رسائل الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة دراسة حجاجية

هویة الكتاب

بَحَرُ العلمْ وَ مَدَارُ الحَقّ

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية

345 لسنة 2017 م

مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda .

رقم تصنیف LC :

BP39.5 .Z8 2017.

المؤلف الشخصي:الزبیدی،رائد مجید جبار.

العنوان:مرویات رسائل الأمام علی (علیه السلام) فی نهج البلاغة: دراسة حجاجیة /

بيان المسؤولیة: الدكتور رائد مجید الزبیدی، تقدیم سید نبیل الحسنی الكربلائی.

بيانات الطبعة:الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء:العتبة الحسينية المقدسة - مؤسسة علوم نهج البلاغة.

1438ه- = 2017م

الوصف المالي : 368 صفحة

سلسلة النشر : سلسلة الرسائل الجامعیة / العراق- وحدة اللغة العربیة- مؤسسة علوم نهج البلاغة.

تبصرة عامة :

تبصره ببیلوغرافیة: الكتاب یتضمن هوامش - لائحة المصادر الصفحات (الصفحات 344 - 365).

موضوع شخصي: الشریف الرضی، محمد بن الحسین بن موسی، 359- 406 هجریاً. نهج البلاغة.

موضوع شخصي: علی بن أبی طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجري - 40 هجریاً - رسائل.

موضوع شخصي: علی بن أبی طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجریا - احتجاجاتة.

موضوعي شخصي: علی بن أبی طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجریا - أحادیث.

مصطلح موضوعي: اللغة العربیة، بلاغة.

مصطلح موضوعي: الخطابة العربیة.

مصطلح موضوعي: الحجاج فی القرآن.

مصطلح موضوعي: الخطابة الدینیة.

مصطلح موضوعي: الخطابة الیونانیة.

مؤلف إضافي: الشریف الرضی، محمد بن الحسین بن موسی، 359 - 406 هجریاً. نهج البلاغة.

مؤلف إضافي:الحسني الكربلائی، نبيل قدوري، 1965-، مقدم.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة

ص: 1

اشارة

رَسائِلُ امَامِ عَلیٍّ نَهجِ البَلاغَةَ دِرَاستَه حَجاجیَّة

ص: 2

سلسلة الرسائل الجامعية - العراق

وحدة علوم اللغة العربية (15)

رَسائِلُ امَامِ عَلیٍّ نَهجِ البَلاغَةَ دِرَاستَه حَجاجیَّة

تَألِیْفُ :الدَّكْتُور رَائدِ مَجِیْد جَبَّار

إصدار مُوسَّسَةُ عُلوُم نَهج البَلَاغَة فِی العَتبةَ الحُسَینَیّة المُقدّسةُ

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1438 ه- 2017 م

العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة

- مجاور مقام علي ا اكبر(عليه السلام)

مؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف: 07728243600

07815016633

الموقع الآالكتروني : www.inahj.org

الاايميل: Info@Inahj.org

تنويه: إن الأفكار والآراء المذكورة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها، و لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)

صدق الله العلي العظيم

سورة آل عمران / الآية ( 61 )

ص: 5

الإهداء

إلى...

أمير البيان...

وحجة الله البالغة...

علي بن ابي طالب (عليه السلام)

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤسسة

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتداها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن والاها، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أما بعد:

فلم يزل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) منهلاً للعلوم من حيث التأسيس والتبيين ولم يقتصر الأمر على علوم اللغة العربية أو العلوم الإنسانية، بل وغيرها من العلوم التي تسير بها منظومة الحياة وإن تعددت المعطيات الفكرية، إلا أن التأصيل مثلما يجري في القرآن الكريم الذي ما فرط الله فيه من شيء كما جاء في قوله تعالى: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ» (الأنعام: 38)، كذا نجده يجري مجراه في قوله تعالى: «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ» (يس: 12).

غاية ما في الأمر أن أهل الاختصاصات في العلوم كافة حينما يوفقون للنظر في نصوص الثقلين يجدون ما تخصصوا فيه حاضراً وشاهداً فيهما، أي في القرآن الكريم وحديث العترة النبوية (عليهم السلام) فيسارعون وقد أخذهم الشوق لإرشاد العقول إلى تلك السنن والقوانين والقواعد والمفاهيم والدلالات في القرآن الكريم والعترة النبوية.

ص: 7

من هنا ارتأت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تتناول تلك الدراسات الجامعية المختصة بعلوم نهج البلاغة وبسيرة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفكره ضمن سلسلة علمية وفكرية موسومة ب-(سلسلة الرسائل الجامعية) التي يتم عبرها طباعة هذه الرسائل وإصدارها ونشرها في داخل العراق وخارجه، بغية إيصال هذه العلوم الأكاديمية الى الباحثين والدارسين وإعانتهم على تبين هذا العطاء الفكري والانتهال من علوم أمير المؤمنين علي (عليه السلام) والسير على هديه وتقديم رؤى علمية جديدة تسهم في إثراء المعرفة وحقولها المتعددة.

وما هذه الدراسة الجامعية التي بين أيدينا لنيل شهادة الدكتوراه في اللغة العربية إلا واحدة من تلك الدراسات التي وفق صاحبها للغوص في بحر علم أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام) فقد أذن له بالدخول إلى مدينة علم النبوة والتزوّد منها بغية بيان أثر تلك النصوص العلوية في الإثراء المعرفي والتأصيل العلمي في اللسانيات وأثرالحجاج في خلق التواصل بين منتج النص ومتلقيه وتحقيق رسالته الإصلاحية.

وقد هدف الباحث من وراء هذه الدراسة الحجاجية لرسائل الإمام علي (عليه السلام) التي حاول عبرها الكشف عن الاستراتيجية الخطابية التي تحكم بناء المدونة بوصفها نصوصاً حجاجية إلى الكشف عن الآليات الحجاجية الموظّفة من قبل الإمام علي (عليه السلام) لتدعيم قضيته، وايصال أفكاره، وتفنيد خطبة خصمه بكونها تفاعلاً خطابياً قائماً على الادعاء والاعتراض في وجه مهم من وجوهها.

فجزى الله الباحث كل خير فقد بذل جهده وعلى الله أجره.

السيد نبيل الحسني الكربلائي

رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 8

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الأنام مُمَّد المصطفى ونبي الرحمة ورسول الهداية، وعلى صاحب الفضل والإحسان، المخصوص بالولاية، وصي رسول رب العالمين، امير المؤمنين، وقائد الغر المحجلين علي بن أبي طالب وعلى آله الطيبين الطاهرين، وسلَّم تسليما كثيرا. وما توفيقي إلاَّ بالله عليه توكلت وإليه أُنيب.

اما بعد....

يستدعي التأثير والإقناع في التخاطب الإنساني آلية بيانية فاعلة لتحقيقه، لذا نجد الحجاج ميزة من ميزات هذا التخاطب بمواقفه المتعدّدة، وأشكاله المتنوعة بين الشفوية والكتابية، إذ يعدّ ركيزة النصوص الموجّهة المتضمنة للمقصدية والنقاش والنّقد والجدل، التي منها: النصوص القرآنية، والفلسفية، والفقهية، والأدبية،....الخ.

كما يعد الركيزة الاساس في إيصال الأفكار وتحقيق المقاصد بين المتكلم والمتلقي عبر وسائل الإقناع والإثارة والتحاور ؛ فالحجاج وسيلة من وسائل الإقناع والتعبير عن الرأي و(تفنيد) الرأي المخالف ولا يخلو نص أدبي من الحجاج، بما في ذلك الشعر.

كما يحضر الحجاج في أعمال أخرى علمية، إعلامية، نقدية، فلسفية، قضائية...... الخ، التي تعتمد على مقابلة الرأي بالرأي ومقارعة الحجة بالحجة. لذلك يعد الحجاج من الموضوعات التي لقيت اهتماما كبيرا من لدن الدارسين في العالم الغربي حيث غدت

ص: 9

المؤتمرات والندوات تعقد خصيصا لبحث اشكالات الحجاج والكتب والمجلات تؤلف حصرا في تأمل قضاياه ومجالات اشتغاله فهو عابر للحقول المعرفية المختلفة، ويتشعب الى كافة مناحي الحياة ويمكن للناس كافة باختلاف مواقعهم في المجتمع ممارسته. ومع الخطوات التي خطاها العالم العربي في مجال التنظير والتطبيق لهذا المفهوم وربطه بالفكر البلاغي العربي القديم إلا أنَّ هذا العلم ما زال من الاختصاصات النادرة في الوطن العربي. لذلك دفعتني اسباب عدة للولوج في هذا الموضوع الحداثوي واتخاذه منهجا عاما في الدراسة، ومن هذه الاسباب:

- جدة موضوع الحجاج واهميته والرغبة في التعرف على أهم مفاهيمه، والحقول المعرفية التي تناولها.

- قلة الدراسات ذات الصلة بموضوع الحجاج في الدراسات العربية عموما والعراق على وجه الخصوص.

كما آثرت ان افحص آليات اشتغال هذا المنهج من خلال مدونة تراثية فكرية موسوعية نادرة ومتجددة في طرحها هي رسائل الإمام علي (عليه السلام) الواردة في نهج البلاغة.

فقد تظافرت عدة اسباب لاختيار هذه المدونة العظيمة لمراسلات أمير المؤمنين (عليه السلام) في تطبيق اجراءات وتقنيات الحجاج عليها، منها:

- إنَّ نهج البلاغة ومنه رسائل الامام علي (عليه السلام) من أعرق النصوص العربية وأقدسها وأفصحها وهذا ديدن كلام امير المؤمنين الذي هو دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين ما خلا الخطاب النبوي الشريف.

- إنَّه من أقرب النصوص المعرفية لتمثل منهج الحجاج بكل أشكاله وآلياته وأدواته.

- إنَّ شكل الخطاب في رسائل الامام (عليه السلام) من حيث هو رسالة اصلاحية في الدين والدولة انبنت بناءً تبليغيا مؤسسا على وفق مقدمات خطابية تواصلية توجه

ص: 10

وتحاور الناس عبر بوابة الإقناع والتأثير في متلقيه واعتماد استراتيجيات تواجه عقل المخاطب وروحه وضميره بعيدا عن العنف والاكراه والمغالطة. لذلك كان هذا الخطاب اكثر التصاقا بالجمهور بوصفه خطابا ينشد التأثير والاستمالة للمتلقي قصد الانخراط او الفعل.

- ولأنَّ خطاب الإمام في رسائله قد اختار مخاطبة العقل في عملية التغيير والتي هي هدف وغاية كل رسالة اصلاحية سامية صالحة لكل العصور، جاءت هذه الدراسة لتنظر في خطاب امير المؤمنين (عليه السلام) من خلال البحث في حجاجية الرسائل التي مارس من خلالها الامام عملية التبليغ والاصلاح بمنطق التواصل فحاور وحاجج بمختلف الطرق البرهانية الملائمة للإقناع بالعقيدة الإسلامية التي حملها.

- إنَّ العلاقة التي يمكن مقاربتها بين خطاب الإمام والخطاب الحجاجي هي أن لكلاهما دوراً فعّالاً في إقناع الآخرين، كونهما محاولة واعية من المتكلم للتأثير في المتلقي.

- كذلك ينبني كل منهما على وفق استراتيجية لغوية وبلاغية يحكمها المنطق تقوم على اساس توظيف اللغة داخل بنية محددة تخضع لقواعد استدلالية واستنتاجية ترتبط بالمتكلم والمتلقي داخل سياق اجتماعي ونفسي وتواصلي محدد له هدف وغاية تتمثل في التأثير على ذلك المتلقي.

- كما أنَّ حسن توزيع وتوظيف الاليات اللغوية والبلاغية وبالمقدار المطلوب من الإنسجام والضرورة، جعلته إنموذجا لدراسات مختلفة تجد ضالتها في نصوصه ولعل في مقدمتها الدراسات الحجاجية والتداولية.

وعلى اساس ما تقدم جاء اهتمامي بدراسة رسائل الامام (عليه السلام) الخالدة

ص: 11

من وجهة نظر حجاجية في محاولة للكشف عن الاستراتيجية الخطابية التي تحكم بناء المدونة باعتبارها نصوصا حجاجية. لذلك وسمت بحثي بعنوان (رسائل الامام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة ، دراسة حجاجية). هادفا من ورائه الكشف عن الآليات الحجاجية الموظفة من قبل الامام لتدعيم قضيته وايصال أفكاره وتفنيد قضية خصمه باعتبارها تفاعلا خطابيا قائما على الادعاء والاعتراض في وجه مهم من وجوهها.

وهي محاولة حديثة وجادة في دراسة رسائل الإمام التي ظلت ككل نهج البلاغة محورا للدراسات التقليدية التي لم تتجاوز الجوانب الموضوعية والفنية والجمالية، وتناولها من زاوية نظر حجاجية ندعي أنَّها الأقرب الى جوهر المدونة والادق في الكشف عن الخزين المعرفي البكر الكامن فيها.

هذا وقد آثرت أنْ أُقيّد ابحاث دراسة المدونة التي ما انفكت تحاول الانفلات من عقال التصنيف الذي وضعه الباحث لاتساع المنهج وكثرة آلياته وغنى المدونة وتعدد مشاربها مما يجعل من القول الواحد ان ينخرط في مسارات حجاجية مختلفة. فكلاهما يتناغمان ويعبران عن صورة كل منهما في مرآة الآخر. فقد وزعت الدراسة بين فصل تنظيري وفصلين تطبيقيين استهللتها بتمهيد وانهيتها بخاتمة لأهم النتائج التي توصلت اليها الدراسة. ولنا ان نوجز القول في اهم مسارات البحث التالية:

- كان التمهيد حيزا لمجموعة من المفاهيم والقضايا ذات العلاقة الوطيدة بالبحث التي من شأنها أن تهيئ الباحث والقارئ للولوج الى الدراسة بشكل منطقي سليم، إذ تمده ببعض المعطيات النظرية الاساسية كالتعريف بمفهوم الحجاج في الدلالتين اللغوية والاصطلاحية، إذ لا يمكننا ان نفهم قيمة الاشياء التي نتحدث عنها دون ان نعي حدّها. كما تضمن التمهيد بياناً لأهمية الخطاب وانبنائه في المدونة ومدى موائمته للتحليل اللساني التداولي، فضلا عن نظرة نقدية استقرائية - ندَّعي أنَّها غير تقليدية ، لطبيعة نهج البلاغة، وللقيمة التي تشكلها الرسائل قيد الدراسة

ص: 12

والموقع الذي تحتله من مجمل فن الترسل وخصائصه المائزة مع مقاربة هذه النظرة للهم المعرفي الذي ترتهن اليه نظريات الحجاج الحديثة.

- سعينا في الفصل الاول (الحجاج - مقاربة تاريخية ونظرية) الى مقاربة مفهوم الحجاج من الناحية التاريخية والنظرية عبر ثلاثة مباحث: إذ شرعنا في المبحث الاول في تتبع الارهاصات الأولى لتبلور مفهوم الحجاج في الفكر اليوناني القديم من خلال طروحات بعض اعلام هذا الفكر. وقد آثرنا ان نقتصر الحديث عن ثلاثة منهم يمثلون بؤرة الفكر اليوناني عامة والجذر التاريخي لمباحث الحجاج خاصة وهم: (السوفسطائيون، وافلاطون، وارسطو). ثم انتقلنا في المبحث الثاني لبيان طبيعة الحاضن الفكري لتشكل الفكر الحجاجي العربي القديم مع بيان اهم اسباب نشوئه في البيئة العربية ابان الفتح الإسلامي ثُمَّ وقفنا مطولا عند المنحى الحجاجي في التراث البلاغي العربي واستعراض أهم الطروحات والآليات الإجرائية التي قدمها الفكر البلاغي العربي المؤدية الى التأثير والاستمالة والإقناع، على يد نبذة من مؤسسي البلاغة العربية وهم:(الجاحظ، وعبد القاهر الجرجاني، والسكاكي، وحازم القرطاجني). ثم انهينا الفصل بمبحث ثالث عرضنا فيه أهم معطيات المنجز اللساني والبلاغي الغربي المعاصر المتمثل بنظريات الحجاج متوقفين عند ابرز نظريتين عالجتا موضوع الحجاج من زاويتين مختلفتين ومؤتلفتين في الان ويكمل بعضهما البعض الاخر هما: نظرية الخطابة الجديدة لبرلمان وتيتكاه التي كان لها السبق في احياء وبعث الدرس الحجاجي / البلاغي من جديد في العالم الغربي بعد ان عرف الحجاج خفوتا وعانى من حالة الركود على امتداد قرون من الزمن. وقد ساقتنا النظرية للحديث عن اهم ركائزها والمتمثلة بحدود المفهوم ومنطلقات الحجاج وتقنياته. اما النظرية الاخرى فهي نظرية الحجاج في اللغة لديكرو وانسكومبر، التي تعتبر الحجاج ظاهرة لسانية تخضع للوصف الدلالي بالتركيز على المحتوى

ص: 13

من خلال ربط التداول بالبنية التركيبية مباشرة، ويتجسد هذا الطرح في المقاربة اللسانية للحجاج عبر الوقوف على الجهاز المفاهيمي لكل من التداولية المدمجة وآلية عمل كل من الروابط والعوامل الحجاجية ونظرية السلم الحجاجي.

- اما الفصل الثاني ووسمته ب-(آليات الحجاج اللغوية في رسائل الامام علي (عليه السلام)) وقد انتُدب هذا الفصل لرصد أهم الآليات اللغوية التي من شأنها استمالة المتلقي وتوجيهه وتحقيق الإقناع متكئين في هذا المنحى اللساني على معطيات نظرية الحجاج لديكرو التي اغنتنا بوضع أصول مباحث اربع وجدت ضالتها في نصوص المدونة هي:

* الروابط الحجاجية.

* الموجهات الحجاجية.

* المقتضى التركيبي ودوره الحجاجي (السؤال البلاغي أُنموذجاً).

* السلّم الحجاجي.

في حين خصصنا الفصل الثالث لمقاربة مفصل مهم من مفاصل البلاغة، بوصفها رديفة للحجاج، هو الصورة البيانية التي اتفق الفكر الغربي والعربي القديم والحديث على أهمية واصالة دورها الحجاجي، فتعددت سبل النظر في هذا الفصل الذي عنوناه:(حجاجية الصورة الفنية في رسائل الامام (عليه السلام)) متوقفين في ذلك على نظرة برلمان للصورة باعتبارها تقنية حجاجية قائمة على الإقناع والإمتاع. وقد حاولنا تجسيد هذا الدور من خلال مباحث ثلاثة هي:

* حجاجية الصورة الكامنة في مادتها.

* حجاجية الصورة الكامنة في شكلها.

ص: 14

* الصورة الحجاجية وحكم القيمة.

- ختمنا البحث بأهم النتائج التي توصل اليها.

ولقد تبنيت في مسارات البحث المختلفة بعض اجراءات النظرية الحجاجية الحديثة بالاعتماد على جهود نبذة من أعلام الفكر الحجاجي الغربي والعربي وقد ساعدني على تطبيق هذه الإجراءات الكتب التالية:

اهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من ارسطو الى اليوم (مجموعة باحثين) إشراف حمّادي صمود.

- الحجاج اطره ومنطلقاته (مجموعة باحثين) إعداد: حافظ اسماعيل علوي.

- الحجاج في القران الكريم من خلال اهم خصائصه الاسلوبية، لعبد الله صولة.

- استراتيجية الخطاب، لعبد الهادي بن ظافر الشهري.

- الحجاج في البلاغة المعاصرة، لمحمد الامين الطلبة.

- الحجاج في اللغة، لابي بكر العزاوي.

- حجاجية الصورة في الخطابة السياسية لدى الامام علي (عليه السلام)، لكمال الزماني.

- الحجاج في الشعر العربي (بنيته واساليبه)، لسامية الدريدي.

- كتابة الجاحظ في ضوء نظريات الحجاج (رسائله نموذجا)، لعلي السلمان.

كما حتمت علينا طبيعة البحث أن نستند الى جملة من شروح نهج البلاغة لعل أهمها:

شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزلي. وقد اعتمدنا روايته في اقتباس نصوص المدونة ماخلا البعض لرؤية الباحث وأدواته النقدية في ترجيح رواية على اخرى.

شرح نهج البلاغة، لكمال الدين بن ميثم البحراني وهو اقرب الشروح الى منهج

ص: 15

البحث المتبع

كانت جدة الموضوع، وتعدد سبل البحث وتداخلها واختلاف اليات التحليل الحجاجي من باحث الى اخر، وحداثة الدرس الحجاجي في العالم العربي، وقلة وصعوبة الحصول على الدراسات في مجال الحجاج خصوصا التطبيقية منها التي كلفنا البحث عنها تضييع الكثير من عمر البحث وندرة المختصين في هذا المجال، وحساسية المدونة المدروسة كل تلك الاسباب كانت وراء الصعوبات التي واجهت الباحث، ولكنها في الوقت ذاته لم تثن من عزيمة الباحث في تخطيها والاصرار على البحث والاجتهاد.

ونأمل في الأخير أنْ نكون قد حققنا بعض ما تصبو اليه الدراسة، ونرجو أنْ يكون في هذا العمل بعض الافادة والنفع في اعادة الاعتبار لتراثنا البلاغي في ميدان الحجاج، وانصاف نهج البلاغة بصورة عامة والرسائل بصورة خاصة في اكتشاف كنوز المدونة المعرفية التي ما تزال لم تدرك ابعادها الفكرية بعد. ونعتذر مسبقا عما يمكن أنْ يكون فيه من زلّات وهفوات نتيجة قصور علم او ضعف معرفة أو نسيان، فان لم يكن لنا أجر المصيب فحسبنا في ذلك أجر المجتهد.

والحمد لله رب العالمين

الباحث

ص: 16

الفصل الاول: الحجاج مقاربة تاريخية ونظرية

اشارة

ص: 17

ص: 18

المبحث الاول: الحجاج في الفكر اليوناني القديم

اشارة

شكّلت الحاضنة اليونانية منذ القدم مهدا للفكر الفلسفي عموما وللمناهج الجدلية والحجاجية خصوصا، وأرضاً خصبة لنشأتها وتطورها، فهي لم تنشأ ، اي الفلسفة بكل ابعادها ، إلاَّ في جو سياسي ديمقراطي تعايشت من خلاله مع علوم وفنون وآداب وانصهرت في بوتقة فكرية واحدة كانت فيها الفلسفة اليونانية أُمُّ العلوم والمعارف، ومن اهم المناهج التي استعملها الحكماء والفلاسفة اليونانيون منهج البرهان والاقناع والحجاج العقلاني ومناهج التعليم والتبليغ التي تتمثل في اسلوب التهيئة والحوار والاسطورة والشعر علاوة على مناهج الاستكشاف التي تستند الى تشغيل الحدس واللجوء الى التمثيل والاستعانة بالأمثلة والاستقراء والاستنباط والتحليل الرياضي(1) ، كما اهتموا بالخاصية التواصلية والإقناعية والتأثيرية للغة باعتبارها احد المعارف المنتجة في ادراك المعارف وبيان الطاقات الذهنية للناطقين بها، وهو أمر جعل منها فعالية لسانية اجتماعية ذات تأثير بالقوة والفعل، وبوصفها وسيلة للإقناع عن طريق استنباط الحجج ومعالجتها وبثها، الامر الذي مهد لولادة جديدة خرجت من رحم الحراك الجدلي / الخطابي الذي تبنته المدارس الفكرية الفلسفية عبر مراحل زمنية شكلت ارهاصا لتطور

ص: 19


1- ینظر: الطاهر و عزیز، المناهج الفلسفیة: 35-37

الفكر والمجتمع تمهيدا لبزوغ فجر النظرية الحجاجية على يد برلمان في القرن العشرين.

ولتلمس جذور هذه النظرية في الفكر اليوناني القديم لا مناص من فحص الجهود التي اهتمت بهذا الجانب اهتماما بالغا عبر ثلاثة وقفات شكلت اهم المراحل التاريخية او المخاضات الفكرية في سيرورة مفهوم الحجاج في البيئة اليونانية نوجز القول فيها بشيء من التركيز على وفق مقاربة تاريخية لرصد اهم التحولات التي شهدها هذا المفهوم في تلك الفترة مع السوفسطائيين وافلاطون، وارسطو، التي شكلت آرائهم وتصوراتهم عن الحجاج المنبع الثر الذي غذى ويغذي نظريات الخطابة الجديدة في العصر الحديث.

1. السوفسطائيون ومنهج المغالطة

برزت الحركة السوفسطائية في اليونان القديمة في القرن الخامس قبل الميلاد على اثر تحول المجتمع الأثيني من مجتمع زراعي اقطاعي مرتبط بالقبيلة الى مجتمع تجاري صناعي يهتم بالكفاءة الفردية وتنمية الحرف الصناعية، مما ولَّد ارهاصات ديمقراطية قائمة على حرية التعبير والاحتكام الى المجالس الانتخابية والتصويت بالأغلبية بعد هجر مفاهيم الحكم الوراثي او التفويض الالهي، فاصبح لكل مواطن قسطا معقولا من الحرية والحق في الوصول الى مراتب متقدمة في الدولة، مما ولد شعورا واضحا بالحاجة الى التعلم وايجاد سبل كفيلة وداعمة لتحقيق غاياتهم المنشودة في السياسة والحكم، فسارع ابناء الاغنياء لتعلم فن الخطابة والجدل السياسي لافحام خصومهم السياسيين. نتج عن هذه الحاجة حراكا فكريا تبناه السوفسطائيون ليزودوا هذه الطبقة الواعدة بأسلحة الخطابة والجدل واستعمال بلاغة الكلمة في الترويج لأفكارهم في المرافعات والمناظرات الحجاجية والخطابية.

لقد شكَّل هذا التحول الفكري السوفسطائي إيذانا ببدء مرحلة مهمة من تاريخ اليونان استدعتها ضرورات ماسة، دفعتهم الى ان يخوضوا معارك كلامية عبر خطبهم

ص: 20

ومناظراتهم التي اطاحت بخصومهم. فقد رفعوا لواء القول واجادوا فيه وشجعوا على استعمال الحجج التي يشكل جوهرها الاقناع من اجل تحقيق المصالح الخاصة وتحديدا فيما يتعلق بمساعدة المرشحين للوظائف السياسية على النجاح واستلام السلطة.

مهدت هذه الحركة الى بروز صراع فكري في اليونان ذي منحى لغوي وبلاغي قائم على المغالطة في القول اذ انهم “ يستعملون في الغالب سلطة القول في فضاءات السلطة بالمدينة “(1) كما اشاعوا نوعا من الاستدلال المخاتل الذي يحمل في طياته المغالطة وتزييف الحقائق. وقد اشتهر من اعلام هذه الحركة (جورجياس) و (بروتاغوراس) وغيرهم من الذين تميزوا بالكفاءة اللغوية والبلاغية وبالخبرة الجدلية(2) التي اضحت سلطة تأثير في القضاء والجماهير، فضلا عن المهارة والموسوعية التي يمتلكونها في شتى علوم ذلك العصر ومن هنا اطلقت عليهم كلمة ( Sophists ) وهي في الاصل تعني الحكيم والرجل ذا الكفاءة المتميزة(3).

يصف افلاطون اصحاب التيار السوفسطائي على لسان جورجياس في المحاورة التي تحمل اسمه وهو كما قلنا رأس من رؤوسهم: انهم قادرون على ان يتكلموا في المواضيع كافة، وان

يعارضوا الجميع بصورة تنال اعجاب الجمهور، وان يقنعوا الجمهور بأي شيء يريدون(4) ،كما اعتمدوا شعار ( الانسان مقياس كل شيء )، فالحق عندي كما يبدو لي

ص: 21


1- هشام الريفي، الحجاج عند ارسطو: 51
2- ينظر: محمد سالم محمد الامين الطلبة، الحجاج في البلاغة المعاصرة: 24
3- ينظر: الحجاج عند ارسطو: 54
4- ينظر: الحجاج عند ارسطو: 54

والحق عندك كما يبدو لك بحسب بروتاغوراس(1) ، وبذلك لم يعد للحقيقة بذاتها وجوداً، بل هي - حسب تصورهم - محل اتفاق، ومن ثم فهي معرّضة لانزلاقات الجدل في بحثه عن هذا الاتفاق(2) ، ويضيف بروتاغوراس ايضا: لا يوجد شيء ولو وجد فالانسان عاجز عن ادراكه، وان استطاع فرد ان يدركه فلا يستطيع ان يعبر عنه ويوصله الى الاخرين، مما يعني ان الحقيقة الموضوعية او الحقيقة بذاتها مجرد وهم، فلكل منا حقيقته الخاصة به، والناجح، والشاطر هو القادر على المحاججة والاقناع، ووسيلته في ذلك ان يتوجه الى الاخرين بما يحبون، وبذلك يستطيع ان يروج ما يشاء من افكار بعد ان يلبسها عباءات تروق لمن يخاطبهم ويتوجه اليهم(3) .

إذن تبقى الحقيقة في نظر السوفسطائيين قضية نسبية، وأن الوسائل التي يستخدمها المتكلم من قدرة لغوية فائقة وامتلاك لمفاتيح علوم البلاغة والبيان وغيرها تزيد في قوة الخطاب وتجعله مقبولا ومستحسنا من قبل الجمهور ومن ثم يحقق اهدافه المنشودة في افحام الخصوم والانتصار عليهم.لذلك ابتكر السوفسطائيون البلاغة التي هي فن الكلام الذي يتوخى الاقناع وفن الفصاحة وخاصة فصاحة الخطاب السياسي او القانوني في المرافعات القضائية(4) ، حيث يتسلح الخطيب بكل ادوات الاغواء والاذعان والالزام لاستمالة المستمعين الى التزام آرائهم من صور مؤثرة واستدلال خاطئ واستدعاء المشاعر واستغلال الانفعالات والمعتقدات وكل ذلك يتم من اجل غايات شخصية توصل الى

ص: 22


1- ينظر: نفسه: 59
2- إذ يعني (انزلاق الجدل نحو السفسطة في نظر افلاطون اكبر انحدار للخطاب البلاغي، حيث يتم المرور دون مرحلة وسطى من فن الاقناع الى فن الخداع وانحدر الاتفاق المسبق على المسلمات نحو ابتذال الحكم المسبق، كا تم الانتقال من فن الامتاع الى فن التضليل الذي يعترعنفا للخطاب لا غیر) (بول يكور، البلاغة والشعرية: 109 )
3- ينظر: محمد اسيداه، السفسطائية وسلطة القول، ضمن كتاب ( الحجاج مفهومه ومجالاته )
4- ينظر: فيليب بروتون و جيل جوتييه، تاريخ نظريات الحجاج: 23

تحقيق النجاح والحصول على التاييد المطلق والمؤيد لهم من قبل الجمهور، فضلا عن تحقيق المكاسب المادية والمنافع الذاتية العملية، حتى ان ( هيبياس ) الصغير كان يفخر بانه يدافع امام القضاء في آن واحد عن عشر قضايا ويجيب عن كل الاعتراضات عليها ثم ينتقل الى صف الخصوم لقاء اجور اخرى، فيدافع عن القضايا العشر المناقضة ويجيب عن كل الاعتراضات الواردة عليها(1) .

لقد نادى السوفسطائيون بالحاجة الى تقنين قوة العبارة انطلاقا من ايمانهم بان المعنى الموجود تختزله العبارة فكان ان اهتموا “ ببنية كل من الكلمة والجملة وبحثوا في السبل التي بها يتحقق الاقناع وتتغير مواقف الاخرين “(2) حيث يتجلى فعل الكلمة وشدة اثرها في النفس في قدرتها على اضفاء اضعف الحجج لبوس القوة والحمل على التصديق، الامر الذي جعل من العبارة وقوتها مركز اهتمام لديهم. ومن شدة اهتمامهم بالقول وفاعليته السلطوية أن “ جعلوا الخطابة في صدر الصنائع الانسانية واعتبروا ان الصنائع جميعا من طب وهندسة ومعمار وغيرها لا يمكن ان يحقق بها الانسان والمدينة خيراً ما لم ترفدها سلطة القول “(3) ، وان اللجوء للحيل الخطابية والالاعيب القولية امر مشروع اذا كانت نتيجته في نهاية المطاف تحقيق مصلحة شخصية راجحة لذلك اصبح مدلول السفسطة منذ اليونان الى يوم الناس هذا هو نفسه التعريف الارسطي لها بكونها “ استدلالا صحيحا في الظاهر، معتلا في الحقيقة، اي انها نوع من العمليات الاستدلالية التي يقوم بها المتكلم وتكون منطوية على فساد المضمون او الصورة اما بقصد

ص: 23


1- ينظر: طريف شوقي و عبد المنعم شحاته، ابعاد سلوك المحاجة ، دراسة عاملية، مجلة دراسات عربية في علم النفس، تصدرها رابطة التربوين العرب، السعودية، عدد (5)، 2008 : 12
2- الحجاج في البلاغة المعاصرة: 25
3- الحجاج عند ارسطو: 52

او دون قصد “(1) . وقد بيّن ابن رشد في ( تلخيص السفسطة ) ما تقوم عليه المخاطبات السوفسطائية من مقاصد مغالطية، فقد اجملها في خمسة غايات هي(2) :

- تبكيت المخاطب وتغليطه

- التشنيع على المخاطب

- التشكيك، اي يشككه في خطابه وفي اعتقاده

- استغلاق الكلام واستحالته

- سوق الهذر والتكلم بالهذيان.

وقد تعرَّضت هذه الحركة الفكرية على مر التاريخ الى هجمات ونوبات متتالية على يد رواد النزعة العقلانية في الفلسفة اليونانية امثال سقراط وافلاطون وارسطو، ادى بها الامر الى انحسار فكرتها السوفسطائية القائمة على نسبية الحقيقة والتفكير المخادع والاستدلال المغلوط، وحلّت محلها الفكرة القائمة على قدرة العقل على اكتشاف الحقيقة بجهده التأملي الخالص عبر الطرائق البرهانية الخالصة المبنية على قواعد العقل واصول المنطق. ويبدو ان هذا النزاع الذي حدث بين الفلاسفة والسوفسطائيين كان له اثر بالغ في الفكر اليوناني القديم خصوصا في تطور فن الجدل واشكال المحاورة والاستدلال والمناظرة. ورغم العداء المتواصل للسفسطة وسياسة القدح التي تعرضت لها، هناك من الباحثين من برَّأ ساحة السوفسطائيين من كثير من الشبهات التي لصقت بهم، اذ اعتبروا ان جلَ ما وصل من ارائهم جاء على لسان افلاطون الذي كان معارضا لهم، كما يرون أنَّ السفسطة كانت خطوة تقدمية في الفلسفة اليونانية قائمة على تنوير العقول والافكار، وهي بمثابة ردة فعل لانتشار الفلسفة وتقديس اليونانيين اياها حتى

ص: 24


1- رشيد الراضي، الحجاج والمغالطة: 13
2- ينظر: ابو الوليد بن رشد، تلخيص السفسطة: 13

اصبحت شغلهم الشاغل وارتفعوا بصاحبها الى درجة الانبياء(1) . لذلك اسهمت انجازاتهم الفكرية مساهمة فعّالة ومصيرية في تطوير البلاغة القولية التواصلية خاصة والحياة الفكرية اليونانية عامة.

2- الجدل الافلاطوني:

اشارة

استلهم افلاطون (347 - 427 ق.م) اسس التجربة الفلسفية لدى استاذه سقراطو احتفظ بفلسفته ودون افكاره. فقد منح افلاطون لتجربته الفلسفية بعدا عقلانيا مجردا قائما على المثالية وكان للفكر والعقل الدور الرئيس والمباشر في حيثيات تجربته الفلسفية المفارقة لكل ماهو حسي ونسبي وغير حقيقي، لذلك انتفض افلاطون ضد كل من يخالف رؤيته وتصوراته حول الوجود والقيم وفي طليعتهم السوفسطائيين الذين تصدى لهم وقوّض اركانهم وفند اغاليطهم، فقد “ اخذ افلاطون عن سقراط(2) * جوهر معارضته للسوفسطائيين وللبلاغة، فقد هاجم في (جورجياس) على الخصوص الممارسات المتمثلة في استعمال النتائج دون تقص حقيقي، وفي ( فيدر ) حلم افلاطون بخطاب يكون جديرا بالفيلسوف، خطاب يمكّنه ان يقنع الالهة نفسها “(3) .

ص: 25


1- ينظر: محمد جواد مغنية، معالم الفلسفة الاسلامية: 87
2- مما لا شك فيه ان لكل فعل رد فعل، فقد اسهم وجود الحركة السوفسطائية القائمة على الشك والتلاعب اللفظي واغفال الحقيقة وعدم الاعتراف بها الى ظهور الفيلسوف سقراط ( 399 ، 486 ق.م ) فهو اول من تصدى لهم، وقد (( اتهمهم بتمويه الخطأ بالمنطق المزخرف وقوة البلاغة، واحتقرهم لتقاضيهم اجورا مرتفعة من تلاميذهم، واختلف معهم لقولهم بان الانسان معيار الحقيقة...... واختلف معهم في مفهوم الاخاق التي تعني عنده السعادة في حین تعني عند السوفسطائيين سيطرة الانسان عى غیره )) ( هادي فضل الله، السوفسطائية من وجهة نظر منطقية، مجلة الفكر العربي، ع/ 99 ، 2000 ، ص: 158 )
3- ليونيل بلينجر، الاليات الحجاجية للتواصل، ترجمة: عبد الرفيق بوركي، مجلة علامات، النادي الادبي الثقافي، جدة، السعودية، عدد ( 21 )، 2004 م: 35 . جورجياس وفيدر: من محاورات افلاطون مع السوفسطائيين

ومن ابرز نقاط الافتراق التي حملت افلاطون على معاداة التيار السوفسطائي هي البلاغة فقد اشكل على بلاغتهم اعتمادها على الرأي، والآراء بحسب تصوره “ تحيل دوما على وقائع مزعومة، هي في الواقع وفي اغلبها ناتجة عن الاهواء والمصالح والرغبات والظروف. إن كل واحد يرى الواقع كما يشتهيه ويدعو (واقعا) ما يناسب احواله الذاتية “(1) .

هذا التوجه الفكري المتلون والمتغير دون ضبط هو الذي حمل افلاطون ان يعبرعن رأيه في قضية الحجاج او الخطابة بالشكل الذي اختصره (ميشيل مايير) بقوله: “ وبالنسبة لآخرين، مثل افلاطون، فإن البلاغة سفسطة، إنها لا تتوفر على اي شيء ايجابي، لقد كان السفسطائي يشبه المحامي القادر على اللعب في شتى معاني الكلمات والمفاهيم اذا كان هذا يخدم اطروحته سواء اكانت صائبة ام خاطئة. إنَّ السفسطة بعيدا عن الالتزام بالصفات الاخلاقية للخطيب تستطيع ان تبيع نفسها لكل القضايا، وقد تقدمت منذ البداية باعتبارها خطاب العاجزين “(2) . إنَّ اختلاف المنطلق في الرؤية الى الخطاب بين السفسطائيين وافلاطون قائم على الطبيعة الحجاجية التي يكون مدارها بين الانسان والانسان الاخر وتصدر عن الحقيقة لا عن المحتمل والظن من أجل نشدان الفضيلة والخير لا الى تحقيق المآرب بسلطة القول(3) ، من هذا نجد ان افلاطون في منهجه الخاص بالخطابة واليات اشتغال الحجاج، ودوره الريادي في بلورة واقع الاقناع والتأثير والحوار، ينطلق من نقاط الاختلاف والافتراق بينه وبين السوفسطائيين، وقد تجسدت هذه المباينة في المحاورات التي اقامها افلاطون مع بعض خصومه من السوفسطائيين،

ص: 26


1- محمد الولي، مدخل الى الحجاج، مجلة عالم الفكر، الكويت، مجلد (40 )، عدد (2)، 2011 : 21
2- ،Meyer، M، op. cit. p. 14 نقا عن: محمد الولي، بلاغة الحجاج، مجلة فكر ونقد، الدار البيضاء، المغرب، عدد: 20 ، 1998 : 138
3- ينظر: الحجاج عند ارسطو: 70

وقد اعتمد في نقده استراتيجية واحدة سماها هشام الريفي ب-” استراتيجية الكشف “(1) أي ان افلاطون رأى ان مواجهته لهم تعد على نحو معين كشفا للقناع ورفعا للستار عن اغاليطهم ومزاعمهم ومراوغاتهم اللغوية وقد كان معظم النقد الذي وجهه اليهم في المحاورتين المذكورتين يدور حول “ منطق الحجاج ومقصده في ضوء قيمتي الحق والخير“(2) ، ففي محاورته المعروفة ب-( جورجياس ) نجد افلاطون يحلل “ موضوع الخطابة في ضوء المقابلة بين العلم Science والظن Opinion ، مؤكدا ان الاقناع نوعان: اقناع يعتمد العلم، واقناع يعتمد الظن، وهذا الثاني هو موضوع الخطابة السوفسطائية، فالاقناع المعتمد على العلم مفيد اذ يكتسب منه الانسان معرفة اما الظن فلقيامه على الممكن Probable والمحتمل Vraisemblable كان الاقناع المعتمد عليه غير مفيد حسب افلاطون، فهو لا يكسب الانسان معرفة بل ينشئ لديه اعتقادا .(3) “Croyance ولهذا جعل افلاطون معيار الفضيلة هو الغاية المرجوة من الخطابة، وبما ان الخطابة السوفسطائية قد اهدرت هذا الجانب المهم والرئيس من اهدافها فقد اعتبرها اداة تزيينية تمويهية تحقق اللذة، وهي من صناعات التملق Flatterie والتملق نوع من العنف(4) .

ولم يكتف افلاطون عند هذا الحد فقد نجده في محاورته الاخرى (فيدر) يعرف الخطابة بانها صناعة النفوس بالقول، لكن الى الحق والخير لكي تكون جميلة ؛ لأنَّ الجمال عنده قرين بالحقيقة، اي حقيقة الوجود وحقيقة القول(5) ، على هذا الاساس فان الرؤيا التي ينشدها افلاطون في هذا المجال تعتمد معياري: (العلم والخير) اساسا لكل حجاج

ص: 27


1- ينظر: نفسه: 62
2- نفسه: 71
3- نفسه: 63
4- ينظر: نفسه: 75
5- ينظر: الحجاج عند ارسطو: 75

او بلاغة مجديين ينفعان الفرد والمجتمع، وهما معيار يمكن التعبير عنه بانه قيمي(1) ، ففي الوقت الذي يرفض فيه افلاطون البلاغة التي تكتسب شرعية وجودها من الحشود الجماهيرية المؤيدة بفعل عوامل الاغراء والاقناع الموهم التي بدورها تساهم مساهمة فعالة في كبح جماح الاصوات المنتقدة والمعترضة فانه يدعو الى البلاغة الحقيقية، أي الجدل الذي يرتكز على المناقشة والتحاور بين فكرين متناقضين بعيدا عن سلطة الضغط والارغام والتحريض الجماهيري.

إذن تقوم النظرة الافلاطونية للبلاغة على مبدئين اساسيين: احدهما قائم على مبدأ الهدم والاخر قائم على مبدأ البناء، فهو من جانب يرفض كل اشكال البلاغة القائمة على الرأي العام التي تمارس سطوتها في تأسيس الآراء والمعتقدات، كما يؤكد خطورتها في المجتمع بشكل عام، فهي لا تسمح نهائيا بإنتاج الرأي والرأي المضاد، ومن جانب آخر فهو يقبل تلك البلاغة التي قوامها الحوار الثنائي الذي يتم بين العلماء والمختصين ومن كافة الطبقات من اجل الاحتكام الى المعرفة، والتماس الحقيقة بعيدا عن سلطة القهر والالزام والمغالطة2(2) .

فالخطابة عند افلاطون تقنية اقناع واداة ذهنية تخدم مبدأ البحث عن الحقيقة، وهو امر يتناقض وصورة الحجاج بوصفها آلة ايهام وحمل على التصديق واذعان، وإنْ تعلق الامر بالواهي من الحقائق والمواقف. ولم يكتف افلاطون بهذا القدر من الخطابة فقد وسع من دائرة الحجاج ليشمل فضلا عن “ فضاءات القول الرسمية من محاكم ومجالس شعب وساحات عامة Agora ليمتد الى الاجتماعات الخاصة ايضا “(3) التي يكون

ص: 28


1- ينظر: الحجاج في البلاغة المعاصرة: 28
2- ينظر: محمد الولي، مدخل الى الحجاج ( افلاطون وارسطو وشايم برلمان )، مجلة عالم الفكر، عدد (2)، مجلد (40)، اكتوبر-ديسمبر، 2011 م: 22 ، 23
3- الحجاج عند ارسطو: 80

دافعها الوحيد هو معرفة الحقيقة والخير خلافا للخطابة السوفسطائية التي تنحى منحا استعراضيا اشبه برياضة المصارعة عند الاغريق من اجل الغلبة والفوز(1) ، أي هي “ ليست فضاء تفاعل قولي بين الانسان والانسان بما في ذلك من علاقات معقدة ومقاصد مختلفة وتنوع في الرؤى، وانما هي فعل قولي اخلاقي “(2) يرفض مبدأ الضغط الفكري واقصاء الاخر وفرض الاقناع لمجرد ان العامة تؤيد هذه الفكرة او ترفضها.

إذن يقوم المنهج الافلاطوني في معالجته لصناعة الخطابة على ثلاثة اركان هي: “ اعتماد المنهج الجدلي، ومعرفة انواع النفوس وما يناسبها من اقاويل، ومعرفة ما يناسب المقامات المختلفة من اساليب “(3) ، فالجدل عند افلاطون يحتل المكانة السامية في جميع المعارف ويشكل ذروة الفكر الفلسفي، وهو الوسيلة التي نقل بها الحجاج من مجال الظن الى مجال الاحتمال(4) في حين احتلت معرفة انواع النفوس الركن الثاني في تصور افلاطون “ ومدار هذا الركن مبدأ التناسب بين القول والسامع “(5) ؛ لأنَّ المستمعين يختلفون باختلاف درجة تقبلهم للخطابات، وهذا الاختلاف في طبائع النفوس يقتضي التعاطي معه بشكل دقيق ومن ايسر الطرق، بحسب مقتضى الحال والمقام. اما الركن الثالث فهو تخير الاساليب التي تناسب المقامات المختلفة من خلال الانسجام والتناسب والتماسك بين وحدات الاسلوب حتى يستطيع الخطاب وهو بهذه القوة من ابلاغ الاثر المنشود وترك فعله القوي في عقل ووجدان المتلقي، وهو ما ينبغي مراعاته في العمل الحجاجي.

ص: 29


1- ينظر: كتابة الجاحظ في ضوء نظريات الحجاج ، رسائله نموذجا: 34
2- الحجاج عند ارسطو: 79
3- نفسه: 80 ، 81
4- ينظر: الحجاج في البلاغة المعاصرة: 30
5- الحجاج عند ارسطو: 83

كما يميّز افلاطون بين ( افحم واقنع )، ف” الإفحام هو صنيع الفيلسوف المنشغل بالمطلق، الباحث عن الحقيقة والوجود والمثال، بينما الاقناع هو صنيع الخطيب الذي يعالج الآراء والاشياء المرئية، والمحتمل، ومن يعمد الى الاقناع في معناه الثاني يستخدم السفسطات والادلة العاطفية ؛ انه يؤثر على خيال المستمع ومشاعره وليس على عقله“(1) . لذا بات من الواضح ان المنهج الذي اختطه افلاطون ، وهو لب معارضته لخصومه من السوفسطائيين ، هو “ منهج ديني مثالي يحارب الظن والمراوغة والتزييف وتحقيق المآرب غير الشرعية بسلطة القول وبالتالي فهو منهج غير سياسي نظرا الى ما تبيحه السياسة من وسائل متعددة للوصول الى غاياتها “(2) .

نخلص من كل ما تقدم الى ان رؤية افلاطون للحجاج كانت رؤية مبنية على الاخلاق والمثل، وخاضعة الى معياري الحق والخير، وهذه المحددات فتحت الباب امام الفلاسفة والبلاغيين لنقده وتجاوز آرائه قديما من قبل تلميذه ارسطو، وحديثا من قبل برلمان واوليرون، لأنه لا يساير التطورات الانسانية المتلاحقة.

الحوار الار سطي:

بلغت الفلسفة اليونانية اوج عظمتها على يدي ارسطو ( 332 - 384 ق.م) حيث احتلت آراؤه الفلسفية وافكاره الاخرى موقع الصدارة في تاريخ الفلسفة اليونانية الى عهد قريب، لأنها تنفتح على كل ضروب المعرفة والبحث العلمي، فقد بحث في الطبيعة، والميتافيزيقا، وعلم النفس والحياة، والسياسة، والشعر، وفن الخطابة، والمسرح، فهو يعد فيلسوفا موسوعيا شاملا لم تستفد منه اوروبا وتتشبع بأفكاره وحدها فحسب، بل نفذت آراؤه الى التراث الاسلامي ومثلت مرجعية للعلوم العقلية والذي يقع المنطق

ص: 30


1- الاليات الحجاجية للتواصل: 35
2- الحجاج في البلاغة المعاصرة: 29

في مقدمتها، فقد بنيت على افكاره وآرائه الكثير من النظريات والمناهج العلمية، فكان المشروع الارسطي امتدادا لنفس الهم الافلاطوني المتمثل في انقاذ النقاشات في المدينة من اخطار الخطابة السوفسطائية، فقد اضطلع ارسطو بهذا الدور من خلال تصور مغاير على مستوى المنطلقات والوسائل والتصورات، فالمنهج الذي اتبعه ارسطو يمتاز بالدقة وصحة البراهين. وكل ذلك جرى بناء على التجربة الواقعية التي اعتمدها في بحثه بالمقارنة مع منهج افلاطون وتصوراته، فقد انتقد نزعته ، رغم انه استاذه ، النخبوية في تصوره للجمهورية الفاضلة التي ابرزت عداء للمثال الديمقراطي الذي عده ارسطو فضاء للحجاج الحيوي، واذا كان كل من سقراط وافلاطون قد سعيا الى مواجهة المغالطات السوفسطائية وذلك ببيان زيفها بالاعتماد على منطق غير صارم، فان ارسطو قد واجه في الدحوض السوفسطائية مختلف الحيل اللغوية والوسائل المغالطية لدحضها وايجاد بديل منطقي قائم على علم صوري مهمته التمييز بين الاستعمال المشروع للغة والاستعمال المخادع لغرض التضليل والمغالطة. واذا كان افلاطون قد حاول ابعاد الخطابة من التأثيرات العامية بتقريبها ما امكن من الخطاب الفلسفي البريء، فإن ارسطو قد ربط الخطابة بالحياة الاجتماعية ؛ بل هي الخطاب الموجه الى العامة في المحاكم او في الحشود الشعبية التشاورية او في المحافل العمومية الاحتفالية)(1) .

فأرسطو وإن خالف استاذه افلاطون في بعض التصورات، إلا أنّه يتفق معه في مقارعته للخطاب المغالطي السوفسطائي، فهما يقدمان اعتراضا على الطريقة التي يقدم بها السوفسطائيون الحقيقة الى الاخرين، لأنَّ البحث عن الحقيقة ومعرفتها من قبل العوام يقتضي ابداء الرأي فيها، وهذا الرأي بالضرورة يخضع الى المعارضة والاختلاف في وجهات النظر الذي بدوره يفسد الحقيقة ويخرجها عن ماهيتها لذلك “ فإن ما يقابل الرأي هو الحقيقة ففي حضورها يذبل الرأي ويشحب والحال امام الحقيقة يلوي

ص: 31


1- ينظر: مدخل الى الحجاج: 24

رؤوسهم اولئك الذين لا يبحثون إلا عن آراء في تاريخ الفلسفة، ويزعمون انه لا يوجد فيها إلا آراء “(1) لذلك سعى كل من افلاطون في جدله وارسطو في منطقه الى تقديم نموذج مثالي لمعرفة الحقيقة دون الحاجة الى اقناع الاخرين عبر الخطابات والحوارات، وفتح المجال امام تعدد الآراء ؛ لأنَّ “ الانشغال بآراء الغير لا يمكنه ان يكون مفيدا لفكرنا الشخصي للحقيقة “(2) ، لذلك يمكن أن نعد ارسطو بما اختطه لنفسه وللآخرين من منهج وطرق تفكير وتصورات جديدة حدثا يَجُبَّ ما قبله، ويؤسس لمرحلة قادمة مثلت فيها آراء ارسطو وكتاباته الشريان المعرفي الذي يغذي اغلب النظريات في جانبها الابستيمولوجي التي تقوم على اساس فلسفي ومنطقي بصورة مباشرة او غير مباشرة. فكان خروج ارسطو الواضح عما سبقه ان قاده الى بعث مدرسة المشائين Les Peripateticiens التي كانت تدرس الفلسفة صباحا والخطابة مساء، وهذا الاطار الجديد قاد ارسطو الى تأليف آثاره الخالدة حول الخطابة وهي اثار انفصل فيها صاحبها انفصالا صريحا عما سبقه ليؤسس رؤية هيمنت على الموقف من الحجاج الى حدود ايامنا هذه(3) ، من خلال تناول الكثير من الظواهر المرتبطة بالممارسة الحجاجية بدرجة عالية من الدقة والشمول ويظهر ذلك واضحا عبر مؤلفاته ( كتاب الجدل، وكتاب الخطابة، وكتاب السفسطة، وكتاب الشعر...... الخ ).

يعتبر ارسطو اباً للمنطق الصوري ف” منذ ارسطو عرف المنطق الذي يدرس المبادئ العامة للفكر العقلاني، علم معياري ( كيف تقيم برهانا سليما )، كان المنهج الرياضي اول تطبيقاته، واضاف ارسطو الى الاستقراء السقراطي(4)

ص: 32


1- عمارة ناصر، الفلسفة والبلاغة ، مقاربة حجاجية للخطاب الفلسفي: 37
2- نفسه: 37
3- ينظر: الحجاج عند ارسطو، ص: 49. وتاريخ نظريات الحجاج، ص: 20
4- في بحثه الدائم عن الحقيقة، انشغل سقراط بوضع تعاريف ومعان للكلات التي تعن الاشياء، ويتمثل الاستدلال الاستقرائي في حركة ذهاب واياب دائمة من الجزئي الى العام ومن العام الى الجزئي ومن المحسوس الى المجرد ومن المجرد الى المحسوس، ولازالت لهذه الوسيلة الاستدلالية فعاليتها الى اليوم، يستخدمها من يريد ان يرح ويقنع، كما يتمثل الاستقراء السقراطي في احصاء ملاحظات جزئية يستخلص منها اثبات عام يخضع بعدئذ للتصحيح من اجل التسليم بعناصر جديدة ومختلفة، وهكذا انطلاقا من لا شيء نسائل ونراكم الوقائع ونستنتج قاعدة ونعمل عى تهيئتها مما يسمح بتجنب الخطابات الطويلة والاستدلالات المظللة للسفسطائيين ( ينظر: الاليات الحجاجية للتواصل: 34 )

الافلاطوني(1) *، الاستنباط، فكان قياسه الشهير او صور الاستدلال التي بها يمكن استخلاص نتيجة مسلم بها انطلاقا من مقدمات حقة “(2) ، وهذه المقدمات الحقة يعبر عنها ارسطو في كتابه ( المواضع ) وهو يعرض لدور الحجاج بقوله “ ان غاية هذا المؤلف هي ايجاد طريقة تجعلنا قادرين انطلاقا من مقدمات محتملة ان نقيم الحجة على كل مشكل معروض، وان نتجنب حينما نسند حجة ما، ان يصدر عنا اي قول يكون مناقضا لها “(3) ، وبذلك تكون هذه المقدمات هي الافكار المقبولة التي تشكل قاسمًا مشتركاً ومحل اتفاق بين الاطراف المتحاورة، كما ان اثبات هذه المقدمات في العملية الحجاجية يقتضي الا يكون الهدف من ورائها هو الجزم وهو ما دفع ارسطو الى أن يميز في الاورغانون نوعين من الاستدلالات: الاستدلالات التحليلية، والاستدلالات الجدلية، كما ان دراسته للنوع الاول من هذه الاستدلالات قد بوأته صفة اب المنطق الصوري(4) .

ويقوم هذا التمييز على “ ان الاستدلالات الجدلية تنطلق مما هو مقبول وهدفها

ص: 33


1- *، اذا كان الديالكتيك عند زينون يعني فن الحوار فانه عند افلاطون قد اخذ منحىً آخر يتعلق بالبحث عن ماهية الاشياء فالديالكتيك بالنسبة الى افلاطون هو حركة العقل التي ترقى من الاحاسيس الى المثل ومن الاشياء الجميلة الى فكرة الجال مثلا ( ينظر: الاليات الحجاجية للتواصل: 35 )
2- الاليات الحجاجية للتواصل: 36
3- نفسه: 35
4- L’empire rhétorique، ed، Vrin. 1977، p. 15 نقلا عن: بلاغة الحجاج: 45

العمل لأجل قبول اطروحات اخرى هي موضوع نقاش او يمكن ان تكون كذلك، انها تسعى الى الاقناع او الاقتناع بها، وهي لا تمكن في الاستنتاجات الصحيحة والملزمة، ولكنها تقدم حججا مقبولة إنْ قليلا او كثيرا “(1) ، وقد مكنته دراسته للاستدلالات الجدلية في الطوبيقا والخطابة وتفنيد السفسطة من ان يكون ابا لنظرية الحجاج(2) .

ونتيجة لهذا الاهتمام الارسطي للاستدلال واساليب الحوار جعله يخطو خطوات مهمة في سبيل تأسيس تقنيات واساليب للحجاج يمكن من خلالها العبور من المقدمات الى النتائج، اي جعل الحجاج كيفية للاستدلال المنطقي انطلاقا من رأي او فكرة مسلم بها الى نتيجة مقبولة ومحتملة وغير ملزمة، وهذا يعني ان عدم كفاية المقدمات، او عدم اتفاقها مع النتائج تعتبر مغالطات زائفة، الامر الذي رفضه ارسطو وهو يفند المسعى السوفسطائي، لذلك يرتكز المنطق في بعده الخطابي على بناء الخطاب وتماسكه وعلى حصول المعقولية دائما.

وانطلاقا من هذا البعد ( الخطابي ) فقد دشّن ارسطو عبر كتابه ( فن الخطابة ) مرحلة جديدة أسست لعلم الخطابة الذي ما زال يرفد كل النظريات الخطابية بإبعادها المعرفية الى يوم الناس هذا ف” هناك شبه اجماع بين مؤرخي البلاغة على ان ميلاد نظرية البلاغة قد تحقق في اليونان، فاذا كان ارسطو يعتبر اب المنطق الصوري، فانه من الزاوية الاخرى يعتبر اب المنطق الطبيعي اي اب علم الخطابة “(3) ، فقد عرّف ارسطو الخطابة “ بانها الكشف عن الطرق الممكنة للاقناع في أي موضوع كان “(4) ، فالخطابة عنده هي مرادفة للبلاغة وموضوعها هو الاقناع، كما اشار الى أن للناس حاجة اليها لانها الاداة التي

ص: 34


1- نفسه: 45
2- ينظر: نفسه: 46
3- بلاغة الحجاج: 45
4- ارسطو، فن الخطابة، تحقيق: عبد الرحمن بدوي: 29

يجري بها التفاوض بين الافراد كلما بعدت الشقة بينهم وفرقتهم الاختلافات وصادفتهم في حياتهم اليومية جملة من القضايا التي تتعدد بشأنها وجهات النظر ولا يمكن الخلوص فيها الى اجماع، فالذي يبرر الحاجة الى الخطابة هو ما تمتلئ به الحياة من قضايا ونوازل، وما يعترض سبيلنا من حالات نجد انفسنا فيها امام نوع من الناس لن نجد من السهل اقناعهم بما لدينا من معرفة حتى لو كانت ادق معرفة علمية(1) ، فارسطو يجعل من مخاطبة العوام، المجال الاوسع لاشتغال الخطابة وبيان تأثيرها، ومن هنا حظيت الخطابة عنده بمكانة اثيرة تالية لعلم السياسة باعتبارها تحقق الفضيلة الاسمى وهي اسعاد الناس، كما يجعل منها قرين الجيش في دعم السياسة، اذ يقول “ ان اشرف العلوم تابع للسياسة، اقصد بهذه العلوم العلم العسكري والعلم الاداري والبلاغة “(2) ، اي ان ارسطو في محاولته لربط البلاغة بالمؤسسات الديمقراطية الاثينية وجعلها في خدمة السياسة، انما هي خدمة للغايات الاخلاقية الفاضلة التي يتوخاها في المجتمع، فالهدف الاسمى في توجه ارسطو هو نشدان الفضيلة الاخلاقية وتفاعلها بين ابناء المجتمع في كل الممارسات والمؤسسات الديمقراطية، لاسيما السياسية منها، اذ ينبغي ان تنطلق كل ممارسة سياسية من منطلق اخلاقي مثالي يجعل مصلحة المجتمع فوق كل المصالح.

ومن هذا المنطلق جعل ارسطو جمهور المخاطبين في موقع متميز ومهم من اركان خطابه، لانهم الذين يمنحون الخطاب مشروعية اقامته وغايته، ولذلك راح ارسطو يقسم الخطابة تبعا لإصناف الجمهور الى ثلاثة اقسام(3) :

- الخطابة القضائية او المشاجرية، التي تجري في المحاكم والمرافعات القضائية التي

ص: 35


1- ينظر: فن الخطابة: 27
2- Moraml، a Nicomaco، coleccion Austral، Madrid، 2002، p. 63، نقلا عن: مدخل الى الحجاج، ص: 26
3- ينظر: الحجاج عند ارسطو: 141

تدور حول قضايا ماضية، ينفتح من خلالها الخطاب على التعارض بين قيمة العدل والحق من جانب والجور والظلم من جانب آخر في استقراء الواقع الذي يستعرضه الخطاب في سعيه الى اثبات او نفي تهمة عن شخص او مجموعة اشخاص.

الخطابة الاستشارية او المشاورية، ومجال انعقادها في المجالس النيابية والجمعيات العمومية من اجل التشاور والتقييم والنظر في القضايا المستقبلية.

الخطابة التثبيتية او المحفلية، وتلقى في المحافل والحشود الجماهيرية، وتكون قيم الجمال والقبح مرجعية لها، والزمن الحاضر يحتضن خطابها، حيث يقف الخطيب في محفل يضم جمهورا عاما من المستمعين ويسعى الى اقناعهم بقضية او مجموعة من القضايا قد تكون سياسية، او دينية، او فنية، او اجتماعية.

فالخطابة القضائية تكون اقرب الى المنطق والجدل، والخطابة التثبيتية تقترب من الادب، في حين ان الخطابة الاستشارية تحتل موقع الوسط بينهما. كما ان التقسيم الذي قدمه ارسطو قاده بالضرورة الى فحص الحجج المقدمة من قبل الخطيب، وقد ردها الى ثلاثة اركان هي: حجج الايتوس Ethos التي تركز على طبيعة اخلاق المخاطب، فعليه ان يكون محل ثقة من قبل المتلقي ويثبت ذلك من خلال سيرته الطيبة وخلقه الذي يفصح عنه الخطاب ( فالخطيب يقنع بالاخلاق ). وثاني هذه الاركان هي حجج الباتوس Pathos التي تركز على تصيير السامع في حالة نفسية ما وتثير مشاعر السامعين وانفعالاتهم باتجاه قبول الخطاب والاذعان له بدون تدقيق نظر. اما الركن الثالث فهي حجج اللوغوس Logos التي تركز على مضمون الخطاب، فهو “ القول نفسه من حيث هو يثبت او يبدو انه يثبت “(1) .

وبناءً على هذه التقسيمات الحجاجية بحسب الجمهور، استلهم ارسطو نمطين من الحجاج: الاول هو الحجاج الخطابي وهو “ حجاج موجه الى جمهور ذي اوضاع خاصة في مقامات خاصة، والحجاج ها هنا ليس لغاية التأثير النظري العقلي، وانما يتعداه الى

ص: 36


1- فن الخطابة: 29 ، 30

التأثير العاطفي والى اثارة المشاعر والانفعالات والى ارضاء الجمهور واستمالته، ولو كان ذلك بمغالطته وخداعه وايهامه بصحة الواقع على نحو تبدو معه الخطابة.......

من قبيل التخييل “(1) ، من هذا نفهم طبيعة علاقة الحجاج بالجدل والخطابة، بمعنى ان الحجاج يعد قاسما مشتركا بين الخطابة والجدل، ومرتكزاته في الجدل هي مرتكزات عقلية في حين تكون مرتكزات الحجاج في الخطابة عاطفية بالاساس(2) . اما الحجاج الاخر فهو الحجاج الجدلي “ ومداره على مناقشة الآراء مناقشة نظرية محضة لغاية التأثير العقلي المجرد “(3) ، فالمحاجج او المحاور او المخاطب لا يستطيع استمالة الطرف الاخر او اقناعه بوجهة نظره في القضية المطروحة الا بعد ان يتمكن من فهمه ودراسة طبيعته البشرية وميوله واهوائه وانفعالاته ومستوى ادراكه وتفكيره المنطقي حتى يقدم له اقيسة وبراهين تثبت صحة كلامه وتعصمه من الوقوع في الزلل.

فالحجاج عند ارسطو هو وسيلة تفكير للوصول الى الحقيقة ونشدان فضائل الخير عن طريق الحوار البناء، والاجواء الديمقراطية الحرة التي تتعاطى مع جميع الخطابات بدرجة واحدة من الاهتمام والنظر في معقوليتها ؛ لأنها حسب رأيه تصدر عن الممكن والمحتمل وهذا ما جعل الطابع الاستدلالي مهيمنا على خطابته، حيث تبقى هذه الخطابات في دائرة “ الاختلاف والخلاف، حيث يمكن للآراء ان تتعدد وتتباين، وحيث يدعى الانسان الى مقارعة الرأي بالرأي والخطاب بالخطاب، ولا تكون الغلبة إلا لمن كانت حججه اكثر اقناعا واوضح في نفس السامع “(4) . لقد جعل ارسطو الحجاج في صلب اهتمامه وهو يؤسس لثقافة الاقناع ويحله في مكانة سامية في منظومته الخطابية حتى يستوي نظرية قائمة بذاتها سميت فيما بعد ب-( نظرية الحجاج ).

ص: 37


1- الحجاج في القرآن الكريم من خلال اهم خصائصه الاسلوبية: 22
2- ينظر: سامية الدريدي، الحجاج في الشعر العربي ، بنيته واساليبه: 18
3- الحجاج في القرآن الكريم من خلال اهم خصائصه الاسلوبيه: 21
4- حمادي صمود، من تجليات الخطاب البلاغي: 108

المبحث الثاني: الحجاج في البلاغة العربية القديمة

اشارة

إنطلاقا من الرأي القائل بأنَّ البلاغة العربية تختلف عن نظيرتها الغربية في ظروف النشأة والخصوصية الثقافية والسياق التاريخي ؛ كون البلاغة الغربية ارتبطت في نشأتها بأبعاد فلسفية ومنطقية يتم وفقا لها التمييز بين الاقاويل، في حين ان البلاغة العربية نشأت في احضان الشعر “ والشعر وقعه من ايقاعه وفضله من هيئة القول فيه “(1) مما دفع الكثيرين الى وصف الهدف من البلاغة هو الزخرفة والتزيين والتنميق في الكلام، وهذا امر مجاف للحقيقة ولكنه نتيجة طبيعية لمحاولات فصل البلاغة العربية عن انظمة التفكير التي حاطت نشأتها، اذ أن بقاء البلاغة العربية في الدراسات القديمة والحديثة مفصولة عن النظام الفكري الذي نشأت فيه وترعرعت من قبيل صلته الوثيقة بالمنطق والاصول والنحو وعلم الكلام، وعدم مراعاة التفاعل بين هذه الفروع المعرفية، عاق المعلمين من أن يكتشفوا الاليات العميقة التي تحكم النشاط الاستدلالي اللغوي القائمة عليه تلك الفروع(2) ، فالمتتبع للشأن البلاغي العربي ولمصادره القديمة ومقولات اعلامه يجد ان هناك مساحة واسعة ومهمة منه تجعل من الحجاج والغاية الإقناعية

ص: 38


1- حمادي صمود، مقدمة في الخلفية النظرية للمصطلح، ضمن كتاب ( اهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من ارسطو الى اليوم )، اشراف حمادي صمود: 19
2- ينظر: محمد مفتاح، مجهول البيان: 11

هدفا رئيسا يكاد لا يغادر أي مفصل من مفاصل علوم البلاغة، سواء على مستوى الفهم العام لماهية البلاغة وشروط القول البليغ وسماته ومراعاة المقام ومقتضى الحال ومقاصد المتكلم والاعتناء بالمتلقي، أم على مستوى العوامل النفسية والاسلوبية التي تفرزها اللغة بقصد الاقناع والتأثير. وهذا ما يؤكد النشأة المنطقية والكلامية للبلاغة العربية، بخلاف ما ذهب اليه البعض في نظرتهم الجزئية للبلاغة مفصولة عن جذورها، فحديثهم (يصبح أبتراً ناقصاً لأنَّ مناقشته)البيان العربي ( الأولى كلامية)(1) .

ولتسليط الضوء على هذا الجانب المهم والأساس في الخطاب البلاغي العربي، والذي سكتت عنه الدراسات والبحوث طيلة قرون من الزمن، وبعثته اقلام بلاغيين عرب جدد امثال حمادي صمود، وعبد الله صوله، وطه عبد الرحمن، ومحمد العمري، وآخرون. نشير ابتداء الى حزمة التعاريف التي اعطيت للبلاغة من قبل البلاغيين العرب القدامى التي اشارت بشكل واضح وصريح الى أنَّ الغاية الرئيسة من البلاغة العربية هي غاية حجاجية بالدرجة الاولى ؛ لان البلاغة العربية جاءت من اجل التواصل والاقناع والامتاع(2) ، وهو أمر لا يمكن انكاره او تجاهله بأي حال من الاحوال.

ولعل أهم ما قيل في مفهوم البلاغة هو ما اشار اليه الجاحظ، الذي يعطي للبلاغة وظيفة إقناعية، في قول بعض اهل الهند: “ جماع البلاغة البصر بالحجة والمعرفة بمواضع الفرصة ان تدع الافصاح بها الى الكناية عنها، واذا كان الافصاح اوعر طريقة، وربما كان الاضراب عنها صفحا ابلغ في الدرك واحق بالظفر “(3) . على ان التصريح ب-( قصد الحجة) كما في تصريح العسكري و (البصر بالحجة) كما في اشارة الجاحظ يقتضي استعمال حجج بشكل حسن من حيث تخير افضلها وانجعها ومن حيث تموقعها في الكلام،

ص: 39


1- محمد النويري، علم الكلام والنظرية البلاغية عند العرب: 70
2- ينظر: محمد مفتاح، التلقي والتأويل: 38
3- الجاحظ، البيان والتبيين: 1/ 88

فضلا عن تخير الوقت المناسب لاستعمالها.

ويسير ابو هلال العسكري في هذا الاتجاه حينما يحدَّ البلاغة بأنها “ كل ما تبلغ به المعنى قلب السامع فتمكّنه في نفسك مع صورة مقبولة ومعرض حسن “(1) ، ولعل العسكري في تبنيه للفظة ( تمكّنه ) اشارة واضحة الى وجود حجة ظاهرة بالغة هي التي تعمل على حصول التمكين، كما اضاف العسكري الى ان البلاغة هي “ التقرب من المعنى البعيد والتباعد من حشو الكلام وقرب المأخذ وايجاز في صواب وقصد الى الحجة وحسن الاستعارة “(2) .

كذلك يرى ابن الاثير أنَّ مدار البلاغة كلها على “ استدراج الخصم الى الاذعان والتسليم لأنه لا انتفاع بإيراد الالفاظ المليحة الرائقة ولا المعاني اللطيفة الدقيقة دون ان تكون مستجلبة لبلوغ غرض المخاطب بها “(3) . لذلك تمثل ظاهرة الحجاج، بوصفها اداة عقلية واسلوبية، عنصرا اساسيا في بناء الموروث البلاغي العربي بحيث جعل الجاحظ اعلى مراتب البلاغة هي تلك التي ادت الحجة فيها وظيفتها المنوطة بها، حيث قال: “ فأعلى مراتب البلاغة ان يحتج للمذموم حتى يخرجه في معرض المحمود، وللمحمود حتى يصيره في صورة المذموم )(4) ، ويذهب ابو هلال العسكري الى ابعد من تلك المفاهيم المختلفة التي تؤكد حجاجية البلاغة ودورها في الاقناع ليفرد فصلا في كتابه ( الصناعتين ) وهو الفصل الحادي والثلاثون تحت عنوان ( في الاستشهاد والاحتجاج ( يقول فيه: ( وهذا الجنس كثير في كلام القدماء والمحدثين وهو احسن ما يتعاطى من اجناس صنعة الشعر، ومجراه مجرى التذييل لتوليد المعنى، وهو ان تأتي بمعنى ثم

ص: 40


1- كتاب الصناعتين: 16
2- نفسه: 45 ، 46
3- ابن الاثير، المثل السائر في ادب الكاتب والشاعر: 64 ، 65
4- البيان والتبيين: 1 / 53

تؤكده بمعنى آخر مجرى الاستشهاد على الاول والحجة على صحته (1) ، كما يصرح الجرجاني في مقدمة كتابه ( دلائل الاعجاز )، بأن الكلام نظم ورعايته تحقق الاقناع، اذ يقول: (ينبغي لكل ذي دين وعقل ان ينظر في الكتاب الذي وضعناه ويستقصي التأمل لما اودعناه، فإن علم انه الطريق الى البيان والكشف عن الحجة والبرهان تبع الحق واخذبه، والا رأى ان له طريقا غيره او مآلنا اليه ودلنا عليه، وهيهات ذلك )(2) .

وقسَّم السكاكي كتابه ( مفتاح العلوم ) على اساس منطقي على ثلاثة علوم هي: علم الصرف وعلم النحو وعلم البلاغة، كما قسَّم البلاغة على ثلاثة علوم هي: المعاني والبيان والمحسنات البديعية. كما تبنى مقاربة وسع من خلالها علاقة البيان العربي بالمنطق، فغدت البلاغة العربية (معضودة بالنحو والمنطق )(3) . فالبلاغة هي الطريقة والوسيلة التي تنتظم الكلام وتجعل معانيه انفذ الى عقل وقلب السامع على وفق مقتضيات قائمة على وضوح ومحسنات وابانة وإظهار واقناع، وبذلك تكون البلاغة عند السكاكي مدعمة بالاستدلال والقياس.

يتبين مما تقدم ان البلاغة العربية القديمة أشارت الى ملامح الحجاج وادواته البلاغية، وكانت لهم وقفات مطولة حول فكرة المقام ودور المتلقي وكل ما يحيط به من ظروف خارجية، كما وصف محمد العمري فكرة مراعاة المقام ومقتضى الحال في البلاغة العربية بأنها “ عنوان للعلاقة بين الخطيب والمستمع، فالبلاغيون العرب وإن لم يهتموا كثيرا بالدراسة النفسية والاخلاقية للمرسل والمتلقي، حاولوا ان يدرجوا تحت عنوان المقام والحال ملاحظات كثيرة فيما ينبغي للخطيب ان يكون عليه او يراعيه من احوال

ص: 41


1- كتاب الصناعتين: 383
2- عبد القاهر الجرجاني، دلائل الاعجاز: 49
3- محمد العمري، البلاغة اصولها وامتداداتها: 453

المستمعين “(1) ، فالكلام ارتبط بطبقات السامعين اي المقام الاجتماعي، فكما ان الناس انفسهم في طبقات، فان كلامهم في طبقات ايضا(2) ، كما ارتبط بحاله وقت تلقيه، فلا بد ان يراعي المتكلم هذا المقام الاجتماعي بالإضافة الى مراعاة حال سامعه، كما طلب ابن طباطبا من الشاعر ان “ يخاطب الملوك بما يستحقونه من جليل المخاطبات ويتوقى حطها عن مراتبها، وان يخلطها بالعامة، كما يتوقى ان يرفع العامة الى درجات الملوك، ويعد لكل معنى ما يليق به، ولكل طبقة ما يشاكلها “(3) .

فالبلاغة العربية قائمة على آليات حجاجية هدفها الكشف والايضاح عن المعنى المقصود، بحيث تتمكن من النفوس والعقول ليس بهدف الفهم والافهام فحسب، بل بالتأثير والاقناع بالطرح المقدم، لأنَّ مجال الحجاج هو شبه الحقيقي او المحتمل او المشكوك فيه، ومن هنا يتضح الفرق بين الحجاج والبرهان باعتبار أنَّ هذا الاخير مجاله البديهي لدى الناس فهو ينطلق من اتساقات صحيحة وبديهية، اما الحجاج فيرتبط بما هو متعدد الدلالة اي الجدير بالظن المعقول والمقبول(4) .

ولعل من المفيد هنا ان نذكر بعض ما نعتقده من اسباب موجبة جعلت من البلاغة العربية ذات توجه او بعد حجاجي اقناعي اي جملة العوامل التي ادت الى ارتباط البلاغة العربية في نشأتها بمفهوم الحجاج، ولعل من هذه الاسباب او العوامل:

1. ان الحجة بمفهومها العام هي آلية طبيعية في كل عقل بشري، يستخدمها في أي

ص: 42


1- نفسه: 477
2- ينظر: البيان والتبيين: 1 / 144
3- ابن طباطبا، عيار الشعر: 12
4- ينظر: عبد الحليم بن عيسى، البيان الحجاجي في اعجاز القرآن الكريم ، سورة الانبياء انموذجا، مجلة الراث العربي، اتحاد الكتاب العرب، سوريا عدد ( 102 )، السنة السادسة والعرون، نيسان 2006: 102

وقت، فهي من طبيعة الفطرة الالهية التي فطر الناس عليها، ولا فرق في ذلك بين العالم والجاهل سوى الاختلاف الحاصل في طبيعة كل حجة استنادا الى معطيات اقامتها، أي أنَّ العقل الانساني مرتبط اصلا بمنطق التعليل والتبرير، والقول البلاغي قبل ان يكون كلاما خاصا راقيا هو في اساسه معان طبيعية في الحياة الطبيعية(1) ، وظيفته وظيفة تداولية تواصلية بين افراد المجتمع، ومن هنا احتاجت البلاغة الى هذه الالية.

2. ان ارتباط البلاغة العربية بالنص القرآني قد حرر الفكر العربي من سيطرة الشعر الذي صبغ العقلية العربية بالتأثرية والانية الى فضاء رحب وحيوي تتعدد فيه اشكال التعبير ومن ثم التفكير وتعدد المنابع الثقافية، الامر الذي نتج عنه الانتقال الى مرحلة تأسيس المفاهيم، وتقنين طرائق التفكير بالشكل الايجابي والمثمر، وقد كان لفكرة الاعجاز الدور الكبير في توجيه وتمييز الثقافة العربية لأنَّها دفعته الى ميدان التأويل العقلي البلاغي(2) . وبالرغم من كون القرآن الكريم جاء على سنن كلام العرب، لكنه تفوق عليهم في النظم وقوة الاحتجاج فقد اشتمل على جميع انواع الحجج والادلة، وكانوا لا يقدرون على مجابهته او توهين حجته، وعلى هذا الأساس حمل النص القرآني من ضمن محمولاته الاعجازية خصيصة مهمة وفريدة من نوعها وهي اعتماد الحجة فضلا عن البلاغة مما دفع باتجاه تهذيب العقلية العربية من الانفعالية والتأثرية وبناء أساس قوي ومتين من الحجة والدليل، وقد كان في جداله مع المشركين والمنافقين واهل الكتاب ما يدعوهم الى اعتماد مبدأ تقديم الدليل والحجة على ما يذهبون اليه في مثل قوله تعالى “قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ

ص: 43


1- ينظر: ناصر بن دخيل الله بن فالح السعيدي، الاحتجاج العقي والمعنى البلاغي ، دراسة وصفية (اطروحة دكتوراه )، جامعة ام القرى، كلية اللغة العربية، المملكة العربية السعودية، 1425 ، 33:1426
2- ينظر: نفسه: 35

صَادِقِينَ”(1) ، كما قدَّم القرآن الكريم حزمة من المفاهيم والمصطلحات للدلالة على معنى الحجة مثل ( الحجة ) في قوله تعالى “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ»))(2) ، وكذلك قوله ( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)(3) ، كما ورد مفهوم(البرهان ) في قوله تعالى (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ»)(4) ، ومفهوم ( الجدل ) في قوله تعالى (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(5) و( الآية ) في قوله “ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ “(6) ، والآية: الحجة والعلامة(7) ، وقوله “ وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «(8) ، لذلك كان هذا التوجه القرآني وما يحمله من قيم ومفاهيم حجاجية الأثر البالغ والمباشر في تطوير اصول البلاغة العربية وجعلها شديدة التأثر بالنص القرآني ليس على مستوى الاحتجاج العقلي فحسب، بل على المستوى الابداعي والفني كذلك.

3. لقيت فكرة الحجاج رواجا وازدهارا في العصر العباسي حتى اصبح يحتل ركنا من اركان البلاغة العربية وهو نتيجة طبيعية للتطورات الحضارية والثقافية والسياسية التي وسمت الحياة بشكل عام ابان هذه الفترة، فتظافرت عدة عوامل خارجية وداخلية دفعت باتجاه ازدهار بلاغة الحجاج في عصور التمدن الاجتماعي والصراع

ص: 44


1- سورة البقرة، الآية: 111
2- سورة البقرة، الآية: 258
3- سورة الانعام، الآية: 149
4- سورة القصص، الآية: 32
5- سورة النحل، الآية: 125
6- سورة البقرة، الآية: 118
7- ينظر: الفخر الرازي، التفسير الكبير، مجلد: 2، جزء: 4: 139
8- سورة الزخرف، الآية: 28

السياسي والعقدي، والتلاقح الثقافي مع الحضارات والامم الاخرى، حتى اضحى الحجاج على رأس قائمة الفنون البلاغية التي يعتد بها وخصوصا في المسرح السياسي، وفي الاوساط الدينية والثقافية، بل والشعبية ايضا(1) ، واخذت تتوزع على اجناس الادب المختلفة بدءا بالرسائل الديوانية، ومرورا بالخطب، وانتهاء بالشعر، الى ان بلغت ذروتها عند متكلمي المعتزلة الذين اهتموا بانشاء مدارس الخطابة، لتدريب النشئ على فنون الجدال والمناظرة، فكثر الحديث في قوة الحجج، وفي وضوح العبارة ودقتها...... واخذوا يقفونهم على النقض في الحجج والادلة والنقض في الاداء والبيان، كما اخذوا يقفونهم على اسرار المهارة في الاقناع والظفر بالخصوم واسرار البلاغة في القول(2) ، فضلا عن الصراع الكلامي بين مختلف الطوائف السياسية، والدينية، والشعوبية وحتى في المدارس النحوية، والمذاهب الادبية، حيث نشبت الصراعات بين النحاة والشعراء والكتاب والنقاد مما طور هذه الفكرة ووسع من مجالاتها، وهو امر دفع بالكثير من علماء اللغة والفلسفة والفقه الى بذل الجهود للاستفادة من هذا الواقع الحجاجي في رفد المنظومة المعرفية عبر التأليف، فضلا عن جنوحهم نحو استقطاب العلوم اللغوية والنقدية والبلاغية للأمم الاجنبية الأخرى خاصة اليونانية منها عن طريق الترجمة(3) ، والذين عُرفوا باعتنائهم بالجانب الخطابي او الجدلي او الاستدلالي “ وكان هذا النمو العقلي عند العرب قد ساعد على العناية بأساليب الجدل والمحاجة والمناظرة “(4) ، لذلك انعكس هذا الحراك الحجاجي ايجابيا في تأطير البلاغة العربية بالخاصية الحجاجية.

ص: 45


1- ينظر: الاحتجاج العقلي: 41
2- ينظر: شوقي ضيف، البلاغة تطور وتاريخ: 33
3- ينظر: البلاغة العربية ، الاصول والامتدادات: 24
4- بدوي طبانة، قضايا النقد الادبي: 245

4. ارتبط الحجاج وتطور على أيدي شخصيات اخذت وافرا من الفكر الفلسفي والمنطقي، ومن هذه الشخصيات الجاحظ، وقدامة بن جعفر، وابن وهب، والرماني، والباقلاني، والقاضي عبد الجبار، وابن سنان، و..... الخ ويكفي اننلقي نظرة على كتاب مثل ( البرهان في وجوه البيان ) لابن وهب لنلمح آثار الاتجاه العقلي والفلسفي والعقائدي للكاتب من خلال دراسته وتقسيمه لصور التعبير ودرجات البيان ومراتب البلاغة، فهو لم ينظر الى البيان باعتباره قضية بلاغية فحسب، وانما قضية منطقية ايضا تعتمد الاستدلال وإقامة الحجة (1) .

5. ارتباطه بالخطابة خاصة في العصر العباسي، والخطابة كانت نتيجة للثراء والصراع الفكريين اللذين كانا يكتنفان البلاد الاسلامية من اقصاها الى اقصاها، وخير من حمل لواء الخطابة وابدع فيه فرقة المعتزلة(2) ، فكان عماد الخطابة هو البصر بالحجة، والمظهر الحسن، وهذا هو جوهر البلاغة العربية، فاضحت الخطابة المنبع الثر الذي يغذي البلاغة، فضلا عن الشعر. لذلك اصبحت البلاغة بما تحمله من علوم عاكسة لذوق العربي وفكره، بذوقه من خلال النصوص العربية المتنوعة والمختلفة التي انتجها الاحساس المرهف والتفنن في اساليب اللغة عبر العصور، وبفكره من خلال الهندسة التي يقيم عليها تلك النصوص والمناهج التي يدرس ويحلل بها ذلك الموروث ؛ بل والقواعد التي وضعها علما ومعالم لتوجيه الذوق وارشاد الفكر، حتى اصبحت البلاغة العربية تتميز بانها جمعت بين الامتاع والاقناع معا(3) ، هدفها الابلاغ المؤثر افهاما وتأثيرا من اجل تحقيق الاقناع والاستمالة مما جعلها تتناغم مع الدرس الغربي الذي جعل من الاستمالة غاية مشتركة بين البلاغة العربية وكل من

ص: 46


1- ينظر: البرهان في وجوه البيان: 87 وما بعدها
2- ينظر: نر حامد ابو زيد، في جذور وجهود المعتزلة ( الاتجاه العقي في التفسر ) دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة: 11 وما بعدها
3- ينظر: ناصر السعيدي، الاحتجاج العقلي: 55

الخطابة القديمة لأرسطو والخطابة الجديدة لبرلمان(1) .

ولما كان مجال الحجاج هو المحتمل وغير المؤكد والمتوقع، فقد كان من مصلحة الخطاب الحجاجي ان يقوي طرحه بالاعتماد على اساليب بلاغية وبيانية تظهر المعنى بطريقة اجلى واوقع في النفس(2) من اجل تحقيق الوظيفة الابلاغية المتجسدة في الافهام والاقناع، اي انها “ قول مُفْقِه في لطف، فالمفقه: المفهم، واللطيف من الكلام: ما تعطف به القلوب النافرة، ويؤنس القلوب المستوحشة المستوحشة، وتلين به العريكة الابية المستعصية، ويُبلغ به الحاجة، وتقام به الحجة “(3) .

هذه المهمة العظيمة التي تحملها البلاغة جعلها تهيمن على مفاصل وميادين مهمة وكثيرة، فلا خطابة ولا شعر ولا رسائل....... إلاَّ ويرتكز على اسس بلاغية تدفع بالنص الى فرض ارادته باستمالة القارئ والمستمع والتأثير فيه، اذ يرى محمد الولي ان البلاغة تطمح الى انجاز وظائف ثلاثة هي الافادة والامتاع والاقناع، ويضيف في هذا الصدد قائلا: “ تتمثل الافادة في شيئين اثنين، اولهما: يتمثل في تلقي كل المعلومات المتعلقة بملف قضية ما، هنا نلتقي في الحقيقة بالمادة الخام للأحداث كما يتصور انها وقعت، والواقع ان الخطاب يوجه هنا الى الفعل، ويطلب من هذا السرد ان يكون موضوعيا وصادقا، وثانيهما: يتمثل فيما نضيفه الى هذه المادة الخام من الحجج ووسائل الاقناع، ويتمثل الامتاع في نفي كل عناصر الملل عن المتلقي، ذلك الملل الذي يمكن ان

ص: 47


1- ينظر: ابتسام بن خراف، الخطاب الحجاجي السياسي في كتاب ( الامامة والسياسة ) لابن قتيبة ، دراسة تداولية، اطروحة دكتوراه، جامعة الحاج لخر باتنه، كلية الآداب والعلوم الانسانية، الجمهورية الجزائرية، 2010 م: 67
2- ينظر: صابر الحباشة، التداولية والحجاج ، مداخل ونصوص: 50
3- كتاب الصناعتين: 49

يتسبب فيه ثقل المادة المحكية وجفاف الحجج المخاطبة للعقل “(1) .

وللحديث بقية نتوقف فيها عند اهم الاضاءات والمحاولات التي شغلت علماء البلاغة العربية القدماء الذين كان لهم الدور الكبير والبارز في اعطاء الحجاج بعده وخصوصيته العربية الاسلامية المتميزة، مسلطين الضوء على اهم الطروحات والآراء التي اجادت بها قريحة نخبة من علماء البلاغة مثلت مرحلة نضج البلاغة العربية وتطور الحجاج في حيثياتها، اولئك الذين يرجع اليهم الفضل في تبيان الوظيفة الحجاجية في البلاغة العربية وهم الجاحظ، وعبد القاهر الجرجاني، والسكاكي، وحازم القرطاجني، وسنتطرق لاهم آرائهم تباعا على اعتبار زمني حتى يكون هناك تدرج في تقصي مصطلح الحجاج.

3- الجاحظ..... حجاجية البيان

يعد ابو عمرو الجاحظ (ت 255 ﻫ) من مؤسسي البلاغة العربية وواضعي خصائصها، حيث اخذت على يديه الخطابة العربية تشكل اطرها المنهجية المتميزة وخصوصا في كتابه البيان والتبيين، فقد افاض الحديث عن الخطبة وسياقها وتوسع في بيان اركان العملية التخاطبية ( المتكلم والسامع والنص )، ودور كل طرف من اطرافها في الارتقاء بالنص ليكون بليغا ومؤثرا ومقنعا(2) كما انطلق الجاحظ في بيانه ومن خلال البلاغة ليؤلف بين الجانب الخطابي والجانب الشعري جاعلا للبلاغة وظيفتين هما: الامتاع والاقناع.

ولعل الباعث على بروز الوظيفة الاقناعية في بلاغة الجاحظ مردها الى كونه “ رجل

ص: 48


1- بلاغة الحجاج: 51
2- ينظر: مقدمة في الخلفية النظرية للمصطلح، ضمن كتاب ( اهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من ارسطو الى اليوم ) اشراف: حمادي صمود: 21

محاجة، ومناظرة، ومتكلما عارفا بتصاريف الكلام ووجوه الاحتجاج “(1) وهذا هو سبب اشتغاله على الخطبة في مشروعه البلاغي اذ “ لم يطنب الجاحظ...... في دراسة فن ملحوظ عرف العرب بإجادته والابداع فيه وهو فن الشعر، كما اطنب في ذكر الخطابة “(2) ولهذا كان اهتمام الجاحظ بفعالية الخطاب والنجاعة الحجاجية والاستدلالية للقول في العملية البيانية اكثر من اهتمامه بالجانب الفني والجمالي ؛ لأنَّ الخطبة ارتبطت منذ نشأتها، عند اليونان او العرب على حد سواء ، الى يوم الناس هذا بمقاصد نفعية.

دارت اكثر فصول كتاب الجاحظ ( البيان والتبيين ) على ابراز الجانب التأثيري والاقناعي الذي ينطلق منه البيان، فقد عرف الاخير بقوله: “ اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى وهتك الحجاب دون الضمير حتى يفضي السامع الى حقيقته.....

لأنَّ مدار الامر، والغاية التي يجري اليها القائل والسامع، انما هو الفهم والافهام، فبأي شيء بلغت الافهام، واوضحت عن المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع “(3) ، فالبيان هنا مفهوم عام لغوي سيميائي هدفه تحقيق الفهم والافهام وايضاح المعنى بشكل يدركه الاخر مع التركيز على الجانب التواصلي بين القائل والسامع، لذلك يعد البيان من الاليات التي تستعملها البلاغة لتحقيق غايتها الافهامية، فوعي الجاحظ باهمية اللغة وما تحمله من خصائص اشارية ورمزية ودلالية، فضلا عن اعتنائه بالمكون الاجتماعي في التواصل دفعه الى ان يعقد رسالة خاصة في ( تفضيل النطق على الصمت ) ويتوسل في اثبات هذا الامر ببناء حجاجي محكم ومتنوع، فيه الادلة القرآنية

ص: 49


1- مقدمة في الخلفية النظرية للمصطلح: 38
2- بدوي طبانة، البيان العربي ، دراسة في تطور الفكرة البلاغية عند العرب ومناهجها ومصادرها الكرى: 62
3- البيان والتبيين: 1/ 76

والشعر والثقافة والمنطق(1) . ولم يكتف الجاحظ عند حد البيان ؛ بل راح يفصل القول في الشروط الواجب توفرها في الكلام لكي يكون بليغا ومؤثرا، فالبيان عنده “ يحتاج الى تمييز وسياسة والى ترتيب ورياضة، والى تمام الالة واحكام الصنعة والى سهولة المخرج وجهارة المنطق وتكميل الحروف واقامة الوزن وان حاجة المنطق الى الحلاوة كحاجته الى الجزالة والفخامة وان ذلك من اكثر ما تستمال به القلوب وتثنى به الاعناق وتزين به المعاني “(2) . فالبيان عند الجاحظ هو مجموعة ادوات لها القدرة على استجلاء غموض المعاني والغوص في تفاصيلها دون لبس او ابهام لاستجلاء وكشف المعاني بحيث يسمح للمتلقي بفهم واستيعاب الفكرة التي يطرحها المتكلم او المرسل لتحقيق الاستجابة المطلوبة وهذه الشروط هي التي من شأنها ان تحقق البعد الاتصالي عبر الفهم والافهام.

من هنا ربط الجاحظ البيان بالكشف والافصاح والفهم والافهام، وهذا ما اكده محمد العمري في قوله: “ ان مفهوم البيان عند الجاحظ مفهوم إجرائي، أي أنَّه العملية الموصلة الى الفهم والافهام في حالة اشتغالها..... فالشيء المركزي الثابت في كتاب البيان والتبيين هو الفهم والافهام بالوسائل المختلفة: الوسائل اللغوية والاشارية خاصة “(3) .

ولم يقف الجاحظ عند قضية الفهم والافهام بل تجاوزها الى قضية اخرى مهمة واساسية في مشروعه هي ابراز الوظيفة الاقناعية للبلاغة بوساطة استمالة القلوب وانثناء الاعناق، وفي هذا الصدد يستشهد الجاحظ بقول صديقه الذي سأل العتابي عن ماهية البلاغة فيقول: “ كل من افهمك حاجته من غير اعادة ولا حبسة فهو بليغ، فان اردت اللسان الذي يروق الالسنة ويفوق كل خطيب، فإظهار ما غمض من الحق وتصوير

ص: 50


1- ينظر: الحجاج في البلاغة المعاصرة: 211
2- البيان والتبيين: 1 / 14
3- البلاغة العربية ، الاصول والامتدادات: 191

الباطل في صورة الحق “(1) ، كما ان مفهوم المقام ومقتضى الحال من المفاهيم التي لم يسقطها الجاحظ من حساباته وهو يعالج الطبيعة النفسية للخطيب واحوال الخطباء وكفاءتهم وصفاتهم وتبيان مواطن القوة والضعف في خطبهم اذ يقول: “ أول البلاغة اجتماع الة البلاغة، وذلك ان يكون الخطيب رابط الجأش، ساكن الجوارح، قليل اللحظ، متخير اللفظ، لا يكلم سيد الامة بكلام الامة ولا الملوك بكلام السوقة، لأنَّ ذلك جهل بالمقامات “(2) ، كما ينبغي على الخطيب ان يلاءم بين طبقات القول واحوال السامعين ؛ لأنَّ “ لكل طبقة كلاما، ولكل حالة من ذلك مقاما حتى يقسم اقدار الكلام على اقدار المعاني، ويقسم اقدار المعاني على اقدار المقامات، واقدار المستمعين على اقدار تلك الحالات “(3) ، كذلك اشترط على المحاجج أن “ لا يلتمس اسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلج إلاَّ بالحق، ولا يستعين بالخلابة ولا يستعمل المواربة “(4) .

4- عبد القاهر الجرجاني...... الاستدلال بالمعنى على المعنى

لاشك في ان الجرجاني (ت 471 هه) يرجع له الفضل الكبير في تبيان قوة الحجاج في البلاغة وارتباط الاخيرة بالاستدلال عبر مفهوم (معنى المعنى)، اذ يقول عنه طه عبد الرحمن “ ان اول من استخدم آليات حجاجية لوصف الاستعارة هو امام البلاغيين العرب عبد القاهر الجرجاني، فقد ادخل مفهوم الادعاء بمقتضياته التداولية الثلاثة ( التقرير، والتحقيق، والتدليل )، كما استفاد في طيات ابحاثه من مفهوم التعارض

ص: 51


1- البيان والتبيين: 1 / 113
2- نفسه: 1 / 92
3- نفسه: 1 / 138 ، 139
4- نفسه: 1 / 16

من غير أن يطرحه طرحا اجرائيا صريحا “(1) . ومن خلال طروحاته في كتابه ( دلائل الاعجاز ) عالج الجرجاني كثيرا من القضايا البلاغية المهمة التي يسلط فيها الضوء على طبيعة العلاقة القائمة بين السامع والمتكلم أو بيان السبل الكفيلة التي توصل المعنى المقصود الى السامع، اذ أشار في مقدمة كتابه آنف الذكر، حينما ذكر ان الكلام نظم ورعايته تحقق الاقناع، الى أنَّه “ ينبغي لكل ذي دين وعقل ان ينظر في الكتاب الذي وصفناه ويستقصي التأمل لما اودعناه، فإن علم انه الطريق الى البيان والكشف عن الحجة والبرهان تبع الحق وأخذ به، والا رأى أنَّ له طريقا غيره او مآلنا اليه ودلَّنا عليه وهيهات ذلك “(2) .

ويستقصي الجرجاني تلك الاشارات الهامة التي تتعلق بالكلام وطرق نظمه وتحديد المعنى المقصود، اذ يرى ان الكلام على ضربين: “ ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، وذلك إذا قصدت أن تخبر عن ( زيد ) مثلاً بالخروج على الحقيقة، فقلت: خرج زيد، وبالانطلاق عن ( عمرو )، فقلت: عمرو منطلق، وعلى هذا القياس.

وضرب أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض.

ومدار هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل “(3) . يتضح من هذا النص ان الكلام يتشكل على وفق رؤيتين تحددان الغرض من الكلام، اي تحديد ما اذا كان الكلام وضعياً لا تدل فيه الكلمة إلّا على معناها الذي وضعت من اجله في اصل اللغة، وأن يكون الكلام قصدياً انزياحياً يأبى الكشف عن ماهيته ولا يبيح دلالته إلا من خلال جنوح السامع او القارئ الى الاستدلال ؛ لأنَّ الكلمة في طبيعتها حمالة اوجه بحسب مقتضيات

ص: 52


1- اللسان والميزان او التكوثر العقلي: 313
2- دلائل الاعجاز: 49
3- نفسه: 262

الكلام ومقصديات المتكلم للحصول على الدلالة المطلوبة، ويستشهد الجرجاني على ذلك بقوله:” أو لا ترى أنك إذا قلت: هو كثير رماد القدر، أو قلت: طويل النجاد، أو قلت في المرأة: نؤوم الضحا فإنك في جميع ذلك لا تفيد غرضك الذي تعني من مجرد اللفظ، ولكن يدل اللفظ على معناه الذي يوجبه ظاهره، ثم يعقل السامع من ذلك المعنى على سبيل الاستدلال معنى ثانياً هو غرضك كمعرفتك من كثير رماد القدر أنه مضياف، ومن طويل النجاد أنه طويل القامة، ومن نؤوم الضحا في المرأة أنها مترفة مخدومة لها من يكفيها أمرها. وكذا إذا قال: رأيت أسداً ودلك الحال على أنه لم يرد السبع علمت أراد التشبيه، إلا أنه بالغ فجعل الذي رآه بحيث لا يتميز من الأسد في شجاعته. وكذلك تعلم في قوله: بلغني أنك تقدم رِجْلاً وتؤخر أخرى، أنه أراد التردد في أمر البيعة، واختلاف العزم في الفعل، وتركه “(1) .

من هنا يجد الجرجاني عبر هذه الامثلة التي يسوقها، أنَّ هناك كلاماً يفهم بحسب ظاهره وبشكل مباشر، بينما هناك كلام يتطلب كد الذهن والغوص في داخل المعنى الظاهر للوصول الى الغرض الرئيس من الكلام، اي الانتقال من المعنى الظاهر الى معنى المعنى وهذا هو المجال او النمط الذي يشتغل عليه علم البيان، بيد أنَّ عملية الانتقال هذه هي التي يسميها الجرجاني بالاستدلال، الذي يقوم على “ اتخاذ المعنى الاول المفهوم من اللفظ دليلا على معنى ثان “(2) ، أي يستدل من خلال المعنى الظاهر على معنى آخر يمثل الغرض والقصد من الكلام، كما استدل من ( كثير رماد القدر ) على انه مضياف ومن (طويل النجاد) على أنَّه طويل القامة، ومن ( رأيت اسدا ) على انه شجاع. مما تقدم نجد ان الجرجاني يجعل البيان قائماً على آلية استدلالية حجاجية يشكل الدال والمدلول طرفاها، الامر الذي يحتم على السامع والقارئ اجراء عدة عمليات

ص: 53


1- نفسه: 262 ، 263
2- شكري المبخوت، الاستدلال البلاغي: 68

استدلالية يتنقل بين المعاني بغية الوصول الى الغرض المقصود من الكلام، وهذا هو تصور حجاجي.

5- السكاكي...... البلاغة استدلال

يعد السكاكي (ت 626 ھ) احد ابرز العلماء الذين انتجتهم الثقافة العربية في القرن السابع الهجري الذي امتاز “ بقراءته الخاصة للبلاغة العربية، تلك القراءة التي صنفت مباحثها الى معان وبيان وبديع، غير انه لم يجعل البديع في مستوى واحد مع المعاني والبيان، اي لم يعتبره علما ؛ بل مجرد ذيل للمعاني والبيان “(1) ، كما يرجع اليه الفضل في تبيان قوة البلاغة في الحجاج من خلال مشروعه الاستدلالي عبر الملازمة بين المعاني.

ويعتبر كتابه ( مفتاح العلوم ) من الكتب المهمة التي استطاعت ان تقوم بعملية الجمع والتصنيف والاختزال لعلوم البلاغة، اذ يقول محمد عابد الجابري في هذا الشأن: “ مفتاح العلوم هو بالنسبة للدراسات البيانية بمثابة الاورغانون “(2) ، فتقسيم السكاكي لعلوم البلاغة على اساس منطقي ينطلق من ان “ علم المعاني يستهدف البحث عن كيفية تجنب الاخطاء والاستهجان في تأدية المعنى من خلال كلام معين، ويستهدف علم البيان البحث عن كيفية تجنب اوجه الغرابة والتعقيد في الكلام، بينما ينصب علم البديع على تحسين الكلام واضفاء جمالية التعبير عليه. إنَّ البلاغة اذاً، هي الطريقة والوسائل المتبعة في الكلام حتى تنفذ معانيها الى عقل وقلب السامع، وما يقتضيه ذلك من وضوح ومحسنات وإبانة وإظهار وإقناع “3(3) . وهذا التصور الشامل للبلاغة جعله يتبنى مقاربة

ص: 54


1- محمد العمري، البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول: 44
2- محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي ، دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية: 90
3- الحجاج والاستدلال الحجاجي: 3/ 634

يتداخل فيها النحو والمنطق والشعر، فضلا عن المعاني والبيان(1) ، حيث ربط السكاكي بين الاستدلال والبلاغة بطريقة يتم من خلالها الانتقال من دال الى مدلول او من لازم الى ملزوم، اي ان الاستدلال هنا لا يعني تقديم الدليل بقدر ما يعني جعل القول دليلا على قول آخر، أي أنَّ الاقوال تفسر وتدل على بعضها البعض، ويضيف حبيب اعراب: “ إنَّ الاستدلال قد لا يخرج في المنظور العربي عن اطار التشبيه والاستعارة، وبشكل أعم عن دائرة المجاز “(2)، كما يرى ان الاستدلال البلاغي هو “ عملية خطابية يتم بموجبها اتخاذ علامة مادية او معنوية وجعلها شاهدا او مثالا على شيء او صفة من صفاته “(3) .

لذلك تتجسد رؤية السكاكي في “ ادماج الاستدلال في علمي البيان والمعاني “(4) اي بناء بلاغة الخطاب على نظام استدلالي وليس على المنزع البديعي، حتى اضحت البلاغة التي ينشدها يمثل الاقناع جانباً مهماً منها بفعل عوامل الاستدلال واللزوم ومقتضيات المقام واحوال المستمعين لتستوي البلاغة عنده بركنيها المعاني والبيان الى “ معرفة خواص تراكيب الكلام ومعرفة صياغات المعاني ليتوصل بها الى توفية مقامات الكلام حقها بحسب ما يفي به قوة ذكائك، وعندك علم أنَّ مقام الاستدلال بالنسبة الى سائر مقامات الكلام جزء واحد من جملتها وشعبة فردة من دوحتها “(5) . ويعتبر السكاكي، أن البيان في جوهره قائم على بنية حجاجية إذ أنَّ البيان في ذاته يعني “ مطابقة الكلام لتمام المراد منه “(6) فالكلام لا يقف عند حدود الدلالات الوضعية ؛ بل يتجاوزها الى دلالات

ص: 55


1- ينظر: البلاغة العربية ، اصولها وامتداداتها: 481
2- الحجاج والاستدلال الحجاجي: 3/ 653
3- الحجاج والاستدلال الحجاجي: 3/ 653
4- عادل عبد اللطيف، بلاغة الاقناع في المناظرة: 75
5- السكاكي، مفتاح العلوم: 542
6- نفسه: 249

عقلية يتم بموجبها الانتقال من معنى الى اخر بسبب علاقة بينهما قائمة على الاستلزام، فهو يقول في هذا الشأن: “ وإذا عرفت أن إيراد المعنى الواحد على صور مختلفة لا يتأتى إلا في الدلالات العقلية، وهي الانتقال من معنى الى معنى بسبب علاقة بينهما، كلزوم احدهما الاخر بوجه من الوجوه، ظهر لك أنَّ علم البيان مرجعه الملازمات بين المعاني “(1) وهذا الانتقال يتم من جهتين: جهة الانتقال من ملزوم الى لازم، كما في المجاز” ينتقل فيه من الملزوم الى اللازم، كما تقول: رعينا غيثا، والمراد لازمه، وهو النبت“(2) ، اما الجهة الاخرى فهي الانتقال من لازم الى ملزوم، كما في الكناية “ ينتقل فيها من اللازم الى الملزوم، كما تقول: فلان طويل النجاد، والمراد طول القامة الذي هو ملزوم طول النجاد، فلا يصار الى جعل النجاد طويلا او قصيرا إلا بكون القامة طويلة او قصيرة “(3) . وهذا هو الطريق الذي سلكه السكاكي في البيان عبر الاستدلال ومن خلال ربط الادعاء بالدليل او البينة، أي “ دعوى الشيء ببيّنة “(4) . وهذا هو اعتراف صريح وواضح بحقيقة كون البيان العربي انبعث من صميم العمليات الاستدلالية، وان القواعد العقلية للتفكير المنطقي عند ممارسة القياس هي نفسها القواعد والاليات عند ممارسة أي اسلوب بياني. وهكذا جعل السكاكي البيان قائما على اللزوم والاستدلال وهو بذلك إنما يجعله في منطقة “ تقع ما بين الشعر والمنطق، بين وظيفة التخييل ووظيفة المعرفة والاستدلال “(5) ويجرده من “ شرنقة الزخرف والتوشية ليربطه بالبعد الاقناعي

ص: 56


1- نفسه: 330
2- نفسه: 330
3- نفسه: 331
4- نفسه: 413
5- البلاغة العربية ، اصولها وامتداداتها: 489

(1) الذي تحمله الصورة البيانية سواء في التشبيه او الاستعارة او الكناية، لأن المطلب الحقيقي والضروري الذي تبتغيه هذه الصور هو اقامة الدليل الذي يرتبط بدرجة اتقان بناء الصور البيانية ولذلك يقول: “ من اتقن اصلا واحدا من علم البيان، كأصل التشبيه او الكناية او الاستعارة، ووقف على كيفية مساقه لتحصيل المطلوب به اطلعه ذلك على كيفية نظم الدليل “(2) وهذا دليل بَيٌّنِّ على أن بيان السكاكي يدور في دائرة الاستدلال.

كذلك لم يغفل السكاكي ما للمقام من اثر ودور مهم في عملية التأثير والاقناع اذ يقول: “ لا يخفى عليك ان مقامات الكلام متفاوتة، فمقام التشكر يباين مقام الشكاية، ومقام التهنئة يباين مقام التعزية، ومقام المدح يباين مقام الذم..... ومقام البناء على السؤال يغاير مقام البناء على الانكار “(3) وهو أمر يجعله يصنف البلاغة على اساس مطابقة الكلام لمقتضى الحال. فأشكال الاستعمال اللغوي التي تنتظم العملية التخاطبية الاتصالية تختلف تبعا لاختلاف مقامات واحوال السامعين، أي لكل مقام مقال.

6- حازم القرطاجني...... استراتيجيات الاقناع

جريا على منوال سابقيه يدلو القرطاجني (ت 684 ھ) بدلوه في تصوره للبنية التي يقوم عليها الخطاب البلاغي العربي من خلال نظرته الشمولية للفضاءات الرحبة التي تتحرك فيها البلاغة ومدى اتساع مجالها، اذ يقول في هذا الصدد: “ كيف يظن انسان ان صناعة البلاغة يتأتى تحصيلها في الزمن القريب وهي البحر الذي لم يصل احد الى نهايته مع استنفاذ الاعمار “(4) .

ص: 57


1- خطاب المناظرة: 65
2- مفتاح العلوم: 544
3- نفسه: 168
4- حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الادباء: 88

كما اشار حازم القرطاجني بشكل واضح وصريح الى ان البلاغة هي العلم الكلي لمعرفة تناسب المسموعات والمفهومات، اذ يقول: “ ومعرفة طرق التناسب في المسموعات والمفهومات لا يوصل اليها بشيء من علوم اللسان إلاَّ بالعلم الكلي في ذلك وهو علم البلاغة الذي تندرج تحت تفاصيل كلياته ضروب التناسب والوضع، فيعرف حال ما خفيت به طرق الاعتبارات من ذلك بحال ما وضحت فيه طرق الاعتبار، وتوجد طرقهم في جميع ذلك تترامى الى جهة واحدة من اعتماد ما يلائم، واجتناب ما ينافر “(1) ، وهذا العلم يسمو فوق صناعات اللسان الجزئية، والبلاغة التي بهذه الصفة هي ( البلاغة المعضودة ) بالمنطق والفلسفة(2) . أي أنَّ الغاية من البلاغة عنده هي غاية اقناعية تأثيرية، فقد عرف الاقناع بقوله: “ إنهاض النفوس الى فعل شيء او طلبه او اعتقاده او التخلي عن فعله او طلبه او اعتقاده “(3) ، ومن هذا التعريف يتضح أنَّ الاقناع عند القرطاجني لا يقف عند حدود الحمل على الموافقة الايجابية، بل يتعداه الى الحمل على الرفض والتخلي، ولكن كلا الهدفين مطمح لتغيير وجهة النظر بواسطة الحجج المقامة.

ومن أبرز القضايا التي اشار اليها القرطاجني في كتابه ( منهاج البلغاء وسراج الادباء) هو تمييزه بين جهتين للكلام جعل من خلالهما الحجاج وجه من اوجه الكلام بقوله: “ لما كان كل كلام يحتمل الصدق والكذب إما أن يرد على جهة الاخبار والاختصاص، وإما أن يرد على جهة الاحتجاج والاستدلال “(4) ، وهو تمييز بيٌنِّ يشطر الكلام الى نوعين،

ص: 58


1- منهاج البلغاء وسراج الادباء: 88
2- ينظر: محمد العمري، البلاغة العامة والبلاغات المعممة، مجلة فكر ونقد، عدد: 20 ، يناير 2000 : 16
3- منهاج البلغاء وسراج الادباء: 106
4- نفسه: 63

احدهما: يتعلق بالإخبار والاختصاص، وثانيهما: يتعلق بالحجاج والاستدلال. من هنا يكون صدق الاقاويل وكذبها مدعاة الى جنوح الخطيب او المتكلم الى اقناع مستمعيه بوساطة التمويه والاستدراج، اي “ انما يصير القول الكاذب مقنعا وموهما انه حق بتمويهات واستدراجات ترجع الى القول او المقول له “(1) ، وهذه من الاستراتيجيات التي ينبغي اقامتها من اجل الاقناع، ف-(التمويهات والاستدراجات)، استراتيجية سبقه في الإشارة اليها ابن الاثير عندما ذكر أن الاستدراج “ مخادعات الاقوال التي تقوم مقام مخادعات الافعال “(2) ، وهو ايضا “ استدراج الخصم الى الاذعان والتسليم “(3) . وقد ربط القرطاجني هاتين الستراتيجيتين بالطبع والحنكة بقوله: “ التمويهات والإستدراجات قد توجد في كثير من الناس بالطبع والحنكة الحاصلة باعتبار المخاطبات التي تحتاج فيها الى تقوية الظنون في شيء ما إنه على غير ما هو عليه بكثرة سماع المخاطبات في ذلك والتدرب في احتذائها “(4) ، كما ميّز القرطاجني بين هاتين الاستراتيجيتين بقوله:

“ التمويهات تكون فيما يرجع الى الاقوال، والاستدراجات تكون بتهيؤ المتكلم بهيئته من يقبل قوله او باستمالة المخاطب واستلطافه له بتزكيته وتقريضه واحراجه حتى يصير بذلك كلامه مقبولا عند الحكم وكلام خصمه مقبول “(5) .

لذا يرى القرطاجني أنَّ البلاغيين العرب قد ركَّزوا على استمالة المتلقي بطرق عديدة من اجل الاقناع لأن “ الاقناع هو قوام المعاني الخطابية “(6) ، وحتى يبلغ الخطاب غايته

ص: 59


1- نفسه: 63
2- المثل السائر في ادب الكاتب والشاعر: 250
3- نفسه: 64
4- منهاج البلغاء وسراج الادباء: 64
5- نفسه: 64
6- نفسه: 61

في اقناع المستمع لابد أن يرد كلامه “ على جهة الاحتجاج والاستدلال “(1) لبلوغ الغرض المطلوب. ومن وسائل تحقيق التمويهات عند حازم القرطاجني ما يأتي(2) :

- طي محل الكذب من القياس عن السامع.

- اغتراره اياه ببناء القياس على مقدمات توهم انها صادقة لاشتباهها بما يكون صادقا.

- ترتيب القياس على وضع يوهم انه صحيح لاشتباهها بالصحيح.

- إلهاء السامع عن تفقده موضع الكذب بضروب من الابداعات والتعجبات تشغل النفس عن ملاحظة الكذب والخلل الواقع في القياس.

ص: 60


1- نفسه: 62
2- نفسه: 64 ، 65

المبحث الثالث: نظريات الحجاج ( الخطابة الجديدة )

مدخل:

تحدثنا سابقا عن البلاغة الحجاجية التي عرفتها الحضارة اليونانية، وأرسى قواعدها أرسطو من خلال مؤلفاته ولاسيما كتابه ( فن الخطابة)، ثم ما شهدته البلاغة العربية القديمة من أصول للخطابة ومميزات للخطاب، ولكن منذ ظهور الإمبراطورية الرومانية، تراجع البعد الحجاجي الذي كانت تتصف به البلاغة وحقل الخطابة باعتباره ركنا أساسيا، ليتقدم عليه البحث عن الصور الأسلوبية وتجميل النص، واصبح الاهتمام بجمالية الخطاب أكثر من الاهتمام بالإقناع الفعلي فيه(1) .

كما إن ارتباط الحجاج الخطابي بالمغالطة والخداع والإيهام، أمر جعل الخطابة متهمة ينظر إليها كضرب من المغالطة وتشويه الحقائق وتزييف الواقع، على أنَّ هذا الاتهام، وإن رافق الحجاج في مختلف المراحل التاريخية، فانه كان وراء تراجع الخطابة الكلاسيكية تراجعا خطيرا في القرن التاسع عشر، على نحو توقفت معه البحوث المتعلقة بها أو

ص: 61


1- ینظر: تاریخ نطریات الحجاع: 38

كادت(1) ، وتناقص دور نظرية الحجاج في داخل البلاغة، ليتراجع دورها هي الأخرى فيقتصر على الاهتمام بالصياغة والبحث في المحسنات اللفظية، أي التركيز على الطابع الجمالي على حساب الجانب التأثيري والاقناعي، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل امتد ليتم إقصاء الدرس البلاغي من البرامج الدراسية، وخصوصا في فرنسا عام 1902 م(2) ، وقد حدد فيليب بروتون حركة هذا التدهور الذي أصاب الحجاج، بأنه حركة تسير باتجاهين، فهي أولا: حركة داخلية إذ إن مرحلتي التنظيم والتعبير في داخل البلاغة صعدتا تدريجيا لمكان عال داخل مجال جديد هو التعبير الأدبي، ثم هي حركة خارجية:

إذ فقد الحجاج مكانه ليحل فيه البرهان العقلاني خاصة مع ديكارت ومن ثم حرمان البلاغة من ذلك الجزء الجوهري الذي تمثله نظرية الإبداع(3) .

فقد اعتبرت أعمال ديكارت أهم ضربة وجهت إلى الحجاج ؛ وذلك أنه هدم ركنا أساسيا من أركان الخطابة وهو الجدل، رافضا إمكانية الاحتجاج انطلاقا من مقدمات مشهورة محتملة مؤكدا بمنهجه المعروف (الشك المنهجي): إنَّ الحقيقة لا يمكن أن تكون إلاَّ بديهية وهي بالتالي واحدة، فإذا وقع اختلاف حول أمرين فاحدهما صائب والأخر خاطئ بالضرورة، أو كلاهما خاطئان ولا

يمكننا البتة أن نحتج لأمرين مختلفين أو متناقضين وهو ما يحدث في الجدل والحجاج، بل لا تدرك الحقيقة إلا بالعودة إلى الذات واعتماد العقل وحده، فإذا بالخطابة تكف عن كونها فنا، بل تفقد ركنيها الجدلي والحجاجي(4) . على أن الخطابة إلى حدود القرن التاسع عشر ظلت تلفظ أنفاسها الأخيرة في ميادين ضيقة من العمل السياسي والقضائي

ص: 62


1- ينظر: الحجاج في الشعر العربي ، بنيته واساليبه: 19
2- ينظر: تاريخ نظريات الحجاج: 40
3- ينظر: نفسه: 38
4- ينظر: الحجاج في الشعر العربي - بنيته واساليبه: 19

والتبشير الديني إلى أن تم وأدها بفعل تيارين أجهزا عليها تماما، (التيار الوصفي) الذي رفض الخطابة باسم الحقيقة العلمية، وعوض البلاغة بفقه اللغة وتاريخ الآداب. اما التيار الثاني فهو(التيار الرومنطيقي) الذي رفض الخطابة باسم الصدق فكان الشعار الذي رفعه فيكتور هيكو هو ( السلم للنحو الحرب على الخطابة )، وهذا بمثابة الإقرار بضرورة احترام القواعد اللغوية(1) . حتى جاء القرن العشرين ليشهد انبعاثا لتلك الروحال متجذرة في عمق التاريخ، ولتعلن عن استفاقتها المدوية في فضاء السكون والهيمنة والاستلاب، بيد انه لا يمكن فهم هذه الاستفاقة وهذا التصور الجديد لمفهوم الحجاج من دون ربطه بسياق انبعاثه التاريخي الجديد، والذي عبَّ عن إنعكاسة واضحة للتحول الجذري الذي عرفه المجتمع الأوربي في مطلع القرن العشرين على كافة الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتكنلوجية...... الخ فكان من نتائج هذا التحول أن سادت ثقافة ديمقراطية كرّست أسس التنوع والاختلاف ونبذت العنف والقمع(2) لتتداعى الأفكار والتصورات باتجاه إحياء الخطابة بحلتها الجديدة من خلال إخضاعها لمبدأين هما: إحياء الإرث البلاغي الأرسطي وبعثه من جديد، وكذلك صياغة تصورات تنحى منحى التطور والتجديد عبر تأويل الخطاب، وتوسيع حقل الخطابة ليشمل ميادين جديدة تتعلق بكل أنواع الخطاب. ونتيجة لهذه التحولات التي شهدها الواقع الأوربي بكل تجلياته، أن اخذ الحجاج ينشط دوره ويساهم في تأسيس واقع ثقافي جديد عبر محاولات عديدة وجريئة حاولت إخراج الحجاج من دائرتي الخطابة والجدل الذي ظل لفترات طويلة مرادفا لهما، كذلك أولت تلك المحاولات عناية خاصة بالمتلقي وإخراجه من دائرة السلب إلى الإيجاب، وأصبح دوره فاعلا وحيويا في بلورة الأفكار والرؤى، كما إن طابع المعقولية والحرية في تبادل الآراء والأفكار قد أصبح مبدأ مميزا لا

ص: 63


1- ينظر: نفسه: 20
2- ينظر: الحجاج مفهومه ومجالاته: 1/ 9

يمكن الحياد عنه، من اجل تحقيق التسليم برأي الآخر بعيدا عن الاعتباطية واللامعقول، وبعيدا عن الإلزام والاضطرار.

كل ذلك تم في إطار إحياء البلاغة وإعادة الاعتبار لها واستعادة مجدها ومكانتها التي كانت تتبوأها في عصور ازدهارها، لتأخذ اليوم على عاتقها مهمات عديدة منها، تخليص الدرس البلاغي مما لحق به من تشويه يعود أساسا إلى التبسيطات المخلة التي مورست ضده، كما لفتت ، تلك المحاولات، عناية الباحثين إلى ما للغة من دور في بناء الفرد والمجتمع وتطوير الحياة بصفة عامة، حتى قيل في تعريف الإنسان بأنه «حيوان بلاغي » بتعبير رولان بارت، في إشارة إلى الأبعاد الاجتماعية الجديدة للبلاغة لتأخذ دورها من خلال محاولات وطروحات جادة قدمتها المدرستان البلجيكية والفرنسية في سعيهما لإعادة النظر في البلاغة اليونانية القديمة وقرأتها قراءة جديدة تتناسب وما افرزته اللسانيات المعاصرة من رؤى وتصورات عابرة للحقول المعرفية، جعلت من الحجاج بعد محاولات تأصيله مبحثا أساسيا في البلاغة المعاصرة على يد البلجيكي ( برلمان وزميله تيتكاه ) في كتابهما ( مصنف في الحجاج، الخطابة الجديدة ) عام 1958 ، في محاولة لإخراج الحجاج من دائرة الخطابة والجدل ووضعه في إطار فلسفي عام(1) ، فقد استعادت البلاغة رصيدها المسلوب عبر قرون من الزمن من خلال ما اسماه برلمان (البلاغة الجديدة) وهو ثمرة أبحاثه وزميله في الحجاج التي استمرت لسنوات طويلة معتمدين في « بناء نظرياتها الحجاجية على مدونة تدور على ضروب من المحاججات التي يستخدمها الصحفيون في صحفهم والسياسيون في خطبهم والمحامون في مرافعاتهم والقضاة في حيثياتهم والفلاسفة في تصانيفهم»(2) ولم تكن تلك المحاولة

ص: 64


1- ينظر: الحجاج اطره ومنطلقاته وتقنياته، ضمن كتاب (اهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو الى اليوم)، أشراف حمادي حمود: 24 - 25
2- نفسه: 349

الوحيدة في هذا الإطار، فقد ظهر عمل آخر في السنة نفسها لا يقل أهمية عنه، يدور في الموضوع نفسه ويناقش الإشكاليات المطروحة نفسها بحيث جعل كل سلوك أو معرفة تصدر عن الإنسان هو من قبيل الحجاج، تلك المحاولة هي كتاب (اللغة إثناءالاستعمال) الذي أصدره س. تولمين، ثم جاءت المحاولة الأخرى من لدن الفرنسي اوزفالد ديكرو وزميله انسكومبر في كتابهما(الحجاج في اللغة) ليضعان الحجاج في إطار لساني محض(1) . ولم تقف تلك المحاولات عند هذا الحد، فقد حاول ميشيل مايير استثمار الجهود الفلسفية واللسانية السابقة ليضع الحجاج « في إطار نظرية أوسع هي نظرية المساءلة «(2) ، وفي هذا السياق سوف نعمل على إعطاء صورة مركزة وموجزة للنظرية الحجاجية عبر طروحات إعلامها في القرن العشرين محددين إطار التناول من خلال أهم قطبين من أقطابها هما: برلمان وزميله تيتكاه عن المدرسة البلجيكية وديكرو وزميله انسكومير عن المدرسة الفرنسية، ومرد هذا الاختيار يكمن في وضعهما المبادئ الأساسية للنظرية الحجاجية (المحددات والمنطلقات والتقنيات) فضلا عن قناعتنا بأن تصوراتهم حول الحجاج يكمل بعضها البعض على الرغم من اختلاف توجهات كل من المدرستين في بعض الآراء والمبادئ والافكار. لذلك دأبت الدراسة في فصولها التطبيقية اعتماد هاتين النظريتين كأساس في تبني الأفكار والرؤى والتصورات وبما يضمن الانسجام والتمثيل الوجيه والسليم والمفيد لتمثل نصوص المدونة التي تم اعتمادها من قبل الباحث، بيد أن العزوف عن النظريات الأخرى للحجاج لا يعني إهمالا لها أو تقليلا من قيمتها بقدر ما يعني بعدها عن مجال اهتماماتنا النظرية والتطبيقية.

ص: 65


1- ينظر: الحجاج في القران الكريم من خلال اهم خصائصه الاسلوبية: 25
2- ينظر: الحجاج اطره ومنطلقاته وتقنياته: 298

1- نظرية الحجاج عند برلمان وتيتكاه (الخطابة الجديدة)

أ- المحددات والأطر:

شكل ظهور كتاب ( مصنف في الحجاج- الخطابة الجديدة ):

Traite de- largumentation-lanouvelle rhelorigue لمؤلفيه: شايم برلمان chaim Perelman

ولوسي اولبريخت تيتكاه Lucie ، olbrechts- tyteca

والذي نشر عام 1958 ، أوج ما توصلت إليه المدرسة البلجيكية، باعتباره فتحا جديدا ومطلبا واقعيا ملحا في دراسات تحليل الخطاب والخطابة الجديدة (الحجاج) فقد طرح نظرية حجاجية معاصرة لها أسسها ومبادؤها التي تقوم عليها ومن ثم دفعت بمؤسسها الأول برلمان أن يصبح قطبا بلاغيا بارزا باعتراف ميشال مايير الذي ذكر « إن الثورة الكبرى في البلاغة خلال هذا القرن قد أنجزها سواء سلمنا بذلك أم لا شايم برلمان. هناك طريقة جديدة لفهم البلاغة وطبيعتها ودورها، إن آثاره ستقرأ خلال القرون المستقبلية كما يقرأ شيشرون و كينتليان في حين إن بلاغيين آخرين سيلتحقون بغبار البيبليوغرافيات العالمة التي لا تثير في أحسن الأحوال إلا اهتمام المختصين الأكثر تخصصا»(1) حيث عمل هذان الباحثان على إعادة النظر في البلاغة اليونانية وقراءتها قراءة جديدة، أو هي محاولة لإعادة الاعتبار لتلك الأصول البلاغية، من خلال ردم الهوة التي تفصل البلاغة المعاصرة عن جذورها الأرسطية وتصحيح المسار من خلال إجراء التعديل المطلوب في الفهم اليوناني بحسب مقتضيات البلاغة الجديدة، وبعبارة أخرى إذا

ص: 66


1- Michel meyer(ed) histoird la rheteorique ds grecs anos jours livr de poche pirs، pairs، 1999، p 529-260 نقلا عن: ابو زناشة نور الدين، الحجاج في الدرس اللغوي العربي، مجلة العلوم الانسانية / ع: 44 ، 2010 الموقع 2 :www.ulum.nl

كان أرسطو قد وضع اللبنات الأولى للدرس البلاغي أو( النظرية الحجاجية)، فان برلمان قد طورها بشكل جعلها تتماشى وروح العصر والتطلع إلى مصاف العلوم الإنسانية، بل أنَّها اهتمت واستوعبت جهود أرسطو في هذا المجال، وما أفرزته المراحل التاريخية المتعاقبة من مفاهيم تخص الخطابة والجدل والحجاج، ليصل بعد هذا الاستقراء إلى تصور وافٍ ومنطقي وضروري هدفه إبراز مفهوم للحجاج له مميزاته ومحدداته واهدافه ليرتقي إلى نظرية، بل إلى نظريات. من هنا « تكاد البلاغة تكون مدينة لإعمال شايم برلمان في إحيائها وتحديثها وبعثها من جديد وإخراجها من متاهات التضييق والتبسيط، إذ ارتبطت جل اعماله بالبلاغة، وحاول أن يجعل من النظرة البلاغية أداة لتفسير وتحليل غيرها من الظواهر الفلسفية والقانونية بالخصوص حتى تولدت حاجة إلى بناء تصور نظري للحجاج، والدفاع عن أهميته على ضوء المفاهيم البلاغية والفلسفية والقانونية «(1) .

يتأسس مشروع الباحثين على إقامة ( خطابة جديدة ) بحسب ترجمة الدكتور عبد الله صولة أو ( البلاغة الجديدة ) بحسب ترجمة الدكتور صلاح فضل، تهدف إلى التأثير في المتلقين وتغيير قناعاتهم الذهنية قبولا أو رفضا أو تعديلا على أسس معقولة ومقبولة، وفي هذا الصدد يقدم برلمان مفهوما جديدا للحجاج بخلاف المفهوم الأرسطي له والذي جعله مرتبطا بالخطابة والجدل وبصرامة المنطق، إذ يرى برلمان إن «موضوع الحجاج هو دراسة تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تؤدي بالأذهان إلى التسليم بما يعرض عليها من أطروحات أو تزيد من درجة ذلك التسليم »(2) وهو بهذا التعريف إنما يجعل من

ص: 67


1- هشام فروم، تجليات الحجاج في الخطاب النبوي ، دراسة في وسائل الاقناع ( الاربعون حديثا النووية ) انموذجا، رسالة ماجستير، جامعة الحاج لخضر باتنه، كلية الآداب والعلوم الانسانية، الجمهورية الجزائرية، 2009 م: 54
2- الحجاج اطره ومنطلقاته وتقنياته: 299

الحجاج مجموعة أساليب وتقنيات تضطلع بوظيفة هي حمل المتلقي على الإقناع بما يعرض عليه أو الزيادة في حجم هذا الإقناع إذن تتمحور العملية الحجاجية على مفهوم الإقناع، وقد جعل برلمان منه « لبّ العملية الحجاجية، كما اعتبره أثرا مستقبليا يتحقق بعد التلفظ بالخطاب لينتج عنه القرار بممارسة عمل معين أو اتخاذ موقف معين سواء بالإقدام أو بالإحجام»(1) . والحجاج إلى جانب ذلك محكوم بغاية عمادها يقوم على «ان انجع الحجاج ما وفق في جعل حدة الإذعان تقوى درجتها لدى السامعين بشكل يبعثهم على العمل المطلوب انجازه أو الإمساك عنه أو هو ما وفق على الأقل في جعل السامعين مهيئين لذلك العمل في اللحظة المناسبة»(2) ، وهو أمر يجعل هدف الحجاج ليس فقط الإقناع الفكري وتقبل العقل لما يطرح عليه، بل يهدف أيضا إلى الحث على الفعل أو على الأقل الاستعداد لهذا الفعل، فقد ذكر برلمان في كتابه ( إمبراطورية البلاغة ) أن الوظائف التي يؤديها الحجاج تتمثل في الإقناع الفكري الخالص، والاستعداد لتقبل اطروحة ما، والدفع أو الحث على العمل(3) ، فهي عملية تأثير ثم دفع إلى العمل، كما إن عملية التأثير ناتجة عن إرادة طوعية من قبل المتلقي لا إرادة ناتجة عن الإجبار أو المناورة كما عند السوفسطائين، فهي نتيجة طبيعية لحصول الاقتناع وهو أمر قد ميزه برلمان عن الإقناع عندما أشار إلى عملية التسليم، إذ لا يمكن أن يتحقق التسليم دون حصول الاقتناع الذي يقع في صميم المبحث الحجاجي، ومن ثم الفعل الناتج عن ذلك التسليم «هو أهم وظيفة حجاجية في هذا المجال، حيث تتطلب وعيا بآليات من شانها تحريك المعنيين بالكلام صوب الفعل وتغييره بما ينسجم مع المقام»(4) . وفي هذا الإطار

ص: 68


1- استراتيجية الخطاب: 457
2- الحجاج اطره ومنطلقاته وتقنياته: 299
3- ينظر: نفسه: 302
4- عبد السلام عشير، عندما نتواصل نغير: 203

وقف برلمان عند نوعين من التسليم، أو هو ميز بين نوعين من الحجاج هما: (الحجاج الإقناعي) و(الحجاج الاقتناعي) وهذان النوعان يخضعان إلى نوع الجمهور، فالأول:

يرمي إلى إقناع نوع خاص من الجمهور(1) ومن ثم فهو» ذاتي وخاص وضيق لا يعتد به في الحجاج»(2) كما يجنح إلى مخاطبة الخيال والعاطفة وبالتالي فهو لا يفسح المجال أمام العقل لحرية الاختيار. أما النوع الثاني: فهو التسليم المنبعث من داخل النفس باطمئنان و « أن يسلم به كل ذي عقل »(3) ، أي هو موجه إلى متلق كوني، كما انه يقوم على « الحرية والعقلنة »(4) بعيدا عن أساليب الإكراه والإرغام والعنف ولذلك يعتبرونه أساس الإذعان وأساس الحجاج(5) . ومن هنا يتبين إن الأساس والمبدأ الذي ينطلق منه أي حجاج في تصور برلمان و زميله هو انبناؤه على الحرية والحوار العقليين ويفكه من قيد الاستدلال الذي يضعه رهينة الخضوع والاستسلام، بمعنى أن (الإذعان) الذي أشار إليه برلمان في تعريفه للحجاج لا يمكن أن يتحقق إلا عبر الاقتناع وليس الإقناع، والفرق واضح بينهما من مبدأ « إن المرء في حالة الاقتناع يكون قد اقنع نفسه بوساطة أفكاره الخاصة، أما في حالة الإقناع، فان الغير هم الذين يقنعونه دائما»(6) ، وإذا كان الإقناع هو مجال البحث الحجاجي فان الدفع إلى الفعل هو أهم وظيفة حجاجية في هذا المجال حيث تتطلب وعيا بآليات من شأنها تحريك المتلقي نحو القيام بالفعل وتغييره بما ينسجم مع المقام، وهذا الأمر يتطلب أيضا وضوح الأسلوب واحترام شخص المتلقي عبر الربط

ص: 69


1- ينظر: الحجاج اطره ومنطلقاته وتقنياته: 301
2- - نفسه: 301
3- نفسه: 301
4- الحجاج في البلاغة المعاصرة: 109
5- الحجاج اطره ومنطلقاته وتقنياته: 301
6- Chaim Perlman et lucie olbrechts ty teca: traite de largum _ ntation،op.cit.p:35 نقلاً عن كمال الزماني، حجاجية الصورة في الخطابة السياسية لدى الامام علي (عليه السلام): 118

بين العوامل اللغوية والأسلوبية بأخرى نفسية واجتماعية وهذا الربط ناتج عن طبيعة الحجاج الذي ليس في النهاية سوى « دراسة طبيعة العقول ثم اختيار أحسن السبل لمحاورتها والإصغاء إليها ومحاولة انسجامها الايجابي»(1) لتحقيق الوظيفة التواصلية للغة ذات العلاقة بالتقاليد البلاغية الكلاسيكية كأدوات وأساليب ووسائل للإقناع.

كما يتميز الحجاج في تصور بيرلمان بخمسة ملامح رئيسة هي:

1. أن يتوجه إلى مستمع.

2. أن يعبر عنه بلغة طبيعية.

3. مسلماته لا تعدو أن تكون احتمالية.

4. لا يفتقر تقدمه ( تناميه ) إلى ضرورة منطقية بمعنى الكلمة.

5. أنْ تكون نتائجه غير ملزمة ( احتمالية، غير حتمية )(2) .

فالمجال الذي يتحرك فيه الحجاج حوار قائم على الحرية والمعقول والمحتمل من اجل حصول الوفاق بين الأطراف المتحاورة بعيدا عن الاعتباطية واللامعقول اللذين يطبعان الخطابة عادة وبعيدا عن الإلزام والاضطرار الذين يطبعان الجدل، وفي هذا الشأن يقول برلمان « أن الحجاج غير الملزم وغير الاعتباطي هو وحده القمين بأن يحقق الحرية الإنسانية من حيث هي ممارسة لاختيار عاقل، فان تكون الحرية تسليما اضطراريا( إلزاميا ) بنظام طبيعي معطى سلفا معناه انعدام كل إمكان للاختيار، فإذا لم تكن ممارسة الحرية مبنية على العقل فإن كل اختيار يكون ضربا من الخور، ويستحيل إلى حكم اعتباطي يسبح في فراغ فكري»(3) . ومن هنا ومن اجل بناء منظومة قيم خطابية سليمة تحكم بنية الخطاب

ص: 70


1- الحجاج في البلاغة المعاصرة: 68
2- ينظر: اوليفن روبول، هل يمكن ان يوجد حجاج غر بلاغي، ترجمة محمد العمري، مجلة علامات، النادي الادبي الثقافي، جدة، السعودية، عدد (6)، ديسمبر 1996:77
3- Traite de largumntation op.cit.95 ed.،p:682 نقلاً الحجاج في البلاغة المعاصرة، ص: 109 . الحجاج اطره ومنطلقاته وتقنياته: 301

بين كل الأطراف المتحاورة، قائمة على أسس قوية ومتينة من الحرية والمعقولية والإيمان بالرأي والرأي الأخر، وبعيدا عن أساليب المغالطة والإرغام والإلزام فقد اجتهد الباحثان في تثبيت مبدأين أو هدفين أساسين عملا على» إخراج الحجاج من دائرة الخطابة والجدل »(1) ليكون أمرا ثالثا مفارقا لهما رغم اتصاله بهما، له مميزاته وأهدافه، فقد «عملا من ناحية أولى على تخليص الحجاج من التهمة اللائطة بأصل نسبه وهو الخطابة، وهذه التهمة هي تهمة المغالطة والمناورة والتلاعب بعواطف الجمهور وبعقله أيضا، ودفعه إلى القبول باعتباطية الأحكام ولا معقوليتها»(2) ، كما عمل الباحثان من ناحية ثانية على « تخليص الحجاج من صرامة الاستدلال الذي يجعل المخاطب في وضع ضرورة وخضوع واستلاب «(3) . وبهذا يكون الباحثان قد عبَّا عن رفضهما التام والمطلق للثنائية السابقة ( الخطابة والجدل ) من اجل غاية إنسانية هي تحقيق الحرية الإنسانية من حيث هي اختيار عاقل كما أسلفنا. فالحجاج لا ينفصل عن جذوره الممتدة في عمق الخطابة والجدل، بل هو يأخذ من الجدل التمشي الفكري الذي يقود إلى التأثير الذهني في المتلقي، وإذعانه إذعانا نظريا مجردا لفحوى الخطاب وما جاء فيه من مواقف وآراء، كما يأخذ من الخطابة أيضا توجيه السلوك أو الدفع إلى العمل أو الإعداد له والحض عليه(4) ، فالحجاج هنا يجمع بين التأثير النظري والتأثير السلوكي العلمي ولكنه يظل اقرب إلى الخطابة منها إلى الجدل، لأنَّ الجدل مداره النظر فقط، في حين إن الخطابة همّها الأساس هو العمل، ثم إن الجدل متعلق بآراء غير مخصوصة، أي أنها غير شخصية، بينما الخطابة مخصوصة

ص: 71


1- الحجاج اطره ومنطلقاته وتقنياته: 298
2- نفسة: 298
3- نفسة: 298
4- ينظر: تجليات الحجاج في الخطاب النبوي: 55

دائما. وفي هذا الشأن يقول برلمان « إن الغاية من تقريبنا بين الحجاج والخطابة أن نلح على انه لا حجاج دون وجود جمهور يرمي الخطاب إلى جعله يقتنع ويصادق على ما يعرض عليه»(1) ؛ ولكن ينبغي الإشارة إلى أن هذا التقارب هو تقارب نسبي بالقياس مع الجدل إذ يمكن أن نميز الحجاج عن الخطابة من عدة زوايا نوجز القول فيها وهي(2) :

1. إن الخطابة فن الكلام المقنع للجمهور، فهي إذن شفوية، في حين إن الحجاج هوتقنيات الخطاب التي تزيد من التأييد سواء لمتلقين حقيقيين ( مشافهة ) أو مفترضين ( الكتابة ).

2. جمهور الخطابة واسع ومباشر، بينما يقسم الحجاج إلى حجاج إقناعي موجه إلى جمهور خاص والحجاج الاقتناعي الذي يتوجه إلى جمهور واسع والى كل ذي عقل.

3. في الخطابة يخضع الجمهور إلى ضغط فكري مسلوب الحرية والإرادة في الاختيار، بينما لا يخضع الجمهور في الحجاج لتلك الضغوط والأهواء والمصالح، بل هو قائم على الحرية والمعقولية سواء كان قارئا أو مستمعا.

4. يعتبر الشكل أو طريقة العرض في الخطابة هي الأساس في إيصال الأفكار والتأثير، فهي فن عرض الفكر بطريقة شكلية محضة في حين يجنح الحجاج نحو الربط بين الشكل والمضمون. الأمر الذي يقتضي دراسة الأساليب والأبنية الشكلية في ضوء علاقتها بالهدف الذي تؤديه في الحجاج.

وهنا ينبغي أن نفهم أن الحجاج يكتسب خصوصيته ومفارقته للجدل والخطابة من

ص: 72


1- الحجاج اطره ومنطلقاته وتقنياته: 306
2- ينظر، صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص: 99 - 103 ، تجليات الحجاج في الخطاب النبوي: 55

كونه يدور حول « الأمور التقريبية والمقبولة والمحتملة «(1) ، أي أن مجال عمله ليس الحقيقة العلمية أو اليقين وإنما هو الملائم والمشاكل والمعقول والمحتمل، وعلى هذا الأساس يقر برلمان بأن « الحجاج لا يكون أبدا في موضع يسمح له بادعاء اليقين، ولا جدوى من الحجاج ضد ما هو يقيني...... الحجاج لا يتدخل إلاَّ في الحالات التي يكون فيها اليقين موضوع طعن «(2) ، أي انه يقبل الطعن أو الشك في الاستنتاجات والحقائق التي يتوصل اليها.

فمسار الحجاج وديناميكيته هي ديناميكية حوارية عقلانية غير ملزمة، تطمح في الأساس إلى تحقيق الاستمالة باستدلال منطقي قابل للاختبار من قبل المتلقي ليأتي اختياره اختيارا عاقلا(3) مبني على المناقشة والتدبر والنظر بعيدا عن أساليب المغالطة والتلاعب بالمشاعر والاحاسيس.

وبالجملة فإن الحجاج عند برلمان أوسع من الخطابة والجدل ولذلك « فهو لا يرى أي مبرر إطلاقا لحصر القدرة الإنسانية على تقديم الأدلة والبراهين في مجال معين «(4) ، وإذا كانت الخطابة والجدل قد انحصر عملهما في ميادين محددة، فإن الحجاج « يحضر في جميع المستويات، كما يحضر في النقاشات العائلية، وكذلك في مجالات تخصصية مميزة «(5) فهو

ص: 73


1- Chaim Perlman et lucie olbrechts ty teca: traite de largum _ ntation،op.cit.p:1 نقلاً عن: حجاجية الصورة في الخطابة السياسية لدى الامام علي (عليه السلام): 117
2- Chaim Perlman lempire rhelorique.p:19 نقلاً عن: بوزناشة نور الدين، الحجاج في الدرس اللغوي العربي، مجلة علوم انسانية، السنة السابعة، العدد ( 44 )، شتاء 2010 م: 2
3- ينظر: حسن محمد مرزوق، مدخل الى نظرية الحجاج: 42
4- Chaim Perlman et lucie olbrchts tyca: traite d largumantation،op. p:62 نقلا عن: حجاجية الصورة في الخطابة السياسية لدى الامام علي (عليه السلام): 117
5- Ibid،p:4 نقلا عن: نفسه: 117

يغطي كل حقل الخطاب المستهدف للإقناع، وبعبارة أخرى إذا كان أرسطو قد حصر الأجناس الخطابية في ثلاثة هي: (القضائية والتشاورية والاحتفالية)، فإن برلمان قد وسَّع حدود تلك البلاغة وخرج على تقسيماتها لينفتح على كل أنواع الخطابات بما فيها الخطاب اليومي، وبغض النظر عن أنواع المستمعين، فهو قد فتح الباب على مصراعيه امام كل أشكال الخطاب الذي يهدف إلى الإقناع كيفما كان المستمع الذي يتوجه إليه، ومهما كانت المادة المطروحة في ذلك الخطاب(1) ؛ بل هو يذهب الى ابعد من ذلك حينما يهتم بالحجج التي قد يوجهها الانسان الى نفسه في مقام حوار ذاتي(2) . ومن هنا جاء اهتمام النظرية الحجاجية واعيا لمكونات الخطاب الحجاجي، فالعلاقة بين الباث والمتلقي او بين الخطيب والمستمع هي علاقة تفاعلية ينبغي ان تكون ايجابية يتم من خلالها تبادل الادوار والمواقع بوساطة الرد والنقاش والتفنيد والدعم، لذلك تولي الخطابة الجديدة أهمية بالغة للمتلقي باعتباره عنصرا فاعلا من عناصر العملية التخاطبية، الأمر الذي وجد صداه في مجمل العملية الحجاجية، وأصبح الحجاج على أساس ذلك « وفاقا وتشاركا وحوارا بعيدا عن كل أشكال الضغط »(3) التي كان متهما بممارستها سواء في الخطابة أو الجدل.

فالنظرية الحجاجية عند برلمان وزميله تيتكا ترتكز بشكل أساس على مبدأ الاحترام بين الباث والمتلقي مع الأخذ بنظر الاعتبار الاعتراف بالمتلقي وخصوصياته، وما يحمله من أفكار وآراء ومحاولة تغييرها او تعديلها بطريقة حضارية إنسانية راقية تتناسب وقدراته العقلية وحريته في الحكم دون اللجوء إلى القوة أو الإكراه في تغيير وتبديل الاراء، لذا يطرح الباحثان من حجاجهما كل ما من شأنه أن يحمل على الإكراه والعنف الفكري والخداع والتلاعب بالمشاعر والعواطف من اجل الحمل على القبول بما يطرح

ص: 74


1- ينظر: مدخل الى الحجاج: 33 - 34
2- ينظر: نفسه: 33
3- الحجاج مفهومه ومجالاته: 1/ 10

من قضايا، فالحجاج عبارة عن تصور معين لقراءة الواقع اعتمادا على بعض المعطيات الخاصة بكل من المحاجج والمقام الذي ينجب الخطاب، لذلك عبَّ برلمان عن اهتمامه بمظاهر التواصل والتجاوب ( المكتوب والمنطوق والإرشادي ) في إطار فكري عميق تندمج فيه أبعاد المتكلم والسامع والمقام معا، بحيث يحمل المنتج الخصائص الجوهرية لهذه المكونات الثلاثة(1) ، وتكون نتائجه ملموسة عبر نسق قولي موجه إلى طرف ما خاص أو كوني يترك له الخيار في البحث عن الأفضل.

ب - منطلقات الحجاج:
اشارة

بنى برلمان حجاجه على مجموعة من المنطلقات أو المقدمات التي يتكئ عليها المحاجج في خطابه لإقناع الجمهور، إذ يرى أن الحجاج ينبني أساسا على مجموعة من المقدمات والفرضيات والتصورات التي تشكل جميعا نقطة الانطلاق له(2) ، إذ يتوسل بها المتكلم في سياق حجاجه وبناء استدلاله، وهي منطلقات متفق عليها تتمثل بالأتي:

1- الوقائع:

تمثل هذه المقدمة ما هو « مشترك بين عدة أشخاص أو بين جميع الناس.... والتسليم بالواقعة من قبل الفرد ليس إلاَّ تجاوبا منه لشيء يفرض نفسه على الجميع »(3) . كما تتميز هذه الوقائع بأنها « لا تكون عرضة للدحض أو الشك «(4) ، أي انها تمثل الأحداث التي

ص: 75


1- ينظر: محمد الامين الطلبة، مفهوم الحجاج عند برلمان: 16
2- Chaim Perlman et lucie olbrchts tyca: traite d largumantation،op. p:682 نقلا عن: حجاجية الصورة في الخطابة السياسية لدى الامام علي (عليه السلام): 119
3- ibid، p: 6 - نقلا عن: نفسه: 119
4- الحجاج اطره ومنطلقاته وتقنياته: 308

لا يختلف اثنان على وقوعها إذ لا تكتسب وجاهتها الحجاجية إلاَّ عندما تكون محل اتفاق بين الجميع(1) فهي قائمة على اليقين والثقة، وتنقسم الوقائع على وقائع مشاهدة عيانية وهي القسم الأكثر أهمية في المقدمات(2) لتأثيرها المباشر في النفوس، ووقائع مفترضة، أي ممكنة ومحتملة والتسليم بهذه الوقائع التي تتطابق مع الواقع إنما هو تجاوب مع الحجة المقامة التي تنطلق من مقدمات يؤمن بثبوتها وصدقها الجميع.

2- الحقائق:

هي مجموعة القضايا والأحداث التي يستخدمها المحاجج والتي تقوم على فكرة « الربط بين الوقائع، ومدارها على نظريات علمية أو مفاهيم فلسفية أو دينية مفارقة للتجربة »(3) لا يشك المتخاطبون في صحتها إذا كانوا على علم ودراية بها، فهي لا تختلف عن الوقائع في كونها تحظى بالموافقة والاتفاق على ثبوتيتها، لذلك يعمد الخطيب إلىالربط بين الوقائع والحقائق من حيث هي موضوعات متفق عليها ليحدث موافقة الجمهور على واقعة معينة غير معلومة ؛ ولكن تبقى للحقائق خصوصية من حيث «هي أنظمة أكثر تعقيدا من الوقائع «(4) ؛ لأنَّ الوقائع تكون معرفتها مشاعة بين جميع الناس في حين تحمل الحقائق طابعا خاصا، أي تكون معرفتها محدودة، فليس جميع الناس على دراية بالمفاهيم الفلسفية أو العلمية أو الدينية إلاَّ المختصون بها.

ص: 76


1- ينظر: نفسه: 308
2- Ch، Perlman…Traite de largumentation،op،cit،p:89 نقلاً عن: عبد الجليل العشراوي، الحجاج في الخطابة النبوية: 32
3- الحجاج اطره ومنطلقاته وتقنياته: 309
4- Chaim Perlman et lucie olbrchts tyca: traite d largumantation،op. p:92 نقلاً عن: نعيمة يعمرانن، الحجاج في كتاب ( المثل السائر ) لابن الاثر، رسالة ماجستير، جامعة مولود معمري / تيزي وزو، كلية الاداب واللغات، الجمهورية الجزائرية، 2012 م: 23
3- الافتراضات:

هي مجموعة الآراء والأحكام المسبقة «شأنها شأن الوقائع والحقائق يكون مسلَّما بها من طرف الجمهور »(1) إلاَّ أنَّ الإذعان والتسليم لها لا يكونان قويين حتى تأتي في مسار الحجاج عناصر اخرى تقويها وتدعمها(2) ، وسبب هذا الضعف في الإذعان والتسليم لها هو كونها محتملة، وبذلك تكون متغيرة تبعا للوسط والمقام والمتكلم والسامعين لأنها تقاس بالعادي والمحتمل وهو مختلف ومتغير تبعا لاختلاف القدرات والإمكانات الفردية والجماعية(3) .

4- القيم:

من المنطلقات الحجاجية الأساسية المهمة التي تقوي حدة الإذعان لما يطرح، إذ تحظى بالاتفاق والتسليم من قبل الجماعات البشرية، كما تعمل على بناء جسور الثقة بين المتكلمين، إذ تبرز قيمتها الحجاجية في كونها «تتدخل في فترة ما في كل الأفعال الحجاجية»(4) من اجل « تغيير مواقع السامعين ودفعهم إلى الفعل المطلوب »(5) ، وهذا ما أكده برلمان حينما ذكر أن استدعاء القيم لأجل «حمل السامع على القيام بأفعال معينة بدل أخرى، كما إننا نستدعيها خصوصا من اجل تبرير تلك الأفعال، بطريقة تجعلها

ص: 77


1- Chai Perlman et lucie olbrchts tyca: traite de largumantation،op.cit، p:100 نقلا عن: حجاجية الصورة في الخطابة السياسية لدى الامام علي (عليه السلام): 120
2- ينظر: نفسه: 120
3- ينظر: الحجاج في البلاغة المعاصرة: 21
4- ibqdm، p: 93 - نقلا عن: حجاجية الصورة في الخطابة السياسية لدى الامام علي (عليه السلام): 121
5- ينظر: الحجاج في البلاغة المعاصرة: 112

مقبولة ومؤيدة من طرف الآخرين»(1) . وقسّم برلمان القيم على نوعين:

مجردة كالعدل والشجاعة والحق والخير، وقيم محسوسة نحو الوطن والمسجد والكعبة.

5- الهرميات:

هي التراتبية التي تخضع لها القيم، إذ إن استدعاء القيم في العملية الحجاجية لا يكون كافيا وناجعا ، حسب برلمان، من دون إخضاع هذه القيم لتراتبية هرمية معينة يمثل احترامها ووعي المحاج بها عاملين فاعلين في تحقيق الخطاب(2) وتنقسم هذه التراتيبية حسب نوعية القيم إلى هرميات مجردة مثل اعتبار الإنسان اعلى درجة من الحيوان، والآلة اعلى درجة من الإنسان(3) ، وتمثل هرمية وتراتبية القيم أهم من القيم نفسها، إذ انه أمر ضروري في أي بناء حجاجي، لأنه وان كانت هذه القيم تسلم بها مجموعة من السامعين، فان درجة تسليمهم بها تكون مختلفة من فرد إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر، إذ إن ما يميز كل فرد ليس القيم التي يسلم بها ولكن طريقة ترتيبه لها(4) ، أي إن هذه القيم تكتسب قوتها منطريقة ترتيبها ودقته بناء على تصور سليم من قبل المتكلم لعلة الترتيب.

6- المواضع:

تشغل المواضع حيزا واسعا وشاملا في العملية الحجاجية لأنَّا « تؤكد حجاجية

ص: 78


1- نفسه: 112
2- ينظر: الحجاج في البلاغة المعاصرة: 112
3- ينظر: الحجاج اطره ومنطلقاته وتقنياته: 310
4- نينظر: فسه: 310

الملفوظ بما توفره من قيمة استدلالية مرجعية إليها ينشد الملفوظ و بها تتحدد مدى صلاحيته «(1) ، فقد اعتبرت «مخازن للحجج أو مستودعات حجج »(2) يتكئ عليها المحاجج في دعم حججه والتشريع لخطابه، فهي حاملة لخصائص الأمم والجماعات الفكرية والأدبية وغير ذلك، وبعبارة اخرى أنَّا المبادئ والأفكار والتقاليد والأخلاق التي تكون قاسما مشتركا بين الشعوب والجماعات الواحدة، من ذلك (موضع القليل الدائم أحسن من الكثير المنقطع) و (الكثرة تغلب الشجاعة)(3) . وتقسم المواضع على قسمين: مواضع مشتركة، وهي التي يمكن تطبيقها على علوم مختلفة مثل القانون والفيزياء والسياسة (كموضع الأقل والأكثر)، ومواضع خاصة، تكون وقفا على علم معين أو على نوع خطابي محدد و معروف ، وبالرغم من الأهمية التي يراها ارسطو تجاه المواضع حتى انه افرد كتابا كاملا هو ( الطوبيقا ) لشرح هذا المفهوم، لكنَّه لم يعرّف الموضع واكتفى بإشارات محددة دفعت برلمان إلى استثمارها لتكوين رؤية عن المواضع فقد وصفها ب- » المقدمات العامة وهي متمحضة للاستدلال الجدالي»(4) ، وتتميز المواضع ب-» عموميتها وقدرتها على التكيف مع كل الظروف «(5) وتقوم بدور كبير في العملية الحجاجية من خلال الحث على الفعل وخلخلة العقبات التصورية التي تكون أحيانا راسخة لدى المحاججين والتي لا تنسجم مع البناء الحجاجي المقدم(6) وعلى هذا الأساس يكون امتلاك مواضع

ص: 79


1- عز الدين الناجح، العوامل الحجاجية في اللغة العربية: 47
2- الحجاج اطره ومنطلقاته وتقنياته: 311
3- ينظر: كتابة الجاحظ في ضوء نظريات الحجاج ( رسائله نموذجاً ): 96
4- العوامل الحجاجية في اللغة العربية: 48
5- Chaim Perlman et lucie olbrchts tyca: traite d largumantation،op. p:112 نقلا عن: حجاجية الصورة في الخطابة السياسية لدى الامام علي (عليه السلام): 122
6- ينظر: الحجاج في البلاغة المعاصرة: 113

الحجج وفتح مغاليقها يعني امتلاك ناصية الحجج القوية والمؤثرة بكل سهولة ويسر، ومن هنا يتضح أنَّ امتلاك المواضع اهم من امتلاك الحجج ؛ لان الحجج مصدرها المواضع، وتستمد قوتها من منظومتها المندرجة فيها، لذلك شبهها برلمان ب-( المقدمات في الاقيسة الجدلية ) أو بالأقسام التي تنضوي تحتها الحجج، فكما أن القياس يتكئ على مقدمات يعبر منها إلى النتيجة، كذلك الحجاج فانه يستمد من مواضعه التي تضمّه وتحتويه(1) ، فهي إن جاز التعبير كأرض تختزن في باطنها معدنا معينا يستخرج منها كلما دعت الضرورة إلى ذلك، وتنقسم المواضع على أقسام:

1- مواضع الكم: وهي المواضع التي يقع الاحتكام في صلاحيتها الى مقولة الكم والعدد(2) أي مواضع المفاضلة بين الأشياء لاعتبارات كمية وعددية، مثل ( الكل أفضل من الجزء ) و ( المال الكثير أفضل من المال القليل ) و ( العدل والعفة أفضل من الشجاعة ) على اعتبار أن العدل والعفة قيم تتجسد فيها الديمومة والاستمرارية في كل الظروف والأوقات، في حين أن الشجاعة لا تصلح إلا في أوقات محددة(3) ومثال ذلك قوله تعالى على لسان المشركين « وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا و ما نحن بمعذبين «(4)

2- مواضع الكيف: وهي المواضع التي يستدل بها في الخطاب على أن أمرا أصلح من أمر لأسباب ترجع إلى هيأة ذلك الأمر وكيفية تشكله، بحيث يكون نسيج

ص: 80


1- ينظر: كتابة الجاحظ في ضوء نظريات الحجاج: 95
2- Chaim Perlman et lucie olbrchts tyca: traite d largumantation،op. p:115 : نقلا عن: العامل الحجاجي والموضع، عزالدين الناجح (ضمن الحجاج مفهومه ومجالاته: حافظ اساعيل علوي ): 290
3- ينظر: الحجاج اطره ومنطلقاته وتقنياته: 312 ، العوامل الحجاجية في اللغة العربية: 49
4- سورة سبأ، الاية: 35

وحده، فتستمد هذه المواضع حجيتها من تفردها ووحدانيتها لا من الكم والكثرة مثل ( الحقيقة التي يضمنها الله فهي واحدة في مقابل آراء البشر المختلفة و(الحق يعلو ولا يعلى عليه)(1) ومن ذلك قوله تعالى:( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله)(2) .

3- مواضع الترتيب: وتقوم على مبدأ الإقرار بأفضلية ما هو سابق على ما هو لاحق مثل المبادئ والقوانين في التفكير غير الاختياري أفضل من الوقائع التي تنتج عن تطبيق تلك المبادئ(3) .

4- مواضع الموجود: وهي المواضع التي تقر بأفضلية الموجود والراهن والواقعي على الممكن والمحتمل والمستحيل ومنه المثل الشعبي « عصفور في اليد خير من عشرة فوق الشجرة «(4) ويمكن أن يطلق على هذه المواضع « مواضع المفضّل أو المؤثّر »(5) .

5- مواضع الجوهر: وهو «يتعلق بإعطاء قيمة عليا للأشخاص باعتبارهم ممثلين لهذا الجوهر »(6) .

ص: 81


1- الحجاج اطره ومنطلقاته وتقنياته: 312
2- سورة البقرة، من الاية: 249
3- ينظر: العوامل الحجاجية في اللغة العربية: 50
4- ينظر: الحجاج اطره ومنطلقاته وتقنياته: 312
5- نفسه: 312
6- Chaim Perlman et lucie olbrchts tyca: traite d largumantation،op. p:126 نقلا عن: حجاجية الصورة في الخطابة السياسية لدى الامام علي (عليه السلام): 123
ج- التقنيات الحجاجية
اشارة

نظم برلمان وزميله تيتكاه في كتابهما ( مصنف في الحجاج ، الخطابة الجديدة ) الطرق الكفيلة بتنظيم الحجج ومستوى فعاليتها في الخطاب، إذ لا يمكن الاكتفاء بسرد الحجج دون الأخذ بنظر الاعتبار إيرادها على وفق نظام يضمن لها نجاعتها وإبراز قيمتها التأثيرية والاقناعية لدى المستقبل / المستمع. فقد حصر الباحثان هذه الطرق الحجاجية أو الطرق التي تنظم القول ألحجاجي في نوعين هما: طرائق الوصل (الاتصالية) وطرائق الفصل (الانفصالية).

1- طرائق الوصل:
اشارة

وهي الطرائق التي « تقرب بين العناصر المتباينة في أصل وجودها فتنتج بذلك قيام ضرب من التضامن بينهما لغاية إبراز تلك العناصر في بنية واضحة ولغاية تقديم احد هذه العناصر بواسطة الآخر تقديما ايجابيا أو سلبيا «(1) ، وقد تم تصنيف هذا النوع من الطرائق إلى تقنيات حجاجية عديدة منها:

أ-الحجج شبه المنطقية:

وهي حجج تكتسب طاقتها وقوتها الاقناعية من مقاربتها أو مشابهتها للبنى المنطقية والرياضية في البرهنة(2) ، ولكنها تنأى بنفسها عن التطرف باتجاه الصرامة المنطقية الخالصة، إذ يمكن ترد بيسر بدعوى إنها ليست منطقية. وفي هذا الشأن يرى برلمان في تفصيل هذه الحجج « إنها حجج تدعي قدرا محددا من اليقين من جهة أنَّا تبدو شبيهة بالاستدلالات الشكلية المنطقية أو الرياضية ومع ذلك فان من يخضعها إلى التحليل ينتبه

ص: 82


1- الحجاج في القران الكريم من خلال أهم خصائصه الأسلوبية: 35
2- ينظر: نفسه: 35

في وقت قصير إلى الاختلافات بين هذه الحجج والبراهين الشكلية، لأنَّ جهدا يبذل في الاختزال أو التدقيق فحسب ، يكون ذا طبيعة لا صورية، يسمح بمنح هذه الحجج مظهرا برهانيا ولهذا السبب ننعتها بأنها شبه منطقية «(1) . وتنقسم هذه الحجج شبه المنطقية على:

1 - الحجج شبه المنطقية التي تعتمد البنى المنطقية: وتتمثل هذه الحجج في حجة التناقض وعدم الاتفاق والتماثل والحد، والحجج القائمة على العلاقة التبادلية.

2- الحجج شبه المنطقية التي تعتمد العلاقات الرياضية: وتتمثل هذه الحجج في حجة التعدية وتقسيم الكل على أجزائه المكونة له وكذلك إدماج الجزء في الكل، ويرمي هذا النوع من الحجج إلى صحة الموضوع ومشروعيته بفعل ما لها من بعد عقلاني تستمده من علاقتها ببعض الصيغ المنطقية والرياضية.

ب -الحجج المؤسسة ( القائمة ) على بنية الواقع:

تعتمد هذه الحجج على الواقع في تأسيس وإقامة علائقها الاقناعية، إذ تستخدم الحجج شبه المنطقية للربط بين أحكام مسلم بها، وأحكام يسعى الخطاب إلى تأسيها وتثبيتها وجعلها مقبولة ومسلم بها، كما توصف هذه الحجج بكونها اتصالية أو قائمة على الاتصال من جهة اتصالها بالواقع وعرض الآراء المتعلقة به وكذلك الحقائق والافتراضات(2) ، إذ تتناسب قوة هذه الحجج الاقناعية طرديا مع اعتمادها بشكل اكبر على مدى تجسيد الواقع وتفسير أحداثه وما يدور فيه من حقائق « فالخطاب الحجاجي يكون أنجع واقدر على الفعل في المتلقي والتأثير فيه كلما انغرست مراجعه في الواقع

ص: 83


1- الحجاج في الشعر العربي ، بنيته وأساليبه: 191
2- ينظر: الحجاج أطره ومنطلقاته: 332

وتنزلت عناصره في ما حدث ويحدث «(1) . ويقسم برلمان الحجج المؤسسة على بنية الواقع إلى وجوه (الاتصال التتابعي)، الذي يكون بين ظاهرة ما وبين نتائجها أو أسبابها(2) وتنتمي إلى هذا الوجه من الاتصال الحجة السببية، وحجة التبذير (التبرير)، وحجة الاتجاه (التحذير)، وحجة التجاوز. أما الوجه الآخر من وجوه الاتصال فهو (الاتصال التواجدي) الذي يمثل طريقة في عرض الآراء المتعلقة بالواقع، وتتمثل هذه الآراء في كونها وقائع أو حقائق أو افتراضات(3) . ومن حجج هذا النوع هي حجج السلطة، وحجج الشخص وأعماله، وحجج الرمز.

ج- الحجج المؤسسة لبنية الواقع:

إذا كانت الحجج سالفة الذكر قد انبنت وتبنت الواقع، فان هذا النمط من الحجج يكون أيضا وثيق الصلة بالواقع، ولكنها تحدث تغيرا، وتعمل على إعادة بناء الواقع وتأسيسه أو نقض ذلك الواقع القائم وبناء واقع جديد بواسطة حالات خاصة. فهذه التقنية تستلهم عناصر قوتها من استحداث بعض الروابط التي من شأنها أن تؤسس الواقع أو تعيد بناءه، وتعد النمط الأخطر من بين كل الأنماط الحجاجية ؛ لأنَّا تتفادى تصيد الترابط الواقعي بين الأشياء، وتتخطى بابتكار واقع جديد على أنقاض الواقع القائم(4) ، وسبيلها إلى ذلك يكون عبر مستويين. الأول: تأسيس الواقع بواسطة الحالات الخاصة، ومن هذه الحالات الخاصة هي حجة المثل، والاستشهاد، والنموذج.

أما المستوى الثاني من تلك الحجج فهو: الاستدلال بواسطة التمثيل الذي يضطلع

ص: 84


1- الحجاج في الشعر العربي- بنيته وأساليبه: 214
2- ينظر: الحجاج أطره ومنطلقاته: 332
3- ينظر: نفسه: 332
4- ينظر: نفسه: 336

بمهمات حجاجية كبيرة يجسدها التشبيه والاستعارة باعتبار أنَّ القيمة الحجاجية قائمة على علاقة تشابه لا علاقة مشابهة.

2- طرائق الفصل:

وهي الطرائق التي تفصل بين المفاهيم، أي مجموعة التقنيات التي تعمل على الفصل والتجزئة بين المفاهيم التي تشكل وحدة تامة ومفهوم واحد، إذ تقوم على إفساد اللحمة وإحداث القطيعة بين عناصر تشكل عادة كلا لا يتجزأ أو على الأقل كُلاّ متضامنة أجزاؤه في مجال فكري واحد ليتم على وفق هذه الطرائق والتقنيات إحداث فصل وتفكيك بين مكوناته ومحاكاته ذلك الواقع أو الظاهر على وفق حقيقته(1) .

ولعل السبب في حصول ذلك الفصل يعود لغاية حجاجية هدفها التمييز بين ما هو ظاهر و ما هو واقعي أو حقيقي، بمعنى أن كل الأشياء أو الأشخاص والمعطيات يمكن أن يكون لها حدان، حد ظاهر مزيف يمكن أن نعبر عنه ب-(أ) وواقع حقيقي هو (ب) فكيف نستطيع أن نميز أو نفصل بين هذين الحدين في المعطى أو المفهوم الواحد ؟.

يرى برلمان وزميله تيتكا: أن الحد (أ) الذي يوافق الظاهر هو ما يخطر بالذهن ويدركه الفكر منذ الوهلة الأولى فهو المعطى الراهن المباشر، في حين أن الحد (ب) لما كان تمييزه لا يكون إلاَّ في علاقته بالحد (أ) ومقارنةً به، فإنه لا يمكن أن يكون إلاَّ نتيجة فصل نحدثه داخل الحد (أ) نفسه، سعيا منا إلى القضاء على ما يمكن إن نلمحه في مظاهر الحد (أ) هذا من تناقضات بينهما توقظ فكرنا من غفلته عنها وانخداعه بها، ويزودنا الحد (ب) في هذه العملية بالمقياس أو القاعدة التي تتيح لنا أن نميز داخل مظاهر الحد (أ) بين ما له من قيمة، وما ليس له قيمة، فنقول عن المظاهر غير المطابقة للحد (ب) الذي يزودنا به الواقع، التاريخ، الثقافة، العلم..... بتعبير عبد الله صولة ، إنها زائفة وخاطئة وظاهرية،

ص: 85


1- ينظر: الحجاج في القران الكريم من خلال أهم خصائصه الأسلوبية: 32

فالحد (ب) هو في علاقته بالحد (أ) يمثل القاعدة و المفسر معا وعلى هذا فالزوج ظاهر / واقع ليس معطى موجودا في الطبيعة وإنما هو بناء ذهني قائم على المقاربة بين الظاهري والحقيقي من الأشياء وعلى محاكمة الظاهر في ضوء الحقيقة والواقع(1) ، ولتوضيح الأمر أكثر نورد المثال التالي: حينما نقول [ أحمق لا يحسن التصرف] ليس هذا الإنسان بعاقل، فهذا الإنسان له حدَّان، حد ظاهر معروف بالحمق، أما حدّه الحقيقي فهو كونه إنسان عاقل، وهي خاصية قارة في مطلق الإنسان، وهنا يقع الفصل بين ظاهر الإنسان المعروف به في المجتمع، حيث يوصف بعدم العقل، وبين حقيقة الإنسان المشهور بها في عرف البشر وهي العقل، وهذا الفصل هو الذي يدفع باتجاه توليد قيمة اقناعية(2) وقد تسمح تقنيات وأساليب لغوية ونحوية في حمل السامع والقارئ على تصور جانبين اثنين للشيء الواحد أو المفهوم الواحد احدهما ظاهري يمكن تحديده بواسطة الحواس للوهلة الأولى، والأخر حقيقي أو جوهري ومن هذه الأساليب الاعتراض كقوله تعالى «وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»(3) ، يقول الدكتور عبد الله صولة معلقا على هذه الآية: « حيث تبدو جملة (والله اعلم بما ينزّل) فصلا بين ظاهر ما يدعون وحقيقة ما عليه الأمر في عالم الغيب «(4) ، كذلك تبدو هذه التقنية في أسلوب القصر، فحينما نقول: (ما زيد إلاَّ وجيه، ففيها فصل بين الظاهر الذي يدّعيه المخاطب لزيد كأن يقول عنه بأنه عالم، أو يبدو له بأنه مفكر وليس وجيها، فيبطل المتكلم ادعاءه هذا بقوله: ما زيد إلاَّ وجيه، محدثا بكلامه هذا فصلا بين ما يبدو عليه زيد في اعتقاد المخاطب وحقيقته التي ألحَّ عليها بأسلوب القصر، وهي القيم الحجاجية

ص: 86


1- ينظر: الحجاج أطره ومنطلقاته: 344
2- ينظر: كتابة الجاحظ في ضوء نظريات الحجاج: 102
3- سورة النحل، الآية: 101
4- البلاغة العربية في ضوء البلاغة الجديدة أو الحجاج: 26

المتولدة من هذا الفصل(1)، كذلك ورود الأفعال غير اليقينية مثل ( زعم، يظن، يخال،يشك )، وعبارات مثل ( هو شبه كذا ) و ( إن هذا الفارس إن صح انه فارس )، أو ما وضع بين قوسين مثل ( لقد كنت يومها «بطلا » )، وأكثر ما يستخدم ذلك في الحدود والتعريفات(2) ، فقد يلجأ صاحب التعريف إلى الاشتقاق العلمي أو العرفي فيدعم به تعريفه، كأن يقال في مقام الاعتذار « لقد نسيت أن أرد على رسالتك وما أنا إلاَّ إنسان وما سميّ الإنسان إلاَّ لنسيه، أو أن يقال في مهاجمة شخص: إنَّه ذو أهواء يعتمد قلبه والقلب من التقلب «(3) . لذا ينبغي على المتكلم أو المحاجج أو صاحب الخطاب أن يكون واقعيا ودقيقا في مطابقة الكلام لمقتضى الواقع والمقام، إذ أن أنجع الكلام في الحجاج ما جاء على قدر المقام بحيث يتطابق موضوع الخطاب وأسلوبه فيتجنب حصول الفصل(4) لكي تمضي حججه صادقة مقنعة تأخذ دورها المؤثر في السامع والقارئ بعيدا عن المنغصات الحجاجية والإرباك في بنية الخطاب.

2- نظرية الحجاج عند ديكرو (الحجاج في اللغة)

أ-حدود النظرية:
اشارة

سمح التطور الذي شهده علم اللسانيات منذ بداية القرن العشرين، وانفتاحه على حقول معرفية متنوعة، منها حقل المنطق، بروز توجه جديد في المباحث الحجاجية، تأسس مع طروحات اللغوي الفرنسي اوزفالد ديكرو وزميله انسكومير سنة 1973 م، حيث وضعا نظريتهما اللسانية التي تهتم بالوسائل اللغوية، وبإمكانات اللغات الطبيعية

ص: 87


1- ينظر: كتابة الجاحظ في ضوء نظريات الحجاج: 103
2- ينظر: الحجاج في البلاغة المعاصرة: 132
3- ينظر: الحجاج أطره ومنطلقاته: 346
4- ينظر: نفسه: 347

التي يتوفر عليها المتكلم، وذلك بقصد توجيه خطابه وجهة ما تمكّنه من تحقيق بعض الأهداف الحجاجية، ومن هنا تعد نظرية الحجاج من منظورهما بحسب ما ذكره أبو بكر العزاوي هي « نظرية لسانية تهتم بالوسائل والإمكانات اللغوية التي تمدنا بها اللغات الطبيعية لتحقيق بعض الأهداف والغايات الحجاجية وهي تختلف بذلك عن النظريات الحجاجية الأخرى ذات التوجه المنطقي أو الفلسفي أو البلاغي»(1) فهي تنطلق من الفكرة الشائعة التي مؤداها « إننا نتكلم عامة بقصد التأثير »(2) .

اكتسبت نظرية الحجاج في اللغة فرادتها وتميزها من خلال تعارضها مع كثير من النظريات والتصورات الحجاجية التي سبقتها ابتداء من التوجهات التي تعد الحجاج منتميا إلى البلاغة الكلاسيكية (أرسطو) وما أفرزته الخطابة الجديدة على يد برلمان، ونظرية المساءلة لميشال مايير، أو ما كان منتميا إلى المنطق الطبيعي ( جان بليز غريز ) فما تطرحه هذه النظرية من تصورات يكمن في أن الحجاج ينبع او ينطلق من اللغة ذاتها، أي أن اللغة تحمل بصفة ذاتية وجوهرية وظيفة حجاجية تبرز عبر مؤشرات كامنة في بنية الأقوال نفسها وهذا ما يدل عليه عنوان كتاب ديكرو الذي اشترك في تأليفه مع كلود انسكومبر

(الحجاج في اللغة) LARGUMENTATION DANS LA .LANGUE

فقد ذهب ديكرو في نظريته الحجاجية إلى إن العملية الحجاجية تتلخص لغويا في أن يقدم المتكلم قولا أو مجموعة أقوال هي ( ق 1) يقود إلى قول أو مجموعة أقوال (ق 2) هو بمثابة النتيجة. وبعبارة أخرى أن الحجاج هو الإتيان بمجموعة من الحجج التي تدفع باتجاه تحديد مسار النتيجة، أو الإتيان بقول الغاية منه إفهام قول أخر، أي « حمل المستمع على فهم ما ليتسنى للمتكلم توجيه الخطاب وجهة معينة عن طريق بناء إطار

ص: 88


1- أبو بكر العزاوي، البنية الحجاجية للخطاب القرآني ، سورة الأعى نموذجا، مجلة المشكاة، وجدة، المغرب، عدد ( 19 )، 1998 م: 124
2- الحجاج في اللغة: 56

يفرضه على المستمع بتلفظه ذلك «(1) 3 ، إذ إن القيمة الحجاجية لأي ملفوظ « غير ناتجة فقط عن المعلومات التي يحتويها، بل قد تحتوي الجملة على مورفيمات وتعابير أو صيغ زيادة على محتواها الإخباري تفيد إعطاء توجه حجاجي للملفوظ، وحمل المتلقي إلى جهة أو أخرى «(2) وهذا ما عبر عنه الباحثان بفعل التوجيه وهو « الانزياح أو الانتقال أو الحركة من وضع أول معلوم إلى وضع ثان قد يكون معلوما (صريحا) أو غير معلوم (ضمني) وهي النتيجة التي يروم الباث إذعان المتقبل لها »(3) . فالمهمة التي يضطلع بها الحجاج في هذه النظرية هي مهمة التوجيه، انطلاقا من مبدأ إن اللغة هي حجاج محض والحجاج توجيه صرف(4) ويبرز ذلك على مستويين هما مستوى السامع وذلك « حين نتكلم إنما نروم في العادة التأثير في هذا السامع أو مواساته أو إقناعه أو جعله يأتي عملا ما أو إزعاجه أو إحراجه وغير ذلك «(5) أما المستوى الآخر فهو مستوى « الخطاب نفسه بأن يكون ق 1 مؤديا بالضرورة إلى ظهور ق 2 صراحة أو ضمنا، على إن التوجيه هو في الحقيقة توجيه للسامع والخطاب معا «(6) . من هنا يؤكد ديكرو وزميله انسكومير على أن اللغة وحدها هي الكفيلة بتحقيق العملية الحجاجية وتوجيه ركني العملية التخاطبية ( الخطاب /المتلقي ) الوجه التي يحددها ويفرضها المتكلم من دون

ص: 89


1- عمر بلخر، معالم لدراسة تداولية حجاجية للخطاب الصحافي الجزائري المكتوب ما بن 1989 ، 2000 ، اطر وحة دكتوراه، جامعة الجزائر، 2005 ، 2006 : 185
2- - Ducrot (1980)، lesechelles argumentatives، les editions de minuit، p. 19 نقلا عن: كهينة زموش، حجاج موسى عليه السلام في النص القرآني ، دراسة تداولية، (رسالة ماجستير)، جامعة مولود معمري تيزي وزو، الجزائر: 10
3- العوامل الحجاجية في اللغة العربية: 11
4- ينظر: نفسه: 13
5- الحجاج في القران الكريم من خلال أهم خصائصه الأسلوبية: 1/ 39
6- نفسه: 1/ 39

الركون إلى عوامل خارجية ( خارج اللغة ) من قبيل ظروف إنشاء الكلام. وبالجملة فإن محددات هذه النظرية هي محددات بنيوية تنغلق على النص ولا تتعامل مع خارجه، وهذا هو مفترق الطريق الذي تتقاطع فيه نظرية ديكرو مع التصور البرلماني الذي هو عبارة عن « نشاط ليست له أي علاقة ببنية اللغة، فهو يتعلق فقط بآثار الكلام ؛ لأنَّ الانتقال فيه من ملفوظ ما أو متوالية من الملفوظات إلى نتيجة معينة ، وهو جوهر النشاط الحجاجي ، تتحكم فيه اعتبارات خارج بنية اللغة، فالمعلومات الواردة في الملفوظ، إذا ارتبطت بسياق محدد، تفيد معنى معينا يصح استنتاجه من هذا الملفوظ. وهذا الاستنتاج حسب التصور البرلماني يتم بمقتضى قانون من قوانين الخطاب «(1) ، على إنَّ قوانين الخطاب هذه وان كانت تحكم اشتغال النسق اللغوي إلاَّ أنَّها لا تنتمي إلى هذا النسق فهي من طبيعة اجتماعية وثقافية أخرى، أي إنها توجد خارج بنية اللغة.

تضطلع نظرية الحجاج عند ديكرو بمهمة « انجاز لعمليتين هما التصريح بالحجة من جهة وعمل الاستنتاج من جهة أخرى، سواء كانت النتيجة مصرح بها أم مضمنة «(2) وفي كلتا الحالتين التصريح بالنتيجة أو إخفاؤها من قبل المتكلم يستلزم على المتلقي استنتاجها من بنيتها اللغوية، شريطة أن يتم التوصل إلى هذه النتيجة الضمنية سهلا يسيرا، كما في المثال التالي:

هل صمت شهر رمضان ؟

-أنا مريض

-حيث يكون الجواب ب( أنا مريض ) دليلا موصلا إلى الجواب الضمني ب-(لا) والتدليل على عمل الحجاج في اللغة ينبغي بداية تمييزه من خلال مقارنته بمفهوم

ص: 90


1- رشید الرضی، الحجاجیات اللسانیة عند انسكومیر و دیكرو: 225
2- الحجاج في اللغة: 63

البرهنة أو الاستدلال المنطقي،فالخطاب الطبيعي ليس خطابا برهانيا بالمعنى الدقيق للكلمة، فهو لا يقدم براهين وأدلة واستنتاجات منطقية، فلفظة الحجاج لا تعني البرهنة على صدق إثبات قضية ما أو إظهار الطابع الصحيح لاستدلال ما من وجهة نظر منطقية، كذلك أن الأقوال التي تشكل استدلالاً تكون مستقلة بعضها عن بعض الأخر بحيث يعبر كل واحد منها عن قضية معينة أو وصف حالة ما أو بيان وضع من أوضاع العالم سواء كان وضعا واقعيا أو متخيلا لنرى ان التسلسل في هذه الأقوال ليس مؤسسا على الأقوال نفسها ولكنه مؤسس على القضايا المتضمنة فيها، في حين أن الحجاج في اللغة مؤسس على بنية الأقوال اللغوية وعلى تسلسلها واشتغالها داخل الخطاب(1) . لذا عمل ديكرو على تخليص الحجاج من صرامة الاستدلالات البرهانية والحتمية والضرورية ليجعله فضاءً رحباً يضم كافة الحجج التي تشملها اللغة، فضاء لا يحتاج فيه المتكلم إلى حرفة تامة بالمنطق وضروبه لكي يكون محاججا، ولعل هذا ما جعل الحجاج عند ديكرو يتميز عن غيره من التصورات الأخرى بكونه نسبيا ومرنا وتدريجيا، يعطي لمفهوم الحجة دلالة واسعة تتجاوز النظر إليها باعتبارها مجرد أقوال إلى وضعها في إطار ترد فيه على شكل « قول أو فقرة أو نص أو قد تكون مشهدا طبيعيا أو سلوكا غير لفظي إلى غير ذلك «(2) ويمكن التمثيل لكل من البرهنة والحجاج بالمثالين التاليين(3) .

1- كل اللغويين علماء

زيد لغوي

ص: 91


1- ينظر: الحجاج في اللغة: 58 ، وحجاجية الصورة في الخطابة السياسية لدى الإمام علي (عليه السلام): 138
2- اللغة والحجاج: 23
3- ينظر: نفسه: 56

إذن زيد عالم

2- انخفض ميزان الحرارة

إذن سينزل المطر

فالمثال الأول قائم على البرهنة أو القياس المنطقي، أما المثال الثاني فهو لا يعدو أن يكون حجاجا أو استدلالا طبيعيا غير برهاني فالاستنتاج في المثال الأول حتمي وضروري لأسباب منطقية أما الاستنتاج في المثال الثاني فهو احتمالي، أي احتمال ( نزول المطر) إذن فهو استنتاج نابع من معرفة العالم، وقائم على معنى الشطر الأول من الجملة.

من هنا نستنج نحن أيضا إن ديكرو وهو ينظر إلى الأقوال والنصوص والخطابات لا يهدف إلى إخبار المتلقي بقصد تقديم المعلومات ؛ بل يسعى إلى إبراز الغاية الأساسية والمهمة في العملية التخاطبية وهي التأثير في المتلقي ودفعه إلى اتخاذ موقف ما من القضية موضوع النص، فالإقناع والتأثير بحسب التصور الجديد ينبع من اللغة باعتبارها أس بناء العملية الحجاجية. وهذا الفهم لطبيعة اللغة عند ديكرو لم يأت من فراغ إذ إن اتكاءه ، وهو يؤسس لنظريته الحجاجية ، على نظرية الأفعال اللغوية التي وضع أسسها أوستن و سورل دفعه إلى إعادة النظر في بعض مبادئ هذه النظرية وتحديد نقاط التقصير فيها من قبيل عدم كفاية التصنيفات المقترحة للأفعال اللغوية على سبيل المثال، وانطلاقا من المبدأ الذي اعتمده ديكرو في تعامله مع الحجاج والذي يتأسس على وجود مقاصد عديدة من وراء الحجاج منها الرغبة في التأثير والتوجيه والإقناع بحيث تترجم االقوال إلى أفعال حسب نظرية الافعال الكلامية فقد اقترح توسيع هذه التصنيفات بإضافة فعل لغوي هو فعل الحجاج عرفه ديكرو بأنَّه « فعل لغوي موجه إلى إحداث تحويلات ذات طبيعة قانونية، أي مجموعة من الحقوق والواجبات، ويفرض فعل الحجاج على المخاطب نمطا من النتائج باعتبارها الاتجاه الوحيد الذي يمكن أن يسير فيه الحوار، أما القيمة الحجاجية لقول ما، فهي نوع من الإلزام يتعلق بالطريقة التي ينبغي أن يسلكها الخطاب

ص: 92

بخصوص تناميه واستمراره «(1) .

ب- التداولية المدمجة:

كما تميزت أبحاث ديكرو أيضا من خلال رفضه التصور القائم على الفصل بين الدلالة والتداولية، فقد شكل التقاء الدلاليات والتداوليات مجالا لأبحاثه في اللغة ف-» مجال البحث عنده هو الجزء التداولي المدمج في الدلالة، ويكون موضوع البحث هو بيان الدلالة التداولية ( لا الخبرية الوصفية ) المسجلة في أبنية اللغة وتوضيح شروط استعمالها الممكن »(2) لذا تنضوي نظرية ديكرو تحت ما يسمى في اللسانيات الحديثة ب-(التداولية المدمجة ) التي « تبحث في القوانين التي تحكم الخطاب داخليا لاكتشاف منطق اللغة «(3) ليس من خلال البحث عن مطابقتها اصطناعيا مع قواعد المنطق الرمزية ؛ بل من خلال تفكيك المنطق الداخلي الذي يحكم اللغة الطبيعية، أي الطابع الاستدلالي لعناصرها، وبعبارة أخرى هو إعادة ربط البلاغة بالمنطق. وهو بهذا العمل قد أعاد الاعتبار لوظيفة أساسية من وظائف اللغة الطبيعية هي الوظيفة الحجاجية، والدور الذي تلعبه الأدوات اللغوية وفعاليتها الاجتماعية، إذ يذهب الأستاذ جان ميشال ادم إلى اعتبار الوظيفة الحجاجية وظيفة سابعة من وظائف اللغة إضافة إلى الوظائف الست التي اقترحها رومان جاكوبسن(4) بل الأكثر من ذلك أن التداولية المدمجة تعتبر أن

ص: 93


1- p. Ducrot، dire et ،1972،Nepasdire، hermann، paris نقلا عن: الحجاج في اللغة: 62
2- نظرية الحجاجية في اللغة، ضمن كتاب ( أهم نظريات الحجاج ): 351
3- نظرية الحجاج في اللغة، ضمن كتاب ( أهم نظريات الحجاج ): 353
4- ينظر: جان سرفوني، الملفوظية، ترجمة: قاسم المقداد، 113 ، 114 ومحمود طلحة، تداولية الخطاب السردي: 103

القيمة الإخبارية للملفوظ قيمة ثانوية بالنظر إلى قيمة الملفوظ الحجاجية (1) . كما تأخذ التداولية المدمجة على عاتقها مهمة تحليل الخطاب نحويا ودلاليا وحجاجيا، فهي تعنى أولا: بالنظام النحوي القائم في الخطاب لتحديد نحويته والعلاقات القائمة بين مكوناته اللفظية والتركيبية، وتعنى ثانيا: بالدلالة المستمدة من العلاقة بين العلامات ومراجعها والحكم على الجملة بالصدق أو الكذب وذلك بملاحظة استيفائها لشروط الصدق أو عدمه وتعنى ثالثا: باستعمال الجمل في التخاطب للبحث في مدى مناسبتها للمقام او خروجها عن الموضوع الذي يسعى المتكلم إلى إحداثه في المتلقي(2) . وبعبارة أخرى إن التداولية المدمجة تعتمد في سعيها إلى تحليل الخطاب على ركنين أساسين، احدهما لغوي والأخر بلاغي، فالمستوى اللساني يضطلع بمهمة تحديد الدلالة اعتمادا على ما توفره الوحدات اللغوية التركيبية من أدوات ربط وحذف وتأكيد وعطف...... الخ، في حين يقوم المكون البلاغي، بمهمة تحليل علاقة الدلالة بالمقام واعتبارات التخاطب وآثار السياقات خارج النصية في كل ذلك قصد تحديد المعنى(3) ويبرز مفهوم التداولية المدمجة من خلال ما قدمه ديكرو في كتابه ( الحجاج في اللغة ) من تعريف لهذا المفهوم والذي اشرنا اليه آنفا وهو: يقوم متكلم ما بفعل الحجاج عندما يقدم قولا (ق 1) أو مجموعة أقوال يفضي إلى التسليم بقول أخر (ق 2) أو مجموعة أقوال أخرى. فالقول (ق 1) هو الحجة التي يصرح بها المتكلم، أما (ق 2) فهي التي يستنتجها المستمع، وهذه النتيجة تكون إما مصرح بها أو ضمنية. ولإيضاح هذا الأمر نورد المثال التالي:

أنا جد متأخر، لكنني مع ذلك سأشرب معكم كأسا من الشاي .

فالمتكلم في هذا الحال يورد حجة ( أنا جد متأخر ) التي يفترض أنها تفرز النتيجة

ص: 94


1- ينظر: التداولية والحجاج: 23
2- ينظر: نظرية الحجاج في اللغة: 353
3- ينظر: حافظ إسماعيل علوي، التداوليات: 23 ، الحجاج في البلاغة المعاصرة: 193

المضمرة ( سأنصرف فورا ) ولكنه يوهنها حجاجيا اعتمادا على الرابط الحجاجي ( لكن) متبوعا بالنتيجة (سأشرب معكم كأسا من الشاي) إن هذا الوصف يراعي معطيات السياق التداولي وخاصة الإستراتيجية التلفظية للمتكلم « مقاصده المضمرة «(1) . ومما تقدم يمكن إجمال أهم المفاهيم الأساسية والأفكار الواردة في التداوليات المدمجة من خلال الصياغة التي قدمها محمد طروس(2) :

1. إن كثيرا من الأفعال القولية لها وظيفة حجاجية تتمظهر في بنية الجمل، وتحمل الجمل مؤشرات تحدد قيمتها التداولية داخل البنية التركيبية.

2. استقلال المقول عن المحتوى الخبري ومن ثم عدم الحكم علية بالصدق أو بالكذب لأنه لا تنطبق عليه شروط الصدق ومنه أصبح الحكم عليه يستند إلى القوة والضعف التي تحكم علاقة الحجج ببعضها البعض.

3. يندمج التداول في الوصف الدلالي ويشتغل مباشرة على البنية التركيبية فيسمى بالتداوليات المدمجة، والوصف الدلالي آلة لها نفس كفاءة الذوات المتكلمة تربط المعنى بالقول وتصور لنا الحدث اللساني باعتباره امتدادا للذاتية غير أن نظرية التداولية المدمجة ارتبطت بالسلالم الحجاجية والروابط والعوامل الحجاجية.

وخلاصة القول أن التوليفة التي سعى ديكرو إلى تطبيقها عبر دمج الظواهر التداولية في الدراسة الدلالية اللسانية أي مشروع ) التداولية المدمجة ( هو بديل للمعالجة الدلالية التقليدية وتأكيد قاطع على انتماء الحجاج إلى اللغة.

ج- السلّم الحجاجي:
اشارة

تقدم نظرية ديكرو وزميله انسكومير تصورا لاشتغال المحاججة انطلاقا من مبدأ

ص: 95


1- ينظر: الحجاجيات اللسانية عند ديكرو و انسكومير: 219
2- ينظر: محمد طروس، النظرية الحجاجية: 106 ، 107

التلازم الحاصل بين الحجة والنتيجة، وهذا التلازم ينطوي على تعدد للحجج (اللازم) في مقابل النتيجة الواحدة (الملزوم) مع ملاحظة درجة التفاوت في قوة تلك الحجج وخدمتها للنتيجة، إذ إن تجلي هذه العلاقة بين الدعوى والحجة في علاقة شبه منطقية إلى حد ما يقتضي تدافع الحجج وترتيبها حسب قوتها، وهذا الأمر يقع في صلب فعل الحجاج(1) ، فينشأ عن ذلك التفاوت وهذه التراتبية في الحجج سلم حجاجي ينطلق من اضعف حجة حتى يصل إلى أقواها، ومن هنا جاءت تسميته ب-( السلم الحجاجي ) فهو علاقة تراتبية للحجج على أساس القوة أو هو » مجموعة غير فارغة من الأقوال مزودة بعلاقة ترتيبية وموفية بالشرطين التاليين:

كل قول يقع في مرتبة ما من السلم يلزم عنه ما يقع تحته، بحيث أن القول الموجود في الطرف الأعلى يلزم جميع الأقوال التي دونه.

1. كل قول كان في السلم دليلا على مدلول معين كان ما يعلوه مرتبة دليلا أقوى عليه والعكس غير صحيح « (2) .

ومن ابسط تمثيلات هذا السلم هو ما يكتب عن الإنسان عند عرض سيرته الذاتية من التراتبيات في حياته ومنها نمّوه المعرفي وأعماله. وقد اخذ السلّم الحجاجي الرسم التوضيحي التالي(3) :

إذ إن الحجج ( ب، ج، د ) تخدم النتيجة ( ن) ن ( النتيجة)

ولتوضيح آلية العمل في السلم الحجاجي د

نورد المثال التالي: ج

ص: 96


1- ينظر: إستراتيجية الخطاب: 499
2- اللسان والميزان أو التكوثر العقلي: 277 ، 278
3- حسين بو بلوطة، الحجاج في الامتاع والمؤانسة: 73

علي يمتاز بالكفاءة العلمية، فقد حصل على ب

شهادة البكالوريوس والماجستير وحتى الدكتوراه.

إن هذه الجمل تتضمن إيراد حجج متتالية تنتمي إلى قسم حجاجي واحد أي كلها تؤدي إلى دعم نتيجة واحدة هي ( الكفاءة العلمية لعلي ) ؛ ولكن الفرق هو في إيراد الحجج من حيث قوتها في دعم النتيجة (ن) فهي متفاوتة، ولإعادة ترتيب هذه الحجج ضمن السلم الحجاجي الواحد يقتضي أن يوضع القول الأخير في ( حصول علي على الدكتوراه ) في اعلى السلم الحجاجي فهو أقوى الأدلة على كفاءة علي العلمية ثم ترد الحجج الأخرى بعد ذلك بحسب قوتها، وهذا ما يبينه المخطط التالي(1) :

ن(الكفاءة العلمية)

د (الدكتوراه)

ج (الماجستير)

د (البكالوريوس)

أما بالنسبة للنتيجة، فقد يصرح بها وقد تبقى ضمنية من قبيل قولنا في المثال التالي(2) :

(زيد لا يقرض أحدا، ولا يتصدق، ولو طلبته ذنبا من ذنوبه فلن يعطيك إياه )

ن (بخل زيد)

لا يعطيك ذنبا من ذنوبه

لا يتصدق لا يقرض أحدا

ص: 97


1- ينظر: اللغة و الحجاج: 21
2- إستراتيجية الخطاب: 501

فهذه الحجج التي سقناها تؤدي إلى فائدة نتيجة مضمرة هي ( بخل زيد ) فهي نتيجة لم يقع التصريح بها، ولكن يمكن استنتاجها من خلال إيراد الحجج التي تدعمها، فهي تقع ضمن فائدة أو قسم واحد. ومن هنا تبرز أهمية السلم الحجاجي من حيث تركيزه على مبدأ التدرج والترتيب في توجيه الحجج بحسب درجة قوتها التأثيرية، فان المحاجة اللغوية لا ترتبط بالمحتوى وإحالة هذا المحتوى على مرجع محدد ؛ بل هي رهينة القوة والضعف الذي ينفي عنها الخضوع لمنطق الصدق والكذب (1) . كما يخضع السلم الحجاجي إلى ثلاثة قوانين تحكم عمله هي، قانون تبديل السلم (النفي)، وقانون القلب، وقانون الخفض، وبيانها كالاتي:

1- قانون تبديل السلم ( النفي): ومقتضى هذا القانون انه إذا كان الملفوظ دليلا على مدلول، فإن نقيض هذا المدلول دليل على نقيض مدلوله 2)، وبعبارة أخرى إن نفي حجة الرأي الأول هي حجة للرأي المخالف، فهو قانون قائم على النفي، أي إذا كان قول ( أ ) مستخدم من قبل متكلم ليخدم نتيجة معينة، فإن نفيه أي (- أ) يكون حجة لصالح النتيجة المضادة لها، وللتمثيل على ذلك نقول:

1. زيد مجتهد، لقد نجح في الامتحانات

2. زيد ليس مجتهدا، انه لم ينجح في الامتحانات

3. فإذا تم قبول الحجاج الوارد في المثال رقم (1) وجب القبول كذلك بالحجاج الوارد في المثال رقم (2) .

2- قانون القلب: يرتبط هذا القانون بالنفي أيضا، ومقتضى هذا القانون انه إذا كان احد الملفوظين أقوى من الأخر في التدليل على مدلول معين، فإن نقيض الثاني أقوى من

ص: 98


1- ينظر: نظرية الحجاج في اللغة، ضمن كتاب ( أهم نظريات الحجاج): 370
2- ينظر: اللسان والميزان أو التكوثر العقلي: 278

نقيض الأول في التدليل على المدلول (1) ، وبعبارة أخرى إذا كانت إحدى الحجتين أقوى من الأخرى في التدليل على نتيجة معينة، فإن نقيض الحجة الثانية أقوى من نقيض الحجة الأولى في التدليل على النتيجة المضادة. وهذا ما يوضحه المثال التالي:

كان أبو عبد الرحمن نبيل الأخلاق، فهو:

- طيب مع والديه

- طيب مع أخوته

- طيب مع أصهاره

- طيب مع جيرانه

- طيب مع أصدقائه

- طيب مع زملائه

- طيب مع خصومه

فطيب ته مع جيرانه أقوى دلالة على نبل أخلاقه من طيبته مع أخوته، ولذلك فنفي طيبته مع أخوته هي دليل أقوى على عدم طيبته من نقيض طيبته مع جيرانه (2) ، وهكذا في بقية الحجج التي يسوقها المثال.

3- قانون الخفض: ومفاده « إذا صدق القول في مراتب معينة من السلم فان نقيضه يصدق في المراتب التي تقع تحتها «(3) وهو ناتج عن طريق النفي اللغوي، ولإيضاح ذلك

ص: 99


1- ينظر: اللسان والميزان: 178
2- ينظر: إستراتيجية الخطاب: 504
3- طه عبد الرحمن، أصول الحوار وتجديد علم الكلام: 105

نورد من قبيل(1) :

الجو ليس باردا

1. لم يحضر كثير من الأصدقاء إلى الحفل

2. فنحن نستبعد التأويلات التي ترى أن البرد قارس وشديد في ( المثال الأول ) أو إن الأصدقاء كلهم حضروا إلى الحفل ( المثال الثاني ) وسيؤول القول الأول على النحو التالي:

إذا لم يكن الجو باردا، فهو دافئ أو حار.

و سيؤول القول الثاني على النحو التالي:

- لم يحضر إلا القليل منهم إلى الحفل.

وتتجلى صعوبة صياغة هذه الوقائع في أنَّ الخفض الذي ينتج عن النفي لا يتموقع في السلم الحجاجي، أو في سلّمية تدريجية موضوعية يمكن تعريفها بواسطة معايير فيزيائية، فلا تندرج الأقوال الاثباتية من نمط ( الجو بارد ) و الأقوال المنفية من نمط ( الجو ليس باردا ) في الفئة الحجاجية نفسها و لا في السلم الحجاجي نفسه(2) .

د - الروابط والعوامل الحجاجية:

ارتبط مفهوم الروابط والعوامل في الدراسات السابقة بالمباحث والدراسات النحوية والدلالية دون النظر إلى وظيفتها الحجاجية والتداولية، إذ اعتبر بعض الدارسين « إن دورها لا يتجاوز الربط بين الجمل والقضايا، اما بعدها الحجاجي والتداولي فقد برز مع ديكرو في إطار صياغته للتداولية المدمجة وهي النظرية التداولية التي تشكل جزءاً من

ص: 100


1- ينظر: الحجاج في اللغة: 62
2- ينظر: نفسه: 62

النظرية الدلالية «(1) ، إذ لم يغفل ديكرو وزميله في أثناء صياغتهما ل-(النظرية الحجاجية في اللغة)، هذا الجانب المهم الذي يتمركز في أبنية اللغة باعتبارها ظاهرة لغوية مهمة جدا تتدخل بطريقة مباشرة في توجيه الحجاج من خلال إحداث الانسجام داخل الخطاب والدفع باتجاه تحقيق البعد الإقناعي عبر استمالة المتلقي وتوجيهه نحو الغاية التي يريدها المتكلم، أي أنها عناصر لغوية تلعب دورا أساسيا في اتساق النص وانسجامه وربط أجزائه شكلا ومضمونا من اجل تحقيق الوظيفة التوجيهية الحجاجية للملفوظات.

وبحسب تصور ديكرو فقد أشار شكري المبخوت إلى تنوع أشكال الربط الحجاجي، بقوله: إذا كانت الوجهة الحجاجية محددة بالبنية اللغوية، فإنها تبرز في مكونات ومستويات مختلفة من هذه البنية، فبعض هذه المكونات يتعلق بمجموع الجملة، أي هو عامل حجاجي في عبارة ديكرو، فيقيدها بعد أن يتم الإسناد فيها، ومن هذا النوع نجد النفي والاستثناء المفرّغ والشرط والجزاء وما إلى ذلك مما يغيّ قوة الجملة دون محتواها الخبري، ونجد مكونات أخرى ذات خصائص معجمية محددة تؤثر في التعليق النحوي وتتوزع في مواضع متنوعة من الجملة، ومن هذه الوحدات المعجمية حروف الاستئناف بمختلف معانيها، والأسوار ( بعض، كل، جميع )، وما اتصل بوظائف نحوية مخصوصة كحروف التقليل، أو ما تمخضّ لوظيفة من الوظائف مثل ( قط ) أو (أبدا)(2) ، ومن هنا ميّز أبو بكر العزاوي بين الروابط الحجاجية والعوامل الحجاجية « فالروابط الحجاجية تربط بين قولين أو بين حجتين على الأصح ( أو أكثر ) وتسند لكل قول دورا محددا داخل الإستراتجية الحجاجية العامة »(3) . كما فصل العزاوي القول في طبيعة هذه الروابط

ص: 101


1- معالم لدراسة تداولية حجاجية للخطاب الصحافي: 191
2- ينظر: نظرية الحجاج في اللغة، ضمن كتاب ( أهم نظريات الحجاج ): 377
3- الحجاج في اللغة: 14

وصنفها إلى أنماط هي(1) :

- الروابط المدرجة للحجج (حتى، بل، لكن، مع ذلك، لأن..... ).

- الروابط المدرجة للنتائج ( إذن، لهذا، بالتالي..... ).

- الروابط التي تدرج حججا قوية ( حتى، بل، لكن، لا سيما..... ).

- روابط التعارض الحجاجي ( بل، لكن، مع ذلك...... ).

- روابط التساوق الحجاجي ( حتى، لاسيما ).

أما العوامل الحجاجية « فهي لا تربط بين متغيرات حجاجية، أي بين حجة ونتيجة أو بين مجموعة حجج ؛ ولكنها تقوم بحصر وتقييد الإمكانات الحجاجية التي تكون لقول ما، وتضم مقولة العوامل أدوات من قبيل: ربما، تقريبا، كاد، قليلا، كثيرا، ما... الا، وجل أدوات القصر «(2) ولا يضاح ما سبق يطرح المبخوت المثال التالي لبيان الوظيفة الحجاجية للرابط، إذ يقول:

1. لن نفتقر فثمن التذكرة ثلاثون دينارا

2. سنفتقر فثمن التذكرة ثلاثون دينارا

وإذا ما أدخلنا وسائل الربط الحجاجي إلى هذين المثالين فإننا سنجد:

1. لن نفتقر فما ثمن التذكرة إلا ثلاثون دينارا.

2. سنفتقر فما ثمن التذكرة إلا ثلاثون دينارا.

نلاحظ أن الربط في المثال التالي رقم (4) غير سائغ، في حين أن الربط في المثال رقم (3) حسن جميل وذلك راجع إلى دخول الحصر على الجملة ووجهها وجهة ايجابية، أي وجهة تدعم النتيجة ( لن نفتقر )، وهذه الوجهة الايجابية موجودة في بنية ( ما....

ص: 102


1- ينظر: نفسه: 65
2- الحجاج في اللغة: 63

إلا)(1) . أما العامل الحجاجي فللتدليل عليه نورد المثال التالي(2) :

- الساعة تشير إلى الثامنة.

- لا تشير الساعة إلا إلى الثامنة.

فعند إدخال أداة القصر ( لا..... إلا ) على المثال الأول لم ينتج عن ذلك أي اختلاف بين القولين بخصوص القيمة الإخبارية أو المحتوى الإعلامي، ولكن الذي تأثر بهذا التعديل هو القيمة الحجاجية للقول أي الإمكانات الحجاجية التي يتيحها. ولو أخذنا المثال التالي:

- الساعة تشير إلى الثامنة، أسرع.

- لا تشير الساعة إلا إلى الثامنة، أسرع.

نلاحظ أن القول الأول سليم ومقبول تماما، أما القول الثاني فيبدو غريبا ويتطلب سياقا خاصا أكثر تعقيدا حتى يمكن تأويله، أي يتطلب مسارا تأويليا مختلفا. ولو نظرنا إلى القول ( الساعة تشير إلى الثامنة ) فسنجد أن له إمكانات حجاجية كثيرة فقد يخدم هذا القول نتائج من قبيل: الدعوة إلى الإسراع، التأخر والاستبطاء، هناك متسع من الوقت، موعد الإخبار....... أي انه يخدم نتيجة من قبيل ( أسرع ) كما يخدم النتيجة المضادة لها ( لا تسرع )، ولكن عندما أدخلنا عليه العامل الحجاجي ( لا..... إلا ) فإمكاناته الحجاجية تقلصت، وأصبح الاستنتاج العادي والممكن هو:

- لا تشير الساعة إلا إلى الثامنة، لا داعي للإسراع.

ص: 103


1- ينظر: نظرية الحجاج في اللغة ضمن كتاب ( أهم نظريات الحجاج): 316
2- ينظر: الحجاج في اللغة: 64

ص: 104

الفصل الثاني: آليات الحجاج اللغوية في رسائل الامام علي علیه السلام

اشارة

ص: 105

ص: 106

المبحث الاول: الروابط الحجاجية

اشارة

تحدثنا فيما سبق ، الحجاج في اللغة عند ديكرو، عن العناصر والمؤشرات اللغوية الفعالة في توجيه وتقوية الحجج الكامنة في بنية الأقوال اللغوية ورأينا كيف تسهم هذه الروابط اللغوية في انسجام الخطاب وتماسكه من خلال ربطها بين القيمة الحجاجية لقول ما وبين النتيجة أي الربط بين قضيتين وترتيب أجزاء القول ومنحها القوة المطلوبة بوصف هذه القضايا حججا في الخطاب. ويمكن التمثيل لهذه الروابط بالأدوات (لكن، بل، حتى، لأن، لام التعليل، كي، الواو، الفاء، ثم 000 ) وقد ساهمت هذه الروابط مساهمة فعالة في تأطير الحجاج في رسائل الإمام علي(عليه السلام) بالخاصية الحجاجية اللغوية، فقد توفرت هذه الرسائل على مجموعة كبيرة من الروابط التي تميزت بدلالتها وأثرها الواضح في إبراز القيمة الحجاجية لقول ما، وتوجيه دلالة المحاججة 0 لذلك سوف نعمد إلى إعطاء صورة مركزة ووافية لأهم الروابط الحجاجية التي يتواتر ورودها في الرسائل والتمثيل لها بنماذج على وفق مبدأ الإفادة / الوجاهة، معتمدين في تصنيف هذه الروابط على التصنيف التالي:

- روابط التعارض الحجاجي.

- روابط التساوق الحجاجي.

ص: 107

- روابط التعليل الحجاجي.

- روابط العطف الحجاجي.

1- روابط التعارض الحجاجي:

أ- الرابط الحجاجي ( لكن)
اشارة

وهي من الأدوات التي حددها النحويون العرب لنفي كلام واثبات غيره وهو « حرف استدراك، ومعنى الاستدراك أن تنسب حكما لإسمها يخالف المحكوم عليه قبلها، كأنك لما أخبرت عن الأول بخبر خفت أن يتوهم من الثاني مثل ذلك فتداركت بخبره إن سلبا وإن إيجابا..... وتقع

لكن إلا بين متنافيين بوجه ما «(1) . كما فصّل الزمخشري ذلك في بيان أن (لكن) تتوسط بين كلامين متقاربين نفيا وإيجابا فيستدرك النفي بالإيجاب، والإيجاب بالنفي نحو: ما جاءني زيد لكنَّ عمراً جاءني او جاءني زيد لكنَّ عمراً لم يجئ(2) . ومن هذا المنطلق فأن هذه الأداة تقيم علاقة ربط بين قولين متناقضين أو متنافيين هو من الناحية الحجاجية ربط حجاجي تداولي بين المعطى والنتيجة. ويشير الوصف الحجاجي الذي يقدمه أصحاب النظرية الحجاجية للأداة ( لكن) إلى: أن التلفظ بأقوال من نمط ( أ لكن ب) يستلزم أمرين اثنين:

1. إن المتكلم يقدم (أ) و (ب) باعتبارهما حجتين، الحجة الأولى موجهة نحو نتيجة معينة (ن)، والحجة الثانية موجهة نحو النتيجة المضادة لها أي ( لا ، ن) 0

ص: 108


1- الحسن بن قاسم المرادي، الجنى الداني في حروف المعاني، تح: د فخر الدين قباوة، الأستاذ محمد نديم فاضل: 591
2- ينظر: الزمخشري، المفصل في علم العربية: 300

2. إن المتكلم يقدم الحجة الثانية باعتبارها الحجة الأقوى وباعتبارها توجه القول أو الخطاب برمته(1) .

من هذا الوصف نجد أن وظيفة ( لكن ) ومثلها ( بل) الحجاجيتين تعمل على قلب الفرضية بين ما يتقدم الرابط وما يتبعه، فما يسبق الرابط (لكن) يتضمن حجة (أ)، ( ظاهرة ) تخدم نتيجة (ضمنية) متوقعة (ن)، وما بعد الرابط يتضمن حجة (ب)، (ظاهرة) تخدم نتيجة (ضمنية) مضادة ( لا- ن) للنتيجة السابقة (ن)، وهنا يكون دور الرابط الحجاجي (لكن) في الربط بين القضيتين المتنافيتين من جانب، ومنح الحجة الثانية التي تأتي بعده بالقوة اللازمة التي تجعلها بدون شك أقوى من الحجة الأولى التي سبقت الرابط ونتيجة لذلك فقد عمل الرابط على توجيه القول بمجمله نحو النتيجة المضادة (لا- ن) 0

كما ميَّز ديكرو بين الاستعمال الحجاجي والاستعمال الابطالي للأداة (لكن)(2) ، إذ لابد من الإشارة إلى أن هذه الأداة بنوعيها المخففة والمثقلة، الحجاجية منها والابطالية تعبر دائما عن معنى التعارض والتنافي بين ما يسبقها وما يأتي بعدها، ولكن التسليم بوجود التعارض في الاستعمال الابطالي ل-(لكن) لا يعني انه تعارض حجاجي إذ إن هناك فرقاً بين (لكن) الحجاجية و(لكن) الابطالية فلو أخذنا مثلا من قبيل:

ليست السيارة سوداء ولكن بيضاء.

فإننا نجد فيه تعارضا ولكن ليس تعارضا حجاجيا ؛ بل هو تعارض إبطالي، ولكن لو أخذنا مثال أخر قوله (عليه السلام) إلى عثمان ابن حنيف الأنصاري وهو عامله على البصرة وقد بلغه انه دُعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها: « وَلَوْ شِئْتُ

ص: 109


1- ينظر: ابو بكر العزاوي، اللغة والحجاج: 58
2- ينظر: اللغة والحجاج: 57

لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ وَلُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَنَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَلَا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى «(1) . فسوف نلاحظ أن الرابط الحجاجي (لكن) قد عمل تعارضا حجاجيا بين ما تقدمه وما تأخر عنه، فالقسم الأول الذي سبق الرابط قد تضمن حجة تخدم نتيجة ضمنية من قبيل (الإمام قادر على الغنى وترف العيش) أو ( قدرة الإمام على التنعم بلذائذ الدنيا) أما القسم الثاني، الذي جاء بعد الرابط فقد تضمن حجة تخدم نتيجة مضادة للنتيجة السابقة(لا-ن) أي تخدم نتيجة من نمط (الإمام يؤثر الزهد ومواساة الفقراء ) وبما أن الغاية التي أراد الإمام إيضاحها تكمن في القسم الثاني من كلامه فان الحجة الثانية أقوى من الحجة الأولى فهي ستوجه القول برمته نحو تبني النتيجة الضمنية المضادة (لا-ن) 0 ويمكن توضيح هذا الأمر من خلال الترسيمة البيانية التالية:

وربما يعترض معترض بالقول أن الاستدراك في( لكن) يقتضي وقوعها بين متنافيين بوجه ما فلا يجوز وقوعها بين متوافقين فنقول إن قول الإمام واقع في سياق (لو) التي تدل على امتناع الشيء لامتناع غيره فدل على إن المشيئة ممتنعة في المعنى فلما قيل (ولكن هيهات أن يغلبني هواي.... ) علم إثبات ما فهم إثباته وهو سبب ( الزهد ومواساة الفقراء) الذي يقتضي نفي المشيئة فيصبح المعنى ( ولكنّي لم أشأ اهتداء الطريق إلى مصفّى

ص: 110


1- شرح نهج البلاغة: 16 / 140

العسل.....) وبذلك يكون ما قبل (لكن) منفي وما أحدثه الرابط إنما هو الاستدراك وهو رفع ما يتوهم ثبوته. ومثل ذلك قوله (عليه السلام) في اسلام معاوية وعمرو بن العاص: «فَوَ اَلَّذِی فَلَقَ اَلْحَبَّهَ وَ بَرَأَ اَلنَّسَمَهَ مَا أَسْلَمُوا وَ لَكِنِ اِسْتَسْلَمُوا وَ أَسَرُّوا اَلْكُفْرَ فَلَمَّا وَجَدُوا أَعْوَاناً عَلَیْهِ أَظْهَرُوهُ«(1)

وهنا لابد من التأكيد على ان الاستدراك ، وهو ما ذهب إليه عباس حسن، « إبعاد معنى فرعي يخطر على البال عند فهم المعنى الأصلي لكلام مسموع أو مكتوب»(2) ولذلك نجد أن الاستدراك لا يتقيد عند حدود النص بحيث يقوم بإبعاد معنى فرعي يخطر على البال عند فهم المعنى الأصلي الواقع قبل الرابط ؛ بل هو دفع ونفي لمعنى قائم في الواقع يعتقده المخاطب أو يتردد في

قبوله فيتم استدعائه واستحضاره من قبل صاحب الخطاب لكي يتم تفنيده والاعتراض عليه بواسطة الرابط ( لكن). فالحجة الأولى في قول الإمام (ما اسلموا) قد اقترنت بالنفي وتأكد النفي بالقسم الذي يسبقهما وهي حجة لا تكفي لحصول الاقتناع، لأنَّا خلاف ما يتوقعه المتلقي ظاهرا، ثم جاء الرابط لرفع التردد والتوهم لدى المتلقي في قبول أطروحة عدم صحة إسلام معاوية وعمرو بن العاص من خلال ماتضمنته الحجة الثانية من قوة تفوق الحجة الأولى ومؤدى هذه القوة هو الرابط (لكن) الذي أفاد الاستدراك لبيان حقيقة إسلام هؤلاء، فقد عمل هذا الاستدراك على الفصل بين المفاهيم بين (الظاهر/ الحقيقي)، أي بين (اسلموا / استسلموا)، فإسلام هؤلاء كان في حقيقته وجوهره استسلاماً خوفا من السيف وحقنا لدمائهم وانتهازا للفرصة ولم يتعد إسلامهم حناجرهم فقد اظهروا الإسلام واضمروا الكفر وهذا عين النفاق فلما تمكنوا من إظهار ما في أنفسهم ووجدوا على ذلك أعوانا اظهروا كفرهم وهذا دليل

ص: 111


1- نفسه: 15 / 54
2- النحو الوافي: 3 / 632 (الهامش)

بيّن على جعل محاربتهم للإمام كفرا فالرابط هنا قد ربط بين حجتين فالحجة الأولى( ما اسلموا) تخدم نتيجة ضمنية من قبيل (إنهم كفارٌ) ثم جاء الرابط (لكن) ليرفع ويدفع هذا التوهم أو هذا التردد لدى المتلقي بواسطة الاستدراك الذي لايعني إبطال الحجة الأولى وإنما هو إعادة تصحيح ما قد توهم به المتلقي أو تردد في قبوله وهذا ما تشير إليه الحجة الثانية التي جاءت بعد الرابط (استسلموا واسروا الكفر) التي استلزمت نتيجة ضمنية من قبيل (اظهروا الإسلام واخفوا الكفر) أو (النفاق) أو (الخوف من السيف وحقن دمائهم) أو (انتهاز الفرصة)، وهنا يثبت أن الحجة الثانية أقوى من الحجة الأولى في بيان حقيقة إسلامهم زمن الرسول (ص) وهو كونهم (منافقين) ثم جاء الرابطان (الواو، الفاء) للربط بين قضيتين أو حجتين غير متباعدتين ليقررا الربط بين الحجج التي جاءت بعد( لكن) (استسلموا واسروا الكفر فلما وجدوا أعوانا عليه أظهروه) وهنا تكون الحجة بعد الرابط (الفاء) قد أفادت ودعمت النتيجة المتعلقة ( بكفر هؤلاء) وهنا تكون وظيفة (لكن) ليس فقط الاستدراك وإنما التوكيد أي توكيد الحجة التي جاءت بعد القسم 0 أما الاستدراك هنا فقد جاء لبيان حال إسلامهم أول الأمر ومن هنا نجد أن (لكن) قد أتت بحجة تسير في نفس اتجاه الحجة الأولى لخدمة نتيجة واحدة (ما اسلموا ) إلا أن ترتيب هذه الحجج له دور في الكشف عن القيم التي استند إليها المتكلم، وهذا الفهم للمعنى الذي تؤديه ( لكن) قد أهمله اللسانيون فقلت دراستهم له(1) ، فنلاحظ في المثال أن (لكن) تجلب حجة إضافية لصالح النتيجة (ن)،أي أن ( النفاق) هي حجة تسير في نفس اتجاه النتيجة المتقدمة ولها الوزن الأقوى في دعم النتيجة ؛ لأنَّ ترتيب الحجج له دور في فهم المعنى وما يدعم هذه النتيجة التي توصلنا إليها هو حديث النبي محمد(ص): « إني لا أخاف على أمتي مؤمنا ولا مشركا أما المؤمن فيمنعه الله بأيمانه وأما المشرك فيقمعه الله بشركه لكني أخاف عليكم كل منافق

ص: 112


1- فتيحة عبيدة، لكن في القران الكريم ، دراسة تركيبية دلالية (رسالة ماجستير) جامعة الجزائر، كلية الآداب واللغات 2001 : 67

الجنان عالم اللسان يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون «(1) . وهناك نكتة غاية في الإتقان والدقة التفت إليها الإمام (عليه السلام) متعلقة بالاستلزام الاقتضائي لعبارة ( ما اسلموا ) الذي يدفع باتجاه تقوية النتيجة النهائية التي يطمح إليها النص، بل تقوية القول برمته فالنص يشير إلى أنهم ( ما اسلموا) ولم يقل( ما امنوا) لان المحمول اللفظي لكل واحد منهما يختلف عن الآخر فإيراد عبارة (ما اسلموا ) يمكّننا من استنتاج عبارة مضمرة ولكنها تبرز بإلحاح في الملفوظ مهما كانت وضعية التلفظ فمفهوم الإسلام يختلف عن مفهوم الإيمان استنادا إلى قوله تعالى « قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ «(2) ، فهناك فرق بينهما فالإيمان معنى قائم بالقلب من قبيل الاعتقاد والإسلام أمر قائم باللسان والجوارح فانه الاستسلام والخضوع لسانا بالشهادة على التوحيد والنبوة وعملا بالمتابعة العملية ظاهرا سواء قارن الاعتقاد بحقية ماشهد عليه وعمل به أم لم يقارن وبظاهر الشهادتين تحقن الدماء وعليه تجري المناكح والمواريث(3) . فالإسلام الحقيقي الصادق منعقد على هذين الركنين وهما صدق العمل وصدق المعتقد وهو الأمر الذي نفاه الامام (عليه السلام) عن معاوية ومن والاه إذ أن استسلامهم اقتضى عدم إسلامهم وإسرارهم للكفر اقتضى عدم إيمانهم، أي أن مفهوم الإسلام الحقيقي (الظاهري والباطني) لم يتحقق بسبب إسرارهم للكفر وهو ما يترك نتيجة أولى هي إثبات (نفاق) هؤلاء، ثم يأتي معطى آخر يعزز النتيجة ويدعمها هو إثبات ( كفرهم) الذي يخرجهم من الملة الإسلامية وهو المجاهرة بالكفر (.... واسروا الكفر فلما وجدوا أعوانا عليه أظهروه ) وفي خضم هذه الاستدلالات الحجاجية التي أتاحتها عناصر الربط الحجاجي ينبغي الإشارة إلى معطيين هامين:

ص: 113


1- صحيح مسلم: 1 / 78
2- سورة الحجرات: الآية 14
3- ينظر: الشيخ الكليني، الكافي: 2 / 25

الأول: إن التراتبية الحجاجية والتدرجية التي منحها الرابط (الواو) إلى الحجج قد أثبتت قوة النتيجة ( ما اسلموا / الكفر) ثم جاء الرابط (الفاء) لإثبات قوة الحجة التي تلته بالمقارنة مع الحجة التي سبقته في دعم النتيجة المتقدمة أما الاستدراك فكان لبيان حقيقة إسلامهم في بادئ الأمر (النفاق) المقرون بالخوف وهناك فرق بين من يدخل الإسلام كرها ومن يدخله طوعا وبذلك نقرر مبدءاً حجاجياً من قبيل (ما بني على باطل فهو باطل) أي من لم يصح إسلامه ، ظاهرا / الاستسلام ، لم يصح إيمانه بمقتضيات وشروط الإسلام .

أما المعطى الثاني فهو ان تجاهر المنافق بكفره ينفي عنه صفة (النفاق) ويثبت له صفة (الكفر) فالتجاهر بالكفر هو تحصيل حاصل لعدم إسلامه والعكس غير صحيح فغير المسلم ليس بالضرورة أن يتجاهر بالكفر ومعاداة الإسلام وهنا نستخلص نتيجة ضمنية أقوى من النتيجتين السابقتين (النفاق والكفر) هي أن الكافر المتجاهر بالكفر (معاداة الإسلام) اشدّ من الكافر غير المعادي للإسلام الذي يؤمن بتجاور وتحاور الديانات وهذا من شأنه أن يثبت لنا أن معاوية- مع عدم صحة إسلامه ظاهرا وباطنا- قد جاهر بالكفر وانبرى قولا وفعلا لحرب إمام زمانه وخليفته الشرعي فضلا عن عدم إقراره بالولاية التكوينية والتشريعية لأمير المؤمنين وتنصيبه من قبل الرسول (ص) وليا للمسلمين وخليفة من بعده بالإضافة الى عدم حقن معاوية لدماء المسلمين، ومصداق ذلك قول الرسول (ص): « المسلم من سلم الناس من يده ولسانه»(1) وبذلك يكون معاوية كافراً ناصبياً، قد نصب العداء إلى الإسلام 0 ولتوضيح ما ذهبنا إليه نضع هذه المعطيات في إطار استدلالات حجاجية نوردها كالتالي:

ص: 114


1- صحيح البخاري: 1 / 42
الاستدلال الأول:

المقدمة الكبرى: من اظهر الإسلام واضمر الكفر فهو منافق.

المقدمة الصغرى: معاوية استسلم واسرّ الكفر.

النتيجة: معاوية منافق.

الاستدلال الثاني:

المقدمة الكبرى: المسلم من سلم الناس من يده ولسانه.

المقدمة الصغرى: معاوية اظهر العداء والحرب لإمام زمانه وخليفته الشرعي علي بن أبي طالب (عليه السلام).

النتيجة: معاوية كافر.

الاستدلال الثالث:

المقدمة الكبرى: من اظهر الحرب على الإسلام من الكفار فهو ناصبي.

المقدمة الصغرى: معاوية اظهر العداء والحرب على إمام زمانه وخليفته الشرعي علي بن أبي طالب(عليه السلام).

النتيجة: معاوية ناصبي.

وفي مثال آخر يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتاب بعثه إلى معاوية بن أبي سفيان: «وَقَدْ دَعَوْتَنَا إِلَ حُكْمِ الْقُرْآنِ وَلَسْتَ مِنْ أَهْلِهِ وَلَسْنَا إِيَّاكَ أَجَبْنَا وَلَكِنَّا أَجَبْنَا

ص: 115

الْقُرْآنَ فِی حُكْمِهِ وَالسَّلَامُ «(1) ، فقد وردت (لكن) مقرونة بالواو بعد النفي ب- ( ليس) وقد جاءت ( لكن) في أحسن موقع لها حيث توسطت بين النفي والإثبات وقد تحقق الاستدراك هنا بأن نسب لما بعدها (اجبنا القران في حكمه) حكما مخالفا ومضادا لحكم ما قبلها ( لسنا إياك اجبنا) وهو المعنى المشهور للاستدراك والذي يقتضي أن يكون ما قبلها إما مناقضا أو مضادا أو مخالفا لما بعدها(2) .

وهنا يتبين أن الرابط (لكن) الحجاجي قد توسط بين حجتين، فالقسم الأول الذي يسبق الرابط قد تضمن حجة (لسنا إياك اجبنا) تخدم نتيجة ضمنية من قبيل (عدم الاحتكام إلى القرآن ) والقسم الثاني بعد الرابط ( اجبنا القرآن إلى حكمه) يتضمن حجة تخدم النتيجة المضادة للنتيجة السابقة: (لا- ن) أي ( لسنا إياك اجبنا) وبما إن الحجة الثانية أقوى من الحجة الأولى فأنها ستوجه القول بمجمله نحو النتيجة (لا- ن) 0 فقد اثبت الإمام انه قد نزل على حكم القرآن وأجابه في حكمه وهذا ديدنه (عليه السلام) فقد أكد على هذا الأمر في مناسبات كثيرة منها قوله: «والله ما حكّمت مخلوقا وإنما حكّمت القران «، ومعنى (مخلوقا) بشرا لا محدثا(3) ، وهنا نجد أن الإمام قد احدث فصلا في

ص: 116


1- شرح نهج البلاغة: 17 / 7
2- 1، ينظر: ابن هشام، مغني اللبيب عن كتب الاعاريب: 1/ 290
3- شرح نهج البلاغة: 17 / 7

المفاهيم أي بين الواقع / الحقيقة أو الظاهر/ الجوهر فالنفي هنا وما أفاده الرابط (لكن) قد أفاد في رفع ما يتوهم ثبوته من كون معاوية بن أبي سفيان قد انزل علي بن أبي طالب (عليه السلام) عند حكم القران وبمقتضى ذلك يكون الإمام علي (عليه السلام) أمام خيارين إما أن يقبل ويذعن لدعوة معاوية ويكون الإمام قد نزل وقبل شروط معاوية وبذلك تقام الحجة على أمير المؤمنين أو أن يرفض الدعوة وبذلك يكون الإمام قد خالف العقيدة الإسلامية، وهو أمر يرفضه الإمام ؛ لأنَّ طبيعة الخلاف بينه وبين معاوية قائمة على تأويل القرآن، ومصداق ذلك مضمون الحديث الشريف للنبي (ص): « يا علي إنك لمقاتل على تأويل القران كما قاتلتُ على تنزيله »(1)، فالإمام قد التفت إلى هذه الخديعة وهذا اللبس المتعمد الذي يراد منه تأليب الرأي العام على نقض بيعة الإمام ووضعه (عليه السلام) في موقف محرج إذ فند هذه المغالطة ورفع ما يتوهم ثبوته بواسطة اسلوب النفي والاستدراك فقد تمكن من تقوية الحكم بمؤكد مناقض/داحض لزعم معاوية وهو الرابط (لكن) التي أفادت الاستدراك والتوكيد فمن وظائف (لكن) هو الاستدراك والتوكيد وهو ما ذهب إليه القرطبي حينما ذكر إنها حرف تأكيد واستدراك ولابد فيه من نفي واثبات فإذا كان قبله نفي كان بعده إيجاب، وان كان قبله إيجاب كان بعده نفي(2) ، ولذلك نجد أن الرابط قد قيد قاعدة الاستدلال وقلب النتيجة المنتظرة من قبيل (عدم الاحتكام إلى القرآن) مما أدى إلى دحض العلاقة بين المعطاة (وقد دعوتنا إلى حكم القرآن) والنتيجة الضمنية السابقة فتفكيك المعطاة تم بواسطة الرابط (لكن) فهي مشتملة على قضيتين هما (دعوة معاوية) و(تحكيم القران) ليتم على أساس ذلك إبطال دعوة معاوية ( لسنا إياك اجبنا) وهي نتيجة لحجة (لست من أهله) أي من أهل القرآن هذا من جانب ومن جانب آخر الموافقة واثبات وإجابة (حكم القران) أي (اجبنا القرآن إلى حكمه).

ص: 117


1- المجلسي، بحار الانوار: 32 / 206
2- القرطبي: الجامع لأحكام القران، تح: عبد الله بن المحسن التركي: 1/ 204
ب- الرابط الحجاجي ( بل ):

ذكر الرمَّاني في شان هذه الأداة: «هي من الحروف الهوامل ومعناها الإضراب عن الأول والإيجاب للثاني «(1) ، ولذا فهي من أدوات الربط التي تستعمل للإبطال والحجاج مثلها مثل (لكن) ولهذا الرابط حالان:

الأول: أن يقع بعده مفرد.

الثاني: أن يقع بعده جملة، فان وقع بعده مفرد فله حالان:

أ. إنْ تقدمه أمر أو إيجاب نحو:( اضرب زيدا بل عمرا ) و (قام زيد بل عمرو) فانه يجعل ما قبله كالمسكوت عنه، ولا يحكم عليه بشيء ويثبت الحكم لما بعده.

ب. وان تقدمه نفي أو نهي نحو: (ما قام زيد بل عمرو ) و(ولا تضرب زيدا بل عمرا) فانه يكون لتقرير حكم الأول وجعل ضده لما بعده أي إثبات الثاني ونفي الاول.

أما إذا وقع بعد (بل) جملة: فيكون معنى الإضراب:

أ- أما الإبطال نحو: « أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُم بِالِْحقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ«(2) .

ب- وإما الانتقال من غرض إلى غرض(3) نحو قوله تعالى: « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّی، بَلْ تُؤْثِرُونَ الَْيَاةَ الدُّنْيَا «(4)

ص: 118


1- الرماني، معاني الحروف، تح: عبد الفتاح اسماعيل شلبي: 71
2- سورة المؤمنون، الآية: 70
3- اللغة والحجاج: 61
4- سورة الاعلى: الاية 14 - 16

ومما تقدم يتضح أن (بل) تعمل عمل (لكن) في المنحى الحجاجي الذي يصفها بالاستدراك والتوكيد والقصر والإضراب والإبطال فضلا عن ذلك وظيفتها في إفادة معنى التساوق(1) *. ومن أمثلة ورودها في رسائل الإمام (عليه السلام) قوله: «......

وَ كَانَ طَلْحَهُ وَالزُّبَیْرُ أَهْوَنُ سَیْرِهِمَا فِیهِ الْوَجِیفُ،وَأَرْفَقُ حِدَائِهِمَا الْعَنِیفُ.

وَكَانَ مِنْ عَائِشَهَ فِیهِ فَلْتَهُ غَضَبٍ،فَأُتِیحَ لَهُ قَوْمٌ فَقَتَلُوهُ،وَبَایَعَنِی النَّاسُ غَیْرَ مُسْتَكْرَهِینَ وَلَا مُجْبَرِینَ،بَلْ طَائِعِینَ مُخَیَّرِینَ «(2) . إن (بل) الواردة في المثال هي من النمط الحجاجي الذي أفاد الاعتراض فقد توسطت بين حجتين فما تقدمها كان منفياً في حين جاءت الحجة التي تلتها مثبتة وبذلك يكون الرابط قد أقام علاقة حجاجية بين نفي احتمال حصول (الإكراه والجبر) من قبل الإمام على نكث البيعة وبين إثبات حقيقة بيعتهم بأنها بيعة تامة وصحيحة تمت بطوعهم واختيارهم وإرادتهم وفي هذا الحديث إشارة واضحة إلى طلحة والزبير اللذين نكثا بيعتهما لأمير المؤمنين(عليه السلام) وألّبا الناس عليه في واقعة الجمل، ولعل في الاستدراك الذي أتى به الإمام ما يفيد بان نكث البيعة سببه ليس عدم صحة شروط البيعة أو عدم إجماع الناس عليها أو عدم صحة اعتقادهم بخلافة أمير المؤمنين أو إن الإمام قد تسلط عليهم واخذ البيعة منهم قسرا ؛ وإنما نكثوها بسبب سياسة الإمام في إدارة الأمة الإسلامية التي لا تروق لهم بل هددت كيانهم ومنها قرار المساواة الذي تبناه الإمام (عليه السلام) فلم يجعل لهما ولغيرهما ميزة على سواهم فلا ينالان إلاَّ ما ينال المسكين والفقير بعطاء مساو، فقد بعث الإمام إلى طلحة والزبير وقال(عليه السلام) لهما: ( نشدتكما الله هل جئتماني طائعين للبيعة ودعوتماني إليها وأنا كاره لها؟ 0

قالا: نعم.

ص: 119


1- ينظر: صفحة 114 من هذا المبحث، فقد اشرنا الى هذه الوظيفة في حديثنا عن روابط التساوق الحجاجي وجئنا بمثال على ذلك
2- شرح نهج البلاغة: 14 / 3

قال (عليه السلام): غير مجبورين ولا مقهورين فأسلمتما لي بيعتكما وأعطيتماني عهدكما؟ قالا: نعم.

قال(عليه السلام): فما دعاكم بعد هذا إلى ما أرى؟

قالا: أعطيناك بيعتنا على أن لا تقضي الأمور ولا تقطعها من دوننا وان تستشيرنا في كل أمر ولا تستبد بذلك علينا ولنا من الفضل على غيرنا ما قد علمت، فرأيناك قسمت القسم وقطعت الأمر وقضيت بالحكم بغير مشاورتنا ولم تعلمنا 0

فقال (عليه السلام): لقد نقمتما يسيرا وأرجأتما كثيرا فاستغفرا الله يغفر لكما 0 ألا تخبراني أدفعتكما عن حق واجب لكما عليَّ فظلمتكما إياه ؟ قالا: معاذ الله.

قال(عليه السلام): فهل استأثرت من هذا المال لنفسي بشيء؟

قالا: معاذ الله.

قال: أفوقع حكم في حق لأحد المسلمين فجهلته أو ضعفت عنه ؟

قالا: معاذ الله.

قال(عليه السلام): فما الذي كرهتما من أمري حتى رأيتما خلافي؟

قالا: نعم، خلافك لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في القسم كحق غيرنا وسويت بيننا وبين من لا يماثلنا فيما أفاء الله بأسيافنا ورماحنا وقد أوجفنا عليه بخيلنا ممن لا يرى الإسلام إلا كرها عليه 0

ص: 120

فقال (عليه السلام): أما ما ذكرتما إني احكم بغير مشورتكما فو الله ما كان لي في الولاية رغبة ولكنكم دعوتموني إليها فخفت أن أردكم فتختلف الأمة فلما أفضت إلي نظرت في كتاب الله وسنة رسوله 00000 وأما القسم و الأسوة فقد وجدت أنا وأنتما رسول الله (ص) يحكم بذلك وكتاب الله ناطق به. وأما قولكما: جعلت فيئنا وما افاءته سيوفنا ورماحنا سواء بيننا وبين غيرنا . فقديما سبق إلى الإسلام قوم نصروه بسيوفهم ورماحهم فلم يفضلهم رسول الله ( ص) في القسم «ولا آثرهم بالسبق والله سبحانه موف السابق والمجاهد يوم القيامة . (1)

«وقد آثرنا إيراد هذه الرواية على طولها لبيان مستوى الدحض والتفنيد لمن يزعم أو يتوهم أن بيعتهما لم تتم أو أن الإمام تنصل عن بعض ما التزم به أمام الناس فلما استقرت عنده الخلافة اظهر خلاف ذلك وهنا يأتي الاستدراك ب-( بل) لتقوية الحجة التي أتت بعده لتخدم النتيجة المضادة (لا-ن) التي مؤداها: ( البيعة صحيحة وتامة ) ؛ لانَّ الناس لم يكرهوا عليها ولم يجبروا وبذلك تتقرر حقيقة يدلي بها الإمام (عليه السلام) في بيان حال المبايعين إذ يقول في كتابه إلى معاوية بن أبي سفيان: « لِأَنَّهَا بَیْعَةٌ وَاحِدَةٌ لاَ یُثَنَّی فِیهَا النَّظَرُ وَ لاَ یُسْتَأْنَفُ فِیهَا الْخِیَارُ الْخَارِجُ مِنْهَا طَاعِنٌ وَ الْمُرَوِّی فِیهَا مُدَاهِنٌ «(2)، أي أن عقد البيعة لا سبيل إلى حلٍّه فلا يعاود ولا يراجع فليس بعد عقدها خيار لمن عقدها ولا لغيرهم لأنها تلزم غير العاقدين كما تلزم العاقدين فيسقط الخيار فيها، فالذي يخرج منها يكون طاعنا على المسلمين لأنهم اجمعوا على أن الاختيار طريق الأمة والذي يتردد ويبطئ هل يقبلها أم لا فهو مداهن أي: منافق 0وهذا ما أكده الامام (عليه السلام) من أن هذه البيعة قد تمت بإجماع المسلمين واستوفت شروطها التي (شرعنها وتعارف عليها القوم

ص: 121


1- ينظر: ضامن بن شدقم بن عي الحسيني المدني، وقعة الجمل، تح: تحسین شبيب الموسوي: 57 وما بعدها
2- شرح نهج البلاغة: 14 / 20

في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان) وهو ما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه إلى معاوية: » إِنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ عَلَی مَا بَايَعُوهُمْ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ للِشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ وَلَا لِلْغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ «(1) ، أي أن الإمام قد ألزمهم بما ألزموا به انفسهم 0 وهنا تكون النتيجة المضادة الضمنية قد وجهت القول برمته نحو إقامة الحجة والبيّنة على (الناكثين) وتقرير الموقف منهم 0

وفي مثال آخر يقول الإمام (عليه السلام): « فَقُلْنَا تَعَالَوْا نُدَاوِ مَا لاَ یُدْرَكُ الْیَوْمَ بِإِطْفَاءِ النَّائِرَةِ وَ تَسْكِینِ الْعَامَّةِ حَتَّی یَشْتَدَّ الْأَمْرُ وَ یَسْتَجْمِعَ فَنَقْوَی عَلَی وَضْعِ الْحَقِّ مَوَاضِعَهُ فَقَالُوا بَلْ نُدَاوِیهِ بِالْمُكَابَرَةِ»(2) ، فالرابط هنا أقام علاقة حجاجية مركبة من علاقتين حجاجيتين علاقة بين الحجة الاولى التي ترد قبل الرابط الحجاجي (بل) وهي ( تعالوا نداو ما لا يدرك اليوم بإطفاء النائرة وتسكين العامة) والتي تحيل على نتيجة ضمنية من نمط (الموافقة على إخماد الفتنة) .

وعلاقة حجاجية ثانية وهي التي ترد بعد الرابط (بل)، (نداويه بالمكابرة) فهي تحمل نتيجة ضمنية مضادة للنتيجة السابقة ( أبوا إلاَّ المعاندة والمغالبة والحرب)، فيكون القول حسب الرسم الحجاجي:

ص: 122


1- شرح نهج البلاغة: 14 / 16
2- نفسه: 17 / 68

حيث (ح 1) و(ح 2) يشيران إلى الحجتين، و(ن) تشير إلى النتيجة التي تخدمها الحجة الأولى و (لا- ن) تشير إلى النتيجة المضادة للنتيجة السابقة (ن) والرمز( ) يشير إلى العلاقة الحجاجية، فالرابط الحجاجي (بل) قد ربط بين الحجج والنتائج وأصبحت النتيجة الضمنية المضادة هي نتيجة القول برمته ؛ لأنَّ الحجة التي ترد بعد (بل) أقوى من الحجة التي ترد قبلها في إفادة المعنى الكلي وإقامة الحجة ؛ لأنَّ الإمام (عليه السلام) استمهلهما في إقامة القصاص على قتلة عثمان حتى يهدأ الناس لان الثائرين على عثمان مازالت لهم شوكة قوية في المدينة وهم يملكون المدينة في الحقيقة ولا يملكها أهلها ومن الحكمة تأخير هذا الأمر حتى تأتي بيعة الأقاليم وتقوى شوكة الخلافة وحينما لم ينزل الإمام عند طلبهما استأذناه بالخروج إلى العمرة ولم تكن غايتهما العمرة وإنما الغدرة ونكث البيعة وتأليب الناس على الإمام والخروج لحربه في واقعة الجمل وكما علمنا فيما مضى من البحث إن نكث البيعة لم يكن بسبب تأني الإمام وتأجيل القصاص من قتلة عثمان فهي حجة تذرعوا بها من اجل غايات وأهداف أخرى اشرنا إليها آنفا ولذلك كانت المعاندة والمكابرة ونصب العداء والحرب على أمير المؤمنين (عليه السلام) شعارا رفعوه طيلة خلافته 0 واحتمال أن يجنحوا إلى السلم وإخماد الفتنة قد نفاه الإمام عنهم وقد أكد هذا النفي بالحجة التي استدرك بها ولو لم يأت بالاستدراك لبقيت الحجة الأولى تخضع وتؤول باحتمال جنوح هؤلاء نحو السلم وإخماد الفتنة أو إنهم فعلا لم يخرجوا للحرب ؛ ولكن حصول الاستدراك قد أفاد في تقرير الحكم الأول ونفي احتمال وتوهم حصول النتيجة (ن)، ومعلوم أن الاستدراك يقضي أن يقع بين متنافيين أو مضادين أو متناقضين وهو المشهور وبما أن الجملة التي سبقت الرابط هي جملة أو قول مثبت فان ما بعد الرابط يقتضي أن يكون منفياً أو مضاداً أو مخالفاً لما قبله وهو ما أفاده القول (فقالوا:

بل نداويه بالمكابرة) وهو نفي ورفض للدعوة المقدمة من قبل الإمام (عليه السلام).

ص: 123

2- روابط التساوق الحجاجي:

الرابط الحجاجي (حتى):

يبرز الرابط الحجاجي (حتى) كمؤشر حجاجي بارز في رسائل الإمام (عليه السلام)، ويكتسب هذا الرابط أهميته من علاقته الواضحة والقوية مع المعنى الضمني والمضمر، إذ أن دورها لا يقتصر على إضافة معلومة جديدة إلى سياق الجملة كما لو نقول (جاء زيد) فتكون (حتى زيد جاء) إذا كان مجيء زيد غير متوقع بل إن دور هذا الرابط يتمثل في إدراج حجة جديدة تردف الحجة التي تسبقها وتساوقها والحجتان تخدمان نتيجة واحدة لكن بدرجات متفاوتة من حيث القوة الحجاجية(1) ، فتتساوق الحجتان في رفد النتيجة بالطاقة الحجاجية الفاعلة، ولكن تبقى الحجة التي يأتي بها الرابط )(حتى) هي أقوى من الحجة التي سبقتها أي ان يكون ما بعدها غاية لما قبلها ولذا اقر ديكرو بان «الحجة المربوطة بواسطة هذا الرابط ينبغي أن تنتمي إلى فئة حجاجية واحدة، أي إنها تخدم نتيجة واحدة والحجة التي ترد بعد هذا الرابط تكون هي الأقوى لذلك فان القول المشتمل على الأداة (حتى) لا يقبل الإبطال والتعارض الحجاجي «(2) وقد توفرت في رسائل الإمام جملة واسعة من هذا النوع من الروابط الحجاجية وسوف نشرع في بيان القوة الحجاجية التي يتيحها هذا الرابط من خلال بعض الأمثلة على سبيل التوضيح لا الحصر فقد تستعمل(حتى) في دلالات متعددة في مقام واحد فتستعمل للتعليل وللغاية معا كما في قول أمير المؤمنين (عليه السلام): « أَنْصِفِ اللّهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّهِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِیهِ هَوًی مِنْ رَعِیَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ! وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللّهِ كَانَ اللّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللّهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَكَانَ لِلَّهِ حَرْباً حَتَّی یَنْزِعَ

ص: 124


1- ينظر: الحجاج واللغة: 27
2- نفسه: 73

أَوْ یَتُوبَ »(1) . فالرابط (حتى) بالرغم من تعدد الغايات الاستعمالية له في هذا المثال التي تتبين لنا نتيجة لتعدد زوايا النظر والقراءة له فهو جاء من اجل تحقيق غايات حجاجية اقناعية فمرة يقرأ من زاوية (سببية) أي أن ما قبله علة وسبب وحجة لما بعدها فيكون مرادفا ل-(كي) التعليلية فيكون الشاهد (ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده ومن خاصمه الله ادحض حجته وكان لله حربا كي ينزع أو يتوب)، وهنا يمكن أن نعد ما قبله حجة وما بعده نتيجة فالإمام يقدم حجته لبيان إن الله يكون خصم الإنسان ويدحض حجته ويكون الله حربا كي ينزع أو يتوب من ظلم الناس وهنا يظهر أن الإمام قد استعمل (أو) بين ينزع ويتوب بمعنى الإباحة لأنها لا تمنع الجمع بينهما. فضلا عن ذلك فقد تستعمل (حتى) للغاية فترادف (إلى) فحكم ما بعدها يكون مخالف لحكم ما قبلها فيتقرر الحكم قبل (حتى) في إفادة الخصومة من الله ودحض الحجة فيما يأتي الحكم بعدها ليقرر التوبة وترك ظلم الناس أي تكون الحجة التي بعدها غاية لما قبلها، وفي الوقت نفسه هما يخدمان نتيجة واحدة من قبيل (النهي عن ظلم الناس) وتبقى الحجة التي ترد بعد (حتى)هي الأقوى حجاجيا 0 ولذا نجد أن الرابط الحجاجي قد احتمل التعليل والغاية وهو استعمال حجاجي في الحالتين معا 0

ومن صور استعمال (حتى) للتعليل والسببية قول الإمام (عليه السلام) الى بعض عماله: « فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ وَ ابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وَ آسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَ النَّظْرَةِ حَتَّى لَا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ وَ لَا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ « (2) ، وهنا دلت (حتى) على التعليل أي أن ما قبلها علة لما بعدها وهي مرادفة ل-(كي) التعليلية فيمكن قراءة المثال التالي (واخفض للرعية جناحك 0000 كي لا يطمع العظماء 000 )

ص: 125


1- شرح نهج البلاغة: 17 / 16
2- شرح نهج البلاغة: 17 / 3

فالرابط الحجاجي (حتى) قد ربط بين مجموعة من الحجج:

ح 1: اخفض للرعية جناحك.

ح 2: ألن لهم جانبك.

ح 3: ابسط لهم وجهك.

ح 4: آس بينهم في اللحظة والنظرة.

الرابط الحجاجي: حتى

النتيجة: لا يطمع العظماء في حيفك لهم ولا ييئس الضعفاء من عدلك.

فهذه العلل التي جاءت قبل (حتى) قد عللت ما جاء بعد الرابط من نتيجة وهنا يحصل التساوق بين الحجج من اجل دعم النتيجة التي يتوجه اليها الخطاب 0 وقد يقرأ هذا المثال أيضا قراءة شرطية فالمتكلم يقدم الحجة أو مجموعة الحجج باعتبارها شرطا لحصول النتيجة المطلوبة فيكون السياق من قبيل (متى ما خفضت للرعية جناحك 0000 لا يطمع العظماء ... ) فالعلاقة هنا علاقة شرطية أو ربما تكون العلاقة تفسيرية فإذاعوضنا (حتى) في هذا المثال برابط من روابط التعليل والتفسير فيكون تقدير الكلام (لا يطمع العظماء في حيفه لأنه خفض للرعية جناحه)، ومهما تعددت القراءات التي تعالج هذا النص، فان مفهوم العلاقة الحجاجية يبقى مفهوماً عاماً ومرناً يتحمل علاقات تعليلية وشرطية وتفسيرية تبريرية 0 ويبقى الاختلاف القائم بين هذه الصور مرتبط بالطريقة التي قدمت بها الحجة أي السياق هو الذي يحدد أي المعاني هو المعنى المقصود.

ولو نظرنا في مثال آخر نجد أن الرابط الحجاجي (حتى) قد أفاد معنى الغاية في قول أمير المؤمنين (عليه السلام): « أَمَّا بَعْدُ فَصَلُّوا بِالنَّاسِ الظُّهْرَ حَتَّى تَفِي ءَ الشَّمْسُ مِنْ

ص: 126

مَرْبِضِ الْعَنْزِ «(1)

يتضح من هذا النص:

ح 1:صلّوا بالناس الظهر.

الرابط الحجاجي: حتى.

ح 2: تفيء الشمس من مربض العنز.

فالحجتان ربطتا بواسطة (حتى) وهما يخدمان نتيجة واحدة من قبيل ( الحمل على إعطاء الرخصة لابتداء الصلاة) ثم إن الحجة (2) التي وردت بعد الرابط هي الأقوى وهو ما يقصده النحاة بقولهم ( أن يكون ما بعدها غاية لما قبلها)، فالنص هنا يضع حدّا شرعيا وفقهيا ينبغي التوقف عنده لأنه متعلق بوظيفة الرابط (حتى) فمع تسليمنا بأن الاخيرة قد أفادت الغاية إلاَّ إنها لا تفيد انتهاء الغاية في الزمان أو المكان، فيكون المقصود انه (صلّوا بالناس الظهر من حين زوال الشمس إلى أن يبلغ الفيء مقدار ربض العنز)، وإنما هي (لابتداء الغاية ) فلو قال قائل إنها لانتهاء الغاية جاز لنا أن نرد ذلك من وجوه:

1. انه مخالف لقوله تعالى: « أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَی غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودً «(3) ، قال الطبرسي في المجمع: أقم الصلاة لدلوك الشمس: أي لزوالها وميلها(4) فالآية الشريفة قد ابتدأت بيان وقت صلاة الظهر فإذا حملنا هذه الآية على انتهاء الغاية كما في المثال الذي سقناه فيكون الحكم أن وقت صلاة الظهر يبدأ من زوال الشمس وينتهي إلى رجوع الفيء إلى مقدار مربض

ص: 127


1- شرح نهج البلاغة: 17 / 10
2- سورة الإسراء: الآية 87
3- سورة الإسراء: الآية 87
4- ينظر: الطبرسي، مجمع البيان، 3 / 447

العنز متأخرة عن وقتها المعلوم بمقدار ساعات وهذا خلاف حاشا أن يقول به أمير المؤمنين 0

2. انه مخالف لما اتفق عليه الفقهاء المسلمون منذ زمن الرسول (ص) إلى يوم الناس هذا

3. من ان أول وقت صلاة الظهر من حيث زوال الشمس وميلها عن دائرة نصف نهار البلد.

4. إن هذا الرأي مخالف لما دأب عليه سياق الكلام الذي أتى بعد المثال، فالسياق قد استرسل في بيان أوقات الصلوات المتبقية وهنا يتبين أن الإمام لم يتعرض إلى أخر أوقات الصلوات بل إلى ابتدائها وهو أمر منطقي التزمه الإمام في سياق كلامه ولم يتطرق إلى انتهاء الغاية فيقول في ذلك: (...... وَصَلُّوا بِهِمُ الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَیْضَاءُ حَیَّهٌ فِی عُضْوٍ مِنَ النَّهَارِ حِینَ یُسَارُ فِیهَا فَرْسَخَانِ وَصَلُّوا بِهِمُ الْمَغْرِبَ حِینَ یُفْطِرُ الصَّائِمُ وَیَدْفَعُ الْحَاجُّ إِلَی مِنیً وَصَلُّوا بِهِمُ الْعِشَاءَ حِینَ یَتَوَارَی الشَّفَقُ إِلَی ثُلُثِ اللَّیْلِ وَصَلُّوا بِهِمُ الْغَدَاهَ والرَّجُلُ یَعْرِفُ وَجْهَ صَاحِبِهِ ).

وبالعودة إلى الرابط (حتى) نجد أن المقصد الدلالي الذي أفاده وما اشتمل عليه من حجة (تفيء الشمس من مربض العنز) لم تكن الغاية منه تأكيد أو إخبار بالوقت أو الحد الشرعي لوقت الصلاة بمفهومه الأصلي أو المتعارفعليه فالإمام ليس في مقام بيان هذا الوقت المعلوم الذي تم الإخبار عنه في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وأصبح من المسلمات والبديهيات لدى المسلمين، ولو صح هذا المقصد لما عبر عن فائدة أو تأثير أو قيمة حجاجية اقناعية ولكن قوة الحجة تكمن في المقاصد والدلالات الشرعية التي أدلى بها الإمام للاستدلال ليس فقط على وقت إقامة صلاة الظهر وبقية الصلوات فهي معلومة ولا خلاف في ذلك 0 بل هو أراد أيضا بيان الغاية التي تبدأ بها صلاة الظهر ومقدارها من ابتداء الشمس بالزوال إلى أن تفيء الشمس من مربض العنز أي مقدار ذراع وان يكون ظل الجدار أو القامة مثله كما تواتر في الحديث عن أهل البيت (عليهم

ص: 128

السلام)(1) ولعل في هذا الحد الزمني الذي يمكن أن نصطلح عليه ب- (الترخّص) بين الزوال ومربض العنز هو ما يمنح الحجة التي أتت بعد الرابط القوة الحجاجية بالمقارنة مع الحجة التي سبقتها فلو توقف الإمام عند قوله: (صلّوا بالناس الظهر) تكون هذه الحجة فاقدة للقوة الحجاجية باعتبار أن الإمام لم يأت بشيء جديد ولكن المجيء بالحجة الثانية بعد الرابط هو الذي يشكل بؤرة القول الحجاجي ويمنح النتيجة القوة الحجاجية المطلوبة 0 وللاستدلال على ذلك هو أن الحمل على إرادة الرخصة والتمهل وتأخير وقت صلاة الظهر عن الزوال من قبل المتلقي هو من اجل غايات سامية تتجه إيجابا واستحسانا في تأطير طبيعة العلاقة بين إمام صلاة الجماعة وبين المأمومين من جانب وبين المصلين وصلاتهم من جانب أخر ولعل من هذه الغايات التي يحققها التمهل والرخصة في إقامة صلاة الظهر:

1. إرادة الرخصة في التنفل في تأخير فريضة الظهر هذا المقدار الذي يسمح بالإتيان بأربع ركعات نافلة الظهر.

2. انتظار حضور الناس واجتماعهم لأداء صلاة الجماعة وعدم التخلف عنها.

3. انتظار برودة الهواء في أيام الحر الشديد كما في قول الرسول (ص): « ابردوا بصلاة الظهر »(2)

4. إن هذا التأخير من شانه أن يمنح المصلي التفرغ للصلاة والتهيئة النفسية أو تحقيق الاستعداد النفسي / الروحي لأدائها بعيدا عن المتعلقات الدنيوية 0

وهنا يظهر أن الضرورة قد أباحت تأخير الفريضة عن وقت الزوال بالمقدار الذي لا يقدح بوقتها المعلوم أي بمقدار تحقق الضرورات التي أباحت ذلك والتي حددها الإمام ب-( مربض العنز) وهو حائط محل نوم الأغنام، فان الحائط يعدم ظله ويزول أول الظهر-

ص: 129


1- ينظر: الحر العاملي، وسائل الشيعة: 3 / 101
2- بحار الانوار: 8 / 283

تقريبا- ثم يرجع الظل المغربي إلى ناحية المشرق كلما رجعت الشمس نحو المغرب، أي يسير الظل عكس اتجاه سير الشمس حتى يصير ظل كل شيء مثله 0 وقد أتى الإمام بهذا التعبير من اجل إيناس ذهن المتلقي وإفهامه وتقريب الصورة لديه وإيضاح الفكرة مستمدا هذا المثال من واقع البيئة السائدة آنذاك، وإلاَّ فلا فرق في تعبيرات مربض العنز أو مربض الغزال أو الذراع أو القدمين ... الخ، فكل هذه التعبيرات واحدة في بيان المقدار الزمني لتأخير فريضة الظهر.

بقي أن نشير إلى مسألة مهمة هي أن الحجة التي أتت بعد الرابط هي، كما أسلفنا، غاية لما قبلها وكما يذهب النحاة العرب إلى أن من شروط هذه الغاية أن يكون ما بعدها في زيادة أو نقص والزيادة تشمل القوة والتعظيم والنقص يشمل الضعف والتحقير، ومادام المقام هنا في كلام الإمام هو مقام توجيه وإعلاء وتعظيم لقيمة الصلاة من خلال التهيئة والاستعداد وإشراك اكبر عدد ممكن من المصلين لأداء صلاة الجماعة وتوفير متطلبات الاستعداد النفسي (الروحي) والبدني لإقامة الصلاة فكل ذلك من شأنه أن يرفع من قيمة الصلاة في قلوب الناس وتعظيم شأنها والإخلاص في أدائها والوصول إلى الغاية التي من ورائها وهي مرضاة الله وإصلاح الناس في دينهم ودنياهم فإذا عرفنا ذلك تعيّ أن نبين ان القول المشتمل على الرابط الحجاجي والحجة التي جاءت بعده لا يقبل الإبطال أو التعارض الحجاجي مع الحجة التي قبل الرابط ؛ بل إن الحجة الثانية قد منحت القوة والتساوق الحجاجي لمجمل القول فضلا عن الانسجام التداولي.

وفي مثال أخر يقول الإمام (عليه السلام) لطلحة والزبير:(أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ عَلِمْتُمَا وَ إِنْ كَتَمْتُمَا أَنِّی لَمْ أُرِدِ النَّاسَ حَتَّی أَرَادُونِی وَ لَمْ أُبَایِعْهُمْ حَتَّی بَایَعُونِی وَ إِنَّكُمَا مِمَّنْ أَرَادَنِی وَ بَایَعَنِی)(1) .

ص: 130


1- شرح نهج البلاغة: 17 / 64

وهنا يضطلع الرابط الحجاجي (حتى) ليس من اجل وظيفة التعليل والتفسير ؛ بل من اجل التساوق الحجاجي أي يربط بين حجتين متساوقتين تخدمان نتيجة واحدة.

ح 1: إني لم أرد الناس ولم أبايعهم.

ح 2: أرادوني وبايعوني.

الرابط الحجاجي: حتى.

النتيجة الضمنية: الزهد في الخلافة.

إذ نلاحظ أن هذا الرابط في بعض الحالات يترادف مع الرابط الحجاجي (بل) فمع أن الخصيصة المائزة للرابط (بل) هي التعارض الحجاجي فانه يضطلع باستعمال حجاجي آخر هو التساوق كما هو عمل الرابط (حتى) ف-( كلاهما يربط بين حجتين لهما نفس التوجه الحجاجي وكلاهما يقدم الحجة الثانية باعتبارها الحجة الأقوى التي تخدم النتيجة المقصودة)(1) وبيان ذلك هو أننا لو استبدلنا (حتى) في المثال أعلاه ب-(بل) لأصبحت النتيجة كالتالي:

(لم أرد الناس بل أرادوني ولم أبايعهم بل بايعوني) ونلاحظ هنا أن الرابط (بل)قد ربط بين حجتين متساوقتين تخدمان النتيجة نفسها وفي كلا الاستعمالين (حتى، بل) تكون الحجة الواردة بعدهما أقوى من الحجة التي تقدمتهما. أي أن (بل) هنا لم تعمل تعارضا حجاجيا بل زادت من قوة الحجة التي سبقتها بل هي وجهت القول نحو النتيجة الضمنية التي يدور عليها القول .

وهنا يكون الإمام قد ابلغ حجته على طلحة والزبير عندما بايعاه ثم نكثا بيعتهما بأنه لم يرد الولاية على الناس حتى أرادوا هم منه ذلك ولم يمدد يده إليهم مد الطلب

ص: 131


1- اللغة والحجاج: 83

والحرص على الأمر إلا بعد أن خاطبوه بالإمرة والخلافة عليهم وقالوا بألسنتهم: قد بايعناك فحينئذ مد يده اليهم.

وفي مثال أخر نجد أن الرابطين(حتى، بل) قد عملا العمل نفسه في إفادة التساوق الحجاجي والربط بين الحجج من اجل خدمة نتيجة واحدة فقد ترادفا وتعاوضا في إفادة المعنى نفسه إذ يقول(عليه السلام): (أَیْ بُنَیَّ إِنِّی وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِی فَقَدْ نَظَرْتُ فِی أَعْمَالِهِمْ وَفَكَّرْتُ فِی أَخْبَارِهِمْ وَسِرْتُ فِی آثَارِهِمْ حَتَّی عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ بَلْ كَأَنِّی بِمَا انْتَهَی إِلَیَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَی آخِرِهِمْ)(1) ، فإذا كانت الحجة التي أتت بعد الرابط (حتى) (عدت كأحدهم) هي الحجة الأقوى بالمقارنة مع الحجج التي سبقتها قبل الرابط « نظرت في أعمالهم / فكرت في أخبارهم/ سرت في آثارهم، في إفادة وخدمة نتيجة من قبيل (مطلعا على أوضاعهم تمام الاطلاع)، فإن الرابط (بل) قد أتى بحجة أخرى (كأني بما انتهى إلي من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم) تدعم الحجج المتقدمة وتؤكدها وتردفها حتى بدت الحجة التي جاءت بعد (بل) أقوى من حجة (حتى) (عدت كأحدهم) لأنَّ كون الإمام كأحدهم لا يعني انه قد استفاد من تجربة وجوده بينهم فهي تحتمل الاستفادة وحصول التجربة وكذلك عدمها بخلاف ما أوردته (بل) من حجة قد أكدت حصول التجربة نتيجة ما انتهى إليه من أخبارهم، فالرابط (بل) قد يتضمن نوعا ما من التصحيح الحاصل في ذهن المتلقي ولم نقل إنها تتضمن تصحيحا تاما أي تصحيحا لغلط، لان (بل) التي ندرسها هنا مرادفة ل-(حتى) وهي تختلف عن (بل) الابطالية التصحيحية المرادفة ل-(لكن) وهذا النوع من التصحيح هو الذي مكّن (بل)المرادفة ل-(حتى) من إدراج حجة أقوى من الحجة التي سبقت الرابط فالإمام قد رتب الحجج بحسب قوتها وبشكل تساوقي بفعل الروابط المدرجة لذلك فينطلق القول من حجة قوية إلى حجة أقوى وأكثر إيفاء بالغرض

ص: 132


1- شرح نهج البلاغة: 16 / 33

المطلوب بيانه.

3- روابط التعليل الحجاجي:

أ- الرابط الحجاجي(لأنَّ):

يعد هذا الرابط من أهم ألفاظ التعليل والتفسير وهو إلى جانب هذا يستعمل لتبرير الفعل كما يستعمل لتبرير عدمه. وقد شهد هذا الرابط وغيره من ألفاظ التعليل حضورا مميزا ومؤثرا في رسائل الإمام ؛ لأنَّ مقتضى الخطاب سواء أكان في الأمر أو الوعظ أو الدحض أو الدعوة يتطلب منهجا ومسارا تعليليا تفسيريا تبريريا من اجل التأثير والتوجيه والإقناع بالدعوى المقدمة ومثال ذلك قوله (عليه السلام): لمعاوية بن ابي سفيان: « وَالْاَوْلَى أَنْ يُقَالَ لَكَ إِنَّكَ رَقِيتَ سُلَّماً أَطْلَعَكَ مَطْلَعَ سُوءٍ عَلَيْكَ لاَ لَكَ لِاَنَّكَ نَشَدْتَ غَيْرَ ضَالَّتِكَك وَرَعَيْتَ غَيْرَ سَائِمَتِكَ وَطَلَبْتَ أَمْراً لَسْت مِنْ أَهْلِهِ وَلاَ فِي مَعْدِنِهِ «(1) فرابط التعليل (لأنَّ) جاء ليبين سببا معقولا ومنطقيا لسعي معاوية بن أبي سفيان للانقضاض على الخلافة من دون وجه حق فهو لا يطلبها بصورة مباشرة وعلنية ؛ بل هو يشرْعن لها من خلال كيل التهم والافتراءات على أمير المؤمنين (عليه السلام) ليفرغ أمر الخلافة وبيعة الإمام من محتواهما الشرعي، وهنا يكشف الإمام عن زيف ادعاء معاوية بأنَّه يطالب بدم عثمان وكذلك إبطال ما يطمح إليه من أمر الخلافة وهنا يأتي الربط العلّی الذي ربط بين النتيجة والحجج المقدمة بالشكل التالي:

النتيجة: انك رقيت سلما أطلعك مطلع سوء عليك لا لك.

الرابط الحجاجي: لان.

ص: 133


1- شرح نهج البلاغة: 17 / 121

ح 1: نشدت غير ضالتك.

ح 2: رعيت غير سائمتك.

ح 3: طلبت أمرا لست من أهله ولا في معدنه.

والملاحظ في هذا المثال أن الحجج جاءت مترادفة متسلسلة ومترابطة عبر حرف العطف (الواو) من اجل بيان وتأكيد وتثبيت النتيجة وهي طموح معاوية لنيل الخلافة فينتج عن ذلك سلّم حجاجي يعمل على ترتيب هذه الحجج حسب قوتها الحجاجية على النحو التالي:

فالحجة الأقوى في هذا السلم هي ( ق 3) ؛ لأنها لامست الواقع بشكل مباشر من حيث قوة ارتباطها وتعلقها المباشر بالنتيجة فضلا عن تعليلها للنتيجة المعروضة أكثر من غيرها . وفي مثال أخر يقول الإمام (عليه السلام) الى مالك بن الاشتر: « وَ لَا عُذرَ لَكَ عِندَ اللّهِ وَ لَا عنِديِ فِي قَتلِ العَمدِ لِأَنّ فِيهِ قَوَدَ« (1) النتيجة: لا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد..

ص: 134


1- شرح نهج البلاغة: 17 / 54

الرابط الحجاجي: لأنَّ الحجة: فيه قود البدن.

ففي هذا المثال يتضح أن الحجة الواردة قد أفادت ودعمت النتيجة المطروحة في النهي عن القتل العمد والتحذير المباشر من ارتكابه فالقصاص أمرٌ لا مفر منه ولا عديل عنه ولا يمكن المسامحة فيه في كل الأحوال والظروف حتى وان تحصن الجاني باطر الحاكمية أو القرابة أو غيرها من الموانع التي تجعل الإنسان في مأمن من إقامة القصاص عليه ونقصد هنا القتل العمد، فلا بد أن يقع عليه القصاص في الدنيا قبل الآخرة والمتضمن ل-(قود البدن) أي القصاص من بدن الجاني. وهنا يقدم الإمام الأثر التشريعي الدنيوي أي الحساب الدنيوي على الأثر الأخروي أي حساب الآخرة لدعم النتيجة التي أتى بها في إقامة القصاص الدنيوي ( قود البدن) وهي مسؤولية تقع على عاتقه (عليه السلام) أما القصاص الأخروي فان الله وحده من يختص به ولذلك فالإمام قد شحن هذه الحجة بشحنة نفسية في بيان طبيعة هذا القصاص بقوله ( قود البدن) من اجل الزيادة والإمعان في إرهاب من تسول له نفسه اقتراف هذه الجناية وتخويفه وإحداث الفزع في نفسه ليكون ذلك رادعا له وهو ذكر ابلغ من أن يقول له ( فان فيه القود) أي القصاص على جسم القاتل فلا يمكن صرف النظر عن القصاص وهنا يكون تأثير الحجة اقل قوة على نفس الإنسان مما لو قال (فيه قود البدن) أي أن الذكر ابلغ من الحذف في هذه المسألة. وفي مثال أخر يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): « وَلْیَكُنْ نَظَرُكَ فی عِمارَهِ الْأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فی اسْتْجلابِ اْلَخَراجِ، لِأَنَّ ذلِكَ لَا یُدْرَكُ إِلَّا بِالْعِمَارَهِ؛ وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَیْرِ عِمَارَهٍ «(1)

النتيجة: عمارة الأرض أفضل من استجلاب الخراج.

الرابط الحجاجي: لأنَّ

ص: 135


1- شرح نهج البلاغة: 17 / 34

الحجة: الخراج لا يدرك إلاَّ بالعمارة.

فالإمام يقنع المخاطب بضرورة الاعتناء والاهتمام بعمارة الأرض بشكل يفوق الاهتمام باستجلاب الخراج من الناس وحجته في ذلك إن تحقيق الخراج واستحصال الأموال يتوقف على ما يدره الزرع والضرع والبناء من أرباح وهنا تكمن أفضلية عمارة الأرض على استجلاب الخراج وبذلك يتقرر أن الرابط (لأنَّ) قد علل وبرر النتيجة (الأطروحة) لتأتي الحجة في مقام التفسير والتعليل لمضمون ما أراده الإمام.

ب- لام التعليل:

من أدوات الربط التي تدخل على الفعل المضارع فيكون ما بعدها علة لما قبلها ويقال لهذه اللام: لام العلة، ولام السبب، ولام كي ؛ لأنَّ معنى التعليل فيها راجع إلى معنى الاختصاص. فإذا قلنا: جئتك للاكرام. دلت اللام على أن المجيء مختص بالإكرام إذ الإكرام سببه دون غيره1(1) ، فهذا الرابط يستعمله صاحب الخطاب من اجل التبرير أو التعليل لفعله فهو نتيجة الدعوى والثمرة التي يقصدها المرسل، فهو اذن من الروابط الحجاجية التي تريط بين النتيجة والحجة لدعم وتبرير وتعليل النتيجة ومن أمثلة ورودها في رسائل الإمام (عليه السلام): « وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِی بِیَدِهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْاَرْضِ قَدْ أَذِنَ لَكَ فِی الدُّعَاءِ وَتَكَفَّلَ لَكَ بِالْاِجَابَهِ وَأَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ لِیُعْطِیَكَ و تَسْتَرْحِمَهُ لِیَرْحَمَكَ«(2)

النتيجة: أمرك أن تسأله وتسترحمه.

الرابط الحجاجي: لام التعليل.

الحجة: يعطيك ويرحمك.

ص: 136


1- ينظر: الجنى الداني في حروف المعاني: 109
2- شرح نهج البلاغة: 16 / 42

فالرابط هنا قد تموضع بعد التصريح بالحجة ( تسأله وتسترحمه) وجاء مرتبطا بالنتيجة التي جاءت بعده مباشرة (يعطيك ويرحمك) من اجل تعليل وتبرير العطاء والرحمة الإلهية لبني البشر وذلك راجع إلى معنى السؤال والاسترحام الذي يكون من احد طرقه الدعاء فضلا عن اقتران النية مع كل عمل صالح يقدم عليه الإنسان لله فيه رضى وللناس فيه صلاح، كما إن تحقيق الرحمة والعطاء الإلهي ليس مشروطا ومقرونا بالدعاء في كل الأحوال، أي متى ما انتفى الدعاء انتفت الرحمة والعطاء فالأمر لا يتقيد بهذا الحد أو هذا القيد لأنَّ الرحمة الإلهية قد وسعت كل شيء وأنَّ الله قد قسَّم الأرزاق بين عباده وبسطها لمن يشاء فهذه حقيقة ثابتة وبديهية قد أشار إليها القران الكريم في مناسبات كثيرة وأكدتها السنة النبوية الشريفة ؛ ولكن بيان استجابة الدعاء يتوقف على اقترانه بالعمل والسلوك الإنساني ومصداق ذلك قول أمير المؤمنين (عليه السلام): « لاتَترُكُوا الأمرَ بِالمَعروفِ وَالنَّهْیَ عَنِ المُنْكَرِ فُیَولّی عَلَیكُم شِرارُكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فلایُستَجابُ لَكُم «(1) . كما إن قول الإمام متعلق ببيان أوجه الخلاف والفرق بين سؤال ودعاء البشر من دون الله وسؤال ودعاء الله سبحانه وتعالى الذي بيده خزائن السماوات والارض ولا يشاركه في ذلك مخلوق آخر. فإفادة القول راجعة إلى تقوية السبب وتمتين عرى العلاقة والتواصل بين العبد وربه بفعل وجود الدعاء وما يقترن به من عمل خالص، فالرابط يحيل على العقد والتلازم بين سؤال ودعاء العبد ومصدر الفيض وهو الله سبحانه وتعالى لذلك كان التعليل بالرابط مدعاة إلى صرف نظر العباد عن الاتكال إلى غير الله في السؤال واستجابة الدعاء والعطاء.

ومن نحو هذا قوله (عليه السلام): « وَلَسْنَا لِلدُّنْيَا خُلِقْنَا وَلَ بِالسَّعْيِ فِيهَا أُمِرْنَا وَإِنَّمَا وُضِعْنَا فِيهَا لِنُبْتَلَی بِهَا »(2)

ص: 137


1- شرح نهج البلاغة: 17 / 4
2- نفسه: 17 / 66

النتيجة: وضعنا في الدنيا.

الرابط الحجاجي: لام التعليل.

الحجة: نبتلى بها.

فالرابط هنا جاء لتبرير وتعليل النتيجة التي مفادها إن الله إنما وضع عباده في هذه الدنيا ليختبرهم ويمحصهم أيهم أحسن عملا فيذهب ويجازى كل بقدر عمله من الإساءة والإحسان إلى يوم القيامة فيكون الثواب والعقاب على قدر أعمال العباد، فالدنيا هي دار ابتلاء وامتحان ولذلك قصر الإمام وجودنا فيها من اجل هذه الغاية بواسطة الرابط الحجاجي (إنما) وهنا يتبين أن علاقة الإنسان بالدنيا ليست علاقة الغاية مع المغيا أو إنها علاقة تلازم أبدية وإنما هي علاقة وقتية زائلة بزوال حياة الإنسان لذلك يتبين معنى الاستلزام بين الدنيا والإنسان من خلال عبارة (وضعنا) فهي مناسبة ومنسجمة مع (نبتلى بها) فهي تعلق كل منهما بالأخر في علاقة استلزامية تعليلية تبريرية ليأتي الرابط (اللام) في إفادة تخصيص الابتلاء في الدنيا وبالنتيجة يظهر جليا سبب وعلة الوضع دون علة الخلق فهما مفهومان متلازمان ومتباينان في الوقت نفسه فارتباط الثاني بالأول كارتباط الجزء بالكل أو الخاص بالعام.

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): « قَدْ آثَرْتُكُمْ بِهِ عَلَی نَفْسِی لِنَصِیحَتِهِ لَكُمْ وَ شِدَّهِ شَكِیمَتِهِ عَلَی عَدُوِّكُمْ»(1) .

النتيجة: آثرتكم به على نفسي.

الرابط الحجاجي: لام التعليل.

ص: 138


1- شرح نهج البلاغة: 16 / 76

حجة 2: وشدة شكيمته على عدوكم.

يبرز الرابط الحجاجي(اللام) في توجيه القول وتبرير النتيجة وتعليلها لبيان وإقامة حجة الخطاب ومفادها: إني خصصتكم بمالك الاشتر مع حاجتي إليه وقدمت منفعتكم على منفعتي لنصيحته لكم وقوة نفسه وشدة بأسه على عدوكم . كما أسهم الرابط الحجاجي (الواو) في عطف علة على علة متقدمة لإفادة معنى التقارب والتلازم بين العلل.

ت- الرابط الحجاجي ( كي ):

وقد ترد لام التعليل مقرونة ب-(كي) التي تعمل عمل (اللام) في إفادة معنى التعليل والتبرير وتوكيد الغاية ودعم الحجة المقامة في إفادة المعنى الكلي للقول. ولولا تحقيق هذه الغاية لما استعملت في قول الإمام ( ع): « وَالْوَاجِبُ عَلَیكَ أَنْ تَتَذَكَّرَ مَا مَضَی لِمَنْ تَقَدَّمَكَ مِنْ حُكُومَةٍ عَادِلَةٍ أَوْ سُنَّةٍ فَاضِلَةٍ أَوْ أَثَرٍ عَنْ نَبِینَا صَلَّی اللَّهُ عَلَیهِ وَآلِهِ وَسلَّم أَوْ فَرِیضَةٍ فِی كِتَابِ اللَّهِ فَتَقْتَدِی بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِیهَا وَتَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ فِی اتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَیكَ فِی عَهْدِی هذَا وَ اسْتَوْثَقْتُ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ لِنَفْسِی عَلَیكَ لِكَیلَا تَكُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِكَ إِلَی هَوَاهَا «(1) النتيجة: إتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك.

الرابط الحجاجي: لكيلا.

الحجة: لا تكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها.

فالنتيجة تكون مفسرة ومعللة ومؤكدة بواسطة الحجة وما أفاده الرابط الحجاجي

ص: 139


1- نفسه: 17 / 55

اللام+ كي) في تبيان العلة وتوكيدها. فالرابط (كي) يستعمل أيضا كرابط مدرج للنتائج فيكون تقدير الكلام انه بسبب ما جاء في هذا العهد من اشتماله على الحجج لا يكون لك عذر إذا خالفت واتبعت هواك. وقد وردت (كي) مقرونة ب-( ما) المصدرية في إفادة التعليل والتوكيد في قوله (عليه السلام): « فَإِذَا نَزَلْتُمْ بِعَدُوٍّ أَوْ نَزَلَ بِكُمْ فَلْیَكُنْ مُعَسْكَرُكُمْ فِی قُبُلِ الْأَشْرَافِ أَوْ سِفَاحِ الْجِبَالِ أَوْ أَثْنَاءِ الْأَنْهَارِ كَیْمَا یَكُونَ لَكُمْ رِدْءاً وَدُونَكُمْ مَرَدّاً«(1)

النتيجة: فليكن معسكركم في قبل الإشراف أو سفاح الجبال أو أثناء الانهار.

الرابط الحجاجي: كيما.

الحجة: يكون لكم ردءا ودونكم مردا.

فالرابط هنا جاء لربط العلة بالمعلول والحجة بالنتيجة فالامام يأمرهم ان ينزلوا مسندين ظهورهم الى مكان عالٍ كالهضاب العظيمة أو الجبال أو منعطف الأنهار التي تجري مجرى الخنادق على العسكر وإسناد ظهور الجيش إليها، هو نتيجة تكون مبررة ومعللة لتحقيق الضامن وهو العون والتحصين وهو ما أفاده الرابط الحجاجي في تبرير النتيجة وتعليلها حتى يأمن الجيش من إتيان العدو لهم من خلفهم فيكون حاجزا بينهم وبين العدو يتحصنون به.

د- الوصل السببي:

من أدوات التعليل التي يعمد المخاطب الإتيان بها للربط بين أحداث متتابعة مثل الربط بما يمكن أن يكون المقدمة والنتيجة فتصبح النتيجة مقدمة لنتيجة أخرى (2) .

وهذا الربط السببي التعليلي يمنح النص بُعداً اتساقيا تماسكيا بفعل مبدأ التدرج في إيراد

ص: 140


1- شرح نهج البلاغة: 15 / 43
2- إستراتيجية الخطاب: 480

الحجج ومن ثم يعطي النص البعد التواصلي وسرعة الاستجابة والتاثير.

وقد يعتمد الوصل السببي على نوعين من الأدوات السببية هما: الأدوات الملفوظة الدالة على السبب والتعليل مثل الفاء، ولأنَّ، وحيث. أما النوع الأخر من الأدوات فهي الأدوات المقدرة التي تتمثل برصد العلاقات السببية المنطقية الناتجة عن التعالق بين الجمل أو الحجج وهذا ما اسماه جان كوهين ب- « الربط بالقِران »(1) أو ما يسميه برلمان ب-(حجة التعدية) ونسميه ب-(التوالد الحجاجي).

ومن أمثلة هذا النوع من التعليل قوله (عليه السلام): « أَنْصِفِ اللَّهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ وَمِنْ خَاصَّهِ أَهْلِكَ وَمَنْ لَكَ فِیهِ هَوًی مِنْ رَعِیَّتِكَ فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ وَمَنْ خَاصَمَهُ اللَّهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ وَكَانَ لِلَّهِ حَرْباً حَتَّی یَنْزِعَ أَوْ یَتُوبَ »(2) ، فالخصومة من الله نتيجة لحجة (ظلم عباد الله) والنتيجة السابقة (من خاصمه الله) ستصبح مقدمة لنتيجة (ادحض حجته وكان لله حربا )، ومن هنا نجد أن الوصل بين المقدمة الأولى والنتيجة المتأخرة هو وصل سببي تتابعي بين الحجة والنتيجة فيصبح الكلام (من ظلم عباد الله كان لله حربا ) وقد وردت هذه الحجج بصورة متدرجة ومرتبة لغرض الإفهام والإقناع:

من لم ينصف الناس فقد ظلمهم.

من ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده.

من خاصمه الله ادحض حجته.

ص: 141


1- ينظر: جان كوهن، بنية اللغة الشعرية: 350
2- شرح نهج البلاغة: 17 / 16

من خاصمه الله وادحض حجته كان لله حربا.

فهذه العلاقات السببية قد تضمنت روابط قارة في البنية الدلالية العميقة للنص التي تتجسد في الربط شبه المنطقي للحجج مع ما افاده الرابط الحجاجي (الواو) من تآزر وتقارب بين الحجج وتقويتها. ولعل في هذا التسلسل أو التدرج أو التتابع في إيراد هذه الحجج ما يدفع باتجاه تحقيق الإقناع ؛ لأنَّ العبور من المقدمة الأصلية إلى النتيجة المتأخرة (الكلية) دفعة واحدة من شانه أن يضعف من قوة الإقناع والتأثير في إقامة الاستدلال بين المقدمة الأولى والنتيجة المتأخرة وبيان التداعي الذي تحدثه الحجج مما حدا بالإمام إلى التفصيل والتوضيح وصولا إلى بناء نص حجاجي ناجح ومؤثر ومقنع.

ومن ذلك ايضاً قوله (عليه السلام): « لاَ تَتْرُكُوا اَلْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ اَلنَّهْیَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ فَیُوَلِّیَ اَللَّهُ أُمُورَكُمْ شِرَارَكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلاَ یُسْتَجَابُ لَكُمْ دُعَاؤُكُمْ «(1) . فقوله (لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) هي نتيجة لمقدمة أو حجة (يولى عليكم شراركم) وهذه المقدمة ستصبح نتيجة لمقدمة: (تدعون فلا يستجاب لكم) فعدم استجابة الدعاء هي تحصيل حاصل لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعكس صحيح لقوله تعالى:

« وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ اُمَّهٌ یَدْعُونَ اِلَی الْخَیْرِ وَ یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ یَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ اُولآئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «(2) وفي هذا الإطار، قال الرسول محمد(ص) « لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت عنهم البركات وسلَّط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء »(3) ؛ لأنَّ ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مدعاة إلى فتح الطريق أمام الأشرار والطغاة بلا مانع وتحكمهم بمقدرات وأرواح الناس بدون حق وعدل، يسومونهم ألوان العذاب وهو

ص: 142


1- نفسه: 17 / 4
2- سورة ال عمران: الآية 17
3- بحار الانوار: 10 / 94

ما أشار إليه تبارك وتعالى: » ظَهَرَ الْفَسَادُ فِی الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَیْدِی النَّاسِ لِیُذِیقَهُم بَعْضَ الَّذِی عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ یَرْجِعُونَ »(1) وهذا الواقع هو الذي يحجب السماء من أن تستجيب لمن في الأرض بما كسبت أيديهم وصدق رسول الله (ص) حينما قال: «كما تكونوا يولى عليكم »(2) وبالضرورة فان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فاستجابة الدعاء مقرونة ومشروطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال النبي (ص): « أيها الناس إن الله يقول: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيبكم وتسألوني فلا أعطيكم وتستغفروني فلا اغفر لكم «(3) ومن قول الإمام (عليه السلام) يتبين أن الحجاج الوارد بالوصل السببي قد ورد عبر صيغة شرطية مضمرة وهي (إذا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فسوف يولى عليكم شراركم وإذا تولى عليكم شراركم فلا يجاب دعاؤكم) فنلاحظ إن العلة تدور مع المعلول فتفصح الحجج هنا عن تسلسل منطقي يتم التنقل بين المقدمة والنتيجة. والأصل في هذا القانون الحجاجي هو « قاعدة تخاطبية مقتضاها أن المتكلم يخبر المخاطب بأقصى ما يمكن من الفائدة فيصير هذا الأخير إلى حمل قوله على إفادة أنَّ العلاقة بين المقدم، والتالي علاقة شرطية طرديا وعكسيا لا طردا فحسب »(4) .

4- روابط العطف الحجاجي:

اشارة

بالإضافة إلى ما ذكرناه من روابط حجاجية تظهر هناك مجموعة من الحروف تضطلع ببعد حجاجي مهم من خلال ربطهما بين الحجج والنتائج والتنسيق بينهما من اجل

ص: 143


1- سورة الروم: الآية 41
2- الشيخ علي النمازي الشاهرودي، مستدرك سفينة النجاة: 7 / 44
3- محمد الريشهري، ميزان الحكمة: 3 / 1945
4- إستراتيجية الخطاب: 481

التعليل والتفسير والتبرير ومن هذه الروابط أحرف العطف: (الواو، والفاء، وثُمَّ) إذ تقوم بدور حجاجي كبير، فبالإضافة إلى قيامها بالربط بين قضيتين (حجتين) لنتيجة واحدة ووصفها سلّما حجاجيا يُضع هذه الحجج إلى تراتبية معينة بحسب قوتها في دعم النتيجة النهائية، فإنها تسهم أيضا في بداعة المعنى المقصود وخاصة إذا استعمل كل حرف واستغلت وظيفته في الموضع المناسب فذلك يزيد من الإثبات على المعنى من جهة ويلقي على الخطاب نوعا من التنظيم والانسجام من جهة أخرى(1) ، لذا سوف نحاولأن نبين عمل هذه الروابط في رسائل الإمام (عليه السلام) وبيان مستوى دعمها لعمل المحاجة.

أ- الرابط الحجاجي ( الواو):

يشير هذا الرابط إلى وظيفة الجمع بين قضيتين (حجتين) ويستعمل حجاجيا بوصفه رابطاً عاطفياً يعمل على ترتيب الحجج ووصل بعضها ببعض، بل يعمل على رصِّ الحجج وتماسكها وتقويتها فضلا عن التدرجية أو السلّمية في ترتيب الحجج وعرضها.

ومن الشواهد على ذلك قول أمير المؤمنين (عليه السلام): « فَأَرَادَ قَوْمُنَا قَتْلَ نَبِیِّنَا واجْتِیَاحَ أَصْلِنَا وهَمُّوا بِنَا الْهُمُومَ وفَعَلُوا بِنَا الأَفَاعِیلَ ومَنَعُونَا الْعَذْبَ وأَحْلَسُونَا الْخَوْفَ واضْطَرُّونَا إِلَی جَبَلٍ وَعْرٍ وأَوْقَدُوا لَنَا نَارَ الْحَرْبِ فَعَزَمَ اللّه لَنَا عَلَی الذَّبِّ عَنْ حَوْزَتِهِ والرَّمْیِ مِن وَرَاءِ حُرْمَتِهِ مُومِنُنَا یَبْغِی بِذَلِك الأَجْرَ وكَافِرُنَا یُحَامِی عَنِ الأَصْلِ ومَنْ أَسْلَمَ مِن قُرَیْشٍ خِلْوٌ مِمَّا نَحْنُ فِیهِ بِحِلْفٍ یَمْنَعُهُ أَوْ عَشِیرَهٍ تَقُومُ دُونَهُ فَهُوَ مِنَ الْقَتْلِ بِمَكَانِ أَمْن «(2) . فالرابط الحجاجي ( الواو) قام بالربط والوصل بين الحجج وعمل أيضا على ترتيبها بالشكل الذي يضمن تقوية النتيجة المطروحة ودعمها وهي (الذبّ عن حوزته

ص: 144


1- نعيمة يعمرانن، الحجاج في كتاب المثل السائر لابن الأثير، ( رسالة ماجستير): 93
2- شرح نهج البلاغة: 14 / 21

والرمي من وراء حرمته) كما عمل على الحصول الترادف داخل النتيجة الواحدة. وهذا الرابط النسقي بين الحجج قد أضفى إلى سلّمية تدرّجية باتجاه الحجة الأقوى بشكل أفقي أي عكس السلّم الحجاجي:

وهنا يتضح أن الحجة الأولى هي الحجة الأقوى مقارنة بالحجج التي سبقتها لخدمة النتيجة المعروضة لورودها في اعلى السلّم الحجاجي. ومن أمثلة هذا الرابط قوله (عليه السلام): « أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ دَهَاقِینَ أَهْلِ بَلَدِكَ شَكَوْا مِنْكَ غِلْظَهً وَ قَسْوَهً وَ اِحْتِقَاراً وَ جَفْوَهً وَ نَظَرْتُ فَلَمْ أَرَهُمْ أَهْلاً لِأَنْ یُدْنَوْا لِشِرْكِهِمْ وَ لاَ أَنْ یُقْصَوْا وَ یُجْفَوْا لِعَهْدِهِمْ فَالْبَسْ لَهُمْ جِلْبَاباً مِنَ اَللِّینِ تَشُوبُهُ بِطَرَفٍ مِنَ اَلشِّدَّهِ وَ دَاوِلْ لَهُمْ بَیْنَ اَلْقَسْوَهِ وَ اَلرَّأْفَهِ وَ اُمْزُجْ لَهُمْ بَیْنَ اَلتَّقْرِیبِ وَ اَلْإِدْنَاءِ وَ اَلْإِبْعَادِ وَ اَلْإِقْصَاءِ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ «(1) ، يتضح أن الرابط الحجاجي (الواو)

ص: 145


1- شرح نهج البلاغة: 15 / 65

قد أفاد في ربط الحجج مع بعضها وترتيبها لخدمة النتيجة وتقويتها.

ومثل ذلك قوله (عليه السلام): « وَإِنِّی إِنَّمَا جَعَلْتُ الْقِیَامَ بِذَلِكَ إِلَی ابْنَیْ فَاطِمَهَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللّهِ وَقُرْبَهً إِلَی رَسُولِ اللّهِ صلی الله علیه و آله وَتَكْرِیماً لِحُرْمَتِهِ وَتَشْرِیفاً لِوُصْلَتِهِ «(1) ، فالحجج المترادفة قد اتسقت وترابطت باتجاه تقوية النتيجة المطروحة ودعمها بفعل الرابط (الواو) الذي أفاد التعليل والتفسير لمضمون النتيجة: (جعل القيام لابني فاطمة) عليهم السلام، كما عمل هذا الرابط على الترتيب وإدراج الحجج بشكل أفقي:

بحيث يتبين أن الحجة الأولى هي الحجة الأقوى لخدمة النتيجة المعروضة لوقوعها في اعلى السلّم الحجاجي.

ب- الرابط الحجاجي (الفاء):

من حروف العطف التي تضطلع بوظيفة حجاجية، إذ يربط بين النتيجة والحجة من اجل التعليل والتفسير فهي أداة ربط علية واستنتاجية في الخطاب الحجاجي التداولي ومن ثم فهي تجمع بين قضيتين غير متباعدتين في الدلالة على التقارب بين الأحداث، فضلا عن الدلالة على الترتيب والاتصال، وأكثر ورودها كون ما بعدها أو المعطوف

ص: 146


1- نفسه: 15 / 70

بها متسببا عما قبله. ومن أمثلتها قوله (عليه السلام): « وَاسْتَغْنِ بِمَنِ انْقَادَ مَعَكَ عَمَّنْ تَقَاعَسَ عَنْكَ فَإِنَّ الْمُتَكَارِهَ مَغِیبُهُ خَیْرٌ مِنْ مَشْهَدِهِ وَقُعُودُهُ أَغْنَی مِنْ نُهُوضِهِ «(1) . نلاحظ أن (الفاء) قد ربطت بين الحجة والنتيجة فكان ما بعدها من حجة قد عللت وفسرت النتيجة التي سبقت الرابط فالمتثاقل المرتاب الذي يكره الخروج إلى الجهاد ولا تتحقق لديه النية والبصيرة يكون مغيبه عن الحرب أكثر فائدة من نهوضه إليها وهو كاره أو مرتاب إذ إن مغيبه يوجب قلة نفر واحد أما مشهده فانه موجب لان يخذل أصحابه وهو مصداق قوله تعالى: « لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا «(2) . وفي مثال آخر يقول الإمام (عليه السلام): « وكَیْفَ أَنْتَ صَانِعٌ إِذَا تَكَشَّفَتْ عَنْك جَلابِیبُ مَا أَنْتَ فِیه مِن دُنْیَا قَدْ تَبَهَّجَتْ بِزِینَتِهَا وخَدَعَتْ بِلَذَّتِهَا دَعَتْك فَأَجَبْتَهَا وقَادَتْك فَاتَّبَعْتَهَا وأَمَرَتْك فَأَطَعْتَهَا «(3) ، حيث نجد الرابط (الفاء) قد عمل على الترتيب والاتصال / المسارعة في تلبية الدعوة من دون مهلة خلافا لما تفيده الأداة (ثم) في إفادة التراخي فكان ما قبلها علة وسببا لما بعدها.

ج- الرابط الحجاجي ( ثُمَّ ):

هي أيضا من حروف العطف التي تفيد التراخي والمهلة بين قضيتين متباعدتين فضلا عن أفادتها الترتيب بين الحجج ومن أمثلتها قوله (عليه السلام): « فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَى الْحَيِّ فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ ثُمَّ امْضِ إِلَيْهِمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ حَتَّى تَقُومَ بَيْنَهُمْ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ وَلَا تُخْدِجْ بِالتَّحِيَّةِ لَهُمْ ثُمَّ تَقُولَ عِبَادَ اللَّهِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِيُّ اللَّهِ وَخَلِيفَتُهُ لِآخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ..... وَ اصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَیْنِ ثُمَّ خَیِّرْهُ فَإِذَا اخْتَارَ

ص: 147


1- نفسه: 14 / 15
2- سورة التوبة: الآية 47
3- شرح نهج البلاغة: 15 / 38

فَلاَ تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ ثُمَّ اصْدَعِ الْبَاقِیَ صَدْعَیْنِ ثُمَّ خَیِّرْهُ فَإِذَا اخْتَارَ فَلاَ تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ فَلاَ تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّی یَبْقَی مَا فِیهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ اللَّهِ فِی مَالِهِ «(1) ، فالإمام يوجه عامله على الخراج بما ينبغي أن يكون عليه في تعامله مع من يحق عليه الخراج من التأدب وحسن الخلق والتدرج في إبلاغ واستحصال ما بعث من اجله لذلك جاءت حجج الإمام متتالية ومرتبة تتسق وتنسجم مع ما ينبغي أن يكون عليه المطلب وقد أفادت (ثم) في إقامة هذه التراتبية في عرض الحجج لأنَّ لكل مقام مقال. وحقيقة (ثم) هنا دالة على التراخي والمهلة للربط بين المعطوف والمعطوف عليه غير أن هذه المهلة التي اقتضاها القول قد لا ترتبط بالزمن الحقيقي الفعلي ؛ بل ترتبط بزمن نفسي قد يطول وقد يقصر بحسب واقع الحال فكانت ميزة هذا الرابط هو في قدرته على نقل هذه الأحاسيس ورسم لنفسيات من تحدث عنهم الإمام في قوله.

وفي مثال أخر يقول الإمام (عليه السلام): « أَمَّا بَعْدُ فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِی فَاحْمِلْ مُعَاوِیَهَ عَلَی اَلْفَصْلِ وَ خُذْهُ بِالْأَمْرِ اَلْجَزْمِ ثُمَّ خَیِّرْهُ بَیْنَ حَرْبٍ مُجْلِیَهٍ أَوْ سِلْمٍ مُخْزِیَهٍ فَإِنِ اِخْتَارَ اَلْحَرْبَ فَانْبِذْ إِلَیْهِ وَ إِنِ اِخْتَارَ اَلسِّلْمَ فَخُذْ بَیْعَتَهُ وَ اَلسَّلاَمُ »(2) ، فنلحظ من خلال هذا المثال كيف توسطت الأداة (ثم) بين الأفعال للدلالة على التراخي وإعطاء المهلة وكأن بين الأفعال المتناسقة تراخيا وتباعدا زمنيا مع إفادة الترتيب في إلقاء هذه الحجج، وأما وجود (الفاء) في الأفعال ( فانبذ / فخذ) قد أفادت المسارعة في تقرير الحكم دون مهلة لأنَّ (ثُمَّ) بدلالتها المتراخية قد أعطت المهلة للتفكر ومراجعة التخيير بين السلم والحرب بروية تامة. وهنا يظهر أن الإمام قد أقام الحجة وأمهل معاوية الوقت اللازم لمراجعة وتحديد الخيار لذلك نجد أن الرابط (ثُمَّ) قد لعب دورا مهما في إقامة الحجة على معاوية، ومنح

ص: 148


1- نفسه: 15 / 71
2- نفسه: 14 / 20

القول بمجمله القوة الحجاجية المطلوبة.

وفي ختام هذا البحث نجد من الضروري الإشارة الى أن ما عرضناه من روابط حجاجية وما جسدناه من أمثلة في رسائل الإمام علي (عليه السلام) نوعا وكما كان على سبيل التمثيل لا الحصر مع اقتصارنا على الاستعمالات الحجاجية لهذه الروابط دون غيرها من الاستعمالات الاخرى.

المبحث الثاني: الموجهات الحجاجية في رسائل الإمام علي (عليه السلام)

مدخل:

التوجيه من المفاهيم التي تنفتح وتلتقي عندها حقول معرفية متعددة منها علوم المنطق والنحو واللسان مما أدى هذا الاتساع والتداخل بل والتعدد في المغذيات المعرفية التي تعمل على تنامي هذا المصطلح إلى الأهمية التي يشكلها باعتباره يمثل الصيرورة الوظيفية والإنجازية للغة وبوصفه العصب الحسي الناقل للإيعاز الإدراكي من القائل عبر المقول(المضمون الجملي) إلى المتلقي.

الذي يهمنا في هذه المتابعة لمصطلح التوجيه هو التوجه الذي تبناه اللسانيون المحدثون في الإحاطة بهذا المفهوم بعد أن افردوا مكانة هامة لدراسة الموجهات في أبحاثهم خاصة نتيجة الاهتمام المتزايد بتحليل ما يقوم به المتكلم حينما يتكلم، وقد أدت دراسة القوة الانجازية لأفعال الكلام إلى دراسة الموجهات «علاقة الموجهات بأفعال اللغة »(1) ، فقد عرَّفه مارتن بقوله: »...... التوجيه حكم على حكم أي انه حكم من درجة ثانية..... وهو ما من شأنه أن يجعل مجال التوجيه مجالا شاسعا فقولنا ( هو يعدو سريعا) هو قول موجه

ص: 149


1- ينظر: جون سرفوني، الملفوظية: 45

ذلك أن قولنا: (يعدو) حكم هو نفسه محكوم عليه بحكم آخر من قولنا (سريعا)، هذا يعني إن كل قول عادي هو قول موجه»(1) كما عرَّفوه بأنَّه «وجهة نظر الفاعل الناطق حول المقول في ملفوظ ما»(2) حيث يمثل المقول (المضمون الجملي) ووجهة النظر هذه حكم على حكم.

يدخل فعل التوجيه ضمن واحد من أنواع الأفعال اللغوية التي صاغها سورل وقد سمّها بالأفعال التوجيهية وتتحدد بأنها « كل المحاولات الخطابية التي يقوم بها المرسل بدرجات مختلفة للتأثير في المرسل إليه ليقوم بعمل معين في المستقبل»(3) . وتتعدد الأفعال التي تدخل في صنف الانجاز والتوجيه ومنها: الأوامر، والطلبات، والاقتراحات، والنصائح . ولكي يحقق المرسل فعل التوجيه في الخطاب فانه يستعين بأدوات أخرى وآليات مختلفة منها: أساليب الأمر، والنهي والتحذير، والإغراء، والروابط، والعوامل الحجاجية، وذلك بالاستناد إلى دور السياق والمقام. فالأفعال التوجيهية تعبر عن توجه المرسل إلى أن ينّفذ المرسل إليه بعض الأفعال في المستقبل، كما أنها تعبر عن رغبة المرسل، أو أمنيته بأن يكون خطابه أو بان تؤخذ إرادته التي انطوى عليها خطابه على إنها هي السبب الرئيس أو الدافع الحقيقي في الفعل الذي سوف يأتي به المرسل إليه مستقبلا(4) . ولا يعد التوجيه فعلا لغويا فحسب، بل هو يعد وظيفة من وظائف اللغة التي تعنى بالعلاقات الشخصية حسب تصنيف (هاليداي)، إذ أن « اللغة تعمل على

ص: 150


1- 2 نقلا عن: عبد الله صولة، الحجاج في القران الكريم: R.Matin،les univers de 315 croyance et la theorie semantique in Etudes linquistiques، AssociationTunisienn de linguistique، Volume 1،1996، p 38
2- ينظر: الملفوظية: 41
3- استراتيجيات الخطاب: 336
4- استراتيجية الخطاب: 337

أنها تعبير عن سلوك المرسل وتأثيره في توجهات المرسل إليه وسلوكه «(1) ، كما يصنفها (جاكبسون)، إذ يسمي وظيفة التوجيه في اللغة بالوظيفة الإيعازية أو الندائية(2) ، كذلك يوضح (روبول) بأنه « يمكن أن تتحدث لتجعل شخصا آخر يتصرف كما في حالة الأمر والنصيحة أو الرجاء أو الرفض أو المنع .... الخ »(3) .

أما تصنيف شابرول فهو يقسّم الموجهات على موجهات إثباتية وموجهات تقويمية(4) . ولما كانت الغاية التي يسعى إليها المتكلم هي التأثير والتوجيه والإقناع، فانه يلجأ إلى توظيف مجموعة من الموجهات اللسانية مثل العوامل والروابط الحجاجية والوحدات المعجمية التي تقترن بالبعد الحجاجي في مستويات الخطاب المختلفة وتدفع باتجاه إحداث تغيير في تفكير المتلقي نحو الغاية المنشودة.

فالموجهات اللغوية محمّلة بطاقة حجاجية يتم استثمارها من قبل المتكلم فتكون قادرة على توجيه الملفوظ تبعا لمقصديات الكلام ومتطلبات التلقي حيث يقف المخاطب بخطابه عند مثابات اشارية / موجهات يستدعيها ويوظفها بما ينسجم ليس فقط وتوجيه القول، بل وتوجيه المتلقي إلى عمل ما. ومن هنا نجد أن طبيعة الخطابات التي حفلت بها رسائل الإمام علي (عليه السلام) قد اتجهت إلى بناء استراتيجة توجيهية تتغيا هدف التوجيه بما يتلاءم وطبيعتها المقامية والسياقية، إذ من خلالها يقوم المرسل بتوجيه المرسل إليه عبر اللغة وبها سعيا منه إلى توجيه المخاطب نحو فعل مستقبلي معين، لذلك نجد أن رسائل الإمام قد اصطبغت بمجموعة من الموجهات الحجاجية التي تحقق الإقناع

ص: 151


1- 2- ينظر: نفسه: 3242
2- ينظر: نفسه: 324
3- روبول، اللغة، ضمن كتاب: محمد سبيلا، دفاتر فلسفية: 54
4- 1190-C.K.Orecchioni،lenonciation....،op.، p 188 -5 5- نقا عن: الحجاج في القران: 316

والتأثير ومن ثم توجيه المتلقي نحو فعل ما أو تركه (الإقناع أو الإذعان). وفيما يلي بيان لأهم الموجهات الحجاجية التي كان لها حضور بارز في تشكيل الخطاب الذي وجهه أمير المؤمنين (عليه السلام) عبر رسائله محل الدراسة الموجهة إلى عماله وأهل بيته وأعدائه على السواء وهي الموجهات اليقينية والتقريبية (الشكّية). معتمدين في إبراز هذه الموجهات على مجموعة من العوامل والوحدات اللغوية التي تضطلع بوظائف حجاجية، التي يعرّفها موشلر وروبول بأنها: « الآثار الظاهرة في الخطاب «(1) فهي ظاهرة للعيان في بنية الملفوظ ولها مزية توجيه هذا الملفوظ نحو النتيجة وتقويتها، إذ إنها لا تربط بين متغيرات حجاجية أي بين حجة ونتيجة أو بين مجموعة حجج كما يحصل مع الروابط الحجاجية، ولكنها تقوم بحصر وتقييد الإمكانات الحجاجية، أي أنَّ العامل الحجاجي يعمل على قدح (الموضع) وإظهاره في الملفوظ. وبدوره يعمل هذا الموضع على تحديد المسلك التأويلي الصحيح للوصول إلى النتيجة النهائية التي يكون لها الدور المفصلي والرئيس في إحداث التوجيه.

أولا: الموجهات اليقينية:

يرى الدكتور عبد الله صولة أن الموجهات اليقينية تعد الضمان لحقيقة الكلام ولإمكان أن يكون هذا الكلام مقنعا على الرغم من اصطباغه بالذاتية ذلك أن الإقناع يحصل لدى المتلقي بمجرد إن القضية المعروضة عليه جاءت موجهة توجه إثبات(2) .

وقد تجسدت الموجهات اليقينية في مجموعة من العوامل الحجاجية التي تعطي تطمينات إلى المتلقي بإمكانية تصديق واثبات بنية الملفوظ الذي وردت فيه ومن هذه العوامل

ص: 152


1- عز الدين الناجح، العامل ألحجاجي والموضع، (ضمن كتاب، الحجاج مفهومه ومجالاته): 308
2- ينظر:الحجاج في القران الكريم: 320

التي سبق أن اشرنا إليها في مبحث الحجاج في اللغة من الفصل الأول ، أدوات القصر/ أدوات التوكيد / أفعال اليقين / الحق أنَّ / اليقين أنَّ / الأكيد أنَّ / بديهي أنَّ......

الخ، حيث تتجسد وظيفة هذه العوامل في حمل المخاطب بها على الإقناع واتراك الشك والتردد والإنكار فضلا عن إمكانيتها في حصر الإمكانيات التأويلية والمقاصد الدلالية، بالإضافة إلى تضييق الفجوة وردم الهوة بين المخاطب والمتلقي وتجنب الجدل بينهما. وقد نهضت رسائل الإمام (عليه السلام) بالعديد من الموجهات اليقينية الاثباتية التي بدت قاطعة حاسمة جازمة لا مترددة شاكّة متظننة:

1- القَسَم:

اشارة

يعد القسم صنفا من أصناف الفعل الكلامي التي توجه القول توجيها يقينيا اثباتيا يلجا إليه المتكلم لتوكيد كلامه فهو إذ يثبت القضية ويوجبها يقيم في الوقت نفسه الحجة على المخاطب ويلزمه بها، وفي ذلك يقول أبو القاسم القشيري: « إن الله ذكر القسم لكمال الحجة وتأكيدها، وذلك أن الحكم يفصل بأثنين: أما بالشهادة وأما بالقسم فذكر تعالى في كتابه النوعين حتى لا تبقى لهم حجة»(1) .وفيما تقدم من قول ينبغي الإشارة إلى أمر مهم وهو انه ما كل مقسم به يكون حجة على صحة الدعوى وإنما تكون قوة الحجة الناتجة عن صحة الدعوى متوقفة على اعتبار المخاطب الذي جيء من اجله بالقسم، لهذا ذكر القشيري في شروط القسم: « ولا يكون القسم إلا بإسم معظم «(2) ، أي كون المقسم به يقع ضمن المنظومة الثقافية التي يدور في فلكها المتكلم والمتلقي التي تشكل عوالم إيمانية وعرفية مسلم بها. فالدلالة الكلية للقسم لا تتجه نحو القسم بذاته فحسب، وإنما يراد منها تحقيق الغرض التواصلي الذي يطمح إلى دفع المخاطَب إلى الوثوق بكلام المخاطِب،

ص: 153


1- السيوطي، الإتقان في علوم القرآن: 2/ 1332
2- السيوطي، معترك الإقران في اعجاز القران، تح: محمد علي البجاوي: 2/ 450

وبالتالي يكون دوره ضروريا جدا لإنتاج الإقناع أو لاحتمال حصوله على الاقل. برز اسلوب القسم في رسائل الإمام عبر مجموعة من العوامل الحجاجية مثلت المقسم به وراحت توجه الملفوظ وجهة حجاجية واثبات القضايا التي تدخل عليها وحمل المتلقي على التصديق والإقناع بها في حالتي النفي والإثبات للدعوى لذلك انقسمت التراكيب اللغوية المتضمنة لأسلوب القسم في المدوّنة من الناحية الحجاجية على قسمين:

أ- العامل الحجاجي:

عبّر العامل الحجاجي عن الشيء المقسم به، ومن مميزاته أنَّه يؤثر في التركيب حتى ينهض في الخطاب بوظيفة الحجاج، كما يعمل على توجيه الملفوظ وإثباته وجعله مما يحمل على أنَّه واقع لا محالة ذلك أن للمقسم به قوة في تحقيق قيمة الكلام التأثيرية، انه يمثل المعلوم القديم الذي لا يمكن إلاَّ أن يُقبل(1) . ويمكن أن نفحص هذا العامل ألحجاجي من خلال وروده في رسائل الإمام فيتضح لنا التالي:

- الله.

- اقسم بالله رب العالمين.

- اقسم بالله قسما صادقا -وايم الله.

- لعمر الله.

- فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة.

- ولعمري.

وقد اكتسبت هذه العوامل / المقسم به حجاجيتها وأثرها البالغ في توجيه الإثبات

ص: 154


1- ينظر: الحجاج في القران الكريم: 322

من حصول إجماع ضمني في قبولها بحيث تشكل نقطة التقاء واشتراك بين طرفي الخطا وهذا الإجماع ناتج عن العظمة التي يحملها المقسم به التي تبرز عبر هذه العوامل الحجاجية التي بدورها تحيل على مقتضيات معجمية ناجمة عن الدلالات والمقاصد الثاوية في المقسوم به. فالمحمول الدلالي والاقتضائي للعامل الحجاجي في القسم يضطلع بوظيفة حجاجية في المنظومة العقدية للمخاطب (القسم بالله) والعرفية (لعمري) ولذلك يتم استدعاؤه في الخطاب سعيا من المتكلم لحصول الاطمئنان وعدم التردد من طرف المخاطب في قبول القضية / الدعوى من حيث تحقيق الصدق والإثبات مما يجعل المتلقي- منطقيا- يقتنع بفحوى جواب القسم فالدور الحجاجي الذي يلعبه القسم يتمثل في توجيه المقول والقول معا، أي يعمل على توجيه موضوع الكلام وإبراز مدى حضور الذات القائلة في كلامها وانفتاحها على عوالم المتلقين وعوالم إيمانهم، إذ ينطلق من مكوناتها ويعتمدها ليقيم الحجة على صحة القضايا التي يعرضها عليهم ويوجهها توجيها اقناعيا مخصوصا 0 وقد تنوعت أدوات القسم المحددة لجملة القسم / العامل الحجاجي في رسائل الإمام وانقسمت على ثلاثة أقسام: الحروف: ممثلة في (الواو) و(الفاء)، الأسماء: ممثلة في (ايم) و(عمر) و(يمين)، الأفعال: ممثلة في (اقسم).

ب- الدعوى:

وتمثل المقسم عليه / جواب القسم وهي تمثل البؤرة التي جاء القسم ليسلط الضوء عليها باعتبارها المعلومة الجديدة التي من شانها أن ترد، كما أنها القضية التي يتم حولها التنازع والاختلاف فتحاول أن تستجمع قواها وتفرض نفسها عبر تحصينها ودرء معاول التفنيد عنها بواسطة القسم فهي كالعارية . وقد تشكلت الدعوى / جواب القسم في عدة أنماط لغوية تركيبية:

ص: 155

ب- 1- النمط الخبري المثبت:

يبرز جواب القسم في صيغة نمط خبري مثبت في الأمثلة التالية:

- وَلَعَمْرُ اللهِ لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَذُمَّ فَمَدَحْتَ وَأَنْ تَفْضَحَ فَافْتَضَحْتَ (1) .

- وَاللَّهِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مَعَ مُحِقٍّ وَمَا أُبَالِی مَا صَنَعَ الْمُلْحِدُونَ (2) .

ب- 2- النمط الخبري المؤكد:

يمثل جواب القسم النمط الخبري المؤكد في الملفوظات التالية:

- وَلَعَمْرِي يَا مُعَاوِيَةُ لَئِنْ نَظَرْتَ بِعَقْلِكَ دُونَ هَوَاكَ لَتَجِدَنِّ أَبْرَأَ النَّاسِ مِنْ دَمِ عُثْمَنَ(3) .

- وَلَعَمْرِي لَئِنْ لَمْ تَنْزِعْ عَنْ غَيِّكَ وَ شِقَاقِكَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ عَنْ قَلِيلٍ يَطْلُبُونَكَ (4) .

- فَوَالَّذِی فَلَقَ اَلْحَبَّهَ وَ بَرَأَ اَلنَّسَمَهَ لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقّاً لَتَجِدَنَّ لَكَ عَلَیَّ هَوَاناً وَ لَتَخِفَّنَّ عِنْدِی مِیزَانا (5) .

- وَ إِنِّی أُقْسِمُ بِاللَّهِ قَسَماً صَادِقاً لَئِنْ بَلَغَنِی أَنَّكَ خُنْتَ مِنْ فَیْءِ الْمُسْلِمِینَ شَیْئاً صَغِیراً أَوْ كَبِیراً لَأَشُدَّنَّ عَلَیْكَ شَدَّةً تَدَعُكَ قَلِیلَ الْوَفْرِ ثَقِیلَ الظَّهْرِ ضَئِیلَ الْأَمْرِ (6) .

- وَ اَیْمُ اَللَّهِ یَمِیناً أَسْتَثْنِی فِیهَا بِمَشِیَّهِ اَللَّهِ لَأَرُوضَنَّ نَفْسِی رِیَاضَهً تَهَشُّ مَعَهَا إِلَی اَلْقُرْصِ

ص: 156


1- شرح نهج البلاغة: 15 / 86
2- نفسه: 17 / 120
3- نفسه: 14 / 16
4- شرح نهج البلاغة: 14 / 21
5- نفسه:
6- نفسه:

إِذَا قَدَرْتُ عَلَیْهِ مَطْعُوماً وَتَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً (1) .

- وَایْمُ اللهِ لَتُؤْتَیَنَّ حَیْثُ أَنْتَ وَلاَ تُتْرَكُ حَتَّی یُخْلَطَ زُبْدُكَ بِخَاثِرِكَ وَذَائِبُكَ بِجَامِدِكَنفسه: .

ب- 3- النمط الخبري المنفي:

يمثل جواب القسم النمط الخبري المنفي في الملفوظات التالية:

- لَعَمْرِی مَا كُنْتُمَا بِأَحَقَّ اَلْمُهَاجِرِینَ بِالتَّقِیَّةِ وَ الْكِتْمَانِ نفسه: .

- فَوَ الَّذِی فَلَقَ الْحَبَّهَ وَبَرَأ النَّسَمَهَ مَا أسْلَمُوا وَلَكِنِ اسْتَسْلَمُوا وَأسَرُّوا الْكُفْرَفَلَمَّا وَجَدُوا أعْوَاناً عَلَیْهِ أظْهَرُوهُنفسه: .

- فَوَ اللَّهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْیَاكُمْ تِبْراً وَلاَ ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً وَلاَ أَعْدَدْتُ لِبَالِی ثَوْبِی طِمْراً وَلاَ حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً وَلاَ أَخَذْتُ مِنْهُ إِلاَ كَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَهٍ وَلَهِیَ فِی عَیْنِی أَوْهَی وَأَوْهَنُ مِنْ عَفْصَهٍ مَقِرَهٍنفسه: .

- فَوَاللّهِ لَا أَذِلّ لَكِ فتَسَتذَلِيّنيِ وَ لَا أَسلَسُ لَكِ فتَقَوُديِنيِنفسه: .

- فَوَ اَللَّهِ مَا كَانَ یُلْقَی فِی رُوعِی وَ لاَ یَخْطُرُ عَلَی بَالِی أَنَّ اَلْعَرَبَ تُعَرِّجُ هَذَا اَلْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ (صَلَّی اللَّهُ عَلَیْهِ وَ آلِهِ) عَنْ أَهْلِ بَیْتِهِ نفسه: .

ص: 157


1- نفسه:

- وَ اللَّهِ مَا عَلِمْتُ الْأَغْلَفُ الْقَلْبِ الْمُقَارِبُ الْعَقْلِ.

- إِنَّهمْ وَاللهِ لَم يَنْفِرُوا مِنْ جَوْر وَلَم يَلْحَقُوا بِعَدْل(1) .

- أُقْسِمُ بِاللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ مَا یَسُرُّنِی أَنَّ مَا أخَذْتَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَلَالٌ لِی أَتْرُكُهُ مِیرَاثاً لِمَنْ بَعْدِی(2) .

ب- 4- النمط الطلبي:

فَوَاللّه لَوْلا طَمَعِی عِنْدَ لِقَائِی عَدُوِّی فِی الشَّهَادَه وتَوْطِینِی نَفْسِی عَلَی الْمَنِیَّه لأَحْبَبْتُ ألاَّ أَلْقَی مَعَ هَؤلاءِ یَوْما وَاحِدا ولا أَلْتَقِیَ بِهِمْ أَبَدا(3) .

وَ وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَیْنَ فَعَلَا مِثْلَ الَّذِی فَعَلْتَ مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِی هَوَادَهٌ وَ لَاظَفِرَا مِنِّی بِإِرَادَهٍ(4) .

وَ اللَّهِ لَوْ كُنْتِ شَخْصاً مَرْئِيّاً وَ قَالَباً حِسِّيّاً لَأَقَمْتُ عَلَيْكِ حُدُودَ اللَّهِ(5) .

ص: 158


1- شرح نهج البلاغة:
2- نفسه:
3- نفسه:
4- نفسه:
5- نفسه:

إِنِّی وَاللهِ لَوْ لَقِیتُهُمْ وَاحِداً وَهُمْ طِلاَعُ الارْضِ كُلِّهَا مَا بَالَیْتُ وَلاَ اسْتَوْحَشْتُ(1) .

وَ أُقْسِمُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَوْ لاَ بَعْضُ اَلاِسْتِبْقَاءِ لَوَصَلَتْ إِلَیْكَ مِنِّی قَوَارِعُ تَقْرَعُ اَلْعَظْمَ وَ تَهْلِسُ اَللَّحْمَ(2) .

ج- الطاقة الحجاجية للقسم:

تنفتح تراكيب الأنماط للدعوى على آفاق دلالية وتداولية واسعة لا تقف عند حدود الطاقة التعبيرية لدلالة النمط، إذ تبين الملفوظات المؤكدة بالقسم محاولة المتكلم لإقناع الخصم بوسم خطابه بأعلى درجات التأكيد ومن ثم يصبح للملفوظ درجة حجاجية عالية(3) . فمكمن الطاقة المولدة للإقناع هو ما ينهض له المقسم به من دور في توجيه الملفوظات وإثباتها وجعلها مما يُمل على أنَّا واقعة لامحالة. وبعبارة أخرى إن قوة المقسم به تعمل على تحقيق قيمة الكلام التأثيرية سواء أكانت هذه القيمة متحققة أم كانت متصورة. كما تكشف الملفوظات المؤكدة بالقسم صورتين متعارضتين يمكن استخلاصهما من مجمل رسائل الإمام حيث تزيد درجة إثبات الدعوى بارتفاع درجة الإنكار وتطابق الجمل أنماط مقامية مختلفة تتمايز بموقف المخاطَب من فحوى القضية انطلاقا من مجرد التردد في قبول هذا الفحوى إلى الإنكار التام فكلما ازداد الإنكار احتيج إلى مضاعفة التوكيد(4) ويتجلى ذلك الظهور للدعوى في أنماط بنيوية متباينة وذلك حتى تكون

ص: 159


1- نفسه:
2- نفسه:
3- ينظر: ابتسام بن خراف، الخطاب ألحجاجي السياسي في كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة ، دراسة تداولية ( أطروحة دكتوراه ): 251
4- ينظر: احمد المتوكل، قضايا اللغة العربية في اللسانيات الوظيفية، البنية التحتية أو التمثيل التداولي نموذجا: 188

منسجمة ومطابقة مقامية متمايزة أبينها فيما يأتي:

ج - 1 - الطبقة المقامية الأولى:

وهي الطبقة التي يكون فيها المخاطب جاهلا بالمعلومة التي يقصد المتكلم إعطاءه إياها أو يعتبر المتكلم إن المخاطب يجهلها، أي إن المعلومة المقدمة لا تدخل في القاسم الإخباري المشترك بين المتكلم والمخاطب(1) ، وتمثل الملفوظات التالية:

- فَوَ اَللَّهِ لَوْ لاَ طَمَعِی عِنْدَ لِقَائِی عَدُوِّی فِی اَلشَّهَادَهِ وَ تَوْطِینِی نَفْسِی عَلَی اَلْمَنِیَّهِ لَأَحْبَبْتُ أَنْ لاَ أَبْقَی مَعَ هَؤُلاَءِ یَوْماً وَاحِداً وَ لاَ أَلْتَقِیَ بِهِمْ أَبَداً.

- وَوَ اللّهِ لَو أَنّ الحَسَنَ وَ الحُسَينَ فَعَلَا مِثلَ ألّذِي فَعَلتَ مَا كَانَت لَهُمَا عنِديِ هَوَادَةٌ وَ لَا ظَفِرَا منِيّ بِإِرَادَةٍ.

- وَ اللّهِ لَوْ تَظَاهَرَتِ اَلْعَرَبُ عَلَی قِتَالِی لَمَا وَلَّیْتُ عَنْهَا.

- وَاللهِ لَوْ كُنْتِ شَخْصاً مَرْئِيّاً، وَقَالَباً حِسِّيّاً لَاَقَمْتُ عَلَيْكِ حُدُودَ اللهِ.

- إِنِّی وَاللّهِ لَوْ لَقیتُهُمْ وَاحِداً وهم طِلَاعُ الْأَرْضِ كُلِّها ما بالَیْتُ وَلَا اِسْتَوْحَشْتُ.

- وَ أُقْسِمُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَوْ لاَ بَعْضُ اَلاِسْتِبْقَاءِ لَوَصَلَتْ إِلَیْكَ مِنِّی نَوَازِعُ تَقْرَعُ اَلْعَظْمَ وَ تَهْلِسُ اَللَّحْمَ.

- وَ لَعَمْرِی لَئِنْ لَمْ تَنْزِعْ عَنْ غَیِّكَ وَ شِقَاقِكَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ عَنْ قَلِیلٍ یَطْلُبُونَكَ.

- فوَاَلذّيِ فَلَقَ الحَبّةَ وَ بَرَأَ النّسَمَةَ لَئِن كَانَ ذَلِكَ حَقّاً لَتَجِدَنّ لَكَ عَلَيّ هَوَاناً وَ لَتَخِفّنّ عنِديِ مِيزَاناً.

- وَ إِنِّی أُقْسِمُ بِاللَّهِ قَسَماً صَادِقاً لَئِنْ بَلَغَنِی أَنَّكَ خُنْتَ مِنْ فَیْءِ اَلْمُسْلِمِینَ شَیْئاً صَغِیراً أَوْ

ص: 160


1- ينظر: احمد المتوكل، الوظائف التداولية في اللغة العربية: 29

كَبِیراً لَأَشُدَّنَّ عَلَیْكَ شَدَّهً تَدَعُكَ قَلِیلَ اَلْوَفْرِ ثَقِیلَ اَلظَّهْرِ ضَئِیلَ اَلْأَمْرِ.

- وَ ايمُ اللّهِ يَمِيناً أسَتثَنيِ فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللّهِ لَأَرُوضَنّ نفَسيِ رِيَاضَةً تَهِشّ مَعَهَا إِلَي القُرصِ إِذَا قَدَرتُ عَلَيهِ مَطعُوماً وَ تَقنَعُ بِالمِلحِ مَأدُوماً.

- وَایْمُ اللَّهِ لَتُؤْتَیَنَّ مِنْ حَیْثُ أَنْتَ وَلَا تُتْرَكَ حَتَّی یُخْلَطَ زُبْدُكَ بُخَاثِرِكَ وَذَائِبُكَ بِجَامِدِكَ .

فقد مثلت الدعوى / جواب القسم في الملفوظات السابقة المعلومة التي يجهلها المخاطب بالنسبة للمتكلم لذا يلجأ الأخير إلى إثباتها والسعي إلى حصول اليقين والاطمئنان بيقينيتها في ذهن المتلقي وكأن المتكلم يدفع بالمخاطب إلى الوثوق بكلامه حين يقدم له معلومة يجهلها فيعمل (المتكلم) على تأكيدها بأعلى درجات الإثبات كما هو واضح في الأمثلة التالية:

حيث يمثل الملفوظ: (واقسم بالله انه لولا بعض الاستبقاء لوصلت إليك منّي قوارع) الحجة التي قدمها الإمام علي (عليه السلام) إلى معاوية بن أبي سفيان، فالإمام يؤكد له أنَّه لولا بعض الأمور المصلحية منها الاستبقاء على ظاهر الإسلام وحفظ العترة الطاهرة لخير الأنام وهذه هي المصلحة التي رعاها في ترك المحاربة مع أهل السقيفة ومخالفيه بعد وفاة الرسول (ص). فلولا هذه الضرورة المثبطة لو صلتك مني قوارع وهي كناية عنشدائد الحروب والمصائب وقد أتى بالقسم لإثبات هذه الدعوى ثم عزز القسم بالعامل الحجاجي.(أن + اللام) المؤكدتان لمضمون الخبر في الجملة وزيادة توثيقه.

كما ساهمت العوامل( اللام والنون) في تأكيد الدعوى جنبا إلى جنب مع القسم في الملفوظ: (ولعمري لئن لم تنزع عن غيك وشقاتك لتعرفنَّهم عن قليل يطلبونك) حيث عملت هذه العوامل على توزيع شحنة التوكيد بالتساوي على قسمي الجملة وتعزيز قوة القسم الوارد.فالإمام يقسم بنفسه وبحياته الشريفة لتأكيد الدعوى التي يقدمها إلى معاوية بأسلوب التحذير، أي: إن لم تنته عن ضلالك ومشاقتك وتماديك ومخالفتك

ص: 161

واتخاذ أمر المطالبة بدم عثمان ذريعة لتحقيق نزواتك ومكائدك والانقضاض على الملك فسوف ينقلب السحر على الساحر وسيطلبك من تطلب أي قتلة عثمان عوض ما كنت أنت تطلبهم، يريدون قتلك كما قتلوا عثمان. كما يبرز العامل الحجاجي كفعل كلامي توجيهي إثباتي في تأكيد معنى التحذير ليحدد الإطار العام للخطاب وهو قوله (عليه السلام) )واني اقسم بالله قسما صادقا لان بلغني انك خنت من فيء المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر ثقيل الظهر ضئيل الأمر).

فقد تشكل الفعل التوجيهي الانجازي عبر مجموعة من المؤكدات وهي ( إني + اقسم بالله قسما صادقا + لان + اللام + نون التوكيد) التي عملت على إثبات الدلالة على مسمع المخاطب . فعلى الرغم من وجود هذا الكم من العوامل الحجاجية / المؤكدات، يظل الموجه القسمي المباشر والصريح (اقسم) أهمها على الإطلاق بدلالة التكرار الوارد فيه (قسما صادقا). فالإمام يركن إلى توثيق كلامه من خلال شبكة من المؤكدات التي تضمر الوعد والتهديد لمقاصد حاضرة غايتها رعاية مصالح الأمة وهنا يقع القسم كونه يحمل قوة انجازيه ليس فقط بدلالته البنيوية الخاصة وقوته الداخلية أي إحالاته المرجعية المقدسة بل تنفتح دلالته على جهة صدوره ومتانة العلاقة بين القسم والمقسم عليه/ الدعوى أي يصبح القسم مرآة عاكسة لطبيعة الخطاب الذي صدر عن ديوان رسمي له قوة الكلمة وصدق الوعد وقدرة التنفيذ. فالقسم الذي حوته هذه الرسالة هو قسم إخبار، إذ المتكلم يؤكد ويجزم باستخدام مختلف الأساليب التعبيرية. إن الوالي إن هو حاول اغتصاب أموال الرعية فلسوف يكون مآله العقاب بل العقاب الشديد، وبدوره يندرج هذا القسم الإخباري كبعد تداولي ضمن لائحة أفعال الوعد اعتمادا على منظور (أوستن) و (سيرل) الذي لا يخالف أستاذه في تحديده لأفعال الوعد باعتبارها تلزم المتكلم بتبني سلوك معين والقيام بفعل ما(1) .

ص: 162


1- دراجي صافية، سلطة الفعل الكلامي من خال رسائل الإمام علي ( بحث منشور ضمن المؤتمر الدولي الخامس / السيمياء والنص الادبي): 24
ج - 2: الطبقة المقامية الثانية:

هي الطبقة المقامية التي يتوفر فيها المخاطب على المعلومة التي يعدها المتكلم معلومة غير واردة ويعمل المتكلم على تصحيحها للمخاطب(1) ، وتمثلها الملفوظات التالية:

- فَوَاللَّهِ لَا أَذِلُّ لَكِ فَتَسْتَذِلِّینِی وَلَا أَسْلَسُ لَكِ فَتَقُودِینِی.

- فَوَ اللَّهِ مَا كَانَ یُلْقَی فِی رُوعِی وَلَا یَخْطُرُ بِبَالِی أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ ( صلی الله علیه وآله ) عَنْ أَهْلِ بَیْتِهِ.

- فَأَیُّنَا كَانَ أَعْدَی لَهُ وَ أَهْدَی إِلَی مَقَاتِلِهِ أَ مَنْ بَذَلَ لَهُ نُصْرَتَهُ فَاسْتَقْعَدَهُ وَ اسْتَكَفَّهُ أَمْ مَنِ اسْتَنْصَرَهُ فَتَرَاخَی عَنْهُ وَ بَثَّ الْمَنُونَ إِلَیْهِ حَتَّی أَتَی قَدَرُهُ عَلَیْهِ.

- فَوَ اَلَّذِی فَلَقَ اَلْحَبَّهَ وَ بَرَأَ اَلنَّسَمَهَ مَا أَسْلَمُوا وَ لَكِنِ اِسْتَسْلَمُوا وَ أَسَرُّوا اَلْكُفْرَ فَلَمَّا وَجَدُوا أَعْوَاناً عَلَیْهِ أَظْهَرُوهُ.

- فَوَ اللّهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْیَاكُمْ تِبْراً وَلَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً وَلَا أَعْدَدْتُ لِبَالِی ثَوْبِی طِمْراً وَلَا حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً وَلَا أَخَذْتُ مِنْهُ إِلَّا كَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَهٍ وَلَهِیَ فِی عَیْنِی أَوْهَی وَأَوْهَنُ مِنْ عَفْصَهٍ مَقِرَهٍ.

- لَعَمْرِی مَا كُنْتُمَا بِأَحَقِّ اَلْمُهَاجِرِینَ بِالتَّقِیَّهِ وَ اَلْكِتْمَانِ.

- وَ اللَّهِ مَا عَلِمْتُ الأَغْلَفُ الْقَلْبِ الْمُقَارِبُ الْعَقْلِ.

- إنَّهُمْ واللّهِ لَمْ یَنْفِرُوا مِنْ جَوْرٍ ولَمْ یَلْحَقُوا بِعَدْلٍ.

- وَ أُقْسِمُ بِاللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ مَا یَسُرُّنِی أَنَّ مَا أخَذْتَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَلَالٌ لِی أَتْرُكُهُ مِیرَاثاً لِمَنْ بَعْدِی.

- وَ اللَّهِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مَعَ مُحِقٍّ وَ مَا أُبَالِی مَا صَنَعَ الْمُلْحِدُونَ.

ص: 163


1- ينظر: الوظائف التداولية في اللغة العربية: 29 - 30

- وَلَعَمْرِی یَا مُعَاوِیَهُ لَئِنْ نَظَرْتَ بِعَقْلِكَ دُونَ هَوَاكَ لَتَجِدَنِّی أَبْرَأَ النَّاسِ مِنْ دَمِ عُثْمشانَ.

- وَلَعَمْرُ اللهِ لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَذُمَّ فَمَدَحْتَ وَأَنْ تَفْضَحَ فَافْتَضَحْتَ.

إن الملفوظات أعلاه هي جواب القسم على القضايا التي يطرحها المتكلم والتي هي عبارة عن أجوبة لأسئلة مقدرة ومفترضة يتم الرد عليها بطريقة لا يمكن ردها أو إنكارها، وكان الخطاب المثبت والمؤكد بالقسم خير وسيلة لإثبات مصداقية الجواب ففي قوله (عليه السلام): ( فو الله لا أذل لك فتستذليني ولا أسلس لك فتقوديني) نجد أن الإمام يلجأ إلى القسم حتى يثبت عدم حرصه على الدنيا وانقياده إلى ملذاتها ورغائبها، وهو في إثباته هذا، إنما يريد أن يوجه رسالة إلى عالم المتلقين بضرورة الحذر من مغريات الدنيا ومكائدها وعدم التسليم لها في محاولة لتأكيد نفي ما يخطر في بال المخاطب وتوجيهه بشكل غير مباشر وهي في هذا المقام أشبه بالسلطة الأمرية يخضع لها المخاط؛ لأنَّ الاستجابة لأثر التوجيه قد نتج عن عاملين أساسين يشكلان باعثا على التوجيه هما انطلاق الملفوظ باعتباره مجموعة أفعال صادرة عن سلطة أمرية يقر لها المخاطب بالتعالي وهي سلطة الخليفة تجاه من هم اقل منه رتبة ودرجة، ثم إن هذا الملفوظ قد صدر وشحن بالقيمة الدينية وهي سلطة أخرى مارسها الملفوظ على المتلقي تتميز بقوتها باعتبارها سلطة الواجب الديني والامتثال الرباني. إذ إن فعل الأمر، كما يقول ديكرو، يتطلب نوعا من العلاقة الترتيبية بين الذي يأمر والذي يؤمر، أي تكون هناك إمكانية تقديم الأوامر مع القصد الأساسي للإثبات(1) ، فان استدعاء القسم قد ساهم مساهمة فعالة في إبراز الوقع الحجاجي ؛ لأنَّ أثره يكون اشد على المخاطب وأعمق أثرا فيه مما لو كان الجواب عاريا عن مظاهر التوكيد، من هنا نجد أنَّ القسم الحجاجي قد انتصب على المكون الدال على المعلومة الجديدة التي يعتقدها المتكلم نفيا أو ايجابا.

كما يتحقق النفي بوساطة ازدواج العاملين الحجاجين ( ما و لا) اللذين يعدان من

ص: 164


1- ينظر: سلطة الفعل الكلامي من خلال رسائل الإمام علي ابن أبي طالب: 3

العناصر المكونة لنظام النفي في الفعل الملفوظ نفسه وتحقق (ما) بعدا دلاليا هو نفيها فعلا ماضيا منقضيا مثبتا مؤكدا وهو نفي شامل لجنس الحدث الذي يعبر عنه الفعل بعدها أما (لا) فقد عملت على نفي القصد وهو ابلغ من نفي الفعل(1) ، كما في قول الإمام (عليه السلام): (فو الله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي إن العرب تزعج هذا الأمر من بعده (ص) عن أهل بيته) فقد عمل العامل الحجاجي (ما) على نفي نسبة المحمول ( تزعج هذا الأمر) إلى الحامل (يلقى في روعي / يخطر ببالي) ذلك أن « (ما) تنفي الفعل المضارع المثبت الذي يزامن فيه حدث القول من حيث المظهر، يعني أنَّا تنفي فعلا ينقله المتكلم من زاوية التحقق المطلق في التصور والحدوث الفعلي »(2) .

فالإمام هنا عمد إلى تأكيد النفي عبر القسم حتى يكون الوقع الحجاجي ابلغ في توجيه المتلقي، فالدلالة اللفظية لا تنحصر في عملية الإنكار وتأكيده بل تعدت إلى إبراز الفعل التعجبي من توافق أكثر العرب (مقتضى) على ترك إطاعة الكتاب والسنة وعدم تمكينهم له (عليه السلام) فكون الأمر /الخلافة له بعد النبي (ص) على مقتضى ناموس الفطرة والقاعدة المتداولة بين الناس عربهم وعجمهم وكون خلافه لا يحتمله احد ولا ينتظره احد، فالمقصود من الجملتين ( ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي) هو مقصود واحد وهو عدم احتمال التنحية له عن الخلافة بعد وفاة الرسول لان استحقاقه لها وتوصية النبي بكونه بعده صاحب الأمر جلية عندهم بسبب إصراره وتكراره في كل موقف يقتضيه وإعلامه على رؤوس الاشهاد في غدير خم وتنصيصه عليه في قوله (ص):

(يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) لذلك جاء القسم لإنكار احتمال أن يقع الخلاف على إمامته وخلافته من قبل العرب.

وفي كتابه (عليه السلام) إلى معاوية: « فأينا كان أعدى له وأهدى له إلى مقاتلته امن

ص: 165


1- ينظر: الخطاب السياسي في كتاب الإمامة والسياسة ، دراسة تداولية: 256
2- - نفسه: 257

بذل له نصرته فاستقعده واستكفه امن استنصره فتراخى عنه وبث المنون إليه كلا والله، (قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا و لا يأتون البأس إلا قليلا) «(1) .

فقد عمد الإمام إلى تعرية خطاب معاوية وتبكيته ووضعه على محك الواقع والحقيقة، لذلك لجأ(عليه السلام) فيما لجأ إليه إلى بيان هذه الحقيقة وتأكيدها عبر أساليب بلاغية منها استخدام (لا) قبل القسم وهو اسلوب من أساليب الكلام عند العرب يقصد به الرد على كلام سابق(2) . فقد أكد الإمام نفي التهمة الموجهة إليه من كونه هو المحرض على قتلة عثمان بن عفان ثم ارتقى بهذه الحجة درجة لإثبات هذا النفي بالقسم الذي تحرك باتجاهين موجهين / انجازيين / متوازيين، لتأكيد الدلالات الثاوية في الملفوظ الذي سبقه. الاتجاه الأول اشرنا إليه آنفا في إثبات النفي أما الاتجاه الآخر فيكمن في توجيه القول باتجاه إثبات التقصير لمعاوية ( ام من استنصره فتراخى عنه وبث المنون إليه ) لان النفي قد منع حصول التسوية بين الحالين أتت (أم) لبيانهما وهنا يكمن الدور الحجاجي الذي حققه القسم في تأثيره على مسار النفي وتأكيده، فوجود النفي متأخر قبل القسم ليس مرادا منه التأكيد على كلام سابق لان حكم المؤكد ينبغي أن يكون بعد المؤكد لا قبله وإنما جاء وروده قبل القسم يدل على العناية به وصرف فائدة القسم له لزيادة تأكيده في إفادة نفي الكلام السابق عليه والذي تحدده القرائن المعنوية ومقتضى المقام.

هذا ويعد الرابط الحجاجي (لكن) من أدوات التوكيد والإثبات وقد تجسد وروده مع القسم في تأكيد قول الإمام: « فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما اسلموا ولكن استسلموا واسروا الكفر فلما وجدوا أعوانا عليه أظهروه » فقد ابرز هذا الملفوظ البنية التركيبية التالية ( واو القسم+ المقسم به + ما(النافية) + المقسم عليه) فورود القسم هنا جاء ليس لتوكيد النفي فحسب بل وتوكيد الاستدراك وهو ارتقاء سلّمي في مستوى

ص: 166


1- شرح نهج البلاغة:
2- ينظر: مصطفى النحاس، دراسات في الادوات النحوية: 76

الحجاج لأنَّ انصهار( القسم والنفي والاستدراك) في بوتقة التوجيه القولي الواحد ضمن القسم الحجاجي الواحد قد قدم ابلغ توكيد وأحسن إثبات لفحوى الخطاب ومن ثم توجيه القول للانخراط بانجاز فعلي. وهنا نجد أن القسم بما يشكله من بؤرة قد أُسند إلى المكون الحامل للمعلومة ( ولكن استسلموا) التي يشك المخاطب في ورودها أو المعلومة التي ينكر المخاطب ورودها أو التي قيد الانجاز الفعلي لذلك جاء القسم مؤكدا ومثبتا لما بعد الرابط (لكن) باعتبارها الحجة الأقوى من التي قبل الاستدراك بحيث استطاعت أن توجه الخطاب بمجمله.

2- القصر:

اشارة

من الوسائل اللغوية التي يلجأ إليها المتكلم حتى يوجه خطابه توجيه اثبات. والقصر لغة: الحبس، وفي الاصطلاح: تخصيص أمر بأمر بأسلوب معين أي حبسه عليه وجعله ملازما له. وهو أداة توكيد وتخصيص، وكلما قويت الحاجة إليهما كان القصر ابلغ(1) .وآية التوكيد في القصر أن يكون بنفي الغير واثبات الحكم للموضوع ويكون صراحة بحرف (النفي) و(إلا) وضمنا ب-(إنما)، وأما التخصيص، فهو اختصاص احد العنصرين دون غيره بالآخر ومن ثم تأكيد النسبة بينه وبين الآخر(2) .

إن التوكيد بالقصر هو عمل لغوي انجازي يعتمده المتكلم في توجيه المخاطب وجعله يسير في الاتجاه الذي يحدده ويرسمه المتكلم، وبالنتيجة دفع المتلقي إلى إعمال طاقة الاستنتاج لديه. فالأقوال التي تتضمن هذه العوامل الحجاجية ( أدوات القصر) هي في حقيقتها قائمة على ثنائية النفي والإثبات من حيث السلوك الحجاجي والوجهة الحجاجية، كما إنها تبين التعارض بين المعنى الإخباري والمعنى الحجاجي، فمسألة

ص: 167


1- وليد قصاب، البلاغة العربية ، علم المعاني: 161
2- ينظر: تمام حسان، البيان في روائع القران ، دراسة لغوية وأسلوبية للنص القرآني 2/ 136

دخول الأدوات هذه على الجملة لا يقدح في معناها الإخباري ولكن الذي يتأثر في هذا التعديل هو القيمة الحجاجية للقول، أي الإمكانات الحجاجية التي يتيحها الملفوظ إذ أن من وظائف هذا القصر هو تقليص الإمكانات الحجاجية، أي تقليص الاستنتاجات التأويلية وتحديد المسار الذي ينبغي أن يسير فيه الخطاب وبعبارة أكثر دقة وضع حد لتعدد الاحتمالات في شأن المفاهيم الناجمة عن قول ما.

ومن متابعة مدونة رسائل الإمام علي (عليه السلام) نلاحظ تحقق اسلوب القصر عبر مجموعة من العوامل الحجاجية التي عملت على تعديل القيمة الحجاجية للملفوظات (قيمة الإثبات/ قيمة التخصيص)، فضلا عن قدرتها على توجيه المخاطب وإقناعه بضرورة انجاز شيء ما على وفق موجهات القول. ومن هذه العوامل: ( ما.. 0 إلاَّ، لا. 0..الاَّ، إنما) 0

وفيما يلي بيان لآلية اشتغال هذه الأدوات وما تتضمنه من قوة إنجازية مواكبة للمحتوى القضوي للجملة التي تمثل في معظم الأحوال الحجج التي يسوقها الإمام (عليه السلام) في خطابه.

ا- القيمة الحجاجية للعامل ( لا.....الاَّ) و ( ما..... إلاَّ):

يأتي هذان العاملان الحجاجيان ليوجها القول بالنفي والإثبات بناء على مقتضى الإنكار والشك والتوهم الحاصل من المخاطب الأمر الذي يجعل المتكلم يستعين بهذه الأدوات لما لها من طاقة حجاجية في توجيه وإقناع مخاطبه، كما في الامثلة التالية:

ففي معرض وصيته إلى عماله على الخراج قال أمير المؤمنين (عليه السلام) « وَ لَا مُعَاهِدٍ إِلَّا أَنْ تَجِدُوا فَرَساً أَوْ سِلَاحاً يُعْدَى بِهِ عَلَى

ص: 168

أَهْلِ الْإِسْلَا«(1) ففي هذا المثال نجد إن الإمام قد ألزم عماله بقاعدة التقييد وحصر مسار الجائز عندهم وقيده بواسطة العامل (لا ...إلاَّ) الذي شغل وظيفتين حجاجيتين هما:

التصريح بالنفي المفهوم من الجملة الأولى وتعيينه وإقصاء مفاهيم أخرى قد تخطر ببال المخاطبين أو المتلقين بشكل عام إذ أن وجود النفي دون القصر مدعاة إلى تعدد المنحى التأويلي أو الإمكانات الاستنتاجية المحتملة والثانية هي تأكيد المفهوم المقصور عليه إذ بواسطته تقصى جميع المفاهيم والتأويلات الأخرى التي يمكن أن تدور بخلد المتلقين/ المخاطبين والتي تعمل على تشويش النظام الدلالي الذي يوافق العقيدة الإسلامية فوجود القصر بهذه الأداة قد عين المقصود الذي انصرف وتوجه ذهن المتلقي إلى قبوله دون سائر المقاصد كما أن التصريح بالمقصور عليه من شانه أن يسد أمام المتلقين من الخصوم سبل الطعن على كلام أمير المؤمنين، فالوظيفة العامة التي تضطلع بها الجملة الدلالية الثانية في علاقتها بالجملة الأولى هي علاقة التوكيد والبيان والتفسير، فكان المراد: أن لا يأخذوا من مال احد من أهل القبلة أو المعاهدين من أهل الكتاب شيئا إلا أن يكون فرسا أو سلاحا يُعدى به على المسلمين والإسلام فانه يجب أخذه من أيديهم لئلا يكون شوكة على المسلمين وعونا.

وهنا لابد من الإشارة إلى مسألة مهمة تتعلق بدور أدوات القصر في هدم نظرية الخصوم المحتملة، فقد ذُكر: إن بني أمية كانوا يأخذون الجزية ممن اسلم من أهل الذمة ويقولون هولاء فرّوا من الجزية ويأخذون الصدقة من الخيل، وربما دخلوا دار الرجل قد نفق فرسه او باعه فاذا ابصروا الآخيّة قالوا: قد كان هاهنا فرس فهات صدقتها، وكانوا يبيعون الرجل في الدَيْن يلزمه ويرون انه يصير بذلك رقيقا، وكان معن أبو عمير بن معن الكاتب* حرا مولى لبني العنبر فبيع في دَيْن عليه فاشتراه أبو سعيد بن زياد بن عمرو

ص: 169


1- شرح نهج البلاغة: 17 / 9

العتكي **

وباع الحجاج علي بن بشر بن الماحوز * ؛ لكونه قتل رسول المهلب الى رجل من الأزد، وكانت بنو امية تختم في أعناق المسلمين كما توسم الخيل علامة على استعبادهم، ونقشوا اكف المسلمين علامة لاسترقاقهم كما يصنع بالعلوج من الروم والحبشة، وبايع مسلم بن عقبة أهل المدينة كافة وفيها بقايا الصحابة وأولادها وصلحاء التابعين على أن كلا منهم عبد قنّ ليزيد بن معاوية إلاَّ علي بن الحسين (عليه السلام) فانه بايعه على انه اخوه وابن عمه(1) .وهل كان فعلهم إلاَّ بتأسيس المتقدمين عليه (عليه السلام) لهم ذلك، كما لا يخفى على من كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد وقد اقر بذلك خالهم وولي ثالثهم في كتابه إلى محمد بن أبي بكر (2) .

ومما تقدم ومن خلال ربطه بالمفهوم اللاقولي الذي يشي به كلام أمير المؤمنين بدلالة الموجه القصري يتضح أن لموجهات القصر دوراً مهماً جدا في هدم النظرية المحتملة ، مع احتمال وجود جذور لها قبل خلافة الإمام علي- التي كان الإمام (عليه السلام) يتوقع أو يستشعر إرهاصاتها وبوادرها في فكر وسلوك الخط الأموي الذي بدأ يتعاظم دوره في الساحة السياسية زمن الإمام علي (ع ) فوقوع النفي والتخصيص الذي أفاده القصر إنما هو نهي عن الظلم واخذ أموال الناس عن طريق المصادرة والتأويل الباطل الذي تم تقويضه بواسطة (القصر) وهو يستثني: الذين تجدوا عندهم خيولا أو سلاحا يعدى به على بلاد المسلمين فانه يجوز أخذه منهم. كما أن ورود هذا الملفوظ عاريا من مظاهر

ص: 170


1- ينظر: شرح نهج البلاغة: 15 / 11
2- ينظر: ابن مزاحم، وقعة صفن: 119 ، والمسعودي، مروج الذهب: 3 / 11 ، الباذري، انساب الاشراف: 2 / 396

القصر قد يفقده كل بعد حجاجي، كما أنه لا يؤسس لبناء نظرية (فكرية أو أخلاقية) وفي ذلك يدخل ضمن الجائز والمباح الذي لا يُمس من كان لهم خيول وسلاح يعدى به على بلاد المسلمين وهذا أمر مخالف للشريعة الاسلامية. كما إن هذا الأمر من شأنه أن يفتح الباب على مصراعيه ويشرعن أساليب التجاوز والمساس، بل الانقضاض على بيضة الإسلام، وهنا يبرهن لنا ( القصر) عن تأسيس عمليتين مهمتين في آن واحد هما هدم نظرية الخصوم وبناء نظرية تنسجم وتطلعات الإسلام والمسلمين أو بالأحرى هي ليست بالبناء التأسيس الجديد ؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاَّ أحصاها في كتاب مبين فالأمر يتعلق بإعادة التأسيس والتذكير والتنبيه بما ينبغي عليهم فعله. كما اندرج الملفوظ الذي صرح به الإمام (عليه السلام) وهو يوصي جيشا بعثه إلى العدو: « وَ إِذَاغَشِيَكُمُ اللَّيْلُ فَاجْعَلُوا الرِّمَاحَ كِفَّةً وَلَ تَذُوقُوا النَّوْمَ إِلَّ غِرَاراً أَوْ مَضْمَضَةً «(1) في سياق حجاجي يخدم نتيجة من قبيل: أن لا يستغرقوا في النوم خوف هجوم العدو، إذ أن ورود الحصر قد عين بمنطوقه المفهوم الدلالي المراد تأكيده وإبرازه تعيينا دقيقا وهو بذلك قد حدد مسار الحجاج باتجاه تعيين المفهوم المراد وتقويته، لأنَّ العامل الحجاجي بمعية الإمكانات التي يوفرها الموضع باعتباره عاملا رئيسا في ربط الحجة بالنتيجة من تظافر هذين العاملين تحصل عملية التوجه الحجاجي، أي رسم المسلك التأويلي الصحيح للوصول إلى النتيجة المطلوبة. فالمفهوم الدلالي الذي أفاده وأظهره القصر لا يمكن دحضه لأنه جاء لبناء رأي يسلم به المخاطبون ويعتبرونه حقيقة لا نقاش فيها فهم يسلمون أن الغفلة وخاصة في حال النوم من شأنه أن يمكن الأعداء منهم ويلحق الهزيمة بهم، ولذلك جاء قول الإمام (عليه السلام) إلى مخاطبيه مستغلا كفايتهم الثقافية والمعرفية ليبني انطلاقا منها نظرية فكرية عسكرية فيأتي هنا القصر للتوكيد وتوجيه القول وتسليط الضوء على الملفوظ من اجل توكيده.

ص: 171


1- شرح نهج البلاغة: 15 / 43

وفي سياق آخر يظهر الإمام (عليه السلام) مجدّا في إنكار إسلام معاوية ومن تبعه في قوله: « وَمَا أَسْلَمَ مُسْلِمُكُمْ إِلَّا كَرْهاً،وَبَعْدَ أَنْ كَانَ أَنْفُ الْإِسْلَامِ كُلُّهُ لِرَسُولِ اللّهِ (ص) حِزْباً «(1) . لقد شرع الملفوظ بنفي الحكم عن غير المقصور عليه ثم جيء بهذا المقصور عليه بعد (إلا) ليحصر الحكم ويؤكده، إذ أن نفي كونهم مسلمين قد فتح باب الاستلزام التأويلي باتجاه تعدد الإمكانات الحجاجية التي تعمل على تمويه المسلك الرابط بين الحجة والنتيجة مما يؤدي إلى حصول التوهم والالتباس فتعدد التأويلات في حقيقة إسلام هؤلاء، وإذا كان إثبات كون إسلامهم (كرها) بفعل (إلا) تبيينا وتعيينا لحقيقة إسلامهم وهو تعيين أفاد في وجه من وجوهه عدم الحاجة إلى السؤال المقدر: إذا كانوا غير مسلمين فماذا يكونوا ؟، لذلك كان المقصور عليه توكيدا وحصرا لاستلزام واحد وإمكانية تأويلية واحدة من بين التأويلات والإمكانات الحجاجية التي افترضها السؤال المقدر. وبعبارة أخرى إن القصر هنا قد أفاد الجواب على سؤال مقدر .

ب- القيمة الحجاجية للعامل ألحجاجي ( إنما ):

ذكر الجرجاني أن (إنما) يؤتى بها لخبر لا يجهله المخاطب، ولا يدفع صحته ولكن لمن يعلمه ويقر به(2) كما أنها تأتي إثباتا لما يذكر بعدها وتوكيدا له، ولإيضاح ما تقدم » انك تقول للرجل ( إنما هو أخوك، وإنما هو صاحبك القديم ) لا تقوله لمن يجهل ذلك ويدفع بصحته. ولكن لمن يعلمه ويقر به، إلاَّ أنَّك تريد تنبيه للذي يجب عليه من حق الأخ وحرمة الصاحب”(3) وهذا دليل واضح من الجرجاني على أن العامل ألحجاجي (إنما) قد عمل على تحديد الموضع الذي هو مجموعة مبادئ عامة مشتركة بين الناس وإبرازه،

ص: 172


1- نفسه: 17 / 121
2- ينظر:دلائل الإعجاز: 327
3- نفسه: 327

كما انه حدد المسلك التأويلي الذي ينبغي للمتقبل التزامه للوصول إلى النتيجة فالمخاطب لا يجهل الموضع بل يقر به ؛ لأنه كما قلنا، فكرة عامة مشتركة، وبعد قدح العامل تقع عملية التوجيه الحجاجي وتقويته باتجاه النتيجة وهو ما عبر عنه الجرجاني ب-( التنبيه) أي التوجيه في معنى من معانيه ومن الامثلة على ذلك يسوق الإمام علي (عليه السلام) في اقواله جملة من الحجج التي جاءت في بنية قصرية حتى تكون موغلة في الحجاج من خلال ما تحققه من قوة انجازية تدفع بالمخاطب نحو الاقتناع أو الدحض ففي قوله: “ فَإِنّكَ إِنّمَا نَصَرتَ عُثمَانَ حَيثُ كَانَ النّصرُ لَكَ وَ خَذَلتَهُ حَيثُ كَانَ النّصرُ لَهُ «(1) ، جواب عن خطاب معاوية بن أبي سفيان في ادعائه نصرة عثمان وتبكيته من قبل الإمام على ادعائه ذلك وخذلانه لعثمان الأمر الذي أكده القصر ب-(إنما) الذي أفاد منه الإمام في توكيد المعنى في الذهن واثبات الحكم المقصور في الكلام وتعيينه وقد تضمن قول الإمام ( حجة تناقض وعدم اتفاق) توسم بها عليه السلام لتبكيت خصمه وتقويض خطابه ؛ لأنَّ معاوية لما استنصره عثمان تثاقل عنه وهو بذلك يعده حتى إذا اشتد به الحصار بعث إليه يزيد بن أسد القسري وقال له: اذا اتيت ذي خُشُب فأقم بها ولا تتجاوزها ولا تقل: الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فأنني أنا الشاهد وأنت الغائب، فأقام بذي خُشُب حتى قتل عثمان فاستقدمه حينئذ معاوية فعاد إلى الشام بالجيش الذي كان أرسل معه فكان نصره له حيث بعث لنصرته إنما كان على سبيل التعذير والتقاعد عنه ليُقتل فيدعو إلى نفسه فكان ذلك النصر في الحقيقة لمعاوية، إذ كان فعله ذلك سببا لقتله وانتصاره هو مطلوبه من هذا، وكان خذلانه له حيث كان محتاجا إلى النصر(2) وفي ذلك كله استدلال حجاجي مقدمته الصغرى ما تقدم، وتقدير الكبرى: وكل من كان كذلك فليس له أن يفخر بنصرته وينسب غيره إلى

ص: 173


1- شرح نهج البلاغة: 16 / 75
2- ينظر: شرح نهج البلاغة: 16 / 75 ، ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 5 / 78

خذلانه لذلك كان وجود القصر قد رفع الالتباس الحاصل وقضى على الاحتمالات التي تسمح أن يكون معاوية قد نصر عثمان بدلالة القصر الذي أكد حدوث المقصور عليه وتعيينه وهو ما ضمن سلامة المسار الحجاجي في إعادة توجيه المتلقي من خلال دحض لمعتقد معاوية واثبات نقيضه الذي تصرح به الجملة وتعيينه في منطوقها فهو يشكل هدما لنظرية الخصم، ويقلب اعتقادهم ويكشف كذبهم ببيان حقيقة ادعائهم كما لجأ الإمام (عليه السلام) إلى استعمال العامل الحجاجي (إنما) في قوله: « فَخَشِیتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ اَلْإِسْلاَمَ وَ أَهْلَهُ أَنْ أَرَی فِیهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ الْمُصِیبَةُ بِهِ عَلَیَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلاَیَتِكُمُ الَّتِی إِنَّمَا هِیَ مَتَاعُ أَیَّامٍ قَلاَئِلَ یَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا یَزُولُ السَّرَاب أَوْ كَمَا یَتَقَشَّعُ السَّحَابُ «(1) ، حتى يحقق الغرض التخاطبي ممثلا في المحتوى القضوي لملفوظ (ولايتكم) ومن ثم توجيه المخاطب بفعل المفاضلة / الفعل الكلامي، التي يعقدها الإمام بين الخوف على الإسلام واهله من أن ينثلم او ينهدم اصلا من اصوله وما يترتب على هذه الخشية من التزامات وبين فوت الولاية التي يختزلها الإمام ويقوض أهميتها عنده عبر القصر بأنها(متاع أيام قلائل)، فعملية توهين أمر الولاية ناتج عن القيمة التفاضلية التي يقدحها العامل الحجاجي (إنما) في الموضع (مواضع الكم) بدلالة (أيام قلائل).

فالوجهة الحجاجية للقول المذكور تروم تعبئة المتلقي للانخراط في الأطروحة التي يقدمها الإمام ويحصر قاعدة الاستنتاجات الضمنية التي يمكن أن يطرحها المتلقي وذلك عبر واسمات لغوية (إنما) تعبر عن مقاصد وغايات المتكلم. فالاستلزام الذي تضمنه مفهوم الولاية هو إنها مهما طالت وعرضت تظل محدودة بالأمد القصير قياسا بحال الآخرة التي لا منتهى لأجلها . فشبه زوال الدنيا فضلا عن زوال الولاية بزوال السراب وتقشع السحاب وكونها لا أصل لثباتها كما لا ثبات لحقيقة السراب، فالمخاطب لا يجهل تلك الحقيقة وإنما أراد الإمام تأكيدها وإقرارها في نفس المتلقي وتنبيهه عليها من اجل

ص: 174


1- شرح نهج البلاغة: 17 / 72

تقوية التوجيه ألحجاجي نحو النتيجة.

فالعامل الحجاجي (إنما) الذي قدح الموضع جعل للملفوظ مفهوما أو استلزاما واحدا هو (متاع أيام قلائل) و بالنتيجة نلاحظ أن اعتماد العامل الحجاجي واقترانه بالموضع قد حدد الاستلزام / الاستنتاج / التأويل وضبطه وعيّنه فهو من هذه الناحية أكثر نجاعة من المقام نفسه في تحديد المفهوم الدلالي من الملفوظ.

ثانيا: الموجهات التقريبية أو موجهات الشك:

تعبّر الموجهات التقريبية أو موجهات الشك عن ألفاظ من قبيل: ( يبدو أن، كأن، زعم، لعل، ظن، الاسوار......)، وهذه العوامل الحجاجية وغيرها من شأنها أن تجعل الملفوظ ذا سمة ذاتية من خلال الإعلان عن حضور صاحبه فيه حضورا بارزا للعيان تكسبه صبغة موضوعية(1) . إن دخول هذه العوامل الحجاجية أو الموجهات التقريبية أو المفيدة شكاً بتعبير عبد الله صولة على القضايا والملفوظات الخطابية إنما يكون لغاية اقناعية بمضمون هذه القضايا المطروحة، تقول اوروكيوني في هذا الصدد: « إننا بإعلاننا عن شكنا وعدم يقيننا وبجعل حكايتنا حكاية تقريبية نكون قد برهنا على درجة من النزاهة الفكرية تفضي إلى جعل الحكاية في مجملها حكاية صادقة »(2) ، من هنا نجد أن الموجهات التقريبية تجعل الخطاب الذي ترد فيه ذا بعد موضوعي يبعث على التصديق أو يولد الإقناع، ووسم المتكلم خطابه بهذه الموجهات يعني أن يقف موقف الحياد من مضمون القضايا التي يعرضها على السامع بحجة الموضوعية والنزاهة، وفي هذا الصدد

ص: 175


1- ينظر: الحجاج في القران الكريم: 317
2- p ،1980 ،Orecchioni، L enunciation: De La Subjectivite dans Le languge، armand colin، paris .2 144-143 نقا عن: الخطاب الحجاجي في كتاب الإمامة السياسية ، دراسة تداولية: 266

يطرح الدكتور عبد الله صولة تساؤلا من قبيل: هل يعني كلام اوروكيوني سالف الذكر أن الموجهات اليقينية ، التي اشرنا إليها فيما مضى ، هي على عكس الموجهات التقريبية و(الظنية) تفسر الحجاج ولا تؤدي إلى الإقناع ؟ وللإجابة عن هذا السؤال يطرح صولة رأيه في أن الأمر كله مرهون بمقام القول فليس صحيحا دائما إن الموجهات التقريبية من شأنها أن تجعل الخطاب الذي ترد فيه ذا بعد موضوعي يبعث على التصديق ويولد الإقناع كما ترى اوروكيوني، ذلك أن الموجهات التقريبية و(الظنية) إذ تدخل على كلام يكون المخاطب به شاكا في مدى صحته مترددا في قبول محتواه تزيد شكه شكاً وتردده تردداً، فلا بد في هذا المقام أن تكون الموجهات يقينية محضة لتحمل المخاطب بها على الاقتناع واتراك الشك والتردد والإنكار(1) وهو ما نهضت له على خير وجه الموجهات اليقينية الواردة في رسائل الإمام والتي اشرنا إلى بعض منها (القسم و القصر) إنموذجا لتجليها.

مما تقدم بيانه يتضح أن الأثر التوجيهي الاقناعي للموجهات التقريبية والمفيدة شكا يخضع بشكل عام إلى مقتضيات المقام، فالمقام هو الذي يحدد الأثر التوجيهي لهذه الأدوات/ العوامل ويمنحها البعد الحجاجي من عدمه. وعلى هذا الأساس يتضح أن ورود هذه الموجهات في مقامات معينة يؤدي إلى إحداث التأثير والإقناع بحسب المقصديات الدلالية التي يستعملها صاحب الخطابمن اجل التشكيك في خطاب الخصم وزيادة التردد في قبوله مما يحيل على تأكيد واثبات نقيض خطاب الخصم وتفنيده وتعريته من مقومات نجاحه في حين تؤدي هذه الموجهات الشكية في مقامات أخرى إلى التنفير من القضايا التي تدخل عليها والى عدم التصديق بها والارتياح إليها ذلك أن استخدامها في الملفوظ يقتضي أن القضية من شأنها أن لا تكلل بالنجاح وان لا يتحقق

ص: 176


1- ينظر:الحجاج في القران الكريم: 319

محتواها الدلالي كما يقتضي أن صاحبها غير ضامن لها أن تنجح وتتحقق(1) ، وفي هذا الشأن أوضح تولمين بقوله: « حين أقول: (اعرف إن كذا هو كذا) أو ( اعد بأن افعل كذا) أكون قد التزمت التزاما صريحا بذلك والتزامي هذا هو نظير التزامي في حالة قولي ( كذا هو كذا) أو ( سأفعل كذا) لو لا إن التزامي في هذه الحالة الثانية اضعف من الالتزام الأول وهو التزام ضمني فحسب وليس صريحا. أما حين أقول: ( كذا هو تقريبا كذا) أو ( قد افعل كذا) فاني اجتنب صراحة أن التزم التزاما كليا، ففي هذه الحالة أقي نفسي بعض امكانات الإخفاق ويكون لكلامي واقٍ يقيه شر الخطل وسوء الفهم....... فهذا بمثابة اعتذار المتكلم مسبقا عن إخفاق كلامه وانعدام مطابقته لمجريات الأمور ففي الواقع «(2) الأمر الذي يعرّض الكلام- بحسب صولة ، أن لا يؤخذ مأخذ الجد فلا يحصل به الإقناع وذلك لغياب الضامن لحقيقة هذا الكلام، فقد آثر المتكلم بواسطة استخدامه لهذه الموجهات الشكية أن يقف بملفوظه على الحياد من القضايا المطروحة دفعا لتحمل مسؤولية الالتزام به أو تحمل نتائجه المتوقعة وغير المتوقعة لذلك يميل إلى الموضوعية والنزاهة في معالجة القضايا المطروحة. في ما يرى الشهري إن هذه الأفعال التلميحية تنتسب إلى الالتزام الجملي المعمم، إذ تقع في مرتبة دون مرتبة أفعال اليقين التي تعبر عن التأكيد فالمرسل يستعملها في خطابه درءا للجزم بمحتوى الخطاب أي للتعبير عن موقفه الشخصي من مضمون القول ولو لم يكن ذلك قصده لاستعمل القسم الآخر من أفعال القلوب أي تلك التي تدل على اليقين مثل علم ودرى(3) ، فالقصدية في استعمالها للتعبير عن الشك في القضية أو المضي إلى تكذيبها وإنكارها وعلى هذا الأساس فان هذه الأدوات اللغوية تستعمل في بنية الخطاب المنجزة لتكون مؤشرا تلميحيا عن قصد

ص: 177


1- نفسه: 319
2- الحجاج في القران الكريم: 319
3- ينظر: استراتيجية الخطاب: 396

ولتحديد توجه المرسل نحو محتوى القضية.

ولبيان البعد الحجاجي للموجهات التقريبية في رسائل الإمام علي (عليه السلام) نتابع تجليات هذا الفهم في بعض الاختيارات الواردة في المدونة:

الموجه الشكي ( زَعَمَ):

يستعمل الفعل (زعم) ومشتقاته في الغالب للظن الفاسد أي ما يشك فيه أو يعتقد كذبه(1) وقد ارتبط هذا الموجه بالكذب ارتباطا وثيقا، ومن عادة العرب أن من قال كلاما وكان عندهم كذبا قالوا: زعم فلان، وقال شُريح: “ لكل شيء كنية وكنية الكذب زعم”(2) ، كما نقل عن ابن عباس: انه متى ما جاءت كلمة زعم في القران الكريم فإنها تعني الكذب والعقائد الباطلة(3) . وقد وسم هذا الموجه الحجاجي عددا من الملفوظات في رسائل الإمام علي واستُعمِل قصد توجيه الخطاب الوجهة التي يريدها المتكلم واقتحام عالم المتلقين وتغييره وهو بذلك يعد رافدا حقيقا يرفد الحجاج فيؤثر في المتلقي ويستميله إلى ما يقصده المتكلم وما يروم تحقيقه عبر الخطاب وهذا ما توضحه الملفوظات التالية، حين ينتصب الموجه الشكي (زعم) في هذه الأقوال لتوجيه الخطاب بحسب مقصديات المتكلم، إذ انه يعمل على تحقيق إستراتيجية الهدم والبناء من خلال تقويض حجج المخاطب وهدمها وتأسيس حجج المتكلم على انقاضها باعتبارها جوابا على تسائل قدمه الموجه زعم من اجل تفنيد المحمول الذي انطوى عليه الموجه زعم وتعريته. فهذا الموجه

ص: 178


1- ينظر: محمد سعيد إسر، وبال جنيدي، الشامل ( معجم في علوم اللغة العربية ومصطلحاتها )
2- حبيب الله الخوئي، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 1 / 198
3- تفسير الامثل: 9 / 33

قد مهد لظهور حجة قوية قائمة على دحض حجة الخصم ابتغاء الوصول إلى النتيجة المتوخاة .

فالإمام (عليه السلام) في قوله “ وَزَعَمْتَ أَنَّكَ جِئْتَ ثَائراً بِدَمِ عُثْمانَ وَلَقَدْ عَلِمْتَ حَيْثُ وَقَعَ دَمُ عُثْمانَ فَاطْلُبْهُ مِنْ هُنَاكَ إِنْ كُنتَ طَالِباً «(1) قد عبّر عن إنكاره وشكّه في دعوة معاوية من اجل تفنيدها وإبطالها، وهي الشُبه التي أثارها معاوية فكانت سببا لثوران الفتنة وهي شُبهة المطالبة بدم عثمان التي اتخذها معاوية ذريعة لعصيانه وتمرده وعدم مبايعته لأمير المؤمنين عليه السلام في الخلافة وقد أنبنى خطاب الإمام على عملية انتقائية للموجهات لإقناع متلقيه بأمر ذي علاقة وطيدة بالخطاب ذلك إن الانتقاء قانون حجاجي عام يسمح بتبليغ مقاصد المرسل وتيسيرها في النفوس(2) .

فقد تظافر الموجه الشكي (زَعَمَ) مع الموجه اليقيني(عَلِمَ) في بناء الخطاب وتوجيه الأمر الذي أفاد في تقوية الحجة )ولقد علمت حين وقع دم عثمان فاطلبه من هناك إن كنت طالبا). كذلك تظافر الموجه اليقيني (علم) والعامل الحجاجي (قد) الذي يفيد التحقق المؤكد في ترسيخ المنحى الحجاجي المطلوب وتحقيق الغاية المنشودة فدلالة بطلانزعم معاوية قائم بدلالة علمه بحقيقة من حاصر عثمان وقتله وهم طلحة والزبير وبذلك يتقرر مفاد قول الإمام: انك يا معاوية إن كنت طالبا للثأر من قتلة عثمان فاطلبه من بني تميم و من بني أسد وان كنت تطلبه ممن خذل فاطلبه من نفسك فانك خذلته وكنت قادرا على أن ترفده وتمده بالرجال فخذلته وقعدت عنه بعد أن استنجدك واستنصرك (3) .

ويترتب على هذا الأمر وجهان: احدهما أنه (عليه السلام) ليس من قتلة عثمان فلا مطالبة عليه وإنما تتوجه المطالبة الى قاتليه الذين يعلمهم معاوية. اما الثاني: يتضح بقوله (عليه

ص: 179


1- شرح نهج البلاغة: 15 / 38
2- ينظر: الخطاب الحجاجي في كتاب الإمامة السياسية ، دراسة تداولية: 267
3- ينظر: شرح نهج البلاغة: 15 / 40

السلام): (إن كنت طالبا )، فإن إيقاع الشك هذا مقروناً ب-(إنْ) يستلزم عدم تسليم كونه ، معاوية، طالبا بدم عثمان. وقد سمحت هذه الوحدة الانسجامية بين الموجه الشكي واليقيني في إبراز القوة الحجاجية للملفوظ من خلال الارتهان إلى ثنائية ضدية « الشك / يقين » أو « إنكار/ إثبات ». كما إن الإمام (عليه السلام) ومن خلال الملفوظ « وَزَعَمْتَ أَنِّی لِكُلِّ الْخُلَفَاءِ حَسَدْتُ وَعَلَی كُلِّهِمْ بَغَیْتُ، فَإِنْ یَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَیْسَتِ الْجِنَایَهُ عَلَیْكَ فَیَكُونَ الْعُذْرُ إِلَیْكَ «(1) يكذب صراحة ادعاءات معاوية حين يبطل قوله بوسم الخطاب بالموجه (زعمت) فإدعاء معاوية بزعمه إن الإمام عليه السلام حسد سائر الخلفاء وبغى عليهم فذلك لا يخلو من أن تكون هذه الدعوة صادقة أو كاذبة فأفادت القول: إن كانت صادقة كما تزعم فليس جنايتي عليك حتى يكون عذري عنها إليك بل ذلك فضول منك وخوض فيما لا يعنيك وقد أكد الإمام ذلك بالمثل والبيت لأبي ذؤيب وأوله:

وعيَّها الواشون إني أحبها *** وتلك شكاة ظاهر عنك عارها(2) وهذا البيت يضرب مثلا لمن ينكر أمرا ليس منه في شيء و لا يلزمه انكاره.كما ينحرف الإمام في ملفوظه « وَقَدْ زَعَمْتُمَا أَنِّی قَتَلْتُ عُثْمَانَ فَبَیْنِی وَبَیْنَكُمَا مَنْ تَخَلَّفَ عَنِّی وَعَنْكُمَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِینَهِ ثُمَّ یُلْزِمُ كُلُّ امْرِئٍ بِقَدْرِ مَا احْتَمَلَ «(3) نحو تفنيد حجة طلحة والزبير في الشبهة التي أثاروها على الإمام (عليه السلام) عبر إثبات الإنكار بواسطة الحجة المقامة « فبيني وبينكما من تخلف عني وعنكما من أهل المدينة » لتحكيمهم والاستشهاد إليهم في هذا الأمر وهو بذلك قد قضى على أية فرصة يمكن من خلالها قبول زعمهم.

ومما تقدم يتضح أن الخطاب المتضمن للأداة (زَعَمَ) في هذه الأمثلة وغيرها لم يرتهن

ص: 180


1- نفسه: 15 / 86
2- ديوانه:
3- شرح نهج البلاغة: 17 / 64

إلى توجيه خصمه والعمل على تحقيق التبدل والتغير في طروحاته وأرائه فحسب ؛ بل هو حقق الرغبة في التغير الفكري والسلوكي في ذهن المتلقي العام وتوجيهه نحو تبني موقف وسلوك واقعي منطقي ملموس من القضايا المطروحة وهو ما يعكس نجاعة الخطاب.

2. الموجه التقريبي (ظنّ):

الظن هو احد طرفي الشك بصفة الرجحان (1) ، وهو من الافعال الجهوية التلميحية التي تفيد «الظنّ في الظاهر مع احتماله في بعض المواضع لليقين »(2) ، فهي اداة تندرج ضمن سلّم قوة الاعتقاد بين العلم والحسبان فتكون في مرتبة دون مرتبة افعال اليقين ولكن من حيث القوة الاعتقادية نجد أن اليقين والظنّ متساويان، مع خصوصية كل منهما واختلافهما في الاتجاه. فالاتجاه الذي نقصده هو علاقة مضمون الكلام بالخارج، اي اما باتجاه اقصى اليمين نحو العلم او باتجاه اقصى اليسار نحو الشك، فإذا كان العلم يدل على يقين، اي اعتقاد جازم في مطابقة مضمون الكلام لحالة الاشياء في الكون، فإن الظنّ والحسبان يدلان على اعتقاد جازم في انتفاء هذه المطابقة (3) . وهذا ما يؤكده موقف المتكلم من صدق القضية، فهو إما متأكد او شاك او محتمل او مثبت او ناف لها،إذ بإدراجه للموجه الشكي او التقريبي (ظنّ) موضوع البحث انما يفصح عن درجة اعتقاده حول الموضوع المطروح مما يجعل الحامل القولي ذا محتوى او محمول لا قولي انجازي، ولذلك يقترح بيريندونيه انه « اذا كانت هناك تعابير مثل (برأيي، حسبما، أرى، أظن أن )، لتحديد ان قيمة حقيقة ملفوظ ما تقوم على المتحدث باعتباره هو

ص: 181


1- ينظر: الشامل ، مجم في علوم اللغة العربية ومصطلحاتها: 583
2- الاستراباذي، شرح الكافية: 4/ 149
3- ينظر: شكري المبخوت، توجيه النفي ، في تعامله مع الجهات والاسوار والروابط: 54

نفسه مصدرا، فذلك لان الملفوظات نفسها الخالية من هذه الصيغ تأخذ قيمة حقيقتها من مصدر آخر اي من شبح الحقيقة وهو (تناسخ) شخص العالم او شكله القانوني اذا كان لابد من قول: برأيي، القطة (كائنة) فوق الحصيرة لنشير الى ان الحقيقة المنسوبة الى الملفوظ لا مصدر لها سوى اعتقاد المتحدث «(1) وبذلك يتحدد توجه المرسل نحو محتوى القضية وموقفه من صدقها.

ولعل من ابرز المقاييس التي يمكن الانطلاق منها في تحديد دلالة الفعل (ظنّ) هو مقياس الاقتضاء، بيد ان هذه الاداة ومثلها (زعم) لا تعين عموما تحقق مقتضاها او عدم تحققه، اي انها بحسب المبخوت بمثابة (سلة المهملات) التي القينا فيها ما لا يمثل (يقينا صافيا) او (ظنّا محضا) غير ان مصادفة (ظنّ) لليقين لا تكون واضحة الا مع المتكلم في الحال، اما مع غير المتكلم فإننا اذا لم نترك الامر على عدم اليقين فالمرجح هو عدم تحقق مضمون الكلام (2) . فالفعل (ظنّ) لا يعين مقتضيات مفعوله من حيث التحقق وعدم التحقق، ولكن وجوده مسندا الى المتكلم في الحال يقتضي تحقق مفعوله. وهذا ما اشار اليه احمد المتوكل حينما ذكر: ان هذا الفعل يأخذ استعمالين متباينين، استعمال (وصفي) واستعمال (انجازي) فنقول عن هذا الفعل (ظنّ) انه مستعمل استعمالا (انجازيا) حينيرد في الزمن الحاضر (= زمن التكلم) ويأخذ كفاعل ضمير المتكلم، اما حين لا تتوفر احدى هاتين السمتين فالاستعمال (وصفي)(3) . كما في المثالين الواردين في قول الامام علي (عليه السلام):

1. مما جاء في عهده (عليه السلام) الى مالك بن الاشتر لما ولّاه مصر: « وَإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِیَّهُ بِكَ حَیْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ،وَاعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ،فَإِنَّ فِی ذَلِكَ رِیَاضَهً

ص: 182


1- الملفوظية: 33
2- ينظر: توجيه النفي، في تعامله مع الجهات والاسوار والروابط: 56
3- ينظر: قضايا اللغة العربية: 39

مِنكْ لِنَفْسِكَ وَرِفْقاً بِرَعِیَّتِكَ وَإِعْذَاراً تَبْلُغُ بِهِ حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِیمِهِمْ عَلَی الْحَقِّ«(1)

2. من كتاب له (عليه السلام) الى معاوية: “ فَیَا عَجَباً لِلدَّهْرِ إِذْ صِرْتُ یُقْرَنُ بِی مَنْ لَمْ یَسْعَ بِقَدَمِی وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ كَسَابِقَتِی الَّتِی لاَ یُدْلِی أَحَدٌ بِمِثْلِهَا إِلاَّ أَنْ یَدَّعِیَ مُدَّعٍ مَا لاَ أَعْرِفُهُ وَ لاَ أَظُنُّ اللَّهَ یَعْرِفُهُ وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَی كُلِّ حَال«(2)

3. فالفعل (ظنّ) في القول الاول مستعمل استعمالا وصفيا لأنَّه وارد في الزمن المضي، ولم يأخذ فاعل ضمير المتكلم، اما في الجملة الثانية فالاستعمال جاء انجازيا لأنه ورد في الزمن الحاضر وقد اخذ فاعل ضمير المتكلم. وما دام الفعل (ظنّ) قد استعمل استعمالا انجازيا يمكننا أن نقول إنَّه دالُّ على وجه قضوي.

اما المقياس الثاني الذي يمكن ان يحدد دلالة الفعل فهو مقياس (قوة الالتزام)(3) سواء في القوة والضعف في تحديد دلالة افعال القلوب بوجه عام و (ظنّ) بوجه خاص، إذ نجد أنَّ المتكلم يلتزم بصدق مضمون كلامه اذا اخبر عن نفسه في الحال فحسب، اما عند الاخبار عن غيره فلا التزام، في حين ذكرنا في موضوع الموجه الشكي (زعم) ان المتكلم لا يلتزم بصدق كلامه ولا بصدق كلام غيره، يلتزم الموضوعية ، وهذا ما يكشف عنه بعض مما جاء في كتاب الامام (عليه السلام) إلى المنذر بن الجارود العبدي *، و قدخان في بعض ما ولاه من أعماله: « أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّ صَلَحَ أَبيِكَ غَرَّنِی مِنكْ وَ ظَننَتُ أَنَّكَ تَتَّبعُ

ص: 183


1- شرح نهج البلاغة: 17 / 46
2- نفسه: 14 / 21
3- المقصود بالالتزام هو: (أ) المتكلم يصدر عن اعتقاد مطابق للخارج عى ما في هذه العلاقة بن الكلام والاعتقاد والخارج من مشاكل، فقد يعتقد (المتكلم) في امر او في خلافه، لكن الواقع يكون بضد هذا او ذاك. (ب) للمتكلم ضمانات وأدلة ليبرهن بها عند الاقتضاء عى صدق اقواله رغم نسبية هذه الضمانات والادلة. (ج) يعتر المتكلم بموجب (أ) و(ب) ان مضمون اعتقاده غر قابل للشك والطعن، بل يحبذ تبني الاخرين له. ( ينظر: توجيه النفي: 58 )

هَدْيَهُ وَ تَسْلُكُ سَبيِلَهُ «(1) فقوة الالتزام تتجسد في هذه الجملة لتعبر عن صدق مضمون الكلام، وهذا ما جعل النحاة يرون في (ظنّ) احتمالها لليقين، اي استعمالها استعمالا قريبا من (علم)، والاصل في هذا التجاذب ، بحسب المبخوت ، ل-(ظنّ) باتجاه العلم واليقين تارة، والشك والحسبان تارة اخرى مردّه الى اصل تداولي يرتبط بالاستعمال في مقام معين وحالة الاسناد الى المتكلم وفي زمان التكلم (2) . فالظنون كما اشرنا تختلف قوة وضعفا دون اليقين والظاهر هو ما انكشف واتضح معناه للسامع من غير تأمل وتفكر فضلا عن ذلك نجد ان المسار التداولي تجلى اثره في البعد النحوي للفعل (ظنّ) للفصل بين اليقين والشك، وهذا ما اكده الزمخشري حينما اشار الى وجود ضابطين للتفريق بين (ظنّ) التي لليقين و(ظنّ) التي للشك في القرآن الكريم هما:

1. انه حيث وجد الظنّ محمودا مثابا عليه فهو اليقين، وحيث وجد مذموما متوعدا عليه فهو الشك

2. ان كل ظنّ يتصل ب-(أن) المخففة فهو شك نحو قوله تعالى “ بَلْ ظَننَتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالُْؤْمِنُونَ إِلَٰی أَهْلِيهِمْ أَبَدًا «(3) ، وكل ظنّ يتصل ب-(أنَّ) المشددة فهو يقينكقوله تعالى « إِ ظَنَنْتُ أَ مُلاقٍ حِسَابِيَهْ «(4) ، والمعنى في ذلك ان المشددة للتأكيد فدخلت في اليقين والمخففة بخلافها فدخلت في الشك (5) . وهذا ينسحب بدوره على المثال الذي سقناه.

كما يسم الامام كلامه بالموجه الشكي (ظنّ) في وصيته الى الحسن والحسين (عليهم

ص: 184


1- شرح نهج البلاغة: 18 / 23
2- ينظر: توجيه النفي، في تعامله مع الجهات والاسوار والروابط: 59
3- سورة الفتح: الاية 12
4- سورة الحاقة: الاية 20
5- البرهان في علوم القران: 4/ 2

السلام) لما ضربه ابن ملجم اذ يقول: “..... وَ اللَّهَ اللَّهَ فِی جِیرَانِكُمْ فَإِنَّهُمْ وَصِیَّةُ نَبِیِّكُمْ مَا زَالَ یُوصِی بِهِمْ حَتَّی ظَنَنَّا أَنَّهُ سَیُوَرِّثُهُمْ «(1) . ليعبر عن موقفه من فحوى القضية بطريقة تكفل له نجاعة خطابه وايصال مقاصده الدلالية هو التعبير بالأداة (ظنّ) التي تم توظيفها من اجل غايات عبر من خلالها عن التزام الحيادية والموضوعية بين الشك واليقين، أي بين ما يترتب على تكرار التأكيد على حسن معاملة الجار وما يستتبع ذلك من وجوب التزام كلام الرسول (ص) مصداقا لقوله تعالى (( وما ينطق عن الهوى إن هو إلاَّ وحي يوحى ))(2) وبين الحد القرآني الذي يفصل القول في الميراث وسننه من مطابقة أي المطابقة بين الكلام والاعتقاد والخارج. وتأكيد هذه النزاهة الموضوعية مؤداها تأسيس وعي وسلوك جمعي لدى المتلقي الخاص والعام بضرورة الارتقاء بحسن التعامل مع الجار كارتقاء (ظنّ) في سلّم اليقين دون مطابقة العلم. فدرء الجزم بمحتوى القضية اكسب الخطاب صفة الموضوعية وكفل حصول مبدأ التعاون بين المتكلم والمخاطب، المبدأ الذي ينظم عملية الحوار والتخاطب على وفق سنن وقواعد يفترض ان تحكم عملية التواصل بين المتخاطبين لحين حصول السيرورة التداولية، فالسياقات التواصلية تفرض على المخاطب الانصياع طواعية لفحوى الخطاب والاستجابة للنسق التواصلي المتداول الامر الذي انعكس ايجابا في تحديد دلالة الفعل (ظنّ) التي فوّض امر تحديد مكانها في سلّم اليقين الى المتلقين.

اما تأثير النفي في مقتضى الفعل (ظنّ) وتحديد المقصود من نفي هذا الفعل، وما يؤديه من احتمالات في التأويل الدلالي، نجد ان التحقق ينقلب بموجب النفي الى اقتضاء لعدم التحقق. ومثال ذلك قول الامام (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على البصرة وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها، فمضى إليها: « أَمَّا

ص: 185


1- شرح نهج البلاغة: 17 / 4
2- سورة النجم: الاية 3- 4

بَعْدُ یَا ابْنَ حُنَیْفٍ فَقَدْ بَلَغَنِی أَنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْیَهِ أَهْلِ الْبَصْرَهِ دَعَاكَ إِلَی مَأْدُبَهٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَیْهَا تُسْتَطَابُ لَكَ الْأَلْوَانُ وَتُنْقَلُ إِلَیْكَ الْجِفَانُ وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِیبُ إِلَی طَعَامِ قَوْمٍ عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وَغَنِیُّهُمْ مَدْعُوٌّ « حيث تقتضي (ظنّ) هنا على وجه الترجيح (انك تجيب الى طعام...) لكن الجملة المنفية تقتضي ( انك لا تجيب الى طعام قوم..... ) وهذا الامر يجعلنا نعود الى الخلف لبيان صورة (ظنّ) في الاثبات حيث نجدها لا تعين مقتضيات مفاعيلها من حيث التحقق وعدم التحقق، كما ان وجود هذا الفعل مسند الى المتكلم في الحال يقتضي تحقق مفعوله، ولكن نجد ان التحقق ينقلب بموجب النفي الى اقتضاء لعدم التحقق.

فالمقتضى غير المعين في هذا الفعل، أي متأرجح بين اليقين والشك فيجعله النفي مقتضى غير متحقق او متحقق ايضا، ولكن اثر النفي يدفع باتجاه تقوية الشك اذا عرفنا ان الفعل (ظنّ) في اصله لا يخرج عن دائرة الشك والتقريب أي انه في حالة النفي فان الفعل يرد الاثبات السابق، وهذا الاثبات لا يصل الى درجة اليقين بما في اليقين من التزام ؛ بل يظل مجرد درجة في سلّم الشك، ولكن هذه الدرجة في النفي غيرها في الاثبات، فهيتقترب من الحسبان والشك اكثر من احتمالية اليقين. فالإمام في هذه المسألة يحمل شكه شكا اخر من اجل التعبير عن عدم التزامه بصدق مضمون كلامه لكي يحقق مفهوم الالتزام والمطابقة بين الكلام والاعتقاد والخارج ؛ لأنَّ الادلة والبراهين السلبية الواقعية الملازمة للمخاطب ، ابن حنيف- نسبية لا ترقى الى اثبات فساده أي هناك عدم مطابقة بين الخارج والاعتقاد. فبيان صدق دلالة الموجه التقريبي / غير اليقيني، تبرز من خلال اجراء اختبار مضمون علم المتكلم ودرجة يقينه، فالمتكلم اذا قال (أظن) مثلا فهو يفيد المخاطب انه لا يقدم قوله على ان مفعوله متحقق ومن ثمة لا يضمن صدق هذا المفعول ولا يلتزم به، فإذا ثبت بدليل آخر ان المفعول غير متحقق يكون قد برأ ذمته، واذا ثبت

ص: 186

انه متحقق فهو لن يكون مخطئا تماما (1) ، هذا من جانب ومن جانب اخر سمح الموجه الشكي بممارسة دوره التوجيهي على المخاطب لإفادة معنى التحذير من التمادي في هذه الممارسات ومحاولة تقويم مساره الاخلاقي، فضلا عن اثره التلميحي لحمل المخاطب على التفكير وادراك عواقب الاصرار على هذه السلوكيات فالتوجيه هنا شكل في وجه من وجوهه تلويحا بالعقوبة.

ص: 187


1- ينظر: توجيه النفي: 66

المبحث الثالث: المقتضى التركيبي ودوره الحجاجي السؤال البلاغي إنموذجا

مدخل:

حدَّ الشريف الجرجاني المقتضى فقال: « المقتضى هو عبارة عن جعل غير المنطوق منطوقا لتصحيح المنطوق، مثاله: فتحرير رقبة. وهو مقتضى شرعا لكونها مملوكة إذ لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم فيزاد عليه ليكون تقدير الكلام: فتحرير رقبة مملوكة »(1) ، وهذا الحد مع انه ملتبسٌ بالبعد الشرعي فقد التقت آراء الأصوليين والمناطقة والنحاة وعلماء اللسان المحدثين عند اعتبار أن المقتضى من ضرورة اللفظ(2) . والذي يهمنا من هذه الآراء هو ما يتعلق بدراستنا حول المقتضى الحجاجي الذي نظر له اللسانيون المحدثون، فقد اعتبر ديكرو المقتضى عنصرا أو مكونا لسانيا صرفا يمكن إدراكه في الملفوظ أعزل عن كل تدخل للمقام بوصفه حدثا لغويا مركوزا في البنية اللسانية والوحدة المعجمية للكلم ويعرّفه بأنه « جزء لا يتجزأ من معنى الملفوظات...... ويكون سابقا لحدث التخاطب والمسؤول عن عون جماعي هو (نحن) »(3) . فالاقتضاء في ابسط تعريفاته « كل

ص: 188


1- التعريفات: 226
2- ينظر: الحجاج في القران الكريم من خلال اهم خصائصه الاسلوبية: 88
3- 3- ينظر: ابتسام بن خراف، الخطاب الحجاجي في كتاب الإمامة السياسية ، دراسة تداولية 297

جملة أو(تعبير) (أ) يحتوي على تصوير لحال معينة تقتضي جملة أو ( تعبير) أخرى (ب) أ ب »(1) . ويقتضي هذا التعريف في إطار دلاليات الصدق حالتين:

- إذا كانت أ صادقة فإن ( ب) صادقة كذلك.

- إذا كانت أ كاذبة فإن ( ب) صادقة.

ويعني هذا إن المقتضى أو الاشتقاق الدلالي للقول الأصلي هو صادق دائما مهما كانت طبيعة القول الأصلي (المشتق منها) من حيث الصدق والكذب ونمثل لذلك بالقول:

أ. رثت الخنساء أولادها كلهم.

ب. بلم ترث الخنساء أولادها كلهم.

ج. جللخنساء أولاد.

وبذلك تكون الجملة القضوية المشتقة (ج) حاصلة من وجود الجملة( أ و ب)فإذا اعتبرنا أن (أ) صادقة و (ب) كاذبة فإن الجملة (ج) صادقة . لذلك ترى اوركيوني معتمدة ديكرو « أن المقتضيات تقدم على أنها غير قابلة للدفع أو الدحض ذلك انه بإمكاننا أن نرفض المنطوق أما المقتضى فقد فاتتنا مبدئيا ساعة رفضه »(2) . ومن هنا تكتسب هذه المقتضيات حجيتها من خلال إعادة صياغة المعلومات التي يرام فرضها على السامع في شكل مقتضيات، فالأقوال تقتضي أقوالاً اخرى مضمرةً أو مسكوتاً عنها تأخذ صفة الاستلزام. ومن هنا يعد المقتضى وسيلة حجاجية ناجعة. وهذا ما ذهب إليه كارتونان، إذ يقول: « إنك إذ تقتضي شيئا ما بصفتك المتكلم تعتبر حقيقة ذلك الشيء على أنها مما لا مراء فيه وتقدر أن تلك الحقيقة هي في نظر المتلقي أيضا مما

ص: 189


1- بنعيسى عسو ازاييط، الخطاب اللساني العربي: 2 / 55
2- - ينظر: الحجاج في القران الكريم: 305

لا جدال فيه »(1) . وباتجاه مقابل فإن الاقتضاء هو مسلمات أو بديهيات يقررها المتلقي استنادا إلى بنية القول/ الخطاب وما يفرضه من موجهات وأساليب وروابط في سبيل تقوية هذا الاقتضاء، فهي إذن عملية اشتقاق بالاستناد إلى فحوى القول أو إحالاته الباطنية أي هو كامن في اللغة ومنغرس فيها . ويرى عادل فاخوري أن من أهم مميزات الاقتضاء أنه « يقدم تفسيرا صريحا لمقدرة المتكلم على أن يعني أكثر مما يقول بالفعل أي أكثر مما يعبر عنه المعنى الحقيقي للألفاظ المستعملة »(2) ففي السياقات التخاطبية وخصوصا الحوارية منها نجد ان ما يقتضيه المعنى التخاطبي أكثر مما ينجزه المتكلم من المعنى الحرفي للملفوظ، وذلك بالاستناد إلى المهارة اللغوية والأسلوبية في التعبير عن القصد التي يوظفها المتكلم في كلامه مستعينا بالاقتضاء ليظهر هذا الأخير انه » ظاهرة لسانية تعكس الترابط الممكن بين مستوى البناء اللغوي التركيبي ومستوى خضوعه لتأويلات دلالية محتملة إما بصفة الإثبات أو بصفة النفي »(3) . وهنا لابد من التمييز بين ما يقتضيه اللفظ/ الجملة وما يقتضيه المتكلم فهناك فرق بينهما على وفق التمييز الذي صاغه غرايس. فالاقتضاء الذي يستنتج من ملفوظات ما يتجاوز المعنى الحرفي لذلك الملفوظ فينقدح الاقتضاء على أنه « شيء يعنيه المتكلم ولا يمثل جزءا من المعنى الحرفي للجملة. أو قل إنَّ الاقتضاء لدى المتكلم هو المعنى غير المباشر لدى المتكلم: معنى شيء عن طريق معنى غيره »(4) فاقتضاء المتكلم يتعدى المعنى الحرفي للجملة إلى معاني أخرى ترتبط بمقاصد المتكلم وكذا بالسياق الذي يرد فيه ملفوظه في حين يبرز اقتضاء الجملة مفارقا لاقتضاء المتكلم ف-» الاقتضاء التخاطبي للجملة شيء تقرره الجملة تقريرا واضحا

ص: 190


1- 2- ينظر: نفسه: 118
2- 3- عادل فاخوري، الاقتضاء في التداول اللساني: 141
3- احمد العاقد، المعرفة والتواصل ، عن آليات النسق الاستعاري: 116
4- صلاح إسماعيل، نظرية المعنى في فلسفة بول غرايس: 79

ولكنها توحي به فقط »(1) عبر سياقات القول وآلياته وأساليبه، ومن ثم فإن المعنى الذي يتعلق بسياق التلفظ والتخاطب هو المعنى المرتبط بالمتكلم وليس بالملفوظ انطلاقا من القول: إننا نتكلم عامة بقصد التاثير. فالمقتضى يرتبط باللفظ ارتباط ضرورة، وأكثر ما يتجلى هذا الأمر في التراكيب وتحديدا في التركيب الاسنادي الذي حدّه النحاة في « أن تركب كلمة مع كلمة تنسب إحداهما إلى الاخرى...... على السبيل الذي يحسن به موقع الخبر وتمام الفائدة “(2) فالوسائل التركيبية هي طرق نظم المعلومات، وقد عرفت العربية وسائل تركيبية عدة لتقوية قوة المنطوق الانجازية. وقد عالج البلاغيون العرب القدماء كثيرا من تلك الوسائل مبينين وظائفها وآثارها في تبليغ مقاصد المتكلمين في حقل علم المعاني. فالتركيب هو التشكل والتعالق بين جملتين أو جمل أو كلمات لإفادة المعنى وتحقيق التأثير والاستمالة في سياق استعمالي ومقامي معين. ومن هنا يبرز دوره في رفد الحجة المقامة بالطاقة الاقناعية والتأثيرية من خلال ما يؤمنه، التركيب الاسنادي- بما لا يحصى من المعاني الاقتضائية والحجاجية التي يحيل إليها التلفظ بحسب طريقة تشكله وانسجامه واتساقه. فقد يعمد المتكلم إلى استعمال تركيب دون آخر لأنه يلتمس فيه القدرة على استمالة المتلقي والفعل فيه وإقناعه بأمر ذي علاقة وطيدة بالخطاب في كليته، ومن هنا تبرز الاختيارات التركيبية التي يوظفها المخاطب لغايات حجاجية(3) . إذ كثيرا ما تنبني الحجة باسلوب إنشائي أو تعضد حججا من خلال ما تثيره وما تستدعيه من عواطف وأحاسيس خلافا للخبرية، فهي لا تنقل واقعا ولا تحكي حدثا ولا تحتمل تبعا لذلك صدقا أو كذبا وإنما تثير المشاعر فتشحن بالطاقة الحجاجية، لأنَّ اثارة المشاعر

ص: 191


1- - نفسه: 80
2- 1، ابن يعيش، شرح المفصل: 1/ 20
3- 2- ينظر: الخطاب الحجاجي في كتاب الإمامة السياسية: 302

ركيزة كثيرا ما يقوم عليها الخطاب الحجاجي(1) ، لذلك يكمن البعد الحجاجي للتركيب الإنشائي فيما يؤديه ضمنيا (لا قولياَ)، إذ يسهم المقتضى الناشئ عن التركيب الإنشائي في النهوض بوظائف حجاجية مهمة.

التركيب الاستفهامي وبعده الحجاجي:

يعد التركيب الاستفهامي من أهم التراكيب الإنشائية التي تميزت بقدرتها على الفعل وتوجيه القول نحو غايات ومقاصد حجاجية مهمة. فقد أدرجه كل من أوستن وسيرل ضمن الأفعال الانجازية كما ميز كل من ديكرو وانسكومبر في فصل من كتابهما (الحجاج في اللغة) وهو فصل (الاستفهام والحجاج) بين نوعين من الاستفهام، فالنوع الأول: يستلزم تأويل القول المراد تحليله انطلاقا من قيمته الحجاجية،أما النوع الثاني:

فهو الاستفهام العادي والذي يقصد المستفهم من ورائه إلى معرفة صدق الخبر أو كذبه.

ولكن هذا النوع قد يوظفه المتكلم ويصبح بالنتيجة عنصرا من عناصر العلاقة الحجاجية وسيكون له إذ ذاك بُعد وطابع حجاجي(2) ، أي أنَّه يمكن مبدئيا التمييز بين شكلين من الاستفهام: استفهام مباشر يعتمد على أدوات الاستفهام المعلومة والآخر استفهام غير مباشر يعتمد على استخدام فعل يتضمن معنى السؤال أو الاستعلام أو يكشف عن جهل السائل(3) . ولإيضاح الأمر أكثر نقول أن الاستفهام في كثير من الحالات يخرج عن مراده الحقيقي المتمثل في طلب الإفهام والاستعلام لما يجهله السائل الى مراد آخر يهدف منه المرسل ، وهو العارف بالجواب سلفا، إلى تحدي المخاطب في أن يستطيع الإنكار أو حتى الإجابة. وهذا ما أشار إليه ديكرو حينما ذكر أن الغاية من الاستفهام تتمثل في أن

ص: 192


1- 3- ينظر:الحجاج في الشعر العربي (بنيته واساليبه): 139 - 140
2- ينظر: أبو بكر العزاوي، الخطاب والحجاج: 58
3- ينظر: حسن الصديق، المناظرة في الأدب الإسلامي: 352

نفرض على المخاطب به إجابة محددة يمليها المقتضى الناشئ عن الاستفهام فيتم توجيه دفة الحوار الذي نخوضه معه الوجهة التي نريد(1) .

فالاستفهام يأتي في الكلام لإجبار المخاطب على الإجابة وفق ما يرسمه له البعد الاستفهامي الاقتضائي، وهذا النوع من الاستفهام هو الذي يسميه بلونتين ب-(الاستفهام الحجاجي) أو (السؤال الحجاجي) الذي ليس استخبارا وطلب جواب ؛ بل هو وسيلة حجاج، فخروج الاستفهام الحقيقي إلى استفهام بلاغي/ حجاجي يهدف إلى تحقيق أفعال انجازيه، وهذا الأمر يتطلب ألا يقوم المخاطب بقراءة حرفية للملفوظ أو على المصرح به ؛ بل ينبني على المضمون القولي، وهو أمر أشار إليه ديكرو حين بين أن الافتراضات الضمنية في بعض الأسئلة هي التي تجعل من الاستفهام اسلوبا حجاجيا ؛لأنَّ أية إجابة مهما كان نوعها لابد أن تسلّم بتلك الافتراضات، بل تقر ضمنيا بصحتها (2) .

السؤال البلاغي وبعده الحجاجي:

يعد خروج الاستفهام الحقيقي عن أصل معناه الذي هو » طلب المراد من الغير على وجه الاستعلام »(3) هو ما اسماه التداوليون بالسؤال البلاغي أو السؤال الحجاجي باعتباره وسيلة حجاج وهذا السؤال يكون عوضا عن جملة خبرية تكون منفية او مثبتة(4) .

أي إحلال الاستفهام محل الإثبات أو النفي المجردين وهذا ما ذهب إليه الزركشي حينما ذكر أن الاستفهام بمعنى الخبر يقسم على نوعين: نوع يفيد معنى الخبر وهو ضربان:

احدهما نفي والثاني إثبات . والمقصود بالنفي هنا هو إنكار المخاطب، أما الإثبات فهو

ص: 193


1- ينظر: الخطاب الحجاجي في كتاب الإمامة السياسية: 304
2- ينظر: الحجاج في الشعر العربي: 142 - 143
3- يحيى بن حمزة، كتاب الطراز: المتضمن أسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: 532
4- ينظر: الحجاج في القران الكريم: 425

يطلب إقرار المخاطب أي توجيه المخاطب سواء بالإنكار أو الإقرار نحو وجهة معينة يريدها المستفهم.(1)

من هنا يبرز مفهوم التوجيه كقوة انجازيه تشكل لب الحجاج عند ديكرو ومن ثم يغدو الاستفهام مظهرا حجاجيا مهما . إنَّ السؤال البلاغي يقوم على خرق شرط الاستفهام الأساسي وهو جهل المستفهم بما يطلب فهمه. وهو أمر يجعل السائل عالما بوقوع المطلوب نفيا أو إثباتا، كما يلعب السؤال البلاغي تقريبا دور الإخبار عن الإجابة التي تكون بديهية للمتكلم والمخاطب معا باعتبار أن وظيفة السؤال لا تتعدى التذكير بالجواب نفسه. ومن هنا كان الإقرار بأنَّ السؤال عن الشيء بلاغيا يوازي نفيه أو إثباته(2) ، وهذا ما عبَّر عنه عبد الله صولة بالعدول النوعي نحو غايات النفي / الإنكار، والإثبات / الاقرار. وفيما يأتي نتعرض لبيان القوة الإنجازية التي يحققها اشتغال السؤال الحجاجي في مدونتنا التي تدور حول معاني التقرير والأنكار:

معنى التقرير وبعده الحجاجي:

عرّف الزركشي التقرير المستفاد من مثل هذا الاستفهام بقوله: «والتقرير حملك المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقر عنده »(3) وهذا الاستقرار المشار إليهفي تعريف الزركشي، يعني أن القضية محل الاستفهام من معتقدات المستفهمين ومن عوالم إيمانهم وإنما سُئلوا عنها ليوجبوها وليصادقوا عليها من تلقاء أنفسهم حتى إذا ما حصلت المصادقة عليها من قبل المخاطبين كان ذلك وسيلة للترقي درجة اخرى في

ص: 194


1- ينظر: البرهان في علوم القرآن:
2- ينظر: الخطاب الحجاجي السياسي في كتاب الإمامة والسياسة: 308
3- البرهان في علوم القرآن: 2/ 331

سلم الإقناع(1) . وهذه الآلية التي يستخدمها المستفهِم / صاحب الخطاب من اجل حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بما يقتضيه السؤال يمر بمرحلتين تعزز إحداهما الأخرى ولا سبيل لإقامة إحداهما دون الأخرى هما: التحقيق والتثبيت والثانية هي حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه وإلجاءه إلى ذلك الإقرار وإلزامه إياه (2) . فاما التحقيق فالمراد به تحقيق النسبة وتثبيتها أَي تثبيت المستفهم عنه المعلوم فلا يطمع المخاطب في الإنكار، وأما الحمل على الإقرار « فهو طلب إقرار المخاطب به مع كون السائل يعلم فهو استفهام يقرر المخاطب أي يطلب منه أن يكون مقرا به ».

ولإيضاح هذا الأمر نعرض بعض الأمثلة عن عمل السؤال الحجاجي في إفادته لمعنى التقرير الذي ينقدح فيه الاقتضاء بشكل واضح:

فمن كتاب له ( عليه السلام ) إلى بعض عماله: « فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ الشِّدَّةُ فِی خِیَانَةِ الْأُمَّةِ أَسْرَعْتَ الْكَرَّةَ وَ عَاجَلْتَ الْوَثْبَةَ وَ اخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَیْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْمَصُونَةِ لِأَرَامِلِهِمْ وَ أَیْتَامِهِمُ اخْتِطَافَ الذِّئْبِ الْأَزَلِّ دَامِیَةَ الْمِعْزَی الْكَسِیرَةَ فَحَمَلْتَهُ إِلَی الْحِجَازِ رَحِیبَ الصَّدْرِ بِحَمْلِهِ غَیْرَ مُتَأَثِّمٍ مِنْ أَخْذِهِ كَأَنَّكَ لاَ أَبَا لِغَیْرِكَ حَدَرْتَ إِلَی أَهْلِكَ تُرَاثَكَ مِنْ أَبِیكَ وَ أُمِّكَ فَسُبْحَانَ اللَّهِ أَ مَا تُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ أَ وَ مَا تَخَافُ نِقَاشَ الْحِسَابِ ؟ » (3) . يقدِّم قول الإمام (عليه السلام) محل الشاهد إنموذجا للسؤال البلاغي الذي يهدف إلى حصول الإقرار من قبل المستفهم / المخاطب بالجواب المحدد حت)ى يثبت المستفهم عليه الحجة التي تنطلق من حقيقة ثابتة يعلم بها طرفا الخطاب وهي حقيقة ( المعاد والحساب) . فالاستفهام هنا تقريري على الوجهين مقرون بالتعجب، أي أنَّ الإيمان بالمعاد والحساب الإلهي في الدار

ص: 195


1- ينظر: الحجاج في القرآن الكريم: 431
2- ينظر: بسمة بلحاج، السؤال البلاغي: 243
3- شرح نهج البلاغة: 16 / 81

الآخرة هي حقيقة لا يمكن إنكارها ؛ بل لا يمكن إلا الإقرار بها من قبل المسلم على أن التذكير والإقرار والمصادقة على هذه القضية ليس لمجرد الإقرار والمصادقة فحسب، وإنما هي تمثل السند الحجاجي للدعوى المبسوطة في أول المثال وهي (خيانة الأمة ونهب أموالها)، فالأحرى بمن يؤمن ويقر بالمعاد والحساب والثواب والعقاب بقلبه وعقله ولسانه أن يخشى الله ويعلم انه عز وجل يحشر الناس إلى ساحة العدل الإلهية ويحاسبهم على الصغيرة والكبيرة من أعمالهم في الدنيا.

فكان لجوء الإمام إلى الاستفهام رغم علمه وكذلك المخاطب بثبوت المطلوب هو شكل من أشكال الإلزام في إقامة الحجة لان هذا الإقرار ليس من القضايا الغريبة عن المخاطب ولا هو بمنكر إياها أصلا فهي من قبيل المشهورات والبديهيات التي تكون محل اتفاق وإقرار من قبل المسلمين بحقيقة وجودها وعلى هذا الأساس فالسؤال الوارد ليس مقصودا لذاته لان المستفهم لا يحتاج في الحقيقة إلى إجابة المخاطب ولا هو منتظر لها وإنما وظف السؤال حتى يكون مثبتا لذلك الجواب المعترض محملا بذلك مسؤولية الإثبات والاقرار لمخاطبه. فالمقتضى الناشئ عن التركيب الاستفهامي قد أفاد في إقرار حقيقة (أن الإيمان بالمعاد والخوف من الحساب الأخروي ملزم لعدم خيانة الأمة وسرقة أموالها المصونة)، أي أنَّ (عامله غير مستوف لشرائط الايمان) وهذا المقتضى هو الذي يعمل على تحصيل الإقرار من المخاطب بغية استمالته وإقناعه والتأثير فيه حتى يعود إلى رشده ويتقي الله في عباده.

و من كتاب له (عليه السلام ) إلى معاوية جوابا: « ثُمَّ ذَكَرْتَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِی وَ أَمْرِ عُثْمَانَ فَلَكَ أَنْ تُجَابَ عَنْ هَذِهِ لِرَحِمِكَ مِنْهُ فَأَیُّنَا كَانَ أَعْدَی لَهُ وَ أَهْدَی إِلَی مَقَاتِلِهِ أَ مَنْ بَذَلَ لَهُ نُصْرَتَهُ فَاسْتَقْعَدَهُ وَ اسْتَكَفَّهُ أَمَّنِ اسْتَنْصَرَهُ فَتَرَاخَی عَنْهُ وَ بَثَّ الْمَنُونَ إِلَیْهِ حَتَّی أَتَی قَدَرُهُ عَلَیْهِ ؟ » (1)

ص: 196


1- شرح نهج البلاغة: 15 / 85

يترقى القول في سلّم الإقناع عبر لجوء الإمام (عليه السلام) إلى الاستفهام رغم علم السائل والمسؤول بثبوت المطلوب، ولكن السؤال وقع هنا من اجل الإقرار والإلزام بحقيقة المطلوب ذلك أنَّ عثمان كان متهما له (عليه السلام) بالدخول في أمره فلما اشتد عليه الحصار بعث إليه الإمام وعرض نصرته عليه فقال عثمان: لا احتاج إلى نصرتك لكن اقعد عني وكفّ شرك ، وهنا ذكر الإمام نفسه بصفة بذل النصرة ليظهر خروجه مما نسب إليه من دم عثمان ثم أشار الإمام إلى دخول معاوية في ذلك بقوله (امن استنصره فتراخى عنه وبث المنون إليه) وذلك انه بعث حال حصاره إلى الشام مستصرخا معاوية فلم يزل يعده الأخير ويتراخى عنه لطمعه في الأمر إلى أن قتل. فهذه القضية التي يدفع بها المتكلم من اجل إقامة الحجة على المخاطب في اسلوب استفهامي هي لحمل المسؤول على الإقرار بها بل هو لا يستطيع دفعها أو إنكارها فهي من القضايا المشهورة التي يقر الناس بها في تلك الفترة وهناك أمر أخر لابد من الإشارة إليه يتعلق بالخصائص الدلالية الاقتضائية للقول وهو إن وجود هذا القول / الخطاب يقتضي المعنى الدلالي التالي:

أي الأمرين صدرا عن معاوية ؟

- إذ مفهومه أنَّ أمرا ما صدر عنه. لذا يكون المقتضى:

صدر أمر ما عن معاوية ( النصرة أو التآمر)

ومن ثم نجد أن الشاهد في هذا المثال قد أتى ب-(أم) التي تؤدي دور رابط تداولي معناه ما تفيده الأداة (بل) وهذا الأمر من شأنه أن يطرح مسألة العلاقة الدلالية بين الجملتين المدمجتين ( أمَنْ بذل له نصرته فاستقعده واستكفه) و (أم منْ استنصره فتراخى عنه وبث المنون إليه) حيث نجد أن الجملتين في (علاقة انفصال) وليستا في (علاقة اتصال) وتفترض هذه البنية الاقتضائية سلسلة من العوائد الادبارية ذلك أن

ص: 197

اللاحق منها يلغي السابق.

فضلا عن ذلك فان دلاليات الصدق في هذا القول تبين:

أ. عثمان يرفض نصرة الإمام.

ب. بعثمان يطلب نصرة معاوية.

ج. جعثمان قتل لعدم وجود الناصر.

وهذا يعني أن القضية المشتقة / المقتضاة هي صادقة دائما مهما كانت طبيعة الجملة القضوية / المشتق منها، من حيث الصدق والكذب، فإذا افترضنا أن الجملة (أ) كاذبة و (ب) صادقة فان (ج) صادقة يقينا باعتبار عدم تحقق النصرة لعثمان من قبل معاوية في الواقع وهذا ما يحيلنا إلى المقتضيات الناشئة عن ذلك:

- الإمام يعرض نصرته على عثمان / عثمان يرفض نصرة الإمام ويطلب منه أن يقعد ويكف عن ذلك.

- عثمان يستصرخ معاوية ويطلب نصرته / معاوية يعد عثمان بالنصرة ويتراخى عنه ويبث المنون إليه.

- هناك شيء يمنع معاوية من نصرة عثمان.

- معاوية يريد الاستئثار بالسلطة.

فهذه الاقتضاءات من شانها أن تلزم المخاطب بالإقرار والنزول عند فحواها لتتحول في سياق الخطاب إلى حجج تعمل على إفحام الخصم واستمالته وإبطال حججه.

كما استفهم الامام ( عليه السلام ) في كتاب بعث به الى معاوية: « وَ كَیْفَ أَنْتَ صَانِعٌ إِذَا تَكَشَّفَتْ عَنْكَ جَلَابِیبُ مَا أَنْتَ فِیهِ مِنْ دُنْیَا قَدْ تَبَهَّجَتْ بِزِینَتِهَا وَ خَدَعَتْ بِلَذَّتِهَا دَعَتْكَ

ص: 198

فَأَجَبْتَهَا وَ قَادَتْكَ فَاتَّبَعْتَهَا وَ أَمَرَتْكَ فَأَطَعْتَهَا«(1). فالاستفهام حاصل هنا عن كيفية صنع معاوية عند مفارقة نفسه لبدنه وخروجه من هذه الدنيا فكان السؤال مدعاة إلى التنبيه له على غفلته عما ورائه من أهوال الآخرة وإقرارا بها من اجل إلزام المخاطب بالإجابة وإثباتها في نفسه ليس لإقرار حقيقة الموت فحسب فهي حقيقة بديهية ومسلم بها، وإنما التذكير والإقرار بالمقتضيات الناشئة عن هذا الاستفهام:

الدنيا دار زينة وبهجة ولذة

الدنيا بسبب لذائذها موهمة في كونها مقصودة لذاتها وإنها كمال حقيقي مع أنها ليست كذلك فهي وسيلة وليست غاية وهذا ما يشبه الخداع والوهم إن حصول التصور بكمال الدنيا سبب جاذب لها إن الدعوة والقود والأمر من قبل الدنيا / الداعي، للإنسان / المدعو، هي حقائق معلومة تستلزم الإجابة والإتباع والطاعة لما كانت إجابة الدنيا وإتباعها وطاعتها بما يخالف الشرع الالهي معاصي تخرج الإنسان عن حدود الله ذكرها الإمام في معرض توبيخه وذمه لذلك ينحصر هذا الإقرار والتذكير بما جرى على يد ولسان معاوية من معاصي ومنكر مذكّراً إياه بوجوب مراجعة أفعاله وأقواله وان يكون همه لما بعد الموت لا أن ينقاد وراء مفاتن الدنيا ومغرياتها وخداعها .فتغدو المقتضيات المنقدحة عن التركيب الاستفهامي حججا مقنعة مؤدية إلى نتيجة مفادها (أن معاوية لا يؤمن بالبعث والحساب) .

فالاستفهام في قول الإمام لم يكن إلاَّ شكلا واعيا من أشكال هدم وتقويض منهج

ص: 199


1- شرح نهج البلاغة: 38/15

التفكير عند المسؤول/ الخصم عبر ربط الأسباب بمسبباتها والعلة بالمعلول، أي أنَّ تشبث معاوية بالدنيا والانقياد لمفاتنها ولذائذها والانخداع بمغرياتها مدعاة إلى انصرافه عن حدود الله التي جاء الاسلام ليرسم حدودها فضلا عن انصرافه عن الآخرة وما أُعِدَّ فيها من ثواب وعقاب. وهنا تبرز ظاهرة الموت كحد للفصل بين المفاهيم الدنيوية والمفاهيم الأخروية وباعتبارها (حجة مآل) يتم تقديمها لتذكير وإقرار المسؤول بخطأ ما يتبناه من نهج وسلوك بعيد كل البعد عن التفكير فيما وراء الموت إذ من شأن النتائج ان تعرف من خلال مقدماتها. ثم يقول (عليه السلام) لمعاوية « وَذَكَرْتَ أَنَّهُ لَیْسَ لِی وَلِأَصْحَابِی عِنْدَكَ إِلَّا السَّیْفُ فَلَقَدْ أَضْحَكْتَ بَعْدَ اسْتِعْبَارٍ مَتَی أَلْفَیْتَ بَنِی عَبْدِالْمُطَّلِبِ عَنِ الْأَعْدَاءِ نَاكِلِینَ وَبِالسَّیْفِ مُخَوَّفِینَ «(1) ، يتضح من سياق الكلام الذي انخرط في صيغة الاستفهام (متى) أن السؤال خرج لإفادة الإنكار والتقرير، وهذا الاجتماع (الإنكار والتقرير) من شانه أن ينجز فعلا كلاميا لا قوليا هو الإقرار بحقيقة أن الإمام وبني عبد المطلب لا يخافون بطشة السيف ولا ظلم العدو فهم مهيؤون لاستقبالهم في أي وقت وهذا هو المقتضى الناشئ عن عمل التقرير أما الإنكار فقد أفاد نفياً لوقت وجدانه ( النكول/ الخوف) عند بني عبد المطلب وهنا ينشأ مقتضى إفادة الإنكار على أن مصادقة معاوية لهذه الحقيقة التي تلزمه بالإقرار بها ليست مجرد مصادقة وإنما تمثل سنداً حجاجياً يكشف بالاعتماد على التقرير عن قدرته في التعامل مع تهديدات ووعديات معاوية قولا وفعلا، وهذه نتيجة تقرير الحكم في نفس معاوية، لذلك يتضح من خلال السياق أن الجانب التقريري للاستفهام يطغى على الجانب الإنكاري ؛ لأنَّ الإمام لا يحتاج كعادته إلى تلقي جواب وإنما أراد تذكير معاوية بما فعلته سيوف بني هاشم وعبد المطلب بأهله وهو ما يمنح خطابه الصدق والتأثير ومن ثم يعزز من القوة الحجاجية التي تدفع باتجاه انجاز فعلي يقوم على أساس إقناع معاوية بضرورة الخضوع لسلطة الخلافة والتخلي عن

ص: 200


1- شرح نهج البلاغة: 15 / 86

فكرة التهديد والوعيد.

وفي وصيته لمن يستعمله على الصدقات قال (عليه السلام): « فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَى الْحَيِّ فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ ثُمَّ امْضِ إِلَيْهِمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ حَتَّى تَقوُمَ بَيْنَهُمْ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ وَلاَ تُخْدِجْ بِالتَّحِيَّةِ لَهُمْ ثُمَّ تَقُولَ عِبَادَ اللهِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِيُّ اللهِ وَخَلِيفَتُهُ لِآخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللهِ فِي أَمْوَالِكُمْ فَهَلْ لِلَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنْ حَقٍّ فَتُؤَدُّوهُ إِلَى وَلِيِّهِ «(1) . إنَّ القضية محل الاستفهام بالأداة (هل) جاءت لغرض التثبت والاقرار والتوجيه نحو قيمة من القيم التي اتى بها الدين الاسلامي وهي اخراج فاضل المؤونة الى ذوي الفاقة جباية الصدقات/ الزكاة، فهي محل اعتقاد وقبول من طرف المخاطبين ومن عوالم إيمانهم، بل هي من معتقدات الثقافة الإسلامية التي لا يختلف اثنان في قبولها قولا وفعلا .

فحقيقة الاستفهام هنا قائمة على حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بها، إذ أن جواب المستفهمين وهم ابتداء مسلمون لا يمكن أن يكون إلاَّ بتقرير إنَّ لله حقاً في أموالهم وأنَّه لابد أن يُدفع إلى وليّه وبذلك يصبح السند الحجاجي والفعل الإنجازي الذي يخرج إليه الاستفهام ابلغ وأكثر قوة حجاجية في التوجيه والتأثير والحمل على الإذعان مما لو أتى القول / الخطاب بصيغة الأمر والتقدير( أدوا الزكاة إلى ولي الله) ؛ لأنَّ وجود الاستفهام محل الشاهد قد عمل على التثبيت والتحقيق من جانب والحمل على الإقرار من جانب أخر أي تثبيت المستفهم عنه المعلوم والتسليم به فلا يطمع المخاطب إلى إنكاره ثم دفعه، المخاطب- إلى الإقرار به، بل جعل المستفهم ملزما ليس فقط بالجواب فحسب، بل ملزما بالإقرار بما يعلمه المستفهم والسير باتجاه تحقيقه والرضوخ له طوعا. ويبدو أنَّ العلة في إيثار اسلوب الطلب الاستفهامي على الطلب الامري مرده إلى مقتضيات السياق المقامي والحالي للمخاطبين ومراعاة لهم، وهذا ما أكده ابن ميثم البحراني بقوله:

« وهذه الوصية مشتملة على تعليم عامله على جباية الصدقات قوانين العدل في أخذها

ص: 201


1- نفسه: 15 / 71

من أهلها. ومداره وأمره له على الشفقة عليهم والرفق بهم . واعلم إن الرفق بالرعية وان كان من أهم المطالب للشارع (ص) لاستلزامه تألّف قلوبهم واجتماعها عليه وعلى ما جاء به من الحق، إلاَّ أنَّه هيهنا أهم والحاجة إليه اشد، وذلك أن الغرض هنا اخذ بعض ما هو اعز المطالب عند الناس من أيديهم وهو المال ومشاركتهم فيه فقلوبهم هنا اقرب إلى النفار مما يدعون إليه من سائر التكاليف وهم إلى المداراة والرفق اشد حاجة، فلذلك اكَّد (عليه السلام) وصية العامل بالرفق بهم والمساهلة منهم حفظا لقلوبهم »(1) . ولذلك جاء الاستفهام جريا على هذه السياسة والملاينة والرفق فآثر الإمام إن يكون الإقرار حاصلا منهم أفضل من فرض الطلب عليهم مداراة لمشاعرهم واخف وطأة على نفوسهم. لذلك يصبح الإقرار الحاصل منهم حجة باتجاه الموافقة وإخراج حق الزكاة والصدقات عموما ويمثل هذا الإقرار المقتضى الناشئ عن عمل التقرير:

الزكاة فرض من الله في أموال المسلمين >> ولي الله له الحق الشرعي في جباية الزكاة

2- معنى الإنكار وبعده الحجاجي:

ذهب البلاغيون العرب إلى أن الاستفهام المجازي يخرج إلى إفادة معاني عديدة تفهم من خلال سياقات الكلام وقرائن الأحوال منها (التقرير) كما قدمناه ومنها (الإنكار) وهو احد أربعة مقاصد للاستفهام المجازي ذكرها الجرجاني(2) .ويذهب السيوطي

ص: 202


1- ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 4 / 362
2- عبد القاهر، دلائل الإعجاز: 114 - 119

إلى أن المعنى في الإنكار «على النفي وما بعده منفي «(1) . وقصد النفي في الاستفهام قائم على الطلب من المسؤول أن يستبعد نقيض النفي وهو الإثبات ؛ بل عليه أن يقر بالسلب أي: سلب مضمون الحكم الذي تضمنه الاستفهام وشرط دلالة الاستفهام على النفي أن يصح «حلول أداة النفي محل أداة الاستفهام »(2) . اما علاقة الاستفهام بالإنكار ففسروها بالتالي: « العلاقة أن المستفهم عنه مجهول، والمجهول منكر، أي منفي عن العلم، فاستعمل لفظ الاستفهام في الإنكار بهذه الملابسة المصححة للمجاز الإرسالي بمعونة القرائن الحالية »(3) . اما ديكرو فقد أشار إلى أن الاستفهام يحمل في ذاته أصلا قيمة النفي واستند في البرهنة على ذلك إلى مفهوم تعدد الأصوات وقد بيَّ أنَّ عمل الاستفهام يشمل ثلاثة عناصر دلالية تداولية هي (4) :

1. إثبات مسبق للقضية: ويعني بذلك إن المتكلم إذ يطرح سؤالا ما على نحو: هل جاء زيد؟ فانه في الآن نفسه يحضر صوت المتلفظ الذي اثبت أو يثبت أو يمكن أن يثبت القضية وأكد ديكرو أن الاستفهام يشترك في ذلك مع النفي باعتبار أن منجز عمل النفي هو في الحقيقة ناف لقضية مثبتة من متلفظ آخر يختلف عن المتكلم النافي.

2. الإفصاح عن الشك: ويعني بذلك أن المتكلم إذ يستفهم إنما هو يفصح عن شكّه في حقيقة القضية المثبتة سلفا والشك في قضية ما هو بصفة عامة نزوع إلى نفيها رغم إن إمكانيتي نفي المشكوك فيه وإثباته تبقيان منطقيا قائمتين.

3. الإلزام بالاختيار بين القضية ونفي القضية: ويعني بذلك أن التلفظ بالسؤال ذاته هو الذي يخلق الإلزام بالجواب لذا فإن هذا الإلزام باختيار جواب من قبيل (القضية)

ص: 203


1- السيوطي، الإتقان في علو م القران: 79
2- عبد العزيز عبد المعطي عرفه، من بلاغة النظم العربي ، دراسة تحليلية لمسائل البيان: 124
3- ابن يعقوب المغربي، مواهب الفتاح في شرح تلخيص المفتاح: 296
4- 247 السؤال البلاغي: 4، ينظر:

أو نفيها ينشأ داخل الخطاب وبه.

1. فقيمة النفي التي يحملها الاستفهام حسب ديكرو هو أن المثبت للقضية يختلف بلا جدال عن المفصح عن شكّه فيها سواء أكان المثبت لهذه القضية السائل أم المسؤول في لحظة أخرى غير لحظة الاستفهام، لأنَّ الشخص نفسه لا يمكن أن يكون في اللحظة ذاتها مثبتا لأمر شاكا فيه معا. ثم أن العنصر الموجب أي إثبات القضية هو نتيجة عمل إخبار، في حين إن العنصر السالب هو نتيجة عمل إفصاح إذ المستفهم لا يخبر عن شكه بل ينجزه لحظة تلفظه(1) . وبعبارة أخرى أن ديكرو يبرهن على أن قيمة النفي تتبلور في الشك والشك في شيء يُعد بصفة عامة كأنه اتجاه إلى نفيه.

فخروج الاستفهام إلى النفي يعني بتعبير عبد الله صولة عدولا نوعيا عن الوظيفة الأصلية / الحقيقية، وهنا يكمن السر في بلاغة السؤال وتداوليته، وفي هذا الصدد يقول احمد احمد بدوي: “ولعل السر في جمال اسلوب الاستفهام...... والعدول إليه عن اسلوب النفي هو أن الاستفهام في أصل وضعه يتطلب جوابا يحتاج إلى تفكير وروية عن هذه الأسئلة بالنفي، كان في توجيه السؤال إليه حملا له على الإقرار بهذا النفي وهو أفضل من النفي ابتداء”(2) . ولكن هذا الرأي على أهميته في تدبر البعد الحجاجي الذي يقدمه الاستفهام في تحقيق معنى النفي، فإنه بحسب صولة لم يبين لنا كيف يتم الإقرار بهذا النفي؟ إذ قد يطيل المسؤول التفكير والروية في البحث عن جواب للأسئلة المطروحة عليه، كما قال بدوي مع ذلك فانه يجيب بعكس ما ينتظره منه السائل، بل إنَّ العادة جرت إن المسؤول إذا أطال التفكير في جوابه يكون ذلك علامة على عدم مجاراته للنسق الذي يريد أن يفرضه السائل عليه، لذلك والكلام لصولة: إنَّ النفي الذي حلّ الاستفهام محله من شانه ، كأي نفي ، أن يكون علامة على وجود خصومة وعدم اتفاق ودحضه

ص: 204


1- ينظر: نفسه: 247
2- احمد احمد بدوي، من بلاغة القران: 163

للرأي المخالف ورد عليه، يقول بعضهم: “ إن النفي ينطوي دائما على ملفوظ عكسي يكون صريحا او ضمنيا اي انه ينطوي على علاقة جدلية مع الغير”(1) ؛ ولكن العدول عن النفي إلى الاستفهام من شأنه أن يغير مجرى تلك الخصومة تغييرا جذريا وينتقل بها من مجرد دحض للرأي المخالف، فتلك مهمة النفي، إلى احتواء الخصم بدفعه إلى الإقرار بما تفرضه عليه القضية التي يحملها تركيب الاستفهام وبذلك نرى سرعان ما ينخرط المسؤول في دورة الخطاب ويخضع له متجاوبا معه مقرا به وعلى هذا يبدو الاستفهام ابلغ حجاجا من مجرد النفي(2) . وبالعودة إلى المدونة نجد أن الاستفهام الإنكاري قد حقق قوة (انجازية حجاجية) في رسائل الإمام علي (عليه السلام) وخصوصا في خطابه السياسي من خلال خروجه إلى قسمين: إنكار التوبيخ، وإنكار التكذيب وكالتالي:

أ- إنكار التوبيخ:

ويأتي به السائل لتوبيخ المخاطب/ المسؤول على ما وقع منه من فعل مذموم(3) وهذا ما أشار إليه الجرجاني بقوله: “واعلم إن الهمزة فيما ذكرنا تقرير بفعل قد كان وإنكار له لما كان وتوبيخ لفاعله عليه”(4) لذلك نجد هذا النوع من السؤال البلاغي يضطلع بوظائف حجاجية من خلال ما يقدمه من مقتضيات نبينها فيما يأتي:

قال امير المؤمنين في جوابه الى معاوية: ( وَزَعَمْتَ أَنَّ أَفْضَلَ النَّاس فِی الاْءِسْلاَمِ فُلاَنٌ فَذَكَرْتَ أَمْراً إِنْ تَمَّ اعْتَزَلَكَ كُلُّهُ وَإِنْ نَقَصَ لَمْ یَلْحَقْكَ ثَلْمُهُ وَمَا أَنْتَ وَالْفَاضِلَ وَالْمَفْضُولَ وَالسَّائِسَ وَالْمَسُوسَ وَمَا لِلطُّلَقَاءِ وَأَبْنَاءِ الطُّلَقَاءِ وَالَّتمْییزَ بَیْنَ الْمُهَاجِرِین

ص: 205


1- 2، ينظر: الحجاج في القران الكريم: 428
2- ينظر: نفسه: 427 - 429
3- ينظر: الزمخشري، الكشاف: 1/ 24
4- دلائل الإعجاز: 141

الأوَّلِینَ وَتَرْتِیبَ دَرَجَاتِهِمْ وَتَعْرِیفَ طَبَقَاتِهِمْ هَیْهَاتَ لَقَدْ حَنَّ قِدْحٌ لَیْسَ مِنْهَا وَطَفِقَ یَحْكُمُ فِیهَا مَنْ عَلَیْهِ الْحُكْمُ لَهَا أَلاَ تَرْبَعُ أَیُّهَا الاْءِنْسَانُ عَلَی ظَلْعِكَ وَتَعْرِفُ قُصُورَ ذَرْعِكَ وَتَتأَخَّرُ حَیْثُ أَخَّرَكَ الْقَدَر «(1) . فنلاحظ أنَّ بنية الخطاب في هذا النص قد تشكلت عبر استفهامات حجاجية قائمة على ثنائية: الهدم والبناء، أي هدم حجة الخصم وتقويضها، وبناء حجج دامغة أفرغت حجج المسؤول/ الخصم من محتواها، فالإمام قد استدعى الاستفهام على سبيل الإنكار والاستحقار والتوبيخ والتنبيه فقد أنكر (عليه السلام) على معاوية أن يخوض على صغر شانه وحقارته في أمور المفاضلة بين المهاجرين الأولين وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم. وهنا يبرز الدور الحجاجي للاستفهام مشكّلاً لبنة أولى في خطة الإيقاع بالمخاطب / معاوية وافحامه ودفعه إلى الاقتناع بما هو أهم وبما هو موضوع الخلاف حقيقة عبر تعرية وتفكيك خطابه باتجاه تفنيده لأنه يحمل في داخله عناصر تدمره. فالإمام قد اعتمد حجة (التناقض وعدم الاتفاق) التي تتمثل في « إعلان إن ما قاله الخصم فيه ما يقوّضه «(2) وبيان هذه الحجة يتمثل في استدراج الخصم ( فذكرت أمرا ان تم اعتزلك كله وان نقص لم يلحقك ثلمه .... وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها) وجوهر هذه الحجة إن معاوية وأباه ابا سفيان كانا من الطلقاء الذين دخلوا الإسلام كرها لا طوعا ولم يصح إسلامهما لذلك استبعد الإمام وأنكر أهليته في هذا الحكم وتقدير الأفضلية، وقوله: (وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها) مثل يضرب لمن يحكم على قوم وهو من أراذلهم وليس هو للحكم بأهل، بل هم أولى منه في تقرير الحكم، إذ شأن الأشراف أن يكونوا حكاما 0 ومراد الإمام أن معاوية ليس من القوم الذين يحكم بتفضيل بعضهم على بعض في شيء وليس أهلا للحكم فيهم ولذلك استفهم الإمام في قوله: ( ألا تربع...) على سبيل الإنكار والتنبيه له على قصوره

ص: 206


1- شرح نهج البلاغة: 15 / 85
2- الحجاج في الشعر العربي ، بنيته واساليبه: 231

عن درجة السابقين والتقريع له على ادعائه لها 0 وقد علل (عليه السلام) هذا الإنكار التوبيخي باستدعاء المجاز وبيان ذلك: فلتترفق بنفسك ولا تكلفها هذا الأمر ولتقف بها عن مجاراة أهل الفضل حال ظلعك واستعار لفظة (الظلع) لقصوره ووجه المشابهة هو قصوره عن لحوق رتبة السابقين في الفضل كقصور الظالع عن شأو الضليع. وكذلك قوله: وتعرف قصور ذرعك، وقصور ذرعه كناية عن قصور قوته وعجزه عن تناول تلك المرتبة، و(حيث أخرك القدر) إشارة إلى مرتبته النازلة التي جرى القدر بها أن تكون نازلة عن مراتب السابقين وقد أمره بالتأخر فيها والوقوف عندها تقريعا وتوبيخا بها(1) .

إن الغرض الانجازي ( الإنكار التوبيخي) الناشئ عن الأسئلة البلاغية في خطاب الإمام (عليه السلام) توضحه المقتضيات الناشئة ذات البعد الحجاجي:

>> المقتضى: لا ينبغي للطلقاء وأبناء الطلقاء التمييز بين المهاجرين الأولين وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم.

>> المقتضى: معاوية ليس من القوم الذين حكم بتفضيل بعضهم على بعض في شيء وليس أهلا للحكم فيهم.

فإفراغ حكم معاوية من محتواه التأثيري / الحجاجي ونفيه من الأساس طريق لحمل المخاطب/ الخصم على الإقرار بهذا النفي أو التزام الصمت، على اقل تقدير، فينتج عن ذلك أثر التوبيخ وهذا الأثر هو ما عبر عنه الجرجاني بالخجل والارتداع 0 ولذلك لا يسع المخاطب إلاَّ الاعتراف بالمقصد الضمني للاستفهام لأنَّ “ابلغ الحجج وأشدها إلزاما للخصم وأكثرها إفحاما له ما نطق بها هو نفسه وساهم في صنعها من خلال إجابته عن الاستفهام الموجه إليه فعلى هذا يبدو الاستفهام ابلغ حجاجا من مجرد النفي”(2)

ص: 207


1- ينظر: ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 4/ 385
2- الحجاج في القران الكريم: 429

وبحصول هذا الإقرار يتحقق اثر التوبيخ الذي يساهم في عملية الارتداع والكف كما اسلفنا 0 ومن كتاب له (عليه السلام) الى زياد بن ابيه: “ أَ تَرْجُو أَنْ یُعْطِیَكَ اللَّهُ أَجْرَ الْمُتَوَاضِعِینَ وَأَنْتَ عِنْدَهُ مِنَ الْمُتَكَبِّرِینَ وَتَطْمَعُ وَأَنْتَ مُتَمَرِّغٌ فِی النَّعِیمِ تَمْنَعُهُ الضَّعِیفَ وَالْأَرْمَلَهَ أَنْ یُوجِبَ لَكَ ثَوَابَ الْمُتَصَدِّقِینَ وَإِنَّمَا الْمَرْءُ مَجْزِیٌّ بِمَا أَسْلَفَ وَقَادِمٌ عَلَی مَا قَدَّمَ «(1) . لقد عمد الإمام في خطابه إلى استعمال السؤال البلاغي قاصدا به توبيخ المسؤول ومنكرا عليه ذلك العمل أو تلك القضية إذ أن مقتضى الإنكار التوبيخي هو أنَّ ما بعده واقع ولكنه قبيح وما كان ينبغي أن يكون وفاعله ملوم عليه. يقول الجرجاني في ذلك: « واعلم إن الهمزة فيما ذكرنا تقرير بفعل قد كان وإنكار له لما كان وتوبيخ لفاعله عليه »(2) فالإمام ومن خلال هذا الاستفهام يدفع بحجة ذكية تحاصر المستفهم وتلزمه بالإقرار بها فلا سبيل لدفعها أو إنكارها لأنَّا من القضايا المنطقية التي تجعل المخاطب ينخرط فيها تمهيدا لاذعانه 0 فالمسار الحجاجي الذي احدثه الاستفهام قد افرز حجة مدارها على التناقض وعدم الاتفاق في بيان خطل رأي المخاطب وفساد رأيه. فهذه الحجة قائمة على وجود قضيتين متناقضتين إحداهما نفي للأخرى ونقض لها من قبيل: ( الملك يَظلم ولا يُظلم) والفيصل في هذا الأمر يكون في وضع الملفوظين على محك الواقع والمقام لاختيار إحدى الأطروحتين لانسجامها مع الواقع أو المقام أما الأخرى فخاطئة(3) ، أي أنَّ هاتين الأطروحتين المتناقضتين تنتميان وتحدثان داخل النظام الواحد وعند فحص خطاب الإمام نجد أن المقتضيات التي تقدر في ضوء الجملة الاستفهامية تنقدح بالشكل التالي:

ص: 208


1- شرح نهج البلاغة: 15 / 66
2- دلائل الإعجاز: 141
3- الحجاج: أطره ومنطلقاته وتقنياته: 325

>> المقتضى: امقت الناس عند الله المتكبر.

>> المقتضى: من تواضع لله رفعه.

>> المقتضى: لا تستوي الحسنة بالسيئة

فالتناقض الحاصل بين قضايا: (التواضع / التكبر) و (البخيل / المتصدق) إذا وضعناهما على محك الواقع / العقل / الشريعة الإسلامية، لا يمكن انكاره بأي شكل من الاشكال، وليس هذا فحسب، بل مقتضى المقام الذي تضمنه الخطاب هو مقام (نصح وإرشاد وتوبيخ) فهو يسير باتجاه إنكار ونفي كل ما من شأنه أن يتعارض مع منطق العقل وما جاءت به الشريعة الإسلامية، لذلك فإنَّ المخاطب سوف ينساق وينخرط في قبول إحدى الأطروحتين المتناقضتين ورفض الأخرى استنادا إلى الواقع والمقام ومن ثم إلزام المسؤول بتبني وجهة نظر السائل التي يدور عليها السؤال بشكل ضمني 0وهذا الدور الذي يلعبه الاستفهام يجعل المخاطب مساهما في إنتاج الحجج يصنعها ويعود فيخضع لها ويتقيد بها 0 كما أنَّ التناقض الحاصل بين (المتمرغ في النعيم يمنعه الضعيف والأرملة)، وبين (الطمع بثواب المتصدقين) مدعاة إلى الاستنكار والرفض أيضا والتوبيخ لمن فعله، وهنا يخرج هذا الخطاب عن حدود المخاطب المعلوم المباشر لينفتح على المتلقي غير المباشر خارج الحدود الزمكانية تنبيها لهم على أن ثواب كل فضيلة إنما ينال باكتسابها والتخلق بها لا بالكون على ضدها. فمن الواجب إذن التخلق بفضيلة التواضع لينال ثوابها ولن يحصل التخلق بها إلا بعد الانحطاط عن درجات المتكبرين، فهو إذن من الواجبات المسلم بها، كما إن طمع الانسان في ثواب المتصدقين حال اقتنائه للمال وتنعمه به ومنعه عن الضعيف والأرملة، هو امر لا يمكن قبوله. كما نبّه الإمام بأنَّ جزاء كل عمل بمثله من الثواب والعقاب فما جزاء الإحسان إلا الإحسان وما جزاء السوء إلاَّ السوء وخلاف ذلك يتنافى ويتناقض مع العدل الإلهي والفطرة الإنسانية السليمة 0

ص: 209

ب - إنكار التكذيب:

مثلما خرج الاستفهام الإنكاري إلى التوبيخ كذلك يخرج للتكذيب فهو إنكار إبطالي أي أنَّ ما بعده غير واقع ومدعيه كاذب 0 ولذلك يختلف إنكار التكذيب عن إنكار التوبيخ في أن التكذيب هو أمر غير واقع ولذلك سُمِّي إنكاراً إبطالياً بمعنى أنَّ المستفهم يبطل وقوع النسبة أي ينفيه(1) ، وتكاد تفتقر رسائل الإمام إلى مثل هذا النوع من الاستفهام ولكن حين يتعلق الأمر بمعاوية وكثرة ادعاءاته وتزييفه للحقائق ينبري له الإمام كاشفا حقيقة المغالطات التي يتضمنها خطاب معاوية والتصدي لتفنيدها وفضحها. من ذلك قوله (عليه السلام): « وَمَتَى كُنْتُمْ يَا مُعَاوِيَةُ سَاسَةَ الرَّعِيَّةِ وَوُلاَةَ أَمْرِ الْأُمَّةِ بِغَيْرِ قَدَمٍ سَابِقٍ وَلاَ شَرَفٍ بَاسِقٍ «(2) . فالإمام ينكر على معاوية وبني أمية أن يكون لهم شأن أو مأثرة سواء في قيادة الرعية أو نصرة الدين عبر الاستفهام الذي أورده على سبيل الإنكار التكذيبي والتقريع بالخمول والقصور عن رتبة الملوك والولاة والاشراف 0 والقدم السابق كناية عن التقدم في الأمور الأهلية ولذلك نبّه (عليه السلام) بقوله: (بغير قدم سابق) على أن سابقة الشرف والتقدم في الأمور شرط لتلك الأهلية في المتعارف. ولذلك فإن ورود الاستفهام الابطالي/ التكذيبي قد افرغ حجج معاوية من محتواها ؛ لأنَّ الذي لم تكن له سابقة وأثرة حسنة وشرف عال في الأمور التي تعارف عليها الناس فانهم ليسوا بأهل السياسة وقيادة الرعية وولاية أمر الأمة، فينتج هذا أنَّ هؤلاء ليسوا مؤهلين لذلك وهو ما قصده الإمام فيكون المقتضى الناشئ عن ذلك:

المقتضى: لستم أهلا لقيادة الرعية وولاية أمر الأمة.

ص: 210


1- ينظر: وليد قصاب، البلاغة العربية ، علم المعاني: 66
2- شرح نهج البلاغة: 15 / 38

المبحث الرابع: السلّم الحجاجي في رسائل الإمام علي (عليه السلام)

اشارة

اشرنا فيما سبق إلى أنَّ السلّم الحجاجي هو مجموعة غير فارغة من الأقوال مزودة بعلاقة ترتيبية ومستوفية للشرطين التاليين:

- كل قول يقع في مرتبة ما من السلّم يلزم عنه ما يقع تحته، بحيث تلزم عن القول الموجود في الطرف الأعلى جميع الأقوال الأخرى 0

- كل قول في السلم كان دليلا على مدلول معين، كان ما يعلوه مرتبة دليلا اقوى 0

- كما لابد لنا من التذكير بأهم قوانين هذا السلّم وهي ثلاثة:

- قانون الخفض: إذا صدق القول في مراتب معينة من السلم فان نقيضه يصدق في المراتب التي تقع تحتها 0

- قانون تبديل السلم: إذا كان القول دليلا على مدلول معين فان نقيض هذا القول دليل على نقيض مدلوله.

- قانون القلب: إذا كان احد القولين أقوى من الأخر في التدليل على مدلول معين فان نقيض الثاني أقوى من نقيض الأول في التدليل على نقيض المدلول 0

فالسلّم هو علاقة ترتيبية للحجج بشكل عمودي من الحجة الضعيفة إلى الحجة القوية أي من الحجة الابعد في التدليل على المدلول/ النتيجة، إلى الحجة الأقرب دلالة على المدلول في القسم الحجاجي الواحد أو الفئة الحجاجية الواحدة 0

ص: 211

ولو نظرنا في كيفية تجلي قوانين ومفاهيم السلّم الحجاجي في مدونتنا نجد ان رسائل الإمام علي (عليه السلام) لا تخلو من تمثلات لهذا النوع الحجاجي اللغوي الذي يكشف عن قوة الحجج وتراتبيتها في القول 0 بل لابد لكل قول بطبيعته ان يخضع لسلّمية وتراتبية معينة بغض النظر عن صحة الترتيب من عدمها في خدمة النتيجة او القول برمته.

وللتدليل على ذلك نأخذ الأمثلة التالية:

في كتاب بعثه الإمام علي إلى معاوية قال (عليه السلام): « إِنَّهُ بَایَعَنِی الْقَوْمُ الَّذِینَ بَایَعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ عَلَی مَا بَایَعُوهُمْ عَلَیْهِ فَلَمْ یَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ یَخْتَارَ وَلَا لِلْغَائِبِ أَنْ یَرُدَّ وَإِنَّمَا الشُّورَی لِلْمُهَاجِرِینَ وَالْأَنْصَارِ «(1) يقدم أمير المؤمنين في خطابه هذا أكثرمن حجة على صحة البيعة والاختيار له، فقد بدأ (عليه السلام) بحجة أولى هي (بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان) ومؤدى هذه الحجة هو الاحتجاج على معاوية ومن يلوذ به ويناصره الرأي ببيعة أهل الحل والعقد التي نصبت الخلفاء الثلاثة أئمة للمسلمين، أي ان بيعتهم لم يراعَ فيها إجماع المسلمين كلهم إذ ان سعد بن عبادة لم يبايع ولا احد من أهل بيته وولده وكذلك إن عليا (عليه السلام) وبني هاشم ومن كان رأيه كذلك لم يبايعوا في مبدأ الأمر وامتنعوا ومع ذلك لم يقدح احد سوى ما ذكرنا بصحة خلافة الخلفاء الثلاثة. فالإمام هنا قد اعتمد مبدأ (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم) وبالنتيجة فإن امتناع معاوية وأهل الشام من بيعة الإمام لا يقدح بخلافته وإمامته ؛ لأنَّا جرت على وفق الضابطة التي تعارف عليها المسلمون في أمر الخلافة 0

ثم ينتقل الإمام إلى حجة أخرى هي ( فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب ان يرد) أتى بها لتقوية وتعزيز النتيجة المتضمنة لمعنى القول 0 ومفاد هذه الحجة: ان الحاضر الذي لم يبايع لا يمكن ان يختار له خليفة آخر وكذلك الغائب، لأنَّ الميزان والمعيار هو:

لو كانت بيعة أهل الحل والعقد في عاصمة الإسلام فقد بايعني أولئك وان كان الميزان

ص: 212


1- شرح نهج البلاغة: 14 / 16

غير ذلك فكيف رضيت يا معاوية بيعة أولئك / الخلفاء الثلاثة 0ثم يردف الإمام (عليه السلام) قوله بحجة ثالثة دعمت القول برمته هي (إنما الشورى للمهاجرين والأنصار) وتكمن قوة هذه الحجة بالمقارنة مع الحجتين السابقتين بدلالة أداة القصر (إنما) وهي من أدوات السلّم الحجاجي « والسبب في إفادة إنما معنى القصر هو تضمينه معنى: ما و إلاَّ 0000 وترى أئمة النحو يقولون: إنما تأتي إثباتا لما يذكر بعدها ونفيا لما سواه »(1) . لذلك يتضح ان هذه الحجة قد احتلت المرتبة الأولى من حيث القوة الحجاجية، لأنَّه (عليه السلام) قد قصر وحصر مسألة الشورى والبيعة على أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار الذين عرفوا الإسلام أحسن من غيرهم وكان لهم السبق في ذلك فهم عِلية القوم الذين تنعقد باجتماعهم البيعة دون غيرهم ومن هنا يتضح أن أمير المؤمنين قد أقام حجته ورتّبها بهذا الشكل من اجل هدفين أو غايتين هما:

1. ان المبدأ أو الفيصل في انعقاد البيعة على أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار الذي تعارف عليه المسلمون في بيعة الخلفاء الثلاثة قد اعتمده الإمام في قبول البيعة من قبلهم لإلزام المعترضين عليه بما ألزموا به أنفسهم وجعلوه ميزانا تتفاضل عنده الرجال في إمامة الأمة، مع عدم قناعة الإمام بهذه الآلية، وبذلك يكون (عليه السلام) قد اعتمد القياس في إقامة حججه.

1. إنما احتج الإمام على القوم بالإجماع (أهل الحل والعقد) لإنكارهم انه (عليه السلام) منصوصا عليه في خلافة المسلمين بعد رسول الله (ص)، فلو احتج بالنص لم يُقبل منه ولم يسلّم له مع علمهم بحقيقة التنصيب الإلهي له في القران الكريم واثبات ذلك في وصية الرسول (ص) في غدير (خم)، فالمطالبة بهذا الحق يكون خروجا عن النسق الثقافي الذي تشكل وهيمن على الواقع السياسي والاجتماعي للمجتمع والذي أجاز وأباح للخلفاء الثلاثة ان يجتهدوا مع وجود النص في هذا

ص: 213


1- السكاكي، مفتاح العلوم: 291

المنحى وإيجاد نظام الشورى وتقويض أمر التنصيب واثبات الولاية المطلقة لأمير المؤمنين. لذلك نجد أن مطالبته (عليه السلام) وأحقيته في الخلافة وإمامة المسلمين لكونها منصوصا عليها في القران والسنة. وقد أشار إليها في أكثر من مناسبة فهو في هذا القول لم يركن إلى تبيان هذه الحجة وهذا الحق ؛ لأنه يدرك تماما إن إثارة هذا الأمر من شأنه ان يقوي من حجة خصمه ( في هذا المقام تحديدا) وخصوصا في هذا الظرف الحرج، ولان الاحتجاج بالنص من شأنه ان يطعن على الخلفاء الذين سبقوه ويفسد حاله مع الذين بايعوه من أهل المدينة، وكل هذا من شانه أيضا ان يفسح المجال لمعاوية في تأليب الرأي العام على خلافة أمير المؤمنين ويستغلها فرصة سانحة للانقضاض على الخلافة، الأمر الذي لم يسقطه الامام من حسابه وهو ماض في تبكيت خصمه / معاوية. ففي رسالة جوابية بعثها إلى معاوية يؤكد الإمام مرة أخرى هذه الحجة بقوله: « لأنها بيعة واحدة لا يثنى فيها النظر ولا يستأنف فيها الخيار الخارج منها طاعن والمروّي فيها مداهن »(1) ، أي ان هذه البيعة (بيعة الإمام) لا يراجع فيها الاختيار ثانية وليس بعد عقدها خيار لأنها تلزم غير العاقدين كما تلزم العاقدين فيسقط الخيار فيها، وبالنتيجة فإن من يخرج عليها يكون قد طعن على الأمة اختيارها، لأنهم اجمعوا على أن الاختيار طريق الامة، كذلك إن الذي يبطئ ويماطل في قبول البيعة والطاعة ويتروى هل يقبلها أم لا فهو منافق 0 وبالنتيجة فإن كل هذه الحجج تنتمي إلى فئة حجاجية واحدة وتخدم نتيجة واحدة هي( شرعية خلافة الإمام علي) مع وجود تراتبية وتدرجية في القوة الحجاجية التي تتضمنها الحجج التي يمكن تجسيدها في السلّم الحجاجي التالي:

ص: 214


1- شرح نهج البلاغة: 14 / 20

صورة

ومن كتاب له (عليه السلام) إلى عبد الله بن عباس وهو عامله على البصرة: « وَقَدْ بَلَغَنِی تَنَمُّرُكَ لِبَنِی تَمِیمٍ وَغِلْظَتُكَ عَلَیْهِمْ وَإِنَّ بَنِی تَمِیمٍ لَمْ یَغِبْ لَهُمْ نَجْمٌ إِلَّا طَلَعَ لَهُمْ آخَرُ وَإِنَّهُمْ لَمْ یُسْبَقُوا بِوَغْمٍ فِی جَاهِلِیَّهٍ وَلَا إِسْلَامٍ وَإِنَّ لَهُمْ بِنَا رَحِماً مَاسَّهً وَقَرَابَهً خَاصَّهً نَحْنُ مَأْجُورُونَ عَلَی صِلَتِهَا وَمَأْزُورُونَ عَلَی قَطِیعَتِهَا«(1) .

ابتداء لابد من الإشارة إلى المناسبة التي دفعت الإمام (عليه السلام) إلى ان يكتب إلى ابن عباس واليه على البصرة هذا الكتاب ؛ لأنَّها من الضرورات التي ينبغي أن تكون حاضرة لتحديد الإطار والسياق الذي تتحرك بموجبه، وبيان مدى قوتها وتراتبيتها 0 فقد روي ان ابن عباس كان قد اضر ببني تميم حين وليَّ البصرة من قبل الإمام علي (عليه السلام) للذي عرفهم به من العداوة يوم الجمل ؛لأنَّم كانوا من شيعة طلحة والزبير وعائشة فحمل عليهم ابن عباس فأقصاهم وتنكر عليهم وعيَّهم بالجمل حتى كان يسميهم شيعة الجمل وأنصار عسكر ، وهو اسم جمل عائشة ، وحزب الشيطان، فاشتد ذلك على نفر من شيعة علي (عليه السلام) من بني تميم منهم حارثة بن قدامة وغيره فكتب بذلك حارثة إلى الإمام يشكو إليه ابن عباس(2) ، مما دفع أمير المؤمنين

ص: 215


1- نفسه: 15 / 59
2- ينظر: ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 4/ 347

الى ان يكتب إلى ابن عباس يعضه ويحذره مما جرى على لسانه ويده من تنمر لبني تميم أي الغلظة عليهم والمعاملة لهم بأخلاق النمر من الجرأة والوثوب أي تنكر الأخلاق وتغيرها عليهم. ومن اجل إقناع ابن عباس بضرورة العدول عن توجهه في النقمة على بني تميم فقد سطّر الإمام (عليه السلام) مجموعة من الحجج التي أدرجها في سلّم القوة الحجاجية بتراتبية تتجه من الأدنى إلى الأعلى نحو خدمة النتيجة الضمنية المتحصلة من القول /الخطاب وتقديرها (الرفق ببني تميم وعدم التنكر لهم)، فالإمام يسوق الحجج لإثبات النتيجة أو فحوى الخطاب وفائدته التوجيهية. فقد أردف (عليه السلام) بذكر أحوال لهم يجب مراعاتها وحفظ قلوبهم لأجلها، وهو في كل حجة من حججه يعلو درجة اكبر وأكثر قوة من التي قبلها، فكانت الحجة الأولى (أن بني تميم لم يغب لهم نجم إلا طلع لهم أخر) فمع كون اغلبهم قد خرج لحرب أمير المؤمنين كما بينا إلا ان بعضهم موالون. كذلك ان بني تميم لم يمت لهم سيد إلا قام لهم أخر مقامه يهتدي بهداه قومه ويقتدون بآرائه في الطرق المصلحية ولذلك لا يمكن ان يُمل المُحسن بجريرة المسيء 0 ثم أتى (عليه السلام) بحجة أقوى مما سبقها ( وانهم لم يسبقوا بوغم في جاهلية ولا إسلام ) والوغْم: هو الحقد في الصدر فهم لشرف نفوسهم وابائهم الذل والضيم لم يهدر لهم دم فإنهم يأخذون بثأرهم أو لأنهم لشرفهم لا يحقدون على أحد لأنَّ الضعيف هو الذي يحقد فهم أصحاب قوة ونجدة وحمية 0 وتكمن قوة هذه الحجة ليس في بيان مأثرة أو صفة حميدة تتسم بها تميم، فمن غير المعقول ان يكون ابن عباس لا يعرف تاريخ العرب ومحاسن القبائل ومساوئها فهو يحظى بمنزلة رفيعة كونه من اعلام الإسلام الأوائل الذين يشار لهم بالعلم والمعرفة ورجاحة العقل والتقييم المنطقي للأمور فهو رجل محاجّة ونظر، ولكن الإمام (عليه السلام) أراد توضيح مسألة مهمة هي من باب التنبيه والتحذير من ان النتائج تعرف من مقدماتها فتنمره لهم مدعاة إلى استجلاب الحقد والكراهية وربما لا يحتملون الحقد ويسكتون على الضيم والظلم فيبادروا إلى الشفاء من

ص: 216

ذلك بالثورة والجنوح إلى الحرب 0 وهذا ما يمكن ان نعدّه وجها أولا أما الوجه الأخر فهو توجيه إلى ابن عباس في ان يربأ بنفسه عن تمثل الحقد والكراهية لبني تميم انتقاما لموقفهم من الإمام في حرب الجمل فتكون الآثرة لهم ؛ لأنَّم لم يسبقوا بوغم في جاهلية ولا في إسلام فصفة الحقد والكراهية والغل منبوذة في الجاهلية فضلا عن الإسلام، وهنا ينطوي قول الإمام على تضمين معنى الإنكار والتوبيخ لابن عباس، إذ لا ينبغي لك أن تعامل بني تميم بحقد وكراهية وتسيء لهم وخصوصا مع المقدرة على الصفح والتجاوز، مستدعيا بذلك (حجة النموذج) ومدار هذه الحجة على كائن نموذج يصلح على صعيد السلوك لا لتأسيس قاعدة عامة او دعمها فحسب، وانما يصلح كذلك للحض على عمل ما اقتداء به ومحاكاة له ونسجا على منواله وإن بطريقة غير موفقة تمام التوفيق(1) .

لذا يتوجب على المحاجج ان ينتقي نماذجه وتكون جديرة بالتقليد والاقتداء بها والنسج على منوالها حتى تقوى قدرته الاقناعية، وخلاف ذلك يؤدي الى (عكس النموذج)(2) . فالنموذج جاء باعتبار ان بني تميم (لم يسبقوا بوغم) وإذا كانت حجة ابن عباس ان الإسلام قد هذّب أخلاقهم وشذب نفوسهم، فان الإمام قد قطع عليه سبيل ذلك بأنهم كذلك في الجاهلية ايضا 0

وإذا كانت الحجتان المتقدمتان قد اختلفتا في درجة قوتهما واتفقتا في كونهما من نافلة القول في تأكيدهما على ضرورة مراعاة هاتين الخصلتين وأخذهما بنظر الاعتبار في تعامل ابن عباس معهم، فإن الإمام يردف خطابه بحجة ثالثة اكسبت الخطاب القوة

ص: 217


1- ينظر: الحجاج اطره وتقنياته: 338
2- اذا لم يحسن المحاجج اختيار النموذج فسوف تضعف حجته وينقلب السحر على الساحر من خال استعمال نفس النموذج من الطرف الاخر ولكن بطريقة مضادة وعكسية فبواسطة حجة عكس النموذج هذه يكون الحض لا على الاقتداء بطبيعة الحال، وانا على الانفصال عن الشخص الذي يمثل عكس النموذج، من قبيل المثال التالي: قال الاب لابنه الكسول: كان نابليون في مثل سنك رأس فصله، فأجابه الابن: وفي مثل سنك كان امبراطورا. (ينظر: الحجاج اطره وتقنياته: 338 )

اللازمة عبر تفوقها وقوتها واندراجها في اعلى السلّم الحجاجي في إفادة النتيجة الضمنية من خلال تأكيدها على فكرة محورية ومبدأ إسلامي منحها بعدا قيميا إلزاميا وجب مراعاته. فهذه الحجة اكتسبت قوتها من ارتباطها بالنسق الثقافي الاسلامي وبالسلطة الأمرية الإسلامية وهي ( وإن لهم بنا رحما ماسة وقرابة خاصة نحن مأجورون على صلتها ومأزورون على قطيعتها) اي ان لهم قرابة قريبة من بني هاشم لاتصالهم بجد واحد هو (الياس بن مضر) وزاد ترغيبا في مواصلتهم ومداراتهم بكون صلة الرحم مستلزمة للأجر في الآخرة وتركها مستلزم للوزر، وهذا لا يعني ان يتم مداراتهم على حساب الحق والعدل والإنصاف كون حصول القرابة وصلة الرحم 0 فنهج الإمام (عليه السلام) غير ذلك وهو معروف للقاصي والداني، والشواهد على ذلك كثيرة، ولكن المقام هنا ليس مقام محاسبة بني تميم وإقامة القصاص فيما صدر عنهم، وإنما هو مقام توجيه وإرشاد ونصح للمخاطب / ابن عباس، بضرورة التعامل مع الرعية على وفق متبنيات الاسلام الصحيح الذي يؤكد فيما يؤكد عليه (ان لا تزر وازرة وزر اخرى) كما ان المعطيات المتوفرة والأحوال القائمة والأدلة الثابتة التي أشار إليها الإمام التي تعبر عن ادراك وبعد نظر وروية في التعامل مع الرعية ومع الظرف السياسي الراهن تقتضي الرفق ببني تميم والتثبت فيما يجري على لسان ويد ابن عباس من قول وفعل 0 فالحجة الثالثة قد اكتسبت قوتها وارتفاعها في اعلى السلّم من شرعيتها، اي ارتباطها بالشارع المقدس الذي يؤكد على صلة الرحم واجتناب قطيعتها. ويمكن ان نمثل لهذا الخطاب بالسلّم الحجاجي التالي:

ص: 218

فكل هذه الحجج قد تآزرت في خدمة النتيجة المطروحة وقد أدرجها الإمام في خطابه بشكل تراتب عمودي على وفق درجة قوتها في إفادة النتيجة، فبدأ في ابعدها دليلا على المدلول صعودا إلى أقربها في الدلالة على النتيجة 0 وفي كتاب بعثه (عليه السلام) إلى زياد بن أبيه وهو خليفة عامله عبد الله بن عباس على البصرة قال: “ وَإِنِّی أُقْسِمُ بِاللّهِ قَسَماً صَادِقاً لَئِنْ بَلَغَنِی أَنَّكَ خُنْتَ مِنْ فَیْءِ الْمُسْلِمِینَ شَیْئاً صَغِیراً أَوْ كَبِیراً لَأَشُدَّنَّ عَلَیْكَ شَدَّهً تَدَعُكَ قَلِیلَ الْوَفْرِ ثَقِیلَ الظَّهْرِ ضَئِیلَ الْأَمْرِ«(1)

يتأسس الخطاب هنا انطلاقا من (الاحتجاج بالسلطة) وهذا النوع من الحجج تغذيه هيبة المتكلم أو نفوذه أو علمه أو سلطته، على ان تكون هذه السلطة معترف بها من قبل الجمهور وخصوصا في المجال الذي ذكرت فيه. الأمر الذي يتضح في خطابات الإمام (عليه السلام) مع ولاته وعماله وقادة جيشه، فالعلاقة ما عادت علاقة تماثل وتساو بين الطرفين، بل أضحت علاقة تراتبية فيها يفضل المتكلم المتلقي باعتبار ان الإمام يملك السلطتين الدينية والسياسية. وفي هذا الإطار أكد موريس ساشو: « إن من صور الحجاج بالسلطة هو ان تقام علاقة تراتبية بين الاثنين في الأول تربط بين المتكلم والمتلقي علاقة ثقة متبادلة وبالتحديد يحترم من يحاول الإقناع استقلالية الأخر ويقدر قدرته على اكتشاف الحقيقة وفي الثاني على العكس من ذلك تربط بين الاثنين علاقة تبعية فمن يتلقى الحجاج عليه ان يحترم ما يقوله باسم السلطة »(2) ، لذا اعتمد الإمام هذه الحجة في التحذير والترهيب كأسلوب للردع والتأثير والتوجيه استنادا إلى ما يتمتع به من سلطة سياسية ودينية مطلقة وخصوصا عندما تتوجه هذه الحجة من رتبة اعلى إلى رتبة ادنى 0 كما ان هذه الحجة التي اعتمدها الامام لا تكتسب قوتها الحجاجية من السلطة التي يمارسها الامام اي سلطة الخلافة فحسب، بل اكتسبت قوة اخرى استمد الامام منها مشروعية خطابه،

ص: 219


1- شرح نهج البلاغة: 15 / 65
2- الحجاج في الشعر العربي ، بنيته واساليبه: 235

هذه القوة ناتجة عن سلطة العقيدة او الكتاب المقدس وهو القرآن الكريم الذي يشكل سلطة قارة ومعترف بها من قبل جمهور السامعين ضمن الثقافة الواحدة، في تبنيه لمبدأ النهي عن الخيانة بكل اشكالها واعظام العقوبة لمرتكبها.

ومن الجدير بالذكر فإن حجة السلطة هذه لا يكتفي صاحبها بأن يأتي بها مستقلة، بل تأتي في الغالب معضودة بحجج اخرى متنوعة. وهذا ما اشار اليه برلمان بقوله: » تأتي حجة السلطة في اغلب الاحيان لتكمل حجاجا ثريا عوض ان تكون الحجة الوحيدة فيه، فنستنتج عندها ان سلطة ما ترفع او تحط حسب اتفاقها او اختلافها مع رأي المتكلم «(1) .

وهذا ما نجده بشكل واضح وملفت للنظر في قول الامام، فالنص محمّل بمجموعة من الحجج منها (حجة تقسيم الكل الى اجزائه)(2) و)الحجة السببية)(3) . فضلا عن السلّم

ص: 220


1- الحجاج في الشعر العربي ، بنيته واساليبه: 236
2- تقوم هذه الحجة على تفكيك القضية المعروضة الى اجزائها المكونة لها باعتبار ان هذه الاجزاء هي التي يتشكل من خلالها الكل. وبذلك نستنتج ان ما يبوح به الجزء او ما يقدمه من طاقة اقناعية ينطبق على الكل بالنتيجة والعكس صحيح مع الاخذ بنظر الاعتبار ان يكون التقسيم والتعداد شامل لكل الاجزاء. وهذا ما اكده برلمان عندما استشهد بمقولة كينتليان المشهورة: » اننا عندما نُسقط اثناء تعدادنا للاجزاء فرضية واحدة من المكونات فإن بناءنا الحجاجي كله سيتهاوى ونصبح اضحوكة للسامعين « ( ينظر: الحجاج اطره وتقنياته: 336 ، و محمد الامین الطلبة، الحجاج في البلاغة المعاصرة: 129 ) ومن فحص مقولة الامام (عليه السلام) نجد انها قد استوفت شروط هذه الحجة واستحكمت اجزاءها المكونة لها أي ان نتيجة العقوبة (قليل الوفر / ثقيل الظهر / ضئيل الامر)جاءت منسجمة ومستوفية ومعرة عن شدتها، وسقوط أي جزء من اجزاء العقوبة سالفة الذكر سوف يخل بشدة العقوبة وبالنتيجة سيتهاوى البناء الحجاجي ويضعف تأثره الاقناعي لدى المخاطب والسامع
3- تقوم هذه الحجة عى الربط السببي بن احكام مسلّم بها واخرى غیر مسلم بها من اجل استخلاص نتيجة ما او حصول حدث ادى اليها او التكهن با سيقع لو ان المسبب قد حصل. فهي عملية قائمة على سبب ونتيجة يتبادلان التقدم والتأخر فضا عن استنادها الى اقامة الدليل (ينظر:الحجاج في البلاغة المعاصرة: 130 )، وهو الحاصل من قول الامام (عليه السلام) حينا استند في قوله الى اقامة شرطي وجود السبب والنتيجة واقامة الدليل فالسبب يتضح في (خيانة فيء المسلمين ) والنتيجة (لاشدنَّ عليك شدة) واقامة الدليل مرهونة بالرط (لئن بلغني) المقرن بالتهديد، فضلا عن وجود القسم (اقسم بالله)الذي يعد صنفا من أصناف الفعل الكلامي التي توجه القول توجيها يقينيا اثباتيا يلجا إليه المتكلم لتوكيد كلامه فهو إذ يثبت القضية ويوجبها يقيم في الوقت نفسه الحجة على المخاطب ويلزمه بها

الحجاجي الذي عليه مدار القول الاتي. وحاصل ما تقدم من قول الإمام هو تحذير زياد من خيانة ما يليه من مال المسلمين ووعيده له إنْ وقعت منه بالعقوبة عليها. وقد كنّى عنها بالشدة ووصف شدة تلك الشدة باستلزامها أمورا ثلاثة وصفها ابن ميثم البحراني بأنها سلب الكمالات الدنيوية والأخروية:

احدهما: نقصان ماله وقلته.

الثاني: نقصان جاهه وكنّى عنه ب- (ضئيل الأمر) وهما سالبان للكمال الدنيوي.

الثالث: ثقل ظهره بالأوزار والتبعات وهو دال على سلب كماله الأخروي(1) .

ومع إننا نشاطر البحراني في بيان استلزام تلك الشدة أو الحملة على سلب الكمال الدنيوي وهو مقتضى القول، فإننا نختلف معه في كون الاستلزام الثالث (ثقيل الظهر) قد خرج إلى سلب الكمال الأخروي وجعل الظهر مثقلاً بالأوزار والتبعات العقابية في الآخرة لان الأوزار من اكتساب النفس وليس بسبب شدته (عليه السلام) لابن زياد، كما ان سياق الخطاب يفرض نفسه في تحديد دلالة التهديد والتحذير على العقوبات الدنيوية وليس الأخروية وذلك بموجب الصلاحية الممنوحة للامام في اقامة الحدود الشرعية، فضلا عن ذلك انه لو كان مقصود الإمام في (ثقيل الظهر) الأوزار والتبعات الأخروية لحدث هناك خلل في الترتيب والتدرجية في السلّم الحجاجي مما يؤدي إلى عدم إقناع المخاطب / زياد بالحجج المقامة من الوجهة المنطقية، كما يحصل تفاوت من حيث القوة فيما يخص بناء هذه الحجج بسبب عدم انتمائها إلى فئة حجاجية واحدة 0 والرأي في(

ص: 221


1- ينظر: ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 4/ 351

ثقيل الظهر) هو العقوبة الدنيوية، ووقوعها على الظهر من باب الكناية، فإن العقاب المادي والمعنوي يحمل على الجسم كله ؛ ولكن الظهر حيث انه محل الحمل جعله الامام موضعا للعقاب الذي يتحمله الإنسان، أو ان المعنى يحتمل ان يكون ثقل الظهر كناية عن الضعف وعدم نهوض بما يحتاج إليه من مؤونة له ولعياله 0

ومن خلال هذه الحجج عمد الإمام إلى تحذير زياد وإعظام العقوبة إليه إذا ثبت تقصيره وسعيه إلى خيانة فيء المسلمين. وتكتسب هذه العقوبات قوتها الحجاجية من بُعدها الارتهاني المتعلق بتنفيذها وهو أمر يثبت حين يثبت التقصير ولكن البُعد التحذيري التوجيهي قد أشاع حالة نفسية متضمنة لأجواء الخوف والرهبة. وهذا الأمر بحد ذاته يشكل رادعا مباشرا واستباقيا بفعل حجج السلطة التي رتبها (عليه السلام) بحسب قوة أثرها في دعم النتيجة وهي (النهي عن خيانة ما يليه من مال المسلمين) فتزداد قوة الحجاج مع كل حجة، كما هو واضح في السلّم الحجاجي التالي:

فقد رتّب الإمام خطابه منبّها المخاطب أولا على شدة العقوبة التي سوف ينوء بحملها، ثم أفصح عن تداعيات هذه العقوبة / لوازمها وهي حصول الفقر المادي أي:

أفقرك بأخذ ما جمعته من مال المسلمين أو هو بتعبيرنا المعاصر مصادرة أمواله المنقولة وغير المنقولة لأنها أموال غير مشروعة، ثم أعظم لك العقوبة الدنيوية / الحد الشرعي لما تستحقه عقوبة الخيانة، بعدها تأتي الحجة الأقوى )ضئيل الأمر( أي ضعيف حقير،

ص: 222

لان العزل عن المقام يوجب ضآلة أمر الإنسان وذهاب جاهه 0 ومراد الإمام في هذه الحجة هو: لأنك إنما كنت نبيها بين الناس بالغنى والثروة فإذا افتقرت وعوقبت وعزلت صغرت عندهم ونبذوك، ولذلك تصبح هذه الحجة هي الحجة الأقوى في دلالتها على شدة العقوبة 0 وفي كتاب بعثه أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على البصرة وقد بلغه انه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها إذ يقول (عليه السلام): « فَوَاللَّهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً وَ لَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً وَ لَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً وَ لَا حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً وَ لَا أَخَذْتُ مِنْهُ إِلَّا كَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَةٍ، وَ لَهِيَ فِي عَيْنيِ أَوْهَى وَأَوْهَنُ مِنْ عَفْصَةٍ مَقِرَةٍ « (1) .

ومثلما يصدق السلّم الحجاجي في الإثبات فانه أيضا يصدق في النفي فالإمام (عليه السلام) يسوق أكثر من دليل على زهده في الدنيا والإعراض عن ملذاتها، حيث نجد ان الحجج المستعملة في هذا المثال هي حجج منفية، كما إنها جاءت مرتبة عموديا ومتدرجة من الحجة الأقل دلالة على المدلول إلى الحجة الأقوى لتؤول بمجملها إلى نتيجة ضمنية هي( الإمام رجل زاهد) ويمكن ان ندرج هذه الأدلة على زهده (عليه السلام) بحسب قوتها في السلّم الحجاجي بالشكل التالي:

ص: 223


1- شرح نهج البلاغة: 16 / 99

ولو مثلنا هذه الحجج بدون نفي فانه يتغير مجمل الخطاب فتصبح الحجة الأقل مدلولا في أسفل السلّم هي الحجة الأقوى دلالة على النتيجة المضادة للنتيجة السابقة، ويمكن إيضاح هذا الأمر عبر السلّم الحجاجي التالي:

يترتب على ذلك ان (نفي/ نقيض/ سالب)، احد (الأدلة / الحجج)، يؤدي إلى نفي مدلول الخطاب 0 وهذا ما يسميه طه عبد الرحمن بقانون ( تبديل السلّم) ونتيجة لذلك نتبين ان قوة النفي/ النقيض تترتب ترتيبا عكسيا في السلّم، فنقيض (ما كنزت من دنياكم تبرا) أي إثبات هذا الأمر هو دليل أقوى من كل الأدلة الأخرى على الرغبة والحرص على الدنيا. وبعبارة أخرى نقول:

- ما كنزت من دنياكم تبرا (أ) تؤول إلى النتيجة (ن): الزهد والإعراض عن الدنيا، فتصبح (أ) هي اضعف الحجج بالنسبة ل- (ن) - يكنز من الدنيا تبرا (- أ) تؤول إلى النتيجة المضادة (لا-ن): الرغبة والحرص على الدنيا، فتصبح (- أ) هي الحجة الأقوى بالنسبة (لا-ن) 0

- فما دامت الدنيا في نظر الإمام لا تساوي عفصة مقرة فكيف يكنز من الدنيا التبر، فتصبح الحجة (ولهي في عيني أوهى وأوهن من عفصة مقرة) هي الحجة الأقوى

ص: 224

على زهد الإمام وإعراضه عن الدنيا وملذاتها 0

ومن جملة جواب بعثه أمير المؤمنين إلى معاوية يقول فيه (عليه السلام): “ وَ أَمَّا قَوْلُكَ إِنَّ الْحَرْبَ قَدْ أَكَلْتِ اَلْعَرَبَ إِلاَّ حُشَاشَاتِ أَنْفُسٍ بَقِیَتْ أَلاَ وَ مَنْ أَكَلَهُ الْحَقُّ فَإِلَی اَلْجَنَّةِ وَ مَنْ أَكَلَهُ الْبَاطِلُ فَإِلَی اَلنَّارِ وَ أَمَّا اسْتِوَاؤُنَا فِی الْحَرْبِ وَ الرِّجَالِ فَلَسْتَ بِأَمْضَی عَلَی الشَّكِّ مِنِّی عَلَی الْیَقِینِ وَ لَیْسَ أَهْلُ اَلشَّامِ بِأَحْرَصَ عَلَی الدُّنْیَا مِنْ أَهْلِ اَلْعِرَاقِ عَلَی الآْخِرَةِ وَ أَمَّا قَوْلُكَ إِنَّا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ فَكَذَلِكَ نَحْنُ وَ لَكِنْ لَیْسَ أُمَیَّةُ كَهَاشِمٍ وَ لاَ حَرْبٌ كَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَ لاَ أَبُو سُفْیَانَ كَأَبِی طَالِبٍ وَ لاَ الْمُهَاجِرُ كَالطَّلِیقِ وَ لاَ الصَّرِیحُ كَاللَّصِیقِ وَ لاَ الْمُحِقُّ كَالْمُبْطِلِ وَ لاَ الْمُؤْمِنُ كَالْمُدْغِلِ وَ لَبِئْسَ الْخَلْفُ خَلْفٌ یَتْبَعُ سَلَفاً هَوَی فِی نَارِ جَهَنَّمَ وَ فِی أَیْدِینَا بَعْدُ فَضْلُ النُّبُوَّةِ الَّتِی أَذْلَلْنَا بِهَا الْعَزِیزَ وَ نَعَشْنَا بِهَا الذَّلِیلَ «(1) .

قبل الشروع في تحليل هذا المثال لابد من توضيح أمرين:

الأول: يرتبط بمفهوم السلّم الحجاجي مفهوم أخر هو الوجهة أو الاتجاه الحجاجي، ويعني هذا « انه إذا كان قول ما يمكّن من إنشاء فعل حجاجي، فإن القيمة الحجاجية لهذا القول يتم تحديدها بواسطة الاتجاه الحجاجي، وهذا الأخير قد يكون صريحا أو مضمرا فإذا كان القول أو الخطاب معلما أي مشتملا على بعض الروابط والعوامل الحجاجية فإن هذه الأدوات والروابط تكون متضمنة لمجموعة من الإشارات والتعليمات التي تتعلق بالطريقة التي يتم بها توجيه القول أو الخطاب »(2) ، فهناك بعض الادوات اللغوية يكون دورها هو الربط الحجاجي بين قضيتين وترتيب درجاتها بوصف هذه القضايا حججا في الخطاب، فكل خطاب يحمل هذا النوع من الروابط إلاَّ ونتج عنه سلّم حجاجي يعمل على ترتيب هذه القضايا حسب قوتها الحجاجية 0 وقد أشرنا فيما مضى إلى طبيعة العلاقة الوطيدة بين السلّم الحجاجي ومفهوم القوة الحجاجية حيث نجد ان الحجة التي تقع في اعلى السلّم الحجاجي هي الحجة الأقوى باعتبار حصول التفاوت بين الحجج من حيث قوتها 0 وهذا الأمر من شانه ان ينسحب الى علاقة السلّم الحجاجي بالروابط الحجاجية

ص: 225


1- شرح نهج البلاغة: 17 / 55
2- اللغة والحجاج: 25

ونخص بالذكر الروابط ( لكن، بل، حتى) لأنها تسمى روابط الحجج القوية 0 فالأقوال التي ترد بعدها تكون أقوى حجاجيا وأعلى سلّميا من الأقوال التي ترد قبلها(1) .

الثاني: بعد ان عرفنا ان وظيفة السلّم الحجاجي هي إبراز الوظيفة التفاضلية المتولدة عن مبدأ القوة الحجاجية، يظهر ان هناك نوعا أخرا من العلاقة السلّمية يصطلح عليه بالعلاقة السلّمية (التقابلية أو التعاندية أو التعاكسية) وهي تتولد عن (مبدأ التعارض الحجاجي)، فقد تكون الحجج الواردة في (القول / الملفوظ) لا تتجه لإسناد النتيجة نفسها وإنما تساند كل حجة نتيجة معارضة للنتيجة التي تساندها الحجة الأخرى(2) ، ضمن السياق الواحد أو الفئة الحجاجية الواحدة. فمعيار وجود العلاقة العنادية أو التقابلية بين حجتين هو أن تقبلا معا الورود في ملفوظ من الملفوظات الحجاجية بحيث يؤدي ذلك إلى بروز هذا التعاند الحجاجي(3) .

مما تقدم وبالعودة إلى النص محل الشاهد يتضح بشكل جلي تجسد هذين الأمرين في قول أمير المؤمنين وهما: الربط الحجاجي (لكن) والسلّم الحجاجي التعاندي/ التعاكسي 0 ولتبيان الطبيعة السلّمية لهذا المثال نقول:

1. في ردّه (عليه السلام) على قول معاوية بأنهم « بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل إلاَّ فضل يستذل به عزيز ولا يسترق به حر »(4) أورد الإمام حجة ( فكذلك نحن) اذ نبهه الإمام على انه كذلك له الشرف والفضيلة في انتمائه إلى بني عبد مناف وأن كل قوم كانوا من بيت واحد فلا فضل لبعضهم على بعض ولا فخر 0 إلاَّ أنَّ

ص: 226


1- ينظر: اللغة والحجاج: 131
2- ينظر: رشيد الراضي، الحجاجيات اللسانية والمنهجية البنيوية ( ضمن كتاب: الحجاج مفهومه ومجالاته، اشراف: حافظ اساعيل علوي): 2/ 446
3- ينظر: نفسه: 2/ 446
4- ينظر: شرح نهج البلاغة: 15 / 58

الإمام لم يقف عند هذه الحجة ؛ بل أردفها بحجة أخرى جاءت بعد الرابط الحجاجي ( لكن) الذي أفاد معنى الاستدراك لرفع ما يتوهم اعتقاده عبر ربطها بين متناقضين أو متنافيين بوجه ما أي حصول تعاند وتقابل على وفق مسارين، أولهما: بين الحجتين اللتين توسطهما الرابط 0 والثاني: بين الحجج الواردة بعد الرابط 0 وبالنظر إلى القوة السلّمية التي يخلقها الرابط (لكن) نجد ان الحجة / الحجج التي جاءت بعده هي الحجة التي ترد في اعلى السلّم الحجاجي نظرا لما تحمله من قوة حجاجية أكثر من الحجة التي تسبق الرابط 0

2. يبرز المبدء العنادي بين الحجج التي يسوقها الإمام (عليه السلام) أي بين (أمية/ هاشم) و ( حرب/ عبد المطلب) و (أبو سفيان/ أبو طالب) و( المهاجر /الطليق) و (الصريح / اللصيق) و(المحق/ المبطل) و( المؤمن/ المدغل) و ( بئس الخلف خلفٌ يتبع سلفا هوى في نار جهنم/ في أيدينا بعد فضل النبوة). فهذه الحجج يمكن ان تؤلف زوجاً عنادياً تقابلياً شكلاً (النفي) ومضموناً (التضاد) 0فإذا افترضنا أنَّ القول الأول (ق 1) المتضمن ل-(أمية، حرب، ابو سفيان، الطليق، اللصيق، المبطل، المدغل، بئس الخلف خلف يتبع سلفا هوى في نار جهنم ) 0 والقول الثاني ق 2 يتضمن (هاشم، عبدالمطلب، أبوطالب، المهاجر، الصريح، المحق، المؤمن، في أيدينا بعد فضل النبوة) 0نجد ان (ق 1) مساندة لنتيجة من قبيل( اختصاص معاوية وقومه بالرذائل والنقائص) في حين ان (ق 2) مساندة لنتيجة من قبيل ( اختصاص الإمام وقومه بالكمالات والفضائل السامية ) وهما نتيجتان متقابلتان يصح ان نطبق عليهما مبدأ التعارض الحجاجي ومقتضى هذا المبدأ انه: « إذا كانت لدينا حجة (ح) تصلح لمساندة نتيجة (ن) فمن الضروري ان توجد حجة (حَ) لمساندة النتيجة المعارضة (لا-ن)، (بحيث حَ ليست بالضرورة هي ( لا-ح)

ص: 227

«(1) ، أي أن نحول الصيغة الترتيبية للصفات إلى سلّمين اثنين موجهين اتجاهين متعاكسين وذلك بان نشطر هذه الصيغة إلى نصفين اثنين: احدهما موجه إلى انطباق الصفة والأخر: موجه إلى عدم انطباقها، وعندئذ تصير أحكام القواعد الخطابية السلّمية جارية على هذين السلّمين الوصفيين وهما:

وبالنظر لهذين السلّمين يتضح التالي:

إذا كان القول /الحجة ق ( وفي أيدينا بعد فضل النبوة) دليلا أقوى على مدلول / نتيجة (ن) (الكرامات والفضائل السامية) فان نقيض هذا القول / الحجة (لا- ق) (لبئس الخلف خلف يتبع سلفا هوى في نار جهنم) دليل أقوى على نقيض مدلوله / نتيجة (لا- ن) وهكذا تترتب الحجج بما يقابلها باتجاه قربها وبعدها من المدلول / النتيجة.

ص: 228


1- الحجاجيات اللسانية والمنهجية البنيوية: 2/ 446

إن القيمة التي يضطلع بها هذان السلّمان تكمن في عملية الفصل بين المفاهيم وهي عملية حجاجية تنطلق من وجود وحدة بين العناصر يجمعها مفهوم واحد وكذلك اسم واحد يعينها فيحدث الفصل والتمييز بين هذه العناصر لأسباب دعا إليها الحجاج، إذ ان الحجاج القائم على كسر وحدة المفهوم بالفصل بين عناصره المتضامنة بعضها مع بعض مرده إلى زوج (الظاهر/ الواقع) أو (الحقيقة، الظاهر) هو الحد (أ) والواقع /الحقيقي / الجوهر هو الحد (ب)، أي أنَّ الغاية من هذا الفصل هو التمييز بين الزائف والحقيقي أو بين الظاهري والجوهري فمع تسليم الإمام (عليه السلام) لمعاوية بأنهما يشتركان في كونهما من بني عبد مناف إلاَّ أنَّ أمير المؤمنين يبني قوله على الفصل بين القولين ( قول معاوية / قول الإمام ) فأجابه بالفرق بينهما من وجوه عدة(1) :

- شرفه (عليه السلام) من جهة الآباء المتفرعين عند عبد مناف، وذلك ان سلسلة أبائه (أبو طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف)، وسلسلة أباء معاوية (أبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد مناف). وجوهر كل واحد من أولئك الثلاثة اشرف ممن هو في درجته من أباء معاوية وما وصل الينا من اخبارهم في المظان تشهد على ذلك 0

- شرفه (عليه السلام) من جهة هجرته مع الرسول (ص)، وخسّة خصمه من جهة كونه طليقا وابن طليق وهذه الفضيلة الملازمة للإمام تستلزم فضيلة نفسانية وهي حسن الإسلام والنية الصادقة الحقة 0 - شرفه (عليه السلام) من جهة كونه محقا فيما يقوله ويعتقده، ورذيلة خصمه من جهة كونه مبطلا 0

- شرفه (عليه السلام) من جهة كونه مؤمنا والمؤمن الحق المستكمل للكمالات الدينية

ص: 229


1- ينظر: ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 4/ 345

النفسية، وخسّة خصمه من جهة كونه مدغلا أي خبيث الباطن مشتملا على النفاق والرذائل الموبقة 0

- شرفه (عليه السلام) من جهة كون فضل النبوة في أيديهم، ورذيلة خصمه في كونه وأهله ممن دخل الإسلام لا لله بل رغبة أو رهبة، ومكرهين غير طائعين 0

لذلك نعتقد أنَّ الهدف الذي يسعى إليه الإمام من إبراز هذه الفروق والمقارنة هو من اجل التبكيت والتفنيد والتعرية لكل ما يمكن ان نلمحه في مظاهر الحد الذي طرحه معاوية من تناقضات في خطابه 0 وقد ساعد على فضح هذا الخطاب وتعريته هو ما أفصح عنه الحد الثاني وزودنا به من معلومات وهو الخطاب المقابل/ خطاب أمير المؤمنين، الذي أصبح كالمقياس أو القاعدة التي تتيح لنا ان نميز داخل قول معاوية بين ماله قيمة وما ليس له قيمة. وبوضع خطاب معاوية على محك الواقع يتبين لنا حقيقته الزائفة والخاطئة / الظاهرية.

3- ان الحجج العكسية / التقابلية التي قدمها النص قد انطوت على تراتبية تدرجت فيها الحجج بحسب قوتها وبشكل عمودي في السلّم الحجاجي بدء فيها الإمام بالأمور الخارجية أولا من كمالات وفضائل له (عليه السلام) وما يقابلها من رذائل ونقائص خصمه متدرجا فيها من الأقرب فالأقرب، فبدء من الأبعد نسبا وهو عبد مناف صعودا إلى الأقرب وهو أبو طالب، وما يقابله وهو أبو سفيان، ثم كانت صفتي المهاجر والطليق اقرب وأقوى مما سبقهما إلى مدلولهما، لأنَّ المعيار في المفاضلة بينهما هو حسن الإسلام والنية الصادقة الحقة، كما أنَّ مرتبة صراحة النسب وخسّة خصمه من جهة كونه دعيّا اقرب مما قبلهما لكونهما اعتبارين لازمين لهما، أما من جهتي الحق والباطل فهما اعتباران أقوى واقرب لكونهما من الكمالات والرذائل الذاتية، في حين تكمن قوة الدليل في صفتي المؤمن والمدغل على إفادة المدلول هو أن هذين الاعتبارين اقرب الكمالات والرذائل إلى العبد، ولعل الإمام في ابتدائه بذكر الكمالات والرذائل الخارجية لكونها محل الشاهد

ص: 230

ومدار حجة معاوية ولكونها مسلّمة عند الخصم فلا يستطيع ردها أو إنكارها، واظهر (عليه السلام) له / معاوية وللناس من الأمور الداخلية ما يلزم به المقام 0 ولما فرغ الإمام من ذكر هذه الكمالات والنقائص وظف القول باتجاه إحداث توجيه حجاجي أراد من خلاله الإمام الانحراف بالخطاب نحو تأصيل الغاية التي جعلها معيارا يتفاضل عنده الإمام مع خصمه في إقامة الحجتين ( لبئس الخلف خلف يتبع سلفا هوى في نار جهنم ) و(في أيدينا بعد فضل النبوة التي اذللنا بها العزيز ونعشنا بها الذليل) فهما اقرب إلى دعم النتيجة المتوخاة في كلا السلّمين 0

فمعاوية في أفعاله ورذائله خلفا لسلف هوى في نار جهنم وهي حجة أقوى مما سبقها لأنها مشتملة على ما سبقها من حجج بدلالة الاقتضاء والاستلزام والاستدلال، لأنَّ كل خلف يتبع في أفعاله ورذائله سلفا هوى في نار جهنم فهو كذلك 0 وأما قوله (عليه السلام) في فضل النبوة فهو دليل أقوى على خدمة النتيجة لأنَّ هذا الفضل لا يقارن بأي فضل وكمال اخر 0

ص: 231

حجاجية الصورة الفنية في رسائل الإمام علي (عليه السلام)

مدخل:

يجمع الدارسون المحدثون على أهمية الصورة الفنية كلبنة أساسية في بناء العمل الفني 0 لكنهم بالرغم من ذلك لا يزالون مختلفين حول إعطاء تعريف محدد لها 0 وكل التعريفات الموجودة هي عبارة عن رؤى أحادية من زوايا نظر معينة ؛ ويعزى السبب في ذلك إلى كون الصورة ذات دلالات مختلفة وترابطات متشابكة وطبيعة مرنة تأبى على التحديد الواحد، ولعل هذا ما دفع ريتا عوض إلى القول بأنَّ « الصورة الشعرية أصبحت تحمل لكل إنسان معنى مختلفا كأنها تعني كل شيء »(1) ولكنهم في الوقت نفسه اجمعوا على ان التصوير وسيلة من وسائل الدلالة البليغة التي تتمكن في النفس فيكون لها الأثر العميق في الإبلاغ والإثارة وهذا هو ديدن الفلاسفة والبلاغيين والنقاد منذ القدم، ولعلنا تطرقنا في موضوع سابق، وتحديدا في الفصل الأول وعند حدود المقاربة التاريخية إلى نشأة البلاغة، ولاسيما الصورة الفنية، في أحضان الحجاج، فهي توظف لغاية الإقناع والتأثير قبل أن ينحسر دورها وتختزل في أفق العبارة وتنتهي الصورة إلى محسن بلاغي من محسنات الكلام التزيينية والجمالية. فالأصل في تأدية المعاني بالصور إدراك ما كان من المقاصد التأثيرية عصيّا. وقد حملت العقلية النقدية في التراث البلاغي العربي همّا معرفيا ووعيا تأصيليا بأهمية البعد التأثيري الاقناعي في التعابير المصورة وقد دأبت الدراسات البلاغية الغربية المعاصرة على ترسُّم وتمثّل الفكر البلاغي القديم وهو ينظر إلى البعد الفكري والمنطقي الذي ألهم الصورة الفنية قدرتها على القيام بالوظيفة الحجاجية المنوطة بها فضلا عن الوظيفة الجمالية التي تضطلع بها 0 فالوظيفة الحجاجية هي التي تهدف إلى إحداث تغيير في الموقف الفكري والعاطفي للمتلقي الأمر الذي يجعلها تحتل المرتبة

ص: 232


1- ريتا عوض، بنية القصيدة الجاهلية للصورة الشعرية لدى امرئ القيس: 19

الأولى بالنسبة لوظائف الصورة الفنية 0 وتكمن هذه الوظيفة للصورة في دعوة المتلقي إلى تعاقد ضمني مشترك يتم فيه إنتاج وتبادل وجهات النظر وتعزيزها بأساليب وحجج مختلفة في سياق الخطاب 0 ومن اجل تمثل وتجسيد هذه الوظيفة وهذا البعد كانت هذه المحاولة لمعالجة الصورة الفنية من زاوية حجاجية وبيان قدرتها الاقناعية والتأثيرية عبر الحفر في علة هذا التأثير وطبيعته وبيان الأسس العقلية والنفسية التي تدفع بالمتلقي إلى القبول والاستجابة لهذا التأثير الذي تخلفه الصورة. ومن اجل التعرف على الأسس النظرية والآليات التطبيقية التي تدعم مفهوم الحجاج في الصورة قديما وحديثا. نوجز القول في بيان البعد التأسيسي والتشكيلي للصورة الحجاجية متوقفين عند ابرز الأنواع البلاغية للصورة ومقدمين تصورا يكاد يكون شموليا وموجزا في طرحه لتمثل هذا البعد وآليات اشتغاله فكانت لنا وقفة تمهيدية نظرية عند الاستعارة والكناية والتمثيل:

1- الاستعارة:

الاستعارة احد الأساليب البلاغية / الحجاجية التي تتصدر مكانة مرموقة ضمن القيم البلاغية ودخولها في باب الحجاج أمر مؤكد ومسلم به، فإذا كان التشبيه، بحسب الجرجاني قياساً(1) فأن الاستعارة تشبيه حذف أحد طرفيه، ولذلك فهو قياس يبنى على مقدمتين صغرى وكبرى يقودان إلى استنتاج، بل يذهب أوليفي روبول إلى اعتبار » الاستعارة أكثر إقناعا من القياس وذلك تحديدا بفضل المزج الذي تحدثه بين المستعار له والمستعار منه جاعلة بذلك توحّد العناصر المنتمية إلى أنظمة مختلفة أمرا مدركا »(2) فالاستعارة من المنظور الحجاجي « إبدال قد يحصل به اختصار وإيجاز بوضع المستعار له مكان المستعار منه، والأصل في الإبدال الاستعاري هو قياس.... إلا أنَّه قياس مختزل أي

ص: 233


1- قال الجرجاني: « والتشبيه قياس والقياس فيا تعيه القلوب وتدركه العقول وتستفتي فيه الإفهام والأذهان لا الإساع والآذان » أسرار البلاغة: 15
2- أوليفي روبول، مدخل إلى الخطابة: 191

قياس حذفت مقدمتاه واكتُفي فيه بالنتيجة فإذا قلت مثلا عن الشيخوخة بأنها (عشية العمر)، فالاستعارة التي في لفظة العشية هي في الحقيقة نتيجة لمقدمتين مضمرتين وذلك على النحو التالي:

- المقدمة الأولى: الشيخوخة آخر العمر

-المقدمة الثانية: العشية آخر النهار

- النتيجة الاستعارية: عشية العمر «الشيخوخة »(1)

وعلى هذا الأساس فإن الطاقة التي تحملها الاستعارة لا تكمن في كونها مجرد زخرف في القول وتنميق له ؛ بل هي أسمى وأنبل من ان توصف كذلك، إذ إنها أداة أساسية في الحجاج ومكمن الأخير فيها نابع من كونها صورة مجازية وقد ارتبط المجاز بالحجاج بشكل مباشر، وهذا ما ذهب إليه طه عبد الرحمن بقوله « لا حجاج بدون مجاز »(2) وآية ذلك هو ارتباط البيان بكل أشكاله بالدليل وإقامة الحجة في الاستمالة والامتاع، لذلك يقول السكاكي: « من اتقن اصلاً واحداً من علم البيان كاصل التشبيه أو الكناية أو الاستعارة ووقف على كيفية مساقه لتحصيل المطلوب به أطلعه ذلك على كيفية نظم الدليل »(3) ؛ من هنا تعد الاستعارة مركز الحجاج واهم آلياته البلاغية لما تحققه من نتائج ايجابية في تقريب المعنى إلى ذهن المتلقي ومن ثم إحداث تغيير في الموقف الفكري والعاطفي له 0 وانطلاقا من كون الاستعارة عمل فكرتين لشيئين مختلفين معا (المستعار له والمستعار منه) أو (الموضوع والحامل)، فهما يشكلان تفاعلا لإنتاج المعنى المقصود، وهذا ما جعل برلمان يصف الاستعارة الحجاجية بأنها « تمثيل تكثّف ناتج من الانصهار

ص: 234


1- شوقي المصطفى، المجاز والحجاج في درس الفلسفة بين الكلمة والصورة: 23 - 24
2- اللسان و الميزان: 213
3- مفتاح العلوم: 182

والاندماج الحاصل بين احد عناصر الحامل واحد عناصر الموضوع »(1) . إذ لا يمكن معرفة أحد العنصرين أهو الموضوع أم الحامل وهذا ما يحتم الرجوع والاستنجاد بأحد السياقين: المقالي أو ألمقامي لكي نفهم 0 ويطلعنا عمر اوكان على تقسيمات الاستعارة من وجهة نظر أرسطو حيث يقسمها على ثلاثة أقسام هي: الاستعارة الجمهورية والشعرية والحجاجية يقول: » وقد أقمنا هذا التمييز انطلاقا من مقام التواصل اليومي للخطاب، فإذا كان الخطاب يهدف إلى الإقناع يكون حجاجيا، وحين يهدف إلى المتعة يكون شعريا وحين يهدف إلى الإبلاغ يكون عاديا (متداولا)، ومن هنا فإن الاستعارة الجمهورية تهدف إلى الإبلاغ والاستعارة الحجاجية تهدف إلى إحداث تغيير في الموقف العاطفي أو الفكري للمتلقي، في حين ان الاستعارة الشعرية لا تهدف إلا لذاتها »(2) ، أي تحقيق المتعة بواسطة الزخرف اللفظي والتفنن الاسلوبي 0 على أنه يمكن المزج بين الاستعارة الحجاجية والاستعارة البديعية، إذ نجد في مقابل الغاية الجمالية للاستعارة الشعرية مطمحا اقناعيا للاستعارة الحجاجية »(3) فالاستعارة البديعية يمكن ان نعتبرها اقناعية إذا وظفت جمالها وسحرها بالتأثير في المتلقي وكذلك يمكن اعتبار أنَّ كل استعارة حجاجية هي استعارة جمالية ؛ لأنَّ الحجاج لا يكون عار من الجمال، وهنا يتفق الجمال والإقناع في تحقيق غاية حجاجية، فالحجاج لا غنى له عن الجمال، فالجمال يرفد العملية الاقناعية وييسر على المتكلم ما يروجه من نفاذ إلى عوالم المتلقي الفكرية والشعورية والفعل فيها وهذا ما أكده الجرجاني من ان الشعر « لا يحبب إلى النفوس بالنظر والمحاججة ولا يحلى في الصدور بالجدال والمقايسة وإنما يعطفها عليها القبول والطلاوة ويقربه منها الرونق

ص: 235


1- نقلا عن: الحجاج في كتاب المثل السائر لابن الأثير Perelman et tyteca، Traite de l argumentation، op،cit،p: 535 .36 :
2- عمر اوكان، اللغة والخطاب: 131
3- ميشال لو قرن، الاستعارة والحجاج، ترجمة: طاهر عزيز، مجلة المناظرة، عدد »4»1991 م: 89

والحلاوة وقد يكون الشيء متقنا محكما و لا يكون حلوا مقبولا ويكون جيدا وثيقا وان لم يكن لطيفا رشيقا »(1) ، من هنا نجد من الخطأ الفصل النهائي بين ما هو جمالي وما هو إقناعي في الاستعارة ؛ لأنَّ الحجاج لا يمكن فصله عن الخاصية العاطفية، فالخاصية الجمالية التي تضطلع بها الاستعارة لا ينفي عنها البعد الإقناعي والتأثيري إذ ان الجمال متى رفد الحجاج أضحى الخطاب أكثر إقناعا واقدر على اقتحام عالم المتلقي وتغييره(2) فالقيمة التي تحتلها الاستعارة جعلت برلمان لا يسلم بان مهمتها تقوم فقط على وصف العالم، وإنما تكمن أساسا في تحفيز المتلقي على فعل شيء ما، وذلك لأنَّ مجرد « التفكير في تلقين المخاطب صورة ما ولو كانت عاطفية عن الأشياء فإننا نكون بصدد الحجاج »(3) ، لذا نجد برلمان لا ينظر إلى الاستعارة على إنها صورة أسلوبية وإنما هي حجة مبنية على أساس التمثيل حيث ارجع الجرجاني انس النفوس بالتمثيل إلى ثلاثة أسباب هي: إقامة الحجة والمشاهدة وإبداع الخيال(4) ، وبالنتيجة فإن الاستعارة آلية تواصلية قبل ان تكون آلية زخرف وتزيين وآلية حجاج قبل ان تكون آلية إخبار وإبلاغ وآلية تفكير وتأمل قبل ان تكون تخييل وتصور وآلية تغيير وعمل قبل ان تكون آلية وصف وتجريد(5) .

2- الكناية:

تبرز الكناية إلى جانب الاستعارة بوصفها ملمحا حجاجيا بمثابة الدليل الذي يلجأ إليه المتكلم لإثبات معانيه وإقناع قارئه وهو ما أكده الزركشي بقوله أن الكناية: » وهي

ص: 236


1- الجرجاني: الوساطة بين المتنبي وخصومه: 100
2- ينظر: الحجاج في الشعر العربي « بنيته واساليبه »: 268
3- الاستعارة في محطات يونانية وعربية وغربية: 469
4- ينظر: اسرار البلاغة: 121
5- ينظر: كتابة الجاحظ في ضوء نظريات الحجاج: 271

عند أهل البيان ان يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له من اللغة ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه ورديفه في الوجود فيومئ به إليه ويجعله دليلا عليه، فيدل على المراد من طريق أولى »0(1) فالمتكلم الذي يتفادى التصريح ويُقبل على التلميح يبتدع إذن الكناية ويراهن في الآن ذاته على ذكاء المتلقي وحدة ذهنه وسرعة فهمه للدلالات الثاوية وراء المعنى الظاهر أو المصرح به، فهو بذلك ، المتكلم، يتكئ على المحل الشاغر (الضمني) الذي يحث المتلقي ويضطره إلى وجوب ملئه، وهذا الحث والاضطرار يؤديان به إلى الخضوع لمنطق الكلام 0

تقوم العلاقة في الكناية بين الدال والمدلول على علاقة المجاورة بخلاف العلاقة القائمة في الاستعارة التي قوامها التساوي والانطباق، ولعل أوضح تعريف للكناية يمكن الرجوع إليه في كتب البلاغة المعاصرة هو الذي قدمه أوليفي روبول إذ يعرفها بقوله « أن تسمي شيئا باسم شيئا آخر يكون مجاورا للاسم الأول »(2) . وعلى الرغم منوجود عملية المجاورة في الكناية، فإنها كبقية أنواع الصورة قائمة على (الاستبدال)، أي إنها تنطوي على مبدأ التعويض، تعويض الحقيقي بالمجازي، دون ان يكون هناك تغيير في المعنى الحقيقي، فمن الكناية عند ابن الأثير الاستعارة والصلة في ذلك « أن الاستعارة لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المستعار له وكذلك الكناية فإنها لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المكنى عنه ونسبتها إلى الاستعارة نسبة خاص إلى عام فيقال كل كناية استعارة وليس كل استعارة كناية »(3) .

وواضح من كلام ابن الأثير أن سبب جعله الكناية استعارة هو خضوعهما لعمليتي الطي والذكر، أي لمبدأ التعويض والاستبدال وبشكل عام ان حديث القدماء عن

ص: 237


1- البرهان في علوم القران: 2/ 301
2- مدخل إلى الخطابة: 128
3- المثل السائر: 2/ 184 - 185

الصورة باعتبارها تعويضا للمعنى أو المفهوم وتصوير له وتقديمه تقديما حسيا كانت الغاية منه في رأيهم، تبليغ ذلك المعنى في أحسن صورة وجعل المتلقين يقتنعون به من خلال الصورة الحسية التي يظهر عليها ويخرج فيها(1) . من هنا ينشأ الربط بين الاستبدال والاستدلال الذي ينسحب بدوره ليشمل الكناية بهذه الوظيفة 0 فقد أشار الجرجاني إلى مشاركة الكناية الاستعارة والتمثيل في وظيفة الإثبات والاستدلال بقوله: « طريق العلم بما يراد إثباته والخبر به في هذه الأجناس الثلاثة التي هي الكناية والاستعارة والتمثيل المعقول دون اللفظ ولكنه معنى يستدل بمعنى اللفظ عليه ويستنبط منه »(2) ، أي أنَّ المجاز بكل أنواعه، ولاسيما الكناية، قائم على الاستدلال بمعنى على معنى واثبات معنى مدعى بواسطة معنى هو منه بمثابة البينة 0

وإجمالا فإن الدراسات الحجاجية المعاصرة لا تكاد تضيف شيئا لما قدمه البلاغيون العرب القدماء عن الوظيفة الحجاجية التي تقدمها الكناية من حيث ارتباط الدال والمدلول وفق علاقة المجاورة أو الاستبدال أو الاستدلال أو جعل الغائب مشاهدا ولإظهار المجرد في شكل المحسوس ولتقوية شعور المتلقي بحضور الأشياء من اجل حمله على الاقتناع وللتأثير فيه وهذا ما انسحب على مجمل الصورة الفنية باعتبار وظيفتها الحجاجية والجمالية في الكلام .

3- التمثيل:

هو عقد الصلة بين صورتين مختلفتين ومتباعدتين يؤتى به لإقامة الحجة 0 وتكمن أهمية التمثيل في قدرته على الاستمالة والتأثير وهذا ما يجعله يضطلع بوظيفة حجاجية كبيرة تؤسس لواقع جديد قائم على تشابه في العلاقات بين واقعين مختلفين تربط بينهما

ص: 238


1- ينظر: الحجاج في القران الكريم: 489
2- دلائل الإعجاز: 339

الوظيفة والغاية، فهو ذو “ قيمة حجاجية، وتظهر قيمته الحجاجية هذه حين ننظر إليه على انه تماثل قائم بين البنى، وصيغة هذا التماثل العامة هي: ان العنصر (أ) يمثل بالنسبة إلى العنصر (ب) ما يمثله العنصر (ج) بالنسبة إلى العنصر (د)(1) . بمعنى ان العلاقة (أ) ب- (ب) تمثل المشبه، وعلاقة (ج) ب- (د) تمثل المشبه به، وهنا يتبين ان العلاقة بين البنيتين ليست علاقة مشابهة، وإنما هي تشابه علاقة(2) رغم اختلاف مجالاتهما ولإيضاح هذا الفهم نسوق المثال التالي وهو قوله تعالى:” مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذ بيتا وان اوهن البيوت لبيت العنكبوت”(3) حيث ان:

يقول عبد الله صولة في هذا الصدد ان “ العلاقة بين العناصر ليست علاقة تشابه بل تشابه علاقة، وذلك ان العلاقة (أ) ب- (ب)، أي علاقة المشركين بأوليائهم يعبدونهم ويعتصمون بهم تشبه علاقة (ج) ب- (د)، أي علاقة العنكبوت ببيتها تبنيه وتعتصم به من المعتدي”(4) ، حيث يطلق برلمان وزميله على الركن الأول من ركني العلاقة (أ، ب) وهو ما يمثله (المشركون والأصنام) تسمية الموضوع في حين يطلقان تسمية (الحامل )على الركن الثاني (ج، د) وهو ما يمثله (العنكبوت وبيتها)(5) وبالنتيجة فإن التمثيل القائم

ص: 239


1- أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية: 339
2- نفسه: 339
3- سورة العنكبوت: الآية / 41
4- الحجاج اطره ومنطلفاته: 339 - 340
5- نفسه: 340

على التشبيه بين بنيتين أي بين بنية الموضوع وبنية الحامل أكثر إقناعا من علاقة المشابهة بين عنصرين، فيكون التمثيل بذلك احتجاجا لأمر معين عن طريق علاقة الشبه يجري من خلالها إيضاح الموضوع بواسطة الحامل باعتبار الثاني أشهر من الأول وأكثر ذيوعا فكان الاستدلال به 0 فالتمثيل فضلا عن كونه استدلالا بين الموضوع والحامل، فإنه من ناحية أخرى مؤد إلى التفاعل بين كلا الطرفين فيحصل تقارب وتداخل بين (أ) و (ج) من ناحية و (ب) و (د) من ناحية أخرى وهذا التداخل بدوره يكسبها قيمة ايجابية أو سلبية بحسب نوع التمثيل كما في قوله تعالى “ مثل الذين حُلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا “(1) حيث نجد:

فالتداخل الحاصل هو بين (أ) و (ج) أي بين (اليهود والحمار)، وهذا التداخل حاصل أيضا بين (ب) و (د) أي بين ( حمل التوراة، وحمل الأسفار) فينشأ عن هذا التداخل تفاعل بين أطراف التمثيل وتبادل بينهما تأثرا وتأثيرا، فمثلما اكسب الحمار اليهود قيمة سلبية اكتسبت أطراف الحامل قيمة سلبية هي أيضا من داخل التمثيل فكون (الحمار يحمل أسفارا) أمر لا غرابة فيه ولا قيمة سلبية له في حد ذاته، ومعنى هذا ان الموضوع في التمثيل لا يكتفي بالتأثير في الحامل وإنما يؤثر بدوره فيه(2) وهذا ما أكده الزمخشري بقوله: “ التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعاني وإدناء المتوهم من المشاهد، فان كان المتمثل

ص: 240


1- سورة الجمعة: الآية / 62
2- ينظر: الحجاج اطره ومنطلقاته: 341

له عظيما كان المتمثل به مثله وان كان حقيرا كان المتمثل به كذلك فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إلا بأمر استدعته حال الممثل له. ألا ترى ان الحق لما كان واضحا جليا تمثل له بالضياء والنور وان الباطل لما كان بضده تمثل له بالظلمة، وكذلك جعلبيت العنكبوت مثلا في الوهن والضعف”0(1) كما يشير برلمان في هذا الصدد إلى ملاحظة غاية في الأهمية تتعلق بالكشف الدلالي إذ يؤكد ان “ كثيرا ما يؤدي التفاعل بين أطراف التمثيل إلى إقحام عناصر في بناء الحامل ما كانت تكون لها دلالة لولا أخذنا الموضوع في الاعتبار، فبوضعنا الموضوع le theme في الاعتبار تصبح لهذه العناصر دلالة ما”(2) ؛ بل يذهب صولة إلى تأكيد ان الموضوع قد يذهب في علاقته بالحامل إلى ابعد من ذلك حينما تكون أطراف الحامل غامضة المعنى مما يترتب عليه انقلاب في الأدوار، إذ يصبح الموضوع هو من يوضح الحامل ويفسره في حين ان العكس هو المطلوب في الحجاج(3) .

وفضلا عن كون التمثيل يضطلع بمهمة إبداعية فانه كذلك يلعب دورا مهما في مجال البرهنة والحجاج ولكن هناك خصوصية لكل من الدورين يحددها مدى اتساع التمثيل من عدمه، فالتمثيل في مجال الإبداع لا يضيره الاتساع والامتداد في حين يقتضي البعد الحجاجي ان يلتزم التمثيل بحد معين ؛ لأنَّ الإطالة فيه تجعل منه عرضة للتجريح وبذلك يفقد طاقته الاقناعية(4) والعكس صحيح 0فالتمثيل وسيلة برهنة و استدلال أكثر من كونه وسيلة خلق وإبداع كما أنَّ “ الشرط في التمثيل وهو من الحجاج القائم على الترابط بين أشياء ما كان لها أن تكون مترابطة بدءا، أن يكون الموضوع والحامل من ميدانين مختلف احدهما عن الآخر، فإذا كانت العلاقتان أي العلاقة بين عنصري الموضوع

ص: 241


1- البرهان في علوم القران: 1/ 488
2- الحجاج اطره ومنطلقاته: 341
3- نفسه: 341 — 342
4- ينظر: نفسه: 342

من ناحية وبين عنصري الحامل من ناحية أخرى تنتميان إلى مجال واحد وتشملهما بنية واحدة لم تُسمّ الظاهرة إذا تمثيلا، وإنما تسمى استدلالا بواسطة المثل أو الاستشهاد”(1) كما تتضح قوة التمثيل في قدرته على الاستمالة والتأثير في المخاطبين وهذا ما أكده الجرجاني بقوله: “ التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني أو برزت هي باختصار في معرضه ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته كساها ابهة....... وضاعف قواها في تحريك النفوس لها...... فإذا كان مدحا كان أبهى وأفحم..... وإذا كان ذما كان مسّه أوجع وميسمه ألذع..... وإن كان حجاجا كان برهانه أنور وسلطانه اقهر وبيانه ابهر”(2) . ولما كان التمثيل ، باعتبار تشابه بالعلاقة ، هو بالضرورة قياس قائم على أبنية برهانيه، فهذا الأمر ينسحب بدوره على أفانين أخرى ينحدر منها التمثيل منها التشبيه والاستعارة 0 على إننا في هذين الوجهين البلاغيين (الإبداعي والحجاجي) في أمر التمثيل فان الوجهة التي يتم من خلالها فحص التمثيل لا ينظر إلى الجنبة الإبداعية فيه، وإنما ينحصر التوجه في جانبه الحجاجي البرهاني وبالضرورة يكون هذا مطلبنا في التشبيه والاستعارة 0 فالذي يعنينا هو الوجه الحجاجي دون غيره وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل كما تساءلت سامية الدريدي: كيف يمكن للتشبيه والاستعارة ان يكونا حجاجيين؟ أي ما لذي يجعلهما يضطلعان بوظيفة استدلالية اقناعية؟(3) . وللإجابة عن ذلك تقول الدكتورة الدريدي:

“ في الحقيقة إن التشبيه والاستعارة حجاجيان من جهة إنهما يمثلان ضربا من القياس فالتسليم بالمقدمتين الصغرى والكبرى يقودان المتلقي إلى التسليم بالاستنتاج، بل إن قوة التشبيه أو الاستعارة تتأتى من قدرتها على التقريب بين عنصرين من نظامين مختلفين

ص: 242


1- نفسه: 341
2- أسرار البلاغة: 85 - 86
3- ينظر: الحجاج في الشعر العربي « بنيته وأساليبه »:253

مع محاولة جاهدة لطمس ما بينهما من فروق خلافا للمقارنة كطريقة في الاستدلال”(1) .

فالتمثيل رافد مهم من روافد التشبيه وفي هذا الصدد يرى عبد القاهر الجرجاني ان هناك فرقا بين التشبيه والتمثيل يوضحه بقوله: “ فاعلم ان التشبيه عام والتمثيل اخص منه فكل تمثيل تشبيه وليس كل تشبيه تمثيلا”(2) .

ص: 243


1- نفسه: 253
2- أسرار البلاغة: 84

ص: 244

الفصل الثالث: حجاجية الصورة الفنية في رسائل الامام علي عليه السلام

اشارة

ص: 245

ص: 246

المبحث الاول: مادة الصورة الفنية وابعادها الحجاجية

اشارة

نسعى في هذا الجانب الى فحص وتبيان وجه من وجوه حجاجية الصورة الكامنة في رسائل الامام علي (عليه السلام )، وهو المتعلق بالمكون الاساسي لمادة هذه الصورة ومضمونها، اي المنجم الذي اتكأ عليه امير المؤمنين في رفد صوره بالمادة المشكلة لها، ونعني بمادة الصورة «مجمل كفاءات المتلقين المعرفية والنفسية والعقدية التي يأتي مضمون الصورة مستنداً اليها مشكلاً بها ومعتمداً عليها بطريقة يكون مضمون الصورة هذا غير غريب عنهم فهو معلوم لديهم «(1) ، فهذه المادة منتزعة من حياة المتكلمين ، المتكلم والمخاطب ، أي من عوالم مشاهداتهم واعتقاداتهم وثقافاتهم وكل ما يؤمنون به من مشتركات، وهذا ما يجعل مصدرها واحداً تشكل في حد ذاتها منطلقات حجاجية بتعبير برلمان، يحقق من خلالها المتكلم النفاذية المطلوبة الى عالم المتلقين والتأثير فيهم ليمنح حجاجه بداية قوية وركيزة اساسية يمكن الاتكاء عليها لتحريك وحمل المتلقي على القيام بالفعل المطلوب، او يحقق من خلالها تبريرا لتلك الأفعال بطريقة تجعلها مقبولة ومؤيدة ومستساغة من طرف الاخرين(2) .

ص: 247


1- الحجاج في القرآن الكريم: 562
2- ينظر: حجاجية الصورة في الخطابة السياسية لدى الامام علي (عليه السلام): 175 . نقلا عن 102-99; ،Chaim Perlmanet Lucie Olbrechts Tyteca: Traite de L ;argumentation، op.cit

ومن خلال فحصنا لمدونة رسائل الامام علي (عليه السلام) وما تحتويه من صور بلاغية، نجد أنَّ هذه الصور قد استمدت مادتها من عوالم المتلقين وتجاربهم ومشاهداتهم وممارساتهم، وكما هي مستمدة من الفضاء الحسي ( المحسوسات ) كذلك استمد (عليه السلام) مادة صوره من الفضاء المجرد، أي المجال العقدي والفكري والثقافي ليجعل من هذه القصدية في اختيار المنطلقات هدفاً اساسياً ضرورياً ذا غاية اقناعية وتأثيرية.

وهو (عليه السلام) في هذه الرؤية قد سلك سبيل القرآن الكريم واستشعر غاياته واهتدى الياته في مخاطبة متلقيه بإقامة الحجة واحداث التأثير والتوجيه الحجاجي. على أنَّ حديثنا عن مادة الصورة في رسائل الامام علي (عليه السلام) باعتبارها مستندة في تشكلها الى عالم خطاب المتلقين امكننا ان نسلك في تصنيفها مسلكين رئيسين تتفرع عنهما عوالم او مجالات متعددة كالآتي:

الاول: مادة الصورة المنتزعة من عالم المحسوسات.

الثاني: مادة الصورة المنتزعة من عالم المجردات.

1. مادة الصورة المنتزعة من عالم المحسوسات:

أ- مجال الانسان:

اعتمد الإمام (عليه السلام) في تأثيث صوره الفنية على مقدمات حجاجية استقاها من مجال الإنسان وخاصة ما يتعلق منها بهيأته وصفاته وأحواله وأعضائه. إذ أن مزج الشدة باللين والتوسط في التعامل دون تطرف قيمة أخلاقية عليا أكدها الإمام “ع” إلى بعض عماله في تعامله مع أهل الذمة من المعاهدين فيقول في هذا الشأن: “ فَالْبَسْ لَهُمْ

ص: 248

جِلْبَاباً مِنَ اللِّينِ تَشُوبُهُ بِطَرَفٍ مِنَ الشِّدَّةِ «(1) . فاستعار لتلك الهيأة المتوسطة من اللين المشوب بالشدة لازمة من لوازم الإنسان (الجلباب) وهو ما يغطى به من ثوب وغيره، والجمع جلابيب، وتجلببت المرأة أي لبست الجلباب، فكان مراد الإمام منه ان يسلك معهم مسلكا وسطا بأن يكون معهم بمنزلة بين منزلتين كجلباب لين يشوبه بطرف من الشدة فلا يدنيهم كل الدنو لأنَّم ليسوا أهلا لذلك ؛ لكونهم مشركين ولا يبعدهم كل الإبعاد ولا يجفوهم ؛ لكونهم معاهدين، فإن معاملتهم بذلك النهج يمنعهم عن التمرد والطغيان عن المعاهدة والذمة ويحفظ عظمة الدين وصولته وقوته في أعينهم ويوجب تأليف قلوبهم ومراعاة شرائط المعاهدة في حقهم وعدم الخلل في انتظام أمورهم 0

فكانت مادة هذه الصورة مأخوذة من حياة الإنسان ومستلزماته وهو ميدان حسي له علاقة بقيم الإنسان من عفة وشرف وأخلاق وهذا الذي دفع الإمام إلى الربط بين الميدان الحسي (الجلباب) والميدان القيمي الذهني المجرد المتضمن للقيم الأخلاقية (اللين، الشدة)، فاستعارة الجلباب غير معني به لذاته وحقيقته وإنما بالغاية المرجوة منه لذلك جاءت الأشياء القيمة عند الناس والتي تسالموا على قيمتها الأخلاقية وعلو شانها هي الميدان المناسب الذي استقى منه الإمام صورته الحجاجية ليقرن ما ينبغي ان يقوم به عامله، من تعامل أخلاقي تمتزج فيه الشدة بالين مع المعاهدين، بالجلباب بوصفه حاملا لقيمة أخلاقية لا احد يعترض على سمو قيمتها التي يقرها العقل الجمعي 0وهذا ما يمنح الصورة الفنية قوتها الحجاجية اللازمة لجذب المخاطبين إلى عالم المتكلم بغية التأثير فيهم ويجعلهم بمنأى عن الرفض أو الدحض 0

ومن الأمثلة على ذلك قوله (عليه السلام) إلى معاوية في مقام تنبيهه وتوبيخه على قصوره عن درجة السابقين والتقريع له على ادعائه لها: « أَلَا تَرْبَعُ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ عَلَی

ص: 249


1- شرح نهج البلاغة: 15 / 65

ظَلْعِكَ وَتَعْرِفُ قُصُورَ ذَرْعِكَ وَتَتَأَخَّرُ حَيْثُ أَخَّرَكَ الْقَدَرُ «(1) ، فقد استعار له لفظ (الظلع) وهو ما كان برجله داء حتى يبان في رجله العرج وهو من باب الغمز أي المتهم فأراد (عليه السلام) من ذلك: انك ضعيف فترفق بنفسك ولا تكلفها أكثر مما تطيق، ووجه الشبه في ذلك هو قصوره عن لحوق رتبة السابقين في الفضل كقصور الظالع عن شأو الضليع، واصل (الذرع)، إنما هو بسط اليد وقصورها، اي عجزها عن الشيء- كناية عن قصور قوته وعجزه عن تناول تلك المرتبة، أي مددت يدك للشيء فلم تنله 0

وبعيدا عن معاوية وأباطيله فإن سمات اللين والضعف والرقة والمتعة والجمال التي تُيّز المرأة وضرورة النأي بها عن تحمل المسؤوليات المناطة بالرجل، أمر دفع الإمام «ع » إلى الحث على مداراتها وإحسان الصحبة لها من قبل الرجل، لأن ذلك من شأنه ان يكون انعم لحالها وأرخى لبالها وأدوم لجمالها، فقال في هذا الشأن: « لاَ تُمَلِّكِ اَلْمَرْأَهَ مِنْ أَمْرِهَا مَا جَاوَزَ نَفْسَهَا فَإِنَّ اَلْمَرْأَهَ رَیْحَانَهٌ وَ لَیْسَتْ بِقَهْرَمَانَهٍ «(2) . إذ نجد أنَّ الصورة قد تشكلت عبر تشبيه المرأة ب-(ريحانة) باعتبار كونها محلا للذة والاستمتاع بها، ولعل تخصيص الريحانة بالتشبيه، لأنَّ شأن النساء العرب استعمال الطيب كثيرا(3) . وكنَّى بكونها (وليست بقهرمانة) عن كونها لم تخلق لتكون حاكمة متسلطة ؛ بل من شانها ان تكون محكوما عليها 0 واصل القهرمان هو الخازن او الوكيل الحافظ لما تحت يده، القائم بأمر سلطانه بلغة فارس(4) . من هنا كان استقصاء هذه المادة الذهنية التي تفصح عن مقومات أخلاقية اجتماعية تسالم الناس على حقيقتها محاولة جادة وموفقة لاختزال مفاهيم واسعة وعميقة تخص المرأة ينبغي التوقف عندها ومراجعتها فجاءت الصورة يتساوق فيها

ص: 250


1- نفسه: 15 / 85
2- شرح نهج البلاغة: 16 / 60
3- ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 5/ 34
4- شرح نهج البلاغة: 15 / 85

التأكيد والنفي من اجل التوجه والدفع إلى العمل نحو مداراة المرأة والإحسان إليها وان لا يملّكها من أمرها ما خرج عن حد نفسها كالشفاعات وتتصرف فيما يخص الرجل نيابة عنه، وقد جاء هذا الطرح متناغما مع الطرح الاسلامي من جهة ومنسجما مع توجه العقلية العربية آنذاك من كونها عقلية (ذكورية) على كل الأصعدة قيادة وتسييرا وقوامة من جهة اخرى 0

كما استلهم (عليه السلام) تلك الصورة اليقظة المستوحاة من عمل الزراع حينما يجتهدون في اخراج المدر والحجر ونحوه من بين ثمر الزرع كالحنطة والشعير ونحوهما من الحبوب كما في قوله (عليه السلام): « وَاللَّهِ لَوْ تَظَاهَرَتِ الْعَرَبُ عَلَی قِتَالِی لَمَا وَلَّیْتُ عَنْهَا وَلَوْ أَمْكَنَتِ الْفُرَصُ مِنْ رِقَابِهَا لَسَارَعْتُ إِلَیْهَا وَسَأَجْهَدُ فِی أَنْ أُطَهِّرَ الْأَرْضَ مِنْ هذَا الشَّخْصِ الْمَعْكُوسِ وَالْجِسْمِ الْمَرْكُوسِ حَتَّی تَخْرُجَ الْمَدَرَهُ مِنْ بَیْنِ حَبِّ الْحَصِیدِ «(1) استوحى هذه الصورة الفنية ليشبه معاوية بحجر ومدر يكون في الحنطة والشعير فينقيان من المدرة اذا اريد طحنهما للطعام وقد اشار القرآن الكريم الى مفهوم حب الحصيد في قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِیدِ * والنَّخْل بَاسِقَاتٍ لهَا طَلعٌ نَّضِیدٌ * رِزْقًا للعِبَادِ وأَحْیَیْنَا بِهِ بَلدَهً مَّیْتًا كَذَلكَ الخُرُوجُ(2) . فوجود معاوية بين المسلمين كالمدرة بين حب الحصيد يوجب الفساد ويضل العباد.

فجاءت هذه الصورة متناغمة ومنسجمة مع واقع المتلقين وطبيعة حياتهم الزراعية فهذه العملية تتكرر عند المزارع بعد كل عملية حصاد للحبوب فكان اعتمادها من قبل صاحب الخطاب في سياق التنفير من معاوية وتزكية المؤمنين منه ؛ لأنَّ وجوده بينهم يسبب فساد عقائدهم وهلاك دينهم. لذلك حظي هذا التمثيل بالموافقة العامة عند جمهور المخاطبين وبهذا تكون الصورة قد حققت هدفها الحجاجي المرغوب فيه. لأنَّ

ص: 251


1- نفسه: 16 / 141
2- سورة ق: الاية 10

غاية الحجاج ، حسب برلمان ، أن يجعل العقول تذعن لما يطرح عليها او يزيد في درجة ذلك الاذعان.

ب- مجال الحيوان:

شكَّل عالم الحيوان منبعاً ثرياً استقى منه الامام علي (عليه السلام) مادة اساسية في تشكيل صوره ونحتها، ذكر منها اجناساً مثل الابل والكلب والضرغام والحية والذئب والمعزى والسبع والعنز.... الخ. ذكرها من اجل تحقيق بيانه ورهنها بمقاصد دلالية مختلفة خرجت لإفادة معاني الضعف والقوة والذلة والعزة والخداع والفتنة...... الخ وساقها على وجه المجاز بذكر اسمائها الصريحة او بأسماء مرادفة لها او من خلال ذكر لازمة من لوازمها.

ومن جملة الحيوانات التي ذكرها (الابل)، وهي على الرغم من قلة ذكرها بأسمائها الصريحة كالجمل والناقة...... الخ، فإنه قد استعان بها في نحت صورة بألفاظ ودلالات اخرى او بدلالة احد لوازمه عليه، إذ لم يغفل صاحب الخطاب ما للأبل من حضور متميز وفعال في حياة العربي ومقدار تعاطيه مع هذا الحيوان الذي يشكل وسيلة مهمة يعتمدها في حلّه وترحاله، بيد ان الابل تمثل « اموالهم ورواحلهم ومنها عيشهم ولباسهم ونسج بيوتهم وهي حمّالة اثقالهم.... وكم قد جرى ذكر الرواحل وصفاتها وحمدها في شعر العرب، إذ لا تكاد تخلو قصيدة من طوالها عن وصف الرواحل ومزاياها «(1) .

فضلاً عن ذلك فقد ذكرها القرآن الكريم في مواطن كثيرة باسمها الصريح او الضمني او ذكر احد لوازمها ومنه قوله تعالى « افلا ينظرون الى الابل كيف خلقت «(2) . فهو اختيار دقيق ومهم نابع من ابعاد دلالية ومقاصد حجاجية تتمثل في جذب واستمالة المخاطبين

ص: 252


1- ابن عاشور: التحرير والتنوير: 30 / 305
2- سورة الغاشية: الاية 17

وحملهم على الاذعان لما يطرح عليهم واقناعهم. ولعل معرفة الامام (عليه السلام) بقيمة الابل وصفاتها واحوالها ومزاياها دفعه الى تمثلها وتجسيدها في بناء صوره البيانية، ومنها كلمة (نَعَمُ) في قوله (عليه السلام) في وصف اتباع معاوية: « نَعَمٌ مُعَقَّلَةٌ وَأُخْرَى مُهْمَلَةٌ، قَدْ أَضَلَّتْ عُقُولَهَا،رَكِبَتْ مَجْهُولَهَا «(1) .

فهي من الناحية المعجمية جمع لا واحد له من لفظه قُصد منها الابل وحدها، قال ابن منظور: » العرب اذا افردت النعم لا يريدوا بها إلاّ الابل، فإذا قالوا الانعام ارادوا بها الابل والبقر والغنم.... ومن العرب من يقول للأبل اذا ذكّرت الانعام والاناعيم «(2) ، والنعم تذكر وتؤنث بلحاظ قوله (عليه السلام) (معقّلة) وقالوا: عقلت البعير واعتقلته، وعقله، أن يثني وظيفه: اي مقدم ساقه مع ذراعيه فيشدهما جميعاً بحبل هو العقال، وعقلّت بالتشديد للتكثير(3) ، وقد جعل هذا الضرب على نوعين: معقّلة: اي مقيّدة، واخرى: مهملة، ثم وصفها (عليه السلام) فقال: قد اضلت عقولها، أي لم تجد عقالاً لأنفسها كأنها ضلت عنه.

وقد عمد الامام في هذه الاستعارة الى تصوير حال اهل الدنيا باعتبار غفلتهم عما يراد بهم كالبهائم / الابل، وهم في ذلك صنفان ( معقَّلة ومهملة )، واستعار لفظ (معقَّلة) للذين تمسكوا بظواهر الشريعة والامام العادل، فقيّدهم بالدين عن الاسترسال في اتباع الشهوات والانهماك فيها وإن لم يعقلوا اسرار الشريعة فهم كالنعم التي عقلها راعيها، واشار ب-(المهملة) الى الذين استرسلوا في اتباع شهواتهم وخرجوا عن طاعة امامهم، ولم يتعبدوا بأوامره فهم كالبهائم المرسلة التي اضلت عقولها او « الابل قد منعها من الشر

ص: 253


1- شرح نهج البلاغة: 16 / 44
2- لسان العرب: مادة ( ن، ع، م): لعل الصواب (كثرت) لا (ذكرت)
3- ينظر: الصحاح في اللغة: مادة (عقل)

عقالها، وهم الضعفاء، واخرى تأتي من السوء ما تشاء وهم الاقوياء «(1) ، ويذهب ابن ميثم الى القول: « ويحتمل ان يريد بعقولها عُقُلها جمع عقال فاشبع الضمة وقلبها واواً متابعة لقوله مجهولها. ويحتمل ان يريد بها جمع عقل وهو الملجأ: أي انها ضيّعت من تلجأ اليه وهو امامها «(2) .

ومما جاء في الاستعارة قوله (عليه السلام) في وصيته لولده الحسن (عليه السلام):

« سَاهِلِ الدَّهْرَ مَا ذَلَّ لَكَ قَعُودُهُ «(3) . يتضح ان بؤرة الاستعارة في قوله ( قعوده) بالفتح وهو البعير الذي يقتعده الراعي في كل حاجة، وجاء في المثل « اتخذوه قُعَيِّد الحاجات «(4) اذا امتهنوا الرجل في حوائجهم. وجمعه (قعدات) قال الاخطل:

فبئسَ الطالبونَ غداةَ شالتْ على القُعُداتِ استاهُ الرِّبابِ (5)

فالقعُود من الابل البكر ما امكن ظهره من الركوب ويكون البكر في هذا السن قلوصا، لذلك استعار الإمام لفظ (القعود) للزمان الذي تيسر فيه رزقه وتسهل فيه بعض مهماته، ووجه المشابهة أن ذلك الزمان يمكّنه من بعض مهماته وحوائجه، وطلب ما لا يمكن فيه وما لم يعد لحصوله من المطالب ربما يستلزم تغيّه وامتناع ما كان ممكناً فيه. كما أن القعود من شأنه أن يمكّن من ظهره واقتعاده وهو بمعرض ان ينفر براكبه اذا استزاده وشدَّ عليه. ولفظ (الذلة) مستعار لسكون الزمان وإمكان المطلوب فيه، واراد بمساهلته الجريان معه بقدر مقتضاه من دون تشدد وتسخط عليه، فإن ذلك يستلزم

ص: 254


1- محمد عبده، شرح نهج البلاغة: 296
2- ابن ميثم الحراني، شرح نهج البلاغة: 5/ 39
3- شرح نهج البلاغة: 16 / 51
4- ينظر: الصحاح في اللغة: مادة (قعس)
5- شعره: 261

تعب النفس من غير فائدة . وفي ذلك يقول الشاعر:

اذا الدهر اعطاك العنان فسر به رويداً ولا تعنف فيصبح شامساً (1) كما اشار امير المؤمنين الى حاله مع الدنيا بقوله: « إِلَيْكِ عَنِّي يَا دُنْيَا، فَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ « (2) . حيث شكل قوله (عليه السلام) (فحبلك على غاربك ) المادة التي بنى عليها صورته الفنية، فالغارب جمعه غوارب: اي الكاهل وهو ما بين سنام البعير وعنقه، واصله ان الناقة اذا رعت وعليها الخطام القي على غاربها ؛ لأنها اذا رأت الخطام لم يهنئها شيء(3) ولذلك يلقى حبلها على غاربها ليفسح المجال لها ان ترعى وتهنأ حيث شاءت وتذهب اين شاءت، وهذا القول من كنايات الطلاق عند العرب في الجاهلية (4) . فالمقدرة البيانية الفائقة للإمام جعلته يحسن اختياره لهذا القول متضمناً المعنى الدلالي لكلا الاستخدامين في اصل الوضع او ما كَنَّتْ به العرب في طلاق زوجاتهم بذلك ونحوه، فدلالة المفهوم الذي استحضره الامام هو تمثيل لتطليقه الدنيا وتسريحه اياها لتذهب حيث تريد، فقد حرر نفسه من ملذاتها واهوائها ووقفها على الاخرة وجزائها، فهو تمثيل الدنيا بصورة من يعقل وخاطبها بخطاب العقلاء ليكون ذلك اوقع في النفوس لغرابته، ثم امرها بالتنحي والبعد عنه كالمطلق لها.

ولم تكن الابل الحيوان الوحيد الذي اعتمده الامام في تشكيل صورة الفنية وبنائها، فقد شبه حال الدنيا والحذر من مفاتنها وخدعها ب- (الحية ) ففي كتاب بعثه قبل ايام خلافته الى سليمان الفارسي رحمه الله محذراً من الدنيا وعدم الاطمئنان لها يقول فيه: « أَمَّا

ص: 255


1- ينظر: ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 5/ 51
2- شرح نهج البلاغة: 16 / 143
3- ينظر: الميداني، مجمع الامثال: 1/ 196
4- ينظر: جمهرة امثال العرب: 1/ 382

فَإِنَّمَا مَثَلُ اَلدُّنْیَا كَالْحَیَّهِ لَیِّنٌ مَسُّهَا قَاتِلٌ سَمُّهَا «(1) . يحتوي هذا التمثيل على بؤرة بيانية ودلالات مكثفة غاية في الاتقان ابدع فيها الامام، عبرت عن مقاصد اقناعية نابعة عن طول تجربة وبعد تفكر، كما انها استلهمت ليست فقط الواقع والثقافة العربية فحسب، بل انفتحت على تجارب وثقافات الامم الاخرى ولاسيما في استحضار هذا الكائن الحيواني (الحية) بكل ما له من حضور في الفكر والتجربة الانسانية على مر التاريخ، لذا كان انتقاء هذه الصورة ينم عن خبرة ومحمول ثقافي واسع وعريق في القدم ؛ بل إنَّ هذا الارتباط كان له حضور غير قليل في ثقافة ووعي العرب في الجاهلية، وخير شاهد على ذلك هو ما وصلت الينا من اشعار لامست هذه العلاقة بين المرأة والحية وتمثلها الشعراء في اشعارهم التي تنوعت ما بين الرغبة والرهبة فعكست صورة الحية التي اختزلتها الذاكرة الجماعية عبر السنين. فتطرقوا الى المرأة والحية على اساس من العلاقة الترابطية، فقد نجد من يشكل صورة منفرة من المرأة التي يحذر منها ومن صفاتها الجسدية التي لا تعكس صفات خلقية مرغوبة، فعبَّ الشاعر الجاهلي عن قسوة الحية وظلمها وشرّها، كما في قول الاعشى:

فلا تلمس الافعى يداك تريدها *** ودعها اذا ما غيبتها سفاتها(2) فالتحذير من الافعى يرتد في ذاكرة الجماعة وفي مخزونهم الثقافي واللاشعوري الى قوة غير طبيعية تتمتع بها الافعى، فهي صاحبة السيادة والقوة والبقاء وغيرها هدف للأذى والحاق الضرر به وتهديد حياته(3) .

كما يربط احمد عبد الفتاح بين ليونة المرأة وملمسها الناعم بملمس الحية في بعض

ص: 256


1- شرح نهج البلاغة: 18 / 15
2- ديوانه: 212
3- ينظر: الحية في الشعر الجاهلي: 197

السياقات التي ترد فيها فهما متشابهان في الرقة والنعومة والدهاء والتلون والخديعة اذا لزم الامر(1) ، وقد جسد هذا الفهم عنترة في قوله:

إن الافاعي وان لانت ملامسها *** عند التقلب في انيابها العطبُ (2) فقد وصف جلد الحية بالجمال لشكله وشفافيته ونعومته « فلا ثوب ولا جناح ولا ستر عنكبوت الا وقشر الحية احسن منه وارق واخف وانعم واعجب صنعة وتركيباً «(3) وفي ذلك يقول عمرو بن شأس:

لو سرّحت بالندى ما مسها بلل *** ولو تكلّفها الحاوون ما قدروا (4) وهذا يبين من جانب مدى ملاستها ونعومة جلدها الامر الذي لا يبقى اثر للندى عليه، ومن جانب آخر يظل الاثر النفسي سلبياً وماثلاً في نفس اللامس تجاه ما تفعله بالإنسان اذا لدغته بأنيابها وافرغت سمها فيه، وهذا هو حال الدنيا فيما تقدمه من مغريات ومفاتن وخدع لا يأمن منها الا المحذور والمنتبه الى مكائدها، فهي كما وصفها الامام (عليه السلام) مثل الحية ناعمة ولكنها تنذر بكارثة لمن يلمسها، الامر الذي جعل الانسان يفكر في ايجاد طرائق لاتقاء شرّها، وهذا ما دفع الامام الى تجسيد واستحضار هذه التجربة مع هذا الكائن الحيواني واحواله في كيفية الحذر من الدنيا من اجل دفع الانسان وحمله على التفكير في اتقاء شر الدنيا وعدم الانجرار وراء خدعها ومفاتنها دون حذر واحتياط.

كمل شبه (عليه السلام) اهل الدنيا واخلادهم اليها وتكالبهم عليها بالكلاب

ص: 257


1- ينظر احمد عبد الفتاح، المنهج الاسطوري في تفسير الشعر الجاهلي: 199
2- ديوانه: 10
3- الحيوان: 4/ 177
4- ديوانه: 212

العاوية والسباع الضارية في قوله: « وَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَى مِنْ إِخْلاَدِ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَيْهَا وَتَكَالُبِهِمْ عَلَيْهَا فَقَدْ نَبَّأَكَ اللهُ عَنْهَا وَنَعَتْلَكَ نَفْسَهَا وَتَكَشَّفَتْ لَكَ عَنْ مَسَاوِيهَا فَإِنَّمَا أَهْلُهَا كِلاَبٌ عَاوِيَةٌ وَسِبَاعٌ ضَارِيَةٌ يَهِرُّ بَعْضُهَا بَعْضاً يَأْكُلُ عَزِيزُهَا ذَلِيلَهَا وَيَقْهَرُ كَبِيرُهَا صَغِيرَهَا »(1) .

فالكلاب والسباع من الحيوانات التي رافقت الانسان في بيئته منذ الاف السنين وتقاسمت معه المأكل والمسكن مما هيأ للإنسان معرفة عميقة بحياة الحيوان وطباعه، فصور ذلك في شعره تصويراً دقيقاً وضربت بها الامثال، يقول الجاحظ معبراً عن مدى الاختلاط والتجاور بين الانسان والحيوان: « هذه الاجناس الكثيرة ما كان منها سبعاً او بهيمة او مشترك الخلق فإنما هي مبثوثة في بلاد الوحش.... وهي في منازلهم ومناشئهم.

فقد نزلوا كما ترى بينها واقاموا معها وهم ايضاً من بين الناس وحش او اشباه وحش «(2) . لذلك كان مشهد الحيوان وعلاقته بالإنسان وتصوير صفاته وسلوكياته صدى للواقع وحالة شعورية ونفسية، فكانت هذه الصور تمثل نضجاً فكرياً مثلما تبرز تقدماً فنياً وهم ينقلون عبر الصور المحسوس الى المجرد.

فهذه المجاورة بين الانسان والحيوان والتي اكسبت الانسان معرفة واطلاع واسع عليها هي التي دفعت المتكلم الى اعتمادها مادة في الكثير من صوره الفنية. ولعل في تفريق المتكلم بين الكلاب والسباع في قوله ما يبرره من الناحية الواقعية والمعرفية وقد الزم لكل من النوعين صفة من صفاته وهي العواء للكلاب والضراوة للسباع وهما صفتان من ابشع واشنع واقبح ما يمكن للخيال ان يتصوره، فقد ذكر الجاحظ في قدر الكلب « لؤم اصله وخبث طبعه وسقوط قدره ومهانة نفسه ومع قلة خيره وكثرة شره واجتماع الامم كلها على استسقاطه واستسفاله ومع ضربهم المثل في ذلك كله به ومع

ص: 258


1- شرح نهج البلاغة: 16 / 44
2- الحيوان: 6/ 29

حاله التي يُعرف بها ومن العجز عن صوله السباع واقتدارها وعن تمنعها وتشرفها وتوحشها وقلة اسماحها وعن مسالمة البهائم وموادعتها والتمكين من اقامة مصلحتها والانتفاع بها، إذ لم يكن في طبعها دفع السباع عن انفسها ولا الاحتيال لمعاشها والمعرفة بالمواضع الحريزة من المواضع المخوفة، ولأن الكلب ليس بسبع تام ولا بهيمة تامة حتى كأنه من الخلق مركب والطبائع الملفقة والاخلاط المجتلبة...... وشر الطبائع ما تجاذبته الاعراق المتضادة والعناصر المتباعدة «(1) . في حين أن السباع اسم يطلق على صنف من الحيوانات كالأسود والنمور والفهود، وقد ذكر الجاحظ في حديث مطول عن اوصافها وعلو مرتبتها شرفاً على الكلاب (2) . وقد استل المتكلم صفة (العواء) من الكلب دون سائر صفاته، وعواء الكلب: صوت يمّده وليس بنبح، ويقال للداعي الى الفتنة: عوى واستعوى فاستعووا، فهو يستعوي القوم ويستعويهم ويقال للمستضعف: ما يُعوى ولا يُنبح، وعويت الحبل اعويه عيّا، اذا لويته، قال الراجز: يعوين بالازمة البُينا، قال ابو بكر: البُين جمع بُرّة وهي الحلقة في حِتار انف البعير اذا كانت من فضة او صفر، واشتقاق اسم معاوية من قولهم: عاوت الكلبة الكلاب اذا عوت فسمعت عواءها فعويت.....

وليس شيء من الدواب يعوي إلاَّ الذئاب والكلاب والفصيل ومن امثالهم في المستغيث بمن لا يغيثه قولهم ( لو لك عويت لم اعوهِ ) واصله ان الرجل يبيت القفر فيستنبح الكلاب بعوائه ليستدل بنباحها على الحي(3) .

اما السباع الضارية، فالضاري هو ما ضري بالصيد ولهج بالفرائس، وقد ضري بالصيد ضراوة، أي تعود واضراه صاحبه اي عوده واضراه به، اي اغراه، فالضاري

ص: 259


1- نفسه: 1/ 32
2- نفسه: 1/ 33
3- ينظر: لسان العرب: مادة (عوى)

من السباع المفترس المولع بأكل اللحوم(1) . لذلك نجد أن هذا التشبيه الذي جاء به المتكلم مضمناً لكل هذه المعاني رابطاً في هذه الصورة بين ضلالة الناس ونفاقهم يأكل القوي منهم الضعيف ويغلب بعضهم على بعض بسبب ضلالهم عن الدين الحق واتباع الشهوات والانقياد الى الفتن والاهواء وتلاطم الشبهات.

ولم تكن صورة الذئب الأزَلّ في حال اختطافه دامية المعزى الكسيرة من وحي خيال المتكلم، بل كان هذا المنظر معروف ومشاهد عند المخاطبين، ففي كتابه (عليه السلام) الى بعض عماله: « فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ الشِّدَّةُ فِی خِیَانَةِ الْأُمَّةِ أَسْرَعْتَ الْكَرَّةَ وَ عَاجَلْتَ الْوَثْبَةَ وَ اخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَیْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْمَصُونَةِ لِأَرَامِلِهِمْ وَ أَیْتَامِهِمُ اخْتِطَافَ الذِّئْبِ الْأَزَلِّ دَامِیَةَ الْمِعْزَی الْكَسِیرَةَ «(2) فقد شبه المتكلم اسراع عبد الله بن عباس الى الخيانة ووثوبه على اختطاف اموال الناس باختطاف الذئب الأزَلّ دامية المعزى الكسيرة. ووجه الشبه سرعة اخذه له وخفته في ذلك، وقد خصَّ الذئب الأزَلّ ؛ لأنَّ خفة الوركين يعينه على سرعة الوثبة والاختطاف، ودامية المعزى الكسيرة، لأنَّا امكن للإختطاف وذلك لعدم الممانعة والقدرة على الهروب. فالأزَلّ في الاصل: الصغير العجز وهو في صفات الذئب الخفيف وقيل هو من قولهم، زَلَّ زليلاً اذا عدا. وخصَّ الدامية، لأنَّ من طبع الذئب محبة الدماء حتى أنَّه يرى ذئباً دامياً فيثيب عليه ليأكله(3) .

من هذه الصور وغيرها التي شكل الحيوان بصفاته وسلوكياته وعلاقته بالإنسان المادة التي كونتها، لا يمكن للمتلقي ردّها او الاعتراض عليها او انكارها لأنها حقائق مشاهدة وعيانية نبعت من واقعهم، فلا يستطيع احد ان يجادل في محتوى ومضمون المواد التي بنى بها الامام صوره الفنية، لكونها تنتمي الى صنف الحجج التي تحظى

ص: 260


1- ينظر: نفسه: مادة ( ضرى )
2- شرح في نهج البلاغة: 16 / 81
3- ينظر: ابن الاثير: النهاية في غريب الحديث والاثر: 2/ 773

بالموافقة العامة من قبل الجمهور، وكل محاجج هذه أوصافه يكون حجاجه ذا « بداية قوية ونافذة «(1) ؛ لأنَّ ذلك من شأنه أنْ يجعل المعنى اقرب مأخذاً وايسر نفاذاً الى عقول المتلقين وقلوبهم.

ج - مجال الطبيعة الصامتة:

الطبيعة هي: « جزء من الكون غير عاقل خاضع لنواميس محددة في مقابل الإنسان الحر الإرادة » 0(2) وقد عرّفها الجماليون بأنها: » قسم من العالم قادر على ان يحرك في الإنسان إحساسه الفني 0«(3) فالطبيعة شريك حقيقي للإنسان تؤثر وتتأثر به لذلك دفعته نظرته الحسية إلى ان يدقق النظر في وصف المرئيات لينسج من خلالها أروع الصور مستغلا بذلك كفايتها الجمالية والتأثيرية ليقدمها إلى المتلقي على وفق مقاصد اقناعية 0

إنَّ الإحساس بقدرة المحسوس على تمثل المعقول والانتقال به من الذهني والمجرد إلى المحسوس والمرئي والمشاهد هو إحساس ينبع من غايات حجاجية فنية (جمالية) القصد منها التأثير في المتلقي 0 فالطبيعة إذن وسيلة توصيل وتأثير دفعت الإمام علي (عليه السلام) إلى اعتمادها في خطابه لتشكيل صوره الفنية ؛ لأنَّه يدرك تماما قدرتها الفائقة على إثارة انتباه المخاطبين وحملهم على الانخراط في العملية الحجاجية، ولأنَّ الصورة قد اتكأت ، في بعض جوانبها، على عالم من عوالم تسليم المخاطبين به وهو عالم الطبيعة.

فكانت الأخيرة حاضرة في هذه الصور بأشكالها ومفرداتها التي منها النجوم والبحر والسراب والسحاب والنباتات البرية والمطر والكهف...... وغيرها من الألفاظ المرتبطة بالطبيعة. ففي كتابه الى عامله على البصرة، قال امير المؤمنين (عليه السلام):

ص: 261


1- الحجاج في البلاغة المعاصرة: 111
2- عبد القادر الرباعي، الصورة الفنية في شعر أبي تمام: 31
3- جبور عبد النور، المعجم الأدبي: 163

«..... وَقَدْ بَلَغَنِی تَنَمُّرُكَ لِبَنِی تَمِیمٍ، وَغِلْظَتُكَ عَلَیْهِمْ، وَإِنَّ بَنِی تَمِیمٍ لَمْ یَغِبْ لَهُمْ نَجْمٌ إِلَّا طَلَعَ لَهُمْ آخَرُ «(1)

فصورة الثريا وطلوعه ثم سقوطه وطلوع آخر على إثره من القضايا النوئية التي شغلت العربي وحظيت باهتمامه لما لها من علاقة وطيدة بحياته وبيئته وارتباطها بالكثيرمن معتقداته ورموزه، فكانت هذه المعرفة قد طبعت مخيلة الإمام «ع » بطابعها وولّدت في نفسه فكرة تشبيه سادات بني تميم وأعيانهم بالنجوم، فلم يمت لهم سيد إلا قام لهم آخر كالنجوم التي يهتدي بها الناس كلما غاب نجم طلع على إثره آخر. وفي هذا الشأن قال ابن منظور: « النجم في الأصل اسم لكل واحد من الكواكب وهو بالثريا اخص »(2) وقال أبو عبيد في غريب الحديث: « وأما الأنواء فإنها ثمانية وعشرون نجما معروفة المطالع في أزمنة السنة كلها في الصيف والشتاء والربيع والخريف يسقط منها في كل ثلاثة عشرة ليلة نجم في المغرب مع طلوع الفجر، ويطلع آخر يقابله في المشرق من ساعته وكلها معلوم مسمى. وانقضاء هذه الثمانية وعشرون كلها مع انقضاء السنة »(3) .

وبها يستدل العرب في مواقيتهم وأحوال مناخهم، فقد « اهتم العرب بالنجوم، لأنَّها ترتبط بشؤون الحياة عندهم فهي تقودهم إلى موضع حاجاتهم ولأنهم كانوا يحتاجون الانتقال من محاضرهم إلى المياه وهم يعلمون ان عملية التنقل هذه تحتاج إلى وقت صحيح يوثق فيه الغيث والكلاء، وهذا ما حملهم إلى الاهتمام بمطالعها ومساقطها، هذا مع الحاجة إلى معرفة الطرق ووقت النتاج، ووقت غور مياه الأرض وزيادتها ووقت ينع الثمر والحصاد ووقت وباء السنة في الناس وفي الإبل وغيرها، فالنوء يرتبط في اعتقادهم

ص: 262


1- شرح نهج البلاغة: 15 / 59
2- لسان العرب: مادة (نجم)
3- ابو عبيد الهروي، غريب الحديث: 3/ 320

بالكوكب نفسه فهو الذي ينشئ السحاب ويأتي بالمطر »(1) . فكانت النجوم تمثل لهم منار هداية في الكثير من طرائق عيشهم، كما هو سيد القوم الذي يقتدي به الناس ويهتدون بهداه 0 فالإمام «ع » في هذه الصورة يقدم مشهدا من مشاهد الطبيعة النوئية التي سكنت في قلب وعقل العربي، ولذلك وظفها في بناء صورته الفنية في سياق التنبيه والترغيب والتوجيه نحو الإمساك عن التنمر والغلظة لبني تميم والحث على حسن المعاملة لهم وفي ذلك التصوير يكون الإمام قد اتكأ على ذهنية المتلقي ووعيه في قبول هذا الاستدلال والاستبدال ونهوضهما لمهمة حجاجية 0

وحينما يريد الإمام «ع » أن يوبخ معاوية على ما فعله بأهل الشام من خدعته لهم وإضلاله لكثير من الناس وهلاكهم، فانه يستعير صورة البحر وتلاطم أمواجه واضطراب أحواله التي تنذر بالغرق والضياع والموت إذ يقول في هذا الشأن: « وأردَیتَ جِیلاً مِنَ الناسِ كَثیراً خَدَعتَهُم بِغَیِّكَ وألقَیتَهُم فی مَوجِ بَحرِكَ تَغشاهُمُ الظُّلُماتُ وتَتَلاطَمُ بِهِمُ الشُّبُهات «(2) .

فقد مثلت الملفوظات:

- ألقيتهم في موج بحرك

- تغشاهم الظلمات

- تتلاطم بهم الشبهات

استعارات تناسبية ذات قوة مجازية تهدف إلى إحداث تغيير في الموقف الفكري والعاطفي لجمهور المتلقين، فضلا عن المخاطب المباشر وهو “معاوية” 0 والمقصود بالاستعارة التناسبية هو “ وضع شيئين غير متشابهين في وضع المتشابهين اعتمادا على

ص: 263


1- مصطفى ناصف، قراءة ثانية لشعرنا القديم: 131
2- شرح نهج البلاغة: 16 / 61

ربطهما بعلاقة مشابهة، وهذا التشابه الطارئ في التناسب يُكتسب بفعل هذا الربط”(1) .

أي أنَّ التناسب بين المفهوم الظاهر والمفهوم الباطن هو ان كلاهما يحمل قيمة سلبية، كما في مثالنا أو قيمة ايجابية أو ربما يكونان مشحونين بحكم عاطفي وعلى هذا تكون استعارة البحر بصفاته المهولة والمخيفة هو لغاية حمل المخاطب على إدراك مدى خطورة وسلبية أفكاره وسلوكياته ومن ثم توجيهه نحو العدول عنها كما إنها في الوقت نفسه إشعار للمتلقين بضرورة مراجعة مواقفهم وإدراك ما فات منها من خلال إدراك الصورة التي ارتسمت في مخيلتهم عن البحر واهواله 0 ومن هذه الصورة ندرك ان ضلال معاوية عن دين الله وجهله بما ينبغي هو سبب خدعته لهم، الأمر الذي حفز الإمام إلى استعارة لفظ (البحر) لأحواله وأرائه- معاوية- في طلب الدنيا والانحراف عن طريق الحق باعتبار كثرتها وبعد غايتها، ولفظ (الموج) للشبهة التي ألقاها إليهم وغرَّهم بها فيما يريد من الأغراض الباطلة ومشابهتها للموج في تلعبها بأذهانهم واضطراب أحوالهم بسببها، وكذلك استعار لفظ (الظلمات) لما حجب ابصار بصائرهم عن إدراك الحق من تلك الشبهات، ولفظ (الغشيان) لطريانها على قلوبهم وحجبها لها وكذلك لفظ (التلاطم) لتلعب تلك الشبهات بعقولهم(2)

كما ان القيمة الحجاجية التي تضطلع بها هذه الملفوظات لا تكمن في ورودها على وجه الاستعارة فحسب ؛ وإنما قيمتها الحجاجية كامنة في كونها من الألفاظ ذات الحكم العاطفي أو محملة بشحنة عاطفية، إذ نجد في هذه الصورة التي استمدت مادتها من مجال الطبيعة لا محال قد أحاطت النص / الخطاب بجو نفسي مشحون بالرهبة والخوف

ص: 264


1- محمد الولي، الاستعارة الحجاجية بن أرسطو و شايم برلمان، مجلة فكر ونقد، العدد 61 سبتمبر 2004 م: 61
2- ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 5/ 67

ليضع المخاطب سواء معاوية أو جمهور المتلقين وخصوصا أتباع معاوية ومن غرر بهم في دائرة الإثارة النفسية والانخراط في مشروعية الخطاب باعتبار تسليمهم بالمعلومة القديمة، مادة الصورة- القارّة في ذهنية الجمهور ومن ثم حصول عملية التنفير كمقدمة لحصول التوجيه وبلوغ الخطاب مقاصده التي هي لا تقف عند مسألة التوبيخ ؛ وإنما التنبيه والوعظ لمعاوية إتماما للحجة عليه ووفاءً بما في ذمته من إرشاد الناس وتوضيحال حق لهم ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة.

كما يجد الإمام من الكهف حافظا و حريزا يلوذ به الإنسان من الأخطار التي تداهمه فيؤثث من خلال هذا الفهم صورة لحقيقة التوكل على الله واللجوء إليه في الأمور كلها وهذا ما بيّنه في معرض وصيته لولده الإمام الحسن (عليه السلام) في قوله: “ وَأَلْجِئْ نَفْسَكَ فِی أُمُورِكَ كُلِّهَا إِلَی إِلهِكَ، فَإِنَّكَ تُلْجِئُهَا إِلَی كَهْفٍ حَرِیزٍ، ومَانِعٍ عَزِیزٍ «(1) فانه يوصيه بالتوكل على الله في صغير الأمور وكبيرها والإنابة إليه في كل مرغوب أو مرهوب فيستدرجه إلى ذلك من خلال الصورة الفنية التي استعار لها لفظ (الكهف) باعتبار ان من توكل على الله كفاه ومنعه مما يخاف كما يمنع الكهف من يلتجئ اليه.

وفي موضع آخر يضرب الإمام المثل في بُعد معاوية عن الخلافة بقوله: « وتَرَقَّیْتَ إلَی مَرْقَبَهٍ بَعِیدَهِ الْمَرَامِ نَازِحَهِ الأَعْلامِ تَقْصُرُ دُونَهَا الأَنُوقُ ویُحَاذَی بِهَا الْعَیُّوق «(2) فقد وبّخه الإمام على طلبه أمرا ليس من أهله. ولفظ (المرقبة) مستعار لأمر الخلافة فيما استعار لفظ (الانوق) وهو طائر الرخمة، وفي المثل (اعز من بيض الانوق) ؛ لأنها تحرزه فلا يكاد يظفر به احد(3) . وقد خصَّ الانوق ؛ لأنَّا تقصد الأماكن العالية الصعبة والبعيدة من رؤوس الجبال فتبني أوكارها هناك. أما لفظ (العيوق) فهو نجم احمر مضيء فوق زُحل

ص: 265


1- شرح نهج البلاغة: 16 / 31
2- نفسه: 18 / 10
3- ينظر: الصحاح في اللغة: مادة (انق)

في طرف المجرّة الأيمن يتلو الثريا ولا يتقدمه(1) .

هذه الصورة الكلية المركبة من عدة صور عبرت عن تكثيف دلالي عبر عن بعد الغاية والصعوبة من جانب وعدم الأهلية والقدرة على إدراك هذه الغاية من جانب آخر. لذلك وظف الإمام «ع » هذا التصور القار في ذهنية المتلقي لإدراك مدى بعد معاوية عن الخلافةالتي هي أمانة الله التي قال تعالى عنها تعجز السماوات والأرض والجبال عن تحملها في قوله: « إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الاْءِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوما جَهُولاً «(2) وعهد الله الذي قال فيه: (قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(3) وكيف لا وهي تالي الرسالة وخلافتها وقد قال تعالى:(اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يْجَعَلُ رِسَالَتَهُ)(4) ، فليس كل مؤمن قابلا لها فضلا عن معاوية المنافق. فاعتماد الإمام على هذه المادة التصويرية التي مدارها بعد الغاية وصعوبة المرام من شانها ان تجعل المعنى اقرب مأخذا وأيسر نفاذا إلى عقول المتلقين وقلوبهم.

تشكل الطبيعة جزءاً مهماً في منظومة حياة الناس المعيشية واستقرارهم فتتأثر وتؤثر فيهم ومن هنا اعتمد الامام هذا الجانب المهم في عملية التصوير الفني من ذلك قوله:

(إِذَا كَانَ هَذَا قَوْتُ ابْنِ أَبِی طَالِبٍ فَقَدْ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ عَنْ قِتالِ الْأَقْرانِ وَ مُنَازَلَهِ الشُّجْعَانِ أَلَا وَ إِنَّ الشَّجَرَهَ الْبَرِیَّهَ أَصْلَبُ عُوداً وَ الرَّوَائِعَ الْخَضِرَهَ أَرَقُّ جُلُوْداً وَ النّابتَاتِ العِذْیِه أَقْوَی وَقُودَاً وَ أَبْطَأُ حَمُوداً )(5)

ص: 266


1- ينظر: الصحاح في اللغة: مادة «عوق »
2- سورة الأحزاب: الآية / 72
3- سورة البقرة: الآية/ 124
4- سورة الأنعام: الآية / 124
5- شرح نهج البلاغة: 16 / 141

يشير الإمام (عليه السلام) في معرض حديثه الى ما يعرض للأذهان الضعيفة من الشبهة وهي اعتقاد ضعف الامام عن قتال الاقران بسبب ذلك القوت النزر، ولذلك نبّه على الجواب من وجوه هي التمثيل بالشجرة البرية وقياس نفسه عليها في القوة.

والمشترك الجامع بينهما هو قلة الغذاء وجشوبة المطعم كقلة غذاء الشجرة البرية وسوء رعيها والحكم عن ذلك هو صلابة اعضائه وقوته كصلابة عود الشجرة البرية وقوتها، وهذه القوة هي التي منحتها مقاومة الظروف المناخية المحيطة بها. في حين مثل خصومه واقرانه كمعاوية بالروائع الخضرة والمشترك الجامع بينهما هو الخضرة والنظارة الحاصلة عن الترف ولين المطعم. والحكم عن ذلك هو رقة الجلود ولينها والضعف عن المقاومة وقلة الصبر على المنازلة والميل الى الدعة والرفاهية، كما شبه نفسه (عليه السلام) بالنباتات العذية وهي النباتات التي لا يسقيها الا ماء المطر وهو يكون اقل اخذاً من الماء ولذلك تكون اقوى وقوداً مما يشرب الماء السائح او الماء الناضح وابطأ خموداً وذلك لصلابة جرمها، فهو تمثيل لنفسه كونه اقوى على سعير نار الحرب، واصبر على وقدها وابطأ فتوراً فيها وخموداً، كالنباتات العذية في النار.

د - مجال الأدوات والآلات:

تعد الادوات والآلات، سواء ما خصص منها للحرب أو السلم، من ابرز المجالات التي اتكئ عليها الإمام (عليه السلام) في بناء الصورة الفنية في رسائله، وهي وسائل ارتبطت ارتباطا وثيقا بحياة المخاطبين كالسيف، والدرع، والمجن، والنبال، والشكيمة، والجسر، والحصن، والسرادق والمرجل، والحبل، والعمود...... الخ.

فالإمام عندما يريد أن يصف مالك بن الاشتر حينما بعثه إلى مصر فإنه يتخذ من السيف رمزا ومعادلا موضوعيا بفعل ما للسيف من فاعلية وقدرة على البطش حتى أصبح ذا مكانة ورمزية عند العرب ومن هذه القيمة والرمزية استل الإمام مادة تصويره

ص: 267

(تشبيه بليغ ) لوصف قوة وجرأة مالك بن الاشتر ومنعته كما في قوله (عليه السلام):

(فَاسْمَعُوا لَهُ وَ أَطِيعُوا أَمْرَهُ فِيمَا طَابَقَ الَْحقَّ فَإِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهَّ لَا كَلِيلُ الظُّبَةِ وَ لَا نَابِی الضَّرِيبَةِ «(1) . فهذا الوصف يحفز رغبة المخاطبين ويحملهم على القبول فيه والاطمئنان إلى سياسته وخصوصا في إدارة الحرب والاستعداد للقاء العدو، فهو لا ينكل عنهم لشجاعته وشدة بأسه لذلك أمرهم بالمقصود وهو السمع له والطاعة لأمره لا مطلقا، بل فيما طابق الحق وهذه نتيجة لحجة عبر عنها بالصورة هي كونه سيفاً من سيوف الله، يُصال به على العدو فيهلكه، ورشَّح بذكر (الضبة) وكنى بكونه غير كليلها و ( كليل الضبة ) هو حدّ السيف الذي لا يقطع ثم رشح بكونه (ولا نابي الضريبة)، ونابي الضريبة أي غير مؤثر في مضروبه، والضريبة: الشيء المضروب بالسيف أي كونه ماضيا في الحوادث غير واقف فيها ولا راجع عنها 0 فهذه الصورة مستوحاة من ثقافة المخاطبين ومعارفهم وتجاربهم وخصوصا في الحروب 0 ولم يقف الأمر عند مادة الصورة وطبيعتها ؛ بل ان المقام والسياق له الدور المهم في تعزيز القوة الحجاجية التي تضطلع بها الصورة وهو مقام الحث على الحرب والدفاع عن المقدسات والتشمير للجهاد فكان تسليم المخاطبين بأهمية السيف وقيمته الرمزية وكونه بتَّاراً لا ينبو في مضروبه أمر يدفع ويحث باتجاه قبول الدعوى في الطاعة والامتثال إلى قيادة الاشتر 0

ثم نبّه الإمام (عليه السلام) على علوِّ مقام الاشتر رأيا وإقداما بقوله « وَقَدْ آثَرْتُكُمْ بِهِ عَلَی نَفْسِی لِنَصِیحَتِهِ لَكُمْ، وَشِدَّهِ شَكِیمَتِهِ عَلَی عَدُوِّكُمْ «(2) . فقد أعلمهم الإمام انه قد آثرهم به على نفسه مع حاجته إليه في الرأي والتدبير في معرض الامتنان عليهم بذلك ليشكروه. وأشار إلى علة إيثاره لهم به وهي كونه ناصحا لهم قوي النفس شديد الوطأة

ص: 268


1- شرح نهج البلاغة: 16 / 76
2- نفسه: 16 / 76

على عدوهم، وكنى ب- (شدة شكيمته) عن ذلك والشكيمة هي الحديدة المعترضة في فم الفرس (اللجام) باعتبار كونه شديدة النفس انفا أبيا قويا شديد البأس، أما المصلحة التي أرادها الإمام في ذلك فهي استقامة الأمر له بصلاح حالهم.

كذلك شبه الإمام (عليه السلام) مالك بن الاشتر تشبيها بليغا حينما وصفه بألفاظ (الدرع) و (المجن) في قوله: « وَقَدْ أَمَّرْتُ عَلَیْكُمَا وَعَلَی مَنْ فِی حَیِّزِكُمَا مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فَاسْمَعَا لَهُ وَأَطِیعَا وَاجْعَلَاهُ دِرْعاً وَمِجَنّاً «(1) . وهما من أدوات الحرب يقي بهما المقاتل جسده من ضربات وطعنات العدو فهي باعتبارها تحمي لا بسها وتقويه كذلك ان مالك بن الاشتر لحسن تدبيره وطول باعه في فنون الحرب والقتال واق وحافظ عن الأعداء حتى أنهم لو اقتحموا الحرب بدونه كأنهم بلا درع ولا مجنّ، فالدرع هي » لبوس الحديد »(2) ، والمجن هو: الترس وسمي مجنا لأنه يستتر به عن العدو فإذا كان الرجل سلما لأخيه يكون بطن ترسه إليه فإذا فارقه وصار حربا له يقلب له ظهر ترسه ليدفع به عن نفسه ما يلقاه وقد أشار الإمام إلى هذا المعنى في مقام التوبيخ لابن عباس في قوله:

« فَلَمَّا رَأَیتَ الزَّمَانَ عَلَی ابْنِ عَمِّكَ قَدْ كَلِبَ وَ الْعَدُوَّ قَدْ حَرِبَ وَ أَمَانَهَ النَّاسِ قَدْ خَزِیتْ وَ هَذِهِ الْأُمُّةَ قَدْ فَنَكَتْ وَشَغَرَتْ قَلَبْتَ لِبْنِ عَمِّكَ ظَهْرَ الْمِجَنِّ «(3) . فقوله: (قلبت لابن عمك ظهر المجن) كناية يضرب بها المثل لمن كان سلما لأخيه ثم تغير عليه فصار حربا له فقلب ظهر ترسه اليه 0

كذلك استعار الإمام لفظ (الجسر) في كتابه إلى كميل بن زياد: « فَقَدْ صِرْتَ جِسْراً لِمَنْ أَرَادَ اَلْغَارَهَ مِنْ أَعْدَائِكَ عَلَی أَوْلِیَائِكَ «(4) . فكما ان الجسر وسيلة لعبور النهر كذلك

ص: 269


1- شرح نهج البلاغة: 15 / 47
2- ينظر: لسان العرب: مادة « درع »
3- شرح نهج البلاغة: 16 / 81
4- نفسه: 17 / 71

كميل بن زياد بتعطيله المسالح وتراخيه عن حماية الثغور التي وطأها العدو هو وسيلة لعبور العدو إلى غرضه ونيله المراد 0

وكما أنَّ انتشار الحبل وتفرق طاقاته وانحلال فتله يستلزم ضعفه وهوان قواه، فإنَّ الإمام قد اتخذ من هذه الحالة وسيلة ومادة يؤسس من خلالها الصورة الفنية التي وظفها لأدراك ما سيحل بالناس حين ينكثون البيعة في قوله: (وَقَدْ كَانَ مِنِ انْتِشَارِ حَبْلِكُمْ وَشِقَاقِكُمْ مَا لَمْ تَغْبَوْا عَنْهُ، فَعَفَوْتُ عَنْ مُجْرِمِكُمْ، وَرَفَعْتُ السَّیْفَ عَنْ مُدْبِرِكُمْ، وَقَبِلْتُ مِنْ مُقْبِلِكُمْ)(1) . فقد استعار لفظ (الحبل) لبيعتهم إياه ولفظ (الانتشار) لنكثهم، ووجه الاستعارة الأولى كون البيعة سببا جامعا لها وناظما لأمورهم والمتمسك بها قولا وعملا قد حاز على رضوان الله كالحبل الناظم لما يربط به، ووجه الاستعارة الثانية يتعلق بنكث البيعة المؤدي إلى تفرق المسلمين وهوانهم وتشتت كلمتهم وضعف طاقاتهم 0

كما نجح الإمام في توظيف التجسيم في كتاب بعثه إلى ابن عباس وهو عامله على البصرة كتب فيه ناصحا إياه: (وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَصْرَهَ مَهْبِطُ إِبْلِیسَ وَمَغْرِسُ الْفِتَنِ فَحَادِثْ أَهْلَهَا بِالْإِحْسَانِ إِلَیْهِمْ وَاحْلُلْ عُقْدَهَ الْخَوْفِ عَنْ قُلُوبِهِمْ )(2) . فهذه الصورة الاستعارية شبّه من خلالها الخوف بالحبل بجامع الغلظة والشدة فحذف الحبل ورمز له بالعقدة التي هي من لوازمه فالخوف حبل يضيق الأنفاس ويغل الأيدي والاقدام ويمنعهم عن الحركة لذلك طلب الإمام من عامله ان يزيل عن أهل البصرة عقدة الخوف مثلما طلب موسى (عليه السلام) من ربه حين قال: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِی* يَفْقَهُوا قَوْلِی )(3) فالاستعارة -من خلال هذا التجسيم- حين توضح المعنى وتكشفه فإنها تؤثر في المتلقي وتجعله يتفاعل مع النص، فالإيضاح يخاطب الشعور والإحساس لدى المتلقي

ص: 270


1- نفسه: 16 / 3
2- نفسه: 15 / 59
3- سورة طه: الآية / 27

كما يخاطب العقل.

ومن الجدير بالإشارة في هذه الصورة وفي غيرها، التي يشكل مجال الأدوات والآلات مادة خصبة ينحت منها الإمام (عليه السلام) صوره الفنية، هي استناده الدائم إلى مجموعة من المنطلقات الحجاجية التي تمثل وقائع مشتركة بين جميع مخاطبيه، فقد كان حريصا -كعادته في كل الصور- على ألاَّ يبين أية صورة إلاَّ انطلاقا مما هو مشترك ومتداول ومحل اتفاق بينه وبين عامة الناس الذين يتوجه لهم الخطاب. ولذلك فلا أحد من هؤلاء ينكر أنَّ السيف هو رمز القوة وشدة البطش كما انه، لا أحد سينكر ان الدرع من ابرز وسائل الحماية والقوة عند من يلبسها ويحتمي بها في الحروب أو القتال، أو ربما يعترض على كون الجسر هو وسيلة لعبور النهر إلى المطالب والغايات فهذه وغيرها وقائع وحقائق يتفق بشأنها المخاطبون، كما يتفقون على أنَّ قلب ظهر المجن دليل العداوة ونشوب الحرب بخلاف بطنه، فالقبول والتسليم بهذه الأشياء يعني بداية الانخراط في الدعوى المقامة وفتح باب الحوار بين المتكلم والمخاطب، أي ان التسليم بهذه الوقائع والحقائق من قبل المخاطب ما هو إلاَّ -بحسب برلمان - (تجاوبا منه لشيء يفرض نفسه على الجميع)(1) .

2- مادة الصورة المنتزعة من المقومات الثقافية لفكر المتلقين (الصورة الذهنية):

لئن كانت عناصر المواد التصويرية في الأمثلة السابقة قد استُلت مما هو حسي واتخذت لها حقيقة واقعية في الوجود مستقلة عن ذات المتلقين مع كونهم مؤثرين ومتأثرين بها مما يجعل قوام الصورة بها ذو حجة قوية ومؤثرة، فان عناصر الصورة الفنية المستمدة من المقومات الثقافية التي تنطلق من القيم الأخلاقية والدينية والمعرفية المجردة لفكر

ص: 271


1- ينظر: حجاجية الصورة في الخطابة السياسة لدى الإمام علي (عليه السلام): 190

المتلقين تكون هي الأخرى مادة أساسية تبنى من خلالها الصورة وتكتسب عوامل تأثيرها وفاعليتها في توجيه السلوك الاجتماعي والديني والثقافي وتؤثر فيه، وهذا ما نجده ملمحا بارزا في تشكيل الصورة الفنية في رسائل الإمام «ع ». من ذلك كتابه إلى معاوية: (وَأَمَّا تِلْكَ الَّتِي تُرِيدُ فَإِنَّهَا خُدْعَةُ الصَّبِيِّ عَنِ اللَّبَنِ فِی أَوَّلِ الْفِصَالِ)(1) . يستند هذا القول الى ما يبيحه المثل من مفهوم (الخدعة) من دلالات قارة في ذهنية المتلقي ومنهذه الدلالات هي خدعة الصبي عن اللبن أول الفطام فلقد كانت المرأة تمسح ثديها بشيء من التراب أو الصبر أو نحو ذلك من اجل تنفير الصبي عن اللبن حينما يحين وقت فطامه وفصاله عن اللبن 0 هذا المعنى قد استحضره الإمام باعتباره يؤسس لقيمة يسلم بها المجتمع كمفهوم عام هو: يقال للشيء اليسير يخدع به الإنسان عن الشيء الخطير 0 وهذا المقوم الثقافي في ثقافة العرب من شانه ان يتحول إلى (موضع) لا يمكن إلاَّ ان يسلّم به ويخضع له المخاطبون ويوافقون عليه على أساس ان المواضع هي( قضايا عامة جدا...... تولد منها المقدمات الجدلية والخطبية)(2) فهي بمثابة مخازن للحجج تضم أفكارا عامة يتغذى عليها الجمهور ويستخدمونها في خطاباتهم من اجل غايات اقناعية.

وقد اشرنا في مكان سابق إلى ماهية المواضع واهم أنواعها(3) واستنادا إلى هذا الفهم اتخذ الإمام هذا المثل من اجل التأسيس لمعالجة معرفية وسلوكية اتكالا على المجاز ليقرر ان مطالبة معاوية بالقصاص من قتلة عثمان حتى يبايع للإمام ما هي إلا خدعة أراد من ورائها معاوية تأليب الرأي العام على الإمام ونقض البيعة ومن ثم إقرار الإمام له على إمارة الشام، تمهيدا لاستلام الخلافة بعده.

ولمَّا كانت (الخديعة) كمفهوم عام و (خدعة الصبي عن اللبن) كمفهوم خاص

ص: 272


1- شرح نهج البلاغة: 17 / 122
2- هشام الريفي، الحجاج عند أرسطو )ضمن كتاب أهم نظريات الحجاج 0000 ): 195
3- ينظر: الفصل الأول: 81

ينساقان ضمن المفاهيم السلبية والقبيحة والمستكرهة. وحتى حينما يتعلق الأمر بمخادعة الصبي عن اللبن مع كون الغاية منها ايجابية فهي أيضا تستند إلى قاعدة (الغاية تبرر الوسيلة) وهو مفهوم حامل لقيمة سلبية بلحاظ إعطاء المشروعية لمختلف الوسائل سلبية كانت أم ايجابية لتكون مبررا للوصول إلى الغاية المرجوة التي يفترض ان تكونايجابية في كل الأحوال 0 وبشكل عام نجد الإمام قد بنى تشبيهه على ما تقره عقلية المخاطبين والسلوك الجمعي. أي ينحدر من مجالهم الثقافي، وهذا ما يتضح أيضا في كتاب الإمام (عليه السلام) إلى زياد بن أبيه، فقد بلغه أنَّ معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه: (وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ مُعَاوِیَهَ كَتَبَ إِلَیْكَ یَسْتَزِلُّ لُبَّكَ وَیَسْتَفِلُّ غَرْبَكَ فَاحْذَرْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ الشَّیْطَانُ یَأْتِی الْمَرْءَ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ یَمِینِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ لِیَقْتَحِمَ غَفْلَتَهُ وَیَسْتَلِبَ غِرَّتَهُ وَقَدْ كَانَ مِنْ أَبِی سُفْیَانَ فِی زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَلْتَهٌ مِنْ حَدِیثِ النَّفْسِ وَنَزْغَهٌ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّیْطَانِ لَایَثْبُتُ بِهَا نَسَبٌ وَلَا یُسْتَحَقُّ بِهَا إِرْثٌ وَالْمُتَعَلِّقُ بِهَا كَالْوَاغِلِ الْمُدَفَّعِ وَالنَّوْطِ الْمُذَبْذَبِ)(1) . فمدار هذا الكتاب الذي أوردناه كله جاء في جلّه عبارة عن صور فنية متراصة ومتعاقبة أوردها الإمام في مقام التنبيه والتحذير لزياد بن أبيه من مغبة الانقياد وراء غايات معاوية التي تضمنها كتابه إلى زياد بخدعه واستلحاقه به أخا ويستزل عقله ويستغفله عما هو عليه من الرأي الصحيح في نصرة الحق وولائه له (عليه السلام) ويكسر حدته وعزمه في ذلك 0

وقد استمدت هذه الصور مواد بنائها مما أتاحه الخزين المعرفي والثقافي للمجتمع العربي وتجاربهم وأصبح محل إجماع وتسليم من قبلهم. ومن هذه الصور (يستفل غربك) فلفظ الاستفلال: من فللت السيف، إذا ثلمت حدّه، وكل شيء رددت حدّه أو ثلمته فقد فللته، وهنا بيان لطلب صرفه عن ذلك الرأي الصالح ملاحظة لشبهه بالسيف، ثم ان لفظ الغرب هو حد السيف وهو مستعار لعقله ورأيه ومراد الامام من ذلك ان معاوية

ص: 273


1- شرح نهج البلاغة: 16 / 85

في كتابه يحاول ان يفل ويحبط حدتك وعزيمتك مما أنت فيه الآن من نصرة الحق والولاء لأمير المؤمنين (عليه السلام) ثم أمره ان يحذر معاوية الذي شبهه بالشيطان باعتبار وسوسته وصده عن الحق، فهو يأتي الإنسان من كل جانب مشيرا إلى ما ورد في وصف الشيطان في قوله تعالى:(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِیَنَّهُم مِّن بَیْنِ أَیْدِیهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَیْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِینَ)(1) فالشيطان إن لم يقدر أن يحمل أحدا على المخالفة عن طريق المعصية حمله عليها عن طريق العبادة، وكذلك كان معاوية يأتي خصومه عن طريق الوعيد والتهديد فان لم يؤثر فإنه يأتيهم عن طريق التملق والتحبب كما فعل بزياد.

ومن الوجهة الحجاجية يمكن أن نرجع بناء الصورة هنا الى الاتجاهات الأربعة المنبعثة من مفهوم الموضع بوصفها موضعا، فهي عند العرب (الاتجاهات- وربما عند غيرهم من الشعوب بمنزلة المخزن الذي منه يستخرجون حججهم في خطاباتهم حيث يرغبون الشيء أو ينفرون منه(2) وهذا ما استثمره القران الكريم في خطاباته التي قصد بها دلالات مختلفة تناغمت مع الدلالة الرمزية القابعة في الذهنية نتيجة التجربة والثقافات المتراكمة 0 فكل اتجاه من هذه الاتجاهات وغيرها قد شكل موضعا يستند إلى أبعاد دينية وأسطورية ورمزية مؤسسة في أذهان المتلقين وموجهة سلوكهم وطريقة تفكيرهم. ومن ثم يتحول هذا الموضع أو ذاك إلى معنى غير قابل للنقاش أو المراجعة فهو محل تواطؤ وإجماع من قبل الجماعة 0 ولعله من هنا كانت الجهات تمثل أداة حجاجية ناجعة رغم كثرة تداولها في الكلام وجريانها على الألسن. ومما يجعلها موضعا قويا ومخزنا للحجج ثريا وخصبا استنادها إلى (مخيال) المجموعة اللسانية التي نزل فيها القرآن والى تجربتها

ص: 274


1- سورة الأعراف: الآية / 16،17
2- ينظر: الحجاج في القران الكريم: 530

الرمزية العميقة(1) .

ومن هذا المنطلق شكَّل الإمام بناء صورته على هذا البعد المجازي للاستدلال على الفكرة 0 قال شفيق البلخي:(ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد: من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي. أما بين يدي فيقول: لا تخف ان الله غفور رحيم وأما من خلفي فيخوفني الضيعة على من خلفي. وأما من قبل يميني فيأتيني من جهة الثناء 0 وأما من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات)(2) ، فالشيطان يأتي الإنسان من كل جهة 0 وقد خص الإمام الجهات الأربع مصداقا لقوله تعالى انف الذكر 0 قال بعض المفسرين: من بين أيديهم يطمعهم في العفو ويغريهم بالعصيان ومن خلفهم يذكرهم خلفهم ويحسن لهم جمع المال وعن أيمانهم يحسن لهم الرئاسة والثناء وعن شمائلهم يحبب إليهم اللهو واللذات(3) .

ثم نبّه (عليه السلام) على وجه فساد حيلة معاوية وذلك إنما أراد استغفاله باستلحاقه إياه أخا فنبهه على ان ذلك الاستلحاق إنما يتم بصحة استلحاق أبي سفيان له ابنا ولم تصح تلك الدعوى، ثم أشار الإمام إلى انَّ ما أظهره أبو سفيان في زمن عمر بن الخطاب بأنه فلتة من حديث النفس ونزغة من نزغات الشيطان. وقد احتمل حبيب الله الخوئي في كلام أمير المؤمنين وجهين:

1. ان زعمه كون زياد منه، لا أصل له وإنما هو صرف حديث نفس بلا روية وتخيل شيطاني كاذب لا أصل له 0

2. ان إظهار هذه الحقيقة فلتة وكلام بلا روية واستلحاق زياد بمجرد كونه من مائه

ص: 275


1- ينظر: الحجاج في القران الكريم: 532
2- شرح نهج البلاغة: 16 / 178
3- ينظر: ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 5/ 92

نزغة من نزغات الشيطان ؛ لأنَّ الماء من الزنا لا يثبت به النسب، كما صرح بذلك النبي (ص) بقوله: « الولد للفراش وللعاهر الحجر 0« (1)

3. ثم شبه (عليه السلام) المتعلق في نسبه بهذه الفلتة والنزغة الشيطانية ب-(الواغل المدفع)، قال الشريف الرضي: (الواغل هو الذي يهجم على الشرب ليشرب معهم وليس منهم فلا يزال مدفعا محاجزا و (النوط المذبذب) هو ما يناط برحل الراكب من قعب أو قدح أو ما أشبه ذلك فهو أبدا يتقلقل إذا حث ظهره واستعجل سيره)(2) ، ووجه الشبه الأول في ذلك كونه لا يزال مدفعا وهذا المعنى قد حمل قيمة سلبية في ذهنية المتلقين تنفر منه النفس ولذلك وظفه الإمام لهذه الغاية في الصورة من اجل الذم والتنفير والاستكراه سواء على المعنى الحقيقي القار في ذهنية المخاطبين أو على المعنى المجازي الذي أراده الإمام كما ان وجه الشبه الثاني هو اضطراب أمر معاوية وعدم لحوقه بنسب معين وعدم استقراره كما يضطرب النوط ولا يستقر 0 وبذلك تكون الصورة باستنادها إلى ثقافة المتلقين ومعارفهم العقلية والسلوكية قد منحت الهدف أو البعد الحجاجي بداية قوية ونافذة 0

وفي رسالته(عليه السلام) إلى معاوية شبهه الإمام في محاولته أمر الشام وما يحوكه من خدع لجعل أمر الخلافة فيه، بالنائم المستثقل الذي تكذبه أحلامه إذ يقول في هذا الشأن:

(إِذْ تُحَاوِلُنِی الْأُمُورَ وَتُرَاجِعُنِی السُّطُورَ كَالْمُسْتَثْقِلِ النَّائِمِ تَكْذِبُهُ أَحْلَامُهُ،وَالْمُتَحَیِّرِ الْقَائِمِ یَبْهَظُهُ مَقَامُهُ لَایَدْرِی أَ لَهُ مَا یَأْتِی أَمْ عَلَیْهِ وَلَسْتَ بِهِ غَیْرَ أَنَّهُ بِكَ شَبِیهٌ)(3) . فقد شبهه بالنائم الذي يرى أحلاما كاذبة أو كمن قام مقاما بين يدي سلطان أو بين قوم عقلاء ليعتذر عن أمر أو ليخطب بأمر في نفسه قد بهضه مقامه أي أثقله فهو لا يدري هل ينطق

ص: 276


1- ينظر: حبيب الله الخوئي، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 18 / 64
2- شرح نهج البلاغة: 16 / 178
3- نفسه: 18 / 27

بكلام هو له أم عليه فيتحير ويتبلد ويدركه العي والحصر(1) . وقد أشار إلى وجه الشبه بقوله (تكذبه أحلامه) وأراد ان تخيلاته وأمانيه في وصول هذا الأمر إليه تخيلات كاذبة صادرة عن جهل غالب كالأحلام الكاذبة للمستغرق في نومه إذا استيقظ ولم يجدها 0

فالإمام في هذا النص قد جعل من مادة الصورة بؤرة حجاجية يدور عليه الخطاب ويرتهن فيها إلى وعي المتلقين وثقافتهم التي تمثل مفاهيم الرؤيا والحلم مساحة واسعة من قيمهم ومعتقداتهم وتجسد إرثا بشريا متساوقا والبنية التركيبية للمجتمع الإنساني منذ فجر الخليقة إلى يوم الناس هذا، لاسيما عند العرب والمسلمين الذين يكنون لهذا الجانب كل الاهتمام وزادهم في ترسيخ هذا المعتقد ما أكدته الشريعة الإسلامية من تجسيد وتأكيد ارتباط الرؤيا على وجه التحديد بالواقع باعتبارها علامة على استشراف المستقبل في وجه بارز من وجوهها التنبؤية وقد أشارت النصوص المقدسة وغير المقدسة إلى وجود فرق بين الرؤيا والحلم، فقد ذكر ابن منظور: والرؤيا من الخير والشيء الحسن، وغلب الحلم على ما يراه من الشر والقبيح، ومنه قوله أضغاث أحلام(2) ، كذلك أشار الحديث الشريف إلى ان:(الرؤيا من الله والحلم من الشيطان)(3) . فهذا التشبيه قد جسد مقوم من مقومات ثقافة المخاطبين بوصفه مادة تصويرية لإقناعهم والتأثير فيهم 0

كما ان (اللمح الباصر) تصور ذهني نبه من خلاله الإمام علي (عليه السلام) معاوية على وجوب الاتعاض والانزجار عن دعوى ما ليس له فكتب اليه:(أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَنْتَفِعَ بِاللَّمْحِ الْبَاصِرِ مِنْ عِیَانِ الْأُمُورِ فَقَدْ سَلَكْتَ مَدَارِجَ أَسْلاَفِكَ بِادِّعَائِكَ الْأَبَاطِیلَ)(4) . والمراد انه قد حضر وقت انتفاعك من عيان الأمور ومشاهدتها بلمحك

ص: 277


1- ينظر: شرح نهج البلاغة: 18 / 27
2- ينظر: لسان العرب : مادة (حلم،رأى)
3- صحيح مسلم: 15 / 16
4- شرح نهج البلاغة: 18 / 10

الباصر، ولفظ اللمح مستعار لدرك الأمور النافعة بخفة وسرعة وروي (عيان الأمور) أي نفسها وحقائقها التي هي موارد اللمح والاعتبار، ووصفه بالباصر مبالغة في الإبصار كقولهم: ليل اليل. واللمح الباصر كناية عن الوضوح والظهور، قال الجوهري:(لأرينك لمحا باصرا: أي أمرا واضحا)(1) . والمراد في قول الإمام هو: لماذا تجحد الحق وتعانده وأنت تحسه وتراه كوضوح النهار ؟ قال ابن أبي الحديد:(يقول الإمام (عليه السلام) لمعاوية قد حان لك ان تنتفع بما تعلمه من معاينة الأمور والأحوال وتتحققه يقينا بقلبك كما يتحقق ذو اللمح الباصر ما يبصره بحاسة بصره وأراد ببيان الأمور ها هنا معاينتها وهو ما يعرفه ضرورة من استحقاق علي (عليه السلام) للخلافة دونه وبراءته من كل شبهة ينسبها إليه)(2) .

كما تغوص الصورة الفنية في أحوال الإنسان ووضعياته في تشييد بنائها باعتبارها منطلقات حجاجية تعارف المخاطبون عليها، ففي مقام توبيخه وتنبيهه (عليه السلام) لمعاوية بعظم الفضائل التي حظي بها بنو هاشم إذ يقول:(وَ لَوْلاَ مَا نَهَی اَللَّهُ عَنْهُ مِنْ تَزْكِیَهِ اَلْمَرْءِ نَفْسَهُ لَذَكَرَ ذَاكِرٌ فَضَائِلَ جَمَّهٍ تَعْرِفُهَا قُلُوبُ اَلْمُؤْمِنِینَ وَ لاَ تَمُجُّهَا آذَانُ اَلسَّامِعِینَ)(3)

وصف الإمام (عليه السلام) هذه الفضائل بأنها بلغت في الشهرة والوضوح مبلغا تعرفها قلوب المؤمنين ولا تمجها آذان السامعين، فلا ينكرها إلا أعمى القلب وفاقد السمع، واستعار لفظ (المج) فيقال: مج الماء من فيه إذا قذفه، وقذف السامع الكلام من الأذن كما يقذف الماج الماء لكراهيته له وقد أراد الإمام من هذه الصورة: ان سماع هذه الفضائل لا تستكرهها الآذان لكثرة بروزها وشدة ظهورها وعلو قدرها في العقول والقلوب وانشراح النفوس لها فتكون الآذان مأنوسة بذكرها، والأسماع مملؤة من سمعها

ص: 278


1- الصحاح في اللغة: مادة «لمح »
2- شرح نهج البلاغة: 18 / 10
3- شرح نهج البلاغة: 15 / 85

فلا تستنكرها أذن ولا سمع 0 فكانت هذه الاستعارة منسجمة مع ما يتطلع إليه الإمام من معنى عميق يستطيع من خلاله ان يوجه الملفوظ نحو المقاصد التي يرمي إليها وحمل المتلقي على الاقتناع بها من خلال الربط وتقريب المعنى عبر المنظومة المعرفية والقيمية والحضارية لعالم المخاطبين. فكانت هذه الصورة كغيرها من الصور التي رسمها الإمام هي نتيجة تفاعل ثلاثة عناصر:الذات والموضوع والمقام مما يستدعي المجال المناسب للصورة الذي يجعل منها حجاجية من الطراز الأول(1)

كما ان لفظ (الزاد) من المفاهيم التي وظفت مجازيا في الصورة الفنية وسبيل الإمام (عليه السلام) في ذلك، النهج القرآني في استعارة الزاد لإفادة معنى التقوى كما في قوله تعالى: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَیْرٍ یَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَیْرَ الزَّادِ التَّقْوَی وَاتَّقُونِ یَا أُولِی الْأَلْبَابِ)(2)

فهذه الرؤية المجازية القرآنية بكل ما تحمله من دلالات قد اعتمدها الإمام (عليه السلام) في خطابه مادة تصويرية يعبر من خلالها عن التقوى والأعمال الصالحة والكمالات التي هي بلاغ الإنسان في تلك الطريق إلى الله تعالى. ففي مقام الوعظ والإرشاد كتب الإمام إلى ولده الحسن (عليه السلام) في معرض وصيته: (وَقَدْرِ بَلاغِكَ مِنَ الزَّادِ مَعَ خِفَّهِ الظَّهرِ فَلا تَحمِلَنَّ علی ظَهرِكَ فَوقَ طَاقَتِكَ فَیَكُونَ ثِقْلُ ذَلِكَ وَبَالاً عَلَیْكَ واِذا وَجَدْتَ مِن اَهلِ الفَاقَهِ مَن یَحمِلُ لَكَ زادَكَ اِلی یَومِ القِیامَهِ فَیُوافِیكَ بِهِ غَداً حَیثُ تَحتَاجُ اِلَیهِ فاغْتَنِمهُ وَحَمِّلهُ ایَّاهُ وَاَكثِر مِن تَزوِیدِهِ وَانتَ قَادِرٌ عَلَیهِ فَلَعَلَّكَ تَطلُبُهُ فَلا تَجِدُهُ واغتَنِم مَن استَقَرضَك)(3) . إذ أنَّ الزاد لمّا كان هو الطعام الذي يتخذه المسافر ليُتقوى به الطبيعة على الحركات الحسية كانت

ص: 279


1- ينظر: كتابة الجاحظ في ضوء نظريات الحجاج: 247
2- سورة البقرة: 197
3- شرح نهج البلاغة: 16 / 42

تقوى الله مما تتقوى به النفس على الوصول إلى حظيرة القدس الإلهي، كان بين المعنيين من كمال المشابهة وتمامها. فكان إيثار المجاز على الحقيقة باعتماد مادة تصويرية هي الزاد يكون ابلغ في التأكيد والترغيب والحث على قبول واستحسان المرغوب فيه وهو التقوى والعمل الصالح بلحاظ (الزاد) الذي هو قيمة ايجابية مستحسنة، بل وضرورة لدرجةان انتفاءها يستلزم الهلاك والافساد. كذلك استعار لفظ (الخفة) لتقليل اكتساب الآثام وحملها على النفس. ولفظ (الحمل) لاكتسابها. ومما تقدم يتضح أن للاستعارة هنا وجوه أجملها ابن ميثم في قوله(1) :

الوجه الأول: ان مقلل الآثام سريع القطع لتلك الطريق قريب إلى النجاة فيها من مخاوفها كما قال (عليه السلام): (تخففوا تلحقوا) ، أو كما أشار الرسول (ص): (نجا المخففون) .

الوجه الثاني: ان مكتسب الآثام ثقيل بها ويبطئ من لحوق المخففين ويهلك بها في طريقه، وكثرة تخلفه تابعة لكثرة اكتسابه كما يكون حال المثقل في الطريق البعيدة، ولفظ (الظهر) ترشيح المطلوب 0

الوجه الثالث: التنبيه على وجوب إنفاق المال في وجوه الصدقة والبرّ لمن يحتاج إليه من أهل الفاقة وجذبه واعده لذلك بأمرين:

احدهما: كون ذلك زادا يحمله ذو الفاقة إلى يوم القيامة ويلقاه به هناك في موضع الحاجة اليه 0 واستعار لفظ (الزاد) هنا مرة أخرى لما يجعل من فضيلة السخاء والكرم بالإنفاق، ووجه الاستعارة كونه سببا لسلامة النفس من الهلاك في طريق الآخرة ووسيلة

ص: 280


1- ينظر: ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 5/ 36 - 37

إلى السعادة الباقية كالزاد المخلص للمسافر في طريقه والمبلغ له إلى مطالبه، واستعار للمتصدق عليه وصف (الحامل) لذلك الزاد باعتبار انه سبب لحصول الفضيلة بتلك الصدقة ووصول ثوابها إلى المتصدق يوم القيامة، فوجدانه لتلك الفضيلة وظهورها في صحيفة أعمال المتصدق يوم القيامة هو المشار إليه بالموافاة بها غدا 0

الثاني: كون الصدقة على ذوي الفاقة قرضا للمتصدق في حال غناه بالمال يقضي له يوم عسرته وفقره. واستعار وصف (المستقرض) هنا لله باعتبار انه هو المجازي بالثواب على من انفق ماله في طاعته. واليه الإشارة بقوله تعالى: « مَن ذَا الذِی یُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَیُضَاعِفَهُ لهُ ولهُ أَجْرٌ كَرِیمٌ «(1) . ونبّه (عليه السلام) بكون القرض في حال الغناء، والقضاء في حال العسرة ليكون القضاء أفضل فيرغب في القرض لغاية الربح المطلوب 0

فهذه الاستعارات جميعها قد اكتسبت بعدها الحجاجي ونفاذيتها إلى عقول وقلوب المخاطبين ليس فقط مقتبسة من مجال الإنسان وأبعاده الاجتماعية فحسب، بل من كونها حاملة لمنظومة قيم اجتماعية أخلاقية تعاقد الناس عليها، وباعتبارها وجها من وجوه العلاقة القائمة بين أفراد المجموعة البشرية، فبسبب أنهم يعرفون هذه العلاقات ويمارسونها في اجتماعهم البشري ضربت بها الأمثال واستعيرت لتحتمل التخصيص والتعميم وهو ما يمنح الصورة بعدها الإقناعي. فالوجهة الحجاجية في ذلك إنها مثلما توجهت إلى جمهور ضيق ومخصوص ومباشر الذي هو الإمام الحسن(عليه السلام) أو المخاطبين المباشرين والمخصوصين ممن توجه إليهم خطاب الإمام بصورة مباشرة كذلك توجهت هذه الصور ومن ورائها الخطاب إلى الجمهور العام ؛ والسبب في ذلك هو طواعية الخطاب واتساع مفاهيمه التي تستند إلى كل ما هو عام وشمولي لمنظومة القيم الأخلاقية والدينية 0 بحيث يصلح للعام كما يصلح للخاص هذا من جانب ومن

ص: 281


1- سورة حديد: الآية / 11

جانب آخر كون المواد المشكلة للصورة الفنية في اغلبها هي مواد لا تقتصر على زمان أو مكان محددين أو فئة اجتماعية دون أخرى أي إنها تشكل قاسم مشترك في قيمتها المادية والمعنوية 0 ونتيجة لذلك فان أفضل الحجاج ما صلح للخاص والعام من جمهور المتلقينمعا 0

ص: 282

المبحث الثاني: شكل الصورة وابعاده الحجاجية

اشارة

بعد أن فرغنا من فحص المادة المكونة للصورة الفنية في رسائل امير المؤمنين (عليه السلام) بوصفها هدفاً حجاجياً يدعم المقاصد الاقناعية للخطاب، شرعنا في هذا الحيز لتبيان الاشكال التصويرية في هذه الرسائل، اي المنحنى الحجاجي الذي تؤديه الصورة انطلاقاً من شكلها (القالب / الهيكل) الذي يحوي تلك المادة المستمدة او المستدعاة من الواقع الذي تعارف الناس عليه، لذلك انبرى شكل الصورة ليؤسس بؤرة اخرى -اضافة الى المادة- من شأنها ان تؤدي الى الاقناع. هذا الشكل او البناء التصويري قد يظهر بأشكال اسلوبية متعددة اهمها وبحسب ما سمحت به المدونة هي ثلاثة اشكال نبينها كالتالي:

الشكل الاول:

دليل >> مدلول

(أ)= (ج) >> (أ) [....]

ص: 283

أي أن:

- المدلول: هو غرض الكلام

- الدليل: هو اللفظ الموضوع للدلالة على هذا الغرض

- ( أ ): المشبه

-(ج ): المشبه به

- [....]: تمثل هذه العلامة (المحل الشاغر) الذي لم يرد ذكره في البنية التصويرية.

وينطبق هذا الشكل على الاستعارة حيث يصل فيهما المستعار له والمستعار منه حدّ المطابقة، أي يطوى المستعار له (أ) ويذكر المستعار الذي يمثله العنصر (ج)، والرابط هو ما يصطلح عليه بالمحل الشاغر [....] الذي يستنتجه المتلقي بواسطة كفايته الثقافية والمنطقية لتبين المسار الحجاجي المنتهج. ومن الامثلة على هذا الشكل في رسائل الامام:

قوله (عليه السلام) واصفاً اهل الشام من اتباع معاوية واشعار بعدم اعتقادهم بالدين: « أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ عَیْنِی بِالْمَغْرِبِ كَتَبَ إِلَیَّ یُعْلِمُنِی أَنَّهُ وُجِّهَ إِلَی اَلْمَوْسِمِ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ اَلشَّامِ اَلْعُمْیِ اَلْقُلُوبِ اَلصُّمِّ اَلْأَسْمَاعِ اَلْكُمْهِ اَلْأَبْصَارِ اَلَّذِینَ یَلْبِسُونَ اَلْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَ یُطِیعُونَ اَلْمَخْلُوقَ فِی مَعْصِیَهِ اَلْخَالِقِ وَ یَحْتَلِبُونَ اَلدُّنْیَا دَرَّهَا بِالدِّینِ وَ یَشْتَرُونَ عَاجِلَهَا بِآجِلِ اَلْأَبْرَارِ اَلْمُتَّقِینَ «(1)

1. استعار لقلوبهم لفظ (العمى ) باعتبار عدم عقليتهم للحق وادراكهم لما ينبغي من طريق الآخرة كما لا يدرك الاعمى قصده، كما استعار لفظ (الصم) لأسماعهم و(الكمه) لأبصارهم باعتبار عدم انتفاعهم من جهة الاسماع بالمواعظ والتذاكير، ومن جهة الابصار بتحصيل العبرة بها من آثار الله سبحانه كما لا ينتفع بذلك فاقد هاتين الآلتين.

ص: 284


1- شرح نهج البلاغة: 16 / 68

كذلك استعار (عليه السلام) لفظ (الدر) لمتاع الدنيا وطيباتها ولفظ (الإحتلاب) لاستخراج متاعها بوجوه الطلب من مظانه ملاحظاً شبهها بالناقة، كما ان لفظ (الشراء) مستعار لاستعاضتهم ذلك العاجل من ذلك الآجل.

قوله (عليه السلام) الى محمد بن ابي بكر حين قلده مصر منفرا من الدنيا ومذكرا بالموت: (وَ أَنْتُمْ طُرَدَاءُ الْمَوْتِ إِنْ أَقَمْتُمْ لَهُ أَخَذَكُمْ وَ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ أَدْرَكَكُمْ وَ هُوَ أَلْزَمُ لَكُمْ مِنْ ظِلِّكُمْ الْمَوْتُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِیكُمْ وَ الدُّنْیَا تُطْوَی مِنْ خَلْفِكُمْ)(1) .

1. فقد استعار لفظ (طرداء) ملاحظة لشبههم بما يطرد من صيد ونحوه ولشبه (الموت) بالفارس المجد في الطلب الذي لا بد من ادراك الطريدة، كما استعار لفظ (معقود) من عقدة الحبل حيث شبه مجيء الموت وملازمته للإنسان بعقده بناصيته وقربه منه، ولفظ (الطي) مستعار لكيفية انقضاء احوال الدنيا وايامها كأنها صفحة بمقدار عمر الانسان كلما تقدم فيها طويت من خلفه او إن الناس كسطور في صحيفة يقرؤها قارئ ويطوي ما يقرأ فكلما ظهر سطر خفي سطر.

قوله (عليه السلام) مستفتحاً وصيته الى ولده الحسن (عليه السلام): (مِنَ الْوَالِدِ الْفَانِ الْمُقِرِّ لِلزَّمَانِ الْمُدْبِرِ الْعُمُرِ الْمُسْتَسْلِمِ [ لِلدَّهْرِ الذَّامِّ ]

لِلدُّنْیَا السَّاكِنِ مَسَاكِنَ الْمَوْتَی الظَّاعِنِ عَنْهَا غَداً إِلَی الْمَوْلُودِ الْمُؤَمِّلِ مَا لاَ یُدْرِكُ السَّالِكِ سَبِیلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ غَرَضِ الْأَسْقَامِ وَ رَهِینَةِ الْأَیَّامِ وَ رَمِیَّةِ الْمَصَائِبِ وَ عَبْدِ الدُّنْیَا وَ تَاجِرِ الْغُرُورِ وَ غَرِیمِ الْمَنَایَا وَ أَسِیرِ الْمَوْتِ وَ حَلِیفِ الْهُمُومِ وَ قَرِینِ الْأَحْزَانِ وَ نُصُبِ الآْفَاتِ وَ صَرِیعِ الشَّهَوَاتِ وَ خَلِیفَةِ الْأَمْوَاتِ)(2)

وشّح الامام نصه هذا بعدد من الاستعارات كادت ان تشمل كل الملفوظ نأتي على تفصيلها وبيان حجاجيتها في قادم البحث.

ص: 285


1- نفسه: 15 / 77
2- نفسه: 16 / 5

قوله (عليه السلام) في ذات الوصية من ضرورة اكرام العشيرة: (وَأَكْرِمْ عَشِیرَتَكَ، فَإِنَّهُمْ جَنَاحُكَ الَّذِی بِهِ تَطِیرُ، وَأَصْلُكَ الَّذِی إِلَیْهِ تَصِیرُ، وَیَدُكَ الَّتِی بِهَا تَصُولُ)(1)

ولفظ (الجناح ) مستعار باعتبار كونهم مبدء نهوضه وقوته على الحركة الى المطالب كجناح الطائر، كما استعار لفظ اليد باعتبار كونهم محل صولته على العدو والدفاع عن النفس.

قوله (عليه السلام) الى بعض عماله: (أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَی إِقَامَهِ اَلدِّینِ وَ أَقْمَعُ بِهِ نَخْوَهَ اَلْأَثِیمِ وَ أَسُدُّ بِهِ لَهَاهَ اَلثَّغْرِ اَلْمَخُوفِ)(2)

1. استعار لفظ (اللهاة )، وهي لحمة في اقصى سقف الفم. قال ابن ميثم: « استعار لفظ (اللهاة ) لما عساه ينفتح من مفاسد الثغر فيحتاج الى سده بالعسكر والسلاح ملاحظة لشبهه بالأسد الفاتح فاه للافتراس »(3)

1. قوله (عليه السلام) الى اهل البصرة في معرض التوبيخ والتهديد: (وَقَدْ كَانَ مِنِ انْتِشَارِ حَبْلِكُمْ وَشِقَاقِكُمْ مَا لَمْ تَغْبَوْا عَنْهُ فَعَفَوْتُ عَنْ مُجْرِمِكُمْ وَرَفَعْتُ السَّیفَ عَنْ مُدْبِرِكُمْ وَقَبِلْتُ مِنْ مُقْبِلِكُمْ)(4)

إذ استعار لفظ ( الحبل ) لبيعتهم اياه ولفظ ( الانتشار ) لنكثهم تلك البيعة، فانتشار الحبل: تفرق طاقاته وانحلال فتله، ووجه الاستعارة كون البيعة سببا جامعاً لهم وناظماً لأمورهم يوصل الى رضاء الله كالحبل الناظم لما يربط به.

قوله (عليه السلام) الى معاوية: (فَأَرَادَ قَوْمُنَا قَتْلَ نَبِيِّنَا وَاجْتِيَاحَ أَصْلِنَا وَهَّمُوا بِنَا الُْهمُومَ

ص: 286


1- نفسه: 16 / 61
2- شرح نهج البلاغة: 17 / 3
3- ابن ميثم البحراني: شرح نهج البلاغة: 5/ 112 - 113
4- نفسه: 16 / 3

وفَعَلُوا بِنَا الأَفَاعِیلَ ومَنَعُونَا الْعَذْبَ وأَحْلَسُونَا الْخَوْفَ واضْطَرُّونَا إِلَی جَبَلٍ وَعْرٍ وأَوْقَدُوا لَنَا نَارَ الْحَرْبِ)(1)

والحلس: كساء رقيق يجعل تحت قتب البعير، فاستعار وصف الاحلاس لاخافتهم ووجه الشبه الملازمة.

قوله (عليه السلام) في وصيته الى اهله وفيهم الحسن والحسين (عليهما السلام ) قبل موته لما ضربه ابن ملجم (لعنه الله): (وصِیَّتی لَكُمْ ألّا تُشْرِكُوا بِاللّهِ شَیْئاً وَمُحْمّدٌ ( صلی الله علیه و آله )

فَلا تُضَیِّعُوا سَنَّتَهُ أقیمُواهذَینِ العَمُودَینِ وَخَلاكُم ذَمٌّ) (2)

لفظ (العمود) مستعار لهما ملاحظة لشبههما بعمودي البيت في كونهما سببين لقيام الاسلام وعليهما مداره كالبيت القائم على عمده.

قوله (عليه السلام) في وصيته للإمام الحسن (عليه السلام): (أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ فِیمَا تَبَیَّنْتُ مِنْ إِدْبَارِ الدُّنْیَا عَنِّی وَ جُمُوحِ الدَّهْرِ عَلَیَّ وَ إِقْبَالِ الآْخِرَةِ إِلَیَّ مَا یَزَعُنِی عَنْ ذِكْرِ مَنْ سِوَایَ وَ الاِهْتِمَامِ بِمَا وَرَائِی)(3)

وهنا استعار لفظ (الجموح) للدهر باعتبار عدم تمكنه من ضبطه في تغيراته وتصريفاته الخارجة عن اختيار الامام كالجموح من الخيل.

ص: 287


1- نفسه: 14 / 21
2- شرح نهج البلاغة: 15 / 68
3- نفسه: 16 / 27

الشكل الثاني:

دليل >> مدلول

(أ ) يجاور (ج) >> (أ) [....]

وينطبق هذا الشكل على الكناية بمختلف انواعها سواء كانت كناية عن صفة او كناية عن موصوف، حيث يجاور المكنَّى عنه المكنَّى به. ومن نماذج هذا الشكل في رسائل الامام علي:

1. قوله (عليه السلام) الى عبد الله بن عباس: « وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَصْرَهَ مَهْبِطُ إِبْلِیسَ، وَمَغْرِسُ الْفِتَنِ، فَحَادِثْ أَهْلَهَا بِالْإِحْسَانِ إِلَیْهِمْ، وَاحْلُلْ عُقْدَهَ الْخَوْفِ عَنْ قُلُوبِهِمْ «(1)

قال ابن ميثم: « واعلم انه كنى بكون البصرة مهبط ابليس عن كونها مبدء الآراء الباطلة والاهواء الفاسدة الصادرة عن ابليس المستلزمة لاثارة الفتن..... واستعار لفظ المغرس للبصرة باعتبار كونها محلا تنشأ فيه الفتن الكثيرة كما ان مغرس الشجر من الارض محل لنشوئه ونمائه » (2) . ثم امره ان يحلل عقدة الخوف من اهلها بالاحسان اليهم واستعار لفظ (العقدة) لما الزمهم به من المخافة بالغلظة عليهم وكثرة الاذى لهم ووجه المشابهة « كون ذلك الخوف ملازما لهم معقوداً بقلوبهم كالعقدة للحبل ونحوه ورشح بلفظ الحل وكنى به من ازالة الخوف عنهم «(3) .

قوله (عليه السلام) الى بعض عماله: (فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ عَلَی مَا أَهَمَّكَ وَ اخْلِطِ الشِّدَّةَ بِضِغْثٍ مِنَ اللِّینِ وَ ارْفُقْ مَا كَانَ الرِّفْقُ أَرْفَقَ وَ اعْتَزِمْ بِالشِّدَّةِ حِینَ لاَ تُغْنِی عَنْكَ إِلاَّ الشِّدَّةُ وَ اخْفِضْ لِلرَّعِیَّةِ جَنَاحَكَ وَ ابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ وَ آسِ بَیْنَهُمْ فِی اللَّحْظَةِ وَ النَّظْرَةِ وَ الْإِشَارَةِ وَ التَّحِیَّةِ حَتَّی لاَ یَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِی حَیْفِكَ وَ لاَ یَیْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ وَ السَّلاَمُ

ص: 288


1- نفسه: 15 / 59
2- ابن ميثم البحراني: شرح نهج البلاغة: 4/ 348
3- نفسه: 4/ 348

وَ السَّلاَمُ)(1) ولأن عدَّ ابن ابي الحديد قوله (عليه السلام) (بضغثٍ) استعارة لكون المراد فيها مزج الشدة بشيء من اللين فجعلها كالضغث(2) ، فإن الراوندي يعدّها كناية عن شيء وبعض(3) . وعلى كلِّ فإنها في كلتا الحالتين تخضع الى الشكل نفسه مع الاختلاف بين الانطباق والمجاورة. كما كنَّى (عليه السلام) عن التواضع (بخفض الجناح) وعن البشاشة وترك العبوس (ببسط الوجه)، وعن المساهلة وعدم التشدد (بلين الجانب)، وعن الاستقصاء في العدل بينهم في جليل الامور وحقيرها وقليلها وكثيرها ( ان يواسي بينهم في اللحظة والنظرة)

قال (عليه السلام) الى أبي موسى الاشعري وهو عامله على الكوفة وقد بلغه عن تثبيطه الناس عن الخروج اليه (عليه السلام) لما ندبهم لحرب اصحاب الجمل: « فَإِذَا قَدِمَ رَسُولِی عَلَیْكَ فَارْفَعْ ذَیْلَكَ وَاشْدُدْ مِئْزَرَكَ وَاخْرُجْ مِنْ جُحْرِكَ وَانْدُبْ مَنْ مَعَكَ فَإِنْ حَقَّقْتَ فَانْفُذْ وَإِنْ تَفَشَّلْتَ فَابْعُدْ وَایْمُ اللّهِ لَتُؤْتَیَنَّ مِنْ حَیْثُ أَنْتَ وَلَا تُتْرَكُ حَتَّی یُخْلَطَ زُبْدُكَ بِخَاثِرِكَ وَذَائِبُكَ بِجَامِدِكَ وَحَتَّی تُعْجَلَ عَنْ قِعْدَتِكَ وَتَحْذَرَ مِنْ أَمَامِكَ كَحَذَرِكَ مِنْ خَلْفِكَ وَمَا هِیَ بِالْهُوَیْنَی الَّتِی تَرْجُو وَلَكِنَّهَا الدَّاهِیَهُ الْكُبْرَی یُرْكَبُ جَمَلُهَا «(4)

( واشدد المئزر ) كناية عن الاستعداد للقيام بالواجب والتشمير للجهاد. وقوله (واخرج من جحرك)، أي امر له بالخروج من منزله للّحاق به (ع ). قال ابن ابي الحديد:

ص: 289


1- شرح نهج البلاغة: 17 / 3
2- نفسه: 17 / 3
3- الراوندي: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 11 / 54
4- نفسه: 17 / 119 - 120

« هي كناية فيها غضٌّ من ابي موسى واستهانة به ؛ لأنه لو اراد إعظامه لقال واخرج من خيسك او من غيلك كما يقال للأسد ولكنه جعله ثعلباً او ضبّا(1) . وقد خالفه في ذلك ابن ميثم في شرحه(2) ، والتستري في بهج الصباغة(3) في أن اللفظ استعارة.

وقوله: (حتى يخلط زبدك بخاثرك وذائبك بجامدك )، هما مثلان كنَّى بهما من خلط أحواله الصافية بالتكدير كعزته بذلته وسروره بغمه وسهولة امره بصعوبته. وقوله (وتحذر من امامك كحذرك من خلفك ) هو كناية عن غاية الخوف. قال ابن ميثم:

«وإنما جعل الحذر من الخلف اصلاً في التشبيه لكون الانسان من ورائه اشد خوفاً من أمامه. وقيل: اراد ان يخاف من الدنيا كما يخاف من الآخرة »(4) . وكنى عن قوله ستفعل لا محالة بقوله ( يركب جملها ويذل صعبها ) وذلك « لأنَّا إذا ركب جملها وذلل صعبها وسهل وعرها فقد فعلت، أي لا تقل هذا أمر عظيم صعب المرام «(5) أي تسهل الامور الصعاب فيها.

قوله (عليه السلام) الى عثمان بن حنيف الانصاري فيما يجب عليه من الاقتداء بإمامه وهو امير المؤمنين، في حاله مع الدنيا وتطلعه الى الاخرة: « طُوبَی لِنَفْسٍ أَدَّتْ إِلَی رَبِّهَا فَرْضَهَا وَ عَرَكَتْ بِجَنْبِهَا بُؤْسَهَا وَ هَجَرَتْ فِی اَللَّیْلِ غُمْضَهَا حَتَّی إِذَا غَلَبَ اَلْكَرَی عَلَیْهَا اِفْتَرَشَتْ أَرْضَهَا وَ تَوَسَّدَتْ كَفَّهَا فِی مَعْشَرٍ أَسْهَرَ عُیُونَهُمْ خَوْفُ مَعَادِهِمْ وَ تَجَافَتْ عَنْ مَضَاجِعِهِمْ جُنُوبُهُمْ «(6)

ص: 290


1- نفسه: 17 / 120
2- ينظر ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 5/ 192 - 193
3- ينظر التستري، بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 10 / 75
4- ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 5/ 193
5- شرح نهج البلاغة: 17 / 121
6- نفسه: 16 / 99

ففي قوله ( عركت بجنبها بؤسها ) كناية عن الصبر على نزول المصائب والبؤس يقال «: عرك فلان بجنبه الاذى، إذا اغضى عمن يؤذيه وصبر على فعله، ويلازم ذلك عدة فضائل كالحلم والكرم والعفو والصفح والتجاوز وكظم الغيظ واحتمال المكروه والعفة ونحوها »(1) . وقوله (وهجرت في الليل غمضها) كناية عن احياء النفس ليلها بعبادة ربها واشتغالها بذكره، و(تجافت عن مضاجعهم جنوبهم) كناية، إذ ان اجسامهم لم تكن لتستقر على فراشها خوفا من معادها واشتغالا بما يصلح اخرتها.

قوله (عليه السلام) لابن عباس: « فَلَمَّا رَأَیْتَ الزَّمَانَ عَلَی ابْنِ عَمِّكَ قَدْ كَلِبَ وَ الْعَدُوَّ قَدْ حَرِبَ وَ أَمَانَةَ النَّاسِ قَدْ خَزِیَتْ وَ هَذِهِ الْأُمَّةُ قَدْ فَنَكَتْ وَ شَغَرَتْ قَلَبْتَ لاِبْنِ عَمِّكَ ظَهْرَ «(2)

في قوله ( قلبت لابن عمك ظهر المجن ) كناية عن العداوة بعد الصداقة، وضرب مثلاً لمن فعل ذلك.

قوله (عليه السلام) في كتاب بعثه الى اهل مصر مع مالك الاشتر لمَّا ولَّه إمارتها: « وَإِنَّ أَخَا الْحَرْبِ الْأَرِقُ وَمَنْ نَامَ لَمْ یُنَمْ عَنْهُ وَالسَّلاَمُ «(3)

حيث نبههم على من يكون اهلاً للحرب وهو ( الارق ) وكنى به عن كبير الهمة إذ كان من لوازمه قلة النوم.

الشكل الثالث:

دليل >> مدلول

(أ، ب) = (ج، د) >>> (أ، ب) [....]

ص: 291


1- ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 5/ 111
2- شرح نهج البلاغة: 16 / 81
3- نفسه: 17 / 109

وينطبق هذا الشكل على التشبيه التمثيلي الذي يكون قائماً على المشابهة بين البنى، حيث يمثل العنصر (أ) بالنسبة للعنصر (ب) ما يمثله العنصر (ج) بالنسبة للعنصر (د)(1). ومن أمثلة هذا الشكل في رسائل الامام علي:

قوله (عليه السلام) الى معاوية: « فَلَقَدْ خَبَّأَ لَنَا الدَّهْرُ مِنْكَ عَجَباً إِذْ طَفِقْتَ تُخْبِرُنَا بِبَلَاءِ اللّهِ تَعَالَی عِنْدَنَا وَنِعْمَتِهِ عَلَیْنَا فِی نَبِیِّنَا فَكُنْتَ فِی ذَلِكَ كَنَاقِلِ التَّمْرِ إِلَی هَجَرَ أَوْ دَاعِی مُسَدِّدِهِ إِلَی النِّضَالِ «(2)

يشبّه الامام حال حمل معاوية الخبر بما أخبر به الى معدنه الذي هو أولى به منه بحال حامل التمر الى هجر، أي الى معدنه لينتفع به، فَهَجَر مدينة معروفة بكثرة التمر فيها، ويمكن تجسيد هذا التمثيل بالعلاقة التالية:

أ.: معاوية يحمل خبر حال النبي وما انعم الله به على اهل بيته من اصطفائه له لدينه.

ب. بالمخبر به الامام علي (عليه السلام).

ج. جناقل التمر / الانسان يدعو الى المراماة.

د. دهجر / مسدّده واستاده .

فالتمثيل هنا قائم على علاقة تشابه بين بنيتين، أي هو حاصل لا بين ما يحمله معاوية ويُبر به وبين مستبضع التمر فحسب أو بين معدن الخبر وأهله وهَجَر فحسب، وانما هو حاصل بين (أ) في علاقتها ب-(ب) وبين (ج) في علاقتها ب-(د). ينتج عن هاتين البنيتين عناصر اربعة يمكن المطابقة بينها بسهولة ويسر بين البنية (أ، ب) والبنية (ج، د). وقد

ص: 292


1- ينظر: الصورة الحجاجية في الخطابة السياسية لدى الامام علي (عليه السلام): 204
2- شرح نهج البلاغة: 15 / 85

اطلق عبد الله صولة على هذا الشكل نعت (النموذج) ؛ لكونه مشتملاً على كافة العناصر التي تتكون منها البنيتان المشبه بها والمشبهة (1). ومثل ذلك:

1. قوله (عليه السلام) الى عمرو بن العاص: « فَإِنَّكَ قَدْ جَعَلْتَ دِینَكَ تَبَعاً لِدُنْیَا اِمْرِئٍ ظَاهِرٍ غَیُّهُ مَهْتُوكٍ سِتْرُهُ یَشِینُ اَلْكَرِیمَ بِمَجْلِسِهِ وَ یُسَفِّهُ اَلْحَلِیمَ بِخِلْطَتِهِ فَاتَّبَعْتَ أَثَرَهُ وَ طَلَبْتَ فَضْلَهُ اِتِّبَاعَ اَلْكَلْبِ لِلضِّرْغَامِ یَلُوذُ بِمَخَالِبِهِ وَ یَنْتَظِرُ مَا یُلْقَی إِلَیْهِ مِنْ فَضْلِ فَرِیسَتِهِ فَأَذْهَبْتَ دُنْیَاكَ وَ آخِرَتَكَ «(2) . حيث نجد ان التشابه في العلاقة قائم بين بنيتين:علاقة (أ) ب-(ب) مثل علاقة (ج) ب-(د). أي أنَّ عمرو بن العاص في علاقته بمعاوية في اتباع اثره وطلب فضله مثل علاقة الكلب بالضرغام يلوذ بمخالبه وينتظر ما يلقى اليه من فضل فريسته.

أ. عمرو بن العاص ( تابع )

ب. معاوية ( متبوع )

ج. الكلب ( تابع )

د.الضرغام ( متبوع )

2. قوله (عليه السلام) الى عثمان بن حنيف: « وَأَنَا مِنْ رَسُولِ اللّهِ كالصنو مِنَ الصنو وَالذِّرَاعِ مِنَ الْعَضُدِ «(3) . فيكون شكل التشبيه في هذا التمثيل كالآتي:

أ. الامام علي (عليه السلام)

ص: 293


1- ينظر: الحجاج في القرآن الكريم: 255
2- شرح نهج البلاغة: 16 / 78
3- ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 5/ 95 ، اعتمدنا هذا النص بحسب ما جاء عن ابن ميثم البحراني دون المعتزلي لاعتقادنا بصحة هذه الرواية

ب. رسول الله (صلى الله عليه وآله )

ج. الصنو / الذراع

د. دالصنو / العضد

وقد يختلف شكل التمثيل بحسب تعدد عناصره المذكورة، فقد تكون تلك العناصر أربعة كما في المثالين السابقين وقد تكون اكثر من اربعة او اقل، إذ قد يكون انعقاد التشبيه التمثيلي بين عناصر متعددة من الجهتين المشبه والمشبه به تزيد على هذا العدد ( النموذج) او الحد المثالي (أ، ب) (ج، د) وخصوصاً من جهة الممثل به، فقد تتعدد عناصره تعدداً كبيراً.

1. قوله (عليه السلام) في وصيته الى ولده الحسن (عليه السلام): (إِنَّمَا مَثَلُ مَنْ خَبَرَ الدُّنْیَا كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ نَبَا بِهِمْ مَنْزِلٌ جَدِیبٌ فَأَمُّوا مَنْزِلاً خَصِیباً وَ جَنَاباً مَرِیعاً فَاحْتَمَلُوا وَعْثَاءَ الطَّرِیقِ وَ فِرَاقَ الصَّدِیقِ خُشُونَهَ السَّفَرِ وَ جُشُوبَهَ المَطْعَمِ لِیَأْتُوا سَعَهَ دَارِهِمْ وَ مَنْزِلَ قَرَارِهِمْ، فَلَیْسَ یَجِدُونَ لِشَیْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَلَماً وَ لَا یَرَوْنَ نَفَقَهً فِیهِ مَغْرَماً وَ لَا شَیْءَ أَحَبُّ إِلَیْهِمْ مِمَّا قَرَّبَهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِمْ وَ أَدْنَاهُمْ مِنْ مَحَلَّتِهِمْ وَ مَثَلُ مَنِ اغْتَرَّ بِهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا بِمَنْزِلٍ خَصِیبٍ فَنَبَا بِهِمْ إِلَی مَنْزِلٍ جَدِیبٍ فَلَیْسَ شَیْءٌ أَكْرَهَ إِلَیْهِمْ وَ لَا أَفْظَعَ عِنْدَهُمْ مِنْ مُفَارَقَهِ مَا كَانُوا فِیهِ إِلَی مَا یَهْجُمُونَ عَلَیْهِ یَصِیرُونَ إِلَیْهِ)(1) ففي هذا النص ضرب الامام علي (عليه السلام) مثلين أحدهما لِمَنْ خبر الدنيا والثاني لمن اغتر بها وقد انبنت هذه العلاقة على الشكل التالي:

دليل مدلول (أ) [.....](ج، د)

ص: 294


1- شرح نهج البلاغة: 16 / 40

(أ): من خبر الدنيا

[....]:

(ج): قوم سفر نبا بهم منزل جديب

(د): أموا منزلاً خصيباً

--------

أ. : من اغتر بالدنيا

أ[....]:

أ. (ج): قوم كانوا بمنزل خصيب

أ. (د): نبا بهم الى منزل جديب

----------

ومن الواضح ان هذا التمثيل ينخرط في شكل تمثيلي خاص تتعدد فيه عناصر التمثيل الى اكثر من عنصرين يمكن اختزالها في الشكل اعلاه دفعاً للتعقيد وتبسيطاً له. كذلك ورود هذا الشكل في كتاب امير المؤمنين (عليه السلام) الى سلمان الفارسي (رحمه الله)

التالي:

قوله ( ع ): « أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا مَثَلُ اَلدُّنْیَا مَثَلُ اَلْحَیَّهِ لَیِّنٌ مَسُّهَا قَاتِلٌ سَمُّهَا فَأَعْرِضْ عَمَّا یُعْجِبُكَ فِیهَا لِقِلَّهِ مَا یَصْحَبُكَ مِنْهَا« (1)

فتكون بنية التمثيل قائمة على الشكل التالي:

أ. : حال الدنيا .ب[....]:

ج. (ج): الحية

د. (د): ليّن مسها قاتل سمّها

ص: 295


1- شرح نهج البلاغة: 18 / 15

أما الشكل التصويري الثالث من اشكال التمثيل فهو كالتالي:

دليل >>> مدلول [....]

[....] >>> (ج، د)

حيث يلاحظ غياب المشبهات او الممثلات فيكون التمثيل مسوقاً على وجه الاستعارة، كما في المثال التالي:

قوله (عليه السلام): « وَكَأَنِّي بِقَائِلِكُمْ يَقُولُ إِذَا كَانَ هذَا قُوتُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَدْ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ عَنْ قِتَالِ الاَْقْرَانِ وَمُنَازَلَةِ الشُّجْعَانِ أَلاَ وَإِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرِّيَّةَ أَصْلَبُ عُوداً وَالْرَّوَائِعَ الْخَضِرَةَأَرَقُّ جُلُوداً وَالنَّابِتَاتِ العِذْيَةَ أَقْوَى وَقُوداً وَأَبْطَأُ خُمُوداً«(1)

وبملئ المحل الشاغر نجد ان الشكل اعلاه قد استجاب الى الشكل النموذج بحيث يصبح تشابه العلاقة قائمة على بنيتين هما:

[....]: قلة طعام الامام وجشوبة المطعم.

[....]: صلابة اعضاء الامام وقوته.

(ج): قلة غذاء الشجرة البرية وسوء رعيها.

(د): صلابة عود الشجرة البرية وقوتها.

----------

[....]: النضارة والرقة الحاصلة من ترف ولين مطعم خصوم الامام واقرانه كمعاوية .

[....]: الضعف عن المقاومة وقلة الصبر على المنازلة والميل الى الدعة والرفاهية.

(ج): الرواتع الخضراء.

(د): رقة الجلود ولينها.

ص: 296


1- نفسه: 16 / 141

[....]: قلة طعام الامام وجشوبة المطعم .

[....]: اقوى على سعير نار الحرب واصبر على وقدها وابطأ فتوراً فيها وخموداً.

(ج): النباتات العذية.

(د): بطئ وقدها بالنار وبطئ فتورها واخمادها.

---------

ومن امثلة هذا الشكل أيضا:

قوله (عليه السلام) الى معاوية: « وَأَمَّا تِلْكَ الَّتِي تُرِيدُ فَإِنَّهَا خُدْعَةُ الصَّبِيِّ عَنِ اللَّبَنِ فِي أَوَّلِ الْفِصَالِ وَالسَّلاَمُ لأَهْلِهِ «(1)

في هذا المثال يمثل الامام (عليه السلام) إدعاء معاوية القصاص من قتله عثمان بمخادعة الصبي عن اللبن في اول الفصال، وهي خدعة أراد من ورائها معاوية إقرار الإمام له على إمارة الشام:

[....]: معاوية يطلب القصاص من قتلة عثمان

[....]: إمارة الشام.

(ج): خدعة الصبي

(د): الفصال

-----------

وقد يخرج التمثيل الى تجسيد الشكل التالي:

دليل>>> مدلول

( أ، ب) >>>> ج [....]

وهي بنية طريفة على نحو ما، ووجه الطرافة فيها ان بنية الممثَّل وهي التي جاءت تامة تضئ بنية الممثل به التي جاءت مشتملة على محل شاغر [....]، وذلك على عكس ما

ص: 297


1- شرح نهج البلاغة: 17 / 122

ينتظر من التمثيل عادة(1) . وهذا ما نجده في الصورة البيانية التي يقدمها لنا الامام في:

قوله (عليه السلام) الى كميل بن زياد يوبخه وينكر عليه تركه دفع من يجتاز به من جيش العدو طالباً الغارة: « وَإِنَّ تَعَاطِیَكَ الْغَارَهَ عَلَی أَهْلِ قِرْقِیسِیَا،وَتَعْطِیلَكَ مَسَالِحَكَ الَّتِی وَلَّیْنَاكَ لَیْسَ بِهَا مَنْ یَمْنَعُهَا،وَلَا یَرُدُّ الْجَیْشَ عَنْهَا لَرَأْیٌ شَعَاعٌ.فَقَدْ صِرْتَ جِسْراً لِمَنْ أَرَادَ الْغَارَهَ مِنْ أَعْدَائِكَ «(2)

فقد استدعى لفظ (جسر) تشبيها لكميل بن زياد، باعتبار عبور العدو عليه الى غرضه. أي كما ان الجسر وسيلة لعبور النهر كذلك تعطيل المسلحة وسيلة لعبور العدو الى البلاد ونيله المراد. وروي (حسراً) وهو ايضاً مجاز باعتبار خلو مسالحة من العسكر الذي يقي به العدو، فهو كالحاسر عديم اللامة(3) . وبخصوص ما نحن بصدده من تبيان الشكل او البناء التشبيهي، فان الطبيعة التي تحكم هذا المثال تجعلنا نخرج به عن الشكل الذي بناه برلمان واعتمده عبد الله صولة في تحليله لأشكال الصور الفنية التي وردت في القرآن الكريم(4) . وبعبارة اخرى أنَّ هذا المثال قد كسر القاعدة او الشكل الذي وضع للاستعارة وعبر الى الشكل الذي قوامه التمثيل باعتبار وجود بنيتين حاصل فيهما تشابه في العلاقة أو أنَّ الاشكال الموضوعة للتمثيل لا تكون حكراً على التمثيل وحده ؛ بل قد تنطبق على الاستعارة ايضا. والاستعارة وحدها دون أن تكون مسوقة على وجه التمثيل وهو ما لم يشر اليه صولة. وسوف نوضح هذا المثال في محله.

ص: 298


1- ينظر: الحجاج في القرآن الكريم: 552
2- شرح نهج البلاغة: 17 / 71
3- ينظر: ابن ميثم البحراني: شرح نهج البلاغة: 5/ 188
4- ينظر: الحجاج في القرآن الكريم: 552

نخلص مما سبق ومن خلال الامثلة الواردة ان الاشكال التصويرية المتواترة في رسائل الامام علي (عليه السلام) هي:

دليل مدلول

* استعارة: (أ) = (ج) (أ) [....]

* كناية: (أ) يجاور(ج) (أ)[....]

* تمثيل:(أ، ب) = (ج، د) (أ، ب) [....]

تمثيل: (أ) [....] (ج، د)

تمثيل: [....] [....] (ج، د)

تمثيل: (أ) = (ب) (ج) [....]

إذ أنَّ مدار الحجاج في هذه الاشكال جميعها هو المحل الشاغر الذي اصطلحنا عليه بالعلامة [....] وهو غاية التصوير ومبتغاه، وهذا الشاغر مرهون بالكفاية الثقافية والفكرية والاستدلالية والعقدية والنفسية للمتلقي، إذ تقع عليه مهمة ملء هذا الشاغر واماطة اللثام عن الطبيعة او القاسم المشترك الذي جمع عناصر الصورة، أي الكشف الضمني عن السبب الرابط بين المعلومة الجديدة التي تمثل الدعوى المقامة والمعلومة القديمة التي تمثل الصورة وهذا ما سنأتي على تفصيله وتبيانه في قادم البحث.

المحل الشاغر في الصورة وابعاده الحجاجية:

لبيان طبيعة المحل الشاغر ومعرفة كنهه، لابد من التوقف عند بعض المصطلحات المرتبطة بهذا المفهوم والحافّة به، إذ ان استخدام المجاز مؤد الى ظهور ( المفهوم ) حتماً، والذي حدّه اللسانيون بأنَّه « ما يُفهم ولا يُصرح به «(1) ، أي هو « ما يستنبط من المنطوق

ص: 299


1- نقلاً عن: الحجاج في القرآن: 264 C.K.Orecchioni، Limplicite، op. cit.، p: 45

«(1) ، ويجيء دائمًا جواباً عن اسئلة من قبيل « لَمِ قال المتكلم ما قال وما حداه الى أنْ يقوله ؟ «(2) .

وتجمل اوركيوني تعريف (المفهوم) بقولها: « يشمل المفهوم جميع المعلومات التي من شأنها أنْ يحملها ملفوظ ما على أنْ يكون تحقق تلك المعلومات رهين بعض الخصوصيات التي للمقام، وآية ذلك أنَّ جملة من قبيل ( إنها الساعة الثامنة ! ) يمكن أنْ يفهم منها بحسب ظروف قولها (اسرع)، كما يمكن ان يفهم منها ( ترّيث ) «(3). يفهم من ذلك ان المفهوم يكون بمنزلة ( المقتضى ) من حيث هو دلالة لازمة عن المعنى الحرفي الناشئ عن الملفوظ، فكما ان المقتضى منغرس في الملفوظ فإن (المفهوم) هو معنى قابع في صلب الملفوظ ايضاً. ومن زاوية اخرى فإن المفهوم يستمد طاقته الحجاجية من كونه (يورّط) المتلقي في انتاج الدلالة في الكلام موجهاً إياه بواسطة (المقام)، اي ان المفهوم يترك للمتلقي استخراجه والتوصل اليه بواسطة المقام، وهو أمر يجعله - المفهوم- عديم الاستقرار قلقاً متنوعاً بحسب الطبيعة المقامية.

ويرى الدكتور عبد الله صولة: إن المفهوم لا يكون مرتبطاً بالمقام دائماً، فقد يفهم من الكلام معان ليست رهينة المقام، وانما هي منغرسة شأن المقتضى في كيان الملفوظ نفسه سواء ورد هذا الملفوظ على الحقيقة او على المجاز وخصوصاً اذا كانت مادة الصورة المجازية مأخوذة من عالم خطاب المتلقين ومألوفة لديهم ومرتبطة عندهم بدلالة معينة، مثل ارتباط الاسد بالشجاع والحمار بالبليد في مجازات العرب(4) . فقولنا (هو اسد) مؤد الى ظهور مفهوم له هو (اذن هو شجاع) سواء قدر له مقام او لم يقدر، في حين تمثل كلمة

ص: 300


1- نفسه: 264
2- نفسه: 265
3- نفسه: 265
4- ينظر: الحجاج في القرآن الكريم: 557 ، 558

(شجاع) في تقديرنا السابق المحل الشاغر[....] على أن هذه المعرفة القبلية او المنقدحة في ذهن المتلقي لأول وهلة بوصفها معلومة قديمة لا يتدخل المقام في تحديد دلالتها، تمثل بداية الانخراط في دورة ذلك الكلام الحجاجية والانصياع لمنطق الكلام المؤذنة بحصول الاذعان(1) . إذن هي عملية استدراج المتلقي لإدراك طبيعة العلاقة القائمة وتحديدها وملء المحل الشاغر من خلال المفهوم وبواسطة اداة الاستنتاج (اذن).

ومن هنا نجد أن المحل الشاغر يمثل حلقة الوصل والقاسم المشترك بين المعلومة او العنصر الجديد (أ) باعتبارها « مما لا يمكن تمثله او قبوله او استساغته في سهولة ويسر «(2) والعنصر (ج) باعتباره المعلومة القديمة المسلم بها من قبل المتلقين. وبعبارة اكثر وضوحاً، فأن العدول الذي يحققه المجاز من (أ) وهي الدعوى الجديدة الى (ج) التي تمثل المعلومة القديمة هو عدول حجاجي تتجلى حجاجيته في كون (أ) « تمثل حكماً هو موضوع اعتراض بطريقة او بأخرى او هو يقدر له ان يكون كذلك «(3) ، وذلك كالحكم على شخص بأنه بليد او شجاع او كريم...... وغيرها. اما (ج) ولكونها محل تسليم وقبول من طرف الجميع فهي تعمل على دعم (أ) وذلك « تثبيتاً لدعوى بلادته او شجاعته او كرمه وتأجيلاً لإمكان الاعتراض على الدعاوى المذكورة «(4) .

فالصورة عادةً تفرز محلاً شاغراً في الكلام يتشكل عبر منظومتين من العلاقات يؤدي الى جعل الكلام نصفين احدهما منطوقاً او مصرحاً به، ومفهوماً لسد ذلك المحل الشاغر. أي « أن الصورة كلام نصفه وهو المصرح به من صنع النص او المتكلم ونصفه وهو الضمني من صنع المتلقي وهذا الوضع هو الذي يكفل للصورة قدرتها الحجاجية

ص: 301


1- نفسه: 558
2- الحجاج في القرآن الكريم: 634 - 635
3- عبد الله صوله، اليلاغة العربية في ضوء البلاغة الجديدة، ضمن الحجاج ، مفهومه ومجالاته: 1/ 42
4- نفسه: 1/ 42

«(1) . وهو أمر يدفع بالمتلقي الى تحريك ملكاته وطاقاته الاستنتاجية لملء هذا الشاغر، فهي « نتيجة تأويلية «(2) بتعبير ميشيل لوكيرن، يتم من خلالها تناقل الادوار بين طرفي المنطوق والمضمر، أي الانتقال -من طرف المخاطب- من المصرح به الى الضمني بواسطة مسار استدلالي. وهذا المسار يتم عبر المرور من المعطى (الدليل) الى النتيجة (المدلول) اعتماداً على ما اسماه تولمين ب- « قانون العبور «(3) .

هذا القانون يسمح للمخاطب بمواصلة عملياته الاستدلالية بواسطة:

الضمان: الذي يكون حاصله هو عالم المتلقين وكفاياتهم الثقافية والنفسية والعقدية.

- اداة الاستنتاج (اذن): التي تعمل انطلاقاً من الضمان على ملء المحل الشاغر [....].

وبتحقيق هذه النتيجة يتحقق الفعل الحجاجي الذي هدف فيما هدف إليه انخراط المتلقي وانصياعه لمنطق الكلام وحصول الاذعان ومن ثم الاقناع وبذلك يكمن البعد الحجاجي لهذه العملية في « اعتماد المتكلم على المضمر في الدفاع عن اطروحته «(4) . وعلى هذا الاساس فإن المحل الشاغر يشكل بؤرة الحجاج وتاجه، وما يؤيد ذلك هو انطواؤه واستتاره، إذ يدعى المتلقي الى إماطة اللثام عنه انطلاقاً من عناصر الصورة ليتم عبر هذهالعناصر، والتي هي محل اتفاق ، قبول واستساغة المعلومة الجديدة ليتم على اساسها استدراج المتلقي الى القيام بعملية استدلالية ينتقل فيها من المفهوم الضمني الاول للقول

ص: 302


1- الحجاج في القرآن الكريم: 562 - 563
2- ميشيل لو كيرن، الاستعارة الحجاجية، ت: عبد الطاهر وعزيز، مجلة المناظرة، ع: 4، 1991 : 88
3- ينظر: حجاجية الصورة في الخطابة السياسية لدى الامام علي (عليه السلام): 209
4- عبد العزيز لحويدق، الاسس النظرية لبناء شبكات قرائية للنصوص الحجاجية ( ضمن: الحجاج ، مفهومه ومجالاته ): 1/ 351

المجازي الى مفهوم ثاني للصورة وهو النتيجة المتوخاة من العملية الاستدلالية. واذا استحضرنا الاشكال الصورية السابقة لبيان مسار الحجاج فيها فإننا سنحصل على التالي:

الشكل الاول: (أ) = (ب) (أ) [....] ومسار الحجاج فيه:

يتواتر هذا الشكل في رسائل الامام علي (عليه السلام) بشكل لافت، حتى يمكن القول انه الشكل الحجاجي الغالب في هذه الرسائل. ومدار هذا الشكل هو الاستعارة، إذ تختفي في هذا الشكل اغلب اركان التشبيه ويصل فيه التقارب بين طرفيه حدّ المطابقة بين المستعار له والمستعار منه مما يفسح المجال امام المتلقي في حرية الاستنتاج، والاستدلال، والتأويل الحجاجي.

وقد اكتفينا بعدد من الامثلة التي اشرنا اليها آنفاً مقتصرين في ادراجها على رقم المثال وبعرض مفاده ونجدوله بالشكل التالي:

ص: 303

صورة

ص: 304

صورة

ص: 305

صورة

ص: 306

صورة

ص: 307

صورة

ص: 308

صورة

ص: 309

صورة

ص: 310

صورة

ص: 311

يتضح مما سبق إنَّ البعد الحجاجي الذي تضطلع به هذه الصور المنخرطة في أشكال قائمة على الاستعارة والكناية والتمثيل يكمن في « دفعها المتلقي إلى الإسهام في إنتاج قسم من كلام الصورة هو القسم الضمني، وذلك بالانطلاق من القسم المصرح به فيها »(1) . الأمر الذي يعمل على حصر المتلقي في زاوية حرجة تضطره إلى التأجيل أو التريث في الاعتراض على ما توصل إليه بنفسه أو الاعتراض على الحكم الذي يأتي به الكلام، إذ من السهل ان يعترض المتلقي على ما يطرحه المتكلم من أطروحة أو رأي، ولكن من الصعب ان ينفي ما يتوصل إليه من استنتاج قائم على طبيعة المفهوم الأول الذي تأتي به الصورة الداعمة للطرح المقدم ؛ لان الأخيرة بطبيعتها أو يفترض ان تكون محمّلة بمعارف جمهور المخاطبين، وهذا ما أشارت إليه لوكيرن حينما ذكرت: « انه من السهل دائما ان ننفي ما يقوله من يتحدث إلينا أكثر مما يسهل ان ننفي ما نستنتجه نحن عن طريق عملية تأويلية »(2) . ولتوضيح الأمر أكثر نجد انه من السهل على المخاطب ان ينكر أو يعترض على قضية من قبيل ان البصرة مهبط الفتن والأباطيل و الآراء الفاسدة وهم أصحاب الجمل (مثال 11 )، فيكون جوابه (ليس البصرة كذلك) ولكنه لا يستطيع ان ينكر المفهوم الحاصل من لفظ إبليس كونه مبدأ الآراء الباطلة والأهواء الفاسدة المستلزمة لإثارة الفتن والشبهات والوساوس 0 وقد يستطيع المخاطب ان ينكر أو يعترض على كون أهل البصرة قد انحلّت قواهم وضعفوا وتفرقوا لنكثهم بيعة الإمام (عليه السلام) (مثال 7)، ولكنه لا يستطيع ان يعترض على كون الحبل إذا انحل فتله وانتشر تفرقت طاقاته وضعفت قواه 0 وله ان لا يقبل ان يكون بنو أمية قد افشوا الخوف وجعلوه ملازما لبني هاشم أيام الدعوة الإسلامية (مثال 8) ولكن ليس بوسعه ان يرفض أو يعترض على كون (الحلس)

ص: 312


1- الحجاج في القران الكريم: 576
2- الاستعارة والحجاج: 88

ملازما له 0 وربما يعترض معترض على كون التوحيد لله عز وجل والسنة النبوية الشريفة هما قوام الدين الإسلامي الحنيف (مثال 9) ولكنه لا يستطيع إنكار كون عمود البيت هو سبب وقوفه وعليه مداره وبنيانه إذ بقيامه يقوم البيت 0 كذلك من شأنه ان يعترض على القول بتقلب الدهر وعدم ضبط تغيراته وتصريفاته الخارجة عن إرادة الإنسان واختياره ولكن لا سبيل إلى الاعتراض على الجامح من الخيل إذا غلب صاحبه فلم يملكه ويتمكن من قياده وترويضه (مثال 10 ). وهكذا الحال في كل الأمثلة الواردة وغيرها فللمتلقين أنْ يعترضوا على الدليل المقدم من قبل المتكلم ولكن ليس بمقدورهم الاعتراض على مضمون الضمان، إذ تضطرهم الصورة في مرحلة أولى إلى التسليم بالمفهوم الأول الحاصل منها كونه من عالم خطابهم ووعيهم ؛ ولكنَّهم يجدون أنفسهم في مرحلة ثانية مجبرين على أنْ يستنتجوا انطلاقا من ذلك المفهوم الأول، مفهوما ثانيا قوامه: إن البصرة مهبط أصحاب الجمل الذين يجمعون صفات الخبث والنفاق وإثارة الفتن والوسوسة والآراء الفاسدة، وكون البيعة سبب جامع للمسلمين وناظم لأمورهم وعدم انعقادها لأمير المؤمنين (عليه السلام) مؤد إلى تفرق المسلمين وتشتت شملهم وانحلال قوتهم وتلاعب الفتن والشبهات بهم، وكون بني أمية كانوا أكثر الناس حربا للدين الإسلامي ولرسول الله (ص) أيام الدعوة، الأمر الذي جعلهم يشيعون الخوف والرهبة في قلوب الهاشميين لا هوادة لهم في ذلك حتى أتم الله نوره، وكون التوحيد والسنة النبوية المطهرة هما أس الإسلام ومداره إذ لا قوام للدين بدونهما، وأن الدهر متغير متقلب في طبعه لا يمكن ضبط تصريفاته وتغيراته الخارجة عن إرادة الإنسان واختياره 0

وهكذا في بقية الأمثلة حينما يستنتج المتلقي من المفهوم الأول مفهوما ثانيا بواسطة كفايته الاستدلالية والتأويلية وهي عملية يتم من خلالها (استدراج) المتلقي إلى قبول الأطروحة التي يقدمها المتكلم 0 وبذلك يكون الإمام (عليه السلام) قد مهد الطريق وأزال العقبات أمام خطابه لينفذ إلى عقول وقلوب متلقيه أو هي بمثابة نقطة الاشتراك

ص: 313

والالتقاء الأولى بينه وبين مخاطبيه وخصوصا خصومه ومنكري حقه ومن عصوا أوامره، فكان من الطبيعي ان يشحن خطابه/ رسائله بهذا الكم الهائل من الصور والأشكال الفنية التي تقود المتلقي من حيث لا يشعر نحو الانخراط في حوارية تستلزم الاستنتاج والتأويل ومن ثم الدفع باتجاه توظيف إمكانات المخاطب لأنْ « يتوصل بنفسه إلى نتيجة الخطاب عبر تفكيك الصورة وتحليل ما خفي من معناها فيصعب عندها رفض ما استنتجه بنفسه وردّ ما انتهى إليه تأويله»0(1) فإذا تم هذا الاستدراج أو يمكن ان يصطلح عليه بقانون العبور فإن ذلك يدفع المخاطبين إلى « تغيير أفق انتظارهم عبر تحفيز هممهم وتحريك ما توارى في أعماق أنفسهم من بقايا العزة والشهامة والكرامة، وذلك سعيا لتبرئة نفوسهم من صفات التقاعس والمروق والعصيان التي وصفوا بها ومن نعوت الكفر والظلم والفسق والنفاق التي ألصقت بهم وبذلك يتحقق الإذعان الذي هو غاية كل حجاج كما يقول برلمان »(2)

ص: 314


1- سامية الدريدي، دراسات الحجاج: 127
2- حجاجية الصورة في الخطابة السياسية لدى الإمام علي (عليه السلام): 214

المبحث الثالث: الصورة الحجاجية وحكم القيمة

اشارة

يبدو أن هناك قسما من الكلمات إضافة إلى جانب تعيينها الشيء المتحدث عنه، تلتبس بشحنة ذاتية عالقة بها في الأصل اللغوي. وتنقسم هذه الوحدات المشحونة على وحدات معجمية تقويمية ووحدات معجمية عاطفية، وهذه الوحدات بفعل استخدامها فيسياقاتها وبفعل حمولتها الفكرية والعاطفية فأنها تشي القول أو الخطاب بحكم قيمي يدفع باتجاه تحقيق الغاية الاقناعية والتأثيرية عن طريق توجيه الخطاب، فضلا عن توجيه المتلقي.

والتقويم في اصطلاح الفلاسفة هو تحديد قيمة الشيء بإطلاق حكم قيمي عليه يرفعه أو يحطه بالنسبة إلى معايير أو مبادئ كونية قوامها العقل أو التواضع الاجتماعي أو ذاتية عاطفية خاصة (1) . ويقسم الحكم القيمي عند فلاسفة الأخلاق وعند علماء اللسان أيضا على قسمين هما:

1. تقويم غير أخلاقي يتعلق بالمقادير مثل: كثير / قليل، والإحجام مثل: كبير/ صغير والمسافات مثل: بعيد/ قريب، ودرجات الحرارة مثل: حار/ بارد وغير ذلك.

وهذه كلها كلمات تفيد تقويما.

ص: 315


1- ينظر: الحجاج في القران الكريم: 129 - 130

1. تقويم أخلاقي: وهو إلقاء حكم قيمي أخلاقي على الأشياء مثل: حسن/ قبيح.

إن المقومات الأخلاقية وغير الأخلاقية هي عبارة عن وحدات معجمية: (أفعال، صفات، أسماء) ذات محتوى تقويمي من شأنها إذ ترد في ملفوظ ما ان توجه توجيها تقويميا مخصوصا يبرز موقف المتكلم من الأشياء التي يتحدث عنها حديثا تقويميا، انه موقف يقفه المتكلم في خضم التفاعل بينه وبين أطراف التخاطب الأخرى، فهو من اجل ذلك يبطن ضربا آخر من التوجيه غير توجيه القول والمقول، هو توجيه الطرف المقابل إلى فعل ما. وليس هذا التوجيه إلا نتيجة حتمية لتوجيه القول والمقول)(1) ، وهذا ما أشارت إليه النظرية الأخلاقية التي أوجدها (هير) كرد فعل للنظرية الانفعالية حيث تقتضي هذه النظرية (الأخلاقية) دراسة الملفوظات الأخلاقية على اعتبار الملفوظ الأخلاقي توجيها للعمل لا مجرد تعبير عن انفعال أو دعوة إلى عمل شيء فهو بذلك كلام إلزامي يلزم بالعمل ولا يكتفي بالدعوة إليه بواسطة الترغيب والتنفير(2) . ولذلك يقول (هير): « إن قولنا عن شيء ما هو حسن يعبر عن استحسان عملي من لدننا ، وإن قولنا عن شيء آخر هو قبيح يعني إننا ضده فنحن نعبر عن استقباحنا إياه »(3) . وهذا ما يجعل للكلمة ذات التقويم الأخلاقي وظيفة توجيه العمل 0 أما الحكم الأخر فهو حكم عاطفي منبعث من الوجدان أساسا ومحوره هو عادة الرغبة / الرهبة، وإن كان محور الألفاظ ذات حكم القيمة الأخلاقي ومحور الألفاظ ذات الحكم العاطفي متداخلين، فألفاظ كليهما أخلاقية عاطفية معا بعبارة اوركيوني 0(4) وفي كلا الحاليين فإن الغاية التي تحققها القيمة الأخلاقية للملفوظ أو القيمة العاطفية له تنخرط في توجيه عمل المتلقي

ص: 316


1- ينظر: نفسه: 324
2- ينظر : نفسه: 151
3- ينظر: نفسه : 150
4- ينظر: الحجاج في القران الكريم: 587

وسلوكه ومن ثم حصول الإذعان من قبله. وما دمنا مشتغلين في إطار المهمة الحجاجية التي تنهض بها الصورة الفنية في رسائل الإمام علي (عليه السلام) فإننا نحاول ان نسلط الضوء على البعد القيمي الذي تحمله مادة الصورة سواء ببعده الأخلاقي أو العاطفي والغاية التي من اجلها استخدم هذا البعد وهو بلا شك غاية اقناعية وتأثيرية.

1- حكم القيمة الأخلاقي:

ونجده على سبيل المثال في الأمثلة التالية:

1. قوله (عليه السلام): « فَإِنْ عَادُوا إِلَی ظِلِّ الطَّاعَةِ فَذَاكَ الَّذِي نُحِبُّ «(1)

2. قوله (عليه السلام): « وَحَيْثُ تَنَاهَتْ بِكَ أُمُورُكَ فَقَدْ أَجْرَيْتَ إِلَی غَايَةِ خُسْرٍ وَمَحَلَّةِ كُفْرٍ «(2)

3. قوله (عليه السلام): « أَحْيِ قَلْبَكَ بِالَمْوعِظَةِ وَ أَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ وَ قَوِّهِ بِالْيَقِينِ وَ نَوِّرْهُ بِالِحْكْمَةِ.... «(3)

4. قوله (عليه السلام): « فَاعْلَمْ أَنَّكَ إنِّمَا تَخْبِطُ الْعَشْوَاءَ وَتَتَوَرَّطُ الظَّلْمَاءَ وَلَيْسَ طَالِبُ الدِّينِ مَنْ خَبَطَ أَوْ خَلَطَ وَالْإِمْسَاكُ عَنْ ذَلِكَ أَمْثَلُ « (4)

5. قوله (عليه السلام): « وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَداً لَ يُنْبِئْ عَنِ اللِّهَ سُبْحَانَهُ كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ الرَّسُولُ (ص) فَارْضَ بِهِ رَائِداً وَإِلَ النَّجَاةِ قَائِداً «(5)

6. قوله (عليه السلام): « وَاغْتَنِمْ مَنِ اسْتَقْرَضَكَ فِی حَالِ غِنَاكَ لِيَجْعَلَ قَضَاءَهُ لَكَ فِی

ص: 317


1- شرح نهج البلاغة: 14 / 15
2- نفسه: 16 / 4
3- نفسه: 16 / 30
4- نفسه: 16 / 34
5- نفسه: 16 / 37

يَوْمِ عُسْرَتِكَ «(1)

7. قوله (عليه السلام): « إِذَا كَانَ الرِّفْقُ خُرْقاً كَانَ الُْرْقُ رِفْقاً «(2) 8. قوله (عليه السلام): « مَنْ أَمِنَ الزَّمَانَ خَانَهُ وَ مَنْ أَعْظَمَهُ أَهَانَهُ «(3)

9. قوله (عليه السلام) :(سَلَكَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعَمَى وَأَخَذَتْ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ مَنَارِ الُهْدَى)(4)

10. قوله (عليه السلام)(وَرُبَّمَا أَخْطَأَ الْبَصِيرُ قَصْدَهُ وَأَصَابَ الْأَعْمَى رُشْدَهُ )(5)

11. قوله (عليه السلام): (فَإِنَّ الَمْرْأَةَ رَيْحَانَةٌ وَ لَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَة)(6)

12. قوله (عليه السلام): (إنِّیِ نَزَلْتُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَنْزِلًا مُعْجِبا اجْتَمَعَ بِهِ أقْوَامٌ أَعْجَبَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وَأَنَا أُدَاوِي مِنْهُمْ قَرْحاً أَخَافُ أَنْ يَكُونَ عَلَقاً)(7)

13. قوله (عليه السلام): (فَإِنَّ الْفِتْنَةَ طَالَمَا أَغْدَفَتْ جَلَبِيبَهَا وَ أَغْشَتِ الْأَبْصَارَ ظُلْمَتُهَا..... أَصْبَحْتَ مِنْهَا كَالَخْائِضِ فِی الدَّهَاسِ وَ الَخْابِطِ فِی الدِّيمَاسِ)(8)

14. قوله (عليه السلام): « أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ عَيْنيِ بِالَْغْرِبِ كَتَبَ إِلَیَّ يُعْلِمُنيِ أَنَّهُ وُجِّهَ إِلَی الَْوْسِمِ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ الْعُمْيِ الْقُلُوبِ الصُّمِّ الْأَسْمَعِ الْكُمْهِ الْأَبْصَارِ «(9)

ص: 318


1- نفسه: 16 / 42
2- نفسه: 16 / 47
3- نفسه: 16 / 56
4- شرح نهج البلاغة: 16 / 44
5- نفسه: 16 / 56
6- نفسه: 16 / 60
7- نفسه: 18 / 31
8- نفسه: 18 / 10
9- نفسه: 16 / 68

صورة

يتضح في هذا الجدول المتضمن للألفاظ التي تقوم عليها الصورة الواردة في الأمثلة آنفة الذكر، أنَّ هناك نوعين من الوحدات اللغوية، نوع أول وحداته ذات حكم قيمة أخلاقي بطبيعتها مثل (الخسر، الخرق، الرفق، الخيانة، الاهانة)، أي أن هذه الألفاظ وغيرها هي في الأصل حاملة لحكم قيمة أخلاقي سواء كانت للأشخاص أو الأعمال أو الأشياء وعلى السواء تكون أفعال أو صفات أو أسماء مع ملاحظة ان “ الصفة أكثر استعدادا من الأفعال والأسماء لا لتقويم العالم والحكم عليه فحسب، وإنما أيضا

ص: 319

لوضع هذا العالم في مراتب متفاوتة”(1) . لذلك يكسب هذا التقويم التفاضلي الأخلاقي خطاب الإمام علي (عليه السلام) في رسائله بعدا حجاجيا اظهر وأعمق مما لو كان مجرد من الكلمات التقويمية الأخلاقية، كما ان هذا النوع ، الاول - لا يرتقي أو يضاهي ما للنوع الثاني من بعد حجاجي واضح ودقيق وعميق، وذلك عندما نجد من الوحدات اللغوية التي لا تكون لها على الحقيقة أي قيمة أخلاقية وإنما اكتسبت هذه القيمة من جريانها على المجاز مثل ألفاظ: (الظل، القرض، النور، الظلمة، طريق العمى، منار الهدى، البصير، الأعمى، ريحانة، قهرمانة، القرح، العلق، الخائض في الدهاس، تخبط العشواء، تتورط الظلماء، الصم، الكمه)، إذ نجد من خلال هذه الوحدات والتراكيب اللغوية إنها وبسبب العدول بها عن الحقيقة إلى المجاز لم تحافظ على الطابع الذي لها في معجم اللغة والذي يقف بها ويجمد حركتها جمودا يجعلها محددة ومبوّبة عند معاني معينة، فيحاول المتكلم استثمار شحنتها الأخلاقية ليخرج بها لإفادة قيم أخلاقية يحددها السياق وطبيعة الاستعمال من اجل أهداف وغايات حجاجية، إذ أن الحكم على شيء بأنه حسن أو قبيح هو إشارة تعطى إلى المتلقي بضرورة تبني هذا الحكم، وهذا ما دفع هير إلى أن يخضع الكلام الأخلاقي للمنطق ويجعل الملفوظ الأخلاقي ذا بناء منطقي أو ينبغي حسب رأيه أن يكون كذلك على ان يكون هذا البناء المنطقي مفضيا إلى نتيجة ملموسة نستفيد منها في حياتنا العلمية، وهذا البناء المنطقي لما كان بناءً ضمنيا أمكن أن نقول عنه أنه بناء حجاجي، فالفضاء الضمني الذي يظهر فيه معنيا الاستحسان والاستقباح يمثل بضمنيته البعد الحجاجي الذي للألفاظ ذات أحكام القيمة الأخلاقية 0(2) ومن معاينة الجدول نجد أن كلا النوعين المشار إليهما ينهض لوظيفة حجاجية في الملفوظ الذي يرد فيه، من ذلك أن جملة (غاية خسر) هو حكم قيمة أخلاقي انتصب في الملفوظ

ص: 320


1- الحجاج في القران الكريم: 146
2- ينظر: الحجاج في القران الكريم: 152 - 153

لتحقيق البعد الاقناعي أو منح النص الطاقة الاقناعية اللازمة بفعل دوره المجازي أما وجه الحقيقة فيه فيكمن من إجراء الخيل للسباق فعدل به المتكلم عن المفهوم الأول إلى المفهوم الثاني من حيث عدم التوقف عن الأمور المتناهى عنها مستلزمة للخسران والتي هي منزلة من منازل الكفر وإجراؤه إلى تلك الغاية كناية عن سعيه وعمله المستلزم لوصوله اليها 0 والخسران مستعار وهو نتيجة حتمية وجزاء عادل “ لفقدان رضوان الله والكمالات الموصلة، وإنما جعل تلك الغاية التي اجرى إليها منزلة كفر ؛ لأنَّ الغايات الشرّيّة المنهي عن قصدها من منازل الكفار ومقاماتهم، فمن سلك إليها قصدا وبلغها إختيارا فقد لحق منازل الكفر ومحالّه”(1) . فوصف هذه الغاية ب-(الخسران) مفيدة معنى الاستقباح على أنَّه لا يفيد مجرد التحذير من السير في غير طريق الله وارتكاب ما نهى عنه من مخالفات ؛ بل يفيد أمرا بعدم المخالفة وتوجيه للعمل بذلك ودفع إلى التزام طريق الحق 0

أما لفظتا “ الخرق والرفق” فهما مستعاران، فالعجلة والإسراع إلى شيء قبل أوانه سفاهة كمن يتوقع العنب في فصل الحصرم 0 كما أن الأناة والتسامح في العمل بعد سنوح الفرصة وتحقق الإمكان سفاهة فهما مذمومان وصاحبهما كمن وضع الشيء في غير محله وهو نقصان عقل التدبير والإدارة، فالأمور مرهونة بأوقاتها المناسبة فمن تعجلهما قبل الأوان أو توانى حيث تسنح الفرصة فهو احمق 0 والى هذا المعنى ذهب أبو الطيب المتنبي في قوله:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلى *** مضرٌّ كوضع السيف في موضع الندى(2)

ص: 321


1- ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة: 4/ 405
2- ديوانه: 2/ 11

استقباح ضمني أساسه التناقض ووضع الأمور في غير نصابها الصحيح، فهي دعوة إلى العمل بواسطة تنفير المتلقي قال ابن ميثم: “ ان الرفق في بعض المواضع كالخرق في كونه مخلا بالمصلحة غالبا ومفوتا للغرض فكان استعمال الخرق في ذلك الموضع كاستعمال الرفق في استلزامه للمصلحة وحصول الغرض غالبا فكان أولى من الرفق في ذلك الموضع”(1) . فهذا النص يؤسس إلى قاعدة قيمية يدعو من خلالها إلى العمل ووضع الأمور في نصابها الصحيح. ومن نحو هذا لفظتا (خانه، وأهانه) فهما مستعاران، إذ لولاهما لما كانت هناك أية قيمة أخلاقية ومن ثم بعد إقناعي يمكن أنْ يرتهن إليه الخطاب ويحمل المتلقي على استيعابه والعمل به إذ ان هذين المفهومين ذو قيمة أخلاقية على الحقيقة وبدخولهما على (الزمان) مجازا جعلا منه مفهوما مستساغا قابلا للإدراك والفهم والانتقال به من كونه مجردا إلى كونه محسوسا يماثل الإنسان أو الصديق. وهذا العدول اللفظي من الحقيقي المصرح به إلى الضمني المجازي قد كسر حاجز التأويل والاستدلال لدى المتلقي، ثم عملت الاستعارة (خانه، أهانه) على إطلاق حكم القيمة الأخلاقي بوجوب الحذر من الزمان ودوام ملاحظة تغيراته وعدم الاطمئنان له ؛ لأنَّ تغيّه عن الغفلة والأمن فيه والركون إليه يكون حكمه حكم الصديق الخائن فينبغي ان يكون منه على حذر، ثم نبه على وجوب ترك إعظام الزمان ؛ لان ذلك من شأنه ان يؤدي إلى اهانة المعظم، ولم يرد الإمام (عليه السلام) هنا الزمان المجرد، بل من حيث هو مشتمل على خيرات الدنيا ولذاتها ومعد لطيب العيش بالصحة والشباب والأمن ونحوهما، وبذلك الاعتبار يكرم ويستعظم وبذلك يكون اللفظ المستعار قد أضفى على النص قيمة أخلاقية ليحمل المتلقي على وجوب الحذر من الزمان 0 هذا النوع من الوحدات اللغوية التي هي في أصل وضعها الحقيقي حاملة لقيمة أخلاقية مدارها الحسن/ القبح، فإن استدعاءها في الملفوظ يؤدي إلى تحسين الأشياء الموصوفة أو تقبيحها في نظر المتلقي لإثارة عواطفه

ص: 322


1- شرح نهج البلاغة: 5/ 52

وانفعالاته بترغيبه في أمور وتنفيره من أخرى ولإقناعه بوجهة نظر معينة ودفعه إلى العمل، وهو أمر أكدته النظرية الانفعالية من زاوية نظر المتلقي حتى عد (هير) هذا المنحى التوجيهي الانفعالي من وظائف الكلام(1) .

وبعد أن بيّنا هذا النمط من الألفاظ ومدار الحجاج فيه نقول كلمة فاحصة ومستقرأةً للمدونة، إنَّ هذا النمط من الوحدات قليل الورود في الصورة الفنية لرسائل الإمام (عليه السلام) وهذه من حسنات النص العلوي المقدس فهو لا يمثل أية نسبة قياسا بالنوع الثاني من الوحدات التي هي مشحونة بحكم قيمة أخلاقي على سبيل المجاز فوجه الحجاج بواسطتها اظهر وأعمق. فصحيح أن هذه الألفاظ التي اشرنا إليها آنفا غير مفيدة على الحقيقة أي حكم أخلاقي، ولكن بإطلاقها مجازا باتت تفيد حكم قيمة ؛ والعلة في ذلك هو كونها ذات شحنة تقويمية في أصلها ويمكن مقاربتها من ثنائية (الاستحسان / الاستقباح) مما يجعل منها ذات طاقة حجاجية ما ليس للمستعار له كما هو واضح من الجدول التالي:

ص: 323


1- ينظر: الحجاج في القران الكريم: 151

صورة

ص: 324

صورة

ص: 325

صورة

ص: 326

صورة

ص: 327

مما تقدم يتضح ان هذه الوحدات اللغوية تكتسب خصوصية البعد الحجاجي حينما تأتي مجازا فتفيد حكم قيمة اخلاقي 0 وهذا ما أشار إليه ضمنيا الزركشي في تفسيره عن تلمّس البعد الحجاجي في استعارتي (النور/ الظلام) للإيمان والكفر: “ فالمرغب في الإيمان مثلا إذا مثل له بالنور تأكد في قلبه المقصود، والمزهد في الكفر إذا مثّل له بالظلمة تأكد قبحه في نفسه”(1) ؛ ولذلك يلجأ إليها ولغيرها المتكلم في توظيف الصورة إيمانا ووثوقا منه بأنها الابّلغ حجاجيا، وإنها تفيد ما لا تفيده الحقيقة، كون المجاز ابلغ من الحقيقة، وأن الاستعارة أقوى من التصريح بالتشبيه وأن الكناية أوقع من الإفصاح بالذكر(2) .

ومعنى هذا أن حكم القيمة الذي تحمله الاستعارة يكون أنجع في الحجاج واقطع للجاج من حكم القيمة الذي يحمله اللفظ على الحقيقة 0 كما في الفاظ (الصم، والعمى، والبكم) فهي صفات مطلقة على الظلال وعدم الهداية. هذه الصفات تكون مشعرة بعيب على الحقيقة، ولكن عند توظيفها مجازيا تكون قد اكتسبت حكم قيمة أخلاقي 0 كذلك ألفاظ (القرح، والعلق) فتكون اقل أثرا في نفس المتلقي من أثرها القيمي لو جاءت مجازا، وفي هذا الشأن يقول لوقيرن: “ تبدو القوة الحجاجية التي للوحدة المعجمية.....

مستخدمة بطريقة الاستعارة أعظم من القوة الحجاجية التي لنفس الوحدة مستخدمة على الحقيقة “(3) .

2- الحكم العاطفي:

ص: 328


1- البرهان في تفسير القران: 1/ 488
2- ينظر: مفتاح العلوم: 523
3- ينظر: الحجاج في القرآن الكريم: 591

اعتبرت اوركيوني وهي تنظر إلى الألفاظ ذات الحكم العاطفي من زاوية المتكلم 0 ان الألفاظ الحاملة لهذا الحكم هي الألفاظ التي يشحنها المتكلم بطاقة عاطفية ما ويضمنها موقفا ما مثل كلمات (غريب، ومؤثر، ومحزن) “(1) . ومع مشاطرة عبد الله صولة ل- اوركيوني في المقصود بالألفاظ ذات الحكم العاطفي، لكنّه يحاول ان يوسع زاوية النظر لتشمل المتلقي، أي النظر إلى الحكم العاطفي لا من زاوية المتكلم، كما فعلت اوركيوني وإنما من زاوية المتلقي 0 إذ ان المقصود بالألفاظ ذات الحكم العاطفي عندنا، الألفاظ ذات الوقع الشعوري الوجداني على المتلقي فهي تثير فيه شعور الرغبة أو شعور الرهبة تمهيدا لحمله على إتيان عمل ما أو سلوك ما”(2) 0 وهذا ما نجده في رسائل الإمام (عليه السلام) حيث تشتمل الصورة الفنية على كثير من الألفاظ العاطفية أو المشحونة عاطفيا ومن أمثلة ذلك:

1.قوله (عليه السلام): “ فَعَلَی مُبَلْبِلِ أَجْسَامِ(1) المُلُوكِ وَسَالِبِ نُفُوسِ الْجَبَابِرَهِ وَمُزِیلِ مُلْكِ الْفَرَاعِنَهِ مِثْلِ كِسْرَی وَقَیْصَرَ وَتُبَّعٍ وَحِمْیَرَ.... «(3)

2. قوله (عليه السلام): « وَكَیْفَ أنْتَ صَانِعٌ إِذَا تَكَشَّفَتْ عَنْكَ جَلَابِیبُ مَا أنْتَ فِیهِ مِنْ دُنْیَا قَدْ تَبَهَّجَتْ بِزِینَتِهَا وَ خَدَعَتْ بِلَذَّتِهَا دَعَتْكَ فَأجَبْتَهَا وَ قَادَتْكَ فَاتَّبَعْتَهَا وَأمَرَتْكَ فَأطَعْتَهَا « (4)

3. قوله (عليه السلام): “ وَاعْلَمُوا أَنَّ دَارَ الْهِجْرَهِ قَدْ قَلَعَتْ بِأَهْلِهَا وَقَلَعُوا بِهَا ، وَجَاشَتْ جَیْشَ الْمِرْجَل « (5)

ص: 329


1- ينظر: الحجاج في القرآن الكريم: 592
2- نفسه: 592
3- شرح نهج البلاغة: 14 / 13
4- نفسه: 15 / 38
5- نفسه: 14 / 3

4. قوله (عليه السلام): “ فَكَأَنِّی قَدْ رَأَیْتُكَ تَضِجُّ مِنَ الْحَرْبِ إِذَا عَضَّتْكَ ضَجِیجَ الْجِمَالِ بِالْأَثْقَالِ«(1)

5. قوله (عليه السلام): “ وَلَوْ لاَ مَا نَهَی اللهُ عَنْهُ مِنْ تَزْكِیَهِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ لَذَكَرَ ذَاكِرٌ فَضَائِلَ جَمَّهً تَعْرِفُهَا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِینَ وَلاَ تَمُجُّهَا آذَانُ السَّامِعِینَ«(2)

6. قوله (عليه السلام): “ مَرَارَهُ اَلْیَأْسِ خَیْرٌ مِنْ اَلتَّضَرُّعِ إِلَی اَلنَّاسِ«(3)

7. قوله (عليه السلام): “ وَتَجَرَّعِ الْغَیْظَ فَإِنِّی لَمْ أَرَ جُرْعَهً أَحْلَی مِنْهَا عَاقِبَهً ، وَلاَ أَلَذَّ مَغَبَّهً«(4)

8. قوله (عليه السلام): “ فَدَعْ عَنْكَ قُرَیْشاً وَتَرْكَاضَهُمْ فِی الضَّلَالِ،وَتَجْوَالَهُمْ فِی الشِّقَاقِ وَجِمَاحَهُمْ فِی التِّیهِ«(5)

9. قوله (عليه السلام): “ فَانْظُر إلی مَا تَقْضِمُهُ مِنْ هذَا الْمَقْضَمِ، فَمَا اشْتَبَهَ عَلَیْكِ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ وَ مَا أیْقَنْتَ بِطِیبِ وَجْهِهِ فَنَلْ مِنْهُ «(6)

10.قوله (عليه السلام): “ فَانْظُر إلی مَا تَقْضِمُهُ مِنْ هذَا الْمَقْضَمِ فَمَا اشْتَبَهَ عَلَیْكِ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ وَ مَا أیْقَنْتَ بِطِیبِ وَجْهِهِ فَنَلْ مِنْهُ«(7)

11. قوله (عليه السلام): “ فَلَمَّا ضَّرَسَتْنَا وَ إِيِّاهُمْ وَ وَضَعَتْ مَخَالِبَهَا فيِنَا وَ فيِهِمْ أَجَابُوا

ص: 330


1- نفسه: 15 / 39
2- نفسه: 15 / 85
3- نفسه: 16 / 47
4- نفسه: 16 / 51
5- نفسه: 16 / 72
6- نفسه: 16 / 99
7- شرح نهج البلاغة: 16 / 143

عِنْدَ ذَلِكَ إِلَی الَّذِي دَعَوْنَاهُمْ إِلَيْهِ «(1)

12. قوله (عليه السلام): (وَ كانَ رَسُولُ اللّهِ صلی الله علیه و آله إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ وَ أَحْجَمَ النّاسُ قَدَّمَ أَهْلَ بَیْتِهِ فَوَقی بِهِمْ أَصْحابَهُ حَرَّ السُّیُوفِ وَ الأَسِنَّهِ)(2)

ويمكن لنا ان نبين هذا الحكم العاطفي من خلال الركون إلى الجدول التالي:

ص: 331


1- نفسه: 17 / 68
2- نفسه: 14 / 21

صورة

فهذه الألفاظ في طبيعتها مشحونة بشحنة عاطفية انفعالية مؤدى استجلابها في المجاز استثمارا لهذه الطبيعة ؛ لكي يكون لها الدور التأثيري والعاطفي في رفد القول بالمنحى العاطفي والتأثير في وجدان المتلقي، ومشاعره رغبه أو رهبة، ووضعه في جو نفسي يريده ويطمح إليه المتكلم تمهيدا لحمله على الإذعان، وإتيان عمل ما أو سلوك معين أو العدول عن ذلك والتنفير منه 0

ص: 332

الخاتمة

بحمد الله وتوفيقه آن لنا وقد نظرنا في الحجاج بوصفه منهجا لتحليل الخطاب عبر بنيته وخصائصه واساليبه ومختلف الافانين الرافدة له ومدى الفاعلية التي يحققها الحجاج، بوصفه مجالا مفتوحا يستوعب قدرا واسعا من عملية التواصل الإنساني (المنطوق والمكتوب)، وبعد أن فرغنا من اسقاطات جانب مهم من هذا المنهج على مدونة تراثية قديمة هي رسائل الإمام على (عليه السلام) في نهج البلاغة، نشرع في جمع شتات بحثنا وأن نظم إليه أهم النتائج التي افضت اليها الدراسة وحصر الأهداف التي حققتها، التي سنحاول اجمالا عرضها بشيء من التركيز عبر النقاط التالية:

1. الحجاج عنوان كبير لممارسات فكرية نشطة تسري الى كافة مناحي الحياة وعند الجميع من ابسط الناس مستوى الى اكثرهم لددا وقوة في الخصومة. واذا كان ارسطو اول من قال بأن جميع الناس حتى الجهلة منهم يستخدمون الجدل والنقد على نحو من الانحاء، فإن أي عاقل ممكن ان يستنتج ويلاحظ ذلك بسهولة. وإذا اردنا ان نقارب الحدود التي تضبط الحجاج كمفهوم فإننا سنجده من المفاهيم الملتبسة والعسيرة على الضبط والتحديد بسبب تعدد الخلفيات الابستمولوجية التي تتقاسمه والتباين الاستعمالي والوظيفي لوسائله وتقنياته. فالحجاج لم يعد مرتبطا بحقل معرفي محدد او مجال تخصصي معين، بل اصبح حاضرا وفاعلا في كل مجالات الحياة، وشاملا لكل خطاب يستهدف الاقناع والاقتناع كيفما كان المستمع الذي يتوجه اليه ومهما كانت المادة المطروحة للنقاش.

2. دارت معاني الحجاج في المعاجم العربية حول معاني التنازع والتخاصم والتغالب بواسطة الادلة والبراهين والحجج بين طرفين وهو بذلك يكون مرادفا للجدل الذي هو مقابلة الحجة بالحجة. كما شاطرت المعاجم الفرنسية والانكليزية نظيرتها العربية في تحديد المعنى اللغوي للحجاج، اذ لاحظنا شبه توافق بين معاني الحجاج

ص: 333

على مستوى الدلالة والوظيفة، فالكل يجمع على قيام الحجاج على الجدل والخصام والتنازع بين المتكلم والمتلقي عبر الادلة والبراهين التي يقدمها كل طرف الى الاخر من اجل دعم موقفه وابطال دعوى الاخر بكل وسائل الاقناع باستثناء العنف والاكراه وهذا شرط اساسي في كل محاجة.

3. وحين نقارب مفهوم الحجاج من مجمل التعريفات التي ذكرها البحث، نجد أنَّ الحجاج هو عملية تواصلية بين ذوات يطمح كل منها الى ايصال الاخر الى اقصى غاية إقناعية ممكنة عبر وسائل وادوات منطقية وبلاغية ولغوية كفيلة بإحداث التأثير والتوجيه والاقناع من خلال التفنيد او الحث او الدعم دون تعسف او اكراه.

4. ان مفهوم الحجاج تبنته عبر التاريخ ثلاثة مفاهيم رئيسة هي:

- مفهوم جعله مرادفا للجدل. ونجده عند العرب القدماء.

- مفهوم جعله قاسما مشتركا بين الجدل والخطابة. ونجده عند اليونان.

- مفهوم جعله مبحثا مستقلا قائما بذاته. ونجده في الدراسات الغربية الحديثة.

ويُعد هذا المفهوم الاخير اكثر غنى وثراء ورصانة من غيره ؛ وذلك لعمله من جهة على تخليص الحجاج من صناعتي الجدل والخطابة اللذين يجعلان المخاطب في وضع ضرورة وخضوع واستلاب اكثر مما يجعلانه مقتنعا، ولكونه من جهة ثانية يؤكد على اهمية المتلقي الذي لم يعد سلبيا، بل اصبح متلقيا فاعلا ضمن عالم اكثر حرية ووفاقا وتشاركا وتحاورا.

1. ان الهدف الاساس لكل خطاب بالحجة والوصول الى اقناع السامع بفكرة معينة كان قد اخذ موقف الرافض او المشكك بها ومن ثم فهو يهتم اولا بإبطال الفكرة المراد نقضها التي تكون هي السيطرة على ذهن المتلقي ثم احلال مكانها الفكرة التي جيئ بالحجة من اجل اثباتها وهذا ما اعتمده الامام على (عليه السلام) في خطابه/ رسائله.

ص: 334

2. كان السعي من خلال هذا البحث التنقيب في التراث العربي الاسلامي عن بعض الخطابات التي تميز بها هذا التراث واصبحت مصدر اشعاع فكري وثقافي ولغوي وبلاغي للبحث في خصائصها وامكانية تسليط الضوء على كنوزها المعرفية عبر ادوات التحليل الحديثة.

3. رسائل الإمام علي (عليه السلام) مدونة تراثية حاملة لخاصية الديمومة الفكرية والمعرفية قائمة على الطابع الحجاجي الخالص يحاول من خلالها أمير المؤمنين (عليه السلام) الوصول الى اغراضه المشروعة عبر قنوات التأثير والاقناع مما يجعلها تتسم بتنوع الاسلوب ورقي اللغة وجزالتها وبلاغة الكلام وانسجامه.

4. كما تعد رسائل الامام (عليه السلام) الذروة التي وصل اليها فن الرسائل في تلك المرحلة من الوجهة الفنية والمنبع الذي استقى منه الكتبة في وضع اصول هذا الفن في المراحل التاريخية اللاحقة.

5. إنَّ تتبع الحجاج بمفهومه وخصائصه وآلياته في رسائل الامام (عليه السلام) واتساع مجالات تطبيقه باتساع المدونة يؤكد على وجود رؤية لدى الامام قائمة على الحوار والمناظرة والاقناع والاستمالة الارادية بعيدا عن العنف والاكراه.

6. اقتراب رسائل الامام من الحياة اليومية الجارية بين المسلمين ومعالجتها لأهم القضايا الدينية والدنيوية الخاصة بهم. فضلا عن انها تمتاز بخصائص كثيرة يأتي في مقدمتها الوضوح الذي يعد من ابرز سمات رسائل الإمام حيث اعتمد في ذلك على تبسيط التعبير والبعد عن التكلف الذي يفسد نية المرسل في الابلاغ والإبانة وهذا سبب هام لتحقيق الاقناع.

7. ارتكز الخطاب في رسائل الامام على بنية (المرسل / الرسالة / المرسل اليه) وهي بنية لابد لأي خطاب ناجح من استيعابها واي قصور في ادراك وتمثل اركانها يؤدي الى قصور في فهم الخطاب والوصول الى غاياته فهي عناصر اساسية في عملية التواصل التي تشترك في تحقيق اهم الوظائف كالوظيفة الإبلاغية والإقناعية. وهذا

ص: 335

ما جسدته رسائل الامام في تأسيسها على هذه المقومات والمرتكزات الاساسية لفهم طبيعة الخطاب وادراك خصوصية كل عنصر من عناصره الثلاثة مع ما يقتضيه المقام ومراعاة احوال المخاطبين. فالمقام مكون اساس من مكونات الخطاب اذ به تتحدد الدلالات والمقاصد وبه يتم التواصل

8. كما ينفتح الخطاب في هذه الرسائل نحو مخاطبين او جمهورين من المخاطبين، جمهور خاص او مباشر مذكور داخل النص وهم معينون باسمائهم او القابهم او بضمير الخطاب ويمثلون باصطلاح الحجاجيين ب-(الجمهور الخاص او الضيق). وجمهور غير مباشر يقع خارج النص ولا يذكر فيه ولكنه معني بكلام الامام وهو جمهور المتلقين على اختلاف عصورهم وامكنتهم ومسؤولياتهم وهو ما يقابل في اصطلاح برلمان ب-( الجمهور الكوني).

9. رصدت الدراسة وعبر المقاربة التاريخية للحجاج بوصفه مفهوما مركزيا وتتبعته في الدرس البلاغي واللساني وكشفت عن تطوره التاريخي من القرن السابع قبل الميلاد الى القرن العشرين فقد احتضنت المعارف اليونانية والعربية والدراسات الغربية الحديثة مفهوم الحجاج عبر حواضن (فن الجدل، والخطابة، والمنطق، والبلاغة).

وقد شكلت هذه المجالات الفكرية الثلاثة مفهوم الحجاج ومصادره واطره وقد ظهرت آثار هذه المعارف في المفاهيم التي قدمها أعلامها لمبحث الحجاج.

10. من خلال طروحات السوفسطائيين تبين ان فكرة الحجاج قائمة على فن الكلام الذي يتوخى الاقناع باستخدام الحجج المضللة التي ظاهرها الحق وباطنها الباطل وغايتها الاساس هي استمالة المتلقي والتأثير فيه وإقناعه بأية وسيلة. اما افلاطون فقد نقل الحجاج من مجال الظن والاحتمال الى مجال الحقيقة معتمدا في ذلك على منهج الجدل (فن الحوار). في حين ساهم ارسطو مساهمة فعالة في تكريس ثنائية قائمة على التضاد في مفهوم الحجاج بوضعه لمصنفين يتوليانه موضوعا لهما هما مصنف (الطوبيقا) الذي يوافق النوع الاول من الحجاج. ومصنف (الخطابة) الذي

ص: 336

يوافق النوع الثاني منه. فالحجاج عند ارسطو تابع للبرهان من جهة وللخطابة من جهة اخرى. فهو يرتبط بالخطابة باعتبارها الفضاء النصي الذي يتجلى فيه الحجاج، ويرتبط بالبرهان باعتباره المسار المنطقي الذي يؤسس الحجاج.

11. اما في التراث العربي الاسلامي فقد شهد الدرس الحجاجي ازدهارا كبيرا بوصفه مرادفا للجدل وحلّت محلّه في علوم القرآن والتفسير والفلسفة والمنطق والكلام.

حيث تفاعلت العقلية العربية مع المنتوج اليوناني في مجالات الخطابة والجدل. ولكن هذا لا يقدح بالاستقلالية التي بلورت نشوء التفكير الحجاجي في البيئة العربية الاسلامية فقد نشأ نشأة اصيلة نابعة من خصوصية القرآن الكريم ومن خصوصيات الدين الاسلامي الحنيف الذي توجه في خطابه للناس على قدر عقولهم ومختلف عقائدهم في الوقت الذي لم تكن الكتب الفلسفية اليونانية قد ترجمت الى اللغة العربية في البيئة الاسلامية.

12. كما كشف لنا البحث الستار عن المكانة الهامة التي يحتلها البحث البلاغي العربي القديم من ناحية استيعابه للكثير من الآليات الحجاجية التي تم الحديث عنها مؤخرا في الدراسات الغربية خاصة ما يتعلق بالخطابة الجديدة لبرلمان وتيتكاه والحجاج في اللغة لديكرو وانسكومبر من خلال البحث والاهتمام باستراتيجية الاقناع التي انطوت على جملة من الوسائل اللغوية وغير اللغوية المؤدية الى الاستمالة والتأثير والاقناع والتوجيه على يد جملة من اعلام الفكر البلاغي العربي كالجاحظ، وعبد القاهر الجرجاني، والسكاكي، وحازم القرطاجني.

13. ولعل من ابرز ملتقيات هذا التقارب بين طروحات الفكر العربي القديم والغربي الحديث حول مفهوم الحجاج نجد ان دور البلاغة العربية كما هو واضح في تعاريف البلاغيين القدامى يقوم على الافهام والتأثير والاستدلال وهذا ما تؤكده الدراسات الغربية الحديثة ذات الشأن في قيام البلاغة على التأثير في النفوس والعقول واستمالتها عن طريق الحجاج. كما أن الدور الذي تقوم به الصور البيانية في تقريبها للمعنى

ص: 337

البعيد واظهاره في ابهى صورة تستقطب النفوس وتحرك الشعور، الى جانب تجسيدها للمعنويات في صورة المحسوسات يتفاعل معها القارئ ويستجيب لها بفعل ما تثيره من حراك استدلالي قائم على الغوص فيما وراء المعنى الظاهر من تداعيات منطقية، كل ذلك سبيل حجاجي نظر له البلاغيون العرب القدامى بشكل يتناغم مع الطروحات والدراسات الغربية الحديثة التي اعتبرت الصورة البيانية من تشبيه واستعارة وكناية قنوات للتواصل الحجاجي وحصول التأثير والاقناع بفعل ما تقدمه من استدلالات شبه منطقية تؤثر في المتلقي وتجعله ينخرط في الخطاب وصولا الى الاقتناع بالطرح المقدم.

14. ان عرض فكرة الحجاج عند العرب القدماء ومحاولة مقاربتها مع نظرية الحجاج عند الغرب قد افضى الى نتيجة مفادها ضرورة احياء التراث البلاغي العربي وبعثه من جديد وفقا للدراسات اللسانية الحديثة الغربية منها والعربية على حد سواء.

15. ومن مقاربة الدراسات الغربية الحديثة المتعلقة بمفهوم الحجاج، نجد أن برلمان وتيتكاه وعبر مصنفيهما ( الخطابة الجديدة ) سعيا الى اخراج الخطابة من دائرة الاتهام بالتلاعب بالجمهور الى اعتبارها قاسما مشتركا للتحاور والتواصل بين الخطيب وجمهوره عبر مشتركات واحدة تتجسد حجاجيا بالوقائع والحقائق والقيم وكيفية ترتيبها والمشتركات العامة المتعلقة بالافكار او المواضع. فالحجاج في هذه النظرية قائم على البلاغة وهو جملة من الاساليب تضطلع في الخطاب بوظيفة هي حمل المخاطب على الاقتناع بما يعرض عليه او الزيادة في حجم هذا الاقتناع. وغايته الاساسية هي الفعل في المتلقي على نحو يدفعه الى العمل او يهيئه للقيام بالعمل.

16. كما اتضح من خلال مقاربة (نظرية الحجاج في اللغة) إن الحجاج قائم في جوهر اللغة نفسها بصرف النظر عن استخدامها، اي كامن في البنية المنطقية التي تحكم اللغة. فكل قول مهما كانت الغاية منه والدافع اليه هو قول حجاجي بالضرورة.

وعلى الرغم من وجود تداخل بين مفهومي الحجاج والاقناع، فإنَّ هناك حدّا فاصلا

ص: 338

يميزهما يتمثل اساسا في درجة التوكيد، فعلاقة الحجاج بالاقناع تتجسد في ان اهمية الحجاج تكمن فيما يولده من اقتناع لدى المتلقي. وهذا الاقتناع لا يتأتى إلاَّ باستعمال اللغة مما يؤكد ان نظرية الحجاج في اللغة تنطلق من فكرة مفادها: اننا نتكلم عامة بقصد التأثير. فالحجاج في هذه النظرية اللسانية لا يخرج عن جوهر اللغة، فاللغة تحمل بصفة جوهرية وظيفة حجاجية. وتبعا لذلك فإن الحجاج اللساني هو فعل يقوم به المتكلم فتنعكس آثاره واضحة في الملفوظ الذي ينتجه هذا الخطاب.

17. اعتمدت المدونة في خطابها على الحجاج اللغوي باعتبار أن الحجاج في اللغة ظاهرة لغوية نجدها في كل قول وفي كل خطاب بحسب ديكرو. وهذا ما كشف لنا عن بعض الاليات اللغوية الحجاجية الكامنة في نصوص المدونة. من ذلك الاعتناء بحروف الربط وحسن اختيارها ومواقع ورودها في الملفوظ من اجل توجيه الكلام الوجهة الصحيحة التي يرومها المتكلم منذ البداية وهذا ما يعرف في الدراسات الحجاجية ب-(الروابط الحجاجية) الذي كان وجودها ضمن الخطاب لا يهدف الى ربط سياق الكلام من اجل ايضاح عملية اخبار المتلقي وتقديم المعلومات بل استعان بها الامام (عليه السلام) من اجل التأثير والاقناع وتخير مواضعها في الخطاب من اجل هذه الغاية وايصال المقاصد الحجاجية التي يريدها. لذلك اعطى الامام هذه الادوات اللغوية دورا كبيرا في تأدية المعنى وانسجام الخطاب لتنحصر وظيفتها الحجاجية داخل اللغة مما يمنح الخطاب انطلاقة قوية ومؤثرة. وهذا مادأبت عليه المدونة في جميع الرسائل.

18. كما اضطلعت الموجهات اللغوية في المدونة بوظيفة حجاجية سمحت بتوجيه الملفوظ حسب مقاصد المتكلم ومتطلبات التلقي ومن ثم توجيه المتلقي نحو القيام بفعل ما او تركه (الاقناع او الاذعان). وقد اندرجت هذه الموجهات اللسانية ضمن الموجهات اليقينية والموجهات التقريبية او موجهات الشك. فكان الهدف من حضور الموجهات اليقينية في المدونة هو اثبات القضايا المنكرة وحمل المخاطب

ص: 339

على الاقتناع بها وترك الشك بها، وكلما قويت درجة الانكار ضعّف المتكلم عوامل التوكيد. وقد عدَّ (القسم) اهم فعل كلامي تأكيدي يتحقق من خلال مجموعة من العوامل الحجاجية التي حصل اجماع ضمني على عظمتها. فكانت بمثابة قوة في تحقيق قيمة الكلام التأثيرية. كما وظف الامام (اسلوب القصر) باعتباره من الوسائل اللغوية التي توجه القول توجيه اثبات وتوكيد. اما الموجهات التقريبية فقد جعلت الخطاب الذي وردت فيه ذا بعد موضوعي يبعث على التصديق ويولّد الاقناع. وقد وسم الامام (عليه السلام) خطابه بعوامل حجاجية كثيرة آثرنا ان نقف عند بعضها وهي (زعم، وظنّ ). فقد استطاع الامام ان يبطل حجج الخصم بواسطة العامل الحجاجي (زعم). وان يوجه المتلقي الى اتخاذ القرار بواسطة العامل الحجاجي (ظنَّ) .

19. كما شكّل المستوى التركيبي في المدونة ارضية خصبة لنشأة المقتضيات التي سجنت متلقي الخطاب في وضع ذهني كان فيه الضعيف العاجز الذي لم يتمكن من رفض ما عرضه عليه صاحب الخطاب. فالامام )(عليه السلام) لم يعتمد على التصريح من القول لتوليد الاقناع فحسب ؛ بل عوّل في كثير من الاحيان على الضمني الكائن على سبيل الاقتضاء او القول المضمر ليحقق التأثير والاستمالة والاقناع متكئا في ذلك على متلقي الخطاب في الاهتداء لهذا الضمني ذي الطاقة الحجاجية. وقد آثرنا ان نقف عند المقتضى الناشئ عن الاستفهام من بين مقتضيات تركيبية كثيرة وردت في المدونة كنموذج لاشتغال هذه الآلية في الخطاب ودورها الحجاجي.

فقد عُدَّ خروج الاستفهام عن حقيقته الى السؤال البلاغي عملا حجاجيا تنشأ عنه مقتضيات تختص بدفع المخاطب الى الاقرار والاعتراف بما يعلمه المستفهِم فتلزمه بذلك الحجة وعلى انكار اعماله بتوبيخه وتكذيب ما يدعيه فيخجل ويرتدع. وهذ حال كل حالات الاستفهام الواردة في المدونة فقد عدل الامام بها جميعا عن حقيقة الاستفهام الى السؤال البلاغي من اجل غايات حجاجية.

ص: 340

20. كذلك خضعت الحجج التي قدمها الامام (عليه السلام) الى التدرج في بناء الافكار ضمن سلّم حجاجي. حيث تبدأ الحجة فيه باتجاه افقي لتكون الحجة القوية في آخر القول وذلك لاستمالة المخاطب والتأثير فيه. فالتلازم الحاصل بين الحجة والنتيجة ينطوي على تعدد للحجج (اللازم) في مقابل النتيجة الواحدة (الملزوم) مع ملاحظة درجة التفاوت في قوة تلك الحجج وخدمتها للنتيجة، إذ أن تجلي هذه العلاقة بين الدعوى والحجة في علاقة شبه منطقية إلى حد ما يقتضي تدافع الحجج وترتيبها حسب قوتها، وهذا الأمر يقع في صلب فعل الحجاج. فينشا عن ذلك التفاوت وهذه التراتبية في الحجج سلّم حجاجي ينطلق من اضعف حجة حتى يصل إلى أقواه وهذا ما جسده امير المؤمنين في اغلب رسائله التي خضعت بموجبه الحجج الى تراتبية موفية لشروط السلّم الحجاجي.

21. إنَّ توظيف الصورة الفنية لم يعد مرتبطا بغرض تحسين الخطاب او تزيينه، وإنما اصبح اكثر ارتباطا بمتطلبات حجاجية تستدعي هذا التوظيف اكثر من غيره وهو أمر دفع الامام (عليه السلام) الى استثمار هذه التقنية واتخاذ الصورة وسيلة اساس في رسائله لتوجيه المخاطبين وحملهم على الاذعان. فقد احتلت الاشكال البيانية (الاستعارة والكناية والتمثيل) مساحة واسعة من نصوص المدونة ومن تركيب الاطروحات والحجج على وجوه مختلفة ومتعددة في الخطاب الحجاجي للمدونة.

22. استمدت الصورة الفنية في رسائل الامام حجاجيتها من ثلاثة عناصر رئيسة هي:

المادة والشكل والقوة الاقناعية. فعلى صعيد المادة عكست الصورة عوالم يعرفها المخاطبون حق المعرفة لأنها مستمدة اساسا من بيئتهم ووثيقة الصلة بمجمل كفاءاتهم المعرفية، والنفسية والثقافية، والعقدية، ومن ثم فلا احد منهم يستطيع انكارها او الاعتراض عليها الشيء الذي يسهل عملية نفاذها الى قلوبهم وعقولهم وييسر عملية اقناعهم بها. فهي تمثل منطلقات حجاجية تحظى بالموافقة العامة والتسليم بها من طرف المخاطب. اذ أن هذه الملفوظات الحجاجية استطاعت

ص: 341

أن تورط المتلقي في إنتاج الدلالة بواسطة المقام الذي القيت فيه وان تحمله على استخراج الضمني وتحريك همته نحو الاقتناع من خلال الاستنتاج والعبور بالرابط (إذن). ومن خلال استقصاء العوالم والمجالات التي شكلت مادة الصورة في المدونة، وجدنا أنَّا لا تخرج عما هو معلوم لدى جمهور المتلقين ومسلَّم بها من طرفهم كمجال الانسان، والحيوان، والطبيعة الصامتة، والادوات والآلات، ومجال القيم الفكرية المجردة.

23. اما على صعيد الشكل فإن البعد الحجاجي لهذه الصور يكمن في كون الامام (عليه السلام) لا يصرح فيها بجميع مكوناتها بل يترك دائما (محلا شاغرا) يدفع من خلاله المخاطب الى انتاج القسم المضمر من الصورة وذلك بالاعتماد على المصرح به في الصورة وبذلك يكون المتكلم قد دفع بالمتلقي شريكا في انتاج الدلالة وذلك عبر سلوكه لمسار حجاجي انطلاقا من عناصر الصورة الظاهرة ومرورا بالضمانووصولا الى الغرض الرئيس.

24. إنَّ كتاب (نهج البلاغة) ومنه باب (الرسائل) كتاب اصلاحي وهذا مبدأ يقع في صلب الحجاج. اما الصفة التي تجسدت في الرسائل وقربتها من قطب الحجاج هو التأثير في نفوس سامعيه، وهذا التأثير يتضمن احكام قيمة اخلاقية فضلا عن الطابع العاطفي والوجداني الذي يمهد السبيل الى الاقتناع الذي هو طابع عقلي.

على أن حصول تأثير خطاب الامام (عليه السلام) في نفوس متلقيه أي حصول العمل الناجم عن القول هو الضامن لتحقيق الاعمال الإنجازية في خطاب الامام اللاقولية التي تنتظمها اقواله.

إنَّ الزعم بإيفاء الموضوع حقه والإحاطة به أمر مجانب للحقيقة ؛ لأنَّ طبيعة المدوّنة المدروسة والمنهج المتبع في الدراسة مما لا يمكن الاحاطة بهما لثرائهما وخصوبتهما الفكرية

ص: 342

وغناهما المعرفي وتشعب الموضوعات المتضمنة لهما ولكنها محاولة نتلمس من خلالها الاقتراب من جوهرهما. كما تجدر الاشارة الى ضرورة الاهتمام بهذا النمط من الخطابات وآلية تحليلها لعدة اسباب وجيهة على رأسها امكانية الافادة منه في تطوير خطابنا المعاصر بدل البحث في خطابات الاخرين وهي خطابات هجينة غريبة عنا لا تربطنا بها صلة. كما ان رسائل الامام خطاب فكري راق جدير بالاهتمام يسمو به الحجاج كنظرية وتطبيق.

وفي الختام ارجو أن يكون هذا العمل خالصا لخدمة العلم، والدين، والمذهب والله الموفق إلى سواء السبيل

الباحث

ص: 343

المصادر

(الكتب)

القرآن الكريم

1. آملي (جواد)، الحكمة النظرية والعملية في نهج البلاغة، ترجمة: باسم محمدي، دار ذوي القربى، ايران، ط 1، 1384 هه.

2. ابراهيم وآخرون (محمد ابو الفضل)، سجع الحمام في حكم الامام (منسوب الى الامام علي(عليه السلام)، جمع وضبط وشرح: محمد ابو الفضل ابراهيم و علي الجندي و محمد يوسف المحجوب، دار القلم، بيروت، 1967 م

3. ابن أبي الحديد ( عز الدين بن عبد الحميد المدائني )، شرح نهج البلاغة، تحقيق: د.

محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاؤه، القاهرة، مصر، ط 1، 1959 م.

4. ابن الأثير ( المبارك بن محمد )، النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق: طاهر احمد الزاوي و محمود محمد الطناحي، مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع، قم، إيران، ط 4، ( د. ت ).

5. ابن جني (ابو الفتح عثمان)، الخصائص، تحقيق: محمد علي النجار، دار الشؤون الثقافية، بغداد، ط 1،1990 م

6. ابن دريد ( أبو بكر محمد بن الحسن الازدي )، جمهرة اللغة، علّق عليه ووضع حواشيه وفهارسه: إبراهيم شمس الدين، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 2005 م

7. ابن رشد (الوليد)، تلخيص السفسطة، تحقيق: محمد سليم سالم، مطبعة دار الكتب،

ص: 344

القاهرة، 1973 م.

8. ابن شأس (عمرو)، شعر عمر بن شأس، تحقيق: د. يحيى الجبوري، مطبعة الآداب، النجف الأشرف، العراق، 1976 م.

9. ابن شداد (عنترة بن شداد)، ديوان عنترة بن شداد، تحقيق: عبد المنعم عبد الرؤوف شلبي، دار الكتب العلمية، ط 1، بيروت، لبنان، 1980 م.

10. ابن طباطبا، (محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم)، عيار الشعر، شرح وتحقيق: عباس عبد الساتر، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 2، 2005 م

11. ابن عاشور (الشيخ محمد طاهر)، تفسير التحرير والتنوير، مؤسسة التاريخ، بيروت، لبنان، ط 1، 2000 م.

12. ابن عبد ربه ( ابو عمر احمد بن محمد الاندلسي)، العقد الفريد،، شرح: احمد امين واحمد الزين وابراهيم الابياري، مطبعة لجنة التاليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1965 م.

13. ابن علي الحسيني المدني (ضامن بن شدقم)، وقعة الجمل، تحقيق: تحسين آل شبيب الموسوي، مطبعة سيد كمال البطاط، قم، ط 1، 1420 هه ، 1999 م.

14. ابن فارس ( أبو الحسين احمد بن زكريا )، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الإعلام الإسلامي، 1404 ﻫ.

15. ابن منظور ( جمال الدين محمد بن المكرم الانصاري )، لسان العرب، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط 3، 1999 م.

16. ابن هشام (جمال الدين الانصاري)، مغني اللبيب عن كتب الاعاريب، تحقيق:

مازن المبارك و محمد علي حمد الله، دار الفكر، بيروت، لبنان، ط 5، 1979 م.

17. ابن وهب الكاتب (أبو الحسن إسحاق)، البرهان في وجوه البيان، تحقيق: أحمد مطلوب وخديجة الحديثي، منشورات جامعة بغداد، ط 1، 1387 ه- - 1967 م.

ص: 345

18. ابن يعقوب المغربي (جلال الدين محمد بن عبد الرحمن)، مواهب الفتاح في شرح تلخيص المفتاح، تحقيق: خليل ابراهيم خليل، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان،2003 م.

19. ابن يعيش (موفق الدين بن علي بن يعيش النحوي)، شرح المفصل، تحقيق: اميل بديع يعقوب، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1422 ه- - 2001 م.

20. أبو عبيد الهروي (القاسم بن سلام)، غريب الحديث، تحقيق: حسين محمد محمد شرف، الناشر: المطابع الأميرية، 1404 ه ، 1984 م

21. ابو محمد المرادي (بدر الدين حسن بن قاسم المصري المالكي)، الجنى الداني في حروف المعاني، تحقيق: فخر الدين قباوة و محمد نديم فاضل، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1413 ه ، 1992 م.

22. أبو هلال العسكري ( الحسن بن عبد الله بن سهل )، جمهرة امثال العرب، حققه وعلَّق حواشيه ووضع فهارسه: محمد أبو الفضل إبراهيم و عبد المجيد قطامش، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط 2، 1408 ﻫ - 1988 م.

23. الاخطل (ابو مالك غياث بن غوث التغلبي)، شعر الاخطل، تحقيق وشرح: فخر الدين قباوة، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط 4، 1996 م.

24. أدونيس، الثابت والمتحول - بحث في الاتباع والإبداع عند العرب، دار العودة، بيروت، لبنان، 1979 م.

25. أزاييط (بن عيسى)، الخطاب اللساني العربي، عالم الكتب الحديث، اربد، الاردن، ط 1، 2012 م.

26. الأزهري ( أبو منصور محمد بن احمد )، تهذيب اللغة، دار احياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط 1، 2001 م.

27. اسبر (محمد سعيد) والجندي (بلال)، الشامل - معجم في علوم اللغة العربية

ص: 346

ومصطلحاتها، دار العودة، بيروت، لبنان، 1981 م.

28. الأستراباذي (رضيُّ الدين)، شرح الكافية، منشورات قار تونس، بنغازي، ليبيا، ط 2، 1996 م.

29. اسماعيل (صلاح)، نظرية المعنى في فلسفة بول غرايس، الدار المصرية السعودية، القاهرة، مصر، ط 1، 2005 م.

30. الاصبهاني ( أبو الفرج علي بن الحسين )، الأغاني، تحقيق: د. احمد زكي صفوت، مصور عن طبعة دار الكتب، طبعة كاملة الأجزاء معها فهرس جامع وتصويبات واستدراكات، مؤسسة جمال للطباعة والنشر، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ( د. ت ).

31. الاعشى (ميمون بن قيس)، ديوان الاعشى، تحقيق: فوزي عطوان، الشركة اللبنانية للكتاب، بيروت، لبنان، 1968 م.

32. الأمين (السيد محسن)، أعيان الشيعة، تحقيق: حسن الأمين، دار التعارف، بيروت، 1403 ﻫ - 1983 م.

33. الأنباري (أبو البركات عبد الرحمن بن محمد)، نزهة الألباب في طبقات الأدباء، تحقيق: محمد ابو الفضل ابراهيم، القاهرة، 1294 ه-.

34. الاندلسي (ابو حيان)، تفسير البحر المحيط، تحقيق: عادل احمد و علي معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1413 ه ، 1993 م.

35. اوكان (عمر)، اللغة والخطاب، افريقيا الشرق، المغرب، 2001 م.

36. الباهي (حسان)، الحوار ومنهجية التفكير النقدي، افريقيا الشرق، المغرب، ط 2004،1 م.

37. البحراني (السيد هاشم)، علي والسنة، مطبعة النجاح، العراق، (د.ت)

38. البحراني (كمال الدين بن ميثم بن علي)، شرح نهج البلاغة، طبعة مصححة ومنقحة اعتنى بها وقدم لها: يوسف علي منظور، مؤسسة التاريخ العربي، دار احياء التراث

ص: 347

العربي، بيروت، ط 1، 1992 م.

39. البخاري (ابو عبد الله)، صحيح البخاري، تخريج وضبط: صدقي جميل العطار، بيروت، 2003 م.

40. بدوي (احمد احمد)، من بلاغة القرآن، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2005 م.

41. طبانة (بدوي)، البيان العربي ، دراسة تاريخية فنية في أصول البلاغة العربية، المكتبة الانجلو المصرية، مصر، ط 6، 1976 م.

42. بروتون (فيليب) و غوتييه (جيل)، تاريخ نظريات الحجاج، ترجمة: محمد صالح الغامدي، مركز النشر العلمي، جامعة الملك سعود، السعودية، ط 1، 2011 م.

43. البلاذري ( احمد بن يحيى بن جابر )، انساب الأشراف، حققه وقدم له: الدكتور سهيل زكَّار، والدكتور رياض زركلي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط 1، 1417 ﻫ - 1996 م .

44. بلخير (عمر)، تحليل الخطاب المسرحي في ضوء النظرية التداولية، منشورات الاختلاف، ط 1، 2001 م.

45. بناني (محمد الصغير)، النظريات اللسانية والبلاغية عند العرب، دار الحداثة، بيروت، لبنان، 1986 م.

46. البهلول (عبد الله)، الوصايا الادبية ، الى القرن الرابع الهجري (مقاربة اسلوبية حجاجية)، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان، ط 1، 2011 م.

47. تأبّط شرّاً ( ثابت بن جابر )، شعر تأبط شرَّاً، دراسة وتحقيق: سليمان داود القره غولي وجبار تعبان جاسم، مطبعة الآداب، النجف، العراق، 1973 م.

48. التستري ( محمد تقي )، بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، تحقيق: مؤسسة نهج البلاغة، دار امير كبير للنشر، طهران، ط 1، 1418 ه- - 1997 م.

49. التهانوي (محمد علي)، كشاف اصطلاحات الفنون، دار الكتب العلمية، بيروت،

ص: 348

ط 1، 1998 م.

50. جابر (قاسم حبيب)، الفلسفة والاعتزال في نهج البلاغة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط 1، 1987 م.

51. الجابري (محمد عابد)، بنية العقل العربي - دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، 2000 م.

52. الجاحظ (ابو عثمان عمرو بن بحر)، البيان والتبيين، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1998 م.

53. الجاحظ (أبو عثمان عمرو بن بحر)، الحيوان، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، بيروت، لبنان، 1996 م.

54. جاكوبسن ( رومان )، قضايا الشعرية، ترجمة: محمد الولي و مبارك حنون، دار توبقال، المغرب، 1988 م.

55. الجرجاني (الشريف علي بن محمد)، التعريفات، تحقيق: ابراهيم الابياري، دار الريان للتراث،

56. الجرجاني (عبد القاهر)، اسرار البلاغة، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 2001 م.

57. الجرجاني (عبد القاهر)، دلائل الاعجاز، تحقيق: محمود محمد شاكر، دار المدني، السعودية، ط 1، 1991 م.

58. جرداق (جورج)، روائع نهج البلاغة، دائرة المعارف الاسلامية، قم، ايران، ط 3 ،2005 م.

59. الجوهري ( إسماعيل بن حماد )، الصحاح ( تاج اللغة وصحاح العربية )، تحقيق:

احمد عبد الغفور العطار، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط 4، 1407 ﻫ.

60. الحباشة (صابر)، التداولية والحجاج ، مداخل ونصوص، منشورات صفحات للدراسات والنشر، دمشق، سوريا، ط 1، 2008 م.

ص: 349

61. حجاب (محمد نبيه) بلاغة الكتاب في العصر العباسي ، دراسة تحليلية نقدية لتطور الاساليب، مكتبة الطالب الجامعي، ط 2، 1981 م

62. الحر العاملي ( محمد بن الحسن )، وسائل الشيعة الى تحصيل مسائل الشريعة، تقديم: شهاب الدين المرعشي النجفي، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، 2007 م.

63. حسّان (تمام)، البيان في روائع القران ، دراسة لغوية واسلوبية للنص القرآني، عالم الكتب، القاهرة، 1993 م.

64. حسن (عباس)، النحو الوافي، دار المعارف، القاهرة، ط 6، 1979 م.

65. صمّود (حمّادي)، من تجليات الخطاب البلاغي، دار قرطاج للنشر والتوزيع، تونس، 1999 م.

66. الحوفي (احمد محمد)، فن الخطابة، دار الفكر العربي، مطبعة الرسالة، القاهرة، مصر، 1996 م.

67. الخطيب البغدادي (أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت)، تقييد العلم، تحقيق: سعد عبد الغفار علي، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، 1429 ھ.

68. الخطيب (عبد الزهراء)، مصادر نهج البلاغة واسانيده، مطبعة القضاء، النجف، 1386 ھ ، 1966 م.

69. الخطيب (عبد الكريم)، علي بن أبي طالب، دار الفكر العربي، ط 1، 1966 م.

70. الخطيب القزويني ( جلال الدين محمد بن عبد الرحمن )، شرح التلخيص في علوم البلاغة، شرحه وخرج شواهده: محمد هاشم دويدري، دار الجيل، بيروت، لبنان، ط 2، 1982 م.

71. الخوئي (الميرزا حبيب الله الهاشمي)، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ضبط وتحقيق: علي عاشور، دار احياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط 1، 2002 م.

72. درويش (محمد حسن)، تاريخ الأدب العربي في الجاهلية وصدر الإسلام، مؤسسة

ص: 350

نبع الفكر العربي للطباعة، القاهرة، مصر، 1971 م.

73. درويش (محمد طاهر)، الخطابة في صدر الاسلام، دار المعارف، القاهرة، ط 2، 1968 م

74. الدريدي (سامية)، الحجاج في الشعر العربي القديم ، بنيته واساليبه، عالم الكتب الحديث، اربد، الاردن، ط 2، 2011 م.

75. الراغب الاصفهاني (الحسن بن محمد)، المفردات في غريب القران، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، منشورات طليعة النور، قم، ايران، ط 2، 1408 ھ.

76. الراوندي (قطب الدين)، منهاج البراعة، تحقيق: عبد اللطيف الحسيني الكوهكمري، الناشر: مكتبة السيد المرعشي، قم، ايران، 1407 ھ.

77. الرباعي (عبد القادر)، الصورة الفنية في شعر أبي تمام، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، ط 1، 1999 م.

78. رضا (غانم جواد)، الرسائل الفنية في العصر الاسلامي حتى نهاية العصر الاموي، دار التربية، بغداد، ط 1، 1976 م.

79. الرماني (أبو الحسن علي بن عيسى)، معاني الحروف، تحقيق وتقديم: عبد الفتاح اسماعيل شلبي، دار الشروق للنشر والتوزيع والطباعة، جدة، ط 3، 1984 م.

80. رمضان (صالح)، الرسائل الادبية ودورها في تطوير النثر العربي القديم - مشروع قراءة شعرية، دار الفارابي، بيروت، لبنان، ط 2، 2007 م.

81. الريشهري (محمد)، ميزان الحكمة، تحقيق: دار الحديث، نشر دار الحديث، قم، ط 1، 1416 ھ.

82. الزبيدي (محب الدين)، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق: علي شيري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 1994 م.

83. الزركشي (بدر الدين)، البرهان في علوم القرآن، تحقيق: محمد ابو الفضل ابرهيم، دار الفكر، لبنان، ط 1، 1980 م.

ص: 351

الزماني (كمال)، حجاجية الصورة في الخطابة السياسية لدى الامام علي (عليه السلام)، عالم الكتب الحديث، اربد الاردن، ط 1، 2012 م.

85. الزمخشري (ابو القاسم جار الله)، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الاقاويل في وجه التأويل، تحقيق: الشريف علي بن محمد علي السيد، واحمد بن محمد الاسكندري، دار الفكر، بيروت، لبنان، 2006 م.

86. الزمخشري (محمود بن عمر)، المفصل في علم العربية، تحقيق: فخر صالح قدارة، مطبعة التقدم، القاهرة، ط 1، 1323 هه.

87. الزناد (الازهر)، دروس في البلاغة العربية ، نحو رؤية جديدة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط 1، 1992 م.

88. زيني (محمد حسن)، دراسات في أدب الدعوة الإسلامية، نادي مكة الثقافي، السعودية، ط 1، 1403 ه-.

89. سالم سعد الله (محمد)، أطياف النص ، دراسات في النقد الاسلامي المعاصر، سلسلة النقد المعرفي ( 2)، دار عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، 2007 م.

90. السبكي (بهاء الدين)، عروس الافراح في شرح تلخيص المفتاح، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، ط 1، 1423 هه ، 2003 م.

91. سبيلا (محمد) و بنعبد العالي (عبد السلام)، اللغة: روبول ، سلسلة دفاتر فلسفية (نصوص مختارة)، دار توبقال، للنشر، المغرب، ط 4، 2005 م.

92. السكاكي (ابو يعقوب)، مفتاح العلوم، تحقيق: نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1983 م.

93. سلمان (علي محمد علي)، كتابة الجاحظ في ضوء نظريات الحجاج (رسائله نموذجا)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط 1، 2010 م.

94. سيرفوني (جان)، الملفوظية، ترجمة: قاسم مقداد، منشورات اتحاد الكتاب العرب، سوريا، 1998 م.

ص: 352

السيوطي (ابو الفضل جلال الدين)، الاتقان في علوم القرآن، تحقيق: محمد ابو الفضل ابراهيم، المكتبة العصرية، صيدا بيروت، ط 1، 1426 ه ، 2006 م.

96. السيوطي (ابو الفضل جلال الدين)، معترك الاقران في اعجاز القران، تحقيق: علي محمد البجاوي، القاهرة، 1973 م.

97. الشاهروردي (علي النمازي)، مستدرك سفينة البحار، تحقيق: حسين بن علي النمازي، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، 1419 هه.

98. شبيل (عبد العزيز)، نظرية الاجناس الادبية في التراث النثري - جدلية الحضور والغياب، نشر: دار محمد علي الحامي، تونس، ط 1،2001 م.

99. شكري المبخوت، الاستدلال البلاغي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، لبنان، ط 2، 2010 م.

100. الشكعة (مصطفى)، الادب في موكب الحضارة الاسلامية ، كتاب النثر، الدار المصرية اللبنانية، ط 3، 1993 م.

101. الشكيلي (بسمة بلحاج رحومة)، السؤال البلاغي ، الانشاء والتأويل، دار محمد علي، المعهد العالي للغات، تونس، ط 1، 2007 م

102. الشمّخ (الشمّخ بن ضرار الذبياني)، ديوان الشمَّخ، شرح وتقديم: قدري مانو، دار الكتاب العربي، ط 1، بيروت، لبنان، 1994 م.

103. الشهري (عبد الهادي بن ظافر)، استراتيجيات الخطاب ، مقاربة تداولية، دار الكتب الجديدة المتحدة، ط 1، 2004 م.

104. الشيرازي (ناصر مكارم)، الامثل في تفسير كتاب الله المنزل، مطبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط 1، 2002 م 105. صحراوي (محمد)، التداولية عند العلماء العرب ، دراسة تداولية لظاهرة (الافعال الكلامية) في التراث الاسلامي العربي، دار الطليعة، بيروت، ط 1، 2005 م

106. الصدر (محمد صادق)، حياة امير المؤمنين في عهد النبي، مطبعة المعارف، بغداد،

ص: 353

ط 1، 1944 م

10107 الصديق (حسين)، المناظرة في الادب العربي والاسلامي، الشركة المصرية العالمية لونجمان، مصر، ط 1، 2000 م.

108. صكوحي (كورنيلا فون راد) الحجاج في المقام المدرسي، منشورات كلية الآداب ، منوبة تونس، 2003 م.

109. صمّود (حمَّادي)، أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من ارسطو الى اليوم، منشورات كلية الآداب ، منوبة، تونس، ط 1، 1998 م.

110. صولة (عبد الله)، الحجاج في القرآن الكريم ، من خلال أهم خصائصه الاسلوبية، دار الفارابي، بيروت، لبنان، ط 2، 2007 م 111. ضيف (شوقي)، البلاغة تطور وتاريخ، دار المعارف، القاهرة، ط 8، 1990 م

112. ضيف (شوقي)، تاريخ الأدب العربي ( العصر الإسلامي )، دار المعارف، القاهرة، ط 23 ، 2007 م.

113. طاليس (ارسطو)، الخطابة، ترجمة: عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات - الكويت، دار القلم، بيروت، لبنان، 1979 م.

114. الطباطبائي (طالب سيد هاشم)، نظرية الافعال الكلامية بين فلاسفة اللغة المعاصرين والبلاغيين العرب، مطبوعات جامعة الكويت، الكويت، 1994 م.

115. طبانة (بدوي)، قضايا النقد الادبي، دار المريخ، الرياض، ط 1، 1988 م.

116. الطبرسي (أﺑو علی الفضل بن الحسین)، مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق:

ابراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1997 م.

117. طروس (محمد)، النظرية الحجاجية من خلال الدراسات البلاغية والمنطقية واللسانية، دار الثقافة، المغرب، ط 1، 2005 م.

118. الطلبة (محمد سالم محمد الامين)، الحجاج في البلاغة المعاصرة، در الكتاب الجديد المتحدة، لبنان، 2008 م.

ص: 354

119. طلحة (محمود)، تداولية الخطاب السردي ، دراسة تحليلية في (وحي القلم) للرافعي، عالم الكتب الحديث، اربد، الاردن، ط 1، 2012 م.

120. طليمات (غازي) والاشقر (عرفان)، تاريخ الادب العربي (النثر في عصر النبوة والخلافة الراشدة )، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط 1، 2007 م.

121. العاقد (احمد)، المعرفة والتواصل ، عن اليات النسق الاستعاري، دار أبي رقراق، الرباط، 2006 م.

122. العاملي (حسين جمعة)، شروح نهج البلاغة، مطبعة دار الفكر، بيروت، 1403 هه - 1983 م.

123. عباس (احسان)، الشريف الرضي، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1959 م

124. عبدة (محمد)، شرح نهج البلاغة، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، ط 1، 1424 ه- - 2003 م.

125. عبد الرحمن )طه(، في اصول الحوار وتجديد علم الكلام، المركز الثقافي العربي، ط 2، 2000 م.

126. عبد الرحمن (طه)، اللسان والميزان او التكوثر العقلي، المركز الثقافي العربي، ط 1، 1998 م.

127. عبد الفتاح (احمد محمد)، المنهج الاسطوري في تفسير الشعر الجاهلي، دار المناهل، بيروت، لبنان، ط 1، 1987 م.

128. عبد اللطيف (عادل)، بلاغة الاقناع في المناظرة ، مقاربات فكرية، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط 1، 1434 هه ، 2013 م.

129. عبد المجيد (جميل)، البلاغة والاتصال، دار غريب، مصر، 2000 م.

130. عبد النور (جبور)، المعجم الادبي، دار العلم للملايين، ط 1، (د.ت).

131. عتيق (عبد العزيز)، في النقد الادبي، دار النهضة العربية، بيروت، ط 2، 1391

ص: 355

، 1972 م.

132. عرفة (عبد العزيز عبد المعطي)، من بلاغة النظم العربي، عالم الكتب، الاردن، ط 2، 1984 م.

133. العزاوي (ابو بكر)، الخطاب والحجاج، مؤسسة الرحاب الحديثة، بيروت، لبنان، ط 1، 2010 م.

134. العزاوي (ابو بكر)، اللغة والحجاج، العمدة في الطبع، المغرب، ط 1، 2006 م.

135. العسقلاني (ابن حجر)، الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق:عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد عوض، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1415 ه.

136. العسكري (ابو هلال)، الصناعتين، تحقيق: محمد البجاوي، ومحمد ابو الفضل ابراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، ط 1، 2006 م.

137. العشراوي (عبد الجليل)، الحجاج في الخطابة النبوية، عالم الكتب الحديث، اربد، الاردن، ط 1، 2012 م

138. عشير (عبد السلام)، عندما نتواصل نغير (مقاربة تداولية معرفية لاليات التواصل والحجاج)، افريقيا الشرق، المغرب، ط 1، 2005 م

139. العلايلي (عبد الله)، الإمام الحسين سمو المعنى في سمو الذات، مطبعة عيسى البابي، مصر، 1358 ه - 1939 م.

140. علوي (حافظ اسماعيل) واخرون، التداوليات علم استعمال اللغة، عالم الكتب الحديث، الاردن، ط 1، 2011 م.

141. علوي (حافظ اسماعيل) وآخرون، الحجاج ، مفهومه ومجالاته، عالم الكتب الحديث، اربد، الاردن، ط 1، 2010 م.

142. العلوي (يحيى بن حمزة)، كتاب الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الاعجاز تحقيق: عبد الحميد هنداوي، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، مصر، ط 1، 2008 م.

ص: 356

143. عمر (فائز طه)، النثر الصوفي ، دراسة فنية، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط 1، 2004 م.

144. العمري (محمد)، البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول، افريقيا الشرق، المغرب، ط 1، 2005 م.

145. العمري (محمد)، البلاغة العربية ، اصولها وامتداداتها، افريقيا الشرق، المغرب، 1999 م

146. العمري (محمد)، في بلاغة الخطاب الإقناعي (مدخل نظري وتطبيقي لدراسة الخطابة العربية)، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط 1، 1986 م

147. عوض (ريتا)، بنية القصيدة الجاهلية للصورة الشعرية لدى امرئ القيس، دار الآداب، بيروت، لبنان، ط 1، 1992 م.

148. غلّب (عبد الكريم)، دفاع عن فن القول، الدار العربية للكتاب، مطابع دار القلم، تونس، 1984 م.

149. الفراهيدي (الخليل بن احمد)، كتاب العين، تحقيق: د. مهدي المخزومي و د.

ابراهيم السامرائي، مطابع الرسالة، الكويت، 1980 م.

150. فضل (صلاح)، بلاغة الخطاب وعلم النص، الشركة المصرية العالمية للنشر ، لونجمان، طبع في دار نوبار للطباعة، القاهرة، ط 1، 1996 م.

151. الفيروز ابادي (مجد الدين محمد بن يعقوب)، القاموس المحيط، اعداد وتقديم:

محمد عبد الرحمن المرعشلي، دار احياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 2003 م.

152. فيّود (بسيوني عبد الفتاح)، دراسات بلاغية، مؤسسة المختار للنشر، مصر، ط 1، 1429 ھ ، 1998 م.

153. القاضي الجرجاني ( علي بن عبد العزيز)، الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق:

محمد أبو الفضل إبراهيم، وعلي محمد البجاوي، دار القلم، بيروت، لبنان، 1966 م.

ص: 357

154. قدامة بن جعفر (جمال الدين الكاتب البغدادي)، نقد النثر، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ط 4، 1359 ھ 155. القرطاجني (حازم)، منهاج البلغاء وسراج الادباء، تقديم وتحقيق: محمد الحبيب بن خوجة، دار الغرب الاسلامي، بيروت، لبنان، ط 3، 1986 م.

156. القرطبي (ابو عبد الله محمد بن احمد الانصاري)، الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي)، تحقيق: عبد الله بن محسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1427 هه ، 2006 م.

157. قصاب (وليد ابراهيم)، البلاغة العربية - علم المعاني، دار القلم، دبي، 1999 م.

158. القلقشندي (ابو العباس احمد بن علي)، صبح الاعشى في صناعة الانشا، المطبعة الاميرية، القاهرة، 1913 م.

159. كوهن (جان)، بنية اللغة الشعرية، ترجمة: محمد الولي و محمد العمري، دار توبقال للنشر، المغرب، ط 1، 1986 م.

160. لالاند (اندريه)، موسوعة لالاند الفلسفية، منشورات عويدات، بيروت / باريس، ط 2، 2001 م.

161. مبارك (زكي)، النثر الفني في القرن الرابع، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، ط 2، 1987 م.

162. المبخوت (شكري)، توجيه النفي ، في تعامله مع الجهات والاسوار والروابط، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، لبنان، ط 1، 2009 م.

163. المتنبي (احمد بن الحسين ابو الطيب)، شرح ديوان المتنبي، وضعه: عبد الرحمن البرقوقي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 1407 ه ، 1986 م.

164. المتوكل )احمد)، قضايا اللغة العربية في اللسانيات الوظيفية ، البنية التحتية او التمثيل الدلالي التداولي، دار الامان، المغرب، 1995 م.

165. المتوكل (احمد)، الوظائف التداولية في اللغة العربية، دار الثقافة، الدار البيضاء،

ص: 358

ط 1، 1985 م.

166. المجلسي (محمد باقر)، بحار الانوار، مؤسسة الوفاء، بيروت، لبنان، ط 2، 1983 م.

167. المرعشي (السيد المرعشي النجفي)، شرح إحقاق الحق، تحقيق: السيد محمود المرعشي، منشورات آية الله العظمى المرعشي النجفي، مطبعة حافظ، ط 1، قم، إيران، 1417 ﻫ- .

168. المسعودي، ( أبو الحسن علي بن الحسين بن علي )، مروج الذهب ومعادن الجوهر، دقق الفهارس ووضعها وضبطها: الأستاذ يوسف اسعد داغر، دار الأندلس، بيروت، لبنان، 1965 م.

169. مسلم بن الحجاج ( ابو الحسين القشيري النيسابوري)، صحيح مسلم، خرج الاحاديث: صدقي جميل العطار، دار الفكر، بيروت، 2004 م.

170. المصطفى (شوقي)، المجاز والحجاج في درس الفلسفة بين الكلمة والصورة، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، ط 1، 2005 م.

171. مطلوب (احمد) والبصير (كامل حسن)، البلاغة والتطبيق، طبع بمطابع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، جامعة بغداد، العراق، ط 2، 1990 م.

172. مفتاح (محمد)، تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص)، دار التنوير، بيروت ط 1، 1985 م.

73. مفتاح (محمد)، التلقي والتأويل ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط 1، 1994 م.

174. مفتاح (محمد)، مجهول البيان، دار، توبقال، الدار البيضاء، المغرب، ط 1، 1990 م.

175. المقداد (محمود)، تاريخ الترسل النثري عند العرب في الجاهلية، دار الفكر المعاصر، بيروت، لبنان، ط 1، 1993 م.

ص: 359

176. المنقري (نصر بن مزاحم)، وقعة صفين، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، المؤسسة العربية الحديثة للطبع والتوزيع والنشر، القاهرة، 1382 هه.

177. الميداني ( أبو الفضل احمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري )، مجمع الأمثال، تحقيق وشرح وفهرسة: الدكتور قصي الحسين، دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط 1، 2003 م.

178. الناجح (عز الدين)، العوامل الحجاجية في اللغة العربية، مكتبة علاء الدين للنشر والتوزيع، صفاقس، تونس، ط 1، 2011 م.

179. ناصر (عمارة)، الفلسفة والبلاغة ، مقاربة حجاجية للخطاب الفلسفي، منشورات الاختلاف (الجزائر) و الدار العربية للعلوم (بيروت) ط 1، 2009 م.

180. ناصف (مصطفى)، قراءة ثانية لشعرنا القديم، دار الاندلس للطباعة والنشر والتوزيع، ط 2، بيروت، لبنان، 1401 هه - 1981 م.

181. النحاس (مصطفى)، دراسات في الادوات النحوية، الربيعان للنشر والتوزيع، الكويت، ط 1، 1979 م.

182. نصر حامد ابو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير - دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة، دار التنوير، بيروت، ط 3، 1993 م.

183. النويري (محمد)، علم الكلام والنظرية البلاغية عند العرب، منشورات كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة منوبة، تونس، ط 1، 2001 م.

184. هنريش (بليث)، البلاغة والاسلوبية - نحو نموذج سيميائي لتحليل النص، ترجمة: محمد العمري، افريقيا الشرق، المغرب، 1999 م.

185. الولي (محمد)، الاستعارة في محطات يونانية وعربية وغربية، دار الامان للنشر، ﻁ 1، 2005 م.

ص: 360

الرسائل الجامعية)

1. ابن خراف (ابتسام)، الخطاب الحجاجي السياسي في كتاب ( الامامة والسياسة ) لابن قتيبة ، دراسة تداولية، (اطروحة دكتوراه)، كلية الآداب والعلوم الانسانية، جامعة الحاج لخضر - باتنه، الجزائر، 2010 م.

2. البصير (كامل حسن)، رسائل الامام علي ، دراسة فنية ( رسالة ماجستير )، كلية التربية، جامعة بغداد، 1965 م.

3. بلخير (عمر)، معالم لدراسة تداولية حجاجية للخطاب الصحافي الجزائري المكتوب ما بين 1989 ، 2000 م، (اطروحة دكتوراه)، كلية الآداب واللغات جامعة الجزائر، الجزائر، 2005 ، 2006 م.

4. بو بلوطة حسين، الحجاج في الامتاع والمؤانسة لابي حيان التوحيدي، (رسالة ماجستير)، كلية الاداب والعلوم الانسانية، جامعة لخضر ، باتنة، الجزائر، 2009 ، 2010 م.

5. زموش (كهينة)، حجاج موسى عليه السلام في النص القرآني ، دراسة تداولية، رسالة ماجستير، كلية الاداب واللغات، جامعة مولود معمري تيزي وزو، الجزائر، 2011 م.

6. السعيدي (ناصر بن دخيل الله بن فالح)، الاحتجاج العقلي والمعنى البلاغي-دراسة وصفية، (اطروحة دكتوراه)، كلية اللغة العربية، جامعة ام القرى، المملكة العربية السعودية، 1425 - 1426 ه-.

7. صبري (محمود علي عبد الله)، الحية في الشعر الجاهلي ( رسالة ماجستير )، كلية الدراسات العليا، جامعة النجاح الوطنية، فلسطين، 2003 م.

8. عبيدة (فتيحة)، لكن في القران الكريم ، دراسة تركيبية دلالية ( رسالة ماجستير)، كلية الآداب واللغات، جامعة الجزائر، الجزائر، 2001 م.

ص: 361

9. فروم (هشام)، تجليات الحجاج في الخطاب النبوي ، دراسة في وسائل الاقناع (الاربعون حديثا النووية ) انموذجا، (رسالة ماجستير)، كلية الآداب والعلوم الانسانية، جامعة الحاج لخضر - باتنه، ، الجمهورية الجزائرية، 2009 م.

10. لكحل (سعدية)، الحجاج في خطابات النبي ابراهيم (عليه السلام)، (رسالة ماجستير)، كلية الآداب واللغات، جامعة مولود معمري تيزي وزو، الجزائر، 2008 م.

11. يعمرانن (نعيمة)، الحجاج في كتاب ( المثل السائر ) لابن الاثير، (رسالة ماجستير)، كلية الآداب واللغات، جامعة مولود معمري / تيزي وزو، الجمهورية الجزائرية، 2012 م.

(المجلات)

1. ابن عيسى (عبد الحليم)، البيان الحجاجي في اعجاز القرآن الكريم ، سورة الانبياء انموذجا، مجلة التراث العربي، اتحاد الكتاب العرب، سوريا، عدد ( 102 )، السنة السادسة والعشرون، نيسان 2006 .

2. بو زناشة (نور الدين)، الحجاج في الدرس اللغوي العربي، مجلة العلوم الانسانية ، عدد ( 44 )، 2010 الموقع .www.ulum.nl 3. بو قرة (نعمان)، نظرية الحجاج، مجلة الموقف الادبي، اتحاد الكتاب العرب، سوريا، عدد ( 407 )، 2005 م.

4. الراضي (رشيد)، الحجاجيات اللسانية عند انسكومبر وديكرو، مجلة دراسات سيميائية أدبية لسانية، مجلة فصلية، عدد ( 2)، شتاء 1987 ، ربيع 1988 م.

5. الرقبي (رضوان)، الاستدلال الحجاجي التداولي واليات اشتغاله، مجلة عالم الفكر، الكويت، عدد ( 2)، مجلد ( 40 )، اكتوبر، ديسمبر، 2011 م.

6. روبول (اوليفي)، هل يمكن ان يوجد حجاج غير بلاغي، ترجمة محمد العمري، مجلة

ص: 362

علامات، النادي الادبي الثقافي، جدة، السعودية، عدد ( 6)، ديسمبر 1996 م.

7. شوقي (طريف) و شحاته (عبد المنعم)، ابعاد سلوك المحاجة ، دراسة عاملية، مجلة دراسات عربية في علم النفس، تصدرها رابطة التربويين العرب، السعودية، عدد( 5)، 2008 م.

8. صافية (دراجي)، سلطة الفعل الكلامي من خلال رسائل الإمام علي، محاضرات الملتقى الوطني الاول (السيمياء والنص الادبي 7 ، 8 نوفمبر، 2000 م ) قسم الادب العربي، كلية الآداب والعلوم الاجتماعية، جامعة محمد خيضر - بسكرة، الجزائر، مخبر ابحاث في اللغة والادب الجزائري، lab.lla@univ-biskra.dz.

9. العزاوي (أبو بكر)، البنية الحجاجية للخطاب القرآني ، سورة الأعلى نموذجا، مجلة المشكاة، وجدة، المغرب، عدد ( 19 )، 1998 م.

10. العمري (محمد)، البلاغة العامة والبلاغات المعممة، مجلة فكر ونقد، الدار البيضاء، المغرب، عدد ( 20 )، يناير 2000 م.

11. فاخوري (عادل)، الاقتضاء في التداول اللساني، مجلة عالم الفكر، الكويت، اكتوبر، نوفمبر، ديسمبر، مجلد ( 20 )، عدد ( 2 )، 1989 م.

12. ليونيل بلينجر، الاليات الحجاجية للتواصل، ترجمة: عبد الرفيق بوركي، مجلة علامات، النادي الادبي الثقافي، جدة، السعودية، عدد ( 21 )، 2004 م.

13. مرزوقي (حسن محمد)، مدخل الى نظرية الحجاج، مجلة التربية، البحرين عدد ( 15 )، 2005 م.

14. مسعودي (الحواس)، البنية الحجاجية في القران الكريم ، سورة النحل نموذجا، مجلة اللغة والآداب، معهد اللغة العربية وآدابها، جامعة الجزائر، عدد( 12 )، ديسمبر، 1997 م.

15. الولي (محمد)، الاستعارة الحجاجية، مجلة فكر ونقد، عدد ( 61 )، سبتمبر 2004 م

ص: 363

16. الولي (محمد)، بلاغة الحجاج، مجلة فكر ونقد، الدار البيضاء، المغرب، عدد (20 )، 1998 .

17. الولي (محمد)، مدخل الى الحجاج ( افلاطون وارسطو وشايم بيرلمان )، مجلة عالم الفكر، الكويت، عدد ( 2)، مجلد( 40 )، اكتوبر- ديسمبر، 2011 م.

(الكتب الاجنبية)

1. Michel meyer(ed) histoird la rheteorique ds grecs anos jours livr de poche pirs، pairs، 1999

2. C.K

Orecchioni، La connotation، P.U.، Lyon، 1977.

3. Chaim Perlman et lucie olbrchts tyca: traite d largumantation،op1992

4. Heinemann، Wolfgang- Viehweger، Dieter، Textlinguistik، Eine Einfubrug. Max Niemeyer Verlag، Tuebingen 1991

5. L، argumentation colle “ que sais ، je “ ED. PUF PARIS.

1983

6. Le grand Robert: Dictionnaire de La Langue Francaise، T. 1، Partis، 1989 .7

. Longmen:

Dictionary of Contemporary English، Longman، 1989.

8. Mayer ( Michel ) logique، Lanage et argumentation، Edition، Hochell، Enuversite، 1982، 2eme، paris

9. moeshler “ j” e+ Reboul “A”، Dictionnire Encyclopediquede

ص: 364

pragmatique، p 3211 322- eddu seuil، 1994 . Moraml، a Nicomaco، coleccion Austral، Madrid .10، 2002

11. O.D ecrotne pas dire، Principe semantique linquistique، Collection savor-sciences،Hermann،Editeur de science des arts.3emeedition،p 1991

12. Orecchioni، L enunciation: De La Subjectivite dans Le languge، armand colin، paris، 1980 .13. R.Matin،les univers de croyance et la theorie semantique in Etudes linquistiques، Association Tunisienne de linguistique، Volume 1،1996 .14. Rieke، Richard، D، Sillars، Malcolm، O، Argumentation and the decision Making process، John Wilry and Sons، Inc.

USE 1975.

15. Schiffrin، Deborah، Everyday Argument، The Organization of Diversity in Talk، in: Teun A. V an Dijk (ed): Handbook of Discourse Analysis، V ol. 3: Discourse and Dialogue.

Academic Press. London. 3d. Edition 1989.

ص: 365

ص: 366

المحتويات

صورة

ص: 367

بحَمد الله تمّ

ص: 368

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.