المعاد في القرآن من مواهب

هوية الکتاب

المعاد في القرآن

من مواهب السيد عبد الأعلى السبزواري

الطّبعة الأولی

1432 ه- - 2011م

دار الکاتب العربي

جمعية خيرية رقمية: مركز خدمة مدرسة إصفهان

المحرر: محمدرضا دهقانزاد

ص: 1

اشارة

جمیع الحقوق محفوظه

الطّبعة الأولی

1432 ه- - 2011م

دار الکاتب العربي

للطباعة والنشر و التوزیع

- العربية للطباعة والنشر والتوزيع

هاتف: 03/257984 - فاکس: 01/553456 - ص.ب: 25/355 - غبيري - بيروت

Daralkatebalarabi@hotmail.com

ص: 2

المعاد في القرآن من مواهب

السيد عبد الأعلى السبزواري

إعداد السيد إبراهيم سرور

دار الكاتبة العربي

ص: 3

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»

ص: 4

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الأول قبل الإنشاء والآخر بعد فناء الأشياء العليم الذي لا ينسى من ذكره ولا يخيب من دعاه ولا يقطع رجاء من رجاه ولا ينقص من شكره وصلّ الله على سيدنا محمد المبعوث من الرب الأوحد ذو الجلال والإكرام الذي بَعُدَ فلا يُرى وقَرُبَ فشَهِدَ النجوی تبارك وتعالى، وعلى آله الأمجاد الميامين المعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وعلى كل من تبعهم بحق إلى قيام يوم الدين وبعد:

بعد أن وفقنا الله تعالى في الكتب السالفة لنشر التعاليم القرآنية على أنواعها من نافذة مدرسة السيد عبد الأعلى السبزواري، سواء المطالب العرفانية كانت أو الفقهية أو العقائدية والأخلاقية وغيرها، أحببنا أن نتعرض إلى بعض مباحثه (قدس سره) التي تختص في المعاد وعالم الآخرة، ولا يخفى على كل من تتبع كلمات السيد(قدس سره) مما تشمله من الإتقان والتصوير القوي من خلال الروايات والأحاديث

ص: 5

الشريفة وتفسيره العظيم الذي أضفى عليها صبغة جديدة اصطبغت بلون العرفان الحقيقي والصفة الإيمانية والتقوائية التي أنيطت بحياة السيد (قدس سره) .

وعليه فإننا عملنا في مشروعنا هذا على تكملة المباحث القرآنية في مختلف الجهات وخصّصنا هنا ما يتعلق بالروح وتجرد النفس والموت الحيواني اتصالاً بعالم المعاد والعوالم التي ترتبط بها كعالم الشفاعة والحساب والحشر والصراط وغير ذلك، ومن الله نطلب العون والمدد والتوفيق في أن يستفيد كل إنسان من هذه المطالب الشيقة والمفيدة والكنوز التي جمعناها من فيوضات بحار السيد المقدس السبزواري سائلين المولى حسن العاقبة بحق محمد وآله الطاهرین.

إبراهيم سرور

15/ 3/ 2010م

ص: 6

المعاد

المعاد

من المباحث المهمة في الفلسفة الإلهية بحث المعاد، وقد اهتمّ به الأنبياء والمرسلون وجميع الكتب السماوية والفلاسفة والمتكلِمون اهتماماً بليغاً، وأطالوا البحث فيه من كلّ جهة، وفي المقام مباحث نستوفي الجوانب الأهم منها.

ثبوت أصل المعاد

يجب وجود المعاد عقلاً و شرعاً، كوجوب وجود المبدأ كذلك، والفرق بينهما أن وجوب المبدأ ذاتي، ووجوب المعاد بالغير.

والمعاد من العود، ووجوبه في النظام الأحسن الذي يشمل جميع العوالم عقلي، ويمكن تقریر دلیله بوجوده :

الأول: ما هو الأسد والأخصر بأن يقال : إن الأرواح والنفوس أدبية، أي خالدة وباقية، فلا حدّ لآخرها باتّفاق الشرائع السماوية وجميع الفلاسفة - على ما يأتي - وتعطيل هذه الأبدية المطلقة وإهمالها عن كل شيء قبيح عقلاً، فيستحيل ذلك عليه عزّ وجلّ، بل لا بد من إبراز مقتضيات ذواتها وخصوصياتها المحفوفة بها، ولا يتحقّق ذلك إلا بالمعاد، فيجب المعاد في النظام الأحسن الربوبي، هذا بالنسبة إلى المعاد الروحاني المتّفق عليه بين الجميع.

ص: 7

وأما المعاد الجسماني، فإنه يمكن تقرير وجوبه بأن يقال : إن الأرواح والنفوس في فعلها محتاجة إلى الآلات الجسمانية، أي الجسد (القلب والبصر والسمع والرجل وغيرها)، وإن كانت في ذاتها مستغنية عنها، فإن الأرواح توجد متّحدة مع الجسم طوال الحياة وتنفصل عنه عند الموت، ولا بد من عود جميع آلاتها (أي الجسد) التي كانت تعمل بها بعد الموت، لفرض تقوّم فعلها بها، وأنها كانت مأنوسة بتلك الآلات من كلّ جهة.

وقيام غيرها مقامها باطل، لأنه يستلزم تنعیم ما لم يصدر منه منشأ النعمة، وتعذيب ما لم يحصل منه منشأ العذاب، وهو قبيح عقلاً، فكيف بالنسبة إليه تعالى؟ فيثبت المعاد الجسماني.

إن قيل : لا ريب في تحلّل الأجزاء الجسمانية في الدنيا، وفي عالمنا هذا، وتبدل تلك الأجزاء ووصول بدل ما يتحلّل إليها في كلّ مدة، فالبدن الموجود في سن العشرين مثلاً غير ما كان في سن العشرة، فيلزم المحذور، أي تنعيم ما لم يصدر منه منشأ النعمة وتعذيب ما لم يحصل منه منشأ العذاب، أو ترجيح المرجوح على الراجح، فليكن البدن الموجود في عالم الآخرة، كذلك أيضاً، أو يكون من غير سبق بدن اَصلاً.

يقال : التبدّلات الحاصلة على البدن في هذا العالم ليست تبدّلاً مادياً وصورياً من كل جهة، بل المادة الأوليّة محفوظة، وإنما تتبدّل بعض الخصوصيات وبعض الصور، فالمادة التي تقوم بها النعمة والعذاب محفوظة في أصلها، فيرد العذاب والنعمة على ما صدر منه .

ص: 8

الثاني : الملازمة الواقعية الحقيقية بين المبدأ والمعاد، لأن المعاد مظهر مالكية المبدأ وقهّاریته وسائر صفاته الجمالية والجلالية، والمبدأ بدون تلك الصفات لغو محض، بل غير ممكن، وكذا العكس فهما متلازمان ثبوتاً، ولا يمكن التفكيك بينهما واقعاً، خصوصاً بالنسبة إليه تبارك وتعالی.

الثالث : الملازمة الثبوتية بين التشريع والجزاء، فإن أحدهما بدون الآخر لغو، وهو محال عليه تعالی.

الرابع : أن إهمال تعذيب المسيئين وجزاء المحسنين قبيح في النظام الأحسن، وهو محال على الله جلّت عظمته، والآخرة ليست إلا دار تعذيب المسيئين وجزاء المحسنين، فلا بد من تحقّقها، وهذا العالم غير قابل لتعذيب المسيئين فيه، لأنّه محدود من كلّ جهة، وأنه ظرف الاستكمال كما يأتي.

وهناك أدلّة أخرى تدلّ على الثبوت نتعرض لها في الآيات المناسبة إن شاء الله .

ص: 9

إثبات المعاد

يمكن الاستدلال عليه بالأدلّة الأربعة : فمن العقل ما تقدّم من أدلّة وجوب وجوه، إذ لا يعقل أن يكون شيء واجب الوجود وغير متحقّق في الخارج.

مع أن الممکنات بأسرها خلقت في طريق الاستكمال الدائم - لا الزائل - لفرض أبدية النفس والروح، كما أثبتها جميع الفلاسفة - الطبيعيين منهم والإلهيين - ولا بد في ذلك الاستكمال من نهاية وحدّ، سواء كان الاستكمال في الخير أم الشر، وأن المعاد مظهر الاستكمال ونهايته ، وأن هذا العالم ظرف الاستكمال كما نراه، فالإنسان - الذي هو أشرف الموجودات وخلقت الأشياء لأجله - يكون في مسير الكمال الذي لا بد له من مظهر، وهو المعاد، أي عالم الآخرة، وإلا يلزم الخلف، أي يكون الكمال بلا أثر ونتيجة .

وأما من الكتاب ، فآيات كثيرة، منها قوله تعالى : «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ»(1)، وقوله تعالى: «ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ

ص: 10


1- الأعراف، الآية 29

تَعْمَلُونَ»(1)، وقوله تعالى: «وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اَللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلَى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(2)، إلى غير ذلك من الآيات، وكذا جميع الكتب السماوية، فإن أهمّ دعوتها هي الدعوة إلى المبدأ والمعاد.

وأما السنّة، فهي فوق حد الإحصاء بألسنة مختلفة شتی .

وأما الإجماع، فإجماع جميع الأنبياء والمرسلين، وجميع أهل الكتاب والمسلمين.

ص: 11


1- الزمر، الآية 7
2- التوبة، الآية 105

المعاد الروحاني والجسماني

أما الأول، أي عود الأرواح بعد انفصالها عن الأبدان إليها، للجزاء والتعبير بالعود بالنسبة إلى الأرواح من باب الوصف بحال المتعلّق، لفرض أن الأرواح أبدية لا تفنى .

نعم، عند انعدام جميع ما سواه تعالى ينعدم ثم يوجد ولم يسم ذلك بالمعاد .

ولا خلاف فيه من أحد - ثبوتاً وإثباتاً - في معاد الأرواح، فإنهم أثبتوا أن الأرواح إمّا شقيّة، أو سعيدة، ومصير الأولى إلى النار، بخلاف مصير الثانية، فإنها إلى الجنة، ولا يعقل الفناء المحض والإهمال بالنسبة إلى الأرواح أصلا، كما أثبته الفلاسفة، بل المنساق من الأدلة السمعية - كتاباً وسنّة - ذلك.

ويمكن إقامة الدليل العقلي عليه بأن يقال : إن الفناء والاضمحلال من لوازم الجسم والماديات، لمكان تحلّل الأجزاء تدريجاً، وأما إن كان بسيطاً من كلّ جهة - كالأرواح وجميع المجرّدات والروحانيين من الملائكة - فلا موضوع الفناء والتحلّل فيه، فيبقى بعد الحدوث أبداً.

نعم، الانعدام بمشيئة الله تعالى وإرادته شيء آخر لا ربط له

ص: 12

بالموت والفناء، فكلّ موجود إما أزلي وأبدي، وهو منحصر به جلّ شأنه، أو حادث أبدي، وهو المجرّدات والروحانيون، أو حادث وفانٍ ، وهو الأجسام والماديات .

وأما كون شيء أزلياً وفانياً، فهو ممتنع للقاعدة التي تسالم الكلّ عليها من أن: «كلّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه»، فمعاد الأرواح ممّا لا يعتريه الشك أصلاً، ومَن أنكره فقد «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ»(1).

وأما المعاد الجسماني الذي هو مورد دعوة الأنبياء وجميع كتب السماء، فقد أثبته جمع كثير من أكابر الفلاسفة وأعاظمهم، حتّى من غير المسلمين.

وإنما أشكل بعض في استحالته من أنه إعادة المعدوم، فإن الجسم لو انعدم فإعادته محال . وهذا الإشكال قدیم الجذور، فقد حكاه الله تعالى في جملة من الآيات المباركة عنهم، قوله تعالى : «مَن یُحْیِ الْعِظامَ وَهِیَ رَمِیمٌ»(2)، وقوله تعالى: «وَ قالُوا ما هِيَ إِلاّ حَياتُنَا اَلدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلاَّ اَلدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ»(3)، وغيرهما من الآيات الشريفة .

ولكن أصل الإشكال فاسد، لأنّه مغالطة حصلت من قياس قدرة الخالق على قدرة المخلوق، أي الممكن، فظنوا أن ما لا يمكن بالنسبة

ص: 13


1- النمل، الآية 14
2- يس، الآية 78
3- الجاثية، الآية 24

إلى قدرة المخلوق هو غير ممكن بالنسبة إلى قدرة الخالق أيضاً، ولا ريب في بطلانه، لأن قدرة المخلوق محدودة، وقدرة الخالق غير محدودة بوجه من الوجوه، حتّى إنه تعالى خلق الأشياء من العدم، فليكن المعاد بالنسبة إلى الأجساد كذلك أيضاً، على فرض تحقّق العدم بالنسبة إليها، مع أنه لا يمكن لفرض بقاء المواد الأوّلية، وإنما تغيّرت الصور والجهات الخارجية، ولذا قال تبارك وتعالى : «وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلى فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ»(1)، فالذي يصوّر مادة المواد والهيولى الأولى إلى صور شتى بأكمل الصور وأحسنها، يقدر على كل ما شاء وأراد، وهو قادر على أن يعيد جميعها.

وثانياً : أن استحالة إعادة المعدوم لا تختصّ بالمعاد الجسماني، بل تجري في جميع الممكنات حتى الأرواح، بل مطلق المجرّدات ، الانعدامها قبل يوم القيامة، قال تعالى : « لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ»(2)، مع أن المعاد الروحاني متّفق عليه بين جميع الفلاسفة، بل العقلاء أيضاً.

وثالثاً : على فرض التسليم أن المحال إنما هو إعادة المعدوم بجميع خصوصياته الزمانية والمكانية وسائر الجهات، لا خصوص المادة والصورة، مع عدم ملزم لإعادة سائر الجهات، وأنهما محفوظان

ص: 14


1- الروم، الآية 27
2- غافر، الآية 16

في عالم الفضاء والقدر، اللذين هما أوسع العوالم الربوبية، بل يمكن أن يكونا محفوظين في الأذهان السافلة أيضاً، فلا موضوع للمغالطة أصلاً.

ص: 15

الشبهات الواردة على المعاد

أوردت شبهات كثيرة على المعاد، ولكن أهمّها ثلاث:

الأولى : ما اصطلح عليها في كتب الفلاسفة والمتكلّمين بشبهة الأكل والمأكول، وتعرّض لها بعض كتب الفلسفة الحديثة أيضاً، وهي قديمة وترجع جذورها إلى ما قبل الإسلام، كما يستفاد من الآيات المباركة، وحاصل الشبهة أنه إذا تورد على بدن الإنسان صور أشياء مختلفة، كأن صار الإنسان مثلاً فريسة لسبع، وصار السبع فريسة لسبع أقوى منه، ثم استحال الجميع إلى التراب ، واستحال التراب إلى النبات، وصارت هي مأكول الحيوان أو الإنسان، فكيف يمكن أن يعود بدن الإنسان الذي تواردت عليه صور شتى في المعاد، وهل يعاد بالبدن الأولي والهيكل الأصلي للإنسان، والمفروض انعدامه بالكلية؟ أو بالصورة العارضة عليه، فيلزم أولاً أن لا يعود البدن أو الجسم الموجود في دار الغرور في عالم الحشر والنشر، وهو خلاف ما تقدّم من الأدلّة الدّالة على إثبات المعاد الجسماني.

وثانياً : يلزم تنعیم مَن لم يصدر منه فعل الطاعة، وتعذيب من لم يصدر منه منشأ العقاب ، وهو باطل بالضرورة، وهذا هو أصل الشبهة .

ص: 16

ولكنها باطلة، لما تقدّم من أن الصور التي تعرض على الشيء وتتغيّر لا تنافي بقاء المواد الأولية لذلك الشيء، فهي باقية ومحفوظة وإن تبدّلت الصور العارضة عليها وحصلت التطورات ، لكن المادة الأولية باقية، نظير المضغة التي تكون في مصير الاستكمال الإنساني، فهي موجودة في الإنسان وإن بلغ من العمر ما بلغ، ولكن تتبدل عليها الحالات والصور الكثيرة، والمعاد الجسماني أيضاً كذلك، فيكون التعذيب وارداً على مَن صدر منه فعل المعصية ، والتنعيم على من صدر منه فعل الطاعة، وهو باق وإن عرضت عليه صور كثيرة .

مع أن العلم الحديث في التجزئة والتحليل تمكّن من تجزئة المواد في الجسم، وامتياز المواد الحيوانية عن النباتية، وهما عن غيرهما، فكيف بقدرته تعالى؟!

ولا فرق في ذلك بين أن يكون الأكل هو الحيوان أو يكون إنسان آخر، كما لو أكل إنسان إنساناً آخر، فالجواب في الجميع واحد.

وأصل الشبهة ناشئة من تحديد قدرة الخالق وقياسها على قدرة المخلوق، مع أن قدرة المخلوق أمكنها السيطرة على حفظ المواد الأولية في الجسم و امتیازها عن غيرها، بل ونموها كما عرفت، وهذه الشبهة مقررة في القرآن الكريم بنحو الإجمال، قال تعالى : «مَن يُحْىِ الْعِظَامَ وَ هِىَ رَمِيمٌ»(1)، وقال تعالى: «أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ»(2).

ص: 17


1- يس، الآية 78
2- القيامة، الآية 3-4

الثانية : أن المعاد إنما هو لتعذيب الأشقياء وتنعيم السعداء، وهذه النتيجة يمكن أن تحصل في هذه الدنيا وفي هذا العالم، فلا يحتاج إلى التعذيب في عالم الآخرة، فيعذب الله تعالى الأشقياء في هذه الدنيا حتّى يرد الجميع إلى عالم الآخرة بلا منشأ للعقاب ، فيردون الجنّة بغير حساب، فيكون التعذيب في هذا العالم بمنزلة التوبة الممحاة للذنوب، وهذه الشبهة كثيرة الدوران في الفلسفة الحديثة .

ولكنها باطلة.. أولاً: لأن الله تبارك وتعالى جعل للذنوب في هذه الدنيا ما يوجب محوها وإزالتها، كالحدود والتعزيزات والدّيات والكفّارات والتوبة والاستغفار والتكفير، قال تعالى : «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً»(1)، فأي إنسان عمل بذلك، فلا ذنب له فيتحقّق التعذيب في هذا العالم بالحدود والتعزيز والديات وغيرها، فلا موضوع لهذه الشبهة، فإن الله تعالى أجلّ من أن يعذب العاصي مرتين.

وثانياً : أن كثيراً من المعاصي في هذه الدنيا ناشیء من سورة السريرة وفساد الطينة اقتضاءٌ، وهذا العالم بزمانه وزمانياته قاصر عن تعذيب مثل هذه السريرة، لأن هذا العالم متناه، والسريرة فيها اقتضاء عدم التناهي، فلا بد وأن يؤجل إلى عالم الآخرة .

وثالثاً: أن هذا العالم ظرف الاستكمال في جميع الجهات،

ص: 18


1- النساء، الآية 31

والتعذيب مناف له، نعم بعض آثار الذنوب تظهر في هذه الدنيا، وأنها من الآثار الوضعية، ولا ربط لها بالتعذيب والمعاد.

الثالثة : المعاد الجسماني مستلزم للتناسخ الباطل - كما سيأتي - فيكون المعاد الجسماني باطلاً کذلك، خصوصاً بعد اشتمال الأدلة السمعية على حشر بعض أفراد الإنسان بصورة بعض الحيوانات .

والجواب عنها : أن المعاد الجسماني ليس من التناسخ في شيء، وبينهما تباين کلّي، لأن التناسخ الباطل عبارة عن انتقال الروح من بدن في هذا العالم إلى بدن غيره، كلّ منهما في عرض الآخر، وأما بقاء الروح إلى عالم آخر طولي وتغيير بدنه حسب المقتضيات والملكات ، فلا ربط له بالتناسخ أصلاً، بل يكون المقام نظير ما إذا ابتلي بدر الإنسان بمرض، بحيث زالت محاسنه وذهبت هيئته وصفاته بالمرّة لأجل الجهات الخارجية مع بقاء روحه، فكم من شخص كان في غاية الجمال في شبابه فصار قبيحاً في هرمه وشيخوخته، وكم مرغوب إليه في سن فصار مرغوب عنه في سن آخر، وهكذا فالمعاد الجسماني من هذا القبيل. هذا فيما إذا تغيّر البدن في عالم الحشر، وأما إذا لم يتغيّر فلا موضوع للشبهة أصلاً.

ص: 19

الموت والشهادة

الموت والشهادة

قال تعالى : «أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ».

أي : لا تقولوا: في شأن مَنْ قتل في سبيل الله أنهم أموات مفقودون عن الحسن ذهبوا إلى دار الفناء بل هم أحياء حياة أبدية ولكن لا تشعرون بها، لأن حياتهم في غير هذا العالم المحسوس المدرك بالمشاعر.

والمراد بالحياة هنا الأعم من الحياة في عالم البرزخ والحياة الحقيقية لأجل إحياء الدين، والحياة في الذكر واللسان، نظير ما ورد عن علي علیه السّلام : «هلك خزان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة» وهو من باب ذکر بعض الأفراد الذي لا يبقى لا من باب الحصر.

وقد ذكر المفسرون في معنى الحياة هنا لا ما يرجع إلى محصّل كما يأتي تفصيل الكلام فيها.

الحياة على أقسام:

الأول : الحياة الدنيوية الظاهرية المتقومة بتدبير النفس في البدن وإعمالها للقوى الظاهرية والباطنية في الجسم الدنيوي فقط.

ص: 20

الثاني : الحياة الذكري عند الناس بعد ارتحال النفس عن البدن كما في العظماء والأكابر الذين خلدت أسماؤهم في التاريخ تعظيماً لجهودهم في العلم والأعمال الخيرية الصادرة منهم في حياتهم.

الثالث : الحياة الأبدية الخالدة التي لا يعلمها إلّا الله تعالی .

وظاهرة الآية المباركة والنصوص الواردة في حياة المقتول في سبيل الله، هو القسم الأخير، لفرض أنّه بذل نفسه ونفيسه في سبيل الحي القيوم الأزلي الأبدي، طلباً لرضائه وامتثال أمره، ولا تحديد في هذه الحياة، كما بالنسبة إلى القسمين المتقدّمين. وتتبع هذه الحياة ، الحياة بالمعنى الثاني، فما عن بعض المفسّرين من أن المراد خصوص القسم الثاني فقط، تخصيص للعموم بدون وجه .

إن قيل: مثل هذه الحياة ثابتة لكلّ فرد من أفراد المؤمنین ومعلومة لهم، فلا وجه لتخصيصها بالشهيد.

يقال : إنّ أصل الحياة بعد الموت وإن كانت ثابتة للمؤمنين ومعلومة لهم، لكن المستفاد من مجموعة الآيات الشريفة والنصوص الواردة في حياة الشهيد، أن فيها مزايا خاصة فوق أصل الحياة بمراتب كثيرة، كما يدلّ عليها قوله تعالى : «عِنْدَ رَبِّهِمْ یُزرقُون»(1).

والخطاب في الآية عام، لا يختصّ بطائفة خاصة، لا المشافهين ولا غيرهم، لما ثبت في علم الأصول من أن الخطابات الواردة في

ص: 21


1- آل عمران، الآية 169

الشريعة المقدسة - خصوصاً ما ورد منها في القرآن الكريم - من قبيل القضايا الطبيعية الشاملة لجميع الأفراد.

فمَن قال باختصاص الخطاب في المقام وفي قوله تعالى : «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(1) بطائفة خاصة.

لا وجه له، إذ لا دليل عليه، بل هو مخالف لطريقة العرف والعقلاء في محاوراتهم، ولا سيما هذا الخطاب الوارد في مقام الترحّم على العباد، والترؤّف بهم.

والقتل في سبيل الله تعالى هو الشهادة في سبيله تعالى، والشهيد مشتقّ منها، إلا أن الأول باعتبار أصل الحدوث، والثاني باعتبار الثبوت، والشهيد من أسماء الله تعالى، وهو بمعنى الحضور الفعلي بالنسبة إلى جميع ما سواه، ولعلّ إطلاق الشهيد على من قَتل في سبيل الله تعالى، إنما هو لأجل حضوره لديه عزّ وجّل متلبّساً بما عاناه من الصعاب والاضطهاد، أو حضور الملائكة لديه مبشّرين له بأعلى المقامات وأرفع الدرجات التي أعدّت له، ويصحّ الحمل على المعنى العام أي حضوره لديه للانتصار، وحضور الملائكة لديه لبشارته بالجزاء، والمراد من حضوره تعالى هو توجّهه الخاص به .

فالشهادة هي السفر من الخلق إلى الحقّ، ولا تختصّ بخصوص

ص: 22


1- آل عمران، الآية 169

مَن بذل دمه في سبيل الله ، بل تشمل كلّ من تحمّل الأذية مطلقاً في سبيله عزّ وجلّ، وفي جملة من الأحاديث : «المؤمن شهید ولو مات في فراشه» إلا أن للشهيد الذي بذل دمه أحكاماً خاصة، ويأتي تتمة الكلام في الآيات المناسبة.

والآية تدلَّ على تجرّد النفس، وهو حقّ لا ريب فيه، كما ثبت بالأدلة الكثيرة، وهو المستفاد من الكتب السماوية والقرآن المبين والنصوص المتواترة من السُنّة الشريفة، ويأتي في البحث الفلسفي تفصيل الكلام فيه.

قوله تعالى : «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ».

مادة : (بَلا) تأتي بمعنى الامتحان والاختبار، وتقدّم ما يتعلق بها في قوله تعالى: «وَ اِذِ ابْتَلی اِبْراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ»(1).

والشيء من الألفاظ العامة الشاملة للقليل والكثير، والجواهر والأعراض.

والخوف توقّع المكروه . مظنوناً كان أو معلوماً - بعكس الرجاء ، فإنه توقّع المحبوب كذلك.

والمعنى: لنمتحنكم بشيء من الخوف من العدو، أو بشيء من الجوع.

ولم يذكر سبحانه وتعالی متعلّق الامتحان ولا مورد الخوف

ص: 23


1- البقرة، الآية 124

والجوع، تعميماً للاختبار والامتحان في كلّ زمان ومكان، وبالنسبة إلى كلّ شخص .

ولهما مراتب كثيرة يحتمل أن يكون الامتحان بالنسبة إلى كلّ مرتبة بما تقتضيه المصلحة الإلهية .

قوله تعالى : «وَ نَقْصٍ مِنَ اَلْأَمْوالِ وَ اَلْأَنْفُسِ وَ اَلثَّمَراتِ».

النقص يأتي بمعنى الخسران، وهو في مقابل التمام.

والمراد من الأموال الأعمّ من الأعيان والمنافع، وما يهتم الإنسان بحفظه، فيشمل الحيوان والعبيد وكلّ ما يبذله بإزائه المال.

كما أنّ المراد بالأنفس كل ما يتأثر الإنسان بفقده وورود النقص عليه - سواء كان من النقص في قوى النفس أو عروض الموت عليها - فيشمل النفس والأقارب والأصدقاء.

والثمرات جمع ثمرة، وهي وإن كانت داخلة في الأموال غالباً، لكن أفردها سبحانه وتعالى لتشمل ما ينبت في الأرض بالطبيعة، مما لا مالك لها فعلاً وينتفع بها الإنسان، كالمرعى، وجملة كثيرة من النباتات التي لها منافع هامة للإنسان وتكون غذاء للحيوان.

ويصحّ أن يراد بالثمرات . مضافاً إلى ما ذكرناه - ثمرات القلوب أيضاً، وهي الأولاد، كما يعبّر عنهم بها كثيراً، وفي الحديث عن النبي صلی الله علیه و آله : «إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة : أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول : أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون: نعم.

ص: 24

فيقول الله تعالى: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى : ابنوا لعبدي بيتاً في الجنّة، وسموه بیت الحمد».

والآية تشير إلى ملازمة ما تقدم من الأمور لدار الدنيا، المعبر عنها في الفلسفة ب_(دار الكون والفساد)، كما أنها تفيد بأن الإيمان بالله تعالى لا يقتضي سعة الرزق ودفع الآلام ورفع المخاوف، بل إن ذلك يجري حسب قانون السببيّة، وما سنّه الله تعالى في عباده، وإنما يجريها حسب المصالح والحِكَم. ولذا نرى أنّ المؤمن يرى من البلاء ما لا يراه غيره، ليعلم مقدار صبره، أو يكمل إيمانه بها، ويتهذّب بالأخلاق الفاضلة.

ثم إنّ اختبار الناس من قبله تبارك وتعالى إنما يكون لأجل حكم ومصالح متعددة منها: توطين النفس على المصائب، وتهذيب الأنفس وتكميلها والتأدب بمقاومة الحالات، وإتمام الحجة، والتمييز، بین الصابر وغيره، وقوة البصيرة وصفاء السريرة، وتعلّم اللاحقين من السابقين كيفية مجاهداتهم واستقامتهم في الدين، وما يترتب على ذلك من البشارة العظمى والأجر الجزيل كما في ذيل الآية الشريفة.

ولا أثر لهذا الامتحان بالنسبة إلى علمه عزّ وجلّ، فإن النّاس قبل الامتحان وبعده في علمه التام الأزلي على حدّ سواء.

ولأجل ذلك لا يختص الاختبار ببعض الأفراد دون بعض، بل يشمل جميع أفراد الإنسان، حتى الأنبياء والأولياء، بل نقول إن ذلك من سنن الحياة الإنسانية .

ص: 25

نعم، تارة : يكون الامتحان لإتمام الحجة على نفس الممتحن (بالفتح)، كما مرّ وهذا هو القسم الشايع.

وأخرى : يكون لأجل إتمام الحجّة على الناس بأن هذا الشخص خرج عن الامتحان وقابل للنبوّة والإمامة، كما بالنسبة إلى إبراهيم عليه السّلام .

وأما بالنسبة إلى سيد الأنبياء، فإنه حاز مرتبة الجع، ويجلّ عن ذلك، فإنه صلی الله علیه و آله أول الخلق كان كاملاً ومكملاً، وأن «آدم ومن دونه تحت لوائه يوم القيامة»، ولو كان عيسي وموسى عليهم السّلام حييّن لم يسعهما إلّا اتباعه كما ورد في الحديث، وروى الفريقان أنه قال : «لي مع الله حالات لا يسعني فيها ملك مقرّب، ولا نبي مرسل»، وعلى فرض وقوع الامتحان فإنما يكون لتثبيت علوّ مقامه عند الناس، كما عرفت آنفاً.

قوله تعالى : «وَ بَشِّرِ اَلصّابِرِينَ».

أي : وبشر الصابرين على تلك المصائب الذين رضوا بقضاء الله تعالى وقدره، وسلموا أمورهم إليه، ولم تصدّهم المحن والمصائب عن شكر الله تعالى ولا عن عبادته وطاعته .

وإنما أطلق سبحانه وتعالى البشارة، لعدم إمكان تحديد المبشّر به بحدّ معين، فإنه يختلف باختلاف مراتب الصبر والرضا، والمناط هو أهلية الصابر لتحمّل البلاء والمحن، خصوصاً إذا اقترن مع الرضا والتسليم، فإنه يكون حينئذٍ من أعلى الفضائل وأسناها، كما قال عزّ وجلّ.

ص: 26

قوله تعالى: «الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ»

مادة (ص وب) تستعمل في كل ما يصيب الإنسان من الخير والشر قال تعالى : «إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَ يَتَوَلَّوْا وَ هُمْ فَرِحُونَ»(1)، وقال تعالى : «مَّا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ»(2).

واستعملت المصيبة في كل ما يؤذي الإنسان في نفس، أو مال أو أهل ولكن اختصت عند العرف بالنائبة فقط، وفي نصوص كثيرة أن كل ما يؤذي المؤمن فهو مصيبة حتّى انقطاع شسع نعله، والشوكة تدخل في بدنه، فتكون المصيبة في الشريعة بمعناها في اللغة من مطلق الإصابة .

والرجوع والعود بمعني مصير الشيء إلى ما كان عليه أولاً نظير قوله تعالى : «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ»(3).

أي : إنّ كل ما لنا من الحياة والنِّعَم هو من عند الله تعالی وملك له، فهو اعتراف بالملكية له تعالی ذاتاً وتدبيراً وتسليماً ورضاء بقضائه وحكمته .

وقول: «إِنَّا لِلّهِ وَإنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ» إقرار بالرجوع إليه تعالى والجزاء على الأعمال . وفيه تسلية لكل مصاب ومظلوم وتوعيد لكل جائر وظالم.

ص: 27


1- التوبة، الآية 50
2- النساء، الآية 79
3- الأعراف، الآية 29

والمعنى: وبشر الصابرين الذين يقولون: إنّا لله وإنا إليه راجعون المعبرين بلسان مقالهم عن الإيمان بالقضاء والقدر والتسليم لأمره.

وقوله : «إِنَّا لِلّهِ وَإنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ» إقرار بالمبدأ والمعاد الله تعالی بالمطابقة، وحيث إنّ مبدأ الكل ومرجعهم يستلزم وحدة الذات والفعل وإلا لزم الخلف، فهذه الآية تدل على توحيد الذات وتوحيد الفعل بالملازمة، ولعظمة هذه الجملة قال نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله: «أعطيت هذه الأمة شيئاً لم يعطه الأنبياء قبلهم وهو إنا لله وإنا إليه راجعون».

والرجوع إلى الله تعالى إما غير اختياري أو اختياري، والأول هو المعاد الذي دلت عليه جميع الكتب السماوية خصوصاً القرآن الكريم الذي أكد في هذا الموضوع تأكيداً بليغاً. وهو من الموضوعات التي ينبغي التأكيد عليها لأن به يثبت المبدأ ووحدانيته وإذا ثبت المبدأ ثبت المعاد لا محالة.

وأما الثاني أي الرجوع الاختباري إليه عزّ وجلّ فهو أن يهيىء الإنسان نفسه للحضور لدى الحي القيوم العالم بالسرائر والضمائر حضور مجازاة لما فعل وعمل لا مطلق الحضور إذ الجميع حاضر لديه تعالى بهذا النحو من الحضور.

وبعبارة أخرى : إن هبوط الإنسان من المحل الأرفع الأعلى إلى الحضيض الأسفل لا يوجب أن ينسى الإنسان ما نزل منه وأن يتدنّس بما وقع فيه، ولا بد له من التفكّر بالعروج والصعود وهذا هو الاسترجاع العملي ولا ينفع مجرد الاسترجاع القولي، وللاسترجاع

ص: 28

العملي مراتب كثيرة ومقامات شريفة وفصَّلها العرفاء في كتبهم العرفانية .

قوله تعالى: «أُولَئک عَلَیهِمْ صلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَ رَحْمَةً».

بيان لبعض مراتب البشارة بعد ذكر الوصف الذي يستحقون به البشارة.

والصلاة هي التحية، والتزكية، والبركة والثناء الجميل، والجمع باعتبار الكثرة والتعدد من نوع واحد أو أنواع متعددة حسب مراتب المصيبة وشدتها.

وأما الرحمة فهي مطلق النعمة عاجلها أو آجلها. وإنما أتی بالجنس تعميماً لكل رحمة يكون المورد قابلاً لها في العاجل وهي حسن العزاء والتوفيق للرضا والتسليم بالقضاء، وفي الآجل من المغفرة والأجل الجزيل، فهو تعالی رحیم بهم أي رحمة مما يجدون أثرها في هذه الدنيا والآخرة.

قوله تعالى : «وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ».

الاهتداء إصابة طريق الحق في الدنيا، والجنَّة في العقبي فهم المستعدون لنيل سعادة الدارین. ولا ريب في تحقق الاهتداء في الاسترجاع القلبي العملي.

وإتيان الجملة الإسمية المعرّفة الطرفين، والتأكيد بضمير المنفصل يؤكّد أن هذه الأوصاف لا تكون إلا في مَن صبر و سلّم الأمر إلى الله تعالی واعترفوا بأنهم لله وأنهم إليه راجعون.

ص: 29

بحث دلالي:

تدلّ الآيات المباركة على أُمور :

الأول: أنّ الآيات المتقدّمة وما في سياقها، تستنهض الناس على المجاهدة في سبيل الله تعالی، بلا فرق بين أن تكون المجاهدة في قتل الكافرين والمعاندين للحق، أو المجاهدة في تهذيب النفس وتزكيتها بمكارم الأخلاق وترويضها بصالح الأعمال؛ ويسمّى هذا بالجهاد الأكبر، كما ورد في الحديث عن نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله، أو المجاهدة في تحصيل المعارف الإلهية، فإنها أعظم سبل الله تعالى، والجهاد فيه يربو على أجر الشهيد، ففي الحديث : «إذا كان يوم القيامة بوزن مداد العلماء على دماء الشهداء، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء» ، أو المجاهدة في السعي في قضاء حوائج المؤمنين، وغير ذلك مما يسمّى بالجهاد في الشريعة المقدّسة، فإن سبيل الله له مراتب كثيرة وجوانب متعددة والمجاهدة فيه أيضاً كذلك.

الثاني: أنّ الآيات تدلّ على وجود عالم البرزخ، وقد أثبته الفلاسفة ببراهين عقلية، وتدلّ عليه آیات و روایات كثيرة، وهو عالم وسیع جداً يتحقّق من بعد الموت إلى البعث، قال تعالى: «وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ»(1)، ولهذا العالم تفاصيل كثيرة لعلنا نتعرض للمهم منها في الموضع المناسب.

ص: 30


1- المؤمنون، الآية 100

الثالث : استدلوا بهذه الآيات على تجرّد النفس - كما سيأتي بيانه - والتجرّد وإن كان حقاً في الجملة، والعلم به حالياً أولى بأن يكون علماً استدلالياً مقالياً.

إلّا أنّ هذه الآيات بمعزل عن الدلالة على تجرّد الروح، فإنها لا تنافي كونها جسماً لطيفاً ألطف من الهواء، ومع الاختلاف العظيم الذي وقع من العلماء في شرح حقيقة الروح، كيف يمكن الجزم بتجرّدها أو الجزم بشيء آخر؟! وسيأتي الكلام في الروح إن شاء الله .

الرابع : المراد بحياة الشهداء في سبيل الله تعالى، الحياة الكريمة الدائمية الأبدية ، التي هي في جوار الله تعالى من أول مفارقة أرواحهم، لا خصوص الحياة البرزخية، فإنها تعمّ الجميع حتّى الكفار والمنافقين ، ولا الحياة الذكرى، فإنها أيضاً قد تكون لغير الشهيد، ويصحّ إرادة الجميع، كما تقدّم ما يدّل عليه .

الخامس: لم يذكر متعلّق البشارة في قوله تعالى : «وَ بَشِّرِ اَلصّابِرِينَ»، لیفید العموم - كما هو المشهور بين علماء الأدب - وعظيماً للمبشّر به . فكلّ شيء يذكر فيه يكون تحديداً بلا دليل، وهي لا تختصّ بالمقامات الأُخروية ، بل تعمّ الجميع ولا يصل إليها أحد إلّا بالصبر .

السادس: يستفاد من حرف القسم والتأكيد في قوله تعالی : «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ» و أن الإنسان لا ينفكّ عن المصائب والبلايا، وهي إما نوعية أو شخصية، وكلّ منهما إما جسمية أو روحية، أو هما معاً. والدنيا لا تخلو عنها أبداً وهي من لوازم وجودها، بل من لازم ذاتها، وقد عرّفها علي علیه السّلام في خُطَبِة المباركة بأحسن بیان.

ص: 31

ويختلف أجر الصابر باختلاف المصائب واخلاتف المصابين فإما أن تكون المصائب لحبط السيئات، أو لرفع الدرجات، أو التفضّل بهما معاً، وينطبق على كلّ بحسبه .

السابع : أنّ ذكر البشارة وتعيين المبشّر به بالإجمال، يدلّ على رفعة مقام الشهداء والصابرین وعلوّ درجتهم، وأن لا يدنسوا هذا المقام الرفيع بحطام الدنيا، فإن أجرهم معلوم، وهذا من قبيل تقديم ذکر الأجر قبل العمل الذي حثّ عليه الشرع المبين .

الثامن : إنّما ذكر سبحانه الاستعانة بالصبر والصلاة، لأنهما أقوى سبب في تكميل النفس، ثم بيّن أنه تعالى مع الصابرين ترغيباً لهم، وتخفيفاً من معاناة الصبر لكثرة مرارته، ثم عقّب سبحانه بعد ذلك الجهاد في سبيله، لكونه من أجلّ المقامات وأرفعها، ثم ذكر الابتلاء والامتحان، لأنهما مما يوجب الثبات والاطمئنان في تحصيل الكمالات المعنوية، ثم ذكر بعض ما يفيضه على الممتحنین ن أنحاء العطف والرحمة، كلّ ذلك مقدّمة لما يأتي في الآيات اللاحقة من تشريع الأحكام الإلهية، التي يكون إتيانها والخروج عن عهدتها من الجهاد الأكبر، فالآيات على اختصارها ترغّب النفوس إلى تحمل المتاعب، سواء في مقارعة الباطل وإعلان الحق، أو في إتيان التكاليف الإلهية ؛ وكلّ ذلك يدلّ على أن في تحصيل الكمال الأبدي لا بد من بذل الوسع وتحمل المشاق.

ص: 32

بحث روائي:

في تفسير العياشي: عن الفضيل، عن أبي جعفر عليه السّلام قال : «یا فضيل بلّغ مَن لقيت من موالينا عنّا السلام، وقل لهم: إني لا أغني عنكم من الله شيئاً إلا بورع، فاحفظوا ألسنتكم، وكفوا أيديكم، وعليكم بالصبر والصلاة، إن الله مع الصابرين».

أقول: في سياق ذلك روایات متواترة أخرى، فعن أبي جعفر عليه السّلام في الصحيح: «لا تتهاون بصلاتك، فإن النبي صلى الله عليه و آله قال عند موته: ليس مني مَن استخف بصلاته، لا يرد عليَّ الحوض لا والله».

وعن الصادق عليه السّلام حين حضرته الوفاة : «إن شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة».

وقد قطع أبو جعفر عليه السّلام بقوله هذا أمل كلّ مؤمل فيهم، وأنه لا يفيد الشخص إلّا الورع عن محارم الله تعالى، وذكر عليه السّلام بعض أفراد العمل الصالح. وإنما خصّ عليه السّلام الصبر والصلاة، لكون الأول من أهم موجبات الورع، والثانية من أهم ما يوجب التوفيق للعمل الصالح وترك المحارم.

في الكافي : عن ابن أبي عمير، عن أبي عبد الله عليه السّلام في قوله الله تعالى: «وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ» قال : «الصبر الصيام، وقال: إذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم، فإن الله عزّ وجلّ يقول: واستعينوا بالصبر ، يعني الصيام» .

ص: 33

أقول: إنه من باب التطبيق، لأنّ الصوم يوجب الصبر عن الشهوات النفسانية، فلا منافاة بين هذا الحديث وسائر ما ورد في معنی الصبر .

في الكافي: عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السّلام : «كان علي علیه السّلام إذا أهاله شيء قام إلى الصلاة، ثم تلا هذه الآية : «وَاسْتَعینُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ».

أقول: إنّه يستفاد منه أهمية الصلاة لدفع المكاره ورفع الشدائد .

في الكافي والتهذيب : عن يونس بن ظبيان، عن الصادق علیه السّلام : قال له : ما يقول الناس في أرواح المؤمنين؟ قال : يقولون في حواصل طيور خضر، في قناديل تحت العرش، فقال علیه السّلام : سبحان الله ، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير - إلى أن قال علیه السّلام - إذا قبضه الله تعالى صيّر تلك الروح في قالبٍ كقالبه في الدنيا، فيأكلون ويشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا».

أقول: هذا الحديث ورد في بيان حياة البرزخ، وسوف نفصّل الكلام في الحياة البرزخية ولوازمها وما يتعلّق بها في محله إن شاء الله تعالی.

والجزء الأول من الحديث قد نسب إلى النبي صلی الله علیه و آله، وقد نفاه الإمام علیه السّلام ، وهو حقّ، لأنه لو لم يكن من التناسخ الباطل لكان نظيره، والله تعالى أقدر من أن يجعل بدناً مثالية لكلّ إنسان في عالم البرزخ، من أن يجعل له بدناً من الحيوان.

ص: 34

وفي التهذيب : عن أبي عبد الله علیه السّلام : «أنه سئل عن أرواح المؤمنين؟ فقال : في الجنّة على صور أبدانهم، لو رأيته لقلت فلان» .

أقول: لكل بدن نشئات، هو في جميعها واحد منها نشأة الدنيا، ومنها نشأة النوم في عالم الدنيا، فإذا رأينا زيداً في الخارج ثم رأيناه في عالم النوم، فهما واحد بلا إشكال، ومنها نشأة البرزخ؛ فيكون البدن المثالي في عالم البرزخ کالبدن المثالي في عالم النوم، ومنها نشأة الحشر والبعث، وهو عين البدن الدنيوي، كما سنبيّنه في مباحث المعاد .

ولا اختصاص لوجود البدن في هذه النشئات بطائفة دون أخرى .

نعم، الشهداء متنعمون في أبدانهم البرزخية، وفي عالم الحشر بنعمة فاقت على نعم غيرهم، حتى ورد في نصوص كثيرة أنهم يحشرون على نحو ما استشهدوا أو قتلوا.

وعن ابن بابویه، عن محمد بن مسلم قال : سمعت أبا عبد الله علیه السّلام يقول: إن قبل قيام القائم علامات تكون من الله للمؤمنين، قلت : وما هي، جعلني الله فداك؟ قال علیه السّلام : يقول الله عزّ وجلّ: «وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ» يعني المؤمنين قبل خروج القائم «بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ»، قال : نبلوهم بشيء من الخوف من ملوك بني فلان في آخر سلطانهم، والجوع بغلاء أسعارهم، ونقص من الأموال، قال : کساد التجارات وقلّة الفضل . ونقص من الأنفس، قال : موت ذريع، ونقص من الثمرات، قال : قلّة

ص: 35

ربح ما يزرع. وبشّر الصابرين عند ذلك بتعجيل الفرج. ثم قال لي: يا محمد، هذا تأويله، إن الله عزّ وجلّ يقول:«ومَا يَعْلَمُ تَأوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلمِ»».

أقول: أما قيام القائم علیه السّلام ، فأصله مسلّم بين جميع المسلمين، بل بین الملّيين، واتفاق الجميع على أنه لا بدّ وأن يظهر مصلح بين الناس، إنما الاختلاف في المصداق.

وقبل القائم أمر إضافي يشمل القريب بقيامه والبعيد عنه. كما أن ما ورد في علامات الظهور موکول إلى مشيئة الله تعالى، وليست كلها حتمية، يمكن أن لا يظهر جملة كثيرة منها، ويمكن أن يظهر جملة منها، ولم يأذن الله تبارك وتعالى بظهوره علیه السّلام، وهذا التفصيل موكول إلى الكتب المعدّة لذلك والروايات الواردة فيها.

وعلى أي تقدير، ما ورد في الحديث من باب التطبيق، ولذا عبّر لي بقوله: «هذا تأويله».

عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله علیه السّلام في قول عزّ وجلّ : «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ» أي: بالجنّة والمغفرة.

أقول: هذا بيان لبعض مراتب المبشّر به، ودرجات البشارة في الجملة، لا بالنسبة إلى جميع مراتبها، فإن للصبر مراتب مراتب ومتعلّقه أيضاً كذلك، ولا ريب في أن بعض مراتبه أشدّ من مرتبته الأخرى، فلا يعقل تسوية المبشّر به بالنسبة إلى الجميع، وتقدّم في تفسير الآية ما يتعلق بالمقام.

ص: 36

وعن الباقر علیه السّلام قال : «أتى رجل رسول الله صلی الله علیه و آله فقال : إنّي راغب نشيط في الجهاد، قال : فجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ، فإنك إن تقتل كنت حياً عند الله مرزوقاً، وإن مت فقد وقع أجرك على الله » .

أقول: لا فرق بين الشهادة والموت، إذا لوحظ بالنسبة إلى ذات انفصال الروح عن البدن، فإنه في كلّ منهما واحد، وإنما الشهادة بالنسبة إلى القتل في سبيل الله ، والموت بالنسبة إلى غيره ممّن، يخرج في سبيل الله، فإن مات في الطريق فهو في حكم الشهيد، وإن قتل بید العدو فهو شهید حينئذٍ، وقوله صلی الله علیه و آله: «وإن مت فقد وقع أجرك على الله»، تطبيق للآية الشريفة : «وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا»(1).

في المجمع عن النبي صلی الله علیه و آله : «من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه، وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه . وقال صلی الله علیه و آله : من أصيب بمصيبة فأحدث استرجاعاً وإن تقادم عهدها، كتب الله له الأجر مثله يوم أصيب».

أقول: هذا الحديث يبين بعض ما قاله تعالى:«أُولَئک عَلَیهِمْ صلَوَتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَ رَحْمَهٌ».

وفي الكافي : عن أبي جعفر علیه السّلام : «ما من عبد يُصاب بمصيبة فيسترجع عند ذكره المصيبة ويصبر حين تفجّعه، إلّا غفر الله له كل ذنب اكتسب فيما بينهما» .

ص: 37


1- النساء، الآية 100

أقول: ترتب الثواب على الاسترجاع، لأنه اعتراف بالتوحيد الذاتي والتوحيد الفعلي، واعتراف بالمبدأ والمعاد. فهذه الكلمة جامعة الجملة كثيرة من المعارف الإسلامية ، وقد ورد في بعض الأحاديث أنها من خواص هذه الأمة، كما تقدّم .

في الخصال «أربعة من كنَّ فيه كان في نور الله الأعظم: مَن كانت عصمة أمره شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله ، ومَن إذا أصابته مصيبة، قال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ومن إذا أصاب خيراً قال : الحمد لله رب العالمين، ومَن إذا أصاب خطيئة قال : أستغفر الله وأتوب إليه». .

أقول: المراد بنور الله الأعظم رحمته الواسعة، وهدايته الكاملة إلى المعارف الإلهية ، وذلك لأن هذه الكلمات جامعة لجميع ذلك بنحو الإجمال.

وفي الكافي : عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله علیه السّلام قال : قال رسول الله صلی الله علیه و آله : قال الله عزّ وجلّ : إني جعلت الدنيا بين عبادي قرضاً [فيضاً]، فمَن أقرضني فيها قرض أعطيته بكلّ واحدة [منهنّ] عشراً إلى سبعمائة ضعف، وما شئت من ذلك، ومَن لم يقرضني منها قرضاً وأخذت منه شيئاً قسراً أعطيته ثلاث خصال، لو أعطيت واحدة منهنّ ملائكتي لرضوا بها مني، قال : ثم قال أبو عبد الله علیه السّلام : قول الله عزّ وجلّ: «الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئك عَلَیهِمْ صلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَ رَحْمَهٌ وَ أُولَئك هُمُ الْمُهْتَدُونَ»، فهذه

ص: 38

واحدة من ثلاث خصال ورحمة من اثنتين، وأولئك هم المهتدون ثلاث. ثم قال أبو عبد الله علیه السّلام : هذا لمن أخذ الله منه شيئاً قسراً».

أقول: يدلّ على الجزء الأول من الحديث قوله تعالى: «مَّنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَ اَللّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(1)، وقوله تعالى : «إِنْ تُقْرِضُوا اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ»(2).

وأما قوله علیه السّلام: «وأخذت منه شيئاً قسراً» أي جبراً وكرهاً، فهو بالنسبة إلى عامّة الناس، وأما بالنسبة إلى أولياء الله تعالى فلا يتصوّر القسر بالنسبة إليهم، لأنهم في مقام التسليم والرضا بأمره تعالی.

وفي نهج البلاغة، قال علي عليه السّلام وقد سمع رجلاً يقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون : «يا هذا، إن قولنا : إنّا لله إقرار على أنفسنا بالملك ، وقولنا : إنّا إليه راجعون، إقرار على أنفسنا بالهلاك».

أقول: يستفاد منه أن هذه الجملة المباركة تشتمل على الاعتراف بالمبدأ والمعاد، اللذين هما أساس دعوة الأنبياء والكتب النازلة من السماء. وأمثال هذه الروايات كثيرة جداً .

وفي المعاني: عن الصادق عليه السّلام : «الصلاة من الله رحمة، ومن الملائكة تزكية ، ومن الناس دعاء» .

ص: 39


1- البقرة، الآية 245
2- التغابن ، الآية 17

أقول: قريب منه روايات أخرى، ويمكن إرجاع الجميع إلى شيء واحد، وهو الميل والعطف، ولكنه يختلف باختلاف الموارد.

ص: 40

تجرد النفس

تجرد النفس

البحث عن النفس من المباحث المهمة لتعدّد الجوانب فيها، فقد بحثت عنها في الفلسفة القديمة والحديثة، كما بحث عنها في علم الأخلاق، وعلمي الحديث والتفسير، والعرفان ، كما بحث عنها في علم الأحياء، وأخيراً أفرد لها علم مستقل يعرف باسمها، يبحث فيه عن معرفة النفس الإنسانية وطبيعتها وعوارضها وعملها وأمراضها، ووضعوا فيها نظریات و قوانین .

ولقد حاول العلماء التوصّل إلى طبيعة هذا المخلوق العجيب ، ومعرفة المسائل التي تتعلق بها، لعلهم يجدوا حلاً للشبهات التي قد تنشأ من التفكر فيها، إلّا أنهم اعترفوا بعد طول الجهد بالعجز عن الكثير، وإن أمكنهم الكشف عن بعض الجوانب، ولكنه لا يغني عمّا يستجد من المشاكل، فضلاً عن ما ذكرناه ، فالحقيقة بعد تحت الحجاب، وذلك تنبيه الإنسان على أنه إذا عجز عن فهم حقيقة ما هو أقرب الأشياء إليه، فكيف يطمع بالإحاطة بحقيقة ما اعترفت العقول بالعجز عنه والخضوع أمام عظمته؟

والسبب في ذلك أن النفس - أو الروح - من عالم الغيب الذي لا

ص: 41

يحيط به إلا الله عزّ وجلّ، لتحقق الإضافة التشريفية فيها بما لا نهاية له بوجه من الوجوه، قال تعالى: «وَنَفْس وَما سوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْوَاها»(1)، وقال تعالى: «وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي»(2)، وقال جلّ شأنه: «وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُّوحِي»(3)، ولأجل هذه الإضافة صارت من الغيب الذي لا يحيط به إلا الله عزّ وجلّ، أو مَن کشف عن بصيرته الستار، فيرى أنواراً من المعارف لا يعلم مراتب رفعتها وأنواع أشعتها إلا الله تعالی.

ونحن نذكر في المقام جانباً من تلك الجوانب، وهو البحث عن تجرّد النفس. ونتعرّض للبقية في المواضع المناسبة إن شاء الله تعالی.

وتمهيداً للبحث في الموضوع لا بأس بذكر ما يتعلق بالمراد من (النفس) وموقعها من الموجودات .

تقسيم الموجود:

لو نظرنا إلى ذات الموجود من حيث هو، فإنه ينقسم إلى أربعة أقسام:

الأول : أن لا يكون محتاجاً إلى المادة مطلقاً - لا في ذات ولا في فعله - بل يكون مُنزّهاً عنها مطلقة، وهذا القسم منحصر في الله تعالى، الذي هو خالق الخلق جميعاً من مجرداتها ومادياتها .

ص: 42


1- الإسراء، الآيتان 7-8
2- الإسراء، الآية 85
3- الحجر، الآية 29

الثاني : أن يكون محتاجاً إلى المادة في الذات والفعل معاً، وهو عالم الماديات المحضة، التي تكون ذاتها من المادة وفعلها بها وفيها أيضاً.

الثالث: أن لا يكون في ذاته محتاجاً إلى المادة، ولكن في فعله يحتاج إليها. وهو النفوس مطلقاً - نباتية كانت أو حيوانية أو إنسانية أو فلكية - المتعلّقة بجسم الأفلاك، لا الساكنة فيها كالأملاك.

الرابع : أن يكون في ذاته محتاجاً إلى المادة دون فعله، وهذا باطل بالضرورة، كما هو معلوم

كما ينقسم الموجود باعتبار آخر إلى أربعة أقسام أخرى:

الأول: أن لا يكون له حدوث أبداً، بل يمتنع عليه ذلك، فيكون أبدياً سرمدياً من ذاته بذاته ، وهو منحصر في الله عزّ وجلّ.

الثاني: أن يكون جسمانياً في الحدوث، روحانياً في البقاء ، فيكون إبداعاً إلهياً في الجسم، بنحو ما جرت عليه إرادته البالغة التامة کالنفس، فهي من جهة كثمرات الأشجار وأوراد النباتات، وجمال كل جميل، وحُسن کل حَسَن، وغير ذلك مما هو من بدایع الله تعالی وودائعه في الطبيعة، والأعمال القريبة إلى الإنسان التي تفعلها النفس من هذا القسم أيضاَ، فإنها جسمانية الحدوث روحانية البقاء، لبقائها ببقاء الله تعالى وعدم نفاذها، وقد اشتهر بين الفلاسفة: «أن النفوس الناطقة جسمانية الحدوث روحانية البقاء».

الثالث: أن يكون روحاني الحدوث، وروحاني البقاء ،

ص: 43

کالروحانيين والأملاك، الذين هم سكنة الأفلاك، المسيطرون على السفليات بإذن خالق البريات.

الرابع : أن يكون روحاني الحدوث جسماني البقاء، كالملك إذا ظهر في صورة جسم، وقد مرّ في الحجر الأسود من أنه كان ملكاً ثم صار حجراً.

إذا عرفت ذلك يتبين موقع النفس من هذه الموجودات ، فهي الموجود الذي يحتاج في فعله إلى المادة دون ذاته، فلا يمكن استقلالها عن الجسد في العمل الذي يكون جسماني الحدوث، لأن حدوثها بحدوث الجسم، وقبله لا يكون شيئاً ؛ وروحاني البقاء، لبقائها بعد فناء الجسد.

وقد عبّر بعض الفلاسفة المحدثين (هيغل) عن النفس بأنّها أدني تجّل حسّي للروح في علاقتها بالمادة ، أي : حساسة وفاعلة .

ص: 44

المراد من النفس

النفس في اللغة تأتي بمعنى الذات والشخص، وهي مشتقّة من (النَّفَسْ)، الذي هو بمعنى نسيم الهواء، وبه تتعلق حياة الإنسان، فالنفس ما تقوم به الحياة، ولذا سمي الدم (نفسا) في اللغة والشرع، وكما ورد في أحاديث : حيوان ذي النفس السائلة، ولعلّ ذلك من باب إطلاق الحال على المحل، لأن حركة الدم في الجسم منشأ لحصول الروح البخاري، وهي مورد تعلّق النفس الحيواني . فالنفس هي ما تتقوّم به الحياة ، وبها يتميز الكائن الحي مما لا حياة فيه. وهي بهذا المعنى تكون مرادفة (للروح)، فإن الروح إذا انقطعت عن الحيوان فارقته الحياة، وكذلك النفس.

وكيف كان، فهي ظاهرة عند كلّ فرد حي، وهي المعبّر عنها ب_(أنا)، وقد عرفها العلماء بتعاریف مختلفة، يقصد منها تقریب المعنی إلى الذهن، فقد عرّفها بعض أكابر الفلاسفة في منظومته الفلسفية :

وأنّها بَحت وجودٍ ظل حق *** عندي وذا فوق التجرّد انطلق

وعن العرفاء : أنها من مظاهر التجلّي الإلهي، وهي جوهر مشرق للبدن .

ص: 45

وقال بعضهم: إنّها الجوهر البخاري اللطيف، الذي هو منشأ الحياة والحس والحركة الإرادية .

ويسمّيها أفلاطون بالفكرة الأبدية .

وأما عند الماديين، فقد اتّفقوا على أنها شيء مادي، يمكن أن تقع تحت تجربة ؛ ولكنهم اختلفوا في طبيعتها، فعن الماديين القدماء أنها عمليات أولية فيزيقية كيماوية. وتعتبرها الشعوب البدائية ظل الشخص أو الدم، أو النّفَس ونحو ذلك، ومن هنا جاء المعنى اللغوي .

وهي عند الجدليين منهم : ظواهر عقلية وتفاعلات مادية ، يمكن کشفها وفحصها بالتجربة ونحوها.

وبعبارة أخرى : هي صفة خاصة للمادة في تنظيمها الأعلى، فلا يمكن لها التجرّد عن الجسد أبداً، وهي بهذا المعنى تكون مرادفة للفكر والإدراك والذهن والعقل ونحو ذلك.

ولكن النفس عند المتدينين أنها قوة لا مادية خالدة، غير متجسدة، قادرة على أن توجد في انفصال واستقلال عن الجسد في عالم آخر.

هذه كلمات القوم في تعريف النفس مع غض النظر عن المناقشات التي يمكن أن ترد عليها، فإن لها موضعاً آخر.

وقد ألّف المحقق الثاني كتاباً في النفس والروح وفي القرن العاشر الهجري، سمّاه: (الباب المفتوح إلى ما قيل في النفس والروح)،

ص: 46

وجمع الأقوال فيها وأنهاها إلى ما يقرب من أربعين قولاً؛ وإن أمكن إرجاع بعضها إلى بعض فتصير الأقوال أقلّ لا محالة.

والمستفاد من الكتب السماوية والقرآن الكريم أن النفس شيء، فيها اقتضاء كلّ كمال معنوي من الله تعالی و کمال ظاهري بلا تحديد فيه بذلك، وهي متّحدة مع الجسد زمناً ما، ثم تنفصل وتبقى إما سعيدة أو شقية، حسب ما يختار صاحبها من الطريقين، فإنها كصحيفة بيضاء لا أثر فيها إلا بما ينتقش فيها، إما للدنيا أو الآخرة، أولهما معاً، قال تعالى: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى»(1)، فالآية تشمل كل واحد من الدارين، أو هما معاً، قال تعالى : «لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى»(2)، فلا نجاة لها إلّا بالعمل الصالح الذي ورد من الشرع، ولا مقام ولا منزلة لها في الدنيا إلّا بالسعي، وهي متفاوتة في ذاتها ومختلفة في آثارها، وهذا قريب من الوجدان، وقد قسّمها العلماء إلى أقسام ليس هنا موضع ذكرها.

ص: 47


1- النجم، الآية 39
2- طه، الآية 15

تعدد النفس والجسد

إذا رجع كلّ فرد إلى وجدانه يرى أنه شيئان : النفس والجسد، ويذعن بأن للإنسان بدناً (جسداً) وقوى ظاهرية، وما يدبرها وهو ليس إلّا النفس المعبّر عنها ب_(الروح)، وهما متّحدان کاتحاد الماء مع الورد، لا يمكن الفصل بينهما إلّا من ناحية الآثار والعوارض والحوادث والآفات، فإن للجسم خواصاً وآثاراً وأمراضاً معينة، كما أن للنفس آثاراً وظواهر وحوادث، ولعلّ هذا الأمر أصبح من الواضحات في هذه الأعصار، بعد تقدّم العلم وكشف الظواهر النفسية وما يترتب عليها من الآثار والأمراض المتعلقة بالنفس دون الجسد، وقد وضعوا لها علماً مستقلاً يتكفّل جميع ما يتعلّق بالنفس.

ومع ذلك، فقد أثبت الفلاسفة والعلماء - القدماء منهم والمحدثون - ثنائية النفس والجسد بأدلة كثيرة قويمة، لا تبقى مجالاً للقول بواحديّة الإنسان، كما عن الماديين وأنه ليس إلّا جسماً فقط، فإنها مخالف للوجدان، والدليل العقلي، وجميع الأديان السماوية .

نعم، يبقى شيء، وهو أن الإنسان وإنّ كان مركّباً بالتحليل العقلي من النفس والجسد، إلّا أنه واحد شخصي يشار إليه باعتبار أنه شخص

ص: 48

مادي ذو فكر، متعلّم، يفعل كذا وكذا، وبمثل هذا الواحد الشخصي تعلّق الخطاب في القرآن الكريم والشريعة المطهّرة وفي المحاورات .

ولعلّ من قال بواحدية الإنسان أراد منها هذه الوحدة، ولا بأس بها، ولكنه حمل ينافي صریح كلماته .

ص: 49

معنى التجرد

لم يرد هذا اللفظ بالنسبة إلى النفس في القرآن الكريم ولا في السنّة الشريفة، وإنما استفيد ذلك من سياق الآيات والأحاديث والإشارات الواقعة فيها، التي يستفاد منها التجرّد، کالآية التي تقدّم تفسيرها وغيرها من الآيات التي نشير إليها .

والمراد من التجرّد كفاية أمر الله تعالى وإنشاء في تحقّق شيء، بلا حاجة إلى سبق مادة وتبدل صورة، أو غير ذلك في التحقّق والثبوت، وتكون نسبته إلى المادة نسبة القوى المحركة للآلات التي تتحقّق بها الحركة، سواء كانت الآلات طبيعية، ويسمّى ب_(التجرد التكويني)، أم صناعية، ويسمّى ب_(التجرد الصناعي).

وهناك معنى آخر للتجرّد وهو ابتعاد النفس عمّا سوى الله تعالی بالإرادة والاختيار، بواسطة المجاهدات والرياضات الشرعية، بأن تكون جميع مشاعره الظاهرية والمعنوية - كما أنها من الله تعالی - تكون في الله وبالله تعالى، فيصير الشخص من جميع جهاته مظهراً من مظاهر الله عزّ وجلّ، فيتجرّد عن دار الظلمة والغرور، ويتّصل بينبوع النور، ويسمّى هذا ب_(التجرد الاختياري).

ص: 50

ولا ريب في أن الأوّل يكون معدّاً للثاني، إذ لولاه لما تحقق للأخير موضوع أبداً، ومع ذلك فهو أفضل من الأول بمراتب .

كما أنّ الموت تارة طبيعي، وأخرى اختباري، رغّب إلينا نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله بقوله: «موتوا قبل أن تموتوا»، أي أميتوا النفس الأمّارة بالسوء قبل أن تموتوا بالطبيعة. وقد وقع الخلط في جملة من الكلمات بين التجردین، كما لا يخفى على مَن راجع عباراتهم.

ص: 51

الأدلة على تجرد النفس

استدلّ العلماء على تجرّد النفس بالكتاب العظيم، والسنّة الشريفة، ودليل العقل.

أما الأول: فقد استدلّوا بجملة من الآيات المباركة، منها تلك الآيات التي أُضيفة الروح فيها إلى الله تعالى حدوثاً؛ كقوله تعالى : «قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي»(1)، وقوله تعالى: «وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي»(2).

أو أضيفة إليه تعالى بقاءٌ ، كقوله تعالى : «وَ هُوَ الَّذِی یَتَوَفَّاکُم بِالَّیْلِ وَ یَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنهَّارِ»(3)، إلى غير ذلك من الآيات الظاهرة في أن هذه الإضافة المطلقة - بلا ذكر سبب مادي أصلاً، لا مقارناً، ولا سابقة، ولا لاحقاً - إلى الله تعالى المنزّه عن توهّم المادة، تدلّ على التجرّد بوضوح، إذ لا بد أن يكون المنسوب إليه تعالى منزّهاً عن المادة أيضاً. والإهمال فيه مع كثرة أهمية الموضوع، وقيام نظام الدنيا والآخرة به، يكون قبيحاً عقلاً، لأن الأمر دائر فيه بين النفي والإثبات ،

ص: 52


1- الإسراء، الآية 85
2- الحجر، الآية 29
3- الأنعام، الآية 60

فإما أن يكون مجرّداً محضاً؛ أو مادياً لا بد وأن يذكر فيه الجهة المادية ولو في آية أخرى.

ومنها : الآيات الكثيرة الدالة على التعقّل والتفكّر وذم التغافل عنها، فإن ذلك لا يتحقق إلّا في ما هو مجرد عن المادة ، خصوصاً على ما أثبته أكابر الفلاسفة وأعاظمهم من اتحاد العاقل والمعقول، وسنبين هذا البحث النفيس في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالی.

ومنها قوله تعالى : «يَأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً»(1)، وغير ذلك من الآيات التي تدلّ بظاهرها على تجرّد النفس وبقائها بعد الموت، وانتقالها من البدن المادي إلى بدن آخر، برزخية أخروية .

أما الثاني : أي الاستدلال بالسنّة الشريفة، وهي نصوص كثيرة، وردت في أبواب متفرقة، ومنها قول نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله : «خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام»، ولا ريب في دلالته على سبق الحدوث والتجرّد في الجملة، وهل المراد بألفي عام الأعوام الربوبية ، أو الأعوام الزمانية في عالمنا هذا؟ لم يتّضح ذلك إلى الآن حق الوضوح.

ثم ما وجه التخصيص بألفين دون غيرهما.

ومنها قول علي علیه السّلام : «إنّ هذه الأرواح تكلّ كما تکلّ الأبدان»، وهو ظاهر في أنها من عالم آخر غير عالم المادة .

ص: 53


1- الفجر، الآية 27

وبالجملة : النصوص من الأئمة الهداة أكثر من أن تُحصی - وقد سبق في البحث الروائي بعضها - ومجموعها يدلّ على أن النفس والروح من عالم آخر تعلّقت بالبدن برهة من الزمن، ثم تنفصل عنها، ثم تعود متعلّقة به وتبقى خالدة أبد الدهر .

يضاف إلى ذلك ما أثبته العلماء في العصر الحديث من أمور ترتبط بالنفس، وقد وضعوا لها كتباً مستقلة، كما أثبت علماء الأخلاق أمراض النفس وآفاتها، ويشهد لذلك ما أثبت في هذه الأعصار من التفرقة الحسية بين الأرواح والأجساد .

أما الثالث : أي الدليل العقلي، فقد استدلّ في الفلسفة على تجرّد النفس بأدلة كثيرة، أنهاها بعضهم إلى عشرة، لا يخلو عن المناقشة .

وأهمها أمور :

الأول: حضور ذات النفس بذاته لكلّ أحد، وهذا بديهي، وهو يدلّ على التجرّد، إذ لو كانت مادية لما أمكن ذلك إلا بالانطباع في ما هو أصفى وألطف منها، كما في حضور جميع الصور المادية في المرآة أو الماء الصافي ونحو ذلك .

الثاني : صدور الدقائق العلمية والفكرية منها، مما لا يمكن صدورها عن غير المجرد.

الثالث : قدرتها على تصور غير المتناهي، إلى غير ذلك مما فصّل في علم الفلسفة والكلام .

ص: 54

ومَن ينكر أصل الروح والنفس، أو يقول بماديتها، وأنها نفس البدن، فلا يسعه إلّا إنكار وجدانه .

ص: 55

زينة الدنيا والآخرة

قال تعالى : «زُیِّنَ لِلنَّاسِ حُب الشهَوَاتِ» .

مادة (زين) من المواد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات شتّی، قال تعالى: «وَ زَيَّنَّا اَلسَّماءَ اَلدُّنْيا بِمَصابِيحَ»(1)، وقال تعالى : «حَتّى إِذا أَخَذَتِ اَلْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ ازَّيَّنَتْ»(2)، وقال تعالى: «فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ»(3)، وفي حديث الاستسقاء : «اللهم أنزل علينا في أرضنا زينتها»، أي نباتها الذي يزيّنها.

والزينة من الأمور الإضافية المختلفة بحسب اختلاف العادات والأعصار والأمصار، وأنها من الجماليات التي يكون حسنها ممدوح وجذاب للنفوس، بل إن بعض مراتبها ممّا يدرك بالحسّ، ولا يمكن وصفها باللفظ، والزينة الحقيقيّة هي ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وغيرها ممّا يوجب الشين في حالة دون أخرى، فهي زينة بالوجه والاعتبار، وليست هي حقيقيّة على الإطلاق.

ص: 56


1- فصلت، الآية 12
2- يونس، الآية 34
3- القصص، الآية 79

والزينة على أقسام ثلاثة : زينة نفسانية، كالعلم والاعتقادات الحسنة والكمالات النفسانية المقررة في الشريعة، وزينة بدنية جسمانية ، كالشمائل الظاهرية الحسنة، قال علي عليه السّلام : «زينة المرء حسن أدبه ، وجمال الرجل في عقولهم، وعقول النساء في جمالهن» وزينة خارجية کالمال والبنين والاعتبار، وقد ذكر تعالى جميع ذلك في مواضع من القرآن الكريم .

فتارة: نسبها إلى نفسه عزّ وجلّ، قال تعالى : «وَ لكِنَّ اَللّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اَلْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ»(1)، وقال تعالى: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّهِ»(2).

وأخرى : إلى الشيطان، قال تعالى: «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(3).

وثالثة : لم يسم فاعلها - كما في المقام - والوجه في ذلك أن الله تعالى خلق الدنيا وما عليها وسيلة إلى نيل الكمال والوصول إلى غاية حميدة، وهي الدار الآخرة، فكانت الدنيا متاعاً ودار مقام ينزل إليها الإنسان في برهة من الزمن، ليتزوّد منها إلى سفر آخر طويل، فكلّما كان الزاد أحسن وأبقى، كان العيش في الآخرة أهنأ وأحسن، وقد خلق الله تعالى الدنيا زينة ليرغّب إليها الإنسان، وتكون وسيلة للتزوّد منها

ص: 57


1- الحجرات، الآية 7
2- الأعراف، الآية 32
3- الأنعام، الآية 43

ويتوسّل بها إلى الدخول في رضوان الله تعالى، قال عزّ وجلّ : «إِنّا جَعَلْنا ما عَلَى اَلْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً * وَ إِنّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً»(1)، والى ذلك يشير كل ما ورد من الآيات التي تنسب الزينة إليه تعالی.

وأما إذا جعل الإنسان الدنيا وما عليها من الزينة محط نظره، واعتبرها أمراً مستقلا وجعلها هي الغاية من دون أن تكون وسيلة وذريعة إلى الدخول في رضوانه تعالى، وأحبّها حتى وصل بهم الأمر إلى أنهم جعلوا ما في الدنيا من الأموال والأولاد تغني عنهم، فزيّنت لهم أعمالهم، فكانت الدنيا وبالاً عليهم، فتكون الزينة مستندة إلى الشيطان أو إلى نفس الإنسان، وإن كانت الدنيا مخلوقة لله تعالى، وقد أذن للإنسان أن يتمتّع بها، ليتمّ النظام، ولكن لم يزين الدنيا لتلهّي الإنسان بها ويعرض عن ذكره عزّ وجلّ، فإن الله تعالى أعزّ وأمنع من أن يدبر خلقه بما لا غاية له، أو يوصل الإنسان إلى غاية فاسدة ، فالتعبير المجهول في (زين) للتنبيه على ما تقدّم كما سيأتي.

وتقدّم معنى الحب في آية 165 من سورة البقرة .

ومادة (شهوة) تأتي معني نزوع النفس إلى ما تريده، وهي إما صادقة، أي ما يقوم بها البدن ولا تتم الحياة البشرية إلا بها، وتكون من أتمّ ما بني عليه النظام الأحسن، بحيث لو اختلّت لبطل النظام وتعطلت أمور الأنام، فإنها من سنن الحياة المستلذة بها. وإما كاذبة، وهي

ص: 58


1- الكهف، الآيتان 7 - 8

الشهوة المذمومة، أي الإغواء أو الدافع الشيطاني، وإنها مستقذرة حذرت الأديان الإلهية منها، وجعلتها محور الانحرافات والأخلاق الذميمة، سواء كانت خفيّة أي الصفات الذميمة والأخلاق السيئة التي يضمرها صاحبها ويصرُّ عليها، كما في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله: «أن أخوف من أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفيّة»، أم كانت ظاهرية، وهي ما كانت ظاهرة من العمل.

والشهوات : جمع شهوة، وهي توقان النفس للملائم أو الملذا لها، وهي من أهمّ القوى التي خلقها الله تعالى في الحيوان، ولولاها لما قام له أصل ولا بنیان .

وسياق الآية المباركة يدلّ على أنه فاعل التزيين هو الشيطان أو النفس، لأن حبّ الشهوات مذموم، ويشتدّ الذم كلّما اشتدّ الحب ، ويخف كلّما خف حتى يصل إلى مرتبة الحبّ النظامي الذي هو من لوازم الطبيعة في الإنسان والحيوان، فتزول المذمّة رأساً، بل يكون ممدوحاً ويكون خلافه نقصاً ومذموماً، وعلى ذلك يحمل ما ورد عن سيد الأنبياء صلی الله علیه و آله: «أحببت من دنياكم ثلاث : الطيب والنساء، وقرّة عيني الصلاة» وسيأتي وجه آخر لحمل كلامه .

ويمكن أن تكون الآية الشريفة في مقام بیان طبيعة الإنسان وما يتدخّل في سلوكه، فإذا وفّق بين الحب والطبيعة، بحيث يتحكّم العقل بالتوفيق بينهما، كانت النتيجة فاضلة والأثر عظيماً، ويكون حباً ممدوحاً، وهو الذي يشاؤه الله ويريده ويرتضيه، ولا ريب في أنه

ص: 59

ممدوح عقلاً أيضاً، فيكون تزيين الله تعالى هو إذنه وبيان حدوده، فقد زین حب المذكورات في الآية الشريفة المتقدّمة وفق الحكمة المتعالية ليكون وسيلة لتنظيم النظام وبقاء النوع وحسن الاجتماع، وأما إذا ألهي القلب عن التوجّه إلى الله تعالى وأوجب الغفلة عنه عزّ وجلّ، فهو من تزيين الشيطان ووساوسه، وهو مذموم عقلاً أيضاً.

قوله تعالى: «مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ».

ذکر سبحانه وتعالى أموراً ستة من المشتهيات، وهي الأمور التي تتدخل في شؤون الإنسان وسلوکه وتحدد مصيره .

و(من) بيانيّة، والبنين جمع ابن، وهو الذكر من الأولاد، ولكن في المقام يشمل الذكور والإناث، بقرينة قوله تعالى : «إِنَّمَا أَمْوَالُکمْ وَ أَوْلَادُکُمْ فِتْنَهٌ»(1)، وقوله تعالى : «وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى»(2)، وقوله تعالى : «لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»(3)، وإنما أتى عزّ وجلّ بصيغة الذكور إما تغليباً، أو يكون كناية عن حبّهم المذموم الذي كان دائراً بينهم .

وإنما زین حبّ البنين مع كونه من حبّ النساء أيضاً، لأن البنين هم الغاية القصوى من حبّ النساء، وهم النتيجة لذلك الحب .

ص: 60


1- التغابن، الآية 15
2- سبا، الآية 37
3- الممتحنة، الآية 3

والقناطير : جميع القنطار، وهو المال الكثير، وفي ببعض الأخبار ملا مسك ذهباً، وقيل : ملا جلد ثور ذهباً، وقيل غير ذلك، وهو اسم المعيار خاص أيضاً، كثيراً بحسب الأشخاص والأزمنة والأمكنة وغيرها، كالغني الذي لا يمكن تحديده بحدّ خاص، ومن حدّدهما إنما يحدّدهما بحسب الجهات الخارجية، لا بحسب ذاتهما.

والمقنطرة اسم مفعول جيء به للتثبيت والتوكيد، كما هو عادة العرب في توصيف الشيء بما يشتق منه للمبالغة وتثبیت معناه له. وهذا التعبير مشعر بالكثرة والاقتناء .

وتعداد المشتهيات باعتبار كون الإنسان ذا أصناف، فإن بعضاً منه يتعلق حبّه بالنساء، وبعضاً آخر يتعلّق بجمع المال وتخزينه، وثالثاً بالأولاد البنين منهم بالخصوص، ورابعاً بالأنعام والحرث، وربما يجتمع في فرد أكثر من واحد من تلك المشتهيات، فإن الشهوة ذات مراتب متفاوتة شدة وضعفاً بالنسبة إلى شخص واحد في حالات مختلفة، فضلاً عن الأشخاص .

فالآية المباركة تبين طبع الإنسان على نحو القضية الحقيقية ، كما أنها ليست في مقام حصر الشهوات ، فقد يتعلّق حب الإنسان بالجاه والمقام ونحو ذلك، وإن كانت المشتهيات الأخرى - التي لم تذكر في الآية الشهيرة - أقلّ تأثيراً ممّا ذكر فيها، فهي أمور وهمية تتعلق بها الرغبة ومقصودة ثانوية، فيكون الحصر إضافياً، فلا منافاة بين هذه الآية

ص: 61

االشريفة وبين قوله تعالى: «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِینَهُ الْحَیَاهِ الدُّنْیَا»(1)، وسيأتي في البحث العلمي في ما يتعلّق به .

وتعلّق حب الإنسان بهذه الثلاثة واضح، لأنها بها ينتظم النظام الاجتماعي في هذه الدنيا، بل النظام الفردي والاقتصادي فيها، وبها تتحقق أغلب رغباته، وبقدر اشتداد هذه المشتهيات وضعفها يتحدّد سلوك الإنسان ويتعيّن خلقه في الدنيا ومصيره في الآخرة، فإن بالنساء تتحقّق المعاشرة الزوجية إليهن وتسكن النفوس، وهن الطرف الآخر من الحياة التي عليهن مسؤوليات كثيرة في الكفاح والعيش، فالمرأة والرجل متشابكان في عموم المنافع وانتظام النظام، ولأجل ذلك أسّس العلماء قاعدة اصطلحوا عليها بقاعدة الاشتراك، أي اشتراك النساء مع الرجال في الأحكام، إلا ما خرج بالدليل، وقد حدّد الشرع المقدّس هذه الشهوة بحدود خاصة تحدد مسوؤلية كلّ واحد منهما في هذه الحياة وتنظم شؤونهما، والتعدّي عنها يوجب الفساد والدمار .

وإنما لم يذكر عزّ وجلّ حبّ النساء للرجال - مع أن الناس في صدر الآية الشريفة يشمل كلاً منهما، كما أن بقية الشهوات عامة لهما - إما لأن من أدب القرآن الكريم والسنّة الشريفة الستر على النساء مهما أمكن، أو لأجل أن كثيراً من الأمور التي تتعلق بهذه الشهوة إنما يتعلّق بالرجال وتقلّ في جانب النساء، فإن الأشد ولعاً بحبّ النساء واتخاذهن

ص: 62


1- الكهف، الآية 46

صواحب في اللذائذ ونحو ذلك هم الرجال، كما أنهن أشد تأثيراً على الرجال، إذا اشتد الغرام والتعشّق بهن.

قوله تعالى : «وَ اَلْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ».

المسومة: إما بمعنى الراعية من سات الإبل سوماً إذا هبت الترعى، أو بمعنى المعلّمة لتعرف من غيرها من السمة بمعنى العلامة ، ومنه قوله صلی الله علیه و آله يوم بدر : «سوموا فإن الملائكة قد سومت»، أي اعملوا لكم علامة يعرف بها بعضكم بعضاً، وهي تلك الخيل التي يقتنيها الأغنياء وغيرهم للافتخار والتباهي، مضافاً إلى كونها ممّا يبذل بأزائها المال الكثير .

والأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، وإنها أموال أهل القرى والبادية، ومنها يكون معاشهم وثروتهم.

والحرث اسم لكلّ ما يحرث، أي المغروس والمزروع، فيشمل نفس الزرع وتربيته، فيكون فيه معنى الكسب . والحاجة إليه أشدّ من غيره، وحبّه لا يكون ضاراً بأمور الآخرة، ولذلك أخّره عن الأنواع السابقة، وبذلك تتمّ جميع ما يزين أصناف الناس، فقد ذكر سبحانه الأنواع التي توجب الإفتنان بكلّ صنف، فالذهب والفضة لأهل التجارة والخيل للملوك وأهل الجاه والمقام، والأنعام لأهل البادية، والحرث لأهل القرى والأرياف، فتصلح الآية الشريفة لكلّ عصر ومصر من دون اختصاصها بصنف خاص و مورد كذلك.

قوله تعالى : «ذَلِک مَتَاعُ الْحَیَاهِ الدُّنْیَا».

ص: 63

المتاع اسم لكلّ ما يتمتّع به، ويعبّر عنه لكل ما هو في معرض الزوال والاندثار، والتعبير به للتزهيد في الدنيا والترغيب للآخرة ، التي هي دار البقاء والحيوان، أي : ما ذكر من المشتهيات هي أمور يتمتّع بها في هذه الدنيا الفانية التي يتزوّد منها برهة من الزمن، يقضي بها حوائجه من دون أن تكون باقية دائمة .

قوله تعالى: «وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَئابِ».

المآب : المرجع، وحسن المآب هو المرجع الذي لا فناء فيه ولا عناء والمنّزه عن كل نقص وعیب، فلا يشغل المتاع الزائل في الدنيا عن الخير الآجل والمطلق في العقبي.

وفي الآية المباركة كمال الترغيب إلى الآخرة، وتحقير الدنيا والتقليل من شأنها.

قوله تعالی : «قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ»

تفصيل لما أجمل سابقاً، وبيان لقوله تعالى : «وَ اللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَئابِ»، فقد أمر سبحانه وتعالى نبيه ببشارة المتقين، بأن لهم عند الله تعالى ما هو أعظم من هذه المشتهيات الزائلة المحدودة، التي لا تبقى ولا تدوم، وهو الخير للإنسان، فلا خير في ما سواه، وهو وإن كان مشابهاً لما في هذه الدنيا ومجانساً للشهوات الإنسانية، ولكنها أجلُّ النعم وأعظمها، وهو خال عن النقص وبريء عن القبح والشرور، وقد ذکر سبحانه ذلك في كلام بلیغ تتوجّه إليه النفوس وتهتزّ من فرح اللقاء الأرواح والقلوب. وفيه جذبة ربوبيّة من الملكوت الأعلى للمتّقين

ص: 64

المسجونين في سجن الدنيا، وقد وعدهم الجنة ومطهرات الأزواج والرضوان .

ومن إطلاق الخير يستفاد أنه خير في ذاته ومن جميع شؤونه وجهاته .

وإما أتی سبحانه بالكلام على صورة الاستفهام، لتوجيه النفوس إلى الجواب وتشويقهم إلى العمل، وهو أسلوب فصيح يؤثّر في النفس ويستفزّها على إصغاء الجواب .

قوله تعالى : «لِلَّذِینَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِینَ فِیهَا وَ أَزْوَاجٌ مُّطهَّرَهٌ».

جملة (للذين اتقوا) خبر مقدّم، وجملة: (جنات تجري) مبتدأ مؤخّر. والتقوى هي إتيان الواجبات الشرعية واجتناب المحرمات الإلهية، وهي المراد بالعمل الصالح الذي كثر الاهتمام به في القرآن الكريم، كما أنها الورع الذي حثّت عليه السنّة القدسية بألسنة شتّى، فقد ورد : «أن مَن اجتنب محارم الله فهو من أورع الناس»، وهي أساس الكمالات وقرّة عين الأنبياء والمرسلين، وهي السبب المتّصل بين أهل الأرض والسماء، وبها ينتظم نظام الدنيا والعقبی .

ولفظ الجنّات يدلّ على كثرة الأشجار واستتار الأرض بها وتعدّدها وجريان الأنهار من تحت الأشجار إنما هو لأجل تماميّة بهجة الجنّات وازدياد رونقها، وكون الجنّات كذلك من أجلى مظاهر الفرح

ص: 65

والانبساط، لا سيما إذا استيقن الإنسان بدوام تلك النعمة، ولذا عقّبها قوله تعالى : «خَالِدِینَ فِیهَا»، لتماميّة النعمة، بخلاف نعیم الدنيا.

ولجريان الأنهار أنواع كثيرة: منها ما إذا كان منبع الأنهار من غير تحت الأشجار، ومنها ما إذا كان المنبع من تحتها، ومنها ما إذا كان نزول الماء من الفرق في الأنهار ثم الجريان منها صاعداً (على نحو الفوارة) بالقدرة الأزلية الخلّاقة إلى غير ذلك، وبالجملة أن هذه الجنات تشتمل على جميع اللذائذ بأعلى مراتبها.

والأزواج المطهّرة هي تلك الأزواج التي يرغب إليها الإنسان، التي تكون طاهرة من جميع الرذائل ومبرّأة من كل عيب وذم ونقصان ، خلقاً وخُلقاً بما يلائم طبع الإنسان، فهي في غاية الملاحة والبشاشة والسرور، وفي ذلك تمام النعمة .

وقد خصّ الله تعالى الأزواج بالذكر من بين سائر اللذائذ الجسمانية، لأن النساء أعظم المشتهيات النفسانية، والوقاع من أشدّ اللذائذ عند الإنسان.

قوله تعالى : «وَ رِضْوَانٌ مِنَ اَللّهِ».

الرضوان بكسر الراء أو ضمها من الرضا مصدران، وهو ملائمة الشيء لنفس صاحبه و سرورها به .

وقد تكرّرت مادة (رضی) في القرآن الكريم بهيئات شتّى تبلغ سبعين مورداً، وقد ينسب الرضا إلى الله عزّ وجلّ ويراد به عناية خاصة غير محدودة بأي حدّ من النعم المعنوية، بلا فرق بين أن يكون رضاؤه

ص: 66

تعالى بالنسبة إلى أفعال العباد وطاعتهم له عزّ وجلّ، أو صفاتهم وأحوالهم، أو بالنسبة إلى أمر آخر يتعلق بهم، قال تعالى : «رَضِيَ اَللّهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ»(1)، وقال تعالى : «وَ رَضیتُ لَکُمُ الاِسلامَ دنیا»(2)، وقال تعالى: «وَإِن تَشْکُرُوا یَرْضَهُ لَکُمْ»(3).

وقد ينسب إلى العبد، وهو أخر مقامات العبودية الخالصة الذي هو التخلّق بأخلاق الله تعالى، والتفاني في حبه، ولذلك درجات كثيرة، منها رضاء العبد عن الله تعالى لجزائه الحسنى وحكمه، قال تعالى: «وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِینَ وَالْأَنصَارِ وَ الَّذِینَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُواْ عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنّاَتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِینَ فِیهَآ أَبَدًا ذَلِك الْفَوْزُ الْعَظِیمُ»(4).

ورضوان الله تعالى هي الغاية القصوى لكلّ ذي لب، وهي أعلى مراتب اللذائذ الروحانية، وذكره بالخصوص إنما هو لأجل بيان أن الرضا هو أقصى ما يشتهيه الإنسان من مشتهيات الدنيا ، بل هو الغاية منها، فلا بد من السعي إلى رضوان الله تعالى الذي هو أعظم اللذائذ عند المتّقين وذوي الألباب، فهو الخير الذي لا يتصور أعظم منه، لا ما يتصوّره الإنسان من الخير في المال والقناطير، فإن ذلك إنما يكون برضائه تعالى، ولذلك اعتنى عزّ وجلّ به وأفرده بالذكر في مقابل

ص: 67


1- الفتح، الآية 18
2- المائدة، الآية
3- الزمر، الآية 7
4- التوبة، الآية 100

الجنّات والأزواج المطهّرة في هذه الآية وفي سائر الآيات التي اقترن بغيره من اللذائذ، قال تعالى: «فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْواناً»(1)، وقال تعالى: «يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ وَ جَنّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ»(2)، وقال تعالى : «وَ مَغْفِرَهٌ مِّنَ اللَّهِ وَ رِضوَانٌ»(3).

وقد جمع سبحانه وتعالى في هذه الآية الشريفة اللذائذ الجسمانية في الآخرة، وهي الجنّات والأزواج المطهّرة، واللذّة المعنوية الروحانية ، وهي : الرضوان الذي يحدّه حدّ ولا يشوبه نقص.

ويستفاد من الآية الشريفة اختلاف درجات المتّقين في الآخرة، وأن لأهلها مراتب وطبقات، فمنهم مَن لا يليق به إلا اللذائذ الجسمانية، كالجنّات والأزواج المطهّرة، ومنهم مَن عظمت منزلته وارتقى إدراكه وعلا قربه ، فلا يليق به إلا رضوان الله تعالی .

قوله تعالى : «وَ اَللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ».

أي : والله خبير بعباده عليم بأفعالهم وما تطويه ضمائرهم، فلا تخفى عليه خفاياهم وأمورهم، فيجازي كلّ فرد بما يكسبه وما يليق بأفعاله.

ويستفاد من الآية الشريفة أن امتیاز كلّ فرد من أفراد الإنسان بما يشتهيه الداخل في عواطفه وسلوكه في حياته الدنيوية والأخروية تحت

ص: 68


1- المائدة، الآية 2
2- التوبة، الآية 22
3- الحديد، الآية 20

إرادة الله تعالى وحكمته البالغة، وهو عالم بمصالحهم وجزائهم لا تخفى عليه أمورهم، فهذه الآية الشريفة بمنزلة التعليل لجميع ما سبق ذكره .

قوله تعالى : «اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ اَلنّارِ».

بيان لصفات المتّقين المدلول عليهم بقوله تعالى : «لِلَّذِينَ اتَّقَوْا» ، وهي من الصفات الحميدة، وفيه إشارة إلى بعض صفات المحبّين المخلصين، وبعض مقامات العارفين، كلّ ذلك في خطاب بليغ إلى أعزّ حبيبه وأطهر قلب من الشرك وأنواع العيب، وفيه تظهر المعبوديّة المحضة للمعبود الحقيقي، كما أن فيه وعد الاستجابة للطائعين والعابدین .

والقول: مطلق ما يشعر بالحكاية عما في الضمير ، بخلاف الكلام فإنه أعم من القول. فكل كلام قول ولا عکس، والمراد به في المقام مطابقة ضمائرهم مع ما يقولون بألسنتهم، وسياق الآية الشريفة شاهد لما قلناه .

ومادة (غفر) تأتي بمعنى إزالة الوسخ والدنس، يقال : «اغفر ثوبك في الوعاء ليذهب عنه وسخه»، وهي من الموارد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات مختلفة جداً، وقد أضافها الله تعالی إلى نفسه الأقدس في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، فهو الغفّار والغفور، وأن منه المغفرة، قال عزّ وجلّ: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ

ص: 69

لِلنَّاسِ»(1)، وقال تعالى: «وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ»(2)، وقال تعالى : «أُولئِكَ لَهُم مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ»(3)، وقال تعالى: «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّه»(4)، وقال تعالى : «إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ»(5).

ومادة (ذنب) تأتي معنى التبعة، أي القبح الذي يتبع صاحبه، والفرق بينه وبين الجرم بالاعتبار، لأنه بمعنى القطع، أي يقطع ارتباط صاحبه بالله تعالى، فكلّ مجرم مذنب وكذا العكس .

والآية المباركة في مقام بيان استنجاز الوعد بعد الإيمان بالله تعالی ولذا فرع غفران الذنوب على الإيمان، يعني: أننا وفينا بما عهد إلينا وهو الإيمان، فانجز الله بوعدك بستر ذنوبنا بعفوك وخلاصنا من عذابك. وعهد الله تعالى هذا مذكور في جملة من الآيات صريحاً وضمناً، منها قوله تعالى : «وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ»(6)، وقوله تعالی : «یَاعِبَادِيَ الَّذِینَ أَسرَفُوا عَلی أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطوا مِن رَّحْمَهِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ یَغْفِرُ الذُّنُوب جَمِیعاً»(7)، وقوله تعالى : «يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَتُجَهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَ أَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَ مَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(8).

ومعنى الآية الشريفة : الذين يؤمنون ويعترفون بحقيقة العبودية لله

ص: 70


1- الرعد، الآية 1
2- طه، الآية 82
3- هود، الآية 11
4- آل عمران، الآية 35
5- يوسف، الآية 98
6- الأحقاف، الآية 31
7- الزمر، الآية 53
8- الصف، الآيات 9- 12

تعالى والإيمان به عزّ وجلّ، ويجعلون ذلك وسيلة لطلب غفران الذنوب ونجاتهم من عذاب النار، لهم جنات تجري من تحتها الأنهار .

والآية المباركة ليست في مقام المنّة عليه عزّ وجلّ، بل له تعالی المنّة على عباده أن هداهم إلى الإيمان.

وإنما خصّوا اسم الرب في دعائهم لما فيه من إظهار العبودية والاسترحام.

وإطلاق الآية المباركة يشمل جميع الذنوب الكبيرة والصغيرة، وقد قرّر عزّ وجلّ إيمانهم مع ذلك، فتكون الآية الشريفة حجّة على مَن قال بأن ارتكاب الكبيرة لا يجتمع مع الإيمان .

نعم، لو أراد أنه حين الارتكاب يزول إيمانه العملي بخصوص ما ارتكبه، كما هو المستفاد من قوله صلی الله علیه و آله: «لا يزني الزاني وهو مؤمن»، فله وجه، لكنّه لا ينافي بقاء أصل الإيمان بنحو الجملة والإجمال .

والوقاية من عذاب النار والنجاة منها أعمّ من المغفرة والدخول في الجنّة، وإنما طلبوا النجاة من عذاب النار لأنها الوسيلة للوصول إلى الجنّة ومقدّمة له.

قوله تعالى: «الصَّابرِينَ وَ الصَّادِقِينَ وَ الْقَانِتِينَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ».

الصابر هو الحابس نفسه عن ارتكاب المعاصي والملازم لامتثال الأوامر، والصادق المخبر بالشيء على ما هو عليه، والقانت المطيع، والقنوت لزوم الطاعة مع الخضوع، وقد فسر بكلّ واحد منهما أيضاً،

ص: 71

ولكن إذا استعمل في الأنبياء والأولياء وعباد الله المخلصين يراد به هما معاً، قال تعالى : «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ»(1)، والإنفاق هو بذل ما هو راجع بذله، فيشمل المال والجاه والعلم وقضاء حوائج الناس، والأسحار جمع سحر، وهذه المادة في أية هيئة استعملت تفيد معنی الخفاء والإخفاء. وفي المقام عبارة عن اختلاط ظلام آخر الليل بضياء الفجر، وهو اسم لذلك الوقت، وهو أفضل الأوقات وأشرفها وأحسنها للعبادة، وأطيبها لحضور القلب والإقبال على الدعاء والمناجاة مع الرب، وأبعدها عن مداخلة الرياء ، وكلّما قيل في مدحه وفضله فهو قليل، فكم لله تعالى فيه من نفحة عطرة منّ بها على مَن يشاء وجائزة موفرة يخصّ بها مَن أخلص في الدعاء، وكم من عبادة فيها هبّت عليها نسمات القبول، ودعوة من ذي طلبة مشفوعة بالمأمول، فهو وقت العلماء العاملين والعرفاء المتعبّدين، وهو وقت نجوى الحبيب مع الحبيب، بلا تخلل مغاير أو رقيب، فالسعيد مَن أدرك هذا الوقت الشريف واستفاد من رحمة الرب اللطيف .

وهذا الوقت من آخر معلوم، وهو اختلاط ظلام الليل بضياء النهار، وأما من أوله ، فعن جمع هو السدس الأخير من الليل، وعن آخرين أنه الثلث الأخير منه، وعن آخر أنه الثمن، والكلّ صحيح بحسب مراتب الفضل، وقد تعرّضنا لبعض الكلام فيه في كتابنا [مهذب الأحكام] فراجع .

ص: 72


1- النحل، الآية 120

والآية المباركة تشتمل على خمس خصال وصف بها المتّقون، وهي أمهات الصفات الحسنة والخصال الحميدة والأخلاق الكريمة ، فبالصبر ينال الإنسان أعلى المقامات ويتحلّى بمحاسن الأخلاق، وبدونه لا يمكن أن يصل إلى درجة التقوى، ولذا قدّمه سبحانه في الكلام. وإطلاقه يشمل الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية والصبر عند المصيبة ، وهو والصدق من أعلى مقامات السالكين إلى الله تعالی وأفضل درجات أهل الحقّ واليقين، خصوصاً إن عمّمنا الصدق ليشمل صدق اللسان والحركات وخطرات الجنان وتطابق الظاهر مع الباطن، فحينئذٍ لا يتصوّر للعبودية مقام فوق ذلك إن طابق كلّ ذلك مع الشرع المبين واقترن مع الخضوع والتذلّل لله تعالی.

وهذه الخصال الخمس تستجمع جميع الخصال الحميد والأخلاق الكريمة، ولا يشذ منها كلّ متق، وهي خصال متكاملة تشيد صرح الإنسانية الكاملة وتبلغها إلى أوج السعادة وأقصى الدرجات .

وبالأولى منها ينال الإنسان تلك الصفات والخصال الكريمة التي تعلق بالنفس وتبعدها عن رذائل الأخلاق.

وبالصدق يتحلّى بالصفات التي تتعلّق بالظاهر .

وهاتان الخصلتان ترجعان إلى نفس الإنسان وتصلحان سريرته وعلانيّته .

والقنوت لله تعالى يجعل الإنسان خاضعاً ذليلا بين يدي عظمته، مطيعة لإرادته عز وجل، وهذ الخصلة تصلح ما بينه وبين الله تعالی .

ص: 73

والإنفاق يبعده عن رذيلة الشح ويجعله يشعر بما يجري على أخيه الإنسان، فيتحسّس بالمسؤولية، فهذه الخصلة تصلح بينه وبين الناس .

وأما القيام بالسحر، فهو ارتباط مع عالم الغيب طلباً منه العون في جميع أموره والاستعاذة من الشيطان والنفس الأمّارة .

والاستغفار بالأسحار هو القيام آخر الليل والصلاة فيه وطلب الرحمة والمغفرة، كما فسّرته السنّة المقدّسة بذلك، وما ورد في الآيات الكريمة بالنسبة إلى السحر على أقسام ثلاثة :

الأول: هذه الآية الشريفة وقوله تعالى : «کَانُواْ قَلِیلاً مِّنَ الَّیْلِ مَا یَهْجَعُونَ * وَ بِالْأَسْحَارِ هُمْ یَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ»(1).

الثاني : قوله تعالى : «تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ»(2).

الثالث : قوله تعالى: «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا»(3)، والتهجّد بالليل هو الاستيقاظ بالعبادة من قراءة القرآن والدعاء والصلاة ونحوها من العبادات، ويستفاد من الجميع مطلوبيّة أصل الاستغفار في خصوص هذا الوقت الشريف، ولها مراتب كثيرة، منها أن يكون في الوتر من صلاة الليل، وهي أفضلها

ص: 74


1- الذاريات، الآیات17-19
2- السجدة، الآيتان 17 - 18
3- الإسراء، الآية 79

وأشرفها، ومنها أن يكون في ضمن الدعاء والمناجاة ولو كانا في غير الصلاة، ومنها نفس كلمة : «استغفر الله ربي وأتوب إليه»، ومقتضی الإطلاق مطلوبيّة الجميع مع اختلاف المراتب.

والاستغفار بالسحر يوجب التوفيق لترك الذنوب في أثناء النهار ، فيكون سبباً لمحو الذنب السابق، ومقتضياً لترك الذنب اللاحق، فتستعدّ نفوس المستغفرين في الأسحار بذلك للاستعانة بأنوار الجلال والاستفادة من فيوضات الرحمن التي لم تزل ولا تزال.

ص: 75

بحوث المقام

بحث دلالي

يستفاد من الآيات الشريفة أمور :

الأول: یدلّ قوله تعالى: «زُیِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّسَآءِ وَ الْبَنِینَ وَ الْقَناطِیرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَیْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ»، على أن جميع ما يلهي الإنسان عن ذكر الله تعالى وما يؤثّر في سلوكه في دار الدنيا إنما هي هذه المذكورات في الآية الشريفة ، وهي ردّ على مَن ذهب إلى أن عواطف الإنسان وأحاسيسه إنما توجّهها الشهوة الجنسية فقط، فهي التي تحدّد سلوكه في حاضره ومستقبله وتوجب الكآبة والأمراض النفسية أو الجسمية إن كبتها الفرد، ولذلك دعي إلى الإباحة الجنسية، وسيأتي في البحث العلمي تتميم الكلام.

الثاني : يستفاد من سياق الآية المباركة أن الفاعل لتزيين المذكورات فيها إنما هو الشيطان الذي يزين أعمال الإنسان، كما ورد في جملة من الآيات الشريفة القرآنية، قال تعالى : «وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَلَهُمْ»(1)، وقال تعالى: «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا

ص: 76


1- العنكبوت ، الآية 38

يَعْمَلُونَ»(1)، فيكون حب هذه الأشياء صارفاً عن محبة الله تعالى ما لم يجعلها الإنسان في طريق السعادة والفوز بالفلاح، ولا ينافي ذلك أن يكون أصل هذه الأشياء وطبايعها من صنع الله تعالى الخالق الحكيم القيوم على خلقه المدبر لهم تدبیر علم وحكمة فإن من سنّته عزّ وجلّ أنه خلق الإنسان حرّاً مختاراً في أعماله، وأودع في خلقه بدیع صنع وأرسل الرسل لهداية الناس وأنزل معهم الكتاب والحكمة لسعادتهم، وقد خلق إبليس الذين يوسوس للإنسان ويصرفه عن طريق الخير والسعادة على نحو الاقتضاء، كما لم يمنع الإنسان من اتباعه، كلّ ذلك لئلا يثبت الجبر فيبطل الثواب والعقاب، ولإتمام الحجّة والامتحان وتمييز المؤمن عن غيره، وإثبات التكليف والتشريع وتثبيت قانون الجزاء .

الثالث : أن التزيين على حبّ الشهوات دون نفسها، للدلالة على أن تلك الأمور بنفسها لم تكن مذمومة، فإن الشهوات الإنسانية لها دخل في الحياة وبها يتمّ النظام، ولكن إن تعلّق الحبّ بها بحيث يكون صدّاً عن الله تعالى، فيرجع تزیین حبّها للناس إلى جعل هذه الأمور في أعينهم بحيث يكون شغلهم الشاغل، والتولية فيها سبباً للإعراض عن الله تعالى، بأن يجعلوها أهدافاً لهم فقط لا وسيلة، فيكون هذا الحبّ مذموماً وتزداد المذمّة كلّما اشتدّ الحبّ، وتخف كلّ ما خف وضعف حتى يصل إلى مرتبة الحبّ النظامي الذي هو من لوازم الطبيعة الإنسانية

ص: 77


1- الأنعام، الآية 43

ووسيلة تنظيم الحياة لكسب مرضاة الله تعالى، فتزول المذمّة رأساً، ويكون خلافه نقصا ومذموماً، ويستفاد ما ذكرناه من جملة الآيات الشريفة، منها قوله تعالى: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ اَلدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ»(1)، وقوله تعالى: «وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ»(2)، إلى غير ذلك من الآيات المباركة، وعلى ذلك يحمل ما ورد عن المعصومين عليهم السلام في مدح بعض المشتهيات ، منها ما عن نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله: «أحببت من دنياكم ثلاث : الطيب، والنساء، وقرّة عيني الصلاة».

الرابع : قد ورد في الآية الشريفة أقسام الشهوات التي تختلف رغبات الناس فيها . كما مرّ - فهم على أصناف بالنسبة إلى حبّها، فمنهم مَن يتعلّق حبّه بالنساء ولاهم إلا التعشّق بهن وصرف همه في المؤانسة بهن ومصاحبتهن، وإن استلزم المحرّمات ووجوه الفساد، ومنهم من يحب التكاثر والتقوي بالأولاد، وهذا لا يكون إلا بالبنين دون البنات، ولهذا خصّ ذكرهم دونهن، ومنهم مَن هو مغرم بالمال وجمعه، وهذا يتحقّق بالذهب والفضة اللذين بهما يتقوّم سائر الأشياء ، ويكون حبّه لغيرهما بالتبع، ومنهم مَن يحبّ الحرث والزرع أو اتخاذ الأنعام، ومنهم مَن يحبّ الفروسية فيتخذ الخيل المسوّمة .

ص: 78


1- الأعراض، الآية 32
2- القصص، الآية 77

وربما يتحقّق في شخص واحد قسم واحد من هذه الشهوات ، وربما يجتمع أكثر من واحد، وقلّما يجتمع جميعها في شخص واحد، فالآية الشريفة مع أنها في مقام بيان تعداد المشتهيات وتكثّرها، تكون في مقام بيان أصناف الناس واختلافهم في حبّ هذه المشتهيات بالملازمة .

الخامس : يدلّ قوله تعالى: «قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَٰلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا»، على أن ما في الآخرة مشابه لما في الدنيا، وأن الإنسان يلتذّ بنعيم الآخرة كما يلتذ بنعيم الدنيا من المأكل والمشرب والمناكح وغير ذلك، وأن الفرق هو أن نعيم الآخرة لا يشوبه نقص وأنه يختصّ بالمؤمن، بخلاف نعیم الدنيا، وذلك لأن وجود الإنسان في الآخرة عین وجوده في الدنيا، فهو بنفسه متقوّم بالاستفادة من اللذائذ دنیويّة كانت أو أخروية، ولكلّ منهما أسباب خاصة تختلف باختلاف العوالم، وهو لا يوجب الاختلاف بحيث يعرض عن نعيم الآخرة وتكون باطلة وعبثا بالنسبة إليه ، ويدلّ على ما قلناه جميع الكتب السماوية، خصوصاً القرآن الكريم في مواضع متعدّدة، ويؤكّد ذلك في قوله تعالى في آخر هذه الآية : «وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ»، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام إن شاء الله تعالی.

السادس : يدلّ قوله تعالى : «لِلَّذِینَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِینَ فِیهَا وَ أَزْوَاجٌ مُّطهَّرَهٌ وَ رِضوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِیرُ بِالْعِبَادِ»، على نوعين من الجزاء ..

ص: 79

أحدهما: جسماني، وهو الجنّات التي تجري فيها الأنهار والأزواج الطاهرة.

والثاني العقلي الروحاني الذي هو من أعظم اللذّات، وهو رضوان من الله تعالى الذي لا يتصوّر فوق لذّة.

السابع : يدلّ قوله تعالى: «لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي» على مراتب الجنّة، واختلاف درجات أهل الجنّة، وأنهم على مراتب ودرجات.

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : «ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَیَاهِ الدُّنْیَا» أن هذه الشهوات هي أمور دنيئة بالنسبة إلى ما عند الله عزّ وجلّ من الرضوان والجنان، وأن هذه الشهوات هي أمور زائلة وقتية ليست مبنية على الحقيقة والواقع، وإنما خلقها الله تعالى لإقامة هذه الحياة الفانية الزائلة وتكوين الاجتماع الإنساني، وبدونها يعرض الاختلال بل الفناء عليه .

التاسع: إنما قدّم سبحانه وتعالى النساء على جميع الشهوات ، لأنهنّ حرث بني آدم، وأن شهوة النساء هي أكثر الشهوات إعمالاً عند الناس، وهي من أعظم اللذائذ الجسمية عند الإنسان، بل هي الركن الاساسي في الحياة، ولذا ورد في الحديث : «أن مَن تزوج فقد أحرز نصفه دينه أو ثلث دینه»، ولكن ليست هي الركيزة الوحيدة في الإنسان، كما يدّعيه بعض علماء النفس.

العاشر : إتيان لفظ «الجنات» في قوله تعالى : «جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن

ص: 80

تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ»، يدلّ على تعدّدها لكلّ واحد من المتّقین، مجهّزة بكلّ ما يتصوّر فيه من الفرح والانبساط والسرور والراحة، كماً وكيفاً، وذلك لأجل تعدّد موجبات استحقاق الجنان في هذه الدنيا، كما هو واضح.

الحادي عشر : يدلّ قوله تعالی : «وَ رِضْوَانٌ مِنَ اللّهِ» ، على أن رضوان الله تعالى هو من مشتهيات الإنسان في الدارين، لأنه إنما يطلب مشتهيات الحياة الدنيا لأجل رضاء النفس بها وراحتها، فهو من مشتهياته إما بحدّ ذاته، أو بالملازمة، ولذا جعله تعالى في مقابل الجنات والأزواج في هذه الآية الشريفة، وفي مقابل الفضل والمغفرة والرحمة في آيات أخرى، قال تعالى : «فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْواناً»(1).

وقال تعالى: «وَ مَغْفِرَهٌ مِّنَ اللَّهِ وَ رِضوَانٌ»(2)، وقال تعالى: «بِرَحْمَهٍ مِّنْهُ وَ رِضوَانٍ»(3).

وإنما أطلق سبحانه الرضوان في المقام للدلالة على شموله للنفس، والصفة والفعل وجميع الخصوصيات .

الثاني عشر : يدلّ قوله تعالى : «اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ اَلنّارِ»، على تفصيل ما أجمله سبحانه في قوله تعالى: «اتَّقُوْا». أي أن التقوى إنما تتحقّق بما ذكر في الآية الشريفة، وهي الإيمان بالله ، وإظهار العبوية له عزّ وجلّ، والاسترحام

ص: 81


1- المائدة، الآية 2
2- الحديد، الآية 20
3- براءة ، الآية 21

منه تعالى في طلب العفو والغفران، والصبر على الطاعة وعن المعصية وفي الخطوب، والصدق في القول والفعل، والخضوع له عزّ وجلّ، والإنفاق في سبيله تعالى، وقيام الليل والتهجّد فيه بالاستغفار .

الثالث عشر : إنما قرن سبحانه الاستغفار بالإنفاق في الآية الكريمة، للدلالة على أن شخ النفس من أقوى موجبات الحرمان عن قربه عزّ وجلّ.

الرابع عشر : إنما أجمل تبارك وتعالى الاستغفار والدعاء في السحر للإشارة إلى كثرة أهمية هذا الوقت، ولا بد أن لا يفوت فضله على الإنسان بالدعاء وطلب الغفران .

بحث روائي

في الكافي: عن الصادق علیه السّلام : «ما تلذّذ الناس في الدنيا والآخرة بلذّة أكثر لهم من لذّة النساء، وهو قوله تعالى : «زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ اَلشَّهَوَاتِ مِنَ اَلنِّساءِ وَ اَلْبَنِينَ»، ثم قال: وإن أهل الجنة ما يتلذّذون شيء من الجنّة أشهى عندهم من النكاح، لا طعام ولا شراب .

أقول: رواه العياشي في تفسيره أيضاً. والوجه أنه تعالى لم يخلق ألذّ من النساء في الجنة، لأنهنّ من منشآت الله تعالى مباشرة، كما قال عزّ وجلّ: «إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا»(1)، فإنهنّ الجزء الأعظم من النظام الأتمّ كما تقدّم، ولأنها المؤانسة بما خلق من

ص: 82


1- الواقعة، الآیات 30 - 37

رحمته جلّت عظمته، هذا بحسب اللذائذ الجسمانية ، وأما غيرها، فله شأن آخر سيأتي في البحث الفلسفي إن شاء الله تعالی.

وفي تفسير القمّي في قوله تعالى : «وَ الْقَنَاطِیرِ الْمُقَنطرَةِ» ، قال أبو عبد الله علیه السّلام : «القناطير جلود الثيران مملوءة ذهباً».

أقول: رواه في المجمع عن الباقر والصادق عليه السّلام أيضاً، وهو من أحدى معاني القناطير المقنطرة، وتقدّم تفسيرها بالمال الكثير الجامع الجميع ذلك .

وفي تفسير القمّي - أيضاً -: قال عليه السّلام : «الخيل المسوّمة الراعية والأنعام، والحرث يعني الزرع».

أقول: تقدّم ما يرتبط بذلك في التفسير .

وفي تفسير العياشي: في قوله تعالى : «فِیهَا أَزْوَاجٌ مُّطهَّرَةٌ»، عن الصادق عليه السّلام : «لا يحضن ولا يحدثن».

أقول : هذا من مصادیق الطهارة، وإلا فهنّ طاهرات من كلّ خبث و دنس ورذيلة .

وفي الفقيه والخصال عن الصادق عليه السّلام : «مَن قال في وتره إذا أوتر: استغفر الله وأتوب إليه سبعين مرة وهو قائم، فواظب على ذلك حتى تمضي سنة ، كتبه الله تعالى عنده من المستغفرين بالأسحار ووجبت له المغفرة من الله تعالى».

وفي المجمع: عن الصادق عليه السّلام قال : «من استغفر سبعين مرة في وقت السحر فهو من أهل هذه الآية».

ص: 83

أقول: الروايات في فضل الاستغفار - خصوصاً في الليل - كثيرة جداً تعرّضنا لبعضها سابقاً، ويمكن أن يستفاد وجوب المغفرة من استجابة الله تعالی دعاء المؤمنين في هذه الآية الشريفة : «فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا»(1).

بحث فلسفي

لا ريب في أن كمال العلّة الفاعلية من كل جهة يقتضي كمال العلّة الغائية كذلك، لأن الغاية علّة فاعلية بوجودها العلمي، وعلة غائية بوجودها الخارجي هذا في غير المبدأ تبارك وتعالی.

وأما في المبدأ عزّ وجلّ، فهو بذاته جاعل وخالق لما سواه، وهو تعالی بذاته وصفته وفعله حسن، وبهذا الحسن الذاتي والصفتي والفعلي غاية ومرجع لما سواه، فيكون عنده حسن المآب لا محالة، وإذا كان في البين نقص وفساد وخسّة فإنما هو من مقتضيات اختيار الإنسان، لا أن تكون بالنسبة إلى المبدأ والمآب، فما ورد في قوله تعالى : «وَاللهُ عِنْده حُسْنُ الْمُئابِ» ، إنما هو قضية عقلية برهانية قرّرها الله تعالى في كتابه الكريم، وليس المراد من لفظ «عنده» الحدّ الخاص من الزمان أو المكان، بل المراد إحاطته عزّ وجلّ بما سواه إحاطة قيوميّة وربوبيّته العظمى حدوثاً وبقاء، وتبديلاً إلى كلّ ما يشاء، وإفناء متى أراد، فهو الحي القيوم مبدءاً وماباً، وهو الحيّ القيوم في ما بينهما، وكلّ ذلك بالنسبة إلى كلّ ما سواه بمعنى واحد.

ص: 84


1- م- ن، ص109 - 129، ج (5)

ثم إن اللذّة إما روحانية معنوية ، أو جسمانية ظاهرية، والأخيرة متقوّمة بالقوى الجسمانية، بل عن جمع من محقّقي الفلاسفة إنكار أصل اللذائذ الجسمانية، وأنها ليست إلا من دفع الآلام فقط، وأثبتوا ذلك مفضلاً.

وأما الأولى فهي من أعلى مدارج كمال الإنسان وصعوده وارتقائه إلى عوالم لا نهاية لعظمتها، وهي شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربّها، ولا ينالها أحد إلا بالتفاني في مرضاته حتى يصل إلى درجة البقاء فيه عزّ وجلّ، ولعلّ أحد معاني رضوان الله تعالى يرجع إلى ذلك، وما ورد في بعض الروايات المتقدّمة من أن النساء أشهى اللذائذ إنما هي باعتبار اللذائذ الجسمانية، بل يمكن أن ترجع تلك اللذّة في الجنة إلى اللذة الروحانية، باعتبار کون النساء فيها من صنع الله تعالی مباشرة، قال تعالى : «إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا»(1)، وأما اللذائذ المعنوية فهي أكبر وأعظم وألذّ بالنسبة إلى بعض الناس .

وهل تكون الشهوات من مختصات هذا العامل بأصولها وفروعها ونتائجها المترتبة عليها، أو تعمّ الدار الآخرة أيضاً لكن بوجه أحسن وأليق يتناسب مع ما في ذلك العالم، بحيث يكون نسبة ما في العالم إلى ذلك العالم نسبة المعنى إلى اللفظ أو نسبة الحقيقة إلى المجاز؟

والذي تدلّ عليه الآيات الكثيرة في القرآن الكريم والسنّة المقدّسة

ص: 85


1- الواقعة، الآيتان 30 - 37

هو التعميم، قال تعالى : «وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ اَلْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ اَلْأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ»(1)، وقال تعالى : «وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً»(2)، والآية التي تقدّم تفسيرها تدلّ على ذلك أيضاً، فأصل الحقيقة واحدة وإنما الاختلاف في الجهات الخارجية، فجميع الشهوات النفسانية موجودة في الدار الآخرة على النحو الأتم الأكمل، قال تعالى: «وَمَا الْحَیَاهُ الدُّنْیَا فِی الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ»(3)، فإن الإنسان فيها هو الإنسان في الدنيا، وإنما يتمتّع في الآخرة بما أعدّه في الدار الدنيا من الحسنات والسيئات ، وبالملذات التي كان يريدها في الدنيا وتحصل سعادته في الآخرة، والحرمان منها شقاء وضيق.

وإنما ذكر تعالی جملة منها في الدنيا إنما هو لمتاعها وقيام نظام هذا العالم بها، لا أن تكون مختصّة بها دون غيرها إلا على مفهوم اللقب الذي لا يكون حجّة، كما ثبت في العلوم الأدبية .

ويمكن أن يستفاد من قوله تعالى : «وَاللهُ عِنْده حُسْنُ الْمُئابِ»، وجود ذلك كلّه فيها على النحو الأتم والأكمل، فإن مآب كلّ شيء فيه حسن، وإذ السير هو سير استکمالي وتوجّه إلى الكمال، وهذا هو مقتضى إطلاق الآيات التي وردت فيها ملذّات الآخرة ومشتهياتها من دون تعليق لها بوجه من الوجوه، بخلاف الآيات التي اشتملت على ملذّات الدنيا، فإن فيها تعليقاً بوجه من الوجوه، وإن كانت ملذّات

ص: 86


1- الزخرف، الآية 71
2- البقرة، الآية 25
3- الرعد، الآية 26

الدنيا يشترك فيها المؤمن والكافر، بخلاف ملذّات الآخرة فإنها مختصّة بالمؤمن.

بحث عرفاني

شهود حقائق الموجودات على ما هي عليه في الواقع بجواهرها وأعراضها ولوازمها وملزوماتها الأزلية والأبدية حدوثاً وبقاء، بل وقبل الحدوث يصحّ أن يعبّر عنه بالغيب الذاتي، ولا حدّ لهذا الشهود من كلّ جهة، ولو عبّر عن ذلك بابتهاج الذات بالذات يصحّ أيضاً، وهو مختصّ بالواحد الأحد الصمد، ولا يدانيه ملك مقرّب ولا نبيّ. وقد يفاض منه شعاع على الغير، وهو تابع لقدر الإفاضة كمّاً وكيفاً كما أنه لا يختص بعالم دون عالم، فإن الإشعاع أزلي وأبدي والنفوس المستعدّة تستفيض من ذلك الإشعاع بقدر القابلية، ويصحّ أن يكون رضوان الله تعالى إشارة إلى ذلك الإشعاع، ولعلّ الله تعالى يوفّقنا التفصيل المقام في مستقبل الكلام إن شاء الله تعالی.

ومن ذلك يعلم أنه لو جعل العبد غاية عباداته الوصول إلى رضوان الله تعالى، كانت من أكمل الغايات وأحسنها.

وحبّ الشهوات هو من أغلظ الحجب الظلمانيّة بين العقل وإدراك الحقائق النورية والمعارف الربوبيّة، بل هو نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، لأن منشأ الحب هو القلب ، فإذا كان متعلّقاً بالأهواء الباطلة والشهوات، يصير القلب كخرقة بالية منغمرة في دار الغرور ، محجوب عن منبع الجلال والنور، فإنها لا تعمي الأبصار، ولكن تعمي

ص: 87

القلوب التي في الصدور، فيضلّ عن الصراط المستقيم، ولا غاية بعد ذلك إلا سواء الجحيم. فلا غاية لإعمال الشهوات المذمومة إلا العار والنار، فإن حقيقة الإنسان الكاملة - التي هي كالصورة لجميع العوالم الإمكانية - لم تعرف بعد ولن تعرف، وإن بذل العلماء المحقّقون من الفلاسفة الإلهيين وغيرهم جهودهم، وصرف العرفاء الشامخون طاقتهم فيه، لأنها أعظم سر الله تعالى في الخليقة، وهي من أجلّ مخلوقاته في جميع العوالم الربوبية، ولا بد في عرفانها من العكوف على بابه والتماس ذلك من وجهه وكتابه، ومثل هذه الآيات المادحة لمقام التقوى والشارحة لها، تشير إلى لمعة من لمعات ذلك النور الحقيقي، فكما أن التقوى والعبودية لله عزّ وجلّ مراتب، كذلك للإنسانية الكاملة، بل مراتبها تدور مدار العبودية الخاصة، وكلّ ما قالوه العرفاء من وحدة الوجود والموجود وأمثال ذلك في تعبيراتهم، إن رجع إلى ذلك فلا بأس به، وفي غير ذلك يرد علمه إليهم.

وكلّ الذي شاهدته فعل واحد *** بمفرده لكن بحجب الأكنة

إذا ما أزال الستر لم ترغيره *** ولم يبق بالأشكال إشكال ريبة

ص: 88

(الملك والتصرف الإلهي)

في المخلوقات

قال تعالى: «قُلِ اللَّهُمَّ مَلِكَ الْمُلْكِ تُؤْتی الْمُلْک مَن تَشاءُ وَ تَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَن تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَن تَشاءُ بِیَدِكَ الْخَیرُ إِنَّكَ عَلی کلّ ِ شیْءٍ قَدِیرٌ * تُولِجُ الَّیْلَ فی النَّهَارِ وَ تُولِجُ النَّهَارَ فی الَّیْلِ وَ تُخْرِجُ الْحَیَّ مِنَ الْمَیِّتِ وَ تُخْرِجُ الْمَیِّت مِنَ الْحَیّ ِ وَ تَرْزُقُ مَن تَشاءُ بِغَیرِ حِسابٍ».

الآيتان من جلائل الآيات القرآنية تبين عظمة الباري جلّ شأنه وهيمنته وجبروته، وسيطرته على جميع الموجودات سيطرة ملكوتية ، عمّت تمام المخلوقات بجواهرها وأعراضها وجميع إضافاتها وتبدّلاتها وحالاتها. وهما تبعثان في نفس المخاطب عظمة الله سبحانه وتعالى وكبرياؤه وتمام قدرته. فهو القائم على شؤون خلقه والمالك الذي يتصرف في ملكه كيف يشاء، لا يعجزه شيء وهو العليم بأسرار خلقه والمدبر لهم تدبير حكمة.

والآية المباركة تبيّن سرّ الوحدة الحقيقية التي ظهرت في أعيان التكثّرات، والدعاء فهو الله بالتحقيق والركن الوثيق والجار اللصيق، كل ذلك بأسلوب رفيع ونظم بديع ونسق لطيف .

ص: 89

قوله تعالى : «قُلِ اللَّهُمَّ مَلِكَ الْمُلْكِ».

خطاب (قل) موجّه إلى سيد الأنبياء باعتبار وجوده الجمعي وواسطة الفيض وغاية الإفاضة، ليشمل جميع ذوي العقول والروحانيين، بل يصحّ الشمول للجمادات أيضاً، لأن خطابات الله المقدّسة بالنسبة إلى الحقائق التكوينيّة شاملة للجميع، كما في قوله تعالى : «فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ»(1)، مع أن الخطاب عدم لجميع الممكنات، يصحّ أن يكون لفظه أيضا كذلك.

اللهم : أصله «یا الله»، والميم المشدّدة عوض عن حرف النداء (یا)، ولا يجتمعان إلا شاذاً كما في قول الراجز : إني إذا ماحدث ألما *** أقول يا اللهم يا اللهما

وقال آخر:

وماعليك أن تقولي كلّما *** صلّيت أو سبّحت يا اللهم ما

ومادة (ملك) تأتي بمعنى الاستيلاء والسلطنة، وهما قد يكونان حقیقتان، وهي عبارة : عن الاستيلاء على الشيء من كل جهة إيجاداً وإبقاءً وإفناءً وربوبيّة، مالك لجميع خلقه ملكيّة حقيقية من كل جهة يفرض فيها.

وأخرى : اعتبارية تدور مدار اعتبار العقلاء، نحو ملكية الإنسان للأشياء التي تقع تحت استيلائه، وفي الحديث: «أملك عليك لسانك» ،

ص: 90


1- فصلت، الآية 11

أي لا تجرّه إلا بما يكون ذلك لا عليك، وهذه الملكية الاعتباريّة تدور مدار اعتبار المعتبر، وقابلة للتغيير والتبديل والزوال.

وهذا القسم يلازم القسم الأول دون العكس، فيصحّ اعتبار هذه الملكية بالنسبة إلى الله عزّ وجلّ بالأولى، لأن كلّ وصف ممكن لا يستلزم من إطلاقه النقص بالنسبة إليه عز وجل، فيصحّ وصفه به ، قال تعالى: « وَ ءَاتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي ءَاتَاکُمْ»(1)، وقال تعالى : «لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ»(2)، ويصحّ انتزاع هذه الملكية الاعتبارية عن الملكيّة الحقيقية . وبها تنظيم الأغراض العقلائية الفردية والاجتماعية .

ثم إن الملكية الاعتباريّة ..

تارة : تكون بوضع من الله تعالى، كملكية الإنسان لنفسه وأجزائه وتصرفاته السائغة في بدنه، بحسب التكوين والتشريع .

وأخرى : تكون بوضع واعتبار من العقلاء كما ذكرنا، وأما بالنسبة إلى ملكية المولى للعبد، فإنه لا ريب في كونها من الملك (بالكسر) الاعتباري، لصحّة هذا الاعتبار هذا الجميع، وأما كونها من الملك (بالضم) ففيه منع، إذ لا يعتبر العقلاء بين المولى والعبد الملوكيّة والرعيّة.

والملك (بالضم) اسم لما يملك ويتصرّف، وإنه على قسمين أيضاً، ملك حقيقي وهو التصرف في شؤون الرعية تصرفاً حقيقياً بكلّ ما يريد من غير مزاحمة ولا معارضة، وهو مختصّ بالله تعالى أو ما

ص: 91


1- النور، الآية 33
2- التغابن، الآية 1

يمنحه الله عزّ وجلّ لبعض أنبيائه وأوليائه ، فهو جلّت عظمته خالق كلّ شيء ومالكه، وله الربوبية العظمى العامة والقيوميّة المطلقة، قال تعالى: «ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ لَهُ اَلْمُلْكُ وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ»(1)، فيرجع إلى الملك (بالكسر) الحقيقي وملازم له، ويصحّ أن يعبّر بأنه ملك في ملك.

وأخرى : ملك (بالضم) اعتباري اعتبره الاجتماع، مثل ملوك أهل الأرض الذين يتسلّطون على جماعة من الناس ويتصرّفون فيهم تصرّفاً يصلح بها شؤونهم. وبعد فرض أنه تعالى خالق لجميع الممكنات وموجدها من العدم ومبقيها ومفنيها، وبيده تدبيرها وتربيتها، وهو الربّ على الإطلاق والقيوم كذلك، فهو مالك وملك ومليك، وجميع هذه الإطلاقات من لوازم الفرض الذي فرضناه . وقد ورد جميع ذلك في القرآن الكريم أيضاً قال تعالى : «لَّهُ مَا فِی السَّماواتِ وَالأَرْضِ»(2)، فقد أثبت الملكية لنفسه، وقال تعالى : «مَلِكِ اَلنّاسِ»(3)، الذي أثبت الملوكية لنفسه، وقال تعالى : «عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ»(4)، حيث أثبت المالكية والملوكية لنفسه الأقدس، فثبت قول جمع من الفلاسفة المتألّهين من أن بسيط الحقيقة من ك جهة يتصف بكل شيء لا يستلزم النقص فيه، وتقدّم بعض الكلام في سورة الحمد(5)، فراجع.

ص: 92


1- فاطر، الآية 13
2- البقرة، الآية 200
3- الناس، الآية 2
4- القمر، الآية 55
5- الحمد، الآية 4

ومن ذلك يظهر أن الملك في الآية الشريفة هو الأعم من الحقيقي والاعتباري في الملك (بالكسر) والملك (بالضم)، ويبيّن ذلك بقية الآية الشريفة، أي قوله تعالى : «تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ»، لأن مالكيّته تعالى لملك تستلزم مالكيّته لما يتسلّط عليه كلّ مالك وملك.

كما أنه يمكن يكون المراد بالملك طبيعته وذاته، أي ما يصحّ أن يقع تحت الاستيلاء، فيشمل جميع ما سواه عزّ وجلّ وجوداً أو عدماً، فإن قسماً من الأعدام أيضاً داخلة تحت ملکه وسلطته، فهو مسلّط على إيجاد المعدوم وإعدام الموجود، ويبيّنه ما بعده أيضاً، فتكون هذه الآية الشريفة شارحة لقوله تعالى : «لَهُ الْمُلْكُ»(1)، قوله تعالی : «بِيَدِهِ اَلْمُلْكُ»(2)، ونحو ذلك.

وإنما عبّر سبحانه وتعالى بلفظ الملك دون غيره لإظهار معنی التسخير، فكما أن المملوك مسخّر تحت إرادة المولی، كذلك تكون جميع الممکنات بالنسبة إليه عزّ وجلّ، وهذا المعنى ظاهر من سائر الآيات الشريفة .

قوله تعلی: «تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ».

مادة (نزع) تأتي بمعنى إخراج الشيء وقلعه عن محله ومقره،

ص: 93


1- التغابن، الآية
2- الملك، الآية 1

کنزع الثوب عن البدن، قال تعالى : «يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُمَا»(1)، وقال تعالى: «وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ»(2)، وقال تعالى : «وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضآءُ»(3)، وقال تعالى : «وَالنّاَزِعَاتِ غَرْقًا»(4)، والملك في المقام هو مطلق السلطنة والاستيلاء، وقد ذكرنا أن المراد به طبيعته وذاته ، وهو ما يصحّ أن يقع تحت الاستيلاء والسلطنة، ليشمل جميع الممکنات القابلة للوجود والإيجاد، فيشمل الملك (بالضم) والملك (بالكسر)، والنبوّة، إذ هي ملك أيضاً، قال تعالى : «وَءَاتَیْنَاهُم مُّلْکًا عَظِیمًا»(5)، فإن جميع ذلك واقع تحت سلطان الله تعالى وإرادته المقدسة، وهي من مواهبه وعطاياه التي يمنّ بها على مًن يشاء من خلقه ويمنعها عمّن يشاء منهم، وقد بنى الله تعالى النظام التكويني والتشريعي والاجتماعي على الملك، وهو محبوب لدى المجتمع الإنساني تستقيم به حياتهم في النشأتين.

وأما ما يترتب عليه من الآثار السيئة ، فهي ترجع إلى كيفية إعماله والاستفادة منه، دون أصله الذي هو محبوب كما ذكرنا، وبه يقع الامتحان والابتلاء، قال تعالى حكاية عن سليمان : «الَّذِینَ إِن مَّکَّنَّاهُمْ فی الأَرْضِ أَقَامُوا الصلَاةَ وَ ءَاتَوُا الزَّکاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنکَرِ وَ للَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ»(6).

ص: 94


1- الأعراف، الآية 27
2- الحجر، الآية 47
3- الأعراف، الآية 108
4- النازعات ، الآية 1
5- النساء، الآية 54
6- النمل، الآية 40

وإنما علّق سبحانه وتعالى الإيتاء والنزع على المشيئة، لبيان أن العباد غير مجبورين على ذلك على نحو الحتم والقضاء المبرم، بل الإرادة العباد وأعمالهم المدخلية فيهما، فجميع أعمال العباد الصادرة منهم منسوبة إليهم، كما أنها منسوبة إلى الله تعالى، كلّ منهما على نحو الاقتضاء لا العلّيّة التامة .

نعم، له عزّ وجلّ ألطاف وتوفيقات خاصة بالنسبة إلى المستفيض إن كان من أهل الصلاح والتقوى وإقامة العدل، فيعطيه الله الملك الإقامة العدل والإصلاح بين العباد، قال تعالى : «الَّذِینَ إِن مَّکَّنَّاهُمْ في الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَ ءَاتَوُا الزَّکاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنکَرِ وَ للَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ»(1)، وليس لغير أهل التقوى هذا التوفيق واللطف الخاص، ولكنه تعالى يقدّر الملك لمثل هؤلاء تنظيماً للنظام والامتحان والاختبار وإتماماً للحجّة، قال تعالى :«أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا ءَاخَرِينَ»(2)، وقال تعالى : «وَقَالَ مُوسَی رَبَّنَا إنَّكَ آتَیْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِینَةً وَأمْوَالا فِی الحَیَاةِ الدُّنْیَا رَبَّنَا لِیُضِلُّوا عَنْ سَبِیلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَی أمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَی قُلُوبِهِمْ فَلا یُؤْمِنُوا حَتَّی یَرَوُا العَذَابَ الألِیمَ* قَالَ قَدْ اُجِیبَتْ دَعْوَتُکُمَا فَاسْتَقِیمَا وَلا تَتَّبِعَانِ سَبِیلَ الَّذِینَ لا یَعْلَمُونَ»(3) ، كما أن في التعليق على المشيئة

ص: 95


1- الحج، الآية 41
2- الأنعام، الآية 6
3- يونس، الآيتان 88 - 89

إشارة إلى أنه تعالی غیر مجبور في أفعاله، وإن كانت تجري وفق المصلحة والحكمة التامة .

قوله تعالى : «وَ تُعِزُّ مَن تَشآءُ وَ تُذِلُّ مَن تَشآءُ» .

مادة (عزز) تأتي بمعنى المنيع الذي لا ينال ولا يغالب ولا يعجزه شيء، فيكون صعب المنال . وبهذه العناية يطلق على الشيء النادر الوجود أنه عزیز، وفي المأثور: «إذا أعزّ أخوك فهن»، أي إذا غلبك ولم تقاومه، فَلِن له.

ومن أسمائه تعالى (العزيز)، أي الغالب القوي الذي لا يغلب ولا يعجزه شيء، كما أن من أسمائه تعالى (المعزّ)، أي واهب العزّة لمن يشاء من عباده، وقال تعالى : «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ»(1)، أي صعب وشديد عليه، وقال تعالى: «وَ عَزَّنِی»(2)، أي غلبني .

والعزّة والذلّة متقابلان، فالذليل هو الذي يغلب عليه ويعجزه کل شيء، سواء كان بالقهر وبلا اختیار، كقوله تعالی : «وَ ضُرِبَتْ عَلَیْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْکَنَةُ»(3)، وقال تعالى: «وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً»(4)، وفي الحديث : «اللهم اسقنا ذلل السحاب»، أي ما لا رعد فيه ولا برق. أم بالاختيار، قال تعالى: «وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ»(5)، وقال تعالى :

ص: 96


1- التوبة، الآية 128
2- ص، الآية 23
3- البقرة، الآية 61
4- الإنسان، الآية 14
5- الإسراء، الآية 24

«أذِلَّةٍ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ»(1)، وقال تعالى: «وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً»(2).

ومن أسمائه تعالی : «المذل»، أي هو الذي يلحق الذلّ بمن يشاء من عباده وينفي عنه أنواع العزّة .

وهما من الأمور التشكيكيّة التي لها مراتب كثيرة، وهما إما دنيوية أو أخروية أو هما معاً، والعزّة أعمّ من الملك، وهي قد تكون حقيقيّة ، وهي التي يمنحها الله تعالى لعباده المخلصين وأولياءه المقرّبين، قال تعالى: «وَ لِلّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِینَ»(3)، وقد تكون وهميّة خياليّة تابعة للملك والسلطنة، وهي إن كانت عزّة ظاهراً ولكنها ذلّة في الحقيقة والواقع، قال تعالى: «أیَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِیعاً»(4).

ويستفاد من الآية المباركة تلازم العزّة والذلّة خارجاً، لأن عزّة كلّ فرد تلازم ذلّة آخر، کالعكس أيضاً كما نراه بالعبان .

ثم إن العزّة والذلّة لا تختصّان بمورد واحد، فقد تكون العزّة في أشياء كثيرة والذلّة كذلك، فربّ عزیز من جهة ذليل من جهة أخرى، ورب ذليل من ناحية هو عزیز من ناحية أخرى، وإعطاء العزّة والذلّة العباده من شؤون ربوبيّته العظمى، وكذا بالنسبة إلى جهاتها غير المحدودة بحدّ.

ص: 97


1- المائدة، الآية 54
2- النمل، الآية 34
3- المنافقون، الآية 8
4- النساء، الآية 139

ويصحّ أن يقال : إن الممكن في حدّ ذاته الإمكانية ذليل، أي ليس فيه أي حظ من الخير إلا ما يمنحه الله تعالى . والكلام في تعليق العزّة والذلّة على المشيئة ما تقدّم في صدر الآية .

قوله تعالى : «بِیَدِکَ الْخَیْرُ».

اليد تأتي بمعنى الاستيلاء. والمراد بها في المقام القدرة الكاملة والتدبير الكامل الموافق للحكمة البالغة المتعالية، وبها تقوم جميع الممکنات في النظام الأحسن وينتظم شؤونها، وهي القوة القاهرة التي لا بد من انبعاث جميع قوى الموجودات عنها.

والخير ضد الشر، ومعناه کلفظه مرغوب و مطلوب، والمراد به في المقام حقائق الممکنات بجميع شؤونها وأطوارها، حدوثاً وبقاءَ ، وهو من الحقائق الواقعية التي لها مراتب كثيرة، متفاوتة جوهراً وعرضاً، اشتداداً وتضعفاً، هذا بالنسبة إليه تعالی.

وأما بالنسبة إلى الإنسان، فهو خير اعتقادي بحسب ما يختاره ويقيسه بالنسبة إلى شيء آخر، أو ما يتحقّق فيه رغبته ومطلوبه، فقد يكون مطابقاً للواقع، كما في الحديث: «رأيت الجنة والنار فلم أر مثل الخير والشر»، أي لم أر مثلهما لا يميّز بينهما، فيبالغ في طلب الجنّة (الخير) والهرب من الشر (النار)، وقد يكون مخالفاً.

قال تعالى : «وَعَسی أنْ تَکْرَهُوا شَیْئاً وَهُوَ خَیْرٌ لَکُمْ وَعَسَی أنْ تُحِبُّوا شَیْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَکُمْ وَاللّهُ یَعْلَمُ وَأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ»(1).

ص: 98


1- البقرة، الآية 219

وتدل الآية الشريفة على انحصار الخير فيه تعالى، فيستفاد منها ومن أمثالها أمران :

الأول: أن ذاته تبارك وتعالی خیر محض، لقاعدة : «أن معطي الشيء لا يمكن أن يكون فاقداً له»، فهو تعالی خير على الإطلاق، ولكن لم يرد في الكتاب والسنّة إطلاق الخير بنحو الإسمية، وإنما ورد في القرآن الكريم على نحو التوصيف، قال تعالى : «وَاللَّهُ خَیْرٌ وَأَبْقَی»(1)، وقوله تعالى: «ءَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اَللّهُ اَلْواحِدُ اَلْقَهّارُ»(2)، ولعلّ عدم إطلاق لفظ الخير عليه تعالى لتنزيهه عمّا يتبادر في أذهان الناس من نسبته إلى غيره .

نعم أُطلق عليه بنحو الإضافة في موارد متعدّدة، مثل قوله تعالی : «وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ»(3)، وقوله تعالى: «وَانْتَ خَیْرُ الْمُنْزِلینَ»(4)، وقوله تعالى: «وَهُوَ خَیْرُ الْحاکِمِینَ»(5)، ونحو ذلك وإطلاقه في جميع الآيات الشريفة من باب إضافة الصفة إلى الاسم الذي ورد والتوقيف فيه، وهو لا محذور فيه.

الأمر الثاني : أنها تدل على أصالة الماهية في الجعل، كما عليها أغلب المتكلّمين وجمع كثير من الفلاسفة، لأن الخير المطلق وملکوت

ص: 99


1- طه، الآية 73
2- يوسف، الآية 39
3- الحج، الآية 58
4- المؤمنون، الآية 29
5- يونس، الآية 109

الأشياء ليس إلا حقائقها، فإذا لاحظنا الحقائق باعتبار إضافتها الإيجادية الإشراقية إليه تعالی تشمل الحقائق بوجوداتها وماهياتها، وليس ذلك تعدّداً في الجعل حتى يلزم عليه مناقشات ومحذورات، لأنه بعد فرض كون أحدهم تبعاً محضاً للآخر، كالماهية إن قلنا بأصالة الوجود، فالوجود إن قلنا بأصالة الماهيّة، فأين التعدّد الخارجي حتى يلزم المحذور، ولا ينافي ذلك ما اشتهر بين الفلاسفة من أن الوجود خیر محض، لاتفاق الكلّ على أن الخيريّة المحضة إنما تكون بعد جعل الحقائق .

بل يمكن أن يستفاد من مثل هذه الآية الشريفة الجعل المركب بالنسبة إلى الحقائق، فهو الذي جعل النار ناراً والماء ماءً، كما عليه بعض محقّقي مشائخنا (قدس)، وفي الحديث: «أن الله مجسّم الجسم وخالقه»، وفي الحديث الآخر : «وهو الذي أيّن الآين وكيّف الكيف».

وهذه الآية في موضع التعليل لما تقدّمها وذكر العام بعد الخاص، أي : أن الله تعالى يؤتي الملك والعزّة لمن يشاء ويمنعها عمّن يشاء، لأن بيده الخير الذي هو أعمّ منهما.

إن قيل : انتزاع الملك والذّلة ليسا من الخير، فكيف يشملهما قوله تعالى : «بِیَدِکَ الْخَیْرُ»؟

يقال : بعد أن كانت الذلّة وانتزاع الملك مطابقين للحكمة الواقعية التامة يكونان خيراً محضاً، وإن كانتا بحسب اعتقاد الناس من عدم الخير .

ص: 100

وإما قال تعالى : «بِيَدِكَ»، لبيان أن جميع ما يفعله تعالى من إيتاء الملك ونزعه ونحو ذلك، كلّه خیر محض بحسب الواقع، فهو عبارة أخرى عن الرحمة الرحمانية والرحمة الرحيميّة التي تعمّ الجميع .

وأما ما فرق به بعض أعلام المفسّرين بين الخير التكويني والخير التشريعي، فهو في نفسه حقّ، لأن الخير التشريعي منوط بإرادة الناس للطاعة ، بخلاف الخير التكويني، فإنه منوط بإرادة الله تعالی فقط .

لكن، لا وجه له في المقام، لأن الخير التشريعي يرجع إلى الخير التكيوني، كما قرّره بعض مشائخنا في الأصول، وخلاصة كلامه أن إثارة دقائق العقول وما في الفطرة من أهم وجهات نظام التكوين، ولا يمكن ذلك إلا بالتشريع، فكما أن التكوين بلا تشرعي باطل في النظام الأحسن، كذلك التشريع بلا تکوین باطل أيضاً ولا وجه له.

هذا موجز الكلام وسيأتي التفصيل في الموضع المناسب إن شاء الله ، هكذا كله في الخير .

وأما الشر، سواء كان تکوینياً، کنزع الملك والذلّة، أم تشريعياً وهو أقسام المعاصي والذنوب، فإن رجع إلى عدم الخير وعدم التوفيق، فيمكن انتسابه إلى الله تعالى، وإن رجع إلى فعل المعاصي والذنوب والقبائح وأمثال ذلك فلا يمكن انتسابه إلا إلى اختبار الإنسان، وأما نسبته إلى الله تعالى المنّزه عن النواقص والقبائح فلا تصحّ.

قوله تعالى : «اِنَّكَ عَلی کُلِّ شَیْءٍ قَدیرٌ» .

ص: 101

الجملة في مقام التعليل لجميع ما تقدّم، أي : أن جميع ما سواه تحت قدرته وإرادته، فكلّ ما يطلق عليه الشيئيّة جوهراً أو عرضاً خارجاً أو ذهناً أو في أي عالم من العوالم، يكون تحت قدرته.

أي : أن الله تعالى قادر على إيتاء الملك ونزعه وإيتاء العزّة والذلّة ، بل كل ما هو خير مفروض يكون تحت إرادته وسلطانه، وقدرة العبد على شيء من ذلك إنما هي مستندة إلى إيجاد القدرة فيه ومستندة إلى قدرته عزّ وجلّ، قال تعالى : «وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً»(1).

قوله تعالى : «تُولِجُ اللَّیْلَ فِی النَّهارِ وَ تُولِجُ النَّهارَ فِی اللَّیْل».

الولوج هو دخول شيء في شيء بحيث يستره، وسمّي السباع والحيات الوالجة لأنها تلج في كهف أو شعب أو حجر أو غيرها، وفي المأثور : «إياك والمناخ على ظهر الطريق، فإنه منزلة للوجلة»، يعني السباع والحيات، وسمّيت بالولجة لاستتارها في النهار بالأولاج.

وإيلاج الليل في النهار وبالعكس معلوم لكلّ من يقع في طي الزمان وتوارد الحدثان، وهو المشاهد من اختلاف الليل والنهار في طول السنة ودخول أحدهما في الآخر، بحيث يطول طرف ويقصر الطرف الآخر حسب سیر دقیق و منظم، وهذا يختلف باختلاف الفصول

ص: 102


1- النساء، الآية 78

والبعد عن خط الاستواء، فيتساوى الليل والنهار على خط الاستواء في جميع بقاع الأرض بحسب الحسّ، وإن كان التغيير فيهما واقعاً أيضاً حقيقة ويختلفان باختلاف میل الشمس عنه وسيرها في منطقة البروج، فيتفاوتان بالزيادة والنقصان بحسب مواقع الأرض والزمان، فنشاهد من أول الشتاء إلى أول الصيف يأخذ الليل بالزيادة والنهار بالنقيصة على حساب منظم، وهذا هو ولوج النهار في الليل، ثم تأخذ الليالي بالنقيصة والنهار بالزيادة من أول الصيف إلى أول الشتاء، وهو هو ولوج الليل في النهار، ويختلف ذلك على سبيل التعاكس في المدارات الشمالية والمدارات الجنوبية، كلّ ذلك على تفصيل مذكور في علم الفلك ليس هاهنا محل ذكره.

وعموم الآية الشريفة يشكل كلّ ليل ونهار يفرض، سواء كانا على وجه هذا البسيطة أم في كرات سماوية أخرى، كما قرّر في علوم الفلك.

وفي اختلاف الليل والنهار من الحكمة الباهرة وعموم الرحمة والنظام الدقيق والحكمة العظيمة ما تبهر منه العقول، وتظهر فيه آثار القدرة الكاملة والحكمة العالية، وهذا من أعظم مجالي قدرته تعالی وسلطته على الزمان، التي تحيّر فيها عقول الحكماء، حتى ذهب جمع إلى وجوب وجوده وقدمه، وجمع آخر إلى خلاف ذلك، حتى حدى بعضهم على إنكار الزمان والقول بأنه مجرّد امتداد وهمي.

وفي هذه الآية وأمثالها يبين سبحانه وتعالى أن الزمان ممکن

ص: 103

وواقع تحت قدرته ومجعول له تعالى، ويقع التغيير والتبديل فيه فلا يمكن قدمه الذاتي، كما ذهب إليه بعض، ولا يصحّ القول بوهميّته، لأنه خلاف ما هو المنساق من هذه الآيات والوجدان، وبيّن سبحانه وتعالى في آيات أخرى المنافع والحكم العظيمة في ذلك، وقد تقدّم في أحد مباحثنا الكلام في ذلك .

قوله تعالى : «وَ تُخْرِجُ اَلْحَیَّ مِنَ اَلْمَیِّتِ وَ تُخْرِجُ اَلْمَیِّتَ مِنَ اَلْحَیِّ».

الموت والحياة متقابلان ومعلومان لكلّ ذي حياة، ولا يختصان بخصوص الحيوان فقط، بل لكلّ شيء حياة وموت حسب استعداده وقابليته، كما أثبته العلم الحديث، ولكن لكل شيء حياة خاصة به ، وكذلك الموت، لا يمكن إدراكهما لغيره تعالى، قال جلّ شأنه : «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِیهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَیْءٍ إِلاّ یُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَکِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِیحَهُمْ إِنَّهُ کانَ حَلِیماً غَفُوراً»(1).

وخروج الحي من الميت وبالعكس لهما مظاهر مختلفة، لا يمكن إدراكها إلا الله تعالی.

منها : خروج النباتات التي لها حياة نباتية من الأرض الميتة .

ومنها : خروج الإنسان من النطفة ثم موته بعد مدة .

ومنها: خروج المؤمن من صلب الكافر، وخروج الكافر من صلب المؤمن، فإن الإيمان أعظم أقسام الحياة المعنوية، قال تعالى :

ص: 104


1- الإسراء، الآية 44

«اَوَ مَنْ کانَ مَیْتا فَأَحْیَیْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُورا یَمْشي بِه فِی النّاسِ کَمَنْ مَثَلُهُ فِی الظُّلُماتِ لَیْسَ بِخارِجٍ مِنْها کَذلِكَ زُیِّنَ لِلْکافِرینَ ما کانُوا یَعْمَلُونَ»(1).

وعموم هذه الآية الشريفة يشمل جميع ما سواه تعالی ممّن له استعداد الحياة والموت بأي وجه يتصوّر، وما ذكره المفسّرون في تفسير الآية المباركة من باب ذكر المصادیق.

قوله تعالى : «وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَیْرِ حِسَابٍ».

الجملة في مقام التعليل أيضاً، أي : أن إعطاءه الملك والعزًة والخير من صغیریات رزقه الذي يرزق به من يشاء بغير حساب في الكمية أو الكيفية وعدم المداقة، بل من كل جهة.

والرزق هو العطاء المستمر، ومن أسمائه تعالی : «الرازق»، وهو الذي خلق الأرزاق وأعطاها الخلائق وأوصلها إليهم.

والرزق نوعان ظاهري للأبدان كالأقوات، وباطني للقلوب والنفوس كالمعارف والعلوم، فكما أنه يشمل المال والجمال والكمال ، وكل ما هو دائر في الاجتماع م الخير، فهو رزق منه جلّ شأنه .

ولا يختصّ الرزق بالإنسان، بل يشمل الحيوان والنبات والجماد، فإن الرزق يعمّ جميع ذلك بما لها من الأفراد والأنواع غير المتناهياً ، فلا يكون الرزق متناهية لا من حيث الإضافة إلى الله تعالى، ولا من حيث الإضافة إلى المرزوق، بل يستحيل ذلك لعدم التناهي بقاءٌ وإن

ص: 105


1- الأنعام، الآية 122

كانت متناهياً حدوثاً، وإذا لوحظ بالإضافة إلى كونه في غير حساب يصير من غير المتناهي في غير المتناهي.

ويستفاد من الآية الشريفة أن الرزق إنما هو أفضل منه عزّ وجلّ يعطيه بلا مقابل وعوض، وأن عمومه يشمل المؤمن وغيره، وإن كان في نسبة الرزق إليه تعالى بالنسبة إلى الأخير كلام نتعرّض له مفصّلاً إن شاء الله تعالی.

ص: 106

النفس والشهادة

قال تعالى : «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ قُتِلُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ أَمْواتاً» .

بيان الحقيقة من الحقائق الواقعية التي غفل عنها جميع من قصر نظره على المادة والماديات وأعرض عن الواقع والحقيقة، ولأجل أهمية المضمون تحقق الالتفات في الآية المباركة عن خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول ، فكأن هذه الحقيقة لا يمكن درکها بسهولة ولا تقبلها عقول سائر الناس المأنوسة بالماديات، إلا من كان متصلا بالفيض الربوبي ومتربية بالتربية الإلهية ومهتدية بهدى الله تعالی.

والآية المباركة رد لجميع مزاعم المنافقين والكافرين وكل متوهم يتوهم أن الموت هو سبب لصيرورة الميت کالجماد روحا وبدنة وانعدام كل منهما، فلا حياة بعد ذلك وراء هذه الحياة الدنيا ولا بعث . والتعبير بالحسبان، للإعلان بطلان هذا الزعم وفساده .

والمراد بسبيل الله كل سبيل شرع لإقامة الحق وإزاحة الباطل وقمعه، سواء كان من الجهاد الأكبر أو الجهاد الأصغر، وتعلم المعارف الربوبية والأحكام الشرعية، وتهذيب النفس بما يرتضيه الله تعالى، بل ويشمل السعي في قضاء حوائج المؤمنین تقربة إلى الله تعالى، فكل من قتل في سبيل تلك تشمله الآية الشريفة .

ص: 107

كما أن المراد بالموت هنا هو الموت الظاهري وسقوط الإدراك ، الأجل مفارقة تلك الحياة الحيوانية المعروفة .

والحياة الثانية هي الحياة الواقعية المعنوية، فالشهيد بالحقّ وفي الحقّ تصعد روحه إلى الجنة وتعيش في المقامات المعدّة لها، فتكون أرواح الشهداء من مظاهر تجلّيات الحقّ بالحقّ، ومن شوارق أشعة الذات غير المحدودة بحدّ أبداً.

فالآية الشريفة تبيّن حقيقة من الحقائق الواقعية وهي الحياة بعد الموت، وأن الإنسان بروحه بلا بجسده فحسب، فهي التي تشقى أو تسعد، والمنافقون وغيرهم غفلة عن هذه الحقيقة واقتصروا على ما هو المحسوس، وكان قصدهم من ذلك تثبيط المؤمنين عن الجهاد في سبيل الله تعالى وتقنيطهم عن مأمولهم وما كانوا يرجونه في جهادهم وقتلهم في سبيل الله تعالى، لكن الوجدان الإنساني يعلن بطلان أقوالهم ويحكم عليهم بالخزي والعار، وأن نصيبهم من ذلك الحرمان والشقاء .

فالآية المباركة ترشد إلى أمر وجداني يذعن الإنسان به بعد أدنی تفكّر وروية، ولعلّ ذلك كلّه هو الوجه في تأكيد هذه الحقيقة في القرآن الكريم وتكرارها في مواضع متعدّدة منه، وقد تقدّم في قوله تعالی :

«وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِنْ لَا تَشْعُرُونَ»(1)، فقد نفى عزّ وجلّ عنهم الشعور لكثرة أنسهم بالماديات وغفلتهم عن

ص: 108


1- البقرة، الآية 154

الحقائق والمعنويات، وبعد التفكير وعدم الاقتصار على الجانب المادي فقط في هذه الحياة تنكشف الحقيقة بوضوح.

هذا وللإذعان بهذه الحقيقة فوائد كثيرة، فإنّه يوجب الاعتقاد ببقاء الروح وأنها تنتقل من عالم إلى عالم آخر، كما أنه يقتضي زوال كثير من الهموم والغموم التي تُصيب الإنسان في الحياة الدنيا، وشدّة الإقدام والمثابرة في تحمّل المكاره، للعلم بأنها كانت في سبيل الله تعالى فإن لها الجزاء الأوفي، وهي توجب السعادة والعيش الهنيء في العقبي.

ولذا نرى أن هذه الحقيقة إنّما تذكر بعد آیات الجهاد والقتال في سبيل الله ، لما لها الأثر الكبير على الصبر في ميدان القتال والمثابرة عند النزال.

كما أن الاعتقاد بهذه الحقيقة يكون من أسباب استكمال الإنسان وإعداد نفسه لحياة أُخرى بوجه أتمّ وأكمل، كما تدلّ عليه ذيل الآية الشريفة وآيات أخرى في مواضع متعدّدة ، يضاف إلى ذلك أن لها الأثر الكبير في النفس فتجعلها مطمئنة راضية بما قسمه الله تعالى وما ينزل عليها من المصائب.

قوله تعالى : «بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ».

إبطال لما زعموه في المقتولين في سبيل الله تعالى بأنهم أموات قد انتهت حياتهم، بل هم أحياء بحياة خاصة ومقرّبون عند ربهم يتنّعمون بأنواع الرزق في تلك الحياة الكريمة وسعداء في ذلك العالم الحميد، وقد كرّمهم عزّ وجلّ بذكر (عند) والربوبية وإضافتها إلى

ص: 109

ضمير (هم)، وفيه غاية التكريم والتبجيل، وقد تقدّم في آية (154) من سورة البقرة بعض الكلام فراجع.

قوله تعالى : «فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ».

الفرح: السرور وهو ضد الحزن، أي : أنّهم مسرورون بما وجدوه من فضل الله الذي كان حاضراً مشهوداً عندهم، والفضل هذا یکون زائداً على الرزق، فإنِه ما كان من غير مقابلة، قال تعالى : «لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِۦٓ إِنَّهُۥ غَفُورٌ شَكُورٌ»(1).

وهذه الآية الشريفة تثبت الحياة الكاملة لهم بعد قتلهم، وتبيّن نهاية السعادة ورفعة الدرجات .

قوله تعالى : «وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ» .

مزید بیان لتلك الحياة، فإنّهم في تنعمهم في فضل الله تعالی يفرحون بأخبار خيار المؤمنين الباقين في الحياة الدنيا ويستبشرون بسعادتهم وصلاحهم في الآخرة. وإنّما عبّر تعالى : «مِنْ خَلْفِهِمْ» لبيان أنهم على طريقة الشهداء ويقتفون أثرهم.

قوله تعالى : «أَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» .

بيان لصلاحهم في الآخرة، أي : أنّهم يستبشرون بمَن خلفهم بأنّهم لا خوف عليهم من المتوقع ولا هم يحزنون من الواقع، وإنّما

ص: 110


1- فاطر، الآية 30

كان ذلك منهم مشاهدة وإرشاداً للمؤمنين بأن لا يخافوا ممّا يصيبهم ولا يحزنوا مقابل تلك المقامات العالية .

وقد أبهم الخوف والحزن لتدلّ على التعميم من كلّ جهة يمكن أن تفرض، لأن النكرة في سياق النفي تفيد العموم.

قوله تعالى : «يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللّهِ وَ فَضْلٍ» .

جملة مستقلة لم يذكر فيها حرف العطف اهتماماً وتعظيماً، لأن مفادها نعمة عظيمة فوق جميع النعم.

والاستبشار : هو الخبر السار، الظاهر سروره على البشرة، وهذا الاستبشار أعمّ من الاستبشار بحال أنفسهم والاستبشار بحال غيرهم، وإنما حصلت هذه الفضيلة لهم من مجاهداتهم في بسيل الله تعالی والاصطبار عليها.

والنعمة: هي الأجر الجزيل الذي أتحفهم تعالی به وخصّهم بولايتهم والفضل هو الكرامة التي حباهم عزّ وجلّ زيادة على أجرهم وجزائهم، نظير قوله تعالى : «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا اَلْحُسْنى وَ زِيادَةٌ»(1).

وإنّما جمع عزّ وجلّ بين الاستبشار بانتفاء الخوف والحزن، والاستبشار بنعمة من الله وفضل، لبيان تماميّة النعمة وكمال الحياة بعد الموت، والإرشاد إلى أن أعمالهم مشكورة ومقبولة عند الله وهي محفوظة لهم، قال تعالى: «وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ

ص: 111


1- يونس، الآية 26

اللّهِ»(1)، ولعله لأجل ذلك كلّه كرّر سبحانه وتعالى الاستبشار والفضل في الآيات المتقدّمة .

وقد أبهم عزّ وجلّ النعمة وأضافها إلى نفسه جلّ جلاله ليتقرن الفخامة الذاتية لفخامة الإضافية، وليذهب ذهن السامع كل مذهب ممكن، كما أنه عزّ وجلّ جمع بين النعمة والفضل لبيان أن النعمة التي أنعمها الله تعالى عليهم مضاعفة، ولا نهاية لسرورهم ولذّاتهم ولا حدّ العناياته عزّ وجلّ بهم.

قوله تعالى : «وَ أَنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُؤْمِنِينَ» .

تأكيد آخر بتوفية الله أجر المؤمنين من الشهداء وغيرهم من غير نقصان، والآية الشريفة تبيّن وجه نفي الحزن والخوف عنهم، فإن الإنسان إنّما يخاف إذا كانت النعمة التي هو فيها في معرض الزوال، ويحزن إذا علم بفقدان السعادة التي اكتسبها، فإذا تيقّن بأن الأعمال محفوظة عند الله تعالى، وأنه عزّ وجلّ لا يضيع الأجر عنده ، فيرتفع الخوف والحزن عنه، وهذا هو الفضل الذي ذكره تعالی ابتداءٌ، وإذا كان عزّ وجلّ هو الذي يتولّى أمرهم ويمنحهم الفضل الكبير، لا وجه للحزن والخوف عنده .

وإنّما ذكر عزّ وجلّ تنويهاً بمقامهم السامي، وأن تلك المقامات التي ذكرها عزّ وجلّ إنّما تنال بالإيمان . فما ذكره تعالى في هذه الآيات

ص: 112


1- البقرة، الآية 110

إنّما هو لبيان تمام النعمة والدخول في حياة كاملة لا ينغصّها شيء من الكدورات، وقد خصّهم عزّ وجلّ بولايته ومنحهم أنواع النِّعَم.

والآيات الشريفة المتقدمة من أجلّ الآيات التي وردت في إثبات الحياة للروح بعد الموت، وإثبات عالم البرزخ وتنعّم أرواح الشهداء وإبطال مزاعم الكفّار والمنافقين في هذه المجال، وهي في غاية الفصاحة والبلاغة بأسلوب جذّاب لطيف في منتهى الجمال والروعة ، وقد ذكر عزّ وجلّ فيها من الدقائق والرموز التي لا يمكن أن تدركها عقول سائر الناس إلّا بواسطة الوحي المبين وإرشاد واسطة الفيض الربوبي، وهي تدلّ على أمور نحن نذكر جملة منها في المقام.

منها : أنه عزّ وجلّ ذكر ابتداء الأمر بطلان كلّ ما قيل من السوء أو يقال في هذا المجال، وبيّن فساد مزاعم المنافقين في أرواح الشهداء والمؤمنين، وأدرج جميع ذلك في قوله تعالى : «وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ» ، ويستفاد من ذلك أن الاعتقاد بخلاف ما ذكره عزّ وجلّ من مجرّد الحسبان الذين لا واقع له.

ومنها: ثبوت الحياة الكاملة لأرواح الشهداء التي شرّفها عزّ وجلّ، وأنّها حاظت مقام القرب لديه، الذي هو من أجلّ المقامات، ولا يعقل محمدة فوق هذه المحمدة، لأن الشهداء أذلوا أعزّ الأشياء عندهم وهي الروح، فإذا فدّى الإنسان ما هو أعزّ الأشياء لديه في سبيله جلّت عظمته، كان الجزاء عظيماً وينال ذلك المقام العظيم وهو مقام القرب، ولذا ورد في الحديث أنه : «فوق كلّ برّ برّ، إلا القتل في سبيل

ص: 113

الله فليس فوقه برّ»، والعندية المذكورة في الآية المباركة ليس المراد بها العنديّة الظاهرية بل العندية الواقعية الحقيقية التي لا يعقل لها حدّ وليس الجلالها ولا لكمالها غاية ، فهي خارجة عن الحدود الإمكانية وإدراكات العقول، ورزقنا الله تعالى لمحة من لمحاتها وشارقة من شوارقها .

ومنها : أنها تتنعّم في تلك الحياة بأنواع الرزق الظاهرية والمعنوية بجميع مراتبها، فلا ينقص من تلك الحياة شيء من أسباب العيش الهنيء، وقد منحهم عزّ وجلّ ذلك الرزق العظيم لأنهم حرموا في هذه الحياة المحدودة الفانية عن تلك الأرزاق ببذل أعزّ شيء عندهم في سبيل الله تعالى، وكانوا في جهاد مستمر مع النفس الأمّارة وأعداء الله تعالی.

ومنها : أنهم فرحون بما آتاهم الله تعالى من فضله، لأنّهم وجدوا جزاء أعمالهم تاماً کاملاً قد منحهم الله تعالى الفضل الكبير ، وهذا الفرح ممّا يزيد في بهجة تلك الحياة ، وإنّما كانوا فرحين فيها لأنهم كانوا محزونون في الحياة الدنيا بسبب أفعال الكافرين والمنافقين وأقوالهم، وما كان يصيبهم من شدّة البلاء والمثابرة في سبيل الله تعالی.

ومنها : أن المقتولين في سبيل الله تعالى لما كانوا يحيون حياة كاملة ويتنعمون فيها بأنواع الرزق وهم فرحون فيها، لا يحزنهم شيء ممّا كان يحزنهم في هذه الحياة الفانية، قد أتمّ الله تعالى عليهم النعمة ، وأنهم في اتصال مع خيار المؤمنين الباقين بعدهم في الدنيا، يستخبرون

ص: 114

عن أحوالهم وتصل إليهم أخبارهم ويسألون عن شؤونهم ويسرون بصلاحهم، ويفرحون بنجاتهم من سوء العقاب .

ومنها: أنّهم بمشاهدتهم جزاء أعمالهم وأعمال المؤمنين فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وبذلك كملت حياتهم، لأن الحياة التي اشتملت على جميع اللّذات، وأسباب الفرح، وخلصت من جميع ما يوجب الحزن والخوف، لا يعقل فوقها كمال، وإذا كان ذلك على وجه الدوام والخلود ولم يكن في معرض الزوال، فلا نقمة من هذه الجهة أيضاً، فهذه هي السعادة العظمى، ولذا نرى أن الله تعالى يؤكّد على هذا الجانب في آيات أخرى، قال تعالى : «وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى»(1)، وقال تعالى : «مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ»(2).

ومنها: أنّهم في ولاية الله تعالى يرعى شؤونهم ويفيض عليهم ما يوجب استبشارهم في كلّ آن، لأنهم رأوا جزاء ما عملوا حاضراً قد زانه الفضل من الله تعالى، وبعد اجتماع تلك الخصوصيات في هذه الحياة، لا يعقل حياة ولا سعادة فوقها.

قوله تعالى: «الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ»

الآية الشريفة بأسلوبها اللطيف تبيّن كيفية تأثير التربية الحقيقية الملهمة في نفوس المؤمنين، بعد أن وعوا تلك الدروس الهائلة التي

ص: 115


1- القصص، الآية 60
2- النحل، الآية 96

مرّت بهم في معركة أُحد، وبعدما، لاقوا من الشدائد والصعاب بسبب المخالفة والعصيان، فكانت حصيلة تلك التعليمات الإلهية والإرشادات الربوبية أنهم هبّوا من غفلتهم، وأفاقوا ممّا لحقهم من تبعات المعصية والتفرّق والاختلاف، ورجعوا إلى الحقّ والصراط المستقيم، فاجتمعت فيهم صفات الثبات والصمود والعزيمة والتوكّل على الله تعالى، فأطاعوا الله والرسول واستجابوا له عندما دعاهم إلى قتال الكفّار إثر المعركة السابقة، فقد لاحقوا جيش المشركين في رجوعهم من معركة أحد على ما هم عليه من الجراح، وهم لا يزالون يقاسون الآلام التي أنهكت قواهم، وأصرّوا على أن لا يعودوا إلى العهد السابق حذراً من العتاب والخروج عن الحق، فأدّوا العمل على أكمل وجه، واتقوا التقصير الذي حصل منهم في تلك المعركة، فكانوا في صورة مقابلة للصورة السابقة التي حكى عنها عزّ وجلّ في قوله : «إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» ، هذه هي التربية الإلهية التي تؤثّر في النفوس وتغيّر إلى صورة أخرى مخالفة للتي كانت عليها قبلها، وهؤلاء هم المؤمنون الذين حکی عنهم عزّ وجلّ آنفاً بأن الشهداء يستخبرون عن أحوالهم ويستبشرون بجزائهم الجزيل ومقامهم الرفيع.

وإنما ذكر سبحانه وتعالى : «لِلَّهِ وَالرَّسُولِ» مع أن إطاعة أحدهما إطاعة للآخر، لبيان أن ما صدر منهم في أُحد قد تضمّن مخالفة الله وعصيان الرسول كليهما.

أما الأولى، فقد خالفوا الله تعالى في أوامره بالصبر والثبات ، فعصوه بالفرار والتولي .

ص: 116

وأما عصيان الرسول صلی الله علیه و آله ، فقد كان بمخالفة أمره بالصمود في فم الشعب ولزوم مراكزهم، وفي هذه الواقعة قد استجابوا لله والرسول فاستحقوا الثناء الجميل والأجر الجزيل.

قوله تعالى : «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ» .

ثناء جميل لمَن أحسن ممّن استجاب الله والرسول واتقى في أقواله وأفعاله وامتثل أوامر الله تعالى والرسول، بحسن نيّة وإخلاص واحترز عن كلّ ما يوجب البعد عنه عزّ وجلّ، فإنّ الله تعالى وإن وصف الجميع بالاستجابة إلا أنّها أعمّ من الإحسان والتقوى اللّتين علهيما مدار هذا الثناء والأجر الجزيل.

والاستجابة أمرٌ ظاهري تشمل جميع من لبّى دعوة الرسول صلی الله علیه و آله ، إلّا أن وراء ذلك أمراً خفياً لا يمكن أن يطلّع عليه إلا الله تعالى، وهو تحري الإخلاص، ومراقبة العمل والتحذّر ممّا يشينه ، فإنه الإحسان الذي أمرنا الله تعالی بابتغائه في جميع الأحوال. وإذا لازم ذلك التقوى والتحرّر عمّا يوجب سخط الله تعالى في الأقوال والأفعال، فقد استحق العامل ذلك الثناء الجميل وعظيم الأجر، وهذا مما يختصّ به طائفة معينة .

فالآية المباركة تقسم المستجيبين إلى طائفتين :

إحداهما: حصلت منهم الاستجابة الظاهرية التي خلت عن الإحسان والتقوى .

والثانية : كانت محسنة ومتّقية ، فاستحقت عظيم الأجر.

ص: 117

ومن ذلك يظهر أن «من» في قوله تعالى : «مِنْهُمْ» تبعیضية وقيل إن «من» بيانيّة، وعليه الأكثر. كما في قوله تعالی : «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ» إلى أن قال تعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا»(1)، وعليه يكون المستجيبون لله والرسول كلّهم محسنين ومتّقين، والجمع بين الوصفين إنّما يكون للمدح والتعليل لا التقييد، ويمكن تقريب هذا الاحتمال على ما يوافق الأول بأن الآية الشريفة في الموردين وإن كانت صورتها جارية على النوع إلّا أن المراد منها البعض بالتقريب المتقدّم، وفي غيره يكون التأويل خلاف السياق، ويأتي في البحث الأدبي ما ينفع المقام.

قوله تعالى: «اَلَّذِينَ قالَ لَهُمُ اَلنّاسُ إِنَّ اَلنّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ» .

أثر من آثار التربية الحقة الحقيقية أنهم لا يتأثرون بأقاويل المرجفين وتحذير المنافقين، بل أن أثر ذلك يكون على الخلاف، فيزيد في إيمانهم بالله تعالى وتوكّلهم عليه عزّ وجلّ والثبات والعزيمة ، وقد كان ذلك فضلاً كبيراً من الله تعالى عليهم، ولذا لمّا عرف المشركون عزم المؤمنين وذلك الثبات، لم يصدقوا بأن فلول الجيش المتفرّقة المضطربة في الأمس ترید القتال مع ما بهم من الجراح، فأرهبتهم هذه العزيمة فآثروا الفرار على الرار.

والمراد بالذين هم الذين استجابوا لله والرسول، فهي بدل من

ص: 118


1- الفتح، الآية 29

قوله تعالى : «اَلَّذِينَ اسْتَجابُوا» . كما أن المراد من الناس (الأوّل) هم الخاذلون المثبطون للعزيمة، الذين قد أشاعوا خبر اجتماع العدو ليخذلوا المؤمنين عن القتال، والمراد بالناس (الثاني) المشركون.

والظاهرة من الآية المباركة أنهم في كلا الموردين جماعة لا واحد.

واختلفوا في المراد من الناس (الأوّل)، فقيل : أنّه نعيم بن مسعود الأشجعي قبل إسلامه ، فيكون اللفظ عاماً ويراد به الخاص .

وقيل : إنّه ركب من قريش، وقيل غير ذلك .

قوله تعالى : «فَزادَهُمْ إِيماناً» .

أي : أن هذا القول زادهم إيماناً بالله تعالى وبرسوله، لأنهم أخلصوا الله عزّ وجلّ عن جميع ما سواه وأحسنوا ظنّهم به جلّت عظمته وصدقوا بوعده، فأثرت فيهم التربية الحقّة وجنّبوا أنفسهم من الرذائل والمعاصي، فتجلّت في قلوبهم الأنوار الربوبيّة، فلا يبقى موضوع حينئذٍ لتأثّرها بما كان من غير الحق قولاً أو فعلاً، فيزيد التحذير والتخويف في اشتداد الإيمان بربهم، ولم يعد يؤثر في نفوسهم، فإن الإنسان إذا لم يحسن الظنّ بأحد واعتقد بكونه على الخلاف ویرید الإضلال والإفساد من أقواله وأفعاله، فإنّه لا يلتفت إلى تخويفه، وكل ما أصرّ عليه زاد في تصميمه والمضي على ما يريد وقوي العزم عنده على طاعة الله والرسول تثبت على دين الحق، لأنه يرى نفسه محقّاً، وأنه على يقين من نصر الله تعالى وعلى علم من أن الله عزّ وجلّ لم يتم

ص: 119

لهم أمرهم إلّا مع ملاقاة الأهوال، وأن النصر لا يكون إلّا في الجهاد مع أعداء الله تعالى والقتال معهم.

وإنما يظهر أثر هذه الزيادة في الإيمان في اعتقاده وأقواله وأفعاله، وتشتدّ بذلك كله عزيمته على الاقتحام في الشدائد وتحملها في جنب الله، فلا يخاف فيه لومة لائم.

قوله تعالى : «وَ قالُوا حَسْبُنَا اَللّهُ وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ».

هذا أثر من آثار زيادة الإيمان فيهم واشتداده في قلوبهم، فإنّهم صدقوا في أقوالهم وعبّروا عمّا يجيش في نفوسهم واعتقدوا بأن الله تعالى يكفيه من الأمور وقد أعرضوا عن ما سوى الله تعالى، وهو نِعمَ الوكيل الذي يدبّر أمورهم ويكفيهم أعداءهم وينصرهم عليهم، لأنه لا يعجزه شيء في السموات والأرض، فاجتمعت النية الصادقة والفعال الحسان والقول الحقّ فيهم.

وحسبنا مأخوذ من الإحساب وهو الكفاية ، يقال : احسبني الشيء، أي : كفاني .

وقيل : إنه مصدر مؤول باسم الفاعل، أي : فحسبنا .

والحق هو الأول :

قوله تعالى : «فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ» .

ترتب هذه الآية الشريفة على الآية السابقة من قبيل ترتب المعلول على العلّة التامة المنحصرة، فإن المؤمن إذا وكّل أمره إلى الله تعالی وأعتقد أنّه عزّ وجلّ يكفيه ويعطيه الله تعالى الجزاء العظيم .

ص: 120

وقد ذكر عزّ وجلّ أموراً أربعة، هي: الانقلاب بنعمة من الله ، والفضل، وصرف السوء، واتباع الرضا.

أما النعمة: فهي عودة المؤمنين إلى التربية الحقّة والاستجابة الله والرسول صلی الله علیه و آله ، والطاعة بعد المعصية والصمود بعد الخذلان، وهذه هي نعمة كبری، جزاهم الله تعالى بأن صرف عنهم الأسواء والمهالك، فما ذكره بعض المفسّرين في هذه النعمة من أن المراد منها السلامة والعافية والرجوع عن حمراء الأسد بدون قتال، إنّما هو تخصيص بلا مخصص. نعم هي من لوازم تلك النعمة الكبرى.

وأما الفضل: فهو زيادة الإيمان وثبات العقيدة والخروج عن العصيان والخذلان، كما حصل منهم في غزوة أُحد، وهذا الانقلاب كان واضحاً عندهم وقد استشعروا بردّ تلك النعمة والفضل في نفوسهم، وظهرت آثارهما على أقوالهم وأفعالهم.

ومن زيادة النعمة عليهم أنّهم لم يمسسهم سوء، فلم يصبهم قتل أو نكبة، وبرّأهم الله تعالى عن السوء الذي لاقوه في معركة أُحد.

قوله تعالى: «وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ» .

ثناء جميل ومدح عظيم لهم، واتباع رضوان الله تعالى هو السعادة العظمی ومناط كلّ خير، وقد مدح عزّ وجلّ من اتبع رضوان الله تعالی في الآيات السابقة، وفي هذه الآية الشريفة يبين تعالی حقیقته، وهي الاستجابة لله والرسول، وشرطها الإحسان والتقوى .

قوله تعالى : «وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ».

ص: 121

لأنه تعالى وفّقهم لهذه التربية الصالحة ومنّ عليهم أن استجابوا لله والرسول، وأخرجهم عن ما هم عليه في معركة أُحد فعادوا إلى الصراط المستقيم، وزاد إيمانهم وقویت عزيمتهم واشتد توكّلهم على الله تعالى، ومن الفضل عليهم أنّهم مع ما هم عليه من الجراح والشدّة أن العدو لمّا رأى فيهم العزيمة على القتال خشي أن ينقلب عليه الأمر الهزيمة والفرار دون القتال، وهذا هو الفضل العظيم على المؤمنين في هذه الحال .

قوله تعالى : «إِنَّما ذلِكُمُ اَلشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ».

بعدما أثبت سبحانه وتعالى أن المؤمنين خرجوا عن غفلتهم وعصيانهم بالاستجابة لله تعالى والرسول، وانقلبوا عن التفرّق والاختلاف والطاعة، وتفضّل عليهم ربهم أن منَّ عليهم وثبّتهم وهداهم إلى الصراط المستقيم، فعادوا أقوي عزيمة وأتم إيماناً وأشدّ توکلاً على الله تعالى، إلّا أن الشيطان يلعب دوراً هاماً في حياة الإنسان، يتربّص بالمؤمنين الدوائر ويريد إواءهم ويبث أولياءه وأعوانه ليقوموا بهذه المهمة فينشروا الفساد في الأرض، ويروّجوا الضلال، فكان ذلك النداء الشيطاني بالخشية من العدو حفظاً لأوليائه وحماية للفكر والضلال وتثبيطاً للمؤمنين عن القتال بإلقاء الرعب والخوف في نفوسهم اليخضعوا لهم.

والآية الشريفة ترشد المؤمنين الذين كمل إيمانهم واهتدوا بهدي الله تعالى وتوكّلوا عليه عزّ وجلّ حقّ التوكّل إلى أمر مهم يمسّ

ص: 122

عقيدتهم وسعادتهم في الدارين، وهو ترك الرهبة والخوف من الشيطان وأوليائه وعدم الوقوع في حبائله ووساوسه، لأن الخوف يستوجب الوهن في العزيمة ويلزم ذلك الطاعة لمَن يخاف منه، فمَن خاف الله تعالى فإنّه لا محالة يتبع أحكامه فيبتعد عن الشيطان، وإذا خاف الشيطان وأولياءه فإنّه يطيعه ويقيم حكمه فيبتعد عن الله تعالى، وهذا هو السبب للتأكيد على ترك خوف الشيطان بقوله تعالى : «فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ».

واسم الإشارة في قوله تعالى : «إِنَّمَا ذَلِکُمُ الشیْطانُ» إمّا راجع إلى الناس المذكورة في قوله تعالى : «اَلَّذِينَ قالَ لَهُمُ اَلنّاسُ» ، فيكون من إطلاق الشيطان على الشياطين. وإمّا أن يرجع إلى الوساوس الحاصلة بين الناس من الشيطان، وإنما أتي بضمير ذوي العقول ترجیحاً للموسوسين على نفس الوسوسة .

قوله تعالى : «فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» .

لأن الإيمان يستلزم خوف الله تعالى، والخوف يوجب الطاعة كما عرفت والله تعالى هو ولي المؤمنين وناصرهم، وقد وعدهم النصر وحسن الجزاء ، فلا ينبغي الخوف من غيره، فالسعادة في خوف الله جلّت عظمته وتقواه دون غيره .

وفي الآية الشريفة الذم لإبليس وأوليائه ، والبشرى للمؤمنين ومَن اتبع رضوان الله تعالى بالأمن من شرّ الشيطان وأوليائه، ولا تختصّ الآية الكريمة بخصوص مشركي قريش وغيرهم، للعموم في الطرفين .

ص: 123

بحوث المقام

بحث أدبي

المفعول الأول في قوله تعالى : «وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً» محذوف، وهو أنفسهم.

وقوله تعالى : «عِنْدَ رَبِّهِمْ» ، قيل : إنّه في محل رفع على أنه خبر ثان للمبتدأ المقدر، أو صفة ل_(أحياء)، أو في محل نصب على أنّه حال من الضمير في «أحياء». .

وقوله تعالى : «فَرِحِينَ» منصوب إمّا على أنه حال من الضمير في «يرزقون»، أو يكون على المدح أو الوصفية .

ويستبشرون عطف على «فرحين»، ويحتمل أن تكون جملة استینافية، أو على تقدير (وهم يستبشرون)، فتكون حالاً في الضمير من (فرحین).

وقوله تعالى: «أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» بدل اشتمال من «الذين من خلفهم»، مبيّن للاستبشار .

والذين في قوله تعالى : «اَلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَ الْرَّسُولِ» مبتدأ والخبر

ص: 124

قوله تعالى : «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ» . وقيل : إنّه منصور بإضمار أعني.

وقيل : إنّه في موضع رفع على إضمار «هم» .

ومنهم في قوله تعالى : «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ» حال من الضمير في أحسنوا، و(من) للتبعيض، كما عرفت .

وقيل : إنّها للبيان.

ويردّ عليه : أن التي للإبهام لا بد أن تكون متباينة فيه إيهام في جنسه، ويكون في مجرورها بیان يرفع الإبهام، ولا إيهام في الآية الشريفة حتى يرفع بمن ومجرورها. وممّا يهوّن الخطب أنه يمكن إرجاع ذلك إلى القول الأول كما عرفت في التفسير .

وقيل : إن «من» للتبعيض، والضمير يرجع إلى المؤمنين في آخر الآية السابقة، أي : أن مَن المؤمنين من لم يخرج إلى حمراء الأسد.

وعلى هذا لا بد من نصب (الذين) على المدح في أوّل الآية المباركة، إذ لا يستقيم ذلك على كون (الذين) مبتدأ، والخبر جملة : اللذين أحسنوا منهم»، إذ تبقى الجملة بلا رابط .

ويردّ على نصب (الذين) على المدح أنه لا عطف يدلّ على المغايرة، مضافاً إلى أن جعلها منصوباً على المدح بعيد، إذ لا دليل عليه .

و(الذين) في قوله تعالى: «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ اَلنّاسُ» بدل من «الَّذِينَ اِسْتَجابُوا» أو صفة .

ص: 125

والمخصوص بالمدح في قوله تعالى : «وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ» محذوف هو ضمير تعالى، والجملة الخبريّة، وفي الآية الكريمة كلام طويل في عطف الجملة الإنشائية على الجملة الخبرية.

والحقّ أن كلّ ذلك تطويل بلا طائل تحته، بل أن جميع هذه الآيات جمل مستقلّة وردت في مقام مدح المؤمنين وبیان صفاتهم، وجيء بالواو لتزيين الكلام.

وجملة: «يخوف أولياءه» جملة مستأنفة مبينة لشيطنة الشيطان، أو حال .

و(خاف) يتعدى إلى مفعول واحد، ويتعدى بالتشديد إلى مفعول ثان، وقد يحذف المفعول الأول كما في الآية الشريفة، فإن الأصل يخوفكم أولياءه . وقد يحذف المفعول الثاني كما تقول : خوفني عمرو .

بحث دلالي:

تدلّ الآيات الشريفة على أمور :

الأول: یدلّ قوله تعالى: «وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً» على حقيقة من الحقائق الواقعية التي كشف عنها القرآن وأكّد عليها في مواضع متفرقة، وهي تجرّد الأرواح وحياتها بعد الموت، وقد كانت هذه الحقيقة مورد البحث والنظر من أوّل حدوث العالم، فالروح جوهر مجرد مختلف التكوّن عن غيرها، وهي من شعاع الذات المقدّسة غير المتناهية .

ص: 126

والآية المباركة ردّ على شبهات المنافقين والمشركين من أن الإنسان يموت حين القتل في سبيل الله، والموت نهاية الحياة في الأرض فتذهب ذكراه ولا يبقى له اسم ولا رسم بعد فترة تطول أو تقصر .

والمستفاد من الآية الشريفة أنّها تثبت الحياة بعد القتل، وتبيّن أجر المؤمنين وهو الرزق عند الله تعالى، وأنّه نعمة من الله تعالى وفضل منه، وزاد عزّ وجلّ عليهم أنّه لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، وهذه كلها من أهمّ مقوّمات الحياة الكاملة السعيدة الهنيئة في عالم البرزخ.

الثاني : يستفاد من قوله تعالی : «فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» ماهيّة هذه الحياة السعيدة وحقيقتها التي تتقوّم بالفرح والاستبشار ونفي الحزن والخوف، وهي مرزوقة عند الله تعالى، وهذا هو الحدّ الفاصل في ما يقال في هذه الحياة ، فلا يصغي إلى ما قد قيل فيها من أن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر، فإن أرواح المؤمنين أجلّ قدراً من أن يجعلهم الله تعالى في تلك الحواصل، بل هو نحن من التناسخ الذي ثبت بطلانه .

وقد أنعم تعالى عليهم بأنواع الرزق، وأعزّهم بأن جعلهم (عنده).

الثالث : يدلّ قوله تعالى: «عِنْدَ رَبِّهِمْ» على سنخيّة أرواح المؤمنين لعالم القدس، كيف لا وإن الله تعالى خلقها من روحه، قال عزّ وجلّ: «وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُّوحِي»(1)، فنزلت من المحل الأرفع لتتّحد

ص: 127


1- ص، الآية 72

مع البدن برهة من الزمن، وبعد الموت أو القتل تصعد إلى محلّها فتكون عند ربّها، وهذه العندية أعظم قدراً من العنديّة المكانيّة أو الزمانية، بل هي تبيّن حقيقة تلك الأرواح المقدسة التي خلقت من روح الله جلّت عظمته .

«كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ اَلنّارِ وَ أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَ مَا اَلْحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ اَلْغُرُورِ* لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ * وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ * لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ اَلْعَذابِ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ * وَ لِلّهِ مُلْكُ الْسَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».

رجوع إلى استنهاض الناس إلى الجهاد في سبيل الله تعالى والصبر والمثابرة في ميدان القتال، وأن المعركة مع أعداء الله تعالى حتمية لا بد منها، وإثبات كلمة التوحيد ممّا لا يمكن التخلي عنه، والموت الذي يصيب كلّ ذي حياة لا يمكن الفرار منه، فلا بدّ أن لا يخاف منه ولا يكون حائلاً عن تطبيق ذلك الهدف الأسمى، والله جلّت عظمته يوفي الأجور في يوم يحتاج إليها الإنسان، وليست الدنيا محلها، فإنّها المتاع الذي يستمتع به الإنسان في أيام قلائل ثم يزول عنها، فهذه الآيات الشريفة تحرّض المؤمنين إلى الجهاد بأبلغ أسلوب.

ص: 128

ثم ذكر سبحانه وتعالى أن السنّة في هذه الحياة الفانية هي التمحيص والتمييز والابتلاء، ولا يمكن لأحد التخطي عن هذا الامتحان الإلهي، وهي سنّة حتمية لا يمكن الفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة ونيل الأجر الحقيقي والعبودية الكاملة إلّا مع العبور على هذه القنطرة والدخول في تلك السنّة الربّانية .

وقد ذكر عزّ وجلّ من الابتلاء ما يناله المؤمنون من أعداء الله تعالى من الأذى قولاً والعدوان فعلاً، ثم وعدهم الحسني إن هم صبروا واتقوا، وهما من عزائم الأمور التي يحتاج إليها كلّ فرد في مواجهة المشاكل والمكائد.

وأخيراً بيّن سبحانه وتعالى مفاسد أخلاق أهل الكتاب الذين أمرهم الله جلّت عظمته ببيان الحقّ وأخذ عليه الميثاق منهم، ولكنّهم خالفوه وعاندوه فكتموه وحرّفوه، وأوعدهم النار وسوء العذاب .

كما بيّن سبحانه وتعالى أن ما سواه عزّ وجلّ هو ملك له يتصرّف فيه بما يريد جلّت عظمته وبما يشاء، وهو على كلّ شيء قدير، لا يمنعه عن إرادته أحد.

التفسير

قوله تعالى : «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ».

قضية حقيقية طبيعية وجدانية، فإن بناء هذا العالم على تجدّد الأمثال وتبدّل الأحوال، وأن دار الدنيا دار الكون والفساد، ومقتضی

ص: 129

ذلك أن التبدّل والموت والفناء من مقوّمات حقيقة هذا العالم، ولذا بدأ بالحكم العام المقضي له في حقّ كلّ ذي حياة، ولا يستثنى من ذلك أحد، فأصل القضية وجداني لكل ذي حياة .

نعم، عامة الناس محرومون عن ترتيب الأثر على هذا الأمر الوجداني، قال تعالى: «اقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ»(1)، وفي الحديث : «الناس نيام، إذا ماتوا انتبهوا».

والآية الشريفة تنبّه الناس إلى المصير المحتوم، وتزجرهم عن ما هم عليه من الغفلة والذهول، وتحرّض المؤمنين إلى القتال مع أعداء الله تعالى، وتبيّن أن هذه المعركة حتمية فلا ينبغي الخوف، لأن كلّ نفس ذائقة الموت، فمَن يقعد عن القتال لا ينجو من الموت، فلا عذر في القعود، ثم هي توعد الكافرين والمنافقين الذين قعدوا عن القتال، فإن الموت لا بد منه وهو ملاقيهم ولا مفرّ منه، قال تعالى : «قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(2)، وليست الدنيا إلا متاعة يستمتع به الإنسان ثم يزول مهما طال الزمن، فهم لا بد لهم من الورود على الله عز وجل الذي يجازيهم على أعمالهم، فالآية المباركة تتضمن الوعد للمصدق والوعيد للمكذب.

وهي تسلي النبي والمؤمنين بأن حياة الظالمين منتهية لا

ص: 130


1- الأنبياء، الآية 1
2- الجمعة، الآية 8

محالة، وسينتهي ما يلاقونه منهم من البلاء والعذاب، وليس عليكم من أوزارهم شيئاً.

والمراد بالنفس ما به الحياة، وعمومها يشمل كلّ ذي حياة من الإنسان والحيوان والنبات والملائكة، قال تعالي: «فَصَعِقَ مَنِ فی السَّمَاوَاتِ وَمَن فی الاَرْضِ إلاّ مَن شَآءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِیهِ أُخْرَی فَإِذَا هُمْ قِیَامٌ یَنظُرُونَ»(1)، والمنساق من الاستثناء خصوص فرد واحد وهو ملك الموت، ولكنه يموت بعد ذلك بمشيئة إلهية، كما هو مفصّل في الحديث.

وقد يقال : إن الآية المباركة بعمومها تشمل الباري عزّ وجلّ الإطلاق النفس عليه ، قال تعالى حكاية عن عيسى بن مريم: «تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ»(2).

ولكنه فاسد، الاختصاص لفظ النفس بالأجسام، وأن النفس التي تضاف إليه عزّ وجلّ ليست النفس الاصطلاحية المعروف، فإن مثل هذه النفس لا يعقل ذوق الموت بالنسبة إليها، بل هي بمعنى الذات ، وإطلاق النفس عليه جلّت عظمته، لحسن المشاكلة ومراعاة الفصاحة والبلاغة.

وذوق النفس للموت باعتبار انفصال تدبيرات النفس عن البدن ومفارقة الروح عنه، ولذا عبّر سبحانه وتعالى بالذوق، لأنه إنّما يكون

ص: 131


1- الزمر، الآية 68
2- المائدة، الآية 116

عن شعور، وهو يختصّ بالنفس، وهي باقية - ببقاء الله تعالی - إمّا في زمرة السعداء، أو في زمرة الأشقياء، وأمّا البدن فلا شعور ولا إحساس له بعد انفصال الروح عنه بالموت، وإن كان أصل المادة باقية، وأمّا الصور فهي تتبدّل حسب مرور الدهور والأيام إلى أن يحشر في يوم القيامة .

قوله تعالى: «وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ».

التوفية : العطاء الكامل، يقال : وافاه أجره، أي : أعطاه إيّاه تماماً ولم ينقص منه شيئاً، وفي الحديث: «إنّكم وفيتم سبعين أمّة أنتم خیرها»، أي: تمت العدّة بكم سبعين.

والمعنی: مَن ذاق الموت يوفّی أجره تاماً، سعيداً كان أو شقياً ، لأنّ كلّا منهما يستحق جزاء عمله ويوفّي أجره إليه، فنتائج الأعمال لا تنفك عن العامل.

قوله تعالى : «يَوْمَ الْقِيامَةِ» .

القيامة مصدر، ويوم القيامة هو وقت قيام الناس لرب العالمین من القبور والأجداث، وإنّما خصّه عزّ وجلّ بالذكر البيان أنّه مهما نال الإنسان من الأجر فإن التوفية إنّما تكون في ذلك الوقت، وللإعلام بأن الأجور فيه هي الأجور الحقيقية التي يستحق الإنسان أن يسعى إليها، دون ما يتمتع في الحياة الدنيا فإنها قصة فانية، فيستوفي الجميع أُجورهم، أمّا الكفّار والمنافقون فيأخذون جزاء أعمالهم وافياً من دون عفو ومغفرة من الله تعالى، وأمّا المؤمنون فإنّهم يستوفون جزاءهم في

ص: 132

الأجر الذي يعطيهم الله تعالی کاملاً، وأمّا جزاء السيئات فهو في معرض المسامحة والغفران .

قوله تعالى : «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ اَلنّارِ وَ أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» .

تفصيل لتوفية الأجر بعد الإجمال، والزحزحة تكرير الزح، وهو الجذب بعنف وعجلة .

وهذه الآية الشريفة بعبارتها البليغة الموجزة وأسلوبها الجذّاب لها الأثر العظيم في نفوس المؤمنين والوقع الكبير عليهم، فإن عندها تسكب العبرات وتحلّ المخاطر والمهالك، وتزلّ فيها أقدام الرجال وتحطّ دون الوصول إليها الرحال، ويشيب في تصور معناها الصغير ويهرم الكبير، فهي تبيّن هول النار وشدّتها، وأنها تجذب الإنسان إليها بعنف، فيحتاج إلى الجهد الكبير للابتعاد عنها والفكّ من قيودها، وتستوقفنا كلمة (زحزح)، فإنّها تدلّ على شدّة البلاء والجهد الكبير والمشقّة العظيمة التي لا بد منها في الابتعاد عن النار، فكأن لكلّ فرد جذوراً عميقة في النار لا يمكن بسهولة قلعها إلّا مع الزحزحة ببذل جهد عظيم. والوجه في ذلك معلوم لأن الإنسان محفوف بما يجذبه إلى النار من جهات، فإن جاذبية الشهوات والنفس الأمّارة بالسوء، اللتين تشدّان الناس إلى النار شدّاً، والحُجب الظلمانية التي حجبت النفس عن الكمال، كلّ ذلك تسوق إلى النار وتدفعه إليها، وهي تجذبه إليها جذباً عنيفاً، وفي الحديث: «حفّت الجنّة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات»، فكلّ فرد من أفراد الإنسان فيه الموجبات الكثيرة للدخول

ص: 133

في النار، قال تعالى: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حتماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا»(1)، بناءُ على رجوع الضمير إلى النار .

ولذلك لا بد من جهاد مرير ومشقّة عظيمة للابتعاد عن دائرة جذبها والانفلات من إسارها إلى أن يدخل في الجنة، فإنّ ذلك هو الفوز العظيم الذي لا نهاية لعظمته، إذ لا أجر في الحقيقة غير ذلك، والبقية خسران محض، لأنّ فيه السلامة من النار والنجاة منها، وقد كاد أن يبقى فيها. والسلامة عن المكروه أهم ما يطلبه المرء في جميع الأحوال، ناهيك أنّه يدخل الجنة ويفوز بنعيمها الدائم في دار الخلود .

وليس الدخول في الجنّة قيداً زائداً على الزحزحة عن النار، فإنّه لا واسطة بينهما، فإن النجاة من النار ليس إلّا الدخول في الجنّة، كما يستفاد من الآيات الشريفة والسُّنّة المباركة .

ولكن الآية الكريمة تبيّن معني دقيقاً آخر في الخروج من النار، الذي هو مطلوب كلّ فرد والدخول في الجنة الذي لا برّ فوقه، فإن التعبير المجهول في كلّ من: «زحزح وأُدخل» يوحي بأن الإنسان لا يتزحزح من قبل نفسه، بل هناك أيد خفيّة تجذب الإنسان جذباً عنيفاً التزحزحه عن النار وتدخله الجنّة، ولولاها لبقي في النار، وهذه الأيدي قد مدّت في دار الدنيا لتنقذ عباد الله من المهالك والمخاطر ومن الدخول في النار، وهي كثيرة، كأيدي الرسل والأنبياء صلی الله علیه و آله ، وكتاب

ص: 134


1- مريم، الآية 71

الله العظيم، والأحكام الإلهية، وأيدي الملائكة الذين وكلوا للاستغفار لِمَن في الأرض وإعانتهم، وأهمّها يد الله الرحيمة سبحانه وتعالى التي بسطت على جميع خلقه، والشفاعة العظمی.

قوله تعالى : «وَمَا الْحَیَاهُ الدُّنْیَآ إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ» .

الدنيا مؤنّث الأدنى صفة للحياة، وحياة الدنيا هي الحياة السفلى أو القربى، وهي الحياة ما قبل الموت التي نعيش فيها ونتمتّع بما فيها من الملذّات، وقد وصفها الله تعالى في القرآن الكريم بأوصاف متعدّدة ، جميعها تدلّ على دناءتها بالنسبة إلى الحياة الآخرة منها، أنّها متاع للغرور، لأنها تغرّ صاحبها فيخدع لها فتشغله عن إعداد نفسه إلى الكمال الواقعي.

والمتاع : ما يمتّع به الإنسان وينتفع به، والغرور هو الخداع، و متاع الغرور، أي : المتاع الذي يظهر بمظهر جميل ليغترّ به المغترّون، والآية المباركة تبيّن حقيقة الواقع على ما هو عليه.

والدنيا تضاف تارة إلى الله، وأخرى تلحظ بحسب نفسها، وثالثة بحسب الأعمال التي تقع فيها.

والأولى : محمودة، لأنه لا يصدر من الخير المحض إلّا الخير كما هو معلوم، وهذه قاعدة فلسفية أسّسها الفلاسفة جميعهم - الطبيعيّون منهم والإلهيون - خصوصاً بناءٌ على ملاحظة السنخيّة بين العلّة والمعلول، ولكنّا أثبتنا بطلان ذاك بالنسبة إلى الفاعل المختار في أحد مباحثنا المتقدّمة.

ص: 135

وأما الثانية : فهي أيضاً حسنة لا نقص فيها، لأنّها دار عبادة الله تعالی ومحل أوليائه وأنبيائه ، ومهبط نزول الكتب الإلهية، ومقام إظهار مکارم الأخلاق وتربية الإنسان، وإعداد المؤمن نفسه للكمال الذي لا يكون شيء أعزّ منه في الدارين.

وأما الثالثة : فإن الأعمال تارة تكون من المؤمنين السعداء ، وهي حسنة وتعدّ من مفاخر الدنيا والآخرة، وأما من الأشقياء فلا شبهة في مبغوضيّة أعمالهم السيئة والدنيا من حيث الإضافة إليها مبغوضة أيضاً.

وبتعبير آخر: الدنيا من هذه الجهة إما أن تكون من النعيم الأُخروي يظهر في الدنيا بالوجود المناسب لها، وإما من الجحيم، ومن هذه الجهة تكون متاع الغرور، وبذلك يمكن الجمع بين ما ورد في مدح الدنيا وما ورد في ذمّها.

وكيف كان، فإنّه يستفاد من الحصر الوارد في الآية الشريفة «وَمَا الْحَیَاهُ الدُّنْیَآ إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ» أن كلّ فعل وعمل في هذه الدنيا، سواء صدر من الأخيار أم من الفسّاق الفجّار، فإنّه لا محالة محدودة لا بقاء له، هذا إذا جعلنا عمل الخير من متاع الدنيا، وأما إذا جعلنا من الآخرة في الدنيا - كما تقدّم آنفاً . فالحصر مختصّ بعمل الشرّ، فالآية المباركة تبيّن أن الدنيا لا بد أن لا تغرّ الإنسان بمظاهرها الخلّابة فتمنعه عن ذكر الله تعالى والإيمان به والعمل الصالح و تکمیل نفسه بمكارم الأخلاق، ولا يصحّ أن يجعل متاع الدّنيا غاية تمنعه عن الكمال، كأنه لا نهاية له، بل هي وسيلة لطلب السعادة وزيادة الأجر، لأن الأجر الحقيقي هو ما

ص: 136

ذكره عزّ وجلّ من الزحزحة عن النار والدخول في الجنّة ، فلا سعادة وراء ذلك، ولا بد من السعي إليها، كما أن الأجر الحقيقي ليس هو أياماً في هذه الدنيا يستمتع فيها ثم يزول فيرد على عذاب أبدي لا خلاص منه، وذلك هو الخسران المبين .

قوله تعالى : «لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ» .

بعدما ذكر عزّ وجلّ جریان سنّة البلاء والابتلاء في المؤمنين وما يوجب الوهن في عزيمتهم، يبيّن سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أن ذلك الابتلاء مستمر وسيتكرّر من الكافرين، والمنافقين وسيلقون منهم الأذى بكلّ ما يمكنهم، وإنّما أعلمهم عزّ وجلّ قبل وقوعه اليوطنوا أنفسهم على احتماله، فتستعد نفوسهم ويتقبّلوا الابتلاء بصبر وعزيمة ورضى، فلا يحزنوا على ما يفوتهم من متاع الدنيا فيكون ترتّب هذه الآية الشريفة على سابقتها من قبيل ترتّب المعلول على العلّة، أو المقتضی (بالفتح) على المقتضي (بالكسر)، لأنّ من لوازم متاع الغرور الابتلاء بالنسبة إلى مَن هو مؤمن وليس من أهل الاغترار، فلا بد من التمييز وإظهار الثابت على الحقّ والمطيع عن غيرهما، بل يمكن أن یعدّ وجود مَن يهتم بإصلاح نفسه ويطلب وجه الله تعالى والآخرة في دار الغرور ابتلاءٌ، وفي الحديث: «أن أشدِ الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل» وعلى هذا يكون ما ورد في هذه الآية الشريفة من قبيل القضايا الحقيقية.

وكيف كان، ففي الآية المباركة التسلية للنبي صلی الله علیه و آله والمؤمنين بعد التسلية بقوله تعالى : «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» .

ص: 137

والبلاء والابتلاء بمعنى واحد، وهو الاختبار بما يصعب تحمّله أو فعله، ويأتي في الخير والشر، قال تعالى : «وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»(1)، وقال تعالى: «فَأَمَّا الانسانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَکْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَیَقُولُ رَبی أَکْرَمَنِ * وَ أَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَیْهِ رِزْقَهُ فَیَقُولُ رَبی أَهَانَنِ»(2)، والابتلاء في الأموال والأنفس هو الوقوع في تكاليف خاصة حسب المصالح، ومثال الأول هو التكاليف الآمرة ببذل الأموال في الصدقات وقضاء الحوائج وما يتطلّبه الدعوة على المؤمن من بذل المال، وما يفقد في أثناء الحروب والقتال .

والثاني : مثل التكليف ببذل النفس ومن يحبّ من الأهل والأولاد في سبيل الله تعالى، ويدخل فيه التسليم للأمراض والآفات .

وإنّما قدم عزّ وجلّ الأموال إمّا لأن الابتلاء فيها أكثر من الأنفس، أو لأجل أن تحمل الرزايا فيها أصعب وأشدّ، وفي الحديث عن علي عليه السّلام : ينام الإنسان على الشكل ولا ينام على الحرب»، أو على سبيل الترقي إلى الأشرف.

ويدخل في النفس الرزايا في الأولاد والأهل ومن يحبّه الإنسان من الأصدقاء.

والتأكيد بالقسم المحذوف «لتبلون» للإعلام بأن ذلك سنّة حتميّة لا مفرّ منها، وقد تقدّم ما يدلّ على ذلك في الآيات السابقة .

ص: 138


1- الأعراف، الآية 168
2- الفجر، الآيتان 15-16

قوله تعالى : «وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِینَ أُوتُواْ الْکِتَبَ مِن قَبْلِکُمْ وَمِنَ الَّذِینَ أَشْرَکُواْ أَذیً کَثِیرًا» .

ابتلاء آخر بالأقوال بعد الابتلاء بالعدوان صادر من طائفة خاصة ، وهم الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم - اليهود والنصارى - ومن الذين أشركوا.

والأذى : اسم جمع يأتي بمعنى الضرر والعدوان، ومنه الحديث : «أدنى الصدقة إماطة الأذى عن الطريق»، وهو ما يؤذي فيها كالشكوك والحجر والنجاسة وغيرها، وعن نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله : «كلّ مؤذٍ في النار»، وهو وعيد لمَن يؤذي الناس في الدنيا بعقوبة النار في الآخرة.

وما ورد في الآية الشريفة من القضايا الفطرية، فإن مَن ذكر فيها هم الأعداء للحق والمؤمنين، وما يلاقيه كلّ فرد من عدوّه من الأذى معلوم .

وإنّما ذكر عزّ وجلّ : «مِّنَ الَّذِینَ أُوتُواْ الْکِتَبَ» تعريضاً بهم بأن مَن أوتي الكتاب لا ينبغي أن يصدر منه ذلك، فإنه لا بد أن يكون زاجراً له، ويؤكّد ذلك ذكر «من قبلكم»، وأما ما صدر منهم من الأذى بحق الرسول الكريم صلی الله علیه و آله والدين الحقّ والمؤمنين، فهو معلوم ولا يزال يصدر ذلك منهم على مرّ العصور.

قوله تعالى : «وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا» .

بيان لأهم ما ينتظم به نظام الدين والدنيا، وهو الصبر على الشدائد والأهوال، وما يرد عليهم من المكاره والآفات في الأنفس والأموال، ولو كانت من ناحية التكاليف والمقادير الإلهية .

ص: 139

والتقوى الله تعالى بالطاعة له عزّ وجلّ وباجتناب نواهيه وما يوجب سخطه، وبهما تستعدّ النفوس لتلقي الأهوال والأذى الكثير والعصمة من الوهن والفشل. كما أن بهما تنال الدرجات العالية والثواب العظيم، فلو تجسّم الصبر لكان في أحسن مثال وأتم حال، كما أنه لو تجسّمت التقوى في الدنيا لكانت في أفضل نعيم الآخرة . وإنّما قرن عزّ وجلّ بين الصبر والتقوى لما ذكرناه، ولبيان أن العمل لا بد وأن ينبعث عن القلب فيكون من عزم الأمور .

قوله تعالى : «فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ» .

عزم مصدر بمعنى المعزوم، يقال : عزم الأمر بالنصب على المفعولية، وقيل : عزمت على الأمر أيضاً. وهو يرجع إلى عقد القلب، والجزم في العمل لما فيه من كمال الشرف والمزيّة. وعزائم الأمور : محکماتها ومتقناتها التي لا تصدر إلّا من ذوي الألباب، الذين وصفهم الله تعالى بأحسن أوصاف. وفي الحديث: «خير الأمور عوازمها» ، وصاحب العزم هو الثابت في الإرادة والكمال والفضيلة، قد اتصف بالفضل والكمال بحيث نال آخر مقامات الإنسانية الكاملة، ولو عبّر عنه بآخر مقام الوفاء بالعهد وأول مرتبة التفاني في مرضاة المعبود لكان حسناً وجديراً، ولذا صار الأنبياء العظام من أولي العزم.

والمعنى : أن الصبر والتقوى لهما من الكمال والمزيّة ما لا يمكن اقتناؤهما بسهولة ويسر، بل لا بد من عقد القلب وجزم الإرادة عليهما وبصيرة بهما، فلا بد من عزيمة لمواجهة كيد الأعداء والمكابرة .

ص: 140

وإنّما أشار سبحانه وتعالى إليهما بالإشارة البعيدة إيذاناً بعلوّ درجتهما وبُعد منزلتهما، كما أنه عزّ وجلّ أتى بالمفرد «ذلك» لبيان أنهما متلازمان، فلا يتحقّق أحدهما بدون الآخر، فإن الصبر في الدين للدين يلازم التقوى، كما أن التقوى تلازم الصبر، وفي الحديث: «أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد».

قوله تعالى : «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِیثَاقَ الَّذِینَ أُوتُواْ الْکِتَابَ لَتُبَیِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لَاتَکْتُمُونَهُ».

رجوع إلى اليهود والنصارى . والميثاق - كما تقدّم - هو العهد المؤكّد، وقد تقدّم اشتقاق الكلمة في قوله تعالى : «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِیثَاقَ النَّبِیِّینَ»(1)، والمراد من الذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى ، ويحتمل أن يكون اليهود، وإنّما خصّهم بالذكر لأنّهم عرفوا بالعناد وكتمان الحق.

وإنّما ذكر إيتاء الكتاب تقبيحاً لأفعالهم وتذكيراً لهم بأنهم أهل الكتاب ، فلا ينبغي أن يصدر منهم ذلك، وقد تقدّم ما يتعلق بأخذ الميثاق فراجع.

قوله تعالى : «فَنَبَدُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ» .

النبذ: الطرح، والنبذ وراء الظهر كناية عن الإهمال وعدم الامتناع الترك العمل، بل هو أشدّ من الكتمان، وضدّه (نصب العين)، الذي یکنی به عن الاعتناء بالشيء والاهتمام به .

ص: 141


1- آل عمران، الآية 81

وإنّما نبذوه قضاءٌ لأطماعهم الشريرة ونواياهم الفاسدة، وليكونوا مطلَقي العنان في فعلهم وكيدهم فلا يقاومهم أحد ولا يستنكر عليهم، فلذلك كتموه وأهملوه لئلا يحكم به عليهم.

قوله تعالى : «وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً».

لأنهم آثروا الحياة الدنيا فباعوا الحياة الآخرة بها، فهي ثمن قليل بالنسبة إلى الجزاء الذي أُعدّ لمن بين الكتاب والحق. وفيه من الذمّ والتوعيد ما لا يخفی.

والضمير في (به) يرجع إلى الحق الذي وجب بيانه .

قوله تعالى : «فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ» .

تقبيح لهم وتسفيه لعقولهم، فإنهم جعلوا الفاني الزائل بدلاً عن النعيم الدائم الباقي، وقد ذكر سبحانه وتعالى في عدّة مواضع من القرآن الكريم كتمان الحقّ وتبديله بالثمن القليل.

قوله تعالى : «لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا» .

بيان لبعض الصفات الذميمة التي اتصف بها الذين ذكرهم الله تعالى في الآية المتقدّمة، وهي الفرح بما فعلوه من التحريف والتدليس وكتمان الحقّ، والظن السوء بأن ذلك شرف لهم وقد منَّ الله به عليهم، وهو من الفرح بالباطل، فإنّه يكشف عن استحکام رذيلة العجب في نفوسهم والغرور بالفعل، وإنّما حکی عزّ وجلّ هذه الخصلة الباطلة التحذير المؤمنين منها، فإنّهم عرضة لذلك .

ص: 142

قوله تعالى : «وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا» .

صفة أخرى من صفاتهم الذميمة، أي : أنهم يحبّون أن يمدحهم الناس على الذي لم يفعلوه وهو الوفاء بالميثاق وإظهار الحقّ، فإنّهم لم يفعلوا شيئاً من ذلك وإنّما فعلوا نقيضه من كتمان الحق وتحريف الكتاب بما يوافق أهواءهم الباطلة .

وهذه الصفة أكثر ما تكون في العلماء غير العاملين بعلمهم، کالرهبان وحفّاظ الكتاب ، فإنّهم يحبّون أن يحمدوا بالدين والفضل وحفظ الكتاب ولكنهم في الحقيقة مراؤون، ولم يفعلوا شيئاً ممّا يُرضي الله تعالی.

ويستفاد من الآية الشريفة أن حبّ المحمدة بما لم يفعل باطل ومن الصفات الذميمة، فإنه يكشف عن الغرور والعُجب والرياء وسوء الأخلاق . وأما إذا كان بالحق فهو خُلق حسن، بل من الأمور الفطرية ، فإن الإنسان يحبّ المحمدة على الفعل النافع، وقد ورد في الكتاب والسنّة ما يدلّ على ذلك، قال تعالى محكياً عن نوح: «قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ»(1)، وقال تعالى حكاية عن هود: «قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِين»(2) .

ص: 143


1- الأعراف، الآيتان 61-62
2- الأعراف، الآية 18

وفي هذه الآية الشريفة استعمل لفظ الحمد في غير الله تعالى، وهذا هو المورد الوحيد في القرآن الكريم، وقد ذكرنا في سورة الفاتحة أنه لم يرد استعمال مادة الحمد في غيره عزّ وجلّ إلّا في هذا الموضع، وتقدّم الجواب عن ذلك فراجع.

ونزيد هنا أنه يمكن أن يكون لأجل أنهم جعلوا أنفسهم حفّاظ الشريعة والقائمين بأمور الدين وورثة الأنبياء، فأحبّوا لأنفسهم حمد الناس، وهذا من مجرّد الزعم الباطل وقد ذمّهم الله تعالى على ذلك ، حيث لم يصدر منهم فعل الله تعالى حتى يستحقوا المدح والثناء.

وفي الآية المباركة التنبيه العجيب للعلماء، وإنذار لهم بالاحتراز عمّا يوجب انطباق مضمون هذه الآية عليهم.

قوله تعالى : «فلا تسحبنهم بمفازة من العذاب» .

بيان لسوء عاقبتهم بعد بيان خسّتهم في الدنيا، وإنما أعاد عزّ وجلّ كلمة «لا تحسبنهم» للتأكيد.

والمفازة مصدر ميمي بمعنى الفوز والنجاة، والتاء ليست اللوحدة، وسمّي موضع المخاوف مفازة على جهة التفاؤل. واحتمل بعضهم أن يكون المفازة اسم مكان .

أي : محل فوز فيكون «من العذاب » صفة له لأن اسم المكان لا يعمل فيقدر المتعلّق خاصاً أو عاماً . ولكنه بعيد.

والمعنى: أنهم ليسوا بناجين من العذاب ، بل ليس لهم عذاب

ص: 144

محدود . وإنّما لم يبيّن عزّ وجلّ نوع العذاب لأنه إمّا أن يكون بما يطابق سجاياهم الفاسدة وملكاتهم الخسيسة ، أو يكون عذاباً إلهياً ناشئاً عن سخطه عزّ وجلّ، لأنه لا ولاية للحقّ عليهم بعدما تعلّقت نفوسهم بالباطل وفسدت أخلاقهم.

قوله تعالى : «وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ».

تأكيد في التوعيد بالعذاب في الآخرة جزاء كفرهم وعنادهم للحقّ، والتنكير في العذاب ووصفه بكونه أليماً، لبيان أنّه لا أمد له ولا نهاية لشدّتهز

قوله تعالى : «وَ للَّهِ مُلْک السمَاوَاتِ وَ الأَرْضِ» .

تعليل لجميع ما ورد في الآيات السابقة، واحتجاج على مَن عاند الحق ونسب الفقر إليه تبارك وتعالی.

أي : له تعالى وحده مُلك جميع العالم - ما سواه . يتصرّف فيه بما يشاء ويريد إيجاداً وإفناءً، ورحمةً وعذاباً، وهو الذي يملك أمر عباده فيدبّرهم وفق حكمته المتعالية .

قوله تعالى : «وَاللّهَ عَلی کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ» .

فلا يعجزه شيء، ولا يقهره أحد. ومن قدرته أنه يجازي كلّ إنسان حسب عمله، ويعذِّب الظالمين بظلمهم.

ص: 145

بحوث المقام

بحث أدبي

كلّ نفس في قوله تعالى : «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» مبتدأ ، والابتداء بالنكرة جائز هنا لما فيه العموم، و«ذائقة الموت» خبر . و«كل» إذا أُضيف إلى نكرة كان الحكم في الخبر والإضمار لتلك النكرة، كقوله تعالی: «ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ» ، وقوله عز وجل : «كُلُّ امْرِىِ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ»(1)، وقوله تعالى: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ» (2). وكلّ رجلين قاما ، وكل امرأتين قامتا، فالتذكير والتأنيث والإفراد والتثنية والجمع بحسب النكرة التي أُضيف إليها كل.

وقرئ : «ذائقة الموت» بالتنوين ونصب الموت على الأصل، وقرئ : «ذائقة الموت» بطرح التنوين مع النصب.

وعزم الأمور في قوله تعالى : «مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ» من إضافة المصدر إلى فاعله .

ص: 146


1- الطور، الآية 21
2- الإسراء، الآية 71

وإنّما لم يؤكد: «ولا تكتمونه» بالنون كما في التبيننه»، للاكتفاء بالتأكيد في الأول.

وقوله تعالى : «لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ» الفاعل هو الضمير المخاطب سواء كان الرسول الكريم أم مَن له أهليّة الخطاب . و«الذين » المفعول الأول والمفعول الثاني محذوف لتهويل الأمر، فيقدره المخاطب بما يليق بهم من العذاب والذم لدلالة مفعولي «تحسبنّهم» الآتي عليه.

وأما قوله تعالى : «فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ اَلْعَذابِ» که فقد ذكر فيه المفعول الثاني، فالأول: (الهاء والميم)، والثاني : هو «بمفازة» لبيان نوع العذاب الذي حذف في الأول فيكون الفاء للتفريع .

بحث دلالي

يستفاد من الآيات الشريفة أمور:

الأول: يدلّ قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» على تجرّد النفس وأنها غير البدن، فهي لا تموت بموته، لأن الذوق لا يكون إلّا عن شعور.

وفي ذكر هذه الآية الشريفة بعد حكاية أحوال المنافقين والكافرين والمشركين وتكذيبهم للرسل وأذاهم في الفعل والقول، التسلية العظيمة وللإرشاد إلى تذكّر الموت، ممّا يزيل الهموم والأشجان الدنيوية، ولذا أُمرنا بزيارة القبول إذا غلبت علينا الغفلة، قال تعالى : «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ

ص: 147

حَتّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ»(1)، وفي الحديث: «أكثروا ذكر هادم اللّذات، فإنّه ما ذكر في كثير إلّا قلله ولا في قليل إلّا كثره»، فإن ذكر الموت والتفكر فيه يهوّن كلّ خطب .

الثاني : عموم قوله تعالى : «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» يدلّ على أن كلّ ذي نفس لا بد لها من ذوق الموت، سواء كانت النفس حيوانية أم نباتية أم من الملائكة، فكلّ حي لا بد أن يموت إلّا الله تعالى، فإنّه حيٌّ لا يموت، وهو الأول والآخر.

وهذه الآية الشريفة وردت في القرآن الكريم في مواضع متعدّدة ، قال تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ»(2)، وقال تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ»(3)، وتختلف الآية الكريمة التي تقدّم تفسيرها عن الآيات الأخرى في أنها قد ذكر فيها توفية الأجر ونوعه وكيفيّته، فتكون كالتفسير لتلك الآيات المباركة، لأنه عزّ وجلّ اكتفي بكونه مرجعاً للعباد، فقال : «وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ» .

الثالث : إنّما عبّر سبحانه وتعالى بالذوق في قوله تعالى : «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» لبيان أن الموت يسري في جميع البدن كما تسري المذوقات فيه كما إذا شرب سمّاً، وللكناية عن الإحساس بمرارة خروج

ص: 148


1- التكاثر، الآية 2
2- الأنبياء، الآية 35
3- العنكبوت، الآية 57

الروح، وللإعلام بأن ذوق الموت شيء وذات الموت شيء آخر، ولذا ورد في بعض الأخبار أن المقتول يرجع ليذوق الموت، وقد تقدّم في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»(1).

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: «وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ اَلنّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ الْغُرُورِ»- على إيجازه البليغ المعجز - أن لكّل نفس جزاءً معيناً إمّا خيراً أو شراً، ونوعية الجزاء، وأنها إمّا الجنة أو النار، وكيفيّته وهي هول النار وشدّتها، وراحة الجنة والنجاة فيها.

وإنّما ذكر عزّ وجلّ ذلك عقيب ذلك الحكم الكلّي العام المقضی في حقّ كلّ نفس للإعلام بأن وراء الموت حياة أخرى يتميّز فيها المحسن عن المسيء، ويرى كلّ منهما جزاء عمله، فإن العلم بذلك يهون كلّ خطب ويسهِّل كلّ صعب.

الخامس: يستفاد من قوله تعالى : «وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ» ثبوت حياة البرزخ، وأن الأرواح فيها إمّا أن تكون معذّبة أو متنعمّة فإن التوفية إنّما تكون في ما إذا سبق بعض العطاء، وأن في يوم القيامة العطاء الوافي الكامل، وفي الحديث : «القبر إمّا روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران» .

ص: 149


1- آل عمران، الآية 156

السادس : يدلّ قوله تعالى : «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ اَلنّارِ وَ أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» على عظمة الموقف وشدّة الهول، فإن لكلّ إنسان موقفاً في النار لا يمكن إزاحته عنه إلّا بعد الزحزحة ومقاساة الشدائد والأهوال والصبر عليها، حتى يتحقّق الفوز والدخول بالجنة .

وحذف المتعلّق في الفوز يفيد العظمة والتعميم، فإنه فوز عن كلّ مكروه وسلامة من كلّ شدّة ونجاة من النار، كما أنه الفوز بالمحبوب والدخول في الجنة وأن فيها النعيم الدائم.

السابع: يستفاد من قوله تعالى : «وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ الْغُرُورِ» على خسّة هذه الحياة في مقابل الحياة الأخرى، وأن في هذه الحياة يتعيّن مصير الإنسان في العقبي، ففي هذه الحياة تتحقّق الزحزحة عن النار والدخول في الجنّة، وفي الآية الشريفة الترغيب إلى العمل الذي يوجب ذلك، والإعراض عن زخارف الدُّنيا ومباهجها التي تُبعد الإنسان عن كلّ خير وسعادة ، فإنّها تغرّه وتلقيه في الشقاء والخسران .

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : «لَتُبْلَوُنَّ فِی أَمْولِکُمْ وَ أَنفُسِکُمْ» ، أن الزحزحة عن النار والفوز بالجنة والنعيم الدائم لا يتحقّقان إلّا بالبلاء والابتلاء والصبر على البلايا والرزايا والأذى الكثير وتقوى الله تعالى، وأن في الصبر والتقوى النجاة، فتعتبر هذه الآية الشريفة كالعلّة بالنسبة إلى الآية السابقة، مضافاً إلى أن الآية المباركة ترّغب المؤمنين إلى الصبر والتقوى، فإنهما الأساس لكلّ سعادة .

التاسع : يدل قوله تعالى : «فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ» على أن

ص: 150

عزائم الأمور هي التي تُنجي الإنسان وتهيِئه لنيل السعادة والفوز بالأجر العظيم، وقد اهتمِ سبحانه وتعالى بها فذكرها في مواضع متعدِدة من القرآن الكريم وجعلها من صفات الأنبياء العظام، فلهذه الأمور التي لا بد فيها العزم منزلة عظيمة وشأن كبير . وقد رغَّب القرآن الكريم إليها وهي من أهمّ السُبل إلى سعادة الإنسان.

العاشر : يستفاد من قوله تعالى : «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِیثَاقَ الَّذِینَ أُوتُواْ الْکِتَبَ لَتُبَیِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لَاتَکْتُمُونَهُ» أن بيان الحق وما أنزل الله تعالى في الكتب الإلهية مماّ أخذ الله عليه الميثاق بلا اختصاص له بقوم وملّة معينة. وفي الحديث عن علي علیه السّلام : «ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلّموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا»، وبمضمون ذلك وردت أحاديث كثيرة.

وإنما أكّد سبحانه وتعالى على وجوب البيان بعدم الكتمان لرفع كلّ التباس من البين، فتشمل الآية الشريفة كل شبهة وتحريف ونفاق، وتزييف، فإنّه قد يتصوّر متصوّر أنه من البيان للكتاب إذا كان فيه تحریف وتزييف، ولكن الآية الشريفة تضع الحدّ الفاصل في جميع ذلك، وتعتبر أن البيان وإظهار الكتاب لا بد أن يكون واضحاً وجلياً من دون التباس وتحريف .

الحادي عشر : يستفاد من قوله تعالى : «لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا» ذم الفرحين بأفعالهم التي لا تطابق الواقع مع بُعدهم عن الحقّ، ويدلّ على أنه رذيلة تنطوي تحتها مساوي من الأخلاق، فإنّ الفرح

ص: 151

الذي لا يكون عن حق وفي حقّ يُنبئ عن الغرور والعُجب والتجرّي على المولى، وكلّ ذلك مذموم بل من المهالك.

وأمّا إذا كان الفرح عن حقّ فلا ذم فيه، ففي الحديث : «من سرّته حسنة وساءته سيئة فهو مؤمن»، والآية الشريفة لا تختصّ بطائفة خاصة، بل هي تشمل كلّ مَن كان فعله مخالفاً للواقع إذا فرح بما فعل.

الثاني عشر : يستفاد من قوله تعالى : «وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا» أن حبّ محمدة الناس أمر فطري لا يسع لأحد إنكاره، وأن المذموم منها هو ما إذا لم يكن عن سبب ومنشأ صحيح عقلائي في البين، فإنه يكشف عن غرور صاحبه وجهله بالواقع واعتماده على النفس الأمّارة، ويستفاد من قوله تعالى : «بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا» أن كلّ فعل إذا لم يكن مرضياً لله تعالى ولم يكن مطابقاً لقواعد الشرع، فلا أثر برجی منه ولا فائدة فيه. فلا موجب للمحمدة بالنسبة إليه، فما يصدر من الكافرين والمنافقين وأصحاب الأهواء الباطلة وغيرهم من الأفعال، ولم تكن مطابقة للشريعة المطهرة ومرضية عند الله تعالى، فإنّ حبّ المحمدة من الناس عليها باطل ولا وجه لها، لأنه لم يصدر منهم شيء يستحق عليه المحمدة، وأما إذا كان ذلك بالحقّ وفي الحقّ، فلا ذم فيه . وفي الحديث : «مَن لم یشکر المخلوق لم یشکر الخالق»، وهو يدلّ على أن مطلق الثناء على الأفعال الحسنة ممدوح، بل هو من حمد الله تعالى، ويمكن أن يكون هذا وجهاً آخر في استعمال لفظ الحمد في

ص: 152

المقام، حيث اعتبروا حمدهم من حمد الله تعالى، وهو عزّ وجلّ أبطل مزاعمهم وبيّن أنه إذا كان بالحق وفي الحق فإنّه من حمده عزّ وجلّ.

الثالث عشر : يدلّ قوله تعالى : «فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ» على أن الخصال المذمومة والمَلكات الرذيلة سبب للدخول في العذاب وعدم نجاتهم منه، فلا بد للإنسان من السعي لتهذيب النفس عنها وجعلها مرآة لمكارم الأخلاق لتجلّي أخلاق الله تعالى فيها، فإن في ذلك الفوز والسعادة .

بحث روائي

في الكافي: عن الصادق عليه السّلام أنه قال: «يموت أهل الأرض حتى لا يبقى أحد، ثم يموت أهل السماء حتى لا يبقى أحد إلّا ملك الموت وحملة العرش وجبرائيل وميكائيل، قال : فيجيء ملك الموت حتى يقوم بين يديّ الله عزّ وجلّ، فيقال له: من بقي - وهو أعلم . فيقول: يا ربّ لم يبق إلا ملك الموت وحملة العرش وجبرائیل و میکائیل، فيقال له : قل لجبرائیل و میکائیل فليموتا، فيقول الملائكة عند ذلك يا ربّ رسولاك وأميناك ، فيقول : إنّي قد قضيت على كل نفس فيها الروح والموت، ثم يجيء ملك الموت حتى يقف بين يدي الله عزّ وجلّ، فيقال له : من بَقي - وهو أعلم . فيقول: يا ربّ لم يبق إلّا ملك الموت وحملة العرش، فيقول لحملة العرش: فليموتوا، ثم قال : يجيء كئيباً حزيناً لا يرفع طرفه فيقال له: مَن بقي - وهو أعلم ۔ فيقول : يا ربّ لم يبق إلّا ملك الموت، فيقال له : مت يا ملك الموت،

ص: 153

فيموت، ثم يأخذ الأرض بيمينه، ويقول : أين الذين كانوا يدعون معي شريكاً؟ أين الذين كانوا يجعلون معي إلهاً آخر».

أقول : مثل هذه الحديث كثير، وهي تدلّ على أن كلّ كائن حيّ لا بد وأنا تنقضي حياته في دار الإمكان، لأنه كتب الفناء على الجميع، بل لا معنى للإمكان إلّا ذلك، فتنحصر الحياة في ما هو حيّ بالذات ، وعموم الآية الشريفة : «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» يدل على ذلك أيضاً.

وفي تفسير العياشي : عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى : «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» قال علیه السّلام : «لم يذق الموت من قتل، وقال : لا بد من أن يرجع حتّى يذوق الموت».

أقول: يستفاد من ذلك أمران :

الأول: أن ذات الموت شيء والقتل شيء آخر، وإن كان القتل سبباً له، وقد تقدّم في الآية الشريفة: «وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللّهِ تُحْشَرُونَ»(1) ، ما يرتبط بالمقام.

الثاني : الرجعة كما يأتي الكلام فيها مفصّلاً إن شاء الله تعالی .

وفي الدّر المنثور في قوله تعالى : «كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيمة» أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب عليه السّلام قال : «لمّا توفي النبي صلی الله علیه و آله وجاءت التعزية، جاءهم آت يسمعون حسّه ولا يرون شخصه، فقال : السلام عليكم يا أهل البيت

ص: 154


1- آل عمران، الآية 108

ورحمة الله وبركاته «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ»، إن في الله عزاء من كلّ مصيبة، وخلفاً من كلّ هالك، ودركاً من كلّ ما فات، فبالله فثقوا، وإيّاه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب، فقال علي عليه السّلام : هذا الخضر».

أقول: لا عجب في حضور الخضر للتسلية بعد حضور سادات الملائكة لأجل ذلك .

وفي الكافي : عن الصادق علیه السّلام: «خياركم سمحاؤكم، وشراركم بخلاؤكم، ومن خالص الإيمان البرّ بالإخوان والسعي في حوائجهم، وأن البار بالإخوان ليحبّه الرحمن، وفي ذلك مرغمة الشيطان وتزحزح عن النيران ودخول الجنان».

أقول: الحديث يبيّن بعض مصادیق الزحزحة عن النار والدخول في الجنّة .

وفي الدرّ المنثور: أخرج ابن مردويه عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلی الله علیه و آله : لموضع سوط أحدكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها، ثم تلا هذه الآية : «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ اَلنّارِ وَ أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» ».

أقول: يبين صلی الله علیه و آله بعض مراتب الفوز، وإلّا فهي غير متناه .

وفي العلل: عن الرضا علیه السّلام في قوله تعالى : «تلبون في أموالكم وأنفسكم» قال علیه السّلام : «في أموالكم بإخراج الزكاة، وفي أنفسك بالتوطين على الصبر» .

ص: 155

أقول: ما ورد في الحديث من باب ذكر أحد المصادیق.

وفي تفسير القمّي عن أبي جعفر علیه السّلام في قوله تعالى : «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ» و قال علیه السّلام : «في محمّد صلی الله علیه و آله «لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ» إذا خرج ولا تكتمونه «فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ» يقول نبذوا عهد الله وراء ظهورهم» .

أقول: لا فرق في رجوع الضمير إلى العهد إلى الكتاب، لتلازم كلّ منهما مع الآخر.

وفي تفسير القمّي أيضاً في قوله تعالى : «بِمَفازَةٍ مِنَ اَلْعَذابِ» عن أبي جعفر علیه السّلام قال : «ببعيد من العذاب».

أقول: لا بأس به، لأن معنى المفازة النجاة من العذاب ، وهو يحصل بالبعد عنه .

بحث فلسفي حول الموت والحياة

الحياة والموت أمران وجدانيان لكلّ ذي حياة، ولكن الكلام في حقيقة الحياة التي لم تكتشف بعد وإن بذل العلماء غاية الجهد في درکها ومعرفة حقيقتها وخصوصياتها، مع أن آثارها مشاهدة بالحسّ، ودرك أصلها وجداني لكلّ ذي حياة .

كذلك حقيقة الموت، فإنه وإن كان معلوماً لكلّ ذي حياة، سواء كان الموت نباتياً أو حيوانياً أو إنسانياً .

نعم، الذي ّعليه الكتب السماوية وأقوال المحقّقين من

ص: 156

الفلاسفة أن موت الإنسان ليس انعداماً لروحه، بل هو نقل الروح من عالم إلى عالم آخر يرى فيه نتائج أعماله وآثار أفعاله وأقواله، هذا بالنسبة إلى موت الإنسان.

وأما بالنسبة إلى موت الحيوان والنبات، فهل هو من انتقال الروح إلى عالم آخر من سنخه أو انعدامها كما ينعدم نور السراج بإطفائه ، أو من قبيل تبدّل صورة إلى صورة أخرى مناسبةً، جوهراً كانت أو عرضاً أو غير ذلك. كل ذلك محتمل ولم يرد في الفلسفة القديمة ولا الحديثة شيء يروي الغليل ويشفي العليل، ويمكن اختيار الاحتمال الأخير والقول بالتبدّل لما عليه من الشواهد النقليّة والتجربيّة بل العقلية أيضاً، ويأتي في الموضع المناسب تتمة الكلام إن شاء الله تعالی .

بحث عرفاني

يمكن أن يكون المراد من (عن النار) في قوله تعالى : «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» نار الشهوات المادية الجسمانية، التي هي أصل النار الكبرى ومادّتها. ويُراد بالجنّة جنّة التفاني في مرضاة الله تعالى، التي هي أعلى من جنة عدن بمرات كثيرة، قال تعالى : «وَ رِضوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَکبرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ»(1)، فإنه لا فوز أعظم من ذلك، وإن جميع الممکنات دونه نزر يسير . فتكون الآية الشريفة في مقام بيان حقيقة أولياء الله تعالى الذين أماتوا أنفسهم بالاختيار، واستخرجوا النفس الأمّارة من جحيم الشهوات، ففازوا بلقاء الله تعالی

ص: 157


1- التوبة، الآية 72

وشربوا من عيون الحياة المعنويّة واستشرقوا بشوارق الأنوار الأزليّة ، وجعلوا متاع الغرور تحت أقدامهم، فاتبهجوا بابتهاجات غير متناهية في المدّة والعدّة ، كما ابتهج العرش الأعلى بوجودهم.

والآيات الشريفة المتقدّمة من آيات السير والسلوك إلى الله تعالى ، فإنّها ترشد الإنسان إلى الكمال وتبيّن أن الوصول إليه صعب المنال، فلا بد من الصبر والتقوى وخلع النفس الأمّارة بالسوء التي لها منابت في النار.

كما أنها ترشد المؤمنين إلى التحلّي بمكارم الأخلاق وتذكّرهم فيها ببعض مساوئ الأخلاق، التي تبعدهم عن الواقع وتوقعهم في المهالك والردی.

ص: 158

الشفاعة في القرآن والسنّة

الشفاعة في القرآن والسنّة

من الألفاظ الشائعة في القرآن الكريم لفظ (الشفاعة) ومشتقاتها التي ربما تبلغ أكثر من ثلاثين مورداً، والمستفاد من مجموع الآيات التي ورد فيها لفظ الشفاعة، أنّها من الأمور الثابتة المتحقّقة بلا ريب ولا إشكال، إلا أنّ في بعضها تنسب الشفاعة إلى الله تعالى بالأصالة ، وفي بعضها الآخر تنسبها إلى غيره عزّ وجلّ برضاه وإذنه ، فهي لا تنفي الشافعة من أصلها.

والشفاعة من الموضوعات التي كثر الاهتمام بها في الإسلام، بل في سائر الأديان الإلهية، فقد بحث عنها في غير واحد من العلوم الإسلامية، كعلم الكلام، وعلوم التفسير والحديث والفقه.

والإلمام بها يقتضي البحث في مفهوم الشفاعة ومتعلّقاتها، وثبوتها، ومورد جریانها، وشروطها، وزمان تحقّقهان ومَن تصحّ منه ، ونسبتها إلى سائر المفاهيم الشرعية التي تثبت العفو والمغفرة وغير ذلك .

مفهوم الشفاعة:

مادة (شفع) تأتي بمعنى ضم الشيء مع غيره لغرض يترتب عليه ،

ص: 159

فالشفاعة هي انضمام المشفوع له مع المستشفع لنيل غرض لا يناله إلا بها. وهي من الأمور الدائرة بين أفراد الإنسان، لتحقيق أغراض خاصة وإنجاح بعض المقاصد، كما أنّها من الروابط الاجتماعية الوثيقة بين الحاكم والمحكوم عليه .

وإذا تأملنا في الشفاعة الدائرة في الاجتماع الإنساني، نلاحظ أنّها تكون من متمِّمات الأسباب، فهي جزء المقتضي بالتعبير العلمي، لا العلة التامة المنحصرة، لأنها لا تكون إلا فيما إذا كان المشفوع له قابلاً في الجملة لنيل الغرض المترتب على الشفاعة . فلا مجرى لها في ما لا قابلية له أصلاً، كما أنها متوقّفة على إذن المشفوع عنده للشفيع، فإذا أراد فرد أن ينال كمالاً أو خيراً يليق به - مادياً كان أو معنوياً - أو أراد الخلاص من عقاب المخالفة بعد استحقاقه، يلجأ إلى الشفاعة، فيضم إلى سببه الناقص - الذي عنده من لياقة أو نحوها - سببية الشفيع، الذي هو بدوره لا بد أن يكون مؤهِّلاً لقيامه بهذه الوساطة، فالشفاعة من الاسباب المتمِّمة في التأثير لا المستقلة، هذه هي الشفاعة الدائرة في المجتمع، وإنّها تتقوَّم بأمور:

الأوّل : أن يكون المشفوع له مؤهلاً و قابلاً لنيل الغرض والمراد في الجملة، وإن كان ناقصاً من جهة فيتمم تلك الجهة بالشفاعة، فلا أثر للشفاعة في ما لا قابلية له أصلاً، كالشفاعة لفرد أمي لا يعرف شيئاً أن يحوز منصباً علمياً كبيراً، أو الشفاعة للمشرك أن يدخل الجنة .

الثاني : الشفاعة إنّما تكون في الأمور الخارجية عن الذات ،

ص: 160

کالكمالات الاكتسابية التي تكون بالاختيار، أو الأُمور الموجبة لمخالفة القانون بالاختيار .

الثالث: أنّه لا مجرى للشفاعة في الأمور التكوينية والأسباب الطبيعية، سواء كانت من الخير والشر، أو النفع والضر ، إلا بالعناية فيها، فلا بد من الرجوع إلى أسبابها الطبيعية والوسائل المناسبة، فإنّ العطش مثلاً إنّما يرتفع بالارتواء والشرب، والجوع بالأكل، والمرض بالدواء، والحر بالوسائل المناسبة، والبرد باللبس وغير ذلك من الأمور الطبيعية، ولا أثر للشفاعة فيها.

نعم في جملة من التكوينيات يكون انضمام شيءٍ إلى شيء آخر موجباً لحصول الغرض المقصود، وتسمية ذلك بالشفاعة تكون بالعناية .

الرابع: أنّ الشفيع إنما يكون جزءً متمماً آخر منضماً لسببية المشفوع له إذا كان بحدّ نفسه قابلاً للقيام بالسبية ومؤهلاً لها، فيتوسط بين المشفوع له والمشفوع عنده بما یوجب نیل الكمال أو دفع الشر والعقاب، وهو إنّما يتوسّل لدى المشفوع عنده بما يؤثر عليه من صفات حميدة فيه عنده، کالرحمة والكرم ونحوهما، أو في المشفوع له کالعبودية والمذلّة وغيرهما.

الخامس: أنّ الشفيع إنّما يرجع إلى المشفوع عنده بما يرتضيه، لا بما هو غير ممكن أو لا يرتضيه، فإنّ ذلك قبيح لا يمكن أن يكون مورد الشفاعة، فلا يرجع عليه في خلع المولوية عن نفسه، أو إبطال الحكم والتشريع، أو إلغاء المجازاة ونحو ذلك، فإنّ هذه الأمور ممّا

ص: 161

تقبح الشفاعة فيها، وهو من المضادة والمعارضة، لا من الشفاعة، وإلى ذلك يشير قول نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله : «مَن حالت شفاعته دون حدّ من حدود الله عزّ وجلّ، فقد ضاد الله في أمره» .

فالشفاعة عند العرف توسط بين السبب ومسبّبه، فهي لا تخرج عن مطلق قانون السببية، لكن لا على نحو المضادة والمعارضة والغلبة ، كما في الأسباب الطبيعية والتكوينية .

الشفاعة في الإسلام

تقدّم أنّ الشفاعة قد وردت في القرآن الكريم في مواضع متعدّدة والسنّة الشريفة بما لا يحصى، ولم يرد تحديد من الشرع فيها، فيستفاد أنّها في الإسلام هي نفس ما عليه في العرف والاجتماع الإنساني، إلا أنّ أثرها الكبير يظهر في يوم القيامة، وليس لها في هذه الدنيا ذلك الأثر الكبير، ولكن نسبة الشفاعة إلى الله عزّ وجلّ تكون على نحوین :

الأول : توسط الأسباب بينه تعالى وبين غيره، فإنّه عزّ وجلّ المبدأ والمنتهى، وإليه يرجع الأمر كله، وهو المالك للخلق على الإطلاق والرب لهم، وله من الصفات العليا الحسني والقيومية العظمی التي يدبر بها خلقه . وبينه تعالى وبين خلقه المحتاج إليه أسباب عادية وعلل وجودية ووسائط كثيرة، فإنه أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها، فتكون مجاري إعمال قدرته مثل مجاري الطبيعة والتكوين.

وإطلاق الشفاعة على هذا النوع من السببية صحيح ولا مانع منه عقلاً، بل يستفاد ذلك من قوله تعالى :«إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ

ص: 162

وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ» (سورة يونس، الآية: 3)، حيث أورد الشفاعة بعد خلق السموات والأرض والتدبير لهما، فلا تكون إلا في أمور التكوين، ويستفاد من الآية أن الشفاعة بهذا المعني هي من جملة تدبير الخلق وتنظيم النظام الأحسن الربوبي، ويؤيد ذلك أيضاً قوله تعالى : «لَّهُ مَا فِی السَّماواتِ وَمَا فِی الْأَرْضِ، مَن ذَا الَّذِی یَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» (سورة البقرة ، الآية : 255)، فهذه هي الشفاعة التكوينية ، أي توسيط العلل والأسباب الوجودية بين مسبب الأسباب وخالق الأرض والسماء، وبين خلقه المفتقر إليه.

الثاني : الشفاعة لديه تعالی بمعنى رفع العقاب عن عباده العاصين، أو زيادة الثواب لعباده المطيعين، فإن الله تعالی أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، مبلّغین صادعين بالحق، وأنزل معهم الكتاب المشتمل على الأحكام التشريعية الراجعة إلى مصالح العباد، ووضع الثواب للمطيعين والعقاب على العاصين، وأقام الحجّة في العباد وأتّمها عليهم «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» (سورة الأنفال، الآية 42)، ولكنه تعالی رأفة بخلقه ورحمة بعباده جعل الشفاعة لنفسه، وهو من شؤون رحمته المطلقة التي وسعت كل شيء، وهذه هي الشفاعة في الجعل والتشريع.

وبعد كون أصل الشفاعة بيده وتحت استيلائه وقدرته، له تبارك وتعالى أن يجعلها لمن يشاء من خلقه ويريد، وفق الحكمة البالغة

ص: 163

والعلم الأتم، وتدلّ على ذلك جملة من الآيات الشريفة، قال تعالى : «یَوْمَئذٍ لا تَنفَعُ الشفَاعَهُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَ رَضیَ لَهُ قَوْلاً» (سورة طه، الآية 109)، وقال تعالى: «لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اَللّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَرْضى» (سورة الأنبياء، الآية 28)، وإطلاق قوله تعالى : «وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى» (سورة الأنبياء، الآية 28)، يدلّ على أنه لا بد في الشفاعة من إذنه في المشفوع له والشفيع، وقال تعالى: «وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ» (سورة الزخرف، الآية 86).

والمستفاد من جميع ذلك: أنّ الشفاعة بجميع جهاتها وخصوصياتها لا بد أن تكون تحت اختياره وإرادته، كما تدلّ على ذلك القاعدة العقلية أيضاً، فالشفاعة على نحو ما تقدّم مطابقة للعقل والشرع والعرف، فمن أنكرها بهذا المعنى إنّما بنكر أمراً وجدانياً، يعترف به بجنانه وينكره بلسانه .

ثبوت الشفاعة:

لا ريب ولا إشكال في إمكان الشفاعة، فهي ليست من المحالات الأولية، لما هو المتسالّم بين الفلاسفة من أصالة الإمكان في كل شيء إلا إذا دلّ دلیل معتبر على الامتناع، ولم يتخيل أحد في أنّ الشفاعة من الممتنعات الذاتية ، هذا بالنسبة إلى الإمكان الذاتي.

وأما الإمكان الوقوعي، فقد دلّت الأدلّة العقلية والنقلية على وقوعها في الخارج على ما يأتي من التفصيل، وقد استدلّ على تحقق الشفاعة بالأدلة الأربعة : الكتاب، والسنّة، والإجماع، والعقل.

ص: 164

الشفاعة في القرآن:

تدلّ عليها آيات كثيرة منطوقاً ومفهوماً، نفياً وإثباتاً في الدنيا والآخرة، وهي على طوائف :

الأولى : الآيات التي تدلّ على انحصار الشفاعة في الله واختصاصها به عزّ وجلّ، قال تعالى : «قُل لِّلَّهِ الشفَاعَهُ جَمِیعاً لَّهُ مُلْک السمَوَاتِ وَ الأَرْضِ ثُمَّ إِلَیْهِ تُرْجَعُونَ» (سورة الزمر، الآية 44)، وقال تعالى : «ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ» (سورة السجدة ، الآية 4)، وقال تعالى : «لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اَللّهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ» (سورة الأنعام، الآية 70).

الثانية : ما تدلّ على التعميم وثبوتها لغيره عزّ وجلّ بإذنه ورضاه وهي كثيرة . .

منها: قوله تعالى : «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ» (سورة البقرة ، الآية 255).

ومنها: قوله تعالى: «وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى» (سورة الأنبياء، الآية 28).

ومنها: قوله تعالى : «لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمنِ عَهْداً» (سورة مريم، الآية 87).

ومنها قوله تعالى: «یَوْمَئذٍ لا تَنفَعُ الشفَاعَهُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَ رَضیَ لَهُ قَوْلاً» (سورة طه، الآية 109).

ص: 165

ومنها: قوله تعالى : «وَ کم مِّن مَّلَکٍ فی السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شفَاعَتهُمْ شیْئاً إِلا مِن بَعْدِ أَن یَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن یَشاءُ وَ یَرْضَی» (سورة النجم، الآية 26).

الثالثة : ما تدلّ على ثبوت الشفاعة في الدنيا، قال تعالى : «مَّن یَشفَعْ شفَاعَهً حَسنَهً یَکُن لَّهُ نَصِیبٌ مِّنهَا وَ مَن یَشفَعْ شفَاعَهً سیِّئَهً یَکُن لَّهُ کِفْلٌ مِّنْهَا وَ کانَ اللَّهُ عَلی کلّ ِ شیْءٍ مُّقِیتاً» (سورة النساء، الآية 85)، فإنّ سياقها يدلّ على أنها في الدنيا .

الرابعة : ما تدلّ على نفي الشفاعة إما مطلقاً أو في يوم القيامة أو عن طائفة خاصة، قال تعالى : «یَوْمَئذٍ لا تَنفَعُ الشفَاعَهُ» (سورة طه، الآية 109)، وقال تعالى : «أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاکُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ یَأْتِیَ یَوْمٌ لَابَیْعٌ فِیهِ وَلَا خُلَّهٌ وَلَا شَفَاعَهٌ وَالْکَافِرُونَ هُمُ الْظَّالِمُونَ» (سورة البقرة، الآية 254)، وقال تعالى: «وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (سورة زخرف، الآية 86)، وقال تعالى : «لا يَمْلِكُونَ اَلشَّفاعَةَ إِلاّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمنِ عَهْداً» (سورة مريم، الآية 87)، وقال تعالى : «مَا لِلظَّلِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لَاشَفِيعٍ يُطَاعُ» (سورة غافر، الآية 18)، والمراد من الظالمين الكافرين، بقرينة قوله تعالى : «وَ الْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ» .

والمستفاد من مجموعها: أنّ الشفاعة ثابتة لله تعالى أصالة ، وهو المالك لها، وتكون لغيره تعالى بإذنه ورضاه، وهي لا تكون في يوم القيامة إلا لمن ارتضاه الله تعالى وأذن له بالشفاعة، وهذا هو الذي تقتضيه القواعد العقلية، لانحصار مالكية كل شيء فيه

ص: 166

تعالى، وجميع تلك الآيات المباركة تدلّ على عدم ثبوتها لغيره عزّ وجلّ اقتراحاً من الناس ومن دون مشيئة الله تعالى وارتضائه، فتحمل الآيات النافية للشفاعة إما على الشفاعة الاقتراحية للناس، أو على وقت دون وقت.

ونسبة الشفاعة إليه عزّ وجلّ كنسبة سائر الأمور المختصّة به عزّ وجلّ، التي يفرضها على غيره : كعلم الغيب، والرزق، والحكم، والملك وغير ذلك ممّا هو كمال له، فإنّه تعالى يثبته لنفسه عزّ وجلّ، وينفيه عن غيره، ثم يثبته له بإذنه وارتضائه، وهذا شائع في القرآن الكريم، فإنّ الأمر لله وهو فعّال لما يريد.

الشفاعة في السنة:

وردت أخبار متواترة بين المسلمين في الشفاعة، وأنّها المقام المحمود الذي وعد الله به نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله يوم القيامة، ففي صحيح مسلم: عن أنس، عن رسول الله صلی الله علیه و آله، أنه قال: «أنا أوّل شفيع في الجنة، لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت، وإنّ من الأنبياء نبياً ما يصدقه من أُمته إلا رجل واحد»، ذكره جمع غفير من العلماء.

وأخرج البيهقي في الاعتقاد : عن جابر بن عبد الله ، عن رسول الله صلی الله علیه و آله أنه قال: «أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النبيّين ولا فخر، وأنا أول شافع ومشفّع ولا فخر»، رواه الدارمي في سننه أيضاً عن صالح بن عطاء .

وأخرج البخاري : عن أنس، عن رسول الله صلی الله علیه و آله أنه قال: «إنّ

ص: 167

لكلِّ نبي دعوة قد دعا بها في أمته، وإنّي اختبات دعوتي شفاعة لأُمتي».

وروى أبو داود : عن أبي بن كعب أنّ النبي صلی الله علیه و آله قال : «إذا كان يوم القيامة كنت إمام الأنبياء وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم من غير فخر».

وروى أبو داود أيضاً والحاكم عن عمر، عن النبي صلی الله علیه و آله : إنّ الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأُذن، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم عليه السّلام ، فيقول: لست بصاحب ذلك، ثم بموسى، فيقول كذلك، ثم بمحمد صلی الله علیه و آله فيشفع ليقضي بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة ، فيومئذٍ يبعثه الله مقاماً محموداً، يحمده أهل الجمع كلّهم».

وروى البيهقي عن أبي سعيد الخدري : قال رسول الله صلی الله علیه و آله: يخرج قوم من النار قد احترقوا فيدخلون الجنة، فينطلقون إلى نهر يقال له الحياة فيغتسلون فيه فينظرون كما ينضر العود، فيمكثون في الجنة حيناً، فيقال لهم: تشتهون شيئاً؟ فيقولون : أن يرفع عنا هذا الاسم، قال صلی الله علیه و آله : فيرفع عنهم.

وعن سماعة، عن أبي عبد الله علیه السّلام: «سألته عن شفاعة النبي صلی الله علیه و آله يوم القيامة؟ قال علیه السّلام : يلجم الناس يوم القيامة العرق ويرهقهم القلق . فيقولون: انطلقوا بنا إلى آدم يشفع لنا، فيأتون آدم علیه السّلام فيقولون : اشفع لنا عند ربك، فيقول : إنّ لي ذنباً وخطيئة ما

ص: 168

فعليكم بنوح، فيأتون نوحاً فيردّهم إلى مَن يليه، ويردّهم كلّ نبيّ إلى مَن يلي حتّى ينتهوا إلى عيسى فيقول: عليكم بمحمد صلی الله علیه و آله، فيعرضون أنفسهم عليه، ويسألونه فيقول: انطلقوا فينطلق بهم إلى باب الجنة ويستقبل باب الرحمة، ويخر ساجداً فيمكث ما شاء الله ، فيقول الله عزّ وجلّ: ارفع رأسك واشفع تُشفَّع وسل تعطَ، وذلك قوله تعالى : «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» .

وروى البرقي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله : أُعطيت خمساً لم يعطها أحد قبلي : جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، ونصرت بالرعب، وأُحلّ لي المغنم، وأُعطيت جوامع الكلم، وأُعطيت الشفاعة».

وعن داود بن سليمان، عن الرضا علیه السّلام ، عن آبائه عن أمير المؤمنين علیه السّلام قال : «قال رسول الله صلی الله علیه و آله: إذا كان يوم القيامة ولّينا حساب شيعتنا، فمَن كانت مظلمته فيما بينه وبين الله عزّ وجلّ حكمنا فيها فأجابنا، ومَن كانت مظلمته فيما بينه وبين الناس استوهبناها فوهبت النا، ومَن كان مظلمته فيما بينه وبيننا كنا أحقّ مَن عفا وصفح».

وعن أبي الحسن الرضا علیه السّلام ، عن أبائه عن عليّ علیه السّلام قال : «من كذّب بشفاعة رسول الله صلی الله علیه و آله لم تنله»، إلى غير ذلك من الروايات المتواترة بين المسلمين، كما يأتي التعرّض لقسم آخر منها.

الشفاعة والإجماع:

وهو من المسلمين بأجمعهم، بل تعدّ من ضروريات الدّين إلا

ص: 169

ممّن لا يعتنى بمخالفته، وتعرّضوا للإجماع في كتبهم الكلامية والحديثية والتفسيرية، بل يمكن ادعاء إجماع الملّيين على ذلك، فإنّ الشفاعة مسلَّمة في الكتب المقدّسة، وصرَّح علماؤهم بتحقّقها.

الشفاعة والعقل:

ويمكن تقريره بوجوه :

منها : أن الله تعالي غني بالذات عن طاعة عباده، لا ينتفع منها بشيء أبداً، ولا يضرّه عصیان جميعهم، ولا ينقص بسبب ذلك منه شيء أبداً، ولا ريب في تسلّط الشيطان والنفس الأمّارة على الإنسان وإحاطتهما به، كما هو محسوس بالوجدان، وحينئذٍ فالشفاعة كالعفو والإغماض عن الخطأ والزلل مع تحقّق الشرائط حسن عقلاً، لا سيّما في عالَم تنحصر الأسباب في ذات واحدة، وفيه من الأهوال والشدائد ما لا يحصى، فانحصر رفعها في واحد فقط، فترك العفو والإغماض عمّن يقدر عليهما بمجرّد بقول: «كن فيكون»، مع عدم مانع في البين قبيح، وهو مستحيل بالنسبة إليه عزّ وجلّ، فتجب الشفاعة عليه عقلاً في النظام الأحسن الربوبي، كالرزق الواجب عليه تعالى في عالَم الدنيا، كلّ بالأسباب المعدة له، والشفاعة رزق معنوي يكون الناس أحوج إليها بمراتب كثيرة.

ومنها: أنّ تنظيم العوالم بالأحسن يجب عقلاً على مديرها ومدبرها المنحصر في الحيّ القيوم، ومن أهم جهات التنظيم والترتيب العفو والإغماض عن العاصي الأثيم بعد وجود الشرائط ، وترك ذلك وإهماله موجب لإخلال النظم، وهو محال على الحكيم العليم.

ص: 170

ومنها : أنّ الشفاعة معلولة لأصل تشريع الأحكام، تدور معه أينما دار ، وحيث إنّ أصل التشريع منحصر بالله تعالى، فالشفاعة والثواب والعقاب لا بد أن تنحصر فيه مباشرةً أو تسبيباً .

فالكلّ من نظامه الكیاني *** ينشأ من نظامه الرباني

ومنها : أنّ ترك الشفاعة مع وجود المقتضي لها وفقد المانع عنها ، نقص في رحمته التي هي عين ذاته تعالى، فيرجع إلى نقص الذات ، وهو من المحالات الأولية بالنسبة إليه جلّت عظمته .

ثم إنّه يمكن إدخال الشفاعة في مفهوم قوله تعالى : «يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ کَانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (سورة الفتح، الآية 14)، وقوله تعالى: «يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ» (سورة العنكبوت، الآية 21)، وقوله تعالى : «يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» (سورة الرعد، الآية 39)، وثبوت الاختيار له تعالى في البقاء كثبوته له عزّ وجلّ في أصل الحدوث، وهو مقتضی تمام ملکه ومالكيته و قهّاریته.

ويمكن الاستدلال على تحقّق الشفاعة بالقاعدة المسلّمة بين الفلاسفة، من أنّ الخير المحض بل الخير بالإضافة ، مقدّم على الشر، وقد قرّرها الله جلّ جلاله بقوله : «اِنَّ الْحَسَناتِ یُذْهِبْنَ السَّیِّئاتِ» (سورة هود، الآية 114)، فأنبياء الله تعالى - سيّما أشرفهم وسيدهم - وأولياؤه المنقطعون إلى الله من كلِّ جهة، وبتمام معنى الانقطاع، من الخير المحض، فينعدم بوجوداتهم المقدّسة الشر بإذن الله تعالى، ولا معنی للشفاعة إلا هذا.

ص: 171

الشفاعة وشروطها:

يستفاد من مجموع الأدلّة : أنّ للشفاعة أهمية كبرى ومنزلة عظمي، فهي الأولى من مراتب الكمالات الإنسانية، وأوسع باب من أبواب الجنّة الإلهية، يرغب كلّ فرد إليها، ويرجوها في الدنيا والآخرة، ولكن لا يمكن أن ينالها كلّ أحد إلا إذا توفرت فيه شروط خاصة، لأنّ الشفاعة لا تخلو عن كونها توسّط الأسباب، ولا يمكن أن تكون مطلقة، وإلا لزم بطلان قانون السببية واختلال النظام، ويدلّ عليه ما عن حفص المؤذن ، عن أبي عبد الله علیه السّلام : «واعلموا أنّه ليس يغني عنكم من الله أحد من خلقه، لا مَلَك مقرَّب، ولا نبيّ مرسل، ولا من دون ذلك، مَن سرَّه أن ينفعه شفاعة الشافعين عند الله، فليطلب إلى الله أن يرضى عنه».

وشروطها هي:

الأول : يعتبر في مورد الشفاعة أن يكون الذنب باقياً إلى يوم القيامة، فلو سقط بالتوبة والاستغفار، أو التكفير بإتيان الحسنات لقوله تعالى : «اِنَّ الْحَسَناتِ یُذْهِبْنَ السَّیِّئاتِ» (سورة هود، الآية 114)، أو الحدود الشرعية، فإنّه لا موضوع للشفاعة حينئذٍ، واعتبار ذلك من الشروط مسامحة، لأنّه محقّق لأصل موضوعها.

ويدلّ عليه ما روي عن الكاظم، عن آبائه عیلهم السّلام ، عن النبي صلی الله علیه و آله قال : «إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمتي».

الثاني : يعتبر فيها إذن الله تعالى في مورد الشفاعة، وموضوعها،

ص: 172

والمشفوع له، والشفيع، فليس لكلّ أحد أن يشفع في كلِّ أمر، ولكلِّ أحد، وقد تقدَّمت الأدلة على ذلك .

وفي تفسير القمي: في قوله تعالى : «وَلا تَنفَعُ الشَّفاعَهُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَن أذِنَ لَه»، قال لي : «لا يشفع أحد من أنبياء الله ورسله يوم القيامة حتى يأذن الله له - الحديث - »، وتقتضيه قاعدة انحصار الأمر فيه تعالى يوم القيامة .

الثالث : أن يكون المشفوع له من المؤمنين المذنبين، ويدلّ عليه قوله تعالى : «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاّ أَصْحابَ الْيَمِينِ * فِي جَنّاتٍ يَتَساءَلُونَ * عَنِ اَلْمُجْرِمِينَ * ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَ كُنّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ * وَ كُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتّى أَتانَا الْيَقِينُ * فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشّافِعِينَ» (سورة المدثر، الآیات 38 ۔ 48).

ويستفاد من هذه الآيات الشريفة أنّ سبب عدم كونهم أهلاً للشفاعة لهم، هو عدم الإيمان والخوض في الملاهي وزخارف الدنيا والركون إليها، التي تكون صارفة عن الإقبال على الله تعالى والإيمان بيوم الدين والجزاء، فإذا لم يكن هذا السبب فلا مانع من شمول الشفاعة له إذا كان مذنباً، وهو من أصحاب اليمين، وهم الذين ارتضی لهم دينهم، وأما أعمالهم فقد تكون مرضية، وهم المذنبون الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فأولئك هم المرجون للشفاعة .

فيكون موردها هم المؤمنون بدین الحقّ الذين عملوا المعاصي

ص: 173

والكبائر، فهم يدخلون النار بسبب أعمالهم، ثم يخرجون منها بالشفاعة، أو أنّها تمنعهم من دخول النار، لأنهم متفاوتون في نيل الشفاعة ودرجاتها، ويشهد لما ذكرنا ما روي عن الكاظم عن أبيه عن آبائه علیهم السّلام، عن النبي صلی الله علیه و آله قال : «إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمتي، فأما المحسنون فما عليهم من سبيل . قيل : يا ابن رسول الله ، كيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر والله تعالى يقول: ولا يشفعون إلا لمَن ارتضى، ومَن ارتكب الكبيرة لا يكون مرتضی؟! فقال عیله السّلام : ما من مؤمن يرتكب ذنباً إلا ساءه ذلك وندم عليه، وقال النبي صلی الله علیه و آله: کفی بالندم توبة ، وقال صلی الله علیه و آله: مَن سرَّته حسنته وسائته سيئته فهو مؤمن، فمَن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن، ولم تجب له الشفاعة، وكان ظالماً، والله تعالى ذكره يقول: «ما للظلمين من حمیم ولا شفيع يطاع» ، فقيل له: يا ابن رسول الله، وكيف لا يكون مؤمناً مَ، لا يندم على ذنب يرتكبه ؟ فقال : ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي وهو يعلم أن سيعاقب عليه، إلا ندم على ما ارتكب، ومتى ندم كان تائباً مستحقاً للشفاعة، ومَن لم يندم عليها كان مصرّاً، والمصرّ لا يغفر له، لأنّه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب ، ولو كان مؤمناً بالعقوبة لندم، وقد قال النبي صلی الله علیه و آله : لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار، والدِّين الإقرار بالجزاء على الحسنات والسيئات، فمَن ارتضی دینه ندم على ما ارتكبه من الذنوب، لمعرفته بعاقبته في القيامة.

أقول: المراد من قوله علیه السّلام : «ما من مؤمن يرتكب ذنباً إلا ساءه ذلك وندم عليه»، الندم الإجمالي الثابت في مرتبة الإيمان على كلّ

ص: 174

ذنب في الجملة، لا الندم التفصيلي الفعلي الالتفاتي على كلِّ ذنب حتى يكون موجباً لمحو الذنب، كما قال صلی الله علیه و آله : «کفی بالندم توبة»، وحينئذٍ ينتفي موضوع الشفاعة كما ذكرنا، ومثل هذا الندم الإجمالي من لوازم الإيمان في الجملة، وهو مقتضٍ لثبوت الشفاعة في يوم القيامة، فهي تكون بمنزلة الجزء الأخير في العلّة التامة .

وقوله علیه السّلام : «مَن سرّته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن»، يبيِّن مرتبة الاقتضاء فقط كما مرّ، لا الفعلية الالتفاتية التفصيلية .

وقوله علیه السّلام : «فمَن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن» ، يدلّ على نفي الندم مطلقاً ولو على نحو الاقتضاء، فيكون نفي الإيمان بنفي هذا الندم من باب انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم، فيصير مثل هذا الشخص متهاوناً في التكاليف ومنهمكاً في المعاصي، كما يدلّ عليه قوله علیه السّلام بعد ذلك: «وهو يعلم أن سيعاقب عليه إلا ندم على ما ارتكب»، حيث لا معنى للاعتقاد بالمبدأ والمعاد والتكاليف في الجملة إلا ذلك، وكلّ ذلك من اللوازم والملزومات .

وقوله علیه السّلام : «ومتی ندم كان تائباً مستحقاً للشفاعة»، أي : تائباً على نحو الاقتضاء لا التوبة الفعلية من كلِّ حيثية وجهة حتى لا يبقى موضوع للشفاعة، كما ذكرنا.

وبعبارة أخرى : الاعتقاد بالتوبة والندامة على المعصية غير حصول التوبة الفعلية، ولذا كان مستحقا للشفاعة في الأول دون الثاني، فإنّها تزيل موضوع الشفاعة .

ص: 175

وقوله علیه السّلام : «والدِّين الإقرار بالجزاء على الحسنات والسيئات»، يبيّن ما ذكرناه من التفصيل بين الموردين، أي الاعتقاد بالتوبة وحصول الندامة الإجمالية والتوبة الفعلية الجامعة للشرائط، والأولى موضوع الشفاعة وتكشف عن الإيمان أيضاً، بخلاف الثانية فإنها رافعة الموضوعها.

والإقرار بالجزاء على الحسنات والسيئات من لوازم الاعتقاد بالمبدأ والمعاد، كما أثبتناه سابقاً.

والحاصل : أنّ مثل هذا الحديث ظاهر في اعتبار هذا الشرط .

وفي سياق هذا الحديث عدّة أحادیث، فلا بد في تحقيق الشفاعة للمشفوع له من السببية لها في الجملة، فمَن لم يؤمن بشريعة سید المرسلين لا تناله شفاعته ولا شفاعة أحد ممن له الشفاعة، إذ لا بد أن يكون هو بنفسه موجداً للمقتضي لها، وبعد تحقّق الموانع - وهي المعاصي والذنوب - التي تمنع من دخول الجنة، تصل النوبة إلى الشفاعة، ويرشد إلى ذلك قوله تعالى: « وَلَا تُصَلِّ عَلَی أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَی قَبْرهِ إنِّهمُ كَفَرُوا باِللَّه وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ» (سورة التوبة، الآية 84)، وهذه الآية المباركة تدلّ على حرمان مثل هذا الشخص الكافر بالله ورسوله عن الشفاعة، لعدم حصول التسبّب منه لها.

وبعبارة أخرى : موضوع الشفاعة مركب من أمرين، حصول المقتضي على نحو الإجمال من المشفوع له في الدنيا، وتتمیم اقتضاء هذا المتقضي من الشفيع في الآخرة، كما عرفت أنه مفهوم الشفاعة .

ص: 176

ما أورد على الشفاعة:

تقدّم أن الشفاعة ثابتة، بل هي حقيقة من الحقائق القرآنية، لا يمكن إنكارها. وقد ذكرنا أنها لا تثبت إلا بشروط خاصة، فليست هي مطلقة مرسلة يمكن أن ينالها كلّ أحد، فإنّ ذلك خلال الحكمة المتعالية وقانون الجزاء والحساب، وبطلان للسببية ، كما تقدّم .

والشفاعة بالمعنى الذي قلناه ممّا تدل عليه الأدلّة الأربعة، ولا يسع أحد إنكارها.

ومع ذلك فقد أورد بعض على الشفاعة مناقشات وإشكالات واهية، وإنما هي نشأت من قلة التدبّر في الآيات الشريفة وما ورد في الشفاعة من السنّة الشريفة، ونحن نذكر جملة منها وهي:

الأولى : أن الشفاعة ليس إلا الدعاء فقط، فما هو معتبر في الدعاء يعتبر فيها، وما ورد عليه يرد عليها أيضاً، فليست لها حقيقة أخرى غير الدعاء، فيجوز لكل أحد طلب الشفاعة .

والجواب عنها: أن كون الشفاعة هي الدعاء ممّا لا ينكر، بل هو اعتراف بحقيقتها، لكن الشفاعة هي دعاء الشفيع لدى المشفوع عنده للصفح عن المشفوع له. وكما أنه لا استقلالية للدعاء بوجه أبداً وإنّما هو طريق محض لقضاء الحاجة، والشفاعة أيضاً كذلك، فالجميع يرجع إلى التأثير من الله تعالى، ولا مشاحة في مجرد الاصطلاح.

هذا، مضافاً إلى أن اختلاف مفهوم الشفاعة مع مفهوم الدعاء أوضح من أن يخفی .

ص: 177

مع أنه لو قلنا بأن الشفاعة هي الدعاء، فقد دلّ الكتاب والسنّة على أنها مختصّة بالله تعالى، ولغيره بالإذن والارتضاء، فليست هي كمطلق الدعاء من هذه الجهة، وقد تقدّم ما يرتبط بالدعاء في آية (186) .

الثانية : أن القول بالشفاعة موجب لتجرِّي الناس على المعاصي، وإغراء لهم على المخالفة وارتكاب محارم الله تعالى، وهو ينافي الغرض من بعث الأنبياء والمرسلين، وهو سوق الناس إلى العبودية والطاعة، فلا بد من تأويل ما ورد في الشفاعة ، لئلا توجب إغراء الناس بالفساد.

وهي مردودة ..

أما أولاً: فبالنقض بما ورد في شمول المغفرة والتوبة والرحمة ، قال تعالى: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ کُلَّ شَئٍ» (سورة الأعراف، الآية 156)، وقوله تعالى: «يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لَاتَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» (سورة الزمر، الآية 53)، وقال تعالى : «إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» (سورة النساء، الآية 48)، وما ورد في الاستغفار وغير ذلك من الآيات المباركة والروايات الدّالة على سعة رحمته وغفرانه، فهل يتصوّر أحد في أنها موجب للتجرّي والتمرد؟! فكلّ ما يقال فيها يقال في الشفاعة أيضاً.

وأما ثانياً : فبأن الأدلّة الدالة على ثبوت الشفاعة، إنّما تدلّ عليها

ص: 178

بالإهمال والإجمال، فلم يعيَّن فيها نوع الجرم الذي تجري فيه الشفاعة، ولا المجرم الذي تناله الشفاعة، بل كانت مبهمة من هذه الجهة، بحيث تجعل الناس بين الخوف والرجاء، فلا تكون موجبة للتجرِّي والتمرّد، وهذا هو داب القرآن في جعل الإنسان بين الخوف من ارتكاب المعاصي والتمرّد على الأحكام، والرجاء حذراً من القنوط واليأس من روح الله تعالى، بل يمكن أن تكون الشفاعة بهذا النحو من موجبات الانقلاع عن المعصية، ويدلّ على ما ذكرنا ما رواه حفص المؤذن عن أبي عبد الله علیه السّلام في رسالته لأحبائه : «واعلموا أنه ليس يغني عنكم من الله أحد من خلقه، لا مَلَك مقرَّب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك، مَن سرّه أن ينفعه شفاعة الشافعين عند الله فليطلب إلى الله أن يرضى عنه»، والمستفاد من هذه الرواية أن الإنسان لا بد أن يكون مراقباً لنفسه، لئلا يقع في سخط الله تعالى، فإنه لا تنفعه شفاعة الشافعين، هذا مع أنّا اشترطنا في تحقق الشفاعة وجود أصل الإيمان في الجملة .

الثالثة : أنّ أقصى ما يستفاد من الأدلّة الدالة على ثبوت الشفاعة هو إمکانها دون وقوعها، بل إنّ في أصل دلالة العقل عليها منعاً، وأما النقل، فإنّ ما ورد في الكتاب الكريم إما أن يدلّ على نفي الشفاعة مطلقاً، مثل قوله تعالى : « لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ» (سورة البقرة، الآية 254)، أو يدلّ على نفي الأثر عنها مثل قوله تعالى : «فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ» (سورة المدثر، الآية 48)، أو ما ورد فيه الاستثناء ، كقوله تعالى: «وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى» (سورة الأنبياء،

ص: 179

الآية 28)، وقوله تعالى : «إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ» (سورة يونس، الآية 3)، وقوله تعالى : «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ» (سورة البقرة، الآية 255)، وجميع ذلك يرجع إلى النفي كما في أمثال ذلك ممّا ورد فيه الاستثناء بالمشية، فإنّه يستعمل في القرآن في مقام النفي القطعي، وهو كثير، قال تعالى : «خَالِدِینَ فِیهَا مَا دَامَتِ السمَاوات وَ الأَرْض إِلا مَا شاءَ رَبُّكَ» (سورة هود، الآية 107)، هذا حال القرآن الكريم.

وأما السنّة الشريفة، فإنه لا يمكن التعويل عليها أيضاً، مع أنها لا تزيد على الكتاب الكريم دلالة.

والجواب عنها يظهر بعد الإحاطة بما ذكرناه في مفهوم الشفاعة ودلالة الأدلّة التي أُقيمت على ثبوتها، وذكرنا أن الآيات المباركة النافية المطلق الشفاعة أنها تنفيها عند عدم المقتضي أو وجود المانع، ولا يقول أحد بالشفاعة حينئذٍ وأما الشفاعة المطلوبة إنّما هي عند وجود شروطها، أو أنّها تنفيها عن غيره تعالی.

وأما الآيات النافية لأثر الشفاعة، فإنّما هي تنفيه في مورد خاص، وهو خصوص المجرمين المنکرین للجزاء والدِّين، فهي في الواقع تثبت الشفاعة في غير المورد المنفي فيه أثر شفاعة الشافعين، فالآية الشريفة على ثبوتها أدلّ.

وأما الآيات المشتملة على الاستثناء، فهي واضحة في أنها تدلّ على ثبوت الشفاعة لمَن أذن له الرحمن، والقول بأنها تدلّ على مجرد الاستثناء الدالّ على النفي القطعي، اجتهاد في مقابل النص الصريح،

ص: 180

وشبهة واهية لا يمكن الإصغاء إليها، وأما السنّة، فهي متواترة صريحة في المطلوب، وقد تقدّم شطر منها .

الرابعة : أن الآيات المباركة الدالّة على ثبوت الشفاعة، إنّما هي آیات متشابهات ، وليس للعقل فهيا سبيل، فلا بد من إرجاع علمها إلى الله تعالى كما أمرنا بذلك.

والجواب عنها: أن الآيات الدالّة على تحقّق الشفاعة ليست من المتشابهات، بل هي من المحكمات بعد ردّ بعضها إلى بعض، والعقل يدلّ عليها بوضوح، كما عرفت سابقاً.

الخامسة : أنّ الشفاعة في رفع العقاب بعد الاستحقاق إما أن تكون عدلاً أو ظلماً، وعلى الأول يستلزم کون تشريع أصل الحكم ظلماً، وهو قبيح بالنسبة إليه تعالى، وعلى الثاني كانت الشفاعة ظلماً، وهو لا يليق بالنسبة إلى المشفوع عنده والأنبياء الشافعين .

وهو باطل: لأنّ تشريع الأحكام حقّ وعدل، وليس غاية تشريع الأحكام أو الغرض منه خصوص الامتثال فقط، بل لها حِكَمٌ ومصالح كثيرة أخرى، مثل تکمیل العباد وامتحانهم، ومنها إظهار سعة رحمته بعد المخالفة، إلى غير ذلك من الحِكَم، مضافاً إلى ما تقدّم في مفهوم الشفاعة من أنّها لا تغيِّر الحكم، بل توجب العفو عن المجرم بعد شمول العقاب له، فيكون الحكم والشفاعة ورفع العقاب كلّها عدلاً.

ومن ذلك يظهر الجواب عمّا يقال : من أنّ الشفاعة في رفع العقاب عن المجرمين موجبة للاختلاف في الفعل، واستلزام نقض

ص: 181

الغرض المنافي للحكمة، فإنّ بطلانه واضح، لأنّه تحديد للأغراض الواقعية بنظر الإنسان وقدر إدراكه، مع أن الواقع أعم من ذلك، كما ثبت بالبراهين العقلية في الفلسفة . والشفاعة من الأسباب التي جعلها الله تعالی لينال عباده الرحمة والغفران كما عرفت .

الشفعاء:

الشفاعة ثابتة بالأصالة الله تعالى، ولغيره عزّ وجلّ بإذنه ورضاه ، ويستفاد من الكتاب والسنّة أن الشافعين في العباد متعددون وكثيرون، ونتعرض لجملة منهم.

والشافع الحقيقي بالذات، هو الله تبارك وتعالى، فهو في التكوين بمعنی جعل الأسباب على مقتضى الحكمة، وفي التشريع العفو وإسقاط العقاب ، أو رفع الدرجات كما في جميع أسمائه المباركة الحسني، فإنّه تعالى هو الرزّاق والرحيم والغفور والودود إلى غير ذلك، وهي لا تنافي وجود الوساطة ، بل الوسائط في ظهورها للخلق ومظهرية الكلّ لها، وهكذا بالنسبة إلى الشفاعة بمعنى الشافعية والشفيع في حقّه عزّ وجلّ، وعلى ذلك جرت مشيئته المقدّسة على انتظام النظام الأحسن بأسبابها، قلّت أو كثرت، فإنّ مبدأ الكلّ عنه، ومرجع الكلّ إليه، وحقيقة كلّ موجود تنطق بلسان الحال «إِنَّا لِلّهِ وَإنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ» (سورة البقرة، الآية 155)، ولكن لا نفقه هذا النطق وإن برز ذلك لمَن علم الأسرار وارتفعت عنده الحجب والأستار، ويدلّ على ذلك جملة من الأخبار، ففي جملة من الدعوات المعتبرة : «وأستشفع بك إلى نفسك»، و«اللهم إنِّي أستشفع بك إليك» .

ص: 182

ومن أسمائه الحسنى : الشافع والشفيع، وقال تعالى : «قُلْ لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا» (سورة الزمر، الآية 44)، فهو الشفيع المحض في الحقيقة، وفي الحديث عن الرضا عن آبائه علیهم السّلام ، عن رسول الله صلی الله علیه و آله : «إذا كان يوم القيامة تجلّى الله عزّ وجلّ لعبده المؤمن، فيوقفه على ذنوبه ذنباً ذنباً، ثم يغفر الله له، لا يطلع الله له ملكَاً مقرَّباً ولا نبياً مرسلاً ويستر عليه ولا يطلع عليه أحد، ثم يقول السيئاته : كوني حسنات».

وإذا تأمّلنا في حقيقة الشفاعة فيه جلّ جلاله ، فإنّها ترجع إلى رازقيته تعالى، لأنّ الرازقية لا تختصّ بعالَم دون عالَم، ولا بنوع خاص من الممكنات دون نوع، بل هي تعمّ جميع ما سواه من مخلوقاته ، سواء المجرّدات والنفوس والماديات ، كلّ بحسبه وحياته ، كما يصف به نفسه، قال تعالى : «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا» (سورة فاطر، الآية 41)، فإنّ هذا الإمساك ليس إمساكاً خاصاً ومن جهة مخصوصة، بل هو من جميع الجهات، بكلِّ ما يتصوّر من معنى الإمكان والحاجة .

فمعينه القيومية لجميع ما سواه حدوثاً وبقاء، وإفناء وتبديلاً للصور إلى الأخرى، هذا بالنسبة إلى المعية العامة لجميع ما سواه .

وله جلّت عظمته معية أخرى لأكرم خليقته وهو الإنسان، الذي قال فيه: «وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً» (سورة الإسراء، الآية

ص: 183

70)، وهذه المعية هي التي تراد من قوله تعالى: «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ» (سورة الحديد، الآية 4)، فإنّها معية خاصة تشمل عالم انحصار الأسباب إلا فيه والانقطاع إلا إليه، وهل يعقل للرزق حينئذٍ معنىّ أجلّ وأدق وأفضل من نجاة نفوس محتاجة غاية الاحتياج إليه في شدائد الأهوال وتبدلات الأحوال؟!

ويمكن إرجاع ذلك إلى الرحمة الواسعة التي شملت ما سواه .

أو إلى الرأفة، فإن جميع ذلك من أسمائه الحسنى وصفاته العليا ، وفي ذلك يشير ما ورد عن الصادق علیه السّلام : «إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك وتعالى رحمته حتى يطمع إبليس في رحمته».

والشفيع الثاني هو سيد الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله ، الذي هو مبدأ للنبوات السماوية في علم الله تعالى، والعلة الغائية، ولا بد من تقدّمها في العلم، فإنّه الشفيع المطلق بعد الباري عزّ وجلّ، ولذا صار شهيداً على الجميع، قال تعالى : «وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ» (سورة النحل، الآية 89)، فالشفاعة تنزل على نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله؛ ومنه إلى غيره، لأنّ له المقام المحمود - قال تعالى: «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» (سورة الإسراء، الآية 79)، المفسَّر بمقام الشفاعة في عدة من الأخبار، وكذلك قوله تعالى : «وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» (سورة الضحى، الآية 5)، وقد وردت روایات متواترة من الجمهور وغيرهم في ثبوتها له صلی الله علیه و آله، بل يمكن أن يعدّ من ضروريات الدِّين، ففي

ص: 184

الحديث المعروف : «ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي»، وفي تفسير العياشي عن أحدهما عیلهم السّلام في قوله تعالى : «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» قال لي : «الشفاعة».

ومن الشافعين في العباد : الوسائط التكوينية والأسباب الطبيعية ، فإنّها شفعاء عند الله تعالی ووسائط بينه عزّ وجلّ وبين خلقه، قال تعالى: «لَّهُ مَا فِی السَّمَاوَاتِ وَمَا فِی الْأَرْضِ، مَن ذَا الَّذِی یَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» (سورة البقرة، الآية 25)، فإنّ جعل الشفاعة بإذنه بعد مالکيته لما في السموات والأرض، يدلّ على أنّها إنّما تكون في التكوینیات ، بل يمكن أن يكون شيء بوجوده التكويني شافعاً في هذا العالَم قبل قيامة الساعة وانسداد باب التوبة ورفع الحجّة عن الأرض، وذلك قبل القيامة بأربعين يوماً، ويدلّ على ذلك قوله تعالى : «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» (سورة الأنفال ، الآية 33)، وما ورد عن نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله: «لولا شيوخ ركع، وبهائم رتع، وأطفال رضع، لصب العذاب عليكم - الحديث -»، وما ورد في الكعبة والقرآن من أنّهما أمانان لأهل الأرض، وغير ذلك، ويأتي في الموضع المناسب شرح ذلك إن شاء الله تعالی.

ومنهم: الوسائط التي توجب المغفرة من الله عزّ وجلّ أو القرب إليه كالتوبة، قال تعالى: «قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ» (سورة

ص: 185

الزمر، الآيتان 53 و 54)، وقد تقدّم البحث في التوبة في أحد مباحثنا بالتفصيل، وعن عليّ علیه السّلام : «لا شفيقع أنجح من التوبة».

ومنهم: الإيمان قال تعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَ ءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَ يَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ» (سورة الحديد، الآية 28)، والآيات في ذلك كثيرة، في الحديث عن نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله في أخبار متواترة : «كلمة لا إله إلّا حصني، فمَن دخل حصني أمن من عذابي».

ومنهم: الأعمال الصالحة، سواء كانت من نفس المشفوع له أو من غيره :

أما الأول: فيدلّ عليه آيات من الذكر الحكيم، قال تعالى : «وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ» (سورة المائدة، الآية 9).

وأما الثاني : فقد ورد في الحديث المتواتر عن نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله: «يلحق بالميت كلّ عمل خير يؤتى له بعد موته من الصلاة والصيام والحج والصدقة، حتى إنّه ربما كان في ضيق فيوسع له ذلك»، وعنه صلی الله علیه و آله أيضاً: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له بعد موته، أو مصحف يقرأ فيه»، ونظير ذلك أخبار كثيرة.

ويمكن القول بأنّ هذه الأخبار بإطلاقها تشمل الشفاعة في عالم البرزخ أيضاً، سواء في تخفيف العذاب أو رفع الدرجات في ذلك

ص: 186

العالم، ولا محذور فيه من عقل أو نقل، وعليه شواهد كثيرة من الأخبار يأتي ذكرها في الموضع المناسب.

ومنهم: القرآن الكريم قال تعالى : «يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ اَلسَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (سورة المائدة، الآية 16)، وفي الحديث : أنه يقال لقارىء القرآن : «اقرأ وارق»، وأي ارقّ في الدرجات .

ومنهم: الملائكة، قال تعالى : «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ * وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا» (سورة المؤمن، الآية 7)، وقال تعالى : «وَ الْمَلائِكَةُ’ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِى الاَرْضِ اَلا اِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحيمُ» (سورة الشورى ، الآية 5)، وقال تعالى: «وَ كَمْ مِنْ مَّلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَرْضَى» (سورة النجم، الآية 26)، وغير ذلك من الآيات الشريفة الدالّة على ثبوت الشفاعة للملائكة، منطوقاً ومفهوماً.

ومنهم: سائر الأنبياء والمرسلين، فإنّ لهم الشفاعة أيضاً، وما ورد في بعض الروايات من أنّ الأنبياء إنّما يرجعون إلى نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله في ذلك، فيصحّ أن يقال : إنّ لهم الشفاعة بعد الإذن من سيد الأنبياء، وليس لهم تلك قبل الاستئذان منه، كما تقدّم في بعض الروايات، فإنّ لهم القابلية والاستعداد لهذه المنزلة الكريمة والمقام العظيم، فقد ذكرنا أنه ليس كلّ أحد ينال هذه الموهبة الإلهية ، بل لا بد من الاستعداد الذاتي الذي لا يعلمه إلا الله تعالی .

ص: 187

نعم، يمكن الحصول على هذا الاستعداد بالإيمان والأعمال الصالحة والمجاهدات الحقّة، ولذلك تختلف مراتب الشفاعة حسب اختلاف الاستعدادات، وتشتدّ مراتبها كماً وكيفاً باشتداد مراتب المعارف المعنوية التي يحيط بها نفس الشافع، وأصل ذلك كلّه شروق نور أزلي على النفس، فيضيء وتستضيء منه النفوس المستعدة ، فهو الشافع الشفيع، وهو النور المضيء، وبأنواره تجلّت قلوب العارفین، وبها حصلت بشارة المخبتين، ومنها تتلألأ سيماء المؤمنين، والجميع يسرعون حسب مقاماتهم ودرجاتهم إلى جنات النعيم، فلا أول لهم إلا من الله، ولا آخر لهم إلا إليه، فهم أظهروا حقيقة العبودية ، فأحاطت بهم العنايات الربوبية، وكشفت عن بصائرهم الحجب، فادهشوا بما أدركوا من أنوار رب الأرباب .

ترى المحبين صرعى في ديارهم *** كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا

ومن ذلك يظهر أنّ كلَّ من سعی بحسب جهده إلى الوصول إلى هذا المقام، ينال هذه الموهبة الإلهية والفيض الرباني، سواء في ذلك الأنبياء والأوصياء والعلماء والمؤمنون، كل حسب استعداده .

وعلى ذلك يحمل ما ورد من الاختلاف في شفاعة الأنبياء ورجوعهم إلى نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله ، فإنّه إمامهم، وهو أكملهم، وله المقام المحمود، ففي الحديث في قوله تعالى: «وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ و إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ» ، قال علیه السّلام: «لا يشفع أحد من أنبياء الله ورسله حتى يأذن الله له إلا رسول الله ، فإنّ الله أذن له في الشفاعة قبل يوم القيامة ، والشفاعة له ثم من بعد ذلك للأنبياء»، وتقدّم ما يدلّ على ذلك .

ص: 188

ومنهم: بنت خاتم الأنبياء وسيدة النساء الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء علیهاالسّلام، ذکر السيوطي في الدر المنثور، والعسكري في المواعظ، والمتقي الهندي في کنز العمال، عن جابر: «أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله رأي على فاطمة علیهاالسّلام کساءً من أوبار الإبل وهي تطحن، فبکی، وقال : يا فاطمة، اصبري على مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غداً، ونزلت : «وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى» .

وروی محب الدين الطبري في ذخائر العقبى : عن عليّ عليه السّلام قال : قال رسول الله صلی الله علیه و آله لفاطمة علیهاالسّلام : يا فاطمة، تدرين لِمَ سُميَّت فاطمة؟ قال عليّ علیه السّلام : يا رسول الله، لِمَ سُمِّيت فاطمة؟ قال : قد فطمها وذرّيتها عن النار يوم القيامة»، أخرجه الحافظ الدمشقي أيضاً، والروايات بهذا المعنى متواترة بين المسلمين.

وأخرج النسائي عن نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله : «وإنّما سمّاها فاطمة ، لأنّ الله عزّ وجلّ فطمها ومحبّيها عن النار».

بل إنّ شفاعة سيدة النساء من شفاعة سيد الأنبياء صلی الله علیه و آله ، لما رواه الجمهور وغيرهم بأسانيد متواترة عنه صلی الله علیه و آله: «فاطمة بعضة منّي»، وليس المراد من لفظ «البضعة» الجزء الخاص كاليد والعين والقلب، بل المراد الجزء السرياني في بدنه الأقدس، من حيث تعلّق الروح المقدّسة المؤيَّدة بروح القدس، ويشهد لما قلناه أنّ علمها من علمه صلی الله علیه و آله، وقد أجمع أولادها المعصومون علیهم السّلام على أن عندهم مصحف فاطمة، بل كانوا يفتخرون به، وهو من إملاء رسول الله صلی الله علیه و آله وخطَّ علیًّ علیه السّلام

ص: 189

بيده، وفيه علم ما كان وما یکون، كما في الروايات، ولا يعقل الانفكاك بين البضعة السريانية والكلّ.

ومنهم: الأئمة الهداة علیهم السّلام ، فإنّ لهم مقام الشفاعة في الآخرة، والنصوص في ذلك متواترة بين المسلمين عموماً وخصوصاً.

ومنهم : العلماء والشهداء، ففي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله : «ثلاثة يشفعون إلى الله عزّ وجلّ فيشفعون: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء»، ولعلّ الترتيب محمول على ترتّب مقامهم عند الله عزّ وجلّ، وعن الصادق عليه السّلام : «إذا كان يوم القيامة بعث الله العالم والعابد، فإذا وقفا بين يدي الله عزّ وجلّ قيل للعابد: انطلق إلى الجنة . وقيل للعالم : قف، تشفع للناس بحسن تأديبك لهم».

ومنهم : المؤمن حتّى السِّقط منه، ففي الحديث عن النبي صلی الله علیه و آله : «تناكحوا وتناسلوا، فإني أباهي بكم الأُمم ولو بالسقط يجيىء محبنطئاً على باب الجنة ، فيقال له: ادخل فيقول: لا حتى يدخل أبواي - الحديث-» .

أقول: المحبنطىء : العظيم البطن، يعني امتلأ جوفه غيظاً، وفي الرواية بحث يأتي التعرّض له في محلّه إن شاء الله تعالی.

وفي تفسير العياشي: عن عبيد بن زرارة قال : سئل أبو عبد الله عن المؤمن هل له شفاعة؟ قال علیه السّلام : نعم، فقال له رجل من القوم : هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد صلی الله علیه و آله يومئذٍ؟ قال علیه السّلام : نعم، إنّ للمؤمنين خطايا وذنوباً، وما من أحد إلا ويحتاج وشفاعة محمد يومئذ - الحديث - ».

ص: 190

وفي تفسير العياشي - أيضاً - عن أبان بن تغلب قال : سمعت أبا عبد الله علیه السّلام يقول: إنّ المؤمن ليشفع يوم القيامة لأهل بيته، فيشفَّع فيهم حتى يبقى خادمه فيرفع سبابتيه فيقول : يا رب، خریدمي كان يقيني الحرّ والبرد، فيشفع عنه».

الشفاعة ومتعلّقاتها:

قد عرفت أن الشفاعة إما أن تكون تكوينية، فهي تتعلّق بكلِّ شيءٍ في عالم التكوين.

وإما أن تكون تشريعية، تتعلّق بالثواب والعقاب، وهذه على در جان :

فمنها : ما تتعلق بكلّ ما يوجب العقاب حتى الشرك بالله تعالى ، وهي التوبة والإيمان بالله ورسوله.

ومنها: ما تتعلق ببعض الذنوب والتبعات، کالأعمال الصالحة ، قال تعالى: «اِنَّ الْحَسَناتِ یُذْهِبْنَ السَّیِّئاتِ»(سورة هود، الآية 114).

ومنها: الشفاعة المعروفة في يوم القيامة، وهي شفاعة الأنبياء والمرسلين ومن تقدّم ذكره، وهي الشفاعة الكبرى، وهي تتعلّق بالكبائر مطلقاً، سواء كان موردها حقّ الله سبحانه وتعالى، أو حقّ الناس، أو هماً معاً، ويدلّ على ذلك ما رواه سلیمان بن داود عن الرضا عن آبائه علیهم السّلام، قال : قال رسول الله صلی الله علیه و آله: إذا كان يوم القيامة ولّينا حساب شيعتنا، فمَن كانت مظلمته فيما بينه وبين الله عزّ وجلّ حكمنا

ص: 191

فيها فأجابنا، ومَن كانت مظلمته فيما بينه وبين الناس استوهبناها فوهبت النا، ومن كان مظلمته فيما بينه وبيننا كنا أحقّ مَن عفا و صفحه، هذا ولكن ورد في السنّة الشريفة أن بعض الذنوب لا تتعلّق به الشفاعة، فتكون هذه الأخبار تخصيصاً لعمومات الشفاعة، ونشير إلى بعضها.

منها : الاستخفاف بالصلاة، ففي الحديث: عن أبي بصير، عن أبي جعفر علیه السّلام؛ قال : «قال رسول الله صلی الله علیه و آله: لا ينال شفاعتي مَن استخف بصلاته ، لا يرد علىًّ الحوض، لا والله»، وعن أبي بصير أيضاً قال : دخلت على أم حميدة أُعزيها بأبي عبد الله علیه السّلام، فبكت وبكيت لبكائها، ثم قالت: يا أبا محمد، لو رأيت أبا عبد الله علیه السّلام عند الموت لرأيت عجباً، فتح عينيه ثم قال : اجمعوا كلَّ مَن بيني وبينه قرابة، قالت: فما تركنا أحداً إلا جمعناه، فنظر إليهم ثم قال : إنّ شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة»، والروايات في ذلك متواترة.

ومنها: شرب الخمر، فعن نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله: «ليس منِّي مَن استخفّ بصلاته، لا يرد عليَّ الحوض ولا والله، ليس منِّي مَن شرب الخمر، لا يرد علىَّ الحوض»، والروايات في ذلك كثيرة.

ومنها: سوء الخلق، فعن السكوني، عن أبي عبد الله علیه السّلام قال : «قال النبي صلی الله علیه و آله : أبي الله لصاحب الخلق السيِّء بالتوبة، قيل : وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: لأنّه إذا تابت من ذنب وقع في ذنب أعظم منه»، وعنه صلی الله علیه و آله أيضاً: «إياكم وسوء الخلق، فإنّ سوء الخلق في النار لا محالة»، وغير ذلك من الروايات .

ص: 192

ومنها: قتل النفس المحترمة، فعن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله علیه السّلام : «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً، قال علیه السّلام : ولا يوفَّق قاتل المؤمن متعمّداً للتوبة»، وعن ابن أبي عمير، عن سعيد الأزرق، عن الصادق علیه السّلام: في رجل قتل رجلاً مؤمناً، يقال له : من أيَّ مينة شئت، إن شئت يهودياً وإن شئت نصرانياً وإن شئت مجوسياً»، وقد ورد شبه هذا التعبير في التسويف بالحجّ أيضاً.

ومنها: المباردة إلى ارتكاب المعاصي وإتيان المحرَّمات اعتماداً على شفاعة سيد الأنبياء لأمته، فإنّ شمول أدلّة الشفاعة لهذه الصورة ممنوع، ويستفاد ذلك من خبر حفص المؤذن السالف ذكره .

ولكن مع ذلك كله، فإنّ الشفاعة أمر غيبيّ لا تناله الحدود، والله يغفر لمَ، يشاء ويعذّب مَن يشاء .

زمان الشفاعة:

تقدّم ما يتعلَّق بالشفاعة بقسميها، والحق عدم اختصاصها بزمان خاص، فهي تعمّ جميع ما يرد على الإنسان من العوالم، سواء في الدنيا والحشر والنشر ومواقف القيامة ، حتى يتحقّق الاستقرار في دار القرار، وقضاء الله الحتم بالخلود في الجنّة أو النار .

ولكن يستفاد من مجموع الأدلّة الواردة في الشفاعة، أنّ الشفاعة الكبرى إنّما هي بعد الحشر، فهي تختصّ بالآخرة، كما تدلّ عليه الأدلّة النقلية، وهي إما أن تتعلق بالعصاة الذين دخلوا النار فينتفعون بها

ص: 193

ويخرجون من النار، كما يدلّ عليه الحديث الوارد في الجهنميين ومرّ ذكره، وإما أن تتعلَّق بالعصاة وأصحاب الكبائر قبل دخول النار، فيكون تأثيرها إسقاط العذاب، وتقدّم ما يدل على ذلك أيضاً.

وأما الشفاعة في الدنيا، فإنّ بعض إطلاقات الأدلة الواردة في الشفاعة يدلّ على ثبوتها فيها، ولا محذور فيه من عقل، فإنّه بعد إذنه تعالی عن علم أنه أهل للشفاعة لا تختصّ بعالَم دون آخر، ويدلّ على وقوعها بعض الآيات الشريفة، قال تعالى : «وَ لَمّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى اُدْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ * فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» (سورة الأعراف ، الآيتان 134 و135)، والظاهر من الآية الشريفة أنهم طلبوا شفاعة موسى عليه السّلام في رفع العذاب عنهم .

هذا بالنسبة إلى الشفاعة التشريعية المتعلَّقة بالثواب والعقاب .

وأما الشفاعة التكوينية، فإنّها واقعة في هذه الدنيا ولا يمكن إنكارها، فإنّ الدنيا عالم الأسباب، وقد ذكرنا أن الإيمان بالله تعالی والأعمال الصالحة وغيرهما من الأسباب، إنّما هي شفعاء بين العبد وبين الله تعالى، ويدلّ عليه قوله تعالى: «مَّن یَشفَعْ شفَاعَهً حَسنَهً یَکُن لَّهُ نَصِیبٌ مِّنهَا وَ مَن یَشفَعْ شفَاعَهً سیِّئَهً یَکُن لَّهُ کِفْلٌ مِّنْهَا وَ کانَ اللَّهُ عَلی کلّ ِ شیْءٍ مُّقِیتاً» (سورة النساء، الآية 85)، وتقدّم ما يرتبط بذلك فراجع.

ومن ذلك رجوع أهل الإيمان إلى نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله، وأولياء الله

ص: 194

تعالى الذين لهم قدم راسخ في مراتب الإيمان، فإنّ ذلك من الشفاعة عند الله تعالی لنيل المقاصد ونجح المطالب، وليس من الشرك كما يدّعيه بعض، بل هما موضوعان مختلفان، فإنّ إذن الله للواسطة ينفي الشرك ويسقطه بالمرّة، وهو يرجع إلى جعل مَن ارتضاه الله تعالی واسطة لأن يدعو في رفع العذاب ، كما تقدّم في الآية السابقة من طلبهم إلى موسى أن يدعو في رفع العذاب عنهم، ولا يتوهم المؤمن الذي يتوسّل بالوليّ أنّ له جهة موضوعية في رفع المخاطر والأضرار أو في إتيان النفع، وإلا فهو من الشرك في مرتبة توحيد الفعل، الذي ينافي لا حول ولا قوة إلّا بالله ، لا في مرتبة المعبودية حتى ينافي لا إله إلّا الله ، وبينهما فرق كبير ، كما لا يخفى على الخبير، فطلب الشفاعة ممّن أذن له الله تعالى في الشفاعة ليس من العبادة له حتى يشمله قوله تعالى : «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَي اللَّهِ زُلْفَی» (سورة الزمر، الآية 3)، وليس ذلك بعادم النظير، فإنَّ قراءة القرآن في شفاء مرض والتقرّب به إلى الله تعالى، والتَّداوي بالأدوية التي خلقها الله تعالى لشفاء الآلام والأسقام وغير ذلك، ليس من الشرك ولا يتوهّمه أحد في ذلك، وكذا في المقام ويأتي تتمة الكلام في الآيات المناسبة إن شاء الله .

وأما عالَم البرزخ الذي يتوسّط بين عالَم الدنيا والقيامة، فإنّ الوجوه المتصوِّرة فيه هي : إما أن تكون الشفاعة في عالَم البرزخ من نفس الموجودين فيه، أو من الدنيا فيه، أو من الآخرة فيه، ولا رابع في البين .

ص: 195

والجميع لا موضوع له، لأن مورد الشفاعة الكبرى إنّما هو بعد نصب الموازين يوم القيامة والحساب وثبوت استحقاق العقاب فإنّ بدعاء الشفيع يرفع العقاب، بإذن الله تعالی.

نعم؛ بعض الأعمال الصالحة والخيرات من الأحياء في الدنيا للأموات توجب التوسعة عليهم إن كانوا في ضيق، والأخبار في ذلك متواترة.

وقد ورد في بعض الروايات : أنّ الدفن في في بعض الأمكنة المقدّسة، كالدفن في الحرم الإلهي أو ظهر الكوفة، يرفع جملة من المضايقات عن الميت ، ولكن ذلك ليس من الشفاعة المعهودة، بل هو تصرّف وحكومة يمنحها الله تعالى لهم، ولكن يستفاد من بعض الأدعية المأثورة أن التصرفات المعنوية في عالم البرزخ منحصرة بالله تعالى، مثل ما ورد في الدعاء: «وتولَّ أنت نجاتي من مساءلة البرزخ، وادرأ عنِّي منكراً ونكيراً، وأرعيني مبشِّراً وبشيراً»، ويأتي في الموضع المناسب الكلام في عالم البرزخ .

الشفاعة في الأديان الإلهية:

لا تختصّ الشفاعة المعهودة بالإسلام، بل هي ثابتة في سائر الأديان الإلهية وإن كان بينها تفاوت يسير في مفهومها، وذلك يرجع إلى السَّير التكاملي في المفاهيم الدينية وسائر الأمور، كما قرّرناه في أحد مباحثنا السابقة، مع أنّنا ذكرنا أن الشفاعة ليست وليدة دین خاص، بل هي أمر اجتماعي ّالإسلام والأديان الإلهية، ويستفاد ذلك من

ص: 196

أسفار التوراة والإنجيل، ففي سفر أيوب من التوراة الإصحاح 33 فقرة 23 ما يدلّ على ذلك، وكذلك في الإصحاح 5 فقرة 1، وغير ذلك ممّا ورد فيه . وأما في الإنجيل فقد وردت هذه العبارة فيه كثيراً: «يسوع المسيح الذي بذل نفسه لأجل خطايانا لينقذنا»، أو «يطهرك المسيح من الخطايا»، وأنّ الشفاعة سرّ من أسرار الكنيسة .

غاية الشفاعة:

للشفاعة غایات وفوائد متعدّدة، نذكر المهمَّ منها :

فمنها: توجيه النفوس المستعدة إلى مقام النبّوة، خصوصاً سید الأنبياء الذي هو الأصل والأساس للشفاعة .

ومنها: أنّها توجّه الناس إلى الصالحين من عباد الله ، الذين أذن الله تعالى لهم بالشفاعة.

ومنها: ترغيب الناس إلى السَّعي في صالح الأعمال والإخلاص فيها، لعلَّ الله تعالى يرضى عنهم ويجعلهم بأنفسهم من أهل الشفاعة .

ومنها: عدم يأس الناس من رحمة الله تعالی بعد رجائهم في الشفاعة.

ومنها: بقاء الناس في مقام الرجاء والخوف الذي حثّ عليه القرآن الكريم والأنبياء والمرسلون.

هذه هي أهم غايات الشفاعة، وهناك فوائد أخرى تظهر للمتتبع في أدلّة الشفاعة .

ص: 197

بحث فلسفي كلامي:

لا ريب في ثبوت السعادة والشقاوة للإنسان، والأولى عبارة عن الخير للإنسان. والثانية تقابل ذلك. وللعلماء والفلاسفة فيهما أقوال ومذاهب. ومحصِّل تلك هي : أنه إذا لوحظ الإنسان بالنسبة إليهما يتصوَّر على وجوه :

الأول: أن تكون السعادة ذاتية للسعيد، والشقاوة ذاتية للشقي، بالذاتي الحقيقي المعبَّر في محله بالذاتي الإيساغوجي.

الثاني : أن يكون كلّ واحد منهما ذاتياً له، بمعنى كونهما من لوازم الذات، كذاتية الزوجية الأربعة والفردية للثلاثة، المعبّر عنه في محلَّه بذاتي باب البرهان .

وهذان الوجهان باطلان في نظام التشريع، لأن القول بهما ينافي الاختيار الذي يتقوّم به التشريع مطلقاً، كما دلّت عليه الأدلّة العقلية والنقلية .

ولكن استند بعض إلى قول نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، وشرارهم في الجاهلية شرارهم في الإسلام».

ويردّ عليه ما عرفت آنفاً من أن القول به بنافي القواعد العقلية المتقنة، الدالّة على ثبوت الاختبار، وأنّ التشبيه في الحديث الشريف إنّما هو من بعض الجهات دون جميعها :

ص: 198

الثالث: أن يكون من مجرد الاقتضاء لا الذاتي، وهذا هو الصحيح الذي يستفاد من مجموع الأدلّة الواردة في الطينة والميثاق، والشقاوة والسعادة، وهو الموافق للقواعد العقلية الدالّة على ثبوت الاختيار في استحقاق الثواب والعقاب .

وحينئذٍ فالشفاعة الكبرى التي ذكرنا أنّها ثابتة لنبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله الذي هو واسطة الفيض، وسائر الأنبياء والأوصياء، إنّما هي في هذا القسم من السعادة والشقاوة، ولا موضوع لها في الوجهين الأولين ، العدم قابلية المحلِّ لها، وقد ذكرنا أنها شرط في ثبوت الشفاعة، ويدلّ على ذلك ما ورد في الشفاعة، ويدلّ على ذلك ما ورد في الشفاعة ، مثل قوله صلی الله علیه و آله: «ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمتي»، فإنّ المستفاد منه أنّ موردها الأفعال، فلا تكون في مرتبة الذات والذاتیات ، فيكون مورد الشفاعة السعادة والشقاوة على الوجه الثالث، فإنّه القابل للتغيير والتبديل بعروض الموانع.

وقد ذكرنا أن السعادة والشقاوة على درجات :

منها : ما يكون الإنسان فيهما بالغاً إلى أقصى درجات الكمال .

ومنها: ما يكون الإنسان سعيداً ذاتاً وشقياً فعلاً، وبالعکس.

ومنها: ما لتتم له فعلية السعادة والشقاوة، ولكن لا بد من زوال الهيئات الرديئة وبروز الحقيقة، فإما أن ترزق التطهير فتزول الشقاوة العرضية، أو تسلب السعادة العرضية وتظهر شقاوة النفس، أو تكون مرجوة لأمر الله تعالى إن لم تكتمل في السعادة والشقاوة وفارقت الحياة

ص: 199

ناقصة مستضعفة، فالشفاعة في هذه المراتب والأقسام إنّما تزيل الهيئات الرديئة الشقية التي لزمت النفوس.

أما النفوس الكاملة في الشقاوة، التي أثرت المعاصي والذنوب في ذاتها، وانقلب المقتضي إلى الذاتي، فلا موضوع للشفاعة فيها، وهذا من إحدى الأصول التي بني بعض أكابر الفلاسفة (رحمة الله عليه) المعاد الجسماني عليها، وقال بعضهم:

قدم خمرت طينتنا بالملكة *** وتلك فينا حصلت بالحركة(1)

«اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ».

الآية الشريفة تقرّر أعظم المعارف الإلهية، وأهم أصل من أصول الدين، الذي إليه يدعو جميع الأنبياء والمرسلين. وأنّ الاعتقاد به يجعل العبد في الصراط المستقيم، ويحثّه على العمل القويم، يطلبه الإنسان بالفطرة ويترنّم باسمه في كلِّ حالة، ألا وهو الله المعبود بالحقّ الواحد الأحد الذي اجتمع فيه جميع صفات الكمال .

وما في الآية الشريفة هو الحدّ الفاصل بين الاعتقاد الصحيح وغيره، فقد قررت توحيد الله تعالى في الذات والمعبودية والصفات .

ص: 200


1- مواهب الرحمن، ج4، ص182 - 213

وقد وصفته بأصول صفات الكمال وهي الحياة، والقيومية ، والمالكية، والربوبية العظمى، والعلم، فلا تخفى عليه خافية في السماوات والأرض، ولا يحيط بعلمه أحد. وهذه هي أمهات الأسماء الحسنى، وإليها يرجع سائرها، وقد نزّهت عنه جميع ما لا يليق بساحة كبريائه .

فهي تثبت المبدأ والمعاد للتلازم بينهما، فتضمّنت الآية الشريفة توحيد الله تعالى والصفات العليا والأسماء الحسنی، وتنزيهه عمّا لا يليق به، واتصافه بصفات الجمال والجلال، على نحو يستشعر العبد بعظمته وكبريائه ، وحكمته وعلو قدره وعظم شأنه، فيقف بين يديه خاضعاً ذليلاً مذعناً بوجوب طاعته والوقوف عند حدوده وأحكامه ، ونبذ ما لا يليق بساحة كبريائه والإعراض عمّا يسخطه ولا يرضى به ، فالمعتقد بها يؤمن بما ورد في القرآن الكريم، وما جاء به سید و المرسلين.

فالآية المباركة بحقّ أعظم آية في كتاب الله المجيد، وإنّها من کنوز العرش، وإنّها تعدل ثلث القرآن .

ومن ذلك يعلم وجه الارتباط بما سبق وما يأتي من الآيات الشريفة .

ص: 201

في رحاب آية الكرسي

قوله تعالى : «اَللّهُ».

الله : عَلَم لواجب الوجود المعبود بالحقّ إله العالمین جلّ جلاله ، وهو أجلّ لفظ لأعظم معنيّن فوق ما نتعقلّه من معنى العظمة والجلال .

وتقدّم في سورة الحمد ما يتعلّق به، وقلنا: إنّه سواء كان اللفظ من وَلِه بمعنى التحيّر، لتحيّر جميع ما سواه فيه جلّ وعلا، وأنّ غاية ما في وسع الجميع إنّما هي الإشارة إليه تعالى بهذا اللفظ العظيم وأمثاله من أسمائه المباركة، وأما الحقيقة، فدونها حجب كثيرة .

أو كان من إلِهَ بمعنى العبودية ، لكونه المعبود بالحقّ.

أو عَلَم مختصّ به جلّ جلاله ، فإنّ جميع ذلك يستلزم أنّه متّصف بجميع صفات الكمال، ومنزَّه عن النقائص والأوهام، وقد نسب إلى نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله : «أنّ هذا هو الاسم الأعظم الذي يتأثر منه العالَم» .

قوله تعالى : «لَّا إِلَهَ إِلاّ هُوَ».

نفي للمعبود مطلقاً وحصر فيه جلّ وعلا، بل نفي للحقيقة الحقّة وإثبات لها فيه تعالى، لأنّ غيره في معرض الزوال والفناء.

ص: 202

والإله هو الذات المتّصفة بصفات الألوهية، من وجوب الوجود والحياة والقدرة وغيرها.

أي : لا ذات تستحق الصفات الإلهيّة إلا الله تعالى، والضمير يرجع إلى اسم الجلالة الدالّ على الذات المقدّسة، المتّصفة بجميع صفات الجمال والجلال، وقد تقدّم بعض الكلام في قوله تعالی : «وَ إِلَاهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ» (سورة البقرة، الآية 163).

ونزيد هنا: أنّ الوجه في إتيان الضّمير مفرداً دون الجمع، لما ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّه تعالى إذا كان في مقام بيان الصفات المقدسة العليا، أو في مقام الرحمة والامتنان على العباد، يأتي بالمفرد، وإذا كان في مقام بيان القدرة والقارية والكبرياء، يأتي بضمير الجمع.

وقد كرّرت هذه الجملة المباركة المبتدأة باسم الجلالة والمنتهية بلفظ «هو» في ستّة مواضع من القرآن الكريم، أحدها المقام، والثاني قوله تعالى : «اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ» (سورة آل عمران، الآية 3)، والثالث قوله تعالى : «اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ» (سورة النساء، الآية 87)، والرابع قوله تعالى: «اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» (سورة طه، الآية 8)، والخامس قوله تعالى : «اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» (سورة النمل، الآية 26)، والسادس قوله تعالى : «اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ» (سورة التغابن، الآية 13). وعن بعض المتتبعين أنّ لهذه الجملة المباركة آثاراً عجيبة حصلت بالتجربة، ويشهد لما ذكره (قدس

ص: 203

سره) أن هذه الجملة في جميع الموارد التي ذكرت اقترنت بمهام الصِّفات الجمالية والجلالية . ووحدته الحقّة الحقيقية سرت إلى الألفاظ التي تطلق عليه عزّ وجلّ.

قوله تعالى : «اَلْحَيُّ».

حصر للحياة فيه تعالى، فهي فيه عزّ وجلّ حقيقية ذاتية، لا أن تكون إضافية، كما ستعرف.

أي : هو الحي فقط، وغيره في معرض الزوال ومستمد منه عزّ وجلّ، قال تعالى: «وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ» (سورة طه، الآية 111)

والحي من الصفات المشبّهة التي تدلّ على الثبوت والدوام، کالرحيم والعليم، أي : أنّه الحياة الثابتة، ومفهوم الحياة معلوم وظاهر ، وهي التي تبتني عليها جميع الإحساسات والإدراکات، ويلازمها العلم والقدرة، وبانتفائها تتعطل جميع قوى الحي ومشاعره وأفعاله، وهي على مراتب، وأصولها الحياة الإنسانية والحيوانية والنباتية، وحياة المجرّدات، وقد ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم في مواضع متعدّدة ، قال تعالى : «اِعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» (سورة الحديد، الآية 17)، وقال تعالى : «وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى» (سورة الشورى، الآية 9).

وأقسامها ثلاثة : الحياة الدنيا ، والحياة البرزخية، والحياة الآخرة ، وقد وردت في القرآن الكريم، قال تعالى: «رَبَّنا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ» (سورة غافر، الآية 11)، وسيأتي أنّ المراد من الحياتين الحياة البرزخية والحياة الآخرة.

ص: 204

وأما الحياة الدنيا فقد وصفها الله تعالى بأوصاف مختلفة، كلّها تدلّ على ذم هذه الحياة ورداءتها وزوالها، بخلاف حياة الآخرة التي وصفها الله تعالى بأنها الحياة الكاملة، قال تعالى : «وَمَا هَذِهِ الْحَيَوةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» (سورة العنكبوت، الآية 46)، كما وصفها بالأمن والخلود والهناء وعدم النقص في كلِّ ما يرتبط بها، قال تعالى : «ءَامِنِینَ * لَا یَذُوقُونَ فِیهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَهَ الْأُولَی وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِیمِ» (سورة الدخان ، الآية 56)، وهي أبدية لا غاية لها بحسب الآخر والمنتهى، قال تعالى : «خَالِدِینَ فِیهَا مَا دَامَتِ السَمَاوات وَ الأَرْض إِلا مَا شاءَ رَبُّكَ» (سورة هود، الآية 108)، ولكنّها محدثة مسبوقة بالعدم، فهي الحياة الكاملة على الإطلاق، ولكن مع ذلك هي مسخرة تحت إرادة الله تعالى، مملوكة له عزّ وجلّ، قال تعالى: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (سورة النحل، الآية 97).

فتكون حياته جلّت عظمته حياة حقيقية كاملة واجبة فيه عزّ وجلّ، بريئة من النقص، يستحيل عليها الموت والفناء، قال تعالى: «وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَلْحَيِّ اَلَّذِي لا يَمُوتُ» (سورة الفرقان، الآية 58)، وهي متقوّمة بالعلم والقدرة، ولها مراتب غير متناهية، لانتهائها إلى ما يكون عین ذات الله جلّت عظمته، ولا مبدأ لأوّلها ولا منتهى لآخرها، لأنه أزليّ أبديّ بذاته ، وكذلك يكون ما هو عين ذاته، أي الحياة والعلم والقدرة .

ص: 205

وهذه الحياة منحصرة في الله تعالى، وليست حياته حياة فردية شخصية، بل هي حياة كلّية حقيقية، هي مبدأ حياة كلِّ حيّ، من حياة النبات والحيوان والإنسان والروحانيين، والأرواح الشامخة والعقول المجرّدة، بل وجميع ما سواه حتّى الجمادات، فإنّ لها حياة خاصة لا ندركها، كما يظهر من قوله تعالى : «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» (سورة الإسراء، الآية 44)، وقوله تعالى : «أَنْطَقَنَا اللّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ» (سورة فصلت، الآية 21)، فإنّ جميعها مستمدة من تلك الحقيقة الواحدة البسيطة، فتكون حياته عزّ وجلّ منشأ الأرواح وأصلها، وبدوامها تدون، بلا فرق بين الأرواح العلوية والأرواح السفلية والجواهر المقدّسة الروحانية، فهي منشأ الخيرات ومنبع البركات، وهي الغيث المستغيث والغياث المستغاث في عالمّي الأمر والخلق، اللذين يجمعان جميع الممكنات .

والحيّ أم الأسماء الحقيقية المحضة، كالقدرة ونحوها كما يأتي .

قوله تعالى : «اَلْقَيُّومُ».

حصر للقيوميّة فيه عزّ وجلّ فقط، قلبت الواو ياءً بعد أن كان الأصل قيووماً، وادعمنا فصار قیومة، للقياس المطرد على ما هو المعروف عند الأدباء، كما أنّ أصل القيام القوام، فعل به ما فعل بنظيره .

والقيوم من أسمائه الحسنى، ومعناه : القائم بالأمر، المتعهّد بالحفظ والتدبير والمراقبة، وقد أطلق عليه تعالى قبل الإسلام أيضاً، قال أمية بن أبي الصلت :

ص: 206

لم تخلق السّماء والنجوم *** والشمس معها قمر يقوم

قدّره مهیمن قیّوم *** والحشر والجنة والنعیم

إلا لأمرٍ شأنه عظیم

وهو تعالى قائم بأمر خلقه وتدبير شؤونهم عن علم تام وحكمة كاملة، وهو دائم بدوام ذاته، لا يعتريه ضعف ولا فتور.

وتستلزم القيمومة على خلقه جملة من الصفات العليا الحقيقية ذات الإضافة، كالخلق والرزق، والإحياء، والإماتة، والرحمة، والغفران، ونحو ذلك ممّا يتطلّبه شؤون خلقه.

فهو من أمهات الأسماء ذات الإضافة، والفرق بين الأسماء الحقيقية ذات الإضافة والإضافية المحضة، يأتي في البحث الفلسفي إن شاء الله تعالی.

قوله تعالى : «لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ» .

السِّنة - بكسر السين - النعاس، وهو الفتور الذي يعتري الإنسان قبل النوم، واصل السنة، وَسنة حذفت الواو .

والنوم معروف، وهما - أي السِّنة والنوم - متلازمان غالباً، ولكن قد يطرأ النوم من دون أن تغلب السنة .

وقد نفى سبحانه وتعالى عن ذاته الأقدس كلا الأمرين، لأنّ القيومية على خلقه تتطلب أن يكون قائماً على تدبير خلقه في جميع الحالات، وإلا كان من الخلف الباطل، فلا مقتضي للنوم فيه جلّ

ص: 207

جلاله بوجه من الوجوه، فيكون ترتّب هذه الجملة على الحيِّ القيوم من ترتّب المعلول على العلّة، فيستفاد منها أنّ ما لا يكون كذلك تأخذه السنة والنوم.

ومن ذلك يعلم: أنّ تقديم السنة على النوم إنّما هو من باب إثبات عدم النوم بالأولوية، ولو قدّم النوم لما أفاد هذا المعنى، أي: مَن لا تأخذه مقدمات النوم، كيف يعقل أن يأخذه النوم؟!

وما قيل : من أنّ هذه الجملة على خلاف الترتيب الذي تقتضيه البلاغة في أمثال المقام، فإنّه لا بد أن يكون من الأقوى إلى الأضعف، بخلاف مقام الإثبات، فإنّ الترتيب فيه يكون من الأضعف إلى الأقوى .

فإنه يرد عليه مضافاً إلى ما تقدّم : أنّ الترتيب في كلا المقامين - مقام الإثبات ومقام النفي - إنّما يدور مدار صحّة الكلام.

والتعبير ب_(الأخذ)، لنفي جميع ما يتصوّر في عروض السنة والنوم على ذاته الأقدس عزّ وجلّ.

قوله تعالى : «لَهُ ما فِی السَّمواتِ وَالاْرْضِ».

معلوم آخر للواحد للحيّ القيوم، فإنّه إذا انحصر الحيّ القيوم في الفرد الواحد، يكون كلّ ما سواه له، لا بمعنى المالكية والملكية فقط ، بل إنّ كلّ ما ينصوَّر في السماوات والأرض من جهات الاحتياج والاستكمال له تعالى، وليس ذلك من المشترك اللفظي في شيء، لأنّ اللفظ مستعمل في المالكية الحقيقية للذات بجميع لوازمها وملزوماتها، فالسّموات والأرض وما فيهما خاضعة لإرادته وحاضرة لديه، وهي

ص: 208

قائمة به عزّ وجلّ، فالقيومية العظمى تستدعي سعة إحاطته وقدرته وملکه لجميع السّماوات والأرض، وهي تدلّ على تفرّده بالألوهية، وأنّ السلطان المطلق لله تعالی.

وممّا ذكرنا يعرف : أنّ هذه الجملة في موضع التعليل لنفي السِّنة والنوم عنه تعالى أيضاً، يعني: مَن كان مالكاً للسَّماوات والأرض وما فيهمان وقيّوماً عليها، لا يمكن أن تأخذه السِّنة والنَّوم، وإلا استلزم المحال، وهو تعطیل شؤون الملك، كما أنّه لو نام ربان السفينة مثلاً وغفل عن شؤونها لغرقت السفينة .

قوله تعالى : «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ» .

استفهام إنكاري، أي ليس لأحد الشفاعة والتأثير في ملکه وسلطانه إلا بإذنه ، لأنّه إذا كان المعبود بالحقّ منحصراً فيه عزّ وجلّ، وهو الحيّ القيوم لجميع خلقه، وله جميع ما سواه ملكاً وتدبيراً وإيجاداً وإفناءً، لا يعقل أن يشفع عنده بدون إذنه، لأنّه محال بالضرورة.

والآية الشريفة بعد إثبات السلطان المطلق له تعالى والملكية الحقيقية فيه عزّ وجلّ، تثبت قانون الأسباب والمسبّبات، أي الشفاعة التكوينية بإذن الله تعالى، وقد ذكرنا سابقاً أنّ الشفاعة المنفية ما إذا كانت منافية للسلطان الإلهيّ ومستقلّة عن مشيئة الله تعالى، وأما إذا كانت بإذنه عزّ وجلّ، فلا مانع منها، فإنّه ما من سبب إلا ويكون تأثيره من الله تعالى، فهو القيوم المطلق، فتصرّفه إنّما يكون منه جلت عظمته، بل إنّ الأسباب في عالم التكوين حاكية عن جماله وصفاته

ص: 209

العليا، ونظير الآية المباركة قوله تعالى : «إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ اَلَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ» (سورة يونس، الآية 3)

وأنا الشفاعة التشريعية، فتكون بإذنه عزّ وجلّ بالأولى، لأنّها من شؤون تشريعاته المقدّسة التي يكون التكوين من مقدّمات حصولها، وقد تقدّم الكلام في الشفاعة فراجع.

قوله تعالى : «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ» .

كناية عن كمال إحاطته بالموجودات، وسعة علمه بالمخلوقات .

والمراد بما بين أيديهم الحاضر المشهود، وبما خلفهم الغائب المستور، فيشمل جميع سلسلة الزمان الحاضر والماضي والمستقبل، وهي بمنزلة التعليل لنفي الشفاعة إلا بإذنه .

يعني: أنّ مناط الشفاعة هو العلم الإحاطي بالعباد بما فعلوه ويفعلونه، وسائر جهاتهم وخصوصياتهم في سلسلة الزمان من الحاضر والماضي والمستقبل، ومثل هذا العلم منحصر في الله جلّت عظمته، فلا بد أن تكون أصل الشفاعة وجميع ما يتعلّق بها وسائر إضافاتها، من حيث الشافع والشفيع و متعلّق الشفاعة، بإذنه واختياره عزّ وجلّ، حدوثاً وبقاءً في الدنيا والآخرة، فلا كمال ولا استكمال إلا منه تعالى، ولا يقدر أحد على التصرف في ملكه، ولا رادّ لقضائه جلّت عظمته إلا منه و به تعالى، ولهذه الآية الشريفة نظائر في القرآن الكريم، قال تعالى :

ص: 210

«بَلْ عِبادٌ مُّكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ» (سورة الأنبياء، الآية 26 و 27 و 28).

قوله تعالى : «وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ».

تأكيد لسعة علمه وكمال إحاطته ونفي علم ما سواه به تعالی . أي: أنّ أحداً من خلقه لا يقدر أن يحيط بما يعلمه إلا إذا شاء .

ومن هذه الآية الشريفة يستفاد عجز ما سواه عن الإحاطة به تعالی، لأنّ صفاته العليا وأسماء الحسنى غير متناهية كذاته المقدّسة ، وما سواه متناه، وعدم إمكان إحاطة المتناهي بغير المتناهي من البديهيات الأولية .

فالعلم الله تعالى وحده، وهو يختصّ به عزّ وجلّ، وما يوجد عند غيره إنّما هو من علمه ومشيئته وإرادته، وهو تعالی محیط بما سواه وقائم على خلقه، ولا تتم قیّومیته على خلقه إلا بإفاضة ما يحتاجون إليه من العلوم والمعارف لتكتمل بذلك سعادتهم الدنيوية والأخروية ، ولا يختص ذلك بذوي العقول، بل لطفه وعنايته شاملتان لجميع مخلوقاته، فهي مستفيضة من فيضه العليّ، ويدلّ على ذلك جملة من الآيات المباركة، قال تعالى: «وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً» (سورة النحل، الآية 68)، وهي تحت إرادته وتربيبه العظمی، ومن مظاهر فیضه وإحسانه وآثار رحمته وامتنانه ، ذاتاً وصفةً حدوثاً وبقاءً، فجميع نظامه التكويني والتشريعي ينبعث عن نظامه الرّبوبي، وما

ص: 211

سواه محتاج إليه في البقاء كاحتياجه إليه عزّ وجلّ في أصل الحدوث ، الا يقدر أن يقدم على خلاف إرادته عزّ وجلّ، وهو قائم بإرادته وتدبيره الأتم وحكمته البالغة، وفي كلِّ آن له تعالی ربوبية خاصة وشأن غير ما في الآن السابق، قال تعالى: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» (سورة الرحمن ، الآية 29)، ومَن كان كذلك يكون جميع ما سواه کرسيّاً له، لأنّ أظهر صفات الكرسي كونه مظهراً من مظاهر القدرة والاقتدار والتدبير والإرادة .

فالآية الشريفة تدلّ على تمام تدبيره وكمال إحاطته بمخلوقاته ، وهي عاجزة عن الإحاطة بخالقها وصفاته العليا، إلا بقدر ما يفيضه عليها ويرشدها إلى الكمال المطلوب.

قوله تعالى: «وَسِعَ کُرْسِیُّهُ السَمَاوَاتِ وَ الأَرْض».

مادة (ك ر س) تأتي بمعنى الجمع والمجتمع، ومنه الكرّاسة ، والكرسي - في العرف - : اسم لما يقعد عليه، ولوحظ فيه المعنى اللغوي أيضاً لاجتماع الحال والمحل، أو اجتماع الأجزاء فيه ، ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم إلا في موردين، أحدهما المقام، والثاني قوله تعالى : «وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ، جَسَداً» (سورة ص، الآية 34)، ویکنّی به عن الملك.

والمراد به في المقام : اقتداره التام وسعة سلطانه، وهو تشبیه بلیغ بين ما هو المعقول - بل فوق المعقول - بما هو المحسوس، وله نظائر كثيرة في الكتاب الكريم .

ص: 212

وتعقيب تلك الصفات العليا والأسماء الحسنی بهذه الآية بدلّ على أنّ المراد هو ثبوت الملك الحقيقي له تعالى، وكمال إحاطته واقتداره و تمام تدبيره به، وقيام جميع الممكنات به عزّ وجلّ، فإنّ کرسیه بمعنى انتساب جميع المخلوقات إليه انتساباً إشراقياً. وهو من مظاهر فيضه المطلق غير المحدود، فيعمّ جميع الممکنات.

فكما أنّ في أسماء الله المقدسة اسماً جامعاً لجميعها، ويصحّ انتزاع سائر الأسماء الحسنی منه، وهو اسم الجلالة (الله)، حيث ينتزع منه الرّب، والرحمن، والرحيم، والجميل، والجليل، والجواد ، وغيرها من الأسماء الحسنی، فكذا لكرسيه جلّت عظمته لحاظ إجمالي، وهو جميع ما سواه من الممكنات التي وجدت وستوجد إلى الأبد، ولعل أجلّ تلك الكراسي كرسيّ العلم، الذي به تقوم السّموات والأرض، كما أنّ به تنتظم شؤون خلقه وتدبير ملكه على الحكمة البالغة.

وإنّما شبّه سبحانه وتعالى - ما في ساحته المقدّسة التي تجلّ عن المادة وشؤونها، فإنه لا کرسیَّ ولا جلوس هناك ، تقريباً إلى الأفهام - بما اعتاد في صفات الملوك والعظماء فشبه عظمته وكبرياءه وسلطانه التام بكرسي الملك المقتدر المدير لرعيته والمدبر لشؤونها، وإلا فليس ما سواه إلا من مظاهر أسمائه وصفاته .

وفي المقام كلام طويل على بعض مباني الفلسفة الإلهية ، أعرضنا عن ذكره وسيأتي في الموضع المناسب بيانه إن شاء الله تعالی .

ص: 213

ومن ذلك تظهر المناقشة في كثير ممّا ذكره المفسّرون في تفسير هذه الآية المباركة، والعجب أنّ بعضهم أقرّ بأنّ كرسيه تعالی کناية عن كمال إحاطته وتدبيره وسلطانه التام، يقول بأنّ الكرسي شيء يضبط السموات والأرض لا يمكن معرفة كنهه وحقيقته. وليس ذلك إلا من التهافت في الكلام.

قوله تعالى : «وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما» .

الأود: المشقة والثقل والجهد، والضمير يرجع إليه عزّ وجلّ، أي : لا يشق عليه حفظ السّماوات والأرض، ولا يجهده ويتعبه ذلك . ولا ريب فيه لأنّ الإخراج من العدم إلى الوجود أقوى وأشدّ من الحفظ بعد الوجود والثبوت، وبعد أنّ الممكن بعد الحدوث يحتاج إلى العلّة ، فالعلّة المحدثة في كلِّ أنٍ تكون معه، فلا يتصوّر موضوع للأود والمشقة بالنسبة إليه تعالى، مضافاً إلى قيوميته المطلقة التي لا حدَّ لها ابداً، فيكون عروض الأود من فرض القيومية المطلقة من الجمع بين المتنافيين، فالآية الشريفة تؤكد السعة العلمية والربوبية العظمى.

قوله تعالى: «وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» .

هذه الجملة تدلّ على حصر جميع الكمالات فيه عزّ وجلّ، فلا علوّ ولا عظمة إلا فيه ومنه تعالى، وقد وردت في عدّة مواضع من القرآن الكريم، وقرن اسم العلي بالكبير، قال تعالى: «وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» (سورة سبأ، الآية 23)، وبالحكيم قال تعالى : «إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» (سورة الشورى، الآية 51)، وقال تعالى : «لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ»

ص: 214

(سورة الزخرف، الآية 4)، كما أطلق اسم الأعلى عليه جلّ جلاله، قال تعالى : «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» (سورة الأعلى، الآية 1)، وقال تعالى : «إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى» (سورة الليل، الآية 20)، كما أورد اسم العالي في أسمائه المباركة الحسني في جملة من الدّعوات المأثورة .

والمعنى : هو العليّ في ذاته وجميع شؤونه وصفاته ، فهو المتعالي عن الشرك والأنداد، وعن الضعف في وجوده وصفاته، والفتور في ملکه وأمره العظيم في شأنه وجلاله، وأمره وسلطانه ، فلا يعجزه كثرة مخلوقاته، وهو المنزّه عن الاحتياج إلى غيره في ملکه وسلطانه .

ويمكن أن تكون هذه الجملة حالية، أي : كيف يؤوده حفظهما وهو العليّ العظيم بالنسبة إلى ما سواه مطلقاً، فلا يعقل عروض التعب والمشقة عليه.

وهذه الآية الشريفة خلاصة ما ورد في المعارف الربوبية، تشتمل على الذات المقدّسة وأمهات الأسماء الحسنى وأصول الصفات العليا، وكلّ ما قيل في ذلك مقتبس من هذا النور الإلهي، فهو الله لا إله إلا هو المتنزّه عن الأشباه والأنداد، له جميع الصِّفات العليا الجمالية والجلالية.

فهو الحيّ القيوم الذي لا يأخذه ضعف ولا فتور ولا يصيبه کلال ولا ملال في حفظ مخلوقاته، وهي محتاجة إليه تعالى، متعلّقة بأمره ومشيئته، وهو متعال عنها، عظيم في جميع شؤونه، لا يشبهه أحد من خلقه .

ص: 215

وقد اشتملت هذه الآية على كلِّ ما يسوق العباد إليه . وهي تملأ القلب مهابة من الله جلّ جلاله، وتجعل النفس خاشعة ذليلة أمام عظمته وكبريائه وجلاله، وتزيد في معرفة العبد الله تعالى، وتقوده إلى ساحة قدسه، وهو يستشعر بالحياء منه وقلبه مليء من عظمته وجلاله، قد أعرض عن غيره وقطع أمله عن سائر خلقه، وتوكّل عليه واعترف بالعجز والقصور لينال ما هو المأمول.

ولأجل اشتمال هذه الآية على تلك المعارف العليا كانت لها آثار خاصة لم تكن في غيرها من الآيات، ذكر في السنّة الشريفة بعض منها(1).

ص: 216


1- م.ن، ص214. 225، ج4

بحوث المقام

بحث دلالي:

تدلّ الآية الشريفة على أمور:

الأول : إنّما عبّر باسم الجلالة (الله) في صدر الآية المباركة، الدلالته على الكمال المطلق فوق ما نتعقّله من معنى الكمال، ولازم ذلك انحصاره في فرد ونفي الشريك عنه ذاتاً وصفة وفعلاً، لأن الشرك مطلقاً ينافي فرض الكمال المطلق وهو خلف، وبهذا الدليل القويم يستدلّ على التوحيد في الذات والصفات والأفعال، وهو يغنينا عن إطالة الكلام في ذلك، ولأجل ذلك تكرَّرت هذه الآية في القرآن الكريم، قال تعالى: «اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» (سورة طه، الآية 8)، وقال تعالى: «اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ» (سورة النمل، الآية 26)، وقال تعالى : «اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ عَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (سورة التغابن، الآية 13)، إلى غير ذلك من الآيات المباركة لا سيّما إذا انضم إليها جملة (الحي والقيوم)، لأنّها تتضمّن أم الأسماء الجمالية والجلالية، والأصل في نظامي التكوين والتشريع، والرابط بين عالم الغيب بالشهادة وعالم الشهادة بعالم

ص: 217

الغيب ، وفيها أهمّ أسرار عالم الملكوت، وهي النور الذي يتدفق عن عالم الجبروت، يستحيل على الممکنات تحمل معناها، فترى العقول صرعى دون بلوغ مغزاها، قد أدهش الأملاك جلالها، فتراهم خاضعين لا يرفعون الرؤوس، وحیّر الأفلاك فلا تزال تتحرّك شوقاً إلى الاقتراب، وكلّما تقترب میلاً تفرّ أميالاً لشدّة أشعة الجلال وعظمة الاحتجاب ، يحترق كلّ من دنا منها، وماذا أقول في اسم هو حياة كلّ ذي حياة وقيوم كلّ ذي ذات - جوهراً كان أو عرضاً.

الثاني : يستفاد من قوله تعالى : «وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما» ، أن حفظ السماوات والأرض أعظم من إيجادهما، فإنّ حفظ الشيء أعظم بكثير من إيجاده، لأنّه يتطلَّب جهداً أكبر، فكم قد رأينا أنّ مَلِكاً وصل إلى الملك ولم يقدر على حفظه وإبقائه، فحرم من الاستمتاع به، ولكن هذا غير متصوَّر بالنسبة إلى الله تعالى، فإنّه القادر القهّار على جميع ما سواه، حدوثاً وبقاءً ، إيجاداً وإفناءً ، فلا مضادَّ له في حكمه ولا ندّ له في ملكه، وقد جمع ذلك في قوله عزّ وجلّ : «وَسِعَ کُرْسِیُّهُ السمَاوَاتِ وَ الأَرْض وَ لا یَئُودُهُ حِفْظهُمَا».

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ» ، تمام الإحاطة العلمية بالمخلوقات، وأنّ جميع المتدرجات الزمانية بل الدهرية، حاضرة لدى علمه عزّ وجلّ، حضوراً علميّاً إحاطياً، وأنّها کذرة فلاة غير محدودة .

والتدرج إنّما هو في مرتبة المعلوم بالعرض، لا في مرتبة العلم

ص: 218

الإحاطي الغيبي، وأنّ غيب الغيوب حاكم على الشهادة بكلِّ معنی الحكومة إيجاداً، وتقديراً، وتدبيراً، وإفناءً ، وتبديلاً لصورة إلى أخرى، فهو المبدئ والمعيد والمصوِّر لكلِّ ما شاء وأراد .

كما يشمل قوله تعالى جميع الممكنات التي منها الإنسان - من بدء حدوثها إلى آخر فنائها، إذ لا معنى لمالكيته تعالى للسّماوات والأرض وعلمه بها إلا ذلك، فيعلم تعالى جميع ما يتعلّق بالإنسان، أنواعه وأفراده، وجميع صفاته وحالاته، وسعادته وشقاوته وأفعاله وأقواله، حتّى خطرات القلوب ولمحات العيون.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: «وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ»، على أنّه تمتنع الإحاطة بعلم الباري تعالى إلا بمسمّى المشيئة ، ويستفاد منه أنّ كلَّ علم يفاض منه تعالى على الممكن لا بد أن يكون محدوداً بالمشيئة، ولا يمكن للعقول درك خصوصيات المشيئة ولا الجهات المقتضية للإفاضة، وإن كان يستفاد من قوله تعالى : «وَ اتَّقُوا اَللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللّهُ» (سورة البقرة، الآية 282)، أنّ لحقيقة التقوى دخلاً كبيراً فيها، فإنّها توجب صفاء القلب واستعداده للاقتباس من الأنوار الغيبية، فإذا انعكس شعاع الشمس على المرأة الظاهرية الجسمانيّة ، كيف يحتمل أن لا تنعكس الأنوار الغيبية الواقعية في المرآة الحقيقية الواقعية؟!

الخامس: يحتمل أن يكون متعلق المشيئة الإحاطة، كما يحتمل أن يكون نفس العلم، ويحتمل أن يكونا معاً، وعلى أيَّ تقدير لا يكون

ص: 219

إلا بقدر القابليات والاستعدادات، قال تعالى: «أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها» (سورة الرعد، الآية 17).

نعم، لو فرض الفناء المطلق فيه جلّت عظمنهن بحيث تزول الاثنينية، فهناك بحث خاص يقصر اللسان عن بيانه والقلم عن تحريره ، فإنّ جميع جهاته حاليّة لا أن تكون مقالية .

السادس: يستفاد من هذه الآية الشريفة - وما في سياقها من الآيات - أنّ المعبود بالحقّ، لا بد أن يكون فيه هذه الأمور : الحيّ، القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم وغيرها، لأنّ هذه كلها ذاتية له، فيمتنع التخلّف وتنحصر لا محالة في الله جلّت عظمته .

وما يتوهَّم من أنّه يستلزم التركب في الذات الأقدس، لا وجه له، لأنّ جميع ذلك يرجع إلى سلب الإمكان والنواقص الواقعية والإدراكية عنه ، فتكون الذات بسيطة فوق ما نتعقّله من معنى البساطة .

السابع : ظاهر نفي السنة والنوم عنه تعالى، نفي حقيقتهما عنه مطلقاً، فيكون عدم الاختباري منهما عنه جلّت عظمته أيضاً، بل بالأولى، كما أنّ مقتضى ذلك نفيهما عنه تعالى في الأزل والأبد، لا أن يكون مختصّاً بوقت دون آخر.

وظاهر الآية الشريفة أن عدمهما مختصّ به عزّ وجلّ، أي نفي ذاتهما مطلقاً بجميع مراتبهما الممكنة فيهما.

وأما غيره تعالى، فإنّه لا دليل من عقل أو نقل على انحصار حقيقة النوم والسِّنة فيما يعرضان للحيوان فقط، بل لهما مراتب كثيرة لا

ص: 220

يعلمها إلا علام الغيوب، ومن تلك المراتب ما نسب إلى نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله : «تنام عيني ولا ينام قلبي»، وقد رأينا بعض المشايخ أنّه رحمه الله في أثناء بحث التفسير ينام، مع أنّه كان مشغولاً بالبحث حين النوم بلا خلل منه في البين.

فالقيوم الذي له القيومية الفعلية على ما سواه من كلِّ جهة، والممكن الذي هو زوج ترکيبي له ماهية ووجود، شيئان لا وجه لقياس أحدهما بالآخر.

مع أنّ للسِّنة والنوم مراتب كثيرة، ونفي جميعها منحصر به تعالى، كما أثبتناه سابقاً.

وأما العقول وبعض الروحانيين وسادات الملائكة، فإنّ نفي بعض المراتب عنهم لا يستلزم نفي الجميع كما هو معلوم .

مع أنّ المقهورية المطلقة لما سواه عزّ وجلّ من أعظم أنواع النوم الجميع الممکنات.

نعم، مَن كان حياته بحياته وأفني جميع شؤونه في مرضاتهن بحيث لا يرى لنفسه ذاتاً ولا صفةً ولا فعلاً، وقد وصل إليه کتاب کریم من الحيِّ القيوم إلى الحيِّ القيوم كما في بعض الروايات ، فهو خارج عن موضوع ما يكتب وما يختلج في الأوهام، ولكنه مع ذلك كلّه بالنسبة إلى الأبد، لا بالنسبة إلى الأزل، فارتفع الوفاق وحصل الافتراق .

الثامن : قد أهمل تعالى إفاضة ما يفيضه من العلم، وعلّقه على

ص: 221

مشيئته وإذنه تعالى، إذ لا يحتمل البيان غير الإجمال، لأنّ إفاضة العلم منه عزّ وجلّ على أقسام:

الأوّل: أن تكون الإفاضة من سلسلة العلل الطولية، حتّى تنتهي إلى ذاته المقدّسة، فيحيط المفاض عليه بتمام خصوصیات عالم الشهادة والغيب، حتّى يصل إلى غيب الغيوب الذي لا يعقل له حدود ولا نهاية ، فتكون حقائق جميع ما سواه تعالى منطوية في هذا العلم، وفي بعض الدّعوات المأثورة عن نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله: «اللهم أرنا الأشياء كما هي».

الثاني : أن تكون الإفاضة علم الحقائق العامة البلوي بما لها من الآثار .

الثالث : أن يفيض علم الآثار من حيث لوازمها وملزوماتها دون أصل الحقائق.

الرابع: إفاضة بعض الآثار إجمالاً.

الخامس : أن يتخصص كلّ فردٍ بخصوصية خاصة. ويمكن أن تُصوَّر الأقسام أكثر من ذلك، والتفصيل لا يسعه المجال في مقام الثبوت ومقام الإثبات .

بحث أدبي:

المعروف بين أهل اللغة والأدب أنّ (اللام) تأتي للملك المجرّد في مقابل سائر المعاني اللازمة للملكية، من التدبير، والتنظيم،

ص: 222

والإيجاد والإفناء وغير ذلك من لوازم الملكية عقلاً وعرفاً، وقد وضع لذلك كلّه ألفاظ أخرى يستعملونها مع تحقّق المعنى، ولا تستعمل مع عدمه مع صحة الانفكاك . وقد حصل ذلك من تصوّر الملكية في الممكنات، وانتفاء الملكية الواقعية الحقيقية من جميع الجهات .

وأما فيما هو الحقيقي الواقعي، فالملكية والمالكية تشمل جميع ما لها من اللوازم والآثار، التي لا يستلزم منها النقص من إطلاقه عليه تعالى، إيجاداً وإفناءً وتدبيراً وغير ذلك. فإنّ الملك فيه حقيقي، لا اعتباري كالدائر بين الإنسان، فالمستفاد من قوله تعالى: «لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ» ، أنَّ له الملكية الذاتية الحقيقية، الشاملة لجميع اللوازم والملزومات، التي لا توجب النقص إما بالدلالة التضمّنية أو الالتزامية، كما يقال : فلان رجل عاقل، أي : يحسن تدبيراته وعمله وشؤونه ونحوها، والكلّ منطو في معنى اللفظ الواحد.

وكلّ ما اتسع المعنى ازدادت آثاره ولوازمه و ملزوماته، ولا نحتاج إلى تكثير اللفظ خصوصاً فيه جلّت عظمته، ولأجل ذلك قلنا: إنّ لفظ (الله) اسم للذات المستجمع لجميع الصفات الكمالية الواقعية، المسلوب عنه جميع النقائص الواقعية والإدراكية، وتشهد لذلك الأدلّة العقلية والسنّة الشريفة، فيكون إطلاق اللفظ الواحد بمنزلة إطلاق ألفاظ كثيرة وسلب معان متعددة، وهذا الإطلاق يكون على نحو الحقيقة دون المجاز .

ص: 223

بحث روائي:

تقدم أنّ آية الكرسي هي أعظم آية في القرآن الكريم، التي تشتمل على جملة من المعارف الإلهية، منها التوحيد الخالص وبيان الصفات العليان ويكفي في شرفها أنّ اسم الله تعالی تکرّر فيها ثمان عشرة مرة ، بین ظاهر ومضمر، بل يمكن القول بأنّها تحتوي على كلّيات وأصول المعارف الحقّة :

أما التوحيد - فيكفي فيه قوله تعالى : «اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ» .

وأما العدل - فإنّه يكفي فيه قوله تعالى: «الْحَيُّ الْقَيُّومُ» ، إذ القومية المطلقة لا تتم إلا بالعدل، وإنّ به قامت السّماوات والأرض.

وأما النبؤة - فيرشد إليها قوله تعالى : «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ» .

والنبوّة والمعاد - متلازمان تلازم المبدأ والمعاد، لفرض أنّ النبيّ يخبر عن المعاد، فهو بوجوده في هذا العالم وجود المعاد، كما تدلّ عليه الآيات المباركة .

ومنه يستفاد الولاية أيضاً، إذ لا نبوّة كاملة إلا بتعيين الوصاية والولاية.

ولشرافة ما تضمّنته هذه الآية الكريمة صارت من أعظم الآيات وأفضلها وأجمعها، فقد ورد في السنة الشريفة ما يدلّ على فضلها وعظمة أمرها والاعتناء بها اعتناء بليغاً، والتوصية بقراءتها وحفظها، لما

ص: 224

فيها من الآثار العجيبة، وقد اشتهرت بذلك من حين نزولها، ونحن نذكر في هذا البحث جملة ممّا ورد في فضلها، وما يتعلق في عددها، وما يتعلّق بالكرسي، وما ورد في تفسير مفرداتها.

فضل آية الكرسي وشأنها:

روى السيوطي في الدر المنثور: عن النبي صلی الله علیه و آله أنّه قال : «آية الكرسي سيدة آي القرآن».

وروى البيهقي في شعب الإيمان : عن أبي ذر : «قال : يا رسول الله ، ما أفضل ما أنزل عليك؟ قال صلی الله علیه و آله : آية الكرسي».

وأخرج البخاري في تاريخه، وابن الضريس: عن أنس : أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «أعطيت آية الكرسي من تحت العرش» .

وأخرج أحمد والطبراني : عن أبي أمامة قال: «قلت: يا رسول الله، أيّما أنزل عليك أعظم؟ قال صلی الله علیه و آله : الله لا إله إلّا هو الحي القيوم، آية الكرسي»، رواه الخطيب البغدادي أيضاً.

وفي سنن الدارمي: عن أيفع بن عبد الله قال: «قال رجل: يا رسول الله، أيّ آية في كتاب الله أعظم؟ قال صلی الله علیه و آله: آية الكرسي: الله لا إله إلا هو الحي القيوم - الحديث -».

وفي الكافي : عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله : «لما أمر الله هذه الآيات أن يهبطن إلى الأرض، تعلّقن بالعرش وقلن : أي ربّ إلى أين تهبطنا، إلى أهل الخطايا والذنوب؟! فأوحى الله عزّ وجلّ

ص: 225

إليهنّ : اهبطن، وعزتي وجلالي لا يتلوكنّ أحد من آل محمد وشيعتهم في دبر ما افترضت عليه من المكتوبة في كلِّ يوم، إلا نظرت إليه بعيني المكنونة في كلِّ يوم سبعين نظرة، أقضي له في كلِّ نظرة سبعين حاجة، وقبلته على ما كان فيه من المعاصي. وهي أم الكتاب ، وشهد الله أنّه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم، وآية الكرسي، وآية الملك».

أقول: يستفاد من أمثال هذه الرواية أنّ للآيات الشريفة حياة حقيقية واقعية وإن كنا لا ندرك ذلك، ويدلّ عليه قوله تعالى : «وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» (سورة الشورى، الآية 52).

وفي تفسير العياشي: عن عبد الله بن سنان، عن الصادق عليه السّلام: «إن لكلّ شيءٍ ذروة، وذروة القرآن آية الكرسي».

وفي أمالي الشيخ بإسناده عن أبي أمامة الباهلي: «أنّه سمع عليَ بن أبي طالب علیه السّلام يقول: ما أری رجلاً أدرك عقله الإسلام أو ولد في الإسلام، يبيت ليلة سوادها، قلت: وما سوادها؟ قال علیه السّلام : جميعها حتّى يقرأ هذه الآية : «اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» - إلى قوله - «وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» ، قال : فلو تعلمون ما هي - أو قال ما فيها - ما تركتموها على حال : إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال : أعطيت آية الكرسي من كنزٍ تحت العرش، ولم يؤتها نبيّ كان قبلي، قال علي علیه السّلام : فما بتُّ ليلة قط منذ سمعتها من رسول الله إلا قرأتها».

وفي تفسير العياشي: عن الصادق علیه السّلام قال أبو ذر : «یا رسول

ص: 226

الله، ما أفضل ما أ، زل عليك؟ قال صلی الله علیه و آله: آية الكرسي، ما السموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض بلاقع، ثم قال صلی الله علیه و آله : وإن فضله على العرش كفضل الفلاة على الحلقة».

وسئل النبيّ صلی الله علیه و آله : «القرآن أفضل أم التوراة؟ فقال صلی الله علیه و آله : إنّ في القرآن آية هي أفضل من جميع كتب الله ، وهي آية الكرسي».

وعن نبيّنا الأعظم: «مَن قرأ آية الكرسي في دبر كلّ صلاة لم يمنع دخول الجنّة إلا الموت، ومَن قرأها حين ينام آمنه الله وجاره وأهل الدويرات حوله».

وعن علي عليه السّلام قال : سمعت نبیّكم صلی الله علیه و آله يقول - وهو على أعواد المنبر -: من قرأ آية الكرسي دبر كلِّ صلاة لم يمنعه من دخول الجنّة إلا الموت، ولا يواظب عليها إلا صدِّيق أو عابد، ومَن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله» .

أقول: الأخبار في فضلها كثيرة مروية عن الخاصة والجمهور، وقد ورد استحباب قراءتها في مواضع كثيرة، منها عند السفر وبعد الصلاة، وبعد الوضوء وعند المريض، وحال النزاع وسكرات الموت ، وغير ذلك ممّا هو كثير ، راجع الكتب المعدّة لذلك .

عدد آية الكرسي:

لا ريب في أنّ كلَّ ما ورد فيه ذكر آية الكرسي يراد بها إلى قوله تعالى: «وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» ، وتقدّم في حديث أبي أمامة الباهلي عن

ص: 227

عليِّ عليه السّلام التصريح بذلك، ويظهر ذلك أيضاً ممّا ورد في قراءة آية الكرسي وآيتين بعدها، فإنّه ظاهر في خروجها عنها، وهو المنصرف من إطلاق آية الكرسي، أي الآية التي يذكر فيها الكرسي، هذا إذا لم تقع قرينة على الخلاف، كما في بعض الروايات من زيادة إلى «هُمْ فِيها خالِدُونَ» ، أو زيادة «آيتين بعدها»، ففي الخبر عن عليِّ بن الحسين عليه السّلام قال : «قال رسول الله صلی الله علیه و آله: مَن قرأ أربع آيات من أوّل البقرة وآية الكرسي وآيتين بعدها وثلاثاً من آخرها، لم يَرَ في نفسه وماله شيئاً يكرهه، ولا يقربه الشيطان ولا ينسى القرآن»، فحينئذٍ يؤخذ بها في موردها.

وفي تفسير القمّي ذكر آية الكرسي إلى : هم فيها خالدون - والحمد لله ربّ العالمين.

أقول: يمكن أن يكون التحميد إرشاداً إلى استحباب ذكر الحمد بعد تمام الآيات، كما ورد في سورة التوحيد من استحباب قول: كذلك الله ربِّي»، وفي سورة الجحد من استحباب قول: «ربِّي الله وديني الإسلام» بعد تمامها، ومثل ذلك كثير في القرآن .

معنى الكرسي:

في الكافي عن الفضيل بن يسار قال : «سألت أبا عبد الله علی السّلام عن قول الله عزّ وجلّ: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ»؟ فقال : يا فضيل، كلّ شيءٍ في الكرسي، السّماوات والأرض، وكلّ شيء في الكرسي» .

ص: 228

أقول: أما قوله علیه السّلام أولاً: «كلً شيء في الكرسي» فيه إجمال، وقد بيِّنه بقوله ظليت : «السّماوات والأرض»، وأما قوله علیه السّلام ثانياً : «كلّ شيءٍ في الكرسي» فهو عبارة عمّا في السّماوات والأرض من الجواهر والأعراض والنفوس والمجردات والأملاك والأفلاك.

والمراد به : الإحاطة العلمية بما سواه كلّية وجزئية، كما فسّر بها في رواية أخرى، أو الإحاطة القيومية، فإنّه تعالی محیط بجميع ما سواه وقائم عليه بتمام معنى الإحاطة والقيومية.

وفي الكافي - أيضاً - عن زرارة قال: «سألت أبا عبد الله علیه السّلام عن قول الله عزّ وجلّ: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ» السماوات والأرض، وسعن الكرسيَّ، أو الكرسيُّ وسع السّموات والأرض؟ فقال علیه السّلام : إنّ كلَّ شيءٍ في الكرسي».

أقول: ظهر معنى الرواية ممّا مرّ في سابقتها. وأما سؤال زرارة فهو سؤال بدا في ذهنه ابتداء قبل التأمّل فيه، فأبدى الإمام علیه السّلام الجواب على حقيقته بما يزيل الوهم.

وفي المعاني: عن حفص بن غیاث قال: «سألت أبا عبد الله علیه السّلام عن قول الله عزّ وجلّ: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ»؟ قال علیه السّلام : علمه».

أقول: يصحّ التعبير عن العلم المحيط بالعرش والكرسي، ويصحّ هذا التعبير باعتبار الإحاطة والاستيلاء، فيشمل جميع جهات إحاطته تبارك وتعالى، مثل كرسيِّ الجمال والجلال والعزّة والقدرة والعظمة،

ص: 229

فما ذكره الإمام علیه السّلام بعض منها تقريباً للأفهام، ولأنّ الإحاطة العلمية جامعة لجميع ذلك.

وفي المعاني - أيضاً : عن المفضَّل بن عمر قال : «سألت أبا عبد الله علیه السّلام عن العرش والكرسيّ ما هما؟ فقال علیه السّلام : العرش في وجه : هو جملة الخلق، والكرسيّ وعاؤه . وفي وجه آخر: العرش هو العلم الذي أطلع الله عليه أنبياءَه ورسله وحججه. والكرسي هو العلم الذي لم يطلع عليه أحداً من أنبيائه ورسله وحججه علیهم السّلام ».

أقول: المراد من الوعاء ليس الوعاء الجسماني، بل الإحاطة الحقيقية .

وأما الوجه، فهو بيان مراتب علمه التي هي غير متناهية، وسيأتي البحث في علمه عزّ وجلّ مستقلاً إن شاء الله تعالی.

وفيه أيضاً: عن الصادق علیه السّلام: «السماوات والأرض وما بينهما في الكرسي . والعرش هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره».

أقول : تقدّم ما يتعلّق بقوله: «السموات والأرض وما بينهما في الكرسي»، أي : الكرسي بمنزلة الوعاء لها. وأما قوله علیه السّلام : «العرش هو العلم»، فهو صحيح بالنسبة إلى العرش الذي بمعنى العلم، وقوله : «الذي لا يقدر أحد قدره» ، أي : لا يقدر على فهم حقيقته أحد، ولا يمكن الإطلاع على جميع خصوصياته .

في تفسير العياشي: عن زرارة في قوله عزّ وجلّ : «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ

ص: 230

السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ»، قال علیه السّلام : «لا، بل الكرسي وسع السَّماوات والأرض والعرش، وكلّ شيءٍ خلق الله في الكرسي».

قال الأصبغ بن نباتة : «سئل أمير المؤمنين علیه السّلام عن قول الله عزّ وجلّ: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ»؟ فقال علیه السّلام : إنّ السّماء والأرض وما فيهما من خلق، مخلوق في جوف الكرسي، وله أربعة أملاك يحملونه بإذن الله».

أقول: قوله علیه السّلام : «لا، بل الكرسي وسع السّماوات والأرض والعرش»، دفع لما يكن أن يتوهم من أنّ السّموات والأرض وسعت الكرسيِّ كما سأله زرارة نفسه في رواية أخرى .

والمراد بالعرش: سائر مخلوقاته عزّ وجلّ أي : العرش الجسماني، وقوله علیه السّلام : «في جوف الكرسي»، عبارة عن سعته للسماوات والأرض وما فيهما، كما تقدّم في الرواية السابقة .

وأما حمل الملاك الأربعة الكرسيَّ، فهو عبارة عن مظاهر قدرة الله تعالى لحمل كرسيِّ العالم الجسماني، فلا تنافي بين هذه الرواية وبين الآيات الدالّة على ثبوت الحمل للعرش، قال تعالى : «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ» (سورة غافر، الآية 7)، وقال تعالى : «وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ » (سورة الحاقة، الآية 17)، ويأتي شرحها في موضعها، وقريب من هذه الرواية ما ورد في الاحتجاج عن الصادق علیه السّلام .

ومحصَّل الكلام في العرش والكرسي أنّهما إما معنویان

ص: 231

روحانیان، أو جسمانيان أي عالم الأجسام، ولا بد وأن يميز بحسب القرائن بين الأقسام الأربعة، لئلا يختلط بعضها ببعض، والقرائن موجودة في نفس الأخبار لمن تأمّل فيها.

في تفسير القمّي: عن الأصبغ بن نباتة : «أنّ علياً علیه السّلام سل عن قول الله عزّ وجلّ : «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ» ؟ فقال : السّماوات والأرض وما فيهما من مخلوق في جوف الكرسي، وله أربعة أملاك يحملونه بإذن الله - الحديث -». ورواه العياشي أيضاً.

أقول: تقدّم ما يتعلّق به في الرواية السابقة .

في الكافي: عن الحسين بن زید الهاشمي، عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «جاءت زینب العطارة الحولاء إلى نساء النبي صلی الله علیه و آله وبناته، وكانت تبيع منهنّ العطر، فجاء النبي صلی الله علیه و آله وهي عندهنّ فقال صلی الله علیه و آله: إذا أتيتنا طابت بيوتنا؟ فقالت : بيوتك بريحك أطيب يا رسول الله ، قال صلی الله علیه و آله: فإذا بعت فأحسني ولا تغشي فإنّه أتقى وأبقى للمال، فقالت: يا رسول الله ، ما أتيت بشيءٍ في بيعي، وأتيت أن أسألك عن عظمة الله عزّ وجلّ، قال صلی الله علیه و آله: سأحدثك عن بعض ذلك - إلى أن قال صلی الله علیه و آله - : وهذه السبع، والبحر المكفوف، وجبال البرد، والهواء، عند حجب النور کحلقة في فلاة في وهذه السبع، والبحر المكفوف وجبال البرد والهواء، وحجب النور عند الكرسي کحلقة في فلاة قي، ثم تلا هذه الآية : «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» . وهذه السبع والبحر المكفوف،

ص: 232

وجبال البرد، والهواء، وحجب النور، والكرسي عند العرش كحلقة في فلاة في، وتلا هذه الآية : «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى» » .

أقول: القيّ - بالكسر - هي الأرض القفر الخالية . وحقيقة مثل هذه الأحاديث لا يعرفها إلا مَن عبر تلك المحالّ المقدّسة، وهو مختصّ بسيد الأنبياء صلی الله علیه و آله، ويمكن أن يراد بالكرسي والعرش، الجسماني منهما - كما تقدّم - والله تبارك وتعالی محیط على الجسم والجسمانيات والرّوح والروحانيات.

في التوحيد: عن حنان قال : «سألت أبا عبد الله علیه السّلام عن العرش والكرسي؟ فقال علیه السّلام : إنّ للعرش صفات كثيرة مختلفة، له في كلِّ سبب وضع في القرآن صفة على حدة ، فقوله تعالی : «رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» يقول: رب الملك العظيم، وقوله : «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى» يقول: على الملّك احتوى، وهذا علم الكيفوفية في الأنبياء ، ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي، لأنّهما بابان من أكبر أبواب الغيوب، وهما جميعاً غيبان، وهما في الغيب مقرونان، لأنّ الكرسيّ هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع، ومنه الأشياء كلّها، والعرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف والكون، والقدر، والحد، والأين، والمشية ، وصفة الإرادة، وعلم الألفاظ، والحركات والترك، وعلم العدد، والبداء. فهما في العلم بابان مقرونان، لأنّ ملك العرش سوى ملك الكرسي، وعلمه أغيب من علم الكرسي، فمن ذلك قال : «رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» أي صفته جار الكرسي، قال علیه السّلام : إنّه

ص: 233

صار جارها لأنّ علم الكينوفية فيه، وفيه الظاهر من أبواب البداء ، وإنيتها وحدّ رتقها وفتقها، فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الظرف، وبمثل صرف العلماء، وليستدلّوا على صدق دعواهما، لأنّه يختصّ برحمته مَن يشاء وهو القوي العزيز».

أقول: أما قوله علیه السّلام : «إنّ للعرش صفات كثيرة مختلفة »ن مطابق اللواقع والحقيقة، لأنّ كلما عظم الشيء كثرت صفاته، والعرش والكرسي أعظم المخلوقات ، فتكون لهما صفات كثيرة، وقد يجتمعان في بعضها وقد يختلفان. وهذه الفقرة تدلّ على ما ذكرناه آنفاً من انقسامهما إلى قسمين، روحانی و جسماني.

والمراد من قوله علیه السّلام : «في كلّ سبب وضع في القرآن»، أي : لكلِّ سبب اصطلاح خاص في القرآن .

والمراد من قوله علیه السّلام : «وهذا علم الكيفوفة» أي: العلم بالمخلوق من حيث الكيفية، لأنّ العرش والكرسي مخلوقان له تعالى، فيجري فيهما الكيفية وسائر الجهات المخلوقة، وإن لم تجر الكيفية بالنسبة إلى الباري عزّ وجلّ، لقولهم علیه السّلام : «وهو الذي كيَّف الكيف ، فلا كيف له».

والمراد من قوله علیه السّلام : «ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي»، أي: من حيث ملاحظة العرش مع الكرسي، فهما شيئان مختلفان، لأنّهما بابان من أبواب الغيب ، وإن كانّ يجتمعان في كونهما من الغيب، وهذه صفة كلّ جنس له نوعان مختلفان، وأما كونهما بابين

ص: 234

من أبواب الغيب، فلفرض احتوائهما على جميع ما سوى الله عزّ وجلّ، ولا يمكن أن يحيط بذلك غيره تعالى، والحاوي والمحتوي غیبان محجوبان عن البصائر فضلاً عن الأبصار .

والمراد من الظهور في قوله علیه السّلام : «لأنّ الكرسيَّ هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع»، النسبي منه، أي بالنسبة إلى العرش، فيكون العرش بمنزلة الباب الداخل والكرسي بمنزلة الباب الخارج، والكرسي مطلع الموجودات الإبداعية التي خلقها الله تعالی.

ويمكن أن يراد بباب الغيب، أي ما فوقهما لا ما فيهما، وما فوقهما هو غیب الغيوب الذي هو سرّ محجوب .

والمراد من قوله علیه السّلام: «العرش هو الباب الباطن»، العرش الرّوحاني العلمي، لفرض أنّه علیه السّلام حدّد المعلومات بالنسبة إليه، ومنه يكون البداء كما ذكره علیه السّلام من جملة العلوم، وكذا علم العدد، فإنّه من أهمِّ العلوم الغيبية، وكلّ ذلك منطو في قوله علیه السّلام : «العرش هو الباب الداخل، والكرسي هو الباب الخارج»، فيكون تفصيلاً لذلك الإجمال.

والمراد من قوله علیه السّلام : «وبمثل صرف العلماء»، يعني أنّ علومهم تنتهي إلى هذا الباب الخارج، مؤيداً من الله تبارك وتعالی .

ما ورد في تفسير مفردات آية الكرسي:

في تفسير القمّي: عن أبي الحسن الرضا علیه السّلام في قوله تعالی :

ص: 235

«يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ» ، قال : «ما بين أيديهم فأمور الأنبياء وما كان، وما خلفهم ما لم يكن بعدُ إلا بما شاء، أي بما يوحی إليهم».

أقول: هذا تفسير الكلِّي ببعض مصاديق العلم، وإلا فإنّ علمه تعالی عین ذاته، فهو إحاطي بجميع ما سواه، ويمكن أن يجعل ذلك أيضاً من التعميم، فإنّ جميع العلوم لا تخرج عمّا يوحى إلى أنبيائه ، وعمّا يكون في الممکنات.

وفي تفسير العياشي: عن معاوية بن عمار، عن الصادق علیه السّلام «قلت : مضن ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ، قال علیه السّلام : نحن أولئك الشافعون»، ورواه البرقي في المحاسن أيضاً .

أقول: هذا من باب التطبيق .

في معاني الأخبار : عن محمد بن سنان، عن أبي الحسن الرضا علیه السّلام قال : «سألته هل كان الله عزّ وجلّ عارفاً بنفسه قبل أن يخلق الخلق؟ قال علیه السّلام : نعم. قلت : يراها ويسمعها؟ قال علیه السّلام : ما كان محتاجاً إلى ذلك، لأنّه لم يكن يسألها ولا يطلب منها هو نفسه ونفسه هو، قدرته نافذة ، فليس يحتاج إلى أن يسمِّي نفسه ولكنّه اختار لنفسه أسماء لغيره يدعوه بها، لأنّه إذا لم يدع باسمه لم يعرف، فأوّل ما اختار لنفسه العليّ العظيم، لأنّها أعلى الأشياء كلِّها. فمعناه الله واسمه العليّ العظيم . وهذا أول أسمائه ، لأنّه على كلِّ شيءٍ قدير».

أقول: المراد من هذا العرفان هو الوجدان بالذات، أي يجد نفسه

ص: 236

بنفسه ويكون حاضراً لدى نفسه، وهذا يجري في غيره تعالى أيضاً، لأنّ الإنسان يعرف وجود نفسه.

وأما قوله علیه السّلام : «اختار لنفسه أسماء»، لعلمه الأزلي باحتياج خلقه إليه ودعاء عباده له، فجعل تلك الأسماء وسيلة لهم.

قال تعالى : «اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» .

تقدّم بعض الكلام فيه في تفسير آية الكرسي (255 من سورة البقرة)، ونزيد هنا: الله اسم للذات المستجمعة لجميع الكمالات الواقعيّة والإدراكيّة، والمسلوب عنها جميع النقائص كذلك، ونفس تصوّر هذا المعنى بما ذكرناه في فرض العقل يغني عن إثبات صفات جماله وجلاله ومعبوديته المطلقة، وخضوع ما سواه له، ولا نحتاج إلى إقامة دليل آخر على ذلك، فالهويّة المطلقة في الكمال المطلق مجرّدة عن كلّ قيد وإضافة ، منحصرة فيه عزّ وجلّ، وقد روي أن علياً علیه السّلام قال : «یا مَن هو، يا مَن ليس هو إلا هو»، وعرض ذلك على سيد الأنبياء صلی الله علیه و آله فقال لعلي: «علمت الاسم الأعظم»، نعم هو اسم أعظم لمَن انقطع إليه تعالي كمال الانقطاع فتجلّى له حينئذٍ حقيقة أنه ليس هو إلا هو.

والحيّ القيوم بالمعنى الحقيقي لا يمكن للعقول المحدودة الإحاطة بهما، لأنهما عين الذات المقدّسة، والعقول قاصرة من وصول تلك الساحة العظمى، بل الحياة في ما سواه عزّ وجلّ من المجرّدات، وغيرها تكون شارقة جزئية من شوارق تلك الحياة .

ص: 237

كما أن المراد بالقيوميّة فيه عزّ وجلّ مدیریّته ومدبرينه وتربيته العظمى لجميع عوالم الممکنات، قیوميّة حياة تستلزم العلم والقدرة والهيمنة والإحاطة، لا أن تكون قیوميّة فاقدة للشعور والحياة ، كما في الأسباب الطبيعيّة التكوينيّة .

فيكون لفظ القيوم بهذا المعنى من الأسماء الخاصة به تعالی کلفظ (الله)، ولكن لو لوحظ فيه مبدأ الاشتقاق، وهو مطلق القيام بالشيء وعلى الشيء، ومطلق القيوميّة يكون من الوضع العام والموضوع له العام بحسب أصل المعنى، ولكن بحسب الإطلاق منحصر فيه عزّ وجلّ.

هذا إذا لم يحصل مثل هذه الألفاظ علماً له عزّ وجلّ وإلا فيسقط أصل البحث، ولعلّ أحد أسرار توقيفية أسمائه المقدّسة عدم تدخّل الجهات اللغوية والأدبية المتعارفة فيها، لتكون بنفسها مرجعاً وأصلاً يرجع إليها، لا أن يرجع فيها إلى غيرها.

ويصحّ أن يراد من القيوم مقوّم وجود كلّ موجود حدوثاً وبقاءً .

كما يصحّ أن يراد به مقوّم حياة كلّ ذي حياة، حيوانية كانت أو نباتية .

ويصحّ أن يراد به قيوم كمال كلّ ذي كمال .

والحقّ هو الأخير وسائر المعاني منطوية فيه، ولذا عقّبه سبحانه وتعالى بقوله : «إِنَّ اللّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ * هُوَ

ص: 238

الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ» ، لأن ذلك من شؤون حياته وقيوميّته المطلقة .

والحيّ والقيوم من أعظم الأسماء الحسنی .

والأول من أسماء الذات، بل الثاني أيضاً إن رجع إلى الحكمة التامّة التدبيرية والقدرة الجامعة التامّة ، كما يصحّ أن يكون برزخاً بين اسم الذات واسم الفعل باختلاف الجهة .

وإنما ذكرهما سبحانه هنا وفي آية الكرسي (255 من سورة البقرة)، لأنهما دون لفظ (الله) وفوق باقي أسمائه المباركة إلا الاسم الأعظم، بناء على كونه من مقولة اللفظ كما يظهر من بعض الروايات ، ويصحّ أن يكونا من بعض أجزائه التي من علم خصوصيات التركيب يؤثّر الأثر المطلوب.

ويمكن أن يستدلّ بهذه الآية الشريفة على وحدة المعبود، بأن يقال إنه لا بد أن يكون حیاً قیوماً، والحيّ القيوم منحصر في واحد عقلاً ونقلاً، فالمعبود منحصر بواحد كذلك.

وافتتاح هذه السورة بهذه الجملة المباركة الجامعة لجميع صفات الجلال والجمال يدلّ على كمال الاعتناء بها، وحقّ لها أن تكون سورة الاصطفاء.

وفيها التعليل لما ورد في الآية التالية، أي الله الذي هو واحد في ألوهيته وذو الحياة الكاملة، والقائم على تدبير خلقه بأحسن نظام وأتم حكمة، لقادر على أن ينزل الكتاب الفارق بين الحقّ والباطل، ولا

ص: 239

يخفى عليه أمر مخلوقاته ، فمّن آمن بما أنزل على رسله فقد فاز، ومن كفر فقد خاب وسيجزيه الله ، أنه عزیز ذو انتقام. َ

قوله تعالى : «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ» .

المراد بالكتاب القرآن الكريم، والباء في (بالحق) إما في موضع الحال، أو للمصاحبة، أي : حال كونه بالحقّ أو مصاحباً له لا يفارقه ، ولا تعتريه شبهة، ولا يطرأ عليه الباطل في جميع شؤونه .

ومصدقا حال آخر، أي : حال كونه معترفاً بصدق ما بين يديه ومبيّناً له.

والمراد بما بين يديه : ما تقدّم من الكتب الإلهية، وهي التوراة والإنجيل وغيرهما.

والتنزيل : هو النزول، وقد تقدّم في قوله تعالى: «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» (سورة البقرة، الآية 185)، كيفية نزول القرآن، والفرق بين النزول والإنزال الذي يدلّ على الدفعة.

والآية تدلّ على صحّة نسبة الكتب الإلهية المتقدّمة إلى الوحي الإلهي، وصدق بعض الحقائق التي ورد فيها، وتدلّ على ذلك آيات كثيرة، منها قوله تعالى : «إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ» (سورة المائدة، الآية 44)، وقال تعالى: «وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً

ص: 240

لِلْمُتَّقِينَ» (سورة المائدة ، الآية 46)، وقال تعالى: «وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (سورة المائدة ، الآية 48)، وقال جل شأنه: «وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ» (سورة الأعراف، الآية 145)، ويستفاد من هذه الآية الشريفة كثرة عناية الله تعالى بالتوراة، لأن جميع الكتب السماويّة - بما فيها القرآن الكريم - تشترك في أصول المعارف الإلهية التي منها الدعوة إلى المبدأ جلّ جلاله وتوحيده ونفي الأضداد والأنداد، ومنها المعاد والعدل الإلهي، والترغيب إلى رحمة الرحمن والتحذير من الشيطان وعداوته للإنسان، ومن عذاب الله تعالى، كما تذكر قصص الأنبياء وما الاقوه من الظالمين في جنب الله ونصرة الله لهم، وتبيّن قصة ابتلاء آدم علیه السّلام وإخراجه من الجنّة.

كما أنها تشترك في بيان مكارم الأخلاق وما يرتفع به الإنسان إلى أعلى الجنان وما ينزله إلى حضيض الحيوان، وتشترك في بيان المستقلات العقلية، كحسن الإحسان وقبح الظلم، وبيان جملة من التكوينيّات والطبيعيات.

إلا أنها تختلف في بعض الفروع العملية الذي يقتضيه السير التكاملي الإنساني الذي تنوط به المصالح التشريعية، وهذه كلّها أصول نظام التشريع التي لا بد وأن تجمعها جميع كتب السماء .

وبعبارة أخرى : أن الوحي السماوي بالنسبة إلى أنبياء الله تعالی

ص: 241

واحد بوجود نوعي، والتوراة والإنجيل والقرآن من أفراد ذلك النوع، كما أن الإنسان واحد نوعي له أفراد كثيرون، فيصحّ لنا تأسيس قاعدة كلّية وهي الاتحاد في الكتب السماويّة ، ولكن القرآن مظهر لجميعها، فما كان منها موافقاً للقرآن يكون صحيحاً ومعتبراً، وما كان مخالفاً له يردّ علمه إلى أهله، إلا إذا ثبت بدلیل معتبر جهة المخالفة، والأدلة القطعية التي أقاموها على نسخ القرآن هو إنما يكون بالنسبة إلى الجهات المخالفة، لا المساواة والموافقة التي هي مقتضى الأصل والقاعدة فيها .

والآية الشريف وإن دلّت على صحة نسبة التوراة والإنجيل إلى الله تعالى، ولا بد أن تكون في الجملة، لا على نحو الكلّية والمجموع، الدلالة آيات أخرى على وقوع التحريف فيهما، قال تعالى : «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ» (سورة المائدة، الآية 13)، وقال تعالى: «يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ» (سورة المائدة، الآية 15).

قوله تعالى : «وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنّاسِ»

التوراة لفظ عبراني ومعناها الشريعة، وتطلق على العهد القديم المتكوّن من أسفار موسى الخمسة، التي يسمّيها بالناموس، وهي: سفر التكوين، وسفر التثنية، وسفر الخروج وسفر اللاويين أو الأحبار، وسفر العدد. وقد وقع الخلاف بين المؤرّخين في صحة نسبة التوراة

ص: 242

الموجودة بين أيدينا إلى موسى علیه السّلام ، ولا يزال كثير من اللاهوتيين يشكّون في صحّة النسبة ويرون أنها كتبت بعد عصر موسی علیه السّلام ، وإن كان القول بأن جميع تلك الأسفار ليست من الوحي لا يخلو من غلو وإفراط في القول، فإن فيها ما يكون منسوباً إلى موسى علیه السّلام ، كما تشهد له الأدلة الكثيرة إلا أن المراد من التوراة في القرآن هي الحقيقية المنزلة على موسى علیه السّلام بوحي من الله تعالى، كما تدلّ عليه الآيات الكثيرة، قال تعالى : «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ» (سورة المائدة ، الآية 44)، وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في ما يقرب من ثمانية عشر مورداً مقرونة بالتجليل والتعظيم.

واختلف الأدباء في اشتقاقها، ونحن في غنى عن ذلك بعد کونها غير عربية الأصل.

والإنجيل كلمة يونانية ومعناها (الجلوان)، أي ما يعطى لمن يبشّر بالشيء، أو البشرى بالخلاص، وتطلق عند المسيحيين على الأناجيل الأربعة، وهي إنجيل لوقا، وإنجيل مرقس، وإنجيل متى، وإنجيل يوحنا، والعهد الجديد يطلق على هذه الأناجيل الأربعة المتكوّنة من سبعة وعشرين سفراً، تتضمّن سيرة المسيح وتعاليمه وأعمال الرسل الحواريين) ورؤيا يوحنا اللاهوتي، وقد اختلفوا في تأریخ کتابتها.

ولكن الإنجيل في القرآن الكريم هو الكتاب المنزل من الله تعالی على عيسی علیه السّلام الموصوف بأنه كتاب واحد حقيقي مشتمل على النور والهداية، وقد ورد ذكره في القرآن الكريم في ما يقرب من اثني عشر مورداً.

ص: 243

وقد اختلف العلماء في اشتقاق هذه الكلمة على وجوه، ولكن كونها غير عربية الأصل يكفينا عن الخوض في ذكرها.

ويستفاد من مجموع الآيات التي وردت هذه الكلمة فيها أن الإنجيل كتاب واحد حقيقي وليس هو متعدداً كما يدّعيه المسيحيون، وأنه لم يؤمن من السقط والتحريف كالتوارة، ويرشد إلى ذلك إفراد الاسم والتوصیف بأنه هدى للناس، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في ذلك إن شاء الله تعالی.

وإنما ذكرهما سبحانه في أوّل السورة توطئة لما سيذكره من قصصهم وما يتعلق بولادة عيسى علیه السّلام .

ومن سياق الآية المباركة يستفاد أن التوراة والإنجيل نزلنا جملة واحدة، بخلاف القرآن فإنه نزل تدريجياً، حيث عبّر تعالى : «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ» ، وقال تعالى: «وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ» ، كما مرّ سابقاً.

إن قيل: ورد نفس التعبير في قوله تعالى : «وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ» ، فيدلّ على نزول القرآن جمعاً ودفعة، فيتحقّق التنافي بين الآيتين .

قلنا: لو كان النزول والتنزیل مرّة واحدة حقيقة فالإشكال وارد، ولكن للقرآن نزولات متعدّدة كما تقدّم سابقاً في قوله تعالى : «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» (سورة البقرة، الآية 185)، فمرّة نزل نجوماً ومراراً نزل دفعة، وإنما ذكره هنا تجليلاً وتعظيماً لمقام القرآن بالنسبة إلى سائر الكتب السماويّة .

قوله تعالى : «وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ» .

ص: 244

الفرقان: ما يفرق بين الحقّ والباطل، وقد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم كثيراً، وجميعها تدلّ على تلك المعارف الإلهية والأصول الحقّة النظامية، التي تبيّن وظيفة العبد وما هو مطلوب في مقام العبودية وإقامة العدل والحقّ، فيشمل الكتب الإلهية وأنبياء الله تعالى والأحكام الإلهية التي تعيّن وظائف العبد، كما يشمل العقل وكلّ أمر محكم، ويدلّ على ذلك آیات متعدّدة، منها قوله تعالى: «وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» (سورة الأنفال، الآية 41)، وقال تعالى : «وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَ هارُونَ الْفُرْقانَ» (سورة الأنبياء، الآية 48)، وقال تعالى: «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» (سورة الفرقان، الآية 1).

والمراد به هنا القرآن الكريم، فهو باعتبار وجوده الجمعي يسمّى قرآناً، وباعتبار تفرقته بين الحقّ والباطل يسمىّ فرقاناً، وباعتبار إرشاداته يكون نوراً، وباعتبار كونه أساساً للعمل والحكم بالعدل يسمّى ميزاناً ، وتختلف أسماؤه الشريفة باختلاف صفاته المباركة.

وقيل : المراد بالفرقان : العقل، وقيل : الدلالة الفاصلة بين الحقّ والباطل، وقيل : النصر ، وقيل : الحجة القاطعة للرسول صلی الله علیه و آله على من حاجّه في أمر عيسی علیه السّلام . وفي بعض الروايات : «الفرقان هو كلّ أمر محكم، والكتاب هو جملة القرآن الذي يصدقه من كان قبله من الأنبياء»، ويظهر وجه جميع ذلك ممّا ذكرناه آنفاً .

قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اَللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» .

ص: 245

أي : إن الذين كفروا بآيات الله وجحدوا بها لهم عذاب شدید، وذلك لأن الكفر بآيات الله حرمان عن منبع النور والهداية والسعادة ، مع أن النفس مستعدّة لجميع ذلك ولها قابلية إبراز كلّ كمال من الكمالات الممكنة إلى الظهور، فيكون نفس هذا الحرمان عذاباً لما يتبعه من الندامة والشقاوة، فلا يختصّ العذاب بالآخرة، وهو ظاهر إطلاق الآية الشريفة التي توعد الكافرين بآيات الله بالعذاب في الدنيا والآخرة، وهذا من الحقائق القرآنية التي تؤكّدها جملة من الآيات الشريفة، فتعد حرمان النفس عن الكمالات التي أعدّها الله تعالى لها من العذاب، ويعدّ المعرض عنها شقياً قد سلب السعادة عن نفسه، فكلّ ما يكون سبباً لسعادة الإنسان إذا كفر به یكون عذاباً وشقاءً له، فتكون السعادة والشقاوة في نظر القرآن بسعادة الروح وشقاوتها، وأما سعادة الجسم والبدن فهي أن أوجبت سعادة الروح فهي السعادة العظمی والكمال الأتم، وإلا كانت شقاءً وعذاباً، قال تعالى : «مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمِهادُ» (سورة آل عمران، الآية 197)، فالعذاب الإلهي إنما يكون بالنسبة إلى الروح والجسم، ولكن المهم هو الأول . وهذا بخلاف ما يراه الإنسان الذي لم يعبأ بما وراء المادة ولم يتخلّق بأخلاق الله تعالى في السعادة والشقاء، فإنه يعتبر ما يكون سبباً للاستمتاع المادية - كالمال والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة -. سعادة، وما يكون بخلاف ذلك شقاء وعذاباً، وهذا مخالف لما عليه الواقع الإنساني المؤلّف من البدن والروح، والكتب الإلهية

ص: 246

إنما نزلت لتهذيب الروح وإسعادها ورفع شقائها، لا خصوص سعادة الجسم فقط، وللبحث تتمة تأتي في الموضع المناسب .

قوله تعالى : «وَ اللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ» .

مادة (نقم) تدلّ على براءة الكراهة، سواء كانت باللسان أم بالعقوبة، وهي كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم، ولا تدلّ المادة بشيء من الدلالات على أن يكون الانتقال للتشفّي، كما هو الدائر في انتقام الإنسان، فإن الله تعالى أعزّ جانباً وأبعد ساحة من أن ينتفع أو يتضرّر بشيء من أعمال عباده . ولكن منشأ الانتقام يكون فيهم (أي المنتقم منهم)، ويقوم بهم قيام الصورة بالمادة، وبينهما تلازم، ولا يعقل انفکاکهما إلا في فرض الوهم.

والمعنى: أن الله قوي شديد نافذ في إرادته، منبع الجانب لا يرضى بأن تهتك محارمه، ينتقم ممّن خالفها وأعرض عنها.

وما ورد في هذه الآية الشريفة معلول آخر للحياة الحقيقية - من كلّ جهة - والقيومية المطلقة، ولا معنى لهما إلا إيصال كلّ ممکن إلى ما يليق به، بعد بسط العدل والإحسان والرحمة والعفو والغفران.

قوله تعالى : «إِنَّ اللّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ» .

معلول آخر للحياة الحقيقية والقيوميّة المطلقة، فإن وحدة الحيّ القيوم تستلزم الإحاطة المطلقة، وأن لا يخفى عليه شيء ممّا سواه، وإلا كان خلفاً ولا يعقل غفلة العلّة - العليم الحكيم - عن معلوله .

ص: 247

ويصحّ أن يكون ما ورد في هذه الآية الشريفة كالعلّة، أي : لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو الحي القيوم.

وإنما قدّم تعالى الأرض على السماء لقربها إلى أذهان المخاطبين وأنسهم بها، وإرشادهم إلى أن أرضهم - التي يفعلون فيها ما يفعلون - تحت إحاطته الفعلية .

ويستفاد من هذه الآية الكريمة أن معنى العلم فيه تبارك وتعالی يرجع إلى أمر سلبي، أي : لا يخفى عليه شيء لقصور العقول عن درك علمه بالمعنى الإثباتي، لقصورها عن درك ذاته، ويدلّ على ذلك أخبار كثيرة .

كما تدلّ الآية المباركة أيضاً على العلم التفصيلي الفعلي الإحاطي الله تعالى، وتدلّ عليه آيات أخرى، منها قوله تعالى : «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» (سورة الحجر، الآية 21)، وقال تعالى: «وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاّ هُوَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ» (سورة الأنعام، الآية 59).

كما تدلّ الآية المباركة أيضاً على العلم التفصيلي الفعلي الإحاطي الله تعالى، وتدلّ عليه آيات أخرى، منها قوله تعالى : «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» (سورة الحجر، الآية 21)، وقال تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» (سورة الأنعام، الآية 59).

ص: 248

قوله تعالى : «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ» .

الصورة تطلق .. تارة على الهيئة الخاصة، وبهذا المعنى يصحّ أن تكون من الأعراض، كالصور المتصوّرة في الأذهان، أو ما ينتقش على الجدران أو ما ترتسم في المرأة أو في كلّ جسم شفاف له قابلية المحاكاة . وفي العصر الحديث اتسعت دائرتها، وهي بهذا المعنى تعمّ ما يكون له ظل كالتمثال أو ما لا ظل له.

وتطلق أخرى في مقابل المادة، فتكون جوهراً من مقوّمات الجواهر المركبة من المادة والصورة، ويعبّر في الفلسفة عن المادة بالجنس باعتبار الوجود الذهني، وعن الصورة بالفصل كذلك أيضاً، وإلا فالحقيقة واحدة والتصوير إلقاء الصورة .

والرحم في الحيوان هو العضو الذي يتكوّن فيه الجنين إلى حين الولادة ومحل تربية الطفل. واستعير للقرابة باعتبار انتهاء أفرادها إلى رحم واحد. ويتضمن معنى الرأفة والإحسان أيضا، وبهذا المعنى يطلق على الله تعالى، فهو الرحمن الرحیم. وفي الحديث عن نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله: «لما خلق الله الرحم قال تعالى : أنا الرحمن وأنت الرحم، شققت اسمك من اسمي، فمَن وصلك وصلته، ومَن قطعك قطعته»، ومنه يظهر معنى الحديث الآخر : «الرحم معلقة بالعرش تقول: اللهم صل مَن وصلني، واقطع مَن قطعني»، ومخاطبة الرحم لله تعالی ليست ببعيدة، فإن الأشياء كلّها - بحقائقها الواقعيّة - مرتبطة مع الله عزّ وجلّ، يخاطبها الله تعالى وتخاطبه، ولكنها مستورة إلا على أهل البصيرة والبصائر .

ص: 249

وإنما خصّ سبحانه وتعالى تقدير الإنسان وتصويره بالذكر مع أنه له التقدير العام في جميع المخلوقات ، لكمال العناية بالإنسان، الذي هو أعزّ خلقه وأشرفه، فقد ذكر تعالى تصوير الإنسان في آيات أخرى، قال تعالى: «وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» (سورة التغابن، الآية 3)، وقال تعالى : «فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ» (سورة الانفطار، الآية 8)، ولبيان كيفية خلق عیسی علیه السّلام الوارد في هذه السورة والتعريض بالنصارى في ما يقولونه فيه علیه السّلام .

وقد أبدع سبحانه وتعالى في تصوير الإنسان، ممّا يدلّ على بديع صنعه وحكمته البالغة وعلمه الأتم، واعتني بجميع تفاصيله اعتناءً بليغاً، وأودع فيه من الحكم والأسرار وفق قوانین منظمة تعجز عقول البشر عن الوصول إلى كنهها ومعرفة دقائقها مهما بلغوا في العلم والمعرفة، فقد كشف العلم الحديث عن بعض جوانب تلك الأسرار والحكم ممّا يبهر العقول ويجلّ عن الوصف، فحقيق الله تعالى أن يقول في خلق الإنسان : «فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» (سورة المؤمنون، الآية 14)، ويكفي جانب من تلك الجوانب وجهة من جهاته أن تكون حجّة على العباد، وعن علي علیه السّلام : «الصورة الإنسانية أكبر حجّة الله على خلقه ، وهي الجسر الممدود بين الجنّة والنّار». .

وأما ما ورد في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله : «أن الله خلق آدم على صورته»، فإن المراد صورة مخلوقة اختارها الله تعالی لنفسه، وجعلها حجّة على عبادة وسخّر لها ما في السموات والأرض، وليس

ص: 250

المراد صورة الله تعالى، لأنه يستحيل أن تكون الله صورة كما ثبت ذلك في الفلسفة العلمية، ويدلّ على ما ذكرناه ما ورد في الحديث يشرح هذه الرواية، وهو أنه : «سب رجل شخصاً بحضور النبي صلی الله علیه و آله فقال : قبحك الله وقبح من على صورتك ، فقال له النبي علیه السلام : لا تقل هكذا، فإن الله خلق آدم على صورته»، أي على صورة الرجل المسبوب، فيكون سبّه سبّا لآدم علیه السّلام وسائر الأنبياء أيضاً.

قوله تعالى : «كَيْفَ يَشاءُ».

لفظ (کیف) يستعمل في ما فيه شبيه وما لم يكن له شبيه ، کالأبيض والأسود والصحيح والسقيم ونحوها.

و(كيف) من إحدى المقولات التسع العرضية المعروفة في الفلسفة القديمة والحديثة، ويدخل فيه الاشتداد والتضعف لاتصافه بالحركة ، كما أن فيه الشدّة والضعف بذاتها.

وهو من ألفاظ العموم، ولا يطلق عليه تعالى لتقوّمه بالغير كما في غيره، وفي الحديث: «هو الذي كيف الكيف ولا كيف له»، وإلى ذلك تشير القاعدة التي أسّسها أئمة الدين علیهم السّلام في المعارف الربوبية : «كلّ ما يوجد في المخلوق لا يوجد في الخالق»، وقصارى ما يكن القول فيه عزّ وجلّ هو: إنه تعالى شيء لا کالأشياء وذات لا كالذوات، حتّى لا يلزم التعطيل.

وإطلاق الكيف في المقام باعتبار المخاطبة مع الناس والإنسان المخلوق وأطواره في الأرحام، لا بالنسبة إلى الملك العلام.

ص: 251

ومادة (شيء) تأتي بمعنى المشيء وجوده، فكلّ موجود شيء وبالعكس، ولا يطلق على العدم، وقد أثبت الفلاسفة مساوقة الوجود للشيئية، وقال بعض أكابرهم :

ماليس موجوداً یکون لیسا *** قدساوق الشيء لدينا أيسا

ولا يطلق بهذا المعنى على الله عزّ وجلّ، وتقدّم في الحديث : «إنه شيء لا کالأشياء».

والمشيئة بالمعنى الوصفي تكون من صفات الفعل: والفرق بنيها وبين الإرادة بالكلّية والجزئية، أو الحدوث والبقاء، فالحدوث يسمّى مشيئة، والبقاء والإبقاء إرادة .

بيان ذلك أن كلّ فعل اختیاری صادر من الفاعل المختار لا بد وأن يسبقه أمور لا يمكن تخلّف واحد منها، كما هو الثابت بالوجدان والبرهان، وهذه الأمور تسمّى ب«أسباب الفعل»، وهي:

الأول : هو العلم ولو على نحو الإجمال، وفي الجملة لئلا يكون من طلب المجهول المطلق الذي هو قبيح من العاقل، بل هو محال في نفسه، لأن توجّه النفس إلى شيء لا يتحقّق إلا بتعين ذلك الشيء في الجملة.

الثاني : المشيئة بمعنی توجّه النفس إلى طلبه إجمالاً.

الثالث : التقدير، وهو التفات النفس إلى خصوصياته كماً وكيفاً و من سائر الجهات .

ص: 252

الرابع: القضاء، أي : حكم النفس بإيجاده خارجاً .

الخامس : إبرام هذا القضاء، أي الاستقامة فيه وجعله بحيث لا يتخلّف .

السادس: الإرادة الموجودة للفعل .

وهذه كلّها موجودة في كلّ فعل اختياري يحصل من الفاعل المختار، ولو كان هو الله تعالى الخالق القهّار.

نعم، في الإنسان واقعها موجودة في النفس ومرتكزة فيها إجمالاً وإن لم يعلم بها تفصيلاً، ولا يضرّ ذلك، لأنها بوجودها الواقعي مقتضية لحصول الفعل لا بوجودها العلمي التفصيلي الفعلي.

وأما بالنسبة إلى الله تعالی فمن حيث إحاطته الوجودية فوق ما نتعقّله من معنى الإحاطة، فإن جميع تلك الأمور موجودة ومعلومة له تعالی تفصيلاً، فهو عالم بجميع أطوار وجود الفعل وشؤونه، بل عالم بما سواه كلية وجزئية قبل الإيجاد وبعده وجميع مراتب التغيّرات والتبدّلات، وكذلك هو عالم بقدره وقضائه وإمضائه وإبرامه وإرادته - التي هي عين فعله الأقدس - علماً تفصيلياً إحاطياً.

ويمكن تقليل ما ذكرناه من الأسباب بإدخال بعضها في البعض، ويمكن تکثيرها بتفصيل بعضها إلى أمور، ولذا اختلفت الأحاديث الشريفة الواردة في أسباب الفعل قلّة وكثرة .

وكيف كان، فقد وقع الكلام في أن هذه الأسباب من صفات

ص: 253

الفاعل أو من صفات الفعل. أما في الإنسان فيصح أن تعدّ من صفات الفاعل، كما يصحّ أن تعدّ من صفات الفعل، ولا محذور فيه من عقل أو نقل، فيقال : فاعل مريد، وفعل مراد، وفاعل مقدرّ (بالكسر). وفعل مقدرّ (بالفتح)، خصوصاً في العلم الذي لا إشكال فيه من أحد أنه من صفات الفاعل في الخالق والمخلوق، وكذا القدر والقضاء والإبرام، إما باعتبار منشئهما وهو العلم الإحاطي الأكمل والحكمة البالغة، أو باعتبار إضافتهما إلى الممكن المخلوق، فلا ريب في كونهما من صفات الفعل.

وأما بالنسبة إليه تعالى، فما كانت مستلزمة للتغيير والتبدّل فمن صفات الفعل، وما لم تكن كذلك فمن صفات الذات .

وأصل الإشكال الذي ذكروه في عدم إمكان جعل المشيئة والإرادة من صفات الذات، أن الإرادة علّة تامّة منحصرة لحصول المراد، فإن كانت في مرتبة الذات فيلزم إما تعدّد القدماء، أو كون الذات المقدّسة محلاً للحوادث، وكلّ منهما مستحيل. وقد أثبتوا امتناع كلّ ذلك بالبراهين المتقنة .

ولكن يمكن الجواب عن ذلك ...

أولاً: بأن علّية الإرادة لحصول المراد إنما تكون في الفاعل الموجب (بالفتح) - أي الفاعل غير المختار - دون الفاعل العالم المختار، الذي تكون الإرادة فيه من المقتضيات، كسائر أسباب الفعل فلا يلزم محذور فيه أبداً، خصوصا في الإرادة الأزلية، فالاختيار في

ص: 254

الفعل والترك، والقدرة القهّارية باقية قبل الإرادة وحينها وبعدها، وحين حصول الفعل أيضاً، ولعلّ إحدى مصالح جعل البداء الله جلّ جلاله ترجع إلى ذلك، حيث قال تعالى : «يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» (سورة الرعد، الآية 39).

وثانياً: أنه على فرض كون الإرادة علّة تامة لحصول المراد، ولكن العلّية لا تكون على نحو الجزاف، بل هي على نحو منظم بالنظام الأحسن الأكمل الأثم، فإذا أراد جلّت عظمته خلق آدم وهبوطه، أو طوفان نوح، وبعثة نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله ، وقيام الساعة ، وجزاء أهل الجنّة والنّار، بل جميع العوالم الطولية والعرضية، يكون مورد إرادته الكاملة وفق النظام الأحسن الأكمل، وإلا يكون من تخلّف المراد عن الإرادة ، وهو محال.

وثالثاً: أن الإرادة إن كانت علّة تامّة لحصول المراد، فإنما هو بالنسبة إلى حصول المراد بالأصل لا المراد بالعرض. والمراد بالأصل فيه عزّ وجلّ يرجع إلى ابتهاج ذاته بذاته في ذاته ، بلا محذور في البين، كما قالوا ذلك في علمه الأزلي بما سواه، وسمعه، وبصره. وفي الحديث : «عالم إذ لا معلوم، وسامع إذ لا مسموع، وبصير إذ لا مبصر» ..

وبعبارة أخرى: تكون الإرادة التكوينية من هذه الجهة، كالإرادة التشريعيّة، فإذا أراد الله تعالى الصلاة - مثلاً - من عباده، أرادها وفق نظام خاص، بحيث يكون أوّلها تكبيرة وآخرها تسليمة ، مع تخلل القيام

ص: 255

والركوع والسجود والأذكار في البين، فإرادته انبساطية على جميع ذلك، كما أن إرادته الأزلية التكوينية تكون كذلك.

قد يقال : إن ما ذكر ينافي قوله تعالى : «إِذا قَضَى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (سورة آل عمران، الآية 47).

ويمكن الجواب عنه : بأن مرتبة الأمر التكويني غير مرتبة الإرادة ، كما هو ظاهر الآية الكريمة. هذا كلّه بحسب القواعد العقلية .

وأما بحسب ظواهر النصوص التي تدلّ على جعل الإرادة والمشيئة من صفات الفعل لا الذات، فلا بد من إتباعها، ولا محيص عمّا ورد فيها. هذا إجمال ما يتعلّق بموضوع القضاء والقدر، اللذين هما من أسباب الفعل في كلّ فاعل مختار .

وأما أسرار القضاء والقدر في فعل الله جلّ جلاله، فقد حيّرته الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين . وفي الحديث عن علي علیه السّلام : «بحر عميق فلا تلجه، وطريق مظلم فلا تسلكه، وأنه سرّ الله فلا تتكلّفه»، وسيأتي في الموضع المناسب تتمة الكلام إن شاء الله تعالی.

وتعليق التصوير على المشيئة الإلهية إنما هو لأجل تعميم التصوير ليشمل جميع أقسامه في أصل الخلق والصفات والكيفيات الأخلاقيّة والطبيعيّة، والإرشاد إلى عدم إحاطة الأفهام والعقول، كما لا يكمن الإحاطة بالمشيئة الإلهية .

والمشيئة في قوله تعالى : «يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ»، مشيئة تقدير وإرادة مشيئة حتم، وهو يرشد إلى اختلاف الحالات

ص: 256

والعوارض واللوازم الواردة على النطف في الأرحام، فإن جميع تلك الأمور - سواء كانت من لوازم الوجود أم من لوازم الماهيّة، التي هي مجعولة بالعرض - تكون تحت القدرة الإلهية، بل تشمل جميع التقديرات الحاصلة للإنسان كالعزّة والذلّة والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر والعذاب ونحو ذلك، فإن جميعها يكون في الرحم على نحو الاقتضاء والمشية، كما يظهر من الأخبار، منها قول نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله : «السعيد مَن سعد في بطن أمه، والشقي مَن شقي في بطن أمه»، ولا بأس بتسمية جميع ذلك بالصورة بمعناها الأعم.

ومن ذلك يعلم الوجه في تعقيب الآيات المتقدّمة بهذه الآية الشريفة، ويصحّ أيضاً أن تكون تحذيراً وتخويفاً بقدرة الله تعالى، فإنه قادر على أن يبدل صورة الإنسان إلى صورة أخرى، إتماماً للحجّة وبياناً للقدرة الكاملة، ليرتدع الناس عن المعاصي والآثام.

قوله تعالى : «لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

تعليل لما تقدّم، وعود إلى ما بدأ به الكلام من التوحيد، أي: هو المتوحّد في الألوهية والمتفرّد في جميع شؤون خلقه، العزيز بقدرته وسلطانه، لا يغلب في إرادته وقضائه، هو الحكيم، أي : يفعل بمقتضى الحكمة التامة .

بحث دلالي:

تدلّ الآيات المتقدّمة على أمور :

ص: 257

الأول : أنه قد أثبت أكابر الفلاسفة المتألّهين توحيد الذات ، وتوحيد المعبود، وتوحيد الصفة والفعل الله جلّ جلالها - بمعنى أنه لا شريك له تعالى في شيء من ذلك، فهو واحد متوحّد متفرّد في جميع ذلك - ببراهين عقليّة متينة (جزاهم الله تعالی خیراً)، ويمكن استفادة وجه يجمع تلك البراهين من قوله تعالى : «اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» ، فإنه يدلّ على وحدانية الذات المستجمعة لجميع صفات الجلال والجمال والمعبودية الحقيقيّة في الإله الواحد القهّار.

وذلك بأن يقال : إن الذات الجامع لجميع الكمالات الواقعيّة ، والمسلوب عنه جميع النقائص كذلك، إما أن يفرض وجوده أو لا؟

والثاني باطل بالضرورة، والأول يستلزم تحقّقه كذلك، أي مسلوباً عنه جميع النقائص الواقعيّة وجامعاً لجميع الكمالات كذلك، وإلا لزم الخلف، وهو باطل بالضرورة أيضاً، ولا بد أن يسلب عنه الإمكان، ويكون العلم والحياة والقيوميّة والحكمة عين ذاته، لأن خلاف كلّ ذلك نقص، والمفروض أنه مسلوب عنه جميع النقائص الواقعيّة مطلقاً.

الثاني : إنما ذكر سبحانه : «الحي القيوم» أولاً ورتّب عليه تنزيل الكتاب بالحقّ، ليعلم من عظمة المنزل عظمة التنزیل، فكما لا حدّ للحيّ القيوم جلّت عظمته، كذلك لا يمكن تحديد هذا الكتاب العظيم الذي نزل بالحقّ، المهيمن على جميع الكتب الإلهية، ويكون ترتّب تنزيل الكتاب بالحقّ على الحيّ القيوم من قبيل ترتب المعلول على

ص: 258

العلّة التامّة المنحصرة، يعني حيث أنه تعالى حي وقيوم نزل الكتاب بالحقّ.

الثالث : إنما عبّر سبحانه بالتنزيل، للإشارة إلى كثرة العناية والاهتمام بوجود القرآن العظيم، فإنه کنسخة واحدة لشرح نظامي التكوين والتشريع، فقد تجلّى الله تعالى فيه وأنزله بالحقّ ومن الحقّ، وإلى الحقّ.

أما أنه بالحقّ، فهو من لوازم كونه من الحقّ المطلق : إذ لا يعقل نزول شيء منه إلا بالحقّ.

وأما أنه في الحقّ، لأنه نزّل الكتاب لتحميل الإنسان كمالاً معنوياً وظاهرياً، حتى يصير بذلك خلاقاً لما يشاء وفعالاً لما یرید من المعنويات .

وأما أنه نزل إلى الحقّ، لأنه نزل من الحي القيوم إلى قلب سید المرسلين، والغاية منه هو النعيم الأزلي الذي يبقى ولا يفنى.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» على أن اعتبار الكتب الإلهية السابقة إنما يكون بإمضاء القرآن العظيم، فهو الأصل في مدرك الاعتبار، ويكون هو المعتمد في الموافقة والمخالفة ، وفي الكلام من براعة الأسلوب وروعة البيان ما لا يخفی.

الخامس: إنما قدّم سبحانه تنزيل الكتاب على نبيّه في الذكر على إنزال التوراة والإنجيل، لأن القرآن العظيم هو الأصل في الكتب السماوية، وأن تأخّر إنزاله في سير الزمان لمصالح كثيرة، منها حصول

ص: 259

استعداد النفوس لذلك، وإلا فهو الأول والأصل، فمعارفه شموس طالعة، وأحكامه أقمار منيرة، وآدابه نجوم مضيئة، تستشرق الأرواح من شوارقه وتستنير النفوس من بوارقه، تحيا الأرواح حياة أبدية وتنعم الأشباح بنعمة سرمدية، توصلها إلى قاب قوسين أو أدنى والاقتراب من العلي الأعلى.

ألم بنا وصف أجلّ من الوصف *** أدق من المعنى وأخفى من اللطف

تمازجه الأرواح وهي لطيفة *** إذا هو روح الروح والروح کالظرف

نعمنا به رغداً من العيش برهة *** وراس رتبته المعقول في عالم الكشف

السادس: الفرقان يصحُ أن يكون وصفاً بحال ذات القرآن، فإنه الفارق بين الحقّ والباطل، والهداية والغواية، كما يصحّ أن يكون ذلك وصفاً بحال المتعلّق، أي الفارق بين المؤمن وغيره، فيستفيد كلّ منهم بقدر لياقته واستعدادهن قال تعالى: «أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها» (سورة الرعد، الآية 17).

السابع : إنما كرّر سبحانه وتعالى مادة (ن ز ل) في الآية المباركة ثلاث مرات، للاهتمام التامّ بالمنزل وكثرة العناية به، والمراد بالكتاب في أوّل الآية المباركة هو القرآن الذي هو بين أيدينا، بقرينة قوله تعالى : «نَزَّلَ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ» ، والمراد من التنزيل التدريجي نجومة متفرقة حسب تعدد الخصوصيات، فلاحظ سبحانه وتعالى باعتبار وجوده الجمعي بعد تمامية مراتب التنزيل وذكره مستقلاً.

وأما التوراة والإنجيل فيستظهر من الآية الشريفة : «وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ

ص: 260

وَ الْإِنْجِيلَ» أنهما نزلا دفعة وهو كذلك، لأن الإنجيل مقتبس من التوراة ، وهي نزلت دفعة.

وأما قوله تعالى: «وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ» ، فهو عبارة عن المحكمات الفارق بين الحقّ والباطل، التي تكون في ضمن القرآن، والتكرار ثانياً لكثرة أهميتها وجعل إنزالها إنزالاً دفعياً مضافاً إلى التنزيل التدريجي، ولا بأس بجعل الاختلاف في التعبير من باب التفنّن في الكلام الذي هو من جهات الفصاحة والبلاغة.

ويمكن أن يوجّه بوجه آخر أدقّ وألطف، وهو أنه إذا لوحظ الوحي بالنسبة إلى الموحي وقلب الموحى إليه، فهو نزول مطلقاً، التنزههما عن الزمان والزمانیات، ولكن إذا لوحظ بحسب هذا العالم المادي الزماني المتدرّج الوجود، فهو تنزیل، فيكون كلّ منهما بحسب وعائه وعالمه، وبذلك يجمع بين جميع الآيات السابقة من غير محذور في البين.

الثامن : يستفاد من قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ» تقدير جميع الأمور المتعلقة بالإنسان، فيكون كفر الكافر وإيمان المؤمن غير خارجين عن تقدير الله تعالى على نحو الاقتضاء، ويكون الكلام تعميماً بعد التخصيص، وقد ذكر التقدير في الإنسان إتماماً للحجّة، وتثبيتاً لإيمان المؤمن، وتطيباً لنفوسهم وتخويفاً بانتقام الكافرين وتعريضاً بالنصارى في أمر المسيح علیه السّلام .

المسيح: يدلّ قوله تعال : «لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» بعد ذکر

ص: 261

ما تقدّم من إنزال الكتب الإلهية والفرقان والانتقام من الكافرين وتصویر الإنسان في الأرحام، على أن جميع ذلك دليل على وحدانيته، وأنه لا بد من استنادها إلى إله واحد مدبّر حکیم، يفعل ذلك بعزّته فلا يغلبه أمر.

العاشر : أن المتأمّل من أهل العرفان في جملة من الآيات الشريفة من سورة آل عمران، والآيات المباركة في آخر سورة الحشر، والآيات الأول من سورة الحديد، يعلم أنها تتضمّن أبواباً من المعارف، وحقائق من الواقعيات، وإشارات من المعنويات، ولا يصل إلى جميع ذلك إلا بتصفية النفس والمجاهدة في سبيل الله تعالی.

وعن بعض المشائخ : أن في هذه الآيات أسراراً أفاضها الله تعالی علينا، أنه ولى الإفاضة، خصوصاً في تكرار لفظ «هو» أربع مرات ...

تارة : مشيراً إلى تجلّي الذات.

وأخرى : مشيراً إلى التجلّي الفعلي بتصوير صورة الإنسان، التي هي أعظم آية وعليها يدور خلق سائر العوالم.

وثالثة : مشيراً إلى تجلّي العزّة والحكمة .

ورابعة : بالتجلّي التشريعي في المعارف الحقّة والقوانين التامّة ، ويلزمه التجلّي الجزائي أيضاً، فإن التشريع بلا جزاء لغو .

بحث روائي:

في الكافي: عن الصادق علیه السّلام في قوله تعالى : «وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ»

ص: 262

قال علیه السّلام: «القرآن جملة الكتاب، والفرقان المحكم الواجب العمل قال به».

وفي تفسير القمّي: «الفرقان هو كلّ أمر محكم، والكتاب جملة القرآن الذي يصدقه مَن كان قبله من الأنبياء».

أقول: قد تقدّم ما يتعلّق بذلك في التفسير .

في المجمع: عن الكلبي، ومحمد بن إسحاق والربيع بن أنس، وفي الدر المنثور : عن أبي إسحاق وابن جرير وابن المنذر ، عن محمد بن جعفر بن الزبير وعن أبي إسحاق، عن محمد بن سهل بن أبي أمامة وغيرهم: «أن صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها نزلت في وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلی الله علیه و آله، وكانوا ستین راكباً وفيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم، العاقب : أمير القوم وصاحب مشورتهم الذين لا يصدرون إلا عن رأيه واسمه عبد المسيح، والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم، وكان قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم، وكانت ملوك الروم قد شرّفوه وموّلوه وبنوا له الكنائس العلمه واجتهاده، فقدموا على رسول الله صلی الله علیه و آله في المدينة ودخلوا مسجده حين صلّى العصر، عليهم ثياب الحبرات جبات وأردية، في جمال رجال بني الحارث بن کعب ، يقول بعض مَن رآهم من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله: ما رأينا وفداً مثلهم، وقد حانت صلاتهم فأقبلوا

ص: 263

يضربون بالناقوس وقاموا فصلّوا في مسجد رسول الله صلی الله علیه و آله، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله: دعوهم فصلّوا إلى المشرق، فكلّم السيد والعاقب رسول الله صلی الله علیه و آله، فقال لهما رسول الله صلی الله علیه و آله: أسلما . قالا: قد أسلمنا قبلك، قال : كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما الله ولدا، وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير، قالا : إن لم يكن عيسى ولدا لله فمَن أبوه؟ وخاصموه جميعاً في عيسى، فقال لهما النبي صلی الله علیه و آله: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا: بلى، قال : ألستم تعلمون أن ربّنا حيّ لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلی، قال : ألسم تعلمون أن ربّنا حيّ لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى، قال : ألستم تعلمون أن ربّنا قيم على كلّ شيء يحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى، قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث، قالوا: بلى، قال : ألستم تعلمون أن عیسی حملته أُمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذي كما يغذي الصبي ثم كان يطعم ويشرب ويحدث؟ قالوا: بلى، قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا، فأنزل الله عزّ وجلّ فيهم صدر سورة آل عمران إلى بعض وثمانين آية منها».

أقول: ما ورد في الرواية مطابق للأدلّة العقلية أيضاً، وليس فيها جهة من جهات التعبّد، ويمكن أن يكون نزول مجموع الآيات التي ذكرت في الرواية بعضها من باب المقدّمة لدفع احتجاجاتهم، لا أن تكون بنفسها احتجاجاً عليهم.

ص: 264

في العلل: عن النبي صلی الله علیه و آله: «سُمّي القرآن فرقاناً لأنه متفرّق الآيات، والسور نزلت في غير الألواح وغير الصحف، والتوراة والإنجيل والزبور أُنزلت كلّها جملة في الألواح والورق».

أقول: أما التوراة والإنجيل والزبور أُنزلت جملة واحدة، فيمكن أن يستشهد بقوله تعالى : «وَ لَمّا سَكَتَ عَنْ مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَ فِي نُسْخَتِها هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ» [سورة الأعراف، الآية: 154]

فيستفاد منه أن التوراة كانت مكتوبة بالخط الأزلي في الألواح، وأما أن الألواح من أي شيء كانت، فلا يستفاد ذلك من الآية المباركة . ويشهد لما قلنا قوله تعالى : «صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى» [سورة الأعلى، الآية 19].

وأما أن الإنجيل نزل جملة واحدة، فلقوله تعالى : «وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ» [سورة المائدة، الآية: 46]، وغيره من الآيات المباركة التي يستفاد من سياقها أنه كان مكتوباً وأتاه الله إلى عیسی علیه السّلام .

وأما الزبور، فيشهد قوله تعالى : «وَ آتَيْنا داوُودَ زَبُوراً» [سورة النساء، الآية : 163]، فإن المنساق منه أيضاً النزول الجمعي.

ثم إن القرآن والفرقان من الأمور الإضافية النسبية، فيصحّ نسبة الجمع إلى القرآن في كلّ ما يصحّ انتساب الجمع إليه، کالجمع بين الدفتين، أو الجمع في قلب سيد الأنبياء صلی الله علیه و آله، أو الجمع في اللوح المحفوظ، أو الجمع في علم الله تعالى، أو الجمع في غير ما ذكر من العوالم .

ص: 265

كما أن الفرقان يصح ّبانتساب التفريق إلى كلّ ما صحّ ذلك عقلا وشرعاً من التفريق بين المحكم والمتشابه، والتفريق بين أصول المعارف والأحكام، والتفريق بين الآيات الدالّة على التكوين والآيات الدالّة على القصص والحكايات، إلى غير ذلك من جهات الفرق. فما ذكر في الروايات في معنى الفرقان يكون من باب ذكر المصداق، كما مرّ.

وفي الكافي : عن الباقر عليه السّلام قال : «إن الله إذا أراد أن يخلق النطفة التي هي ممّا أخذ عليها الميثاق في صلب آدم عليه السّلام أو ما يبدو له فيه، ويجعلها في الرحم حرك الرجل للجماع وأوحي إلى الرحم أن افتحي بابك حتى يلج فيك خلقي وقضائي النافذ و قدري، فتفتح بابها، فتصل النطفة إلى الرحم، فتردد فيه أربعين يوما ثم تصير علقة أربعين يوماً، ثم تصير مضغة أربعين يوماً، ثم تصير لحمة تجري فيه عروق مشتبكة، ثم يبعث الله ملکين خلاقين يخلقان في الأرحام ما يشاء الله ، فيقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة، فيصلان إلى الرحم وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فينفخان فيها روح الحياة والبقاء، ويشقّان له السمع والبصر والجوارح وجميع ما في البطن بإذن الله تعالى، ثم يوحي الله إلى الملكين : اكتبا عليه قضائي وقدري ونافذ أمري واشترطا لي البداء في ما تكتبان، فيقولان: یا ربّ ما نكتب؟ فيوحي الله عزّ وجلّ إليهما: أن ارفعا رؤوسكما إلى رأس أُمه فيرفعان رؤوسهما، فإذا اللوح يقرع جبهة أمه فينظران فيه فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه شقياً أو سعيداً وجميع شأنه ، قال :

ص: 266

فیملي أحدهما على صاحبه، فيكتبان جميع ما في اللوح ويشترطان البداء فيما يكتبان، ثم يختمان الكتاب ويجعلانه بين عينيه ثم يقيمانه قائماً في بطن أُمه، قال : فربما عتا فانقلب، ولا يكون ذلك إلا في كلّ عات أو مارد، وإذا بلغ أوان خروج الولد تاماً أو غير تام أوحى الله إلى الرحم: أن افتحي بابك حتّى يخرج خلقي إلى أرضي وينفذ فيه أمري فقد بلغ أوان خروجه ، قال : فيفتح الرحم باب الولد فيبعث الله إليه ملكاً يقال لها زاجر فیزجره زجرة فيفزع منها الولد فينقلب فتصير رجلاه فوق رأسه ورأسه في أسفل البطن ليسهّل الله على المرأة وعلى الولد الخروج، قال : فإذا احتبس زجره الملك زجرة أخرى فيفزع منها فيسقط الولد إلى الأرض باكياً فزعاً من الزجرة».

أقول: هذا الحديث يبين جملة من أسرار التكوين ببيان واضح، والأمور التي ذكرت فيه أسرار معنوية وأسرار تكوينيّة حقيقة لا تنافي الأسباب الطبيعية المعروفة، إذ يمكن أن يكون في شيء واحد أسباب جلية واضحة وأسباب خفية معنوية، لا يحيط بها إلا الله تعالى، وهما في حاق الواقع يرجعان إلى شيء واحد. وكلّ واحد منهما يكون من المقتضي لتحصيل المعلول، أو يكون كلّ واحد منهما علّة تامّة مترتّبة كلّ سابقة علّة للاحقتها، فيصير كلّ واحد علة تامة من جهة ومقتضيا من جهة أخرى، كما هو شأن العلل والمعلولات المترتّبة في حصول النتيجة القصوى.

وأما قوله عليه السّلام : «النطفة التي ممّا أخذ عليها الميثاق»، فهو

ص: 267

مطابق للقانون العقلي، وهو انبعاث المعلول عن علّته، ولا ريب في أن جميع الموجودات خصوصاً النطفة التي يريد أن يجعلها سوياً أتم خلق الله وأهمّه، وارتباطه تکویناً مع الله ثابت، ويصحّ أن يعبّر عن هذا الارتباط بالميثاق، فهو میثاق تكويني من جهة، واختياري من جهة أخرى، يسمّى في الأخبار بعالم الذر والميثاق، كما يأتي شرحه عند قوله تعالى: «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلَى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ» [سورة الأعراف، الآية 172]، ويصحّ أن يعبّر عن ذلك بالطينة أيضاً، لما ورد فيها من أخبار كثيرة.

وأما قوله عليه السّلام : «أو ما يبدو له» من البدء الذي دلّت عليه نصوص كثيرة، ويظهر من الرواية أن البداء يكون في مرتبة الميثاق أيضا، فالميثاق قضاء حتمي وما يبدو له غیر حتمي متوقّف على البدء.

وأما قوله عليه السّلام: «فتصل النطفة إلى الرحم» هذا من الأسباب الطبيعية، وقد تقدّم آنفاً أنه يمكن أن يجتمع مع الأسباب المعنوية أيضاً.

وأما قوله عليه السّلام : «ثم تصير لحماً تجري فيه عروق مشتبكة»، قد ورد في ذلك كمية وكيفية نصوص كثيرة، وقد كشف العلم الحديث كثيرة منها، وفرّع الفقهاء على ذلك تعيين دية ما في الأرحام.

وأما قوله عليه السّلام : «ثم يبعث الله ملکين خلّاقين»، يصح أن يعبّر

ص: 268

عن القوة الخلّاقة بالملك ، لأن الطبيعة بأجزائها وجزئياتها كلّها من جنود الله تعالی.

وأما قوله عليه السّلام : «يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة»، المراد من الاقتحام هو تشبيه المعقول بالمحسوس، توضيحاً للأفهام و تشریفاً للملك، فإنه مختصّ بأعالي البدن، وفي الحديث: «نظفوا المأزقتين فإنهما محل الرقيب والعتيد»، والملك إن كان جسماً لطيفاً فهو ألطف من البخار الحاصل من حركة الدم، فاقتحامه في البطن والعروق معلوم، ويعبّر عن ذلك في الفلسفة ب_(الروح البخاري)، وإن كان مجرّداً فهو أوضح من أن يخفى، فيكون من سنخ الإدراكات المحسوسة التي توجب حصول صورة في النفس، وكما أن أعالي البدن موکولة بالملك فأسافلها موكولة بأفعال الشيطان، كما يظهر من روايات كثيرة .

وأما قوله عليه السّلام : «فيصلان إلى الرحم وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء»، يمكن أن يراد من الروح القديمة موضع مادة الروح، وهي ماء الرجل وماء المرأة معاً، فيكون بمنزلة الموضوع لتعلّق الحياة به، والتعبير ب_«القديمة» لفرض التقدّم الزماني على نفخ الروح الحياتي، فالمراد به القدم الإضافي، لا القدم الحقيقي.

وأما قوله عليه السّلام : «فينفخان فيها روح الحياة والبقاء ويشقّان له السمع والبصر والجوارح وجميع ما في البطن بإذن الله تعالی»، بصحّ انطباق ذلك كلّه على القوى الطبيعية المسخّرة تحت أمر الله تبارك

ص: 269

وتعالى، فإن شئت فسمّها ملكاً، وإن شئت فسمّها قوى طبيعية مسخّرة تحت إرادة الله عزّ وجلّ، ويصحّ التعبير في جميع ذلك ب_(الحركة الجوهرية)، التي هي تحت إرادته عزّ وجلّ، لأن إرادته الأزلية تعلّقت بالاستكمال والترقّي والتعالي.

وأما قوله عليه السّلام: «ثم يوحي الله إلى الملكين : اكتبا عليه قضائي وقدري ونافذ أمري واشترطا لي البداء فيما تكتبان»، يظهر من جملة من الروايات أن المكتوب عليه هو الجبين. وأما اشتراط البداء فيدلّ عليه نصوص كثيرة، الدالّة على ثبوته في جملة من موارد القضاء والقدر ، وسنتعرض لتفصيل ذلك إن شاء الله تعالی.

وأما قوله عليه السّلام : «فيقولان: ما نكتب؟ فيوحي الله عزّ وجلّ إليهما: أن ارفعا رؤوسكما إلى رأس أمه فيرفعان رؤوسهما فإذا اللوح يقرع جبهة أمه فينظران فيه»، لأن محل مجمع الحواس هو الجبهة، فيكون أشرف من سائر أعضاء البدن، والتخصيص بالأم لأن الأب قد انفصل عنه بانفصال النطفة، ولكثرة علاقة الأم بالحمل، ولذا يكون جبينها حاملاً للمواثيق .

وأما قوله علي : فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه سعيداً أو شقياً وجميع شأنه فيملي أحدهما على صاحبه فيكتبان جميع ما في اللوح ويشترطان البداء فيما يكتبان»، ولعلّ اشتراط البداء من أجل أن الحوادث اللاحقة على الإنسان وما يجري عليه في المستقبل، تكون لأجل مقتضيات خاصة لا بد من تبدّلها وتغيّرها، فلا بد من

ص: 270

اشتراط البداء حينئذٍ، حفظاً لنظام الأسباب والمسبّبات، وممّا ذكرنا ظهر شرح بقية الحديث .

القمّي في قوله تعالى : «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ» ، قال عليه السّلام : «يعني ذكراً أو أنثى وأسود وأبيض وأحمر وصحيحاً وسقیماً».

أقول: ما ذكره عليه السّلام من باب الغالب والمثال وإلا فتصورات الأرحام بالنسبة إلى جميع الجهات والمقتضيات غير معلومة إلا له تبارك وتعالى، ولذا قال تعالى : «كَيْفَ يَشاءُ» معلق على مشیئنه غير المحدودة، ويشهد لذلك أنه عليه السّلام لم يذكر الجمال - مثلاً - مع أنه من أهم وأتمّ جهات صور الإنسان .

بحث فلسفي كلامي:

عن جمع من الفلاسفة أنهم حدّدوا الفيض النازل من الحي القيوم إلى الممکنات بحدّ خاص مترتب طولاً، فلا يستفيض كلّ لاحق إلا بواسطة السابق عليه، وجعلوا أول هذه السلسلة ما اصطلحوا عليه ب_«القاهر الأعلى»، وآخرها ما أسموه ب_«الهيولى الأولى»، وفصّلوا القول في ذلك بالنسبة إلى خلق الممکنات من علوياتها وسفلياتها، وهو تصور حسن في نفسه، ولكنه تحديد لقدرة الله تبارك وتعالى وإرادته الكاملة، بحسب غاية ما يدركونه بعقولهم، وهو أعمّ من الواقع بلا إشكال، لأن الواقع ذاتاً وصفة وفعلاً ومن كلّ حيثية وجهة غير محدود، فكما أن ذاته الأقدس أجل من أن يحيط به العقول، فكذا صفاته العليا وفعله وسائر

ص: 271

ما هو من ناحيته جلّت عظمته، فلا يمكن تحديد قوله تعالى : «إِذَا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» بشيء أبداً .

نعم إن أرادوا به السنة الإلهية من أنه أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها، فهو صحيح، ولكن لا دليل على تحديد ما ذكروه من عقل أو نقل، وللبحث بقية نتعرّض لها إن شاء الله تعالی.

بحث عرفاني كلامي

لا ريب في أن الإنسان أشرف الممکنات، لأنه الفصل الأخير الجميعها في المسير الاستكمالي، فيكون الكلّ متوجّهاً إليه بالتكوين، توجّه المقدّمات بالنتيجة .

وفيه اجتمعت العلل الأربع، أما العلة الفاعلية، فقد قال الله تعالی بعد ذكر الأدوار وعوالم خلق الإنسان : «فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» [سورة المؤمنون، الآية : 14].

وأما العلّة المادية، فقد أخبر سبحانه وتعالى أنه المباشر للخلق والتربية : «إِذْ قَالَ رَبُّکَ لِلْمَلَائکَهِ إِنيّ ِ خَالِقُ بَشَرًا مِّن طِینٍ» [سورة ص الآية 71]، وقوله تعالى : «هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ» [سورة الأنعام، الآية : 2]

وأما العلّة الصورية قال تعالى : «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ» ، وقال تبارك وتعالى: «هُوَ اللّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ» [سورة الحشر، الآية 24].

ص: 272

وأما الغائية فقد قال الله تعالى : «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» [سورة البقرة ، الآية : 29].

فجميع الموجودات يحبّ الإنسان محبّة تكوينية، فالكلّ مسخّر اله، قال تعالى : «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً» [سورة لقمان، الآية : 20]، كما أن الإنسان بطبعه يحبّ جميع الموجودات لفرض تفانيها فيهن فتكون المحبّة والعشق من الطرفين (أي تعاشقا)، فالموجودات کالشجرة بالنسبة للإنسان وهو كالثمرة، فخلقت الدنيا له ولأجله .

فلا بد للإنسان من بذل الجهد لكشف أسرار الموجودات ورموزها واستخراج الحقائق منها، وذلك لا يكون إلا بالارتباط التام مع الربّ المطلق والقيوم بالحق، قال الله تعالى : «وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ» [سورة الأعراف ، الآية: 96]، فهو أشد أنحاء العلم وأمتنه وأقواه، كما أثبته الفلاسفة - من قديمهم وحديثهم - وجميع أهل العرفان .

ولكن الإنسان قصّر في ذلك، فأوقع نفسه في ظلمات بعضها فوق بعض، لا يمكنه التخلّص عن بعضها فكيف عن جميعها، قال تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» [سورة الحديد، الآية : 28]، وليس المراد بهذا المشي في طريق خاص أو علم مخصوص، بل المشي في جميع أبواب العلوم والمعارف، مشياً مطابقاً للواقع بصل

ص: 273

إلى النتيجة الحقة، قال تعالى : «وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» [سورة الحشر، الآية : 19] (1) .

ص: 274


1- م. ن، ج 5، ص8- 34

المباهلة

إن المباهلة نوع من الدعاء والابتهال والتضرّع والتبتّل إلى الله تعالى لإثبات حق علم به، وهي عادة جارية بين الناس في جميع الملل والأقوام ممّن يعتقد بوجود عالم الغيب وراء هذا العالم المادي، فتكون نظير صلاة الاستسقاء أو الاستخارة ونحوهما.

شر والمستفاد من الآيات الشريفة وما ورد في شأنها من السنّة المقدّسة أنها تتقوّم بأمرين:

الأول : ثبوت حق علم بأنه حق قد سبق الإعلام به بالحجّة البيان، وبعد اليأس عن الفائدة فيهما يرجع بالدعاء واللعان واللجوء إلى الأمر الغيبي الذي يعترف به الخصمان، وهذا يدلّ عليه قوله تعالی : «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ» أي في الحق المعلوم.

الثاني: وجود الرابط بين عالم الغيب وعالم المادة إما في شخص الرسول أو مَن يقوم مقامه علماً وعملاً، أو حالة الانكسار والخضوع والتضرّع التي تكون رابطة حالية، فإذا تحقّق هذان الأمران تجوز المباهلة لإثبات الحقّ بالتماس من عالم الغيب، فلا تختصّ المباهلة بمورد خاص، وقد ورد في السنّة الشريفة ما يدلّ على التعميم، ففي

ص: 275

الكافي عن أبي مسترق عن الصادق علیه السّلام : «قلت له: إنا نكلمّ الناس فنحتج عليهم بقول الله عزّ وجلّ «أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» فيقولون نزلت في أمراء السرايا، فنحتجّ عليهم بقوله عزّ وجلّ : «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ»، فيقولون في المؤمنين، ونحتج عليهم بقول الله عزّ وجلّ : «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» فيقولون : نزلت في قربي المسلمين، قال : فلم أدع شيئاً ممّا حضرني ذكره من هذا وشبهه إلا ذكرته، فقال علیه السّلام لي : إذا كان كذلك فادعهم إلى المباهلة ، قلت : كيف أصنع؟ قال علیه السّلام : أصلح نفسك ثلاثاً، وأظنه أنه قال : وصم واغتسل وأبرز إلى الجبانة فأشبك أصابعك من يدك اليمني في أصابعه ثم انصفه وابدء بنفسك وقل : اللهم رب السماوات السبع ورب الأرضين السبع عالم الغيب والشهادة الرحمان الرحيم إن كان أبو مسترق جحد حقاً وادعى باطلاً فأنزل عليه حسباناً من السماء أو عذاباً أليماً، ثم ردّ الدعوة عليه فقل: وإن كنا فلان جحد حقّا أو ادعى باطلاً فأنزل عليه حسباناً من السماء أو عذاباً أليماً، ثم قال علیه السّلام لي : فإنك لا تلبث أن ترى ذلك فيه - الحديث -»، وقريب منه غيره .

وفي الدر المنثور: عن علياء بن أحمر اليشكري قال: «فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ» أرسل رسول الله صلی الله علیه و آله إلى عليّ وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين علیهم السّلام، ودعا اليهود ليلاعنهم، فقال شاب من اليهود: ويحكم، أليس عهدتم بالأمس إخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير؟ لا تلاعنوا فانتهوا» وهذه الرواية تدلّ على تعدّد المباهلة .

ص: 276

وللمباهلة آداب خاصة مذكور في أبواب الدعاء، ولا ريب في تقوّمها بمن يقوم به الاحتجاج وإظهار الحق، وهو في المقام نفس رسول الله صلی الله علیه و آله. وحيث إنها تدلّ على الملاعنة والهلاك ، یکون إحضار مَن بریده صاحب الحق أولى من الاحتجاج وأثبت للمدعى وأقطع لدعوى الخصم، ولأن الاجتماع في الدعاء والتأمين عليه مرغوب إليه كثيراً في السنّة المقدسة.(1)

ص: 277


1- .م- ن، ج6، ص28 - 29

عالم العهد والميثاق

من جملة الآيات الكثيرة التي دلّت على ثبوت عالم العهد والميثاق، وهي من جلائل الآيات التي وردت في هذا الموضوع، فقد تكفّلت - ولو على سبيل الإيجاز - البيان العهد والمأخوذ منه العهد، ومَن أُخذ له العهد، والغاية منه، وأثره على الإنسان، وتأثيره في بقية العوالم التي يرد عليها الإنسان، وقد وردت أحاديث في السنِة الشريفة ، تبيِن بعض الجوانب التي تتعلق بهذا العالم، الذي هو من العوالم الربوبيِة المتعدِدة .

ولكن، لم يعلم أن أخذ العهد كان في عالم الذر الأول، أو في عالم الذر الثاني، كما لا يعلم الزمان والمكان الذي أُخذ فيه الميثاق، ولذلك اختلفت العلماء فيه، فبعضهم عبّر عنه بالثابتات الأزلية، وآخر يقول إنه الأعيان الثابتة، وثالث إنه عالم المثل الأفلاطونية، ورابع اعتبر أنه عالم المثال المنفصل، وخامس أنها عالم الأشباح والأظلة، والجميع يريدون التوصّل إلى معرفة هذا العالم الذي أقصى ما يمكن القول فيه إنه من الغيب ولا يمكن الاطلاع عليه إلا لذوي النفوس القدسية الزكية، التي يفاض عليها من عالم الغيب بقدر الاستعداد .

ص: 278

ويرجع الميثاق إلى المعارف اللائقة للإنسان، التي لا بد أن يتلقّاها في جميع النشآت التي يمكن أن يرد عليها إتماماً للحجة، وإيضاحاً للمحجة، والآخذ للميثاق هو الله تعالى، والمأخوذ منه الإنسان في أي عالم ممكن أن يرد عليه، والمأخوذ هو حقائق الكتاب والحكمة وأصول المعارف الحقّة التي يجب أن يتحلّى بها الإنسان الكامل.

وبعبارة أخرى: المأخوذ هو الحق المطلق الذي يكون غاية خلق العالم بروحانياته وجسمانياته، ولأجل عظمة هذا العهد المأخوذ اهتم به سبحانه ، لأنه مرآة الكمال المطلق، وقد أظهره سبحانه في كتابه الكريم المصالح كثيرة.

وغاية ما يمكن أن يقال إنه حادث مسبوق بالعدم، ولكنه أبدي دائم بدوام الله تعالى، تتبدل صوره بحسب تبدّل النشآت، فإن العلم الأزلي الأتم الأكمل الذي هو عین ذاته الأقدس من جملة مراتبه، حيث يكون الكلّ فيه واحداً، ومجرّداً عن الزمان والمكان .

وله مراتب كثيرة، ففي مرتبة يكون في مقام العلم بالنظام الأحسن، وفي مرتبة أخرى عهد وعمل، وفي مرتبة ثالثة جنّة ورضوان، كما أنه الغاية من بعث الأنبياء والرسل، وخلق الجنّة والتحذير عن النار، ويصحّ أن يعبّر عنه بالفلسفة العملية المعروفة بين الفلاسفة الإلهيين، كما أنه التجلّي الجلالي والجمالي، وعالم الجمع مقابل عالم التفريق - وهو العالم الذي نحن فيه - إذا لوحظ الجمع

ص: 279

والتفريق بالمعنى الإضافي النسبي، وهو الفطرة التي فطر الله عليها والوجوه الجامعة بين جميع الأديان الإلهية ، فيكون التخلي عنها خروجاً عن الفطرة وفيه فساد العالم، وخسران بني آدم، فلا يفيد الإنسان شيء آخر غيره، كما قال تعالى في آخر الآيات المتقدّمة : «وَمَن یَبْتَغِ غَیْرَ الْإِسْلَامِ دِینًا فَلَن یُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِی الْأَخِرَهِ مِنَ الْخَاسِرِینَ»(1).

ص: 280


1- م- ن، ج6، ص116 - 117

بحث كلامي في التكاليف الإلهية

کلّ تکلیف ۔ سواء أكان خالقباً أم خلقياً - لا بدّ وأن يتعلّق بالمقدور، وإلا كان تکليفاً بالمحال وهو قبيح عقلاً ويمتنع بالنسبة إلى الله تعالى، وقد استدل الفلاسفة والمتكلّمون على ذلك بأمور كثيرة ، ويكفي في ذلك الآيات الكثيرة الدالة على ذلك، قال تعالى: «لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَهَا» (سورة البقرة، الآية : 286)، وغيرها من الآيات الشريفة المرشدة إلى حكم العقل.

ونسب إلى بعض الأشاعرة جواز التكليف بالممتنع الذاتي، بل وقوعه.

ولكن ذلك مردود عقلاً ونقلاً، كما فصّل ذلك في محله، ولعلّنا نتعرّض له في بعض الآيات المناسبة له إن شاء الله تعالی.

ثم إن القدرة المعتبرة في التكاليف على أقسام ثلاثة :

الأول: القدرة العقلية - أي الإمكان الذاتي - في مقابل الامتناع العقلي.

الثاني: القدرة التعبديّة الشرعية .

ص: 281

الثالث: القدرة العرفية كما في جميع الأمور الاختيارية الصادرة عن الناس.

ولا وجه للأول، وإلا لاختل النظام ولزم العسر والحرج في امتثال الأحكام، كما لا وجه للثاني لعدم الإشارة إليها في الكتاب والسنة، وما ذكر في الأحكام من الشروط والأجزاء أو الأوصاف يرجع إلى الثالث، بل لا معنى عندنا للتعبّد في الأحكام الشرعية مطلقاً فضلاً عن موضوعاتها، لأن كلّ ذلك يرجع إلى مقررات الفطرة، وإنما أشار إليها الشارع الأقدس وكشف عنها كما تقدّم منا مکرراً في هذا التفسير وبينّاه في علم الأصول. فيتعين الأخير كما هو المستفاد من الكتاب والسنّة الشريفة، قال تعالى : «لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَهَا» (سورة البقرة ، الآية 286)، وقال تعالى: «يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» (سورة البقرة، الآية : 185)، وقال تعالى : «وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (سورة الحج، الآية 78)، وم السنّة قول نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله المتواتر بين الفريقين : «بعثت على الشريعة السهلة السمحاء». وقوله تعالى : «مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ» في الآية التي تقدّم تفسيرها يبيّن ذلك كما هو معلوم(1).

ص: 282


1- م - ن، ج1، ص162 - 163

الفهرس

مقدمة ... 5

المعاد ... 7

ثبوت أصل المعاد ... 7

إثبات المعاد ... 10

المعاد الروحاني والجسماني ... 12

الشبهات الواردة على المعاد ... 16

الموت والشهادة ... 20

الحياة على أقسام ... 20

بحث دلالي ... 30

بحث روائي ...33

تجرّد النفس ... 41

تقسيم الموجود ... 42

ص: 283

المراد من النفس ... 45

تعدد النفس والجسد ... 48

معنى التجرّد ... 50

الأدلة على تجرّد النفس ... 52

زينة الدنيا والآخرة ... 56

بحوث المقام ... 76

بحث دلالي ... 76

بحث روائي ... 82

بحث فلسفي ... 84

بحث عرفاني ... 87

(الملك والتصرف الإلهي) في المخلوقات ... 89

النفس والشهادة ... 107

بحوث المقام ... 124

بحث أدبي ... 124

بحث دلالي ... 126

التفسير ... 129

بحوث المقام ... 146

ص: 284

بحث أدبي ... 146

بحث دلالي ... 147

بحث روائي ... 153

بحث فلسفي حول الموت والحياة ... 156

بحث عرفاني ... 157

الشفاعة في القرآن والسنّة ... 157

مفهوم الشفاعة ... 159

الشفاعة في الإسلام ... 162

ثبوت الشفاعة ... 164

الشفاعة في القرآن ... 165

الشفاعة في السنّة ... 167

الشفاعة والإجماع ... 169

الشفاعة والعقل ... 170

الشفاعة وشروطها ... 172

ما أُورد على الشفاعة ... 177

الشفعاء ... 182

الشفاعة ومتعلّقاتها ... 191

ص: 285

زمان الشفاعة ... 193

الشفاعة في الأديان الإلهية ... 196

غاية الشفاعة ... 197

بحث فلسفي كلامي ... 198

في رحاب آية الكرسي ... 202

بحوث المقام ... 217

بحث دلالي ... 217

بحث أدبي ... 222

بحث روائي ... 224

فضل آية الكرسي وشأنها ... 225

عدد آية الكرسي ... 227

معنى الكرسي ... 228

ما ورد في تفسير مفردات آية الكرسي ... 235

بحث دلالي ... 257

بحث روائي ... 262

بحث فلسفي کلامي ... 271

بحث عرفاني كلامي ... 272

ص: 286

المباهلة ... 275

عالم العهد والميثاق ... 278

بحث کلامي في التكاليف الإلهية ... 281

ص: 287

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.