موسوعة الامام الخمیني قدس سرة الشریف المجلد 5 الاستصحاب

هوية الکتاب

عنوان واسم المؤلف: موسوعة الامام الخمیني قدس سرة الشریف المجلد 5 الاستصحاب/ [روح الله الامام الخمیني قدس سرة].

مواصفات النشر : طهران : موسسة تنظیم و نشر آثارالامام الخمیني قدس سرة، 1401.

مواصفات المظهر: 413ص.

الصقيع: موسوعة الامام الخمیني قدس سرة

ISBN: 9789642123568

حالة القائمة: الفيفا

ملاحظة: الببليوغرافيا مترجمة.

عنوان : الخميني، روح الله، قائد الثورة ومؤسس جمهورية إيران الإسلامية، 1279 - 1368.

عنوان : الفقه والأحكام

المعرف المضاف: معهد الإمام الخميني للتحرير والنشر (س)

ترتيب الكونجرس: BP183/9/خ8الف47 1396

تصنيف ديوي : 297/3422

رقم الببليوغرافيا الوطنية : 3421059

عنوان الإنترنت للمؤسسة: https://www.icpikw.ir

جمعية خيرية رقمية: مركز خدمة مدرسة إصفهان

محرّر: حسن حاجی هادیان

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

مقدّمة التحقيق

بسم اللّه الرحمن الرحيم .

الحمد للّه ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين.

كتاب «الاستصحاب» هو حصيلة تدريس الإمام الخميني قدّس سرّه أوّل دورة اُصولية ، فبعد أن كتب الإمام قدّس سرّه أبحاث «لا ضرر» بشكل مستقلّ ، عدل في هذا البحث وكذا في سائر الأبحاث الاُصولية أيضاً عن كتابته على شكل تعليقة على كتاب «الكفاية» إلى كتابته بصورة مستقلّة .

تمّ تسويد هذا الكتاب في التاسع من شهر رمضان المبارك من عام 1370 ه . ق في مدينة محلاّت ، وقبل تحقيقه ونشره في عام 1417 ه . ق الموافق لعام 1375 ه . ش من قبل مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه - فرع قم المقدّسة - فقد طبع ونشر في ضمن كتاب «الرسائل» باهتمام وتهميش آية اللّه المحقّق الشيخ مجتبى الطهراني ( أحد تلاميذ الإمام قدّس سرّه ) من قبل مؤسّسة إسماعيليان للطباعة والنشر في عام 1385 ه ق .

وحيث كان زمان تدوين الكتاب عند تدريس الاُصول في الدورة الاُولى ،

ص: 5

أضاف المصنّف قدّس سرّه في الدورة الثانية تعليقات على الكتاب متذكّراً لآراءه الحديثة وتتميماً للأبحاث .

وسيلحظ القارئ الكريم في هذا الكتاب أنّ المؤلّف قد جمع بين الدقّة العقلية والدقّة العرفية ، كلّ منهما في المحلّ المناسب له ، فبرزت دقّته العقلية في جريان الاستصحاب في الأحكام العقلية والأحكام الشرعية المستكشفة من الأحكام العقلية ، جعل الأحكام الوضعية ، استصحاب العدم الأزلى ، استصحاب الزمان والزمانيات وغيرها .

كما تظهر دقّته العرفية من خلال بحثه في تحقيق ماهية اليد ؛ حيث اختار أنّ الاستيلاء والسلطة الفعلية على الأشياء تختلف بحسب الموارد وحسب المستولى عليه وأنّ استيلاء الأفراد يختلف عن استيلاء الحكومات ، فإنّه يرى أنّ استيلاء الحكومات على الجوّ والمحيط يختلف «حسب اختلاف الأزمنة ؛ ففي سالف الزمان لم يكن الجوّ البعيد - نحو ميل أو أكثر - وقعر البحار العميقة تحت الاستيلاء والسلطنة الفعلية ، والآن يكون كلّ ذلك إلى حدودٍ تحتهما ، وإذا حدثت آلات أرقى ممّا هي الآن يتّسع نطاق الاستيلاء والسلطنة حسبها»، وتظهر أيضاً دقّته العرفية في استصحاب الكلّي ووحدة الموضوع في الاستصحاب وغيرهما .

ومن الأبحاث التي برزت فيها إبداعات هذا الفقيه الاُصولي هي بحث قاعدة القرعة حيث قال : «قد اشتهر في ألسنة المتأخّرين أنّ عمومات القرعة قد وردت عليها مخصّصات كثيرة بالغة حدّ الاستهجان» إلاّ أ نّه يرى شيئاً آخر حيث قال : «وقد ظهر لي بعد الفحص الأكيد عن أقوال الفقهاء والتأمّل التامّ في الأخبار الواردة في الموارد المتقدّمة غير ذلك ، ومحصّل الكلام أ نّه لا إشكال في بناء

ص: 6

العقلاء على العمل بالقرعة في موارد تزاحم الحقوق مع عدم الترجيح عندهم ، سواء كان لها واقع معلوم عند اللّه أو لا» ثمّ صرّح بأنّ المتتبّع في الأخبار وكلمات الفقهاء المتعلّقة بالقرعة يحصل له القطع بالنتيجة التالية : «إنّ مصبّ القرعة في الشريعة ليس إلاّ ما لدى العقلاء طابق النعل بالنعل» ، إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المطّلع الخبير .

منهجنا في التحقيق :

1 . تصحيح الكتاب طبقاً للنسخة التي بخطّ المؤلّف قدّس سرّه .

2 . تقويم النصّ وترقيمه بعلائم الترقيم .

3 . إضافة عدد من العناوين بهدف تسهيل الرجوع للكتاب، ونظراً لكثرتها فقد جرّدناها من المعقوفين [ ] .

4 . تخريج الآيات الكريمة ، والأحاديث الشريفة ، وقد أسندناها إلى مصادرها الأصلية كالكتب الأربعة وكتب الواسطة ك «وسائل الشيعة» .

5 . تخريج الأقوال والآراء المنقولة قدر المستطاع ؛ سواء الفقهية منها أو الاُصولية أو الرجالية أو التفسيرية أو الفلسفية أو اللغوية أو غيرها . وقد عبّرنا بلفظ «اُنظر» فيما لو لم نتمكّن من تحديد صاحب القول الأصلي ، أو لم نعثر على القول في كتابه ، أو لم يكن المنقول مطابقاً للموجود في الكتاب .

6 . وضع الفهارس الفنّية في آخر الكتاب تسهيلاً لأمر المحقّقين والاستفادة الكاملة من الكتاب .

وليعلم أنّ هذه المراحل قد وقعت في الطبعة الاُولى لهذه المؤسّسة وفي هذه

ص: 7

الطبعة قد صحّحناها وهذّبناها ثانياً .

وختاماً نتقدّم بالشكر الجزيل والثناء الجميل لجميع الأفاضل الذين ساهموا في هذا المشروع المبارك والذي استمرّ ستّة أعوام لنشر هذه الموسوعة ، ونسأل الباري أن يوفّقهم جميعاً ويثيبهم من فضله .

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين، وحسبنا اللّه ونعم الوكيل .

مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه .

فرع قم المقدّسة.

ص: 8

صورة

صورة الصفحة الاُولى من الأصل

ص: 9

صورة

صورة الصفحة الأخيرة من الأصل

ص: 10

بسم اللّه الرحمن الرحيم.

الحمد للّه ربّ العالمين وصلّى

اللّه على محمّد وآله الطاهرين

ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين

ص: 1

ص: 2

فصل في تعريف الاستصحاب

اشارة

وقد عرّف بتعاريف لا يخلو شيء منها من الإشكال ، بل لا يخلو كلام الأعلام في هذا الباب من الاضطراب والمناقضة صدراً وذيلاً ، وبعد تحقيق حقيقة الاستصحاب يظهر صدق ما ادّعيناه .

فنقول : إنّ الاستصحاب إمّا أن يكون أصلاً عملياً ، كأصالة الحلّ والطهارة ، ويكون وظيفة عملية في مقام الشكّ ، ويكون موضوعه الشكّ في شيء متيقّن سابقاً ، من غير أن يكون اعتباره لأجل التحفّظ على الواقع ، فلا يكون حينئذٍ حجّة على الواقع ، ولا طريقاً مجعولاً ، فإطلاق الحجّة عليه غير صحيح ، كإطلاق الحجّة على أصالتي الطهارة والحلّية . فبناءً عليه يكون تعريفه ب «إبقاء ما كان»(1) وأمثاله(2) ممّا لا مانع منه ، سواء اُريد منه الإبقاء العملي الذي هو وظيفة

ص: 3


1- مناهج الأحكام والاُصول : 225 / السطر 31 ؛ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 9 .
2- الفصول الغروية : 366 / السطر 13 ؛ اُنظر ضوابط الاُصول : 348 / السطر 2 .

المكلّف(1) ، أو الحكم بالإبقاء من قِبل الشارع(2) .

ولا يخفى : أ نّه حينئذٍ يكون مسألة فقهية ولو في الاستصحابات الحكمية ؛ فإنّه على كلا التقديرين يكون وظيفة عملية غير ناظرة إلى الحكم الواقعي ، ولا حجّة عليه ، ولا طريقاً إليه .

وإمّا أن يكون حجّة على الواقع سواء كان أصلاً اعتبر لأجل التحفّظ على الواقع ، كأصالة الاحتياط في الشبهة البدوية ، أو طريقاً كاشفاً عنه كسائر الأمارات الكاشفة عن الواقع ، فحينئذٍ يكون مسألة اُصولية ، وإطلاق الحجّة عليه صحيح ؛ فإنّ معنى الحجّية هو كون الشيء منجِّزاً للواقع ؛ بحيث لو خالفه المكلّف مع قيامه عليه يكون مستحقّاً للعقوبة .

مثلاً : لو قام الدليل على وجوب الاحتياط في الشبهة البدوية ، يصير الاحتمال حجّة على الواقع ؛ بمعنى أ نّه لو احتمل المكلّف وجوب شيء فتركه ، وكان واجباً واقعاً ، يصير مستحقّاً للعقوبة عليه ، وهذا معنى تنجيز الواقع ، والمنجِّز هو الحجّة على الواقع ، وليس المراد بالحجّة في الاُصول القياس المنطقي ، وإن اشتبه على بعض الأعاظم حتّى العلاّمة الأنصاري قدّس سرّه (3) .

وبالجملة : إطلاق الحجّة على الاستصحاب - بناءً على كونه أصلاً لحفظ الواقع ، أو أمارة لإثباته - صحيح ، ولكن تعريفه حينئذٍ ب «إبقاء ما كان» ومثله ليس على ما ينبغي ؛ لأنّ الاستصحاب بناءً عليه أمر يكون حكم الشارع أو

ص: 4


1- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 509 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 9 .
3- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 29 .

بناء العقلاء أو حكم العقل دليلاً على اعتباره ، ويجب على المكلّف العمل على طبقه وجوباً طريقياً للتحفّظ على الواقع ، ولا يكون نفس الحكم الشرعي أو نفس عمل المكلّف .

فكما أنّ خبر الثقة - الذي هو طريق إلى الواقع وحجّة عليه - شيء ، وإيجاب العمل على طبقه شيء آخر ، والعمل عليه شيء ثالث ، فلا يصحّ أن يقال : إنّ خبر الثقة هو وجوب العمل على طبقه ، أو العمل على طبقه ، فكذلك الاستصحاب .

فلا بدّ من تعريفه - بناءً عليه - إمّا ب «الكون السابق للشيء الكاشف عن بقائه في زمن الشكّ فيه» ، أو «اليقين السابق الكاشف عن متعلَّقه في زمن الشكّ» ، أو «الشكّ المسبوق باليقين بالشيء» .

فلو قلنا : إنّ الاستصحاب أمارة على الواقع كسائر الأمارات ، ووجه اعتباره عند العقلاء أو الشارع أنّ الثابت يدوم ، فيكون «الكون السابق الكاشف عن البقاء في زمن الشكّ فيه» هو حقيقة الاستصحاب ، فهذا التعريف صحيح ولو بناءً على أخذه من الأخبار .

وأمّا لو قلنا : بأنّ اعتباره الشرعي إنّما يكون بجعل اليقين طريقاً إلى متعلَّقه في زمان الشكّ ، فتكون حقيقته : «أ نّها اليقين السابق على الشكّ في البقاء ، الكاشف عن متعلَّقه في زمن الشكّ» .

ولو قلنا : بأنّ اعتباره ليس لأجل الطريقية إلى الواقع ، بل لأجل التحفّظ عليه ، وأنّ إيجاب العمل على طبق الحالة السابقة لأجل التحفّظ عليها ، فيكون أصلاً وحجّةً على الواقع ، نظير أصالة الاحتياط في الشبهات البدوية في الأعراض والنفوس ، فتكون حقيقته : «أ نّها الشكّ في بقاء الشيء المسبوق باليقين به ، أو

ص: 5

اليقين الملحوق بالشكّ» فيكون ما جعله الشارع حجّة على الواقع هو اليقين السابق الغير الكاشف عن الكون اللاحق أو الشكّ المسبوق به ، كما أنّ ما جعله حجّة عليه في باب الاحتياط في الأعراض والنفوس - بناءً على وجوبه - هو الاحتمال .

وبما ذكرنا : يتّضح النظر في كثير ممّا ذكره الأعلام في المقام ، فإنّك ترى أنّ من جعل الاستصحاب أصلاً عملياً ووظيفة عملية للشاكّ يبحث عن حجّيته .

ومن جعله حجّة على الواقع عرّفه : «بأ نّه الحكم بإبقاء ما كان» .

ومن عرّفه : «بأ نّه الإبقاء العملي ، ويكون فعلاً للمكلّف» يجعله من المسائل الاُصولية ، ويبحث عن حجّيته .

وهذه مناقضات وقعت في كلامهم ، وعليك بالتأمّل التامّ في المقام .

وقد اتّضح أيضاً ممّا ذكرنا : أ نّه لا يمكن تعريفه بشيء يكون مورداً للنقض والإبرام على جميع المسالك ؛ لعدم الجامع بينها ، فإنّ من جعله أصلاً عملياً لا بدّ وأن يجعل الشكّ موضوعاً ، ويقول : إنّه وظيفة للشاكّ عند قصور اليد عن الواقع ، ومن جعله أمارة على الواقع لا بدّ وأن لا يعتبر الشكّ على نحو الموضوعية ، وهما ممّا لا يجتمعان .

وكذا لا جامع بين القول بالطريقية والأمارية على الواقع ، وبين القول بأ نّه حجّة على الواقع وأصل كأصل الاحتياط ، فمن أراد تعريفه بجامع تجتمع عليه الأقوال المتقابلة فقد أخطأ الغرض ، إلاّ أن يراد بالجامع الغرض منه على بعض الاعتبارات .

وينبغي التنبيه على أمرين :

ص: 6

الأمر الأوّل: الاحتمالات التي في الباب

إنّه يحتمل - بحسب التصوّر ومقام الثبوت - أن يكون الاستصحاب أصلاً عملياً ، كأصالة الحلّ والطهارة .

ويحتمل أن يكون أصلاً شرعياً للتحفّظ على الواقع ، ويكون حجّة عليه .

ويحتمل أن يكون أمارة شرعية ، كخبر الثقة بناءً على أن يكون اعتباره من قِبل الشرع .

ويحتمل أن يكون أمارة عقلائية ، كخبر الثقة بناءً على كون اعتباره من جهة بناء العقلاء .

ويحتمل أن يكون أصلاً عقلائياً يكون بناء العقلاء على العمل به لا لأجل طريقيته إلى الواقع ، بل لحكمة دفع الحرج ، كأصالة الصحّة بناءً على كونها من الاُصول العقلائية التي شرّعت عندهم لأجل حكمة دفع الحرج ، لا لأجل الطريقية العقلائية .

ويحتمل أن يكون دليلاً عقلياً من العقليات الغير المستقلّة ؛ أي التي تنتهي إلى الحكم الشرعي لا بالاستقلال ، بل بضمّ مقدّمة شرعية ، كالحكم بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته .

وأمّا احتمال كونه من العقليات المستقلّة فممنوع ؛ لأ نّها هي القضايا العقلية المنتهية إلى الحكم الشرعي بلا توسّط شيء آخر وراء الحكم العقلي ، كالحكم بأنّ الظلم قبيح ، وتجويزه على الشارع قبيح ، والقبيح محال عليه ،

ص: 7

فينتج : أنّ الظلم حرام بحسب حكم الشرع .

ولا يخفى : أنّ الاستصحاب - بناءً على أخذه من العقل - لا يكون من العقليات المستقلّة ؛ لاحتياجه إلى خطاب شرعي يجعل صغرى للكبرى العقلية .

ثمّ اعلم : أنّ القائل بأنّ الاستصحاب أصل عملي يمكن أن يأخذه من الأخبار وهو واضح ، ويمكن أن يأخذه من بناء العقلاء ؛ لإمكان أن يكون أصلاً عقلائياً بنى العقلاء على العمل به لمصالح ، كدفع الحرج ورغد العيش .

اللهمّ إلاّ أن ننكر الأصل العقلائي مطلقاً ونقول : ما عند العقلاء لا يكون إلاّ الطرق كما هو المعروف(1) ، ولكنّه غير مسلّم .

والقائل بأ نّه دليل اجتهادي يمكن أن يأخذه من بناء العقلاء أو حكم العقل ، ويمكن أن يأخذه من الأخبار ؛ بادّعاء أنّ مفادها هو اعتباره من حيث طريقيته وكاشفيته عن الواقع .

ومن بعض ما ذكرنا يظهر النظر في بعض ما أفاده الشيخ الأنصاري في هذا المقام فراجع(2) .

الأمر الثاني: الاستصحاب ليس من الأدلّة الأربعة

إنّ الاستصحاب - بناءً على ما عرّفناه - ليس من الأدلّة الأربعة إذا اُخذت حجّيته من الأخبار ؛ لأنّ الأدلّة الأربعة ؛ أي الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ،

ص: 8


1- راجع فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 485 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 13 .

هي الأدلّة التي اُقيمت منها على الحكم الفرعي ، لا الأعمّ منها وممّا اُقيمت على الحكم الأصلي ؛ أي المسألة الاُصولية .

مثلاً : إذا قام خبر الثقة على حرمة العصير العنبي ، ودلّ ظاهر الكتاب على اعتباره يكون الدليل على حرمة العصير هو خبر الثقة ، لا ظاهر الكتاب ، وكذا لو دلّت الأخبار على اعتبار خبر الثقة ، وقام خبر الثقة على حرمة العصير ، يكون الخبر القائم على حرمته من الأدلّة الأربعة ، لا الأخبار الدالّة على اعتباره .

فالاستصحاب - بناءً على ما ذكرنا : من أ نّه عبارة عن «نفس الكون السابق الكاشف عن بقائه في اللاحق» ، أو «اليقين السابق الملحوق بالشكّ في البقاء» ، أو «الشكّ المسبوق باليقين»(1) ، - هو الدليل أو الحجّة على الحكم الفرعي الكلّي ، وليس هو من الأدلّة الأربعة :

أمّا الإجماع والكتاب فظاهر .

وأمّا العقل فلأنّ المفروض أ نّه اُخذ من الأخبار .

وأمّا السنّة فلأنّ قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ»(2) دليل اعتبار الاستصحاب ، كدلالة آية النبأ (3) على اعتبار خبر الثقة ، فكما أنّ الآية دليل على الدليل ، ويكون الدليل على الفرع الفقهي هو خبر الثقة لا آية النبأ ، فكذلك الدليل في الفقه أو الحجّة في الفقه هو نفس الاستصحاب ، و«لا تنقض اليقين بالشكّ» دليل

ص: 9


1- تقدّم في الصفحة 5 .
2- تهذيب الأحكام 1 : 8/11 ؛ وسائل الشيعة 1 : 245 ، كتاب الطهارة ، أبواب نواقض الوضوء ، الباب 1 ، الحديث 1 .
3- الحجرات (49) : 6 .

على اعتباره . فليس الاستصحاب - بناءً على أخذه من الأخبار - من الأدلّة الأربعة ، بل هو دليل برأسه .

ولعلّ السرّ في ذهاب القدماء من أصحابنا إلى انحصار الأدلّة في الأربعة : أنّ العامّة الذين هم الأصل في تدوين الاُصول عدّوا الاستصحاب من الأدلّة العقلية كالقياس والاستقراء ، وقدماء أصحابنا إلى زمان والد شيخنا البهائي(1) لم يعهد تمسّكهم بالأدلّة النقلية في حجّية الاستصحاب على ما حكي(2) .

وأمّا المتأخّرون ممّن قارب عصرنا فقد أنكروا كون موضوع علم الاُصول هو الأدلّة بما هي أو ذاتها ، وزعموا أ نّه لو جعل الموضوع هو الأدلّة تصير مسألة حجّية خبر الواحد والاستصحاب ونحوهما من المبادئ التصديقية(3) . وقد مرّ في مباحث الألفاظ تحقيق الحال في موضوع الاُصول والمسائل الاُصولية ، فراجع(4) .

وبما ذكرنا : تكون مسألة حجّية الاستصحاب وخبر الثقة من المسائل الاُصولية ، وإلى ما ذكرنا يرجع قول بعض السادة الفحول(5) ، حيث جعل الاستصحاب دليلاً على الحكم في مورده ، وجعل قوله : «لا تنقض اليقين

ص: 10


1- العقد الحسيني (العقد الطهماسبي) : 14 و23 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 14 .
3- كفاية الاُصول : 22 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 27 ؛ نهاية الأفكار 1 : 19 .
4- مناهج الوصول 1 : 3 ، وله قدس سره رأي آخر تجده في أنوار الهداية 1 : 211 .
5- الفوائد الاُصولية ، بحر العلوم : 116 ، الفائدة 35 .

بالشكّ» دليلاً على الدليل ، نظير آية النبأ بالنسبة إلى خبر الثقة ، على ما نقل عنه العلاّمة الأنصاري ، واستشكل عليه بما هو غير وارد عليه بعد التأمّل فيما ذكرنا ، فراجع(1) .

تنبيه: في ضابط المسألة الاُصولية وأنّ الاستصحاب منها

يظهر من العلاّمة الأنصاري هاهنا : أنّ المناط في كون المسألة اُصولية أن يكون إجراؤها في مواردها مختصّاً بالمجتهد ، وأن لا يكون للمقلّد حظّ فيها ، وبنى عليه كون الاستصحاب في الشبهات الحكمية مسألة اُصولية(2) .

ولا يخفى ما فيه : فإنّ كثيراً من المسائل الفقهية والقواعد الفرعية لا تكون كذلك ، كقاعدة : «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» وعكسها ؛ فإنّ الاطّلاع على حدود تلك القاعدة ومقدار سريانها لا يمكن إلاّ للمجتهد ، ولا حظّ للمقلّد فيها ، فالمستفاد من قاعدة «ما لا يضمن» هو أنّ كلّ معاملة لا يضمن بصحيحها لا يضمن بفاسدها ، وبعد تتميم هذه القاعدة يحتاج في تشخيص أنّ أيّة معاملة لا يضمن بصحيحها وأيّتها يضمن إلى اجتهاد .

وبما ذكرنا من المناط في اُصولية المسألة في مباحث الألفاظ(3) يظهر أنّ الاستصحاب مسألة اُصولية ، سواء اُخذ من الأخبار أم لا .

ص: 11


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 19 - 20 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 18 - 19 .
3- مناهج الوصول 1 : 13 - 15 .

فصل حال جريان الاستصحاب في الأحكام العقلية

اشارة

قد فصّل العلاّمة الأنصاري ; بين الأحكام الشرعية المستفادة من الدليل الشرعي ، والمستفادة من الدليل العقلي ، فذهب إلى عدم الجريان في الثانية .

تفصيل الشيخ الأنصاري بين كون دليل المستصحب شرعياً أو عقلياً

ومحصّل كلامه تقريباً : أنّ موضوع الأحكام العقلية بجميع قيوده معلوم مفصّل لدى العقل ، ولا يعقل طروّ الشكّ في موضوع حكمه ، وتكون تمام الحيثيات - حتّى عدم الرافع - من قيود الموضوع ، وتكون مناطات أحكامه معلومة مفصّلة ، والأحكام الناشئة من إدراك تلك المناطات مفصّلة مبيّنة ، لا يحوم حولها الشكّ إلاّ من حيث الشكّ في عنوان الموضوع ، فالشكّ وإن كان في الرافع يرجع إلى الشكّ في تبدّل عنوان الموضوع .

وبالجملة : حكم العقل بحسن عنوان أو قبحه ممّا لا يتبدّل مع حفظ ذاك العنوان ، ومع الشكّ في تبدّل العنوان لا يكون للعقل حكم جزماً ، فاستصحاب

ص: 12

حكم العقل مع القطع بعدمه لا معنى له .

وكذا لا يجري استصحاب الحكم الشرعي المستكشف منه ؛ لأنّ الحكم المستكشف أيضاً يكون للعنوان الذي أدرك العقل مناطه فيه ، فيكون الحكم الشرعي التابع للحكم العقلي متعلّقاً بعين العنوان الذي يكون الحكم العقلي متعلّقاً به ، فلا يمكن طروّ الشكّ مع بقاء الموضوع ، فلا بدّ فيه من الشكّ في تبدّله ، فلا يبقى موضوع الاستصحاب .

هذا في الأحكام العقلية والشرعية المستفادة من حكم العقل .

وأمّا المستفادة من الأدلّة الشرعية ، فجريان الاستصحاب - بناءً على كونه دليلاً ظنّياً - ممتنع ؛ لعين ما ذكرنا .

وأمّا بناءً على أخذه من الأخبار فلا مانع منه ؛ فإنّه تابع لتحقّق موضوعه ومعروضه عرفاً ، فقد يحكم الشارع بحرمة شيء ، ويشكّ في الآن الثاني في بقاء مناطه مع بقاء الموضوع عرفاً ، فيستصحب الحكم الشرعي(1) ، انتهى .

الإشكالات الواردة على الشيخ الأنصاري وجوابها

وأورد عليه جلّ من تأخّر عنه تارة : بأ نّا لا نسلّم لزوم تبيّن موضوع حكم العقل ومناطه ؛ لإمكان أن يكون العقل قاطعاً بوجود المناط في موضوع مركّب من اُمور ، أو مقيّد بقيود على سبيل الإجمال والإهمال ، ولم يكن ما تعلّق به المناط مفصّلاً عنده ، فإذا زال قيد أو جزء غير مقوّم له يشكّ في بقاء ما هو المناط ، فلا يجري استصحاب نفس الحكم العقلي ، ولكن جريان الحكم

ص: 13


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 37 - 40 و215 - 220 .

المستكشف منه ممّا لا مانع منه مع بقاء الموضوع عرفاً ؛ لاحتمال بقاء المناط في الناقص(1) .

واُخرى : بأنّ الملازمة بين حكم الشرع والعقل - موضوعاً ومناطاً - إنّما هي في مقام الكشف والدلالة ، لا بحسب الواقع ، فيحتمل أن يكون هناك ملاك آخر بحسب الثبوت قائم بالناقص ، غير المناط القائم بالكامل(2) .

وثالثة : بأنّ مناط الحكم الشرعي يمكن أن يكون قائماً بالأعمّ ممّا قام به مناط الحكم العقلي ، فتكون دائرة حكمه أوسع ؛ أي يكون مناط الحكم العقلي في الواجد للخصوصية ، ومناط الحكم الشرعي في الأعمّ من الواجد والفاقد ، ومع فقد الخصوصية الغير المقوّمة للموضوع عرفاً يستصحب ؛ لاحتمال بقاء الحكم الشرعي(3) .

أقول : لا يخلو شيء من الإشكالات من نظر :

أمّا الأوّل : فلعدم تعقّل كون العقل جازماً بالمناط في موضوع مركّب على سبيل الإجمال والإهمال ؛ لأنّ من شأن العقل أن يحلّل المركّب والمقيّد إلى أجزاء وقيود بسيطة ، فيلاحظ كلّ جزءٍ من غير انضمامه إلى الآخر ، والمقيّد والقيد من غير انضمام كلّ إلى الآخر ، فإذا لاحظ جزءاً ؛ فإمّا أن يدرك فيه الملاك

ص: 14


1- درر الفوائد ، المحقّق الخراساني : 298 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 321 و451 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 516 ؛ نهاية الأفكار 4 : 22 و23 .
2- كفاية الاُصول : 438 ؛ أجود التقريرات 4 : 21 ؛ نهاية الأفكار 4 : 21 و23 .
3- كفاية الاُصول : 438 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 322 .

أو لا ، فإن أدرك فيه ؛ فإمّا أن يدرك فيه تمام الملاك أو بعضه :

فعلى الأوّل : يحكم بأنّ هذا الجزء تمام الموضوع ، وسائر الأجزاء كالحجر إلى جنب الإنسان .

وعلى الثاني : يلاحظ الأجزاء واحداً بعد واحد حتّى يطّلع على ما هو تمام مناط حكمه منضمّاً إلى هذا الجزء .

وإن لم يدرك فيه الملاك : يقطع بأنّ حكمه بالحسن أو القبح غير ناشٍ منه ؛ فإنّ الملاك المشكوك فيه لا ينتج الحكم المقطوع به بالبداهة ، فالإجمال في حكم العقل ممّا لا يعقل .

وبعبارة اُخرى : أنّ حكم العقل دائماً إنّما يتعلّق بالعناوين الكلّية المبيّنة عنده ، وعروض التركيب الخارجي لا يوجب الإهمال والإجمال في موضوعه تأمّل(1) .

وأمّا الثاني : فلأنّ الناقص إذا كان له ملاك آخر تامّ ، يكون موضوعاً مستقلاًّ لحكم مستقلّ شرعي ، كما أنّ التامّ مع وجود الملاك التامّ فيه يكون موضوعاً لحكم آخر مستقلّ ؛ لأنّ موضوعات الأحكام تلاحظ مجرّدة عن اللواحق الغريبة في مقام تعلّق الأحكام بها ، فالناقص - بما أنّه شيء بحياله - قائم به

ص: 15


1- وجهه : أنّ العقل لا يحيط بجميع وجوه الأشياء وجميع المناطات ، فحينئذٍ يمكن الحكم بحسن موضوع مركّب من عدّة اُمور من باب القدر المتيقّن ، ومع ذهاب بعض الأجزاء أو الحيثيات يستصحب الحكم الشرعي المستنبط من العقلي ، كما أفاد المشايخ رحمهم اللهأ . [منه قدس سره] أ - فوائد الاُصول ((تقريرات المحقّق النائيني)) الكاظمي 4 : 321 و451 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 516 ؛ نهاية الأفكار 4 : 22 و23 .

الملاك ، ملحوظ في مقام الموضوعية ، ويتعلّق به حكم ، والتامّ أيضاً كذلك ، فلا يجري الاستصحاب فيه ؛ للعلم بزوال الحكم الأوّل ، والشكّ في وجود حكم آخر .

وجريان استصحاب الحكم الكلّي في المقام ممنوع ، ولو على تسليم جريانه في الجملة ؛ لأنّ الجامع بين الحكمين غير مجعول ، بل المجعول هو كلّ واحد منهما مستقلاًّ متعلّقاً بموضوعه ، والجامع أمر انتزاعي عقلي غير متعلّق للجعل ، ولا موضوع لأثر شرعي ، وفي مثله لا يجري الاستصحاب .

وممّا ذكرنا يتّضح الإشكال في الثالث ؛ فإنّ العقل إذا أدرك المناط التامّ لموضوع يدرك أنّ حكم الشرع تعلّق بهذا الموضوع بما هو هو ، مع قطع النظر عن كلّية اللواحق ، ومع التجريد عنها ، وإذا كان بحسب الواقع مناط قائم بعنوان أعمّ منه ، لا بدّ وأن يتعلّق به حكم آخر مستقلّ غير مرتبط بالحكم المتعلّق بالعنوان الأخصّ ، فالإشكال الوارد على الثاني وارد عليه أيضاً .

في تحقيق الحال في المقام

هذا ، والتحقيق في المقام أن يقال : إنّه لو سلّمنا أنّ العناوين المبيّنة المفصّلة التي يدرك العقل مناط الحسن أو القبح فيها ، إنّما تكون في نظر العقل مع التجرّد عن كافّة اللواحق والعوارض الخارجية حسنة أو قبيحة ذاتاً ، فلا يمكن أن يشكّ العقل في حكمه المتعلّق بذلك العنوان المدرك مناطه .

ولكن تلك العناوين الحسنة والقبيحة قد تصدق على موضوع خارجي ؛ لأنّ الوجود الخارجي قد يكون مجمع العناوين المتخالفة ، فالعناوين المتكثّرة

ص: 16

الممتازة في الوجود العقلي التحليلي قد تكون متّحدة غير ممتازة في الوجود الخارجي ، ويكون الوجود الخارجي بوحدته مصداقاً للعناوين الكثيرة ، وتحمل عليه حملاً شائعاً ، فإذا صدقت عليه العناوين الحسنة والقبيحة يقع التزاحم بين مناطاتها ، ويكون الحكم العقلي في الوجود الخارجي تابعاً لما هو الأقوى بحسب المناط .

مثال ذلك : أنّ الكذب بما أ نّه كذب - مع قطع النظر عن عروض عنوان آخر عليه في الوجود الخارجي - قبيح عقلاً ، وإنجاء المؤمن من الهلكة حسن ، وكلّ من الحسن والقبح ذاتي بالنسبة إلى عنوانه بما أ نّه عنوانه ، ولكن قد يقع التزاحم بينهما في الوجود الخارجي إذا صدقا عليه ، فيرجّح ما هو أقوى ملاكاً وهو الإنجاء ، فيحكم العقل بحسن الكلام الخارجي المنجي مع كونه كذباً .

وكذا إيذاء الحيوان بما أ نّه حيوان قبيح عقلاً ، ودفع المؤذي حسن لازم عقلاً ، وفي صورة صدقهما على الموجود الخارجي يكون الحسن أو القبح تابعاً لما هو أقوى مناطاً .

إذا عرفت ذلك : فاعلم أ نّه قد يصدق عنوان حسن على موجود خارجي ، من غير أن يصدق عليه عنوان قبيح ، فيكون الموضوع الخارجي حَسَناً محضاً حُسْناً ملزماً ، فيكشف العقل منه الوجوب الشرعي ، ثمّ يشكّ في صدق عنوان قبيح عليه ممّا هو راجح مناطاً ، فيقع الشكّ في الموضوع الخارجي بأ نّه حسن أو قبيح ، وقد يكون بعكس ذلك .

مثال الأوّل : أنّ إنقاذ الغريق حسن عقلاً ، فقد يغرق مؤمن فيحكم العقل بلزوم إنقاذه ، ويكشف الحكم الشرعي بوجوبه ، ثمّ يشكّ في تطبيق عنوان السابّ للّه

ص: 17

ورسوله عليه في حال الغرق ، وحيث يكون تطبيق هذا العنوان عليه ممّا يوجب قبح إنقاذه ، ويكون هذا المناط أقوى من الأوّل أو دافعاً له ، فيشكّ العقل في حسن الإنقاذ الخارجي وقبحه ، ويشكّ في حكمه الشرعي .

مثال الثاني : أ نّه قد يكون حيوان غير مؤذٍ في الخارج ، فيحكم العقل بقبح قتله ، ثمّ يشكّ بعد بلوغه في صيرورته مؤذياً ، فيشكّ في حكمه الشرعي ، فاستصحاب الحكم العقلي في مثل المقامات ممّا لا مجال له ؛ لأنّ حكم العقل مقطوع العدم ، فإنّ حكمه فرع إدراك المناط ، والمفروض أ نّه مشكوك فيه .

وأمّا الحكم الشرعي المستكشف منه - قبل الشكّ في عروض العنوان المزاحم عليه - فلا مانع من استصحابه ، إذا كان عروض العنوان أو سلبه عن الموضوع الخارجي لا يضرّان ببقاء الموضوع عرفاً ، كالمثالين المتقدّمين ؛ فإنّ عنوان السابّ والمؤذي من الطوارئ التي لا يضرّ عروضها وسلبها ببقاء الموضوع عرفاً .

فتلخّص ممّا ذكرنا : جواز جريان الاستصحاب في الأحكام المستكشفة من الحكم العقلي .

ص: 18

فصل حول التفصيل بين الشكّ في الرافع والمقتضي

اشارة

ما ذكرناه في الفصل السابق أحد تفصيلي العلاّمة الأنصاري في الاستصحاب ، وثانيهما : هو التفصيل بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع ، فاختار عدم الجريان في الأوّل(1) .

ولمّا كانت هذه المسألة مهمّة بحسب الآثار الفقهية ، ومن مطارح أنظار المحقّقين المتأخّرين عنه ، فلا بدّ من بسط الكلام فيها حتّى يتّضح ما هو الحقّ :

في مراد الشيخ الأنصاري من «المقتضي»

فنقول : الظاهر من كلمات الشيخ أنّ مراده من المقتضي في مقابل الرافع هو ما يكون معروفاً بين الأعلام : من أنّ المستصحب إذا كان له استعداد بقاء واستمرار ، واقتضاء دوام وقرار ، وشكّ في حدوث أمر رافع له ، يكون من الشكّ في الرافع ، وأمّا إذا شكّ في مقدار استعداد بقائه وقابلية دوامه ، وكان الشكّ في

ص: 19


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 51 .

زواله من ناحية ذلك ، فيكون من الشكّ في المقتضي ، وليس مراده من المقتضي هو مناطات الأحكام ، ولا المقتضي في باب الأسباب والمسبّبات الشرعية ، كالعقد المقتضي للملكية ، والوضوء المقتضي للطهارة .

وما ذكرنا هو الظاهر من كلامه في موارد(1) ، والمعروف من مذهبه ، وإن أوهم خلافه ما صرّح به في ذيل قول المحقّق في «المعارج» في حجّة القول التاسع : بأنّ كلام المحقّق يرجع إلى مختاره لو كان مراده من دليل الحكم في كلامه - بقرينة تمثيله بعقد النكاح - هو المقتضي ، ويكون حكم الشكّ في وجود الرافع حكم الشكّ في رافعية الشيء(2) .

فإنّ مراد المحقّق من المقتضي هو الذي في باب الأسباب والمسبّبات الشرعية ، كعقد النكاح المقتضي للحلّية ، ومراده من الرافع هو رافع هذا الاقتضاء ، كما هو صريح ذيل كلامه(3) ، وهذا الذيل يمكن أن يكون قرينة على أنّ مراده من دليل الحكم في الصدر هو المقتضي ، كما أفاد الشيخ .

فحينئذٍ : لو رجع كلام المحقّق إلى مختار الشيخ لكان مراده أيضاً من المقتضي هو الذي في باب الأسباب والمسبّبات .

ولكنّ الظاهر من كلامه في ذيل أخبار الاستصحاب ما هو المعروف من مذهبه(4) ، فبناءً عليه لا يرجع كلام الشيخ إلى كلام المحقّق ؛ فإنّ المحقّق ذهب :

ص: 20


1- راجع فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 41 ، 46 - 47 ، 50 ، 79 و92 .
2- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 161 .
3- معارج الاُصول : 210 .
4- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 79 .

إمّا إلى إنكار الاستصحاب مطلقاً إن كان مراده من دليل الحكم هو إطلاق الأدلّة أو عمومها ، ومن الشكّ في الرافعية هو الشكّ في التقييد أو التخصيص ، أو كان مراده من المقتضي والرافع هو قاعدة المقتضي والمانع ، كما حمل الشيخ كلامه عليه أوّلاً(1) .

أو إجراء الاستصحاب فيما إذا كان المقتضي - أي السبب الشرعي - قد اقتضى المسبّب مطلقاً ، كعقد النكاح الذي اقتضى الحلّية مطلقاً ، وشكّ في ألفاظ أ نّها رافعة له أم لا ، فيستصحب حكم المقتضي إلى أن يعلم الرافع ، ولا يرجع شيء ممّا ذكر إلى ظاهر كلام الشيخ وما هو المعروف من مذهبه .

فما أفاده بعض أعاظم العصر; : من أنّ التأمّل في كلام المحقّق والشيخ يعطي أنّ مرادهما من المقتضي هو مقدار استعداد المستصحب(2) ناشٍ من عدم التأمّل في كلام المحقّق ، فراجع كلامه المنقول من «المعارج» . اللهمّ إلاّ أن يكون مراده من المحقّق هو الخوانساري ، لكنّه خلاف ظاهر كلامه .

ثمّ إنّه توهّم أمراً آخر : وهو أ نّه لو كان المراد من المقتضي هو ملاك الأحكام أو المقتضي في باب الأسباب والمسبّبات بحسب الجعل الشرعي تأسيساً أو إمضاءً ، للزم - مع عدم جريان الاستصحاب في الشكّ في المقتضي - سدّ باب جريان الاستصحاب مطلقاً ، وهو مساوق للقول بعدم الحجّية مطلقاً ؛ فإنّه لا طريق إلى إحراز وجود ملاك الحكم ، أو إحراز بقاء المقتضيات الشرعية في

ص: 21


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 160 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 325 .

باب الأسباب والمسبّبات لمن لا يوحى إليه إلاّ من طريق الأدلّة الشرعية ؛ فإنّه لا يمكن إثبات كون الوضوء المتعقّب بالمذي ، والنكاح المتعقّب بقول الزوج : «أنت خليّة» مقتضيين لبقاء الطهارة وعلقة الزوجية ، فما من مورد إلاّ ويشكّ في المقتضي بأحد الوجهين(1) ، انتهى .

وأنت خبير بما فيه : فإنّ الاقتضاء بالمعنى المعروف من الشيخ لا طريق إلى إحرازه في الأحكام الشرعية أيضاً إلاّ من قبل الدليل الشرعي ، كما اعترف به فيما بعد ، فلو دلّ الدليل الشرعي على أنّ الحكم الفلاني مستمرّ ذاتاً لولا الرافع إلى الأبد ، أو إلى غاية كذائية ، يستكشف منه المقتضي بمعنى الملاك ، فلا يكون الشكّ حينئذٍ في بقائه من قبيل الشكّ في المقتضي ، لا بالمعنى المعروف ، ولا بمعنى الملاك .

وبالجملة : لمّا لا يكون حكم إلاّ عن ملاك ، فأصل الحكم يكشف عن أصل الملاك ، واستمراره عن استمراره ، وكذا الاقتضاء في باب الأسباب والمسبّبات إنّما يستكشف من الأدلّة الشرعية ، فكما أنّ إحراز المقتضي للبقاء ومقدار استعداد المستصحب في الأحكام يحتاج إلى الدليل ، كذلك إحرازه بالمعنيين الآخرين .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ المقتضي بأيّ معنىً كان لا يوجب سدّ باب الاستصحاب لو قيل بعدم جريانه إلاّ في الشكّ في الرافع ، كما اتّضح أنّ المقتضي في كلام المحقّق غير ما هو المعروف من مذهب الشيخ .

ص: 22


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 325 - 326 .

في ذكر أخبار الاستصحاب

اشارة

إذا عرفت ما ذكرنا فالذي اعتمد عليه الشيخ في التفصيل المذكور هو دعوى ظهور أخبار الباب فيه(1) ، فلا بدّ من ذكرها ، وتذييل كلّ منها بما يناسبه ، وما يمكن أن يكون مستنداً له :

صحيحة زرارة الاُولى

اشارة

فمنها : ما عن محمّد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد ، عن حمّاد ، عن حريز ، عن زرارة ، قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء ؟ فقال : «يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاُذن ، وإذا نامت العين والاُذن والقلب وجب الوضوء» .

قلت : فإن حرّك إلى جنبه شيء ولم يعلم به ؟ قال : «لا ، حتّى يستيقن أ نّه قد نام ، حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ ، وإنّما ينقضه بيقين آخر»(2) .

والظاهر أنّ لزرارة كانت أوّلاً شبهة حكمية ، ولم يعلم أنّ الخفقة والخفقتين تنقضان الوضوء :

إمّا للشكّ في مفهوم النوم ، وأ نّه هل يشمل الخفقة والخفقتين أم لا .

ص: 23


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 78 و160 .
2- تهذيب الأحكام 1 : 8 / 11 ؛ وسائل الشيعة 1 : 245 ، كتاب الطهارة ، أبواب نواقض الوضوء ، الباب 1 ، الحديث 1 .

وإمّا للشكّ في كونهما ناقضتين مستقلّتين ، مع علمه بعدم دخولهما تحت عنوان النوم .

وإمّا للشكّ في أنّ النوم الناقض هل هو النوم الغالب على الحواسّ ، أو الأعمّ منه ومن الخفقة والخفقتين اللتين هما من المراتب الضعيفة للنوم ، مع القطع بدخولهما تحت عنوانه .

فعلى هذا يكون معنى قوله : «الرجل ينام» إمّا أ نّه تحقّق منه النوم حقيقة ، ولكن لا يعلم أنّ النوم الناقض ما هو ، وإمّا أ نّه دخل في فراش النوم واضطجع فيه وتهيّأ له ، فإنّه يقال : إنّه ينام .

وبالجملة : تكون الشبهة في الفقرة الاُولى حكمية ، وأجاب الإمام علیه السلام : بأنّ النوم الغالب على العين والقلب والاُذن موجب للوضوء .

ثمّ حدثت شبهة اُخرى له : بأنّ النوم الغالب على تلك الحواسّ ممّا لا سبيل إليه إلاّ بالأمارات ، فذكر بعض الأمارات الظنّية ، مثل حركة شيء إلى جنبه ، وأ نّها أمارة شرعية على النوم في صورة الشكّ في تحقّق النوم أو لا ؟ فأجاب : بأ نّه «لا ، حتّى يستيقن أ نّه قد نام ، ويجيء من ذلك أمر بيّن» .

بيان احتمالات الرواية

وأمّا قوله : «وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه . . .» إلى آخره ، ففيه احتمالات :

الاحتمال الأوّل : أنّ الجزاء محذوف ؛ أي إن لم يستيقن أ نّه قد نام فلا يجب عليه الوضوء ، وقوله : «فإنّه على يقين . . .» إلى آخره ، صغرى وكبرى وتعليل

ص: 24

للجزاء(1) ، وهذا أظهر الاحتمالات ، ويستفاد منها حينئذٍ قاعدة كلّية ؛ بدعوى أنّ الظاهر منه كونه بصدد بيان قاعدة كلّية ، وذكر الوضوء إنّما هو لكونه مورد السؤال ، لا لدخله في موضوع الحكم .

بل يمكن أن يقال : إنّه مع الشكّ في قيديته لا ترفع اليد عن ظاهر قوله : «ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» .

ويمكن الخدشة في الدعويين : بأنّ إلقاء القاعدة الكلّية المستفادة من اختلاف المعلول والعلّة في المقام لا يقتضي السراية لغير باب الوضوء ، ويصحّ التعليل والقياس بعد كون المورد ناقضاً واحداً هو النوم ، فإلقاء القاعدة الكلّية لإفادة تمام موارد باب الوضوء .

وأمّا الدعوى الثانية : فغير وجيهة ؛ لأنّ الكلام المحفوف بما يصلح للقرينية لا يمكن فهم القاعدة الكلّية منه ، وإن شكّ في قرينية الموجود .

وبالجملة : لا يمكن الأخذ بالإطلاق مع الشكّ في قرينية ما يحفّ بالكلام ، وأمّا إلغاء الخصوصية بمناسبة الحكم والموضوع فهو حقّ سيأتي بيانه على جميع التقادير(2) .

ولكن هاهنا شبهة(3) : وهي أنّ الظاهر على هذا الاحتمال أنّ قوله : «فإنّه على

ص: 25


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 56 .
2- يأتي في الصفحة 30 .
3- قد دفعنا تلك الشبهةأ بما هو الموافق للتحقيق في باب تقدّم الأصل السببي على المسبّبي وبيّنّا سرّ تقدّمه ، فراجع(ب). [منه عفي عنه] أ - اُنظر نهاية الأفكار 4 : 39 . ب - يأتي في الصفحة 288 .

يقين من وضوئه» يكون صغرى لقوله : «ولا ينقض اليقين بالشكّ» فأراد الإمام علیه السلام إجراء استصحاب الوضوء ، مع أ نّه محكوم باستصحاب عدم النوم الناقض ؛ لأنّ الشكّ في الوضوء ناشٍ من الشكّ في حصول الناقض ، وأصالة عدم حصوله مقدّمة على استصحاب الوضوء .

كما أنّ الظاهر من قوله : «حتّى يستيقن أ نّه قد نام» أ نّه تمسّك بأصالة عدم النوم ، مع أنّ جريان الأصل المحكوم - مقدّماً على الحاكم أو في عرضه - خلاف التحقيق . ويمكن أن يجاب : بأ نّه علیه السلام كان بصدد بيان جواب المسألة ؛ أي شبهة نقض الوضوء وعدمه ، لا بنحو الصناعة العلمية ، وأنّ نكتة عدم وجوب الوضوء - بعد كونه على يقين من وضوئه ويقين من عدم نومه - هي جريان الأصل الحاكم أو المحكوم .

نعم ، أفاد زائداً على جواب الشبهة : بأنّ هذا ليس مختصّاً بباب الوضوء ، بل الميزان هو عدم نقض اليقين بالشكّ ، وهذا كجواب المفتي للمستفتي في نظير المسألة ، مع إرادة المفتي إلقاء قاعدة كلّية تفيده في جميع الموارد ، لا بيان المسألة العلمية ، وكيفية جريان الاُصول ، وتمييز حاكمها من محكومها ، فلا محيص حينئذٍ إلاّ من بيان نتيجة المسألة ؛ وأنّ الوضوء المتيقّن لا ينقض بالشكّ في النوم ، وأمّا كون عدم نقضه لجريان أصالة بقاء الطهارة ، أو أصالة عدم الناقض للوضوء ، فهو أمر غير مرتبط بالمستفتي ؛ فإنّ منظوره بيان تكليفه من حيث لزوم الإعادة وعدمه ، لا الدليل عليه موافقاً للصناعة .

لا يقال : إنّ النوم والوضوء ضدّان ، وأصالة عدم الضدّ لا تثبت الضدّ الآخر ،

ص: 26

فلا محيص إلاّ من إجراء استصحاب الوضوء .

فإنّه يقال : إنّ النوم من النواقض الشرعية للوضوء ، لا من الأضداد التكوينية ، فالتعبّد بعدم تحقّق الناقض للوضوء تعبّد ببقاء الوضوء شرعاً ، ويرفع الشكّ ببقاء الوضوء ، تأمّل(1) .

فتحصّل من ذلك : أنّ معنى الرواية على هذا الاحتمال : «أ نّه إن لم يستيقن أ نّه قد نام فلا يجب عليه الوضوء ؛ لأنّه على يقين منه ، وكلّ من كان على يقين من شيء لا ينقض يقينه بالشكّ أبداً» .

الاحتمال الثاني - ولعلّه أقرب الاحتمالات - : أن يكون الجزاء المقدّر غير ما ذكره الشيخ(2) ويكون قوله : «وإلاّ» راجعاً إلى قوله : «لا حتّى يستيقن» فيكون المقدّر : «وإن وجب قبل الاستيقان لزم نقض اليقين بالشكّ» ، وقوله : «فإنّه على يقين» قرينة على المقدّر ، وبيان لفساد نقض اليقين بالشكّ ولزومه أيضاً ، وعليه تكون استفادة الكلّية أقرب وأوفق بفهم العرف .

الاحتمال الثالث : أنّ الجزاء هو قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه»(3) فحينئذٍ لا بدّ من تقدير ، كقوله : «فيجب البناء على يقين من وضوئه» أو «يجري على يقينه» أو يكون ذلك كناية عن لزوم البناء العملي على اليقين .

وأمّا القول بأنّ الجزاء هو نفس قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» من غير

ص: 27


1- وجهه ما يأتي في باب الاستصحاب في باب الأصل السببي والمسبّبيأ . [منه قدس سره] أ - يأتي في الصفحة 288 .
2- تقدّم تخريجه في الصفحة 25 .
3- اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 56 ؛ كفاية الاُصول : 441 .

تقدير بتأويل الجملة الخبرية إلى الإنشائية(1) ، فهو في غاية الضعف ؛ فإنّ قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» لو صدر بداعي الإنشاء يصير المعنى : فليحصِّل اليقين بالوضوء مع أنّ البعث إلى تحصيله خلاف المقصود ، أو يكون المراد إنشاء تحقّق اليقين في زمان الشكّ اعتباراً وتعبّداً ، فلا يتناسب مع قوله : «ولا ينقض اليقين بالشكّ» ؛ لأنّ اعتبار إلغاء الشكّ مع اعتبار بقائه متضادّان .

وتأويل هذه الإخبارية إلى الإنشائية لا يوجب أن يكون المعنى : «أ نّه يجب البناء العملي على طبق اليقين بالوضوء» كما يظهر بالتأمّل في أمثالها من الجمل الخبرية الصادرة بداعي الإنشاء .

فما ادّعاه بعض أعاظم العصر قائلاً : إنّه لا ينبغي الإشكال في كون الجزاء هو نفس قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» بتأويل الجملة الإخبارية إلى الإنشائية مع جعل الاحتمال المتقدّم ضعيفاً غايته(2) ، لا ينبغي أن يصغى إليه ؛ فإنّه مع كونه خلاف الظاهر ، يرد عليه الإشكال المتقدّم .

وعلى أيّ حال : لو جعلنا الجزاء ما ذكر بنحو التقدير ، أو بجعل الخبرية إنشائية ، لا يمكن استفادة الكبرى الكلّية من الرواية ؛ فإنّ قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» حينئذٍ يصير عطفاً على الجزاء ، ولا يفيد إلاّ مفاده ؛ أي يكون عبارة اُخرى عن قوله : «فيجب البناء على طبق اليقين بالوضوء» ، ولا يصحّ جعله كبرى كلّية ؛ للخروج عن قانون المحاورة وطرز الاستدلال ؛ فإنّ قانون الاستدلال على نحوين :

ص: 28


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 337 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 336 .

أحدهما : ذكر المقدّمتين ثمّ الاستنتاج ، فيقال : «الخمر مسكر ، وكلّ مسكر حرام ، فالخمر حرام» أو يقال : «إنّه على يقين من وضوئه فشكّ ، وكلّ من كان على يقين من شيء فشكّ يجب البناء على يقينه ، فيجب عليه البناء على يقينه من وضوئه» .

وثانيهما : ذكر النتيجة أوّلاً ، ثمّ الاستدلال عليها ، وحينئذٍ لا بدّ من تخلّل كلمة «لأنّ» وأمثالها فيقال : «الخمر حرام ؛ لأنّه مسكر» ، ويقال : «يجب البناء على اليقين بالوضوء ؛ لأنّه من كان كذلك لا ينقض يقينه بالشكّ» .

فلو جعلنا قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» جزاء ، يكون المعنى : «أ نّه لا يجب عليه الوضوء» أو «يجب عليه البناء العملي على يقينه السابق من وضوئه» وهذه نتيجة البرهان ، فقوله : «ولا ينقض اليقين بالشكّ» لو كان برهاناً عليها لا بدّ وأن يصدّر بما يفيد العلّية ، فجعل قوله : «فإنّه على يقين» صغرى للكبرى(1) لا يجتمع مع جعله جزاء للشرط وجملة إنشائية(2) ؛ فإنّه على الإنشائية يصير نتيجة للبرهان ، لا صغرى له .

والعجب من المحقّق المتقدّم ؛ حيث جمع بين القولين غفلة عمّا يلزمه ، وأعجب منه أ نّه جعل ما قوّاه الشيخ ضعيفاً ؛ للزوم التكرار في الجواب من غير تكرّر السؤال(3) ، مع أنّ هذا الإشكال إنّما يلزم على احتماله ؛ فإنّ مقتضى إنشائية الجملة أن يكون المعنى : «أ نّه لا يجب عليه الوضوء» وهذا تكرار بلا موجب ،

ص: 29


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 335 .
2- فوائد الاُصول ((تقريرات المحقّق النائيني)) الكاظمي 4 : 336 - 337 .
3- نفس المصدر .

وأمّا على احتمال الشيخ فلم يذكر الجواب ، وذكر قوله : «وإلاّ» توطئة لإقامة البرهان وبيان القاعدة الكلّية .

وكيف كان : فالاحتمال المذكور أسوء الاحتمالات وأضعفها .

الاحتمال الرابع : أن يكون الجزاء قوله : «ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» ويكون قوله : «فإنّه على يقين» توطئة للجواب(1) .

وهذا الاحتمال أقوى من الثاني ، وأسلم من الإشكالات ، ولا يرد عليه ما تقدّم : من إجراء الأصل المسبّبي مع وجود الأصل السببي(2) ؛ لأنّ قوله : «لا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» لا يكون حينئذٍ كبرى لقوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» ، بل لقوله : «فإن لم يستيقن أ نّه قد نام» المقدّر ، المفهوم منه أ نّه على يقين من عدم النوم ، مع كونه مفروضاً ، تأمّل .

هذا ، ولكنّه أيضاً خلاف الظاهر ؛ لخلوّ الجزاء عن الفاء ، وتصدير قوله : «فإنّه على يقين» بها بلا وجه ، وكون التوطئة خلاف الاُسلوب الكلامي ، واحتياج ارتباط الشرط وهو قوله : «وإن لم يستيقن أ نّه قد نام» مع الجزاء إلى تأويل .

ثمّ إنّه على هذين الاحتمالين وإن لم يحمل قوله : «ولا ينقض» على الكبرى الكلّية كما أشرنا إليه ، لكن يمكن استفادة الكلّية بإلغاء الخصوصية عرفاً ، ومناسبة الحكم والموضوع ؛ ضرورة أنّ العرف يرى أنّ اليقين لكونه مبرماً مستحكماً ، لا ينقض بالشكّ الذي لا إبرام فيه ولا استحكام .

ص: 30


1- اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 57 ؛ كفاية الاُصول : 441 - 442 .
2- تقدّم في الصفحة 25 - 26 .

وأمّا ما قيل في مقام التأييد : من أنّ الظاهر من الكبرى ورودها لتقرير ما هو المرتكز في أذهان العقلاء واستقرّت عليه طريقتهم(1) ، فسيأتي ما فيه(2) .

تقريبات الأعلام في اختصاص حجّية الاستصحاب بالشكّ في الرافع

ثمّ اعلم : أ نّه يظهر من الشيخ ومن تبعه في اختصاص حجّية الاستصحاب بالشكّ في الرافع تقريبات في كيفية استفادته منها :

تقريب الشيخ الأنصاري

أحدها : ما هو ظاهر كلامه في موضعين من «الرسائل» - تبعاً للمحقّق الخوانساري(3) - من أنّ حقيقة النقض هي رفع الهيئة الاتّصالية كما في نقض الحبل ، والأقرب إليه - على فرض المجازية - هو رفع الأمر الثابت الذي له استعداد البقاء والاستمرار ، وقد يطلق على مطلق رفع اليد عن الشيء ولو لعدم المقتضي له ، فالأرجح هو الحمل على رفع اليد عن الأمر المستمرّ ، فعلى هذا يتقيّد اليقين بما تعلّق بالأمر المستمرّ ، والمراد من اليقين هو الطريقي لا وصفه .

فمحصّل المعنى : «أ نّه لا ينقض المتيقّن الثابت - كالطهارة السابقة - أو أحكام اليقين الطريقي» أي أحكام المتيقّن الكذائي المستمرّ شأناً كنفس المتيقّن .

ص: 31


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 338 .
2- يأتي في الصفحة 41 .
3- مشارق الشموس : 76 / السطر 16 .

وكيف كان : فالمراد إمّا نقض المتيقّن ، وهو رفع اليد عن مقتضاه ، وإمّا نقض أحكام اليقين ؛ أي الثابتة للمتيقّن من جهة اليقين ، والمراد حينئذٍ منه رفع اليد عنها (1) .

تقريب المحقّق الهمداني

وثانيها : ما أفاده بعض المحقّقين في تعليقته على «الرسائل» وهو أنّ النقض ضدّ الإبرام ، ومتعلّقه لا بدّ وأن يكون له اتّصال حقيقة أو ادّعاء ، ومعنى إضافة النقض إليه رفع الهيئة الاتّصالية ، فإضافته إلى اليقين والعهد باعتبار أنّ لهما نحو إبرام عقلي ، ينتقض ذلك الإبرام بعدم الالتزام بالعهد ، وبالترديد في ذلك الاعتقاد .

فحينئذٍ نقول : قد يراد من نقض اليقين بالشكّ رفع اليد عن آثار اليقين السابق حقيقة في زمان الشكّ ، وهذا المعنى إنّما يتحقّق في القاعدة ، وأمّا في الاستصحاب ، فليست إضافة النقض إلى اليقين بلحاظ وجوده في السابق ، بل هي باعتبار تحقّقه في زمان الشكّ بنحو من المسامحة والاعتبار ؛ إذ لا ترفع اليد عن اليقين السابق في الاستصحاب أصلاً ، وإنّما ترفع اليد عن حكمه في زمان الشكّ .

وليس هذا نقضاً لليقين ، كما أنّ الأخذ بالحالة السابقة ليس عملاً به ، بل هو أخذ بأحد طرفي الاحتمال ، فلا بدّ في تصحيح إضافة النقض إليه بالنسبة إلى زمان الشكّ من اعتبار وجود تقديري له ؛ بحيث يصدق بهذه الملاحظة أنّ الأخذ

ص: 32


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 78 و160 .

بالحالة السابقة عمل باليقين ، ورفع اليد عنه نقض له .

ومعلوم أنّ تقدير اليقين مع قيام مقتضيه هيّن عرفاً ، بل لوجوده التقديري حينئذٍ وجود تحقيقي يطلق عليه لفظ اليقين كثيراً في العرف ؛ ألا ترى أ نّهم يقولون : «ما عملت بيقيني ، وأخذت بقول هذا الشخص الكاذب ، ورفعت اليد عن يقيني بقوله» .

وأمّا تقدير اليقين في موارد الشكّ في المقتضي فبعيد جدّاً ، بل لا يساعد عليه استعمال العرف أصلاً ، فتعميم اليقين في قوله : «اليقين لا ينقض بالشكّ» بحيث يعمّ مثل الفرض بعيد في الغاية(1) ، انتهى كلامه .

تقريبي المحقّق النائيني

وثالثها : ما ذكره بعض أعاظم العصر على ما في تقريرات بحثه ، وملخّصه - مع طوله بعد الإشكال على الشيخ بأنّ المراد باليقين ليس هو المتيقّن - : هو أنّ المراد من نقض اليقين نقضه بما أ نّه يستتبع الحركة على وفقه ، فأخذ اليقين في الأخبار باعتبار كونه كاشفاً لا صفة ، فعناية النقض إنّما تلحق اليقين من ناحية المتيقّن ، ولهذا تكون إضافته إلى اليقين شائعة ، دون العلم والقطع ؛ وليس ذلك إلاّ لأ نّهما يستعملان غالباً في مقابل الظنّ والشكّ ، بخلاف اليقين ؛ فإنّ إطلاقه غالباً بلحاظ ما يستتبعه من الجري على ما يقتضي المتيقّن ، فتختصّ أخبار الباب بما إذا كان المتيقّن ممّا يقتضي الجري العملي على طبقه ؛ بحيث لو خلّي وطبعه لكان يبقى العمل على وفق اليقين ببقاء المتيقّن .

ص: 33


1- حاشية فرائد الاُصول (الفوائد الرضوية) : 347 - 348 .

وهذا المعنى يتوقّف على أن يكون للمتيقّن اقتضاء البقاء ؛ فإنّه في مثل ذلك يصحّ ورود النقض على اليقين بعناية المتيقّن ، ويصدق عليه نقض اليقين بالشكّ ، بخلاف غيره ؛ فإنّ الجري العملي فيه بنفسه ينتقض ، ولا تصحّ هذه العناية فيه .

وبتقريب آخر : يتوقّف صدق نقض اليقين بالشكّ على أن يكون زمان الشكّ ممّا تعلّق به اليقين في زمان حدوثه ؛ بمعنى أنّ الزمان الذي يشكّ في بقاء المتيقّن فيه كان متعلّق اليقين عند حدوثه ، وهذا إنّما يتمّ إذا كان المتيقّن مرسلاً بحسب الزمان ؛ لكي لا يكون اليقين بوجوده من أوّل الأمر محدوداً بزمان خاصّ ، ومقيّداً بوقت مخصوص ، وإلاّ ففيما بعد ذلك الحدّ يكون المتيقّن مشكوك الوجود من أوّل الأمر ، فلا يكون من نقض اليقين بالشكّ(1) ، انتهى .

تحقيق الحقّ في الشكّ في الرافع والمقتضي

أقول : قبل بيان وجه النظر في كلام الأعلام نذكر ما هو التحقيق في المقام :

فاعلم أنّ اليقين قد يلاحظ بما أ نّه صفة قائمة بالنفس ، كالعطش والجوع والخوف والحزن من الصفات القائمة بها ، من غير لحاظ إضافته إلى الخارج ، وقس عليه الشكّ والظنّ .

وقد يلاحظ بما أ نّه مضاف إلى الخارج ، وأ نّه كاشف كشفاً تامّاً عن متعلّقه ، والظنّ [ كاشف كشفاً ] ناقصاً ، والشكّ غير كاشف أصلاً ، بل يضاف إلى الخارج إضافة ترديدية .

لا إشكال في أنّ اليقين بحسب الملاحظة الاُولى لا يكون ممتازاً عن الظنّ

ص: 34


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 374 - 376 .

والشكّ بالإبرام والاستحكام وعدمهما ، بل الإبرام والاستحكام - بحسب هذه الملاحظة - إنّما يكون في كيفية قيامها بالنفس بحسب مبادئها المحصّلة لها فيها ، فقد تكون مبادئ حصول الشكّ قويّة ؛ بحيث لا يزول بسهولة ، وتكون مبادئ حصول القطع واليقين ضعيفة ؛ بحيث يزول بتشكيك ما ، وقد يكون الحال بخلاف ذلك .

وبالجملة : سهولة زوال تلك الأوصاف عن النفس وعسر زوالها تابعان لمبادئ حصولها ، فلا يكون اليقين في هذه الملاحظة أبرم من الشكّ ، ولا الظنّ من الشكّ .

وأمّا بحسب الملاحظة الثانية - أي إضافتها إلى الخارج - فاليقين مبرم محكم ذاتاً دون الشكّ والظنّ ، فكأنّ اليقين حبل مشدود أحد طرفيه على النفس ، وطرفه الآخر على المتيقّن ، ويكون حبلاً مبرماً مفتولاً مستحكماً ، وإن كانت مبادئ حصوله ضعيفة غير مستحكمة ، بخلاف الظنّ والشكّ ، فإنّهما بحسب هذه الإضافة غير محكمين ولا مبرمين ، وإن كانت مبادئ حصولهما قويّة مستحكمة .

وبالجملة : امتياز اليقين عن الشكّ - في كونه كالحبل المبرم دون الشكّ - إنّما هو بحسب تعلّقهما بالخارج ، وهذا واضح .

وأمّا الجري العملي على طبق اليقين فهو خارج عن حقيقته ، بل يكون من آثاره وأحكامه العقلية أو العقلائية ، فلا يكون إبرامه واستحكامه متفرّعين على الجري العملي ، بل هو تابع لهما ، وكذا إبرامه واستحكامه وكونه كالحبل المشدود دون الشكّ لا ارتباط لها بالمتيقّن ، بل هي من مقتضيات ذاته ، سواء تعلّق بأمر مبرم أو غيره ، كما أنّ الشكّ غير مبرم بأيّ شيء تعلّق .

ص: 35

ردّ تقريبي الشيخ الأنصاري والمحقّق النائيني

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الإبرام والاستحكام من مقتضيات ذات اليقين ، وأنّ مقابلهما من مقتضيات ذات الشكّ في حال ملاحظتهما متعلّقين بالخارج ومضافين إلى المتعلّق ، ولا يكون الإبرام والاستحكام عارضين له من المتيقّن ، ولا من وجوب الجري العملي على طبقه ، كما أنّ اليمين المؤكّدة يتوهّم لها إحكام وإبرام باعتبار نفس ذاتها المضافة إلى المتعلّق ، ففي قوله تعالى : (وَلاَ تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا)(1) إنّما نسب النقض إليها ، لا باعتبار كونها من الكيفيات المسموعة القائمة بنفس المتكلّم ، ولا باعتبار كون متعلّقها أمراً مستمرّاً مبرماً ، ولا باعتبار الجري العملي على طبقها ، بل باعتبار ذاتها المضافة إلى متعلّقاتها ، فكأنّ اليمين بواسطة هذه الإضافة حبل مبرم مشدود ؛ أحد جانبيه على عنق الحالف ، والآخر على متعلّقه ، فبهذه الملاحظة نسب إليها النقض ، كما أنّ اليقين إنّما نسب إليه النقض بهذه الملاحظة .

فما أفاده الشيخ العلاّمة : من أنّ نسبة النقض باعتبار كون متعلّقه مبرماً - كما أفاده ثاني العلمين المتقدّمين من كون النسبة باعتبار الجري العملي - ممنوع ، خصوصاً ثانيهما . وفي كلامه مواقع للنظر ، كتفريقه بين العلم والقطع ، وبين اليقين ؛ ممّا هو واضح البطلان ، وسيأتي النظر في تقريبه الثاني(2) .

ص: 36


1- النحل (16) : 91 .
2- يأتي في الصفحة 39 .
بيان جواب تقريب المولى الهمداني رحمه الله علیه

وأمّا ما أفاده أوّل العلمين : من أنّ نسبة النقض باعتبار اليقين التقديري في زمان الشكّ ، لا اليقين المتعلّق بالحالة السابقة .

ففيه : - مضافاً إلى عدم لزوم هذا التقدير في صحّة نسبته إليه ؛ فإنّ اليقين المحقّق في زمان الشكّ وإن تعلّق بالحالة السابقة ، لكن تصحّ نسبة النقض إليه ، ويقال هذا اليقين المتعلّق بالطهارة السابقة لا ينتقض بالشكّ ، ويبنى عليه في زمان الشكّ - أنّ الظاهر من الروايات هو نسبة النقض إلى هذا اليقين الفعلي لا التقديري ؛ لأنّ قوله في الصحيحة المتقدّمة : «وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه» مرتبط بالكبرى التي بعده ؛ أي قوله : «ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» سواء جعل صغرى لها كما هو الظاهر أو توطئة لذكرها .

ولا شبهة في أنّ المراد باليقين في «فإنّه على يقين من وضوئه» هو اليقين المتعلّق بالوضوء في الزمان السابق ، لا اليقين المقدّر المعتبر ، فلا بدّ أن يراد من اليقين في الكبرى هو هذا اليقين ، لا التقديري ؛ لعدم صحّة التفرقة بينهما ، ضرورة عدم صحّة أن يقال : إنّه على يقين حقيقة من وضوئه في الزمان السابق ، ولا ينقض اليقين التقديري بالشكّ .

هذا ، مضافاً إلى أنّ مناسبة الحكم والموضوع إنّما تقتضي أن لا ينتقض اليقين الواقعي الذي له إبرام واستحكام بالشكّ ، لا اليقين التقديري الاعتباري .

وأيضاً أنّ قوله : «أبداً» لتأبيد الحكم المتقدّم ؛ أي عدم نقض اليقين بالشكّ مستمرّ ومؤبّد ، فلا بدّ أوّلاً من جعل الحكم ، ثمّ إفادة تأبيده بلفظ «أبداً» الذي

ص: 37

هو قائم مقام الإطلاق ، فينحلّ عرفاً هذا الحكم المتقيّد بالتأبيد إلى أمرين : أصل الحكم القابل للتأبيد وعدمه ، وتأبيده واستمراره ، فلو اعتبر اليقين في تمام ظرف الشكّ ؛ أي من أوّل وجوده إلى آخره يقدّر اليقين وينسب إليه النقض ، فلا مصحّح للتأبيد ؛ فإنّ الأمر المستمرّ الوجود إذا اعتبر من أوّل وجوده إلى آخره لا يصحّ اعتبار الاستمرار فيه ثانياً ؛ فإنّ الشيء المستمرّ لا يقع فيه استمرار آخر .

هذا إذا اعتبر اليقين في تمام ظرف الشكّ ، وإن اعتبر في أوّل زمان الشكّ واُريد بيان تأبيد حكمه بلفظ «أبداً» فلا مصحّح لنسبة النقض إلى ما بعد ظرف التقدير بناءً على تحقّقه .

فتلخّص ممّا ذكرنا : أنّ الظاهر من تأبيد الحكم ، أنّ اليقين المتعلّق بأمرٍ سابق على الشكّ لا ينقض في ظرف الشكّ من أوّل زمانه إلى آخره .

وأيضاً قوله في ذيل الصحيحة : «وإنّما ينقضه بيقين آخر» ليس حكماً مجعولاً ؛ ضرورة امتناع جعل إيجاب العمل على طبق اليقين ، فإنّه بمنزلة جعل الحجّية والكاشفية له ، فلا محالة تكون هذه الجملة لتعيين الغاية للحكم المتقدّم ، فتكون تأكيداً لاستمرار الحكم إلى زمان يقين آخر ، أو لإفادة استمراره حتّى مع وجود الظنّ إن اُريد بالشكّ ما هو المصطلح ، لا عدم العلم ، فيفهم من هذه الغاية أنّ المتكلّم اعتبر ثلاثة اُمور : اليقين السابق ، والشكّ المستمرّ ، واليقين المتأخّر ، فقال : «إنّ حكم اليقين بالأمر السابق مستمرّ في زمان الشكّ ، ولا ترفع اليد عنه إلى زمان اليقين بخلافه»، فاعتبار اليقين في ظرف الشكّ ممّا لا يساعد هذه الاعتبارات .

ص: 38

وبالجملة : إنّ التأمّل في الصحيحة صدراً وذيلاً ممّا يشرف بالفقيه على القطع بأنّ اليقين في الكبرى هو اليقين المحقّق الفعلي المتعلّق بالشيء في الزمان السابق ، لا المقدّر المفروض في زمان الشكّ .

ردّ التقريب الثاني للمحقّق النائيني

وبما ذكرنا يظهر النظر في كلام بعض أعاظم العصر في تقريبه الثاني : من أنّ صدق نقض اليقين بالشكّ يتوقّف على أن يكون زمان الشكّ ممّا تعلّق به اليقين في زمان حدوثه ، وهو منحصر في الشكّ في الرافع .

لما عرفت : من أنّ الظاهر من الرواية ، هو اليقين المتعلّق بالحالة السابقة المتحقّق فعلاً ، لا اليقين الآخر .

مضافاً إلى أنّ ما ذكره غير تامّ في نفسه ؛ لأنّ اليقين في الشكّ في الرافع قد لا يتعلّق في أوّل حدوثه بما تعلّق به الشكّ ، وفي الشكّ في المقتضي قد يكون كذلك .

تقريب آخر لشمول الأدلّة للشكّ في المقتضي

هاهنا بيان آخر لشمول الأدلّة للشكّ في المقتضي : وهو أنّ الكبرى الكلّية المجعولة في باب الاستصحاب ظاهرة في أنّ اليقين من حيث هو - بلا دخالة شيء آخر - لا ينقض بالشكّ من حيث هو شكّ كذلك ؛ ضرورة ظهور أخذ كلّ عنوان في حكم في أ نّه تمام الموضوع له بنفسه ، من غير دخالة شيء آخر وراءه ، ورفع اليد عن هذا الظهور لا يجوز إلاّ بصارف .

ص: 39

فحينئذٍ نقول : الأمر دائر بين اُمور :

الأوّل : أن يكون عدم انتقاض اليقين بالشكّ باعتبار مبادئ حصولهما في النفس .

الثاني : أن يكون باعتبار المتيقّن .

الثالث : أن يكون باعتبار الجري العملي على طبقه .

الرابع : أن يكون باعتبار نفس اليقين والشكّ من حيث ذاتيهما .

وفي غير الاحتمال الأخير يكون عدم نقض اليقين بالشكّ باعتبار غير ذاتيهما ، وقد عرفت أنّ الظاهر نفسيتهما في ذلك(1) ، تأمّل .

تأييد اختصاص الاستصحاب بالشكّ في الرافع ببناء العقلاء وردّه

ثمّ إنّه قد اُيّد القول باختصاص الاستصحاب بالشكّ في الرافع بأنّ أدلّة الاستصحاب إنّما وردت على طبق ارتكاز العقلاء وبنائهم على العمل على طبق الحالة السابقة ، ولا إشكال في اختصاص بنائهم على العمل على طبقها في الشكّ في الرافع دون المقتضي(2) .

فهاهنا مقامات من البحث :

أحدها : في أصل بناء العقلاء .

وثانيها : في وجه بنائهم .

ص: 40


1- تقدّم في الصفحة 36 .
2- حاشية فرائد الاُصول (الفوائد الرضوية) : 329 و352 ؛ مصباح الفقيه ، الطهارة 3 : 65 ؛ فوائد الاُصول ((تقريرات المحقّق النائيني)) الكاظمي 4 : 332 .

وثالثها : في أنّ وجه بنائهم هل هو مطابق لوجه التعبّد بالاستصحاب في الأخبار أم لا ؟ أمّا أصل بنائهم في الجملة فممّا لا إشكال فيه .

وأمّا كون بنائهم على العمل من حيث نفس اليقين بالحالة السابقة والشكّ في بقائها ، أو من حيث إنّ نفس الكون السابق موجب للحكم بالبقاء عملاً فممنوع ؛ فإنّ اليقين بالحالة السابقة بمجرّده لا يكون منشأ لبنائهم ؛ لعدم كاشفية اليقين بالحالة السابقة عن الحالة الحاضرة التي تكون ظرف الشكّ ، كما هو المفروض ، كما أنّ نفس الكون السابق بما هو لا يكشف عن بقائه ، ولا يوجب عملهم على طبقه ؛ بحيث لو فرضنا مورداً لا يكون في البين إلاّ اليقين بالكون السابق والشكّ في البقاء - بحيث لا يحصل لهم وثوق واطمئنان ، ولا يكون عملهم مطابقاً للاحتياط - يكون بناؤهم على العمل .

وبالجملة : لا أظنّ وجود بنائهم على طبق الحالة السابقة من حيث هي ، ودعوى ذلك لا تخلو من مجازفة .

والقول : بأنّ ذلك أمر ارتكازي وعادي لهم من غير حصول الوثوق والاطمئنان لهم(1) ، ممنوع ، بل رجوع الحيوانات إلى أوكارها لا يكون إلاّ من جهة حصول الوثوق بالبقاء - ولا دليل على عدم حصول الوثوق للحيوانات لولا الدليل على خلافه ؛ فإنّ حصوله ليس من مختصّات العقل ، بل قد يحصل للنفس الحيوانية أيضاً ؛ لحصوله في الاُمور الجزئية المدركة للحيوان ، فتلك الحالات

ص: 41


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 332 .

النفسانية كما تحصل للإنسان تحصل لكثير من الحيوانات - أو لأجل العادة الجارية - كما قد تكون في الإنسان أيضاً - ولا ريب في أ نّه لم يكن لأجل عدم نقض اليقين بالشكّ ، ولا يكون عودهم إلى محالّهم غفلة كما قيل(1) ، فإنّه واضح الفساد أيضاً .

وبالجملة : الظاهر أنّ بناء العقلاء لا يكون إلاّ لحصول الوثوق والاطمئنان لهم ، وهو حاصل لهم من ندرة حصول الرافع للشيء الثابت المقتضي للبقاء ، نظير أصالة السلامة الناشئة من ندرة حصول العيب في الأشياء ، وغلبة سلامتها ؛ بحيث يحصل الوثوق على طبقها ، فالاستصحاب العقلائي لا يكون إلاّ العمل على طبق الوثوق الحاصل ممّا ذكرنا ، وليس هذا مطابقاً للاستصحاب المدّعى حجّيته .

وأمّا كون الأخبار واردة على طبق الارتكاز العقلائي ، فممنوع غاية المنع ؛ لأنّ الظاهر من الكبرى المتلقّاة منها أنّ ما هو موضوع لوجوب العمل هو اليقين بالحالة السابقة والشكّ في بقائها ، من غير دخالة شيء آخر فيه ، وهذا أمر تعبّدي غير ارتكازي للعقلاء ، كما عرفت أنّ العلم بالحالة السابقة غير كاشف عن الحالة اللاحقة .

والتعبير بأ نّه «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً»(2) لا يدلّ على إرجاعه إلى ارتكازه كما توهّم(3) ؛ ضرورة أنّ عدم نقض اليقين بالشكّ - في مثل

ص: 42


1- كفاية الاُصول : 439 ؛ نهاية الأفكار 4 : 33 - 34 .
2- يأتي في الصفحة 45 .
3- درر الفوائد ، المحقّق الخراساني : 303 ؛ نهاية الأفكار 4 : 35 .

الوضوء مع حصول مقدّمات النوم كالخفقة والخفقتين ، وتحريك شيء إلى جنبه مع عدم التفاته إليه ، وفي مثل الظنّ بإصابة دم الرعاف في من حصل له الرعاف - ليس ارتكازياً للعقلاء ؛ لأ نّهم في مثل تلك الموارد التي تكون في مظانّ حصول منافيات الحالة السابقة يتفحّصون عنها ، كما ترى أ نّه في الصحيحة الثانية يقول : «فإن ظننت أ نّه قد أصابه ولم أتيقّن ، فنظرت فلم أرَ شيئاً»(1) فلم يكتف بالحالة السابقة حتّى نظر إليه فصلّى .

مضافاً إلى أنّ هذا التعبير كثيراً ما وقع في الأخبار فيما لا يكون على طبقه ارتكاز ، كما يظهر بالتتبّع فيها .

مع أ نّك قد عرفت أنّ العمل على طبق اليقين المتعلّق بحالة مع انقلابه إلى الشكّ في حالة اُخرى لا يكون ارتكازياً ، والحال أنّ مفاد الروايات هو أن لا ينقض اليقين بالشكّ من حيث ذاتيهما ، من غير أن يحصل وثوق أو اطمئنان بالبقاء .

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ دعوى أنّ نكتة اعتبار الاستصحاب هي مطابقته لارتكاز العقلاء غير مسموعة ، فمفادها أعمّ من الشكّ في الرافع والمقتضي، ومخالف لما هو سيرة العقلاء بحسب الكبرى المجعولة والموارد المنطبقة عليها تلك الكبرى في الأخبار .

ومن هنا يعلم : أنّ التمسّك بالسيرة العقلائية وبناء العقلاء على حجّية الاستصحاب في غير محلّه .

كما اتّضح ممّا ذكرنا عدم كون الاستصحاب أمارة مجعولة شرعية .

ص: 43


1- تأتي الصحيحة كاملة في الصفحة 44 - 45 .

صحيحة زرارة الثانية

اشارة

ومنها : ما عن الشيخ بإسناده عن زرارة مضمراً ، وعن الصدوق في «العلل» متصدّراً بأبي جعفر علیه السلام قال : قلت له : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من منيّ ، فعلّمت أثره إلى أن اُصيب له الماء ، فأصبت وحضرت الصلاة ، ونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصلّيت ، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك ؟ قال : «تعيد الصلاة وتغسله» .

قلت : فإن لم أكن رأيت موضعه ، وعلمت أ نّه قد أصابه ، فطلبته فلم أقدر عليه ، فلمّا صلّيت وجدته ؟ قال : «تغسله وتعيد» .

قلت : فإن ظننت أ نّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك ، فنظرت فلم أرَ شيئاً ، ثمّ صلّيت فيه فرأيت فيه ؟ قال : «تغسله ولا تعيد الصلاة» .

قلت : لم ذلك ؟ قال : «لأ نّك كنتَ على يقين من طهارتك ثمّ شككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً» .

قلت : فإنّي قد علمت أ نّه قد أصابه ولم أدرِ أين هو فأغسله ؟ قال : «تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أ نّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك».

قلت : فهل عليّ إن شككت في أ نّه أصابه شيء أن أنظر فيه ؟ قال : «لا ، ولكنّك إنّما تريد أن تذهب الشكّ الذي وقع في نفسك» .

قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة ؟ قال : «تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته ، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصلاة

ص: 44

وغسلته ، ثمّ بنيت على الصلاة ؛ لأ نّك لا تدري ، لعلّه شيء اُوقع عليك ، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ»(1) .

مورد الاستدلال بالرواية واحتمالاته

ومورد الاستدلال بالرواية فقرتان :

إحداهما قوله : «فإن ظننت أ نّه قد أصابه . . .» إلى آخرها .

ثانيتهما قوله : «وإن لم تشكّ . . .» إلى آخرها .

أمّا الاُولى منهما ففيها احتمالات :

أحدها : أ نّه بعد الظنّ بالإصابة والنظر وعدم الرؤية ، صلّى من غير حصول علم أو اطمئنان له من النظر ، فلمّا صلّى رأى في ثوبه النجاسة ، وعلم بأ نّها هي التي كانت مظنونة ، فعلم أنّ صلاته وقعت في النجس .

ثانيها : هذه الصورة - أي عدم حصول العلم له من النظر - لكن مع احتمال حدوث النجاسة بعدها ، واحتمال وقوع صلاته فيها .

ثالثها : أ نّه حصل له العلم من النظر بعدم النجاسة ، فلمّا صلّى تبدّل علمه بالعلم بالخلاف ؛ أي بأنّ النجاسة كانت من أوّل الأمر .

رابعها : هذه الصورة مع احتماله بعد الصلاة حدوث النجاسة بعدها ، واحتمال وقوع الصلاة فيها .

ص: 45


1- تهذيب الأحكام 1 : 421 / 1335 ؛ علل الشرائع : 361 / 1 ؛ وسائل الشيعة 3 : 402 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ، الباب 7 ، الحديث 2، والباب 37 ، الحديث 1، والباب 42 ، الحديث 2، والباب 44 ، الحديث 1 .

هذا ، ولكن تعليل الجواب ينافي إرادة الثالث .

والاحتمال الرابع المنطبق على قاعدة اليقين بعيد ؛ لأنّه لو حصل له العلم كان عليه ذكره في السؤال ؛ لوضوح احتمال دخالته في الحكم ، فعدم ذكره دليل على عدم حصوله ، والغفلة في مقام السؤال عن موضوعه خلاف الأصل .

مضافاً إلى ظهور قوله : «وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين» في فعلية الشكّ واليقين ، تأمّل .

مع أنّ الظاهر أنّ الكبرى في هذا المورد وذيل الرواية واحدة ، ولا إشكال في أنّ الكبرى في ذيلها منطبقة على الاستصحاب لا القاعدة ؛ ضرورة أنّ قوله : «وإن لم تشكّ» معناه أ نّك إن كنت غافلاً وغير متوجّه إلى النجاسة ، ثمّ رأيته رطباً ، واحتملت كونها من أوّل الأمر ، وحدوثها فيما بعد ، وليس معناه اليقين بعدم الطهارة ، فالاحتمال الرابع غير مقصود .

فبقي الاحتمالان ، وهما مشتركان في إفادة حجّية الاستصحاب ، فلو كانت الرواية مجملة من هذه الجهة لا يضرّ بها .

وأمّا الاحتمالان فلا يبعد دعوى ظهورها في الأوّل منهما .

الإشكال على أقوى الاحتمالات والجواب عنه

فحينئذٍ يشكل(1) بأنّ تعليل عدم وجوب إعادة الصلاة بعد العلم بوقوعها في النجس بقوله : «لأ نّك كنت على يقين من طهارتك . . .» إلى آخره ، كيف

ص: 46


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 60 .

يصلح مع كون الإعادة من النقض باليقين ؟ ! نعم ، إنّما يصلح عدم نقض اليقين بالشكّ علّة لجواز الدخول في الصلاة ، لا لعدم الإعادة .

وتوضيح الإشكال : أنّ الظاهر من الرواية أنّ تمام العلّة لعدم وجوب الإعادة هو عدم جواز نقض اليقين بالشكّ ، من غير دخالة شيء آخر فيه ، كاقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء(1) ، أو كون إحراز الطهارة شرطاً للصلاة لا نفسها (2) ، أو كون إحراز النجاسة مانعاً لها لا نفسها (3) ، فالاستناد إلى شيء آخر غير التعليل المذكور في عدم وجوبها خروج عن ظهورها .

وممّا ذكرنا يظهر : أنّ الأجوبة التي تمسّكوا بها في المقام لا تدفع الإشكال .

وغاية ما يمكن أن يقال في المقام : أنّ وجه تخصيص زرارة هذه الفقرة بالسؤال عن العلّة أنّ الإعادة في الفقرتين السابقتين - أي في صورة النسيان والعلم الإجمالي - كانت موافقة للقاعدة ؛ لأنّ مقتضاها أنّ النجاسة بوجودها الواقعي مانعة ، وكذا الطهارة شرط بوجودها الواقعي على فرض شرطيتها لها ، فرأى جواب الإمام على وفق القاعدة ، فلم يسأل عن علّتها ، ولا ينافي ذلك

ص: 47


1- ضوابط الاُصول : 356 / السطر 16 ؛ اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 60 .
2- كفاية الاُصول : 447 .
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 346 ؛ اُنظر نهاية الأفكار 4 : 51 - 52 .

سؤاله عن أصل المسألة ؛ لاحتمال كون حكم اللّه في الموردين مخالفاً للقاعدة . وأمّا الفقرة الثالثة ؛ أي صورة الظنّ بالإصابة وإتيان الصلاة بعد النظر والفحص ثمّ العلم بأ نّها وقعت في النجس ، فلمّا كان الحكم فيها بعدم الإعادة مخالفاً للقاعدة سأل عن علّته .

وحاصل إشكاله : أنّ المأتيّ به لمّا كان غير مطابق للمأمور به فلا بدّ من الإعادة ، فما وجه الحكم بعدمها ؟ فأجاب : بأنّ حكم الشارع بعدم نقض اليقين بالشكّ عملاً موجب لموافقة المأتيّ به للمأمور به، فلا تجب الإعادة .

ووجهه : أنّ استصحاب الطهارة موجب للتوسعة في الشرط ، فيكون حاكماً على إطلاق الأدلّة الأوّلية ، فيكون الجواب موافقاً للسؤال ، وهذا الوجه وإن رجع إلى بعض الوجوه المذكورة ، لكن مع هذا التقريب ينطبق التعليل على المورد من غير تكلّف .

وإن شئت قلت : إنّ وجه الإشكال هو أنّ التعليل لا يناسب عدم الإعادة .

والجواب : أنّ التعليل لا يرجع إليه ، بل الحكم بعدم الإعادة إرشاد إلى موافقة المأتيّ به للمأمور به ؛ لعدم إمكان كون الإعادة وعدمها موردين للتعبّد من غير تصرّف في المنشأ ، فالتعليل راجع إلى المنشأ ، فلا إشكال حينئذٍ .

هذا على الشرطية .

وأمّا بناءً على مانعية النجس فقد يقال : إنّ التعليل أيضاً صحيح سواء اُخذ العلم بالنجاسة من حيث كونه طريقاً مانعاً ، أو من حيث كونه منجّزاً ، وسواء كان

ص: 48

التعليل مجموع المورد والاستصحاب ، أو خصوص الثاني ؛ لأنّ مرجع التعليل بهما إلى أنّ النجاسة لم يكن لها منجّز ، فالصلاة تكون صحيحة ولا تجب الإعادة ؛ لأنّ وجوبها ينافي عدم جواز نقض اليقين بالشكّ(1) .

وفيه : أ نّه بعد فرض كون المانع هو النجاسة المعلومة ، فمع عدم العلم يحرز عدم المانع ، فلا يحتاج إلى إحراز عدمه بالأصل بعد إحرازه وجداناً ، فإذا كان المنظور إفادة عدم المنجّز لا يصحّ التعليل بما يحرز العدم ، ويكفي في ذلك قوله : «إنّك شاكّ» ، فلا وجه للتعليل بالاستصحاب .

واحتمال أنّ التشبّث به لأجل إلغاء الشكّ ؛ لاحتمال كون الشكّ منجّزاً ، ولا بدّ من دفعه(2) ، غير وجيه ؛ لأنّ الاستصحاب شأنه إحراز الموضوع ، وهذا أمر زائد على إلغاء الشكّ ، فلا وجه للتعليل به ، بل لا بدّ في إلغائه من التعبير بمثل : «لا يعتدّ بالشكّ» .

وغاية ما يمكن أن يقال : أنّ المانع هو النجس المعلوم ، ومع الشكّ يحرز عدم جزء من الموضوع ، ومع الاستصحاب يحرز جزؤه الآخر ، فكأ نّه أراد أن يفيد أنّ النجاسة المعلومة بكلا جزءيها مفقودة ، مع إفادة أمرٍ زائد هو جريان الأصل في جزء الموضوع أيضاً ، تأمّل .

ثمّ لا يخفى : أنّ الإشكال المتقدّم وارد على الاحتمال الثاني من الاحتمالات المتقدّمة أيضاً ، ولا يختصّ بالأوّل .

ص: 49


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 346 - 347 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 346 .
إشكال آخر على الاحتمال المنصور

ثمّ إنّ هاهنا إشكالاً ثانياً (1) على هذا الاحتمال : وهو لزوم التفرقة بين وقوع تمام الصلاة في الثوب النجس ، وبين وقوع بعضها فيه ؛ حيث حكم في الأوّل بعدم الإعادة دون الثاني ، كما هو ظاهر قوله بعد ذلك : «تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه» ولذا حمل بعضهم(2) هذه الفقرة على العلم الإجمالي ، وهو خلاف الظاهر من وجوه .

وأيضاً : يرد إشكال آخر على ذيل الرواية ، وهو عدم فرق واضح بين وقوع بعض الصلاة في النجاسة مع الجهل بها ، وبين احتمال حدوث النجاسة في الأثناء ؛ حيث تمسّك الإمام علیه السلام في الثاني بالاستصحاب دون الأوّل .

توضيحه : أنّ للمصلّي العالم بالنجاسة في الأثناء - سواء احتمل طروّها في الحال ، أو علم الآن بوجودها من الأوّل - ثلاث حالات : حالة الجهل بالنجاسة ، وحالة العلم بها والاشتغال بتطهيرها ، وحالة الصلاة مع الطهارة الواقعية ، وهي بعد تطهيرها وإتمام الصلاة ، والاستصحاب إنّما ينفع بالنسبة إلى حال الجهل ، لا حال العلم بالنجاسة والطهارة .

فبناءً على حمل الفقرة المتقدّمة من الرواية على الاحتمال الأوّل ؛ أي حصول العلم بعد الصلاة بوجود النجاسة من أوّلها ، وإجراء الاستصحاب لتصحيح الصلاة بالبيان المتقدّم ، لا يبقى فرق بين الفقرتين الأخيرتين ؛ لجريان الاستصحاب

ص: 50


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 61 .
2- شرح الوافية: 361 (مخطوط)؛ اُنظر فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26: 61.

فيهما ، فكما يجري مع احتمال حدوث النجاسة في الأثناء لتصحيح الأجزاء السابقة على العلم بها ، كذلك يجري مع العلم في الأثناء بوجودها من أوّل الأمر ؛ فإنّ ظرف الجهل بالنجاسة مع الشكّ في حدوثها في موضع من ثوبه ظرف جريان الاستصحاب ، والعلم اللاحق لا يضرّه ، كما لم يكن مضرّاً في الفقرة الاُولى ؛ أي الاستصحاب بعد تمام الصلاة .

وأمّا حالة العلم بالنجاسة فلا يفيدها الاستصحاب ، بل لا بدّ من دليل آخر في تصحيحها ، وهو الأدلّة الدالّة على أ نّه إذا رعف في الأثناء غسل أنفه ويبني على صلاته(1) ؛ حيث يستفاد منها أنّ التلبّس بالنجاسة في الزمان الذي يشتغل فيه بتطهير النجاسة لا يضرّ بالصلاة .

ومن هنا قد يرجّح الاحتمال الثاني في الفقرة الاُولى فيقال : إنّ تطبيق الاستصحاب في الفقرتين الأخيرتين على الثانية منهما دون الاُولى يرفع الإجمال عن الفقرة الاُولى المتقدّمة بحملها على احتمال حدوث النجاسة بعد الصلاة ، فيكون ذيل الرواية شاهداً على صدرها .

مضافاً إلى أنّ التعبير بلفظ «فرأيت فيه» دون «فرأيته فيه» يكاد أن يستشمّ منه ذلك ، كما أنّ التعبير بقوله : «وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ» ظاهر في أنّ الشكّ كان فعلياً بعد الصلاة ، وإلاّ كان ينبغي أن يقول : «وما كان ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ» فترجيح الاحتمال الثاني مع تلك المؤيّدات وإن [كان

ص: 51


1- راجع وسائل الشيعة 7 : 238 ، كتاب الصلاة ، أبواب قواطع الصلاة ، الباب 2 ، الحديث 1 ، 4 ، 6 ، 9 ، 11 ، 12 و19 .

]لا يخلو من قرب . ولكن يمكن الذبّ عن أصل الإشكال على الاحتمال الأوّل ، بأن يقال : إنّ التمسّك بالاستصحاب فيما إذا صلّى ثمّ رأى النجاسة مع الشكّ والالتفات في حال الصلاة ، والعلم بعدها بأ نّها كانت موجودة حالها ، ممّا لا مانع منه ، كما عرفت تقريبه(1) .

وأمّا إذا رأى في الأثناء - سواء علم بوجودها من أوّل الصلاة ، أو احتمل حدوثها في البين - فلا يمكن التمسّك بالاستصحاب لتصحيح الصلاة ؛ لأنّ ما يمكن التمسّك فيه به هو حالة الشكّ ، وأمّا حال العلم فلا بدّ من تصحيح الصلاة بشيء آخر ، وإلاّ فأدلّة إثبات المانعية للنجاسة ، أو اشتراط الطهارة تدلّ على إثباتها في الصلاة التي هي حقيقة واحدة ، ولها هيئة اتّصالية ، والأكوان الغير المشغولة بالأذكار أيضاً أكوان صلاتية بحسب ارتكاز المتشرّعة ودلالة ظواهر الأدلّة(2) ، فالصلاة مشروطة من أوّلها إلى آخرها بالستر ، والنجاسة مانعة لها كذلك ، فلا بدّ من الخروج عن ظاهر أدلّة الاشتراط ، أو الأدلّة الدالّة على المانعية من دليل مخرج .

وغاية ما يدلّ على عدم الاعتبار هو الأخبار الواردة في الرعاف ، وهي واردة فيما إذا حدث الرعاف في الأثناء ، ودعوى إلغاء الخصوصية ؛ لعدم الفرق عرفاً بين حدوث النجاسة في الأثناء ، وكونها من الأوّل مع الالتفات والعلم في الحال ، ممنوعة ؛ لاحتمال أن يكون لحدوثها من باب الاتّفاق دخل في رفع المانعية ،

ص: 52


1- تقدّم في الصفحة 48 .
2- راجع الخلل في الصلاة ، الإمام الخميني قدس سره : 196 و237 ؛ أنوار الهداية 2 : 338 .

ولهذا لا يمكن الالتزام بجواز التنجيس عمداً ، والاشتغال بتطهير الثوب فوراً ، ثمّ البناء على الصلاة .

فحينئذٍ نقول : إذا علم في الأثناء بأنّ النجاسة كانت من الأوّل لا يمكن تصحيح صلاته ؛ لأنّ الاستصحاب - كما عرفت - لا يفيد بالنسبة إلى حال العلم بالتلبّس ، والأدلّة الدالّة على اشتراط الصلاة بالطهارة ، أو مانعية النجاسة ممّا لا مخرج لها ، فلا محيص عن نقض الصلاة وإعادتها بعد تطهير الثوب .

وأمّا إذا احتمل عروضها في البين فيمكن التشبّث بالاستصحاب لتصحيحها ، لا لأنّ أصالة عدم عروض النجاسة إلى الآن تثبت حدوثها - حتّى يدخل المورد تحت أدلّة حدوث الرعاف لتصحيح حال العلم بالتلبّس بالنجاسة لأجلها؛ ضرورة مثبتية هذا الأصل - بل لأنّ أصالة عدم عروض النجاسة إلى الآن إنّما هي لتصحيح حال الجهل بها ، وحال العلم بالتلبّس يكون المصلّي شاكّاً في كون هذه النجاسة الموجودة حادثة حتّى لا تكون مانعة ، أو باقية من الأوّل حتّى تكون مانعة ، فيكون شاكّاً في مانعيتها ، فتجري أصالة البراءة العقلية والشرعية كما في اللباس المشكوك فيه ؛ فإنّ الأظهر من الأدلّة - على كثرتها - هو مانعية النجاسة من الصلاة ، لا شرطية الطهارة ، كما يظهر لمن تدبّرها ، وإن كان بعضها يوهم الشرطية مثل هذه الصحيحة ، لكنّ المانعية هي الأقوى بحسب مفاد الأدلّة(1) .

واستصحاب الطهارة في صدر هذه الصحيحة لعلّه من باب كون الطهارة وعدم النجاسة أمراً واحداً بحسب نظر العرف ، والمقصود كون اللباس خالياً عن

ص: 53


1- راجع الطهارة ، الإمام الخميني قدس سره 4 : 44 - 46 .

القذارة المانعة ، وهو حاصل بإجراء أصل الطهارة ، وإجراء أصالة عدم عروض النجاسة .

هذا إذا كان المراد من الأصل في ذيل الصحيحة هو أصالة عدم عروض النجاسة إلى الآن ، كما أ نّه ربما يستأنس من قوله : «لا تدري لعلّه شيء اُوقع عليك» .

وإلاّ فيمكن أن يقال: إنّ المراد من الأصل أصالة عدم عروض المانع في الصلاة؛ فإنّ النجاسة الواقعية لم تكن مانعة مع الجهل بها ، والنجاسة المعلومة يمكن أن تكون حادثة غير مانعة ، فقبل العلم بها يكون عدم عروض المانع في الصلاة التي بيده متيقّناً ، فيستصحب إلى زمان العلم ، فيغسل الثوب ويبني على الصلاة .

ولو فرض عدم جريان أصالة عدم المانع فأصالة بقاء الهيئة الاتّصالية أيضاً جارية ، كما هو المقرّر في محلّه(1) .

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ بين الصورتين فرقاً بحسب الاُصول والقواعد ، كما فرّق بينهما الإمام عليه الصلاة والسلام .

صحيحة زرارة الثالثة

اشارة

ومنها : صحيحة ثالثة لزرارة عن أحدهما عليهماالسلام قال : قلت له : من لم يدرِ في أربع هو أو في ثنتين ، وقد أحرز الثنتين ؟ قال : «يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهّد ، ولا شيء عليه ، وإذا لم يدرِ في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث ، قام

ص: 54


1- راجع أنوار الهداية 2 : 337 .

فأضاف إليها اُخرى ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشكّ ، ولا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكنّه ينقض الشكّ باليقين ، ويتمّ على اليقين فيبني عليه ، ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات»(1) .

يظهر من هذه الصحيحة آثار التقيّة ، مع عناية الإمام علیه السلام ببيان المذهب الحقّ في سترة وحجاب كما سنوضّحه .

وما قيل : إنّ صدورها على وجه التقيّة ينافي صدرها ؛ حيث حكم بتعيّن الفاتحة ، وهو ظاهر في انفصال الركعة(2) ممنوع ؛ لأنّ الحكم بتعيّن الفاتحة لا يدلّ عليه ؛ أي على انفصال الركعة ، وليس على خلاف التقيّة ؛ لما حكي عن الشافعي وأحمد والأوزاعي القول بتعيّن الفاتحة في الركعات كلّها (3) .

فالظاهر منها هو إتيان الركعتين في الفرع الأوّل وإضافة الركعة في الفرع الثاني متّصلة ، كما هو قضيّة قوله : «يركع ركعتين وأربع سجدات . . .» إلى آخره ، وقوله : «قام فأضاف إليها اُخرى ولا شيء عليه» .

ثمّ إنّه علیه السلام بعد ما أفتى بما هو ظاهر في خلاف المذهب الحقّ تقيّة ، أراد بيانه في حجاب التقيّة ، فأتى بالجمل الآتية لبيان عدم صحّة خلط المشكوك فيه بالمتيقّن ، كما يأتي بيانه .

ص: 55


1- الكافي 3 : 351 / 3 ؛ تهذيب الأحكام 2 : 186 / 740 ؛ وسائل الشيعة 8 : 216 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 10 ، الحديث 3، والباب 11، الحديث 3.
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 63 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 525 .
3- الاُمّ 1 : 107 ؛ اُنظر الخلاف 1 : 341 ؛ تذكرة الفقهاء 3 : 144 ؛ المجموع 3 : 361 .
بيان احتمالات الرواية

ثمَّ إنّ في الرواية احتمالات :

منها : أنّ قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» يعني به لا يبطل الركعات المحرزة بسبب الشكّ في الزائدة ، بأن يستأنف الصلاة ، بل يعتدّ بالمتيقّنة . «ولا يدخل الشكّ في اليقين» أي لا يعتدّ بالمشكوك فيها ، بأن يضمّها إلى المحرزة ، ويتمّ بها الصلاة من غير تدارك . «ولا يخلط أحدهما بالآخر» عطف تفسير للنهي عن الإدخال . «ولكنّه ينقض الشكّ باليقين» أي الشكّ في الركعة الزائدة ؛ بأن لا يعتدّ بها ، بل يأتي بالزيادة على الإيقان . «ويتمّ على اليقين» أي يبني على المتيقّن فيها ، وعلى هذا لم يتعرّض لذكر فصل الركعة ووصلها في الفرعين .

وهذا الاحتمال ممّا أبداه المحدّث الكاشاني قدّس سرّه (1) .

ومنها : أنّ قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» كما أفاده المحقّق المحدّث المتقدّم ، ولكنّ قوله : «لا يدخل الشكّ في اليقين» وقوله : «لا يخلط أحدهما بالآخر» يعني بهما فصل الركعتين أو الركعة المضافة للاحتياط ؛ بأن يراد بهما عدم إدخال المشكوك فيها في المتيقّنة ، وعدم خلط إحداهما بالاُخرى ، فيكون المراد بالشكّ واليقين ، المشكوك فيها والمتيقّنة ؛ أي أضاف الركعتين إلى الركعتين المحرزتين ، والركعة إلى الثلاث المحرزة ، لكن لا يدخل المشكوك فيها في المتيقّنة ، ولا يخلط إحداهما بالاُخرى ؛ بأن يأتي بالركعة والركعتين منفصلة

ص: 56


1- الوافي 8 : 980 .

لا متّصلة ؛ لئلاّ يتحقّق الخلط وإدخال المشكوك فيها في المتيقّنة(1) .

ولا يخفى : أنّ هذا الاحتمال أظهر من الاحتمال الأوّل ؛ حيث إنّ الظاهر من النهي عن الإدخال والخلط أ نّهما تحت اختيار المصلّي ، فيمكن له الإدخال والخلط وتركهما ، والركعة المشكوك فيها إمّا هي داخلة بحسب الواقع في المتيقّنة أو لا ، وليس إدخالها فيها وخلطها بها باختياره ، بخلاف الركعة التي يريد إضافتها إليها ؛ فإنّ له الإدخال والخلط بإتيانها متّصلة ، وعدمهما بإتيانها منفصلة .

كما أ نّه على هذا الاحتمال يكون ظهور قوله : «ولا يُدخل الشكّ في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر» محكّماً على ظهور الصدر في أنّ الركعة أو الركعتين لا بدّ أن يؤتى بها متّصلة ، فكأ نّه قال : «قام فأضاف إليها اُخرى من غير خلط الركعة المضافة المشكوك في كونها الرابعة أو الخامسة بالركعات المتيقّنة» ولا يكون هذا من قبيل تقييد الإطلاق كما أفاده المحقّق الخراساني;(2) ، وتبعه غيره(3) ، بل من قبيل صرف الظهور البدوي .

ومنها : أنّ قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» يعني به لا ينقض اليقين بعدم الركعة المشكوك فيها بالشكّ(4) ، ويأتي في الجملتين والمتأخّرتين الاحتمالان المتقدّمان ، فتكون الرواية دليلاً على الاستصحاب في المورد ، ومخالفة للمذهب

ص: 57


1- حاشية فرائد الاُصول (الفوائد الرضوية) : 342 .
2- كفاية الاُصول : 450 .
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 362 - 363 .
4- الفصول الغروية : 371 / السطر 17 ؛ اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 65 .

تقيّة على احتمال ، وموافقة له على آخر .

ومنها : ما احتمله الشيخ الأنصاري قدّس سرّه (1) ، وهو أردأ الاحتمالات ؛ لأنّ قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» لا ينطبق على تحصيل اليقين بالركعات بالاحتياط المقرّر في المذهب الحقّ ، ولا يدور الأمر بين الاحتمالين المشار إليهما في كلامه ، حتّى إذا كان أحدهما خلاف(2) التقيّة يحمل على الآخر اضطراراً ولو كان مخالفاً للظاهر في نفسه ، كما أفاده;(3) .

ولا يخفى : أ نّه على جميع هذه الاحتمالات لا بدّ من ارتكاب خلاف ظاهر ، وهو تفكيك الجمل المشتملة على الشكّ واليقين ؛ بأن يراد في جملة من اليقين والشكّ نفسهما ، وفي جملة يراد من اليقين اليقين بالركعات المحرزة ، أو عدم الركعة الرابعة ، وفي جملة يراد بالشكّ المشكوك فيها ؛ أي الركعة المضافة ، وفي الاُخرى الركعة المشكوك في إتيانها ، كما يظهر بالتأمّل في الجمل والاحتمالات .

بيان أظهر الاحتمالات في الرواية

وهاهنا احتمال آخر ، لعلّه الأظهر منها ، مع كونه سليماً عن هذا التفكيك المخالف للظاهر : وهو أن يراد من اليقين والشكّ في جميع الجمل نفس حقيقتهما الجامعة بين الخصوصيات والأفراد كما هو ظاهرهما ، ولا ينافي ذلك اختلاف حكمهما باختلاف الموارد .

ص: 58


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 63 .
2- الظاهر أنّ الصحيح : «موافق» بدل «خلاف» .
3- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 66 .

فيقال : إنّ طبيعة اليقين لا تنقض بالشكّ ، ولعدم نقضها به فيما نحن فيه مصداقان :

الأوّل : عدم نقض اليقين بالركعات المحرزة ، وعدم إبطالها لأجل الشكّ في الركعة الزائدة .

والثاني : عدم نقض اليقين بعدم الركعة الرابعة بالشكّ في إتيانها .

وكلاهما داخلان تحت حقيقة عدم نقض اليقين بالشكّ .

وعدم إدخال حقيقة الشكّ في اليقين ، وعدم خلط أحدهما بالآخر ، له أيضاً مصداقان :

أحدهما : عدم الاكتفاء بالركعة المشكوك فيها من غير تدارك .

وثانيهما: عدم إتيان الركعة المضافة المشكوك فيها متّصلة بالركعات المحرزة.

هذا إذا لم نقل بظهور النهي عن الإدخال والخلط في الفعل الاختياري ، وإلاّ يكون له مصداق واحد .

«ولكنّه ينقض الشكّ باليقين» بالإتيان بالركعة المتيقّنة ، وعدم الاعتداد بالمشكوك فيها .

«ويتمّ على اليقين» بإتيان الركعة اليقينية ، وعدم الاعتداد بالمشكوك فيها .

«ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات» ، وعدم الاعتداد به فيما نحن فيه هو بالبناء على عدم الركعة المشكوك فيها ، والإتيان بالركعة .

وعلى هذا تكون الرواية مع تعرّضها للمذهب الحقّ - أي الإتيان بالركعة منفصلة - متعرّضة لعدم إبطال الركعات المحرزة ، ولاستصحاب عدم الركعة المشكوك فيها ، وتكون على هذا من الأدلّة العامّة لحجّية الاستصحاب .

ص: 59

وهذا الاحتمال أرجح من سائر الاحتمالات :

أمّا أوّلاً : فلعدم التفكيك حينئذٍ بين الجمل ؛ لحمل الرواية على بيان قواعد كلّية هي : عدم نقض اليقين بالشكّ ، وعدم إدخال الشكّ في اليقين ، ونقض الشكّ باليقين ، وعدم الاعتداد بالشكّ في حال من الأحوال ، وهي قواعد كلّية يفهم منها حكم المقام لانطباقها عليه .

وأمّا ثانياً : فلحفظ ظهور اللام في الجنس ، وعدم حملها على العهد ، وحفظ ظهور اليقين بإرادة نفس الحقيقة ، لا الخصوصيات والأفراد .

وأمّا ثالثاً : فلحفظ الظهور السياقي ؛ فإنّ الظاهر أنّ قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» في جميع الروايات يكون بمعنى واحد هو عدم رفع اليد عن اليقين بمجرّد الشكّ ، والاستصحاب أحد مصاديق هذه الكلّية ، تأمّل .

نعم ، لا يدخل الشكّ الساري فيها ؛ لأنّ الظاهر فعلية الشكّ واليقين ، كما في الاستصحاب وفي الركعات الغير المنقوضة بالركعة المشكوك فيها ، وأمّا في الشكّ الساري فلا يكون اليقين فعلياً .

موثّقة إسحاق بن عمّار

ومنها : موثّقة إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن قال : «إذا شككت فابن على اليقين» قلت : هذا أصل ؟ قال : «نعم»(1) .

والظاهر : أنّ هذه الموثّقة وردت في الشكّ في الركعات ، الذي كان محلّ

ص: 60


1- الفقيه 1 : 231 / 1025 ؛ وسائل الشيعة 8 : 212 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 8 ، الحديث 2 .

الخلاف بين المسلمين في أ نّه هل يجب فيه البناء على الأقلّ وإتيان المشكوك فيها متّصلة أو الأكثر وإتيانها منفصلة(1) ؟ فتكون كسائر الروايات الواردة بهذا المضمون ؛ من البناء على النقصان ، والبناء على اليقين والجزم(2) ، والتعبير بمثله لعلّه من باب التقيّة .

ويمكن أن يقال : إنّه لا منافاة من جهة بين البناء على اليقين؛ أي الأقلّ، والبناء على الأكثر ؛ وهي عدم جواز الاكتفاء بالأقلّ، كما اتّفقت عليه الروايات ، وهذا معنى البناء على اليقين ، وعلى الجزم ، وعلى النقصان ، وإنّما الاختلاف بينها في الإتيان بالسلام وانفصال الركعة ، أو عدمه واتّصالها ، فالرواية الدالّة على البناء على الأكثر تدلّ على الفصل بالسلام ، والدالّة على البناء على الأقلّ ظاهرة في الإتيان متّصلة ، فهما متّحدتا المضمون من جهة الإتيان بالركعة ، وعدم الاكتفاء بالمشكوك فيها ، ومختلفتاه في الاتّصال والانفصال ، فالتعبّد على الأكثر من جهة وجوب الانفصال لا ينافي الاستصحاب من جهة عدم إتيان الركعة ، فالبناء على اليقين يدلّ على استصحاب عدم الإتيان ، وظاهره الإتيان متّصلة ، ولكن ترفع اليد عنه بالأدلّة الدالّة على الإتيان منفصلة(3) .

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الأخبار الدالّة على البناء على الأكثر والإتيان بالركعة

ص: 61


1- الخلاف 1 : 445 ؛ المغني ، ابن قدامة 1 : 675 - 676 .
2- راجع وسائل الشيعة 8 : 213 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 8 ، الحديث 5 و6 ، والباب 9 ، الحديث 2 .
3- راجع وسائل الشيعة 8 : 212 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 8 ، الحديث 1 و3 و4 ، والباب 10 ، الحديث 1 و5 - 7 .

المنفصلة تدلّ على أنّ الإتيان بها إنّما يكون من باب الاحتياط ، لا من باب الاستصحاب ، فتنافي الأخبار الدالّة على البناء على اليقين ، فلا محمل لها إلاّ التقيّة ، وأمّا الحمل على اليقين بالبراءة(1) فهو محمل بعيد ، كما لا يخفى .

هذا إذا خصّصنا الموثّقة بالشكّ في الركعات .

وأمّا لو قلنا بالتعميم وأنّ مضمونها أصل كلّي في جميع الأبواب خرج منه الشكّ في الركعات ، فدلالتها على الاستصحاب ظاهرة ؛ لظهورها في فعلية الشكّ واليقين مع وحدة المتعلّق ، فلا تنطبق إلاّ على الاستصحاب .

رواية محمّد بن مسلم

ومنها : ما عن «الخصال» بسنده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبداللّه علیه السلام قال : «قال أمير المؤمنين صلوات اللّه وسلامه عليه : من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه ؛ فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين»(2) .

وفي رواية اُخرى : «من كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على يقينه ؛ فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ»(3) .

والظاهر منهما : أنّ من كان على يقين بشيء في الزمن السابق كالطهارة مثلاً ،

ص: 62


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 63 .
2- الخصال : 619 / 10 ؛ وسائل الشيعة 1 : 246 ، كتاب الطهارة ، أبواب نواقض الوضوء ، الباب 1 ، الحديث 6 .
3- الإرشاد ، الجزء الأوّل ، ضمن مصنّفات الشيخ المفيد 11 : 302 ؛ مستدرك الوسائل 1 : 228 ، كتاب الطهارة ، أبواب نواقض الوضوء ، الباب 1 ، الحديث 4 .

فشكّ - في اللاحق - فيها ، فليمض على يقينه في زمن الشكّ ، فتدلاّن على الاستصحاب من جهتين :

إحداهما : أنّ متعلّق اليقين لا يكون متقيّداً بالزمان ، فمعنى قوله : «من كان على يقين» أي يقين بشيء ، لا بشيء متقيّد بالزمان ، فعلى هذا يكون الشكّ أيضاً في الزمن اللاحق متعلّقاً بهذا الشيء من غير تقيّده بالزمان ، فكأ نّه قال : «إذا كنت في الزمن السابق متيقّناً بعدالة زيد ، ثمّ أصابك شكّ فيها في الزمن اللاحق ، فامض على يقينك» ولا إشكال في ظهور هذا الكلام في الاستصحاب ، لا الشكّ الساري ، واحتماله مخالف للظاهر المتفاهم عرفاً .

وثانيتهما : من جهة ظهور اليقين والشكّ المأخوذين في الرواية في الفعليين منهما ؛ أي لا يدفع بالشكّ الفعلي اليقين الفعلي ، مع أنّ الظهور السياقي أيضاً يقتضي الحمل عليه .

والإنصاف : أ نّهما ظاهرتان في الاستصحاب ، ولا إشكال في دلالتهما على القاعدة الكلّية .

مكاتبة علي بن محمّد القاساني

ومنها : مكاتبة علي بن محمّد القاساني قال : كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان ، هل يصام أم لا ؟ فكتب : «اليقين لا يدخله الشكّ ، صم للرؤية وأفطر للرؤية»(1) .

ص: 63


1- تهذيب الأحكام 4 : 159 / 445 ؛ وسائل الشيعة 10 : 255 ، كتاب الصوم ، أبواب أحكام شهر رمضان ، الباب 3 ، الحديث 13 .

قال الشيخ قدّس سرّه : والإنصاف أنّ هذه الرواية أظهر ما في هذا الباب من أخبار الاستصحاب(1) .

وأنكر بعضهم دلالتها عليه ، فضلاً عن أظهريتها (2) .

والحقّ : أنّ دعوى الأظهرية كدعوى عدم الدلالة ممنوعة ، بل هي ظاهرة في الاستصحاب ، لكن بعض الروايات المتقدّمة مثل صحيحة زرارة الاُولى أظهر منها .

أمّا أصل دلالتها عليه ، فلأنّ الظاهر من قوله : «صم للرؤية وأفطر للرؤية» أ نّهما تفريعان لقوله : «اليقين لا يدخله الشكّ» فحينئذٍ يحتمل أن يكون مقصود السائل من يوم الشكّ مطلق يوم الشكّ ، سواء كان من آخر شعبان ، أو آخر رمضان ، ويحتمل أن يكون المراد يوم الشكّ بين شعبان ورمضان ، أو بين رمضان وشوّال ، والظاهر بُعْد الاحتمال الثالث ، فبقي الاحتمالان ، وعلى أيّهما ، يكون الجواب - بملاحظة التفريعين المذكورين - عن مطلق يوم الشكّ، في أوّل رمضان كان أو في آخره ، فحينئذٍ لا ينطبق قوله : «اليقين لا يدخله الشكّ» إلاّ على الاستصحاب ، فيتفرّع عليه استصحاب عدم دخول رمضان ، وعدم دخول شوّال إلى زمان الرؤية .

واحتمال كون المراد من اليقين هو اليقين بدخول رمضان - بمعنى أنّ اليقين بدخوله الذي يعتبر في صحّة الصوم لا يدخله الشكّ في دخوله ؛ أي لا يجوز صوم يوم الشكّ من رمضان الذي تواترت الأخبار على اعتبار اليقين بدخوله

ص: 64


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 71 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 366 .

في صحّة الصوم(1) - مع كمال بعده ، لا يناسب تفريع كلّ من الصوم والإفطار للرؤية، عليه .

كما أنّ احتمال كون المراد من قوله : «اليقين لا يدخله الشكّ» أنّ اليقين بالتكليف لا يدخله الشكّ ، فيكون المراد أنّ الاشتغال اليقيني لا بدّ له من البراءة اليقينية(2) غير صحيح ؛ لأنّ لازمه لزوم صوم يوم الشكّ ولو كان من آخر شعبان ، فلا يناسب التفريعين .

كما لا يناسبهما احتمال كون المراد منه أنّ اليقين بأيّام رمضان لا يدخله الشكّ ؛ أي لا بدّ أن تكون أيّام رمضان محرزة باليقين ، ولا يجوز الصوم مع الشكّ في كون اليوم من رمضان ؛ لأنّ لازمه عدم جواز صوم يوم الشكّ بين رمضان وشوّال .

فالأظهر من بين الاحتمالات هو الاحتمال الأوّل المنطبق على الاستصحاب.

هذه هي الأخبار الواردة في الباب ممّا يستفاد منها حجّية الاستصحاب .

تذييل: حول الاستدلال بأدلّة قاعدتي الحلّية والطهارة على الاستصحاب

ربما يستدلّ(3) على اعتبار الاستصحاب بقوله : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم

ص: 65


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 366 .
2- اُنظر بحر الفوائد ، الجزء الثالث : 38 / السطر 8 .
3- الوافية : 207 ؛ اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 72 و76 و77 ؛ كفاية الاُصول : 452 .

أ نّه قذر»(1) ، وقوله : «الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أ نّه نجس»(2) ، وقوله : «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أ نّه حرام»(3) .

فإنّ المحقّق الخراساني ; ذهب في «الكفاية» إلى دلالة الصدر على الحكم الواقعي ، ودلالة الغاية على الاستصحاب ، وفي «تعليقته» إلى دلالة الصدر على الحكم الواقعي وقاعدة الطهارة والحلّية ، والغاية على الاستصحاب .

فقال في بيان الأوّل ما حاصله : إنّ الصدر ظاهر في بيان حكم الأشياء بعناوينها الأوّلية ، لا بما هي مشكوكة الحكم ، والغاية تدلّ على استمرار ما حكم على الموضوع واقعاً من الطهارة والحلّية ظاهراً، ما لم يعلم بطروّ ضدّه أو نقيضه(4).

وفي الثاني : إنّ الصدر بعمومه يدلّ على الحكم الواقعي ، وبإطلاقه على المشكوك ، بل يمكن أن يقال : بعمومه يدلّ على الحكم الواقعي وعلى المشكوك فيه ؛ فإنّ بعض الشكوك اللازمة للموضوع داخلة في العموم ، ونحكم في البقيّة بعدم القول بالفصل ، والغاية تدلّ على الاستصحاب ، كما ذكر(5) .

وفيما أفاده نظر :

ص: 66


1- المقنع : 15 ؛ مستدرك الوسائل 2 : 583 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات والأواني ، الباب 30 ، الحديث 4 .
2- الكافي 3 : 1 / 3 ؛ تهذيب الأحكام 1 : 215 / 619 - 621 ؛ وسائل الشيعة 1 : 134 ، كتاب الطهارة ، أبواب الماء المطلق ، الباب 1 ، الحديث 5 .
3- الكافي 5 : 313 / 40 ؛ تهذيب الأحكام 7 : 226 / 989 ؛ وسائل الشيعة 17 : 89 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب 4 ، الحديث 4 .
4- كفاية الاُصول : 452 .
5- درر الفوائد ، المحقّق الخراساني : 312 .

أمّا أوّلاً : فلأنّ الطهارة والحلّية الواقعيتين ليستا من الأحكام المجعولة الشرعية ؛ للزوم إمكان كون شيء بحسب الواقع لا طاهراً ولا نجساً ، ولا حلالاً ولا حراماً ؛ لأنّ النجاسة والحرمة مجعولتان بلا إشكال وكلام ، فلو فرض جعل النجاسة والحرمة لأشياء خاصّة ، وجعل الطهارة والحلّية لأشياء اُخرى خاصّة يلزم أن تكون الأشياء غير المتعلّقة للجعلين لا طاهرة ولا نجسة ، ولا حلالاً ولا حراماً ، وهذا واضح البطلان في ارتكاز المتشرّعة .

مضافاً إلى أنّ الأعيان الخارجية على قسمين :

الأوّل : ما يستقذره العرف .

والثاني : ما لا يستقذره ، وإنّما يستقذر الثاني بملاقاته للأوّل وتلوّثه به ، والتطهير عرفاً عبارة عن إزالة التلوّث بالغسل ، وإرجاع الشيء إلى حالته الأصلية غير المستقذرة ، لا إيجاد شيء زائد على ذاته ، به يكون طاهراً ، والظاهر أنّ نظر الشرع كالعرف في ذلك ، إلاّ في إلحاق بعض الاُمور غير المستقذرة عرفاً بالنجاسات ، وإخراج بعض المستقذرات عنها .

وكذا الحلّية لم تكن مجعولة ؛ فإنّ الشيء إذا لم يشتمل على المفسدة الأكيدة يكون حلالاً وإن لم يشتمل على مصلحة .

فلا تكون الطهارة والحلّية من المجعولات الواقعية . نعم ، الطهارة والحلّية الظاهريتان مجعولتان ، فحينئذٍ نقول : إنّ قوله : «كلّ شيء حلال» أو «طاهر» لو حمل على الواقعيتين منهما يكون إخباراً عن ذات الأشياء ، لا إنشاء الطهارة والحلّية ، فالجمع بين القاعدة والحكم الواقعي يلزم منه الجمع بين الإخبار والإنشاء في جملة واحدة ، وهو غير ممكن .

ص: 67

وأمّا ثانياً : فلأنّ معنى جعل الطهارة والحلّية الظاهريتين هو الحكم بالبناء العملي عليهما حتّى يعلم خلافهما ، ومعنى جعل الواقعيتين منهما هو إنشاء ذاتهما ، لا البناء عليهما ، والجمع بين هذين الجعلين ممّا لا يمكن .

وأمّا ثالثاً : فلأنّ الحكم الظاهري مجعول للمشكوك بما أ نّه مشكوك ، والحكم الواقعي مجعول للذات مع قطع النظر عن الحكم الواقعي ، ولا يمكن الجمع بين هذين اللحاظين المتنافيين .

وأمّا رابعاً : فلأنّ الحكم في قاعدة الطهارة والحلّية يكون للمشكوك فيه ، فلا محالة تكون غايتهما العلم بالقذارة والحرمة ، فجعل الغاية للحكم المغيّا بالغاية ذاتاً ممّا لا يمكن .

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الغاية إنّما تكون للطهارة والحلّية الواقعيتين ؛ لأجل القرينة العقلية ، وهي عدم إمكان جعل الغاية للحكم الظاهري ، فيكون المعنى : أنّ الطهارة والحلّية الواقعيتين مستمرّتان إلى أن يعلم خلافهما ، لكن جعل الغاية للطهارة والحلّية الواقعيتين لازمه استمرار الواقعيتين منهما في زمن الشكّ ، لا الظاهريتين ، ويرجع حينئذٍ إلى تخصيص أدلّة النجاسات والمحرّمات الواقعية ، فتكون النجاسات والمحرّمات في صورة الشكّ فيهما طاهرة وحلالاً واقعاً ، وهو كما ترى باطل لو لم يكن ممتنعاً .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الجمع بين الحكم الواقعي والقاعدة والاستصحاب ممّا لا يمكن ، فلا بدّ من إرادة واحد منها ، ومعلوم أنّ الروايات ظاهرة في قاعدة الحلّ والطهارة ، بل مع فرض إمكان الجمع بينها أو بين الاثنين منها يكون ظهورها في القاعدتين محكّماً ، وليس كلّ ما يمكن يراد .

ص: 68

فصل في الأحكام الوضعية وتحقيق ماهيتها

اشارة

لا بأس بصرف الكلام إلى بيان حال الوضع تبعاً للمحقّق الخراساني(1) ، وتحقيق المقام يتمّ برسم اُمور :

الأمر الأوّل : تقسيم الحكم إلى تكليفي ووضعي

إنّه لا إشكال في تقسيم الحكم إلى التكليفي والوضعي ، والظاهر أ نّه ينقسم إليهما بالاشتراك المعنوي ، فلا بدّ من جامع بينهما ، والظاهر أنّ الجامع هو كونهما من المقرّرات الشرعية ؛ لأنّ كلّ مقرَّر وقانون من مقنّن نافذ في المجتمع يطلق عليه الحكم ، فيقال : حَكم اللّه تعالى بحرمة شرب الخمر ووجوب صلاة الجمعة ، وحكم بضمان اليد والإتلاف ، وحكم بنجاسة الكلب والخنزير ، وحكم بأنّ المواقيت خمسة أو ستّة ، وكذا يقال : حكم السلطان بأنّ جزاء السارق كذا ، وسعر الأجناس كذا وكذا .

ص: 69


1- كفاية الاُصول : 454 .

وبالجملة : كلّ مقرَّر وقانون عرفي أو شرعي ممّن له أهلية التقرير والتقنين حكمٌ ، تكليفاً كان أو وضعاً ، ولا تخرج المقرّرات الشرعية أو العرفية عن واحد منهما ، ولا ثالث لهما ، فمثل الرسالة والخلافة والإمامة والحكومة والإمارة والقضاء من الأحكام الوضعية :

قال تعالى : (وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً)(1) .

وقال تعالى : (إنّى جَاعِلٌ فِى الْأَرْضِ خَلِيفَةً)(2) .

وقال تعالى : (إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ)(3) .

فقد نصب رسول اللّه صلی الله علیه و آله أمير المؤمنين علیه السلام إماماً وأميراً على الناس يوم الغدير(4) ، وجعل القضاة من ناحية السلطان - كجعل الأمير والحاكم - معروف ومعلوم .

وبالجملة : لا إشكال في كون النبوّة والإمامة والخلافة من المناصب الإلهية التي جعلها اللّه وقرّرها ، فهي من الأحكام الوضعية أو من الوضعيات وإن لم يصدق عليها الأحكام . فاستيحاش بعض أعاظم العصر; من كون أمثال ذلك من الأحكام الوضعية(5) في غير محلّه ، إلاّ أن يرجع إلى بحث لغوي وهو

ص: 70


1- مريم (19) : 49 .
2- البقرة (2) : 30 .
3- البقرة (2) : 124 .
4- راجع عبقات الأنوار ، حديث الغدير .
5- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 385 .

عدم صدق الحكم عليها ، وهو كما ترى ، كاستيحاشه من كون الماهية المخترعة - كالصلاة والصوم - منها (1) ؛ فإنّها قبل تعلّق الأمر بها وإن لم تكن من الأحكام الوضعية ، لكنّها لم تكن قبله من الماهيات المخترعة أيضاً ؛ لعدم كونها حينئذٍ من المقرّرات الشرعية ، وإنّما تصير مخترعات شرعية بعد ما قرّرها الشارع في شريعته بجعلها متعلّقة للأوامر ، وحينئذٍ تصير كالجزئية والشرطية والمانعية للمأمور به من الأحكام الوضعية .

ولا فرق بين الجزئية والكلّية في كونهما أمرين منتزعين عن تعلّق الأمر بالطبيعة ، فيكون نحو تقرّرهما في الشريعة بكونهما منتزعين من الأوامر المتعلّقة بالطبائع المركّبة ، فمن جعل الجزئية للمأمور به من الأحكام الوضعية مع اعترافه بكونها انتزاعية فليجعل الكلّية أيضاً كذلك .

وعلى هذا : فلا مانع من جعل الماهيات الاختراعية من الأحكام الوضعية ؛ أي من المقرّرات الشرعية والوضعيات الإلهية ، ولكن إطلاق الحكم عليها كإطلاقه على كثير من الوضعيات يحتاج إلى تأويل .

نعم ، نفس الصلاة والصوم كنفس الفاتحة والركوع والسجود مع قطع النظر عن تعلّق الأمر بهما وصيرورتهما من المقرّرات الشرعية ، لا تعدّان من الأحكام الوضعية ، ولا من الماهيات المخترعة .

فالتحقيق : أنّ جميع المقرّرات الشرعية تنقسم إلى الوضع والتكليف ولا ثالث لهما .

ص: 71


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 385 .

نعم ، صدق الحكم على بعضها أوضح من صدقه على الآخر ، بل في بعضها غير صادق ، لكن كلامنا ليس في صدق الحكم وعدمه ، بل في مطلق الوضعيات ، صدق عليها أو لا .

الأمر الثاني: بعض موارد الخلط بين التكوين والتشريع

حول جعل الجزئية والشرطية والمانعية

إنّه كثيراً ما يقع الخلط بين الاُمور التكوينية والتشريعية ، فيسري الغافل الحكم من التكوين إلى التشريع ، فمن ذلك : أ نّه لمّا قرع بعض الأسماع أنّ الاُمور الانتزاعية يكون جعلها ورفعها بمناشئ انتزاعها ، فلا يمكن جعل الفوقية والتحتية للجسمين إلاّ بجعلهما بوضع خاصّ يكون أحدهما أقرب إلى المركز والآخر إلى المحيط ، فبعد ذلك تنتزع الفوقية والتحتية منهما قهراً ، ولا يمكن جعلهما ورفعهما استقلالاً ، فجعل هذا الحكم التكويني مقياساً للاُمور التشريعية ، فقايس الاُمور التشريعية بالاُمور التكوينية ، فذهب إلى امتناع جعل الجزئية والشرطية والمانعية للمأمور به ورفعها عنه استقلالاً ، وزعم أنّ جعلها بجعل منشأ انتزاعها كالاُمور التكوينية(1) ، مع أنّ القياس مع الفارق .

وتوضيح ذلك : أنّ الاُمور الاعتبارية تابعة لكيفية اعتبارها وجعلها ، فقد يتعلّق الأمر القانوني بطبيعة أوّلاً على نحو الإطلاق لاقتضاء في ذلك ، ثمّ

ص: 72


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 392 - 393 .

تحدث مصلحة في أن يجعل لها شرط ، أو يجعل لها قاطع ومانع بلا رفع الأمر القانوني الأوّل ، فلو قال المولى : (أقِيمُوا الصَّلَوةَ)(1) ثمَّ قال : (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ)(2) أو قال : «يشترط في الصلاة الوضوء أو القبلة» أو قال : «لا تصلِّ في وبر ما لا يؤكل لحمه» أو «لا تصلّ في الثوب النجس» ينتزع منها الشرطية والمانعية ، فهل ترى أ نّه يلزم أن يرفع الأمر الأوّل وينسخه ، ثمّ يأمر بالصلاة مع التقيّد بالشرط أو عدم المانع ؟ ! وأيّ مانع من جعل الوجوب للطبيعة المطلقة بحسب الجعل الأوّلي ، ثمّ يجعلها مشروطة بشيء بجعل مستقلّ ، أو يجعل شيئاً مانعاً لها بنحو الاستقلال ؛ لاقتضاء حادث ، كما غيّر اللّه قبلة المسلمين إلى المسجد الحرام ؟ ! فهل كان قوله : (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ)إلى قوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)(3) من قبيل نسخ حكم الصلاة رأساً وإبداء حكم آخر ، أو كان الجعل متعلّقاً بالقبلة فقط ؟ ! ومجرّد كون المنتزعات التكوينية تابعة لمناشئ انتزاعها لا يوجب أن تكون الشرائط والموانع التشريعية كذلك ، وكذا الكلام في إسقاط شرط أو مانع .

وبالجملة : تلك الاُمور الاعتبارية والجعلية كما يمكن جعلها بتبع منشأ انتزاعها ، يمكن جعلها مستقلاًّ بلا إشكال وريب ، كما يمكن إسقاطها كذلك .

نعم ، إنّ الإرادة الواقعية إذا تعلّقت بطبيعة لا يمكن أن تنقلب عمّا هي عليه

ص: 73


1- البقرة (2) : 43 .
2- المائدة (5) : 6 .
3- البقرة (2) : 144 .

من زيادة جزء أو شرط أو مانع ، أو إسقاطها مع بقائها على ما هي عليه ؛ لأنّ تشخّصها بتشخّص المراد ، فلا يمكن بقاء الإرادة مع تغيّر المراد ، بخلاف الاُمور القانونية ؛ فإنّها تابعة لكيفية تعلّق الجعل بها .

هذا حال الشروط والموانع ، وكذا حال إسقاط الجزئية ، فلو قال المولى : «أسقطت جزئية الحمد للصلاة» تصير ساقطة مع بقاء الأمر القانوني .

وأمّا حال جعل الجزئية فتوضيحه : أنّ الأوامر المتعلّقة بالطبائع المركّبة إنّما تتعلّق بها في حال لحاظ الوحدة ، ولا يكون الأمر بها متعلّقاً بالأجزاء ، بحيث ينحلّ الأمر إلى الأوامر ، ولا الأمر الذي هو بسيط مبسوطاً على الأجزاء ، بل لا يكون في البين إلاّ أمر واحد متعلّق بنفس الطبيعة في حال الوحدة ، وهذا لا ينافي كون الطبيعة هي نفس الأجزاء في لحاظ التفصيل ، فإذا أمر المولى بالصلاة لا يلاحظ إلاّ نفس طبيعتها ، وتكون الأجزاء مغفولاً عنها .

فحينئذٍ نقول : إنّ الأمر بالطبيعة يدعو إلى نفس الطبيعة بالذات ، وإلى الأجزاء بعين دعوته إلى الطبيعة ، فإذا جعل المولى جزءاً للطبيعة فقال : «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»(1) أو «إقرأ في الصلاة» أو «جعلت الفاتحة جزءاً لها» يدعو الأمر المتعلّق بالطبيعة إليها بنفس دعوته إلى الطبيعة ، كما إذا أسقط جزءاً منها تكون دعوة الأمر إلى الطبيعة دعوة إلى بقيّة الأجزاء .

وبالجملة : لا أرى وجهاً لامتناع تعلّق الجعل الاستقلالي - على ما ذكر - إلاّ توهّم كون التشريع كالتكوين ، وإلاّ فلو لم يرد من المولى إلاّ الأمر بطبيعة ، ثمّ

ص: 74


1- عوالي اللآلي 1 : 196 / 2 ؛ مستدرك الوسائل 4 : 158 ، أبواب القراءة في الصلاة ، الباب 1 ، الحديث 5 و8 .

صدر منه أمر آخر يدلّ على اشتراطها بشيء ، أو جعل شيء جزءاً منها ، فهل يجوز للعبد ترك الشرط أو الجزء قائلاً : بأ نّه لا بدّ من صدور أمر آخر متعلّق بالطبيعة المتقيّدة أو المركّبة من هذا الجزء ، ولم يصدر منه - على القطع - إلاّ الأمر بالطبيعة والدليل الدالّ على الاشتراط أو الجزئية ، وذلك لا يكفي في الدعوة والبعث ، وهل هذا إلاّ كلام شعري مخالف للحجّة القطعية ؟ !

توهّم عدم قبول السببية للجعل ودفعه

ومن موارد الخلط بين التكوين والتشريع ما يقال : إنّ السببية ممّا لا تقبل الجعل لا تكويناً ولا تشريعاً ، لا أصالة ولا تبعاً ، بل الذي يقبله هو ذات السبب ووجوده العيني ، وأمّا السببية فهي من لوازم ذاته كزوجية الأربعة ؛ فإنّ السببية عبارة عن الرشح والإفاضة القائمة بذات السبب التي تقتضي وجود المسبّب ، وهذا الرشح والإفاضة من لوازم الذات ، لا يمكن أن تنالها يد الجعل التكويني ، فضلاً عن التشريعي ، بل هي كسائر لوازم الماهية تكوينها إنّما يكون بتكوين الماهية ، فعلّية العلّة وسببية السبب كوجوب الواجب وإمكان الممكن إنّما تكون من خارج المحمول ، تنتزع عن مقام الذات ، ليس لها ما بحذاء ، لا في وعاء العين ، ولا في وعاء الاعتبار ، فالعلّية لا تقبل الإيجاد التكويني ، فضلاً عن الإنشاء التشريعي ، هذا ما ذكره بعض أعاظم العصر; في وجه عدم إمكان جعل السببية(1) .

وفيه : - مضافاً إلى خلطه بين لوازم الماهية ولوازم الوجود ، وخلطه بين

ص: 75


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 394 - 395 .

المحمول بالضميمة وخارج المحمول ، وخلطه بين السببية ؛ أي الخصوصية التي يصير المبدأ بها مبدأً فعلياً للمسبّب ، وبين الرشح والإفاضة ؛ أي المسبّب بما أنّه مسبّب - أ نّه خلط بين الأسباب التكوينية والأسباب التشريعية ، وقاس التشريع بالتكوين بلا وجه ؛ فإنّ نحو السببية التكوينية سواء كانت بمعنى مبدئية الإفاضة ، أو نفس الرشح والإفاضة، لا يكون في التشريعيات مطلقاً ، فلا يكون العقد مترشّحاً منه الملكية أو الزوجية ، والتحرير مترشّحاً منه الحرّية ، كما لا تكون في العقود والإيقاعات خصوصيات بها تصير منشأ لحقائق المسبّبات :

أمّا عدم المنشئية لأمر حقيقي تكويني فواضح .

وأمّا عدم صيرورتها منشأً حقيقياً للاعتبار ؛ فلأنّ الاعتبارات القائمة بنفس المنشئ أو العقلاء أو الشارع ، لها مناشئ تكوينية ، لا تكون العقود والإيقاعات أسباباً لتكوّنها فيها ، فالسببية للاُمور التشريعية والاعتبارات العقلائية إنّما هي بمعنى آخر غير السببية التكوينية ، بل هي عبارة عن جعل شيء موضوعاً للاعتبار .

فالمقنّن المشرّع إذا جعل قول الزوج : «هي طالق» مع الشرائط المقرّرة في قانونه سبباً لرفع علقة الزوجية، يرجع جعله وتشريعه إلى صيرورة هذا الكلام مع الشرائط موضوعاً لاعتبار فسخ العقد ورفع علْقة الزوجية ، ولأجل نفوذه في الاُمّة يصير نافذاً ، فقبل جعل قول الزوج سبباً لحلّ العقد لا يكون قوله : «أنتِ طالق» سبباً له وموضوعاً لإنفاذ الشارع المقنّن ، وبعد جعل السببية له يصير سبباً وموضوعاً لاعتباره القانوني المتّبع في اُمّته وقومه ، من غير تحقّق رشح وإفاضة وخصوصية ، فالسببية من المجعولات التشريعية.

ص: 76

نعم ، للشارع والمقنّن أن يجعل المسبّبات عقيب الأسباب ، وأن يجعل نفس سببية الأسباب للمسبّبات ، والثاني أقرب إلى الاعتبار في المجعولات القانونية ، فتدبّر .

الأمر الثالث: إنّ الملكية ليست من المقولات حقيقة

اشارة

إنّ تلك الاُمور التشريعية في القانون الشرعي أو القوانين العرفية لا يكون لها نحو تحقّق إلاّ في عالم الاعتبار ، وليس لما يعتبر من الملكية والزوجية والحرّية والرقّية وأمثالها إلاّ وجود اعتباري ، فلا يندرج واحد منها تحت مقولة من المقولات اندراجاً حقيقياً ، فلا تكون الملكية من مقولة الجِدَة ، ولا من مقولة الإضافة .

نعم ، نفس مفهوم الملكية مفهوم إضافي ، لكن لا يوجب ذلك اندراج الملكية الاعتبارية تحت مقولة الإضافة ، كما هو المعلوم عند أهله ، فقول بعضهم : إنّ مقولة الجِدَة لها مراتب ؛ أحدها الملكية الاعتبارية ، حتّى عدّ مالكية اللّه تعالى أيضاً من مراتبها (1) ، لا ينبغي أن يصغى إليه .

نعم ، الملكية تشبه بمقولة الإضافة من وجه ، وبمقولة الجِدَة من وجهٍ آخر ، لكنّ البحث في شباهتها بهما وعن وجهها ممّا لا يرجع إلى محصّل .

ص: 77


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 383 - 384 .

أقسام الوضعيات

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم : أنّ الأحكام الوضعية عبارة عن كافّة المقرّرات الشرعية ما عدا الأحكام التكليفية ، حتّى أنّ الإباحة الواقعية لو كان لها جعل تكون من الوضعيات .

والأحكام الوضعية - بعد اشتراكها كلّها في إمكان جعلها استقلالاً ، وليس حكم وضعي إلاّ ويمكن أن يتطرّق إليه الجعل الاستقلالي - على أنحاء :

منها : ما يكون مجعولاً بتبع التكليف ؛ بمعنى انتزاعه منه ، كالجزئية للمكلّف به غالباً ، والشرطية والمانعية له .

ومنها : ما يكون مجعولاً بتبع اشتراط التكليف به ؛ أي ينتزع من اشتراطه به ، كقوله تعالى : (للّه ِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(1) فإنّ الاستطاعة لم تكن قبل هذا الجعل شرطاً للتكليف ، وبعد تقييد التكليف بها انتزع منه الشرطية ، ويمكن أن يكون دلوك الشمس من هذا القبيل ، كما يمكن أن يكون من قيود المكلّف به كما هو الأظهر ؛ فإنّ الصلاة كما أ نّها مشروطة بالستر ، مشروطة بوقوعها من دلوك الشمس إلى غَسَق الليل .

ومنها : ما يكون مجعولاً أصالة، وهو على أنحاء :

منها : ما يكون متعلّق الجعل ابتداءً من غير تخلّل واسطة تكوينية أو تشريعية ، كالخلافة والنبوّة والإمامة والقضاوة ، والسببية والشرطية والمانعية

ص: 78


1- آل عمران (3) : 97 .

والقاطعية أحياناً ، ومن ذلك جعل المواقيت والموقفين ، وجعل الصفا والمروة والمسعى من شعائر اللّه ، وأمثال ذلك ، وإن أمكن أن يقال : بانتزاع بعضها من الحكم التكليفي .

ومنها : ما يكون مجعولاً عقيب شيء اعتباري أو تكويني ، كضمان اليد والإتلاف ، وكحقّ السبق والتحجير ، وكحقّ الرهان في باب السبق والرماية ، وكالملكية عقيب الإحياء والحيازة ، ومن قبيله جميع الحدود الشرعية ، وأحكام القصاص والديات .

ومنها : ما يكون مجعولاً عقيب أمر تشريعي قانوني ، كالعهدة عقيب عقد الضمان ، ومن ذلك مفاد العقود والإيقاعات ، فإنّ كلّ ذلك من التشريعيات والجعليات الشرعية والعرفية التي أنفذها الشارع ، والمراد من الأحكام التشريعية [ما هو] أعمّ من العرفيات التي أنفذها الشارع ، أو لم يردع عنها .

ثمّ اعلم : أنّ في العقود والإيقاعات وسائر الوضعيات ذوات الأسباب يمكن أن يلتزم بجعل السببية ، فيقال : بأنّ الشارع جعل الحيازة سبباً للملكية ، واليد سبباً للضمان ، وعقد البيع والنكاح سببين لمسبّبهما ، ويمكن أن يلتزم بجعل المسبّب عقيب السبب ، والأوّل هو الأقرب بالاعتبار، والأسلم من الإشكال ، لكن في كلّ مورد لا بدّ من ملاحظة مقتضى دليله .

فقد اتّضح ممّا ذكرنا : النظر في كثير ممّا أفاده المحقّق الخراساني(1) وغيره(2) في المقام ، منه : ما أفاده; في النحو الأوّل من الوضع ، فإنّه مع تسليم عدم

ص: 79


1- كفاية الاُصول : 454 - 457 .
2- فوائد الاُصول ((تقريرات المحقّق النائيني)) الكاظمي 4 : 392 - 395 .

تطرّق الجعل التشريعي مطلقاً إلى شيء، لا وجه لعدّه من الأحكام الوضعية(1) فإنّ الأحكام الوضعية هي الأحكام الجعلية والمقرّرات الشرعية ، فلا معنى لعدّ ما لا يتطرّق إليه الجعل منها .

مع أ نّك قد عرفت النظر(2) في عدّ السببية للتكليف ممّا لا يتطرّق إليه الجعل ؛ فإنّ السببية كالمانعية والشرطية والرافعية لأصل التكليف أيضاً من الوضعيات المتطرّق إليها الجعل ، فإنّ نفس دلوك الشمس إلى غسق الليل أو سببيته للجعل وإن لم يكن مجعولاً ، لكن سببيته للوجوب يمكن أن تكون مجعولة ومقرّرة شرعاً ، كما أنّ الاضطرار وإن لم يكن مجعولاً ، لكن يمكن جعل السببية لرفع التكليف له ، كما يمكن رفع التكليف عقيبه ، كما هو ظاهر قوله : «رفع . . . وما اضطرّوا إليه»(3) الرافع لحرمة الخمر في صورة الاضطرار العرفي .

هذا ، كما أنّ عدّ بعضهم الكاشفية والطريقية والحجّية وأمثال ذلك من الوضعيات(4) في غير محلّه ؛ فإنّ الحجّية سواء كانت بمعنى منجّزية التكليف ، أو بمعنى قاطعية العذر ليست من المجعولات ، كما أنّ الطريقية والكاشفية للكاشف والطريق ليستا بمجعولتين ، كما مرّ ذكره في محلّه(5) .

ص: 80


1- كفاية الاُصول : 455 .
2- تقدّم في الصفحة 76 .
3- التوحيد ، الصدوق : 353 / 24 ؛ الخصال : 417 / 9 ؛ وسائل الشيعة 15 : 369 ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، الباب 56 ، الحديث 1 .
4- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 105، و4 : 392 .
5- راجع أنوار الهداية 1 : 161 .

تنبيهات

اشارة

ص: 81

ص: 82

التنبيه الأوّل: في اعتبار فعلية اليقين والشكّ في الاستصحاب

اشارة

يعتبر في الاستصحاب فعلية الشكّ واليقين بناءً على أخذهما موضوعاً وركناً فيه - كما سيأتي التعرّض لذلك(1) - وليس المراد من فعليتهما تحقّقهما في خزانة النفس ولو كان الإنسان ذاهلاً عنهما ، بل بمعنى الالتفات إلى يقينه السابق وشكّه اللاحق ؛ لأنّ الاستصحاب كالأمارات إنّما اعتبر لأجل تنجيز الواقع ، وإقامة الحجّة عليه ، والتحفّظ على الواقع في زمن الشكّ ؛ أي يكون حجّة من المولى على العبد في بعض الاستصحابات ، ومن العبد على المولى في بعضها ، والحجّة لا تصير حجّة إلاّ مع العلم والالتفات ، فقوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ»(2) أو «صدّق العادل» وإن كان لهما وجود واقعي علم المكلّف أو لا ، لكنّهما لا يصيران حجّة على الواقعيات بوجودهما الواقعي ، فلو دلّ دليل على

ص: 83


1- يأتي في الصفحة 86 .
2- تهذيب الأحكام 1 : 8 / 11 ؛ وسائل الشيعة 1 : 245 ، أبواب نواقض الوضوء ، الباب 1 ، الحديث 1 .

حرمة الخمر مطلقاً ، ودلّ دليل آخر على حلّية قسم منها ، ولم يصل المخصّص إلى المكلّف ، وارتكب هذا القسم ، وكان بحسب الواقع محرّماً ؛ أي كان المخصّص مخالفاً للواقع ، يكون المكلّف معاقباً على الواقع ، وليس له الاعتذار بأنّ لهذا العامّ مخصّصاً واقعاً ؛ لأنّ وجوده الواقعي لا يكون حجّة لا من العبد ولا عليه ، فقوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» إنّما يصير حجّة على الواقع أو عذراً منه إذا كان المكلّف متوجّهاً وملتفتاً إلى الموضوع والحكم ، فلا معنى لجريان الاستصحاب مع عدم فعلية الشكّ واليقين .

هذا ، مضافاً إلى ظهور أدلّته في فعليتهما أيضاً ، فحينئذٍ لو كان المكلّف قبل الصلاة شاكّاً في الطهارة مع العلم بالحدث سابقاً ، وصار ذاهلاً وصلّى ، ثمّ بعد صلاته التفت إلى شكّه ويقينه لا يكون مجرى للاستصحاب بالنسبة إلى ما قبل شروعه في الصلاة ؛ للذهول عن الشكّ واليقين .

وأمّا جريان قاعدة الفراغ بالنسبة إليه أيضاً فمشكل ؛ لظهور أخبارها (1) في حدوث الشكّ بعد العمل ، وهذا الشكّ ليس حادثاً ، بل كان باقياً في خزانة النفس ، ويكون من قبيل إعادة ما سبق ، أو الالتفات إلى ما كان موجوداً ، فتجب إعادة الصلاة ، إمّا لأجل استصحاب الحدث بعد الصلاة بأن يقال : إنّ استصحاب الحدث في حال الصلاة ممّا يوجب الإعادة ، وهو وإن كان حكماً عقلياً ، لكنّه من الأحكام التي تكون للأعمّ من الحكم الواقعي والظاهري ، وإمّا لأجل قاعدة الاشتغال لو سلّمت مثبتية الاستصحاب .

ص: 84


1- تأتي في الصفحة 341 - 346 .

ثمّ إنّ اشتراط فعلية الشكّ واليقين إنّما هو فيما إذا قلنا بأخذهما في الاستصحاب على نحو الموضوعية ؛ أي إذا كان الشكّ واليقين ركنين فيه .

وأمّا إذا قلنا : بأنّ المعتبر فيه هو الكون السابق والشكّ اللاحق - كما هو مختار الشيخ الأنصاري قدّس سرّه (1) - أو قلنا : بأنّ الاستصحاب عبارة عن جعل الملازمة التعبّدية بين الكون السابق وبقائه - كما يظهر من المحقّق الخراساني; في التنبيه الثاني(2) - فلا يبقى مجال للبحث عن فعلية اليقين على كلا المسلكين ، وعن فعلية الشكّ أيضاً على المسلك الثاني .

ومن هنا يرد إشكال على المحقّق الخراساني : وهو وقوع التهافت بين ما اختاره في التنبيه الأوّل : من اعتبار فعلية الشكّ واليقين في الاستصحاب(3) ، وبين ما اختاره في التنبيه الثاني : من الاكتفاء في صحّة الاستصحاب بالشكّ في بقاء شيء على تقدير ثبوته وإن لم يحرز ثبوته ، بل الظاهر منه في أواخر التنبيه أنّ الاستصحاب عبارة عن جعل الملازمة التعبّدية بين ثبوت الشيء وبقائه ؛ وذلك لأنّ لازم القول باعتبار فعلية اليقين والشكّ هو أخذهما في موضوعه ، ولازم ما اختاره في التنبيه الثاني هو عدم أخذهما فيه ، أو لا أقلّ من عدم أخذ اليقين فيه ليكون مطابقاً لاختيار الشيخ ، كما ربما يظهر من أوائل التنبيه الثاني ، فيقع التهافت بينهما ولا مهرب منه .

ص: 85


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 24 .
2- كفاية الاُصول : 461 .
3- كفاية الاُصول : 459 .

حول جريان الاستصحاب في مؤدّيات الأمارات

في أخذ اليقين والشكّ على نعت الموضوعية

ثمّ إنّ في اعتبار الشكّ واليقين في الاستصحاب على نعت الموضوعية ، أو عدم اعتبارهما ، أو اعتبار الشكّ دون اليقين ، أو العكس ، وجوهاً واحتمالات :

من أنّ الظاهر من أخذ العناوين في الأحكام هو الموضوعية والدخالة .

ومن أنّ العناوين المرآتية كاليقين والعلم وأمثالهما لو اُخذت في موضوع حكم ، يكون الظاهر منها هو كون الموضوع هو المرئي بها لا المرآة ، وأنّ الشكّ في قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» لم يؤخذ موضوعاً ، بل الظاهر إسقاط الشكّ وعدم صلاحيته لنقض اليقين .

ومن أنّ اليقين غير مأخوذ في الموضوع ؛ لما ذكر في الوجه الثاني ، ولكنّ الظاهر من الأدلّة هو التعبّد بالبقاء في زمان الشكّ ، ومن هنا يظهر وجه الاحتمال الآخر .

والأقوى هو الأوّل ؛ فإنّ الظاهر من جميع أدلّة الاستصحاب هو أنّ اليقين المقابل للشكّ لأجل كونه أمراً مبرماً لا ينقض بالشكّ ، وأنّ العناية في التعبّد في زمان الشكّ إنّما تكون لأجل مسبوقيته باليقين .

وبالجملة : لا يجوز رفع اليد عن اليقين والشكّ بعد ظهور الأدلّة في كون العناية بهما ، وأ نّه لا ينبغي رفع اليد عن اليقين الذي هو حجّة مبرمة بالشكّ الذي هو غير حجّة وغير مبرم ، ولا ينافي موضوعيتهما كون الاستصحاب ناظراً إلى ترتيب آثار الواقع ومعتبراً لأجل التحفّظ عليه ، كما هو كذلك في باب أداء

ص: 86

الشهادة ؛ فإنّ العلم مع كونه تمام الموضوع له يعتبر لأجل التحفّظ على الواقع ؛ وذلك لأنّ أخذ اليقين موضوعاً إنّما هو جهة تعليلية لحفظ الواقع ، من غير تقيّد بإصابته، أو تركيب بينها وبين الواقع في الموضوعية، أو كون الواقع تمام الموضوع.

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ اليقين والشكّ مأخوذان فيه على جهة الموضوعية ، لكن اُخذ اليقين بما أ نّه طريق وكاشف . وأيضاً قد عرفت في ذيل الصحيحة الاُولى أنّ صحّة نسبة عدم نقض اليقين بالشكّ إنّما هي في اليقين بما أ نّه كاشف عن الواقع(1) .

إشكال جريان الاستصحاب في مؤدّيات الأمارات وجوابه

فحينئذٍ : يقع الإشكال الذي أورده المحقّق الخراساني في التنبيه الثاني في باب مؤدّيات الطرق والأمارات ، سواء في الأحكام أو في الموضوعات ، وهو أنّ الاستصحاب متقوّم باليقين ، والأمارات مطلقاً لا تفيد اليقين ، فينسدّ باب الاستصحاب في جلّ الأحكام الوضعية والتكليفية وكثير من الموضوعات(2) .

والشيخ العلاّمة الأنصاري والمحقّق الخراساني رحمهماالله في فسحة من هذا الإشكال ؛ لعدم كون اليقين معتبراً عندهما في موضوع الاستصحاب ، لكن قد عرفت(3) الإشكال في مبناهما .

وأمّا على المبنى المنصور فيمكن أن يجاب عنه: بأنّ الظاهر من الأدلّة بمناسبة

ص: 87


1- تقدّم في الصفحة 36 .
2- كفاية الاُصول : 460 .
3- تقدّم في الصفحة 86 .

الحكم والموضوع هو أنّ الشكّ باعتبار عدم حجّيته وإحرازه للواقع لا ينقض اليقين الذي هو حجّة ومحرز له؛ فإنّه لا ينبغي أن ترفع اليد عن الحجّة بغير الحجّة.

وبعبارة اُخرى : أنّ العرف لأجل مناسبة الحكم والموضوع يلغي الخصوصية ، ويحكم بأنّ الموضوع في الاستصحاب هو الحجّة في مقابل اللا حجّة ، فيلحق الظنّ المعتبر باليقين ، والظنّ الغير المعتبر بالشكّ .

ويؤيّد ذلك بل يدلّ عليه قوله في صحيحة زرارة الثانية : «لأ نّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً»(1) الظاهر منه إجراء استصحاب طهارة اللباس ، ولا بدّ أن تحمل الطهارة على الواقعية منها ؛ لعدم جريان الاستصحاب في الطهارة الظاهرية ؛ لما ذكرنا سابقاً .

ومعلوم : أنّ العلم الوجداني بالطهارة الواقعية ممّا لا يمكن عادة ، بل العلم إنّما يحصل بالأمارات ، كأصالة الصحّة ، وإخبار ذي اليد ، وأمثالهما ، فيرجع مفاده إلى أ نّه لا ترفع اليد عن الحجّة القائمة بالطهارة بالشكّ .

بل يمكن أن يؤيّد بصحيحته الاُولى أيضاً ؛ فإنّ اليقين الوجداني بالوضوء الصحيح أيضاً ممّا لا يمكن عادة ، بل الغالب وقوع الشكّ في الصحّة بعده ، ويحكم بصحّته بقاعدة الفراغ ، بل الشكّ في طهارة ماء الوضوء يوجب الشكّ فيه ، فاليقين بالوضوء أيضاً لا يكون يقيناً وجدانياً غالباً ، تأمّل .

ويؤيّده أيضاً بعض الروايات التي يظهر منها جريان الاستصحاب في مفاد بعض الأمارات ، كما دلّ على جواز الشهادة والحلف مع الاستصحاب في الغائب

ص: 88


1- تقدّم تخريجها في الصفحة 45 .

المنقطع خبره إذا وصل [خبر] موته بعد ثلاثين سنة ، وشكّ في إحداث الحدث في أمواله ، وحدوث وارث جديد له ، وكلّف القاضي الشهود ليشهدوا بأنّ أمواله له ، وورّاثه منحصرون في الموجودين(1) ، فلولا جريان الاستصحاب في مفاد الأمارات لما جازت الشهادة بأنّ أمواله له ؛ لامتناع حصول اليقين الوجداني بأنّ المال ماله ، فجريان الاستصحاب في مفاد الأمارات وبعض الاُصول - كأصالة الصحّة - ممّا لا مانع منه .

وأمّا ما ادّعاه بعض أعاظم العصر : من توسعة اليقين إلى الأعمّ من الوجداني وما هو بمنزلته(2) - بناءً على مسلكه من قيام الطرق والأمارات مقام القطع الطريقي ؛ لحكومة أدلّتها على دليله(3) - فقد عرفت في مبحث القطع ما فيه ؛ من أنّ الأمارات المتداولة المعتبرة في الشريعة أمارات عقلائية أمضاها الشارع لا تأسيسية ، وليس بناء العقلاء في العمل على طبق الأمارات لأجل تنزيلها منزلة القطع ، بل هي أمارات مستقلّة معمول بها ، كان القطع أو لم يكن ، نعم ، مع وجود القطع في مورد لا يبقى محلّ للعمل بالأمارة(4) .

وبالجملة : لا دليل في باب حجّية الأمارات يكون حاكماً على دليل الاستصحاب ويجعل اليقين أعمّ من الوجداني وغيره ، وهذا واضح جدّاً .

ص: 89


1- الكافي 7 : 387 / 4 ؛ تهذيب الأحكام 6 : 262 / 698 ؛ وسائل الشيعة 27 : 336 ، كتاب الشهادات ، الباب 17 ، الحديث 2 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 403 - 404 .
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 24 - 25 .
4- أنوار الهداية 1 : 70 - 72 .

التنبيه الثاني: في أقسام استصحاب الكلّي

اشارة

المتيقّن السابق إذا كان كلّياً في ضمن فرده وشكّ في بقائه : فإمّا أن يكون الشكّ من جهة الشكّ في بقاء ذلك الفرد ، وإمّا أن يكون من جهة الشكّ في تعيين الفرد وتردّده بين ما هو باقٍ جزماً وبين ما هو مرتفع كذلك ، وإمّا من جهة الشكّ في تحقّق فرد آخر مع الجزم بارتفاع الفرد المتحقّق .

القسم الأوّل من استصحاب الكلّي

أمّا الأوّل : فلا إشكال في جريان استصحاب الكلّي والفرد فيه وترتيب آثار كلّ منهما عليه ، كما أ نّه لا إشكال في أنّ جريان استصحاب الكلّي لا يغني عن استصحاب الفرد ؛ لأنّ بقاء الكلّي يستلزم عقلاً كونه في ضمن هذا الفرد ؛ لانحصاره به فرضاً .

وهل يغني استصحاب الفرد عن الكلّي(1) أم لا(2) أو يفصّل بين ما إذا كان

ص: 90


1- درر الفوائد ، المحقّق الخراساني : 337 - 338 .
2- هو مختاره كما يأتي آنفاً .

الكلّي بنحو صرف الوجود ، وبين ما إذا كان بنحو الوجود الساري ؛ لأنّ الكلّي اعتبر في النحو الثاني متّحداً مع الأفراد ، فجريانه في الفرد يغني عنه ؛ لأنّه متّحد معه ، لا مستلزم إيّاه(1) ؟ والتحقيق : عدم إغنائه عنه مطلقاً ؛ لأنّ حيثية الكلّي غير حيثية الخصوصيات الفردية في عالم الاعتبار ومقام تعلّق الأحكام بالموضوعات ، فاعتبار إيجاب إكرام كلّ إنسان غير اعتبار إيجاب إكرام زيد وعمرو ؛ فإنّ الحكم قد تعلّق في الأوّل بحيثية إنسانية كلّ فرد ، وهي غير الخصوصيات الفردية عرفاً ، فإسراء الحكم من أحد المتّحدين في الوجود والمختلفين في الحيثية بالاستصحاب لا يمكن إلاّ بالأصل المثبت .

القسم الثاني من استصحاب الكلّي

اشارة

وأمّا الثاني : فالأقوى جريان استصحاب الكلّي فيه أيضاً ؛ لأنّ المعتبر فيه هو وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها عرفاً ، وهو حاصل ؛ لأنّه مع العلم بوجود فرد من الحيوان يعلم بوجود الحيوان ، ومع الشكّ في كونه طويل العمر يشكّ في بقاء عين الحيوان المتيقّن ، فما هو مشكوك البقاء عين ما هو متيقّن الحدوث .

لا يقال : إنّ المتيقّن السابق مردّد بين الحيوانين ، والكلّي متكثّر الوجود في الخارج ، فالبقّ غير الفيل وجوداً وحيثية - حتّى أنّ حيوانية البقّ أيضاً غير حيوانية الفيل على ما هو التحقيق في باب الكلّي الطبيعي(2) - وما هو مشكوك

ص: 91


1- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 533 ، الهامش 1 .
2- راجع ما يأتي في الصفحة 100، الهامش 4؛ مناهج الوصول 2 : 62 - 63 .

البقاء ليس هذا المتيقّن المردّد بينهما ، فلا تتّحد القضيّتان .

فإنّه يقال : إنّما يرد ذلك - بعد تسليم كون الطبيعي مع الأفراد كذلك عرفاً - لو أردنا استصحاب الفرد المردّد ، دون ما إذا أردنا استصحاب الكلّي ؛ فإنّ المعلوم هو حيوان خارجي متشخّص يكون الكلّي موجوداً بوجوده ، ويشكّ في بقاء ذاك الحيوان بعينه ، فلا إشكال في جريان الأصل فيه .

لكنّ الإنصاف : أ نّه لو اُغمض النظر عن وحدتهما عرفاً ، فلا يمكن التخلّص من الإشكال ، سواء اُريد إجراء استصحاب الكلّي المعرّى واقعاً عن الخصوصية ، أو استصحاب الكلّي المتشخّص بإحدى الخصوصيتين ، أو الكلّي الخارجي مع قطع النظر عن الخصوصية ؛ بدعوى أنّ الموجود الخارجي ، له جهتان : جهة مشتركة بينه وبين غيره من نوعه أو جنسه في الخارج ، وجهة مميّزة ، والعلم بوجود أحد الفردين موجب لعلم تفصيلي بجهة مشتركة خارجية بينهما ؛ وذلك لاختلال ركني الاستصحاب أو أحدهما على جميع التقادير :

أمّا على التقدير الأوّل : فللعلم بعدم وجود الكلّي المعرّى واقعاً عن الخصوصية ؛ لامتناع وجوده كذلك ، فيختلّ ركناه .

وأمّا على الثاني : فلأنّ ذلك عين العلم الإجمالي بوجود أحدهما ؛ لأنّ الكلّي المتشخّص بكلّ خصوصية يغاير المتشخّص بالخصوصية الاُخرى ، فتكون القضيّة المتيقّنة العلم الإجمالي بوجود أحدهما ، وقضيّة اعتبار وحدتها مع المشكوك فيها أن يشكّ في بقاء المعلوم بالإجمال ، وفي المقام لا يكون الشكّ في بقاء المعلوم بالإجمال ، بل يعلم في الزمان الثاني إجمالاً ، إمّا ببقاء الطويل ، أو ارتفاع القصير ، وإنّما يكون الشكّ في البقاء إذا احتمل ارتفاع ما هو المعلوم ،

ص: 92

طويل العمر كان أو قصيره ، فاختلّ الركن الثاني منه .

وأمّا على التقدير الثالث : فلأنّ الجهة المشتركة بما هي مشتركة غير موجودة في الخارج إلاّ على رأي الرجل الهمداني الذي يلزم منه مفاسد ، كما حقّق في محلّه(1) ، وعلى المسلك المنصور تكون الطبيعة في الخارج طبيعتين ، فكما لا علم تفصيلي بإحدى الخصوصيتين ، لا علم تفصيلي بإحدى الطبيعتين ؛ لامتناع حصول العلم التفصيلي إلاّ مع وحدة الطبيعة المعلومة ، فحينئذٍ يأتي فيه الإشكال المتقدّم .

فالتخلّص عن الإشكال هو ما أشرنا إليه من وحدة القضيّتين عرفاً ، وهي المعتبرة في الاستصحاب ، والدليل على عرفية القضيّة ما ترى من عدم قبول النفوس خلافها إلاّ بالبرهان ، وحكم أهل العرف قاطبة ببقاء النوع الإنساني وسائر الأنواع من بدو الخلقة إلى انقراضها ، واشتهار القول بأنّ المهملة توجد بوجود ما ، وتنعدم بعدم جميع الأفراد(2) وغيرها ممّا هي من لوازم قول الهمداني .

لا يقال : يرد على هذا الاستصحاب ما يرد على استصحاب بقاء النهار في الشبهة المفهومية : من أنّ النهار ينتهي إلى سقوط قرص الشمس ، أو يبقى إلى زوال الحمرة ؛ لأنّ الاستصحاب غير جارٍ فيه ، لعدم الشكّ في الخارج ؛ لأنّ سقوط القرص معلوم ، وعدم زوال الحمرة معلوم أيضاً ، فالأمر دائر بين المعلومين ، وإنّما الشكّ في انطباق مفهوم النهار على إحدى القطعتين ، وكذا

ص: 93


1- رسائل ابن سينا 1 : 462 ؛ الحكمة المتعالية 1 : 273 ؛ شرح المنظومة ، قسم الحكمة 2 : 347 - 348 .
2- كفاية الاُصول : 183 ؛ نهاية الأفكار 4 : 126 .

الحال فيما نحن فيه ؛ لدوران الأمر بين المقطوعين ؛ لأنّ الحيوان الخارجي إمّا باقٍ قطعاً ، أو مرتفع كذلك ، فلا شكّ في الخارج ، وإنّما الشكّ في انطباق عنوان الفيل أو البقّ عليه .

فإنّه يقال : قياس ما نحن فيه على الشبهة المفهومية مع الفارق ؛ لأنّ الشكّ في الشبهة المفهومية ليس إلاّ في المعنى اللغوي أو العرفي ؛ أي يشكّ في أنّ لفظ «النهار» موضوع إلى هذا الحدّ أو ذلك ، وهو ليس مجرى الاستصحاب ، بخلاف ما نحن فيه ؛ فإنّ الشكّ إنّما هو في بقاء الحيوان الخارجي ، ومنشأ الشكّ إنّما هو الشكّ في طول عمره وقصره ، ومثل ذلك لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه إلاّ من جهة الشكّ في المقتضي ، وقد فرغنا من جريانه فيه(1) .

وأمّا الإشكال من جهة أنّ الشكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن الشكّ في حدوث الفرد الطويل المنفيّ بالأصل(2) ، فواضح الفساد .

الجواب عن الشبهة العبائية

ثمّ إنّه لا إشكال في أ نّه لا يترتّب على استصحاب الكلّي أثر الفرد ولا أثر غيره من لوازمه وملزوماته ؛ ضرورة أنّ بقاء الكلّي مستلزم عقلاً لوجود الفرد الطويل ، وهذا هو الجواب عن الشبهة العبائية المعروفة(3) ؛ فإنّه مع تطهير أحد

ص: 94


1- تقدّم في الصفحة 19 .
2- اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 192 - 193 ؛ حاشية المكاسب ، المحقّق اليزدي 1 : 355 .
3- وهي للمحقّق السيّد إسماعيل الصدر رحمه الله ، كما في نهاية الأفكار 4 : 130 .

طرفي الثوب لا يجري استصحاب الفرد المردّد ، ولكن جريان استصحاب النجاسة وإن كان ممّا لا مانع منه ؛ لأنّ وجود النجاسة في الثوب كان متيقّناً ، ومع تطهير أحد طرفيه يشكّ في بقائه فيه ، إلاّ أ نّه لا يترتّب على ملاقاة الثوب أثر ملاقاة النجس ؛ فإنّ استصحاب بقاء الكلّي أو الشخص الواقعي ، لا يثبت كون ملاقاة الأطراف ملاقاة النجس إلاّ بالأصل المثبت ؛ لأنّ ملاقاة الأطراف ملاقاة للنجس عقلاً .

وليس لأحدٍ أن يقول : إنّه بعد استصحاب نجاسة الثوب تكون الملاقاة معها وجدانية ؛ لأنّ ما هو وجداني هو الملاقاة مع الثوب لا مع النجس ، واستصحاب بقاء النجاسة بالنحو الكلّي، وكذا استصحاب النجس الذي كان في الثوب ؛ أي الشخص الواقعي، لا يثبت أنّ الملاقاة مع الثوب بجميع أطرافه ملاقاة للنجاسة إلاّ بالاستلزام العقلي ، وفرق واضح بين استصحاب نجاسة طرف معيّن من الثوب ، وبين استصحاب نجاسة فيه بنحو غير معيّن ؛ فإنّ ملاقاة الطرف المعيّن المستصحب النجاسة ملاقاة للنجس المستصحب وجداناً ، فإذا حكم الشارع بأنّ هذا المعيّن نجس ينسلك في كبرى شرعية هي : «أنّ ملاقي النجس نجس» وأمّا كون ملاقاة جميع الأطراف ملاقاةً للنجس الكلّي أو الواقعي فيكون بالاستلزام العقلي .

ألا ترى : أ نّه لو وجب عليه إكرام عالم ، وكان في البيت شخصان يعلم كون أحدهما عالماً ، فخرج أحدهما من البيت ، وبقي الآخر ، يجري استصحاب بقاء العالم في البيت ، ويترتّب عليه أثره لو كان له أثر ، لكن لا يثبت كون الشخص

ص: 95

الموجود عالماً (1) ليكون إكرامه عملاً بالتكليف ، بخلاف ما لو كان زيد عالماً وشكّ في بقاء علمه ؛ فإنّ استصحاب كونه عالماً يكفي في كون إكرامه مسقطاً للتكليف .

كما أ نّه لو شكّ في زوال النجاسة المعلومة بالإجمال ؛ بأن يشكّ في أنّ الثوب الذي علم كون أحد طرفيه نجساً هل غسل أم لا ؟ يجري استصحاب الكلّي ، ولا يثبت كون ملاقي جميع أطرافه نجساً ؛ لما عرفت .

لكن هاهنا استصحاب آخر : هو استصحاب الفرد المردّد ، وأثره نجاسة ملاقي جميع الأطراف ؛ فإنّ التعبّد بنجاسة هذا الطرف أو هذا الطرف بنحو الفرد المردّد يكون أثره نجاسة ملاقي الطرفين من غير شبهة المثبتية ، فهو كاستصحاب نجاسة الطرف المعيّن من حيث إنّ ملاقيه محكوم بالنجاسة ، والفرق بينه وبين استصحاب الكلّي واضح ؛ فإنّ استصحاب أصل النجاسة في الثوب لا يثبت أنّ هذا الطرف أو هذا الطرف نجس ، وكذا استصحاب الشخص الواقعي ، وأمّا استصحاب الفرد المردّد فهو كالمعيّن ، فلا إشكال في جريانه وترتيب أثر النجاسة على ملاقيه .

وما يقال : من أنّ الفرد المردّد لا وجود له حتّى يجري الاستصحاب

ص: 96


1- ويؤيّد ما ذكرنا ما قاله المحقّقون في كتاب الوديعةأ : إنّه لو قال: عندي ثوب لفلان ومات ، ولم يكن في تركته إلاّ ثوب واحد ، وشكّ الورثة في بقاء الوديعة عنده ، لا يحكم بكون الثوب وديعة ؛ فإنّ استصحاب بقاء الوديعة لا يثبت كون الثوب وديعة . [منه عفي عنه] أ اُنظر مفتاح الكرامة 17 : 259 - 260 ؛ جواهر الكلام 27 : 121 .

فيه(1) ، ليس بشيء ؛ ضرورة جواز التعبّد به وترتيب الأثر عليه كالواجب التخييري .

لكنّه محلّ إشكال ، والقياس بالواجب التخييري مع الفارق ؛ لأنّ الواجب التخييري نحو وجوب على نعت التخيير ، ولا يكون له واقع معيّن عند اللّه مجهول عندنا ، بخلاف ما نحن فيه ؛ فإنّ النجس له واقع معيّن ومجهول عندنا ، فالمعلوم هو النجس الواقعي المعيّن ، فيجري الاستصحاب فيه ، لا في الفرد المردّد ، ولازمه عدم نجاسة ملاقي الأطراف ، ولا بأس به .

اللهمّ إلاّ أن يقال في المثال : إنّي عالم بأنّ الشارع حكم بنجاسة هذا الطرف المعيّن أو ذاك ، والملاقي لهما ملاقٍ لمستصحب النجاسة وجداناً ، وهذا هو الفارق بينه وبين الشبهة العبائية المدفوعة بما تقدّم ، فتدبّر .

وأمّا ما ادّعاه بعض أعاظم العصر; في مقام الجواب عن الشبهة العبائية : من منع جريان استصحاب الكلّي فيما إذا كان الترديد في محلّ المتيقّن لا في نفسه ، كما لو علم بوجود حيوان في الدار ، وتردّد بين أن يكون في الجانب الشرقي أو الغربي منها ، ثمّ انهدم الجانب الغربي واحتمل تلف الحيوان ، أو علم بإصابة العباء نجاسة خاصّة ، وتردّد محلّها بين الطرف الأسفل والأعلى ، ثمّ طهّر طرفها الأسفل ، فلا يجري الاستصحاب ، ولا يكون من الاستصحاب الكلّي ؛ لأنّ المتيقّن أمر جزئي حقيقي لا ترديد فيه ، وإنّما الترديد في المحلّ ، فهو أشبه باستصحاب الفرد المردّد عند ارتفاع أحد فردي الترديد ، وليس من

ص: 97


1- نهاية الدراية 5 : 140 ؛ حاشية المكاسب ، المحقّق الأصفهاني 1 : 131 .

الاستصحاب الكلّي ، ومنه يظهر الجواب عن الشبهة العبائية المشهورة(1) .

ففيه ما لا يخفى : فإنّ استصحاب الفرد المردّد عبارة عن استصحابه على ما هو عليه من الترديد ، وهو غير جارٍ في المقام ، وليس المقام شبيهاً به ، بل المراد بالاستصحاب في المقام هو استصحاب بقاء الحيوان في الدار من غير تعيين محلّه ، وكذا استصحاب بقاء النجاسة في الثوب من غير تعيين كونها في هذا الطرف أو ذاك ، ومن غير إرادة الجريان في الفرد المردّد ؛ ضرورة أ نّه مع تطهير الطرف الأسفل من الثوب ينقطع الترديد ، ولا مجال لاستصحاب المردّد ، بل ما يراد استصحابه هو بقاء الحيوان في الدار والنجاسة في العباء ، وهذا استصحاب الكلّي ، وكون الحيوان الخاصّ فرداً جزئياً حقيقياً لا ينافي استصحاب الكلّي ، كما لا يخفى ، كما أنّ استصحاب الشخص الخاصّ والجزئي الحقيقي، كاستصحاب بقاء زيد في الدار ، وبقاء النجاسة المتحقّقة الخارجية الجزئية في الثوب ، ممّا لا إشكال فيه ؛ فإنّه استصحاب الفرد المشكوك فيه ، ولا شباهة له باستصحاب الفرد المردّد ، فسبيل الجواب عن مثل الشبهة العبائية هو ما عرفت .

القسم الثالث: من استصحاب الكلّي

اشارة

وأمّا الثالث : وهو ما إذا كان الشكّ في بقاء الكلّي لاحتمال قيام فرد آخر مقام الفرد المعلوم ارتفاعه ، فيتصوّر على وجهين :

ص: 98


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 421 - 422 .

أحدهما : ما إذا كان منشأ الشكّ احتمال مقارنة فرد لوجود الفرد المعلوم ؛ بحيث احتمل اجتماعهما في الوجود .

وثانيهما : ما إذا كان منشؤه احتمال حدوث فرد مقارناً لزوال الفرد المعلوم ، سواء كان الفرد الآخر من الجواهر أو الأعراض .

فإذا احتمل مقارنة فرد من السواد في جسم مع الفرد الآخر في جسم آخر علم زواله ، فهو من القسم الأوّل ، وإذا احتمل حدوث فرد منه مقارناً لزوال ذلك الفرد ، فهو من القسم الثاني ، كما أ نّه إذا احتمل تبدّل الفرد الزائل بفرد آخر مباين له في الوجود ، فهو من القسم الثاني أيضاً .

وأمّا احتمال تبدّل مرتبة من العَرَض - الذي فيه عرْض عريض ونقص وكمال - بمرتبة اُخرى ، فهو ليس من القسم الثالث رأساً ؛ لأنّ شخصية الفرد وهويته باقية في جميع المراتب عقلاً وعرفاً ، فالحمرة الشديدة إذا صارت ضعيفة ليس تبدّلها من الكمال إلى النقص تبدّل فرد بفرد آخر ، أمّا عقلاً فواضح عند أهله(1) ، وأمّا عرفاً فلأنّ المراتب عندهم في أمثالها من قبيل الحالات والشؤون للشيء ، فشدّة الحمرة وضعفها من حالات نفس الحمرة مع بقائها ذاتاً وتشخّصاً ، فالاستصحاب في مثلها من القسم الأوّل لا الثالث .

نعم ، فيما إذا علم بوجوب شيء وقطع بزواله ، واحتمل تبدّله بالاستحباب يكون من القسم الثالث ؛ لأنّه من قبيل تبدّل فرد من الطلب بفرد آخر مغاير له عرفاً وعقلاً .

ص: 99


1- الحكمة المتعالية 1 : 425 و427 ، و3 : 72 - 93 .

وممّا ذكرنا يتّضح : أنّ استثناء الشيخ الأنصاري من عدم جريان الاستصحاب في القسم الثاني من القسم الثالث ما يكون من قبيل السواد الضعيف والشديد(1) من الاستثناء المنقطع ، كما أنّ التفصيل بين القسمين المتقدّمين الذي اختاره(2) ممّا لا وجه له ؛ لأنّ مقارنة الفرد لفرد آخر وعدمها لا دخل لهما في بقاء الكلّي وعدمه ، كما لا يخفى .

ثمّ إنّه قد يقال : بعدم جريان الاستصحاب فيه ؛ لأنّ العلم بوجود الفرد في الخارج إنّما يلازم العلم بوجود حصّة من الكلّي في ضمن الفرد الخاصّ ، لا العلم بوجود الكلّي ، والحصّة الموجودة في ضمن الفرد الخاصّ تغاير الحصّة الاُخرى في ضمن فرد آخر ؛ ولذا قيل : نسبة الكلّي إلى الأفراد نسبة الآباء المتعدّدين إلى الأبناء(3) .

ولا يخفى : أنّ هذا ناشٍ من عدم تعقّل الكلّي الطبيعي وكيفية وجوده ، وعدم الوصول إلى مغزى مراد القوم من أنّ نسبة الكلّي إلى الأفراد نسبة الآباء(4) ؛ ضرورة أنّ الكلّي الطبيعي لدى المحقّقين موجود بتمام ذاته مع كلّ فرد من الأفراد ، فكلّ فرد في الخارج بتمام هويته عين الكلّي ، لا أ نّه حصّة منه ، ولا تعقل الحصص للكلّي ، فزيد إنسان ، لا نصف إنسان ، أو جزء إنسان ، أو

ص: 100


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 196 .
2- نفس المصدر .
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 424 - 425 .
4- الشفاء ، الإلهيات : 315 ؛ الحكمة المتعالية 1 : 273 - 274، و2 : 7 - 8 ؛ شرح المنظومة ، قسم الحكمة 2 : 347 - 348 .

حصّة منه ، فلا معنى للحصّة أصلاً .

وبالجملة : هذا الإشكال بمكان من الضعف يغني تصوّر الكلّي عن ردّه ، والعجب أنّ بعض أعاظم العصر ادّعى البداهة لما اختاره من الحصص للكلّي(1) ، مع كونه ضروري الفساد .

وأمّا ما أفاده المحقّق الخراساني; : من تعدّد الطبيعي بتعدّد الفرد ، وأنّ الكلّي في ضمن فرد غيره في ضمن فرد آخر ، ولذا اختار عدم الجريان مطلقاً (2) .

فهو حقّ في باب الكلّي الطبيعي عقلاً كما حقّق في محلّه(3) ، لكن جريانه لا يتوقّف على الوحدة العقلية ، بل الميزان وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها عرفاً ، ولا إشكال في اختلاف الكلّيات بالنسبة إلى أفرادها لدى العرف .

وتوضيحه : أنّ الأفراد قد تلاحظ بالنسبة إلى النوع الذي هي تحته ، كزيد وعمرو بالنسبة إلى الإنسان ، وقد تلاحظ بالنسبة إلى الجنس القريب ، كزيد وحمار بالنسبة إلى الحيوان ، وقد تلاحظ بالنسبة إلى الجنس المتوسّط أو البعيد ، وقد تلاحظ بالنسبة إلى الكلّي العرضي ، كأفراد الكيفيات والكمّيات التي هي مشتركة في العروض على المحلّ .

ولا يخفى : أنّ الأفراد بالنسبة إلى الكلّيات مختلفة عرفاً ، فإذا شكّ في بقاء

ص: 101


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 424 .
2- كفاية الاُصول : 462 - 463 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الخراساني : 339 .
3- راجع ما تقدّم في الصفحة 100 ، الهامش 4 ؛ مناهج الوصول 2 : 62 - 63.

نوع الإنسان إلى ألف سنة يكون الشكّ في البقاء عرفاً مع تبدّل الأفراد ، لكنّ العرف يرى بقاء النوع مع تبدّل أفراده ، وقد يكون الجنس بالنسبة إلى أفراد الأنواع كذلك ، وقد لا يساعد [عليه] العرف ، كأفراد الإنسان والحمار بالنسبة إلى الحيوان ؛ فإنّ العرف لا يرى الإنسان من جنس الحيوان ، وقد لا يساعد في أفراد الأجناس البعيدة ، وقد يساعد .

وبالجملة : الميزان وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها عرفاً ، ولا ضابط لذلك .

ولا يبعد أن يقال : إنّ الضابط في حكم العرف بالبقاء في بعض الموارد وعدم الحكم في بعضها : أ نّه قد يكون المصداق المعلوم أمراً معلوماً بالتفصيل أو بالإجمال ، لكن بحيث يتوجّه ذهن العرف إلى الخصوصيات الشخصية ، ولو بنحو الإشارة ، ففي مثله لا يجري الاستصحاب ؛ لعدم كون المتيقّن ، الكلّي المشترك .

وقد يكون المعلوم على نحو يتوجّه العرف إلى القدر الجامع ، ولا يتوجّه إلى الخصوصيات ، كما إذا علم أنّ في البيت حيوانات مختلفة ، واحتمل وجود مصاديق اُخر من نوعها أو جنسها ، ففي مثله يكون موضوع القضيّة هو الحيوان المشترك ، وبعد العلم بفقد المقدار المتيقّن ، واحتمال بقاء الحيوان بوجودات اُخر يصدق البقاء ، ففي مثل الحيوان المردّد بين الطويل والقصير في القسم الثاني لعلّه كذلك ؛ لأجل توجّه النفس بواسطة التردّد إلى نفس الطبيعة المشتركة بزعمه ، فيصدق البقاء .

ص: 102

وأمّا ما في ظاهر كلام الشيخ الأعظم وصريح بعض الأعاظم : من أنّ الفرق بين القسم الثاني والثالث أنّ في الثالث لا يحتمل بقاء عين ما كان ، دون الثاني ؛ لاحتمال بقاء عين ما كان موجوداً (1) ، فخلط بين احتمال بقاء ما هو المتيقّن بما أ نّه متيقّن الذي هو معتبر في الاستصحاب ، وبين احتمال بقاء الحيوان المحتمل الحدوث ، ففي الآن الثاني وإن احتمل بقاء ما هو حادث ، لكن هو احتمال بقاء ما هو محتمل الحدوث لا معلومه .

نعم لو اُضيف الحدوث والبقاء إلى نفس الطبيعة بلا إضافة إلى الخصوصيات يكون الشكّ في بقاء المتيقّن في كلا المقامين ، إلاّ أن يتشبّث بحكم العرف بنحو ما ذكرنا آنفاً ، والمسألة محتاجة إلى مزيد تأمّل ؛ لعدم الخلوّ من الخدشة والإشكال والنقض .

وبما ذكرنا يجمع بين ما قلناه مراراً من أنّ كثرة الإنسان بكثرة الأفراد عرفية كما هي عقلية(2) ، وبين ما قلناه من جريان الاستصحاب في القسم الثاني وفي بعض موارد القسم الثالث ، وعليك بالتأمّل التامّ في موارد الجريان وعدمه .

ص: 103


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 195 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 425 .
2- تقدّم في الصفحة 92 و93 و101 .
تذييل: حول أصالة عدم التذكية

إنّا وإن استقصينا البحث في مبحث البراءة(1) في أصالة عدم التذكية التي تمسّك بها الأعلام(2) في نجاسة الحيوان الذي شكّ في تذكيته وحرمة لحمه ، لكن لمّا بقي بعض الفوائد المهمّة التي لا بدّ من تحقيقها ، فلا محيص عن التعرّض لها تبعاً للشيخ قدّس سرّه (3) .

فنقول : قد ذكرنا سابقاً : أنّ الشبهة إمّا حكمية أو موضوعية ، والحكمية : إمّا أن تكون لأجل الشكّ في قابلية الحيوان للتذكية لأجل الشبهة المفهومية ، كما لو شكّ في صدق مفهوم الكلب على حيوان ، أو لأمر آخر ، كالشكّ في قابلية المتولّد من الحيوانين ، وإمّا أن تكون للشكّ في شرطية شيء للتذكية ، أو مانعية شيء عنها ، كالجلل أو غير ذلك .

وللشبهة الموضوعية أقسام ، كالشكّ في كون حيوان كلباً أو غنماً لأجل الشبهة الخارجية ، أو الشكّ في تحقّق التذكية ، أو كون لحم مأخوذاً ممّا هو معلوم التذكية ، أو معلوم عدمها ، إلى غير ذلك .

وقلنا : إنّ التذكية بحسب التصوّر يمكن أن تكون أمراً بسيطاً متحصّلاً من

ص: 104


1- أنوار الهداية 2 : 94 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 109 ؛ كفاية الاُصول : 397 .
3- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 197 .

الاُمور الخمسة أو منتزعاً منها، ويمكن أن تكون مركّباً خارجياً ؛ بمعنى كون نفس الاُمور الخمسة أو الستّة هي التذكية ، ويمكن أن تكون مركّباً تقييدياً أو غير ذلك(1) .

فحينئذٍ : إذا شكّ في التذكية لأجل الشكّ في قابلية الحيوان لها ، فهل تجري أصالة عدم القابلية وتحرز الموضوع أم لا ؟ قد يقال: بجريانها؛ لأنّ القابلية من العوارض التي تعرض الحيوان في الوجود الخارجي ، وليست من عوارض الماهية أو لوازمها قبل تحقّقها ، فيمكن أن يشار إلى الحيوان الموجود بأنّ هذا الحيوان قبل وجوده لم يكن قابلاً للتذكية ، وبعد تلبّسه بالوجود شكّ في صيرورته قابلاً لها ، فيستصحب عدمها ، وكذا الحال في المرأة التي يشكّ في قرشيتها ، وكذا سائر الأعدام الأزلية ممّا يكون الحكم لموضوع مفروض الوجود. هذا محصّل ما أفاده شيخنا العلاّمة أعلى اللّه مقامه(2).

والتحقيق : عدم جريان الأصل المذكور ، وتوضيحه يحتاج إلى :

تحقيق القضايا السالبة

تحقيق القضايا السلبية من جهتين :

إحداهما : ما مرّ سالفاً (3) في الفرق بين القضايا الموجبة والسالبة والمعدولة ؛

ص: 105


1- أنوار الهداية 2 : 95 .
2- أفاده المحقّق الحائري في مجلس درسه على ما حكي عنه . اُنظر معتمد الاُصول 1 : 290 ؛ تنقيح الاُصول 2 : 361 .
3- أنوار الهداية 2 : 97 .

من أنّ القضيّة الموجبة المركّبة تكون حاكية عن موضوع ومحمول ونسبة منتزعة من حصول المحمول للموضوع ، ولها نحو تحقّق ولو بتبع الطرفين ، وكذا المعدولة المحمول حاكية عن موضوع محقّق ، ومحمول له نحو تحقّق ، كالأعدام والملكات ، ولنسبته إلى الموضوع نحو تحقّق في خصوص المركّبات منها .

وفي حكم القضيّة المعدولة ، القضيّة الموجبة السالبة المحمول كقولنا : «زيد هو الذي ليس له القيام» ممّا لوحظ فيها اتّصاف الموضوع بالمحمول الذي هو قضيّة سالبة تحصيلية ، وكذا السالبة المحصّلة بسلب المحمول فقط ، لا الأعمّ منه ومن سلب الموضوع ، ولا بسلب الموضوع .

هذا كلّه في القضايا الحملية المؤوّلة كقولنا : «زيد على السطح» أو «له القيام» .

وأمّا الحمليات الغير المؤوّلة الحاكيات عن الهوهوية فلا نسبة فيها ، ولا كوناً رابطاً ، لا واقعاً وفي نفس الأمر ؛ لعدم إمكان النسبة والربط بين الشيء وما هوهو ، ولا في القضيّة المعقولة والملفوظة ؛ لكونهما حاكيتين عن الواقع ، منطبقتين عليه طابق النعل بالنعل ، كما حقّقنا ذلك في مباحث الألفاظ(1) ، فراجع .

وأمّا القضيّة السالبة البسيطة المحصّلة ، سواء كانت بنحو الهلية البسيطة ك «زيد ليس بموجود» أو المركّبة السالبة بسلب الموضوع ك «العنقاء ليس بأبيض» فليس لموضوعها ومحمولها ونسبتها تحقّق أصلاً ؛ أي لا تحكي القضيّة

ص: 106


1- مناهج الوصول 1 : 45، و2 : 228.

عن موضوع ومحمول ونسبة ، بل يدرك العقل بطلان الموضوع ولا شيئيته بتبع صورة إدراكية موجودة في الذهن ، فيحكم ببطلانه أو ببطلان اتّصافه بشيء بحسب الواقع ، من غير أن يكون كشف عن واقع محقّق ، وسيأتي بيان مناط الصدق والكذب في القضايا (1) .

ثانيتهما : أنّ النسبة السلبية ليست نسبة برأسها مقابلة للنسبة الإيجابية ، كما عليه المتأخّرون من أهل النظر(2) ؛ لأنّ حرف السلب آلة لسلب المحمول عن الموضوع ، لا لنسبته إليه ، فمفاد السوالب ليس إلاّ سلب المحمول عن الموضوع ، وحرف السلب ليس إلاّ آلة لسلبه عنه ، فإذا لوحظ الواقع يرى أ نّه ليس بين المحمول والموضوع نسبة ؛ أي لا يكون المحمول حاصلاً للموضوع ، فلا نسبة بينهما ، فإنّها منتزعة من حصوله له .

والقضيّة المعقولة أيضاً تتعقّل على نعت الخارج ؛ أي يكون مفادها سلب الربط بينهما ، لا ربط السلب ، ولا ربط هو السلب ، وكذا مفاد القضيّة الملفوظة ، فالقضيّة السلبية لا تشتمل على النسبة رأساً ، كما أ نّه في الواقع ليس بين الموضوع والمحمول ربط ونسبة ، فالقضيّة السالبة مفادها سلب الربط ، وإلاّ فإن كان مفادها ربط السلب تصير معدولة ، وإن كان مفادها الربط بينهما بالنسبة السلبية ؛ أي يكون السلب هو الربط يخرج حرف السلب عمّا هو عليه من كونه آلة لسلب المحمول عن الموضوع ، مع أنّ لازم ذلك ؛ أي الانتساب السلبي، اتّصاف الموضوع والمحمول بالسلب ، فيكون مفاد القضيّة معنونية الموضوع

ص: 107


1- يأتي في الصفحة 110 .
2- اُنظر الحكمة المتعالية 1 : 365 ، الهامش 1 (تعليقة المحقّق السبزواري) .

بسلب المحمول عنه ، ومعنونية المحمول بسلبه عنه ، فتصير القضيّة السالبة مشتملة على نسبة إيجابية ، مع أ نّه خلاف الضرورة وخلاف الواقع الذي تكون القضيّة كاشفة عنه .

مع أنّ القضيّة موجبة كانت أو سالبة لا بدّ وأن تكون حاكية عن نفس الأمر ، كاشفة عن الواقع ، فإذا لم يكن في الواقع ونفس الأمر ربط ونسبة بين الموضوع والمحمول فلا بدّ وأن تكون القضيّة حاكية عن سلب الربط والنسبة ، ولا معنى لاشتمالها على ربط حتّى يقال : إنّ النسبة السلبية نسبة أيضاً .

فإن قلت : لازم ما ذكرت عدم ورود الإيجاب والسلب على شيء واحد ؛ لأنّ لازمه ورود السلب على النسبة الإيجابية ، فمفاد القضيّة الموجبة إثبات المحمول للموضوع ، ومفاد القضيّة السالبة قطع هذه النسبة ، فالإثبات يرد على المحمول ، والسلب على النسبة ، وهو كما ترى .

وأيضاً لازم ذلك خلوّ القضيّة عن النسبة ، مع أ نّها متقوّمة بها ، ولا تكون القضيّة قابلة للصدق والكذب إلاّ بالنسبة .

قلت : أمّا ما ذكرت من عدم ورود الإيجاب والسلب على شيء واحد ، وورود السلب على النسبة الإيجابية ، فممنوع جدّاً ؛ لما عرفت من أنّ مفاد القضيّة الموجبة المؤوّلة إثبات المحمول للموضوع أوّلاً وبالذات ، ولازمه الإخبار بتحقّق النسبة بينهما .

وإن شئت قلت : إثبات المحمول للموضوع ملحوظ باللحاظ الاسمي ، وتحقّق النسبة بينهما ملحوظ باللحاظ الحرفي .

وكذا في القضيّة السالبة يكون سلب المحمول عن الموضوع أوّلاً وبالذات ،

ص: 108

ولازمه قطع الربط ، والإخبار عن سلب النسبة بينهما ، لا إثبات النسبة التي هي العدم ، ولا نسبة الشيء العدمي ؛ فإنّهما خلاف الضرورة والوجدان ، مع أنّ العدم ليس بشيء حتّى يقع به الربط بين الشيئين ويخبر المتكلّم به .

نعم ، يمكن لحاظ العدم بتبع الوجود ، والإخبار عنه ، لكن ليس مفاد القضيّة السالبة كون العدم ربطاً ، أو الموضوع متّصفاً به ، وهو عنوان له .

وبالجملة : ليس معنى وقوع السلب على الربط أنّ مفاد القضيّة أوّلاً وبالذات هو سلب النسبة ، حتّى تكون النسبة ملحوظة بالمعنى الاسمي ، بل المراد منه أنّ حرف السلب يسلب المحمول عن الموضوع ، ولازمه سلب الانتساب وقطع الربط ، كلّ ذلك بحسب مقام الإخبار والإثبات ، فلا يلزم أن يكون الربط مورداً للسلب حتّى يكون الاعتبار في القضيّة السالبة مخالفاً للقضيّة الموجبة ، بل مفاد القضيّة السالبة نفي المحمول عن الموضوع ، كما أنّ مفاد القضيّة الموجبة ثبوته له .

وممّا ذكرنا يتّضح : أ نّه لا يلزم في القضيّة السالبة لحاظ ثبوت المحمول للموضوع ، ثمّ سلبه عنه . نعم ، لا بدّ من لحاظ المحمول والموضوع في سلبه عنه ، كما في إثباته له .

وأمّا لزوم خلوّ القضيّة عن النسبة ، فليس بتالٍ فاسد ؛ فإنّ القضيّة على التحقيق لا تتقوّم بالنسبة ، وما يقال في مقام الفرق بين الإخبار والإنشاء : من أنّ الإخبار ما يكون لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه(1) فكلام مسامحي معلوم

ص: 109


1- المطوّل : 37 .

البطلان ، حتّى في كثير من القضايا الموجبة فضلاً عن السوالب كالهليات البسيطة ؛ فإنّه في قولنا : «زيد موجود» أو «الوجود موجود» أو «زيد زيد» لا يمكن أن يكون للنسبة خارج ؛ للزوم تحقّق الماهية في قبال الوجود ، ولزوم توسّط النسبة بين الشيء ونفسه .

وكذا في الحمليات الغير المؤوّلة التي يكون مفادها الهوهوية ، وفي القضايا السالبة مطلقاً لا تكون نسبة ، ولا للنسبة خارج بالضرورة ؛ لما عرفت من أنّ مفادها قطع النسبة وسلب الربط ، فما اشتهر بينهم : من أنّ القضيّة متقوّمة بالنسبة ، ممّا لا أصل له ، وإن وقع في كلام أهل التحقيق والنظر لا بدّ وأن يحمل على قسم من الهليات المركّبة الموجبة .

فالقضيّة قول مفاده إمّا الهوهوية ، أو ثبوت شيء لشيء ، أو سلبه عنه ، وذلك في بعض الهليات المركّبة ، أو ثبوت الشيء وسلبه ، وهو في البسائط ، ومناط قابليتها للصدق والكذب هو هذا الإثبات والسلب ، فنفس تصوّر الموضوع أو المحمول أو النسبة أو سلبها لا يوجب صيرورة القضيّة قضيّة ، وأمّا التصديق بأنّ هذا هذا أو ليس بهذا [فهو] موجب لتحقّق القضيّة المعقولة ، واللفظ الحاكي عنه الدالّ عليه هو القضيّة اللفظية ، وقد عرفت كيفية حكايتها عن الواقع .

بيان مناط الصدق والكذب في القضايا

إن قلت : فما المناط في صدق القضايا وكذبها إذا لم تكن للسالبة نسبة وواقعية ؟ وهل الصدق إلاّ المطابقة للواقع ، والكذب عدمها ؟ ! قلت : نعم ، الصدق هو المطابقة للواقع ، والكذب عدمها ، لكن لا يلزم منه

ص: 110

أن تكون للكواذب واقعية ، وللأعدام حقائق ، ولا لقطع النسبة الواقعية حكاية عن واقع محقّق في الخارج .

وتوضيحه : أنّ الواقع عبارة عن نظام الوجود ذهناً وخارجاً ؛ بحيث لا تشذّ عنه حقيقة من الحقائق وموجود من الموجودات ، فإذا اُخبر ب «أنّ زيداً قائم» فإمّا أن يكون مطابقاً لصفحة الكون ونظام الوجود ، فهو صدق ، وإلاّ فلا ، وإذا قيل : «شريك البارئ ليس بموجود» يكون مطابقاً للواقع ؛ لأنّ صفحة الكون خالية عنه ، والإخبار مطابق له ، وإذا قيل : «إنّه موجود» يكون مخالفاً للواقع ؛ لأنّ صفحة الكون وصحيفة الوجود خاليتان عنه وقد اُخبر بوجوده ، فلا بدّ لتشخيص الصدق والكذب من مقايسة الخبر لصفحة الوجود ونظام الكون ، من مبدأ الوجود إلى منتهاه ، ذهناً وخارجاً ، فكلّ إخبار يكون مطابقاً لصفحة الكون وصحيفة الوجود - بأن يكون الإخبار عن تحقّق شيء موجود فيها ، أو عدم شيء معدوم فيها - يكون صدقاً مطابقاً للواقع ، وإلاّ فلا ، حتّى أنّ مثل قولنا : «الإنسان حيوان ناطق» الحاكي عن ذاتيات الماهية يكون مناط صدقه مطابقته لنظام الوجود ذهناً أو خارجاً ، فإنّ الإنسان في تقرّره الذهني وتحقّقه الخارجي حيوان ناطق ، وما ليس بموجود مطلقاً ليس بشيء حتّى يثبت له لازم أو جزء ، ولا يمكن أن يخبر عنه مطلقاً ، وما اُخبر عنه يكون له نحو تحقّق ولو ذهناً .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أ نّه ليس مناط الصدق في القضايا السالبة مطابقتها للواقع ؛ بمعنى أن يكون في الواقع شيء مطابق لها ، بل المناط هو ما ذكرنا ، وقد تكون القضيّة الموجبة في حكم القضيّة السالبة ؛ لخصوصية في محمولها ، كقولنا : «زيد معدوم» و«شريك البارئ ممتنع» أو «باطل» فإنّها ترجع إلى

ص: 111

السوالب ، ويكون حكمها حكمَها ، فقولنا : «شريك البارئ ممتنع» في قوّة «شريك البارئ ليس بموجود بالضرورة» .

عدم جريان أصالة عدم القابلية ونحوها

إذا عرفت ما ذكرنا : يتّضح لك عدم جريان استصحاب عدم قابلية الحيوان فيما إذا شكّ في قابليته للتذكية ، واستصحاب عدم القرشية فيما إذا شكّ فيها ؛ فإنّ الموضوع لعدم ورود التذكية على الحيوان هو الحيوان الغير القابل بنحو الإيجاب العدولي ، أو الحيوان المسلوب عنه القابلية بنحو السالبة المحصّلة مع فرض وجود الموضوع ، وكون السلب بسلب المحمول أو الموجبة السالبة المحمول .

وأمّا السلب التحصيلي الأعمّ من السلب بسلب الموضوع ، فليس موضوعاً للحكم ؛ فإنّ عدم كون الحيوان قابلاً صادق في حال معدوميته ، لكنّه ليس موضوعاً لحكم بالضرورة ، فموضوع الحكم لا يخلو من أحد الاعتبارات الثلاثة المتقدّمة .

وكذا الحال في المرأة التي شكّ في قرشيتها ؛ فإنّ من ليست بقرشية، بنحو السلب التحصيلي الأعمّ من سلب الموضوع، ليست موضوعة للحكم بالحيضية.

فحينئذٍ نقول : إنّ الحيوان قبل تحقّقه لا يمكن أن يتّصف بشيء ، سواء كان معنى عدمياً أو وجودياً ؛ لما عرفت(1) من أنّ القضيّة السالبة لا تكشف عن حيثية واقعية ، وهي سلب محض لا اتّصاف بالسلب ، ولا يمكن أن يكون السلب نعتاً

ص: 112


1- تقدّم في الصفحة 106 - 107 .

للمعدوم ؛ لأنّ المعدوم لا شيئية له حتّى يتّصف بشيء ، فأصالة عدم القرشية والقابلية - كأصالة عدم كون المرأة الموجودة قرشية ، والحيوان الموجود قابلاً للتذكية - ممّا لا أصل لها ؛ لأنّ الشيء قبل وجوده لا يتّصف بشيء وجودي أو عدمي ، ولا يسلب منه بنحو السالبة المحقّقة الموضوع شيء ، بل هذا الحيوان وهذه المرأة قبل وجودهما ليسا بشيء وليس ذاتهما ذاتَهما إلاّ في عالم التخيّل ووعاء الوهم ، فالقضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها ليست بواحدة ، ومع فرض وحدتهما لا يكون الموضوع عدم الحيوان قابلاً بالسلب التحصيلي الأعمّ من سلب الموضوع ، كما عرفت .

وأصالة عدم الحيوان قابلاً بالسلب التحصيلي الأعمّ لا تثبت كون هذا الحيوان غير قابل ، ولا هو الذي لا يكون قابلاً بنحو الاتّصاف بالسلب ، وهذا واضح ، بل ولا هذا الحيوان ليس بقابل بنحو السلب التحصيلي مع فرض وجود الموضوع ؛ لأنّ السلب التحصيلي أعمّ ، والموضوع للحكم أخصّ منه ، والأعمّ في حال الوجود وإن كان منحصراً مصداقه بالأخصّ ، لكنّ إثبات الأخصّ من استصحاب الأعمّ مثبت .

لا يقال : يمكن أن يكون الموضوع مركّباً من وجود الحيوان وعدم قابليته بنحو العدم المحمولي لا الرابط ، فيكون من الموضوعات المركّبة المحرزة بالوجدان والأصل ، فيقال : هذا الحيوان موجود بالوجدان ، وعدم قابليته - بنحو العدم المحمولي - محرزة بالاستصحاب .

فإنّه يقال : - مضافاً إلى أ نّه مجرّد فرض لا واقعية له - إنّ العدم بهذا المعنى لا يعقل أن يكون جزءاً للموضوع ؛ فإنّه بطلان صرف ولا شيئية محضة ،

ص: 113

ولا يمكن تعقّله إلاّ بالحمل الأوّلي ، وما كان حاله كذلك لا يمكن أن يجعل موضوعاً أو يؤخذ فيه ، فموضوع رؤية الدم إلى خمسين سنة لا يمكن أن يكون المرأة الموجودة وعدم محض يعبّر عنه بعدم القرشية عدماً محمولياً ، فلا بدّ وأن يكون السالبة المحصّلة المحقّقة الموضوع ، لا نفس السلب بما أ نّه سلب ، ولا الأعمّ من سلب الموضوع ؛ لأنّه يؤدّي إلى اعتبار المتناقضين في موضوع الحكم ، فإنّ اعتبار وجود المرأة وعدم قرشيتها - الأعمّ من سلب الموضوع - اعتبار النقيضين.

ثمّ إنّ ما ذكرنا : من عدم جريان أصالة عدم القابلية إنّما يصحّ فيما إذا قلنا : بأنّ القابلية كالقرشية من الحيثيات الواقعية التكوينية ، وأمّا إذا قلنا بأ نّها من الأحكام الوضعية الجعلية ، فيمكن إجراء أصالة عدم جعل القابلية للحيوان ، فإذا شكّ في قابلية الذئب للتذكية تجري أصالة عدم جعل الشارع القابلية لهذا العنوان بنحو القضيّة الحقيقية ، فيحرز عدم قابليته .

ثمّ إنّ أصل عدم القابلية على فرض جريانه يغني عن أصل عدم التذكية ، ويكون حاكماً عليه وإن قلنا بأنّ التذكية أمر بسيط محصَّل من الاُمور الستّة ؛ لأنّه على هذا الفرض تكون محصّلية الاُمور الستّة ومسبّبيتها لها شرعية ، فيكون الترتّب شرعياً ، ولا إشكال في أنّ الآثار الشرعية تترتّب على المحصَّلات بالتعبّد بوجود محصِّلاتها ، ويحكم بعدم الترتّب مع التعبّد بعدم المحصّلات من غير شائبة المثبتية ، فتأمّل(1) .

ص: 114


1- يأتي وجهه في باب الاُصول المثبتة .أ [منه قدس سره] أ - يأتي في الصفحة 174 .

هذا كلّه حال أصالة عدم القابلية ، ومع عدم جريانها لا بدّ من التمسّك في حرمة لحم الحيوان ونجاسته بأصالة عدم التذكية .

حال أصالة عدم التذكية

فنقول : ما ذكرنا من الاعتبارات في عدم القابلية تأتي في عدم التذكية مع شيء زائد ، فإنّ عنوان المذكّى - المأخوذ في موضوع الحلّية والطهارة ، أو الطهارة فقط - إنّما هو أمر وجودي هو إزهاق الروح بكيفية خاصّة ؛ أي فري الأوداج الأربعة ، متوجّهاً إلى القبلة ، ذاكراً عليه اسم اللّه ، وكون الذابح مسلماً ، وآلة الذبح حديداً .

ومقابل هذا العنوان الذي هو موضوع الحرمة والنجاسة يمكن أن يكون عنواناً وجودياً هو زهوق الروح بكيفية اُخرى غير الكيفية المأخوذة في التذكية ، أيّة كيفية كانت .

ويمكن أن يكون عنواناً إيجابياً بنحو الإيجاب العدولي ، أو الموجبة السالبة المحمول ، أو سلبياً بنحو السالبة المحصّلة الأعمّ من سلب الموضوع ، أو السالبة بسلب المحمول .

ويمكن أن يكون مركّباً من زهوق الروح ، وعدم تحقّق الكيفية الخاصّة بنحو العدم المحمولي .

هذا بحسب التصوّر ، لكن بعض الفروض باطلة ، ككون الموضوع عدم التذكية أو عدم الزهوق بنحو السالبة المحصّلة ولو بسلب الموضوع ؛ ضرورة أنّ هذا الأمر السلبي لا يمكن أن يكون موضوعاً للحكم ولو في حال وجود

ص: 115

الحيوان ، فالموضوع للحرمة والنجاسة هو الحيوان المتحقّق الذي زهق روحه بلا كيفية خاصّة ، لا سلب زهوق الروح بكيفية خاصّة ولو بسلب تحقّق الحيوان ، أو السلب الصادق على الحيوان في حال حياته ، فالمذكّى ومقابله هو الحيوان الذي زهق روحه إمّا بكيفية خاصّة ، فيكون موضوعاً للحكم بالطهارة والحلّية ، أو بغيرها فيحكم بالنجاسة وعدم الحلّية ، فعدم تذكية الحيوان أو عدم كون الحيوان مذكّى - أي هذا العنوان السلبي بما أ نّه عنوان سلبي - ليس موضوعاً لحكم ، لا الحرمة والنجاسة ، ولا عدم الحلّية وعدم الطهارة .

نعم ، ليست له الحلّية والطهارة بنحو الليس الأزلي والقضيّة السالبة الموضوع ، ومعلوم أنّ هذا ليس بحكم ، بل عدم حكم وتشريع . وقد عرفت حال العدم المحمولي بنحو جزء الموضوع في احتمالات أصالة عدم القابلية ، فلامحيص إلاّ أن يكون الموضوع للحرمة والنجاسة هو الحيوان الذي زهق روحه .

فحينئذٍ : إمّا أن يعتبر عدم الكيفية الخاصّة بنحو الإيجاب العدولي ؛ أي زهوق بغير الكيفية الخاصّة ، أو بنحو الموجبة السالبة المحمول ؛ أي زهوق متّصف بأ نّه لم يكن بالكيفية الخاصّة ، أو السالبة المحصّلة بسلب المحمول مع فرض وجود الموضوع ، وهذه الاحتمالات مع كونها معقولة معتبرة عند العقلاء - على إشكال في الأخير تعرّضنا له في العامّ والخاصّ(1) - يمكن تنزيل الآيات والأخبار على واحدٍ منها .

فحينئذٍ نقول : إنّ أصالة عدم التذكية غير جارية مطلقاً .

ص: 116


1- مناهج الوصول 2 : 233 .

أمّا إذا كان الموضوع زهوق الروح بكيفية وجودية اُخرى ، أو بنحو الإيجاب العدولي ، أو الموجبة السالبة المحمول فواضح ؛ ضرورة أنّ أصالة عدم زهوق الروح بالكيفية الخاصّة لا تثبت العنوان الثبوتي ، ولا الاتّصاف بأمر سلبي ، أو بسلب المحمول عنه ؛ فإنّ كلّ ذلك عناوين يكون إثباتها للموضوع من اللوازم العقلية لأصالة عدم التذكية .

وأمّا إذا كان عدم التذكية زهوق الروح مسلوباً عنه الكيفية الخاصّة بنحو السالبة المحصّلة بسلب المحمول ؛ فلأنّ نفس هذا العنوان - أي الزهوق مع سلب الكيفية الخاصّة بسلب المحمول ، مع فرض وجود الموضوع - لم يكن له حالة سابقة ، وعدم الزهوق بكيفية خاصّة بنحو السلب التحصيلي الأعمّ من سلب الموضوع ، أو عنوان السلب المحمولي ليس موضوعاً للحكم ، بل الموضوع هو الزهوق المفروض الوجود بلا كيفية خاصّة ، واستصحاب عدم الزهوق بالكيفية الخاصّة لا يثبت أنّ الزهوق المتحقّق ليس بالكيفية الخاصّة .

وبالجملة : أنّ الحيوان في حال حياته ليس مذكّى ، وكذا ما يقابله ؛ أي الموضوع الذي تعلّقت به النجاسة والحرمة ، وإن صدق عليه أ نّه ليس بمذكّى ولو بسلب الموضوع الذي هو زهوق الروح ، ولكنّ هذا الأمر السلبي ليس موضوعاً للحكم ، لا في حال حياته ، ولا بعد زهوق روحه ، بل الموضوع هو زهوق روحه بلا كيفية خاصّة بنحو سلب المحمول ، وعدم زهوق الروح بالكيفية الخاصّة وإن كان صادقاً عليه حال الحياة وبعد الموت ، لكن لا يثبت به زهوق الروح بلا كيفية خاصّة بنحو السلب عن الموضوع المفروض الوجود إلاّ بالأصل المثبت .

ص: 117

نقل كلمات الأعاظم وما يرد عليها

وممّا ذكرنا يتّضح النظر في كلمات كثير من الأعاظم :

منهم الشيخ الأعظم قدّس سرّه ؛ حيث يظهر منه التفصيل بين ما إذا رتّبت الأحكام على مجرّد عدم التذكية بنحو السالبة المحصَّلة ، وبين كونها بنحو الموجبة السالبة المحمول(1) .

ومنهم : المحقّق الخراساني; ؛ حيث يظهر منه في «تعليقته» الفرق بين كون المذكّى ومقابله من قبيل الضدّين ، أو من قبيل العدم والملكة ، فذهب إلى أنّ أصالة عدم التذكية جارية حينئذٍ ، وموجبة للحكم بأنّ الحيوان غير مذكّى ، فيكون من قبيل الموضوعات المركّبة أو المقيّدة المشكوك في جزئها أو قيدها ، فيحرز بالأصل(2) .

ومنهم : المولى الهمداني في «مصباحه» و«تعليقته» حيث فصّل بين الآثار التي رتّبت على عدم كون اللحم مذكّى - كعدم الحلّية ، وعدم جواز الصلاة فيه ، وعدم طهارته من الأحكام العدمية المنتزعة من الوجوديات ، التي تكون التذكية شرطاً في ثبوتها فيقال : الأصل عدم تعلّق التذكية بهذا اللحم الذي زهق روحه ، فلا يحلّ أكله ، ولا الصلاة فيه ، ولا استعماله فيما يشترط بالطهارة - وبين الآثار المترتّبة على كونه غير مذكّى ، كالأحكام الوجودية الملازمة لهذه العدميات ؛ كحرمة أكله ونجاسته وتنجيس ملاقيه وغيرها من الأحكام المعلّقة

ص: 118


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 199 - 200 .
2- درر الفوائد ، المحقّق الخراساني : 341 .

على عنوان الميتة أو غير المذكّى .

وقال في خلال كلامه في تقريب مدّعاه ما يظهر من الشيخ أيضاً وهو: أنّ الحلّية وسائر الأحكام الوجودية - ممّا تكون مترتّبة على سبب حادث - تصير منتفية بانتفاء سببها ، فالموت المقرون بالشرائط أمر مركّب سبب للأحكام ، وهو أمر حادث مسبوق بالعدم ، فأصالة عدمه ممّا يترتّب عليها عدم الحلّية والطهارة ، فعدم حلّية اللحم من الذي زهق روحه من آثار عدم حدوث ما يؤثّر في حلّيته بعد الموت ، لا من آثار كون الموت فاقداً للشرائط ، حتّى لا يمكن إحرازه بالأصل(1) ، انتهى بتوضيح وتلخيص منّا .

وفيه مغالطة خفيّة ؛ لأنّ سلب الموت المقرون بالشرائط ، الأعمّ من سلب الحيوان وسلب الموت وسلب الاقتران بالشرائط ، لازمه سلب حلّية اللحم وطهارته ، الأعمّ من سلب اللحم - كما في حال عدم الحيوان ، بل في حال حياته ؛ لأنّ اللحم غير الحيوان - ومن سلب الحلّية والطهارة عنه ، وهذا سلب بنحو السلب المحمولي ، ولازمه العقلي سلب الرابط في حال تحقّق اللحم ؛ أي بعد زهوق روح الحيوان ، فأصالة عدم سبب حلّية اللحم لا تثبت أنّ اللحم ليس بحلال إلاّ بالأصل المثبت ؛ لأنّ لازم أصالة عدم سبب الحلّية ؛ أي عدم الموت المقرون بالشرائط، انتفاء حلّية لحم الحيوان ، الأعمّ من انتفاء الحيوان واللحم ، وإذا استمرّ هذا العدم الأزلي إلى زمان وجود اللحم يكون لازمه صدق السالبة المحصّلة بسلب المحمول ، وهو لازم عقلي .

ص: 119


1- مصباح الفقيه 8 : 378 - 382 ؛ حاشية فرائد الاُصول (الفوائد الرضوية): 388 - 390 .

هذا ، مضافاً إلى إمكان منع كون الطهارة والحلّية وجواز الصلاة في شيء ، من الأحكام المجعولة المسبّبة عن زهوق الروح بالكيفية الخاصّة ، بل المجعول المحتاج إلى السبب هو النجاسة والحرمة ومانعية الميتة من الصلاة في أجزائها ، على إشكال في حلّية الأكل .

ألا ترى أنّ الحيوان القابل للتذكية حين حياته يكون طاهراً بلا إشكال ، وتجوز الصلاة معه لو فرض حمله بل لبسه ، ولا دليل على عدم حلّية أكله من جهة كونه غير مذكّى ، بل الحرمة لو كانت فهي من جهة كونه ممّا لا يؤكل ومن الخبائث ، مع أنّ الموت المقرون بالشرائط مسلوب منه .

ومن هنا قد يقوى في النظر أنّ التذكية ليست سبباً للطهارة وحلّية الأكل وجواز الصلاة فيه ، بل إنّما هي دافعة لما هو سبب للنجاسة والحرمة وعدم جواز الصلاة فيه ، كما تشهد له الأدلّة المتفرّقة في أبواب النجاسات وموانع الصلاة(1) .

وبالجملة : ليست التذكية سبباً للطهارة والحلّية وجواز الصلاة ، بل عدم التذكية المساوق لكون الحيوان ميتة - أي زهوق الروح بخصوصية مغايرة للخصوصيات المعهودة - سبب لمقابلاتها ، فأصالة عدم سبب الطهارة والحلّية وجواز الصلاة ، ممّا لا أصل لها .

بل لنا أن نقول : إنّه على فرض كون تلك الأحكام مجعولة مسبّبة عن سبب ، يمكن إجراء أصالة بقاء جامع السبب المؤثّر في الطهارة وحلّية الأكل وجواز الصلاة فيه ، تأمّل .

ص: 120


1- وسائل الشيعة 3 : 461 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ، الباب 34 ، 49 ، 50 و61 .

ومنهم : بعض أعاظم العصر;(1) ، وقد مرّ في مباحث البراءة كلامه وما يرد عليه(2) .

هذا حال الشبهات الحكمية من جهة الشكّ في القابلية ، ولا يهمّنا التعرّض لسائر الشبهات الحكمية ؛ لوضوح حكمها غالباً .

حكم الشبهات الموضوعية

وأمّا الشبهات الموضوعية فلها صور كثيرة ، يرد على جميعها الشبهة السيّالة التي مرّ ذكرها (3) ، واختصّ بعضها بشبهة زائدة .

فمنها : الشكّ في تذكية حيوان من جهة الشكّ في حصول ما هو المعتبر في التذكية ، كفري الأوداج وغيره ، وهذه هي الصورة التي جرت فيها أصالة عدم التذكية ، ولا شبهة فيها إلاّ الشبهة المتقدّمة السيّالة .

ومنها : أن يكون الشكّ في جزء من الحيوان بأ نّه من معلوم التذكية ، أو معلوم عدمها ، فجريان أصالة الحلّ والطهارة في الجزء ممّا لا مانع منه ، بناءً على كون التذكية وعدمها من صفات الحيوان ، لا من صفات الأجزاء، وتكون طهارة الأجزاء وحلّيتها من آثار تذكية الحيوان لا الجزء ؛ لأنّ السبب إنّما يرد على الحيوان ، وكذا السبب المقابل ، فتذكية الحيوان موجبة لطهارة الأجزاء وحلّيتها بناءً على سببيتها لهما ، والموت بغير تذكية سبب لحرمتها ونجاستها ، وإن كانت

ص: 121


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 382، و4 : 434 .
2- أنوار الهداية 2 : 103 .
3- تقدّم في الصفحة 112 و116 - 117 .

التذكية واردة على الحيوان وكذا عدمها .

فحينئذٍ : يكون الأصل بالنسبة إلى الحيوانين ممّا لا مجرى له ؛ لمعلومية حالهما ، وجريان أصالة عدم التذكية بالنسبة إلى الجزء لا معنى لها ؛ لما ذكرنا ، ولا أصل يحرز كون الجزء من أيّ الحيوانين ، وأصالة عدم تذكية ما اُخذ منه الجزء لا معنى لها ؛ لأنّ هذا العنوان الانتزاعي ليس موضوعاً لحكم ، والحيوان الخارجي غير مشكوك فيه ، فلا إشكال في جريان أصالتي الحلّ والطهارة .

هذا من غير فرق بين كون الحيوانين أو أحدهما في محلّ الابتلاء ، أو لا ، كما في الأجزاء التي علم أ نّها إمّا مأخوذة من الحيوان المعلوم التذكية في بلاد الإسلام ، أو من الحيوان المحكوم بعدمها في بلاد الكفر ، فبناءً عليه لا تجري أصالة عدم التذكية في الجلود المصنوعة التي نقلت إلينا من بلاد الكفر ، وتكون مشتبهة بين الجلود التي نقلت من بلاد المسلمين إليهم وصنعوا بها ما صنعوا وردّت بضاعتهم إليهم ، وبين غيرها من جلود ذبائح الكفّار ، لأنّ الأمر دائر بين أخذها من معلوم التذكية ، ومعلوم عدمها ، فلا مجرى للأصل بالنسبة إلى الحيوانين ؛ لكونهما معلومين ، وإنّما الشكّ في أخذها من أيّهما ، ولا محرز لأخذها من غير المذكّى ، وقد عرفت عدم إجراء الأصل بالنسبة إلى الأجزاء بناءً على كون التذكية واللا تذكية من صفات الحيوان ، كما لا يبعد .

نعم ، لو بنينا على جريان الأصل بالنسبة إلى كلّ جزء فلا إشكال فيه من هذه الجهة .

ومنها : ما لو علم أخذ الجزء من أحد الحيوانين اللَذين علم إجمالاً بتذكية أحدهما وعدم تذكية الآخر ، وكان الحيوانان في محلّ الابتلاء ، فحينئذٍ : إن قلنا

ص: 122

بجريان الأصل في كلا الطرفين؛ حيث لم يلزم منه المخالفة العملية، فأصالة عدم التذكية فيهما تحرز حرمة الجزء ونجاسته وعدم حلّية الصلاة فيه . وإن منعنا جريانهما مطلقاً ، أو قلنا بتعارضهما ، فهل يكون حال الجزء كحال ملاقي بعض أطراف العلم الإجمالي ، فيجري فيه أصل الحلّ والطهارة أو لا؟ فيكون الجزء والمأخوذ منه طرفاً للعلم ، وأصلهما يكون معارضاً للأصل الآخر ، فيكون حاله نظير إناءين مشتبهين قسّم أحدهما قسمين .

الظاهر هو الثاني ؛ لأنّ التذكية وإن كانت واردة على الحيوان ، لكن أثرها حلّية الحيوان وطهارته بجميع أجزائه في عرْض واحد ، وكذا الحال في عدم التذكية ، فلا يكون الشكّ في حلّية الجزء وطهارته مسبّباً عن الشكّ في حلّية الكلّ وطهارته ، بل يكون شكّهما مسبّباً عن التذكية وعدمها ، فيكون العلم الإجمالي بحرمة الجزء وكلّه أو الطرف الآخر منجّزاً .

ولو كان الحيوانان خارجين عن محلّ الابتلاء ، وقلنا بتأثير الخروج عن محلّ الابتلاء في عدم منجّزية العلم ، وأغمضنا عن الإشكال الذي مرّ في باب الاشتغال(1) ، فأصالة عدم التذكية في الحيوان المأخوذ منه الجزء لا معارض لها ؛ لأنّ الطرف لخروجه عن محلّ الابتلاء لا يجري فيه الأصل ، وأمّا الحيوان المأخوذ منه الجزء فيجري فيه الأصل بلحاظ الجزء الذي هو محلّ الابتلاء ، كما مرّ في باب الملاقي(2) .

ولو كان أحدهما محلّ الابتلاء دون الآخر : فإن كان الحيوان المأخوذ منه

ص: 123


1- أنوار الهداية 2 : 204 .
2- أنوار الهداية 2 : 238 .

محلّ الابتلاء ، فأصالة عدم التذكية فيه تحرز حرمة الجزء ونجاسته ، ولا معارض لها .

وإن كان الآخر فالأصلان متعارضان ؛ لجريانه في الخارج عن محلّ الابتلاء بلحاظ جزئه الذي هو محلّ الابتلاء . ولكنّ العلم الإجمالي بحرمة هذا الجزء ونجاسته ، أو حرمة الحيوان ونجاسته منجّز .

وممّا ذكرنا يتّضح حال الفروض الاُخرى المتصوّرة .

هذا مقتضى الاُصول من حيث الجريان وعدمه ، فيؤخذ بها إلاّ أن يدلّ دليل على خلافها .

ص: 124

التنبيه الثالث: في استصحاب المتصرّمات

استصحاب نفس الزمان

ربما يقال : إنّ مقتضى تعريف الاستصحاب وأخبار الباب - من اعتبار الشكّ في البقاء فيه - عدم جريانه في الزمان والزمانيات المتصرّمة المتقضّية ؛ لعدم تصوّر البقاء فيها (1) .

فأنكر شيخنا العلاّمة; اعتبار الشكّ في البقاء قائلاً : إنّ الميزان فيه هو مفاد الأخبار ، والمعتبر فيها هو صدق نقض اليقين بالشكّ، وهو صادق في التدريجيات وغيرها ؛ ضرورة أ نّها ما لم تنقطع ، وجود واحد حقيقي وإن كان متصرّماً ، فلو شكّ في تحقّق الحركة أو الزمان بعد العلم بتحقّقهما فقد شكّ في تحقّق عين ما كان متحقّقاً سابقاً ، فلا يحتاج في التمسّك بالأخبار إلى المسامحة العرفية .

ص: 125


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 203 .

نعم ، لو كان المعتبر في الاستصحاب الشكّ في البقاء أمكن أن يقال : مثل الزمان والزمانيات المتصرّمة خارج عن العنوان المذكور ؛ لعدم تصوّر البقاء لها إلاّ بالمسامحة العرفية ، لكن ليس هذا العنوان في الأدلّة(1) ، انتهى .

ويظهر ذلك من الشيخ الأنصاري أيضاً حيث تفصّى عن الإشكال بأحد وجهين:

أوّلهما : أنّ التعبير بالبقاء في تعريف الاستصحاب بلحاظ صدقه في الزمانيات وإن لم يصدق في نفس الزمان .

وثانيهما : أنّ البقاء أعمّ من الحقيقي كما في الزمانيات ، والمسامحي كما في الزمان ، وإلاّ فالعبرة بالشكّ في وجوده والعلم بتحقّقه قبل زمان الشكّ ، وإن كان تحقّقه بنفس تحقّق زمان الشكّ(2) .

تحقيق المقام

هذا ، والتحقيق : أنّ الشكّ في البقاء معتبر في الاستصحاب ومستفاد من الأدلّة ، ومع ذلك لا إشكال في جريانه في الزمان والزمانيات المتصرّمة .

أمّا استفادة اعتباره منها ؛ فلأنّ مقتضى الكبرى المجعولة وهي قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ»(3) أنّ اليقين الفعلي لا ينقض بالشكّ الفعلي ، ولازمه أن يكون هنا شكّ فعلي متعلّق بعين ما تعلّق به اليقين الفعلي ، ولا يتصوّر ذلك إلاّ بأن يكون الشكّ في بقاء ما علم وجوده سابقاً ، فقوله : «لأ نّك كنت على يقين من

ص: 126


1- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 538 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 204 .
3- تقدّم في الصفحة 55 .

طهارتك فشككت ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً»(1) عبارة اُخرى عن الشكّ في بقاء الطهارة ، فكيف يقال لا يستفاد ذلك من الأخبار ؟ ! وأمّا مع اعتباره يكون الاستصحاب جارياً في الزمان والحركة ؛ فلبقاء هويتهما الشخصية ، ووجودهما الخارجي البسيط :

أمّا عند العقل ؛ فلما هو المقرّر في محلّه(2) من وجود الحركة القطعية ؛ أي الوجود المستمرّ المتدرّج ، وإن كان نحو وجودها متصرّماً متقضّياً ، فما دام المتحرّك متحرّكاً تكون الحركة متحقّقة باقية بعين شخصيته المتدرّجة ، ولكلّ موجود نحو وجود خاصّ به ، يكون عدمه بعدم هذا الوجود ، لا الوجود الغير اللائق به ، فالحركة والزمان يكون نحو وجودهما اللائق بهما هو الوجود المتصرّم المتجدّد ، لا الوجود الثابت ، فالنافي لوجود الحركة القطعية والزمان إن نفى عنهما الوجود الثابت فقد نفى عنهما ما لا يكون وجوداً لهما ، وإن نفى الوجود المتصرّم المتجدّد عنهما فقد التزم بما هو خلاف الضرورة ، فالحركة أمر ممتدّ مستمرّ باقٍ بالامتداد التصرّمي والبقاء التجدّدي والاستمرار التغيّري .

وليس لأحدٍ أن يقول : ما هو الموجود هو الحركة التوسّطية لا القطعية(3) ؛ لأنّ الحركة التوسّطية لو كانت موجودة - بمعنى انقطاع كلّ حدّ وآن عن سابقه ولاحقه ، ووجود الحدّ الآخر والآن الآخر بعده منقطعاً عن الحدّ والآن الآخر - فلازمه إنكار الحركة أوّلاً ؛ فإنّ تبادل الآنات لا يوجب وجود الحركة ، والجزء

ص: 127


1- تقدّم في الصفحة 44 .
2- الحكمة المتعالية 3 : 32 ؛ شرح المنظومة ، قسم الحكمة 4 : 328 .
3- الشفاء ، قسم الطبيعيات 1 : 83 - 84 .

الذي لا يتجزّأ وتتالي الآنات ثانياً ؛ ولهذا تكون الحركة بمعنى التوسّط والآن السيّال ممّا لا وجود لهما ، بل ما هو الموجود هو الحركة القطعية والزمان ، لكن نحو وجودهما يكون بالامتداد التصرّمي والاستمرار التجدّدي .

وأمّا عند العرف ؛ فلأ نّهم يرون أنّ اليوم إذا وجد يكون باقياً إلى الليل ، والليلَ باقياً إلى اليوم ، ولا ينافي ذلك اعتبار الساعات والحدود لهما ، فلعلّ ارتكاز العرف يساعد العقل في البقاء التصرّمي والاستمرار التجدّدي .

وكيف كان : لا إشكال في صدق البقاء عرفاً على استمرار النهار والليل وكذا الحركات ، فإذا تحرّك شيء تكون حركته موجودة باقية عرفاً إلى انقطاعها بالسكون ، ولا تكون الحركة مجموع دقائق وساعات ، منضمّاً بعضها إلى بعض، وهذا ممّا لا إشكال فيه .

إنّما الإشكال في مقامين :

أحدهما : ما أفاده الشيخ الأنصاري وتبعه غيره ، من أنّ استصحاب بقاء النهار أو الليل ، لا يثبت كون الجزء المشكوك فيه متّصفاً بكونه من النهار أو من الليل ، حتّى يصدق على الفعل الواقع فيه أ نّه واقع في الليل أو النهار ، إلاّ على القول بالأصل المثبت مطلقاً أو على بعض الوجوه الآتية(1) .

ثانيهما : أ نّه يعتبر في الموقّتات إحراز وقوعها في الزمان الذي اُخذ ظرفاً لامتثالها ، فيعتبر في الصيام وقوعه في الظرف المعتبر وقوعه فيه وهو شهر

ص: 128


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 204 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الخراساني : 343 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 541 ؛ نهاية النهاية 2 : 197 .

رمضان ، وكذا الصلاة اليومية لا بدّ من إحراز وقوعها في الليل أو النهار ، فاستصحاب بقاء النهار أو الليل أو شهر رمضان - على فرض إثبات كون هذا الزمان من الليل أو النهار أو من شهر رمضان - لا يثبت وقوع الفعل فيه ؛ فإنّ كون الفعل متقيّداً بوقوعه في هذا الزمان من اللوازم العقلية لكون الزمان من الليل أو النهار(1) .

هذا ، ولا يخفى وهن الإشكال الثاني ؛ فإنّ وقوع الفعل في هذا الزمان وجداني ، فإذا حكم الشارع بالاستصحاب أنّ هذا الزمان نهار لا يحتاج إلى أمر آخر إلاّ إتيان الصلاة أو الصيام فيه ، كما إذا شكّ في عالمية زيد ، فيستصحب كونه عالماً لوجوب إكرامه ؛ فإنّه إذا ثبت بالاستصحاب أنّ هذا الشخص الخارجي عالم لا يكون إثبات وجوب إكرامه أصلاً مثبتاً .

هذا ، مضافاً إلى إمكان أن يقال : إنّ قوله : «يجب صوم شهر رمضان أو الصلاة من دلوك الشمس إلى غسق الليل» لمّا كان من القضايا الحقيقية يصير مفاده : أنّ كلّ ما وجد في الخارج وكان شهر رمضان يجب الصوم فيه ، وكلّ ما وجد في الخارج وكان نهاراً يجب الصلاة فيه ، فإذا وجد زمان في الخارج وحكم بالاستصحاب أ نّه شهر رمضان ، يكون حكمه أنّ الصوم فيه واجب ، وكذا الصلاة ، فوجوب الصوم في شهر رمضان من أحكام كون هذا الزمان شهر رمضان المحرز بالاستصحاب ، ووجوب الصلاة فيه من أحكام بقاء النهار أو الليل ، كما أنّ وجوب إكرام هذا الشخص الموجود من أحكام كونه عالماً ،

ص: 129


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 436 .

وطهارة ما غسل بالماء الخارجي من أحكام كونه كرّاً ، ولا إشكال في عدم كون أمثال ذلك من الأصل المثبت .

فالعمدة هو الجواب عن الإشكال الأوّل ، ويمكن أن يجاب عنه :

أوّلاً : بأنّ الزمان عبارة عن الهوية الخارجية المستمرّة الباقية بالبقاء التصرّمي كما عرفت ، فإذا علم بوجود النهار فقد علم أنّ هذه الهوية المستمرّة متّصفة بكونها نهاراً ، وإذا شكّ في بقاء النهار يكون الشكّ في زوال تلك الصفة عنها ، فالمعلوم في الزمان السابق كون هذه الهوية المستمرّة نهاراً ، والمشكوك فيه هو بقاؤها على صفة النهارية .

ولا تسمع لما قيل : من أنّ الزمان الحاضر حدث إمّا من الليل أو من النهار ، فلا يقين بكونه منهما حتّى تستصحب حالته السابقة(1) ؛ لأنّ ذلك مساوق لإنكار بقاء الزمان والليل والنهار ، وقد عرفت أنّ ما هو باقٍ من الحركة أو الزمان نفس ما كان متحقّقاً سابقاً ؛ لأنّ الزمان أو الحركة ليسا مركّبين من القطعات ، والماضي والحال والاستقبال ليست أجزاءً للزمان بحسب الهوية الخارجية لا عقلاً ولا عرفاً ، بل التقطيع إنّما هو بالوهم ، فتكون هوية الزمان والحركة أمراً بسيطاً باقياً .

وثانياً : أنّ التعبّد ببقاء النهار في الحال عبارة اُخرى عن كون هذا الحال نهاراً ؛ فإنّ الزمان لا يكون في الزمان حتّى بنظر العرف ، فإذا قيل : «تعبّد بكون النهار موجوداً في الحال عند الشكّ في بقائه» يفهم العرف منه أنّ هذا الزمان الحاضر هو النهار ، لا أنّ النهار شيء ، والزمان الحاضر شيء آخر ، وليس هذا

ص: 130


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 435 .

من الأصل المثبت ، وليس كاستصحاب الكلّي لإثبات الفرد ؛ لأنّ الكلّي ليس عبارة اُخرى عن الفرد في نظر العرف ، وأمّا كون النهار موجوداً في هذا الزمان فهو عبارة اُخرى عن كون الزمان الحاضر نهاراً .

وثالثاً : يمكن إجراء الاستصحاب التعليقي على نحو التعليق في الموضوع ؛ بأن يقال : لو صلّيت في الزمان السابق المعلوم كونه نهاراً لكانت صلاتي في النهار ، فشككت في بقاء هذا الأمر ، فأستصحب أنّ صلاتي لو وجدت تكون في النهار ، فإيجادها وجداني ، وكونها واقعة في النهار - على فرض الوجود - إنّما هو بحكم الأصل . لكن جريان الأصل التعليقي بنحو التعليق في الموضوع محلّ إشكال .

هذا حال استصحاب نفس الزمان أو ما هو مثله كالحركة .

استصحاب الزمانيات

وأمّا غير الحركة من الزمانيات المتصرّمة المتقضّية فهي على أقسام :

منها : ما يكون تصرّمه وتقضّيه ممّا لا يراه العرف ، بل يكون بنظرهم ثابتاً كسائر الثابتات ، كشعلة السراج التي يراها العرف باقية من أوّل الليل إلى آخره من غير تصرّم وتغيّر ، مع أنّ الواقع خلافه ، وكشعاع الشمس الواقع على الجدار الذي يرونه ثابتاً غير متغيّر .

ومنها : ما يرى العرف تصرّمه وتغيّره ، لكن يكون نحو بقائه كبقاء نفس الزمان والحركة ممّا يكون واحداً عقلاً وعرفاً ، وإن كانت وحدته وبقاؤه بعين تصرّمه وتقضّيه ، كصوت ممتدّ مثل الرعد وأمثاله .

ص: 131

ومنها : ما تكون وحدته وبقاؤه بنحو من الاعتبار ، مثل ما فرضه الشيخ الأنصاري; بالنسبة إلى الزمان والزمانيات مطلقاً (1) ، ولعلّ هذا الاعتبار محتاج إليه في هذا القسم ، وهو مثل التكلّم وقرعات النبض والساعة .

ولا إشكال في جريان الاستصحاب في الأوّل منها ، سواء جرى في الزمان والحركة أم لا .

والقسم الثاني حاله حال نفس الزمان والحركة ، وقد عرفت جريانه فيهما من غير احتياج إلى الاعتبار الذي اعتبره الشيخ الأعظم .

والقسم الثالث أسوأ حالاً من الزمان والحركة ، وإن كان الأقوى جريانه فيه أيضاً ؛ لمساعدة العرف في صدق البقاء ، وأنّ رفع اليد عنه هو نقض اليقين بالشكّ ، وهذا ممّا لا شبهة فيه ، لكنّ الظاهر أ نّه من قبيل القسم الثاني من القسم الثالث من الكلّي ، لا القسم الأوّل، أو الثالث من الثالث، كما اختاره الشيخ الأعظم(2) وتبعه بعض الأعاظم(3) ؛ ضرورة أنّ العرف يرى كلّ كلمة وكلام في خطابة واحدة ، أو مجلس وعظ واحد ؛ من التحميد والتهليل والشعر والنثر وغيرها، موجوداً غير ما يلحقه ، والوحدة بينها اعتبارية حتّى في نظر العرف ، فمع الاشتغال بأوّله يرى وجود الموجود الاعتباري بوجه من المسامحة ، لا على سبيل الحقيقة ، فلم يصدق نقض اليقين بالشكّ بالنسبة إلى المجموع إلاّ بالمسامحة والتأوّل .

ص: 132


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 204 - 205 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 206 .
3- فوائد الاُصول ((تقريرات المحقّق النائيني)) الكاظمي 4 : 440 - 441 .

وقد ذكرنا في محلّه(1): أنّ موضوعات الأحكام تؤخذ من العرف، لكن لا على وجه المسامحة ، بل على نحو الحقيقة والدقّة العرفية ، وإن لم تكن على نحو الدقّة العقلية ، فصدق عدم نقض اليقين بالشكّ ليس إلاّ بالنسبة إلى ماهية الكلام والخطابة ، كصدق البقاء بالنسبة إلى نوع الإنسان ، وعدم نقض اليقين بالشكّ فيه .

ثمّ إنّ اختلاف الدواعي لا يصير موجباً لاختلاف شخصية الكلام غالباً ؛ لأنّ المتكلّم المتشاغل بالكلام - كالخطيب والواعظ - قد تعرض له الدواعي المختلفة في كلامه ، مع أ نّه ما دام متشاغلاً به تكون وحدة كلامه محفوظة عرفاً ، فوحدة الكلام وعدمها لا تتقوّمان بوحدة الداعي وعدمها ، لا طرداً ولا عكساً ، كما يظهر بالتأمّل في موارده .

فما أفاده بعض أعاظم العصر : من أ نّه إذا شكّ في بقاء الزماني لأجل احتمال قيام مبدأ آخر يقتضي وجوده فالأقوى عدم الجريان ؛ لرجوعه إلى الوجه الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ، فإنّ وحدة الكلام عرفاً إنّما تكون بوحدة الداعي(2) ، ليس على إطلاقه بصحيح ؛ لأنّ الميزان في وحدة الكلام هو نفس شخصيته ووجوده ، لا الدواعي الموجبة لإيجاده .

استصحاب الاُمور المقيّدة بالزمان

وأمّا القسم الثالث : وهو ما يكون الزمان قيداً لأمرٍ مستقرّ؛ فجريان الاستصحاب فيه كجريانه في نفس الزمان إشكالاً وجواباً .

ص: 133


1- يأتي في الصفحة 250 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 441 .

ولا يخفى : أنّ مناط الإشكال في الأقسام الثلاثة واحد ، وهو أنّ التقضّي والتصرّم في المستصحب هل يوجب عدم جريانه أم لا ؟ فكما إذا شكّ في بقاء النهار يكون استصحاب النهار مورداً للبحث ، كذلك إذا قيّد الجلوس بالنهار يكون محلّ البحث ما إذا شكّ في بقاء النهار ، وأنّ الجلوس المتقيّد بأمر متصرّم هل يجري الاستصحاب فيه أم لا ؟ وأمّا استصحاب نفس وجوب الجلوس بعد مضيّ النهار فليس مورداً للبحث هاهنا ، ومناط الإشكال فيه ليس مناطه في الزمان والزمانيات حتّى يقال : إنّ الزمان إذا اُخذ قيداً لا يجري الاستصحاب بعده ، وإذا اُخذ ظرفاً يجري بعده ؛ لأنّ ذلك خروج عن محطّ البحث ومورد النقض والإبرام ، وهذا خلط واقع من الشيخ الأعظم(1) ، وتبعه غيره(2) .

شبهة المحقّق النراقي

وممّا ذكرنا يعلم : أنّ ذكر كلام الفاضل النراقي; في ذيل هذا المبحث(3) غير مناسب ؛ لأنّ إشكاله إنّما هو معارضة استصحاب الوجودي بالعدمي في الأحكام بعد مضيّ الزمان الذي اُخذ ظرفاً للواجب أو الوجوب ، وليست شبهته مرتبطة بالشبهة التي في الزمان والزمانيات .

ص: 134


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 210 - 211 .
2- كفاية الاُصول : 465 - 466 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 442 .
3- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 208 .

وكيف كان فمحصّل إشكاله: أنّ استصحاب الوجود دائماً معارض باستصحاب العدم الأزلي في الأحكام ، تكليفية كانت أو وضعية ، فاستصحاب وجوب الجلوس بعد الزوال معارض باستصحاب عدم وجوب الجلوس المتقيّد بكونه بعد الزوال ؛ فإنّ عنوان الجلوس المتقيّد بما بعد الزوال من العناوين التي يمكن أن تكون مستقلّة في الحكم ، فهو غير محكوم بالوجوب في الأزل ، فيستصحب عدم الوجوب الأزلي، ويعارض باستصحاب وجوب الجلوس الثابت قبل الزوال.

وإشكال عدم اتّصال زمان الشكّ باليقين مدفوع : بأ نّه قبل مجيء يوم الجمعة يكون الشكّ واليقين حاصلين ، ومتّصلاً أحدهما بالآخر(1) .

وهذا الجواب منه مجمل أو مخدوش .

والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ زمان الشكّ متّصل باليقين بالنسبة إلى هذا الموضوع المقيّد ؛ فإنّه قبل وجود الحكم من الشارع أو قبل بلوغ المكلّف ، معلوم عدم وجوبه ، وبعد ورود الحكم وبلوغه صار مشكوكاً فيه ، حتّى قبل الزوال الذي هو ظرف وجوب نفس الجلوس .

وبعبارة اُخرى : المتخلّل بين زمان الشكّ واليقين هو العلم بوجوب الجلوس ، لا بوجوب الجلوس المتقيّد بما بعد الزوال ، والمضرّ هو الثاني دون الأوّل ؛ فإنّه غير منافٍ للشكّ بوجوب الجلوس المتقيّد .

وبعبارة ثالثة : أ نّه قبل ورود أمر الشارع كان وجوب الجلوس قبل الزوال ووجوب الجلوس المتقيّد بما بعد الزوال ، معلوم العدم ، وبعد وروده صار

ص: 135


1- مناهج الأحكام والاُصول : 239 / السطر 3 .

وجوب الجلوس قبل الزوال معلوم التحقّق ، ووجوب الجلوس المتقيّد بما بعد الزوال مشكوكاً فيه حتّى في ظرف العلم بوجوب الجلوس قبل الزوال ؛ لعدم التنافي بينهما ، فيستصحب وجوب الجلوس ، وعدم وجوب الجلوس المتقيّد ، وهما متعارضان .

ثمّ قرّر الإشكال في الأحكام الوضعية بنحو آخر(1) مذكور في رسائل الشيخ(2) .

وأجاب عنه الأعاظم بأجوبة غالبها مخدوش فيه :

جواب الشيخ عن الشبهة وما فيه

منها : ما أفاده الشيخ الأعظم قدّس سرّه ، ومحصّل إشكاله الأوّل عليه :

إنّ الزمان إن اُخذ ظرفاً للجلوس فلا يجري استصحاب العدم ؛ لأنّه إذا انقلب العدم إلى الوجود المردّد بين كونه في قطعة خاصّة من الزمان ، وكونه أزيد ، والمفروض تسليم حكم الشارع بأنّ المتيقّن في زمان لا بدّ من إبقائه ، فلا وجه لاعتبار استصحاب العدم السابق .

والحاصل : أنّ العدم انتقض بالوجود المطلق ، وقد حكم عليه بالاستمرار بمقتضى أدلّة الاستصحاب ، فلا يجري استصحاب العدم .

وإن اُخذ قيداً للحكم أو المتعلّق فلا يجري إلاّ استصحاب العدم ؛ لأنّ انتقاض عدم الوجود المقيّد لا يستلزم انتقاض المطلق ، والأصل عدم الانتقاض(3) .

ص: 136


1- مناهج الأحكام والاُصول : 239 / السطر 19 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 209 - 210 .
3- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 210 - 211 .

هذا ، والإنصاف عدم ورود هذا الإشكال عليه ؛ لأ نّ فرض قيدية الزمان للجلوس أو الحكم غير مذكور في كلامه ، ولا يكون دخيلاً في مدّعاه ؛ لأنّ دعواه تعارض استصحاب الوجود بالعدم دائماً ، لا جريان استصحاب الوجود دائماً ، حتّى يرد عليه أ نّه قد لا يجري استصحاب الوجود ، وذلك فيما إذا اُخذ الزمان قيداً ، وهذا نظير ادّعاء أنّ الاستصحاب المسبّبي محكوم للاستصحاب السببي دائماً ؛ فإنّ المدّعى ليس جريان الاستصحابين دائماً ، بل المدّعى أ نّه على فرض الجريان يكون أحدهما محكوماً .

وبالجملة : منظوره عدم جواز التمسّك بالاستصحاب لإثبات الأحكام ؛ لأنّه على فرض جريانه معارض باستصحاب العدم الأزلي الثابت لعنوان مقيّد بالزمان المتأخّر عن ظرف الحكم ، ففرض عدم جريان الاستصحاب الوجودي غير منافٍ لدعواه .

وأمّا على فرض ظرفية الزمان ، فجريان استصحاب العدم الأزلي للعنوان المتقيّد ممّا لا مانع منه ؛ لأنّ الموضوع المتقيّد غير الموضوع الغير المتقيّد ، فلا يكون ثبوت الوجوب للجلوس نقضاً لعدم وجوب الجلوس المتقيّد بما بعد الزوال ؛ لإمكان أن يكون نفس الجلوس واجباً ، والجلوس المتقيّد غير واجب .

وبالجملة : عنوان الجلوس بنحو الإطلاق غير الجلوس المتقيّد بالزمان ، فلا يكون الحكم المطلق نقضاً للمقيّد بما أ نّه مقيّد .

وأمّا قوله : إنّ المفروض تسليم حكم الشارع بأ نّ المتيقّن في زمان لا بدّ من إبقائه ، وجعل هذا الحكم دافعاً لاستصحاب العدم الأزلي .

فهو غريب ؛ لأنّ هذا بيان الاستصحاب الوجودي المعارض باستصحاب

ص: 137

العدم الأزلي ، فالتسليم بجريان الاستصحاب الوجودي لا يوجب الحكم بتقدّمه على استصحاب العدم الأزلي .

اللهمّ إلاّ أن يكون منظوره حكومة الاستصحاب الوجودي على العدمي ، لكنّه خلاف ظاهر كلامه ؛ لأنّ الحكومة إنّما هي بعد فرض جريان المحكوم في نفسه ، وهو يدّعي عدم اتّصال زمان الشكّ باليقين في استصحاب العدم الأزلي .

هذا ، مع أ نّه على فرض انتقاض العدم لا يجري الاستصحاب ولو مع عدم تسليم حكم الشارع بأنّ المتيقّن في زمان لا بدّ من إبقائه ، فكلامه لا يخلو من خلل ، بل تناقض .

جواب المحقّق الخراساني وردّه

ومنها : ما ذكره المحقّق الخراساني; ، وحاصله بتوضيح منّا :

إنّ أدلّة الاستصحاب لا يمكن أن تعمّ هذين الاستصحابين ؛ لأنّ الجمع بين لحاظ الزمان قيداً وظرفاً ممّا لا يمكن ؛ لكمال التنافي بينهما ، فلا يكون هناك إلاّ استصحاب واحد ، وهو استصحاب الثبوت فيما إذا اُخذ الزمان ظرفاً ، واستصحاب العدم فيما إذا اُخذ قيداً (1) .

وفيه : أنّ إطلاق دليل الاستصحاب يشملهما من غير لزوم الجمع بين اللحاظين ؛ لأنّ معنى الإطلاق ليس لحاظ الحالات الطارئة والحيثيات العارضة ، والحكم عليها ، وإلاّ يرجع إلى العموم ، بل معناه جعل الماهية تمام الموضوع للحكم من غير تقييده بشيء ، فينطبق قهراً على الكثرات من غير لحاظها

ص: 138


1- كفاية الاُصول : 466 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الخراساني : 344 .

بوجه ، فقوله : (أَحَلَّ اللّه ُ الْبَيْعَ)(1) مطلق ؛ معناه أنّ البيع تمام الموضوع للحلّية والنفوذ ، ولا تكون حيثية اُخرى وقيد آخر دخيلين في حلّيته ، فإذا كان البيع تمام الموضوع ، فكلّما تحقّق مع أيّة حيثية أو قيد يكون موضوعاً للحلّ بما أ نّه بيع ، ومن غير دخالة قيد ولا لحاظه .

فقوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» يكون مطلقاً بهذا المعنى ؛ أي يكون اليقين والشكّ تمام الموضوع للحكم بعدم الانتقاض ، من غير لحاظ خصوصية معهما ، فهو بوحدته يشمل جميع الاستصحابات بما أ نّها عدم نقض اليقين بالشكّ ، وكذا إطلاق المادّة عبارة عن كون النقض - بما أ نّه نقض - ملحوظاً من غير لحاظ أمرٍ آخر معه .

هذا ، مضافاً إلى أ نّه لو فرض لزوم الجمع بين اللحاظين في دليل الاستصحاب لا بدّ وأن لا يشمل إلاّ واحداً منهما دائماً ، لا أ نّه على فرض الظرفية يشمل أحدهما ، وعلى فرض القيدية يشمل الآخر ، إلاّ أن يكون مراده ذلك، بتأويل في ظاهر كلامه : بإرجاع القيدية أو الظرفية إلى أدلّة الاستصحاب ، وهو كما ترى ، والحقّ عدم ورود هذا الإشكال عليه رأساً .

جواب المحقّق النائيني والإشكال عليه

ومنها : ما في تقريرات بعض أعاظم العصر; ، من عدم جريان استصحاب العدم الأزلي مطلقاً ، ولو لم يجر استصحاب الوجود ؛ لأنّ العدم الأزلي هو العدم المطلق ، وانتقاضه إنّما يكون بحدوث الحادث ، وإذا ارتفع بعد الحدوث لم يكن

ص: 139


1- البقرة (2) : 275 .

العدم الثاني هو العدم الأزلي ، والعدم المقيّد بقيد خاصّ من الزمان أو الزماني متقوّم بوجود القيد ، ولا يعقل تقدّمه على قيده .

فإذا وجب الجلوس إلى الزوال فالعدم الأزلي انتقض إلى الوجود قطعاً ، فإذا فرض ارتفاع الوجوب بعد الزوال لأخذه قيداً ، فعدم الوجوب بعد الزوال لايكون العدم الأزلي ؛ لكونه مقيّداً بما بعد الزوال ، والعدم المقيّد غير العدم المطلق المعبّر عنه ب «العدم الأزلي» فالمستصحب بعد الزوال ليس هو العدم المطلق ، بل هو العدم المقيّد بما بعد الزوال ، وهو متقوّم بما بعد الزوال ، فلا يمكن استصحابه إلاّ إذا آن بعد الزوال ، ولم يثبت الوجود ، ففي الآن الثاني يستصحب العدم .

والمفروض غير ذلك ؛ لأنّ آن بعد الزوال يكون العدم مشكوكاً فيه ، فالعدم الأزلي المطلق قد انتقض بالوجوب قبل الزوال ، والعدم المقيّد لم يكن قبل الزوال متحقّقاً إلاّ بنحو السالبة بانتفاء الموضوع .

نعم ، لا مانع من استصحاب عدم جعل الوجوب للموضوع المقيّد ؛ لأنّ الجعل واللا جعل أزليان ، فإذا جعل الزمان قيداً يختصّ كلّ من الجلوس قبل الزوال وبعده بجعل خاصّ ، فيستصحب عدم جعل الوجوب للجلوس بعد الزوال ، لكن عدم الجعل ليس له أثر إلاّ بلحاظ المجعول ، وإثبات عدم المجعول بعدم الجعل مثبت .

هذا ، مضافاً إلى أنّ استصحاب البراءة الأصلية المعبّر عنه ب «استصحاب حال العقل» لا يجري مطلقاً ؛ لأنّ العدم الأصلي عبارة عن اللا حكمية واللا حرجية ، وهذا المعنى بعد وجود المكلّف واجتماع الشروط فيه قد انتقض قطعاً ولو إلى الإباحة ؛ لأنّ اللا حرجية في الإباحة بعد اجتماع شرائط

ص: 140

التكليف غير اللا حرجية قبل وجود المكلّف ؛ إذ الأوّل مستند إلى الشارع دون الثاني(1) ، انتهى ملخّصاً .

ولا يخفى ما فيه :

أمّا أوّلاً : فلأنّ العدم الأزلي وإن كان هو العدم المطلق الغير المسبوق بالوجود ، لكنّه يلاحظ بالنسبة إلى كلّ عنوان مستقلاًّ ، فوجوب الجلوس المطلق عدمه الأزلي هو عدم وجوب الجلوس المطلق ، ووجوب الجلوس المقيّد بما بعد الزوال عدمه الأزلي هو عدم وجوب هذا المقيّد ، كما أنّ العدم الأزلي للإنسان ، هو عدم الإنسان من غير تقيّد بكونه في زمان كذا أو مكان كذا ، والعدم الأزلي للإنسان العالم هو عدم هذا العنوان من غير تقييد بالقيود المذكورة .

فوجوب الجلوس بعد الزوال عدمه الأزلي بعدم هذا الوجوب المتعلّق بالموضوع المقيّد بما بعد الزوال ، وهذا العدم عدم مطلق للوجوب المقيّد إذا كان بعد الزوال قيداً للهيئة ، وللوجوب المتعلّق بالموضوع المقيّد إذا كان قيداً للمادّة ، ولا يكون هذا العدم منتقضاً ؛ ضرورة أنّ انتقاضه إنّما يكون بوجوب الجلوس بعد الزوال ، لا بوجوب الجلوس المطلق ؛ بحيث يكون الجلوس تمام الموضوع للوجوب من غير تقيّده بقيد ، ولا بوجوب الجلوس قبل الزوال ، ومعلوم أنّ عدم وجوب الجلوس المتقيّد بما بعد الزوال - سواء كان القيد للوجوب أو الجلوس - غير معلوم الانتقاض ، فلا مانع من جريان استصحابه .

وأمّا ما كرّره : من أنّ العدم المتقيّد بقيد كونه بعد الزوال ليس له تحقّق قبل

ص: 141


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 445 - 448 .

الزوال ، فغير مرتبط بكلام الفاضل النراقي ؛ ضرورة أنّ العدم ليس متقيّداً بكونه بعد الزوال ، بل العدم مطلق ، والوجوب أو الجلوس مقيّد ، والفرق بينهما أظهر من أن يخفى ، والظاهر أنّ منشأ اشتباهه هو هذا الخلط ، وبعد ذلك نسج على منواله ما نسج .

وأمّا ثانياً : فلأنّ ما ذكره - من أنّ الجعل المتعلّق بوجوب الجلوس قبل الزوال غير الجعل المتعلّق بالوجوب بعد الزوال ؛ لأنّه بناءً على القيدية يحتاج وجوب الجلوس بعد الزوال إلى جعل آخر مغاير لجعل الوجوب قبل الزوال ، وحيث إنّه يشكّ في جعله بعده فالأصل عدمه - دليل على استقلال المجعول أيضاً ؛ لأنّه تابع للجعل في الوحدة والكثرة ، والاستقلال وعدمه ، فحينئذٍ كما يستصحب عدم جعل الوجوب بعد الزوال ، يستصحب عدم وجوب الجلوس بعده ، فلا وجه للتفكيك بين الجعل والمجعول .

وأمّا ثالثاً : فلأنّ إنكاره استصحاب عدم الوجوب الأزلي - قائلاً: بأنّ البراءة الأصلية عبارة عن اللا حكمية واللا حرجية ، وهذا المعنى قد انتقض قطعاً ولو إلى الإباحة - ليس بشيء ؛ لأنّه - مضافاً إلى جواز استصحاب عدم الوجوب قبل البلوغ ، ومضافاً إلى عدم العلم بانتقاض اللا وجوب الأزلي إلى الوجوب ولو سلّم انتقاض عدم الحكم إلى الحكم ؛ لعدم المنافاة بين انتقاض عدم الحكم بالحكم ، وبين عدم انتقاض اللا وجوب إلى الوجوب - لنا أن نمنع انتقاض اللا حرجية واللا حكمية إلى الحكم في كلّ موضوع من الموضوعات ؛ لأنّ بعض الموضوعات التي لا اقتضاء فيها لشيء من الأحكام لا بدّ وأن يبقى على اللا حرجية واللا حكمية .

ص: 142

ولا يلزم أن يكون لكلّ موضوع اقتضاء ولو للإباحة ، وعدم الاقتضاء للأحكام الأربعة لا يستلزم اقتضاء الإباحة ، فيمكن أن يكون موضوع خالياً من مطلق الاقتضاء ، فيبقى على اللا حكمية الأزلية .

فدعوى القطع بانتقاض اللا حكمية واللا حرجية إلى الحكم والحرج ، في غير محلّها ، بل دعوى القطع بخلافها ليست ببعيدة .

جواب شيخنا العلاّمة وما فيه

ومنها : ما أفاده شيخنا العلاّمة أعلى اللّه مقامه في مجلس بحثه : من أنّ الاستصحاب الوجودي حاكم على استصحاب العدم الأزلي ؛ لأنّ الشكّ في المقيّد ناشٍ عن بقاء الوجوب السابق ، وأصالة بقائه ترفع شكّه ، وأمّا أصالة عدم الوجوب للموضوع المقيّد فمضادّة لحكم الأصل الوجودي، ورافعيته له للتضادّ الواقع بينهما ، لا لرافعيته لشكّه .

وفيه إشكال :

أمّا أوّلاً : فلأنّ الشكّ في وجوب الجلوس المتقيّد بما بعد الزوال ليس منشؤه الشكّ في بقاء وجوب الجلوس الثابت قبله ، بل منشؤه ؛ إمّا الشكّ في أنّ الوجوب المجعول هل هو ثابت لمطلق الجلوس ، أو للجلوس قبل الزوال ، فليس شكّه ناشئاً عن البقاء ، بل عن كيفية الجعل ، وإمّا الشكّ في جعل وجوب مستقلّ للموضوع المتقيّد بما بعد الزوال ، فلا يكون استصحاب وجوب الجلوس رافعاً لشكّه ، تأمّل .

وأمّا ثانياً : فلأنّ شرط حكومة الأصل السببي على المسبّبي ، أن يكون

ص: 143

جريان الأصل الحاكم موجباً لرفع الشكّ عن المسبّب تعبّداً ؛ بمعنى أن يكون المستصحب في الأصل المسبّبي من الآثار الشرعية المترتّبة على المستصحب في الأصل السببي ، كاستصحاب كرّية الماء الحاكم على استصحاب نجاسة الثوب المغسول به ، وأمّا لو كان الشكّ مسبّباً ولم يكن كذلك ، فلا يكون الأصل حاكماً .

ألا ترى : أنّ الشكّ في نبات لحية زيد مسبّب عن الشكّ في حياته ، ولكنّ استصحاب الحياة ليس حاكماً على استصحاب عدم نباتها ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فاستصحاب وجوب الجلوس إلى بعد الزوال لا يثبت كون الجلوس المتقيّد بما بعد الزوال واجباً إلاّ بالأصل المثبت ، بل حاله أسوأ من الأصل المثبت ، كما يظهر بالتأمّل .

التحقيق في الجواب عن الشبهة

هذا ، والتحقيق في الجواب عن الإشكال أن يقال : إنّ من فرض معارضة الاستصحاب الوجودي والعدمي يلزم عدم المعارضة بينهما ؛ لأنّ المعارضة بين الأصلين إنّما تتحقّق إذا كان موضوع حكمهما واحداً ، ويكون أحد الأصلين يقتضي حكماً منافياً للآخر .

نعم ، قد تكون المعارضة بالعرض كما في أطراف العلم الإجمالي ، لكنّ منظورنا في المقام هو المعارضة بالذات ، ولا بدّ فيها من وحدة الموضوع ، بل سائر الوحدات التي تتوقّف عليها المعارضة .

ص: 144

فحينئذٍ نقول : إنّ الاستصحاب الوجودي والعدمي ؛ إمّا أن يكون موضوعهما واحداً ، أو لا .

فعلى الأوّل : تقع المعارضة بينهما لو فرض جريانهما ، لكنّ فرض وحدة الموضوع موجب لسقوط أحدهما ؛ لأنّ الموضوع إمّا نفس الجلوس ، فلا يجري الاستصحاب العدمي ؛ لأنّ عدم وجوب الجلوس انتقض بوجوبه الثابت له قبل الزوال ، فلا يكون بين الشكّ واليقين اتّصال ، وإمّا الجلوس المتقيّد ببعد الزوال فلا يجري الاستصحاب الوجودي ؛ لعدم اليقين بوجوب الجلوس المتقيّد بما بعد الزوال .

وعلى الثاني : بأن يكون مفاد أحد الأصلين ثبوت الوجوب لنفس الجلوس ، ومفاد الآخر عدم وجوب الجلوس المتقيّد بما بعد الزوال ، فلا منافاة بينهما ؛ لإمكان حصول القطع بأنّ الجلوس بعد الزوال واجب بما أ نّه جلوس ، أي يكون نفس الجلوس تمام الموضوع للوجوب ، والجلوس المتقيّد بما بعد الزوال غير واجب ؛ بحيث يكون الجلوس بعض الموضوع ، وبعضه الآخر تقيّده بكونه بعد الزوال .

كما أنّ الإنسان بما أ نّه إنسان ناطق ، لا بما أ نّه ماشٍ مستقيم القامة ، فيصحّ أن يقال : إنّ الإنسان ليس بناطق من حيث كونه ماشياً مستقيم القامة ، بل بما أ نّه إنسان ، وفيما نحن فيه يصحّ أن يقال : إنّ الجلوس بعد الزوال واجب بما أ نّه جلوس ، وليس بواجب بما أ نّه متقيّد بما بعد الزوال ، ويرجع ذلك إلى أنّ الجلوس تمام الموضوع لا بعضه .

ص: 145

لا يقال : إنّ المطلق إذا كان واجباً يقتضي إطلاقه وجوب الجلوس في جميع الحالات ، ومنها الجلوس بعد الزوال ، فيصير معارضاً لعدم وجوب الجلوس بعد الزوال .

فإنّه يقال : ليس معنى إطلاقه أنّ الجلوس بعد الزوال بما أ نّه جلوس بعد الزوال واجب ، بل معناه أنّ الجلوس بعد الزوال واجب بما أ نّه جلوس ، فلا منافاة بين وجوب الجلوس بعد الزوال بما أ نّه جلوس ، وعدم وجوبه بما أ نّه متقيّد كما هو واضح .

ولقد أشار إلى بعض ما ذكرنا شيخنا العلاّمة في «درره»(1) فليكن ما ذكرنا تقريراً وتوضيحاً لما أفاده .

ص: 146


1- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 542 - 544 .

التنبيه الرابع: في الاستصحاب التعليقي

اشارة

هل يجري الاستصحاب التعليقي مطلقاً ، أو لا يجري كذلك ، أو يفصّل بين التعليق في الحكم والموضوع ، أو بين ما كان التعليق شرعياً وغيره ؟ وجوه .

يتّضح الحقّ ببيان اُمور :

الأوّل : أنّ محطّ البحث والنقض والإبرام في الاستصحاب التعليقي هو أنّ تعليقية الحكم أو الموضوع هل توجب خللاً في أركان الاستصحاب وشرائط جريانه أم لا ؟ وعلى الثاني : هل يكون الاستصحاب التعليقي مفيداً ومنتهياً إلى العمل ، أو لا ؛ لابتلائه بالمعارضة دائماً ؟ فلا بدّ من تمحّض البحث في ذلك .

وأمّا قضيّة بقاء الموضوع وعدمه(1) ، أو إرجاع القضيّة التعليقية إلى القضيّة

ص: 147


1- المناهل : 652 / السطر 36 ؛ اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 223 .

التنجيزية فهي خارجة عن محطّ البحث ومورد النقض والإبرام ، فما أفاده الشيخ الأنصاري; من استصحاب سببية الشرط للمشروط(1) وإن كان حقّاً - على إشكال(2) - ويدفع به الإشكال بوجه ، لكنّه خروج عن موضوع البحث ، ومع ذلك لا محيص عن التعرّض له تبعاً لهم .

الثاني : أنّ التعليقات الواقعة في لسان الشرع والقضايا المشروطة كقوله : «إذا بلغ الماء قدر كرٍّ لا ينجّسه شيء»(3) وقوله : «إذا نشّ العصير أو غلى حرم»(4) تحتمل ثبوتاً لاُمور :

منها : جعل الحكم متعلّقاً بموضوعاتها على تقدير شيء ، فيكون المجعول في قوله : «إذا غلى العصير حرم» هو حرمته على تقدير الغليان ، وفي قوله : «إذا بلغ الماء قدر كرٍّ لا ينجّسه شيء» هو الاعتصام على تقدير الكرّية .

ومنها : جعل الحكم متعلّقاً بموضوع متقيّد بعنوان ، فيكون المجعول فيهما هو الحرمة المتعلّقة بالعصير المغليّ ، والاعتصام للماء البالغ حدّ الكرّ ، فيكون قوله : «إذا بلغ الماء قدر كرٍّ لا ينجّسه شيء» عبارة اُخرى عن أنّ الكرّ لا ينجّسه شيء ، فيكون التعبير بذلك تفنّناً في البيان ، أو تنبيهاً على أنّ السرّ في نجاسة

ص: 148


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 223 - 224 .
2- يأتي في الصفحة 155 .
3- راجع وسائل الشيعة 1 : 158 ، كتاب الطهارة ، أبواب الماء المطلق ، الباب 9 ، الحديث 1 ، 2 ، 5 و6 .
4- الكافي 6 : 419 / 4 ؛ وسائل الشيعة 25 : 287 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأشربة المحرّمة ، الباب 3 ، الحديث 4 .

المغليّ هو غليانه ، وفي اعتصام الماء هو كرّيته ، وعلى هذا يكون الموضوع مركّباً من ذات وقيد .

ومنها : جعل سببية المعلّق عليه للمعلّق ، فيكون مفاد القضيّتين أنّ الغليان سبب للحرمة ، والكرّية للاعتصام .

ومنها : جعل الملازمة بين الكرّية والاعتصام ، والحرمة والغليان .

كلّ ذلك محتمل بحسب مقام الثبوت ، أمّا الأوّلان فلا كلام فيهما ، وأمّا الأخيران فقد مرّ التحقيق في مثلهما في الأحكام الوضعية ، وقلنا : إنّ السببية والملازمة وأمثالهما قابلة للجعل ، وإنّ المنكر لإمكانه فيها خلط بين التكوين والتشريع ، وبين السببية الحقيقية التكوينية ، والاعتبارية القانونية ، فراجع(1) .

وأمّا بحسب مقام الإثبات والاستظهار من الأدلّة ، فهو خارج عمّا نحن بصدده ، والأدلّة مختلفة بحسب المقامات ومناسبات الأحكام والموضوعات .

الثالث : أنّ التعليق قد يكون في كلام الشارع كأمثال ما ذكرنا ، وقد لا يكون في كلامه ، لكنّ العقل يحكم به .

مثلاً : لو ورد «أنّ الماء البالغ حدّ الكرّ لا ينجّسه شيء ، وأنّ العصير المغليّ يحرم» يحكم العقل بأنّ الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شيء ، وأنّ العصير إذا غلى يحرم ، لكن ليس هذا من التعليق الشرعي ، بل هو تعليق عقلي يدركه العقل من القضيّة المنجّزة .

وهذا التعليق العقلي قد يكون في الأحكام كما عرفت ، وقد يكون في

ص: 149


1- تقدّم في الصفحة 75 .

الموضوعات ، كما يحكم بأنّ الماء إذا بلغت مساحته ثلاثة أشبار ونصفاً طولاً وعرضاً وعمقاً فهو كرّ ، ويحكم على الماء الناقص عن الكرّ بمنّ بأ نّه إذا زيد عليه منّ يصير كرّاً ، وهذا تعليق عقلي في الموضوع ، كما أنّ ما مرّ تعليق عقلي في الحكم ، ويمكن أن يقع التعليق في الموضوع في كلام الشارع ، ويرجع إلى التعبّد بوجود موضوع الحكم على تقدير كذائي ، وترتيب آثاره عليه على فرض تحقّقه .

الرابع : إذا اُخذ عنوان في موضوع حكم يكون ظاهراً في الفعلية ، فإذا قيل : «الكرّ معتصم» و«المستطيع يجب عليه الحجّ» يكون ظاهراً في أنّ الكرّ الفعلي معتصم ، والمستطيع الفعلي يجب عليه الحجّ وهكذا ، وهذا واضح .

لكن يقع الكلام في قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ»(1) أنّ الميزان فعلية اليقين والشكّ ، أو فعلية المتيقّن ؟ فعلى الأوّل لا ينظر إلى المتيقّن هل هو متحقّق فعلاً أم لا؟ بخلاف الثاني .

وقد مرّ الكلام فيه سابقاً (2) وقلنا : إنّ الحقّ - بحسب النظر إلى أدلّة الاستصحاب ، ومناسبة الحكم والموضوع ، وأنّ اليقين لإبرامه لا ينقض بالشكّ ؛ لعدم إبرامه - أنّ الموضوع هو نفس اليقين والشكّ بما أنّ اليقين طريق وكاشف ، فلا يعتبر فيه إلاّ فعلية الشكّ واليقين .

نعم ، لا بدّ وأن يكون المستصحب ممّا يترتّب على التعبّد به أثر عملي ،

ص: 150


1- تقدّم تخريجه في الصفحة 55 .
2- تقدّم في الصفحة 34 و83 .

فلو فرض أنّ اليقين بأمر تعليقي يترتّب عليه أثر عملي لو تعبّد ببقائه لجرى الاستصحاب بلا إشكال ؛ لفعلية الشكّ واليقين ، وعدم اعتبار أمر آخر ، سواء كان المتيقّن وجودياً أم لا ، وفعلياً أم لا ؛ لعدم الدليل على كونه كذلك ، فإذا تعلّق اليقين بقضيّة تعليقية ، وفرضنا أنّ بقاءها في زمن الشكّ يكون ذا أثر شرعي - كما لو فرض أنّ نفس القضيّة موضوعة لحكم في زمان الشكّ - لجرى الاستصحاب فيها بلا إشكال وريب ؛ لفعلية اليقين والشكّ ، وكون المتيقّن ذا أثر شرعي في زمن الشكّ ، أو منتهياً إليه ، وأمّا لزوم كون المتيقّن وجودياً فعلياً فلا يعتبر .

صحّة الاستصحاب التعليقي فيما إذا كان التعليق شرعياً

إذا عرفت ما ذكرنا نقول : إنّ التعليق إذا ورد في دليل شرعي ، كما لو ورد «أنّ العصير العنبي إذا غلى يحرم» ثمّ صار العنب زبيباً ، فشكّ في أنّ عصيره أيضاً يحرم إذا غلى أو لا ، فلا إشكال في جريان استصحابه من حيث التعليق ؛ لما عرفت من أنّ المعتبر في الاستصحاب ليس إلاّ اليقين والشكّ الفعليين ، وكون المشكوك فيه ذا أثر شرعي ، أو منتهياً إليه ، وكلا الشرطين حاصلان ، أمّا فعليتهما فواضحة ، وأمّا الأثر الشرعي ؛ فلأنّ التعبّد بهذه القضيّة التعليقية أثره فعلية الحكم لدى حصول المعلّق عليه ، من غير شبهة المثبتية ؛ لأنّ التعليق إذا كان شرعياً معناه التعبّد بفعلية الحكم لدى تحقّق المعلّق عليه ، وإذا كان الترتّب بين الحكم والمعلّق عليه شرعياً لا ترد شبهة المثبتية ، فتحقّق الغليان وجداناً بمنزلة تحقّق موضوع الحكم الشرعي وجداناً .

ص: 151

كلام بعض الأعاظم وما فيه

والعجب من بعض أعاظم العصر ، حيث فسّر الاستصحاب التعليقي بما إذا تعلّق الحكم على موضوع مركّب من جزءين عند فرض وجود أحد جزءيه ، وتبدّل بعض حالاته قبل فرض وجود الجزء الآخر ، ثمّ ناقض كلامه هذا بقوله : بعبارة أوضح ، ثمّ نسج على هذا المنوال ، وأورد على الاستصحاب التعليقي :

تارة : بأنّ الحكم المترتّب على الموضوع المركّب إنّما يكون وجوده وتقرّره بوجود الموضوع بما له من الأجزاء والشرائط ؛ لأنّ نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلّة إلى المعلول ، ولا يعقل تقدّم الحكم على الموضوع ، فلا معنى لاستصحاب ما لا يكون موجوداً ومقرّراً ؛ لأنّ في الاستصحاب الوجودي لا بدّ من وجود المستصحب ، إذ لا يعقل التعبّد ببقاء وجود ما لا وجود له .

واُخرى : بأ نّه ليس للجزء الموجود من المركّب أثر إلاّ إذا انضمّ إليه الجزء الآخر ، فليس للعصير العنبي أثر إلاّ إذا انضمّ إليه الغليان ، وهذا ممّا لا شكّ فيه ، فلا معنى لاستصحابه .

وثالثة : بأنّ هذه القضيّة التعليقية عقلية ؛ لأ نّها لازم جعل الحكم على الموضوع المركّب(1) .

وأنت خبير بما فيه :

أمّا أوّلاً : فلأنّ ما هو مورد النقض والإبرام بين الأعلام في الاستصحاب التعليقي هو ما إذا وردت قضيّة شرعية تعليقية ، كقوله : «العصير إذا نشّ وغلى

ص: 152


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 463 - 469 .

حرم» أي العصير العنبي ، ثمّ شكّ في بقاء الحكم عند عروض حالة على الموضوع ، كصيرورة العنب زبيباً ، لا فيما إذا كان الحكم متعلّقاً بموضوع مركّب ، وكان التعليق من حكم العقل ، والفرق بينهما أظهر من الشمس ؛ لأنّ الترتّب بين المعلّق والمعلّق عليه في الاُولى شرعي دون الثانية .

وبهذا تنحلّ الشبهة الثالثة ؛ لأنّ الترتّب بينهما إذا كان شرعياً لا يكون الأصل مثبتاً .

وتوهّم رجوع القضيّة التعليقية إلى التنجيزية لبّاً ، ورجوع الشرط إلى قيدية الموضوع، فاسد إن اُريد الرجوع عرفاً ؛ ضرورة أنّ الموضوع والحكم في التعليقية مخالف لهما في التنجيزية ، فإنّ الموضوع في الاُولى نفس الذات ، والشرط واسطة في ثبوت الحكم للموضوع ، والحكم غير فعلي ، فأين إحداهما من الاُخرى ؟ وإن اُريد الرجوع عقلاً فهو - على فرض تسليمه حتّى في مثل المقام - لا يفيد بعد كون الميزان في مثل المقام هو النظر العرفي .

وأمّا ثانياً : فلأنّ ما ذكره من أنّ الحكم المترتّب على الموضوع المركّب لا وجود له إلاّ بوجود جميع أجزائه ، ولا يعقل التعبّد بوجود ما لا وجود له ، فلا معنى لاستصحابه .

فيه : - مضافاً إلى أنّ المفروض في المقام هو ورود القضيّة التعليقية كما عرفت ، والحكم المعلّق على شيء لا يكون عدماً محضاً ؛ ضرورة تعلّق الجعل به ، وأ نّه متعلّق لليقين - أ نّه ليس المعتبر في الاستصحاب إلاّ فعلية الشكّ واليقين ، وكون المتيقّن في زمن الشكّ ذا أثرٍ شرعي أو منتهياً إليه ، فلو فرض

ص: 153

تعلّق اليقين على أمر معدوم يكون ذا أثر شرعي في زمان الشكّ يجري الاستصحاب فيه بلا إشكال ، والمفروض فيما نحن فيه أنّ اليقين متعلّق بقضيّة تعليقية شرعية ، موضوعها العنب ، يشكّ في بقائها بعد صيرورته زبيباً ، والتعبّد ببقاء هذه القضيّة الشرعية يكون أثره الشرعي هو حرمة عصيره إذا غلى ، بل في مثل المثال حكم شرعي تعليقي يصير فعلياً بتحقّق ما علّق عليه .

وأمّا ثالثاً : فلأنّ ما ذكره من أ نّه لا أثر للجزء الموجود من المركّب ، إلاّ أ نّه لو انضمّ إليه الجزء الآخر لثبت له الحكم .

ففيه : أ نّه يكفي في الاستصحاب كون الشيء جزءاً لموضوع مركّب ، فإذا فرض أنّ العنب المغليّ كان موضوعاً لحكم ، وكان العنب قبل غليانه جزءاً للموضوع ، ويترتّب عليه الأثر لو انضمّ إليه الغليان ، فصار زبيباً فشكّ في بقاء حكمه ؛ أي كونه جزءاً للموضوع فيستصحب ، تأمّل .

وأمّا قوله : «وهذا ممّا لا شكّ فيه ، فلا معنى لاستصحابه» فلا يخفى ما فيه من الخلط بين العنب والزبيب ، فراجع كلامه .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ جريان الاستصحاب التعليقي ممّا لا إشكال فيه .

في إرجاع الشيخ الأعظم التعليقية إلى التنجيزية

ثمّ إنّ ما أفاده الشيخ الأعظم قدّس سرّه : من إجراء أصالة بقاء سببية الغليان للحرمة ، أو أصالة بقاء الملازمة بين الغليان والحرمة(1) وإن كان خروجاً عن محلّ البحث ، لكنّه متين في ذاته لو فرض استفادة جعل السببية الشرعية أو الملازمة الشرعية ،

ص: 154


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 223 - 224 .

ليكون الترتّب بين السبب والمسبّب ، وبين أحد المتلازمين مع الآخر شرعياً ، وإلاّ يصير الأصل مثبتاً .

لكنّه مع ذلك مشكل ؛ لأنّ جعل الملازمة والسببية وإن كان شرعياً لكن وجود اللازم والمسبّب عند وجود صاحبهما عقلي ، فيكون مثبتاً ، وإرجاعهما إلى جعل اللازم والمسبّب عقيب صاحبهما إنكار للمبنى .

وأمّا ما أورد عليه الفاضل المتقدّم على ما في تقريرات بحثه : تارة بأنّ السببية والملازمة لا يعقل أن تنالهما يد الجعل ، واُخرى بأنّ الملازمة بين العنب المغليّ وبين نجاسته وحرمته ملازمة بين تمام الموضوع والحكم ، والشكّ في بقاء الملازمة بين تمام الموضوع والحكم لا يعقل إلاّ بالشكّ في نسخ الملازمة ، فيرجع إلى استصحاب عدم النسخ ، وهو غير الاستصحاب التعليقي(1) .

فغير واردين : أمّا الأوّل منهما : فلما عرفت في مباحث الأحكام الوضعية من أ نّهما قابلتان للجعل ، فراجع(2) . وأمّا الثاني منهما : فلأنّ الشكّ ليس في بقاء الملازمة بين تمام الموضوع والحكم ؛ ضرورة عدم الشكّ في حرمة العصير العنبي المغليّ ، وإنّما الشكّ في العصير الزبيبي ، وليس منشؤه الشكّ في نسخ الحكم الأوّل ، بل في أنّ العنبية هل هي واسطة في الثبوت ، أو العروض ؟ وبعبارة اُخرى : أنّ سببية الغليان للحرمة هل هي مجعولة بنحو تدور مدار العنبية أم لا ؟ وفي مثله لا يكون الشكّ في النسخ ، ولعمري إنّ هذا بمكان من الوضوح ، تدبّر .

ص: 155


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 471 - 472 .
2- تقدّم في الصفحة 75 .

تذنيب: حال معارضة الاستصحاب التعليقي مع التنجيزي

بناءً على جريان الاستصحاب التعليقي قد يقال : إنّه معارض دائماً باستصحاب تنجيزي ، ففي المثال المتقدّم بعد عروض الغليان على العصير الزبيبي يكون استصحاب الحرمة المعلّقة على الغليان أثره الحرمة الفعلية بعد الغليان ، وهو معارض باستصحاب الحلّية الثابتة للعصير قبل الغليان ، لأنّه إذا غلى يشكّ في حلّيته وحرمته ، فيتعارض الأصلان(1) .

وأجاب عنه الشيخ الأعظم قدّس سرّه : بحكومة الاستصحاب التعليقي على الاستصحاب التنجيزي(2) ، ولم يذكر وجهها ، ولذا وقع الكلام فيه .

فقال المحقّق الخراساني; في «تعليقته» ما محصّله : إنّ الشكّ في الإباحة بعد الغليان مسبّب عن الشكّ في حرمته المعلّقة قبله ، فاستصحاب حرمته كذلك المستلزم لنفي إباحته بعد الغليان يكون حاكماً على استصحاب الحلّية ، والترتّب وإن كان عقلياً لكنّ الأثر العقلي المترتّب على الأعمّ من الحكم الواقعي والظاهري يترتّب على المستصحب ، فيكون استصحاب الحرمة حاكماً عليه بهذه الملاحظة .

وبالجملة : أنّ استصحاب الحرمة التعليقية تترتّب عليه الحرمة الفعلية بعد

ص: 156


1- المناهل : 653 / السطر 2 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 223 .

الغليان ، وينفى الإباحة بعده ؛ لأنّ نفي الإباحة لازم عقلي للحكم بالحرمة الفعلية أعمّ من أن تكون واقعية أو ظاهرية ، فيرتفع الشكّ المسبّبي(1) .

وقد فصّل هذا الوجه بعض أعاظم العصر مع تطويل وتفصيل ، وتناقض صدر وذيل ، ولم يأت بشيءٍ زائدٍ عليه(2) .

وقريب منه ما في «الكفاية» وحاصله بتوضيح منّا : أنّ الغليان لمّا كان شرطاً للحرمة فلا بدّ وأن يكون غاية للحلّية ، فيكون العصير حراماً بشرط الغليان ، وحلالاً إلى أن يغلي ، ولا منافاة بين الحرمة بعد الغليان والحلّية المغيّاة به ؛ ضرورة أنّ ثبوتهما كذلك لو كان قطعياً لا يضرّ أحدهما بالآخر ، فضلاً عن كونهما مستصحبين ، فإذا شكّ في حرمته المعلّقة بعد صيرورة العنب زبيباً شكّ في حلّيته المغيّاة أيضاً ، فيكون الشكّ في حلّيته وحرمته فعلاً بعده متّحداً خارجاً مع الشكّ في بقائه على ما كان عليه من الحلّية والحرمة بنحو كانتا عليه ؛ أي من كون الحرمة معلّقة والحلّية مغيّاة ، فاستصحاب حرمته المعلّقة الملازم لاستصحاب الحلّية المغيّاة يثبت حرمته الفعلية بعد الغليان وانتفاء حلّيته ؛ لأنّ هذا لازم أعمّ للحكم الواقعي والظاهري ، فيترتّب عليه(3) .

والظاهر أ نّه يرجع إلى ما في «التعليقة» مع تعبير مخلّ وتغيير مضرّ .

وحاصل الوجهين : أنّ الحكومة تتقوّم بأمرين ، أحدهما : كون الشكّ سببياً ومسبّبياً ، وثانيهما : نفي حكم المسبّب لجريان الأصل في السبب ، وكلا الأمرين

ص: 157


1- درر الفوائد ، المحقّق الخراساني : 348 - 349 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 474 - 477 .
3- كفاية الاُصول : 468 - 469 .

حاصلان في المقام ؛ لأنّ الشكّ في الحلّية بعد الغليان مسبّب عن الشكّ في بقاء الحرمة المعلّقة قبله بعد عروض حالة موجبة للشكّ ، وجريان الأصل فيه يثبت الحكم بوجود المعلّق عليه ، ويرفع الحكم المضادّ له ؛ أي الحلّية ، لأنّ جعل الحرمة ظاهرية كانت أو واقعية ، لازمه استحالة جعل حكم مضادّ له .

وفيه : أ نّه لا بدّ في الحكومة من أنّ الأصل الجاري في السبب يرفع الشكّ تعبّداً عن المسبّب ؛ أي يكون التعبّد ببقاء السبب أثره الشرعي هو التعبّد بحكم المسبّب ، كالتعبّد ببقاء الكرّ ؛ حيث إنّ أثره الشرعي طهارة الثوب المغسول به ، كما سيأتي تفصيله مع سرّ تقدّم الأصل السببي على المسبّبي في محلّه(1) .

والتعارض أوّلاً وبالذات واقع بين استصحاب نجاسة الثوب والتعبّد بطهارته ، لا بين استصحاب النجاسة وبين كرّية الماء ؛ لعدم التضادّ بينهما إلاّ بلحاظ هذا الأثر الشرعي ، فجريان استصحاب الكرّية لو لم يكن أثره الشرعي هو التعبّد بطهارة الثوب المغسول به لما رفع الشكّ عن المسبّب . كما أ نّه لو فرض حجّية الأصل المثبت يتعارض الأصل المسبّبي مع السببي ؛ لأنّ كلاًّ منهما يرفع موضوع الآخر بالتعبّد بلازمه ، فتقدّم الأصل السببي لرفعه الشكّ عن المسبّب ، دون العكس .

وأمّا لو فرض أنّ الأصل الجاري في السبب يكون لازمه العقلي - الأعمّ من الواقعي والظاهري - نفي حكم المسبّب ؛ للتدافع والتضادّ بين الحكمين ، فلا وجه

ص: 158


1- يأتي في الصفحة 281 - 287.

لتقدّم أحدهما على الآخر ؛ لأنّ استصحاب الحرمة والتعبّد ببقائها كما أ نّه مضادّ للحلّية ، كذلك استصحاب الحلّية والتعبّد ببقائها مضادّ للحرمة بالذات ، وللاستصحاب التعليقي لأجله ، فلا وجه لحكومة أحدهما على الآخر .

هذا ، مضافاً إلى أنّ ما أفاده في «الكفاية» من عدم المعارضة بين بقاء الحلّية المغيّاة ، والحرمة المشروطة في صورة القطع فضلاً عن استصحابهما .

ففيه أوّلاً : أنّ القطع بالحلّية المغيّاة يوجب القطع بانتفاء الحلّية ما بعد الغاية ؛ لأنّه لازم عقلي لثبوت الحكم المغيّا ، وأمّا استصحاب الحلّية المغيّاة فلا يثبت الحرمة بعد الغاية ، فاستصحاب الحلّية المغيّاة ممّا لا يجري ؛ لأنّ إجراءه إن كان لإثبات الحلّية قبل الغليان فهي قطعية ، وإن كان لإثبات الحرمة ونفي الحلّية بعد الغليان ، فلا يثبتهما إلاّ بالأصل المثبت ؛ لأنّ الحرمة بعد الغاية ليست من الآثار الشرعية للحلّية المغيّاة ، ولا من اللوازم الأعمّ .

وثانياً : أنّ كلامنا إنّما يكون في الحلّية والحرمة بعد الغليان لا قبله ، وفي استصحاب الحلّية إلى ما بعد الغليان ؛ للشكّ في أنّ الغاية ثابتة للعصير الزبيبي كما هي ثابتة للعنبي، أو لا .

ثمّ إنّ شيخنا العلاّمة أعلى اللّه مقامه سلك مسلكاً آخر بعد الإشكال على الحكومة وهو : أنّ الأصل السببي يتقدّم على الأصل المسبّبي طبعاً ، وهذا وجه آخر لتقدّمه عليه غير الحكومة .

قال; في وجه تقدّمه : إنّ الشكّ الثاني معلول للأوّل ، ففي رتبة وجود الأوّل لم يكن الثاني موجوداً ، وإنّما هو في رتبة الحكم المرتّب على الأوّل ، فالأوّل في رتبة وجوده ليس له معارض ، فيحرز الحكم من دون معارض ، وإذا ثبت الحكم

ص: 159

في الأوّل لم يبق للثاني موضوع ، وجعل هذا وجه تقدّم الاستصحاب التعليقي على التنجيزي(1) .

وفيه أوّلاً : أنّ تقدّم العلّة على المعلول إنّما هو تقدّم عقلي يدركه العقل من صدور المعلول عن العلّة ، فيحكم بأنّ العلّة وجدت فوجد المعلول ، وأمّا في الخارج فالعلّة مع المعلول لا يتقدّم أحدهما على الآخر ، ولا إشكال في أنّ مثل : «لا تنقض اليقين بالشكّ» يكون موضوعه الشكّ بوجوده الخارجي ، ولا تأثير للتقدّم العقلي والرتبي في موضوعية الموضوع ، فلا يتقدّم موضوع أحدهما على الآخر بحسب موضوعيته للحكم ، وهو الوجود الخارجي ، مع أ نّه لو فرض تقدّم أحدهما على الآخر في الخارج لا يتقدّم في جريان الأصل .

وثانياً : أنّ التعارض بالذات إنّما هو بين التعبّد بالأثر الشرعي للأصل الحاكم مع مفاد الأصل المحكوم ، وهما في رتبة واحدة .

مثلاً : لو شكّ في نجاسة الثوب المغسول بماء لأجل الشكّ في كرّيته لا يكون بين أصالة بقاء الكرّية ، وأصالة بقاء نجاسة الثوب تعارض بالذات ، بل التعارض إنّما هو بين التعبّد بطهارة الثوب المغسول بالكرّ ، وبين التعبّد بنجاسة الثوب ، وهما في رتبة واحدة ؛ لأنّ الشكّ في نجاسته وطهارته موضوع لهما ، فاستصحاب النجاسة والتعبّد بالطهارة المتأخّر عن التعبّد بالكرّية برتبة ، متعارضان في رتبة واحدة .

ونتيجة ذلك : أنّ الماء كرّ ، لكن لا يكون مطهّراً للثوب المغسول به ، فتترتّب

ص: 160


1- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 546 و632 .

على الكرّية سائر آثارها كعدم الانفعال .

ولو قيل : بأنّ استصحاب الكرّية يعارض استصحاب بقاء نجاسة الثوب بلحاظ أثره وهو طهارة المغسول به ، يصير التعارض في رتبة واحدة ، فلا تكون أصالة الكرّية بلا معارض ، ولو في رتبة ذاتها .

التحقيق في وجه حكومة الاستصحاب التعليقي على التنجيزي

والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ استصحاب الحرمة التعليقية حاكم على استصحاب الإباحة كسائر الحكومات ؛ لأنّ شرط حكومة أصل على آخر - كما أشرنا إليه(1) - أمران :

أحدهما : كون أحد الشكّين مسبّباً عن الآخر .

والثاني : أن يكون جريان الأصل في السبب رافعاً للشكّ عن المسبّب تعبّداً ، فاستصحاب كرّية الماء يكون حكمه طهارة الثوب المغسول به بحسب الكبرى الشرعية ، من «أنّ الكرّ مطهّر» فيرفع الشكّ في أنّ الثوب طاهر أو لا ؛ لأنّ الشكّ في الطهارة والنجاسة متقوّم بطرفي الترديد ، فإذا وقع التعبّد بالبناء على أحد طرفي الترديد يرفع الشكّ قهراً .

فحكومة أصالة بقاء الكرّية في الماء على أصالة بقاء نجاسة الثوب ليست لأجل رافعية الحكم بالكرّية لبقاء النجاسة ؛ بواسطة أنّ التعبّد بالطهارة ولو ظاهراً ينافي التعبّد بالنجاسة ولو ظاهراً ، بل لأجل أنّ التعبّد بطهارة الثوب المغسول بالماء المشكوك فيه يرفع الشكّ المتقوّم بطرفي الترديد .

ص: 161


1- تقدّم في الصفحة 157 .

وإن شئت قلت : إنّ الشكّ في الطهارة والنجاسة شكّ واحد ، وحالة ترديدية واحدة ، يكون أحد طرفيها الطهارة ، والآخر النجاسة ، فإن قيست هذه الحالة الترديدية بالنسبة إلى وجود الطهارة وعدمها تكون شكّاً في الطهارة وعدمها ، وبالنسبة إلى وجود النجاسة وعدمها تكون شكّاً في النجاسة وعدمها .

وإن قيست بالنسبة إلى الطهارة والنجاسة تكون شكّاً فيهما ، فلا تكون في النفس إلاّ حالة واحدة ترديدية ، يكون أحد طرفيها الطهارة ، والآخر النجاسة ، فإذا كان مفاد أصل هو الطهارة بلسان الأصل السببي يكون رافعاً للشكّ المتقوّم بطرفي الترديد ، فيصير حاكماً على الأصل المسبّبي ، وسيأتي قريباً (1) سرّ تقدّم الأصل السببي بما لا مزيد عليه ، فانتظر .

وما نحن فيه يكون الحال كذلك ؛ لأنّ الشكّ في بقاء الإباحة الفعلية للعصير الزبيبي المغليّ مسبّب عن بقاء القضيّة الشرعية التعليقية بالنسبة إلى الزبيب قبل غليانه ، ولمّا كان التعليق شرعياً تكون فعلية الحرمة مع فعلية الغليان بحكم الشرع كما أشرنا إليه سابقاً (2) ، فترتّب الحرمة على العصير المغليّ ليس بعقلي ، بل شرعي ، فحينئذٍ يكون استصحاب الحرمة التعليقية حاكماً ؛ لأنّ الحرمة متحقّقة بالفعل عند الغليان ، ومترتّبة على الغليان الفعلي ، فيرفع الشكّ في الحرمة والإباحة الفعليتين ؛ لأنّ الشكّ في الحرمة والإباحة متقوّم بطرفي الترديد ، فإذا كان لسان جريان الأصل في السبب هو التعبّد بحرمة المغليّ يرفع الترديد بين الحرمة والحلّية ، فيصير الأصل السببي حاكماً على المسبّبي .

ص: 162


1- سيأتي في الصفحة 281 - 287.
2- تقدّم في الصفحة 151 .

فالقائل بالفرق بين الأصل التعليقي السببي والتنجيزي المسبّبي ، وبين الأصل السببي والمسبّبي في موارد اُخر ، إن كان من جهة تعليقية الأصل ، وأنّ صيرورة التعليق فعلياً عقلي ، فقد عرفت بطلانه .

وإن كان من جهة أنّ الحلّية والحرمة متضادّتان ، فإثبات أحد الضدّين يرفع الضدّ الآخر بحكم العقل ، وهذا اللازم وإن كان مترتّباً على المستصحب لكن لا يصحّح الحكومة ، فقد عرفت بطلانه أيضاً ؛ لما ذكرنا من أنّ جريان الأصل في التعليقي يرفع الشكّ المتقوّم بطرفي الترديد لأجل التعبّد بأحد طرفي الترديد معيّناً وهو الحرمة .

ألا ترى أنّ أصالة بقاء الكرّية أيضاً لا ترفع نجاسة الثوب ، بل ترفع الترديد بالتعبّد بطهارته ؟! وإن شئت قلت : إنّ استصحاب الحرمة على تقدير الغليان جارٍ قبل حصوله ، فيتعبّد لأجله ببقاء المستصحب ، وهو الحرمة على تقدير غليان عصير الزبيب مثلاً ، وهذا الحكم التعليقي - قبل الغليان - وإن كان ثابتاً لعصير الزبيب الذي شكّ في حكمه ، لكن لسان المستصحب هو حرمة العصير على فرض الغليان ، لا حرمة المغليّ المشكوك فيه ، فإذا حصل الغليان يكون لسان الدليل الاجتهادي المستصحب بضميمة الوجدان هو حرمة المغليّ ، لا المغليّ المشكوك فيه ، واستصحاب الحلّية المنجّزة متقوّم بالشكّ ، فيكون لسانه إثبات الحلّية للمغليّ المشكوك فيه بما هو كذلك ، ولا ريب في تقديم الأوّل على الثاني وحكومته عليه ؛ لأنّه بإثبات الحرمة لذات المغليّ يرفع الشكّ الذي هو موضوع استصحاب الحلّية .

ص: 163

وبهذا يدفع ما قد يمكن أن يتوهّم : من أنّ المغليّ المشكوك فيه موضوع لكلا الاستصحابين ، وكلّ منهما بنفس التعبّد به يرفع الشكّ ، وهما متعارضان قبل رفع موضوع الآخر ؛ لما عرفت من أنّ استصحاب الأوّل يجري قبل الغليان ، وبعد الغليان يكون المستصحب - أي الحكم التعليقي الذي يصير فعلياً - متعلّقاً بذات الموضوع ورافعاً للشكّ ، فلا يبقى مجال لاستصحاب الحلّية التنجيزية . والحلّية التعليقية لا أصل لها ، ولو فرض يكون مثبتاً ؛ لأنّ التعليق عقلي لا شرعي ، فتدبّر فيه ؛ فإنّه جدير به .

فالإنصاف : أ نّه لا فرق بين الحكومة في المقام وبينها في مقامات اُخر ، ولعلّ عدم تعرّض الشيخ الأعظم قدّس سرّه لوجه الحكومة لذلك ، ونحن لسنا الآن بصدد بيان وجه تقدّم الأصل السببي وما هو التحقيق عندنا ، بل بصدد أنّ المقام كالمقامات الاُخرى بلا افتراق بينهما .

ص: 164

التنبيه الخامس: في استصحاب أحكام سائر الشرائع

هل يجري استصحاب الأحكام الثابتة في الشرائع السابقة كما يجري في أحكام شريعتنا إذا شككنا في نسخها أم لا ؟ وهذه المسألة وإن لم تكن لها ثمرة ظاهرة لكن نتعرّض لها اقتفاءً لأثر القوم .

فنقول : اختار الشيخ الأعظم ومن بعده الجريان، قائلين : إنّ المقتضي موجود - وهو إطلاق أدلّة الاستصحاب - وليس ما يصلح للمانعية إلاّ اُمور يمكن دفعها :

منها : أنّ الحكم الثابت في حقّ جماعة لا يمكن إثباته في حقّ الآخرين ؛ لتغاير الموضوع(1) .

وأجابوا عنه أوّلاً : بالنقض باستصحاب عدم النسخ في أحكام شريعتنا (2) .

وثانياً : بالحلّ ؛ فإنّ الأحكام ثابتة للعناوين الكلّية على نحو القضايا الحقيقية

ص: 165


1- الفصول الغروية : 315 / السطر 30 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 226 ؛ كفاية الاُصول : 470 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 547 ؛ نهاية الأفكار 4 : 174 .

لا للأشخاص على نحو الخارجية ، فإذا ثبت حكم للمستطيع أو الغنيّ أو الفقير فلا مانع من استصحاب بقائه عند الشكّ في نسخه ؛ فإنّ موضوع القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها هو هذه العناوين بنحو القضيّة الحقيقية ، فتتّحد القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها (1) .

وزاد الشيخ; أمراً آخر(2) ردّ عليه من بعده(3) .

والعمدة هو الجواب الحلّي الذي ارتضاه المحقّقون ، وهو وإن يدفع الإشكال المتقدّم ، لكن هاهنا شبهة اُخرى لا يدفعها هذا الجواب ، وهي أ نّه من الممكن أن يكون المأخوذ في موضوع الحكم الثابت في الشرائع السابقة عنوان على نحو القضيّة الحقيقية ، لا ينطبق ذلك العنوان على الموجودين في عصرنا ، كما لو اُخذ عنوان اليهود والنصارى ؛ فإنّ القضيّة وإن كانت حقيقية لكن لا ينطبق عنوان موضوعها على غير مصاديقه .

ففي قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا . . .)(4) إلى آخره كانت القضيّة حقيقية ، لكن إذا شكّ المسلمون في بقاء حكمها لهم لا يجري الاستصحاب ، كما لو ثبت حكم

ص: 166


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 226 ؛ كفاية الاُصول : 470 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 478 - 479 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 547 ؛ نهاية الأفكار 4 : 174 - 175 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 225 .
3- كفاية الاُصول : 471 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 479 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 547 - 548 ؛ نهاية الأفكار 4 : 176 .
4- الأنعام (6) : 146 .

للفقراء وشكّ الأغنياء في ثبوته لهم لا يمكن إثباته لهم بالاستصحاب ، وهذا واضح جدّاً .

إن قلت : فكيف يستصحب الحكم الثابت للعصير العنبي إذا شكّ في ثبوته للعصير الزبيبي ، وهل هذا إلاّ إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر ؟ ! قلت : فرق واضح بين ما ذكرنا وبين مورد النقض ؛ لأنّ كلّ زبيب مسبوق بالعنبية بحسب وجوده الخارجي ، فإذا وجد العنب في الخارج ، وثبت الحكم له ، وصار يابساً يجري استصحاب حكمه ؛ لأنّ العنب الخارجي إذا يبس لا يرى العرف إلاّ بقاءه مع تغيير حال ، فالقضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها واحدة فيستصحب الحكم ، وأمّا المسلمون فلم يكن كلّ واحد منهم مسبوقاً بالتهوّد أو التنصّر خارجاً ثمّ صار مسلماً ، ولو كانوا كذلك لجرى في حقّهم الاستصحاب ، كاستصحاب حكم العنب للزبيب .

وممّا ذكرنا ظهر الفرق بين استصحاب عدم النسخ في أحكام هذه الشريعة وأحكام الشرائع السابقة .

ولا يخفى : أنّ مجرّد احتمال أخذ عنوان غير منطبق على المسلمين كافٍ في المنع ؛ للزوم إحراز وحدة القضيّتين ، ولا دافع للاحتمال في حكم من الأحكام المشكوك في نسخها ؛ لأنّ ظواهر الكتب المنسوخة الرائجة بينهم ليست قابلة للتمسّك بها ، مع ورود الدسّ والتغيير عليها ، وأصلها الغير المتغيّر ليس عندهم ولا عندنا حتّى يعلم أنّ الحكم ثابت للعنوان الكذائي ، والقرآن المجيد لم يحكِ

ص: 167

العناوين المأخوذة في موضوعات أحكامهم الكلّية ، كما يظهر بالتأمّل فيما جعلوه ثمرة للنزاع تبعاً للمحكيّ عن «تمهيد القواعد»(1) .

فتحصّل ممّا ذكرنا : عدم جريان استصحاب أحكام الشرائع السابقة .

هذا ، مضافاً إلى أنّ الشكّ فيها من قبيل الشكّ في المقتضي ؛ لعدم الدليل على إحرازه ، ونحن وإن ذهبنا إلى جريانه فيه(2) ، لكن يرد هذا الإشكال على الشيخ; ، ومن تبعه في عدم الجريان مع الشكّ في المقتضي(3) .

ص: 168


1- تمهيد القواعد : 239 - 241 ؛ قوانين الاُصول 1: 495 / السطر 9 ؛ الفصول الغروية : 315 / السطر 38 ؛ اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 229 .
2- تقدّم في الصفحة 34 وما بعدها .
3- راجع ما تقدّم في الصفحة 31 - 34 .

التنبيه السادس: في الاُصول المثبتة

اشارة

قد اختلفت كلمة أهل التحقيق في وجه اعتبار مثبتات الأمارات دون الاُصول ؛ أي اللوازم والملزومات والملازمات العادية والعقلية إذا انتهت إلى الأثر العملي الشرعي ، بل في الملزومات والملازمات الشرعية ، سواء كان ترتّب الأثر مع الواسطة أو بلا واسطة .

فذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ وجهه إطلاق أدلّة الأمارات دون الاُصول ؛ لوجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب فيها ، وهو آثار نفس المستصحب بلا توسّط شيء(1) .

وذهب شيخنا العلاّمة رحمه الله علیه إلى أنّ وجهه انصراف أدلّة الاُصول عن الآثار مع الواسطة(2) .

ص: 169


1- كفاية الاُصول : 472 - 473 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الخراساني : 353 .
2- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 554 - 555 .

وقال بعض أعاظم العصر : إنّ وجهه اختلاف المجعول في باب الأمارات والاُصول ؛ فإنّ المجعول في الأوّل هو الطريقية والكاشفية ، ولازمه حجّية المثبتات ، وفي الثاني هو مجرّد تطبيق العمل على مؤدّى الأصل ، وهو لا يقتضي حجّيتها (1) .

وقال الشيخ الأعظم : إنّ الوجه في عدم اعتبار مثبتات الاُصول أنّ اللوازم العقلية والعادية ليست تحت جعل الشارع ، ووجوب ترتيب الآثار المستفاد من دليل الاستصحاب لا يعقل إلاّ في الآثار القابلة للجعل الشرعي ، فالمعقول من حكم الشارع بحياة زيد وإيجابه ترتيب آثار الحياة في زمان الشكّ هو الحكم بحرمة تزويج زوجته والتصرّف في ماله ، لا حكمه بنموّه ونبات لحيته ؛ لأنّ هذه غير قابلة لجعل الشارع(2) .

وما أفاده الشيخ وإن كان أسدّ ما قيل في الباب ، لكنّه لا يحسم به مادّة الإشكال ، خصوصاً في الآثار الشرعية مع الوسائط العديدة ، وستعرف الإشكال فيها (3) .

التحقيق في مثبتات الأمارات

والتحقيق في المقام أن يقال : أمّا وجه حجّية مثبتات الأمارات فهو أنّ جميع الأمارات الشرعية إنّما هي أمارات عقلائية أمضاها الشارع ، وليس فيها ما تكون

ص: 170


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 487 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 233 .
3- يأتي في الصفحة 174 - 175 .

حجّيتها بتأسيس من الشرع ، كظواهر الألفاظ ، وقول اللغوي على القول بحجّيته ، وخبر الثقة ، واليد ، وقول ذي اليد على القول بحجّيته ، وأصالة الصحّة على القول بأماريتها ؛ فإنّها كلّها أمارات عقلائية لم يردع عنها الشارع ، فراجع أدلّة حجّية خبر الثقة ترى أ نّها ليست بصدد التأسيس ، بل جميعها بصدد الإمضاء لبناء العقلاء ، هذه آية النبأ (1) وظاهرها الردع عن العمل بقول الفاسق ، فيظهر منها أنّ بناءهم هو العمل بقول الثقة مطلقاً أو خصوص غير الفاسق ، ولا يعلمون فسق الوليد ، فأخبر اللّه تعالى به .

وبالجملة : يظهر منها أنّ العمل بخبر الثقة كان مورد بنائهم وارتكازهم ، وكذا الحال في غيرها من الأخبار التي بلغت حدّ الاستفاضة أو التواتر(2) .

هذا حال خبر الواحد الوارد فيه الآيات والأخبار ، فكيف بغيره ممّا هو خالٍ غالباً عن الدليل اللفظي ، وما ورد فيه بعض الروايات تكون إمضائية أيضاً كاليد(3) ؟ ! فلا إشكال في أنّ الأمارات مطلقاً عقلائية أمضاها الشارع ، ومعلوم أنّ بناء العقلاء على العمل بها إنّما هو لأجل إثباتها الواقع ، لا للتعبّد بالعمل بها ، فإذا ثبت الواقع بها تثبت لوازمه وملزوماته وملازماته بعين الملاك الذي لنفسه ، فكما أنّ العلم بالشيء موجب للعلم بلوازمه وملزوماته وملازماته مطلقاً ،

ص: 171


1- الحجرات (49) : 6 .
2- راجع وسائل الشيعة 27 : 77 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 8 ، 9 و11 ؛ جامع أحاديث الشيعة 1 : 269 ، أبواب المقدّمات ، الباب 5 .
3- يأتي في الصفحة 300 .

فكذلك الوثوق به موجب للوثوق بها .

وكذا الحال بالنسبة إلى احتجاج الموالي على العبيد وبالعكس ، فكما يحتجّ العقلاء بقيام الأمارة على الشيء ، كذلك يحتجّون على لوازمه وملزوماته وملازماته مع الواسطة أو بلا واسطة شيء ، ولو حاولنا إثبات حجّية الأمارات بالأدلّة النقلية لما أمكن لنا إثبات حجّية مثبتاتها ، بل ولا لوازمها الشرعية إذا كانت مع الواسطة الشرعية ، كما سيأتي التعرّض له إن شاء اللّه (1) ، هذا حال الأمارات .

التحقيق في مثبتات الاُصول

وأمّا الاُصول : وعمدتها الاستصحاب ، فالسرّ في عدم حجّية مثبتاتها ، وحجّية لوازمها الشرعية ولو مع الوسائط إذا كان الترتّب بين الوسائط كلّها شرعياً يتّضح بعد التنبيه على أمرين :

أحدهما : أنّ اليقين إذا تعلّق بشيء له لازم وملازم وملزوم ، وكان لكلّ منها أثر شرعي ، يصير تعلّق اليقين به موجباً لتعلّق يقين آخر على لازمه ، ويقين آخر على ملازمه ، ويقين آخر على ملزومه ، فتكون متعلّقات أربعة ، كلّ واحد منها متعلّق ليقين مستقلّ وإن كان ثلاثة منها معلولة لليقين المتعلّق بالملزوم .

لكن يكون لزوم ترتيب الأثر على كلّ متعلَّق لأجل استكشافه باليقين المتعلّق به ، لا اليقين المتعلّق بغيره من ملزومه أو لازمه أو ملازمه ، فإذا تيقّنت بطلوع الفجر ، وعلمت منه خروج الليل ودخول يوم رمضان ، وكان لطلوع الفجر

ص: 172


1- يأتي في الصفحة 177 .

أثر ، ولخروج الليل أثر ، ولدخول يوم رمضان أثر ، لا يكون لزوم ترتيب الأثر على كلّ موضوع إلاّ لأجل تعلّق العلم به ، لا لأجل تعلّقه بغيره من لازمه أو ملزومه أو ملازمه .

وكذا إذا تيقّنت بحياة زيد ، وحصل منه يقين بنبات لحيته ، ويقين آخر ببياضها ، وكان لكلّ منها أثر شرعي ، يجب ترتيب أثر حياته للعلم بها ، ونبات لحيته للعلم به لا للعلم بحياته ، وترتيب أثر بياضها للعلم به لا بنبات اللحية أو الحياة ، فالعلم بكلّ متعلّق موضوع مستقلّ لوجوب ترتيب أثره ، وإن كان بعض العلوم معلولاً لبعض آخر .

ثانيهما : أنّ الكبرى الكلّية في الاستصحاب وهي قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ»(1) :

إمّا أن يكون المراد منها هو إقامة المشكوك فيها مقام المتيقّن في ترتيب الآثار ، فيكون المفاد وجوب ترتيب آثار المتيقّن على المشكوك فيه ، كما هو الظاهر من الشيخ ومن بعده من الأعلام(2) .

وإمّا أن يكون المراد منها إبقاء اليقين في اعتبار الشارع وإطالة عمره ، وعدم نقضه بالشكّ ؛ لكونه أمراً مبرماً لا ينقض بما ليس كذلك ، فيكون معنى عدم نقض اليقين بالشكّ هو التعبّد ببقاء اليقين الطريقي في مقام العمل ، ولا يلزم منه صيرورة الاستصحاب طريقاً وأمارة ، كما ذهبنا إليه سالفاً (3) ؛ لما عرفت في

ص: 173


1- تقدّم في الصفحة 55 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 160 ؛ كفاية الاُصول : 444 .
3- أنوار الهداية 1 : 73 .

محلّه من أنّ اليقين السابق لا يمكن أن يكون طريقاً وأمارة على الشيء المشكوك في زمان الشكّ(1) ، فلا يمكن أن يكون اعتبار بقاء اليقين إلاّ إيجاب العمل على طبق اليقين الطريقي ؛ أي التعبّد ببقاء المتيقّن .

فتصير نتيجة الاعتبارين واحدة ، وهي وجوب ترتيب الآثار في زمان الشكّ ، وإن كان الاعتباران مختلفين ، وطريق التعبّد بوجوب ترتيب الأثر مختلفاً ، كما ستأتي الإشارة إليه .

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» إن كان بمعنى تنزيل المشكوك فيه منزلة المتيقّن في الآثار فلا يترتّب عليه بهذا الدليل إلاّ آثار نفس المتيقّن دون آثار الآثار ؛ أي لوازم اللوازم الشرعية ، وإن كان الترتّب شرعياً ، فضلاً عن آثار اللوازم والملزومات والملازمات العقلية والعادية ، وذلك لوجهين :

الأوّل : أنّ آثار المتيقّن ليست إلاّ ما يترتّب عليه ويكون هو موضوعاً لها ، وأمّا أثر الأثر فيكون موضوعه الأثر لا المتيقّن ، كما أنّ أثر اللازم أو الملزوم أو الملازم مطلقاً يكون موضوعه تلك الاُمور لا المتيقّن ، ومعنى «لا ينقض اليقين بالشكّ» بناءً عليه: أ نّه رتّب آثار المتيقّن على المشكوك فيه ، والفرض أ نّه لم يتعلّق اليقين إلاّ بنفس المتيقّن ، فإذا تعلّق اليقين بحياة زيد دون نبات لحيته ، وشكّ في بقائها ، يكون التعبّد بلزوم ترتيب الأثر بلحاظ أثر المتيقّن ؛ وهو ما يترتّب على الحياة المتيقّنة ، لا ما ليس بمتيقّن كنبات اللحية ؛ فإنّ التنزيل لم يقع إلاّ بلحاظ المتيقّن والمشكوك فيه . وذلك من غير فرق بين الآثار المترتّبة على

ص: 174


1- تقدّم في الصفحة 41 ؛ وراجع أنوار الهداية 1 : 73 ، الهامش .

الوسائط الشرعية والعادية والعقلية .

وليس ذلك من جهة انصراف الأدلّة عن الآثار الغير الشرعية(1) ، أو عدم إطلاقها (2) ، أو عدم تعقّل جعل ما ليس تحت يد الشارع(3) ، كما ذهب إلى كلٍّ ذاهب ، بل لقصور الأدلّة ، وخروج تلك الآثار موضوعاً وتخصّصاً ، وهذا الوجه يظهر من كلام الشيخ أيضاً .

والثاني : أنّ دليل الأصل لا يمكن أن يتكفّل بآثار الآثار وآثار الوسائط ولو كانت شرعية ؛ لأنّ الأثر إنّما يكون تحقّقه بنفس التعبّد ، ولا يمكن أن يكون الدليل المتكفّل للتعبّد بالأثر متكفّلاً للتعبّد بأثر الأثر ؛ لأنّ أثر المتيقّن متقدّم ذاتاً واعتباراً على أثره ؛ أي أثر الأثر ، لكونه موضوعاً له ، فلا بدّ من جعل الأثر والتعبّد به أوّلاً ، وجعل أثر ذلك الأثر والتعبّد به في الرتبة المتأخّرة عن الجعل الأوّل ، ولا يمكن أن يكون الجعل الواحد والدليل الفارد متكفّلاً لهما ؛ للزوم تقدّم الشيء على نفسه ، وإثبات الموضوع بالحكم .

وبالجملة : يرد في المقام الإشكال الذي ورد على أدلّة حجّية خبر الثقة بالنسبة إلى الأخبار مع الواسطة(4) .

ولا يمكن دفعه بما دفع به الإشكال هناك ؛ لإمكان أن يقال هناك : إنّ قوله :

ص: 175


1- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 554 - 555 .
2- كفاية الاُصول : 472 - 473 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الخراساني : 353 .
3- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 233 - 234 ؛ نهاية الأفكار 4 : 178 .
4- راجع فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 267 ؛ كفاية الاُصول : 341 ؛ أنوار الهداية 1 : 238 .

«صدّق العادل» قضيّة حقيقية تنطبق على كلّ مصداق وجد منها ولو كان مصداقاً تعبّدياً (1) ، أو أن يقال : إنّ العرف يحكم بإلغاء الخصوصية(2) ، أو يدّعى العلم بالمناط ؛ وأنّ المصداق المتحقّق بنفس دليل التعبّد لا بدّ وأن يترتّب عليه الأثر(3) .

ولا يأتي واحد منها في المقام ؛ لأنّ التعبّد بعدم نقض اليقين بالشكّ لا يوجب حصول مصداق تعبّدي من الشكّ واليقين حتّى ينطبق عليه عدم نقضه به ، فإذا علم بعدالة زيد ، وشكّ فيها ، يجب ترتيب آثار العدالة عليه ؛ لقوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» فيحكم بجواز الاقتداء به ، وجواز شهادته في الطلاق ، فإذا كان جواز الاقتداء والشهادة فيه موضوعاً لأثر شرعي فلا يمكن أن يكون دليل «لا ينقض» حاكماً بوجوب ترتّبه عليهما ؛ لعدم تكفّل هذا التعبّد لإيجاد مصداق تعبّدي لقوله : «لا ينقض اليقين» حتّى يقال : إنّه قضيّة حقيقية تشمل ما وجد بنفس التعبّد .

كما لا يمكن دعوى إلغاء الخصوصية عرفاً أو العلم بالمناط بعد عدم كونه مصداقاً للكبرى ولو تعبّداً ، وبعد كون ترتّب الأثر على الموضوع لأجل تعلّق اليقين وهو مفقود ، فدعوى وحدة المناط أو إلغاء الخصوصية مجازفة محضة .

وممّا ذكرنا يعلم أ نّه لو كان معنى «لا ينقض اليقين بالشكّ» هو التعبّد بإبقاء

ص: 176


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 179 .
2- أنوار الهداية 1 : 241 - 243، الهامش .
3- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 268 - 269 ؛ كفاية الاُصول : 341 .

اليقين وإطالة عمره لما نفع في ترتّب آثار الوسائط الشرعية فضلاً عن غيرها ؛ لعين ما ذكرنا من الوجهين .

وممّا ذكرنا يتّضح أيضاً : أ نّه لو كان دليل حجّية الأمارات هو الأدلّة التعبّدية من الكتاب والسنّة لكانت مثبتاتها أيضاً غير حجّة ؛ لأنّ جعل الكاشفية والطريقية - أو ما شئت فسمّه - للأمارات تعبّداً ليس إلاّ ترتيب أثرها ، مع أنّ أثر كشف كلّ موضوع هو لزوم ترتيب أثره لا غير ، وأمّا أثر موضوع آخر لازم له أو ملزوم له أو ملازم إنّما هو لأجل كشفه الخاصّ به ، لا أثر كشف ملزومه أو لازمه أو ملازمه ، فلا يشمله دليل التعبّد .

فالتحقيق : في الفرق بين الأمارات والاُصول في حجّية مثبتات الاُولى دون الثانية هو ما عرفت .

بيان الفرق بين الآثار الشرعية وغيرها

إن قلت : بناءً على ما ذكرت لم يبق فرق بين الآثار المترتّبة على الوسائط الشرعية وغيرها .

قلت : نعم لا فرق بينهما من حيث الاستفادة من دليل الأصل كقوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» لكن هاهنا أمر آخر موجب للزوم الأخذ بآثار اللوازم الشرعية وإن كانت مع ألف واسطة شرعية دون غيرها ؛ وهو أ نّا لو فرضنا سلسلة مترتّبة من اللوازم والملزومات الشرعية ، فصار مبدأ السلسلة ؛ أي الملزوم الأوّل، مشمولاً لدليل الأصل كقوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» فينسلك المستصحب في صغرى كبرى كلّية مجعولة شرعية لأجل تحقّق مصداقها

ص: 177

بالأصل ، فإذا انطبقت عليه الكبرى المجعولة يتحقّق لأجله موضوع لكبرى كلّية مجعولة اُخرى ، وبعد انطباقها عليه يتحقّق موضوع لكبرى مجعولة ثالثة ، وهكذا إلى آخر السلسلة .

مثلاً : لو فرضنا أنّ عدالة زيد كانت معلومة ، فشكّ في بقائها ، فدليل «لا ينقض» يحكم بأ نّه عادل تعبّداً ، فهذا الدليل يحرز مصداقاً تعبّدياً لقوله : «تجوز شهادة العادل» فإذا شهد برؤية هلال شوّال لدى الحاكم ، وضمّ إليه شاهد آخر يصير موضوعاً لقوله : «إذا شهد عدلان برؤية الهلال لدى الحاكم يحكم بأنّ الغد عيد» فبحكم الحاكم تثبت عيدية الغد ، فيحرز مصداق قوله : «يجب أو تستحبّ صلاة العيد» وهكذا ، فدليل «لا ينقض» لا يتكفّل إلاّ التعبّد بتحقّق مبدأ السلسلة دون غيره ، فإذا ترتّبت السلسلة من اللوازم والملزومات الشرعية تترتّب أحكام جميع السلسلة لا لدليل الأصل ، بل للكبريات المترتّبة المحرزة المصاديق بما ذكرنا .

ومن ذلك يعلم : أنّ التعبّد بالملزوم الشرعي ينفع بالنسبة إلى ترتيب آثار اللازم ولازم اللازم إذا كانت شرعية إلى آخر السلسلة .

وأمّا التعبّد باللازم فلا ينفع بالنسبة إلى ملزومه ، ولا الملازم بالنسبة إلى ملازمه ؛ لعدم إيجاب التعبّد باللازم أو الملازم اندراج ملزومه أو ملازمه تحت كبرى مجعولة .

وكذا يعلم : أنّ اللوازم العادية أو العقلية إذا كانت لها آثار شرعية لا يمكن ترتيب آثارها لأجل جريان الأصل في ملزومها ، لا للانصراف ، أو عدم الإطلاق ، أو عدم تعقّل التعبّد لكونها تكوينية ، أو كون المجعول فيها على نحوٍ

ص: 178

لا يمكن ترتّب الآثار ، فإنّ كلّ ذلك خلاف التحقيق ؛ بل لأنّ ترتيب الأثر موقوف على كبرى شرعية يندرج الموضوع فيها كما عرفت ، وليس بالنسبة إلى الاُمور العادية أو العقلية كبرى شرعية .

فإذا حكم الاستصحاب بحياة زيد ، يترتّب عليه ما هو آثار الحياة بحسب الكبريات الشرعية ، وأمّا أ نّه إذا كان حيّاً نبتت لحيته ، فلم يقع في دليل شرعي حتّى يترتّب عليه أثره لأجل تحقّق مصداق الكبرى المجعولة ، فلو فرض وجود دليل شرعي يكون مفاده التعبّد بنبات اللحية على فرض الحياة لقلنا بترتيب آثار نباتها باستصحاب الحياة من دون شبهة الامتناع أو المثبتية ، فتأمّل في أطراف ما ذكرنا ، فإنّه يليق بذلك .

تتميم: حول الوسائط الخفيّة

إذا كانت الواسطة بين المستصحب والأثر الشرعي خفيّة يجري الاستصحاب ويترتّب عليه الأثر ، ولا يكون من الاُصول المثبتة .

والمراد من خفاء الواسطة أنّ العرف - ولو بالنظر الدقيق - لا يرى وساطة الواسطة في ترتّب الحكم على الموضوع ، ويكون لدى العرف ثبوت الحكم للمستصحب من غير واسطة ، وإنّما يرى العقل بضرب من البرهان كون الأثر مترتّباً على الواسطة لبّاً وإن كان مترتّباً على ذي الواسطة عرفاً .

مثاله : أنّ الشارع إذا قال : «حرّمت عليكم الخمر» يكون الموضوع للحرمة هو الخمر عرفاً ، لكنّ العقل يحكم بأنّ ترتّب الحرمة على الخمر لا يمكن إلاّ

ص: 179

لأجل مفسدة قائمة بها ، تكون تلك المفسدة علّة واقعية للحرمة .

ثمّ لو فرض أنّ العقل اطّلع على جميع الخصوصيات الواقعية للخمر ، وحكم بالدوران والترديد أنّ العلّة الواقعية للحرمة هي كونها مسكرة مثلاً ، فيحكم بأنّ إسكار الخمر علّة لثبوت الحكم بالحرمة ، ثمّ يحكم بأنّ موضوع الحرمة ليس هو الخمر بحسب الملاكات الواقعية ، بل الموضوع هو المسكر بما أ نّه مسكر ، ولمّا كان هو متّحداً في الخارج مع الخمر حكم بحرمته بحسب الظاهر ، ولكن الموضوع الواقعي ليس إلاّ حيثية المسكرية ؛ لأنّ الجهات التعليلية هي الموضوعات الواقعية لدى العقل ، فإذا علم أنّ مائعاً كان خمراً سابقاً وشكّ في بقاء خمريته ، فلا إشكال في جريان استصحاب الخمرية وثبوت الحرمة له .

ولا يصحّ أن يقال : إنّ استصحاب الخمرية لا يثبت المسكرية التي هي موضوع الحكم لدى العقل إلاّ بالأصل المثبت ؛ لأنّ ترتّب الحرمة إنّما يكون على المسكر أوّلاً وبالذات ، وعلى الخمر ثانياً وبالواسطة ؛ وذلك لأنّ الواسطة عقلية خفيّة ، لا يراها العرف واسطة .

وليس المراد بخفاء الواسطة أنّ العرف يتسامح وينسب الحكم إلى الموضوع دون الواسطة مع رؤيتها ؛ لأنّ الموضوع للأحكام الشرعية ليس ما يتسامح فيه العرف ، بل الموضوع للحكم هو الموضوع العرفي حقيقة ومن غير تسامح ، فالدم الحقيقي بنظر العرف موضوع للنجاسة ، فإذا تسامح وحكم على ما ليس بدم عنده أ نّه دم، لا يكون موضوعاً لها ، كما أ نّه لو حكم العقل بالبرهان بكون شيء دماً أو ليس بدم لا يكون متّبعاً ؛ لأنّ الموضوع للحكم الشرعي ما يكون موضوعاً لدى العرف .

ص: 180

والسرّ في ذلك : أنّ الشارع لا يكون في إلقاء الأحكام على الاُ مّة إلاّ كسائر الناس ، ويكون في محاوراته وخطاباته كمحاورات بعض الناس بعضاً ، فكما أنّ المقنّن العرفي إذا حكم بنجاسة الدم لا يكون موضوعها إلاّ ما يفهمه العرف مفهوماً ومصداقاً ، فلا يكون اللون دماً عنده ، وليس موضوعاً لها ، كذلك الشارع بالنسبة إلى قوانينه الملقاة إلى العرف ، فالمفهومات عرفية ، وتشخيص مصاديقها أيضاً كذلك .

فما وقع في كلام المحقّق الخراساني; وتبعه بعضهم : من أنّ تشخيص المفاهيم موكول إلى العرف ، لا تشخيص مصاديقها ؛ فإنّه موكول إلى العقل(1) .

منظور فيه ؛ ضرورة أنّ الشارع لا يكون في خطاباته إلاّ كواحدٍ من العرف ، ولا يمكن أن يلتزم بأنّ العرف في فهم موضوع أحكامه ومصاديقه لا يكون متّبعاً بل المتّبع هو العقل .

وبالجملة : الشرع عرف في خطاباته ، لا أنّ الموضوعات متقيّدة بكونها عرفية ؛ فإنّه ضروري البطلان ، فحينئذٍ يكون قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» قضيّة عرفية ، فإذا رأى العرف أنّ القضيّة المتيقّنة عين المشكوك فيها ، وأنّ عدم ترتّب الحكم على المشكوك فيه من نقض اليقين بالشكّ يجري الاستصحاب ، ولو لم يكن بنظر العقل من نقضه به ، لعدم وحدة القضيّتين لديه .

هذا كلّه واضح .

ص: 181


1- كفاية الاُصول : 77 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 494 و574 ؛ نهاية الأفكار 4 : 189 ؛ نهاية الدراية 1 : 240 .

حال الأمثلة التي ذكرها الشيخ

وإنّما الكلام في الأمثلة التي ذكرها الشيخ الأعظم قدّس سرّه (1) ، ولا يخفى أنّ جميعها من قبيل الوسائط الغير الخفيّة ، ويكون الأصل فيها مثبتاً :

أمّا قضيّة استصحاب رطوبة النجس لإثبات تنجّس ملاقيه ؛ فلأنّ العرف هو الذي يستفيد من الأدلّة الشرعية الواردة في النجاسات أنّ التنجّس لا يكون إلاّ لأجل سراية النجاسة إلى الملاقي ، فملاقاة الثوب للرطب لا تكون موضوعاً للحكم بالغسل عند العرف ، بل الموضوع هو الثوب المتأثّر بالنجاسة الرطبة ، فاستصحاب الرطوبة لا يثبت هذا العنوان ، وقد عرفت أنّ الوسائط الخفيّة ما تكون الواسطة عقلية لا يراها العرف واسطة .

كما أنّ استصحاب عدم الحاجب للحكم بتحقّق الغسل مثبت ؛ لأنّ الواسطة عرفية لا عقلية .

وكذا استصحاب عدم هلال شوّال أو بقاء شهر رمضان لإثبات كون الغد عيداً مثبت بلا إشكال وريب ؛ لأنّ العيد هو اليوم الأوّل من شوّال ، والأوّلية عبارة عن مبدئية سلسلة أيّام الشهر ، وهو أمر بسيط لا يثبت باستصحاب عدم حدوث شوّال أو بقاء شهر رمضان .

نعم ، لو كان الأوّل مركّباً من وجود يوم وعدم يوم مثله أو ضدّه قبله فيمكن إثباته بالوجدان والأصل ، لكن على فرض تسليمه لا يفيد ذلك بالنسبة إلى إثبات عنوان سائر الأيّام ، فإثبات ثامن ذي الحجّة وتاسعه وعاشره باستصحاب

ص: 182


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 244 - 245 .

عدم هلال ذي الحجّة أو بقاء ذي القعدة مثبت ؛ فإنّ كون اليوم الثامن - بعد مضيّ سبعة أيّام من اليوم الأوّل - عقلي لا شرعي .

فما ادّعاه بعض أعاظم العصر : من ثبوت جميع أيّام الشهر بالأصل إذا قلنا بأنّ الأوّل مركّب(1) ، فيه ما فيه ، تأمّل(2) .

هذا ، مضافاً إلى أنّ كون الأوّل مركّباً ممّا ذكر واضح الفساد .

فحينئذٍ : يبقى الإشكال في الأحكام المترتّبة على اليوم الأوّل ، أو العيد ، أو اليوم الثامن والتاسع والعاشر في أعمال الحجّ ، وكذا سائر الأحكام المتعلّقة بعناوين الأيّام ، في قالبه .

ولقد تصدّى لدفع الإشكال المحقّق المتقدّم ذكره بما لا يخلو عن غرابة ، وهو الالتزام بأنّ اليوم الأوّل في موضوع الأحكام غير اليوم الأوّل الواقعي ؛ فإنّه عبارة عن يوم رؤية الهلال ، أو اليوم الواحد والثلاثين من الشهر الماضي ، فالمراد من ثامن ذي الحجّة هو الثامن من رؤية الهلال ، أو ما بعد انقضاء ثلاثين يوماً من ذي القعدة ، سواء كان مطابقاً للواقع أو لا(3) .

ولا يخفى ما فيه ؛ فإنّه مخالف للضرورة عند جميع المسلمين ، فما من مسلم إلاّ ويعلم بالضرورة أنّ يوم عيد الفطر هو اليوم الأوّل من شوّال ويوم عيد الأضحى هو اليوم العاشر من ذي الحجّة وهكذا ، مع مخالفة ما ذكر للأدلّة

ص: 183


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 498 .
2- وجهه أ نّه يمكن أن يقال : إنّ الثاني مركّب من وجود يوم وكونه مسبوقاً بالأوّل ، فإذا ثبت الأوّل بالأصل والوجدان ، ثبت الثاني بهما وبالوجدان وهكذا . [منه قدس سره]
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 499 - 500 .

الشرعية ، كما يظهر بالتتبّع ومراجعة الأخبار .

لكنّ الذي يسهّل الخطب أنّ بناء المسلمين من صدر الإسلام إلى الآن على ترتيب آثار العيدية على يوم رؤية الهلال ، ويجعلون يوم الرؤية أو اليوم الذي بعد يوم الشكّ أو الذي بعد انقضاء ثلاثين يوماً من الشهر السابق اليوم الأوّل ، وثانيه الثاني وهكذا ، لا من جهة أنّ موضوع الحكم الشرعي غير الموضوع الواقعي ؛ فإنّه ضروري البطلان ، بل لأنّ هذا حكم ظاهري ثابت من الصدر الأوّل إلى الآن من غير إشكال في جميع الطبقات .

بل يظهر ذلك من الأدلّة اللفظية أيضاً بعد التتبّع ، فما نقل عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أ نّه قال : «إذا خفي الشهر فأتمّوا العدّة شعبان ثلاثين يوماً ، وصوموا الواحد وثلاثين»(1) ، وعن أبي جعفر أو أبي عبداللّه علیهما السلام قال : «شهر رمضان يصيبه ما يصيب الشهور من النقصان ، فإذا صمت تسعة وعشرين يوماً ثمّ تغيّمت السماء فأتمّ العدّة ثلاثين يوماً»(2) لا يراد منها إلاّ أنّ الحكم الظاهري هو تكميل العدّة ، فأمره بتكميل العدّة بعد قوله : «شهر رمضان يصيبه النقصان كسائر الشهور» كالنصّ على أنّ تكميل العدّة عند احتمال الزيادة والنقصان حكم ظاهري ، وجعل الواحد والثلاثين يوم الصوم أو يوم الفطر أيضاً حكم ظاهري .

ص: 184


1- تهذيب الأحكام 4 : 161 / 454 ؛ وسائل الشيعة 10 : 257 ، كتاب الصوم ، أبواب أحكام شهر رمضان ، الباب 3 ، الحديث 17 .
2- تهذيب الأحكام 4 : 155 / 429 ؛ وسائل الشيعة 10 : 261 ، كتاب الصوم ، أبواب أحكام شهر رمضان ، الباب 5 ، الحديث 1 .

وبالجملة : لا إشكال في أنّ المراد بالشهر والعيد ويوم النحر وغير ذلك من الأيّام في موضوع الأحكام ليس إلاّ الأيّام الواقعية ، كما لا إشكال في أنّ بناء المسلمين والأئمّة علیهم السلام على العمل بالظاهر ، وترتيب آثار الواقع على اليوم الواحد والثلاثين من رؤية هلال شهر شعبان أو شهر رمضان ، وترتيب آثار الأوّل عليه ، والثاني على ما بعده وهكذا .

تذييل: حول ما أفاده صاحب الكفاية في تنبيهيه الثامن والتاسع

اشارة

ويذكر فيه اُمور:

الأمر الأوّل : إنّ استصحاب العنوان المنطبق على الخارج ليس بمثبت

إ نّه قد عرفت سابقاً: أنّ استصحاب الفرد لا يغني عن الكلّي وبالعكس(1) ، فإذا تعلّق حكم بالإنسان ، فاستصحاب بقاء زيد لا يثبت آثار الإنسان ، لا لأنّ الفرد مقدّمة للكلّي(2) ؛ فإنّه خلاف التحقيق ، بل لأنّ حيثية الإنسانية - في عالم الاعتبار وتقدير موضوعية الموضوع للأحكام - غير حيثية الفردية وإن كان الفرد متّحداً مع الطبيعي خارجاً ، لكن لمّا كانت العناوين الطبيعية موجودة بوجود الفرد لدى العرف ، فإذا تعلّق حكم بعنوان ، يسري إلى مصداقه الخارجي ،

ص: 185


1- تقدّم في الصفحة 90 - 91 .
2- قوانين الاُصول 1 : 141 / السطر 8 .

فإذا شكّ في بقاء العنوان للمتشخّص الخارجي يمكن استصحابه وترتيب الأثر عليه ، فإذا شكّ في بقاء عنوان الخمر المنطبق على الموجود الخارجي يستصحب بقاء الخمر ، ويترتّب عليه أثرها .

وبالجملة : فرق بين استصحاب الفرد لترتيب آثار الكلّي ، وبين استصحاب العنوان المنطبق على الخارج لترتيب أثره عليه ؛ فإنّ ذلك استصحاب نفس العنوان المتحقّق في الخارج ، فهو كاستصحاب نفس الكلّي لترتيب آثاره .

والحاصل : أنّ هاهنا اُموراً ثلاثة :

أحدها : عنوان الكلّي بما أ نّه كلّي .

والثاني : عنوان الفرد الذي هو متّحد معه خارجاً ، ومختلف اعتباراً وحيثية .

والثالث : عنوان الكلّي المتحقّق في الخارج المتشخّص في العين ، ويجري الاستصحاب في الأوّل والثالث لترتيب آثار العنوان دون الثاني :

أمّا في الأوّل فلا كلام فيه ، وأمّا في الثالث فلا ينبغي الإشكال فيه ؛ لأنّ الفرق بين العنوان الكلّي والخارجي بالتشخّص واللا تشخّص ، وإلاّ فنفس العنوان محفوظ ، فإذا تعلّق حكم بعنوان الكرّ يكون هذا الحكم متعلّقاً بكلّ ما هو كرّ في الخارج بعنوان أ نّه كرّ ، فترتيب آثار الكرّية باستصحاب كرّية الماء الخارجي ممّا لا مانع منه ، وأمّا استصحاب وجود المائع الخارجي أو الوجود الخارجي المتّحد مع الكرّ لترتيب آثار الكرّية ، فلا يجري إلاّ على القول بالأصل المثبت .

وممّا ذكرنا يتّضح حال العناوين المتّحدة مع المستصحب في الخارج ممّا هي من قبيل الخارج المحمول ، كاستصحاب الوجود لترتيب الوحدة أو التشخّص ؛ فإنّ ذلك مثبت أيضاً ، فضلاً عمّا هو من قبيل المحمول بالضميمة كالملكية

ص: 186

والغصبية والسواد والبياض ؛ فإنّ كلّ ذلك من قبيل المحمول بالضميمة ، إلاّ أنّ الضميمة في الأوّلين من الاعتبارات العقلائية ، بخلاف الأخيرين ، فإنّهما من الأعراض الخارجية .

فما ادّعاه المحقّق الخراساني; : من الفرق بين المحمول بالضميمة والخارج المحمول(1) ، ففيه ما لا يخفى .

كما أنّ في تمثيله للخارج المحمول بالملكية والغصبية(2) مناقشة ، بل قد يكون في بعض المحمولات بالضميمة ممّا لا يكون بنظر العرف كذلك فيجري الاستصحاب لكونه من الوسائط الخفيّة .

الأمر الثاني : استصحاب الأحكام الوضعية

لا إشكال في جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعية كجريانه في الأحكام التكليفية ؛ لما تقدّم من أنّ الوضعيات بأقسامها ممّا يتعلّق بها الجعل مستقلاًّ(3) ، ولو فرض عدم تعلّقه بها إلاّ بمنشئها (4) فلا إشكال أيضاً في جريانه فيها ؛ لكون وضعها ورفعها بيد الشارع .

إنّما الإشكال في أنّ استصحاب وجود الشرط ، أو عدم المانع ، أو عدم الشرط ، أو وجود المانع هل يجري لإحراز وجود قيد المكلّف به أو عدمه

ص: 187


1- كفاية الاُصول : 474 .
2- نفس المصدر.
3- تقدّم في الصفحة 78 .
4- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 126 .

- فاستصحاب الوضوء يحرز كون الصلاة متقيّدة بالطهارة، واستصحاب عدم لابسية غير المأكول يحرز كون الصلاة بلا مانع ، واستصحاب عدم الشرط أو وجود المانع يحرز أنّ الصلاة وجدت غير مقيّدة بوجود الشرط أو وجدت مع المانع - أو لا ، أو يفصّل بين استصحاب الشرط وعدم المانع ، فيحرز الأوّل دون الثاني ؟ وما النكتة في أنّ جريان استصحاب الوضوء وطهارة الثوب ممّا لم يقع فيهما إشكال ، وأمّا استصحاب عدم لابسية غير المأكول صار مورداً للنقض والإبرام ، مع أنّ الطهارة الحدثية من قيود الصلاة ، كما أنّ الطهارة الخبثية من قيودها ، أو النجاسة من موانعها ؟ ! ولا يمكن أن يقال : إنّ الطهارة من شرائط المصلّي لا الصلاة ، وعدم المأكولية من موانع الصلاة بحسب الأدلّة ، فإحراز طهارة المصلّي بالاستصحاب يكفي لصحّة صلاته ، لكن استصحاب عدم لابسية المصلّي لغير المأكول لا يثبت تقيّد الصلاة بعدم كونها مع المانع إلاّ بالأصل المثبت .

وذلك لأنّ الصلاة لو لم تتقيّد بالطهارة يلزم أن تصحّ مع عدم الطهارة ولو عمداً ، ولم يلتزم به أحد ، ولو كانت الطهارة عنواناً للمصلّي كالاستطاعة للزم عدم وجوب الصلاة مع عدم التطهير .

هذا ، مضافاً إلى أنّ ظاهر الأدلّة أيضاً يقتضي اشتراط الصلاة بها كقوله : «لا صلاة إلاّ بطهور»(1) وظاهر الأدلّة الواردة في النهي عن الصلاة في

ص: 188


1- تهذيب الأحكام 1 : 49 / 144 ؛ وسائل الشيعة 1 : 315 ، كتاب الطهارة ، أبواب أحكام الخلوة ، الباب 9 ، الحديث 1 .

النجس(1) ، كالأدلّة الواردة في عدم جوازها في غير المأكول(2) من غير فرق بينهما .

والذي يمكن أن يقال : إنّ الميزان في التخلّص من الأصل المثبت - كما ذكرنا (3) - أن يصير المستصحب مندرجاً تحت كبرى شرعية ، فإذا استصحبت الطهارة الخبثية أو الحدثية يصير الموضوع مندرجاً تحت الكبرى المستفادة من قوله : «لا صلاة إلاّ بطهور» فإنّ المستفاد منه أنّ الصلاة متحقّقة بالطهور بعد حفظ سائر الجهات ، فإذا قال الشارع : «إنّ الصلاة تتحقّق بالطهور» وقال في دليل آخر : «إنّ الطهور متحقّق» يحكم بصحّة الصلاة المتحقّقة مع الطهور الاستصحابي ، ويجوز الاكتفاء بالصلاة معه ، وكذا فيما إذا كان لابساً لغير المأكول يحرز فساد صلاته ؛ فإنّ استصحاب لابسية وَبَر غير المأكول ممّا يندرج الموضوع به في قوله : «الصلاة في وَبَر غير المأكول فاسدة» .

وأمّا استصحاب عدم لابسية غير المأكول فممّا لا يندرج به الموضوع تحت كبرى شرعية ؛ لعدم ورود دليل شرعي ب «أنّ الصلاة متحقّقة إذا لم تكن في غير المأكول» وإنّما هو أمر عقلي ينتزع من قوله : «الصلاة في كلّ شيء من غير المأكول فاسدة» ، فيحكم العقل بأنّ الصلاة إذا وجدت في غير ذلك لا تكون فاسدة .

ص: 189


1- راجع وسائل الشيعة 3 : 418 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ، الباب 13 ، الحديث 2 ، والباب 14 ، الحديث 10 ، والباب 29 ، الحديث 4 ، والباب 38 ، الحديث 2 و3 .
2- راجع وسائل الشيعة 4 : 345 ، كتاب الصلاة ، أبواب لباس المصلّي ، الباب 2 .
3- تقدّم في الصفحة 177 .

هذا غاية ما يمكن أن يفرّق بينهما ، ولكن مع ذلك لا يخلو من نظر ؛ لإمكان أن يقال :

إنّ مثل قوله: «لا صلاة إلاّ بطهور» إنّما هو بصدد جعل شرطية الطهور للصلاة، أو الإرشاد إليها ، ومثل قوله : «الصلاة في وَبَر ما لا يؤكل فاسدة» أو «لا تصلّ فيه» إنّما هو بصدد جعل المانعية أو الإرشاد إليها ، وأمّا صحّة الصلاة أو تحقّقها مع وجود الشرط أو فسادها وعدم تحقّقها مع وجود المانع فعقلي لا شرعي .

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ قوله : «لا تصلّ في وَبَر ما لا يؤكل لحمه» وإن يستفاد منه الوضع ، لكن ليس مفاده إلاّ النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل ، ولا شكّ في أ نّه كبرى شرعية متلقّاة من الشارع ينتزع العقل منها الشرطية ، فإذا ضمّ إليها «أنّ هذا الملبوس ممّا لا يؤكل» يستنتج منهما «أن لا تصلّ فيه ، وأنّ الصلاة فيه فاسدة» .

وكذا قوله : «لا صلاة إلاّ بطهور» الظاهر في أنّ الصلاة مع الطهور صلاة وإن ينتزع منه الشرطية ، لكن لا تكون هذه الكبرى ساقطة ، وليست الشرطية فيها ولا المانعية في السابقة مفاد الأوّلي منهما ، بل مفاد ذلك أنّ الصلاة مع الطهور صلاة ، فإذا ضمّ إليه قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» المستفاد منه أنّ الطهور متحقّق يستنتج منهما «أنّ الصلاة مع هذا الطهور صلاة» فيستفاد من الدليلين توسعة نطاق الشرط ، وكذا في جانب المانع .

وبالجملة : لا معنى لرفع اليد عن قول الشارع : «إنّ الصلاة في هذا الوبر الاستصحابي فاسدة» أو «الصلاة مع الطهور الاستصحابي صلاة» بمجرّد أنّ الدليلين يستفاد منهما الشرطية أو المانعية .

ص: 190

الأمر الثالث : جريان الأصل بلحاظ الأثر العدمي

قد مرّ في مطاوي المباحث السالفة(1) أنّ الظاهر من الكبرى المجعولة في باب الاستصحاب ؛ أي قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» هو اعتبار بقاء اليقين ، وأ نّه لمّا كان أمراً مبرماً كأ نّه حبل مشدود بين المتيقّن والمتعلّق لا ينقض بالشكّ الذي لا استحكام فيه ؛ لكونه حالة ترديدية ، فلا ينبغي أن ينقض الأمر المستحكم المبرم بالأمر الغير المبرم ، ولعلّ هذا سرّ التعبير بقوله في صحيحة زرارة : «ولا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ»(2) .

وبالجملة : الظاهر من الدليل هو اعتبار بقاء اليقين في عالم التشريع ، ويحكم العقل تخلّصاً عن اللغوية بأنّ الجعل الشرعي لا بدّ له من أثر يكون تحت يد الشارع ، ويترتّب على هذا الاعتبار ، لكن لا يلزم أن يكون الأثر أمراً وجودياً ولا أثراً عملياً ، بل لو ترتّب عليه عدم لزوم العمل أو جواز ترك الإتيان فلا مانع منه ، وليس في أدلّة الاستصحاب لفظ «العمل» ومثله حتّى يقال : إنّه ظاهر في الأثر الوجودي ، وترك العمل ليس عملاً ، وعدم ترتيب الأثر ليس أثراً .

وما قد يقال : من أنّ المراد بالنقض هو النقض العملي(3) ، إن كان المراد منه أنّ مفهوم العمل مأخوذ في الدليل فهو ظاهر الفساد ، وإن كان المراد أ نّه لا بدّ في الجعل من أثر يكون تحت يد الشارع لئلاّ تلزم اللغوية فهو حقّ ، لكنّ رفع الكلفة عن المكلّف وعدم إلزامه بالعمل وأمثال ذلك ممّا تخرج الجعل عن اللغوية ،

ص: 191


1- تقدّم في الصفحة 34 - 36 .
2- تقدّم في الصفحة 44 .
3- كفاية الاُصول : 444 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 552 .

فاستصحاب عدم التكليف والوضع - وكذا استصحاب عدم الموضوعات لرفع الآثار المجعولة عليها - ممّا لا مانع منه ، تأمّل .

الأمر الرابع : أثر الحكم الأعمّ من الواقعي والظاهري

قد اشتهر بين الأعلام أنّ الأثر الغير الشرعي ، والشرعي بواسطة أمر غير شرعي لا يترتّب على المستصحب إذا كان له واقعاً ، وأمّا إذا كان للحكم الأعمّ من الواقعي والظاهري فيترتّب عليه ؛ لتحقّق موضوعه الحقيقي وجداناً ، فوجوب الموافقة وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة ، من الآثار العقلية التي تترتّب على الحكم الاستصحابي ؛ لكونها من آثار الحكم سواء كان بخطاب استصحابي أو خطاب واقعي(1) .

ولا يخفى ما فيه من التسامح ؛ لأنّ حرمة المخالفة ووجوب الموافقة واستحقاق العقوبة كلّها من آثار الحكم الواقعي عقلاً ، وأمّا الأحكام الظاهرية فليست في موافقتها ولا مخالفتها من حيث هي شيء ؛ لأ نّها أحكام طريقية للتحفّظ على الواقع ، فخطاب «لا تنقض» كخطاب «صدّق العادل» مثلاً ليس من الخطابات النفسية التي يحكم العقل بوجوب موافقتها وحرمة مخالفتها من حيث هي ، ولا يكون في موافقتها ثواب ، ولا في مخالفتها عقاب إلاّ انقياداً أو تجرّياً ، وإنّما يحكم العقل بلزوم الإتيان بمؤدّياتها لكونها حجّة على الواقع، فيحكم العقل من باب الاحتياط بلزوم موافقتها، لا لكونها أحكاماً ظاهرية؛ بل لاحتمال انطباقها على الواقع ، فاستحقاق العقوبة إنّما هو على مخالفة الواقع لا الحكم الظاهري .

ص: 192


1- كفاية الاُصول : 475 - 476 .

التنبيه السابع: في مجهولي التأريخ

اشارة

لا إشكال في جريان الاستصحاب مع الشكّ في أصل تحقّق شيء ، ولا في جريانه مع الشكّ في تقدّمه وتأخّره بالنسبة إلى أجزاء الزمان، فإذا شكّ في تحقّقه يوم الخميس أو الجمعة يحكم بعدم وجوده إلى يوم الجمعة إذا كان الأثر مترتّباً على عدمه كذلك ، لا على حدوثه فيه أو تأخّره عن يوم الخميس ، وهذا واضح .

إنّما الإشكال والكلام فيما إذا لوحظ بالنسبة إلى حادث آخر ؛ كما إذا علم حدوث الكرّية والملاقاة وشكّ في المتقدّم منهما .

ومجمل الكلام فيه : أنّ الحادثين ؛ إمّا أن يكونا مجهولي التأريخ أو أحدهما كذلك .

فعلى الأوّل : لا إشكال في جريانه إذا كان الأثر مترتّباً على عدم تقدّم أحدهما على الآخر أو مقارنته له بنحو كان التامّة ، فاستصحاب عدم تحقّق عنوان تقدّم دخول زيد على عمرو في البيت جارٍ كاستصحاب سائر العناوين المضايفة معه كذلك .

ص: 193

وكذا لا إشكال في جريانه إذا كان الأثر مترتّباً على سلب اتّصاف أحدهما بأحد العناوين على نحو كان الناقصة ، فاستصحاب أنّ زيداً لم يكن مقدّماً على عمرو في دخول البيت ممّا لا مانع منه ؛ لتمامية أركانه ، فإنّه قبل دخولهما يصدق أنّ زيداً لم يكن مقدّماً على عمرو في الدخول بنحو السلب المحصّل الصادق مع نفي الموضوع .

وكذا إذا كان الأثر مترتّباً على تقدّم دخول زيد على عمرو بنحو كان الناقصة ، فيستصحب عدم كون زيد مقدّماً على عمرو لسلب الأثر .

نعم ، لا يجري الأصل إذا كان الأثر مترتّباً على الثبوت المتّصف بالعدم في زمان حدوث الآخر ، فإذا كان الأثر مترتّباً على الكرّية المتّصفة بعدم حدوثها في زمان الملاقاة ، فلا يمكن إثبات هذا العنوان بأصالة عدم حدوثها إلى زمان الملاقاة إلاّ بالأصل المثبت ؛ لأنّ الكرّية الكذائية ليست لها حالة سابقة .

وإذا كان الأثر مترتّباً على نفس عدم كلّ منهما في زمان حدوث الآخر فالظاهر جريانه ، فاستصحاب عدم عقد الجدّ للصغيرة في زمان عقد الأب جارٍ ومعارض لاستصحاب عدم عقد الأب لها في زمان عقد الجدّ .

واختار المحقّق الخراساني; عدم الجريان في هذه الصورة ؛ لعدم إحراز اتّصال زمان الشكّ باليقين(1) .

وقبل تقرير كلامه لا بدّ من بيان ضابط عدم اتّصال زمان الشكّ باليقين المانع من جريان الاستصحاب .

ص: 194


1- كفاية الاُصول : 478 .

ضابط اتّصال زمان الشكّ باليقين

فنقول : إنّ المناط في اتّصال زمانه به أن لا يتخلّل بين اليقين المتعلّق بشيء وبين الشكّ في بقائه يقين آخر مضادّ له ، فإنّه مع تخلّل اليقين المضادّ لا يعقل الشكّ في البقاء ، فعدم جريان الاستصحاب ؛ لعدم اتّصال زمان الشكّ باليقين ، ولعدم صدق نقض اليقين بالشكّ بالنسبة إلى اليقين الأوّل ، بل يصدق نقض اليقين باليقين .

ثمّ إنّه لا يعقل الشكّ في عدم اتّصالهما ، بحيث يصير الإنسان شاكّاً في تخلّل يقين بالضدّ بين اليقين السابق والشكّ اللاحق فعلاً ؛ لأنّ الملاك أن يكون حين الجريان شاكّاً ومتيقّناً ومتّصلاً زمان شكّه بيقينه بحسب حاله فعلاً ، ولا يمكن أن يكون الإنسان شاكّاً في أنّ له يقيناً بأمر كذائي أو لا ، اللهمّ إلاّ بعض أهل الوسوسة الشاكّين في وجدانياتهم ، وهو خارج عن محلّ الكلام .

فإن قلت : لو علم المكلّف بأ نّه كان مجنباً في أوّل النهار ، وصار متطهّراً منها جزماً ، ثمّ رأى في ثوبه منيّاً ، وعلم إجمالاً بأ نّه ؛ إمّا من جنابته التي قطع بارتفاعها بالغسل أو من جنابة جديدة ، يكون إجراء استصحاب الجنابة المقطوعة الموجبة لتلويث الثوب ممنوعاً ؛ لعدم إحراز اتّصال زمان الشكّ باليقين ، لأنّ الجنابة أمرها دائر بين التي قطع بزوالها وبين التي قطع ببقائها ، فيحتمل الفصل بين زمان الشكّ واليقين بحصول الجنابة بيقين بزوالها ، فهذا من قبيل عدم إحراز الاتّصال .

وكذا لو علم تفصيلاً بكون شاة معيّنة موطوءة ، واُخرى غير موطوءة ،

ص: 195

وعرض له الشكّ بواسطة ظلمة وشبهها ، فاستصحاب عدم الموطوئية المعلوم سابقاً قبل عروض الوط ء لا يجري ؛ لعدم إحراز اتّصال زمان الشكّ باليقين ، لاحتمال تخلّل اليقين بالضدّ في كلّ منهما .

وإن شئت قلت : تكون أمثاله من قبيل الشبهة المصداقية لدليل الاستصحاب ؛ للشكّ في أ نّها من نقض اليقين بالشكّ أو باليقين .

قلت : لا يكون شيء ممّا ذكر من قبيل ذلك :

أمّا الأوّل : فلأنّ عدم إجراء الاستصحاب فيه ليس لعدم إحراز الاتّصال ، بل لعدم اليقين السابق لا تفصيلاً ولا إجمالاً ، أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلأنّ كون هذا المنيّ في الثوب من جنابة معلومة بالتفصيل أو الإجمال ممّا لا أثر له ، بل الأثر مترتّب على العلم بكون المكلّف كان جنباً تفصيلاً أو إجمالاً فشكّ في بقائها ، والمفروض أ نّه يعلم تفصيلاً بحصول جنابة له أوّل النهار وزوالها بالغسل بعده ، ويشكّ بدواً في حصول جنابة جديدة له ، فأين العلم الإجمالي حتّى يستصحب ؟ ! فعلمه الإجمالي ممّا لا أثر له ، وما له أثر لا يعلم به .

إن قلت : إنّه يعلم بكونه جنباً بعد خروج الأثر المردّد ولم يعلم بارتفاعها .

قلت : لا يجري الاستصحاب الشخصي فيه ؛ لدوران الشخص بين جنابة أوّل النهار وجنابة بعد الزوال ، والاُولى مقطوعة الزوال ، والثانية محتملة الحدوث ، فعدم الجريان ؛ لعدم تمامية أركانه في شيء منهما ، ولا الكلّي ؛ للعلم بعدم الاتّصال في المثال .

نعم ، لو احتمل حدوث جنابة عند ارتفاع الاُولى يكون من القسم الثالث ، ولو

ص: 196

اشتهى أحد أن يمثّل لعدم إحراز الاتّصال فله أن يقول في المثال : لو احتمل حدوث جنابة ، واحتمل كون المحتمل حادثاً عند زوال الاُولى بلا فصل ، واحتمل الفصل ، فإنّ عدم جريان الكلّي في الفرض لعدم إحراز الاتّصال بمعنى لا بالمعنى المتقدّم ، فتدبّر وتأمّل .

وعلى ذلك يعتبر في الاستصحاب مضافاً إلى ما مرّ من الاتّصال ، إحراز كون الشكّ في البقاء ، وقد سبق منّا اعتبار ذلك واستفادته من أدلّته(1) .

لكن يرد عليه : أنّ ما هو المعتبر فيه هو إحراز كون الشكّ في البقاء ، لا إحراز البقاء ؛ فإنّه منافٍ للاستصحاب ، ومع احتمال حدوث مصداق آخر مقارناً يحرز الشكّ في البقاء ، وإن احتمل الانفصال أيضاً ، كما لا يخفى .

وأمّا المثال الثاني : فلأنّ كلّ واحدة من الشاتين ما دام بقاء الظلمة يكون الشكّ في وطئها متّصلاً باليقين بعدم وطئها ، ولا يحتمل المكلّف في الحال وجود يقين فعلي فاصل بين اليقين السابق والشكّ اللاحق .

وإن شئت قلت : إنّ يقينه التفصيلي ارتفع بواسطة عروض الجهل ، وحدث علم إجمالي يكون كلّ من طرفيه شكّاً محضاً لا يحتمل فيه اليقين .

وممّا ذكرنا يتّضح النظر فيما أتعب بعض أعاظم العصر نفسه في ضابط عدم اتّصال زمان الشكّ باليقين ، وتمثيله بإناء شرقي وغربي علم تفصيلاً بنجاستهما ، وأصاب أحدهما المطر ، وتفصيله بين ما إذا علم إجمالاً بإصابة المطر أحدهما ، فاختار جريان الاستصحاب ، وبين ما علم تفصيلاً بإصابته خصوص ما كان في

ص: 197


1- تقدّم في الصفحة 126 .

الطرف الشرقي ، ثمّ عرض له الاشتباه ، فاختار عدم الجريان ؛ لعدم الاتّصال قائلاً : إنّه لا يعقل اتّصال زمان الشكّ في كلّ منهما بزمان اليقين بنجاستهما ؛ لأنّ المفروض أ نّه قد انقضى على أحد الإناءين زمان لم يكن زمان اليقين بالنجاسة ، ولا زمان الشكّ فيها ، فكيف يعقل اتّصال زمان الشكّ في كلٍّ منهما بزمان اليقين ؟ فلا مجال لاستصحاب بقاء النجاسة في كلّ منهما ؛ لأنّه في كلّ إناء منهما يحتمل أن يكون هو الإناء الذي تعلّق العلم بطهارته ، ففي كلّ منهما يحتمل انفصال الشكّ عن اليقين(1) ، انتهى .

وذلك لأنّ العلم التفصيلي الحاصل في زمان مع تبدّله بالشكّ في زمان آخر لا يضرّ بالاستصحاب ؛ فإنّ الميزان أن يكون زمان الشكّ متّصلاً باليقين في حال جريانه لا قبله ، وفي حاله لا يكون للمكلّف بالنسبة إلى الإناء المشتبه إلاّ العلم بالنجاسة سابقاً ، والشكّ في إصابته المطر ، ولا يحتمل في حاله تخلّل اليقين بإصابته المطر بين العلم والشكّ .

وليس معنى اتّصال زمان الشكّ باليقين أن لا يمرّ على المشكوك فيه زمان يكون متعلّقاً للعلم ولو انقلب إلى الجهل ؛ ضرورة أنّ المناط بحال إجراء الأصل ، فلو حصل للمكلّف ألف علم بضدّ الحالة السابقة ، ولم يكن في حال الجريان إلاّ العلم والشكّ ، من غير تخلّل علم بالضدّ أو احتماله - مع أنّ الاحتمال في المقام لا يمكن كما عرفت(2) - يكون جريانه بلا مانع ، ويكون من عدم نقض اليقين بالشكّ ، وهذا واضح جدّاً .

ص: 198


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 510 - 515 .
2- تقدّم في الصفحة 195 .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الضابط في اتّصال زمان الشكّ باليقين هو أنّ المكلّف في حال إجراء الأصل يكون على يقين متعلّق بشيء ، وشكّ في بقائه ، ولا يكون في هذا الحال له يقين آخر مضادّ ليقينه ، فاصل بينه وبين شكّه، ولا احتماله ، واعتباره في الاستصحاب أوضح من أن يخفى ؛ لأنّه إذا كان له يقينان كذلك ينتقض يقينه السابق باليقين اللاحق ، فلا يكون شاكّاً في بقاء ما تعلّق به اليقين الأوّل .

إذا عرفت ذلك: يتّضح أنّ جريان الأصل في مجهولي التأريخ لا مانع منه إذا كان الأثر مترتّباً على عدم كلّ منهما في زمان وجود الآخر ، ولا يكون زمان اليقين منفصلاً عن زمان الشكّ بيقين مضادّ لليقين السابق ، ولا يحتمل ذلك أيضاً ، كما عرفت .

إشكال المحقّق الخراساني في مجهولي التأريخ وجوابه

وما أفاده المحقّق الخراساني; في بيان عدم اتّصال زمان الشكّ باليقين : من فرض زمانين بعد زمان العلم بعدم حدوثهما ، أحدهما: زمان حدوث واحد منهما ، والثاني : زمان حدوث الآخر ، والشكّ في الآن الأوّل منهما وإن كان شكّاً في وجود كلّ منهما بالإضافة إلى أجزاء الزمان ، ولكن لا يكون شكّاً فيه بالإضافة إلى الآخر إلاّ في الآن الثاني ؛ لأنّ الشكّ في المتقدّم والمتأخّر منهما لا يمكن إلاّ بعد العلم بوجودهما ، فزمان الثالث زمان الشكّ في المتقدّم والمتأخّر ، أو الشكّ في وجود أحدهما بالإضافة إلى زمان وجود الآخر ، وهو ظرف العلم الإجمالي بوجود كلٍّ منهما إمّا في الزمان المتقدّم ، أو في الزمان

ص: 199

المتأخّر ، ولمّا شكّ في أنّ أيّهما مقدّم وأيّهما مؤخّر لم يحرز اتّصال زمان الشكّ باليقين(1) ، انتهى ملخّصاً .

فيه : أ نّه إن أراد بعدم الاتّصال أنّ الزمان الثاني لا يكون ظرفاً للشكّ ولا لليقين ، بل الزمان الأوّل ظرف لليقين بعدمهما ، وزمان الثاني ظرف للشكّ في وجود كلّ منهما بالنسبة إلى أجزاء الزمان ، لا بالنسبة إلى الآخر الذي هو مضايفه ، فلا يكون ظرفاً للشكّ بالنسبة إليه كذلك إلاّ الزمان الثالث ، فانفصل الزمان الثالث عن الأوّل بزمان لا يكون ظرفاً للشكّ ولا لليقين ، فلا يكون زمان اليقين متّصلاً بزمان الشكّ .

فيرد عليه : - مضافاً إلى أنّ المفروض في هذا القسم عدم أخذ الإضافة إلى الآخر قيداً له ، فيكون الزمان الثاني ظرفاً للشكّ أيضاً ، وإن كان الأثر لا يترتّب إلاّ على عدمه في زمان وجود الآخر ، لا على عدمه في الزمان الثاني - أ نّه لا دليل على اعتبار هذا النحو من الاتّصال ، فلا مانع من فصل زمان اليقين عن زمان الشكّ بزمان لا يكون ظرفاً للشكّ ولا لليقين ، وإنّما المانع فصل يقين متعلّق بضدّ ما يتعلّق به اليقين الأوّل ، أو احتمال فصله ، وهذا الاحتمال وإن كان بعيداً عن مساق كلامه ، لكن ذكرناه تتميماً للفائدة .

وإن أراد من عدم الاتّصال بينهما ما هو ظاهر كلامه : من أنّ العلم الإجمالي بحدوثه مقدّماً أو مؤخّراً موجب لعدم إحراز الاتّصال ؛ لاحتمال انفصال زمان الشكّ عن اليقين بحدوث ما يستصحب عدمه .

ص: 200


1- كفاية الاُصول : 478 - 479 .

فيرد عليه : أنّ احتمال انفصال ذات المعلوم بالإجمال بين زمان اليقين والشكّ ممّا لا يضرّ بالاستصحاب ؛ لأنّ ذلك محقّق لنفس الشكّ ، واحتمال انفصال العلم بالحدوث بينهما مقطوع البطلان ؛ لأنّ ذلك مساوق لاحتمال كون المشكوك فيه متيقّناً ، وكون الشكّ يقيناً ، وكون المعلوم بالإجمال معلوماً تفصيلياً ، وكلّ ذلك ضروري البطلان .

ولعلّ منشأ هذا الاشتباه شدّة اتّصال اليقين بالمتيقّن ، فيكون احتمال انفصال المتيقّن بين زمان اليقين والشكّ موجباً لزعم احتمال انفصال اليقين ، مع أنّ الأوّل غير مضرّ ، والثاني غير واقع ، بل غير معقول .

فتحصّل ممّا ذكر : أنّ جريان الأصل في مجهولي التأريخ ممّا لا مانع منه .

تقرير إشكال شيخنا العلاّمة في مجهولي التأريخ وجوابه

إن قلت : إنّ الاستصحاب في مجهولي التأريخ غير جارٍ ، لا لعدم إحراز الاتّصال ، بل لعدم إحراز كونه من نقض اليقين بالشكّ ، واحتمال كونه من نقض اليقين باليقين .

وبعبارة اُخرى : إنّ جريانه فيهما من التمسّك بعموم دليل الاستصحاب في الشبهة المصداقية .

بيانه : أ نّه لو فرض اليقين بعدم الكرّية والملاقاة في أوّل النهار ، وعلمنا بتحقّق إحداهما في وسطه ، وتحقّق الاُخرى في الجزء الأوّل من الليل ، فالجزء الأوّل من الليل ظرف اليقين بتحقّق كلتيهما ، وظرف احتمال حدوث كلّ منهما ؛ للعلم الإجمالي بحدوث كلٍّ منهما ، إمّا في وسط النهار ، أو في أوّل الليل ، فاستصحاب

ص: 201

عدم كلّ منهما إلى زمان الوجود الواقعي للاُخرى يحتمل أن يكون من نقض اليقين باليقين ؛ لاحتمال حدوثه في الجزء الأوّل من الليل ، وهو ظرف العلم بتحقّق كلتيهما : إمّا سابقاً ، وإمّا في هذا الجزء .

فاستصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الوجود الواقعي للكرّية يحتمل أن يجري إلى الجزء الأوّل من الليل الذي هو ظرف احتمال حدوث الكرّية ؛ لأ نّها تحتمل أن تكون حادثة في وسط النهار ، أو أوّل الليل ، والجريان إلى الليل من نقض اليقين باليقين ؛ لأنّ ذلك الجزء ظرف اليقين بحصول الملاقاة ، إمّا فيه ، وإمّا قبله ، وكذا الحال بالنسبة إلى الحادث الآخر ، ومن شرائط جريان الأصل إحراز أن يكون المورد من نقض اليقين بالشكّ .

قلت : هذا الإشكال ممّا أفاده شيخنا العلاّمة أعلى اللّه مقامه في مجلس بحثه ، واختار عدم جريان الأصل في مجهولي التأريخ لأجله ، ولعلّه أحد محتملات الكفاية(1) ، وإن كان بعيداً عن سوق عبارتها .

وجوابه : أ نّه فرق واضح بين استصحاب عدم الملاقاة إلى الجزء الأوّل من الليل ، وبين استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الوجود الواقعي للكرّية ؛ فإنّ مفاد الأوّل عدم حصول الملاقاة في أجزاء الزمان إلى الجزء الأوّل من الليل الذي هو ظرف اليقين بتحقّق الملاقاة .

وأمّا الثاني فمفاده أو لازمه تأخّر الملاقاة عن الكرّية ، ولهذا لو أخبرت البيّنة بأنّ الملاقاة لم تحصل إلى الجزء الأوّل من الليل ؛ بحيث كانت الغاية داخلة في

ص: 202


1- كفاية الاُصول : 478 - 479 ؛ وقد تقدّم في الصفحة 199 - 200 .

المغيّا نكذّبها ؛ للعلم بخلافها ، وأمّا لو أخبرت بأنّ الملاقاة لم تحصل إلى زمان الكرّية نصدّقها ، ونحكم بأنّ الكرّية المردّدة بين كونها حادثة في وسط النهار أو الجزء الأوّل من الليل حدثت في وسط النهار ، والملاقاة حدثت متأخّرة عنها في الجزء الأوّل من الليل ، وكذا لو كانت لوازم الاستصحاب حجّة .

فاستصحاب عدم حصول الملاقاة إلى الجزء الأوّل من الليل بحيث تكون الغاية داخلة في المغيّا غير جارٍ ؛ للعلم بخلافه ، بخلاف استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان حصول الكرّية ؛ فإنّ استصحابه مساوق لتقدّم حصول الكرّية على الملاقاة ، وحدوث الكرّية في وسط النهار ، وحدوث الملاقاة في الجزء الأوّل من الليل .

وهذا دليل على أنّ مفاد هذا الاستصحاب ليس جرّ المستصحب إلى الجزء الأوّل من الليل حتّى يكون من نقض اليقين باليقين ، بل مفاده عدم حصول المستصحب في زمان تحقّق الآخر ، ولازمه تأخّره عن صاحبه .

وبعبارة اُخرى : إنّ احتمالي حدوث الحادثين متبادلان ؛ بمعنى أنّ احتمال حدوث الكرّية في الجزء الأوّل من الليل بديل لاحتمال حدوث الملاقاة في وسط النهار وبالعكس ، واحتمال عدم حدوث الكرّية إلى زمان الملاقاة مساوق لاحتمال حدوث الملاقاة في وسط النهار ، فأصالة عدم الكرّية إلى زمان الملاقاة ترجيح لهذا الاحتمال ، ولازمه تأخّر الكرّية عن زمان الملاقاة ، لا عدم تحقّق الكرّية إلى الجزء الأوّل من الليل .

وإن شئت قلت : لازم عدم الكرّية في زمن الملاقاة تحقّقها في الجزء الأوّل من الليل ، لا عدم تحقّقها إليه ، فلو كان الأصل المثبت حجّة نحكم بتأخّرها عنه ،

ص: 203

وحصولها في الجزء الأوّل من الليل ، وحصول الملاقاة في وسط النهار ، لكن مقتضى عدم حجّية الأصل المثبت أن لا يترتّب الأثر إلاّ على نفس عنوان عدم وجود الملاقاة في زمن الكرّية ، أو عدم الكرّية في زمن الملاقاة ، وليس ذلك إلاّ من نقض اليقين بالشكّ ، ولا يلزم منه جرّ عدم الملاقاة إلى زمان العلم به ، فتدبّر جيّداً ، هذا حال مجهولي التأريخ .

وأمّا لو كان تأريخ أحدهما معلوماً ، فاستصحاب مجهول التأريخ منهما جارٍ ، واختار المحقّق الخراساني الجريان فيه قائلاً : إنّ زمان اليقين فيه متّصل بالشكّ(1) .

وفيه : أ نّه لو كان المراد من عدم الاتّصال في مجهولي التأريخ أحد الوجهين الأوّلين فلا فرق بين مجهولي التأريخ وبين ما نحن فيه ؛ لأنّ المانع لو كان العلم الإجمالي أو كون الزمان الأوّل من الزمانين غير ظرف الشكّ يكون ما نحن فيه أيضاً كذلك .

نعم ، بناءً على كون مراده من عدم الاتّصال هو الذي أفاده شيخنا العلاّمة كان بينهما فرق ؛ فإنّ استصحاب عدم مجهول التأريخ إلى زمان وجود معلوم التأريخ ليس إلاّ عدم نقض اليقين بالشكّ ، ولا تأتي فيه الشبهة التي عرفتها وعرفت دفعها .

فتحصّل من جميع ما تقدّم : أنّ الاستصحاب في مجهول التأريخ مطلقاً لا إشكال فيه ، وأمّا في معلوم التأريخ فلا يجري إلاّ على بعض الوجوه المتقدّمة .

ص: 204


1- كفاية الاُصول : 480 .

تكميل: في فروض ترتّب الأثر على وجود الحادثين

ربما يكون الأثر مترتّباً على وجود الحادثين في زمان الشكّ ، ويشكّ في المتقدّم منهما ، كما لو تيقّن الحدث والطهارة ، وشكّ في المتقدّم ، أو تيقّن إصابة النجس لثوبه وغسله ، وشكّ في المتقدّم .

فحينئذٍ : تارةً يكون كلّ منهما مجهول التأريخ ، وتارةً يكون أحدهما معلوم التأريخ ، وعلى التقديرين ، تارةً تكون الحالة السابقة على عروض الحالتين معلومة ، واُخرى تكون غير معلومة ، فإن كانت معلومة ، فتارةً تكون الحالة السابقة على الحالتين مساوية في الأثر مع إحدى الحالتين العارضتين ، واُخرى تكون زائدة في الأثر ، وثالثة تكون ناقصة .

فإن لم تكن الحالة السابقة معلومة فاستصحاب بقاء كلّ من الحادثين جارٍ ومعارض بمثله من غير فرق بين معلوم التأريخ ومجهوله .

وما عن بعض متأخّري المتأخّرين : من التفصيل بينهما ، فذهب إلى التعارض في مجهولي التأريخ ، وحكم في معلوم التأريخ بأصالة تأخّر الحادث(1) ، ففيه ما لا يخفى .

وإن كانت الحالة السابقة على عروض الحادثين معلومة ، وكانت مساوية لإحدى الحالتين العارضتين ، كما لو تيقّن الحدث والطهارة ، وكانت الحالة

ص: 205


1- الدرّة النجفية : 23 ؛ اُنظر جواهر الكلام 2: 353.

السابقة عليهما الحدث أو الطهارة ، فعن المشهور(1) في خصوص الفرع هو الحكم بلزوم التطهير ؛ لمعارضة استصحاب الحدث لاستصحاب الطهارة ، وحكم العقل بتحصيل الطهارة للصلاة ؛ لقاعدة الاشتغال .

وعن المحقّق في «المعتبر» لزوم الأخذ بضدّ الحالة السابقة ؛ لأ نّها ارتفعت يقيناً وانقلبت إلى ضدّها ، وارتفاع الضدّ غير معلوم . قال - على ما حكي عنه - :

يمكن أن يقال : ينظر إلى حاله قبل تصادم الاحتمالين ؛ فإن كان حدثاً بنى على الطهارة ؛ لأنّه تيقّن انتقاله عن تلك الحالة إلى الطهارة ، ولم يعلم تجدّد الانتقاض ، فصار متيقّناً للطهارة ، وشاكّاً في الحدث ، فيبني على الطهارة ، وإن كان قبل تصادم الاحتمالين متطهّراً بنى على الحدث ؛ لعين ما ذكرنا من التنزيل(2) ، انتهى .

ونسب هذا التفصيل إلى مشهور المتأخّرين(3) .

ولقد تصدّى لردّه جمع من المحقّقين كالشيخ الأعظم(4) ، وصاحب «مصباح الفقيه»(5) ، وبعض أعاظم العصر(6) بما لا داعي لنقل كلامهم .

ص: 206


1- مفتاح الكرامة 2 : 564 ؛ جواهر الكلام 2 : 350 ؛ الطهارة ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2 : 450 .
2- المعتبر 1 : 171 .
3- اُنظر الطهارة ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2 : 456 .
4- الطهارة ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2 : 457 .
5- مصباح الفقيه ، الطهارة 3 : 167 .
6- أجود التقريرات 4 : 160 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 524 - 525 .

تحقيق الحال في المقام

والتحقيق عندي : هو قول المحقّق في مجهولي التأريخ ، والتفصيل في معلومه بأ نّه إن كان معلوم التأريخ هو ضدّ الحالة السابقة فكالمحقّق ، وإلاّ فكالمشهور ، وإن انطبق المسلكان نتيجة أحياناً .

أمّا في مجهولي التأريخ : فلأنّ الحدث أمر واحد له أسباب كثيرة ، وتكون سببية الأسباب الكثيرة للشيء الواحد سببية اقتضائية ؛ بمعنى أنّ كلّ سبب يتقدّم في الوجود الخارجي يصير سبباً فعلياً مؤثّراً في حصول المسبّب ، وإذا وجدت سائر الأسباب بعده لم تتّصف بالسببية الفعلية ؛ ضرورة أنّ الحدث إذا وجد بالنوم لا يكون نوم آخر بعده أو بول أو غيرهما موجباً لحدوثه ، ولا يكون شيء منها سبباً فعلياً ، بل سببيتها الفعلية موقوفة على حدوثها لدى كون المكلّف متطهّراً لم تسبقه سائر الموجبات ، فإذا كان المكلّف متيقّناً بكونه محدِثاً في أوّل النهار ، فعلم بحدوث طهارة وحدث أثناء النهار ، وشكّ في المتقدّم والمتأخّر يكون استصحاب الطهارة المتيقّنة ممّا لا إشكال فيه .

ولا يجري استصحاب الحدث ؛ لعدم تيقّن الحالة السابقة ، لا تفصيلاً ولا إجمالاً ؛ فإنّ الحدث المعلوم بالتفصيل الذي كان متحقّقاً أوّل النهار قد زال يقيناً ، وليس له علم إجمالي بوجود الحدث إمّا قبل الوضوء أو بعده ؛ لأنّ الحدث قبل الوضوء معلوم تفصيلي ، وبعده مشكوك فيه بالشكّ البدوي .

وما يقال : من أنّ وجود الحدث بعد تحقّق السبب الثاني معلوم ، وإن لم يعلم

ص: 207

أ نّه من السبب الثاني أو الأوّل ، ورفع اليد عنه نقض اليقين بالشكّ(1) .

مدفوع : بأنّ هذا خلط بين العلم التفصيلي والشكّ البدوي ، وبين العلم الإجمالي ؛ فإنّ وجود الحدث قبل الوضوء معلوم بالتفصيل ، ولا إجمال فيه أصلاً ، ووجوده بعده احتمال بدوي ، فدعوى العلم الإجمالي في غير محلّها .

والقول : بأ نّا نعلم أنّ الحدث بعد السبب الثاني موجود إمّا بهذا السبب أو بسبب آخر عبارة اُخرى عن القول : بأ نّا نعلم أنّ الحدث بعد السبب الثاني موجود إمّا قبل الوضوء أو بعده ، وقد عرفت أ نّه ليس علماً إجمالياً .

وإن شئت قلت : إنّ المعلوم بالإجمال هو السبب الثاني ، لا بوصف السببية الفعلية ، بل الأعمّ من ذلك ؛ فإنّا نعلم إجمالاً وجود النوم إمّا قبل الوضوء أو بعده ، وهو ليس مجرى الاستصحاب ، وأمّا الحدث فليس معلوماً بالإجمال ، بل معلوم بالتفصيل قبل الوضوء ، ومحتمل بدوي بعده .

وهذا نظير العلم الإجمالي بأنّ الأثر الحاصل في ثوبه إمّا من الجنابة التي اغتسل منها ، أو من جنابة جديدة ، حيث إنّ العلم الإجمالي بأنّ هذا إمّا من تلك الجنابة أو من هذه حاصل ، ولكنّه ليس منشأً للأثر ، وأمّا نفس الجنابة فليست معلومة بالإجمال ، بل الجنابة قبل الغسل معلومة تفصيلاً ، ورفعها معلوم أيضاً ، وبعده مشكوك فيها بالشكّ البدوي ، وليست طرفاً للعلم الإجمالي .

والفرق بين هذا المثال وما نحن فيه : أنّ العلم الإجمالي فيما نحن فيه يكون في تحقّق السبب الأعمّ من الاقتضائي والفعلي ، وهو ممّا لا أثر له ، ولا يجري

ص: 208


1- مصباح الفقيه ، الطهارة 3 : 167 .

فيه الاستصحاب ، وفي المثال يكون في أنّ الأثر من تلك الجنابة أو من هذه ، وهذا أيضاً لا أثر له ، وأمّا نفس الجنابة والحدث فليستا معلومتين بالإجمال ، بل كلّ منهما معلوم بالتفصيل قبل التطهّر ، ومشكوك فيه بعده .

وإن شئت توضيح ما ذكرنا نقول : إنّ العلم الإجمالي بالنوم إمّا قبل الوضوء أو بعده فيما نحن فيه ، كالعلم الإجمالي بوجود الخفقة والخفقتين قبل الوضوء أو النوم ؛ لأنّ النوم قبل الوضوء ، أي في زمان الحدث ليس سبباً له ، كما أنّ الخفقة والخفقتين ليستا كذلك ، فكما أنّ العلم الإجمالي في المثال لا يؤثّر شيئاً ، كذلك فيما نحن فيه .

وإن صحّ أن يقال في المثال : علم إجمالاً بتحقّق الحدث بعد هذا الأمر الحادث إمّا من جهة السبب الأوّل ، وإمّا من جهة السبب الحادث ؛ فإنّ هذا الحادث إن وجد قبل الوضوء كان الحدث موجوداً بعده بالسبب الأوّل ، وإن وجد بعده كان موجوداً بسببه .

مع أ نّه لا أظنّ بأحد أن يستصحب هذا الحدث ، وليس ذلك إلاّ لأجل وضوح عدم العلم الإجمالي ، وأنّ الحدث المعلوم بالتفصيل ليس طرفاً للترديد ومصحّحاً للإجمال المعتبر في العلم الإجمالي ، ولا فرق بالضرورة بين النوم بعد الحدث والخفقة والخفقتين في عدم سببيتهما فعلاً للحدث . وكون النوم سبباً لولا سبقه بالحدث لا يوجب فرقاً ، كما هو واضح .

وبتقريب آخر : أنّ الحدث في المثال مردّد بين فردين ، أحدهما مقطوع الزوال ، والآخر محتمل الحدوث ؛ فإنّه إن وجد السبب قبل الوضوء يكون محدثاً بالسبب الأوّل ، وهو مصداق من الحدث ، وإن وجد بعده يكون الحدث

ص: 209

مصداقاً حادثاً من السبب الثاني .

فحينئذٍ : إن اُريد استصحاب الفرد فلا يجري ؛ لاختلال أركانه ، فإنّ المصداق الأوّل مقطوع الزوال ، والمصداق الثاني محتمل الحدوث ، وإن اُريد استصحاب الكلّي فلا يجري ؛ لعدم الاتّصال بين زوال الفرد الأوّل واحتمال حدوث الفرد الآخر ، وفي مثله لا يكون شكّ في البقاء ، ولا أظنّك بعد التأمّل فيما ذكرنا أن تشكّ فيه .

هذا حال مجهولي التأريخ .

وأمّا إذا جهل تأريخ الحدث وعلم تأريخ الطهارة ، مع كون الحالة السابقة هي الحدث ، فاستصحاب الحدث لا يجري ؛ لعين ما ذكرنا في مجهولي التأريخ ؛ من عدم العلم الإجمالي بالحدث ، فلا تكون حالة سابقة متيقّنة للحدث ، ولكن استصحاب الطهارة لا مانع منه .

فإذا علم كونه محدثاً في أوّل النهار ، وعلم أ نّه صار في أوّل الظهر متطهّراً ، وعلم بحدوث حدث إمّا بعد الطهارة ، وإمّا قبلها لا يجري استصحاب الحدث ؛ للعلم بزوال الحدث المعلوم تفصيلاً ، وعدم العلم بتحقّق حدث غيره ، وأمّا استصحاب الطهارة المتحقّقة في أوّل الظهر فجارٍ ؛ للعلم بوجودها ، والشكّ في زوالها ، ففي هذه الصورة نحكم بكونه متطهّراً .

وإذا جهل تأريخ الطهارة مع العلم بالحدث سابقاً ، وعلم تأريخ الحدث ، فاستصحاب الحدث المعلوم التأريخ يعارض استصحاب الطهارة المعلومة بالإجمال ، ونحكم بلزوم التطهّر عقلاً ؛ لقاعدة الاشتغال .

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ مقتضى القاعدة هو الأخذ بضدّ الحالة السابقة

ص: 210

في مجهولي التأريخ ؛ لأجل استصحاب الحالة المضادّة من غير معارض له ، وكذا فيما إذا علم تأريخ ما هو ضدّ للحالة السابقة ؛ لعين ما ذكر .

وأمّا فيما إذا علم تأريخ ما هو مثل للحالة السابقة ، كما إذا تيقّن الحدث في أوّل النهار ، وتيقّن بحدث آخر في الظهر ، وتيقّن بطهارة إمّا قبل الظهر أو بعده ، فيجب تحصيل الطهارة ؛ لتعارض استصحاب الحدث المعلوم في الظهر - للعلم به والشكّ في زواله - مع استصحاب الطهارة المعلومة بالإجمال ؛ للعلم بوجودها إمّا قبل الظهر أو بعده ، والشكّ في زوالها .

وما قيل : من تردّدها بين ما هو مقطوع الزوال وما هو مشكوك الحدوث ، فلا يجري فيها الاستصحاب ، مردود بأنّ ذلك محقّق الشكّ ، ورفع اليد عن العلم الإجمالي باحتمال الزوال نقض لليقين بالشكّ ؛ ضرورة أ نّا نعلم بتحقّق طهارة عقيب الغسل أو الوضوء ، وشككنا في زوالها ، واحتملنا بقاء المتيقّن ، فلا يكون رفع اليد عنه إلاّ نقض اليقين بالشكّ .

إن قلت : لا فرق بين معلوم التأريخ في الفرض ومجهوله ؛ فإنّ الحدث المعلوم في أوّل الزوال مردّد بين ما هو باقٍ من أوّل النهار ، أو حادث في الحال ، والأوّل متيقّن الزوال ، والآخر مشكوك الحدوث .

قلت : نعم ، لكن استصحاب الكلّي لا مانع منه ؛ لأنّ الكلّي في أوّل الزوال معلوم التحقّق ومحتمل البقاء ، من غير ورود إشكال مجهول التأريخ عليه ؛ لأنّ الفرد المعلوم منفصل بالطهور جزماً عن الفرد المحتمل في مجهوله دون معلومه ، وهذا هو المائز بينهما ، فتدبّر لئلاّ يختلط الأمر عليك .

وممّا ذكرنا يعلم حال جميع الصور المتصوّرة في الباب ، وكذا حال عروض

ص: 211

النجاسة والطهور على الثوب فيما كانت الحالة السابقة على عروض الحالتين مساوية للحالة العارضة في الأثر ، أو زائدة عليها ، كما إذا علم بتنجّس ثوبه أوّل النهار بالدم ، وعلم بعروض دم آخر ، وعروض طهارة على الثوب ، أو علم بعروض نجاسة بولية عليه أوّل النهار ، وعلم بعروض نجاسة دموية وطهارة عليه ، مع الجهل بتأريخهما أو بتأريخ أحدهما ؛ فإنّ حكم هذه الصور حكم ما ذكرنا في الحدث والطهارة .

وأمّا إذا كانت الحالة السابقة دونها في الأثر ، فاستصحاب النجاسة المعلومة بالإجمال يجري ، ويعارض استصحاب الطهارة ، سواء جهل تأريخهما ، أو تأريخ أحدهما ، وبعد التعارض يرجع إلى أصل الطهارة ، وعليك بالتأمّل التامّ في أطراف ما ذكرنا ، فإنّه حقيق بذلك .

حول كلام بعض العلماء وما فيه

ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر ذهب إلى عدم جريان أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرّية حتّى فيما إذا علم تأريخ الكرّية ، فحكم فيما إذا كان الماء مسبوقاً بعدم الكرّية والملاقاة فتيقّنهما، بنجاسة الماء مطلقاً ، سواء جهل تأريخهما ، أو علم تأريخ أحدهما ؛ لعدم جريان أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرّية ؛ لأنّ الظاهر من قوله : «إذا بلغ الماء قَدْر كرّ لا ينجّسه شيء»(1) هو أ نّه يعتبر في العاصمية وعدم تأثير الملاقاة سبق الكرّية ولو آناًما ، وكلّ موضوع لا بدّ وأن يكون مقدّماً على الحكم ، فيعتبر في الحكم بعدم التأثير من سبق الكرّية .

ص: 212


1- تقدّم تخريجه في الصفحة 148 .

وأصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرّية لا تثبت سبق الكرّية على الملاقاة . . . إلى أن قال : فظهر أ نّه لا بدّ من الحكم بالنجاسة في المثال مطلقاً .

نعم ، لولا كون التعليق على الأمر الوجودي يقتضي إحرازه لكان ينبغي في المثال الرجوع إلى قاعدة الطهارة عند العلم بتأريخ الكرّية(1) ، انتهى .

وفيه : أنّ موضوع الانفعال هو الماء الذي لم يبلغ كرّاً بحسب الواقع ، فأصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرّية يترتّب عليها عدم الانفعال ؛ فإنّها تنفي الملاقاة إلى زمان الكرّية ، وعدم ملاقاة الماء المفروض للنجس إلى زمان الكرّية يكفي في الحكم بطهارته ، ولا يلزم إحراز سبق كرّيته .

نعم ، لا بدّ في إثبات أحكام سبق الكرّ من إحرازه، ولا نحتاج في الحكم بالطهارة إلى إحرازه ، بل يكفي فيه التعبّد بعدم الملاقاة إلى زمانها ، وما ذكره : من أنّ تعليق حكم على أمر وجودي يقتضي إحرازه ، فهو أيضاً ممّا لا دليل عليه سوى الدعوى .

ص: 213


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 528 - 530 .

التنبيه الثامن: في موارد التمسّك بالعموم ، واستصحاب حكم المخصّص

اشارة

إذا ورد عموم أفرادي يتعقّبه دليل مخرج لبعض أفراده عن حكمه في زمان ؛ بحيث لا يكون للدليل المخرج إطلاق أو عموم بالنسبة إلى غير ذلك الزمان ، فهل يتمسّك باستصحاب حكم الدليل المخرج(1) أو بعموم العامّ أو إطلاقه(2) أو يفصّل بين المقامات(3) ؟ الأقوى هو الأوسط .

ويتّضح المرام بعد التنبيه على اُمور :

الأوّل : أ نّه يتصوّر ورود العامّ على أنحاء :

فتارة : يلاحظ المتكلّم الأزمنة مستقلّة على نحو العامّ الاُصولي مثل : «أكرم العلماء في كلّ يوم» .

ص: 214


1- الفوائد الاُصولية ، بحر العلوم : 116 - 117 .
2- جامع المقاصد 4 : 38 .
3- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 274 - 275 ؛ كفاية الاُصول : 483 - 484 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 532 .

وحينئذٍ : قد يكون الظرف متعلّقاً بالهيئة ؛ أي يجب في كلّ يوم إكرام العلماء ، وقد يكون متعلّقاً بالمادّة ؛ أي الإكرام في كلّ يوم واجب ، وقد يكون متعلّقاً بالموضوع بنحو من التأويل ؛ أي يجب إكرام العلماء الكائنين في كلّ يوم ، وقد يكون متعلّقاً بالنسبة الحكمية ؛ أي ثبوت وجوب إكرام العلماء في كلّ يوم .

وهذه التراكيب وإن كانت متصوّرة لكنّها مجرّد تصوّر ، وإلاّ فالظاهر من القضايا لو خلّيت عن القرائن هو كون الظرف متعلَّقاً للنسبة الحكمية ، فقوله : «أكرم العلماء في يوم الجمعة» كقوله : «جاءني العلماء في يوم الجمعة» الظاهر منه أنّ يوم الجمعة ظرف إكرامهم ومجيئهم ؛ أعني الإكرام والمجيء المنتسبين إليهم بما أ نّهما منتسبان إليهم .

وتارة : يلاحظها بنحو العامّ المجموعي .

وثالثة : يلاحظ الزمان مستمرّاً على نحو تحقّقه الاستمراري، كقوله : «أوفوا بالعقود مستمرّاً أو دائماً» لا بمعنى وجوب الوفاء في كلّ يوم مستقلاًّ ، ولا بنحو العامّ المجموعي ، حتّى لو فرض عدم الوفاء في زمان سقط التكليف بعده .

بل بنحو يكون المطلوب وجوبه مستمرّاً ؛ بحيث لو وفى المكلّف إلى آخر الأبد يكون مطيعاً إطاعة واحدة ، ولو تخلّف في بعض الأوقات تكون البقيّة مطلوبة لا بطلب مستقلّ أو مطلوبية مستقلّة ، بل بالطلب الأوّل الذي جعل الحكم كلازم الماهية للموضوع ، فلو قال المولى : «لاتهن زيداً» فترك العبد إهانته مطلقاً كان مطيعاً له إطاعة واحدة ، ولو أهانه يوماً عصاه ، ولكن تكون إهانته محرّمة عليه بعده أيضاً ، لا بنحو المطلوبية المتكثّرة المستقلّة ، بل بنحو استمرار المطلوبية .

ص: 215

وتأتي فيه وفيما قبله التصوّرات المتقدّمة ؛ أي كون القيد للهيئة أو المادّة أو الموضوع أو النسبة .

ورابعة : يستفاد الاستمرار والدوام بنحو الاستمرار المتقدّم من مقدّمات الحكمة وصون كلام الحكيم عن اللغوية ، كقوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(1) بناءً على استفادة هذا النحو من الاستمرار منه ، كما أشار إليه المحقّق الكركي(2) وتبعه غيره(3) .

الثاني : أنّ العموم الزماني أو الاستمرار الزماني المستفادين من قوله : «في كلّ يوم» أو «مستمرّاً» متفرّع على العموم الأفرادي ؛ كان القيد للحكم أو للنسبة الحكمية ، وكذا إذا كان مستفاداً من مقدّمات الحكمة ، فقوله : «أكرم العلماء في كلّ يوم» يكون كقوله : «أكرم العلماء» ويقول بدليل منفصل : «فليكن وجوب إكرامهم في كلّ يوم» وكذا قوله : «أكرمهم مستمرّاً» بمنزلة قوله : «فليكن وجوب إكرامهم مستمرّاً» وأولى بذلك ما إذا كان الاستمرار مستفاداً من دليل الحكمة .

ومعنى تفرّع ما ذكر على العموم الأفرادي أنّ الحكم المتعلّق بالعموم الأفرادي موضوع للعموم والاستمرار الزمانيين ، وكذا للإطلاق المستفاد من دليل الحكمة .

الثالث : لازم تفرّع ما ذكرنا على العموم الأفرادي هو أنّ التخصيص الوارد

ص: 216


1- المائدة (5) : 1 .
2- جامع المقاصد 4 : 38 .
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 535 .

على العموم الأفرادي رافع لموضوع العموم والاستمرار الزمانيين ، وكذا لموضوع الإطلاق ، فلا يكون مخالفاً لظهورهما ، فقوله : «لا تكرم الفسّاق من العلماء» مخصّص لقوله : «أكرم العلماء» ورافع لموضوع العموم الزماني والاستمرار المستفادين من الدليل اللفظي ، أو مقدّمات الإطلاق ، وليس تخصيصاً لعمومه ، أو تقييداً لإطلاقه ، كما لو ورد: «أكرم العلماء» وكانت طائفة منهم خارجة من العلماء موضوعاً .

وبالجملة : رفع موضوع العموم أو الإطلاق ليس مخالفاً لظهورهما ، وليست أصالة الإطلاق والعموم حافظة لموضوعهما .

وكذا لو ورد تخصيص على العموم الزماني أو تقييد على إطلاق دليل العامّ لا يكون مخالفاً لظهور العامّ ؛ لأنّ مفاد العامّ ليس إلاّ دخول كلّ فرد تحت الحكم ، وأمّا كونه دائماً أو في كلّ زمان أو مستمرّاً بدليل الإطلاق ، فليس شيء منها بمفاد للعقد العمومي الأفرادي .

وإن شئت قلت : إنّ هاهنا عموماً فوقانياً وعموماً تحتانياً ، لكلّ منهما ظهور ، والتخصيص في كلّ منهما غير التخصيص في الآخر ، وكذا حال العموم والإطلاق ، فإنّ التخصيص في العموم غير التقييد في إطلاقه ، فإذا ورد «أكرم العلماء» واقتضت مقدّمات الحكمة وجوب إكرامهم دائماً .

فتارة : يرد «لا تكرم الفسّاق منهم» فيكون مخصّصاً للعموم ، ومفنياً لموضوع الإطلاق ، فيكون مخالفاً لأصالة العموم ، لا أصالة الإطلاق .

وتارة : يرد «لا تكرم الفسّاق منهم يوم الجمعة» فيكون مقيّداً لإطلاقه ، لا مخصّصاً لعمومه ، فلا يكون مخالفاً لأصالة العموم ، بل لأصالة الإطلاق .

ص: 217

لزوم التمسّك بالعموم في جميع الموارد

إذا عرفت ما ذكرنا فنقول : إذا ورد عامّ أفرادي يتضمّن العموم أو الاستمرار الزماني بدلالة لغوية أو بمقدّمات الحكمة ، وورد دليل مخرج لبعض أفراده عن حكم العموم في زمان معيّن ، كقوله : «أكرم العلماء في كلّ يوم» أو «مستمرّاً» وانعقد الإجماع على عدم وجوب إكرام زيد يوم الجمعة ، أو قوله : (أوْفُوا بِالْعُقُودِ)(1) وانعقد الإجماع على عدم وجوب الوفاء عند ظهور الغبن ساعة ، وشكّ بعد يوم الجمعة وبعد الساعة في حكم الفرد المخرج، لا يجوز التمسّك بالاستصحاب مطلقاً ، سواء لوحظ الزمان أفراداً وعلى نحو العامّ الاُصولي ، أو ذكر القيد لبيان استمرار الحكم أو المتعلّق ، أو دلّت مقدّمات الحكمة على ذلك .

أمّا إذا لوحظ الزمان مستقلاًّ فواضح ، لأنّ خروج الفرد في يوم تصرّف في العموم الأفرادي التحتاني ، فأصالة العموم محكّمة بالنسبة إلى التخصيص الزائد .

وأمّا إذا جعل «مستمرّاً» أو «دائماً» أو «أبداً» ظرفاً للحكم ؛ فلأنّ خروج بعض الأفراد في بعض الأيّام ليس تخصيصاً في العموم الأفرادي ، بل تقييداً وتقطيعاً للاستمرار الذي قامت الحجّة عليه ، وتردّد أمره بين الأقلّ والأكثر ، ولا بدّ من الاكتفاء بالأقلّ ، فيكون ظهور الاستمرار في البقيّة حجّة .

وإن شئت زيادة توضيح فاعلم : أ نّه إذا ورد: «أكرم العلماء» ولا يكون له إطلاق بالنسبة إلى الزمان ، وورد دليل منفصل ب «أنّ وجوب إكرام العلماء

ص: 218


1- المائدة (5) : 1 .

مستمرّ» فحينئذٍ قد يدلّ دليل على عدم وجوب إكرام زيد ، فيكون مخصّصاً لقوله : «أكرم العلماء» ولا يكون تصرّفاً في قوله : «وجوب إكرام العلماء مستمرّ» لما عرفت في المقدّمات أنّ إخراج الموضوع عن الموضوعية ليس تصرّفاً في العموم أو الإطلاق .

وقد يدلّ على عدم وجوب إكرام زيد في يوم الجمعة ، فيكون تصرّفاً في قوله : «وجوب إكرامهم مستمرّ» لا في قوله : «أكرم العلماء» ؛ لأنّ المفروض أنّ قوله : «أكرم العلماء» متعرّض للعموم الأفرادي ، لا الاستمرار الزماني ، فتقطيع زمان من وجوب إكرامهم تصرّف فيما يتعرّض للاستمرار الزماني ، فإذا كان ذلك في كلام واحد ودليل متّصل كقوله : «أكرم العلماء مستمرّاً» ينحلّ إلى عموم أفرادي يدلّ عليه الجمع المحلّى باللام ، وإلى استمرار الحكم الذي يدلّ عليه ظهور القيد الذي قام مقام مقدّمات الحكمة في بعض المقامات ، فيكون قوله : «لا تكرم زيداً» تخصيصاً للعموم الأفرادي ، و«لا تكرمه يوم الجمعة» تقطيعاً لاستمرار الحكم ، وكما يكون العموم حجّة في البقيّة لدى العقلاء ، يكون ظهور القيد في استمرار الحكم حجّة فيما عدا مورد التقطيع القطعي لديهم .

وممّا ذكرنا يعلم حال الإطلاق المستفاد من دليل الحكمة ، فلو فرض أنّ قوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) كما يدلّ بالعموم اللغوي على الشمول الأفرادي يدلّ على الاستمرار الزماني بمقدّمات الحكمة أو مناسبة الحكم والموضوع ؛ بمعنى أنّ لزوم الوفاء بكلّ عقدٍ مستمرّ ، لا من قبيل العامّ المجموعي ، بل بحيث تكون المخالفة في بعض الأزمان لا توجب سقوط المطلوبية بالنسبة إلى البقيّة ، ثمّ دلّ دليل على عدم وجوب الوفاء بعقد - كالعقد الربوي - يكون مخصّصاً للعموم

ص: 219

الأفرادي ، ولا يكون مقيّداً للإطلاق ، بل رافعاً لموضوعه .

وأمّا لو دلّ دليل على عدم وجوب الوفاء بعقدٍ في زمان ، كما لو انعقد الإجماع على عدم وجوب الوفاء بالعقد إذا ظهر الغبن إلى ساعة - مثلاً - يكون هذا تقييداً لإطلاقه ، لا تخصيصاً لعمومه ؛ لأنّ التخصيص عبارة عن إخراج ما يشمله العموم إخراجاً حكمياً ، والعموم اللغوي يدلّ على دخول تمام أفراد العقود في وجوب الوفاء من غير تعرّض لحالات الأفراد وأزمانها ، والدليل المخرج لا يدلّ على خروج فرد من العامّ رأساً حتّى يكون تخصيصاً ، بل يدلّ على خروجه في زمان ، وهذا مخالف لظهور الإطلاق في الاستمرار ، فإذا شكّ فيما بعد الساعة في لزوم العقد يرجع إلى الشكّ في زيادة التقييد لا التخصيص ، فالمرجع هو أصالة الإطلاق .

فقول الشيخ الأعظم قدّس سرّه : إنّه لا يلزم من ذلك زيادة تخصيص إذا خرج الفرد في ساعة أو بعد الساعة مستمرّاً (1) ، خلط بين التخصيص والتقييد ؛ لأنّ خروج الفرد في ساعة تقييد لا تخصيص ، وخروجه في الزائد عن الساعة تقييد زائد يدفع بالأصل .

فإن قلت : فرق بين المطلق في سائر المقامات وهاهنا ؛ فإنّ الأوّل يشمل ما تحته من الجزئيات في عرض واحد ، والحكم إنّما تعلّق به بلحاظ الخارج ، فاستقرّ ظهور القضيّة في الحكم على كلّ ما يدخل تحته بدلاًً أو استغراقاً ، فإذا خرج منفصلاً شيء بقي الباقي بنفس الظهور الأوّل المستقرّ ، وفي المقام أنّ

ص: 220


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 274 ؛ المكاسب، ضمن تراث الشيخ الأعظم 18 : 207 .

الزمان في حدّ ذاته أمر واحد مستمرّ ليس جامعاً لأفراد كثيرة ، إلاّ أن يقطّع بالملاحظة ، وتجعل كلّ قطعة ملحوظة في القضيّة ، وأمّا إذا لم يلحظ كذلك ، كما إذا كان الاستمرار بمقدّمات الحكمة ، فلازمه الاستمرار من أوّل وجود الفرد إلى آخره ، فإذا انقطع الاستمرار بخروج فرد يوم الجمعة مثلاً ، فليس لهذا العامّ دلالة على دخول ذلك الفرد يوم السبت ؛ إذ لو كان داخلاً لم يكن هذا الحكم استمراراً للحكم السابق .

قلت : نعم ، هذا ما أفاده شيخنا العلاّمة أعلى اللّه مقامه(1) .

وفيه أوّلاً : أنّ المطلق في سائر المقامات أيضاً لا يفيد الحكم للأفراد ، ولا يكون الحكم بلحاظ الأفراد الخارجية استغراقاً أو بدلاً ، ولم يكن المطلق بعد تمامية مقدّمات الإطلاق كالعامّ مفاداً ، بل ليس مقتضى الإطلاق بعد تمامية المقدّمات إلاّ أنّ ما اُخذ في الموضوع تمام الموضوع للحكم ، كما هو المقرّر في محلّه(2) .

وثانياً : أنّ كون الزمان أمراً مستمرّاً واحداً لا يلازم كون مقتضى الإطلاق وحدة الحكم ؛ بحيث إذا انقطع في زمان انقطع مطلقاً ، فإنّ لازم ذلك أن يكون موضوع الحكم كالعامّ المجموعي ، ولازمه عدم لزوم الإطاعة لو عصاه في زمان ، مع أنّ الواقع في أشباه (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) خلاف ذلك ، بل فرض مثل العموم المجموعي المقتضي لانتفاء الحكم بانتفاء جزء من الزمان خروج عن محطّ البحث ، فحينئذٍ لو خرج جزء من الزمان لا مانع من التمسّك

ص: 221


1- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 571 .
2- مناهج الوصول 2 : 203 و288 .

بالإطلاق بالنسبة إلى سائر الأزمنة .

بل لنا أن نقول : إنّ الزمان وإن كان واحداً مستمرّاً تتقدّم أجزاؤه الفرضية بعضها على بعض ، لكنّ الحكم المستفاد من الإطلاق بالنسبة إلى أجزائه عرضي ، لكن لا بمعنى كون مقتضى الإطلاق شمول المطلق للأجزاء ، بل بمعنى لزوم الوفاء بالعقد مثلاً من غير تقييد بزمان ، فيجب الوفاء عليه بالنسبة إلى الأجزاء الغير الآتية في الحال أيضاً .

فإن قلت : إنّ استمرار الحكم ودوامه فرع وجود الحكم ؛ لأنّ الحكم بمنزلة الموضوع بالنسبة إليه ، فإذا قيل : «الحكم مستمرّ» أو يستفاد ذلك من مقدّمات الحكمة لا يمكن التمسّك بظهور القيد أو أصالة الإطلاق لكشف حال الحكم ؛ فإنّه من قبيل إثبات الموضوع بالحكم وهو محال ، فالعموم الزماني إذا كان مصبّه نفس الحكم يكون دائماً مشروطاً بوجود الحكم ، ولا يمكن أن يدلّ قوله : «الحكم مستمرّ في كلّ زمان» على وجود الحكم مع الشكّ فيه ، وكذا لو كان استمراره مقتضى مقدّمات الحكمة ، فإنّ الإطلاق أيضاً فرع الحكم ، ومع الشكّ فيه لا يمكن أن يرجع إليه لكشف حاله ؛ لأنّه من قبيل إثبات الموضوع بالحكم .

ألا ترى : أ نّه إذا قال : «أكرم العلماء» وشكّ في وجود العالم لا يمكن إثباته بعمومه ؛ لأنّ إثبات الموضوع بالحكم كتحقّقه به محال ، كذلك إذا قال المولى : «الحكم مستمرّ» أو كان ذلك مقتضى مقدّمات الحكمة .

وهذا بخلاف ما إذا كان مصبّ العموم الزماني متعلّق الحكم كقوله : «أكرم

ص: 222

العلماء في كلّ زمان» إذا كان ظرفاً للمتعلّق ، فإنّ التمسّك بالعموم فيه في مورد الشكّ لا مانع منه ؛ لأنّ العموم الزماني فيه تحت دائرة الحكم ، كما أ نّه في الأوّل يكون فوق دائرة الحكم ، وهذا هو المناط لجواز التمسّك ولا جوازه .

قلت : نعم هذا ملخّص ما فصّله بعض أعاظم العصر;(1) .

وفيه : أنّ عدم جواز كشف الموضوع بالحكم وإثباته به إنّما هو فيما إذا تعلّق الحكم بموضوع مفروض الوجود ، كالقضايا الحقيقية ، مثل «أكرم العلماء» الذي كان حاصل مفاده «كلّ ما وجد في الخارج وكان عالماً يجب إكرامه» ، فلا يمكن في مثل تلك القضايا إثبات الموضوع بالحكم .

وأمّا إذا كان المحمول بدلالة لغوية يدلّ على وجود الحكم في جميع الأزمان استقلالاً أو على نحو الاستمرار فيكشف عن حاله ، فلو قال المولى : «إنّ وجوب إكرام العلماء مستمرّ إلى الأبد» فقد يشكّ في أصل تعلّق وجوب الإكرام بالفسّاق مثلاً ؛ أي يشكّ في التخصيص ، فلا يكون قوله : «مستمرّ» رافعاً لهذا الشكّ ، بل الرافع له قوله : «أكرم العلماء» وأمّا إذا شكّ في وجوب إكرامه في يوم كذائي بعد العلم بأصل وجوب الإكرام ؛ أي يشكّ في استمرار الحكم ، فيكون قوله : «حكمي مستمرّ» كاشفاً عن استمراره وتحقّقه في اليوم المشكوك فيه .

والسرّ فيه : أنّ أصل الحكم بالنسبة إلى المحمول ؛ أي قوله : «مستمرّ» اُخذ مفروض الوجود ، كما في القضايا الحقيقية ، وأمّا بالنسبة إلى استمراره فلا يمكن أن يؤخذ كذلك ؛ لأنّه يلزم أن ترجع قضيّة «حكمي مستمرّ» إلى

ص: 223


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 536 - 540 .

قضيّة ضرورية بشرط المحمول ؛ أي حكمي المفروض استمراره مستمرّ ، وهو كما ترى .

وإن شئت قلت : إنّ موضوع قوله : «الحكم مستمرّ» هو طبيعة الحكم بنحو الإهمال ، ويكون المحمول دالاًّ على استمراره وبقائه ، فإذا شكّ في مهملة الحكم الذي هو موضوع للقضيّة فلا يمكن إثباته بالمحمول ؛ لأنّ الحكم بنحو الإهمال اُخذ مفروض الوجود ، وأمّا إذا علم أصل وجود الحكم ، وشكّ في بقائه واستمراره ، فلا يكون ذلك شكّاً في الحكم ، بل في استمراره ، ولا يكون استمرار الحكم موضوعاً لاستمراره بالضرورة ، فما كشف عن حاله هو استمرار الحكم وهو ليس بموضوع ، وما هو موضوع وهو نفس الحكم ليس هو كاشفاً عنه ومثبتاً له .

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ الحقّ هو التمسّك بإطلاق دليل العامّ أو عمومه كلّما شكّ في خروج ما زاد على القدر المتيقّن عن حكم العامّ في الزمان المتأخّر .

تقرير التفصيل بين الخروج من الأوّل والأثناء

نعم ، قد يقال : إنّ مقتضى ما ذكرت - من أنّ العموم والإطلاق الزمانيين سواء كانا مستفادين من مثل قوله : «أكرم العلماء في كلّ زمان» أو «أوفوا بالعقود مستمرّاً» أو من مقدّمات الحكمة متفرّعان على العموم الأفرادي ، وأنّ محطّ التخصيص الأفرادي غير محطّ التخصيص والتقييد الزمانيين - هو

ص: 224

التفصيل بين ما إذا خرج فرد في أوّل الزمان وشكّ في خروجه مطلقاً أو في زمان ، وبين ما إذا خرج في الأثناء مع العلم بدخوله قبل زمان الخروج ، فيتمسّك بالاستصحاب في الأوّل ، وبعموم الدليل أو إطلاقه في الثاني ؛ لأنّ الأمر في الأوّل دائر بين التخصيص الفردي ، وبين التخصيص الزماني أو تقييد الإطلاق ، فيكون من قبيل العلم الإجمالي بورود تخصيص ، إمّا في العامّ الفوقاني فلا يكون مخالفة للعامّ التحتاني ، وإمّا في العامّ التحتاني فلا يكون مخالفة للعامّ الفوقاني ، أو يكون من قبيل العلم الإجمالي بورود تخصيص في العامّ ، مع بقاء الإطلاق على ظاهره ؛ لأنّ الإخراج الموضوعي ليس مخالفة للإطلاق أو تقييداً في الإطلاق مع حفظ ظاهر العموم ؛ لأنّ تقييد إطلاق دليل العامّ ليس تخصيصاً حتّى يخالف أصالة العموم ، فبعد تعارض الأصلين يتمسّك بالاستصحاب .

ويلحق به : ما إذا علم خروجه من الأثناء في الجملة ، ولا يعلم أ نّه خارج مطلقاً أو من الأثناء فقط ، فيدور الأمر بين التخصيص الفردي والزماني ، أو التخصيص والتقييد .

وأمّا الخارج من الأثناء مع العلم بدخوله تحت حكم العامّ قبل زمان القطع بخروجه كخيار التأخير وخيار الغبن - بناءً على كون ظهور الغبن شرطاً شرعياً له - فيتمسّك بالعموم أو الإطلاق للقطع بعدم التخصيص الفردي ، بل الأمر دائر بين قلّة التخصيص وكثرته ، أو قلّة التقييد وكثرته ، فيؤخذ بالقدر المتيقّن ، ويتمسّك في المشكوك فيه بأصالة العموم أو الإطلاق .

ص: 225

وهذا التفصيل تقريباً عكس التفصيل الذي اختاره المحقّق الخراساني(1) وشيخنا العلاّمة في مجلس بحثه .

ويمكن أن يقال : إنّ أصالة العموم جارية في العموم الأفرادي الفوقاني ، ولا تعارضها أصالة العموم في العامّ التحتاني الزماني ، ولا أصالة الإطلاق ؛ لأنّ التعارض فرع كون المتعارضين في رتبة واحدة ، والعموم الأفرادي في رتبة موضوع العموم والإطلاق الزمانيين ، ففي الرتبة المتقدّمة تجري أصالة العموم من غير معارض ، فيرجع التخصيص أو التقييد إلى الرتبة المتأخّرة .

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ العقلاء في إجراء الاُصول لا ينظرون إلى أمثال هذه التقدّمات والتأخّرات الرتبية .

مضافاً إلى إمكان أن يقال : إنّ لزوم كون المتعارضين في رتبة واحدة في التعارض بالعرض في حيّز المنع ؛ فإنّ العلم الإجمالي بوقوع خلاف ظاهر إمّا في العامّ الفوقاني أو في العامّ التحتاني موجب لسقوط الأصلين العقلائيين لدى العقلاء .

ويمكن أن يقال : إنّه بعد ورود قوله : «أكرم العلماء في كلّ يوم» الذي هو الحجّة على مفاده ، إذا ورد دليل على عدم وجوب إكرام زيد ، وكان المتيقّن منه هو عدمه يوم الجمعة مثلاً ، فرفع اليد عن العموم أو الإطلاق في غير يوم الجمعة رفع اليد عن الحجّة من غير حجّة لدى العقلاء ، فالمورد من قبيل دوران

ص: 226


1- كفاية الاُصول : 483 ؛ حاشية المكاسب ، المحقّق الخراساني : 198 .

التخصيص أو التقييد بين الأقلّ والأكثر ، فلا بدّ من الاكتفاء بالأقلّ في رفع اليد عن الحجّة الفعلية ، والعلم الإجمالي المدّعى كالعلم الإجمالي بين الأقلّ والأكثر المنحلّ عند العقلاء ، وبالرجوع إلى الوجدان وبناء العقلاء يظهر صدق ما ادّعيناه .

لكنّه أيضاً محلّ إشكال بل منع ؛ لأنّ مورد الأقلّ والأكثر إنّما هو فيما علم ورود التخصيص على أحد العامّين ، وشكّ في الأقلّ والأكثر في أفراده ، وأمّا مع العلم بورود التخصيص آناً في الفوقاني أو التحتاني فلا ؛ لأنّ أفراد كلٍّ منهما تباين الأفراد الاُخرى ، فلا معنى للأقلّ والأكثر .

والتحقيق : عدم جريان أصالة العموم والإطلاق في التحتاني ؛ لما حقّقناه في العامّ والخاصّ من أنّ مورد جريانهما فيما إذا شكّ في المراد ، لا فيما علم المراد ودار الأمر بين التخصيص والتخصّص(1) .

مضافاً إلى أنّ هذه الاُصول إنّما جرت في مورد يترتّب عليها أثر عملي لا مطلقاً ، فحينئذٍ نقول : إنّ جريانهما في التحتاني غير ذي أثر ؛ للعلم بخروج اليوم الأوّل مثلاً ، فلا يعقل جريانهما لإدخال ما علم خروجه .

ولو اُجري الأصل لإثبات لازمه وهو ورود التخصيص على الفوقاني ، فمع بطلانه في نفسه - لأنّ إثبات اللازم فرع إثبات الملزوم الممتنع في المقام - يلزم من إثبات اللازم عدم الملزوم ؛ لأنّه موضوعه ، ومع رفعه يرفع الحكم ، فيلزم من وجوده عدم الوجود ، وأيضاً إنّا نعلم بعدم جريان الأصل

ص: 227


1- مناهج الوصول 2 : 238 .

في التحتاني إمّا لورود التخصيص به ، أو بالفوقاني الرافع لموضوعه ، فتدبّر جيّداً .

فتحصّل من جميع ما ذكرناه : أنّ الحقّ في جميع الموارد ممّا هو محطّ البحث ، هو الرجوع لدليل العامّ أو المطلق ، ولو فرض عدم جريان أصالة العموم والإطلاق في المقام فالتمسّك باستصحاب حكم المخصّص أو المقيّد فرع وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها ، وتحقّق سائر شرائط جريانه ، ولا تأثير لدليل العامّ في جريانه ولا جريانه ، فما ظهر من الشيخ الأعظم ممّا هو خلاف ذلك(1) وتبعه بعض أعاظم العصر(2) ، منظور فيه .

ص: 228


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 274 - 275 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 543 .

التنبيه التاسع: في المراد من الشكّ في الأدلّة

المراد بالشكّ المقابل لليقين في أدلّة الاستصحاب ، ليس الاحتمال المساوي بالنسبة إلى البقاء واللا بقاء ، بل هو خلاف اليقين .

أمّا أوّلاً : فلأ نّه موافق للعرف العامّ واللغة(1) ، وأمّا كونه الاحتمال المساوي مقابل الظنّ وغيره فهو اصطلاح خاصّ بين المنطقيين(2) ، وتبعهم غيرهم من أرباب الاصطلاح .

وأمّا ثانياً : فلأنّ ذلك مقتضى مقابلته باليقين في الأخبار ومناسبة الحكم والموضوع ، وقد عرفت سابقاً (3) : أنّ المراد باليقين فيها - ببعض المناسبات المغروسة في أذهان العرف - هو الحجّة ، فمقابله اللا حجّة ، فكأ نّه قال : «لا ينبغي رفع اليد عن الحجّة بغير الحجّة» ، ولقد ذكرنا في باب جواز استصحاب مؤدّى الأمارات بعض المؤيّدات والشواهد لذلك ، فراجع(4) .

ص: 229


1- الصحاح 4 : 1594 ؛ لسان العرب 7 : 174 ؛ المصباح المنير : 320 .
2- الإشارات والتنبيهات ، شرح المحقّق الطوسي 1 : 12 .
3- تقدّم في الصفحة 88 .
4- تقدّم في الصفحة 88 .

هذا بناءً على ما ذكرنا (1) : من أنّ المأخوذ في موضوع الاستصحاب هو اليقين والشكّ . وأمّا بناءً على ما أفاده الشيخ الأعظم قدّس سرّه : من أنّ الموضوع هو الكون السابق والشكّ اللاحق(2) ، وما أفاده المحقّق الخراساني; : من أنّ مفاد الأدلّة جعل الملازمة بين الكون السابق والكون اللاحق(3) فلا مجال للاستدلال للمدّعى بما ذكرناه ؛ لعدم المقابلة بين الشكّ واليقين ، تأمّل .

وكيف كان : فلا إشكال في أصل المسألة ، وتدلّ عليه صحيحتا زرارة(4) كما أفاد الشيخ(5) .

وأمّا الاستدلال بالإجماع التقديري(6) فلا يرجع إلى محصّل ؛ لأنّ المناط في حجّية الإجماع هو الكشف عن دليل معتبر ، ولا معنى للكشف التقديري أو الدليل المعتبر التقديري .

ولقد تعرّضنا لعاشر التنبيهات في مبحث البراءة وهو استصحاب صحّة العبادة عند الشكّ في طروّ مفسد(7) ، وكذا حاله فيما إذا تعذّر بعض أجزاء المركّب(8) ، فلا داعي للتكرار .

ص: 230


1- تقدّم في الصفحة 86 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 24 .
3- كفاية الاُصول : 460 - 461 .
4- تقدّم تخريجهما في الصفحة 23 و45 .
5- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 286 .
6- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 285 .
7- أنوار الهداية 2 : 355 .
8- أنوار الهداية 2: 362 - 367.

خاتمة

اشارة

يعتبر في جريان الاستصحاب اُمور :

ص: 231

ص: 232

الأمر الأوّل: وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها

اشارة

وتوضيحه : أ نّه لا إشكال في أنّ اليقين والشكّ وكذا الظنّ لا تتعلّق بالاُمور التصوّرية ، بل لا يمكن أن تتعلّق بها ، فلا معنى لتعلّق اليقين بزيد والقيام والنسبة بمعانيها التصوّرية ، بل المتعلّق لها ليس إلاّ مفاد القضايا ، فمعنى اليقين بالطهارة ليس إلاّ اليقين بأنّ الطهارة موجودة على نعت الكون المحمولي ، أو أ نّي متطهّر على نعت الكون الرابط ، كما أنّ معنى اليقين بوجود زيد أو بزيد اليقين بأنّ زيداً موجود .

وبالجملة : لا يتعلّق اليقين والشكّ إلاّ بمفاد القضايا والاُمور التصديقية .

فحينئذٍ : لا بدّ في الاستصحاب من قضيّة متعلّقة لليقين والشكّ ، ولا بدّ وأن يتعلّق الشكّ بعين ما تعلّق به اليقين ، فلا بدّ من وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها موضوعاً ومحمولاً ، فإذا تعلّق اليقين بوجود زيد تكون القضيّة المتيقّنة «زيد موجود» فإذا شكّ في أنّ زيداً موجود في الزمان اللاحق تستصحب نفس القضيّة المتيقّنة ؛ لوحدة الموضوع والمحمول ، وإذا تعلّق اليقين بقيامه يمكن أن يكون الموضوع للأثر هو كون زيد قائماً ، فتكون القضيّة المتيقّنة «كونه قائماً» بنحو

ص: 233

الهلية المركّبة ، فإذا شكّ فيها تستصحب ؛ لوحدة الموضوع والمحمول ، ويمكن أن يكون الموضوع للأثر كون قيامه موجوداً على نعت الكون المحمولي ، فتكون القضيّة المتيقّنة «أنّ قيامه كان موجوداً» فإذا شكّ فيها تستصحب .

الإشكال على الشيخ الأعظم في مسألة بقاء الموضوع

فتلخّص ممّا ذكرنا : أنّ المستصحب هو نفس القضيّة لا موضوعها أو محمولها ، واتّضح النظر في ظاهر كلام الشيخ الأعظم قدّس سرّه :

أمّا أوّلاً : فلأنّ ما أفاده من أنّ المستصحب هو عارض الموضوع ، والموضوع معروضه ، ولا بدّ من إحراز بقائه(1) ، فيه مسامحة ظاهرة ؛ لأنّ المستصحب هو متعلّق اليقين ، وليس ذلك إلاّ مفاد القضيّة ، لا محمولها الذي هو عارض ، فإذا تعلّق اليقين ب «أنّ زيداً قائم» ليس المستصحب قيام زيد ؛ لأنّ قيام زيد في تلك القضيّة ليس متعلّق اليقين ، فإنّ قيام زيد الذي هو عارض له أمر تصوّري غير متعلّق لليقين ، فما هو المتعلّق لليقين هو قضيّة «أنّ زيداً قائم» على نحو الكون الرابط والهلية المركّبة ، ففي مثل صحّة الائتمام وشهادة الطلاق يكون موضوع الأثر كون الإمام أو الشاهد عادلاً على نحو الوجود الرابط والهلية المركّبة لا عدالتهما ، فقوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ»(2) معناه لا تنقض اليقين المتعلّق بقضيّة بالشكّ فيها ، فالمستصحب نفس القضيّة لا المحمول العارض للموضوع .

وأمّا ثانياً : فلأنّ إحراز بقاء الموضوع في الاستصحاب ليس لازماً ، بل ليس

ص: 234


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 289 .
2- تقدّم في الصفحة 55 .

ممكناً في بعض القضايا ؛ فإنّ معنى إحراز بقاء الشيء أنّ العلم تعلّق بأنّ هذا الشيء باقٍ ؛ لما ذكرنا من أنّ العلم إنّما يتعلّق بمفاد القضيّة لا بالمعاني التصوّرية ، ففي مثل قولنا : «زيد موجود» أو «وجود زيد محقّق سابقاً» إذا اُريد استصحابه في زمان الشكّ في وجوده لا يمكن إحراز بقاء موضوعه في زمان الشكّ ؛ لأنّ معناه أنّ زيداً باقٍ في حال الشكّ يقيناً ، وهو كما ترى .

ولا يمكن أن يقال : إنّ المحرز هو بقاؤه في التقرّر الذهني(1) ؛ لأنّ الموضوع ليس زيداً المقرّر في الذهن ؛ لأنّه لا يمكن أن يوجد في الخارج ، فالموضوع في مثل تلك القضايا هو نفس زيد عارياً عن لحاظ شيء معه ، وغير متقيّد بالتقرّر الخارجي أو الذهني ، وهو لا يتّصف بالبقاء والمحرزية إلاّ بتبع الوجود الذهني أو الخارجي .

فالإنصاف : أنّ ما أفاده; في المستصحب والموضوع وبقائه تبعيد للمسافة ، وإخلال بما هو شرط في الاستصحاب ؛ إذ ليس شرطه - على ما ذكرنا من حقيقة المستصحب - إحراز بقاء الموضوع ، ولا نحتاج إليه فيه ، بل الشرط وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها ، فلا فرق فيه بين بسائط القضايا ومركّباتها ، فلا ملزم لاشتراطه بشرط غير لازم ، بل مخلّ حتّى نقع في حيص بيص في مثل القضايا البسيطة .

وممّا ذكرنا يتّضح الدليل على الشرط المتقدّم ؛ أي وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها ؛ لأنّ صدق نقض اليقين بالشكّ يتوقّف عليها .

ص: 235


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 290 .

تمسّك الشيخ الأعظم بالدليل العقلي لمدّعاه وما فيه

وأمّا ما أفاده الشيخ : من الاستدلال على ما ادّعاه بالدليل العقلي ؛ وهو أ نّه مع عدم العلم بتحقّق الموضوع لاحقاً إذا اُريد إبقاء المستصحب العارض له المتقوّم به ، فإمّا أن يبقى من غير محلّ وموضوع ، وهو محال ، وإمّا أن ينتقل إلى موضوع آخر وهو أيضاً محال ؛ لاستحالة انتقال العرض ، وإمّا أن يحدث مثله في موضوع آخر ، وهذا ليس إبقاءً ، فيخرج عن الاستصحاب(1) .

ففيه ما عرفت : من أنّ المستصحب ليس العرض القائم بالموضوع ، بل هو القضيّة المتيقّنة ، فإذا كان الأثر مترتّباً على القضيّة التي مفادها الهلية المركّبة مثل «كون زيد عادلاً» ليس المتيقّن المترتّب عليه الأثر عدالة زيد بنحو الهلية البسيطة والوجود المحمولي ، وإن كانت عدالة زيد بنحو الهلية البسيطة أيضاً متيقّنة ومشكوكاً فيها، لكن استصحابها لا يثبت كون زيد عادلاً بنحو كان الناقصة إلاّ بالأصل المثبت ، فإذا كان الأثر مترتّباً على عدالة زيد بنحو الكون الرابط تكون القضيّة المستصحبة المترتّب عليها الأثر «أنّ زيداً عادل» لا «عدالة زيد موجودة» واستصحاب القضيّة الثانية لإثبات «أنّ زيداً عادل» من الأصل المثبت.

فلو فرض جواز قيام العرض بذاته ، وجواز انتقال العرض ، وقامت العدالة في زمان الشكّ بذاتها ، أو انتقلت إلى موضوع آخر لا يوجب ذلك جواز ترتيب أثر عدالة زيد ؛ أي «أنّ زيداً عادل» بنحو الكون الرابط ؛ ضرورة أنّ الأثر

ص: 236


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 290 .

المترتّب على كون زيد عادلاً لا يترتّب على العدالة القائمة بالذات ، أو القائمة بوجود عمرو .

نعم ، لو فرض جواز قيام العرض بلا موضوع ، وجواز انتقال العرض ، وكانت نفس العدالة بوجودها المحمولي موضوعاً للأثر ، يكون منشأ الشكّ في بقائها - زائداً على الشكّ في زوالها بالشكّ في سلب الموضوع أو المحمول - الشكّ في انتقالها أو بقائها بذاتها مع القطع بعدم موضوعها ، وهذا أمر آخر .

وبالجملة : ما استدلّ به الشيخ من الدليل العقلي - مضافاً إلى عدم وقعه في المقام الذي كان نظر العرف متّبعاً ، ومحطّ التعبّد الشرعي الذي يرجع إلى لزوم ترتيب الأثر - غير تامّ في نفسه .

والظاهر أنّ منشأ هذا الخلط إنّما هو الخلط في المستصحب ، والذهاب إلى أنّ المستصحب نفس العرض القائم بالموضوع ، وموضوعه هو معروضه ، مع أنّ المستصحب على ما عرفت هو نفس القضيّة من غير فرق بين الهليات البسيطة والمركّبة .

وبالتدبّر فيما ذكرنا : يتّضح المقام منقّحاً ، وينحلّ الإشكال من أساسه في الهليات البسيطة ، ويتّضح لزوم وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها من غير احتياج إلى التشبّث بالدليل العقلي ، حتّى يرد عليه ما أورده المحقّق الخراساني; : من أنّ الاستصحاب عبارة عن وجوب ترتيب آثار العرض لا وجود العرض بلا موضوع ، والمحال هو الثاني لا الأوّل(1) .

ص: 237


1- درر الفوائد ، المحقّق الخراسانى : 382 ؛ كفاية الاُصول : 486 .

وهذا الجواب وإن كان منظوراً فيه ؛ لأجل ابتنائه على أنّ المستصحب هو العرض ، لكنّه متينٌ في ذاته ، فلو فرض أنّ الأثر كان لنفس العدالة أو البياض بوجودهما المحمولي ، وكان وجودهما متيقّناً ؛ لأجل تحقّقهما في موضوعهما ، وشكّ في الزمان اللاحق في بقائهما ؛ لأجل الشكّ في بقاء موضوعهما ، يجري الاستصحاب ، ويترتّب عليهما آثار بقائهما في زمان الشكّ ، وموضوع العدالة والبياض تكويناً غير موضوع القضيّة المستصحبة ، فإنّ موضوع الثانية نفس العدالة والبياض ، كما هو ظاهر بعد التدبّر فيما أسلفناه ، بل للشارع أن يحكم بوجود العرض وعدم المعروض في عالم التشريع والتعبّد ؛ لأنّ معناه إيجاب ترتيب آثار وجود هذا وعدم ذاك وهو بلا محذور .

توجيه شيخنا العلاّمة كلام الشيخ وما يرد عليه

هذا ، ولكن تصدّى شيخنا العلاّمة أعلى اللّه مقامه لدفع الإشكال عن الشيخ الأعظم فقال ما محصّله :

إنّ القضايا الصادرة من المتكلّم إنشاءً كانت أو إخباراً مشتملة على نسب ربطية متقوّمة بالموضوعات الخاصّة ، فقولنا : «أكرم زيداً» مشتمل على إرادة إيقاعية مرتبطة بإكرام زيد ، وكذا «زيد قائم» مشتمل على نسبة تصديقية قائمة بالموضوع والمحمول الخاصّ ، وحال هذه النسب في الذهن حال الأعراض الخارجية في الاحتياج إلى المحلّ ، وامتناع الانتقال .

فلو فرض أنّ المتيقّن هو وجوب الصلاة ، فالجاعل للحكم في الزمان الثاني إمّا أن يجعل الوجوب للصلاة ، وهو المطلوب من لزوم اتّحاد الموضوع ، وإمّا

ص: 238

أن ينشئ هذه الإرادة الربطية من غير موضوع وهو محال ، وإمّا أن ينشئها لغير الصلاة وهو محال ؛ لامتناع انتقالها ، وإمّا أن ينشئ إرادة جديدة ، وهذا ممكن لكن ليس إبقاء لما سبق .

وكذا الحال في الشبهة الموضوعية ، فإنّ المتيقّن إذا كان خمرية مائع فإمّا أن ينشئ النسبة التصديقية بلا محلّ ، أو في محلّ غير المائع وهما محالان ، أو ينشئ إرادة جديدة فليس بإبقاء ، أو ينشئ في نفس المائع وهو المطلوب(1) ، انتهى .

وفيه : - مضافاً إلى كونه مخالفاً لظاهر كلام الشيخ أو صريحه - أنّ الاستصحاب عبارة عن حكم ظاهري مجعول بقوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» لترتيب آثار المتيقّن في زمان الشكّ ، فقد يوافق الواقع فيكون منجّزاً له ، وقد يتخلّف عنه ، فإذا وافقه فلا تكون في البين إلاّ إرادة حتمية متعلّقة بالصلاة ، وليس في زمان الشكّ إرادة اُخرى متعلّقة بالصلاة ، نعم ، تكون هاهنا إرادة اُخرى متعلّقة بعنوان عدم نقض اليقين بالشكّ .

وإذا تخلّف الاستصحاب عن الواقع فليست إرادة متعلّقة بالصلاة بحسب الواقع ، فلا مجال لهذه التشقيقات .

وإن شئت قلت : إنّ الصلاة التي علم وجوبها سابقاً ، وشكّ في بقائه إن كانت واجبة بحسب الواقع في زمان الشكّ فلا يمكن أن تتعلّق بها إرادة اُخرى غير الإرادة المتعلّقة بها ، وإن لم تكن واجبة فإمّا أن تنتقل الإرادة المتعلّقة بها في زمان اليقين إليها في زمان الشكّ فهو محال ، وإمّا أن يحدث فيها إرادة اُخرى

ص: 239


1- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 577 - 578 .

فهو ليس بإبقاء ، وإمّا أن تبقى الإرادة بلا موضوع فهو مع كونه محالاً ليس بإبقاء أيضاً .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الإرادة الواقعية المتعلّقة بالموضوعات الواقعية لا تتخلّف عنها ، والاستصحاب لا يوجب بقاء تلك الإرادات ؛ فإنّها إن كانت باقية لا يوجب الاستصحاب إلاّ تنجيزها في زمان الشكّ ، كما كانت منجّزة في زمان اليقين ؛ لأجل تعلّق اليقين بها ، وإلاّ فلا يمكن بقاؤها .

وبعبارة اُخرى : إنّ الجاعل في الزمان الثاني لا يجعل الوجوب للصلاة ، فإنّ الصلاة إمّا واجبة في زمان الشكّ بحسب الواقع ، فلا معنى لجعله ثانياً ، فيكون الاستصحاب كسائر المنجّزات منجّزاً له ؛ بمعنى أنّ المكلّف إذا تركها مع الاستصحاب تصحّ عقوبته على ترك الوجوب الواقعي ، وإن لم تكن واجبة فلا تصير واجبة بالاستصحاب ، ولو فرض صيرورتها واجبة بالاستصحاب ليس الوجوب الاستصحابي إبقاء للوجوب المتعلّق بها في الزمن السابق بالضرورة .

في أنّ الاستصحاب لا يجدي في إحراز موضوع القضيّة المستصحبة

ثمَّ إ نّه بعد ما علم لزوم اتّحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها موضوعاً ومحمولاً فلا بدّ من إحرازه وجداناً ، كما في الهليات البسيطة ، فإذا كان زيد مسبوقاً بالوجود أو العدم فشكّ فيه يستصحب وجوده أو عدمه؛ لإحراز الاتّحاد وجداناً ، وكالهليات المركّبة التي كانت موضوعاتها عرفاً نفس الماهية ويكون الوجود أو الحياة مثلاً فيها من الوسائط التعليلية لعروض العوارض عليها مثل «زيد متنفّس» أو «متحرّك» ، أو من قبيل القضايا الحينية ، كقولنا : «زيد عادل» أو

ص: 240

«عالم» حيث تكون العادلية والعالمية من أوصاف زيد عرفاً ، ويكون الموضوع للقضيّة نفس زيد في حال الحياة والوجود ، فإذا علمنا أنّ زيداً كان عالماً أو عادلاً أو قائماً ، وشككنا في بقائها يجري الاستصحاب ؛ لوحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها .

وتوهّم أنّ الموضوع «زيد الموجود» أو «زيد الحيّ»، فلا يكون محرزاً، مردود بأنّ الموضوع لدى العرف في مثل تلك القضايا لا يكون إلاّ ماهية زيد والحياة والوجود من الجهات التعليلية ، أو اُخذا على نحو القضيّة الحينية لدى العرف .

نعم ، لو فرض في الهليات المركّبة أخذ بعض الأوصاف في موضوعها قيداً ، وتكون القضيّة وصفية مأخوذة فيها الأوصاف على نحو العنوانية والقيدية كأن يقال : «إذا كان زيد الحيّ بما أ نّه حيّ عادلاً يجب إكرامه» أو «إذا كان زيد العادل بما أ نّه عادل أعلم يجوز أو يجب تقليده» .

فحينئذٍ : تارة : تكون تلك الأوصاف المأخوذة في الموضوع محرزة بالوجدان فلا إشكال في جريان الاستصحاب ، فإذا اُحرزت حياة زيد وجداناً ، وشكّ في كونه عادلاً - مع اليقين بعدالته السابقة - لا إشكال في جريانه ، بأن يقال : «كان زيد الحيّ عادلاً ، وشككت في بقاء عدالته» لاتّحاد القضيّتين .

وتارة : تكون تلك الأوصاف مشكوكاً فيها ، كما لو شككنا في المثال في حياة زيد وعدالته ، ففي هذه الصورة هل يمكن إحراز موضوع القضيّة الوصفية بالاستصحاب أو لا ؟ فموضوع البحث ومحلّ النقض والإبرام ما إذا كانت قضيّتان متيقّنتان يكون محمول إحداهما موضوعاً للاُخرى ، فتستصحب القضيّة الاُولى لإحراز موضوع

ص: 241

القضيّة الاُخرى لتستصحب القضيّة الثانية .

وبعبارة اُخرى : محلّ الكلام فيما كانت وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها غير محرزة ، وأردنا إحرازها باستصحاب قضيّة اُخرى يكون محمولها موضوعاً لتلك القضيّة ، كما إذا ورد: «أنّ زيداً العالم بما أ نّه عالم إذا كان عادلاً يجب إكرامه» فشككنا في علمه وفي عدالته ، فأردنا إحراز علمه بالاستصحاب لإحراز موضوع القضيّة الثانية ؛ أي كونه عادلاً .

فنقول : تارة يكون الشكّ في القضيّة الثانية مسبّباً عن الشكّ في الاُولى ، وتارة لا يكون كذلك ، وعلى الأوّل تارة يكون التسبّب شرعياً ، وتارة يكون عقلياً ، ففي جميع الفروض لا يمكن إحراز موضوع القضيّة المستصحبة بإجراء استصحاب القضيّة الاُولى إذا فرض أنّ الوصف اُخذ في موضوع القضيّة الثانية مفروض الوجود ، كما هو محلّ الكلام ؛ لأنّ الاستصحاب لا يحرز الموضوع وجداناً ، ولا تكون وحدة القضيّتين من الآثار الشرعية حتّى تترتّب عليه ، فاستصحاب كون زيد حيّاً لا تترتّب عليه إلاّ الآثار الشرعية المترتّبة على كونه حيّاً ، كنفقة زوجته ، وأمّا صيرورة الشكّ في عدالة زيد شكّاً في أنّ زيداً الحيّ عادل حتّى تتّحد القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها ، فليست أثراً شرعياً .

وكذا لو شككنا في تغيّر الماء ، فلا يحرز استصحاب بقاء التغيّر موضوع استصحاب نجاسة المتغيّر بما أ نّه متغيّر ، ولو فرض أنّ المتغيّر بما أ نّه متغيّر موضوع للنجاسة ، ويكون التسبّب شرعياً ؛ لأنّ إحراز وحدة القضيّتين ليس من الآثار الشرعية .

نعم ، باستصحاب التغيّر يترتّب على الماء أثره الشرعي ؛ أي النجاسة ، وهو

ص: 242

غير استصحاب نجاسة المتغيّر الذي كلامنا فيه .

فتحصّل ممّا ذكر : أنّ إحراز وحدة القضيّتين ممّا لا يمكن بالاستصحاب مطلقاً ولو في الآثار الشرعية والتسبّبات التعبّدية .

الخلط الواقع في كلام بعض الأعاظم

وإذ قد عرفت محلّ الكلام في المقام يتَّضح لك الخلط الواقع في كلام بعض أعاظم العصر; ؛ حيث تفصّى عن الإشكال بأنّ الموضوع لجواز التقليد مركّب من الحياة والعدالة ، وهما عرضان لمحلّ واحد ، فيجوز إحرازهما بالاستصحابين ، كما يجوز إحراز أحد جزئي الموضوع المركّب بالاستصحاب ، والآخر بالوجدان ، فإذا كان زيد العالم الحيّ موضوعاً لجواز التقليد ، وشككنا في الوصفين فنستصحب كلا الوصفين للموضوع الذي هو زيد ، ونرتّب الأثر على الموضوع المحرز كلا جزءيه بالأصل(1) ، انتهى .

وهذا كما ترى خروج عن محلّ البحث ؛ لأنّ الكلام ليس في أنّ الأوصاف المتعدّدة لموضوع واحد إذا كانت موضوعة لحكم شرعي هل يمكن إثباتها بالأصل أم لا ؟ بل الكلام في أ نّه هل يمكن إثبات موضوع القضيّة المستصحبة ووحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها بالأصل أم لا ؟ لأنّ الشيخ الأعظم بعد ما قال : إنّ المعتبر في الاستصحاب هو العلم ببقاء الموضوع ولا يكفي احتمال البقاء(2) ، أشكل عليه إحرازه بالاستصحاب إذا كان محتمل البقاء ، ففصّل في

ص: 243


1- اُنظر فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 569 - 570 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 291 .

الجواب بما فصّل(1) ، فموضوع البحث ما إذا كان عنوان موضوعاً للقضيّة المستصحبة ، وشكّ فيه ، واُريد إثباته بالاستصحاب .

فما أفاده المحقّق المعاصر خارج عن موضوع البحث ، كما أنّ كلام الشيخ أيضاً لا يخلو من خلط ، فراجع وتدبّر .

هل يؤخذ الموضوع من العرف أو لا ؟

ثمّ بعد ما علم لزوم وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها ، فهل الموضوع فيها يؤخذ من العقل ، أو من الدليل ، أو من العرف ؟ وبعبارة اُخرى : أنّ الميزان في وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها أن يكون موضوعهما واحداً بحكم العقل وتشخيصه ، أو بحكم العرف وتشخيصه ، أو أنّ الموضوع في القضيّة المشكوك فيها لا بدّ وأن يكون هو الذي اُخذ في الدليل الدالّ على الحكم في القضيّة المتيقّنة ؟ والفرق بين الأخذ من العقل وغيره واضح ؛ لأنّ العقل قلّما يتّفق أو لا يتّفق أن لا يشكّ في بقاء الموضوع في استصحاب الأحكام ، حتّى في باب النسخ ؛ لأنّ الشكّ في الحكم لا يكون إلاّ من جهة الشكّ في تغيير خصوصية من خصوصيات الموضوع ، وجميع الجهات التعليلية ترجع إلى الجهات التقييدية لدى العقل ، وتكون دخيلة في موضوعية الموضوع ، فإذا ورد حكم على موضوع لا يكون تعلّقه عليه جزافاً بحكم العقل ، فلا بدّ من خصوصية في الموضوع لأجلها يكون متعلّقاً للحكم ، ومع بقاء تلك الخصوصية الموجبة

ص: 244


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26: 291.

أو الدخيلة في المتعلّق مع سائر الخصوصيات لا يمكن رفع الحكم عن الموضوع ، فإذا علم تعلّق حكم على موضوع وشكّ في نسخه ، فلا يمكن أن يشكّ فيه مع العلم ببقاء جميع خصوصيات الموضوع الدخيلة في تعلّق الحكم عليه ؛ من القيود الزمانية والمكانية وغيرها ؛ لأنّ ذلك يرجع إلى الجزاف المستحيل .

وكثيراً ما يقع الإشكال في الاستصحابات الموضوعية أيضاً ، كاستصحاب الكرّية .

وأمّا الفرق بين الأخذ من العرف أو موضوع الدليل ، فهو أنّ الحكم في الدليل قد يثبت لعنوان أو موضوع متقيّد بقيد ؛ بحيث يكون الدليل قاصراً عن إثبات الحكم لغير العنوان أو غير مورد القيد ، فإذا ارتفع العنوان أو القيد يرتفع موضوع الدليل ، كما إذا قال : «التراب أحد الطهورين»(1) و«عصير العنب إذا غلى يحرم»(2) فانطبق الحكم على الموضوع الخارجي ، فيشار إلى تراب خارجي : أ نّه أحد الطهورين ، وإلى رطل من العنب : أنّ عصيره إذا غلى يحرم ، فإذا صار التراب الخارجي آجراً أو خزفاً ، والعنب زبيباً ، وشككنا في طهورية الأوّل وحرمة عصير الثاني إذا غلى ، فلا إشكال في قصور الأدلّة الواقعية عن شمول غير العناوين المأخوذة في موضوعها ؛ لتغيّر موضوعها ، فلا يمكن التمسّك بدليل طهورية التراب ، وحرمة مغليّ عصير العنب لإثبات الحكم لهما .

ص: 245


1- راجع وسائل الشيعة 3 : 381 ، كتاب الطهارة ، أبواب التيمّم ، الباب 21 ، الحديث 1 .
2- راجع وسائل الشيعة 25 : 287 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأشربة المحرّمة ، الباب 3 .

ولو بنينا على أخذ موضوع القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها من الدليل لا يجري الاستصحاب أيضاً ؛ لتغيّر الموضوع ، وعدم اتّحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها .

وأمّا لو كان الاتّحاد بنظر العرف ، فجريانه ممّا لا مانع منه ؛ لأنّ هذا الآجر والخزف الخارجيين كانا معلومي الحكم قبل طبخهما ، وبواسطة طبخهما لم يتغيّرا إلاّ تغيّراً عَرَضياً ، وكذا العنب الخارجي إذا يبس وصار زبيباً يكون عين الموضوع المتيقّن ، وليست اليبوسة مغيّرة له إلاّ في حاله وعَرَضه .

وهذه التغيّرات العَرَضية لا تنافي وحدة الموضوع الخارجي ، وإن لم تصدق معها على الموضوع العناوين الكلّية ، فالتراب غير الآجر بحسب العنوان الكلّي المأخوذ في الدليل ، والعنب غير الزبيب كذلك ، لكنّ التراب والعنب الخارجيين إذا طبخا ويبسا لا يتغيّران إلاّ في الحالات الغير المضرّة ببقاء موضوع القضيّة المتيقّنة في زمان الشكّ .

فإذا قال المولى : «أكرم العلماء والشعراء» واحتملنا كون العنوانين واسطة في الثبوت ، ومن كان عالماً وشاعراً في زمان يجب إكرامه مطلقاً ، فلا إشكال في أنّ الدليل قاصر عن إيجاب الإكرام إذا صار العالم جاهلاً ، والشاعر غير شاعر ، كما أ نّه لا إشكال في أنّ موضوع الدليل غير باقٍ ، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيهما إذا اُخذ موضوع القضيّة المستصحبة من الدليل .

وأمّا لدى العرف فيكون زيد وعمرو واجبي الإكرام ؛ لكون الأوّل مصداق العالم ؛ والثاني مصداق الشاعر ، وعنوان «العالم» و«الشاعر» وإن كانا مختلفي المصاديق مع العنوان المقابل لهما ، ولكنّهما من الحالات العارضة للأفراد

ص: 246

الخارجية والموضوعات المتحقّقة ، فإذا زال عنوان العالمية من زيد ، والشاعرية من عمرو ، وشكّ في إكرامهما ؛ للشكّ في أنّ العنوانين من الوسائط الثبوتية أو العروضية يجري الاستصحاب فيهما ؛ لوحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها ، لأ نّك كنت على يقين من إكرام زيد وعمرو ؛ لكون الأوّل مصداق العالم ، والثاني مصداق الشاعر ، ومع زوال العنوانين نشكّ في بقاء وجوب إكرامهما، «ولا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ»(1) ، بخلاف ما لو اُخذ موضوع القضيّة من الدليل ؛ لعدم صدق عنوان «العالم» و«الشاعر» على غيرهما .

وقد اتّضح ممّا ذكرنا : أنّ كلمات الشيخ الأعظم قدّس سرّه (2) ومن بعده من المحقّقين(3) لا تخلو من خلط وخلل ، حتّى كلمات شيخنا العلاّمة; ، مع أنّ ما ذكرناه من إفادات مجلس بحثه .

كلام المحقّق الخراساني وما يرد عليه

فما أفاده المحقّق الخراساني; في المقام الأوّل : من أنّ موضوع الدليل قد يكون بحسب المتفاهم العرفي عنواناً ، ولكنّ العرف يتخيّلون - بحسب ارتكازهم ومناسبات الحكم والموضوع - أنّ الموضوع أعمّ من ذلك ، لكن لا بحيث يصير ذلك الارتكاز وتلك المناسبة موجبين لصرف الدليل عمّا هو

ص: 247


1- تقدّم في الصفحة 45 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 294 .
3- كفاية الاُصول : 487 - 488 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 571 - 586 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 579 - 580 .

ظاهره المفهوم عرفاً ، كما إذا دلّ الدليل على أنّ العنب إذا غلى يحرم ، وفهم العرف منه أنّ الموضوع هو العنب بحسب الدليل ، لكن يتخيّل بحسب ارتكازه تخيّلاً غير صارف للدليل أنّ الموضوع أعمّ من الزبيب ، وأنّ العنبية والزبيبية من حالاته المتبادلة ؛ بحيث لو لم يكن الزبيب محكوماً بما حكم به العنب يكون عنده من ارتفاع الحكم عن موضوعه .

فالفرق بين أخذ الموضوع من العرف وبين أخذه من الدليل بحسب ما ذكر : أنّ موضوع الدليل هو العنوان حقيقة ، ولكنّ العرف تخيّل موضوعاً آخر غير موضوع الدليل ، بل أعمّ منه ، ويكون الموضوع الحقيقي غير باقٍ ، والموضوع التخيّلي باقٍ(1) ، انتهى محصّله بتوضيح منّا .

وهو كما ترى ؛ لأنّ بقاء الموضوع التخيّلي لا يفيد في الاستصحاب ، ولا يجوز أن يكون موضوع القضيّة المتيقّنة ما يتخيّل العرف خلاف ما يدلّ عليه الدليل ، فإذا دلّ الدليل على أنّ العنب بخصوصه موضوع الحكم تكون القضيّة المتيقّنة «أنّ العنب إذا غلى يحرم» ولا يمكن تعلّق اليقين بأمر أعمّ ، من غير دلالة دليل ، فضلاً عن دلالته على خلافه .

ولقد عدل بعض أعاظم العصر; عمّا ذكر والتزم بأنّ موضوع الدليل عين الموضوع العرفي ، وأ نّه لا وجه للمقابلة بينهما ؛ فإنّ مفاد الدليل يرجع بالأخرة إلى ما يقتضيه نظر العرف ؛ لأنّ المرتكز العرفي يكون قرينة صارفة عمّا يكون الدليل ظاهراً فيه ابتداءً ، ولو كان الدليل ظاهراً بَدْواً في قيدية

ص: 248


1- درر الفوائد ، المحقّق الخراساني : 385 ؛ كفاية الاُصول : 487 .

العنوان ، وكانت مناسبة الحكم والموضوع تقتضي عدمه ، فاللازم هو العمل على ما تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع ؛ لأ نّها بمنزلة القرينة المتّصلة ، فلم يستقرّ للدليل ظهور على الخلاف .

فالمقابلة بين العرف والدليل إنّما هي باعتبار ما يكون الدليل ظاهراً فيه ابتداءً مع قطع النظر عن المرتكز العرفي ، وإلاّ فبالأخرة يتّحد ما يقتضيه مفاد الدليل مع ما يقتضيه المرتكز العرفي(1) ، انتهى .

ولعلّه إليه يرجع كلام الشيخ الأعظم في ذيل الأمر الأوّل(2) .

وهذا الكلام كما ترى خلاف مفروض كلام المحقّق الخراساني ؛ لأنّ مفروضه ما إذا لم تصر المناسبة موجبة لصرف الكلام عن ظاهره .

والحقّ في الجواب عنه أن يقال : إنّ المناسبة إن لم تصر موجبة لصرف ظاهر الكلام فلا يعقل أن تكون القضيّة المتيقّن موضوعها ما هو مرتكز العرف تخيّلاً وإن صارت موجبة لذلك ، فلا يرجع الفرق إلى محصّل .

هذا ، مضافاً إلى أنّ ما أفاده المحقّق المعاصر; يرجع بالأخرة إلى العجز عن تصوّر الفرق بين الأخذ من العرف والدليل ، وأنت إذا تأمّلت فيما ذكرنا من أخذ الموضوع من العرف أو الدليل لاتّضح لك النظر في كلام هؤلاء الأعلام ، وأنّ ما أفاده هذا المحقّق - من أنّ المقابلة بينهما في غير محلّها - منظور فيه ، وأنّ المقابلة بينهما في محلّها .

ص: 249


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 586 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 301 - 302 .

المراد من العرف ليس العرف المسامح

ثمّ إنّ المراد بالعرف في مقابل العقل ليس هو العرف المسامح ، حتّى يكون المراد بالعقل العرف الغير المسامح الدقيق ؛ ضرورة أنّ الألفاظ كما أ نّها وضعت للمعاني النفس الأمرية تكون مستعملة فيها أيضاً عند إلقاء الأحكام ، فالكرّ والميل والفرسخ والدم والكلب وسائر الألفاظ المتداولة في إلقاء الأحكام الشرعية لا تكون مستعملة إلاّ في المعاني الواقعية الحقيقية ، فالكرّ بحسب الوزن ألف ومائتا رطل عراقي من غير زيادة ونقيصة ، لا الأعمّ منه وما يسامح العرف ، وكذا الدم ليس إلاّ المادّة السيّالة في العروق التي تكون بها الحياة الحيوانية ، لا الأعمّ منها وما يطلق عليه اسم الدم مسامحة ، وليس التسامح العرفي في شيء من الموارد ميزاناً لا في تعيين المفاهيم ، ولا في تشخيص المصاديق .

بل المراد من الأخذ من العرف هو العرف مع دقّته في تشخيص المفاهيم والمصاديق ، وأنّ تشخيصه هو الميزان ، مقابل تشخيص العقل الدقيق البرهاني .

مثلاً : لا شبهة في أنّ الدم عبارة عن المائع المعهود الجاري في القلب والعروق ، والمسفوح منه موضوع للحكم بالنجاسة ، وليس ما يتسامح فيه العرف ويطلق عليه الدم تسامحاً موضوعاً لها ، لكنّ العرف مع كمال دقّته في تشخيص مصاديقه يحكم بأنّ اللون الباقي بعد غسل الثوب ليس بدم ، بل هو لون الدم ، لكنّ البرهان العقلي قام على امتناع انتقال العرض(1) ، فيحكم العقل لأجل ذلك بأنّ اللون هو الأجزاء الصغار من جوهر الدم .

ص: 250


1- راجع الشفاء ، الإلهيات : 136 ؛ شوارق الإلهام 3 : 62 ؛ المباحث المشرقية 1 : 152 .

والكلب ليس عند العرف إلاّ الجثّة الخارجية ، والحياة من حالاتها ، وميتة الكلب كلب عندهم حقيقة ، وعند العقل البرهاني لمّا كانت شيئية الشيء بصورته ، وصورة الكلب نفسه الحيوانية الخاصّة به ، فإذا فارقت جثّته سلب منها اسم الكلب ، وتكون الجثّة جماداً واقعة تحت نوع آخر غير النوع الكلبي ، بل يسلب عنها اسم جثّة الكلب وبدنه أيضاً ، ويكون إطلاق بدن الكلب على الجثّة المفارقة لها الروح مسامحة لدى العقل ، كما هو المقرّر في محلّه من العلوم العالية(1) ، مع أ نّها كلب لدى العرف حقيقة .

وبالجملة : ليس المراد من كون تشخيص المفاهيم ومصاديقها موكولاً إلى العرف هو التسامح العرفي ، فالتسامح العرفي في مقابل الدقّة العقلية البرهانية ، لا في مقابل دقّة العرف .

نعم ، قد يكون بين المتكلّم والمخاطب في عرف التخاطب وتعارف التكلّم بعض المسامحات التي تكون مغفولاً عنها لديهم حال التكلّم ، ويحتاج التوجّه إليها إلى زيادة نظر ودقّة ، ومع الدقّة والنظرة الثانية يتوجّه المتكلّم والمخاطب إلى التسامح ، ففي مثل ذلك يكون المعنى المتفاهم ابتداءً موضوعاً للحكم ، فإذا قال المولى : «إذا قمت إلى الصلاة فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام» لا يفهم المخاطب من هذا الكلام إلاّ استقبال المسجد بالنحو المتعارف ، وإن كانت الدقّة العرفية أيضاً تقتضي كونه أضيق ممّا هو المتفاهم عرفاً ، فالمناط في أمثاله هو التفاهم العرفي ، لا الدقّة العقلية إن قلنا بأنّ الميزان هو العرف .

ص: 251


1- الحكمة المتعالية 2 : 34 ؛ شرح المنظومة ، قسم الحكمة 2 : 357 .

ثمّ إنّه لا إشكال في أنّ الميزان في تشخيص جميع المفاهيم ومصاديقها وكيفية صدقها عليها هو العرف ؛ لأنّ الشارع كواحد من العرف في المخاطبات والمحاورات ، وليس له اصطلاح خاصّ ، ولا طريقة خاصّة في إلقاء الكلام إلى المخاطب ، فكما يفهم أهل المحاورات من قول بعضهم : «اجتنب عن الدم» أو «اغسل ثوبك من البول» يفهم من قول الشارع أيضاً ، وليس مخاطبة الشارع مع الناس إلاّ كمخاطبة بعضهم بعضاً ، فإذا قال : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ)(1) لا يكون المراد منه إلاّ الغسل بالنحو المتعارف ، لا الغسل من الأعلى فالأعلى بنحو الدقّة العقلية ، فكما أنّ العرف محكّم في تشخيص المفاهيم محكّم في صدقها على المصاديق وتشخيص مصاديقها ، فما ليس بمصداق عرفاً ليس بمصداق للموضوع المحكوم بالحكم الشرعي .

فما أفاده المحقّق الخراساني : من أنّ تشخيص المصاديق ليس موكولاً إلى العرف(2) وتبعه غيره(3) ليس على ما ينبغي ، فالحقّ ما ذكرنا تبعاً لشيخنا العلاّمة أعلى اللّه مقامه(4) .

ص: 252


1- المائدة (5) : 6 .
2- كفاية الاُصول : 77 .
3- فوائد الاُصول ((تقريرات المحقّق النائيني)) الكاظمي 4 : 494 و574 ؛ نهاية الأفكار 4 : 189 ؛ نهاية الدراية 1 : 240 .
4- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 579 - 580 .

الأمر الثاني: أنّ أخبار الباب هل تختصّ بالاستصحاب أو تعمّ غيره ؟

اشارة

ممّا يعتبر في جريان الاستصحاب هو أن يكون اليقين بالقضيّة المستصحبة فعلياً ؛ بأن يكون حال إجراء الأصل متيقّناً لوجود المستصحب في السابق ، حتّى يكون شكّه في البقاء ، وهذا ممّا لا إشكال فيه ولا كلام .

إنّما الإشكال في أنّ الأخبار الواردة في الباب هل يكون مفادها مختصّاً بالاستصحاب أو يعمّ قاعدة اليقين ، أو يعمّ مع ذلك أمراً ثالثاً ، وهو ترتيب آثار البقاء مع الشكّ في الحدوث بمجرّد تعلّق اليقين بحدوثه وزواله ؟ وبعبارة اُخرى : أنّ الكبرى الكلّية الواردة في الأخبار كما تشمل عدم نقض اليقين المتحقّق فعلاً المتعلّق بالأمر السابق مع الشكّ في بقائه - وهو المعبّر عنه بالاستصحاب - تشمل قاعدة اليقين ، وهي ما إذا تعلّق اليقين بأمر في زمان ، ثمّ زال اليقين ، وشكّ في كونه في ذلك الزمان متحقّقاً أو لا ، فتترتّب عليه آثار المتيقّن في ذلك الزمان ، وتشمل أيضاً أمراً ثالثاً ، وهو ما إذا تعلّق اليقين بأمر سابق ، وشكّ في بقائه مع زوال اليقين ، فيحكم بترتّب آثار البقاء مع سراية الشكّ إلى اليقين .

والكلام يقع في مقامين :

أحدهما : في إمكان الجمع بين القاعدتين أو القواعد الثلاث في مثل

ص: 253

قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ»(1) أو قوله : «من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه»(2) .

وثانيهما : في أنّ الظاهر من أخبار الباب ماذا ؟

إمكان الجمع بين القواعد الثلاث

أمّا الكلام في أوّل المقامين : فهو أنّ الحقّ إمكان الجمع بين القواعد الثلاث ، فضلاً عن الجمع بين القاعدتين ، وما جعل محذوراً فيه ممكن الدفع .

إشكال الشيخ الأعظم على إمكان الجمع بين القاعدتين

أمّا ما أفاده الشيخ الأعظم فمحصّله : أنّ المناط في القاعدتين مختلف غير ممكن الجمع في لحاظ واحد ؛ لأنّ مناط الاستصحاب اتّحاد متعلّق اليقين والشكّ مع قطع النظر عن الزمان ، ومناط القاعدة اتّحاد متعلّقهما من جهة الزمان ، ولا يمكن الجمع بينهما في مثل قوله : «فليمض على يقينه» ؛ لأنّ المضيّ في الاستصحاب بمعنى ترتيب آثار البقاء من غير نظر إلى الحدوث ، وفي القاعدة بمعنى ترتيب آثار الحدوث من غير نظر إلى البقاء ، وهما نظران متخالفان ، ومعنيان غير مجتمعين في الإرادة واللحاظ .

ولو قيل : بأنّ المضيّ معنى واحد ، وهو فرض الشكّ كعدمه ، ويختلف باختلاف المتعلّق ، فالمضيّ مع الشكّ في الحدوث بمعنى الحكم بالحدوث ،

ص: 254


1- تقدّم في الصفحة 55 .
2- تقدّم في الصفحة 62 .

ومع الشكّ في البقاء بمعنى الحكم به .

يقال : هذا يصحّ إذا كان هنا فردان من اليقين ، يكون أحدهما متعلّقاً بالحدوث ، والآخر بالبقاء ، وليس كذلك ؛ لأنّ اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة ليس فردين من اليقين ، بل هو يقين واحد ، ويكون تعدّده بالاعتبار ، ويكون عموم أفراد اليقين حقيقة باعتبار الاُمور الواقعية ، كعدالة زيد وفسق عمرو ، لا باعتبار ملاحظة اليقين بشيء واحد حتّى ينحلّ اليقين بعدالة زيد إلى فردين يتعلّق بكلّ منهما شكّ .

فحينئذٍ : إن اعتبر المتكلّم في كلامه الشكّ في هذا المتيقّن من دون تقييده بيوم الجمعة فالمضيّ على اليقين حكم باستمراره ، وإن اعتبره مقيّداً فالمضيّ هو الحكم بالحدوث ، من غير تعرّض للبقاء ، وهذان لا يجتمعان في الإرادة(1) ، انتهى ملخّصاً .

أقول : يرجع محصّل كلامه إلى أنّ اليقين إذا كان بالنسبة إلى عدالة زيد في قاعدة اليقين والاستصحاب من قبيل العموم بالنسبة إلى أفراده يمكن أن يشملهما ، وإن كان المضيّ بالنسبة إلى كلّ فرد ينتج أمراً مغايراً للفرد الآخر ، لكن ليس الأمر كذلك ؛ لأنّ عدالة زيد أمر واحد في القاعدتين ، وإنّما اختلافهما بالاعتبار ، وليست الكثرة الاعتبارية من أفراد العامّ حتّى يشملهما ، بل لا بدّ من اعتبارهما ، ولا يجتمع الاعتباران في لحاظ واحد .

ص: 255


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 304 - 307 .

تقرير بعض الأجلّة كلام الشيخ وإقامة البرهان عليه

ونسج على هذا المنوال بعض أعاظم العصر; ، وأقام برهاناً على عدم تغاير اليقين في الاستصحاب والقاعدة بحسب الأفراد ، فقال :

إنّ تغاير أفراد اليقين إنّما يكون بتغاير متعلّقاته ، كاليقين بعدالة زيد وقيام بكر ، وإلاّ فاليقين من حيث نفسه لا يتعدّد ، ومتعلّق اليقين في القاعدة والاستصحاب غير متعدّد ؛ لأنّ متعلّقه في كلّ منهما هو عدالة زيد ، وعدم انحفاظ اليقين في القاعدة دون الاستصحاب لا يوجب التغاير الفردي ؛ فإنّ الانحفاظ وعدمه من الطوارئ اللاحقة لليقين بعد وجوده ، وذلك لا يقتضي تعدّد أفراد اليقين مع وحدة المتعلّق ؛ بداهة أنّ تعدّد أفراد الطبيعة الواحدة إنّما يكون لأجل اختلاف المشخّصات الفردية حال وجود الأفراد ، والخصوصيات اللاحقة بعد الوجود لا تكون مفرِّدة(1) ، انتهى .

وأنت خبير بما في كلامهما ؛ لأنّ اليقين المتعلّق بشيء واحد من شخص واحد في زمان واحد وإن كان أمراً واحداً ، كيقين زيد وقت ظهر يوم السبت بعدالة عمرو في ظهر يوم الجمعة وليس اختلافه من حيث التقيّد واللا تقيّد ومن حيث الانحفاظ واللا انحفاظ من المشخّصات والمكثّرات الفردية .

لكن ليس خطاب «لاتنقض اليقين بالشكّ» متوجّهاً إلى شخص واحد مع تلك القيود ، بل هو خطاب مطلق شامل لكلّ يقين من كلّ متيقّن ، تعلّق بكلّ متعلّق وشكّ فيما تيقّن ، سواء كان شكّه سارياً كقاعدة اليقين ، أو لا كالاستصحاب .

ص: 256


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 588 .

فلو فرضنا عدّة أفراد تيقّن بعضهم بعدالة زيد ، وبعضهم بفسق عمرو ، وبعضهم بقيام بكر ، ثمّ شكّت الطائفة الاُولى في عدالة زيد بنحو الشكّ الساري ، والطائفة الثانية في فسق عمرو بنحو الشكّ في البقاء ، والثالثة في قيام بكر بنحو الشكّ الساري مع الشكّ في قيامه في الزمان المتأخّر ، فلا إشكال في كون يقين كلّ من هذه الأفراد فرداً من عنوان اليقين ، سواء في ذلك ، الطائفة التي تعلّق يقينها بشيء واحد كعدالة زيد مثلاً ، أو الطائفة التي تعلّق يقينها بأشياء مختلفة ، أمّا الثانية فواضح ، وأمّا الاُولى فلتعدّد المحلّ القائم به اليقين ، فاليقين القائم بنفس كلّ إنسان فرد من اليقين غير الفرد الآخر القائم بنفس شخص آخر وإن كان متعلّقهما شيئاً واحداً .

وليت شعري : أ نّه ما الداعي إلى فرض يقين واحد من شخص واحد بالنسبة إلى متعلّق واحد ، حتّى لا يكون التعدّد إلاّ اعتبارياً ؟ ! بل لا معنى لاعتبار ذلك ، بل لا يعقل ؛ لأنّ مورد قاعدة اليقين لا يعقل أن يكون متداخلاً مع مورد الاستصحاب ، فلكلٍّ منهما أفراد خاصّة بهما ؛ فإنّ المعتبر في الاستصحاب بقاء اليقين ، وفي القاعدة زواله .

فحينئذٍ نقول : إنّ المأخوذ في الكبرى في أخبار الباب هو عنوان اليقين والشكّ ، والنهي عن نقض الأوّل بالثاني ، وهذه الكبرى الكلّية لها مصاديق كثيرة ، جملة منها تكون من قبيل الشكّ الساري ، وجملة منها لا من قبيله ، فمن تيقّن بعدالة زيد يوم الجمعة ثمّ شكّ في عدالته في ذاك اليوم يمكن أن يكون مخاطباً بقوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» ومن شكّ في بقاء عدالته يوم السبت مع اليقين بعدالته يوم الجمعة يمكن أن يخاطب بهذا الخطاب من غير استعمال لفظ اليقين

ص: 257

أو الشكّ أو النقض أو النهي في معنيين ، ومن دون لحاظ أمرين مختلفين .

بل المتكلّم بقوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» لا يعقل أن يلاحظ في إلقاء هذه الكبرى غير عنوان الشكّ واليقين المأخوذين في موضوع حكمه ، وغير متعلّق نهيه ، فلا تكون متعلّقات اليقين والشكّ مطلقاً منظوراً إليها ، فتشمل جميع مصاديق اليقين والشكّ ، كانت من قبيل قاعدة اليقين ، أو الاستصحاب ، أو القاعدة الثالثة التي تكون من جهة كقاعدة اليقين ، ومن جهة كالاستصحاب ؛ لأنّ عنوان اليقين والشكّ شامل لكلّ شكّ ويقين ، لا بجهات الكثرة ، بل بجهة اليقين والشكّ ، ومعنى المضيّ وعدم النقض ليس إلاّ ترتيب الآثار تعبّداً ، وفرض الشكّ كلا شكّ ، أو فرض تحقّق اليقين في عالم التشريع ، ولا يلزم منه محذور .

هذا لو فرضت الكبرى في الاستصحاب كلّية ذات مصاديق ؛ فإنّ الكلّي أيضاً يشمل كثرة الأفراد لا بخصوصياتها الممتازة ، وأمّا لو كانت الكبرى من قبيل المطلقات - كما هو كذلك - فالإشكال أوهن ؛ لأنّ الحكم فيها على نفس العناوين من غير نظر إلى الخصوصيات ، كما هو المقرّر في محلّه(1) .

كلام العلاّمة الحائري وجوابه

وممّا ذكرنا يتّضح النظر فيما أفاده شيخنا العلاّمة أعلى اللّه مقامه : من أنّ المتكلّم بقضيّة «إذا تيقّنت بشيء ثمّ شككت فيه» إمّا لاحظ الشيء المتيقّن مقيّداً بالزمان ، وإمّا لاحظ الزمان ظرفاً للمتيقّن ، وإمّا أهمل ملاحظة الزمان رأساً ،

ص: 258


1- مناهج الوصول 2 : 203 .

ولا تخلو القضيّة عن تلك الحالات الثلاث ، وينطبق بعضها على قاعدة اليقين ، وبعضها على الاستصحاب ، ولا يمكن الجمع بين تلك الحالات ؛ أي ملاحظة الزمان قيداً وظرفاً ، أو ملاحظته وعدم ملاحظته(1) ، انتهى ملخّصاً .

وذلك لأنّ المتعلّق مطلقاً لم يؤخذ في الكبرى الكلّية ، ولم يلاحظ مطلقاً حتّى يقال : إنّ يوم الجمعة اُخذ قيداً أو ظرفاً ، ومعنى كون اليقين طريقاً في موضوع الكبرى ليس لحاظ المتيقّنات باليقين ، فإنّ اليقين المأخوذ في الكبرى عنوان لليقين الطريقي الذي للمكلّفين ، لا طريق إلى المتعلّقات ، ففي مثل قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» لا ينقدح في ذهن المتكلّم غير نفس تلك العناوين المأخوذة فيه ، ولا عين ولا أثر لمتعلّق اليقين والشكّ ، حتّى يطالب متعلّق هذا المتعلّق - مثل يوم الجمعة - بأ نّه اُخذ قيداً أو ظرفاً .

فقوله : «لا تنقض» كقوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(2) يشمل كلّ عقد ولو كانت متخالفة الاعتبار ، وغير ممكنة الجمع في اللحاظ ، لكنّها مجتمعة في عنوان العقد ، ف «لا تنقض» نهي عن نقض كلّ يقين بالشكّ ، وإن كانت مصاديقها باعتبار المتعلّقات ممتنعة اللحاظ في لحاظ واحد .

كلام المحقّق النائيني وجوابه

وممّا ذكرنا : يظهر الإشكال فيما جعل محذوراً آخر للجمع بين القاعدتين في هذه الكبرى : وهو أنّ اليقين في الاستصحاب اُخذ طريقاً ، ويراد منه المتيقّن ،

ص: 259


1- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 584 .
2- المائدة (5) : 1 .

ومعنى عدم نقض اليقين في الاستصحاب أنّ ما ثبت يدوم ، ويكون اليقين طريقاً لإحرازه ، فذكر اليقين في القضيّة على هذا التقدير ليس إلاّ لكونه طريقاً لإحراز متعلّقه ، من دون أن تكون له مدخلية في الحكم ، فيكون مفاد القضيّة على هذا التقدير : أ نّه إذا كان شيء موجوداً في السابق واحتمل زواله لا يعتنى بهذا الاحتمال ، وأمّا اليقين في القاعدة اُخذ موضوعاً لوجوب المضيّ ، وملحوظاً بذاته ، فالموضوع في الاستصحاب هو المتعلّق ، وفي القاعدة نفس اليقين ، ولا يمكن الجمع بين هذين اللحاظين . وقد يقرّر ذلك : بأنّ طريقية اليقين في القاعدة لا يمكن بعد تبدّله بالشكّ ، وأمّا في الاستصحاب فيكون طريقاً ؛ لكونه موجوداً (1) .

أقول : قد ذكرنا سابقاً (2) في باب لزوم فعلية الشكّ واليقين في الاستصحاب أنّ اليقين الطريقي اُخذ موضوعاً ، وأنّ الظاهر من الأدلّة أنّ العناية فيها بأنّ اليقين لكونه أمراً مبرماً مستحكماً لا ينبغي أن ينقض بالشكّ ، فالموضوع في الاستصحاب هو اليقين الطريقي ، وكذا في القاعدة ، فعنوان اليقين المأخوذ في القاعدتين مرآة لليقين الطريقي لكلّ مكلّف كان على يقين فشكّ .

وقد ذكرنا سالفاً (3) : أنّ النقض لا يتناسب إلاّ مع اليقين الطريقي الذي يكون في اعتبار العقلاء كأ نّه حبل مشدود أحد جانبيه على المتيقّن ، والآخر على المتعلّق .

ص: 260


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 589 .
2- تقدّم في الصفحة 86 - 87 .
3- تقدّم في الصفحة 36.

فلا إشكال في أنّ اليقين في الاستصحاب هو اليقين الطريقي ، لكن هذا اليقين الطريقي اُخذ موضوعاً ، فالقول : بأنّ معنى «لا تنقض» أ نّه إذا كان شيء موجوداً واحتمل زواله لا يعتنى بهذا الاحتمال ، بعيد عن الصواب ، وأجنبيّ عن أخبار الباب .

وكذا اليقين في القاعدة بما أ نّه طريق إلى الواقع اُخذ موضوعاً ، لا بما أ نّه صفة قائمة بالنفس .

وقوله : إنّ اليقين في القاعدة ملحوظ من حيث نفسه ؛ لبطلان كاشفيته بعد تبديله إلى الشكّ .

فيه : أنّ اليقين في ظرف وجوده كان كاشفاً عن متعلّقه ، والمطابقة للواقع وكون الكشف كشفاً صادقاً لا دخل لهما في ذلك .

فلا إشكال في أنّ قوله : «من كان على يقين في عدالة زيد يوم الجمعة فشكّ بعده في عدالته يوم الجمعة» لا يريد باليقين فيه إلاّ ما يريد بقوله : «من كان على يقين في عدالة زيد يوم الجمعة فشكّ في بقائها يوم السبت» من غير تفاوت في النظر والاعتبار .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الجمع بين القاعدتين بل القواعد الثلاث في قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» ممّا لا مانع منه .

فما قد يقال : من عدم إمكان الجمع بينهما في اللحاظ من جميع الجهات - لا من جهة اليقين ، ولا من جهة المتيقّن ، ولا من جهة النقض ، ولا من جهة الحكم(1) - ممّا لا يرجع إلى محذور بعد التأمّل فيما ذكرنا .

ص: 261


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 589 .

كلام المحقّق العراقي وجوابه

وقد يقال في وجه الامتناع : إنّ إرجاع الضمير في الاستصحاب إلى ما تعلّق به اليقين يكون بنحو من المسامحة ؛ لعدم وحدة متعلّقيهما دقّة ، بخلاف الإرجاع في القاعدة ، فهما نظران مختلفان لا جامع بينهما (1) .

وفيه : - مضافاً إلى أنّ الكبرى هي عدم نقض اليقين بالشكّ من غير نظر إلى المتعلّقات ، واختلاف الخصوصيات فيها غير منظور ، والعناوين قابلة للانطباق على كلّ من الخصوصيتين ولو لم يمكن اجتماعهما في اللحاظ - أنّ الجمع بين المصداق الحقيقي والمسامحي التأوّلي بمكان من الإمكان ؛ لما حقّق في محلّه : من أنّ الادّعاء في المجازات إنّما هو في تطبيق العناوين الحقيقية على الأفراد ، لا في الاستعمال(2) ، مع أنّ المقام أجنبيّ عن ذاك المضمار .

اختصاص أخبار الباب بالاستصحاب وعدم شمولها لقاعدة اليقين

وأمّا المقام الثاني : أي مقام الاستظهار من الأدلّة ، فلا ينبغي الإشكال في أنّ أخبار الباب كلّها تحوم حول كبرى كلّية هي «لا ينقض اليقين بالشكّ» فالمجعول هي هذه الكبرى مع اختلاف التعبيرات ، ولا إشكال في أنّ الظاهر منها كون اليقين متحقّقاً فعلاً ، فمعنى قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» أنّ اليقين المتحقّق بالفعل لا ينقض ، ولا يشمل اليقين الزائل ، وهذا ممّا لا ريب فيه .

ص: 262


1- مقالات الاُصول 2 : 430 .
2- مناهج الوصول 1 : 62 - 64 .

نعم ، يمكن أن يتوهّم : أنّ الظاهر من رواية «الخصال» هو القاعدة ؛ لأنّ قوله :

«من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه»(1) ظاهر في أنّ اليقين كان متحقّقاً سابقاً ، فزال وقام مقامه الشكّ(2) ، لكنّه فاسد ، فإنّ هذا التعبير عين التعبير الوارد في صحيحة زرارة الثانية وهو قوله : «لأ نّك كنت على يقين من طهارتك فشككت»(3) مع أ نّها واردة في مورد الاستصحاب .

والسرّ في هذا التعبير : هو أنّ الغالب أن يكون حصول الشكّ في البقاء متأخّراً عن اليقين بالحدوث ، وقد مرّ في ذيلها عند ذكر أخبار الباب ما يؤيّد ذلك(4) ، مع أنّ في ذيلها شهادة بأنّ المجعول فيها عين المجعول في صحيحتي زرارة .

وبالجملة : لا تكون أخبار الاستصحاب دالّة على القاعدة ، فضلاً عن القاعدتين ، بل ليس عليها دليل رأساً .

وتوهّم : كون أخبار التجاوز والفراغ دالّة عليها (5) ، في غير محلّه ؛ لأنّ مفادها غير القاعدة موضوعاً وملاكاً ، كما سيجيء(6) .

ص: 263


1- تقدّم في الصفحة 62 .
2- اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 69 .
3- تقدّم في الصفحة 44 .
4- تقدّم في الصفحة 63 .
5- اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 311 و312 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 588 .
6- يأتي في الصفحة 347 .

الأمر الثالث: تقدّم الأمارات على الاستصحاب

اشارة

ممّا يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب مشكوك البقاء ، فلا يجري مع إحراز بقائه أو ارتفاعه ، وهذا مع الإحراز الوجداني واضح .

وإنّما الكلام فيما إذا قامت أمارة معتبرة شرعية أو عقلائية ممضاة شرعاً على طبق الحالة السابقة ، أو على خلافها ؛ حيث إنّ الشكّ الوجداني لا يزول معه ، ولكن لا إشكال في تقدّمها عليه ، وإنّما الإشكال في وجه التقدّم ، وأ نّه هل هو لأجل الحكومة أو الورود أو غيرهما ؟

في الفرق بين التخصيص والحكومة والورود

فلا بدّ قبل الورود في المقصود من بيان الفرق بين تلك العناوين التي يمكن أن تكون وجه التقدّم ، وبيان الضابط فيها ، وقد مرّ شطر من الكلام فيها في مباحث البراءة(1) ، ونزيدك هاهنا إيضاحاً .

فنقول : لم ترد تلك العناوين ولا شيء منها في لسان دليل أو معقد إجماع ، حتّى نبحث فيها وفي حدودها ، وإنّما هي اصطلاحات في لسان الاُصوليين ، وبعضها في ألسنة متأخّري المتأخّرين ، وقد جعلها الشيخ الأعظم تحت الضابط ، وتعرّض لها في شتات إفاداته ، خصوصاً في أوّل باب التعادل والتراجيح(2) .

ص: 264


1- أنوار الهداية 2 : 8 ، وراجع أيضاً 1 : 306 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 462 ، و26 : 314 ، 389 ، و27 : 12 .

والذي يمكن أن يقال : إنّه قد نرى أنّ العقلاء وأرباب المحاورات قد يقدّمون دليلاً على دليل من غير ملاحظة النسبة بينهما، ومن غير ملاحظة أظهرية أحدهما من الآخر ، وقد يتوقّفون في تقديم أحد الدليلين ، مع كون النسبة بينهما كالسابقة .

مثلاً : لو ورد «يجب إكرام العلماء» وورد في دليل منفصل «يحرم إكرام الفسّاق» وعرض الدليلان على أهل المحاورات والعرف لرأيتهم يتوقّفون في الحكم ، ولا يحاولون ترجيح أحدهما على الآخر ، ولو بدّل قوله : «يحرم إكرام الفسّاق» بقوله : «ما أردت إكرام الفسّاق» أو «ما حكمت بإكرامهم» أو «ما جعلت إكرامهم» أو «لا خير في إكرامهم» أو «لا صلاح في إكرامهم» أو «لا أرى إكرامهم» أو «ليس منظوري إكرامهم» أو «ليس الفسّاق أهلاً للإكرام» أو «إكرامهم خطأ» أو «لا أقول بإكرامهم» أو أمثالها تصير تلك الألسنة قرينة على صرف قوله: «يجب إكرام العلماء» عن وجوب إكرام الفسّاق منهم ، مع أنّ النسبة بينه وبينها عموم من وجه ، ولا فرق بين ما ذكر وبين ما تقدّم إلاّ في كيفية التأدية والتعبير .

وكذا الحال في قوله : «لا سهو لمن أقرّ على نفسه بالسهو»(1) بالنسبة إلى أدلّة الشكوك ، وقوله : (مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(2) أو «لا ضرر

ص: 265


1- السرائر ، المستطرفات 3 : 614 ؛ وسائل الشيعة 8 : 229 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 16 ، الحديث 8 .
2- الحجّ (22) : 78 .

ولا ضرار»(1) أو (وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(2) بالنسبة إلى أدلّة الأحكام ، مع أنّ النسبة بينهما عموم من وجه ، وليس هذا النحو من التقديم بلحاظ مقام الظهور ، وترجيح الأظهر على الظاهر ، أو النصّ على الظاهر .

ومن ذلك يعلم : أنّ غير التقديم الظهوري الذي يكون معوّلاً عليه عند العقلاء يكون ترجيح وتقديم آخر ، وهو أن يكون أحد الدليلين بمدلوله متعرّضاً لحيثية من حيثيات الدليل الآخر التي لم يتعرّضها ذلك الدليل .

وتوضيح ذلك : أنّ الدليلين إمّا أن يكون كلّ منهما متعرّضاً بمدلوله لما يتعرّضه الدليل الآخر ، ويكون الفرق بينهما بعد اشتراكهما في ذلك في جهات اُخر ، كالإيجاب والسلب ، مثل: «أكرم العلماء» و«لا تكرم العلماء» أو مع أخصّية أحدهما من الآخر مثل : «أكرم العلماء» و«لا تكرم فسّاقهم» أو مع كون النسبة عموماً من وجه مثل: «أكرم العلماء» و«لا تكرم الفسّاق» وكاختلافهما في زيادة قيد مع الاتّفاق في الكيف مثل : «إن ظاهرت فأعتق رقبة» و«إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة» .

ففي جميع تلك الموارد ترى أنّ كلاًّ من الدليلين يتعرّض لما يتعرّضه الآخر ، فكما أنّ أحدهما تعرّض لوجوب إكرام العلماء ، تعرّض الآخر لعدم وجوب إكرامهم ، وكما أنّ أحدهما تعرّض لعتق رقبة ، تعرّض الآخر لعدم عتق كافرتها ، أو لعتق مؤمنتها ، فالمدلول اللفظي لأحدهما هو المدلول للآخر ،

ص: 266


1- الكافي 5 : 292 / 2 ، و293 / 6 ، و294 / 8 ؛ الفقيه 3 : 147 / 648 ؛ تهذيب الأحكام 7 : 146 / 651 ؛ وسائل الشيعة 25 : 428 ، كتاب إحياء الموات ، الباب 12 ، الحديث 3 .
2- البقرة (2) : 185 .

مع اختلاف في الكيف أو في زيادة قيد أو مثلهما .

وإن شئت قلت في الأدلّة اللفظية : إنّ التصادم بينهما في مرحلة الظهور ، مع اتّحادهما في جميع المراحل من الاُصول العقلائية ، فإذا كان الدليلان كذلك يكون تقديم أحدهما على الآخر تقديماً ظهورياً ، ومناطه أظهرية أحدهما من الآخر ، فتقديم «لا تكرم الفسّاق من العلماء» على «أكرم العلماء» ليس إلاّ من جهة تقديم الأظهر على الظاهر .

وجميع الاُصول اللفظية كأصالة العموم وأصالة الإطلاق وأصالة الحقيقة ترجع(1) إلى أصالة الظهور عند العقلاء ، فما هو المعتبر عندهم والحجّة لديهم هو الظهور اللفظي ، ف «أكرم العلماء» حجّة ؛ لظهوره في العموم بعد تحقّق المقدّمات الاُخرى من الاُصول العقلائية ، وليس ظهوره معلّقاً على عدم مجيء المخصّص ، بل ظهوره منجّز ، وبناء العقلاء على العمل به من غير تعليقه على شيء ، ولكن مع ورود دليل أخصّ منه يقدّم مقتضاه عليه ؛ لقوّة ظهوره وأظهريته من ظهور العامّ في مضمونه .

وكذا الحال في المطلق والمقيّد ، فإنّ مناط تقديمه على المطلق ليس إلاّ

ص: 267


1- في رجوع أصالة الإطلاق إلى أصالة الظهور ، وفي وجه تقدّم المقيّد على المطلق ، كلام يأتي في بعض المباحث الآتيةأ . والتحقيق: أنّ الإطلاق ليس ظهوراً لفظياً ، ولا تقدّم المقيّد على المطلق من قبيل تقدّم الأظهر على الظاهر ، كما سيأتي(ب) ، وكذا مناط تقدّم الخاصّ على العامّ ليست الأظهرية ، بل شيء آخر سنشير إليه في بعض المباحث الآتية(ج) . منه عفي عنه أ وب - يأتي في رسالة التعادل والترجيح ، الإمام الخميني قدس سره: 38 . ج - التعادل والترجيح، الإمام الخميني قدس سره: 9.

أقوائية ظهور القيد في القيدية من المطلق في الإطلاق .

فما أفاده الشيخ الأعظم قدّس سرّه : من أنّ مناط تقديم الخاصّ على العامّ هو الحكومة أو الورود ؛ فإنّ أصالة الحقيقة أو العموم معتبرة إذا لم تعلم هناك قرينة على المجاز ، والمخصّص القطعي وارد على أصالة العموم ، والمخصّص الظنّي حاكم عليها ؛ لأنّ معنى حجّية الظنّ جعل احتمال مخالفة مؤدّاه للواقع بمنزلة العدم في عدم ترتّب ما كان يترتّب عليه من الاُمور لولا حجّية هذه الأمارة ، وهو وجوب العمل بالعموم عند احتمال وجود المخصّص وعدمه .

ويحتمل أن يكون الخاصّ الظنّي وارداً بناءً على كون العمل بالظاهر عرفاً وشرعاً معلّقاً على عدم التعبّد بالتخصيص(1) ، انتهى .

منظور فيه ؛ لأنّ مناط العمل بالظواهر والاحتجاج عند العقلاء هو نفس الظهور ، فأصالة الإطلاق والعموم والحقيقة ليست اُصولاً متكثّرة بمناطات مختلفة ، بل المناط هو الظهور ، فإذا كان الظهور ظنّياً يلغى احتمال خلافه عند العقلاء ، من غير فرق بين العامّ والخاصّ ، فالعامّ الظنّي كالخاصّ الظنّي يلغى احتمال خلافه ، وليس ظهور العامّ أو البناء على العمل به معلّقاً على شيء ، بل يكون تقديم الخاصّ على العامّ من قبيل تقديم أقوى الدليلين وأظهر الظاهرين .

وكذا الحال في تقديم المقيّد على المطلق ، وقرينة المجاز على ذيها ، وليس مناط الحكومة في شيء من ذلك ، كما سيتّضح لك(2) .

فتلخّص ممّا ذكرنا : أنّ تصادم الدليلين في الظهور مع تعرّض كلّ منهما

ص: 268


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 27 : 15 - 16 .
2- يأتي في الصفحة 269 .

لما يتعرّضه الآخر مقسم للتخصيص والتقييد وتقديم قرينة المجاز ، وكذا لتقديم أحد المتباينين والعامّين من وجه على شقيقه لو فرض أظهريته منه . هذا حال التصادم والتقديم الظهوريين .

بيان ضابط الحكومة

اشارة

وأمّا ضابط الحكومة : فهو أن يتعرّض أحد الدليلين بنحو من التعرّض ولو بالملازمة العرفية أو العقلية لحيثية من حيثيات الآخر ممّا لا يتعرّض لها ذلك ؛ كان التعرّض لموضوعه أو محموله أو متعلّقه ، أو المراحل السابقة على الحكم أو اللاحقة له .

مثلاً : لو قال المولى : «أكرم العلماء» فلا يكون ذلك متعرّضاً إلاّ لوجوب إكرام كلّ عالم ، ولا يتعرّض لشيء آخر سواه ، فلم يتعرّض لتحقّق موضوعه ، أو دخول فرد فيه ، أو عدم دخوله فيه ، ولا لحدود متعلّقه وحكمه ، ولا لكونه مراداً أو مجعولاً أو صادراً على نحو الجدّ أو التقيّة .

وبالجملة : لم يتعرّض للجهات المتقدّمة على الحكم والمتأخّرة عنه .

فلو تعرّض دليل لشيء من تلك الحيثيات يكون مقدّماً لدى العقلاء من غير ملاحظة النسبة بينهما ، ولا لحاظ أظهرية أحدهما من الآخر ، فلو تعرّض أحد الدليلين لتوسعة دائرة موضوع الآخر أو تضييقه أو لحدود محموله أو متعلّقه أو حكمه يكون مقدّماً وحاكماً عليه ، مثل قوله: «لا سهو لمن أقرّ على نفسه بالسهو»(1) بالنسبة إلى أدلّة الشكوك ، فقوله : «زيد عالم» أو «ليس بعالم» أو

ص: 269


1- تقدّم في الصفحة 265 .

«الضيافة إكرام» أو «ليست بإكرام» وأمثاله حاكم على قوله : «أكرم العلماء» ؛ لتعرّضه لما لا يتعرّض له الآخر .

وكذا قوله : (مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(1) حاكم على أدلّة الأحكام ؛ لتعرّضه بمدلوله للجعل الذي لا تتعرّض له الأدلّة وإن كانت مجعولة بالضرورة ؛ لأ نّها لمّا لم تتعرّض لمجعوليتها فإذا تعرّض دليل بأنّ الجعل لم يتعلّق بأمرٍ حرجي يقدّم عرفاً على تلك الأدلّة ، لا لأقوائية ظهوره ، بل هذا نحو آخر من التقدّم في مقابل التقدّم الظهوري ، ولهذا لا تلاحظ النسبة بين الدليلين ، فيقدّم العامّ من وجه على معارضه ، فأدنى الظواهر يقدّم على أقواها .

فلو قال : «أكرم العلماء» ودلّ دليل على أ نّه «ما اُريد إكرام الفسّاق» أو «ما حكمت بإكرامهم» أو «ما جعلت ذلك» يكون مقدّماً عليه من غير لحاظ النسبة والظهور .

وليس هذا إلاّ لتعرّض الحاكم لما لا يتعرّض له الآخر ؛ فإنّ الدليل المحكوم ليس بمدلوله متعرّضاً لكون إكرامهم مراداً أو مجعولاً أو محكوماً به ، فإنّها معلومة من الخارج ، أو لأجل الأصل العقلائي .

ومن هذا القبيل تقديم «لا تعاد...»(2) على أدلّة الأجزاء والشرائط ؛ لأ نّها لا تتعرّض للحيثيات اللاحقة ، أي الإعادة واللا إعادة ، وإنّما يحكم العقل بأنّ التارك للجزء أو الشرط يعيد .

ص: 270


1- الحجّ (22) : 78 .
2- تهذيب الأحكام 2 : 152 / 597 ؛ وسائل الشيعة 6 : 313 ، كتاب الصلاة ، أبواب الركوع ، الباب 10 ، الحديث 5 .

ثمّ ليعلم : أنّ نتيجة حكومة دليل على دليل قد تكون تخصيصاً ، مثل : «ليس الفسّاق من العلماء» بالنسبة إلى «أكرم العلماء» فإنّه خروج حكمي بلسان الحكومة .

وقد تكون تقييداً ، كتقدّم دليل رفع الحرج على إطلاق أدلّة الأحكام .

وقد تكون توسعة في الحكم بلسان توسعة الموضوع كقوله : «الطواف بالبيت صلاة»(1) .

وقد تكون وروداً ، كتقدّم أدلّة الاستصحاب على أدلّة الاُصول الشرعية ، بناءً على كون المراد من العلم الذي اُخذ غاية في أدلّتها هو الحجّة في مقابل اللا حجّة ، فإنّ قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» حاكم على أدلّتها ؛ لأنّ لسانه بقاء اليقين وإطالة عمره ، فيكون متعرّضاً لتحقّق العلم الذي جعل غاية للاُصول ، وأدلّة الاُصول ليست متعرّضة لذلك ، فيكون حاكماً عليها ، ونتيجة حكومته الورود .

وإن كان المراد من العلم هو العلم الوجداني يكون دليل الاستصحاب حاكماً عليها ، ونتيجته إعدام الموضوع تعبّداً وحكماً .

فالورود والتخصيص والتقييد وغيرها كثيراً ما تكون من نتائج الحكومة وثمراتها ، وليس الورود في عرضها ؛ فإنّ حيثية تقدّم دليل على دليل آخر ليست إلاّ على نحوين ، أحدهما : التقدّم الظهوري ، والثاني : التقدّم على وجه الحكومة؛ سواء كانت نتيجتها رفع الموضوع حكماً ، أو رفعه حقيقة ، فالورود ليس من

ص: 271


1- عوالي اللآلي 1 : 214 / 70 ؛ مستدرك الوسائل 9 : 410 ، كتاب الحجّ ، أبواب الطواف ، الباب 38 ، الحديث 2 .

أنحاء تقديم دليل لفظي على دليل آخر في مقابل التخصيص والحكومة .

وإن شئت قلت : تقسيم تقدّم دليل على آخر بين التقدّم الظهوري وعلى نحو الحكومة حاصر دائر بين النفي والإثبات ، فلا يعقل قسم آخر في الأدلّة اللفظية يسمّى «وروداً» ؛ فإنّ أحد الدليلين إمّا أن يتعرّض لما يتعرّض له الدليل الآخر ، أو يتعرّض لما لا يتعرّض له ، ولا ثالث لهما .

نعم ، يتصوّر ثالث ، هو عدم التعرّض رأساً ، وهو خارج عن المقسم .

فأدلّة الأمارات بناءً على أخذها من الأدلّة اللفظية حاكمة على أدلّة الاُصول والاستصحاب ؛ لأنّ مفادها التصرّف في موضوعها إعداماً ، وهي حيثية لا تتعرّض لها تلك الأدلّة ، فنتائج الحكومة اُمور كثيرة : كالتخصيص ، والتقييد ، والورود ، وإعدام الموضوع تعبّداً ، أو إيجاده كذلك ، وتوسعة دائرة الموضوع حكماً ، أو الحكم على عكس التخصيص والتقييد ، فالورود ليس من أنحاء التقديم في الأدلّة اللفظية ، ولا مشاحّة في الاصطلاح .

نعم ، لا بأس بتسمية تقديم بعض الأدلّة اللبّية على بعض - كتقدّم بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة على قبح العقاب بلا بيان - بالورود ، كما أ نّه لا بأس بتسمية تقدّم بعض الأدلّة اللفظية كأدلّة الأمارات والاستصحاب على قبح العقاب بلا بيان بالورود .

فتحصّل ممّا ذكرنا : الفرق بين التخصيص والحكومة .

وأمّا تقسيم الحكومة إلى الظاهرية والواقعية كما صنعه بعض أعاظم العصر(1)

ص: 272


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 595 و713 .

فممّا لا ملاك له ، كما لا يخفى ؛ لأنّ تقديم دليل على دليل آخر إذا كان على نحو الحكومة وتحت الضابط المتقدّم فلا يكون مختلفاً حتّى يكون التقسيم صحيحاً ، واختلاف النتيجة لا يصحّح التقسيم ، فتقدّم «لا شكّ لكثير الشكّ»(1) على أدلّة الشكوك كتقدّم «لا تنقض . . .» على أدلّة الاُصول ، وتقدّم مفهوم آية النبأ (2) عليها من حيث تعرّض الأدلّة الحاكمة لما لا تتعرّض له الأدلّة المقابلة لها .

وبالجملة : لا يكون نحو تقدّم الأدلّة الحاكمة في الأحكام الواقعية مخالفاً لنحو تقدّم الأدلّة الحاكمة في الأحكام الظاهرية حتّى يصحّ التقسيم .

إذا عرفت ما ذكرنا : فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى حال أدلّة الاستصحاب مع سائر الأدلّة ، والأدلّة بعضها مع بعض .

ويقع الكلام فيها في مقامات :

المقام الأوّل: في حال أدلّة الاستصحاب مع أدلّة الأمارات

وملخّص الكلام فيها : أ نّا قد ذكرنا في مبحث استصحاب مؤدّى الأمارات أنّ المستفاد من الأدلّة - ولو بمناسبة الحكم والموضوع وبعض المؤيّدات الخارجية

ص: 273


1- راجع وسائل الشيعة 8 : 227 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 16 .
2- الحجرات (49) : 6 .

والداخلية - أ نّه لاخصوصية لليقين ، ويكون المراد منها أ نّه لا تنتقض الحجّة بغير الحجّة ، لا بمعنى أنّ عنوان «اليقين» و«الشكّ» استعملا في الحجّة وغير الحجّة ؛ فإنّه واضح البطلان ، بل هما مستعملان في معناهما ، لكنّ العرف لا يرى لخصوصية العنوان دخالة في الحكم(1) .

كما أنّ في قوله : «رجل شكّ بين الثلاث والأربع»(2) لا يكون الرجل مستعملاً في مطلق المكلّف ، بل العرف يلغي خصوصية الرجل ، ويرى أنّ ذكره من باب المثال .

فحينئذٍ : يكون تقدّم أدلّة حجّية خبر الثقة على أدلّة الاستصحاب - بناءً على أخذها من الأدلّة اللفظية مثل مفهوم آية النبأ(3) ، ومثل قوله : «ما يؤدّي عنّي فعنّي يؤدّي»(4) - على نحو الحكومة على إشكال ، ونتيجتها الورود؛ لأنّ مفاد أدلّة حجّية الخبر ولو التزاماً إلغاء الشكّ ؛ فإنّ مفهوم الآية بناءً على المفهوم أنّ نبأ العادل لا يتبيّن ؛ لكونه متبيّناً ، وليس العمل به إصابة للقوم بجهالة ، وهو رافع للشكّ .

وأمّا لو قلنا : بأنّ دليل حجّية خبر الثقة ليس إلاّ بناء العقلاء وسيرتهم

ص: 274


1- تقدّم في الصفحة 87 - 89 .
2- راجع وسائل الشيعة 8 : 222 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 13 ، الحديث 1 و4 .
3- الحجرات (49) : 6 .
4- الكافي 1 : 329 / 1 ؛ وسائل الشيعة 27 : 138 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 11 ، الحديث 4 .

على العمل به ، والأدلّة اللفظية كلّها إرشادات إليها - كما هو التحقيق(1) - فتقدّمها على الاستصحاب يكون بالتخصّص أو الورود . بل هذا في الحقيقة ليس تقدّماً ؛ لأنّ الخروج الموضوعي ليس من التقدّم ، لأنّ العقلاء لا يرون العمل بخبر الثقة عملاً بغير الحجّة ، فلا يكون العمل على طبق الأمارة نقضاً لليقين بالشكّ لديهم .

وإن اشتهيت أن تسمّي هذا النحو من التقدّم وروداً ببعض المناسبات فلا مشاحّة فيه ، وممّا ذكرنا يظهر حال سائر الأمارات .

المقام الثاني: في وجه تقدّم الأمارات على أدلّة البراءة الشرعية

وجه تقدّم الأمارات على أدلّة البراءة الشرعية هو الحكومة إن كان التمسّك في الأمارات بالأدلّة اللفظية ؛ لأنّ قوله : «رفع . . . ما لا يعلمون»(2) أو «الناس في سعة ما لا يعلمون»(3) محكوم بمفهوم آية النبأ وسائر الأدلّة ؛ لأنّ مفادها إلغاء الشكّ ، فتعرّض لموضوع أدلّة البراءة ، وهي لا تتعرّض له .

فإن قلنا : بأنّ المراد ممّا لا يعلم هو عدم الحجّة - كما هو التحقيق - تكون

ص: 275


1- أنوار الهداية 1 : 254 .
2- الخصال : 417 / 9 ؛ وسائل الشيعة 8 : 249 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 30 ، الحديث 2 .
3- عوالي اللآلي 1 : 424/109 ؛ مستدرك الوسائل 18 : 20 ، كتاب الحدود والتعزيرات ، أبواب مقدّمات الحدود ، الباب 12 ، الحديث 4 .

نتيجة الحكومة هي الورود ، وإلاّ تكون النتيجة إعدام الموضوع تشريعاً وتعبّداً ، والتخصيص لبّاً ، وهو من أقسام الحكومة ، كما عرفت(1) .

المقام الثالث: وجه تقدّم أدلّة الاستصحاب على أدلّة الحلّ والبراءة الشرعيتين

وجه تقدّم أدلّة الاستصحاب على أدلّة الحلّ والبراءة الشرعيتين هو الحكومة ونتيجتها الورود ؛ لأنّ مفاد «لا تنقض...» كما عرفت إطالة عمر اليقين تعبّداً ، وأنّ الشكّ لا أهلية له لنقضه ، فيكون اليقين غير منقوض وباقياً تعبّداً ، وهذا من أظهر أنحاء الحكومة ، وأمّا كون النتيجة هي الورود فلما عرفت : من أنّ المراد من «ما لا يعلمون» عدم الحجّة ، لا عدم العلم وجداناً ، وإن كان مفاد الأدلّة إلغاء الشكّ حكماً والتعبّد بعدم الاعتناء به ، فتكون حاكمة أيضاً على ما جعل الحكم على عنوان الشكّ وعدم العلم. وإن كان مفادها عدم نقض الحجّة بلا حجّة فتكون حاكمة أيضاً ؛ لأنّ المراد بعدم الحجّة في مقابل الحجّة هو عدم الحجّة على الواقع ، وقد مرّ أنّ المراد ب «ما لا يعلمون» في أدلّة البراءة هو ما لم تقم حجّة على الواقع ، فغاية الاُصول عدم قيام الحجّة على الواقع ، ومفاد أدلّة الاستصحاب بقاء الحجّة قبل قيام حجّة على الواقع ، فإنّ معنى عدم نقض الحجّة بغير الحجّة عرفاً هو بقاء حجّيته إلى قيام حجّة على الواقع ، فأدلّة الاستصحاب بلسانها حاكمة على حصول غاية أدلّة الاُصول ، وأمّا أدلّة الاُصول فلم يكن مفادها إلاّ

ص: 276


1- تقدّم في الصفحة 271 .

تعيين الوظيفة عند عدم قيام الحجّة لا جعل الحجّة على الواقع .

وأمّا ما أفاده الشيخ الأعظم في وجه التقدّم : من أنّ دليل الاستصحاب بمنزلة معمّم للنهي السابق بالنسبة إلى الزمان اللاحق ، فمجموع قوله : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي»(1) ودليل الاستصحاب بمنزلة أن يقول : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي ، وكلّ نهي ورد في شيء فلا بدّ من تعميمه لجميع أزمنة احتماله» فيكون الإطلاق مغيّاً بورود النهي المحكوم عليه بالدوام ، فأدلّة الاستصحاب حاكمة عليه(2) .

ففيه : أنّ الحكومة خصوصاً على مسلكه متقوّمة بلسان الدليل ، فحينئذٍ لا يتمّ ما ذكره إلاّ بدعوى أنّ مفاد أدلّة الاستصحاب عدم نقض المتيقّن ، بل لا يكفي ذلك حتّى يكون المراد من المتيقّن هو العناوين الذاتية الواقعية، كالنهي والأمر ، والوجوب والحرمة ، وقد مرّ سابقاً (3) الإشكال في كون المراد من اليقين المتيقّن ، ولو سلّم ذلك لكن لا يمكن المساعدة معه في كون المراد هو العناوين الأوّلية ، تأمّل . ثمّ ذلك لا يتمّ بالنسبة إلى سائر أدلّة البراءة وهو قدّس سرّه كان متنبّهاً لذلك لكن قال : ما كان من الأدلّة النقلية مساوقاً لحكم العقل فقد اتّضح أمره ، والاستصحاب وارد عليه(4) ، ولعلّ مراده ما ذكرنا من بيان حكومة أدلّة الاستصحاب عليها ، وإن كانت النتيجة الورود .

ص: 277


1- الفقيه 1 : 208/937 ؛ وسائل الشيعة 6 : 289 ، كتاب الصلاة ، أبواب القنوت ، الباب 19 ، الحديث 3 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 389 .
3- تقدّم في الصفحة 35 - 36 .
4- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 387 .
المقام الرابع: في وجه تقدّم الاستصحاب السببي على المسبّبي

ولا بأس بالتعرّض لمطلق تعارض الاستصحابين .

في تعارض الاستصحابين

اشارة

فنقول : إنّ الشكّ في أحد المستصحبين إمّا أن يكون مسبّباً عن الشكّ في الآخر ، وإمّا أن يكون الشكّ في كليهما ناشئاً من ثالث .

القسم الأوّل: من تعارض الاستصحابين
اشارة

فعلى الأوّل : إمّا أن تكون السببية والمسبّبية لأجل اللزوم العقلي أو العادي ، كالشكّ في وجود المعلول للشكّ في وجود علّته ، وكالشكّ في نبات لحية زيد لأجل الشكّ في بقائه . وإمّا أن تكون لأجل الجعل الشرعي ، كالشكّ في طهارة الثوب المغسول بالماء المشكوك الكرّية ؛ فإنّه لولا حكم الشارع بأنّ الغسل بالكرّ موجب للطهارة لما صار أحد الشكّين سبباً للشكّ الآخر .

ثمّ إنّ السببية قد تكون بلا واسطة ، كالشكّ في صحّة الطلاق عند رجلين شكّ في عدالتهما ، وقد تكون مع الواسطة ، كالشكّ في عدالتهما بالنسبة إلى الشكّ في لزوم تربّص ثلاثة قروء ، فإنّ الشكّ في عدالتهما سبب للشكّ في صحّة الطلاق ، وهو سبب للشكّ في لزوم التربّص ، وقد تكون الوسائط كثيرة ،

ص: 278

وستأتي(1) أقسام ما إذا كان الشكّ في كليهما ناشئاً من أمر ثالث .

ولا إشكال في عدم تقدّم الأصل السببي على المسبّبي إذا كانت السببية عقلية أو عادية وسيأتي بيان وجهه .

وأمّا إذا كانت السببية شرعية ، سواء كانت مع الواسطة أم لا ، فسرّ تقدّم الأصل السببي يظهر من التنبيه على أمر قد أشرنا إليه سابقاً في باب الاُصول المثبتة(2) ، وهو أنّ قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» لا يمكن أن يكون متكفّلاً للآثار مع الواسطة حتّى الشرعية منها ؛ لأنّ الآثار مع الواسطة لا تكون آثار نفس المستصحب بالضرورة ، بل تكون أثر الأثر ، وأثر أثر الأثر وهكذا ، فأثر عدالة الشاهدين صحّة الطلاق عندهما ، ولزوم تربّص ثلاثة قروء أثر صحّة الطلاق ، لا أثر عدالة الشاهدين ، فصحّة الطلاق إذا ثبتت بقوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» لا يمكن أن يترتّب عليها أثرها ب «لا ينقض . . .» أيضاً ؛ لأنّ الحكم لا يمكن أن يوجد الموضوع ويترتّب عليه ولا يكون أثر الأثر مصداق نقض اليقين بالشكّ تعبّداً حتّى يقال : إنّ «لا تنقض . . .» قضيّة حقيقية تشملها ، كما يجاب عن الشبهة في الأخبار مع الواسطة ، فاستصحاب عدالة زيد لا يمكن أن يترتّب عليه إلاّ آثار نفس العدالة ، وأمّا آثار الآثار فتحتاج إلى دليل آخر .

فالتحقيق : أنّ ترتّب الآثار على الاستصحابات الموضوعية ليس لأجل قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» بل الاستصحاب منقّح لموضوع كبرى شرعية مجعولة تعبّداً ، فإذا ورد من الشارع «يصحّ الطلاق عند شاهدين عدلين» ، فاستصحاب

ص: 279


1- تأتي في الصفحة 289 .
2- تقدّم في الصفحة 175 .

عدالتهما ينقّح موضوع تلك الكبرى ، فيحكم بصحّته من ضمّ صغرى تعبّدية إلى كبرى شرعية، وإذا ورد : (الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)(1) يحرز موضوعه من ضمّ صغرى إلى كبرى شرعية ، فيحكم بأنّ هذه مطلّقة ، والمطلّقات يتربّصن ثلاثة قروء ، فيجب على هذه التربّص ، فإذا ورد جواز التزويج بعد التربّص يحرز موضوعه كذلك ، فإذا ورد «أنّ المزوّجة يجب عليها إطاعة الزوج ، وعلى الزوج النفقة عليها» يحرز الموضوع كما ذكر وهكذا ، فلا يكون الاستصحاب إلاّ منقّح موضوع الكبرى الشرعية الأوّلية ، بل ليس مفاد الاستصحاب لزوم ترتيب الآثار، حتّى أنّ ترتّب الأثر الأوّل أيضاً يكون بضمّ الاستصحاب إلى الكبرى الشرعية المجعولة ، فقوله : «لا ينقض . . .» ليس مفاده رتّب الأثر ، بل مفاده إطالة عمر اليقين تعبّداً ، وإحراز الموضوع الذي هو صاحب الأثر .

ويؤيّد ذلك بل يدلّ عليه : أنّ الاستصحاب في الأحكام والموضوعات إنّما هو بلسان واحد ، مع أنّ استصحاب الأحكام ليس معناه ترتيب الآثار ، بل يكون الاستصحاب منقّحاً للحكم ومثبتاً له تعبّداً ، وكذلك استصحاب الموضوعات معناه تحقّقها تعبّداً ، وبعد تحقّقها يترتّب عليها أثرها لأجل الكبرى المجعولة ، فاستصحاب الكرّية ليس إلاّ التعبّد باليقين بها أو بنفسها ، والكرّ موضوع للأثر الشرعي ، فيترتّب عليه أثره بدليله لا بالاستصحاب .

فإذا عرفت ذلك تتّضح لك اُمور :

ص: 280


1- البقرة (2) : 228 .

الأوّل : وجه عدم حجّية الاُصول المثبتة ؛ لعدم الكبرى الكلّية المنطبقة على الموضوع المستصحب ، فاستصحاب حياة زيد يترتّب عليه لزوم نفقة زوجته ؛ لأجل الكبرى المجعولة دون أثر طول لحيته ؛ لعدم كبرى دلّت على «أنّ من كان حيّاً طالت لحيته» .

الثاني : وجه ترتّب الآثار الشرعية ولو مع ألف واسطة ؛ لما عرفت من أنّ الاستصحاب ينقّح موضوع الكبرى التي في مبدأ السلسلة ، ثمّ يحرز موضوع الكبرى الثانية لأجل الكبرى الاُولى وهكذا .

الثالث : وجه تقدّم الأصل السببي على المسبّبي ، وهو أنّ الأصل السببي يكون حاكماً على الكبرى المجعولة التي تتكفّل الحكم الواقعي ؛ بتنقيح موضوعه أو إعدامه بحسب اختلاف الاستصحابات .

ثمّ إنّ الدليل الاجتهادي المنطبق على الصغرى المستصحبة يقدّم على الأصل المسبّبي بالحكومة التي نتيجتها الورود على وجه كما عرفت ، فإذا ورد من الشرع : «أنّ الثوب المغسول بالكرّ طاهر» أو «أنّ الكرّ مطهّر» فاستصحاب الكرّية يكون منقّحاً لموضوعه وحاكماً عليه ؛ لكونه متعرّضاً لموضوع الدليل الاجتهادي توسعة وتنقيحاً ، وهو من أنحاء الحكومة كما عرفت(1) ، فينطبق عليه الدليل الاجتهادي وهو «أنّ الثوب المغسول به طاهر» ، أو «أ نّه مطهّر للثوب المغسول به» فإذا شكّ في طهارة ثوب مغسول به يكون الدليل الاجتهادي حاكماً بطهارته ، ولا يعارضه استصحاب النجاسة ؛ لكونه حاكماً عليه .

ص: 281


1- تقدّم في الصفحة 271 .

فلو فرض ماءان يكون أحدهما كرّاً بالوجدان ، والآخر بالاستصحاب يكون كلاهما مشمولين لقوله : «الكرّ مطهّر» أو «الثوب المغسول بالكرّ طاهر» وإن كان أحدهما مصداقاً وجدانياً والآخر مصداقاً تعبّدياً ، فكما لا يجري استصحاب النجاسة مع الغسل بالكرّ وجداناً ؛ لتقدّم الدليل الاجتهادي على الاستصحاب ، كذلك لا يجري مع الغسل بما حكم بكرّيته بالأصل ؛ لعين ما ذكر .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ تقدّم الأصل السببي على المسبّبي ليس لحكومته عليه ، بل لحكومته على الدليل الاجتهادي بتنقيح موضوعه ، وحكومة الدليل الاجتهادي على الأصل المسبّبي بتنقيح موضوعه أو رفعه ، فتأمّل فإنّه دقيق .

ولعلّ ما ذكرناه هو مراد الشيخ الأعظم من قوله في جواب الإشكال الأوّل :

«وثانياً : أنّ نقض يقين النجاسة بالدليل الدالّ على أنّ كلّ نجس غسل بماء طاهر فقد طهر، وفائدة استصحاب الطهارة إثبات كون الماء طاهراً به»(1) انتهى .

لكنّه قدّس سرّه لم يستقرّ على هذا المبنى ، وكأ نّه لم ينضجه ولم يتأمّل في أطرافه ، ولذا تراه يجيب عن الإشكال الثاني الذي هو قريب من الأوّل أو عينه بما هو خلاف التحقيق ، وها أنا أذكر ملخّص الإشكال والجواب :

نقل كلام الشيخ الأعظم ونقده

قال; : قد يشكل بأنّ اليقين بطهارة الماء واليقين بنجاسة الثوب المغسول به كلٌّ منهما يقين سابق شكّ في بقائه وارتفاعه ، وعموم «لا تنقض...» نسبته إليهما على حدّ سواء ، فلا وجه لإجرائه في السبب دون المسبّب .

ص: 282


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 396 .

ويدفع : بأنّ نسبة العموم إليهما ليست على حدّ سواء ؛ لأنّ شموله للسبب بلا محذور ، ولكن شموله للمسبّب مستلزم للدور ؛ لأنّ تخصيص الدليل بالنسبة إلى السبب يتوقّف على شمول العامّ للمسبّب ، وشموله له يتوقّف على تخصيصه ؛ لأنّه مع عدم التخصيص يخرج الشكّ في الأصل المسبّبي عن قابلية شمول العامّ له .

أو يقال : إنّ فردية الشكّ المسبّبي للعامّ تتوقّف على رفع اليد عنه بالنسبة إلى الشكّ السببي ، ورفع اليد عنه يتوقّف على فردية المسبّبي له .

وإن شئت قلت : إنّ حكم العامّ والشكّ المسبّبي من قبيل لازم الوجود للشكّ السببي ، فهما في رتبة واحدة ، فلا يجوز أن يكون أحدهما موضوعاً للآخر .

أو يقال : إنّ الشكّ السببي في المرتبة المتقدّمة لا محذور لشمول العامّ له ، فإنّه بلا مزاحم ، فإنّ الشكّ المسببي، ليس في هذه الرتبة ، وفي الرتبة المتأخّرة يزول الشكّ بدليل «لا تنقض . . .» في الأصل السببي ، فيخرج عن قابلية شمول العامّ(1) ، انتهى بتوضيح منّا .

وفيه أوّلاً : أنّ ما أفاده من لزوم الدور غير وارد ؛ لأنّ فردية الشكّ السببي للعامّ وجدانية لا تتوقّف على شيء ، فالشكّ السببي والمسبّبي كلاهما مشمولان للعامّ ، ولو فرض أنّ مفاد الأصل السببي وجوب ترتيب آثار الكرّية ومن آثارها طهارة الثوب المغسول به ، فكأ نّه قال : «إذا شككت في طهارة الثوب المغسول بالكرّ فابنِ على طهارته» ومفاد الأصل المسبّبي الذي يكون مصداقاً للعامّ

ص: 283


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 397 - 398 .

وجداناً «أ نّه إذا شككت في طهارة الثوب الكذائي ونجاسته فابنِ على نجاسته» وهما حكمان واردان على موضوع واحد في الشكّ في طهارة الثوب المغسول بالكرّ ونجاسته .

وليس مفاد الأصل السببي منافياً للشكّ المسبّبي بالذات ؛ لأنّ الأصل السببي يحكم بكرّية الماء ، والأصل المسبّبي لا ينافيها ، بل المنافاة إنّما تكون بين الحكم بطهارة الثوب المشكوك فيه - التي هي من أحكام استصحاب الكرّية - وبين الحكم بنجاسته التي هي مفاد الأصل المسبّبي ، وهما واردان على موضوع واحد ، فالثوب المشكوك فيه يكون مورداً لاستصحاب النجاسة وللحكم المترتّب على استصحاب الكرّية ، فكأ نّه قال : «كن على يقين من طهارة الثوب المغسول بالكرّ إذا شككت في طهارته ونجاسته» و«كن على يقين من نجاسته» وهما متنافيان .

وليس المقصود من استصحاب النجاسة للثوب الحكم بعدم كرّية الماء حتّى يقال : إنّه مثبت ، بل المراد به هو الحكم بنجاسة الثوب ليس إلاّ ، فاستصحاب الكرّية مفاده : «رتّب آثار الكرّية مطلقاً ، ومنها طهارة الثوب المغسول به» واستصحاب النجاسة مفاده : «رتّب آثار النجاسة» ولا وجه لتقدّم أحد التعبّدين على الآخر ولا حكومة لأحدهما على الآخر .

بل لنا أن نقول بناءً على هذا المبنى : إنّ كثيراً ما يكون الأمر دائراً بين التخصيص في أدلّة الاستصحاب إذا رفعت اليد عن الأصل المسببي ، وبين التقييد فيها إذا رفعت اليد عن مقتضى الأصل السببي ، كما في المثال المتقدّم ، فإنّ رفع اليد عن استصحاب النجاسة تخصيص في أدلّة الاستصحاب ، ورفع اليد

ص: 284

عن طهارة الثوب المغسول به تقييد فيها ؛ لأنّ استصحاب الكرّية بعض آثاره طهارة الثوب المغسول به ، وترتيب جميع الآثار إنّما هو بالإطلاق لا العموم ، فدار الأمر بين التقييد والتخصيص ، ولعلّ التقييد أولى من التخصيص .

وثانياً : أنّ ما أفاده من تقدّم الشكّ السببي طبعاً ورتبةً على الشكّ المسبّبي.

فيه ما تقدّم(1) في جواب شيخنا العلاّمة أعلى اللّه مقامه في مبحث الاستصحاب التعليقي : من أنّ التقدّم العِلّي والمعلولي - ممّا يكون منشؤه صدور أحدهما من الآخر - لا يكون منشأ لتقدّم ترتّب الحكم عليه ؛ لأنّه أمر عقلي خارج عن المحاورات العرفية ، فقضيّة : «لا تنقض . . .» قضيّة عرفية ملقاة إلى العرف ، والشكّ السببي يكون مع الشكّ المسبّبي في الوجود الخارجي، معيّة زمانية خارجية لا يتقدّم أحدهما على الآخر ، والترتّب العِلّي العقلي الذي منشؤه صدور هذا من هذا أو نحوه لا يصير مناطاً لتقدّم انطباق الكبرى على العلّة وتأخّره عن المعلول ، فكلّ من العلّة والمعلول في عرض واحد بالنسبة إلى عدم نقض اليقين بالشكّ .

هذا ، مضافاً إلى أنّ الشكّ السببي في الرتبة المتقدّمة على الشكّ المسبّبي وعلى الحكم بالكرّية ، والحكم بطهارة الثوب المغسول به متأخّر عن الحكم بالكرّية تأخّر الحكم عن موضوعه ، والحكم بالنجاسة متأخّر عن الشكّ في النجاسة والطهارة الذي هو في رتبة الحكم بالكرّية وفي عرض الحكم بالطهارة ، فالحكم بطهارة الثوب في رتبة الحكم بالنجاسة ، فما هو المتقدّم

ص: 285


1- تقدّم في الصفحة 160.

ليس معارضاً لاستصحاب النجاسة ، وما هو المعارض وهو التعبّد بالطهارة في رتبته .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ تقدّم الأصل السببي على المسببي ليس لأجل التقدّم الرتبي والطبعي ، ولا لأجل دوران الأمر بين التخصّص والتخصيص بلا وجه أو على وجه دائر ، بل الوجه في تقدّمه عليه هو حكومة الأصل السببي على الكبرى الكلّية الاجتهادية بتنقيح موضوعها وتقدّم الدليل الاجتهادي المحرز بالتعبّد على الأصل المسبّبي .

فالميزان في كون الأصل السببي مقدّماً على المسبّبي على ما ذكرنا هو أن يندرج بالأصل السببي شيء في موضوع كبرى كلّية متضمّنة للحكم على أحد طرفي الشكّ المسبّبي ، إثباتاً أو نفياً ، فاستصحاب كرّية الماء مقدّم على استصحاب نجاسة الثوب ، واستصحاب قلّة الماء مقدّم على استصحاب طهارته إذا وردت عليه نجاسة ؛ فإنّه باستصحاب القلّة يندرج الماء المشكوك فيه في موضوع أدلّة انفعال الماء القليل ، فيقدّم الدليل الاجتهادي على الاستصحاب .

الإشكال على ما قالوا في وجه طهارة الملاقي لبعض أطراف العلم

وممّا ذكرنا يرد إشكال على ما أفادوا في وجه طهارة ملاقي أحد أطراف المعلوم بالإجمال ؛ حيث قالوا :

إنّ الشكّ في طهارة الملاقي - بالكسر - مسبّب عن الشكّ في طهارة الملاقى ، وأصالة الطهارة فيه حاكمة على أصالة الطهارة في الملاقي ، فلا تجري هي إلاّ

ص: 286

بعد سقوط الأصل الحاكم بالمعارضة ، وبعده تجري بلا معارض(1) .

وهو أنّ طهارة الملاقي - بالكسر - ليست من الآثار الشرعية لطهارة الملاقى - بالفتح - فأصالة طهارة الملاقى لا ترفع الشكّ عن الملاقي ، فلا تكون حاكمة على أصلها .

وإن شئت قلت : إنّ الميزان في تقدّم الأصل السببي هو إحرازه موضوع دليل اجتهادي يحكم بثبوت حكم في مورد الأصل المسبّبي أو نفيه عنه ، ولم يرد دليل اجتهادي بأ نّه «كلّ ما لاقى طاهراً فهو طاهر» بل المستفاد من شتات الأدلّة «أنّ كلّ ما لاقى نجساً فهو نجس» ، فاستصحاب نجاسة الملاقى في مورده مقدّم على استصحاب طهارة الملاقي أو أصالة طهارته ؛ لثبوت الكبرى المتقدّمة ، وأمّا استصحاب طهارته فلا يقدّم على استصحاب طهارة ملاقيه ، وكذا أصالة الطهارة في الملاقي والملاقى تجريان في عرض واحد ، لا تقدّم لإحداهما على الاُخرى ، ولقد ذكرنا وجه جريان أصل الطهارة في الملاقي - بالكسر - من غير معارض في محلّه ، فراجع(2) .

دفع إشكال أوردناه على صحيحة زرارة

كما أ نّه ممّا ذكرنا يتّضح الجواب عن الإشكال الذي أوردناه سابقاً في ذيل صحيحة زرارة الاُولى : من أنّ الظاهر منها إجراء استصحاب الوضوء لدى الشكّ

ص: 287


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 242 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 82 - 84 .
2- أنوار الهداية 2 : 232 .

في تحقّق النوم ، مع أنّ الشكّ في بقاء الوضوء مسبّب عن الشكّ في تحقّق النوم ، فكان ينبغي عليه إجراء استصحاب عدم النوم ، وأجبنا عنه بوجه مبنيّ على تسليم حكومة أصالة عدم النوم على أصالة بقاء الوضوء(1) .

والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ استصحاب عدم النوم لا يثبت بقاء الوضوء إلاّ على القول بالأصل المثبت ؛ لما عرفت(2) من أنّ الميزان في تقدّم الأصل السببي على المسبّبي هو إدراج الأصل السببي المستصحب تحت الكبرى الكلّية الشرعية حتّى يترتّب عليه الحكم المترتّب على ذاك العنوان، كاستصحاب العدالة لإدراج الموضوع تحت كبرى جواز الطلاق والشهادة والاقتداء والقضاء ونحوها.

وأنت خبير بأ نّه لم ترد كبرى شرعية ب «أنّ الوضوء باقٍ مع عدم النوم» وإنّما هو حكم عقلي مستفاد من أدلّة ناقضية النوم كقول أبي عبداللّه علیه السلام : «لا ينقض الوضوء إلاّ ما خرج من طرفيك ، أو النوم»(3) فيحكم العقل بأنّ الوضوء إذا تحقّق وكانت نواقضه محصورة في اُمور غير متحقّقة وجداناً إلاّ النوم المنفيّ بالأصل هو باقٍ ، فالشكّ في بقاء الوضوء وإن كان مسبّباً عن الشكّ في تحقّق النوم ، لكن أصالة عدم النوم لا ترفع ذلك الشكّ إلاّ بالأصل المثبت .

وبما ذكرنا في فقه الحديث يمكن الاستدلال به على عدم حجّية مثبتات الاستصحاب ، فتدبّر .

ص: 288


1- تقدّم في الصفحة 25.
2- تقدّم في الصفحة 281 - 282 .
3- تهذيب الأحكام 1 : 6 / 2 ؛ وسائل الشيعة 1 : 248 ، كتاب الطهارة ، أبواب نواقض الوضوء ، الباب 2 ، الحديث 1 .

ثمّ اعلم : أنّ الميزان الذي ذكرنا في تقدّم الأصل السببي ميزان نوعي غالبي ، وإلاّ فقد يتقدّم الأصل السببي على المسبّبي ؛ لأجل إحرازه موضوع التكليف ، فينقّح المكلّف به ، فيقدّم على أصالة الاشتغال عقلية ونقلية ؛ أي استصحاب الاشتغال بناءً على جريانه .

هذا تمام الكلام في القسم الأوّل من تعارض الاستصحابين .

القسم الثاني: من تعارض الاستصحابين
اشارة

وأمّا القسم الثاني منه ؛ أي ما كان الشكّ فيهما ناشئاً عن أمر ثالث ، فمورده ما إذا علم ارتفاع أحد الحادثين لا بعينه ، وهو على أقسام ؛ لأنّه :

إمّا أن يلزم من العمل بالاستصحابين مخالفة عملية لتكليف أو لا .

وعلى الثاني : إمّا أن يقوم دليل على عدم الجمع بين المستصحبين أو لا .

وعلى الثاني : إمّا أن يكون لكلّ منهما أثر شرعي في زمان الشكّ ، أو يكون الأثر مترتّباً على واحد منهما .

هذه جملة ما تعرّض لها الشيخ الأعظم قدّس سرّه (1) ، والصورتان الأخيرتان غير داخلتين في تعارض الاستصحابين ، فبقيت الصورتان الأوّلتان .

والأولى تمحيض البحث في تعارض الاستصحابين بعد الفراغ عن جريانهما ؛ وأنّ مقتضى القاعدة بعد البناء على الجريان هل هو سقوطهما ، أو العمل بأحدهما مخيّراً مطلقاً ، أو بعد فقدان المرجّح ، وإلاّ فيؤخذ بالأرجح ؟ وأمّا بعد البناء على عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي : إمّا

ص: 289


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 406 .

للمحذور منه ثبوتاً ، أو لقصور أدلّته إثباتاً ، فلا يبقى مجال لهذا البحث .

وبالجملة : أنّ البحث هاهنا إنّما هو في تعارض الاستصحابين ، لا في جريانهما وعدمه في أطراف العلم .

فنقول : بناءً على جريان الاستصحاب في أطراف العلم ذاتاً وكون المحذور هو المخالفة العملية أو قيام الدليل على عدم الجمع بين المستصحبين، هل القاعدة تقتضي ترجيح أحد الأصلين أو سقوطهما أو التخيير بينهما ؟

عدم جواز ترجيح ذي المزيّة بشيء من المرجّحات

أمّا الترجيح فلا مجال له ، وذلك يتّضح بعد التنبيه على أمر ، وهو أنّ ترجيح أحد الدليلين أو الأصلين على الآخر إنّما هو :

بعد الفراغ عن تحقّقهما أوّلاً ، وذلك واضح .

وبعد الفراغ عن تحقّق المرجّح مع ذي المزيّة ومقابله ثانياً ، فمع عدم تحقّق المزيّة مع ذيها ومقابله لا يمكن الترجيح بها .

وبعد الفراغ عن كون مضمونهما واحداً ثالثاً ؛ ضرورة عدم تقوية شيء بما يخالفه أو لا يوافقه .

فحينئذٍ : إمّا أن يراد ترجيح أحد الاستصحابين على الآخر بدليل اجتهادي معتبر ، أو بدليل ظنّي غير معتبر ، أو بأصل من الاُصول الشرعية أو العقلائية المعتبرة ، أو غير المعتبرة .

لا سبيل إلى الترجيح بالدليل الاجتهادي المعتبر ؛ لحكومته على الاستصحاب ، فلا يبقى ذو المزيّة معه ، وكذا بالاُصول العقلائية المعتبرة ، لعين ما

ص: 290

ذكر ، ولا بالاُصول الشرعية كأصالة الإباحة والطهارة والبراءة ، ولا العقلية كأصالة البراءة والاشتغال ؛ لأنّ الاستصحاب مقدّم على كلّ منها ، فلا تتحقّق المزيّة مع ذيها ، فلا مجال للترجيح بالشيء المفقود مع ما يراد الترجيح به .

ومن ذلك يعلم : أ نّه لا مجال لترجيح الأصل الحاكم بالمحكوم وبالعكس ، فاستصحاب الطهارة لا يرجّح بأصلها وبالعكس .

وأمّا الترجيح بدليل ظنّي غير معتبر - كترجيح الاستصحاب بالعدل الواحد بناءً على عدم اعتباره - فلا يمكن أيضاً ؛ لتخالف موضوعيهما ومضمونيهما ، فمفاد استصحاب الطهارة ترتيب آثار اليقين بالطهارة في زمان الشكّ ، أو ترتيب آثار الطهارة الواقعية في زمان الشكّ ، ومفاد الدليل الظنّي كخبر الواحد هو الطهارة الواقعية ، فلا يتوافق مضمونهما ولا رتبتهما .

نعم ، من ذهب إلى أنّ الاستصحاب من الاُصول المحرزة ، وأنّ مفاده هو الحكم بوجود المستصحب ، أو العمل به على أ نّه هو الواقع(1) لا بدّ له من الذهاب إلى ترجيحه بالدليل الظنّي غير المعتبر ؛ لوحدة مضمونيهما ، بل رتبتيهما أيضاً .

ولذا ذهب صاحب هذا القول إلى عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي ولو لم يلزم منه مخالفة عملية ، قائلاً :

إنّه كيف يعقل الحكم ببقاء النجاسة مثلاً في كلّ واحد من الإناءين مع العلم بطهارة أحدهما ؟ ! ومجرّد أ نّه لا تلزم من الاستصحابين مخالفة عملية لا يقتضي

ص: 291


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 16 و19 ، و4 : 692 .

صحّة التعبّد ببقاء النجاسة في كلّ منهما ؛ فإنّ الجمع في التعبّد ببقاء مؤدّى الاستصحابين ينافي ويناقض العلم الوجداني بالخلاف(1) ، انتهى .

فإنّ المناقضة بين العلم الوجداني ومؤدّى الاستصحابين لا تمكن إلاّ أن يكون متعلّقهما واحداً ، ومع وحدة المتعلّق والمناقضة بين المفادين يتقوّى أحدهما بالآخر إذا كانا متوافقي المضمون، ولا يكون محذور آخر، ومتعلّق العلم الوجداني عين متعلّق الظنّ الغير المعتبر ، فإذا كان مؤدّى الاستصحابين مناقضاً للعلم يكون مناقضاً للظنّ في صورة التخالف ، وموافقاً في غيرها ، ومع توافق مضمونهما ومتعلّقهما لا وجه لعدم تقوّي أحدهما بالآخر ، وعدم ترجيحه به .

وبالجملة : إن كان مفاد الاستصحاب هو البناء العملي ولزوم ترتيب أثر الواقع على المؤدّى لا يكون مناقضاً للعلم الوجداني المتعلّق بالواقع ، فلا وجه لعدم جريانه في أطراف العلم الإجمالي إذا لم تلزم منه مخالفة عملية .

وإن كان مؤدّاهما الواقع فيكون مناقضاً للعلم الوجداني ، ويجب أن يتقوّى بالظنّ الغير المعتبر ، ويكون الظنّ مرجّحاً عند التعارض .

فالجمع بين عدم جريان الاستصحابين في أطراف العلم مطلقاً ؛ لمكان التناقض ، وبين عدم ترجيح الاستصحاب بالأمارة الغير المعتبرة، بين النقيضين .

إن قلت : إنّ هذا الإشكال وارد عليك أيضاً حيث تقول : إنّ مفاد أدلّة الاستصحاب إطالة عمر اليقين ، وهي تقتضي الكشف عن الواقع ، فلا بدّ وأن يتقوّى بالظنّ .

ص: 292


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 693 .

قلت : قد ذكرنا سابقاً (1) أنّ اليقين لا يعقل أن يكون كاشفاً عن الواقع في زمان الشكّ ؛ ضرورة عدم كاشفيته إلاّ عن متعلّقه في ظرف تحقّقه لا مطلقاً ، فمعنى إطالة عمر اليقين في عالم التشريع ليس إلاّ لزوم ترتيب آثار اليقين الطريقي ؛ أي ترتيب آثار الواقع في زمان الشكّ ، وهو لا يناقض الواقع ، وأيّ تناقض بين كون الشيء نجساً واقعاً ، ولزوم ترتيب آثار الطهارة في ظرف الشكّ ؟ ! وإطالة عمر اليقين تعبّداً ليست إلاّ التعبّد ببقائه بحسب الآثار ، فتدبّر .

فتحصّل ممّا ذكرنا : عدم جواز ترجيحه بالمرجّحات .

بيان وجه تساقطهما

وأمّا وجه التساقط - بعد فرض جريانهما في أطرافه ذاتاً ، وأنّ المانع منه المخالفة العملية ، أو قيام الدليل على عدم الجريان كالمتمِّم والمتمَّم - أنّ الكبرى المجعولة في باب الاستصحاب تكون نسبتها إلى جميع الأفراد على السواء ، وشمولها لها شمولاً واحداً تعييناً ، أي تكون شاملة لجميع الأفراد على سبيل التعيين ، لا الأعمّ من التخيير حتّى يكون شمولها لكلّ فرد مرّتين أو مرّات غير محصورة ؛ مرّة معيّناً ، ومرّة مخيّراً بين اثنين اثنين ، ومرّة بين ثلاثة ثلاثة وهكذا ، أو في حالٍ معيّناً ، وفي حالٍ مخيّراً ومعيّناً ، وهذا واضح .

وحينئذٍ : لا يمكن الأخذ بكلّ واحد من أطراف العلم ؛ للزوم المخالفة العملية ، ولا ببعض الأطراف معيّناً ؛ لعدم الترجيح ، ولا مخيّراً ؛ لعدم شمول الكبرى للأفراد مخيّراً رأساً ، فيلزم سقوطهما .

ص: 293


1- تقدّم في الصفحة 41 و174 ؛ وراجع أيضاً أنوار الهداية 1 : 73 ، الهامش .

حول وجهي التخيير في تعارض الاستصحابين والجواب عنهما

اشارة

وما يمكن أن يكون وجهاً للتخيير أمران ذكرناهما في باب الاشتغال(1) ، ونشير إليهما إجمالاً :

أحدهما : أ نّه بعد سقوط الدليل بما ذكر يستكشف العقل خطاباً تخييرياً ؛ لوجود الملاك التامّ في الأطراف ، كما في باب التزاحم ، فقوله : «أنقذ الغريق» إذا سقط بعد التزاحم يستكشف العقل خطاباً تخييرياً؛ لوجود الملاك في كلّ منهما، فما هو الملاك لتعلّق الخطاب التعييني لكلّ غريق يكون ملاكاً للخطاب التخييري ، فبعد سقوط الهيئة نتمسّك بإطلاق المادّة ، ونستكشف الخطاب التخييري .

ودعوى : أنّ استكشاف الملاك لا طريق له مع سقوط الهيئة مردودة بأنّ السقوط إذا كان بحكم العقل لا يوجب تقييد المادّة ، ولا سقوط الملاك ، هذا .

ويرد عليه : أنّ استكشاف الخطاب التخييري لا يمكن فيما نحن فيه ؛ لاحتمال ترجّح اقتضاء التكليف الواقعي في الاحتياط على اقتضاء اليقين والشكّ لحرمة النقض ، ومع هذا الاحتمال لا يمكن كشف الخطاب ؛ لعدم إحراز الملاك التامّ ، كذا قيل(2) .

والتحقيق أن يقال : إنّ كشف الخطاب في مثل : «أنقذ الغريق» ممّا لا مانع منه ؛ لوجود الملاك في كلّ من الطرفين ، دون مثل : «لا تنقض...» لعدم الملاك في

ص: 294


1- أنوار الهداية 2 : 186 .
2- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 458 - 459 .

الطرفين ، ولا في واحد منهما ؛ لأنّه ليس تكليفاً نفسياً مشتملاً على الملاك ، بل هو تكليف لأجل التحفّظ على الواقع ، لا بمعنى كونه طريقاً إليه ، بل بمعنى كون ترتيب آثار الواقع بملاك درك الواقع .

مثل ما إذا أوجب الشارع الاحتياط في الشبهة البدوية ، فاستصحاب الوجوب والحرمة لا يوجب حدوث ملاك في المستصحب ، بل يكون حجّة على الواقع لو أصاب الواقع ، وإلاّ يكون التخلّف تجرّياً لا غير .

وأوضح منه الاستصحابات الموضوعية ، فإذا علم انتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف وسقط الأصلان لا يمكن كشف الحكم التخييري ؛ لعدم الملاك في الطرفين .

ثانيهما : أنّ إطلاق أدلّة الاستصحاب يقتضي عدم نقض اليقين بالشكّ في حال نقض الآخر وعدمه ، كما أنّ إطلاق أدلّة الترخيص يقتضيه في حال الإتيان بالآخر وعدمه ، وإطلاق مثل «أنقذ الغريق» يقتضي إنقاذ كلّ غريق ، أنقذ الآخر أو لا ، ولا يجوز رفع اليد عنه إلاّ بما يحكم العقل ، وهو ما تلزم منه المخالفة العملية ، والترخيص في المعصية ، والتكليف بما لا يطاق .

ونتيجة ما ذكر : هو الأخذ بمقتضى «لا تنقض...» تخييراً ، وبالأدلّة المرخّصة كذلك ، وبمثل «أنقذ الغريق» .

وبالجملة : إنّ المحذور فيها إنّما هو من إطلاق تلك الأدلّة ، فلا بدّ من رفع اليد منه ، لا من أصلها .

وأجاب عنه بعض أعاظم العصر بوجه ضعيف(1) ، ولقد تعرّضنا لجوابه وبعض

ص: 295


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 28 - 32 .

موارد الإشكال عليه في ذلك المبحث ، فراجع(1) .

وأورد عليه شيخنا الاُستاذ قدّس سرّه : بأنّ لازم رفع اليد عن إطلاق كلّ طرف هو الترخيص في كلّ طرف بشرط ترك الآخر ، ووجوب إنقاذ كلّ واحد من الغريقين بشرط ترك الآخر ، وهو مستلزم للترخيص في المعصية إذا تركهما ، وللتكليف بما لا يطاق إذا ترك إنقاذ الغريقين ؛ لتحقّق شرط كلّ من الطرفين .

وأجاب عنه : بأ نّ الأحكام لا تشمل حال وجود متعلّقاتها ، ولا حال عدمها ؛ لأنّ الشيء المفروض الوجود ليس قابلاً لأن يتعلّق به حكم ، وكذا المفروض العدم ؛ لأنّه بعد هذا الفرض يكون خارجاً عن تحت قدرة العبد(2) .

وهذا الجواب لا يخلو عن إشكال .

والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّه ليس في المقام قضيّتان شرطيتان ، حتّى يقال : مع تحقّق شرطهما يلزم المحذور المتقدّم ، بل رفع اليد عن الإطلاق إنّما هو بحكم العقل فيما يلزم منه محذور التكليف بالمحال ، أو الترخيص في المعصية .

فنقول : أمّا في المتزاحمين ، فيحكم العقل بأنّ العبد إذا اشتغل بإنقاذ كلّ غريق يكون معذوراً في ترك الآخر ، أو غير مكلّف به - على اختلاف المسلكين - لكونه في حال صرف قدرته لإنقاذه عاجزاً عن إنقاذ الآخر ، فيحكم العقل برفع فعلية التكليف ، أو كونه معذوراً حال صرف قدرته في أحدهما عن الآخر ، لا أنّ التكليف بكلّ واحد منهما مشروط بعدم الآخر .

ص: 296


1- أنوار الهداية 2 : 191 - 193 .
2- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 459 - 460 .

ولازم ما ذكرنا : أ نّه مع الإتيان بكلّ واحد منهما يكون معذوراً في ترك الآخر ، أو غير مكلّف به ، وإذا تركهما لا يكون معذوراً في واحد منهما ، ويكون مكلّفاً بكلّ واحد منهما .

وليس هذا تكليفاً بالمحال ؛ لأنّه غير مكلّف بالمجموع ؛ لعدم تعلّق التكليف إلاّ بالمعيّنات ، والمجموع ليس مورداً للتكليف ، فالمكلّف التارك لإنقاذ الابن - من غير صرف القدرة في إنقاذ الأخ - غير معذور في ترك إنقاذه ، بل مكلّف به ؛ لكونه قادراً عليه ، وكذا التارك لإنقاذ الأخ من غير صرف القدرة في إنقاذ الابن ، ولا يتعلّق التكليف بمجموعهما حتّى يقال : إنّه غير قادر عليهما .

وبالجملة : إنّ العجز عن كلّ واحد منهما إنّما يتحقّق بالاشتغال بالآخر ، والعجز عن المجموع وإن كان محقّقاً لكنّه غير مكلّف به ، ولا معاقب عليه ، بل مكلّف بكلّ واحد ، ومعاقب عليه إذا تركهما وهو قادر على كلّ واحد منهما .

وأمّا الترخيص في الترك في الشبهات الوجوبية ، فالذي يحكم به العقل أنّ ترخيص تركهما غير جائز ، وأمّا الآتي بكلّ واحد فيجوز أن يرخّص في ترك الآخر ، فيحكم العقل بأنّ التارك لكلّ واحد غير مرخّص في الآخر ، ولازمه أنّ التارك لهما لا يكون مرخّصاً في واحد منهما ، وإن فرض أ نّه لو أتى بواحدٍ منهما يكون غير الواجب الواقعي .

وفي الشبهات التحريمية يحكم العقل بأنّ ترخيص إتيان كلٍّ منهما مطلقاً غير جائز ، دون إتيان كلّ مع ترك الآخر ، ولازمه أ نّه مع الإتيان بهما لا يكون مرخّصاً في شيء منهما ، لكن مع تركهما لا ينقلب حكم العقل عمّا هو عليه من أ نّه مع فرض ترك كلٍّ مرخّص في الآخر ، وأمّا ترك المجموع فليس موضوعاً

ص: 297

واحداً ومحكوماً بحكم ، حتّى يقال : مع تركهما يكون مرخّصاً فيهما .

ويمكن أن يقال : إنّه بعد فرض إطلاق أدلّة الترخيص يحكم العقل برفعه في كلّ واحد مع الإتيان بالآخر ، فمع فرض الإتيان بهما لا يكون مرخّصاً في واحد منهما ، وإن فرض أ نّه لو ترك واحد منهما يكون غير الحرام ، فالترخيص في كلّ واحد على فرض ترك الآخر لا ينتهي إلى الإذن في المعصية ، كما هو واضح ، هذا ، ولكنّ الشأن في إطلاق أدلّة الاستصحاب .

ويمكن دعوى الفرق بين أدلّة الترخيص وبين أدلّة الاستصحاب : بأنّ الاُولى مطلقة دون الثانية ؛ لأنّ الاستصحاب بما أ نّه مجعول بملاحظة الواقع والتحفّظ عليه - كالاحتياط في الشبهات البدوية لو فرض جعله - يمكن منع إطلاق أدلّته بالنسبة إلى أطراف العلم الإجمالي بالانتقاض ، تأمّل .

هذا كلّه حال الاستصحاب مع الأمارات والاُصول .

وأمّا حاله مع سائر القواعد ممّا وقع الكلام في أماريتها وأصليتها ، فلا بدّ من بيان أدلّتها وحدود دلالتها حتّى يتّضح الحال فيها ، فلا بأس بصرف الكلام إليها بنحو البسط تبعاً للشيخ الأعظم(1) .

فنقول : يقع الكلام فيها في مباحث :

ص: 298


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 320 - 392 .
المبحث الأوّل: الكلام في قاعدة اليد
اشارة

ولها جهات من البحث :

الجهة الاُولى : في تحقيق ماهية اليد

ماهية اليد فيما نحن فيه ؛ أي ما هو موضوع بناء العقلاء والأدلّة الشرعية، هي الاستيلاء العرفي والسلطنة الفعلية على الشيء ؛ أيّ نحو من الاستيلاء كان ، وعلى أيّ شيء تعلّق ، وهو يختلف بحسب الموارد ، وبحسب المستولي والمستولى عليه ، فالاستيلاء على متاع البيت بنحو ، وعلى البيت بنحو ، وعلى القرية بنحو ، وعلى توابعها بنحو ، وعلى مراتعها بنحو ، وعلى التلال والجبال التي هي من التوابع البعيدة بنحو .

كما أنّ استيلاء السلاطين أو الدول على المملكة بنحو ، وعلى الحدود والثغور بنحو ، وعلى البحار التابعة لها بنحو ، وعلى الجوّ والمحيط بنحو ، وهو يختلف حسب اختلاف الأزمنة ، ففي سالف الزمان لم يكن الجوّ البعيد - نحو ميل أو

ص: 299

أكثر - وقعر البحار العميقة تحت الاستيلاء والسلطنة الفعلية ، والآن يكون كلّ ذلك إلى حدود تحتهما ، وإذا حدثت آلات أرقى ممّا هي الآن يتّسع نطاق الاستيلاء والسلطنة حسبها ، فالاستيلاء أمر اعتباري لا مقولي ، ومنشأ اعتباره مختلف حسب اختلاف الموارد المذكورة .

الجهة الثانية: الدليل على اعتبار اليد

لا إشكال ولا كلام في اعتبار اليد في الجملة واقتضائها الملكية ، ويدلّ عليه بناء العقلاء وسيرتهم في جميع الأعصار والأمصار ، بل هو من الضروريات ، لا يشكّ فيه عاقل ، ولا يكون في طريقتهم وسيرتهم ما هو أوضح منه ، لو لم نقل بأ نّه ليس فيهما ما هو بتلك المثابة من الوضوح .

كما أ نّه لا ينبغي الإشكال في أ نّها لدى العقلاء أمارة على الملكية ، وكاشفة عنها ، لا أصل عملي يعمل العقلاء على طبقه ؛ حفظاً للنظام ورغد العيش ، ومبنى أماريتها هل هي الغلبة ، أو الظنّ النوعي أو غير ذلك ؟ احتمالات ، فمن رجع إلى ارتكازات العرف وبناء العقلاء لا يشكّ في ذلك .

ويدلّ على اعتبارها بل أماريتها مضافاً إلى ذلك أخبار كثيرة في أبواب متفرّقة ، نذكر ما عثرنا عليه فعلاً ، وفيها الكفاية ، ولعلّ المتتبّع يعثر على أكثر منها ، وهي طوائف :

منها : ما تدلّ على اعتبارها وأماريتها .

ومنها : ما تدلّ على اعتبارها من غير دلالة على الأصلية أو الأمارية .

ص: 300

ومنها : ما توهم الأصلية .

فمن الاُولى : رواية يونس بن يعقوب ، ذكرها صاحب «الوسائل» في ميراث الزوجين : محمّد بن الحسن ، بإسناده(1) عن علي بن الحسن ، عن محمّد بن الوليد(2) عن يونس بن يعقوب ، عن أبي عبداللّه علیه السلام : في امرأة تموت قبل الرجل ، أو رجل قبل المرأة ؟ قال : «ما كان من متاع النساء فهو للمرأة ، وما كان من متاع الرجال والنساء فهو بينهما ، ومن استولى على شيء منه فهو له»(3) .

والظاهر منها: أ نّه في مقام النزاع ورفع الخصومة، وتشخيص المدّعي والمنكر - إذا رفع الأمر إلى الحاكم - إن اُحرز استيلاء أحد الزوجين على شيء من متاع البيت فهو له بيمينه ، وعلى المدّعي إقامة البيّنة ، وإن لم يحرز فما كان من متاع كلّ من الزوجين ومختصّاته فهو له ، وما كان من متاعهما ومشتركاً بينهما ؛ أي لايكون من مختصّات واحد منهما فهو لهما ، ويعمل على طبق ميزان القضاء فيه .

ص: 301


1- فيه علي بن محمّد بن الزبير ، واستفاد المحقّق الداماد وثاقتهأ من قول النجاشي في حقّه : هو علوّ في الوقت(ب) ، وهي بعيدة ؛ لأنّ الظاهر من العلوّ هو علوّ السند وقلّة الواسطة ، ولا يبعد رجوع الضمير في قول النجاشي إلى أحمد بن عبدالواحد لا الزبيري ؛ فراجع . لكن لا تبعد وثاقة الزبيري ؛ لكثرة رواياته ، وعمل الأصحاب بها . [منه قدس سره] أ - اُنظر تنقيح المقال 2 : 304 / 8472 . ب - رجال النجاشي : 87 / 211 .
2- الخزّاز : ثقة . [منه قدس سره]
3- تهذيب الأحكام 9 : 302 / 1079 ؛ وسائل الشيعة 26 : 216 ، كتاب الفرائض والمواريث ، أبواب ميراث الأزواج ، الباب 8 ، الحديث 3 .

ولا يبعد أن يكون اختصاص المتاع - في البيت الذي هو تحت استيلاء الشريكين - بكلّ واحد منهما أمارة عقلائية على يده عليه ، فيكون الاختصاص أمارة على كونه مستولياً عليه زائداً على الاستيلاء البيتي ، فلو فرض عالم ونجّار في دار ، واختلفا في متاعها ، وكان فيها كتب علمية ، وآلات صناعة النجارة ، يكون ذلك الاختصاص أمارة عقلائية على كون الكتب تحت يد العالم ، والآلات تحت يد النجّار ، فيحكم بملكية كلّ منهما لما يختصّ به ، لأجل اليد والاستيلاء المنكشفة من الاختصاص ، وتطالَب البيّنة من صاحبه المدّعي في مقام الخصومة ، فيكون الحكم على طبق القاعدة ، ولو فرض أنّ الحكم تعبّدي على خلاف القواعد لا يضرّ بما نحن بصدده ؛ وهو استفادة اعتبار اليد من قوله : «ومن استولى على شيء منه فهو له» .

ولا إشكال في أنّ العرف لا يرى لخصوصية الزوج والزوجة ، ولا لمتاع البيت ، ولا للنزاع مدخلية في ذلك ، بل ما يفهم العرف من ذلك هو أنّ الاستيلاء على أيّ نحو كان ، وعلى أيّ شيء كان، يكون تمام الموضوع للحكم بأ نّه له ، فيستفاد منه قاعدة كلّية .

ولا يخفى : أنّ الظاهر من قوله : «هو له» كونه أمارة على الملكية ، فلسانه لسان إلغاء احتمال الخلاف ، فهو في دلالته على الأمارية أقوى من قوله في باب اعتبار خبر الثقة : «ما يؤدّي عنّي فعنّي يؤدّي»(1) فلا إشكال في ذلك لا من حيث الدلالة على القاعدة الكلّية ، ولا من حيث كون اليد أمارة على الملكية .

ص: 302


1- الكافي 1 : 329 / 1 ؛ وسائل الشيعة 27 : 138 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 11 ، الحديث 4 .

ومنها : صحيحتا محمّد بن مسلم ، ذكرهما في «الوسائل» في كتاب اللقطة .

اُولاهما : محمّد بن يعقوب ، عن علي، عن أبيه ، عن ابن محبوب ، عن العلاء ابن رزين ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : سألته عن الدار يوجد فيها الوَرِق(1) .

فقال : «إن كانت معمورة فيها أهلها فهي لهم ، وإن كانت خَرِبة قد جلا عنها أهلها فالذي وجد المال أحقّ به»(2) .

ثانيتهما : محمّد بن الحسن ، بإسناده عن الحسين بن سعيد ، عن فضالة بن أيّوب ، عن العلاء ، عن محمّد بن مسلم ، عن أحدهما في حديث قال : وسألته عن الوَرِق يوجد في دار ، فقال : «إن كانت معمورة فهي لأهلها ، فإن كانت خربة فأنت أحقّ بما وجدت»(3) .

ونحوهما ما عن «دعائم الإسلام»(4) .

والظاهر اتّحادهما ، ولا تقصر دلالتها عن الموثّقة لو لم تكن أدلّ منها ، ويستفاد منها قانون كلّي وقاعدة سيّارة ؛ ضرورة عدم دخالة الوَرِق ولا الدار في ذلك عرفاً ، بل المتفاهم منها أنّ تمام الموضوع للحكم هو الاستيلاء ، وكون

ص: 303


1- الدراهم المضروبة . [منه قدس سره]
2- الكافي 5 : 138 / 5 ؛ وسائل الشيعة 25 : 447 ، كتاب اللقطة ، الباب 5 ، الحديث 1 .
3- تهذيب الأحكام 6 : 390 / 1165 ؛ وسائل الشيعة 25 : 447 ، كتاب اللقطة ، الباب 5 ، الحديث 2 .
4- دعائم الإسلام 2 : 497 / 1774 ؛ مستدرك الوسائل 17 : 128 ، كتاب اللقطة ، الباب 4 ، الحديث 1 .

الوَرِق في الدار تحت يد صاحبها ، فما هو الموضوع كون الشيء تحت اليد ، وتستفاد منها الأمارية ، كما ذكرنا في الموثّقة .

ومنها : ذيل صحيحة عبدالرحمان بن الحجّاج المنقولة في كتاب الميراث ، باب ميراث الزوجين : محمّد بن يعقوب ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، وعن محمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، جميعاً عن ابن أبي عمير ، عن عبد الرحمان بن الحجّاج ، عن أبي عبداللّه علیه السلام قال : سألني هل يقضي ابن أبي ليلى بالقضاء ثمّ يرجع عنه . . . إلى أن قال : ثمّ قضى بعد ذلك بقضاء لولا أ نّي شهدته لم أروه عليه : ماتت امرأة منّا ولها زوج ، وتركت متاعاً فرفعته إليه فقال : اكتبوا المتاع ، فلمّا قرأه قال للزوج : هذا يكون للرجال والمرأة فقد جعلناه للمرأة إلاّ الميزان فإنّه من متاع الرجل ، فهو لك . فقال لي : «فعلى أيّ شيء هو اليوم» ؟ فقلت : رجع إلى أن قال بقول إبراهيم النخعي ؛ أن جعل البيت للرجل ، ثمّ سألته عن ذلك فقلت له : ما تقول أنت فيه ؟ فقال : «القول الذي أخبرتني أ نّك شهدته ، وإن كان قد رجع عنه» .

فقلت : يكون المتاع للمرأة ؟ فقال : «أرأيت إن أقامت بيّنة إلى كم كانت تحتاج» ؟ فقلت: شاهدين. فقال: «لو سألت مَنْ بين لابتيها - يعني الجبلين ونحن يومئذٍ بمكّة - لأخبروك أنّ الجهاز والمتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت زوجها، فهي التي جاءت به، فإن زعم أ نّه أحدث فيه شيئاً فليأت عليه البيّنة»(1).

ص: 304


1- الكافي 7 : 130 / 1 ؛ وسائل الشيعة 26 : 213 ، كتاب الفرائض والمواريث ، أبواب ميراث الأزواج ، الباب 8 ، الحديث 1 .

حيث إنّ إخبار من بين لابتيها بأنّ الجهاز للمرأة مستنداً إلى أ نّه يهدى من بيتها ليس إلاّ من قبل اليد والاستيلاء ، وقوله : «إنّ متاع البيت للمرأة» مستند إليها وإلى استصحابها ، والظاهر منها كونها أمارة ؛ لقوله : «المتاع للمرأة» ولإرجاعه إلى شهادة من بين لابتيها ، ولا يكون إخبارهم إلاّ عن الواقع ؛ لقيام الأمارة العقلائية عليه .

ومنها: صحيحة جميل بن صالح المنقولة في كتاب اللقطة : محمّد بن يعقوب، عن عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد وأحمد بن محمّد، جميعاً عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح ، قال : قلت لأبي عبداللّه : رجل وجد في منزله ديناراً .

قال : «يدخل منزله غيره ؟» قلت : نعم كثير . قال : «هذا لقطة» . قلت : فرجل وجد في صندوقه ديناراً ؟ قال : «يُدخل أحد يده في صندوقه غيره أو يضع فيه شيئاً ؟» قلت : لا . قال : «فهو له»(1) .

فإنّ الظاهر منها أ نّه سأل عمّن وجد في منزله أو صندوقه ديناراً ، ولم يعلم صاحبه ، وكانت شبهته في أنّ مجرّد وجدانه في منزله أو صندوقه مع جهل صاحب اليد يكفي للحكم بأ نّه له أو لا، فحكم بأنّ ما في الصندوق له ، وفيما إذا دخل في بيته غيره أشخاص كثيرون بأ نّه لقطة .

وهو موافق للقاعدة ؛ لأنّ المنازل التي هي معرض المراودة كثيراً لا تكون يد صاحبها بالنسبة إلى مثل الدينار الملقى أمارة عقلائية ، بل الظاهر أنّ مثله لم يكن تحت يده عرفاً .

ص: 305


1- الكافي 5 : 137 / 3 ؛ وسائل الشيعة 25 : 446 ، كتاب اللقطة ، الباب 3 ، الحديث 1 .

نعم ، لو كان الدخول قليلاً ، أو كان الشيء مثل متاع البيت ، تكون اليد أمارة ، ولم يتّضح من استفساره بأن يدخل في داره غيره ، لو أجاب بأ نّه يدخل فيها غيره، هل يفصّل بين القليل والكثير أو لا ؟ فلم يتعرّض لحكم ما إذا دخل في المنزل غيره نادراً ، فهو على طبق القاعدة .

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ حكم الصندوق غير الدار ، فإن أدخل أحد يده فيه ووضع فيه شيئاً يخرج عن الاختصاص ، ويصير مشتركاً في الاستيلاء ، فلا يحكم بأنّ الدينار لصاحب الصندوق بمجرّد كونه صندوقه .

وكيف كان : فالصحيحة دالّة على اعتبار اليد وأماريتها بالتقريب المتقدّم ، وسيأتي التعرّض لحكم المسألة(1) .

ومن الثانية ؛ أي ما تدلّ على اعتبار اليد دون الدلالة على أماريتها : صحيحة العيص بن القاسم المنقولة في بيع الحيوان : محمّد بن الحسن ، بإسناده عن الحسين بن سعيد ، عن صفوان بن يحيى ، عن العيص بن القاسم ، عن أبي عبداللّه عليه الصلاة والسلام قال : سألته عن مملوك ادّعى أ نّه حرّ ، ولم يأت ببيّنة على ذلك ، أشتريه ؟ قال : «نعم»(2) .

ومثلها : حسنة حمزة بن حمران ، قال : قلت لأبي عبداللّه علیه السلام : أدخل السوق واُريد أشتري جارية فتقول : إنّي حرّة .

ص: 306


1- يأتي في الصفحة 315 - 317 .
2- تهذيب الأحكام 7 : 74 / 317 ؛ وسائل الشيعة 18 : 250 ، كتاب التجارة ، أبواب بيع الحيوان ، الباب 5 ، الحديث 1 .

فقال : «اشترها إلاّ أن تكون لها بيّنة»(1) .

ومنها : المكاتبة المنقولة في كتاب إحياء الموات : محمّد بن يعقوب ، عن محمَّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين(2) ، قال : كتبت إلى أبي محمّد : رجل كانت له رحى على نهر قرية ، والقرية لرجل ، فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر ، ويعطّل هذه الرحى ، أ لَه ذلك أم لا ؟ فوقّع : «يتّقي اللّه ويعمل في ذلك بالمعروف ، ولا يضرّ أخاه المؤمن»(3) .

والظاهر أنّ شبهته إنّما هي في أنّ مثل هذه اليد على نهر القرية - أي يد استفادة دوران الرحى مع العلم بأنّ الماء لصاحب القرية - تكون معتبرة ومثبتة لحقّ عليه أو لا ؟ والجواب وإن كان بنحو الوعظ ، لكن يستفاد منه عدم الجواز ، ولا يجوز رفع اليد عن هذا الظاهر بمجرّد كون البيان مشفوعاً بالوعظ ، مع أنّ الأمر بالتقوى والنهي عن الإضرار يؤكّدان ذلك ، تأمّل .

مع إمكان أن يقال : إنّ قوله : «ويعمل بالمعروف» أي بما هو حكم العقلاء ؛ من كون اليد أمارة على ثبوت الحقّ ، فيمكن أن يدّعى أ نّها من القسم الأوّل ، لكن للتأمّل فيه مجال .

ومنها : ما عن «تفسير علي بن إبراهيم» بطريق صحيح ، عن أبي عبداللّه علیه السلام ،

ص: 307


1- تهذيب الأحكام 7 : 74 / 318 ؛ وسائل الشيعة 18 : 250 ، كتاب التجارة ، أبواب بيع الحيوان ، الباب 5 ، الحديث 2 .
2- ابن أبي الخطّاب . [منه قدس سره]
3- الكافي 5 : 293 / 5 ؛ وسائل الشيعة 25 : 431 ، كتاب إحياء الموات ، الباب 15 ، الحديث 1 .

المنقول في كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم : علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عثمان بن عيسى وحمّاد بن عثمان ، جميعاً عن أبي عبداللّه علیه السلام في حديث فدك : «إنّ أمير المؤمنين علیه السلام قال لأبي بكر : أتحكم فينا بخلاف حكم اللّه في المسلمين ؟ قال : لا .

قال : فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادّعيت أنا فيه ، من تسأل البيّنة ؟ قال : إيّاك كنت أسأل البيّنة على ما تدّعيه على المسلمين .

قال : فإذا كان في يدي شيء ، فادّعى فيه المسلمون ، تسألني البيّنة على ما في يدي ، وقد ملكته في حياة رسول اللّه وبعده ، ولم تسأل البيّنة على ما ادّعوا عليّ كما سألتني البيّنة على ما ادّعيت عليهم» ؟ إلى أن قال : «وقد قال رسول اللّه : البيّنة على من ادّعى ، واليمين على من أنكر»(1) .

فإنّ ظهوره في اعتبار اليد واضح ، لكن في دلالته على الأمارية إشكال ، وإن لا يبعد دعواها ، بأن يقال : إنّ قوله : «فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه» أي يملكونه واقعاً بدلالة اليد على الملكية ؛ أي إذا كان شيء تحت يد المسلمين ، وكانوا مالكين له ؛ لأجل دلالة اليد ، وادّعيت أنا من تسأل البيّنة ؟ فالإنصاف : أ نّه لا يخلو عن إشعار بل دلالة ما على المقصود .

ومن الثالثة ؛ أي ما توهم الأصلية : رواية حفص المنقولة في الباب المتقدّم : محمّد بن يعقوب ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه وعلي بن محمّد القاساني(2) ،

ص: 308


1- تفسير القمّي 2 : 156 ؛ وسائل الشيعة 27 : 293 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 25 ، الحديث 3 .
2- ابن شيرة : ثقة . [منه قدس سره]

جميعاً عن القاسم بن يحيى(1) عن سليمان بن داود(2) عن حفص بن غياث(3) عن أبي عبداللّه علیه السلام قال : قال له رجل : إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أ نّه له ؟ قال : «نعم» .

قال الرجل : أشهد أ نّه في يده ولا أشهد أ نّه له ، فلعلّه لغيره ! فقال أبوعبداللّه : «أفيحلّ الشراء منه» ؟ قال : نعم .

فقال أبو عبداللّه : «فلعلّه لغيره ، فَمِن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك ثمّ تقول بعد الملك : هو لي وتحلف عليه ، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك» ؟ ثمّ قال أبو عبداللّه : «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق»(4) .

حيث يتوهّم من قوله : «لو لم يجز . . .» إلى آخره أنّ اعتبار اليد إنّما هو من أجل قيام سوق المسلمين ، وحفظ النظام ، وإدارة رحى الحياة ، لا لكشفها عن الملكية الواقعية(5) .

ص: 309


1- لم يوثّق . [منه قدس سره]
2- المنقري : وثّقه «جش»أ وضعّفه ابن الغضائري(ب). [منه قدس سره] أ - رجال النجاشي : 184 / 488 . ب - الرجال ، ابن الغضائري : 65 / 58 .
3- عدّه الشيخ في العدّة ممّن عمل الأصحاب برواياتهأ . [منه قدس سره] أ - العدّة في اُصول الفقه 1 : 149 .
4- الكافي 7 : 387 / 1 ؛ وسائل الشيعة 27 : 292 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 25 ، الحديث 2 .
5- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 321 .

لكنّه فاسد يتّضح فساده بعد بيان فقه الحديث .

فنقول : إنّ قوله : «يجوز لي أن أشهد أ نّه له ؟» مراده أ نّه تجوز لي الشهادة بالنسبة إليه كما تجوز لي في سائر الاُمور ؟ أي كما أ نّي أشهد أنّ الشمس طالعة ، والفجر طالع ، وزيداً عالم ، وعمراً شجاع ، إلى غير ذلك ممّا تتعلّق به الشهادة ، هل يجوز لي أن أشهد بذلك أيضاً ؟ وبالجملة : تجوز لي الشهادة بذلك كالشهادة بسائر الموضوعات ؟ ولا شكّ أنّ الشهادة فيها إنّما تتعلّق بالواقع ، فالسؤال إنّما هو عن جواز الشهادة بالملكية الواقعية بمحض كون الشيء في يدي رجل ، فأجاب علیه السلام بقوله : «نعم» فقال الرجل : إنّ ما أشهد به إنّما هو كونه في يده ، لا أ نّه ملكه ، فكيف تجوز لي الشهادة بالملكية الواقعية له مع الشكّ فيه ، فأرجعه إلى ارتكازه بطريق النقض ، وأ نّه كما يجوز الشراء منه والحلف على الملكية بعد الشراء مع أنّ ملكيته إنّما جاءت من قبله ، ولا يجوز الحلف إلاّ مع الجزم بالملكية ، كذلك تجوز الشهادة بكونه له ، فاستدلاله علیه السلام لم يكن استدلالاً بحكم شرعي ، بل بارتكاز عرفي ، وبناء عقلائي ، كما هو واضح .

فحينئذٍ قوله : «لو لم يجز هذا» معناه أ نّه لو منع الشارع من هذا الأمر الذي مدار سوق المسلمين عليه يختلّ النظام ، لا أنّ تجويز الشارع ذلك إنّما هو لقيام السوق ، حتّى تتوهّم منه الأصلية ، فدلالتها حينئذٍ على الأمارية لا تقصر عن غيرها بعد التأمّل فيما ذكرنا .

ثمّ الظاهر من الرواية أ نّه لو لم تجز الشهادة لم يقم للمسلمين سوق ، فربّما يستشكل عليها : بأنّ عدم جواز الشهادة لا يوجب الاختلال ، كما لا يخفى .

ص: 310

وجوابه : أنّ ترك الشهادة أو عدم جوازها - لأجل احتمال كونه لغيره - لازمه الاعتناء بهذا الاحتمال ، وعدم اعتبار اليد ، وهو مساوق لعدم جواز الشراء وسائر ما يترتّب على اليد ، وهو موجب لاختلال سوق المسلمين .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الرواية كما تدلّ على اعتبار اليد تدلّ على أماريتها .

ومنها : رواية مسعدة بن صدقة ، المنقولة في أبواب ما يكتسب به : محمّد بن يعقوب ، عن علي بن إبراهيم ، عن هارون بن مسلم(1) عن مسعدة بن صدقة(2) عن أبي عبداللّه علیه السلام قال : سمعته يقول : «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أ نّه حرام بعينه ، فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه ، أو خدع فبيع قهراً ، أو امرأة تحتك وهي اُختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير هذا ، أو تقوم به البيّنة»(3) .

وهذه الرواية هي عمدة ما يمكن أن يستدلّ بها لأصلية اليد ؛ حيث إنّ الظاهر من صدرها وذيلها هو ترتيب آثار الحلّية على المشكوك فيه إلى أن يعلم خلافه ، ولقد مثّل لذلك بمثل الثوب والمملوك اللذين تحت اليد ، فيجب ترتيب

ص: 311


1- ثقة . [منه قدس سره]
2- قالوا : إنّ رواياته سديدة متينة ، يحصل منها الوثوق بوثاقتهأ . [منه قدس سره] أ - راجع روضة المتّقين 14 : 266 ؛ منتهى المقال 6 : 254 ؛ تنقيح المقال 3 : 212 / السطر 13 (أبواب الميم) .
3- الكافي 5 : 313 / 40 ؛ وسائل الشيعة 17 : 89 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب 4 ، الحديث 4 .

آثار الملكية عليهما إلى أن يعلم الخلاف ، وهذا معنى الأصل .

هذا ، ولكنّ الظاهر بل المتعيّن كون هذه الأمثلة من قبيل التنظير ، لا بيان المصداق ؛ ضرورة أنّ قوله : «كلّ شيء هو لك حلال» معناه أنّ تمام الموضوع للحلّية إنّما هو كون الشيء مشكوكاً فيه ؛ أي إذا لم يدلّ دليل على حلّية الشيء ولا على حرمته ، ويكون مشكوكاً فيه فهو حلال ، فموضوع الحلّية هو كون الشيء مشكوكاً فيه ليس إلاّ .

مع أ نّه ليس موضوع الحلّية في تلك الأمثلة هو الشكّ وفقدان الدليل على أحد طرفي الشكّ ؛ ضرورة أنّ اليد في قاعدتها دخيلة في الحكم ، بل هي تمام الموضوع له من غير دخالة الشكّ فيه ، والشكّ إنّما هو في مورده .

وبالجملة : ليس الشكّ في نفسه موضوعاً للحكم بحلّية ما في اليد ، سواء قلنا بأمارية اليد أو أصليتها ، وكذا في الشكّ في كون المرأة رضيعة أو اُختاً ، ليس الشكّ - بما أ نّه شكّ - موضوعاً للحكم بالحلّية ، بل الحكم لاستصحاب عدم حصول الرضاع ، واستصحاب عدم تحقّق نسبة الاُختية لو قيل بجريانه ، وإلاّ فمن أصالة الصحّة في فعل الغير وقاعدة التجاوز والفراغ .

وعلى أيّ حال : ليست الأمثلة المذكورة في الرواية مثالاً ومصداقاً منطبقاً عليها قوله : «كلّ شيء لك حلال» فلا محيص إلاّ أن يحمل على التنظير بأن يقال : إنّ كلّ شيء مشكوك فيه فهو حلال ، مثل ما لو دلّ الدليل على الحلّية ، فكما أنّ الحلّية ثابتة للشيء مع قيام الدليل عليها ، كذلك للشيء المشكوك فيه بما أ نّه مشكوك فيه .

ولعلّه علیه السلام كان بصدد رفع وسوسة بعض أصحاب الوسوسة ، حتّى

ص: 312

لا يأخذهم الوسواس في المشكوك فيه ، فذكر أوّلاً قاعدة كلّية هي : «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أ نّه حرام بعينه» ولم يكتف بذلك حتّى أكّده بأ نّه لا فرق في الحلّية بين أن يقوم الدليل على الحلّية ، أو يكون الموضوع مشكوكاً فيه ، فمثّل بأمثله بعضها ارتكازية عقلائية ، وبعضها شرعية ، ثمّ لم يكتف به حتّى أكّده بقوله : «والأشياء كلّها على ذلك . . .» إلى آخره .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ قاعدة اليد أمارة سواء كان مأخذها الأخبار ، أو بناء العقلاء ، فاتّضح وجه تقدّمها على الاستصحاب ؛ فإنّه بالحكومة إن كان المستند هو الأخبار ، وبالتخصّص إن كان بناء العقلاء .

الجهة الثالثة: حكم اليد على المنفعة

إنّ الاستيلاء على الأعيان معلوم ، وهل الاستيلاء على المنافع يكون بالاستيلاء على الأعيان ، أو يكون الاستيلاء عليها في عرض الاستيلاء على الأعيان ، أو يكون الاستيلاء على الأعيان فقط لكن مقتضاه ملكية العين ومنافعها ، أو يكون مقتضاه ملكية العين فقط وتكون ملكية المنافع تبعاً لملكية العين ؛ أي يكون مقتضى اليد ملكية العين ومقتضى ملكية العين ملكية المنافع إلى أن يعلم خلافها، أو ليست اليد على المنافع وليست ظاهرة في ملكية المنافع أيضاً مطلقاً ؟ وجوه .

يمكن أن يقال : إنّ الأقوى هو الوجه الأوّل ، فإنّ الاستيلاء على العين أوّلاً وبالذات ، وعلى المنافع بتبع العين ، فتكون اليد على المنافع باليد على العين ، كما

ص: 313

أنّ تسليم المنافع بتسليم العين في باب الإجارة عند العقلاء ، لو قلنا بأنّ حقيقة الإجارة عبارة عن تمليك المنافع(1) ، لا التسليط على العين للانتفاع(2) ، ولا إضافة بين العين والمستأجر ، مستتبعة لمالكية المنافع(3) .

والقول : بأنّ المنافع معدومة لا يعقل وقوعها تحت اليد ؛ لأنّ الإضافة بين الموجود والمعدوم غير معقولة ، فالاستيلاء نحو إضافة بين المستولي والمستولى عليه ، والإضافة الفعلية لا بدّ فيها من مضاف ومضاف إليه فعليين ، فلا تتحقّق بين المعدومين ، ولا بين موجود ومعدوم(4) .

ممّا لا يصغى إليه في الاُمور الاعتبارية والإضافات الحكمية ، فالميزان فيها هو الاعتبار العقلائي ، وليست تلك الاُمور من الإضافات المقولية ، حتّى يأتي فيها ما ذكر ، بل هي من الاعتبارات العقلائية ، ولا شكّ في أنّ ملكية المنافع قبل تحقّقها ممّا يعتبرها العقلاء باعتبار تحقّق منشئها ، وكونها في اُهبة الوجود ، فكما أنّ الملكية معتبرة عند العقلاء في المنافع ، فكذلك الاستيلاء عليها عقلائي ، لكنّه يتبع الاستيلاء على العين .

ويمكن أن يقال : إنّ الاستيلاء ، على العين ، لكن كما أنّ مقتضى اليد ملكيتها ، كذلك مقتضاها ملكية منافعها ، فتكون كاشفة عن ملكية العين والمنافع في

ص: 314


1- المختصر النافع : 152 ؛ جامع المقاصد 7 : 80 ؛ مسالك الأفهام 5 : 171 .
2- العروة الوثقى 5 : 7 - 8 .
3- حاشية المكاسب ، المحقّق الخراساني : 32 ؛ البيع ، الإمام الخميني قدس سره 1 : 440 .
4- مستند الشيعة 17 : 342 ؛ عوائد الأيّام : 745 ؛ اُنظر نهاية الدراية ، قاعدة اليد 3 : 331 (ط - الحجري) .

عرض واحد ، فإذا علم من الخارج أنّ العين ملك لغير ذي اليد ، وشكّ في أنّ منافعها له أو لذي اليد ، يحكم بأ نّها لذي اليد .

نعم ، إذا كان النزاع بين ذي اليد وصاحب العين في المنافع يكون ميزان القضاء بحسب طرح النزاع مختلفاً ، فإذا ادّعى ذو اليد أنّ المنافع له : لأجل الاستئجار من صاحب العين يكون مدّعياً ، وصاحب العين منكراً ، ولو ادّعى المنافع من غير استناد إليه يكون القول قوله بيمينه .

ويمكن أن يقال : إنّ اليد كاشفة عن ملكية العين ، وملكية المنافع إنّما هي بتبع ملكية العين ، لا لكشف اليد عنها عرضاً أو طولاً إلاّ بذلك المعنى ، ولكنّ الأقوى مع ذلك هو الوجه الأوّل بحسب الارتكازات العرفية ، والاعتبارات العقلائية .

الجهة الرابعة: هل اليد معتبرة مع عدم علم ذي اليد واعترافه به ؟

لا إشكال في اعتبار اليد وكاشفيتها عن الملكية مع دعوى ذي اليد الملكية، بل مع عدم انضمامها لدعواها ، كما لا إشكال في عدم اعتبارها مع اعترافه بعدم الملكية ، فهل هي معتبرة مع عدم العلم بالنسبة إلى نفسه ، ومع اعترافه بعدم العلم بالنسبة إلى غيره أم لا ؟ اختار ثانيهما المولى النراقي; في «مستنده» و«عوائده» قائلاً : إنّ الأدلّة المثبتة لاعتبار اليد قاصرة عن المورد ، مضافاً إلى رواية جميل بن صالح عن

ص: 315

السرّاد(1) : «رجل وجد في منزله ديناراً . . .»(2) الحديث ؛ فإنّه حكم فيما هو في داره - الذي لا يعلم أ نّه له ، مع كونه مستولياً عليه - أ نّه ليس له ، وأيضاً علّل كون ما وجد في الصندوق له بما يفيد العلم بأ نّه ليس لغيره .

وإلى موثّقة إسحاق بن عمّار قال : سألت أبا إبراهيم علیه السلام عن رجل نزل في بعض بيوت مكّة ، فوجد فيه نحواً من سبعين درهماً مدفونة ، فلم تزل معه ولم يذكرها حتّى قدم الكوفة ، كيف يصنع ؟ قال : «يسأل عنها أهل المنزل ، لعلّهم يعرفونها» . قلت : فإن لم يعرفوها ؟ قال : «يتصدّق بها»(3) .

فإنّه لا شكّ أنّ الدراهم كانت في تصرّف أهل المنزل ، ولو أ نّهم قالوا : لا نعلم أ نّها لنا أو لغيرنا يصدق أ نّهم لا يعرفونها ، فلا يحكم بملكيتها لهم .

ومن ذلك يعلم : أنّ اليد لا تكفي في حكم ذي اليد لأجلها لنفسه ، إن لم يعلم ملكيته(4) ، انتهى ملخّصاً .

وفيه أوّلاً : أنّ دعوى قصور الأدلّة يمكن منعها ؛ بدعوى إطلاق بعض الأدلّة ، كموثّقة يونس وصحيحتي محمّد بن مسلم(5) . ودعوى منع صدق الاستيلاء في مثل المورد من عجيب الدعاوى .

ص: 316


1- سيأتي أنّ ذكر السرّاد في سند الرواية سهو من قلم المحقّق النراقي قدس سره .
2- الكافي 5 : 137 / 3 ؛ وسائل الشيعة 25 : 446 ، كتاب اللقطة ، الباب 3 ، الحديث 1 .
3- تهذيب الأحكام 6 : 391 / 1171 ؛ وسائل الشيعة 25 : 448 ، كتاب اللقطة ، الباب 5 ، الحديث 3 .
4- مستند الشيعة 17 : 338 ؛ عوائد الأيّام : 742 .
5- تقدّم تخريجهما في الصفحة 301 و303 .

وثانياً : أنّ ما ادّعى من دلالة صحيحة جميل على مطلوبه ، ففيه : أنّ الحكم باللقطة إنّما هو في مورد يدخل في المنزل جماعة كثيرون ، ولا إشكال في أنّ مثل تلك المنازل المعدّة للمراودة لا يكون مثل الدراهم والدينار الملقى فيها تحت يد صاحبه .

مضافاً إلى أنّ الدرهم والدينار لهما خصوصية ؛ فإنّ لهما محلاًّ خاصّاً ، كالكيس والصندوق ، فإذا وجد في الدار فإن لم تكن معدّة لدخول الغير فيها ، أو يكون الدخول نادراً يكشف ذلك عن كون الشيء الملقى ولو مثل الدينار تحت يد صاحبها ، بخلاف ما لو كان البيت محلّ المراودة ، خصوصاً إذا كانت كثيرة ، كما هو مفروض السائل .

وأمّا الصندوق فإن أدخل غيره يده فيه ووضع فيه شيئاً فلا إشكال في عدم كونه تحت يد صاحبه مستقلاًّ ، بل يكون في يدهما ، وإلاّ فيحكم بملكية صاحب الصندوق ، ولا ريب في أنّ مفروض السائل إنّما هو صورة جهل الرجل بأنّ الدرهم له ، ولا معنى لفرض العلم بذلك ، فالرواية دالّة على خلاف مطلوبه .

ثمّ إنّ ما ذكره في سند الرواية : من أ نّها رواية جميل عن السرّاد سهو من قلمه ؛ لأنّ السرّاد هو ابن محبوب(1) ، وهو رواها عن جميل بن صالح ، كما تقدّم الحديث بسنده(2) .

وأمّا موثّقة ابن عمّار فلا دلالة لها على دعواه ؛ لأنّ بيوت مكّة التي ينزل فيها

ص: 317


1- راجع مجمع الرجال 2 : 144 و145 ، و7 : 130 .
2- تقدّم في الصفحة 305 .

النزّال ليس ما فيها من قبيل الدراهم التي هي تحت يد صاحبها ، خصوصاً المدفونة منها .

وبالجملة : في البيوت التي تكون معدّة لنزول الزوّار والخلق الكثير ، وفي الدراهم المدفونة فيها خصوصية ليست لغيرها ، فليس الحكم بالتصدّق أو الاستفسار عن صاحب اليد لأجل عدم اعتبار اليد فيما إذا لم يعلم صاحبها ، كما لا يخفى .

الجهة الخامسة: حال اليدين على شيء واحد
اشارة

إذا كان شيء في يد اثنين ، فهل تكون يد كلّ منهما على تمامه مستقلّة تامّة ، أو يد كلّ منهما على تمامه ناقصة ، فيكون كلّ منهما مستولياً على تمامه استيلاء ناقصاً غير تامّ ، أو تكون يد كلّ منهما على نصفه المشاع مستقلّة ، ويكون مستولياً على النصف استيلاءً تامّاً ؟ وعلى الأوّل : فهل تكشف اليدان عن ملكيتهما له ، فيكون تمامه ملكاً مستقلاًّ لهما من غير تعارض في مقتضى اليدين ، أو تكون اليدان متعارضتين وتكون يد كلّ منهما في ذاتها كاشفة عن الملكية المستقلّة لصاحبها ، ومع اجتماعهما تصيران متعارضتين ، كاجتماع البيّنتين المتخالفتين على عين واحدة ؟ وعلى الثاني ، أي بناءً على كون اليدين على تمام الشيء ناقصتين : فهل تكون يد كلّ كاشفة عن ملكية تمامه على نحو النقص أو ملكية نصفه على نحو التمام والاستقلال ؟

ص: 318

والفرق بينهما : أ نّه على الأوّل يكون المالك للعين كليهما مجتمعين ، كملك الخيار للورثة ، بناءً على كونه واحداً لمجموعهم ، تأمّل ، وعلى الثاني يكون لكلّ منهما نصفه المشاع ، وجوه بل أقوال .

وحيث يكون مبنى الاحتمالين الأوّلين جواز استقلال اليدين على شيء واحد ، كما أنّ مبنى أوّلهما جواز اجتماع المالكين المستقلّين على ملك واحد ، فالواجب أوّلاً تحقيقهما حتّى يتّضح الأمر :

جواز اجتماع المالكين المستقلّين على ملك واحد

أمّا جواز استقلال المالكين لمال واحد ، فلا إشكال في أ نّه خلاف اعتبار العقلاء ، بل غير معقول عندهم ، فإنّ الملكية نحو إضافة بين المالك والمملوك يلازمها الاختصاص ، ولا يعقل أن يكون شيء بتمامه مختصّاً بشخصين ، ولا أظنّ أحداً يشكّ في ذلك بعد التدبّر في اعتبارات العقلاء ونحو إضافة الملكية عندهم .

حول كلام المحقّق السيّد الطباطبائي قدّس سرّه وما يرد عليه

ولكنّ السيّد المحقّق الطباطبائي ذهب في كتاب القضاء من «ملحقات العروة» إلى جواز اجتماع المالكين المستقلّين لمال واحد ، وتشبّث في إثبات إمكانه بالوقوع في بعض الموارد ، مثل كون الشيء ملكاً للنوع ، كالزكاة والخمس والوقف على العلماء والفقراء ، على نحو بيان المصرف ؛ فإنّ كلّ فرد من النوع مالك لذلك المال .

ص: 319

قال : بل لا مانع من اجتماع المالكين الشخصيين أيضاً ، كما إذا وقف على زيد وعمرو ، أو أوصى لهما على نحو بيان المصرف ، فإنّه يجوز صرفه على كلّ واحد منهما ، فدعوى عدم معقولية اجتماع المالكين على مال واحد لا وجه لها .

مع أ نّه لا إشكال في جواز كون حقّ واحد لكلّ من الشخصين مستقلاًّ ، كحقّ الخيار ، وكولاية الأب والجدّ على مال القصير ، ومن المعلوم عدم الفرق بين الحقّ والملك .

إلى أن قال : ودعوى أنّ مقتضى الملكية المستقلّة أن يكون للمالك منع الغير ، وإذا لم يكن له منعه فلا يكون مستقلاًّ ، ممنوعة ؛ فإنّ هذا أيضاً نحو من الملكية المستقلّة ، ونظيره الوجوب الكفائي والتخييري في كونهما نحواً من الوجوب ، مع كونه جائز الترك(1) ، انتهى .

وأنت خبير بما فيه : أمّا نقضه بمثل الزكاة والخمس والوقف العامّ فهو غريب ؛ لأنّ المالك في أمثالها هو الجهات لا الأفراد ، ومالكية الجهات عقلائية .

وأمّا مثل الوقف على زيد وعمرو فهو أيضاً كذلك في مفروض كلامه ؛ لأنّ الوقف لهما بوجه يكون كلّ منهما مصرفاً ، لا يمكن إلاّ بالوقف على جهة قابلة للانطباق على كلّ منهما لا غيرهما .

وإلاّ فإن رجع إلى الوقف على كلّ منهما وأعقابهما يكون كلّ منهما موقوفاً عليه بالنسبة إلى نصفه ، وإن رجع إلى الوقف على كلّ منهما بنحو الترديد فهو باطل ، فلا بدّ وأن يكون على نحو الأوّل .

ص: 320


1- العروة الوثقى 6 : 589 .

ومن ذلك يعلم حال الوصيّة لهما ؛ فإنّها إن كانت تمليكية فحالها حال الوقف ، وإن كانت عهدية - بمعنى الوصيّة بإعطاء مال لزيد أو عمرو ، أو بزيد وعمرو على نحو بيان المصرف - فيكون المالك قبل الإعطاء هو الميّت ، وبالإعطاء يصير ملكاً للمعطى له ، فيخرج عمّا نحن فيه .

وأمّا النقض ببعض الحقوق كحقّ الخيار وكولاية الأب والجدّ فغير وارد ؛ للفرق الواضح بين الملك ومثل حقّ الخيار ؛ لأنّ حقّ الخيار عند العقلاء يرجع إلى إضافةٍ لازمها السلطنة على فسخ العقد ، من غير اختصاص للعقد أو العين بذي الحقّ حتّى يقال : لا يمكن اختصاصان قائمان بشيء واحد ؛ ولهذا لا يجوز اجتماع بعض الحقوق التي يكون اعتباره كذلك ، كحقّ التحجير وحقّ الرهن .

بل التحقيق : أنّ الخيار عبارة عن ملك فسخ العقد ، أو ملك إقرار العقد وإزالته ، فلا يتعلّق حقّ على العقد أو على العين إلاّ بالعرض ، فإذا قيل : إنّ لفلان حقّاً على العقد ليفسخه ، أو على العين ليسترجعها معناه أنّ له حقّ الفسخ والاسترجاع ، فالخيار مأخوذ من الاختيار ، ولا ينسب حقيقة إلاّ إلى الأفعال ، فلا يطلق على ملك الأعيان والمنافع ، كما اعترف به السيّد; في تعليقاته على «المكاسب»(1) ، فكلّ من الشخصين يكون له حقّ الفسخ مستقلاًّ ، ولكلّ واحد منهما اختيار وخيار مستقلّ ، ولا يكون متعلّق حقّهما شيئاً واحداً .

وأمّا النقض بولاية الأب والجدّ أيضاً فغير وارد ؛ لأنّ اعتبار الولاية ليس ملازماً وملزوماً لاعتبار الاختصاص الذي هو معتبر في الملكية ، حتّى لا يمكن

ص: 321


1- حاشية المكاسب ، المحقّق اليزدي 2 : 367 .

استقلالهما على شيء واحد ، بل الولاية هي السلطنة على تدبير الاُمور ، أو إضافة بين الوليّ والمولّى عليه تستتبعها السلطنة على اُموره ، ولا إشكال في جواز استقلال الوليّين على تدبير اُمور شخص واحد ، فهي نظير الوكالة في الاُمور ، حيث لا مانع من تعدّد الوكلاء على أمر واحد .

فالإنصاف : أنّ استقلال المالكين على ملك واحد ممّا لا يمكن عند العقلاء ، ولا ترد النقوض المذكورة .

وأمّا ما ذكره أخيراً - بعد إيراد الإشكال بأنّ مقتضى استقلال الملكية جواز منع الغير ، وهو مفقود في المقام - أنّ هذا نحو من الملكية المستقلّة ، كالواجب التخييري والكفائي ، حيث إنّهما نحوان من الوجوب(1) ، فهو من غريب الكلام ؛ لأنّ لازم ذلك أنّ الملكية الغير المستقلّة نحو من الملكية المستقلّة ، ضرورة أنّ معنى الاستقلال في الملكية هو الاستبداد والانفراد بها ، والواجب التخييري نحو من الواجب ، كما أنّ الملكية الغير المستقلّة نحو من الملكية ، لا نحو من الملكية المستقلّة ، فما ذكره نظير أن يقال : إنّ الواجب التخييري والكفائي نحوان من الواجب العيني والتعييني ، وهو كما ترى .

هذا حال الملكيتين المستقلّتين على شيء واحد .

جواز اجتماع اليدين المستقلّتين على شيء واحد

وأمّا اجتماع اليدين المستقلّتين على شيء واحد فهو أيضاً لا يجوز ؛ ضرورة أنّ مقتضى استقلال الاستيلاء على شيء جواز منع الغير عن التصرّف والدخالة

ص: 322


1- العروة الوثقى 6 : 589 .

فيه ، واستبداد اليد المستقلّة في تدبيره وتصرّفه .

ألا ترى : أ نّه فرق واضح بين كون شيء تحت يد شخص واحد ، يتصرّف فيه بما يشاء ، ويمنع تصرّف غيره ، أو يجيزه بأيّ نحو يشاء من إتلاف وإفساد وغيرهما ، وبين كونه تحت يد شخصين يكون كلّ منهما متصرّفاً فيه ؛ فإنّ تصرّف كلّ واحد ليس كالأوّل ؛ لعدم جواز منع تصرّف الغير مطلقاً ، ولا إجازة غيره كذلك ، وهل هذا إلاّ أثر استقلال الاُولى ، وعدمه في الثانية .

وقياس ذلك بجارين لشخص واحد وصاحبين له ومؤانسين وأخوين مع الفارق ؛ لأنّ تلك الإضافات لا تتّصف بالاستقلال واللا استقلال ، فإنّها تتحقّق بنفس مناشئها ، من غير مزاحمة بينها وبين الإضافة المشابهة لها ، إلاّ أن يرجع الاستقلال فيها إلى أ نّه لا شريك لها ، ولا مشابه لها في تلك الإضافة ، فتصير مثل ما نحن فيه في عدم إمكان استقلالها مع الشركة .

فإذا بطل اجتماع المالكين المستقلّين ، وكذا اجتماع اليدين المستقلّتين على شيء واحد بطل الاحتمالان الأوّلان .

وأمّا الاحتمالان الآخران ؛ أي كون اليدين على تمام الشيء ناقصتين ، أو يدين مستقلّتين على نصفه المشاع ، فلا بدّ قبل تحقيق الحقّ فيهما من بيان إمكان الملكية المشاعة ، واليد المستقلّة على النصف المشاع :

بيان إمكان الملكية المشاعة

أمّا الملكية المشاعة فهي أمر عقلائي ، ومن الاعتبارات الصحيحة العرفية ، يعرفها كلّ أحد ، من غير ابتنائها على بطلان الجزء الذي لا يتجزّأ ، فإنّ ابتناء

ص: 323

قضيّة عرفية واعتبار سوقي على مسألة دقيقة حكمية ممّا لا معنى له .

فما يظهر من بعض من ابتناء هذه المسألة على تلك المسألة العقلية(1) ناشٍ من الغفلة عن اعتبارات العقلاء ؛ ضرورة أنّ جميع أهل البلدان من السوقي وغيره يفهم الملك المشاع ويعتبره ، مع أنّ مسألة إمكان الجزء وامتناعه ممّا لا تقرع إلاّ سمع بعض أهل العلم ، وتحقيقها وإثبات امتناعه من شأن الأوحدي من أهل الفنّ ، فأين ابتناء مثل هذه المسألة السوقية الضرورية الاعتبارية على تلك المسألة النظرية الدقيقة التي لا اسم لها ولا رسم عند العقلاء وأصحاب اعتبارات تلك الاُمور ؟ ! وبالجملة : إنّ اعتبار الملك المشاع أوضح من أن يحتاج إلى بيان ؛ ضرورة أ نّه لو مات أحد عن ولدين ، يصير كلّ منهما عند كافّة العقلاء مالكاً للنصف المشاع ، ويكون اعتبار الإشاعة معلوماً عندهم وجداناً ولو لم يمكن لهم بيان مفهومها وتحديدها ، كأكثر الحقائق الضرورية ، فإنّ تحديدها في غاية الإشكال ، وإن كانت معلومة مصداقاً ، فالماء والنار والنور مع كونها في غاية الظهور عند كلّ أحد لا يمكن للغالب تحديدها وتعريفها ، وهذا لا يضرّ بوضوح الحقيقة وجداناً وعياناً .

التحقيق في الكسر المشاع

وإن شئت قلت : إنّ الكسور اُمور اعتبارية بنحو اللا تعيّن ، في مقابل المفروز والمعيّن ، وظرف الاعتبار وإن كان الذهن ، لكنّ المعتبر خارجي ؛ بمعنى أنّ

ص: 324


1- منية الطالب 2 : 378 ؛ وانظر البيع ، الإمام الخميني قدس سره 3 : 422 .

العقلاء يعتبرون بعض الاُمور في الخارج ، فيتّصف الخارج به اتّصافاً في نظرهم لا في التكوين ، فالملكية وسائر الاُمور الاعتبارية العقلائية ظرف اعتبارها الذهن ، وظرف اتّصاف الأشياء بها الخارج ، فالعين متّصفة في الخارج بالمملوكية ، والشخص بالمالكية ، من غير أن تكون تلك الأوصاف عارضة لها في الخارج تكويناً .

فالكسر المشاع ليس من الاُمور العينية التكوينية ، ولا من الاُمور الانتزاعية ؛ ضرورة أنّ منشأ انتزاعه إن كان العين المعيّنة الخارجية ، فلا يعقل أن يكون المنتزع من المعيّن مشاعاً بما هو مشاع ، وتوهّم انتزاع الكلّي من الجزئيات فاسد ، كما هو المقرّر في محلّه ، وإن كان أمراً مبهماً فلا يعقل الإبهام في الخارج .

فالتحقيق : أنّ الأعيان مع قطع النظر عن الاعتبار ليس لها الكسور خارجاً ، وهو واضح ، ولا تكون منشأ لانتزاعها ، وقابليتها للقسمة ليست منشأ انتزاعها ؛ لأ نّها قابلة للأقسام المعيّنة ، والكسر مشاع لا معيّن .

بل هي من الاعتبارات الصحيحة العقلائية في الموجود الخارجي ، تتّصف بها الأعيان اتّصافاً في محيط العقلاء ، فتكون العين ذات نصف وثلث وربع وهكذا بحسب الخارج ، كما هي مملوكة خارجاً ، وهذا بوجه نظير بعض الأعراض التي يقال : إنّ عروضها في الذهن ، واتّصاف الأشياء بها في الخارج(1) .

وبما ذكرنا : لا يرد الإشكال العقلي المتوهّم في الإشاعة ؛ من أنّ الإشاعة

ص: 325


1- شرح المنظومة ، قسم الحكمة 2 : 165 - 166 .

تنافي الوجود الخارجي والجزئية(1) .

أمّا عدم التنافي بينها وبين الوجود الخارجي فظاهر ؛ لأنّ المنافاة بين الوجود العيني التكويني وبين الإشاعة واللا تعيّن مسلّم ، لا بينها وبين الوجود الاعتباري .

وأمّا بينها وبين الجزئية ؛ فلأنّ الإبهام بذاتها لا يلازم الكلّية ، ما لم تقبل الصدق على الكثيرين ، والجزء المشاع الخارجي غير قابل لذلك ؛ لعدم تعقّل صدق الكسر المشاع المعتبر في الخارج على الكثيرين ، فإنّ العين الخارجية يعتبر فيها نصفان ، وكلّ نصف مشاع غير الآخر ، وثلاثة أثلاث كلٍّ غير الآخر .

نعم ، مفهوم النصف المشاع والثلث المشاع كلّي كسائر الكلّيات ، وليس الكلام فيه ، بل الكلام في المشاع الخارجي الذي تقع عليه المعاملات ، ويكون ملكاً للأشخاص ، وهو ليس بكلّي ، وغير صادق على الكثير ، وما ذكرناه هو الموافق لاعتبار العقلاء ، من غير لزوم إشكال عليه .

كلام المحقّق الأصفهاني في تصوير الإشاعة وما يرد عليه

وقد يقال في بيان تصوير الإشاعة ودفع الإشكال عنها : إنّ الموجود الخارجي على قسمين : موجود بوجود ما بحذائه ، وموجود بوجود منشأ انتزاعه ، فمفهوم النصف مثلاً ربما يكون موجوداً بوجود ما بحذائه ، وهو النصف المعيّن في العين ، وربما يكون عنواناً لموجود بالقوّة ؛ لتساوي نسبته إلى جميع الأنصاف المتصوّرة في العين ، فهذا الموجود بالقوّة المتساوي النسبة جزئي

ص: 326


1- اُنظر حاشية المكاسب ، المحقّق الأصفهاني 2 : 341 ؛ نهاية الدراية ، قاعدة اليد 3 : 335 / السطر 14 (ط - الحجري) .

بجزئية منشأ انتزاعه ، وله شيوع وسريان باعتبار قبوله لكلّ تعيّن من التعيّنات الخارجية المفروضة ؛ ولأجله تكون القسمة معيّنة للاّ متعيّن ، من دون لزوم معاوضة بين أجزاء العين .

وعليه : فالمملوك لكلّ من الشريكين أوّلاً وبالذات هو النصف المشاع ، والعين الخارجية مورد لمملوكين بالذات ، فتكون مملوكة بالعرض ، على عكس من يملك عيناً واحدة بالذات ، فإنّه يملك كسوره المشاعة بالعرض(1) ، انتهى .

وفيه مواقع للنظر :

منها : دعواه أنّ مفهوم النصف في المعيّن موجود بوجود ما بحذائه ، فإنّه إن أراد موجوديته قبل تحقّق التقسيم الخارجي أو الوهمي ، فهو مستلزم للجزء الذي لا يتجزّأ إن كان النصف ونصف النصف وهكذا متناهياً ، أو كون غير المتناهي الفعلي محصوراً بين الحاصرين .

وإن أراد أ نّه بالتقسيم يوجد شيء في الخارج هو النصف المعيّن ، ففيه ما لا يخفى ؛ فإنّ التقسيم إن كان وهمياً ، فلا يعقل بتوهّم التقسيم حصول شيء موجود في الخارج .

وإن كان خارجياً فكذلك ؛ فإنّه بعد التقسيم يكون القسمان موجودين مستقلّين ، وليس النصف وصفاً ذاتياً لهما ؛ ضرورة أنّ النصف نصف المجموع ، فلا يتصوّر نصف بلا مجموع ، ومعلوم أنّ مجموع شيئين منفصلين ليس موجوداً في العين ؛ لأنّ الوجود مساوق للوحدة ، وما لا وحدة له لا وجود له ، وما هو

ص: 327


1- نهاية الدراية، قاعدة اليد 3 : 335 / السطر 15 (ط - الحجري) ؛ حاشية المكاسب ، المحقّق الأصفهاني 2 : 341 .

متقوّم بأمر اعتباري لا يمكن أن يكون من الموجودات الحقيقية .

مضافاً إلى أنّ كلّ حبّة في الخارج نصف لحبّات غير متناهية ، أو كغير متناهية ، وثلث وربع وخمس وهكذا ، وتكون الكسور فيها غير متناهية ، فلزم وجود أوصاف خارجية غير متناهية في حبّة خشخاش ، وهو كما ترى .

والتحقيق : أنّ الكسور المعيّنة اُمور اعتبارية أو انتزاعية من منشأ اعتباري ، ولولا المعتبر لا يكون المجموع ولا نصفه محقّقاً .

ومنها : قوله في المشاع : إنّه أمر انتزاعي وموجود بالقوّة ، متساوي النسبة إلى التقسيمات ، جزئي بجزئية منشأ انتزاعه ، وشائع وسار باعتبار قبوله لكلّ تعيّن .

وفيه ما عرفت : من أنّ المنتزع لا يعقل أن يكون مبايناً للمنتزع منه ، والمتعيّن واللا متعيّن متباينان ، لا تعقل منشئية أحدهما للآخر ، وقد أشرنا (1) إلى أنّ الكلّي لا يعقل انتزاعه من الجزئي بما أ نّه جزئي ، بل ليس الكلّي والجزئي من قبيل المنتزع والمنتزع منه ، كما هو المقرّر في محلّه .

وأيضاً : أنّ القوّة التي في الأجسام وبها تقبل التقسيمات المتعيّنة هي الهيولى على مسلك طائفة(2) ، وهي لا تكون جزء مشاعاً بالضرورة ، ولا أمراً انتزاعياً .

وأيضاً : أنّ التقسيمات الخارجية لا تخرج المشاع عن إشاعته ؛ ضرورة أنّ الشريكين ما لم يتّفقا على التقسيم لا يصير المشاع مفروزاً ولو قسّم المملوك

ص: 328


1- تقدّم في الصفحة 325 .
2- الإشارات والتنبيهات ، شرح المحقّق الطوسي 2 : 36 ؛ اُنظر الحكمة المتعالية 5 : 66 ؛ شرح المنظومة ، قسم الحكمة 4 : 145 .

خارجاً ، مع أ نّه اعترف بأن ليس في الجسم إلاّ نصفان وبالتقسيم يصير مفروزاً .

وأيضاً : أنّ التقسيم الاعتباري موجب للإفراز والتعيين ، وليس حامله القوّة الموجودة في الجسم .

وأيضاً : يجري التقسيم في المنفصلات - ككرّ من الحنطة المشاعة - مع أنّ تنصيفه ليس واقعاً على القوّة .

فظهر من ذلك فساد توهّم أنّ النصف المشاع عبارة عن قوّة متساوية النسبة إلى التقسيمات ، إلاّ أن يكون مراده من القوّة أمراً اعتبارياً ، ومن التقسيم الإفراز بتراضي المالكين ، لا التقسيم الخارجي ، وهو كما ترى مخالف لظاهر كلامه ، خصوصاً كون القوّة اعتبارية .

ومنها : قوله : القسمة معيّنة للاّ متعيّن ، من دون لزوم تبادل بين أجزاء العين ، فإنّ القسمة وإن كانت عنواناً مستقلاًّ مقابل البيع والصلح وغيرهما ، لكن لا إشكال في أنّ لازمها التبادل بين مال الشريكين ؛ ضرورة أنّ كلّ جانب من العين الخارجية كان لهما قبل التقسيم ، وصار مختصّاً بعده ، ولا يمكن ذلك إلاّ بالتبادل ، لا خروج غير المتعيّن إلى المتعيّن ، بحيث يملك كلّ منهما حصّته الخاصّة به في نفس الأمر بلا تبادل ؛ فإنّه غير معقول في المشاع ، ومخالف لارتكاز العقلاء .

ومنها : التزامه بمملوكية الأمر الانتزاعي ، وعدم مملوكية العين الخارجية لأحد ، وانتساب المملوكية إليها لكونها مورداً لما هو مملوك ، فإنّه من غريب الالتزامات ، بل لو لم يكن لما التزمه من الإشاعة إلاّ هذا التالي لكفى في فساده ؛ لأنّ الضرورة قائمة عند العقلاء بأنّ المملوك للشركاء هو نفس الأعيان ، لا الأمر

ص: 329

الانتزاعي وتكون العين غير مملوكة لأحد ، كما نصّ عليه في جملة من كلامه(1) .

مضافاً إلى أ نّه إذا كانت عين مملوكة لأحد ، فلا إشكال كما اعترف به في أ نّها مملوكة بالذات له ، والكسور مملوكة بالعرض ، فإذا باع نصفها لزم بناءً على قوله أن يبيع ما لا يملكه إلاّ بالعرض ؛ أي الأمر الانتزاعي ، ولا يبيع مملوكه ، وأنّ ملكه صار مسلوباً عن العين بلا سبب ، ومتعلّقاً بأمر انتزاعي بلا سبب .

ولعمري إنّ ما توهّمه في المقام تحقيقاً وتدقيقاً من فلتاته التي لا تغفر لمثله ، وهو من خلط العقليات بالعرفيات ، والفلسفة بالفقه ، ومن اللازم على المشتغلين الاحتراز عنه .

بيان إمكان اليد المستقلّة على النصف المشاع

فإذا اتّضح اعتبار الإشاعة في الأعيان تكون اليد على المشاع أيضاً ممكنة ؛ ضرورة أنّ الشريكين تكون يد كلّ منهما على ملكه مستقلّة ، ولا تكون له يد على ملك الغير أصلاً ؛ فإنّ اليد هي الاستيلاء والسلطنة الفعلية على الشيء ، وكلّ منهما يكون مستولياً على نصف العين ، يجوز له النقل وجميع التصرّفات التي لا يستلزم منها التصرّف في مال الغير ، وعدم جواز التصرّف الخارجي لكلّ منهما في العين ليس لأجل نقصان يده لملكه ، بل لاستلزام التصرّف في ملك الغير .

وبالجملة : أنّ الشريكين تكون لكلّ منهما يد مستقلّة على ماله ، دون مال الآخر ، وليس لواحد منهما يد ناقصة على التمام ، ولا معنى لذلك ؛ لأنّ

ص: 330


1- نهاية الدراية، قاعدة اليد 3 : 335 / السطر 21 - 27 (ط - الحجري) .

لازمه أن يكون كلّ منهما مسلّطاً على مال صاحبه ، وناقص السلطنة على ملك نفسه ، وهما باطلان .

هذا بحسب مقام الثبوت والواقع ، فإذا كانت يد شخصين على عين - كما لو رأينا شخصين يتصرّفان في أمتعة بيت أو دكّة ، أو يدبّران أمر ضيعة - يحكم العقلاء لأجل يدهما بأ نّهما شريكان في الأمتعة والضيعة ، ويكون لكلٍّ منهما النصف المشاع ، وأنّ تصرّفهما في الجميع يكون بإذن صاحبه .

وبالجملة : تكون اليد كاشفة عن الملكية المشاعة ، وقد عرفت أنّ يد كلّ منهما في الملكية المشاعة تكون مستقلّة على ملكه فقط ، وليس له اليد على ملك غيره رأساً .

وإن شئت قلت : إنّ يد كلّ منهما على ماله استقلالية أصلية ، وعلى ملك غيره غير أصلية تحتاج إلى الإذن ، فاستيلاء كلٍّ منهما على جميع المال لا يمكن أن يكون بالأصالة والاستقلال ، فمن قال : بأنّ الاستيلاء الناقص يكون على تمام المال(1) فإن ذهب إلى أنّ الاستيلاء الناقص على التمام يكشف عن ملكية النصف المشاع ، فلا وجه لكشف الاستيلاء على التمام ناقصاً عن ملكية نصفه تامّاً .

وإن ذهب إلى أ نّه يكشف عن الملكية الناقصة للتمام - بمعنى أنّ كلّ واحد منهما ليس بمالك ، بل مجموعهما مالك واحد - فهو كما ترى .

وإن ذهب إلى ما قلنا : من أنّ ذلك الاستيلاء على التمام إنّما يكون استيلاء على البعض المشاع تامّاً واستقلالاً ، ويكشف عن ملكية كذلك ، وعلى البعض الآخر بتبع استيلاء الآخر ، فلا نزاع .

ص: 331


1- اُنظر منية الطالب 2 : 380 ، الهامش 1 .

هذا حال المتصرّفين اللذين لا نزاع بينهما .

ومنه يعلم حال مقام التنازع ، فإنّه إذا كانت عين في يد شخصين ، وكلّ منهما يدّعي أ نّها له وصاحبه غاصب ، يكون كلّ منهما بالنسبة إلى نصفه المشاع مدّعياً ، وبالنسبة إلى نصفه الآخر منكراً ، وتحقيق الحال موكول إلى كتاب القضاء .

الجهة السادسة: في إقامة الدعوى على ذي اليد وفروعها
اشارة

إذا كان في مقابل ذي اليد من يدّعي الملكية ، ورفع الأمر إلى الحاكم ، فلا أثر لعلم الحاكم بملكيته السابقة للمدّعي ، ولا لقيام البيّنة عليها في انقلاب الدعوى ؛ وجعل المدّعي منكراً ، والمنكر مدّعياً ، فإنّ ثبوت الملكية السابقة لا أثر له ، واستصحاب الملكية لا يعارض اليد ؛ لحكومتها عليه .

وأمّا إذا اعترف ذو اليد بأ نّه كان ملكاً له سابقاً ، فتارة : يضمّ إلى ذلك دعوى الانتقال منه إليه ، واُخرى : يضمّ إليه دعوى انتقاله إلى ثالث ، ومنه إليه ، وثالثة : يعترف - مع اعترافه بأ نّه كان ملكاً له - بأ نّه لم ينتقل إلى ثالث ، لكن مع ذلك ملك له الآن ، ورابعة : لا يضمّ إلى اعترافه شيئاً ، فيدّعي الملكية ، ويعترف بأ نّه كان ملكاً للمدّعي سابقاً .

لا إشكال في انقلاب الدعوى في الصورة الاُولى إن أنكر ذو اليد دعواه ، وأمّا مع عدم إنكاره ودعوى عدم علمه ، فلا تنقلب الدعوى ، فيكون ذو اليد منكراً ؛ لأنّ مصبّ الدعوى هو ملكيته في الحال ، لا انتقاله وعدم انتقاله .

ص: 332

ولا تنقلب في الصورة الثانية ، أنكر المدّعي انتقاله إلى ثالث أو لا ، أمّا مع عدم الإنكار فواضح ، وأمّا مع إنكاره فلأنّ دعوى الانتقال إلى الثالث وإنكارها لا أثر لهما ، فلا تكون ميزان فصل الخصومة ؛ لأنّ قيام البيّنة على انتقاله إلى ثالث ، والحلف على عدمه لا يفصلان الخصومة؛ إذ لا ربط لتلك الدعوى والإنكار بهما.

وفي الصورة الثالثة تنقلب على الظاهر ؛ لأنّ دعوى الملكية الحالية ، والاعتراف بكونه للطرف سابقاً ، وعدم الانتقال منه إلى ثالث يلازم عرفاً لدعوى الانتقال ، وإن لا يخلو عن مناقشة .

وفي الصورة الرابعة لا تنقلب ؛ لعدم الدعوى صريحاً، ولا بملازمة عقلية أو عرفية .

تنبيه: الاحتجاج في أمر فَدَك

قد يقال : إنّ احتجاج أمير المؤمنين والصدّيقة الطاهرة علیهما السلام على أبي بكر في أمر فدك(1) ؛ بأنّ مطالبة البيّنة من ذي اليد مخالفة لحكم اللّه ورسوله ، مع أنّ فاطمة ادّعت انتقالها إليها من رسول اللّه صلی الله علیه و آله نِحْلة ، يخالف ما ذكر من انقلاب الدعوى مع دعوى الانتقال(2) .

ص: 333


1- الاحتجاج 1 : 234 ؛ وسائل الشيعة 27 : 293 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 25 ، الحديث 3 .
2- اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 322 .

والجواب على ما أفاده بعض المحقّقين : أنّ مجرّد دعوى الانتقال لا توجب الانقلاب ما لم يقابلها الإنكار ، والقوم لم ينكروا على فاطمة سلام اللّه عليها دعواها ، بل كانوا يقولون : إنّ فدكاً فيء المسلمين ، ولا بدّ من إقامة البيّنة على الانتقال ، مع أ نّها ذو اليد ، ولم يكن في مقابل يدها إلاّ دعوى أ نّها فيء المسلمين ، لا إنكار دعواها حتّى تنقلب الدعوى(1) .

وأمّا ما أفاده بعض أعاظم العصر; في مقام الجواب : بأنّ إقرارها لا يوجب انقلاب الدعوى ، وليس إقرارها كإقرار ذي اليد بأنّ المال كان لمن يرثه المدّعي ؛ لأنّ انتقال الملك من النبي6 إلى المسلمين على فرض صحّة ما نسب إليه من أ نّه قال : «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث . . .»(2) إلى آخره ليس كانتقال الملك إلى الوارث ؛ لأنّ انتقاله إلى الوارث إنّما هو بتبدّل المالك وقيامه مقام المورّث ، وانتقاله منه إلى المسلمين كانتقال المال من الموصي إلى الموصى له ، ومن الواهب إلى المتّهب بإعدام إضافة ، وإيجاد إضافة اُخرى ؛ لأنّ تبدّل الإضافة قد يكون من طرف المملوك ، كعقود المعاوضات ، وقد يكون من طرف المالك كالإرث ، فإنّ التبدّل من قبل المالك ، مع بقاء المملوك على ما هو عليه ، فيقوم الوارث مقام المورّث في الإضافة ، وقد يكون بتبدّل نفسها ؛ بمعنى أ نّه تنعدم الإضافة القائمة بين المالك والمملوك ، وتحدث إضافة اُخرى لمالك آخر ، كما في الهبة والوصيّة .

وانتقال المال من النبي6 إلى المسلمين - بناءً على الخبر الموضوع - ليس

ص: 334


1- حاشية فرائد الاُصول (الفوائد الرضوية) : 451 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 617 .
2- صحيح مسلم 4 : 29 / 1759 ؛ السنن الكبرى ، البيهقي 6 : 300 .

كانتقاله إلى الوارث ، بل هو أشبه بانتقال المال الموصى به إلى الموصى له ؛ فإنّ المال بعد موته يصرف في مصالحهم ، ومن المعلوم أنّ إقرار ذي اليد بأنّ المال كان ملكاً لمورّث المدّعي إنّما يوجب الانقلاب من حيث إنّ الإقرار للمورّث إقرار للوارث ؛ لقيامه مقامه في طرف الإضافة .

وأمّا الإقرار للأجنبيّ فلا يوجب الانقلاب ، وإقرار الصدّيقة سلام اللّه عليها يكون سبيله سبيل الإقرار للأجنبيّ والموصى له الذي هو أيضاً كالأجنبيّ لا يوجب الانقلاب . نعم ، لو كان المسلمون ورّاثاً لرسول اللّه صلی الله علیه و آله في ذلك كان الانقلاب حقّاً ، لكنّه خلاف الواقع(1) ، انتهى ملخّصاً .

فيرد عليه أوّلاً : أنّ كون الإرث كذلك ممنوع ، لا دليل عليه نقلاً ولا في اعتبارات العقلاء ، أمّا نقلاً فيظهر بالتتبّع في الآيات والأخبار الواردة في الإرث ، وأمّا اعتباراً فلأنّ المال ينتقل إلى الوارث في اعتباراتهم ، لا أ نّه يقوم مقامه .

مثلاً : لو مات أحد عن ابن وبنت واُمّ وأب وزوجة ، فهل تجد من نفسك في اعتبارات العقلاء أن تقوم الورثة مقامه بمقدار إرثهم ، فتقوم الزوجة مقامه في الثمن أو مقام ثمنه ، والابن مقام ثلثيه من البقيّة أو مقامه في الثلثين ، وهكذا ؟ ! وهل هذا إلاّ أمر مستنكر عقلاً ولدى العقلاء ؟ ! ولذا لا يفهم العقلاء من آيات الإرث وأخباره إلاّ الانتقال ، ولو دلّ ظاهر دليل على ما ادّعى يجب صرفه ، مع أ نّه لا دليل عليه ، وإن مارت به بعض الألسن موراً .

وثانياً : أنّ كون الهبة والوصيّة من قبيل ما ذكره محلّ منع ؛ ضرورة أنّ اعتبار

ص: 335


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 615 - 617 .

الهبة والوصيّة التمليكية هو إعطاء المال ونقله ، لا إعدام إضافة ، وإيجاد إضافة اُخرى .

مضافاً إلى أنّ إيجاد الإضافة بين المال وغيره لا بدّ وأن يتأخّر عن إعدامها بينه وبين نفسه ، مع أ نّه بإعدامها يصير المال أجنبيّاً عنه وتنقطع سلطنته عنه ، فلا يمكن له إيجاد إضافة بينه وبين غيره .

وتوهّم : أنّ إيجاد الإضافة في عرض إعدامها ، أو أنّ الإيجاد مقدّم على الإعدام كما ترى ، ولعمري إنّ ما ذكره واضح البطلان في أمثال تلك العقود في اعتبارات العقلاء .

وثالثاً : أنّ مناط انقلاب الدعوى في باب دعوى الانتقال من مورّث المدّعي ليس ما ذكره من قيام الورثة مقامه ، بل المناط فيه هو كون هذه الدعوى والإنكار ذات أثر شرعي ، ويكون قيام البيّنة والحلف موجبين لفصل الخصومة ، وتكون حال هذه الدعوى بالنسبة إلى الدعوى الاُولى كالأصل السببي والمسبّبي في وجه .

فإذا ادّعى ذو اليد : أنّ المال انتقل إليه من مورّث المدّعي ، وأنكره المدّعي ، فإن أقام البيّنة على ذلك فهو ، وإن حلف المنكر على أ نّه لم ينتقل من مورّثه إليه يؤخذ المال ويردّ إليه ؛ لكونه وارثاً له ، وينتقل ماله منه إليه ، فيثبت الحلف كونه مالاً لمورّثه ، وأدلّة الإرث انتقاله إليه .

وهذا المناط موجود في الوصيّة ، فإذا أوصى أحد بماله لزيد ، وادّعى زيد أنّ المال الذي في يد عمرو له ، وادّعى عمرو انتقاله من الموصي إليه ، فتنقلب الدعوى ؛ لعين ما ذكرنا .

ص: 336

وكذا الحال فيما نحن فيه بناءً على الخبر الموضوع ، فإنّ دعوى الصدّيقةI انتقال فدك من رسول اللّه صلی الله علیه و آله إليها لو قوبلت بإنكار المسلمين أو وليّ أمرهم على زعمهم صارت الدعوى منقلبة ، ولم تكن هذه الدعوى كدعوى الانتقال من الأجنبيّ ؛ لأنّ الحلف على عدم الانتقال من الأجنبيّ إليه لا أثر له ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّه لو ثبت عدم الانتقال منه إليها صار ملكاً للمسلمين .

فالحقّ في الجواب ما ذكرنا أوّلاً : من عدم تقابل دعواها بإنكار ، كما يظهر من التواريخ الناقلة للقضيّة ، فراجع(1) .

الجهة السابعة: في فروع العلم بسابقة اليد

إذا علم حال اليد ، وأ نّها حدثت على المال على وجه الغصب ، أو الأمانة ، أو العارية ، أو نحو ذلك ، فتارة : لا يكون في مقابل ذي اليد مدّعٍ ، وتارة : يكون في مقابله ذلك ولم يرفع الأمر إلى الحاكم ، وثالثة : رفع الأمر إليه .

أمّا في الصورة الاُولى : فتارة : يدّعي ذو اليد الملكية والانتقال من مالكه إليه ، وتارة : لا يدّعي ، فإن ادّعاها فلا يبعد أن يترتّب على ما في يده آثار الملكية في غير الغاصب ، وأمّا فيه فالظاهر عدمه .

وهل ترتيب الآثار في غيره من جهة أ نّه مدّعٍ بلا معارض ، أو من جهة قبول دعوى ذي اليد ، أو من جهة اليد المقارنة للدعوى ؟

ص: 337


1- راجع تأريخ اليعقوبي 2: 127؛ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد 16 : 214 .

الظاهر أ نّه من جهة إحدى الأخيرتين ، ولهذا لو عارضه غير المالك الأوّل يعدّ مدّعياً ، وتطالب منه البيّنة .

وأمّا مع عدم دعوى الملكية أو عمل منه يظهر دعواها ، فلا يحكم بالملكية ، كلّ ذلك من جهة بناء العقلاء وسيرتهم .

وقد يقال : بسقوط اليد فيما علم حالها ؛ فإنّ اليد أمارة إذا كانت مجهولة الحال ، غير معنونة بعنوان الإجارة مثلاً ، واستصحاب حالها يوجب رفع موضوعها ، وتنقيح عنوانها ، فتسقط عن الحجّية برفع الموضوع(1) .

وفيه : أنّ تحكيم الاستصحاب على بعض الأدلّة بتنقيحٍ ورفعٍ إنّما هو في الأدلّة اللفظية ، لا في مثل بناء العقلاء ، فإنّه إن كان غير ثابت أو غير محقّق في مورد مسبوقية اليد بالإجارة أو العارية فمعها ساقط عن الحجّية كان استصحاب شرعي أو لا ، أو ثابت معها فلا تأثير للاستصحاب ، إلاّ أن يدّعى رادعيته عن بنائهم ، وهو أيضاً غير صالح لذلك ، كما قلنا في نظائره(2) .

وتعليق بنائهم على عدم قيام حجّة شرعية كما ترى ، وبناؤهم وإن كان في ظرف الشكّ ، لكنّ الاستصحاب لا ينقّح الموضوع عند العقلاء بما هم عقلاء ، فما اُفيد في المقام ساقط رأساً .

وأمّا في الصورة الثانية : فإن كان المعارض غير المالك ، فلا تسقط يده عن الاعتبار في غير الغاصب ، وإن كان المالك يسقط اعتبارها لدى العقلاء ؛ لعدم بنائهم على ترتيب آثارها على ما في يده .

ص: 338


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 604 - 605 .
2- راجع ما يأتي في الصفحة 415 و425 ؛ وأنوار الهداية 1 : 221 - 222 .

وأمّا في الصورة الثالثة : أي صورة رفع الأمر إلى الحاكم ، ومقام تشخيص المدّعي من المنكر ؛ فإن كان في مقابله المالك الأوّل تسقط يده عن الاعتبار ، ويقدّم استصحاب حال اليد على قاعدة اليد ؛ لأنّه أصل موضوعي حاكم عليها ، سواء كان حال اليد معلوماً عند الحاكم وجداناً ، أو بالبيّنة ، أو بإقرار ذي اليد .

الجهة الثامنة: في كون ما في اليد وقفاً سابقاً

إذا كان المال وقفاً سابقاً ، فتارة : يعلم حال اليد ؛ وأ نّها حدثت على الملك في حال وقفيته ، واحتمل طروّ بعض مسوّغات بيع الوقف وشرائه من وليّه ، وتارة : لا يعلم سابقتها ، واحتمل حدوث اليد بعد طروّ مسوّغ البيع .

وعلى أيّ حال : تسقط اليد عن الاعتبار سواء رفع الأمر إلى الحاكم أم لا ؛ لانصراف أدلّة اليد عن مثله ، وعدم بناء العقلاء على ترتيب آثار الملكية في مثله ، ولعلّ سرّه أنّ اعتبار اليد عندهم من أجل الغلبة النوعية ، وطروّ مسوّغ بيع الوقف نادر .

وإذا رفع الأمر إلى الحاكم فإمّا أن يكون في مقابله أرباب الوقف ، أو يكون غيرهم .

فعلى الأوّل : يكون ذو اليد مدّعياً يطالب بالبيّنة ، وينتزع منه الملك ؛ لأنّ اعتبار اليد إمّا أن يكون معلّقاً على إحراز قابلية الملك للنقل والانتقال ، وإمّا أن يكون معلّقاً على عدم إحراز عدم القابلية ، فعلى الأوّل تسقط اليد عن

ص: 339

الاعتبار ولو لم يكن في مقابلها الاستصحاب ، وعلى الثاني يقدّم استصحاب الوقفية على اليد ، لإحراز عدم القابلية به .

وعلى أيّ حال : يكون ذو اليد مدّعياً ، وأرباب الوقف منكرين .

وعلى الثاني : أي إذا كان في مقابله غير أرباب الوقف ، وادّعى كلّ من ذي اليد والمدّعي الملكية ، فلا يبعد أن يكون مثل الدعوى في ملك لا تكون يد عليه ؛ لأنّ اليد الغير المعتبرة كلا يد ، وللمسألة مقام آخر .

ص: 340

المبحث الثاني: حال الاستصحاب مع قاعدة التجاوز
اشارة

ولا إشكال في تقديمها عليه ، وإنّما الكلام في وجه التقدّم ، وهو يظهر بعد ذكر مدركها ، ولمّا كانت القاعدة ممّا تعمّ بها البلوى ، فلا بأس بصرف عنان القلم إلى تفصيل مهمّات مباحثها ، ويتّضح في خلالها ما هو المقصود بالأصالة في المقام ، ويتمّ ذلك في ضمن اُمور :

الأمر الأوّل : في ذكر الأخبار التي تستفاد منها القاعدة الكلّية

وهي كثيرة :

منها : الموثّقة المنقولة في خلل الصلاة ، عن محمّد بن الحسن ، بإسناده عن الحسين بن سعيد ، عن صفوان ، عن ابن بكير ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو»(1) .

ومنها : الصحيحة المنقولة فيه ، عن محمّد بن الحسن ، بإسناده عن أحمد بن محمّد ، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، عن حمّاد بن عيسى ، عن

ص: 341


1- تهذيب الأحكام 2 : 344 / 1426 ؛ وسائل الشيعة 8 : 237 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 23 ، الحديث 3 .

حَريز بن عبداللّه ، عن زرارة ، قال: قلت لأبي عبداللّه علیه السلام : رجل شكّ في الأذان وقد دخل في الإقامة ؟ قال : «يمضي» .

قلت : رجل شكّ في الأذان والإقامة وقد كبّر ؟ قال : «يمضي» .

قلت : رجل شكّ في التكبير وقد قرأ ؟ قال : «يمضي» .

قلت : شكّ في القراءة وقد ركع ؟ قال : «يمضي» .

قلت : شكّ في الركوع وقد سجد ؟ قال : «يمضي على صلاته» ثمّ قال : «يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشككت فليس بشيءٍ»(1) ، وفي نسخة «الوافي» «فشكّك ليس بشيءٍ»(2) .

وقريب منها : صحيحة إسماعيل المنقولة في أبواب الركوع ، عن محمّد بن الحسن ، بإسناده عن سعد ، عن أحمد بن محمّد ، عن أبيه ، عن عبداللّه بن المغيرة ، عن إسماعيل بن جابر قال : قال أبو جعفر علیه السلام (3) : «إن شكّ في الركوع بعد ما

ص: 342


1- هذا مطابق للطبعة الحجرية من وسائل الشيعة 1 : 526 / السطر 29 . وأمّا الطبعة الجديدة من الوسائل فهو مطابق لنسخة الوافي . راجع وسائل الشيعة 8 : 237 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 23 ، الحديث 1 .
2- الوافي 8 : 948 / 7462 .
3- قد روى في الوسائل صحيحة إسماعيل هذه عن أبي جعفر عليه السلام في هذا الباب ، وقد رواها عن أبي عبداللّه عليه السلام في باب نسيان السجدة ، والسهو في السجودأ ، ورواها في الوافي عن أبي عبداللّه عليه السلام(ب) ، والظاهر أنّ الرواية عن أبي جعفر سهو من الناسخ أو من قلمه . [منه قدس سره] أ - وسائل الشيعة 6 : 364 ، كتاب الصلاة ، أبواب السجود ، الباب 14 ، الحديث 1 ، والباب 15 ، الحديث 4 . ب - الوافي 8 : 949 / 7467 .

سجد فليمض ، وإن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض ، كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه»(1) .

ولا ينبغي الإشكال في استفادة الكلّية منهما بالنسبة إلى جميع الأبواب ، ولا وجه لرفع اليد عن ظهور الكلّية في ذيلهما بمجرّد كون صدرهما مرتبطاً بباب الصلاة(2) ، ولا يقصر ظهورهما في إعطاء الكلّية عن صحيحة زرارة(3) في باب الاستصحاب ، بل دلالتهما أقوى منها .

أمّا الثانية فواضح .

وأمّا الاُولى فلأنّ قوله : «يا زرارة إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكّك ليس بشيءٍ» بعد أسئلة زرارة التي تحيط بجميع أجزاء الصلاة تقريباً كالنصّ في العموم ؛ وأ نّه قانون كلّي لجميع الأبواب ، فرفع اليد عن إطلاق قوله : «من شيء» لا وجه له بمجرّد المسبوقية بباب الصلاة ، وهل هذا إلاّ مثل أن يقال : إنّ «لا تنقض اليقين بالشكّ» مخصوص بباب الوضوء ؛ لكونه مسبوقاً بالسؤال منه ؟ ! والإنصاف : أنّ التفرقة بينهما ممّا لا وجه لها ، مع أنّ صحيحة ابن جابر أعطت الكلّية بلفظ العموم ، والتخصيص بباب دون باب بلا مخصّص .

ومنها : موثّقة ابن أبي يعفور المنقولة في أبواب الوضوء ، عن محمّد بن الحسن ، عن المفيد ، عن أحمد بن محمّد ، عن أبيه ، عن سعد بن عبداللّه ، عن

ص: 343


1- وسائل الشيعة 6 : 317 ، كتاب الصلاة ، أبواب الركوع ، الباب 13 ، الحديث 4 .
2- حاشية فرائد الاُصول (الفوائد الرضوية) : 458 .
3- تقدّم في الصفحة 23 .

أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، عن عبد الكريم بن عمرو ، عن عبداللّه بن أبي يعفور ، عن أبي عبداللّه قال : «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشيء ، إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه»(1) حيث حصر الشكّ المعتبر في الشكّ في الشيء حين الاشتغال به ؛ وأنّ الشكّ إذا لم يكن حادثاً حين الاشتغال ليس بشيءٍ ، وهذه في إعطاء الكلّية كصحيحة زرارة المتقدّمة ، وكصحيحته في باب الاستصحاب ، وسيأتي التعرّض لحال الوضوء وفقه الحديث .

ومنها : موثّقة بكير بن أعين المنقولة في هذا الباب ، عن محمّد بن الحسن ، بإسناده عن الحسين بن سعيد ، عن فضالة ، عن أبان بن عثمان ، عن بكير بن أعين قال : قلت له : الرجل يشكّ بعد ما يتوضّأ ؟ قال : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ»(2) .

دلّت على أنّ الميزان لعدم الاعتناء بالشكّ هو الأذكرية حين الوضوء ، ومعلوم أنّ العرف يلغي خصوصية الوضوء ؛ إذ لا دخالة له في الأذكرية ، فيفهم منه أنّ الحيثية التي هي تامّة الدخالة وتمام الموضوع للحكم هي نفس الأذكرية حين العمل ، وأنّ كلّ عامل حين اشتغاله بعمله أذكر منه بعد التجاوز منه ؛ حيث يكون تمام همّه إتيان العمل على ما هو عليه .

ص: 344


1- تهذيب الأحكام 1: 101 / 262؛ وسائل الشيعة 1 : 469 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ، الباب 42 ، الحديث 2 .
2- تهذيب الأحكام 1 : 101 / 265 ؛ وسائل الشيعة 1 : 471 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ، الباب 42 ، الحديث 7 .

ومنها : رواية محمّد بن مسلم المنقولة في أبواب الخلل ، عن محمّد بن علي بن الحسين ، بإسناده عن محمّد بن مسلم ، عن أبي عبداللّه علیه السلام أ نّه قال : «إذا شكّ الرجل بعد ما صلّى ، فلم يدرِ ثلاثاً صلّى أم أربعاً ، وكان يقينه حين انصرف أ نّه كان قد أتمّ لم يعد الصلاة ، وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك»(1) .

والمراد بحين الانصراف حين السلام ؛ لأنّ السلام هو الانصراف في لسان الروايات ، ويستفاد منها الضابط الكلّي وسرّ التشريع ، ومعلوم أ نّه حين اشتغاله بكلّ عمل أقرب إلى الحقّ منه حين يشكّ ، تأمّل .

ومنها : صحيحة زرارة والفضيل المنقولة في أبواب المواقيت ، عن محمّد بن يعقوب ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حمّاد ، عن حَريز ، عن زرارة والفضيل ، عن أبي جعفر علیه السلام في حديث قال : «متى استيقنت أو شككت في وقت فريضة أ نّك لم تصلّها أو في وقت فوتها أ نّك لم تصلّها صلّيتها ، وإن شككت بعد ما خرج وقت الفوت وقد دخل حائل فلا إعادة عليك من شكّ حتّى تستيقن . . .»(2) الحديث .

فإنّها تؤيّد الكلّية المستفادة من الروايات لو قلنا : بأنّ الشكّ بعد الوقت من مصاديق قاعدة التجاوز ، وليس قاعدة برأسها ، كما لا يبعد ؛ فإنّ المستفاد منها أنّ

ص: 345


1- الفقيه 1 : 231 / 1027 ؛ وسائل الشيعة 8 : 246 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 27 ، الحديث 3 .
2- الكافي 3 : 294 / 10 ؛ وسائل الشيعة 4 : 282 ، كتاب الصلاة ، أبواب المواقيت ، الباب 60 ، الحديث 1 .

سرّ عدم الاعتناء هو دخول الحائل والخروج عن المحلّ المقرّر الشرعي ، لكن فيها تأمّل وإشكال ، وإن لم تخل من تأييد وإشعار .

وهاهنا روايات اُخر تستفاد منها الكلّية في باب الصلاة والطهور ، أو الصلاة فقط ، وتدلّ على الكلّية في جميع الأبواب مرسلة الصدوق في «الهداية» قال : قال الصادق علیه السلام : «إنّك إن شككت أن لم تؤذّن وقد أقمت فامض ، وإن شككت في الإقامة بعد ما كبّرت فامض ، وإن شككت في القراءة بعد ما ركعت فامض ، وإن شككت في الركوع بعد ما سجدت فامض ، وكلّ شيء شككت فيه وقد دخلت في حالة اُخرى فامض ، ولا تلتفت إلى الشكّ إلاّ أن تستيقن»(1) .

وإرسال مثل الصدوق بنحو الجزم ، وأ نّه قال الصادق علیه السلام كذا، يسلك الرواية عندي في سلك الموثّقات ؛ فإنّه بمنزلة توثيق رواتها .

نعم ، يبقى احتمال كون هذه الرواية المرسلة عين صحيحة إسماعيل وزرارة نقلهما بالمعنى ، أو كونها رواية «الفقه الرضوي» كما لا يبعد ، لكنّ رفع اليد عن ظهورها الخاصّ بها لو كان - كما سيأتي - لا ينبغي بمجرّد الاحتمال . وقريب منها عبارة «الفقه الرضوي»(2) .

وفي «المقنع» : «ومتى شككت في شيء وأنت في حال اُخرى فامض ، ولا تلتفت إلى الشكّ إلاّ أن تستيقن»(3) .

وكيف كان : لا إشكال في استفادة الكلّية من الروايات .

ص: 346


1- الهداية ، الصدوق : 138 .
2- الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه السلام : 116 .
3- المقنع : 20 .
الأمر الثاني: في أنّ المراد من الشكّ في الشيء هو الشكّ في الوجود

هل المراد من الشكّ في الشيء في قوله في موثّقة ابن مسلم : «كلّ ما شككت فيه»(1) وفي صحيحتي زرارة وإسماعيل(2) : شكّ في الأذان أو في القراءة . . . هو الشكّ في الوجود ، والمراد من المضيّ مضيّ محلّه ، ومن الخروج هو الخروج عن محلّه المقرّر ؟ أو المراد الشكّ في صحّة الشيء ، ومن المضيّ مضيّ نفسه ، ومن الخروج من الشيء الخروج من نفسه ؟ أو المراد من الشكّ فيه الشكّ في الشيء من جهة الشكّ في تحقّق جزء أو شرط معتبر فيه ، ومن المضيّ والخروج ما ذكر آنفاً ؟ وجوه :

ظاهر صدر الروايات ؛ أي قوله : «شككت فيه» أو «رجل شكّ في الأذان» هو الشكّ في الوجود ، وظاهر ذيلها ؛ أي قوله : «قد مضى فأمضه» في الموثّقة ، وقوله : «إذا خرجت من شيء» وقوله : «جاوزه» في الصحيحتين هو الخروج والتجاوز عن نفسه .

ولا يبعد(3) رفع اليد عن ظهور ذيلها بظهور صدرها ، فيكون المراد منها

ص: 347


1- تقدّم في الصفحة 341 .
2- تقدّما في الصفحة 342 .
3- بل هو متعيّن بعد ما يأتي من عدم تعقّل جعل قاعدة الصحّة في الأمر الثالث ؛ لأنّ السؤال إمّا عن الشكّ في وجود المذكورات ، كما هو الظاهر ، أو الأعمّ منه ومن الشكّ في الشيء باعتبار الشكّ فيما يعتبر فيه ، أو محتمل للأمرين . ولا يحتمل اختصاص السؤال بالثاني لبعده جدّاً ، فحينئذٍ لا محيص عن رفع اليد عن ظاهر الذيل ، بحمله إمّا على الخروج عن المحلّ أو الأعمّ ، بناءً على أنّ السؤال أعمّ منهما ، أو محتمل للأمرين ؛ لترك الاستفصال في الجواب . [منه قدس سره]

المضيّ والخروج عن المحلّ المقرّر لها ، فيقال : إنّ الظاهر من ذيل صحيحة زرارة مثلاً - وكذا صحيحة إسماعيل - بعد ظهور صدرها في الشكّ في الوجود هو إعطاء الكبرى الكلّية التي تكون تلك الأمثلة مصاديقها ، فلا يفهم العرف بعد ذلك إلاّ المضيّ والخروج عن المحلّ .

وهذا وإن لا يخلو عن مناقشة ، لكن ربما يشهد له بعض الروايات التي ورد فيها الشكّ في الشيء بمعنى الشكّ في الوجود ، أو حمل الإمام علیه السلام كلام السائل من الشكّ في الشيء على الشكّ في الوجود ، فيظهر منه أنّ الشكّ في الشيء هو الشكّ في الوجود بحسب المتفاهم العرفي ، ويضعف الاحتمال الآخر ، فيقدّم ظهور الصدر على ظهور الذيل ، كرواية الصدوق المتقدّمة حيث قال : قال الصادق علیه السلام : «إنّك إن شككت أن لم تؤذّن وقد أقمت فامض»(1) .

وهذا صريح في الشكّ في الوجود ، فيكون المراد من سائر الفقرات هو الشكّ في الوجود ، فترفع الإجمال على فرضه عن صحيحتي زرارة وإسماعيل اللتين يكون التعبير فيهما مشابهاً لما في المرسلة من الفقرات اللاحقة لهذه الفقرة الصريحة في الشكّ في الوجود .

ص: 348


1- تقدّم في الصفحة 346 .

وقد عرفت : أنّ إرسال الصدوق في مثل الرواية ونسبة القول إلى الإمام علیه السلام جزماً ، لا يقصر عن توثيق أمثال الكشّي والنجاشي والشيخ ، فلا يجوز رفع اليد عن مثل هذا الظهور ؛ باحتمال أن تكون المرسلة عين الصحيحتين نقلت بالمعنى ، أو عين عبارة «الفقه الرضوي» تقريباً ، وعلى فرض صحّة الاحتمال يكون فهم الصدوق مؤيّداً لما ادّعيناه ، ونعم التأييد .

ويؤيّده أيضاً : ذيل عبارة «الفقه الرضوي» ؛ فإنّه بعد بيان حكم الشكّ في الأذان والإقامة وغيرهما على نحو سائر الروايات قال : «ولا تلتفت إلى الشكّ إلاّ أن تستيقن ، فإنّك إذا استيقنت أ نّك تركت الأذان . . .»(1) .

وهذه الفقرة تجعل صدرها كالنصّ في أنّ المراد من الشكّ في الأذان وغيره هو الشكّ في الوجود .

وتؤيّده أيضاً : رواية محمّد بن منصور المنقولة في أبواب السجود قال : سألته عن الذي ينسى السجدة الثانية من الركعة الثانية أو شكّ فيها ؟ فقال : «إذا خفت أن لا تكون وضعت وجهك إلاّ مرّة واحدة ، فإذا سلّمت سجدت سجدة واحدة ، وتضع وجهك مرّة واحدة ، وليس عليك سهو»(2) .

حيث فهم المسؤول من قوله : «أو شكّ فيها» الشكَّ في أصل السجدة ، فأجاب بما أجاب .

وتؤيّده أيضاً : الروايات الواردة في الشكوك كقوله : سألت أبا جعفر علیه السلام عن

ص: 349


1- الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه السلام : 116 .
2- تهذيب الأحكام 2 : 155 / 607 ؛ وسائل الشيعة 6 : 366 ، كتاب الصلاة ، أبواب السجود ، الباب 14 ، الحديث 6 .

رجل شكّ في الركعة الاُولى ؟ قال : «ليستأنف»(1) .

فإنّه علیه السلام فهم من قوله الشكّ في وجود الركعة ، إلى غير ذلك من الروايات التي يطّلع عليها المتتبّع ، فإنّ مجموع ذلك ممّا يشرف بالفقيه على القطع بأنّ المراد من الشكّ في الأذان بعد الدخول في الإقامة وغيرها ، هو الشكّ في الوجود ، فيكون المراد من الخروج من الشيء الخروج عن محلّه المقرّر له ، وسيأتي في الأمر التالي ما يشهد لما ذكرنا .

الأمر الثالث: في أنّ المستفاد من الروايات قاعدة واحدة وهي التجاوز
اشارة

هل المستفاد من أدلّة الباب أنّ الشارع أسّس قاعدتين مستقلّتين ، كلّ واحدة منهما بملاك خاصّ بها :

إحداهما : قاعدة الشكّ بعد تجاوز المحلّ ؛ أي الشكّ في وجود الشيء بعد التجاوز عن محلّه المقرّر له، وثانيتهما: قاعدة أصالة الصحّة بعد الفراغ من العمل(2)؟ أم لا يستفاد منها إلاّ قاعدة واحدة(3) ؟

ص: 350


1- تهذيب الأحكام 2 : 176 / 700 ؛ وسائل الشيعة 8 : 190 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 1 ، الحديث 11 .
2- درر الفوائد ، المحقّق الخراساني : 395 ؛ حاشية فرائد الاُصول (الفوائد الرضوية) : 453 ؛ نهاية الأفكار ، القسم الثاني 4 : 43 - 45 .
3- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 342 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 591 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 623 ؛ نهاية الدراية ، قاعدة الفراغ والتجاوز 3 : 299 / السطر 20 ((ط - الحجري)) .

التحقيق أن يقال : إنّه قد يراد من القاعدة الثانية أنّ المجعول هو صحّة العمل بعد الفراغ منه ، أو وجوب البناء على الصحّة بعده إذا شكّ في صحّته وفساده من جهة الشكّ في الإخلال بشيء معتبر فيه .

فيرد عليه أوّلاً : أنّ الصحّة والفساد أمران منتزعان من عمل المكلّف إذا طابق المأمور به ، وليستا من الأحكام الوضعية الجعلية التي يمكن أن تنالهما يد الجعل ، فلا يمكن أن يجعل الشارع الصحّة للعمل .

نعم ، له أن يرفع اليد عن الجزء أو الشرط المشكوك فيهما ، أو يجعل أمارة على تحقّقهما ، أو أصلاً على وجوب البناء على وجودهما لدى الشكّ ، ومع إعمال التعبّد بأحد الوجوه تنتزع الصحّة من فعل المكلّف المنطبق عليه العناوين عقلاً ، ولا يعقل عدم الانتزاع منه ، ومع عدم التصرّف كذلك لا يعقل انتزاعها منه ، فجعل الصحّة ممّا لا معنى له .

ومن ذلك يعلم : أنّ إيجاب البناء على الصحّة ابتداءً أيضاً ممّا لا يعقل إلاّ بنحو من أنحاء التصرّف في منشأ الانتزاع ، بل ولا يعقل أن تكون أصالة الصحّة أمارة عقلائية أيضاً ؛ لأنّ الأمارة على أمر انتزاعي لا تعقل إلاّ بقيام الأمارة على منشئه ، ومع قيام الأمارة عليه لا يحتاج إلى قيام أمارة على المنتزع ، بل لا يعقل ، فأصالة الصحّة - بمعنى جعل الصحّة للشيء المشكوك فيه ، أو البناء على الصحّة ابتداءً ، أو إقامة الأمارة عليها كذلك - ممّا لا تعقّل .

ص: 351

وثانياً : أنّ قاعدة أصالة الصحّة دائماً محكومة بقاعدة التجاوز عن المحلّ ؛ لأنّ الشكّ في الصحّة دائماً مسبّب عن الشكّ في الإخلال بشيءٍ ممّا يعتبر في المأمور به ، وبعد الفراغ من العمل كما يكون مورداً لقاعدة الفراغ ، يكون مورداً لقاعدة التجاوز أيضاً ، والقاعدة الثانية ترفع الشكّ في الصحّة ، وترفع موضوع القاعدة الاُولى ، فلا يبقى مجال لجريانها .

وإن شئت قلت : إذا جرت قاعدة التجاوز يحكم العقل بصحّة العمل ، وتنتزع منه الصحّة ؛ لكونها من اللوازم الأعمّ من الحكم الظاهري ، فتغني عن قاعدة أصالة الصحّة ، وإجراء أصالة الصحّة لا يغني عن الثانية إلاّ بالأصل المثبت ، ولو منعت الحكومة لما ذكرنا في الأصل السببي والمسبّبي من ميزان الحكومة(1) ، فلا أقلّ من أنّ جعل القاعدة الاُولى ؛ أي قاعدة الفراغ يكون لغواً مع جعل قاعدة التجاوز ، لأنّ قاعدة الفراغ أخصّ منها مطلقاً .

لا يقال : بين القاعدتين عموم من وجه مورداً ؛ لتصادقهما بعد الفراغ من عمل مركّب شكّ في وجود بعض أجزائه ، ممّا تجاوز محلّه ، كما عدا الجزء الأخير ، وتفترق قاعدة التجاوز عن الفراغ فيما إذا شكّ في وجود جزء بعد تجاوز محلّه قبل الفراغ من العمل ، وتفترق هي عنها فيما لو شكّ بعد الفراغ من العمل في كون المأتيّ به واجداً للوصف المعتبر في صحّته ، أو شكّ في الجزء الأخير الغير المقوّم للصدق العرفي ، حتّى يكون منافياً لتحقّق الفراغ من العمل ؛ فإنّه ربما تجري بالنسبة إليه أصالة الصحّة دون الشكّ بعد تجاوز المحلّ(2) .

ص: 352


1- تقدّم في الصفحة 269 و281 .
2- حاشية فرائد الاُصول (الفوائد الرضوية) : 453 .

فإنّه يقال : بل قاعدة التجاوز أعمّ مطلقاً ، وما ذكر من موردي الافتراق ممنوع :

أمّا الشكّ في كون المأتيّ به واجداً للوصف أو الشرط ، فلا وجه لإخراجه عن قاعدة التجاوز ؛ لأنّ الوصف أو الشرط شيء شكّ في وجوده بعد تجاوز محلّه ، فيشمله قوله : «كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه»(1) فإذا شكّ في تحقّق الجهر بعد الدخول في الركوع يكون منطبقاً للقاعدة المجعولة ، فلا وجه لقصرها على الشكّ في الأجزاء .

وأمّا الشكّ في الجزء الأخير الغير المقوّم للصدق العرفي :

فإن كان المراد منه صدق الفراغ عرفاً فممنوع ؛ لأنّ السلام مثلاً إذا جعل آخر الصلاة فلا يحكم العرف بأنّ المصلّي فارغ من الصلاة قبل السلام ، ومع الشكّ فيه يكون الفراغ مشكوكاً فيه ، فلا تنطبق عليه قاعدة الفراغ .

وإن كان المراد منه صدق الصلاة على الناقص بجزء - كما لو نسي السلام ودخل في حائل - فهو مسلّم ، لكن لا يلزم منه صدق الفراغ من صلاته قبل السلام ؛ فإنّ المصلّي قبل السلام داخل فيها غير خارج عنها ، لكن لو تركها وذهب في شغله يصدق على ما فعل أ نّه صلاة ناقصة بجزء .

وبالجملة : لو شكّ في الجزء الأخير من المركّب مع بقاء محلّه لا يكون مورداً لقاعدة الفراغ ؛ للشكّ في حصول الفراغ ، ولا لقاعدة التجاوز ؛ لبقاء محلّه ، ومع مضيّ محلّه يكون مورداً لقاعدة التجاوز ، كما يكون مورداً لقاعدة الفراغ .

ص: 353


1- تقدّم تخريجه في الصفحة 343 .

ولو قيل : إنّ الدخول في الغير معتبر في قاعدة التجاوز لا الفراغ ، فتفترق قاعدة التجاوز عن الفراغ فيما إذا فرغ من العمل وشكّ في وصف جزئه الأخير أو شرطه ، أو شكّ في شرط المركّب قبل الدخول في غيره ، فتشمله قاعدة الفراغ لا التجاوز .

يقال له : إنّ اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز دون الفراغ ممّا لا وجه له ؛ فإنّ وجه اعتباره في قاعدة التجاوز إنّما هو ظهور قوله في مثل صحيحتي زرارة وإسماعيل بن جابر : «ودخلت في غيره» في ذلك ، وهذا التعبير بعينه بل أصرح وآكد منه موجود في صحيحة زرارة عن أبي جعفر علیه السلام التي تكون مستند قاعدة الفراغ ، وكذا في موثّقة ابن أبي يعفور، المنقولتين في أبواب الوضوء .

ففي اُولاهما : «فإذا قمت من الوضوء ، وفرغت منه وقد صرت في حال اُخرى في الصلاة أو غيرها ، فشككت في بعض ما سمّى اللّه ممّا أوجب اللّه عليك وضوءه لا شيء عليك فيه»(1) .

وفي ثانيتهما : «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشيءٍ ، إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه»(2) .

بناءً على رجوع ضمير «غيره» إلى الوضوء ، ولا وجه لفهم القيدية في إحدى

ص: 354


1- الكافي 3 : 33 / 2 ؛ تهذيب الأحكام 1 : 100 / 261 ؛ وسائل الشيعة 1 : 469 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ، الباب 42 ، الحديث 1 .
2- تقدّم تخريجه في الصفحة 344 .

الطائفتين دون الاُخرى ، وسيأتي التعرّض لذلك إن شاء اللّه (1) .

لا يقال : إنّ قاعدة الفراغ عامّة سيّالة في جميع أبواب الفقه ، دون قاعدة التجاوز ، فإنّها مختصّة بباب الصلاة(2) .

فإنّه يقال : قصر قاعدة التجاوز بباب الصلاة ممنوع ؛ لعموم الدليل وعدم المخصّص :

أمّا عمومه فلما عرفت .

وأمّا عدم المخصّص اللفظي فظاهر .

وأمّا عدم المخصّص اللبّي من إجماع أو شهرة ؛ فلعدم ثبوتهما ، فما ادّعاه بعض المحقّقين من اختصاصها بباب الصلاة لم يظهر له وجه .

ولقد أجاد في «الجواهر» حيث قال : ربما احتمل اختصاص مورد هذه الأخبار في الصلاة ؛ لاقتضاء سياقها ذلك ، وهو ضعيف جدّاً ، بل هي قاعدة محكّمة في الصلاة وغيرها من الحجّ والعمرة وغيرهما .

نعم ، هي مخصوصة بالوضوء خاصّة ؛ لما سمعته من أدلّتها فمن هنا وجب الاقتصار عليه ، ولا يتعدّى منه في هذا الحكم للغسل مثلاً ، بل هو باقٍ على القاعدة من عدم الالتفات إلى الشكّ في شيء من أجزائه مع الدخول في غيره من الأجزاء . نعم ، لا يبعد إلحاق التيمّم به(3) ، انتهى .

وهو جيّد إلاّ ما ذكره أخيراً من نفي البعد عن إلحاق التيمّم بالوضوء ؛ فإنّ

ص: 355


1- يأتي في الصفحة 366.
2- حاشية فرائد الاُصول (الفوائد الرضوية) : 458 .
3- جواهر الكلام 2 : 355 .

مجرّد بدليته من الوضوء لا يقتضي إلحاقه به في هذا الحكم ، فإنّ رفع اليد عن العموم يحتاج إلى مخصّص مفقود في المقام .

هذا كلّه إن اُريد من القاعدة أصالة الصحّة .

وأمّا إن اُريد منها عدم الاعتناء بالشكّ في الجزء أو الشرط بعد الفراغ من العمل فيقال : الفرق بين قاعدة الفراغ والتجاوز أنّ مفاد قاعدة التجاوز عدم الاعتناء بالشكّ في الجزء أو الشرط بعد التجاوز عن محلّه ، ومفاد قاعدة الفراغ عدم الاعتناء بالشكّ فيهما بعد الفراغ من العمل .

فلا يرد عليه الإشكالان المتقدّمان : من عدم إمكان تطرّق الجعل وحكومة قاعدة التجاوز على الفراغ ، لكن مع عموم قاعدة التجاوز لجميع الأبواب ، وكونها أعمّ مطلقاً بالنسبة إلى قاعدة الفراغ يكون جعل الثانية لغواً؛ لما عرفت .

ثمّ لو قلنا : بأنّ قاعدة التجاوز مخصوصة بباب الصلاة يقع الكلام في أنّ المجعول قاعدتان :

الاُولى : قاعدة الفراغ بالمعنى المتقدّم آنفاً ، وهي سيّالة في جميع أبواب الفقه .

والثانية : قاعدة التجاوز ، وهي مخصوصة بباب الصلاة .

أو أنّ المجعول قاعدة واحدة هي قاعدة التجاوز ، لكن قام الدليل اللفظي في باب الوضوء وغير اللفظي في سائر الأبواب - غير باب الصلاة - على تقييد التجاوز بكونه عن تمام العمل المركّب ؛ بدعوى أنّ هذا التقييد ليس مستهجناً كالتخصيص الأكثري ، والبحث عن ذلك بعد بطلان أصل المبنى ، ومع فرض عدم بطلانه وعدم ترتّب ثمرة مهمّة عليه ممّا لا جدوى له .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ التحقيق هو استفادة قاعدة واحدة هي قاعدة التجاوز

ص: 356

بعد المحلّ ، وهي سيّالة في جميع الأبواب ، ولا وجه لتخصيصها بباب الصلاة ؛ بعد عموم الأدلّة ، وعدم المقيّد والمخصّص .

وبما ذكرناه وفصّلناه علم : أنّ مثل قوله في موثّقة ابن مسلم : «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو»(1) ليس معناه كلّ ما شككت في صحّته بعد الفراغ منه ؛ لما عرفت(2) من فساد ذلك ، بل معناه أ نّه كلّ ما شككت في وجوده جزءاً كان أو شرطاً ، أو نفس العمل ممّا قد مضى محلّه المقرّر الشرعي ، فأمضه كما هو ، فيكون مفاده إعطاء قاعدة التجاوز .

كما أنّ المراد من قول أبي جعفر علیه السلام في صحيحة محمّد بن مسلم المنقولة في أبواب الخلل : «كلّ ما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فامض ولا تعد»(3) هو بيان مورد من موارد قاعدة التجاوز ، فيكون ملاك الحكم هو التجاوز عن المحلّ . لا الفراغ من العمل ، ولا محيص عن حملها على ذلك ؛ ضرورة أ نّه مع جريان قاعدة التجاوز في باب الصلاة من غير إشكال - لدلالة النصوص الكثيرة عليه - لا معنى لجعل قاعدة الفراغ فيه مستقلاًّ .

وممّا ذكرنا : يقرب احتمال آخر في قوله : «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو» وهو أ نّه بصدد بيان مورد من موارد قاعدة التجاوز ؛ أي الشكّ الحادث بعد مضيّ العمل المتعلّق بكلّ ما اعتبر فيه لا اعتبار به ، لا لدخالة الفراغ

ص: 357


1- تقدّم في الصفحة 341 .
2- تقدّم في الصفحة 347 .
3- تهذيب الأحكام 2 : 352 / 1460 ؛ وسائل الشيعة 8 : 246 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 27 ، الحديث 2 .

في ذلك ؛ بل بملاك التجاوز عن المحلّ .

فالشكّ الحادث بعد العمل كالحادث بينه بعد مضيّ المحلّ لا اعتبار به ، لا بملاكين ، بل بملاك واحد هو التجاوز عن المحلّ ، فحينئذٍ تكون جميع روايات الباب المتقاربة المضمون والتعبير لإعطاء قاعدة كلّية هي عدم الاعتناء بالشكّ بعد تجاوز المحلّ .

حول إخراج الطهارات الثلاث من قاعدة التجاوز

وممّا ذكرنا : يمكن أن يدّعى أنّ الوضوء باقٍ تحت قاعدة الشكّ بعد التجاوز ؛ لكنّ الشارع تصرّف في التجاوز فيه ، وقيّده - في خصوص باب الوضوء - بالتجاوز عن تمام العمل ، وهذا من قبيل تقييد المورد ، لا تخصيصه حتّى يستشكل فيه بالاستهجان ، نظير آية النبأ إشكالاً وجواباً في هذه الحيثية(1) .

بل المقام خالٍ عن الإشكال ولو قلنا باستهجان تقييد المورد ؛ فإنّه من قبيل تقييد إطلاق المورد بإخراج بعض الفروض النادرة نسبة ، فإنّ عروض الشكّ بين الوضوء نادر ، خصوصاً بالنسبة إلى أصل الغسل والمسح ، لا الشرائط والموانع .

والظاهر من الدليل المخصّص أو المقيّد لقاعدة التجاوز بالنسبة إلى الوضوء وهو صحيحة زرارة الآتية ، هو اختصاص الخارج بالشكّ فيما سمّى اللّه تعالى وأوجبه على العباد في ظاهر الكتاب ، لا غيره ممّا فهم اعتباره بالسنّة ، وهذا

ص: 358


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24 : 271 - 272 ؛ اُنظر أنوار الهداية 1 : 233 .

بوجه نظير الشكّ في الركعتين الأوّلتين من الصلاة ، حيث لا يدخل فيهما الشكّ ؛ لكونهما فرض اللّه .

وبالجملة : لا دليل على التقييد فيما عدا ما سمّى اللّه من الغسل والمسح ، أو مع بعض الخصوصيات المستفادة من ظاهر الكتاب ، فلو شكّ في إطلاق الماء وإضافته ، أو الغسل منكوساً وأمثال ذلك يكون مشمولاً للقاعدة ، بين الوضوء أو بعده .

فتحصّل من ذلك : أنّ هذا النحو من التقييد لا استهجان فيه رأساً .

وحينئذٍ : تبقى موثّقة ابن أبي يعفور المتقدّمة(1) على ظاهرها ؛ من رجوع ضمير «غيره» إلى الجزء المشكوك فيه ، لا إلى الوضوء .

وأمّا ما أفاده الشيخ الأعظم قدّس سرّه : من أنّ الوضوء اعتبر أمراً بسيطاً للتخلّص عن الإشكال(2) ففيه ما لا يخفى ؛ فإنّ صحيحة زرارة الواردة في باب الوضوء آبية عن ذلك .

وها هي الصحيحة المنقولة في أبواب الوضوء : محمّد بن الحسن ، عن المفيد ، عن أحمد بن محمّد ، عن أبيه ، عن أحمد بن إدريس وسعد بن عبداللّه ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسين بن سعيد ، عن حمّاد ، عن حَريز ، عن زرارة ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : «إذا كنت قاعداً على وضوئك ، فلم تدرِ أغسلت ذراعيك أم لا ، فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أ نّك لم تغسله أو تمسحه ممّا سمّى اللّه ، ما دمت في حال الوضوء ، فإذا قمت من الوضوء ، وفرغت منه ،

ص: 359


1- تقدّم في الصفحة 344 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 337 .

وقد صرت في حال اُخرى في الصلاة أو غيرها فشككت في بعض ما سمّى اللّه ممّا أوجب اللّه عليك فيه وضوءه لا شيء عليك ، فإن شككت في مسح رأسك فأصبت في لحيتك بللاً فامسح بها عليه وعلى ظهر قدمك ، فإن لم تصب بللاً فلا تنقض الوضوء بالشكّ وامض في صلاتك ، وإن تيقّنت أ نّك لم تتمّ وضوءك فأعد على ما تركت يقيناً حتّى تأتي بالوضوء» .

قال حمّاد : وقال حَريز : قال زرارة : قلت له : رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده في غسل الجنابة ؟ فقال : «إذا شكّ ثمّ كانت به بلّة وهو في صلاته مسح بها عليه ، وإن كان استيقن رجع وأعاد عليه الماء ما لم يصب بلّة ، فإن دخله الشكّ وقد دخل في حال اُخرى(1) فليمض في صلاته ولا شيء عليه ، وإن استبان رجع وأعاد الماء عليه ، وإن رآه وبه بلّة مسح عليه وأعاد الصلاة باستيقان ، وإن كان شاكّاً فليس عليه في شكّه شيء ، فليمض في صلاته»(2) .

فإنّ فيها وجوهاً من الدلالة على شدّة العناية بالأجزاء ، ولا يمكن أن يقال : - بعد هذا التأكيد والمبالغة ، والتعبير بما سمّى اللّه ، وأوجب اللّه عليك فيه

ص: 360


1- هكذا في الوافيأ ومرآة العقول(ب) ، لكن في الوسائل بدل «حال اُخرى»: «في صلاته» ، والظاهر صحّة الأوّلين . [منه قدس سره] أ - الوافي 6 : 344 / 4432 . ب - مرآة العقول 13 : 111 / 2 .
2- وسائل الشيعة 1 : 469 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ، الباب 42 ، الحديث 1 و2 : 460 ، كتاب الطهارة ، أبواب الجنابة ، الباب 41 ، الحديث 2 .

وضوءه - إنّه فرض أمراً بسيطاً ، بل في موثّقة ابن أبي يعفور أيضاً دلالة على عنايته بالأجزاء ، وكون الوضوء أمراً مركّباً ، بل الظاهر من آية الوضوء(1) أيضاً هو العناية بأجزاء الوضوء ، كما أشارت إليها صحيحة زرارة ، فلا يمكن الالتزام بما أفاده ، ولا محيص عمّا ذكرنا ، ولا إشكال فيه ؛ لأنّ دلالة صدر موثّقة ابن أبي يعفور على عدم الاعتناء بالشكّ إذا حدث في الأثناء ليس إلاّ بالإطلاق ، كمفهوم ذيلها ، بل تقييد التجاوز بما بعد الوضوء من أسهل التصرّفات ؛ لأنّ حدوث الشكّ في الأثناء نادر ؛ لأنّه يحدث نوعاً بعده ، فإخراج الفرد النادر سهل .

ثمّ إنّه وقع الإشكال في إلحاق الغسل والتيمّم بالوضوء وعدمه .

ولا دليل على الإلحاق إلاّ أن يقال - في توجيه إخراج الوضوء - بمقالة الشيخ الأنصاري (2) : من كونه على القاعدة ؛ لأنّه اعتبر أمراً بسيطاً؛ لوحدة مسبّبه وأنّ الغسل والتيمّم أيضاً كذلك ، مع أنّ بدلية التيمّم عن الوضوء تقتضي ذلك ، وهو كما ترى ، وقد عرفت أنّ اعتبار البساطة خلاف الأدلّة .

أو يقال : إنّ أدلّة التجاوز قاصرة عن إثبات الحكم لغير الصلاة ، وقد عرفت ضعفه(3) .

هذا ، مضافاً إلى دلالة ذيل صحيحة زرارة المتقدّمة آنفاً بإطلاقه على عدم الاعتناء بالشكّ في غسل الجنابة ولو حدث في الأثناء ؛ فإنّ الظاهر من الفقرة

ص: 361


1- المائدة (5) : 6 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 336 - 338 .
3- تقدّم في الصفحة 355 .

الاُولى أنّ الشكّ إذا حدث في أثناء الصلاة وكانت به بلّة مسح بها عليه ، وهذا حكم استحبابي ، ومن الفقرة الثانية - وهي قوله : «فإن دخله الشكّ وقد دخل في حال اُخرى فليمض في صلاته» - أنّ الشكّ إذا حدث قبل الصلاة بعد انتقاله إلى حال اُخرى فليمض في صلاته ؛ أي المصلّي إذا كان دخله الشكّ في غسل ذراعه أو بعض جسده في غسل الجنابة بعد الانتقال إلى حال اُخرى فليمض في صلاته .

ولا إشكال في أنّ المشتغل بغسل الجانب الأيسر إذا دخله الشكّ في غسل رأسه أو ذراعه اليمنى أو بعض جسده ، يصدق أ نّه دخله الشكّ وقد دخل في حال اُخرى .

ولا وجه لحمل الحال الاُخرى على حال غير غسل الجنابة ؛ فإنّه تقييد بلا وجه ، وقد عرفت أنّ مقتضى مقابلة الفقرة الثانية للاُولى أنّ المفروض فيها حدوث الشكّ قبل الصلاة .

وبالجملة : أنّ إلحاق الغسل بل التيمّم بالوضوء ضعيف .

الأمر الرابع: في أنّ المراد من المحلّ هو المحلّ الشرعي

قد عرفت أنّ الأخبار كلّها منزّلة على قاعدة التجاوز ، فحينئذٍ يكون المراد من المضيّ هو مضيّ محلّ المشكوك فيه ، وإنّما نسب المضيّ إلى الشيء بنحو من التوسعة والتنزيل ، كما في مطلق المجازات ، لا بتقدير لفظ المحلّ ، فإنّ

ص: 362

التحقيق أنّ المجاز مطلقاً حتّى مثل قوله : (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ)(1) من قبيل الحقيقة الادّعائية(2) .

وكيف كان : يكون المراد من المضيّ مضيّ محلّه ، والظاهر من المحلّ هو المحلّ المقرّر الشرعي ولو إنفاذاً ، لا بقيد المحلّ الشرعي حتّى يقال : إنّه تقييد بلا مقيّد(3) ، بل لأنّ الشارع المقنِّن إذا قرّر للأشياء محلاًّ ، فجعل محلّ القراءة بعد التكبير ، ومحلّ الركوع بعد القراءة وهكذا ، ثمّ جعل قانوناً آخر بأنّ كلّ ما مضى محلّه فأمضه ، لا يفهم العرف والعقلاء منه إلاّ ما هو المحلّ المقرّر الجعلي ، لا ما صار عادة للأشخاص أو النوع ؛ فإنّ العادة إنّما تحصل بالعمل ، وهي لا توجب أن يصير المحلّ العادي محلاًّ للشيء ، بل المحلّ بقول مطلق هو ما يكون محلاًّ مقرّراً قانونياً ، لا ما صار عادة حتّى يختلف باختلاف الأزمنة والأحوال .

وبالجملة : إسراء الحكم إلى المحلّ العادي - بدعوى إطلاق الأدلّة - في غاية الإشكال ، بل لا يمكن التزامه .

نعم ، يمكن أن يقال : إنّه يستفاد اعتبار المحلّ العادي من صحيحة زرارة المتقدّمة(4) الواردة في باب الوضوء والغسل :

بدعوى أنّ الموضوع لعدم الاعتناء بالشكّ ليس عنوان القيام من الوضوء أو الفراغ منه ، بل هو عدم الكون في حال الوضوء ، لا بالمعنى العدمي ، بل بمعنى

ص: 363


1- يوسف (12) : 82 .
2- راجع مناهج الوصول 1 : 62 .
3- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 594 .
4- تقدّم في الصفحة 359 - 360 .

المضيّ عنه ، فإنّ الظاهر أنّ قوله : «فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال اُخرى» بيان مفهوم الصدر ؛ أي قوله : «ما دمت في حال الوضوء» .

ودعوى أنّ الحال الاُخرى كالصلاة وغيرها المحقّقة لعنوان التجاوز أعمّ من الأمر المرتّب شرعاً على الوضوء وغيره ؛ لإطلاق قوله : «وغيرها» .

ودعوى أنّ قوله : «ممّا أوجب اللّه عليك وضوءه» أعمّ من الغسل والمسح ، كما في الحديث : «أشدّ الناس حسرة يوم القيامة من يرى وضوءه على جلد غيره»(1) فإنّه باعتبار المسح على الخفّين ، أو بدعوى إلغاء الخصوصية .

فإذا شكّ في مسح الرجل اليسرى وقد دخل في حال اُخرى عادية كالتمندل أو غيره فلا يعتني بشكّه بحسب المفهوم منها ، ولو مع عدم مضيّ زمان يخلّ بالموالاة العرفية .

وكذا يمكن أن يقال : إنّ قوله في ذيلها : «فإن دخله الشكّ وقد دخل في حال اُخرى» يدلّ بإطلاقه على أنّ من شكّ في غسل ذراعه أو بعض جسده من الطرف الأيسر وقد دخل في حال اُخرى - أيّة حال كانت - لا يعتني بشكّه ، مع أنّ الموالاة غير معتبرة في الغسل ، ولا في أجزاء أجزائه .

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقرير دعوى الأعمّية من المحلّ الشرعي .

ولكن مع ذلك لا يخلو عن الإشكال ؛ لأنّ قوله : «ما دمت في حال الوضوء» ظاهر في كونه في حال الوضوء واقعاً لا اعتقاداً ، كما هو قضيّة كلّ عنوان اُخذ

ص: 364


1- الفقيه 1 : 30 / 96 ؛ وسائل الشيعة 1 : 461 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ، الباب 38 ، الحديث 14 .

في موضوع حكم ، وإذا لم يمسح الرجل اليسرى وبقيت الموالاة المعتبرة تكون حال الوضوء باقية .

ومقابل هذا العنوان هو الانتقال إلى حال اُخرى ؛ أي ما إذا لم تكن الموالاة المعتبرة باقية ، فإذا شكّ في مسح الرجل اليسرى ، وأحرز عدم بقاء الموالاة المعتبرة صدق أ نّه شكّ ولم يكن في حال الوضوء وصار في حال اُخرى .

وأمّا مع بقائها أو الشكّ في بقائها فلا بدّ من الرجوع ومسح الرجل ، أمّا مع بقاء الموالاة ؛ فلصدق كونه في حال الوضوء ، وأمّا مع الشكّ فلإحرازه بالأصل ، مضافاً إلى قاعدة الشغل ، وهي وإن تقتضي الإعادة لكنّ مقتضى الأدلّة عدمها .

ومنه يظهر الجواب عن ذيل الصحيحة ؛ فإنّ الحالة الاُخرى إن كانت من الحالات المترتّبة على الغسل فلا إشكال فيه ، وأمّا مع عدم الترتّب فلا يصدق أ نّه في حال اُخرى ؛ لعدم الانتقال عن الجزء المشكوك فيه ؛ لأنّ الموالاة غير معتبرة في أجزاء الغسل ، ولا في أجزاء أجزائه ، فحال الغسل باقية مع عدم غسل الجزء أو جزء الجزء ، ومع الشكّ فيه يكون الانتقال إلى حال اُخرى مشكوكاً فيه .

وليس لأحدٍ أن يقول : إنّه مع الشكّ في الجزء الأخير - إذا لم يكن من الأجزاء المعظمة ، كمسح الرجل أو بعضها ، وكغسل البعض اليسير من الطرف الأيسر - يصدق أ نّه فرغ من العمل ، وقام من الوضوء ، ودخل في حال اُخرى ، ولم يكن في حال الوضوء ولو مع بقاء الموالاة العرفية ، فمن اشتغل بالتمندل وشكّ في مسح رجله اليسرى صدقت عليه تلك العناوين ، كمن خرج من الحمّام وشكّ في غسل بعض جسده من الطرف الأيسر ؛ وذلك لأنّ صدق الفراغ مع الشكّ في مسح الرجل وكذا مع الشكّ في غسل الطرف الأيسر أو بعضه ممنوع ؛ ضرورة أ نّه

ص: 365

مع العلم بعدم المسح والغسل لا يصدق الفراغ إلاّ بالمسامحة ، فكيف يصدق مع الشكّ فيهما ؟ ! لامتناع أن يكون الشكّ مؤثّراً فيه .

هذا ، مضافاً إلى أنّ ما ذكر تقرير لقاعدة الفراغ التي لا أصل لها ؛ لما عرفت(1) من أنّ المجعول بحسب الأخبار هو قاعدة التجاوز ، وأنّ الوضوء أيضاً مشمول لقاعدة التجاوز ، لكنّها مقيّدة بالنسبة إليه بتجاوز محلّ جميع الأجزاء ، فلا عبرة بصدق عنوان الفراغ ، بل المعتبر صدق عنوان تجاوز محلّ أجزاء الوضوء .

وكونه في حال الوضوء المقابل لعدم كونه في حاله ، عبارة اُخرى عن بقاء المحلّ وعدمه ، وهو بيان للقيد المعتبر في قاعدة التجاوز بالنسبة إلى الوضوء خاصّة ، فحينئذٍ لا مجال للدعوى المذكورة .

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أ نّه لا دليل على اعتبار المحلّ العادي ، عادة شخصية كانت أو نوعية ، فتدبّر جيّداً .

الأمر الخامس هل الدخول في الغير معتبر في القاعدة أم لا ؟

هل الدخول في الغير معتبر في قاعدة التجاوز ولو لم يكن محقّقاً له أم لا(2) ؟ وعلى فرض اعتباره هل المعتبر هو الدخول في الركن(3) أو في الأفعال

ص: 366


1- تقدّم في الصفحة 350 .
2- درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 595 .
3- اُنظر النهاية : 92 - 93 .

الواجبة(1) أو في الأفعال مطلقاً ، واجبة كانت أو مستحبّة(2) ، أو مطلق الغير المترتّب على الجزء المشكوك فيه ولو كان من مقدّمات الأفعال ، كالنهوض إلى القيام والهويّ إلى السجود(3) ؟ وجوه بل أقوال :

أوجهها عدم الاعتبار مطلقاً إلاّ إذا كان محقّقاً للتجاوز ، لكن اعتباره حينئذٍ ليس لأجل دخالته في موضوع الحكم ، بل لأجل ملازمته مع الموضوع ، وإلاّ فالموضوع هو نفس التجاوز .

والدليل على عدم اعتباره يتّضح بعد مقدّمة : وهي أنّ المستفاد من أخبار الباب أنّ السرّ في جعل قاعدة التجاوز ليس هو مجرّد التسهيل على العباد لكثرة وقوع الشكّ بعد العمل ، بل نكتة الجعل أنّ الإنسان لمّا كان حين العمل أقرب إلى الحقّ ، وأذكر في إتيان العمل على وجهه، تعبّد الشارع بالبناء على إتيان العمل المشكوك فيه في محلّه ، وأنّ الفاعل لم يتجاوز عن المحلّ إلاّ وقد أتى بما هي وظيفته .

ويدلّ عليه قوله في موثّقة بكير بن أعين : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ»(4) حيث يظهر منها أنّ وجه عدم الاعتناء بالشكّ أنّ الآتي بالعمل حين

ص: 367


1- تذكرة الفقهاء 3 : 317 ؛ الروضة البهيّة 1 : 266 ؛ اُنظر مستمسك العروة الوثقى 7 : 439 .
2- مستند الشيعة 7 : 170 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 638 .
3- حاشية فرائد الاُصول (الفوائد الرضوية) : 461 ؛ العروة الوثقى 3 : 234 ؛ نهاية الأفكار ، القسم الثاني 4 : 55 - 56 .
4- تقدّم في الصفحة 344 .

اشتغاله به أذكر منه بعده ، ومع كونه ذاكراً أتى به على وجهه .

وقوله في رواية محمّد بن مسلم المتقدّمة : «وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك»(1) والمراد من حين الانصراف حين الاشتغال بالسلام ؛ لكون الانصراف هو السلام في لسان الروايات ، ويظهر منه أنّ عدم الاعتناء بالشكّ بعد العمل إنّما هو لأجل أقربيته إلى الحقّ حين العمل ، فلا محالة أتى به على وجهه .

وقوله في صحيحة حمّاد بن عثمان المنقولة في أبواب الركوع ، قال : قلت لأبي عبداللّه علیه السلام : أشكّ وأنا ساجد ، فلا أدري ركعت أم لا ؟ فقال : «قد ركعت ، أمضه»(2) يدلّ على أنّ الآتي بالمأمور به قد أتى بوظيفته في محلّها ، ويكون هذا نكتة التعبّد بعدم الاعتناء بالشكّ ، إلى غير ذلك من الروايات .

وبالجملة : يستفاد منها أنّ قاعدة التجاوز ليست مجعولة لمحض التسهيل ؛ بل لكون المكلّف يأتي بالعمل على طبق وظيفته ، ويكون حين العمل أذكر منه حين يشكّ .

فحينئذٍ نقول : يتّضح ممّا ذكر أنّ الدخول في الغير غير دخيل في موضوع الحكم ، وأنّ تمام الموضوع للحكم بعدم الاعتناء بالشكّ هو أنّ المكلّف الذاكر يأتي بوظيفته حين اشتغاله بالعمل ، فإذا تجاوز عن المحلّ يتحقّق موضوع

ص: 368


1- تقدّمت في الصفحة 345 .
2- تهذيب الأحكام 2 : 151 / 594 ؛ وسائل الشيعة 6 : 317 ، كتاب الصلاة ، أبواب الركوع ، الباب 13 ، الحديث 2 .

القاعدة ، دخل في الغير أو لا ، ولا يكون الدخول في الغير دخيلاً في الحكم حتّى فيما كان محقّقاً للتجاوز .

وبعد التنبيه بما ذكرنا لا تفهم القيدية من قوله في صحيحتي زرارة وإسماعيل ابن جابر : «دخلت» أو «دخل في غيره» فيكون ذكر الدخول في الغير لتحقّق التجاوز نوعاً به ، لا لدخالته في موضوع الحكم .

ويؤيّد ما ذكرنا بل يدلّ عليه : قوله في ذيل موثّقة ابن أبي يعفور في مقام إعطاء القاعدة : «إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه»(1) مع ذكر الدخول في الغير في صدرها ؛ فإنّ الظاهر من ذيلها أ نّه بصدد إعطاء كبرى كلّية ، ويكون الصدر مصداقاً لها ، فحصر لزوم الاعتناء بالشكّ - فيما إذا كان متشاغلاً بالشيء ولم يجزه - دليل على أنّ الموضوع للحكم نفس الخروج عن المحلّ والتجاوز عنه ، ولا دخالة لشيءٍ آخر فيه .

وأمّا ما أفاده الشيخ الأعظم : من أنّ الظاهر من الغير في صحيحة إسماعيل - بملاحظة كون صدرها في مقام التحديد والتوطئة للقاعدة المقرّرة في ذيلها - كون السجود والقيام حدّاً للغير الذي يعتبر الدخول فيه ، وأ نّه لا غير أقرب من السجود والقيام بالنسبة إلى الركوع والسجود ؛ إذ لو كان الهويّ والنهوض كافيين قبح في مقام التوطئة للقاعدة ، التحديد بالسجود والقيام ، ولم يكن وجه لجزم المشهور بوجوب الالتفات إذا شكّ قبل الاستواء قائماً (2) ، انتهى .

ففيه : أنّ دعوى كون الصدر في مقام التحديد ، وأ نّه لا غير أقرب ممّا ذكر،

ص: 369


1- تقدّم تخريجه في الصفحة 344 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 332 - 333 .

ممنوعة ؛ لعدم الدليل عليها ، ويكفي في نكتة ترك ذكر الهويّ والنهوض ، أنّ الشكّ لا يعرض غالباً عندهما ؛ لقربهما إلى المحلّ .

هذا ، مضافاً إلى منافاة ما ذكره لموثّقة عبدالرحمان المنقولة في أبواب الركوع : محمّد بن الحسن ، بإسناده عن سعد ، عن أبي جعفر ، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، عن أبان بن عثمان ، عن عبد الرحمان بن أبي عبداللّه ، قال : قلت لأبي عبداللّه علیه السلام : رجل أهوى إلى السجود فلم يدرِ أركع أم لم يركع ؟ قال : «قد ركع»(1) .

فإنّها تدلّ على أنّ الدخول في السجود ليس دخيلاً في الحكم .

وأمّا جزم المشهور بوجوب الالتفات إذا شكّ في السجود قبل الاستواء قائماً - على فرض ثبوته - فلعلّه لموثّقة عبد الرحمان الاُخرى المنقولة في أبواب السجود بالسند المتقدّم عن عبد الرحمان بن أبي عبداللّه ، قال : قلت لأبي عبداللّه علیه السلام : رجل رفع رأسه من السجود فشكّ قبل أن يستوي جالساً ، فلم يدرِ أسجد أم لم يسجد ؟ قال : «يسجد» .

قلت : فرجل نهض من سجوده ، فشكّ قبل أن يستوي قائماً ، فلم يدرِ أسجد أم لم يسجد ؟ قال : «يسجد»(2) .

فالقاعدة مخصّصة بالنسبة إلى هذه الصورة ، ولا إشكال فيه بعد قيام الدليل .

ص: 370


1- تهذيب الأحكام 2 : 151 / 596 ؛ وسائل الشيعة 6 : 318 ، كتاب الصلاة ، أبواب الركوع ، الباب 13 ، الحديث 6 .
2- تهذيب الأحكام 2 : 153 / 603 ؛ وسائل الشيعة 6 : 369 ، كتاب الصلاة ، أبواب السجود ، الباب 15 ، الحديث 6 .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الدخول في الغير غير معتبر في القاعدة .

ثمّ على فرض اعتباره فلا وجه معتدّ به للاختصاص بأمر خاصّ كالركن مثلاً ؛ بدعوى أنّ المراد بالمحلّ هو محلّ تدارك الأجزاء المنسيّة ، وهو كما ترى .

وكالأجزاء الواجبة ؛ بدعوى الانصراف إليها ، بعد عدّ الواجبات في صحيحة زرارة ، فإنّه أيضاً ضعيف ؛ ضرورة عدم صيرورة ذلك موجباً للانصراف .

ولا مطلق الأجزاء مستحبّة كانت أو غير مستحبّة ؛ لما أشار إليه الشيخ ، وقد عرفت ما فيه ، أو لدعوى الانصراف أيضاً .

بل المراد من الغير على فرض اعتباره مطلق الغير الذي يكون مرتّباً وجوداً على الفعل المشكوك فيه ، حتّى مثل النهوض والهويّ ، والدليل عليه - مضافاً إلى إطلاق الأدلّة - خصوص موثّقة عبدالرحمان المتقدّمة(1) ؛ فإنّ الظاهر بل المقطوع أنّ الحكم بعدم الاعتناء والمضيّ لكون المورد مندرجاً في الكبرى المعهودة ، لا كونه لقاعدة اُخرى مستقلّة . وأمّا تقييد القاعدة فلا مانع منه ، فإنّه ليس بعزيز .

ويدلّ على المطلوب أيضاً إطلاق رواية علي بن جعفر المنقولة في أبواب الخلل : عبداللّه بن جعفر في «قرب الإسناد» عن عبداللّه بن الحسن ، عن جدّه علي بن جعفر ، عن أخيه موسى علیه السلام قال : سألته عن رجل ركع وسجد ، ولم يدرِ هل كبّر أو قال شيئاً في ركوعه وسجوده ، هل يعتدّ بتلك الركعة والسجدة ؟

ص: 371


1- تقدّم في الصفحة 370 .

قال : «إذا شكّ فليمض في صلاته»(1) .

فإنّ الظاهر منها عدم الاعتناء بالشكّ في الذكر بعد الركوع والسجود ، وأنّ عدم الاعتناء إنّما هو لأجل الشكّ ، فإنّ الظاهر من قوله : «إذا شكّ فليمض» أنّ الإمضاء لقاعدة التجاوز ، وإن كان العدول إلى السجود والركوع غير جائز على فرض العلم بعدم الإتيان بذكرهما ، لكن لا ينافي ذلك جريان القاعدة فيهما في موردهما ، وأثره عدم وجوب سجدة السهو أو استحبابها على فرض ثبوتها لكلّ زيادة ونقيصة ولو استحباباً ؛ لأنّ مقتضى استصحاب عدم الإتيان بذكرهما ثبوت سجدة السهو .

الأمر السادس: هل المضيّ على وجه العزيمة أو الرخصة؟

هل المضيّ وعدم الاعتناء بالشكّ بعد التجاوز على نحو الرخصة أو العزيمة ؟ قيل : ظاهر الأوامر يقتضي وجوب المضيّ وعدم الالتفات ، فيكون على وجه العزيمة(2) .

وردّ : بأنّ الأوامر واردة مورد توهّم الحظر ، فلا يفهم منها أزيد من الجواز(3) .

ص: 372


1- قرب الإسناد : 198 / 755 ؛ وسائل الشيعة 8 : 239 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 23 ، الحديث 9 .
2- جواهر الكلام 12 : 322 .
3- اُنظر مصباح الفقيه ، الصلاة : 15 : 168 .

وقد يقال بعد تسليم أصل الدعوى : بأنّ كونه عزيمة لا يتوقّف على كون الأمر بالمضيّ للوجوب ، بل يكفي في ذلك كونه متفرّعاً على حكم الشارع بأنّ شكّه ليس بشيءٍ ؛ فإنّ مقتضى ذلك كون التلافي بقصد المشروعية تشريعاً وملحقاً بالزيادة العمدية(1) .

وفيه : أنّ غاية ما يستفاد من مثل قوله : «شكّك ليس بشيءٍ»(2) أ نّه لا يعتنى به ، فيأتي الكلام في أنّ عدم الاعتناء هل هو على وجه العزيمة أو الرخصة ؟ فلو سلّم أ نّه لا يستفاد من الأوامر أزيد من الجواز لا وجه لدعوى أنّ الإتيان بقصد المشروعية تشريع ؛ لأنّ مقتضى عدم الاعتناء على وجه الرخصة أنّ المكلّف مرخّص في ترك هذا الجزء من المركّب ، ومجاز في عدم الاعتناء بشكّه ، كما أ نّه مرخّص في إتيانه .

فحينئذٍ : لا تكون أدلّة التجاوز حاكمة على استصحاب عدم الإتيان بالجزء المشكوك فيه ، فمقتضى الاستصحاب وأدلّة التجاوز أ نّه لو أتى به يكون جزءاً للمركّب ، ولا بأس بتركه .

ولو قلنا : بمحكومية الاستصحاب - على فرض دلالة أدلّة التجاوز على كون عدم الاعتناء على وجه الرخصة - يجوز الإتيان بالجزء أيضاً بعنوان الجزئية ، لا لقاعدة الاشتغال حتّى يقال : يدور الأمر بين المحذورين ؛ بل للاستفادة من الأدلّة الخاصّة الواردة في الشكّ في المحلّ ، فإنّها بكثرتها تدلّ على أنّ الإتيان بعنوان الجزئية لا مانع منه .

ص: 373


1- اُنظر مصباح الفقيه ، الصلاة 15 : 168 .
2- تقدّم في الصفحة 342 .

والتحقيق أن يقال : إنّ المستفاد من الأدلّة كما عرفت(1) أنّ المكلّف الذي هو أذكر حين العمل وأقرب إلى الحقّ قد أتى بما هو وظيفته لا محالة ، كما يفصح عن ذلك قوله في صحيحة حمّاد : «قد ركعت أمضه»(2) وقوله في موثّقة عبد الرحمان : «قد ركع»(3) فيستفاد من تلك الأدلّة التعبّد بوجود الجزء : إمّا لقيام الأمارة عليه ، أو لكون الأصل محرزاً له ، فمع التعبّد بوجوده يكون الإتيان به زيادة عمدية ، لا من باب التشريع ، بل كسائر الزيادات العمدية .

والفرق أنّ الزيادة هناك وجدانية ، وهاهنا من ضمّ الوجدان إلى الأصل أو الأمارة ، وليس الأصل مثبتاً ؛ لأنّ مفاد الأصل ليس إلاّ وجود الجزء ، فإذا أتى المكلّف بجزء آخر يندرج الموضوع في عنوان : «من زاد في صلاته فعليه الإعادة»(4) فلو شكّ في إتيان السورة - بعد الدخول في القنوت - فأتى بسورة اُخرى يكون من القِران ؛ فإنّه ليس إلاّ إتيان سورة بعد إتيان سورة ، والفرض أنّ الشارع قد حكم بإتيان سورة ، فبإتيان الاُخرى يندرج تحت قوله : «لا قِران بين السورتين في ركعة»(5) .

نعم ، لو كان القران عنواناً بسيطاً انتزاعياً لا يثبت بالأصل ، لكن لا بأس

ص: 374


1- تقدّم في الصفحة 367 - 368 .
2- تقدّم تخريجه في الصفحة 368 .
3- تقدّم تخريجه في الصفحة 370 .
4- الكافي 3 : 355 / 5 ؛ تهذيب الأحكام 2 : 194 / 764 ؛ وسائل الشيعة 8 : 231 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الباب 19 ، الحديث 2 .
5- السرائر ، المستطرفات 3 : 587 ؛ وسائل الشيعة 6 : 53 ، كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ، الباب 8 ، الحديث 12 .

بالاحتياط في مثل الحمد والأدعية والأذكار ؛ فإنّه لا مانع منه حتّى مع تحقّق الأمارة على تحقّق الجزء ، ولا تصدق عليه الزيادة العمدية إذا كان بقصد رجاء المطلوبية والاحتياط ، وإن لا يخلو هاهنا من شوب إشكال ، فالأحوط المضيّ وعدم الاعتناء مطلقاً .

الأمر السابع: في أنّ القاعدة من الأمارات أو الاُصول ؟
اشارة

هل المستفاد من الأدلّة أنّ اعتبار القاعدة من باب الطريقية ؛ بمعنى أنّ الشارع جعل الظنّ الحاصل نوعاً من غلبة عمل الفاعل المختار المريد لفراغ ذمّته بما هو وظيفته في المحلّ أمارة على إتيانه ، وألغى احتمال خلافه ، وعلى هذا تكون القاعدة أمارة تأسيسية ؟ أو أ نّها أمارة عقلائية ، وتكون الروايات بصدد إمضاء ما لدى العقلاء ؟ أو أنّ المستفاد منها أنّ هاهنا قاعدتين ؛ إحداهما : قاعدة التجاوز ، وهي أمارة تأسيسية ، والاُخرى : قاعدة الفراغ ، وهي أمارة إمضائية لما في يد العقلاء ؟ أو أنّ قاعدة التجاوز أصل عملي تأسيسي ، وقاعدة الفراغ أمارة عقلائية ؟ والروايات على طائفتين : إحداهما بصدد تأسيس أصل عملي هو قاعدة التجاوز ، والاُخرى بصدد إمضاء ما لدى العقلاء ، وهو قاعدة الفراغ ، وهي أمارة عقلائية ؟ أو أنّ قاعدة الفراغ أصل عقلائي ، وقاعدة التجاوز أصل شرعي تأسيسي ؟ أو أ نّهما أصلان تأسيسيان شرعيان ؟

ص: 375

أو أنّ المستفاد منها : أنّ هاهنا قاعدة واحدة هي قاعدة التجاوز ، وهي أصل عملي تأسيسي ؟ وبناءً على أصليتها هل هي أصل عملي محض بلا نظر إلى التعبّد بوجود المشكوك فيه ، بل لسان التعبّد فيها هو المضيّ وعدم الاعتناء بالشكّ عملاً ؟ أو أصل محرز بنحو الإطلاق ، فمفادها هو البناء على وجود المشكوك فيه مطلقاً ، كالاستصحاب بناءً على كونه أصلاً محرزاً ؟ أو أصل محرز إضافي في موضوع خاصّ ؛ أي بالنسبة إلى ما تجاوز محلّه ، فيكون مفادها فيمن شكّ في الطهارة بعد الصلاة أنّ الطهارة موجودة بالنسبة إلى الصلاة المأتيّ بها لا مطلقاً ؟ هذا ، ولقد مرّ منّا بعض الكلام في الاُمور السالفة(1) ممّا هو راجع إلى المقام ، وأثبتنا أنّ المستفاد من الأدلّة هو جعل قاعدة واحدة هي قاعدة التجاوز ، وأنّ قاعدة الفراغ لا أصل لها .

والآن نقول : أمّا كون القاعدة أو القاعدتين أمارة عقلائية أو أصلاً عقلائياً ، أو إحداهما أمارة عقلائية ، والاُخرى أصلاً عقلائياً ، فممّا لا وجه له ؛ لعدم ثبوت بناء العقلاء على ذلك مطلقاً .

وما يقال : من أنّ قاعدة الفراغ قاعدة عقلائية دون قاعدة التجاوز(2) ، ففي غاية السقوط ؛ لأنّ المناط لدى العقلاء ليس عنوان الفراغ قطعاً ، بل لو كان مناط لديهم فليس إلاّ الغلبة المشار إليها في صدر المبحث ، وهذه الغلبة محقّقة

ص: 376


1- تقدّم في الصفحة 350 .
2- حاشية فرائد الاُصول (الفوائد الرضوية) : 453 .

في التجاوز والفراغ بعنوان التجاوز عن المحلّ ، لا الفراغ عن جميع العمل .

فمن شكّ في الركعة الأخيرة في ركوع الركعة السابقة لو بنى العقلاء على إتيانه أو كانت أمارة عقلائية عليه ، فإنّما هو لأجل أنّ الفاعل المريد لفراغ ذمّته إنّما يأتي بما هو وظيفته في محلّه ، فإذا تجاوز عن المحلّ وشكّ فيه يكون ما هو المناط محقّقاً ، وليس إتيان سائر الأجزاء دخيلاً فيه ، ولا إتيان جميع المركّب ، ولا الفراغ منه .

ولو قيل : إنّ المناط في عدم الاعتناء هو تحقّق الفصل الطويل بين محلّ المشكوك فيه ، ومحلّ حدوث الشكّ ، وهو محقّق في قاعدة الفراغ دون التجاوز .

يقال له : مع كونه ممنوعاً ، منقوض طرداً وعكساً .

وعلى أيّ حال : لم يثبت بناء العقلاء على عدم الاعتناء بالشكّ بعد الفراغ أو التجاوز ، ولم يثبت إلغاء الاحتمال وترتيب الأثر على هذه الغلبة عند العقلاء ، فلا بدّ من عطف النظر إلى مفاد الأدلّة :

فنقول : إنّها على طوائف :

منها : ما يكون مفادها هو مجرّد الأمر بالمضيّ ، كموثّقة محمّد بن مسلم(1) ، وصحيحته المنقولة في الخلل(2) ، وصحيحة إسماعيل بن جابر(3) ، ومثلها غيرها (4) .

ص: 377


1- تقدّمت في الصفحة 341 .
2- تقدّمت في الصفحة 357 .
3- تقدّمت في الصفحة 342 .
4- كمرسلة الصدوق المتقدّمة في الصفحة 346 .

ومنها : ما يكون مفادها نفي الشكّ تعبّداً ، والتعبّد بعدم الاعتناء به ، كموثّقة ابن أبي يعفور(1) .

ومنها : ما جمع بينهما ، كصحيحة زرارة صدراً وذيلاً(2) ، وأمثال هذه الروايات ليس مفادها إلاّ الأصل التعبّدي ، وليس معنى : «شكّك ليس بشيءٍ» إلاّ التعبّد بعدم الاعتناء به والمضيّ ، ولذا جمع بينهما في صحيحة زرارة بنحو الكبرى والصغرى ، حيث إنّ الظاهر من ذيلها أ نّه بصدد بيان الكبرى الكلّية المندرجة تحتها الأمثلة المذكورة في صدرها .

ومنها : ما يتوهّم منه الأمارية ، كموثّقة بكير بن أعين قال : قلت له : الرجل يشكّ بعد ما يتوضّأ ؟ قال : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ»(3) .

حيث علّل عدم الاعتناء بالشكّ بالأذكرية حين العمل ، وهي تناسب الطريقية .

وقريب منها رواية محمّد بن مسلم ، عن أبي عبداللّه علیه السلام وفيها : «وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك»(4) .

لكن استفادة الأمارية منها مشكلة ؛ لأنّ مفادها ليس إلاّ تحقّق المشكوك فيه ؛ لأنّ قوله : «هو حين يتوضّأ أذكر» قام مقام الجواب ، وجعل كناية عن إتيان

ص: 378


1- تقدّمت في الصفحة 343 .
2- تقدّمت في الصفحة 341 .
3- تقدّمت في الصفحة 344 .
4- تقدّمت في الصفحة 345 .

المشكوك فيه ، فيكون مفادها التعبّد بتحقّقه ، فتوافق مفاد صحيحة حمّاد : «قد ركعت ، أمضه»(1) وموثّقة عبدالرحمان قال : «قد ركع»(2) .

وبالجملة : لا يستفاد من الموثّقة وكذا رواية محمّد بن مسلم إلاّ التعبّد بوجود المشكوك ، لا أمارية الظنّ وجعل الغلبة طريقاً إلى الواقع .

ولعلّ مثل قوله : «هو حين يتوضّأ أذكر» ، أو «كان حين انصرف أقرب إلى الحقّ» إشارة إلى نكتة التشريع ، لا تأسيس الطريقية .

وبالجملة : لا يمكن الالتزام به بمثل هذه الإشعارات ؛ بعد تظافر الروايات بخلافها .

وإن شئت قلت : إنّ الظاهر منهما إلقاء احتمال الغفلة ، وهو على فرض تسليمه غير إلقاء احتمال الخلاف ؛ أي الاحتمال المقابل للظنّ ، والثاني مستلزم لجعل الطريقية دون الأوّل ، تدبّر .

وقد يقال : إنّ الظاهر من قوله بعد السؤال عن الشكّ في الركوع بعد ما سجد : «بلى قد ركعت ، فأمضه» هو الطريقية(3) .

وله وجه لو لم يكن مسبوقاً بهذا السؤال ، وأمّا معه فلا مجال لاستفادتها ؛ لتوجّه الخطاب إلى الشاكّ ، فكأ نّه قال : إذا شككت في الركوع بعد السجود فقد ركعت ، وهو منافٍ للطريقية وإلقاء الشكّ ، بل تعبّد بالوجود في ظرف الشكّ ، وهو عين الأصلية .

ص: 379


1- تقدّمت في الصفحة 368 .
2- تقدّمت في الصفحة 370 .
3- نهاية الدراية ، قاعدة التجاوز والفراغ 3 : 304 / السطر 5 (ط - الحجري) .

وأضعف منه دعوى استفادتها من قوله : «ليس بشيءٍ» للفرق بين ترتيب الحكم على الشكّ ، والحكم بعدم الاعتناء(1) .

وفيها : أنّ لسان عدم الاعتناء بالشكّ غير لسان الأمارة التي لم يفرض فيها الشكّ أصلاً ؛ لأنّ الحكم بعدم(2) فرض تحقّقه ، لكن لضعفه لا يعتنى به ، كما أنّ الشكّ في الاستصحاب مفروض التحقّق ، لكن لا يعتنى به ، ولا ينقض اليقين .

ولا يخفى : أ نّه لا تنافي بين التعبّد بالمضيّ وعدم الاعتناء بالشكّ - كما هو مفاد الأدلّة المتقدّمة - وبين التعبّد بوجود المشكوك فيه ، كما هو مفاد هذه الروايات ، ولذا جمع بينهما في صحيحة حمّاد حيث قال : «قد ركعت ، أمضه» .

وتوهّم الفرق بين باب إفعال المضيّ ومجرّده بعيد في المقام ، وإن يظهر من اللغة أنّ الإمضاء بمعنى الإنفاذ ، والمضيّ بمعنى الذهاب(3) .

وبالجملة : لا تنافي بين الأدلّة ، والمستفاد من جميعها أنّ قاعدة التجاوز أصل شرعي تأسيسي تعبّدي ، مفادها التعبّد بوجود المشكوك فيه .

وإن شئت قلت : إنّه أصل محرِز تعبّدي .

في أنّ القاعدة أصل محرز حيثي

بقي الكلام في أ نّه بعد كون القاعدة أصلاً محرزاً هل تكون أصلاً محرزاً مطلقاً ، كالاستصحاب بناءً على كونه أصلاً محرزاً ، فيكون مفادها تحقّق

ص: 380


1- نهاية الدراية ، قاعدة التجاوز والفراغ 3 : 304 / السطر 7 (ط - الحجري) .
2- هكذا في الأصل ، لكنّ الصحيح «بعد» بدل «بعدم» .
3- الصحاح 6 : 2493 و2494 ؛ لسان العرب 13 : 130 .

المشكوك فيه مطلقاً ، أو أصلاً محرزاً في موضوع خاصّ ، وبعبارة اُخرى تكون أصلاً محرزاً حيثياً ؟ والفرق بين كونها أصلاً تعبّدياً محضاً من غير نظر إلى التعبّد بالوجود ، وبين كونها أصلاً محرزاً واضح ؛ فإنّه على المحرزية يترتّب عليها أثر الوجود ، فلو شكّ في حال القنوت في إتيان السورة يتحقّق القِران بإتيان سورة اُخرى ، بناءً على عدم كون القران أمراً بسيطاً انتزاعياً وبناءً على المحرزية دون غيرها .

وأمّا الفرق بين المحرزية المطلقة وغيرها : أ نّه بناءً على الأوّل يترتّب عليها آثار الوجود مطلقاً ، فلو شكّ بعد صلاة العصر في إتيان الظهر بنى على تحقّقه ، ولا يجب إتيانه ، وكذا لو شكّ في الوضوء بعد صلاة الظهر بنى على تحقّقه مطلقاً ، فيحكم بوجوده لسائر الاُمور المشروطة بالوضوء .

وأمّا بناءً على المحرزية الحيثية فلا يترتّب على المشكوك فيه إلاّ أثر التحقّق في الموضوع الخاصّ ، ومن الحيثية الخاصّة ، فلا بدّ من ترتيب آثار وجود الظهر في المثال المتقدّم من حيث اشتراط العصر بتقدّمه عليه ، وترتيب آثار وجود الوضوء من حيث اشتراط الصلاة التي شكّ بعدها فيه لا مطلقاً ، فيجب إتيان الظهر ، وتحصيل الوضوء لسائر الاُمور المشروطة به .

إذا عرفت ذلك : فالذي يستفاد من مجموع الأدلّة أنّ قاعدة الفراغ أصل تعبّدي محرز ، لكن في موضوع خاصّ وبالنسبة إلى الأمر المتجاوز عنه لا مطلقاً ، أمّا كونها أصلاً ؛ فلقصور الأدلّة عن إثبات الأمارية كما عرفت ، وأمّا كونه محرزاً ؛ فلدلالة كثير منها على التعبّد بثبوت المشكوك فيه ، وأمّا عدم كونه محرزاً مطلقاً ؛ فلقصورها عن إثباته .

ص: 381

ولقد أجاد الشيخ الأعظم في المقام حيث قال : لا إشكال في أنّ معناه البناء على حصول المشكوك فيه ، لكن بعنوانه الذي يتحقّق معه تجاوز المحلّ لا مطلقاً (1) ، انتهى .

فإذا علم حال القاعدة ؛ وأ نّها أصل محرز حيثي تعبّدي يعلم حال الشكّ في الشروط بالنسبة إلى الفراغ من المشروط ، وقد اختلفت كلمات الأعلام فيه(2) .

والتحقيق أن يقال : إنّ الأدلّة شاملة بإطلاقها وعمومها للشروط بلا إشكال ولا ريب ، لكن بالنسبة إلى المشروط الذي تجاوز عنه ، لا مطلقاً .

ثمّ لا إشكال في عدم الاعتناء بالشكّ في الشرط بعد الفراغ من المشروط ، وإنّما الكلام في الشكّ الحادث بين العمل بالنسبة إلى الأجزاء الآتية .

والتحقيق : أنّ كلّ شرط يكون له محلّ شرعي ويكون محلّه الشرعي قبل العمل ، فلا يعتنى بالشكّ فيه بين العمل ؛ لصدق التجاوز والمضيّ ، دون ما لا يكون كذلك ، فمثل الوضوء إذا قلنا بأنّ محلّه الشرعي قبل العمل(3) إمّا لدلالة الآية الشريفة(4) ، أو لدلالة بعض الأخبار كقوله : «افتتاح الصلاة الوضوء»(5) فعليه إذا عرض الشكّ فيه بعد الدخول في الصلاة يلغى الشكّ ؛ لتجاوز محلّه

ص: 382


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 340 .
2- كشف الغطاء 3 : 367 ؛ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 339 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 639 ؛ نهاية الأفكار ، القسم الثاني 4 : 63 - 71 .
3- اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 340 - 341 .
4- المائدة (5) : 6 .
5- راجع وسائل الشيعة 1 : 366 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ، الباب 1 ، الحديث 4 و7 .

بالنسبة إلى الصلاة التي اشتغل بها لا غيرها .

لكن في كون المحلّ الشرعي للوضوء ما ذكر إشكال ومنع ؛ لمنع دلالة الآية إلاّ على الإرشاد لاشتراط الصلاة بالوضوء ، وكذا الرواية .

ومثل الاستقبال والستر وأمثالهما ممّا ليس لها محلّ شرعي بل تكون شروطاً معتبرة فيها ، ولكنّ العقل يحكم بلزوم إحرازها قبل الصلاة ، وليس للشارع حكم من هذه الجهة، يكون الشكّ فيها غير مشمول لأدلّة التجاوز ؛ لعدم تجاوز محلّها بالنسبة إلى الأجزاء الآتية .

تنبيه : في شمول الأدلّة وإطلاقها لمطلق الشرائط

قد أفرد الشيخ الأعظم قدّس سرّه الشكّ في صحّة المأتيّ به عن الشكّ في الشرط قائلاً : إنّ محلّ الكلام في الشكّ في الصحّة ما لا يرجع فيه الشكّ إلى الشكّ في ترك ما يعتبر في الصحّة ، ومثّل له بالشكّ في الموالاة في حروف الكلمة أو كلمات الآية(1) .

والظاهر أنّ الفرق بين الموضع الخامس والسادس اللذين جعلهما عنوانين ليس باختصاص الكلام في الأوّل بالشروط الشرعية ، وفي الثاني بالشروط العقلية كما قيل(2) ؛ لمخالفته للتمثيل بالموالاة لكلمات الآية ، فإنّه بإطلاقه يشمل الموالاة العرفية المعتبرة شرعاً ، بل الموالاة الماحي تركها للصورة .

ص: 383


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 342 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 646 ؛ نهاية الدراية ، قاعدة التجاوز والفراغ 3 : 303 / السطر 15 ((ط - الحجري)) .

والموالاة في كلمات الآية أيضاً لا يبعد أن تكون ممّا اعتبره الشارع ؛ لأنّ الأمر بالقراءة يدعو إلى إيجاد ما هو قراءة عرفاً ، وهي لا تتحقّق إلاّ بإتيانها على النحو المتعارف ، وهذا ليس من الأمر العقلي المحض ، كإحراز الستر قبل الصلاة مقدّمة لتحقّق أوّل الجزء مع الستر ؛ فإنّ هذه المقدّمة لم يتعلّق بها غرض وأمر ، بخلاف الأمر إلى القراءة وذكر الركوع والسجود .

بل الفرق الذي يمكن أن يكون مراده : أنّ الشرائط على قسمين .

أحدهما : ما يكون لها نحو وجود مستقلّ ، كالطهارة والستر والقبلة .

وثانيهما : ما لا تكون كذلك ، كالموالاة في حروف الكلمة وكلمات الآية ؛ فإنّها لا تكون موجودة إلاّ بنفس الكلمة والآية ، وليس لها وجود استقلالي ، فلا يشملها قوله : «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى» ولا سائر العناوين المأخوذة في الأدلّة ، بخلاف الشروط التي من قبيل الأوّل .

هذا ما وجّه به كلامه بعض المحقّقين ، وقد جعل من قبيل ما ذكره في المقام الشكّ في إطلاق الماء وإضافته(1) .

وفيه : أنّ ما اعتبره الشارع في الصلاة ويكون تحت تصرّفه وجعله هو كون الصلاة متقيّدة بالطهارة أو الستر أو القبلة ، أو كون المصلّي حال صلاته طاهراً متستّراً مستقبل القبلة ، وهذه الاُمور من الانتزاعيات أيضاً ، ويكون وجودها بعين منشأ انتزاعها كالموالاة .

ومع تسليم ما ذكره من الفرق، إنّ دعوى عدم شمول الأدلّة لمثل الاُمور

ص: 384


1- حاشية فرائد الاُصول (الفوائد الرضوية) : 466 - 467 .

الانتزاعية ، ممنوعة جدّاً ، مع كونها معتبرة في الصلاة ، مأخوذة موضوعاً للحكم، تكون متعلّقة للشكّ .

فهل مثل الموالاة ليس بشيء عرفاً أو عقلاً ، أم أنّ الشيء أو «ما» الموصولة في الأدلّة جعلا مرآة لأشياء خاصّة - مع أ نّه خلاف التحقيق والواقع في باب الإطلاقات - أم أ نّهما منصرفان عن مثل الموالاة ، مع أ نّه لا منشأ له ؟ ! فلا إشكال في شمول الأدلّة وإطلاقها لمطلق الشرائط ، وكذا الكلام في مثل الشكّ في إطلاق الماء وإضافته بعد الوضوء ؛ لشمول مثل قوله : الرجل يشكّ بعد ما يتوضّأ ؟ قال : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ»(1) لكلّ شكّ يعرض المكلّف بعد الوضوء .

الأمر الثامن: في أنحاء الشكوك العارضة للمكلّف
اشارة

يتصوّر الشكّ بعد التجاوز على أنحاء كثيرة ، نتعرّض لمهمّاتها ، ويتّضح حال غيرها في ضمن ما ذكرنا :

الأوّل : الشكّ الطارئ بواسطة الغفلة عن صورة العمل ، وهو تارة : يكون مع العلم بالحكم والموضوع ؛ بحيث يكون الترك على فرضه مستنداً للسهو والغفلة ، كمن شكّ في السجود أو الركوع أو غيرهما لاحتمال تركهما سهواً مع العلم بهما ، وتارة : يكون مع الجهل بالحكم أو الموضوع أو كليهما ، وهذا على قسمين :

ص: 385


1- تقدّم في الصفحة 344 .

أحدهما : ما إذا اعتقد المكلّف ضدّ الحكم أو الموضوع ؛ بحيث لو فرض مصادفة المأتيّ به للواقع كان عن سهو وغفلة ، كما لو اعتقد المسافر وجوب الإتمام عليه ، فصلّى واحتمل الإتيان قصراً سهواً أو نسياناً فصادف الواقع ، أو اعتقد المسافة دون المسافة ، واحتمل الإتيان قصراً سهواً أو نسياناً .

ثانيهما : ما لا يكون كذلك ، كما لو اعتقد المسافر كونه مخيّراً بين القصر والإتمام ، فصلّى واحتمل الإتيان قصراً من باب الصدفة ، أو كان بين يديه مائعان يعتقد كونهما ماءً مطلقاً ، وكان أحدهما المعيّن مضافاً ، ثمّ بعد الوضوء شكّ في صحّته ؛ لأجل الشكّ في وضوئه بالماء صدفة .

إذا عرفت ذلك : فهل الروايات كموثّقة ابن مسلم : «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو»(1) وغيرها بإطلاقها شاملة لجميع الصور المتقدّمة ؟ أو منصرفة إلى القسم الأوّل فقط ؛ أي ما يكون الترك مستنداً إلى السهو أو الغفلة مع العلم بالحكم والموضوع ؟ أو منصرفة عن القسم الأوّل من قسمي الجهل بالحكم أو الموضوع ؛ أي ما كان الإتيان بالواقع مستنداً إلى السهو والنسيان .

ثمّ على فرض إطلاق الأدلّة ، هل يكون مثل قوله : «هو حين يتوضّأ أذكر»(2) وقوله : «كان حين انصرافه أقرب إلى الحقّ»(3) مقيّداً لها أو لا ؟ أقول : دعوى الانصراف إلى القسم الأوّل ليست ببعيدة ؛ وذلك لأنّ ارتكاز

ص: 386


1- تقدّمت في الصفحة 341 .
2- تقدّم في الصفحة 344 .
3- تقدّم في الصفحة 345 .

العقلاء بأنّ الفاعل المريد لفراغ ذمّته إذا أراد إتيان شيء يأتي بما هو وظيفته في محلّه ، وإن لم يصل إلى حدّ تطمئنّ النفس بأنّ بناءهم على عدم الاعتناء بالشكّ ، كما ذكرنا في بعض المباحث السالفة(1) ، لكن يمكن أن يدّعى أنّ هذا الارتكاز صار موجباً لانصراف الأدلّة إلى ما يكون مرتكزاً لديهم .

وبعبارة اُخرى : إنّ الأحكام الصادرة من الشارع قد تكون تعبّدية محضة ؛ لا طريق للعقلاء لفهم سرّها ، ككثير من التعبّديات ، وقد تكون إرشاداً إلى طريقة العقلاء ، كأدلّة أخبار الثقة أو اليد ، وقد تكون معنى متوسّطاً بينهما ؛ أي لا تكون تعبّدية محضة لا يعلم العقلاء سرّها أصلاً ، ولا تكون إرشادية إلى ما لديهم ؛ لعدم الحكم الجزمي بينهم ، لكن تكون من التعبّديات التي يكون للعقل إليها سبيل ، ويكون في ارتكاز العقلاء ما يناسبها ، وهذا الارتكاز والمناسبات المعلومة عند العقلاء قد توجب الانصراف إلى ما ارتكز بينهم .

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإذا سمع العقلاء قوله : «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو»(2) يصير الأمر الارتكازي موجباً لانصرافه إلى ذلك ، ويمنع عن فهم الإطلاق ، فيكون كالقرينة الحافّة بالكلام أو ما يصلح للقرينية .

هذا ، مضافاً إلى أنّ الناظر في الروايات يرى أنّ السؤال والجواب بين الرواة والأئمّة علیهم السلام كانا ممحّضين في هذا القسم ، ولا يكون الجهل بالحكم أو

ص: 387


1- تقدّم في الصفحة 377 .
2- تقدّم في الصفحة 341 .

الموضوع في ذهنهم ، فارجع إلى الروايات حتّى يتّضح صدق ما ذكرنا .

أضف إلى ذلك كلّه الشواهد الموجودة في الروايات كقوله : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» وقوله : «وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّ» بل وقوله : «قد ركعت ، أمضه» .

وبالجملة : مدّعي الانصراف غير مجازف ، ودعوى الإطلاق بالنسبة إلى جميع الصور في غاية الإشكال .

ثمّ على فرض إطلاق الأدلّة يشكل رفع اليد عنه لقوله : «هو حين يتوضّأ أذكر» لعدم استفادة العلّية للمجعول ولا الانحصار منه ؛ لإمكان كونه علّة للتشريع، فلا يجوز رفع اليد عنه لأجله ، فتدبّر .

كلام بعض المحقّقين في شمول القاعدة لجميع صور الشكّ وردّه

ثمّ إنّ بعض المحقّقين ادّعى الإطلاق لجميع صور الشكّ ، وقال في تقريبه : إنّ العمدة في حمل الأعمال الماضية الصادرة من المكلّف على الصحيح هي السيرة القطعية ، وإنّه لولا ذلك لاختلّ نظام المعاش والمعاد ، ولم يقم للمسلمين سوق ، فضلاً عن لزوم العسر والحرج المنفيّين في الشريعة ؛ إذ ما من أحد إذا التفت إلى أعماله الصادرة منه في الأعصار المتقدّمة من عباداته ومعاملاته إلاّ ويشكّ في كثير منها ؛ لأجل الجهل بأحكامها ، واقترانها باُمور لو كان ملتفتاً إليها لكان شاكّاً ، فلو لم يحمل عملهم على الصحيح ، وبني على الاعتناء بالشكّ الناشئ من الجهل بالحكم ونظائره لضاق عليهم العيش .

وهذا الدليل وإن كان لبّياً يشكل استفادة عموم المدّعى منه ، إلاّ أ نّه يعلم منه

ص: 388

عدم انحصار الحمل على الصحيح بظاهر الحال ، فلا يجوز رفع اليد عن الأخبار المطلقة بسبب التعليل المستفاد من قوله : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» لأنّ جعله قرينة على التصرّف في سائر الأخبار فرع استفادة العلّية المنحصرة منه ، والمفروض عدم الانحصار .

هذا ، مع أنّ دلالته عليه في حدّ ذاته لا تخلو عن تأمّل ، فلا ينبغي الاستشكال في جريان القاعدة في جميع موارد الشكّ(1) ، انتهى .

وقد اتّضح ممّا ذكرنا النظر فيما أفاد ، لكن لا بدّ من رفع شبهته وحسم مادّتها .

فنقول : إنّ المكلّف قد يعلم حاله حين العمل ؛ أي يعلم في زمان الشكّ أ نّه كان عالماً بالحكم والموضوع ، ويكون شكّه متمحّضاً في أ نّه هل ترك الجزء نسياناً أو سهواً أم لا ؟ أو يعلم أ نّه كان جاهلاً بهما على النحو الأوّل من النحوين المتقدّمين في صدر المبحث ؛ بحيث كان الإتيان بالمأمور به على وجهه من باب السهو والنسيان .

أو على النحو الثاني منهما ؛ بحيث كان الإتيان به على وجهه من باب الصدفة .

وقد لا يعلم حاله أصلاً ؛ بحيث يحتمل أن يكون تركه مستنداً إلى السهو والنسيان ، مع العلم بالموضوع والحكم .

ويحتمل أن يكون الإتيان من باب السهو .

ص: 389


1- حاشية فرائد الاُصول (الفوائد الرضوية) : 468 - 469 .

ويحتمل أن يكون من باب الصدفة .

ويعلم حال الصور الاُخرى من ذكر تلك الصور .

فإن بنينا على انصراف أدلّة التجاوز إلى الشكّ في أ نّه ترك سهواً ونسياناً ، مع العلم بالموضوع والحكم ، كما هو الحقّ ، فحينئذٍ لو علم المكلّف حاله فإن كان شكّه من قبيل ذلك لا يعتني به ، وإن كان من غيره يعتني به .

لكن علم المكلّف بالنسبة إلى الأعمال السابقة في غاية الندرة ، لو لم نقل أ نّه لا يوجد مكلّف يعلم حاله تفصيلاً وبجميع خصوصيتها . فنوع المكلّفين لا يعلمون أنّ تركهم على فرضه كان مستنداً إلى السهو أو الجهل بأحد قسميه .

فالشكّ في الأعمال السابقة كثير واقع من نوع المكلّفين ، لكن تشخيص الحال السابقة ، وأ نّه كان عالماً أو لا ، وعلى الثاني كان جهله بالحكم أو الموضوع ، وعلى أيّ نحو من أنحاء الجهل في غاية الندرة ، فيحتمل نوع المكلّفين أن يكون تركهم مستنداً إلى السهو ، حتّى يكون شكّهم مشمولاً لقاعدة التجاوز أو لا حتّى لا يكون مشمولاً لها ، فلو حكمنا بلزوم إعادة الأعمال السابقة من العبادات والمعاملات يلزم اختلال النظام معاشاً ومعاداً ، ولم يقم للمسلمين سوق ، كما قرّره المحقّق المتقدّم .

لكن مقتضى القواعد خلاف ذلك ، توضيحه : أنّ الأعمال السالفة إمّا أن تكون من قبيل العبادات ، أو من قبيل المعاملات، والعبادات إمّا موقّتات ، كالصلاة والصوم ، أو لا .

لا إشكال في أنّ غير الموقّتات كالزكاة والخمس وأمثالهما يكون الشكّ فيها

ص: 390

نادراً جدّاً ، فلا يلزم من الاعتناء بالشكّ فيها اختلال النظام ، ولا العسر والحرج ، ولا غيرهما .

وإنّما الإشكال في الموقّتات من قبيل الصلاة - وهي العمدة - والصوم ، لكنّ الصوم أيضاً يكون الشكّ فيه نادراً ، فالعمدة هي الشكوك الصلاتية ، والشكّ فيها لا يوجب القضاء ؛ لأنّ القضاء يكون بأمر جديد ، فلو شكّ المكلّف في صحّة صلاته السابقة ، ولا يعلم حاله ، واحتمل أن يكون الترك مستنداً إلى السهو حتّى تشمله قاعدة التجاوز ، أو لا حتّى لا تشمله ، يكون التمسّك بكلّ من دليل القاعدة والاستصحاب غير جائز ؛ لأنّه من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، والأصل البراءة من القضاء .

هذا ، مضافاً إلى أنّ الجهل بالحكم بالنسبة إلى الأركان نادر جدّاً أو غير متحقّق ، وفي غير الأركان وإن كان كثيراً ، لكنّ المكلّف لا يعلم حاله ، وأنّ تركه على فرضه يكون عن جهل أو نسيان ، كما عرفت .

فحينئذٍ : إن قلنا بشمول «لا تعاد الصلاة . . .»(1) للترك عن جهل ، كما لا يبعد(2) ، فمع كون الترك محقّقاً لا تجب الإعادة ، فضلاً عن صورة عدم معلوميته ، وإن قلنا بعدم شموله للترك عن جهل لما كان حال المكلّف مجهولاً يحتمل أن يكون مشمولاً ل «لا تعاد . . .» لاحتمال أن يكون تركه عن سهو ، فمع العلم بالترك حينئذٍ أيضاً يشكّ في وجوب القضاء عليه ، والأصل البراءة منه .

ص: 391


1- تهذيب الأحكام 2 : 152 / 597 ؛ وسائل الشيعة 6 : 313 ، كتاب الصلاة ، أبواب الركوع ، الباب 10 ، الحديث 5 .
2- راجع الخلل في الصلاة ، الإمام الخميني قدس سره : 22 - 26 .

مع إمكان أن يقال : إنّ الاستصحاب لا يثبت الفوت ، فلا يجب القضاء .

هذا كلّه ، مع أنّ الشاكّ في جميع أعماله السابقة أو كثير منها يكون من كثير الشكّ ، ولا يجب عليه الاعتناء بشكّه ، تأمّل ، ولا يلزم منه عدم الاعتناء بالشكّ في الأعمال الحاضرة إذا لم يكن بالنسبة إليها كثير الشكّ .

هذا حال العبادات .

وأمّا في المعاملات السابقة المشكوك فيها كالبيع والإجارة والصلح وأمثالها ؛ فإمّا أن تكون الأعيان المتعلّقة للمعاملة موجودة ، أو تالفة بتلف سماوي ، أو بإتلاف من المتعاملين ، وعلى أيّ حال لا يجري استصحاب عدم تحقّق العقد الجامع للشرائط بنحو الكون الناقص ؛ لعدم الحالة السابقة ، ولا بنحو الكون التامّ ؛ لعدم ترتّب الأثر عليه إلاّ بالأصل المثبت ، تأمّل .

ولو فرض جريانه يكون حاله حال أصالة عدم النقل ، أو أصالة بقاء العين على ملك صاحبها ، حيث إنّه مع جريانهما في حدّ ذاتهما غير جاريين فيما نحن فيه ؛ لأنّ المتعاملين - كما عرفت في العبادات - غير عالمين حين الشكّ بحالهما حال العقد ، ويحتمل كلّ منهما أن يكون تركه الشرائط المقرّرة على فرضه عن سهو مع العلم بالحكم والموضوع ، حتّى يكون شكّه مجرى القاعدة ، ولا يجري الاستصحاب، أو لا ، فالمورد من الشبهة المصداقية للدليلين .

فحينئذٍ : إن كانت العين المتعلّقة للمعاملة موجودة ، مردّدة بين كونها لنفسه أو لصاحبه ، لا يبعد جريان أصالة الحلّ ، وما قيل : من أنّ الأصل في الأموال الاحتياط(1) لا دليل عليه يمكن التمسّك به في مثل المورد .

ص: 392


1- العروة الوثقى 6 : 403 ، مسألة 66 .

وإن كانت تالفة فالأصل العقلي والشرعي هو البراءة عن الضمان بعد عدم جريان «من أتلف . . .»(1) و«على اليد . . .»(2) لكون الشبهة مصداقية .

وأمّا باب النكاح والطلاق فالذي يسهّل الخطب فيهما هو أنّ مجراهما غالباً - بحيث يشذّ تخلّفه - هو الغير بالوكالة ، وأصالة الصحّة في فعل الغير جارية في مثله ، كما سيأتي إن شاء اللّه (3) .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ انحصار جريان القاعدة بما كان الترك مستنداً إلى السهو أو النسيان لا يلزم منه اختلال النظام ، ولا العسر والحرج ، كما ادّعى المحقّق المتقدّم ، وأمّا دعواه أنّ بناء العقلاء على عدم الاعتناء بمثل هذا الشكّ مطلقاً ، فممنوعة ، كما ذكرنا سابقاً (4) .

وأمّا الشكّ الحاصل من احتمال الترك عمداً فقد ظهر حكمه ممّا مرّ : من أنّ مساق الروايات هو اختصاص القاعدة بصورة الشكّ مع احتمال الترك السهوي ، لا العمدي ، وقوله : «هو حين يتوضّأ أذكر» وإن كان ظاهره أ نّه لمّا كان أذكر يأتي به ، لكنّه ليس في مقام التعبّد بوجود المشكوك فيه ، ولو مع احتمال الترك العمدي ، ولا إطلاق فيه من هذه الجهة ، بل عدم الترك عمداً مفروض بين السائل والمسؤول عنه ، فلا يستفاد من الروايات إلاّ الشكّ ، مع كون الترك على فرضه

ص: 393


1- وهي قاعدة متصيّدة من الروايات ، راجع البيع ، الإمام الخميني قدس سره 2 : 487 .
2- عوالي اللآلي 1 : 224 / 106 ؛ مستدرك الوسائل 14 : 7 ، كتاب الوديعة ، الباب 1 ، الحديث 12 ؛ المسند ، أحمد بن حنبل 15 : 121 / 69 ؛ السنن الكبرى ، البيهقي 6 : 90 .
3- يأتي في الصفحة 416 - 421 .
4- تقدّم في الصفحة 377 .

مستنداً إلى السهو والخطأ وأمثالهما .

نعم ، احتمال الترك التعمّدي ممّا لا يعتني به العقلاء ، فإنّ العاقل المريد لإبراء الذمّة لا يترك ما يعتبر في المأمور به عمداً ، مع العلم بأنّ تركه موجب للبطلان ، بل الترك عمداً منه - مع التوجّه لكلّ الخصوصيات حكماً وموضوعاً - ممتنع عادة.

وهذا مراد الشيخ الأنصاري من قوله : إنّ الترك سهواً خلاف فرض الذكر ، وعمداً خلاف إرادة الإبراء(1) . فنفى الترك السهوي بالقاعدة ، والعمدي بقاعدة عقلائية هي أ نّه خلاف إرادة الإبراء .

وأمّا الشكّ الطارئ من احتمال وجود الحائل فلا يعتني به العقلاء مطلقاً ، لا حال العمل ، ولا قبله ، ولا بعده ، وبعض صوره مشمول للقاعدة أيضاً .

وأمّا الشكّ في حائلية الموجود فلا شبهة في اعتناء العقلاء به ، وأمّا شمول القاعدة له - فيما إذا كان احتمال الترك مستنداً إلى الغفلة عن رفع الحائل وإيصال الماء إلى البشرة - فلا إشكال فيه .

كما أ نّه لا إشكال في عدم الشمول فيما إذا احتمل وصول الماء قهراً مع العلم بالغفلة عن رفعه حين العمل ، وهي الصورة الثانية(2) التي لم يكن غافلاً عن صورة العمل ، ويظهر حال صورة تردّده بين الأمرين ممّا ذكرنا في صورة الجهل(3) ، وبالتأمّل فيما ذكرنا يظهر حال سائر صور الشكّ .

ص: 394


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 343 .
2- تقدّمت الصورة الاُولى في الصفحة 385 .
3- تقدّم في الصفحة 385 - 388 .
الأمر التاسع: في اختصاص القاعدة بالشكّ الحادث

الظاهر من أدلّة التجاوز أنّ الشكّ الذي لا يعتنى به هو الشكّ الحادث بعد التجاوز ، فلو كان باقياً من قبل لا يكون مشمولاً للأدلّة ، ويتفرّع عليه أ نّه لو شكّ قبل العمل في الطهارة مع كونه مسبوقاً بالحدث ، فغفل ودخل في العمل ، ثمّ تنبّه ، فإن احتمل بعد العمل حصول الطهارة بعد الشكّ، والغفلة قبل العمل ، فلا إشكال في جريان القاعدة ؛ لأنّه شكّ حادث بعد العمل، وإن لم يحتمل فلا تجري ؛ لأنّه شكّ موجود في النفس ، حاصل قبل العمل وإن كان مغفولاً عنه ، ومقتضى قاعدة الاشتغال إعادة الصلاة .

ولا يجري الاستصحاب في حال الغفلة عن الشكّ ؛ لأنّ حجّية الاستصحاب متوقّفة على الشكّ الفعلي الذي يكون ملتفَتاً إليه ، ليكون الاستصحاب مستنداً للفاعل في عمله ، كما هو الشأن في كلّية الحجج عقلاً ، فلا يكون الاستصحاب حجّة وجارياً في حال الغفلة عن الشكّ أو اليقين .

ولو شكّ في الطهارة مع كونه عالماً بسبقها فصلّى ، فزال العلم ، يأتي فيه الوجهان المتقدّمان : من جريان القاعدة مع احتماله بعد العمل إيجاد الطهارة قبل العمل في حال الشكّ في الحدث ، وعدمه مع عدمه .

ويمكن أن يفصّل في المقامين بين ما إذا صار الشكّ مذهلاً رأساً ؛ بحيث يقال في الشكّ الحاصل بعده : إنّه شكّ حادث ، فيقال بجريان القاعدة ، وعدم جريان الاستصحاب ، وبين ما إذا غفل عن شكّه مع كونه موجوداً في خزانة النفس ،

ص: 395

نظير عدم العلم بالعلم ، فيقال بعدم جريان القاعدة ، وجريان الاستصحاب .

وممّا ذكرنا : يظهر النظر في كثير ممّا ذكره بعض أعاظم العصر;(1) .

الأمر العاشر: في وجه تقدّمها على الاستصحاب

بناءً على استفادة الأمارية من أدلّة التجاوز ، أو كون القاعدة أمارة عقلائية يكون وجه تقدّمها على الاستصحاب هو الحكومة ، وتنتج الورود على وجه .

وبناءً على استفادة الأصلية منها :

فإن قلنا : بأنّ المستفاد من أدلّة الاستصحاب هو جعل الحكم للشاكّ ، وأنّ الشكّ موضوع في الاستصحاب ، ومفاد «لا تنقض . . .» أ نّه إذا شككت رتّب آثار اليقين أو المتيقّن ، أو إذا شككت ابن على وجود المشكوك فيه ، وجه تقدّمها أيضاً الحكومة ، وتنتج الورود على وجه ؛ لأنّ الظاهر من قوله : «إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه» أ نّه مع التجاوز لا يكون الشكّ محقّقاً ، فيكون مفاده رفع موضوع الاستصحاب ، وتعرّض دليل القاعدة لما لا يتعرّضه دليل الاستصحاب .

بل الظاهر من قوله في صحيحة حمّاد بن عثمان : «قد ركعت ، أمضه» هو إلغاء الشكّ ورفعه ، بل لا يبعد أن يكون قوله في صحيحة زرارة : «فشكّك ليس بشيءٍ» وفي موثّقة ابن أبي يعفور : «فليس شكّك بشيءٍ» حاكماً على أدلّة الاستصحاب ، بناءً على أخذ الشكّ في موضوعه ، كما هو المفروض .

ص: 396


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 649 - 650 .

وإن قلنا : بأنّ مفاد أدلّته هو إبقاء اليقين ، وإطالة عمره في عالم التشريع - كما احتملناه واستظهرناه سالفاً (1) - فليس وجهه الحكومة ، بل التخصيص ؛ لأخصّية دليلها من دليله .

وإن قلنا : بأنّ مفاد أدلّة الاستصحاب هو لحاظ الشكّ واليقين، وأنّ الشكّ لأجل كونه أمراً غير مبرم لا ينقض اليقين الذي هو أمر مبرم ، كما هو ظاهر الأدلّة ، وليس مفادها مجرّد إطالة عمر اليقين ، وإلغاء الشكّ رأساً ، فحينئذٍ : يكون التقدّم بالحكومة أيضاً؛ لأنّ أحد الدليلين يكون مفاده أنّ الشكّ المتحقّق لا ينقض اليقين، ومفاد الآخر أنّ الشكّ غير متحقّق و«إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه» .

وإن قلنا : بأنّ الشكّ موضوع في القاعدة ، وأنّ قوله : «فشكّك ليس بشيءٍ» ليس معناه عدم تحقّقه ، بل كناية عن عدم لزوم الاعتناء به ، أو عدم جوازه ، وقوله : «إنّما الشكّ إذا كنت . . .» إلى آخره بعد كون المفروض في صدره وقوع الشكّ ليس إلاّ عدم لزوم الاعتناء به ، وأنّ قوله : «قد ركعت» بعد مسبوقيته بالسؤال عن حال الشكّ لا يفيد إلاّ البناء على الوجود في حال الشكّ ، كان تقدّمها عليه بما ذكره الأعلام من حصول اللغوية أو الاستهجان(2) ، ولعلّ هذا الوجه أقوى الوجوه .

وكيف كان : لا إشكال في تقدّمها عليه ، كما لا ثمرة مهمّة في تحقيق وجهه .

ص: 397


1- تقدّم في الصفحة 173 .
2- كفاية الاُصول : 493 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 619 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 610 ؛ نهاية الأفكار ، القسم الثاني 4 : 37 .
المبحث الثالث: في حال الاستصحاب مع أصالة الصحّة في فعل الغير
اشارة

ولا إشكال في تقدّمها عليه في الجملة ، ولا بدّ من بسط الكلام فيها ، ثمّ بيان النسبة بينهما ، ووجه تقدّمها عليه في ضمن اُمور :

الأمر الأوّل : في أصالة الصحّة ودليل اعتبارها

قد استدلّ(1) على اعتبار القاعدة باُمور من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ممّا يمكن الخدشة في جلّها لولا كلّها .

والدليل عليها هو بناء العقلاء والسيرة العقلائية القطعية من غير اختصاصها بطائفة خاصّة كالمسلمين ، ولا اختصاص جريانها بفعل المسلم ، وليس للمسلمين في ذلك طريقة خاصّة تكشف عن كون أصالة الصحّة ثابتة من قبل شارع الإسلام .

بل الضرورة قائمة بأ نّها كانت ثابتة قبل الإسلام من لدن صيرورة الإنسان

ص: 398


1- راجع عوائد الأيّام : 222 ؛ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 345 ؛ فوائد الاُصول ((تقريرات المحقّق النائيني)) الكاظمي 4 : 653 .

متمدّناً مجتمعاً على قوانين إلهية أو عرفية ، وصارت أنواع المعاملات رائجة بينهم ، والإسلام بدأ في زمان كانت تلك القاعدة كقاعدة اليد وكالعمل بخبر الثقة معمولاً بها بين الناس ، منتحليهم بالديانات وغيرهم ، والمسلمون كانوا يعملون بها كسائر طبقات الناس ، من غير انتظار ورود شيء من الشرع .

والآن يحمل المسلمون أعمال سائر الملل في نكاحهم وطلاقهم وعقودهم وإيقاعاتهم على الصحّة ، وهم يحملون أعمال المسلمين عليها ، من غير كون ذلك في ارتكازهم أمراً دينياً .

ومن ذلك يعلم : أنّ سيرة المسلمين والإجماع القولي والعملي ليس شيء منها دليلاً برأسه ، بل كلّها ترجع إلى هذا الأمر العقلائي الثابت لدى جميع العقلاء ، وهذا واضح جدّاً .

وإن شئت الاستدلال عليها بدليل لفظي ، فيمكن أن يستدلّ عليها بطوائف من الأخبار المتفرّقة في أبواب الفقه :

منها : الروايات الواردة في باب تجهيز الموتى(1) ؛ حيث تدلّ على اكتفاء المسلمين في الصدر الأوّل على فعل الغير في غسل الموتى وكفنهم وسائر التجهيزات ، وكانوا يصلّون عليهم من غير تفتيش عن صحّة الغسل والكفن ، مع وجوب الغسل وسائر التجهيزات على جميعهم ، ولم يكن اكتفاؤهم بفعل الغير إلاّ لأجل البناء على الصحّة ، ودعوى حصول العلم بصحّة الغسل وسائر التجهيزات الصادرة عن غيرهم ، كما ترى .

ص: 399


1- راجع وسائل الشيعة 3 : 80 ، كتاب الطهارة ، أبواب صلاة الجنازة ، الباب 6 .

ومنها : الروايات الواردة في باب الحثّ على الجماعة(1) والجمعة(2) ، والأمر بالائتمام خلف من يوثق بدينه وأمانته(3) ، وفي هذا الباب روايات كثيرة دالّة على أنّ أصالة الصحّة كانت أصلاً معتبراً عند رسول اللّه صلی الله علیه و آله والأئمّة علیهم السلام ؛ إذ لا إشكال في أنّ إحراز صحّة صلاة الإمام ولو بالأصل شرط في جواز الائتمام به ، ولو لم تكن أصالة الصحّة معتبرة لم يكن إحرازها ممكناً ، مع أنّ الإمام كثيراً ما يكون مستصحب الحدث لدى المأموم .

ومنها : ما دلّت على البيع والشراء لرسول اللّه صلی الله علیه و آله والأئمّة علیهم السلام ، كرواية عروة البارقي في الفضولي(4) ، وهذه الطائفة كثيرة يطّلع عليها المتتبّع .

ومنها : ما دلّت على توكيل بعض الأئمّة علیهم السلام غيرهم للزواج والطلاق ، كتوكيل أمير المؤمنين علیه السلام العبّاس في أمر اُمّ كُلثوم(5) ، وتوكيل أبي الحسن علیه السلام محمّد بن عيسى اليقطيني في طلاق زوجته(6) .

ص: 400


1- راجع وسائل الشيعة 8 : 285 ، كتاب الصلاة ، أبواب صلاة الجماعة ، الباب 1 و2 .
2- راجع وسائل الشيعة 7 : 295 ، كتاب الصلاة ، أبواب صلاة الجمعة وآدابها ، الباب 1 .
3- راجع وسائل الشيعة 8 : 309 ، كتاب الصلاة ، أبواب صلاة الجماعة ، الباب 10 .
4- مستدرك الوسائل 13 : 245 ، كتاب التجارة ، أبواب عقد البيع وشروطه ، الباب 18 ، الحديث 1 ؛ المسند ، أحمد بن حنبل 14 : 451 / 19257 ؛ سنن أبي داود 2 : 276 / 3384 .
5- الكافي 5 : 346 / 2 ؛ وسائل الشيعة 20 : 288 ، كتاب النكاح ، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، الباب 10 ، الحديث 3 .
6- تهذيب الأحكام 8 : 40 / 121 ؛ وسائل الشيعة 22 : 90 ، كتاب الطلاق ، أبواب مقدّماته وشرائطه ، الباب 39 ، الحديث 6 .

ومنها : روايات التوكيل(1) .

ومنها : الروايات الدالّة على تصحيح نكاح الأب والجدّ(2) ، بل مطلق روايات جعل الولاية لهما (3) .

ومنها : روايات تصحيح التجارة بمال اليتيم(4) .

ومنها : ما دلّت على جعل القاضي والحاكم والإمام(5) .

إلى غير ذلك ممّا يعلم بها علماً ضرورياً أنّ مسألة الحمل على الصحّة كان معمولاً بها من عصر رسول اللّه صلی الله علیه و آله والأئمّة علیهم السلام ، وكان عملهم كسائر العقلاء ، ولم يكن للشارع تصرّف ودخالة فيها .

والإنصاف : أنّ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى إتعاب النفس فيه .

ثمّ إنّ الظاهر أنّ موضوع بناء العقلاء ليس منحصراً بالعمل الصادر من الفاعل - كما يكون موضوع قاعدة الفراغ على القول بها - بل هو أعمّ منه ؛ فإنّ بناءهم على معاملة الصحّة مع الفعل الذي سيصدر من الفاعل ، أو يشتغل به إذا كان منشأً للأثر ، فيأتمّون بالإمام مع الشكّ في صحّة عمله ، ويوكّلون الغير في النكاح

ص: 401


1- راجع وسائل الشيعة 19 : 161 ، كتاب الوكالة ، الباب 1 - 8 .
2- راجع وسائل الشيعة 20 : 275 ، كتاب النكاح ، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، الباب 6 .
3- راجع وسائل الشيعة 17 : 262 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب 78 .
4- راجع وسائل الشيعة 17 : 361 ، كتاب التجارة ، أبواب عقد البيع وشروطه ، الباب 15 و16 .
5- راجع وسائل الشيعة 27 : 11 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 1، الحديث 5 .

والبيع وسائر اُمورهم ممّا له صحّة وفساد مع الشكّ في صدوره منه صحيحاً ، وبعض الأخبار المتقدّمة أيضاً يدلّ على ذلك ، فدائرة أصالة الصحّة في فعل الغير أوسع منها في فعل النفس .

الأمر الثاني: في أنّ الصحّة هل هي الواقعية أم لا ؟

هل المحمول عليه فعل الفاعل هو الصحّة باعتقاد الفاعل ، أو الصحّة الواقعية ؟ وقبل تحقيق ذلك لا بدّ من بيان أمر ، وهو أ نّه قد عرفت أنّ مبنى أصالة الصحّة هو بناء العقلاء ، ومبنى ذلك البناء يمكن أن يكون أحد أمرين :

أحدهما : أنّ ذلك من جهة إلقاء احتمال الخلاف ؛ لأجل غلبة صدور الفعل الصحيح من الفاعل المريد لإيجاد فعل لتوقّع ترتّب الأثر عليه ، فإنّ الفاعل الكذائي لا يخلّ بشيءٍ ممّا هو معتبر في المأتيّ به عمداً ، والترك السهوي خلاف الأصل العقلائي .

وبالجملة : إيجاد الفعل فاسداً - عمداً أو سهواً أو غفلة - نادر لا يعتني به العقلاء ، بل احتماله مغفول عنه نوعاً لدى العقلاء ، فالحمل على الصحّة لأجل الغلبة ، وندرة التخلّف في فعل الفاعل .

ثانيهما : أنّ مبنى بناء العقلاء في الحمل على الصحّة أنّ سائسي الأقوام والنافذين فيهم - من السلاطين والرؤساء في الأزمنة القديمة التي كانت أوان حدوث التمدّن والاجتماع البشري وحدوث الاختلاط بين الطوائف ، وتدوين

ص: 402

القوانين بينهم - وضعوا القوانين المفيدة السهلة لرغد العيش وسهولة الأمر بينهم ، ومنها : إجراء أصالة الصحّة ، فكانت في أوّل الأمر قانوناً مدنياً بينهم ، حتّى صارت مرتكزة معمولاً بها ، فصارت كالطبيعة الثانية لهم ، ولعلّ كثيراً من المرتكزات الآن كان كذلك في أوان تمدّن البشر ، فأخذ اللاحق من السابق ، وورث الأبناء من الآباء ، فصارت مرتكزة بينهم .

إذا عرفت ذلك فاعلم : أ نّه إذا كان مبنى أصالة الصحّة هو الأمر الأوّل يكون المحمول عليه هو الصحّة في اعتقاده ، وإن كان الثاني يكون هو الصحّة الواقعية .

ثمّ على الأوّل لو فرض الحمل على الصحّة الواقعية لا بدّ وأن يدّعى أمر آخر : هو أ نّه عند الشكّ في اعتقاد الفاعل يحمل اعتقاده على كونه موافقاً لاعتقاد الحامل ، بدعوى : أنّ الحامل لمّا رأى اعتقاده موافقاً للواقع يحمل رأي الفاعل على الصحّة ، فيجري أصالة الصحّة في اعتقاده ، كما يجري في عمله ، فيحمل عمله على الصحّة الواقعية باعتبارهما .

أقول : لا إشكال في تعامل العقلاء مع الفعل المشكوك فيه في الجملة عمل الصحّة الواقعية ؛ ضرورة ترتيبهم آثار الواقع على المعاملات والعبادات الصادرة من الناس ، كما أ نّه لا إشكال في عدم جريان أصالة تطابق اعتقاد الفاعل لاعتقاد الحامل ؛ ضرورة أ نّه مع كثرة مخالفة الاعتقادات والاجتهادات في الأحكام لا يبقى مجال لذلك الأصل ، ودعوى ارتكازية هذا الأصل كما ترى .

فمن ذلك تصير دعوى كون مبنى أصالة الصحّة هو الغلبة المتقدّمة مشكلة ؛ لأنّ ما كانت دعوى الغلبة فيه صحيحة هو غلبة إتيان الفاعل العمل على طبق اعتقاده ، لا على طبق الواقع ولو لم يكن موافقاً لاعتقاده .

ص: 403

فمن ذلك لا يبعد أن يقال : إنّ مبنى أصالة الصحّة ليس الغلبة ، بل هو الأمر الثاني .

اللهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ الاعتقادات والآراء الاجتهادية وإن كانت مختلفة ، لكنّ الغالب في مقام العمل مراعاة الاحتياط ، وتطبيق العمل على الواقع ، فجريان أصالة الصحّة من هذا الباب .

ولا يخلو هو أيضاً من إشكال ، كما أنّ كون مبنى أصالة الصحّة هو الأمر الثاني أيضاً في غاية الإشكال .

والذي يسهّل الخطب : أنّ بناء العقلاء على جريان أصالة الصحّة ، والحمل على الصحّة الواقعية معلوم في موردين :

أحدهما : فيما إذا علم مطابقة رأي العامل للحامل .

وثانيهما : فيما إذا جهل حال العامل .

وغالب الموارد يكون من هذا القبيل ، وغيره نادر .

وفيما إذا علم مخالفتهما : فقد يكون التخالف بينهما بالتباين ، كما لو اعتقد أحدهما وجوب القصر في أربعة فراسخ وإن لم يرجع ليومه ، والآخر وجوب الإتمام ، ففي هذه الصورة لا تجري أصالة الصحّة ؛ لأنّ جريانها مساوق لحمل فعله على السهو والغفلة ، وهو مخالف للأصل .

وقد يكون التخالف بغيره ، كما لو اعتقد الفاعل التخيير بين الجهر والإخفات في ظهر يوم الجمعة ، واعتقد الحامل تعيّن الإخفات فيه ، وهذه الصورة مورد الشكّ في بناء العقلاء ، فلا بدّ من العمل في هاتين الصورتين على سائر الاُصول .

ولا يلزم من ترك العمل عليها فيهما محذور اختلال النظام ، والعسر والحرج ؛

ص: 404

لأنّ غالب موارد الابتلاء بحيث يشذّ ما عداه هو صورة الجهل بحال الفاعل ، وهو المتيقّن من جريان الأصل فيه ، والعمل فيه على الصحّة الواقعية .

الأمر الثالث: حول أقسام الشكّ في العمل وأحكامها

الشكّ في العمل تارة : يكون في تحقّق ركن مقوّم منه ، بحيث لولاه لم يصدق عليه عنوانه عرفاً ، كالشكّ في وقوع العقد بلا ثمن ، أو الشكّ في مالية العوضين ، أو في تميّز المتعاملين ؛ فإنّ الإخلال بكلّ واحد ممّا ذكر مخلّ بتحقّق العقد عرفاً ولو على القول بالأعمّ .

واُخرى : يكون في جهة اُخرى بعد استكماله للأركان بالمعنى المتقدّم .

فحينئذٍ : قد يكون الشكّ في شرائط المتعاملين ، كالشكّ في بلوغهما ، أو كونهما مختارين .

وقد يكون في شرائط العوضين ، ككونهما خمراً أو خنزيراً أو مجهولاً .

وقد يكون في شرائط نفس العقد ، كالشكّ في تقدّم الإيجاب ، وعربية العقد .

وقد يكون في تحقّق شرط مفسد بناءً على مفسدية الشرط الفاسد ، هذه جملة الشكوك الحاصلة في العمل .

لا ينبغي الإشكال في عدم جريان الأصل في الصورة الاُولى ؛ لأنّ الشكّ يرجع إلى تحقّق العقد ، وفي مثله لا تجري أصالة الصحّة .

وإن شئت قلت : إنّ أصالة الصحّة لا تجري عند العقلاء إلاّ بعد إحراز عنوان العمل ، ومع الشكّ فيه لا مجرى لها .

ص: 405

وبعبارة اُخرى : الصحّة واللا صحّة في الرتبة المتأخّرة عن وجود العمل ، ومع الشكّ في تحقّقه لا معنى لإجراء أصالة الصحّة ، سواء كانت الصحّة بمعنى التمامية ، أو معنى انتزاعياً .

وأمّا الصور الاُخر ما عدا الصورة الأخيرة التي يأتي الكلام فيها (1) فالظاهر جريانها فيها ، من غير فرق بين الشكّ في قابلية العوضين للنقل والانتقال شرعاً ، أو قابلية المتعاملين لإجراء العمل كذلك ، أو غيرهما ؛ لاستقرار بناء العقلاء على ذلك .

بل لا معنى لاستقرار طريقة العقلاء بما أ نّهم عقلاء على موضوع مع القيود الشرعية ، وقد عرفت(2) : أنّ أصالة الصحّة من الاُصول العقلائية السابقة على شريعة الإسلام ، فجريانها فيها ممّا لا مانع منها .

وأمّا ما ادّعاه بعض أعاظم العصر; - بعد دعواه إجماعاً بنحو الكبرى الكلّية على أصالة الصحّة في مطلق العمل ، وإجماعاً آخر على خصوص العقود - أ نّه لا دليل على أصالة الصحّة في العقود سوى الإجماع ، وليس لمعقده إطلاق يعمّ جميع الصور ، والقدر المتيقّن منه ما إذا كان الشكّ في تأثير العقد للنقل والانتقال ، بعد الفراغ عن سلطنة العاقد لإيجاد المعاملة من حيث نفسه ، ومن حيث المال المعقود عليه .

وبعبارة أوضح : أهلية العاقد لإيجاد المعاملة ، وقابلية المعقود عليه للنقل

ص: 406


1- يأتي في الصفحة 408 .
2- تقدّم في الصفحة 398 .

والانتقال إنّما تكون مأخوذة في عقد وضع أصالة الصحّة ، فلا تجري إلاّ بعد إحرازهما (1) ، انتهى .

ففيه أوّلاً : أنّ الدليل عليها هو بناء العقلاء ، مع عدم ورود ردع من الشارع ، لا الإجماع .

وثانياً : بعد فرض الإجماع عليها في مطلق العمل بنحو الكبرى الكلّية - اللازم منه الأخذ بعموم معقده في جميع الموارد المشكوك فيها - لا معنى لإجماع مستقلّ آخر على خصوص البيع ؛ بحيث يكون في مقابل الإجماع المتقدّم ، وعلى فرضه لا يضرّ عدم إطلاق معقده بعموم معقد الإجماع الأوّل ، فيجب الأخذ به في جميع صور الشكّ في العقود .

والإنصاف : أنّ دعوى الإجماع أوّلاً بنحو الكبرى الكلّية ، وثانياً في خصوص العقود بنحو الإجمال ، ثمّ دعوى كون أهلية العاقد وقابلية المعقود عليه للنقل اُخذا في عقد وضع أصالة الصحّة ، كلّها في غير محلّها .

والتحقيق : ما عرفت من جريانها في جميع الصور المشار إليها .

ثمّ إنّه يظهر من المحقّق الثاني أنّ أصالة الصحّة في العقود شيء ، والظاهر - أي ظهور حال المسلم أو الفاعل في إيجاد العقد صحيحاً - شيء آخر مستقلّ في قبال أصل الصحّة ؛ حيث قال في جواب «إن قلت» : قلنا : إنّ الأصل في العقود الصحّة بعد استكمال أركانها . . . إلى أن قال : وكذا الظاهر إنّما يتمّ مع الاستكمال المذكور ، لا مطلقاً (2) ، انتهى .

ص: 407


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 654 و657 - 658 .
2- جامع المقاصد 5 : 315 .

وكذا يظهر من الشيخ الأعظم ارتضاؤه بذلك ، حيث أجاب عن أصالة الصحّة مستقلاًّ ، وعن الظاهر المدّعى مستقلاًّ ، من غير تعرّض لعدم كونهما عنوانين مستقلّين(1) .

والتحقيق : أ نّه ليست أصالة الصحّة أصلاً مستقلاًّ عقلائياً أو شرعياً ، وظهور حال المسلم أو الفاعل أمراً مستقلاًّ يدلّ على اعتباره دليل عقلائي أو شرعي ، بل الذي يكون مورد بناء العقلاء هو المعاملة بالصحّة مع الفعل المشكوك فيه ، وأمّا ظهور حال الفاعل فيحتمل أن يكون مبنى هذا العمل ، كما أ نّه يمكن أن يكون مبناه ما أشرنا إليه في الأمر المتقدّم(2) ، فكونهما أمرين مستقلّين ممّا لا وجه له ، ولا دليل عليه .

هذا كلّه حال ما عدا الصورة الأخيرة المتقدّمة ، وأمّا هي ؛ أي ما يكون الشكّ من ناحية جعل الشرط المفسد فالكلام فيها أ نّه قد يكون الاختلاف بين المتعاملين في جعل الشرط المفسد وعدمه ، فيدّعي أحدهما اشتراط أمر مجهول ، وينكر الآخر أصل الاشتراط ، وقد يكون في جعله وجعل غيره ، بعد اتّفاقهما على أصل الاشتراط ، فيدّعي أحدهما اشتراط خياطة ثوب ، والآخر اشتراط خياطة ثوب معلوم .

ثمّ إنّه قد يرجع اختلافهما إلى الأقلّ والأكثر ، وقد يرجع إلى المتباينين :

فعلى الأوّل قد يقال : إنّه يكون القول قولَ منكر أصل الاشتراط ؛ لأصالة عدم

ص: 408


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 360 - 361 .
2- تقدّم في الصفحة 403 - 404 .

الاشتراط(1) ، والشكّ في صحّة العقد وفساده مسبّب عن الشكّ في جعل الشرط المفسد ، لكن ذلك لو لم نقل بأنّ أصالة الصحّة أمارة عقلائية ، وإلاّ فلو جرت في المسبّب ترفع موضوع السبب .

ومنه يظهر الحال في الاشتراط الراجع إلى الأقلّ والأكثر .

وأمّا مع التباين : كما إذا ادّعى أحدهما اشتراط خياطة الثوب المعلوم ، والآخر اشتراط شرب الخمر ، وقلنا بمفسدية الشرط الفاسد مطلقاً (2) فالمرجع - بعد تساقط الأصلين أو مطلقاً - أصالة الصحّة .

لا يقال : إنّ أصالة عدم جعل الشرط من قبيل الأعدام الأزلية ، كأصالة عدم القرشية .

لأ نّا نقول : إنشاء الشرط إنّما يوجد تدريجاً بعد تحقّق الإيجاب ؛ لكونه في ضمنه ، فقول البائع : «بعتك هذا بهذا ، وشرطت عليك كذا» لمّا وجد تدريجاً يمكن أن يقال إنّ الإيجاب معلوم وإنشاء الشرط في ضمنه مشكوك فيه ، فيدفع بالأصل ، كاستصحاب عدم عروض المفسد للصلاة ، لكن في الاستصحاب في المقام - ولا سيّما أصالة عدم الشرط في ضمن الإيجاب - شبهة المثبتية ، وليس المقام مناسباً للتفصيل ، والغرض في المقام جريان أصالة الصحّة مطلقاً ، لا جريان أصل آخر .

ثمّ إنّه يظهر من عبارة المحقّق الثاني المنقولة من كتاب الإجارة أنّ مورد أصالة الصحّة إنّما يكون فيما شكّ في الشرط المفسد بعد إحراز سائر شرائط

ص: 409


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 362 .
2- راجع البيع ، الإمام الخميني قدس سره 5 : 368 .

العقد ، وأمّا إذا شكّ في شيء ممّا هو معتبر في العقد أو المتعاقدين أو العوضين فلا مجال لأصالة الصحّة ؛ لأنّ الأصل عدم السبب الناقل(1) ، وهو كما ترى ، ولعلّ ذلك مراده من استكمال الأركان ، لا الذي ذكرنا سابقاً .

ثمّ إنّ تمسّكه بأصالة عدم المفسد في عرض أصالة الصحّة خلاف الصناعة ، كما أنّ إنكار الشيخ الأعظم جريان أصالة الصحّة مطلقاً (2) محلّ منع .

الأمر الرابع: اختصاص القاعدة بما إذا شكّ في تحقّق الشيء صحيحاً

لا إشكال في أنّ مورد جريان أصالة الصحّة إنّما هو فيما إذا شكّ في أنّ العمل الكذائي هل وجد صحيحاً أم فاسداً ، وأمّا إذا شكّ في ترتّب الأثر على فعل - من جهة اُخرى سوى الفساد - فلا تجري أصالة الصحّة لرفع هذا الشكّ .

كما أ نّه لو شككنا في عروض البطلان على عمل بعد حدوثه صحيحاً لا تنفع أصالة الصحّة في بقاء صحّته وعدم عروض البطلان عليه ، فإذا شككنا في عقد محقّق أ نّه وجد صحيحاً أو فاسداً تجري أصالة الصحّة فيه ، سواء شكّ في شرائط العقد ، أو المتعاملين ، أو العوضين ، كما عرفت .

وأمّا إذا علم تحقّق الإيجاب صحيحاً ، وشكّ في تعقّبه بالقبول ، أو علم بوجود عقد فضولي ، وشكّ في تعقّبه بالإجازة ، فلا معنى لجريان أصالة الصحّة ؛

ص: 410


1- جامع المقاصد 7 : 307 - 308 .
2- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 365 .

لأنّ الشكّ لا يكون في فساد العقد أو فساد الإيجاب ، بل في تحقّق الجزء المتمّم له ، وليس القبول من شرائط صحّة الإيجاب ، حتّى يكون الشكّ في صحّته ، بل الشكّ إنّما هو في أصل وجود العقد ، وقد عرفت أنّ مجرى أصالة الصحّة إنّما هو العقد بعد تحقّقه .

وكذا الحال في الشكّ في تعقّب العقد الفضولي بالإجازة ؛ لأنّ تعقّبه بها ليس من شرائط صحّته حتّى يكون مورد جريانها ، فالعقد بلا إجازة صحيح ؛ بمعنى أ نّه إذا تعقّبته إجازة تترتّب عليه الآثار ، فصحّته بهذا المعنى معلومة ، فالإجازة ليست من شرائط صحّته ، بل من متمّمات أسباب النقل ، وكذا التقابض في بيع الصرف والسلم ليس من شرائط صحّة العقد ، بل من متمّمات أسباب النقل . نعم ، لو تفرّق المتعاملان قبله يعرضه البطلان .

وقد عرفت أنّ أصالة الصحّة لا تتكفّل عدم عروض البطلان على العمل ، فلو صلّى صحيحاً وشككنا في تعقّب صلاته بالرياء - بناءً على إبطال الرياء المتأخّر - لا تجري أصالة الصحّة لإحراز عدم الرياء ، أو لصحّة الصلاة ، بل لا بدّ من التشبّث بسائر القواعد والاُصول .

فأصالة الصحّة لا تجري في الشكّ في عروض المبطل بعد وجود العمل صحيحاً ، نعم ، تجري في الشكّ في عروض المبطل في الأثناء .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ جريان أصالة الصحّة في كلّ شيء بحسبه ، كما أنّ صحّة كلّ شيء بحسبه ، فإذا شكّ في صحّة الإيجاب من حيث كونه عربياً أو كونه بصيغة الماضي مثلاً جرت أصالة الصحّة فيه ؛ بمعنى أ نّه يترتّب الأثر عليه إذا تعقّبه القبول الصحيح ولو بالأصل ، وكذا بالنسبة إلى القبول ، وأمّا إذا شكّ في

ص: 411

تعقّبه بالقبول ، أو شكّ في تحقّق الإيجاب مع إحراز القبول فلا .

وكذا الحال فيما إذا شكّ في صحّة العقد من جهة الشكّ في بلوغ أحد الطرفين ، وقلنا بعدم جريانها في فعل المشكوك في بلوغه ، وأردنا إجراءها بالنسبة إلى فعل البالغ ، وترتيب آثار العقد الصحيح ؛ بأن يقال : إنّ صحّة فعل البالغ تستلزم صحّة فعل الطرف ، كما صرّح به الشيخ ، وفرّق بين ما إذا شكّ في صحّة المعاملة من جهة كون أحد الطرفين بالغاً ، وبين ما إذا شكّ في وجود الإيجاب أو القبول مع إحراز الآخر ، فأجرى الأصل في الأوّل دون الثاني(1) .

وذلك ؛ لأنّ كون الظاهر من حال المسلم أو الفاعل العاقل البالغ عدم التصرّف الباطل واللغو ، لو ينفع في ترتيب الأثر الفعلي - كما أفاد في الأمر الثاني(2) - يكون بعينه جارياً فيما إذا شكّ في أصل الإيجاب مع إحراز القبول ؛ فإنّ القبول بلا إيجاب أيضاً لغو .

فإذا لم ينفع جريانها في صدور فعل من فاعل آخر ، لا ينفع في إثبات صحّة فعل فاعل آخر ؛ فإنّ صحّة كلّ شيء بحسبه كما أفاد(3) ، فصحّة الإيجاب لا تتوقّف على تعقّبه بقبول من شخص بالغ ، كما لا تتوقّف على صدور أصله منه ، فالفرق بين الأمرين لا وجه معتدّ به له ، والتفرقة بين ظهور الحال وأصالة الصحّة قد عرفت حالها (4) ، مع أنّ ظهور الحال في المقامين على السواء .

ص: 412


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 361 .
2- نفس المصدر .
3- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 363 .
4- تقدّم في الصفحة 408 .

والتحقيق : أ نّه على فرض عدم جريان الأصل مع الشكّ في البلوغ لا يفيد الأصل في المقامين .

ثمّ إنّه قدّس سرّه جعل من مصاديق ما عنون في الأمر الثالث ما لو ادّعى بائع الوقف وجود المصحّح له ، بل جعله أولى بعدم الجريان فيه وقال : وأولى بعدم الجريان ما لو كان العقد في نفسه لو خلّي وطبعه مبنيّاً على الفساد ؛ بحيث يكون المصحّح طارئاً عليه ، كما لو ادّعى بائع الوقف وجود المصحّح له ، وكذا الراهن أو المشتري من الفضولي إجازة المرتهن والمالك(1) ، انتهى .

وأنت خبير : بأنّ بيع الوقف مع الشكّ في عروض المصحّح له ليس من قبيل ما نحن فيه ؛ لأنّ الشكّ فيه إنّما هو في الصحّة والفساد ، أي في أنّ البيع هل وقع صحيحاً حين حدوثه أو فاسداً ، ومنشأ الشكّ هو الشكّ في عروض المصحّح له وعدمه ؛ فإنّ بيع الوقف مع عدم عروض المسوّغ له يقع باطلاً ، لا صحيحاً تأهّلياً كبيع الفضولي والراهن ، فمسألة بيع الوقف داخلة في الأمر السابق ؛ ممّا يكون الشكّ في قابلية العوض للنقل ، وقد عرفت أنّ أصالة الصحّة جارية في مثله(2) .

واختار السيّد الطباطبائي في «ملحقات عروته» عدم جريان الأصل فيما إذا شكّ في صحّة بيع الناظر أو الموقوف عليه ؛ من جهة الشكّ في عروض المسوّغ له ، قال : فلو لم يثبت المسوّغ يجوز للبطون اللاحقة الانتزاع من يد المشتري ، فهو كما لو باع شخص مال غيره مع عدم كونه في يده ، ولم يعلم كونه وكيلاً منه .

ودعوى الموقوف عليه أو الناظر وجود المسوّغ لا تكفي في الحكم بالصحّة ،

ص: 413


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 364 .
2- تقدّم في الصفحة 406 .

ولا يجوز مع عدم العلم به الشراء منهما ؛ لأنّ يدهما ليست كيد الدلاّل المدّعي للوكالة ؛ فإنّ يده مستقلّة ، ويدهما غير مستقلّة ؛ لأ نّها في الحقيقة يد الوقف المفروض عدم جواز بيعه، فيدهما إنّما تنفع في كيفية التصرّفات التي هي مقتضى الوقف ، لا في مثل البيع الذي هو منافٍ ومبطل له ، فهي نظير يد الوَدَعي التي لا تنفع إلاّ في الحفظ ، لا في البيع ، فإذا ادّعى الوكالة احتاج إلى الإثبات ؛ وأنّ يد الأمانة صارت يد الوكالة، وإلاّ فالأصل بقاؤها على ما كانت عليه(1)، انتهى ملخّصاً.

وفيه : أنّ كون بيعه كبيع مال الغير مع عدم اليد ممنوع ؛ لأنّ يد الناظر والموقوف عليه - إذا كان وليّاً للأمر - يد معتبرة عند العقلاء ، ودعواهما مسموعة ، فكيف تكون كلا يد ؟ ودعوى كونها غير مستقلّة ممنوعة ، بل يدهما مستقلّة ، وما دام كون الوقف بحاله يجب عليهما حفظه وأنحاء التصرّفات المرتبطة به وبالانتفاع منه على الوجه المشروع ، وإذا احتاج إلى التغيير والتبديل مع عروض المسوّغ له تكون لهما الولاية على ذلك .

وما ذكره : من أنّ يدهما في الحقيقة يد الوقف . . . إلى آخره ممّا لا محصّل له ؛ لعدم اعتبار اليد للوقف على الملك الموقوف عرفاً ، ولو فرض كون يدهما يد الوقف ولا تكون إلاّ لحفظه ، لا لإبطاله ، فمع عروض المسوّغ لا يجوز لهما البيع ؛ لصيرورتهما أجنبيّين ، وهو كما ترى .

ولو كان المراد من كون اليد يد الوقف أ نّها يد على المال الموقوف ، فهو من

ص: 414


1- العروة الوثقى 6 : 400 .

قبيل المصادرة ، ومن ذلك يعلم أنّ تنظير يدهما بيد الوَدَعي في غير محلّه .

لا يقال : إنّ الشكّ في الصحّة والفساد في بيع الوقف مسبّب عن الشكّ في عروض المسوّغ ، فأصالة عدمه حاكمة على أصالة الصحّة .

فإنّه يقال : قد عرفت أنّ مبنى أصالة الصحّة هو بناء العقلاء(1) ، فحينئذٍ لو قلنا بأ نّها أمارة عقلائية مبناها ترجيح الغلبة ، وإلقاء احتمال الخلاف ، فالأمارة القائمة على المسبّب تكون رافعة لموضوع الأصل السببي ؛ لأنّ الأمارة على اللازم أمارة على الملزوم ، وهل يكون تقدّمها عليه على نحو الحكومة ، أو الورود ، أو الخروج موضوعاً ؟ قد سبق الكلام في أمثاله في بابه(2) .

ولو قلنا بأ نّها أصل عقلائي مبناها تقنين أرباب النفوذ في أوائل تمدّن البشر لرغد العيش ، ثمّ صارت ارتكازية ، فلازم ذلك أن يكون الاستصحاب رادعاً لأصالة الصحّة الجارية في المسبّب ، فلو كان رادعاً في مورد يكون رادعاً مطلقاً ، وهو كما ترى .

وقد عرفت في بعض المباحث السالفة(3) أنّ الأدلّة العامّة غير صالحة لردع العقلاء عن ارتكازاتهم ، خصوصاً في مثل هذا الأمر الذي يكون قطب رحى التمدّن ، ولولاه لم يقم للمسلمين سوق ، وستأتي(4) تتمّة لذلك عند تعرّض الشيخ له إن شاء اللّه .

ص: 415


1- تقدّم في الصفحة 398 .
2- تقدّم في الصفحة 264 وما بعدها .
3- تقدمّ في الصفحة 338 .
4- يأتي في الصفحة 425 .
الأمر الخامس: إنّ جريان أصالة الصحّة بعد إحراز نفس العمل

قد أشرنا سابقاً إلى أنّ جريان أصالة الصحّة إنّما هو بعد إحراز نفس العمل ؛ لأنّ الشكّ في صحّة الشيء وفساده فرع وجوده .

لا أقول : إنّ جريانها موقوف على الفراغ من العمل ؛ لأ نّها جارية في أثنائه ، بل وقبله لو كان منشأ للأثر ، إذا علم أ نّه سيوجد وشكّ في إيجاده في موطنه صحيحاً أو فاسداً .

بل أقول : أنّ جريانها متأخّر عن إحراز نفس العمل في موطنه ، فلو شكّ في وجود العمل في موطنه لا يكون مجرى الأصل ؛ فإذا شكّ في أنّ الآتي بصورة الصلاة يأتي بها أو يأتي بصورتها لغرض آخر ، لا تجري أصالة الصحّة لإحراز كونها صلاة .

وكذا الحال في باب العقود والإيقاعات مع الشكّ في قصد عناوينها ، فلو قال : بعت ، وشكّ في استعماله في المعنى الإنشائي أو الإخباري لا تحرز أصالة الصحّة نحو استعماله .

نعم ، قد تكون في بعض الموارد اُصول عقلائية تحرز موضوع أصالة الصحّة ، فلو اختلف المتعاقدان فادّعى أحدهما عدم قصده للإنشاء ، أو عدم الجدّ فيه لا يكون مبنى إحراز قصده وجدّه هو أصل الصحّة ، لأنّ الشكّ ليس في الصحّة والفساد ، ولو كانت الاُصول العقلائية الاُخر محرزة لأمثالهما لا ربط لها بأصالة الصحّة .

ص: 416

نعم ، بعد إحراز عنوان العمل لو شكّ في صحّته تكون أصالة الصحّة محرزة لها .

وممّا ذكرنا : يتّضح حال فعل النائب ، فإنّ الشكّ فيه قد يكون من جهة الشكّ في إتيانه ، وقد يكون من جهة الشكّ في قصده النيابة ، وقد يكون من جهة الإخلال بشيءٍ معتبر فيه .

فإن كان من الجهتين الأوّلتين فلا إشكال في عدم إحرازهما بأصالة الصحّة ؛ لعدم الشكّ في الصحّة والفساد ، فلا بدّ من إحرازهما بأمر آخر ، فهل يقبل قول النائب أم لا ؟ فيه وجهان .

وأمّا بعد إحراز إيجاد النائب العمل النيابي إذا شكّ في صحّته ، فلا إشكال في جريان أصالة الصحّة ، من غير فرق بينه وبين سائر الأعمال ؛ لأنّه فعل صادر من عاقل شكّ في صحّته وفساده ، وهو موضوع بناء العقلاء .

وأمّا ما أفاده الشيخ الأنصاري : من أنّ لفعل النائب عنوانين ، أحدهما : من حيث إنّه فعل من أفعاله ، وثانيهما : من حيث إنّه فعل المنوب عنه ، ولا جريان لأصالة الصحّة من هذه الحيثية ؛ لأنّ سقوط التكليف عن المنوب عنه بفعل النائب باعتبار أ نّه فعله ، لا فعل النائب ، فلا بدّ من إحراز الفعل الصحيح عنه(1) .

ففيه إشكال : ولا بدّ من بيان كيفية اعتبار النيابة لدى العقلاء حتّى يتّضح الأمر ، ولا بأس بالإشارة إجمالاً إلى اعتبار الوكالة والولاية أيضاً .

فنقول : الوكالة لدى العقلاء عبارة عن تفويض الأمر إلى شخص وإيكاله إليه ،

ص: 417


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 368 - 369 .

فالفعل باعتبار أ نّه فعل صادر من الوكيل نافذ في حقّ الموكّل ؛ لأنّه جعله سلطاناً عليه ، فنفوذه عليه باعتبار إذنه وإيكاله الأمر إليه ، لا باعتبار أ نّه فعل صادر من الموكّل ؛ لعدم صدوره منه ، ونسبة الفعل إليه تكون بالتجوّز والتوسّع .

والولاية عبارة عن نحو سلطنة تكون دائرتها بالنسبة إلى مواردها مختلفة سعة وضيقاً ، أو أمر وضعي لازمه تلك السلطنة ، فالوليّ على الصغير هو السلطان عليه ، يتصرّف في اُموره بما هو صلاحه ، والوليّ على البلد هو المتصرّف فيه بما هو صلاحه ومقتضى سياسته ، والوليّ من قبل اللّه على الناس هو السلطان عليهم ، يتصرّف فيهم بما هو صلاحهم ، وبما هو مقتضى السياسة الدينية والدنيوية .

فالولاية عبارة عن أمر وضعي اعتباري لدى العقلاء ، يتبعها جواز التصرّف في حيطتها ، فالفعل الصادر من الوليّ والواليّ باعتبار أ نّه فعل صادر من السلطان نافذ على المسلّط عليه والمولّى عليه ، لا باعتبار أ نّه فعله أو بإذنه .

والنيابة عبارة عن قيام شخص مقام شخص آخر في نوع من الأفعال ، يكون حقّها مباشرة المنوب عنه لدى الاختيار ، كما لو قام مجلس سلام عامّ للسلطان ، وتكون وظيفة أركان دولته وشرفاء مملكته الحضور فيه لمراسم السلام ، واتّفق عذر لبعضهم ، فأرسل شخصاً مناسباً لمقام السلطنة قائماً مقامه ونائباً منابه في تشريفات السلام ، فإنّه يعدّ لدى العقلاء مرتبة من حضوره بوجوده التنزيلي ، ويصير لدى السلطان مقرّباً ، ويكون ذاك العمل عند العذر مقبولاً منه .

فالوكالة تكون في العقود والإيقاعات ممّا لا يكون لخصوص المباشر دخالة في تحقّقها ، ولا تكون في العبادات ، كما لا يقبل مجلس السلام الوكالة ، والنيابة

ص: 418

تكون في مثل العبادات التي بمنزلة الحضور في مجلس السلطان ، فلا تجوز الوكالة في الحجّ والصلاة ؛ لأنّ الإتيان بالعبادات ليس من شؤون سلطنة الشخص ونفوذه ، بل من قبيل الحضور في مجلس السلطان .

فالنيابة ليست من قبيل تفويض الأمر ، بل من قبيل الإطاعة بالوجود التنزيلي ، فالفعل الصادر من النائب - باعتبار كونه وجوداً تنزيلياً للمنوب عنه ولو بالتوسّع - موجب لحصول القرب لدى المولى، لا بما أنّ الفعل فعله ، بل بما أ نّه صادر ممّن كان نازلاً منزلته .

فاتّضح ممّا ذكرنا : أ نّه لا إشكال في جريان أصالة الصحّة - فيما إذا شكّ في الصحّة والفساد بعد إحراز نفس العمل بعنوانه - في فعل الوكيل والوليّ ؛ لأنّه فعلهما ، ونفوذه في الموكّل باعتبار إذنه وإيكال الأمر إليه ، وفي المولّى عليه باعتبار نحو سلطنة عليه ، وكذا الحال في النائب ؛ لأنّ النيابة وإن كان اعتبارها غيرهما ، لكن لا إشكال في أنّ الفعل صادر من النائب حقيقة ، وباعتبار صدوره منه وقيامه مقام المنوب عنه يسقط عنه .

فما ادّعاه الشيخ : من أنّ فعله لمّا كان فعلاً له يسقط عنه(1) ، فكأ نّه قال : لا تجري أصالة الصحّة إلاّ في فعل الغير ، وفعل النائب ليس كذلك .

ففيه : أنّ كون الفعل فعل الغير واضح ، ومجرّد أ نّه يعدّ مرتبة من فعل المنوب عنه بالتوسّع لا يوجب عدم جريان الأصل فيه .

مع أنّ التفكيك بين الحيثيتين كما أفاده; كما ترى ؛ فإنّ النيابة إن اقتضت

ص: 419


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 369 .

أن يكون الفعل الصادر من النائب فعل المنوب عنه ، ويكون النائب بما أ نّه نائب غير مستقلّ في الفاعلية ، فلا تكون له جهة فاعلية ، ولا لفعله جهة صدور منه .

وإن اقتضت أن يكون الفعل الصادر من النائب موجباً لسقوطه منه ؛ لكونه وجوداً تنزيلياً له توسّعاً ، ويكون فعله بوجه من التوسّع فعله ، فلا وجه لعدم جريان الأصل في فعله .

وبالجملة : لا يمكن أن يقال : إنّ الواقف بعرفات والمشعر ، والمطوِّف بالبيت العتيق والمصلّي خلف مقام إبراهيم علیه السلام ليس النائب ، بل هذه الأفعال أفعال المريض المزمن في بلده ، فلا تجري فيها أصالة الصحّة باعتبار أ نّها فعله لا فعل الغير .

فتفكيك الجهتين ممّا لا يساعد عليه الاعتبار ، بل يكون اعتبار النيابة بما ذكره من صيرورة الفعل بعد قصد النيابة والبدلية قائماً بالمنوب عنه ؛ لكون الفاعل آلة له ، مع كونه فعلاً من أفعال النائب نفسه لا المنوب عنه ، متنافيين ، كما لا يخفى .

وأمّا لزوم مراعاة النائب تكليف نفسه في بعض الجهات ، كالجهر والإخفات والستر ، ومراعاة تكليف المنوب عنه في نوع التكليف مثل القصر والإتمام ، والقِران والتمتّع ، فليس من أجل أ نّه روعيت في الفعل جهتان ؛ جهة النيابة ، وجهة اللا نيابة ؛ فإنّه لا وجه لاعتبار اللا نيابة في الفعل الصادر من النائب بما أ نّه نائب .

بل لأجل أ نّه استنيب لقيامه مقام المنوب عنه فيما يجب عليه ؛ فإذا كان عليه حجّ التمتّع وصلاة التمام لا معنى للإتيان بغيرهما ممّا لا يكون نائباً فيه ، ومراعاة

ص: 420

تكليف نفسه في الشرائط والموانع لأجل أنّ الفعل فعله ، لا فعل المنوب عنه ، كما تقدّم ، فلا بدّ من مراعاة ما اشترط عليه .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ جريان أصالة الصحّة في فعل النائب فيما يكون الشكّ في الصحّة ممّا لا مانع منه ، ولا يعتبر فيه عدالة النائب من هذه الحيثية ، واعتبارها من حيثية اُخرى على فرضه غير مرتبط بما نحن بصدده .

الأمر السادس: عدم حجّية مثبتات أصالة الصحّة

لا إشكال في عدم حجّية مثبتات أصالة الصحّة ؛ لعدم الدليل عليها ، لأنّ بناء العقلاء - الذي هو العمدة في الباب - غير ثابت بالنسبة إليها ، فالثابت من بنائهم ليس إلاّ ترتيب آثار صحّة الفعل ، فإذا شكّ في صحّة صلاة من جهة الشكّ في الطهارة تترتّب عليها آثار الصحّة ، فيقتدى بها ، لكن لا يثبت بها كون المصلّي على وضوء أو غسل ، فلا مانع من إجراء استصحاب الحدث لو كان له أثر .

وكذا لو شكّ في أنّ الشراء الصادر من الغير كان بما لا يملك ، أو بعين من أعيان ماله يحكم بصحّة الشراء ، وتملّك المشتري المبيع ، ولا يثبت بذلك تعلّق البيع على شيء من أعيان ماله ، ويجري استصحاب بقاء الأعيان على ملكه ، ولا إشكال فيه من جهة التفكيك في الآثار ظاهراً ، وهو ليس بعزيز ، خصوصاً في كتاب القضاء وكيفية تشخيص المدّعي والمنكر ، فراجع .

فالإشكال على الشيخ الأعظم : من أنّ جريان أصالة الصحّة مستلزم للحكم

ص: 421

بدخول المبيع في ملك المشتري ، من دون أن يدخل في ملك البائع ما يقابله(1) ، كما ترى ليس بشيءٍ إذا اقتضت الاُصول في مقام الظاهر ، كما التزم المستشكل في قاعدة التجاوز، مع كونها من الاُصول المحرزة عنده(2) .

وبالجملة : لا إشكال من هذه الجهة ، نعم قد يحصل علم إجمالي في بعض المقامات ، وهو غير مرتبط بما نحن فيه .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ مثبتات أصل الصحّة ليست بحجّة ؛ لعدم بناء العقلاء إلاّ على المعاملة بالصحّة مع العمل الصادر من الفاعل ، وأمّا ترتيب آثار اللوازم فلا ، ولا فرق في بناء العقلاء بين اللوازم والآثار الشرعية ، وغيرها من العقلية والعادية .

لكن ترتيب الآثار الشرعية ولو مع الواسطة ليس لأجل بناء العقلاء ، ولا لإطلاق دليل الأصل ، أو قيام الإجماع عليه دون غيرها ؛ لعدم الفرق لدى العقلاء بين لازم ولازم ، وليس دليل لفظي يؤخذ بإطلاقه ، ولا إجماع في الباب .

بل لأجل ما ذكرنا في مبحث مثبتات الاستصحاب(3) : من أنّ دليله لا يتكفّل إلاّ لإحراز موضوع كبرى سابقة شرعية ، فتنطبق عليه الكبرى ، وإذا كانت الآثار الشرعية مترتّبة تكون كلّ كبرى سابقة محرزة لموضوع كبرى لاحقة .

ففي ما نحن فيه أيضاً لا تتكفّل أصالة الصحّة إلاّ صحّة نفس العمل ، فإذا انسلك تحت كبرى شرعية يترتّب عليه الأثر ، فأصالة الصحّة في الطلاق مثلاً

ص: 422


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 666 .
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 642 .
3- تقدّم في الصفحة 177 - 178 .

لا تثبت بها إلاّ صحّة الطلاق ، لكن إذا صحّ الطلاق تنسلك المرأة في قوله :

(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ)(1) فإذا خرجت من العدّة تنطبق عليها كبرى شرعية اُخرى وهكذا .

وهذا التفكيك بين اللوازم الشرعية وغيرها في باب أصالة الصحّة - ممّا لا إطلاق دليل فيه ، ويكون الدليل عليه هو البناء العقلائي - ممّا يؤيّد ويؤكّد ما ذكرنا في الاستصحاب(2) في وجه ترتيب الآثار الشرعية ولو بألف واسطة ، دون غيرها ، فتدبّر جيّداً .

الأمر السابع: موارد تقدّم أصالة الصحّة على الاستصحاب ووجهه

لا إشكال في تقدّم أصالة الصحّة على استصحاب عدم الانتقال وأمثاله إذا لم يكن في البين أصل موضوعي ، وأمّا معه فقد وقع الكلام فيه ، وكذا وقع الكلام في وجه تقدّمها عليه هل هو الحكومة ، أو التخصيص ، أو غيرهما ؟ والتحقيق : أ نّك قد عرفت أنّ مبنى حجّيتها كان بناء العقلاء ، كما مرّ مراراً ، ولا تكون ممّا انفردت بحجّيتها شريعة الإسلام ، بل ولا سائر الشرائع .

وما يتوهّم : من أنّ الصحّة والفساد لا تكونان بين العقلاء ، بل هما من الوضعيات الشرعية ففي غاية السقوط ؛ لأنّ الصحّة ليست إلاّ اعتباراً من

ص: 423


1- البقرة (2) : 228 .
2- تقدّم في الصفحة 177 .

الاعتبارات الوضعية العقلائية ، فتتداول الصحّة والفساد بينهم ، كانوا منتحلين بشريعة أو لا .

ألا ترى : أنّ أحداً لو سرق مال غيره وباعه ، فاطّلع عليه الحاكم العرفي الغير المنتحل بدين يأخذ العين من المشتري ، ويردّها إلى مالكها ، ويأخذ الثمن من السارق ، ويردّه إلى مالكه ، وليس ذلك إلاّ لحكمه بفساد المعاملة ، بخلاف ما لو وقعت المعاملة بين المالكين ، وليست الصحّة والفساد إلاّ ذلك .

وكذا ترى : أنّ لكلّ قوم نكاحاً بقواعد مرسومة بينهم - ولو في الطوائف الوحشية - ويكون الزنا والنكاح بين جميع الطوائف مختلفين ، ونكاح امرأة الغير باطل لدى غير المنتحلين بديانة أيضاً ، نعم يكون قانون الزواج مختلفاً بين الطوائف المختلفة .

لكن مع اختلافه يكون النكاح الصحيح ما طابق القانون ، والباطل ما خالفه ، فتكون الصحّة والفساد من الأحكام العقلائية ، كأصالة الصحّة ، وشريعة الإسلام على صادعها السلام قد بدأت في زمان كانت الصحّة والفساد وأصالة الصحّة رائجة بينهم .

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنّ اللائق بالبحث هاهنا أنّ دليل الاستصحاب وهو قوله: «لا ينقض اليقين بالشكّ» هل يصلح أن يكون رادعاً لبناء العقلاء عن العمل بأصالة الصحّة أم لا ؟ وقد أشرنا سابقاً (1) إلى عدم صلوح مثله للرادعية ، فالعمدة هو ملاحظة نطاق دائرة بناء العقلاء ، فقد عرفته في بعض الاُمور السالفة(2) .

ص: 424


1- تقدّم في الصفحة 338 و415 .
2- تقدّم في الصفحة 405 - 406 .

فتقدّم أصالة الصحّة ليس من أجل التعارض بينها وبينه بدواً ، والتقدّم بحكومة أو تخصيص أو غيرهما ، بل تكون أدلّة الاستصحاب غير صالحة للردع عن بناء العقلاء فيما تحقّق بناؤهم ؛ لأ نّهم في العمل على أصالة الصحّة وترتيب آثار الصحّة على المعاملات والعبادات ارتكازاً لا يرون أنفسهم شاكّين .

لا أقول : إنّهم قاطعون ؛ فإنّه خلاف الضرورة ؛ بل أقول : إنّهم يكونون غافلي الذهن عن أنّ ترتيب آثار الصحّة عمل بالشكّ ، فلا بدّ في صرفهم عن بنائهم من دليل صريح يردعهم عنه ، ولا يصلح مجرّد إطلاق قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» للردع عن طريقتهم المألوفة .

ولهذا لم تكن هذه الكبريات الملقاة من الأئمّة إلى أصحابهم موجبة لانقداح مثل ذلك في أذهانهم ، وإلاّ كانوا يسألون عنه ، مع أ نّهم كانوا يعملون على أصالة الصحّة ليلاً ونهاراً ، مع ورود مثل هذه الكبريات ، وهذا واضح جدّاً لدى التأمّل .

فإذاً تكون أصالة الصحّة خارجة عن نقض اليقين بالشكّ موضوعاً لدى العقلاء ، فما أفادوه في المقام من حكومتها على الاستصحاب ، أو تخصيص دليل الأصل بها (1) لعلّه في غير محلّه ، والحمد للّه أوّلاً وآخراً .

ص: 425


1- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 374 - 380 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 657 و670 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 611 ؛ نهاية الأفكار ، القسم الثاني 4 : 99 .
المبحث الرابع: حال الاستصحاب مع قاعدة القرعة
اشارة

ولا بأس بتعرّض بعض الجهات فيها ، حتّى يتّضح حالها وحاله معها ، ويتمّ ذلك في ضمن اُمور :

الأمر الأوّل: في ذكر نبذةٍ من الأخبار الواردة فيها وعدّ بعض موارد ورد فيها النصّ بالخصوص
فمن الأخبار العامّة :

ما رواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن حكيم ، قال : سألت أبا الحسن عن شيء . فقال لي : «كلّ مجهول ففيه القرعة» . قلت له : إنّ القرعة تخطئ وتصيب ! قال : «كلّ ما حكم اللّه به فليس بمخطئ»(1) .

ص: 426


1- تهذيب الأحكام 6 : 240 / 593 ؛ وسائل الشيعة 27 : 259 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 13 ، الحديث 11 .

ورواه الصدوق بطريقين صحيحين عنه(1) ، والظاهر أ نّه الخثعمي الذي لا يخلو عن الحسن ، بل لا تبعد وثاقته ؛ لكونه صاحب الأصل(2) ، ولكثرة نقل المشايخ بل أصحاب الإجماع عنه(3) ، ولو كان فيها ضعف فهو منجبر باعتماد الأصحاب عليها .

قال الشيخ في «النهاية» : وكلّ أمر مشكل مجهول يشتبه الحكم فيه فينبغي أن تستعمل فيه القرعة ؛ لما روي عن أبي الحسن موسى ، وعن غيره من آبائه وأبنائه من قولهم : «كلّ مجهول ففيه القرعة» . وقلت له : إنّ القرعة تخطئ وتصيب ! فقال : «كلّ ما حكم اللّه به فليس بمخطئ»(4) .

وهو كما ترى عين عبارة الحديث ، والظاهر منه أ نّه عثر على روايات اُخر من سائر الأئمّة علیهم السلام بهذا المضمون ، ولم نعثر عليها ، ويمكن أن يكون نظره إلى سائر الروايات الواردة في الأبواب المختلفة ، فاستفاد منها بإلغاء الخصوصية أنّ كلّ مجهول يشتبه فيه الحكم ففيه القرعة .

وعن «الخلاف» : أنّ القرعة مذهبنا في كلّ أمر مجهول(5) ، وادّعى في كتاب الدعاوى إجماع الفرقة على أنّ القرعة تستعمل في كلّ أمر مجهول مشتبه(6) .

ص: 427


1- الفقيه 3 : 52 / 174؛ الفقيه ، المشيخة 4 : 88 .
2- رجال النجاشي : 357 / 957 .
3- راجع تنقيح المقال 3 : 109 / السطر 21 (أبواب الميم) .
4- النهاية : 345 و346 .
5- الخلاف 6 : 234 .
6- الخلاف 6 : 338 .

وعن الشهيد في «القواعد» : ثبت عندنا قولهم : «كلّ مجهول فيه القرعة»(1) .

يستفاد من كلام الشيخ في «الخلاف» أنّ الحكم بهذا العنوان مذهب الخاصّة ، ومن كلام الشهيد أنّ هذا الكلام ثابت عند الطائفة من أئمّتهم ، مع عدم رواية بهذه العبارة عند الشهيد قطعاً غير رواية محمّد بن حكيم .

وبالجملة : الرواية موثوق بها ، وليس في طرقنا ما يستفاد منه العموم غيرها ، وسيأتي حالها (2) .

وممّا يستفاد منه العموم ما روي من طرق العامّة : «إنّ القرعة لكلّ أمر مشتبه» وفي رواية : «لكلّ أمر مشكل»(3) .

وعن الحلّي دعوى الإجماع على أنّ كلّ مشكل فيه القرعة(4) ، ونقل عنه أيضاً أ نّه قال في باب سماع البيّنات : وكلّ أمر مشكل يشتبه فيه الحكم فينبغي أن تستعمل فيه القرعة ؛ لما روي عن الأئمّة علیهم السلام ، وتواترت به الآثار ، وأجمعت عليه الشيعة الإمامية(5) .

ولعلّه عثر على روايات بهذا المضمون ، وإن كان المظنون اصطياده الكلّية من الموارد المختلفة .

وعن «دعائم الإسلام» عن أمير المؤمنين وأبي جعفر وأبي عبداللّه علیهم السلام : أ نّهم

ص: 428


1- القواعد والفوائد 2 : 183 .
2- يأتي في الصفحة 440 .
3- لم نعثر عليها في الجوامع الروائية . اُنظر درر الفوائد ، المحقّق الخراساني : 411 .
4- السرائر 2 : 170 .
5- السرائر 2 : 173 .

أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل ، قال أبو عبداللّه علیه السلام : «وأيّ حكم في الملتبس أثبت من القرعة ؟ ! أليس هو التفويض إلى اللّه جلّ ذكره ؟» ثمّ ذكر قصّة يونس ، ومريم ، وعبدالمطّلب(1) .

ويمكن استفادة الكلّية في باب القضاء ممّا في «المستدرك» عن الشيخ المفيد في «الاختصاص» بإسناده عن عبد الرحيم قال : سمعت أبا جعفر علیه السلام يقول : «إنّ علياً علیه السلام كان إذا ورد عليه أمر لم يجئ فيه كتاب ، ولم تجرِ فيه سنّة رجم فيه» يعني ساهم «فأصاب» ثمّ قال : «يا عبد الرحيم وتلك من المعضلات»(2) .

ويمكن استفادة العموم في الجملة ممّا ورد في ذيل صحيحة أبي بصير برواية الصدوق من قول النبي6 : «ليس من قوم تقارعوا ثمّ فوّضوا أمرهم إلى اللّه عزّ وجلّ إلاّ خرج سهم المحقّ»(3) .

وقريب منه ما عن أمير المؤمنين عليه صلوات اللّه في ذيل رواية العبّاس بن هلال(4) ومرسلة الصدوق عن الصادق علیه السلام (5) ومرسلة «فقه الرضا» عنه علیه السلام

ص: 429


1- دعائم الإسلام 2 : 522 / 1864 ؛ مستدرك الوسائل 17 : 373 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 11 ، الحديث 1 و2 .
2- الاختصاص : 310 ؛ مستدرك الوسائل 17 : 378 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 11 ، الحديث 14 .
3- الفقيه 3 : 54 / 183 ؛ وسائل الشيعة 27 : 258 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 13 ، الحديث 6 .
4- تهذيب الأحكام 9 : 363 / 1298 ؛ وسائل الشيعة 26 : 312 ، كتاب الفرائض والمواريث ، أبواب ميراث الغرقى والمهدوم عليهم ، الباب 4 ، الحديث 4 .
5- الفقيه 3 : 52 / 175 ؛ وسائل الشيعة 27 : 261 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 13 ، الحديث 13 .

قال : «أيّ قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّض الأمر إلى اللّه ؟ ! أليس اللّه تعالى يقول : (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ)(1) »(2) وكذا رواية أحمد البرقي(3) .

وأمّا الموارد التي ورد فيها النصّ فهي كثيرة :

منها : فيما إذا تعارضت البيّنتان عند فقد المرجّح ، ففي صحيحة داود بن سرحان - برواية الصدوق - عن أبي عبداللّه في شاهدين شهدا على أمر واحد ، فجاء آخران فشهدا على غير الذي شهدا عليه واختلفوا ؟ قال : «يقرع بينهم ، فأيّهم قرع عليه اليمين فهو أولى بالقضاء»(4) .

وفي صحيحة الحلبي قريب منها ، إلاّ أنّ في آخرها : «فهو أولى بالحقّ»(5) بدل : «أولى بالقضاء» .

وفي صحيحة البصري(6) روايته أيضاً عن أبي عبداللّه علیه السلام قال : «كان علي علیه السلام إذا أتاه رجلان بشهود ، عدلهم سواء وعددهم ، أقرع بينهم على أيّهما

ص: 430


1- الصافّات (37) : 141 .
2- الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه السلام : 262 .
3- المحاسن : 603 / 30 ؛ وسائل الشيعة 27 : 261 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 13 ، الحديث 17 .
4- الفقيه 3 : 52 / 178 ؛ وسائل الشيعة 27 : 251 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 12 ، الحديث 6 .
5- تهذيب الأحكام 6 : 235 / 577 ؛ وسائل الشيعة 27 : 254 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 12 ، الحديث 11 .
6- البصري : هو عبدالرحمان بن أبي عبداللّه البصري مولى بني شيبان . راجع رجال الطوسي : 230 / 127 .

تصير اليمين . . .»(1) الحديث .

وهذه الطائفة عامّة لكلّ قضيّة في باب القضايا المشكلة الواردة على القاضي إذا تعارضت البيّنات ولا ترجيح فيها ، أو لم يتهيّأ فيه الإشهاد ، كما يدلّ عليه «الفقه الرضوي» .

ومن الموارد الخاصّة :

قضيّة الإشهاد على الدابّة ، كموثّقة سماعة عن أبي عبداللّه علیه السلام قال : «إنّ رجلين اختصما إلى علي عليه الصلاة والسلام في دابّة ، فزعم كلّ واحد منهما أ نّها اُنتجت على مذوده وأقام كلّ واحد منهما بيّنة سواء في العدد ، فأقرع بينهما سهمين . . .»(2) الحديث . ومثلها غيرها (3) .

ومنها : الإشهاد بالإيداع على الظاهر ، وهي رواية زرارة ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : قلت له : رجل شهد له رجلان بأنّ له عند رجل خمسين درهماً ، وجاء آخران فشهدا بأنّ له عنده مائة درهم ، كلّهم شهدوا في موقف ؟ قال : «أقرع بينهم ، ثمّ استحلف الذين أصابهم القرع . . .»(4) الحديث .

ص: 431


1- الكافي7 : 419 / 3 ؛ الفقيه 3 : 53 / 181 ؛ تهذيب الأحكام 6 : 233 / 571 ؛ وسائل الشيعة 27 : 251 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 12 ، الحديث 5 .
2- الفقيه 3 : 52 / 177 ؛ وسائل الشيعة 27 : 254 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 12 ، الحديث 12 .
3- راجع وسائل الشيعة 27 : 255 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 12 ، الحديث 15 .
4- الكافي 7 : 420 / 1 ؛ وسائل الشيعة 27 : 252 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 12 ، الحديث 7 .

ومنها : مورد اشتباه الولد بين العبد والحرّ والمشرك ، ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبداللّه علیه السلام قال : «إذا وقع الحرّ والعبد والمشرك على امرأة في طُهر واحد وادّعوا الولد اُقرع بينهم ، وكان الولد للّذي يقرع»(1) .

ومنها : الإشهاد على الزوجية(2) .

ومنها : قضيّة الشابّ الذي خرج أبوه مع جماعة ، ثمّ جاؤوا وشهدوا بموته(3) .

ومنها : قضيّة الوصيّة بعتق ثلث العبيد(4) .

ومنها : عتق ثلثهم(5) .

ومنها : مورد الاشتباه بين الولد والعبد المحرّر(6) .

ومنها : مورد الاشتباه بين صبيّين ، أحدهما حرّ ، والآخر مملوك(7) .

ص: 432


1- تهذيب الأحكام 6 : 240 / 595 ؛ وسائل الشيعة 27 : 257 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 13 ، الحديث 1 .
2- الكافي 7 : 420 / 2 ؛ وسائل الشيعة 27 : 252 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 12 ، الحديث 8 .
3- الكافي7 : 371 / 8 ؛ وسائل الشيعة 27 : 279 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 20 ، الحديث 1 .
4- تهذيب الأحكام 6 : 240 / 590 ؛ وسائل الشيعة 27 : 257 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 13 ، الحديث 3 .
5- الفقيه 4 : 159 / 555؛ وسائل الشيعة 19: 408، كتاب الوصايا ، الباب 75 ، الحديث 1.
6- تهذيب الأحكام 9 : 171 / 700 ؛ وسائل الشيعة 19 : 359 ، كتاب الوصايا ، الباب 43 ، الحديث 1 .
7- تهذيب الأحكام 6 : 239 / 586 ؛ وسائل الشيعة 27 : 258 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 13 ، الحديث 7 .

ومنها : مورد الخنثى المشكل(1) .

ومنها : مورد عتق أوّل مملوك(2) .

ومنها : مورد اشتباه المعتق بغيره(3) .

ومنها : مورد عتق عبيد في مرض الموت ، ولا مال له(4) .

ومنها : مورد اشتباه الغنم الموطوءة(5) .

ومنها : مورد قسمة أمير المؤمنين علیه السلام المال الذي أتى من أصفهان ، المذكور في كتاب الجهاد(6) .

ومنها : قضيّة مساهمة رسول اللّه صلی الله علیه و آله قريشاً في بناء البيت(7) .

ص: 433


1- وسائل الشيعة 26 : 292 ، كتاب الفرائض والمواريث ، أبواب ميراث الخنثى ، الباب 4 ، الحديث 1 - 4 .
2- تهذيب الأحكام 6 : 239 / 589 ؛ وسائل الشيعة 27 : 257 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 13 ، الحديث 2 .
3- الكافي 6 : 197 / 14 ؛ وسائل الشيعة 23 : 60 ، كتاب العتق ، الباب 34 ، الحديث 1 .
4- مستدرك الوسائل 14 : 104 ، كتاب الوصايا ، الباب 16 ، الحديث 3 ؛ صحيح مسلم 3 : 490 / 56 ؛ كنز العمّال 16 : 628 / 46122 .
5- تهذيب الأحكام 9 : 43 / 182 ؛ وسائل الشيعة 24 : 169 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، الباب 30 ، الحديث 1 .
6- الغارات : 34 ؛ وسائل الشيعة 15 : 114 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد العدوّ ، الباب 41 ، الحديث 13 .
7- الكافي 4 : 218 / 5 ؛ مستدرك الوسائل 17 : 376 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 11 ، الحديث 10 .

ومنها : استعلام موسى علیه السلام النمّام بالقرعة بتعليم اللّه تعالى(1) .

ومنها : مساهمة رسول اللّه صلی الله علیه و آله بين أزواجه إذا أراد سفراً (2) .

ومنها : اقتراعه6 بين أهل الصفّة للبعث إلى غزوة ذات السلاسل(3) .

ومنها : اقتراعه في غنائم حنين(4) .

ومنها : اقتراع بني يعقوب ليخرج على واحد فيحبسه يوسف عنده(5) .

إلى غير ذلك ممّا يطّلع عليه المتتبّع(6) .

الأمر الثاني في ورود التخصيص المستهجن على عمومات القرعة

وهو أهمّ الاُمور في هذا الباب ، ولا بدّ من بسط الكلام في تحقيقه ؛ لترتّب الثمرات الكثيرة العملية عليه ، وهو أ نّه قد اشتهر في ألسنة المتأخّرين أنّ

ص: 434


1- راجع مستدرك الوسائل 17 : 375 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 11 ، الحديث 5 .
2- الاختصاص : 118 ؛ مستدرك الوسائل 17 : 377 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 11 ، الحديث 13 .
3- الإرشاد ، الجزء الأوّل ، ضمن مصنّفات الشيخ المفيد 11 : 162 ؛ بحار الأنوار 21 : 77 / 5 .
4- إعلام الورى : 127 ؛ بحار الأنوار 21 : 173 / 9 .
5- الأمالي ، الصدوق : 205 / 7 ؛ مجمع البيان 5 : 375 .
6- راجع عوائد الأيّام : 640 - 651 .

عمومات القرعة قد وردت عليها تخصيصات كثيرة ، بالغة حدّ الاستهجان ، فيستكشف منه أ نّها كانت محفوفة بقرائن وقيود لم تصل إلينا ، فلا يجوز التمسّك بها إلاّ في موارد عمل الأصحاب على طبقها (1) ، وهذا مساوق لسقوط العمومات عن الحجّية تقريباً .

وقد ظهر لي بعد الفحص الأكيد عن أقوال الفقهاء ، والتأمّل التامّ في الأخبار الواردة في الموارد المتقدّمة غير ذلك .

ومحصّل الكلام : أ نّه لا إشكال في بناء العقلاء على العمل بالقرعة في موارد تزاحم الحقوق مع عدم الترجيح عندهم ، سواء كان لها واقع معلوم عند اللّه أو لا .

وبالجملة : القرعة لدى العقلاء أحد طرق فصل الخصومة ، لكن في مورد لا يكون ترجيح في البين ، ولا طريق لإحراز الواقع .

ويشهد لما ذكرنا : مضافاً إلى وضوحه قضيّة مساهمة أصحاب السفينة التي فيها يونس ، فعلى نقل كانت المقارعة من قبيل الأوّل ، والعثور على العبد الآبق(2) ، وعلى نقل كانت من قبيل الثاني ؛ لأ نّهم أشرفوا على الغرق ، فرأوا طرح واحد منهم لنجاة الباقين(3) ، وهذا أقرب إلى الاعتبار ، ومعلوم أنّ مساهمتهم لم تكن لدليل شرعي ، بل لبناء عملي عقلائي ، بعد عدم الترجيح بينهم بنظرهم .

ص: 435


1- راجع فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 386 ؛ كفاية الاُصول : 493 ؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 680 ؛ نهاية الأفكار ، القسم الثاني 4 : 107 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 613 - 614 .
2- مجمع البيان 7 : 716 .
3- مجمع البيان 7 : 716 ؛ البرهان في تفسير القرآن 8 : 257 .

وقضيّة مساهمة أحبار بيت المقدس لتكفّل مريمI ، كما أخبر بها اللّه تعالى إذ قال : (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)(1) تدلّ على أنّ العقلاء بحسب ارتكازهم يتشبّثون بالقرعة عند الاختصام وعدم الترجيح ، وهذه من قبيل الثاني ، كما أنّ غالب المقارعات العقلائية لعلّها من هذا القبيل ، كالمقارعات المتداولة في هذا العصر .

وكذا يشهد لتعارفها قضيّة مقارعة بني يعقوب ، ومقارعة رسول اللّه صلی الله علیه و آله قريشاً في بناء البيت ، بل مقارعته بين نسائه(2) ، فإنّ الظاهر أ نّها كانت من جهة الأمر العقلائي ، لا الحكم الشرعي .

وبالجملة : لا إشكال في معروفية القرعة لدى العقلاء من زمن قديم ، كما أ نّه لا إشكال في أ نّها لا تكون عندهم في كلّ مشتبه ومجهول ، بل تتداول لدى التنازع أو تزاحم الحقوق فقط .

كما أ نّه لا إشكال في أ نّها ليست طريقاً عقلائياً إلى الواقع ، ولا كاشفاً عن المجهول ، بل يستعملها العقلاء لمحض رفع النزاع والخصام ، وحصول الأولوية بنفس القرعة ؛ ضرورة أ نّها ليست لها جهة كاشفية وطريقية إلى الواقع ، كاليد وخبر الثقة ، فكما أ نّها في الموارد التي ليس لها واقع كتقسيم الإرث والأموال المشتركة إنّما هي لتمييز الحقوق بنفس القرعة لدى العقلاء ، كذا في الموارد التي لها واقع مجهول لديهم ليست المقارعة لتحصيل الواقع وكشف الحقيقة ، بل لرفع الخصام والتنازع ، وهذا واضح .

ص: 436


1- آل عمران (3) : 44 .
2- تقدّم تخريجها في الصفحة 433 - 434 .

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنّ المتتبّع في الموارد المتقدّمة التي وردت فيها الأخبار الخاصّة ، وكذا المتأمّل في كلمات الأصحاب في الموارد التي حكموا بالقرعة(1) يحصل له القطع بأنّ مصبّ القرعة في الشريعة ليس إلاّ ما لدى العقلاء طابق النعل بالنعل ؛ فإنّ الروايات على كثرتها بل تواترها - باستثناء مورد واحد سيأتي الكلام فيه - إنّما وردت في موارد تزاحم الحقوق ، سواء أكان لها واقع معلوم عند اللّه مجهول لدى الخصمين أو لا .

أمّا مورد تعارض البيّنات والدعاوى كالإشهاد على الدابّة والإيداع ، والاختلاف في الولد والزوجة، فمعلوم ، وأمّا موارد الوصيّة بعتق ثلث العبيد أو عتق أوّل مملوك وأمثالهما فهو أيضاً واضح ، لأنّ العبيد كلّهم سواء في التمتّع بالحرّية ، فتتزاحم حقوقهم ، وحيث لا ترجيح في البين يقرع بينهم ، وكذا الحال في الخنثى المشكل وغيرها من الموارد .

وبالجملة : ليس في جميع الموارد المنصوصة إلاّ ما هو الأمر العقلائي .

نعم ، يبقى مورد واحد هو قضيّة اشتباه الشاة الموطوءة ممّا لا يمكن الالتزام بها في أشباهها ، فلا بدّ من الالتزام فيه بالتعبّد في المورد الخاصّ ، لا يتجاوز منه إلى غيره ، ولذا ترى الفقهاء - كما سيأتي نقل فتاويهم(2) - يفتون في أشباه الموارد المتقدّمة في جميع أبواب الفقه إلاّ ما ورد فيه نصّ خاصّ ، ولا يفتون بل ولا أفتى فقيه معتبر كلامه في الفقه في الموارد

ص: 437


1- راجع عوائد الأيّام : 652 .
2- يأتي في الصفحة 441 - 443 .

المجهولة والمشتبهة بكثرتها في غيرها إلاّ في قضيّة الشاة الموطوءة ؛ لورود النصّ فيها .

ويمكن أن يقال : إنّ التعبّد في هذا المورد أيضاً إنّما يكون لأجل تزاحم حقوق الشياه لنجاة البقيّة ، كما أشار إليه في النصّ بقوله : «فإن لم يعرفها قسّمها نصفين أبداً حتّى يقع السهم بها ، فتذبح وتُحرق ، وقد نجت سائرها»(1) .

وفي رواية «تحف العقول» : «فأيّهما وقع السهم بها ذبحت واُحرقت ونجا سائر الغنم»(2) .

والتعبير بنجاة سائرها لعلّه إشارة إلى أنّ هذا المورد أيضاً من قبيل تزاحم حقوق الشياه في بقاء حياتها ، وربما يحتمل أن يكون مورده من قبيل تزاحم حقوق أرباب الغنم ، فإنّ قطيع الأغنام يكون من أرباب متفرّقين غالباً ، فتتزاحم حقوقهم .

وبالجملة : من تتبّع موارد النصوص والفتاوى يظهر له أنّ مصبّ القرعة ليس إلاّ ما أشرنا إليه .

مضافاً إلى إمكان استفادة ذلك من إشارات الأخبار وكلمات الأصحاب ، ففي مرسلة «الفقيه» : «ما يقارع قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه إلاّ خرج سهم المحقّ»(3) ،

ص: 438


1- تقدّم تخريجه في الصفحة 433، الهامش 5 .
2- تحف العقول : 480 ؛ وسائل الشيعة 24 : 170 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، الباب 30 ، الحديث 4 .
3- الفقيه 3 : 52 / 175 ؛ وسائل الشيعة 27 : 261 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 13 ، الحديث 13 .

وقريب منها بعض آخر(1) .

ويستفاد منها أنّ مصبّها ليس مطلق المجهول والمشتبه ، بل في باب التنازع وإخراج سهم المحقّ .

وعن «الفقيه» أيضاً : «أيّ قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّض الأمر إلى اللّه ؟ ! أليس اللّه تعالى يقول : (فَسَاهَمَ فَكانَ مِنَ المُدْحَضِينَ)(2)»(3) وفيها أيضاً إشارة إليه .

وفي مرسلة ثعلبة بن ميمون في قضيّة المولود الذي ليس بذكر ولا اُنثى قال : «وأيّ قضيّة أعدل من قضيّة يجال عليها السهام ؟ ! يقول اللّه تعالى : (فَسَاهَمَ فَكانَ مِنَ المُدْحَضِينَ)» وقال : «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب اللّه ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»(4) .

تدلّ على أنّ أصل قضيّة القرعة ما هو في كتاب اللّه ، ومعلوم أ نّها فيه في باب التنازع ومزاحمة الحقوق لا غير ، فكذا ما ينشعب من هذا الأصل .

وفي مرسلة حمّاد المرويّة عن «التهذيب» عن أحدهما قال : «القرعة لا تكون إلاّ للإمام»(5) .

ص: 439


1- راجع ما تقدّم في الصفحة 429 .
2- الصافّات (37) : 141 .
3- تقدّم تخريجها في الصفحة 438 .
4- الكافي 7 : 158 / 3 ؛ وسائل الشيعة 26 : 293 ، كتاب الفرائض والمواريث ، أبواب ميراث الخنثى ، الباب 4 ، الحديث 3 .
5- تهذيب الأحكام 6 : 240 / 592 ؛ وسائل الشيعة 27 : 259 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 13 ، الحديث 9 .

وفي صحيحة معاوية بن عمّار في باب النزاع في الولد قال : «أقرع الوالي بينهم»(1) .

وفي رواية يونس في قضيّة تحرير من علّمه آية من كتاب اللّه قال : «ولا يجوز أن يستخرجه أحد إلاّ الإمام»(2) .

فحصر القرعة بالإمام ليس إلاّ لاختصاصها بموارد الخصومة وتزاحم الحقوق ، التي يرفع الأمر فيها إلى الإمام والوالي ، ولو كانت في كلّ قضيّة مجهولة - كاشتباه القبلة ومثله من الموضوعات المشتبهة - لم يكن وجه للحصر المذكور .

مع أنّ موارد الاشتباه في غير باب التنازع أكثر بكثير ، فلا يمكن أن يحمل على الحصر الإضافي ؛ لاستهجان الحصر فيما إذا كان الخارج كثيراً ، بل أكثر من الداخل ، فيعلم أنّ القرعة إنّما تكون في موارد يكون الأمر راجعاً إلى الإمام والوالي .

نعم ، لو فرض خروج بعض الموارد النادرة منه لا يكون الحصر مستهجناً ، بخلاف ما لو كانت لمطلق المجهولات والمشتبهات .

بقي الكلام في رواية محمّد بن حكيم المتقدّمة(3) ، قال : سألت أبا الحسن موسى عن شيء فقال : «كلّ مجهول ففيه القرعة» .

حيث يتوهّم منها العموم(4) .

ص: 440


1- الفقيه 3 : 52 / 176 ؛ وسائل الشيعة 27 : 261 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 13 ، الحديث 14 .
2- تقدّم تخريجه في الصفحة 433 ، الهامش 3 .
3- تقدّم في الصفحة 426 .
4- عوائد الأيّام : 659 .

وفيه أوّلاً : أنّ صدرها غير مذكور ؛ ضرورة أنّ السؤال لم يكن بهذا العنوان العامّ المجهول ، بل لم يذكر المسؤول عنه في النقل ، فلعلّ السؤال كان على نحو كان قرينة على صرف الجواب إلى مجهول خاصّ .

وثانياً : أنّ كون القرعة عقلائية مرتكزة في ذهن العرف ، موجب لصرف كلّ مجهول إلى المجهول في باب القضاء وتزاحم الحقوق ، لا مطلقاً وفي كشف كلّ مجهول ، خصوصاً مع ورود تلك الروايات الكثيرة في ذلك بخصوصه ، كما أنّ الفقهاء على ذلك أيضاً :

فهذا شيخ الطائفة شيخنا أبو جعفر الطوسي رضى الله عنه قال في كتاب القضاء من «النهاية» في باب سماع البيّنات وكيفية الحكم بها وأحكام القرعة في ذيل بعض القضايا المشكلة : وكلّ أمر مشكل مجهول يشتبه الحكم فيه فينبغي أن يستعمل فيه القرعة ؛ لما روي عن أبي الحسن موسى وعن غيره من آبائه وأبنائه ، ثمّ ذكر رواية محمّد بن حكيم(1) .

ومعلوم : أنّ مراده من كلّ أمر مشكل مجهول يشتبه فيه الحكم ، هو الحكم في موارد القضاء ورفع الأمر إلى القاضي في التنازع وتزاحم الحقوق ، لا مطلق الحكم الشرعي ، كما هو واضح بأدنى تأمّل .

وفي «الخلاف» في تعارض البيّنات بعد اختياره القرعة قال : دليلنا إجماع الفرقة على أنّ القرعة تستعمل في كلّ أمر مجهول مشتبه(2) .

ص: 441


1- النهاية : 345 - 346 .
2- الخلاف 6 : 338 .

وفيه أيضاً دعوى الإجماع ظاهراً على أنّ القرعة في كلّ أمر مجهول ؛ حيث قال في مسألة ما إذا حضر اثنان عند الحاكم معاً في حالة واحدة : إنّ القرعة مذهبنا في كلّ أمر مجهول(1) .

ومراده من كلّ أمر مجهول هو ما ذكرنا لا مطلقاً ؛ لقضاء الإجماع بل الضرورة بأنّ القرعة ليست في مطلق المجهولات ، كالجهل بالأحكام الشرعية في مقام الفتوى ، وكاشتباه الموضوعات كالإناءين المشتبهين ، واشتباه القبلة وأشباهها ، فدعوى كون القرعة مذهبنا في كلّ أمر مجهول تدلّ بالضرورة على ما ادّعيناه .

وعن «قواعد الشهيد»; : ثبت عندنا قولهم : «كلّ أمر مجهول فيه القرعة» . وذلك لأنّ فيها - عند تساوي الحقوق والمصالح ووقوع التنازع - دفعاً للضغائن والأحقاد ، والرضا بما جرت به الأقدار ، وقضاء الملك الجبّار(2) .

وهذا التعليل ظاهر في أنّ الشهيد فهم من قوله : «كلّ مجهول ففيه القرعة»(3) اختصاصه بباب تساوي الحقوق وتزاحمها ووقوع النزاع ، وعليه يحمل ما نقل عن طريق العامّة : «القرعة لكلّ أمر مشتبه» أو «مشكل»(4) .

كما نقل عن ابن إدريس في باب سماع البيّنات أ نّه قال : وكلّ أمر مشكل يشتبه فيه الحكم فينبغي أن تستعمل فيه القرعة ؛ لما روي عن الأئمّة علیهم السلام ،

ص: 442


1- الخلاف 6 : 234 .
2- القواعد والفوائد 2 : 183 .
3- تقدّم في الصفحة 426 .
4- تقدّم في الصفحة 428 .

وتواترت به الآثار ، وأجمعت عليه الشيعة الإمامية(1) ؛ ضرورة أنّ الروايات المتواترة إنّما هي في الموارد المتقدّمة ، وكذا إجماع الشيعة في مثلها ، لا في مطلق المشتبه ، وهذا واضح جدّاً .

وبالجملة : المتتبّع لكلمات الأصحاب يرى إسراءهم الحكم من الموارد المنصوصة التي عدّدناها في الأمر الأوّل إلى غيرها ممّا هو من قبيلها ؛ أي في موارد تزاحم الحقوق والتداعي والتنازع ، والحال أنّ فقيهاً منهم ممّن تعتبر فتواه لا يرى الإفتاء في سائر المشتبهات والمجهولات بالقرعة ، وليس ذلك إلاّ من جهة ما ذكرنا ، لا لاحتفاف الأخبار بقرائن وقيود لم تنقل إلينا فإنّه بعيد جدّاً ، بل مقطوع البطلان ؛ فإنّ الرواية العامّة التي تكون أعمّ من سائر الروايات من طرقنا هي رواية محمّد بن حكيم ، وهي كانت عند الصدوق والشيخ من متقدّمي أصحابنا بهذه الألفاظ من غير زيادة ونقيصة ، وأ نّهم لم يفهموا منها إلاّ ما ذكرنا ، كما أشرنا إليه .

وما ذكر من قضيّة التخصيص الكثير إنّما هو أمر أحدثه بعض متأخّري المتأخّرين(2) ، وتبعه غيره(3) ، وما رأينا في كلام القدماء من أصحابنا له عيناً ولا أثراً ، والمظنون أ نّه حصل من الاغترار بظاهر رواية محمّد بن حكيم والروايتين من طرق العامّة ، فأخذ اللاحق من السابق حتّى انجرّ الأمر إلى ذلك واشتهر بين المتأخّرين .

ص: 443


1- السرائر 2 : 173 .
2- الفصول المهمّة 1 : 695 ؛ اُنظر عوائد الأيّام : 659 .
3- تقدّم تخريجه في الصفحة 435 ، الهامش 1 .

ولولا مخافة التطويل المملّ لسردت عبارات القوم في الموارد المفتى بها من غير نصّ خاصّ حتّى يتّضح لك الأمر ، فراجع أبواب التنازع في الكتب ، وموارد فرض الاشتباه والتشاحّ في كتاب النكاح ، والطلاق ، والتجارة ، واللقطة ، والقضاء ، والإجارة ، والصلح ، والوصيّة ، والميراث ، والعتق ، والصيد ، والذباحة ، والإقرار ، والغصب ، وإحياء الموات ، والشفعة ، وغيرها ممّا لا نصّ فيها ، ترى أنّ الفقهاء عملوا فيها بالقرعة .

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ مصبّ أخبار القرعة العامّة والخاصّة ليس إلاّ المشتبهات والمجهولات في باب التنازع وتزاحم الحقوق ، وليس التخصيص فيها كثيراً ، بل هي بعمومها معوّل عليها ، معمول بها .

بل يمكن أن يقال : إنّ التخصيص في أخبارها أقلّ من تخصيص نحو (أَوْفُوا بِالعُقُودِ)(1) و«المؤمنون عند شروطهم»(2) فالمسألة بحمد اللّه خالية عن الإشكال .

ص: 444


1- المائدة (5) : 1 .
2- تهذيب الأحكام 7 : 371 / 1503 ؛ وسائل الشيعة 21 : 276 ، كتاب النكاح ، أبواب المهور ، الباب 20 ، الحديث 4 .
الأمر الثالث: هل القرعة أمارة على الواقع أم لا ؟

الظاهر أنّ القرعة ليست أمارة على الواقع ، لا لدى العقلاء وذلك واضح ، ولا لدى الشرع :

أمّا أوّلاً : فلأنّ الظاهر أنّ الشارع لم يتّخذ في باب القرعة طريقاً غير طريق العقلاء ، كما لعلّه يظهر من ذيل مرسلة ثعلبة(1) ؛ حيث جعل الأصل فيها قوله تعالى : (فَسَاهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)(2) .

ومعلوم : أنّ مساهمة أصحاب السفينة قضيّة عقلائية ، قرّرها الكتاب الكريم ، واستشهد بها الأئمّة علیهم السلام ، بل الناظر في الأخبار المتكثّرة الواردة في القرعة يرى أنّ مواردها هي الموارد التي يتداول أشباهها لدى العقلاء ، إلاّ المورد الذي مرّ الكلام فيه(3) .

وأمّا ثانياً : فلأنّ جعل الطريقية لما ليس له كشف عن الواقع ولو ضعيفاً ممّا لا يمكن ، بل قد قرّر في محلّه(4) بطلان جعل الطريقية والكاشفية مطلقاً ، والقرعة ليست كاشفة عن الواقع ، بل تكون مطابقتها للواقع من

ص: 445


1- تقدّم تخريجها في الصفحة 439 .
2- الصافّات (37) : 141 .
3- تقدّم في الصفحة 437 - 438 .
4- أنوار الهداية 1 : 69 - 70 و159 - 162 .

باب الاتّفاق ، لا بمعناه المحال ، كما قرّر في محلّه(1) ، وما كان حاله كذلك لا معنى لطريقيته وكاشفيته ، والتصادف الدائمي أو الأكثري - بإرادة اللّه تعالى والأسباب الغيبية - وإن كان ممكناً ، لكنّه بعيد غايته ، بل لا يمكن الالتزام به .

وأمّا ثالثاً : فلأنّ لسان عمومات باب القرعة مثل قوله : «كلّ مجهول ففيه القرعة»(2) وقوله : «القرعة لكلّ أمر مشتبه» أو «مشكل»(3) ، أو «فيما أشكل»(4) لسان الأصل والوظيفة لدى الجهل والاشتباه ، لا الأمارة ، فهي نظير قوله : «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أ نّه قذر»(5) وقوله : «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أ نّه حرام بعينه»(6) .

وأمّا قوله : «ما يقارع قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه إلاّ خرج سهم المحقّ»(7) فلعلّ المراد منه ما في روايات اُخر ، كصحيحة الحلبي : «فأيّهم قرع فعليه

ص: 446


1- الحكمة المتعالية 2 : 253 - 259 ؛ شرح المنظومة ، قسم الحكمة 2 : 428 .
2- تقدّم في الصفحة 426 .
3- تقدّم في الصفحة 428 .
4- دعائم الإسلام 2 : 522 / 1864 ؛ مستدرك الوسائل 17 : 373 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 11 ، الحديث 1 .
5- تهذيب الأحكام 1 : 284 / 832 ؛ وسائل الشيعة 3 : 467 ، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ، الباب 37 ، الحديث 4 .
6- الكافي 5 : 313/40 ؛ وسائل الشيعة 17 : 89 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب 4 ، الحديث 4 .
7- تقدّم في الصفحة 438 .

اليمين ، وهو أولى بالحقّ»(1) وصحيحة داود بن سرحان : «فهو أولى بالقضاء»(2) أي خرج سهم من هو أولى بالحقّ والقضاء ؛ أي يكون الحقّ معه ، فعليه اليمين ، وعلى صاحبه الإثبات ، ومثل هذا التعبير متداول في باب القضاء .

أو المراد منه : خرج سهم المحقّ إذا حلف ، وهو عبارة اُخرى عمّا في صحيح البصري ، عن أبي عبداللّه علیه السلام قال : «كان علي علیه السلام إذا أتاه رجلان بشهود عدلهم سواء وعددهم أقرع بينهم على أيّهما تصير اليمين ، وكان يقول : اللهمّ ربّ السماوات السبع وربّ الأرضين السبع ، أيّهم كان له الحقّ فأدّه إليه ، ثمّ يجعل الحقّ للذي يصير عليه اليمين إذا حلف»(3) .

وعليه أو على الأوّل يحمل ما في مرسلة داود في الاختلاف في الزوجة قال : «يقرع بين الشهود ، فمن خرج سهمه فهو المحقّ ، وهو أولى بها»(4) فمن تدبّر في الروايات حقّه ، وفي تعبيرات كتاب القضاء عن الذي عليه اليمين وعن صاحبه ، لا يستبعد هذا الحمل ، كما تشهد عليه روايات باب القرعة ، فراجع وتدبّر .

وأمّا قضيّة بحث الطيّار وزرارة ، كما في صحيحة جميل قال : قال الطيّار

ص: 447


1- تهذيب الأحكام 6 : 235 / 577 ؛ وسائل الشيعة 27 : 254 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 12 ، الحديث 11 .
2- تقدّم في الصفحة 430 .
3- تقدّم في الصفحة 430 .
4- الكافي 7 : 420 / 2 ؛ وسائل الشيعة 27 : 252 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 12 ، الحديث 8 .

لزرارة : ما تقول في المساهمة ؟ أليس حقّاً ؟ فقال زرارة : بلى ، هي حقّ .

فقال الطيّار : أليس قد ورد أ نّه يخرج سهم المحقّ ؟ قال : بلى .

قال : فتعال حتّى أدّعي أنا وأنت شيئاً ثمّ نساهم عليه ، وننظر هكذا هو ؟ فقال زرارة : إنّما جاء الحديث بأ نّه «ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه ثمّ اقترعوا إلاّ خرج سهم المحقّ» فأمّا على التجارب فلم يوضع على التجارب .

فقال الطيّار : أرأيت إن كانا جميعاً مدّعيين ادّعيا ما ليس لهما ، من أين يخرج سهم أحدهما ؟ فقال زرارة : إذا كان كذلك جعل معه سهم مبيح(1) فإن كانا ادّعيا ما ليس لهما خرج سهم المبيح(2) .

فليس فهمهما حجّة ، ولهذا ترى أنّ زرارة أجاب أخيراً عن إشكال الطيّار جواباً إقناعياً غير صحيح في نفسه ، ولا معمولاً به لدى الأصحاب ، مع أ نّه من أين يعلم القاضي بطلان دعوييهما حتّى يجعل سهم المبيح ؟ ! ولو علم لا معنى لجعل ذلك.

وبالجملة : هذا الجواب فرار عن الإشكال .

مع أنّ جواب الطيّار - على فرض صحّة ما فهم من أخبار القرعة - أنّ خروج سهم المحقّ إنّما هو فيما كان محقّ ومبطل ، وإلاّ فالقرعة لا تجعل

ص: 448


1- يحتمل أن يكون «منيح» بالنون ، وهو أحد سهام الميسر العشرة ممّا لا نصيب له . [منه قدس سره]
2- تهذيب الأحكام 6 : 238 / 584 ؛ وسائل الشيعة 27 : 257 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 13 ، الحديث 4 .

غير المحقّ محقّاً . والحقّ عدم ورود الإشكال رأساً ؛ لما ذكرنا في معنى الحديث .

ثمّ إنّ الظاهر من قوله : «ما يقارع قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه إلاّ خرج سهم المحقّ» أنّ القرعة ليست أمارة على الواقع ، بل اللّه تعالى إذا فوّض الأمر إليه يخرج سهم المحقّ بإرادته وأسباب غيبية ، وهذا غير أماريتها كما لا يخفى ، لكنّ القول الفصل ما تقدّم(1) .

ثمّ إنّ مثل قوله : «ما يقارع قوم . . .» إلى آخره لا يكون بصدد بيان موضوع القرعة وموردها ، فموضوعها وموردها الأمر المجهول والمشتبه والمشكل في باب تزاحم الحقوق والتنازع .

وممّا ذكرنا يتّضح تقدّم أدلّة الاستصحاب على أدلّتها ، فيكون تقدّمها عليها كتقدّمها على أدلّة أصالة الحلّ والطهارة ، فتكون أدلّته حاكمة عليها ، كحكومتها عليهما ، وقد مرّت كيفية الحكومة فيما تقدّم(2) .

فبين الدليلين وإن كان عموم من وجه ؛ لاختصاص أدلّة القرعة بباب تزاحم الحقوق والمنازعات كما عرفت(3) ، لكن تتقدّم أدلّة الاستصحاب عليها بالحكومة ، فما أفاده المحقّق الأنصاري وتبعه المحقّق الخراساني : من أعمّية أدلّة القرعة من أدلّة الاستصحاب ، فيجب تخصيصها بها (4) كما ترى .

ص: 449


1- تقدّم في الصفحة 445 - 446 .
2- تقدّم في الصفحة 269 .
3- تقدّم في الصفحة 435 وما بعدها .
4- فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 385 ؛ كفاية الاُصول : 493 .

هذا كلّه بناءً على أنّ المراد من «المجهول» و«المشتبه» و«المشكل» الواردة في أدلّة القرعة هو ذلك بحسب الواقع ، ويكون معنى قوله : «كلّ مجهول ففيه القرعة» أنّ كلّ ما تعلّق الجهل بواقعه ففيه القرعة ، فإذا دار الأمر بين كون مال لزيد أو عمرو ولم يعلم أ نّه من أيّهما ففيه القرعة ، وكذا الحال في المشتبه والمشكل .

وهاهنا احتمال آخر قريب بعد الدقّة في مجموع الأدلّة والتتبّع في كلمات الأصحاب ، وإن كان مخالفاً لظاهر بعض الروايات الخاصّة : وهو أنّ المراد منها أنّ كلّ أمر مشكل في مقام القضاء ، ومشتبهٍ على القاضي ، ومجهول فيه ميزان القضاء ففيه القرعة .

فيرجع محصّل المراد إلى أنّ الاُمور المرفوعة إلى القاضي إذا علم فيها ميزان القضاء - أي كان لديه ما يشخّص المدّعي والمنكر ، ككون أحدهما ذا اليد ، أو قوله مطابقاً لأصل عقلائي أو شرعي - فليس الأمر مجهولاً عنده ، ولا القضاء مشتبهاً ومشكلاً ؛ لأنّ البيّنة على المدّعي ، واليمين على المدّعى عليه .

وأمّا إذا كان الأمر الوارد عليه مجهولاً بحسب ميزان القضاء فلا بدّ من التشبّث بالقرعة لتشخيص من عليه اليمين ، وتمييز ميزان القضاء ، لا لتشخيص الواقع .

أمّا قوله : «القرعة لكلّ أمر مشكل» فيمكن دعوى ظهوره في ذلك ؛ لأنّ الظاهر من المشكل أنّ الحكم فيه مشكل ، لا أ نّه مجهول واقعه ، فلا يقال للأمر المجهول : إنّه مشكل .

ص: 450

وتدلّ عليه رواية «الدعائم» : أنّ الأئمّة أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل ، وقال أبو عبداللّه : «أيّ حكم في الملتبس أثبت من القرعة ؟ أليس هو التفويض إلى اللّه جلّ ذكره ؟» ثمّ ذكر قصّة يونس ومريم وعبدالمطّلب(1) ؛ فإنّ الظاهر منه أ نّهم أوجبوا أن يحكم القاضي إذا أشكل عليه الأمر ؛ أي في القضايا المشكلة ، بالقرعة ، ويؤيّده بل يدلّ عليه تمسّكه بقصّة مريم ويونس ؛ فإنّ الأمر فيهما مشكل بحسب الحكم والقضاء لا مجهول ؛ لعدم واقع فيهما .

ويشهد له ما عن الاختصاص بإسناده عن عبدالرحيم قال : سمعت أبا جعفر علیه السلام يقول : «إنّ علياً عليه الصلاة والسلام كان إذا ورد عليه أمر لم يجئ فيه كتاب ، ولم تجر فيه سنّة رجم فيه» يعني ساهم «فأصاب» ثمّ قال : «يا عبدالرحيم وتلك من المعضلات»(2) .

فإنّ الظاهر من ورود الأمر عليه رفع الأمر إليه للحكومة ، ومعنى عدم مجيء كتاب وإجراء سنّة فيه عدم ورود ميزان القضاء والحكم فيه ، وإلاّ فليس من موضوع إلاّ وله حكم من الكتاب أو السنّة ، فالمساهمة ميزان القضاء حيث لا ميزان من الكتاب والسنّة .

ولعلّ المراد من عدم إجراء السنّة فيه - مع أنّ القرعة أيضاً سنّة ، كما نصّ عليه في رواية سيابة وإبراهيم(3) - هو أ نّه لم تجر عليه السنّة الابتدائية ؛ لأنّ القرعة

ص: 451


1- تقدّم في الصفحة 428 - 429 .
2- تقدّم في الصفحة 429 .
3- تهذيب الأحكام 6 : 239 / 589 ؛ وسائل الشيعة 27 : 257 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم ، الباب 13 ، الحديث 2 .

عقلائية قد أمضاها الشارع ، وقوله في ذيلها : «وتلك من المعضلات» بمنزلة التفسير لما ورد من أنّ «القرعة لكلّ أمر مشكل» وقوله : «أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل» .

فالحاصل : أنّ المشكل والمعضل الذي هو موضوع القرعة إنّما هو من قبيل الأمر الوارد على الحاكم ولم يأت فيه كتاب ، ولم تجر فيه سنّة للقضاء والحكم ، تأمّل .

ويدلّ عليه معقد إجماع الحلّي المتقدّم حيث قال : وكلّ أمر مشكل يشتبه فيه الحكم فينبغي أن يستعمل فيه القرعة(1) ؛ فإنّ الظاهر منه أنّ المشكل والمشتبه ما يكون الحكم فيه مشتبهاً ومشكلاً .

وأمّا قوله : «كلّ مجهول ففيه القرعة» فلم ينقل لنا صدرها ، ولعلّ فيه قرينة على ما ذكرنا ، وعبارة الشيخ في «النهاية» تدلّ على أ نّه فهم منها ما ذكرنا ؛ حيث قال : وكلّ أمر مشكل مجهول يشتبه الحكم فيه فينبغي أن يستعمل فيه القرعة ، لما روي عن أبي الحسن موسى علیه السلام ، وروى الرواية المتقدّمة(2) .

فإنّ الظاهر من جمعه بين المشكل والمجهول والمشتبه في عبارة واحدة ، والتمسّك بالرواية التي ليس فيها إلاّ عنوان المجهول دليل على أنّ المشكل والمجهول والمشتبه عنده موضوع واحد .

فعلى هذا الاحتمال : يكون تقدّم الاستصحاب على القرعة أوضح ؛ لأنّ

ص: 452


1- تقدّم في الصفحة 428 .
2- تقدّم في الصفحة 441 .

الاستصحاب يرفع الإشكال في مقام القضاء ؛ لأنّه إذا كان قول أحد المدّعيين مطابقاً للاستصحاب يقضي له وتصير اليمين إليه ، لكن هذا الاحتمال وإن كان قريباً بالنسبة إلى جمع من الروايات لكن لا ينطبق على جميعها ، فراجع .

والمدّعى هو تطبيق الأدلّة العامّة على ذاك الاحتمال ، وهو قريب جدّاً ، ولك أن تقول بأوسعية نطاقها من رفع الأمر إلى القاضي ، ومن رفع الأمر إلى الوالي ، بل ومن موارد التشاحّ بين الرعية ، مع حفظ أن يكون المراد من الأمر المشكل الإشكال في حلّ العقدة ، سواء كان الإشكال لأجل قضاء القاضي أو الحاكم السياسي ، أو قضاء المتخاصمين في حلّ القضيّة ؛ لعدم الترجيح ، وعدم طريق إلى الحلّ ، وعلى ذلك تنطبق عليه جميع الأدلّة ، فتدبّر جيّداً .

وعلى أيّ حال : لا إشكال في تقدّم دليل الاستصحاب على أدلّة القرعة .

وممّا ذكرنا : من اختصاص مصبّ القرعة وأخبارها العامّة بباب مشكلات القضاء أو الأعمّ منها ومن موارد تزاحم الحقوق ، يتّضح عدم تماسّها مع أدلّة البراءة والاحتياط ، والتخيير ، والحلّ ، والطهارة .

ثمّ إنّ بعض الأعاظم ذكر في المقام شيئاً لا يخلو من غرابة : وهو أ نّه لا يمكن اجتماع الاستصحاب والقرعة في مورد حتّى تلاحظ النسبة بينهما ؛ لأ نّها مختصّة بموارد اشتباه موضوع التكليف وتردّده بين الاُمور المتباينة .

ولا محلّ لها في الشبهات البدوية ؛ فإنّه ليس فيها إلاّ الاحتمالان في موضوع واحد ، والقرعة إنّما تكون في الشيئين أو الأشياء ، فموارد الاستصحاب

ص: 453

كالبراءة والحلّ خارجة عن عموم أخبار القرعة بالتخصّص ، لا بالتخصيص(1) ، انتهى ملخّصاً .

وفيه نظر واضح ؛ ضرورة أنّ أدلّة الاستصحاب لا تختصّ بالشبهات البدوية ، وموارد اجتماع الاستصحاب والقرعة كثيرة إلى ما شاء اللّه ، خصوصاً في موارد الجهل بتأريخ أحد الحادثين ، كما لو عقد الوكيلان المرأة لرجلين ، وجهل تأريخ أحدهما ، فبناء على تقدّم الاستصحاب على القرعة يحكم بصحّة عقد معلوم التأريخ ، كما أفتى به وبنظائره هذا المحقّق في حواشيه على «العروة»(2) ، وأمّا لو قيل بعدم تقدّمه عليها فيكون من موارد القرعة ، وله أمثال كثيرة في باب التنازع والقضاء ، تدبّر .

الأمر الرابع: هل للأدلّة العامّة للقرعة إطلاق من جميع الجهات أم لا ؟

لا إشكال في أنّ الأحكام التي ثبتت بالقرعة للموضوعات مخالفة للاُصول والقواعد ، فيجعل بها ما شكّ في ولديته ولداً يرث أباه ، وتترتّب عليه سائر أحكام الولدية ، وما شكّ في حرّيته حرّاً أو عبداً يترتّب عليه جميع آثارهما .

فإذا شكّ في جهة من جهات القرعة واعتبار شيء فيها ؛ من مقرع خاصّ أو

ص: 454


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 678 - 679 .
2- العروة الوثقى 5 : 645 ، الهامش 1 .

كلام أو دعاء مخصوص ، ولم يدلّ إطلاق دليل أو دليل خاصّ من إجماع وغيره على عدمه فلا بدّ من الأخذ بالمتيقّن .

فهل للأدلّة العامّة إطلاق من جميع الجهات حتّى يتمسّك به لدفع الشكوك أو لا ؟ فيه إشكال ؛ لأنّ رواية محمّد بن حكيم : «كلّ مجهول ففيه القرعة»(1) تدلّ بعمومها على أنّ القرعة ثابتة لكلّ مورد مجهول ، مع قطع النظر عن صدرها ، ولكن ليس لها إطلاق من جهات اُخر ، فلو شككنا في اعتبار مقرع خاصّ كالوالي والقاضي لا يرفع الشكّ بإطلاقها .

مضافاً إلى أنّ عدم ذكر صدرها موهن لإطلاقها ؛ لاحتمال كون الكلام محفوفاً بما يضرّ بالإطلاق والعموم ، وهذا الاحتمال الناشئ من تقطيع الرواية غير الاحتمال البدوي الذي لا يعتنى به .

هذا كلّه ، مضافاً إلى ما رجّحناه من أنّ «كلّ مجهول ففيه القرعة» كقوله : «القرعة لكلّ أمر مشكل» راجع إلى باب القضاء والحكومة ، أعمّ من حكومة القاضي في باب الدعاوى أو حكومة الوالي في المنازعات السياسية ، فحينئذٍ كانت القرعة من شأن القاضي كسائر شؤون فصل الخصومات ، وإذا رفع النزاع في الثاني إلى الوالي فالظاهر أنّ القرعة أيضاً من شؤونه .

وتدلّ عليه في الجملة جملة من روايات الباب ، كالتي وردت في المولود الذي ليس له ما للرجال ولا ما للنساء ، وكمرسلة حمّاد ، ورواية يونس(2) ، بل

ص: 455


1- تقدّم تخريجه في الصفحة 426 .
2- تقدّم تخريجها في الصفحة 439 ، الهامش 3 و4، و440 ، الهامش 2 .

وصحيحة محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر في الرجل يكون له المملوكون فيوصي بعتق ثلثهم .

قال : «كان علي علیه السلام يسهم بينهم»(1) .

حيث يظهر منها أ نّه كان المتعارف في مثله الرجوع إليه في زمان حكومته .

نعم ، الظاهر جواز التراضي بالقرعة في بعض الموارد ، كباب القسمة والتزاحم في المشتركات ، كما يجوز التصالح بغيرها ، والتفصيل كسائر مباحث القرعة وفروعها موكول إلى محلّه .

والحمد للّه أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً .

قد فرغ من تسويده مؤلّفه الفقير روح اللّه بن مصطفى الموسوي الخميني تاسع شهر رمضان المبارك ، سنة ألف وثلاث مائة وسبعين ، في بلدة محلاّت حامداً مصلّياً على النبي وآله الطاهرين

ص: 456


1- تهذيب الأحكام 8 : 234 / 842 ؛ الفقيه 3 : 53 / 180 ؛ وسائل الشيعة 23 : 103 ، كتاب العتق ، الباب 65 ، الحديث 1 .

الفهارس العامّة

اشارة

1 - الآيات الكريمة

2 - الأحاديث الشريفة

3 - أسماء المعصومين علیهم السلام

4 - الأعلام

5 - الكتب الواردة في المتن

6 - مصادر التحقيق

7 - الموضوعات

ص: 457

ص: 458

1 - فهرس الآيات الكريمة

الآية - رقمها الصفحة

البقرة (2)

(إِنِّى جَاعِلٌ فِى الْأَرْضِ خَلِيفَةً) 30 70

(أَقِيمُوا الصَّلَوةَ) 43 73

(إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ) 124 70

(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ) 144 73

(فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) 144 73

(وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) 185 266

(الْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَ نْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ) 228 280، 423

(أَحَلَّ اللّه ُ الْبَيْعَ) 275 139

آل عمران (3)

(وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَ يُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) 44 436

ص: 459

الآية - رقمها الصفحة

(للّه ِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) 97 78

المائدة (5)

(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) 1 216، 218، 219، 221، 259، 444

(إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) 6 73

(فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) 6 252

الأنعام (6)

(وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا) 146 166

يوسف (12)

(وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) 82 363

النحل (16)

(وَلاَ تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا)

91 36

ص: 460

الآية - رقمها الصفحة

مريم (19)

(وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً) 49 70

الحجّ (22)

(مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) 78 265، 270

الصافات (37)

(فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) 141 430، 439، 455

ص: 461

ص: 462

2 - فهرس الأحاديث الشريفة

إذا بلغ الماء قدر كرٍّ لا ينجّسه شيء 148، 212

إذا خرجت من شيء . . . 347

إذا خفت أن لا تكون وضعت وجهك إلاّ مرّة واحدة 349

إذا خفي الشهر فأتمّوا العدّة شعبان ثلاثين يوماً ، وصوموا الواحد وثلاثين 184

إذا شكّ الرجل بعد ما صلّى ، فلم يدرِ ثلاثاً صلّى أم أربعاً 345

إذا شكّ ثمّ كانت به بلّة وهو في صلاته مسح بها عليه 360

إذا شكّ فليمض في صلاته 372

إذا شككت فابن على اليقين 60

إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشيء 344، 354

إذا غلى العصير حرم 148

إذا كنت قاعداً على وضوئك ، فلم تدرِ أغسلت ذراعيك أم لا ، فأعد عليهما 359

إذا نشّ العصير أو غلى حرم 148

إذا وقع الحرّ والعبد والمشرك على امرأة . . . وادّعوا الولد اُقرع بينهم 432

أرأيت إن أقامت بيّنة إلى كم كانت تحتاج 304

اشترها إلاّ أن تكون لها بيّنة 307

ص: 463

أشدّ الناس حسرة يوم القيامة من يرى وضوءه على جلد غيره 364

افتتاح الصلاة الوضوء 382

أفيحلّ الشراء منه 309

أقرع الوالي بينهم 440

أقرع بينهم ، ثمّ استحلف الذين أصابهم القرع . . . 431

إنّ القرعة لكلّ أمر مشتبه 428

إنّ أمير المؤمنين علیه السلام قال لأبي بكر : أتحكم فينا بخلاف حكم اللّه 308

إنّ رجلين اختصما إلى علي عليه الصلاة والسلام في دابّة . . . 431

إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض 343

إنّ علياً عليه الصلاة والسلام كان إذا ورد عليه أمر لم يجئ فيه كتاب . . . 429، 451

إن كانت معمورة فهي لأهلها ، فإن كانت خربة فأنت أحقّ بما وجدت 303

إن كانت معمورة فيها أهلها فهي لهم ، وإن كانت خَرِبة قد جلا عنها أهلها . . . 303

إنّك إن شككت أن لم تؤذّن وقد أقمت فامض 346، 348

إنّما الشكّ إذا كنت . . . 397

إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه 369، 396، 397

إنّ متاع البيت للمرأة 305

أولى بالقضاء 430

أيّ حكم في الملتبس أثبت من القرعة ؟ أليس هو التفويض إلى اللّه جلّ ذكره ؟451

أيّ قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّض الأمر إلى اللّه ؟ ! 430، 439

بلى قد ركعت ، فأمضه 379

تعيد الصلاة وتغسله 44

تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أ نّه قد أصابها 44

تغسله وتعيد 44

ص: 464

تغسله ولا تعيد الصلاة 44

تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه 44، 50

حتّى يستيقن أ نّه قد نام 26

دخل في غيره 369

رجل وجد في منزله ديناراً . . . 316

رفع . . . ما لا يعلمون 275

رفع . . . وما اضطرّوا إليه 80

شككت فيه 347

شكّك ليس بشيءٍ 373، 378

شهر رمضان يصيبه النقصان كسائر الشهور 184

شهر رمضان يصيبه ما يصيب الشهور من النقصان 184

صم للرؤية وأفطر للرؤية 64

الطواف بالبيت صلاة 271

العصير إذا نشّ وغلى حرم 153

على اليد . . . 393

فإذا قمت من الوضوء ، وفرغت منه وقد صرت في حال اُخرى . . . 354، 364

فإن دخله الشكّ وقد دخل في حال اُخرى... 364

فإن دخله الشكّ وقد دخل في حال اُخرى فليمض في صلاته 362

فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه 308

فإن لم يعرفها قسّمها نصفين أبداً حتّى يقع السهم بها ، فتذبح وتُحرق 438

فإنّه على يقين . . . 24، 27، 29، 30

فإنّه على يقين من وضوئه 26، 27، 28، 29، 30، 37

فأيّهما وقع السهم بها ذبحت واُحرقت ونجا سائر الغنم 438

ص: 465

فأيّهم قرع فعليه اليمين ، وهو أولى بالحقّ 447

فشكّك ليس بشيءٍ 342، 396، 397

فعلى أيّ شيء هو اليوم 304

فلعلّه لغيره ، فَمِن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك 309

فليس شكّك بشيءٍ 396

فليمض على يقينه 254

فهو أولى بالحقّ 430

فهو أولى بالقضاء 447

قال أمير المؤمنين صلوات اللّه وسلامه عليه : من كان على يقين فشكّ . . . 62

قام فأضاف إليها اُخرى ولا شيء عليه 55

قد ركع 370، 374، 379

قد ركعت 397

قد ركعت ، أمضه 368، 374، 379، 380، 388، 396

قد مضى فأمضه 347

القرعة لا تكون إلاّ للإمام 439

القرعة لكلّ أمر مشتبه 442، 446

القرعة لكلّ أمر مشكل 450، 452، 455

القول الذي أخبرتني أ نّك شهدته ، وإن كان قد رجع عنه 304

كان حين انصرافه أقرب إلى الحقّ 386

كان حين انصرف أقرب إلى الحقّ 379

كان علي علیه السلام إذا أتاه رجلان بشهود ، عدلهم سواء وعددهم ، أقرع بينهم 430، 447

كان علي علیه السلام يسهم بينهم 456

ص: 466

كلّ أمر مجهول فيه القرعة 442

كلّ شيء حلال 67

كلّ شيء حلال حتّى تعرف أ نّه حرام 66

كلّ شيء حلال حتّى تعرف أ نّه حرام بعينه 446

كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه 353

كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أ نّه قذر 66

كلّ شيء لك حلال 312

كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي 277

كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أ نّه قذر 446

كلّ شيء هو لك حلال 312

كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أ نّه حرام بعينه 313

كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أ نّه حرام بعينه ، فتدعه من قبل نفسك 311

كلّ ما حكم اللّه به فليس بمخطئ 426، 427

كلّ ما شككت فيه 347

كلّ ما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فامض ولا تعد 357

كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى 384

كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو 341، 357، 386، 378

كلّ مجهول ففيه القرعة 426، 427، 440، 442،

446، 450، 452، 455

كلّ مجهول فيه القرعة 428

لا تدري لعلّه شيء اُوقع عليك 54

لا تصلّ في وَبَر ما لا يؤكل لحمه 190

لا تعاد . . . 270، 391

ص: 467

لا تعاد الصلاة . . . 391

لا تنقض 192، 259، 261، 273،

276، 279، 282، 283،

285، 294، 295، 396

لا تنقض اليقين بالشكّ 9، 11، 139، 150، 160،

190، 191، 234، 239،

256، 257، 258، 259،

261، 271، 343

لا ، حتّى يستيقن... 27

لا ، حتّى يستيقن أ نّه قد نام ، حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن 23

لا ، حتّى يستيقن أ نّه قد نام ، ويجيء من ذلك أمر بيّن 24

لا سهو لمن أقرّ على نفسه بالسهو 265، 269

لا شكّ لكثير الشكّ 273

لا صلاة إلاّ بطهور 188، 189، 190

لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب 74

لا ضرر ولا ضرار 266

لا قِران بين السورتين في ركعة 374

لأ نّك كنت على يقين من طهارتك . . . 46

لأ نّك كنتَ على يقين من طهارتك ثمّ شككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض . . . 44، 88

لأ نّك كنت على يقين من طهارتك فشككت 263

لأ نّك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، وليس ينبغي لك... 127

لا ، ولكنّك إنّما تريد أن تذهب الشكّ الذي وقع في نفسك 44

لا ينقض 176، 178، 279، 280

ص: 468

لا ينقض الوضوء إلاّ ما خرج من طرفيك ، أو النوم 288

لا ينقض اليقين 176

لا ينقض اليقين بالشكّ 28، 56، 57، 58، 60،

83، 84، 86، 126، 173،

174، 176، 177، 181،

254، 262، 279، 424،

425

لكلّ أمر مشكل 428

لو سألت مَنْ بين لابتيها - يعني الجبلين ونحن يومئذٍ بمكّة - لأخبروك . . . 304

لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق 309، 310

ليس من قوم تقارعوا ثمّ فوّضوا أمرهم إلى اللّه عزّ وجلّ إلاّ خرج سهم المحقّ 429

ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه ثمّ اقترعوا إلاّ خرج سهم المحقّ 448

ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً 42

الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أ نّه نجس 66

ما دمت في حال الوضوء 364

ما كان من متاع النساء فهو للمرأة ، وما كان من متاع الرجال . . . 301

ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب اللّه 439

ما يقارع قوم . . . 449

ما يقارع قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه إلاّ خرج سهم المحقّ 438، 446، 449

ما يؤدّي عنّي فعنّي يؤدّي 274، 302

المتاع للمرأة 305

متى استيقنت أو شككت في وقت فريضة أ نّك لم تصلّها أو في وقت فوتها . . . 345

ممّا أوجب اللّه عليك وضوءه 364

ص: 469

من أتلف . . . 393

من زاد في صلاته فعليه الإعادة 374

من كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على يقينه ؛ فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ 62

من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه 254، 263

المؤمنون عند شروطهم 444

الناس في سعة ما لا يعلمون 275

والأشياء كلّها على ذلك . . . 313

وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه . . . 24، 37

وإن لم تشكّ . . . 45، 46

وإنّما ينقضه بيقين آخر 38

وأيّ حكم في الملتبس أثبت من القرعة ؟ ! أليس هو التفويض إلى اللّه 429

وأيّ قضيّة أعدل من قضيّة يجال عليها السهام ؟ ! 439

وتلك من المعضلات . . . 452

ودخلت في غيره . . . 354

وقد قال رسول اللّه : البيّنة على من ادّعى ، واليمين على من أنكر 308

وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّ 388

وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك 368، 378

ولا تلتفت إلى الشكّ إلاّ أن تستيقن ، فإنّك إذا استيقنت أ نّك تركت الأذان . . . 349

ولا يجوز أن يستخرجه أحد إلاّ الإمام 440

ولا يخلط أحدهما بالآخر 56، 57

ولا يدخل الشكّ في اليقين 56، 57

ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات 59

ص: 470

ولا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ 191، 247

ولا ينقض . . . 30

ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ 25، 30، 37

ولا ينقض اليقين بالشكّ 26، 29

ولكنّه ينقض الشكّ باليقين 56، 59

وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين 46

وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ 51

ومتى شككت في شيء وأنت في حال اُخرى فامض 346

ومن استولى على شيء منه فهو له 302

ويتمّ على اليقين 56، 59

ويعمل بالمعروف 307

هو حين يتوضّأ أذكر 378، 379، 386، 388، 393

هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ 344، 367، 378، 385، 388، 389

يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشككت فليس بشيءٍ 342

يا زرارة إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكّك ليس بشيءٍ 343

يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاُذن 23

يا عبدالرحيم وتلك من المعضلات 429، 451

يتصدّق بها 316

يتّقي اللّه ويعمل في ذلك بالمعروف ، ولا يضرّ أخاه المؤمن 307

يُدخل أحد يده في صندوقه غيره أو يضع فيه شيئاً ؟305

يدخل منزله غيره ؟305

ص: 471

يركع ركعتين وأربع سجدات . . . 55

يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهّد 54

يسأل عنها أهل المنزل ، لعلّهم يعرفونها 316

يقرع بين الشهود ، فمن خرج سهمه فهو المحقّ ، وهو أولى بها 447

يقرع بينهم ، فأيّهم قرع عليه اليمين فهو أولى بالقضاء 430

اليقين لا يدخله الشكّ 64، 65

اليقين لا يدخله الشكّ ، صم للرؤية وأفطر للرؤية 63

اليقين لا ينقض بالشكّ 33

يمضي على صلاته 342

ص: 472

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام

النبي، محمّد، رسول اللّه صلی الله علیه و آله =محمّد بن عبداللّه صلی الله علیه و آله ، نبي الإسلام

محمّد بن عبداللّه صلی الله علیه و آله ، نبي الإسلام 1، 18، 70، 184، 308، 333، 334، 335، 337، 400، 401، 429، 433، 434، 436، 456

علي علیه السلام ، أميرالمؤمنين علیه السلام =علي بن أبي طالب علیه السلام ، الإمام الأوّل

علي بن أبي طالب علیه السلام ، الإمام الأوّل 62، 70، 308، 333،400، 428، 429، 430،431، 433، 447، 456

الصديقة الطاهرة، فاطمة (سلام اللّه عليها)=فاطمة الزهراء (سلام اللّه عليها) 333، 334

أبو جعفر علیه السلام =محمّد بن علي علیه السلام ، الإمام الخامس

محمّد بن علي علیه السلام ، الإمام الخامس 44، 184، 303، 341، 342، 345، 349، 354، 357، 359، 370، 428، 429، 431، 451، 456

الصادق، أبو عبداللّه علیه السلام =جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس

ص: 473

جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس 62، 184، 288، 301، 304، 305، 306، 307، 308، 309، 311، 342، 344، 345، 346، 348، 368، 370، 378، 429، 430، 431، 432، 447، 451

أبو إبراهيم، موسى، أبو الحسن موسى علیه السلام موسى بن جعفر علیه السلام ، الإمام السابع موسى بن جعفر علیه السلام ، الإمام السابع 60، 316، 371، 426، 427، 440، 441، 452

الرضا، أبو الحسن علیه السلام =علي بن موسى علیه السلام ، الإمام الثامن

علي بن موسى علیه السلام ، الإمام الثامن 400، 429

أبو محمّد علیه السلام الحسن بن علي علیه السلام ، الإمام الحادي عشر

الحسن بن علي علیه السلام ، الإمام الحادي عشر 307

إبراهيم، النبي 420

يوسف، النبي 434

موسى، نبي اليهود 434

يونس، النبي 429، 435، 451

مريم (سلام اللّه عليها) 429، 436، 451

ص: 474

4 - فهرس الأعلام

الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين 57، 66، 69، 79، 85، 87، 101، 118، 138، 156، 169، 181، 187، 194، 199، 204، 226، 230، 237، 247، 249، 252، 449

أبان بن عثمان 344، 370

إبراهيم النخعي=النخعي، إبراهيم

إبراهيم بن عمر 451

ابن أبي عمير، محمّد 304، 308، 345

ابن أبي ليلى، محمّد بن عبدالرحمان 304

ابن أبي يعفور=عبداللّه بن أبي يعفور

ابن إدريس، محمّد بن أحمد 428، 442، 452

ابن بابويه، محمّد بن علي 44، 346، 348، 349، 427، 429، 430، 443

ابن بكير، عبداللّه 341

ص: 475

ابن جابر=إسماعيل بن جابر

ابن حنبل، أحمد بن محمّد 55

ابن شاذان، الفضل بن شاذان 304

ابن شيرة=القاساني، علي بن محمّد

ابن عمّار=إسحاق بن عمّار

ابن الغضائري، أحمد بن الحسين الغضائري 309

ابن محبوب=الحسن بن محبوب

ابن مسلم=محمّد بن مسلم

أبو بصير 429

أبو بكر=عبداللّه بن أبي قحافة

أبو جعفر الطوسي=الطوسي، محمّد بن الحسن

أحمد بن إدريس 359

أحمد بن حنبل=ابن حنبل، أحمد بن محمّد

أحمد بن عبدالواحد=أحمد بن عبدون

أحمد بن عبدون 301

أحمد بن محمّد بن أبي نصر=البزنطي، أحمد بن محمّد

أحمد بن محمّد=أحمد بن محمّد بن عيسى

أحمد بن محمّد بن عيسى 305، 341، 342، 343، 344، 359

إسحاق بن عمّار 60، 316، 317

إسماعيل بن جابر 342، 343، 346، 347، 348، 354، 369، 377

الأصفهاني، محمّد حسين 326

ص: 476

اُمّ كلثوم 400

الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين 4، 8، 11، 12، 13، 19، 20، 21، 22، 23، 27، 29، 30، 31، 33، 36، 58، 64، 85، 87، 100، 103، 104، 118، 119، 126، 128، 132، 134، 136، 148، 154، 156، 164، 165، 166، 168، 170، 173، 175، 182، 206، 220، 228، 230، 234، 236، 237، 238، 239، 243، 244، 247، 249، 254، 256، 264، 268، 277، 282، 289، 298، 359، 361، 369، 371، 382، 383، 394، 408، 410، 412، 415، 417، 419، 421، 449

الأنصاري=الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين الأوزاعي، عبدالرحمان بن عمرو بن يُحمد 55

الأهوازي، الحسين بن سعيد 23، 303، 306، 341، 344، 359

البارقي، عروة بن أبي الجحد 400

ص: 477

البرقي، أحمد بن محمّد بن خالد 430

البزنطي، أحمد بن محمّد 342، 344، 370

بحر العلوم، محمّد مهدي بن مرتضى 10

بعض أعاظم العصر=النائيني، محمّد حسين

بعض السادة الفحول=بحر العلوم، محمّد مهدي بن مرتضى

بعض المحقّقين=الهمداني، رضا بن محمّد هادي 32، 334، 355، 384، 388

بكير بن أعين 344، 367، 378

البندقي النيسابوري، محمّد بن إسماعيل 304

بني يعقوب 434، 436

ثعلبة بن ميمون 439، 445

جميل=جميل بن درّاج

جميل بن درّاج 447

جميل بن صالح 305، 315، 317

الحائري، عبدالكريم 105، 125، 143، 146، 159، 169، 201، 202، 204، 221، 226، 238، 247، 252، 258، 285، 296

الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن 301

حريز بن عبداللّه=السجستاني، حريز بن عبداللّه

الحسن بن محبوب=السرّاد، الحسن بن محبوب

الحسين بن سعيد=الأهوازي، الحسين بن سعيد

حفص بن غياث 308، 309

ص: 478

الحلبي، عبيداللّه بن علي 430، 432، 446

الحلّي=ابن إدريس، محمّد بن أحمد حمّاد بن عثمان 308، 368، 374، 379، 380، 396

حمّاد بن عيسى 23، 342، 345، 359، 360، 439، 455

حمزة بن حمران 306

الخثعمي، محمّد بن حكيم 426، 427، 428، 440، 441، 443، 455

الخراساني=الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين

الخزّاز، محمّد بن الوليد البجلي 301

الخوانساري=المحقّق الخوانساري، الحسين بن محمّد

الداماد، ميرمحمّد=الميرداماد، محمّد باقر بن محمّد

داود بن سرحان 430، 447

الدوانيقي، أبو جعفر المنصور 50، 87، 93

الزبيري، علي بن محمّد بن زبير 301

زرارة 23، 44، 47، 54، 64، 88، 191، 230، 263، 287، 342، 343، 344، 345، 346، 347، 348، 354، 358، 359، 360، 361، 363، 369، 371، 378، 396، 431، 447، 448

ص: 479

السجستاني، حريز بن عبداللّه 23، 342، 345، 359، 360

السرّاد، الحسن بن محبوب 303، 305، 316، 317

سعد بن عبداللّه 342، 344، 359، 370

سليمان بن داود 309

سماعة بن مهران 431

سهل بن زياد الآدمي 305

سيابة 451

السيّد اليزدي=اليزدي، محمّد كاظم بن عبدالعظيم

الشافعي، محمّد بن إدريس 55

الشهيد=الشهيد الأوّل، محمّد بن مكّي

الشهيد الأوّل، محمّد بن مكّي 428، 442

الشيخ ژژالأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين

الشيخ الأعظم=الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين

الشيخ ژژالطوسي، محمّد بن الحسن

شيخ الطائفة ژژالطوسي، محمّد بن الحسن

شيخنا الاُستاذ=الحائري، عبدالكريم

شيخنا العلامة=الحائري، عبدالكريم

صاحب الكفاية=المحقّق السبزواري، محمّد باقر بن محمّد مؤمن

صاحب الوسائل=الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن

صاحب مصباح الفقيه=الهمداني، رضا بن محمّد هادي

الصدوق=ابن بابويه، محمّد بن علي

صفوان بن يحيى 306، 341

ص: 480

الطباطبائي=اليزدي، محمّد كاظم بن عبدالعظيم

الطوسي، محمّد بن الحسن 23، 44، 301، 303، 306، 341، 342، 343، 344، 349، 359، 370، 426، 427، 428، 441، 443، 452

الطيّار، حمزة بن محمّد 447، 448

العبّاس 400

العبّاس بن هلال 429

عبدالرحمان بن أبي عبداللّه 370، 371، 374، 379، 430، 447

عبدالرحمان بن الحجّاج 304

عبدالرحيم 429، 451

عبدالكريم بن عمرو 344

عبداللّه بن أبي قحافة 308، 333

عبداللّه بن أبي يعفور 343، 344، 354، 359، 361، 369، 378، 396

عبداللّه بن الحسن 371

عبداللّه بن المغيرة 342

عبداللّه بن جعفر 371

عبدالمطّلب 429، 451

عثمان بن عيسى 308

العطّار، داود بن أبي يزيد 447

ص: 481

العلاء بن رزين 303

علي بن إبراهيم=القمّي، علي بن إبراهيم

علي بن الحسن 301

علي بن جعفر 371

علي بن محمّد بن الزبير=الزبيري، علي بن محمّد بن زبير

العيص بن القاسم 306

فضالة بن أيّوب 303، 344

الفضل بن شاذان=ابن شاذان، الفضل بن شاذان

الفضيل بن يسار 345

الفضيل=الفضيل بن يسار

الفيض الكاشاني، محمّد بن شاه مرتضى 56

القاساني، علي بن محمّد 63، 308

القاسم بن يحيى 309

القمّي، علي بن إبراهيم 303، 304، 307، 308، 311، 345

الكاشاني=الفيض الكاشاني، محمّد بن شاه مرتضى

الكشّي، محمّد بن عمر 349

الكليني، محمّد بن يعقوب 303، 304، 305، 307، 308، 311، 345

المحقّق الثاني=المحقّق الكركي، علي بن الحسين

المحقّق الحلّي، جعفر بن الحسن 20، 21، 22، 206، 207

المحقّق الخوانساري، الحسين بن محمّد 21، 31

المحقّق السبزواري، محمّد باقر بن محمّد مؤمن 185

ص: 482

المحقّق الكركي، علي بن الحسين 216، 407، 409

محمّد بن إسماعيل=البندقي النيسابوري، محمّد بن إسماعيل

محمّد بن الحسن=الطوسي، محمّد بن الحسن

محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب 307

محمّد بن الوليد 301

محمّد بن حكيم=الخثعمي، محمّد بن حكيم

محمّد بن علي بن الحسين 345

محمّد بن مسلم 62، 303، 316، 341، 345، 347، 357، 368، 377، 378، 379، 386، 456

محمّد بن منصور 349

محمّد بن وليد=الخزّاز، محمّد بن الوليد البجلي

محمّد بن يحيى العطّار 307

محمّد بن يحيى=محمّد بن يحيى العطّار

محمّد بن يعقوب=الكليني، محمّد بن يعقوب

مسعدة بن صدقة 311

معاوية بن عمّار 440

المفيد، محمّد بن محمّد 344، 359، 429

المنصور=الدوانيقي، أبو جعفر المنصور

المير داماد، محمّد باقر بن محمّد 301

النائيني، محمّد حسين 21، 28، 33، 36، 39،

ص: 483

النائيني، محمّد حسين 70، 75، 89، 97، 101، 103، 121، 132، 133، 139، 152، 155، 157، 170، 183، 197، 206، 212، 222، 223، 228، 243، 248، 256، 272، 295، 334، 396، 406، 453، 222

النجاشي، أحمد بن علي 301، 349

النخعي، إبراهيم 304

النراقي، أحمد بن محمّد مهدي 134، 142، 315

والد الشيخ البهائي، الحسين بن عبدالصمد 10

الوليد بن عقبة 171

هارون بن مسلم 311

الهمداني، رضا بن محمّد هادي 32، 37، 118، 206

اليزدي، محمّد كاظم بن عبدالعظيم 319، 321، 413

اليقطيني، محمّد بن عيسى 400

يونس بن عبدالرحمان 440، 455

يونس بن يعقوب 301، 316

ص: 484

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن

الاختصاص 429، 451

تحف العقول 438

تعليقات السيّد اليزدي على المكاسب ژژحاشية المكاسب للمحقّق اليزدي

تعليقة المحقّق الخراساني على الرسائل=درر الفوائد في الحاشية على الفرائد

تعليقة المحقّق الهمداني على الرسائل ژژالفوائد الرضوية

تفسير علي بن إبراهيم=تفسير القمّي

تفسير القمّي 307

تقريرات بحث المحقّق النائيني=فوائد الاُصول

تمهيد القواعد 168

التهذيب=تهذيب الأحكام

تهذيب الأحكام 439

الجواهر=جواهر الكلام

جواهر الكلام 355

حاشية المكاسب للمحقّق اليزدي 321

الحواشي على العروة الوثقى للمحقّق النائيني 454

الخصال 62، 262

ص: 485

الخلاف 427، 428، 441

درر الفوائد في الحاشية على الفرائد 66، 118، 156، 157، 321

درر الفوائد للمحقّق الحائري 146

الدعائم=دعائم الإسلام

دعائم الإسلام 303، 428، 451

الرسائل=فرائد الاُصول

العدّة في اُصول الفقه 309

العلل=علل الشرائع

علل الشرائع 44

عوائد الأيّام 315

فرائد الاُصول 31، 32، 136

الفقه الرضوي=الفقه المنسوب للإمام الرضا علیه السلام

فقه الرضا=الفقه المنسوب للإمام الرضا علیه السلام

الفقه المنسوب للإمام الرضا علیه السلام 346، 349، 429، 431

الفقيه=من لا يحضره الفقيه

فوائد الاُصول 33، 139، 155

الفوائد الرضوية 32

قرب الإسناد 371

القواعد والفوائد 428، 442

الكفاية=كفاية الاُصول

كفاية الاُصول 66، 157، 159، 185،

202

ص: 486

مرآة العقول 360

المستدرك=مستدرك الوسائل

مستدرك الوسائل 429

مستند الشيعة 315

مصباح الفقيه 118، 206

المعارج=معارج الاُصول

معارج الاُصول 20، 21

المعتبر 206

المقنع 346

ملحقات العروة 319، 413

من لا يحضره الفقيه 438، 439

النهاية=النهاية في مجرّد الفقه والفتاوى

النهاية في مجرّد الفقه والفتاوى 427، 441، 452

الوافي 342، 360

الوسائل=وسائل الشيعة

وسائل الشيعة 301، 303، 342، 360

الهداية للصدوق 346

ص: 487

ص: 488

6 - فهرس مصادر التحقيق

«القرآن الكريم» .

«أ»

1 - أجود التقريرات (تقريرات المحقّق النائيني) . السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي (1317 - 1413) ، تحقيق مؤسّسة صاحب الأمر((عجل الله تعالی فرجه الشریف)) ، الطبعة الاُولى ، 4 مجلّدات ، قم ، مطبعة ستارة ، 1419 ق .

2 - الاحتجاج . أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي ( القرن السادس) ، تحقيق إبراهيم البهادري ومحمّد هادي به ، الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، قم ، منشورات اُسوة ، 1413 ق .

3 - الاختصاص . المنسوب إلى أبي عبداللّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي المعروف بالشيخ المفيد (م 413) ، تحقيق علي أكبر الغفّاري ، الطبعة الاُولى ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي .

4 - الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد ، ضمن «مصنّفات الشيخ المفيد» ج 11 . أبو عبداللّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي المعروف بالشيخ المفيد (336 - 413) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، جزءان في مجلّد واحد ، قم ، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد ، 1413 ق .

5 - الإشارات والتنبيهات ، مع الشرح للمحقّق نصير الدين الطوسي وشرح الشرح للعلاّمة

قطب الدين الرازي . الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبداللّه بن سينا (370 - 427) ،

ص: 489

الطبعة الثانية ، 3 مجلّدات ، طهران ، دفتر نشر كتاب ، 1403 ق .

6 - إعلام الورى بأعلام الهدى . أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (م 548) ، الطبعة الثانية ، طهران ، المكتبة العلمية الإسلامية .

7 - الاُمّ . أبو عبداللّه محمّد بن إدريس الشافعي (150 - 204) ، تصحيح محمّد زهري النجّار ، بيروت ، نشر دار المعرفة للطباعة والنشر ، 1408 ق .

8 - الأمالي أو المجالس . أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381) ، الطبعة الخامسة ، بيروت ، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات ، 1400 ق .

9 - أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية ، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه » . ژژ موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

«ب»

10 - بحار الأنوار الجامعة لدُرر أخبار الأئمّة الأطهار . العلاّمة محمّد باقر بن محمّدتقي المجلسي (1037 - 1110) ، الطبعة الثانية ، إعداد عدّة من العلماء ، 110 مجلدٍ ( إلاّ 6 مجلّدات ، من المجلّد 29 - 34) + المدخل ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، 1403 ق / 1983 م .

11 - بحر الفوائد في شرح الفرائد . الميرزا محمّد حسن الآشتياني ، الطبعة الحجرية ، مكتبة آية اللّه المرعشي ، قم ، 1403 ق .

12 - البرهان في تفسير القرآن . السيّد هاشم بن سليمان بن إسماعيل بن عبدالجواد الحسيني البحراني (م 1107) ، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية ، مؤسّسة البعثة ، الطبعة الاُولى ، 10 مجلّدات ، بيروت ، مؤسّسة البعثة ، 1419 ق / 1999 م .

13 - البيع ، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه » .=موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

«ت»

14 - تحف العقول عن آل الرسول . أبو محمّد بن الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحرّاني (م 381) ، تصحيح علي أكبر الغفّاري ، الطبعة الثانية ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1404 ق .

ص: 490

15 - تذكرة الفقهاء . جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر ، العلاّمة الحلّي (648 - 726) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، صدر منه حتّى الآن 20 مجلّداً ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1414 - 1433 ق .

16 - التعادل والترجيح ، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه » . ژژموسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

17 - تفسير القمّي . أبو الحسن علي بن إبراهيم بن هاشم القمّي (م 307) ، تصحيح السيّد طيّب الموسوي الجزائري ، الطبعة الثالثة ، مجلّدان ، قم ، مؤسّسة دار الكتاب ، 1404 ق .

18 - تمهيد القواعد . الشهيد الثاني زين الدين بن علي بن أحمد العاملي (911 - 965) ، تحقيق مكتب الإعلام الإسلامي - فرع خراسان ، الطبعة الاُولى ، قم ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1416 ق .

19 - تنقيح المقال في علم الرجال . الشيخ عبداللّه بن محمّد حسن المامقاني (1290 - 1351) ، الطبعة الثانية ، 3 مجلّدات ، قم ، بالاُفست عن طبعة النجف الأشرف ، المطبعة المرتضوية ، 1352 ق .

20 - التوحيد . أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي ، الشيخ الصدوق (م 381) ، تحقيق السيّد هاشم الحسيني الطهراني ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1398 ق .

21 - تهذيب الأحكام . أبو جعفر محمّد بن الحسن ، الشيخ الطوسي (385 - 460) ، إعداد السيّد حسن الموسوي الخرسان ، الطبعة الرابعة ، 10 مجلّدات ، طهران ، دار الكتب الإسلامية ، 1365 ش .

«ج»

22 - جامع أحاديث الشيعة ، الذي اُلّف تحت إشراف آية اللّه العظمى الحاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي (1291 - 1380) ، الشيخ إسماعيل المعزّي الملايري ، الطبعة

ص: 491

الثانيه ، 26 مجلّداً ، مطبعة مهر ، 1413 ق / 1371 ش .

23 - جامع المقاصد في شرح القواعد . المحقّق الثاني علي بن الحسين بن عبد العالي الكركي (868 - 940) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، 13 مجلّداً ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1408 - 1411 ق .

24 - جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام . الشيخ محمّد حسن بن باقر النجفي (م 1266) ، تحقيق الشيخ عبّاس القوچاني ، الطبعة الثالثة ، 43 مجلّداً ، طهران ، دار الكتب الإسلامية ، 1367 ش .

«ح»

25 - حاشية المكاسب . الآخوند الخراساني محمّد كاظم بن حسين الهروي (1255 - 1329) ، تصحيح السيّد مهديّ شمس الدين . الطبعة الاُولى ، طهران ، وزارة الثقافة الإسلامية ، 1406 ق .

26 - حاشية المكاسب . الشيخ محمّد حسين الغروي الأصفهاني (1296 - 1361) ، تحقيق الشيخ عبّاس محمّد آل سباع القطيفي ، الطبعة الاُولى ، 5 مجلّدات ، قم ، ذوي القربى ، 1418 ق .

27 - حاشية المكاسب . العلاّمة السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي (م 1337) ، تحقيق الشيخ عبّاس محمّد آل سباع القطيفي ، الطبعة الاُولى ، 3 مجلّدات ، قم ، دار المصطفى لإحياء التراث ، 1423 ق / 2002 م .

28 - حاشية فرائد الاُصول أو الفوائد الرضوية على الفرائد المرتضوية . الحاج آقا رضا بن محمّد هادي الهمداني النجفي (م 1322) ، تحقيق محمّد رضا الأنصاري القميّ ، الطبعة الاُولى ، قم ، مهديّ موعود((عجل الله تعالی فرجه الشریف)) ، 1421 ق / 1379 ش .

29 - الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة . صدر المتأ لّهين محمّد بن إبراهيم الشيرازي (م 1050) ، الطبعة الثانية ، 9 مجلّدات ، قم ، مكتبة المصطفوي .

«خ»

30 - الخصال . أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ

ص: 492

الصدوق (م 381) ، تصحيح علي أكبر الغفّاري ، الطبعة الثانية ، جزءان في مجلّد واحد ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1403 ق .

31 - الخلاف . أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460) ، تحقيق جماعة من المحقّقين ، الطبعة الاُولى ، 6 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1407 ق .

32 - الخلل في الصلاة ، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه » . ژژموسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

«د»

33 - درر الفوائد . العلاّمة الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي ، تعليق آية اللّه الشيخ محمّد علي الأراكي والمؤلّف ، تحقيق الشيخ محمّد المؤمن القمّي ، الطبعة الخامسة ، جزءان في مجلّد واحد ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1408 ق .

34 - درر الفوائد في الحاشية على الفرائد . الآخوند محمّد كاظم الهروي الخراساني (1255 - 1329) ، تحقيق السيّد مهديّ شمس الدين ، الطبعة الاُولى ، طهران ، مؤسّسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي ، 1410 ق / 1990 م .

35 - الدرّة النجفية (منظومة في الفقه) . العلاّمة السيّد محمّد مهديّ بحر العلوم الطباطبائي (1155 - 1212) ، الطبعة الثانية ، قم ، مكتبة المفيد ، 1414 ق / 1372 ش .

36 - دعائم الإسلام . أبو حنيفة القاضي النعمان بن محمّد بن منصور بن أحمد بن حيّون التميمي المغربي (م 363) ، تحقيق آصف بن علي أصغر فيضي ، مجلّدان ، القاهرة ، دار المعارف ، 1383 ق / 1963 م .

«ر»

37 - رجال الطوسي . أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460) ، تحقيق جواد القيّومي الأصفهاني ، الطبعة الاُولى ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1415 ق .

ص: 493

38 - رجال النجاشي . أبو العبّاس أحمد بن علي بن أحمد بن العبّاس النجاشي الأسدي الكوفي (372 - 450) ، تحقيق السيّد موسى الشبيري الزنجاني ، الطبعة الاُولى ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1407 ق .

39 - الرجال لابن الغضائري . أحمد بن الحسين الغضائري الواسطي البغدادي ( القرن الخامس) ، تحقيق السيّد محمّد رضا الحسيني الجلالي ، الطبعة الاُولى ، قم ، دار الحديث ، 1422 ق .

40 - رسائل ابن سينا . الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبداللّه بن سينا (370 - 427) ، قم ، مكتبة بيدار ، 1400 ق .

41 - الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقية . الشهيد الثاني زين الدين بن علي بن أحمد العاملي (911 - 965) ، تحقيق مجمع الفكر الإسلامي ، الطبعة الاُولى ، 4 مجلّدات ، قم ، مجمع الفكر الإسلامي، 1424 ق .

42 - روضة المتّقين في شرح من لا يحضره الفقيه . العلاّمة المولى محمّد تقي المجلسي (1003 - 1070) ، إعداد السيّد حسين الموسوي الكرماني والشيخ علي پناه الاشتهاردي ، الطبعة الاُولى ، 14 مجلّداً ، قم ، بنياد فرهنگ إسلامي ، حاج محمّد حسين كوشانپور ، 1393 - 1399 ق .

«س»

43 - السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي . أبو جعفر محمّد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي (543 - 598) ، إعداد مؤسّسة النشر الإسلامي ، الطبعة الثانية ، 3 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1410 - 1411 ق .

44 - سنن أبي داود . أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني (م 275) ، إعداد كمال يوسف الحوت ، الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، بيروت ، دار الجنان ، 1409 ق / 1988 م .

45 - السنن الكبرى . أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (384 - 458) ، إعداد الدكتور يوسف عبد الرحمان المرعشلي ، الطبعة الاُولى ، 10 مجلّدات ، الفهرس ، بيروت ، دار المعرفة ، 1413 ق / 1992 م .

ص: 494

«ش»

46 - شرح المطالع . قطب الدين محمّد بن محمّد الرازي (م 766) ، قم ، انتشارات الكتبي .

47 - شرح المنظومة . المولى هادي بن مهديّ السبزواري (1212 - 1289) ، تصحيح وتعليق وتحقيق حسن حسن زاده الآملي ومسعود الطالبي ، الطبعة الاُولى ، 5 مجلّدات ، طهران ، نشر ناب ، 1369 - 1379 ش .

48 - شرح الوافية . السيّد صدر الدين القمّي ، من مخطوطات مكتبة آية اللّه المرعشي ، تحت الرقم 2656 .

49 - شرح نهج البلاغة . عزّ الدين عبد الحميد بن محمّد بن أبي الحديد المعتزلي (م 656) ، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم ، الطبعة الثانية ، 20 جزءاً في 10 مجلّدات ، القاهرة ، دار إحياء الكتب العربية ، 1385 ق / 1965 م .

50 - الشفاء . الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبداللّه بن سينا (370 - 427) ، تحقيق عدّة من الأساتذة ، 10 مجلّداً (الإلهيات + المنطق 4 مجلّدات + الطبيعيات 3 مجلّدات + الرياضيات مجلّدان) ، قم ، مكتبة آية اللّه المرعشي ، 1405 ق .

51 - شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام . المولى عبدالرزّاق بن علي بن الحسين اللاهيجي الفيّاض (م 1051) ، تصحيح أكبر أسد عليزاده ، الطبعة الاُولى ، 5 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة الإمام الصادق علیه السلام ، 1425 - 1430 ق .

«ص»

52 - الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية) . إسماعيل بن حمّاد الجوهري (م 393) ، تحقيق أحمد عبدالغفور عطّار ، الطبعة الرابعة ، 6 مجلّدات ، بيروت ، دار العلم للملايين ، 1407 ق / 1987 م .

53 - صحيح مسلم . أبو الحسين مسلم بن الحجّاج القشيري النيسابوري (206 - 261) ، تحقيق وتعليق الدكتور موسى شاهين لاشين والدكتور أحمد عمر هاشم ، الطبعة الاُولى ، 5 مجلّدات ، بيروت ، مؤسّسة عزّ الدين ، 1407 ق / 1987 م .

ص: 495

«ض»

54 - ضوابط الاُصول . السيّد إبراهيم القزويني الحائري ، الطبعة الحجرية .

«ط»

55 - الطهارة ، ضمن «تراث الشيخ الأعظم» ج 1 - 5 . الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري الدزفولي (1214 - 1281) ، إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم ، الطبعة الاُولى ، 5 مجلّدات ، قم ، المكتبة الفقهية ، 1415 ق .

56 - الطهارة ، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه » .ژژموسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

«ع»

57 - العدّة في اُصول الفقه . أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460) ، تحقيق محمّد رضا الأنصاري القمّي ، الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، قم ، مطبعة ستارة ، 1417 ق .

58 - العروة الوثقى . السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي (م 1337)، مع تعليقات عدّة من الفقهاء العظام ، إعداد أحمد المحسني السبزواري ، الطبعة الثانية ، 6 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1421 ق .

59 - العقد الحسيني (العقد الطهماسبي) . الشيخ حسين والد الشيخ البهائي (م 984) ، تصحيح وطبع السيّد جواد المدرّسي ، گلبهار يزد .

60 - علل الشرائع . أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381) ، الطبعة الاُولى ، النجف الأشرف ، المكتبة الحيدرية ، 1385 ق / 1966 م .

61 - عوائد الأيّام . المولى أحمد بن محمّد مهديّ بن أبي ذرّ النراقي (1185 - 1245) ، تحقيق مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية ، الطبعة الاُولى ، قم ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1417 ق / 1375 ش .

62 - عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية . محمّد بن علي بن إبراهيم الأحسائي

ص: 496

المعروف بابن أبي جمهور (م - أوائل القرن العاشر) ، تحقيق مجتبى العراقي ، الطبعة الاُولى ، قم ، مطبعة سيّد الشهداء ، 1403 ق .

«غ»

63 - الغارات (الاستنفار والغارات) . أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن سعيد المعروف بابن هلال الثقفي (م 283) ، تحقيق السيّد عبدالزهراء الحسيني الخطيب ، الطبعة الاُولى ، بيروت ، دار الأضواء ، 1407 ق .

«ف»

64 - فرائد الاُصول ، ضمن «تراث الشيخ الأعظم» ج 24 - 27 . الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري (1214 - 1281) ، إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم ، الطبعة الاُولى ، 4 مجلّدات ، قم ، مجمع الفكر الإسلامي ، 1419 ق / 1377 ش .

65 - الفصول الغروية في الاُصول الفقهية . محمّد حسين بن عبد الرحيم الطهراني الأصفهاني الحائري (م 1250)، قم ، دار إحياء العلوم الإسلامية ، 1404 ق . «بالاُفست عن الطبعة الحجرية» .

66 - الفصول المهمّة في اُصول الأئمّة علیهم السلام . الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (1033 - 1104) ، تحقيق محمّد القائيني ، الطبعة الاُولى ، 3 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة معارف إسلامي إمام رضا علیه السلام ، 1418 ق / 1376 ش .

67 - الفقه المنسوب للإمام الرضا علیه السلام . تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، مشهد المقدّس ، المؤتمر العالمي للإمام الرضا علیه السلام ، 1406 ق .

68 - الفقيه (من لا يحضره الفقيه) . أبو جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381) ، إعداد السيّد حسن الموسوي الخرسان ، الطبعة الرابعة ، 4 مجلّدات ، النجف الأشرف ، دار الكتب الإسلامية ، 1377 ق / 1957 م .

69 - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) . الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني (1309 - 1365) ، الطبعة الاُولى ، 4 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1404 ق .

ص: 497

70 - الفوائد الاُصولية . العلاّمة محمّد بحر العلوم الطباطبائي (1155 - 1212) ، الطبعة الحجرية ، طهران .

«ق»

71 - قرب الإسناد . أبو العبّاس عبداللّه بن جعفر الحميري القمّي (م بعد 304) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1413 ق .

72 - القواعد والفوائد في الفقه والاُصول والعربية . الشيخ شمس الدين محمّد بن مكّي العاملي المعروف بالشهيد الأوّل (734 - 786) ، تحقيق عبدالهادي الحكيم ، الطبعة الثانية ، مجلّدان ، قم ، مكتبة المفيد ، 1399 ق / 1979 م .

73 - قوانين الاُصول . المحقّق ميرزا أبو القاسم القمّي بن المولى محمّد حسين الجيلاني المعروف بالميرزا القمّي (1151 - 1231) ، مجلّدان ، الطبعة الحجرية ، المجلّد الأوّل ، طهران ، المكتبة العلمية الإسلامية ، 1378 ، والمجلّد الثاني ، طهران ، المستنسخة سنة

1310 ق .

«ك»

74 - الكافي . ثقة الإسلام أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (م 329) ، تحقيق علي أكبر الغفّاري ، الطبعة الخامسة ، 8 مجلّدات ، طهران ، دار الكتب الإسلامية ، 1363 ش .

75 - كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء . الشيخ جعفر بن خضر المعروف بكاشف الغطاء (1156 - 1228) ، تحقيق مكتب الإعلام الإسلامي - فرع خراسان ، الطبعة الاُولى ، 4 مجلّداً ، قم ، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي ، 1422 ق / 1380 ش .

76 - كفاية الاُصول . الآخوند الخراساني المولى محمّد كاظم بن حسين الهروي (1255 - 1329) ، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي .

ص: 498

77 - كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال . علاء الدين علي المتّقي بن حسام الدين الهندي (888 - 975) ، إعداد بكري حيّاني وصفوة السقا ، الطبعة الثالثة ، 16 مجلّداً + الفهرس ، بيروت ، مؤسّسة الرسالة ، 1409 ق / 1989 م .

«ل»

78 - لسان العرب . أبو الفضل جمال الدين محمّد بن مكرم بن منظور المصري (630 - 711) ، الطبعة الاُولى ، 15 مجلّداً + الفهرس ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، 1408 ق / 1988 م .

«م»

79 - المباحث المشرقية . الإمام فخر الدين محمّد بن عمر الرازي (م 606) ، الطبعة الثانية ، قم ، مكتبة بيدار ، 1411 ق .

80 - مجمع البيان في تفسير القرآن . أبو علي أمين الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسي (حوالي 470 - 548) ، تحقيق وتصحيح السيّد هاشم الرسولي المحلاّتي والسيّد فضل اللّه اليزدي الطباطبائي ، الطبعة الاُولى ، 10 أجزاء في 5 مجلّدات ، بيروت ، دار المعرفة للطباعة والنشر .

81 - مجمع الرجال . زكيّ الدين المولى عناية اللّه علي القهپائي (قرن 11 ق) ، تصحيح وتعليق السيّد ضياء الدين (العلاّمة الأصفهاني) ، [ ا لطبعة الاُولى]، 7 جزءاً في ثلاث مجلّدات ، قم ، مؤسّسة إسماعيليان ، 1384 ق .

82 - المجموع (شرح المهذّب) ويليه فتح العزيز ويليه التلخيص الحبير . أبو زكريّا يحيى بن شرف النووي الشافعي (631 - 676) ، [الطبعة الاُولى]، 20 مجلّداً ، بيروت ، دار الفكر .

83 - المحاسن . أبو جعفر أحمد بن محمّد بن خالد البرقي (م 274 أو 280) ، تحقيق جلال الدين الحسيني الاُرموي ، الطبعة الثانية ، قم ، دار الكتب الإسلامية .

84 - المختصر النافع . أبو القاسم نجم الدين جعفر بن حسن بن يحيى بن سعيد الهُذَلي (602

ص: 499

- 676) ، الطبعة الثانية ، قم ، منشورات مؤسّسة المطبوعات الديني ، 1368 ش .

85 - مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول . العلاّمة محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي (1037 - 1110) ، تصحيح السيّد هاشم الرسولي والسيّد جعفر الحسيني والشيخ علي الآخوندي ، الطبعة الثانية ، 26 مجلّداً ، طهران ، دار الكتب الإسلامية ، 1363 ش .

86 - مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام . الشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي الجبعي (911 - 965) ، تحقيق مؤسّسة المعارف الإسلامية ، الطبعة الاُولى ، 15 مجلّداً ، قم ، مؤسّسة المعارف الإسلامية ، 1413 - 1419 ق .

87 - مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل . الحاج الميرزا حسين المحدّث النوري الطبرسي (1254 - 1320) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، 25 مجلّداً ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1407 ق .

88 - مستمسك العروة الوثقى . السيّد محسن الطباطبائي الحكيم (1306 - 1390) ، الطبعة الاُولى ، 14 مجلّداً ، قم ، مؤسّسة دار التفسير ، 1416 ق / 1374 ش .

89 - مستند الشيعة في أحكام الشريعة . أحمد بن محمّد مهديّ النراقي (م 1245) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، 18 مجلّداً ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1415 - 1420 ق .

90 - المسند . أحمد بن محمّد بن حنبل (164 - 241) ، إعداد أحمد محمّد شاكر وحمزة أحمد الزين ، الطبعة الاُولى ، 20 مجلّداً ، القاهرة ، دار الحديث ، 1416 ق .

91 - مشارق الشموس في شرح الدروس . آقا حسين بن جمال الدين محمّد الخوانساري (1019 - 1099) ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث .

92 - مصباح الفقيه (الطهارة ، الصلاة ، الزكاة ، الخمس ، الصوم ، الرهن) . الحاج آقا رضا بن محمّد هادي الهمداني النجفي (م 1322) ، الطبعة الاُولى ، 19 مجلّداً :

الطهارة والصلاة . تحقيق المؤسّسة الجعفرية لإحياء التراث ، (ج 1 - 17) ، قم ، مؤسّسة مهديّ الموعود((عجل الله تعالی فرجه الشریف)) ، 1417 - 1431 ق .

ص: 500

الزكاة والخمس والصوم والرهن . (ج 13 و14 ، حسب ترتيب مؤسّسة النشر الإسلامي) قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1416 ق .

93 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير . أحمد بن محمّد بن علي المقري الفيّومي (م 770) ، الطبعة الاُولى ، جزءان في مجلّد واحد ، قم ، دار الهجرة ، 1405 ق .

94 - المطوّل في شرح تلخيص المفتاح . سعد الدين التفتازاني الهروي مسعود بن عمر بن عبداللّه (م 792) ، وبهامشه حاشية المير سيّد شريف ، قم ، مكتبة آية اللّه المرعشي النجفى ، 1407 ق .

95 - معارج الاُصول . المحقّق الحلّي جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهُذلي (602 - 676) ، إعداد محمّد حسين الرضوي ، الطبعة الاُولى ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام ، 1403 ق .

96 - المعتبر في شرح المختصر . المحقّق الحلّي نجم الدين جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهُذلي (602 - 676) ، تحقيق عدّة من الأفاضل ، الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، قم ، مؤسّسة سيّد الشهداء علیه السلام ، 1364 ش .

97 - المغني ويليه الشرح الكبير . أبو محمّد عبداللّه بن أحمد بن محمّد بن قدامة (541 - 620) ، وأبو الفرج عبدالرحمان بن أبي عمر محمّد بن أحمد بن قدامة المقدسي (م 682)، الطبعة الاُولى ، 21 مجلّداً ، بيروت ، دار الكتب العربي .

98 - مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلاّمة . السيّد محمّد جواد الحسيني العاملي (1160 - 1228) ، تحقيق محمّد باقر الخالصي ، الطبعة الاُولى ، صدر حتّى الآن 24 مجلّداً ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1419 - 1430 ق .

99 - مقالات الاُصول . الشيخ ضياء الدين العراقي (1278 - 1361)، تحقيق الشيخ محسن العراقي والسيّد منذر الحكيم والشيخ مجتبى المحمودي ، الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، قم ، مجمع الفكر الإسلامي ، 1414 - 1420 ق .

ص: 501

100 - المقنع . أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (311 - 381) ، تحقيق لجنة التحقيق التابعة لمؤسّسة الإمام الهادي علیه السلام ، قم ، مؤسّسة الإمام الهادي علیه السلام ، 1415 ق .

101 - المكاسب ، ضمن «تراث الشيخ الأعظم» ج 14 - 19 . الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري الدزفولي (1214 - 1281) ، إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم ، الطبعة الاُولى ، 6 مجلّدات ، قم ، مكتبة الفقهية ، 1415 - 1420 ق .

102 - مناهج الأحكام والاُصول . أحمد بن محمّد مهديّ أبي ذرّ النراقي (1128 - 1245) ، الطبعة الحجرية .

103 - مناهج الوصول إلى علم الاُصول ، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه » . ژژموسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

104 - المناهل . السيّد المجاهد محمّد الطباطبائي (م 1242) ، الطبعة الحجرية ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث .

105 - منتهى المقال في أحوال الرجال . أبو علي محمّد بن إسماعيل الحائري المازندراني (1159 - 1215) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، 7 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1416 ق .

106 - منية الطالب في شرح المكاسب (تقريرات المحقّق النائيني) . الشيخ موسى بن محمّد النجفي الخوانساري (1254 - 1363) ، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي ، الطبعة الثانية ، 3 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1424 ق .

107 - موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه . تحقيق مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، الطبعة الاُولى ، قم ، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، 1434 ق / 1392 ش .

«ن»

108 - نهاية الأفكار (تقريرات المحقّق آغا ضياء الدين العراقي) . الشيخ محمّد تقي البروجردي النجفي (م 1391) ، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي ، الطبعة الاُولى ،

ص: 502

4 أجزاء في 3 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1405 ق .

109 - نهاية الدراية في شرح الكفاية . الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (1296 - 1361) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، 4 مجلّدات ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1414 ق .

والطبع الحجري منها 3 مجلّدات ، اصفهان ، انتشارات مهدوي .

110 - نهاية النهاية في شرح الكفاية . الميرزا علي الإيرواني النجفي (1301 - 1354 ) ، الطبعة الاُولى ، مجلّدان ، قم ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1370 ش .

111 - النهاية في مجرّد الفقه والفتاوى . أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460) ، قم ، انتشارات قدس محمّدي .

«و»

112 - الوافي . محمّد بن المرتضى المولى محسن المعروف بالفيض الكاشاني (1006 - 1091) ، إعداد ضياء الدين الحسيني ، الطبعة الاُولى ، 26 مجلّداً ، أصفهان ، مكتبة الإمام أمير المؤمنين علیه السلام ، 1412 ق .

113 - الوافية في اُصول الفقه . المولى عبداللّه بن محمّد البُشروي الخراساني المعروف بالفاضل التوني (م 1071) ، تحقيق السيّد محمّد حسين الرضوي الكشميري ، الطبعة الاُولى ، قم ، مجمع الفكر الإسلامي ، 1412 ق .

114 - وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة . الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (1033 - 1104) ، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، 30 مجلّداً ، قم ، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، 1409 ق .

والطبعة الحجرية منه ، 3 مجلّدات ، طهران ، دار الطباعة ، 1293 ق .

«ه»

115 - الهداية[في الاُصول والفروع] . أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (311 - 381) ، تحقيق مؤسّسة الإمام الهادي علیه السلام ، الطبعة الاُولى ، قم ، مؤسّسة الإمام الهادي علیه السلام ، 1418 ق .

ص: 503

ص: 504

7 - فهرس الموضوعات

مقدّمة التحقيق ... ه

فصل : في تعريف الاستصحاب

ينبغي التنبيه على اُمرين :

الأمر الأوّل : الاحتمالات التي في الباب ... 7

الأمر الثاني : الاستصحاب ليس من الأدلّة الأربعة ... 8

تنبيه : في ضابط المسألة الاُصولية وأنّ الاستصحاب منها ... 11

فصل : حال جريان الاستصحاب في الأحكام العقلية

تفصيل الشيخ الأنصاري بين كون دليل المستصحب شرعياً أو عقلياً ... 12

الإشكالات الواردة على الشيخ الأنصاري وجوابها ... 13

في تحقيق الحال في المقام ... 16

فصل: حول التفصيل بين الشكّ في الرافع والمقتضي

في مراد الشيخ الأنصاري من «المقتضي» ... 19

ص: 505

في ذكر أخبار الاستصحاب :

صحيحة زرارة الاُولى ... 23

بيان احتمالات الرواية ... 24

تقريبات الأعلام في اختصاص حجّية الاستصحاب بالشكّ في الرافع ... 31

تقريب الشيخ الأنصاري ... 31

تقريب المحقّق الهمداني ... 32

تقريبي المحقّق النائيني ... 33

تحقيق الحقّ في الشكّ في الرافع والمقتضي ... 34

ردّ تقريبي الشيخ الأنصاري والمحقّق النائيني ... 36

بيان جواب تقريب المولى الهمداني ... 37

ردّ التقريب الثاني للمحقّق النائيني ... 39

تقريب آخر لشمول الأدلّة للشكّ في المقتضي ... 39

تأييد اختصاص الاستصحاب بالشكّ في الرافع ببناء العقلاء وردّه ... 40

صحيحة زرارة الثانية ... 44

مورد الاستدلال بالرواية واحتمالاته ... 45

الإشكال على أقوى الاحتمالات والجواب عنه ... 46

إشكال آخر على الاحتمال المنصور ... 50

صحيحة زرارة الثالثة ... 54

بيان احتمالات الرواية ... 56

بيان أظهر الاحتمالات في الرواية ... 58

موثّقة إسحاق بن عمّار ... 60

رواية محمّد بن مسلم ... 62

مكاتبة علي بن محمّد القاساني ... 63

تذييل : حول الاستدلال بأدلّة قاعدتي الحلّية والطهارة على الاستصحاب ... 65

ص: 506

فصل : في الأحكام الوضعية وتحقيق ماهيتها

تحقيق المقام يتمّ برسم اُمور :

الأمر الأوّل : تقسيم الحكم إلى تكليفي ووضعي ... 69

الأمر الثاني : بعض موارد الخلط بين التكوين والتشريع ... 72

حول جعل الجزئية والشرطية والمانعية ... 72

توهّم عدم قبول السببية للجعل ودفعه ... 75

الأمر الثالث : إنّ الملكية ليست من المقولات حقيقة ... 77

أقسام الوضعيات ... 78

تنبيهات

التنبيه الأوّل : في اعتبار فعلية اليقين والشكّ في الاستصحاب ... 83

حول جريان الاستصحاب في مؤدّيات الأمارات ... 86

في أخذ اليقين والشكّ على نعت الموضوعية ... 86

إشكال جريان الاستصحاب في مؤدّيات الأمارات وجوابه ... 87

التنبيه الثاني : في أقسام استصحاب الكلّي ... 90

القسم الأوّل من استصحاب الكلّي ... 90

القسم الثاني من استصحاب الكلّي ... 91

الجواب عن الشبهة العبائية ... 94

القسم الثالث من استصحاب الكلّي ... 98

تذييل : حول أصالة عدم التذكية ... 104

تحقيق القضايا السالبة ... 105

ص: 507

بيان مناط الصدق والكذب في القضايا ... 110

عدم جريان أصالة عدم القابلية ونحوها ... 112

حال أصالة عدم التذكية ... 115

نقل كلمات الأعاظم وما يرد عليها ... 118

حكم الشبهات الموضوعية ... 121

التنبيه الثالث : في استصحاب المتصرّمات ... 125

استصحاب نفس الزمان ... 125

تحقيق المقام ... 126

استصحاب الزمانيات ... 131

استصحاب الاُمور المقيّدة بالزمان ... 133

شبهة المحقّق النراقي ... 134

جواب الشيخ عن الشبهة وما فيه ... 136

جواب المحقّق الخراساني وردّه ... 138

جواب المحقّق النائيني والإشكال عليه ... 139

جواب شيخنا العلاّمة وما فيه ... 143

التحقيق في الجواب عن الشبهة ... 144

التنبيه الرابع : في الاستصحاب التعليقي ... 147

صحّة الاستصحاب التعليقي فيما إذا كان التعليق شرعياً ... 151

كلام بعض الأعاظم وما فيه ... 152

في إرجاع الشيخ الأعظم التعليقية إلى التنجيزية ... 154

تذنيب : حال معارضة الاستصحاب التعليقي مع التنجيزي ... 156

التحقيق في وجه حكومة الاستصحاب التعليقي على التنجيزي ... 161

التنبيه الخامس : في استصحاب أحكام سائر الشرائع ... 165

ص: 508

التنبيه السادس : في الاُصول المثبتة ... 169

التحقيق في مثبتات الأمارات ... 170

التحقيق في مثبتات الاُصول ... 172

بيان الفرق بين الآثار الشرعية وغيرها ... 177

تتميم : حول الوسائط الخفيّة ... 179

حال الأمثلة التي ذكرها الشيخ ... 182

تذييل : حول ما أفاده صاحب الكفاية في تنبيهيه الثامن والتاسع ... 185

يذكر فيه اُمور :

الأمر الأوّل : إنّ استصحاب العنوان المنطبق على الخارج ليس بمثبت ... 185

الأمر الثاني : استصحاب الأحكام الوضعية ... 187

الأمر الثالث : جريان الأصل بلحاظ الأثر العدمي ... 191

الأمر الرابع : أثر الحكم الأعمّ من الواقعي والظاهري ... 192

التنبيه السابع : في مجهولي التأريخ ... 193

ضابط اتّصال زمان الشكّ باليقين ... 195

إشكال المحقّق الخراساني في مجهولي التأريخ وجوابه ... 199

تقرير إشكال شيخنا العلاّمة في مجهولي التأريخ وجوابه ... 201

تكميل : في فروض ترتّب الأثر على وجود الحادثين ... 205

تحقيق الحال في المقام ... 207

حول كلام بعض العلماء وما فيه ... 212

التنبيه الثامن : في موارد التمسّك بالعموم ، واستصحاب حكم المخصّص ... 214

لزوم التمسّك بالعموم في جميع الموارد ... 218

تقرير التفصيل بين الخروج من الأوّل والأثناء ... 224

التنبيه التاسع : في المراد من الشكّ في الأدلّة ... 229

ص: 509

خاتمة

ينبغي ذكر اُمور :

الأمر الأوّل : وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها ... 233

الإشكال على الشيخ الأعظم في مسألة بقاء الموضوع ... 234

تمسّك الشيخ الأعظم بالدليل العقلي لمدّعاه وما فيه ... 236

توجيه شيخنا العلاّمة كلام الشيخ وما يرد عليه ... 238

في أنّ الاستصحاب لا يجدي في إحراز موضوع القضيّة المستصحبة ... 240

الخلط الواقع في كلام بعض الأعاظم ... 243

هل يؤخذ الموضوع من العرف أو لا ؟... 244

كلام المحقّق الخراساني وما يرد عليه ... 247

المراد من العرف ليس العرف المسامح ... 250

الأمر الثاني : أنّ أخبار الباب هل تختصّ بالاستصحاب أو تعمّ غيره ؟... 253

إمكان الجمع بين القواعد الثلاث ... 254

إشكال الشيخ الأعظم على إمكان الجمع بين القاعدتين ... 254

تقرير بعض الأجلّة كلام الشيخ وإقامة البرهان عليه ... 256

كلام العلاّمة الحائري وجوابه ... 258

كلام المحقّق النائيني وجوابه ... 259

كلام المحقّق العراقي وجوابه ... 262

اختصاص أخبار الباب بالاستصحاب وعدم شمولها لقاعدة اليقين ... 262

الأمر الثالث : تقدّم الأمارات على الاستصحاب ... 264

في الفرق بين التخصيص والحكومة والورود ... 264

بيان ضابط الحكومة ... 269

ص: 510

حال أدلّة الاستصحاب مع سائر الأدلّة والأدلّة بعضها مع بعض ... 273

يقع الكلام في مقامات :

المقام الأوّل : في حال أدلّة الاستصحاب مع أدلّة الأمارات ... 273

المقام الثاني : في وجه تقدّم الأمارات على أدلّة البراءة الشرعية ... 275

المقام الثالث : وجه تقدّم أدلّة الاستصحاب على أدلّة الحلّ والبراءة الشرعيتين ... 276

المقام الرابع : في وجه تقدّم الاستصحاب السببي على المسبّبي ... 278

لا بأس بالتعرّض لمطلق تعارض الاستصحابين :

القسم الأوّل : فيما كان الشكّ في أحدهما ناشئاً عن الشك في الآخر ... 278

نقل كلام الشيخ الأعظم ونقده ... 282

الإشكال على ما قالوا في وجه طهارة الملاقي لبعض أطراف العلم ... 286

دفع إشكال أوردناه على صحيحة زرارة ... 287

القسم الثاني : فيما كان الشكّ فيهما ناشئاً عن أمر ثالث ... 289

عدم جواز ترجيح ذي المزيّة بشيء من المرجّحات ... 290

بيان وجه تساقطهما ... 293

حول وجهي التخيير في تعارض الاستصحابين والجواب عنهما ... 294

حال الاستصحاب مع سائر القواعد ... 298

يقع الكلام في مباحث :

المبحث الأوّل : الكلام في قاعدة اليد ... 299

ولها جهات من البحث :

الجهة الاُولى : في تحقيق ماهية اليد ... 299

الجهة الثانية : الدليل على اعتبار اليد ... 300

الجهة الثالثة : حكم اليد على المنفعة ... 313

الجهة الرابعة : هل اليد معتبرة مع عدم علم ذي اليد واعترافه به ؟... 315

ص: 511

الجهة الخامسة : حال اليدين على شيء واحد ... 318

جواز اجتماع المالكين المستقلّين على ملك واحد ... 319

حول كلام المحقّق السيّد الطباطبائي قدّس سرّه وما يرد عليه ... 319

جواز اجتماع اليدين المستقلّتين على شيء واحد ... 322

بيان إمكان الملكية المشاعة ... 323

التحقيق في الكسر المشاع ... 324

كلام المحقّق الأصفهاني في تصوير الإشاعة وما يرد عليه ... 326

بيان إمكان اليد المستقلّة على النصف المشاع ... 330

الجهة السادسة : في إقامة الدعوى على ذي اليد وفروعها ... 332

تنبيه : الاحتجاج في أمر فَدَك ... 333

الجهة السابعة : في فروع العلم بسابقة اليد ... 337

الجهة الثامنة : في كون ما في اليد وقفاً سابقاً ... 339

المبحث الثاني : حال الاستصحاب مع قاعدة التجاوز ... 341

يتمّ الكلام في ضمن اُمور :

الأمر الأوّل : في ذكر الأخبار التي تستفاد منها القاعدة الكلّية ... 341

الأمر الثاني : في أنّ المراد من الشكّ في الشيء هو الشكّ في الوجود ... 347

الأمر الثالث : في أنّ المستفاد من الروايات قاعدة واحدة وهي التجاوز ... 350

حول إخراج الطهارات الثلاث من قاعدة التجاوز ... 358

الأمر الرابع : في أنّ المراد من المحلّ هو المحلّ الشرعي ... 362

الأمر الخامس : هل الدخول في الغير معتبر في القاعدة أم لا ؟... 366

الأمر السادس : هل المضيّ على وجه العزيمة أو الرخصة ؟... 372

الأمر السابع : في أنّ القاعدة من الأمارات أو الاُصول ؟... 375

ص: 512

في أنّ القاعدة أصل محرز حيثي ... 380

تنبيه : في شمول الأدلّة وإطلاقها لمطلق الشرائط ... 383

الأمر الثامن : في أنحاء الشكوك العارضة للمكلّف ... 385

كلام بعض المحقّقين في شمول القاعدة لجميع صور الشكّ وردّه ... 388

الأمر التاسع : في اختصاص القاعدة بالشكّ الحادث ... 395

الأمر العاشر : في وجه تقدّمها على الاستصحاب ... 396

المبحث الثالث : في حال الاستصحاب مع أصالة الصحّة في فعل الغير ... 398

بيان النسبة بينهما ووجه تقدّمها عليه يتمّ في ضمن اُمور :

الأمر الأوّل : في أصالة الصحّة ودليل اعتبارها ... 398

الأمر الثاني : في أنّ الصحّة هل هي الواقعية أم لا ؟... 402

الأمر الثالث : حول أقسام الشكّ في العمل وأحكامها ... 405

الأمر الرابع : اختصاص القاعدة بما إذا شكّ في تحقّق الشيء صحيحاً ... 410

الأمر الخامس : إنّ جريان أصالة الصحّة بعد إحراز نفس العمل ... 416

الأمر السادس : عدم حجّية مثبتات أصالة الصحّة ... 421

الأمر السابع : موارد تقدّم أصالة الصحّة على الاستصحاب ووجهه ... 423

المبحث الرابع : حال الاستصحاب مع قاعدة القرعة ... 426

ولا بأس بتعرّض بعض الاُمور فيها :

الأمر الأوّل : في ذكر نبذةٍ من الأخبار العامّة وموارد ورد فيها النصّ بالخصوص ... 426

الأمر الثاني : في ورود التخصيص المستهجن على عمومات القرعة ... 434

الأمر الثالث : هل القرعة أمارة على الواقع أم لا ؟... 445

الأمر الرابع : هل للأدلّة العامّة للقرعة إطلاق من جميع الجهات أم لا ؟... 454

ص: 513

الفهارس العامّة

1 - فهرس الآيات الكريمة ... 459

2 - فهرس الأحاديث الشريفة ... 463

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام ... 473

4 - فهرس الأعلام ... 475

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن ... 485

6 - فهرس مصادر التحقيق ... 489

7 - فهرس الموضوعات ... 505

ص: 514

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.