلم من أبي الضيم وسيد الشهداء، كيف تكون العزة، وما هي مواطنها، وكيف تكون خطى السير إليها.

والله تعالی نسأل أن يجعل عملنا هذا خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعنا به يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم. والحمد لله رب العالمين .

الشيخ عدنان فرحان آل قاسم

(أبو أنس) قم المقدسة / 1427ه

ص: 15

ص: 16

الباب الأول سیاسة معاوية في إذلال المسلمين

اشارة

ص: 17

ص: 18

الفصل الأول: سیاسة معاوية لاخضاع الأَمة الإسلامية زمن خلافة أمير المؤمنين

اشارة

المبحث الأول : أهل العراق وسياسة معاوية

المبحث الثاني : أهل الحرمين الشريفين وسياسة معاوية

ص: 19

ص: 20

السياسة الأموية في إذلال المسلمين

من يستعرض تاريخ الدولة الأموية التي تبتدي من اليوم الذي استولى فيه معاوية بن أبي سفيان على مقدرات المسلمين في منتصف سنة (41ه) وتنتهي بمقتل مروان [الثاني] بن محمد المعروف ب(مروان الحمار) سنة (132ه)، وهي مدة (91) سنة وتسعة أشهر(1)، وفي فرعيها الأموي والمرواني ... يجد أن حكّام هذه الدولة ورجالاتها الذين تسنموا المناصب الرسمية كالولاة أو قادة الجيوش ... قد سلكوا مسالك عجيبة في إذلال المسلمين والأُمة الإسلامية ، وكان الغرض من ذلك كله هو إحكام سيطرتهم وتمكين قبضتهم على جميع مفاصل المجتمع الإسلامي، وإخماد صوت المعارضين والثائرين عليهم.

وقد انعكس هذا السلوك الاذلالي على كلماتهم وأفعالهم والتي بضلاله القاتم على أرجاء الأُمة الإسلامية ولم يسلم من هذه السياسة المهينة، حتى المتزلفين والمتملقين لهم والسائرين في ركابهم.

وقد سجلت لنا كتب التاريخ جوانب كثيرة من هذه المواقف الإذلالية، ولعل الذي أُخفي وطمست ملامحه عند المؤرخين أكثر من ذلك بكثير .

ص: 21


1- الخضري بك، محمد - الدولة الأموية : 2/ 99، ط. دار المعرفة - بیروت، (بلا - ت)

وفي الأبيات الشعرية التي ينقلها المؤرخون عن الوليد بن يزيد الأموي(1)،

ما يعكس هذه السياسة بشكل واضح وصريح.

يقول :

فَدَع۟ عَن۟كَ إدّٙكارَكَ آل سع۟دَي فَنَح۟نُ الأَك۟ثَرونَ حَصّى وَمَالا

وَنَح۟نُ المالِكونَ النَّاس قَسراً نَسُومُهُم المَذَلَّةَ وَالنَّکَالا

وَنُورِدُهُم حِياضَ الخَس۟فِ ذُلاً

ومانَالُوهُمُ إلّا خَبَالا(2)

فهذه الأبيات تكشف بدقة عن توجّه بني أُمية السياسي في قهر الأُمة وإذلالها وفرض نفوذهم وسلطانهم عليها.

ولا تحسب أن هذا التصور المتطرف يخص الوليد بن يزيد من بين حكام بني أُمية .. فقد كان جلُّ بني أُمية وعمالهم يرون مثل هذا الرأي أو قريباً منه، وكانوا يعلنون للناس رأيهم هذا من دون تحرّجٍ أو حياءٍ ...(3).

واستقصاء جميع المواقف والأقوال التي عبّرت عن سياسة الإذلال التي اتخذها رجالات هذه الدولة ممن ظهروا على الصعيد السياسي آنذاك ، يخرج البحث عن الاختصار والايجاز ولهذا سوف نشير إلى بعض من هذه المواقف والأقوال من خلال ما سجلته لنا أقلام المؤرخين والرواة .

ص: 22


1- بويع بالخلافة سنة (125 ه) وقتل بالبخراء من ضواحي دمشق سنة (126 ه)
2- انظر : القرشي، باقر شريف - حياة الإمام موسی بن جعفر : 1/ 387، و شمس الدین، محمد مهدي - ثورة الحسين : 27
3- الآصفي ، محمد مهدي - وارث الأنبياء: 65، ط. مركز دراسات نهضة الإمام الحسين - قم الطبعة الأُولى

سیاسة معاوية في إذلال المسلمين زمن أمير المؤمنين (علیه السلام)

بعد فتنة عصيبة مرت بالإسلام والمسلمين في عهد عثمان بن عفان ، وانتهت بقتله ، جاء الناس إلى الإمام علي(علیه السلام) يطلبون منه أن يلي الحكم، ولكنه(علیه السلام) امتنع عن ذلك ، ولكن الناس أبوا عليه إلّا أن يلي الحكم فاستجاب لهم، وبويع بالخلافة باجماع المسلمين ، وأعلن سياسته لإصلاح أُمور الأُمة في مجال الإدارة والحقوق والمال.

وكانت أهم الجوانب الأساسية التي طبقها الإمام (علیه السلام)هو أصراره على عزل ولاة عثمان على الأمصار الذين اتسمت ولايتهم بالظلم والبغي، وعدم الدراية بالسياسة وأُصول الحكم، وولّی مکانهم رجالاً من أهل الدين والفقه والحزم وخاصة في الأمصار الكبرى في دولة الخلافة حينذاك.

وقد قال (علیه السلام)في شأن ولاة عثمان ومن على شاكلتهم :

«وَلَكِنَّنِي آسَي أَن۟ يَلِيَ أَم۟رَ هَذِهِ ال۟أُمَّةِ سُفَهَاؤُهَا، وَفُجَّارُهَا ، فَيَتَّخِذُوا مَالَ اللهِ دُوَلاً، وَعِبَادَهُ خَوَلاً، وَالصَّالِحِينَ حَر۟باً، وَال۟فَاسِقِینَ حِز۟باً، فَإِنَّ مِن۟هُمُ الَّذِي قَد۟ شَرِبَ فِيکُمُ ال۟حَرَامَ، وَجُلِدَ حَدّاً في ال۟إِس۟لَامِ، وَإِنَّ مِن۟هُم۟ مَن۟ لَم۟ يُس۟لِم۟ حَتَّی رُضِخَت۟ لَهُ عَلَى ال۟إِس۟لَامِ الرَّضَّائِخُ»(1).

ص: 23


1- نهج البلاغة ترتیب صبحي الصالح، الخطبة 62: 452

وكان على رأس هؤلاء الولاة الذين أصر الإمام (علیه السلام)على عزلهم «معاوية بن أبي سفيان» الذي جمعت له ولاية بلاد الشام كلها في عهد عثمان، وما زال والياً عليها حتى قتل عثمان ، وامتنع عن بيعة علي (علیه السلام)، وأخذ يطالب بدم عثمان ، وبايعه أهل الشام على ذلك ، واتخذ من ذلك الحِين سياسة محاربة على وشیعته أينما وجدوا شعاراً له، واتبع سياسة الارهاب والقتل والتجويع بالنسبة إلى الرعايا المسلمين الذين لا يتفقون معه في الهوى السياسي، وإطلالة قصيرة على تاريخ هذه الفترة من

حياة المسلمين تثبت هذه الدعوى(1).

وبعد هذا نسلّط الضوء على سياسته في إذلال المسلمين من خلال المبحثين

التاليين :

المبحث الأول: سیاسة معاوية في إذلال أهل العراق

تعكس لنا النصوص التاريخية التي يرويها المؤرخون سياسة معاوية لإذلال أهل العراق من خلال القتل والاغارة وزرع الرعب والخوف.

حدث سفیان بن عوف الغامديّ، وهو أحد قواد معاوية العسكريين ، قال :

«دعاني معاوية ، فقال : إني باعثك في جيش كثيف ، ذي أداةٍ وجلادة ، فالزم لي جانب الفرات، حتى تمرّ بهیت فتقطعها، فإن وجدت بها جنداً فأغر عليهم، وإلّا فامض حتى تغير على الأنبار ، فإن لم تجد بها جنداً فامض حتى توغل في المدائن ... إنّ هذه الغارات یا سفيان على أهل العراق تُرعب قلوبهم،

ص: 24


1- ثورة الحسين : 60

و تفرح كلّ من له فينا هوى منهم، وتدعو إلينا كلّ من خاف الدوائر ، فاقتل من لقيته ممن ليس هو على مثل رأيك، وأخرب كلّ ما مررت به من القرى ، وحرب الأموال، فإنّ حَرَبَ الأموال شبيه بالقتل، وهو أوجع للقلب»(1).

فمضی سفیان لأمر معاوية وأغار على المدن الإسلامية التي حدّدها له معاوية ، فخرب البلاد ونهب الأموال وقتل من قتل من الرجال والنساء منهم وقتل عامل علي على الأنبار أشرس بن حسان البكري، ثم انصرف إلى الشام ، ويروى عنه قوله : «فو الله ما غزوتُ غزاةً كانت أسلم ولا أقرّ للعيون، ولا أسر للنفوس منها، وبلغني والله أنها ارعبت الناس...»(2).

وعندما بلغ أمير المؤمنين (علیه السلام)خبر هذه الغارة ومقتل حسان الكبري، تألم كثيراً فصعد المنبر وخطب الناس ، وقال : إنّ أخاكم البكريّ قد أُصيب بالأنبار، وهو معتزٌّ لا يخاف ما كان، واختار ما عند الله على الدنيا، فانتدبوا إليهم حتى تلاقوهم(3).

وقد ذكر الإمام (علیه السلام)هذه الغارة التي شنها الغامدي على الأنبار، في خطبة الجهاد الشهيرة التي يستهلها الإمام بقوله :

«فَإِنَّ ال۟جِهَادَ بَابٌ مِن۟ أَب۟وَابِ ال۟جَنَّةِ فَتَحَهُ اللهُ لِخَاصَّةِ أَو۟لِيَائِهِ ... فَمَن۟ تَرَكَهُ رَغ۟بَهً عَن۟هُ أَل۟بَسَهُ اللهُ ثَو۟بَ الذُّلّٙ...».

ثمّ يقول : «وَهَذَا أَخُو غَامِدٍ، وَقَد۟ وَرَدَت۟ خَی۟لُهُ ال۟أَن۟بَارَ ، وَقَد۟ قَتَلَ حَسَّانَ ب۟نَ حَسَّانَ ال۟بَك۟رِيَّ، وَأَزَالَ خَی۟لَكُم۟ عَن۟ مَسَالِحِهَا، وَلَقَد۟ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِن۟هُم۟ کَانَ يَد۟خُلُ عَلَى ال۟مَر۟أَةِ ال۟مُس۟لِمَةِ، وَالأُ۟خ۟رَى ال۟مُعَاهِدَةِ، فَيَن۟تَزعُ حِج۟لَهَا وَقُلُبَهَا، وَقَلَائِدَهَا وَرُعِثَهَا ، مَاتَم۟تَنِعُ مِن۟هُ إِلَّا بِالِاس۟تِر۟جَاعِ وَالاِس۟تِر۟حَامِ، ثُمَّ ان۟صَرَفُوا وَافِرِينَ

ص: 25


1- شرح النهج : 2/ 85 - 86
2- المصدر نفسه : 2/ 87. وانظر الغارات للثقفي
3- المصدر نفسه : 2/ 88

مَا نَالَ رَجُلاً مِن۟هُم۟ كَل۟مٌ، وَلَا أُرِيقَ لَهُم۟ دَمٌ، فَلَو۟ أَنَّ ام۟رَأً مُس۟لِماً مَاتَ مِن۟ بَع۟دِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَل۟ كَانَ بِهِ عِن۟دِي جَدِيراً ...»(1).

وفي غارة عدوانية أُخرى على المدن الإسلامية ، دعا معاوية بالضحاك بن قیس الفهري، وأمره بالتوجه ناحية الكوفة وقال له : «فمن وجدته من الأعراب في

طاعة عليّ فأغر عليه» فأقبل الضّحاك، فنهب الأموال، وقتل من لقي من الأعراب حتى مرّ بالثّعلبية فأغار على الحاجّ، فأخذ أمتعتهم، ثم أقبل فلقي عمر بن عميس بن مسعود الذهلي، وهو ابن أخي ( الصحابي ) عبد الله بن مسعود، فقتله في طريق الحاجّ عند القطقطانة وقتل معه ناساً من أصحابه... (2).

ويشير الإمام أمير المؤمنين في خطبة له إلى هذه الغارة التي آلمته أشد الألم فأخذ يستصرخ الناس للجهاد، فتقاعسوا عنه، فخطبهم فقال : «... مَا عَزَّت۟ دَع۟وَةُ مَن۟ دَعَاكُم۟، وَلَا اس۟تَرَاحَ قَل۟بُ مَن۟ قَاسَاکُم۟ ... لَاَ یَم۟نَعُ الضَّي۟مَ الذَّلِيلُ وَلَا يُد۟رَكُ ال۟حَقُّ إِلَّا بِال۟جِدّٙ...»(3) .

المبحث الثاني: سیاسة معاوية في إذلال أهل الحرمين الشريفين( مكة والمدينة )، وأهل اليمن

وفي غارة عدوانية ثالثة كان مسرحها هذه المرة حرم الله وحرم رسول الله ، مكة والمدينة ، بالاضافة إلى اليمن، وكان قائدها بسر بن أرطاة.

ص: 26


1- نهج البلاغة، الخطبة : 27، وانظر شرح نهج البلاغة : 2/ 74 وما بعدها
2- المصدر نفسه : 2/ 116 - 117
3- نهج البلاغة،الخطبة : 29، وانظر شرح نهج البلاغة : 116/2 وما بعدها

يروي ابن أبي الحديد في شرح النهج :

«فأمّا خبر بُسر بن أرطاة العامري ، ... وبعثُ معاوية له ليغيرَ على أعمال أمير المؤمنين، وما عمله من سفك الدماء وأخذ الأموال ... دعا - معاوية - بُسر بن أرطاة ، وكان قاسي القلب فظّاً سفّاكاً للدماء، لا رأفة عنده ولا رحمة، فأمره أن يأخذ طريق الحجاز والمدينة ومكة حتى ينتهي إلى اليمن، وقال له : لا تنزل على بلد أهله علىّ طاعة عليّ إلّا بسطت عليهم لسانك ، حتى يروا أنهم لا نجاة لهم، وأنّك محيط بهم، ثم أُكفف عنهم ، وادعهم إلى البيعة لي، فمن أبي فاقتله ، واقتل شيعة عليّ حيث كانوا »(1).

وفي رواية الثقفي في الغارات : وبعث معاوية إلى بُسر بن أرطاة ، فبعثه في ثلاثة آلاف وقال : سُر حتى تمر بالمدينة، وأَخِف۟ من مررت به ، وانهب أموال كلّ من أصبت له مالاً ، مِمَّن لم يكن داخل في طاعتنا، فإذا دخلت المدينة ، فأرهم أنّك تريد أنفسهم، وأخبرهم أنه لا براءة لهم عندك ولا عذر، حتى إذا ظنّوا أنّك موقع بهم فاكفف عنهم، ثمّ سِر حتى تدخل مكة، ولا تعرض فيها لأحد، وأرهب الناس عنك فيما بين المدينة ومكة ، واجعلها شردا ، حتى تأتي صنعاء والجند ...(2).فخرج بُسر في ذلك البعث ... ونفذ كل ما أراده منه معاوية وزاد عليها من الجرائم مما لا يسع المجال لذكرها جميعاً بتفاصيلها، وانما نشير إلى بعض منها کما نقلها الرواة.

روی إبراهيم بن هلال، عن الكلبيّ ولوط بن یحیی ... فسار بسر حتى دخل المدينة، وعامل عليّ (علیه السلام)عليها أبو أيوب الأنصاريّ، صاحب منزل

ص: 27


1- شرح النهج : 2/ 5-6 وما بعدها
2- المصدر نفسه : 7/2

رسول الله (علیه السلام)، فخرج عنها هارباً، فخطب الناس وشتمهم وتهدّدهم يومئذ وتوعدهم، وقال : شاهت الوجوه ! إن الله تعالى يقول : وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا...(1) وقد أوقع الله تعالى ذلك المثلَ بكم وجعلكم أَهله ...

ثمّ شتم الأنصار، فقال : يا معشر اليهود وأبناء العبيد ، بنی زریق وبني النجار، وبني سالم وبني عبد الأشهل، أما والله لأوقعنّ بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين وآل عثمان ، أما والله لأدعنكم أحادیث کالأُمم السالفة ...ودعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه، ونزل فأحرق دوراً كثيرة، منها دار أبي أيوب الأنصاري ، وتفقد جابر بن عبد الله ، فقال : ما لي لا أرى جابراً ؟ يا بني سلمة، لا أمان لكم عندي، أو تأتوني بجابر ! فعاذ جابر بأُم سلمة (رض) فأرسلت إلى بُسر بن أرطاة ، فقال : لا اُؤمّنه حتى يبايع ، فقالت له أُم سلمة : اذهب فبايع ، إحقن دَمَك ودِمَاء قومك، فإني قد أَمرت ابن أخي أن يذهب فيبايع ، وإني لأعلم أنها بيعة ضلالة(2).

وقد استخدم بُسر بن أرطاة أشد الوسائل قساوة لاذلال أهل مدينة رسول الله (علیه السلام)عامة والأنصار خاصة ، وعاشت المدينة جواً من الإرهاب والإذلال لم تشهد له مثيلاً من قبل ، قال إبراهيم بن هلال : فأقام بُسر بالمدينة أياماً ثم قال لهم : إني قد عفوت عنكم، وإن لم تكونوا لذلك بأهل ... ولئن نالكم العفو مني في الدّنيا ، إني لأرجو ألا تنالكم رحمة الله عزّ وجل في الآخرة، وقد استخلفت عليكم أبا هريرة، فإياكم وخلافه.

ص: 28


1- النحل : 112
2- شرح نهج البلاغة : 10/2

ثم خرج من المدينة إلى مكة ، فقتل في طريقه رجالاً، وأخذ أموالاً، وبلغ أهل مكة خبره، فتنحّى عنها عامّة أهلها، وهرب قُتَم بن العباس، وكان عامل عليّ،(علیه السلام) فدخلها بُسر، فشتم أهل مكة وأنبهم ... ثم قال : أما والله لو تركت ورأيي فيكم لتركتكم وما فيكم روح تمشي على الأرض، فقالوا : ننشدك الله في أهلك وعترتك ! فسكت، ثم دخل وطاف بالبيت ، وصلّى ركعتين، ثم خطبهم، فقال : الحمد لله الذي أعزّ دعوتنا، وأذلّ عدوّنا بالقتل والتشريد، هذا ابن أبي طالب بناحية العراق في ضنك وضيق ... تفرق عنه أصحابه ناقمين عليه، وولي الأمر معاوية الطالب بدم عثمان ، فبايعوا ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً. فبايعوا!

وأقام أياماً ثم خطبهم فقال : يا أهل مكة ، إني قد صفحت عنكم، فإيّاكم والخلاف، فو الله إن فعلتم لأقصدنّ منكم إلى التي تبير الأصل وتحرب المال، وتخرّب الديار!

ثم خرج إلى الطائف ... ووجه رجالاً من قريش إلى تبالة ، وبها قوم من شيعة عليّ (علیه السلام)، وأمر بقتلهم ... فخرج من الطائف حتى مرّ ببني كنانة ، وفيهم ابنا عبيد الله بن عباس وأُمّهما ... فأخذهما وذبحهما... فقالت أُمهما :

هَامَن۟ أَحَسٌ بإبنيّ اللّذين هُما كالدّرَتَي۟نِ تَشَظّى عَن۟هُما الصَّدَفُ

هَامَن۟ أحسّ بابني اللّذين هُما سمعي وقَلبي فقلبي اليومَ مُخ۟تَطَفُ

هَامَن أحسَّ باب۟ني اللّذين هُما مُخّ العظامِ فمخّي اليومَ مزدَهفُ

نُبئّتُ بُسراً وما صدّقتُ ما زَعَموا مِن قولهم ومن الإفك الذي إقتَرَفُوا

أنحى على وَدَجَي ابنيّ مُر۟هَفَةً مشحوذةً، وكذاکَ الإِث۟مُ يُق۟تَرفُ

مَن۟ دَلَّ وَالِهَةً حرّی مسلّبةً على صَبِيّینِ ضَلّا إذ مضى السلفُ

وقد روي أن اسمهما قُثم، وعبد الرحمن، وروي أنّهما ضلّا في أخوالهما من بني كنانة ، وروي أن بسراً إنما قتلهما باليمن، وأنّهما ذبحا على درج صنعاء.

ص: 29

وروي أنه بعد أن قدم بُسر الغلامين فقتلا، خرج نسوة من بني كنانة ، فقالت امرأة منهن : هذه الرجال يقتلها، فما بال الولدان ، والله ما كانوا يقتلون في جاهلية ولا إسلام، والله إنّ سلطاناً لا يشتدّ إلّا بقتل الزرع الضعيف والشيخ الكبير ورفع الرحمة، وقطع الأرحام، لَسلطان سوءٍ، فقال بُسر : والله لهممتُ أن أضع فيكنّ السيف ، قالت : والله إنه لأحبّ إلىّ إن فعلت .

قال إبراهيم : وخرج بُسر من الطائف ، فأتى نجران ، فقتل عبد الله بن عبد المدان وابنه مالكاً ، ثم جمعهم وقال فيهم: يا أهل نجران، یا معشر النصارى وإخوان القرود ، أما والله إن بلغني عنكم ما أكره لأعودن عليكم بالتي تقطع النّسل، وتهلك الحرث، وتخرّب الديار !! وتهددّهم طويلاً.

ثم سار حتى أرحب، فقتل أبا کرب - وكان يتشیّع - ويقال إنه كان سيّد مَن كان بالبادية من هَمدان ، فقدمه فقتله.

ودخل صنعاء، فقتل منها قوماً ، وأتاه وفد مأرب فقتلهم، فلم ينج منهم إلّا رجل واحد، ورجع إلى قومه فقال لهم : «أنعی قتلانا، شيوخاً وشبّانا».

ثم خرج بُسر من صنعاء، فأتى أهل جيشان - وهم شيعة لعليّ - فقاتلهم وقاتلوه، فهزمهم وقتلهم قتلاً ذريعاً، ثم رجع إلى صنعاء ... فقتل بها مائة شیخ.

وكان الذي قتلَ بُسرٌ في وجهه ذلك ثلاثين ألفاً ، وحرّق قوماً بالنار(1).

ودعا عليّ (علیه السلام)على بُسر ، فقال : «اللهُمَّ إنّ بسراً باع دينه بالدنيا، وانتهك محارمك، وكانت طاعة مخلوقٍ فاجرٍ آثر عنده ما عندك ، اللهُمَّ فلاتُمتِهُ حتى تسلبهُ عقله ، ولا توجب له رحمتك ولا ساعة من نهار ...».

ص: 30


1- شرح نهج البلاغة :17/2 وما بعدها، (بتلخيص واختصار)

فلم يلبث بُسر بعد ذلك إلّا يسيراً حتى وسوس وذهب عقله، فكان یهذي بالسيف ويقول اعطوني سيفاً اقتل به، حتى إِتُّخِذَ له سيف من خشب ، وكانوا يدنون منه المرفقة فلا يزال يضربها حتى يغشى عليه ، فلبث كذلك إلى أن مات(1).

ومن أقسى أنواع الإذلال وأشدها إيلاماً ما قام به طاغية معاوية بُسر بن أرطاة مع نساء المسلمين من قبيلة همدان اليمانية . حيث مارس عملية استرقاق المسلمين وسبي المسلمات المؤمنات واسترقاقهن وعرضهن في الأسواق للبيع ، وكان الناس يكشفون عن سيقانهن ليشتروهنّ، كما يصنع تجار الرقيق في أسواق النخاسة والرقيق.

وقد ذكر إجمال هذا الحديث ابن عبد البر القرطبي في ترجمة بُسر بن أرطاة من كتابه «الاستيعاب»، حيث قال عن سبي نساء هَمدان : فكنّ أوّل مسلمات سبين في الإسلام»(2).

بهذا المطلع الدامي استهل معاوية سياسته بعد التحكيم مع المسلمين الذين يخالفونه في الهوى السياسي، وقد بلغ في ذلك شأواً بعيداً ، فقتل وارعب ، واستصفى الأموال، وعاث في الأرض فساداً.

وفي رواية ابن أبي الحديد في شرح النهج ان هذه الغارات على أطراف الدولة الإسلامية كانت بمشورة من عمرو بن العاص، وكان الهدف منها إذلال المسلمين ،

ص: 31


1- المصدر نفسه : 2/ 18
2- ابن عبد البر، ابو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر القرطبي المالكي - الاستیعاب، المطبوع بهامش الإصابة لابن حجر: 161/1 وما بعدها، ط. دار الكتاب العربي - بيروت، (بلا - ت)

وضعضعة أركان الدولة ، يقول : وقال عمرو بن العاص : إني أرى لك أن تسير بالجنود حتى توغلها في سلطانهم من أرض الجزيرة، فإنّ ذلك أقوى لجندك ، وأذلُّ لأهل حربك ... فقال معاوية : والله اني لأعرف أنّ الذي تقول کما تقول ... فقال عمرو : إنها أرضٌ رفيقة(1).

وقد نص المؤرخون على أن هذا الارهاب بلغ حداً جعل الرجل يفضل أن يقال عنه أنه زنديق أو كافر ولا يقال عنه انه من شيعة على(2) .

ص: 32


1- شرح نهج البلاغة : 2/ 114
2- شرح نهج البلاغة : 11 / 44

الفصل الثاني سیاسة معاوية في إذلال الأُمة الاسلامية بعد استشهاد أمير المؤمنین (علیه السلام)

اشارة

المبحث الأول : سياسة معاوية في إذلال الأنصار

المبحث الثاني : سياسة معاوية مع رعايا الدولة الإسلامية من غير المسلمين

المبحث الثالث : سياسة معاوية في أخذ البيعة ليزيد

المبحث الرابع : سياسة معاوية مع المعارضين لبيعة يزيد

ص: 33

ص: 34

سیاسة معاوية في إذلال المسلمين بعد استشهاد أمير المؤمنين

وقد استمر معاوية على هذه السياسة بعد استشهاد أمير المؤمنين ، ولكنها إذ

ذاك أخذت شكلاً أكثر تنظيماً وعنفاً وشمولاً.

فبعد استشهاد أمير المؤمنين ، وخلافة الإمام الحسن ذات الشهور العاصفة بالدسائس والمؤامرات عليه ... ثم اضطراره إلى التخلي عن الحكم مؤقتاً تحت ضغط الأحداث.

آلت الأُمور إلى معاوية بن أبي سفيان ، واتسقت له الأُمور وسيطر على العالم الإسلامي كله بعد أن أُخذت له البيعة على الناس في شوال سنة إحدى وأربعين للهجرة ... وقد عمل جاهداً من أجل محاربة مبادئ الإسلام التي أرساها علي مدة خلافته، وعمل بها مع أفراد الرعية بأمانة واخلاص عظيمين .

ولقد كانت سياسة معاوية تقوم على المبادئ التالية :

(1) - الإرهاب والتجويع.

(2) - إحياء النزعة القبلية واستغلالها .

(3) - التخدير باسم الدين وشل الروح الثورية.

وكان هدفه الأول في اتخاذ هذه السياسة هو أن يطبع حياة الناس وأفكارهم بالطابع الذي يؤمن له سيطرة دائمة خالية من أي رقابة أو احتجاج، ومحق نزعة الحرية لدى الإنسان المسلم، وتحويله عن أهدافه العظيمة ونضاله من أجلها .

ص: 35

وبهذه السياسة حاول معاوية القضاء على ما لدى الجماهير المسلمة من نزعة إنسانية تجعلها خطراً على كل حاکم يجافي مبادئ الإسلام في ممارسته لمهمة الحكم، ولذلك أمن ثورة الجماهير ونقدها(1).

ولا نريد أن ندخل في هذه المبادئ التي أرساها معاوية بالتفاصيل التي ذكرها المؤرخون ، والذي يهمنا هو ذكر بعض المواقف والأحداث مما لها صلة بموضوع بحثنا .

لقد أعلن معاوية سياسته ومبادءه وطبيعة الحكم الجديد الذي حارب علياً من أجله، في كلمته التي استهل بها حكمه عندما جمع أهل الكوفة وقال لهم : « یا أهل الكوفة ، أترونني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج؟ وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون، ولكني قاتلتكم لأتأمَّر عليكم وألیَّ رقابكم، وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون، إلّا ان كل دم أُصيب في هذه مطلول، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين »

وكان قد قال قبل ذلك، لما تم الصلح : «رضينا بها ملكاً». وكان معاوية أميناً لمنهجه هذا، فلم يجد عنه أبداً(2).

وشهدت الأُمة الإسلامية من جوره وعسفه ما لم تعهد مثله في سالف أيامها ، وكان أوفر دهاءً من أن يدع للمضطهدين منفذاً للتعبير عن سخطهم واستيائهم .

وقد شهدت حواضر الأُمة الإسلامية كالبصرة والكوفة والمدينة واليمن أياماً کالحة شديدة قاسية على أيدي ولاة وقادة جيوش معاوية ، وكان شعاره المعلن : «اقتلوا شيعة عليٍّ حيث كانوا» (3).

ص: 36


1- شمس الدین، محمد مهدي - ثورة الحسين : 58 - 59 (بتصرف)
2- المصدر نفسه : 66 وانظر : ابن الأثير - الكامل في التاريخ : 6 / 220
3- ابن أبي الحديد - شرح نهج البلاغة : 6/2 -7

وكان أشد الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة، لكثرة من بها من شيعة علي (علیه السلام)، فاستعمل عليهم زیاد بن سمية وضم إليه البصرة، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف ، لأنه كان منهم أيام علي (علیه السلام)، فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وأخافهم و قطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشردهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم(1).

هذا كله بالاضافة إلى سياسة الترحيل والتشريد التي اتبعها ابن سمية لإضعاف المعارضة والتنكيل بهم واذلالهم وتحطيم قوتهم(2).

هذه هي الخطوط العامّة الموجزة للسياسة التي اتبعها معاوية لإذلال أبناء الأُمة الإسلامية والتي تناولت حياة الناس وأمنهم، وأما سياسته التي تتناول أرزاق الناس وموارد عيشهم فلا تقل قتامة وكلوحاً وإيغالاً في الظلم عن سابقتها(3) .

وإليك تسليط الضوء على سياسته تلك من خلال المباحث التالية :

المبحث الأول: سیاسة معاوية في إذلال الأنصار

اتصفت سياسة الأمويين عامة ومعاوية خاصة بالسخط والحقد الدفين على مدينة الرسول (صلی الله علیه و اله)وأهلها وخاصة الأنصار منهم، ويعود جذور هذا السخط والحقد إلى أيام بدر واُحد والأحزاب ... حيث صُرِعَ على أرضها وبسيوف

ص: 37


1- المصدر نفسه : 11- 44- 46 وما بعدها. وسوف نذكر مجازر زیاد بن أبيه في البصرة والكوفة في موضعها المناسب لاحقاً
2- ثورة الحسين : 65
3- المصدر نفسه : 65

المسلمين كبار رجال الشرك والكفر والضلالة من أمثال عتبة وشيبة والوليد وأبي جهل ... كما تعود بعض الأسباب إلى موقف الأنصار الرافض للأُطروحة الأموية وحکم معاوية فلم يقف مع معاوية في حربه مع الإمام علي في صفين من الأنصار إلّا النعمان بن بشير ....

ولهذا جهد معاوية ومن جاء من بعده من رجالات العهد الأموي على إذلال المدينة وأهلها من الأنصار وبمختلف الأساليب والطرق.

وفيما يلي نماذج من ذلك :

يروي اليعقوبي في تاريخه : «لما قدم معاوية إلى المدينة استقبله وفد من الأنصار، فأغلظ لهم في القول، وقال لهم : ما فعلت نواضحکم؟ يريد إنتقاصهم لأنهم كانوا يشتغلون بالزراعة وسقي الأرض الزراعية ....

فردّه الأنصار ردّاً قوياً : قالوا : أفنيناها يوم بدر لمّا قتلنا أخاك وجدك

وخالك.. ثمّ أولج معاوية إلى الشام ولم يقض لهم حاجة»(1).

وواضح معنی «ولم يقض لهم حاجة ...» فانها يعني الضغوط المالية وحبس العطاء لإرضاخِهم وإذلالهم واجبارهم على الرضوخ لبني أُمية وعدم الوقوف موقفاً سلبياً من أطروحة معاوية المستقبلية.

وقد بلغ من تضييق بني أُمية على الأنصار أنّ معاوية لمّا قدم المدينة لم يكن

لرجالهم وشخصياتهم دواب يستقبلونه عليها.

يروي السيوطي عن عبد الله بن محمد بن عقيل : قدم معاوية المدينة فلقيه أبو قتادة الأنصاري، فقال معاوية : تلقاني الناس كلهم غيركم يا معشر الأنصار ،

ص: 38


1- اليعقوبي، ابن واضح - تاريخ اليعقوبي : 2/ 211، ط. دار صادر - بیروت، (بلا - ت)

قال : لم يكن لنا دوابّ، فقال : فأين النواضح؟ قال : عقرناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر(1).

وقد استخدم معاوية اسلوب الإذلال والتحقير والإستخفاف بحق الأنصار بواسطة ولده يزيد، في قصة ينقلها أبو الفرج في الأغاني :

أرسل (یزید) إلى كعب بن الجُعيل ، فقال : اهج الأنصار ، قال له : أرادّي أنت إلى الكفر بعد الإسلام ؟ أأهجوا قوماً آووا رسول الله ونصروه؟

قال : أما إذا كنت غير فاعل فأرشدني إلى من يفعل ذلك . قال : غلام منا خبيث الدين نصراني ، فدله على الأخطل.

فدعاه (یزید) فقال له : اهج الأنصار ... ولا تخف شيئاً ، أنا بذلك لك ، فهجاهم فقال :

وإذا نَسَب۟تَ إِب۟نَ الفريعة خِل۟تَهُ

کالجَح۟شِ بینَ حِمَارةٍ وَحِمَارِ(2)

لعنَ الإِلهُ مِنَ اليَهُودِ عصابةً

بالجَز۟عِ بينَ صُلَي۟صَل وصُدَارِ(3)

قومٌ إذا هَدَرَ العَصيرُ رِأَي۟تَهُم

حمراً عيونُهُم من المُس۟طارِ(4)

خَلُّوا المكارمَ لَس۟تُمُ مِن۟ أَه۟لِها

وخُذُوا مَسَاحِيَكُم بَني النجارِ(5)

ذهبت۟ قريشٌ بالمكارمِ والعُلا

واللؤمُ تَح۟تَ عَمَائِمِ الأَن۟صارِ

ص: 39


1- تاریخ الخلفاء : 188، وهذه الرواية هي نفس مضمون رواية المسعودي السابقة
2- ابن الفريعة : كنية حسان بن ثابت الأنصاري، شاعر رسول الله(صلی الله علیه و اله)(ت 54ھ) والفريعة : أُمهُ
3- صُليصل وصدار : مواضع من نواحي المدينة، والجزع : منعطف الوادي
4- المسطار والمصطار : لغتان في الخمر
5- المساحي : جمع مسحاة، وهي المجرفة من الحديد، وبنو النجار : فريق من أهل المدينة

فبلغ ذلك النعمان بن البشير(1) فدخل على معاوية ، فحسر عمامته عن رأسه ، وقال : يا أمير المؤمنين ، أترى لؤماً ؟ قال : بل أری کرماً وخيراً ، فما ذاك؟

قال : زعم الأخطل أن اللؤم تحت عمائم الأنصار ، قال : أو فَعل ذلك ؟ قال :

نعم . قال : لك لسانه(2).

فلما أحضر معاوية الأخطل ليعاقبه تدخّل يزيد في أمره فخلّى معاوية سبيله وأرضى النعمان بن البشير(3).

ولا أعتقد أن ما صدر من الأخطل من هجاء مقذع للأنصار وبأمر من یزید ، لم يكن بطلب أو بعلم أو رضي من معاوية .

وفي هذا السياق ومما يؤيد ذلك ما رواه صاحب الأغاني عن مشيخة من الأنصار قال :

حضرت وفود الأنصار باب معاوية بن أبي سفيان ، فخرج إليهم حاجبه ...فقالوا : استأذن للأنصار فدخل إليه وعنده عمرو بن العاص، فاستأذن لهم، فقال له عمرو : ما هذا اللقب يا أمير المؤمنين ؟ اردُد القوم إلى أنسابهم ، فقال معاوية : إني أخافُ من ذلك الشَّنعة . فقال : هي كلمة تقولها ، إن مضت عضتهم ونقصتهم، وإلّا فهذا الاسم راجع إليهم.

ص: 40


1- النعمان بن بشير الأنصاري الخزرجي، له صحبة بالنبي (صلی الله علیه و اله). وكان عثمانياً ، وشهد مع معاوية صفين ، ولم يكن معه من الأنصار غيره، عمّر إلى خلافة مروان بن الحكم، وكان يتولى حمص في أواخر حياته ، فلما بويع لمروان، دعا إلى ابن الزبير ، فلم يجبه أهل حمص إلى ذلك، فهرب منهم، وتبعوه فادركوه فقتلوه وذلك سنة خمس وستين من الهجرة
2- الإصفهاني، ابو الفرج - الأغاني : 16 / 41- 42، بتحقيق وشرح عبد علي مهنّا، طبعة دار الفکر، بیروت، الطبعة الأُولى، (1407 ه - 1986م)
3- المصدر نفسه

فقال ( معاوية ) : أخرج فقل ؛ من كان من ولد عمرو بن عامر فليدخل، فقالها الحاجب ، فدخل ولد عمرو بن عامر كلهم إلّا الأنصار، فنظر معاوية إلى عمرو نظراً منكراً ، فقال له (عمرو) : باعدت كثيراً ، ( يعني هات بنسب أقرب منه).

فقال : أخرج فقل : من کان ههنا من الأوس والخزرج فليدخل، فخرج فقالها : فلم يدخل أحد.

فقال له معاوية : اخرج فقل : من كان ههنا من الأنصار فليدخل، فخرج فقالها : فدخلوا يقدمهم النعمان بن البشير وهو يقول :

یا سعدُ لا تُعد الدعاءَ فَمَا لَنَا

نسبٌ نُجِيبُ به سوى الأَن۟صارِ

نَسَبٌ تخيّرُه إلّالهُ لِقَو۟مِنا

أثقّٙل به نسباً على الکُفَّارِ(1)

إن الذينَ ثَوَوا ببدرٍ مِن۟كُمُ

يومَ القُلَيب هُم وقودُ النَارِ

فقال معاوية لعمرو : قد كنا أغنياء عن هذا(2).

والذي يتأمل في هذه القصة يتضح له ان هدف عمرو بن العاص في إغرائه معاوية وحمله على الغاء لقب الأنصار بصورة رسمية ، وردّهم إلى أنسابهم التي كانوا ينتسبون إليها في الجاهلية، الهدف من ذلك كما هو واضح، أن يسلبهم الموقع الذي يمنحهم عنوان الأنصار، وهو عنوان يحمل في طياته معاني إيمانية عميقة، ونسب يحمل معاني العزة والكرامة الإلهية.

فأراد عمرو بن العاص أن يسلبهم هذا الموقع إمعاناً في إذلالهم، واستجاب له معاوية على خوف وحذر . إلّا أنّ الأنصار انتبهوا للمؤامرة الأموية وأبطلوها في وقتها(3).

ص: 41


1- التسمية بالأنصار وردت في آيتين من القرآن الكريم قرنت اسم الأنصار باسم المهاجرين، انظر : الآية 100 والآية 117 من سورة التوبة
2- الأغاني : 16 - 50 - 51
3- الآصفي - وارث الأنبياء: 137(بتصرف)

ولا يصعب علينا أن نعرف الدوافع التي دفعت معاوية إلى اتخاذ هذه المواقف وغيرها من الأنصار ، فقد كانوا يقفون في صف المعارضة للحكم الأموي إلى جانب الأُسر القرشية البارزة التي احفظها ان تفوز أُمية بالحکم دونها، لأنهم لم ينظروا بعين الارتياح إلى استيلاء أعداء الإسلام ونبيه على الحكم بهذه السهولة(1).

المبحث الثاني: سیاسة معاوية وولاته في إذلال غير المسلمين من الموالي وأهل الذمة

لقد كانت سِمَةُ الإذلال للمسلمين وللأقليات غير المسلمة في البلاد الإسلامية هي السّٙمة الواضحة التي سار عليها الولاة على الأمصار الإسلامية الكبرى في زمن حکم معاوية بن أبي سفيان، ونماذج و شواهد ذلك كثيرة في تاريخ هذه الحقبة المظلمة من حياة المسلمين إذ تجسدت سياسة الإذلال والقهر وسحق انسانية الإنسان في ولاة وعمال معاوية على أمصار الدولة والتي كانت هي سياسة معاوية نفسه، من أمثال عمرو بن العاص، وزياد بن ابيه ، وولده عبيد الله ، والمغيرة بن شعبة، وسمرة بن جندب ، والنعمان بن بشير ... وأمثالهم.

وفيما يلي بعض النماذج والشواهد على هذه السياسة الأموية الإذلالية .

تروي كتب التاريخ :

تخاصم عربي ومولى بين يدي عبد الله بن عامر - وهو من أقطاب بني اُمية - فقال المولى للعربي: لا أكثر الله فينا مثلك! فقال العربي: بل أكثر الله فينا مثلك! فقيل له : يدعو عليك وتدعو له؟ قال: نعم، يكسحون طرقنا، ويخرزون خفافنا، ويحركون ثيابنا.

ص: 42


1- شمس الدين - ثورة الحسين : 78 (بتصرف)

واستدعى معاوية بن أبي سفيان الأحنف بن قيس ، وسمرة بن جندب ، وقال لهما : «إني رأيت هذه الحمراء قد كثرت وأراها قد قطعت على السلف ، وكأني أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان ، فقد رأيت أن أقتل شطراً وأدع شطراً لإقامة السوق، وعمارة الطريق».

وكان هذا الموقف العدائي من الموالي سبباً في امتهانهم وإرهاقهم بالضرائب، وفرض الجزية والخراج عليهم، وإسقاطهم من العطاء، فكان الجنود الموالي يقاتلون من غير عطاء.

وكانوا يقولون : لا يقطع الصلاة إلّا ثلاثة : حمار، أو كلب ، أو مولى ، وكانوا لا يكنونهم بالكني، ولا يدعونهم إلّا بالأسماء والألقاب ، ولا يمشون في الصف معهم، ولا يقدمونهم في الموكب، وإن حضروا طعاماً قاموا على رؤوسهم، وإن أطعموا المولى لسنه وفضله وعلمه أجلسوه على طريق الخباز لئلّا يخفى على الناظر أنه ليس من العرب، ولا يدعونهم يصلون على الجنائز إذا حضر أحد من العرب وإن كان عزیزاً.

وكان الخاطب لا يخطب المرأة منهم إلى أبيها ولا إلى أخيها إنما يخطبها إلى مواليها، فان رضي مولاها زوجت وإلّا فلا! وإن زوجها الأب أو الأخ بغير إذن مواليه فسخ النكاح، وإن كان قد دخل بها عد ذلك سفاحاً ، وإذا أقبل العربي من السوق ومعه شيء فرأى مولى دفعه إليه ليحمله عنه فلا يمتنع، ولا السلطان يغير عليه، وكان إذا لقيه راكباً وأراد منه أن ينزل فعل وقالوا : لا يصلح للقضاء إلّا عربي(1).

ص: 43


1- شمس الدين - ثورة الحسين : 84 - 85. نقلاً عن العقد الفرید: 2/ 260 - 261، وضحى الإسلام: 18/1 - 34، والتمدن الإسلامي : 60/4 - 64 و 91 - 96

وكان معاوية قد أعطى عمرو بن العاص أرض مصر وأموالها وسكانها المعاهدين ملكاً حلالاً له . وقد جاء في صك هذا العطاء، إن معاوية أعطى عمرو بن العاص مِص۟رَ وأهلها هبة يتصرف بها كيف يشاء !! في قصة معروفة تاريخياً(1).

نعم ؛ مصر التي كتب علي بن أبي طالب(علیه السلام) للأشتر عامله عليها وثيقة تعتبر من أعظم وثائق حقوق الإنسان على مدى العصور، غدت عند معاوية سلعة تباع وتشتري !

وهاك نموذجاً من سلوك عمرو بن العاص في مصر :

سأله صاحب أَخ۟نَا بمصر أن يخبره بمقدار ما عليه من الجزية ، فأجابه :

«لو أعطيتني من الأرض إلى السقف ما أخبرتك ما عليك ، إنما أنتم خزانة لنا، إن كَثُرَ علينا كَثَّرنَا عليكم، وإن خُفّٙفَ عنا خَفَفَّنا عنكم»(2) .

ومقولة عمرو بن العاص هذه هي نفس مقولة معاوية حين استولى على العراق ، وأمر بنقل بیت المال من الكوفة إلى دمشق، وزاد في عطاء أهل الشام، وحط من عطاء أهل العراق، وقد أوضح فلسفته بقوله :

«الأرض لله ، وأنا خليفة الله ، فما آخذ من مال الله فهو لي، وما تركته کان جائزاً لي»(3) .

ولم تقتصر سياسة الإذلال بمختلف صورها على الموالي فقط ، بل شملت أبناء الأُمة الإسلامية، ومن خلال ولاته وعماله على الأمصار .

وكان معاوية حريصاً على أن يولي على العراق - موطن الولاء لآل البيت - أشخاصاً من أعداء آل البيت، ليضمن تنفيذ سياسة الإرهاب والإذلال والتجويع

ص: 44


1- للتوسع في تفصيل ذلك انظر : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 61/2 وما بعدها
2- شمس الدين - ثورة الحسين : 69، نقلاً عن التمدن الإسلامي : 4/ 79 - 80
3- المصدر نفسه : 69، نقلاً عن الدولة العربية وسقوطها

في العراق بسهولة، ويستطيع أن يمنح العراقيين امتیازات يعلم أن ولاته - بسبب حقدهم - لا ينفذونها، فيفوز بحسن السمعة دون أن يتخلى عن مبادئه.

يروي الأصفهاني : أمر معاوية لأهل الكوفة ، بزيادة عشرة دنانير في أعطيتهم،

وعامله يومئذ على الكوفة وأرضها النعمان بن بشير ، وكان عثمانياً ، وكان يبغض أهل الكوفة لرأيهم في علي(علیه السلام) ، فأبى النعمان أن ينفذها لهم، فكلموه وسألوه الله ، فأبى أن يفعل.

ولما استرحمه عبد الله بن همام السلولي وطلب إليه في قطعة شعرية مؤثرة أن

ينجز لهم الزيادة قال : «والله لا أُجيزها ولا أُنفذها أبداً»(1).

وهكذا طبقت هذه السياسة - سياسة الإذلال والإرهاب والتجويع - بالنسبة إلى المسلمين عامة، وبالنسبة إلى من إتهم بحب علي(علیه السلام) خاصة ، فذاقت الأمصار والبلدان الإسلامية طعم الإذلال، وعانت سياسة الاستعباد إلى أن هلك معاوية(2).

المبحث الثالث سیاسة معاوية في أخذ البيعة ليزيد

تخوف معاوية من البيعة ليزيد :

لقد كان معاوية بن أبي سفيان يعلم جيداً أن الذي يلي الأمر من بعده سوف يلاقي الكثير من المتاعب والمشاكل قد ترقى إلى درجة التهديد الجدي لسلطان بني أُمية الذي بني بنيانه وشيد أركانه بمختلف الوسائل الملتوية التي لا تمت إلى دين الإسلام وتعاليم الرسول(صلی الله علیه و اله) بصلة .

ص: 45


1- الإصفهاني، ابو الفرج - الأغاني : 16 / 29 وما بعدها (مصدر سابق)
2- الخضري بيك - الدولة الأموية : 2/ 122 وما بعدها

وقد عزم معاوية على أن يعهد بالخلافة إلى ابنه يزيد(1) من بعده، إلّا أنه كان يتخوّف كثيراً من إعلان رأيه هذا، وكان لهذا التخوّف أسباب موضوعية وجيهة يمكن تلخيصها في سببين رئيسين هما :

أولاً : شخصية يزيد الضعيفة والمتهتكة. ثانياً : جبهة المعارضة القوية . وفيما يلي استعراض موجز لهذين السببين :

أولاً - شخصية يزيد :

لقد كانت شخصية يزيد بن معاوية شخصية شاذة منحرفة معروفة بشذوذها وانحرافها بين أوساط المسلمين، حيث عرف عنه التهتّك والنزق والخروج السافر على الاعراف والأخلاق والإلتزامات الإسلامية، بالاضافة إلى النزعة الإلحادية التي كان يتصف بها، ولم يكن يمتلك تلك المؤهلات التي كان يمتلكها والده معاوية بن أبي سفيان فلا هو يمتلك دهاء أبيه وقوته ، ولا هو يمتلك قدرة أبيه على ضبط النفس والتظاهر بالإلتزام والتخلّي عن تهتّكه ، ولا هو يمتلك رصيد أبيه (المزيف) من الصحبة وخؤولة المؤمنين ، وكتابةالوحي ... وما انتحله له المرتزقة الذين من حوله من مناقب و فضائل(2).

وقد كان معاوية يتصف بالحذر والحيطة والتروي والدهاء وشراء الذمم، أما يزيد فقد كان على الضد مع أبيه ... فلقد كان من أبعد الناس عن الحذر والحيطة والتروي . كان انساناً صغير العقل ، متهوراً ، سطحي التفكير «لا يهم بشيء إلّا ركبه»(3).

ص: 46


1- ویزید بن معاوية بن أبي سفيان، وأُمه میسون بنت بجدل ولد سنة (26ه) و هلك في ربيع الأول سنة (64ه) في مدينة حوران من أرض بلاد الشام، فكانت مدة تسلطه على رقاب المسلمين ثلاث سنوات وثمانية أشهر وأربعة عشر يوماً. (المصدر نفسه : 2/ 122)
2- وارث الأنبياء: 197
3- البلاذري - أنساب الأشراف : 4 / القسم الثاني /1 وما بعدها

وسياسته في معالجة المشاكل التي واجهته خلال حكمه يعزز وجهة النظر هذه ، فاسلوبه في معالجة ثورة الإمام الحسين (علیه السلام)، وأُسلوبه في معالجة ثورة أهل المدينة ، وأُسلوبه في معالجة ثورة ابن الزبير ... تكرّس القناعة عندالباحث في عدم كفاءة يزيد لإدارة وخلافة المسلمين.

وتدل بعض الملاحظات التي ذكرها المؤرخون عن حياته العاطفية أن هذا النزق، والتهور، والاستجابة السريعة العنيفة للانفعال ليست أُموراً عارضة بل هي سمات أصيلة في شخصيته(1).

ونشأة يزيد المسيحية، أو القريبة من المسيحية، جعلته أضعف ما يكون صلة بالعقيدة الإسلامية التي يريد أن يحكم الناس باسمها.

وحياة التحلل التي عاشها قبل أن يلي الحكم والانسياق مع العاطفة ، وتلبية كل رغباته ، كل ذلك جعله عاجزاً عن التظاهر بالورع والتقوى، والتلبس بلباس الدین ، هذا بالإضافة إلى طبيعته النزقة ، جعلته يعالن الناس بارتكاب المحرمات، ويقارف من الآثام ما عرف الناس بمدى بعده عن الصلاحية لتولي منصب الخلافة(2).

ثانياً - جبهة المعارضة القوية :

تمثلت جبهة المعارضة للحكم الأموي عامة والتولي يزيد لولاية العهد ومن ثم استخلافه لمعاوية ، في جبهتين قويتين :

الأُولى : جبهة المعارضة من داخل الجهاز الحاكم.

والثانية : جبهة المعارضة من خارج الجهاز الحاكم.

ص: 47


1- انظر المصدر السابق نفسه، والأبيات الشعرية التي نقلت عنه في الصفحات : 4، 10، 11 تدل على شذوذه الجنسي
2- ثورة الحسين : 131 - 132

أما الجبهة الأُولى : فقد تمثلت في شخصيات من الأُسرة الحاكمة كانت تُمَنّٙي نفسها وتطمع بالامارة والخلافة لمعاوية لما تراه في نفسها من مؤهلات لا يمتلكها یزید، من أمثال زیاد بن أبيه الذي ثبّت دعائم حکم معاوية في العراقين، ومن أمثال مروان بن الحكم الذي كان يرى نفسه أولى بهذا الأمر من يزيد ، ويرى أنه شیخ العشيرة وكبيرها وكانت معارضته لاستخلاف يزيد قوية(1) ومن أمثال عبد الله بن عامر، وسعيد بن العاص، وسعيد بن عثمان بن عفان، وغيرهم الكثير من آل أُمية وآل أبي معيط ممن أسند إليهم عثمان في حياته الولايات الكبرى في دولة الخلافة.

وأما الجبهة الثانية : فقد تمثّلت في شخصيات من الصحابة وأهل السابقة في الإسلام والجهاد من المهاجرين والأنصار وأبنائهم، وعامّة المسلمين في المدينة ، والعراق وغيرهما من الأمصار.

المبحث الرابع: أساليب معاوية مع المعارضين لبيعة يزيد

أولاً - المعارضون للبيعة من داخل الأُسرة الحاكمة :

وقد جهد معاوية على خنق أي صوت معارض لبيعة يزيد سواء من داخل الاسرة الحاكمة أو من خارجها وذلك من خلال الترهیب و الترغيب والإذلال، أو من خلال توظيف مذهب الجبر لتبرير حال الأُسرة الأموية ، وأن ما يحصل انما هو قَدَرٌ مُقَدَّر مِنَ الله.

ص: 48


1- انظر : مروج الذهب للمسعودی : 28/3 - 29 والامامة والسياسة لابن قتيبة : 198/1

وفيما يلي بعض أساليبه :

يروي أبو الفرج في الأغاني :

إن مسكين الدارمي قال في أبيات له أنشدها بأمر من يزيد وبحضور وجوه بني أُمية في شأن عقد ولاية العهد ليزيد :

ألا ليتَ شِع۟ري ما يقولُ إِبنُ عامرٍ

ومروانُ أم ماذا يَقُولُ سعيدُ

بَني خلفاءِ الله مَه۟لاً فإِنما

يبوّؤُهما الرحمنُ حيثُ يريدُ

إذا المنبرُ الغربي خلّاهُ ربّهُ

فإن أمير المؤمنينَ يزيدُ

فقال معاوية : ننظر فيما قلت یا مسكين ونستخير الله ... ثم وصله يزيد ووصله معاوية ، فأجزلا صلته(1).

ويُر۟وى : أن يزيد بن المقنع العذري قام بين يدي معاوية خطيباً وقال : «أمير المؤمنين هذا» وأشار إلى معاوية.

«فإن هلك فهذا» وأشار إلى يزيد.

«فمن أبي فهذا» وأشار إلى سيفه! فقال له معاوية : «اُجلس، فإنك سيد الخطباء»(2).

بذلك صار السيف أصدق أنباءً من الكتب، والتهديد أفعل في النفوس من الإيمان ، والخوف أطفأ لأي غضبة للحق ، وصارت الخلافة ، من هذا الوقت ، ملكاً يُورّث ولو لفاسق، وإرثاً یُملَّكُ ولو لظالم، وضيعة توهب ولو لمفسد ... ولم يعد للمسلمين في أمر الخلافة كلمة.

ويروي اليعقوبي في تاريخه :

إن معاوية أرسل إلى زياد بكتاب يدعوه فيها إلى أخذ البيعة ليزيد ...

ص: 49


1- انظر: الأغاني : 20 / 227 وما بعدها
2- ابن الأثير - الكامل في التاريخ : 352/3

فدعا زیاد برجل من أصحابه يثق بفضله وفهمه ، فقال : إني أريد أن أأتمنك على ما لم أأتمن علیه بطون الصحائف ، إئت معاوية وقل له : يا أمير المؤمنين إنّ كتابك ورد عليّ بكذا، فيما يقول الناس إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد، وهو يلعب بالكلاب والقرود، ويلبس المصبَّغ ويدمن شرب الخمر،ويمسي على الدفوف، وبحضرتهم الحسين بن علي، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر ، ولكن تأمره يتخلّق بأخلاق هؤلاء حولاً أو حولين فعسانا أن نموّه على الناس(1).

إلّا أن معاوية كان أوفر دهاءً، وكان زیاد أذلّ عنده من أن تمر عليه مكيدته أو يعبأ بكلامه، ولهذا نجد ردّ الفعل العنيف يصدر من معاوية لخنق صوت زیاد بن أبيه وأمثاله عندما تصل لمسامعه تلك النصيحة فيقول : « ويلي على ابن عُبَي۟د ، لقد بلغني أن الحادي حدا له : أن الأمير بعدي زياد، والله لأردّنه إلى أُمّه سميّة وإلى أبيه عُبَيد»(2).

وكتب معاوية إلى مروان بن الحكم - وكان عامله على المدينة - يعلمه باختياره یزید ، ومبايعته إياه بولاية العهد ، ويأمره بمبايعته ، وأخذ البيعة له على من قِبَلِه ، فلما قرأ مروان ذلك خرج مغاضباً في أهل بيته، حتى أتى دمشق فدخلها ، ودخل على معاوية ، وتكلم بكلام كثير منه : أقم الأُمور یا ابن أبي سفيان، وأعدل عن تأمير الصبيان ، واعلم أن من قومك نظراء، وأن لك على مناواتهم وزراء.

فقال له معاوية: أنت نظير أميرالمؤمنين وعدته في كل شديدة، وعضده الثاني بعد ولي عهده ... وجعله ولي عهد یزید، وردّه إلى المدينة ثم إنه عزله عنها، وولاها الوليد ابن عتبة بن أبي سفيان، ولم يف لمروان بما جعل له من ولاية عهد یزید بن معاوية(3) .

ص: 50


1- اليعقوبي، ابن واضح - تاريخ اليعقوبي : 2/ 208، دار صادر
2- اليعقوبي، ابن واضح - تاريخ اليعقوبي : 2/ 208، دار صادر
3- المسعودی، مروج الذهب : 3/ 28 - 29

وفي رواية ابن قتيبة : إن مروان بن الحكم كتب إلى معاوية كتاباً قبل أن يأتيه إلى الشام جاء فيه : إن قومك قد أبوا إجابتك إلى بيعة ابنك ، فَرَ رأيك، فلما بلغ معاوية ذلك عرف أن ذلك من قبله، فكتب إليه أن يعتزل عمله(1).

وفي البدء والتاريخ : وكتب إلى مروان بن الحكم بأخذ بيعة أهل المدينة ليزيد عليه اللعنة ، فغضب مروان إذ لم يجعل إليه الأمر، فسار إلى الشام فكلمه وجعله ولي عهد یزید بعده، وردّه إلى المدينة فامتنع أهل المدينة من بيعته(2) .

ومن الأساليب التي اتخذها معاوية لإخماد صوت المعارضة داخل البيت الأموي أُسلوب الوقيعة بين النظراء من أعوانه، وضرب بعضهم ببعض، وخاصة بين آل عمومته من بني العاص.

يروي الطبري وابن الأثير في أخبار سنة أربع وخمسين : وفيها عَزَل معاوية سعید بن العاص عن المدينة واستعمل عليها مروان بن الحكم - وكان سبب ذلك - أنّ معاوية كان يغري بين مروان وسعيد بن العاص، فكتب إلى سعيد بن العاص وهو على المدينة : اهدم دارَ مَروان، فلم يَه۟دمها، فأعاد عليه الكتاب بهدمها ، فلم يَفعل، فعزله وولّی مروان.

وفي رواية محمد بن عمر : أن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص يأمره بقبض أموال مروان كلّها وبقبض فدك منه - وكان وهبها له - فراجعه سعيد في ذلك ، وقال : قرابته قريبة، فكتب إليه ثانية يأمره باصطفاء أموال مروان، فأبي، وأخذ سعید بن العاص الكتابين فوضعهما عند جارية ... فلمّا ولّی مروان كتب إليه : اهدم دار سعید. فأرسل الفعلة ، وركب ليهدمها، فقال له سعيد : يا أبا عبد الملك، أتهدم داري ؟ قال : نعم ، كتب إلىّ أمير المؤمنين ، ولو كتب إليك - في هدم داري لفعلت،

ص: 51


1- السيوطي، الإمامة والسياسة : 1/ 198
2- المقدسي، البدء والتاريخ : 6/6

قال : ما كنت لأفعل ، قال : بلى، والله لو كتب إليك لهدمتها، قال : كلّا أبا عبد الملك، وقال لغلامه : إنطلق فجئني بكتاب معاوية ، فجاء بكتاب معاوية إلى سعید بن العاص في هدم دار مروان بن الحكم، قال مروان : كتب إليك يا أبا عثمان في هدم داري ، فلم تهدم ولم تُعلمني ، قال : ما كنت لأهدم دارك ، ولا أمُنَّ عليك ، وإنما أراد معاوية أن يحرّض بيننا.

وكتب سعيد بن العاص إلى معاوية : العجبُ مما صنع أمير المؤمنين بنا في قرابتنا، أن يُضغن بَعضنا على بعض وادخاله القطيعة بيننا والشحناء ... فكتب إليه معاوية يتنصل من ذلك ، وأنه عائد إلى أحسن ما يَعهده(1).

يعلق الكاتب المصري عباس محمود العقاد على هذه القصة بقوله : ومضى معاوية على هذه الخطة التي لا تتطلب من صاحبها حظاً كبيراً من الحيلة .. فلو أنه استطاع أن يجعل من كل رجل في دولته حزباً منابذاً لغيره من رجال الدولة كافة لفعل ، ولو حاسبه التاريخ حسابه الصحيح لما وصفه بغير مفرق الجماعات(2).

وبهذه الأساليب وغيرها استطاع معاوية أن يخمد صوت المعارضة من داخل البيت الأموي، من خلال مداراة البعض واسترضائهم، وتمزيق شمل البعض الآخر، وترويض الآخرين على قبول فكرة استخلاف یزید.

ثانياً - جبهة المعارضين للبيعة من خارج الأُسرة الحاكمة :
اشارة

وتمثلت جبهة المعارضة هذه في أُمة من كبار المسلمين ومن أهل السابقة والجهاد وأهل التقوى والصلاح من المهاجرين والأنصار ، وأبناءهم وأحفادهم،

ص: 52


1- الطبري : 5 / 293 - 294، وابن الأثير في حوادث سنة أربع وخمسين
2- العقاد : عباس محمود، معاوية في الميزان : 61، ط. دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الثالثة، (1386 ه - 1966 م)

ومن عامة المجتمع الإسلامي الذي اكتشف ما فيه الكفاية من عورات الحكم الأموي ، وذاق طعم عذابه و خبر ألواناً من عسفه و ظلمه في الأرزاق والكرامات، وانزاحت عن بصيرته الغشاوة التي رانت عليها في أول عهد معاوية(1).

ولعل في كلمات الدكتور طه حسين ما يوجز لنا حالة الأُمة الإسلامية اتجاه الحكم الأموي حيث يقول : ومات معاوية حين مات ، وكثير من الناس ، وعامة أهل العراق بنوع خاص يرون بغض بني أُمية وحب أهل البيت لأنفسهم دیناً(2).

وكان معاوية يعي هذا الأمر جيداً، ويعرف جيداً ما سوف يلاقيه يزيد من معارضة قوية من المجتمع الإسلامي، وخاصة من الشخصيات البارزة فيه ، ممن يمتلكون رصيداً دينياً وسياسياً واجتماعياً كبيراً.

ولهذا حاول جاهداً وبما يمتلك من دهاء ومكر أن يقضي على صوت المعارضة هذه وذلك من خلال تصفيته بعض الشخصيات المهمة فيها، واستمالة البعض الآخر إلى بيعة يزيد، أو يضمن سكوتهم - على الأقل - عن یزید و بیعته ، «وإنما أراد بذلك أن يسهل بيعة يزيد فلم يزل يروّض الناس لبيعته سبع سنين، ويشاور ويعطي الأقارب ويداني الأباعد»(3).

قال الذهبي - معللاً دهشة المسلمين وحيرتهم حين استخلف يزيد - : «وإنما عظم الخطب لكونه - یزید - ولَّي بعد وفاة النبي(صلی الله علیه و اله) بتسع وأربعين سنة ، والعهد قريب، والصحابة موجودون» ثم يصف يزيد قائلاً : «وکان ناصبياً

ص: 53


1- ثورة الحسين : 134
2- طه حسين - الفتنة الكبرى - على وبنوه -: 295
3- الأندلسي، ابن عبد ربه - العقد الفرید: 3/ 357

فظاً غليظاً جلفاً يتناول المسكر، ويفعل المنكر ، افتتح دولته بمقتل الشهيد الحسين ، واختتمها بواقعة الحرة ...»(1).

فلم تكن شخصية يزيد خافية على الخاصة والعامة من المسلمين كما وصفه الذهبي وغيره من المؤرخين، إلّا أن معاوية كان مصراً على استخلافه من بعده ، رغم أُنوف المسلمين.

والذي كان يقلق معاوية كثيراً من جبهة المعارضة هو موقف مدينة الرسول ورجالاتها التي تعتبر القطب المناوئ القوي لتوجهات السياسة الأموية، ولهذا كانت جهوده مضاعفة واهتمامه كبيراً لتسوية الأُمور لصالح يزيد في المدينة ، والمتحصل من بعض الأخبار، أنه بدأ هذا السعي الحثيث منذ العام خمسين للهجرة، وذلك حينما زار المدينة في سفر حجه ، فقد ذكر بعض المؤرخين أن معاوية زار المدينة عام (50) للهجرة وجمع عبادلتها، واستثنى الحسن والحسين ثم عرض عليهم بيعة يزيد، ولكنه واجه ردوداً غير مرضية من الجميع فقفل إلى الشام(2) .

إلّا أن معاوية استأنف محاولاته مع أهل المدينة، من خلال مكاتباته إلى ولاته فيها، فبعد مکاتبته لمروان وما نتج عنها وبعد أن عزله كاتب سعید بن العاص يأمره بأخذ البيعة ليزيد، ثم يخبره بردود الأفعال بالتفصيل ومن سارع ومن لم يسارع، وقد اتبع سعيد أساليب مختلفة في حمل الناس على البيعة إلّا أنه فشل فيما سعى إليه ، فكتب إلى معاوية يخبره بذلك قائلاً : أما بعد فإنك أمرتني أن أدعو الناس

ص: 54


1- الذهبي - سير أعلام النبلاء : 4/ 39 - 38
2- الإمامة والسياسة : 1 / 196 ، والعبادلة هم : عبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر ، وعبد الله ابن الزبير ، وعبد الله بن عمر

البيعة يزيد بن أمير المؤمنين ، وأن أكتب إليك من سارع من أبطأ ، وإني اخبرك أن الناس عن ذلك بطاء، لا سيما أهل البيت من بني هاشم(1).

ثم كتب معاوية بنفسه إلى ابن عباس ، والحسين بن علي ، وعبد الله بن جعفر ، وابن الزبير ، فكانت الأجوبة على غير ما يسره، فأعاد الكتابة إلى سعيد بن العاص يأمره بترك هؤلاء النفر وأخذ البيعة من المهاجرين والأنصار وأبنائهم، ولكن أهل المدينة أبوا مرةً أُخرى، فكتب سعيد إلى معاوية : إنه لم يبايعني أحد، وإنما الناس تبع لهؤلاء النفر فلو بایعوك بايعك الناس جميعاً(2).

* أساليب التصفية الجسدية :

ومن الأساليب التي اتبعها معاوية لتمرير بيعة ولده يزيد أُسلوب التصفية الجسدية، وهو أُسلوب عرف عن معاوية في سبيل القضاء على من يخشی منافستهم له في السلطان، أو تعكير صفو السلطان عليه ، فإن الطريقة المثالية عنده في التخلص منهم هي القضاء عليهم بأقل ما يمكن من الضجيج. وقد مارس معاوية هذا الأُسلوب في القضاء على الحسن بن علي (علیه السلام)وسعد بن أبي وقاص(3).

قال أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبين : «وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد، فلم يكن شيء أثقل عليه من أمر الحسن ، وسعد بن أبي وقاص قدس إليهما سماً ، فماتا منه»(4).

ص: 55


1- الإمامة والسياسة : 80
2- المصدر نفسه
3- شمس الدين - ثورة الحسين : 122 - 123
4- مقاتل الطالبين : 80 وانظر : سيد أمير علي - مختصر تاريخ العرب : 62

وقد مارس معاوية من قبلُ هذا الأُسلوب في القضاء على مالك بن الأشتر النخعي لما توجه إلى مصر، ومارسه في القضاء على عبد الرحمن بن خالد بن الوليد

لما رأى افتتان أهل الشام به.

وقد أوجز هو أُسلوبه هذا في كلمته المأثورة : «إن للهِ جنوداً من عسل»(1).

* معاوية يأخذ البيعة ليزيد بالسيف :

بعد أن عجز ولاة معاوية على المدينة من حمل الناس على بيعة يزيد، رغم الجهود والأساليب التي اتبعوها تولى معاوية أمر المدينة بنفسه ، وكان تركيزه على أهم رموزها وشخصياتها ممن لهم رصيدهم الديني والاجتماعي والعاطفي في نفوس المسلمين، لعلمه أن الناس يقتدون بهم ويتبعون نهجهم، فقد روى المؤرخون :

وكان معاوية يعطي المقارب ويداري المباعد ويلطف به حتى استوثق له أكثر الناس وبايعه ، فلما بايعه أهل العراق والشام سار إلى الحجاز في ألف فارس ، فلما قدم المدينة صعد المنبر ، فذكر يزيد فمدحه وقال : مَن أحقّ منه بالخلافة في فضله وعقله وموضعه ؟ وما أظنّ قوماً بمنتهين حتى تصيبهم بوائق تجتثّ أُصولهم ، وقد أنذرت إن أغنت النُّذر، ثم أنشد متمثلاً :

قَد۟ کُن۟تُ حَذَر۟تُکَ آلَ المُص۟طَلِق۟

وقُل۟تُ ياعَم۟روُ أَطِع۟ني وَان۟طلِق

إِنَّكَ إن كلفتني مَالَم أُطِق۟

ساءکَ ما سرّکَ مِنّي مِن خُلق

دُونَكَ ما اس۟تَقيته فاحسُ وذُق(2)

وكان كبار شخصيات مدينة الرسول من أمثال الحسين بن علي(علیه السلام) ، وعبد الله ابن عباس، وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن جعفر وغيرهم قد غادروا المدينة حين علموا بقدوم معاوية ، فلاحقهم معاوية إلى مكة ، حتى قضى نسکه وحمل

ص: 56


1- ثورة الحسين : 123، وانظر : زیدان - التمدن الإسلامي 4/ 71، وعيون الأخبار : 201/1
2- ابن الأثير - الكامل في التاريخ : 2/ 511 - 512

أثقاله وقرب مسيره ... أحضرهم وقال : قد علمتم سيرتي فيكم وصلتي لأرحامكم وحمل ما كان منكم، ويزيد أخوكم وابن عمّكم وأردتُ أن تقدموه باسم الخلافة، وتكونوا أنتم تعزلون وتؤمّرون وتجبون المال وتقسمونه لا يعارضكم في شيء من ذلك ! فسكتوا . فقال : ألا تجيبون؟ مرّتين .

ثم أقبل على ابن الزّبير ، فقال : هات لعمري إنّك خطيبهم، فقال : نعم ، نخيّرك بين ثلاث خصال ، فاختر منها أيتهن شئت فهي لك صلاح.

قال معاوية : اعرضهن.

قال : تصنع کما صنع رسول الله(صلی الله علیه و اله) أو كما صنع أبو بكر، أو كما صنع عمر .

قال معاوية : ما صنعوا(1)؟

فشرح له ابن الزبير كيفية انتقال خلافة رسول الله إلى هؤلاء النفر ... فقال له معاوية : هل عندك غير هذا ؟ قال : لا.

ثم قال : فأنتم ؟ قالوا : قولنا قوله. فامتعض معاوية من مقولتهم، وقال : فإنّي قد أحببت أن أتقدم إليكم، إنّه قد أعذر من أنذر ، إني كنت أخطب فيكم فيقوم إلىّ القائم منكم فيكذّبني على رؤوس الناس فأحمل ذلك وأصفح ، وإنّي قائم بمقالة فأقسم بالله لئن ردّ علىّ أحدكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلىرأسه ، فلا يبقينّ رجل إلّا على نفسه.

ثم دعا صاحب حرسه بحضرتهم فقال : أقم على رأس كلّ رجل من هؤلاء رجلين ومع كل واحد سیف، فإن ذهب رجل منهم يردّ عليّ كلمة بتصديق أو تکذیب فليضرباه بسیفیهما، ثم خرج وخرجوا معه حتى رقي المنبر فحمد الله وأثنى

ص: 57


1- الكامل في التاريخ : 2/ 512، وفتوح ابن أعثم : 246/4

عليه ثم قال : إنّ هؤلاء الرّهط سادة المسلمين وخيارهم لا يبتز أمر من دونهم، ولا يقضى إلّا عن مشورتهم ، وانّهم قد رضوا وبايعوا ليزيد، فبايعوا على اسم الله ! فبايع الناس، وكانوا يتربّصون بيعة هؤلاء النفر، ثم ركب رواحله وانصرف.

فلقي الناس أُولئك النفر فقالوا لهم : زعمتم أنكم لا تبایعون فَلِمَ رضيتم

وأَعطيتم وبایعتم ؟

قالوا : والله ما فعلنا.

فقالوا : ما منعكم أن تردّوا على الرجل ؟ قالوا : کادنا وخفنا القتل(1)!

وفي رواية الطبري ، قال : بايع الناس ليزيد بن معاوية غير الحسين بن عليّ

وابن عمر ، وابن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وابن عباس(2).

وتكشف بعض المواقف والكلمات التي قالها هؤلاء الذين حُمِلوا على البيعة بالسيف عن مدى استيائهم من هذه البيعة التي أكرهوا عليها، وعندما سئل الحسين بن علي (علیه السلام)عن هذه البيعة قال : «والله ما بايعنا ... وخشينا إن رددنا عليه أن تعود الفتنة جذعاً ولا ندري إلى ماذا يؤول أمرنا»(3).

وعندما نتأمل في هذه الرواية التي أطبق المؤرخون على نقلها بتفاصيلها نجد :

أولاً : إن معاوية لم يعتنِ بآراء الأُمة الإسلامية وأصحاب الحل والعقد الذين يرجع إليهم الاختيار والمشورة على مبدأ القائلين به، بل استبد بالأمر من دون الأُمة وبأُسلوب قسري وبحد السيف، وفي ذلك إذلال للأُمة الإسلامية.

ص: 58


1- المصدر نفسه : 2/ 513، وانظر : البدء التاريخ : 6/ 7، و تاریخ خليفة بن الخياط : 215 ۔ 217، والذهبي في تاريخ الإسلام : 150 - 152، مجلد (عهد معاوية)
2- تاریخ الطبري: 5 / 303
3- الكامل في التاريخ : هامش: 2/ 513

ثانياً : الاستهانة بأُولئك النفر الذين لم يرضوا ببيعة يزيد وفيهم الإمام الحسين بن علي(علیه السلام) سبط رسول الله(صلی الله علیه و اله) وسيد شباب أهل الجنة ، فلم يهتم معاوية بخلافهم بل ادعی كذباً أنهم بايعوا لينال بذلك بيعة أهل مكة والمدينة.

ثالثاً : إن معاوية بفعلته هذه قد سن في الإسلام سنة المُل۟ك المنحصر في أُسرة معينة، بعد أن كان أساسه الشورى ويختار من عامة قريش، وعلى حد قول عبد الله بن عمر لمعاوية لما دعاه لبيعة يزيد سنة (50) هجرية فقال له : فإن هذه الخلافة ليست بهرقلية ولا قيصرية ولا كسروية يتوارثها الأبناء عن الآباء ...(1).

ومعاوية بفعلته هذه قد سنّ سنة سيئة لها آثار سلبية في الأُمة الإسلامية لا تحمد عقباها ، وفتح بذلك أبواب من الشر لا تغلق حتى يفتح غيرها ، وقد لاقت أُمة الإسلام من نتائج ذلك الويلات الكثيرة والحوادث المحزنة التي سوف نشير إلى بعضها لاحقاً.

رابعاً : أن الطريقة القسرية التي اتبعها معاوية بما فيها من كيد وتهديد بالقتل وكذب على الأُمة الإسلامية ، لا تليق بأدنى أفراد الرعية فضلاً عن أن يكون أميراً للمؤمنين أو خليفة للمسلمين .

خامساً : إن هذه الطريقة التي اتبعها معاوية لأخذ البيعة ليزيد، تدعو في أغلب الأحيان إلى انتخاب غير الأفضل وغير الأليق من الأُمة، وتجعل في أُسرة الخلافة الترف والانغماس في الشهوات والملاذ، بالاضافة إلى التكبر والرفعة على الأُمة ، وهذا ما سجله التاريخ في حكم بني أُمية ومن بعدهم بني العباس ومن سار على منهجهم.

ص: 59


1- الإمامة والسياسة : 1/ 196

بالاضافة إلى هذه الأُمور كلها فإن طريقة معاوية وكیده کما سجلتها لنا هذه الرواية التاريخية هي بعينها الطريقة الفرعونية في التعامل مع الأُمة، طريقة استخفاف الأُمة ، يقول تعالى عن فرعون: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ...(1).

* وتمت بيعة يزيد :

تمكن معاوية في نهاية سعيد الذي استمر عقداً كاملاً أن يوطئ الأمر ليزيد ابنه ويستخلفه مع ما يحمله من موبقات وعدم كفاءة، وإذا به يخاطبه في نهاية المطاف قائلاً : «یا یزید إني قد وطأت لك الأُمور، وذللت لك أهل العز، وأخضعت لك رقاب العرب»(2).

وفي رواية المنتظم لابن الجوزي : « وذللت لك الأعداء، وأخضعت لك أعناق العرب »(3).

بهذه الطرق والأساليب الملتوية والوسائل الماكرة البعيدة عن الدين الإسلامي وتعاليمه تمت بيعة يزيد قسراً على روؤس المسلمين ، ولهذا توقف الكثير من العلماء والشعراء والكتاب عند هذه القضية واعتبروها إحدى المفردات التي يوآخذ عليها معاوية وما أكثرها.

روي عن الحسن البصري أنه قال : أربع خصال كن في معاوية لو لم تكن فيه إلّا واحدة لكانت موبقة ، انتزاؤه على هذه الأُمة بالسيف ، حتى أخذ الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه سکّيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير ، وادّعاؤه زیاداً ، وقد قال رسول الله :

ص: 60


1- الزخرف: 51 - 54
2- المبرد، التعازي والمرائي : 139
3- المنتظم : 3/ 137

«الولد للفراش وللعاهر الحجر»، وقتله حجراً وأصحاب حجر ، فيا ويلاً له من حجر ! ويا ويلاً له من حجر وأصحاب حجر(1)!

ولعل التعبير الأكثر واقعية عن طبيعة بيعة يزيد وما تجره على الأُمة الإسلامية من كوارث مروعة ما كتبه عقيبة بن هبيرة من أبيات خاطب بها معاوية بعد بيعة يزيد قال فيها:

مُعاوِي إِنَنا بَشَرُ فَأس۟جَع۟

فَلَس۟نَا بالجِبالِ ولا الحَدِيدِ

أَکَل۟تُم أَر۟ضَنَا فَجَردتُموها

فَهَل مِن۟ قائمٍ أو مِن۟ حَصِيدِ

أَتَط۟معُ بالخلودِ إِذا هَلَك۟نَا

وليسَ لَنا ولا لكَ من خُلودِ

فَهَب۟هَا أُمةً هَلَكَت۟ ضِياعَاً

يزيدُ أميرها و أبو يزيدِ(2)

وفي رواية الفتوح لإبن أعثم:

وكتب معاوية في عهد فيه إلى يزيد كتاباً جاء فيه : هذا ما عهده معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين إلى ابنه يزيد، إنه قد بايعه وعهد إليه، وجعل له الخلافة من بعده ، وقد سماه أمير المؤمنين ... فمن قرأ هذا الكتاب وقبله حق قبوله وبادر إلى طاعة أميره يزيد فمرحباً وأهلاً ، ومن تأبّي عليه وامتنع فضرب الرقاب أبداً، حتى يرجع الحق إلى أهله(3).

الجبر والتفويض والقضاء والقدر وبيعة يزيد :

لقد كان معاوية يعرف جيداً أنه اغتصب الحكم بالسيف، وأنه بالتالي يفتقد الشرعية - ولو ظاهراً - التي تأسس عليها الحكم في الإسلام بعد وفاة

ص: 61


1- الكامل في التاريخ: 2/ 499
2- انظر : العقد الفرید: 1/ 60، والشعر والشعراء : 1/ 99
3- الفتوح - لابن أعثم: 2/ 353

رسول الله(صلی الله علیه و اله) ، وهي شرعية الشورى التي يصحح على أساسها الحكم بعد رسول الله (صلی الله علیه و اله)، فراح يلتمس الشرعية لحكمه من « القضاء والقدر » من جهة ، ومن العمل، على استرضاء الناس بالتلويح لهم باشراكهم في ثمار الحكم،خصوصاً المادية منها من جهة أُخرى، وهكذا نجده من جهة يكرر في خطبه أن ما حدث من حرب بينه وبين علي بن أبي طالب(علیه السلام) وما كان من انتصاره وانتزاعه الحكم، إنما كان «بقضاء الله وقدره»(1) وبالتالي فالله هو الذي قضى « بسابق علمه » أن يتولى الأمويون الحكم لأنهم أهل له وأكثر الناس خبرة بشؤونه !!

وقد ردد عماله هذه الفكرة نفسها، ومنهم زیاد بن أبيه في خطبته المشهورة ب«البتراء» التي قال فيها: «أيها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة نسوسکم بسلطان الله الذي أعطانا ، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا»(2).

ولما قام الوليد بن عتبة خطيباً بالمدينة وكان واليها، ينعىٰ معاوية ، ويدعو إلى بيعة يزيد ولم يستجب أهل المدينة لذلك وكان موقفهم الرفض للبيعة ، عندها قام روح بن زنباع - أحد أزلام بني أُمية - وقال : أيها الناس إنا لا ندعوكم إلى لخم وجذامة وكلب ، ولكنا ندعوكم إلى قريش ، ومن جعل الله له هذا الأمر، واختصه به ، وهو یزید بن معاوية ، ونحن أبناء الطعن والطاعون ، وفضالات الموت، وعندنا إن أجبتم وأطعتم من المعونة والعائدة ما شئتم(3).

والعبارة لا تحتاج إلى كثير تأمل ، فخلافة يزيد جعل من الله ، وقضاء وقدر منه تعالى، والأموال والمعونة والعائد بيد الأمويين ، وتعطى لمن أذعن وأجاب وأطاع!

ص: 62


1- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة : 1/ 297
2- شرح نهج البلاغة : 202/16
3- الجاحظ، البيان والتبيين : 392/1

وخطب معاوية أمام معارضي تولية ابنه يزيد ولياً للعهد فكان مما قاله : « وإن أمر يزيد قد کان به قضاء من الله وليس للعباد خيرةً في أمرهم»(1) ، هذا من جهة .

ومن جهة أُخرى، سلك معاوية سياسة حمل الأُمة على التسليم بالأمر الواقع ، وعمل جهده على حمل الناس على النظر إلى مسألة الحكم بعين « الواقعية السياسية » التي تقوم على التسليم بالأمر الواقع الذي لا مناص عنه.

ففي خطبة له خطبها في المدينة بعد تمام « البيعة » له قال :

« أما بعد، فإني ما وليتها بمحبة علمتها منكم، ولا مسرة بولايتي، ولكن جالدتكم بسيفي هذا مجالدة » ثم قال إنه حاول أن يحمل نفسه على سيرة أبي بكر أو عمر أو عثمان ولكنها أبت ذلك ولم تستطع، ثم أضاف : « فسلكت بها طريقاً لي ولكم فيه منفعة : « مواكلة حسنة ومشاربة جميلة »، « فإن لم تجدوني خيركم فإني خير لكم ولاية »(2).

وقد سار «الخلفاء » الأمويون من بعد معاوية على هذا المنهج فاعتمدوا القول بالجبر کايديولوجيا، والعطاء كممارسة سياسية، فكان هذا وذاك هما أساس الشرعية التي بنوا عليها حكمهم، فانقلبت الخلافة إلى ملك عضوض، أو إلى هرقلية أو کسروية، بحسب تعبير المعارضين لها.

يقول الدكتور أحمد أمين :

وبنو أُمية - كما يظهر - كانوا يكرهون القول بحرية الإرادة، لا دينياً فقط ، ولكن سياسياً كذلك، لأن الجبر يخدم سیاستهم، فالنتيجة للجبر أن الله الذي

ص: 63


1- الإمامة والسياسة : 1/ 205 و 210/1 . ذكر ابن قتيبة نص عبارة معاوية وبنفس اللفظ في حواره مع عائشة وفي خطابه لعبد الله بن عمر
2- انظر الطبري : 5/ 334، تحقیق ابو الفضل إبراهيم، طبعة روائع التراث العربي - بيروت، (بلا - ت)

يسير الأُمور قد فرض على الناس بني أُمية كما فرض كل شيء ، ودولتهم بقضاء الله وقدره ، فيجب الخضوع للقضاء والقدر(1).

تسارع الأحداث بعد وفاة معاوية :

وقد كان معاوية يعلم جيداً حجم المعارضة والمشاكل التي ستواجه يزيد في خلافته من بعده، ولهذا صب جل اهتمامه على تسوية الأُمور وكتب ليزيد في وصيته : « یا یزید اني قد وطأت لك الأُمور ، وذللت لك أهل العز ، واخضعت لك رقاب العرب »(2).

إلّا أن الأُمور لم تكن كما وصفها معاوية لولده، في وصيته فقد تسارعت الأحداث بعد وفاة معاوية مباشرة، وأدت إلى أحداث ووقائع حزينة ومؤلمة سجلها لنا تاريخ هذه الحقبة الزمنية.

والذي ساعد على تسارع هذه الأحداث جملة من الأُمور يمكن إيجازها فيما يلي :

أولاً : الطريقة التعسفية القسرية التي اتبعها معاوية لأخذ البيعة ليزيد من بعده والتي مرّ بنا بعض أشكالها وصورها.

ثانياً : امتناع كبار الصحابة وأبناء الصحابة وأصحاب الحل والعقد والرأي والتدبير من البيعة ليزيد وعلى رأس هؤلاء الإمام الحسين(علیه السلام) فلا يوجد بينهم وبين يزيد أي عهد أو ميثاق أو بيعة.

ثالثاً : اكتشف المجتمع الإسلامي ما فيه الكفاية من عورات الحكم الأموي ، وذاق طعم عذابه، وخبر ألواناً من عسفه وظلمه في الأرزاق والكرامات، وانزاحت عن بصيرته الغشاوة التي رانت عليها في أول عهد معاوية(3) .

ص: 64


1- ضحى الإسلام : 3/ 81 وما بعدها
2- التعازي والمرائي : 139
3- شمس الدين - ثورة الحسين : 134

رابعاً : شخصية يزيد التي كانت تفتقد لأبسط المقومات الأخلاقية والعقائدية والادارية ، فلم يكن يزيد في تروي أبيه وحزمه واحتياطه للأُمور، ولم يلتزم أُسلوب أبيه في الاحتفاظ بالغشاء الديني مسدلاً على أفعاله وتصرفاته(1).

خامساً : عجلة يزيد وتلهفه على أخذ البيعة له من كبار زعماء المعارضة، وعلى رأسهم الإمام الحسين(علیه السلام)(2).

هذه الأُمور وغيرها عجلت في تسارع الأحداث وتتابعها.

وقد سجل المؤرخون وقائع حوادث أواخر سنة (60ه) وبدايات سنة (61ه) بشكل تفصيلي وأهم هذه الحوادث حادثة موت معاوية وانتقال الخلافة إلى يزيد، وثورة الإمام الحسين(علیه السلام) واستشهاده .

وفيما يلي نوجز ما ذكره المؤرخون حول الحادثتين .

ص: 65


1- المصدر نفسه : 134
2- المصدر نفسه : 135

ص: 66

الباب الثاني: سیاسة يزيد بن معاوية وولاته في إذلال الأُمة الإسلامية

اشارة

ص: 67

ص: 68

الفصل الأول: انتهاك الحرمات والمقدسات

اشارة

المبحث الأول : الغارة على المدينة المنورة وانتهاك حرمتها وسفك الدماء فيها

المبحث الثاني : الغارة على مكة المكرمة وانتهاك حرمتها وحرقها وسفك الدماء فيها

ص: 69

ص: 70

سیاسة يزيد بن معاوية وولاته

في إذلال الأمة الإسلامية

بوفاة معاوية بن أبي سفيان آلت الأُمور إلى ولده يزيد ، فكان عليه أن يجري بعض الترتيبات الادارية من خلال عزل وتنصيب بعض الولاة والأُمراء على الأمصار الإسلامية ، ومعالجة الأُمور الحادة والمستعجلة والتي من أهمها عنده أخذ البيعة من المخالفين لبيعته.

فعلى المستوى الأول، فقد قام بإقرار بعض الولاة في مناصبهم وعزل البعض الآخر.

وعلى المستوى الثاني، فقد استعجل الأُمور وبعث برسالته إلى أمير المدينة الوليد بن عتبة يطلب منه أخذ البيعة من أُولئك النفر الذين امتنعوا عن بيعته في حياة والده معاوية، وعلى رأسهم الإمام الحسين (علیه السلام).

وقبل الدخول في المواقف المتلاحقة لنهضة سيد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام)من حين رفضه للبيعة، وخروجه من المدينة إلى مكة ، ومنها إلى العراق، وماأفرزته هذه المواقف من أفعال وكلمات . لابد لنا من الاشارة بإيجاز إلى سياسة يزيد وولاته في التعامل مع الأُمة الإسلامية.

فلقد سار يزيد على نفس المنهج السياسي الذي شيده معاوية وسار عليه قرابة الأربعين سنة، وهو المنهج الذي يعتمد الإذلال والقهر والحرمان والظلم والأثرة کوسائل قهرية للتعامل مع الأُمة.

ص: 71

واستعان يزيد في تطبيق منهجه بنفس الولاة والأُمراء الذين كان يستعين بهم معاوية في حياته، من أمثال : عبيد الله بن زياد، ومروان بن الحكم، ومسلم بن عقبة المريّ، وغيرهم الكثير من السفاحين والقتلة ، الذين ارتكبوا المجازر الرهيبة ، وانتهكوا الحرمات واستباحوا الأعراض والأموال والأنفس.

لم تتجاوز فترة حكومة یزید بن معاوية عن «ثلاث سنين وستة أشهر»(1) إلّا أنها كانت سنّي شديدة الوطء على المسلمين ، ذاقوا خلالها الويلات والمصائب العظيمة.

روى اليعقوبي في تاريخه قال : «كان سعيد بن المسيب يسمّي سنيّ يزيد بنمعاوية بالشؤم».

في السنة الأُولى : قتل الحسين بن علي(علیه السلام) وأهل بیت رسول الله(صلی الله علیه و اله).

وفي الثانية : استبيح حرم رسول الله(صلی الله علیه و اله) وانتهكت حرمة المدينة.

وفي الثالثة : سفك الدماء في حرم الله وحرق الكعبة(2).

ومنهجية البحث تقتضي ذکر حوادث السنة الأُولى ثمّ أحداث السنة الثانية والثالثة ، إلّا أن الحديث عن سياسة یزید بن معاوية وولاته وأساليب الإذلال التي اتبعوها في تعاملهم مع الأُمة الإسلامية اقتضى أن نؤخر الحديث عن واقعة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين(علیه السلام) إلى ما بعد ذلك.

ولهذا سوف نذكر بايجاز حوادث السنة الثانية والثالثة من حكم یزید بن معاوية ومن أهمها وقعة الحرة وحرق الكعبة ثم نعود إلى أحداث السنة الأُولى حيث استشهاد الإمام الحسين (علیه السلام).

يتضح ذلك من خلال المبحثين التاليين :

ص: 72


1- الطبري : 2/ 499
2- تاريخ اليعقوبي : 2/ 240، ط. دار صادر - بیروت، (بلا - ت)

المبحث الأول: الغارة على المدينة المنورة وانتهاك الحرمات وسفك الدماء

واقعة الحرّة :

لقد كان معاوية بن أبي سفيان قد استشرف المرحلة التي تعقب زمانه، وان وضع مدينة رسول الله (صلی الله علیه و اله)سوف يتفجر يوماً ما، ولهذا خاطب أهل المدينة قائلاً : «وإن معروف زماننا هذا منکر زمان مضى ، و منکر زماننا معروف زمان لم يأت»(1).

فمعاوية على يقين من أن «المدينة» وما تنطوي عليه من مقومات دينية ، وما تضمُّ في مكانها من مهاجرين وأنصار و تابعين لا يمكن أن تذعن و تستسلم أمام ما أقدم عليه حين فرض خلافة ولده يزيد بالاكراه عليها وعلى الأُمة الإسلامية .

وعلى هذا الأساس كانت وصيته لولده يزيد، فقد أكد على مواجهة المدينة ، ورسم له خطة الإيقاع بهم، بل وعيَّن له قادة الجيش الذين يعرف سابقتهم في الجريمة والبطش.

يروي ابن الأثير في الكامل : إن معاوية قال ليزيد حين حضرته الوفاة : إن لك من أهل المدينة يوماً ، فإذا فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة ، فانه رجل قد عرفنا نصيحته(2).

وفي تاريخ دمشق : من وصية معاوية ليزيد لما حضره الموت : ... ولست أخاف عليك إلّا أهل الحجاز ، فإن رابك منهم ريبة فوجّه إليهم مسلم بن عقبة المريّ، فإني قد جربته غير مرة، فلم أجد له مثلاً في طاعته ونصيحته(3) .

ص: 73


1- العقد الفرید: 132/3
2- الكامل في التاريخ : 3/ 456
3- ابن عساکر - تاریخ دمشق: 223/21

وقد نفذ الولد وصية أبيه كاملة في واقعة الحرّة المروّعة بقيادة مسلم بن عقبة المريّ، والتي ارتكبت فيها أبشع المجازر الدموية بحق الأنصار والمهاجرين والمعاهدين و في مدينة رسول الله (صلی الله علیه و اله).

خلفيات الواقعة :

تعتبر واقعة الحرّة من الوقائع الرهيبة التي هزت كيان الأُمة الإسلامية لما ارتكب فيها من جرائم بشعة طالت الأرواح والأعراض والأموال ، بشكل لم يسبق له مثيل في وقائع الإسلام وحروبه و فتوحاته، بل قد لا تجد لها مثيلاً حتى في أيام وقائع العرب في عصر جاهليتهم قبل الإسلام.

ولهذا استحوذت هذه الواقعة على اهتمام المؤرخين والرواة والباحثين ، وذكروها في كتبهم بشكل مفصل منددين بمرتكبيها ومستنكرين للجرائم التي وقعت فيها، بل إن بعض المؤرخين والكتّاب من يحملون الميول الأموية قد استنكروا ونددوا بهذه الواقعة بشكل صريح، من أمثال ابن كثير في البداية والنهاية الذي يذكر حجم الجرائم بانفعال شديد ويقول : ثم أباح مسلم بن عقبة، الذي يقول فيه السلف مُس۟رِف بن عقبة - قبحه الله من شيخ سوء ما أجهله - المدينة ثلاثة أيام كما أمره یزید، لاجزاه الله خيراً، وقتل خلقاً من أشرافها وقرّائها وانتهب أموالاً كثيرة منها، ووقع شرّ عظيم وفساد عریض على ما ذكره غير واحد(1).

والسؤال الذي يطرح أمام الباحث في ثنايا وتفاصيل هذه الواقعة هو : ما هي الأسباب الحقيقية وراء هذه الحادثة ؟ هل هو مجرد رفض أهل المدينة لبيعة یزید بن معاوية ؟ أو أن هناك أسباباً أُخرى تشكل خلفيات لهذا الحدث

ص: 74


1- ابن كثير ، الحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير - البداية والنهاية : 241/8 ، طبعة مؤسسة التاريخ العربي - بيروت

مما لا شك فيه أن أهل المدينة كانوا من الرافضين بشدة لبيعة يزيد بالخلافة ، حتى أخذ معاوية البيعة منهم بالطريقة القسرية التي أشرنا إليها سابقاً ، وأحسن ما يمكن أن يقال أن أهل المدينة أذعنوا - حينها - مكرهين ، ولا يصح أن نقول بايعوا مكرهين ، وفي التاريخ من الدلائل ما يكفي للقول بأن المدينة رفضت وبشكل قاطع خلافة يزيد، ولكنها أُجبرت على السكوت زمن معاوية تحت وطأة التهدید والوعيد، وبعد هلاك معاوية كان موقفها معلناً وصريحاً(1) .

إلّا أن رفض البيعة التي يستند إليها المؤرخون كسبب رئيسي لهذه الواقعة ما هي إلّا ذريعة تشبث بها الأمويون لتحقيق هدف كانوا يرتقبونه منذ زمن طويل للبطش بمدينة الرسول وأهلها.

إن السياسة الأموية خلال عقدين من الزمن ولّدت قناعة لدى أهل المدينة بإصرار الأمويين على إذلالهم وتجويعهم وسلبهم كل امتیاز مادي و معنوي ، فكان استخلاف يزيد بالطريقة التي ذكرنا، ورفض أهل المدينة، والأحداث التي تلت تسلمه السلطة والتي افتتحها بقتل ذرية رسول الله وسبي نساء أهل البيت ، بالإضافة إلى ما كان عليه من التدنّي الأخلاقي والتحلل عن كل القيم والأعراف ، كل ذلك شكل أرضية للمواجهة التي سوف يجدها بنو أُمية فرصة ينتهزونها لتحقيق هدف كانوا يترقبون تحقيقه منذ زمن طويل، وهو اقتحام المدينة والفتك بأهلها، ومعاقبتهم، على كل صغيرة وكبيرة ( اقترفوها ) وهم يخوضون الصراع المرير إلى جانب النبي(صلی الله علیه و اله) حتى انتهى بفتح مكة وكسر شوكة قريش وهدم أمجادها(2).

ص: 75


1- آل عكلة، طاهر - الأنصار : 470 طبعة دار الهادي - بيروت، الطبعة الأُولى، (1421ه - 2001م)
2- المصدر نفسه : 471

وإذا كان الأب معاوية قد تذرع في كل ما جرّه من ويلات على الإسلام وأهله ب( قيص عثمان ) فان الابن يزيد قد اتخذ أيضاً من قميص عثمان ذريعة لارتكاب أبشع الجرائم بحق أهل السابقة في الإسلام من المهاجرين والأنصار .

يذكر بن أعثم في الفتوح - وهو يصف الهيئة الأُولى التي فاجأ يزيد بها الناس بعد تسلمه الخلافة -: «فخرج يزيد وعلى رأسه عمامة معاوية ، ومعه سيفه وخاتمه ، وقد لبس قميص عثمان الذي قتل عثمان فيه ، ملطخاً بالدم حتى صعد المنبر»(1).

ولعلّ في الكلمات التي قالها قائد واقعة الحرة ما يسلط الأضواء على خلفية هذه الواقعة ودوافعها الحقيقية.

فهذا مسلم بن عقبة المريّ قائد وقعة الحرة الذي كان معاوية قد أوصى یزید به حيث قال له : إن رابك منهم - أهل المدينة - ريب ، أو انتقض عليك منهم أحد، فعليك بأعور بني مرّة مسلم بن عقبة(2) عندها دعاه يزيد وقال له : «سر إلى المدينة بهذه الجيوش» إلّا أنه وجده مريضاً ، فشك يزيد في إمكانية مسلم بن عقبة مع مرضه في قيادة هذا الجيش الكثيف الذي ينص المؤرخون على أن عدده کان اثني عشر ألف فارس أو حسب رواية ابن أعثم : عشرين ألف فارس وسبعة آلاف راجل»(3).

فقال له يزيد : وإن شئت أعفيتك ، فإني أراك مدنفاً منهوكاً.

فقال : نشدتك الله ، وأن لا تحرمني أجراً ساقه الله إليّ، أو تبعث غيري، فإني رأيت في النوم شجرة غرقد تصيح أغصانها : یالثارات عثمان ، فأقبلت إليها،

ص: 76


1- الفتوح لابن أعثم : 2/ 352
2- المصدر نفسه
3- المصدر نفسه

وجعلت الشجرة تقول : إلىّ یا مسلم بن عقبة، فأتيت فأخذتها، فعبّرت ذلك أن أكون أنا القائم بأمر عثمان، ووالله ما صنعوا الذي صنعوا إلّا أن الله أراد بهم الهلاك.

فقال يزيد : فسر على بركة الله ، فأنت صاحبهم(1).

فواقعة الحرّة في فصولها الدامية لم تكن وليدة تفاعلات سياسية آنية، ولم يكن سببها الأول والأخير نقض البيعة ليزيد ، وإنما لهذه الحادثة جذورها الكامنة ، وأسبابها الحقيقية ، وقد يكون فسخ البيعة بعد عودة الوفد المدني من الشام - کما سيأتي - هو العامل الذي حرك تلك الأسباب الحقيقية ، ودفع بالأُمور إلى المواجهة، حيث أخذت هذه المواجهة طابعها الصدامي والأكثر دموية، ووظفها الأمويون كذريعة للبطش بالمدينة وأهلها.

أما أهل المدينة فيمكن إجمال الأسباب الحقيقية لثورتهم بما يلي :

أولاً : سياسة التجويع والحرمان الاقتصادي الذي اتبعه معاوية ومن بعده یزید ، والتي كانت وراء الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالمدينة ودفعت بها إلى حدود الضيق والفقر.

ثانياً : سياسة القهر السياسي التي عانت منه الحجاز عامة، والمدينة ومكة خاصة حيث حظر على زعمائها تجاوز الاهتمامات الاجتماعية والثقافية بعد انتقال

الخلافة إلى الشام.

ثالثاً : رفض الأنصار - وهم غالبية أهل المدينة - الحكم الأموي ، والأُطروحة السياسية الأموية في نظام الحكم والإدارة، وقد جاءت وفاة معاوية فرصة لإظهار هذا الرفض إلى العلن.

ص: 77


1- ابن قتيبة - الإمامة والسياسة : 231، تحقیق علي شيري ، طبعة افست الشريف الرضي - قم

رابعاً : فشل يزيد في مواجهة الأزمات الخطيرة التي واجهت حكمه، وانغماسه بالترف والمجون والعبث.

خامساً : استخدام اسلوب العنف لقمع حركة الرموز الإسلامية داخل المجتمع الإسلامي، لاثبات الحضور السلطوي القوي، وإرهاب المعارضين للسلطة

الحاكمة.

سادساً : ثورة الإمام الحسين (علیه السلام)التي كانت السباقة إلى رفض الأمر الواقع، والتي انتهت بتلك المأساة والفاجعة الكبرى، التي أججت روح الثورة لدى الثائرين.

يقول الشيخ شمس الدين : «وكانت ثورة المدينة رد فعل آخر لمقتل الحسين ... وما نشك في أن شعلة هذه الثورة كانت متأججة، ولكنها كانت تبحث عن مبرر للإنفجار، والذي أجج شعلة الثورة أسباب منها مقتل الحسين، ولعله كان أهمها »(1).

فمجموعة هذه الأسباب الموضوعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية هي التي شكلت خلفيات واقعة الحرة والتي أدّت إلى تفجر ثورة المدينة وحصول هذه الواقعة.

تفاصيل الواقعة :

تكشف لنا قصة وقائع الحرة عن الحقد الدفين الذي كان يعشعش في صدور الأمويين إزاء أنصار رسول الله ومدينته المحببة إلى نفسه.

ويذكر المؤرخون قصة الواقعة بشكل تفصيلي، ننقل فيما يلي شطراً منها :

ص: 78


1- ثورة الحسين : 204، وانظر هامش الإمامة والسياسة : 229 - 230

في محاولة من يزيد لإسكات أصوات المعارضين له من أهل المدينة ، فقد أرسل إلى واليه على المدينة ، عثمان بن محمد بن أبي سفيان ، وطلب منه أن يوجه إليه وفداً من أهل المدينة، فأوفد إليه جماعة من وجوه أهل المدينة من أبناء الصحابة ، منهم : عبد الله بن أبي عمرو بن حفص ، والمنذر بن الزبير بن العوام، وعبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة، ورجالاً آخرين من أشراف أهل المدينة(1).

ومن الطبيعي أن يرحب يزيد بوفد المدينة ويجيزهم، رغبة منه في استمالتهم ومحاولة في ترغيبهم، فإذا لم يجد في ذلك نفعاً فالبديل هو الفتك والتنكيل .

يقول الطبري : «فأكرمهم، وأحسن إليهم، وأعظم جوائزهم، ثم انصرفوا من عنده وقدموا المدينة ... فأظهروا شتم یزید، وقالوا : إنا قدمنا من عند رجل ليس له دین ، يشرب الخمر، ويعزف بالطنابير، ويضرب عنده القيان، ويلعب بالكلاب...»(2).

فخلعوا طاعة يزيد وبيعته ، وخرجوا عليه وطردوا عامله في المدينة وكان عبيد الله بن حنظلة الغسيل يقول : والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نُرمی بالحجارة من السماء ، رجل ينكح الأُمهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر، ويدع الصلاة ، ويقتل أولاد النبيين(3) .

وهكذا قررت المدينة أن تواجه التعسف الأموي، والتحلل الخلقي الذي جسده يزيد بأبشع صوره .

ص: 79


1- أنساب الأشراف: 5/ 337
2- الطبري، محمد بن جریر - تاريخ الأُمم والملوك المعروف ب ( تاريخ الطبري ): 5/ 480، تحقیق ابو الفضل إبراهيم
3- سبط ابن الجوزي - تذكرة الخواص: 259، ط. مؤسسة أهل البيت - بیروت، (1401ه)
* ردود فعل يزيد :

كانت نتائج زيارة الوفد المدني إلى الشام مخيبة لآمال يزيد، وأعطت نتائج عكسية لما كان يريده، فقد كثر الكلام و تفشي السخط على يزيد، وأكثره في مدينة الرسول(صلی الله علیه و اله).

ولهذا حاول يزيد أن يتدارك الموقف من خلال انتداب، النعمان بن بشير الأنصاري - الذي أظهر ولاءه لبني أُمية دون جميع الأنصار - وتكليفه مهمة منع أهل المدينة من النقمة على يزيد وخلعه.

يقول البلاذري : «... فسار النعمان إلى قومه، فاستنهاهم من أنفسهم، وحذرهم جنود أهل الشام، ورغبهم في بيعة يزيد»(1).

إلّا أن مهمة النعمان بن بشير باءت بالفشل، وجُوبِه برد عنيف وحاسم من أهل المدينة ، وقد أجابه عبد الله بن مطيع العدوي بقوله : « ما يحملك يا نعمان على إفساد جماعتنا، وتفريق ما أصلح الله من أمرنا»(2).

ثم بعث يزيد إلى أهل المدينة كتاباً ، يحمل الوعيد والتهديد والإهانة ، وتكشف عن نواياه المبيتة اتجاه مدينة الرسول وأهلها، وتتعدىٰ محاولة إخماد نقمة معارضيه ، ومما جاء في الرسالة : أما بعد، فإني قد نفستكم حتى أخلفتكم، ورفعتكم حتى أخرقتكم، ورفعتكم على رأسي ثم وضعتكم ، وأيم الله لئن آثرت أن أضعكم تحت قدمي لأطأنكم وطأة أقل منها عددكم وأترككم أحادیث تتناسخ كأحاديث عاد و ثمود، وأيم الله لا يأتيكم من أولى من عقوبتي ، فلا أفلح من ندم(3).

ص: 80


1- البلاذري - أنساب الأشراف: 5/ 339
2- الكامل في التاريخ : 2 /589، تحقیق على شيري، ط. دار احیاء التراث العربي، الطبعة الأُولى، (1408 -1989م)
3- الإمامة والسياسة : 1/ 229، وقارن مع : العقد الفرید: 288/4 ، وصبح الأعشى: 3/ 450
وصایا یزید لمسلم بن عقبة قائد واقعة الحرة :

تسارعت الأحداث، وتصاعدت المعارضة في المدينة حتى بلغت ذروتها حيث أقدمت على خلع یزید بن معاوية ، وإخراج الأمويين من المدينة ، ومبايعة عبد الله بن حنظلة وإخراج والي الأمويين آنذاك ، عثمان بن محمد بن أبي سفيان.

وقد وجد يزيد في هذه القضية ضالته المنشودة، والحلم الأموي الذي كانوا ينتظرونه زمناً طويلاً ... فيزيد لا يريد إخضاع المدينة وإعادتها إلى السيطرة الأموية فقط، وإنما يستهدف تدميرها واستباحتها وإبادة أهلها(1).

ولهذا جهز یزید جیشاً جراراً من أهل الشام بقيادة مسلم بن عقبة وأوصى قائد جيشه المتوجه إلى أطهر بلد وأحب المدن إلى قلب رسول الله بوصايا يذكرها المؤرخون في مدوناتهم التاريخية فيما يلي طرفاً منها:

في الأخبار الطوال : ثم شیعهم حتى بلغ ماءً يقال له وبرة وهي أقرب مياه الشام إلى الحجاز ، فلما ودّعهم قال : يا مسلم لا تردّن أهل الشام عن شيء يريدونه بعدوهم(2).

وفي تاريخ الطبري : ادع القوم ثلاثاً، فإن هم أجابوك وإلّا فقاتلتهم ، فإذا أُظهِرتَ عليهم فأجِب۟ها ثلاثاً ، فما فيها من مالٍ أو رِقَةٍ أو سلاح أو طعام فهو للجند(3).

وفي وفاء الوفا : فمن عاقك عنها أو نصب لك حرباً فالسيف السيف ، لا تبق فيهم وانهبها ثلاثاً، وأجهز على جريحهم، واقتل مدبرهم ، وإياك أن تبقي عليهم(4).

ص: 81


1- آل علكة، طاهر - الأنصار : 479
2- الدينوري - الأخبار الطوال : 264
3- الطبري : 5/ 484، حوادث سنة ثلاث وستين ، والرقة : الدراهم
4- السمهودي - وفاء الوفاء: 131/1

وقد أظهر یزید مکنونات حقده، وما يضمره تجاه المدينة وأهلها، عندما قال لعبد الله بن جعفر الذي طلب منه أن يخفف من غضبه ووعيده ، وان في المدينة بعض الصحابة والتابعين من الأنصار والمهاجرين وأبنائهم، فكان جوابه : دعني أشتفي(1).

صور من الواقعة :

الانقلاب الذي حصل في مدينة الرسول (صلی الله علیه و اله) ترك فراغاً سياسياً وإدارياً مما دعى إلى تولّي عبد الله بن حنظلة إدارة المدينة وقيادة أهلها، بعد أن تحررت من ربقة الأمويين الذين أُخرجوا من المدينة بعد أن حلفوا عند منبر رسول الله (صلی الله علیه و اله)أن لا يبغوا لأهل المدينة غائلة ، ولا يدلّوا لهم على عورة(2).

إلّا أن المعروف عن الأمويين هو عدم التزام بعهد أو ميثاق مع أحد طيلة فترة حكمهم ، وهكذا حصل، فقد دفع مروان بابنه عبد الملك ليشرح لمسلم بن عقبة كل

ظروف المدينة ومواطن قوتها وضعفها، وعلى أساس المعلومات التي تزود بها مسلم من الأمويين الذين خرجوا من المدينة، تحرك باتجاه حرة واقم، وحاصر مدينة رسول الله ، وأمهل أهلها ثلاثة أيام ... فلما مضت الثلاثة، زحف الجيش الأموي ليقتحم المدينة، إلّا أنه عجز عن اقتحامها لثبات المدافعين عنها، ووجود الخندق الذي حفره أهل المدينة وتخندقوا به.

والذي يستفاد من رواية اليعقوبي في تاريخه أن القتال قد نشب بين الفريقين قبل اقتحام المدينة ، يقول : فقاتله - يعني مسلم - أهل المدينة قتالاً شديداً وخندقوا على المدينة ، فرام ناحية من نواحي الخندق، فتعذر ذلك عليه ،

ص: 82


1- سير أعلام النبلاء : 3/ 322
2- انظر : البداية والنهاية : 240/8 ، والكامل في التاريخ: 2/ 595

فخدع مروان بعضهم، فدخل ومعه مائة فارس ، فاتبعه الخيل حتى دخلت المدينة ، فلم يبق بها كثير أحد حتى قتل(1).

وفي رواية الواقدي ، كما نقل عنه السمهودي في وفاء الوفا : وجلس مسلم بناحية واقم، فرأى أمراً هائلاً ، فاستعان بمروان .. فخرج مروان حتى جاء بني حارثة ، فكلم رجلاً منهم ورغّبه الصَنيعَة، وقال تفتح لنا طريقاً ، فأكتب بذلك إلى يزيد فيصل أرحامك ، ففتح لهم طريقاً من قبلهم(2) .

وفي رواية خليفة بن الخياط : أن الخيل دخلت المدينة من قبل بني حارثة ، يقول : فشدّ الناس في قتالهم، فسمعوا التكبير خلفهم في جوف المدينة، وأقحموا عليهم بنو حارثة أهل الشام(3).

وحين اقتحمت طلائع الجيش الأموي مدينة رسول الله أغاروا على المنازل فأوسعوها نهباً وقتلاً وانتهاكاً مما جعل الكثير من المقاتلين يتخلون عن مواقعهم ويعودون إلى داخل المدينة خوفاً على أهلها(4).

استباحة المدينة :

المتتبع لما سجله المؤرخون بإسهاب حول ما جرى في واقعة الحرة يجد من الأحداث والوقائع ما يتجاوز إدراك العقل البشري، وعلى رأس هذه الحوادث والوقائع ، قضية استباحة المدينة، التي أكد عليها يزيد وهو يقدم الارشادات لقائد جنده مسلم بن عقبة.

ص: 83


1- تاريخ اليعقوبي : 2/ 165
2- وفاء الوفا : 1/ 129
3- تاریخ خليفة : 182
4- الأنصار : 485

ومعنى استباحة المدينة - كما هو واضح من معناها اللغوي - إنه يأمر الجيش بعدم رعاية أية ضابطة مهما كان نوعها في التعامل مع سكان المدينة ، فلينبذوا الدين والأخلاق والعرف وراء ظهورهم(1).

وأشار ابن عامر الشبراوي في الإتحاف إلى مقطع من وصية يزيد لمسلم جاء فيها:

« إذا ظفرت بالمدينة فخلها للجيش ثلاثة أيام، يسفكون الدماء، ويأخذون الأموال، ويفسقون بالنساء »(2).

وهكذا حصل فقد نفذت وصية يزيد، وأُبيحت المدينة للجند ثلاثة أيام ارتكبت فيها الكثير من الجرائم الكبيرة بأبشع صورها، ومما لا يمكن حصره، ولا يستطاع تحمله.

وفيما يلي بعض الصور والمفردات کما سجلتها أقلام المؤرخين .

أولاً : الإسراف في سفك الدماء والقتل.

لقد أسرف مسلم بن عقبة المرّي قائد يزيد في حملة الحرة، في القتل والتنكيل وهتك الأعراض ونهب الأموال ، بشكل لا يمكن أن يصدقه العقل لولا ما تواتر نقله من المؤرخين ، ولهذا نجد المؤرخين يستبدلون اسمه فيطلقون عليه اسم ( مسرف) بدل مسلم، وذلك لإسرافه في الجريمة.

يقول ابن كثير : ثم أباح مسلم بن عقبة، الذي يقول فيه السلف مسرف بن عقبة - قبحه الله من شيخ سوء ما أجهله - المدينة ثلاثة أيام كما أمره یزید ، لا جزاه الله خيراً ، وقتل خلقاً من أشرافها وقرّائها وانتهب أموالاً كثيرة منها، ووقع شرٌّ عظيم وفساد عريض على ما ذكره غير واحد(3).

ص: 84


1- المرجع نفسه : 487
2- الاتحاف بحب السادة الأشراف : 65 - 66
3- البداية والنهاية : 8/ 241 وما بعدها، وقد أشرنا إلى ذلك سابقاً

والذي دفع مسلم بن عقبة إلى التمادي في القتل وصية يزيد له من جهة، وحقده الدفين على أهل المدينة والأنصار من جهة ثانية، بالاضافة إلى الجيش الشامي الذي سدّ عليه معاوية والإعلام الأموي المكثف كل منافذ المعرفة والتواصل مع العالم الإسلامي طيلة أربعين عاماً ، « فكان أهل الشام يقاتلون أهل المدينة ، ويقولون یا یهود»(1).

* عدد من قُتل في واقعة الحرة :

اختلف المؤرخون في إحصاء عدد من قتل في هذه الواقعة ، يقول ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : فبلغ عدّة قتلى الحرّة يومئذ من قریش والأنصار والمهاجرين ووجوه الناس ، ألفاً وسبعمائة ، وسائرهم من الناس عشرة آلاف ، سوى النساء والصبیان(2).

وقال خليفة بن الخياط في تاريخه : « فجميع من أُصيب من الأنصار مائة رجل وثلاثة وسبعون رجلاً، وجميع من أُصيب من قريش والأنصار ثلاثمائة رجل وستة رجال »(3).

وهذه الرواية قد تشير إلى من قتل من الأعيان والأشراف فقط.

وقد اعتمدت أكثر المصادر على تخمين الزهري حين سُئل عن عدد قتلى الحرة فقال : أما من وجوه الناس فأكثر من سبعمائة من قریش والأنصار ووجوه

ص: 85


1- أنساب الأشراف: 5/ 345
2- الإمامة والسياسة : 237 - 238
3- تاریخ خليفة ابن الخياط : 250 وما بعدها. وانظر ما ذكر في عدد من قتل في واقعة الحرة، ابن الأثير : 2/ 600، وسير أعلام النبلاء للذهبي : 3/ 220، والعقد الفريد : 290/4 ، ومروج الذهب : 3/ 85، والنجوم الزاهرة: 161/1 ، والفتوح : 295/5

الموالي، ثم عدد من قتل حتى ما كنت أرى أنه بقي أحد حتى قتل يومئذ ، ثم قال الزهري : ولقد قتل ممن لا يعرف من الموالي والعبيد والصبيان والنساء أكثر من عشرة آلاف(1).

وقد أوجز مسلم بن عقبة طريقته في القتل والتنكيل في رسالة بعثها إلى يزيد بعد أن فرغ من قتال أهل المدينة ونهبها جاء فيها : ...... فما صليت الظهر إلّا في مسجدهم، بعد القتل الذريع، والانتهاب العظيم ، وأوقعنا بهم السيوف ، وقتلنا من أشرف لنا منهم، وأتبعنا مدبرهم وأجهزنا على جريحهم، وانتهبناهم ثلاثاً كما قال أمير المؤمنين ، فالحمد الله الذي شفي صدري من قتل أهل الخلاف القديم! والنفاق العظيم ! فطالما عتوا، وقديماً ما طغوا..(2).

* بعض صور القتل والتنكيل :

كان عبد الله بن حنظلة الغسيل من أشد المدافعين عن حرمة مدينة رسول الله ، وخاض المعركة بكل شجاعة واقدام، وقاتل قتالاً مشهوداً يوم الحرة، وروى ابن عساكر عن غير واحد من المحدثين جانباً من شجاعة ابن حنظلة واقدامه، فعندما دخلت المدينة من النواحي كلها ، لبس عبد الله بن حنظلة يومئذ در عین و قاتل ، فما ترى إلّا راية عبد الله بن حنظلة يمشي بها على عصابة من أصحابه ، فقال لمولى له : احم ظهري حتى أُصلّي الظهر ، فصلّى الظهر أربعاً متمكّناً ، فلما قضى صلاته قال له مولاه : والله يا أبا عبد الرحمن ما بقي أحد فعلام تقيم ؟ فقال : ويحك إنما خرجنا على أن نموت (3).

ص: 86


1- وفاء الوفا : 1/ 132
2- الإمامة والسياسة : 240 وما بعدها
3- ابن عساکر - تاریخ دمشق : 27 / 430

ولما رأى ابن الغسيل انهزام الناس، طرح الدرع وما عليه من سلاح وجعل يقاتلهم وهو حاسر حتى استشهد رضوان الله عليه.

وبعد انتهاء المعركة جعل مسلم بن عقبة يطوف على فرس له ومعه مروان بن الحكم على القتلى فمر على عبد الله بن حنظلة، وهو مادّ إصبعه السبابة، فقال مروان : أما والله لئن نصبتها ميتاً فطالما نصبتها حياً ، وفي رواية أُخرى قال مروان : لئن أشرت بها ميتاً ، لطالما دعوت و تضرعت بها إلى الله تعالى ، فقال رجل من أهل الشام : إن كان هو كما تقول فما دعوتنا إلّا لقتل أهل الجنة ، فقال مروان - مستدركاً ما قاله - خالفوا ونكثوا(1).

وممن قُتل مع عبد الله أخوه لأُمه محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وكان من العبّاد أيضاً، فمرّ به مروان وقال : رحمك الله ! فرب سارية رأيتك تطيل القيام في الصلاة إلى جنبها(2). وفي رواية ابن قتيبة ان مروان خاطب ابن حزم وهو منكب على وجهه واضعاً جبهته بالأرض ، فقال : أما والله لئن كنت على وجهك في الممات لطالما افترشته حياً ساجداً لله . فقال مسلم : والله ما أرى هؤلاء إلّا من أهل الجنة(3).

ومرّ مسلم ومعه مروان بن الحكم على عبد الله بن زید و بين عينيه أثر السجود، فلما نظر إليه مروان عرفه، وكره أن يعرّفه لمسلم فيحزّ رأسه ، فقال له مسلم من هذا ؟ فقال : بعض هذه الموالي وجاوزوه، فقال له مسلم : كلّا، وَبيت الله

ص: 87


1- السمهودي - وفاء الوفا: 1/ 134، وتاريخ دمشق : 27 / 423، والإمامة والسياسة : 235/1
2- الطبري، محمد بن جریر - تاريخ الطبري : 3/ 357
3- الإمامة والسياسة : 1/ 235

لقد نكبت عنه لشيء ، فقال له مروان : هذا صاحب رسول الله عبد الله بن زید . فقال - مسلم - ذاك أخزى ناكث بيعته ، حزّوا رأسه(1).

فبنو أُمية بمن فيهم مسلم بن عقبة ، ومروان بن الحكم يعرفون جيداً من قتلوا، وانهم من الأبرار الأخيار، والعبّاد والأطهار ، وانهم من أهل الجنة، ومع ذلك كله يسرفون في قتلهم وينكلون بهم بعد موتهم بحزّ رؤوسهم.

* نهب الأموال :

لقد أسرف جند مسرف بن عقبة في نهب الأموال كما أسرفوا في القتل ، وقد نقل البلاذري قول عوان بن الحكم في وصفه الكيفية التي تم بها نهب أموال المدينة من قبل الجيش الأموي ، قال عوانه : ودخلوا من قبل بني حارثة إلى المدينة، فلم يبق دار إلّا انتهبت(2).

وقد نقل المؤرخون صوراً وألواناً من عمليات السلب والنهب ننقل طرفاً منها:

روی ابن قتيبة في الإمامة والسياسة قال : لزم أبو سعيد الخدري بيته ، فدخل عليه نفر من أهل الشام فقالوا : أيها الشيخ من أنت ؟ فقال : أنا أبو سعيد الخدري صاحب رسول الله(صلی الله علیه و اله) . فقالوا : ما زلنا نسمع عنك ، فبحظك أخذت في ترك قتالنا، وكفك عنا، ولزوم بيتك، ولكن أخرج إلينا ما عندك ، قال : والله ما عندي مال، فنتفوا لحيته ، وضربوه ضربات، ثم أخذوا كل ما وجدوه في بيته حتى الصواع، وحتى زوج الحمام (3).

ص: 88


1- الإمامة والسياسة : 1/ 235
2- أنساب الأشراف: 5/ 345
3- الإمامة والسياسة : 1/ 236

وقال أبو معشر : دخل رجل من أهل الشام على امرأة نفساء من نساء الأنصار ومعها صبيّ لها، فقال لها : هل من مال ؟ قالت : لا والله ما تركوا لي شيئاً ، فقال : والله لتخرجنّ إليّ شيئاً أو لأقتلنك وصبيك هذا ! فقالت له : ويحك انه ولد ابن أبي كبشة الأنصاري صاحب رسول الله (صلی الله علیه و اله)ولقد بايعت رسول الله(صلی الله علیه و اله) معه يوم بيعة الشجرة، على أن لا أزني، ولا أسرق ، ولا أقتل ولدي ، ولا آتي ببهتان أفتريه ، فما أتيت شيئاً فاتق الله ، ثم قالت لابنها : يا بني ، والله لو كان عندي شيء لافتديتك به .

قال : فأخذ برجل الصبي، والثدي في فمه ، فجذبه من حجرها، فضرب به الحائط فانتثر دماغه في الأرض، قال : فلم يخرج من البيت حتى اسودّ نصف وجهه ، وصار مثلاً(1).

وروي أن أوّل دور انتهبت والحرب قائمة دور بني عبد الأشهل، فما تركوا في المنازل من أثاث ولا حلىّ ولا فراش ، حتى الحمام والدجاج كانوا يذبحونها(2).

ومن غریب ما يذكر في عمليات النهب ما رواه ابن الجوزي في المنتظم في حكاية لرجلين كانا قد تفضل عليهما أهل المدينة، وقد دخلاها مع الجيش الأموي ، احدى الحكايتين عن أبي بكر بن إبراهيم ابن النعيم بن تمام قال : مرّ ركب من أهل اليمن إلى الشام يريدونه ومعهم رجل مريض فأرادوا دفنه وهو حي، ومنعهم أبي ومضوا وخلفوه ، فلم يلبث أن برئ وصح وجهزه أبي وحمله، وكان ممن قدم مع مسلم فرأته جارية لنا فعرفته فقالت : عمرو ، قال : نعم وعرفها ، قال : ما فعل أبو اسحاق ؟ قالت : قتل، فقال لأصحابه هؤلاء أيسر أهل بیت بالمدينة ، فانتهبوا منزلهم، فكان يضرب به المثل في المدينة فيقال : «أنت أقل شكراً من عمرو».

ص: 89


1- المصدر نفسه : 1/ 238
2- المصدر نفسه : 1/ 235

وأما الحكاية الثانية فهي عن رجل انقذه أهل المدينة ، ولكنه عاد إلى دار من أحسن إليه وهو قرشي، وعندما عاد إلى بيت من أحسن إليه قال له : ما جئت إلّا لادفع عنك دمك ولكني آخذ مالك، فإن الأمير قد أمرنا بالنهب، وسيأخذ ما عندك وأنا أحق به(1).

ويروي ابن کثیر : أن سعدی بنت عوف المريّة أرسلت إلى مسلم تقول : أنا بنت عمك فأمر أصحابك ألا يتعرضوا لإبلنا في مكان كذا وكذا، فقال لأصحابه : لا تبدأوا إلّا بأخذ إبلها أولاً(2).

وخلاصة الأمر، كان نهم الجيش الأموي الشامي في السلب والنهب شديداً ، فلم يبق ولم يذر من أموال أهل المدينة شيئاً(3) .

* انتهاك الأعراض :

سجل المؤرخون ألواناً كثيرة من ألوان الجريمة المؤلمة التي تدل بمجملها على أن مرتكبيها قد تحللوا عن كل القيم الدينية والاجتماعية والإنسانية، وما ترفضه فطرة الإنسان المتوحش فضلاً عن الإنسان السوي أو المسلم.

ومن أشد الجرائم أًلماً - وكلها مؤلمة - هي جرائم الاغتصاب وانتهاك الأعراض، والتي جرت وقائعها في بيوت الأنصار التي عرفت على مرّ التاريخ بالعفة والحشمة والإلتزام، تلك البيوت التي آوت رسول الله والمهاجرين معه في سنيّ دعوة الإسلام وفي فترتها المدنية.

ولو اعتمدنا روايات المؤرخين التي تذكر لنا تلك الأفعال الشائنة بكل تفاصيلها المستقبحة فإننا نواجه أُموراً خارجة عن حد الوصف والبيان.

ص: 90


1- ابن الجوزي ، المنتظم : 4/ 177 وما بعدها
2- البداية والنهاية : 177/8
3- آل علكة - الأنصار : 491

يقول ابن كثير في البداية والنهاية وهو يصف ما وقع من مآسي بايجاز : وقد وقع في هذه الثلاثة أيام من المفاسد العظيمة في المدينة النبوية ما لا يحد ولا يوصف، مما لا يعلمه إلّا الله عزّ وجل(1).

فيما أورد الشبراوي رواية استباحة المدينة بنحو آخر فقال : وافتض فيها نحو ألف بكر، وحمل فيها من النساء اللاتي لا أزواج لهن نحو من ألف امرأة(2).

ويروي ابن الجوزي في المنتظم عن المدائني عن أبي قرة قال : قال هشام بن حسام : ولدت ألف امرأة بعد الحرة من غير زوج(3).

* التنكيل بالأسرى :

إختار قائد الجيش الأموي في واقعة الحرة مسلم بن عقبة المرّي أحد القصور التي شيدها الأمويون في ضواحي المدينة فجعله سجناً لأسرى أنصار رسول الله ونسائهم وأطفالهم، والقصر لعبد الله بن عامر احدى الشخصيات الأموية المعروفة، وكان موقع القصر بعرصة البقل.

نقل السمهودي عن الواقدي قوله : ولما قتل أهل الحرة وعسكر مسرف بالجرف، أمر بالعسكر فحول إلى عرصة البقل، وأمر بالأسرى فحبسوا هناك ، وقال ابن أبي عوف : إنه بعد أن نهب المدينة خرج إلى قصر ابن عامر وقتل من قتل(4) .

وكما أباح مسلم المدينة ثلاثاً ، فإنه منع الأسرى بما فيهم الشيوخ والنساء والأطفال ثلاثة أيام من الطعام روی ابن الجوزي : وأسر مسلم أسراء ، فحبسهم ثلاثة أيام لم يطعموا(5).

ص: 91


1- البداية والنهاية : 178/8
2- الاتحاف بحب السادة الأشراف: 66
3- المنتظم : 235/4
4- وفاء الوفا : 1051/3
5- آل علكة - الأنصار : 493، وانظر المنتظم : 4/ 176

وروى ابن كثير والسمهودي فيما ذكرا من جرائم مسلم الشيء الكثير ومن غريب ما رویا : إن امرأة لها ولد أسير فجاءت تطلب له العفو فقالت : أنا مولاتك وابني في الأسرى ، فقال : عجّلوا لها ، فضربت عنقه ، وقال : اعطوها رأسه، أما ترضين أن لا يقتل حتى تتكلمي في ابنك(1) وعبارة السمهودي : أما ترضين ألا تقتلي حتى تكلّمي في ابنك.

* البيعة ليزيد وشروطها وضحاياها :

من الأُمور الغريبة والعجيبة في واقعة الحرة - وكل شيء فيها يدعو للعجب - هي تلك الطريقة القاسية التي تعامل بها مسلم من أسرى المدينة ، و تلك الشروط التي عرضها في صيغة البيعة ليزيد على خيرة المسلمين مع أعيان الصحابة مهاجرين كانوا أم أنصاراً .

لقد ابتدع مسلم أُسلوباً جديداً للبيعة لم تعرفه أبناء الجزيرة العربية في جاهليتها ولا في إسلامها، ثم بدأ يعرض كل من يؤتى به على السيف فيا لو تردد للحظة واحدة في قبول صيغة البيعة، أو استفهم عنها، بل شمل قرار الإعدام الذين قبلوها مع قليل من التردد(2).

وفيما يلي بعض ما سجله المؤرخون حول هذا المقطع من وقائع الحرة المؤلمة :

روی ابن قتيبة : ثم أمر مسلم بالأسرى، فغلوا بالحديد، ثم دعا إلى بيعة یزید ، فكان أوّل من بايع مروان بن الحكم، ثم أكابر بني أُمية، حتى أتى على آخرهم(3).

ص: 92


1- البداية والنهاية : 8/ 177، ووفاء الوفا : 1/ 131
2- آل علكه - الأنصار : 494 بتصرف
3- الإمامة والسياسة : 1/ 236

وفي وفاء الوفا : قال المجد : ثم أحضر الأعيان لمبايعة يزيد ، ولم يرض إلّا أن يبايعوه على أنهم عبيد يزيد، فمن تلكأ أمر بضرب عنقه(1).

وذكر اليعقوبي : أن مسلم طالب البيعة من الأعيان على أنهم عبيد (أقنان) والقن الذي ملك هو وأبوه، فكان الرجل من قريش يؤتى به ، فيقال : بايع أنك عبد قن ليزيد، فيقول لا، فيضرب عنقه(2).

وكان مسلم يخاطب الأسرى : تبايعون على أنكم خول ليزيد، مما أفاء الله عليه بأسياف المسلمين ، إن شاء وهب، وإن شاء اعتق، وإن شاء استرق(3).

وكان مسلم يتعامل مع الأسرى من صحابة النبي من المهاجرين والأنصار على إنهم كفار محاربون، ولم يكتف بأخذ البيعة بهذه الكيفية ، وإنما أضاف لها شرطاً آخر، وهو أن يقبلوا البيعة ليزيد على أنهم أعبدٌ قنّ في طاعة الله ومعصيته(4).

وهكذا ذهب ضحية هذه البيعة وشروطها التي ما أنزل الله بها من سلطان خلق كثير من الصحابة والتابعين ، وبايع من بایع منهم على هذه الشروط بعد عمر طويل قضوه في طاعة الله والجهاد في سبيله.

وعندما واجه یزید بن عبد الله بن زمعة ، شروط مسلم بن عقبة بقوله : إنما نحن نفر من المسلمين لنا ما لهم وعلينا ما عليهم، قال له مسلم : والله لا أُقیلك، ولا تشرب بعدها أبداً، فأمر به فضربت عنقه(5) .

ص: 93


1- السمهودی - وفاء الوفا: 1/ 132
2- تاریخ اليعقوبي : 2/ 165
3- الإمامة والسياسة : 2/ 15
4- تاریخ دمشق : 58 / 114، وانظر : الأنصار : 494
5- الإمامة والسياسة : 1/ 237

كذلك فعل مسلم بأبي الجهم بن حذيفة العدوي ، وهو ابن عم عمر بن الخطاب ، فقد روى ابن اعثم في الفتوح : ثم أتي بأبي الجهم بن حذيفة العدوي، فقال له مسلم بن عقبة : من أنت ؟ قال : أنا أبو جهم بن حذيفة العدوي ، قال : وتتکنی علي وتقول : أنا أبوجهم بن حذيفة ، بایع الآن یزید بن معاوية على أنك عبد من عبیده ! قال أبو الجهم : سبحان الله كيف أكون عبداً ليزيد، وأنا رجل من قریش معروف الحسب والنسب ! فقال مسلم : اضربوا عنقه ، فقال : إني أُبايع على ما تأمرني به ، فقال : لا والله لا أقیلك، ثم قدّمه فضرب عنقه(1).

وتكرر الأمر مع عبد الرحمن بن سمرة بن جندب عندما قال : وهو يدعى إلى البيعة على أنه عبد - ما کنت قط إلّا حراً ، فكيف أكون عبداً ليزيد وأنا معه في عبد شمس ، فقال : اضربوا عنقه، فجرّدوه بين يديه فضربوا عنقه(2).

وأُتي بزيد بن وهب بن زمعة ، فقال بايع ، قال : أُبايعك على سنة عمر ، قال : اقتلوه ، قال : أنا أُبايع ، قال : لا والله لا أُقيل عثرتك، فكلمه مروان بن الحكم

- لصهر كان بينهما - فأمر بمروان فوجئت عنقه، ثم قال : بايعوا على أنكم خول ليزيد بن معاوية ، ثم أمر به فقتل(3).

وأما الصحابي معقل بن سنان الأشجعي، فقد استقبله مسلم بن عقبة وقال له : مرحباً بأبي محمد، إني أرى شيخاً قد تعب وعطش، آتوه بشربة عسل وخضوها له بثلج مما حمل معنا، ففعلوا، فلما شربها، قال : سقى الله الأمير من شراب الجنة ، فقال له مسلم : والله لا شربت بعدها إلّا من جنهم حين تسقی

ص: 94


1- الفتوح لابن أعثم : 3/ 182
2- المصدر نفسه : 3/ 183
3- تاریخ الطبري : 3/ 358

من حميمها(1)، فقال معقل : ناشدتك الله و الإسلام، فذكّره مسلم بكلام سمعه منه في یزید بن معاوية، ثم قال له مسلم، وما أشجع والخلافة والخلع ؟ قدماه فضربا عنقه ، فضربت عنقه ، فقال الشاعر :

ألا تَل۟كُمُ الأَن۟صَارُ تبكي سُرَاَتها

وأَشجعُ تَبكي مَع۟قِلَ بنَ سِنَان(2)

ولا نريد أن نسترسل في ذكر من قتل صبراً بين يدي مسلم بن عقبة ، فقد ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب : ان كل هؤلاء ضربت عنق كل واحد منهم صبراً بأمر مسلم بن عقبة ، وانتهى القتلى يومئذ على ثلاثمائة كلهم من أبناء المهاجرين والأنصار، وفيهم جماعة ممن صحب رسول الله(صلی الله علیه و اله)(3).

آثار الواقعة :

وكان لهذه الواقعة المؤلمة أثرها المفجع في نفوس المسلمين وخاصة أهل المدينة ، فقد روى ابن قتيبة عن الأعرج قال : كان الناس لا يلبسون المصبوغ(4) من الثياب قبل الحرة ، فلما قتل الناس بالحرّة استحبوا أن يلبسوها ، وقالوا : لقد مکث النوح في الدور على أهل الحرّة سنة لا يهدأون. وقال عبد الله بن أبي بكر : كان أهل المدينة أعزّ الناس وأهيبهم، حتى كانت الحرّة، فاجترأ الناس عليهم فهانواد(5).

ص: 95


1- وفي رواية ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : 2 /15 : «قال له : أشربت ؟ قال : نعم، قال : والله لا تبولها من مثانتك أبداً، أنت القائل اركب فيلاً أو فيلة وتكون أبا یکسوم ...»
2- أنساب الأشراف: 5/ 347، وانظر : الإمامة والسياسة : 1/ 237 و 2 / 15
3- الاستيعاب : 3/ 1431
4- يريد الثياب المصبوغة بالسواد، وذلك يرمز إلى الحداد على قتلى أهل الحرة
5- الإمامة والسياسة : 1/ 243

وقد قال الشاعر في قتلى مدينة الرسول(صلی الله علیه و اله) و نسبت إلى هواتف السماء ، كما هو المتعارف في أزمنة القهر والجور :

والصَائِمُونَ القَانِتُونَ أُولى العبادةِ والصَلاحِ

المُه۟تَدُونَ المُح۟سِنُونَ السَّابِقونَ إلى الفَلاحِ

فإذا بواقمِ والبَقيعِ مِنَ الجحاجحة الصِبَاحِ

قَتَلوا الخِيار بَني الخِيار ذَوي المَهَابَة والسَمَاح(1)

المبحث الثاني: الغارة على مكة المكرمة وإنتهاك حرمة الكعبة

للحرمين الشريفين ، مكة المكرمة والمدينة المنورة مكانة متميزة ومحلاً رفيعاً في نفوس المسلمين ، فمكة هي مهبط الوحي، وهي بيت الله الحرام الذي جعله الله تعالى للناس مثابة وأمناً، وفي مكة وما حولها مشاعر الله التي يحج إليها الناس من كل فج عميق لأداء مناسكهم في الحج والعمرة، والمدينة المنورة هي كذلك حرم رسول الله (صلی الله علیه و اله)ومأواه ، ومنهما انطلقت رسالة التوحيد ونور الإسلام لتنهي بذلك مرحلة الوثنية والشرك والعبودية لغير الله تعالى.

ولا نريد أن نسترسل كثيراً في ذكر فضل المدينتين و الحرمين الشريفين ، بعد أن تكفلت بذلك عشرات الكتب والمؤلفات(2).

ولأهمية ومكانة هاتين البقعتين ( مكة والمدينة ) فقد سكنها بقية السلف الصالح من الأنصار والمهاجرين والتابعين لهم بإحسان وأبناء المهاجرين والأنصار ،

ص: 96


1- آل عكلة - الأنصار : 497
2- للتوسع انظر : تاریخ مكة للأزرقي ، وتاريخ المدينة لابن شبة ، ووفاء الوفا للسمهودي

وتشكلت من هؤلاء كتلة سياسية معارضة للحكم الأموي، ورغم محاولات بني أُمية الكثيرة فإن الحرمين الشريفين كانا يشكلان قاعدتين للمعارضة السياسية لبني أُمية، ولم يتمكن معاوية والحكام الذين جاءوا من بعده من تليين صلابة المعارضة في الحرمين الشريفين واخضاعها لسلطان بني أُمية بشكل مطلق، أو اسكاتها ازاء طيش بني أُمية ونزقهم وتجاوزاتهم رغم وسائل الاغراء والإرهاب الكثيرة التي استخدمها بنو أُمية لترويضهم ولذلك كان الحرمان الشريفان دائماً مصدر قلق للشام.

ولم يكن من اليسير أن تستسلم مكة المكرمة والمدينة المنورة للشام، ومايجري فيها على أيدي بني أُمية من خروج سافر على أحكام الإسلام وتعلیماته.

وقد حاول معاوية ومن بعده يزيد اخضاع الحرمين الشريفين بالقوة، ووقعت واقعة الحرّة التي أباح فيها یزید بن معاوية المدينة المنورة كما مرّ بنا فصوله المأساوية فيما سبق.

* مسلم بن عقبة يتوجه إلى مكة :

بعد أن أنهى مسلم بن عقبة المرّي مهمته في واقعة الحرة، خلف على المدينة روح بن زنباع، وسار متوجهاً إلى مكة لقمع ابن الزبير، الذي كان قد خرج إليها وتحصن بها رافضاً بيعة یزید بن معاوية ، إلّا أن مسلم بن عقبة مرض في الطريق ولم يمهله مرضه وعاجله الموت بعد ليالي معدودة من واقعة الحرة، وذكر السمهودي عن الطبري قال : مات بهرش بعد الوقعة بثلاثة أيام، ونقل عن القرطبي : أهلكه الله فصرفه عن مكة ، ابتلاه الله بالماء الأصفر في بطنه، فمات بقدید بعد الوقعة بثلاث ليالي(1).

ص: 97


1- وفاء الوفا: 1/ 136

ولم يكتف ابن عقبة بما صنع بالمدينة ، وإنما خشي أن لا يفعل بمكة مثلهافأوصى خليفته الحصين بن نمير السكوني، أن لا يتردد في ضرب الكعبة المشرفة فقال له : فأسرع السير ولا تؤخر ابن الزبير ، وأمره أن ينصب المجانيق على مكة ، وقال : إن تعوذوا بالبيت فارمة(1) ونفذ خليفته وصيته، فنصب المجانيق ورمي البيت بالنار(2)، قال ابن الأثير في الكامل : ورموا البيت بالمجانيق وحرّقوه بالنار ، وأخذوا يرتجزون ويقولون :

خطَّارةٌ مِث۟لَ الفِنَيقِ المُز۟بِدِ

نَر۟مِي بِها أعوادَ هَذا المَس۟جِدِ(3)

وروى الطبري - وهو يتحدث عن حصار الكعبة - قال : حتى إذا مضت ثلاثة أيام من شهر ربيع الأول يوم السبت سنة أربع وستين قذفوا البيت بالمجانيق ، وحرّقوه بالنار، وأخذوا يرتجزون ويقولون :

خطَّارةٌ مِث۟لَ الفِنَيقِ المُز۟بِدِ نَر۟مِي بِها أعوادَ هَذا المَسجِدِ قال هشام : قال أبو عوانة : جعل عمرو بن حوط السدوسي يقول :

کَی۟فَ تَرى۟ صنيع أُم فَر۟وَه تَأخُذُهُم بَي۟نَ الصَّفَا والمَر۟وَه(4)

منتهكين بذلك حرم الله وأقدس مقدسات المسلمين غير مبالين بساكنيها من الصحابة والأنصار والتابعين ، والنساء والأطفال وزوار الحرم من مشارق الأرض ومغاربها حيث لا يخلوا الحرم منهم طيلة أيام السنة.

وقد وقع هذا الانتهاك والحصار لمكة المكرمة في عهد الدولة الأموية مرّتين ، الأُولى في عهد یزید بن معاوية ، والأُخرى في العهد المرواني من فترة الحكم الأموي.

ص: 98


1- المصدر نفسه : 1/ 136 وما بعدها
2- آل عكله - الأنصار : 517
3- الكامل في التاريخ : 3/ 464
4- الطبري : 498/5

وفيما يلي بعض التفاصيل عن الحصار الأول فقط وما جرى فيه من انتهاكات :

الحصين بن نمير وحصار الكعبة :

كان قائد هذا الحصار هو الحصين بن نمير خليفة مسلم بن عقبة المرّي على الجيش الأموي، يقول ابن قتيبة : وسار الحصين حتى جاء مكة، فدعاهم إلى الطاعة، وعبد الله بن الزبير يومئذ بمكة ، فلم يجبه ، فقاتله، فقتل يومئذ المنذر بن الزبير، ورجلان من إخوته ، ومصعب بن عبد الرحمن، والمسور بن مخرمة(1).

ثم يضيف ابن قتيبة : وسمع بهم عبد الله بن الزبير ، فأحكم مراصد مكة ، فجعل عليها المقاتلة، وجاءه جند أهل المدينة، وأقبل ابن نمير حتى نزل على مكة، وأرسل خيلاً فأخذت أسفلها، ونصب عليها العرادات والمجانيق، وفرق على أصحابه عشرة آلاف صخرة، في كل يوم يرمونها بها ... وحاصروهم لعشر ليال بقين من المحرّم ، سنة أربع وستين ، فحاصروهم بقية المحرّم، وصفر، وشهري ربيع، يغدون على القتال ويروحون، حتى جاءهم موت یزید بن معاوية ، فأرسل الحصين بن نمير إلى ابن الزبير، أن ائذن لنا نطوف بالبيت ، وننصرف عنكم، فقد مات صاحبنا، فقال ابن الزبير وهل تركتم من البيت إلّا مدرة؟ وكانت المجانيق قد أصابت ناحية من البيت الشريف فهدمته ، مع الحريق الذي أصابه ، فمنعهم - ابن الزبير - ان يطوفوا بالبيت، فارتحل الحصين، حتى كان بعسفان تفرّقوا، وتبعهم الناس يأخذونهم، حتى إن كانت الراعية في غنمها لتأتي بالرجل منهم مربوطاً ، فيبعث بهم إلى المدينة، وأصاب منهم أهل المدينة حين مرّوا بهم أُناساً كثيراً ، فحبسوا بالمدينة، حتى قدم مصعب ابن الزبير عليهم من عند عبد الله بن الزبير ، فأخرجهم إلى الحرة ، فضرب أعناقهم، وكانوا أربعمائة وأكثر(2).

ص: 99


1- الإمامة والسياسة : 2/ 16
2- الإمامة والسياسة : 16/2 - 17

وهكذا كانت نهاية ذلك الجيش الجرار الذي أرسله یزید بن معاوية بقيادة مسلم بن عقبة المرّي، ثم تولى قيادته الحصين بن نمير، بعد تلك المآسي الفضيعة المؤلمة التي حلت بالأنصار والمهاجرين ، و بالحرمين الشريفين مكة والمدينة ، حيث القتل والتنكيل وانتهاك الحرمات والأعراض.

ولا ينقضي العجب من طلب الحصين بن نمير من ابن الزبير أن يأذن له ومن معه من جنده بالطواف حول بيت الله الحرام، بعد أن حاصرها قرابة أربعة شهر ورماها بالمجنيق ، وهدمها بحيث لم يبق منها إلّا مدرة(1) حسب تعبير ابن الزبير ، بالاضافة إلى الحريق الذي أصابه(2) منتهكاً بذلك حرمة الكعبة وأهلها ، وفي نهاية الأمر، يريد أن يطوف بالكعبة متقرباً إلى الله تعالى.

وليس هذا بأكثر عجباً من قول مسلم بن عقبة حين نزل به الموت : « اللهم إني لم أعمل عملاً قطّ بعد شهادة أن لا إله إلّا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، أحبّ إليّ من قتلي أهل المدينة، ولا أرجى عندي في الآخرة »(3).

ص: 100


1- المدرة : التُرابُ المُلَبَد
2- للتوسع انظر : تاریخ مكة للأزرقي : 196/1 - 200
3- الطبري، محمد بن جریر - تاريخ الطبري : 5/ 497

الفصل الثاني: ولاة بني أُمية وأساليب إذلالهم للأُمة الإسلامية

اشارة

المبحث الأول : زیاد بن أبيه ومجازرُه الدموية (نموذجاً)

المبحث الثاني : سمرة بن جندب ومجازره الدموية ( نموذجاً )

ص: 101

ص: 102

ولاة بني أُمية وأساليب إذلالهم للأُمة الإسلامية

مرّ بنا فيما سبق نماذج من أنواع الاستبداد والمظالم والإذلال والتي ارتكبها معاوية وولده يزيد وقادتهم، والتي تضمنت كافة أنواع التعذيب والقتل والمصادرة والعدوان على الحريات والاعتداء على الأرواح والحرمات، وانتهاك أقدس المقدّسات، مما لا يمكن أن يتصور عاقل أن تصدر هذه الانتهاكات عن منصب إسلامي کالخلافة! وعن خلفاء المسلمين.

ولم تقتصر سياسة الإذلال والكيد والتنكيل بالأُمة الإسلامية على الخلفاء وحدهم، وإنما انتشر منهم إلى الولاة والحكام الذين كانوا ينصبونهم في أنحاء الأمصار الإسلامية ، حتى استشرى الفساد والظلم في كل أنحاء الدولة الإسلامية وأصبح أبناء الأُمة تحت رحمة أُناس يظلمون الرعية ويستبيحون الحرمات ، ويتجاوزون مصالحهم مع أنهم أجراء لهم.

وقد عبّر الشاعر عن هذا الواقع المؤلم حيث يقول :

مُلَّ المُقامُ فَكَم۟ أُعاشِرُ أُمَةً

أَمَرت بغيرِ صَلاحِها أُمراؤها

ظَلَموا الرَعيةَ واستَجازوا کَيدها

وَعَدوا مَصالحها وهُم أُجراؤها

ويقول أيضاً :

ساسَ الأَنامَ شیاطینٌ مُسَلطةٌ

في كُلّٙ مِصرٍ مِنَ الوالينَ شَيطانُ

مَن۟ لَيسَ يحفلُ خُمصَّ الناسِ کُلهُم

إِن باتَ يشربُ خَمراً وهُوَ مِبطانُ

ص: 103

ويضيف فيقول :

یَسوسونَ الأُمورَ بغَيرِ عَقلٍ

فَينفُذُ أمرُهُم ويقالُ : ساسَه۟

فاُفَّ مِنَ الحياةِ، وأُفَّ مِني

وَمِن۟ زمنٍ رياستُهُ خَساسَه۟

ونماذج هؤلاء الولاة طيلة فترة الدولة الأموية من الكثرة بمكان بحيث لا يمكن لهذه الدراسة استيعاب بیان مظالمهم وما جرى على أيديهم من إذلال المسلمين ، ولهذا فسوف نقتصر على ذكر نماذج من هؤلاء الولاة مع ذكر أمثلة تاريخية من مظالمهم واستبدادهم من خلال المبحثين التاليين.

المبحث الأول زیاد بن أبيه ومجازره الدموية « نموذجاً »
اشارة

وهو أحد ولاة بني أمية في العقد الأخير من حياته، ومن دهاة العرب والمعروفين بالقسوة وسفك الدماء، وممن أحكم قواعد حكم بني أُمية على العراقين - البصرة والكوفة - بالارهاب والقتل والتشريد والإذلال.

منشؤه : لم يعرف «لزياد» هذا نسب عربي أو غير عربي يُعرف به ، فقيل تارة :

زياد بن عبيد ، ومنهم من ينسب «عبيد» إلى ثقيف ، والأكثرون يقولون : إن عبيداً كان عبداً رومياً، وإنه بقي إلى أيام زیاد، فابتاعه وأعتقه ، ولخمول أبيه أو عدم معرفته عرف ب «زیاد بن سُميّة» أو «زیاد بن أبيه» أو «زیاد ابن أُمه».

وأُمه، سميّة ، وكانت أَمَةً للحارث بن كَلدة ، طبيب العرب ، وقد قرنها بعبد له رومي يدعى عبيداً فولدت له زیاداً(1).

ص: 104


1- انظر : الهاشمي - أحمد: جواهر الأدب : 2/ 121 ط. السادسة والعشرون - مصر - (1385 ه ۔ 1960م)، وابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة : 16 / 179 وما بعدها

وبعد أن استلحقه معاوية بنسب أبيه «أبي سفيان» صار يسمی زیاد بن أبي سفیان ، بدل من زیاد بن عبيد ، او ابن سمية ، أو ابن أبيه(1).

وقصة استلحاق زیاد بنسب أبي سفيان قصّة طويلة ابتنيت على دعوى واهية اطلقها أبو سفيان في حياته(2)، ووظفها معاوية لصالحه لكسب زیاد إلى جنبه ، وشهد على ذلك أبو مريم السّلولي - وكان خمّاراً في الجاهلية، وتمّ الحاق النسب على أساس هذه الدعوى وتلك الشهادة !! كما سوف يأتينا بیانه .

ولهذا يروىٰ عن الحسن البصري قوله : ثلاث كن في معاوية لو لم تكن فيه إلّا واحدة منهنّ لكانت موبقةً؛ انتزاؤه على هذه الأُمّة بالسّفهاء حتى ابتزّها أمرها، واستلحاقه زیاداً مُراغمةً، لقول رسول الله : « الوَلدُ للفراش، وللعاهر الحَجَر» وقتلهُ حُجر بن عديّ، فيا ويله من حُجر وأصحابِ حُجر(3).

* انقلاب الولاء عند ابن زیاد :

عُرف عن ابن زیاد بولائه لعلي(علیه السلام) فترة خلافته، وولّاه علي(علیه السلام) بلاد فارس وبقي في ولايته هذه إلى حين استشهاد الإمام وتولي الإمام الحسن للخلافة ، ثمّ انقلب بولائه إلى معاوية بن أبي سفيان، ومعاداة علي(علیه السلام) وشیعته.

روی علیّ بن محمّد المدائني قال : لمّا كان زمن علىّ(علیه السلام) ولّی زیاداً فارس أو بعض أعمال فارس، فضبطها ضبطاً صالحاً، وجبي خَراجها وحماها ، وعرف ذلك معاوية ، فكتب إليه : أمّا بعد، فإنه غرّتك قِلاع تأوي إليها ليلاً، كما تأوي الطيرُ إلى وكرها ، وأيم الله لولا انتظاري بك ما الله أعلم به لكان لك مني ما قاله العبد الصالح : «فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ»(4).

ص: 105


1- المصدر نفسه : 2/ 121 وما بعدها
2- شرح النهج : 16 / 180 وما بعدها
3- المصدر نفسه : 16 / 193 وما بعدها
4- سورة النحل : 37

وكتب في أسفل الكتاب شعراً من جملته :

تنسي أباك وقد شالت نعامته

إذ يخطب الناس والوالي لهم عُمر

فلمّا ورد الكتاب على زياد قام فخطب الناس ، وقال : « العَجب من ابن آكلة الأكباد، ورأس النفاق، يهدّدني وبيني وبينه ابن عمّ رسول الله (صلی الله علیه و اله)وزوج سيّدة نساء العالمين ، وأبو السبطين ، وصاحب الولاية والمنزلة والإخاء في مائة ألفٍ من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ! أما والله لو تخطّى هؤلاء أجمعين إلىّ لوَجدني أحمر مِخَشّاً(1) ضرّاباً بالسيف»، ثم كتب إلى عليّ (علیه السلام)، وبعث بكتاب معاوية مع كتابه .

فكتب إليه عليٌّ :

«أما بعد ، فإني قد ولّيتك ما وليتك وأنا أراك لذلك أهلاً، وإنّه قد كانت من أبي سفيان فلتة في أيّام عمر من أمانيّ الّتيه وكذب النفس، لم تستوجب بها میراثاً ، ولم تستحقَّ بها نَسَباً ، وإن معاوية كالشيطان الرجيم يأتي المرءَ من بين يديه ومن خَلفهِ وعن يمينه وعن شماله، فاحذره، ثم احذره، ثم احذرهُ، والسلام »(2).

لقد باءت محاولة معاوية لاستدراج زیاد إليه بالفشل في حياة أمير المؤمنین ، وبعد استشهاده، إلّا أن معاوية لم يترك زياداً فكاتبه مرة اُخرى بعد استشهاد الإمام يتوعده أشد وعيد ، ويذمه أشد ذم، ويطلب منه الطاعة المطلقة والبيعة له .

روى أبو جعفر محمّد بن حبيب قال : كان علىٌّ (علیه السلام)قد ولّی زیاداً قطعةً من أعمال فارس، واصطنعه لنفسه، فلمّا قُتل عليّ (علیه السلام)بقی زیاد في عَمله، وخاف معاوية جانبه، وعلم صعوبة ناحيته، واشفق من مُمالأته الحسن بن عليّ (علیه السلام)، فكتب إليه :

ص: 106


1- المخشي: الماضي الجرئ
2- شرح النهج : 16 / 181 - 182، وانظر : الخطبة (44) من نهج البلاغة مع شرحها في المصدرنفسه

«من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ، إلى زياد بن عبيد ، أمّا بعد، فإنّك عبد قد كفرت النّعمة، واستدعيت النّقمة .. إنّك - لا أُمَّ لك بل لا أب لك - قد هلكتَ وأهلكتَ، وظننت أنّك تخرجُ عن قبضتي ، ولا ينالك سلطاني ، هیهات ، ما كلُّ ذي لُبٍّ يصيب رأيه ، ولا كلُّ ذي رأي ينصح في مشورته. أمس عبدٌ واليوم أمير! خطّة ما ارتقاها مثلك يابن سميّة ، وإذا أتاك كتابي هذا فخذ الناس بالطاعة والبيعة ، وأسرع الإجابة ، فإنك إن تفعل فَدمُك حَقنت ، و نفسك تدارکت ، وإلّا اختطفتك بأضعفِ ریش، ونلتك بأهون سعي، وأُقسم قسماً مبروراً ألا أُوتي بك إلّا في زمّارة(1)، تمشي حافياً من أرض فارس إلى الشام حتى أُقيمك في السوق، وأَبيعك عبداً ، وأردّك إلى حيث كنت فيه، وخرجت منه ، والسلام»(2) .

فلمّا ورد الكتاب على زياد غضب غضباً شديداً ، وجمع الناس وصَعد المنبر، فحمد الله ثمّ قال : «ابن آكلة الأكباد، وقاتلة أسد الله ، ومظهر الخلاف، ومُسرّ النفاق ، ورئيس الأحزاب، ومن أنفق مالهُ في إطفاء نور الله ، كتب إليّ یُرعد و یبرق عن سحابةٍ جَفل لا ماء فيها، وعما قليل تصيّرها الرياحُ فزعاً ... كيف أرهبه وبینی وبينه ابن بنت رسول الله(صلی الله علیه و اله) وابن ابن عمّه - يعني الإمام الحسن(علیه السلام) - في مائة ألف من المهاجرين والأنصار، والله لو أذن لي فيه، أو ندبني إليه، لأريته الكواكب نهاراً ، ولأسطعته ماء الخردل ، دونه الكلام اليوم ، والجمع غداً، والمشورة بعد ذلك إن شاء الله »(3).

ثم كتب إلى معاوية كتاباً شديد اللهجة، رداً على رسالته.

ص: 107


1- أي في جماعة زمارة تزمر حولك بالمزامير لتشهيرك والتشنيع عليك
2- المصدر نفسه : 16 / 182 - 183
3- المصدر نفسه : 6- 183

فلمّا ورد کتاب زیاد على معاوية غمّه وأحزنه، وبعث إلى المغيرة بن شعبة ، فخلا به ....

وقال : يا مغيرة ، إن زياداً قد أقام بفارس یکشّ لنا کَشیشَ الأفاعي، وهو رجلٌ ثاقب الرأي، ماضي العزيمة ، جوّال الفكر، مصيبٌ إذا رمي، وقد خفت منه الآن ما کنتُ آمَنه إذ كان صاحبه حياً ، وأخشى ممالأته حَسنا، فكيف السبيلُ إليه ، وما الحيلة في إطلاح رأيه ؟

قال المغيرة : أنا له إن لم أَمُت ، إن زياداً رجل يحبّ الشرف والذّٙكر وصعود المنابر ، فلو لاطفته المسألة، وألنت له الكتاب ، لكان لك أميل ، وبك أوثق، فاك۟تب إليه وأنا الرسول.

فكتب إليه معاوية رسالة رقيقة يستهل عنوانها بقول : من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، إلى زياد بن أبي سفيان ...(1) .

فرحل المغيرة بالكتاب حتى قدم فارس ، فلما رآه زیاد قرّبه وأدناه ولطف به ، فدفع إليه الكتاب ، فجعل يتأمّله ويضحك ...(2).

ثمّ بعد محاورات جرت بينه وبين المغيرة بن شعبة ، كتب جواب الكتاب الأخير الذي أرسله إليه معاوية ، يعلن فيه ولاءه له، وكتب في أسفل الكتاب أبيات من الشعر ختمها بقوله :

فإن تدنُ مني أدنُ منك وإن تَبَن

تجدني إذا لم تَد۟نَ مِنّٙي نائياً

وهكذا استطاع معاوية وبأُسلوبه الماكر ، وبمعونة المغيرة بن شعبة ، أن يستميل زیاداً إلى جنبه، ويحول ولاءه من خط الولاية لعلي وأبنائه(علیهم السلام) إلى خط بني أُمية ،

ص: 108


1- المصدر نفسه : 16 / 184
2- المصدر نفسه : 186/16 وما بعدها

فأعطاه معاوية جميع ما سأله، وكتب إليه بخطّ يده ما وثق به ، فدخل الشام ، فقرّبه وأدناه، وأقرّه على ولايته، ثم استعمله على العراق(1).

ثم إن معاوية جمع الناس بالشام وصَعد المنبر، وأصعد زياداً معه ، وطلب من الناس أن يشهدوا أن زياداً ابن أبي سفيان ، فشهد بذلك أبو مريم السَّلولي - وكان خمّاراً في الجاهلية - وقال : إنّ أبا سفيان قدم الطائف ... وقال : يا أبا مريم، أصب لي بَغیَّا ، فخرجت فأتيتُ بسُميّة ، فدخلت معه ، فلم تزل عنده حتى أصبحت ، إلى آخر القصة(2).

وبهذه الشهادة من أبي مريم الخَّمار الس۟تُل۟حِق زیاداً بأبي سفيان وصار يعرف ب «زیاد ابن أبي سفيان»، وأُبلغ ذلك رسمياً إلى بني أُمية وولاة الدولة الأموية ، ولم يقبل معاوية أي اعتراض على هذا الاستلحاق وكان يعاقب على ذلك كما جرى لعبد الرحمن بن الحكم - أخو مروان - الذي قال لمعاوية : يا معاوية ، لو لم تجد إلّا الزنج لاستكثرتَ بهم علينا قلة وذلّة ، فأقبل معاوية على مروان وقال : أُخرج عنّا هذا الخليع... ثم قال : والله لا أرضى عنه حتّى يأتي زياداً فيترضّاه ويعتذر إليه ، فجاء عبد الرحمن إلى زياد معتذراً ...(3).

وكان الشاعر یزید بن مفزّٙع الحميري من أشد الناس هجاءً لزياد، وأشعاره في خصوص قصة الاستلحاق كثيرة مشهورة والتي منها :

ألا أبلغ معاويةَ بن حربٍ

مُغَل۟غَةً من الرَّجُل اليَمَاني

أَتغضَب أن يقالَ أبوك عَفٌّ

وترضى أن يقالَ أبوكَ زَانِی

ص: 109


1- المصدر نفسه : 16 / 186 وما بعدها
2- المصدر نفسه : 16 / 187 وما بعدها
3- المصدر نفسه : 16 / 190 وما بعدها

فأشهد أنّ رَحمك من زیادٍ

کرَح۟مِ الفيلِ من وَلدِ الأتانِ

وأشهد أنّها حملت زياداً

وصخرٌ من سُميّة غيرُ دانِ

وكان لزياد أخوان هما نافع وأبو بكرة وكل واحد منهما يدعي نسباً يختلف عن الآخر وإلى هذا المعنى يشير ابن مفزع الحميري قوله :

إنّ زياداً ونافعاً وأبا بَكرةَ

عندي من أعجب العَجَبِ

هُم رجالٌ ثلاثةٌ خُلقوا

في رَحمِ أُنثى وكلُّهم لأبِ

ذا قرشيٌّ كما يقولُ وذا

مولىً وهذا بزعمهِ عَربي

وكان عبيد الله بن زیاد يقول : ما شجيتُ بشيءٍ أشدُّ علىَّ من قول ابن مفزّٙع :

فکّر ففي ذاك إنّ فكرتَ معتبرٌ

هل نلتَ مكرمةً إلّا بتأمير

عَاشَت۟ سميَّةُ ماعَاشَت۟ وَمَا عَلِمَت۟

أَن اب۟نَها مِن۟ قريشٍ في الجَمَاهيرِ(1)

ومن طريف ما ينقل في قصة استلحاق زیاد بنسب أبي سفيان ما رواه ابن أبي الحديد عن شيخه أبي عثمان ومحصله : أنّ زياداً مرّ وهو والي البصرة بأبي العُريان العدويّ - وكان شيخاً مكفوفاً ، ذا لَسَنٍ وعارضة شديدة - فقال أبو العريان : ما هذه الجَل۟بَةُ ؟ قالوا : زیاد بن أبي سفيان، قال : والله ما ترك أبو سفيان إلّا يزيد ومعاوية وعتبة وعنبسة وحنظلة ومحمداً، فمن أين جاء زیاد؟

فبلغ الكلامُ زياداً ، وقال له قائل : لو سددتَ عنك فَمَ هذا الكلب ! فأرسل إليه بمائتي دينار ، فقال له رسول زیاد : إنّ ابن عمّك زياداً الأمير قد أرسلَ إليك مائتي دینار لتنفقها ، فقال : وصلة رَحِم ! إي والله ابن عمّي حقاً.

ثم مرّ به زیاد من الغد في موكبه ، فوقف عليه فسلّم، وبکی أبو العُريان، فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : عرفتُ صوتَ أبي سُفيان في صوت زیادٍ!

ص: 110


1- المصدر نفسه : 16 / 191 - 192 وما بعدها

فبلغ ذلك معاوية، فكتب إلى أبي العريان :

ما ألبثتك الدنانيرُ التي بُعِثَت

أن لوّنتك أبا العُريانِ ألوانا

أمسى إليكَ زياد في أرومتهِ

نُكراً فأصبح ما أنكرتَ عِرفانا

للهِ درُّ زیادٍ لوتَعجّلها

كانت له دون ما يخشاه قُربانا

فلمّا قُریءَ کتاب معاوية على أبي الغُريان قال : اكتب جوابه یا غلام :

أحدِث لنا صِلَةً تحيا النفوسُ بها

قد كدتَ یابن أبي سفيانَ تنسانا

أمّا زیادٌ فقد صَحّت مناسبُه

عندي فلا أبتغي في الحقّ بُهتانا

مَن يُس۟دِ خيراً يُصبهُ حينَ يَفعلهُ

أو يُسدِ شرّاً يُصبه حيثما كانا(1)

وكان أبو بَكرة أخا زیادٍ لأُمه، أُمُهما جميعاً سمية ، فحلفَ ألّا يكلّم زیاداً أبداً .

وقال : هذا زَنيّ أُمّه، وانتفي من أبيه، ولا والله ما علمتُ سميةَ رأت أبا سفيان قبل قط، ويلهُ ما يصنعُ بأُمّ حبيبة - بنت أبي سفيان زوج النبي - أيريد أن يراها ؟ فإن حجبتهُ فضحته، وإن رآها فيالها مصيبة ؟ يهتك من رسول الله حرمةً عظيمة(2).

ومن طريف ما ينقل في هذا المجال :

كتبت عائشة إلى زياد كتاباً ، فلم تدر ما تكتب عنوانه ! إن كتبت زیاد بن عبيد أو ابن أبيه أغضبته وإن كتبت زياد بن أبي سفيان أثمت، فكتبت : من أُمّ المؤمنين إلى ابنها زیاد! فلما قرأه ضَحِك، وقال : لقد لقيت أُمُّ المؤمنين من هذا العنوان نصبا(3) .

ص: 111


1- المصدر نفسه : 16 / 187 - 188
2- المصدر نفسه : 16 / 189
3- المصدر نفسه : 16 / 204
* مجازر زیاد في البصرة :

ينص المؤرخون على أن تاريخ استلحاق معاوية لزياد بن أبيه بنسب أبي سفيان كان في سنة أربع وأربعين من الهجرة(1) وإن وفاته سنة ثلاث وخمسين على الارجح.

وخلال هذه الفترة الزمنية التي لا تتجاوز العقد من الزمن أصبح زیاد من ولاة بني أُمية ورجل المهام الصعبة، وأحكم قواعد حكم بني أُمية على العِراقيينِ - البصرة والكوفة - بالارهاب والقتل وسفك الدماء وانتهاك الحرمات.

يقول ابن الأثير : وكان زیاد أوّل من شدّد أمر السلطان، وأكّد الملك لمعاوية، وجرّد سيفه، وأخذ بالظنّة، وعاقب على الشُّبهة، وخافه الناس خوفاً شديداً (2).

وفي سنة خمس وأربعين من الهجرة ولّاه معاوية على البصرة وتوابعها .

وفي سنة خمسين من الهجرة أضاف إليه معاوية إِمرة الكوفة بعد موت واليها المغيرة بن شعبة . وكان زیاد يطمع إلى أكثر من العِراقينِ ، فكتب إلى معاوية : إني قد ضبطت العراق بيميني وشمالي فارغة، فسأله أن يولّيه الحجاز(3)، وعندما بلغ عبد الله بن عمر ذلك قال : اللهم إنك تجعل في القتل كفّارة، فموتاً لابن سُميّة لاقتلاً، فخرج في إصبع زیاد الطاعون، فمات(4) .

ص: 112


1- انظر : تاريخ الطبري : 5/ 214، والكامل في التاريخ : 441/3 ، ونهاية الأرب : 302/20 ، والبداية والنهاية : 8/ 28، والذهبي في تاريخ الإسلام : مجلد عهد معاوية : 13
2- الكامل في التاريخ : 2/ 475
3- الذهبي : تاريخ الإسلام، مجلد عهد معاوية : 209 - 210
4- المصدر نفسه : 210

وفي رواية المسعودي في مروج الذهب : لما عرف أهل المدينة بأن معاوية قد ولّی زیاداً إمارة الحجاز ، اجتمع الصغير والكبير بمسجد رسول الله وضجّوا إلى الله ، ولاذوا بقبر النبي (صلی الله علیه و اله)ثلاثة أيام لعلمهم بما هو عليه من الظلم والعنف(1) .

لقد انقلب زیاد خلال هذه الفترة من ولايته على العراقينِ إلى الجبهة المعادية لخط اولیاء الله والصالحين، وأصبح في خط المجرمين والمفسدين، وكان حاقداً على عليّ وشیعته أبلغ ما يكون الحقد وقاسياً عليهم يتّبعهم في كل مكان ويسلّط عليهم جلاوزته وعمّاله ، ومضى على ذلك إلى أواخر أيام حياته حتى أهلکه الله بالطاعون .

وفيما يلي بعض مجازره الدموية في البصرة والكوفة :

كان شعار زياد في تعامله مع رعيته أمرين لا ثالث لهما: إما الطاعة المطلقة لحكم بني أُمية ، أو السيف.

يروي ابن أبي الحديد : كان زیاد يقول : هما طريقان للعامة : الطاعة والسيف ! وعندما دخل البصرة أميراً من قبل معاوية ، جمع الناس ثم خطبهم قائلاً :

... وقد رحلتُ عنكم وأنا أعرف صديقي من عدوي(2) ثمّ قدمتُ علیکم وقد صار العدوّ صديقاً مناصحاً، والصديق عدوّاً مكاشحاً ، فليشتمل كلّ امرىءٍ على ما في صدره، ولا يكونّن لسانه شفرةً تجري على أوداجه ، وليعلم أحدكم إذا خلا بنفسه أنّي حملتُ سيفي بيدي ، فإن أشهره لم أغمده ، وإن أغمده لم أشهره. ثم نزل(3).

ص: 113


1- مروج الذهب : 3 /26
2- كان زیاد عاملاً على بيت المال في البصرة أيام ولاية ابن عباس عليها، ثم استخلفه ابن عباس عليها لبعض الوقت حصل اثنائها ملاحاة ومنازعة بينه وبين سعد مولى أمير المؤمنين (علیه السلام)حول أموال الخراج فكتب إليه أمير المؤمنين يلومه ويؤنبه. انظر : شرح نهج البلاغة : 16 / 196 - 197
3- شرح النهج: 16 / 199

بهذه العنجهية والتكبر كان زیاد يتعامل مع عباد الله من رعیته، حتى نقل عن بعضهم : ما رأیت زیاداً كاسراً إحدى عينيه ، واضعاً إحدى رجليه على الأُخرى يخاطب رجلاً إلا رحمتُ المخاطب(1).

أما خطبة زياد المعروفة بالبتراء - وإنّما سمّيت بذلك لأنّه لم يحمد الله فيها ، ولا صلّى على رسوله - فقد رواها ابن أبي الحديد في شرح النهج عن المدائني ، ورواها قبل ذلك الجاحظ في البيان والتبيين ، وابن قتيبة في عيون الأخبار، وأبو علي القالي في النوادر، والطبري في حوادث سنة 45 هجرية وغيرهم من المؤرخين ، وهي خطبة طويلة ننقل منها ما يلي :

أمّا بعد، فإن الجاهليّة الجهلاء، والضَّلالَة العمياء، والغيّ الموفد لأهله على النار، ما فيه سفهاؤكم، ويشتملُ عليه حُلماؤكم، من الأُمور العظام، ينبت فيها الصغير، ولا يتماشي منها الكبير.

... ما أنتم بالحلماء ، وقد اتبعتم السفهاء ، فلم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرمة الإسلام، ثم أطرقوا وراءکم کُنوساً من مكانس الرّيب.

حَرُم علىّ الطعام والشرابُ حتّى أُسوّيها بالأرض هدماً أو حرقاً.

إنّي رأيتُ آخر هذا الأمر لا يصلح إلّا بما صَلَح به أوّله ! لينٌ من غير ضعفٍ، وشدّة في غير عُنف، وأنا أُقسم بالله لآخذنّ الوليّ بالوليّ، والظاعن بالظاعن ، والمقبل بالمدبر ، والصحيح منكم في نفسهِ بالسقيم، حتّى يلقى الرجلُ أخاهُ فيقول : انجُ سَعدُ فقد هَلكَ سُعيد، أو تستقيم لي قناتكم.

.. إيّاكم ودَلج الليل، فإني لا أُوتي بِمُدلج إلّا سفكتُ دمه ، إيّاكم ودعوى الجاهلية ، فإني لا أجد أحداً دعا بها إلّا قطعت لسانه ، وقد أحدثتم أحداثاً ،

ص: 114


1- المصدر نفسه : 199/16

وقد أحدثنا لكلّ ذنب عقوبة ، فمن غرّق بیت قوم غرّقناه ، ومن حرّق على قوم حرّقناه ، ومن نَقَب على أحدٍ بيتاً نَقبنا على قبله ، ومن نَبشَ قبراً دفنّاه فيه حياً .

... فاستأنفوا أُموركم، وأعينوا على أنفسكم، فربَّ مبتئسٍ بقدومنا سَیُسرّ، ومسرورٍ بقدومنا سيبأس.

أيها الناس ، إنا أصبحنا لكم ساسة ، وعنكم ذادة ، نسوسکم بسلطان الله الذي أعطاناه ، ونذود عنكم بفيء الله الّذي خوّلناه ، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل والإنصاف فيما ولينا، فأستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا.

... فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فإنّهم ساستكم المؤدّبون، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى يَصلُحوا تَصلُحوا، فلا تُشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتدّ لذلك غيظكم، ويطول لذلك حزنكم، ولا تدركوا حاجتكم، مع أنّه لو استجيب لأحدٍ منكم لكان شرّاً لكم.

أسأل الله أن يعين كلّاً علی کُلٍّ، وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر، فأنفذوه على إذلاله، وإيم الله إنّ لي فيكم لصرعی کثيرة، فليحذر كلّ امرئ منكم أن يكون من صرعاي(1).

ولا نريد أن نتوقف طويلاً عند هذه الخطبة، فالفاظها دالة على معانيها، وأفعال زياد الاجرامية في البصرة والكوفة حولت تلك الألفاظ إلى أفعال شنيعة ومجازر رهيبة .وزیاد بخطبته هذه أول من أعلن الأحكام العرفية في الإسلام.

ص: 115


1- الجاحظ: البيان والتبين : 2/ 58 وما بعدها، طبعة افست مكتبة أُرومية - قم. وشرح نهج البلاغة : 16 / 200 وما بعدها

والعجيب في الأمر أن ذلك الجمع الذي كان حاضراً خطبة زياد هذه لم يعترض عليه أحد منهم إلّا رجل من الحرورية يدعى أبو بلال مرداس بن أُدية فقد قام وهو يهمس ويقول : أنبأنا الله بغير ما قلت قال الله : وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى(1) وأنت تزعم أنك تأخذ البريء بالسقيم، والمطيع بالعاصي، والمقبل بالمدبر ، فسمعها زیاد فقال : يا أبا بلال : إنّا لا نبلغ ما نريد فيك وفي أصحابك حتّي نخوض إليهم الباطل خوضاً(2).

وبموجب الأحكام العرفية التي أعلنها زياد في البصرة أثناء خطبته، أعلن منعاً للتجول ليلاً ومن وجد من الناس بعد صلاة العشاء ضربت عنقه.

روى الشعبي : لمّا خطب زیاد خطبته البتراء بالبصرة ونزل سمع تلك الليلة أصوات الناس يتحارسون... فغضب فقال : ففيمَ أنا وفيمَ قدمت ؟ فلمّا أصبح أمر فنودي في الناس ، فاجتمعوا فقال : أيّها الناس، إني قد نبئت بما أنتم فيه وسمعت ذرواً منه ، وقد أقدر تكم وأجّلتكم شهراً مسير الرّجل إلى الشام،ومسيره إلى

خراسان ، ومسيره إلى الحجاز ، فمن وجدناه بعد شهر خارجاً من منزله بعد العشاء الآخرة فدمه هدر.

فانصرف الناس يقولون : هذا القول كقول من تقدّمه من الأُمراء، فلما كمل الشهر دعا صاحب شرطته عبد الله بن الحُصين اليربوعي، وكانت رجال الشّرطة معه أربعة آلاف، فقال له : هيّيء خيلك ورَجلك، فإذا صلّيت العشاء الآخرة، فَسِ ولا تلقين أحداً ، عبيد الله بن زیاد فن دونه إلّا جئتني برأسه ، وإن راجعتني في أحد ضربتُ عنقك.

ص: 116


1- النجم : 37 - 39
2- المصدر نفسه : 2/ 60 - 61، وشرح النهج : 203/16

قال - الراوي - : فصبح على باب القصر تلك الليلة سبعمائة رأس، ثمّ خرج الليلة الثانية فجاء بخمسين رأساً ... وكان الناس إذا صلّوا العشاء الآخرة أحضروا إلى منازلهم شداً حثيثاً وقد يترك بعضهم نعاله(1).

* مجازر زياد في الكوفة :

في سنة خمسين للهجرة توفي المغيرة بن شعبة بالكوفة وهو أميرها، فكتب معاوية إلى زياد بعهده على الكوفة والبصرة، فكان أوّل من جمع له الكوفة والبصرة ، فاستخلف على البصرة سَمرةَ بن جُندب ، و شَخَصَ إلى الكوفة ، فكان زیاد يقيم ستة أشهر بالكوفة، وستة أشهر بالبصرة(2).

ومحنة أهل الكوفة وشيعة على (علیه السلام)فترة ولاية زياد ومن بعده ولده المشؤوم عبيد الله محنة شديدة وقاسية يطول ذكرها والصورة التي يرسمها لنا المؤرخون عن هذه الفترة تعطينا بعض التفاصيل المحزنة عن هذه الفترة الدموية التي حكم فيها زیاد بن أبيه على الكوفة.

يقول ابن أعثم من مؤرخي القرن الثالث الهجري في كتاب الفتوح: «وجعل زیاد يتتّبع شيعة علي بن أبي طالب فيقتلهم تحت كل حَجَر ومَدر ، حتى قتل منهم خلقاً كثيراً ، وجعل يقطع أيديهم وأرجلهم ويسمل أعينهم وجعل يغري بهم معاوية ، فقتل منهم معاوية جماعة ، وفيمن قتل حجر بن عدي الكندي وأصحابه ، وبلغ ذلك الحسن بن علي ، فقال : اللّهم خُذلنا ولشیعتنا من زیاد بن أبيه ، وأرنا فيه نکالاً عاجلاً»(3).

ص: 117


1- شرح النهج : 16 / 203 - 204
2- الطبري : 5/ 234 وما بعدها، وابن الأثير في الكامل : 2/ 481 وما بعدها
3- الفتوح: 203/4 ، ط. حیدر آباد الهند ، دائرة المعارف العثمانية، 1381 ه

ويقول ابن أبي الحديد من مؤرخي القرن السابع الهجري : « فكان - أي زياد - يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه منهم أيام عليّ (علیه السلام)، فقتلهم تحت كل حجر ومدر وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون وصلبهم على جذوع النخل وطردهم وشرّدهم عن العراق فلم يبق معروف منهم»(1).

ويروي ابن أبي الحديد عن المدائني : «وكان أشد الناس بلاءً حينئذٍ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة عليّ (علیه السلام)، فاستعمل عليهم زیاد بن سميّة ، فكان يتتبّع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علىّ (علیه السلام)فقتلهم تحت كل حجر»(2).

ويروي الطبري وابن الأثير قصة من قصص الارهاب والتصفية الجسدية العجيبة في حكم زیاد على الكوفة، تكشف لنا أبعاد المجازر الرهيبة أيام هذا الطاغية، وخلاصة القصة : «لما مات المغيرة جمعت العراق لزياد، فأتى الكوفة فصعد المنبر وخطب الناس ... حتى فَرغَ من خطبته فحُصِبَ(3) على المنبر ، فجلس حتى أمسكوا، ثم دعا قوماً مِن خاصّته، وأمرهم، فأخذوا أبواب المسجد، ثم قال : ليأخذ كل رجل منکم جليسه ، ولا يقولنّ : لا أدري مَن جليسي؟ ثم أمر بكرسيّ فوضع له على باب المسجد ، فدعاهم أربعة أربعةً يحلفون بالله ما منّا مَن حَصبك، فمن حَلَفَ خلّاه، ومن لم يَحلف حبسه وعزله، حتى صار إلى ثلاثين ، ويقال : بل كانوا ثمانين ، فقطّع أيديهم على المكان(4).

ص: 118


1- شرح النهج: 11 / 44
2- المصدر نفسه : 11 / 44 وما بعدها
3- حُصِب : رُمِي بالحصباء وهي الحجارة
4- الطبري : 5/ 234 - 235، حوادث سنة خمسين، وابن الأثير في الكامل : 2/ 481

ومن أقبح مجازر زیاد في الكوفة - وكل أفعاله مستهجنة وقبيحة - إغراؤه

معاوية بقتل الصحابيين الجليلين حجر بن عدي الكندي، وعمرو بن الحمق الخزاعي (رحمهما الله ).

وقد نقل المؤرخون قصة مقتلهما ، وهي قصة مشجية ننقل طرفاً منها :

* مقتل الصحابي الجليل حجر بن عدي رحمة الله :

كان حُجر بن عدي بن الأدبر بن جَبلة الكندي الكوفي من صحابة رسول الله (صلی الله علیه و اله)، ومن خُلص أصحاب أمير المؤمنين والموالين له، شهد صفّين أميراً مع علي(علیه السلام) وصفه الذهبي في تاريخه بقوله : «وكان صالحاً عابداً ، يلازم الوضوء، ويكثر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(1).

ووصفة شريح بن هاني القاضي في رسالة بعثها إلى معاوية : وأن شهادتي على حجر أنه ممن يقيم الصلاة ، ويؤتي الزكاة، ويديم الحجّ والعمرة، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، حرام الدّم والمال...(2).

وقد شهد للرجل بالصلاح والتقوى والاستقامة كل من ترجم له من المؤرخين ، عند ذکر حوادث سنة إحدى وخمسين وهي السنة التي قتل فيها معاويةُ هذا العبد الصالح ظلماً وعدواناً.

أما الأسباب التي دفعت معاوية إلى قتل حجر وأصحابه البررة رضوان الله عليهم ! فنرجع إلى ما ذكره المؤرخون :

ذكر الطبري وغيره من المؤرخين : ان المُغيرة بن شعبة كان عاملاً لمعاوية على الكوفة سبع سنين وأشهراً ، وانه كان لا يدع ذمّ علي (علیه السلام)والوقوع فيه والعيب لقتلة عثمان ، واللّعن لهم، والدعاء لعثان بالرحمة والاستغفار له، والتزكية لأصحابه(3).

ص: 119


1- الذهبي : تاريخ الإسلام - مجلد عهد معاوية : 193
2- الطبري : 5 / 272 وما بعدها
3- الطبری : 253/5

وكانت أفعال المغيرة هذه بوصية مؤكدة من معاوية حين ولّاه على الكوفة حيث قال له : ولستُ تاركاً ايصاءك بِخصلة : لا تتحمَّ(1) ، عن شتم علىّ وذمّه، والترحم على عثمان والاستغفار له، والعيب على أصحاب علي ، والإقصاء لهم، وترك الاستماع منهم ...(2).

وكان حجر بن عدي إذا سمع ذلك - من المغيرة - قال : بل إيّاكم ذَممّ الله ولعن ، إن الله عزّ وجلّ يقول : «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ»(3) ، وأنا أشهد أن من تذمّون وتعيّرون لأحقّ بالفضل، وأنّ من تزکّون وتطرون أولى بالذمّ(4).

فلم يزل الأمر سجلاً بين المغيرة وحجر ، حيث كان حجر رضی الله عنه يجابه المغيرة أشد المجابهة كلما أولع المغيرة في ذم علي وشتمه، ومدح عثمان و تقریظه، وفي واحدة من خطب المغيرة المعتادة ، قام إليه حجر بن عدي فَنَعر نَع۟رةً(5) بالمغيرة سمعها كلّ مَن كان في المسجد وخارجاً عنه ، وقال : إنّك لا تدري بمن تولع من هَرمك! أيها الإنسان، مُر لنا بأرزاقنا وأعطيتنا، فإنك قد حبستها عنا، وليس ذلك لك ... وقد أصبحت مولعاً بذمّ أمير المؤمنين ، و تقريظ المجرمين ، قال - الراوي - فقام معه أكثر من ثُلثي الناس يقولون : صدق والله حُجر وبَرَّ، مُر لنا بأرزاقنا وأعطيتنا، فإنا لا ننتفع بقولك هذا، ولا يجدي علينا شيئاً(6).

ص: 120


1- أي لا تتورع
2- المصدر نفسه : 253/5
3- النساء : 135
4- المصدر نفسه : 5/ 254
5- نعر : صاح صيحة شديدة
6- المصدر نفسه : 254 - 255

وبعد مهلك المغيرة جمعت الكوفة والبصرة لزياد، فدخل الكوفة ثم صعد المنبر وخطب الناس، ومما قاله في خطبته :

أمّا بعد، فإنّا قد جَرّبنا و جُرّبنا، وسُسنا وساسنا السائسون ، فوجدنا هذا الأمرلا يصلح آخره إلّا بما صَلح أوّله ، بالطاعة اللّينة المشبّه سرّها بعلانيتها، وغيب أهلها بشاهدهم، وقلوبهم بألسنتهم، ووجدنا الناس لا يصلحهم إلّا لين في غير ضعفٍ ، وشدّة في غير عنف ، وإني والله لا أقوم فيكم بأمر إلّا أمضيته على إذلاله ، ثم ذکر عثمان و أصحابه فقرّضهم، وذکر قتلته ولَعنهم.

فقام حُجر فَفعل مثل الذي كان يفعل بالمغيرة(1).

والذي يبدو من سباق الرواية التاريخية أن زياداً لم يتعرض لحجر لأُمور مستعجلة له في البصرة، حين رجع إليها بسرعة بعد أن ولّي على الكوفة عمرو بن

حريث ، وعندما كان في البصرة بَلغهُ أن حجراً يجتمع إليه شيعة عليّ، ويُظهرون لعن معاوية والبراءة منه، فأسرع بالعودة إلى الكوفة حتى دخلها، فأتى القصر فدخله، ثم خرج فصعد المنبر وعليه قَباء سُندس، ومَطرف خزّ أخضر، قد فرق شعره، وحُجر جالس في المسجد حوله أصحابه أكثر ما كانوا فحمد الله ، ثم قال : فإنّ غِبَّ البَغي والغيّ وخيم، إنّ هؤلاء جمّوا(2) فأشروا وآمنوني فاجترؤوا عليَّ، وايمُ الله لئن لم تستقيموا لأُداوينّكم بدوائکم، وقال : ما أنا بشيءٍ وإن لم أمنع باحة الكوفة من حُجر وأَدَعه نکالاً لمن بعده ! ويل أُمّك يا حُجر! سَقطَ العشاء بك على سِرحان(3)، ثم قال :

ص: 121


1- الطبري : 5 / 256
2- جموا : أي اجتمعوا
3- الطبري : 256/5

أبلغ نُصيحة أنّ راعي إبلها

سَقط العشاءُ به على سِرحان(1)

وفي رواية أُخرى ينقلها الطبري في سبب أمر حُجر قال : خطب زیاد يوماً في الجمعة فأطال الخطبة وأخّر الصلاة ، فقال له حُجر بن عدي : الصلاة! فضي في خطبته، ثم قال : الصلاة ، فمضى في خطبته ، فلما خشي حُجر فوتَ الصلاة ضرب بيده إلى كفّ من الحصا، وثار إلى الصلاة و ثار الناس معه ، فلما رأى ذلك زیاد نزل فصلّي بالناس، فلما فرغ من صلاته كتب إلى معاوية في أمره، وكثّر عليه.

فكتب إليه معاوية أن شدّه في الحديد ، ثم أحمله إليّ، فلما أن جاء كتاب معاوية شدّ في الحديد، ثم حُمل إلى معاوية ، فلما دخل عليه قال : السّلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، فقال له معاوية : أمير المؤمنين ! أما والله لا أُقيلك ولا أستقبلك، أخرجوه فاضربوا عنقه ، فأخرج من عنده .

فقال حُجر للذين يَلون أمره : دعوني أُصلّي ركعتين ، فقالوا : صلّ.

فصلى ركعتين خفّف فيها، ثم قال : لولا تظنّوا بي غير الذي أنا عليه لأحببت أن تكونا أطول مما كانتا، ولئن لم يكن فيما مضى من الصلاة خير فما في هاتين خير ، ثم قال لمن حضره من أهله : لا تطلقوا عني حديداً ، ولا تغسلوا عني دماً ، فإني أُلاقي معاوية غداً على الجادّة، ثم قُدّٙم فضربت عنقه رضی الله عنه (2) .

وهنالك روايات أُخرى في سبب استشهاد حجر وأصحابه البررة، وكيفية إيفاده إلى معاوية وطريقة استشهاده. ومحصلها أن معاوية لم يقابل حجراً ولا أصحابه وإنما استند إلى شهادة الزور التي لفقها زیاد ، فأمر بقتلهم في مرج عذراء صبراً(3).

ص: 122


1- السرحان : الذئب، وأصل المثل : أن رجلاً خرج يلتمس العشاء، فوقع على ذئب فأكله، وصار يضرب به المثل في طالب الحاجة يؤدي بصاحبها إلى التلف
2- الطبري : 5/ 256 - 257 وما بعدها
3- المصدر نفسه : 257/5 وما بعدها

فالسبب الرئيسي لمقتل حُجر ومن معه من أصحابه هو قول الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتولي علي (علیه السلام)، وهذه كلها بنظر زیاد ومعاوية من الجرائم التي لا تغتفر.

يقول الدكتور طه حسين عن هذه الجريمة :

وهكذا انتهت هذه المأساة التي استباح فيها أمير من أُمراء المسلمين أن يعاقب الناس على معارضته ، وأن يكره وجوه الناس وأشرافهم على أن يشهدوا عليهم زوراً وبهتاناً ... إستباح أمير من أُمراء المسلمين لنفسه هذا الإثم، واستحلّ هذه البدع، واستباح إمام من أئّمة المسلمين أن يقضي بالموت على نفر من الذين عصم الله دماءهم دون أن يراهم أو يسمع منهم، أو يأذن لهم في الدفاع عن أنفسهم(1).

* مقتل عمرو بن الحمق الخزاعي :

وتسبّب زیاد كذلك في قتل الصحابي الجليل عمرو بن الحمق الخزاعي رضی الله عنه .وهو من الشخصيات المعروفة بتدينها وصلاحها، ومن المبايعين لرسول الله في حجة الوداع(2)، ومن المقدمين في أصحاب علي(علیه السلام) .

يقول خليفة في تاريخه : كان عمرو بن الحمق يوم صفّين على خزاعة مع عليّ(3).

وهذه وحدها كافية لملاحقة الرجل وتصفيته جسدياً حيث كان شعار معاوية وولاته تصفية وقتل كل من والا علياً أو شایعه.

ص: 123


1- طه حسين : الفتنة الكبرى، علي وبنوه : 243
2- انظر ترجمته : الاستيعاب لابن عبد البر: 2/ 524، والذهبي : تاريخ الإسلام : مجلد عهد معاوية : 87
3- تاریخ خليفة بن خياط : 146

روي عن الشعبي قال : لما قدم زياد الكوفة أتاه عمارة بن عقبة بن أبي معيط ، فقال : إن عمرو بن الحمق من شيعة علي ، ويجتمع إليه من شيعة أبي تُراب ، فقال له زیاد ولعمرو بن الحريث : قوما إلى عمرو بن الحمق فقولا له : ما هذه الزُرافات التي تجتمع عندك ! مَن أرادك أوردت كلامه في المسجد(1).

وعن الشعبي أيضاً : تطلّب زیاد رؤساء أصحاب حجر، فخرج عمرو إلى الموصل هو ورفاعة بن شداد ، فكمنا في جبل ، فبلغ عامل ذلك الرستاق، فسار إليها في الخيل ، فأما عمرو بن الحمق فكان مريضاً ، فلم يكن عنده امتناع، وأما رفاعة فكان شاباً ، فركب فحمل عليهم، فأفرجوا له ، ثم طلبته الخيل، وكان رامياً فرماهم فانصرفوا، وبعثوا بعمرو، إلى عبد الرحمن بن أُم الحكم أمير الموصل، فكتب فيه إلى معاوية ، إنّه زعم أنه طعن عثمان تسع طعنات بمشاقص ... فاطعنه كذلك، ففعل به ذلك، فمات في الثانية(2).

وفي رواية اليعقوبي : إن عامل الأمويين على الموصل ضرب عنق عمرو بن الحمق ونصب رأسه على رمح وطيف به، فكان أول رأس طیف به في لإسلام(3) .

وقال ابن اسحاق : أول رأس أُهدي في الإسلام رأس عمرو بن الحمق(4).

وقد أثار مقتل الصحابيين الجليلين حجر بن عدي، وعمرو بن الحمق رحمهما الله ، مشاعر المسلمين وفيها كتب الإمام الحسين(علیه السلام) إلى معاوية يؤنّبه على هاتين الجريمتين اللتين شاركه فيهکا عکاله .

ص: 124


1- الطبري : 5/ 236، والذهبي : 88
2- الذهبي : 88
3- تاريخ اليعقوبي : 2/ 219
4- الطبقات الکبری : 25/6

يقول(علیه السلام) في كتابه :

... ألست قاتل حجر وأصحابه العابدين المخبتين، الذين كانوا يستفظعون البدع، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، فقتلتهم ظلماً وعدواناً ، من بعدما أعطيتهم المواثيق الغليظة ، والعهود المؤكدة، جرأة على الله واستخفافاً بعهده .

أو لست بقاتل عمرو بن الحمق ، الذي أخلقت وأبلت وجهه العبادة ، فقتلته من بعد ما أعطيته من العهود ما لو فهمته العُص۟مِ(1) نزلت من شَعَفِ الجبال (2).

يروي الطبري : لقيت عائشة أُمّ المؤمنين معاوية بمكة ، فقالت : يا معاوية ، أين كان حِلمُك عن حُجر ! فقال لها : يا أُمّ المؤمنين ، لم يحضرني رشید(3) !

وهكذا أقر خليفة المسلمين وأمير المؤمنين أنه لم يكن رشيداً، ولم يكن في حاشيته كلها رشيد ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

قال ابن سیرین : فبلغنا أنه لما حضرته - معاوية - الوفاة جعل يُغرغر بالصوت ويقول : يومي منك يا حُجر يوم طويل(4).

وقد استمر زياد في ولايته على الكوفة والبصرة إلى وفاته سنة ثلاث وخمسين من الهجرة، واستمرت معه مجازره الدموية في حق الأبرياء والصالحين من شيعة علي (علیه السلام).

ص: 125


1- العصم : جمع أعصم وهي الوعول شعف الجبال : روؤسها ، قال الشاعر : وكعباً قد حَمَيناهم فحلُّوا مَحلَّ العُص۟مِ في شَعَفِ الجِبال
2- الإمامة والسياسة : 1/ 203
3- الطبري : 5/ 257
4- المصدر نفسه : 257/5

روى اليعقوبي والمسعودي : إن زیاداً جمع جمعاً من شيعة الإمام (علیه السلام)في أُخريات حياته ليعرض عليهم البراءة من الإمام ولعنه فإن لم يتبرأوا ولم يلعنوا قَتلهم، فعجّل الله تعالى بهلاك الطاغية قبل أن يصل إلى غايته(1).

وأما ابن أبي الحديد فقد روى الرواية بالشكل التالي : وأراد زیاد أن يعرض أهل الكوفة أجمعين على البراءة من علي(علیه السلام) ولعنه وأن يقتل كل من امتنع من ذلك ويخرّب منزله فضربه الله ذلك اليوم بالطاعون فمات - لا رحمه الله - بعد ثلاثة أيام (2).

المبحث الثاني: سَمرة بن جندب ومجازره الدموية ( نموذجاً )
اشارة

يروي المؤرخون أن سَمرة بن جندب من الصحابة (3) .

وصحبة رسول الله (صلی الله علیه و اله)شرف كبير وحظ عظيم للإنسان المسلم إن أَح۟سَنَ صيانة هذا الشرف، وهذه المكانة ، وهذه النسبة.

ومن الواضح أن الصحبة لرسول الله (صلی الله علیه و اله)في حد ذاتها وإن كانت منزلتها وشرفها كبير، إلّا أنها لا تعصم الإنسان من الانحراف عن خط الاستقامة والإيمان، ما لم تقترن هذه الصحية بالورع والتقوى والإيمان الراسخ.

وسمرة بن جندب -كما في ترجمته من كتب الرجال - ممن أساء لشرف الصحبة، ولم يحفظ مكانة هذه النسبة، وسجل صحائف دموية من الإجرام والقتل

ص: 126


1- اليعقوبي : 2/ 222، والمسعودي : 26/3
2- شرح النهج : 4 / 58
3- تاريخ الإسلام للذهبي : مجلد عهد معاوية : 231 وما بعدها

في فترة ولايته على البصرة والكوفة، وهو من المنحرفين عن علي ومن المبغضين له ومن السائرين في خطى الظلمة وأعوان الظلمة(1).

وفيما يلي بعض المحطات من صحائف هذا الرجل :

قصّة سمرة بن جندب مع رسول الله (صلی الله علیه و اله):

لسمرة بن جندب قصّة معروفة في حياة رسول الله (صلی الله علیه و اله)تناولتها كتب التاريخ والفقه وأُصول الفقه ، عند بحثهم في القاعدة الفقهية المعروفة تحت عنوان «لا ضرر ولا ضرار»، وخلاصتها أنّ سمرة بن جندب كان له عِد۟ق في حائط لرجل من الأنصار(2)، وكان منزل الأنصاري بباب البستان، وكان - سمرة - يمر به إلى نخلته ولا يستأذن، فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء فأبي سمرة، فلمّا تأبى جاء الأنصاري إلى رسول الله (صلی الله علیه و اله)فشكا إليه وخبّره الخبر.

فأرسل إليه رسول الله (صلی الله علیه و اله)وخبّره بقول الأنصاري وما شكا، وقال(صلی الله علیه و اله) : إنّ أردت الدخول فأستأذه فأبي.

فلمّا أبي ساومه (صلی الله علیه و اله)حتى بلغ من الثمن ما شاء الله ، فأبى أن يبيع .

فقال (صلی الله علیه و اله): لك بها عذق يعدُّ لك في الجنة ، فأبى أن يقبل.

فقال رسول الله(صلی الله علیه و اله) للأنصاري : اذهب فاقلعها واِرم بها إليه فإنّه لا ضرر ولا ضرار .

وفي رواية ثانية قال رسول الله (صلی الله علیه و اله)لسمرة : إنك رجل مضار، ولا ضرر ولاضرار على مؤمن.

ص: 127


1- انظر : ابن أبي الحديد، شرح النهج : 4 / 74 وما بعدها، فصل في ذكر المنحرفين عن علىّ(علیه السلام)
2- العِذق، الشجرة أو النخلة أو كل غصن له شُعب، والحائط هو البستان

وفي رواية الشيخ الصدوق قال رسول الله(صلی الله علیه و اله) لسمرة : ما أراك يا سمرة إلّا مضاراً ، اذهب یا فلان فاقطعها ، واضرب بها وجهه(1).

ومن هذه الواقعة استفاد الفقهاء قاعدة «لا ضرر» التي تعدّ من القواعد المهمة في مقام الاستنباط الفقهي لما يترتب عليها من آثار فقهية كثيرة في العبادات والمعاملات، حتى أن بعضهم قال : إنّ الفقه يدور على خمسة أحادیث، أحدها حديث لا ضرر ولا ضرار(2).

ولهذا اهتم الفقهاء والأُصوليون ورجال القانون بهذه القاعدة وأولوها عناية فائقة من التأليف والشرح والإيضاح.

ولا يهمنا هنا أن نبحث في الجوانب الفقهية من تطبيقات هذه القاعدة لأنها خارجة عن محل بحثنا.

والذي يدعو إلى التأمل في هذه القصة أُمور كثيرة تتعلق بشخصية صاحب القصة سمرة بن جندب يمكن لنا أن نتوقف عند بعضها:

اولاً : إيذاء الجار وإساءة أدب المعاشرة مع الأنصاري الذي كان مجاوراً مع أُسرته لنخلة سمرة ، حيث كان يمر عليه ولا يستأذن كما في الرواية ، وهذا التصرف مخالف لتعاليم القرآن الكريم، حيث يقول تعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ»(3).

ص: 128


1- انظر مصادر الحدیث ورواته في الكافي : 5 / 292 ، والتهذيب : 146/7 ، والفقيه : 3/ 147 والوسائل : الباب 12 من احياء الموات، الحديث رقم 3، وتنوير الحوالك للسيوطي : 2/ 122، ومبسوط السرخسي : 3/ 281، وابن أبي الحديد في شرح النهج : 1 / 78
2- السيوطي : تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك : 2/ 122
3- النور : 27 - 28

وقال تعالى : «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ»(1).

وغيرها من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي امرت بالاستئذان و عدم التجاوز على حرمة الآخرين.

ثانياً : عدم استجابته لطلب النبي(صلی الله علیه و اله) عندما أمره بالاستئذان ، حيث قال له النبي(صلی الله علیه و اله) : « إذا أردت الدخول فاستأذن » فأبي.

فهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على تمرده وتكبره على الله ورسوله (صلی الله علیه و اله)وتعاليم القرآن والإسلام ، بل تمرده حتى على الأعراف والقوانين الاجتماعية السائدة في ذلك المجتمع.

ثالثاً : عدم استجابته للنبي(صلی الله علیه و اله) حين ساومه على بيع نخلته بما شاء من الثمن ، حتى انتهى به إلى «لك بها عذق يمدّ لك في الجنة» فأبى أن يقبل !!

والذي يبدو أن الرجل لم يكن يؤمن بأن هنالك جنة ، فضلاً من أن يكون فيها شجر أو نخل أو عذق ! وشجرة في الدنيا خير عنده من شجرة في جنةٍ هو لا يؤمن بوجودها، والوجود خير من العدم «وما عاقل باع الوجود بدین» كما قال قائلهم.

رابعاً : غضب النبي (صلی الله علیه و اله)ورد فعله حيث قال له : «ما أراك يا سمرة إلّا مضاراً ، إذهب یا فلان فاقعلها واضرب بها وجهه» حيث تدل هذه الكلمات على عمق الأذى الذي ألحقه سمرة من خلال عناده ولجاجته برسول الله(صلی الله علیه و اله) . ومن الواضح أن أذى النبي(صلی الله علیه و اله) والتمرد على أوامره ونواهيه، لا تجتمع مع الإيمان قط، بل إنها الكفر بعينه.

يقول تعالى : «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(2) .

ص: 129


1- النور: 30
2- الحشر : 7

ويقول تعالى : «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ»(1) .

ويقول تعالى : «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا»(2).

ويقول تعالى : «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ»(3) .

وغيرها عشرات الآيات والأحاديث التي تأمر بطاعة النبي (صلی الله علیه و اله).

ولهذا نجد النبي (صلی الله علیه و اله)يخبر هذا الرجل بأنه «مضار» من خلال حيثية صدور فعل الضرر منه للأنصاري، حيث تدل كلمة الضرار على صدور الضرر من الفاعل بنحو الاستمرار والتكرّر وبنحو القصد والتعمّد.

* سمرة بن جندب من المبشرين بالنار :

الذي يبدو من خلال سيرة سمرة بن جندب في حياة الرسول(صلی الله علیه و اله) ان الرجل كان من المتمردين على الله ورسوله، مما حدا بالنبي(صلی الله علیه و اله) أن يخبره بأنه من أهل النار .

روى الذهبي في تاريخه : عن أبي هريرة، أن النبي(صلی الله علیه و اله) قال لعشرة من أصحابه في بيت : «آخركم موتاً في النار» فيهم سمرة بن جندب ، قال ابو نَضرة : فكان سمرة آخرهم موتاً(4) .

وفي رواية أُخرى عن أنس بن حكيم الضّبي قال : كنت أمرّ بالمدينة، فألقي أبا هريرة ، فلا يبدأ بشيء حتى يسألني عن سمرة، فإذا أخبرته بحياته فرح،

ص: 130


1- النساء : 64
2- النساء: 65
3- النساء : 69
4- تاريخ الإسلام : مجلد عهد معاوية : 232

فقال : إنّا كنا عشرة في بيتٍ ، وأنّ رسول الله قام ونظر في وجوهنا، وأخذ بعضادتي الباب، ثم قال : «آخركم موتاً في النار» فقد مات منّا ثمانية، ولم يبقَ غيري وغير سمرة ، فليس شيء أحبّ إليّ من أكون قد ذقت الموت(1).

ومن طريف ما يرويه الذهبي قوله : وكان الرجل إذا أراد أن يغيظ أبا هريرة يقول : مات سمرة ، فإذا سمعه غُشي عليه وصُعق، ثم مات أبو هريرة قبل سمرة(2).

* مجازر وجرائم سمرة بن جندب :

يروي الذهبي : «وقتل سمرة بشراً كثيراً »(3) .

ولم يفصل لنا هذا المؤرخ - كعادته في التستر على جرائم هؤلاء الذين يعرفون بالصحابة - شيئاً عن هؤلاء الذين قتلهم سمرة، هل كانوا من المسلمين أو من الكفار ؟ من المجرمين والقتلة، أو من الصالحين والأبرار والأخيار؟

إلّا أن ما أجمله هذا المؤرخ قد فصله آخرون ممن أرخوا لهذا الرجل وجرائمه بحق المسلمين، وبالخصوص بحق شيعة علي(علیه السلام) في البصرة والكوفة، حتى عدّ سمرة في عداد زیاد وابنه عبيد الله وأصبح ثالث ثلاثة من حيث الإجرام والقتل في زمانه كما في رواية سليمان بن حرب قال : كنّا في مجلس يونس بن عبيد من أصحاب الخزّ، فقالوا : ما في الأرض بقعة نشفت من الدم ما نشفت هذه البقعة - يعنون دار الإمارة - قُتل بها سبعون ألفاً ، فجاء يونس بن عبيد ، فقلت : إنهم يقولون كذا وكذا، فقال : نعم من بين قتيل وقطيع، قيل له : ومن فعل ذلك يا أبا عبد الله ؟

قال : زیاد وابنه عبيد الله وسمرة(4).

ص: 131


1- المصدر نفسه : 233
2- المصدر نفسه : 233
3- المصدر نفسه : 233
4- المصدر نفسه : 233

ويروي لنا الطبري ضمن حوادث سنة خمسين من الهجرة طرفاً من جرائم سمرة في البصرة والكوفة، حيث إن زياداً قد نصب سمرة خليفة له على إمارة البصرة في فترة غيابه عنها، فقد كان زیاد وزّع سنته إلى شطرين يقضي شطراً منها في الكوفة وشطراً في البصرة.

وفيما يلي بعض ما يرويه الطبري :

فلمّا استخلف زیاد سمرة على البصرة أكثر القتل فيها، قال ابن سیرین : قتل سمرة في غيبة زیاد هذه ثمانية آلاف، فقال له زياد : أما تخاف أن تكون قتلت بريئاً ؟ فقال : لو قتلت معهم مثلهم ما خشیت.

ويروي الطبري أيضاً عن أبي سوّار العدوي قال : قتل سمرة من قومي في غداة سبعة وأربعين رجلاً كلّهم قد جمع القرآن.

ويروي الطبري : ركب سمرة يوماً فلقي أوائل خیله رجلاً فقتلوه ، فمرّ به سمرة وهو يتشحط في دمه فقال : ما هذا؟ فقيل : أصابه أوائل خيلك .

فقال : إذا سمعتم بنا قد ركبنا فاتّقوا أسنتنا(1).

ويروي ابن أبي الحديد طرفاً آخر من جرائم سمرة فيقول :

جاء رجل من أهل خراسان إلى البصرة، فترك مالاً كان معه في بيت المال ، وأخذ براءة، ثم دخل المسجد فصلّي ركعتين ، فأخذه سمرة بن جندب، واتّهمه برأي الخوارج ، فقدّمه فضرب عنقه ، وهو يومئذٍ على شرطة زياد، فنظروا فيما معه فإذا البراءة بخط بیت المال(2).

ص: 132


1- الطبري : 5/ 482 حوادث سنة خمسين
2- شرح نهج البلاغة : 4/ 77

وفي رواية أُخرى في المصدر نفسه تنص على أن سمرة بن جندب كان يشرب الخمر ولا يأبي عن اظهار ذلك امام المسلمين الذين يفدون عليه على أنه من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و اله).

يقول : روى الأعمش، عن أبي صالح، قال : قيل لنا : قد قدم رجل من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و اله)فأتيناه فإذا هو سمرة بن جندب ، وإذا عند إحدى رجليه خمر، وعند الأُخرى ثلج، فقلنا : ما هذا؟ قالوا : به النّٙقرس(1).

وأثناء هذا الموقف الذي شاهد فيه الزوار هذا الصحابي وقد أعد مائدة الخمر عند رجليه !!

يقول الراوي : وإذا قوم أتوه ، فقالوا يا سمرة، ما تقول لربّك غداً ؟ تؤتى بالرجل فيقال لك : هو من الخوارج فتأمر بقتله ؟ ثم تؤتى بآخر فيقال لك : ليس الذي قتلته بخارجيّ، ذلك فتي وجدناه ماضياً في حاجته ، فشبّه علينا، وإنما الخارجيّ هذا، فتأمر بقتل الثاني!

فقال سمرة : وأيّ بأس في ذلك ، إن كان من أهل الجنة مضى إلى الجنة ، وإن كان من أهل النار مضى إلى النار(2).

وكثيرة القصص التي تروى في ظلم وقسوة سمرة بن جندب الذي عمل من المجازر الدموية ما لم يفعله زیاد من المجازر، وعُرف ببغضه لعلي(علیه السلام) وشيعته ، وموالاته لمعاوية وحزبه حتى نقل عنه أنه أطاع معاوية أكثر مما أطاع الله سبحانه !

يروي الطبري في حوادث سنة ثلاث وخمسين فيقول : ولما مات زیاد كان على البصرة سمرة بن جندب، وكان على الكوفة عبد الله بن خالد بن أُسيد،

ص: 133


1- المصدر نفسه : 77/4
2- شرح النهج: 4 / 78

فأقر سمرة على البصرة ثمانية عشر شهراً ، وقيل : ستة أشهر(1)، ثم عزله معاوية ، فقال سمرة : لعن الله معاوية! والله لو أطعت الله كما أطعته ما عذبني أبداً(2) .

وقد عمر سمرة بن جندب - في معصية الله - إلى سنة تسع وخمسين ، ويقال : توفّي في أول سنة ستين (3).

وفي رواية ابن أبي الحديد : فبقي سمرة بن جندب حتى شهد مقتل الحسين (علیه السلام).

وروى أحمد بن بشير عن مسعر بن کدام ، قال : كان سمرة بن جندب أيام مسير الحسين(علیه السلام) إلى الكوفة على شرطة عبيد الله بن زياد، وكان يحرّض الناس على الخروج إلى الحسين(علیه السلام) وقتاله(4)

ويروى الطبري في سبب موته ، قال : ومات سمرة حتى أخذه الزمهرير فمات شرّ ميته(5).

ص: 134


1- وفي فتوح ابن أعثم : 204/4 . ثمانية أشهر، ثم عزله معاوية وولّی مكانه : عبد الله بن عمرو الثقفي
2- الطبري : 5 /503
3- الذهبي : 234
4- شرح النهج : 4 / 78 - 79
5- الطبری : 503/5

الباب الثالث: مع الحسين في رفضه لبيعة يزيد بن معاوية

اشارة

ص: 135

ص: 136

الفصل الأول: مواقف الامام الحسين من البيعة ليزيد

اشارة

المبحث الأول : موقف الحسين من البيعة ليزيد في حياة معاوية

المبحث الثاني : موقف الحسين من البيعة ليزيد بعد وفاة معاوية

المبحث الثالث : خلفيات رفض الحسين لبيعة يزيد

ص: 137

ص: 138

المبحث الأول: موقف الحسين من البيعة ليزيد في حياة معاوية

تعتبر قضية رفض بيعة يزيد من قبل الإمام الحسين من القضايا المفصلية والأساسية في الثورة الحسينية ، ومن أجل إعطاء صورة واضحة عن هذا الموقف الحسيني لابدّ من العودة إلى جذور هذا الرفض في حياة معاوية.

لقد فشلت كل المحاولات التي بذلها معاوية بن أبي سفيان قبل موته لتقييد الإمام

الحسين ببيعة يزيد، أو ضمان سکوت الإمام عن یزید و خلافته.

ويروي المؤرخون عدة مواقف للإمام الحسين مع معاوية حين أخذ يعد الأمر لابنه يزيد من بعده ، وقد نقلنا سابقاً بعض هذه المواقف العملية التي دارت أحداثها في المدينة عند سفر معاوية إليها في موسم الحج بألف فارس لغرض إرهاب أهل المدينة ومكة وإذلالها وأخذ البيعة قسراً منهم.

وفي بعض الروايات التاريخية أن هنالك مكاتبات في هذا الشأن جرت بين معاوية والإمام الحسين (علیه السلام).

يروي ابن قتيبة في الإمامة والسياسة :

«کتب معاوية إلى الحسين بن علي : أمّا بعد، فقد انتهت إلي منك أُمور لم أكن أظنك بها رغبة بك عنها، وإن أحق الناس بالوفاء لمن أعطى بيعة من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزل الله بها فلا تنازع إلى قطيعتك،

ص: 139

واتق الله ، ولا تردن هذه الأُمة في فتنة، وأنظر نفسك ودينك وأُمة محمد ولا يستخفنك الذين لا يوقنون»(1).

هذه الرسالة الموجزة من معاوية إلى الإمام الحسين (علیه السلام)بتنطوي على کید و تهدید ومکر کبیر مغلف بغشاء رقيق من المديح الفارغ.

فأجابه الإمام الحسين(علیه السلام) جواباً يحمل في ثناياه تلك الروح الحسينية المفعمة بالعزة والإباء، ووضع الأُمور في نصابها من دون محاباة أو وجل أو خوف ، قال(علیه السلام) في كتابه :

«أمّا بعد فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنه انتهت إليك عني أُمور لم تكن تظنني بها، رغبة بي عنها، وإن الحسنات لا يهدي لها، ولا يسدّد إليها إلّا الله تعالى، وأما ما ذكرت أنه رقي إليك عني، فإنما رقاه الملّاقون، المشاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الجمع ، وكذب الغاوون المارقون ، ما أردت حرباً ولا خلافاً ، وإني لأخشى الله في ترك ذلك منك ومن حزبك القاسطين المحلّين ، حزب الظالم، وأعوان الشيطان الرجيم ألست قاتل حجر، وأصحابه العابدين المخبتين ، الذين كانوا يستفظعون البدع، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ؟ فقتلتهم ظلماً وعدواناً ، من بعد ما أعطيتهم المواثيق الغليظة، والعهود المؤكدة، جرأة على الله واستخفافاً بعهده .

أو لست بقاتل عمرو بن الحمق، الذي أخلقت وأبلت وجهه العبادة ؟ فقتلته من بعد ما أعطيته من العهود ما لو فهمته البهم لنزلت من شعف الجبال.

أو لست المدعي زياداً في الإسلام ؟ فزعمت أنه ابن أبي سفيان، وقد قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن الولد للفراش، وللعاهر الحجر، ثم سلطته على أهل الإسلام، يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، ويصلبهم على جذوع النخل ، سبحان الله یا معاوية لكأنك لست من هذه الأُمة ، وليسوا منك ؟

ص: 140


1- الإمامة والسياسة : 1/ 186، وابن عقيل العلوي - النصائح الكافية :65 - 66

أو لست قاتل الحضرمي الذي كتب إليك فيه زياداً أنه على دين علي (علیه السلام)؟ ودين على هو دین ابن عمه(صلی الله علیه و اله) [الدين] الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ؟ ولولا ذلك كان فضل شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين : رحلة الشتاء والصيف ، فوضعها الله عنكم بنا منّة عليكم.

وقلت فيما قلت : لا تردّ هذه الأُمة في فتنة ، وإني لا أعلم لهم فتنة أعظم من إمارتك عليها، وقلت فيما قلت : أنظر لنفسك ولدينك ، ولأُمة محمد صلّى الله عليه وسلم، وإني والله ما أعرف أفضل من جهادك ، فإن أفعل فإنه قربة إلى ربي ، وإن لم أفعل فاستغفر الله لديني، وأسأله التوفيق لما يحب ويرضى.

وقلت فيما قلت : متى تكدني أكدك ، فكدني يا معاوية فيما بدالك ، فلعمري لقديماً یکاد الصالحون، وإني لأرجو أن لا تضر إلّا نفسك، ولا تمحق إلّا عملك ، فكدني ما بدا لك، واتق الله يا معاوية ، واعلم أن لله كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها، وأعلم أن الله ليس بناسٍ لك قتلك بالظنة، وأخذك بالتهمة، وإمارتك صبياً يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب، ما أراك إلّا وقد أوبقت نفسك وأهلكت دينك واضعت الرعية ، والسلام »(1).

يعتبر هذا الكتاب الحسيني وثيقة تاريخية مهمّة جداً، تؤرّخ من خلال سطورها سجّل الدماء التي سفكها الأمويون من دون حق، وهي صرخة مدوية في وجه العبث والتلاعب والتجاوز الأموي ، كما أنه بيان لحقوق الشعب الذي لا يمكن التغاضي عنها مهما كان الأمر، وأيضاً يكشف لنا عن جانب من الأسباب التي دعته للخروج على يزيد فيما بعد(2).

ص: 141


1- الدينوري، ابن قتيبة - الإمامة والسياسة : 230 - 231، طبعة افست لشريف الرضي - قم تحقیق علي شيري
2- العلايلي، عبد الله - الإمام الحسين : 238، طبعة دار مكتبة التربية - بیروت، (1972م)

وفي نص تاريخي آخر واجه فيه الإمام الحسين (علیه السلام)معاوية مواجهة صريحة وواضحة بين فيه الإمام أبعاد شخصية يزيد وزيف وكذب ما يدعيه من صفات حميدة لولده .

جاء في كتاب الإمامة والسياسة :

«... هيهاتَ هيهاتَ یا معاوية، فضح الصبح فحمة الدجی، وبهرت الشمس أنوار السرج، ولقد فضّلت حتى أفرطت، واستأثرت حتى أجحفت ، ومنعت حتى محلت، وجزت حتى جاوزت، ما بذلت لذي حقّ من رسم حقه بنصيب ، حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر، ونصيبه الأكمل.

وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اکتماله ، وسياسته لأُمة محمد(صلی الله علیه و اله) ، تريد أن توهم الناس في يزيد كأنك تصف محجوباً ، أو تنعت غائباً ، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص، وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه.

فخذ ليزيد فيما أخذ فيه من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السّبق لأترابهن، والقيان ذوات المعازف، وضرب الملاهي ، تجده باصراً، ودع عنك ما تحاول ، فما أغناك أن تلقى الله من وزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه ، فوالله ما برحت تقدح باطلاً في جور وحنقاً في ظلم، حتى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ولات حين مناص »(1).

في هذين النصين يتجلى لنا بشكل واضح موقف الإمام الحسين (علیه السلام)من استخلاف یزید والمبررات الموضوعية لهذا الرفض.

ومات معاوية في شهر رجب سنة (60ه) والحسين باق على موقفه من الانكار لبيعة یزید.

ص: 142


1- الامامة والسياسة : 209/1

المبحث الثاني: موقف الإمام الحسين من البيعة ليزيد بعد وفاة معاوية

* يزيد يستعجل الأُمور لأخذ البيعة :

لقد كان أكبر همٍّ ليزيد حين آلت إليه الأُمور بعد موت أبيه هو أخذ البيعة من مدينة الرسول عامة ، ومن الشخصيات التي امتنعت عن بيعته خاصة .

وحسب نص ابن الأثير :

«ولم يكن ليزيد همّهُ إلّا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية بيعته»(1).

وكان أمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، فكتب يزيد إليه كتاباً يخبره بموت معاوية ، وكتاباً آخر جاء فيه : «أما بعد، فخذ حسيناً ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ليست فيه رخصة، حتى يبايعوا والسلام».

وفي فتوح ابن أعثم زيادة : «فمن أبي عليك منهم فأضرب عنقه وابعث إليّ برأسه»(2).

فارسل الوليد إلى الحسين وابن الزبير يدعوهما، فوجدهما في المسجد وهما جالسان، فأتاهما في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس ، فقال : أجيبا الأمير .

فقالا : انصرف ، الآن نأتيه.

وقال ابن الزبير للحسين : ما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها؟

ص: 143


1- انظر : الكامل في التاريخ : 2/ 529، طبعة دار احیاء التراث - بیروت، الطبعة الأُولى، (1408ه- 1989م)، تحقیق علي شيري، والطبري : 5/ 338، تحقیق ابو الفضل إبراهيم
2- الطبري : 5/ 239، وابن الأثير في الكامل : 2/ 529، والأخبار الطوال : 227، وفتوح ابن أعثم: 10/5

فقال الحسين : أظنّ أن طاغيتهم قد هلك فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشو في الناس الخبر.

فقال [ابن الزبير] : وأنا ما أظن غيره، فما تريد أن تصنع؟

قال [الحسين] : أجمع فتياني الساعة ثمّ أمشي إليه وأجلسهم على الباب وأدخل عليه.

قال [ابن الزبير] : فإني أخافه عليك إن دخلت .

قال [الحسين] : لا آتيه إلّا وأنا قادر على الامتناع(1).

وجاء الحسين إلى الوليد فدخل عليه فوجد عنده مروان، فقرأهُ الوليد الكتاب ونعى له معاوية ودعاه إلى بيعته .

ولقد آثر الحسين أن يتخلص من الوليد بالحسنى فقال له : أما ما سألتني من البيعة فإنّ مثلي لا يعطي بيعته سرّاً ، ولا أراك تجتزي بها مني سرّاً دون أن تظهرها على روؤس الناس علانية، فإذا خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا مع الناس فكان أمراً واحداً.

فقال له الوليد ، وكان يحب العافية ، فانصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس.

ولكن مروان قال للوليد : « والله لئن فارقك الساعة ولم يبايع لاقدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه ، احبس الرجل ، ولا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه!

فوثب عند ذلك الحسين (علیه السلام)وقال : ويلي عليك يابن الزرقاء أأنت تقتلني أم هو؟ كذبت والله ولؤمت »(2)

ص: 144


1- الكامل في التاريخ : 530/2
2- انظر : الطبري : 5/ 339 - 340، وابن الأثير : 2/ 530، والبلاذري : 15

ثم أقبل على الوليد ، فقال : «أيها الأمير ، إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فتح، و بنا ختم، و یزید فاسق، فاجر ، شارب للخمر، قاتل النفس المحترمة ، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله»(1).

بهذه الكلمات أعلن الحسين ثورته على الحكم الأموي الفاسد على عظمته وجبروته وقسوته في مؤاخذة الخارجين عليه ، فقد مات معاوية وانقضى العهد والميثاق ، وأصبح وجهاً لوجه أمام دوره التاريخي الذي يحتم عليه أن يصنعه ، وإنه لعلى يقين من أن حكم يزيد لن يأخذ صفة شرعية مادام هو ممسكاً عن بيعته ، أما إذا بایعه فإنه حينئيذٍ قد أكسب الغل الجديد الذي طوقت به الأُمة المسلمة صفة قانونية شرعية ، وهذا شيء لا يفعله (علیه السلام).

إن ثمة فرقاً عظيماً بين أن تكون الأُمة راضخة لحكم ظالم ولكنها تعلم أنه حكم بغير حق، وأنه حكم يجب أن يزول ، وبين أن تخضع الأُمة لحكم ظالم وترى أنه حکم شرعي لابد منه ولا يجوز تغييره .

إن الأُمة في الحالة الثانية ترى أن حياتها التعسة، وأن التشريد والجوع والحرمان والذل، هو قدرها الذي لا مفر لها منه، وهو مصيرها المحتوم الذي لابد أن تصير إليه، وحينئذ يقضي على كل أمل في تغير الأوضاع، ومعها يضمحل كل أمل في الثورة، وإذ تدعم الأُمة جلاديها بدل أن تثور عليهم، ويصار إلى الرضا بما هو كائن بحسبانه ما ينبغي أن يكون.

أما حين تخضع الأُمة وهي تعلم أن الحاكم لا حق له ، ولا شرعية فحينئذ يبقى الأمل في التغيير حياً نابضاً، وتبقى الثورة مشتعلة في النفوس، وحينئذ يكون للثائرين مجال للعمل لأن التربة معدة للثورة.

ص: 145


1- السيد الأمين، محسن - أعيان الشيعة، ترجمة الإمام الحسين : 1/ 588، طبعة دار التعارف ۔ بيروت

وكان علىٰ الحسين وحده أن ينهض بهذا الدور، لقد كانت الثورة قدره المحتوم، أما الآخرون الذين أبوا البيعة ليزيد فلم يكن لهم عند المسلمين ما للحسين من المنزلة، وعلو الشأن، أما ابن عمر فسرعان ما سلم قائلاً : «إذا بايع الناس بایعت»(1) وأما ابن الزبير فقد كان الناس يكرهونه ويتهمونه في إبائه البيعة بأنه يريد الأمر لنفسه، فلم تكن دوافعه دینية خالصة، وإنما كان يدفعه الطمع في الخلافة ، وما كان الناس يرونه لذلك أهلاً.

وإذن، فقد وجد الحسين نفسه وجهاً لوجه أمام دوره التاريخی :

الحكم الأموي بكل ما فيه من فساد، وانحطاط ورجعية وظلم.

والأُمة المسلمة بذلّٙها وجوعها وحرمانها. ومركزه العظيم في المسلمين.

كل ذلك وضعه وجهاً لوجه أمام دوره التاريخي، وخطط له المصير الذي يتحتم عليه أن يصنعه لنفسه.

وعند ذلك أعلن ثورته بهذه الكلمات التي أجمل فيها أسباب الثورة : التهتك، والتطاول على الدين، والاستهتار بحقوق الشعب(2)، من قبل یزید بن معاوية وولاته وازلام الحكم الأموي.

وفي رواية ينقلها المؤرخون تنقل لنا طرفاً قصيراً معبراً من حوار سریع جری بين الإمام الحسين (علیه السلام)ومروان وذلك في صبيحة الليلة التي استدعي الحسين فيها لبيعة یزید.

«وعند الصباح لقي مروان أبا عبد الله (علیه السلام)فعرفه النصيحة التي يدخرها لأمثاله وهي البيعة ليزيد فإن فيها خير الدين والدنيا ! فاسترجع الحسين(علیه السلام) ،

ص: 146


1- الكامل في التاريخ : 2/ 513، والطبري : 5/ 342
2- شمس الدين ، محمد مهدي - ثورة الحسين : 136

وقال : على الإسلام السلام إذا بليت الأُمة براع مثل يزيد ولقد سمعت جدي رسول الله (صلی الله علیه و اله)يقول : الخلافة محرمة على آل أبي سفيان ، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه ، وقد رآه أهل المدينة على المنبر فلم يبقروا فابتلاهم الله بیزید الفاسق، وطال الحديث بينهما حتى انصرف مروان مغضباً»(1) .

ففي هذا الحوار على وجازته يستشرف الحسين(علیه السلام) مصير الأُمة وما سوف تؤول إليه الأُمور خلال حكومة يزيد، وفعلاً هكذا حصل، حيث عاشت الأُمة فترة عصيبة كثر فيها سفك الدماء، ونهب الأموال، والذل والهوان .

المبحث الثالث: خلفيات رفض الحسين لبيعة يزيد

اشارة

مرّ بنا سابقاً أهم مفردات خلفيات البيعة ليزيد وملابساتها والتي سخَّر من أجلها معاوية بن أبي سفيان كل وسائل الترغيب والترهيب والكذب والخديعة والقتل والاغتيال حتي فرضها على الأُمة الإسلامية رغماً عنها.

وقبل الحديث عن خلفيات رفض الإمام الحسين لبيعة يزيد لابدّ لنا من الإشارة إلى مفهوم البيعة في الإسلام.

المفهوم الإسلامي للبيعة :

والبيعة كمفهوم وکمهارسة لها جذور تاريخية قبل الإسلام إذ كانت القبائل العربية تعقد البيعة فيما بينها والتي كانت نوعاً من التحالف والتعاهد على موضوع معين.

ص: 147


1- المقرم، عبد الرزاق - مقتل الحسين : 133، نقلاً عن اللهوف : 13، ومثير الأحزان : 10، ومقتل الخوارزمی: 1/ 185

وجاء الإسلام و أقرّ هذه العملية كنوع من المعاهدة بين الحاكم والمحكوم ضمن شروط افترضها الإسلام في الطرفين، وعمل بها النبي(صلی الله علیه و اله) فكانت بيعة العقبة الأُولى والثانية وبيعة الرضوان وبيعة النساء، وقد أشار إليها القرآن الكريم ضمن آيات عديدة(1) وقد كانت تعني أمرين:

الأول : الدخول في الإسلام، وممارسة شؤون الحياة على أساس من القيم الدينيّة.

والثاني : حماية الرسول(صلی الله علیه و اله) من أذى قريش ، من خلال هجرته إلى المدينة .

وقد أُضيف بعد استقرار الإسلام كدولة هدف جديد إلى أهداف البيعة وهو المشاركة في العمليّة التغييرية التي تساعد في تكوين المجتمع الجديد على أساس من القيم الجديدة، كما هو الأمر في قبول النبي لبيعة النساء المؤمنات المهاجرات إلى المدينة.

إلّا أن المفهوم القرآني للبيعة قد حُرّف عن مضمونه وأفرغ عن محتواه بعد رحيل الرّسول الأكرم (صلی الله علیه و اله)و تحول إلى وسيلة قهرية بيد بني أُمية وبني العباس وغيرهم من حكّام الظلم والجور، وأخذ فقهاء السلاطين يخترعون وينظرون للبيعة فقهياً من خلال فقه الأحكام السلطانية ، والذي يصطلح عليها حديثاً بالفقه السياسي، حيث نجد باباً فقهياً يسمى «أي۟مَان البيعة»!

ما هي أَی۟مَان البيعة؟

إنها تعني كل يمين ، وكل تعهد يمكن أن يجعل الإنسان ملزماً بتنفيذ الطاعة ، فكانوا يجمعون الناس ويطلبون منهم أن يبايعوا فلاناً خليفة وأميراً للمؤمنين ،

ص: 148


1- انظر الفتح : 10 و 18، والممتحنة : 12

ويستعملون في ذلك أدوات السلطة وهي الترغيب والترهيب، إما ببذل الامتيازات من أموال ومناصب، أو الترهيب بالسجن والقتل والنفي ...... بهذه الأساليب يطلبون من الناس أن يبايعوا، ولكنهم يعلمون أن الناس لا يبايعون ، وإذا بايعوا فإنهم لا يفون ببيعتهم لأنهم مكرهون، مهانون ومذلون، فكانوا يأخذون عليهم ما يسمى ب ( أي۟مان البيعة ) ويقيدونهم بها، فكان المبايع يقول في صيغة البيعة : أنا اُبايع فلاناً والتزم له بالسمع والطاعة ، وإذا أخللتُ ببيعتي فامرأتي طالق أو نسائي طوالق ، ورقيقي احرار ، وممتلكاتي موقوفات أو موهوبات أو ما أشبه ذلك ، أو أسير حافياً إلى مكة عشرين سنة.

هذه أيان البيعة، يقيدون الناس بهذه الأيمان ليضمنوا ولاءهم ووفاءهم ، فيخرجون الناس من دائرة الحرية إلى دائرة الأصير والأغلال(1).

وهي كما قلنا من اختراعات فقهاء السلاطين، ورجال الدين الذين تحولوا إلى أداة من أدوات السلطة والقمع، واستغلوا الصيغ الفقهية لتثبيت حالة الطاعة المطلقة ، والطاعة العمياء.

أغلال البيعة وتبعاتها :

وهكذا تحولت البيعة من صيغة تشريعية بين الحاكم والمحكوم إلى غلٍ يوضع في أعناق المسلمين لتجعلهم أشبه بالعبيد الأقنان لهذا الخليفة أو ذاك لأنهم أخذوا عليهم البيعة وأيمان البيعة.

وقد مرّ بنا سابقاً ما حصل في واقعة الحرّة الرهيبة والتي استباح بها يزيد المدينة بواسطة قائد جيشه مسلم بن عقبة المرّي ، حيث ابتدع هذا السفاح أُسلوباً جديداً

ص: 149


1- شمس الدين ، محمد مهدي : عاشوراء مجموعة محاضرات : 2/ 435 و 441

للبيعة لم تعرفه الجزيرة العربية في جاهليتها ولا في إسلامها ، فكان يخاطب الأسرى بقوله : «تبایعون على أنكم خُول ليزيد، مما أفاء الله عليه بأسياف المسلمين ، إن شاء وهب، وإن شاء أعتق ، وإن شاء استرقَّ»(1).

ذكر اليعقوبي في تاريخه : إن مسلم طلب البيعة من الأعيان على أنهم عبيد ( أقنان) والقن العبد الذي مُلِك هو وأبوه، فكان الرجل من قريش يؤتى به ، فيقال له : بايع أنك عبد قن ليزيد، فيقول لا، فيضرب عنقه(2) .

وهكذا ذهب ضحية هذه البيعة وشروطها التي ما أنزل الله بها من سلطان خلق كثير من الصحابة والتابعين، وبایع من بايع منهم على هذه الشروط بعد عمر طويل قضوه في طاعة الله والجهاد في سبيله.

فالبيعة التي لها شروطها وأهدافها التي لا ينبغي أن تصادم أحكام الشريعة الإسلامية وتعاليمها ، تحولت بفعل معاوية بن أبي سفيان وخلفاء بني أُُمية إلى وسيلة لتكبيل الأُمة وسلب إرادتها واخترع بعد ذلك فقهاء السلطان قضية « أيمان البيعة» ووضعوا في الشريعة و في الفقه مبدأ استعمال القوة في ولاية السلطان واعطوه صفة الشرعية .

وهكذا أصبحت الأُمة أمام واقع جديد للبيعة غير الواقع الإسلامي الذي شهدهالمسلمون الأوائل في زمن الرسول الأكرم(صلی الله علیه و اله) حتى بلغ السخرية والتندر في الموقف عند بعضهم في ذلك الحين فقال شاعرهم واصفاً تلك الحقبة :

ولو جاؤوا برملة أو بهند(3)

لبايعنا أميرة مؤمنينا

إذا ما مات کُسری قام کُسری

نعد ثلاثة متعاقبينا

ص: 150


1- الإمامة والسياسة : 15/2
2- تاریخ الیعقوبی: 2/ 165
3- رملة وهند بنات معاوية، أخوات يزيد
مبررات الحسين (علیه السلام)في رفضه لبيعة يزيد بن معاوية :

لقد كان يزيد ومن قبله معاوية وكل ولاة بني أُمية وشخصياتهم بل عامة المسلمين يعرفون جيداً أن الحسين(علیه السلام) لا يبايع يزيد بن معاوية مهما كانت الظروف ، ولم يكن هذا الرفض بشكل مفاجأة للأُمة بعد أن أفصح الحسين عن رفضه في حياة معاوية و بشكل مباشر ومن خلال المراسلات التي تبادلوها ، ولهذا قال مروان لوالي الأمويين على المدينة الوليد بن عتبة، عندما سمح للحسين بالانصراف من دون أن يأخذ منه البيعة : «والله لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه، على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، احبس الرجل، ولا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه»(1).

وقد أفصح الحسين (علیه السلام)عن أسباب رفضه للبيعة بشكل واضح وصريح کما مرّ بنا سابقاً والتي يمكن تلخيصها فيما يلي :

أولاً : شخصية يزيد التي تفتقد لأبسط المقومات الإيمانية والعقلانية والحكمة ، إذ اتصف يزيد بالفجور والنزق والاستهتار والمجون ... کما مرّ بنا سابقاً ، والإمام الحسين لا تخفى عليه شخصية يزيد وقد وصفه لمعاوية قبل وفاته ووصفه للوليد عندما طلب منه البيعة.

ثانياً : ان يزيد بن معاوية قد تسلط على الخلافة على غير رضا من الأُمة ، ومن دون اختيار لها، وإنما جاء إلى ولاية العهد ثمّ الخلافة بالقوة والاغراء أو بالخداع والمكر... فسلطته غير شرعية، فهو وال من ولاة الجور وحاکم من الحكام الظلمة.

ص: 151


1- الطبری : 5/ 339

ثالثاً : إن الإمام الحسين(علیه السلام) وبحكم موقعه كإمام معصوم فإن ما يقوله أو يفعله أو يقرره تشريع، وإنطلاقاً من هذا المبدأ فلو بایع يزيد أو سکت عن بیعته ولم يرفضها، لغدت شرعية خلافة يزيد ومن يأتي من بعده شرعية ثابتة ولأصبح يزيد ومن يأتي من بعده من خلفاء بني أُمية يمثلون مرجعية شرعية في فهم القرآن والسنة ومقاصد الله في الشريعة الإسلامية، وأصبح قولهم وفعلهم و تقریر هم سنة متبعة كسنة رسول الله(صلی الله علیه و اله) لأنها اكتسبت شرعيتها من بيعة الإمام الحسين (علیه السلام)ولهذا رفض الإمام الحسين(علیه السلام) البيعة وقالها صريحة : « ومثلي لا يبايع مثله » باعتباره (علیه السلام)يمثل مرجعية تشريعية في فهم الإسلام والقرآن وسنة الرسول، وليس فقط كشخصية اعتبارية لها مقامها السياسي والاجتماعي.

يقول الدكتور أحمد محمود صبحي : «... في ظل دولة يقوم نظامها السياسي على أُسس دينية لا تعد البيعة أو انتخاب الحاكم مجرد عمل سیاسي، ففي إقدام الحسين على بيعة يزيد إنحراف عن أصل من أُصول الدين من حيث أن السياسة الدينية للمسلمين لا ترى في ولاية العهد ووراثة الملك إلّا بدعة هرقلية دخيلة على الإسلام، ومن حيث إن اختيار شخص يزيد مع ما عرف عنه من سوء السيرة وميله إلى اللهو وشرب الخمر ومنادمة القرود ليتولى منصب الخلافة عن رسول الله ، أكبر رزءٍ يحل بالنظام السياسي للإسلام يتحمل وزره كل من شارك فيه ورضي عنه، فما بالك إذا كان المقدم على ذلك هو ابن بنت رسول الله »(1).

ص: 152


1- صبحي، أحمد محمود، نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثني عشرية، تحلیل فلسفي للعقيدة . ط. دار النهضة العربية - بيروت (بلا - ت)

رابعاً : لقد عَمِل معاوية بن أبي سفيان وبكل ما يمتلك من وسائل السلطة ، وبسلاحي الترغيب والترهيب على ترويض الأُمة الإسلامية وقهر إرادتها والسيطرة عليها وإخضاعها وإذلالها ، فأضحت بذلك أُمة تهرب من التحدي ولا تواجهه و تستسلم للأمر الواقع ولا يهمها من جاء إلى الخلافة سواء كان يزيد أو رملة أو هند على حد قول شاعرهم.

فالأُمة إذا وصلت إلى هذا المستوى من التدني ، عندها تكون السلطة الحاكمة قد أفلتت من رقابتها ومحاسبتها ومن قبل ذلك قد أفلتت من رقابة الله ودينه و تشریعه.

عندها يأتي صوت الرفض الحسيني مدوياً ليوقظ هذه الأُمة من سباتها ونومها العميق، وليحررها من قيودها وأغلالها وآصارها لتعود إلى موقعها القيادي ، ولتكون الأُمة الشاهدة والشهيدة والأُمة الوسط، وخير اُمة أخرجت للناس، کما أراد الله سبحانه لها.

ص: 153

ص: 154

الفصل الثاني: وضوح البيان الحسيني في رفض البيعة

اشارة

المبحث الأول : كلمات الإمام الحسين قبل خروجه من المدينة

المبحث الثاني : كلمات الإمام الحسين قبل خروجه من مكة

المبحث الثالث : ثوابت نهضة الإمام الحسين

ص: 155

ص: 156

المبحث الأول: كلمات الإمام الحسين قبل خروجه من المدينة

اشارة

من أهم السمات التي اتصفت بها نهضة الإمام الحسين(علیه السلام) صفة الصدق مع المبادئ، والصراحة والشفافية في بيان الأهداف الرسالية التي قام من أجلها.

وهذه الصراحة والوضوح والشفافية التي اعتمدها الإمام الحسين(علیه السلام) كمنهج في تعامله مع قضية البيعة ليزيد نجدها واضحة في كلماته التي قالها في مجلس والي الأمويين الوليد عندما طلب منه البيعة قال (علیه السلام): «و یزید رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل للنفس ... ومثلي لا يبايع مثله».

فالحسين(علیه السلام) حامل رسالة، وحملة الرسالات من الأنبياء والرُّسل والأوصياء لا يمكن ولا ينبغي لهم أن يعتمدوا الخطابات المبهمة، أو أن يحجبوا الحقائق عن الناس، أو يبهموا عليهم الأُمور، لأن الأُمة تقتفي أثر قائدها، وتستجلي المواقف من خلاله، فمن حق الأُمة على القائد أن يبين لهم الموقف بشكل صريح وواضح لأنه المرآة التي تنعكس من خلالها حقائق الأُمور، ومن أولى من الحسين(علیه السلام) بهذه الصفات وهو الإمام المعصوم والقائد الرباني ووارث الأنبياء، ومقتني لآثارهم، ولهذا نجد أن هذه الصراحة الحسينية في رفض البيعة تذكرنا بالصراحة النبوية التي رفض بها رسول الله(صلی الله علیه و اله) كل ما عرضت عليه قريش من الامتيازات العظمی من الثروة والجاه والملك، حيث كان جوابه (صلی الله علیه و اله): «يا عم، والله لو وضعوا الشمس

ص: 157

في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر أو أهلك دونه ما تركته» في الوقت الذي كان رسول الله (صلی الله علیه و اله)محاصراً في مكة ، ولم يكن له من الأصحاب وحملة الدعوة إلّا نفر قليل من المستضعفين ، ممّن يخافون أن يتخطفهم الناس من حولهم .

* وضوح الحركة الحسينية :

بعد أن رفض الحسين(علیه السلام) البيعة ليزيد لم يبقَ أمامه سوى خيار المواجهة مع أجهزة النظام الحاكم، فلابد من اختيار الآلية المناسبة لهذا المواجهة، ولأسباب كثيرة لم تكن المدينة المكان المناسب لهذه المواجهة، اختار الخروج إلى مكة، لتكون المحطة الأُولى لحركته.

لقد كان الإمام الحسين (علیه السلام)يعلم جيداً بأنه سوف لا يترك آمناً ما لم يبايع ، ولهذا قال لأخيه محمد بن الحنفية عندما أشار إليه أن ينجو بنفسه من یزید ، قال (علیه السلام): « والله يا أخي لو كنتُ في جُحرِ هامَّةٍ مِن۟ هَوامّٙ الأرضِ، لاستخرجوني مِنهُ حتّى يَقتُلوني»(1).

إلّا أن وضوح المصير الذي سوف تؤول إليه حركته وهو القتل والشهادة ، لم تجعله يرضخ لذل البيعة وهوانها و تبعاتها، ولهذا يروى عنه(علیه السلام) من كلامه لمحمد ابن الحنفية أيضاً : «يا أخي واللهِ لو لم يكُن في الدُّنيا مَلجَأٌ ولا مأوىً، لما بايَعتُ یزیدَ بن معاوية»(2).

ولم يكن الحسين(علیه السلام) خائفاً مرعوباً عند خروجه من المدينة، وتلاوته للآية القرآنية : «فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»(3)

ص: 158


1- المجلسي، بحار الأنوار : 45 / 99
2- ابن اعثم، الفتوح: 23/5
3- القصص : 21

حين خروجه من المدينة إلى مكة فيها إيحاءات ودلالات أُخرى غير دلالة الخوف. ولهذا عندما طلب منه(علیه السلام) أن يعدل عن الطريق الأعظم وأن يسلك طريقاً آخر كما فعل ابن الزبير مخافة أن يلحقه الطلب قال (علیه السلام): «لا والله ، لا فارقتُ هذا الطَّريق أبداً أو أنظرَ إلى أبياتِ مَكَّةَ أو يقضيَ اللهُ في ذلك ما يُحبُّ ويرضىٰ»(1) وفي رواية أبي مخنف قال (علیه السلام): «لن أحيدَ الطريقَ حَذَرَ الموتِ »(2).

لقد كانت هجرة الحسين من المدينة إلى مكة كهجرة موسی بن عمران إلى أرض مدين فكل منها قد فر من فرعون زمانه ، وهاجر لمقاومة الظلم ومناهضة الطغيان(3) .

لقد رضي الحسين (علیه السلام)بكل قضاء يبرمه الله ، ولم يضعف، ولم تُوهِن عزيمته الأحداث الهائلة التي لا يطيقها أي إنسان، وكان يتمثل في أثناء مسيرتِه بشعر یزید بن مفرّغ :

لاذعرت السوام في فلق الصبح

مغيراً ولا دعيت یزیدا

يوم أعطي مخافة الموت ضيماً

والمنايا ترصدنني أن أَحيدا

وروي أنه أنشد في مسيرته هذه الأبيات :

إذا المرء لم يحم بنیه وعرسه

ونسوته کان اللئيم المسببا

وفي دون ما يبغي يزيد بنا غداً

نخوض حياضَ الموت شرقاً و مغربا(4)

وهذه الأبيات الشعرية إن دلت على شيءٍ فإنما تدل على مدى عزمه على أن يخوض حياض الموت سواء أكانت في المشرق أم في المغرب ولا يباع یزید بن معاوية(5)

ص: 159


1- الفتوح: 5 / 24
2- مقتل أبي مخنف : 25
3- القرشي، حياة الإمام الحسين : 2/ 308
4- القرشي، حياة الإمام الحسين : 2/ 308
5- القرشي، حياة الإمام الحسين : 2/ 308
* الإمام الحسين في مكة :

كان دخول الحسين (علیه السلام)إلى مكة في أوائل شهر شعبان من سنة ستين من الهجرة، حيث اتخذ من دار العباس بن عبد المطلب مقراً ومسكناً له(1).

وشهر شعبان وما يلي من الشهور هي أشهر وفادة الناس إلى العمرة والاستعداد لموسم الحج، حيث يفد الناس من كل فجٍ عميق ليشهدوا منافع لهم. ومن أهمها بعد الجانب الروحي والعبادي هو لقاء أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و اله)ممّن يسكنون مكة ، أو من الذين يفدون إليها من خارجها.

وإذا كان لكل موسم من مواسم الحج شخصية تلفت الأنظار وتستقطب الناس فلقد كانت شخصية الإمام الحسين (علیه السلام)وبما يمتلك من رصيد إيماني و عقيدي ونسبي شخصية هذا الموسم، من حيث إنه(علیه السلام) ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و اله)وسبطه الذي خلفه في أُمته ، وابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)بما يمتلك علي(علیه السلام) من تاريخ في مسيرة الإسلام الكبرى، وهو إمام المسلمين وفقيهها ومرجعها في أُمور دينها ودنياها ....

لهذه المزايا المجتمعة في شخصه (علیه السلام)أصبح مركز استقطاب أهل مكة والوافدين عليها وانحسرت الأضواء عن غيره من الشخصيات الكبيرة من أمثال ابن عباس

وابن الزبير وعبد الله بن عمر وغيرهم الكثير ممن شهدوا ذلك الموسم.

يروي ابن عساکر : « واختلف إليه - أي الإمام الحسين - أهل مكة و من بها من المعتمرين وأهل الآفاق ، وابن الزبير ملازم جانب الكعبة ، ويأتي إلى الحسين فيمن يأتيه وكان ثقيلاً عليه دخول الحسين مكة لكونه أجلَّ منه وأطوع في الناس فلا يبايع له مادام الحسين فيها»(2).

ص: 160


1- ابن عساکر، تاریخ دمشق : 328/4
2- المصدر نفسه

وفي البداية والنهاية : « فعكف الناس على الحسين يفدون إليه ويُقدِمون عليه ويجلسون حواليه، ويستمعون كلامه ، حين سمعوا بموت معاوية وخلافة يزيد ، وأما ابن الزبير فإنه لزم مصلاه عند الكعبة ، وجعل يتردد إلى الحسين في جملة الناس ولا يمكنه أن يتحرك بشيء ما في نفسهِ مع وجود الحسين ، لما يعلم من تعظيم الناس له وتقديمهم إياه عليه ...».

ثمّ يقول عن ابن الزبير والإمام الحسين : ومع هذا كله ليس هو - رأي ابن الزبير - معظماً عند الناس مثل الحسين ، بل الناس إنما ميلهم إلى الحسين لانه السيّد الكبير ، وابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و اله)، فليس على وجه الأرض يومئذ أحد يساميه ولا يساويه ...(1).

ثمّ يصف ابن كثير وفود الناس على الإمام الحسين بقوله : وعكف الناس بمكة يفدون إليه، ويجلسون حواليه ويستمعون كلامه، وينتفعون بما يسمعون منه ، ويضبطون ما يروون عنه(2).

وقد سخّر الإمام الحسين (علیه السلام)موسم الحج وتجمع الناس في مكة لصالح قضيته التي خرج من أجلها تاركاً مدينة الرسول (صلی الله علیه و اله)، وهي قضية الإسلام الكبرى والتي تتمثل في : «الاصلاح» و «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» و «الاستنان بسنة رسول الله وهديه».

وكانت هذه هي أهداف الإمام الحسين والتي أعلنها في المدينة قبل خروجه منها من خلال وصيته التي كتبها إلى محمد بن الحنفية والتي جاء فيها: « .. إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في

ص: 161


1- ابن کثیر، البداية والنهاية : 8/ 162
2- المصدر نفسه

أُمة جدي (صلی الله علیه و اله)، اُريد أن آمر بالمعروف وأنهی عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب ، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومن ردّ علىَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين ...»(1) .

هذه هي أهداف وغايات الإمام الحسين من خروجه من المدينة رافضاً لبيعة یزید ، داحضاً بذلك مزاعم الأمويين وأذنابهم ممن يموهون على الأُمة الإسلامية بأن الحسين خارج على خليفة زمانه ، ویرید شق وتفریق کلمة المسلمين ، واستهواء الناس إلى نفسه، وطلب السلطة والرئاسة ... وغيرها من الدعاوى التي تبنتها لاحقاً أقلام أموية الشام من أمثال ابن تيمية ، وابن كثير ، وأموية الاندلس من أمثال ابن حزم، وابن العربي، ومن سار على خطهم ومنهجهم لتبرير جرائم الأمويين واستئصالهم لآل رسول الله (صلی الله علیه و اله).

المبحث الثاني: كلمات و مکاتبات الإمام الحسين(علیه السلام) قبل خروجه من مكة

اشارة

بالاضافة إلى أُسلوب اللقاء المباشر مع الناس و وجوه القوم ممن كانوا في مكة وشرحه لأهدافه المعلنة وما ينبغي أن يتخذ من تدابير لازمه لدرء فتنة بني أُمية وخلافة يزيد، اتخذ الإمام أُسلوب المكاتبة والمراسلة بالنسبة إلى غير الحاضرين في مكة، من الزعماء ورؤساء العشائر الكبرى وأصحاب الحل والعقد والتدبير وممّن لهم التأثير في المجتمع، شارحاً لهم أهدافه وغاياته ، ومذكراً لهم بمسؤولياتهم الإسلامية، ومحذرهم من التهاون في الأمر، واتخاذ المواقف السلبية اتجاه الأحداث.

ص: 162


1- الخوارزمی، مقتل الحسين : 1/ 188، فصل 9
* مکاتبة أهل البصرة :

ومما يؤسف له أن كتب التاريخ لا تذكر من هذه المراسلات سوی کتاب الحسين إلى رؤساء البصرة، ورسالته إلى أهل الكوفة، أما الأمصار الإسلامية الأُخرى كمصر والشام وبلاد اليمن ، فلم نعثر على نص تاريخي يؤيد أو ينفي مراسلته(علیه السلام) لأهلها .

ومهما يكن من أمر فإن الإمام الحسين قد كتب لرؤوساء الأخماس في البصرة، ولمن كاتبه ودعاه من أهل الكوفة.

أما كتابه لرؤوساء الأخماس بالبصرة، فقد ذكره المؤرخون وذكروا ردود الأفعال في التعاطي مع مضامینه سلباً أو إيجاباً .

يروي ابن كثير والطبري واللفظ للأول : «... بعث الحسين مع مولى له يقال له سلمان(1) ، كتاباً إلى أشراف أهل البصرة فيه : أما بعد، فإن الله اصطفى محمداً على خلقه وأكرمه بنبوته، واختاره لرسالته، ثمّ قبضه إليه وقد نصح لعباده ، وبلّغ ما أرسل به ، وكنا أهله وأولياءه وورثته وأحق الناس به وبمقامه في الناس ، فاستأثر علينا قومنا بذلك ، فرضينا وكرهنا الفرقة، وأحببنا العافية ، ونحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولّى ...، وقد بعثت إليكم بهذا الكتاب(2) وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فإن السنة قد اُميتت، وإن البدعة قد اُحييت، فتسمعوا قولي وتطيعوا أمري، فإن فعلتم أهدكم سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله»(3) .

ص: 163


1- في الطبري : 357/5 اسمه : سليمان، وفي اللهوف : 21 يكنى ابا رزین
2- في الطبري: 5/ 357: بعثت رسولي إليكم
3- البداية والنهاية : 170/8 ، والطبري : 5/ 357، ويبدو أن بعض فصول كتاب الإمام الحسين لم يلائم میول ابن كثير الأموية، فعلق على ذلك بقوله : «وعندي في صحة هذا عن الحسین نظر، والظاهر أنه مطرز بكلام مزيد من بعض رواة الشيعة». أُنظر المصدر نفسه

ورؤساء الأخماس وأشراف البصرة الذين كاتبهم الإمام الحسين هم : مالك ابن مسمع البكري، والأحنف بن قيس، والمنذر بن الجارود العبدي، ومسعود بن عمرو ، وقيس بن الهيثم، وعمرو بن عبيد الله بن مَعَمر ، قد تفاوتت ردود أفعالهم اتجاه کتاب الحسين (علیه السلام)، فثلاثة من بَين هؤلاء سكتوا ولم يجيبوا الحسين بشيء، وأما الأحنف بن قيس فقد كتب إلى الحسين کتاباً سلبياً مقتضباً يقول فيه : أما بعد فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون(1).

وأما المنذر بن جارود فقد سلم رسول الحسين إلى ابن زیاد فضرب عنقه في الليلة التي خرج في صبيحتها إلى الكوفة ليسبق الحسين إليها.

والشخص الوحيد الذي تفاعل مع كتاب الحسين (علیه السلام)وكان له موقف مشرف منه ، هو یزید بن مسعود أو مسعود بن عمرو حسب اختلاف الروايات فيه(2) فقد جمع قومه وعشيرته وشرح لهم الموقف وعرّفهم بالحسين(علیه السلام) ومكانته وشرفه وحسبه ودعاهم إلى نصرته، ثمّ كتب إلى الحسين (علیه السلام): «أما بعد فقدوصل إلىَّ كتابك وفهمت ما ندبتني إليه ودعوتني له .. فأقدم سعدت بأسعد طائر ، فقد ذللت لك أعناق بني تميم وتركتهم أشد تتابعاً في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم

خمسها، وقد ذللت لك رقاب بني سعد وغسلت درن قلوبها بماء سحاب مزن حين استهل برقها فلمع».

ووصل كتابه إلى الإمام الحسين ، فلما قرأه قال : «ما لك، آمنك الله من الخوف وأعزك وأرواك يوم العطش الأكبر».

ص: 164


1- ابن نما، مثير الأحزان : 13
2- عند الطبري : 5/ 357، وابن كثير في البداية والنهاية : 8/ 170 : مسعود بن عمرو، ويذكر ابن نما في مثير الأحزان : 13: یزید بن مسعود

ولما تجهز ابن مسعود إلى المسير بلغه قتل الحسين (علیه السلام)، فاشتد جزعه وكثر أسفه لفوات الأمنية من السعادة بالشهادة(1).

ولم تسعفنا المصادر التاريخية بدقة عن عدد الذين التحقوا بالحسين من أهل البصرة ، إلّا ما يذكره الطبري باقتضاب عن اجتاع ناس من الشيعة في منزل امرأة من عبد قيس يقال لها «مارية» وكانت تتَشیَّع، و خروج یزید بن نُبيط مع ولديه إلى الحسين وموافاتهم له في مكة وخروجهم معه إلى كربلاء واستشهادهم معه بالاضافة إلى نفر قلیل صحبهم في هذه الرحلة(2).

* مکاتبة أهل الكوفة :

لم يكتب الإمام الحسين(علیه السلام) إلى أهل الكوفة كتاباً يدعوهم فيه إلى نصيرته ، ولم يبعث بنسخة من كتابه الذي أرسله إلى أهل البصرة إليهم وإنما بادر أشراف أهل الكوفة بمراسلة الإمام الحسين بعد أن علموا نبأ خروجه من المدينة إلى مكة رافضاً بيعة يزيد، وكانت کتب الحسين إليهم رداً على كتبهم التي اجتمعت عنده و تکاثرت حتى بلغت إثنا عشر ألف كتابٍ كما في بعض المصادر(3).

* الجذور التاريخية لتحرك الكوفة :

لقد عايشت الكوفة وأهلها أحداث تاريخية كبيرة، ومن أهمها استشهاد الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) بأيدي الخوارج، ثمّ خلافة الحسن بن علي(علیه السلام) القصيرة، ومن ثمّ

ص: 165


1- المقرم، مقتل الحسين نقلاً عن مثير الأحزان : 13، واللهوف : 21
2- الطبري : 354/5 ، وللتوسع انظر إبصار العين في أنصار الحسين، للشيخ السماوي : 110 وما بعدها، ووسيلة الدارين في أنصار الحسين للزنجاني : 224 وما بعدها،والمقرم، مقتل الحسين : 144
3- المقرم، مقتل الحسين : 144

صلح الحسن وتنازله عن الخلافة لمعاوية ، حيث يعد هذا الحدث «من أهم حوادث تاريخ الإسلام ، فهو في عرف جمهور المسلمين نهاية الخلافة الدينية و بداية الملك العضوض، أو نهاية عصير الخلافة الراشدة ، وبداية الدولة الإسلامية»(1) .

وكان لصلح الإمام الحسن مبررات موضوعية كثيرة شخصها الإمام وعاش مرارتها بنفسه ، فقد عاش الإمام فترة عصيبة تقلبت فيها الأهواء، وكثرت فيه الخيانة، واشتريت الذمم بأموال معاوية ، حتى وصل الأمر إلى الاعتداء عليه من قبل بعض الرعاع، ونهبوا فسطاطه(2) فلم يكن هناك محيص عما قام به الإمام (علیه السلام).

إلّا أن عملية الصلح هذه كانت بمثابة الصدمة لكثير من وجوه الشيعةوزعمائها ولم يستوعبوا تخطيط الإمام فأخذوا يلقون تبعته على الحسن نفسه ، ومن هؤلاء سُليمان بن صُرَد، وحجر بن عدي، والمسيب بن نجبة ... وغيرهم من وجوه الشيعة، يقول حجر بن عدي مخاطباً الإمام الحسن : «إن تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق وكلهم يأخذ العطاء مع مثلها من أبنائهم ومواليهم سوى شيعتك من أهل البصرة وأهل الحجاز(3) وبعد فترة زمنية من توقيع وثيقة الصلح شكل هؤلاء الأشراف والوجوه وفداً كبيراً وعلى رأسهم سليمان بن صُرد الخزاعي وقصدوا المدينة وطلبوا من الإمام الحسن أن يعيد الحرب على معاوية، إلّا أن الإمام لم يستجب لهم وردهم برفق ، فقصدوا الإمام الحسين وعرضوا عليه البيعة، فأبي عليهم مادام الحسن قائماً»(4) .

ص: 166


1- أحمد محمود صبحي، نظرية الإمامة : 322
2- للتوسع انظر : آل یاسین : صلح الحسن
3- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة : 166/1
4- نظرية الامامة : 324

ولم يكن معاوية وفياً لبنود الصلح مع الإمام الحسن والتي تنص بعضها على عدم ملاحقة شيعة علي وأصحابه وقال قولته المشهورة : «ألا إن كل شرط شرطته للحسن تحت قدمي هاتين»(1) فسلط عليهم «زیاداً» الذي أخذهم بالخسف والهوان، وسار فيهم سيرة قوامها البطش والجبروت وأذل أعناق الرجال وأخذهم بالظنة وعاقب على الشبهة، ولم تكن موادعة السلطان أو الاستكانة للوالي لتكفيهم شره، إذ ما استقر لمعاوية أمر العراق حتى طلب من الشيعة أن يكفوه شر الخوارج، إذ لا أمان لهم عنده حتى يكفوا بوائقهم(2).

وحين ثار بعض وجهاء الشيعة واستنكروا هذه الأُمور والتي منها سبُّ على على المنابر الذي أمر معاوية ولاته وعلماء بلاطه به ، سيقوا إلى معاوية مكبلين ليلاقوا حتفهم عنده .

هكذا عاشت الكوفة وأهلها فترة حكم معاوية «فلم ينعم بالهدوء والدعة اُولئك الذين كانوا يتعجلون الصلح، وحملوا الإمام الحسن عليه، وأصبحوا يعيشون بطش «زياد» وشر الخوارج، وخيبت آمالهم في أن تزداد أعطياتهم من أجل أن تزاد أعطيات أهل الشام مركز السيادة وعاصمة الخلافة»(3) .

* تحرك الشيعة في الكوفة بعد موت معاوية :

وبموت معاوية انتعشت آمال الشيعة مرة أُخرى، بعد أن وصلوا إلى حالة اليأس من إصلاح الوضع القائم مع وجوده ، إلّا أن هذه الآمال سرعان ما تبددت بعد أن أصبح الحكم وراثياً ، وأصبح یزید بن معاوية خليفة المسلمين مع ما عرف

ص: 167


1- ابن أبي الحديد، شرح النهج : 4 / 16
2- نظرية الإمامة : 331، وانظر الطبري :
3- نظرية الإمامة : 331

عن يزيد من فسق و فجور وانتهاك للحرمات. إلّا أن أنظار الشيعة في الكوفة كانت شاخصة نحو المدينة يترقبون موقف الإمام الحسين من خلافة يزيد بن معاوية، وما أن وصلهم خبر رفض الحسين(علیه السلام) لبيعة يزيد وخروجه إلى مكة حتى اجتمعوا و تشاوروا في الأمر متفاعلين مع الأحداث المتسارعة كي لا تسبقهم ، فهي فرصتهم التي عاشوا حلمها طيلة عشرين سنة عجاف.

يروي الطبري : فلما بلغ أهل الكوفة هلاك معاوية أرجف أهل العراق بيزيد ، وقالوا : قد امتنع حسين وابن الزبير ، ولحقا بمكة ، فكتب أهل الكوفة إلى الحسين .

قال أبو مخنف عن محمد بن بشر الهمداني ، قال : اجتمعت الشيعة في منزل سُلیمان بن صُرد، فذكرنا هلاك معاوية ، فحمدنا الله عليه ، فقال لنا سليمان بن

صُرد : إنّ معاوية قد هلك ، وإنّ حسيناً قد قبّض على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكة ، وأنتم شیعته وشيعة أبيه، فإن کنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدوا عدوّه فاکتبوا إليه ، وإن خفتم الوهَنَ والفَشل فلا تغرَّوا الرَّجل من نفسه ، قالوا : لا ، بل نقاتل عدوَّه و نقتل أنفسنا دونه ، قال : فاکتِبُوا إليه ، فَكَتَبُوا إليه :

بسم الله الرحمن الرحيم. للحسين بن عليّ من سُلیمان بن صُرد، والمسيب بن نجبة، ورفاعة بن شداد، وحبیب بن مظاهر وشیعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.

سلام عليك ، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو.

أما بعد، فالحمد لله الذي قَصَم عدوَّك الجبّار العنيد الذي انتزي على هذه الأُمة فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها ، وتأمّر عليها بغير رضاً منها، ثمّ قتل خيارها ، واستبقى شِرارها، وجعل مال الله دولةً بين جبابرتها وأغنيائها، فبعداً له کما بَعِدت ثمود.

ص: 168

إنه ليس علينا إمام ، فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ ، والنعمان بن بشير في قصر الامارة لسنا نجتمع معه في جُمعة، ولا نخرج معه إلى عيد ، ولو قد بلغنا أنك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله ، والسلام ورحمة الله عليك(1).

وكانت هذه الرسالة المعبرة فاتحة الرسائل والكتب الكثيرة التي تلقاها الإمام الحسين(علیه السلام) بعد ذلك.

ولم تقتصر هذه الكتب على وجوه الشيعة فقط وإنما كتب له (علیه السلام)، حتى الذين لم يُعرفوا بولائهم لأهل البيت (علیهم السلام)، وإنما كانوا من المحسوبين على الخط الآخر المعادي لهم، بل كانوا من كتلة بني أُمية في الكوفة. ومن هؤلاء : شبث بن ربعي ، وحجّار بن أبجر ، ويزيد بن الحارث، وعزرة بن قيس ، وعمرو بن الحجاج الزُّبيدي ، ومحمد بن عمير التميمي، کتب هؤلاء رسالة مختصرة جاء فيها : أما بعد، فقد اخضرّ الجناب، وأينعت الثمار، وطمَّت الجام، فإذا شئت فأقدم على جندٍ لك مجنَّد، والسلام عليك(2).

وكانت آخر رسالة تلقاها الإمام من الكوفة حملها هانئ بن هانئ السَّبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي.

* جواب الإمام الحسين :

بعد أن تلاقت الرُسل عند الحسين ، قرأ الكتب، وسأل الرسل عن أمر الناس ، ثمّ کتب مع آخر رسولين إليه رسالة مختصرة في ألفاظها جليلة في مضامينها جاء فيها :

ص: 169


1- الطبري : 5 / 352 وما بعدها
2- المصدر نفسه: 353/5

بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليٌ إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين .

أما بعد، فإن هانئاً وسعيداً قدما علىَّ بكتبكم، وكانا آخر مَن قدم علىَّ من رسلكم، وقد فهمت كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم، و مقالة جُلّٙكم : إنه ليس علينا إمام ، فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق.

وقد بعثتُ إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي ، وأمرتُه أن يكتب إلىَّ بحالكم وأمرکم ورأيكم، فإن كتب إلىَّ أنه قد أجمع رأي ملئکم وذوي الفضل والحجي منكم على مثل ما قدمت علىَّ به رُسُلكم وقرأت في كتبكم، أقدم علیکم وشيكاً، إن شاء الله ، فلعمري ما الإمام إلّا العامل بالكتاب ، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله ، والسلام(1).

هذا الكتاب الذي أرسله الإمام الحسين (علیه السلام)- وعلى وجازته - يتضمن جملة من الأُمور :

أولاً : ان مقالة هؤلاء في كتبهم له قاسم مشترك وهو عدم وجود الإمام العادل الذي يهديهم إلى طريق الهدى والحق، ويتطلعون بشوق إلى هكذا إمام بعد أن ذاقوا ظلم ولاة بني أُمية من زیاد بن أبيه إلى المغيرة إلى النعمان بن بشير الذي قد يكون أهونهم ظلماً وتعسفاً .

ثانياً : تأسيساً على الأمر الأول فإنهم يطلبون من الإمام الحسين(علیه السلام) أن يقدم إليهم وشيكاً لعل الله يجمعهم بواسطته على الهدى والحق ، و بمعنى آخر أن هؤلاء قد شخصوا لهذه المرحلة الخطيرة شخصية الإمام الحسين يحمل لهم راية الهدى والحق ويجمعهم على كلمة التقوی.

ص: 170


1- الطبري : 352/5 - 353، وهنالك رسالة أُخرى بعثها الإمام(علیه السلام) إلى أهل الكوفة نذكرها في محلها

ثالثاً : إن الإمام (علیه السلام)لم يستنكر على هؤلاء مطالبهم، فهي مطالب مشروعة ومن صميم تعاليم الإسلام، بل إن فلسفة هذا الدين الحنيف يقوم على حاكمية الحق والعدل ، ولهذا أقرهم الإمام على ذلك ولم يعتذر منهم کما اعتذر عن ذلك في حياة الإمام الحسن(علیه السلام) أو بعد وفاته وقبل هلاك معاوية ، فالظروف الآن مؤاتية ، والمرحلة الحرجة التي تمرّ على الأُمة الإسلامية تستوجب تحمل المسؤولية والاستجابة لمطالب الأُمة الإسلامية.

رابعاً : إن الإمام يبعث إليهم من يمثله من أهل بيته « مسلم بن عقیل » ويعرفه لهم بأنه : «أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي» ومهمته استطلاع الأحوال والآراء ميدانياً ثمّ الكتابة إلى الإمام عما أجمع عليه أصحاب الرأي والتدبير « وذوي الفضل والحجیٰ منهم». فإذا حصل هذا الاجماع منهم فإنه (علیه السلام)يقدم إليهم وشيكاً.

خامساً : يختتم الإمام (علیه السلام)رسالته بتشخیص دقيق للمواصفات الدقيقة والحساسة لمنصب الإمامة والحاكمية ، فمن هو الإمام؟ يقول : « العامل بالكتاب ، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله » وهذه المواصفات التي يذكرها الإمام ما هي إلّا قبس من المواصفات الإلهية التي بينتها آيات القرآن الكريم في أكثر من موضع وفي مناسبات متعددة، يقول سبحانه : «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ...»(1).

المبحث الثالث: ثوابت نهضة الإمام الحسين (علیه السلام)في رفضه لبيعة يزيد

لم يكن الإمام الحسين (علیه السلام)ناوياً من أول الأمر المكوث في مكة واستيطانها وإنما كانت مكة محطة من محطات سفره إلى الشهادة والعروج إلى الله سبحانه وتعالى .

ص: 171


1- الحدید: 25

فعندما سأله عبد الله بن مطيع العدوي عن وجهته وهو يغادر المدينة، أجابه الإمام (علیه السلام): «أما الآن فمکَّة وأَما بَع۟دُ فإني استخيرُ الله»(1).

وقد ذكر المؤرخون وكتاب المقاتل أن الإمام الحسين (علیه السلام)وقبل خروجه إلى العراق خطب خطبة في مكة ، وبعث برسالة إلى بني هاشم في المدينة .

أما الخطبة :

فقد روي أنه (علیه السلام)لما عزم على الخروج إلى العراق قام خطيباً فقال : « الحَم۟دُ لِلّهِ ما شاءَ اللهُ، وَلا قُوَّةَ إِلّا بِاللهِ ، وَصَلَّى اللهُ عَلى رَسُولِهِ ، خُطَّ المَو۟تُ عَلى وُل۟دِ آدَمَ مَخَطَّ القَلادَةِ عَلى جيدِ الفَتاةِ ، وَما اَو۟لَهَني إلى أس۟لافي اِش۟تیاقُ يَع۟قُوبَ إِلى یُوسُفَ، وَخِيرَ لي مَص۟رَعٌ أَنا لاقيهِ كَأَنّي بِأَو۟صالي تَق۟طّٙعُها عَس۟لانُ الفَلَواتِ بَي۟نَ النَّواويسِ وَكَر۟بَلاءَ فَيَم۟لأنَ مِنّي أَكراشاً جَوفا وَأَج۟رِبَهً سَغ۟باً، لا مَحيصَ عَن۟ يَو۟م خُطَّ بِالقَلَمِ، رضَي اللهِ رِضانا اَه۟لَ البَي۟تِ ، نَص۟بِرُ عَلى بَلائِهِ وَيُوفّينا أَج۟رَ الصّابِرينَ لَن تَشُذَّ عَن۟ رَسُولِ اللهِ(علیه السلام) لَح۟مَتُهُ، وَهِيَ مَج۟مُوعَةٌ لَهُ في حَظيرَةِ القُد۟سِ، تُقَرُّبِهِم۟ عَي۟نُهُ وَيُن۟جِزُ بِهِم۟ وَع۟دَهُ، أَلا مَن۟ كانَ باذِلاً فينا مُه۟جَتَهُ، وَمُوَطّٙناً عَلى لِقاءِ اللهِ نَف۟سَهُ فَل۟یَر۟حَل مَعنا فَإنَّني راحِلٌ مُص۟بِحاً إِن شاءَ اللهُ تَعالى»(2).

وأما الرسالة فقد جاء فيها بعد البسملة :

«مِن الحسين بن علي إلى أخيه محمد ، ومن قبله من بني هاشم، أما بعد : فإنه من لحق بي منكم استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح والسلام»(3).

ص: 172


1- الطبري : 351/5
2- مثير الأحزان : 41، اللهوف: 26، کشف الغمة 2: 29، بحار الأنوار 44: 366، العوالم 17: 216، أعيان الشيعة 1: 593
3- ابن قالویه : کامل الزيارات : 75، ودلائل الإمامة : 77

وفي هذين النصين ( الخطبة والرسالة ) آفاق واسعة من الفكر والفهم والوعي الثوري، وتختزل ألفاظهما - على وجازتهما - كل الثوابت التي انطلق من أجلها الإمام الحسين في نهضته.

والذي يتأمل في هذين النصين يجد أن الإمام الحسين (علیه السلام)قد شخص وبدقة وبصيرة نافذة أن ما تحتاجهُ الأُمة في حركتها وفاعليتها وعزتها وكرامتها في ظروفها العصيبة التي تمرُّ بها هو الشهادة في سبيل الله ، فكانت حركته (علیه السلام)حركة استشهادية واعية وبإرادة وتصميم عاليين ، وهيّأ لها كل أسباب الإثارة وكل عوامل الديومة والبقاء، لتبقى دائماً المحرك المفصلي للأُمة الإسلامية حينما تبتلى بحاكم ظالم يحاول أن يسلبها حريتها وعزتها وكرامتها.

«فالحسين (علیه السلام)من أول الأمر لم يطلب منصباً سياسياً ، وإنما طلب تغييراً كاملاً ، وتغيير أُمة برمتها، وتغيير نظام برمته، وتغيير فهم ونهج برمتها، ولذلك فثورته من أول الأمر کانت ثورة استشهادیة»(1).

و أما الثوابت التي تضمنها كلمات الإمام الحسين في هذين النصين فيمكن إيجازها بما يلي :

أولاً : حتمية الشهادة : يقول (علیه السلام): «من لحق بي استشهد»، «خط الموت على ولد آدم» فالشهادة مصير حتمي لمن يخرج مع الحسين (علیه السلام)، والإمام أكّد على هذا المصير ووطن نفسه ونفوس أصحابه وأهل بيته عليها إلى يوم إستشهاده، وسوف يأتينا مزيد من النصوص التي قالها(علیه السلام) حول هذا الموضوع.

ثانياً : حتمية الفتح : وتعرف هذه الحتمية من مفهوم کلامه (علیه السلام)«ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح» فإن من لحق بالحسين في هذه الحركة يدرك الفتح،

ص: 173


1- شمس الدین، محمد مهدي : عاشوراء : 2/ 332

فالحسين(علیه السلام) هو الفاتح وهو المنتصر ویزید و نظام الحكم الأموي هو المنهزم ، والذي يتخلف عن الحسين في حركته لا يدرك هذا الفتح.

والإمام الحسين(علیه السلام) لا يريد بالفتح هنا الفتح العسكري في ميدان المعركة ، والذي يطلبه عادة القادة العسكريون في حروبهم، فقد كان الإمام أخبر بالحالة السياسية في العراق من أن يتوقّع فتحاً عسكرياً ، وإنما يتلخص مفهوم الفتح الذي بريده الإمام الحسين (علیه السلام)في أمرين :

الأول : إلغاء صفة الشرعية عن دولة بني أُمية ، فلم يعد لهم في نظر المسلمين بعد واقعة الطف موقع الشرعية الدينية في الحكم.

الثاني : إعادة روح الجهاد والمسؤولية والمقاومة إلى الناس بعد أن سلبها منهم بنو أُمية من خلال أساليب الإرهاب والبطش، وذلك من خلال هزّ ضمير الأُمة الإسلامية هزّة عنيفة، تعيدها إلى وعيها وإرادتها وعزمها وقوتها.

وفي تحقق هذين الأمرين الفتح الحقيقي للأُمة الإسلامية .

ثالثاً : العلاقة بين الفتح والشهادة.

من خلال الحتميتين الأُولى والثانية، نستفيد هذه الحتمية الثالثة، فإن الفتح الذي يبتغيه الإمام الحسين(علیه السلام) لا يمكن أن يأتي إلّا من خلال الشهادة وبدماء غزيرة وعزيزة، وتضحية مأساوية فريدة بنفسه وأهل بيته وأصحابه ، تهز ضمير الأُمة وتعيدها إلى وعيها ورشدها ، وحالتها الطبيعية التي ينبغي أن تكون عليه .

رابعاً : إن هذا الفتح لا يتكرر في التاريخ . يقول الإمام (علیه السلام): «ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح».

فإنّ الفتح الذي أجراه الله على يد الحسين(علیه السلام) وأنصاره لن يتكرر مرة أُخرى في التاريخ ، وفتح عاشوراء فتح ليس بعده سقوط، وهذا هو الذي يقرّره الإمام الحسين في كتابه إلى محمد بن الحنفية.

ص: 174

لقد استحوذ بنو أُمية على كل المساحة الإسلامية، وعلى كل مواقع القوة والنفوذ في المجتمع الإسلامي، وذلك من خلال موقع الشرعية السياسية، وهو موقع خلافة رسول الله(صلی الله علیه و اله) ، وكان من هذا الموقع يأخذ الناس الحلال والحرام ومعالم الشريعة لهذا الدين ، فعمل بنو أُمية على تحريف هذا الدين من هذا الموقع بالذات.

ولو كان الأمر يستقيم لهم لم يبق من الإسلام إلّا الإسم، وكان الأمر كما قال الإمام الحسين لمروان يوم دعاه إلى مبايعة يزيد : « و على الإسلام السلام إذا بُلي المسلمون بوال مثل يزيد »(1).

وفي عاشوراء استطاع الحسين(علیه السلام) أن يلغي شرعية الخلافة من آل أُمية ، ومن كل الولاة من بعدهم ... ولم يعد ينظر المسلمون إلى موقعهم في الخلافة نظرة التقديس والشرعية، ولم يأخذوا منهم معالم دينهم وحلالهم وحرامهم، كما كانوا يعملون في أيام الخلفاء الأوائل بعد رسول الله (صلی الله علیه و اله)، ولم يعودوا في نظر المسلمين غير حكّام من عامة السلاطين ، والحكّام يظلمون ويسرفون كما يسرف غيرهم من السلاطين(2).

ص: 175


1- ابن نما، مثير الأحزان : 15، والبحار : 44/ 326
2- للتوسع في هذه الثوابت انظر : دراسات وبحوث مؤتمر الإمام الحسين ، القسم الأول : 125 : الثوابت الأربعة في ثورة الإمام الحسين للشيخ محمد مهدي الآصفي، ط. المجمع العالمي لأهل البيت - قم

ص: 176

الفصل الثالث: مواقف وآراء واجهها الإمام الحسين عند خروجه إلى العراق

اشارة

المبحث الأول: انقسام الساحة السياسية وأصناف المعارضين لخروج االحسين

المبحث الثاني : خيارات الإمام الحسين المبحث الثالث : وقفة مع عبد الله بن الزبير

ص: 177

ص: 178

المبحث الأول: إنقسام الساحة السياسية وأصناف المعارضين لخروج الحسين

اشارة

عندما نستعرض الساحة السياسية في مكة قبل خروج الإمام الحسين منها قاصداً العراق نجد موجة واسعة من الاعتراضات والمؤاخذات والتشبيط واجهها الإمام الحسين حين عزم على الخروج إلى العراق، ومصدرها مجموعة من الشخصيات السياسية والدينية والاجتماعية ومن أصحاب الحل والعقد ، واستخدمت في هذه الاعتراضات والمؤآخذات إما لغة التهديد والوعيد، أو لغة النصيحة والإشفاق والمحبة ، أو لغة الخوف والرهبة ، بحسب الأشخاص الذين تبنوا وجهة النظر هذه أو تلك، وهدف كل هؤلاء هو منع الحسين (علیه السلام)من الخروج إلى العراق.

ودراسة هذه الاعتراضات والمؤاخذات التي لاقاها الحسين (علیه السلام)حين خروجه تعطينا فكرة واضحة عن الساحة السياسية التي انطلق منها الإمام الحسين(علیه السلام) في نهضته، وكل ساحة سياسية مشابهة ينطلق فيها قائد أو حركة سياسية إصلاحية هدفها تغيير أو تصحيح الأوضاع القائمة.

* أصناف المعارضين لخروج الحسين (علیه السلام)ودوافعهم :

من خلال استعراض كلمات ومواقف وخلفيات المعارضين لخروج الحسين يمكننا أن نصنف هؤلاء إلى ثلاث طوائف رئيسية ، ولكلّٙ طائفة هدفها الذي تبتغيه من وراء محاولة منع الإمام الحسين من الخروج إلى العراق .

ص: 179

وهذه الطوائف هي :

الطائفة الأُولى : الأمويون والسلطة الحاكمة .

الطائفة الثانية : الخائفون والمرعوبون . الطائفة الثالثة : المحبون والمشفقون والناصحون . وفيما يلي نماذج من مواقف وكلمات كل طائفة من هذه الطوائف والأصناف الثلاثة وغایاتها من المعارضة لخروج الإمام(علیه السلام).

الطائفة الأُولى : الأمويون والسلطة الحاكمة :

ويمثلها والي الأمويين على مكة «عمرو بن سعيد الأشدق» الذي كتب إلى الحسين كتاباً فيه الأمان للإمام الحسين (علیه السلام)، ويمنّيه فيه البرّ والصّلة مع مسحة خفيفة من الإشفاق والنصح، ومما جاء في رسالته : « ... أما بعد ، فإني أسأل الله أن يصرفك عمّا يوبقُك، وأن يهديك لما يرشدك ، بلغني أنك قد توجّهت إلى العراق ، وإني أعيذك بالله من الشقاق ، فإنّي أخاف عليك فيه الهلاك .. فأقبل إليَّ .. فإنّ لك عندي الأمان والصّلة...»(1).

لم يكن الأمويون والجهاز الحاكم ومن يمثلهم من أمثال عمرو بن سعيد الأشدق من المشفقين والمحبين للإمام الحسين (علیه السلام)، وهذه الرسالة على وجازتها تنطوي على لؤم وخبث وكيد ومكر وخطة مدبرة تريد أن تكید بالإمام الحسين لمنعه من السفر ومحاصرته ومن ثمّ اغتياله في الحرم بعد انتهاء موسم الحج ورجوع الحجاج إلى بلادهم، إذ أن الأشدق كان يعلم جيداً أن الإمام الحسين لا يقاتلهم في الحرم الشريف صوناً له ، وكان يقول للزبير عندما طلب منه البقاء في الحرم :

ص: 180


1- الطبري، محمد بن جریر : تاريخ الطبري : 5/ 388 تحقیق محمد أبو الفضل إبراهيم ، طبعة بیروت

«إنّ أبي حدثني أن بها كبشاً يستحل حرمتها، فما أحب أن أكون أنا ذلك الكبش »(1) وفي رواية أبي مخنف ، قال الحسين (علیه السلام)للزبير : «والله لأن أقتل خارجاً منها بشبر أحبُّ إليَّ من أن أقتل داخلاً منها بشبر»(2).

والإمام الحسين شَخَّصَ وبدقة وبصيرة ما يبتغيه الأشدق من رسالته مع ما فيها من مسحة الإشفاق والنصح، فأجابه برسالة فيها أدب جم وصرامة وقوة وعزة وإباء، ومما جاء في رسالته(علیه السلام) : «أما بعد ، فإنه لم يشاقق الله ورسوله مَن دعا إلى الله عزّ وجلّ وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ، وقد دعوتَ إلى الأمان والبرّ والصلة، فخير الأمان أمانُ الله ، ولن يؤمِن الله يومَ القيامة مَن لم يخفه في الدُّنيا ، فنسأل الله مخافةً في الدنيا تُوجب لنا أمانه يومَ القيامة ، فإن کنتَ نويتَ بالكتاب صلتي وبرّي، فجزيت خيراً في الدنيا والآخرة. والسلام»(3).

الطائفة الثانية : الخائفون والمرعوبون :

وعندما نستعرض مواقف هذه الطائفة من خلال كلماتهم ونصائحهم التي قدموها للإمام الحسين (علیه السلام)نجد أن مصدر المعارضة لخروج الحسين(علیه السلام) عند هؤلاء لم يكن الكيد والمكر بالحسين (علیه السلام)، وكل المعطيات العملية لهؤلاء تشير إلى أن مصدر المعارضة عندهم هو الخوف والضعف والجبن، فكانوا يخافون من عاقبة حركة الإمام الحسين مع امتداد سيطرة ونفوذ الخلافة الأموية من دمشق إلى آفاق البلاد الإسلامية، ولم يكن يخطر في بالهم أن أحداً من الناس يمكنه أن يفكر في الخروج على سلطان بني أُمية العريض.

ص: 181


1- الطبري : 5/ 384
2- المصدر نفسه : 5/ 385
3- المصدر نفسه : 388/5 - 389

ونموذج هؤلاء البارز هو : عبد الله بن عمر بن الخطاب ، الشخصية المعروفة ، وصاحب النظرية الشهيرة في التعامل مع السلطان والحاكم حتى ولو كان على مستوی یزید بن معاوية في فسق و فجوره وانتهاكه للحرمات.

يروى عن عبد الله بن عمر قوله : « غلبنا الحسين بن عليّ بالخروج، ولعمري قد رأى في أبيه وأخيه عبرة ... وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس فإن الجماعة خير ...».

يعني أن الحسين (علیه السلام)كان يكفيه عاقبة والده، وعاقبة أخيه الحسن (علیه السلام)وما رأى من الفتنة وخذلان الناس لهما، وكان ينبغي عليه أن يأخذ من هذه الأحداث درساً في حياته ولا يخرج إلى العراق ، ثمّ يأخذ بمبدأ وتنظير فكري وهي قضية «الجماعة خير» وهو مبدأ عرف عن عبد الله بن عمر ودخلت هذه النظرية إلى الفكر الإسلامي من أوسع أبوابه وحملها البخاري في صحيحه ، ومسلم في صحيحه وهما من أهم الكتب الحديثية التي يعتمدها العامة من المسلمين، وتتلخص نظريته في حرمة الخروجه على الإمام وإن كان ظالماً جائراً مستحلاً لحرم الله وبمستوى یزید بن معاوية.

والذي نتصوره أن أحد الأسباب الرئيسية التي ألجأت عبد الله بن عمر إلى هذا الموقف المتخاذل ، والذي أخذ ينظر له بهذا التنظير الخطير متناسياً كل الثوابت الجهادية في الإسلام ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، هو عامل الضعف والجبن والخوف من سلطان بني أُمية.

وكان عاقبة هذا الرجل أن بایع یزید ولم يبدِ أي مقاومة تذكر في الامتناع عن البيعة ، بل حاول جاهداً أن يسلب الشرعية عن كل حركة جهادية تطال بني أُمية

ص: 182

وسلطانهم، فهو الذي ندد بخروج الإمام الحسين واعتبره خروجاً على جماعة المسلمين ، كما جاء في كلامه، ولم يتخذ أي موقف یدین به جرائم يزيد في كربلاء و قتله للحسين وأهل بيته ، كما أنه لم يؤيد ثورة ابن الزبير على الأمويين ، وموقفه من ثوار واقعة الحرة معروف و مدون في كتب التاريخ والحديث حيث وقف مدافعاً عن یزید و خلافته ومندداً بالثوار والمجاهدين من أبناء المهاجرين والأنصار حيثُ «أنكر بشدة على أهل المدينة مبايعتهم لابن مطيع ، وابن حنظلة على الموت »(1) .

روی ابن كثير في البداية والنهاية عن الإمام أحمد.. قال : «لما خلع الناس یزید بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله ثمّ تشهد ثمّ قال : أما بعد فإنا بايعناهذا الرجل - أي يزيد - على بيع الله ورسوله، وإني سمعت رسول الله(علیه السلام) يقول : «إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان ، وإن من أعظم الغدر - إلّا أن يكون الإشراك بالله - أن يبايع رجل رجلاً على بيع الله ورسوله ثمّ ینکث بیعته» ، فلا يخلفن أحد منكم يزيد ولا يسرفن أحد منكم في هذا الأمر، فيكون الفيصل

بيني وبينه »(2).

هذا هو عبد الله بن عمر ، وهذه كلماته ومواقفه و تنظيراته، حيث يوجه ويبرر فجور یزید وفسقه وخروجه على مقدسات الإسلام بمبررات البيعة ولزومها وينسب هذه البيعة إلى الله ورسوله، ليأتي من بعده من هم على شاكلته ومنهجه من أمثال ابن كثير ليقول : «قد كان - یزید - فاسقاً ، والفاسق لا يجوز خلعه لأجل ما يثور من الفتنة ووقوع الهرج كما وقع زمن الحرّة ..»(3).

ص: 183


1- ابن کثیر، البداية والنهاية : 8/ 238، طبعة مؤسسة التاريخ العربي - بيروت
2- المصدر نفسه : 8/ 255
3- المصدر نفسه : 255/8 وما بعدها
الطائفة الثالثة : المحبون والمشفقون :

وهؤلاء طائفة من رجالات بني هاشم وغيرهم من أمثال عبد الله بن عباس ، ومحمد بن الحنفية ، وعبد الله بن جعفر الطيار ، وغيرهم من أمثال اُم سلمة زوج النبي (صلی الله علیه و اله)، والمسور بن مخرمة، وعبد الله بن مطيع.

ولا يمكن أن نصنف هؤلاء مع الطائفة الأُولى فبعض هؤلاء أجل وأسمى من أن يكيدوا بالحسين، ولا نتهمهم بالخوف والجبن والضعف لمواقفهم المعروفة بالشجاعة قولاً وعملاً، فهم من المحبين للحسين والمشفقين عليه، إلّا أنهم لم يستوعبوا غاية الحسين من خروجه إلى العراق وكانوا يتكلمون بلغة العاطفة ويفكرون في شيء لم يكن الإمام يفكر فيه(1).

وفيما يلي بعض کلمات هؤلاء:

يروي الطبري : إن حسيناً لما أجمع المسير ... أتاه عبد الله بن عباس فقال : یابن عمّ إني اتصبر ولا أصبر، إني أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إنّ أهل العراق قوم غُدر ، فلا تقربنَّهم، أقم بهذا البلد فإنك سيّد أهل الحجاز ، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم، ثمّ أقدم عليهم، فإن أبيت إلّا أن تخرج فسر إلى اليمن فإن بها حصوناً وشعاباً ، وهي أرض عريضة طويلة ، ولأبيك بها شيعة ، وأنت عن الناس في عُزلة ، فتكتب إلى الناس، وترسل وتبثّ دعاتك ، فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحبّ في عافية.

ص: 184


1- القرشي ، حياة الإمام الحسين : 3/ 23، مطبعة الآداب - النجف ، الطبعة الأُولى، (1976 م - 1396 ه)

فقال له الحسين (علیه السلام): « یابن عمّ ، إني والله أعلم أنك ناصح مشفق ، ولكني قد أزمعت وأجمعت على المسير .. ولأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إليّ من أن أُقتل بمكة وتستحل بي»(1).

وروى الطبري أيضاً عن أبي مخنف : «... عن عليّ بن الحسين (علیه السلام)، قال : لما خرجنا من مكة كتب عبد الله بن جعفر بن أبي طالب إلى الحسين بن علي مع ابنیه : عَون و محمد : أما بعد، فإني أسألك بالله لمّا انصرفت حين تنظر في كتابي ، فإني مشفق عليك من الوجه الذي توجّهت له أن يكون فيه هلاكُك واستئصال أهل بيتك ، إن هلكت اليوم طفئ نور الأرض، فإنك علمُ المهتدين ، ورجاء المؤمنين ، فلا تعجل بالسير فإني في الأثر، والسلام »(2).

وهنالك كلمات أُخرى من بعض المشفقين أعرضنا عنها خوف الإطالة .

اضطراب الساحة السياسية :

من خلال استعراض مواقف وكلات الطوائف الثلاث المعارضة نجد أن حركة الحسين وخروجه من مكة إلى العراق قد واجهت ساحة سياسية مضطربة ومعارضه تمثلت في هذه الطوائف الثلاث ومواقفهم.

ومن طرف آخر نجد طائفتين من غير المعارضين لخروج الحسين خرجوا معه حين خروجه إلى العراق، طائفة من المضحين الاستشهاديين الذين أسلموا أمرهم للحسين واستجابوا لنداء «ألا ومن كان باذلاً فينا مهجته، موطّٙناً على لقاء الله نفسه» فقالوا لبيك يا ابن رسول الله ورحلوا مع الحسين إلى العراق، ورافقوا الحسين في رحلته الثانية إلى ربه مخضبين بدم الشهادة .

ص: 185


1- الطبري : 5/ 384، والبداية والنهاية : 8/ 174 و 178
2- المصدر نفسه : 387/5 ، والبداية والنهاية : 8/ 181

وطائفة أُخرى أيضاً خرجوا مع الحسين حين خروجه من مكة إلّا أنهم كانوا مجموعة من الانتهازيين النفعيين إذ كانوا يتصورون أن الحسين خارج إلى ملك وسلطان عريض وله أُمة من شیعته في العراق ، وأن ما يقوله من «خُطّ الموت على ولد آدم ... ألا ومَن كان باذلاً فينا مهجته ...» من قبيل الامتحان والاختبار ... وهؤلاء عندما جدّ الجد واتضح لهما أن كلمات الحسين جد لا هزل فيه ، وليس أمامهم إلّا الموت والشهادة ، انتكصوا على أعقابهم وانهزموا عن الحسين و ترکوه مع الطائفة الأُولى من أهل بيته وأصحابه المضحين .

وعلى هذا يكون للمجتمع الذي انطلقت منه حركة الإمام الحسين (علیه السلام)تقسيم خماسي.

* وقفة مع المشفقين على الحسين(علیه السلام) :

عندما نتأمل في كلمات هؤلاء المشفقين والمحبين للحسين وفيهم عبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر، نجدهم غير واعين لأهداف الحسين وغاياته من خروجه من مكة ، وإلى العراق بالذات، فهؤلاء كانوا يتصورون أن الحسين خارج إلى العراق لأحد أمرين لا ثالث لهما.

فهو إما خارج إلى العراق للقيام بثورة ضد یزید والحكم الأموي لاسقاطه عسكرياً، أو انه خارج إلى العراق هرباً من سلطة يزيد وولاة بني أُمية.

والعراق - بنظر هؤلاء - لا يصلح لكلا الأمرين ، فلا هو البلد الذي يصلح للخروج على سلطان بني أُمية عسكرياً، ولا هو البلد الذي يصلح للهروب واللجوء والاحتماء به طلباً للسلامة والعافية.

والذي نتصوره أن الذي لا يفهم ولا يعي غايات الحسين من خروجه إلى العراق إلّا من خلال هذين الأمرين ، فلابد أن يضم صوته إلى جانب عبد الله

ص: 186

ابن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، وكل الناصحين والمشفقين الذين نصحوا الحسين بعدم الخروج والأسباب واضحة جداً.

فالعراق كان تحت سيطرة وقبضة وسلطان بني أُمية ويكفي أن يكون عبيد الله ابن زیاد والياً لهم على البصرة ومؤهلاً لولاية الكوفة ، مع ما عرف عنه من سفك الدماء وهتك الحرمات ، فلا يأمل أحد في مجموعة صغيرة من الشيعة مجردة عن مصادر القوة والسلاح، ومعزولة عن الوقائع الاجتماعية والسياسية المهمة ، تستطيع أن تخرج على سلطان بني أُمية وتسقط الخلافة الأموية في العراق فضلاً عن الشام.

فالتفكير في أن الحسين (علیه السلام)إذا خرج إلى العراق وبهذه المجموعة الصغيرة المجردة من مصادر القوة العسكرية والاجتماعية والسياسية يستطيع أن يسقط الأمويين يحتاج إلى تأمل ، ومناقشات كثيرة.

أما الفرضية الثانية وهي أن تفترض ان الحسين(علیه السلام) لم يخرج إلى العراق للقيام بثورة عسكرية لاسقاط الحكم الأموي، وإنما خرج إلى العراق كي يحتمي به هرباً من الأمويين ، فهو (علیه السلام)لا يريد أن يبايع يزيد وله في العراق شيعة وهي بلد يحميه من ملاحقة بني أُمية لاجباره على البيعة ليزيد.

فهي فرضية واهية جداً، لأن العراق بلد مکشوف وفي متناول سلطان بني أُمية ، وفي جوار الشام عاصمة الأمويين ، وليس في العراق جبال وعرة وكهوف وحصون وغابات، والعمران يمتد من شماله إلى جنوبه ، فلا يستطيع الحسين أن يحتمي بمثل هكذا بلد وينجو بنفسه من ملاحقة الأمويين.

انطلاقاً من هذين الأمرين نجد هؤلاء المحبين والمشفقين من بني هاشم يلحون على الإمام الحسين بعدم الخروج إلى العراق ، وإن أبي إلّا أن يخرج فليختر بلداً آخر غير العراق.

ص: 187

ولهذا يقول له ابن عباس : « فإن أبيت إلّا أن تخرج فسر إلى اليمن، فإن فيها حصوناً وشعاباً ، وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيك فيها شيعة ، وأنت عن الناس في عزلة ... »(1).

فاليمن أصلح بنظر ابن عباس لخروج الإمام الحسين فهي منطقة نائية وبعيدة عن مركز الخلافة في الشام، وفيها جبال وحصون وشعاب ، ولأبيه هنالك شيعة يحمونه، فإذا هيّأ له الأنصار والعدّة عندها يخرج ويأتيه الذي يحب في عافية .

المبحث الثاني: خيارات الإمام الحسين

اشارة

لقد كان أمام الإمام الحسين (علیه السلام)مجموعة من الخيارات «أحلاها مرٌّ» . وفيما يلي استعراض موجز لهذه الخيارات مع موقف الإمام منها.

الخيار الأول : البقاء في الحرم :

وقد دعاه إلى ذلك بعض المشفقين والمحبين ، وكذلك عمرو بن سعيد الأشدق والي الأمويين وعبد الله بن الزبير وإن كان هذا الأخير غير صادق في دعوته كما سوف يأتي.

وكان الإمام الحسين يعرف جيداً أن البقاء في الحرم من دون أن يبايع نتیجته الاغتيال في الحرم وهو مكتوف الأيدي، فإن بني أُمية لا يعرفون حرمة الكعبة وقدسيتها، وما فعلوه مع ابن الزبير في حصارهم الأول و الثاني للحرم المكي وحرقهم للكعبة شاهد على ذلك ، والإمام الحسين كان يعرف جيداً أنه مقتول

ص: 188


1- الطبری : 5/ 384، والبداية والنهاية : 8/ 124

ولكنه لم يكن ليختار أن يقتل غيلة و بقتله تنتهك حرمة الحرم، ولهذا كان يقول لابن الزبير : «إن أبي حدثني أن فيها كبشاً يستحلّ حرمتها فما أحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش»(1) وأيضاً قال (علیه السلام)به : « والله لأن أُقتل خارجاً منها بشبر أحبُّ إليَّ من أن أقتلَ داخلاً منها بشبر ...»(2).

ولم يكن هذا الأمر مجرد افتراض من الإمام الحسين وإنما هنالك معطيات واقعية تنص على وجود هكذا تدبير مؤامرة لاغتيال الإمام بعد موسم الحج ورجوع الحجاج إلى بلدانهم فقد «بلغ الحسين أن يزيد أنفذ عمرو بن سعید بن العاص الأشدق في عسكر وأمّره على الحاج وولّاه أمر الموسم وأوصاه بالفتك بالحسين أينما وجد»(3). وفي نص آخر: « دس عمرو بن سعيد بأمر من يزيد من الحاج ثلاثين رجلاً من شياطين بني أُمية ، وأمرهم باغتيال الحسين ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة »(4).

بل إن بعض الباحثين يروون أن الإمام الحسين(علیه السلام) لم يكن ليسلم من القتل على يد يزيد والأمويين حتى لو أقدم على البيعة!

يقول الدكتور أحمد محمود صبحي في كتابه القيّم « نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثني عشرية » : «... إن يزيد ما كان ليقتنع من الحسين ببيعة ليكف يده وأذاه عنه ، فلقد كان في وجود الحسين وحياته ما ينغص على الأمويين عامة ومعاوية ويزيد خاصة ملكهم وسلطانهم، ولقد سبق أن تنازل الحسن و بایع معاوية ، ولكن معاوية لم يهنأ إلّا بموت الحسن، ولقد أشار الرواة أن الحسن مات مسموماً وأن إصبع الاتهام يشير إلى معاوية، الذي خلص له الجو ليبايع لابنه يزيد دون أن

ص: 189


1- الطبري : 5/ 384 - 385
2- الطبري : 5/ 384 - 385
3- المقرم، عبد الرزاق : مقتل الحسين : 165
4- دراسات وبحوث مؤتمر الإمام الحسين : 2/ 157 عن الطبري

تقوم البينة على هذا التآمر على سم الحسن ... أُريد أن أقول لقد كان بقاء الحسين حيّاً غصة في حلق یزید سواء بايع أم لم يبايع - ولو أنه بایع لكانت بيعته حجة للأمويين على الشيعة ، ولكنها لا تبعث على الرضا ما بقي حياً ، فما كان الأمويون إذاً لیترکونه لدينه لو همّ أن يبايع کما فعل ابن عباس وابن عمر . ولقد عوّل الحسين ألّا يموت بيد خارجي يدفعه هوس الاعتقاد إلى أن يقدم النصر من حيث لا يريد للأمويين ، كما صمم ألا يضيع دمه هدراً بغدرة لا تثبت له حقّاً ولا تجعل له دية ولا قصاصاً بقدر ما تقدم لعدوه نصراً مؤزراً يسجد لله على هذه الغدرة شكراً» (1) .

وقد نقلنا هذا النص بطوله لأهمية ودقة التحليل الفلسفي العقيدي فيه، ولموضوعية المؤلف في تحليله لقضية البيعة ليزيد بن معاوية من قبل الإمام الحسين(علیه السلام) .

ومهما يكن من أمر فإن هذا الخيار الأول لم يكن خيار الإمام الحسين في نهضته ولا تخدم الأهداف السامية التي خرج من أجلها .

الخيار الثاني : الخروج إلى اليمن :

وقد اقترح عليه ذلك ابن عباس وابن الحنفية كما مرّ بنا سابقاً وغرضهم من ذلك أن يحمي الإمام نفسه من القتل، فاليمن في ذلك الوقت تشكل نقطة نائية وبعيدة عن مركز الخلافة وفيها جبال وقلاع وحصون ولأبيه فيها شيعة.

إلّا أن الإمام (علیه السلام)رفض هذا الخيار لأسباب موضوعية كثيرة أفصح عن بعضها من خلال جوابه لابن عباس : «هیهات هيهات یا ابن عباس إنّ القوم لن يتركوني، وإنهم يطلبونني أين كنت حتّى أُبايعهم کُرهاً أو يقتلوني ، والله إنّهم ليعتدون عليَّ كما اعتدت اليهود في يوم السبت... »(2)

ص: 190


1- صبحي، أحمد محمود : نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثني عشرية،تحلیل فلسفي : 343
2- موسوعة كلمات الإمام الحسين : 321، ومعالي السبطين :246/1

ويقول في جوابه لابن الزبير : « ... وأيمُ اللهِ لو كنت في جُحر هامَّةٍ من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيَّ حاجتهم ووالله ليعتدن علىَّ کما اعتدت اليهود في السبت»(1).

وقال(علیه السلام) لعبد الله بن عمر : «يا أبا عبد الرحمان ، أما علمتَ أنَّ من هوان الدُّنيا على الله تعالى أنّ رأس يحیی بن زکریا أُهديَ إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل ، أما تعلم أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبياً ، ثمَّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئاً ، فلم يعجّٙلِ اللهُ عليهم بل أمهلهم وأخذهم بعدَ ذلك أخذ عزيز ذي انتقام ، اتّق الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدع نصرتي»(2).فالحسين (علیه السلام)كان يعلم أنه سوف يلاحق ويقتل سواء ذهب إلى اليمن أو إلى غيرها من البلدان، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا يعطي نفسه للقتل وهو منهزم.

ثمّ إن خيار اليمن الذي عُرض على الإمام الحسين (علیه السلام)لم يكن خياراً صائباً ، لجملة من الأسباب منها :

أولاً : إن شيعة الإمام في اليمن كانوا يشكلون أقلية معزولة عن السلاح والعتاد والقوة العسكرية ، ولا قابلية لهم على خوض الحرب والمواجهة، ولا يقاسون بشيعة الإمام في الكوفة من ناحية العدّة والعدد والولاء والمنعة.

ثانياً : ان جماهير اليمن لم تقم بحماية بلادهم حينما دهمتهم جيوش معاوية بقيادة بسر بن أرطاة ، فأشاع فيهم القتل، وسبي نساءهم وباعها في الأسواق ...

ص: 191


1- الطبري : 5/ 385
2- السيد الأمين، أعيان الشيعة : 593/1 طبعة دار التعارف ۔ بیروت، والبحار : 44/ 364

ولم يثأروا للدفاع عن أعراضهم، وإنما استسلموا للعدوان الأموي .. ومع هذا الحال كيف يهاجر الإمام إليهم(1)؟

ثالثاً : إن أهل اليمن لم يدعوا الإمام الحسين ولم يکاتبوه فضلاً عن أن يكونوا بايعوه، فذهاب الإمام إليهم من دون دعوة أو مراسلة أو بيعة لا يجعل موقعه في مقام القوة والمنعة.

رابعاً : واليمن من الناحية الجغرافية غير صالحة استراتيجياً لأن يتخذها الإمام مقراً لثورته لأنها منطقة نائية ويمكن محاصرتها وقطع ارتباطها مع البلدان الإسلامية المجاورة، ومن ثمّ القضاء على أي مواجهة قتالية بسهولة ، ومن دون أن تترك تلك المواجهة أي أثر يذكر في تحريك الرأي العام.

خامساً : إن الخروج إلى اليمن يستلزم بالضرورة إطالة أمر المطاردة وأمد الحرب والإمام الحسين لم يخرج إلى اليمن حتى لا تطول الحرب وسفك الدماء ويتهم بإثارة الفتنة وشق عصا الطاعة، ثمّ تضيع عدالة قضيته(2).

الخيار الثالث : الخروج إلى العراق :

المحصلة النهاية التي انتهى إليها الإمام الحسين (علیه السلام)من خلال ما طرح عليه من خيارات من قبل المعارضين لخروجه : ان البقاء في الحرم يعني الاغتيال وانتهاك لحرمة الحرم، والخروج إلى اليمن يعني الانهزام وإطالة أمد الحرب ومن ثَمَّ القتل من دون أن يكون هذا القتل أثر يذكر و تأثير وهزة ضمير في المجتمع ، فلا يبقى إلّا خيار واحد، وهو الخروج إلى العراق .

ص: 192


1- القرشی، حياة الإمام الحسين : 3/ 18، وقد مرّ بنا سابقاً تفاصيل غارة ابن أرطاة على اليمن بأمر من معاوية
2- أحمد محمود صبحي : نظرية الإمامة : 342 - 343

ولم يأتِ اختيار الخروج إلى العراق اعتباطاً وإنما هنالك عوامل موضوعية كثيرة استوجبت هذا الاختيار ومن هذه العوامل :

أولاً : العامل الغيبي : وكان الإمام (علیه السلام)يصرح لبعض المشفقين والناصحين بأن مقتله في كربلاء، وهي الأرض التي اختارها الله بعلمه لكي تكون فيها واقعة عاشوراء ويراق فيها الدم الطاهر المقدس من الحسين ومن أهل بيته وأصحابه .

يقول(علیه السلام) في خطبته في مكة عشية خروجه منها: «خُطَّ الموت على ولد آدم مَخَطَّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أوهني إلى أسلافي اشتیاق يعقوب إلى يوسف ، وخير لي مصرع أنا لاقيه ، كأني بأوصالي هذه تقطعها عسلان الفلاة بين النواويس و کربلا، فيملان مني أكراشاً جوفاً ، وأجربة سغباً، لا محيص عن يوم خُطَّ بالقلم ...»(1).

وعندما علمت أُم سلمة زوج النبي(صلی الله علیه و اله) أن الإمام الحسين قد عزم على الخروج إلى العراق ، هرعت إليه قائلة : «یا بني لا تحزني بخروجك إلى العراق فإني سمعت جدك رسول الله(صلی الله علیه و اله) يقول : يقتل ولدي الحسين بأرض العراق فيأرض يقال لها کربلاء وعندي تربتك في قارورة دفعها إلىَّ النبي (صلی الله علیه و اله).

فأجابها الإمام : يا أُماه ، وأنا أعلم أني مقتول .. وإني لأعرف اليوم الذي أُقتل فيه والساعة التي أُقتل فيها، والحفرة التي أُدفن فيها ...»(2).

وفي كامل الزيارات : لما مرّ أمير المؤمنين بكربلاء في مسيره إلى صفين نزل فيها وأومأ بيده إلى موضع منها فقال : هاهنا مهراق دمائهم، ثقل لآل محمد ينزل هاهنا، ثمّ قال : واهاً لك من تربة ليحشرن منك أقوام يدخلون الجنة

ص: 193


1- اللهوف: 33، وابن نما : 20
2- مقتل الحسين للمقرم: 65 وما بعدها

بغير حساب، وأرسل عبرته وبکی من معه لبكائه وأعلم الخواص من صحبه بأن ولده الحسين يقتل هاهنا في عصبة من أهل بيته وصحبه ، هم سادة الشهداء لا يسبقهم سابق ولا يلحقهم لاحق»(1).

وقال(علیه السلام) لأخيه عمر الأطرف : «إنّ أبي أخبرني بأن تربتي تكون إلى جنب تربته، أتظن أنك تعلم ما لم أعلمه»(2).

إلى غير ذلك من تصريحاته في المدينة ومكة ومنازل الطريق فإنها شاهدة على أنه (علیه السلام)كان على علم ويقين بأنه مقتول في اليوم الموعود به بأرض كربلاء(3) وهنالك حشد كبير من الروايات المرويّة عن النبي(صلی الله علیه و اله) وأميرالمؤمنين(علیه السلام) تنص على هذا المعنى(4).

ثانياً : موقع العراق عامة والكوفة خاصة من الأحداث : لقد امتاز العراق في ذلك الوقت عن الأمصار والبلدان الإسلامية كالحجاز واليمن ومصر والشام بامتيازات كثيرة جعلته بمثابة قلب الدولة الإسلامية النابض ، فهو المركز والقاعدة الحربية التي تنطلق منها الجيوش الإسلامية ، وهو المركز الاقتصادي والزراعي وموطن المال والتجارة، والأهم من ذلك كله أنه بلد المعارضة السياسية والاجتماعية وخاصة الكوفة التي هي المقر الرئيسي لمعارضة الحكم الأموي ومنها كانت تصدر الثورات وإليها ترد.

يقول الدكتور إبراهيم الراوي : «.. إنَّ الكوفة كانت البلد الوحيد في الأقطار الإسلامية التي تفقه قيم الأحداث ومغزى التيارات السياسية، فقد ساد فيها

ص: 194


1- ابن قالویه، کامل الزيارات : 27، والمنقري، نصر بن مزاحم، کتاب صفين : 157 - 159
2- المقرم، مقتل الحسين : 65 وما بعدها، وللتوسع انظر المصدر نفسه : 42 - 44، وشرح النهج : 364/4
3- المقرم، مقتل الحسين : 65 وما بعدها، وللتوسع انظر المصدر نفسه : 42 - 44، وشرح النهج : 364/4
4- للتوسع انظر : الاميني، سيرتنا وسنتنا

الوعي الاجتماعي إلى حد كبير، وقد كان الكوفيون يفرضون آرائهم على حكامهم ، وإذا لم يحققوا رغباتهم سلوا في وجوههم السيوف وثاروا عليهم...»(1)

ثالثاً : إن الكوفة كانت مهداً للشيعة والتشيع، وموطناً من مواطن العلويين ، وقد أعلنت إخلاصها لأهل البيت في كثير من المواقف ، وقد غرس فيها حب أهل البيت والولاء لهم مالك الأشتر النخعي، وعمار بن یاسر، وعبد الله بن مسعود ، وقد خاض الكوفيون حرب الجمل وصفين مع الإمام أمير المؤمنين ، كذلك

خاضت الكوفة أعنف المعارك وأشدها ضراوة من أجل أهل البيت للانتقام من قتلتهم والأخذ بثأرهم فكانت ثورة التوابين، ونهضة المختار بن أبي عبيدة الثقفي، وغيرهما من الثورات والنهضات اللاحقة لها حتى ثمَّ إسقاط الحكم الأموي. ولهذا كله كان اختيار الإمام الحسين الخروج إلى الكوفة ناشئاً عما عرف به أهل هذه المدينة من الولاء العميق لأهل البيت(علیهم السلام)(2) ولم يعرف هذا الحب والولاء لأهل البيت في الحجاز ولا في اليمن فضلاً عن مصر أو الشام حيث الولاء الأموي.

رابعاً : كتب أهل الكوفة ودعواتهم : لقد كانت الكوفة مسرحاً لأحداث خطيرة متلاحقة منذ استشهاد أمير المؤمنين(علیه السلام) ، ثمّ تولي الإمام الحسن(علیه السلام) للخلافة ، ثمّ صلحه مع معاوية ، وما لحقها من أحداث جسام أصابتهم في مقاتلهم وهزت ضمائرهم حتى عادوا إلى أنفسهم وندموا على تقصيرهم ومهادنتهم لعدوهم معاوية ، فعادوا أدراجهم إلى الإمام الحسن يطلبون منه أن يعيد الحرب،

ص: 195


1- العراق في ظل الحكم الأموي : 9
2- القرشی، حياة الإمام الحسين : 13/3 بتلخيص وتصرف

وأن يأذن لأهل الكوفة أن يخرجوا عامل معاوية ، ويعلنوا خلعه بعد أن لم يف بما بينه وبين الحسن من شروط ، فردّ عليهم الحسن قائلاً : «أنتم شیعتنا وأهل مودتنا، فارضوا بقضاء الله وسلموا الأمر والزموا بيوتكم وكفوا أيديكم حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر»(1) عندها قصدوا الإمام الحسين وعرضوا عليه البيعة ، فأبى عليهم مادام الحسن قائماً.

وبعد استشهاد الإمام الحسن(علیه السلام) أعاد أهل الكوفة الكرة على الإمام الحسين (علیه السلام)، طالبين منه الخروج على معاوية إلّا أن الإمام لم يستجب لدعوتهم ولكنه أملهم إلى حين هلاك معاوية.

فلم تكن دعوة الكوفيين للإمام الحسين بجديدة، إلّا أنها بعد هلاك معاوية وتولي يزيد للخلافة ورفض الإمام الحسين للبيعة وخروجه من المدينة إلى مكة أخذت هذه الدعوة بعداً آخر أكثر شموليةً وحيوية عن الدعوات السابقة له (علیه السلام).

يقول السيد المقرم : «و في مكة وافته كتب أهل الكوفة من الرجل والاثنين والثلاثة والأربعة يسألونه القدوم عليهم لأنهم بغير إمام ولم يجتمعوا مع النعمان بن بشير في جمعة ولا جماعة ، و تكاثرت عليه الكتب حتى ورد عليه في يوم واحد ستمائة كتاب واجتمع عنده من نوب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب وفي كل ذلك يشددون الطلب وهو لا يجيبهم، وآخر کتاب ورد عليه من الكوفة وفيه : إن الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعجل العجل یا ابن رسول الله فقد اخضر الجناب ، واينعت الثمار، وأعشوشبت الأرض وأورقت الأشجار، فأقدم إذا شئت فإنما تقدم على جند لك مجندة»(2).

ص: 196


1- مقتل الحسين : 144
2- مقتل الحسين : 144

ومن المستبعد جداً أن يكون الحسين (علیه السلام)غافلاً عن تقدير مدى إخلاص أهل الكوفة في دعوتهم له، إلّا أنَّ مسؤوليتهُ امام الله والأُمة إن تأخر عن إجابتهم دعته إلى إجابة دعواتهم بعد أن كتب إليه سفيره مسلم بن عقيل يخبره باجتماع الناس على بيعته وتطلعهم إلى قدومه(1) کما سوف يأتينا تفصيل ذلك لاحقاً.

لهذه الأسباب وغيرها اختار الإمام الحسين الخروج إلى العراق ليجعلها مقراً لثورته.

* هل أصاب الحسين بخروجه إلى العراق ؟ :

بغض النظر عن عقيدتنا في الإمام الحسين(علیه السلام) ، وكُونه اماماً معصوماً ، وما يفعله هو عين الصواب والواقع، ولو تنزلنا عن الجانب الغيبي حيث التخطيط الإلهي لخروجه واستشهاده (علیه السلام)، فإن الحكم على إصابة الحسين بخروجه إلى العراق يختلف بحسب المعايير التي تقاس على ضوئها نهضة الإمام الحسين وخروجه إلى العراق .

فالذين لم يستوعبوا حركة الإمام وخروجه إلى العراق والدوافع الكامنة من ورائها إلّا من خلال كونها حركة عسكرية لإسقاط النظام الأموي ، أو للهروب من ملاحقة هذا النظام، فإنهم قد يتفقون على خطأ هذه الحركة،وخطأ اختیار العراق كبلد لهذا الخروج، ويحكمون على حركته (علیه السلام)بأحكام قاسية سجلتها أقلام أموية الشام من أمثال ابن تيمية، أو أقلام أموية الأندلس من أمثال ابن حزم وابن العربي، وتابعهم على ذلك بعض الأقلام من شذاذ هذه الأُمة، وبعض المستشرقين أيضاً.

ص: 197


1- القرشي، الحياة الإمام الحسين : 3/ 140

أما الذين استوعبوا حركة الإمام الحسين(علیه السلام) وخروجه من خلال التأمل في كلمات الإمام ومواقفه والشعارات التي أطلقها والآثار التي تركتها هذه النهضة في الأُمة الإسلامية ، فهؤلاء سوف يرون ويدركون بعين البصيرة، ما لم يدرکه من ابتلوا بعدم الوعي والادراك ، أو الذين حركتهم عصبيتهم وشايعوا الأمويين في جريمتهم.

فلم يكن الحسين(علیه السلام) ذلك الشخص الهارب المنهزم حتى يبحث عن جبال وكهوف وقلاع اليمن، ولم تكن الشهادة والقتل غائبة عن وعي الإمام الحسين وهو ينادي : «كأني بأوصالي هذه تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء ...».

فنطق الحسين كان يقول : أنا أخرج إلى العراق ولي فيها شيعة ، وأستطيع أن أخرج بهم ثمّ أقتل بصحبي وأهل بيتي ، وبقتلي سوف تسقط شرعية بني أُمية ، وسوف يفقدون التأثير على المسلمين ، ولا ينخدع بهم أحد، وسوف يذلهم الله إذلالاً عظيماً.

يقول الإمام لابن عباس : والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا ذلك سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من «فرام

المرأة»(1).

وفي رواية ابن عساکر : «... ولا أراهم إلّا قاتلي ، فإذا فعلوا ذلك لم يدعوا لله حرمة إلّا انتهكوها، فيسلط الله عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذل من فرم الأَمة»(2) .

ص: 198


1- المقرم، مقتل الحسين : 168، والفرام : هي الخرقة تحتشي بها المرأة عند الحيض
2- انظر تاریخ دمشق: 214/14 ترجمة الإمام الحسين(علیه السلام)

لقد كان في استشهاد الإمام الحسين ما أدان الدولة الأموية وأصبح الأمويون في نظر المسلمين طغاة مستبدين لانتهاكهم قوانين الإسلام وشرائعه ، وامتهانهم لمثله العليا(1).

ولم يعرف في التاريخ حركة يعض فيها المنتصرون بنان الندم کالذين انتصروا في كربلاء(2).

المبحث الثالث: وقفة مع عبد الله بن الزبير

وقبل أن نُودّٙع مكة للإنتقال إلى الكوفة وأحداثها، ثمّ العودة لمسايرة الحسين(علیه السلام) في طريقه إلى العراق، لابد لنا من وقفة قصيرة مع عبد الله بن الزبير في

حركته وموقفه من الإمام الحسين(علیه السلام) وواقعة كربلاء.

من هو عبد الله بن الزبير؟:

هو عبد الله بن الزبير بن العوام، ولد في المدينة في السنة الأُولى من الهجرة ، وقتل في جمادى الآخرة سنة (73ه) وكان له من العمر حين قتل اثنان وسبعون سنة، وهو أول مولود ولد في دار الهجرة من أبوين مهاجرين ، وأُمه أسماء بنت أبي بكر المعروفة بذات النطاقين(3).

ولا نريد أن نستعرض كل ترجمة ابن الزبير وإنا نأخذ الجانب السياسي من ترجمته بقدر ما يتعلق بواقعة الطف ونهضة سيد الشهداء (علیه السلام).

وعندما نستعرض هذا المقطع من حياة ابن الزبير السياسية ، نلتقي بنقطتين ، إحداهما إيجابية، والأُخرى سلبية.

ص: 199


1- حسن، إبراهيم حسن : تاريخ الإسلام السياسي : 1/ 422
2- أحمد محمود صبحي، نظرية الإمامة : 336
3- الكامل في التاريخ : 3/ 75، وتاريخ خليفة بن الخياط : 206/1 ، والطبري : 6/ 187

أما النقطة الإيجابية في حياة ابن الزبير، فإنه لم يبایع یزید بن معاوية ، وأعرض عن المدينة إلى مكة رافضاً بيعة يزيد ، وبقي على موقفه المعارض إلى أن هلك يزيد بن معاوية ، وبويع له بالخلافة على أجزاء واسعة من بلاد الأُمة الإسلامية، ثم استمر على موقفه الرافض للبيعة لبني مروان إلى حين استشهاده ، رغم الحصار الذي ضرب عليه في مكة ، وسجل بذلك موقفاً شجاعاً حيث لم ينهزم من ساحة القتال.

أما النقطة السلبية في حياة ابن الزبير السياسية، والتي تتعلق بواقعة الطف ، فإن ابن الزبير لم يخرج مع الحسين (علیه السلام)إلى العراق، رغم موقفه المعارض لحكم یزید بن معاوية ، ولم يبايع الحسين (علیه السلام)، بل كان متضايقاً ومستاءً من وجوده في مكة، وكان يرجح أن لا يبقى الحسين في مكة، ولما خرج الحسين من مكة كان ابن الزبير مغتبطاً وفرحاً لذلك.

وكان الإمام الحسين (علیه السلام)يعرف ذلك جيداً، ففي رواية الطبري أن ابن الزبير دخل على الإمام الحسين (علیه السلام)وهو لا زال في مكة فقال له : خبُرني ما تريد أن تصنع ؟ فقال الحسين (علیه السلام): والله لقد حدّثت نفسي بإتيان الكوفة ، ولقد كتب إلىّ شيعتي بها وأشراف أهلها، واستخير الله.

فقال له ابن الزبير : أما والله لو كان لي بها مثلُ شيعتك ما عدلتُ بها، قال - الراوي - ثم إنه خشي أن يتهمه فقال : أما إنك لو أقمت بالحجاز ثم أردت هذا الأمر هاهنا، ما خولف عليك إن شاء الله، ثم قام فخرج من عنده .

فقال الحسين : إنّ هذا ليس شيء يؤتاه من الدنيا أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز إلى العراق ، وقد علم أنه ليس له من الأمر معي شيء، وأن الناس لم يعدلوه بي، فودّ أني خرجت منها لتخلو له(1)

ص: 200


1- الطبري : 383/5

قال أبو الفرج الأصفهاني :

«إن عبد الله بن الزبير لم يكن شيء أثقل عليه من مكان الحسين بالحجاز ، ولا أحب إليه من خروجه إلى العراق طمعاً في الوثوب بالحجاز ، وعلماً منه بأن ذلك لا يتم له إلّا بعد خروج الحسين»(1).

بل إن عامة الناس كانت تدرك أن ابن الزبير يرجح أن لا يبقى الحسين في مكة ، ولم يكن الأمر بحاجة إلى ذكاء وفطنة عبد الله ابن عباس حتى يدرك الأمر، لأن الحسين (علیه السلام)عندما كان في الحجاز كان يستقطب الجماهير، وابن الزبير معزول عنهم، ولم يستطع أن يجتذب الأضواء المسلطة على الحسين لنفسه، فلما خرج الحسين إلى العراق بقي هو محور المعارضة، ولذلك تجد ابن عباس لما يعاتب الحسين

على خروجه من الحجاز إلى العراق يقول له : لقد أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إياه والحجاز والخروج منها، وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك ... ثم خرج ابن عباس من عنده ، فمرّ بعبد الله بن الزبير ، فقال : قرّت عينك يابن الزبير،

ثم قال:

يالکِ من قُبَّرةٍ بِمَع۟مَرِ

خَلا لکِ الجوُّ فَبِيضي وأَص۟فِرِي

ونقّرِي مَا شِئتِ أن تُنقّٙري

هذا حسين يخرج إلى العراق، وعليك بالحجاز(2) .

ومن حقنا أن نسأل : لِمَ لم يخرج ابن الزبير مع الإمام الحسين(علیه السلام) إلى العراق ؟

وقبل الإجابة عن هذا التساؤل، نطرح مجموعة من المسلمات والبدهيات اللازمة لتوضيح الفكرة:

ص: 201


1- مقاتل الطالبيين، والبلاذري - أنساب الأشراف : 13/4 - 14
2- المصدر نفسه : 384/5

أولاً : إن ابن الزبير كان من المعارضين ليزيد بن معاوية ، ولم يكن يفكر بأن یزید يصلح أن يكون حاكماً للمسلمين وولي أمرهم وخليفتهم، وكان يرى أن یزید حاكم ظالم فاسق، غاشم فاجر ، ولا يستحق الخلافة ولا يصلح لها.

ثانياً : إن الحسين بن علي (علیه السلام)خرج على يزيد وسلطان بني أُمية ، وهذا يعني أن الحسين سار في الخط المعارض لبني أُمية والذي يؤمن به ابن الزبير، وخروج الحسين كان خروج تصدي وثورة لقلب النظام الحاكم، أو لسلب الشرعية منه .

ثالثاً : إن الإمام الحسين(علیه السلام) في خروجه إلى العراق قد استنصر المسلمين في مكة ، «ألا ومن كان باذلاً فينا مهجته، موطناً على لقاء الله نفسه ، فليرحل معنا...» (1).

رابعاً : إن عبد الله بن الزبير قد عُرِفَ بالشجاعة والإقدام، ولم يكن من الذين يؤثرون العافية ، أو يخشى من المواجهة، من أمثال عبد الله بن عمر ، أو عبيد الله ابن الحر الجعفي.

خامساً : بناء على نظرية النص الشرعي على الإمامة ، فإن الإمام الحسين بن علي (علیه السلام)هو الإمام وولي الأمر في سلسلة الأئمة بعد رسول الله کما تؤمن الشيعة الإمامية بذلك ، وبناءً على نظرية الاختيار والشورى في اختيار الإمام والتي نحتمل أن ابن الزبير من القائلين والعاملين بها، فإن الإمام الحسين(علیه السلام) قد تصدى للأمر وهو من أشراف قريش وساداتها كفؤٌ وعادل وشجاع وبايعه من يتحقق به البيعة ، من الأشراف ومن أهل البيت ومن عامة المسلمين وخرجوا معه إلى العراق، وعلى هذا يجب على ابن الزبير وعلى جميع المسلمين طاعته وبيعته ويحرم عليهم مخالفته .

مع كل هذه الحقائق والبدهيات والمسلمات فإن ابن الزبير لم يخرج مع الحسين في نهضته وثورته ضد بني أُمية وحكم یزید بن معاوية!

ص: 202


1- المقرم، عبد الرزاق - مقتل الحسين : 166، طبعة دار الكتاب الإسلامي - بيروت، (1399 ه - 1979م)، طبعة الخامسة

فماذا يعتذر ابن الزبير ؟ وما هي مبررات عدم خروجه؟

هل إن ابن الزبير يعتقد أن یزید ابن معاوية حاکم شرعي وقد بايعه المسلمون ويجب طاعته؟

هل إن الإمام الحسين (علیه السلام)لم يخرج ويتصدى للثورة على الحكم الأموي؟

هل إن الإمام الحسين(علیه السلام) لم يستنصر المسلمين ، أو لم يجد ابن الزبير من يخرج مع الحسين ؟

هل إن ابن الزبير كان رجلاً جباناً ويؤثر العافية ويخشى المواجهة المسلحة ؟

هل إن الإمام الحسين(علیه السلام) لم يكن يحمل مؤهلات الإمامة على مبدأ الاختيار والشؤون الذي يراه ابن الزبير؟

كل هذه الأسئلة وغيرها تبرز أمام الباحث في الحياة السياسية لابن الزبير في خصوص طريقة تعاطيه مع نهضة سيد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام).

ولعلنا نجد الإجابة عن هذه الأسئلة وعن سرّ موقف ابن الزبير في أمرين : الأمر الأول : في النص الذي يرويه الطبري في تاريخه والذي يسلط الضوء على

حوار جرى بين الإمام الحسين(علیه السلام) وابن الزبير في جوف الكعبة .

والأمر الثاني : في خلفية مواقف ابن الزبير السياسية اتجاه أمير المؤمنين (علیه السلام)خاصة وأهل البيت بشكل عام.

أما الأمر الأول فقد روى الطبري عن رجلين أسديين حجا البيت الحرام سنة (60ه) أي في السنة التي خرج فيها الإمام الحسين إلى العراق ، فيقول :

قال أبو مخنف : ... عن عبد الله بن سُليم ، والمذريّ بن المشمعلّ الأسديين قالا : خرجنا حاجّين من الكوفة حتى قدمنا مكة، فدخلنا يوم التروية، فإذا نحن بالحسين وعبد الله ابن الزبير قائمين عند ارتفاع الضحى فيما بين الحِجر و الباب، قالا : فتقرّبنا منهما، فسمعنا ابن الزبير وهو يقول للحسين : إن شئت أن تقيم أقمت فولّيت هذا الأمر، فآزرناك وساعدناك ، ونصحنا لك وبايعناك .

ص: 203

فقال له الحسين : إنّ أبي حدثني أن بها كبشاً يستحلّ حرمتها، فما أحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش.

فقال له ابن الزبير : فأقم إن شئت و تولّيني أنا الأمر فتطاع ولا تعصى !! فقال - الحسين - : وما أُريد هذا أيضاً.

قالا : ثم إنّهما أخفيا كلامهما دوننا، فما زالا يتناجيان حتى سمعنا دعاء الناس رائحين متوجّهين إلى منى عند الظهر(1).

إذن ابن الزبير عرض البيعة على الحسين (علیه السلام)، ولكنها بيعة مشروطة ، وعرض الطاعة على الإمام الحسين ولكنها أيضاً طاعة مشروطة ، ولا ندري لماذا جاء بهذا الشرط الذي ما أنزل الله به من سلطان ، فإن كان ابن الزبير يرى في الحسين أنه إمام للمسلمين و تصدی وخرج على حكم یزید و توفرت فيه كل شروط الإمامة ، فحينئذ يجب عليه بيعته وطاعته ونصرته سواءً أقام في الحجاز ، أو ترك الحجاز إلى العراق، وبلا قيد أو شرط.

أما الأمر الثاني : فإننا عندما نستعرض خلفية ابن الزبير السياسية وطريقة تعاطيه مع أهل البيت وخاصة في فترة خلافة أمير المؤمنين وما رافقتها من فتن ومحن داخلية، نجد أن مواقفه سلبية للغاية ، بل هي مواقف تتصف بالعدائية لأهل البيت بكل معنى الكلمة.

والنصوص التاريخية تسجل لنا الكثير من هذه المواقف، نستعرض بعضها :

في حرب واقعة الجمل المعروفة والتي قادها طلحة والزبير وعائشة ، كان لعبد الله ابن الزبير دور رئيسي في تأليب الناس وإشعال نار الحرب ، بل كان السبب الرئيسي في مقتل والده الزبير بن العوام غيلة على يد عمير بن جرموز، بوادي السّباع.

ص: 204


1- الطبري - تاريخ الطبري : 384/5 - 385

جاء في شرح نهج البلاغة أن أمير المؤمنين (علیه السلام)بعث عبد الله بن عباس قبل وقوع الحرب يوم الجمل وقال له : «ال۟قَ الزُّبَي۟رَ فَإِنَّهُ أَل۟يَنُ عَرِيكَةً فَقُل۟ لَهُ : يَقُولُ لَكَ اب۟نُ خَالِكَ، عَرَف۟تَنِي بِال۟حِجَازِ وَأَن۟كَر۟تَنِي بِال۟عِرَاقِ، فَما عَدَا مِمَّا بَدَا»(1).

بل أكثر من هذا فقد حاول أمير المؤمنين (علیه السلام)جاهداً أن يخلص الزبير من الورطة التي أوقع نفسه فيها، فبرز إليه حاسراً، بين الصفين ، وقال له : ما حملك يا أبا عبد الله على ما صنعت؟ ثم ذَکَّرَهُ بقول رسول الله (صلی الله علیه و اله)في موقف من المواقف، حيث قال(صلی الله علیه و اله) للزبير : «أما إنّك ستقاتله وأنت له ظالم» فاسترجع الزبير وقال : لقد كان ذلك ، ولكنّ الدهر أنسانيه ، ولأنصرفنّ عنك ، فرجع... فقال له ابنهُ عبد الله : كلّا ولكنّك فَرِقت(2) سيوف ابن أبي طالب ، وعرفت أنّ الموت الناقع تحت رايته ، فقال الزبير : ما لك أخزاك الله من ولد! ما أشأمك(3)!

وفي رواية أُخرى يرويها الزبير بن بكار في الموفقيات(4) قال : لما سار علىّ(علیه السلام) إلى البصرة بعث ابن عباس فقال : ائت الزبير، فأقرأ عليه السلام، وقل له : يا أبا عبد الله ، كيف عرفتنا بالمدينة وانكرتنا في البصرة ! ... قال ابن عباس :

ص: 205


1- انظر ابن أبي الحديد المعتزلي - شرح نهج البلاغة : 2/ 162 وما بعدها
2- فرقت : خفت
3- المصدر نفسه : 2/ 166
4- كتاب الموفقيات في الأخبار، ألفه الزبير بن بكار للموفق بالله ، وهو الزبير بن بكار بن عبد الله ابن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام، كان علامة نسابة أخبارياً، وكتبه في الأنساب عليها الاعتماد، توفي سنة (256 ه). انظر معجم الأدباء للحموي : 161/11

فأتيت الزبير ... فأردت منه جواباً غير ذلك ، فقال لي ابنه عبد الله : قل له : بيننا و بينك دَم خليفة و وصيّة خليفة، واجتماع اثنين ، وانفراد واحد، وأُمّ مبرورة ، و مشاورة العشيرة، قال ابن عباس - فعلمت أنه ليس وراء هذا الكلام إلّا الحرب ، فرجعت إلى علىّ(علیه السلام) فأخبرته(1).

ولهذا كان أمير المؤمنين (علیه السلام)يقول : ما زال الزّبير منّا أهل البيت ، حتی شبّ ابنه عبد الله(2).

أما مواقف ابن الزبير من أهل البيت و آل هاشم خلال فترة خلافته فلم تتغير واتصفت بالعداء، والبغض ، والحقد، حتى وصل به الأمر إلى التهديد بإحراقهم وهم أحياء.

روى الطبري عن أبي مخنف : أن عبد الله بن الزبير حبس محمّد بن الحنفيّة ومَن معه من أهل بيته وسبعة عشر رجلاً من وجوه أهل الكوفة بزمزم، کرهوا البيعة لمن لم تجتمع عليه الأُمة، وهربوا إلى الحرم، وتوعّدهم بالقتل والإحراق، وأعطى الله عهداً إن لم یبایعوا أن ینفذ فیهم ما توعدّهم به، وضرب لهم غی ذلک أجلاً...

فبعث ابن الحنفية نفر من أهل الكوفة إلى المختار يعلمه حاله وحال من معه ، وما توعدهم بن ابن الزبير من القتل والتحريق بالنار، فوجه المختار مجموعة من المقاتلين، فدخلوا المسجد الحرام ... حتى انتهوا إلى زمزم، وقد أعد ابن الزبير الحطب ليحرقهم، وكان قد بقي من الأجل يومان ، فطردوا الحرس، وكسروا أعواد زمزم، ودخلوا على محمد بن الحنفية...(3)

ص: 206


1- شرح النهج : 169/2
2- المصدر نفسه : 2/ 167
3- الطبري : 6/ 75 - 76، والبداية والنهاية : 306/8 ، 336، والكامل في التاريخ : 2/ 688

ثم إن محمد بن الحنفية خرج من مكة هارباً من بطش ابن الزبير قاصداً الشام ولكنه لم يدخلها وعاد ادراجه إلى مكة ونزل شعب أبي طالب . فأمره ابن الزبير بالرحیل، فذهب إلی الطائف وأقام بها(1).

وفي الكامل في التاريخ : ثمّ إنّ البلاد استوثقت لابن الزبير بعد قتل المختار ، فأرسل إلى ابن الحنفية : أدخل في بيعتي وإلّا نابذتك، وكان رسوله عروة بن الزبير ، فقال ابن الحنفية : بؤساً لأخيك ما ألجه فيما أسخط الله وأغفله عن ذات الله! وقال لأصحابه : إنّ ابن الزبير يريد أن يثور بنا وقد أذنتُ لمن أحبّ الانصراف عنّا فإنه لا ذمام علیه منّا ولا لوم ، فإني مقيم حتى يفتح الله بيني وبين ابن الزبير ، وهو خير الفاتحين(2).

وكان محمد بن الحنفية يدعو على عبد الله بن الزبير بقوله : اللهم ألبس ابن الزبير لباس الذلّ والخوف، وسلّط عليه وعلى أشياعه من يسومهم الذي يسوم الناس(3).

وفي النهاية اضطر محمد بن الحنفية ان يترك مكة وسار إلى الطائف ، فدخل ابن عباس على ابن الزبير فأغلظ له ، فجرى بينهما كلام(4)، وخرج ابن عباس أيضاً فلحق بالطائف، ثم توفي، فصلّى عليه ابن الحنفية(5) .

بل وصل الحقد بابن الزبير على بني هاشم إلى درجة ترك ذكر النبي(علیه السلام)والصلاة عليه في خُطبة الجمعة !!

ص: 207


1- تاریخ الأُمم الإسلامية : 2/ 140
2- الكامل في التاريخ : 2/ 690 وما بعدها
3- الكامل في التاريخ : 2/ 690 وما بعدها
4- انظر : تفاصيل ما جرى بين ابن عباس وابن الزبير في فتوح ابن أعثم : 6/ 248 وما بعدها
5- المصدر نفسه : 691/2

نقل الشيخ عز الدين ابن أبي الحديد المعتزلي في كتاب شرح نهج البلاغة ،قال :

قطع عبد الله بن الزبير في الخطبة ذكر رسول الله (صلی الله علیه و اله)جُمَعاً كثيرة ، فاستعظم الناس ذلك ، فقال : إني لا أرغب عن ذكره ولكن له أُهَيل سوءٍ إن أنا ذكرته تعلوا أعناقهم فأنا أحب أن أكبتهم.

وقال : لما کاشف عبد الله بن الزبير بني هاشم وأظهر بغضهم وعابهم ... ولم يذكر رسول الله (صلی الله علیه و اله)في خطبته لا يوم جمعة ولا غيرها، عاتبه على ذلك قوم من خاصته وتشأموا بذلك منه وخافوا عاقبة أمره. فقال : والله ما تركت ذلك علانية إلّا وأنا أقوله سراً وأكثر منه، ولكني رأيت بني هاشم إذا سمعوا ذكره إشرأبوا واحمرت ألوانهم وطالت رقابهم، والله ما كنت أتي لهم سروراً وأنا أقدر عليه، والله لقد هممتُ أن أحفر لهم حفيراً ثم أضرمها عليهم ناراً(1).

بعد هذه الجولة في الحياة السياسية لابن الزبير يتضح لنا سرّ موقف ابن الزبير السلبي من الإمام الحسين (علیه السلام)ونهضته المباركة في واقعة الطف .

فإن المحور الذي كان يحرك عبد الله بن الزبير ويدعوه للمعارضة والخروج على حکم بنی أُمیة وسلطانهم هو محور الأنا وحب السلطة و الرئاسة والخلافة.

وهذه الأنا هي التي حركته في حرب الجمل ليخرج ناکثاً لبيعة أمير المؤمنين ومحارباً له ، وهي التي دعته إلى معارضة يزيد بن معاوية والخروج على سلطانهم، وهي التي دعته إلى عدم الخروج مع الإمام الحسين (علیه السلام)إلى العراق ، وعدم المشاركة في واقعة الطف ، وهي التي دعته إلى مواقفه المعادية لأهل البيت عندما امتنعوا عن بيعته، وهددهم بالإحراق ونفاهم من مكة.

ص: 208


1- شرح نهج البلاغة : 2/ 169. وانظر : کشکول البحراني : 2/ 298 - 299 وكلماته في ذم أهل البيت كثيرة، لم ننقلها لقبحها

جاء في شرح النهج :

كان عبد الله بن الزبير هو الذي يصلّي بالناس في أيام الجمل، لأن طلحة والزبير تدافعا الصلاة، فأمرت عائشة عبد الله أن يصلّي قطعاً لمنازعتهما، فإن ظهروا كان الأمر إلى عائشة ، تستخلف مَن شاءت.

وكان عبد الله بن الزّبير يدّعي أنه أحق بالخلافة من أبيه ومن طلحة ، ويزعم أنّ عثمان يوم الدار أوصى بها إليه(1).

ولهذا لا يمكن أن نعتبر ثورة ابن الزبير امتداداً لثورة الحسين ، فقد كان ابن الزبير یعدّ العدّة للثورة قبل مقتل الحسين ، وكانت أطماعه الشخصية في الحكم هي بواعثه على الثورة، وكان يرى في الحسين منافساً خطيراً كماعرفت ، فلما بلغ خبر مقتل الحسين أهل مكة ، وثب إليه أصحابه وقال : أظهر بيعتك ، فإنه لم يبق أحد إذ هلك الحسين ينازعك الأمر، ولكنه قال لهم لا تعجلوا(2). حتى إذا كانت سنة خمس وستين بويع له في الحجاز والعراق والشام والجزيرة(3).

وكان ابن الزبير قد وظف كل الظروف المؤاتية للوصول إلى تحقيق أطماعه الشخصية في الحكم، ومن أهم هذه الظروف هي تلك الروح الثورية التي انبعثت في الأُمة الإسلامية والتي بعثها الإمام الحسين بنهضته المباركة.

يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين في كتابه القيّم ثورة الحسين(4) :

ص: 209


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي : 166/2 وما بعدها
2- الطبري : 6/ 75
3- المصدر نفسه، ويقول خليفة بن خياط في تاريخه : 197 - 198: وفي سنة أربع وستين دعا ابن الزبير إلى نفسه وذلك بعد موت یزید بن معاوية ، فبويع في رجب لسبع خلون من سنة أربع وستین
4- شمس الدين، محمد مهدي - ثورة الحسين : 206

« وما نشك في أن استجابة الناس للثورة التي دعا إليها ابن الزبير كان مبعثها هذه الروح الجديدة التي بثتها ثورة الحسين الدامية في نفوس الجماهير، وقد مر عليك آنفاً(1) كيف أثّر التوابون في الكوفة على الحكم الأموي، بحيث أعدوا الناس لتقبل حكم ابن الزبير ، وطرد عامل بني أُمية على العراق»(2).

فهل كان ابن الزبير وفياً لثورة الحسين (علیه السلام)التي حركت الأُمة من سباتها، وبعثت فيها روح الثورة والجهاد؟ وهل كان وفياً للجماهير من أبناء الأُمة التي كانت تتطلع إلى تغيير جذري وإصلاح اجتماعي، وإلى دولة كريمة تحقق لهم العدل والمساواة والرفاه؟

کلا - ومع الأسف الشديد - فلم يكن ابن الزبير وفياً لثورة الحسين وشعاراتها وأهدافها ولم يكن صادقاً مع الجماهير الثائرة والتي صعد على أكتافها.

ولهذا انقلبت عليه تلك الجماهير الثائرة بعد أن خيّب آمالها في الحكم.

النعود إلى الشيخ شمس الدين و تحلیله التاريخي القيم في هذا المجال :

«... ولكي نعرف الستر في استجابة جماهير العراق لابن الزبير أول الأمر، ثم انقلابها عليه، واستجابتها لدعوة المختار، لابد أن نلاحظ أن مجتمع العراق كان يطلب إصلاحاً اجتماعياً، وكان يطلب الثأر من الأمويين وأعوانهم، وعلى أمل الاصلاح الاجتماعي والانتقام، استجاب مجتمع العراق لابن الزبير ، فهو عدو الأمويين من جهة، وهو يتظاهر بالإصلاح والزهد والرغبة عن الدنيا من جهة أُخرى، فلعل سلطانه أن يحقق كلا الأمرين.

ص: 210


1- المرجع نفسه : 199
2- المرجع نفسه : 206

ولكن سلطان ابن الزبير لم يكن خيراً من سلطان الأمويين ، لقد أخرج العراق من سلطانهم، ولكن قاتلي الحسين كانوا مقربين إلى السلطة كما كانوا في عهد الأمويين ، إن شمر بن ذي الجوشن، وشبث بن ربعي ، وعمر بن سعد ، وعمرو بن الحجاج، وغيرهم ، كانوا سادة المجتمع في ظل سلطان ابن الزبير ، كما كانوا سادته في ظل سلطان يزيد !!

كما أنه - ابن الزبير - لم يحقق لهم العدل الاجتماعي الذي يطلبونه ، لقد كانوا يحنون إلى سيرة على بن أبي طالب فيهم، هذه السيرة التي حققت لهم أقصى ما يمكن من رفاه و عدل ....

كان هذا وذاك سبباً في انخذال الناس عن ابن الزبير، وتأييدهم لثورة المختار عليه ، وقد ربط المختار دعوته بمحمد بن الحنفية بن علي بن أبي طالب ، وهذا ما جعلهم يطمئنون إلى عدل السيرة والإصلاح، ولقد جعل شعاره: «یالثارات الحسين» وهذا يحقق لهم الهدف الثاني.

وهكذا انتهت ثورة عبد الله بن الزبير بكل ملابساتها وأحداثها الدامية ، ولم تترك أثراً يذكر، ولم تغير الواقع الاجتماعي الذي كان أبناء الأُمة من الثائرين يتطلعون عليه ، وانما كانت عبارة عن ثورة لتحقيق طموحات شخصية في الحكم انتهت بصاحبها إلى ما انتهت إليه.

وبقيت ثورة الحسين (علیه السلام)خالدة وفاعلة في المجتمع الإسلامي، لما حملته من مقومات إنسانية بعيدة عن روح الأثرة والأغراض الشخصية في الحكم والسلطة »(1).

ص: 211


1- ثورة الحسين : 207

ص: 212

الباب الرابع: أحداث الكوفة واستشهاد مسلم بن عقيل

اشارة

ص: 213

ص: 214

الفصل الأول: الإمام الحسين ومکاتبات أهل الكوفة

اشارة

المبحث الأول : شخصية مسلم بن عقیل المبحث الثاني : المهام التي أوكلها الإمام الحسين إلى مسلم بن عقیل

ص: 215

ص: 216

المبحث الأول: شخصية مسلم بن عقيل في سطور

اشارة

قبل الدخول في تفاصيل أحداث الكوفة وملابساتها، لابد لنا من وقفة قصيرة عن بعض الملامح الشخصية لسفير الحسين إلى الكوفة « مسلم بن

عقیل ».

* والده : عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي الطالبي .

وشخصية عقيل غنية عن التعريف، فهو أخو الإمام أمير المؤمنين ، ومن أصحابه ، وهو العلامة النسابة الشهير، وكان أنسب قریش وأعلمهم بأيام الناس وأخبارهم.

روى الشيخ الصدوق عن «...» ابن عباس ، قال : قال علي(علیه السلام) لرسول الله : یا رسول الله إنك لتحب عقيلاً ؟ قال : إي والله إني لأحبه حبين، حباً له وحباً لحب أبي طالب له ، وإن ولده مقتول في محبة ولدك فتدمع عليه عيون المؤمنين وتصلي عليه الملائكة المقربون. ثمّ بکی رسول الله(صلی الله علیه و اله) حتى جرت دموعه على صدره، ثمّ قال : إلى الله اشكوا ما تلقى عترتي من بعدي(1).

ص: 217


1- الخوئي، أبو القاسم : معجم رجال الحديث : 19 / 165 - 166 عن الشيخ الصدوق في الأمالي، المجلس 27، الحديث ، طبعة الأعلمي : 111

* أُمه : أُم ولد تسمى «عليّة» أصلها من النبط ومن أشرافهم، والنبط سکان العراق القدماء وكانت لهم ملوكية في العراق قبل الفرس ولما غلبهم الفرس على السلطان انتسبوا فيهم واختلطوا بهم(1).

* ولادته : لم تعرف سنة ولادته تحقيقاً ، ولهذا اختلف أرباب المقاتل في سنّه يوم استشهد، فقائل يقول : استشهد وسنه (28) سنة ، وآخر يقول(34) سنة ... وآخر يرى أن سنّه (38) سنة(2) إلّا أن السيد المقرم يستقرب أن تكون ولادته إما سنة سبع أو تسع للهجرة وله يوم شهادته أكثر من خمسين سنة(3) ولا نعلم مستند السيّد المقرّم في ذلك وهو قول مستبعد إذ لا نجد من ينص على كون مسلم بن عقيل من الصحابة .

* نشأته : كان مسلم بن عقيل مدني النشأة ، حجازي البيئة والتربية ، ولد في دارهم المعروفة بدار عقيل والتي صارت اخيراً مقبرة لآل أبي طالب وهي في أول البقيع .

تربى في حجر أبيه عقيل، ولازم عمه أمير المؤمنين وابناه الامامان الحسن والحسين(علیهم السلام) ، فنشأ مسلم مع العلم والتقوى والبطولة والهدى والحزم والحجي والرشد ، کما شاء له المولى سبحانه حتى أحب لقاءه يوم سعادته بشهادته(4).

* علمه : لقد نشأ مسلم بن عقيل في بيت لا يقع نظره فيه إلّا إلى أُستاذ في العلم، أو مقتدى في الاخلاق، أو زعيم في الدين، أو بطل في الشجاعة ، أو إمام في البلاغة، أو مقنن في السياسة الإلهية(5).

ص: 218


1- المظفر، عبد الواحد : سفير الحسين : 7، ط. أُفست مؤسسة آل البيت - قم
2- المرجع نفسه : 12
3- المقرم، عبد الرزاق : الشهيد مسلم بن عقیل : 51
4- المرجع نفسه: 57
5- المقرم، الشهيد مسلم: 56

لقد أدرك مسلم بن عقيل أكثر صحابة رسول الله (صلی الله علیه و اله)وروى عنهم ، وروى عنه جملة من المحدثين بدون واسطة أو بواسطة.

قال البخاري : «صفوان بن موهب ، سمع مسلم بن عقیل ، روى عنه عمرو بن دینار وعطاء»(1).

وقال الرازي : «صفوان بن موهب مكي، روى عن مسلم بن عقیل»(2).

وقال ابن حبان : «مسلم بن عقيل بن أبي طالب الهاشمي کنيته أبو داود، وكان أشبه ولد عبد المطلب بالنبي(صلی الله علیه و اله) أدرك جماعة من أصحاب النبي(صلی الله علیه و اله) وروى عنه صفوان بن موهب»(3).

وقال الزركلي في الاعلام : «مسلم بن عقيل المقتول سنة (60ه) تابعي من ذوي الرأي والعلم والشجاعة»(4).

* شجاعته : تربي الشهيد مسلم بن عقیل(علیه السلام) في بيت ورث فيها الشجاعة کابر عن كابر من حمزة إلى جعفر إلى سيد شجعانهم علي بن أبي طالب (علیه السلام)، إلى الحسن والحسين(علیهما السلام) وكان (علیه السلام)على ميمنة أمير المؤمنين في حرب صفين إلى جانب الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر(علیهم السلام)(5)، ووجوده في هذا الموقع وإلى جانب هؤلاء الشجعان يدل على أنه في مستوى من الشجاعة العظيمة ، وفي بعض النصوص التاريخية مشاركته في حروب الفتح على ما ورد في کتاب فتوح الشام للواقدي ، حيث يقول : وحضر ذلك معظم الصحابة وكبراؤهم

ص: 219


1- البخاري : التاريخ الكبير :4 /307 و 7 / 266
2- الرازي، الجرح والتعدیل: 4/ 423 و 8 / 190
3- إبن حبان، الثقاة : 391/5
4- الاعلام للزركلي : 3/ 1037
5- ابن شهر آشوب، المناقب : 2/ 352

مثل عبد الله بن عمرو بن العاص ... و من بني عم النبي(صلی الله علیه و اله) مثل الفضل بن عباس وجعفر بن عقيل ومسلم بن عقیل، وعبد الله بن جعفر(1).

وفي موضع آخر من كتابه يقول الواقدي : « ولله در مسلم بن عقيل وأخويه لقد قاتلوا حتى صارت الدماء على دروعهم كقطع أكباد الإبل»(2).

أما شجاعته الفائقة في ميدان المواجهة في الكوفة عندما حوصر في بيت «طوعة» فسوف نشير إليها في محلها المناسب ويكفينا ما قاله بحقه قائد الحملة ضده وهو «محمد بن الأشعث» عندما طلب من ابن زیاد أن يمده بالرجال ، فبعث إليه موبخاً فأجابه ابن الأشعث : أيها الأمير أتظن أنك أرسلتني إلى بقال من بقالي الكوفة أو جرمقان من جرامقة الحيرة ، وإنا وجهتني إلى سيف من أسیاف محمد بن عبد الله ، فأمدّه بخمسمائة فارس(3).

* أولاد مسلم بن عقیل :

ينص بعض المؤرخين على أن أولاد مسلم بن عقيلالذكور خمسة ، استشهد اثنان منهم في كربلاء واثنان بعدها قتلا في الكوفة ، ولم يعرف مصير الخامس منهم. وقد صاهر مسلم بن عقيل أمير المؤمنين (علیه السلام)و تزوج ابنته رقية الصغرى، وفي بعض النصوص التاريخية أن الشهيد مسلم قد صاهر عمه أمير المؤمنين مرّتين وكانت زوجته الثانية أُم كلثوم الصغرى بنت أمير المؤمنين(4).

ص: 220


1- الكوراني، حسين : في محراب كربلاء : 81 عن الواقدي في فتوح الشام: 5/1
2- المرجع نفسه : 82 عن الواقدي : 232
3- المقرم، الشهيد مسلم : 165
4- انظر المقرم: الشهيد مسلم : 186 وما بعدها، والمظفر، سفير الحسين : 14، والكوراني في محراب كربلاء : 71 وما بعدها، والسماوي ، إبصار العين : 50 وما بعدها، والزنجاني ، وسیلة الدارین : 224

وقد كان حضور أبناء عقيل وأحفاده في واقعة كربلاء حضوراً فاعلاً حتى شکلوا نصف عدد الهاشميين الذين خرجوا واستشهدوا مع الحسين في كربلاء. يقول الزنجاني في وسيلة الدارین : « واعلم أنه قد اختلف علماء السير والرجال والتراجم والتاريخ في عدد القتلى من الهاشميين ، والمشهور بين أهل المقاتل سبعة عشر رجلاً، قیل قتل من أولاد علي (علیه السلام)مع الحسين سبعة وقيل أكثر، ومن أولاد عبد الله بن جعفر الطيار اثنان، ومن أولاد عقیل خمسة وقيل سبعة وقيل تسعة»، وقال سليمان ابن قتة :

عيني جودي بعبرة وعويل

واندبي إن ندبت آل الرسول

سبعة منهم لصلب علي

قد أُبيدوا وسبعة لعقيل(1)

* منزلة مسلم بن عقيل عند الحسين :

لقد اجتمعت في شخصية مسلم بن عقيل(علیه السلام) صفات العلم والحلم والهدى والحزم والشجاعة والأقدام أهلته ليكون في مركز الصدارة من الأفذاذ من شهداء کربلاء (علیهم السلام)، ومن المقربين والمعتمدين عند الإمام الحسين (علیه السلام).

ويكفينا في بيان عظیم منزلته صریح کلام الإمام الحسين(علیه السلام) في كتابه لأهل الكوفة حيث قال : « وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي »(2) .

والإمام (علیه السلام)لا يرسل كلامه جزافاً ، ولا يسبغ على شخص من الصفات ما لم يستحقها ، ولا يقول ثقتي إلّا لمن خلص وصفي وتمحض ولاؤه وإيمانه ، فإن هذه اللفظة « ثقتي » عليها اعتماد الفقهاء وحملة الحديث و حُجة قاطعة لكل شك، ولم ينلها من أصحاب الأئمة إلّا النفر القليل من خواص خواصهم وحواريهم.

ص: 221


1- وسيلة الدارین : 224 وبرواية البلاذري : وستة لعقيل، قال وروي :وخمسة لعقيل. انظر أنساب الأشراف: 70
2- الطبري : 352/5

ولو أخذنا برواية الطريحي في المنتخب لعبارة الإمام الحسين (علیه السلام)حيث يقول : «فلما وقف الحسين (علیه السلام)على الكتب وقرأ ما فيها وسألهم عن أُمور الناس ، كتب إليهم كتاباً يذكر فيه : «إني قد أنفذت إليكم أخي وابن عمي والمفضل عندي مسلم بن عقيل بن أبي طالب فاسمعوا له وأطيعوا رأيه ...»(1).

فإنا نقف عند رتبة عالية ومنزلة رفيعة لا تدانيها رتبة لمسلم بن عقيل، ولا أدري هل أراد الإمام (علیه السلام)- على فرض ثبوت ما روي عنه - بالمفضل طائفة خاصة أو مطلقاً، وعلى أي المعنيين حملته احتمله اللفظ وأفاد معنى جليلاً ورتبة عالية ، ومنزلة رفيعة تنحط عنها الرتب العالية»(2).

ويكفينا في معرفة منزلة الشهيد مسلم بن عقيل، بعد ما قاله الإمام الحسين (علیه السلام)في حقه، عظم المسؤولية التي تحمّلها بجدارة وشجاعة، حيث رشحه الحسين للسفارة إلى العراق، وإلى الكوفة بالذات، والكوفة في ذلك الوقت ملتقی الحضارات والثقافات والأجناس البشرية من العرب والفرس والنبط ، وتتنوع فيها الأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية والعقائدية.

بالاضافة إلى مكانتها في قلب الأحداث الإسلامية إذ كانت بمثابة المفصل الرئيسي في بسط النفوذ على العالم الإسلامي كله، وكانت بمثابة البركان الهادر الذي لا يمكن الوقوف أمامه إلّا بعد أن يدمرّ كل شيء.

وللكوفة وأهلها قصة طويلة مع الولاة والحكام يطول ذكرها سجلتها أقلام المؤرخين، حيث كانت تشكل الهمَّ الدائم للحاكم المركزي في مختلف المراحل والأدوار ، وصفة استقبالهم للولاة بالتحصيب بالحصى وهم على المنبر مشهورة عنهم.

ص: 222


1- الطريحي، المنتخب : 2/ 83 طبعة النجف
2- المظفر، سفير الحسين : 37 - 38

ولهذا جاء في وصية معاوية ليزيد : « وانظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملاً فافعل، فإن عزل عامل أحب إليَّ من أن تشهر عليك مائة ألف سيف»(1).

هكذا كانت الكوفة وأهلها، فكيف بها وقد ماجت بأهلها بعد هلاك معاوية و تزلزل الحكم الأموي ، فلم تكن مهمة مسلم بن عقيل (علیه السلام)مهمة سهلة مريحة وإنما كانت مهمة خطيرة تحف بها الأهوال والمخاوف من الناس الذين وفد عليهم حيث تقلّب الأهواء وتنوع الاتجاهات، ومن الحكومة المركزية التي يكفيها أن يكون واليها على البصرة عبيد الله بن زياد وهو الخبير بالكوفةوشؤونها کما سوف يأتي.

المبحث الثاني: المهام التي أوكلها الإمام الحسين إلى مسلم بن عقیل

اشارة

بعد أن اختار الإمام الحسين مسلم بن عقيل للذهاب إلى الكوفة، لابد أن يكون الإمام قد وضع له خطة عمل ومنهج تحرك يسير عليه، إلّا أن النصوص التاريخية لا تذكر شيئاً من ذلك سوى ما رواه الطبري وغيره بقوله : «فأمره بتقوى الله ، وكتمان أمره، واللطف فإن رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّل إليه بذلك»(2).

وفي الأخبار الطوال : «... قال له الحسين (علیه السلام): يا ابن عم، قد رأيت أن تسير إلى الكوفة ننظر ما اجتمع عليه رأي أهلها ، فإن كانوا على ما أتتني به كتبهم، فعجّل عليَّ بكتابك لاسرع القدوم عليك ، وإن تكن الأُخرى فعجِل الإنصراف»(3).

ص: 223


1- الطبري : 5/ 323 وسیاق وصية معاوية يؤكد أنه يقصد الكوفة
2- الطبري : 5 / 354
3- الدينوري، أبو حنيفة : الأخبار الطوال : 230

وقد نجد بعض التفصيل عند الخوارزمي حيث يقول : « ... ثمّ طوى الكتاب وختمه ودعا بمسلم بن عقيل ، فدفع إليه الكتاب ، وقال : إني موجهك إلى أهل الكوفة ، وسيقضي الله من أمرك ما يحب ويرضى، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء، فامض ببركة الله وعونه حتى تدخل الكوفة ، فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها ، وادع الناس إلى طاعتي ، فإن رأيتهم مجتمعين على بيعتي ، فعجّل عليَّ بالخبر، حتى أعمل على حسب ذلك إن شاء الله تعالى، ثمّ عانقه الحسين وودعه وبكيا جميعاً»(1).

من هذه النصوص الثلاثة بالاضافة إلى الرسالة التي بعثها معه الإمام إلى أهل الكوفة تتضح معالم المهام الموكلة إلى مسلم بن عقیل كسفير للإمام الحسين (علیه السلام) ، والتي يمكن ايجازها بما يلي :

أولاً : استطلاع الأوضاع السياسية والاجتماعية والنفسية للمجتمع الكوفي عن قرب، ومدى صدق الدعاوى التي سطروها في كتبهم المرسلة للإمام (علیه السلام)، وهذا ما يستفاد من رسالة الإمام: « فإن كتب لي أنه قد اجتمع رأي ملئِكم وذوي الحجي والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم، أقدم إليكم و شیكاً إن شاء الله » وهو ما توضحه رواية الطبري والدينوري.

ثانياً : دعوة الناس إلى طاعة الإمام والاجتماع على بيعته ، وهذا ما نستفيده من النص الذي ينفرد بذکره الخوارزمي ، وهذه المهمة الثانية تتخطى المهمة الأُولى التي هي مجرد استطلاع للوضع ، إذ تعني المهمة الثانية الاصطدام بالوضع السياسي القائم من خلال أخذ البيعة من الكوفيين .

ص: 224


1- الخوارزمی، مقتل الحسين : 284 وانظر فتوح ابن اعثم الكوفي : 5/ 31

ثالثاً : مواجهة المستجدات والتطورات اللاحقة والتي سوف تترتب جزماً على قضية أخذ البيعة للإمام، فإن الجهاز الأموي الحاكم والطبقة الموالية له سوف لا تقف مكتوفة الأيدي و تتفرج على الناس وهم يقدمون الولاء والبيعة للإمام الحسين مما يعني تقويض الحكم في الكوفة.

هذه هي رؤوس المهام الموكلة إلى مسلم بن عقيل في الكوفة(1) حيث نلاحظ ترتبها الطولي.

وكان على مسلم أن ينفذ هذه المهام بحسب ترتبها من حيث استطلاع الأوضاع، ثمّ أخذ البيعة، ثمّ مواجهة التحديات وردود الأفعال من الطرف الآخر.

كذلك اشتملت وصية الإمام لمسلم بن عقيل على ثلاثة بنود عملية حساسة إذ أمره «بتقوى الله، وكتمان أمره، واللطف ...».

أولاً : التقوى : الأخذ بالتقوى تقع في أول سُلم الأولويات وعلى رأس الأُمور في مدرسة أهل البيت(علیهم السلام) وهي شرط ضروري ولازم في جميع المهام وخاصة إذا تعلق الأمر بأموال الناس وأرواحهم وأعراضهم، وفي مهمة سياسية خطيرة كمهمة مسلم بن عقيل الذي يمثل الإمام في مهمته ويحمل راية الاصلاح والتغيير في الأُمة.

ثانياً : كتمان الأمر : لم تكن مهمة مسلم مهمة سهلة كما أسلفنا وإنما كانت مهمة خطيرة وفي وضع أمني وسياسي شديد الحساسية والتعقيد، إذا لا يزال سلطان بني أُمية يحكم قبضته على الوضع القائم ، وكان المعارضون للحكم الأموي متكتمين في تحركهم واجتماعاتهم، فلابد من الكتمان وسرية التحرك حتى لا ينكشف الأمر في خطواته الأُولى فيقضى عليه بسهولة .

ص: 225


1- حاول بعض الكتاب التوسع في هذه المهام قياساً إلى وظائف ولي الأمر والحاكم المطلق المبسوط اليد، انظر المظفر، سفير الحسين : 39 وما بعدها، والركابي، وقعة كربلاء : 128 وما بعدها

ثالثاً : اللطف : وهو شرط لازم لمن يتصدى للأُمور ويتعامل مع الرعية ، و هو من لوازم الرئاسة والزعامة الأساسية كما في الحديث : «آلة الرئاسة سعة الصدر » وخاصة في المجتمع الكوفي الذي تسلط عليه ولاة متجبرون من أمثال المغيرة بن شعبة ، وزياد بن أبيه وأمثالهم.

* سفر مسلم بن عقيل إلى العراق ودخوله الكوفة :

غادر مسلم بن عقيل(علیه السلام) مكة قاصداً العراق في ليلة النصف من شهر رمضان سنة (60) للهجرة عن طريق المدينة(1).

يقول الطبري : «فأقبل مسلم حتى أتى المدينة فصلّى في مسجد رسول الله (صلی الله علیه و اله)، وودّع من أحبّ من أهله، ثمّ استأجر دليلين من قيس، فأقبلا به ، فضلّا الطريق وجازا(2)، وأصابهم عطش شديد، وقال الدليلان : هذا الطريق حتى تنتهي إلى الماء - وقد كادوا أن يموتوا عطشاً - فكتب مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي إلى الحسين (علیه السلام)يخبره بما جرى وبموت الدليلين..وختم كتابه بقوله : « وقد تطيّرت من وجهي هذا، فإن رأيت أعفیتني منه ، و بعثت غيري و السلام » .

فكتب إليه الحسين :

أما بعد، فقد خشيت ألّا يكون حملك على الكتاب إلىَّ في الاستعفاء من الوجه الذي وجهتك له إلّا الجُبن، فامض لوجهك الذي وجهتك له و السلام عليك »

فقال مسلم لمن قرأ الكتاب : « هذا ما لستُ أتخوفه على نفسي »(3).

ص: 226


1- المقرم، الشهيد مسلم بن عقیل : 76 عن مروج الذهب للمسعودي : 2/ 89
2- جازا عن الطريق : أي ترکاه خلفهما
3- الطبري : 354/5 - 355، وابن کثیر، البداية والنهاية : 8/ 163 ، والمفید، الارشاد : 2/ 39 -40 مع اختلاف يسير في النص

ولابد من التوقف عند هذا المقطع من النص والتساؤل عن حقيقة كون مسلم بن عقيل قد كتب إلى الإمام الحسين يستعفيه من التوجه إلى الكوفة بعد ما حصل له مع الدليلين ، ثمّ التساؤل عن مغزی جواب الإمام له و بهذه اللهجة الحادة «وهو کون ما حمله على الاستعفاء الجبن».

حاول بعض الكتاب الاجابة عن هذين التساؤلين اما من خلال نفي أصل وقوع حادث موت الدليلين ونفي مراسلة مسلم للإمام وجواب الإمام له(1) ، أو من خلال تقبل أصل الحادثة بتفاصيلها المدونة في المصادر الإمامية ، مع رفض نسبة التطير والجبن إلى مسلم بن عقيل . يقول السيد المقرم : «... ما حدث به ابن جریر الطبري من تطير مسلم .. لا واقع له ، فإن من يقرأ سيرة مسلم (علیه السلام)يعرف انه ذلك الرجل العظيم ..» أما كتاب الحسين إلى مسلم فإنه يعتبره من افتراءات الطبري على الإمام الحسين ليشوه بها مقام الشهيد مسلم بن عقیل ، « ولو كان مسلم هياباً في الحروب لما أقدم سيد الشهداء على تشريفه بالنيابة الخاصة عنه ...»(2).

إلّا أن في هذا الجواب تأمل، فبعد ورود النص عند الطبري ، والشيخ المفيد ، فلا مسوّٙغ لتجزئة النص برد بعضه وقبول الباقي إلّا بدليل على بطلانه(3).

وحاول بعض الكتاب المحدثين توجيه النص بنحو لا ينفي وقوع الحادث، مع ضرورة أو معقولية أن يكتب مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين طالباً منه إعفاءه من التوجه إلى الكوفة بعد الذي حصل له فيقول : «لم يكن الشهيدمسلم يثق بأهل الكوفة، ولا كان قد سمع من سيد الشهداء ما يحمله على الثقة بهم،

ص: 227


1- انظر القرشي، حياة الإمام الحسين : 2/ 323 وما بعدها
2- المقرم، الشهيد مسلم : 80 - 98 فصل «مسلم لا يتطير»
3- الكوراني، في محراب كربلاء : 88

وعلى هذا الأساس توجه إليها ممتثلاً لأمر الإمام، وبعد ما جرى له رأى أن يسأل بأدب إذا كان اعفاؤه ممكناً ، فقال : وقد تطيرت من وجهي هذا فإن رأيت أعفيتني منه وبعثت غيري» وقد سأل ذلك وهو مرابط لمواصلة المسير(1).

أما توجیه ما ورد في جواب الإمام الحسين لمسلم (علیه السلام)حين يقول له : «فقد خشيت أن لا يكون حملك على الكتاب إلىَّ ... إلّا الجبن».

فيقول : وفي رسالة الإمام شهادة ضمنية بهذه الشجاعة - أي شجاعة مسلم - لأن تعبير «خشيت» أو «ظَننت» ينسجم مع استبعاد «الحسين» بعد احتماله لا

لأن من احتمل في حقه يتصف بذلك ، بل لأنه لا وجود لأي احتمال آخر مما يجعل الأمر منحصراً بهذا الاحتمال، وكان الإمام يقول لمسلم : إني لم أجد مبرراً وجيهاً لترددك إلّا الجبن وهو مستبعد في حقك ، « فامض لوجهك الذي وجّهتك »(2).

إلّا أن هذا التوجيه، لا يسنده دلیل ، وعلى خلاف ظاهر ألفاظ الرواية ، وفيه تكلف كبير يصعب تقبله أو الركون إليه، ولا توجد لدينا أي قرائن تصرف الرواية عن ظاهرها.

إلّا أننا وعلى ضوء مجموعة من المعطيات يمكننا أن نحكم على وهن الرواية وسقوطها وهذه المعطيات هي :

أولاً : شخصية مسلم بن عقيل الرسالية، فإن الماضي الجهادي المشرّف - ويكفيه فخراً أنه كان أحد قيادات ميمنة جيش على(علیه السلام) في صفين - ثمّ ثباته واستقامته وشجاعته التي سجلتها شوارع الكوفة وأزقّتها واعترف بها الأعداء قبل الأولياء « والفضل ما شهدت به الأعداء»، والنفس المطمئنة التي واجه بها

ص: 228


1- الكوراني، في محراب كربلاء : 91 وما بعدها
2- المرجع نفسه : 92 - 93

الموت ، بالاضافة إلى الشمائل العربية والهاشمية التي كان يتصف بها - بل كان في سنامها الأعلى - كل هذه الصفات الشخصية لرسول الحسين (علیه السلام)، تدعونا إلى الاستيحاش من هذه الرواية واستبعادها ، فكيف يمكننا أن نتقبل من هكذا شخصية رسالية هذه الحالة البائسة التي تصورها الرواية والتي يعيش فيها صاحبها مزيجاً من حالات الخوف والتردد والتشاؤم والتطير ؟ فيكتب إلى الإمام الحسين(علیه السلام) : « وقد تطيّرت من وجهي هذا، فإن رأيت أعفيتني منه وبعثت غيري»(1).

ثانياً : لم يكن مسلم بن عقيل من الجاهلين بوضع الكوفة و تقسیمات أهلها حتى ينخدع بوثبتهم الكاذبة كما يحاول أن يصور ذلك بعض الكتاب(2) ویکفيه في معرفتهم أنه عايش أحداث وملابسات واقعة صفين والتي كان قوام جيشها الكوفة ورجالها، وعندما أمره الإمام الحسين بالتوجه إلى الكوفة حاملاً لمهمته الرسالية لم يصدر منه أي اعتراض أو تردد ولم يقل للإمام مثلاً : إن أهل الكوفة لا يمكن المراهنة عليهم، أو يقول له : أمهلني فترة من الزمن أُفكر في الأمر، وإنما مضى لأمر الإمام وهو على بصيرة من أمره، عارفاً بما يؤول إليه مصيره، وتقدم للشهادة في شجاعة ورباطة جأش أذهلت حتى أعداءه فقال فيه قائلهم : « أو فخراً عند الموت » .ثمّ ما علاقة وقوع حادث في الطريق ويموت فيها الدليلان، بقضية ثقة مسلم

بأهل الكوفة أو عدم ثقته بهم ؟ فهل إن هذه الحادثة كشفت له ما كان مستوراً حتى يسأل - وبأدب - من الإمام إعفاؤه من مهمته !

ص: 229


1- الطبري : 5 / 354
2- انظر الكوراني، في محراب كربلاء : 90 وما بعدها

ثالثاً : عندما نتأمل في الجواب المنسوب للإمام الحسين(علیه السلام) رداً على كتاب مسلم - المزعوم - نجد قوله : « فقد خشيت أن لا يكون حملك على الكتاب إليّ في الاستعفاء ... إلّا الجبن فامض لوجهك » نلاحظ حالة من الانفعال والقسوة والغلظة في هذا الجواب ، وبشكل لم نعهده في أدب الحسين(علیه السلام) وحواراته وكتبه وخطبه التي أطلقها من أول انطلاقته من المدينة إلى وصوله إلى كربلاء.

فقد كتب إلى محمد بن الحنفية وبني هاشم يحثهم باللحاق به ولم يوصمهم بالجبن، وطلب النصرة من عبد الله بن عمر وكل ما قاله له : « اتق الله يا أبا عبد الرحمان ولا تدعن نصرتي » مع ما عرف عن هذا الرجل من الخوف والجبن كما مرّ بنا ، كذلك التقي في الطريق بعبيد الله بن الحر الجعفي وطلب نصرته فاعتذر منه ، ولم يواجه الإمام بهذه المفردة ، بل إن الإمام الحسين(علیه السلام) قبل اعتذار وانصراف عبيد الله المشرفي وفي أواخر ساعات يوم العاشر من محرم ولم يكن مع الإمام من ينصره ، فلم يقل له الإمام إنك «جبان» أو حملك على الإنصراف خوف الموت و «الجبن» إلى غيرها من المواقف والحوارات والكتب والخطب التي صدرت منه(علیه السلام).

ثمّ كيف ينسجم الاتهام بالجبن مع ذلك التوثيق الكبير له والذي ذكره الإمام في رسالته إلى أهل الكوفة؟

يقول القرشي : «ان الإمام اتهم مسلماً - في رسالته - بالجبن، وهو يناقض توثيقه له من أنه ثقته وكبير أهل بيته، والمبرز بالفضل عليهم، ومع اتصافه بهذه الصفات كيف يتهمه بالجبن ؟»(1).

لهذه المعطيات ولمعطيات أُخرى لم نذكرها خوف الإطالة نتحفظ كثيراً في قبول الرواية ومضامينها، ونظن أن الحادثة لا واقع لها.

ص: 230


1- القرشي ، حياة الإمام الحسين : 2/ 344
* دخول مسلم بن عقيل إلى الكوفة :

حدد المؤرخون - وبدقة - سفر مسلم بن عقيل من مكة إلى العراق مروراً بالمدينة فقالوا : «إنه سافر من مكة في اليوم الخامس عشر من رمضان، وقدم الكوفة في اليوم الخامس من شوال، فيكون مجموع سفره عشرين يوماً ، وهي أسرع مدة يقطعها المسافر من مكة إلى الكوفة»(1) .

وهذه الفترة القياسية في قطع المسافة تنفي ضمناً قصة موت الدليلين ، والمراسلة المدعاة بين مسلم والإمام الحسين(علیه السلام).

* نزوله في بيت المختار :

لقد عمل مسلم بن عقيل (علیه السلام)بوصية الإمام الحسين حين أوصاه : « فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها »(2). فنزل عند أوثق أهل الكوفة في الولاء لأهل البيت (علیهم السلام).

إلّا أن أقوال المؤرخين في تعيين البيت الذي نزل فيه مسلم بن عقیل بدأ بوصوله إلى الكوفة والتي على ضوئها يتحدد أنه أوثق أهل الكوفة ، أقوال مختلفة.

وفيما يلي بعض هذه الأقوال والنصوص التاريخية :

القول الأول: نزل في بيت المختار الثقفي.

وقد ذهب إلى هذا القول جملة من المؤرخين من أمثال الطبري والشيخ المفيد والدينوري ، وابن الأثير ، ومن القدماء أبي مخنف في مقتله قال الطبري : «ثمّ أقبل مسلم حتى دخل الكوفة ، فنزل دار المختار ابن أبي عبيدة ، وهي التي تدعي اليوم دار مسلم بن المسيّب (3).

ص: 231


1- القرشي : 2/ 343 وفيه (من مكة إلى المدينة) وهو اشتباه أو سهو قلم
2- ابن أعثم الكوفي، الفتوح: 5/ 36
3- الطبري : 355/5 ، والإرشاد للمفيد : 2/ 264، والأخبار الطوال للدينوري : 231، والكامل في التاريخ لابن الأثير : 2/ 535

وقد قيل في تعليل هذا الاختيار من مسلم لبيت المختار(1) محلاً لنزوله : لقد اختار مسلم النزول في بيت المختار دون غيره من زعماء الشيعة وذلك لوثوقه بإخلاصه للإمام الحسين، وتفانيه في حبّه ، كما أن هنالك عاملاً آخر له أهميته ، فقد كان المختار زوجاً لعمرة بنت النعمان بن بشير حاكم الكوفة ، ولا شك أن يده لن تمتد إلى مسلم طالما كان مقيماً في بيت صهره المختار، وقد دل ذلك على إحاطة مسلم بالشؤون الاجتماعية»(2).

وعلى فرض ثبوت نزول مسلم في دار المختار فهذا يثبت مزية للمختار لا تدانیها مزية اُخرى.

يقول الشيخ الطبسي : « وإذا ثبت تاريخياً نزول مسلم بن عقيل (علیه السلام)دار المختار - کما صرح بذلك المؤرخون - فإن ذلك يثبت وثاقته ، بل يثبت أنه من أوثق أهل الكوفة ، وذلك لأن الإمام الحسين(علیه السلام) أمر مسلماً (علیه السلام)أن ينزل عند أوثق أهلها فنزل عند المختار، فيكون هذا النزول من باب تعيين المصداق لكلام الإمام الحسين، إن لم يكن هذا النزول بأمر من الإمام نفسه ، والله العالم»(3).

القول الثاني : نزل في دار مسلم بن عوسجة الأسدي.

قال ابن كثير : «فلما دخل الكوفة نزل على رجل يقال له مسلم بن عوسجة الأسدي ، وقيل نزل في دار المختار بن أبي عبيد الثقفي، فالله العالم»(4).

ص: 232


1- انظر ترجمة المختار، الخوئي، معجم رجال الحدیث : 18 / 100، المحدث القمي، وقایع الأيام : 40، الأميني، الغدير : 2/ 343، المامقانی، تنقیح المقال : 206/3 ، والمقرم، مسلم بن عقیل : 98 وما بعدها
2- القرشي : 2/ 345، والمقرم: 98 وما بعدها
3- الطبسي، نجم الدين : مع الركب الحسيني ، ( الإمام الحسين في مكة ): 2/ 55 (الهامش)
4- البداية والنهاية : 163/8

وقال المسعودي ، وابن حجر : «فنزل على رجل يقال له عوسجة ،مستتراً»(1).

وقد ذكر المحدث القمي في هامش نفس المهموم، احتمال أن يكون « عوسجة » هذا والد مسلم بن عوسجة(2).

ومن القرائن المرجحة للقول الثاني، أن « معقل » - الجاسوس الخاص لابن زیاد - الذي تظاهر للشهید مسلم بن عوسجة بأنه من الموالين ، كان قد سمع الناس يقولون عن ابن عوسجة إنه يبايع للحسين، حيث يشير ذلك إلى علاقة خاصة ومبكرة للشهيد مسلم بن عوسجة بالشهید مسلم بن عقیل (علیه السلام)(3) .

القول الثالث : نزل في دار هاني بن عروة. وقد نص على ذلك كل من الذهبي والبلاذري(4) :

إلّا أن المعروف تاريخياً أن مسلم بن عقيل قد انتقل إلى دار هانئ بن عروة لاحقاً، بعد أن دخل الكوفة عبيد الله بن زياد، وتغيرت موازين القوى لصالح الأمويين.

والمشهور تاريخياً والذي تنص عليه معظم كتب المقاتل هو القول الأول من بين هذه الأقوال الثلاثة، إلّا أن الذي يدعونا للتأمل قبل الأخذ بهذا القول وصية الإمام الحسين لمسلم - على فرض ثبوتها - إذا دخلت الكوفة فانزل

ص: 233


1- المسعودی، مروج الذهب : 3/ 54، وابن حجر في كتابيه : الإصابة : 2/ 69، وتهذیب التهذيب : 301/2
2- القمي، الشيخ عباس : نفس المهموم: 83، ط. مكتبة بصيرتي - قم، (1405 ه)
3- الكوراني، في محراب كربلاء : 98
4- الذهبي، سير أعلام النبلاء : 201/3 ، والبلاذري ،:4/3 ، تحقيق المحمودي

عند أوثق أهلها إذاً من المستبعد أن ينطبق هذا الوصف على المختار في ذلك الوقت بعد ما عرف عنه تذبذبه بين الاستقامة وعدمها، في تلك الفترة، مع ورود روایات في ذمه، وتوقف بعض علماء الرجال في توثيقه ، بل إن صاحب التنقيح يقول : « وإن وثاقته غير ثابتة »(1).

وكل من مدحه من علماء الرجال فقد نظر إليه من خلال ثورته على الأمويين وأخذه بثارات الحسين (علیه السلام)بعد واقعة الطف بسنوات، وإنه أدخل بعمله هذا السرور في قلوب أهل البيت(علیهم السلام)(2).

فكيف يمكن لنا والحالة هذه أن نتخطى شخصيات الشيعة المعروفين في الكوفة والذين ثبتوا على خط الاستقامة من أمثال هانئ بن عروة ، ومسلم بن عوسجة ، و حبیب بن مظاهر ، وعابس بن شبيب الشاكري وأمثالهم ، ونعطي صفة أوثق أهل الكوفة للمختار الثقفي ؟ إلّا اللهم إذا نفينا وجود هذه العبارة «أوثق أهلها» في وصية الإمام باعتبار عدم ورودها في المصادرالمعتبرة ، فعندها يكون الشهيد مسلم رضی الله عنه هو الذي اختار دار المختار الثقفي لاعتبارات اجتماعية أو سياسية قد شخصها بنفسه، من دون أن تكون دار المختار «دار أوثق أهلها».

* بيعة الكوفيين :

استقر مبعوث الحسين مسلم بن عقيل في دار المختار الثقفي - بحسب الرواية - :

« وأقبلت الشيعة تختلف إليه ، فلما اجتمعت إليه جماعة منهم قرأ عليهم کتاب الحسين، فأخذوا يبكون »(3).

ص: 234


1- تنقیح المقال : 3 / 206
2- الخوئي : 18 / 100
3- الطبری : 5/ 355

وفي رواية ابن كثير : فتسامع أهل الكوفة بقدومه - أي مسلم - فجاؤوا إليه فبايعوه على إمرة الحسين ، وحلفوا له لينصرنه بأنفسهم وأموالهم(1).

ولا تحدثنا النصوص التاريخية عن كلام أو خطبة لمسلم بن عقيل في هذا الاجتماع الكبير لأهل الكوفة ، مع أن المناسبة كانت تقتضي ذلك ، ولم يقتصر الأمر على هذا الموقف فقط ، فطيلة الفترة الزمنية التي قضاها مسلم في الكوفة والتي تتجاوز الشهرين من الزمن، لم ينقل لنا المؤرخون من كلامه سوى حوار له مقتضب مع شريك بن الأعور عندما طلب منه شريك قتل عبيد الله بن زياد في منزل هانئ بن عروة، كذلك نقل عنه ذلك الحوار الساخن مع عبيد الله بن زیاد عندما ألقي القبض عليه كما سيأتي، مع أننا نجد خطب وكلمات النعمان بن بشير ، وعبيد الله بن زیاد ورجالات الأمويين قد دونتها أُمهات المصادر التاريخية، مما يعني أن هنالك عملية تعتيم اعلامي جرى بأقلام المؤرخين على حركة مسلم بن عقیل ، مما أحدث فجوة كبيرة بين سلسلة الأحداث لفقدان تسلسلها المنطقي ، وكل من بحث في قضية مسلم بن عقيل وملابساتها يدرك هذه الحقيقة بشكل واضح.

يقول أحد الكتّاب المحدثين : إن أصعب مقاطع النهضة الحسينية المباركة من ناحية التحليل التاريخي هو مقطع حركة أحداث الكوفة أيام مسلم بن عقیل ، ففي هذا المقطع من كثرة الحلقات المفقودة ، ومن تشابك العوامل و تداخلها وتنوّعها ، ومن اضطراب النقل التاريخي لبعض مهمّ من وقائع هذا المقطع، ومن خفاء علل بعض مهمّ آخر، ما يجعل المتتّبع المتأمّل في حركة هذه الأحداث في حيرة غامرة(2) .

ص: 235


1- البداية والنهاية : 8/ 163
2- الطبسی، محمد جواد : وقائع الطريق من مكة إلى كربلاء : 111/3 ، طبعة مركز الدراسات الإسلامية - قم، (1421 ه)
* صيغة البيعة :

الذي يبدو من النصوص التاريخية أن مسلم بن عقيل رضی الله عنه قد اكتفي بقراءة كتاب الإمام الحسين (علیه السلام)على المجتمعين عنده من أهل الكوفة وبعض وجهائها وأشرافها ، ولم يطلب منهم البيعة ابتداءً ، و في عبارة ابن كثير السابقة « فجاؤوا إليه فبايعوه على إمرة الحسين، وحلفوا له لينصرنه بأنفسهم وأموالهم »(1).

إلّا أن السيّد المقرم يذكر صيغة البيعة التي أخذها مسلم من الكوفيين، ويعقب على ذلك بقوله : « وإن المؤرخين وإن أغفلوا نص البيعة التي أخذها مسلم من الكوفيين.. لكنا نقطع بأن داعية إمام الحق لم يتخط طريقة النبي وخلفائه المعصومين .. وإنهم كانوا في أخذ البيعة على هذا النهج..»(2).

أما صيغة البيعة التي ذكرها السيد المقرم فإنها عبارة عن : «الدعوة إلى كتاب الله وسنة رسوله، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين ، وقسمة الفيء بين المسلمين بالسوية ، ورد المظالم إلى أهلها ، ونصرة أهل البيت على من نصب لهم العداوة والبغضاء و جهل حقهم، والمسالمة لمن سالموا، والحرب لمن حاربوا، من دون ردّ قولهم ولا تخطئة لفعلهم ولا تفنيد لرأيهم»(3).

ويذكر السيّد المقرم : «إن بيعة مسلم هذه على حد البيعة التي أخذها رسول الله في العقبة الثانية ويوم الغدير ، وعلى حد بيعة الأمير والمجتبى(علیه السلام) ». ولا يسندها إلى مصدر تاريخي، مما يعني أنها من اجتهاده الخاص.

* عدد المبايعين :

ومهما يكن من أمر ، فقد توافدت جماهير الكوفة، وبحماس متزاید ، و عواطف متأججة، على مسلم بن عقیل مبايعين للإمام الحسين من خلاله ، أو من خلال من اعتمدهم مسلم لهذا الأمر.

ص: 236


1- البداية والنهاية : 163/8
2- المقرم، عبد الرزاق : الشهيد مسلم: 103 - 104
3- المقرم، عبد الرزاق : الشهيد مسلم: 103 - 104

وقد اختلفت الأقوال في عدد المبايعين « فبلغ عدد من بایع مسلماً ثمانية عشر ألفاً أو خمسة وعشرين ألفاً ، وفي حديث الشعبي إنهم أربعون ألفاً»(1).

ولعل السبب في هذا الاختلاف يرجع إلى اطراد حركة البيعة وازديادها المستمر ..

مما يجعل كل رقم يعبر عن مرحلة من مراحل البيعة ، يقول ابن كثير : فاجتمع على بیعته من أهلها اثنا عشر ألفاً، ثمّ تكاثروا حتى بلغوا ثمانية عشر ألفاً(2) .

والذي يبدو أن هذا الاندفاع الهائل من قبل الكثير من الكوفيين نحو البيعة لم تكن سوی فورة عاطفية جياشة، ونتيجة تراكم سنوات عجاف من الظلم والحيف والإذلال، وكانت تنقصهم فهم عظم المسؤولية المترتبة على هذه البيعة ، إذ كانوا يتصورون أن دورهم ينتهي لمجرد تقديم البيعة وباقي الأدوار يقوم بها الإمام أو مبعوثه(3).

ولهذا وقف صاحب البصيرة النافذة والمؤمن الفذ «عابس بن أبي شبيب الشاكري» ليقول كلمته ويعرب عما في نفسه من ولاء واستعداد للتضحية ، من دون أن يتعهد لمسلم بأي أحد من أهل الكوفة.

روى الطبري فقال : «فقام عابس بن أبي شبيب الشاكري ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

أما بعد، فإني لا أخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرّك منهم ، واللهِ لأحدّثنك عما أنا موطّٙن نفسي عليه، والله لأجيبنّكم إذا دعوتم، ولأقاتلنّ معكم عدوّ كم، ولأضربنّ بسيفی دونكم حتى ألقى الله ، لا أُريد بذلك إلّا ما عند الله»(4) .

ص: 237


1- المرجع نفسه : 105، وانظر : الإرشاد للشيخ المفيد : 41/2
2- البداية والنهاية : 8/ 163
3- عابدین - محمد علي، مبعوث الحسين : 101، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي - قم (1408 ه)
4- الطبری : 5/ 355

هذه الكلمات على وجازتها تدل على عمق ولاء صاحبها من جهة، ونفاد بصیرته وتشخيصه الدقيق لتلك الحشود العاطفية ، فأراد أن ينتشل نفسه من بينها، وقد كشفت الحوادث المتسارعة في الكوفة وانتكاسة أهلها صدق مقولة هذا الرجل.

ولهذا لم يزد على كلماته من كان حاضراً هذا المجلس من المخلصين الأبدال من أمثال : حبیب بن مظاهر، وسعيد بن عبد الله الحنفي، حيث أجابه حبیب بن مظاهر «رحمك الله ، قد قضيت ما في نفسك بواجز من قولك ، ثمّ قال : وأنا والله الذي لا إله إلّا هو على مثل ما هذا عليه»(1).

ثمّ قال - سعيد - الحنفي مثل ذلك ، فأيد مقولة صاحبيه(2).

ومن طريف ما ينقل في ذيل هذه الرواية ما يرويه الطبري : فقال الحجاج بن عليّ : قلت لمحمد بن بشير - راوي الحديث المتقدم - فهل كان منك أنت قول ؟ فقال : إن كنت لأحبُّ أن يعزَّ الله أصحابي بالظَّفر، وما كنتُ لأحبّ أن اقتل ، وكرهت أن أكذب (3) !

فهذا النص على طرافته يوضح لنا مخابئ نفوس الكثير ممن بايعوا وهم على شاكلة ابن البشير ، ممن يطلبون النصر بالعافية ، ولا يريدون التضحية ، وإذا جد الجد وحمي الوطيس ووضعت الحرب أوزارها تجدهم أول من ینکث البيعة ويهرب، ويا ليته يهرب ويكتفي بهروبه، وإنما ينقلب على عقبيه ويحمل السيف على من بایعه و تعهد له، وهذا ما حصل في المجتمع الكوفي کما سوف يأتينا تفصيله لاحقاً.

ص: 238


1- المصدر نفسه : 355/5 ، والفتوح لابن الأعثم: 5/ 56
2- المصدر نفسه : 355/5 ، والفتوح لابن الأعثم: 5/ 56
3- الطبری : 5/ 355
* رسالة مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين(علیه السلام) :

كان الإمام الحسين(علیه السلام) في مكة إلّا أنه كان يتطلع شوقاً لمعرفة آخر مستجدات الأحداث في الكوفة، وكان على مبعوثه مسلم بن عقيل(علیه السلام) أن يزوده بآخر هذه المستجدات كما أوصاه الإمام بذلك.

وعندما وجد مسلم ذلك الاجتماع العظيم وتلك الجموع المندفعة لبيعة الإمام الحسين (علیه السلام)، وما أبدوه من استعداد للتضحية والفداء ، كتب إلى الإمام الحسين رسالة مختصرة يخبره فيها عن وضع الكوفة وأهلها ، ويستحثه فيها على القدوم سريعاً إليهم .

ونص الرسالة حسب رواية الطبري : « أما بعد، فإنّ الرائد لا يكذب أهله، إنّ جَم۟عَ أهل الكوفة معك ، فأقبل حين تقرأ كتابي ، والسلام عليك » وضمّ إليه کتاب أهل الكوفة فيه : عجل القدوم یا ابن رسول الله فإن لك بالكوفة مائة ألف سيف فلا تتأخر(1).

وقد ذكر الطبري والمفيد أن مسلماً قد كتب هذه الرسالة إلى الإمام الحسين (علیهما السلام)قبل استشهاده بسبع وعشرين ليلة(2).

وفي رواية أُخرى للطبري يذكر فيها رسالة مسلم إلى الحسين بنفس مضمون الرسالة الأُولى مع بعض الإضافات ، يقول : وقد كان مسلم بن عقیل حيث تحوّل إلى دار هانئ بن عروة وبايعه ثمانية عشر ألفاً ، قدّم كتاباً إلى الحسين مع عابس بن أبي شبيب الشاكري : أما بعد، فإن الرائد لا يكذب أهله ، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً ، فعجّل الإقبال حتى يأتيك كتابي، فإن الناس كلهم معك، ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى ، والسلام(3) .

ص: 239


1- الطبري : 395/5 ، وبحار الأنوار : 10 / 185
2- المصدر نفسه، والإرشاد للمفيد: 71/2
3- الطبری: 5/ 375

وهذه الرسالة لا تختلف عن الرسالة الأُولى من حيث المضمون إلّا في ذکر بعض التوضيحات، ولا يمكننا الجزم بترتيب هاتين الرسالتين من حيث زمن الإرسال، وأغلب الظن أنهما رسالة واحدة بروايتين وفي احداهما تلك الزيادات التوضيحية.

* جواب الإمام الحسين (علیه السلام):

حمل كتاب مسلم إلى الإمام الحسين جماعة من أهل الكوفة وعليهم البطل العظيم عابس الشاكري، وقدم الوفد مكة المكرمة ، وسلم الرسالة إلى الإمام، وقد استحثوه على القدوم إلى الكوفة ، وذكروا اجماع أهلها على بيعته ، وما لاقاه مسلم من الحفاوة البالغة منهم، وعند ذلك تهيأ الإمام إلى السفر للكوفة(1).

إلّا أن الإمام(علیه السلام) لم يكتب إلى أهل الكوفة وهو في مكة وإنما كتب إليهم من بعض منازل الطريق بعد خروجه من مكة ، ولا نعلم سرّ هذا التأخير فلعلّه تحسباً لأي حدث طارئ قد يعيق خروجه(علیه السلام) من مكة، ومما جاء في رسالة الإمام (علیه السلام)برواية الطبري قال : قال أبو مخنف : وحدّثني محمد بن قيس أنّ الحسين أقبل حتى بلغ الحاجر من بطن الرُّمّة بعث قيس بن مسهر الصيداوي إلى أهل الكوفة ، وكتب معه إليهم : بسم الله الرحمن الرحيم.

من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين ، سلام علیکم ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو، أما بعد، فإنّ كتاب مسلم بن عقیل

جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم، وإجتماع ملئکم على نصرنا، والطلب بحقّنا، فسألتُ الله أن يحسن لنا الصُّنع، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر ، وقد شخصتُ إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية،

ص: 240


1- القرشي، حياة الإمام الحسين : 2/ 348

فإذا قدم علیکم رسولي فاکمشوا أمركم وجدّوا ، فإني قادم عليكم في أيامي هذه إن شاء الله ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(1).

إلّا أن رسالة الإمام(علیه السلام) لم تصل إلى مسلم بن عقیل(علیه السلام) لأنه استشهد في اليوم التالي لكتابتها، ولم تصل إلى أهل الكوفة لأن حماسهم قد انتهى ، وانتكسوا على أعقابهم، وقد أُلقي القبض على حامل رسالة الحسين والتي من أعلى القصر ومضى إلى ربه شهيداً بعد أن وقف موقفاً مشرفاً.

روى الطبري : .. وأقبل قيس بن مسهر الصّيداوي إلى الكوفة بكتاب الحسين ، حتى انتهى إلى القادسية أخذه الحصين بن تميم فبعث به إلى عبيد الله ابن زیاد، فقال له عبيد الله : اصعد إلى القصر فسبّ الكذّاب ابن الكذّاب ! فصعد ثمّ قال : أيها الناس، إنّ هذا الحسين بن عليّ خير خلق الله ، ابن فاطمة بنت رسول الله ، وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجر ، فأجيبوه، ثمّ لعن عبيد الله بن زیاد وأباه ، واستغفر لعليّ بن أبي طالب . قال : فأمر به عبيد الله بن زياد أن يُرمي به من فوق القصر ، فرمي به فتقطع فمات(2).

وفي البداية والنهاية - بعد ذكر رواية الطبري - قال : وفي رواية إن الذي قَدم بكتاب الحسين إنما هو عبد الله بن يقطر أخو الحسين من الرضاعة ، فأُلقي من أعلى القصير(3).

هذا الترديد بين المؤرخين حول من قتل من رُسل الحسين (علیه السلام)وظروف قتلهم مما سوف نبحثه لاحقاً في مكانه المناسب إن شاء الله .

ص: 241


1- الطبری : 5 / 394 - 395، وابن كثير في البداية والنهاية : 8/ 181، والمفيد في الإرشاد : 70/2
2- الطبري : 5 / 395
3- ابن کثیر، البداية والنهاية : 8/ 182

ص: 242

الفصل الثاني: انتكاسة الكوفة أسبابها وآثارها

اشارة

المبحث الأول : عبيد الله بن زیاد، تاريخه ودوره في انتكاسة الكوفة

المبحث الثاني : أسباب تخاذل الكوفة

ص: 243

ص: 244

انتكاسة الكوفة ، أسبابها و آثارها

تعتبر أحداث الكوفة والانتكاسة المروعة التي حصلت فيها والتي استشهد على إثرها مبعوث الحسين مسلم بن عقیل (علیه السلام)، من أهم أحداث نهضة الإمام الحسين بعد وقائع اليوم العاشر من المحرم حيث استشهد الحسين وأهل بيته وأصحابه سلام الله عليهم.

وكان لتولّي عبيد الله بن زياد ولاية الكوفة بعد ولاية البصرة وبسط نفوده على العراق، من أهم عوامل هذه الانتكاسة والانقلاب التاريخي .

فلابد من التوقف عند مفردات وملابسات هذا الحدث ، والتأمل في مجرياته من خلال تسلسلها الزمني، والأشخاص الذين ساهموا في وقائعه ومجرياته .

المبحث الأول: عبيد الله بن زیاد تاريخه ودوره في انتكاسة الكوفة

عبيد الله بن زياد في سطور :

هلك زیاد بن أبيه سنة ثلاث وخمسين من الهجرة ، وقد ترك من الأولاد واحداً وعشرين ولداً ، و ثلاثاً وعشرين بنتاً(1).

ص: 245


1- ابن قتيبة : أبي محمد عبد الله بن مسلم : المعارف : 347، تحقیق ثروة عكاشة، افست الشريف الرضي - قم

ومن أبرز ولد زیاد شبهاً به ولده المشؤوم عبيد الله . الذي سار على خطى والده في ارتكاب المجازر وانتهاك المحارم وقتل الأبرياء، وقديماً قيل : لا تَلدُ الحيّةُ إلّا حية.

ولادته :

لم يذكر المؤرخون تاریخ ولادة ابن زیاد على التحقيق ، إلّا أن المرجح أن تكون ولادته سنة ثمان وعشرين هجرية ، فقد ذكر الطبري في حوادث سنة أربع وخمسين : «ولّي معاوية عبيد الله بن زیاد خراسان في آخر سنة ثلاث وخمسين وهو ابن خمس وعشرين سنة»(1).

وأُمه : «مرجانة» مجوسيَّة من سبي إصفهان ، تزوَّجها زیاد من شیرویه الأسواري، وكان عبيد الله معها فنشأ بين الأساورة، تغلب عليه لغتهم(2).

ولايته لمعاوية :

لم يسجل لنا تاريخ حياة عبيد الله بن زیاد قبل هلاك والده أنه تولّى منصباً رسمياً في الدولة الأموية ، أو كلف بمهمة حربية أو سياسية، والذي يبدو أن الأضواء التي سلطها معاوية على زياد قد غیبت ولده عبيد الله عن مسرح الأحداث ، أو أنه كان صغير السن ولم يخض معترك الحياة السياسية أو الحربية .

وهلك زیاد سنة ثلاث وخمسين وقد استخلف على البصرة سمرة بن جندب ، وعلى الكوفة عبد الله بن خالد بن أُسيد ولم يولّٙ ولده عبيد الله ، فقيل له : لِمَ لا تولّي ابنك عبید الله أحد المصرين ؟ قال : إن يكُ فيه خير فسيسبق إلى ذلك عمه معاوية(3).

ص: 246


1- الطبري : 296/5 - 297
2- انظر : المعارف : 247، وعمدة القارئ في شرح صحيح البخاري : 7/ 656
3- الدينوري : أبي حنيفة أحمد بن داود : الأخبارالطوال : 225، تحقیق : عبد المنعم عامر ، الطبعة الأُولى، القاهرة، 1960م

وبعد وفاة زياد وفد عبید الله على معاوية في الشام، فقال له معاوية : مَن استخلف أخي على عمله بالكوفة ؟ قال : عبد الله بن خالد بن أُسيد ، قال : فمن استعمل على البصرة؟ قال : سمرة بن جندب الفزاري ، فقال له معاوية : لو استعملك أبوك استعملتك ، فقال عبيد الله : أُنشدك الله أن يقولها إلىّ أحد بعدك، لو ولّاك أبوك وعمّك لولّيتك فلما قال عبيد الله ما قال ولّاه - معاوية - خراسان(1).

فأول ولاية تولّاها عبید الله بن زیاد هي ولاية خراسان ، ولم يسجل لنا التاريخ شيئاً يذكر عن هذه الولاية غير فتحه لبعض البلاد وقتاله التُّرك ببخاری حیث يصفه الراوي بقوله : فرأيته - أي عبيد الله بن زیاد - يقاتل فيحمل عليهم فيطعن فيهم ويغيب عنا، ثمّ يرفع رايته تقطر دماً(2).

والذي يبدو أن هذه الدموية والراية التي تقطر دماً ، هي التي رشحته لمنصب وولاية أُخرى أكثر أهمية عند معاوية وهي ولاية البصرة.

ففي سنة خمس وخمسين عزل معاوية عبيد الله بن عمرو عن البصرة وولّاها عبيد الله بن زیاد، حيث قال معاوية لوفد البصرة - الذي وفد عليه بالشام شاكياً من تصرفات واليه عليها - قد ولّيت عليكم ابن أخي عبيد الله بن زیاد(3).

فلم يزل عبيد الله بن زياد والياً على البصرة حتى مات معاوية سنة ستين من الهجرة، فأتمره يزيد عليها، ثم ضم إليه ولاية الكوفة في نفس السنة.

ابن زیاد و ولاية الكوفة :

أثناء تداعيات نهضة الإمام الحسين (علیه السلام)ومراسلات أهل الكوفة وقدوم مسلم ابن عقيل إلى الكوفة وأخذ البيعة منها للإمام الحسين (علیه السلام)، كان والي الكوفة

ص: 247


1- الطبري : 5/ 295 - 296، و تاریخ خليفة : 169، وتاريخ الإسلام للذهبي : 156
2- الطبري : 5/ 298
3- المصدر نفسه : 299/5 والذهبي : 159، والأخبار الطوال : 225

آنذاك النعمان بن بشير ، وكان يحب العافية ويتحاشى الإصطدام مع أهل الكوفة ، فكتب بعض حلفاء بني أُمية وعيونهم في الكوفة إلى يزيد يخبرونه بقدوم مسلم ابن عقيل الكوفة ومبايعة الناس له ويقولون ليزيد : « ... فإن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قويّاً ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوّك ، فإنّ النعمان رجل ضعيف أو هو يتضعّف...»(1) فلمّا اجتمعت الكتب عند یزید دعا «سِرجُون» مولى معاوية - وكان يستشيره - فأقرأه الكتب و استشاره فيمن يولّيه الكوفة، وكان یزید عاتباً على عبيد الله بن زياد، فقال له سرجون : أرأيت لو نشر معاوية كنت تأخذ برأيه ؟ قال : نعم. فأخرج عهد عبيد الله على الكوفة ، فقال : هذا رأي معاوية ، ومات وقد أمر بهذا الكتاب ، فأخذ برأيه وجمع الكوفة والبصرة لعبید الله وكتب إليه بعهده وسيره إليه ، وأمره بطلب مسلم بن عقیل و بقتله(2).

وفي أنساب الأشراف للبلاذري :

فأرسل يزيد على «سرجون» مولاه يستشيره وكان كاتبه وأنيسه ، فقال سرجون : عليك بعبيد الله بن زیاد ، قال : إنه لا خير عنده ، فقال سرجون : لو كان معاوية حياً وأشار عليك به أكنت توليه ؟ قال : نعم ، فقال : هذا عهد معاوية إليه بخاته ولم يمنعني أن أعلمك به إلّا معرفتي ببغضك له فأنفذه إليه.

فعزل یزید النعمان بن بشير وكتب إلى عبيد الله بن زياد : أما بعد فإن الممدوح مسبوب يوماً ، وإن المسبوب يوماً ممدوح وقد سما بك إلى غاية أنت فيها كما قال الأول :

رفعت وجاوزت السحاب وفوقه

فمالك الا مرقب الشمس مقعد(3)

ص: 248


1- الطبري : 5/ 356
2- ابن الأثير : الكامل في التاريخ : 2/ 535، والطبري : 5/ 348 و 356 وما بعدها
3- أنساب الأشراف للبلاذري : 4/ 82، والطبري : 5 /356 وما بعدها

وفي رواية الطبري : فسِر حين تقرأ كتابي حتى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقیل لطلب الخرزة حتى تثقفه فتُوثقهُ أو تقتله أو تنفيه(1).

والذي يستفاد من بعض النصوص التاريخية أن سرجون المستشار هذا ، هو سرجون بن منصور وهو من نصارى الشام ، استخدمه معاوية في مصالح الدولة وكان أبوه منصور على المال في الشام من عهد هرقل قبل الفتح(2).

على أي حال، لو صحت رواية سرجون من أن معاوية قد عهد قبل وفاته إلى عبيد الله بن زيادة بولاية الكوفة فهذا يدل على أن معاوية قد وثق به وارتضی سيرته وكان يعرف خطر الرجل و مقدار بطشه، وأنه على سرّ أبيه زیاد ، بخلاف يزيد الذي لم يكن قد جرب الأُمور ولم يعِ دور زیاد و من ثمّ ولده في تثبيت دعائم الدولة الأموية وحکم معاوية.

لقد كان الهدف من استبدال النعمان بن بشير ، بعبيد الله بن زیاد هو السيطرة على الكوفة وذلك من خلال اتخاذ الاجراءات التالية :

أولاً : أوقف التيار الجماهيري المندفع إلى البيعة للإمام الحسين (علیه السلام).

ثانياً : إحكام القبضة الحديدية على هذه الجماهير وضبط تحركها .

ثالثاً : تحويل ولاء هذه الجماهير إلى جبهة مناهضة ومحاربة لمن بايعته .

وهذه الأهداف الثلاث تمثل استراتيجية السلطة الأموية الحاكمة للوقوف أمام تحرك مسلم بن عقيل(علیه السلام) الداعي إلى بيعة الإمام الحسين(علیه السلام) والذي بدوره يريد أن يغير البنية الأساسية للنظام الأموي الحاكم، ومن هنا وقع الاختيار من قبل يزيد

ص: 249


1- الطبري : 5 / 357 وتثقفه : أي تظفر به
2- انظر : الإسلام والحضارة العربية، لمحمد کرد على : 2/ 158، طبعة دار الكتاب الإسلامي (بلا - ت)

- ومن قبله معاوية - على تولي عبيد الله بن زیاد لهذه المهمة الخطرة لتحقيق الأهداف الثلاثة.

وهنا نعود لنطرح هذا السؤال : ما هي المؤهلات التي كان يحملها عبيد الله بن زیاد، والتي أهلته لكي ينتخب لهذه المهمة، ويولّىٰ على ثاني الحواضر الإسلامية الكوفة بعد البصرة؟

ثم نسأل عن الدور الذي قام به هذا الرجل على صعيد المواجهة لتحقيق الأهداف المرسومة له؟

لقد انتخب ابن زیاد لهذه المهمة لتميّزه بما يلي :

أولاً : فقدانه للموازين الخلقية ، والاجتماعية، والعرفية - فضلاً عن فقدانه للموازين الدينية - في تعامله مع الخط الموالي لأهل البيت (علیهم السلام).

ثانياً : استخدامه لكل وسائل القوة والبطش والتنكيل ، والإرهاب ، وفي جميع الحالات، ومن دون الالتزام أو الرجوع إلى القيود والاعتبارات الرادعة عن ذلك .

ثالثاً : طبعه الغليظ الفظ، الذي اكتسبه من وحشية طبع أبيه ، وولوغه في الجريمة والقتل وحبه لها.

رابعاً : معرفته التفصيلية بالكوفة ورجالاتها وأشرافها ، و تعقيداتها السياسية والمذهبية ، فلقد عاش عبيد الله مع أبيه شطراً وافياً من تجربته الحافلة في الكوفة ، الأمر الذي مكنه من متابعة أخبار الكوفة، في ضوء رصيد معرفته بها، حتى أصبح خبيراً بالتركيبة السياسية والاجتماعية، وخبايا النفسية الكوفية ، وذو معرفة مفصلة برؤساء العشائر والأخماس وأصحاب الرأي والتدبير والمشورة.

لهذه الاعتبارات وغيرها تأهل عبيد الله بن زیاد لتولي هذه المهمة من خلال منصب الحاكمية والولاية على الكوفة.

ص: 250

أما جواب السؤال الثاني عن الدور الذي قام به لتحقيق هذه الأهداف، فيمكن ایجازه فيما يلي :

أولاً : استخدام أُسلوب القتل والتنكيل :

لم يكن ابن زیاد مسبوقاً بخبر تعيينه لولاية الكوفة ، وبمجرد أن وصل إليه كتاب التعيين، جمع أهل البصرة وأخرج رسول الحسين (علیه السلام)«سلیمان بن رزین» - الذي كان قد ألقي القبض عليه من قبل بعد وشاية المنذر بن الجارودالعبدي - واعدمه في ساحة من ساحات البصرة الرئيسية لزرع الخوف في نفوس أهلها ثم خطبهم قائلاً:

«أما بعد : فو الله ما بي تقرن الصّعبة، وما يقعقع لي بالشّنآن، وإنّي لَنَكِلٌ لمن عاداني، [وسلم] لمن حاربني(1)، وأنصف القارَة من راماها ، يا أهل البصرة : إنّ أمير المؤمنين قد ولّاني الكوفة وأنا غادٍ إليها بالغداة ، وقد استخلفت عليكم أخي عثمان بن زیاد، فإيّاكم والخلاف والإرجاف، فو الله لئن بلغني عن رجل منکم خلاف لأقتلنه وعريفه وولیّه ، ولآخذن الأدنى بالأقصى - والبريء بالسقيم - حتى تستقيموا، ولا يكون فيكم مخالف ولا مشاق ، وإني أنا ابن زیاد أشبهته من بين مَن وطیء الحصى فلم ينتزعني شَبهُ خال ولا ابن عمّ»(2).

ثم سار إلى الكوفة ودخلها، واستخدم في لغة خطابه نفس الاُسلوب حيث قال لهم :

أمّا بعد فإنّ أمير المؤمنين ولّاني مصرکم وثغركم وفيئكم، وأمرني بإنصاف

ص: 251


1- هكذا وردت عند ابن الأثير في الكامل : 2/ 536 و حسب رواية الطبري : 5/ 358 وسَمٌّ لمن حاربنی
2- ابن الأثير، الكامل في التاريخ : 2/ 536، والأخبار الطوال : 232، باختلاف يسير

مظلومكم، وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إلى سامعكم ومعطيكم، وبالشدّة على مریبکم وعاصيكم، وأنا متبع فيكم أمره، ومنفّذ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم کالوالد البرّ، ولمطیعکم کالأخ الشقيق، وسيفي وسوطي على من ترك أمري وخالف عهدي ، فليبق امرؤ على نفسه(1).

يقول ابن الأثير :

ثم نزل فأخذ العُرفاء والناس أخذاً شديداً وقال : اكتبوا إلىّ الغرباء ، ومَن فيكم من طلبة أمير المؤمنين ، ومن فيكم من الحروريّة وأهل الرّيب الذين رأيهم الخلاف والشقاق، فمن كتبهم إلىّ بريء، ومن لم يكتب لنا أحداً فليضمن لنا ما في عرافته أن لا يخالفنا فيهم مخالف ولا يبغي علينا منهم باغ، فمن لم يفعل فبرئت منه الذمّة وحلال لنا دمه وماله ، وأيما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا صُلب على باب داره، وأُلقيت تلك العرافة من العطاء وسُيّر إلى موضع بعُمان الزرارة(2).

ومن خلال هذا الإجراء تم مسح سكاني عام لقبائل الكوفة وتحت إشراف العرفاء الذين هم في الغالب من أعوان السلطة.

وجاء في التاريخ، أن عبيد الله بن زیاد ، قام في اليوم الأول بالقبض على بعض الكوفيين وقتلهم في الساعة(3) وفي اليوم الثاني أمر بجمع الناس في المسجد ،

ص: 252


1- المصدر نفسه : 2/ 536 - 537، والأخبار الطوال : 233
2- المصدر نفسه : 2/ 536 - 537، والأخبار الطوال : 233. والزرارة : قرية من قرى البحرين، كان زیاد وابنه ينفيان من شاءا نفيه إليها من أهل البصرة والكوفة. انظر : المامقانی، تنقیح المقال : 261/3
3- القرشي : باقر شریف : حياة الإمام الحسين : 2/ 360

فخرج إليهم وخطب فيهم خطاباً عنيفاً تهدد فيه وتوعد حيث قال : أما بعد : فإنه لا يصلح هذا الأمر إلّا في شدة من غير عنف ، ولين من غير ضعف، وأن آخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب ، والولي بالمولى(1).

ثانياً : شراء الذمم من خلال رشوة رؤساء العشائر والوجهاء :

عرف ابن زیاد کیف يستدرج أهل الوجاهة والمكانة الاجتماعية والسياسية والعسكرية في الكوفة، وذلك من خلال الاغراء المادي والعسكري، فبادر إلى إرشاء الوجوه والزعماء فبذل لهم المال بسخاء فاستمال ودهم.

واستخدم طبقة واسعة من هؤلاء من النفعيين والانتهازيين الذين يقوم عملهم على أساس افتراض المنفعة المادية لدى أصحاب القدرة .

وهذه الطبقة ساهمت بشكل فعّال مع ابن زياد في ملاحقة انصار مسلم والإجهاز عليها.

يروي الطبري : أن بعض أهل الكوفة التقى الحسين (علیه السلام)في أثناء الطريق : فقال لهم الحسين أخبروني خبر الناس وراءكم ، فقال له مجمّٙع بن عبد الله العائذي ، وهو أحد النفر الأربعة الذين جاؤوه : أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم ومُلئت غرائرهم، يستمال ودّهم، ويستخلص به نصيحتهم، فهم إلبٌ واحد عليك، وأما سائر الناس بعد فإنّ أفئدتهم تهوي إليك وسيوفهم غداً مشهورة عليك(2).

وفي عبارات مجمع العائدي - الذي استشهد بعد ذلك مع الحسين(علیه السلام) - دلالة واضحة على المبالغ الكبيرة التي دفعها ابن زیاد لهؤلاء الانتهازيين والنفعيين حيث عبر عنها بقوله : (أعظمت رشوتهم) و (ملئت غرائرهم).

ص: 253


1- ابن اعثم، الفتوح: 5/ 67
2- الطبري : 405/5
ثالثاً : إشاعة حالة الخوف والرعب بين الناس :

وقد اتخذ ابن زیاد وبمعونة الأشراف والوجهاء الذين اشتری ذممهم بالمال والمناصب زرع حالة من الخوف والرعب في التيار الجماهيري الذي أحدثه مسلم بن عقيل داخل الكوفة، وسلب بذلك الإرادة والحركة من تلك الجماهير .

يروي ابن كثير في البداية والنهاية وهو يتحدث عن حصار مسلم لعبيد الله بن زیاد في قصر الإمارة بأربعة آلاف من أهل الكوفة يقول : انتهي مسلم إلى باب القصر ووقف بجيشه هناك ، فأشرف أُمراء القبائل الذين عند عبيد الله في القصر ، فأشاروا إلى قومهم الذين مع مسلم بالانصراف، وتهددوهم وتوعدوهم.

وأخرج عبيد الله بعض الأُمراء وأمرهم أن يركبوا في الكوفة يخذّلون الناس عن مسلم بن عقيل ، ففعلوا ذلك، فجعلت المرأة تجيء إلى ابنها وأخيها وتقول له : ارجع إلى البيت ، الناس يكفونك ، ويقول الرجل لابنه وأخيه : كأنك غداً بجنود الشام قد أقبلت فماذا تصنع معهم ؟ فتخاذل الناس وقصّروا و تصرّموا وانصرفوا عن مسلم بن عقیل، فبقي وحده ليس معه من يدله على الطريق(1).

ويروي الطبري هذه الواقعة بشيء من التفصيل فيقول : فبعث عبيد الله إلى الأشراف فجمعهم إليه، ثم قال : أشرفوا على الناس فمنّوا أهل الطاعة الزّيادة والكرامة، وخوّفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة، وأعلموهم فُصول(2) الجنود من الشام إليهم.

قال أبو مخنف - عمن حدثه - قال : أشرف علينا الأشراف، فتكلم كثير بن شهاب ، فقال : أيّها الناس، الحقوا بأهاليكم، ولا تعجّلوا الشّر، ولا تعرضوا

ص: 254


1- البداية والنهاية : 8/ 166. وفي هامش المصدر أسماء هؤلاء الأُمراء الذين كانوا يخذلون الناس
2- فصول الجنود : خروجهم

أنفسكم للقتل ، فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت ، وقد أعطى الله الأمير عهداً : لئن أتممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريتكم العطاء . ويفرّق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع ، وأن يأخذ البريء بالسقيم . والشاهد بالغائب ، حتى لا يبقى له فيكم بقيّة من أهل المعصية إلّا أذاقها وبال ما جرّت أيديها، وتكلّم الأشراف بنحو من الكلام هذا، فلما سمع مقالتهم الناس أخذوا يتفرّقون ، وأخذوا ينصرفون ...»(1).

بهذا الأُسلوب استطاع ابن زیاد أن يفتت تلك الكتلة الجماهيرية وذلك التيار الهادر ، وحولهم إلى أُناس هانت قضيّتهم وهبطوا من عليائهم إلى مستوى هابط من روح التهرب وإبداع المعاذير وأصبح كل واحد منهم جلیس داره وهم يقولون ما نصنع بتعجيل الفتنة ، وغداً تأتينا جموع أهل الشام ؟ ينبغي أن نقعد في منازلنا ، وندع هؤلاء القوم ، حتى يصلح الله ذات بينهم(2).

رابعاً : نشر الجواسيس والمخبرين :

استخدم ابن زياد أُسلوب نشر العيون والجواسيس كوسيلة وأُسلوب من الأساليب للوصول إلى أهدافه وتنفيذ مهمته التي أُوكلت إليه وهو القبض على مسلم بن عقیل رضی الله عنه والإجهاز على حركته الثورية من خلال معرفة العناصر الفاعلة في نهضته، ومواطن القوة والضعف فيها

والذي يستفاد من بعض النصوص التاريخية كثرة هؤلاء الجواسيس والعيون والمخبرين، وإن كانت النصوص التاريخية تسمي واحداً منهم وهو « معقل » أحد موالي عبيد الله بن زیاد، الذي نجح في مهمته ووصل إلى معرفة مكان مسلم بن عقیل رضی الله عنه والدخول عليه.

ص: 255


1- الطبري : 5/ 370 - 371
2- ابن اعثم، الفتوح: 5/ 87

ويدل على ذلك تلك الرسالة التي بعثها عبيد الله بن زیاد لیزید بعد أن سيطر على الكوفة وأنهى حركة مسلم، حيث أجمل ابن زیاد في رسالته هذه خطته التي اعتمدها لضرب حركة مسلم والقضاء عليها.

يروي الطبري : إن عبيد الله بن زیاد لما قتل مسلماً وهانئاً بعث برأسيهما إلى یزید بن معاوية ، وأمر كاتبه أن يكتب : ... أخبر أمير المؤمنين .. أن مسلم بن عقیل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي، وأني جعلت عليها العيون، ودسستُ إليهما الرجال ، وكدتهما حتى استخرجتهما، وأمكن الله منهما، فقدمتهما فضربتُ أعناقهما ، وقد بعثتُ إليك برؤوسهما(1).

أما قصة «مَعقل» الذي استخدمه ابن زیاد و بأُسلوب ماكر للوصول إلى مكان مسلم بن عقیل رضی الله عنه وأصحابه فقد روى الطبري في تاريخه : دعا ابن زیاد مولىً له يقال له معقل ، فقال له : خذ ثلاثة آلاف درهم، ثم اطلب مسلم بن عقيل ، واطلب لنا أصحابه ... فقل لهم : استعينوا بها على حرب عدوکم، وأعلمهم أنك منهم، فإنك لو قد أعطيتها إياهم اطمأنوا إليك، ووثقوا بك، ولم يكتموك شيئاً من أخبارهم، ثم أغدُ عليهم ورُح. ففعل ذلك، فجاء حتى أتى مسلم بن عوسجة الأسدي ... وهو يصلي ، وسمع الناس يقولون : إنّ هذا يبايع للحسين ، فجاء فجلس حتى فرغ من صلاته ثم قال : يا عبد الله، إني امرؤ من أهل الشام، مولىً لذي الكلاع، أنعم الله عليّ بحبّ أهل هذا البيت وحبّٙ من أحبّهم ، فهذه ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و اله)، وكنت أريد لقاءه فلم أجد أحداً يدلّني عليه ولا يعرف مكانه ، وإنّي أتيتك لتقبض هذا المال وتدخلني على صاحبك فأُبایعه ، وإن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائه .

ص: 256


1- الطبری : 5/ 380 وما بعدها

فقال - مسلم بن عوسجة - : أحمَدُ الله على لقائك إيّاي ، فقد سرّني ذلك لتنال ما تحبّ ، ولينصر الله أهل بیت نبيّه ، ولقد ساءني معرفتك إيّاي بهذا الأمر من قبل أن ينمي مخافة هذا الطاغية وسطوته.

فأخذ بيعته قبل أن يبرح، وأخذ عليه المواثيق المغلَّظة ليناصحنَّ وليكتمنّ ، فأعطاه من ذلك ما رضى به ، ثم قال له : أختلف إلىّ أياماً في منزلي ، فأنا طالب لك الإذن على صاحبك ، فأخذ يختلف مع الناس ، فطلب له الإذن .. ثم أقبل به حتى أدخله على مسلم بن عقيل ... فأخبره خبره كلّه ، فأخذ ابن عقيل بيعته ، وأمر أبا ثمامة الصائدي فقبض ماله الّذي جاء به وأقبل ذلك الرجل يختلف إليهم، فهو أول داخل و آخر خارج ، يسمع أخبارهم، ويعلم أسرارهم، ثم ينطلق بها حتى يقرّها في أُذن ابن زیاد(1).

حقاً لقد كان هذا الجاسوس - مَعقل - ماهراً في صناعته، وخبيراً فيما انتدب له، وفي المقابل ارتكب الخط الموالي لمسلم بن عقيل رضی الله عنه خطأً أمنياً فادحاً ، غير ملتفتين إلى الأوضاع الأمنية الصارمة التي أحاطها عبيد الله بن زیاد بهم، ولم يحتاطوا من الرجل لا في بداية اتصاله بهم ولا في استمرار مكثه الطويل في مقر قيادتهم وعند قائدهم، ولم يكلفوا أنفسهم معرفة مكانه الذي يأوي إليه ليلاً، ومن يتصل بهم أثناء ذلك، وخاصة أنه قال لهم : إنه من الشام، الذين عرفوا بالبغض والكراهية لأهل البيت والولاء لبني أُمية والتفاني في حبهم(2).

ص: 257


1- الطبري : 363/5 - 364، وابن الأثير : البداية والنهاية : 2/ 537 - 538
2- القرشي : حياة الإمام الحسين : 2/ 369

ولا يمكن تبرير ذلك بأنه «كان ذلك لسلامة نيّاتهم، ونظافة قلوبهم، وطهارة أنفسهم عن الغش والخديعة» كما عقب على هذه القصة بعض الكتاب(1). فإن ثقتهم بهذا الرجل النكرة استناداً على أيمان وعهود ومواثيق أخذها عليه مسلم بن عوسجة، تدل على خطأ قاتل في عالم السياسة ومخططاتها، وإن كانت تدل على صدق الإيمان والتزام القيم الأخلاقية والعقائدية في عالم التدين والاعتقاد.

وعلى أي حال فإن ابن زیاد قد استفاد من عملية التجسس أُموراً بالغة الخطورة، فقد عرف العناصر الفعالة في الثورة، و عرف مواطن القوة والضعف فيها، وغير ذلك من الأُمور التي ساعدته على التغلب على الأحداث(2).

خامساً : اجراء مسح جغرافي لحدود الكوفة وإغلاق جميع المنافذ

المؤدية إليها :

ضمن إجراء أمني شامل لترتيب الأوضاع الأمنية والعسكرية قام ابن زیاد بإجراء مسح جغرافي لحدود الكوفة والمداخل الرئيسية للمدينة.

ومدينة الكوفة في ذلك الوقت كانت حديثة الإنشاء جديدة البناء الاجتماعي ، استوطنتها طوائف دینية متعددة، ووجد فيها تباین مذهبي واسع ، و تفاوت طبقي كبير، بالاضافة إلى تنوّعها القبلي حيث سكنتها قبائل متباينة الميول والاتجهات ، وخططت المدينة في أول تأسيسها وفق تقسيم سُباعي ، يضمّ كل سُب۟ع قبيلة أو أكثر مع حلفائها(3).

ص: 258


1- وهو المرحوم المظفر في كتابه سفير الحسين، نقلاً عن : محمد علی عابدین : مبعوث الحسين : 157
2- القرشي : المصدر نفسه : 2/ 370
3- مبعوث الحسين : 61 - 62، طبعة جامعة المدرسين - قم

واتخذت الكوفة بلداً ومصراً عام (17) للهجرة(1) أيام الفتوحات الإسلامية التي خاضتها الجيوش الإسلامية ، فكان أساس وجودها كساحة متحركة للفتوح ومحطة استراحة للجيوش، وثكنة ثابتة لها، تقوم بتزويدها بكل ما تريد من إمدادات ، حتى أنها سميت تاريخياً ب (كوفة الجند).

ثمّ توسعت المدينة حتى اشتملت على مساحة واسعة جداً، وأصبحت من مدن العراق الكبرى ، يقول البراقي : « الكوفة مدينة العراق الكبرى، والمصير الأعظم، وقبة الإسلام، ودار هجرة المسلمين ، وهي أول مدينة اختطها المسلمون بالعراق ، وكان لها ولايات كثيرة وتوابع عظيمة »(2).

فهذا الموقع الاستراتيجي للكوفة ببعديه الجغرافي والسياسي، دعا ابن زیاد إلى اتخاذ الاجراءات الأمنية الكبيرة من خلال التشديد على الداخلين إليها والخارجين منها، وتسيير الدوريات العسكرية خارجها.

يروي الطبري : أن ابن زیاد - بعد فكّٙ الحصار الذي ضربه علیه مسلم بن عقیل في قصره - أمر عمرو بن نافع فنادى : ألا برئت الذمّة من رجل من الشّرطة والعرفاء أو المناكب أو المقاتلة صلّى العَتمة إلّا في المسجد ، فلم يكن له إلّا ساعة حتى امتلأ المسجد من الناس ... فصلّي بالناس، ثم خطبهم قائلاً : ... إن ابن عقيل ، قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق، فبرئت ذمّة الله من رجل وجدناه في داره، ومَن جاء به فله ديته ، اتقوا الله عباد الله ، والزموا طاعتكم وبيعتكم، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً.

ص: 259


1- الحموي : معجم البلدان : 490/4
2- البراقي : حسين أحمد، تاريخ الكوفة : 126 تحقیق محمد صادق بحر العلوم، طبعة دار الأضواء، بیروت، 1407 ه - 1987م

ومَن أتاني بمسلم بن عقیل فله عشرة آلاف درهم، والمنزلة الرفيعة من یزید بن معاوية ، وله في كل يوم حاجة مقضية(1).

ثمّ قال : يا حصين بن تميم - صاحب شرطته - ثكلتك أُمّك إن صاح باب سكة من سكك الكوفة، أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به ، وقد سلّطتك على دور أهل الكوفة، فابعث مراصدةً على أفواه السكك، وأصبح غداً واستبر الدُّور وجُس خلالها حتى تأتيني بهذا الرجل(2).

وقد ضاعف ابن زیاد اجراءات ضرب الحصار الأمني على الكوفة من خلال تشديد الحراسة على الطرق المؤدية إلى الكوفة، ووضع المسالح والمراصد ،و تسيير الدوريات حتى إلى خارج المدينة وأطرافها، حيث تمكنت هذه الدوريات من قطع الطريق على رُسل الإمام الحسين(علیه السلام) إلى البصرة والكوفة من أمثال عبد الله بن يقطر ، وقيس بن مسهر الصيداوي رضوان الله عليهما(3).

سادساً : حملة الاعتقالات والسجن :

تحدثنا بعض النصوص التاريخية أن عبيد الله بن زیاد قد قام بحملة اعتقالات واسعة النطاق شملت أنصار التحرك الذي قاده مسلم بن عقيل رضی الله عنه، وهو تدبير يدخل في جملة التدابير الأمنية الرامية لمواجهة التيار الجماهيري الكبير ومن ثمَّ السيطرة على الموقف.

إن من الطبيعي جداً أن ابن زیاد في الوقت الذي كان يسعى فيه لاعتقال مسلم وتصفيته ومن بعده هانئ، كان يبذل أيضاً قصارىٰ جهده لاعتقال رموز

ص: 260


1- الفتوح لابن أعثم : 4 / 90
2- الطبري : 5/ 372 - 373
3- المصدر نفسه : 5/ 405، وحياة الإمام الحسين للقرشي : 2/ 415 - 416

نهضة مسلم والموالين للإمام الحسين وتصفيتهم، خصوصاً وأن الكوفة لم تكن كغيرها من سائر المناطق ، فقد كانت تحتضن عدداً كبيراً من الشخصيات البارزة من خواص أمير المؤمنين سلام الله عليه ، الذين كان يمكن لكل واحدٍ منهم أن يكون محوراً للكوفة كلها(1).

إلّا أنه - ومع الأسف الشديد - لا تسعفنا النصوص التاريخية بأرقام محددة عن عدد الذين أُلقي القبض عليهم وغيبوا في ظلمات السجون.

فهنالك روايات تشير إلى هذه الاعتقالات اجمالاً من دون أن تحدد ارقاماً معينة كما في نص المقرم : فوضع الحصين - صاحب شرطة ابن زیاد - الحرس على أفواه السكك وتتبع الأشراف الناهضين مع مسلم فقبض على عبد الأعلى ابن یزید الكلبي، وعمارة بن صخلب الأزدي ، فحبسهما ثم قتلهما، وحبس جماعة من الوجوه استيحاشاً منهم وفيهم الأصبغ بن نباتة ، والحارث بن الأعور الهمداني(2).

والشيخ القرشي في كتابه حياة الإمام الحسين(علیه السلام) يذكر بعض الأرقام عن عدد هؤلاء المعتقلين استناداً إلى مصادر اعتمد عليها تتحدث عن أربعمائة معتقل من الوجوه وغيرهم، بل وعن اعتقال اثني عشر ألفاً(3).

وقد لا تكون هذه الأرقام مبالغاً فيها بعد أن عرفنا سعة الكوفة والكثافة السكانية فيها، وكثرة الناقمين على الحكم الأموي، ومساحة ولاء المحبين لأهل البيت(علیهم السلام) والمبايعين للإمام الحسين(علیه السلام) بواسطة سفيره مسلم بن عقیل ،

ص: 261


1- الكوراني : حسين، في محراب كربلاء : 330، طبعة دار الهادي - بيروت، الطبعة الأُولى ، 1425 ه - 2004 م
2- المقرم : مقتل الحسين : 157
3- القرشي : باقر شریف، حياة الإمام الحسين : 2/ 416 وانظر المصادر التي اعتمدها المؤلف في هامش الصفحة ذاتها

بالإضافة إلى أن هذه الاعتقالات كانت عشوائية شملت أُمة من الناس ممن قد لا تربطهم صلة بحركة مسلم وبيعته، وكان الغرض من اعتقالهم زرع الخوف والرهبة في نفوس الآخرين ، مستندين في اعتقالهم على التهمة والظنّة والشبهة .

ومن أبرز الوجوه التي تم اعتقالها :

١ - سلمان بن صرد الخزاعي . 2 - المختار بن أبي عبيدة الثقفي. 3 - الأصبغ ابن نباتة. 4 - عبد الله بن نوفل بن الحارث. 5 - میثم بن يحيى التمار . 6 - العباس ابن جعدة الجدلي. 7 - عبيد الله بن عمرو الكندي. 8 - المسيب بن نجبة الفزاري . 9 - رفاعة بن شداد البجلي.

وغير هؤلاء الكثير بعضهم ممن سجن طويلاً ثم خرج ثائراً في ثورة التوابين وثورة المختار، وبعضهم ممن أُعدم على يد الطاغية عبيد الله بن زیاد، فيما اختفت أسماء آلاف السجناء الكوفيين الذين شملهم الاعتقال الواسع(1).

سابعاً : استدراج هانئ بن عروة إلى قصر الإمارة واعتقاله :

استطاع ابن زیاد بواسطة الاجراءات التي اتخذها من الوصول قريباً من الهدف الرئيسي الذي كلف به وهو القضاء على حركة مسلم بن عقیل رضی الله عنه من خلال اعتقاله وقتله.

لقد علم ابن زیاد بواسطة جاسوسه ( مَعقل) مقر مسلم بن عقیل ، وعرف أن دار هانيء بن عروة أصبحت المركز العام للشيعة ، والمقر الرئيسي لسفير الحسين مسلم بن عقيل رضی الله عنه ، وإن هانئ دوراً فاعلاً ومؤثراً في دعم حركة مسلم ومساندتها.

ص: 262


1- انظر : المرجع السابق : 416/2 ، والإرشاد للشيخ المفيد: 1/ 324، والمقرم: مقتل الحسين : 157، ومبعوث الحسين : 235 وما بعدها

وهانئ بن عروة - الذي التجأ مسلم بن عقيل إلى داره بعد أن كان أول الأمرفي دار المختار بن أبي عبيدة - من الشخصيات البارزة في المجتمع الكوفي ، وله ثقل اجتماعي ، وعسكري، وعشائري كبير، يصفه السيد المقرم بقوله : هانئ بن عروة المذحجي، كان شديد التشيع، ومن أشراف الكوفة، وقرائها، وشیخ مراد وزعيمها ، يركب في أربعة آلاف دارع و ثمانية آلاف راجل ، فإذا تلاها أحلافها من كندة ركب في ثلاثين ألفاً ، وكان من خواص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)حضر حروبه الثلاثة، وأدرك النبي(صلی الله علیه و اله) وتشرف بصحبته وكان له يوم قتله بضع وتسعون سنة(1).

كان على ابن زیاد وصولاً إلى هدفه الرئيسي في اخماد ثورة مسلم بن عقيل رضی الله عنه أن يسعى إلى اعتقال هانيء بن عروة، تمهيداً لاعتقال مسلم بن عقيل، إلّا أن اعتقال هانيء ليس بالأمر السهل لأنّ ردّة الفعل من قبل رجال هانيء سوف تكون مدوية، لا يستطيع ابن زیاد مواجهتها، خصوصاً وأن معلومات « معقل » حول الرجال والسلاح في الدور التي كانت حول بيت هانيء وافية ومرعبة بحيث لم يستطع الطاغية كتمان ما يبوح بأنها كانت قد أقضت مضجعه(2).

لقد اسقط ابن زیاد من حساباته طريقة الحسم العسكري من خلال كبس دار هانيء وتطويقها بالجيش لعدم قدرته على فتح باب الحرب مع قبيلة مذحج القوية والمتنفذة والمتحالفة مع قبيلة كندة ، فليس أمامه إلّا اعتماد طريقة الخداع والمكر واعطاء الأمان الكاذب لاستدراج هانيء إلى القصر بشكل اعتيادي.

ص: 263


1- المقرم: مقتل الحسين : 151، وانظر في هامش الصفحة المصادر التي اعتمدها المؤلف
2- الكوراني : حسین، في محراب كربلاء : 170

وقد اعتمد ابن زیاد لتنفيذ خطته على شخصية عمرو بن الحجاج الزبيدي المذحجي، لأنه من قبيلة هانيء، وأخو زوجته، واعتمد كذلك على شخصية محورية أُخرى وهو محمد بن الأشعث زعيم قبيلة كندة، واعتمد أيضاً على حسان بن أسماء بن خارجة زعيم فزارة.

فهؤلاء الثلاثة شكلوا الوفد الذي انطلق لدعوة هانيء بن عروة لزيارة عبيد الله ابن زیاد.

يروي الطبري قال : قال أبو مخنف ...: دعا عبيد الله - بن زياد - محمد بن الأشعث وأسماء بن خارجة ... وأنه بعث معهما عمرو بن الحجّاج الزّبيدي ... فقال لهم : ما يمنع هانيء بن عروة من إتياننا؟ قالوا : ما ندري أصلحك الله ! وإنه ليشتكي ، قال : قد بلغني أنه قد برأ، وهو يجلس على باب داره ، فالقوه ، فروه ألّا يدَع ما عليه في ذلك من حقّ، فإنّي لا أُحب أن يفسد عندي مثلهُ من أشراف العرب(1).

وفي نص آخر للطبري : فأرسل - أي ابن زیاد - إلى أسماء بن خارجة ومحمّد بن الأشعث فقال : ائتياني بهانيء، فقالا له : إنه لا يأتي إلّا بالأمان ، قال : ومالهُ وللأمان، وهل أحدث حدثاً ، انطلقا فإن لم يأت إلّا بأمان فآمناه(2). فأتوه حتى وقفوا عليه عشيّةً وهو جالس على بابه ، فقالوا : ما يمنعك من لقاء الأمير ، فإنه قد ذكرك ، وقد قال : لو أعلمُ أنه شاك لعُدته ؟ فقال لهم : الشكوى تمنعني ، فقالوا له : يبلغه أنك تجلس كلّ عشية على باب دارك ، وقد استبطأك ، والإبطاء والجفاء لا يحتمله السلطان، أقسمنا عليك لمّا ركبت معنا، فدعا بثيابه فلبسها، ثم دعا ببغلة

ص: 264


1- الطبري : 5/ 364 - 365
2- الطبری : 360/5

فركبها، حتى إذا دنا من القصر ، كأنّ نفسه أحسّت ببعض الذي كان ، فقال لحسّان ابن أسماء بن خارجة : يابن أخي، إني والله لهذا الرجل لخائف فما ترى ؟ فقال : أي عمّ، والله ما أتخوف عليك شيئاً ولم تجعل على نفسك سبيلاً وأنت بريء؟ وزعموا أن أسماء لم يعلم في أي شيء بعث إليه عبيد الله ، فأما محمد فقد علم به.

فدخل القوم على ابن زیاد ، ودخل معهم، فلما طلع قال عبيد الله : أتتك بحائنٍ رجلاه ...(1) فلما دنا من ابن زیاد و عنده شُريح القاضي التفت نحوه ، فقال :

اُريدُ حباءَهُ ويريد قتلى

عذيرکَ من خَليلك مِن مُرادِ

وقد كان له أوّل ما قدم مكرماً ملطفةاً ، فقال له هانيء : وما ذاك أيها الأمير ؟

قال : إيه يا هانيء بن عروة ! ما هذه الأُمور التي تربّصُ في دورك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين ؟ جئت مسلم بن عقيل فأدخلته دارك ، وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك، وظننت أنّ ذلك يخفى عليّ لك!

قال : ما فعلت ، وما مسلم عندي ، قال : بلى قد فعلت ، قال : ما فعلت ، قال: بلى ، فلما كَثُر ذلك بينهما، وأبي هانيء إلّا مجاحدتِه ومناكر ته ، دعا ابن زیاد معقلاً ذلك العين ، فجاء حتى وقف بين يديه فقال : أتعرف هذا؟ قال : نعم ، و عَلم هانيء عند ذلك أنه كان عيناً عليهم، وأنه قد أتاه بأخبارهم، فسقط في خَلده ساعة، ثم إنّ نفسه راجعته ، فقال له : اسمع منّي ، وصدّق مقالتي، فو الله لا أُكذبك ، والله الذي لا إله غيره ما دعوته إلى منزلي، ولا علمتُ بشيء من أمره، حتى رأيته جالساً على بابي(2)، فسألني النزول عليّ، فاستحييت من ردّه، ودخلني من ذلك ذمام ،

ص: 265


1- الحائن : الهالك، والحَين بفتح الحاء الهلاك والموت، والمعنى : سعى الهالك إلى هلاكه برجليه، وهو مثل يضرب لمن يسعى إلى مكروه حتى يقع فيه ، انظر : جمهرة الأمثال للعسكري
2- وفي رواية الإرشاد للشيخ المفيد : 2/ 48 - 50 (حتى جاءني يسألني النزول...)

فأدخلته داري وضفته و آويته ، وقد كان من أمره الذي بلغك ، فإن شئت أعطيت الآن موثقاً مغلظاً وما تطمئنّ إليه ألا ابغيك بسوء، وإن شئت أعطيتك رهينةً تكون في يدك حتى آتيك، وانطلق إليه فأمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض، فأخرج من ذمامه وجواره.

فقال : لا والله لا تفارقني أبداً حتى تأتيني به .

فقال : لا ، والله لا أجيئك أبداً، أنا أجيئك بضيفى تقتله !

قال : والله لتأتيني به ، قال : والله لا آتيك به(1).

ولما طال الجدل بينهما انبرى إلى هانيء مسلم بن عمرو الباهلي ، وهو من أعوان السلطة وخواصها، ولم يكن رجل في المجلس غریب غيره، فقال لابن زیاد : أصلح الله الأمير! خلّني وإياه حتى اُكلّمه، لما رأي لجاجته و تأبّيه على ابن زیاد أن يدفع إليه مسلماً ، فقال لهانيء : قُم إليّ هاهنا حتى اُكلمك ، فقام فخلا به ناحيةً من ابن زیاد، وهما منه على ذلك قريب حيث يراهما، إذا رفعا أصواتهما سمع ما يقولان، وإذا خَفضا خفي عليه ما يقولان.

فقال له مسلم : يا هانيء، إني أنشدك الله أن تقتل نفسك، وتُدخل البلاء على قومك وعشيرتك ! فو الله إني لأنفس بك عن القتل، أنّ هذا الرجل ابن عمّ القوم، وليسوا قاتليه ولا ضائريه ، فادفعه إليه فإنه ليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة ، إنما تدفعه إلى السلطان.

قال - هانيء - : بلى، والله إنّ عليَّ في ذلك للخزي والعار ، أنا أدفع جاري وضيفي وأنا حيٌّ صحيح أسمع وأری ، شديد الساعد، كثير الأعوان ، والله لو لم أكن إلّا واحداً ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أَموت دونه.

ص: 266


1- الطبری : 365/5 - 366

فأخذ يناشده وهو يقول : والله لا أدفعه إليه أبداً. فسمع ابن زیاد ذلك ، فقال :

ادنوه منّي، فأدنوه منه ، فقال : والله لتأتيني به أو لاضربنّ عنقك.

قال هانيء : إذاً تكثر البارقة(1) حول دارك، وهو يظنّ أنّ عشيرته سيمنعونه .

فقال ابن زیاد : والهفا عليك ! أبالبارقة تخوّفني ، أدنوه منّي ، فأدني ، فاستعرض وجهه بالقضيب ، فلم يزل يضرب أنفه وجبينه وخدّه حتی کسر أنفه، وسیّل الدماء على ثيابه ، ونثر لحم خدّيه وجبينه على لحيته حتى كسر القضيب .

وضرب هاني بيده على قائم سيف شرطيّ من تلك الرّجال ، و جاذبه الرجلُ ومنع.

فقال عبيد الله : أحَروريّ سائر اليوم ! احللت بنفسك ، قد حلّ لنا قتلك، خذوه فألقوه في بيت من بيوت الدار، وأغلقوا عليه بابه ، واجعلوا عليه حرساً ، ففُعل ذلك به.

فقام إليه أسماء بن خارجة فقال : أرسلُ غدر سائر اليوم ! أمرتنا أن نجيئك بالرّجل حتى إذا جئناك به وأدخلناه عليك هشمت وجهه، وسیّلت دمه على لحيته ، وزعمت أنك تقتله!

فقال له عبيد الله : وإنك لهاهنا، فأمر به فَلُهز وتعتِعَ به(2)، ثم تُرك.

وأما محمد بن الأشعث فقال : قد رضينا بما رأى الأمير، لنا كان أم علينا، إنما الأمير مؤدّب(3).

ص: 267


1- البارقة : السيوف
2- اللهز : ضربه بجمعه في لهازمه، والتعتعة : الحركة العنيفة
3- الطبري : 366/5 - 367، والمفيد في الإرشاد : 2/ 48 - 50، والأخبار الطوال للدينوري : 236 - 238، وللطبري رواية أُخرى للقصة : 360/5 - 361. وانظر : المسعودي في مروج الذهب : 3/ 57

ومع تحفظنا على بعض مفردات هذا النص التأريخي، إلّا إننا يمكن أن نتوقف عند بعض فقراته نستلهم منها بعض الدروس والعبر والتي تتلخص فيما يلي :

أولاً : تدخل مسلم بن عمر الباهلي السلبي لاقناع هانيء مستعملاً أُسلوب تركيع الضعفاء ومنطق الجبناء، حيث يطلب من هانيء أن يسلم مسلماً إلى السلطان ! مجافياً بذلك كل القيم والأخلاق والأعراف ، من دون أن يشعر بمخزاة أو منقصة أو عار .

ثانياً : موقف أسماء بن خارجة وردّة فعله من تصرف ابن زیاد، تدل ظاهراً على أن الرجل لم يكن مطلعاً على أبعاد المؤامرة التي حاكها عبيد الله بنزیاد ونفذها بدقة عمرو بن الحجاج ومحمد بن الأشعث، وشارك في فصولها شريح القاضي ، ولهذا يروي ابن أعثم أن أسماء بن خارجة بعد أن احتج على ابن زیاد بقوله : أرسل غدرٍ سائر اليوم... أوعز ابن زیاد لشرطته به : «فضرب حتى وقع لجنبه ، فحبس في ناحية من القصر وهو يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون، إلى نفسي أنعاك يا هانيء »(1).

ثالثاً : تواطؤ محمد بن الأشعث ورضاه بما رضي به الأمير ، يمثل نموذج الأذلاء الذين ينظرون للسطوة والسوط، وسيف السلطان، وللحاكم نظرتهم للرب ، ويبررون أعمالهم الاجرامية، وعلى مرّ التاريخ تجد الكثير من هؤلاء ممن هانت عليهم ضمائرهم فباعوها بثمن بخس دراهم معدودة

رابعاً : طمأنينة ابن زیاد للموقف رغم حراجته ، فهو في الوقت الذي يواجه

ص: 268


1- الفتوح لابن أعثم : 5/ 84

قائداً من أمثال هانيء بن عروة الذي له ثقل اجتماعي وعشائري وعسكري ، لا يخشى أن تكثر البارقة حول داره ، ويمعن في الضرب المبرح هانيء حتى نثر لحم وجنته وهشم أنفه ...

هذه الطمأنينة المفرطة إن دلت على شيء فإنّما تدل على أن ابن زیاد قد ضمن تعطیل مواطن القوة عند مذحج عشيرة هانيء بواسطة عمرو بن الحجاج، وإن الكوفة التي كانت في الظاهر في قبضة هانيء بن عروة ، قد أصبحت طوع بنان ابن زیاد!

خامساً : الموقف البطولي والشجاع الذي وقفه هانيء بن عروة ، رغم الظروف الصعبة التي مرّ بها، فهو لم يستسلم لابن زیاد، ولم يستجب لطلبه بتسليم مسلم بن عقيل إليه، رغم تهديده بالقتل ، بل كان القتل بعينه ، وليس هذا عجيباً من هذا المجاهد الكبير الذي توج حياته بالشهادة ، بعد حياة جهادية وولائية في طريق الإسلام وخطى أهل البيت (علیهم السلام)، فهو و نظراؤه ممّن لا يعطون بأيديهم ما لم يعطوا دماءهم ثمناً لموقف المبدأ والمعتقد(1) .

ردود الأفعال على اعتقال هانيء بن عروة :

كان من الطبيعي أن يطمئن هانيء بن عروة على أن عشيرته ستمنعه إذا حصل له مكروه أو اعتقل من قبل عبيد الله بن زیاد، ولهذا هدد ابن زیاد بقوله : «إذن والله تكثر البارقة حول دارك».

وكان من المتوقع من مذحج - وهي القوة الضاربة في الكوفة، ولها هيبتها العسكرية ورجالها - أن تنتفض انتفاضة رجل واحد وتخلص زعيمها من قبضة ابن زیاد وسجنه، وفعلاً انتفضت مذحج، ولكنها سرعان ما تقهقرت إلى الوراء،

ص: 269


1- للتوسع أُنظر : مبعوث الحسین: 163 - 167، والكوراني ، في محراب كربلاء : 180 - 181

ولم تكن انتفاضتها ذات أثر في مجريات الأحداث، فما هي إلّا كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً(1) أو كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ(2) فما الذي جری ؟ وكيف تخاذلت مذحج عن هانيء؟

لعل النص التاريخي الذي ينقله الطبري وغيره من المؤرخين يسلط الأضواء على عمق المؤامرة التي حاكها ابن زیاد، ونفذها بدقة متناهية عمرو بن الحجاج، لافراغ انتفاضة مذحج من محتواها، لتأخذ الأُمور بعد ذلك منحى آخر، تصب في صالح عبيد الله بن زياد، وتنهي حركة مذحج.

يروي الطبري : وبلغ عمرو بن الحجاج أن هانئاً قد قتل ، فأقبل في مذحج حتى أحاط بالقصر ومعه جمع عظيم، ثم نادى : أنا عمرو بن الحجاج، وهذه فرسان مذحج ووجوهها ، لم تخلع طاعة، ولم تفارق جماعة ، وقد بلغهم أن صاحبهم يقتل، فأعظموا ذلك.

فقيل لعبيد الله : هذه مذحج بالباب ! فقال لشريح القاضي : ادخل على صاحبهم فانظر إليه ، ثم أخرج فأعلمهم أنه حيّ لم يقتل ، وأنك قد رأيته ، فدخل إليه شريح فنظر إليه(3).

وهنا يسجل الطبري نصّ ما رواه شريح القاضي عن لقائه بهانيء :

قال : دخلت على هانيء فلما رآني قال : يالله يا للمسلمين ، أَهَلَكَت۟ عشيرتي ؟ فأين أهل الدين ! وأين أهل المِصر؟ تفاقدوا ؟ يخلّوني وعدوّهم وابن عدوّهم؟ والدماءُ تسيل على لحيته ، إذ سمع الرّجة على باب القصر، وخرجت واتّبعني ،

ص: 270


1- النور : 39
2- إبراهيم: 18
3- الطبري : 5/ 367

فقال : يا شريح، إني لأظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين . إن دخل عليّ عشرة نفر أنقذوني.

قال - شريح - : فخرجت إليهم ومعي حميد بن بكير الأحمري - أرسله معي ابن زیاد ، وكان من شرطه ممّن يقوم على رأسه - وايمُ الله لولا مكانه معي لكنت أبلغتُ أصحابه ما أمرني به ، فلما خرجت إليهم قلت : إنّ الأمير لما بلغه مکانکم و مقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه، فأتيته فنظرت إليه، فأمرني أن ألقاكم، وأن أعلمكم أنه حيّ، وأن الذي بلغكم من قتله كان باطلاً ...!

فقال عمرو وأصحابه : فأمّا إذا لم يقتل فالحمدُ لله ، ثم انصرفوا(1) .

بالتأمل في هذا النص ونصوص أُخرى مشابهة له تتضح لنا معالم المؤامرة التي حیکت لإجهاض حركة مذحج وانتفاضتها و افراغها من محتواها ، والشخصيات التي لعبت أدواراً رئيسية في هذه المؤامرة، ومستوى الوعي الهابط لدى الجماهير من عشيرة مذحج وغيرها، وفيما يلي بعض هذه التأملات :

أولاً : أول شيء يواجهنا في هذا النص هو الدور البارز لعمرو بن الحجاج في هذه المؤامرة الدنيئة حيث نجده يظهر فجأة على رأس الأحداث ليقود قبيلة مذحج، ويتظاهر بالدفاع المخلص عن هانيء ومصيره، في الوقت الذي ساهم بنفسه في استدراج هانيء إلى عبيد الله بن زیاد، ثم اختفى عن مسرح الجريمة مبعداً عن نفسه أي تهمة في المساهمة باعتقال هانيء.

ثانياً : لم نلمس من ابن الحجاج أي حالة حزم وجدّ في المهمة التي قاد مذحج من أجلها - كما ادعي - وإنما اكتفي بالسؤال عن هانيء، ثم حمد الله على سلامته وانصرف ، من دون أن يطلب لقائه للتأكد من الأمر، فضلاً عن أن يطالب بإطلاق سراحه.

ص: 271


1- المصدر نفسه : 5/ 367 - 368. والإرشاد للشيخ المفيد : 51/2

ثالثاً : الذي نلاحظه أن عمرو بن الحجاج استخدم اسلوب الصّدمة العنيفة مع قبيلة مذحج، فإنه قد استنفر هم استنفاراً شديداً بدعوی مقتل هانيء فأثار حفيظتهم - وهو يعلم يقيناً أنه ما زال حياً - ثم بعد ذلك ظهر لهم بلباس الإخلاص لهانيء والحماس لعزِ القبيلة ، ليتسنى له التحكم بهم، وامتصاص غضبهم حيال السلطة حيث تبين لهم أنه لم يقتل فحمد الله ، وحمدوا معه وانصرف وانصرفوا.

رابعاً : الكلمات الوجيزة التي تفوه بها عمرو بن الحجاج، تنم عن الخضوع والمسالمة للسلطة وليس فيه اندفاع لانقاذ هانيء « وهذه فرسان مذحج لم تخلع طاعة ولم تفارق جماعة» فهو يقوم بدور ترسيخ الثقة بالسلطة، وتأكيداً لمذحج على أن تكون رهينة الطاعة، ومتمسكة بالجماعة، وتبتعد عن الفتنة وعواملها « فقال لهم سيدهم عمرو بن الحجاج : أما إذ كان صاحبكم حياً فما يعجلكم الفتنة؟ انصرفوا، فانصرفوا»(1).

خامساً : لم تحدثنا النصوص التاريخية عن أي ردود فعل غاضبة من ابن الحجاج وقبيلة مذحج، حين أٌخرج هانيء بن عروة - بعد ثلاثة أيام تقريباً - ليعدم في أحد الأسواق وأمام مرأى ومسمع المذحجيين، وهو ينادي « وا مذحجاه، ولا مذحج لي اليوم»، فَلَم۟ ينتقم له ، ولا استنكر قتله ، ولو مجرد استنکار ! ولا سمح لأحد من قبيلته بالتحرَك !

سادساً : رغم المركز المرموق لقبيلة مذحج و قوتها و شرکتها، والذي يستدعي أن يتخوف ابن زیاد من سطوتها و انتفاضتها، نجد أن ابن زیاد يتهكم بهم ، ويلغي قیمتهم في حواره مع هانيء في القصر : « و آه عليك ، أبلبارقة تخوفني» ثم عندما حوصر قصر ابن زیاد بجحافل مذحج، نجده يعالج الأُمور ببرودة أعصاب ومن دون ارتباك أو خوف ويوعز إلى شريح للقيام بدوره المرسوم له سالفاً .

ص: 272


1- الدينوري : الأخبار الطوال : 238

فمن أين حصل هذا الاطمئنان لابن زیاد، لولا اتفاقه المسبق مع ابن الحجاج لاحتواء قبيلة مذحج وتذليلها وكسر شوكتها.

كل هذه المؤشرات وغيرها(1) تدل بوضوح على عمق المؤامرة التي حاكها ابن زیاد و نفذها بدوره عمرو بن الحجاج وغيره ، والتي ذهب ضحيتها هانيء بن عروة ومن بعده مسلم بن عقيل رضی الله عنه.

دور شريح القاضي في تضليل مذحج :

أما دور عالم البلاط شريح القاضي في هذه المؤامرة ، فهو لا يقل خسة ودناءة عن دور صاحبه فيها عمرو بن الحجاج.

وبالتأمل مرةً أُخرى في النص التاريخي لهذه الحادثة نلاحظ الدور الذي قام به شریح يتلخص فيما يلي :

أولاً : بعد أن أحاطت مذحج بقصر ابن زیاد وأُخبر عن ذلك نجده يوعز لشريح بقوله : « أدخل على صاحبهم، فانظر إليه ، ثم اخرج فأعلمهم أنّه حي لم

يقتل ، وأنك قد رأيته » .

تأمل في لهجة الحاكم - ابن زیاد - مع عالم البلاط - شریح - «أُدخل ، أُنظر ، أُخرج . وأعلمهم» أربعة أوامر في أقل من سطر ، والباقي تلقين ما يبلغه «وإنك قد رأيته» أي وإياك أن تقول كيف رأيته(2). هكذا يكون عالم السوء مجرد دمية تحركها أيدي الطغاة.

ثانياً : نجد الذي يتأمل في قصة اعتقال هانيء وما جرى عليه من اعتداء فضيع وعلى مرأى ومسمع شریح انعدام الحالة الإنسانية والعاطفية والأخلاقية لدى هذا الرجل.

ص: 273


1- للتوسع انظر : مبعوث الحسين : 174 وما بعدها. والكوراني في محراب كربلا: 186 وما بعدها، والقرشي في حياة الإمام الحسين : 2/ 376 وما بعدها
2- کوراني : في محراب كربلا: 185 وما بعدها

فهو يرى رجلاً قد ناهز التسعين من العمر وأعزل من السلاح يكتف ويضرب ضرباً قاسياً فلا يحرك ساكناً ولا ينبس بكلمة اعتراض، ولا يحاول أن يتدخل لتهدئة الموقف، ولا تأخذه الشفقة أو الرحمة ويتجرد عن كل النوازع الإنسانية اتجاه هانيء، فأي قلب قاسي يمتلكه هذا الرجل بين جوانحه إن كان له قلب .

ثالثاً : انعدام حالة التقوى والورع والخوف من الله في القاضي شريح، فهو يدخل على هانيء في سجنه وينظر إلى هذا الشيخ الجليل والدماء تسيل من وجهه ، وهو يصارع الموت ويستغيث بالله والمسلمين ، ويطلب منه أن ينصف الموقف ويقول له : « اتق الله فإنه قاتلي »(1) وأين شريح والتقوى ؟وأين التقوى من شريح ؟

إن المناشدة بتقوى الله تؤثر في المتقين حقاً ، الذين يتّقون الله حقّ تقاته ، ولم يكن شريح منهم(2)، فقد كان هذا القاضي عديم التقوى في كثير من المواقف الحادة التي دونها المؤرخون في سجل تاريخ حياته(3).

رابعاً : إن شريحاً تعمد الكذب والتضليل وقلب الحقائق حين أوحى إلى المذحجيين أنه يحمل إليهم رسالة من زعيمهم هانيء كما هو واضح من نص الطبري برواية شريح نفسه إذ يقول : «فلما خرجت إليهم - أي مذحج - قلت : إن الأمير لما بلغه مكانكم ومقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه فأتيته ، فنظرت إليه ، فأمرني أن ألقاكم وأن أعلمكم أنه حيّ وأن الذي بلغكم من قتله كان باطلاً »(4)

ص: 274


1- القرشی : 2/ 377 نقلاً عن تهذيب التهذيب : 2/ 315، وانظر تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي : 242
2- کوراني : 187
3- انظر ترجمة شريح في تنقيح المقال للمامقاني : 3/ 82
4- الطبری : 367 - 368

ومن الواضح أن الذي أمر شريحاً بالخروج إلى أنصار هانيء هو الطاغية ابن زیاد إلّا أن شريحاً يوحي إلى الجموع بأن الشهيد هانئاً هو الذي طلب منه ذلك(1).

خامساً : بالاضافة إلى حالة التضليل التي اتبعها شريح مع مذحج نجد حالة التَعَیُّب۟ والاستخفاف بجموع مذحج، حيث يكثر عليهم خروجهم على سلطانهم كما في رواية الطبري حيث يقول : ... فقال لهم شریح : ما هذه الرّعة السيئة(2) الرجل حي، وقد عاتبه سلطانه بضرب لم يبلغ نفسه ، فانصرفوا ولا تحلّوا بأنفسكم ولا بصاحبكم(3).

سادساً : وجود شريح القاضي في مجلس عبيد الله بن زیاد قبل دخول هانيء عليه، وتوجه ابن زیاد بالكلام إليه سواءً بالمثل الذي ضربه ، أو الشعر الذي تمثل به، ثم مشاهدة ما جرى على هانيء من اعتداء من دون أن يهزه الموقف ... كل هذه الأُمور تشکل قرائن وجدانية على أن وجوده لم يكن محض صدفة ، وإنما كان هنالك دور مرسوم له لابد له من القيام به.

ولا شك أبداً - وفق هذه المعطيات - في أن مسؤولية شريح القاضي عن دم الشهيد الجليل ، وما ترتب على شهادته من كل أحداث کربلا، لا تقل عن مسؤولية الطاغية ابن زیاد.

كما لا شك في أن عمرو بن الحجاج كان شريكهما الأول متقدماً عليهما في تحمل المسؤولية.

ص: 275


1- کوراني : مرجع سابق : 188
2- الرعة : الحماقة أي أنه يصف تجمعهم بأنه حماقة
3- الطبري : 361/5

فشریح من أعلى القصر يثبط الناس ، وعمرو بن الحجاج يقودهم نحو التراجع، وشريح يقول إن هانئاً حي ، وعمرو يقول الحمد لله ، والجماهير تردد المقالتين معاً ! فهل نتعلم من كربلاء بعض دروسها(1)؟

ولا ننسى ونحن نسجل هذه التأملات والمواقف أن نشير إلى سطحية وعي الجمهور المذحجي في تعاطيه مع حادثة اعتقال زعيمها وشيخها هانيء بن عروة ، فلو كانت تمتلك الوعي العميق والبصيرة النافذة لما استطاع عمرو بن الحجاج ، ولا عالم البلاط شريح القاضي، ولا كل أصحاب المصالح الخاصة ولا كل النفعيين أن يخدعوهم ويضللوهم ويسلبوا منهم إلى الأبد روح التحرك والثورة .

ابن زیاد يستعد لتنفيذ مهمته النهائية بقتل مسلم بن عقیل رضی الله عنه

بعد أَن إِط۟مأَن عبيد الله بن زياد بنجاح الخطة التآمرية لإلقاء القبض على هانيء بن عروة وتفرق جموع مذحج سلمياً ، أطل على الناس مرة أُخرى ليوجه إليهم إنذاراً ، موجزاً في ألفاظه ، شديداً في لهجته ، يحمل في طياته التهديد والانذار بالقتل أو الاذلال والحرمان من العطاء.

يروي الطبري والشيخ المفيد في الارشاد :

«لما ضرب عبيد الله هانئاً وحبسه خشي أن يثب الناس به ، فخرج فصعد المنبر ومعه أشراف الناس وشرطه وحشمه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أمّا بعد، أيها الناس، فاعتصموا بطاعة أئمتكم، ولا تختلفوا ولا تفرّقوا فتهلكوا وتذلّوا و تقتلوا وتُجفوا وتُحرموا ، إنّ أخاك مَن صدقك ، وقد أعذر من أنذر ، قال : ثم ذهب لينزل، فما

ص: 276


1- کورانی : المرجع نفسه : 191

نزل عن المنبر حتى دخلت النّظارة(1) المسجد من قبل التّمارين يشتدّون ويقولون : قد جاء ابن عقيل! قد جاء ابن عقیل ! فدخل عبيد الله القصير مسرعاً، وأغلق أبوابه»(2)

والذي يفهم من هذا النص التاريخي أن عبيد الله بن زیاد، بحضوره بين الناس رغم خطورة الموقف ، كان يعد العدة لجولة أُخرى من المواجهة أكثر خطورة من الجولة السابقة ، وهي مواجهة مسلم بن عقیل رضی الله عنه.

إلّا أنه فوجيء بنداء شرطته يخبرونه بدخول طلائع حملة مسلم بن عقیل رضی الله عنه إلى المسجد، فولى هارباً إلى قصره، وأغلق أبوابه .

فما هي قصة حملة مسلم بن عقيل على القصر؟ وما هي النتائج التي انتهت إليها؟

حملة مسلم بن عقيل على قصر الإمارة ونتائجها :

بعد أن علم مسلم بن عقیل رضی الله عنه باعتقال هانيء بن عروة ، وأن جموع مذحج قد انكفأت بعد أن خُدِعَت، فكان لابد أن يتحرك سريعاً بمن معه من الرجال لعله ينقذ الموقف من الانهيار التام.

وهكذا كان ، فقد أعلن النفير، ووزع السلاح والأَلويَة العسكرية، وقسم القيادة العسكرية بحسب المقتضيات اللازمة، وتوجهت الأَلِويَة بقيادة مسلم بن عقیل نحو قصر الإمارة(3).

ص: 277


1- النظارة : فريق الرصد من الشرطة التابعين لابن زیاد
2- الطبري : 5/ 368، والإرشاد للشيخ المفيد : 2/ 51، والفتوح لابن أعثم : 5/ 85
3- اختلفت الروايات حول عدد الجيش الذي قاده مسلم، فعند الطبري : 5/ 368 انهم أربعة آلاف، وعند ابن شهر آشوب في المناقب : 3/ 243 انهم ثمانية آلاف، وعدهم المسعودي في المروج : 3/ 58 بثمانية عشر ألفاً ، وأوصلهم الذهبي في سير أعلام النبلاء : 307/3 إلى أربعين ألفاً

يروي الطبري عن أبي مخنف عن عبيد الله بن خازم الذي نقل خبر اعتقال هانيء إلى مسلم بن عقیل رضی الله عنه قال : فدخلت على مسلم بن عقیل بالخبر ، فأمرني أن أُنادي في أصحابه وقد ملأ منهم الدُّور حوله ، وقد بايعه ثمانية عشر ألفاً ، وفي الدور أربعة آلاف رجلاً، فقال لي : ناد : يا منصور أمت، فناديت : يا منصور أمت(1)، وتنادي أهل الكوفة فاجتمعوا إليه ... ثم أقبل نحو القصر، فلما بلغ ابن زیاد إقباله تحرّز في القصر، وغلّق الأبواب(2).

هذا النص وغيره من النصوص تشير إلى العدد الكبير من القوى العسكرية مع مسلم في مقابلة قلة متحصنة في قصر الامارة لا تكاد تذكر ، إذ لم يكن مع ابن زیاد إلّا « ثلاثون رجلاً من الشرط، وعشرون رجلاً من أشراف الناس وأهل بيته ومواليه »(3).

إلّا أن جيش مسلم لم يكن متماسكاً من أول أمره، وإنما تألف من رجال اجتمعت أبدانهم وتَشتت أهواؤهم، ولهذا أخذوا يتسللون لواذاً وهم في طريقهم إلى المسجد.

يروي الطبري عن عباس الجدلي قال : خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف، فيا بلغنا القصر إلّا ونحن ثلاثمائة(4).

مع أن المسافة بين بيت هانيء وبين قصر الامارة لم تكن مسافة طويلة.

إلّا أن ذلك الانسلال الكوفي لجيش مسلم کان بين مد وجزر ، فكانت تنسحب مجموعة لتلتحق أُخرى ولهذا يضيف الراوي «ثم إنّ الناس تداعوا إلينا واجتمعوا،

ص: 278


1- «یا منصور أمت» کان شعار المسلمين يوم بدر ، وقيل إنّ «منصور» اسم رئيس الملائكة الذين نزلوا يوم بدر لنصرة النبي
2- الطبري : 368/5 - 369
3- المصدر نفسه : 5/ 369
4- المصدر نفسه : 5/ 369

فو الله ما لبثنا إلّا قليلاً حتى امتلأ المسجد من الناس والسوق، وما زالوا يتوثّبون حتى المساء ...»(1).

وهكذا ضُرِبَ الحصار الشديد حول قصر الامارة الذي تحصن فيه عبيد الله بن زیاد ومن معه من جنده والأشراف الذين لم يتجاوز عددهم الخمسين وامتد الحصار إلى المساء وعتمة الليل ، « وأقام الناس مع ابن عقيل يكبّرون ويثبون حتى المساء»(2) وحصلت أثناء ذلك بعض المواجهات و الصدامات المسلحة بين أنصار مسلم وأنصار عبيد الله بن زباد خارج القصر.

عبيد الله بن زیاد يتدارك الموقف :

لم يكن أمام ابن زیاد مع هذا الحصار الذي ضرب حول قصره إلّا الفرار من القصر من خلال ثغرة من الثغرات أو طريق سري ، أو أن يواجه الجموع ويقاتل كما اقترح عليه كثير بن شهاب كما في رواية الطبري : « قال له كثير ... أصلح الله الأمير ، معك في القصر ناس كثير من أشراف الناس ومن شرطتك وأهل بيتك ومواليك، فاخرج بنا إليهم، فأبي عبيد الله »(3) .

إن ابن زیاد كان يعرف الكوفة وأهلها، ويعرف مكامن الضعف والقوة في نسيجها الاجتماعي، وله ولأبيه زیاد تجربة واسعة في هذا البلد، ولهذا عمل لاستعادة السيطرة على الموقف، من خلال اُسلوب ثالث يتسم بالتخويف والإرهاب وبث الشائعات مع الترغيب بالمال والعطاء ... مستعيناً بذلك بالأشراف ورؤساء العشائر سواء من الذين معه في القصير أو من الذين خارجه ممن هم رهن إشارته.

ص: 279


1- المصدر نفسه : 5/ 369 عن الراوي نفسه
2- المصدر نفسه : 5/ 370
3- المصدر نفسه : 5/ 370

يروي الطبري : «فبعث عبيد الله إلى الأشراف فجمعهم إليه، ثم قال : أشرفوا على الناس فمنّوا أهل الطاعة الزّيادة والكرامة ، وخوّفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة، وأعلموهم فصول الجنود من الشام إليهم»(1).

ثلاثة أوامر متتالية نفذها الأشراف وأُمراء القبائل بدقة متناهية ، ووجد لها الأرضية الخصبة في ذلك الجيش المتهلهل الذي قاده مسلم بن عقیل رضی الله عنه.

وهنالك نصوص تاريخية كثيرة تصف وبدقة دور الأشراف والأُمراء في تفتيت ذلك الجيش المُحاصُرُ للقصر، لا نريد الاسهاب في ذكرها.

يروي الطبري : عن أحد الحاضرين في الحصار قال : «أشرف علينا الأشراف، فتكلم كثير بن شهاب أوّل الناس حتى كادت الشمس أن تحجب ، فقال : أيها الناس، ألحقوا بأهليكم، ولا تعجّلوا الشرّ، ولا تعرضوا أنفسكم للقتل، فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت ، وقد أعطى الأمير عهداً ، لئن أتمتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيّتكم أن يحرم ذرّيتكم العطاء، ويفرّق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب ، حتى لا يبقى له فيكم بقيّة من أهل المعصية إلّا أذاقها وبال ما جرّت أيديها، وتكلّم الأشراف بنحو من الكلام هذا فلما سمع مقالتهم الناس أخذوا يتفرّقون ، وأخذوا ينصرفون»(2).

لم تكن دوافع السواد الأعظم من الحشد الكبير الذي خرج مع مسلم دوافع عقائدية أو التزام بالبيعة أو ما أشبه ذلك ، وإنما كانوا خليطأ غير متجانس

ص: 280


1- الطبرد : 5/ 370
2- الطبري : 5/ 370 - 371، والد نوري : اخبار الطوال : 239. وابن کنر في البداية والنهاية : 166/8

يدفع الكثير منهم النوازع المادية في العطاء أو المنصب ، ويرهبهم أقل تخويف عندما يشعرون بتهديد في أرزاقهم وأمنهم وعطاءاتهم.

بل ان الكثير من هؤلاء كانوا من المتفرجين على ساحة الصراع ويصفقون للمنتصر ويتلونون مع انقلاب موازين القوى ، ولا يرون في هذه المواجهة إلّا مجرد تنافس على سلطان دنیوي ولهذا كان يقول بعضهم - وهو لسان حال أكثرهم -: «ما نصنع بتعجيل الفتنة، وغداً تأتينا جموع أهل الشام ؟ ينبغي لنا أن نقعد في منازلنا وندع هؤلاء القوم، حتى يصلح الله ذات بینهم»(1).

وهكذا هانت عليهم قضيّتهم، وهبطوا بها إلى مستوی رخيص من الصراع وحولوا هذا الصراع من وجهته العقائدية، إلى صراع بين السلاطين ، فيا لهم والدخول فيه.

فانهارت الهمم، واندحرت العزائم، وبدأ التسلّل خارج الحصار يتسع شيئاً فشيئاً، «وما زالوا يتفرّقون ويتصدّعون حتى أمسى ابن عقيل وما معه ثلاثون نفساً في المسجد ، حتى صُلّٙيَت المغرب، فما صلّى مع ابن عقيل إلّا ثلاثون نفساً ، فلما رأى أنه قد أمسى وليس معه إلّا أُولئك النّفر خرج متوجّهاً نحو أبواب كندة ، وبلغ الأبواب ومعه منهم عشرة، ثم خرج من الباب وإذا ليس معه إنسان، والتفت فإذا هو لا يحسّ أحداً يدلّه على الطريق، ولا يدلّه على منزل ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدو»(2).

وصف دقيق ومشجي من هذا المؤرخ للحالة التي انتهى ذلك الجمع الكثير الذي أحاط بالقصر، والحالة التي انتهى إليها قائدهم مسلم بن عقيل الذي له في أعناقهم أكثر من حق ومن أهمها حق الجوار، والبيعة.

ص: 281


1- الفتوح لابن أعثم: 87/5
2- الطبري : 5/ 371
ابن زیاد يأخذ بزمام المبادرة :

أسدل الليل بظلامه على قصر الامارة ومسجد الكوفة ، وخفتت الأصوات ، وخيم السكون المرعب على المكان، وانفرط ذلك الجمع الكبير الذي أحاط بالقصر وملأ باحات المسجد، وبشكل مذهل لا يصدقه أحد، بل حتى ابن زیاد نفسه لم يكن يصدق أن الناس تفرقوا عن مسلم بهذه السرعة، يقول الطبري : « ولما طال على ابن زیاد، وأخذ لا يسمع لأصحاب ابن عقیل صوتاً کما کان يسمعه قبل ذلك قال لأصحابه : أشرفوا فانظروا هَل ترون منهم أحداً ! فأشرفوا فلم يروا أحداً».

وبقي ابن زیاد لا يصدق الأمر مع أن اصحابه يخبرونه أنهم لا يرون أحداً ، وطلب منهم مرة أُخرى استجلاء الأمر إذ لعلها مكيدة وكمين نصبوه ولهذا قال لهم : «اشرفوا فانظروا لعلَّهم تحت الظلال قد کَمَنوا لكم ، فَفَرعوا - نزعوا - بحابح المسجد ، وجعلوا يخفضون شُعَلَ النار في أيديهم، ثم ينظرون هل في الظلال أحد؟ ... فدلّوا القناديل وانصاف الطّٙنان تُشَدّ بالحبال ثم تجعل فيها النيران، ثمّ تُدَلَّی، حتى تنتهي إلى الأرض ، ففعلوا ذلك في أقصى الظلال وأدناها وأوسطها حتى فعلوا ذلك بالظُّلة التي فيها المنبر ، فلما لم يروا شيئاً أَعلموا ابن زیاد ، ففتح باب السُّدة التي في المسجد»(1).

مكيدة رايات الأمان :

كان هدف ابن زیاد -كما أسلفنا سابقاً - ليس فقط إحكام السيطرة على الكوفة وأهلها ، وإنما تحویل ولاء تلك الجموع المبايعة لمسلم بن عقیل رضی الله عنه

ص: 282


1- المصدر نفسه : 5 / 372 وانظر الارشاد للمفيد : 2/ 56

إلى جبهة مناهضة لحركته ومحاربة له، ولهذا يتحدث المؤرخون عن رايات الأمان التي رفعها محمد بن الأشعث ليلتحق بها الناس من يريد أن يبرئ ساحته من حركة مسلم بن عقيل، ثم ليتحولوا في اليوم الثاني إلى محاربين له، ومتفرجين على قتله.

يقول الشيخ القرشي : وأوعز الطاغية إلى محمد بن الأشعث أن يرفع راية الأمان، ويعلن إلى الملأ أن من انضم إليها كان آمناً، ولعل أسباب ذلك ما يلي :

١ - التعرف على العناصر الموالية لمسلم لإلقاء القبض عليها. 2 - إعلان الانتصار والقضاء على الثورة. 3 - شل حركة المقاومة، وإظهار سيطرة الدولة على جميع الأوضاع في البلاد.

ورفعت راية الأمان، فسارع الكوفيون الذين كانوا مع مسلم إلى الانضمام إليها لنفي التهمة وإظهار اخلاصهم للحكم القائم آنذاك (1).

إعلان براءة الذمة :

نعود لرواية الطبري، إذ يقول : ثم خرج - أي ابن زیاد - فصعد المنبر، وخرج أصحابه معه فأمرهم فجلسوا حوله ... وأمر عمرو بن نافع فنادى : ألا برئت الذمّة من رجلٍ من الشّرطة والعرفاء أو المناكب أو المقاتلة صلّى العتمة إلّا في المسجد ، فلم يكن له إلّا ساعة حتى امتلأ المسجد من الناس، ثم أمر منادیه فأقام الصلاة ، فقال : الحصين بن تميم : إن شئت صليت بالناس، أو يصلّي بهم غيرك ، ودخلت أنت فصلّيت في القصر، فإني لا آمن أن يغتالك بعض أعدائك ، فقال : مُر حرسي فليقوموا ورائي كما كانوا يقفون، ودُر فيهم فإني لستُ بداخل إذاً.

ص: 283


1- حياة الإمام الحسين : 2/ 390. وانظر الارشاد للشيخ المفيد : 2/ 52 - 53

فصلّى بالناس، ثم قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد، فإنّ ابن عقيل ... قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق ، فبرئت ذمّة الله من رجل وجدناه في داره، ومن جاء به فله ديته ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً(1) .

وفي رواية ابن أعثم في الفتوح : ومن أتاني بمسلم بن عقيل فله عشرة آلاف درهم، والمنزلة الرفيعة من يزيد بن معاوية ، وله في كل يوم حاجة مقضية(2).

ثمّ صاح بقائد الشرطة الحصين بن نمير : یا حصین بن تميم، ثكلتك أُمّك إن صاح باب سكةٍ من سكك الكوفة ، أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به ، وقد سلّطتك على دور أهل الكوفة ، فابعث مراصدة على أفواه السكك ، وأصبح غداً واستبر الدُّور وجس خلالها حتى تأتيني بهذا الرجل (3).

وبالتأمل في هذا النص تتضح لنا جملة من الأُمور منها:

أولاً : ينكشف لنا من خلال تصرفات وكلمات ابن زیاد درجة الرعب والخوف الذي استبد به إلى درجة أنه لم يطمأن إلى من يخبره بعدم وجود أحد في المسجد ويطلب منهم استطلاع الأمر من عالي القصر وبالطرق المناسبة ، وهذا بخلاف الحملة الأُولى التي قاد فيها عمرو بن الحجاج عشيرة مذحج ، إذ وجدنا ابن زیاد على درجة عالية من ضبط النفس والاطمئنان وعدم الارتباك أو الخوف والوجل، مما يعني اطمأنانه للنتائج في الحملة الأُولى ، وخوفه الشديد في الحملة الثانية .

ص: 284


1- الطبري : 5 / 372
2- الفتوح لابن أعثم : 5 / 90
3- الطبري : 5/ 373، والارشاد للشيخ المفيد : 2/ 56 - 57

ثانياً : ومما يسجل لابن زياد في هذه الواقعة بعد خروجه سالماً منها معرفته الدقيقة بمكامن الخلل والضعف في المجتمع الكوفي ويظهر ذلك من خلال أخذه بزمام المبادرة وحضوره الفوري إلى المسجد وانتظاره تجمع الناس بعد أن كان المسجد خالياً ، مما يستدعي الانتظار الطويل ، كذلك عدم إصغائه لتحذيرات الحصين بن التميم الأمنية، وكذلك من خلال تظاهره بالقوة والمقدرة وانه المحقّ وصاحب الحق السياسي والشرعي لأنه يستمد سلطته من خلال السلطة الشرعية في الشام.

ثالثاً : لغة الخطاب التي استخدمها ابن زیاد في خطبته لغة شديدة فيها من الوعيد والترهيب الشيء الكثير، فهو يعلن البراءة من يأوي مسلماً ، ويضع جائزة أو ثلاث جوائز مترادفة لمن يأتي به، مما يدفع الشرطة والعرفاء وأهل الاطماع والمتهالكون على الدنيا إلى الاندفاع بجنونية للبحث عن مسلم بن عقیل وتسليمه للسلطة واستلام الجائزة أو الجوائز الموعودة.

رابعاً : أخذ الاحتياطات اللازمة لمنع تسلل وخروج مسلم بن عقيل من الكوفة، فهو يتوعد قائد الشرطة ويأمره بشدة بأن يضع المراصد على أفواه السكك، ويجيز له السطو على الناس والتسلط على دورهم وإباحة حرمتها الشرطة السلطان وجلاوزته ومخبریه، ضارباً بذلك عرض الحائط كل مقررات الاسلام في الأخلاق والصيانة لمال المسلم وعرضه وأمنه .

خامساً : مما يدعو إلى الدهشة والحيرة والذهول في قضية مسلم بن عقیل هو ذلك الانهيار المدوي للمجتمع الكوفي، وذلك الانقلاب العجيب، وسعة رقعة التخاذل ، حيث تَمَكَّنَ ابن زیاد من الامساك بزمام الاُمور بفترة قياسية جداً في عمر الزمن لا تتجاوز الأسابيع، ولم يستعن بأي قوة من خارج الكوفة لمواجهة المستجدات والأحداث!

ص: 285

وهكذا سيتولى الكوفيون أنفسهم البحث عن مسلم، ومحاربته، واعتقاله ، ويستأثرون وحدهم باستحقاق لعنة التفرج على قتله وقتل الشهيد هانيء، وجرهما في الأسواق، ثم لا يشكل ذلك إلّا البداية الكوفية على طريق حمل رأس سید الشهداء، ورؤوس الشهداء وسبي حرم رسول الله إلى الكوفة(1).

غربة مسلم بن عقیل

انطلق مسلم بن عقيل رضی الله عنه- بعد أن تفرق عنه أصحابه - في أزقة الكوفة وسککها وحيداً لا يجد من يدله على الطريق ولا من يأويه ، ولا من يدفع عنه .

وكان مسلم رضی الله عنه غريباً عن الكوفة مع سعة المدينة في ذلك الزمن وكثرة فروعها

وأزقتها.

يقول الطبري : فمضى على وجهه يتلدّد في أزقّة الكوفة لا يدري أين يذهب ، حتى خرج إلى دور بني جَبَلة من كندة ، فمشى حتى انتهى إلى باب امرأة يقال لها طوعة ... فسلّم عليها ابن عقیل ، فردّت عليه ، فقال لها : يا أَمة الله ، إسقيني ماءً، فدخلت فسقته ، فجلس وأدخلت الإناء، ثم خرجت فقالت : ياعبد الله ألم تشرب الماء ؟ قال : بلى، قالت : فاذهب إلى أهلك، فسكت، ثم عادت فقالت مثل ذلك ، فسكت، ثم قالت له : فيّ الله(2) ، سبحان الله يا عبد الله ! فمرّ إلى أهلك عافاك الله ، فإنه لا يصلح لك الجلوس على بابي، ولا أُحلّه لك، فقام فقال : يا أَمة الله ، مالي في هذا المصدر منزل ولا عشيرة ، فهل لك إلى أجر أو معروف ، ولعلي مكافئك به بعد اليوم.

ص: 286


1- کوراني : في محراب كربلا: 236
2- أي إتق الله فيّ

فقالت: يا عبد الله ، وما ذاك ؟ قال أنا مسلم بن عقيل ، كذبني هؤلاء القوم و غرّوني.

قالت : أنت مسلم؟ قال : نعم، قالت : أُدخل، فأدخلته بيتاً في دارها غير البيت الذي تكون فيه ، وفرشت له، وعرضت عليه العشاء فلم يتعشّ(1).

وقبل أن نكمل هذا النص لابد لنا من وقفة قصيرة عند موقف هذه المرأة الجليلة : «طوعة»، فلقد سجل لها التاريخ هذا الموقف الشجاع الإيماني الإنساني في إيواء مسلم و حُسن ضيافته في وقت حرج أحجم فيه الجميع عن ذلك ، ولم تكن دوافعها مصلحة شخصية أو مادية ، وإنما كان دافعها المنطلقات الإيمانية والعقائدية والإنسانية ، وقد حازت بذلك الشرف والمجد والثناء الجزيل.

ومع الأسف الشديد لا تسعفنا النصوص التاريخية بتفاصيل مصير هذه المرأة وما جرى عليها بعد اعتقال مسلم بن عقيل رضی الله عنه ، هل استشهدت ؟ هل سجنت ؟ هل هدم دارها؟ هل نفيت ؟ الله أعلم.

الوشاية بمسلم بن عقيل

على أي حال، كان لهذه المرأة الجليلة «طوعة» ولد يدعی بلال ، قد خرج مع الناس وكانت أُمه تنتظره، وفي رواية الطبري : قال بعضهم : كان يشرب مع أصحاب له(2).

وفجأة ظَهَرَ هذا الولد المشوم بلال واطلع على وجود مسلم بن عقيل في دارهم.

يقول الطبري : ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها فرآها تكثر الدخول في البيت والخروج منه، فقال : والله إنه ليربيني كثرة دخولك هذا البيت منذ الليلة

ص: 287


1- الطبري : 5/ 371 وما بعدها
2- المصدر نفسه : 5 / 372

وخروجك منه، إن لك لشأناً، قالت : بني ، إِل۟هُ عن هذا ، قال لها : والله لتخبرينُي ، قالت : أقبل على شأنك ولا تسألني عن شيء، فألح عليها ، فقالت: يا بنيّ، لا تحدّثن أحداً من الناس بما أخبرك به ، وأخذت عليه الأیمان ، فحلف لها ، فأخبرته فاضطجع وسكت(1).

وأصبح ابن تلك العجوز وهو بلال بن أُسيد الذي آوت أُمه ابن عقيل ، فغدا إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فأخبره بمكان ابن عقيل عند أُمه، فأقبل عبد الرحمن حتى أتى أباه وهو عند ابن زیاد، فسارّه، فقال له ابن زیاد : ما قال لك ؟ قال : أخبرني أنّ ابن عقيل في دار من دورنا، فنخس بالقضيب في جَنبه ثم قال : قُم فأتني به الساعة(2).

الذي يبدو أن بلالاً هذا - الذي يصفه الطبري بأنه كان شريداً من الناس ... وأنه كان يشرب مع أصحابه(3) - قد أمضي ليلته تلك جزلاً مسروراً تحدثه نفسه بما سيظفر به غداً من جوائز ، متجاوزاً العهد والميثاق مع الله ومع أُمه(4).

وهكذا سَخَّرَ ابن زياد العملاء والمخبرين وبشكل واسع لم يقتصر على مولاه « مَعقل» الذي دلّ على مكان مسلم في دار هانيء، ولا على «بلال» - الشريد - الذي دل على مأوی مسلم بن عقيل في دارهم.

ولا يفوتنا أن نشير إلى الطريقة الاذلالية التي تعامل بها الطاغية ابن زیاد مع من كان يصفه قبل قليل بقوله : مرحباً بمن لا يستغشّ ولا يُتّهم(5) وهو محمد بن

ص: 288


1- الطبري : 5/ 372 - 373
2- الطبري : 5/ 372 - 373
3- المصدر نفسه : 5 / 372
4- مبعوث الحسين : 199
5- الطبری : 373/5

الأشعث، الذي يُضرب به وبأسرة آل الأشعث المثل في الغدر والدناءة ، فهو مجرد دمية متحركة بيد الطاغوت، يحركها كيف يشاء، ولهذا تقول الرواية «فنخسه بالقضيب في جنبه».

هكذا يُسَّخِر الطغاة والفراعنة هؤلاء الحثالة لتنفيذ أغراضهم والوصول إلى مآربهم مستخفين بشخصياتهم الهزيلة المتهالكة على الدنيا وحطامها ، كما كان فرعون يتعامل مع قومه، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(1).

الهجوم على مسلم بن عقيل و أَس۟رِهِ:

أمضى مسلم بن عقيل رضی الله عنه آخر ليلة من حياته الشريفة في هذه الدنيا التي غدر أهلها به، في بيت الأَمة الصالحة «طوعة» وهو مستغرق بحالات روحية متواصلة، منشغلاً بالعبادة والصلاة ومنهمكاً بين قيام وقعود ورکوع و سجود ، منتظراً فجر يوم جديد يسفر عما يخبىء الدهر فيه. وعند قرب طلوع الفجر غفا

إغفاءة قصيرة، ليري في عالم الرؤيا عمّه الإمام علياً (علیه السلام)، فأخبره بسرعة اللحاق به، فأيقن عند ذلك بدنوّ الأجل المحتوم منه(2).

وعند الصباح أسرعت الخيال والرجال الذين بعثهم ابن زیاد بقيادة محمد بن الأشعث إلى دار طوعة، حتى أتوا الدار التي فيها ابن عقیل، فلما سمع وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال عرف أنه قد أُتي، فخرج عليهم بسيفه ، واقتحموا عليه الدار، فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه ، فشدّ عليهم كذلك، فاختلف هو وبُكير ابن حمران الأحمري ضربتين ، فَضَرَبَ بكير فَمَ مُسلم فقطع شفته العُليا، وأسرع السيفُ في السّفلى، وفَصلت لها ثنیّتاه، فضربه مسلم ضربة في رأسه منكرة، وثنّى بأُخرى على حبل العاتق ...

ص: 289


1- الزخرف: 56
2- مبعوث الحسين : 200

فلما رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق ظهر البيوت، فأخذوا يرمونه بالحجارة ، ويلهبون النار في أطناب القصب ، ثمّ يقلبونها عليه من فوق البيت ، فلما رأى ذلك خرج عليهم مصلتاً بسيفه في السكة فقاتلهم، فأقبل عليه محمد بن الأشعث فقال : یا فتى، لك الأمان، لا تقتل نفسك ، فأقبل يقاتلهم وهو يقول :

أَق۟سَم۟تُ لا أُق۟تَلُ إلّا حُرَّا

وإن۟ رأيتُ المَو۟تَ شَي۟ئاً نُک۟را

كلّ إِمریءٍ يَو۟ماً مُلاقٍ شَرَّا

وَيُخ۟لِط البَارِدَ سُخ۟ناً مُرَّا

رُد شُعاعُ الشَّم۟سِ فاس۟تَقرا

أَخَافُ أَن۟ أُك۟ذَبَ أو أُغَرا

فقال له محمد بن الأشعث : إنك لا تكذب ولا تخدع ولا تُغرّ، إنّ القوم بنو عمّك ، وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك، وقد أُثخن بالحجارة، وعجز عن القتال ، فأسند ظهره إلى جنب تلك الدار ، فدنا محمد بن الأشعث فقال : لك الأمان ، فقال : آمن أنا ؟ قال : نعم، وقال القوم : أنت آمن، غير عمرو بن عبيد بن العباس السلمي فإنه قال : لا ناقة لي في هذا ولا جَمل و تنحي.

وقال ابن عقیل : أما لو لم تؤمّنوني ما وضعت يدي في أيديكم.

وأُتي ببغلة فحمل عليها، واجتمعوا حوله، وانتزعوا سيفه من عُنقه ، فكأنه عند ذلك آيس من نفسه ، فدمعت عيناه ، ثم قال : هذا أوّل الغدر، قال محمد بن الأشعث : أرجو ألّا يكون عليك بأس ، قال : ما هو إلّا الرّجاء ، أين أمانكم ؟ إنا لله وإنا إليه راجعون ، وبکی ، فقال له عمرو بن عبيد الله بن عباس السلمي : إنّ من يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل بهِ مثلُ الذي نزل بك لم يَبك.

قال : إنّي والله ما لنفسي أبكي، ولا لها من القتل أرثي، وإن كنت لم أُحبّ لها طرفة عين تلفاً، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إليّ، أبكي لحسين وآل حسين(1).

ص: 290


1- الطبري : 5/ 373 - 374، والإرشاد للشيخ المفيد : 2/ 57 - 58 ، والطبرسي : إعلام الوری : 443/1

وقبل ان ننتقل إلى الشطر الآخر من الرواية لابد لنا من تسجيل بعض الملاحظات والتأملات :

أولاً : أجمعت الروايات التاريخية(1) على ذكر المواجهة المسلحة العنيفة التي خاضها مسلم بن عقیل ضد المهاجمين إلّا أنها تختلف في التفاصيل والجزئيات ومدة المواجهة وطريقة الأسر وغيرها من الأُمور فمن المسلم به تاريخياً حصول هذه المواجهة القتالية واتساع رقعتها من البيت إلى سكك وازقة الكوفة ، وعجز المهاجمين من المواجهة حتى اضطروا إلى اللجوء إلى الرمي بالحجارة واشعال النار.

ثانياً : الملفت في شخصية الشهيد القائد مسلم بن عقیل، مظهر الصلابة والشجاعة والقوة، فلم يهن ولم يضعف، ولم ينكل، وهو ما يكشف عن أنه عندما غادر المسجد كان « ينحاز إلى فئة » ولم يفر من الزحف رغم أن كل الزحف قد فرّ عنه وتلاشى، ولما لم يجد من « الفئة » عيناً ولا أثراً كان هو الفئة والجيش.

«وخرج إليهم مصلتاً سيفه وقد اقتحموا عليه الدار فأخرجهم منها ثم عادوا إليه وأخرجهم وهو يقول :

هُوَ المَو۟تَ فَأص۟نَع وَی۟کَ مَا أَن۟تَ صَانِعُ

فَأَنتَ بِكأسِ المَوتِ لابُدَّ جَارعُ

فَصَبَراً لأَمرِ اللهِ جَلَّ جَلالُهُ

فَحكُم قَضاءِ اللهِ في الخَل۟قِ ذایُع(2)

ص: 291


1- للتوسع انظر : البلاذري، أنساب الأشراف: 81، وابن نما، مثير الأحزان : 24، وابن كثير ، البداية والنهاية : 167/8 ، وأبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين : 69، والمسعودي ، مروج الذهب : 3/ 58 - 59
2- کوراني، في محراب كربلا: 263 بتصرف

ثالثاً : ويلاحظ هنا سمو الحالة النفسية للشهید مسلم، فرغم الظروف الصعبة التي كان يواجهها إلّا أنها لم تنل من عزيمته ورباطة جأشه ، فبقي متماسكاً رغم أنه تداکت عليه المشاكل والصعاب(1).

رابعاً : نزل بمسلم رضی الله عنه من غدر الكوفيين ما لو نزل بالجبال لهدّها، ومع ذلك ، فهو لا يعطي الأولوية للتفكير بنفسه رغم أنه يحق له أن يفكر بها، وإنما يعطي ذلك لما هو أعز من نفسه ، ويصرف كل همه إلى التفكير بالحسين ، و آل الحسين «أبكي لأهلى المقبلين ، أبكي لحسين وآل الحسين» من هنا كان بكاؤه ، فهو بكاء القوي ، الذي تفيض دموعه من خزين الحب، شوقاً إلى المحبوب(2).

مسلم بن عقيل في مواجهة أعوان الطاغية:

انتهى بمسلم بن عقيل أسيراً إلى قصر الامارة ، وازدحمت شوارع وأزقة الكوفة بالجماهير الحاشدة حول قصر الإمارة لتنظر ما يؤول إليه أمر القائد العظيم، وقد خيم على الجميع سكوت الذل والخنوع، فلم ينبس أحد منهم بكلمة، حتى ولو كانت على مستوى المجاملة الكاذبة.

يروي الطبري : « أن مسلم بن عقيل حين انتهى إلى باب القصر فإذا قلّة باردة موضوعة على الباب ، فقال ابن عقیل : اسقوني من هذا الماء، فقال له مسلم بن عمرو : أتراها ما أبردها ، لا والله لا تذوق منها قطرة أبداً حتى تذوق الحميم في نار جهنّم !! فقال له ابن عقیل : ويحك من أنت ؟ قال : أنا من عرف الحقّ إذ أنكرته ، ونصح لإمامهِ إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته و خالفت، أنا مسلم بن عمرو الباهلي.

ص: 292


1- المصدر نفسه
2- المصدر نفسه : 268 - 269، بتصرف

قال له ابن عقيل : لأُمّك الثكل، ما أجفاك ، وما أفظّك ، وأقسى قلبك وأغلظك ، أنت یابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم مني»(1).

والذي نلاحظ في هذا الحوار القصير الساخن، عمق السقوط والتردي الأخلاقي عند هؤلاء الأذناب الذي سخروا أنفسهم لخدمة الطاغوت فتحولوا إلى مسخ متنكرين لأبسط القيم الإنسانية ، هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى يدل هذا النص الحواري على انقلاب قيم الحق والنصح والسمع والطاعة عند هؤلاء الذين يمثلهم هذا النموذج الباهلي ، فأين وجه الحق الذي يمثله ابن زیاد؟ ومن أين استمد یزید بن معاوية شرعيته حتى يكون إماماً مفترض الطاعة؟

دخول مسلم على ابن زیاد :

كان يمكن لابن زیاد أن يأمر بقتل مسلم بن عقیل رضی الله عنه من دون أن يواجهه، إلّا أنه لم يفعل ذلك ولم يأمر محمد بن الأشعث بقتله وإنما قال له - بعد أن نخسه بالقضيب - قم وإتني به، ولم يكن ذلك حرصاً منه على سلامة ابن عقيل ، وإنما كان يريد أن يشبع غروره وغطرسته وطغيانه ، وأن يظهر أمام الملأ بمظهر من مظاهر الزهوّ والخيلاء والغرور الكاذب، وفعلاً أُدخل مسلم إلى مجلس عبيد الله ابن زیاد، وجرى بينهما حوار عاصف اهتم بنقله جملة من المؤرخين ، وهو حوار له أهميته ، ننقل طرفاً منه حسب رواية الطبري والمفيد واللفظ للأول : قال : وأُدخل مسلم على ابن زیاد فلم يسلّم عليه بالإمرة، فقال له الحرسي : ألا تسلّم على الأمير ؟ فقال له : إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه ، وإن كان لا يريد قتلي فلعمري ليكثرنّ سلامي عليه(2)!

ص: 293


1- الطبري : 5/ 376 وما بعدها
2- من البعيد جداً أن يصدر من مسلم بن عقيل هذا التعليل لعدم سلامه على الطاغية ابن زیاد لأنه أشبه بالاستعطاف ثم ان سياق الحوار الحاد جداً ينفي هذا اللون من استجداء العطف ولهذا لم يُذكر هذا التعليل في المصادر الأُخرى. انظر : السيد ابن طاووس، اللهوف : 35 - 36، والخوارزمي ، مقتل الحسين : 304، وابن أعثم الفتوح : 55/5

فقال له ابن زیاد : لعمري لتقتلنّ.

قال مسلم : فدعني أوصي إلى بعض قومي، فنظر إلى جلساء عبيد الله وفيهم عمر بن سعد، فقال : يا عمر، إنّ بيني وبينك قرابة ، ولي إليك حاجة، وقد يجب عليك نجح حاجتي، وهو سرّ ، فأبى أن يمكنّه من ذكرها، فقال له عبيد الله : لا تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمّك ، فقام معه فجلس حيث ينظر إليه ابن زیاد.

فقال له : إنّ علىّ بالكوفة ديناً استدنته مذ قدمت الكوفة، سبعمائة درهم، فاقضها عني ، وانظر جُثتي فاستوهبها من ابن زیاد، فوارها ، وابعث إلى الحسين من يردّه، فإني قد كتبت إليه أُعلمه أن الناس معه، ولا أراه إلّا مقبلاً.

فقال عمر لابن زیاد : أتدري ما قال لي ؟ إنه ذكر كذا وكذا. فقال له ابن زیاد : إنه لا يخونكَ الأمينُ، ولكن قد يُؤ۟تَمنُ الخَائن .

أمّا مالك فهو لك، ولسنا نمنعك أن تصنع فيه ما أحببت ، وأما حسين فإنه إن لم يردنا لم نرده ، وإن أرادنا لم نكفّ عنه، وأما جُثّته فإنا لن نشفّعك فيها، إنه ليس بأهل منّا لذلك ، قد جاهدنا وخالفنا، وجهد على هلاكنا(1).

وقبل أن نذكر ما بقي من النص لابد لنا من وقفة قصيرة للتأمل :

أولاً : وصية الشهيد مسلم بن عقیل رضی الله عنه لعمر بن سعد، يطرح تساؤلاً كبيراً عن مغزى الإيصاء إلى هذا الشخص مع ما هو معروف عنه من عداءٍ سافر لأهل البيت(علیهم السلام)، وسيرته السابقة على وقائع أحداث الكوفة ، واللاحقة لها، وأحداث کربلاء شواهد حية على خسة ودنس معدن هذا الرجل، فما معنى أن يوصى إليه الشهيد مسلم رضی الله عنه بوصاياه ؟

ص: 294


1- الطبري : 5/ 376 - 377

ويمكن الإجابة عن هذا التساؤل بوجوه :

1 - إن أصل هذه الوصية مشكوك في أمرها، حيث لم يذكرها جملة من المؤرخين ، من أمثال ابن طاووس ، والمسعودي ، وابن شهر آشوب(1).

إلّا أن استفاضة ذكر الوصية في أكثر المصادر وخاصة عند الطبري ، والمفيد ، وابن أعثم، والدينوري، والبلاذري(2)، قد يزيل هذا التشكيك .

2 - إن مسلم رضی الله عنه قد اضطر إلى ذلك لأنه لم يجد في مجلس عبيد الله بن زیاد ، من قومه أو عشيرته أو من يمت إليه بصلة قرابة ولو من بعيد، غير عمر بن سعد والنصوص التاريخية تشير إلى هذا المعنى.

في الاخبار الطوال : .... فليس في القوم أقرب إلىّ ولا أولى بي منك.

وفي أنساب الأشراف : ... إن بيني وبينك قرابة أنت تعلمها، فقم معي حتى أوصي إليك.

وفي تاريخ الطبري والإرشاد : یا عمر إن بيني وبينك قرابة ولي إليك حاجة وقديجب عليك نجح حاجتي.

وفي الفتوح : إن بيني وبينك قرابة فاسمع مني(3) .

فهذه النصوص التاريخية تؤكد على أن مسلماً رضی الله عنه إنما أوصى إلى هذا الرجل لأنه لم يجد من قرابته من يوصي إليه في ذلك المجلس.

ص: 295


1- اللهوف : 35 - 36، المسعودي، مروج الذهب : 3/ 59، المناقب لابن شهر آشوب : 3 / 244 - 245
2- الطبري : 5/ 376 - 377، المفيد في الارشاد : 61/2 - 62، الفتوح لابن اعثم : 5/ 55، الدينوري، الأخبار الطوال : 240 - 241، البلاذری، أنساب الاشراف : 82 - 83
3- انظر المصادر السابقة

٣ - إن مسلم بن عقیل رضی الله عنه لم تخف عليه نفسية عمر بن سعد، ولم يجهل دنس أصله ولكنه أراد أن يُعَرّٙف الكوفيين مبلغه من المروءة والحفاظ كي لايغتر به أحد(1). وكأن مشيئة الله تعالى قضت أن يوصي الشهید مسلم رضی الله عنه إلى هذا الوضيع الجافي ، لتعرف الأجيال طبيعة قتلة سيد الشهداء، وخبث معدنهم.

والغريب أن ابن زیاد رغم تشوهه النفسي والأخلاقي، لم يتحمل إسفاف ابن سعد، فاستشهد بالمثل : «لا يخونك الأمين ، ولكن قد يؤتمن الخائن (2).

ثانياً : وهنالك سر آخر - في الوصية - وهو إرشاد الملأ الكوفي إلى أن أهل البيت(علیهم السلام) وولاتهم لم يقصدوا إلّا الإصلاح ونشر الدعوة الإلهية ، وهذا الوالي من قبلهم لم يمد يده إلى بيت المال وكان له أن يتصرف فيه كيف شاء غير أنه قضى أيامه البالغة أربعة وستين بالاستدانة، وهكذا ينبغي أن تسير الولاة فلا يتخذون مال الفقراء مغنماً (3).

وهو ما ينبغي أن يحظى باهتمام كل مجاهد في سبيل الله تعالى يحرص على سلامة مساره الجهادي من فتك شيطان المال.

ثالثاً : أهمية وفاء الدین کجزءٍ من حق الناس ، فها هو الشهيد مسلم على أبواب شهادته يحمل هذا الهم، الأمر الذي يلفتنا إلى موقع متميز لأداء الدين ، يتساوى فيه الشهيد و غيره(4).

ص: 296


1- المقرم، مقتل الحسين : 162 الهامش
2- کوراني : في محراب كربلا: 294. وهذه الجملة التي هي كالمثل وردت في لسان أهل البيت(علیهم السلام)، ففي الوسائل للحر العاملي : 2/ 643 باب 9 عدم جواز ائتمان الخائن، روی الكليني عن معمر بن خلاد قال سمعت أبا الحسن (علیه السلام)يقول : كان أبو جعفر (علیه السلام)يقول : «لم يخنك الأمين ولكن ائتمنت الخائن». انظر المقرم: هامش : 162
3- المصدر نفسه : 162
4- کورانی: 295
عودة إلى نص الحوار :

يقول الطبري : ثم إنّ ابن زیاد قال : إيه يابن عقيل ، أتيت الناس وأمرهم جمع ،

وكلمتهم واحدة ، لتشتّتهم، و تفرّق كلمتهم، وتحمل بعضهم على بعض !

قال : كلّا لست أتيت ، ولكنّ أهل المصير زعموا أنّ أباك قتل خيارهم، وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال کسری و قیصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب.

فقال له ابن زیاد : ... إنّ نفسك تمنّيك ما حال الله دونه ، ولم يرك أهله .

قال : فمن أهله يابن زیاد؟ قال : أمير المؤمنین یزید؟

فقال : الحمد لله على كلّ حال، رضينا بالله حَكماً بيننا وبينكم.

قال : كأنك تظنّ أنّ لكم في الأمر شيئاً ؟ قال : والله ما هو بالظن ، ولكنه اليقين. قال : قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام !

قال : أما إنك أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه، أما إنك لا تدع سوء القتلة ، وقبح المثلة، وخبث السيرة، ولؤم الغلبة، ولا أحد من الناس أحقّ بها منك.

قال الطبري : وأقبل ابن سمية يشتمه ویشتم حسيناً وعلياً وعقيلاً، وأخذ مسلم لا يكلّمه(1).

وقبل أن نتقل إلى الشطر الأخير من هذا النص والذي يحكی مظلومية شهادة سفير الحسين (علیه السلام) مسلم بن عقيل لابد لنا من وقفة قصيرة، وبعض التأملات الوجيزة :

ص: 297


1- الطبري : 5/ 373 - 374، والإرشاد للمفيد: 61/2 - 63. (بتلخیص)

أولاً : لنستحضر الحالة الجسدية التي دخل معها مسلم بن عقیل رضی الله عنه إلى مجلس عبيد الله بن زياد فهو قد أعياه نزف الدم، ويعاني الآلام الشديدة من الجراحات الكثيرة التي أصابته ، وسقطت بعض أسنانه وقطعت شفته العليا بضربة بكير بن حمران ، بالاضافة إلى أنه لم يتمكن من شرب الماء إلى حين دخول المجلس ... مع هذا كلّه نلاحظ في النص الثبات والصلابة والقوة، ولو كان غيره لأنهار و توسل وطلب الاسترحام والعطف ، ولكنه مسلم بن عقيل، وسمو روحه.

ثانياً : إن هذا الحوار العاصف بين الطاغة ابن زیاد، ومسلم بن عقيل رضی الله عنه كان أشبه بمحاكمة غير علنية لم يحضرها جمهور الناس، وإنما حضرها أركان النظام الأموي وأعوانه والمتملّقون والمتزلّفون له، مِن أمثال ، عمر بن سعد، ومحمد بن الأشعث، وعمرو بن حریث، وعمارة بن عقبة، وأمثالهم. وكان فيها المدعي والحاكم وجهة تنفيذ الحكم هو الطاغية ابن زیاد نفسه، إلّا أنها في الواقع تحولت إلى محاكمة الشهيد مسلم للطاغية ، والنظام الأموي، حيث وقف مسلم رضی الله عنه لیکشف جرائم بني أُمية بحق المسلمين ، وأنهم اغتصبوا الخلافة من دون حق وهم ليسوا بأهل لها ، وإنما الخلافة حق لأهل البيت يقيناً.

ثالثاً : لم يجد الطاغية ابن زیاد ملجأ للرد على مسلم رضی الله عنه فلجأ إلى سلاح العاجز الشتيمة والكليات النابية القبيحة، وإلى الكذب والافتراء، لعله بذلك يحفظ شيئاً من هيبة سلطانه التي سحقها مسلم رضی الله عنه بهجومه المدوي وكلماته التي كانت أمض من السنان، متسامياً على التوهين ، ومترفعاً عن اسلوب الشتيمة والكلمات النابية.

شهادة مسلم بن عقیل رضی الله عنه:

لم يجد ابن زیاد قدرة على الردّ أو النقاش حول تلك المسلّمات البيّنة التي انطلقت على لسان مسلم بن عقیل، حينها أعلن ابن زیاد حكمه التعسفي الظالم بإعدام مسلم ابن عقيل بطريقة تكشف عن مكنون حقده و انتقامه من أهل البيت وذريتهم .

ص: 298

وعودة إلى الشطر الأخير من رواية الطبري تبين لنا كيفية استشهاد هذا البطل المجاهد.

يقول الطبری :

قال - ابن زیاد -: قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يُقتلها أحد في الإسلام !

... ثم قال : أصعدوا به فوق القصير فاضربوا عنقه ، ثم أتبعوا جسده رأسه .

فقال - مسلم - : یابن الأشعث، أما والله لولا أنك آمنتني ما استسلمت، قم بسيفك دوني فقد أُخفرت ذمتك ...

ثم قال ابن زیاد : أين هذا الذي ضرب ابن عقيل رأسهَ بالسيف وعاتقه؟

فدعي.

فقال : اصعد فكن أنت الذي تضرب عنقه.

فصعد به وهو يكبّر الله ويستغفر ويصلّي على ملائكة الله ورسله وهو يقول : اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذبونا وأذلونا. وأشرف به على موضع الجزّارين اليوم، فضربت عنقه، وأتبع جسده رأسه.

قال أبو مخنف : نزل الأحمري بكير بن حمران الذي قتل مسلماً ، فقال له ابن زیاد، قتَلتَه ؟

قال : نعم، قال : فما كان يقول وأنتم تصعدون به؟ قال : كان يكبّٙر ويسبح ويستغفر ، فقلت له : ادنُ منّي ، الحمد لله الذي أقادني منك ، فضربته ضربة لم تغن شيئاً ، فقال : أما ترى في خدش تخدشنيه وفاء من دمك أيها العبد!

فقال ابن زیاد : أو فخرة عند الموت!

قال : ثمّ ضربته الثانية فقتلته(1).

ص: 299


1- الطبري : 5/ 277 - 278، والإرشاد : 61/2 - 63

وهكذا مضى مسلم بن عقيل رضی الله عنه إلى ربه شهیداً محتسباً غريباً، من أجل مبادئ الحق، ومن أجل العدالة الإنسانية التي تنكر لها بنو أُمية وولاتهم.

وقد انطوت بقتل مسلم صفحة مشرقة من أروع صفحات العقيدة والجهاد في الإسلام، فقد استشهد في سبيل العدالة الإجتماعية ، ومن أجل انقاذ الأُمة وتحريرها من الظلم والجور، وهو أول شهيد من الأُسرة النبوية يقتل علناً أمام المسلمين، ولم يقوموا بحمايته والذب عنه(1).

أو فخراً عند الموت :

لم تكن الشهادة والقتل في سبيل الله مفاجأة لمسلم بن عقیل رضی الله عنه فهو طالما رحب بهذه النهاية السعيدة من خلال كلمته التي أطلقها في مواجهته المسلحة مع أزلام النظام، أو من خلال مواجهته لعبيد الله بن زياد، ولو استعرضنا النصوص السابقة لوجدنا هذا اليقين بالنتيجة التي يتطلع إليها بشوق ولهفة شاخصة له ، ومتطلعاً إليها ومعتزاً بها.

• أقسمتُ لا أُقتل إلّا حراً.

• هو الموت فاصنع ويك ما أنت صانع.

• فصبراً لأمر الله جلّ جلاله .

• أتظن يا ابن الأشعث أنّي أعطي بيدي أبداً وأنا أقدر على القتال ؟ لا والله ما كان ذلك أبداً.

• إن قتلتني فقد قتل من هو شرٌّ منك من كان خيراً منّي.

• فأقض ما أنت قاض يا عدوّ الله .

ص: 300


1- القرشي : حياة الإمام الحسين : 2/ 408

• إنّك لا تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وخبث السريرة، ولؤم الغلبة .

• وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يد شرّ بريّته(1).

إن حكم الإعدام الصادر ضدّه ، لم يكن غريباً ولا مفاجئاً، بيد أن تنفيذه كان بكيفية انتقامية قاسية ، وهي بأن يلقوا بالضحية العظيم من أعلى القصير إلى الأرض، إشباعاً لغريزة الانتقام، وإرواءً لروح الحقد الدفين.

كما أن ایکال ابن زیاد تنفيذ العملية إلى أحد الجلاوزة الجرحى خلال اشتباكات الشوارع، يأتي إمعاناً بالتشفّي ومبالغة بالتنكيل(2).

كما أن حادثة استشهاد مسلم بن عقیل رضی الله عنه تدل من جهة أُخرى على تمرس قاتليه وعلى رأسهم ابن زیاد على عادة سفك الدماء وقتل الأبرياء والأتقياء والأحرار بشكل يومي من دون أن يشعروا بوخزة ضمير من هذه الجرائم البشعة .

يروي ابن أعثم : فأُصعد مسلم إلى أعلى القصير، وهو يسبح الله ويستغفره ... فتقدم ذلك الشامي وضرب عنقه، ثم نزل وهو مذعور مدهوش، فقال له ابن زیاد : ما شأنك أقتلته ؟ قال : نعم، إلّا أنه عرض عارض ، فأنا منه مرعوب !

قال : وما الذي عرض؟

قال : رأيت ساعة قتلته رجلاً بحذائي أسود شديد السواد کریه المنظر، عاضاً على إصبعه ... ففزعتُ منه فزعاً لم أفزع مثله قط !

فتبسم ابن زیاد وقال : دُهشت من شيء لم تعتده قبل ذلك(3) .

ص: 301


1- انظر : الطبري : 367/5 وما بعدها، والإرشاد للمفيد : 51/2 وما بعدها، وفتوح ابن اعثم : 5/ 85 وما بعدها
2- مبعوث الحسين : 222
3- الفتوح لابن اعثم : 5/ 59، والخوارزمي : مقتل الحسين : 306

فهذا النص يدل على أن ابن زیاد وصل إلى درجة من الاعتياد للجريمة إلى درجة لا يستغرب معها حدوث هذه الظاهرة المرافقة له دوماً في كل جريمة ، والملازمة لروحه في كل جناية دمويّة بشعة كان يقدم عليها.

« ففيما كان الله عزّ وجل يملي للظالمين ويهلهم كان ابن زیاد قد مرّ بعدة حالات نظير تلك الحالة ، بفعل تسليط الله الجبّار مخلوقلً بشع الشكل، رهيب الهيئة ، يسلب من النفس الشريرة توازنها واستقرارها، ويسلّط الله على المنتقم الضغط النفسي والروحي بشدّة تثير الرعب ليتعذّب في الدنيا إلى حين ، وقد يحدث هذا الإرهاب الإلهي للمجرمين في ليالي متعاقبة بعد الحرية»(1).

ولهذا تبسم ابن زیاد - وحق له أن يبكي - وقال : دُهشت من شيء لم تعتده قبل ذلك !!

وصدق الله العظيم إذ يقول : «وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ»(2).

هكذا بقي قاتل مسلم بن عقیل معذباً في الدنيا قبل الآخرة.

وهكذا مضى مسلم بن عقيل رضی الله عنه مضمخاً بدم الشهادة بعد أن قطع مراحل حياته وأدوار جهاده بالعزّ والإباء والتحدّي والفخر حتى عند الموت(3).

ص: 302


1- مبعوث الحسين : 223 - 224
2- السجدة : 21
3- المصدر نفسه : 225
شهادة هانيء بن عروة

بعد شهادة مسلم بن عقيل رضی الله عنه وبالطريقة المفجعة، أَصاب الناس فزع وخوف شديد، وأحكم ابن زیاد قبضته على الكوفة وأهلها ، إلّا أنه إمعاناً منه في إذلال الناس وسلب الأمن والأمان منهم، أخذ يصدر أحكامه التعسفية في المعتقلين في سجونه من المؤمنين والمجاهدين والموالين لأهل البيت (علیهم السلام).

وكان على رأس هؤلاء الصفوة وأكبرهم المجاهد هانيء بن عروة رضی الله عنه الذي اعتقل قبل استشهاد مسلم بن عقيل وحُجب عن الأحداث خلال هذه الفترة .

ولم تشفع لهانيء عند الطاغية ابن زیاد كبر سنّه الذي ناهز التسعين ، ولم تنجح محاولات محمد بن الأشعث الشكلية لانقاذ ماء وجهه ، الذي راح يتوسل بابن زیاد کي يثنيه عن قتله ، كذلك لم يعره أهمية لقبيلة مذحج وقوتها وعددها بعد أن آمن من خطرها و شوکتها بواسطة أزلامه من أمثال عمرو بن الحجاج، وكثير بن شهاب ، فأخذ ابن زیاد يمعن في إذلال هذه القبيلة وسلب فاعليتها ، فأصدر حكمه بإعدام هانيء بن عروة رضی الله عنه.

قال الطبري والشيخ المفيد، واللفظ للأول :

« وقام محمّد بن الأشعث إلى عبيد الله بن زیاد فكلّمه في هانيء بن عروة ،وقال : إنك قد عرفت منزلة هانيء بن عروة في المصر، وبَيته في العشيرة، وقد علم قومه أني وصاحبي سقناه إليك(1)، فأنشدك الله لمّا وهبته لي، فإنّي أكره عداوة قومه، هم أعزّ أهل المصير وعدَدُ أهل اليمن .

قال - الراوي - فوعده أن يفعل ، فلما كان من أمر مسلم بن عقيل ما كان ، بدا له فيه، وأبي أن يفي له بما قال، فأمر بهانيء بن عروة حين قُتل مسلم بن عقيل فقال :

ص: 303


1- صاحبه : أسماء بن خارجة

أخرجوه إلى السوق فاضربوا عنقه. فأُخرج بهانيء حتى انتهى إلى مكان من السوق كان يباع فيه الغنم وهو مكتوف ، فجعل يقول : وا مذحجاه ! ولا مذحجَ لي اليوم، وا مذحجاه ، وأين مني مذحج، فلما رأى أنّ أحداً لا ينصره جذب يده فانتزعها من الكتاف ، ثم قال : أما من عصاً أو سكّين أو حجر أو عظم يجاحش(1) به رجل عن نفسه.

قال : ووثبوا إليه فشدّوه وثاقاً ، ثم قيل له : امدد عنقك ، فقال : ما أنا بها مُجدٍ سخيّ، وما أنا بمعينكم على نفسي.

قال : فضربه مولى لعبيد الله بن زیاد - تركيّ يقال له رشید - بالسيف ، فلم يصنع سيفه شيئاً.

فقال هانيء : إلى الله المعاد، اللهم إلى رحمتك ورضوانك، ثم ضربه أُخرى فقتله»(2).

وفي رواية الفتوح:

فقال هانيء : « إلى الله المعاد والمنقلب ، اللهم إلى رحمتك ورضوانك، اللهم اجعل هذا اليوم كفارة لذنوبي ، فإني إنما غضبت لابن نبيك محمد(صلی الله علیه و اله)»(3) .

والذي يستوقفنا للتأمل في النص :

أولاً : جرأة الطاغية عبيد الله بن زیاد على الإقدام على خطوة في غاية الخطورة وهي قتل شیخ مذحج وزعيمها ، تدل على أنه اطمئن جيداً بأن مذحج و حلفاءها من القبائل قد شلت حركتهم، وأُخرست السنتهم واستسلموا لإرادة الطاغوت ورضوا بالذل والهوان، بعدما كانوا سابقاً «أعزّ أهل المصر، وعدد أهل اليمن» .

ص: 304


1- يجاحش : يدافع
2- الطبري : 5/ 378 - 379، والإرشاد : 2/ 63
3- الفتوح لابن أعثم : 61/5

ثانياً : إخراج الشهيد هانيء رضی الله عنه خارج القصر ليقتل علناً وأمام الملأ، وفي سوق الماشية ، وهو مكتوف الأيدي ويستنجد بقومه ، تدل على إمعان الطاغية ابن زیاد في الاستهانة والاستخفاف بما كان يمثله الشهيد هانيء رضی الله عنه.

ثالثاً : استخفاف ابن زیاد «محمد بن الأشعث » الذي استدرج هانيء إلى القصر .

وعدم قبول شفاعته فيه، حيث تقول رواية ابن أعثم : « فزبره ابن زیاد »(1).

وقد تكرر هذا الأمر من ابن الأشعث سابقاً مع مسلم بن عقيل رضی الله عنه حيث أعطاهُ الأمان ولم يفِ بأمانه، وعلى رواية المجلسي : « إن ابن زیاد بعث إلى محمد بن الأشعث، أعطه الأمان فإنك لا تقدر عليه إلّا به »(2).

ثم نجد ابن زیاد يقول لابن الأشعث عندما أخبره أنه قد أعطاه الأمان : «ما أنت وذاك كأنما بعثناك لتؤمّنه »(3).

هذا الاستخفاف الصارخ من ابن زیاد يدل على أن «الملأ» الذين استخدمهم وسخرهم لتنفيذ جرائمه الواحدة تلو الأُخرى كانوا على مستوى شخصية محمد بن الأشعث، من الضحالة ، واهتزاز الشخصية، وعدم التقيد بالقيم والأعراف ، ولا ننسى مقولة ابن الأشعث بعد أن ضرب ابن زیاد هانيء بن عروة وأدماه : «قد رضينا بما رآه الأمير، لنا كان أو علينا، إنما الأمير مؤدب»(4).

وصدق الله العظيم حيث حدثنا في قرآنه المجيد عن فرعون وملأه حيث قال : «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ»(5).

ص: 305


1- الفتوح: 5 / 61
2- المجلسي : البحار : 44 / 254، والفتوح لابن أعثم: 5/ 94
3- المصدر نفسه
4- الإرشاد للشيخ المفيد : 2/ 48
5- الزخرف : 54
التمثيل بجثتي الشهیدین :

كان مسلم بن عقیل رضی الله عنه يدرك وبدقة ويقين لا يخالطه شك طبيعة نفسية الطاغية ابن زياد المنطوية على لذة التشفي والتمثيل بجسد ضحاياه، ولهذا

خاطبه رضی الله عنه بقوله : «أما إنك أحق من أحدث في الإسلام .. أما إنك لا تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وخبث السريرة، ولؤم الغلبة »(1). فمنظر التمثيل بجسده الشريف کان ماثلاً أمام عينيه ، والأمر الذي دعاه لينصّ في وصيّته على أن تستوهب جثته من ابن زیاد و مواراتها بعد قتله ، إلّا أن ما أوصى به لم ينفذه عمر بن سعد.

وقد حرص ابن زیاد أن تبدأ عملية التمثيل مقارنة مع عملية القتل ، و بالطريقة التي يريدها والتي تشبع غريزة الانتقام ولذة الجريمة التي تمرس عليها، وكذلك امعاناً في إذلال الشهيدين.

وعندما نستعرض كيفية قتل الشهيدين وما جرى عليها بعد ذلك، نجد أسوأ أنواع التمثيل التي تدل على شراسة الافتراس والتنمر والجريمة.

تبدأ جريمة التمثيل بإلقاء جسد مسلم بن عقیل ورأسه من أعلى القصر ، وبأمر من الطاغية ابن زیاد حيث قال : «أتبعوا جسده رأسه». مما يعني تكسر العظام، وتقطع الجسد ، وقد اتبع الطاغية ابن زیاد طريقة إلقاء الجثث مع الشهيدين عبد الله بن يقطر ، وقيس بن مسهر رضی الله عنه كذلك ألقي بمبعوث الحسين (علیه السلام)إلى البصرة الشهيد أبي رزين من على منارة البصرة(2).

والذي يبدو أن هذه الطريقة البشعة في القتل كانت هي المفضلة عند الطاغية ابن زیاد.

ص: 306


1- الطبری: 5/ 374
2- کوراني : في محراب كربلاء : 298

ولم يكتف الطاغية ولم يقف عند حد قطع الرأس وتكسير العظام، وإنما تمادى في جريمته، عندما أمر بسحب جثتي الشهيدين بالحبال، من أرجلهما في الأسواق(1).

وليست هذه العملية الوحيدة المعيبة التي يندى لها الجبين البشري ، لكنها أول عملية من نوعها في التاريخ الإسلامي، يتمّ بها سحب أجساد الشهداء وسط الشوارع والطرقات(2).

ثم أضاف ابن زیاد إلى ذلك جريمة أُخرى أكثر بشاعة من القتل وتكسير العظام، والسحب في الأسواق والأزقة والسكك ، وهي صلب الجسدين الشريفين وفي حالة منكوسة.

قال ابن أعثم والخوارزمي، واللفظ للثاني : ثم أمر ابن زیاد بمسلم وبهانيء فصلبا منکّسین(3) .

وأضاف المسعودي : ثم أمر ابن زیاد بجثة مسلم فصليت ... وهذا أول قتيل صلبت جثته من بني هاشم(4).

ثلاث جرائم بشعة يقشعر لها بدن الإنسان، ويهتز لها ضميره ووجدانه، ارتكبها ابن زیاد من دون مبالاة، بل كان يتلذذ بذلك ويشبع مکنون نفسيته المشبعة بالاجرام.

ص: 307


1- المنتخب للطريحي : 301، والمقرم : مقتل الحسين : 163
2- مبعوث الحسين : 228 - 229
3- الفتوح لابن أعثم: 62/5 ، ومقتل الحسين للخوارزمي : 207
4- المسعودي : مروج الذهب : 3/ 60
نصب رأسي الشهيدين في الشام

كان لابد للطاغية ابن زیاد من إرسال هدية إلى سيده وولي نعمته یزید بن معاوية، وهو يبشره بنصره المؤزر لينال رضاه، ويحرز جائزته ، فلم يجد إلّا رأس الشهيدين مسلم بن عقيل وهاني بن عروة رضی الله عنه فتم تجهيزهما وإرسالهما إلى الشام.

يقول الطبري : ثم إن عبيد الله بن زیاد لما قتل مسلماً وهانئاً بعث برأسيهما مع هانيء بن أبي حية الوادعي، والزبير بن الأروح التميمي إلى يزيد بن معاوية(1) .

ويقول المسعودي : وحمل رأسه - أي مسلم - إلى دمشق، وهذا أول قتیل صلبت جثته من بني هاشم، وأول رأس حمل من رؤوسهم إلى دمشق(2).

وعند وصول هدية ابن زیاد إلى يزيد بن معاوية والمتمثلة برأسي الشهيدين فرح بذلك وأمر بنصبها في مكان عام بدمشق.

روي في المناقب : فنصب - أي يزيد - الرأسين في درب من دمشق(3).

فكأن ما قام به ابن زیاد من جرائم بحق الشهيدين لم تشف غلیل یزید بن معاوية، فأضاف إليها هذه الجريمة النكراء.

رسالة ابن زیاد إلى يزيد :

وأراد ابن زیاد أن يكتب إلى سیده یزید ليخبره عن مجريات الأحداث في الكوفة ، وأرادها أن تكون رسالة موجزة تطوي جميع المراحل التي أنجزها، تاركاً التفصيل إلى رسوليه اللذين حملا معهما رأسي الشهيدين .

ص: 308


1- الطبري : 5/ 380، والإرشد للمفيد : 2/ 63 - 64
2- المسعودي : مروج الذهب : 60/3
3- ابن شهر آشوب : المناقب : 3/ 245

يروي الطبري : وأمر كاتبه ... أن يكتب إلى یزید بن معاوية بما كان من مسلم وهانيء ، فكتب إليه كتاباً أطال فيه ، فلما نظر فيه عبيد الله بن زیاد کرهه وقال : ما هذا التطويل وهذه الفضول ؟ أُكتب : أما بعد، فالحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقه ، وكفاه مؤنة عدوه.

أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله ، أن مسلم بن عقیل لجأ إلى دار هانيء بن عروة المرادي، وأنّي جعلت عليهما العيون، ودسست إليها الرجال، وكدتهما حتى استخرجتهما، وأمكن الله منها، فقدّمتهما فضربت أعناقهما، وقد بعثت إليك برؤوسهما مع هانيء بن أبي حيّة الهمداني ، والزبير بن الأروح التميمي - وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة - فليسألهما أمير المؤمنين عما أحبّ من أمر، فإن عندهما علماً وصدقاً ، وفهماً وورعاً ، و السلام(1).

فَهِمَ يزيد فحوى الرسالة التي حملها إليه من عندهما « علماً وصدقاً، وفهماً وورعاً»! حسب تزكية الورع الأكبر عبيد الله بن زیاد ! فأخذته نشوة الفرح وهو يستمع أكثر إلى التفاصيل من الوَرِعَين ! فكتب إليه مثنياً عليه ، ومشجعاً له على انجاز المهمة الأُخرى وهي مواجهة الإمام الحسين (علیه السلام)، مُلَقِناً له الطرق التي ينبغي أن يتخذها لمواجهة الأحداث الآتية.

يروي الطبري :

فكتب إليه يزيد : أما بعد، فإنك لم تعد أن كنت كما أُحبّ، عملت عمل الحازم، وصلتَ صولة الشجاع الرابط الجأش، فقد أغنيت وكفيت ، وصدّقت ظنّي بك ، ورأيي فيك، وقد دعوت رسوليك فسألتهما، وناجيتهما، فوجدتهما في رأيهما

ص: 309


1- الطبري : 5/ 380، والإرشاد : 2/ 65، وفتوح ابن أعثم : 5/ 108

وفضلهما كما ذكرت، فاستوص بها خيراً، وإنه قد بلغني أن الحسين بن علي قد توجّه نحو العراق ، فضعِ المناظر والمسالح، واحترس على الظنّ، وخذ على التهمة(1).

وفي رواية ابن عساكر والخوارزمي : وهذا الحسين قد ابتلي به زمانك من بين الأزمان وبلادك من بين البلدان ، و ابتليت به من بين العمال وعندها تعتق أو تعود عبداً كما تعبد العبيد ، فاما أن تحاربه أو تحمله إليّ(2).

وهكذا انطوت صفحة الغربة الحزينة المفجعة لسفير الحسين الشهيد مسلم بن عقيل ، والمجاهد الكبير هانيء بن عروة لتحفر في وجدان كل حر مأساة عميقة ، تلهب المشاعر وتثير العواطف.

وقد ترجم الأُدباء والشعراء هذه المشاعر الحزينة المؤلمة، منددين بالمجرمين الذين أقدموا عليها، محرضين على الانتقام منهم.

وقديماً قال الشاعر :

فَإِن۟ كُن۟تِ لا تَد۟رينَ ما المَو۟تُ فَان۟ظُرِي

إلى هانيءَ في السُّوقِ وَابنَ عَقِيلِ

إلىٰ بَطَلٍ قَد۟ هشَّمَ السَّي۟فُ أَن۟فَهُ

وآخَرَ يَهوي مِن طَمَار قَتِيلِ

أَصابَهُما أَم۟رُ الأَميرِ، فَأَص۟بَحَا

أحاديثَ مَن۟ يَس۟رِي بِكلّٙ سَبيلِ

تَری جَسداً قَد۟ غَيَّرَ المَوتُ لَو۟نَهُ

ونَض۟حَ دمٍ قَد۟ سَالَ کُلَّ مَسِيلِ(3)

فَتىً هو أَح۟يا مِن فتاةِ حيّيه

وأقطعُ من ذي شفرَتَين صَقيلِ

ص: 310


1- المصدر نفسه : 5/ 380 والمصادر الأُخری
2- تاریخ دمشق لابن عساکر : 4/ 332، والخوارزمي، مقتل الحسين : 1/ 215 عن المقرم : 164 - 165
3- الدينوري : الأخبار الطوال : 242

أَیَركبُ أسماءُ الهَماليجَ آمناً

وقَد۟ طَلَبَتهُ مَذحِجٌ بِذُحولِ

تَطِيفُ حَواليه مُراد وكُلُهم

على رِقبةٍ من سائِلٍ ومَسولِ

فإن۟ أنتمُ لم تَث۟أروا بأخيکُمُ

فكونوا بغايا أُر۟ضِيَت۟ بِقَليلِ(1)

وهكذا تجلت في شخصية مسلم بن عقیل كل معاني العزة والكرامة والشمم والإباء، فكان سيد الأحرار، رافعاً للواء العز والحرية والاباء «أقسمت لا أقتل إلّا حرّاً».

وأما خصومه من الذين حاربوه وقتلوه وصلبوه، والذين خذلوه ، فهم العبيد الذين رضوا بالذل والهوان.

المبحث الثاني: أسباب تخاذل الكوفة وانتكاستها

اشارة

تعتبر أحداث الكوفة وقصّة بيعة واستشهاد مسلم بن عقيل رضی الله عنه من الأحداث التاريخية التي أثارت دهشة واستغراب المؤرخين والكتّاب والمفكرين، فكيف حصل ذلك الانقلاب المفاجيء في المجتمع الكوفي من خلال مفردات تعامله مع حركة مسلم بن عقیل رضی الله عنه.

وقد نقل المؤرخون قصة هذا الحدث ، على أنها انتكاسة وانقلاب وكارثة مفجعة هزت كيان الأُمة، وحرکت وجدانه وأججت مشاعره، لكونها جريمة في تدبيرها وتنفيذها، بدأت ببيعة واسعة ومكثفة في حضورها، ثم انقلبت إلى نكث وخديعة وخذلان، وانتهت بجريمة وحشية قاسية تمثلت في القتل والرمي من الطهار، والسحل في الشوارع، والصلب ، وإرسال الرؤوس إلى الشام.

ص: 311


1- الطبري : 5/ 380

وكل مفردة من هذه الأفعال الشنيعة تعتبر جريمة كبری، جرت على مرأی ومسمع الأُمة الإسلامية، وقام بتنفيذها جهاراً والي يزيد على الكوفة عبيد الله ابن زیاد.

ولا يمكن للباحث أن يقف من هذا الحدث عند حدود العاطفة والدموع ويحولها إلى تراجيدية بكائية تستدر فيها الحسرات والدموع والعبرات، كما تجد بعض نماذجها في كتَّاب المقاتل التي تناولت قضية مسلم بن عقيل على أنها مهمة تبليغية محدودة وغير قابلة لصور المواجهة الدموية.

كذلك لا يمكن أن نعزو سبب هذه الانتكاسة إلى قلة خبرة مسلم بن عقیل رضی الله عنه في الشؤون السياسية والعسكرية، وعجزه عن السيطرة على الموقف ... لأن هذا يتنافي مع واقع الأحداث ومواقف الشهید مسلم رضی الله عنه منها(1) وكونه حامل رسالة ، ومبلغاً عن قيادة، ومحضراً لترتيب الأوضاع بما يناسب حجم المهمة الموكل فيها .

كذلك لا يمكن أن نحَّمِل الكوفة وأهلها كل المسؤولية الجزائية عن هذه الجريمة ، لأن هذا يعني السطحية وعدم العمق في دراسة الحدث من جميع أبعاده .

فنحن إذن أمام حدث ومنعطف تاريخي كبير لابد لنا من أن نتوقف عنده ، ونتأمل فيه جيداً، وندرسه من جميع جوانبه بعمق وشمولية وموضوعية، لمعرفة الأسباب والعلل الكامنة وراء هذا الحدث ووقائعه.

مهمة المؤرخ:

من المعروف في البحوث التاريخية أن المؤرخ حين يؤرخ الموضوع ما، عليه أن يجيب عن أسئلة ثلاثة أساسية هي :

ماذا حدث ؟ وكيف حدث ؟ ولماذا حدث ؟

ص: 312


1- انظر : القرشي : حياة الإمام الحسين : 2/ 419

والإجابة عن السؤالين الأولين لا تثير أي خلاف، لأن النصوص المدونة للحدث قد تتكفل بالاجابة عنهما سعة أو ضيقاً ، وإنما يشجر الخلاف أصلاً في الإجابة عن السؤال الثالث، «لماذا حدث ؟ » لأن تفسیر و تأويل الحدث يخضع حينئذ إلى ذهنية المؤرخ الذي هو نتاج ثقافته وأيدلوجيته.

ومع الأسف الشديد نجد الكثير من المصادر التاريخية تتغاضى عن تفسير الوقائع التاريخية، وتصب جلّ إهتامها على سرد وقائع الأحداث، مما يشكل لنا مادة أولية للإجابة عن السؤالين ماذا حدث ؟ وكيف حدث؟ ويبقي عندنا السؤال الثالث المهم لماذا حدث ؟ قد لا نجد إجابته عند المؤرخ، لأنه في أكثر الأحيان انقص من قدراته وحوّل نتاج عمله إلى كونه إخبارياً يسرد لنا الأخبار والأحداث من دون أن يخضعها للتحليل أو التعليل ، فيبدو عمله ناقصاً من هذه الجهة ، لأن علماً بلا تعليل ، يعتبر علماً ناقصاً في محصلته النهائية .

ولهذا نجد في مجال العلوم الإنسانية - ومن ضمنها التاريخ - الاهتمام بالتعليل أو التأويل عند المتأخرين من المؤرخين ، إلى حد ظهور علم لهذا الغرض هو علم « الهرمینطیقا» والذي يعني بتفسير أو تعليل التاريخ ومن رواد هذا المنحى التاريخي ابن خلدون في مقدمته وتاريخه.

أما الجيل الأول من المؤرخين من أمثال الطبري، والبلاذري، وخليفة بن خیاط ، والكلبي ، وابن هشام، وابن قتيبة ، واليعقوبي ... وغيرهم ممن اعتبرهم ابن خلدون رواد علم التاريخ في الإسلام(1)، فمن السابق لأوانه أن نبحث في كتبهم عن التعليل أو التحليل للأحداث التاريخية ، وإنما كان جل اهتمامهم منصب على الأخبار وتحقيقها ، وإن وجدنا شيئاً من التعليل والتأويل فهي نتف يسيرة لا تفي بالغرض.

ص: 313


1- مقدمة ابن خلدون : 4، طبعة القاهرة - (بلا ت)

وعندما نستعرض المسار التاريخي لحوادث الكوفة وما جرى فيها مع مسلم بن عقیل، نجد الخلل حتّى في الإجابة عن السؤال الثاني «كيف حدث» فضلاً عن السؤال الثالث «لماذا حدث» وذلك لأن الكثير من سَل۟سَلة الأحداث مفقودة، ولا تفي النصوص التاريخية للإجابة عن كثير من التساؤلات حول أسباب ما حدث، فتبقى هذه الأحداث يلفها الغموض والضبابية ويجد الباحث نفسه عاجزاً عن ترتیب وربط النصوص فضلاً عن تفسيرها أو تعليلها وفهم ما تنطوي عليها.

ومن أهم الأسئلة التي تطرح في مسار الأحداث في قضية مسلم بن عقیل ، والتي يحار الباحث في تفسيرها : اختفاء قادة حركة مسلم عن مسرح الأحداث !

لقد تحدث المؤرخون أن مسلم بن عقيل رضی الله عنه عندما دخل الكوفة و نزل في دار المختار بن أبي عبيدة الثقفي وافته الجماهير الغفيرة بالترحيب و أظهروا له من الطاعة والانقياد ما زاد في سروره وابتهاجه.

«وأقبلت الشيعة يبايعونه حتى أحصى دیوانه ثمانية عشر ألفاً ، وقيل بلغ خمساً وعشرين ألفاً ، وفي حديث الشعبي بلغ من بایعه أربعين ألفاً.

فكتب مسلم إلى الحسين مع عابس بن شبيب الشاكري يخبره باجماع أهل الكوفة على طاعته وانتظارهم لقدومه وفيه يقول : الرائد لا يكذب أهله ، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً فعجل الاقبال حين يأتيك كتابي.

وكان ذلك قبل مقتل مسلم بسبع وعشرين ليلة ، وانضم إليه كتاب أهل الكوفة وفيه : عجل القدوم یا ابن رسول الله فإن لك بالكوفة مائة ألف سيف فلا تتأخر(1).

ص: 314


1- المقرم: مقتل الحسين : 147، وانظر المصادر التي اعتمدها في هامش الصفحة نفسها

فإذن هذا العدد الضخم من المبايعين وهذا السيل الجماهيري الذي دعا مسلماً أن يكتب للإمام الحسين يدعوه إلى تعجيل القدوم إلى الكوفة، أين ذهبوا؟ وكيف تفرقوا ؟ ولماذا أختفوا؟ وكيف حصل هذا الانقلاب العجيب في ظرف زمني لا يتجاوز الشهر، إلى درجة يبقي معها مسلم وحيداً لا يجد من يدله على الطريق ؟!

نحن لا نتساءل عن الانتهازيين و المتلونين وأصحاب المطامع ممن بایع مسلماً ثمّ انقلب عليه، من أمثال عمرو بن الحجاج، وشبث بن ربعي، وعزرة بن قیس ومحمد بن الأشعث ... وأمثالهم.

وإنما نتحدث عن الشيعة الموالين الأبدال من أمثال حبیب بن مظاهر ، ومسلم بن عوسجة، وأبو ثمامة الصائدي ، وسعيد بن عبد الله الحنفي ، وأضرابهم من عيون أصحاب مسلم فأين ذهب هؤلاء في محنة مسلم و غربته ؟

ونعود لنقول أن علامات الاستفهام الكثيرة هذه، والفصول المبهمة، عندما نبحث عن أجوبتها، فإننا لا نعثر على الأجوبة الكافية والمقنعة لهذه القضية من خلال النصوص التاريخية، وتبقى الأجوبة تدور في حيز الاحتمالات.

ومن هذه الاحتمالات :

أولاً : أن يكون ابن زیاد قد اعتقلهم وسجنهم :

وهذا الاحتمال له ما يؤيده، وله ما ينفيه من الناحية التاريخية .

فابن زیاد قام بحملة اعتقالات واسعة النطاق شملت أنصار التحرك الذي قاده مسلم بن عقيل ، وهو - كما مرّ بنا سابقاً - تدبير اتخذ لمواجهة التيار الكبير داخل الأُمة.

ص: 315

ولكن هل هذا الاحتمال واقعي في البحث ؟

في الواقع هنالك جملة من الاشكالات على هذا الاحتمال :

منها : إذا كان أنصار مسلم فعلاً قد أودعوا السجن ، فإننا نعلم أن الذين دخلوا السجن كان بعض أنصار مسلم وليس جميعهم، وليس لدينا دلیل ما يؤكد بأن ابن زیاد قد أخلى سبيلهم بعد استشهاد مسلم، بل إن ما لدينا من الأدلة النقلية تؤكد على أن ابن زیاد لم يخل سبيل أحد منهم.

ومنها : إن المعلومات التاريخية تؤكد لنا حملة ابن زیاد القاضية بتقليص المدّ الثوري واجتثاث جذوره وذلك باعتقال الزعماء البارزين من أمثال سلیمان بن صرد الخزاعي، والمختار بن أبي عبيدة الثقفي.

ولكن هذه المعلومات التاريخية لها ما يعارضها عملياً ، إذ نجد أن خُلَّص أصحاب مسلم کانوا قد شاركوا في ثورة الطف واستشهدوا يوم عاشوراء.

نعم يمكن أن نستفيد من هذه المعلومات بأن جملة من أصحاب مسلم کانوا معتقلين أيام حركة مسلم، وحتى بعد استشهاده و بعد واقعة الطف من أمثال المختار الثقفي ، وسليمان بن صرد الخزاعي، ولكن يبقى السؤال أين ذهب الآخرون ؟ ولماذا اختفوا؟

ومنها : ليس لدينا ما ينكر أن ابن زیاد ، ومن خلال جاسوسه الخاص - معقل - قد اطلع على أوضاع أصحاب مسلم واختصاصاتهم وعملهم من أمثال مسلم بن عوسجة، وأبو ثمامة الصائدي، وحبیب بن مظاهر ... فلو افترضنا جدلاً أنه قد اعتقلهم - كما يقول الاحتمال - فليس من المعقول أن يتركهم أو يعفو عنهم بعد فترة وجيزة، لأنه يعلم دورهم الريادي في جمع الناس وتهيئة السلاح، ودورهم التبليغي الواسع.

ص: 316

ثانياً : إن هؤلاء القادة انسحبوا من ساحة المواجهة حفاظاً على أنفسهم للجولة الثانية من المواجهة :

وهؤلاء الشخصيات - رغم ما يمتلكون من رصيد إيماني وولائي - إلّا أنّهم تجنباً لمكر العدو وكیده اختفوا في بيوتهم وتركوا قائدهم في محنته وغربته ليواجه مصيره بنفسه، ثم بعد ذلك عادوا إلى أنفسهم وحاسبوها على ذلك، فالتحق بعضهم بالإمام الحسين واستشهد ، وبقي الآخرون ينتظرون فرصة أُخرى حتى اتيحت لهم ثورة التوابين و ثورة المختار فالتحقوا بها.

وهذا الاحتمال يمكن أن نجد له بعض المبررات بأن يقال : «إن هؤلاء بعد ان شاهدوا فشل الجولة الأُولى من المواجهة ضد ابن زیاد ، نتيجة الخذلان والانقلاب المدوي في صفوف أصحاب مسلم بن عقیل، انسحبوا ليختفوا في بيوتهم رجاء الاسهام في الجولة الثانية مع الإمام الحسين (علیه السلام)، إذ ليس من الحكمة - بنظرهم - أن يظهروا فيعرّضوا أنفسهم إلى خطر محتوم لا يجدي قياساً لجدوى ترقّب الإمام والتربّص بالعدو»(1).

إلّا أن عملية ترك القائد «وليس له من يدله على الطريق» حسب تعبير المؤرخين ، والإنكفاء على الذات رغم كل ما يمكن أن نجد له من مبررات ، يعتبر تخاذلاً وتنصلاً عن المسؤولية في مقطعها الزماني وخاصة بالنسبة إلى الذين كانوا قادة حملة مسلم بن عقيل على القصر من عقد لهم الألوية لقيادة أربعة آلاف رجل.

يروي الطبري عن أبي مخنف عن عبد الله بن حازم قال : «أنا والله رسول ابن عقيل إلى القصر لأنظر إلى ما صار أمر هانيء ، فلما ضرب وحبس ركبت فرسي،

ص: 317


1- مبعوث الحسين : 243 - 244 وما بعدها

فكنت أوّل أهل الدار دخل على مسلم بن عقيل بالخبر ... فأمرني أن أُنادي في أصحابه وقد ملأ منهم الدُّور حوله ، وقد بايعه ثمانية عشر ألفاً ، وفي الدور أربعة آلاف رجل، فقال لي : ناد : يا منصور أمت، فناديت : يا منصور أمت، وتنادی أهل الكوفة فاجتمعوا إليه ، فعقد مسلم لعبيد الله بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة ، وقال : سر أمامي في الخيل، ثم عقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذحج وأسد، وقال : انزل في الرّجال فأنت عليهم، وعقد لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان، وعقد لعباس بن جعدة الجدليّ على ربع المدينة - ثم أقبل نحو القصر - فلما بلغ ابن زیاد إقباله تحرّز في القصر ، وغلّق الأبواب»(1) .

والذي يلاحظ في هذا النص العدد الكبير من الجيش في قيادة هؤلاء القادة الذي عقد مسلم لهم الألوية، كما يلاحظ أن من بين هؤلاء القادة الذين عينهم مسلم بن عقیل رضی الله عنه ، مسلم بن عوسجة وأبو ثمامة الصائدي، وهما من شهداء کربلاء رضوان الله عليهم.

أما الآخران فقد اختفت اخبار هما فلا يرد لها ذكر في عداد شهداء کربلاء أو أحداثها ، نعم يرد اسم الكندي ضمن المقاتلين في معركة عين الوردة وحركة التوابين(2). وحاول بعضهم أن يعدّ الكندي من شهداء كربلاء(3) .

فنحن - في هذا النص - نجد الأربعة قادة جيش مسلم في الكوفة ، وقد اختفت آثارهم، وبقي قائدهم لوحده ! بل حتى لم يرد لهم ذكر في هؤلاء الثلاثين ، أو العشرة من أُولئك النفر الذين كانوا آخر من تفرق عن مسلم(4).

ص: 318


1- الطبري : 5/ 368 - 369، والمفيد في الإرشاد : 2/ 52
2- الطبري : 603/5 - 604
3- انظر المامقاني : تنقیح المقال : 2/ 125 طبعة حجرية
4- الطبري : 371/5

إذن احتمال انتكاستهم وخذلانهم لمسلم في ساعة ضعف بشرية، ثمّ ندمهم والتحاق بعضهم بالإمام الحسين (علیه السلام)والاستشهاد في كربلاء، وبعضهم لم يدرك هذه الفرصة فالتحق بثورة التوابين، هو الاحتمال الأرجح من بين الاحتمالات، ويؤيده كلمات قادة ورجال ثورة التوابين رضی الله عنه الذين عبروا عن ندمهم وتوبتهم قولاً وعملاً (1).

ثالثاً : أن يكون مسلم بن عقيل هو الذي أمرهم بالاختفاء عن ساحة المواجهة :

وهنالك بعض الاحتمالات الأُخرى لتفسير غیاب هؤلاء القادة عن ساحة المواجهة ذكرها بعض الكتاب المحدثين(2).

منها : أن يقال إن مسلم بن عقيل رضی الله عنه هو الذي طلب منهم الاختفاء خوفاً عليهم من القتل، والانتظار حتى قدوم الإمام الحسين(علیه السلام) !

يقول هذا الكاتب ما ملخصه :

«بقي من الرجال نسبة قليلة مع المبعوث الحسيني ... ونحن نعتقد أنّ في هذا العدد صفوة مؤمني الكوفة، ونخبة رجال الحركة ، لتعذّر تأخّر غيرهم معه إلى هذا الوقت ثم إنّهم اتفقوا - ولأسباب أمنية - أن يتفرقوا انتظاراً للجولة الحسينية المرجوة بمقدم الإمام.

ويبدو لنا أنّ المبعوث « مسلم بن عقیل » کان قد أبي الذهاب مع بعضهم أو مع أحدهم، متجنباً توريط مجاهد آخر في داره ، متعمّداً الإنفراد بنفسه وحده ، لصرف الأنظار والعيون عنه حتى ينتهي خارج الكوفة.

ص: 319


1- انظر كلمات وتصريحات قادة ورجال ثورة التوابين : الطبري : 551/5 وما بعدها
2- للتوسع في هذه الاحتمالات وردها انظر وقعة كربلاء للركابي : 173 - 179

... فإذا كان البطل - مسلم - سيتعرض للخطر فلماذا يرضى أن يعرّض غيره ممن لهم فرصة النجاة والاختفاء، أو يمكنهم ادعاء أنّهم لم يكونوا ضمن التحرّك ....

وخرج البطل الطالبيّ من المسجد بمعيّة عشرة من الرجال فقط ، لعلّهم أصرّوا على مرافقته، لكنّه تمكن من تسريحهم بإبائه المعهود، فلم يرض بأحد

حتى انفرد... »(1).

إلّا أن هذا الاحتمال ليس له شاهد تاريخي يؤيده ، ولا ينسجم مع طبيعة المواجهة التي قادها مسلم بن عقيل رضی الله عنه لمحاصرة القصر والتي كانت بمثابة المرحلة النهائية في المواجهة المسلحة، فما معنى أن يطلب مسلم رضی الله عنه من هؤلاء القادة - بعد أن عقد لهم ألوية الجهاد - الانسحاب والاختفاء ليواجه بنفسه مصيره الدامي! وحسب تعبير الرواة : والتفت فإذا هو لا يجد أحداً يدلّه على الطريق.

فلا يبقى عندنا - مع مناقشة هذه الاحتمالات - إلّا الاحتمال الثاني ، والذي لا يمس مكانة ومنزلة الثلة المؤمنة المجاهدة من التحق بالإمام الحسين (علیه السلام)و استشهدوا في کربلاء فأصبحوا سادة الشهداء رضوان الله تعالى عليهم.

ولو أعرضنا عن هذا الاحتمال فلا يبقى عندنا إلّا أن نردد ما قاله البعض : « إن الوضع الذي اكتنف قضية مسلم وأصحابه في تحديد أماكن وجودهم في ليلة المأساة، وضع مبهم وغير واضح ولا يمكن البت فيه لأنه من أدق الغوامض التي عجز المؤرخون عن تحديد معالمه بدقة »(2).

ص: 320


1- انظر مبعوث الحسين : 189 وما بعدها
2- وقعة كربلاء : 179
الأسباب الموضوعية لانتكاسة حركة مسلم بن عقیل رضی الله عنه

والمقصود بالأسباب الموضوعية تلك العوامل والظروف التي اجتمعت فأسهمت في تفتيت وتمزيق تلك الكتلة الجماهيرية التي أوجدها مسلم بن عقيل رضی الله عنه في الكوفة.

وهذه العوامل يمكن تصنيفها إلى عوامل اجتماعية ، ودينية ، وقومية ، ومذهبية ، وسياسية، وغيرها.

فلابد من وقفة تأمل ودراسة لهذه العوامل لمعرفة الأسباب الكامنة وراء إخفاق حركة مسلم بن عقيل رضی الله عنه وحصول الانتكاسة المدوية .

الأحوال الاجتماعية للمجتمع الكوفي :

كان للكوفة أيام أحداث مسلم بن عقيل رضی الله عنه نسيج اجتماعي غير متجانس ، شأنها شأن أي مدينة جديدة التأسيس، حيث تكون مصباً لمختلف الأجناس البشرية، وتتكون فيها تركيبة اجتماعية معقّدة ومتنوعة ومتنافرة، لا يوحدها مزاج عام ، ولا يوحدها جامع اجتماعي معين ، بخلاف المدن والأمصار القديمة مثل مكة والمدينة، حيث يسكنها شعوب متجانسة نسبياً في قوميتها، وديانتها، وأعرافها ، وعاداتها الاجتماعية ، بل حتى في مستوى ثقافتها ومتبنياتها الفكرية .

وهذه التركيبة الغريبة للمجتمع الكوفي أفرزت بدورها تصرفات غريبة ومتقاطعة على طول التاريخ، وتلونت بألوان غير متجانسة خلال تعاملها مع الأحداث المفصلية في التاريخ الإسلامي.

فلابد لنا ونحن ندرس عوامل انتكاسة الكوفة من اطلالة سريعة على تركيبة ذلك المجتمع باعتباره المرأة التي انعكست عليها أحداث حركة مسلم بن عقیل رضی الله عنه وما سبقها ولحقها من أحداث خطيرة في تاريخ الإسلام السياسي.

ص: 321

أولاً : التركيبة الاجتماعية للمجتمع الكوفي :

يقول اليعقوبي عن سكان الكوفة : « وهي مدينة عامرة جليلة ينزلها العمال والولاة، وأهلها أخلاط من الناس »(1).

وهو تعبير دقيق إذ كانت الكوفة آنذاك أُممية في تركيبها السكاني، وقد امتزجت فيها أجناس بشرية مختلفة في كل شيء إلّا في إنسانيتها، فاختلفت لغتها، وتباينت في طباعها وعاداتها وتقاليدها فكان فيها العربي والفارسي والنبطي إلى جانب العبيد وغيرهم، ولم تعد مدينة عربية خالصة في عروبتها.

وقد هاجرت إليها هذه العناصر باعتبارها المركز الرئيسي للمعسكر الإسلامي، فمنها تتدفق الجيوش الإسلامية للجهاد ، كما تتدفق إليها المغانم الكثيرة التي وعد الله بها المجاهدين(2) .

وحينما تم تأسيس الكوفة اتجهت إليها أنظار العرب ، وتسابقوا إلى الهجرة إليها ، فقد سكنها في وقت مبكر سبعون بدرياً وثلاثمائة من أصحاب - بيعة - الشجرة ، فهي منزل خيار الصحابة وأهل الشرف(3).

وتسابقت القبائل اليمنية إلى سكنى الكوفة، وكذلك القبائل العدنانية، وقبائل بني بكر، ومجاميع قبائل أُخرى من القبائل العربية.

ويرى بعض الباحثين أن الطابع العام للذين سكنوا الكوفة إنهم كانوا من عناصر شديدة البداوة ومن سكان الخيام وبيوت الشعر ، وأصحاب الإبل(4).

ص: 322


1- اليعقوبي، البلدان : 145، وضع حواشيَهُ : محمّد أمين ضنّاوي، طبعة دار الكتب العلمية ، بیروت، ط. الأُولى، (1422 ه - 2002م)
2- القرشي : حياة الإمام الحسين : 2/ 432
3- المصدر نفسه : 2/ 432 - 433 نقلاً عن ابن سعد في الطبقات : 4/6
4- المصدر نفسه : 2/ 435 وما بعدها

لقد كانت الروح القبلية هي العنصر البارز في حياة المجتمع الكوفي ، وغدت المدينة صورة تامة للحياة القبلية وبلغ الاحساس بالروح القبلية والتعصب لها إلى درجة عالية ... ومن هنا غلب على الحياة فيها طابع الحياة الجاهلية .

ويحدثنا ابن أبي الحديد عن الروح القبلية السائدة في الكوفة - آنذاك - بقوله : إن أهل الكوفة في آخر عهد علي كانوا قبائل ، فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته فيمر بمنازل قبيلة أُخرى ، فينادي باسم قبيلته ياللنخع أو یا لكندة ، فيتألب عليه فتيان القبيلة التي مرّ بها فينادون یا لتميم أو یا لربيعة،ويقبلون إلى ذلك الصائح فيضربونه فيمضي إلى قبيلته فيستصرخها فتسل السيوف و تثور الفتنة(1).

وقد استغل ابن سمية هذه الظاهرة في إلقاء القبض على حجر وإخماد ثورته ، فضرب بعض الأُسر ببعض ، وكذلك استغل هذه الظاهرة ابنه - عبيد الله - للقضاء على حركة مسلم وهانيء، وعبيد الله بن عفيف الأزدي(2).

وإلى جانب العنصر العربي الذي استوطن الكوفة كان العنصر الفارسي ، وكانوا يسمون «الحمراء» وكان لهم ثقل اجتماعي كبير في الكوفة و تحالفات مع القبائل العربية الكبيرة، حتى أن بعض المؤرخين يذكر أن عدد الجالية الفارسية في الكوفة يصل إلى أكثر من نصف سكانها، وقد أخذ عددهم بازدیاد حتى تضاءلت نسبة العرب في الكوفة(3).

وكان للجالية الفارسية في الكوفة تأثيرها الثقافي والديني والسياسي، وتغلبوا في عصر المأمون العباسي حتى كانت اللغة الفارسية تحتل الصدارة في ذلك العصر .

ص: 323


1- شرح نهج البلاغة : 3/ 239
2- القرشي : حياة الإمام الحسين : 2/ 435 - 436
3- القرشی: 2/ 437 نقلاً عن المستشرق فلهوزن

ويقول الجاحظ : إن اللغة الفارسية أثرت تأثيراً كبيراً في لغة الكوفة(1) .

وهنالك أقليات قومية أُخرى مثل : الاتراك ، والأنباط، والروم، والسريان، وكان لهم تأثيرهم في الحياة الاجتماعية العامة(2).

ثانياً : الحالة الدينية للمجتمع الكوفي :

لم تتوحد الكوفة دينياً تحت لواء الإسلام ، وإن كان الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، ودين الأغلبية الساحقة من سكانها، فإلى جانب الدين الإسلامی کانت هنالك أديان متعددة، ولها طقوسها وشعائرها ودور عبادتها.

فقد سكن الكوفة «اليهود» وخاصة يهود الحجاز الذين أجلاهم عمر بن الخطاب من المدينة ، وهنالك النصارى ، وكانوا ينقسمون إلى طائفتين : النساطرة ، واليعاقبة ، ولكل منهما أسقف خاص، وهنالك أيضاً من الصابئة ، والمجوس ، والزردشتية ، والمانوية ....

هذا النسيج الديني كان له تأثيره الثقافي والفكري والاجتماعي والسياسي، على الحياة العامة وعلى المسلمين من سكنة الكوفة الذين لم ينفذ الإسلام إلى أعماق قلوب الكثيرين منهم وبقيت رواسب دياناتهم السابقة وآثار الجاهلية ، ودین الآباء، تؤثر في سلوكهم وتوجه تصرفاتهم.

ثالثاً : الحالة المذهبية للمجتمع الكوفي :

لقد شهد المجتمع الكوفي انقسامات مذهبية خطيرة، وتبايناً فكرياً واسعاً ، وظهرت حركات فكرية مذهبية تتنافي الكثير منها في مفاهيمها و متبنياتها الفكرية والعقائدية مع الإسلام وتعاليمه.

ص: 324


1- الجاحظ : ابي عثمان عمرو بن بحر : البيان والتبيين : 1/ 33 - 34، طبعة القاهرة - الطبعة الأُولى، (1345 ه - 1926م)، افست مكتبة اُرومية - قم، 1409 ه
2- انظر : القرشي : 2/ 438 - 440، و مبعوث الحسين : 60 - 61

ومن أبرز هذه الاتجاهات المذهبية :

أ - الخوارج : وهؤلاء كانوا يشكلون طبقة واسعة من العبّاد السذج الذين حاربوا مع الإمام على (علیه السلام)في صفين،وأرغموا الإمام على قبول التحكيم في قصة رفع المصاحف، ثم انقلبوا على أعقابهم ورفعوا شعار «لا حكم إلّا لله» واتخذوا الكوفة قاعدة لهم، وعاثوا في الأرض فساداً، فحاربهم الإمام (علیه السلام)وقضى عليهم ، إلّا قلة منهم استطاعوا بعد ذلك من لملمة صفوفهم فتنامی عددهم مرة أُخرى ، وأخذوا يواصلون نشر أفكارهم، وكان لهم تأثير سلبي ومخرب في مجريات الأحداث في عهد الإمام علي (علیه السلام)، وعهد الإمام الحسن (علیه السلام)، وتنفسوا عن أحقادهم من أبناء علي في كربلاء .

ب - النواصب : وكانوا يشكلون طبقة مذهبية تتميز بعدائها للإمام علي (علیه السلام)وأهل البيت بشكل عام.

ج - الأمويون : وهم طبقة واسعة من وجوه الكوفة وزعمائها، ممن كانوا يدينون بالولاء المطلق لبني أُمية ، ويرون أنهم أحق بالخلافة وأولى بزعامة الأُمة من آل البيت فهذا مسلم بن عمرو الباهلي يقول لمسلم بن عقيل رضی الله عنه : أنا من عرف الحقّ إذ أنكرته، ونصح لإمامه إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفت(1).

وهذا عمرو بن الحجاج يخاطب أهل الكوفة يوم العاشر من المحرم : يا أهل الكوفة : الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتال من مرق من الدين، وخالف الإمام (2).

ص: 325


1- الطبری : 5 / 376
2- المصدر نفسه: 435/5

وقد لعب هؤلاء - كحزب منظم - دوراً خطيراً في فشل ثورة مسلم ، کما ساهموا في زج الناس وتعبأتهم لحرب الإمام الحسين (علیه السلام).

د - الجبرية والغلاة والمفوضة والمرجئة وغيرهم ممن لهم اتجاهات فكرية و متبنیات مذهبية يؤمنون بها.

وهؤلاء وإن كانوا لا يشكلون ثقلاً مذهبياً كبيراً إلّا أنهم كان لهم تأثير سلبي في وحدة الرأي والموقف في المجتمع الكوفي.

ه- الشيعة : وهم الذين يدينون بالولاء لأهل البيت (علیهم السلام)وكانوا يشكلون كتلة اجتماعية مذهبية كبيرة، فيهم من الصحابة والتابعين وأبنائهم وفيهم من رجال الهجرة والجهاد ومن الشخصيات اللامعة ، أمثال المختار الثقفي، وهانيء بن عروة ، وحبيب بن مظاهر ، ومسلم بن عوسجة، وغيرهم الكثير.

وقد تنامی شأن الشيعة كاتجاه مذهبي له معالمه ومتبنياته الفكرية والعقائدية ، وذلك في عهد خلافة الإمام علي (علیه السلام)حيث اختار الكوفة كعاصمة للدولة الإسلامية ، وقد عانت هذه الطائفة وعلى طول التاريخ، شتى أنواع التنكيل والقتل والتشريد والتهجير من معاوية الذي أبعد عن الكوفة أكثر من خمسين ألف من الشيعة إلى خراسان(1) ومن يزيد وولاة بني أُمية من أمثال المغيرة ، وزياد، وولده .

إلّا أن الذي يسجل على شيعة الكوفة أن تشيع الكثير منهم كان تشيعاً عاطفياً لا عقائدياً ، ولهذا لم يبذلوا أي تضحية تذكر لعقيدتهم، وقد تخلوا عن مسلم و ترکوه فريسة بيد الطاغية ابن مرجانة.

ص: 326


1- بروکلمان : کارل : تاريخ الشعوب الإسلامية : 1/ 147، طبعة دار العلم للملايين - بیروت، الطبعة الثالثة، 1960 م

«والحق أن الشيعة بالمعنى الصحيح لم تكن إلّا فئة نادرة في ذلك العصر، وقد التحق بعضهم بالإمام الحسين (علیه السلام) واستشهدوا معه ، کما زُج الكثير منهم في

ظلات السجون»(1).

رابعاً : التفاوت الطبقي لمجتمع الكوفة :

امتازت سیاسة عثمان ، ومعاوية بن أبي سفيان ، بعدم العدالة وعدم التوازن في توزیع ثروات المسلمين، مما أدى إلى نشوء طبقة ارستقراطية غارقة في الترف والثراء الفاحش من خلال ما حصلت عليه من هبات و امتیازات خاصة، على حساب الضعفاء والمحرومين الذين كانوا يشكلون الأكثرية الساحقة في المجتمع

الكوفي.

وفيما يلي أهم ملامح طبقات المجتمع الكوفي :

1 - طبقة الأشراف : وهؤلاء من الأعيان والوجهاء ورؤساء العشائر وزعماء القبائل، وأصحاب رؤوس الأموال.

وغالبية هؤلاء كانوا من المتواطئين مع السلطة الأموية ، وقد سخرهم ابن زیاد للقضاء على حركة مسلم.

2 - طبقة رجال السلطة : الموظفين والإداريين والشرطة والنقباء والعرفاء، ممن كانوا يتلقون رواتبهم وعطاياهم من الوالي ، فهؤلاء مع السلطان الحاكم مادام

يوفر لهم العطاء.

3 - طبقة الكادحين : من المزارعين وأصحاب المهن الحرة والكسبة وأصحاب الحرف والمهن المستقلة، وهؤلاء كانوا يعيشون هاجس أي حركة ثورية في المجتمع لأنها كانت تؤثر سلباً على مصدر عيشهم.

ص: 327


1- القرشي : 2/ 442

4 - طبقة العبيد والموالي : وهي طبقة مسحوقة وقعت في الأسر أو اشتريت من سوق النخاسة المُعَّد لبيع العبيد ، فوقعوا تحت طائلة الإذلال والتحقير والتنكيل والاستغلال البشع.

5- طبقة الجند : وهم في واقع الحال مرتزقة تصرف لهم العطاءات من بيت المال لينصرفوا إلى الغزو والقتال ، وهم تبع لأوامر الولاة والحكام ولايهمهم من يقاتلون أو أي حرمة يستبيحون ، مادام يدفع لهم ثمن ذلك !

6 - طبقة القضاة : وهؤلاء وإن لم يكونوا طبقة واسعة إلّا أن لفتاواهم ولأحكامهم القضائية التي كانوا يتاجرون بها، تأثيراً سيئاً في أوساط المجتمع(1) .

وأبرز وجوه هؤلاء «شريح القاضي» الذي له قصة طويلة في دفة القضاء .

معطيات تركيبة المجتمع الكوفي :

على ضوء التركيب المعقّد للمجتمع الكوفي ، وفي ظل الواقع السياسي والاجراءات التي اتخذها ابن زیاد للسيطرة على الأُمور في الكوفة ، تبرز لدينا جملة من المعطيات تسلط الأضواء على أسباب انتكاسة الكوفة وفشل حركة مسلم بن عقیل .

وفيما يلي بعض هذه المعطيات بإيجاز :

أولاً : من خلال الواقع الاجتماعي للمجتمع الكوفي آنذاك والذي استعرضنا بعض معالمه، يتبين لنا أنه مجتمع غير متجانس، ويتكون من خليط غير متماسك، وتركيبة اجتماعية شديدة التعقيد ، انعكست بدورها على تصرفاته اتجاه الأحداث السياسية التي عاشتها، ومنها حادثة مسلم بن عقيل ، ومن قبلها مواقفها المتباينة مع خلافة أمير المؤمنين(علیه السلام) والأحداث التي رافقت سنّي خلافته، ومن بعدها مواقفها من واقعة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين (علیه السلام).

ص: 328


1- للتوسع انظر : مبعوث الحسين : 57 وما بعدها

فليس من السهولة بمكان في هكذا مجتمع مفكك أن تتوحد الجهود والقوي والاتجهات، لتفرز بدورها موقفاً محدداً وواضحاً أتجاه الأحداث الكبرى ، إذا يبقى الإنقسام وتعدد المواقف والاتجاهات والآراء هي السمات البارزة والملازمة لهكذا مجتمعات.

ومن يستعرض تاريخ الكوفة السياسي وطريقة تعاطيها مع النهضات والثورات التي عاشت مفردات أحداثها والتي كان لها دور خطير في تاريخ الإسلام السياسي، يجد سمة التحرك، والنكوص، والتقدم والتراجع في اللحظات الحاسمة .. هي السمة البارزة في تاريخها(1).

ثانياً : مهما كانت الأرقام التي يذكرها المؤرخون فيمن بایع مسلم بن عقيل ، إلّا انها لا تشكل في الواقع إلّا جزءاً يسيراً من سكان الكوفة آنذاك ، فمما لا ريب فيه أن هؤلاء المبايعين لمسلم هم بعض وليس كل عشائر الكوفة وسكانها(2). وهنالك أُمة محايدة ، سخرها ابن زیاد بعد ذلك لضرب حركة مسلم بن عقیل.

ثالثاً : هؤلاء الذين بايعوا مسلم بن عقیل - مهما كان عددهم - لم يكونوا جميعاً في نفس المستوى الأماني والثوري، ولم يمتلك جميعهم نفس الدرجة من الوعي والبصيرة، وإنما كانوا على درجات متفاوتة من حيث الإيمان بالقضية التي بايعوا من أجلها ، ومن حيث درجة حماسهم وثوريتهم، ومن حيث وعيهم وبصيرتهم وثباتهم.

فبعض هؤلاء كانوا من المؤمنين الأبدال ممن ثبتوا على بيعتهم وهم القلة والصفوة، بل هم صفوة الصفوة، وإلى جانب هؤلاء القلة من المبايعين ،

ص: 329


1- للتوسع انظر : القرشي، حياة الإمام الحسين : 2/ 419 وما بعدها
2- للتوسع انظر : د. صالح أحمد العلي، الكوفة وأهلها في صدر الإسلام، الفصل العاشر: 223 وما بعدها

كانت هنالك الكثرة ممن بايع لمسلم بن عقيل، إلّا أن بيعتهم لم تكن عن وعي وبصيرة وإيمان، وإنما أخذتهم العواطف ، والشعارات ، والعقل الجمعي ... ولهذا انتكسوا في أول الطريق، وأخذوا يرددون « ما لنا والدخول بين السلاطين »!

رابعاً : إن الذي حصل في الكوفة لم يكن غائباً بمجمله عن الإمام الحسين (علیه السلام)، ولا عن سفيره مسلم بن عقيل، ولا عن الواعين وأصحاب البصائر من أصحاب الحسين ، وشواهد ذلك كثيرة من خلال الكلمات التي أطلقها الإمام الحسين کجواب للناصحين والمشفقين من ذهابه إلى الكوفة، وكذلك نجد شواهد في الاحتياطات الكبيرة والسرية التامة التي أحاط بها مسلم حركته ، وكذلك نجد شواهده في مواقف وكلمات بعض أصحاب الإمام الحسين ممن بايعوا مسلم بن عقیل.

يروي الطبري في أحداث سنة ستين من الهجرة، واصفاً دخول مسلم بن عقیل إلى الكوفة وبيعة الناس له بقوله : ثمّ أقبل مسلم حتى دخل الكوفة ، فنزل دار المختار .. وأقبلت الشيعة تختلف إليه ، فلما اجتمعت إليه جماعة منهم قرأ عليهم کتاب الحسين ، فأخذوا يبكون ، فقام عابس بن أبي شبيبا لشاكريّ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما بعد، فإني لا أُخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرّك منهم، والله لأحدّثنّك عما أنا موطّن نفسي عليه، والله لأجيبنّكم إذا دعوتم، ولأُقاتلنّ معكم عدوّكم، ولأضربنّ بسيفي دونكم حتى ألقي الله ، لا أُريد بذلك إلّا ما عند الله(1).

فالمسألة كانت هذه الدرجة من الوضوح عند هذا العبد الصالح، فلابد أن تكون أكثر وضوحاً عند الإمام الحسين ومسلم بن عقیل (علیهم السلام).

ص: 330


1- الطبري : 5/ 355

وهنا يبرز هذا السؤال وهو إن كانت قضية الكوفة وأهلها بهذه الدرجة من الوضوح عند الإمام الحسين(علیه السلام) ، فلماذا استجاب لدعواتهم وأرسل إليهم سفيره مسلم بن عقيل، ثمّ توجه بنفسه إليهم؟ وقد أجبنا عن هذا التساؤل عند الحديث عن الأهداف التي كان يبتغيها الإمام الحسين(علیه السلام) من نهضته المباركة.

ص: 331

ص: 332

الباب الخامس: مع الحسين في طريقه إلى كربلاء «منازل الطريق»

اشارة

ص: 333

ص: 334

الفصل الأول: شخصيات التقاهم الحسين(علیه السلام) في منازل الطريق

اشارة

المبحث الأول : لقاء الإمام الحسين بالفرزدق، تأملات في الحوار

المبحث الثاني : لقاء الإمام الحسين بزهير بن القين، تأملات في الموقف

المبحث الثالث : لقاء الإمام الحسين بعبيد الله بن الحر الجعفي، وأوجه الاعتذار عن الجهاد

المبحث الرابع: قصة المشرقيين ولقائهما مع الحسين، والجهاد المشروط

المبحث الخامس : الإمام الحسين يتلق نبأ استشهاد مسلمبن عقیل

ص: 335

ص: 336

شخصيات التقاهم الحسين (علیه السلام)في منازل الطريق

كان وصول الإمام إلى مكة في بداية شهر شعبان سنة ستين للهجرة، وتوجه منها إلى العراق في يوم التروية ، بعد أن أقام فيها «بقيّة شعبان وشهر رمضان وشوالاً وذي القعدة وثماني ليالٍ من ذي الحجة سنة ستين»(1).

وقد بيّنا سابقاً بواعث وأسباب خروج الإمام من مكة إلى العراق، رغم الاعتراضات التي واجهته من مختلف الفئات.

إلّا أن توقيت السفر في يوم التروية وهو اليوم الذي يتأهب فيه الحاج للخروج إلى عرفة له أهدافه الاعلامية الواضحة «فإن حجاج بيت الله الحرام قد حملوا إلى أقطارهم نبأ خروج الإمام في هذا الوقت من مكة وهو غضبان على الحكم الأموي ، وأنه قد أعلن الثورة على يزيد ، ولم يبق في مكة صيانة للبيت الحرام من أن ينتهك على أيدي الأمويين»(2).

* محاولات الأمويين العسكرية لمنع الإمام من السفر :

كانت السلطة الأموية تراقب عن كثب تحركات واجتماعات الإمام في مكة ، وكانت تحسب أن الإمام تحت قبضتها وهو في مكة، وقد أعدت العدة لاغتياله

ص: 337


1- الإرشاد : 2/ 66
2- القرشی، حياة الإمام الحسين : 52/3

بعد انقضاء موسم الحج ورجوع الحجاج إلى بلادهم، إلّا أن الإمام قد فوت عليهم الفرصة باختياره الخروج واختياره الوقت المناسب لهذا الخروج.

فكان خبر خروج الإمام من مكة صدمة عنيفة للسلطة الأموية فقد على إثرها والي الأمويين عمرو بن سعيد الأشدق توازنه وأخذته الهستريا في تصرفاته ، فقد روي : « أن عمرو بن سعيد لما بلغه خروج الحسين من مكة قال لشرطته : « اركبوا كل بعير بين السماء والأرض في طلبه!» وكان الناس يتعجبون من قوله ..»(1).

ولم يبتعد الإمام عن مكة كثيراً حتى لاحقته شرطة السلطة لمنعه عن مواصلة السفر .

روى الطبري : قال أبو مخنف .. عن عُقبة بن سمعان قال : «لما خرج الحسين من مكة اعترضه رُسُلُ عَمرو بن سعید بن العاص عليهم يحیی بن سعید ، فقالوا له : انصرف، أين تذهب ! فأبي عليهم ومضى، وتدافع الفريقان ، فاضطربوا بالسياط ، ثمّ إن الحسين وأصحابه امتنعوا امتناعاً قويّاً ، ومضى الحسين(علیه السلام) على وجهه »(2) .

لم تذكر لنا هذه الرواية تعداد هؤلاء الرُسل الذين خرجوا في إثر الحسين (علیه السلام). إلّا أنه يبدو ومن خلال ما حصل من تدافع الفريقين والاضطراب بالسياط والعصي(3)، أنها كانت مفرزة عسكرية صغيرة غرضها إبعاد الإمام عن مكة،

ص: 338


1- المرجع نفسه : 3 / 54 الهامش، نقلاً عن جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب : 133
2- الطبري : 5/ 385، والإرشاد للمفيد : 2/ 68،والبداية والنهاية : 8/ 179 : وفیه فاضطر بوا بالسياط والعصي
3- القرشي، حياة الإمام الحسين: 55/3 نقلاً عن التاريخ السياسي للدولة العربية: 2/ 72 - 73

فلم يقولوا للإمام عد إلى مكة وإما قالوا له : انصرف، أين تذهب ! وقد يكون الغرض من ذلك هو ابعاد الإمام عن مكة ، والتحجير عليه في الصحراء حتى يسهل القضاء عليه بسهولة.

ينقل القرشي عن الدكتور عبد المنعم ماجد قوله : « ويبدو لنا أن عامل يزيد على الحجاز لم يبذل محاولة جديّة لمنع الحسين من الخروج من مكة إلى الكوفة بسبب وجود كثير من شیعته في عمله، بل لعله قدر سهولة القضاء عليه في الصحراء بعيداً عن أنصاره، بحيث إن بني هاشم فيا بعد اتهموا يزيد بأنه هو الذي دسّ إليه الرجال حتى يخرج ..»(1).

ولعل هذا الكاتب يشير إلى رسالة عبد الله بن عباس ليزيد بعد استشهاد الإمام والتي جاء فيها:

«وما أنس من الأشياء فلستُ بناس اطرادك الحسين بن علي من حرم رسول الله (صلی الله علیه و اله)إلى حرم الله ودسك إليه الرجال تغتاله ، فأشخصته من حرم الله إلى الكوفة فخرج منها خائفاً يتقرب، وقد كان أعز أهل البطحاء بالبطحاء قديماً،وأعز أهلها بها حديثاً، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين لو تبوأ بها مقاماً واستحل

بها قتالاً»(2).

خطبة الإمام في مكة :

وينبغي الاشارة إلى أن الإمام الحسين وقبل مغادرته مكة جمع الناس وألقی عليهم خطابه التاريخي وهي الخطبة التي انهاها بقوله : «خط الموت على

ص: 339


1- المرجع نفسه: 3/ 55 نقلاً عن التاريخ السياسي للدولة العربية: 2/ 72 - 73
2- اليعقوبي، محمد بن واضح : تاريخ اليعقوبي : 2/ 221

ولد آدم ...»(1)، وهي خطبة جليلة حفلت بالدعوة إلى الحق والاستهانة بالموت ، ودعا المسلمين فيها إلى الخروج معه للقاء الله والجهاد في سبيله ، وقد بينا سابقاً مفردات هذه الخطبة والمفاهيم والثوابت التي تضمنتها بالاضافة إلى رسالته إلى محمد بن الحنفية وبني هاشم

* منازل الطريق :

ترك الإمام الحسين (علیه السلام)مكة في الثامن من ذي الحجة سنة (60ه)، ووصل إلى کربلاء في اليوم الثاني من محرم سنة (61ه)(2) فكانت مدة السفر أربعة وعشرين يوماً وهي فترة زمنية قياسية يقضيها المسافر في رحلته ما بين الحجاز والعراق .

وخلال هذه الرحلة الفريدة في تاريخ رحلات المجاهدين والداعين إلى الله ، والمتشوقين للقائه ، كانت هنالك محطات ومنازل توقف في بعضها الإمام الحسين، ومرّ على بعضها الآخر بلا توقف ، وقد ذكر المؤرخون وكتّاب المقاتل هذه المحطات والمنازل وما جرى فيها من أُمور ووقائع وأحداث(3).

وكانت للإمام(علیه السلام) في بعض هذه المنازل مواقف ولقاءات وخطب .. سجلتها أقلام المؤرخين ولم يتوقفوا عندها كثيراً .

وسوف نتوقف قليلاً عند بعض هذه المنازل والمحطات الحسينية - من دون أن نساير توقيتها الزماني أو المكاني - لنستلهم من وقائعها بعض الدروس والعبر من خلال التأمل في بعض المواقف والكلمات سواءً التي صدرت من الإمام الحسين أو من الذين التقاهم في طريقه .

ص: 340


1- مرّ بنا سابقاً ذكر هذه الخطبة وما يستفاد منها من دروس وعبر
2- البلاذری، انساب الاشراف، القسم الأول: 1/ 240
3- انظر المقرم، مقتل الحسين : 173 - 193، والطبسي، وقائع الطريق من مكة إلى كربلاء: 175/3 وما بعدها

المبحث الأول: لقاء الإمام الحسين مع الفرزدق الشاعر :

اشارة

يروي الطبري وابن كثير - واللفظ للأول - : قال أبو مخنف .. عن عبد الله بن سليم والمذري قالا: «أقبلنا حتى انتهينا إلى الصّفاح، فلقينا الفرزدق بن غالب الشاعر، فواقف حسيناً فقال له : أعطاك الله سؤلك وأملك فيا تحبّ. فقال له الحسين : بَيّن لنا نبأ الناس خلفك ، فقال له الفرزدق : مِنَ الخبير سألت ، قلوبُ الناس معك، وسيوفهم مع بني أُميّة ، والقضاء ينزل من السماء ، والله يفعل ما يشاء .

فقال له الحسين : صَدَقتَ ، لله الأمر، والله يفعل ما يشاء ، وكلّ يوم ربُّنا في شأن ، إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه ، وهو المستعان على أداء الشكر ، وإن حال القضاء دون الرجّاء، فلم يعتد مَن كان الحقَّ نيّته، والتقوى سريرته.

ثمّ حرّك الحسين راحلته فقال : السلام عليك، ثمّ افترقا »(1).

* تأملات في حوار الحسين(علیه السلام) مع الفرزدق :

هذا الحوار رغم وجازته وسرعته ، والذي يبدو من الرواية أنه جرى وطرفا الحوار على رواحلهم وإن الإمام لم يترجل ولم ينزل في ذلك المكان، إلّا أن فيه من الدروس والعبر الكثير وهو ما يدعونا إلى التوقف قليلاً للتأمل في بعض مضامینه وفقراته:

أولاً : الطرف المحاور للإمام الحسين هو : أبو فراس، همّام بن غالب التميمي ،

والذي يُعدُّ من أصحاب أمير المؤمنين والحسين والسجاد (علیهم السلام)عند علماء الرجال(2) .

ص: 341


1- الطبري : 386/5 ، والبداية والنهاية : 8/ 180، والكامل في التاريخ : 2/ 547
2- انظر ترجمته في معجم رجال الحديث للسيد الخوئي : 13 / 256، ولسان الميزان لابن حجر العسقلانی: 199/6

وله مواقف مشرفة في مدح أهل البيت (علیهم السلام)، وقصيدته في مدح الإمام السجاد(علیه السلام) وفي حضور طاغية الأمويين هشام بن عبد الملك مشهورة معروفة .

فالرجل يعدُّ من المحبين والموالين لأهل البيت (علیهم السلام)، والذابين عنهم بألسنتهم وشعرهم، إلّا أنه ولاء لم يرق إلى درجة التضحية بالنفس فهو مع علمه بما يؤول إليه أمر الإمام من القتل والشهادة إلّا أنه لم يكلف نفسه مشقة الالتحاق به ونصرته.

وفي النص الذي يرويه الطبري في سياق الرواية السابقة عن الفرزدق نفسه ما يسلط الأضواء على شخصية هذا الرجل.

«قال - أي الفرزدق - ثمّ مضيتُ فإذا بُفُسطاط مضروب في الحرم ، فأتيته فإذا هو لعبد الله بن عمرو بن العاص، فسألني فأخبرته بلقاء الحسين بن علي، فقال لي : ويلك ! فهلّا اتبعته، فوالله ليملكنّ، ولا يجوز السلاح فيه ولا في أصحابه .

قال - أي الفرزدق - فهممت واللهِ أن ألحق به، ووقع في قلبي مقالته ، ثمّ ذكرتُ الأنبياء وقَتلهم، فصدَّني ذلك عن اللّٙحاق بهم، فقدمتُ على أهلي بعُسفان ، فواللهِ إني لعندهم إذ أقبلت عير قد امتارت من الكوفة، فلما سمعت بهم خرجتُ في آثارهم حتى إذا أسمعتهم الصوت.. صرختُ بهم : ألا ما فعل الحسين بن علي ؟ فردّوا عليَّ : ألا قد قُتل، فانصرفت وأنا ألعنُ عبد الله بن عمرو بن العاص وكان أهل ذلك الزمان يقولون ذلك الأمر(1) وينتظرونه في كلّ يوم وليلة»(2).

فالفرزدق عندما سمع مقالة عبد الله بن عمرو بن العاص، وإن الحسين مقبل على الملك ، وإنه سوف يملك ، وليس هنالك شيء غير الملك ، وأما الموت والشهادة

ص: 342


1- أي استشهاد الإمام الحسين(علیه السلام)
2- الطبري : 5/ 387

والقتل فهذا مما «لا يجوز في الحسين ولا في أصحابه» بحسب تشخیص عبد الله بن عمرو بن العاص، عندها همّ الفرزدق أن يلحق بالحسين ، إلّا أنه تذكر «الأنبياء وقَتلهم» وبما أن الحسين(علیه السلام) ابن بنت رسول الله وسبطه، ووارثه، ويحمل دعوة الاصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فكما جرى القتل في الأنبياء يجري فيه أيضاً، عندها فترت همّة الفرزدق و صدّه ذكر الأنبياء وقتلهم عن اللحاق بالحسين والفوز بما فاز به الأنبياء والأوصياء والإمام الحسين وأهل بيته وصحبه رضوان الله عليهم أجمعين .

فالفرزدق رغم وعيه الاجتماعي والسياسي الدقيق إلّا أنه يمثل شريحة واسعة من المجتمع الإسلامي الذي قام من أجله الإمام الحسين بنهضته ، مجتمع الخضوع والخنوع والاستسلام للأمر الواقع ، والرضى بالذل والهوان ، مجتمع يريد التغير والاصلاح ولديه الرغبة في ذلك إلّا أنه يريد من غيره أن يكفيه هذا الأمر فلا يرقي إلى مستوى الثورة والتضحية والاستشهاد، فكانت إحدى أهداف نهضة الإمام الحسين (علیه السلام)هو الارتقاء بهذا المجتمع إلى هذا المستوى ولو على المدى البعيد، وهذا ما حصل لاحقاً بعد استشهاد الإمام ومن خلال الثورات التي هزت عروش الأمويين حتى أسقطتها.

ثانياً : تشخيص الفرزدق :

جواب الفرزدق للإمام الحسين(علیه السلام) عندما يقول للإمام : «مِنَ الخبير سألت ، قلوب الناس معك، وسيوفهم عليك» على وجازته واختصاره يعبر عن وعي سياسي و اجتماعي دقيق وعميق، وتشخيص لحالة الشلل النفسي وحالة ازدواج الشخصية في أهل الكوفة خاصة والأُمة الإسلامية عامة.

وهذه الازدواجية وهذا الانشطار من أشد الأمراض الاجتماعية والسياسية فتكاً إذ إن الإنسان السوي تتأطر شخصيته من ثلاثة أشياء :

ص: 343

الأول : الرأي، ومركزه عقل الإنسان و تفكيره .

الثاني : العاطفة ، ومركزه وبؤرته القلب حيث الحب والبغض.

الثالث : الفعل ( الموقف )، وموضعه إرادة الإنسان.

هذه الأشياء الثلاثة عندما تكون منسجمة ومتكاملة فيما بينها ولا تتخالف عندها يكون الإنسان قوياً ، ويعيش حالة الانسجام الكامل في شخصيته ، وأما إذا تخالفت وتضاربت و تنافرت عندها يضعف هذا الإنسان، وتنغلق شخصيته في اتجاهين متعاكسين، فنجد عقله وعاطفته في اتجاه وصوب، وارادته في صوب واتجاه آخر، وعندها يعيش حالة ازدواج الشخصية، وهي من أشد الأمراض فتكاً في شخصية الإنسان وإيمانه من حيث المواقف المتناقضة التي ينجرُّ إليها.

وأهل الكوفة الذين كانوا في الأعم الأغلب من شيعة أهل البيت ، وكانوا يحبونهم حباً عميقاً ، وعاشوا مع أمير المؤمنين ، وأعطوا أفلاذ أكبادهم فداء لأمير المؤمنين في حروبه.

إلّا أن بني أُمية استطاعوا أن يسحبوا منهم سيوفهم، والذي يعبر عن موقفهم وإرادتهم، وبقيت قلوبهم مع الحسين (علیه السلام).

والفرزدق يقول للحسين : يا ابن رسول الله (صلی الله علیه و اله)إنك ذاهب إلى أُناس قد انشطروا شطرين، شطر لك ، وشطر عليك ، والشطر الضعيف لك، والشطر القوي عليك !

إلّا أن الفرزدق رغم تشخيصه الدقيق والألمعي لواقع الناس في الكوفة في عصر الحسين (علیه السلام)إلّا أنه فاته شيء واحد لم يستوعبه بدقة وهو : ان الموقف إذا تحول إلى اللاموقف فسوف يتحول وينقلب إلى موقف آخر مضاد ومعاكس له.

وبتعبير آخر : إن السيوف إن لم تتبع القلوب، فإن القلوب سوف تتبع السيوف، وهذه لا محالة تحصل، وقد حصلت فعلاً في المجتمع الكوفي الذي رفع السيوف

ص: 344

وخرج إلى كربلاء لمواجهة وقتال الحسين (علیه السلام)، في الوقت الذي كانت قلوبهم مع الحسين، هذه المجموعة تحولت قلوبهم بعد ذلك باتجاه سيوفهم، فعادت لشخصيتهم انسجامها ولم تبق شخصية منفلقة ومنشطرة، وإنما شخصية متوحدة ولكن في اتجاه بني أُمية، فأصبحوا وبحسب تعبير الإمام الحسين حيث يخاطبهم یوم عاشوراء : «فأصبحتهم إلباً لأعدائكم على أوليائكم.. ويحكم أهؤلاء تعضدون وعنا تتخاذلون »(1).

هذا التحول من الموقف إلى اللاموقف قد أدركه الفرزدق وبشكل دقيق، ولكنه لم يدرك المرحلة الثانية من انقلاب اللاموقف إلى الموقف المعاكس والمضاد.

وإذا غابت من الفرزدق هذه المرحلة الأخيرة من الانقلاب و الردّة ، فإن القرآن يسجلها بوضوح في قوله تعالى : «ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ»(2).

«وأي سوء أسوأ من أن يحمل الإنسان المؤمن السيف على الله ورسوله وأولياء الله ، ويقاتلهم في الدفاع عن الطاغوت ، فإذا فعل ذلك فإنّ الله تعالى يسلب عنه التصديق والإيمان والوعي والرأي ، فيكذّب بآيات رسول الله ، وإذا كذّب بآيات الله ورسوله وأوليائه عاداهم وأبغضهم»(3).

ثالثاً : تعقيب الإمام الحسين(علیه السلام) :

لم يندهش الإمام الحسين(علیه السلام) من جواب الفرزدق وتشخيصه الدقيق لأوضاع الناس في الكوفة، ولم يسأله عن الأسباب والعلل الكامنة وراء هذا الانقلاب

ص: 345


1- المقرم، مقتل الحسين : 234، والإلب : القوم يجمعهم عداء واحد
2- الروم : 10
3- الآصفي ، الاستماتة والجزع من الموت : 208 - 209، دراسات وبحوث مؤتمر الإمام الحسين، ط. المجمع العالمي لأهل البيت

العجيب، لأن الإمام(علیه السلام) قد عرف الكوفة وأهلها وقد عاصر فترة خلافة والده أمير المؤمنين والفترة التي عاش محنتها الإمام الحسن في مدة الخلافة، فلم تكن هذه المحصلة التي توصل إليها الفرزدق بجديدة عليه ، ولهذا لم يناقش الفرزدق ولم يخطئه أو يعترض عليه فيما أبداه من رأي و تشخيص لأُمور الناس في الكوفة . وانما عقب على ذلك بتسليم الأمر الله سبحانه ، والانقياد الكامل لقضاء الله وقدره : «لله الأمر ، واللهُ يفعل ما يشاء وكل يوم ربنا في شأن ، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه ، وهو المستعان على أداء الشكر ، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد من كان الحق نيّته ، والتقوى سريرته »(1).

فنجد في الإمام الحسين(علیه السلام) في هذا الموقف وفي كلّ مواقف الشدة التسليم والانقياد، والايمان الراسخ، والعزيمة التي لا تلين، «وعزمة قلب كبير عز عليه الإذعان، وعزّ عليه النصر العاجل، فخرج بأهله وذويه ذلك الخروج الذي يبلغ به النصر الآجل بعد موته ، ويحيي به قضية مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة»(2) .

وعندما نستعرض كلمات الإمام الحسين من حين خروجه إلى حين استشهاده نجد قضية التسليم بقضاء الله وقدره شاخصة فيها، وكانت مسك الختام لكثير من خطبه ، بالاضافة إلى «الشكر» الذي لهج به لسانه في كل موطن ومنزل وشدة وبلاء، ولأن كان العطش قد أثر في جوارح الحسين وفي اليوم العاشر من المحرم، وأصبح لسانه کالخشبة اليابسة من شدة الظمأ(3) إلّا أنه بقي رطباً بذكر الله وأداء الشكر والصبر.

ص: 346


1- الطبري : 368/5
2- العقاد، عباس محمود : أبو الشهداء : 107
3- المقرم: 278

ألقي الإمام خطابه الثاني في مكة حين خروجه و ختمه بقول : «لا مَحيصَ عَن يَومٍ خُطَّ بالقَلمِ، رضي الله رضانا أهل البيت ، نصبرُ على بلائهِ ويُوَفّينا أُجور الصّابرین ..»(1).

ووقف الحسين في آخر لحظات يوم العاشر وهو يتلقي دم ولده الرضيع ثمّ يرمي به نحو السماء ، ويقول : «هَوَّنَ ما نَزَلَ بي إنَّهُ بعين الله تعالى .. إلهي إن کُن۟تَ حَبَستَ عَنَّا النَّصرَ فاجعَلهُ لما هو خير منه ، وانتقم لنا من الظالمين، واجعل ما حلَّ بِنا في العاجِلِ ذَخيرةً لنا في الآجِل»(2) .

المبحث الثاني: لقاء الإمام الحسين بزهير بن القين البجلي :

اشارة

ذكر المؤرخون لقاء الإمام الحسين بزهير بن القين البجلي في منطقة «زرود» بشيء من التفصيل ، وسوف نتوقف بعض الشيء عند هذا اللقاء وما أسفر عنه من نتيجة إيجابية تحول بعدها زهير بن القين من هوىً إلى هویً آخر ومن موقع إلى موقع آخر، حتى استشهد مع الحسين في كربلاء وأصبح من شهداء کربلاء المبجلين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

يروي الطبري : عن أبي مخنف عن السدّي ، عن رجل من بني فَزارة ... قال : «كنا مع زهير بن القين البَجليّ حين أقبلنا من مكة نساير الحسين ، فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن نسايره في منزل ، فإذا سار الحسين تخلف زهير بن القين ، وإذا نزل الحسين تقدّم زهير ، حتى نزلنا يومئذ في منزل لم نجد بُدّاً من أن ننازله فيه ،

ص: 347


1- موسوعة كلمات الإمام الحسين : 328 و 477
2- موسوعة كلمات الإمام الحسين : 328 و 477

فنزل الحسين في جانب ، ونزلنا في جانب ، فبينما نحن جلوس نتغذّى من طعام لنا ، إذ أقبل رسول الحسين حتى سلّم، ثمّ دخل فقال : يا زهير بن القين ، إن أبا عبد الله الحسين بن علىّ بعثني إليك لتأتيه ، قال : فطرح كلّ إنسان ما في يده حتى كأننا على رؤوسنا الطير.

قال أبو مخنف : فحدّثتني دَلهم بنت عمرو امرأة زهير بن القين ، قالت : فقلت له : أيبعث إليك ابن رسول الله ثمّ لا تأتيه! سبحان الله ! لو أتيته فسمعت من كلامه ثمّ انصرفت ، قالت : فأتاه زهير بن القين فما لبث أن جاء مستبشراً قد أسفر وجهه ، قالت : فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فقدّم، وحُمل إلى الحسين ، ثمّ قال لأمرأته : أنت طالق ، الحقي بأهلك ، فإني لا أحبّ أن يصيبك من سببي إلّا خير ، ثمّ قال لأصحابه : مَن أحبّ منكم أن يتبعني وإلّا فإنه آخر العهد ، إني سأُحدثكم حديثاً ، غزونا بلَنجَر(1) ، ففتح الله علينا، وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الباهليّ(2) : أفرحتم بما فتح الله عليكم، وأصبتم من الغنائم ! فقلنا : نعم، فقال لنا : إذا أدركتم شبابَ آل محمد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم منكم بما أصبتم من الغنائم، فأما أنا فإنّي أستودعكم الله ، قال : ثمّ والله ما زال في أوّل القوم حتّى قتل»(3).

* أضواء على النص التاريخي :

يعدّ زهير بن القين من شهداء كربلاء البارزين، وكانت له مواقف جليلة مشهودة مع الحسين في واقعة كربلاء ونصر الحسين بلسانه وسيفه ، فمنذ أن التحق

ص: 348


1- وفي الإرشاد : (البحر) و بلنجر مدينة ببلاد الروم
2- وفي الإرشاد : (سلمان الفارسي)
3- الطبري : 5/ 396 - 397، والإرشاد للمفيد : 2/ 73 مع اختلاف يسير ، والكامل في التاريخ:2/42

بالحسين في زرود إلى حين استشهاده في يوم العاشر من محرم، لا نجد موقفاً من المواقف إلّا ونجد لزهير بن القين فيه دوراً بارزاً، وموقفاً مشهوداً، ولو أردنا أن نتوقف عند هذه المواقف الجليلة واحدة واحدة لطال بنا المقام(1).

ويكفي زهيراً فخراً أن الحسين(علیه السلام) جعله على ميمنته في يوم عاشوراء . وقال له بعد أن خطب القوم ووعظهم «أقبل فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح قومه وأبلغ في الدعاء فلقد نصحت هؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والابلاغ» . ووقف الحسين(علیه السلام) عنده بعد استشهاده ليقول : لا يبعدنّك الله يا زهير ولعن قاتليك.

ويكفي زهيراً فخراً أن خصّه الإمام بالسلام في زيارة الناحية بقوله : «السلام على زهير بن القين البجلي القائل للحسين(علیه السلام)» وقد أذن له في الانصراف : لا والله ، لا يكون ذلك أبداً، أأترك ابن رسول الله(صلی الله علیه و اله) أسيراً في يد الأعداء وأنجو أنا؟ لا أراني الله ذلك اليوم(2).

إلّا أننا عندما نعود إلى النص التاريخي الذي رواه الطبري وغيره من المؤرخين نجد أن زهيراً كان يتحاشى الحسين في مسيره، ويتعمد الابتعاد عنه كراهة لقائه ، ثمّ عندما جمعهما منزل وأرسلَ الحسين رسوله إليه يدعوه، نجده يتثاقل في الاجابة حتى تتدخل زوجته فتحثه على لقاء الحسين وسماع كلامه .. هذا المقطع من النص التاريخي يدعونا إلى التساؤل عن السبب الذي حمل زهيراً على كراهية اللقاء بالإمام الحسين(علیه السلام) !

ص: 349


1- للتوسع انظر المقرم، مقتل الحسين : 177 و 191 و 194 و 209 و 211 و 214 و 225 و 231 و 232 و 247، والسماوي في إبصار العين : 95 وما بعدها
2- الخوئي، معجم رجال الحديث : 7 / 295

وعندما نعود إلى ترجمة زهير بن القين في كتب الرجال نجد تعليل ذلك بأن زهيراً كان عثماني الهوى ! أي أنه كان يرى أن عثمان قد قتل مظلوماً ، وهذا يعني أن الرجل كان له موقف سياسي سلبي من علي وآل علي (علیهم السلام)، ويتبنىّ الرأي الذي تبناه معاوية وآل أُمية لتضليل الأُمة الإسلامية من أجل الوصول إلى مآربهم.

يقول البلاذري : «قالوا : وكان زهير بن القين البجلي بمكّة، وكان عثمانياً ، فانصرف من مكة متعجّلاً ، فضمه الطريق وحسيناً فكان يسايره ولا ينازله ...»(1).

وروى الطبري في وقائع يوم التاسع من محرم ، أن عزرة بن قيس - وهومن قادة جیش عمر بن سعد - قال لزهير : «یا زهير، ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا

البيت ، إنما كنت عثمانياً»(2).

وترجم له الشيخ السماوي في الإبصار بقوله : «كان زهير رجلاً شريفاً في قومه ، نازلاً فيهم بالكوفة ، شجاعاً، له في المغازي مواقف مشهورة، ومواطن مشهودة، وكان أولاً عثمانياً ، فحج سنة ستين في أهله، ثمّ عاد فوافق الحسين في الطريق ، فهداه الله ، وانتقل علوياً »(3) .

فالمشهور والشائع في سيرة زهير بن القين انه كان عثمانياً قبل التحاقه بالإمام الحسين (علیه السلام)، وإن كان للتشكيك في هذا المشهور والشائع مجال واسع، فيكون من باب «ربَّ مشهور لا أصل له» فإن مواقفه المشرفة ، وكلماته الخالدة ، و تفانيه في سبیل الحق بين يدي الحسين تدعونا للشك والتأمل في نسبة العثمانية إليه(4)

ص: 350


1- أنساب الأشراف: 3/ 378 وما بعدها
2- الطبري : 417/5
3- إبصار العين : 95 وما بعدها، وانظر : وسيلة الدارين للزنجاني : 140
4- حاول بعض الكتاب المعاصرين ان ينفي نسبة العثمانية لزهير وجمع شواهد كثيرة على ذلك، انظر : نجم الدين الطبسي : مع الركب الحسيني : 207/3 وما بعدها

إلّا أننا لو بقينا مع ما هو مشهور في سيرة الرجل وصدقنا ما جاء في القسم الأول من النص التاريخي والذي يصف حال زهير قبل لقاء الحسين (علیه السلام)، ثمّ قارنا ذلك مع القسم الثاني من النص التاريخي والذي يصف حال زهير بعد لقاء الحسين لله ثم مواقفه الجهادية في كربلاء، لوجدنا انقلاباً عجيباً و تحولاً عظيماً يعجز العقل البشري عن الوقوف على مكنونه وأسراره.

یا سبحان الله ، يذهب زهير إلى الإمام الحسين (علیه السلام)بخطوات متثاقلة، وبوجهٍ مكفهر ، ومن دون رغبة منه لهذا اللقاء، ولكن سرعان ما يعود، مسرع الخطى ، وبوجه مُسفر مشرق، ثمّ يأمر بثقله وفسطاطه ورحله أن يحول إلى رحل الحسين (علیه السلام)، ثمّ يطلق زوجته بسرعة فائقة ومن دون تأمل ، بل يطلّق الدنيا وما فيها بلمحة بصر !!

فما الذي حصل في هذا اللقاء؟ وما هي الجاذبية التي جذبته إلى هذا التحول ؟ وما الذي حدثه به الإمام الحسين (علیه السلام)؟ هل هو حديث سلمان الباهلي - أو الفارسي - حول غزوة بلنجر ؟ أم أن هنالك حديثاً آخر لم يفصح عنه زهير إلى حين استشهاده ، فبقي سرّاً من الأسرار التي لا نعرف كنهها؟

يقول أحد الكتّاب معلقاً على هذا الانقلاب والتحول في شخصية زهير إثر هذا اللقاء القصير بقوله :

«فلو حضر الموقف العجيب أحد من المشركين أو الكفرة أو الناصبيين ، لقالوا عن الإمام الحسين : إن هو إلّا ساحر يريد أن يفتنكم بسحره هذا، كما قيل لجدّه المصطفى (صلی الله علیه و اله)والأنبياء من قبل ، حال ممارستهم الدعوة، وحين ينقلب إليهم بعض الأفراد بفجأة وإعجاب بهم وبدعوتهم ... ولكن لا داعي للتعجب، ولا غرابة ، فالحسين هو الهدى ودليل الحق لكل من أُتيحت له الحظوة وسعادة الآخرة ،

ص: 351

بعد أن غطى عليه الجهل والغفلة والخلاف وأزمات الفتن ، کزهیر بن القين الذي اكتسحه التيار المعادي المغرض...، والحق أن ذلك الموقف لقوي الدلالة على حقيقة أن التذكير بالغ النفع للهداية ، وَ ذَکِّر۟ فَإِنَّ الذِّك۟رَى تَنفَعُ ال۟مُؤ۟مِنِينَ»(1).

حاول الشيخ القرشي في كتابه القيّم حول حياة الإمام الحسين(علیه السلام) أن يجيب عن بعض هذه التساؤلات بأن الإمام (علیه السلام)قد بشّر زهيراً بالشهادة والفوز بالجنة ، بالاضافة إلى تذكيره لزهير بحديث غزوة بلنجر وبشارة سلمان لهم بقوله : «إذا أدركتم (سید)(2) شباب آل محمد (صلی الله علیه و اله)فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معه مما أصبتم اليوم من الغنائم» فقد بَشره بالشهادة والفوز بالجنة.

روی إبراهيم بن سعيد وكان قد صحب زهيراً حينما مضى إلى الإمام(علیه السلام) أنه له : « إنه يقتل في كربلاء وإن رأسه الشريف يحمله زجر بن قيس إلى يزيد يرجو نواله فلا يعطيه شيئاً»(3) .

وقبل أن نترك زهير بن القين رضی الله عنه وقد جذبته إلى الحسين(علیه السلام) «جذبة من جذبات الحق» وجذبته إليه بقوة، على أمل أن نعود له في بعض مواقفه وكلماته وخطبه، ونقارن بينه وبين من التقي بهم الحسين ودعاهم لنصرته لكنهم لم ينجذبوا إلى الحسین کما انجذب إليه زهیر ، ولم يساعدهم التوفيق للإلتحاق بركب الحسين ، والفوز معه بالشهادة والسعادة.

ص: 352


1- الدوافع الذاتية لانصار الحسین: 154، ط. دار الكتاب الإسلامي ، قم، الطبعة الثالثة، (1983 م)
2- برواية الشيخ المفيد في الإرشاد : 2/ 73 ولا توجد في رواية الطبري 5/ 396 کلمة (سید)
3- القرشي ، حياة الإمام الحسين : 67/3 ، والرواية في دلائل الإمامة لمحمد بن جرير الطبري : 74، طبعة المكتبة الحديرية ، ط. الأُولى، (1963م)، ونص الرواية : «قال أبو جعفر ... حدثنا إبراهيم بن سعيد ... قال : قال الحسين له : یا زهیر اعلم ان هاهنا مشهدي ويحمل هذا ( وأشار إلى رأسه ) من جسدي زجر بن قيس فيدخل به على يزيد يرجو نواله فلا يعطيه شيئاً»

لابد لنا من وقفة اعزاز واجلال نسجلها لزوجته الصالحة «دلهم بنت عمرو» لموقفها المشرف وكلماتها النصوحة لزوجها.

لقد أخلصت هذه المرأة لزوجها في موقفها الأول حيث دهش عجبا من دعوة الحسين له ، فوقفت لتقول كلمة الحق - بعد أن عقدت ألسن القوم کرهاً أو حياءً - «سبحان الله ، أيبعث إليك ابن بنت رسول الله ثمّ لا تأتيه؟ لولا أتيته فسمعت كلامه». ففي الوقت الذي كان من المتوقع أن تتعلق هذه الزوجة بزوجها وتمنعه من أن يأتي الحسين لو أراد ذلك، نجدها تساعده على التخلص من حيرته وتردده ، من خلال كلمات قليلة في ألفاظها كبيرة في معانيها.

كذلك أخلصت لزوجها في موقفها الثاني عندما عاد إليها وقد ارتسمت على وجهه المشرق معالم البشر والأُنس ليقول لقومه : «من أحبَّ منكم أن يتّبعني وإلّا فإنه آخر العهد فأما أنا فأستودعكم الله». ثمّ يلتفت إليها ليقول لها : «أنت طالق ألحقي بأهلك فإنّي لا أُحبُّ أن يصيبك من سبي إلّا خير»(1).

وبحسب رواية الدينوري : ثمّ قال لامرأته : أنت طالق، فتقدّمي مع أخيك حتى تصلي إلى منزلك، فإني وطّنتُ نفسي على الموت مع الحسين(علیه السلام)(2).

لقد أثبتت هذه المرأة في هذا الموقف حقيقة إيمانها ونصحها وإخلاصها لزوجها ، فلم تمنعه من ذلك ، ولم تعترض على تركها بتلك الحالة ، ولم تبك على حالها ... «لقد آمنت بأنّ زهيراً على خير ، ذاهباً إلى خير فلا قهر ولا ضير، ولابد أن كلامها له من كلام المؤمنات، إذ كان يتعهدها بالخير كما قال، فطلبت منه أن لا ينساها في أبديته ، وقالت كلمتها الأُخرى وسجلت النقطة الثانية لها في هذا الموقف ،

ص: 353


1- الطبري : 5/ 396
2- الدينوري، الأخبار الطوال : 247

حينما نطقت على يقين بكلمة الوداع : «كان الله عوناً ومعيناً ، خار الله لك، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين ..»(1) .

هذه المرأة الصالحة وإن لم تحضر کربلاء ويوم عاشوراء بنفسها(2)، إلّا أنها سجلت موقفاً مناصراً للحسين وقضيته، وكان لها دور كبير في حمل زوجها على اللحاق بركب الحسين والاستشهاد بين يديه ، وأصبحت النموذج الذي يحتذى به ، وسوف يبق هذا الموقف الشريف والعظيم والنبيل مخلداً إلى جانب خلود زوجها الشهيد في كربلاء، وخلود قضية الحسين لأنها قضية الحق، ومن أجل الحق .

المبحث الثالث: لقاء الإمام الحسين بعبيد الله بن الحر الجعفي واعتذاره من الجهاد :

اشارة

من منازل الطريق الذي مرّ به الإمام الحسين ونزل فيه «قصر بني مقاتل» وينسب هذا القصر إلى مقاتل بن حسان بن ثعلبة ، وسمي القصر باسم صاحبه ، ويقع بعد عذيب الهجانات وما بين عين التمر والقطقطانة والقريات(3). وهو خان الاخيضر حالياً(4) .

وفي هذا الموضع اجتمع الحسين(علیه السلام) مع (عبيد الله بن الحر الجعفي) ودعاه لنصرته فلم يستجب لذلك ، كذلك كان له (علیه السلام)لقاء مع عمرو بن قیس المشرفي وابن عمه، واعتذرا عن نصرة الحسين بكثرة العيال، وفي السياق نفسه كان للحسين لقاء مع «الضحاك بن عبد الله المشرقي» الذي استجاب

ص: 354


1- عابدین، محمد علي : مبعوث الحسين : 156 - 157، واللهوف لابن طاووس : 31
2- ذكر بعضهم حضورها في كربلاء، انظر المحلاتي، فرسان الهيجاء : 1/ 144 (بالفارسية)
3- الحموی، معجم البلدان، وعابدین، محمد علي : الدوافع الذاتية : 186
4- الحموی، معجم البلدان، وعابدین، محمد علي : الدوافع الذاتية : 186

لدعوة الحسين استجابة مشروطة، وله مع الحسين قصة غريبة في فصولها وأحداثها ، وسوف يأتي الحديث عنها(1).

وحيث إن هؤلاء يمثلون عينات لشريحة واسعة من المجتمع الكوفي آنذاك لذا سوف نتوقف عند هذه اللقاءات وما جرى فيها.

وملخص قصّة «عبيد الله بن الحر الجعفي» مع الإمام الحسين (علیه السلام)کما تسطرها كتب المقاتل والسير.

إن الإمام الحسين (علیه السلام)وفي طريقه إلى كربلاء مرّ بقصر بني مقاتل، فرأى فسطاطاً مضروباً ، ورمحاً مركوزاً، وفرساً واقفاً ، فسأل عنه فقيل هو ل( عبيد الله بن الحر الجعفي). فبعث إليه (الحجاج بن مسروق الجعفي) ، فسأله ابن الحر عما وراءه فقال الحجاج : هدية إليك وكرامة إن قبلتها !! هذا الحسين يدعوك إلى نصرته، فان قاتلت بين يديه أُجرت، وإن قُتِلتَ استشهدت.

فقال ابن الحر : والله ما خرجت من الكوفة إلّا لكثرة ما رأيته خارجاً لمحاربته وخذلان شيعته ، فعلمت أنه مقتول ولا أقدر على نصره.

فعاد الحجاج إلى الحسين (علیه السلام)وأعاد عليه کلام عبيد الله بن الحر.

فقام الحسين (علیه السلام)ومشى إليه في جماعة من أهل بيته وصحبه ... ولما استقر المجلس بأبي عبد الله الحسين(علیه السلام) حمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا ابن الحر... إن عليك ذنوباً كثيرة فهل لك من توبة تمحي بها ذنوبك(2) ؟

ص: 355


1- أُنظر المبحث الرابع من هذا الباب
2- انظر ترجمة عبيد الله بن الحر الجعفي، الطبري : 7/ 168، والبلاذري في أنساب الأشرف : 297/5 ، وابن الأثير : 112/4 ، والقمي في نفس المهموم : 195 - 202، فالرجل كان عثماني العقيدة، وحارب علياً يوم صفين مع معاوية ... وكان متمرداً على أحكام الشريعة، ينهب الأموال ويقطع الطرق... والإمام الحسين بمسيره لابن الحر - وهو يعرفه جيداً - بصدد إتمام الحجة على الناس کیلا يقول أحد أنه لم يدعني الحسين لنصرته

قال : وما هي يا ابن رسول الله ؟ فقال : تنصر ابن بنت نبيك و تقاتل معه .

فقال ابن الحر : والله إني لأعلم أن من شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن ما عسى أن أغني عنك ولم أخلف لك بالكوفة ناصراً ! فأنشدك الله أن تحملني على هذه الخطة فإن نفسي لا تسمح بالموت. ولكن فرسي هذه « المُل۟حِقَة» والله ما طلبت عليها شيئاً قط إلّا لحقته ، ولا طلبني أحد وأنا عليها إلّا سبقته ، فخذها فهي لك؟

فقال له الحسين : أما إذا رغبت بنفسك عنا فلا حاجة لنا في فرسك ولا فيك ، وما كنت متخذ المضلين عضداً.

وفي إرشاد المفيد، والطبري : قال له الحسين (علیه السلام): فإلّا تنصرنا فاتّق الله أن تكون ممّن يقاتلنا، فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ثمّ لا ينصرنا إلّا هلك ، فقالابن الحر : أما هذا فلا يكون أبداً إن شاء الله(1).

وبعد انتهاء واقعة الطف واستشهاد الإمام الحسين (علیه السلام)ومن معه من أهل بيته وأنصاره، ندم ابن الحر على ما فاته من نصرة الحسين(علیه السلام) فأنشأ :

أَيَالَكَ حَس۟رَةً مَا دُم۟تُ حَيَاً

تَرَدَدُ بينَ صَد۟ري والتَراقِي

غَداةَ يَقُولُ لي بالقصرِ قَو۟لاً

أَتَت۟رُکُنا وَتَع۟زَمُ بالفِراقِ حُسَينٌ

حِينَ يطلبُ بَذَلَ نَص۟رِي

على أَه۟لِ العَدَاوَةِ والشِقاقِ

فَلو فلقَ التَلَهفُ قلبَ حيٍ

لهَّمَ اليومُ قَل۟بي بان۟فِلاقِ

ولو آسَي۟تُهُ يوماً بِنَفسي

لَنِلتُ كرامةً يومَ التَلاقِ

ص: 356


1- الطبري : 407/5 ، والإرشاد : 2/ 81 - 82

مع ابنِ محمدٍ تَف۟ديهِ نَفسي

فَوَدَّعَ ثُمَّ أسرعَ بانطِلاقِ

لَقَد فازَ الأُولىٰ نَصَروا حُسَی۟ناً

وخابَ الآخرونَ ذَوُو النِفاق(1) (2)

وفي رواية الطبري عن أبي مخنف : أن عبيد الله بن زياد بعد مقتل الحسين تفقّد أشراف أهل الكوفة ، فلم ير عبيد الله بن الحرّ، ثمّ جاءه بعد أيام حتى دخل عليه ، فقال : أين كنت یابن الحر؟ قال : كنت مريضاً ، قال : مريض القلب ، أو مريض البدن! قال : أما قلبي فلم يمرض ، وأما بدني فقد منَّ الله عليَّ بالعافية.

فقال له ابن زیاد : كذبت ولكنك كنت مع عدوّنا ، قال : لو كنت مع عدوّك لرُئي مکاني، وما كان مثل مكاني يخنس.

قال الراوي : وغفل عنه ابن زیاد غفلة ، فخرج ابن الحر فقعد على فرسه. فقال ابن زياد : أين ابن الحر؟ قالوا : خرج الساعة ، قال : عليَّ به.

فأحضرت الشُّرط فقالوا له : أجب الأمير ، فدفع فرسه ثمّ قال : أبلغوه أنّي لا آتیه والله طائعاً أبداً .. ثمّ خرج حتى أَتى كربلاء فنظر إلى مصارع القوم، فاستغفر لهم... وقال في ذلك :

يقول أميرٌ غادرٌ حقّ غادرٍ

ألا كنتَ قاتَل۟تَ الشهيد ابن فاطِمَه۟

فيا نَدمي أَلّا أكونَ نصرتُهُ

ألا كلُّ نفسٍ لا تُسدّد نادِمَه۟

وإِني لأَنّي لم أكن من حُماتِهِ

لذو حسرةٍ ما إن تفارقُ لازَمه۟

سَقى اللهُ أرواحَ الذينَ تأَزّروا

على نصرهِ سُقيا من الغيثِ دائمه۟

وقَف۟تُ على أَجداثِهم ومجالِهم

فكادَ الحشا ينفضُّ والعينُ ساجمَه(3)

ص: 357


1- المقرم، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين : 180 - 181، ط . قسم الدراسات الإسلامية في مؤسسة البعثة - طهران، (بلا - ت)
2- وللتوسع انظر الأخبار الطوال للدينوري : 250 - 251، والإرشاد للشيخ المفيد : 2/ 81 82، والطبري : 407/5 ، والقرشي، حياة الإمام الحسين : 3/ 86 - 88
3- الطبري : 469/5 - 470، وللأبيات تتمة في المصدر نفسه
* وقفة مع ابن الحر :

عندما نتأمل في قصة عبيد الله بن الحر الجعفي ونحلل موقف هذا الرجل السلبي من دعوة الإمام الحسين لنصرته، ثمّ مواقفه اللاحقة لواقعة الطف ، وحالة الندم التي سجلها في أبياته الشعرية ، نلاحظ جملة من الخصال تؤطر شخصية هذا الرجل والتي منها :

أولاً : إن ابن الحركان ينقصه الوعي السياسي لقضية الإمام الحسين(علیه السلام) ، ولهذافقد الموقف الذي كان ينبغي أن يتخذه حيال دعوة الإمام له لنصرته.

فالإمام الحسين(علیه السلام) لم يكن يطلب من الناس مالاً ولا زعامة ولا سلطاناً ، وإنما يطلب منهم مهجهم وأفئدتهم «ألا ومن كان باذلاً فينا مهجته» ، فلم يدرك ولم يعِ ابن الحر هذه الحقيقة في دعوة الحسين (علیه السلام)، فوقف موقف المعتذر من دعوة الحسين، وليته اكتفي بذلك الاعتذار ، وإنما قدم للحسين فرسه . وقال له : « فخذها فهي لك »

فقال له الحسين (علیه السلام): « أما إذا رغبت بنفسك عنّا فلا حاجة لنا في فرسك » .

ولو كان يعي ابن الحر الجعفي ما يطلبه الحسين منه لم يكن يقدّم للحسين فرسه عوضاً عن نفسه ودمه ومهجته.

وهذا هو فارق الوعي بين عبيد الله بن الحر الجعفي ، وبين الحر بن یزید الرّياحي والذي سوف تأتينا قصة لقائه بالحسين ومن الموقع الرسمي، ومن موقع المواجهة مع الحسين (علیه السلام).

لقد أدرك الحر الرياحي ... حقيقة الدعوة الحسينية ، وعلم أن الحسين لا يطلب من الناس سوى مهجهم وأفئدتهم، فأعطى للحسين ما یرید ومضى إلى ربه شهيداً، أما ابن الحر الجعفي فلم يفهم ولم يعِ دعوة الحسين ولهذا بخل بنفسه

ص: 358

واعتذر للإمام عن النصرة، وقدم للحسين ما لم يرده منه، وادعى الندم بعد ذلك على تخلفه عن الحسين (علیه السلام)فلم ينفعه ندمه(1).

ثانياً : إن الأحداث اللاحقة لوقائع الطف ، ودور عبيد الله بن الحر فيها تدل على أن الرجل لم يكن صادقاً في ندمه الذي ادعاه في أبياته الشعرية ، فقد بقي الرجل على عثمانیته ومناصرته لبني أُمية ، وأرسله عبد الملك بن مروان لمحاربة مصعب بن الزبير في جيش كثيف سنة (68ه) وقتل في تلك المعركة قرب الأنبار(2).

روى الدينوري في الأخبار الطوال : أن المختار - الثقفي - كتب إلى عبيد الله ابن الحر الجعفي، وكان بناحية الجبل يتطرّف ويُغير : «إنما خرجت غضباً للحسين ، ونحن أيضاً من غضب له ، وقد تجرّدنا لنطلب بثأره ، فأعنّا على ذلك». فلم يجبه عبيد الله إلى ذلك.

فركب المختار إلى داره بالكوفة فهدمها ، وأمر بامرأته أُم سلمة ، ابنة عمر الجعفي، فحبست في السجن، ونهب جميع ما كان في منزله ...(3).

لو كان صادقاً في ندمه على تأخره عن نصرة الحسين (علیه السلام)، لناصر المختار الثقفي على قتلة الإمام الحسين (علیه السلام)، فدعوى الندم يكذبها واقع حال الرجل وتاريخه السياسي في نصرة الأمويين، وفي السلب والنهب والاغارة على أموال الناس وأعراضهم.

ص: 359


1- الآصفي ، محمد مهدي : تأملات في الخطاب الحسيني : 157 - 158 (بتصرف)، ط. المجمع العالمي لأهل البيت
2- المقرم، مقتل الحسين : 188 الهامش
3- الدينوري، الأخبار الطوال : 297

فلا يبقى عندنا إلّا توجیه ما نسب إليه من أبيات شعرية إن صحت نسبتها إليه «بأن ما قاله من شعر كان نتيجة فورة عاطفية مؤقتة تميز أُولئك المتقلبين الذين لم يتبنّوا موقفاً ثابتاً في الحياة ..»(1).

ثالثاً : إن منطق عبيد الله بن الحر مع الإمام الحسين حينما يقول له : « والله إنّي الأعلم أن من شايعك كان السعيد في الآخرة.. فأنشدك الله أن تحملني على هذه الخطة، فإنّ نفسي لم تسمح بالموت ...»(2)

ليس منطق الإنسان المسلم المؤمن السوي ، المشتاق إلى لقاء ربه ، والمبادر إلى طاعته ، فهو يكره الموت مع علمه بأن الموت والقتل مع الحسين فيه سعادة الآخرة، ولقاء الله سبحانه ، ولكنه يكره لقاء الله مع الحسين والشهداء، ويختار منيته بميتة سوءٍ مع الأمويين وفي ركابهم. ومن کره لقاء الله ، كره الله لقاءه كما جاء في الحديث الشريف عن رسول الله (صلی الله علیه و اله): «مَن أَحبَّ لِقاءَ اللهِ أحَبَّ اللهُ لقاءَهُ، وَمَن كَرِهَ لقاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقاءَه»(3) .

والإمام الحسين (علیه السلام)كان يطلب ممّن يصحبه في هذه المرحلة أن يوطّنوا أنفسهم فقط للقاء الله ، وليس لأيّة غاية أُخرى، وأيّة غاية اُخرى غير لقاء الله لا قيمة لها في هذه المرحلة(4).

ومهما يكن من أمر، فإن نموذج ابن الحر الجعفي في التاريخ يتكرر كثيراً مع رجال سجل لنا التاريخ مواقفهم، وهي إما مواقف بغي وعدوان، أو مواقف تراجع وخذلان للحق وأهله، وابن الحر يمثل شريحة اجتماعية من ذلك المجتمع آنذاك .

ص: 360


1- السماوي ، نعمة : موسوعة الثورة الحسينية : 117/5 ، ط. دار المرتضی - بیروت، الطبعة الأُولى، (1422 ه - 2001م)
2- الأخبار الطوال : 251
3- الري شهري، محمد: میزان الحكمة : 3700/9 ، عن كنز العمال، الحديث رقم : 242
4- الآصفي : تأملات في الخطاب الحسيني : 163

المبحث الرابع: لقاء الإمام الحسين (علیه السلام)مع عبيد الله بن الحر المشرقي :

اشارة

قبل الدخول في تفاصيل لقاء الإمام الحسين (علیه السلام)بعبيد الله بن الحر المشرقي، لابد من الاشارة إلى لقاء انفرد بذكره الشيخ الصدوق « فقد روی بسنده عن عمرو بن قيس المشرقيّ قال : دخلت على الحسين(علیه السلام) أنا وابن عمّ لي ، وهو في قصر بني مقاتل ، فسلّمنا عليه ، فقال له ابن عمّي : يا أبا عبد الله ، هذا الذي أری خضاب أو شعرك ؟ فقال (علیه السلام): خضاب ، والشيب إلينا بني هاشم يعجل ثمّ أقبل علينا فقال : جئتها لنصرتي ؟

فقلت : إنّي رجل كثير العيال ، وفي يدي بضائع للناس، ولا أدري ما يكون ، وأكره أن أُضيع أمانتي، وقال له : ابن عمّي مثل ذلك.

فقال لنا (علیه السلام): فانطلقا فلا تسمعا لي واعية ولا تريا لي سواداً ، فإنّه من سمع واعيتنا أو رأى سوادنا فلم يجبنا ولم يُغثنا كان حقاً على الله عزّ وجل أن يكبّه على منخريه في النار»(1).

هذه الرواية انفرد بها الشيخ الصدوق (محمد بن علي ت 381 ه) وهو من كبار فقهاء الشيعة ومحدثيها، إلّا أننا بمقدار ما بحثنا في المصادر التاريخية وكتب المقاتل لم نجد من المؤرخين من أشار إلى هذا اللقاء بين الإمام الحسين (علیه السلام)والمشرقيين عمرو بن قيس المشرقي وابن عمه ، ومن ذكرهامن الكتاب المعاصرين أسندها إلى رواية الشيخ الصدوق.

إلّا أن هنالك قصة لقاء آخر للإمام الحسين مع مشرقي آخر وصاحبه، نص عليها الطبري في تاريخه، من دون أن يحدّٙد لنا مكان هذا اللقاء من منازل الطريق .

ص: 361


1- الصدوق، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : 232

وفيما يلي قصة هذا اللقاء ثمّ التأمل في بعض مفرداته .

روى الطبري قال :

قال أبو مخنف : حدثنا عبد الله بن عاصم عن الضّحاك بن عبد الله المشرقي، قال : قدمتُ ومالك بن النضر الأرحبي على الحسين (علیه السلام)، فسلّمنا عليه ، ثم جلسنا إليه، فردّ علينا، ورحّب بنا ، وسألنا عما جئنا له ، فقلنا : جئنا لنسلّم عليك ، وندعو الله لك بالعافية ، ونحدث بك عهداً، ونخبرك خبر الناس، وإنا نحدثّك أنهم قد جمعوا على حربك فَرَ رأيك.

فقال الحسين (علیه السلام): حسبي الله ونعم الوكيل! قال : فتذاممنا وسلمنا عليه، ودعونا الله له .

قال (علیه السلام): فما يمنعكما من نصرتي؟

فقال مالك ابن النّضر : علىّ دين، ولي عيال .

فقلت له : إنّ علىّ ديناً ، وإنّ لي لعيالاً، ولكنك إن جعلتني في حلٍّ من الإنصراف إذا لم أجدمقاتلاً قاتلتُ عنك ما كان لك نافعاً ، وعنك دافعاً !فقال (علیه السلام) : فأنت في حلّ، فأقمتُ معه(1).

هذا هو المشهد الأول من رواية أبي مخنف حيث انصرف مالك بن النضر الأرحبي إلى دينه وعياله تاركاً الحسين ونصرته، وبقي الضحاك بن عبد الله المشرقي مع الحسين(علیه السلام) لنصرته بعد أن اعتذر أولاً : إنّ علىّ ديناً ، وإن لي عيالاً، ثم استجاب استجابةً مشروطة بشرطين أحدهما فوقاني والآخر تحتاني : « .. إذا لم أجد مقاتلاً قاتلتُ عنك ما كان لك نافعاً ، وعنك دافعاً » و قَبِل الحسين (علیه السلام)ذلك منه وقال له : فأنت في حلٍّ.

ص: 362


1- الطبري، محمد بن جریر - تاريخ الأُمم والملوك الشهير ب( تاريخ الطبري ) : 5 /418، تحقیق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. بیروت، (بلا - ت)، الطبعة الخامسة

والمشهد الثاني من موقف الضحاك بن عبد الله المشرقي في يوم العاشر من المحرم وفي أرض المعركة أيضاً برواية أبي مخنف عن عبد بن عاصم عن الضحاك ، قال : لما رأيتُ أصحاب الحسين قد أُصيبوا، وقد خلص إليه وإلى أهل بيته، ولم يبق معه غير سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي، وبشير بن عمرو الحضرمي، قلت له : يابن رسول الله ، قد علمت ما كان بيني وبينك ، قلت لك : أُقاتل عنك ما رأيتُ مقاتلاً، فإذا لم أر مقاتلاً فأنا في حلّ من الإنصراف ، فقلت لي : نعم.

قال : فقال (علیه السلام): صدقت، وكيف لك بالنّجاء، إن قدرتَ على ذلك فأنت في حلّ. قال : فأقبلتُ على فرسي وقد كنت حيث رأيتُ خيل أصحابنا تعقر ، أقبلت بها حتى أدخلتها فسطاطاً لأصحابنا بين البيوت، وأقبلتُ أُقاتل معهم راجلاً، فقتلتُ يومئذ بين يدي الحسين (علیه السلام)رجلين، وقطعتُ يد آخر، وقال لي الحسين (علیه السلام)يومئذٍ مراراً : لا تُشلل، لا يقطع الله يدك، جزاك الله خيراً عن أهل بیت نبيك (صلی الله علیه و اله)!

فلما أذن لي استخرجت الفرس من الفسطاط، ثم استويت على متنها، ثم ضربتها حتى إذا قامت على السنابك رميتُ بها عرضَ القوم، فأفرجوا لي ، واتبعني منهم خمسة عشر رجلاً حتى انتهيت إلى شفيّة - قرية قريبة من شاطىء الفرات - فلما لحقوني عطفت عليهم، فعرفني كثير بن عبد الله الشعبي، وأيوب بن مشرح الحيواني، وقيس بن عبد الله الصائدي.

فقالوا : هذا الضحاك بن عبد الله المشرقي، هذا ابن عمّنا، ننشدكم الله لما كففتم عنه ! فقال ثلاثة نفر من بني تميم كانوا معه : بلى والله لنجيبنّ إخواننا وأهل دعوتنا إلى ما أحبّوا من الكفّ عن صاحبهم.

قال : فلما تابع التميميّون أصحابي كفّ الآخرون .

ص: 363

قال : فنجاني الله(1).

هذه هي قصة الضحاك بن عبد الله المشرقي برواية الطبري عن أبي مخنف، وقد تقلناها بطولها لطرافتها وغرابتها ، ولمواطن العبرة والعظة منها.

تأملات في موقف الضحاك وصاحبه :

أولاً : من خلال التأمل في رواية الشيخ الصدوق حول لقاء الإمام الحسين ب(عمرو بن قيس المشرقي، وابن عمه) ومقارنتها برواية الطبري ولقاء الإمام الحسين(علیه السلام) مع ( الضحاك بن عبد الله المشرقي، وصاحبه) يبدو لنا ومن خلال بعض القرائن أنهما رواية واحدة قد نقلها الشيخ الصدوق (ت 381 ه) عن الطبري (ت 310ه) أو من مصدر آخر بالمعنى، حيث نجد في كلا الروايتين وجود (المشرقي) وكذلك وجود شخصين محاورين، وتشابه أوجه الحوار وأوجه الاعتذار منهما، ففي كلا الموقفين نجد الإمام يدعوهما لنصرته : «جئتها لنصرتي» و «فما يمنعكما من نصرتي». والاعتذار منهما في كلا الروايتين واحد : « العيال ، وأمانات الناس، والبضائع، والدین ».

إلّا أنه في الرواية الأُولى يختفي أثر الاثنين معاً ، فيتركان الإمام(علیه السلام) ويذهبان إلى أوجه الدنيا المختلفة من العيال، والبيع والشراء وتداول البضائع والثروة، وفي الرواية الثانية ، ينطلق «الأرحبي» إلى دينه وعياله، ويبقى الضحاك المشرقي مع الحسين لنصرته ولكن بشكل محدود ومشروط، ثمّ ينسحب هارباً في آخر المعركة.

ص: 364


1- المصدر نفسه : 444/5 - 445. ونقلها المحدث القمي في نفس المهموم : 298 - 300 عن المصدر نفسه، وأكّد السماوي في إبصار العين : 101 وجود الضحاك مع الإمام الحسين إلى يوم العاشر من محرم وذكر جزءً من قصة هروبه من أرض المعركة

والملاحظ أن الشيخ الصدوق يحدد مكان لقاء الإمام ب( عمرو بن قیس المشرقي ، وابن عمه ) بأحد منازل الطريق وهو قصر بني مقاتل ، بینها رواية الطبري لا تحدد لنا مكان اللقاء، وما استظهره بعض المحققين من سياق رواية الطبري من «أن هذا اللقاء تم في موقع کربلاء « الطف» بعدما استقرّ الحسين (علیه السلام)، بأهله

وأصحابه فيه»(1) بعيد جداً، إذ إن الإمام الحسين (علیه السلام)قد حوصر في كربلاء حصاراً شديداً، ومنع عنه المدد، فكيف يجازف ( الضحاك والأرحبي) بالوفود على الحسين لمجرد السلام عليه ، والدعاء له بالعافية ، واخباره خبر الناس ، وهل الإمام بحاجة إلى إخبارهما عن الناس بعد أن اتضح له جلياً من خلال عساکرهم الممتدة أنهم أجمعوا لحربه وقتاله !

نعم التحق بالإمام في كربلاء بعض المضحين والأبدال من أمثال حبيب بن مظاهر الأسدي، ممن وطنوا أنفسهم على التضحية والشهادة في سبيل الله فلم يبالوا بالمخاطر التي سوف تواجههم في طريقهم إلى كربلاء، بخلاف أمثال « المشرقي، والضحاك» ممن كانوا يحملون الحب والتقدير والاحترام للحسين ، ولم تكن سيوفهم على الحسين(علیه السلام) ، إلّا أنهم لم يوطنوا أنفسهم على التضحية ونصرة الإمام والاستشهاد بين يديه ، فمن المستبعد جداً أن يجازف أمثال هؤلاء ويصلون إلى الإمام وهو محاصر في كربلاء.

كذلك يظهر من الرواية أن الضحاك وصاحبه كانا عارفين بحق الحسين وذمته وحرمته في الإسلام وموقعه من رسول الله (صلی الله علیه و اله)، حيث تقول الرواية : « فتذاممنا وسلّمنا عليه ودعونا الله له » والتذمم يعني حفظ الذمام والعهد والحق والحرمة.

ص: 365


1- الآصفي ، محمد مهدي : في رحاب عاشوراء: 279، ط. نشر الفقاهة - قم

إلّا أن الذي أعاق حركتهما بعد أن أقبلت عليهما سعادة الدنيا والآخرة ، هما وجهتا الحياة الدنيا ، التعلقات والشهوات ، والتبعات والمسؤوليات ، اللذان عبر عنهما الضحاك وصاحبه بالدين والعيال ، «إن لي ديناً وإن لي عيالاً».

وبقيت هذه التعلقات و التبعات ، ( الدين والعيال ) تلاحق الضحاك بن عبد الله المشرقي حتى ظهيرة يوم عاشوراء حيث تساقط أصحاب الحسين واحداً بعد الآخر شهداء، وهرب الضحاك إلى دَي۟نِه وعياله ! ولم يكمل مشوار الجهاد والشهادة مع الحسين (علیه السلام)، ليُسَجَلَّ مع هؤلاء الشهداء الذين بذلوا مهجهم دون الحسين (علیه السلام)فكانوا سادة الشهداء.

ثالثاً : مرّ بنا سابقاً قصّة لقاء الإمام الحسين (علیه السلام)مع زهير بن القين البجلي رضی الله عنه. وكيف استجاب زهير لدعوة الإمام ومن دون تردد أو قيود فوقانية أو تحتانية ، إلّا أننا نجد الاعتذار بالعيال والدين. ثمّ الاستجابة المشروطة من الضحّاك وصاحبه، فكيف أعاق الدين والعيال المشرقي وصاحبه ولم يشكلا عائقاً أمام زهير بن القين ؟

ولكي تتضح الاجابة عن هذا التساؤل لابد من المقارنة بين زهير بن القين رضی الله عنه والضحّاك .

لقد كان زهير بن القين يملك من المال والعيال ما كان يملكه الضحاك ابن عبد الله ، وكان يعيش في دنياه ، کماکان يعيش الضحاك في دنياه ، بل قد يكون حظّ زهیر من الدنيا أعظم من حظّ الضحّاك ، فقد كان زهير بن القين زعيماً في قومه ، وجيهاً في بلده ، ولم يحفل المؤرّخون بأمر الضحاك وصاحبه في شأن من شؤون الدنيا، وكان الضحاك أقرب إلى الحسين (علیه السلام)وأكثر ميلاً إليه من زهير ، فقد كان زهير عثمانيّ الهوى ، كما يذكر أصحاب السير، وكان يحرص ألّا يلتقي الحسين بمنزل في طريقه إلى العراق، فإذا وجد الحسين قد نزل منزلاً فيه ماء

ص: 366

نزل غيره، وأمّا الضحّاك وصاحبه مالك بن النضر فقد قصدا الحسين، وجلسا إليه، ودعوا له ، ولم يكن يحدث شيء من ذلك لو لم يكن الضحّاك ومالك بن النضر من شيعة الحسين (علیه السلام)ومن تميل إليه قلوبهم.

ومع ذلك كلّه فإن « العيال والمال » قد أعاقاهما عن الالتحاق به بشكل كامل أو بشكل ناقص .

وأمّا زهیر بن القين رضی الله عنه فقد رجع من عند الحسين(علیه السلام) ولم يستغرق اجتماعه بالإمام في أغلب الظن بضع دقائق، وقد أعدّ نفسه للوفود على الله مع الحسين ، والانصراف الكامل عن الدنيا ، فأقبل إلى زوجته « دلهم » بنت عمرو (رحمها الله) وقال لها بقوّة وعزم في نفس الوقت بسهولة وراحة : «الحقي بأهلك فإنّي لا أحبّ أن يصيبك بسببي إلّا خيراً»، ثمّ قال لمن معه : «من أحبّ منكم نصرة ابن رسول الله (صلی الله علیه و اله)وإلّا فهو آخر العهد»(1)، ولم يعقه عن ذلك مال ولا عيال.

إذن ليست المسألة مسألة المال والعيال، وإنّما المسألة في أمر آخر، في طريقة التعامل مع المال والعيال.

والفرق بين الضحّاك وزهير لم يكن في أنّ الأول كان يملك من المال والعيال ما لا يملكه الثاني ، وإنّما كان في طريقة تعاملها مع المال والعيال.

فقد كان الضحّاك وصاحبه الأرحبي أسيرين للمال والعيال، فأعاقاهما عن الانطلاق مع الحسين، وكان زهير بن القين متحرراً من أسر المال والعيال، فلم يعيقاه عن الحركة مع الحسين (علیه السلام)للوفود على الله.

رابعاً : عندما نتأمل في النقطة الثانية من جواب الضحّاك نجد أنه لم يرفض القتال إلى جانب الحسين (علیه السلام)، ولم يعتذر بصورة مطلقة ، كما اعتذر صاحبه مالك ابن النضر، بل قاتل مع الحسين وضرب الأعداء بين يديه ، ودعا له الحسين .

ص: 367


1- مقتل الحسين (علیه السلام)للسيد عبد الرزاق المقرّم: 188

وهذه نقطة أُخرى مشرقة في موقف الضحّاك من الحسين ، فهو ليس من الذين وصفهم الفرزدق الشاعر بقوله : « قلوبهم معك و سيوفهم عليك »، وإنّما كان قلبه وسيفه مع الإمام الحسين ، وهو صادق في هذا وذاك، إلّا أنه لم يعط سیفه للحسين (علیه السلام)، ولم يضع سيفه تحت أمر الحسين إلّا بمقدار ، وحدّد لذلك شرطين : « إذا لم أجد مقاتلاً قاتلت عنك ما كان لك نافعاً وعنك دافعاً »، وهذا شرط غریب.

إنّ الضحّاك يحصر نصرته للحسين (علیه السلام)بين شرطين :

1 - أن يكون الحسين (علیه السلام)بحاجة إليه ولا يغني عنه غيره .

2 - وأن يكون قتاله دون الحسين (علیه السلام)نافعاً له فإن لم يكن هذا ولا ذاك فإنّ الضحّاك في حلّ من أمره.

ونحن لا نريد أن نشكّك في صدق نيّة الضحّاك في موقفه من الإمام ، رغم فراره من الزحف في اللحظات الأخيرة، وتركه للإمام (علیه السلام)في أحرج اللحظات ، وإيثاره للعافية ، فإنّ لدينا من الشواهد ما يكفي لإثبات حسن نيّة الضحّاك ، وصدقه في الوقوف إلى جنب الإمام، والدفاع عنه، إلّا أننا نجد عنده احساساً محدوداً بالمسؤولية تجاه الموقف، وتقتيراً شديداً في العطاء، في إطار هذه المسؤولية ، ومحاولة جادّة في إخضاع الانفاق في سبيل الله لمعادلات دقيقة شديدة التعقيد .

فهو يعطي من نفسه لله تعالى ولكنّه عطاء مشروط، ومحدود، وبحساب ، وضمن تقديرات دقيقة ، وليس كما يقول الله تعالى :

«إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ»(1).

ص: 368


1- التوبة : 111

والدقّة في المحاسبة ، أمر جيّد لا نشك في حسنه وفائدته ، ولكن عندما يكون طرف المحاسبة هو نفس الإنسان ، وقد ورد في الحديث : «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا»، وأما عندما يكون طرف الحساب هو الله تعالى فإنّ المحاسبة بهذه الدقّة وضمن هذه الشروط والقيود أمر قبيح مع الله سبحانه.

والضحّاك هنا يتعامل مع الله تعالى، وإن كان طرف التعامل في ظاهر الأمر هو الحسين (علیه السلام).

ولا يطلب الحسين(علیه السلام) من أمثال الضحّاك في حركته هذه، وإنما يطلب لنصرته من أُولئك الذين يبذلون كلّ ما عندهم من الأنفس والأموال لله تعالى ، من دون حساب وشروط وحدود و قیود ، فقد خطب (علیه السلام)في الناس لمّا أراد الخروج من مكّة إلى العراق وقال :

«ألا ومن كان فينا باذلاً مهجته ، موطّناً على لقاء الله نفسه ، فليرحل معنا ، فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله».

ولا شكّ إنّ هذا العطاء الشحيح خير من النضوب، على كلّ حال، ولكن أصحاب هذا العطاء المحدود لا يستطيعون أن يسايروا الحسين(علیه السلام) في مثل هذه المرحلة.

خامساً : والنقطة الأخيرة والجديرة بالاهتمام في موقف الضحّاك هي :

«التحلّل من الالتزام» :

بعد أن يعتذر الضحّاك إلى الحسين (علیه السلام)بديونه وعياله، يطلب من الإمام أن يجعله في حلّ من الانصراف إذا شاء فيقول : «ولكنّك إن جعلتني في حلّ من الانصراف إذا لم أجد مقاتلاً قاتلت عنك»، والحلّ في مقابل الالتزام، ولا يمكن أن يرتبط الإنسان بالتزامين متعاكسين في وقت واحد، فإذا كان الضحّاك ملتزماً

ص: 369

تجاه دیونه وعياله، فمن الطبيعي أنه لا يستطيع أن يكون ملتزماً تجاه الإمام، ولابدّ من أن يتحرّر من أحد الإلتزامين ، وقد آثر أن يتحرر من التزامه تجاه الحسين دون التزامه تجاه دیونه وعياله ، والالتزام تجاه الحسين هو الالتزام تجاه الدعوة والجهاد .

... إنّ هذا الرجل دقيق في تقدير المسافة التي يستطيع أن يساير الحسين فيها، فيضبط حساباته في هذه الحركة بشكل دقيق، ويتحوّط للعودة إلى الدنيا عندما يصل إلى المفترق الذي يؤثر عنده الدنيا على الآخرة.

ويشخّص المفترق بدقّة ، ويحدّد المسافة التي يساير فيها الحسين بدقّة ، ويتحوّط للعودة من الله إلى الدنيا في اللحظة المناسبة، ويُبقی من ورائه - وهو يتحرّك مع الحسين (علیه السلام)إلى الله - بابين مفتوحين يرجع من خلالهما إلى الدنيا عندما يريد :

أحدهما : موافقة الحسين (علیه السلام)أن يكون في حلّ من أمره عندما يريد الانصراف إلى الدنيا .

وثانيهما : فرسه التي احتفظ بها في فسطاط داخل البيوت عندما حاصر جيش بني أُمية الحسين (علیه السلام)ليستطيع أن يركبها في اللحظة المناسبة ويهرب من الآخرة إلى الدنيا .

ومرّة أُخرى نريد أن نقارن في هذه النقطة من البحث بين الضحّاك وزهير ، كلّ منهما أقبل على الله تعالى مع الحسين (علیه السلام).

الضحّاك دخل معركة الطف إلى جنب الإمام وقاتل وجاهد بين يديه ، وزهير رضی الله عنه أقبل مع الحسين(علیه السلام) وجاهد وقاتل، ولكنّ الفرق بين هذا وذاك أنّ الضحّاك أقبل على الله وأبقى الأبواب مفتوحة من خلفه، بكلّ دقّة واحتیاط ، وأبقى الجسور قائمة من ورائه إلى الدنيا ليعود إليها في اللحظة التي يريد ،

ص: 370

وأمّا زهير فعندما قرّر الوفود على الله تعالى مع الحسين (علیه السلام)قطع كلّما كان بينه وبين الدنيا من جسور ، وأغلق كلّ باب بينه وبين الدنيا ، وقال لزوجته « دلهم » في عزم وقوّة ويُسر : «الحقي بأهلك».

إننا لا نريد أن نّتهم الضحّاك في صدقه وحبّه للحسين (علیه السلام)، وليس من سبب يدعونا أن نتّهم هذا الرجل الذي وقف هذا الموقف يوم عاشوراء من الحسين (علیه السلام)- في نيّته وصدقه ، فلم يطلب الضحّاك من الدفاع عن الحسين (علیه السلام)ومن القتال بين بدیه دنیا ، وهذا حقّ يجب أن نذكره ونعترف له به ، لكنه مع ذلك كلّه لم يتحرر من حبّ الدنيا ومن التعلّق بالدنيا ومن تبعات الدنيا، حتّى عندما ساقه التوفيق والسعادة الإلهية إلى هذه المعركة الحاسمة بين الحقّ والباطل في التأريخ، ووضعه الله تعالى في أشرف موقع يتصوّره الإنسان، وهو موقع الدفاع عن الإسلام إلى جنب ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و اله).

وفي ختام هذه التأملات نعتذر من الضحّاك بن عبد الله المشرقي إذا کنّا قد أسأنا إليه، وتناولنا موقفه من الحسين (علیه السلام)بالتحليل والنقد بهذه الصورة، ولا نريد أن نبخسه حقّه ، فقد نال ما حُرِمنا منه نحن من شرف القتال بين يدي الحسين (علیه السلام)، ومن دعاء الحسين(علیه السلام) له .. وإنّما كنّا نريد أن نجعل من نقاط الضعف في موقفه وسيلة لتقويم نقاط الضعف في مواقفنا وسلوكنا.

ولقصة الضحاك مواطن كثيرة للتأمل تركناها مخافة الإطالة(1) .

ص: 371


1- للتوسع أُنظر : الشيخ محمد مهدي الآصفي في كتابه (في رحاب عاشوراء) : 273 وما بعدها . ط. و تحقیق : مؤسسة نشر الفقاهة - قم، الطبعة الأُولى، (1419 ه). وقد استفدنا بعض هذه التأملات منه (بتصرف و تلخیص)

المبحث الخامس

* الإمام الحسين يتلقی خبر استشهاد مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة في زرود :

كان آخر ما تلقاه الإمام الحسين (علیه السلام)عن أوضاع الكوفة رسالة مسلم بن عقیل التي بعثها مع قيس بن المُسَّهر الصيداوي و عابس بن أبي شبيب الشاكري، والتي على أثرها خرج الإمام من مكة قاصداً العراق وكانت هذه الرسالة قبل استشهاد مسلم بسبع وعشرين ليلة(1).

إلّا أن أوضاع الكوفة بعد تلك الرسالة قد تغيرت بشكل جذري ، وحصل ذلك الانقلاب العجيب في المجتمع الكوفي والذي بينا ملابساته ووقائعه وبعض أسبابه الموضوعية عند الحديث عن حركة مسلم بن عقيل واستشهاده.

لكن أخبار الكوفة بعد تلك الرسالة الأخيرة قد انقطعت عن الإمام الحسين (علیه السلام)مما دعاه إلى أن يكتب رسالة من إحدى منازل الطريق إلى أهل الكوفة ويبعثها مع قیس بن مُسَّهر الصيداوي(2) .

ولم تصل رسالة الحسين هذه إلى أهل الكوفة إذ اُلقي القبض على حامل الرسالة ثمّ قتل.

يروي الطبري : « وأقبل قيس بن مُسهر الصيداوي إلى الكوفة بكتاب الحسين، حتى انتهى إلى القادسيّة ، أخذه الحصين بن تميم فبعث به إلى عبيد الله ابن زیاد، فقال له عبيد الله : اصعد إلى القصر فَسُبّ الكذّاب ابن الكذّاب ،

ص: 372


1- الطبري : 5 / 395
2- المصدر نفسه : 394/5

فصعد ثمّ قال : أيها الناس، إنّ هذا الحسين بن عليّ خير خَلق الله ، ابن فاطمة بنت رسول الله ، وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجز، فأجيبوه ، ثمّ لعن عبيد الله بن زیاد وأباه، واستغفر لعليّ بن أبي طالب.

فأمر به عبيد الله بن زياد أن يُرمي به من فوق القصر، فَرمي به، فتقطّع فمات»(1).

ثمّ بعث الحسين (علیه السلام)بأخيه من الرّضاعة، عبد الله بن يقطر إلى مسلم بن عقیل ، إلّا أنه أيضاً قد قتل بظروف مشابهة لمقتل قيس بن مسهر الصيداوي .

ويقول الطبري عن مقتل عبد الله بن يقطر : « فتلقاه خيلُ الحصين بن تميم بالقادسية ، فسرّح به إلى عبيد الله بن زياد، فقال : اصعد فوق القصير فالعن الكتاب ابن الكذّاب، ثمّ انزل حتى أرى فيك رأيي ! فصعد، فلما أشرف على الناس قال : أيّها الناس، إني رسول الحسين ابن فاطمة بنت رسول الله(صلی الله علیه و اله) لتنصروه و تؤازروه على ابن مرجانة بن سميّة الدعيّ.

فأمر به عبيد الله فاُلقي من فوق القصر إلى الأرض، فكُسرت عظامه، وبقي به رَمق ، فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن عُمر اللَّخمي فذبحه، فلمّا عيب ذلك عليه قال : إنما أردتُ أن أُريحه»(2).

إلّا أن خبر استشهاد مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وغيرها من حوادث الكوفة تلقاها الإمام الحسين(علیه السلام) في زرود إحدى منازل الطريق بواسطة بعض الوافدين من الكوفة.

ص: 373


1- المصدر نفسه : 5/ 395
2- الطبري : 398

يروي الطبري ، عن أبي مخنف .. عن عبد الله بن سُليم ، والمذري بن المشمعل الأسديّين قالا : «لما قضينا حجّنا لم يكن لنا همّة إلّا اللّحاق بالحسين في الطريق لنظر ما يكون من أمره وشأنه، فأقبلنا تُرقل بنا ناقتانا مسرعين حتى لحقناه بزرود، فلما دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين ، فوقف الحسين كأنه يريده ثمّ تركه ، ومضى ومضينا نحوه.

فقال احدنا لصاحبه : إذهب بنا إلى هذا فلنسأله ، فإن كان عنده خبر الكوفة علمناه ، فضينا حتى انتهينا إليه ، فقلنا : السلام عليك ، قال : وعليكم السلام ورحمة الله ، ثمّ قلنا : فمن الرجل ؟ قال : أسدي. فقلنا : فنحن أسديان فَمَن أنت ؟ قال : أنا بكير بن المثعبة ، فانتسبنا له ، ثمّ قلنا : أخبرنا عن الناس وراءك.

قال : نعم، لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة ، فرأيتهما يُجَبرّٙان بأرجلهما في السوق.

قالا : فأقبلنا حتى لحقنا بالحسين ، فسایرناه حتى نزل الثعلبيّة ممسياً، فجئنا حين نزل، فسلّمنا عليه فردّ علينا، فقلنا له : يرحمك الله ، إنّ عندنا خبراً ، فإن شئت حدّثنا علانية ، وإن شئت سرّاً.

قال : فنظر إلى أصحابه وقال : ما دون هؤلاء سرّ ، فقلنا له أرأيت الراكب الذي استقبلك عشاء أمس ؟ قال : نعم، وقد أردتُ مسألته.

فقلنا : قد استبرأنا لك خبره ، وكفيناك مسألته ، وهو امرؤ من أسد منّا ، ذورأي وصدق، وفضل و عقل، وإنه حدّثنا أنه لم يخرج من الكوفة حتّى قُتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، وحتّى رآهما يُجرّان في السوق بأرجلهما.

فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون، رحمة الله عليهما، فردّد ذلك مراراً.

فقلنا : ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلّا انصرفت من مكانك هذا، فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة ، بل نتخوّف أن تكون عليك .

ص: 374

قال : فوثب عند ذلك بنو عقيل بن أبي طالب .. وأنّ بني عقيل قالوا : لا والله لا نبرح حتى ندرك ثأرنا، أو نذوق ما ذاق أخونا.

قالا : فنظر إلينا الحسين فقال : لا خير في العيش بعد هؤلاء.

قالا : فعلمنا أنه قد عزم له رأيه على المسير ، فقلنا : خار الله لك .

فقال : رحمكما الله.

قالا : فقال له بعض أصحابه : إنك والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل ، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع »(1).

تلقي الإمام الحسين خبر استشهاد مسلم بن عقیل وهانئ بن عروة بحزن وأسي من جهة، وبرضى وتسليم بقضاء الله وقدره من جهة أُخرى ، ولهذا لم يزد على قوله : إنا لله وإنا إليه راجعون، يكرر ذلك مراراً، ويترحم عليهما، وكانت بالنسبة إلى الطالبيين وآل عقيل بمثابة الصدمة العنيفة التي هزتهم، إذ كان مسلم ابن عقيل بمثابة عميدهم وكبيرهم وشيخهم المبجل.

سار الحسين (علیه السلام)بركبه من زرود إلى أن انتهى إلى منطقة زُبالة ، عندما وصله خبر مفجع آخر وهو مقتل عبد الله بن يقطر.

يقول الطبري ، قال أبو مخنف : «كان الحسين لا يمرّ بأهل ماءً إلّا اتبعوه حتى إذا انتهى إلى زبالة سقط إليه مَقتل أخيه من الرّضاعة «عبد الله بن يقطر» وكان سرّحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لا يدري أنه قد اُصيب .. إلخ»(2).

وفي هذا المكان «زُبالة» وبعد وصول خبر مقتل «عبد الله بن يقطر» ومن قبل ذلك خبر استشهاد مسلم وهانئ - رضي الله عنهما - كان على الحسين أن يخبر من معه بذلك ، وخاصة الذين التحقوا بركابه طلباً للدنيا والملك والسلطة .

ص: 375


1- الطبري : 397/5 - 398
2- المصدر نفسه : 398/5

يروي الطبري عن هشام قال : « فأتى ذلك الخبر - مقتل عبد الله بن يقطر - حسيناً وهو بزبالة، فأخرج للناس کتاباً ، فقرأ عليهم :

بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإنه قد أتانا خبر فضيع، قتل مسلم بن عقيل ، وهانئ بن عروة ، وعبد الله بن يقطر ، وقد خذلتنا شيعتنا، فمن أحبّ منكم الإنصراف فلينصرف، ليس عليه مِنا ذمام»(1).

هذا البيان السياسي المقتضب الذي تلاه الإمام الحسين (علیه السلام)لم يكن المقصود منه بني هاشم والصادقين في نياتهم من رافقوا الحسين من المدينة إلى مكة ومنه إلى العراق ، أو من التحقوا به في الطريق من أمثال زهير بن القين وأضرابه ، فإن هؤلاء قد وطنوا أنفسهم على الموت والشهادة مع الحسين ، وعاهدوا الله على ذلك ، وإنما كان المقصود منه إسماع من التحق به من مكة أو من منازل الطريق ممن دفعهم حب الدنيا إلى ذلك ولا يعرفون أنهم يقدمون على الأسنة والاستشهاد، وعندما عرفوا ذلك لاذوا بالفرار.

واستكمالاً للرواية السابقة يقول الراوي : « فتفرّق الناس عنه تفرقاً ، فأخذوا يميناً وشمالاً حتى بقى في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة ، وإنما فعل ذلك لأنه ظنّ أنما اتبعه الأعراب ، لأنهم ظنّوا أنه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله ، فكره أن يسيروا معه إلّا وهم يعلمون عَلامَ يقدمون ، وقد علم أنّهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلّا من يريد مواساته والموت معه»(2).

ص: 376


1- المصدر نفسه : 5/ 398 - 399
2- الطبري : 399/5 ، وللتوسع انظر الارشاد للمفيد : 2/ 74، و مقتل أبي مخنف : 164، ومقتل الخوارزمي : 1/ 223 وما بعدها ، والأخبار الطوال للدينوري : 247، والكامل في التاريخ لابن الأثير : 2/ 549، والبداية والنهاية لابن کثیر : 8/ 182
* وقفة تأمل مع الحدث :

هذا النص التاريخي ، وما تضمنه من أحداث ومواقف ، له أهمية كبيرة في مجری الأحداث في نهضة الإمام الحسين (علیه السلام)، إذ يضع هذا النص حداً لمرحلة من مراحل المواجهة والصدام مع السلطة الأموية ، لتبدأ مرحلة أُخرى بعدها، حيث لقاء الحر بن یزید الرياحي مع ألف فارس، ومن ثمّ الوصول إلى كربلاء وأحداث

عاشوراء الدامية.

وقبل أن ننتقل من هذه المرحلة إلى المرحلة الثانية لابد لنا من وقفة تأمل في بعض مفردات النص وما تضمنه من مواقف وأحداث.

أولاً : إن النص التاريخي السابق قد سلط الأضواء على مقتل مسلم بن عقیل وهانئ بن عروة ، وعبد الله بن يقطر ، حيث وصل خبر مقتل مسلم وهانئ بواسطة الأسديين عن أسدي آخر، ولم يخبرنا النص عن الواسطة التي تلقى من خلالها الإمام الحسين خبر مقتل ( عبد الله بن يقطر )، ولا يشير كذلك إلى وصول خبر مقتل قيس بن مسَّهر الصيداوي إلى الإمام الحسين (علیه السلام)قبل لقائه مع الحر بن يزيد الرياحي.

إلّا أن الطبري يروي : «أن أربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة ومعهم دليلهم الطّرمّاح بن عدي ، ( والتحقوا بالحسين في منطقة عذيب الهجانات ) وحاول الحر بن یزید منعهم من الالتحاق بالإمام فتدخل الإمام ومنع الحرّ عن ذلك ، فكفَّ عنهم الحرّ قال : ثمّ قال لهم الحسين : أخبروني خَبرَ الناس وراءكم، فقال له مجمّع بن عبد الله العائذي ، وهو أحد النّفر الأربعة الذين جاؤوه : أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم، ومُلئت غرائرهم ، يُستمال ودّهم، ويستخلص به نصيحتهم، فهم ألبٌ واحد عليك ، وأما سائر الناس بعد ، فإنّ أفئدتهم تهوي إليك ، وسيوفهم غداً مشهورة عليك.

ص: 377

قال (علیه السلام): أخبروني ، فهل لكم علم برسولي إليكم ؟ قالوا من هو ؟ قال : قیس ابن مُسَّهر الصيداوي . فقالوا: نعم، أخذه الحصين بن تميم فبعث به إلى ابن زیاد ، فأمره ابن زیاد أن يلعنك ويلعن أباك ، فصلّى عليك وعلى أبيك ، ولعن ابن زیاد و أباه ، ودعا إلى نصرتك، وأخبرهم بقدومك ، فأمر به ابن زیاد فأُلقي من ظِهارِ القصر.

فترقرقت عينا حسين(علیه السلام) ولم يملك دمعه، ثمّ قال : مِن۟هُم۟ مَن۟ قَضَى نَح۟بَهُ وَمِن۟هُم۟ مَن۟ يَن۟تَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَب۟دِيلاً ، اللهم اجعل لنا ولهم الجنة نُزلا، واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ من رحمتك ، ورغائب مذخور ثوابك»(1).

إلّا أننا نجد النصوص التاريخية التي تشير إلى مهمة الشهيدين ( عبد الله بن يقطر ، وقيس بن مسهر ) يكتنفها الغموض من جوانب متعددة إذ ( تتداخل مهمة الشهيد عبد الله بن يقطر مع الشهيد قيس بن مُسَّهر، والسبب هو اشتراكهما في كونهما رسولين ، واشتراكهما في طريقة القتل ، واشتراكهما بحسب بعض المصادر في ذبح قاضي الكوفة لكل منهما بعد الإلقاء من أعلى القصر)(2).

هذا التداخل والتشابك بين الشهيدين ومهمتهما ولّد التباساً عند المؤرخين من حيث مهمة الشهيدين ، وشهادتهما، ووقت الارسال والشهادة ، إلى غيرها من مواطن الالتباس الكثيرة.

ولهذا نجد الشيخ المفيد في الارشاد بعد أن يذكر إرسال قيس بن مُسهر إلى الكوفة ، يتردّد في ذلك فيقول : « ويُقال بل بعث أخاه من الرضاعة عبد الله بن يقطر إلى الكوفة ..»(3).

ص: 378


1- الطبري : 5 / 404 - 405
2- الكوراني ، حسين : في محراب كربلاء : 239 وما بعدها، وقد حاول المؤلف أن يحل مواطن الالتباس بين النصوص التاريخية ويخرج بنتيجة توفيقية بين النصوص
3- الإرشاد : 2/ 70، طبعة مؤسسة آل البيت - قم، سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد

وعندما نعود إلى نص الطبري في تاريخه وغيره نجدهم يذكرون إرسال الحسين (علیه السلام)لرسوليه ( قيس، وعبد الله ) إلى الكوفة من الطريق(1) .

إلّا أننا نجد الشيخ السماوي في الإبصار ينقل : « وقال ابن قتيبة و ابن مسکویة :

إنّ الذي أرسله الحسين قيس بن مسهر .. وإنّ عبد الله بن يقطر بعثه الحسين مع مسلم، فلمّا رأى مسلم الخذلان قبل أن يتمّ عليه ما تمّ بعث عبد الله إلى الحسين يخبره بالأمر ...»(2).

ومن المعروف أن مسلم بن عقيل خرج من مكة ولم يرسله الإمام الحسين من الطريق كي نقول إن عبد الله بن يقطر أرسل معه من الطرق ، فلا يمكن الجمع بين مضامين الروايات التاريخية المتضاربة.

إلّا أن ما ذكر السماوي عن ابن قتيبة وابن مسکویه تؤيده نصوص تاريخية أُخرى يذكرها ابن شهر آشوب والمجلسى ومحمد بن أبي طالب في تسلية المجالس (3) والتي تنص على أن عبد الله بن يقطر كان رسولاً من قبل مسلم إلى الإمام الحسين ، فقبض عليه قبل خروجه من الكوفة عند أطرافها قريباً من القادسية ، وكان مقتله قبل مقتل مسلم بن عقیل .

ومما يقوي هذا الاحتمال أن الطبري لا يذكر لنا المكان الذي أرسل منه الحسين لعبد الله بن يقطر وإنما يقول أرسله من الطريق ، بينما ينص على مكان إرسال قیس بن مُسهر وهو (الحاجز من بطن الرمّة).

فتكون النتيجة أن كلا الشهيدين ( قيس بن مسهر، وعبد الله بن يقطر) قد استشهدا في الكوفة بعد أن ألقي القبض عليها شرطة عبيد الله بن زیاد،

ص: 379


1- الطبري: 395/5 و 398، وأنساب الأشراف: 3/ 378، والأخبار الطوال : 245 - 246
2- إبصار العين : 94
3- انظر المناقب : 4/ 94، والبحار : 44 / 343، وتسلية المجالس: 2/ 182

إلّا أن الأول كان رسول الحسين إلى مسلم وأهل الكوفة، وأن الثاني كان رسول مسلم إلى الإمام الحسين ، وأن الذي ألقي من أعلى القصر بعد أن طلب منه عبيد الله ابن زیاد أن ينال من الحسين هو قيس بن مسهر الصيداوي ، وليس عبد الله بن يقطر، إذ تقول رواية المناقب «فأمر ابن زیاد بقتله»(1).

إلّا أن هذه النتيجة قد تصطدم أيضاً ببعض الملابسات التاريخية، فالمسألة بحاجة إلى مزيد من التحقيق.

ثانياً : ذكر بعض المؤرخين أن الإمام الحسين قد همّ بالرجوع إلى مكة بعد أن أُخبر بمقتل سفيره مسلم بن عقيل وصاحبه هانئ بن عروة وخذلان شيعته في الكوفة ، إلّا أن آل عقيل حالوا دون ذلك بإصرارهم على الأخذ بثأر مسلم بن عقيل .

قال ابن قتيبة : «.. وقد جاء الحسين الخبر فهمَّ أن يرجع ، ومعه خمسة من بني عقيل فقالوا له : أترجع وقد قُتل أخونا، وقد جاءك من الكتب ما نثق به ، فقال

لبعض أصحابه : والله مالي عن هؤلاء من صبر ...»(2).

وبنفس المضمون ذكر ابن عبد ربه في العقد الفريد : « ... فهمَّ بأن يرجع، ومعه خمسة من بني عقيل ... »(3).

وذكر الطبري : « أن الإمام الحسين (علیه السلام)بعد أن التقي الحر بن یزید فقال له الحر : أين تريد ؟ قال : أريد هذا المصير - أي الكوفة - قال له : ارجع فإنّي لم أدعلك خلفي خيراً أرجوه ، فهمَّ أن يرجع وكان معه إخوة مسلم بن عقیل ، فقالوا : والله لا نرجع حتى نصيب بثأرنا أو نقتل ، فقال : لا خير في الحياة بعدكم ... »(4).

ص: 380


1- المناقب لابن شهر آشوب: 94/4
2- الإمامة والسياسة : 2/ 5
3- العقد الفرید: 4/ 235
4- الطبري:

إلّا أن هذه الروايات - بالاضافة إلى إرسال بعضها - مضطربة في مضمونها اضطراباً شديداً ، ومخالفة لما هو المشهور من الروايات التي تنص على أن الإمام الحسين كان على عزمه ونيته وبصيرته وإقدامه منذ خروجه من مكة إلى حين استشهاده ، فلم يتردد ولم ينكل ولم يهن حتى بعد أن اتضح له الموقف بشكل واضح وعلم أن طريقه سوف يؤدي إلى الموت والشهادة ، فكان يستشهد بقول الشاعر :

سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى

إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلماً

يقول ابن طباطبا في تأريخه : «ثمّ إن الحسين(علیه السلام) خرج من مكّة متوجّهاً إلى الكوفة ، وهو لا يعلم بحال مسلم، فلمّا قرب من الكوفة علم بالحال، ولقيه ناسٌ فأخبروه الحبر وحذّروه فلم يرجع وصمّم على الوصول إلى الكوفة لأمر هو أعلم به من الناس ..»(1).

فما قاله هؤلاء المؤرخون مجرد استظهار واستنتاج استفادة هؤلاء من موقف الإمام الحسين(علیه السلام) بعد أن وصله خبر مقتل مسلم بن عقيل إذ نظر إلى بني عقيل فقال لهم : «ما ترون، فقد قُتل مسلم؟ فبادر بنو عقيل وقالوا : والله لا نرجع، أيقتل صاحبنا وننصرف ! لا والله، لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق

صاحبنا ...»(2).

والأرجح أن الإمام(علیه السلام) أراد أن يختبر عزم و تصمیم بني عقيل على مواصلة المسير معه، بعد نبأ مقتل مسلم، فسألهم «ماترون ؟ » فكانوا عند حسن معرفته بهم (3) .

ص: 381


1- ابن طباطبا محمد بن علي (الشهير بابن الطقطقي)، الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية : 115، طبعة دار صادر - بیروت، (بلا - ت)
2- مقتل الحسين للخوارزمي : 1/ 328
3- الطبسي، محمد جواد : مع الركب الحسيني : 3/ 220

وليس لدينا أي نص تاريخي يصرح بأن الحسين (علیه السلام)قد قال أُريد أن أعود من حيث أتيت ، وأمثالها من العبارات الصريحة الواضحة ، فيبقی ما ذكره المؤرخون يدور في دائرة الاحتمال والاستظهار والاستنتاج من موقفه من آل عقيل واستفساره منهم.

كذلك لم يكن إصراره (علیه السلام)على المضي إلى الكوفة مجرد طلب الثائر لمقتل مسلم بن عقيل ، فقضية الحسين ونهضته المباركة أكبر بكثير من قضية جزئية وإن كانت بحجم قضية الثائر لمسلم بن عقيل ، إنها قضية رسالة السماء وقضية الإسلام ومقدّساته وتعاليمه، وقضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والإصلاح في أُمة جدّه، وهذه القضايا تهون عندها كل الأُمور الجزئية الأُخرى ، بل تهون من أجلها روحه التي بين جنبيه ، والتي جاد بها من أجل ذلك.

ثالثاً : لا يهمنا كثيراً الوقوف عند الرجلين الأسديين اللذين دفعهما حبُّ الفضول واستطلعا خبر مسلم من الأسدي الآخر الذي ولّي عندما رأى الحسين في الطريق، فحملا خبره إلى الحسين (علیه السلام)فهؤلاء على شاكلة وأمثال المشرقي وصاحبه ، وعبيد الله بن الحر وأضرابه من ابتلى بهم الإمام الحسين وزمانه .

إلّا أن ما يدعو إلى التأمل هو تفرق ذلك الجمع الكثير من الناس من الذين خرجوا مع الحسين من مكة.

بعد أن أخبرهم الحسين بمقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، وعبد الله بن يقطر، وخذلان شیعته ثمّ قال لهم : « فمن أحبّ منكم الإنصراف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام».

تقول الرواية : « فتفرّق الناس عنه تفرّقاً فأخذوا يميناً وشمالاً» .

لماذا أخبرهم الحسين بذلك ؟ ففي الوقت الذي نرى قادة الجيوش في الحملات العسكرية يعبئون الناس ويجيشون الجيوش، ويخفون عنهم خبر الهزائم

ص: 382

ويشجعونهم حتى يصلوا بهم إلى النصر العسكري المأمول، نجد الإمام يضعهم أمام الأمر الواقع ويبين لهم ما جرى في الكوفة فيتفرق الجمع عنه بالشكل الذي تصفه الرواية التاريخية.

الحسن الحظ نجد المؤرخ عندما ينقل هذا الخبر يعرج إلى نوع من التعليل والتفسير لهذا الحادث، وهو من الموارد النادرة في كتب التاريخ إذ قلّما تجد التعليل والتفسير والاجابة عن سؤال لماذا حدث.

يقول الطبري في تعليل ما قام به الحسين(علیه السلام) : « وإنّما فعل ذلك لأنه ظنّ أنّما اتبعه الأعراب لأنّهم ظنّوا أنّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله ! فكره أن يسيروا معه إلّا وهم يعلمون علامَ يقدمون، وقد علم أنّهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلّا من يريد مواساته والموت معه»(1).

وفي رواية الخوارزمي : «... وإنما أراد أن لا يصحبه إنسان إلّا على بصيرة »(2) .

وتعليل المؤرخ قد يكفينا للإجابة عن التساؤل المطروح، فالإمام الحسين (علیه السلام)أكّد من ساعة انطلاقه من مكة إلى ليلة ويوم العاشر من محرم وبشكل صريح وواضح أنه يطلب من الناس مهجهم وأرواحهم ، ويطلب أُناس قد وطنوا على لقاء الله أنفسهم وعلى بصيرة من أمرهم، فحصل على هؤلاء الصفوة الذين ثبتوا معه واستشهدوا في ركابه فصاروا سادة الشهداء، أما هؤلاء الذين تفرقوا عنه فما هم إلّا غثاء كغثاء السيل «أفَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ»(3) .

ص: 383


1- الطبري : 5/ 399، والإرشاد للمفيد : 2/ 74
2- مقتل الحسين : 328/1
3- الرعد: 13

ص: 384

الفصل الثاني: لقاء الإمام الحسين مع الحربن یزید الرياحي وجيشه

اشارة

المبحث الأول : النص التاريخي للقاء الإمام الحسين(علیه السلام) بالحر بن يزيد الرياحي

المبحث الثاني : الموقف الانساني التربوي للإمام الحسين (علیه السلام)عند لقاء الحر

المبحث الثالث : المواقف المتناقضة من الحرّ وجيشه

المبحث الرابع : خطب وكلمات الإمام الحسين عند لقائه الحرّ

المبحث الخامس : دراسة في شخصية الحرّ بن یزید الرياحي

ص: 385

ص: 386

لقاء الإمام الحسين مع الحر بن یزید الرياحي وجيشه

كان لقاء الإمام(علیه السلام) الحسين بالحر بن يزيد الرياحي والكتيبة المسلحة التي معه والمؤلفة من ألف فارس، في منطقة (ذي حُسُم) وهو جبل يقع بين شراف والبيضة، وهو من منازل الطريق.

ولم يكن لقاء الحسين مع الحر والقوة القتالية التي معه ، محض صدفة ولا لقاء ودٍّ ومحبة ، وإنما كان لقاء مواجهة عسكرية وعداء، حيث أُعدت هذه القوة ضمن الاجراءات العسكرية الصارمة التي اتخذها عبيد الله بن زیاد لمنع الحسين من الوصول إلى الكوفة.

يقول الطبري : «وكان مجيء الحُرّ بن یزید و مسيره إلى الحسين من القادسيّة ، وذلك أنّ عبيد الله بن زیاد لما بلغه إقبال الحسين بعث الحصين بن تميم التميمي - وكان على شرطه - فأمره أن ينزل القادسية، وأن يضع المسالح فينظم ما بين القطقطانة إلى خفّان، وقدّم الحر بن یزید بين يديه في هذه الألف من القادسية ، فيستقبل حسيناً»(1) .

ص: 387


1- الطبري : 5 / 401

فالغرض من إرسال هذه الكتيبة المسلحة هو قطع الطريق على الإمام الحسين ومنعه من الوصول إلى الكوفة ، ودخولها دخول القادة الفاتحين، وإنما يدخلها أسيراً من قبل جند عبيد الله بن زیاد بقيادة الحرّ، وذلك خشية أن تتقلب الأوضاع فيها مرة أُخرى بعد أن سيطر عليها عبيد الله بن زياد وأنهى فيها ذلك المدّ الثوري بحضور مسلم بن عقیل رضی الله عنه.

وقد تجسدت في هذا اللقاء بين الإمام الحسين والحر جملة من المواقف والكلمات ينبغي التوقف عندها والتأمل فيها لاستخلاص الدروس والعبر منها، من خلال المباحث الآتية.

المبحث الأول: النص التاريخي للقاء الحسين بالحر بن یزید

ننقل أولاً ما ذكره المؤرخون حول جزئیات هذا اللقاء، ثمّ نسجل ملاحظاتنا وتأملاتنا حولها.

روى الطبري فقال :

حدّثت عن هشام، عن أبي مخنف ، قال : أقبل الحسين (علیه السلام)حتى نزل شراف ، فلما كان في السَّحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا، ثمّ ساروا منها. فرسموا صدر یومهم حتى انتصف النهار. ثمّ انّ رجلاً قال : الله أكبر ! فقال الحسين : الله أكبر ما كَبَّرت؟ قال : رأيت النخل، فقال له الأسديان : إنّ هذا المكان ما رأينا به نخلة قطّ ؛ قالا : فقال لنا الحسين : فما تَريانه رأى ؟ قلنا : نراه رأی هَواديَ الحيل ؛ فقال : وأنا والله أرى ذلك ؛ فقال الحسين : أما لنا ملجأ نلجأ إليه، نجعله في ظهورنا، ونستقبل القوم من وجه واحد؟ فقلنا له : بلى ، هذا ذو حسم إلى جنبك ،

ص: 388

تميل إليه عن يسارك ، فإن سبقت القوم إليه فهو كما تريد، قالا : فأخذ إليه ذات اليسار ؛ قالا : وملنا معه فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل ، فتبينّاها، وعدنا ، فلما رأونا وقد عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا كأنّ أسنّتهم اليعاسيب ، وكأنّ راياتهم أجنحة الطير ، قال : فاستبقنا إلى ذي حُسم، فسبقناهم إليه ، فنزل الحسين ، فأمر بأبنيته فضربت ، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر ابن يزيد التميمي اليربوعي حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين في حرّ الظهيرة ، والحسين وأصحابه معتمّون متلقدو أسيافهم، فقال الحسين لفتيانه : اسقوا القوم وأرووهم من الماء ورشّفوا الخيل ترشيفاً ، فقام فتيانه فرشّفوا الخيل ترشیفاً ، فقام فتية وسقوا القوم من الماء حتى أرووهم، وأقبلوا يملئون القصاع والأتوار والطّساس من الماء ثم يدنونها من الفرس، فإذا عبَّ فيه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزلت عنه ، وسقوا آخر حتى سقوا الخيل كلّها.

قال هشام : حدثني لقيط ، عن عليّ بن الطّعان المحاربيّ : كنت مع الحر بن یزید ، فجئت في آخر مَن جاء من أصحابه ، فلما رأى الحسين ما بي وبفرسي من العطش قال : أنخ الرّاوية - والراوية عندي السقاء - ثمّ قال : يابن أخ. أنخ الجمل، فأنخته ، فقال : اشرب، فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء، فقال الحسين : اِخنث السقاء - أي اعطفه . قال : فجعلتُ لا أدري كيف أفعل ؟ قال : فقام الحسين فخنثه ، فشربتُ وسقيتُ فرسي»(1).

ونتوقف هنا عند بعض مفردات لقاء الإمام الحسين بالحر وضمن نقاط مختصرة مستلهمين منها الدروس والعبر.

ص: 389


1- الطبري : 5 / 400 وما بعدها، والإرشاد للمفيد : 2/ 76، والفتوح لابن الأعثم: 5/ 73، والأخبار الطوال : 249، والبداية والنهاية : 8/ 186، والكامل في التاريخ : 2/ 551

المبحث الثاني: الموقف الإنساني والتربوي للإمام الحسين في لقائه مع الحر وجيشه

من يطالع نهضة الإمام الحسين (علیه السلام)ومواقفه العملية أثناء وقائعها المختلفة يجد و بوضوح أن الإمام الحسين في مواقفه وتصرفاته قد جسد المواقف الأخلاقية العظيمة، ولم يكن من الذين يطلبون النصر بالجور، ولم تكن الغاية عنده تبرر الوسيلة ، وإنما استخدم شرف الوسيلة إلى شرف الهدف، وتجلى ذلك واضحاً حتى مع أعدائه فضلاً عن أوليائه وأصحابه وأهل بيته .

ومن أوضح الأمثلة على ذلك أمره(علیه السلام) بسقي الحر وأصحابه وعددهم بحسب الرواية يزيد على الألف وقد كظهم العطش ، فيقول الحسين لفتيانه : « اسقوا القوم وارووهم من الماء ورشّفوا الخيل ترشیفاً»(1).

ثمّ يقوم بنفسه (علیه السلام)بسقی القوم وآخرهم « ابن الطعان المحاربي » الذي وصل آخر القوم وقد كظه العطش، وأدهشه الموقف ، فأخذ الإمام السقاء بيده الشريفة وسقی ذلك الرجل حتى ارتوی(2).

ألم يكن بإمكان الحسين(علیه السلام) أن يترك هؤلاء القوم يموتون عطشاً في تلك الأرض الجرداء المقفرة؟ مستخدماً بذلك نفس وسيلة العطش التي استخدمها معه أعداؤه . لكنه(علیه السلام) أبى إلّا أن يكون ويبقى حسيناً في كل موقف من مواقفه ، وليسجل للأجيال أَسمىٰ الدروس الأخلاقية ، ولو لم يكن في نهضته إلّا هذا الدرس الأخلاقي لكفي ، فكيف وكل مفردات نهضته دروس أخلاقية كبيرة وعظيمة .

ص: 390


1- ابن طاووس، اللهوف : 35
2- الطبري : 5 / 401

ويقف الأديب ليسجل للحسين(علیه السلام) هذه المكرمة الحميدة بقوله :

سَقیتَ عِداکَ الماء منك تحنناً

بأرض فلاةٍ حيث لا يوجد الماء

فكيف إذا تلقى مُحبيك في غدٍ

عُطاشا من الأحداثِ في دهشةٍ جاؤوا

وكان ينبغي لهذا الموقف الأخلاقي الرباني أن يترك أثره على اُولئك القوم، فتحيي فيهم جديب الضمير ، وتدفعهم إلى التأمل ومراجعة الموقف، واستنطاق الفطرة الإنسانية عندهم.

إلّا أن الوقائع اللاحقة وما جرى يوم عاشوراء تسجل لهؤلاء موت الضمير الإنساني عندهم، حيث ساهم وشارك هؤلاء في حصار الحسين وعطشه و قتله ، ولم يردوا هذا الجميل للإمام الحسين(علیه السلام).

المبحث الثالث: المواقف المتناقضة من الحر وجيشه

يبدو من الرواية التاريخية أن لقاء الإمام الحسين بالحر وجيشه كان قبل الزوال بقليل، فبعد أن سقي هؤلاء وعادت إليهم أرواحهم التي كادت أن تزهق نتيجة العطش، زالت الشمس ودخل وقت صلاة الظهر، ولم يمنع الموقف الحرج الإمام الحسين من إقامة الصلاة في أول وقتها، فأمر الحجاج بن مسروق الجعفي أن يؤذن، فأذن ، فلمّا حضرت الإقامة خرج الحسين في ازار ورداء ونعلين [ثمّ خطب خطبة قصيرة سوف نتوقف عندها لاحقاً] ثمّ قال للمؤذّن : أقم، فأقام للصلاة ، فقال الحسين (علیه السلام)للحرّ : أتريد أن تصلّي بأصحابك ؟ قال : لا ، بل تصلّي أنت ونصلي بصلاتك، فصلّى بهم الحسين(علیه السلام)(1).

ص: 391


1- الطبري : 401/5 - 402

وعندما نتأمل في مفردات هذه الواقعة نجد سلوكاً متناقضاً عند الحر وجيشه في تعاملهم مع الإمام الحسين (علیه السلام).

فمن جهة نجد أن الحر وجيشه يعترض طريق الإمام، ويتعامل معه تعامله مع أسير ألقي القبض عليه، ومن جهة أُخرى عندما حان وقت الصلاة جعله الحر وأتباعه إماماً للمسلمين في صلاتهم، وائتموا به وصلّوا بصلاته ! ومعنى هذا أن الإمام الحسين(علیه السلام) ليس فقط لم يخرج عن دين الإسلام - بخروجه على يزيد - بل معناه أنه (علیه السلام)أكثر أهلية وجدارة بامامة صلاة الجماعة حتى من مبعوث حاكمهم وقائدهم وأميرهم.

إلّا أنه لم تمض أيام قليلة على هذه الحادثة حتى تجرأ هؤلاء الناس شيئاً فشيئاً على انتهاك حرمة الله ، وزادت جرأتهم ووقاحتهم أكثر فأكثر ، وكلما مضوا في هذا الطريق أكثر ، كلّما ازدادوا بعداً عن الله ، وأصبحت قلوبهم أكثر وأشد ظلمة وسوءً وقساوة، وغطاها حجاب يحول دون أن يسطع عليها نور الإيمان بعد ذلك، وهو الحجاب الذي قال الله تعالى عنه في قرآنه الكريم : «كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ»(1).

حجاب غلیظ و سميك ومظلم بحيث يمنع كل ضیاء، ولا يؤثر فيه الكلام الحق . ولا ينقضي العجب عندما نقارن بين هذا الموقف وموقف مشابه آخر جرى في ظهيرة يوم عاشوراء عندما قال أبو ثمامة الصائدي للإمام الحسين (علیه السلام): «يا أبا عبد الله ، نفسي لك الفداء ، إني أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، ولا والله لا تُقتل حتى أُقتل دونك إن شاء الله ، وأحبّ أن ألقی ربي وقد صليتُ هذه الصلاة التي دنا وقتها، فرفع الحسين رأسه ثمّ قال : ذكرت الصلاة، جعلك الله من المصلّين الذاکرین ، نعم، هذا أول وقتها، ثمّ قال : سلوهم أن يكفّوا عنا حتى نصلّي.

ص: 392


1- المطففين : 14 - 15

فقال لهم الحُصين بن تميم : إنها لا تُقبل »(1).

فالحسين (علیه السلام)يطلب من اُولئك القوم - وهؤلاء الألف جزء منهم وصلّوا مع الإمام بصلاته جماعة ولعدّة مرات - مهلة ليصلّي نجدهم يقولون للحسين بأعلى أصواتهم «إنها لا تقبل»!

سبحان الله، ونستجير بالله كيف يعمي هوى النفس البصر والسمع، وكيف يحرف الحقيقة ويغيرها(2).

وصدق الله تعالى إذ يقول : «فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»(3).

المبحث الرابع: خطب وكلمات الإمام الحسين في لقائه مع الحر

اشارة

كانت للإمام الحسين (علیه السلام)في لقائه مع الحر وجيشه ثلاث خطب قصيرة ، وبعض الحوارات والكلمات نتوقف عند بعضها.

* خطبة الإمام الحسين الأُولى والثانية :

أما الخطبة الأُولى : وقدخطبها قبل صلاة الظهر : «فلمّا حضرت الإقامة خرج الحسين في إزار ورداء ونعلين ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : «أيها الناس، إنها معذرة إلى الله عزّ وجل وإليكم ؛ إنّي لم آتكم حتى أتتني کُتبكم، وقدمت عليَّ رُسلكم، أن أقدم علينا، فإنه ليس لنا إمام، لعل الله يجمعنا بك على الهدی؛

ص: 393


1- الطبري : 439/5
2- الشهيدي، جعفر : نهضة الحسين : 162 - 163 (بتصرف وتلخيص)
3- الحج: 46

فإن کنتم على ذلك فقد جئتكم ، فإن تُعطوني ما أطمئنُّ إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصرکم ، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي کارهين انصرفتُ عنكم إلى المكان الذي أقبلتُ منه إليكم. قال : فسكتوا عنه»(1) .

وبنفس المضمون نجد الخطبة الثانية للإمام الحسين (علیه السلام)بعد صلاة العصر : « فلّما كان وقت العصر أمر الحسين أن يتهيئوا للرّحيل، ثمّ إنه خرج فأمر منادیه قنادی بالعصر، وأقام فاستقدم الحسين فصلّی بالقوم ثمّ سلم، وانصرف إلى القوم بوجهه فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما بعد، أيها الناس، فإنكم إن تتقوا و تعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله ، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، وإن أنتم كرهتمونا ، وجهلتم حقنا، وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم، وقدمت به علىَّ رسلكم، انصرفت عنکم»(2).

لقد كانت وجهة الحسين في مسيره من مكة «الكوفة» بعد أن كاتبه وراسله أهلها وأعطوه المواثيق والعهود ، وكان (علیه السلام)يريد أن يدخل الكوفة دخول الفاتحين ، وبقي الحسين مصرّاً على عزمه حتى بعد وصول خبر مقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وانقلاب الأوضاع في الكوفة.

إلّا أن لقاء مع الحر وجيشه، ووضوح المهمة التي أُنيطت بالحر والتي شرحها للإمام الحسين(علیه السلام) بقوله : « وقد أُمرنا إذا نحن لقيناك ألّا نفارقك حتى نُقدمك على

عبید الله بن زیاد ..» قد حالت دون ما يأمله الإمام الحسين من دخوله الكوفة و بالطريقة التي يختارها، وانما يدخلها دخول الأسری کا برید له الحر ابن یزید ،

ص: 394


1- الطبری : 5 / 401
2- المصدر نفسه : 402/5

امتثالاً لأوامر عبيد الله بن زياد ، ومن البديهي أن لا يقبل الحسين (علیه السلام)ذلك ،وأن لا يترك الحرّ الإمام الحسين ليرجع إلى الحجاز أو يذهب إلى مكان آخر.

فلم يكن الإمام الحسين (علیه السلام)يريد أن يتخلى عن نهضته من خلال ما اقترحه على الحر وجيشه في الخطبتين ، بل كلّ ما عناه الإمام في هذين القولين - وفي نظائرهما - هو التخلّي عن التوجّه إلى الكوفة ، مادام لا يمكنه أن يدخلها إلّا أسيراً، وهذا لا يعني - بأي شكل من الأشكال - تخلّيه عن مواصلة القيام والنهضة، بل يعني تغيير مسار الحركة إلى جهة أُخرى غير الكوفة ..(1).

مما يثير العجب في الخطبة الأُولى سكوت القوم وعدم ردهم على كلام الإمام وما اقترحه في آخرها ، فلا نعلم مغزى هذا السكوت القاتل ، هل إن كلام الإمام قد أدهشهم فلم يجدوا له جواباً عندهم؟ أم إنهم أمهلوا أنفسهم الفرصة للاتفاق على جواب واحد بلسان أميرهم وقائدهم الحر بن یزید ؟ والأعجب من ذلك قول الحر للإمام الحسين (علیه السلام)بعد خطبته الثانية - والتي كانت أوسع وأشمل من الأُولى - فقال له الحرّ بن یزید : « إنّا والله ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر ! فقال الحسين : یا عقبة بن سمعان ، اخرج الخرجين اللّذين فيهما كتبهم إلىَّ، فأخرج خرجين مملوءين صُحفاً، فنشرها بين أيديهم، فقال الحرّ: فإنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك»(2).

فهل كان الحر وجيشه المكون من ألف فارس صادقين في عدم علمهم بهذه الكتب ؟ أو لم يكن من بين هؤلاء «الألف» ولا نفر واحد من بين من كتب إلى الإمام الحسين (علیه السلام)؟

ص: 395


1- الطبسي ، مع الركب الحسيني : 3/ 248
2- الطبري : 402/5

كلا الفرضين يصعب تصديقهما في مجتمع قبلي مثل مجتمع الكوفة حيث تنتشر أخبار الوقائع والحوادث فيها بسرعة، وإن كانت من الحوادث الجزئية، فكيف بحادثة مثل حادثة البيعة للإمام الحسين من قبل مسلم بن عقیل ؟ حيث كانت الكتب التي ترسل من الكوفة والرسل التي تخرج منها حاملين هذه الكتب إلى مكة ..! وحتى لو افترضنا أن الحر واقعاً ليس له علم بهذه الكتب ، ولم يكن من الذين بايعوا مسلماً أو راسلوا الحسين(علیه السلام) ، فهل يعقل أن لا يعرف بها أحد من هؤلاء الألف رجل الذين كانوا معه ؟ فكم يبلغ عدد سكان الكوفة في ذلك الزمن ؟ وكم يبلغ عدد رجال الحرب في مجتمعها، بحيث يمكن القول بأن أحداً من هؤلاء الجنود لم يكن من أولئك ؟ من الصعوبة التصديق بمثل هذه الفرضية(1).

ولنا عودة أُخرى إلى الحر بن يزيد الرياحي ومجمل مواقفه مع الإمام الحسين(علیه السلام) .

* خطبة الإمام الحسين الثالثة : مسؤولية الحاكم ومسؤولية الأُمة :

بعد أن نفي الحر بن یزید علمه بأُولئك الذين كتبوا للإمام الحسين ، ونفي أن يكون منهم، بيّن للحسين حدود مهمته وهي : أن يأخذ الحسين إلى عبيد الله بن زیاد.

فقال له الحسين : «الموتُ أدني إليك من ذلك ، ثمّ قال لأصحابه : قوموا فاركبوا»، فحال الحر ومن معه بينهم وبين الانصراف ، ووقعت بين الحسين والحر مشادة كلامية - نذكرها لاحقاً - انتهت باقتراح من الحر بأن يأخذ الحسين طريقاً لا يدخله الكوفة ، ولا ترده إلى المدينة ، حتى يكتب إلى ابن زیاد بالأمر وينتظر منه الأوامر الجديدة.

ص: 396


1- شهیدي، جعفر : نهضة الحسين : 161 - 162، ترجمة رياض الأخرس، ط. الثانية ، (1426 ه - 2006م)

فسار الحسين في أصحابه والحرّ يسايره .

وعندما وصل الحسين إلى منطقة «البيضة » خطب الإمام هذه الخطبة بأصحابه وأصحاب الحر.

ولأهمية هذه الخطبة ولمضامينها السياسية الخطيرة، نذكرها بنص رواية الطبري :

«قال أبو مخنف : عن عقبة بن أبي العيزار، إنّ الحسين خطب أصحابه وأصحاب الحرّ بالبيضة ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أيها الناس، إنّ رسول الله (صلی الله علیه و اله)قال : « من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقّاً على الله أن يدخله مُدخلَه» ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله ، وحرموا حلاله، وأنا أحقّ من غير ، قد أتتني كتبكم، وقدمت عليّ رُسلكم ببيعتكم ؛ أنكم لا تُسلموني ولا تخذلوني، فإن تمتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم ، فأنا الحسين بن علي ، وابن فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و اله)، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم فيَّ أُسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم بنُكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم، والمغرور من اغترّ بكم، فحظّكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيّعتم ، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته»(1).

ص: 397


1- الطبري :401/5 - 402

والملاحظ في هذه الخطبة أنها من أطول خطب الإمام منذ خروجه من المدينة وإلى حين وصوله إلى البيضة من منازل الطريق ، ومن أوسعها وأشملها بل تعد هذه الخطبة من أشهر خطب الإمام السياسية إلى جانب خطبتي يوم عاشوراء الآتية .

والملاحظ في خطب وكلمات الإمام بحسب تسلسلها الزمني من المدينة إلى مكة، ثمّ في منازل الطريق الواحدة بعد الأُخرى ، أن هذه الخطب تزداد حماساً وشمولية، وتعريفاً للقوم بواجباتهم الدينية ، وتتصاعد فيها نبرة التقريع والتوبيخ لهم على نقضهم للعهد وسيرهم في ركاب الظلم والظالمين ، وهذا ما نلاحظه جلياً في هذه الخطبة وما تلاها من خطب وكلمات الإمام (صلی الله علیه و اله).

ولو أردنا أن نتوقف عند فقرات ومضامين هذه الخطبة لطال بنا المقام وتوسع البحث كثيراً إلّا أننا نتوقف عندها «وقفة عجلان» لنأخذ قبساً من الوهج الثوري المشع من بين أسطرها.

الإمام الحسين (علیه السلام)طرح على الأُمة المبررات الشرعية والقانونية والأُسس الثابتة لحركته. وعندما نستعرض خطب وكلمات الإمام وفي أكثر من مكان ومناسبة ومنها هذه الخطبة، نجد أن الإمام قد بين قضيتين ، تتعلق الأُولى بالحاكم، والثانية بالأُمة.

أي مسؤولية الحاكم اتجاه الأُمة، ومسؤولية الأُمة اتجاه الحاكم.

لقد كان الإمام يعيش في نطاق المجتمع الإسلامي والذي كان يتزعمه حاکم يتظاهر بالإسلام ويحكم باسم خلافة رسول الله (علیه السلام)، فطرح القضية هنا من خلال حدیث رسول الله : «من رأى منكم سلطاناً جائراً ... » ثمّ طبق الإمام هذا المفهوم على المصداق والواقع الفعلي لحكام بني أُمية فقال : إلّا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن ، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله ....

ص: 398

فالرسول الأكرم (علیه السلام)يريد من الأُمة الإسلامية أن تواجه مسألة الحكم من موقع المسؤولية، وليس من موقع اللامبالاة، فإذا كان الحاكم عادلاً ويحكم بالقسط والعدل وبما أنزل الله تعالى، وبما جاء به رسوله ، وكان مصداقاً لقوله تعالى : «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ»(1).

فعلى الأُمة أن تطيعه وتسانده ، كما أمر الله بذلك : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»(2).

والإمام الحسين (علیه السلام)في رسالته إلى أهل الكوفة والتي حملها مسلم بن عقيل رضی الله عنه قد أشار إلى صفات الحاكم العادل الذي ينبغي على الأُمة طاعته والانقياد لأوامره، حيث جاء في تلك الرسالة : « ... فلَعمري ما الإمام إلّا العامل بالكتاب ، والآخذ بالقسط ، والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله»(3) .

وأما إن كان الحاكم قد ابتعد عن طاعة الله، وعن طاعة الرسول (صلی الله علیه و اله)، فهذا حاکم ظالم جائر فلا ينبغي للأُمة أن تطيعه أو تخضع له أو تسانده ، لأن الله نهی عن ذلك في قوله : «وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ»(4) و في غيرها من الآيات القرآنية التي تنهی عن الركون إلى الظلم والظالمين .

إذن، قضية الحكم والحاكمية في الإسلام ليست من القضايا التي تعيش خارج اهتمامات الأُمة ، وإنما يتحمل كل فرد من أفراد الأُمة المسؤولية اتجاه ذلك إما إيجاباً فيما إذا كان الحاكم عادلاً وأما سلباً فيما إذا كان الحاكم جائراً .

ص: 399


1- الحج: 40
2- النساء : 59
3- الطبري : 353/5
4- الأنفال : 11

والنص المروي عن رسول الله بواسطة الإمام الحسين(علیه السلام) يشخص أربع مواصفات في الحاكم الذي يجب على الأُمة أن تثور عليه وتنهض في وجهه.

أولاً : « يستحل حرام الله » ولا يتورع في انتهاك حدود الله في حلاله وحرامه من أجل مصالحه الشخصية.

ثانياً : «ناکثاً عهده » يعاهد الله والأُمة بأن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله ، ثمّ لا يلتزم بذلك.

ثالثاً : « مخالفاً لسنة رسوله » وسنة الله هي شريعة الله في حدوده وحلاله وحرامه .

رابعاً : « يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان » ولا يقوم للحق والعدل والإنصاف وزناً .

هذه المواصفات الأربع للحاكم الظالم يطبقها الإمام الحسين (علیه السلام)على مصداقها المتمثل آنذاك بالحكم الأموي والذي كان في قمته یزید بن معاوية ، وكان من بعض رموزه عبيد الله بن زیاد، فيقول ألا وإنَّ هؤلاء:

أولاً : قد لزموا طاعة الشيطان وترکوا طاعة الرحمن ( هذا في الجانب الايماني والعقائدي).

ثانياً : وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود (هذا في جانب السلوك العملي لهم كحکام).

ثالثاً : واستأثروا بالفيء (هذا في جانب السياسة المالية ).

رابعاً : وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله (هذا في جانب التلاعب بالأحكام الشرعية ).

ثمّ يقول: « وأنا أحق من غير ...».

ص: 400

فهذه مسؤوليتي وواجبي أن أنهض في وجه هذا النظام الفاسد ، وأخرج لطلب الإصلاح في أُمة جدي، لأني أحمل مسؤولية الإسلام، ومسؤولية المسلمين ، للوقوف أمام كل من يسيء إلى تعاليم الإسلام ويحرفها عن مواضعها ويسيء إلى المسلمين ويعمل فيهم بالبغي والعدوان والإثم(1).

ثمّ يذكّرهم الإمام بعهودهم ومواثيقهم من خلال كتبهم التي أرسلوها إليه فينبغي لهم الالتزام بها. ولا يسكتوا على النظام الحاكم لأنهم بسكوتهم سوف يكونون مصداقاً لحديث رسول الله (علیه السلام): « فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقاً على الله أن يُدخله مدخله».

هكذا يشخص الإمام الحسين (علیه السلام)وعن لسان جده رسول الله(صلی الله علیه و اله) واجب الأُمة اتجاه الحاكم الظالم، ولا يختص خطابه بالمشافهين به في زمانه ومكانه الذي أطلق منها صرخة الحق هذه ، وإنما هي للأجيال القادمة مهما طال بهم الزمن وهو المنهج الذي ينبغي لهم التعامل على أساسه مع قضية الحاكم، كما أمرهم رسول الله (صلی الله علیه و اله)بذلك.

ولا يمكن لنا أن نتجاوز كلمة الإمام الحسين(علیه السلام) في آخر خطبته إذ يقول : «فأنا الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و اله)، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم فيَّ أُسوة ...».

فهو(علیه السلام) لا يريد أن يعرفهم بنسبه الشريف ، فهو غنيّ عن التعريف، فكل المسلمين بما فيهم الحرّ وجيشه يعرفونه جيداً ، وهذا هو الحرّ يقول للحسين (علیه السلام): « والله مالي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما يقدر عليه».

ص: 401


1- فضل الله ، السيد محمد حسین : على طريق كربلاء: 77 وما بعدها (بتصرف وتلخیص)، ط. دار التيار الجديد - بیروت، ط. الأُولى، (1404 ه - 1984م)

وإنما أراد الإمام الحسين(علیه السلام) أن يشير إلى مسؤولية موقعه الخاص في وسط الأُمة ، فهو ابن رسول الله(صلی الله علیه و اله) وابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خليفة رسول الله (صلی الله علیه و اله)، وابن فاطمة الزهراء(علیها السلام) بنت رسول الله(صلی الله علیه و اله) ، وهذه الصفات تضعه في قطب دائرة المسؤولية الكبرى للدفاع عن الإسلام وتعاليمه واصلاح كل ما من شأنه أن يسيء إلى الإسلام ويحرفه عن أصالته، حتى لو أدى ذلك إلى التضحية بنفسه وأهله.

ويجب على المسلمين جميعاً أن يتخذوا منه أُسوة حسنة ( فلكم فيَّ أُسوة ) من خلال القيام معه ونصرته، والتضحية بالنفس إذا استوجب الأمر ذلك.

والأمر الآخر الذي أراده الإمام الحسين بقوله : « نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم ...» هو تذكير الأُمة، وهؤلاء المغرر بهم، بأن القائد ينبغي أن يكون في مقدمة المواجهة، ويكون أول من يضحي بنفسه، وبأهله ، كما كان رسول الله(صلی الله علیه و اله) في حروبه وغزواته ، وكما كان أمير المؤمنين في وقائع جهاده مع القاسطين والمارقين والناكثين ، فقد كان رسول الله يتقدم بنفسه، حتى قال في ذلك أمير المؤمنين «کُنَّا إذا احمرَّ البأسُ اتّقينا برسول الله (صلی الله علیه و اله) فلم يكن منّا أقربُ إلى العدوّ منه»(1)، وكان يقدم بين يديه علياً ، وحمزة... وكان أمير المؤمنين يتقدم صفوف المجاهدين ويقدم بين يديه حسناً وحسيناً وبقية ولده. والحسين يسير بنفس منهج جدّه وأبيه، فيقدم بنفسه وأهله مع من يتقدم معه المواجهة، وليس كما يفعل وفعل غيره ممن تحصنوا في قصورهم وحفظوا أنفسهم وأهليهم وساقوا الناس إلى سوح المواجهة.

ص: 402


1- نهج البلاغة مع شرح الشيخ محمد عبده : 717

لقد كان بإمكان الحسين (علیه السلام)من أن يعلن رفضه ليزيد ويعبئ الناس للمواجهة وهو في المدينة أو مكة ومن دون أن يعرض نفسه وأهله لخطر المواجهة، وقد اقترح عليه ذلك من قبل ابن عباس وغيره، إلّا أنه أبى إلّا أن يكون حسيناً في جميع مواقفه ، مقتفياً أثر رسول الله في جميع خطواته، ومضحياً في سبيل الله ، بنفسه الزكية ، والأنفس الطاهرة من أهل بيته وصحبه سلام الله عليهم.

المبحث الخامس: دراسة في شخصية الحر بن یزید

مواقف الحر بن یزید الرياحي مع الحسين بن علي (علیه السلام):

لم تسجل لنا وقائع الكوفة وأحداثها سواء قبل دخول مسلم بن عقيل إليها ، أو بعد دخوله وأخذه البيعة من أهلها إلى حين استشهاده ، أي حضور يذكر للحر بن يزيد الرياحي ، فلم يكن من المشاركين في الاجتماعات السرّية التي كانت تعقد في بیت سليمان بن صرد الخزاعي استعداداً لمكاتبة الحسين ودعوته إلى الكوفة، ولم يكن ممن كاتب الحسين ودعاه أو بایعه بواسطة مسلم بن عقیل رضی الله عنه.

مع أن الحر بن یزید لم يكن من عرض الناس وإنما «کان شريفاً في قومه جاهلية وإسلاماً، وكان في الكوفة رئيساً»(1).

وشخصية مثل الحرّ وبهذه المكانة الاجتماعية لا تهمل مواقفه وتحركاته ، إلّا أن المؤرخين لم يسجلو له أي تحرك في أحداث الكوفة حتى في الجبهة الأُخرى المعادية للحسين وحركته.

ص: 403


1- السماوي، محمد : إبصار العين : 115 - 116، طبعة مكتبة بصيرتي - قم

ولهذا قد يكون الحر صادقا في قوله للحسين (علیه السلام): «إنا والله ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر » وقوله : « فإنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك »، إلا أن نفيه المطلق وبلغة الجمع ومعه ألف فارس من الكوفة قد يدعو للتشكيك والتأمل .

ومهما يكن من أمر هذه الفترة، فإن ظهور الحر بن یزید وجيشه قبل وصول الحسين(علیه السلام) إلى الكوفة قد غير مجرى الأحداث، وأخذت الأحداث بعد ذلك تأخذ طابعاً آخر، وهو طابع وشكل المواجهة المسلحة والتي انتهت بفصولها الدامية في كربلاء يوم العاشر من محرم.

لم يكن الحسين (علیه السلام)وقبل لقائه الحر وجيشه تحت سيطرة وقبضة جيش الدولة الأموية ورمزها في الكوفة عبيد الله بن زياد، فكان طليقاً في تحرکه وتنقله فينزل في المكان الذي يناسبه، ويلتقي بالناس في الطريق ويلتحق به من يشاء ، ويعرض عنه من يشاء .. إلّا أن الأُمور قد تغيرت كلياً بعد وصول الحر وجيشه، واشتد الأمر بعد أن كتب الحرّ إلى عبيد الله بن زیاد يستعلمه خبر لقائه بالحسين(علیه السلام) من ومجيء کتاب عبيد الله بن زياد والذي جاء فيه : «أما بعد، فَجَعجِع(1) بالحسين حين يبلغك كتابي، ويقدم عليك رسولي ، فلا تنزله إلّا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء، وقد أمرتُ رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري»(2).

دراسة شخصية الحرّ بن یزید الرياحي :

وشخصية الحر بن یزید باعتباره من شهداء کربلاء، وله موقف مشرف في يوم عاشوراء من الحسين ونهضته تحتاج إلى دراسة ، ووقفة تأمل .

ص: 404


1- جعجع به : أي ازعجه واخرجه، وقال الأصمعي : يعني احبسه
2- الطبری : 408/5

وعندما ندرس مواقف الحر بن یزید الرياحي من الحسين ونهضته نجدها على نحوین :

الأول : الموقف المعادي والصّاد والمجعجع بالحسين (علیه السلام).

والثاني : الموقف الواعي والمضحي في ركاب الحسين (علیه السلام).

أما الموقف الأول : فرغم كونه موقف عداء وصدٍ، وكان له تأثير سلبي في مجريات أحداث کربلاء، إلّا أننا نجد في مجمل مفردات هذا الموقف وطريقة تعامل الحرّ مع الحسين وهو في موقف العداء، جوانب نيرة، ومشاهد طيبة تعكس لنا خلفية الحرّ المعرفية والسلوكية ، فلابد من التوقف عندها انصافاً له ، ومعرفة لحقه .

أولاً : معرفته بحق أهل البيت والإمام الحسين (علیه السلام).

وقد انعكس ذلك على سلوكه وكلماته مع الإمام الحسين (علیه السلام)، فنجده يقتدي بالحسين في صلاته في منازل الطريق ، ولا يرد على الإمام الحسين عندما قال له : « ثكلتك أُمك ما تريد!» وإنما يقول له وبأدب جم : «أما والله لو غيرك من العرب يقولها لي ، وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركتُ ذكر أُمه بالثُكل أن أقول ، كائناً من كان، ولكن مالي إلى ذكر أُمّك من سبيل إلّا بأحسن ما يقدر عليه»(1).

وفي رواية ابن أعثم في الفتوح : إن الحر قال للحسين (علیه السلام): « .. وأنا أعلم أنه لا يوافي القيامة أحد من هذه الأُمة إلّا وهو يرجو شفاعة جدّك محمد (صلی الله علیه و اله)وأنا خائف إن أنا قاتلتك أن اُخسر الدنيا والآخرة ...»(2) .

فهذه المواقف وأمثالها تدل على أن الحرّ كان عارفاً بحق الحسين وأهل البيت (علیهم السلام)، إلّا أنه كان حرفياً في تنفيذ مهمته الموكلة إليه حتى نهايتها.

ص: 405


1- الطبري : 402/5
2- الفتوح: 5/ 79

ثانياً : إشفاقه على الإمام الحسين (علیه السلام).

عندما نراجع کلمات المشفقين على الحسين (علیه السلام)والتي مرّت بنا سابقاً ، نجدهم يخافون على الحسين من أن تكون وجهته التي هو موليها فيها استئصاله وهتك حرمته، ولهذا كان يحاولون منع الحسين من الخروج شفقة عليه، وعندما نراجع بعض كلمات الحرّ مع الحسين (علیه السلام)نجد نفس لغة الإشفاق والتخويف بالقتل ، كما في رواية الطبري : « ... وأقبل الحرُّ يسايره وهو يقول له : يا حسين ، إني أذكرك الله في نفسك ، فإنّي أشهد لئن قاتلت لتقتلن ، ولئن قوتلت لتهلكنّ فيما أرى ، فقال له الحسين : أفبالموت تخوّفني، وهل يعدو بکم الخطب أن تقتلوني ! ما أدري ما أقول لك! ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمه، ولقیه وهو يريد نصرة رسول الله (صلی الله علیه و اله)، فقال له : أين تذهب؟ فإنك مقتول، فقال :

سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتي

إذا ما نَوى حقّاً وجاهد مسلما

وواسی رجالاً صالحين بِنَفسهِ

وخالفَ مَثبوراً وفارقَ مُجرما

فإن عِشتُ لم أندم وإن مِتّ لم أ۟لم

كفي بك ذُلّاً أن تعيشَ وترغما»(1)

ثالثاً : كراهته قتال الحسين (علیه السلام).

كان الحر يكرر على الحسين(علیه السلام) قوله : «إني لم أُومر بقتالك» ويقول له : « فلعلّ الله ، أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أُبتلى بشيء من أمرك»(2)، وعندما أراد أن يمنع هؤلاء النفر الذين قدموا من الكوفة مع دليلهم الطّرمّاح ابن عدي من الالتحاق بركب الحسين، باعتبارهم من أهل الكوفة وليسوا ممن أقبل مع الحسين ، قال له الحسين : لأمنعّهم مما أمنع منه نفسي، إنما

ص: 406


1- الطبري : 404/5 (المتن والهامش)، والفتوح لابن الأعثم: 5/ 79
2- الطبری : 5 / 402 - 403

هؤلاء أنصاري وأعواني ... وهم بمنزلة من جاء معي، فإن تممت على ما كان بيني و بينك وإلّا ناجزتك فكفَّ عنهم الحر(1).

بل حتى بعد مجيء الأوامر المشددة من عبيد الله بن زیاد إلى الحر والتي يطلب فيها منه «أن يجعجع بالحسين ، وأن لا ينزله إلّا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء»(2) فلا نجد في سلوك الحر مع الحسين ذلك التشديد الكثير كما أرادها عبید الله بن زیاد وإنما كان يساير الحسين بالسماح والتساهل ويصحبه بتأدب واحترام(3)، وعندما كان يمتنع من الاستجابة للحسين ومن معه بالنزول على بعض الأمكنة فإنه كان يتذرع بوجود الرقابة عليه من قبل ابن زیاد، ويقول : «لا والله ما أستطيع ذلك ، هذا الرجل قد بعث إلىَّ عيناً»(4).

هذه المواقف وغيرها تدل على أن الحر بن یزید كان يريد أن تنتهي مهمته بالعافية ومن دون أن يبتلى بنزاع مسلح مع الحسين (علیه السلام)، ولهذا ضبط نفسه ولم تأخذه حالة الانفعال أو زهو القيادة، ولم يستخدم القسوة المفرطة كما استخدمها من جاء من بعده من قادة جيش عبيد الله بن زیاد.

انتهاء مهمة الحرّ :

بنزول الركب الحسيني في كربلاء في اليوم الثاني من المحرّم سنة إحدى وستين ، انتهت مهمّة الحر بن یزید واستلم المهمة عمر بن سعد الذي قدم من الكوفة في أربعة آلاف(5)، ولم تسجل لنا كتب التاريخ من الثاني من المحرم وإلى اليوم العاشر منه أي حضور عسکري أو تعبوي للحرّ سواء في كربلاء أو في الكوفة .

ص: 407


1- المصدر نفسه : 405/5
2- المصدر نفسه : 408/5
3- الشهرستاني، هبة الدين : نهضة الحسين : 119، ط. دار الكتاب العربي - بيروت
4- المصدر نفسه : 408/5
5- المصدر نفسه : 408/5

وفي يوم العاشر وخلال تعبئة عمر بن سعد لجيشه و توزيع المهام القيادية الميدانية لمعسكره، لم تُعط للحر أي مهمة ميدانية سوى ما يذكره الطبري من حضوره في ربع تميم وهمدان فيقول : « قال أبو مخنف : حدّثني فضيل بن خديج ، عن... : لما خرج عمر بن سعد بالناس كان على رُبع أهل المدينة يومئذ عبد الله بن زهير بن سُليم الأزدي ، و على رُبع مَذحج وأسد عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي ، وعلى ربع ربيعة وكندة قيس بن الأشعث، وعلى ربع تميم وهمدان الحرّ بن یزید الرياحي فشهد هؤلاء كلّهم مقتل الحسين إلّا الحرّ بن یزید فإنه عدل إلى الحسين ، وقُتل معه.

وجعل عمر على ميمنته عمرو بن الحجاج الزبيدي ، و على میسرته شمر بن ذي الجوشن .. وعلى الخيل عزرة بن قيس ، وعلى الرّجالة شبث بنربعي ، وأعطى الراية ذویداً مولاه»(1).

فترك الحرّ وإهماله وعدم إناطة أي مهمة قيادية أو عسكرية به وهو الشريف في قومه ، والمعروف بشجاعته، له دلالات واضحة على أن الرجل لم يكن من الدائرة الخاصة بعبيد الله بن زیاد ، ولم يكن من الرموز التي يعتمد عليها ابن زیاد أو عمر بن سعد، ومهمته السابقة في ألف فارس لملاقاة الحسين(علیه السلام) لم تكن بتكليف مباشر من ابن زیاد، وإنما أرسله الحصين بن تميم كما في رواية الطبري ، قال :

«وكان مجيء الحر بن یزید و مسيره إلى الحسين من القادسيّة ، وذلك أنّ عبيد الله بن زیاد لما بلغه إقبال الحسين بعث الحصين بن تميم التميمي - وكان على شرطه - فأمره أن ينزل القادسية ، وأن يضع المسالح فينظم ما بين القطقطانة إلى خفّان ، وقدّم الحرّ بن یزید بين يديه في هذه الألف من القادسية ، فيستقبل حسيناً»(2).

ص: 408


1- الطبري : 5/ 422
2- المصدر نفسه : 410/5

فالذي نفهمه من هذه الرواية أن قائد الشرطة الحصين بن تميم هو الذي كلف الحرّ بمهمته، وليس عبيد الله بن زیاد، باعتبار أن مهمة إرسال الدوريات الاستطلاعية وتنظيم القوات العسكرية تقع على عاتق القائد الميداني ، وليس من شأن الوالي أو القائد العام أن يتدخل في ذلك ، فلعل الحصين بن تميم وهو تميمي قد اعتمد على الحرّ في هذه المهمة لرابطة العشيرة بينهما، وحتى لو فرضنا تکلیف عبيد الله بن زیاد له بهذه المهمة فإنها لوحدها لا تدل على أن الحرّكان من خواص ابن زیاد أو من رموزه البارزة .

ومهما يكن من أمر فإن دور الحرّ قد انتهى بنزول الحسين في كربلاء، وبها ينتهي الموقف المعادي للحر، لتبدأ صفحة جديدة في حياة الحرّ، وموقف آخر يختلف كلّية عن مواقفه السابقة، وهو موقف التضحية والفداء بين يدي الحسين يوم العاشر من محرم.

* موقف صحوة الضمير ، والوعي، والتضحية :

الذي يبدو من خلال جملة مواقف الحرّ في يوم العاشر من محرم أن الحرّ قد وصل إلى قمة التكامل وفي فترة زمنية لا تحسب في حساب الزمن ومراحله وهذا ما سوف نقف عليه ضمن نقاط :

أولاً : لم يكن الحرّ يتوقع أن تصل الأُمور إلى مقاتلة الحسين (علیه السلام)، وإنما كان يتوقع أن تنتهي الأُمور بنوع من التسوية بين الطرفين، ولهذا كان قد طلب من الحسين في منازل الطريق أن يكتب إلى يزيد بن معاوية ، أو إلى عبيد الله ابن زیاد(1).

ص: 409


1- المصدر نفسه : 403/5

ولكنه حينما رأى يوم العاشر من المحرم جدية الموقف، وإن هؤلاء القوم قد أعدوا للحرب عدتها، وكل ما ذكره لهم الحسين(علیه السلام) في خطبتيه لم يثنهم عن عزمهم على إشعال الحرب، توجه إلى عمر بن سعد متسائلاً : أمقاتلٌ أنت هذا الرجل ؟ قال : إي والله قتالاً أيسرُه أن تسقط الرؤوس، وتطيح الأيدي ، قال : أما لكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضاً؟ قال عمر بن سعد : أما والله لو كان الأمر إلىَّ لفعلت، ولكن أميرك قد أبي ذلك(1).

ثانياً : أقبل الحر بعد حواره مع عمر بن سعد ووقف مع الناس، ولكن صحوة الضمير أخذت منه مأخذها فتحرك نحو هاتف الضمير ، فأخذ يدنو من الحسين قليلاً قليلاً ، فقال له رجل من قومه يقال له المهاجر بن أوس : ما تريد يابن یزید ؟ أتريد أن تحمل ؟ فسكت وأخذه مثل العَرَواء(2) ، فقال له : يا ابن یزید ، والله إنّ أمرك لمريب ، والله ما رأيتُ منك في موقف قطّ مثل شيء أراه الآن، ولو قيل لي من أشجع أهل الكوفة رجلاً ما عدوتك ، فما هذا الذي أرى منك!

قال - الحرّ - إني والله أُخيّٙر نفسي بين الجنة والنار ، ووالله لا أختار على الجنة شيئاً ولو قطّعتُ وحُرّقت.

ثمّ ضرب فرسه فلحق بالحسين (علیه السلام)، فقال له : جعلني الله فداك يابن رسول الله ، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسایرتك في الطريق ، وجعجعت بك في هذا المكان، والله الذي لا إله إلّا هو ما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة ، فقلت في نفسي : لا أُبالي أن أطبع القوم

ص: 410


1- الطبري : 5/ 427، وابن كثير في البداية والنهاية : 195/8
2- في الارشاد : أخذه مثل الإفكل وهي المعدة، والعرواء : الرعدة تكون من الحمى

في بعض أمرهم، ولا يرون أني خرجتُ من طاعتهم، وأمّا هم فسيقبلون من الحسين هذه الخصال التي يعرض عليهم ، ووالله لو ظننت أنهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك ، وإني قد جئتك تائباً ما كان مني إلى ربي ، ومواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك ، أفترى ذلك لي توبة ؟

قال - الحسين (علیه السلام)- : نعم، يتوب الله عليك ، ويغفر لك، ما اسمك؟

قال : الحرُّ بن یزید.

فقال له الحسين (علیه السلام)-: «أنت الحرُّ کما سمّتك أُمك، أنت الحرُّ إن شاء الله في الدنيا والآخرة»(1).

لقد تحرر الحرّ من دنيا المعصية إلى دنيا التوبة ، وانتقل من موقف المعادي إلى موقف الموالي والتحق بركب ولي الله ، بعد ان كان في ركب أعداء الله ورسوله، وكل ذلك خلال لحظات لا تعد في عمر الزمن، طوى فيها الحر سلّم التكامل إلى قمته .

ثالثاً : كان يمكن للحرّ أن يكتفي بتوبته إلى الله بين يدي الحسين بعد أن اعتذر له عمّا بدر منه سابقاً، وقبل الحسين عذره، وفرح بتوبته، وقال له : أنت الحرُّ إن شاء الله في الدنيا والآخرة .. إلّا أن الحركان يرى أن مسؤوليته لا تنتهي عند هذا الحد، وإنما يجب أن يرقى بنفسه إلى أقصى سلم التكامل ، وأقصى غابات البرّ، فيجود بنفسه في سبيل الله وبين يدي الحسين وفي سبيل نصرته.

ولهذا عندما قال له الحسين(علیه السلام) : «نعم، يتوب الله عليك فانزل» قال : فأنا لك فارساً خير مني راجلاً، أُقاتلهم على فرسي ساعة، وإلى النزول ما يصير آخر أمري ، فقال له الحسين (علیه السلام): « فاصنع - يرحمك الله - ما بدا لك»(2).

ص: 411


1- الطبري : 5/ 428، والإرشاد للمفيد : 99/2 - 100
2- الطبري : 5/ 428، والإرشاد : 2/ 100

وهذا هو فارق الوعي بين الحرّ، وبين الكثير من الذين التقي بهم الحسين في طريقه من أمثال عبيد الله بن الحجر الجعفي ، والمشرقيين وغيرهم، ممن لم يعوا ما یریده الحسين (علیه السلام)، فقدم أحدهم للحسين فرسه «المحلقة» و آخر قدم له النصيحة ، فلم تصل بهم حالة السمو والتكامل كما وصل إليها الحرّ حيث رأى بعين البصير ، ووعي الأمر جيداً بأن الحسين يريد من الناس أن يبذلوا مهجهم في سبيل الله ، فقدم للحسين ما يريد، وجاد بنفسه ، ومضى إلى ربه شهيداً، وكتب في الخالدين ذكرهم عند الله ، وأصبح رمزاً للتائبين والأحرار على مرّ الدهور وتتابع الأجيال .

ورحم الله ذلك الرجل من أصحاب الحسين (علیه السلام)إذ يقول :

لَنِعمَ الحُرُّ حُرُّ بني رياحِ

وَحُرٌّ عِندَ مُختلفِ الرّٙماحِ

وَنِعمَ الحُرُّ إذ فادی حسیناً

و جادَ بِنفسهِ عندَ الصَّباحِ(1)

فسلام على الحرّٙ وهو يتحرر من دنياه إلى آخرته ، وسلام عليه وهو يجاهد بين يدي الحسين ، وسلام عليه وهو مضرّج بدمه والحسين يمسح وجهه ويقول : أنت الحرُّ كما سمّتك أُمك، وأنت الحرّ في الدنيا ، وأنت الحرُّ في الآخرة(2).

ص: 412


1- الإرشاد : 2/ 100
2- البحار : 133/45 ، وللتوسع في ترجمة الحر : انظر : القول السديد بشأن الحر الشهيد لآية الله الميرزا محمد هادي الحسيني الحائري، ط. مكتبة النعمان - النجف الأشرف

الباب السادس: مع الحسين في كربلاء

اشارة

ص: 413

ص: 414

الفصل الأول: مواقف وحوارات ما قبل يوم العاشر من المحرم

اشارة

المبحث الأول : التعبئة العامة لحرب الحسين ودلالات ذلك

المبحث الثاني : عمر بن سعد بن أبي وقاص، تاريخه ودوره ودوافعه لحرب الحسين

ص: 415

ص: 416

المبحث الأول: التعبئة العامة للحرب

اشارة

لم تشهد الكوفة في تاريخها العسكري -وهي دار الجند - نفيراً عاماً للحرب وتعبئة عسكرية شاملة كما شهدتها في قضية الإمام الحسين (علیه السلام)وواقعة کربلاء.

لقد كانت الكوفة وأهلها منذ أن أسسها سعد بن أبي وقاص سنة (17 ه)، تتكوّن من المقاتلة العرب الذين دحروا الساسانيين في معركة القادسية والنهروان وضموا العراق إلى الدولة الإسلامية، وكان عليهم واجب القيام بتوسيع رقعة الدولة الإسلامية، وتثبيت الأمن والاستقرار في الأقاليم التي فتحوها، وكانت طليعة هؤلاء المؤسسين هم العرب الذين كانوا يقومون بغارات على أطراف العراق بعد أن زالت دولة المناذرة، ثمّ انضموا إلى الإسلام فأصبحت حركتهم جزءً من تحركات الجيش الإسلامي، ثمّ توسعت هذه القوات، وازداد عدد المقاتلة بعد أن سمح باشتراك المرتدين والمندحرین من الجيش الساساني في الجيوش الإسلامية، بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب(1)

ص: 417


1- انظر البلاذري : فتوح البلدان، وتاريخ الطبري

والإمام علي(علیه السلام) استمد معظم مقاتلته في معركة الجمل من الكوفة، ثمّ اتخذها عاصمة لخلافته بعد أن قضى على معارضيه في معركة الجمل ، وكان أهل الكوفة يشكلون معظم جيشه في صفين(1).

ثمّ بعد أن استتب الأمر لمعاوية بن أبي سفيان عيّن عليها المغيرة بن شعبة والياً، وجند أهلها لحرب الخوارج، والفتوحات.

فتاريخ الكوفي منذ تأسيسها إلى واقعة كربلاء سنة (61ه) وما بعدها من حروب ووقائع، تاريخ يغلب على أهلها الحروب والتعبئة ، ومنها يصدر الجند وإليها يؤوبون.

إلّا أنها لم تشهد حركة قتالية وتعبوية جماهيرية في تاريخها لا قبل كربلاء ولا بعدها ، كما شهدتها في كربلاء وفي يوم عاشوراء سنة (61ه).

فبعد أن نجحت خطة عبيد الله بن زياد في منع الحسين من دخول الكوفة أو الرجوع إلى المدينة ، من خلال القوة العسكرية المكونة من ألف فارس بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي التي ساير الحسين (علیه السلام)ومن معه حتى أوصلتهم إلى كربلاء، أعلن النفير العام في الكوفة(2).

وأمر باجتماع الناس في مسجد الكوفة، وقام فيهم خطيباً فقال : «... إنكم بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبون، وهذا أمير المؤمنين يزيد قد عرفتموه، حسن السيرة، محمود الطريقة، محسناً في الرعية ، يعطي العطاء في حقه ... يكرم العباد ، ويغنيهم بالأموال وقد زادكم في أرزاقكم مائة مائة وأمرني أن أُوفّٙر علیکم وأُخرجكم إلى حرب عدوه الحسين ، فاسمعوا واطيعوا»(3)

ص: 418


1- للتوسع انظر الكوفة وأهلها في صدر الإسلام للدكتور صالح أحمد العلي
2- الطبري : 5 / 409
3- المجلسی، بحار الأنوار : 44/ 385

والذي زاده ابن زیاد في العطاء مائة مائة يختص بعامة الناس أما أهل الرياسة والوجاهة فلهم حساب آخر في العطاء.

وفي رواية الخوارزمي في المقتل : ثم نزل - ابن زیاد - من المنبر ووضع لأهل الرياسة العطاء وأعطاهم ونادى فيهم أن يتهيأوا للخروج إلى عمر بن سعد ليكونوا عوناً له في قتل الحسين ..(1).

وهكذا وظف عنصر المال في المعركة وهو عنصر الترغيب الذي أجاد الأمويون استعماله في سياستهم، لاستمالة النفوس الضعيفة وشراء الذمم، وسوق المرتزقة إلى المعركة ، أو شراء ودهم، أو تحييد موقفهم، ثمّ يأتي بعد ذلك أُسلوب الترهيب الذي أجاد ابن زیاد استخدامه ببراعة.

وبعدما وفّر ابن زیاد العطاء وزاد فيه مائة مائة ، أصدر النفير العام، وأمر أهل الكوفة بالخروج معه إلى معسكر النخيلة ففي رواية البلاذري قال ابن زیاد : «لا يبقين رجل من العرفاء، والمناكب، والتجار والسكان إلّا خرج، فعسکر معي، وأيا رجل وجدناه بعد يومنا هذا متخلفاً عن العسكر برئت منه الذمة ... فقدم النخيلة في جميع من معه، وطافت الخيل بالكوفة لتتأكد من خروج أهلها ، فوجد رجلاً من همدان فقتلوه، ولم يبق بالكوفة محتلم إلّا خرج إلى المعسكر بالنخيلة»(2).

وفي رواية الدينوري : « وكان ابن زیاد إذا وجّه الرجل إلى قتال الحسين في الجمع الكثير، يصلون إلى كربلاء، ولم يبق منهم إلّا القليل، كانوا يكرهون قتال الحسين ، فيرتدعون، ويتخلفون. فبعث ابن زیاد سوید بن عبد الرحمن المِنقري في خيل

ص: 419


1- الخوارزمی، مقتل الحسين : 242
2- البلاذری، انساب الأشراف: 3/ 385 - 386، ترجمة الإمام الحسين(علیه السلام)

إلى الكوفة، وأمره أن يطوف بها، فمن وجده قد تخلف أتاه به . فبينا هو يطوف في أحياء الكوفة إذ وجد رجلاً من أهل الشام قد كان قدم الكوفة في طلب میراث له ، فأرسل به إلى ابن زیاد ، فأمر به، فضربت عنقه ، فلما رأى الناس ذلك خرجوا »(1).

استمر النفير العام والتعبئة الشاملة في الكوفة لأيام عاش فيها أهلها وضعاً عسكرياً وأحكاماً عرفية لا مثيل لها، فلم يترك لأحد عذراً ليبقی في بيته أو متجره، أو يمارس حياته العادية ، فالعسكر تجول في سكك الكوفة، وتسوق الناس إلى معسكر النخيلة ، وابن زیاد من هناك يسوقهم إلى عمر بن سعد في کربلاء، ولا مجال لأحد في التفكير بالهروب أو الاعتزال عن المعركة بعد أن وضعت المسالح والمناظر وسُیّٙرت الدوريات العسكرية.

يقول البلاذري : «ثمّ جعل ابن زیاد يُرسل العشرين والثلاثين والخمسين إلى المائة، غدوة وضحوة ونصف النهار وعشيّة ، من النخيلة يمدُّ بهم عمر بن سعد ... ووضع المناظر على الكوفة لئلّا يجوز أحد من العسكر مخافة أن يلحق الحسين مغيثاً له ، ورتّب المسالح حولها ، وجعل على حرس الكوفة والعسكر زحر بن قیس الجعفي ، ورتّب بينه وبين عسكر عمر بن سعد خيلاً مضمرة مقدحة، فكان خبر ما قِبَله يأتيه في كل وقت»(2).

استمرت تعبئة القوات القتالية وارسالها إلى كربلاء إلى يوم السادس من محرم، كما في رواية ابن أعثم الكوفي : « والتأمت العساكر إلى عمر بن سعد لست مضين من المحرم»(3) .

ص: 420


1- الدينوري : الأخبار الطوال : 254 - 255
2- البلاذری، انساب الأشراف: 3/ 388
3- الفتوح: 5/ 159

أما عدد الذين خرجوا لقتال الحسين (علیه السلام)في هذه التعبئة ، فقد وقع فيه اختلاف كبير بين المؤرخين ويتصاعد عندهم العدد من ستة آلاف إلى الثلاثين ألف إلى أكثر من ذلك ، وفي رواية السيّد محمد بن أبي طالب : « فما زال يُرسل إليه بالعساکر حتى تکامل عنده ثلاثون ألفاً ما بين فارس وراجل»(1).

وفي رواية الصدوق في الأمالي بسنده عن المفضّل بن عمر، عن الإمام الصادق (علیه السلام)قال : « إنّ الحسين بن علي بن أبي طالب(علیه السلام) دخل يوماً إلى الحسن(علیه السلام) فلما نظر إليه بکی.

فقال له : ما يبكيك يا أبا عبد الله؟

قال : أبكي لما يُصنع بك!

فقال له الحسن : إنّ الذي يؤتى إليَّ يدسٌّ إليَّ فأُقتل به ، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله ، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدّعون أنّهم من أُمّة جدنا محمد(علیه السلام) ، وينتحلون دين الإسلام فيجتمعون على قتلک وسفك دمك، وانتهاك حرمتك، وسبي ذراريك ونسائك، وانتهاب ثقلك ، فعندها تحلّ ببني أُمية اللعنة، وتمطر السماء رماداً ودماً ، ويبكي عليك كلّ شيء حتى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار»(2).

وفي وسيلة الدارين للسيّد الزنجاني : « وقيل إنه إلى اليوم السادس من المحرم كان سوق الحدادين بالكوفة قائماً على ساق، لهم وهج ورهج ووجبة وجلبة ، فكل من تلقاه إما أن يشتري سيفاً أو رمحاً أو سهماً أو سناناً ويحددها عند الحداد وينقعها بالسم لإراقة دم ريحانة الرسول ومهجة البتول ..»(3).

ص: 421


1- البحار : 44 / 386 ، ويذكر العدد نفسه ابن طاووس في اللهوف
2- الصدوق، محمد بن علي : الأمالي : 101
3- الزنجاني ، إبراهيم : وسيلة الدارين في أنصار الحسين : 79 عن ناسخ التواريخ
* وقفة تأمل :

عندما نتأمل في الأساليب التي اتبعها ابن زیاد في تعبئة الكوفة وأهلها لحرب الحسين (علیه السلام)، ومن خلال الترغيب والترهيب وإعلان الأحكام العرفية، ووضع المسالح والمناظر، وإغلاق حدود الكوفة، ومن ثمّ تتابع الكتائب العسكرية وقياداتها، وبهذه القوة العددية والضخامة العسكرية، وبنحو لم تشهده حتى الفتوحات الإسلامية الكبرى ...

عندما نتأمل في ذلك كله لابد لنا من أن نتساءل عن الأسباب الحقيقية لهذه التعبئة الواسعة والشاملة، وبهذه الصرامة والشدة والقسوة العسكرية ؟ فهل يعقل أن هذه الحشود العسكرية الكبيرة والمشاركة الواسعة والشاملة للقيادات العسكرية المعروفة في الكوفة ، كانت مهمتها فقط القضاء على الحسين (علیه السلام)ومن معه ؟ وهل كان العدد والعدة الذي نزل به الحسين (علیه السلام)في كربلاء والتي لاتتجاوز على أعلى التقادير المائة والأربعين رجلاً(1) تستوجب حشد هذه القوات الهائلة وعلى صعيد واحد للمواجهة ؟

الذي نتصوره ومن خلال الظروف الموضوعية للكوفة وأهلها ، ولقضية الإمام الحسين (علیه السلام)وخصوصياتها، وبالاستناد إلى بعض النصوص التاريخية ، أن عبيد الله بن زیاد - وهو الخبير بواقع الكوفة وأهلها - كان يبتغي من وراء هذه التعبئة والحشود العسكرية والنفير العام جملة من الأُمور الاحترازية والسياسية، وضمن استراتيجية عسكرية شاملة يكون في رأس أولوياتها القضاء على الإمام الحسين (علیه السلام)وإخماد نهضته، والتي هي بمثابة تحصيل الحاصل نتيجة لعدم تكافؤ القوتين عسكرياً.

ويمكن اجمال هذه الأهداف الاستراتيجية والأُمور الاحترازية لعبيد الله بن زیاد بما يلي :

ص: 422


1- القرشي، باقر شریف : حياة الإمام الحسين : 3/ 125 - 126

أولاً: إحكام السيطرة على الكوفة وأهلها:

لقد كان ابن زیاد بارعاً في استخدام كل وسائل البطش والإذلال وشراء الذمم وتمكن من إخماد ثورة الكوفة والاجهاز على حركة مسلم بن عقیل، وبسط سيطرته على الكوفة وأهلها.

إلّا أنه كان يعلم جيداً، ومن خلال خبرته الواسعة بالعراق وأهلها عامة ، وبالكوفة وتركيبتها الاجتماعية والسياسية والمذهبية خاصة، أن ما أنجزه من نصير لا يُضمن دوامه واستمراره، وخاصة في مواجهة حركة الإمام الحسين (علیه السلام).

وامكانية انقلاب الأوضاع علیه واردة في كل لحظة، وذلك لجملة من الأسباب الموضوعية التي منها :

أ - عدم شرعية المعركة :

لقد عاشت الكوفة ومنذ تأسيسها وإلى نهاية خلافة أمير المؤمنين حركة جهادية واسعة للدفاع عن الشرعية مقابل من يحاربها، فكانت قوافل المجاهدين تخرج منها وتغدو إليها إما لصدّ الأعداء أو لتوسيع رقعة الدولة الإسلامية ، «وفي سبيل الدفاع عن هذه الشرعية دخلوا مع أهل الشام بحرب دموية مريرة ، وانتهت هذه الحرب بهزيمة الشرعية وبهزيمة أهل العراق وبانتصار القوة والواقع وبتتويج معاوية ملكاً على المسلمين ، كثمرة طبيعية لانتصار القوة وهزيمة الشرعية، وعلى الرغم من الهزيمة الساحقة التي حلّت بأهل العراق وقلبت کامل المعادلة ، إلّا أن هذا البلد كان مصدر إزعاج دائم للخليفة الأموي»(1) هكذا كانت الكوفة وعلى هذا المنوال كانت تُسَيّٙر قوافل قواتها ومجاهديها.

ص: 423


1- يعقوب، أحمد حسين : كربلاء الثورة والمأساة، ط. الغدیر - بیروت، الطبعة الأُولى، (1418 ه - 1997م)

إلّا أنّ ما حصل في انتكاسة حركة مسلم بن عقيل ، وما يحصل الآن في تجييش الجيوش وتحشيد القوات، لحرب الحسين(علیه السلام) لم يكن يمتلك أي غطاء شرعی، وأغلب من خرج لحرب الحسين(علیه السلام) «كانوا على يقين لا يخامره أدنى شك بضلالة هذه الحرب، وأنهم إنما يحاربون الله ورسوله، ويقاتلون من أُمروا بمودته وطاعته»(1).

وكان ابن زیاد یعي هذه الحقيقة جيداً ، ويقدر حجم المخاطر المحيطة به ، رغم كل الجهود التي بذلها لإسباغ شرعية الدولة الأموية ، وحقها في الدفاع عن شرعيتها مقابل من يخرج عليها.

ب - تذبذب الولاء في المجتمع الكوفي :

ينص الباحثون في الظواهر الاجتماعية على جملة من الظواهر التي تفرد بها المجتمع الكوفي من خلال تاريخه السياسي، منها التناقض في السلوك ، ومنها الغدر والتذبذب ، ومنها التمرد على الولاة، وغيرها من الظواهر المرضية(2)، حتى أصبح يضرب بهم المثل في هذه الخصائص والخصال فيقال : «أغدر من كوفي» أو «الكوفي لا يوفي» أو «أُسود رواغة وثعالب رواغة».وكانت من أبرز الظواهر عند المجتمع الكوفي ، ظاهرة التذبذب في الولاء والتمرد على الولاة، فقد كان الجانب العملي في حياتهم هو التقلب والتردد والتخاذل فسرعان ما ينقلبون على من يبايعونه وما أسرع ما يتمردون على ولاتهم، يقول أحد الباحثين : «إنهم مترددون متقلبون وإنهم لم يألفوا النظام والطاعة. وأن الاخلاص السياسي والعسكري لم يكن معروفاً لهم على الاطلاق»(3)

ص: 424


1- القرشي، حياة الإمام الحسين : 3/ 118
2- للتوسع انظر المصدر نفسه : 419/2 وما بعدها
3- المصدر نفسه : 2/ 423 عن كتاب السيادة العربية لفلهوزن : 74

ويؤكد ذلك باحث آخر فيقول : «إن من صفاتهم المميزة البارزة الهوائية والتقلب ونقص الثقة بأنفسهم»(1) .

ومهما تكن أسباب هذه الظواهر المرضية ، فإن ابن زیاد کان قد شخصها بدقة متناهية، واحتاط لها أشد الاحتياط ، فضبط الحدود، ووضع المسالح، وسير الكتائب القتالية ، وأقفل مداخل الكوفة ، في سبيل الاحتراز عن أي تمرد و انقلاب في الولاء عند الكوفيين، فإذا ما حصل ذلك «واتهم أحد بالعمل ضد سياسة الدولة التي عليه القبض وسيق بلا هوادة ولا رحمة إلى الاعدام أو السجون».

روى البلاذري : «كان عبد الله بن يسار يحفز الناس إلى نصرة الإمام، وخذلان بني أُمية فعلم به ابن زیاد فأمر بالقاء القبض عليه ، فأخفي نفسه وأخذت الشرطة تبحث عنه ، فظفر به عبيد الله بن الحر فأتي به إلى السبخة فقتلهُ»(2) .

وهكذا عاشت الكوفة نوعاً قاسياً من الأحكام العرفية تحسباً من كل طارئ.

ثانياً : اشراك كل رؤساء القبائل مع قبائلهم في دم الحسين (علیه السلام):

« عندما أرادت قريش أن تتخلص من النبي(صلی الله علیه و اله) ودعوته اقترح عليهم أبو جهل بن هشام أن يأخذوا من كل قبيلة فتي.. ثمّ يعطى كل فتى منهم سيفاً صارماً ، فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه .. فإنّهم إذا فعلوا ذلك تفرّق دمه في القبائل جميعاً ...»(3) .

وعلى خطى قريش في جاهليتها، وعلى منهج أبي جهل سار عبيد الله بن زیاد في حربه مع وارث النبي (صلی الله علیه و اله)وسبطه الذي خلفه في أُمته ، فحشد كل القبائل القاطنة

ص: 425


1- المصدر نفسه : 2/ 423 عن كتاب السيادة العربية لفلهوزن: 74
2- المصدر نفسه : 3/ 118 عن البلاذري : ق 1، ج 1
3- ابن هشام، السيرة النبوية : 126/2

آنذاك في الكوفة، وكل الوجوه القبلية ، وكل الشخصيات والرموز السياسية والعسكرية ، والويل لمن يتخلف عن ذلك ، والنصوص التاريخية تعكس بوضوح مدى حرص ابن زیاد على هذه المشاركة الواسعة.

روى الطبري عن أبي مخنف .. قال : «لما خرج عمر بن سعد بالناس كان على رُبع أهل المدينة يومئذ عبد الله بن زهير بن سليم الأزدي ، وعلى رُبع مذحج و أسد عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي، وعلى رُبع ربيعة وكندة قيس بن الأشعث بن قيس ، وعلى رُبع تميم وهمدان الحرّ بن يزيد الرياحي، فشهد هؤلاء كلّهم مقتل الحسين إلّا الحرّ بن یزید فإنه عدل إلى الحسين، وقتل معه»(1).

وهذه هي القبائل التي كانت تسكن الكوفة آنذاك ، وهؤلاء هم رؤساؤها .

أما الشخصيات العسكرية والسياسية فقد أوكل إليها القيادة الميدانية في أرض المعركة، وعلى رأسهم عمر بن سعد بن أبي وقاص الذي سوف نتحدث عنه وعن دوره في كربلاء في الباب الآتي من أبواب بحثنا في هذا الفصل.

واستكمالاً للرواية السابقة يتحدث الطبري عن القيادة الميدانية لجيش عمر ابن سعد في اليوم العاشر من محرم فيقول : «و جعل عمر على ميمنته عمرو بن الحجاج الزبيدي، وعلى میسرته شمر بن ذي الجوشن.. وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وعلى الرجالة شبث بن ربعي الرياحي، وأعطى الراية ذویداً مولاه»(2).

وعندما حاول شبث بن ربعي أن يتملص من المشاركة في المعركة متخذاً وسيلة التمارض، توعده عبيد الله بن زیاد فجاءه صاغراً ذليلاً لأمر الأمير!

ص: 426


1- الطبری : 5 / 422
2- المصدر نفسه : 5/ 422

روى المجلسي في البحار : «ثمّ أرسل - ابن زیاد - إلى شبث بن ربعي أن أقبل إلينا ، وإنّا نريد أن نوجّه بك إلى حرب الحسين ، فتمارض شبث ، وأراد أن يعفيه ابن زیاد فأرسل إليه : أما بعد ، فإن رسولي أخبرني بتمارضك، وأخاف أن تكون من «وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ» إن كنت في طاعتنا فأقبل إلينا مسرعاً.

فأقبل إليه شبث بعد العشاء لئلّا ينظر إلى وجهه فلا يرى عليه أثر العلّة ،فلما دخل رحّب به وقرّب مجلسه ، وقال : اُحبُّ أن تشخص إلى قتال هذا الرجل - أي الحسين - عوناً لابن سعد عليه ، فقال : أفعل أيها الأمير» (1).

فابن زیاد كان يريد من الجميع المشاركة ولا عذر لمن يتخلف ، وتولّى بنفسه عسكرة الجيوش وتسويقهم إلى أرض المعركة تحت مسميات و رایات قبائلهم التي ينتمون إليها وهدفه من ذلك أن يضيع دم الحسين وأهل بيته وأصحابه بين هذه القبائل الكثيرة فلا يطالب أحد من بني هاشم بالقِود والاقتصاص من القتلة ، بالاضافة إلى أهدافه الأُخرى.

وحتى بعد انتهاء المعركة ورجوع القوات العسكرية إلى الكوفة نجد هذا الحرص عند ابن زیاد من خلال قطع الرؤوس وتوزيعها على القبائل، ثمّ التنقل بها بصورة استعراضية لتتاح مشاهدتها ومشاهدة حامليها من القبائل لأكبر عدد من الناس في الكوفة وأزقتها، والمدن التي يمرّ بها حملة الرؤوس.

روى الطبري عن هشام عن أبي مخنف قال : « ولما قتل الحسين بن علي(علیه السلام) جيء برؤوس مَن قتل معه من أهل بيته وشیعته وأنصاره إلى عبيد الله بن زیاد ، فجاءت کِندة بثلاثة عشر رأساً ، وصاحبهم قيس بن الأشعث، وجاءت هَوازن

ص: 427


1- المجلسي، بحار الأنوار : 386/44 نقلاً عن کتاب مقتل السيد محمد بن أبي طالب

بعشرين رأساً وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن، وجاءت تميم بسبعة عشر رأساً ، وجاءت بنو أسد بستة رؤوس، وجاءت مذحج بسبعة رؤوس، وجاء سائر الجيش بسبعة رؤوس ، فذلك سبعون رأساً»(1) .

فقطع الرؤوس وتوزيعها على القبائل بالاضافة إلى دلالاته السياسية، وكونه عملاً انتقامياً ، إلّا أن توزيعها على القبائل وبالشكل الذي تعكسه رواية الطبري يهدف إلى إشراك هذه القبائل جميعاً في دم الحسين وضياع هذا الدم المقدس بين هذه القبائل، وكونهم جميعاً شركاء في هذه الجريمة التي ارتكبت .

ثالثاً : عِظم خطر الحسين (علیه السلام)وعظم نهضته على الدولة الأموية :

لم تكن معارضة الإمام الحسين(علیه السلام) للدولة الأموية وخلافة يزيد بن معاوية ، ومن ثمّ خروجه ونهضته في وجه هذه الدولة، من الأحداث والوقائع الجزئية الصغيرة والتي يمكن احتواؤها والقضاء عليها بسهولة.

وقدمرّ بنا سابقاً حجم الجهود والإلتوائية الماكرة التي بذلها معاوية بن أبي سفيان وعلى مدى عشر سنوات من أجل أن يأخذ البيعة من الحسين(علیه السلام) أو ليحيد موقفه على أقل تقدير فلم يفلح في ذلك ، ومات معاوية ولم يحقق ما كان يصبو إليه من تسليم الدولة ليزيد من دون وجود معارضة له من قبل الإمام الحسين (علیه السلام).

فالحسين بن علي(علیه السلام) وبما يمتلك من رصيد معنوي وإيماني كبير وما له من نفوذ واسع في المجتمع الإسلامي، يمثل خطراً كبيراً على الدولة الأموية، ويمكن أن يقوض کيان هذه الدولة من الأساس فيما إذا دخل الكوفة واحتف به أهلها.

ولهذا حشدوا للقضاء عليه وعلى القوة الصغيرة التي معه في كربلاء أضخم قوة عسكرية استطاعوا توفيرها في فترة زمنية قصيرة، وذلك من أجل أن تضع

ص: 428


1- الطبري : 468/5

الثائرين في حصار محكم، يحول دون إفلات أي واحد منهم ، ويحول دون وصول أي أحد إليهم، ويضمن القضاء عليهم في وقت قصير جداً ، لئلّا يتأثر الجيش الأموي نفسه إذا طال الوقت(1).

لقد كانت نهضة الإمام الحسين(علیه السلام) أول حركة تواجهها حكومة يزيد بن معاوية ، ومن أعظم الحركات خطراً على كيان هذه الدولة ، ولا يدانيها أي حركة سابقة أو لاحقة واجهتها هذه الدولة ، فلا معارضة ابن الزبير كانت تقلق الدولة الأموية ورموزها، ولا المواجهات المسلحة معه بعد ذلك تشكل درجة من الخطورة بنفس الحجم الذي تشكله نهضة الإمام الحسين.

بل إن جميع المواجهات المسلحة اللاحقة لنهضة الإمام الحسين (علیه السلام)كانت في حقيقتها صدى لهذه النهضة، وانبعاث في الأُمة من جديد إلى الروح الجهادية تفاعلاً مع نهضة سيد الشهداء (علیه السلام).

يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين رضی الله: «إن رجال النظام الأموي، وعلى رأسهم یزید بن معاوية ، كانوا يرون أن ثورة الحسين (علیه السلام)يمكن أن تقوض النظام کله ، وكانوا يقدرون أن ما نسميه الآن «الحالة الثورية» حالة منتشرة في مجتمع العراق بصورة خطيرة ، وإن كانت بحاجة إلى تحريض لتتحرك وتعبر عن نفسها في حركات ومواقف، ولذا فإن أي تحرك تقوم به قوة ذات نفوذ إسلامي يمكن أن يجمع الطاقات الثورية، ويعطيها قوة الحركة نحو انجاز ثوري كبير الحجم، ولذا فإن الثورة الحسين، ولقائدها مركزاً معنوياً كبيراً جداً في المجتمع الإسلامي، تشكل بالنسبة إلى النظام الأموي خطراً بما يمكن أن تؤدي إليه من تفاعلات

ص: 429


1- شمس الدين، محمد مهدي : أنصار الحسين : 231 - 232، ط. المؤسسة الدولية - بيروت، الطبعة الثالثة، (1417 ه - 1997م)

ينشأ منها تصعيد الروح الثورية واعطاء جماعات الثوريين في المجتمع الإسلامي أملاً كبيراً في الانتصار بوجود قيادة ذات رصيد معنوي كبير لدى المسلمين»(1)

رابعاً : إشباع رغبة التشفي والإنتقام :

عندما نستعرض جانب المأساة من وقائع يوم العاشر من محرم وما بعدها ، وما جرى فيها من قتل وأحداث دامية، نجد أنفسنا أمام مأساة مذهلة قد لانجد لها نظيراً في تاريخ الإسلام، بل قد لا نجد لها نظيراً حتى في تاريخ العرب الجاهلي ، فكل شيء لا حرمة له عند هؤلاء الذين خرجوا لحرب الحسين (علیه السلام)، فكانت مجزرة حقيقية شملت كل صغير وكبير ولم تفرق بين المقاتل والطفل الرضيع، ولم يُستثنَ مريض ولا المرأة الضعيفة، واستخدمت كل الوسائل الدنيئة من الحصار المؤدي إلى الجوع والعطش إلى الترويع والتخويف، إلى القتل الذي لا هوادة فيه ولا شفقة ولا رحمة، إلى الممثلة بالأجساد من خلال رضّ الأجساد بحوافر الخيل والتمثيل بها، ثمّ قطع الرؤوس والتشهير بها في الكوفة ومنازل الطريق إلى الشام ، فكانت عملية إبادة حقيقية ، وليست فقط مجرد معركة غير متكافئة بين طرفين يراد منها اخضاع طرف للطرف الآخر.

وهنا نتساءل عن الأسباب الكامنة وراء هذه المجازر المروعة ، وهل تمّ كل هذا بمبادرة من عمر بن سعد قائد المعركة وأعوانه، أم أنه تلقى أوامره من ابن زیاد، وبدوره تلقاها من یزید بن معاوية؟

قد تتداخل الأسباب والعلل التي تكمن وراء هذه الجرائم البشعة ، فهي من جهة قد تكون إجراء انتقامياً محضاً، ومن جهة اُخرى قد تكون عملاً سياسياً ذا صفة انتقامية ، وقد يجتمع السببان معاً بالاضافة إلى أهداف أُخرى.

ص: 430


1- المصدر نفسه : 231

يقول أحد الباحثين في الثورة الحسينية في إجابته عن هذه التساؤل : «لا نشك في أن قطع الرؤوس ، إجراء إنتقامي بعث عليه الحقد كما هو الشأن في رضّ الأجساد بحوافر الخيل والتمثيل بها، ولكننا نرجح أنه ليس انتقاماً فقط لا غاية له إلّا الإنتقام وإرواء غليل الحقد، إنه فيما نرى اجراء انتقامي له غاية سياسية أيضاً»(1).

ووجه نظر هذا الباحث له جانب كبير من الصواب استناداً إلى أطراف النزاع في كربلاء، فلقد كان يزيد بن معاوية وريث والده في سلوكه وعقليته الجاهلية ، ووريث الأُسرة الأموية التي امتلأت نفوسها حقداً وضغينة على بني هاشم جاهليةً وإسلاماً ، فكانوا يترقبون أي فرصة من أجل الانتقام والتشفي منهم، وقد نبه النبي(صلی الله علیه و اله) الأُمة الإسلامية إلى حقيقة مشاعر الأمويين اتجاه أهل بيته(علیهم السلام) ، فقال : «إن أهل بيتي سيلقون من أُمتي بعدي قتلاً وتشريداً، وان أشد قومنا لنا بُغضاً بنو أُمية ، وبنو المغيرة ، من بني مخزوم»(2).

ويكفي يزيد أن يكون جدّه أبا سفيان ، وجدّته هند بنت عتبة ، وحقدهما على النبي(صلی الله علیه و اله) وأهل بيته وأصحابه البررة ، والذي بلغ ذروته في معركة أُحد شاهد على ذلك إذ لم تكتف هند ومن معها من نساء بني أُمية بما سقط من قتلى وجرحى في صفوف المسلمين في المعركة، وإنما عمدن إلى جسد حمزة بن عبد المطلب ، وأجساد الشهداء فمثلن بها.

ص: 431


1- شمس الدين، محمد مهدي : أنصار الحسين : 230 - 231
2- النيسابوري، أبو عبد الله محمد بن عبد الله، المستدرك على الصحيحين : 487/4 ، ط. دار الكتب العلمية - بيروت، وذكره المتقي الهندي في كنز العمال : 50/6 ، وأخرجه ابن حماد في الفتن : 73، تحقیق سهل زکار، طبعة دار الفکر، بیروت، (1993م - 1414 ه)

قال إبن اسحاق : « ووقعت هند بنت عتبة - كما حدثني صالح بن کیسان - والنسوة اللائي معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و اله)، يجدعن الآذان والأُنوف حتى اتخذت هند من آذان الرجال واُنوفهم خدماً وقلائد ، و بقرت کبد حمزة فلاکتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها»(1).

وخلاصة الأمر : أن یزید بن معاوية سليل أُسرة معروفة في مواقفها من الإسلام، وعدائها للنبي(صلی الله علیه و اله) وأهل بيته، ويحركها روح الحقد والكراهية ، ويتحينون كل فرصة للتنفيس عن أحقادهم الدفينة.

فلا نستغرب والحالة هذه أن تصدر الأوامر من يزيد بقتل الحسين (صلی الله علیه و اله)وهو لا زال في المدينة ، إن امتنع عن بيعته ، فيقول في كتابه إلى واليه على المدينة : « فإن أبي عليك - أي الحسين - فاضرب عنقه »(2).

أو كما في رواية الطبري : « وكتب إليه - أي يزيد - في صحيفة كأنها أذنُ فأرة :

أما بعد، فخذ حُسيناً ، و .. بالبيعة أخذاً شديداً ليست فيه رُخصة حتى يبايعوا...»(3).

« فإذا كان يزيد بن معاوية يأمر بقتل الحسين إن امتنع عن البيعة، وقبل أن يمتنع ، فمن باب أولى ان يأمر بقتله إذا امتنع بالفعل، وخرج عليه بالفعل ، و خرج بما صرح به بالفعل، وإذا أمر بقتل الإمام الحسين وهو عميد أهل بيت النبوة و آل محمد (صلی الله علیه و اله)وذوي قرباه ، فأهون عليه الأمر بقتل من سواه ممن هو دونه»(4) .

ص: 432


1- ابن کثیر، السيرة النبوية : 3/ 74
2- الفتوح لابن الأعثم: 10/5
3- الطبري : 5/ 338
4- يعقوب، أحمد حسین : کربلاء: 270

بل إننا ذكرنا سابقاً رأي أحد الباحثين في أن الإمام الحسين حتى على فرض مبايعته ليزيد فإنَّ مصيره الاغتيال والفتل وفقاً للمعطيات التي ذكرها(1) .

ولهذا صدرت الأوامر الصارمة من يزيد لعبيد الله بن زیاد، وأطلق يده ،وأعطاه كافة الصلاحيات اللازمة للتعامل مع الحسين ومن معه من أهل بيته وأصحابه .

والأبيات الشعرية التي ترنم بها یزید بن معاوية لما جيء برأس الحسين فوضع بين يديه خير شاهد على ذلك.

روی ابن كثير : لما جيء برأس الحسين فوضع بين يدي يزيد تمثل بهذه الأبيات :

ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج في وقعِ الأسل

فأهلّوا واستهلوا فرحاً

ثمّ قالوا لي هنيئاً لا تُسل

حِینَ حکت بفناءِ بركها

واستحرَ القتلُ في عبد الأَسل

قد قتلنا الضعفَ من أشرافكم

وعدلنا ميلَ بدرٍ فاعتدل

... ثمّ جعل ينكث بقضيب كان في يده ثغره، ثمّ قال : إن هذا وإيانا كما قال الحصين بن حمام :

يُغ۟لّٙق۟قَ هاماً من رجال أَعِزّةٍ عَلَينا وهُم كانوا أَعَقَّ وأَظلَما(2)

وعبيد الله بن زیاد هو الآخر كانت تحرکه عوامل الحقد والكراهية لأهل البيت(علیهم السلام) من جهة، وكان يتلقى الأوامر من يزيد بن معاوية وهي مليئة بالتحريض والتهديد فيما لو فشل في مهمته فإنه سيعود عبداً من جهة أُخرى.

ص: 433


1- أُنظر : صبحي - أحمد محمود ؛ نظرية الإمامة : 343 (مرجع سابق)
2- البداية والنهاية : 209/8

ولهذا تجد مواقفه المتتالية في تعامله مع الحسين تصب في كلا الاتجاهين ، التشفي والتنفيس عن الأحقاد الكامنة في نفسه الخبيثة فيقول للحوراء زينب بعد مقتل الحسين (صلی الله علیه و اله): «قد شفي الله نفسي من طاغيتك ، والعصاة المردة من أهل بيتك ...»(1).

وحرص على تنفيذ أوامر سيده وولي نعمته یزید بن معاوية ، ليحظى عنده بالمحبة والمكانة الرفيعة .

والنصوص التاريخية التي تسجل مواقف ابن زیاد من الحسين (علیه السلام)تشير بوضوح إلى روح العداء والحقد التي كان ينطلق منها في مواقفه وتصرفاته ، فما أن يصله کتاب الحر بن یزید يخبره بلقائه بالحسين في الطريق حتى يكتب له : « أما بعد، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي هذا ويقدم عليك رسولي، ولا تنزله إلّا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء »(2).

وبعد نزول الحسين (علیه السلام)في كربلاء يكتب إليه ابن زیاد رسالة يقول فيها: «أما بعد یا حسين، فقد بلغني نزولك بكربلاء، وقد كتب إلىَّ أمير المؤمنین یزید بن معاوية أن لا أتوسد الوثير، ولا أشبع من الحمير ، أو ألحقك باللطيف الخبير ، أو ترجع إلى حكمي وحکم یزید بن معاوية»(3).

وعندما يكتب إليه عمر بن سعد بما لفقه على الحسين من أكاذيب ، وأنه نوی الإنصراف إلى بلاد الله ... ما سوف يأتي بيانه . قال الطبري : فلما قُريء الكتاب على ابن زیاد قال :

الآنَ إذ عَلِقَت مخالِبُنا بهِ

یرجوا النجاة ولاتَ حِينَ مناصِ(4)

ص: 434


1- لطبري : 5/ 457
2- المصدر نفسه : 408/5
3- ابن أعثم الكوفي ، الفتوح: 5/ 150 - 151
4- الطبری : 411/5

فلغة الناب والمخلب هي لغة ابن زیاد، وهي كما نعلم لغة وحوش الغاب الكاسرة.

ويبلغ به الحقد والكراهية إلى حد يصدر فيه أوامره التالية إلى عمر بن سعد قائده الميداني في كربلاء، بالمثلة بالحسين بعد مقتله ! كما في رواية الطبري : « فازحف إليهم حتى تقتُلَهم وتمثّل بهم ، فإنهم لذلك مستحقون ، فإن قُتل الحسين فأوطئ الخيلَ صَدرَه وظهره ، فإنه عاقّ مشاق ، قاطع ظلوم، وليس دَهري في هذا أن يَضرَّ بعد الموت شيئاً ، ولكن علىَّ قول لو قد قتلتهُ فعلتُ هذا به ..»(1).

ونفذ عمر بن سعد أوامر ابن زیاد بدقة، وقام بهذه المهمة البشعة بالاضافة إلى التمثيل بالقتلى والتي منها قطع الرؤوس.

وخلاصة الأمر، فإن روح الحقد والتشفي والانتقام هي التي كانت حاكمة في تصرفات يزيد، وعبيد الله بن زياد، وعمر بن سعد، في كربلاء فحشدوا أضخم قوة عسكرية وفي زمن قياسي، للقضاء على القوة الصغيرة التي كانت مع الحسين (علیه السلام).

خامساً : شَل الروح الثورية لدى المعارضة. لقد كان على رأس الأهداف التي يبتغيها الحسين (علیه السلام)في نهضته هو بعث الروح الثورية لدى المعارضين للنظام الأموي، بعد أن ماتت هممهم وشلت حركتهم، فأراد الحسين(علیه السلام) إحياء هذه النفوس من جديد، وشحنها بالطاقات الثورية ، للقيام بمسؤولياتهم اتجاه النظام الأموي الحاكم، وكان يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زیاد، وكل اقطاب ورموز السياسة الأموية يعون جيداً حكم المخاطر المحيطة بهم

ص: 435


1- الطبري : 5/ 415

فيما إذا تأججت الروح الثورية لدى المعارضين والناقمين على الحكم الأموي ، و تحول المد الجماهيري إلى كتلة قوية تستلهم الروح الثورية من حركة الحسين(علیه السلام) ونهضته ، «لهذا أراد رجال النظام الأموي، أن يقضوا على كل أمل عند الجماهير بنجاح أي محاولة ثورية ، وذلك بجعل أبطال هذه المحاولة عبرة للآخرين، وذلك من خلال اجراءات انتقامية فيها إهانة للشهداء ونسائهم، مثل رضّ الأجساد بحوافر الخيل، والتمثيل بها، وحمل النساء سبايا يستعرضهن الناس في الأمصار .

وهدف النظام الأموي من هذا كله تبديد الهالة القدسية التي تحيط بالحسين وأهل البيت (علیهم السلام)، وإفهام الثائرين الذين لم يتح لهم أن يشاركوا في ثورة کربلاء إن اجراءات السلطة في حماية نفسها لا تتوقف عند حد، ولا تحترم أية قداسة وأي مقدس، وأي عرف ديني أو اجتماعي !».

ويأتي قطع الرؤوس، وحملها من بلد إلى بلد ، والطواف بها في المدن - وخاصة الكوفة - جزء من هذه الخطة العامة، ولتبديد إمكانات الثورة وتحطيم المناعة النفسية لدى المعارضة، وإفهامها بأن الثورة قد انتهت بالقضاء عليها، ولقطع الطريق على الشائعات بالأدلة المادية الملموسة وهي رؤوس الثائرين وفي مقدمتها رأس الحسين(علیه السلام).

فالذي يشلّ القدرة الثورية، ويسبب الهزيمة النفسية لدى الجماهير هو أن تری زعماءها وقادتها قد قتلوا، ورفع الدليل المادي على قتلهم، وهو رؤوسهم، على أطراف الرماح، ومن هنا نفهم لماذا طيف برأس الحسين في أزقة الكوفة : «... ثمّ أن عبيد الله بن زیاد نصب رأس الحسين بالكوفة، فجعل يدار به في الكوفة»(1).

ص: 436


1- الطبري : 5/ 459، وانظر انصار الحسين للشيخ شمس الدين : 232 - 233

المبحث الثاني: عمر بن سعد ، تاريخه ودوافعه لحرب الحسين

اشارة

كان ينبغي أن نتحدث أولاً عن عمر بن سعد وكيفية اختياره من قبل عبيد الله ابن زیاد قائداً للقوات العسكرية التي خرجت الحرب الحسين في كربلاء حسبما يقتضي ذلك منهج البحث، إلّا أن وقفة التأمل التي ينبغي أن نقفها عند ابن سعد ودوره في أحداث کربلاء، جعلتنا نرجئ الحديث عنه إلى هنا.

فمن هو عمر بن سعد، وما هو دوره في أحداث کربلاء؟

مهما بحثنا في كتب الرجال والتراجم فإنا لا نجد لعمر بن سعد أي حضور سياسي أو عسكري أو علمي يمكن أن يتصف به، وإنما اكتسب ابن سعد مكانته الاجتماعية والسياسية من اسم والده «سعد بن أبي وقاص»، وليس له من الملكات والاعتبارات الأُخرى سوى أنه ابن سعد بن أبي وقاص، وأنه قاتل الحسين (علیه السلام)في كربلاء.

فلابد لنا أن نتوقف قليلاً عند والده « سعد بن أبي وقاص» ودوره في الأحداث والوقائع الإسلامية ، ثمّ نتحدث عن الابن «عمر» باعتباره وریث مكانة والده .

لسعد بن أبي وقاص، باعتباره من الصحابة ، ومن البدريين، وقائد حرب القادسية ، ترجمة واسعة في كتب التراجم والرجال(1) واسبغت على شخصيته هالة من الكرامات والفضائل.

ص: 437


1- ترجمته وأخباره نجدها في الاستيعاب : 2/ 18 بهامش الإصابة، وأسد الغابة : 2/ 214، والاصابة : 2/ 33، وحيلة الأولياء: 1/ 92، وتاريخ بغداد: 1/ 144، والوافي بالوفيات : 15 / 144 ، وسير أعلام النبلاء: 92/1
نسب سعد :

قال ابن عبد البر في الاستیعاب، وابن قتيبة في المعارف :

« سعد بن أبي وقاص ، واسم أبي وقّاص مالك بن أُهيب بن عبد مناف بن زهرة بن کلاب(1) بن مرة بن کعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النَّضر بن كنانة ، ويكنى : أبا إسحاق، وأُمّه : حَمنَة بنت سفیان بن أُمية بن عبد شمس»(2).

والملاحظ في سلسلة نسب «سعد» اتصال نسبه من جهة الأب بنسب النبي (صلی الله علیه و اله)، ومن جهة يتصل نسبه ببني أُمية.

فجهة القرابة النسبية بين سعد بن أبي وقاص ، بالنبي وآله ثابتة ولا شك فيها ، ولهذا نجد مسلم بن عقیل رضی الله عنه عندما أراد أن يوصي لأحد لم يجد في مجلس ابن زیاد أقرب من «عمر بن سعد» إليه نسباً ولهذا قال لابن زیاد : فدعني أُوصي إلى بعض قومي، فنظر إلى جلساء عبيد الله ، وفيهم عمر بن سعد ، فقال : يا عمر، إنّ بيني وبينك قرابة ، ولي إليك حاجة، وقد يجبعليك نجح حاجتي ، وهو سرّ ، فأبى أن يمكّنه من ذكرها ، فقال له عبيد الله : لا تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمّك(3) !

اسلام سعد بن أبي وقاص :

كان سعد من المسلمين الأوائل حتى روي عنه قوله : أسلمتُ وأنا ابن تسع عشرة سنة(4)، وقوله : اتّبعت رسول الله (صلی الله علیه و اله) وما في وجهي ولا شعرة(5).

ص: 438


1- ابن عبد البر، الاستیعاب في معرفة الأصحاب : 1/ 364، ط. دار الفكر - بيروت ط. الأُولى، (1423 ه - 2002م)
2- ابن قتيبة ، المعارف : 41، تحقيق ثروة عكاشة ، ط. أُفست الشريف الرضي - قم
3- مقتل الحسين لأبي مخنف : 138، تحقيق الشيخ محمد هادي اليوسفي ، ط. مؤسسة النشر الإسلامي - قم، والطبري : 5/ 376
4- طبقات ابن سعد : 3/ 139، و تاریخ بغداد : 1 / 144
5- طبقات ابن سعد : 3/ 139، و تاریخ بغداد : 1 / 144

وذكر ابن عساكر في تاريخه ، قال : « سعد بن أبي وقاص ... وهو أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله بالجنة، وأحد الستّة من أهل الشورى ، ومن المهاجرين الأوّلين ، تقدّم إسلامه ، وحضر مع رسول الله (صلی الله علیه و اله)مشاهده ، وجاهد بين يديه(1)، وروي عنه قوله : والله إنّي لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله عزّ وجل »(2).

ولا نريد أن نسترسل في تعداد ما نسب من مناقب و فضائل لسعد بن أبي وقاص والتي ذكرها أرباب کتب الرجال والتراجم ولا مناقشة ما نسب إليه من

هذه الفضائل ، وإن كان فيها مجال واسع للمناقشة، وتدخل بعضها في قصص الخرافة ، وما لفّقته الأهواء والشهوات في فضائل الصحابة(3).

الجانب السياسي من حياة سعد بن أبي وقاص :

هنالك الكثير من المحطات السياسية في تاريخ حياة سعد بن أبي وقاص، بعضها مشرق باشراقة الجهاد في سبيل الله ، وبعضها الآخر مظلم قاتم لانحرافه عن طريق الحق والاستقامة !

وفيما يلي بعض هذه المحطات وبموضوعية ومن دون أن نبخس الرجل حقّه في ميزان التقييم.

ص: 439


1- ابن عساکر، تاریخ دمشق الكبير : 201/22 - 202، ط. دار احیاء التراث العربي - بيروت، ط. الأُولى، (1421ه - 2001م)
2- ابن عساکر، تاریخ دمشق الكبير : 201/22 - 202، ط. دار احیاء التراث العربي - بيروت ، ط. الأُولى، (1421 ه - 2001م)
3- انظر الغدير للأميني : 151/11 - 152 طبعة مؤسسة الغدير للدراسات - قم، الطبعة الأُولى، (1416ھ۔ - 1995م)

سجل لسعد بن أبي وقاص أول حضور له في الساحة السياسة فترة خلافة عمر بن الخطاب، من خلال الفتوحات العسكرية في أرض السواد ( العراق ).

ذكر ابن عساكر عن خليفة بن خيّاط ، قال : وفيها - يعني سنة أربع عشرة - بعث «عمر» جریر بن عبد الله البجلي على السواد ، وقد كان المثنّى بنحارثة يغير بناحيته ، وتنازع جرير والمثنّى بن حارثة الإمارة ، فبعث «عمر» سعد بن مالك وكتب إليهما أن اسمعا له واطيعا فسمعا له وأطاعا(1).

وفتح الله على يديه مدائن كسرى : « ثمّ سار سعد والمسلمون حتى نزلوا المدائن فافتتحوها »(2).

ثمّ لاحق فلول المنهزمين من المدائن بقيادة يزدجرد بن کسری والذين تجمعوا في جلولاء، فعقد سعد لهاشم بن عتبة بن أبي وقاص فالتقوا، فجال المسلمون جولة ، ثمّ هزم الله المشركين وقتل منهم مقتلة عظيمة ، وحوى المسلمون عسكرهم وأصابوا أموالاً عظيمة وسلاحاً ودواباً وسبايا، فبلغت الغنائم ثمانية عشر ألف ألف (3).

وبعد انتهاء سعد من القادسية والمدائن وجلولاء تنقل بجنده في عدة أماكن من العراق، حتى كتب إليه عمر يأمره أن يتخذ للجند مستقراً ومنزلاً فوقع اختياره على الكوفة.

يقول البلاذري : « إن عمر بن الخطاب كتب إلى سعد بن أبي وقاص يأمره أن يتخذ للمسلمين دار هجرة وقيروانا ، وأن لا يجعل بينه وبينهم بحراً ، فأتى الأنبار

ص: 440


1- ابن عساکر، تاریخ دمشق الكبير : 22 / 239، و خليفة بن خیاط، تاریخ خليفة : 87
2- ابن خیاط : 91 وما بعدها
3- المصدر نفسه : 94، وفتوح البلدان للبلاذري : 264

وأراد أن يتخذها منزلا. فكثر على الناس الذباب، فتحول إلى موضع آخر فلم يصلح، فتحول إلى الكوفة فاختطها وأقطع الناس المنازل، وأنزل القبائل منازلهم، وبنى مسجدها وذلك في سنة سبع عشرة.»(1).

ولاية سعد بن أبي وقاص على الكوفة :

لقد كان الغرض من تأسيس الكوفة إنشاء مقر يقيم فيه المقاتلة المسلمون الذين قاموا بدحر الجيوش الساسانية وفتحوا المدائن، وكان عليهم أيضا الدفاع عن البلاد التي فتحوها وتوسيع رقعتها ... لذلك كان واجب القتال قائما، ووضع المسلمين لم يكن مؤمنا. إذ لم يكتمل بعد فتح كل العراق ، وكانت للفرس قوات في أطراف العراق ، مما يتطلب أن يكون المقاتلة مستعدين للحركة والمواجهة والقتال .

وكانت القيادة العسكرية لهؤلاء المقاتلة تحت إمرة سعد بن أبي وقاص الذي ولاه سنة أربع عشرة، بعد أن تنازع جرير والمثنى الامارة کا مر بنا سابقا.

ولم يحتج سعد بن أبي وقاص إلى حكم إداري جديد لولايته على الكوفة إذ «كان العمال في عهد الخلفاء الراشدين، قواد الجند الذين افتتحوا تلك الأعمال، وواجباتهم في الأكثر مراقبة سير الأحكام في البلاد التي افتتحوها وإقامة الصلاة ، واقتضاء الخراج »(2).

استمر سعد بن أبي وقاص في ولايته على الكوفة إلى سنة إحدى وعشرين ثم عزله عنها عمر بن الخطاب بعد أن شکاه أهل الكوفة وقالوا : إنه لا يحسن أن يصلي، وإنه لا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية ، ولا ينفر في السرية(3) .

ص: 441


1- البلاذری، فتوح البلدان : 274.
2- البراقي، حسين بن أحمد : تاريخ الكوفة : 267 تحقيق ماجد العطية ، ط. المكتبة الحيدرية، (1424 ه).
3- تاریخ خليفة بن خياط : 106، وابن عساكر : 22 / 232.

وعلى رغم أن التهم التي وجهها بعض الأفراد من أهل الكوفة إلى سعد بن أبي وقاص قد تبدو من التهم الكاذبة والفردية، ولا تعبر عن المصالح العامة ، أو عن سخط جماهيري واسع، إلا أن عمر بن الخطاب عالم الأمر بعزل سعد بن أبي وقاص واستبداله بعمار بن یاسر.

والذي يبدو من خلال النصوص التاريخية أن شكوى أهل الكوفة لم تكن هي السبب الأوحد في عزل سعد عن ولاية الكوفة ، وإنما سبق ذلك بعض التصرفات التي صدرت من سعد ووصلت إلى عمر بن الخطاب من خلال بعض المخبرین والعيون.

روی ابن عساكر عن مليح بن عوف السلمي قال : « ... بلغ عمر بن الخطاب أن سعد بن أبي وقاص صنع بابا مبوبة من خشب على باب داره، وخص على قصره ځصة من قصب ، فبعث محمد بن مسلمة .. وقد أمره أن يحرق ذلك الباب وذلك الخص، وأمره أن يقيم سعد لأهل الكوفة في مساجدهم ، وذلك أن عمر بلغه عن بعض أهل الكوفة أن سعدا حابي في بيع خمس باعه، فانتهينا إلى دار سعد ، فأحرق الباب والخض، وأقام محمد سعد في مساجدها ، فجعل يسألهم عن سعد ويخبرهم أن أمير المؤمنين أمره بهذا ولا يجد أحدأ يخبره إلا خيرا (1).

والذي يستفاد من هذا النص التاريخي أن عمر کان حانقا بشدة على تصرفات سعد بن أبي وقاص ، ولهذا كانت ردة فعله عنيفة جدأ وأمر بإحراق باب داره والعريش الذي صنعه من الخص، ثم التشهير بها في مساجد الكوفة وبين أهلها ، إلا أنه لم يتخذ قرارا بعزله من ولاية الكوفة خلال هذه الواقعة، حتى جاءت شکوی أهل الكوفة فعزله عن الكوفة واستبدله بعمار بن یاسر.

ص: 442


1- تاریخ ابن عساکر : 22 / 241.
ولاية سعد بن أبي وقاص الثانية على الكوفة :

اختلفت الروايات حول الولاية الثانية لسعد بن أبي وقاص على الكوفة في خلافة عمر بن الخطاب ، ففي رواية ابن عبد البر في الاستيعاب أن عمر بن الخطاب بعد أن عزل سعد وتی عمار بن یاسر ثم عزل عمارة ، وأعاد سعد على الكوفة ثانية ثم عزله وولی جبير بن مطعم ..(1).

ثم يذكر رواية ثانية فيقول : وقد قيل : إن عمر لما أراد أن يعيد سعد" على الكوفة أبي عليه، وقال : أتأمرني أن أعود إلى قوم يزعمون أني لا أحس أن أصلي ! فترکه . فلما طعن عمر جعله أحد أهل الشوری ، وقال : إن وليها سعد فذاك وإلا فليستون به الوالي (2).

إلا أن خليفة بن خياط يؤيد الرواية الأولى وينص على أن عمر قد «أعاد سعد ثانية ثم عزله (3)، ومهما يكن من أمر فإن ولايته الثانية على الكوفة لم تدم طويلا إذ سرعان ما عزل عنها.

ولايته الثالثة على الكوفة :

رشح سعد بن أبي وقاص من قبل عمر بن الخطاب ليكون أحد أهل الشوری، وأوصى بأن يستعين به الخليفة من بعده إن لم يفز بالخلافة.

وفي قصة الشورى وما جرى فيها يروي ابن أبي الحديد فيقول : فقال سعد بن أبي وقاص : وأنا قد وهبت حقي من الشوری لابن عمي عبد الرحمن - ابن عوف - وذلك لأنها من بني زهرة، ولعلم سعد أن الأمر لا يتم له (4) .

ص: 443


1- الاستيعاب : 1/ 365 طبعة دار الفكر - بيروت، الطبعة الأولى، (1423ه - 2002م).
2- المصدر نفسه : 366/1
3- تاریخ خليفة : 111.
4- شرح النهج : 1 / 188.

فسعد بن أبي وقاص قد رشح عثمان للخلافة بواسطة عبد الرحمن بن عوف الذي مال إلى عثمان لأنه صهره.

وكان السبب في ذلك ، أما لعلمه بأن الخلافة لا تصل إليه من بين أهل الشوری ، أو لضغنه وكراهيته لعلي «لأن عليا (علیه السلام)من قتل أباه يوم بدر » كما في رواية القطب الراوندي التي ينقلها ابن أبي الحديد، ويقول عنها : وهذا خطأ فإن أباه أبو الوقاص ... مات في الجاهلية حتف أنفه ، فيرجح أن قول علي " في خطبته الشقشقية : « فصغا رجل منهم لضغنه» يعني طلحة، لانحرافه عن علي (علیه السلام)، باعتبار انه تیمي، وابن عم أبي بكر ... (1)

إلا أن ابن أبي الحديد يعود ويستصوب بأن ذا الضغن هو سعد بن أبي وقاص !

فيقول : فأما الرواية التي جاءت بأن طلحة لم يكن حاضرة يوم الشورى ، فإن صحت فذو الضغن هو سعد بن أبي وقاص، لأن أمه حمنه بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس ، والضغينة التي عنده على علي(علیه السلام) نة من قبل أخواله الذين قتل صناديدهم، وتقلد دماءهم، ولم يعرف أن عليا (علیه السلام) قتل أحدة من بني زهرة لينسب الضغن إليه(2).

فسعد بن أبي وقاص كان له دور كبير في ترجيح كفة عثمان للوصول إلى سدة الخلافة ، وفي نفس الوقت موصى به من قبل عمر بن الخطاب ، فلابد لعثمان أن يرد عليه الجميل بتوليته على الكوفة تعد ولاية ثانية أو ثالثة على هذا البلد.

إلا أن ولايته هذه كسابقتها لم تدم طويلا وحصلت له مشاكل مع أهل الكوفة ومع خازن بيت مالها عبد الله بن مسعود ، فعزل عنها بشكل مهان و عین محله الوليد ابن عقبة بن أبي معيط وذلك سنة خمس وعشرين(3).

ص: 444


1- المصدر نفسه : 1/ 187 - 189.
2- المصدر نفسه : 1/ 190.
3- تاریخ خليفة : 114.

روی ابن عساكر عن إسماعيل ... قال : رأيت عبد الله بن مسعود جاء إلى سعد بن أبي وقاص يتقاضاه شيئا اقترضه من بیت المال فجری بینهما تنازع حتى أقبل سعد على القبلة وقال : لأدعون دعوة لا تخطئك ، فرأيت عبد الله بن مسعود قد فرق وقال : يا هذا قل قوة ولا تلعن ، ثم سكن الأمر بينها.

وفي رواية أخرى : كان لابن مسعود على سعد مال ، فقال له ابن مسعود : أ المال قبلك ، فقال سعد : ويحك مالي ولك ؟ قال : أد المال الذي قبلك ، فقال سعد : والله إني لأراك لاقي مني شر ، هل أنت إلا ابن مسعود عبد من هذيل ؟ قال : أجل والله إني لابن مسعود وإنك لابن حمنة ...(1).

وفي رواية عزله عن ولاية الكوفة من قبل عثمان ذکر ابن قتيبة في المعارف : أن أهل الكوفة، شکوا عليه، وقالوا: الله فينا يا أمير المؤمنين ، فإن سعدة رجل مستجاب الدعوة، وهو متى ما را به من إنسان سبب ، دعا عليه ، فاستجيب له، فعزله(2).

والذي يبدو من رواية الطبري وابن الأثير ، وابن قتيبة وغيرهم أن سبب عزل سعد عن ولاية الكوفة هو نزاعه مع ابن مسعود على المبلغ الذي استقرضه من بيت المال، والذي أدى إلى افتراق الناس بين مؤيد لهذا أو ذاك وبلغ الخبر عثمان فغضب عليها فعزل سعد وأقر عبد الله ، واستعمل الوليد بن عقبة بن أبي معيط (3) .

ص: 445


1- تاریخ دمشق لابن عساکر : 22 / 234.
2- المعارف : 242 الهامش رقم (2).
3- الكامل في التاريخ : 2/ 231، والمعارف : 262، والطبري : 4/ 251 - 252.

إلا أن خبر عزل سعد عن ولاية الكوفة كان بمثابة الصدمة العنيفة له، وجزع لذلك لما يعرفه عن الوليد من حماقة وفسق(1)، ولهذا عندما قدم عليه الوليد . قال له سعد : أکست (2) بعدنا أم حمقنا بعدك ؟ فقال الوليد : لا تجزع یا أبا إسحاق ، كل ذلك لم يكن وإنما هو الملك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون، فقال سعد : أراكم جعلتموها ملكاً(3).

خرج سعد من الكوفة إلى المدينة واتخذ في وادي العتيق مسكنة له ولم يتسنم أي منصب أو ولاية بعدها.

انحراف سعد بن أبي وقاص عن علي (علیه السلام):

لقد كان قرار عزل سعد بن أبي وقاص عن ولاية الكوفة من قبل عثمان شدید الوطأة عليه، وجزع لذلك جزعة شديدة، واتخذ سلوك الانعزال والانزواء عن الحياة السياسية والاجتماعية « فعرض عليه العمل مرة بعد أخرى، فأبي أن يعمل »(4).

ولم يسجل أي حضور لسعد بن أبي وقاص في أحداث السنة الخامسة والثلاثين والوقائع التي جرت فيها والتي أدت في نهايتها إلى مقتل عثمان بن عفان ، ومبايعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بالخلافة.

ص: 446


1- عرف الوليد بفسقه وفجوره وشربه للخمر ونزل في فسقه قوله تعالى في الآية 6 من سورة الحجرات، وهو الذي شرب الخمر وصلى بأهل الكوفة. للتوسع انظر البداية والنهاية : 8/ 233، والطبري : 4/ 271 وما بعدها، وتاريخ الكوفة للبراقي : 298 وما بعدها والمسعودي في مروج الذهب : 2/ 225، وشرح النهج : 193/4 .
2- کست : من الكيس، وهو الفطنة.
3- الكامل في التاريخ : 2/ 231، والمعارف : 242.
4- المعارف : 242.

وكان ينبغي لسعد بن أبي وقاص أن يكون من أوائل المبادرين إلى بيعة علي(علیه السلام) ، للقواسم المشتركة الكثيرة التي تجمعهما، فهما من أوائل الناس إسلاما و شهدا مع الوقائع والأحداث الإسلامية الكبرى من بدر إلى أحد والأحزاب وفتح مكة .. بالاضافة إلى صلة القربي التي تجمعهما حيث ينتميان معا إلى قريش .

يضاف إلى ذلك كله أن بيعة الإمام علي(علیه السلام) قد تمت عن رضا المسلمين (1)، ومن قبل أصحاب رسول الله(صلی الله علیه و اله) ، بخلاف بيعة من سبقه.

يروي الطبري عن محمد بن الحنفية قال : كنت مع أبي حين قتل عثمان ، فقام فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول الله ، فقالوا : إن هذا الرجل قد قتل ، ولابد للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحدا أحق بهذا الأمر منك، لا أقدم سابقة، ولا أقرب من رسول الله(صلی الله علیه و اله) . .

فقال : لا تفعلوا، فإني أكون وزيرة خير من أن أكون أميرة .

فقالوا: لا، والله ما نحن بفاعلين حتى تبايعك.

قال : ففي المسجد ، فإن بيعتي لا تكون خفيا، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين . ... قال ابن عباس : فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه ، وأبي هو إلا المسجد ، فلما دخل دخل المهاجرون والأنصار فبايعوه، ثم بايعه الناس(2)

ثم يضيف الطبري في رواية أخرى : ...... فبايعه الناس، وجاؤوا بسعد، فقال علي : بايع ، قال : لا أبايع حتى يبايع الناس ، والله ما عليك مني بأس ، قال : خلوا سبيله(3).

ص: 447


1- انظر شرح النهج: 1/ 230 و 7/4 وما بعدها.
2- الطبري: 427/4 وما بعدها.
3- المصدر نفسه : 4/ 428، وشرح النهج لابن أبي الحديد: 9/4.

وفي رواية ثالثة : وبايع الناس علية بالمدينة ، وتربص سبعة نفر فلم يبايعوه ، منهم : سعد بن أبي وقاص ... ولم يتخلف أحد من الأنصار إلابايع فيا نعلم .. إلا فيرا يسيرا(1).

لقد رضي سعد في بادئ الأمر أن يكون من المتربصين، وطلب من على (علیه السلام)من أن يمهله حتى يبايع الناس ، فلم يجبره علي على بيعته وتركه وشأنه.

إلا أن هذا التربص لم يدم طويلا إذ تحول إلى تشكيك في شخصية علي (علیه السلام)، نیاز ونواياه، فأخذ يروج هو وعبد الله بن عمر بأن عليا (علیه السلام) من طلاب الدنيا ويقاتل من أجلها ! في الوقت الذي كانت خلافة علي (علیه السلام) في أيامها الأولى، ولم يحصل أي تحرك قتالي.

ولهذا عندما وصلت مقولة سعد وابن عمر إلى مسامع علي(علیه السلام) من تعجب من ذلك ، وقال : «عجبة لسعد وابن عمر، يزعمان أني أحارب على الدنيا ، أفكان رسول الله (صلی الله علیه و اله)يحارب على الدنيا ...»(2)

وتطور الأمر عند سعد بن أبي وقاص إلى درجة كان فيها يبكي على الحق المضيع في زمن خلافة علي(علیه السلام) بحسب زعمه!

يروي ابن عساكر عن سلمان بن قاسم قال : قال سعد بن أبي وقاص : ما بكيت من الدهر إلا ثلاثة أيام : يوم قبض رسول الله (صلی الله علیه و اله) ، ويوم قتل عثمان ، واليوم أبكي على الحق، فعلى الحق السلام (3) .

ص: 448


1- المصدر نفسه : 4/ 431.
2- شرح النهج : 20 / 328 الكلمات القصار رقم 765.
3- ابن عساکر، تاریخ دمشق : 22 / 243.

ولم يحدثنا سعد بن أبي وقاص أنه بايع لعلي (علیه السلام)بن بعد أن بايعه الناس جميعا من المهاجرين والأنصار وعامة الناس وقد وعد باعطاء البيعة بعد بيعة الناس إلا أنه لم يف بوعده ولم يتعرض له علي (علیه السلام) بسوء وتركه وشأنه.

إلا أن سعد، لم يكتف بامتناعه عن البيعة وإنما أخذ يشكك في عدالة قتال علي من المناؤويه وكان يسمي ذلك بالفتنة ، وقد اشتهر عنه قوله : «لا أقاتل حتى تأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان فيقول : هذا مؤمن وهذا كافر »

وفي رواية أخرى يقول لولده : «أي بني أفي الفتنة تأمرني أن أكون رأسا ؟ لا والله حتى أعطى سيف إن ضربت به مسلما نبأ عنه وإن ضربت به کافرة قتله »(1) .

وعندما شئل الإمام علي (علیه السلام) عن سعد وعبد الله بن عمر والنفر اليسير الذين قعدوا عن بيعته ونصرته وتركوا بيعته ، واعتزلوا القيام معه ، فقال : أولئك قوم خذلوا الحق، ولم ينصروا الباطل (2).

لقد كان سعد بن أبي وقاص من صحابة رسول الله (صلی الله علیه و اله) وكان عمار بن یاسر أيضا من صحابة رسول الله (صلی الله علیه و اله)إلا أننا نجد التفاوت الكبير والبون الواسع بين موقف سعد من علي (علیه السلام) وخلافته وقتاله، وبين موقف عمار بن یاسر، والفارق بينهما فارق الوعي والبصيرة من جهة، وفارق الحب والبغض من جهة أخرى.

لقد كان عمار من أهل البصائر ومن الواعين وعيا كاملا لمجريات الأحداث وخلفياتها، ومن المحبين لعلي(صلی الله علیه و اله) ، لهذا وقف إلى جنبه إلى آخر لحظات حياته

ص: 449


1- المصدر نفسه : 22 / 242.
2- الاستيعاب : 1/ 366، و نهج البلاغة، ترتیب صبحي الصالح : 471 حكمة رقم 18 طبعة دار الهجرة - قم

وقاتل تحت رايته لأنه يعلم أنها راية الحق والهدى ، ومضى إلى سبيل ربه شهیداً مخضباً بدمه بعد أن سجل تلك الملحمة الكبرى في صفين قولا وعملا ومنهجا وسلوكا .

وقد سجل له في صفين قوله : اللهم وإني أعلم ما أعلمتني أني لا أعمل اليوم عملا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين ، ولو أعلم اليوم عملا أرضى لك منه الفعلته . وقوله الآخر - وهو يشير إلى جيش معاوية ومن معه من شذاذ الآفاق -: والله لو ضربونا بأسيافهم حتى يبلغونا سعفات هجر ، لعرفت أنا على حق وهم على باطل. ثم قال :

نحن ضربنائم على تنزيله

فاليوم تضربكم على تأويله(1)

فلم يصد كل تشكيك المشككين عبارة عن مسيرة الحق مع علي (علیه السلام) ، بينا نجد سعد يريد من علي آية معجزة (سيف له لسان وعينان وشفتان ) لكي يعرف أن الحق مع علي.

ولا ينقضي العجب عندما نعود إلى مرویات سعد بن أبي وقاص عن رسول الله (صلی الله علیه و اله)و بحق علي(علیه السلام)ومكانته في الدنيا الإسلام، وذلك بعد استشهاد علي (علیه السلام) ، وتسلم معاوية لزمام أمور المسلمين ، فهل يصدق أحد أن أحد رواة حدیث رسول الله (صلی الله علیه و اله) في حق علي(علیه السلام) ؟ هو سعد بن أبي وقاص!

يروي ابن عساکر : ... عن عبد الله بن مليك قال : جاء سعد بن أبي وقاص فدخل على معاوية فقال معاوية - : ما منعك من القتال ؟

ص: 450


1- المنقري ، نصر بن مزاحم : وقعة صفين : 320 - 322 تحقيق عبد السلام هارون ، فست مكتبة بصیرتي - قم، وشرح النهج : 24/8 و 10 / 104.

فقال - سعد - : يا أمير المؤمنين ، هبت ريځ مظلمة فلم أبصر الطريق فقلت : إخ إخ فانخت حتى أسفرت عني فركبت الطريق !

فقال له معاوية : والله ما قال الله في شيء مما أنزل إخ ولكنه قال : وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... (1) الآية فوالله ما كنت مع الباغية على العادلة ، ولا مع العادلة على الباغية، ولا أصلحت کما أمرك الله .

فقال له سعد : إنك لتأمرني أن أقاتل رجلا سمع فيه من رسول الله (صلی الله علیه و اله)بن يقول له : «أنت متي بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي »(2).

فقال له معاوية : من سمع هذا معك ؟

فقال : فلان وفلان، وأم سلمة؟

فقال معاوية : فلان وفلان وأم سلمة ، والله لو سمعت هذا من رسول الله(صلی الله علیه و اله) به ما قاتلته (3) .

وفي رواية ثانية في المصدر نفسه .. إن معاوية : أقبل على سعد فقال له : يا أبا إسحاق، أنت الذي لم تعرف حقنا، وجلس فلم يكن معنا ولا علينا!

فقال سعد : إني رأيت الدنيا قد أظلمت فقلت لبصيري : إخ فأنختها حتى انكشفت .

فقال معاوية : لقد قرأت ما بين اللوحين ، ما قرأت في كتاب الله عز وجل إخ!

فقال سعد : أما إذا أبيت فإني سمعت رسول الله يقول لعلي : «أنت مع الحق والحق معك حيث ما دار »(4)

ص: 451


1- الحجرات : 9.
2- انظر المستدرك على الصحيحين : 3/ 109، والمعجم الأوسط للطبراني : 161/6.
3- تاریخ دمشق لابن عساکر : 22 / 245.
4- انظر المستدرك : 3/ 119 - 124، ومسند أبي يعلى : 419/1، الحديث550.

فقال معاوية : لتأتي على هذا ببينة .

فقال سعد : هذه أم سلمة تشهد على رسول الله(صلی الله علیه و اله) .

فقاموا جمعية فدخلوا على أم سلمة ، فقالوا : يا أم المؤمنين إن الأكاذيب قد كثرت على رسول الله (صلی الله علیه و اله) وهذا سعد يذكر عن النبي(صلی الله علیه و اله) ما لم نسمعه أنه قال يعني

العلي - «أنت مع الحق والحق معك حيث ما دار » .

فقالت أم سلمة : في بيتي هذا قال رسول الله (صلی الله علیه و اله): لعلي .

فقال معاوية لسعد : يا أبا إسحاق ما كنت ألوم الآن إذ سمعت هذا من رسول الله (صلی الله علیه و اله) وجلست عن علي، لو سمعت هذا من رسول الله (صلی الله علیه و اله) لكنت خادمة لعلي حتى أموت (1).

ولم يكن معاوية في كلا الروايتين صادقا في توبيخه لسعد ، فإن موقف سعد من علي مما يسر معاوية والأمويين وكل أعداء علي(علیه السلام) ، ولم يكن صادقا أيضا فيا إدعاه من أنه لو سمع حديث رسول الله (صلی الله علیه و اله) بحق علي لما قاتله، أو لكان خادما له .. فإن هذه الأحاديث وأمثالها في فضائل علي قد انتشرت في الآفاق، وعمل معاوية جاهدة لطمسها والحيلولة دون انتشارها بالوسائل المعروفة عنه.

ومهما يكن من أمر، فلم تقتصر مرويات سعد بن أبي وقاص لفضائل علي (علیه السلام) والتي سمعها من رسول الله (صلی الله علیه و اله) على هاتين الروايات ، فهو أحد رواة حديث الغدير من الصحابة(2)، واحتج بذلك على معاوية مرارة.

وقد نقل ابن عساكر في تاريخ دمشق روايات كثيرة في فضائل علي (علیه السلام) يروي بعضها سعد بن أبي وقاص ومنها هذه الرواية : ... عن عامر بن سعد بن أبي وقاص

ص: 452


1- تاریخ دمشق : 22 / 241.
2- للتوسع انظر الأميني، عبد الحسين : الغدير : 1 / 94 وما بعدها، طبعة مركز الغدير - قم الطبعة الأولى، (1416ه - 1995م)، وتأمل في مصادره في هامش الصفحة نفسها.

قال : قال سعد : أما والله إني لأعرف علية وما قال له رسول الله (صلی الله علیه و اله)عنه ، أشهد أنه قال العلي يوم غدیر خم ونحن قعود معه، فأخذ بضبعه، ثم قال : « أيها الناس، من مولاكم؟ قالوا: الله ورسوله ، قال : من کنت مولاه ، فعلى مولاه، اللهم عاد من عاداه ، و وال من والاه .(1).

ومن حقنا أن نسأل سعد بن أبي وقاص ، إن كنت عارفاً بعلي (علیه السلام)، ومكانته عند الله ورسوله، وإنه مع الحق والحق معه يدور حیا دار ... فما الذي أخرك عنه ؟ وما الذي دعاك إلى رفض بيعته ؟ ثم التشكيك في سياسته وحكمه في الخارجين عليه والناكثين لبيعته والرافضين لخلافته ؟

إننا لا نجد تفسيراً لهذا التناقض الصارخ بين القول والعمل عند سعد، إلا البغضاء والضغينة والحقد الأسود الذي يسد على الإنسان كل منافذ الوعي والهداية والرشاد، ويوقعه في متاهات وتصرفات متناقضة ، فلا يكون صادقا مع نفسه فيناقض قوله عمله.

أولاد سعد بن أبي وقاص :

كان لسعد بن أبي وقاص من الولد إسحاق الأكبر وبه كان يكنى، وعمر ، و محمد، وعامر، وإسحاق الأصغر، وإسماعيل (2) وغيرهم من الأولاد(3).

والذي يهمنا هو الوقوف عند شخصية عمر بن سعد ودوره في أحداث کربلاء، وأسباب اختياره لقيادة الجيش الذي خرج لقتال الحسين (علیه السلام)؟ ودوافع توغله في الجريمة إلى أقصى حدودها؟

ص: 453


1- تاریخ دمشق :45 /87- 88 وانظر الصفحات اللاحقة والسابقة لهما.
2- طبقات ابن سعد : 3/ 73، ونسب قریش : 264، والمعارف : 243، وطبقات ابن سعد : 86/5
3- طبقات ابن سعد : 3/ 73، ونسب قریش : 264، والمعارف : 243، وطبقات ابن سعد : 86/5

ولادته : يذكر ابن عساكر أن ولادته عام مات عمر بن الخطاب أي سنة (23) للهجرة(1)، فيكون عمره يوم عاشوراء سنة (61) للهجرة (38) سنة ، و عده ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل المدينة من التابعين(2)، فهو مدني المولد كوفي المسكن .

حياته السياسية : كان لعمر بن سعد طموح سیاسي، وكان يسعى للوصول إليه من خلال والده سعد بن أبي وقاص فكان يحث والده على كسر حالة العزلة التي اتخذها لنفسه والدخول في اللعبة السياسية آنذاك .

فكان من أشد ولد سعد إلحاحا على والده حتى وصلت به الحالة إلى إسائة الأدب مع والده ومواجهته بكلمات قاسية .

روی ابن عساکر ... عن بكير بن مسمار ، قال : سمعت عامر بن سعد بن أبي وقاص قال : كان سعد في إبل له وغنم، فأتاه ابنه عمر فلما رآه قال : أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فلما انتهى إليه قال : يا أبة أرضيت أن تكون أعرابية في إبلك وغنمك والناس بالمدينة يتنازعون في الملك ، قال : فضرب صدره بیده وقال : اسكت (3).

وفي رواية ثانية قال سعد لأبيه : أرضيت أن تتبع أذناب هذه الماشية بين هذه الجبال، وأصحابك يتنازعون في أمر الأمة (4)؟

ولهذا تقول الرواية : «كان سعد بن أبي وقاص واجد على ابنه عمر ، فأتاه بأناس يستشفع بهم إليه ، قال : فتكلموا فأبلغوا، ثم تكلم عمر بن سعد

ص: 454


1- تاریخ دمشق: 28/48.
2- الطبقات : 86/5
3- ابن عساکر، تاریخ دمشق : 22 / 194.
4- تاریخ دمشق:29/48 و 31.

فكأنما لم يتكلم معه أحد، فقال سعد : يا بني هذا الذي يبغضك إلي، سمعت رسول الله (صلی الله علیه و اله) يقول : يكون قوم في آخر الزمان يأكلون بألسنتهم، كما تلحس البقر من الأرض بألسنتها »(1).

وفي رواية أخرى أن سعد قد دعا على ولده عمر بالقتل وأن يسيل دمه على عينيه!

روی ابن عساكر عن أبي منذر الكوفي قال : كان عمر بن سعد بن أبي وقاص قد اتخذ جعبة وجعل فيها سياطة نحوا من خمسين سوط ، فكتب على السوط : عشرة وعشرين وثلاثين إلى خمسمائة على هذا العمل، وكان لسعد بن أبي وقاص غلام ربيب مثل ولده ، فأمره عمر بشيء فعصاه فضرب بيده إلى الجعبة فوقع بيده سوطأ مائة فجلده مائة جلدة ، فأقبل الغلام إلى سعد ودمه يسيل على عينيه ، فقال : ما لك ؟ فأخبره ، فقال : اللهم أقتل عمر وأسل دمه على عينيه .

قال : فمات الغلام، وقتل المختار عمر بن سعد(2).

ولم يستطع عمر أن يقنع والده بحضور الأحداث بعد مقتل عثمان ، وما إستطاع أن يقنعه بالحضور في اجتماع الحكمين بدومة الجندل.

روى الطبري : ... وخرج عمر بن سعد حتى أتى أباه على ماء لبني شليم بالبارية ، فقال : يا أبي ، قد بلغك ما كان بين الناس في صفين ، وقد حكم الناس أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص، وقد شهدهم نفر من قریش، فاشهدهم فإنك صاحب رسول الله (صلی الله علیه و اله)، وأحد الشورى، ولم تدخل في شيء كرهته هذه الأمة ، فاحضر فإنك أحق الناس بالخلافة .

ص: 455


1- المصدر نفسه : 29/48
2- المصدر نفسه : 31/48

فقال : لا أفعل ، إني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و اله) يقول : « إنه تکون فتنة ، خير الناس فيها الخفي التقي» والله لا أشهد شيئا من هذا الأمر أبدا(1).

إلا أن ابن عساكر في تاريخ دمشق قال : شهد سعد بن أبي وقاص و ابن عمر الحكمين بدومة الجندل(2).

وطموح ابن سعد للوصول إلى بعض المناصب في السلطة جعلته من اذناب بني أمية في الكوفة ومن المنفذين لأوامرهم ، ولهذا عندما أمره زیاد بن أبيه بالشهادة على حجر بن عدي زورا وبهتانا ، لم يمتنع عن ذلك وشهد على حجر کہا أراد منه زیاد ذلك(3).

إلا أن هذه الشهادة وما ترتب عليها من استشهاد حجر وأصحابه البررة صبراً بأيدي معاوية لم توصل عمر بن سعد إلى أمارة أو منصب يتمناه إلا أنه بقي على ولائه لبني أمية ، وممن يرصدون أوضاع الكوفة ويكتبون إلى الشام بمستجداتها .

وعندما دخل مسلم بن عقيل رضی الله عنه إلى الكوفة وأخذ البيعة للإمام الحسين من أهلها ، تضايق بعض من له هوى في بني أمية ومنهم عمر بن سعد من موقف والي الكوفة آنذاك النعمان بن بشير واتهموه بالجبن والضعف والتخاذل ، وكتبوا إلى يزيد بن معاوية يستحثونه على تدارك الموقف في الكوفة قبل فوات الأوان (4)

وقد مر بنا في فصل سابق موقف عمر بن سعد من مسلم بن عقیل رضی الله عنه عندما أراد مسلم أن يوصي له ببعض وصاياه، فأفتى بتلك الوصية لابن زیاد، فوبخه ابن زیاد وقال له : لا يخونك الأمين ولكن قد يؤتمن الخائن (5).

ص: 456


1- الطبري : 67/5 أحداث سنة (37) للهجرة، وابن أبي الحديد: 250/2 ، ووقعة صفين: 538.
2- تاریخ دمشق: 194/22.
3- الطبري : 269/5.
4- المصدر نفسه : 5/ 268 و 356.
5- المقرم، الشهيد مسلم بن عقیل : 175.
عمر بن سعد وولاية الرى :

كانت بلاد الري من البلدان العظيمة في بلاد فارس ، ويروي یاقوت الحموي في معجم البلدان عن الأصطخري قال : « والري مدينة ليس بعد بغداد في المشرق أعمر منها ... وللري قرى كبار كل واحدة أكبر من مدينة »(1). وقد فتح المسلمون بلاد الري في زمن خلافة عمر بن الخطاب.

روى البلاذري في فتوح البلدان عن الكلبي عن أبي مخنف : أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمار بن یاسر وهو عامله على الكوفة بعد شهرين من وقعة نهاوند يأمره أن يبعث عروة بن زید الخيل الطائي إلى الري و دستي في ثمانية الآف ففعل، وسار عروة إلى هناك فجمعت له الديلم وأمدهم أهل الري فقاتلوه فاظهره الله عليهم فقتلهم، وكانت وقعة عروة كسرت الديلم وأهل الري... وصالحه أيضا أهل دستبي الرازي، وكانت دستبي قسمين قسمة رازية وقسما همذانيا(2)

وكانت ولاية الري ودستبي تابعة للكوفة إدارية وعسكرية ومالية ، وكان والي الكوفة المعين من قبل الخليفة هو الذي يعين الوالي على هذه البلاد.

يقول البلاذري : ثم لما عزل عمر بن الخطاب عمارة ووتى المغيرة بن شعبة الكوفة، ولى المغيرة بن شعبة كثير بن شهاب الحارثي الري ودستبي(3).

والذي يبدو من تاريخ بلاد الري أن هذه البلاد فتحت أكثر من مرة فقد روی البلاذري عن يحيى بن ضريس قاضي الري، قال : «لم تزل الري بعد أن

ص: 457


1- معجم البلدان : 4 / 458.
2- البلاذري، فتوح البلدان : 313 - 314.
3- المصدر نفسه : 314.

فتحت أيام حذيفة تنتقض وتفتح حتى كان آخر من فتحها قرضة بن کعب الأنصاري في ولاية أبي موسى الكوفة لعثمان ، فاستقامت »(1).

وفي زمن خلافة علي (علیه السلام) «ولى علي (علیه السلام) يزيد بن حجبة بن عامر ... الري و دستبي فكسر الخراج فحبسه فخرج فلحق بمعاوية »(2) .

لقد كانت هذه المقدمة ضرورية لمعرفة ملابسات ولاية الري لعمر بن سعد ، وارتباط ذلك بعبيد الله بن زياد ، فلرب سائل يسأل عن علاقة عبيد الله بن زیاد بولاية الري لعمر بن سعد، إذ قد يتوهم أن هذه الولاية قد وتلاها یزید بن معاوية العمر بن سعد فكيف يحق لعبيد الله بن زياد أن يأخذها منه.

وقد تبين أن تعين الولاة على بلاد الري ودستبي تدخل ضمن صلاحيات والي الكوفة ، ولما كان عبيد الله بن زياد والي الأمويين على الكوفة ولاية استكفاء(3)، ومن مهامه الأساسية تدبير الجيوش وترتيبهم في النواحي .. فقد ولى عمر بن سعد الري، وكتب عهده عليها، وجهز معه أربعة آلاف، لأن الديلم كانوا قد غلبوا على دستبي(4).

ولا يحدثنا التاريخ عن زمن صدور هذا العهد من ابن زیاد لعمر بن سعد ، وهل كان ذلك باشارة من يزيد بن معاوية أم لا؟

ص: 458


1- المصدر نفسه : 315 وكان حذيفة بن اليمان أحد قواد معركة نهاوند وفتح أذربيجان، انظر المصدر نفسه : 300 و 321.
2- المصدر نفسه: 315.
3- للتوسع انظر تاريخ الكوفة للبراقي : 267.
4- الرازي، أبو علي مسکویه : تجارب الأمم: 64/2 حققه وقدم له الدكتور أبو القاسم إمامي، طبعة دار سروش - طهران، (1987م).

إلا أن الذي يبدو من خلال أحداث الكوفة وتولي ابن زياد الولاية فيها أن هذا العهد قد صدر بعد انتهاء ابن زیاد من قضية مسلم بن عقيل رضی الله عنه ، ومن المستبعد أن يكون هذا العهد قد صدر قبل هذا التاريخ لعدم وجود نص تاريخي يشير إلى ذلك ، ولإنشغال ابن زیاد بالمهمة الأساسية التي أوكلت إليه في ولاية الكوفة، وهي القضاء على حركة مسلم بن عقيل فيها.

إلا أنه يبقى السؤال عن سر اختیار عمر بن سعد لهذه المهمة، وعن توقيتها الذي لا يناسب ظروف ومستجدات الأحداث في الكوفة.

فهل كان عبيد الله بن زیاد باختياره لعمر بن سعد لهذه المهمة يستهدف أمراً آخر أكثر أهمية من إخماد حركة تمرد الديلم في دستبي؟

عندما نعود إلى نص الطبري وغيره من المؤرخين فاننا لا نجد الاجابة الكافية عن هذا التساؤل.

يقول الطبري : « .. وكان سبب خروج ابن سعد إلى الحسين (علیه السلام) أن عبيد الله ابن زیاد بعثه على أربعة آلاف من أهل الكوفة يسير بهم إلى دستبي، وكانت الديلم قد خرجوا إليها وغلبوا عليها، فكتب إليه ابن زیاد عهده على الري، وأمره بالخروج.

فخرج معسكرة بالناس بحسام أعين ، فلما كان من أمر الحسين ما كان وأقبل إلى الكوفة دعا ابن زیاد عمر بن سعد، فقال : سر إلى الحسين ، فإذا فرغنا مما بيننا وبینه سرت إلى عملك.

فقال له عمر بن سعد : إن رأيت رحمك الله أن تعفيني فافعل.

فقال له عبيد الله : نعم، على أن ترد لنا عهدنا.

قال الراوي - فلما قال له ذلك قال عمر بن سعد : أمهلني اليوم حتى أنظر.

قال : فانصرف عمر يستشير نصحاءه ، فلم يكن يستشير أحد إلا نهاه ... »(1).

ص: 459


1- الطبري :409/5

وفي رواية ثانية للطبري عن هشام ... عن الجهني عن أبيه ، قال : دخلت على عمر بن سعد ، وقد أمر بالمسير إلى الحسين ، فقال لي : إن الأمير أمرني بالمسير إلى الحسين ، فأبيت ذلك عليه ، فقلت له : أصاب الله بك ، أرشدك الله ، أجل فلا تفعل ولا تسير إليه.

قال : فخرجت من عنده ، فأتاني آت وقال : هذا عمر بن سعد يندب الناس إلى الحسين، فأتيته فإذا هو جالس ، فلما رآني أعرض بوجهه فعرفت أنه قد عزم على المسير إليه ، فخرجت من عنده .

قال الراوي -: فأقبل عمر بن سعد إلى ابن زیاد فقال : أصلحك الله ، إنك وليتني هذا العمل، وكتبت لي العهد، وسمع به الناس، فإن رأيت أن تنفذ لي ذلك فافعل وابعث إلى الحسين في هذا الجيش من أشراف الكوفة من لست بأغني ولا أجرأ عنك في الحرب منه، فسمي له أناس .

فقال له ابن زیاد : لا تعلمني بأشراف أهل الكوفة، ولست استأمرك فيمن أريد أن أبعث ، إن سرت بجندنا، وإلا فابعث إلينا بعهدنا.

فلما رآه قد ج قال ابن سعد : فإني سائر ، فأقبل في أربعة آلاف حتى نزل بالحسين من الغد من يوم نزل الحسين نينوى(1).

هاتان الروايتان تسلطان الضوء على مهمة عمر بن سعد، وسوف تأتينا نصوص أخرى في شأن هذا الرجل ومهمته.

والملاحظ في هاتين الروايتين :

أولا : إن وجهة ابن سعد - بحسب ظاهر الرواية كانت ولاية الري و دستي، ثم تحولت المهمة إلى أمر آخر وهو الخروج لقتال الحسين(علیه السلام) ، مع وعد من ابن زیاد السعد بتنفيذ ولاية الري له بعد الانتهاء من هذه المهمة .

ص: 460


1- الطبری : 5/ 10.

وثانيا : إن ابن سعد يلتمس من ابن زیاد أن يعفيه من المهمة الثانية ، فيجيبه ابن زیاد : نعم، على أن ترد لنا عهدنا، فيطلب ابن سعد من ابن زیاد أن يعطيه فرصة للنظر والتأمل.

وثالثا : وفي سبيل أن يثبت عمر بن سعد ولاءه وطاعته لابن زیاد و عدم تمرده على أوامره ، نراه يندب الناس إلى قتال الحسين ، ويجيش الجيوش، ثم يأتي إلى ابن زیاد ويطلب منه أن يسيره إلى مهمته الأولى في الري، ويوكل أمر الجيش الذي انتدبه لقتال الحسين إلى أحد أشراف الكوفة، ويسمي له أناسا منهم.

رابعا : عندما نتأمل في رد ابن زیاد على طلب ابن سعد، نجده رد الواثق والمطمئن في أن ابن سعد سوف لا يعتذر اعتذارا نهائية ، وسوف يخرج لقتال الحسين طمعا في ملك الري ، ولهذا لم يلح عليه في الطلب ولا استعطفه ، ولا مناه أكثر من ولاية الري، بل استخدم معه لغة الإذلال وواجهه بلهجة التهدید والوعيد : «لا تكلمني بأشراف أهل الكوفة، ولست أستأمرك فيمن أريد أن أبعث إن سرت بجندنا، وإلا فابعث إلينا بعهدنا » وسوف يأتينا کلام أشد قسوة وإذلالأ من ابن زیاد لابن سعد.

خامسا : لما رأى ابن سعد اصرار ابن زیاد على تسييره لقتال الحسين (علیه السلام) قال له : فإني سائر. إلا أنه حاول التملص من هذه المهمة بعد ذلك متخذا أسلوب الكذب والافتراء على الحسين (علیه السلام)، والتي كشفها شمر بن ذي الجوشن کا سوف يأتينا لاحقا.

نعود إلى السؤال عن سر اختيار ابن سعد لمهمة ولاية الري أولا، ثم العدول إلى تكليفه بالمسير إلى الحسين (علیه السلام) وقتاله؛

قد يكون يزيد بن معاوية قد طلب من ابن زیاد تعيين عمر بن سعد قائدة عسكرية للقوات المكلفة لقتال الحسين (علیه السلام)، ومن خلال وصية أو كتاب قد خفيت معالمه عتا، إما مكافأة له على ما قام به من دور المخبر في قضية مسلم بن عقیل

ص: 461

إذ كتب إلى يزيد يحذره من ضعف والي المدينة وخطورة الموقف ، وإما أن يكون هذا الاختيار على أساس موقف عمر بن سعد الكاره والمعادي لآل البيت ، وإما الاعتبارات عشائرية باعتبار أن عمر بن سعد من بني زهرة، وبنو زهرة بطن من بطون قريش، فأراد یزید أن يضرب بطون قريش بعضها ببعض، وهي وسيلة للسيطرة على الحكم اتبعها معاوية من قبل، وورثها ولده يزيد منه.

إلا أنه يبقى السؤال حول ارتباط ولاية الري بقضية كربلاء ونهضة الإمام الحسين(علیه السلام) !

حاول بعض الكتاب والباحثين في نهضة الحسين (علیه السلام) أن يوجد نحو ارتباط بين الأمرين فكتب يقول :

كان التخوف من تسرب الدعوة الحسينية إلى وراء الفرات وحدود العجم لا يقصر عن التخوف من قدومه الكوفة، لأن القطرين العراقي والفارسي بينهما علائق متواصلة ومصالح متبادلة ، حتى لقد كان اعزام عمر بن سعد إلى حرب الحسين (علیه السلام) مع ترشحه لولاية الري بعض فصول هذه الرواية المحزنة، فإن ولاية إيران لا تكاد تستقر لابن سعد والحسين (علیه السلام) متوجه إليها بدعوة نافعة وحجة بالغة، وعائلة من لحمة النبي (صلی الله علیه و اله) وبين الحسين وبين الفرس مصاهرة في العائلة المالكة المنقرضة.

وكل هذه عوامل قوية لنفوذ الدعوة الحسينية في بلاد کسری، فلم يجد والي العراقين سبيلا إلى إماتة هذه الظنون خيرة من ترشيح عمر بن سعد لولاية الري ، وقد كان أبوه سعد بن أبي وقاص من قواد جيشها الفاتح ، فلهم من شهرته كل الرعب وله تمام الرغبة فيهم، إذ كانت ولاية جمة المنافع متنوعة المطامع، وظاهر أن ولايتها يومئذ كانت ذات صلة قوية بإيقاف الحركة الحسينية ليتسني لواليها حرية الإدارة والإرادة .

ص: 462

لذلك لما رأى من ابن سعد تزلفأ إليه وإلى يزيد، ونقمة على نهضة الحسين (علیه السلام) يوم كتب إلى يزيد بقوة أمر مسلم في الكوفة، ويوم أفشى إلى ابن زیاد سر ابن عقيل في وصيته إليه ، أقنع ابن زیاد عمر بأخذ التدابير اللازمة لاخضاع حسين الشرف قبل التوجه إلى مهمته الأولى في إيران.

نعم، وجد ابن زیاد عمر أصلح الناس لاخضاع الحسين (علیه السلام)، سواء بفرض الإخضاع أو الاقناع، إذ كان يومئني أم الكوفيين رحمة بالحسين (علیه السلام)، وعليه مسحة شرف من قريش ونسبة إلى الحرمین . فسرحه لمقابلة الإمام خداعة واستطاعة، وأكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع(1).

هذا ما ذكره هذا الكاتب، وهو كلام وجيه في كثير من مفرداته ، وملخص ما ذكره لتوجيه ولاية ابن سعد وقيادته هو :

أولا : التخوف من تسرب الدعوة الحسينية إلى ما وراء الحدود وبلاد العجم، فتتأثر بهذه الدعوة بلاد فارس، لوجود العلائق والمصالح المتبادلة ، ووجود نسب المصاهرة بين الحسين (علیه السلام) والعائلة المالكة المنقرضة.

وثانيا : وجود شهرة واسعة لسعد بن أبي وقاص والد عمر في تلك البلاد إذ كان قائد فتحها، ولهم من شهرته كل الرعب.

وثالثها : وجود الأرضية الواسعة في شخصية عمر بن سعد، فهو من المتزلفين البني أمية ، ومن الناقمين على نهضة الحسين ، بالاضافة إلى أن عمر بن سعد کان من أمس الكوفيين رحمة بالحسين(علیه السلام) ، وعليه مسحة شرف من قريش ونسبة إلى الحرمين ، بالاضافة إلى صفة الحرص والطمع التين يتصف بها.

ص: 463


1- الشهرستانی، هبة الدين : نهضة الحسين : 86-85، ط. دار الكتاب العربی - بیروت .

ان ما ذكره هذا العلم يحتاج إلى تأمل أكثر، ودراسة أشمل، فإن قضية تمرد الديلم في دستي من بلاد فارس - على فرض صحة وقوعها - كما تذكر ذلك النصوص التاريخية كسبب لولاية عمر بن سعد على بلاد الري، ليس له أي ارتباط بالدعوة الحسينية لا من قريب ولا من بعيد، إذ لم تكن دعوة الحسين (علیه السلام)قد وصلت إلى تلك البلاد، ولم يراسلهم الحسين ولا أرسل إليهم من يبلغهم دعوته ، بل إن الديلم خاصة وبلاد فارس عامة لم تكن متفاعلة مع الإسلام العلوي في ذلك الوقت.

والذي نتصوره أن قضية ولاية الري لابن سعد وتجهيزه بأربعة آلاف فارس، وعسکرته في حمام أعين بهذه القوات ... ما هي إلا جزء من التعبئة العسكرية الشاملة التي قام بها ابن زیاد لمواجهة نهضة الإمام الحسين(علیه السلام).

والذي يدعونا إلى هذا التصور والاستنتاج جملة من الأمور التي تسندها بعض النصوص التاريخية بالاضافة إلى الواقع الموضوعي وطبيعة الأشياء .

ومن أهم هذه الأمور :

أولا : كانت مهمة ابن زیاد الأساسية بعد أن أخضع الكوفة وذلل صعابها، هو احكام السيطرة على الداخل، وتأمين الحدود الخارجية للكوفة من خلال سد منافذها ومخارجها، ولهذا بادر إلى إرسال الدوريات التي احتلت القادسية ، والنقاط المهمة على حدود الكوفة خوفا من أن يسبقه إليها الحسين (علیه السلام) ولم يكن مجرد تمرد من الديلم في شرق الأرض - على فرض حصوله - يشكل أمرا مهما في سلم أولويات ابن زیاد آنذاك ، وإن كانت تلك البلاد داخلة ضمن صلاحياته الادارية والعسكرية.

فكيف يمكن أن نتعقل من ابن زیاد ، وهو الخبير المحنك بالكوفة وأهلها ، و تقلب الأهواء والنزعات فيها، والخطر محدق به من كل مكان ، ومع هذا كله يجهز جيشاً

ص: 464

جراراً قوامه أربعة آلاف فارس بقيادة ابن سعد لمحاربة الديلم في دستبي! في الوقت الذي كان فيه ابن زیاد حريصة جدا على التعبئة الشاملة للكوفة لمواجهة الحسين ولم يستثني أحداً من المشاركة حتى ذوي الاعذار والمرضى والمسافرين ....... کا مر بنا سابقا .

ثانيا : لقد استعرضنا سابقا ملخصاً عن بلاد الري و دستي وما جرى فيها من أحداث من يوم فتحها إلى خلافة أمير المؤمنين (علیه السلام)، إذ ولى عليها یزید بن حجبة الذي سرق خراجها وهرب إلى معاوية.

ويروي البلاذري عن مرة الهمذاني قال : قال علي بن أبي طالب (علیه السلام) - لأهل الكوفة - : « من کره منكم أن يقاتل معنا معاوية فليأخذ عطاءه وليخرج إلى الديلم فليقاتلهم»، قال - الراوي - : فأخذنا أعطيتنا وخرجنا إلى الديلم ونحن أربعة آلاف أو خمسة آلاف.

وفي رواية ثانية : أغزى علي رضی الله عنه الربيع بن خثيم الثوري الديلم وعقد له على أربعة آلاف من المسلمين(1).

ولا يوجد لدينا نص تاريخي يؤيد وقوع تمرد من الديلم في دستبي بعد هذا التاريخ سوى ما يقترن بولاية العهد لعمر بن سعد على بلاد الري إذ يعلل سبب ذلك إلى تمرد الديلم وغلبتهم على تلك البلاد.

فلو كان هكذا تمرد قد حصل واقعا لاستفاضت بذكره كتب التاريخ وتناقلته الرواة، إذ تشكل هذه البلاد ثغرة من ثغور الكوفة، ومنها يجب الخراج، واستوطنها الكثير من أهلها، ولما اقتصر الأمر على رواية يتيمة ذكرت عرضة التعليل أسباب ولاية الري لابن سعد!

ص: 465


1- فتوح البلدان : 318

ثالثا : عندما نعود إلى أحداث ما بعد واقعة كربلاء وإلى حين هلاك يزيد ومقتل عبيد الله بن زیاد سنة ست وستين أو سبع وستين(1)، فإنا نجد انشغال الدولة الأموية بالفتن والحروب الداخلية من واقعة الحرة، إلى حصار الكعبة وإحراقها ، ثم موت یزید و انتقال الحكم بعد موته من الأمويين إلى بني مروان ، وانشغال الدولة مجددا بالصراع على كرسي الحكم، ثم حروب ابن الزبير ، والمختار والخوارج ، ولا نجد لقضية تمرد الديلم في دستبي أي ذكر في سجل أحداث تلك السنين العجاف ؟ فهل كان تمرد الدیلم کا زعم - سحابة صيف مرت بسلام من دون أن تحدث أي أثر سلبي يستوجب اهتمام الدولة الأموية بها؟

أو أنها كانت مجرد كذبة وحادث مفتعل من ابن زیاد أراد من خلالها تمريرخطة عسكرية قد أحكم فصولها بدقة؟

من خلال ما تقدم من أمور نجد أن الفرضية الثانية هي التي تنسجم مع منطق الأحداث وطبيعة الأشياء فلقد عرف ابن زیاد بالمكر والخداع من جهة ، والمعرفة الواسعة بأشراف أهل الكوفة وشخصياتها ومكان القوة والضعف فيها من جهة أخرى، واستخدم هذين السلاحين في مواجهة قضية الإمام الحسين بن

فهو من جهة يريد أن يحكم قبضته على الكوفة ويعبىء أهلها تعبئة عسكرية شاملة لمواجهة الإمام الحسين (علیه السلام)، ولابد له من قائد عسكري يتولى هذه المهمة الخطيرة.

وكلا الأمرين من المهام الشاقة والصعبة ، فلا تعبئة الكوفة الحرب الحسين بالأمر الهين لما عرف عن أهلها من صفة عدم الانقياد و الانصياع لولاتها ولارتباط ولاء الكثير منهم بالحسين، ولا قيادة الجيش المحارب للحسين (علیه السلام)، مما يغري الشخصيات والأشراف في الكوفة لما له من تبعات لا تخفى عليهم.

ص: 466


1- البداية والنهاية : 8/ 315.

ولهذا لابد من افتعال قضية خارجية و عدو موهوم يهدد سلامة الدولة ، وتعبئة الناس على أساس ذلك، فتكون هذه التعبئة طليعة للتعبئة الشاملة الحرب الحسين (علیه السلام).

ولابد من إغراء من تتوفر فيه الأرضية المناسبة والمواصفات المطلوبة لقيادة هذه التعبئة.

فافتعل ابن زیاد قضية تمرد الديلم واستيلائهم على دستبي، وهي قضية مهمة لأهل الكوفة لما ذكرنا سابقا ، ثم أصدر عهده إلى عمر بن سعد بولاية الري ، لما وجده في هذا الرجل من مواصفات أشرنا إلى بعضها سابقا ويأتي بعضها الآخر لاحقا.

وقد نجح ابن زیاد في كلا الأمرين معا، فأصدر عهده إلى عمر بن سعد بولاية الري، وسير معه أربعة آلاف فارس بدعوى محاربة الديلم في دستبي، إلا أن هذا الجيش لم يخرج إلى أكثر من حدود «حمام أعين» (1)، المتاخمة للكوفة.

ثم سرعان ما رجع ابن زیاد إلى المهمة الأساسية التي من أجلها تم تعبئة هذه القوات وأناط قيادتها بعمر بن سعد، فدعا ابن زیاد عمر بن سعد فقال : سر إلى الحسين، فإذا فرغنا ما بيننا وبينه سرت إلى عملك ..(2).

فكانت هذه القوات المكونة من أربعة آلاف فارس بقيادة عمر بن سعد في طليعة القوات التي وافت الحسين في كربلاء، ثم تبعتها القوات الأخرى.

ص: 467


1- انظر معجم البلدان لياقوت الحموي : 3/ 179 : وينسب حمام أعين إلى أعين مولی سعد بن أبي وقاص.
2- الطبري :409/5.

المبحث الثالث

*معالم شخصية عمر بن سعد :

والذي ساعد عبيد الله بن زیاد على نجاح خطته أمران هما :

أولا : سذاجة أهل الكوفة الفكرية والعقائدية والسياسية، وتقلب أهواء و میول أهلها .

ثانيا : شخصية عمر بن سعد الضعيفة أمام إغراء المال والمنصب والجاه .

وقد تحدثنا عن الأمر الأول بما لا مزيد عليه في ثنايا هذا الكتاب وخاصة في الفصل الذي تحدثنا فيه عن أحداث الكوفة واستشهاد مسلم بن عقيل .

كذلك تحدثنا عن شخصية عمر بن سعد وقصة قبوله قيادة الجيش المحارب للحسين(علیه السلام).

ونريد أن نتوقف هنا عند بعض الأبعاد الأخرى في شخصية عمر بن سعد والمحطات الأساسية من شخصيته إلى حين مقتله على يد المختار الثقفي سنة ست وستين للهجرة.

لقد اجتمعت في شخصية عمر بن سعد كل الصفات الأخلاقية الرذيلة والتي جسدها قولا وعملا في كربلاء، فكان مثالا للانحطاط الأخلاقي بالاضافة إلى ضمير متحجر، وقلب قاسي، وشخصية ذليلة خانعة.

وفيما يلي بعض معالم هذه الشخصية : أولا : تهالكه على الدنيا وقد مر بنا الحديث عن هذه الصفة في شخصية عمر بن سعد ، وكيف كان يلح على والدي للدخول في معترك الحياة السياسية، وبقي هذا الطموح يراوده ، وقد اكتشف ابن زیاد - وهو العارف الخبير بنفسيات أهل الكوفة - هذا الطموح في ابن سعد فاستدرجه إلى الفخ الذي نصبه له لقيادة الجيش المحارب للحسين (علیه السلام)

ص: 468

من خلال عهده إليه بولاية الري و دستبي، والتي تمثل عند ابن سعد قرة العين ومنتهى الطموح والآمال ، وقد نقل عنه أبيات يقول فيها :

أأترك ملك الري والري بغيتي

أم أرجع مأثوم بقتل حسین (1).

وفي قتله النار التي ليس دونها

حجاب وملك الري قرة عين

وفي رواية ابن اعثم في الفتوح : أن الإمام الحسين (علیه السلام) أرسل بريرة إلى ابن سعد، فقال بریر : یا عمر بن سعد، أتترك أهل بيت النبوة يموتون عطشا وحلت بينهم وبين الفرات أن يشربوه، وتزعم أنك تعرف الله ورسوله ؟

قال : فأطرق عمر بن سعد ساعة إلى الأرض ثم رفع رأسه وقال : إني والله أعلمه یا بریر علم يقينا أن كل من قاتلهم وغصبهم على حقوقهم في النار لا محالة ، ولكن ويحك يا برير ! أتشير علي أن أترك ولاية الري فتصير لغيري ؟ ما أجد نفسي تجيبني إلى ذلك أبدأ، ثم أنشأ يقول ... الأبيات.

فرجع بریر بن خضير إلى الحسين (علیه السلام) فقال : يابن بنت رسول الله ، إن عمر بن سعد قد رضي أن يقتلك بملك الري(2)

ثانيا : إعراضه عن نصح الناصحين

لقد اشفق بعضهم على عمر بن سعد ومهمته في قيادة جيش ابن زیاد لحرب الحسين ومنحوه النصيحة تلو النصيحة للعدول عن رأيه ، إلا أنه لم يستجب لنصح الناصحين واشفاق المشفقين ، وممن نصحه ابن أخته حمزة بن المغيرة بن شعبة ،

ص: 469


1- مرآة الجنان لليافعي : 1/ 132 ويقول اليافعي ولو قال : أأترك ملك الري بل هو بغيتي وإن عدت مأثومة بقتل حسین لكان هذا الانشاد أدل على المراد. وقد نقل ابن الأثير في الكامل : 2/ 556 البيتين باختلاف يسير.
2- ابن اعثم الكوفي، الفتوح: 96/5.

فبعد أن عرض عليه ابن زیاد المسير لقتال الحسين (علیه السلام)بن وطلب منه ابن سعد أن يعطيه فرصة يوم للنظر ، انصرف عمر یستشیر صحاءه ، فلم يكن يستشير أحد إلا نهاه ، قال الراوي -: وجاء حمزة بن المغيرة بن شعبة - وهو ابن أخته - فقال : أنشدك الله يا خال أن تسير إلى الحسين فتأثم بربك ، و تقطع رحمك ، فوالله لأن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلها لو كان لك خير لك من أن تلقى الله بدم الحسين؟

فقال له عمر بن سعد : فإني أفعل إن شاء الله(1) .

إلا أنه لم يفعل ، وأني له أن يفعل ويفي بوعده وقد حليت الدنيا في عينه ، وراقه زبرجها، وضعفت نفسه عن مقاومة رغباتها في ملك الري والجاه والثروة والمال.

وكان الإمام الحسين(علیه السلام) لا يبخل بالنصيحة حتى لأعدائه ولو كان في مستوى عمر بن سعد في سقوطه الأخلاقي.

ولهذا كان على رأس ناصحيه وأهمهم هو الإمام الحسين (علیه السلام) نفسه .

روی الخوارزمي فقال : «فأرسل الحسين إلى ابن سعد إني أريد أن أكلمك فألقني الليلة بين عسكري وعسكرك ، فخرج إليه عمر بن سعد .. فقال الحسين لابن سعد : ويحك أما تتقي الله الذي إليه معادك أتقاتلني وأنا ابن من علمت ! یا هذا در هؤلاء القوم وكن معي فإنه أقرب لك من الله ، فقال له عمر : أخاف أن تهدم داري ! فقال الحسين : أنا أبنيها لك ، فقال عمر : أخاف أن تؤخذ ضيعتي ! فقال : أنا أخلف عليك خيرا منها من مالي بالحجاز ، فقال لي عبالي أخاف عليهم ! فقال : أنا أضمن لك سلامتهم، قال - الراوي - ثم سكت فلم يجبه عن ذلك .

ص: 470


1- الطبري :409/5

فانصرف عنه الحسين وهو يقول : مالك ذبحك الله على فراشك سريعا عاج"، ولا غفر الله لك يوم حشرك ونشرك ، فوالله إني لا أرجو أن لا تأكل من بر العراق إلا يسيراً.

فقال له عمر : يا أبا عبد الله في الشعير عوض عن البر »(1).

ونلاحظ هنا في أجوبة ابن سعد، داري، ضيعتي، مالي، عيالي ... ثم غروره واستهزاؤه في جوابه للحسين : في الشعير كفاية!

فلم يجد الإمام الحسين أمامه إلا إنسانة ممسوخة ميت الضمير والاحساس ، ولهذا دعى عليه الحسين (علیه السلام) واستجاب الله دعاءه ، فقتل بعد ذلك بيد المختار بالكيفية التي دعا فيها الإمام الحسين (علیه السلام).

ثالثا : اتخاذ وسيلة الكذب والافتراء

لقد سلك ابن سعد طريقة ملتوية متخذ أسلوب الكذب والافتراء على الإمام الحسين (علیه السلام) لعله يتخلص من إثم المعركة، ويكون في منجی من الابتلاء بدم الحسين (علیه السلام) ، وقصة ذلك تتجلى في رسالته التي بعثها إلى عبيد الله بن زیاد، ناسبة للحسين أمورة لم يقلها له، فضلا عن أن يكون قد تعهد بها له.

ملخص هذه القضية كما ذكرها الطبري وغيره من المؤرخين كما يلي :

قال الطبري : دعا عمر قرة بن قيس الحنظلي فقال له : ويحك يا قرة! الق حسين سلة ما جاء به ؟ وماذا يريد ؟ فأتاه قرة بن قيس ... حتى سلم على الحسين، وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه ، فقال الحسين : كتب إلى أهل مصرکم هذا أن أقدم ، فأما إذ كرهوني فأنا أنصرف عنهم.

ص: 471


1- مقتل الحسين للخوارزمي : 245/1، ومقتل الحسين للمقرم: 205 عن تظلم الزهراء : 103 .

قال الراوي -: فانصرف إلى عمر بن سعد فأخبره الخبر.

فقال له عمر بن سعد : إني لأرجو أن يعافيني الله من حربه وقتاله(1).

و بعد اجتماع ابن سعد بالإمام الحسين (علیه السلام)، انتهز ابن سعد فرصة هذا الاجتماع التمرير كذبته على لسان الإمام الحسين (علیه السلام) بين عسكره، فشاع فيهم من غير أن

يكونوا سمعوا من ذلك شيئا ولا علموه(2).

وفحوى هذه الكذبة كما في رواية الطبري عن أبي مخنف : «قالوا : إنه - أي الإمام الحسين - قال : اختاروا مني خصالا ثلاثا : إما أن أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه ، وإما أن أضع يدي في يد یزید بن معاوية فيرى فيا بيني وبينه رأيه ، وإما أن تسيروني إلى أي ثغر من ثغور المسلمين شئتم، فأكون رجلا من أهله ، لي ما لهم وعلي ما عليهم»(3).

وبعد أن مزر ابن سعد كذبته هذه، وبعد لقاءات متعددة أخرى مع الإمام الحسين (علیه السلام)، بادر إلى تمرير كذبته على عبيد الله بن زیاد فكتب إليه يقول : «أما بعد، فإن الله قد أطفأ النائرة، وجمع الكلمة ، وأصلح أمر الأمة، هذا حسين قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى، أو أن نسيره إلى أي ثغر من ثغور المسلمين شئنا ، فيكون رجلا من المسلمين له ما لهم ، و عليه ما عليهم، أو أن يأتي يزيد أمير المؤمنين فيضع يده في يده ، فيرى فيما بينه وبينه رأيه ، وفي هذا لكم رضا وللأمة صلاح » (4).

ص: 472


1- الطبري : 411/5 .
2- الطبري : 13/5 .
3- المصدر نفسه : 13/5 .
4- المصدر نفسه : 5/ 414.

وصل کتاب ابن سعد إلى عبيد الله بن زیاد، وكان في مجلسه العام وإلى جنبه شمر بن ذي الجوشن ، فلما قرأ عبيد الله الكتاب قال : هذا كتاب رجل ناصح

الأميره، مشفق على قومه ، نعم قد قبلت (1).

وكادت كذبة ابن سعد أن تمر على ابن زیاد، إلا أن شمر بن ذي الجوشن - والذي كان ناقما على ابن سعد وحاسدة له على إمرته للجيش ، ووضع عيونه وجواسيسه الخاصين لإحصاء تحرکات ابن سعد في كربلاء، وقد وافته أخبار لقاء ابن سعد بالحسين ليلا في كربلاء، تنبه للأمر وعرف زيف وكذب ما كتبه ابن سعد إلى ابن زیاد، فاندفع لإفساد ما نسجه ابن سعد لعلها تكون وسيلة لاقصائه عن قيادة الجيش ليحل هو محله.

روى الطبري : فقام إليه شمر بن ذي الجوشن ، فقال : أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك إلى جنبك ، والله لئن رحل من بلدك ، ولم يضع يده في يدك ، ليكون أولى بالقوة والعزة ولتكون أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه ، فإن عاقبت فأنت ولي العقوبة ، وإن غفرت کان ذلك لك، والله لقد بلغني أن حسينة وعمر بن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدثان عامة الليل.

فقال له ابن زیاد : نعم ما رأيت ! الرأي رأيك(2) .

ومما لا شك فيه ولا شبهة أن ابن سعد قد افترى تلك الكذبة الشنيعة على الإمام الحسين(علیه السلام) ، وأراد أن يمرر ذلك على ابن زیاد إلا أنه فشل في ذلك، والإمام الحسين (علیه السلام) وفي كل مواقفه وأقواله من حين خروجه من المدينة كان رافضة لبيعة

ص: 473


1- المصدر نفسه : 5/ 414.
2- المصدر نفسه : 5/ 414.

يزيد وإلى حين استشهاده في كربلاء، لم يصدر منه أي موقف أو قول يدل على وهنه واستسلامه للأمر الواقع ، ولو كان يريد أن يبايع يزيد لبايعه وهو في المدينة عندما طلبت منه البيعة، ولما خرج بأهله وعياله وقطع تلك المسافات الطويلة معرضا نفسه وعياله وأهل بيته وأصحابه للاخطار الجسيمة.

ولهذا يروي الطبري عن عقبة بن سمعان قال : « صحبت حسین فخرجت معه من المدينة إلى مكة ، ومن مكة إلى العراق، ولم أفارقه حتى قتل ، وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولا بمكة ولا في الطريق ولا بالعراق ولا في عسكر إلى يوم مقتله إلا وقد سمعتها، لا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون من أن يضع يده في يد یزید بن معاوية ، ولا أن يسيروه إلى ثغر من ثغور المسلمين ، ولكنه قال : دعوني فأذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر ما يصير أمر الناس . (1)

فهذه الرواية خير شاهد على كذب ابن سعد فيا ادعاه على الإمام الحسين من قول.

وابن سعد کذب نفسه بنفسه فيها ادعاه ، فعندما جاءه شمر حام؟ جواب ابن زیاد إليه ، فقرأه فقال له : ما لك ويلك ! لا قرب الله دارك ، و قبح الله ما قدمت به على ! والله إني لأظنك أنت ثنيته أن يقبل ما كتب به إليه ، أفسدت علينا أمرأ كنا رجونا أن يصلح، لا يستسلم والله حسين، إن نفس أبية لبين جنبيه(2).

وفي رواية ابن الأثير : والله لا يستسلم الحسين أبدأ، والله إن نفس أبيه البين جنبيه(3).

ص: 474


1- الطبري : 5/ 414.
2- المصدر نفسه : 415/5
3- الكامل في التاريخ :558/2.

رابعا : الخضوع والخنوع والإذلال السلطة بني أمية

من السمات البارزة في شخصية ابن سعد خضوعه المطلق لسلطة بني أمية وولاتهم، ويتجلى ذلك واضحا في تعامله مع عبيد الله بن زیاد، ففي الوقت الذي كان يعامله ابن زیاد بمنتهى الإذلال والاحتقار ، نجده أمامه مسحوق الشخصية ذلیلا خانعة مطيعة لأوامره.

ففي جواب رسالته التي كتبها إلى ابن زیاد، أجابه ابن زیاد برسالة شديدة اللهجة فيها الألوان من الإذلال والتحقير ، جاء فيها : قال أبو مخنف ، حدثني أبو

جنادة الكلبي قال : ثم كتب عبيد الله بن زیاد إلى عمر بن سعد : أما بعد، فإني لم أبعثك إلى حسين لتكف عنه، ولا لتطاوله ، ولا لتنميه السلامة والبقاء، ولا لتقعد له عندي شافع ، انظر ، فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إلى سلمة ، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم، فانهم لذلك مستحقون ... إن أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع ، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا، وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر ، فإنا قد أمرناه بأمرنا ، والسلام(1).

ثم دعا شمر بن ذي الجوشن فقال له : اخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد ، فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي ... فإن فعل فاسمع له وأطع، وإن هو أبى فقاتلهم، فأنت أمير الناس، وثب عليه فاضرب عنقه ، وابعث إلى برأسه .

فجاء شمر إلى كربلاء مسرعة، ووقف على رأس ابن سعد يقول له : اخبرني ما أنت صانع ؟ أتمضي لأمر أميرك وتقتل عدوه ، وإلا فخل بيني وبين الجند والعسكر.

ص: 475


1- الطبری :415/5

فقال-ابن سعد-: لا ولا كرامة لك، وأنا أتولى ذلك .. وكن أنت على الرجالة (1).

وعندما نتأمل في هذه الرسالة فإنا لا نجد فيها أي مساحة للود والترضي والاحترام من والي إلى قائد من قواده ، وإنما نجد ابن زیاد و من موقع الغرور والتعالي والفرعنة والاستخفاف يتعامل مع ابن سعد فيسلب منه كل صلاحيات القيادة والوجاهة والاستشفاع، ويملي عليه أوامره واحدة تلو الأخرى ويهدده بالعزل والطرد إن أبي عن تنفيذها، ويأمر شمرة أن يثب عليه ويضرب عنقه إن أبي وتمرد.

وفي المقابل نجد ابن سعد ومن موقع الذليل الخانع المطيع يستجيب لأوامره ويزحف بجيشه صوب الحسين بعد تهديد الشمر له مباشرة : « فنهض إليه عشية الخميس لتسع مضين من المحرم ...» وهو ينادي : يا خيل الله اركبي وابشري، فركب الناس ، ثم زحف نحوهم بعد صلاة العصر ...(2).

وبقيت حالة الذلة والمهانة والطاعة المطلقة للأمير ابن زیاد ملازمة لابن سعد حتى بعد انتهاء واقعة كربلاء، إذ أهمله ابن زیاد ورمی به على قارعة الطريق ، ولم يف له بعد بولاية الري ودستي ، فجاءه ملتمسا ذلك ، فطلب منه ابن زیاد أن يرد عليه العهد الذي كتبه له بولاية الري.

روى الطبري، قال هشام : عن عوانة ، قال : قال عبيد الله بن زیاد لعمر بن سعد بعد قتله الحسين : يا عمر ، أين الكتاب الذي كتبت به إليك في قتل الحسين ؟ قال : مضي لأمرك وضاع الكتاب ؟

ص: 476


1- المصدر نفسه : 5/ 414 - 416.
2- المصدر نفسه : 416/5

قال : لتجيئين به ، قال : ضاع، قال : والله لتجيئني به .

قال : ترك والله يقرأ على عجائز قریش اعتذارة اليهن بالمدينة ، أما والله لقد نصحتك في حسين نصيحة لو نصحتها أبي سعد بن أبي وقاص کنت أديت حقه (1).

خامسا : الولع بالقتل والجريمة

لقد ارتكبت في كربلاء أبشع الجرائم، وانتهكت أقدس المقدسات، وسفكت أشرف الدماء، وسبيت نساء أشرف البيوت طهرة وقداسة، وتم تنفيذ إجراءات انتقامية بحق الشهداء من خلال رض الأجساد بحوافر الخيل ، والتمثيل بها، وقطع الرؤوس والتشهير بها، وترك الأجساد في العراء من غير دفن ..... ولم يستي من ذلك أحد من الطفل الرضيع إلى الشيخ الطاعن في السن. وكل هذه الجرائم البشعة والتي لم يشهد مثيلها تاريخ العرب في جاهليتها وإسلامها تمت من قبل الجيش المحارب للحسين (علیه السلام) وبقيادة وأوامر عمر بن سعد مباشرة ، منفذ بذلك أوامر عبيد الله بن زیاد و مضيفا عليها المزيد من الجرائم من عنده .

والذي بين أيدينا من نصوص أوامر ابن زیاد لابن سعد نجد هذا النص الذي يذكره الطبري في الكتاب الذي وجهه ابن زیاد مع شمر والذي يتضمن «فازحف إليهم حتى تقتلهم، وتمثل بهم، فإنهم لذلك مستحقون ، فإن قتل الحسين فأوطيء الخيل صدره وظهره ، فإنه عاق مشاق، قاطع ظلوم، وليس دهري في هذا أن يضر بعد الموت شيئا ، ولكن على قول : لو قد قتلته فعلت به هذا .. (2)

وفي نص ثاني يذكر الطبري أيضأ عن أبي مخنف عن حميد بن مسلم الأزدي، قال : جاء من عبيد الله بن زیاد کتاب إلى عمر بن سعد : أما بعد ، قځل بين الحسين

ص: 477


1- المصدر نفسه : 5/ 467.
2- الطبری : 465/5.

وأصحابه وبين الماء، ولا يذوقوا منه قطرة، كما صنع بالتقي الزكي المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفان، قال الراوي - فبعث عمر بن سعد عمرو بن الحجاج على خمسمائة فارس ، فنزلوا على الشريعة، وحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء أن يسقوا منه قطرة، وذلك قبل قتل الحسين بثلاث. ونادى منادي ابن سعد عبد الله بن الحصين ... فقال : يا حسين ، ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء ! والله لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشا ! فقال الحسين : اللهم اقتله عطشا ، ولا تغفر له أبدا(1).

ونفذ ابن سعد وبدقة كل أوامر ابن زياد الانتقامية وزاد عليها الكثير بمبادرة من عنده رجاء أن يزداد حظوة عند عبيد الله بن زياد ، فمثل بالقتلى شر تمثيل وأصدر أوامره مباشرة برض صدر الحسين وظهره بحوافر الخيل، وقام بالمهمة البشعة عشرة رجال ستمى الطبري منهم رجلين(2)، ثم أمر بقطع الرؤوس وطاف بها، ثم حملت إلى الكوفة إلى عبيد الله بن زیاد، و بشكل لم يسبق له مثيل في كافة الحروب والفتوحات التي خاضها المسلمون ضد أعداء الإسلام، وحسب رواية الطبري : «أول رأس رفع على خشبة رأس الحسين رضي الله عنه وصلى الله على روحه»(3).

ولو أردنا أن نعدد جرائم ابن سعد في كربلاء لملأنا منها صحائف سوداء مؤلمة ، ولكنا نعرض عن ذلك لبشاعتها وفضاعتها إذ لا يتحمل ذكرها إنسان له ضمير حي.

ص: 478


1- المصدر نفسه : 412/5 .
2- المصدر نفسه : 454/5 - 455.
3- المصدر نفسه : 5 / 394.
مصير عمر بن سعد و نهایته :

لقد حكم عمر بن سعد على نفسه بالفناء في اللحظة التي قبل فيها المسير لقتال الحسين (علیه السلام)، وسقط سقوطأ لا قيام له في الساعة التي قال فيها لجنده : يا خيل الله اركبي وبالجنة أبشري. وانقطعت بينه وبين المسلمين العصمة، وصار من أمة أخرى غير أمة الإسلام في اللحظة التي وضع سهمه في كبد قوسه ، ثم رمی به نحو الحسين وهو يقول : «اشهدوا أني أول من رمی»(1).

فعاش بعد واقعة كربلاء منبوذ ذلي" محتقرة من قبل أهل الكوفة خاصة، ومن المسلمين عامة، حتى إنهم لم يكونوا يردوا عليه السلام.

روی ابن عساکر ...: مر عمر بن سعد بن أبي وقاص بمجلس بني نهد حين قتل الحسين، فسلم عليهم فلم يردوا عليه السلام ! فلما جاز قال :

أتيت الذي لم يأت قبلي ابن حرة

فنفسي ما أمرت وقومي أذلت (2)

وامتنع الرواة عن الرواية عنه ، وكانوا يقطعون حديث الراوي إذ سمعوا في سند روايته اسم عمر بن سعد، ففي تهذيب الكمال قال : « عن الغلاس قال : سمعت يحيى بن سعيد القطان ، وحدثنا عن شعبة وسفيان ، عن أبي إسحاق ، عن العيزار بن حریث، عن عمر بن سعد ، فقام إليه رجل ( أي إلى القطان ) فقال : أما تخاف الله تروي عن عمر بن سعد! فبكى وقال : لا أعود أحدث عنه أبدا (3).

وذكر ابن حجر في ترجمة عمر بن سعد ... قال : مقته الناس لكونه أميرة على الجيش الذي قتل الحسين بن علي رضی الله عنه(4).

ص: 479


1- الطبري : 5/429.
2- تاریخ دمشق : 48/ 365.
3- تهذيب الكمال للمزي : 14 / 74.
4- لسان المیزان:590/8 ، ط. داراحیاء التراث العربي - بيروت، ط. الثانية، (1422 ه. 2001م).

إلا أن بعض علماء السوء من أرباب الجرح والتعديل أدرجوا ابن سعد ضمن الثقاة من الرواة ! فقد وثق العجلي عمر بن سعد، فقال : كان يروي عن أبيه أحاديث ، وروى الناس عنه، وهو تابعي ثقة، وهو الذي قتل الحسين(1).

كذلك ترجمه ابن حجر في تهذيب التهذيب الذي لا يترجم فيه إلا للثقاة من الرواة عنده(2).

ولا نعلم كيف كان ابن سعد ثقة مع قتله لريحانة رسول الله (صلی الله علیه و اله) وإبادته للعترة الطاهرة التي أوجب الله مودتهم على عموم المسلمين ...... لقد كان العجلي منحرفاً عن الحق ، فكان ميزان التعديل عنده للرواة هو النصب لأهل البيت وبغضهم، كما أن مقياس الجرح عنده هو الولاء والمودة لهم(3)..

قال أحمد بن زهير : سألت ابن معين : أعمر بن سعد ثقة ؟ فقال : كيف يكون من قتل الحسين ثقة (4).

وكما سقط عمر بن سعد اجتماعية ودينية فقته الناس وأعرضوا عنه وقاطعوه اجتماعية ، ولم يأخذوا منه معالم دینهم التي تحكيها الروايات المروية عن النبي (صلی الله علیه و اله) مع إنه يعد من الطبقة الثانية من التابعين.

كذلك سقط سياسية وعسكرية فلم يحصل على منصب أو ولاية أو مهمة قيادية أو عسكرية بعد واقعة كربلاء، وأخيرا قتل وقتل معه ولده حفص و بالشكل الذي دعا فيه الإمام الحسين (علیه السلام) عليه فاستجاب الله دعاءه.

ص: 480


1- تهذيب التهذيب : 451/7، و میزان الاعتدال : 3/ 198.
2- القرشي، حياة الإمام الحسين : 109/3 .
3- القرشي، حياة الإمام الحسين : 109/3 .
4- میزان الاعتدال :3/ 198.

روى الطبري في أحداث سنة أربع وستين فقال : وفي هذه السنة طرد أهل الكوفة عمرو بن حریث و عزلوه عنهم واجتمعوا على عامر بن مسعود ... قال : وصعد عمرو - ابن حریث - المنبر فحصبوه ، فدخل داره، واجتمع الناس في المسجد فقالوا : نؤمر رجلا إلى أن يجتمع الناس على خليفة ، فأجمعوا على عمر بن سعد ، فجاءت نساء همدان يبكين سينا، ورجالهم متقلدو السيوف، فأطافوا بالمنبر ، فقال محمد بن الأشعث : جاء أمر غير ما كتا فيه ، وكانت بيندة تقوم بأمر عمر بن سعد لأنهم أخواله ، فاجتمعوا على عامر بن مسعود ، وكتبوا بذلك إلى ابن الزبير ، فأقره(1).

لقد خسر ابن سعد دنياه التي تهالك من أجلها ، فلم ينل منها إلا الخزي والعار والذل، وخسر آخرته ومعاده والذي شكك في وجودها وبعثها ونشورها

عندما قال :

يقولون إن الله خالق جنة

ونار وتعذيب وغل يدين(2)

هذا وقد روت أخبار المغيبات، و تسامع الناس بها، بأن ابن سعد هو قاتل الحسين وذلك قبل واقعة الطف بزمن طويل.

روى الشيخ المفيد عن عبد الله بن شريك العامري قال : كنت أسمع أصحاب علي (علیه السلام) إذا دخل عمر بن سعد من باب المسجد يقولون : هذا قاتل الحسين بن علي (علیه السلام) وذلك قبل قتله بزمان.

وروى المفيد أيضا عن سالم بن أبي حفصة قال : قال عمر بن سعد للحسين (علیه السلام): يا أبا عبد الله إن قبلنا ناسا شفهاء، يزعمون أني أقتلك،

ص: 481


1- الطبري :524/5 ، والكامل في التاريخ : 2/ 614.
2- القرشي : 3/ 112.

فقال له الحسين (علیه السلام) : «إنهم ليسوا بسفهاء ولكنهم ځلماء ، أما إنه يقر عيني ألا تأكل بر العراق بعدي إلا قليلا»(1).

وصدق الله العظيم إذ يقول في كتابه الكريم :

«ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)»(2)

ص: 482


1- الإرشاد : 2/ 131 - 132 ونقل الروايتين المجلسي في البحار 263/44وابن عساكر في تاریخ دمشق :35/48 .
2- الروم : 10.

الفصل الثاني وقائع وحوادث يوم العاشر من المحرم

المبحث الأول : دنيا الحسين(علیه السلام)

المبحث الثاني : مبدأ الحسين في القتال

المبحث الثالث : مبدأ الحوار وإقامة الحجة من خلال خطب الإمام الحسين (علیه السلام) وبعض أنصاره

* خطبة الإمام الحسين الأولى

*خطب وكلمات أنصار الحسين

* خطبة الإمام الحسين الثانية

المبحث الرابع : الإباء والعزة الحسينية

ص: 483

ص: 484

الفصل الثاني وقائع وحوادث يوم العاشر من المحرم

اشارة

سجلت للامام الحسين (علیه السلام) وأهل بيته وأصحابه سلام الله عليهم في كربلاء جملة من المواقف والخطب والمواعظ والحوارات والتي تجسدت فيها روح العزة والاباء والنصح للأمة الإسلامية.

والوقوف والتأمل في هذه المواقف الكريمة، والخطب البليغة، والحوارات الهادفة، تعطينا فكرة واضحة عن الأوضاع المتردية التي وصلت إليها الأمة الإسلامة والتي تمثلها تلك الجموع الغفيرة التي خرجت لقتال الحسين (علیه السلام) من مجتمع الكوفة.

بالاضافة إلى ذلك فإن كثيرا من الدروس والعبر يمكن أن نستخلصها من هذه المواقف والحوارات والتي امتدت زمنية من اليوم الثاني من المحرم سنة إحدى وستين للهجرة وإلى اليوم العاشر منه، والذي يصطلح عليه تاريخياً «بيوم عاشوراء» ويلخص ما وقع في هذا اليوم من أحداث ووقائع وقتل واستشهاد « بوقعة كربلاء»..

ولا نستطيع أن نستوعب في هذه الدراسة كل الأمور التي حصلت خلال هذه الفترة فضلا عما حصل يوم العاشر من المحرم في الجانب القتالي والاستشهادي .

ص: 485

ولهذا سوف نتوقف عند بعض المحطات ونتأمل فيها ونستخلص منها الدروس والعبر، ونترك الجانب القتالي، وجانب المأساة والتي تكفلت ببيانها کتب التاريخ والمقاتل .

المبحث الأول دنيا الحسين (علیه السلام)

لقد تنكرت هذه الدنيا للإمام الحسين (علیه السلام)، وقذفت به من بلد إلى بلد حتى أوصلته إلى كربلاء.

وفي کربلا رأي الإمام نفسه بين أناس خرجوا من إنسانيتهم التي جبلوا عليها ، وتحولوا إلى وحوش كاسرة لغتها الناب والمخلب ، و تبحث عن فريستها لكي تنقض عليها، وقد عبر عن ذلك طاغيتهم عبيد الله بن زياد في قوله :

الآن إذ علقت مخالبنا به پرجو التجاة ولات چين مناص فلنستمع إلى الحسين وهو يصف ببلاغته الحسينية ، وشجاعته العلوية دنياه التي أحاطته.

روی ابن عساكر فقال : « لما نزل عمر بن سعد بحسين ، وأيقن أنهم قاتلوه ، قام في أصحابه خطيبة :

فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت، وأدبر معروفها واستمرت حتى لم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وإلا خسیس عیش کالمرعى الوبيل . ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا يتناهی عنه ! ليرغب المؤمن في لقاء الله ، فإني لا أرى الموت إلا الشهادة ، ولا الحياة مع الظالمين إلا برما .

ص: 486

وأضاف المجلسي : « إنَّ النّاسَ عَبیدُ الدُّنیا وَ الدّینُ لَعقٌ عَلی ألسِنَتِهِم،یَحوطونَهُ ما دَرَّت مَعائِشُهُم،فَإِذا مُحِّصوا ِالبَلاءِ قَلَّ الدَّیّانونَ. »(1)

قال : فقام زهير بن القين البجلي فقال لأصحابه : تتكلمون أم أتكلم ؟ قالوا : لا، بل تكلم؛ فحمد الله فأثنى عليه ثم قال : قد سمعنا هداك الله يابن رسول الله مقالتك ، والله لو كانت الدنيا لنا باقية، وكنا فيها مخلدين ، إلا أن فراقها في نصرك ومواساتك، لآثرنا الخروج معك على الإقامة فيها.

قال : فدعا له الحسين ثم قال له خيرا(2) »

وذكر ابن طاووس أن الإمام الحسين خطب هذه الخطبة في أصحابه ، وذكر مقالة زهير ثم أضاف قائلا : « وقال الراوي : وقام هلال بن نافع البجلي(3) ، فقال : « والله ما كرهنا لقاء ربنا، وإنا على نياتنا وبصائرنا، نوالي من والاك ونعادي من عاداك ».

قال : وقام بریر بن خضير فقال : والله يا ابن رسول الله لقد من الله بك علينا أن نقاتل بين يديك ، وتقطع فيك أعضاؤنا، ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة » (4) .

وقد ذكر الطبري أن هذه الخطبة قد خطبها الإمام في ذي حسم من منازل الطريق(5).

ص: 487


1- موسوعة كلمات الإمام الحسين (علیه السلام) : 356.
2- تاریخ ابن عساکر : 314 - 315 بتحقيق الشيخ المحمودي ، ورواها الطبراني في المعجم الكبير : 3/ 114، وأبو نعيم في الحلية : 2/ 39.
3- يقول السماوي في إيصار العين : 150 : «هو نافع بن هلال بن نافع الجملي المذحجي وليس هلال بن نافع البجلي». .
4- ابن طاووس، اللهوف في قتل الطفوف: 34 - 35.
5- الطبري : 403/5 - 404.

إلا أن أجواء الخطبة ومفرداتها، والروح الاستشهادية العالية عند أصحاب الحسين (علیه السلام) والتي عبر عنها زهير، ونافع، وبریر، تؤيد كونها من خطب کربلاء.

ومهما يكن من أمر فإن في ثنايا هذه الخطبة جملة من الحقائق جديرة بالتأمل ولابد من التوقف عندها واستلهام الدروس والعبر منها.

أولا : إن هذه الكلمات - وعلى وجازتها - ترسم لنا وبدقة متناهية خارطة الحالة الاجتماعية والسياسية والروحية للمجتمع الإسلامي في عصر الحسين (علیه السلام)، وما حل في هذا المجتمع من مصائب ونكبات حولت مسيرته إلى وجهة أخرى غير الوجهة التي وجهها إليه الإسلام والقرآن ورسالة النبي (صلی الله علیه و اله)وتعاليمه.

والإمام الحسين (علیه السلام) دقيق جدا في رسم صورة هذا التحول و التغير ومن خلال أمثلة حسية يعيشها الإنسان في حياته العملية فيقول (علیه السلام): « إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت، وأدبر معروفها .. فلم يبق منها إلا بابة كصبابة الإناء، وخسیس عیش کالمرعى الوبيل ».

والإمام عندما يتحدث عن الدنيا لا يتحدث عن شيء مبهم ضبابي لا يمكننا تحديد معالمه، وإنما يتحدث عن الدنيا قاصدأ أهلها ممن يجري فيهم سنة التحول والتغير والتبديل.

لقد حصل التغير في هذه الأمة مرتين، وعلى نحوین : تحول و تغير إيجابي ، وتحول و تغير سلبي، والتحول والتغير الأول حصل في عصير الرسول الأكرم(علیه السلام) میریم وعلى يده وبجهاده وقيامه في سبيل الله ، فأخرج الناس بإذن ربه من الظلمات إلى النور، ومن قيم ومفاهيم الجاهلية، إلى قيم ومفاهيم الإسلام، وأخرج هذا الإنسان من وحشيته وعصبيته القبلية، إلى إنسان يعيش قيم الإنسانية والحضارة ويجسد مفاهيم المحبة والتساع والإخاء، فكانت الأمة الإسلامية

ص: 488

والتي يعبر عنها القرآن الكريم: خير أمة أخرجت للناس (1).. لماذا؟ لأنها أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله . .

أما التغير والتحول الثاني ، والذي يتحدث عنه الإمام الحسين (علیه السلام)، وبحسرة ولوعة وأسى هو ذلك التغير السلبي وتلك الردة إلى الجاهلية وعصبيتها وأعرافها وقيمها، والسبب في ذلك كله هو فتنة بني أمية ، التي تحدث عنها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام) ، في أكثر من موضع من خطبه وكلماته، وحذر منها يقول (علیه السلام) : أَلَا إِنَّ أَخْوَفَ الْفِتَنِ عِنْدِی عَلَیكُمْ فِتْنَةُ بَنِی أُمَیةَ، فَآن ها فِتْنَةُ عَمْیاءُ مُظْلِمَةٌ. عَمَّتْ خُطَّتُهَا وَ خَصَّتْ بَلِیتُهَا...تَرِدُ عَلَیكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِیةً وَ قِطَعاً جَاهِلِيَّةً. لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدًى. وَ لاَ عَلَمٌ يُرَى.(2).

والتي يتحدث عنها الإمام الحسين (علیه السلام)بتعبير دقيق ويقول : « تغيرت وتنكرت»، أي أنه نحو تغير أفقده معالمه الأساسية، وشوه صورته ، وتحول إلى مسخ لا يعرفه الناس!

«إن الذي حدث للمسلمين - في هذه الفتنة ، ردة إلى الأعراف والقيم الجاهلية ، لم ينقلب الناس عن الإسلام في هذه الفتنة، ولكن الأعراف والقيم والأفكار الجاهلية ، عادت کما كانت، واستعاد بنو أمية مواقع النفوذ في المجتمع الجديد ، كما كانوا يحتلونها من قبل في الحياة الجاهلية ، بنفس الأفكار والقيم والمفاهيم، وهذا الانحراف المخيف تم خلال نصف قرن فقط بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و اله) »(3)

ص: 489


1- آل عمران : 110، وانظر الآية : 104 من السورة نفسها.
2- نهج البلاغة : 137 ترتیب وفهرت صبحي الصالح، الخطبة 93، وانظر الخطبة : 98، والخطبة : 108، والخطبة 158، والخطبة 166.
3- الآصفي، محمد مهدي : خطب الحسين في كربلاء، المطبوع ضمن دراسات وبحوث مؤتمر الإمام الحسين : 144 - 145.

ومن أهم معالم هذا التغير والانحراف هو إدبار المعروف ( وأدبر معروفها ) .

والمعروف - كمصطلح قرآني - إسم لكل فعل يعرف بالعقل أو الشرع حسنه .

والمنكر : ما ينكر بها، أو هو : گل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه، أو تتوقف في استقباجه واستحسانير العقول ، فتحكم بقبحه الشريعة(1).

وليس المعروف هو الذي يدبر ، وإنما الإنسان والأمم في حالة سقوطها الحضاري هي التي تدبر عن المعروف وتتنكر له، وتقبل على المنكر وتتلبس به .

بل قد يصل الأمر إلى درجة مرضية أخطر بكثير من هذه الحالة وذلك عندما يتحول المعروف إلى منکر، والمنكر إلى معروف ، فينجذب الإنسان نحو المنكر والمنكرات وتميل نفسه إليها كل الميل، ويدبر وينفر عن المعروف وأهله.

وهذا ما حصل في هذه الفتنة المظلمة (فتنة بني أمية ) وفي عصر الحسين (علیه السلام) .

فهذه الأمة التي أقبلت على المعروف في زمن الرسالة ، وكان المعروف ينبع منها ويصدر عنها ويعود إليها، تحول إلى مسخ فتحول المعروف عندها إلى منكر ، والمنكر إلى معروف ، وهو منتهى الفساد ومنتهى السقوط الحضاري.

والإمام الحسين (علیه السلام) يصور هذه الحالة بمثال من واقع حياة الإنسان فيقول : « ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسیس عیش کالمرعى الوبيل » .

لقد أدبر المعروف، بل إن الناس أدبروا عنه ، ولم يبق منه في حياة الإنسان الاجتماعية والسياسية والروحية إلا بعض المظاهر الباهتة والتي هي بمثابة القطرات القليلة من الماء في قعر الإناء والتي يعبر عنها ب« صبابة الإناء» والتي لا تروي الإنسان ولا ترفع عنه الظمأ والعطش أو بمثابة «خسیس عیش کالمرعي الوبيل »

ص: 490


1- انظر مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ، مادة : عرف ونكر.

والخسيس هو : الدنيء، والتافه، والقليل، والوبيل من المرعى هو : الوخيم... وأرض وبيلة : وخيمة المرتع(1).

فلا صبابة الإناء يجري منها الخير لرفع عطش الإنسان وريه، ولا المرعی الوبيل يغني عن الجوع، «كذلك المجتمع الذي داهمته الفتنة يومئذ، كان كالمرعی الذي اكتسحه الوباء ( المرعى الوبيل ) فقد اكتسحت هذه الفتنة كل ما في نفوس الناس من المعروف ، ولم يبق في نفوس الناس من المعروف إلا كما يبقى في الإناء من صبابة بعد ما أريق ما فيها من الماء، لا يروي من ظمأ »(2).

والزمن الذي تنقلب فيه المقاييس، وتتحول فيه القيم إلى أضدادها فيتحول المعروف إلى منکر، والمنكر إلى معروف هو شر الأزمان، والعيش فيه لشر عیش .

وقد أخبر النبي له عن هكذا زمان و حذر منه كما في رواية الإمام الصادق (علیه السلام) قال : قال النبي (صلی الله علیه و اله): كيف بكم إذا فسدت نساؤكم، وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر ؟ فقيل له : ويكون ذلك يا رسول الله ؟ فقال : نعم وشر من ذلك ، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف ؟ فقيل له : يا رسول الله ويكون ذلك ؟ قال : نعم وشر من ذلك ، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منکراً ، والمنكر معروفاً (3)؟

ثانيا : في الفقرة الثانية من خطاب الإمام (علیه السلام)، يشير إلى قضيتين مهمتين في حياة الأمة وعليها تقام كل أمورهم السياسية والاجتماعية والدينية وهما: الحق والباطل!

ص: 491


1- انظر لسان العرب لابن منظور : مادة خسس، ووبل.
2- الآصفي، مصدر سابق : 149.
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة : 122/16 أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجامع الأصول لابن الأثير : 8/ 32 باختلاف يسير رواه عن علي بن أبي طالب(علیه السلام) .

فيقول (علیه السلام) وبتعجب شدید : «ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا يتناهی عنه .

ومن حق الإمام الحسين (علیه السلام) أن يتعجب ، ومن حقه أيضا أن يتألم من ظاهرة إعراض المسلمين عن الحق، وإقبالهم نحو الباطل، لأن الحق يمثل جوهر کل المعتقدات والأفعال والأقوال ، ويمثل كل تعاليم السماء ، وكل ثوابت الدين الإسلامي، والباطل عكس ذلك تماما ، فكيف يساق هؤلاء نحو الباطل ويتركون الحق؟

فعندما نعود إلى القرآن الكريم ونتأمل ونتدبر فيه ، نجد أن المصطلح الحق ومصادیقه مساحة واسعة تشكل كل حياة الإنسان الايمانية والعقائدية والسياسية والاجتماعية ... وتؤطر حياة الإنسان من جميع جوانبها ، فهل يمكن للإنسان وهو يدعي الإيمان والإسلام أن ينسلخ من كل هذه الأطر ويتحول إلى جهة أخرى تتقاطع مع فطرته وعقيدته وإيمانه وإسلامه؟

فالله سبحانه وتعالى هو الحق المطلق : فَذلِکُمُ اللّهُ رَبُّکُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ اِلاَّ الضَّلالُ (1).

وأرسل سبحانه رسله وأنبياءه بالحق : « لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ»(2).

وختم دینه ورسله بالنبي محمد(صلی الله علیه و اله) وأرسله بالحق :«إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا »(3).

وأنزل الله كتبه وقرآنه بالحق : «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ»(4)

ص: 492


1- يونس : 32.
2- الأعراف : 43.
3- البقرة : 119.
4- البقرة : 176.

وأمر نبيه (صلی الله علیه و اله): أن يحكم بين الناس بالحق : «إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ »(1)

وأمر سبحانه وتعالى خلقه وعباده باتباع الحق وأهله :«أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى »(2)

والله سبحانه يحاسب يوم القيامة بالحق : «وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ»(3)

وقد أثنى الله سبحانه على العاملين بالحق والمذعنين له فقال سبحانه :«وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ »(4).

«وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ *وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)»(5)

وهكذا عشرات الآيات القرآنية المباركة التي تتحدث عن الحق وخصائصه وسماته(6).

وهنا نعود لنسأل : إن كان الحق بهذه المثابة في حياة الإنسان، والباطل نقیضه ، فلماذا يترك الإنسان المسلم الحق وينحرف نحو الباطل؟

يرجع أحد الباحثين سبب ذلك إلى : «نضوب الفطرة وجفاف الضمير » فيقول : ولو كانت الفطرة متدفقة في نفوس الناس لم يتوقف الناس عن العمل

ص: 493


1- النساء : 105.
2- يونس : 35.
3- الأعراف : 8
4- الأعراف : 159.
5- المائدة : 83 - 84
6- للتوسع انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، مادة (الحق).

بالحق، وإذا فسدت الفطرة في نفس الإنسان لا يجد الإنسان في نفسه دافعا يدفعه إلى العمل بالحق.

وكذلك الباطل، إن الفطرة إذا كانت سليمة والضمير إذا كان سليما يرفضان الباطل وينكرانه كما ينكر الشيء الحسن الأشياء الرديئة والمكروهة ..(1).

وقد يعود السبب إلى أن الحق في نفسه له لوازم، والالتزام به لابد أن لا ينفك عن الالتزام بلوازمه، ومن لوازم الحق : الانضباط ، والاستقامة، والعصامية ، والتجرد عن الأنا والاذعان ، وهذه اللوازم وغيرها من سمات الحق وتشكل ثقط على الإنسان ونوازعه النفسية، ومصالحه الذاتية، ونفسه الأمارة بالسوء، إلا الإنسان المؤمن الذي يؤثر رضا الله على رضا نفسه ونوازعها.

وفي مقابل ذلك نجد الباطل ولوازمه من الانفلات، والانحراف ، وانعدام التقوى والورع، وایثار المصلحة، وعدم الاذعان والتسليم ... تتناغم مع نفس الإنسان الأمارة بالسوء.

ولهذا وذاك نجد الكثير من الناس يكرهون الحق بحسب تعبير القرآن الكريم :

« وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ »(2).

وعندما يصطدم الحق مع أهوائهم ونوازعهم المادية، ومصالحهم الدنيوية ، يعرضون عنه، أو يكتمونه أو يلبسون باطلهم لبوس الحق ، والله سبحانه وتعالى يشير إلى ذلك في كتابه فيقول :«يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)»(3)

ص: 494


1- الآصفي : 149 مصدر سابق.
2- المؤمنون: 4.
3- آل عمران : 71.

ويقول سبحانه : «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ»(1)

ومن حکم أمير المؤمنين(علیه السلام) ، ما يشير إلى ثقل الحق، وخفة الباطل فيقول :

« إِنَّ اَلْحَقَّ ثَقِیلٌ مَرِیءٌ وَ إِنَّ اَلْبَاطِلَ خَفِیفٌ وَبِیءٌ»(2).

وقد يكون هنالك سبب ثالث لاعراض الناس عن الحق ، وميلهم إلى الباطل ، وهذا السبب هو : تراكم الشبهات من جهة ، وفقدان البصيرة والوعي والنور والهدي عند الفتنة من جهة ثانية.

والإمام أمير المؤمنين (علیه السلام)، في بعض كلماته في نهج البلاغة يشخص لنا هذا السبب بشكل واضح وصريح فيقول (علیه السلام) : « وَ إِنَّمَا سُمِّیَتِ اَلشُّبْهَهُ شُبْهَهً لِأَنَّهَا تُشْبِهُ اَلْحَقَّ فَأَمَّا أَوْلِیَاءُ اَللَّهِ فَضِیَاؤُهُمْ فِیهَا اَلْیَقِینُ وَ دَلِیلُهُمْ سَمْتُ اَلْهُدَی وَ أَمَّا أَعْدَاءُ اَللَّهِ فَدُعَاؤُهُمْ فِیهَا اَلضَّلاَلُ وَ دَلِیلُهُمُ اَلْعَمَی...»(3)

ومن خصائص الباطل تلبسه بلباس الحق فيشبه على الناس، وتختلط عليهم الأمور، وتتوارد عليهم الشبهات، وهنا يأتي دور الوعي والبصيرة والإيمان ، فمن فقد الوعي والبصيرة أخذته الشبهات إلى الباطل، ومن امتلك الوعي والبصيرة واليقين والهدي بقي ثابتة على سمت الحق ولا تؤثر عليه شبهات المبطلين فضلا عن أن تعرفه عن موقفه وثباته.

ولو أردنا أن نلتمس شواهد هذا الأمر من التاريخ لوجدنا في حرب صفين خير شاهد على ذلك، فنجد شبهات معاوية وعمرو بن العاص وأضرابهم من جهة ،

ص: 495


1- المؤمنون : 71.
2- نهج البلاغة، الحكمة 376
3- نهج البلاغة، الخطبة 38.

وممن أخذت هذه الشبهات بتلابيبهم حتى أوردتهم الباطل من جهة ثانية، ونجد ثلة مؤمنة ثابتة على الحق من أمثال عمار بن یاسر ، ومالك الأشتر، وهاشم المرقال ... من جهة ثالثة.

وفتنة بني أُمية التي تحدثنا عنها سابقاً أردت الكثير من الناس في بحر لجي من الظلمات، حتى قذفت بهم إلى ساحل الباطل، سائرين في ركابه ، ومدافعين عنه .

ويشخص لنا أمير المؤمنين (علیه السلام)معالم هذه الفتنة زمن معاوية بن أبي سفيان ، فيقول : في كتاب له (علیه السلام)إلى معاوية :

وَ أَردَيتَ جِيلًا مِنَ النّاسِ كَثِيراً خَدَعتَهُم بِغَيّكَ وَ أَلقَيتَهُم فِي مَوجِ بَحرِكَ تَغشَاهُمُ الظّلُمَاتُ وَ تَتَلَاطَمُ بِهِمُ الشّبُهَاتُ فَجَازُوا عَن وِجهَتِهِم وَ نَكَصُوا عَلَي أَعقَابِهِم... إِلَّا مَن۟ فَاءَ مِن۟ أَه۟لِ ال۟بَصَائِرِ فَإِنَّهُم۟ فَارَقُوكَ بَع۟دَ مَع۟رِفَتِكَ وَهَرَبُوا إِلَى اللهِ مِن۟ مُوَازَرَتِكَ»(1).

وبقيت فتنة بني أُمية تلاحق الناس زمن الحسين (علیه السلام)، وبدرجة أشد، ونحو أشمل، فترك الناس الحق ومن يمثله ويقوم من أجله وهو الإمام الحسين (علیه السلام)والثلة المؤمنة من أهل بيته وأصحابه من أهل البصائر ، وانحاز الكثير منهم إلى باطل بنی أُمية وظلمهم وانتهاكهم لحرمات الله ، بل إنهم سلوا سيوف البغي والعدوان على الحق وأهله حتى قتلوهم في كربلاء .

وكلمات أهل البيت (علیهم السلام)يشبه بعضها البعض الآخر، لأنهم يأخذون من معين واحد، فهنا يقول الإمام الحسين (علیه السلام): «أما ترون إلى الحق لا يعمل به ، والباطل لا يتناهی عنه ...» وقبله بعقدين من الزمن وقف أمير المؤمنين(علیه السلام) ليحذر المسلمين من أن يوفروا للفتنة أجواء النمو والانتشار من خلال تخاذلهم عن الحق، وعدم القيام من أجله ونصرته، وعدم تحمل المسؤولية الملقاة على عاتقهم.

ص: 496


1- نهج البلاغة، ترتیب صبحي الصالح : 406

فيقول (علیه السلام):

«أَيُّهَا النَّاسُ لَو۟ لَم۟ تَتَخَاذَلُوا عَن۟ نَص۟ر ال۟حَق وَ لَم۟ تَهِنُوا عَن۟ تَو۟هِينِ ال۟بَاطِلِ لَم۟ يَط۟مَع۟ فِيكُم۟ مَن۟ لَي۟سَ مِث۟لَكُم۟ وَلَم۟ يَق۟وَ مَن۟ قَوِيَ عَلَي۟كُم لَکِنَّكُم تِه۟تُم۟ مَتَاهَ بَنِي إِس۟رَائِيلَ وَلَعَم۟رِي لَیُضَعَّفَنَّ لَكُمُ التّٙيهُ مِن۟ بَع۟دِی أَض۟عَافاً بِمَا خَلَّف۟تُمُ ال۟حَقَّ وَرَاءَ ظُهُورِكُم۟ وَقَطَع۟تُمُ الأَد۟نَى وَوَصَل۟تُمُ ال۟أَب۟عَدَ»(1).

ثالثاً : وعندما نتأمل في المقطع الثالث من كلام الإمام الحسين (علیه السلام)والذي يقول فيه : «لیرغب المؤمن في لقاء الله محقاً ، فإني لا أرى الموت إلّا شهادة (سعادة ) (2) والحياة مع الظالمين إلّا برما».

نجد الإمام (علیه السلام)يؤكد أن المؤمن ينبغي له أن يبتغي طريق الحق، وإن دنیا لا يعمل فيها بالحق ولا يتناهي فيها عن الباطل، لدنيا قاحلة ليس فيها ما يجذب المؤمن إليها، وكل ما فيها من الذات و متاع وشهوات لا تساوي عند أهل الإيمان والحق شيئاً يذكر .

وقد نجد شبيهاً لكلام الإمام الحسين (علیه السلام)فی كلمات وخطب أمير المؤمنين (علیه السلام)فعندما بلغه غزو جیش الأنبار بجيش معاوية ، وما ارتكب هذا الجيش من جرائم بحق الناس الأبرياء، من قتل ونهب ، قام(علیه السلام) يستنهض الناس ويذكرهم بالجهاد ونصرة الحق ، فقال(علیه السلام) : «... وَلَقَد۟ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِن۟هُم۟ كَانَ يَد۟خُلُ عَلَى ال۟مَر۟أَةِ المُس۟لِمَةِ وَال۟أُخ۟رَى ال۟مُعَاهِدَةِ فَيَن۟تَزِعُ حِج۟لَهَا وَقُلُبَهَا ... ثُمَّ ان۟صَرَفُوا وَافِرِینَ مَا نَالَ رَجُلاً مِن۟هُم۟ كَل۟مٌ وَلَا أُرِيقَ لَهُم۟ دَمٌ فَلَو۟ أَنَّ ام۟رَأً مُس۟لِماً مَاتَ مِن۟ بَع۟دِ هَذَا أَسَفاً مَا کَانَ بِهِ مَلُوماً بَل۟ كَانَ بِهِ عِن۟دِي جَدِيراً فَيَا عَجَباً! عَجَباً - وَاللهِ - یُمِيتُ القَل۟بَ وَيَج۟لِبُ ال۟هَمَّ مِنَ اج۟تِمَاعِ هَؤُلَاءِ القَو۟مِ عَلَى بَاطِلِهِم۟ وَتَفَرُّقِكُم۟ عَن۟ حَقكُم۟...»(3).

ص: 497


1- نهج البلاغة، الخطبة 166
2- ورد في البحار وجملة من كتب المقاتل بدل «الشهادة» كلمة «سعادة»
3- نهج البلاغة، الخطبة 27 ترتیب صبحي الصالح : 69 - 70

فالإعراض عن الحق و ترکه ، والإقبال على الباطل والعمل به، مما يؤلم الإمام الحسين عليه كما آلم من قبل والده أمير المؤمنين ومن معه من دعاة الحق والعدل .

ولا ينبغي أن يفهم كلام الحسين (علیه السلام)خطأً بأنها حالة يأس من الحياة بعدما أُحيط به في كربلاء ولم يجد أمامه إلّا الموت والقتل فأطلق كلمة : «لا أرى الموت إلّا سعادة ... ».

فالحسين(علیه السلام) قد انطلق في نهضته وهو يحدوه الأمل الكبير في إصلاح أمر أُمة جده رسول الله (صلی الله علیه و اله)، ومثلت نهضته المباركة وجهة الحق في صراعه المرير في وجه الباطل، ولا تمثل حركته المباركة حالة نفسية ، أو انفعالات وقتية آنية ، وإنما تمثل حركة ثورية، وخطاً جهادياً في وجه الظلم والظالمين « الذين اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دولاً، والفاسقين حزبا » فكيف تكون حياة الإنسان المؤمن سعيدة مع هؤلاء لذا زهد الحسين(علیه السلام) بمثل هكذا حياة ، كازهد بها من قبله والده أمير المؤمنين (علیه السلام).

والذي يلاحظ في هذا المقطع من كلام الإمام(علیه السلام) هو «الرغبة في لقاء الله »، وهذه الرغبة في لقاء الله سبحانه قد تكررت من الإمام الحسين قولاً وعملاً من خلال مسيرته نحو الشهادة ، ففي أول خطبته له قبل خروجه من مكة دعا الناس للخروج معه ولكن بشرط واحد وهو أن يكونوا موطنين أنفسهم للقاء الله تعالى ، باذلين مهجهم وأرواحهم في سبيله تعالى، ومن أجل إعلاء كلمته ونصرة دينه . فقال (علیه السلام): خط الموت على ولد آدم ... إلى قوله ألا من كان باذلاً فينا مهجته ، موطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا...(1).

ص: 498


1- المقرم، مقتل الحسين : 166

لقد كان الإمام الحسين (علیه السلام)موطناً على لقاء الله نفسه ، راحلاً إلى ربه بهذا اليقين ، وهذه الثقة العالية ، وكان يريد من الذين يخرجون معه أن يكونوا بهذه المواصفات الحسينية حتى يحظوا بلقاء الله ورضوانه ورحمته.

ولم يكن الموت يشكل هاجساً مخوفاً للإمام الحسين(علیه السلام) وقد مرّ بنا کلمات الذين كانوا يحاولون ثني الإمام عن مسيرته من خلال تخويفه بالقتل والموت ، وكان الإمام يجيبهم برباطة جأش ، وقلب مطمئن : أفبالموت تخوفني، وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ثم يتمثل بتلك الأبيات المعبرة :

سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتي

إذا ما نَوى حقَّاً وجاهدَ مسلماً

و آسى الرجالَ الصالحينَ بنفسِهِ

وفارقَ مثبوراً يَغَشُّ ويُرغما

فإن عِشتُ لم أندم وإن مُتّ لم أُلَم

كفي بِكَ ذُلّاً أن تعيشَ وترغما(1)

وفي نص حواري يذكره الطبري وغيره من المؤرخين جرى في بعض منازل الطريق بين الإمام الحسين (علیه السلام)وولده علي الأكبر (علیه السلام)ما يؤكد هذا المعنى الذي أشرنا إليه في طريقة تعامل الإمام الحسين مع الموت.

روی أبو مخنف ، عمن حدّثه عن عقبة بن سمعان قال :

فلما ارتحلنا من قصر بني مقاتل وسرنا ساعةً خفق الحسين برأسه خَفقة، ثمّ انتبه وهو يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، والحمد لله ربّ العالمين ؛ قال :ففعل ذلك مرّتين أو ثلاثاً ، قال : فأقبل إليه ابنهُ عليّ بن الحسين على فرس له فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله ربّ العالمين ، يا أبت، جُعلت فداك ! مِمَّ حمدتَ اللهَ واسترجعت ؟ قال : يا بنيّ، إني خَفقتُ برأسي خَفقةً فعنّ لي فارس على فرس

ص: 499


1- الطبري : 5 / 404

فقال : القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم ، فعلمتُ أنها أنفسنا نُعيت إلينا، قال له : يا أبتِ، لا أراك الله سوءاً، ألسنا على الحقّ ! قال : بلى والذي إليه مرجع العباد ، قال : يا أبت ، إذاً لا نبالي ؛ نموت محقّين ؛ فقال له : جزاك الله من وَلَدٍ خيرَ ما جَزى وَلَداً عن والده(1).

فلا يشكل الموت هاجساً مخوفاً لدى الإمام الحسين (علیه السلام)وهو على يقين بأنه على الحق، ولا يبالي الحسين ولا ولده الأكبر أن يموتا محقَّين.

« إنّ الموت نافذة إلى لقاء الله ، ترتفع به الحجب عن قلوب المؤمنين ، فيلقون من جلال الله وجماله ما لا يلقونه في الدنيا ، وفي هذا اللقاء كل سعادة المؤمن ولذّته في الآخرة، وأين لذة الجنة ونعيمها من لذّة لقاء الله فيالآخرة »(2).

المبحث الثاني: مبدأ الإمام الحسين في القتال

مما لا شك فيه تاريخياً أن الحرب التي شنتها بنو أُمية على الإمام الحسين(علیه السلام) والثلة المؤمنة من أهل بيته وأصحابه رضي الله عنهم في كربلاء، لم تكن حرباً عادلة، ولم تكن تمتلك أي أسباب تبررها كذلك لم تكن القوتان المتحاربتان متكافئتين من حيث العدد والعدة والمدد ، فنجد في جبهة قوة صغيرة في عددها لا يتجاوز عدد أفرادها المائة والنيف ، وفي جبهة مقابلة نجد قوة كبيرة في عددها ، مكتملة في تجهيزها، وتمتلك المدد الكافي من خلفها.

ص: 500


1- المصدر نفسه : 407/5 - 408
2- الآصفي : 151 مصدر سابق

ومما لا شك فيه أيضاً أن الذين خرجوا لقتال الحسين في كربلاء، كانوا من المسلمين في الغالب الأعم، فخرج بعضهم مع سبق الإصرار عناداً للحق وأهله ، وخرج البعض الآخر - وهم الأغلبية - قهراً وقسراً وتخويفاً ، أو طمعاً في بعض حطام الدنيا.

ومن السمات الواضحة في حركة الإمام الحسين (علیه السلام)، أنها حركة تبتغي الاصلاح في وسط الأُمة، ولم تكن حركة بغي وعدوان، وقد أوضح الإمام الحسين(علیه السلام) ، وفي أول بیان سیاسي له أهداف حرکته ببیان واضح لا لبسَ فيه حين قال : «... وَأنّي لَم أَخرُج أَشِراً، ولا بَطراً، ولا مُفسِداً، ولا ظالِماً ، وإنّما خَرَجتُ لِطَلبِ الإصلاح في أُمّةِ جدّي ...»(1).

فالحسين(علیه السلام) داعية إصلاح في أُمة جدّه، وهؤلاء الذين خرجوا لقتاله ينتمون إلى أُمة جده (صلی الله علیه و اله)وكان يبتغي اصلاح أُمورهم من جميع جوانبها و بالطرق السلمية والحوار البناء وإقامة الحجج، فكان شعاره ومبدؤه(علیه السلام) ان لا يبدأهم بقتال مادام هنالك مجال للسلم والحوار والنصح.

والشواهد التاريخية على سلمية حركة الحسين (علیه السلام)كثيرة وقد مرّ بنا بعضها سابقاً .

فعندما التقى الإمام الحسين (علیه السلام)بجيش الحرّ بن یزید، ووصلت قناعة زهير بن القين بالمبادرة إلى قتال الحرّ ومن معه حين قال للحسين(علیه السلام) : «إنّ قتال هؤلاء أهون من قتال من يأتينا من بعدهم ، فلعمري ليأتينا من بَعدُ مَن ترى ما لا قبل لنا به ، فقال له الحسين (علیه السلام): ما كنت لأبدأهم بقتال »(2).

ص: 501


1- بحار الأنوار : 44 / 329 ، والمناقب لابن شهر آشوب : 89/4 ، وفتوح ابن اعثم : 23/5
2- المصدر نفسه : 424/5

وفي اليوم العاشر من المحرم ، وقبل أن يبدأ القتال جاء شمر ونادى بأعلى صوته :

یا حسین، استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة !!

فقال له الحسين(علیه السلام) : أنتَ أولى بها صلياً.

فقال مسلم بن عوسجة : يابن رسول الله (صلی الله علیه و اله)، جُعلتُ فداك ، إلّا أرميه بسهم ...

فالفاسق من أعظم الجبارين ؟

فقال له الحسين (علیه السلام): لا ترمه، فإني أكره أن أبدأهم(1).

وبقي الحسين (علیه السلام)ملتزماً بهذا المبدأ التبيل إلى أن وضع عمر بن سعد حداً لذلك عندما زحف بجيشه نحو الحسين ووضع سهمه في كبد قوسه ، ثمّ رمی فقال : اشهدوا لي عند الأمير أني أول من رمی(2). ثمّ رمى الناس، فلم يبق من أصحاب الحسين أحد إلّا أصابه من سهامهم(3). عندها قال الحسين لأصحابه : قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لابد منه، فإنّ هذه السهام رسل القوم اليكم(4).

هذا هو مبدأ الحسين (علیه السلام)الذي قوبل بنزعة حربية طاغية، ورغبة ملحّة بتعجيل القتال، الذي يصفه ابن سعد للحرّ عندما سأله : «أَمُقاتل أنت هذا الرجل ؟ » فأجابه ابن سعد : «إي والله ، أيسره أن تسقط الرؤوسُ وتطيح الأيدي»(5).

ص: 502


1- الطبري : 5 / 424
2- الطبري : 5/ 429
3- المقرم: 237 عن مقتل العوالم : 84
4- اللهوف: 56
5- الطبري : 5/ 427

ولم يكن إحجام الحسين (علیه السلام)عن البدء بقتال القوم ناشئاً عن خوف أو ضعف أو حب في الحياة .. فكل خطب الحسين وكلماته ومواقفه العملية إلى حين استشهاده تؤكد على أن الحسين كان موطناً نفسه على الموت والشهادة وفي ذلك لقاء الله سبحانه وهو ما يتطلع إليه الحسین شوقاً ولهفة.

ومن أعظم جنايات التاريخ أن يأتي بعض علماء السوء من أمثال ابن العربي وبعد عدة قرون من واقعة الطف ليبحث عن مبرر ليزيد في قتله للحسين وأهل بيته، فلا يجد إلّا أن يصف الحسين بالبغي والعدوان وأنه قتل بسيف جده لأنه خرج على إمام زمانه (یزید) بعد أن تمت البيعة له ، وكملت شروط الخلافة باجماع أهل الحل والعقد ولم يظهر منه ما يشينه ويزري(1).

وجاءت من بعد ابن العربي وبعد قرون أقلام أموية أُخرى لتردد نفس الأُطروحة الأموية ...(2) .

قاتل الله التعصب الأعمى الذي تلبس به هؤلاء حين وصفوا سبط رسول الله(صلی الله علیه و اله) وسيد شباب أهل الجنة بالبغي والعدوان مستندين إلى حديث نسبه إلى رسول الله (صلی الله علیه و اله)كذباً وبهتاناً(3) .

لقد أعمى التعصب أعينهم عن يزيد وبني أُمية وانتهاكهم لكل الحرمات والمقدسات الإسلامية ، وأعرضوا عن عشرات الأحاديث النبوية التي تنبئ عن فتنة بني أُمية عامة ويزيد خاصة (4).

ص: 503


1- المقرم : 28 وانظر نص عبارة أبي بكر بن العربي الأندلسي في كتابه العواصم من القواصم : 184 وما بعدها من طبعة السنة الثانية ، (1420 ه - 2000م) بتحقيق : محب الدين الخطيب . وتأمل في كلمات محقق الكتاب وما نقله من كلمات ابن تيمية
2- انظر كتاب الدولة الأموية للخضري : 327
3- انظر مقتل الحسين للمقرم: 28 في الهامش
4- انظر مقتل الحسين للمقرم: 28 في الهامش

المبحث الثالث: مبدأ الحوار الحسيني في كربلاء من خلال خطب الإمام الحسين وبعض أنصاره

اشارة

يعتبر مبدأ الحوار من أول المبادئ التي صاحبت الإنسان في أصل وجوده وخلقته ، بل إن الحوار قد سبق خلق الإنسان،عندما شاء الله سبحانه أن يخلق الإنسان ليكون ( خليفته في أرضه ) أعلن ذلك للملائكة المسبحين حول عرشه ، فبدأ الحوار منهم عن طبيعة هذا المخلوق وعن دوره وعن نوازعه وسلبياته وايجابياته .

وحدثهم الله عن ذلك كله في ما اختصره القرآن من القصة، وختم الحوار من موقع الوقوف بهم عند حدود المعرفة التي يملكونها : «إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ»(1) .

واستمر الحوار مع مسيرة البشرية والتي تجسدت آنذاك في أدم وذريته ، ويحدثنا القرآن عن الحوار الذي جرى بين ولدي آدم ( قابيل وهابيل )(2) وكيف تمرد قابيل على إرادة الله ومشيئته في قبول قربان أخيه ورفض قربانه ، ولم ينفع معه حوار أخيه المعبّٙر، فاتجه إلى أُسلوب البغي والعدوان فأقدم على قتل أخيه ، ثمّ ندم على ذلك الفعل الشنيع.

وجاء أنبياء الله ورسله مبشرين ومنذرين، وكان الحوار هو الأُسلوب الذي اتخذوه لهداية البشرية، فكانت الكلمة تقابل الكلمة العنيفة ، والموقف المتساع يواجه بموقف العنف ، والحجة والبراهين تقابل باللجاجة والسفاهة .

ص: 504


1- البقرة : 30، وانظر الحوار في القرآن للسيد محمد حسين فضل الله ، ط. دار الملاك ، الطبعة الخامسة، (1996م - 1417 ه)
2- انظر الآيات: 27 إلى 31 من سورة المائدة، والمصدر السابق : 331 - 335

وصبر الأنبياء من موقع الوعي الرسالى لطبيعة المرحلة، وتحملوا المشاق والمكاره من أجل إخراج الإنسان من الظلمات إلى النور، ومن الكفر والضلالة ، إلى الإيمان والهداية.

وشاءت مشيئة الله سبحانه وتعالى أن يكون الإسلام خاتمة دينه ، والقرآن خاتمة كتبه ، والنبي (محمد) بن عبد الله(علیه السلام) خاتم أنبيائه .

فكان الإسلام والقرآن والنبي (علیه السلام)وتعاليمه السماوية ، تحيط بالإنسان، وتؤطرحياته من جميع جوانبها العقيدية والتشريعية والأخلاقية.

ولم يكن الإسلام في مقابل الديانات السماوية السابقة منغلقاً على نفسه ، وإنما كان دین الحوار من خلال القرآن الكريم، ومن خلال النبي الأكرم(صلی الله علیه و اله) المجسد لتعاليمه وتوجيهاته ، وفتح باب الحوار مع المشركين والوثنيين، والملحدين ، فضلاً عن الحوار مع أهل الكتاب.

وفي خصوص الحوار مع أهل الكتاب ، فقد رسم القرآن منهجاً عريضاً لهذا الحوار يرتكز على قاعدة الجدال بالتي هي أحسن، واستثنى الظالمين منهم.

قال تعالى : «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (1).

وقال تعالى : «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ»(2).

ص: 505


1- العنكبوت : 46. وانظر سورة البقرة آية : 136
2- آل عمران : 64

«و تلتقي هذه الآية بالآية السابقة ، في طرح القضايا المشتركة بين الأديان ، وهي التوحيد الخالص، الذي لا يخالطه الشرك الظاهر المتمثل في اعتقاد تعدد الآلهة أو في عبادة الأوثان، أو الشرك الخفي الذي يتجسد في إطاعة الناس بعضهم بعضاً من دون الله ، وتفضيل طاعتهم على طاعته ...».

ورغم عدم استجابة أهل الكتاب، لا سيما اليهود منهم لهذه الدعوة المخلصة من النبي (صلی الله علیه و اله)إلّا أنه(صلی الله علیه و اله) لم يترك هذا الأُسلوب الإسلامي في الحوار وفي العمل، الذي يسعى إلى القناعات من أقرب الطرق(1).

وبعد عصر الرسول(صلی الله علیه و اله) استمر مبدأ الحوار ولم تغلق أبوابه ، فحاور المسلمون بعضهم البعض، واستمر الحوار مع أتباع الديانات الأُخرى، وتوسع الحوار بتوسع رقعة الدولة الإسلامية ، ليشمل شعوباً يختلفون معهم في عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم و متبنياتهم الفكرية والعقائدية فكانت الحاجة إلى الحوار أكثر وأشمل من ذي قبل.

وفي عهد خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)، والتي كانت بمجملها أياماً عصيبة، عصفة فيها الفتن من جميع الجوانب، من فتنة الناكثين لبيعته، إلى فتنة معاوية وبني أُمية، إلى فتنة الخوارج وما رافقها من سفك دماء الأبرياء من المسلمين ... مع كل هذه المحن والمصائب ورغم علم أمير المؤمنين(علیه السلام) ويقينه القاطع بأنه على الحق، والحق معه يدور حيث ما دار ، إلّا أنه لم يترك مبدأ الحوار مع جميع هذه الطوائف المناوئة له لعلهم يعودون إلى رشدهم، ويذعنون للحق ويتركون الباطل، ولا يلبسون على المسلمين، ولا يوقعونهم في الفتن، إلّا أن دعواته وحواراته كانت تواجه في أغلب الأحيان بعنف مسلح و بطريقة انفعالية بعيدة عن تعاليم الدين الإسلامي وقيمه ومبدأ الحوار الذي وضع منهجه القرآن الكريم، وسار بهديه الرسول الأكرم (صلی الله علیه و اله).

ص: 506


1- الحوار في القرآن : 15 مرجع سابق
* خطبة الإمام الحسين الأُولى يوم عاشوراء :

عندما نعود إلى نهضة الإمام الحسين (علیه السلام)ومن حين خروجه من المدينة رافضاً بيعة يزيد وإلى اليوم العاشر من المحرم و قبل وقوع التصدي القتالي ... ونطالع بدقة المحطات التي توقف عندها الإمام الحسين (علیه السلام)سواء في مكة أو في منازل الطريق ، وإلى حين وصوله إلى كربلاء، نجد أن هذه النهضة المباركة، اتسمت بمبدأ الحوار السياسي والمفاوضات ذات المضمون السياسي، وانتهت بما إنتهت إليه من تصدي قتالي، بعد أن استنفذت كل الحوارات السياسية، وجوبهت من الطرف الآخر بالرفض والعنف القتالي.

وقد مرت بنا سابقاً وفي ثنايا أبحاث هذه الدراسة مجموعة كبيرة من النصوص التاريخية حول هذه الحوارات والنتائج التي انتهت إليها ، ابتداءً من الحوار الساخن بين الإمام الحسين (علیه السلام)ووالي المدينة الوليد ، وانتهاءً بجوار الحسين (علیه السلام)مع عمر بن سعد بن أبي وقاص وما انتهى إليه هذا الحوار.

وهنا نتوقف عند الحوارات التي جرت يوم العاشر من المحرم، قبل بدء القتال ، وقد سجلت هذه الحوارات ضمن الوثائق والنصوص التاريخية ليوم العاشر من المحرم، وهي وثائق مهمة تعكس مدى حرص الإمام الحسين(علیه السلام) على مبدأ الحوار وإقامة الحجج والبراهين من جهة، وحالة التردي والانهيار الأخلاقي الذي وصلت إليها الأُمة من جهة أُخرى.

روى الطبري عن أبي مخنف ... قال : «... وكان مع الحسين فرس له يُدعى لاحقاً حمل عليه ابنه عليّ بن الحسين ، قال : فلما دنا منه القوم عاد براحلته فركبها، ثمّ نادى بأعلى صوته دعاءً يُسمِع جُلَّ الناس : أيها الناس ؛ اسمعوا قولي، ولا تُعجلوني حتى أعظكم بما هو حق لكم عليَّ، وحتى أعتذر إليكم من مَقدمي عليكم،

ص: 507

فإن قبلتم عذري، وصدّقتم قولي ، وأعطيتموني النَّصف ، کنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم علىَّ سبيل، وإن لم تقبلوا منّي العذر ، ولم تُعطوا النَّصف من أنفسكم «فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ»(1) ؛ «إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ»(2) ... [ثمّ] حمد الله وأثنى عليه ، وذكر الله بما هو أهله، وصلّى على محمد(صلی الله علیه و اله) وعلى ملائكته وأنبيائه ، فذكر من ذلك ما الله أعلم وما لا يحصى ذكره . قال : فوالله ما سمعت متکلّماً قط قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه ؛ثمّ قال : أمّا بعد، فانسبوني فانظروا مَن أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا؛ هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي ؟ ألستُ ابن بنت نبيكم (صلی الله علیه و اله)وابن وصيّه وابن عمّه، وأوّل المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربّه ! أو ليس حمزة سيد الشهداء عمّ أبي ! أو ليس جعفر الشهيد الطيّار ذو الجناحين عمّي! أو لم يبلغكم قول مستفیض فیکم : إنّ رسول الله صلّى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لي ولأخي : « هذان سیّدا شباب أهل الجنة » ! فإن صدّقتموني بما أقول - وهو الحقّ - فوالله ما تعمّدت كذباً منذ علمتُ أنّ الله يمقت عليه أهله ، ويضرّ به من اختلقه ، وإن كذّبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم ، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، أو أبا سعيد الخدري، أو سهل بن سعد الساعدي، أو زيد بن أرقم، أو أنس بن مالك ؛ يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله(صلی الله علیه و اله) لي ولأخي. أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي! فقال له شمر بن ذي الجوشن : هو يعبد الله على حرفٍ إن كان يدري ما يقول؟ فقال له حبیب بن مظاهر : والله إني لأراك تعبُد الله على

ص: 508


1- يونس: 81
2- الأعراف: 196

سبعين حرفاً ، وأنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول : قد طبع اللهُ على قلبك ؛ ثمّ قال لهم الحسين : فإن کنتم في شكٍّ من هذا القول أفتشكّون أثراً ما أنّي ابن بنت نبيّكم ! فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبّي غيري منكم ولا من غيركم، أنا ابن بنت نبيكم خاصة. أخبروني ، أتطلبوني بقتيل منكم قتلته ، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص من جراحة ؟ قال : فأخذوا لا يكلمونه ، قال : فنادى : يا شبث بن ربعيّ، ويا حجّار بن أبجر ، ويا قيس بن الأشعث، ویا یزید بن الحارث، ألم تكتبوا إليَّ أن قد أينعَت الثمار، واخضّر الجَناب ، وطمَّت الجام، وإنما تقدم على جند لك مجنَّد، فأقبل! قالوا له : لم نفعل ؛ فقال : سبحان الله ! بلى والله، لقد فعلتم؛ ثمّ قال : أيها الناس، إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض ؛ قال : فقال له قيس بن الأشعث : أو لا تنزل على حكم بني عمّك ، فإنهم لن يروك إلّا ما تحب ، ولن يصل إليك منهم مکروه؟ فقال الحسين : أنت أخو أخيك ، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل : لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقرُ إقرار العبيد عباد الله ، إني عُذتُ بربّي وربّكم أن ترجمون، أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متکبّر لا يؤمن بيوم الحساب ، قال : ثمّ إنه أناخ راحلته، وأمر عقبة بن سمعان فعقلها، وأقبلوا يزحفون نحوه(1).

هذه هي الخطبة الأُولى للإمام الحسين في يوم عاشوراء وتليها خطبة ثانية وما بين هاتين الخطبتين هنالك خطب وكلمات قصار لأصحاب الحسين سوف نذكرها بعد وقفة تأمل في هذه الخطبة.

ص: 509


1- الطبري : 5 / 424 - 426، ومقتل الحسين لأبي مخنف : 206 - 209 بتحقيق الشيخ اليوسفي. والكامل في التاريخ : 561/2 - 562
تأملات في خطبة الإمام الحسين الأُولى :

لقد اتسمت هذه الخطبة كغيرها من خطب الحسين (علیه السلام)بالوضوح في المعاني والدلالات، وتضمنت مجموعة كبيرة من الحجج والأدلة والبراهين ينبغي التوقف عندها والتأمل فيها.

أولاً : لقد كانت وجهة الحسين (علیه السلام)عند خروجه من مكة ( الكوفة ) وكان ينبغي لهذا الجمع الكبير الذي خرج لقتاله في كربلاء، أن يخرج لاستقباله في الكوفة، إلّا أن تحول الأوضاع والأحوال وإدبار الناس عن الحق، وإقبالهم نحو الباطل، حالا دون ذلك.

ولهذا وجد الحسين (علیه السلام)في تجمع هؤلاء القوم الوضع الأمثل لإقامة الحجة عليهم قبل القتال ، فإذا تكلّم الحسين بذلك الوضع، فإن بإمكان جيش الخلافة كلّه أن يسمع كلامه، فالجيش يحيط به من كل جانب، وبحسب تعبير الرواية : « فلما دنا منه القوم».

ثمّ إنه(علیه السلام) اتخذ من راحلته منبراً لخطابه ليراه الجميع ، ووظف صوته الجهوري ، الذي توارثه من أبيه أمير المؤمنين «ثمّ نادى بأعلى صوته دعاءً يُسمِع جُلَّ

الناس».

«فكأن الله سبحانه وتعالى قد جمعهم على هذه الصورة ليمكّن الإمام الحسين من إقامة الحجة عليهم تمهيداً لإنزال العذاب بهم»(1).

ثانياً : لقد انطلق الإمام الحسين في خطابه من أُمور معلومة واضحة للجميع وخاصة أهل الكوفة، فكل مسلم ينطق بالشهادتين ، ويقرُّ لمحمد(صلی الله علیه و اله) بالرسالة

ص: 510


1- للتوسع انظر مقتل أبي مخنف هامش صفحة : 207 - 208 بتحقيق الشيخ اليوسفي

والنبوة ، يعرف صلة الحسين النسبية بصاحب الرسالة ، وكل مسلم يعرف جيداً أن الحسين (علیه السلام)ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و اله)وابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، ويعرفون صلة القرابة التي تجمع الحسين(علیه السلام) مع أوائل شهداء الإسلام من أمثال حمزة سيد الشهداء وجعفر الطيار (علیهما السلام).

والذين خرجوا لقتال الحسين (علیه السلام)كانوا ينتسبون إلى القبائل العربية التي تعتز بسلسلة الأنساب جيداً، وأغلب هؤلاء إن لم يكن كلّهم من الكوفة وعاش الكثير منهم فترة خلافة وحكومة أمير المؤمنين في الكوفة ، والكثير منهم قاتل إلى جانب علي في الجمل وصفين والنهروان ... فكيف يخفى عليهم شخصية من خرجوا

لقتاله ؟ فلو أنهم أنصفوا أنفسهم لما أقدموا على ما أقدموا عليه.

ثالثاً : لقد كان بين هؤلاء الذين خرجوا لقتال الحسين (علیه السلام)من الصحابة ، ممن سمعوا حديث رسول الله(صلی الله علیه و اله) عن طريق الصحابة من أمثال : جابر الأنصاري ، وأبي سعيد الخدري ، وسهل الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، وقد روی هؤلاء وغيرهم حديث رسول الله بحق الحسنين حيث قال : « هذان سیدا شباب أهل الجنة».

فإذا كان من بين هؤلاء من يكذب الحسين في مقولته - وهي الحق - فيمكنه أن يرجع إلى هؤلاء وغيرهم ممن سمعوا هذا الحديث وغيره من رسول الله (صلی الله علیه و اله)ليخبروه بما سمعوا منه (صلی الله علیه و اله).

ثمّ يختتم الحسين هذه الفقرة من خطبته - قبل أن يقاطعه الشمر - وباستغراب وتعجب شدید : «أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي!».

نعم إنه لأمر عجیب، أن يقدم إنسان مسلم يصلّي ويصوم ويبتغي الجنة من عمله، على قتل ابن بنت رسول الله ، وابن وصيه ، وسيد شباب أهل الجنة بشهادة رسول الله (صلی الله علیه و اله)وبحديثه المستفيض!

ص: 511

رابعاً : لقد كانت للحروب والوقائع ظروفها الموضوعية وأسبابها المادية ، وقد تكون هذه الحروب الأسباب اجتماعية أو سياسية أو مادية ، وقد تكون لأسباب تافهة لا تستحق أن يراق من أجلها الدماء.

وقد خاضت القبائل العربية في جاهليتها حروباً كثيرة، بعضها كان لحماية نفسها وأموالها وأعراضها ضد غزو من قبيلة أُخرى ، وبعضها الآخر كان للتأثر أو السلب أو النهب أو العصبية الجاهلية .

وجاء الإسلام بتعاليمه ليوحد هؤلاء تحت راية الحق والدفاع عنه فكانت وقائع الإسلام الكبرى ثمّ تلتها فتوح البلدان البعيدة.

وعندما نعود إلى معركة كربلاء، وما سبقها من النفير العام وتجييش الجيوش والقوات لهذه المعركة ونبحث عن الأسباب والمبررات الموضوعية لهذه الحرب، فإنا لا نجد ما يبرر ذلك سوى البغي والعدوان ، فكانت هذه الحرب من مصادیق الحرب الظالمة.

ولهذا يسأل الحسين(علیه السلام) في مقطع من خطبته عن المبررات الموضوعية لهؤلاء المجتمعين لقتاله فيقول (علیه السلام): «أخبروني، أتطلبوني بقتيل منكم قتلته ، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص من جراحة ؟ »

فلم يجد (علیه السلام)عندهم إلّا السكوت القاتل : «فأخذوا لا يكلمونه ».

خامساً : وعندما رأى الحسين (علیه السلام)سکوت الخنوع والذل من أُولئك القوم ، أخذ يذكرهم بعهودهم ومواثيقهم ووعودهم التي قطعوها له من خلال رسائلهم وكتبهم التي أرسلوها له وهو لا زال في مكة، والتي ألزمته أخلاقياً ودينياً بالقدوم إلى الكوفة استجابة لندائهم، وأداءً لواجبه كإمام لهذه الأُمة.

وقد مرّ بنا سابقاً أن الذين كاتبوا الحسين(علیه السلام) جمع كبير وأُمة من أهل الكوفة ، وتضمنت رسائلهم تلك العبارات الرنانة، فأخذ الحسين يذكر بعض وجوه هؤلاء

ص: 512

القوم بتلك الكتب ، وبعض تلك العبارات ، فنادى : يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر ، و يا قيس بن الأشعث ، ویا یزید بن الحارث ، ألم تكتبو إلىَّ أن قد أينعت الثمار، واخضّر الجناب ... وإنما تقدم على جند لك مُجنَّد ؟

فأنكر هؤلاء القوم و بكل صراحة ووقاحة وقالوا : لم نفعل .

فقال لهم الحسين (علیه السلام): «سبحان الله ! بلى والله ، لقد فعلتم ».

ولم يشأ الحسين(علیه السلام) أن يدخل في جدل عقيم مع هؤلاء الذين تنكروا لقيمهم وأعرافهم العربية في أخذ العهود والمواثيق فضلاً عن تنكرهم لايمانهم وإسلامهم بعد تلبسهم بالكذب الفاضح.

سادساً : بعد أن وجد الحسين إصرار هؤلاء القوم على غيهم وتنكرهم لوعودهم ومواثيقهم، طرح عليهم مشروعه السياسي كحل وسط مرضي للطرفين ، فقال : أيها الناس، إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض.

وهذه الكلمة قد مرّت بنا سابقاً في حوار الحسين مع جيش الحرّ(1) ، وهذا هو المشروع السياسي الذي طرحه الحسين على عمر بن سعد في اجتماعه معه قبيل يوم عاشوراء، والذي زاد عليه ابن سعد من عنده وكتب إلى ابن زیاد کما مرَّ بنا سابقاً .

إلّا أن مشروع الحسين (علیه السلام)والذي كان يبتغي من وراءه الحيلولة دون وقوع القتال وسفك الدماء بين الطرفين ، قابله مشروع بني أُمية والذي بين بعض ملامحه قیس بن الأشعث بقوله : « أو لا تنزل على حكم بني عمّك ، فإنّهم لن يُروك إلّا ما تحب ، ولن يصل إليك منهم مكروه».

ص: 513


1- الطبري : 4011/5 - 402

ولا أدري من أين أتى ابن الأشعث بهذه الضمانات للحسين (علیه السلام)ورسالة ابن زیاد إلى ابن سعد تنص على خلاف ذلك كما مرّ بنا سابقاً ، ولهذا ذكره الحسين (علیه السلام)بما ارتكبه محمد بن الأشعث أخو قيس هذا، عندما أعطى الأمان لمسلم بن عقيل ثمّ لم يفِ بذلك له.

لقد اختزل قيس بن الأشعث بقوله : « أو لا تنزل على حكم بني عمّك ... » كل المشروع السياسي لبني أُمية في تعاملها مع الحسين (علیه السلام)، والذي كان يتضمن في تفصيلاته المعروضة على الحسين (علیه السلام)ثلاثة عناصر أساسية وهي :

الأول : الاستسلام والكف عن الثورة. الثاني : التسليم بأصل شرعية النظام القائم.

الثالث : الدخول في مفاوضات وحوار لحل المشكلة السياسية بينه وبينهم(1).

كل هذه البنود الثلاثة اختزلها ابن الأشعث من خلال ما اقترحه على الحسين (علیه السلام)بالنزول على حكم بني أُمية.

سابعاً : بعد أن أنهى الإمام الحسين (علیه السلام)كلامه مع ابن الأشعث - وكان يحمل طابعاً شخصياً - وجه خطابه إلى تلك الجموع المحتشدة لقتاله وخاطبهم بخطاب أصبح بمرور الزمن وكر الدهور ، اُنشودة لكل الأحرار في العالم، ولكل الثائرين في وجه الظلم والطغيان والإذلال، فقال(علیه السلام) : «لا والله لا أُعطيهم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقرّ إقرار العبيد»(2).

هذه الكلمات الحسينية وعلى وجازتها تمثل سجل عزّ وكرامة وشموخ للأُمة الإسلامية خاصة وللانسانية عامة.

ص: 514


1- شمس الدین، محمد مهدي : عاشوراء : 1/ 212 - 213 (بتصرف)
2- ورواه المفيد في الإرشاد : 2/ 98، وابن نما في مثير الأحزان : 26: ولا أفر فرار العبيد ، والأنسب هو الاقرار لا الفرار ، فإن ابن الأشعث لم يعرض عليه الفرار بل الاقرار

«الحسين (علیه السلام)لا يتكلم ذاتياً ، بل يتكلم عن خط في الحياة ، للعمل ، للحركة ، إنه يقول للإنسان المسلم : إذا أردت أن تضع يديك في يد أي إنسان آخر، فيجب أن تضعها من موقع العزة والكرامة ، وإذا أردت أن تقرّ للآخرين فيجب أن يكون إقرارك على أساس « إقرار الأحرار» لا « إقرار العبيد».

... وعلى هذا، فإن كل مسلم يمكن أن يحمل هذا الشعار أمام كل القوى الغاشمة التي تريد أن تسحق إرادته وتأخذ قراره ، وتشل حركته ، وتمنعه من أن يختار ... إن كل مسلم يقول من موقع إسلامه « والله لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل».

نقولها في كل البلاد الإسلامية أمام الهيمنة الداخلية والخارجية ، نقولها بكل ما عندنا من شعور بالعزة الإسلامية ، والكرامة الإسلامية : «والله لا نعطيكم بيدنا

إعطاء الذليل».

نقولها من موقع حرية القرار في داخل أنفسنا حتى لو هزمنا وظلمنا وسجنّا... يبقى قرارنا هو قرار المحق... وإن الهزيمة لا تجعلنا نفقد ثقتنا بأنفسنا أو بقرارنا وإرادتنا ، وبأننا على الحق(1).

ثامناً : بهذا الوضوح في البيان، وبهذه الحجج والبراهين الواضحة، تكلم الحسين مع القوم، وبتلك الثقة العالية بالله سبحانه اختتم كلامه.

والذي لاحظناه من ردود أفعال القوم، تمثل محنة الحسين (علیه السلام)وغربته بين أُمة جده رسول الله (صلی الله علیه و اله)، والتي تمثل غربة الأنبياء والرسل بين قومهم ، و تتجسد أمامنا صورة نوح وهود وصالح وذي النون وغيرهم من الأنبياء(علیهم السلام) وهم يقيمون الحجج والبراهين والأدلة ، ويواجهون بالصدّ، أو القتل.

ص: 515


1- فضل الله ، محمد حسين : من وحي عاشوراء : 88 - 90 (بتصرف) ط. دار الملاك - بیروت، (1996م - 1417ه)

والحسين (علیه السلام)سليل الأنبياء ووارثهم، فنراه يعيش غربة المبادئ والأهداف والقيم بين أُمة أراد لها الله سبحانه أن تتجسد فيها قيم الحق والعدل، إلّا أنهم تركوه وراء أظهرهم، واختاروا طريق البغي والعدوان.

لقد كان الحسين (علیه السلام)يتكلم بكلام، ويطرح المفاهيم، ويطرح قضية الإسلام ، ويطرح قضية المستضعفين ، ويطرح قضية الكرامة البشرية، ولا أحد يسمعه ، ويقول له شمر بن ذي الجوشن : يا حسين، ما هذا الذي تقول ؟ أفهمنا حتى نفهم(1) ! ويقول للحسين(علیه السلام) هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول(2)؟

فهل كان الحسين يتكلم بلغة أُخرى ؟ أو يطرح مفاهيم مغايرة لمفاهيم الإسلام ؟

هذه هي غربة الحسين (علیه السلام)في أُمة جده ، فكل الأُمة، والناطقين بالعربية من المسلمين كانوا في جانب ، وهو في الجانب الآخر لوحده مع أنصاره(3).

لقد كان الحسين غريباً ، وغربته مضاعفة ، لأنه كان يحمل همّ الأُمة كلها ، ولأنه كان يحس أن الأُمة كلها غريبة ، كانت الغربة تطبق عليه من جميع الجوانب ، لا لأنها غربته هو(علیه السلام) ، ولا لأنها غربة أهل بيته وصحبه (سلام الله عليهم) بل لأنها غربة شاملة ... فكان ألمه أكبر ، ومرارته أشد، وغربته أقسى، لأنه يحمل همَّ الجميع(4) .

* خطب وكلمات أصحاب الحسين (علیه السلام):

لقد كان من بين أصحاب الحسين (علیه السلام)مجموعة من صحابة رسول الله (صلی الله علیه و اله)منهم :

ص: 516


1- الخوارزمی، مقتل الحسين : 1 / 356
2- الطبري : 5/ 426، والإرشاد للمفيد : 2/ 98
3- شمس الدین، عاشوراء : 1/ 173 بتصرف
4- المرجع نفسه : 1/ 175 - 176 بتصرف

أنس بن الحارث الكاهلي، وحبیب بن مظاهر الأسدي، ومسلم بن عوسجة الأسدي، وغيرهم(1). بالاضافة إلى عدد من التابعين، ومجموعة من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام).

وكان لهؤلاء الأصحاب مكانتهم الاجتماعية والدينية والعشائرية ، وكان الكثير منهم من وجوه الشيعة في الكوفة، ومن قرائها.

وقد شهد لهم بذلك أعداؤهم قبل أوليائهم ، ( والفضل ما شهدت به الأعداء)، فهذا عمرو بن الحجاج الزبيدي - وهو من شخصيات الكوفة المعروفة ، وقائد الميمنة في جيش عمر بن سعد، وأحد الذين لعبوا دوراً ماكراً في القبض على هاني بن عروة ، والقضاء على حركة مسلم بن عقیل رضی الله عنه- عندما رأى كثرة من قتل من جیش عمر بن سعد في الحملات الأُولى، صاح - بأعلى صوته -: «یا حمقى، أتدرون من تقاتلون! فرسان المِصر، وقوماً مستميتين، لا يبرزنَّ لهم منكم أحد...»(2).

وعندما قتل مسلم بن عوسجة الأسدي ... تنادى أصحاب عمرو بن الحجاج :قتلنا مسلم بن عوسجة الأسدي ، فقال شبث - بن ربعي - لبعض من حوله من أصحابه : ثكلتكم أُمهاتكم! إنما تقتلون أنفسكم بأيديكم، وتذللون أنفسكم لغيركم، تفرحون أن يُقتل مثل مسلم بن عوسجة ! أما والذي أسلمت به لَرُبَّ موقفٍ له قد رأيته في المسلمین کریم! لقد رأيته يوم سَلَقِ آذربيجان قتلَ ستّة مِنَ المشركين قبل تتامّٙ خيول المسلمين، أفيقتلُ منكم مثله وتفرحون(3).

ص: 517


1- للتوسع انظر مع الركب الحسيني، الحسين في كربلاء: 202 وما بعدها
2- الطبری : 5 /435
3- المصدر نفسه : 436/5

وقد حاز هؤلاء الأنصار (رض) على ألقاب كثيرة جليلة سامية، تضمنتها الروايات وكتب المقاتل والتاريخ، منهم : « عباد الله الصالحون، وعشّاق الشهادة ، والعُبّاد النّساك، والطيبون، والذاكرون، وأهل البصائر ...» إلى غيرها من الألقاب التي فازوا بها.

وكان لهؤلاء الأبرار دور قتالي كبير في يوم عاشوراء، وجادوا بأنفسهم دون الحسين، فكانوا سادة الشهداء، بعد شهداء أهل البيت والنفر القليل من شهداء معارك رسول الله(صلی الله علیه و اله) .

وبالاضافة إلى دورهم القتالي كان لهم دور توجيهي ، قبل بدء المعركة،إذ كانوا يستأذنون الإمام الحسين (علیه السلام)للحديث مع جيش عمر بن سعد، وإقامة الحجة عليهم.

وقد نقل المؤرخون بعض کلماتهم، ننقل بعض المقاطع منها :

أولاً : خطبة زهير بن القين :

لقد مرّ بنا سابقاً قصة التحاق زهير بن القين بركب الحسين(علیه السلام) في بعض منازل الطريق، وذلك التحول الكبير الذي سجله في ذلك الموقف الكريم، واستمرت مواقفه الشجاعة تلك إلى حين توشح بالشهادة بين يدي الحسين(علیه السلام) .

بعد أن أنهى الإمام الحسين خطبته الأُولى ، استأذنه زهير بن القين في أن يكلم القوم فأذن له بذلك ، فوقف أمام القوم، وجلّ القوم يعرف من هو زهير بن القين ، ولا تخفى عليهم شخصيته ومكانته الاجتماعية في الكوفة.

روى الطبري قال : قال أبو مخنف : عن كثير بن عبد الله الشعبي، قال : لما زحفنا قِبَل الحسين خرج إلينا زهير بن القين على فرس له ذنوب(1)، شاك

ص: 518


1- فرس ذنوب : وافر شعر الذنب

في السلاح، فقال : يا أهل الكوفة ، نذار لكم من عذاب الله نذار ! إن حقاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن إخوة، وعلى دين واحد وملّة واحدة ، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف ، وأنتم للنصيحة منّا أهل ، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة ، وكنا أُمّة وأنتم أُمة ، إنّ الله قد ابتلانا وإياكم بذريّة نبيه محمد (صلی الله علیه و اله) لينظر ما نحن وأنتم عاملون إنا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيد الله بن زیاد، فإنكم لا تدركون منهما إلّا بسوء عمر سلطانهما كلّه، ليسملان أعينكم ، ويقطّعان أيديكم وأرجلكم، ويمثّلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل ، ويقتّلان أماثلكم وقراءكم، أمثال حجر بن عدي وأصحابه ، وهانئ بن عروة وأشباهه ؛ قال : فسبّوه، وأثنوا على عبيد الله بن زياد ، ودعوا له، وقالوا : والله لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومَن معه ، أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله سلماً ، فقال لهم : عباد الله ، إنّ ولد فاطمة رضوان الله عليها أحقّ بالودّ والنصر من ابن سميّة ، فإنّ لم تنصروهم فأُعيذكم بالله أن تقتلوهم، فخلّوا بين الرجل وبين ابن عمه یزید بن معاوية ، فلعمري إنّ يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين ، قال : فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم وقال : اسكت أسكتَ الله نأمتك، أبرمتنا بكثرة كلامك ! فقال له زهير : یابن البوّال على عقبيه، ما إيّاك أُخاطب ، إنما أنت بهيمة، والله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين ، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم، فقال له شمر : إنّ الله قاتلك وصاحبك عن ساعة ؛ قال : أفبالموت تخوّفني ! فوالله للموت معه أحبّ إليَّ من الخُلد معكم ؛ قال : ثمّ أقبل على الناس رافعاً صوته ، فقال : عباد الله ، لا يغرّنّكم من دينكم هذا الجملف الجاني وأشباهه، فوالله لا تنال شفاعة محمد(صلی الله علیه و اله) قوماً هرقوا دماء ذریّته وأهل بيته، وقتلوا من نصرهم وذبَّ عن حریمهم ، قال : فناداه رجل فقال له : إنّ أبا عبد الله

ص: 519

يقول لك : أقبل ، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء ، لقد نصحت لهولاء لو نفع النصح والإبلاغ(1)!

ثانياً : خطبة برير بن خضير الهمداني :

«کان بریر شیخاً تابعياً ناسكاً، قارئاً للقرآن، ومن شيوخ القراء، ومن أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام)، وكان من أشراف أهل الكوفة من الهمدانيين .

قال أهل السير إنه لما بلغه خبر الحسين(علیه السلام) ، سار من الكوفة إلى مكة ليجتمع بالحسين (علیه السلام)، فجاء معه حتى استشهد»(2).

وكان لبریر رضی الله عنه موقف شجاع يوم عاشوراء، وقد ورد في بعض الروايات «أنّه قتل من الأعداء ثلاثين رجلاً ثُمَّ قُتل»(3) .

وفي كتاب تسلية المجالس : أنّ بريراً كان يحمل على القوم وهو يقول : « اقتربوا منّي يا قتلة المؤمنين ، اقتربوا منّي يا قتلة أولاد البدريين ، اقتربوا منّي يا قتلة أولاد رسول رب العالمين، وذرّيته الباقين »(4).

أما خطبة برير رضی الله عنه يوم العاشر من المحرم فقد روى الخوارزمي في المقتل قال : « تقدم الإمام الحسين نحو القوم وبين يديه بریر بن خضير فقال له الإمام : کلّم القوم فتقدم برير فقال : يا قوم اتقوا الله ، فإن ثقل محمد قد أصبح بين أظهركم، هؤلاء ذرّيته وعترته ، وبناته وحرمه ، فهاتوا ما عندكم وما الذي تريدون أن تصنعوا بهم؟

ص: 520


1- الطبري : 426/5 - 427
2- السماوي ، إبصار العين : 70
3- مع الركب الحسيني : 313 عن أمالي الصدوق : 136، وتسلية المجالس : 2/ 283 والبحار : 15/45
4- مع الركب الحسيني : 313 عن أمالي الصدوق : 136، وتسلية المجالس : 2/ 283 والبحار : 15/45

فقالوا : نريد أن نمكن منهم الأمير ابن زیاد فیری رأيه فيهم.

فقال لهم برير : أفلا تقبلون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي جاؤوا منه؟ ويلكم يا أهل الكوفة أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها ، وأشهد تم الله عليها !!

فقال له نفر منهم : يا هذا ما ندري ما تقول ؟

فقال برير : الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة ، اللّهم إني أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم، اللهمّ ألق بأسهم بينهم، حتى يلقوك وأنت غضبان .

فجعل القوم يرمونه بالسهام ، فرجع برير إلى ورائه»(1).

ثالثاً : حوار یزید بن حصين الهمداني مع عمر بن سعد :

قال السيد الزنجاني في وسيلة الدارين : إن الشيخ - الطوسي - ذكر في فهرسته ص : 81 أن يزيد بن حصين المشرقي من أصحاب الحسين.

ثمّ نقل عن محمد بن عبد الله الكنجي في كتابه كفاية الطالب قوله : یزید بنحصين الهمداني المشرقي ، كان رجلاً شریفاً ناسكاً بطلاً من أبطال الكوفة ، وعابداً من عبادها وله ذكر في المغازي والحروب وكان من خيار الشيعة، وممن بایع مسلماً ، فلما خُذِل مسلم بن عقیل خرج من الكوفة فمال إلى الحسين ، وكان معه إلى أن حالوا بين الحسين وبين الماء ، فقال للحسين : إاذن لي يابن رسول الله في أن آتي

عمر بن سعد مقدم هؤلاء فاكلمه عن الماء لعلّه يرتدع فأذن له.

فجاء المشرقي إلى عمر بن سعد وكلّمه في الماء فامتنع ولم يجبه إلى ذلك فقال له : هذا ماء الفرات يشرب منه الكلاب والدواب وتمنعه من ابن بنت رسول الله(صلی الله علیه و اله)

ص: 521


1- مقتل الحسين للخوارزمي : 1/ 252، والمناقب لابن شهر آشوب : 4/ 100، وبحار الأنوار : 5/45

وأهل بيته والعترة الطاهرة ، يموتون عطشاً ، وقد حلت بينهم وبين الماء وتزعم أنك تعرف الله ورسوله ؟!

فأطرق عمر بن سعد ... ثمّ قال : يا أخا همدان إني لأعلم ما تقول... ثمّ قال :

يا أخا همدان ما أجد نفسي تجيبني إلى ترك ملك الري لغيري.

فرجع یزید بن حصين إلى الإمام الحسين(علیه السلام) وأخبره بمقالة ابن سعد، فلما عرف الحسين(علیه السلام) ذلك منهم تیقن أن القوم مقاتلوه لا محالة ...(1).

رابعاً : خطبة الحرّ بن یزید الریاحی قبل استشهاده :
اشارة

لقد تحدثنا سابقاً عن الحرّ بن یزید الرياحي، منذ لقائه مع الحسين في منازل الطريق إلى حين استشهاده وأكبرنا له ذلك الموقف الشجاع النبيل الذي تدل على عزة نفس وكرامة وشموخ، وقارنا هناك بين موقف الحر من الحسين(علیه السلام) ، وبعض المواقف التي سجلت لبعض الشخصيات التي دعاها الحسين لنصرته فلم تستجب لتعلقها بالدنيا ، وخوفها من الموت.

إلّا أننا هناك لم نذكر خطبة الحرّ يوم العاشر من المحرم ، ليس اعراضاً عنها لعدم أهميتها - فهي من الخطب العظيمة، وتشتمل على معاني جليلة - وإنما أخرناها لنذكرها في موضعها المناسب، وضمن سياق احتجاجات الأصحاب يوم العاشر من المحرم.

لقد كانت خطبة الحر بعد توبته بين يدي الحسين (علیه السلام)وبعد أن سمع خطبة الحسين (علیه السلام)الأُولى ، إذ جاء إلى الحسين(علیه السلام) معلناً توبته ومستأذناً منه أن

ص: 522


1- الزنجاني ، وسیلة الدارين في أنصار الحسين : 213، وقد بحثنا في فهرست الشيخ الطوسي ولم نعثر على اسم یزید بن الحصين إلّا أن اسمه قد ورد في زيارة الناحية ( السلام علی یزید بن حصين الهمداني المشرقي القاري المجدل ...)

يقاتل القوم بعد أن يكلمهم ويقيم الحجة عليهم، فقال له الحسين : فاصنع يرحمك الله ما بدا لك.

استهل الحرُّ خطبته بسؤال و جیه منطقي وجّهه إلى جيش عمر بن سعد ، فقال : أيّها القوم ألا تقبلون من حسين خصلة من هذه الخصال التي عرض عليكم فيعافيكم الله من حربه وقتاله ؟

قالوا : هذا الأمير عمر بن سعد فكلّمه، فكلَّمه بمثل ما كلّمه به قبل(1) وبمثل ما

کلّم به أصحابه .

قال عمر : قد حرصتُ، لو وجدتُ إلى ذلك سبيلاً فعلت !!

فقال : يا أهل الكوفة، لأَمّٙكم الهَبَل والعُبر (2) ، إذ دعوتموه حتى إذا أتاكم أسلمتموه وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه، ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه، أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكظمه، وأحطتم به من كل جانب، فمنعتموه التوجّه في بلاد الله العريضة حتى يأمن ويأمن أهل بيته ، وأصبح في أيديكم كالأسير لا يَملك لنفسه نفعاً ، ولا يدفع ضرّاً ، وحلأتموه ونساءه وصبيته وأصحابه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهوديّ والمجوسيّ والنصرانيّ، وتمرّغُ فيه خنازير السواد وكلابه ، وهاهم أُولاء قد صرعهم العطش ، بئسما خَلفتم محمّداً، في ذرّيته! لا سقاكم الله يومَ الظمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا، في ساعتكم هذه . فحملت عليه رجّالة لهم ترميه بالنَّبل، فأقبل حتى وقف أمام الحسين(علیه السلام)(3).

ص: 523


1- مرّ بنا سابقاً سؤال الحر لعمر بن سعد وجوابه عليه
2- القبل : الثكل. والعُبر : سخنة العين. والعَبر - بالفتح - الحزن وجريان الدمع کاستعبر(انظر : تاج العروس)
3- الطبري : 5/ 428 - 429
تأملات في خطب أصحاب الحسين :

بعد أن استعرضنا خطب وكلمات بعض أصحاب الحسين(علیه السلام) وما تضمنتها من حجج وبراهين وأدلة ، لابد لنا من وقفة تأمل عند بعض فقراتها وفصولها :

أولاً : إن هذه الخطب والكلمات وما تضمنته من حجج وبراهين وبلغة الموعظة والنصيحة والتحذير، كانت تصدر من الأصحاب بإذن مسبق من الإمام الحسين (علیه السلام)أو بطلب منه، مما يدل على أن الإمام (علیه السلام)وبرغم ما استقبل به من جفاء وعدوانية وبغي من قبل هؤلاء، إلّا أن نفسه الشريفة كانت وما زالت مفعمة بآمال الخير، وروح الاصلاح والهداية ، فلم يبخل عليهم بالنصيحة لتنوير أفكارهم ، ورفع حجب شبهات الفتنة التي أحاطت بالكثير منهم، من خلال إقامة الحجج وإخطارهم بالرسل والخطب ، «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ»(1).

ثانياً : إن جميع من تكلم من هؤلاء هم من أصحاب الحسين (علیه السلام)ولم يتكلم أحد من بني هاشم أو بني عقيل ، وهم يملكون ناصية البيان والكلام والبلاغة والفصاحة التي توارثوها کابراً عن كابر، وفي ذلك دلالة على أن الإمام كان حريصاً على أن لا توسم دعوته ونهضته بسمة العصبية القبلية بين بني هاشم وبني أُمية ، ولكي لا يتهم هؤلاء بأنهم يدافعون عن زعيمهم وشيخ بني هاشم الإمام الحسين (علیه السلام)فتخرج القضية من إطارها العام الإسلامي، إلى اطار خاص فئوي وقبلي و تصور للناس بأنها معركة بين بيتين وعائلتين ، وامتداد لمعارك ما قبل الإسلام بينهما.

ص: 524


1- الأنفال : 42

ثالثاً : ان كل من تكلم من أصحاب الحسين (علیه السلام)كانوا من أهل الكوفة ومن وجوهها القبلية والاجتماعية ، ومن شيوخ عشائرها، وكبار نساكها وقرائها ، وبعضهم لم يكن من كتب إلى الحسين (علیه السلام)أو بایع له مع مسلم بن عقیل ، من أمثال زهير بن القين ، والحرّ بن یزید.

وهذا يدل على أن الإمام الحسين (علیه السلام)قد ركز كل اهتمامه على أهل الكوفة ، لانهم كانوا يشكلون الغالبية العظمى من جيش عمر بن سعد - إن لم نقل كل جيش عمر بن سعد - وكانوا هم الذين كاتبوا وبايعوا وتعهدوا بالقيام مع الحسين في نهضته ، هذا من جهة.

ومن جهة ثانية ، إن هؤلاء الذين تكلموا كانوا من علّية القوم ووجوهم بل من شيوخ عشائر الكوفة ، وكل فرد من هؤلاء الجمع ينتمي إلى عشيرة وقبيلة ، فكان ينبغي أن يكون لكلامهم الأثر الكبير في تصدع جیش عمر بن سعد، أو حصول تمرد فيه، أو انسحاب بعضهم من المعركة، إلّا أنه لم يحصل شيء من ذلك ، وواجهوا کلام هؤلاء إما بالسخرية أو بالنبال، نعم، تذكر بعض النصوص التاريخية تأثر بعضهم بحركة الحر والتحاقه بالإمام الحسين (علیه السلام)فتركوا معسكر عمر بن سعد والتحقوا بمعسكر الحسين (علیه السلام)واستشهدوا معه.

يقول ابن عبد ربّه الأندلسي : «وكان مع عمر بن سعد ثلاثون رجلاً من أهل الكوفة ، فقالوا : يعرض عليكم ابن بنت رسول الله ثلاث خصال فلا تقبلون منها شيئاً ؟ فتحولوا مع الحسين فقاتلوا معه»(1).

ص: 525


1- الطبسي ، الحسين في كربلاء : 265 نقلاً عن العقد الفرید: 5/ 128، وانظر المصادر الأُخرى في هامش الصفحة

إلّا أن ابن طاووس في اللهوف يذكر سبباً آخر لتحول البعض من جيش ابن سعد إلى معسكر الحسين (علیه السلام)فيقول : «وبات الحسين(علیه السلام) وأصحابه تلك الليلة ولهم دویٌّ کدوي النحل، ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد، فَعبَر عليهم في تلك الليلة من عسكر عمر بن سعد إثنان وثلاثون رجلاً...»(1).

ومهما يكن من أمر، فإن تأثير هذه الخطب لم يكن كثيراً في نفوس جیش عمر بن سعد، إلّا أن هذه الخطب والكلمات قد أدت مهمتها في إقامة الحجة والبينة على هؤلاء المضللين .

رابعاً : عندما نتأمل في محتوى ما تضمنت هذه الخطب والمواعظ والكلمات ، فإنا نجد قواسم مشتركة ذات مضمون و محتوی واحد يجمعها، وكانت خطبة زهير بن القين مع بلاغتها العالية قد احتوت کلام كل ما تكلم من بعده، فهؤلاء الأصحاب جميعاً كانوا يؤكدون على ما يلي :

١ - التحذير من وقوع الحرب والقتال وانقطاع العصمة بين المسلمين .

2 - التأكيد على حق أهل البيت (علیهم السلام) ونصرتهم، وخذلان بني أُمية .

٣ - التذكير بالكتب والعهود والمواثيق التي قطعوها للإمام الحسين (علیه السلام).

4 - التذكير بجرائم بني أُمية السابقة، وما ينتظرهم منهم من قتل وتشريد وظلم.

5 - ترك الخيار للحسين (علیه السلام)في الذهاب إلى البلاد التي يريدها أو الرجوع من حيث أتي.

6 - عدم مشروعية حرمان الحسين(علیه السلام) وأهل بيته من الماء.

7 - دعوتهم إلى التوبة والرجوع إلى أنفسهم ومحاسبتها قبل فوات الأوان .

ص: 526


1- اللهوف: 41

هذه أهم ما تضمنته خطب أُولئك الأبرار من أصحاب الحسين والتي لم تعها

أذن واعية من المخاطبين ممن ران على قلوبهم، وعميت بصائرهم.

* خطبة الإمام الحسين(علیه السلام) الثانية

هل كان للإمام الحسين(علیه السلام) يوم عاشوراء خطبة واحدة متعددة الأجزاء والمقاطع ، أو أن له خطبتين فصل بينهما فواصل من خطب بعض أصحابه وبعض الحوادث الجانبية ، أو أنها خطبة واحدة تحسب ثلاث خطب ؟

رجح بعض المحققين الرأي الأول فيكون النص الذي رواه الطبري في تاريخه والمفيد في الإرشاد(1)، هو المقطع الأول من خطابه (علیه السلام)، ثمّ ما رواه الخوارزمي في المقتل ، وابن طاووس في اللهوف(2)، والذي سوف نذكره هنا هو المقطع الثاني والجزء الآخر من خطابه(3).

وذهب المحقق السماوي في إبصار العين ، والسيد المقرم في المقتل(4)، إلى أن كلامه (علیه السلام)الأول هو خطبته الأُولى ، وهي تنتهي بنزوله عن راحلته ... وأنّ خطبته الثانية هي التي تبدأ بقوله : « تباً لكم أيتها الجماعة...».

وقال المحقق القزويني : إنها آخر خطبة خطبها (علیه السلام)، وهي خطبة واحدة تحسب ثلاث خطب(5).

ص: 527


1- الطبري : 5 / 424 - 426، والإرشاد : 2/ 97 - 98
2- الخوارزمی، مقتل الحسين : 8/2 - 10، وابن طاووس، اللهوف : 42 - 43
3- مع الركب الحسيني : 4/ 258، والقرشي ، حياة الإمام الحسين : 2/ 184 - 195
4- إبصار العين : 32 - 35، ومقتل الحسين للمقرم: 227 - 235
5- القزويني، فضل علي : الإمام الحسين وأصحابه : 23 تحقيق أحمد الحسيني، ط. قم، (1415 ه)

والأرجح من خلال سیاق کلام الإمام (علیه السلام)والمفردات التي وظفها في خطابه ، انهما خطبتان ، بدأ الإمام في الخطبة الأُولى بتعريفهم بنفسه، ونصيحتهم ، وانذارهم، وتذكيرهم بعهودهم وبيعتهم وكتبهم، ثمّ تكلم بعده بعض أصحابه ، فلما لم يجد(علیه السلام) من القوم أي استجابة ، بل وجد عندهم الإصرار والعناد ، والبغي والعدوان ... عندها خطب خطبته الثانية التي اشتدت فيها لهجة التقريع والتوبيخ لهم.

ومهما يكن من أمر ، فإن هذه الخطبة -الثانية - لم يذكرها الطبري في تاريخه ، ولا المفيد في إرشاده، وإنما ذكرها الخوارزمي في المقتل وابن عساكر في تاريخه، وابن طاووس في اللهوف - بتفاوت - وننقلها هنا برواية ابن طاووس في اللهوف.

قال : « قال الراوي : وركب أصحاب عمر بن سعد لعنهم الله ، فبعث الحسين(علیه السلام) برير بن خضير ، فوعظهم فلم يستمعوا، وذكّرهم فلم ينتفعوا، فركب الحسين (علیه السلام)ناقته - وقیل فرسه - فاستنصتهم فأنصتوا، فحمد الله وأثنى عليه ، وذكره بما هو أهله، وصلّى على محمد (صلی الله علیه و اله)وعلى الملائكة والرسل ، وأبلغ في المقال ، ثمّ قال : «تبّاً لكم أيتها الجماعة وترحاً ؛ حين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين ! سللتم علينا سيفاً لتا في أيمانكم! و حششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم ! فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم ، بغير عدلٍ أفشوه فيكم ، ولا أملٍ أصبح لكم فيهم ! فهلّا لكم الويلات تركتمونا والسيف مشيم ، والجأش طامن ، والرأي لمّا يستحصف !؟ ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدُبي، وتداعيتم إليها کتهافت الفراش ! فسحقاً لكم يا عبيد الأُمة، وشذّاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب ، ومحرّفي الكلم، وعصبة الآثام، ونفثئة الشيطان، ومطفئي السنن ! أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون ؟! أجل والله ، غدر فيكم قدیم ! وشجت عليه أُصولكم،

ص: 528

وتآزرت عليه فروعكم ! فکنتم أخبث ثمر ، شجي للناظر وأكلة للغاصب ! ألا وإنّ الدعيّ ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين ، بين السلّة والذّلة ، وهيهات منّا الذلّة ! يأبي الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت ، وأُنوف حميّة ، ونفوس أبيّة ، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإنّي زاحف بهذه الأُسرة مع قلّة العدد وخذلة الناصر!

ثمّ أوصل كلامه بأبيات فروة بن مسيك المرادي :

فإن نُهزم فهزّامون قِدماً

وإن نُغلب فغير مُغلَّبينا

وما إن طبّنا جُبنٌ ولكن

منایانا ودولة آخرينا

إذا ما الموت رفّع عن اُناس

كلاكله أناخ بآخرينا

فأفني ذلكم سروات قومي

كما أفني القرون الأوّلينا

فلو خلُد الملوك إذاً خلُدنا

ولو بقي الملوك إذاً بقينا

فقل للشامتين بنا أفيقوا

سيلقى الشامتون كما لقينا

ثمّ أيمُ الله ، لا تلبثون بعدها إلّا كريث ما يركب الفرس ! حتّى تدور بكم دور الرحي، وتقلق بكم قلق المحور! عهدُ عهده إلىَّ أبي عن جدّي ، فأجمعوا أمركم و شرکاءكم ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمَّة ثمَّ اقضوا إليَّ ولا تنظرون ، إنّي توكّلت على الله ربّي وربّكم ، ما من دابّة إلّا هو آخذ بناصيتها إنّ ربّي على صراط مستقیم . اللّهم احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين کسنّٙي يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيف فيسومهم كأساً مصبَّرة(1)، فإنّهم كذبونا وخذلونا، وأنت ربّنا عليك توكّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.

ص: 529


1- في مقتل الحسين (علیه السلام)للخوارزمي : 10/2 : «... يسقيهم كأساً مصبَّرة فلا يدع فيهم أحداً قتلة بقتلة، وضربة بضربة ، ينتقم لي ولأوليائي وأهل بيتي وأشياعي منهم، فإنّهم غرّزونا وكذبونا...»

ثمّ نزل (علیه السلام)ودعا بفرس رسول الله(صلی الله علیه و اله) المرتجز فركبه وعبّأ أصحابه للقتال»(1).

تأملات ودروس وعبر من خطبة الإمام الحسين الثانية يوم عاشوراء :

لقد تضمنت هذه الخطبة الشريفة - على وجازتها - آفاقاً واسعة من المعرفة ، وكم هائل من القيم والمفاهيم الثورية، بالاضافة إلى ما لا حد له ولا يعلمه إلّا الله من الأسى والحسرة والألم من الإمام الحسين على اُولئك الناس الذين ينتسبون إلى أُمة جدّه(صلی الله علیه و اله) ويدينون بالإسلام ويتخذون منه شعاراً لهم .. إلّا أنهم سلّوا سيوف البغي والعدوان في وجه آل رسول الله (صلی الله علیه و اله)وواجهوا ابن بنت نبيهم ، وأقدموا على ما لا تقدم عليه أُمة من الأُمم في حق رموزها ومقدساتها الدينية.

وهذه الخطبة وغيرها من خطب وكلمات و مکاتبات الإمام الحسين (علیه السلام)سواءً التي قالها في كربلاء يوم عاشوراء، أو قبل ذلك، لم تحض - مع الأسف الشديد - بعناية الباحثين والمحققين بالقدر الكافي ، ومهما بحثنا فيا كُتب عن الإمام الحسين(علیه السلام) ونهضته المقدسة فإنا لا نجد دراسة موسعة تسلط الأضواء - و بشكل واسع - على هذه الخطب والكليات الحسينية . نعم نجد بعض المحاولات الأولية عند بعض المحققين والكتّاب(2) ،

ص: 530


1- اللهوف : 42 - 43، وتاريخ ابن عساکر - ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام)- تحقيق المحمودي : 317- 320 رقم 273 بتفاوت، و مقتل الحسين (علیه السلام)للخوارزمي : 8/2 - 10 بتفاوت وفيه : «ثمّ قال (علیه السلام): أين عمر بن سعد ؟ ادعوالي عمر ! فدُعي له وكان کارهاً لا يحبّ أن يأتيه ، فقال : یا عمر! أنت تقتلني، وتزعم أن يولّيك الدعيّ ابن الدعيّ بلاد الري وجرجان؟! والله لا تهنا بذلك أبداً، عهد معهود، فاصنع ما أنت صانع، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، وكأنّي برأسك على قصبة قد نُصبت بالكوفة يترا ماه الصبيان ويتخذونه غرضاً بينهم »
2- انظر دراسة الشيخ الآصفي حول الخطاب الحسيني ، دراسات وبحوث مؤتمر الإمام الحسين : 1/ 180 وما بعدها

وبعض الاشارات العابرة عند بعضهم الآخر(1)، تناولت بعض الكلمات والخطب الحسينية ، أو بعض الفقرات المقتضبة منها.

ولو أردنا أن نتوقف عند كل كلمة ، أو كل مقطع من مقاطع هذه الخطبة - وهي آخر خطبة للحسين (علیه السلام)- لاحتجنا إلى دراسة موسعة ومؤلف مستقل ليستوعب معاني الكلمات، ومفاهيم الخطبة وسياق الأحداث التي تشير إليها.

ولهذا كله سوف نتوقف عند بعض فقرات هذه الخطبة ، لاستلهام بعض الدروس والعبر منها لعلّنا نأخذ بقبس منها تنير لنا دروب الظلام، وترشدنا إلى نور الهداية والرشاد، وتحرك فينا نوازع الخير، وتوقظ في أعماق نفوسنا الاحساس بالعزة والكرامة، في زمن أراد لنا الاستكبار العالمي ومن خلال وسائله الشريرة أن نعيش حالة الانسحاق والإذلال والتبعية . أولاً : نلاحظ في مفردات وأُسلوب بیان هذا الخطاب الحسيني حالة التأوه والتوجّع والأسى والحسرة، إلى جانب النقد والتقريض، والعقاب والتقريع، والتذمر والشكوى ، قد فاضت على لسان الإمام الحسين (علیه السلام)الهادر ، وهي حالة اتصفت بها هذه الخطبة دون غيرها من خطبه السابقة.

فنجده (علیه السلام)يكثر من عبارات الاستفهام، والإنكار، والتعجب، مصحوبة بترادف بين الفقرات، وبإيقاع شجي حزين، وعاطفة ثائرة جياشة، تستمد دوافعها من نفس كبيرة ، وعقيدة راسخة، وعزم لا يلين ، وعزة وشموخ وإباء، تأبي الاستسلام أو الإقرار بالأمر الواقع.

ولو أردنا أن نقارن بين أُسلوبه(علیه السلام) البياني والوصفي في هذه الخطبة ، وبين أُسلوب القرآن التصويري في الوصف والانكار والتعجب ... وبين فصاحة وبلاغة

ص: 531


1- انظر حياة الإمام الحسين للقرشي، والحسين في كربلاء للطبسي

النبي (صلی الله علیه و اله)في خطبه ، وبين ما سطره والده الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)في نهج البلاغة، لوجدنا أن كلام الإمام الحسين(علیه السلام) وفي هذه الخطبة بالذات، قبس من نور القرآن الكريم، وصدى لكلمات النبي (صلی الله علیه و اله)، وتوظيف لروائع علي(علیه السلام) البلاغية .

ثانياً : كما نلاحظ في هذه الخطبة الحسينية - من حيث المحتوى السياسي والديني والاجتماعي - جملة من الحقائق وبتقسيم منطقي رائع، وبتشبیهات واقعية تحول المفاهيم إلى أُمور حسية أو قريبة منها، فنجده(علیه السلام) يقول :

تبّاً لكم أيتها الجماعة وترحاً ! حين استصرختمونا والهين فأصرخنا کم موجفين ! سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم ! وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم ! فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم ، بغير عدلٍ أفشوه فيكم، ولا أملٍ أصبح لكم فيهم!

والتبُّ في اللغة يعني : الاستمرار في الخسران، والترح يعني : الهلاك

والانقطاع(1).

والإمام(علیه السلام) يدعو على هؤلاء الجماعة - وهم مستحقون لذلك - بالهلاك والخسران والانقطاع، بعد أن شاهد إصرارهم على البغي والعدوان، ولم تنفع فيهم النصائح والمواعظ والبراهين والحجج.

وما أشبه هذا الدعاء الحسيني، بدعاء نوح (علیه السلام)على قومه بعد أن يئس من إصلاحهم.

قال تعالى : «وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا»(2) .

ص: 532


1- انظر مفردات الراغب للإصفهاني، ومجمع البيان للطبرسي
2- نوح: 26 - 27

وقد تكرّر دعاء الحسين (علیه السلام)على هؤلاء القوم في وسط خطبته حيث قال (علیه السلام):

« فسحقاً لكم ... ».

وختم خطبته بالدعاء عليهم فقال : « اللّهم احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسنيّٙ يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيف فيسومهم كأساً مصبَّرة ، فإنّهم كذبونا وخذلونا، وأنت ربّنا عليك توكّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير».

وهذه الدعوات الحسينية على هؤلاء القوم، قد استجیبت، وأنزل الله سبحانه بهؤلاء القتلة عذابه في الدنيا قبل الآخرة ، كما سوف نشير إلى ذلك .

ثالثاً : ثمّ يشير الإمام (علیه السلام)بقوله : سللتم علينا سيفاً ... إلى أعظم ردة وانقلاب حضاري يمكن أن يحصل في حياة الأُمم والشعوب ، بل قلّما نجد لها مثيلاً في تاريخ الحضارات البشرية .

لقد كان العرب قبل الإسلام أُمّة معزولة في الصحراء عن العالم، ضعيفة، لا قوة لها ولا سلطان ولا مال، فمکّنهم الإسلام من القوة والمال ، وحمّلهم رسالة التوحيد، وفتح لهم مشارق الأرض ومغاربها، وجعلهم سادة وأئمة وحكّاماً على وجه الأرض ...

والإمام الحسين(علیه السلام) يذكرهم بهذه الحقيقة فيقول لهم : إنّ الله هداكم بجدّي رسول الله (صلی الله علیه و اله)، ورزقكم به هذا السلطان الواسع على وجه الأرض، وجعلكم به أئمة وسادة في الأرض .. فهذا السلطان ( السيف ) لنا في أيمانكم، ولكنكم تخاذلتم عن نصرة أبي وأخي من قبل، وغمدتم سيوفكم عن نصرتهم،وها أنتم اليوم تسلّون السيف الذي جعله رسول الله (صلی الله علیه و اله)في أيمانكم، بوجه ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و اله)وتقاتلونه به.

وقد كان أحرى بكم أن تقاتلوا بهذا السيف معاوية بن أبي سفيان من قبل إلى جانب أبي وأخي - وتقاتلون - یزید بن معاوية اليوم إلى جانبي(1).

ص: 533


1- الآصفي، تأملات في الخطاب الحسيني : 184 مرجع سابق

فهؤلاء القوم الذين استصرخوا الحسين(علیه السلام) وكاتبوا الحسين(علیه السلام) وأعطوه العهود والمواثيق والبيعة ، وقالوا له : « إن لك في الكوفة مائة ألف سيف » فإذا بهم يرتدّون على أعقابهم، ويتنكرون لدينهم وقيمهم وأعرافهم، وتتحول سيوفهم وإرادتهم وولاؤهم إلى جانب أعدائهم، فيسلّون هذه السيوف الحرب أوليائهم!

فأيّ ردة أعظم من هذه الردّة؟ وأي سقوط وتردّي أشدّ وأعظم من هذا السقوط الحضاري الذي شاهدناه في كربلاء يوم عاشوراء !!

ثمّ نجد الإمام(علیه السلام) يستخدم في خطابه مصطلحاً آخر أكثر إيضاحاً وبياناً من مصطلح ( السيوف) فيقول : « وحششتم علينا ناراً، اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم».

وكلمة حششتهم تعني أَوقَدتُم، من حششتَ النارَ احتشاشاً أي أوقدتها. وقدروي عن علي(علیه السلام) في نهج البلاغة : «لَبِئ۟سَ حُشَّاشُ نَارِ ال۟حَر۟بِ أَن۟تُم۟».

وقد شرح صبحي الصالح اللفظة بقوله : الحُشّاش : جمع حاشّ، من «حَشَّ النارَ» إذا أوقدها. والمراد : « بئس الموقدون لنار الحرب أنتم »(1).

وقد ورد في القرآن الكريم بهذا المعنى قوله تعالى : «كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ...»(2).

وعندما نعود إلى نص كلام الإمام (علیه السلام)لنسأل عن هذه النار التي تحدث عنها یوم عاشوراء.

ص: 534


1- نهج البلاغة، ترتیب صبحي الصالح : 183، الخطبة 1205 ، وانظر الصفحة : 622 من الكتاب نفسه
2- المائدة : 64

فما لا شك فيه أن هؤلاء القوم الذين خاطبهم الإمام في ذلك اليوم كانوا من المسلمين ، وقد خرجوا لابسين لامة حربهم وسالين سيوفهم، ومشر عين رماحهم الحرب الحسين(علیه السلام) ، ولبئس ما قاموا به ، فهؤلاء هم الذين خاطبهم الإمام الحسين(علیه السلام) في هذا اليوم العصيب ، ومن قبلهم خاطبهم أميرالمؤمنين وقال لهم : «لَبِئ۟سَ حُشَّاشُ نَارِ ال۟حَر۟بِ أَن۟تُم۟» .

فهؤلاء قد أوقدوا نار الحرب على الحسين وأهل البيت (علیهم السلام)، والحسين إمامهم ووليهم، وكان ينبغي أن يوقدوها على عدوّ أهل البيت (علیهم السلام)وعدوّهم اللّدودوهم بنو أُمية ، فضيعوا بذلك حظهم ونصيبهم في جهاد عدوّهم، بل إنهم وقفوا إلى جانب عدوّهم، وأوقدوا نار الحرب على وليهم، وهو انقلاب عجيب ، وردة إلى الوراء، وسقوط في الهاوية السحيقة.

هذا هو ظاهر کلام الإمام (علیه السلام)في خطابه .

ولبعض المحققين تأملات في هذا المقطع من كلام الإمام الحسين (علیه السلام)فيقول : «ما هي هذه النار التي يتحدث الحسين(علیه السلام) عنها يوم عاشوراء ؟ ومن اقتدحها؟ وأين اقتدحها؟ هذه النار هي انفجار النور الهائل في جزيرة العرب، وكانت تحمل إلى البشرية وهجاً ساطعاً ، أنار قلوب الناس وعقولهم في الشرق والغرب ، ودخل كل بیت ، وهذا النور أذهب الله عن الناس ظلمات الجاهلية ، فتحول هذا النور إلى إيمان وإخلاص ... وإلى ثورات و حرکات للمظلومين على الظالمين.

كما أحرقت هذه النار عروش الطغاة والجبابرة في فارس والروم ومصر، وكسرت الأغلال والقيود من معاصم الناس وأقدامهم، وأطلقتهم من أسر الظالمين.

واقتدح رسول الله(صلی الله علیه و اله) هذه النار في جزيرة العرب، ثمّ عمّت الدنيا كلّها ، فلم يمض على هذه القدحة خمسون سنة، حتى كانت هذه النار تنير مشارق الأرض ومغاربها ....

ص: 535

كذلك فجّر رسول الله(صلی الله علیه و اله) کوامن الفطرة والعقل والضمير في نفوس هؤلاء الناس الخاملين في الجزيرة، فجعل منهم قمماً في الصلاح والتقوى والقوة... استطاعوا فيما بعد أن ينشروا هذه الدعوة على وجه الأرض، ويكونوا سادة وأئمة وقادة للبشرية ، بعد أن كانوا منزوين عن الحضارات في رقعة صحراوية غير ذات زرع.

أجل، ثمّ لم يمض خمسون سنة على وفاة رسول الله (صلی الله علیه و اله)... حتى حرق الناس بهذه النار، أبيات آل رسول الله ... وحرقوا بها خيام أهل بیت رسول الله في كربلاء.

فأيّ حق أضاعه هؤلاء الناس ؟ وكيف ردّوا لرسول الله(صلی الله علیه و اله) الجميل »(1)؟

هذا ما ذكر هذا العلم، وهي تأمّلات عميقة في مضامينها، إلّا أنها قد تكون بعيدة عن سياق حديث الإمام الحسين(علیه السلام).

رابعاً : ثمّ يقول (علیه السلام): فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم...

الإلب : الجَمع، وألب الناس أي جَمَعهُم ، من قولِهم : ألبَ الإبلَ ألباً ، أي جمعها وسَاقها ، وألبتُ الجيش : جَمَعتُهُ، وتألبوا : تَجَمَّعوا.

وفي حديث علي(علیه السلام) : «وا عَجباً لِطَلحَةَ، ألبَّ الناس على ابن عفّان حتى إذا قُتل أعطاني صفقته»(2).

وقال ابن منظور : الإلب ، بالفتح والكسر : القوم يَجتمعونَ على عداوة إنسان، وتألّبوا: تَجَمَّعوا. قال رؤبة :

قد أصبحَ الناسُ عَلينا أَلبَا

فالنّاسُ في جنبٍ، وکُنّا جنبا(3)

ص: 536


1- الآصفي، تأملات في الخطاب الحسيني : 187 (بتلخيص)
2- الكافي : 54/5
3- لسان العرب، مادة (ألب)

إذن نحن أمام حالة فريدة في التاريخ، والإمام الحسين (علیه السلام)يخاطب أُمة من الناس يجمعهم عداء واحد، وانحدروا من ردة إلى ردة ، ومن سقوط إلى سقوط ، حتى عادوا إلى توازنهم في الجبهة المعادية للحسين(علیه السلام) فهؤلاء في أول أمرهم يدعون الحسين ويبايعونه ويعدونه النصرة والمودة، ثمّ بعد ذلك تتحول سيوفهم ومواقفهم السياسية إلى جانب بني أُمية، ولكن قلوبهم مع الحسين كما قال الفرزدق عندما التقى الحسين في منازل الطريق : « قلوبهم معك وسيوفهم عليك »(1).

ثمّ بعد ذلك تتحول قلوبهم إلى جانب سيوفهم فتتوافق القلوب مع السيوف على عداء وقتال الحسين(علیه السلام) وأهل بيته!

فيقول لهم الإمام (علیه السلام)يوم عاشوراء : «لقد كانت تجمعنا بكم براءة واحدة من أعداء الله ، وعداء واحد لهم وولاء واحد لأولياء الله، وقد أصبحتم اليوم : ( إلباً لأعدائكم على أوليائكم).

يجمعكم بأعدائكم العداء لأوليائكم، بعكس ما يجب أن يكون تماماً ، والحالة السوّية أن يجمعكم بأوليائكم العداء لاعدائكم، وهذه ردّة كاملة بعد الردّة الأُولى، وهي المحطة الثانية من الردّة، وأقصى درجات الردّة في شخصية الإنسان»(2) .

والشيء العجيب في انقلاب وردة هؤلاء القوم ، انه أنقلاب و تغير من طرفهم فقط ، أما الطرف الآخر فلم يتغير شيء في سياسته أبداً ، « بغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم».

والإنسان إنما تتغير وتتبدل مواقفه تبعاً لتغير الواقع الذي يعيشه ، أو على الأقل يعيش الأمل في تغير هذا الواقع، إلّا أنّ الذي حصل لم يكن نتيجة تغيّر واقع

ص: 537


1- الآصفي، تأملات: 188 مرجع سابق
2- الآصفي، تأملات: 188 مرجع سابق

بني أُمية نحو العدل والإحسان ... فهاهم بنو أُمية يمارسون الظلم والعدوان والإذلال کما كانوا يمارسونه من قبل، ولا يوجد هنالك أي بصيص أمل في تغيّر هؤلاء مستقبلاً، فهم شجرة خبيثة ملعونة، امتد خبتها ليشمل الأبناء والأحفاد والفروع والأُصول جميعاً.

وهنا لابد أن نسأل عن سبب هذا الانقلاب ، مع أنه لم يتغير شيء في واقع بني أُمية، ولا يوجد أمل في تغيّرهم؟ فهل خدع هؤلاء؟ أو أنهم أذلّوا وقهروا بالارهاب والطمع؟

من البعيد جداً أن نقول إن هؤلاء الناس قد خدعوا، وهم يرون ويعيشون ظلم وجور وتعسف الأمويين في كل حين، ولا أمل في عدل بني أُمية بعد ذلك مستقبلاً.

فإذا لم يكن الناس مخدوعين ، فماذا جرى في نفوسهم حتى انقلبوا من آل رسول الله إلى آل أُمية؟

إنّ الذي حدث هو أن بني أُمية أذلّوهم بالإرهاب والطمع.

وفرق بين الخداع والإذلال، فإنّ الذي ينخدع بعدوّه : يُحبُّ عدوه ويواليه ويحارب أعداءه خطأً، وهذا عجز في الوعي والمعرفة، وليس ذُلاً وعجزاً في

الكرامة .

وأما الذي يوالي عدوّه ويعطيه سيفه وماله ثمّ يعطيه قلبه وحبّه وهو يعلم أنه له عدوّ، فهذا هو الذل بعينه وانعدام الكرامة .

وهذا لن يكون في أُمة إلّا بالإذلال، والإذلال قد يكون بالإرهاب والقوة ، وقد يكون بالمال والذهب.

وقد استعمل بنو أُمية كلا الأمرين : الإذلال بالقوّة والإرهاب ، والإذلال بالمال والسلطان فأذلوا الناس.

ص: 538

نعم استعملوا التغرير والإعلام والخداع، إلّا أن إسرافهم في الظلم والترف والمعصية كان أظهر من أن يخفى على أحد(1).

خامساً : ثمّ نجد الإمام(علیه السلام) ينبه ويذكر هؤلاء القوم بأن سلوكهم هذا يتنافى مع شيم الأحرار، ويقترب من مسلك العبيد ثمّ يذكّرهم بغدرهم القديم الذي توارثوه من أسلافهم، مستهلاً ذلك بسؤال بصيغة التعجب فيقول :

« فهلّا لكم الويلات تركتمونا والسيف مشيم، والجأش طامن، والرأي لمّا يستحصف !؟ ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدُبي، وتداعيتم إليها كتهافت الفراش؟ فسحقاً لكم يا عبيد الأُمة، وشذّاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب ، ومحرّفي الكلم، وعصبة الآثام، ونفثة الشيطان، ومطفئي السنن ! أهولاء تعضدون وعنّا تتخاذلون ؟! أجل والله ، غدر فیکم قدیم ! وشجت عليه أُصولكم، وتآزرت عليه فروعكم! فکنتم أخبث ثمر، شجي للناظر وأكلة للغاصب !».

ونلاحظ في هذا المقطع من خطبته (علیه السلام)جملة من المفردات، تتسق فيما بينها لتشكل جملة مفاهيم . فلابد من الإشارة إلى معاني هذه المفردات ، ومن ثمّ استخلاص المفهوم المراد من كلامه(علیه السلام) .

هلّا : تأتي بمعنى التضجر ، أو بمعنى اشتد، والويلات جمع ويل ومعناها التحسر ، فيكون معنى الجملة ، اشتدت عليكم الحسرات.

والسيف المشيم : السيف إذا أغمد. من شامَ السيف بمعنى : أغمده.

والجأش : النفس، وقيل القلب، وفلان قوي الجأش أي القلب، وجأش النفس رواع القلب إذا اضطرب عند الفزع، فيقال : إنه لواهي الجأش ، فإذا ثبت قيل : إنه لرابط الجأش

ص: 539


1- الآصفي : 189 - 190 مرجع سابق

واستحصف : أي استحکم، يقال رأي حصيف أي محكم . والدَبي : الجراد، أو أصغر الجراد، والواحدة : الدَباة .

والفَراش : - يفتح الفاء - جمع فراشة، وهي من صغار الحشرات الطائرة ، تتساقط على الضوء ليلاً، لضعف أبصارها.

السَّحق : تفتيتُ الشيء، يقال : سَحَقتُه فانسَحق، وأَبعدهُ الله واسحقه، أي جعلهُ سحيقاً ، قال تعالى : «فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِير»(1).

عبيد الأُمة : تقرأ بتخفيف الميم ( الأَمَة ) بمعنى الجارية ، كناية عن الذل المأخوذة من قوله : «ذَلَّ قومٌ تملكهم أَمَة». وتجري على الألسن بالتشديد ، وتعني الطائفة من الناس.

شُذّاذ الأحزاب : جمع شاذ ، وهم المتفرقون من الجمع، ويعبر عنهم بالفارطة والغوغاء.

وشَجَت : الوشيجة عرقُ الشجرة وأُصولها .

الأزر: القوة والشدة، وآزره : أعانه وقوّاه. شجاً للناظر : الشجا الحزن، والشجي ما يعترض بالحلق من عظم وغيره . هذه أهم المفردات التي كان ينبغي بيان معانيها.

والمعنى العام لهذه المفردات في سياقها البياني : أن الإمام (علیه السلام)يدعو على هؤلاء بالويلات واشتداد الحسرات، لأنهم تركوا أمامهم ومسؤولياتهم الدينية والجهادية، ولا زالت السيوف في أغمادها ، والنفوس مطمئنة إليهم، والآراء لم تستحکم بعد، وأسرعوا إلى بني أُمية وتهافتوا على الدنيا ، كما يتسارع طائر الجراد الصغير ، أو الفراش الذي يتهافت على ضوء القنديل، لكنه سرعان ما يسقط و ينتهي.

ص: 540


1- الملك : 11

ثمّ يدعو عليهم مرة أُخرى بالسحق وتفتيت الشمل والإبعاد عن الله ورحمته ورضوانه ، لانهم يستحقون ذلك ، فهم عبيد الأُمة، وشذاذ الأحزاب ...

ثمّ يسأل الإمام متعجباً : كيف تقصدون بني أُمية ، و تعينونهم على باطلهم ، و تخذلون أهل بیت نبيكم عن حقهم.

وكأن الإمام يجيب عن هذا التساؤل فيقول : إن ذلك ليس بغريب عن أُمة من شذاذ الأحزاب ، وعرف عنهم الغدر قديماً ، وتوارثه الأبناء والأحفاد ، بعد أن اشتد عودهم وامتدت وقویت عروقهم على هذه الحالة ، فكانوا بمثابة أخبث ثمرة، ينظر إليها الناظر شجاً وحزناً وألماً، ويقطفها الغاصب ويأكلها من دون أن يبذل في أكلها ثمناً ، وهكذا أنتم وضعتم سيوفكم وعقولكم وقلوبكم في صالح بني أُمية من دون مقابل.

تأملات في المفاهيم :

لقد طرح الإمام الحسين(علیه السلام) في هذا المقطع القصير من خطبته جملة من المفاهيم نتوقف عند بعضها :

المفهوم الأول : إن هؤلاء القوم «نَسُوا اللهَ فَأَن۟سَاهُم۟ أَن۟فُسَهُم۟»

هذا الإنزلاق الخطر ، وهذا الانقلاب الحضاري ، من أعجب ما يمكن أن يقع في تاريخ البشرية ، ومن الظواهر النادرة في حياة الأُمم والشعوب والأفراد، وقلما نجد أُمة من الأُمم، أو فرداً من أفراد بني البشر ، يعادي أصدقاءه ويوالي أعداءه، وينفر من أوليائه ومحبيه ويقاتلهم، وفي المقابل ينجذب إلى أعدائه ويصافحهم ويقدم لهم نفسه، وهو يعرفهم جيداً أنهم أعداؤه وليس مخدوعاً بهم.

ولهذا يتعجب الإمام من هذه الظاهرة فيقول لهم : « ويحكم أهؤلاء تعضدون، وعنّا تتخاذلون».

ص: 541

وليس هنالك تفسير لهذه الظاهرة إلّا أن يكون الإنسان قد نسي نفسه لأن لنفس الإنسان حبّاً وبغضاً، يحب أولياءه ويبغض أعداءه ، فإذا نسي الإنسان نفسه ، نسي من يجب أن يحب ومن يجب أن يبغض ، وأعظم من ذلك أن ينقلب عنده الحب والبغض، فيحب عدوّه ويبغض وليه.

وهذه الحالة هي التي يعاقب الله بها الذين ينسونه ، فينسيهم أنفسهم : «نَسُوا اللهَ فَأَن۟سَاهُم۟ أَن۟فُسَهُم۟»(1).

والإمام الحسين خاطبهم يوم العاشر من المحرم بقوله : «لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتباً لكم ولما تريدون إنا لله وإنا إليه راجعون ، هؤلاء قوم کفروا بعد إيمانهم فبعداً للقوم الظالمين»(2).

والذين خاطبهم الحسين (علیه السلام)- في خطبته الثانية - يوم عاشوراء كانوا من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، ونسوا حبهم وبغضهم، فأحبوا بني أُمية ، وكان عليهم أن يعادوهم، لما جنت أيديهم من الظلم والعدوان ، وقاتلوا أولياء هم الذين أمر الله تعالى المسلمين بمودّتهم واتباعهم في آيات محكمات من كتابه(3).

المفهوم الثاني : أخلاق العبيد وأخلاق الأحرار، وأخلاق الدين وأخلاق السياسة :

الإمام الحسين (علیه السلام)يخاطبهم بقوله : « یا عبيد الأمة، وشذاذ الأحزاب »، وهو يتحدث عن الطريق الذي سلكوه في تعاملهم مع قضية الأُمة الإسلامية ، وهي القضية التي نهض من أجلها الإمام الحسين وكان يجب أن يقوموا معه

ص: 542


1- الحشر : 19
2- المقرم، مقتل الحسين : 227 - 228 نقلاً عن مقتل محمد بن أبي طالب الحائري
3- الآصفي، تأملات : 190 - 191، وانظر الآيات الشوری : 23، والأنعام : 55

لنصرة الحق، إلّا أنهم انقلبوا على أعقابهم، وانحرفوا عن مسيرتهم، وتحول ولاؤهم وسيوفهم من جبهة أوليائهم إلى جبهة أعدائهم.

وهذه هي سلوك وأخلاق العبيد ، ولا يمثل سلوك وأخلاق الأحرار، وتمثل سلوك شذاذ الأحزاب وأهل السياسة وألاعيبها، ولا تمثل الدين في قيمه وأخلاقياته ومثله العليا.

فعبد الأُمَّة ، أو عبد الأَمَة ، مسحوق الشخصية لا يملك قراره بيده ، فيقر بالطاعة والولاء لسيده، لأن العبد وما يملك لمولاه، فالقرار قرار سیده ، والإرادة لسيده ، وخط العمل يرسم له، وليس على العبد سوى الطاعة والولاء الأعمى.

والعبيد ليس لهم ولاء ثابت، وإنما ولاؤهم لمن يشتريهم، فمن يشتريهم من سوق النخاسة يستحق ولاءهم، ويتحول ولاؤهم من مولى إلى مولى في سوق النخاسة في لحظة واحدة ، عندما يدفع المولى الجديد الثمن إلى المولى القديم ، وعندما يدفع المولى القديم السوط إلى المولى الجديد .

إنهم في ساعة واحدة ينسون ولاءهم وحبهم القديم، ليقدّموا إلى المولى الجديد ولاءهم الجديد(1).

والإمام الحسين (علیه السلام)يقول لهم، إن ولاءكم وسيوفكم وقلوبكم وعقولكم قد تحولت إلى بني أُمية ، كما يتحول ولاء العبد لسيده الجديد في سوق النخاسة ، وهذه هي أخلاق العبيد الذين يعيشون حياة الذل والهوان، وليس لهم أن يرفضوا شيئاً یریده سیدهم.

وللإمام الحسين (علیه السلام)وفي آخر لحظات يوم عاشوراء كلمة معبرة أُخرى تكمل هذه الجملة من خطابه ، يقول لهم مخاطباً : «يا شيعة آل أبي سفيان

ص: 543


1- الآصفي، تأملات: 191

إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم وارجعوا إلى أحسابكم إن کنتم عرباً كما تزعمون »(1).

إن حرية الإنسان في المفهوم الإسلامي الذي يمثله مفهوم أهل البيت (علیهم السلام)تنبع من حرية إرادته ، بمعنى أن يكون رافضاً حتى لو لم يتحرك لسانه، وأن يرفض بقلبه، وأن يعطي قراره وقناعته ، وولاءه وسيفه بإرادته هو وليس بإرادة الآخرين، بل حتى لو منعه الآخرون عن ذلك ، وهذه هي الحرية الحقيقية التي لا يمكن أن يطالها ضعف ، ولا يمكن أن تكسوها هزيمة(2).

في رواية عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام)يقول : «الحرُّ حرٌّ في جميع أحواله ، إن نابته نائبة صَبَر عليها ، وإن تداکت عليه المصائب لم تكسره، وإن أسر وقهر واستبدل باليسر عسراً»(3).

أما « شذاذ الأحزاب » أو « شذاذ الآفاق » فهذه أيضاً ظاهرة ومسلكية عجيبة نعيش بعض فصولها عند الساسة المحترفين، وصنعتها سياسة بني أُمية في زمن معاوية ويزيد بن معاوية ، حيث كان شراء الذمم والولاءات بالأموال والمناصب على قدم وساق.

والحزب بمعناه اللغوي والسياسي يعني : جماعة الناس، وكل قوم تَشاكَلَت قُلوبُهم وأعمالُهم فَهُم أحزاب، أو كلّ طائفة هَواهُم واحد(4) .

ولا يبتعد المعنى الاصطلاحي للحزب عن المعنى اللغوي كثيراً ، فالحزب في المفهوم السياسي يعني : « اجتماع أشخاص يعتنقون العقيدة السياسية نفسها»(5).

ص: 544


1- المقرم: 275، والطبري : 450/5
2- فضل الله ، من وحي عاشوراء : 90 (بتصرف)
3- بحار الأنوار : 33/ 20
4- ابن منظور، لسان العرب : مادة (حزب)، وموسوعة السياسة للكيالي : 2/ 310 وما بعدها
5- المصدر الثاني نفسه : 2/ 310 وما بعدها

وبتعبير أوسع وأشمل يعرف الحزب ب «مجموعة من المواطنين يؤمنون بأهداف سياسية وأيدلوجية مشتركة وينظمون أنفسهم بهدف الوصول إلى السلطة وتحقيق برنامجهم»(1).

والذي ينتمي إلى حزب معين يتكيف ولاؤه لحزبه عادة، ولا يحيد عن هذا الولاء في سرّاء الحزب أو ضرّائه، وفي انتصاراته السياسية أو هزيمته ، وسواء حصل حزبه على مكاسب سياسية ووصل إلى السلطة، أم أنه بقي خارج نطاق السلطة وفي جبهة المعارضة.

فالحزبي الحقيقي يعيش حالة من التوازن في سلوكه وتصرفاته وولاؤه وحبه وبغضه، وفي اطار حزبه و مقرراته السياسية والعقائدية.

أما الحزبي المزيف والمتذبذب والذي يعبر عنه الإمام الحسين ب(شذاذ الأحزاب) فهؤلاء طبقة عجيبة من محترفي السياسية، ولهم مسلكية سياسية متقلبة مع الرياح السياسية ، ووفق مصالحهم الدنيوية.

والسمة الأساسية لهؤلاء المحازيب، أن ولاءهم للمنتصر دائماً، حقاً كان أم باطلاً، فيتحول ولاؤهم مع انقلاب الرياح السياسية ، فإذا اتجهت ريح السياسة إلى الشرق صار ماركسياً شيوعياً ونجده ينظر للفكر الماركسي ويرفع شعاراته ويتزيا بزیه، ويطيل شاربيه ، ويتغنى بمصطلحاتهم.

وإذا اتجهت الرياح السياسية نحو الغرب نراه من أشد المدافعين عن الديمقراطية الأمريكية، والفكر الليبرالي، ويدعو إلى المجتمع المدني ....

وإذا توجهت الرياح نحو الإسلام والحركات الإسلامية ، فلا مانع عنده من تغير ملامحه الخارجية، فيطيل لحيته ، ويقصر ثوبه ، ويضع المسواك بين أسنانه ،

ص: 545


1- المصدر نفسه : 2/ 310

ويرفع الشعارات الإسلامية ، ويدعو بالويل والثبور وعظائم الأُمور على الظلم والظالمين والمستكبرين.

فهؤلاء هم «شذاذ الأحزاب» ومسلكية محترفي السياسة، ولا تعدم أن تجد لها نماذج في مجتمعنا، كما كانوا من قبل في عهد علي والحسن والحسين(علیهما السلام) .

ويمثل هؤلاء حالة مرضية خطرة في المجتمع، إذ يلبّسون على الناس ويخدعون أُمة منهم، والناس تبع لساستهم.

وتمثل هذه الظاهرة في نفس الوقت «حالة ولاء سياسية عائمة، لها مدلولات نفسية خطيرة، تكشف عن فقدان الأصالة والقيم في النفس، والتبعية المطلقة للمنتصر والقاهر، والانسلاخ الكامل من الذات والقيم»(1).

المفهوم الثالث : سابقة الغدر عند هؤلاء القوم :

يخاطبهم ويقول لهم الإمام الحسين(علیه السلام): «أجل والله غدر فیکم قديم ...» أي هذا الغدر والخبث فيكم أصيل وعريق ، ورثه الأبناء من الآباء، فأنتم أسوأ خلف لأسوأ سلف ، إذ اشتبكت على هذا الغدر أُصولكم، وتأزرت وهاجت و تفتّحت عليه فروعكم، فأنتم أخبث ثمر للشجرة الخبيثة(2).

وهذه الجملة من خطبة الإمام الحسين(علیه السلام) من الجمل العميقة جداً في مدلولاتها، وتحتاج إلى تدبّر وتأمل عميق للكشف عن مكنونها، إذ يشير الإمام - وبكلمات موجزة جداً - إلى قانوني الخير والشر وتأصلهما في الإنسان، وتدخل عامل الوراثة في ذلك حيث ينتقل الخير والشر ، والطيب والخبيث من جيل إلى جيل آخر بعد أن يتجذر ويتعمق ويتأزر.

ص: 546


1- الآصفي، تأملات : 192
2- المصدر نفسه : 195

ولم نجد - ومع الأسف الشديد - من المحققين والكتّاب من توقف عند هذه الكلمات الحسينية وتأمل فيها للكشف عن مدلولاتها التربوية والأخلاقية والأُسرية.

نعم هنالك بعض الشذرات القليلة والعميقة سجلتها يراعة الشيخ الآصفي في تأملاته وتعليقه على هذا المقطع من الخطاب الحسيني، فيقول :

«كما أن للخير عراقة وأصالة ، كذلك للشر عراقة وأصالة، وجذور الخير تمتد إلى الفطرة والعقل والضمير والقلب ، وجذور الشرّٙ تمتد مع الهوى ، وعندما يتأصّل الشر والهوى في النفس يفقد صاحبه کل منابع الخير في نفسه ، وتنضب في قلبه وضميره وعقله وفطرته كل جذور الخير وأُصول الخير .

ويدخل عامل الوراثة في تأصيل الخير وحالة الشر معاً، وهذا لا يعني أن الوراثة تشكل عاملاً قهرياً في تأصيل الخير والشر، وإنما لعامل الوراثة دور هام في تأصيل الخير والشر . فالوراثة تنقح الخير وتنقح الشر، ولكن من دون إجبار وقهر .

ومن هنا فإن البشرية تنشطر إلى شطرين : الشجرة الطيّبة ، والشجرة الخبيثة ، وكل منهما شجرة، وكما أن للشجرة جذورة وثمارة، وتتشابه الجذور والثمار في الشجرة، وإن الجذور أصل الشجرة والثمار فرعها، والشجرة واسطة في نقل الخصائص من الجذور إلى الثمار.

كذلك الشجرة الطيّبة والشجرة الخبيثة ، كل منهما ينقلان الطيّب والخبيث من الأسلاف إلى الأبناء فيتعرق في كل منهما الخير والشر.

وهاتان الشجرتان تشكلان خطين في تاريخ البشر : خطّاً صاعداً، مستمراً في الصعود، وخطّاً هابطاً مستمراً في السقوط، فالأُسرة المرودية في سقوط ، والأُسرة الإبراهيمية في صعود، والأُسرة الموسوية في صعود،والأُسرة الفرعونية في سقوط .

ص: 547

وقانون الوراثة ينقّح هذا الصعود، وذلك الهبوط، ولا ينقل فقط خصائص الخير والشر من الأسلاف إلى الأبناء، وإنما ينقّحه ويصفّيه، ويفرز الشرّ عن الخير ، والخير عن الشر، وکلما یمر الزمن على هاتين الأُسرتين تتسع الفاصلة بينهما، حتى إذا خلصت نفوسهم عن الخير، ونضب معين الخير في نفوسهم، نزل عليهم العذاب لأنهم لا يستحقون الرحمة عندئذ. كما حدث في عهد نوح (علیه السلام).

والذي حدث في عهد نوح يحدث في أي وقت آخر، فتنتهي الأُسرة الخبيثة وتسقط ، فتبدأ دورة جديدة من التاريخ.

وإلى هذا القانون ( قانون الوراثة ) يشير الإمام الحسين (علیه السلام)في خطبة يوم عاشوراء : أجل والله غدر فیکم قديم، وشجت عليه أُصولكم، وتأزّرت عليه فروعكم، فكنتم أخبث ثمر، شجي للناظر وأكلة للغاصب»(1).

المبحث الرابع: الاباء والعزة الحسينية

اشارة

في آخر مقطع من خطبة للإمام الحسين (علیه السلام)نلاحظ أن الإمام (علیه السلام)طرح أهم قضية من القضايا التي طرحها في نهضته المباركة إلّا وهي قضية عزة وذلة الأُمة الإسلامية ، فقال(علیه السلام):

ألا وإنّ الدعيّ ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين ، بين السلّة والذّلة ، وهیهات منّا الذلّة ! يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت ،

ص: 548


1- الآصفي، تأملات : 193 - 195 (بتصرف و تلخیص). وللتوسع انظر بحث وارث الأنبياء: 259 - 268 (من المصدر نفسه)

وأُنوف حميّة ، ونفوس أبيّة ، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإنّي زاحف بهذه الأُسرة مع قلّة العدد وخذلة الناصر!

فلابد أن نتوقف أولاً عند معاني بعض مفردات هذا النص ، ثمّ نتأمل فيه لنستلهم منه بعض المفاهيم والدروس والعبر.

رَكزَ : من ركز الريح أي أثبته.

السّٙلَّة : من سلَّ السيفَ أخرجه من الغمد .

حُجُور طابَت : الحجور بمعنى البيوت كما في قوله تعالى : «وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ»(1).

الأنفُ : معروف والجمعُ أُنُفُ و آنافُ وأُنُوف ، وحَمِيُّ الأنف : إذا كان أَنِفاً يأنف أن يُضام .

أبية : أبي الشيء يأباه إباءً وإباءةً : كرِهَه ، ورجل أباء إذا أبي أن يضام . هذه هي أهم معاني مفردات هذا النص.

أما المفاهيم والدروس والعبر التي يمكن استخلاصها من هذه الكلمات القصيرة في ألفاظها، والكثيرة في معانيها فهي مفاهيم كثيرة ، نتوقف عند بعضها :

المفهوم الأول : عزّة الأُمة الإسلامية وكرامتها :

الإمام الحسين (علیه السلام)كان يعيش هموم الأُمة الإسلامية وتطلعاتها، وكان يبتغي من خلال نهضته المباركة أن يصلح أوضاع هذه الأُمة «خرجت لطلب الاصلاح في أُمة جدي» ولم يكن الحسين (علیه السلام)يحمل مشروعاً قتالياً ، ولو ابتغى ذلك لأعدّ له عدّته من الرجال والخيل والسيوف، وأخرج معه بني هاشم وغيرهم من حلفائها من القبائل الأُخرى، إلّا أنه (علیه السلام)لم يفعل ذلك لأنه لم يكن يعلق آماله في إصلاح

ص: 549


1- النساء: 23

الأُمة على أي مشروع قتالي أو نصر عسكري، وإنما أراد أن يبعث الحياة في هذه الأُمة من خلال توعيتها وتذكيرها بمسؤولياتها اتجاه الأوضاع السياسية ومسؤولية الحاكم اتجاه الأُمة، ومسؤولية الأُمة اتجاه الحاكم في خط العدل والظلم .

فكان يقول للأُمة : «نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم ولكم فيَّ أُسوة» يعني أنا أتحمل المسؤولية كما أنكم تتحملونها، وأنا شريككم في تحمل المسؤولية.

إلّا أن بني أمية وولاتهم ورموزهم من أمثال عبيد الله بن زیاد والذي يعبر عنه الإمام الحسين(علیه السلام) في هذه الخطبة ب( الدعي بن الدعي) ، كانوا في الاتجاه المعاكس تماماً لتطلعات الإمام الحسين (علیه السلام)والتي تمثل تطلعات الأُمة الإسلامية، فكانوا يمثلون الفساد والإفساد بكل أشكاله وألوانه، ولهذا لم تكن تسع صدورهم لأي دعوة إصلاح في المجتمع سواءً صدرت من الحسين(علیه السلام) أو من غيره، وكانوا يواجهون هذه الدعوات، ويصدونها بعنف وشدة وقسوة.

فكان المصلحون والشرفاء وأصحاب الضمائر الحية في ذلك العهد يعيشون بين هذين الخيارين (السّٙلَّة أو الذلة) ، وكل من يعارض حكم بني أُمية ، ويرفض المشروع الأموي ، يُعرّض نفسه لهذين الخيارين ، أما أن يقتل أو يعيش حياة ذليلة ليس فيها طعم ولا لذة.

المفهوم الثاني : موقف الحسين في كربلاء، يمثل موقف الإسلام :

لم ينطلق الإمام الحسين (علیه السلام)في موقفه من بني أُمية من موقف شخصي واعتبارات ذاتية - وإن كانت شخصيته شخصية مقدسة ولها وزنها الإيماني والاجتماعي - وإنما كانت جميع مواقفه تمثل الإسلام في تعاليمه وقيمه و مفاهیمه.

وقد يتصور البعض ومن خلال ما توحي به كلمة الحسين (علیه السلام): «هیهات منّا الذلّة ..» أن هذا الموقف موقف شخصي، وأن الحسين (علیه السلام)يشعر أنه عزیر ، وقوي ، فعبر بهذه الكلمات عن حالته الشخصية ....

ص: 550

إلّا أن هذا التصور خاطیء بلا شك، فلامام الحسين (علیه السلام)ممّا لا شك فيه قوي وعزيز إلّا أنه لا يعبر عن حالته الشخصية وإنما يتكلم بلغة الجمع لأن قضية العزة والذلّة ليست من الأُمور الشخصية الذاتية حتى يترك فيها الخيار للإنسان المسلم ليختار منها ما يشاء ، وإنما موضوع العزة في مقابل الذلة تمثل الإطار العام الذي يلتقي بكل الأُمور المقدسة. فالله جعل العزة لنفسه ولرسوله وللمؤمنين ، ومعنى ذلك أن لا خيار للمؤمنين بأن يكونوا أذلاء، فليس من حقك أن تتنازل عن عزّتك، ولهذا نجد الإمام الصادق (علیه السلام)يعقب على الآية الكريمة التي تقول : وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ(1)، فيقول : «إنّ الله فوضَ للمؤمن أمره كله، ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً»(2).

والإمام الحسين (علیه السلام)طرح عليه خیاران لا ثالث لهما: إما التسليم أو الموت ، واختار الموت على الذلة والاستسلام، لأن الأمر لم يكن يتناول شخصه فقط ، وإنما كان يتناول الحالة العامة للأُمة، لأنهم يريدون أن يذلوا الأُمة الإسلامية من خلاله(3).

المفهوم الثالث : الحسين يمثل القدوة والأُسوة التصحيحية :

لا يخفى دور الأُسوة والقدوة في حياة الإنسان عامّة، وحياة المسلمين الإيمانية خاصة، لأنها هي التي تجسد مفاهيم الإسلام قولاً وعملاً، وتحولها من واقع ذهنی تجریدي إلى واقع حياتي يعيش مع الإنسان، ويتفاعل معها.

ولهذا نجد القرآن الكريم يرشد إلى قدوة الأنبياء (علیهم السلام)عامة، وقدوة وأُسوة النبي (صلی الله علیه و اله)خاصة.

ص: 551


1- المنافقون : 8
2- البحار : 64 / 72، من وحي عاشوراء : 95
3- شمس الدین، عاشوراء : 380

قال سبحانه : «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ...»(1).

وقال تعالى : «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ...»(2).

وقال تعالى : «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ...»(3) .

وكانت أُسوة الرسول الأكرم أُسوة تأسيسية ، إذ أكمل الله سبحانه دينه، ووضع للمسلمين شرعة ومنهاجاً، وأودع أمر ذلك إلى نبيه الخاتم (صلی الله علیه و اله)فقال سبحانه :

«وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا...»(4).

وأرشد رسول الله (صلی الله علیه و اله)المسلمين إلى الأُسوة والقدوة من بعده في أكثر من موضع، وضمن أحاديث مستفيضة ، فقال (صلی الله علیه و اله): «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي»(5).

فأهل البيت قدوة وأُسوة والحسين(علیه السلام) منهم، قدوة تصحيحية ، تصحح مسيرة الاسلام من أي انحراف أو خروج عن تعاليمه وتشريعاته وقيمه.

ولهذا كان الإمام الحسين (علیه السلام)يقول : « ... خرجت لطلب الإصلاح في أُمة جدي ...» ويقول : « .. وأنا أحقّ من غير ...» ويقول : «... فلكم فيَّ أُسوة »

ص: 552


1- الممتحنة : 6-4
2- الممتحنة : 4 - 6
3- الأحزاب : 21
4- الحشر : 7
5- للتوسع انظر ألفاظ الحديث عند ابن حجر في الصواعق المحرقة : 149، ط. مكتبة القاهرة، مصر ، الطبعة الثانية، (1385 ه - 1965م)

ومما لا شك فيه أن عملية التصحيح لا تقلّ شأناً عن عملية التأسيس ، فكما أن مهمة التأسيس تستوجب التضحية والفداء، وقدم أنبياء الله ورسوله أنفسهم وأرواحهم سخية من أجل ذلك ، كذلك مهمة التصحيح تستوجب التضحية والفداء بالنفوس والأرواح والأولاد.

وهذا ما فعله الإمام الحسين (علیه السلام)في يوم عاشوراء فوقف ليقول في آخر خطبة له : « إلّا وإني زاحف بهذه الأُسرة مع قلّة العدد وخذلان الناصر».

المفهوم الرابع : حيوية شعارات الإمام الحسين (علیه السلام):

يجسد الشعار واللافتة التي ترفع ، كل القيم والمفاهيم التي يتبناها ويدافع عنها صاحب الشعار، وعادة ما تكون هذه الشعارات بألفاظ موجزة، ومؤثرة، ولها وقع خاص وفاعل.

وإن كانت لكل نهضة أو حركة ثورية في المجتمع الإنساني والإسلامي شعاراتها، فإن لنهضة سيد الشهداء المباركة شعاراتها أيضاً.

إلّا أن الفارق المهم بين تلك الشعارات ، وشعارات الإمام الحسين(علیه السلام) أن تلك الشعارات ماتت ودفنت بموت أصحابها، وشعارات الإمام الحسين(علیه السلام) خلدت بخلود صاحبها، وبقيت فاعلة ومؤثرة إلى يومنا هذا.

لقد تحولت تلك الشعارات الحسينية إلى مدرسة للمجاهدين والأحرار والذين يبتغون العزة والكرامة والإباء، وكل الحركات الثورية والجهادية التي أعقبت ثورة الحسين (علیه السلام)ونهضته المباركة استمدت من هذه الشعارات كمحرك لها، وباعث لرجالها نحو التضحية والجهاد والاستشهاد.

وقد مرّ بنا مقولة مصعب بن الزبير بعد أن خذله أهل الكوفة وحوصر من قبل جیش الشام، فنادى رجلاً من أصحابه يدعى عروة وقال له : أخبرني عن الحسين بن عليّ ، كيف صَنَع بإبائه النزول على حُكم ابن زیاد و عَزمه على الحرب؟

فاخبره.

ص: 553

فأنشد يقول :

وإنَّ الأُلي بالطَّفِ من آلِ هاشمٍ

تأسَوا ، فَسَنُّوا للكرامِ التَّأسيا

يقول الراوي : فعلمتُ أنه لا يَريمُ حتَّى يُقتل(1).

وكل شعارات الحسين(علیه السلام) في نهضته المباركة ، شعارات ثورية ومؤثرة وفاعلة ، ولا زال دويها و صداها يصدع في أذن الدهر ، وتحرك الأُمم والشعوب وتبعث فيهم روح التضحية والجهاد، وترعب الطواغيت والظالمين والمستبدين.

فهل يمكن للأجيال القادمة أن تنسى الحسين (علیه السلام)وهو يقول : «... ومثلي لا يبايع مثله » . أو : « خط الموت على ولد آدم .... » أو : «لا أعطيكم بيدي اعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد».

إلّا أنه يبقى لقول وشعار الحسين الأخير في حياته : « إلّا وإن الدعيّ بن الدعيّ، قد ركز بين السلة والذلة، وهيهات منّا الذلّة» وقعه الخاص، وفاعليته اللامتناهية ، ومحرکتيه التي لا تتوقف.

ولهذا تحول هذا الشعار إلى أُنشودة يتغنى بها المجاهدون في سبيل الله ، والأحرار والدعاة إلى المبادئ والقيم الإنسانية.

فسلام على الحسين يوم ولد، ويوم نهض من أجل الحق والعدل ، ويوم وقف في عرصة كربلاء يقدم القرابين بين يدي الله وهو يقول : إلهي إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى ويوم وضع يده تحت منحر طفله المذبوح، ورمی بدمه نحو السماء .

وهو يقول : هون ما نزل بي إنه بعين الله .

ص: 554


1- الطبري : 6/ 156، ولسان العرب (أسي)

ويوم سقط على رمضاء کربلاء وشفتاه الذابلتان من الظمأ تتمتمان بذكر الله وهو يقول : «صبراً على قضائك يا رب لا إله سواك يا غياث المستغيثين ، مالي ربٌّ سواك ، ولا معبود غیرک».

السَّلام عليك يا أبا عبد الله ، وعلى الأَرواحِ التي حَلّت بفنائك ، عَلَيكَ منّٙي سَلامُ اللهِ أبداً ما بَقيتُ وبقي الليلُ والنهارُ ، ولا جَعلهُ اللهُ آخرَ العهدِ منِي لزيارتكم ، السَّلام على الحُسَين، وعَلى عليّٙ بن الحُسَين، وعلى أولاد الحُسَين، وعلى أصحاب الحُسَين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد و آله الطيبين الطاهرين.

ص: 555

ص: 556

الملحق

اشارة

ص: 557

ص: 558

عزّة الإمام الحسين (علیه السلام)في الشعر والأدب

قصائد وأبيات شعرية

مختارة لأُدباء وشعراء

خَلَّدوا ذكرى الحسين(علیه السلام)(1)

ص: 559


1- رتبت القصائد بحسب الحروف الأبجدية لأسماء الشعراء

ص: 560

«يا أبا الطف»(الشيخ أحمد الوائلي)

الجراحاتُ والدمُ المطلولُ

أينعت فالزمانُ منها خميلُ

ومشت تنشىءُ الفتوحَ وبعضُ

الدمِ في مايعطيهِ فتحٌ جليلُ

والدمُ الحرُّ صرخةٌ تنبيءُ الأحرار

والثائرينَ هذا السبيلُ

وحديثَ الجراحِ مجدٌ وأسمى

سِيَرِ المجدِ ما روَتهُ النُّصولُ

ثُمَّ عذراً إن تِهُتُ یا دمُ یا جرحُ

فقد أسكر البيانَ الشمولُ

يا أبا الطَّفّٙ يا نجيعاً إلى الآن

تهادى على شذاهُ الرمولُ

تَوَّجَ الأرضَ بالفتوحِ فللرمل

على كلّٙ حبَّةٍ إكليلُ

أرجفوا أنّك القتيلُ المُدَمَّى

أوَ مَن يُنشىءُ الحياةَ قتيلُ

كذبوا ليس يُقتلُ المبدأُ الحُرُّ

ولا يغلبُ الُّهى التضليلُ

كذبوا لن يموت رأيٌ لنور الشمس

من بعضِ نورهِ تعليلُ

كذبوا كُلُّ ومضةٍ من سيوف الحقّٙ

في فاحم الدُّجى قنديلُ

کُلُّ عِرقٍ فَروهُ لَهوَ بوجه

الظلمِ والبغي صارمٌ مسلولُ

ويموتُ الرسولُ جسماً ولكن

في الرسالات لن يموتَ الرسولُ

يا أبا الطَّف إن أُخذت فقد

أَعطيت للمجد والعطاءُ جزيلُ

فالتراب الحديبُ ما أخضرَّ لو لم

يتصدّى لهُ السحابُ الهطولُ

ومنالُ الرغابِ دونَ دماءٍ

أُمنياتُ كذوبةٌ ومُحولُ

وصدی کُلّٙ هادرٍ وبليغٍ

ليسَ مثلَ الجراح حينَ تقولُ

وستبقي يرويك للدهر مجداً

الدمُ الحرُّ والحسامُ الصقيلُ

ص: 561

سيبقى الحسينُ شَعاراً(الشيخ أحمد الوائلي)

دأبتُ أزوركَ في كلّٙ عامٍ

وألثمُ تربكَ يا ابن النبي

ويا ابنَ عليٍّ ويا ابن البتولِ

ويا ابن ذرى المجدِ في يثربِ

أُترّبُ خدّي بعفرِ الثرىٰ

بحيثُ دماؤكَ لم تنضبِ

بحيثُ يلعلعُ ثغرٌ أبيٰ

بأن يحتسي الذلَّ في مشرَبِ

وهامٌ أبي للطغاةِ الركوع

وإن فلقوا منهُ بالمضربِ

يخبرنا أنَّ دنيا الشموخ

بغير الأسنَّةِ لم تُطلبِ

فأنتَ الصلابةُ والاعتدادُ

إذا افتقر الساحُ للأصلبِ

وأنتَ إذا ما استبدَّ الظلامُ

شمسٌ مدى الدهرِ لم۟ تغربِ

وأنتَ السدادُ وأنت الرشادُ

وأنت النزوعُ إلى الأصوبِ

سموٌّ وهم۟ في مهاوي الحضيض

وعزٌّ وهم۟ عند عیشٍ وبي

فيالكَ يا لَعطاءِ الدماءِ

يُحيلُ الفلا لثرىً معشبِ

ویا کربلا یا هديرَ الجراح

وزهو الدم العلوي الأبي

ویا سفرَ ملحمةِ الخالدينَ

بغيرِ البطولةِ لم تكتبِ

وياشفةً بنشيدِ الدما

تغرُّد عبرَ المدى الأرحب

وياعبقاً في ثرى العلقميّ

يشدُّ الأُنوفَ إلى الأطيبِ

ويا صرحَ مجدٍ بناهُ الحسين

وأبدع في رصفهِ المعجبِ

یُشیَّدُ من جبهةٍ أُدميت۟

وخدٍّ بعفرِ الثرى متَربِ

سيبقى الحسينُ شعاراً على

أصيلکِ والشفقِ المُذهَّبِ

ص: 562

قتلَ الحسينُ يزيدا(اللوائلي أيضاً)

يومٌ طلعتَ على الزمانِ وليدا

سيضلُّ ملءُ فمِ الزمانِ نَشيدا

یممتُ يومَکَ كالظماءِ بلفحةِ

الصحراءِ تلتمسُ الغدیرَ ورودا

فَرأيتُ بينَ شروقهِ وغروبهِ

صوراً تعزُّ على النعوتِ حدودا

مثلتَ خيّرها ومثَّل شرَّها

نفرٌ فكنتَ سماً وكانَ صعيدا

وإذا أراق اليومَ زاكيةَ الدما

فغداً سترفعُها الشعوبُ بنودا

فرأيتکَ العملاقَ جيداً متلعاً

ينعي على الأقزامِ تُهطع جيدا

ورأيتُك الفكرَ الحصيفَ يشقُّ

أستارَ الغيوب ويستشفُّ بعيدا

ورأيتك النفسَ الكبيرةَ لم تكن۟

حتى على مَن۟ قاتلوکَ حقودا

فعلمتُ أَنَّك نائلٌ ما تبتغي

حتماً وإن يكُ شل۟وكَ المقدودا

وبأنَّ من قتلوكَ ودّوا عكسَ ما

قَد۟ كان لو علموا المدى المقصودا

ظنّوا بأن قتلَ الحسينَ يزيدُهم

لكنَّما قتلَ الحسينُ يزيدا

ص: 563

صرخةُ الحق(الشاعر بولس سلامة)

صرخةُ الحق(الشاعر بولس سلامة)(1)

جَدَّل السيف بالغداة جريئاً

قالَ حَقاً في دولةِ استبداد

سلبوه من بعد قتل، وإنّ

البند يهوي الخفوق في الأعواد

فيكون التَّياهَ بين عبيد

ويكون الفريدَ في الأفراد

ند عن ذلّة القطيع فلم

يُذعن لسوطٍ بل ظلَّ صعب القياد

يألف الخسَّةَ البغاثُ ويبقى

النسر في الطود شامخ المنقاد

لا تفلّ الأيام من عزمه

العالي، فيعنو لذلة واضطهاد

وهو يدري أن الإباء ودرب

الحقّ درب كثيرة الأضداد

كلُّ قولٍ بل کُلَّ همسة بالٍ

خطوات لميتة استشهاد

ذاك شأن الأحرار في كل عصر

ذَهَّبته بطولة القواد

لم يشّهد صرح الحضارة شعبٌ

فجلال التاريخ في الآحاد

ص: 564


1- بولس سلامة:شاعر و ادیب مسیحی وصاحب عدة دراسات ادبیة وفکریة معروفة و صاحب ملحمة عید الغدیر التی تعتبر اول ملحمة عربیة تتناول اهم نواحی التاریخ الاسلامی

سيكون الدم الزكي لواءً(للشاعر بولس سلامة)

يذكرون الحسين حين يهيب الحق بالناس : حطّٙموا الأَغ۟لالا

فيرون الشهيد، سبط رسول الله ، يدعو للجنة الأبطالا

فيكون القتيل بالطفّٙ للأحرار رأساً ، وللهدی مشعالا

وأراني في صدر كل نبيل

شاد لي في جفونه تمثالا

يحرق الله قاتليّ بنار

يدع الصخر وهجها أسمالا

إن تغيّب في الرمل غُرُّ اللآلي

فلسوف الزمان يجلو الرمالا

يبعث الله مبصرین یلاشون

الدياجي ويخنقون الضلالا

سيكون الدم الزكيّ لواءً

لشعوبٍ تحاول استقلالا

ينبت المجد في ضلال البنود

الحمر، هوی نسيجها سربالا

فإذا الأعصر النؤومة تصحو

من کراها وتحمد الغزّالا

سوف تبكي على الحسين البواكي

ویُری کل محجر شلّالا

ليت شعري لِمَ البكاء؟ وذاك

اليوم عيد يشرّف الأجيالا

مأتم القاتلين ! لا مأتم القتلى

يسيرون للخلود عجالی

ص: 565

كنت رأس الأُباة حياً(للشاعر بولس سلامة)

أمر الفاجر الوليّ الخانق

بطواف أشاب سود المفارق

طيفَ بالهامة الشريفة، فوق

الرمح، معروضة على كل رامق

رفعوها على القناة وراحَ

الجند من خلفها يسير فيالق

مشهد آلمَ العيونَ وبثَّ

النار فيها، فالدمع جمر حارق

مشهد جرّح النواظرَ، والأجفانُ

لا تحضن الدخان الخانق

شاب منه الوليد والطفل رعباً

وأصاب الخبالُ عقلَ المراهق

أجهضت كل حاملٍ نظرته

فالحجابُ الصفيق بالدمعِ شارق

مشهد آلم الصخور، فما أحراه

أن يشتري قلوب العواتق

یا سماء العراق أين صراخ

العدل يستمطر النجوم حرائق

فيعود الرعاع وابن زیاد

کثمود رَمِیَّةً للصواعق

تنعب البوم فوقهم وسباع

الطير تستتبع الغراب الناعق

أيها الرأس طبت حيَّاً وميتاً

وألفتَ العلى ورمت الشواهق

كنت رأس الاُباة حياً، ورمت

المجد ميتاً فصرت رأس البيارق

عَلماً كنت لم يُمَتَّع بنشرٍ

فاته الحظُّ والهواء الموافق

فجلاك المماتُ بندَ خُلود

وروتكَ الدهور سفر الحقائق

ص: 566

يوم الشهيد ، فجر الفتوح(للشاعر الشيخ جعفر الهلالي)

قف بالطوفِ وحیّ السبطَ مكتئباً

وحیّٙ فيه العُلا والمجدَ والحسبا

وحيّٙ فيه بدنيا الحقّٙ رمزَ هدي

ما زالَ يكشفُ عنّا الزيفَ والرّٙیبا

واستوحهِ عزمة جبّارة عصفت

بالظالمينَ فأضحوا عندَ ذاك هبا

وأقرأ بهِ الثورةَ الكبرى فإنَّ بها

درساً لمن راحَ يجني العزَّ مكتسبا

فها هنا في محاني الطفّٙ مَثَّلها

روايةَ الحقّٙ لا جُبناً ولا رهبا

وهاهنا حينَ رَامُوا منهُ بيعته

لظالم راح يسمو عزَّةً وإبا

وما الحياةُ بدنيا المرءِ نافعةٌ

إن لم یَصُنها بما يسمو به رتبا

وما المماتُ بساحاتِ الجِهادِ سوی

نصرٌ يُوَفّى به لله ما وَجَبا

یا سبطَ أحمدَ يومٌ قد نهضت به

ما زال يخترقُ الأجيالَ والحُقُبا

قد ثرتَ لا بطراً يوماً ولا أشراً

ولم تكن تبتغي من زبرجٍ نَشَبا

ولم تكن۟ لِتحوزَ الجاهَ في عَمَل

وأَنتَ مَن۟ طابَ دونَ الخلقِ مُنتَسبا

وإنّما أبصرت۟ عيناكَ مُجتمعاً

ضلَّ الطريقَ وعن قصد الهُدى نكبا

وإنّ دیناً سقاهُ المصطفى بدم

من صحبه قد تَداعي اليَومَ مضطربا

وإنّ جَامِعة التوحيد فرّقها

جورُ الطغاة فأضحت بعدَها شُعبا

وأصبحَ الوضعُ ملكاً قد تَوارَثهُ

یزید حيثُ أشاعَ الرُّعبَ والرهبا

هناكَ للدينِ ثارت منكَ ثائرةٌ

كما تردُّ بها الحقَّ الذي سلبا

لبَّيتها دعوةً للحقّٙ خالصةً

فرحتَ تجني بها في الخلدِ منقلبا

أفديكَ مِن باذلٍ في الله مُهجتهُ

وصَحبهُ وبنيهِ السادةَ النُّجَبَا

ص: 567

لُح فوقَ تاجِ الفاتحين(للشاعر صالح الجعفري)

لُح۟ فوقَ تاجِ الفاتحينَ شعاراً

واسطَع۟ بدرب الثائرين مَنَارا

وأرِ الأُولى سِيموا المذلَّةَ أنَّ في

مقدورِهِم أن يُص۟بِحوا أحرارا

واق۟هَر بمفردِكَ الجموعَ مُيَمّماً

في ماقصدتَ الواحدَ القَهَّارا

ما قيمةُ الأنصار إن لم تلقَ من

أسیافِهِم وقلوبِهِم أنصارا

أمُنَکّٙسَ التيجانِ وابنَ مُحطّم

الأوثانِ لا أَشَراً ولا استکبارا

ومبيدَ جمع الكفرِ وابنَ مُبيدهِ

في الله لا بغياً ولا استعمارا

أضناك أنّ الدينَ أَصبح سلعة

تُشرىٰ وأصبح أهلُهُ تُجّارا

لَعِقاً على أفواهِهِم ما دامت ال

أموالُ تُغدقُ سَيلَها مدرارا

فإذا أصيبوا بالبلاءِ ومُحصّٙوا

نكصوا فلا حمداً ولا استغفارا

والبيتُ أمنُ العائذین مُرَوَّعُ ال

حُرُمَاتِ لا حُجباً ولا أستارا

ما عاد يمنعُ نفسهُ منهم فهل

يحميك موفورَ الكرامة جارا

بالأمس يُرفعُ بالتلاوةِ صوتُهُ

واليومَ ينعى أهلَهُ الأخيارا

ضاقت بهِ الأرضونَ فاتّسقت له

كبدُ السماءِ تضمُّهُ استئثارا

وكأنّما قِطعُ السحائِبِ لُوّٙنت

لتظلَّ نصبَ عيونِنا تذكارا

لا تُثمرُ الثوراتُ إلّا عندما ت

ُسقي الدماء الزاكياتِ غزارا

ص: 568

العزُّ مقیاسُ الحياة(للشاعر عبد الحسين الأزري)

عِش۟ في زمانِكَ ما استطعتَ نبيلا

واترك۟ حديثَکَ للرواةِ جميلا

ولعزّٙك استرخِص۟ حياتَکَ إنَّه

أغلى وإلّا غادَرَتك ذليلا

تعطي الحياة قيادها لك كلّما

صيّرتها للمكرمات ذَلولا

فالعزُّ مقياسُ الحياةِ وضلَّ مَن۟

قد عَدَّ مقياسَ الحياةِ الطولا

قل كيفَ عاشَ ولا تقل۟ كم عاشَ مَن

جَعَلَ الحياةَ إلى عُلاهُ سبيلا

لا غروَ إن طوتِ المنَّية ماجداً

کَثُرَت محاسنُهُ وعاشَ قليلا

ما كانَ للأحرار إلّا قدوةً

بطل تَوَسَّد في الطفوفِ قتيلا

أفديكَ معتصماً بسيفكَ لم تجد

إلَّاهُ في حفظِ الذِمارِ كفيلا

خَشِیَت۟ أُميَّةُ أن تُزَعزعَ عرشَها

والعرشُ لولاکَ استقامَ طويلا

قطعوا الطريقَ لنا عليك وأَلَّبوا

من کُلّٙ فجٍّ عصبةً وقبيلا

وهناك آل الأمرُ إمّا سِلَّةٌ

أو ذلَّةٌ فأبَي۟تَ إلّا الأُولى

ومشيتَ مِشيةَ مطمئنٍ حِينَما

أزمعَت عن هذي الحياةِ رحيلا

تستقبلُ البيضَ الصّٙفاح كأنَّها

وفدٌ يؤمّٙل من نَداك مَنیلا

فكأنّ موقفَك الأبِيَّ رسالةٌ

وبها كأنَّك قد بُعِثتَ رسولا

نهَجَ الأباةُ على هُداك ولم تَز۟ل

لهمُ مثالاً في الحياة نبيلا

وتَعَشَّقَ الأحرارُ سُنَّتَكَ التي

لم تُبق عُذراً لِلشَجَا مقبولا

قَتَلوكَ للدنيا ولكن۟ لم تَدُم

لبني أُمَيَّة بعد قتلِکَ جيلا

وَلَرُبَّ نصرٍ عاد شرَّ هَزِيمةٍ

تركت۟ بيوتَ الظالمينَ طُلولا

تمضي الدهورُ فلا نرى إلّاك في

الدنيا شَهِيدَ المكرماتِ جليلا

وكفاكَ تعظيماً لشأوکَ موقفٌ

أمسى علَيَك مدى الحياةِ دليلا

ص: 569

یا شهيدَ الحقّٙ، ذکرکَ باقٍ(للشاعر عبد الصاحب ياسين البدري)

ذكراكَ يا مَن۟ سعى للموتِ يقتحمُ

لم۟ يُن۟سِها الناسَ بُعدُ العهدِ والقِدمُ

لم تمشِ إلّا لِعزّٙ الدينِ مقتحماً

سودَ المصائبِ والبلوى بكَ القدمُ

نزعتَ عرضكَ عن عاب وعن درنٍ

وعفت في العيشِ ما يزري۟ وما يَصمُ

وقلتَ إن۟ لم أجد۟ عيشاً أُعزّ بهِ

خيرٌ إذن۟ من حياتي هذه العدمُ

لقد أرادوكَ أن تقتادَ مؤتمراً

لما يريدون لكن۟ خابَ ظنهمُ

أبيتَ ممتنعاً عن أن تمدَّ يداً

للقومِ مستسلماً في ذلّةٍ لهمُ

وسرتَ ترفلُ لاتُثنيكَ عائقة

تريد سحق دعاة الفسق كلّهمُ

والحقُّ ليسَ بغيرِ السيفِ منتصرٌ

لا يُظهرُ الحقَّ إلّا الصارمُ الخَذِمُ

أقدمتَ للحربِ في صبرٍ وفي جَلَدٍ

لم۟ يرهبنكَ وأنتَ الفردُ جمعهُمُ

سَلَل۟تَ سيفَ المنايا دونما وَجَل

حتى ضربتَ وموجُ الموتِ يلتطمُ

تخوضُ جَلداً غمارَ الحربِ مبتسماً

وتطلبُ الموتَ مقداماً وتقتحمُ

لم تلفَ والموتُ بادٍ غيرَ منشرحٍ

طَل۟قَ المُحَيّا ومنكَ الثغرُ يبتسمُ

كذلك الحرُّ لم يسلم۟ لهُ شرفٌ

إن لم يُرَق۟ حولَه حتى يسيل دمُ

ولا ينالُ سوى ذي الحزمِ غايَتهُ

والحزمُ تظهرهُ في أهلِهِ الهممُ

إن كنتَ رحتَ شهيدَ الحقّٙ مهتضماً

فذكرُكَ الحيُّ باقٍ ليسَ ينعدمُ

لكَ الفَخارُ سيبقى خالداً أبداً

وما لخصمِكَ إلّا الخزيُّ والندمُ

ص: 570

وابعث حياةَ الناهضين(للشاعر الشيخ عبد المهدي مطر)

وافتك جنداً يستشيرُ ويزأرُ

فقُدِ المواكب إنَّها لك عسکرُ

لا تُسلِمَنَّ إلى الدَّنية راحةً

ما كانَ أسلمَها لذُلٍ حیدرُ

واب۟عَث۟ حياةَ الناهضينَ جديدةً

فيها الإباءُ مؤَيَّدٌ ومظفّرُ

وارِسم لسيرِ الفاتحينَ مَنَاهجاً

فيها عروشُ الطائشينَ تُدمَّرُ

إن لَم تُلَبّک ساعةٌ محمومةٌ

ذُمَّت فقد لبّت نِداءَك أعصرُ

قُم وارمُق البيتَ الحرامَ ونظرةً

اُخرى لِقبركَ فهو حَجٌّ أكبرُ

أصبحتَ مَفخرةَ الحياةِ وحُقَّ لو

فَخَرت۟ بهِ فَدَمُ الشهادةِ مفخرُ

قُدّٙست ما أعلى مقامَكَ رفعهٌ

أُخفيهِ خوفَ الظالمينَ فيظهرُ

شَكَتِ الشريعةُ من حدود بُدّٙلَت

فيها وأحكامٌ هُناكَ تُغَّيرُ

عَصَفَت۟ بِها الأهواءُ فهي أسيرةٌ

تشكو وهل غير الحسين مُحرّٙرُ

وعلى الكريهة تستفزُّك نخوةٌ

حمراءُ داميةٌ ويومٌ أَحمرُ

لبَّيك منفرداً أُحيط بِعالَمٍ

تحصى الحصى عدداً وما إن يُح۟صَرُ

لبَّيك ظامٍ مانعوهُ عن الروى

وبراحتيهِ من المكارم أبحرُ

هذي دموع المخلصين فَرَوّٙ مِن

عَبَراتِها کَبِداً تكادُ تَفَطَّرُ

واعطف۟ على هذي القلوبِ فإنّها

ودّت۟ لو أنّكَ في الأضالعِ تُقبرُ

يتزاحمونَ على استلام مشاعرٍ

من دون روعتها الصَّفَا والمشعرُ

ركبوا لها الأخطارَ حتى لو غَدَت۟

تُبرى الأكُفُّ أو الجماجمُ تُنثرُ

وجدوا سبيلَكُمُ النجاةَ وإنّما

نصبوا لها جسرَ الولاءِ ليعبُروا

وتأمَّلوك لساعةٍ مرهوبةٍ

إِمَّا الجحيمُ بِها وإمَّا الكوثرُ

وسيعلمُ الخصمانِ إن وافَوكَ مَن

يَرِدُ المعينَ ومن یُذادُ ويصدرُ

ص: 571

یا قدوة الأحرار(للشاعر عبد العزيز العندليب)

بوركتَ يا صانعَ الأمجادِ باقيةً

أنتَ الإباءُ وأنتَ العزُّ والشَمَمُ

أنتَ الهدى والتُّقي والخيرُ أجمعُهُ

والفضلُ والبذلُ والإحسانُ والكرمُ

طريقك الحقّ لا تنفكُّ تسلُكُه

ومنهجٌ مع خطّٙ الوحي يَن۟سَجِمُ

والموتُ عندَکَ عنوانُ السعادةِ إذ۟

أنَّ الحياةَ ولا عدلٌ بها بَرَمُ

وقفتَ تجهرُ في وجه الطغاةِ بها

دوت مجلجلةً من هولها صُدموا

غداةَ شاهدتَ إنَّ البغيَ مُحتكمٌ

(والدينُ مخترمٌ والحقُّ مهتضمُ)

أعلنت رفَضکَ حكمَ الجاهليةِ أن

يُعيدَهُ طلقاءُ الفتح إذا حكموا

إنّي ذكرتُك فرداً في جموعهمُ

في كربلاء وأنت المفردُ العلمُ

دعوتَهُمُ للهدی بعد العَمي فأبوا

إلّا الضلالَ فبئسَ الدينُ والشيمُ

یا ثورةَ الطفّٙ قد قُدّٙستِ عن شُبَهٍ

یا نهضةً مِلؤُها الآياتُ والحِكَمُ

تمضي القرونُ ويفني العالَمونَ ولا

يصيبُ ذكراكِ من تكرارها سَأمُ

عبرَ العصورِ على مرّٙ الدهور فلا

يخبو سناکِ ومنهُ تنجلى الظُّلمُ

للهِ من بطلٍ أُمُّ العُلا عَقُمَت۟

عن مثلهِ ثائراً تعلو بهِ الهممُ

هذا الحسينُ ولو لم ينتفض لَغَدا

صرحُ الهدی بفؤوسِ الشّٙركِ ينهدمُ

خُلدت أنت وبادَ الشانئونَ فما

لهم على الدهر إلّا الخِزيُ والندمُ

يا سَيّدَ الشهداء الغُرّٙ معذرةً

فدوَن مقدارِكَ الأقوالُ والكَلِمُ

وأنتَ يا قدوةَ الأحرارِ مدرسةٌ

للمكرمات ومنها تأخذُ الأُممُ

ص: 572

هویتَ والحقُّ من عينيكَ منبعثٌ(للشاعر الشيخ عبد المنعم الفرطوسي)

ناجيتُ ذِكراكَ حتّى عَطَّرتُ کَلِمي

كأنَّ ذكراکَ قرآنٌ جرى بفمي

وهزَّني لكَ من أرضِ الحمى وَتَرٌ

جَسَّ العواطفَ في ضربٍ مِنَ النَّغَمِ

فَرُح۟تُ ألثُمُ مثوىً فيه قد۟ عکَفَت۟

روحُ البطولةِ والإقدامِ والشَمَمِ

قَبَّلتُهُ بفمي حتى أَسَلتُ به

قلبي فَضَرَّجتُهُ من أدمُعي وَدَمي

یا مصرعَ الشمسِ حَدّٙثنا فأنتَ فمٌ

يُجيدُ تمثيلَ فصلِ الحُزنِ والأَلمِ

أبا الخلودِ وأكرم۟ بالحسينِ أباً

يُنمى لهُ الفخرُ من طِيبٍ ومِن کَرمِ

تَضوّعَ المجدُ من عُلياکَ في شِيَمٍ

عبَّاقةٍ بأريجِ المجدِ والشّٙيمِ

وکُرّٙمَ الحقُّ إذ توَّج۟تَ مِفرقهُ

من الجهادِ بأكليل الدّٙما السَّجمِ

ومُجّد۟تَ تضحياتٌ منك خالدةٌ

أنقذتَ دینَ الهُدى منها مِنَ العَدَمِ

بسيّدِ الشهداءِ السبطِ قد خُتمت۟

مجداً كما بَدَأت۟ في سَيّدِ الأُممِ

ضَحَّیتَ نفسَكَ للإسلام منتصراً

حتى قضيتَ بحدّٙ الصارمِ الخَذِمّ

هویتَ والحقُّ من عينيكَ منبعثٌ

نوراً ومِن۟ شَفَتيكَ الصدقُ كالضرمِ

ومن محياكَ من نور الهُدى وضحٌ

مُکَلَّاً بالقَنا کاللّیثِ بالأُجُمِ

وللفواطمِ أفواهٌ مُحَرَّقةٌ

من الأسى وقلوبٌ في يَدِ السَّقمِ

كأنما هي أوتارٌ وأجنحةٌ

تضجُّ شجواً وتهفو في مَدَى الألمِ

ص: 573

مآثر في سماء العزّٙ(للشاعر علي جليل الوردي)

ذكراكَ للمبتلى روحٌ وريحانُ

ونورُ حُبّٙك في الألبابِ إيمانُ

یا مهجةَ المصطفی یا ضوءَ ناظرهِ

آیاتُ مَج۟دِکَ للأجيالِ فُرقانُ

شَدَا بها الملأُ الأعلى ورتَّلَها

في روضةِ الخُلدِ بَين الحُورِ رضوانُ

فيا ربيبَ الهدی با نورَ موكبهِ

يا مَن۟ لعينِ رسولِ الله إنسانُ

إن كان للمجدِ عنوانٌ فأنتَ لهُ

مهما تباينتِ الأمجادُ عنوانُ

يُنسى السَّناءُ إذا ما الليلُ يعقُبهُ

ونورُ وجهِكَ لا يَعروهُ نِسیانُ

للهِ سَط۟رُ فخار أنتَ كاتبُهُ

ما خطّهُ من بناتِ الفخرِ إنسانُ

يَشُعُّ في حَلَکِ الأيامِ مُؤتَلِقاً

فيهتدي بسَنَاها الإنسُ والجانُ

فهوَ الدليلُ إذا ضَلَّت۟ نجائبُهُم

وهوَ المنارُ إذا ما تاهَ ربَّانُ

صفاتُك الغُرُّ أسمي أن يقومَ بها

نَظ۟مٌ ونَث۟رٌ وإبداعٌ وإحسانُ

مآثرُ في سَمَاء العِزّٙ مُشرِقةٌ

لم يألُ ترتيلُها شِيبٌ وشُبّانُ

أبوا سِوى العزّٙ في أسمى مراتبهِ

فاستشهدُوا فيه لا ذَلُّوا ولا هَانوا

مَضَوا إلى ربّٙهم يحدوهُمُ بَطَلٌ

تَشدُوا بذكراهُ أحقابٌ وأزمانُ

سَقَوا ریاضَ المعالي من دمائهمُ

والكلُّ مِنهم۟ صَديَّ القَل۟بِ ظَمآنُ

ص: 574

یا نهضة خَلَّدتها السنون(للسيد محمد حسين فضل الله)

هنا يقفُ الخاطرُ الملهمُ

ويسكت فيه ويستسلمُ

ويسترجعُ الطرفُ عن قصده

فيغشى فينهلُّ منهُ الدمُ

هنا حيثُ يرقدُ رمزُ الإبا

وقطبُ الهدى المنقذُ الأعظمُ

يفيضُ على الكون من روحهِ

حناناً متى راحَ يسترحمُ

ويُرسلُ أنوارهُ في الفضا

فيشرقُ عالمُنا المظلمُ

وينشرُ فينا تعاليمهُ

ولكن بفيض الدما تُرقمُ

هنا حيثُ يرقدُ سرُّ الإله

وحيثُ الهدى من أسي مفعمُ

ترى الحقّ كيف ارتقی واستطال

فتعلمُ ما لم تكن تعلمُ

وتلمحُ في جنبات الضريح

دماء الشهادة إذ تلثمُ

وقد قام من حوله الزائرون

ونارُ الأسى في الحشا تضرمُ

وقد عكفت حوله النائحاتُ

فهذي تضجُّ وذي تلطمُ

فتحسبُهُ كعبة المسلمين

وكلُّ فتى منهمُ المحرمُ

هنا سُجلت للهدی صفحة

من الحقّٙ ما خطّها مرقمُ

تلاها على الكون سبطُ النبي

فشعَّ بها المنهجُ الأقومُ

وارسلها في الهدى دعوة

تبينُ الصواب بما ترقُمُ

وشيّد صرح الهدی بعدما

أزال قواعدهُ المجرمُ

وعلّمنا كيف تغذي النفوس

وكيفَ يموتُ الفتى المسلمُ

وكيف تراقُ دماءُ الأبي

تجاه العقيدة إذ تُهضمُ

ویانهضةً خلدتها السنون

ودار بها الفلكُ الأعظمُ

أعيدي على مسمع الكائنات

حديث الأباة وماقدّموا

عسى يعلمُ النفرُ الجاهلون

بما استنكروهُ وما استعظموا

ص: 575

في رحاب ابطال كربلاء(السيد محمد جمال الهاشمی)

أحدثوا في منهج الحرب انقلابا

حينما خفّوا إلى الحرب غضابا

هتف الدينُ بهم فابتدروا

يتهادون شيوخاً وشباباً

أفرغوا الايمان درعاً دونهُ

يرجفُ السيفُ ارتياعاً وارتياباً

عقدوا الحقّ لواءً خافقاً

ومشوا في ظله أسداً غلاباً

لم ترعهم سلطةُ البغي التي

تملأ الدنيا حروباً وحِراباً

حوّلوا الأرض سماءً حينما

عقدوا منها على الأُفقِ سحابا

کلُّ فرد اُمة في بأسه

یهزمُ الجيشَ إذا صالَ ارتهابا

إن تأنَّي فهو ليث رابضٌ

وإذا ما انقضَّ ينقضُّ عُقابا

أيها التاريخُ حدّث عنهم

واغمرِ الحقلَ بذكراهم مُلابا(1)

شهداءُ الحقّٙ قد شاد لهم

بأسهم في أُفقِ المجدِ قبابا

وثبوا للخلدِ أحراراً فما

وهنوا جبناً ولا خاروا اضطرابا

نزعوا الأدرع شوقاً للردى

واكتسوا من حُلل المجدِ ثيابا

وجروا في حَلبةِ الطفّٙ إلى

جنة المأوى ذهاباً وإيابا

بايعوا السبط حسيناً واشتروا

منهُ تاريخاً لهُ الدهرُ أنابا

قاوموا الطغيان إيماناً إلى

أن ذَوی کابوسُهُ العافي وذابا

هكذا المبدأ في طاقاتهِ

يكسبُ النصرَ وإن عزّ اکتسابا

وقفت دون ابن طه موقفاً

وجد الدهرُ به شيئاً عُجاباً

فئة بايعت الله فما

راعها الموتُ وقد كشّر نابا

ص: 576


1- الملاب: الطيب

إيهاً أبا الأحرار(للشاعر السيد مصطفى جمال الدين)

ذكراك تنطفيءُ السنين وتغربُ

ولهاعلى كفّ الخلودِ تلهُّبُ

لا الظلمُ يلوي من طماحِ ضرامها

أبداً ولا حقدُ الضمائر يحجبُ

ذكرى البطولة ليلُها كنهارها

ضاح تؤجُّ به الدماءُ وتلهبُ

ذكرى الإباء يرى المنية ماؤها

أصفى من النبع الذليل وأعذبُ

ذكراك مدرسةُ الذين تعرّضوا

للسوط يحكمُ في الشعوب فأرعبوا

ومحجّةُ الشهداء يخشاهم وهم

صرعی به السيفُ اللئيمُ ویرهبُ

مولاي دربُ الخالدين منوّر

بالذكريات الغرّ سمح مخصبُ

تهفو لروعته المني لكنّهُ

مما يحيطُ به الفجائع متعبُ

إيهاً أبا الأحرار أيُ كريمة

تبني الخلود وليس منك لها أبُ

أنت الذي أعطيت ما أعيا الورى

تصديقُهُ ووهبتَ ما لا يوهبُ

ووقفت حيثُ أراحَ غيرُك نفسهُ

والحقُّ بينكما يهيبُ ويرغبُ

فصمدت للتيار تشمخُ هادراً

سيّان أغ۟لِبُ موجَهُ أو أُغ۟لَبُ

في حين مرّ بك المرفّهُ جيفة

شنعاء تطفو في العباب وترسُبُ

حتى إذا التاريخُ أرهف سمعه

ليعيد مَن صنعوه فيما يكتبُ

دوّی بآذان الزمان هديرُك

الصافي وضاءت من سناهُ الأحقبُ

ومشت على وهج سعرت قوافلُ

الأحرارِ تكرعُ من لظاهُ وتطربُ

وتركت للأجيالِ حين يلزُّها(1)

عنتُ السُرى ويضيقُ فيها المهربُ

جثث الضحايا من بنيك تريهمُ

أنّ الحقوق بمثل ذلك تُطلبُ

مولاي أنت لكلّ جيل صاعد

قبسٌ ينير لهُ السري ويحببُ

ص: 577


1- یلزُّها : يضطرها

تساموهُ أن يردَ الهوان أو المنية(للشاعر الحاج هاشم الكعبي)

تالله لا أنسى ابن فاطم والعدا

تهدي إليه بوارقاً ورعودا

غدروا به إذ جاءهم من بعدما

أسدوا إليه مواثقاً وعهودا

قتلوا به بدراً فأظلم ليلُهُم

فغدوا قياماً في الضلال قعودا

فسمَت إليهِ أماجدُ عرفوا به

قصد الطريق فأدركوا المقصودا

و تبادرت طلق الأعنّة لا ترى

الغمرات إلّا المائسات الغيدا

وكأنّما قصدُ القنا بنحورهم

دُررٌ يفصّلُها الطّعانُ عقودا

واستنزلوا حُلل العلى فأحلّهُم

غرفاته فغدا النزول صعودا

فتظنُّ عينك أنّهم صرعى وهم

في خير دار فارهون رقودا

وأقام معدوم النظير فريد

بيت المجد معدوم النصير فریدا

يلقي القفار صواهلاً ومناصلاً

ويرى النهار قساطلاً وبنودا

ساموه أن يرد الهوان أو المنيَّة

والمسوّد لا يكون مسودا

فانصاع لا يعبأ بهم عن عدّة

كثرت عليه ولا يخافُ عديدا

يلقي الكماة بوجه أبلج ساطع

فكأنّما أمُّوا نداهُ وفودا

حتى إذا حُمَّ الحمامُ وآن لا

تلقی عماداً للعُلا وعميدا

فثوى بمستنّٙ النزالِ مقطّع ال

أوصالِ مشكور الفعال حمیدا

لله مطروح حوت منه الثرى

نفس العُلا والسؤدد المعقودا

ومجرّحٌ ماغيّرت منه القنا

حُسناً ولا أخلقن منه جدیدا

قد كان بدراً فاغتدى شمس الضحی

مُذ ألبستهُ يدُ الدماء لُبودا

تحمي أشعّتهُ العيونَ فكلّما

حاولن نهجاً خِلنهُ مسدودا

وتُظلّهُ شجر القنا حتى أبت

إرسال هاجرة إليه بریدا

ص: 578

وأنتَ تُسيّٙرُ رَكبَ الخُلود(للشاعر محمد مهدي الجواهري)

فداء لمثواك من مضجع

تنور بالأبلجِ الأروع(1)

بأعقبق من نفحات الجنا

نِ روحاً ومن مسكها أضوع(2)

ورعياً ليومك يوم الطُّفوف

وسقياً لأرضك من مصرع

وحزناً عليك بحبس النفوس

على نهجك النيّر المهيع(3)

وصوناً لمجدك من أن يذال(4)

بما أنت تأباهُ من مبدع

فيا أيها الوترُ في الخالدين

فذاً إلى الآن لم يشفعِ

ويا عظة الطامحين العظام

للاهين من غدهم قنّعِ

تعاليتَ من مفزعٍ للحتوف

فبورك قبركَ من مفزعِ

تلوذُ الدهورُ فمن سُجّد

على جانبيه ومن ركّع

شممتُ ثراك فهبَّ النسيمُ

نسيمُ الكرامة من بلقعد(5)

وعفَّرتُ خدي بحيث استراح

خدٌّ تفرى ولم يضرع

وحيث سنابك خيل الطغاة

جالت عليه ولم يخشع

وخلتُ وقد طارت الذكرياتُ

بروحي إلى عالم أرفعِ

وطفتُ بقبرك طوف الخيال

بصومعة الملهم المبدع

ص: 579


1- الأبلج: الوضاء الوجه، والأروع : المعجب بشجاعته أو حسنه
2- الرَو۟ح : نسيم الروح، والأضوع: من ضاع المسك إذا عبقت رائحته
3- المهيع : البيّن الواضح
4- يذال : بهان
5- البلقع : الأرض القفر

كأنّ يداً من وراء الضريح

حمراء مبتورة الإصبعِ

تمدُّ إلى عالمٍ بالخنوع

والضيم ذي شرق مترع(1)

لتبدل منه جديب الضمير

بآخر معشوشب ممرع(2)

فيا ابن البتول وحسبي بها

ضماناً على كلّ ما ادعي

ويابن التي لم يضع مثلها

كمثلك حملاً ولم يُرضع

ويابن البطين بلا بطنة

ويابن الفتى الحاسر الأنزع

ويا غصن هاشم لم ينفتح

بأزهر منك ولم يُفرع

ويا واصلاً من نشيد الخلود

ختام القصيدة بالمطلع

يسيرُ الورى بركاب الزمان

من مستقيم ومن أضلع

وأنت تسيرُ ركب الخلود

ما تستجدُّ له يتبع

ص: 580


1- ذو شرق : ذو شجی وغصة
2- ممرع : خصيب

المصادر والمراجع

ص: 581

ص: 582

حرف الألف

١ - الآصفي، محمد مهدي

• في رحاب عاشوراء، ط. نشر الفقاهة - قم.

• وارث الأنبياء، ط. مركز دراسات نهضة الإمام الحسين - قم، الطبعة الأُولى.

• دراسات وبحوث مؤتمر الإمام الحسين ، ط. المجمع العالمي لأهل البيت - طهران، ط. الأولى، (1424 ه).

2 - آل علكة، طاهر

• الأنصار ، دراسة توثيقية ، ط. دار الهادي - بيروت، ط. الأُولى ، (1421 ه - 2001م).

3 - ابن أبي الحديد ، عز الدين بن هبة الله (ت 656ه)

• شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، ط. دار إحياء الكتب

العربية - القاهرة ، ط. الأُولى ، (1378 ه - 1909م).

4 - ابن الأثير ، عز الدين أبي الحسن (ت 630ھ)

• الكامل في التاريخ، تحقیق : علي شيري ، ط. دار إحياء التراث العربي -

بیروت، الطبعة الأُولى المحققة ، (1408 ه - 1989).

5 - ابن أعثم، محمد أحمد الكوفي (ت 314ه)

• الفتوح، تحقيق : علي شيري، ط. دار الأضواء - بيروت، الطبعة الأُولى ، (1411 ه - 1991م).

6 - ابن بکار ، الزبير (ت 256 ه)

• الأخبار الموفقیات، تحقیق : سامي مكي العاني، ط. عالم الكتب، ط.

الثانية ، (1416 ه - 1196م).

ص: 583

7 - ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن (ت 597 ه)

• المنتظم في تاريخ الملوك والأُمم، تحقیق : الأخوين محمد ومصطفى عبد القادر ، ط. دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الثانية ، (1415 ه - 1995 م).

8 - ابن حجر، شهاب الدين أحمد (ت 852ه)

• لسان الميزان ، تحقیق و اشراف : محمد بن عبد الرحمن المرعشلي، ط. دار احياء التراث العربي - بيروت، ط. الثانية ، ( 1422 ه - 2001م).

9 - ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد (ت 808ه)

• المقدمة (مقدمة ابن خلدون)، طبعة مؤسسة الأعلمي - بيروت ، (بلات).

10 - ابن سعد، محمد (ت 230 ه)

• الطبقات الکبری ، طبعة جديدة محققة، دار إحياء التراث العربي - بيروت،(بلات).

11 - ابن شبة ، أبو زيد عمر (ت 262 ه)

• تاريخ المدينة المنورة، تحقیق : فهيم محمد شلتوت، أُفست دار الفكر - قم، (1410 ه).

12 - ابن شهر آشوب، أبو جعفر رشيد الدين المازندراني (ت 588 ه)

• مناقب آل أبي طالب، ط. مؤسسة انتشارات علامة - قم ، (بلا - ت).

13 - ابن طاووس، أبو القاسم رضي الدين (ت 664ه)

• اللهوف في قتلى الطفوف، مع الترجمة الفارسية ، ط. انتشارات جهان - طهران ، (بلات).

14 - ابن قتيبة ، أبو محمد عبد الله بن مسلم (ت 276 ه)

• الإمامة والسياسة، تحقیق علي شيري، ط. اُفست الشريف الرضي - قم (1413 ه).

ص: 584

• المعارف، تحقيق ثروة عكاشة ، مطبعة دار الكتب - القاهرة، أُفست الرضي - قم، (1960م).

15 - ابن طبطبا محمد بن علي المعروف بابن الطقطقي (ت 709ه)

• الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية ، ط. دار صادر - بیروت، ( بلا -ت ).

16 - ابن عبد ربه ، أبو عمر أحمد بن محمد (ت 327ه)

• العِقدُ الفرید، شرحه وحققه : أحمد أمين وزميلاه، ط. دار الكتاب العربي - بیروت، (1406 ه - 1986م).

17 - ابن کثیر، أبو الفداء إسماعيل (ت 774ه)

• البداية والنهاية، تحقيق : مکتب تحقيق التراث، ط. مؤسسة التاريخ الإسلامي، ودار احیاء التراث العربي - بيروت ، (بلا - ت).

18 - ابن قالویه ، أبو القاسم جعفر بن محمد (ت 368 ه)

• کامل الزیارات، تحقیق و تعلیق : بهزاد الجعفري، ط: مکتبة الصدوق - طهران ، (بلا - ت).

19 - ابن منظور، محمد بن مکرّم بن علي (ت 711ھ)

• لسان العرب، تحقیق : علي شيري ، ط. دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة الأُولى المحققة ، (1408 ه - 1988 م).

20 - ابن نما، نجم الدین جعفر بن محمد (ت 841ه)

• مثير الأحزان، ط. وتحقيق مدرسة الإمام المهدي - قم، ط. الثالثة ، (1406 ه).

21 - أبو مخنف، لوط بن يحيى (ت 158 ه)

• وقعة الطف ، تحقیق محمد هادي اليوسفي ، ط. مؤسسة النشر الإسلامي - قم، ط. الأُولى، (بلا - ت).

ص: 585

22 - الأزرقي ، أبو الوليد محمد بن عبد الله (ت 223 ه)

• أخبار مكة، تحقيق : رشدي صالح، طبعة دار الأندلس - بیروت، ط. الثالثة ، (1403 ه - 1983م)، أُفست الرضى.

23 - الاصفهاني، أبو الفرج على بن الحسين (ت 356ه)

• الأغاني، تحقيق وشرح عبد علي مهنّا، ط. دار الفكر - بيروت، الطبعة الأُولى المحققة ، (1407 ه- 1986م).

• مقاتل الطالبيين ، تحقیق وشرح : أحمد الصقر، ط. دار المعرفة - بيروت ، (بلا - ت).

24 - الأميني، عبد الحسين (ت 1390 ه)

• الغدير ، طبعة جديدة ومحققة مركز الغدير للدراسات والنشر - قم، ط .

الأُولى، (1416ه - 1995 م). 25 - الأمين، محسن (ت 1371 ه)

• أعيان الشيعة، حققه وأخرجه : حسن الأمين، ط. دار التعارف

للمطبوعات - بیروت، (بلا - ت).

26 - أمين، أحمد الدكتور (ت 1373 ه)

• ضحى الإسلام، ط. دار الكتاب العربي - بيروت، ط. العاشرة ، (بلا - ت).

حرف الباء

١- البراقي، حسين أحمد (ت 1332ه)

• تاريخ الكوفة ، تحقیق : ماجد العطية ، استدراك محمد صادق بحر العلوم،ط.

اُفست المكتبة الحيدرية - قم، ط. الأُولى ، (1424 ه).

ص: 586

2 - بروكلمان، کارل

• تاريخ الشعوب الإسلامية ، ترجمة : البعلبكي، طبعة دار العلم للملايين - بیروت، ط. الثالثة ، (1960م).

3 - البلاذري، أبو الحسن أحمد بن يحيی (من أعلام القرن الثالث الهجري)

• فتوح البلدان ، تحقیق : رضوان محمد رضوان، ط. دار الكتب العلمية - بیروت، (1398 ه - 1978م).

• أنساب الأشراف، تحقیق وتعليق : محمد باقر المحمودي ، ط. مجمع إحياء الثقافة الإسلامية ، ط. الثانية ، (1419 ه).

حرف الجيم

١ - الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر (ت 255 ه)

• البيان والتبين، أُفست مكتبة انتشارات أُرومية عن طبعة مصر الأُولى ،

(1345 ھ - 1926م).

حرف الحاء

1 - حسن ، إبراهيم

• تاريخ الإسلام السياسي، ط. دار الأندلس - بیروت، ط. السابعة ، (بلا - ت).

2 - حسين. طه الدكتور (ت 1393 ه)

• الفتنة الكبرى، علي وبنوه، المجموعة الكاملة، ط. دار الكتاب اللبناني - بیروت، ط. الأُولى، (1973م).

ص: 587

٣ - الحموي، شهاب الدين أبي عبد الله یاقوت (626 ه)

• معجم البلدان، قدّم له : محمد بن عبد الرحمن المرعشلي، ط. دار احیاء التراث العربي - بيروت ، (بلا - ت).

حرف الخاء

١ - الخضري بك، محمد

• الدولة الأموية ، ط. دار المعرفة - بيروت ، (بلا - ت).

2 - الخوئي، أبو القاسم (ت 1413ه)

• معجم رجال الحديث ، و تفصيل الرواة، الطبعة الخامسة، (1413 ه -1992م).

٣ - الخوارزمي، أبو المؤيد الموفق بن أحمد (ت 568 ه)

• مقتل الحسين ، تحقیق محمد السماوي ، منشورات مكتبة المفيد - قم ، (بلا - ت).

حرف الدال

١ - الدينوري، أبو حنيفة أحمد بن داود (ت 282 ه)

• الأخبار الطوال، تحقیق عبد المنعم عامر وزميله، ط. دار احیاء الكتب العربية - القاهرة ، ط. الأُولى، (1960 ه).

حرف الذال

١- الذهبي، شمس الدین محمد (ت 748ه)

• تاريخ الإسلام و وفیات المشاهير والأعلام، تحقیق : عمر التدمري، ط. دار الكتاب العربي - بيروت، ط. الثانية ، (1409 ه - 1989م).

ص: 588

• سير أعلام النبلاء، تحقیق : شعيب الأرناؤوط ، طبعة مؤسسة الرسالة ، الطبعة العاشرة، (1414 ه_ - 1994م).

حرف الراء

1 - الراغب الإصفاني ، الحسين بن محمد (ت 425 ھ)

• مفردات ألفاظ القرآن، تحقیق : صفوان عدنان داودي ، ط. دار القلم - دمشق، ط. الأُولى ، ( 1412 ه_ - 1992م).

2 - الراوي، ثابت (الدكتور)

• العراق في العصر الأموي ، طبعة مكتبة الأندلس بغداد، ومطبعة النعمان النجف الأشرف، ط. الثانية ، (1970 ه_). ٣ - الركابي ، الشيخ

• وقعة كربلاء، ط. دار بلال ، الطبعة الأُولى ، (1986م).

4 - الريّ شهري، محمد

• میزان الحكمة، طبعة جديدة ومحققة، نشر دار الحدیث، ط. دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأُولى، (1422 ه_ - 2001م).

حرف الزاي

١ - الزركلي، خير الدين (ت 1396 ه_)

• الأعلام، طبعة دار العلم للملايين - بيروت ، الطبعة الرابعة عشرة ، (1999 م).

2 - الزنجاني، إبراهيم

• وسيلة الدارين في أنصار الحسين، ط. مؤسسة الأعلمي - بيروت، ط.

الثانية، (1402 ه_ - 1982م).

ص: 589

حرف السين

1 - سبط ابن الجوزي ، يوسف بن قزأوغلي (ت 654ه_)

• تذکرة الخواص، ط. مؤسسة آل البيت - بيروت، (1401 ه_) .

2 - السماوي ، محمد بن طاهر (ت 1370 ه_)

• إبصار العين في أنصار الحسين، ط. منشورات بصيرتي - قم، (بلا - ت).

٣ - السماوي، محمد نِعمة

• موسوعة الثورة الحسينية ، ط. دار المرتضى - بيروت، الطبعة الأُولى، (1422 ه_ - 2001م).

4 - السمهودي ، نور الدين علي (ت 911ھ)

• وفاء الوفا، تحقیق : محمد محي الدين عبد الحميد، ط. دار إحياء التراث العربي - بيروت ، (بلا -ت).

5 - السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن (ت 911 ه_)

• تاریخ الخلفاء، تحقیق محمد محي الدين عبد الحميد، ط. منشورات الشريف الرضي، ط. الأُولى ، (1411ه_).

حرف الشين

١ - الشبراوي، عبد الله بن محمد الشافعي (ت 1172ھ)

• الاتحاف بحب الأشراف، تحقیق : سامي الغريري، طبعة جديدة ومحققة ، ط. مؤسسة دار الكتاب - قم، الطبعة الأُولى، (1413ھ۔ - 2002م).

2 - الشريف ، محمود

• موسوعة كلمات الإمام الحسين، ط. دار المعروف - قم، الطبعة الأُولى، (1415 ه_ - 1995 م).

ص: 590

3 - شمس الدين ، محمد مهدي (ت 1422 ه_)

• ثورة الحسين، ط. المؤسسة الدولية للدراسات والنشر - بیروت، الطبعة السابعة ، (1417 ه_ - 19969 م).

• أنصار الحسين، ط. المؤسسة الدولية للدراسات والنشر - بيروت ، الطبعة الثالثة ، (1417 ه_ - 1996 م).

• عاشوراء، ج 1، ط. المؤسسة الدولية للدراسات والنشر - بيروت، الطبعة الأولى ، (1412 ه_ - 1991م).

• عاشوراء ج 2، ط. المؤسسة الدولية للدراسات والنشر - بیروت، الطبعة الأُولى، (1420 ه_ - 2000م).

4 - الشهرستاني، هبة الدين (ت 1386 ه_)

• نهضة الحسين، ط. دار الكتاب العربي - بيروت ، (بلا - ت).

5 - الشهيدي، جعفر

• نهضة الحسين، ترجمة: رياض الأخرس، ط. الثانية ، (1426ه_ -2006م).

حرف الصاد

١ - الصالح، صبحي (الدكتور)

• نهج البلاغة (ضبط النصوص و فهرست و ترتیب)، منشورات دار الهجرة - قم، ( بلا - ت).

2 - صبحي، أحمد محمود (الدكتور)

• نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثني عشرية ، ط. دار النهضة العربية - بیروت، (بلا - ت).

ص: 591

٣ - الصدوق، محمد بن على (ت 381ه_)

• الأمالي ، قدّم له : حسين الأعلمي، ط. مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، ط . الخامسة، (1400 ه_ - 1980 م).

حرف الطاء

١ - الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن (من أعلام القرن السادس الهجري)

• إعلام الوری، بأعلام الهدى ، ط. وتحقيق مؤسسة آل البيت لاحياء التراث، ط. الأُولى، (1417 ه_).

2 - الطبري، محمد بن جریر (ت 310ه_)

• تاريخ الطبري، تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم ، ط . روائع التراث العربي - بیروت، (بلا - ت).

3 - الطبري ، أبو جعفر محمد بن جریر بن رُستم (من علماء الإمامية في المائة الرابعة)

• دلائل الإمامة ، ط. منشورات المكتبة الحيدرية - النجف الأشرف ، (1383 ه_ - 1963 م).

4 - الطبسي، نجم الدين، ومحمد جواد، ومحمدجعفر

• مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة، ج 2 - 3 - 4، إصدار مرکز دراسات عاشوراء - قم، الطبعة الأُولى ، (1421 و 1423 ه).

5 - الطريحي ، فخر الدين (ت 1080 ه)

• المنتخب في جمع المراثي والخطب ، ط. مؤسسة الأعلمی - بیروت ،

(بلا - ت).

ص: 592

حرف العين

١ - عابدین، محمد علي

• مبعوث الحسين ، ط. مؤسسة النشر الإسلامي - قم، (1408 ه_).

2 - العقاد، عباس محمود

• معاوية في الميزان ، ط. دار الكتاب العربي - بيروت، ط. الثالثة ، (1386 ه_ - 1966 م).

• أبو الشهداء الإمام الحسين ، ط. القاهرة ، (بلا - ت).

٣ - العصفري، خليفة بن خيّاط (ت 240 ه_)

• تاريخ خليفة بن خیاط، تحقیق : سهیل زکار، ط. دار الفكر - بيروت، (1414 ه_ - 1993 م).

4 - العلايلي، عبد الله

• الإمام الحسين ط. دار مكتبة التربية - بيروت، (1972م).

5 - العلي ، صالح أحمد (الدكتور)

• الكوفة وأهلها في صدر الإسلام، ط. شركة المطبوعات للتوزيع و النشر - بیروت، (بلا - ت).

حرف الفاء

1 - فضل الله ، محمد حسين

• من وحي عاشوراء، ط. دار الملاك - بيروت، الطبعة الأُولى ، (1417ه - 1996م).

ص: 593

• على طريق كربلاء، ط. دار التيار الجديد - بیروت، الطبعة الأُولى ، (1404 ه_ - 1984 م).

• الحوار في القرآن، ط. دار الملاك - بيروت، الطبعة الخامسة، (1417 ه_ - 1996م).

حرف القاف

١ - القرشي، باقر شریف

• حياة الإمام موسی بن جعفر ، طبعة دار الكتب العلمية - قم، اُفست الطبعة الثانية ، ( 1389 ه_ - 1970 م).

• حياة الإمام الحسين ، طبعة الداوري - قم، اُفست الطبعة الأُولى ، (1396 ه_).

2 - القرطبي، أبو عمرو يوسف بن عبد البرّ (ت 463ه_)

• الاستيعاب ، المطبوع بهامش الاصابة لابن حجر ، ط. دار الكتاب العربي - بیروت، (بلا - ت)، وطبعة أُخرى محققة بمجلدين، ط. دار الفكر - بيروت ، الطبعة الأُولى ، (1423 ه_ - 2002م).

٣ - القزويني ، فضل علي (ت 1367 ه_)

• الإمام الحسين وأصحابه ، تحقیق : أحمد الحسيني، ط. قم، ط. الأُولى ، (1415 ه_).

4 - القمي، عباس (ت 13059 ه_)

• نفس المهوم، ط. منشورات مكتبة بصيرتي - قم، (بلا - ت).

ص: 594

حرف الكاف

١ - کرد علي، محمد

• الإسلام والحضارة العربية ، ط. دار الكتاب الإسلامي - القاهرة، (بلا - ت).

2 - الكوراني، حسين

• في محراب كربلاء، حوادث الكوفة ، ط. دار الهادي - بيروت ، ط. الأُولى ، (1425 ه_ - 2004م).

3 - الكيالي، عبد الوهاب

• موسوعة السياسة، ط. المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بیروت،

ط. الثانية ، (1985م).

حرف الميم

١ - المبرد، أبو العباس محمد بن یزید (ت 286 ه_)

• التعازي والمرائي، تحقيق : إبراهيم الجمل، طبعة نهضة مصر القاهرة ،( بلا - ت).

2 - المجلسي، محمد باقر (ت 1111 ه_)

• بحار الأنوار ، تحقیق وتعلیق : جلال الدين الصغير، ط. جديدة ومحققة، دار التعارف - بيروت، (1423 ه_ - 2001م). ٣ - المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين (ت 346ه_)

• مروج الذهب، ط. دار الأندلس - بيروت، الطبعة الأُولى ، (1385 ه_ - 1965م).

4 - المظفر، عبد الواحد

• سفير الحسين، ط. اُفست مؤسسة آل البيت - قم، (بلا - ت).

ص: 595

5 - المفيد، أبو عبد الله ، محمد بن محمد بن النعمان (ت 413ه_)

• الإرشاد ، تحقیق : مؤسسة آل البيت لتحقيق التراث - قم ، طبعة دار المفيد - بیروت، ط. الثانية ، ( سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد)، (1414 ه_ - 1993 م).

6 - المقدسي، المطهر بن طاهر (ت 507ه_)

• البدء والتاريخ، ط. مكتبة الثقافة الدينية - مصر ، (بلا - ت).

7 - المقرم، عبد الرزاق (ت 1391 ه_)

• مقتل الحسين، ط. قسم الدراسات الإسلامية ، مؤسسة البعثة - طهران ، (بلا - ت).

• الشهید مسلم بن عقیل، ط. إيران - قم ، (بلا - ت).

8 - المنقري، نصر بن مزاحم (ت 212 ه_)

• وقعة صفين ، تحقیق وشرح : عبد السلام هارون ، افست طبعة مصر الثانية، (1382 ه_).

حرف النون

1 - النيسابوري، أبو عبد الله محمد بن عبد الله ... الحاكم الشافعي (ت 405ه_)

• المستدرك على الصحيحين ، طبعة دار الكتب العلمية - بيروت ، (بلا -ت).

حرف الهاء

١ - الهاشمي، أحمد (ت 1362 ه_)

• جواهر الأدب، طبعة مصر، الطبعة السادسة والعشرون، (1385 ه_ - 1960م).

حرف الياء

1 - اليعقوبي، أبو يعقوب أحمد بن إسحاق بن واضح (ت 284 ه_)

• تاريخ اليعقوبي، طبعة دار صادر - بيروت ، (بلا - ت).

2 - يعقوب ، محمد حسين

• كربلاء الثورة والمأساة ، ط. دار الغدیر - بيروت، الطبعة الأُولى ، (1418 ه_ - 1997م).

ص: 596

الفهارس

ص: 597

الصورة

ص: 598

الصورة

ص: 599

الصورة

ص: 600

الصورة

ص: 601

الصورة

ص: 602

الصورة

ص: 603

الصورة

ص: 604

الصورة

ص: 605

الصورة

ص: 606

الصورة

ص: 607

الصورة

ص: 608

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.