مفاتيح الوصول إلى علم الأصول

هویة الکتاب

مَفَٰاتيحُ الوُصُول إلىٰ عِلمِ الأصُول

تأليف :علي السيد محمد حسين الحكيم

الکوکب للتجارة والطباعة

الطبعة الاولی:1440ه-2018م

الأعمال الخيرية الرقمية: جمعية الإمام زمان (عج) إصفهان المساعدة

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

مفاتيح الوصول إلى علم الأصول

تأليف :علي السيد محمد حسين الحكيم

الکوکب للتجارة والطباعة

ص: 3

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الاولی:1440ه-2018م

ص: 4

مقدمة الکتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين حبيب اله العالمين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين, واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

بعد أن انقطعت الأمة عن مصدر التشريع وهو النبي محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار أصبح من الضروري الحاجة لعلم يستنبط به الحكم الشرعي من مصادره، فكان علم أصول الفقه هو المتكفل بذلك، وقد بذل العلماء الأعلام جهوداً مشكورة بإثراء الساحة الشيعية بمستجدات هذا العلم في كل عصر وزمان.

وحيث يعتبر علم أصول الفقه من العلوم الخاصة بأهل فنه, كما هو شأن كل العلوم المختصة بجانب ما، كعلم الطب والهندسة وغيرهما، ومن الطبيعي جداً أن يشتمل على مصطلحات خاصة به يصعب على غير المختصين فهم ما كتب فيه، إذ لو نظرنا إلى المؤلفات الموجودة بهذا العلم بمراحل نشؤه وتطوره لوجدنا أكثرها مؤلفات لعلمائنا الأعلام (رض) في مراحل البحث الخارج قد كتبت بخط مؤلفيها، أو بخط تلاميذهم مقررين لدروس أساتذتهم، أو مؤلفة لدارسي المراحل المتقدمة، وحينئذ تكون هذه الكتب محتوية على مادة علمية ومصطلحات لا يفهمها إلا ذوو الاختصاص,

ص: 5

وهم منيدرسون مراحل السطوح، أو وصلوا لمرحلة متقدمة بهذا العلم وهو حضور البحث الخارج بعد إكمالهم المقدمات والسطوح لذلك العلم، فشانها يكون شأن كل الكتب المؤلفة في كل علم من العلوم في مراحله العالية, لا يفهمها إلا أهل ذلك العلم.

وبما أن علم الأصول من العلوم التي تقبل التطور والتبدل في نظرياته، وليس هو كبعض العلوم التي لها نظريات ثابتة لا تقبل التعديل والتطوير كعلم المنطق أو بعض العلوم الرياضية، فقد دأب علماؤنا الأعلام بالجهود المبذولة من قبلهم (رض) من أجل خدمة هذا الدين، والوصول إلى الحقيقة إلى تطويره في كل عصر وزمان.

جزا الله علماؤنا الأعلام الذين ما فتئت أقلامهم الشريفة ترفد الحوزة العلمية بكل ما تحتاجه في كل مرحلة من مراحل هذا العلم بما يواكب هذا التطور الحاصل به، فتجد الدارسين لهذا العلم يجدون في كل مرحلة من مراحله ما يشفي غليلهم ويسد حاجتهم، مع إمكانية الاطلاع على ما خلفه السابقون في هذا العلم مما لا يمكن الاستغناء عنه، فمثلاً في العهد القريب قام سماحة العلامة الفاضل حجة الإسلام والمسلمين الشيخ (محمد رضا المظفر) (قده) بجهد عظيم حينما قدم كتابه (أصول الفقه)، فكان كتابه منهجياً للمراحل الأولى لدارسي هذا العلم ممهدا لما بعده من المراحل، وهي مرحلة دراسة كتاب (كفايةالأصول) للمحقق الجليل الشيخ الأخوند (قده)، ومرحلة دراسة كتاب (فرائد الأصول) للشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري (قده) ثم ماثل هذا الجهد الشهيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر(قده) بكتاب علم الأصول (في حلقاته الثلاثة) الذي جعله على مراحل ثلاث كبديل للمعالم وأصول المظفر والكفاية، ثم في وقتنا الحاضر قام سماحة سيدنا الأستاذ أية الله العظمى حجة الإسلام والمسلمين المرجع الديني الكبير السيد (محمد سعيدالحكيم) (مد ظله)

ص: 6

بتأليف كتابه (الكافي في أصول الفقه) الذي جعله سماحته بديلاً عن كتابي (كفاية الأصول) للمحقق الأخوند (قده) و(فرائد الأصول) للشيخ الأعظم (قده) فجاء كتاباً وافياً لمرحلة ما بعد أصول المظفر وما قبل الدخول للبحث الخارج، بعد أن أخذ الكتابان الجليلان قسطهما في تلك العصور، وأديا ما عليهما من دور خلال الفترة الزمنية السابقة ولحد الآن.

و لكن من يريد الابتداء بدراسته من طلبة الحوزة العلمية, قبل أن يبتدئ بكتاب (أصول الفقه) للشيخ المظفر (قده) لا يمكنه الاستفادة من هذه الكتب؛ نظراً لما تحمله بين طياتها من الدقة والمتانة العلمية, بما تتناسب به مع مؤلفيها ومراحلها، فلا يتيسر لهم الإطلاع على هذا العلم بشكل مبسط قبل الدخول إلى أعماقه والوصول إلى المراحل التي تؤهلهم لدراسة الكتب العميقة، وقد لا يجدون كتاباً حديثاً مبسطاً بأسلوب حوزوي يتماشى مع تطور هذا العلم، ليستعينوا به على فهم هذا العلم قبل الخوض في أغواره، والدخول في لجة بحره العميق، وكذلك من يريد الاطلاع على هذا العلم من غير أهل الاختصاص ممن يرغبون معرفة بعض معالمه وأسراره من دون دراسة لمطالبه العميقة والدقيقة.

ومثل هذا الجهد غالباً ما يكون من شأن من لهم الأهلية لمثل هذه الأمور، لكن غالباً ما تكون هذه الشخصيات لها مشاغلها التي تمنعها من مثل هذا الجهد، أو لها ظروف أخرى تكون حائلاً دون ذلك، فبقي طلبة الحوزة متحيرون في المنهج قبل الدخول لدراسة كتاب (أصول الفقه) للشيخ المظفر (قده)، فإما أن يدرسون كتاب (معالم الدين) الذي كان سابقاً يبتدئ بدراسته الطالب قبل الدخول في دراسة كتاب أصول الفقه للشيخ المظفر (قده)، لكنه كتاب قديم لا يتناسب مع ما حصل من التطور الهائل في علم الأصول، فلا يتماشى مع الكتب الحديثة في علم الأصول مضافاً إلى كونه

ص: 7

يحمل مادةعلمية عميقة لا يستهان بها، يتعسر فهمها للطالب المبتدئ، وعليه لا يعتبر من الكتب الأولية لعلم الأصول، وإما أن يدخلوا كتاب (أصول الفقه) للشيخ المظفر (قده) مباشرة ويعتمدوا على جهد الأستاذ لفهم كثير من المطالب الغامضة فيه، وكذلك من يرغب في الإطلاع على هذا العلم من دون تعمق في دراسته.

فلذلك راودتني فكرة، وهي أن أقوم بجمع أهم الآراء العلمية الحديثة التي عليها مدار الدرس والتدريس، وأحاول أن أذكرها بشكل مبسط قدر المستطاع، بشكل يمكن فهمها لمثل هذه المرحلة، وبما يناسب تطور هذا العلم، وابتعدت فيها عن ذكر الإشكالات والأخذ والرد على الأقوال التي قد توجب الالتباس على الطالب الكريم، بما أن الطالب في هذه المرحلة لا يحتاج إلى تمحيص الآراء ومعرفة الأصح منها، بل هو بحاجة لمعرفة ما موجود في هذا العلم وأخذ فكرة أولية عنه، وتركت فيه مجالاً للأستاذ ليبين بعض ما غمض منه وكذلك غير أهل الاختصاص ممن لا هم لهم إلا الإطلاع على أسرار هذا العلم دون الخوض في أغواره، ممن لهم خلفية ثقافية تؤهلهم لفهمه من دون دراسة.

ولذلك أحببت أن أنوه هنا إلى أني لم اذكر لي رأياً، ولا أنا مرجحاً لرأي على آخر، بل أنا جامع لأراء العلماء الأعلام جزاهم الله خير الجزاء، مع محاولة عرضها بشكل مبسط، بمقدار لا أحيد فيه عما أرادوه من المادة العلمية حسب فهمي القاصر إن شاء الله تعالى، ولذا كنت حذراً في نقل الآراء، وقد يؤخذ علي أني لم أنسبها لأصحابها، وهذا على خلاف مقتضى الأمانة العلمية، ولكن حفاظاً مني على الأمانة العلمية التي توجب نقل الرأي بنفسه من دون تغيير، وحيث إني لا أنقل نص كلام القائل لئلا أكون مخلا بالغرض من تأليف هذا الكتاب، بل أنقل بالمعنى فأخشى أن أكون قد ذكرت

ص: 8

غير ماأراده، أو فهمت غير ما ذكره، فأكون بذلك ناسباً له ما لم يقله أو مفترياً عليه بما لم يدعه، فلذا اكتفيت بالإشارة إلى وجود أقوال إن وجدت من دون تعرض لأصحابها، مع جل احترامي وإجلالي لهم ولما جادوا به من علم، وقد أكون أهملت أقوالاً لا لأني أراها غير جديرة بالذكر بل إما خشية الإطالة، أو غير ذلك من الأسباب الأخرى، وإلا فأنا أقل من أن أهمل رأياً لعلم من الأعلام، قد بذل فيه جهداً لا ينبغي الاستهانة به جزاهم الله خير جزاء المحسنين على ما قدموه لنا من هذا التراث العظيم.

وأرجو أن أكون قد وفقت في هذا الجهد المتواضع، الذي أرجو فيه النفع إن شاء الله تعالى، وأقدمه إلى مقام سيدي ومولاي صاحب العصر والزمان الإمام الحجة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه)، الذي لو من الله تعالى علينا بوجوده الشريف لكفانا هذا العناء وأغنانا عن هذا الجهد، وأرجو من الله تعالى أن يقبله مني وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يكون ذخراً لي يوم لا ينفع مال ولا بنون، إنه نعم المولى ونعم النصير وهو المسدد والمعين.

ص: 9

تمهيد

اشارة

وفيه أمران:

الأول : تعريف علم الأصول

وهو(القواعد المعدة لاستنباط الأحكام الشرعية، والوظائف العملية الشرعية، والعقلية للمكلف من مظانها).

(فالقواعد) جمع قاعدة، وهي الركيزة والأساس الذي يوضع لأجل أن يستند عليه، وهنا المراد به الأسس الموضوعة لأجل الاستنباط وبذلك يخرج علم الرجال فإنه وإن كان له دخل في الاستنباط إلا إن موضوعات مسائلة جزئية لا تكون قواعد عامة.

(المعدة لاستنباط) أي المعدة لغرض استنباط الحكم الشرعي لإخراج قواعد العلوم الأخرى التي لم تعد لغرض استنباط الحكم الشرعي وإن كانت تنفع فيه كقواعد النحو والصرف والمنطق.

(الاستنباط) في اللغة هو الاستخراج بالاجتهاد، والمراد هنا هو استخراج الحكم الشرعي بإعمال الجهد والوصول للمطلوب.

(الأحكام الشرعية) وهي التكاليف الموضوعة من قبل الشارع الأقدس من أجل امتثالها من قبل المكلفين.

(الوظائف العملية) وهي الوظائف المقررة للمكلف حال تعذر استنباط الحكم الشرعي، فإذا لم يصل المكلف إلى الحكم الشرعي في واقعة ما، فإن

ص: 10

المكلف يقع في حيرة من أمره في هذه الواقعة، لعدم وجود حكم شرعي يمكنه الاعتماد عليه، وبدلاً من بقائه في هذه الحيرة فإن المجتهد يستنبط قاعدة للمكلف يمكنه الاعتماد عليها لرفع حيرته، ويقال لهذه القاعدة وظيفة الشاك في الحكم الشرعي عند إرادة العمل، أو تسمى (الوظيفة العملية)، وهي وظيفة

الشاك في الحكم الشرعي حين العمل، نقرب ذلك بالمثال مثلاً لو وجد المكلف ماءً ولم يعلم هل هو نجس أم طاهر الآن، وقد كان سابقاً طاهر، فهنا يقول له المجتهد اعمل على الحال السابق المعلوم لديك، وهو المعروف عندهم بالاستصحاب، فهنا يحكم المكلف بطهارة هذا الماء في مقام العمل فيجوز له الوضوء منه تبعاً لقاعدة الاستصحاب،

(الشرعية والعقلية) وهذه القاعدة المتقدمة تارة تكون مأخوذة من الشارع الأقدس فتكون وظيفة شرعية كالبراءة والاحتياط الشرعيين، وتارة تكون هذه القاعدة مأخوذة من حكم العقل، كالبراءة العقلية أو قاعدة الاشتغال كما سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في مباحث الأصول العملية.

(مظانها) أي الموارد التي منها تؤخذ الأحكام، وهي عندنا، القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والعقل.

الثاني : منهجية البحث

اشارة

إن المسائل الأصولية لما كانت نتائجها عامة أو كبرى بحسب الاصطلاح المنطقي، فهذه المسائل تكون على قسمين:

القسم الأول: مسائل نظرية لا تتضمن العمل بنفسها، وهي المسائل التي يبحث فيها عن أمر واقعي هل هو ثابت في نفسه واقعاً أم لا، سواء وجد من يعمل به أم لا، مثال ذلك أننا نبحث عن صيغ الأمر هل هي بواقعها دالة على الوجوب أم لا سواء كان هناك من يريد أن يعمل بها لو

ص: 11

ثبت وجوبها أم لا، ويدخل تحت هذا القسم (مباحث الألفاظ) و (مباحث الملازمات العقلية).

القسم الثاني: مسائل عملية تتضمن العمل بنفسها، أي إذا ثبت لها الحكم فلابد من العمل بها، مثل البحث عن خبر الواحد هل هو حجة أم لا، فإذا ثبت كونه حجة لزم العمل به، ويدخل تحت هذا القسم (مباحث الحجج) و(مباحث الأصول العملية) ولذا يلزم البحث عن كل قسم على حده لاختلاف نوع البحث فيهما ثم نلحق ذلك بخاتمة في التعارض.

قبل البدء في البحث لابد من تقديم مقدمة موجزة لبيان ما هو (الحكم الشرعي) الذي تقدم في تعريف علم الأصول أنه أعد لأجل استنباط الحكم الشرعي، حيث لا مكان لذكره مستقلاً مع أهميته، فقد قسموا الحكم الشرعي إلى قسمين:

الأول : الحكم التكليفي

وهو الحكم الصادر من المكلِّف إلى المكلَّف بفعل معين يقتضي ذلك الحكم من المكلَّف إتباعه، إما بالعمل أو الترك، ويسمى (حكماً فعلياً)، وأما مع عدم إمكان المكلَّف العمل على طبق الحكم فإن هذا الحكم لا يكون فعلياً بحقه لعدم إمكانه امتثاله، فالحكم الفعلي مثل الحكم بوجوب الصلاة؛ فإنه لازم على كل مكلف بها قادر على فعلها، أما الحكم غير الفعلي فهو مثل حكم الحائض بالنسبة إلى الصلاة، فإن الحكم بوجوب الصلاة في حقها غير فعلي، لعدم إمكانها امتثاله، لحرمة الصلاة عليها شرعاً، ويسمى (حكماً اقتضائياً)، وقسموا الحكم الفعلي إلى خمسة.

وهي: الوجوب، والحرمة، والاستحباب، والكراهة، والإباحة.

الثاني : الحكم الوضعي

ص: 12

وهو الحكم الصادر من المكلِّف إلى المكلَّف بشيء معين لكن لا على أن يلزمه العمل طبقاً لذلك الحكم، فلا يكون واجباً في حقه من قبل المكلِّف، ولو لزم العمل به فإنما هو لوجود أمر آخر خارج عن نفس المأمور به لازم للمكلَّف، فإذا ألزم المكلف بذلك الأمر الخارج فإنه يلزم عليه العمل بذلك الحكم لأجل امتثال ذلك الأمر الخارج، مثل الحكم (بطهارة الماء) و (زوجية المعقود عليها) فإنه إذا وجب الوضوء على المكلَّف لزم عليه الوضوء بالماء المحكوم بطهارته، لشرطية الوضوء بالماء الطاهر، وإذا أراد الاستمتاع فيجوز له الاستمتاع بمن حكم له الشارع بزوجيتها، واختلفوا في تحديد الحكم الوضعي،

فبعضهم حدده بأمور معينة، وآخرون قالوا إن كل حكم غير تكليفي فهو وضعي، وغير ذلك من الأقوال، ولكن الكلام فيه بأكثر من ذلك يطول في مثل هذا المختصر.

ص: 13

ص: 14

القسم الأول : في المسائل النظرية وفيه بابان:

اشارة

ص: 15

ص: 16

الباب الأول : في مباحث الألفاظ

اشارة

يتم في هذا الباب البحث عن معرفة إطلاقات الألفاظ من دون استعمال القرائن، أي ما يظهر من نفس الألفاظ بما هي؛ لأننا بهذا البحث نكون قد شخصنا صغريات حجية الظهور، وحجية الظهور كبرى يأتي البحث عنها في (القسم الثاني) من (الباب الأول) من (مباحث الحجج) إن شاء الله تعالى، فإذا شخصنا الصغريات هنا وتمت الكبرى هناك أمكن إنتاج قياس منطقي(1) يمكن للفقيه الاعتماد عليه في استنباط الحكم الشرعي، مثلاً إذا شخصنا هنا أن صيغة الأمر ظاهرة في الدلالة على الوجوب، وثبت هناك أن هذا الظهور حجة، فإذا ورد أمر من الشارع بصيغة الأمر فنعرف منه أنه واجب، بتمامية هاتين المقدمتين، ولكن حيث إن معرفة ظهور الألفاظ متفرع على كيفية دلالة اللفظ على المعنى فيكون من المناسب قبل البدء في الدخول لمباحث الألفاظ التعرض لبعض الأمور التي قد تنفع في المقام من باب المقدمة.

ص: 17


1- يقسم المنطقيون القياس المنتج إلى أربعة أقسام وتسمى الأشكال الأربعة للقياس من أراد الإطلاع عليها فليراجع كتاب (المنطق) للشيخ المظفر قده باب القياس يجد ما يكون له به الغنى

الأمر الأول : في حقيقة الوضع

والمراد بحثه هنا هو وضع اللفظ للمعنى، والمراد به جعل اللفظ بإزاء المعنى ليكون دالاً عليه حين إطلاقه، ويكون استعمال اللفظ موجباً لانصراف الذهن للمعنى، ويكون المستعمل للفظ كأنه قد أحضر المعنى المراد أمام السامع، فهذا اللفظ يدل على المعنى الموضوع له بنحو (الحقيقة)(1)،كوضع لفظ (الأسد) للحيوان المعين المفترس ووضع لفظ (الإنسان) للكائن المعروف وهكذا، ويمكن أن يدل اللفظ على معنى آخر غير موضوع له لكن يستعمل فيه لوجود علاقة بين المعنيين تصحح مثل هذا الاستعمال، ويكون اللفظ دالاً عليه أيضاً لكن بنحو (المجاز)(2) كدلالة لفظ (الأسد) على الرجل الشجاع ودلالة لفظ (حاتم) على الرجل الكريم، والكلام الآن في الاستعمال بنحو (الحقيقة)، وحيث ذكرنا أن اللفظ يدل على المعنى، فالمفروض أن نعرف نوع هذه الدلالة، وهي لا تخلو إما أن تكون (ذاتية)، أو (طبعية)، أو (وضعية).

والمراد بالذاتية هي التي تكون الملازمة فيها بين الدال والمدلول بالذات كدلالة الحرارة على وجود النار، ودلالة الصدى على وجود صوت، ولكن هذه الدلالة بالألفاظ ممتنعة؛ لأنها لو كانت ذاتية للزم إما اشتراك جميع الناس بلغة واحدة، أو أن كل واحد من البشر يعرف جميع اللغات، كما أن جميع الناس يعرفون بأن الحرارة تدل على وجود النار مع اختلاف لغاتهم، وحيث إن هذه اللوازم باطلة فلابد من بطلان الملزوم؛ لأن صاحب كل لغة لا يعرف غيرها إلا إذا تعلمها.

ص: 18


1- يأتي شرحها في الأمر الخامس صة
2- يأتي شرحه في الأمر الخامس ص

والمراد بالطبعية هي التي تكون فيها الملازمة بين الدال والمدلول طبعية أي؛ بحسب الطبع الذي تطبع عليه الإنسان، أو غيره كدلالة قول (آخ) على وجود الألم، ووجود الحمى في الجسم على وجود المرض، والألفاظ دلالتها ليست كذلك أيضاً، لاختلاف الناس في اللغات مع اشتراكهم بدلالة طبعية واحدة، فلا يبقى حينئذٍ غير الدلالة الوضعية وهي أن تكون بوضع واضع معين كوضع العلامات المرورية ووضع أسماء المخترعات من قبل مخترعيها ووضع أسماء الأدوية وما شابه ذلك وسيأتي الكلام عنها في الأمر الثاني إن شاء الله تعالى.

الأمر الثاني : من هو الواضع للغة

حيث تقدم أن دلالة اللفظ على المعنى وضعية فاختلف الأعلام (رضوان الله عليهم) في أنه من الواضع للغات، وعمدة الأقوال في هذه المسالة قولان:

الأول: إن الوضع حصل تدريجياً، وتقريبه: إن الإنسان لما خلقه الله عز وجل احتاج للتعبير عن مقاصده لبيان المعاني التي شاهدها في حياته، وحيث أن الله عز وجل قد أودع فيه قابلية الكلام فإنه حاول إيصال ما يريده من الحاجات والمقاصد إلى غيره من أبناء جنسه فوضع ألفاظاً وجد لها مناسبة مع معانيها لكل حاجة يحتاجها، وحيث كانت حاجات الإنسان الأول بدائية جداً، فاللغة كانت كذلك بدائية، ثم توسعت وتطورت حسب تطور حاجات الإنسان، ويشهد لهذا القول ما يفعله الأطفال فيما بينهم، فإنهم قد يتفاهمون بلغة فيما بينهم يونشئونها بأنفسهم لا يفهمها غيرهم، فعلى ذلك يكون نشوء اللغة تدريجياً حسب حاجة الإنسان وتطوره، كتطور الإنسان في كل شؤون حياته غير الكلام من أموره الحياتية.

الثاني: إن الوضع حصل بإعجاز إلهي كخلقه وتصويره، وتقريب ذلك

ص: 19

أن الله عز وجل لما خلق الإنسان ألهمه كثيراً من الأمور التي تهمه وتنظم له حياته، ومن جملة تلك الأمور التي ألهمه بها هو الكلام باللسان ومنه تكونت اللغة، فالله عز وجل هو الذي ساعد الإنسان في مبدأ خلقه فهداه إلى استعمال بعض الألفاظ والنطق بها حسب حاجته بما أودعه الله فيه من قوة الإدراك والغرائز، ومن ثم تكونت لغة، ثم توسعت وتطورت تبعاً لتجدد حاجات الإنسان وتطوره، كما هو حاله في جميع أمور حياته التي تطور بها الإنسان تدريجياً، كأكله ولبسه، ويناسب ذلك أو يؤكده كلام الله عز وجل مع نبي الله آدم، وكلام إبليس مع نبي الله آدم أيضاً، فهذا مما يؤكد إمكانية آدم النطق والتفاهم من أول نشأته، وكذلك إبليس بأية لغة فرضت، فهنا يكون وضع اللغة ونشوئهاإعجازياً منه تعالى، وقد يشير إلى ذلك قوله تعالى [ خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ ](1)وقوله تعالى [ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ](2)كما أنه قد يكون تعدد اللغات بعد ذلك أيضاً قد حصل بأمر إعجازي منه عز وجل، كما تشير إليه الآية الكريمة [ وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ ](3).

الأمر الثالث : في تقسيمات الوضع

اشارة

ينقسم وضع اللفظ للمعنى إلى تقسيمات متعددة من جهات متعددة:

فينقسم من جهة كيفية حصول دلالة اللفظ على المعنى إلى قسمين:

القسم الأول : الوضع التعييني

وهو أن تحصل دلالة اللفظ على المعنى من تعيين اللفظ للمعنى ممن

ص: 20


1- آية 3 و4 من سورة الرحمن
2- آية 4 و5 من سورة العلق
3- آية 22 من سورة الروم

له الشأن في ذلك الوضع، أو يكون له الحق بذلك، فيعين الواضع اللفظ الذي يراه مناسباً لما يريده من معنى، كوضع الأعلام الشخصية من قبل الآباء لأبنائهم، أو وضع أسماء الأدوية والمخترعات من منتجيها ومخترعيها، أو وضع أسماء المؤلفات من قبل مؤلفيها وغير ذلك.

القسم الثاني : الوضع التعيُّني
اشارة

وهو أن تحصل دلالة اللفظ على المعنى من كثرة استعمال لفظ معين في معنىً معين ولو مع نصب قرينة على ذلك عند استعمال ذلك اللفظ في ذلك المعنى لأول مرة، حتى يبلغ مرتبة يستغني إرادة المعنى بذلك اللفظ عن القرينة عند إطلاقه بعد ذلك وبدون عناية، ولو من غير هؤلاء المستعملين، وحينئذٍ يكون اللفظ دالاً على المعنى، وموضوعاً له وقد يمثل له بوضع لفظ (السيارة) لهذه المركبة الخاصة بعد أن كان موضوعاً بالأصل لكل ما يسير على الأرض، ولفظ (العلامة) و(المحقق) للحليين (قدهما) وغير ذلك من الألفاظ التي صارت مختصة بمعانيها بسبب كثرة استعمالها بها من مجموعة من الناس لا من جهة وضع واضع معين وضع تلك الألفاظ لها بخصوصها.

وينقسم من جهة كيفية وضع اللفظ للمعنى إلى قسمين:

القسم الأول : الوضع الشخصي

وهو أن يتصور الواضع لفظاً معيناً ويضع نفس ذلك اللفظ المتصور بمادته وهيئته(1)للمعنى المراد وضعه له، كما هو الحال في أغلب وضع الألفاظ لمعانيها، حيث إن الواضع يتصور اللفظ بحروفه وهيئته التركيبية ويضع ذلك اللفظ المتصور بنفسه للمعنى المراد وضعه له من دون تغيير

ص: 21


1- المراد بالمادة هي حروف اللفظ التي يتركب منها كحروف لفظة (قلم) وهي القاف واللام والميم والهيئة هي المجموع التركيبي للكلمة أي الهيئة التي يتألف منا اللفظ وهي بالنسبة للقلم كهيئة (فعل)

في مادة اللفظ أو هيئته كوضع أكثر الألفاظ لمعانيها كأسماء الأعلام والكتب وكثير من المخترعات.

القسم الثاني : الوضع النوعي

تقدم في الوضع الشخصي أن الواضع يتصور لفظاً معيناً بمادته وهيئته ويضعه للمعنى المراد، أما الوضع النوعي فإن الواضع يتصور هيئة معينة

للفظ ولا ينظر للمادة كيفما تركبت يجعلها عنواناً عاماً يصلح لدخول مواد كثيرة تحته، ويمثل له بوضع هيئات (اسم الفاعل) و (اسم المفعول) و(المصدر) وغيرها، فإن الواضع مثلاً بوضعه لاسم الفاعل لاحظ هذه الهيئة المعينة وهي هيئة (فاعل) ولم يلحظ لها مادة معينة، بل كل مادة وقعت على هذه الهيئة تكون (اسم فاعل) ويدخل تحته مثل (ضارب) و (قاتل) و(عالم) و(نائم) وغير ذلك، أو هيئة (مفعول) لأسم المفعول وكل مادة وقعت على هذه الهيئة تكون اسم مفعول مثل (مقتول) و (مجروح) و (مذموم) و (معلوم) وغير ذلك، وهذا معنى الوضع النوعي، أي يكون اللفظ بهيئته موضوع لهذه الهيئة التركيبية بأية مادة فرضت، بخلاف الوضع الشخصي فإنه يكون موضوعاً بهيئةٍ معينةٍ ومادةٍ معينة.

وينقسم من جهة المعنى الموضوع له اللفظ إلى أقسام:

القسم الأول:

أن يتصور الواضع المعنى الذي يريد أن يضع له اللفظ معنىً عاماً صالحاً للانطباق على كثيرين ويضع اللفظ لذلك المعنى على ما هو عليه من العموم، بحيث يكون اللفظ موضوعاً بإزاء مجموع الأفراد، ويكون حاكياً عنها بلحاظ وجود جهة مشتركةٍ بين هذه الأفراد، أي أن الواضع يكون ناظراً لوجود جهة تشترك فيها جميع الأفراد الذي يراد وضع اللفظ لها، ويكون وضع اللفظ بلحاظ تلك الجهة المشتركة من دون ملاحظة خصوصيات

ص: 22

الأفراد الموجبة لفرديتها وتمايزها فيما بينها، وقد يمثل له بوضع (أسماء الأجناس) كلفظ (إنسان) و (حيوان) و (كتاب) و (دار) فإن مثل هذه الألفاظ موضوعة بلحاظ وجود جهة اشتراك بين أفراد الإنسان أو الحيوان، وهو عنوان الإنسانية أو الحيوانية من دون ملاحظة خصوصيات كل فرد من أفراد الإنسان أو أفرادالحيوان، بل كل من يشترك بهذه الجهة المشتركة ينطبق عليه اللفظ، وهنا يسمى الوضع عاماً والموضوع له عام.

القسم الثاني:

أن يتصور الواضع المعنى المراد وضع اللفظ له معنىً عاماً صالحاً للانطباق على كثيرين لكن لم يكن وضع اللفظ لذلك المعنى العام بما هو عليه من العموم، ولم يكن الوضع بلحاظ وجود جهة مشتركة بين الأفراد المراد وضع اللفظ لها، بل الملحوظ أن يكون المعنى حاكياً عن خصوصيات الأفراد، فيكون الواضع كأنه لحظ المعنى العام طريقاً ومرآة للموضوع له وهي الأفراد، فالملاحظ عند الوضع هو المعنى العام والموضوع له اللفظ هو أفراد ذلك المعنى العام بخصوصياتها، وقد يمثل له بوضع (الحروف) كحروف الجر والحروف المشبهة بالفعل وغيرها و (الهيئات) كاسم الفاعل وأفعل التفضيل والصفة المشبهة على بعض الأقوال في المعنى الحرفي كما سيأتي توضيح ذلك إن شاء الله تعالى، وهذا يسمى الوضع عام والموضوع له خاص.

القسم الثالث:

أن يتصور الواضع المعنى الموضوع له اللفظ معنىً خاصاً ويكون اللفظ أيضاً خاصاً، ويضع ذلك اللفظ بما له من الخصوصية اللفظية لذلك المعنى بما له من الخصوصية في المعنى مثل وضع ألفاظ (الأعلام الشخصية) و (الكتب) و(الأدوية) وأشباهها، وهذا يسمى الوضع خاص والموضوع له خاص.

ص: 23

القسم الرابع:

أن يتصور الواضع المعنى الموضوع له اللفظ معنىً خاصاً ولكن يضع اللفظ للمعنى العام الذي يدخل تحته ذلك الخاص، وهذا القسم على ما حققه الأعلام مستحيل الوقوع؛ لأن هذا القسم عكس القسم الثاني، وهناك إنما صح الوضع لأن العام يمكن أن يكون مرآة وحاكياً عن الخاص لأنه أوسع منه دائرة، والخاص واقع تحته، أما هنا فالأمر غير ممكن؛ لأن الخاص إنما يكون حاكياً عن نفسه فقط ولا يمكن أن يكون الخاص حاكياً عن العام؛ لأنه أحد أفراده، ومعنى كونه خاصاً أن له خصوصية لا يشاركه فيها غيره من أفراد ذلك العام، فلا يمكن أن يكون الخاص عنواناً للعام مع محافظته على خصوصيته، ولا يمكن الوضع للعام من طريق الخاص كما صح ذلك في عكسه، أي القسم الثاني، ولذا كان هذا القسم مستحيل الوقوع عند الأكثر، وإن قال بإمكانه بعض الأعلام في كلام ليس محله هذا المختصر، ويسمى هذا الوضع الخاص والموضوع له العام.

الأمر الرابع : في تحقيق المعنى الحرفي

ما يريدونه هنا من المعنى الحرفي هو كل معنىً لا يكون مستقلاً في نفسه وإنما يكون قائماً بغيره ك-(الحروف)، مثل: حروف الجر، وحروف الاستفهام وغيرها، و (الهيئات) كهيئة اسم الفاعل، والمفعول، وغيرهما، و (النِّسب) كنسبة الأمر والنهي، وغيرهما، وقد اختلف الأعلام (رضوان الله عليهم) في تحقيق المعنى الحرفي بكلام طويل جداً مما يصعب الإحاطة بما ذكروه، خصوصاً بما نروم إليه من الاختصار والبساطة في هذا الكتاب، لكن نذكر عمدة الأقوال المذكورة في المعنى الحرفي المعروفة الآن وهي:

الأول: إن الحروف لها معاني متقومةٌ بذاتها تخطر في الذهن ولها نحو

ص: 24

من التقرر من دون نظر لمقام الاستعمال، وهي كالمفاهيم الاسمية المستقلةبنفسها التي لها نحو من التقرر من دون لحاظ مقام الاستعمال بلا فرق بينهما، وحيث إن الجمل لها نسب تكون أطرافاً للجملة كالمبتدأ والخبر والفعل والفاعل، ولابد لها من روابط تربط تلك النسب فيما بينها، والروابط هي الحروف، فيكون الفرق بينهما أن المفاهيم الاسمية مفاهيم استقلالية لا تصلح لأن تكون روابط بين النسب، بل هي تكون أطرافاً للنسب، أما المفاهيم الحرفية فهي لا تصلح أن تكون أطرافاً للنسب وإنما تكون آلة للربط بين النسب، ولا فرق بين المفاهيم الاسمية كمفهوم (الابتداء) و (الانتهاء) ومثيلاتها من المفاهيم الحرفية كحرف (من) و (إلى) إلا من حيث لحاظ المستعمِل، فإنه إذا أراد معنى الابتداء مستقلاً أي أراده طرفاً للنسبة أتى بالمفهوم الاسمي، وإذا أراده رابطاً لغيره أتى بالمفهوم الحرفي، فمثلاً إذا أراد الابتداء بما هو طرف للنسبة أتى بالمفهوم الاسمي للابتداء فيقول (الابتداء بالسفر يوم الجمعة مكروه) فإنه هنا أراد الابتداء بما أنه طرف للنسبة، أي يراد هنا الحكم على الابتداء بأنه مكروه، وأما إذا أراد الابتداء بما هو رابط لغيره من النسب فإنه يأتي بالمفهوم الحرفي للابتداء فيقول (سرت من النجف) فأراد هنا أن الابتداء رابط بين المسير والنجف، وأن الابتداء كان من النجف لا من غيرها، فاستعمل (من) وهكذا، وعلى هذا القول فإن المعاني الحرفية تكون عامة صالحة للانطباق على كثيرين، ويكون القائل بهذا القول بانياً على أن الوضع فيها عاماً والموضوع له عام، وقد تسمى المعاني الحرفية على هذا القول (إخطارية) أي: تخطر معانيها في الذهن من دون لحاظ عالم الاستعمال.

الثاني: إن الحروف لها معاني متقومة بذاتها تخطر في الذهن ولها نحو من التقرر من دون نظر لمقام الاستعمال، لكنها تختلف عن المفاهيم الاسمية وهي مباينة لها، فليس معنى (من) هو نفس معنى (الابتداء)، وليس الفرق

ص: 25

بينهما في مقام لحاظ المستعمل، بل كل منهما لها معنىً مستقل في ذاته،فمعنى (الابتداء) معنىً اسمي كلي صالح للانطباق على كثيرين، وأما معنى (من) فهو جزئي شخصي لا يحكي إلا عن الخصوصية التي استعمل فيها، توضيح ذلك فإنك إذا قلتَ مثلاً (سرت من النجف) وقال زيد (سرت من النجف) فإن (من) ليست نفسها في كلتا الجملتين، بل في جملة (سرت من النجف) الأولى حاكية عن خصوصية ابتداء سيرك أنت، وفي الجملة الثانية حاكية عن خصوصية ابتداء سير زيد، وهكذا فإن كل (من) في كل جملة تحكي عن خصوصية تلك الجملة التي استعملت فيها، فعلى هذا القول لا تكون معاني الحروف عامة صالحة للانطباق على كثيرين، والقائل بهذا القول يبني على أن الوضع في الحروف عام والموضوع له خاص، وقد تسمى المعاني الحرفية على هذا القول (إخطارية) أيضاً.

الثالث: إن الحروف لا معاني لها أصلاً، فهي غير موضوعة لمعنىً، بل حالها حال علامات الإعراب كالضمة والفتحة في أنها تفيد كيفية معينة في غيرها فقط، كما أن علامة الرفع كالضمة تدل على أن ما دخلت عليه هو فاعل، أو مبتدأ، أو خبر، أو غير ذلك، وعلامة النصب كالفتحة إنما تدل على أن مدخولها مفعول به، أو حال، أو تمييز، أو غير ذلك، فإن (من) مثلاً في جملة (سرت من النجف) تدل على أن المكان المذكور في الجملة وهو النجف قد ابتدأ منه السير، وكذلك مثل (إلى) في قولك (ذهبت إلى البصرة) فإنها تدل على المكان المذكور في الجملة وهو البصرة منتهى السير، وهكذا حكم باقي الحروف، وعلى هذا القول يكون وضع الحروف خاصاً والموضوع له خاص، وقد تسمى الحروف على هذا المعنى (آلية) أي آلة لإيجاد المعنى في غيرها.

الرابع: إن الحروف ليس لها معاني يمكن أن تخطر في الذهن مع قطع

ص: 26

النظر عن مقام الاستعمال، فليس لها معاني متقررة في ذاتها، وإنما هي توجد النسب المستعملة فيها حين استعمالها فيها، فمثلاً (من) في جملة (سرت من

النجف) توجد نسبة ابتداء السير من النجف، وإذا استعملت في جملة أخرى فكذلك توجد تلك النسبة حين استعمالها فيها وهكذا، وهنا لابد أن تكون النسب الموجودة بالحروف جزئية؛ لأن المفروض أنها توجد النسب في الخارج، وما يوجد بالخارج هو الجزئي فقط، لأن الكلي لا وجود له إلا في الذهن، وعلى هذا القول يكون الوضع عاماً والموضوع له خاصاً؛ لأن الواضع يلاحظ العنوان العام الشامل للحروف، والموضوع له هو خصوص النسب الموجودة حين الاستعمال، وقد تسمى على هذا القول (إيجادية)، أي: توجد معاني النسب حين الاستعمال، وإلى هنا نكتفي بهذا المقدار من الكلام في المعنى الحرفي بما يناسب هذه المرحلة وهذا المختصر.

الأمر الخامس : في الحقيقة والمجاز

إن اللفظ إذا استعمل في المعنى الذي وضع له يكون استعماله فيه (حقيقة)، كاستعمال لفظ (القلم) فيما وضع له و (الكتاب) وهكذا، وإذا استعمل في معنى غير المعنى الذي وضع له مع وجود مناسبة بين المعنى الموضوع له والمعنى المستعمل فيه في جهة من الجهات تصحح هذا الاستعمال فيكون استعماله فيه (مجاز)، كاستعمال لفظ (الأسد) في الرجل الشجاع من حيثية صفة الشجاعة في الأسد واستعمال لفظ (المها) للمرأة ذات العيون الكبيرة وهكذا، وإذا استعمل اللفظ في غير المعنى الموضوع له مع عدم وجود مناسبةبين المعنيين من جهة من الجهات فإنه يكون (غلطاً)، كاستعمال لفظ (قلم) في الشجرة أو لفظ (كتاب) في الدار، وقد وقع الكلام بين الأعلام في الحقيقة والمجاز في أمرين:

ص: 27

الأمر الأول: في كيفية صحة الاستعمال المجازي وفيه قولان:

الأول: إن الاستعمال المجازي لا يصح إلا بترخيص من الواضع للفظ، فلا يجوز استعمال لفظ موضوع لمعنى بمعنى آخر مع عدم ترخيص الواضع لذلك اللفظ، حتى لو كان بينهما جهة مناسبة، والعكس بالعكس، فعلى هذا القول يكون الاستعمال المجازي تابعاً للواضع ترخيصاً وعدماً.

الثاني: إن الاستعمال المجازي يصح باستحسان الذوق السليم عند المتخاطبين في كل لغة مع كونه استعمالاً مقبولاً بحسب الطبع عند العرف، إذا كانت هناك جهة مناسبة بين المعنى الحقيقي والمجازي تصحح استعمال اللفظ فيه حتى لو لم يرخص الواضع، أو حتى لو لم يكن يعلم بأنه سوف يستعمل اللفظ الذي وضعه لهذا المعنى في معنى آخر له مناسبة معه، والعكس بالعكس، فمثلاً الذوق السليم يستحسن استعمال لفظ (الأسد) في (الرجل الشجاع) ولا يستحسنه في ( الرجل الكريه رائحة الفم) أو (طويل الأظفار) مع أن هذه الأوصاف جميعها مما يوصف بها الأسد، سواء رضي بذلك الواضع أم لا، وسواء علم به أم لا، فعلى هذا القول يكون الاستعمال المجازي تابعاً للذوق العرفي السليم، واللازم على كلا القولين استعمال اللفظ في المعنى المجازي بقرينة دالة عليه.

الأمر الثاني: في كيفية معرفة المعنى الحقيقي من المجازي مع الشك.

إن كل لفظ إذا استعمل في معنى ما فالأصل الأولي أن يكون مستعملاً في المعنى الحقيقي له، وأما إذا أريد استعماله في معنى مجازي فلابد من نصب قرينة على ذلك، ولكن لو وجد استعمال للفظ في معنى وشك في كون المستعمل قد استعمله فيه على نحو الحقيقة، أو بنحو المجاز مع القرينة وقد ضاعت القرينة، فإنهم ذكروا علامات لمعرفة كون اللفظ حقيقة فيما استعمل فيه أم لا، لأن مجرد الاستعمال للفظ في معنى لوحده لا يكشف

ص: 28

عن كون هذا اللفظ قد استعمل فيه على نحو الحقيقة؛ لأن الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز أما العلامات التي ذكروها فهي :

الأولى: (التبادر) وهو انسباق المعنى من نفس اللفظ من دون حاجة إلى ذكر قرينة يدل بها اللفظ على المعنى، بل يكون اللفظ بنفسه سبباً لحضور المعنى في الذهن بمجرد إطلاقه، وهذا الانسباق إنما يحصل لوجود علاقة بين اللفظ والمعنى بسبب الوضع. ويلزم أن يكون ذلك الانسباق ناشئاً من حاق اللفظ من دون وجود أية قرينة خارجية لدلالته على ذلك المعنى كتبادر معنى (التراب) من إطلاق لفظ (الصعيد) مثلا.

الثانية: صحة حمل اللفظ على المعنى وعدم صحة سلب ذلك اللفظ عن ذلك المعنى دليل على أن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى فيكون صحة الحمل عليه علامة الحقيقة، وعدم صحة حمله علامة المجاز، كما أن صحة سلبه عنه علامة المجاز، وذلك لأن صحة الحمل تحتاج إلى وجود علاقة مصححة بين المحمول والموضوع، وهنا لابد أن تكون علاقة الوضع؛ لأنه لا توجد بينهما علاقة غيرها إذا لم تكن قرينة خارجية دالة على صحة الحمل، مثلا صحة حمل لفظ (إنسان) على هذا المخلوق المعين المتمثل بزيد وعمرو وغيرهم علامة انه مستعمل فيهم حقيقة، وصحة سلب لفظ (الأسد) عن (زيد) علامة أنه مستعمل فيه مجازاً.

الثالثة: الاطراد وهو كثرة استعمال لفظ معين في معنى معين في جميع الأحوال والمقامات، فإن ذلك علامة على كون هذا الفظ موضوعاً لهذا المعنى

ولذا صح استعماله فيه في جميع حالاته، كاطراد استعمال لفظ (أسد) على هذا الحيوان المفترس في جميع الأحوال والمقامات.

يبقى الكلام في تمامية هذه العلامات ليس محله هذا المختصر.

ص: 29

الأمر السادس : في الترادف والاشتراك

المراد بالترادف هو أن توضع عدة ألفاظ لمعنى واحد، مثل وضع لفظ (السيف) و (الصارم) و (الحسام) لمعنى واحد وهو (السيف)، أو وضع لفظ (ليث) و (ضرغام) و (حيدرة) لمعنى واحد وهو (الأسد) وهكذا، فهذه الألفاظ تسمى (مترادفة).

والمراد بالاشتراك هو وضع لفظ واحد لمعاني متعددة، فيقال لهذا اللفظ (مشترك)، وقد يمثل له بلفظ (العين)، فإنه موضوع (للباصرة) و (النابعة) و (الذهب) و (الفضة) وغيرها، وأمثاله .

لا كلام بينهم في انه يجوز استعمال اللفظ في معناه الحقيقي بدون حاجة إلى نصب قرينة، ويجوز استعمال اللفظ في غير المعنى الذي وضع له مجازاً مع نصب القرينة، وكذلك يجوز استعمال اللفظ المشترك في مجموع المعاني الموضوع لها اللفظ بما أنها معاني له، لا على أن يلحظ كل معنى بخصوصه واستقلاله في هذا الاستعمال، كما إذا قال (رأيت عيناً) ويقصد رؤيته لكل المعاني التي وضع له لفظ العين، فالمراد هنا استعمال لفظ العين بكل معانيه الموضوع لها، لكن هذا الاستعمال يكون مجازياً؛ لأنه المفروض أن اللفظ موضوع لكل معنىً على حده على أن يستعمل في كل معنى لوحده، فإذا استعمل بمجموع المعاني بما هو مجموع فإنه يكون استعمالاً مجازياً؛ لأنه استعمال للفظ في غير ما وضع له.

ولكن الذي وقع الكلام فيه بينهم في جواز استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى باستعمال واحد، على أن يكون كل معنى من المعاني مراداً لوحده للمتكلم، بحيث يكون كما أنه لو لم يستعمل هذا اللفظ إلا في ذلك

ص: 30

المعنى لوحده، فيكون كل معنى ملحوظاً للمتكلم على حده، وكأن المتكلم لم يستعمل اللفظ إلا في معنى واحد.

ذهب الأكثر إلى منع مثل هذا الاستعمال وذكروا للمنع وجوهاً:

الأول: إن استعمال اللفظ في المعنى ليس من جهة كونه علامة عليه، وذلك لأن العلامة يمكن أن تكون في وقت واحد علامة لأشياء متعددة مثلاً (كالدخان) الذي يمكن أن يكون علامة على وجود النار وعلى حصول الاحتراق، بل هو إحضار للمعنى، فيكون ذكر اللفظ بالحقيقة بديلاً عن إحضار المعنى بنفسه، فيكون اللفظ وجهاً له، لإن المستعمل للفظ في المعنى فإنه بدلاً من إحضاره للمعنى بنفسه فإنه يأتي باللفظ بدله، ويكون بذلك كأنه قد أحضر المعنى بنفسه أمام السامع، فحينئذٍ يكون اللفظ قد استهلك بتمامه باستعماله في المعنى الأول، فلا يبقى وجود للفظ حتى يمكن استعماله مرة أخرى في نفس ذلك اللفظ، وذلك لأن اللفظ يكون فانياً في المعنى باستعماله فيه، وحيث إنه قد فني بالمعنى الأول باستعماله فيه، فلا يمكن فنائه في معنى آخر في نفس الوقت؛ لأنه لا يمكن لشيءٍ أن يفنى في أن واحد مرتين، وبهذا الوجه يكون امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى عقلياً.

الثاني: إن استعمال اللفظ في المعنى يعتبر إيجاداً للمعنى لكن ليس إيجاداً له بنفسه، بل إيجاد تنزيلي له، أي: تنزيلاً للمعدوم منزلة الموجود، ولكن هذا الإيجاد حصل باللفظ، فإن اللفظ حين استعماله في المعنى يكون موجوداً بحقيقته وبذاته، والمعنى يكون موجوداً تنزيلاً، إي اعتبار المعنى كأنه موجود بنفسه، ومعنى ذلك أن اللفظ يوجد المعنى ويحضره لكن لا بنفسه بل تنزيلاً، وحيث إن اللفظ هو الموجود حقيقة وبالذات، وهو واحد، وهو موجد للمعنى تنزيلاً، فيستحيل تعدد وجود المعنى، وذلك لأن وحدة الإيجاد تستلزم وحدة الوجود، بمعنى أن الإيجاد إذا كان واحداً فيلزم أن

ص: 31

يكون الوجود الحاصل بذلك الإيجاد أيضاً واحداً(1)،ولهذا استحال استعمال لفظ واحد في معنيين عقلاً.

الثالث: إن المستعمل للفظ في المعنى لابد له من لحاظ المعنى المراد استعمال اللفظ فيه، ومعنى يلحظه أي: يحضره في ذهنه، ومن ثم بعد أن يلحظه يستعمل فيه اللفظ الموضوع له، فكل معنى قبل استعمال اللفظ فيه لابد من استحضاره في الذهن، فحينئذٍ إذا أراد المستعمل أن يستعمل لفظاً واحداً في أكثر من معنى، وكل معنى مستقل في نفسه، فيلزم عليه أن يلحظ كل معنى مستقلاً في نفسه، كما لو كان مستعملاً فيه لوحده، فعلى هذا يلزم أن يتعدد لحاظ المستعمل للفظ في آن واحد، وذلك بأن يلحظ معنيين كل منهما بنفسه وتمامه مستقلاً عن الآخر، وحيث إن تعدد لحاظين مستقلين في آن واحد لمعنيين متعددين ممتنع عقلاً، لأن العقل لا يمكنه استحضار صورتين مستقلتين لأمرين متعددين في وقت واحد، فعليه امتنع استعمال لفظ واحد لمعنيين في آن واحد عقلاً .

الرابع: إن استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى غير متعارف ولا مألوف عند أهل اللسان، بحسب سيرتهم الجارية في التفاهم بينهم، فإن أهل

اللسان يفهمون من استعمال اللفظ في المعنى إرادة معنى واحد لا أكثر، ولعل سبب فهمهم هذا ناتج من أن تعدد لحاظ كل معنى على حده واستعمال لفظ واحد فيه يحتاج إلى عناية وكلفة زائدة على ما هو المألوف والمتعارف في التفاهم بالألفاظ وفهم الكلام فيما بينهم، فلذا امتنع استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى، فيكون الامتناع من جهة كونه استعمالاً خارجاً عن طريقة التفاهم المتعارفة عند أهل اللسان.

هذه عمدة الوجوه المذكورة في امتناع استعمال اللفظ الواحد في أكثر

ص: 32


1- وهذا موضوع موجود عند المتكلمين يرجع في تماميته وعدمه للكتب المختصة بذلك

من معنى، وهناك وجوه أخرى ليس محلها هذا المختصر بقي في المقام تنبيهان:

الأول:إن الوجوه المذكورة في امتناع استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى لا يفرق فيها بين كون المعاني كلها حقيقية أو مجازية، أو بعضها حقيقي، وبعضها مجازي، لعين العلل المذكورة في الامتناع في تلك الوجوه.

الثاني: إن الذي منع من استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى منعه أيضاً في التثنية والجمع، فلا يصح أن تقول (رأيت عينين) وتريد باصرة ونابعة، بل إما باصرتين، أو نابعتين، وذلك لأن التثنية والجمع إنما يفيدان التعدد في أفراد المعنى الواحد، لا التعدد في المعاني المتعددة، فبقولك (رأيت عينين ) أي: فردين من معنى واحد، لا فردين لمعنيين، فتكون علة المنع ذاتها موجودة.

نعم ذكر بعض من منع من استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى أنه لا مانع من ذلك في التثنية والجمع، وعلل ذلك بان التثنية والجمع في قوة تكرار الواحد، وذلك كتكرار المفرد بالعطف، فكما يجوز تعاطف المعاني المتعددة، كان تقول رأيت عين، وعين، وتريد عيناً باصرة، ونابعة، يمكن أن تقول رأيت عينين، وتريد باصرة ونابعة.

الأمر السابع : في الحقيقة الشرعية

هناك ألفاظ لها معاني ثابتة في اللغة قبل أن يبزغ فجر الإسلام، وبعد ظهور الإسلام صار لها معاني أخرى غير ما كانت عليه قبل الإسلام؛ لأن هذه المعاني الجديدة لهذه الألفاظ استحدثها الإسلام بلحاظ تلك المعاني السابقة، وأصبحت الآن إذا استعملت بلا قرينة يراد منها المعاني الجديدة بعد الإسلام خصوصاً بعد كثرة المسلمين وانتشارهم وكثرة ابتلائهم

ص: 33

بالمعاني الجديدة، وأهمل المعنى الأول اللغوي، كلفظ ( الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، والوضوء) وغيرها، فالصلاة في اللغة الدعاء، وبعد الإسلام الفرض المعهود، والصوم في اللغة الإمساك، وبعد الإسلام الصوم الخاص، والحج في اللغة القصد، وفي الإسلام النسك المخصوص، والزكاة في اللغة الطهارة، وفي الإسلام دفع المال بشكل مخصوص، والوضوء في اللغة النظافة وفي الإسلام الفعل المخصوص، وهذا مما لا شك فيه، وإنما الكلام بين الأعلام في أن هذه الألفاظ متى تم نقلها من معناها اللغوي إلى معناها الشرعي بحيث صار لا يعرف منها إلا المعنى الشرعي عند إطلاقها، هل في عصر الشارع وهو عصر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فتسمى (حقائق شرعية) أو في عصر المتشرعة وهو العصر الذي بعده، فتسمى (حقائق متشرعية)، والفائدة المترتبة على هذا الأمر، هي أنه إذا ورد لفظ من هذه الألفاظ بآية أو رواية عنه (صلى الله عليه وآله) أو عن أحد المعاصرين له (صلى الله عليه وآله) ممن يكون لروايته أثر عملي، يترتب عليه حكم شرعي، وكان هذا اللفظ خال عن القرينة، وشككنا في إرادة المعنى اللغوي أم الشرعي في هذه الآية أو الرواية، مثلا إذا ورد عنه (صلى الله عليه وآله) استحباب الوضوء قبل الأكل وشككنا في المراد هل هو الوضوء المتعارف عند الشارع أو عموم النظافة، أو ورد استحباب الصلاة قبل النوم فهل يراد منها صلاة ركعتين أم الدعاء فمن يقول بثبوت الحقيقة الشرعية فإنه يحمل اللفظ على معناه الشرعي؛ لأنه قد صار حقيقة فيه في عصره (صلى الله عليه وآله)، فكل ما يرد منه (صلى الله عليه وآله) يحمل على المعنى الشرعي مع عدم القرينة، ومن لم يقل بثبوت الحقيقة الشرعية اختلفوا على قولين:

الأول: قال بحمل اللفظ على معناه اللغوي؛ لأنه هو الأصل فيه، ولم يثبت النقل عنده في عصره (صلى الله عليه وآله) فيبقى اللفظ على معناه الأصلي.

الثاني: قال بالتوقف في حمل اللفظ على أي من المعنيين، وعليه يكون اللفظ عنده مجملاً، ووجه التوقف، هو أن هذه الألفاظ لم يثبت لها النقل في

ص: 34

عصر الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى المعاني الشرعية، ولكن مما لا شك فيه أنها استعملت في المعاني الشرعية في عصره (صلى الله عليه وآله) مجازاً، وصارت مجازاً مشهوراً في عصره (صلى الله عليه وآله)، لكثرة استعمال المسلمين لها في المعنى الشرعي في ذلك العصر، لكثرة ابتلائهم بها وحاجتهم لها، وإذا دار الأمر بين حمل اللفظ على المعنى الحقيقي أو المجاز المشهور مع عدم القرينة، فالبناء على التوقف هو مختار البعض. بينما كان البناء على الحمل على المعنى الحقيقي في هذا الفرض مختار آخرين، لأن المعنى المجازي لا يعارض المعنى الحقيقي ولو كان مشهوراً.

فمن قال بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية استدل لذلك بما محصله، أن وضع الألفاظ للمعاني الشرعية بنحو الوضع (التعييني) مما لا مجال له، لمافيه من الكلفة والعناية، لأنه يلزم على الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) أن يقول على المنبر أو في محفل عام وضعت لفظ كذا لكذا وهكذا، حتى يصير معلوماً عند المسلمين وضع هذا اللفظ لهذا المعنى عند الشارع، ولو كان لبان؛ لأنه لم ينقل ذلك إلينا مع عدم وجود دواعي لإخفائه، فلابد من عدم حصوله منه (صلى الله عليه وآله).

نعم قال آخرون يمكن القول بوضع هذه الألفاظ للمعاني الشرعية بنحو الوضع (التعيّني) في عصر الإمام علي (عليه السلام) وما بعده، وذلك لكون هذا اللفظ المستعمل في المعنى الشرعي مخصوصاً بالمسلمين، وبسبب حاجتهم إليه وكثرة استعمالهم له فيه وهجرهم للمعنى القديم لقلة الحاجة إليه فإنه يكون عندهم هو المتبادر عند الإطلاق، أما في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله) فيحصل الشك في حصول النقل ومع الشك فالأصل العدم ويكون البناء على المعنى اللغوي.

أما من قال بثبوت الحقيقة الشرعية فلهم بالاستدلال على مبناهم قولين:

ص: 35

الأول : إن وضع هذه الألفاظ للمعاني الشرعية حصل من النبي (صلى الله عليه وآله) وبالوضع (التعييني)، لكن لا على أن النبي (صلى الله عليه وآله) صعد المنبر وقال وضعت لفظ كذا لكذا، بل إنما استعمل الرسول (صلى الله عليه وآله) هذه الألفاظ في هذه المعاني الشرعية المستحدثة استعمالاً يدل على الوضع لها، وأن هذه الألفاظ دالة على هذه المعاني من دون حاجة إلى استعمال قرينة منه (صلى الله عليه وآله) ومن غيره، وقد يكون قد نصب قرينة على استعمال اللفظ استعمال وضع، لكنها خفيت علينا، فكان نصب القرينة على كيفية الاستعمال لا على دلالة نفس اللفظ على المعنى، بل دلالته عليه تكون بنفسه من دون حاجة للقرينة.

الثاني : إن الوضع التعييني لا مجال له لما فيه من المؤنة والكلفة الخارجين عن المتعارف في مثل هكذا وضع، ولو كان موجوداً لنقل إلينا لعدم وجود الدواعي على إخفائه، نعم لا يبعد حصول الوضع (التعيّني) في أواخر عصر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)؛ لأنها لما كانت معاني مستحدثة للشارع الأقدس وأصبحت محل حاجتهم، فالصلاة مثلاً يلزم أداؤها في اليوم والليلة خمس مرات، مع ما فيها من الشروط والأحكام، والحج وإن كان في العام مرة لكن لما فيه من المراسيم الخاصة وكونه في وقت خاص وكيفية خاصة ولما فيه من الجهد، وكذلك الصوم، وغيرها، فيبعد جداً عدم انصراف أذهانهم إلى المعاني الشرعية في استعمالات الشارع دون المعاني الأصلية، لعدم احتياجهم للمعاني الأصلية من الشارع بقدر احتياجهم لهذه المعاني، فيبعد جداً أنهم كانوا يحتاجون في إرادة المعاني الشرعية إلى نصب قرينة، وخاصة بعد انتشار الإسلام، ولعله في آخر عصره (صلى الله عليه وآله) قد هجر المعنى اللغوي لكثرة المسلمين المبتلين بالمعنى الجديد دون القديم، نعم أول استعمالهم لها في أول التشريع هو إما كان على نحو المجاز لمقاربتها للمعنى الحقيقي كالزكاة، أو استعمالهم لها على أنها من أفراد المعنى اللغوي

ص: 36

كالصوم، ولكن بعد استعمالهم لها مدة من الزمن اشتهرت هذه المعاني الجديدة واستغنت عند ذكرها عن نصب القرينة، بحيث صارت عندهم حقائق لا يحتاجون في فهمها وتفهيمها إلى وضع القرائن.

الأمر الثامن : في الصحيح والأعم

وقع الكلام بين الأعلام (رض) بأن ألفاظ العبادات الشرعية كالصلاة والصوم والحج هل هي موضوعة لخصوص الصحيح من العبادة أي: كاملة الأجزاء والشرائط، أو موضوعة لما هو الأعم من العبادة الصحيحة والفاسدة، أي الفاقدة لجزء أو شرط، وما يترتب على هذا النزاع من ثمرة، هو أن القائل بكونها موضوعة للأعم من الصحيحة والفاسدة إذا شك في اعتبار قيد أو جزء في العبادة فإنه يتمسك بإطلاق لفظ تلك العبادة في نفي اعتبار هذا القيد أو الجزء المشكوك، وذلك لصدق عنوان العبادة عنده على الفاقدة لذلك الجزء أو القيد، فيحكم بالبراءة من وجوب هذا القيد أو الجزء في تلك العبادة.

وأما القائل بأنها موضوعة لخصوص الصحيحة منها فلا يمكنه التمسك بإطلاق لفظ العبادة في نفي القيد أو الجزء المشكوك، لعدم تحقق عنوان العبادة عنده بالفاقدة له لو كان قيداً أو جزءاً واقعاً، فلا يمكنه الحكم بالبراءة من وجوب هذا القيد أو الجزء، فمثلاً إذا شك في أن القنوت هل هو واجب في الصلاة أم لا، أو شك بوجوب كون ثوب المحرم أبيض أو لا، فعلى القول بالأعم لا يجب الإتيان بالقنوت لأصل البراءة من وجوبه ولا لبس الإحرام الأبيض لأصل البراءة من قيديته، ولصدق عنوان الصلاة والحج بدون فعلهما ولو كان واقعا جزء أو قيد، وعلى القول بالصحيح يجب الإتيان به لعدم

ص: 37

إحراز صدق عنوان الصلاة أو الحج على الفاقدة له لو كان جزءاً منها أو قيداً.

واستدل كل قائل على قوله بأدلة، فاستدل القائلون بالوضع للصحيح بأدلة منها:

الأول: التبادر للصحيح حين الإطلاق بدون قرينة، فإذا قيل صلى زيد أو صام فالمتبادر هو الصلاة والصوم الصحيحتان وهكذا، وقد مر تعريف التبادر في علامات الحقيقة والمجاز(1)واعتبار البعض كونه علامة الحقيقة.

الثاني: صحة سلب العنوان عن الفاسد، فالعبادة الفاسدة أي: الفاقدة لجزء أو قيد لا يصدق عليها عنوان تلك العبادة، فالصلاة الفاسدة مثلاً يصح سلب اسم الصلاة عنها، فيقال هذه ليست صلاة، أو لم يصلِ زيد، إذا صلى صلاة باطلة، وقد مر كونه علامة الحقيقة عند البعض.

الثالث: إن بعض الآيات والروايات تضمنت ثبوت بعض الآثار لبعض العبادات، كقوله تعالى [ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ ](2)وقوله (عليه السلام) ( الصلاة عمود الدين )(3)و ( الصلاة معراج المؤمن )(4)و ( الصوم جنة من النار )(5)

وغير ذلك، ومن المعلوم أن ثبوت مثل هذه الآثار لابد أن يكون لما هو الصحيح منها، ولا يعقل ترتبها على الفاسد منها؛ لأن المقصود للشارع الأقدس هو العبادات الصحيحة دون الفاسدة منها، وهي المطلوبة له حتى يرتب عليها آثار الثواب وغيره.

الرابع: إن كل مخترع لمعنى جديد إذا أراد وضع اسم له فلابد أنه

ص: 38


1- ص
2- آية 45 من سورة العنكبوت
3- وسائل الشيعة الحر العاملي ج 4 كتاب الصلاة باب تحريم إضاعة الصلاة ح 12
4- المحاسن للبرقي كتاب ثواب الأعمال ح 60 ص 44
5- الكافي ج 2 باب أن الإسلام يحقن به الدم ح 15

يلاحظ ما يترتب عليه غرضه من ذلك المعنى ويضع الاسم لذلك المعنى، وحيث إن الشارع هو المخترع لهذه العبادات، وهو الواضع لها ألفاظها، فلابد أنه يضع الاسم لما هو الصحيح منها لترتب غرضه على الصحيح منها دون الفاسد.

واستدل القائلون بالوضع للأعم بأدلة منها:

الأول: التبادر لتبادر الذهن عند إطلاق الصلاة لعموم الصلاة دون الصحيح بالخصوص، لعدم لحاظ ذلك عند الإطلاق للفظ الصلاة مثلاً.

الثاني: عدم صحة السلب عن الفاسد، فالصلاة الفاسدة لا يصح سلب اسم الصلاة عنها، فلا يقال أنها ليست بصلاة، بل يقال لها صلاة فاسدة.

الثالث: لو لم تكن ألفاظ العبادات موضوعة للأعم لما صح تقسيمها إلى صحيحة وفاسدة؛ لأن المَقسَم لابد أن ينطبق على أقسامه، كما قسموا الكلمة إلى اسم، وفعل، وحرف، فكل منها يقال له كلمة، فكذلك قسموا الصلاة مثلاً إلى صحيحة وفاسدة، فلابد أن كلاً منها يصدق عليه أنه صلاة.

وفي كل من أدلة الطرفين مناقشات ليس محلها هذا المختصر.

ص: 39

المبحث الأول من مباحث الألفاظ : المشتق

ينبغي أولاً أن نعرف ماهو المشتق المراد البحث عنه في علم الأصول؛ لأن المشتق عند الأصوليين غيره عند النحويين؛ بل بينهما عموم وخصوص من وجه.

فالمشتق عند النحويين هو كل ما يشترك بمادة واحدة مع اختلافه بالهيئة، كالفعل، والمصدر، واسم الفاعل، والمفعول، وغيرها، فضَرَبَ فعل، وضَرْبْ، مصدر، وضارب اسم فاعل، ومضروب اسم مفعول، ويقابله الجامد وهو الذي يكون له مادة وهيئة واحدة، كرَجُل، وكتاب، وزوج.

وأما المشتق عند الأصوليين هو كل عنوان ينتزع من الذات بلحاظ صفة خارجية عن الذات، لكنها موجودة فيها تمكن من انتزاع العنوان بلحاظها، ويكون ذلك العنوان حاكياً عن تلك الذات، مثل ضارب بلحاظ وجود صفة الضرب، وزوج بلحاظ التلبس بالزوجية، ونجار بلحاظ المهنة، وهكذا.

وعلى هذا يكون بين المعنيين للمشتق عموم وخصوص من وجه كما ذكرنا سابقاً، فمثلاً اسم الفاعل كضارب، وعامل، والمفعول كمقتول، ومجهول، وصيغ المبالغة ككرار، ونجار، فإنها تكون من المشتق على كلا المعنيين، وأما مثل المصدر كالشكر والحمد، والفعل كصام ويصلي، فإنها مشتقات باصطلاح النحويين دون الأصوليين؛ لأنها غير حاكية عن الذات المتلبسة

ص: 40

بها، وأما مثل الزوج، والأب، والعبد، فإنها مشتقات باصطلاح الأصوليين دون النحويين، لحكايتها عن الذات، وهي من الجوامد عند النحويين.

بعد هذه المقدمة لمعرفة المشتق الأصولي وقع الخلاف في أن المشتق هل هو حقيقة فيما تلبس بالذات فعلاً أو أنه يعم ما كان متلبساً بها سابقاً وزال عنه التلبس فعلاً، فمثلاً حينما يقال (ضارب) هل يقال حقيقة لمن هو ضارب بالفعل أي: يقوم بعملية الضرب فعلاً، أم يصدق على من كان ضارباً سابقاً، وهو فعلاً لا يقوم بالضرب، وكذلك الزوج مثلاً هل يصدق على من له زوجة بالفعل، أم من كانت له زوجة سابقة وهو الآن لا زوجة له.

والفائدة المتحصلة من هذا النزاع لها أثر عملي في بعض أبواب الفقه، فمثلاً تجب النفقة على الزوج لزوجته، فمن طلق زوجته هل يجب عليه الإنفاق عليها بعد الطلاق أم لا، فعلى القول بأنه حقيقة بما كان متلبساً بالصفة فعلاً لا يجب عليه النفقة لعدم كونه زوجاً فعلاً، أما على القول بالعموم فيجب عليه النفقة لصدق صفة الزوجية عليه فعلاً.

لكن حيث أن أكثر الأعلام قد بنوا على خصوص المشتق لما تلبس بالوصف فعلاً لا على عمومه، فلذا سنذكر أدلة القائلين بالخصوص فقط، لأنه محل الحاجة في هذه المرحلة وما يناسب هذا المختصر.

الأول: التبادر في إطلاق لفظ المشتق إلى المتلبس فعلاً، دون من انقضى عنه التلبس، فمن يقول تصدق على فقير يفهم من كلامه إرادة التصدق على من هو فقير فعلاً، لا من كان فقير سابقاً وهو الآن غني، وكذلك لو قال مثلاً اعطف على الطفل، فالمفهوم من كلام القائل إرادة العطف على من هو طفل فعلاً، لا من كان طفل سابقاً وهو الآن كبير، وهكذا.

الثاني: صحة سلب العنوان عن من انقضى عنه التلبس بالصفة، فمن كان مريضاً وهو الآن معافى يصح سلب عنوان المرض عنه، فيقال هو الآن

ص: 41

ليس بمريض، وكذلك من كان سابقاً قاضي وهو الآن معزول عن القضاء، فيصح أن يقال هو ليس بقاضي فعلاً، وهكذا.

الثالث: إن التزمنا بعموم المشتق فإنه حينئذٍ يكون حقيقة فيمن انقضى عنه التلبس بالصفة، وحقيقة فيمن تلبس بالصفة فعلاً، فيلزم من ذلك اجتماع للضدين، أو النقيضين، فمن كان مسافراً وهو الآن حاضر، يلزم أن يصدق عليه حقيقة وهو حاضر أنه حاضر ومسافر فعلاً وهما ضدان أو حاضر وليس بحاضر وهما نقيضان، ومن كان حياً وهو الآن ميت يصدق عليه حقيقة في حال موته أنه حي وميت فعلاً وهما ضدان أو حي وليس حي وهما نقيضان، وهكذا.

ص: 42

المبحث الثاني من مباحث الألفاظ : الأوامر

اشارة

والكلام فيها يكون في أمور:

الأمر الأول : مادة الأمر

المراد بالمادة هي الحروف التي تتركب منها الكلمة، وهي (الألف والميم والراء) من لفظة (أمر) فقد ذكر لها في اللغة معاني عدة، كالطلب مثل قوله تعالى: [ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ](1)،أي يطلب منكم، والشأن أو الشيء، كما يقال (شغلني أمر ما) أي شيء ما، أو شأن ما، والحادث كما يقال (حصل لفلان أمر عجيب) أي حادث عجيب، وغيرها كثير، ولكن الظاهر أن هذه المعاني كلها ترجع بالأصل إلى معنيين، ولفظ (الأمر) مشترك بينهما، وهما (الطلب) و (الشيء أو الشأن) والفرق بينهما واضح، (فالأمر) بمعنى الطلب يجمع على (أوامر)، وهو مشتق، يشتق منه(أمر،

يأمر، مأمور) بينما (الأمر) بمعنى الشيء يجمع على (أمور)، وهو جامد لا يشتق منه.

ص: 43


1- آية 58 من سورة النساء
الأمر الثاني : اعتبار العلو أو الاستعلاء في الآمر

اعتبر بعض الأعلام العلو الذاتي في الآمر حتى يصدق على ما يطلبه أنه أمر، فلو لم يكن عالياً بالذات لا يكون طلبه أمراً، فإذا كان مساوياً يسمى طلبه التماس، وإن كان دانياً فيسمى دعاء، وإن فرض الطالب نفسه عالياً أو ظن، فذلك لا ينفع في جعل طلبه أمراً ما لم يكن بالذات عالياً.

بينما ذهب بعض الأعلام إلى كفاية الاستعلاء في تحقق الأمر من الطلب، ولا يشترط كونه عالياً بالذات، فكل طالب إذا كانت له قوة تمكنه من فرض طلبه، أو كان له حق يمكنه به إلزام المطلوب منه بطلبه فإن طلبه يسمى أمراً، ويكفي في القوة والحق كونهما إدعائيين، كما في الظالم، أو وهميين، كما لو تصور أن له حق الأمر من جهة من الجهات وأمر الآخر بلحاظ هذه الجهة فيصدق أنه أمر، نعم يقع الكلام في لزوم امتثاله وعدمه، وهذا أمر آخر غير صدق عنوان الأمر وعدمه.

الأمر الثالث : دلالة الأمر على الوجوب

ذكر الأعلام (رض) أن الأمر بذاته ملزم، ودال على وجوب متابعته، ما لم يثبت بطريق ما غير ذلك، وذكروا لذلك أدلة:

الأول: التبادر وذلك إن الذهن ينصرف من معنى الأمر إلى كونه ملزماً، وفرض كونه أمراً غير ملزم يحتاج إلى قرينة تدل على ذلك.

الثاني: صحة سلب الأمر عن غير الواجب، فكل مطلوب غير واجب يمكن أن يقال له أنه غير مأمور به، كالمستحب، والرجاء، والالتماس، والدعاء، وغيرها.

الثالث: حكم العقل بلزوم متابعة أمر الآمر قضاءً لحق المولوية، بناء

ص: 44

على كون الآمر عالياً إما بالذات، أو متعالياً كما مر، ولا يرخص العقل للمأمور ترك فعل ما أُمر به من قبل الآمر إلا إذا رخص ألآمر بذلك.

الرابع: دلالة بعض الآيات والروايات على ترتب العقاب على مخالفة الأمر والذم على عدم الامتثال من المأمور، كقوله تعالى [ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةُ ](1)وقوله تعالى [ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلِّهِمْ سُوءُ الدَّارِ ](2) وقوله (صلى الله عليه وآله) { لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند وضوء كل صلاة}(3)ومع ثبوت الاستحباب للسواك لا الوجوب فمعناه أنه مرغوب بفعله عند الشارع فلابد من قوله (صلى الله عليه وآله) أمرتهم يعني أوجبه عليهم، وإلا فهو مأمور به لا على نحو الاستحباب، وغير ذلك كثير.

الأمر الرابع : صيغة الأمر

ومرادهم بصيغة الأمر هي هيئة فعل الأمر، الذي يقع بغير مادة الأمر، مثل (أكتب) و (صلِّ) وأمثالهما، وألحق بها (لام الأمر) التي تدخل على الفعل المضارع وتجزمه مثل (ليكتب زيد)، وذكروا أن لصيغة الأمر معاني عدة، منها: (الطلب) وهو المعنى الشائع منها، كقوله تعالى [ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ ](4)،و (الإباحة) كقوله تعالى [ وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ](5)،و (التمني) كقول الشاعر:

(ليلة العاشر طولي *** والبسي ثوبَ الظلام)

ص: 45


1- آية 63 من سورة النور
2- آية 27 من سورة البقرة
3- من لا يحضره الفقيه ج1 في السواك ح 123
4- آية 43 من سورة البقرة
5- آية 2 من سورة المائدة

و (التعجيز) كقوله تعالى [ فَأْتُوا بِسُورَةً مِنْ مِثْلَهُ ](1)،و (التهديد) كقوله تعالى [ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ ](2)،و (الاحتقار) كقوله تعالى [ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ ](3)، وقد يذكر لها معاني أخر غير ما ذكرناه، ووقع الكلام مفصلاًبين الأعلام في أن صيغة الأمر هل هي موضوعة لهذه المعاني على نحو الاشتراك، أو أنها موضوعة لبعضها وتستعمل في الباقي مجازاً، أو لا هذا ولا ذاك، بل هي موضوعة لنسبة خاصة بين المتكلم والمخاطب، تسمى ( النسبة الطلبية )، أو ( النسبة البعثية ) وغير ذلك من التفصيلات ليس محلها هذا المختصر، لكنه الكلام فيها عين الكلام في المادة فيما تقدم، من اعتبار العلو أو الاستعلاء، ودلالتها على الوجوب، وغير ذلك .

الأمر الخامس : تقسيم الطلب إلى مولوي وإرشادي

قسموا الطلب إلى قسمين:

الأول: (الطلب المولوي) وهو الطلب الذي يكون منسوباً للطالب ويكون فعله محسوباً عليه، بحيث يصح نسبة الإتيان بالفعل المطلوب من أجل طلب الطالب، ويكون فعل ذلك الطلب وامتثاله أداءً لحق المولوية والطاعة للطالب، وبذلك يستحق الفاعل الشكر من الطالب، كأوامر الله عز وجل الواجبة، كالأمر (بأداء الصلاة)، و(الصيام)، وغيرهما، ونواهيه المحرمة، كالنهي عن (الزنا)، و(شرب الخمر)، وغيرهما، وكأوامر الأب لأبنه أو المولى لعبده التي يراد منها تحقق المطلوب للآمر.

الثاني: (الطلب الإرشادي) وهو الطلب الذي لا يكون منسوباً للطالب ولا

ص: 46


1- آية 23 من سورة البقرة
2- آية 121 من سورة هود
3- آية 72 من سورة طه

يؤتى به لحسابه، بل يكون الطلب لمجرد بيان مصلحة للمطلوب منه الفعل لا يعلم هو بها ويعلم بها الطالب، أو هو غافل عنها وملتفت إليها الطالب، ويكون الطلب مجرد بيان أمر واقعي ترجع مصلحته للمطلوب منه، كطلب الطبيب من المريض استعمال الدواء للشفاء من المرض، فلا يستعمل المريض الدواء من أجل الطبيب، ولا لحسابه، ولذا لا يستحق المريض عليه الشكر والجزاء من الطالب، فلا يشكر الطبيب المريض بالتزامه بطلبه منه استعمال الدواء، بل إن استعمله فهو لمصلحته، وإن تركه فالضرر عليه.

الأمر السادس : في دلالة صيغة الأمر

اختلفوا في دلالة صيغة الأمر على وجوه أربعة

الوجه الأول: أنها موضوعة للوجوب حقيقة، فاستعمالها فيه حقيقة، واستعمالها في غيره مجاز، واستدلوا على ذلك بدليلين:

الأول: التبادر، للزوم الامتثال في الطلب من دون حاجة للقرينة على اللزوم، ويؤيد ذلك التبادر أن إبليس (لع) اعتذر عن عدم سجوده لآدم بعذر غير عدم وجوب السجود عليه بأمر الله تعالى، لو لم يكن الأمر بذاته دال على الطلب، بل علل عدم سجوده هو كونه أفضل من آدم لأنه مخلوق من نار وآدم من التراب، مع أن الأمر له بالسجود كان بصيغة الأمر، حيث إن الله تعالى قد خاطبه بقوله [ وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ](1) فلو لم يتبادر لذهنه الوجوب لأعتذر به، حيث إنه أولى بالاعتذار.

الثاني: استعمال الصيغة في كثير من الآيات والروايات وعند العرف في الوجوب والإلزام من دون وضع قرينة على إرادة الوجوب، بخلاف استعمالهم

ص: 47


1- آية 24 من سورة البقرة

لها في الندب؛ فإنهم ينصبون لذلك قرينة، ولا يستعملونها في الندب بلا قرينة.

الوجه الثاني: أنها موضوعة للقدر المشترك بين الوجوب والندب، وهو مطلق الطلب، وتكون دلالتها على أحدهما بدليل آخر غير نفس الوضع، وذلك لأنه وإن كان استعمال الصيغة في غير الوجوب يحتاج إلى القرينة، إلا إنه لا يكون استعمالاً للفظ في غير ما وضع له، وإنما تكون القرينة لبيان حال الاستعمال لا غير، ليعلم أن المراد هو الطلب الإلزامي أو غيره، وذلك لأن الصيغة إذا استعملت من دون قرينة ينصرف استعمالها للطلب الإلزامي، وذلك لوجوه ذكروها لا تليق بهذا المختصر.

الوجه الثالث: أنها موضوعة للندب حقيقة، فاستعمالها فيه حقيقة، واستعمالها في غيره مجاز، واستبعد الأعلام هذا الوجه؛ لأنه من الواضح أن استعمال صيغة الأمر في الوجوب يكون بلا عناية، ولا يحتاج فيه إلى نصب القرينة، فهو بعيد جداً.

الوجه الرابع: أنها موضوعة للوجوب والندب على نحو الاشتراك، فتستعمل في كل منهما على نحو الحقيقة، واستبعد الأعلام هذا الوجه أيضاً، لأن الاشتراك خلاف الأصل، ولا دليل عليه.

الأمر السابع : ورود الأمر بعد الحظر أو توهمه

قد يقع الأمر بالفعل بعد النهي عنه، كما في قوله تعالى [ وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ] (1) فالأمر بالصيد وقع بعد النهي عنه للإحرام، ومثل قوله تعالى [ فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا ](2)،أو يأتي بعد توهم وجود نهي، كما إذا

ص: 48


1- آية 2 من سورة المائدة
2- آية 10 من سورة الجمعة

اعتقد المريض بأنه ممنوع من شرب الحليب فيقول له الطبيب (اشرب الحليب)، فقد اختلف في دلالة هذا الأمر بين الأعلام في أنه ظاهر في الوجوب كغيره من الأوامر، أو أنه ظاهر في الإباحة بما أنها أحد الأحكام الخمسة، أو أنه ظاهر في رجوع الحكم بعده على ما كان عليه قبل الحظر أو توهمه، فإن كان واجباً فهو الآن واجب، وإن كان مباحاً فهو الآن مباح ، أو أنه ظاهر في الترخيص بالفعل بعد أن كان محظوراً أو متوهم الحظر، فمعناه أن المخاطب مرخص بالفعل الذي كان ممنوعاً منه أو اعتقد أنه ممنوع منه، ولا دلالة فيه على أحد الأحكام الخمسة بل يحتاج إلى دليل آخر للحكم عليه بأحد الأحكام الخمسة وقد اشتهر بينهم الوجه الأخير.

الأمر الثامن : في دلالة الجملة الخبرية

قد ورد استعمال الجملة الخبرية في إنشاء الطلب في موارد كثيرة، مثل رواية علي بن يقطين عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام ( في الرجل نسى التكبير حتى قرأ قال: يعيد الصلاة ) (1)،وعن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام ( في الرجل يصلي ولم يفتتح بالتكبير هل يجزيه تكبير الركوع ؟ قال: لا بل يعيد صلاته إذا حفظ انه لم يكبر) (2) فجرى الكلام في دلالة هذه الجمل على الوجوب، أو مطلق الطلب، أو غير ذلك، والكلام فيها عين الكلام في الصيغة فما قيل هناك جاري هنا فلا حاجة إلى التطويل والإعادة.

الأمر التاسع : دلالة الأمر على الفور أو التراخي

بعد الفراغ عن دلالة الأمر على الوجوب وقع الكلام بين الأعلام (رض)

ص: 49


1- الانتصار- الشريف المرتضى ص 94
2- المعتبر - المحقق الحلي ج 2 ص 377

أنه لو أطلق الأمر فهل يدل على لزوم امتثاله مباشرة بعد الأمر بأول أزمنة إمكانه، وهو الإتيان به على الفور، أو يدل على عدم لزوم امتثاله مباشرة،

وإنما يجوز تأخير الامتثال عن وقت صدور الأمر، وهو الإتيان به متراخياً، أم أن الأمر لا يدل على هذا ولا هذا.

أما القول بلزوم التراخي فهو مما لم يقل به أحد، فعليه ينحصر الأمر بين قولين:

الأول: دلالة الأمر على الفور، واستدلوا له بأدلة.

منها: أن الأمر بالشيء يعني البعث نحوه، والبعث لغة معناه الدفع، وحيث إن الدفع الخارجي يستلزم الاندفاع فوراً بعد الدفع؛ لأنه يكون حاصلاً بسببه، فكذلك الدفع الاعتباري وهو البعث فإنه يستلزم الانبعاث فوراً؛ لأنه حاصل بسببه، ومعناه لزوم امتثال الأمر بعد صدوره مباشرةً، وذلك قياساً للبعث الاعتباري على البعث الحقيقي.

ومنها: دلالة مجموعة من الآيات الكريمة على لزوم الفور، كقوله تعالى: [ وَ سارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ ] (1)،

وقوله تعالى: [ سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ ](2)، وقوله تعالى: [ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ](3) ووجه الاستدلال بها، أن المغفرة إنما تكون من الله تعالى؛ لأنه هو الذي يغفر، فلا يعقل المسارعة إليها من نفس العبد إلا بالمسارعة إلى أسبابها، لكي يحصل عليها من الله تعالى، وأسبابها هو فعل الواجبات وترك المحرمات، وهو عبارة أخرى عن لزوم الفورية في امتثال الأوامر، وكذلك السباق للمغفرة والخيرات إنما يكون بالسباق إلى أسبابها، وهو عبارة أخرى عن لزوم امتثال الأوامر بعد صدورها مباشرةً.

ص: 50


1- آية 133 من سورة آل عمران
2- آية 21 من سورة الحديد
3- آية 48 من سورة المائدة

الثاني: عدم دلالة الأمر بنفسه لا على الفور ولا على التراخي؛ لأن ذلك لا يستفاد من نفس الأمر؛ لأن الأمر له مادة وهيأة، وهو لا يدل لا بمادته ولا بهيأته على أحدهما، فإذا قال (أكتب الدرس) فالمادة وهي (كتب) إنما تحددالأمر المطلوب الإتيان به من دون تحديد ما إذا كان الإتيان به فوراً أو متراخياً، والهيئة وهي فعل الأمر فهي تدل على لزوم الإتيان بالكتابة، ولا تحديد الإتيان به فوراً أو متراخياً، فلابد إذن من استفادتهما من أمر خارج.

الأمر العاشر : تقسيمات المأمور به
اشارة

قسم الأعلام (رض) المأمور به إلى تقسيمات عديدة، تبعاً لتعدد الجهة الملحوظة في التقسيم، وقد تتداخل فيما بينها فيكون فعل واحد داخل تحت عدة تقسيمات بلحاظ تلك الجهات وهي:

الأول: التعبدي والتوصلي

التعبدي: هو المأمور به الذي لا يجزي الإتيان به إلا متقرباً به إلى الله تعالى، فلو وقع من دون قصد التقرب به إلى الله تعالى لا يكون مجزياً، مثل(الصلاة) و (الصوم) و (الحج) و (الغسل) و (الوضوء) وغيرها، وتوسعوا في كيفية التقرب وكيفية كونه تعبدياً بما لا يناسب هذا المختصر.

التوصلي: هو المأمور به الذي يجزي الإتيان به بدون نية القربة لله تعالى، بل يكون مجزياً الإتيان به بأي صورة فرضت، بل حتى لو وقع إكراهاً أو غفلة أو نسياناً مثل (تطهير المسجد) و (تطهير الثوب للصلاة) و (النفقة على الزوجة) وغيرها.

الثاني: العيني والكفائي

العيني: هو المأمور به الذي يلزم على كل من كلف به الإتيان به، ويسقط تكليف كل من أمتثل لنفسه عن نفسه، ولا يسقط فعل المكلف

ص: 51

التكليف الذي يمتثله هو عن الآخرين، بل يلزم على كل واحد من المكلفين أن يمتثل تكليف نفسه، ولا علاقة له بامتثال الأخرين أو تكليفهم، مثل (الصلاة) و (الصوم) و (الحج) وغيرها.

الكفائي: هو المأمور به الذي يلزم على جميع من كلف به الإتيان به، لكن لو حققه أحد المكلفين به وأمتثله فإنه يسقط التكليف عن الآخرين، فتكليف كل منهم مراعى بعدم امتثال غيره، أما لو امتثل غيره سقط عنه، ولو لم يمتثل ولا واحد من المكلفين أثم الجميع، لتساويهم بالتكليف بإتيانه، مثل (الصلاة على الميت) و (دفنه) و (تطهير المسجد) وغيرها.

الثالث: التعييني والتخييري

التعييني: هو المأمور به الذي لا يكون له بديل عنه في الامتثال، بل يتعين هو للتكليف فيلزم الإتيان به هو لا غير، ولا يسقط التكليف به إلا بامتثاله نفسه، مثل (الصلاة) و (الحج) وغيرهما.

التخييري: هو المأمور به الذي يكون له عدة أفراد يمكن امتثال أي منها، فلك أن تمتثل بأي فرد من تلك الأفراد، نعم لا يجوز ترك امتثال جميع الأفراد المأمور بها، مثل الكفارة المخيرة، ككفارة إفطار يوم من شهر رمضان، أو كفارة اليمين، أو الظهار، أو الإيلاء وغيرها.

الرابع: النفسي والغيري

النفسي: هو المأمور به الذي يكون مأموراً به من أجله لا من أجل مأمور به آخر، فيكون مأموراً لنفسه سواء كان هناك مأمور به آخر أم لا، فالأمر به غير مشروط بمأمور به آخر، مثل (الصلاة) و (الزكاة) وغيرهما.

الغيري: هو المأمور به الذي يكون الأمر به مشروطاً بلزوم مأمور به آخر، فهو بنفسه غير لازم الامتثال، بل إنما يلزم الإتيان به من أجل مأمور به آخر، فإذا لزم عليك ذلك المأمور به لزم هو، وإن لم يلزم ذلك المأمور به لا

ص: 52

يلزم الإتيان به هو، مثل (الوضوء) لما فإنه يجب إذا وجب على المكلف فعل مايشترط فيه الطهارة ك-(الصلاة الواجبة) و(الطواف الواجب)، فإذا لم تجب الصلاة على المكلف كالحائض فلا يجب عليها الوضوء، ومثل (غسل الجنابة) كذلك إذا وجب على المكلف مايشترط الطهارة فيه ك-(الصوم) و (الصلاة) و(دخول المسجد) ومثل(تطهير الثوب) إذا وجبت الصلاة فيه وغيرها.

الخامس: المطلق والمشروط

هذا التقسيم إضافي بالنسبة إلى جميع الشروط في المأمور به، فكل مأمور به يلحظ بالنسبة إلى أي شرط فرض فإما أن يكون مشروطاً به أو لا، فإن لم يكن مشروطاً به فهو من جهته مطلق، وإن كان مشروطاً به فهو من جهته مشروط ، فالمطلق مثل (بلوغ النصاب) و (حلول الحول) بالنسبة إلى (الصلاة)، فهي مطلقة من حيث هذين الشرطين لعدم تقييدها بالنصاب والحول، وكذلك مثل (الزكاة) بالنسبة (للطهارة من الخبث) و (الطهارة من الحدث)، فهي مطلقة من جهتهما لعدم اشتراطها بالطهارة من الخبث والحدث، وأما المشروط مثل (الطهارة من الخبث والحدث) بالنسبة إلى (الصلاة) فالصلاة بالنسبة إليهما مشروطة بهما، لعدم صحتها بدون طهارة من الحدث والخبث، وكذلك الزكاة بالنسبة إلى (بلوغ النصاب) و (حلول الحول) فهي بالنسبة إليهما مشروطة بهما، وهكذا غيرهما.

السادس: المنجز والمعلق

المنجز: هو المأمور به الذي يكون زمان الأمر به وزمان امتثاله واحد، مثل الأمر ب-(الصلاة) بعد دخول وقتها، والأمر ب-(الصوم) بعد طلوع الفجر،

فالأمر بالصلاة يكون بعد دخول وقتها ووجوب أداء الصلاة أيضاً يكون بعد دخول الوقت، وكذلك صوم أيام شهر رمضان فإن وقت وجوبها وأدائها هو بعد طلوع الفجر.

ص: 53

المعلق: هو المأمور به الذي يكون زمان الأمر به متقدماً على زمان امتثاله، مثل الأمر ب-(الحج) لمن ملك الاستطاعة أي الزاد والراحلة قبل حلول أشهر الحج، وهي شوال وذي القعدة وذي الحجة كما إذا حصلت له الاستطاعة في شهر رجب فيكون الحج واجباً عليه ومأموراً به لكن في وقته، وهو شهر ذي الحجة، فيلزم عليه المحافظة على الاستطاعة لحين حلول موسم الحج، وك-الأمر بغسل الجنابة للصلاة قبل دخول الوقت إذا استطاع من الماء قبل دخول الوقت وكان مجنباً وعلم بعدم تحصيل الماء بعد الوقت.

السابع: المطلق والمؤقت

المطلق: هو المأمور به الذي لا يكون امتثاله مشروطاً في وقت معين، بل كلما حصل سببه وجب امتثاله، مثل (إزالة النجاسة من المسجد) و (إنقاذ الغريق) و (قضاء الصلاة) وأمثالها فمتى ما تنجس المسجد وجب إزالة النجاسة عنه، ومتى ما وجد غريق يمكن إنقاذه وجب، ومتى ما فاتت الصلاة وجب قضاؤها.

والمطلق تارة يكون فورياً وهو ما يلزم الإتيان في أول أزمنة إمكان امتثاله بعد العلم به مثل (إزالة النجاسة من المسجد)، وأخرى لا يكون فورياً وهو ما لا يلزم الإتيان به في أول أزمنة الإمكان مثل (قضاء الصلاة).

المؤقت: هو المأمور به الذي يكون امتثاله مشروط بوقت معين، ولا يصح امتثاله في غير ذلك الوقت إلا قضاءً، مثل (الصلاة) و (الصوم) و (الحج) وغيرها.

والمؤقت تارة يكون موسعاً وهو ما يكون وقت أدائه أوسع من وقت امتثاله، مثل (الصلاة) التي يكون وقتها أوسع من مقدار أدائها، وأخرى يكون مضيقاً وهو ما يكون فيه وقت الأداء والامتثال واحداً مثل (الصوم) حيث إنه واجب من طلوع الفجر إلى الليل.

ص: 54

الأمر الحادي عشر : تكرر الأمر

قد يرد أمر متكرر على فعل معين، فإذا كان وروده بعد امتثال الأمر الأول فلا إشكال في أن الأمر الثاني لازم الامتثال كالأمر الأول، مثل ما إذا قال(تصدق على فقير) وبعد الصدقة قال مرة أخرى (تصدق على فقير) فتجب الصدقة مرة ثانية غير الصدقة الأولى.

أما إذا كان وروده قبل امتثال الأمر الأول، كما إذا قال (تصدق على فقير) وقبل امتثال الأمر قال مرة أخرى (تصدق على فقير) فأختلف في أن هذا الأمر الثاني هل يكون تأكيداً للأمر الأول، فلا يجب تكرر الامتثال، أم أنه تأسيس لأمر جديد فيكون مستقلاً بحد ذاته، فيجب امتثال المأمور به مرتين، واختلاف الأقوال فيه ناشئ من اختلاف صور ورود هذا الأمر

الصورة الأولى: أن يرد كل من الأمرين مطلقاً غير مقيد بقيد، كما إذا قال (تصدق على فقير) ثم قال مرة أخرى (تصدق على فقير) فهنا من قال إن عدم اختلاف موضوعي الأمرين يلزم منه أن يكون الأمر الثاني مؤكداً للأول فيكتفى بامتثال واحد لكلا الأمرين، وعليه يكتفي بالتصدق مرة واحدة على فقير واحد، ومن قال إن الأمر الثاني تأسيس لأمر جديد لتعدد الأمر الموجب لتعدد الموضوع وإن كان في الخارج واحداً لا يكتفي بامتثال واحد لكلا الأمرين، بل يكون لكل أمر امتثال على حده فيلزم الامتثال مرتين، وعليه يجب الصدقة في المثال مرتين.

الصورة الثانية: أن يرد كل من الأمرين معلقاً على شرط، ولكن الشرط واحد، كما إذا قال: (إن أفطرت فكفر) ثم قال: (إن أفطرت فكفر) فالكلام في هذه الصورة عين الكلام في الصورة الأولى.

الصورة الثالثة: أن يكون أحد الأمرين مطلقاً غير مقيد بشرط، والآخر

ص: 55

معلقاً على شرط، كما إذا قال: (صل) ثم قال: (إن زالت الشمس فصل)، فهنا يبتني الكلام في هذه الصورة على المبنى في المطلق والمقيد، فإن قيل بحمل المطلق على المقيد، يكون الأمر الثاني مؤكداً للأول بحمل الإطلاق في قوله (صل) على الصلاة المقيدة بالزوال، وعليه يلزم امتثال واحد لكلا الأمرين، وإن قيل بعدم حمل المطلق على المقيد، بل لكل منهما امتثاله كان الأمر الثاني تأسيساً لأمر جديد، فيلزم لكل أمر امتثاله، فعليه لابد من تكرر الامتثال ويكون عليه صلاتين واحدة مطلقة غير مقيدة بوقت، والأخرى مقيدة بالزوال.

الصورة الرابعة: أن يكون كل من الأمرين مشروطاً بشرط، لكن الشرط في كل منهما يختلف عن الشرط في الآخر، كما إذا قال: (إن أفطرت فكفر)، ثم قال: (إن ظاهرت فكفر)، فهنا يكون الأمر الثاني تأسيساً لأمر جديد بلا كلام، ولا يمكن أن يكون تأكيداً له.

لكن وقع الكلام في أنه هل يتداخل الأمران أم لا، بعد الفراغ عن تعددهما، أي هل يمكن الاكتفاء بامتثال واحد عنهما إذا كان المأمور به واحد أم لابد من امتثال كل أمر على حده، فلابد من امتثالين، وتفصيل الكلام في التداخل وعدمه يأتي عند الكلام في مفهوم الشرط إن شاء الله تعالى(1).

ص: 56


1- ص

المبحث الثالث من مباحث الألفاظ : النواهي

والكلام يقع في أمور:

الأول: في مادة النهي وهي كلمة (نهى) فقد ذكروا أن لمادة النهي معاني عديدة، فهي إما أنها تقابل معنى الطلب، فالطلب معناه الحث على الفعل، فالنهي يكون معناه الحث على عدم الفعل، وإما أنها طلب العالي من الداني ترك الفعل، وإما أنها زجر العالي للداني عن الفعل، أو غير ذلك من المعاني، لكنهم ذكروا أنها على جميع المعاني تقابل مادة الأمر، فهي تدل على الإلزام عقلا بترك المنهي عنه لا لفظاً كما كانت مادة الأمر تدل على الإلزام عقلا بالفعل لا لفظاً ولذا فكل ما تقدم من الكلام في مادة الأمر ينطبق عليها فلا حاجة للإعادة.

الثاني: في صيغة النهي ومرادهم بها كل صيغة تدل على طلب ترك الفعل ولذا فإن صيغة الأمر والنهي متقابلتان لأن كل منهما تدل باللازم على الأخرى فلازم النهي عن الفعل الأمر بعدم فعله ولازم الأمر بالفعل النهي عن تركه وحيث إنه ليس للنهي صيغة تذكر بل يستفاد النهي من (لا) الناهية أو كل ما يدل على لزوم ترك الفعل، فالكلام فيها يكون عين الكلام في صيغة الأمر فلا حاجة أيضاً للإعادة.

الثالث: ذكروا أن صيغة النهي دالة على التحريم لكن لا من جهة كونها

ص: 57

موضوعة لذلك بل هي ظاهرة في التحريم بحكم العقل إذا لم تكن قرينة على جواز الترك طبعاً إذا صدرت ممن يلزم متابعة نهيه كصيغة (افعل).

الرابع: وقع كلام بين الأعلام في أن النهي هل هو مجرد الترك أو هو كف النفس عن الفعل، والفرق بين القولين أن الأول هو أن المطلوب من المنهي عنه أمر عدمي محض، والثاني هو أن المطلوب من المنهي عنه أمر وجودي لأن الكف فعل من أفعال النفس. والمشهور بين الأعلام الأول، وكان منشأ الشبهة التي دعت البعض للقول الثاني أن الأمر العدمي غير مقدور للمكلف؛ لأن معناه إبقاء العدم واستمراره، وحيث إن العدم أزلي فهو خارج عن القدرة، فلا يمكن توجه التكليف له، بينما الكف هو أمر وجودي مقدور للمكلف يمكن توجه التكليف نحوه، ولكن هذا التوهم مدفوع بأن عدم القدرة في الأزل على العدم لا ينافي القدرة عليه إبقاءً واستمراراً، مع أن القدرة على الوجود تلازم القدرة على العدم وإلا لكان الوجود أمراً قهرياً غير مقدور للمكلف لو لم يقدر على غيره لأن المفروض أن المختار قادر على الفعل والعدم.

الخامس: ذكروا أن صيغة النهي تدل على الدوام والتكرار لكن لا من حيث وضعها لا بمادتها ولا هيئتها لأن المنهي عنه هو صرف وجود الطبيعة وحيث أن ترك إيجاد الطبيعة يقتضي عدم وجود أي فرد منها، فهو يدل على الدوام لأن إيجاد أي فرد منها مناف للنهي عن إيجادها بخلاف الأمر حيث يكتفى بامتثاله بصرف وجود الطبيعة.

ص: 58

المبحث الرابع من مباحث الألفاظ : المفاهيم

اشارة

والكلام في أمرين:

الأمر الأول: معنى المفهوم: وقد ذكرت له ثلاثة معانٍ:

المعنى الأول: هو كل معنى يفهمه السامع من دلالة اللفظ حين تكلم المتكلم به، سواء كان ما تكلم به حقيقةً أم مجازاً، جملة كان أم مفرداً، وهو هنا أسم مفعول، ومصدره (فَهم)، وفعله (يَفهم)، واسم فاعله (فاهم).

المعنى الثاني: هو كل ما يُفهم سواء كان من لفظ، أم إشارة، أم كتابة، أم حركة، أم غير ذلك، كمن يفهم عدم الرضا من الإشارة بالرأس للأعلى، والرضا بالإشارة بالرأس للأسفل وهكذا، وهو كسابقه من أنه اسم مفعول لكنه أعم من الأول من حيث تعديه لكل ما يؤدي إلى الفهم بينما الأول خاص باللفظ.

المعنى الثالث: ما يفهم بالملازمة من منطوق الجملة، والمراد بالمنطوق هو نفس ما تؤديه الجملة، كما إذا قال (أكرم زيداً إذا جاء) فهذه الجملة منطوقها يؤدي لزوم إكرام زيد إن جاء، وإن وجد لها مفهوم وهو معنى يلازم ثبوت المنطوق فهو (لا تكرم زيداً إن لم يأتي) فيكون مفهومها عدم لزوم إكرامه إن لم يأت، وكلامهم ليس في أن هذا المفهوم حجة أم لا بل كلامهم في الموارد التي يثبت فيها ولا يثبت، فلو ثبت أن لجملة ما مفهوم

ص: 59

فهو حجة بلا كلام، فعليه سيكون البحث عن الموارد التي ادعي أن لها مفهوم هل فعلا ثابت أن لها مفهوم أم لا، فالنزاع ليس في كون المفهوم حجة أم لا، فهذا مما لا خلاف فيه، وإنما النزاع في الجمل التي لها مفهوم يدل عليه المنطوق، فإن ثبت وجوده لجملة ما فهو حجة بلا كلام.

الأمر الثاني: أقسام المفهوم: وقد قسموه إلى قسمين:

الأول: مفهوم الموافقة: وهو الذي يكون الحكم فيه موافقاً للحكم الوارد في منطوق الجملة، ويكون حكم المفهوم من سنخه، بمعنى أن الحكم في المنطوق إذا كان الوجوب فهو يكون وجوباً وهكذا، ومثلوا له بمثل (مفهوم الأولوية)، وهو ما يكون فيه الحكم الثابت في المفهوم أولى منه في المنطوق كما، في قوله تعالى [ولا تَقلْ لهُما أفٍ](1)الدال بمنطوقه على حرمة التعدي على الأبوين ولو بقول (أف) الدال على التضجر، والمستفاد من مفهومه أن عدم جواز التعدي على الأبوين بالضرب أولى الذي هو اشد من قول أف؛ لأنه قول أف لهما محرم فالضرب الذي هو أشد من القول يكون محرماً من باب أولى؛ لأن الأقل محرم فالأكثر أولى بالحرمة.

الثاني: مفهوم المخالفة وهو الذي يكون الحكم فيه مخالفاً للحكم في المنطوق سنخاً، كأن يكون الحكم في المنطوق الوجوب فيكون في المفهوم الحرمة أو عدم الوجوب وهكذا، كما إذا قال: (إن سافرت فأفطر) فالمفهوم منها (إن لم تسافر فلا تفطر)، فالحكم في المنطوق وجوب الإفطار عند السفر، وفي المفهوم عدم وجوب الإفطار عند عدم السفر أو حرمته.

والموارد التي جرى الكلام في ثبوت مفهوم المخالفة فيها من عدمه هي:

ص: 60


1- آية 23 من سورة الإسراء
المورد الأول:مفهوم الشرط:وفيه أمور:
الأمر الأول : في أقسام الجملة الشرطية

من الواضح أن الجملة الشرطية تدل بمنطوقها على تعليق حصول الجزاء على حصول الشرط، كما في قوله تعالى [ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ](1) فمعناه أن وجوب الصوم في شهر رمضان معلق على كون الإنسان حاضراً غير مسافر، لكن وقع الكلام في أنه إذا انتفى الشرط وهو الحضور في الآية فهل ينتفي معه الجزاء أم لا وهو وجوب الصوم، فإن لم يكن حاضراً فهل صيامه جائز أم لا، أو واجب أم لا، وهذا هو المراد من المفهوم، فهل للجملة الشرطية مفهوم أم لا، فلذلك قسموا الجملة الشرطية إلى قسمين:

القسم الأول: الجملة الشرطية المسوقة لبيان موضوع حكمها الوارد فيها، بان يكون الشرط فيها هو موضوع الحكم، فإذا زال الشرط زال الجزاء، لكن من جهة كونه سالباً بانتفاء الموضوع، لانتفاء الحكم بانتفاء موضوعه، فذكر الأصوليون أن مثل هذه الجملة الشرطية لا مفهوم لها؛ لأن الحكم فيها يكون سالباً بانتفاء الموضوع كما ذكرنا، ومثلوا لها بمثل قوله تعالى [ وَ لَا تَكْرَهُوا فَيَاتِكُم عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ](2) لأنهن إن أردن التحصن من الزنا

ص: 61


1- آية 185 من سورة البقرة
2- آية 33 من سورة النور

فليس للمولى إكراههن عليه، وإن لم يردن التحصن ورغبن بالزنا فلا موضوع للإكراه حينئذٍ، لزوال موضوع الإكراه برغبتهن بالزنا، وكذلك مثل قولهم (إن رزقت ولداً فاختنه) فإن عدم الختان في حال عدم وجود الولد لعدم الموضوع للختان.

القسم الثاني: الجملة الشرطية غير المسوقة لبيان موضوع حكمها، وهي الجملة الشرطية التي يكون موضوع الحكم فيها ثابتاً سواء بقي الشرط أم زال، كما إذا قال (يجب إكرام زيد إن كان عالماً) فالحكم هو وجوب الإكرام، وموضوعه زيد، وشرطه كونه عالماً، فزيد يمكن فرض إكرامه سواء أكان عالماً أم لا، وهذه الجملة هي محل الكلام، ففي مثل هذه الجملة لو لم يكن زيد عالماً هل يجوز إكرامه أم لا.

الأمر الثاني : شروط دلالة الجملة الشرطية على المفهوم

ذكر الأعلام (رض) أنه لابد من دلالة الجملة الشرطية على المفهوم من تحقق شروط ثلاثة:

الشرط الأول: أن يكون هناك تلازم بين الشرط والجزاء، وذلك لأن الجملة الشرطية بحسب وضعها تدل على اللزوم بين الشرط والجزاء، لكن هذا إنما يكون في الجملة الشرطية اللزومية بحسب مصطلح المناطقة لا الشرطية الاتفاقية، ويعنون باللزومية ما كان ترتب الجزاء على الشرط ملازماً له، مثل (إن طلعت الشمس فالنهار موجود) فوجود النهار ملازم لطلوع الشمس، لا أنه يكون حصوله اتفاقاً بلا تلازم مثل (إن جاء زيد جاء عمر) فمجيء عمر غير ملازم لمجيء زيد، بل إنما يكون مجيئه معه اتفاقاً أو صدفة.

الشرط الثاني: أن يكون الجزاء تابعاً للشرط في الوجود والعدم، بأن يكون الشرط سبباً في حصول الجزاء مثل (إن جاء زيد فأكرمه) فإن مجيء

ص: 62

زيدسبب في إكرامه، أو يكونان معاً مسببين عن علة واحدة مع كون الشرط أسبق وجوداً من الجزاء، مثل (إن اشتعلت النار أحرقت الثوب) فإن الاشتعال والإحراق مسببين عن وجود النار مع أن الاشتعال أسبق من الإحراق في الوجود، ولذا قد يقال بان تسمية الشرط بالمقدم والجزاء بالتالي ناشئ من هذه الملازمة.

الشرط الثالث: أن يكون الشرط مختصاً بالجزاء وليس هناك شرط آخر معه يكونان معاً سبباً للجزاء، ويعني أن لا يكون الشرط جزء سبب للتالي بل لابد أن يكون سبباً تاماً له، فإذا كان الشرط جزء سبب فلا يلزم من انتفائه انتفاء الجزاء، مثلاً لو قال (إن جاء زيد فأكرمه) و (إن كان زيد عالماً فأكرمه) فهنا يكون هناك سببان للإكرام المجيء والعلم، فإذا انتفى أحدهما لا يلزم انتفاء الأخر، وعليه لا يلزم انتفاء الجزاء لو انتفى الشرط في أحدهما، لاحتمال ثبوت الشرط الآخر فيثبت الجزاء، نعم لو ذكرت الجملة الشرطية ولم يذكر المتكلم وجود شرط آخر فيستفاد اختصاص هذا الشرط بهذا الجزاء؛ لأن المتكلم حيث أنه في مقام بيان، ولم يذكر وجود شرط آخر مع هذا الشرط فمقتضى الإطلاق كونه لوحده شرطاً، ولو كان هناك شرط آخر لذكره، إما بالعطف بالواو إن كان كل منهما جزءاً للسبب، أو العطف (بأو) إن كان كل منهما سبباً مستقلاً

فإذا تمت هذه الشروط فالجملة الشرطية تكون دالة على المفهوم؛ لأنها تكون ظاهرة بانتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط، وحيث إن الظهور حجة كما سيأتي في مباحث الحجج إن شاء الله تعالى، فيثبت المفهوم للشرطية، إلا إذا كانت هناك قرينة خاصة دالة على عدم وجود مفهوم للجملة الشرطية، فيكون العمل على طبق القرينة ولا يكون لها مفهوم.

ص: 63

الأمر الثالث : إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء

قد تتعدد الجملة الشرطية لكن يكون الجزاء فيهما واحداً والشرط متعدد وهذا يكون على نحوين:

النحو الأول: أن يكون الجزاء غير قابل للتكرار، كما إذا قيل: (إذا خفي الأذان فقصر) و (إذا خفيت الجدران فقصر) فالشرط هنا متعدد وهو خفاء الأذان وخفاء الجدران والجزاء واحد، لكن حيث أن الجزاء هو التقصير في الصلاة وهو شيء واحد لا يقبل التكرار، فهو إما يكون مشروطاً بخفاء الجدران، أو بخفاء الأذان، فعليه إن قيل بوجود مفهوم لمثل هاتين الشرطيتين فيلزم التنافي بين منطوق كل منهما مع مفهوم الأخرى؛ لأنه مقتضى منطوق الأولى (إذا خفي الأذان فقصر)، ومقتضى مفهومها لا تقصر إن لم يخف الآذان وإن خفيت الجدران، ومنطوق الثانية (إذا خفيت الجدران فقصر)، ومقتضى مفهومها لا تقصر إن لم تخف الجدران وإن خفي الآذان، ولازم ذلك التنافي بين مفهوم كل منهما مع منطوق الأخرى.

النحو الثاني: أن يكون الجزاء قابلاً للتكرار، مثل (إذا أفطرت فكفِّر) و (إذا ظاهرت فكفِّر) فهنا الجزاء وهو الكفارة يمكن تكراره بأن يكفر مرتين، مرة للإفطار وأخرى للظهار، وفي هذا الفرض ذكر بعضهم أن مشكلة التنافي هنا غير موجودة، لإمكان الحكم بوجوب كفارتين، لكل سبب كفارة، لكن قال بعضهم هنا أيضاً يلزم التنافي بين منطوق كل منهما مع مفهوم الأخرى، إن كان للشرطية مفهوم، فمنطوق الأولى (إذا أفطرت فكفِّر)، ومقتضى مفهومها إذا لم تفطر فلا تكفر وإن ظاهرت، ومنطوق الثانية (إذا ظاهرت فكفِّر) ومقتضى مفهومها إذا لم تظاهر فلا تكفر وإن أفطرت، ويلزم من ذلك التنافي، وعلى هذا دفعاً للتنافي في الفرضين على بعض الأقوال، أو في الفرض الأول على الأقوال الأخرى، وجه الأعلام المسألة بوجوه:

ص: 64

الوجه الأول: الجمع بين الشرطيتين بمفاد (الواو)، وهو اعتبار كل شرط من الشرطين جزءاً للسبب، فلا ينفرد كل شرط بالجزاء، فيكون الشرط بالحقيقة مركب من أمرين، وهو خفاء الآذان والجدران معاً في المثال المتقدم، فيكون القصر بالصلاة مشروطاً بخفائهما معاً، وحينئذٍ فلا يثبت الجزاء إلا بثبوتهما معاً، وينتفي بانتفاء أحدهما، ويكون كأنه قد قال (إذا خفيت الجدران والآذان فقصر)، فيرتفع التنافي حينئذٍ بين منطوق كل منهما مع مفهوم الأخرى.

الوجه الثاني: الجمع بمفاد (أو) وهو أن يكون كل من الشرطين سبباً مستقلاً لثبوت الجزاء، فيكون الجزاء متوقفاً على وجود أحدهما، ويكون انتفائه بانتفائهما معاً، فيكون حينئذٍ الشرط كل منها لكن على نحو البدل، أي سواء خفيت الجدران أم الآذان فيلزم القصر، ومع عدم حصولهما معاً لا يجوز التقصير، وحينئذٍ يرتفع أيضاً التنافي بين منطوق كل منهما مع مفهوم الأخرى.

الوجه الثالث: رفع اليد عن ظهور الشرطية بالمفهوم في مثل هذا المورد، فلا يكون للشرطية مفهوم وتكون الشرطية محمولة على بيان ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط فقط، ولا تدل على انتفائه عند انتفاء الشرط، فحينئذٍ يثبت الجزاء بثبوت أي من الشرطين، ولا يلزم انتفاؤه بعدم ثبوت أحدهما، وهناك وجوه أخرى لا يحتملها هذا المختصر.

الأمر الرابع : التداخل وعدمه في الأسباب والمسببات

ويتفرع على الكلام في هذه المسالة كلام في مسألة التداخل وعدمها، مما لا ريب فيه أنه إذا تحقق موضوع الحكم الشرعي في الخارج يكون الحكم به فعلياً ويلزم بذلك امتثاله، كما إذا كان موضوع الحكم بوجوب الصلاة دخول الوقت فإذا دخل الوقت وجبت الصلاة، لكن لو تعدد موضوع

ص: 65

الحكم الشرعي في الخارج الذي يوجب معه تعدد الحكم الشرعي، مع كون الأمر المحكوم به واحد، فهل يلزم تعدد الامتثال له أم يمكن الاكتفاء بامتثال واحد لمجموع التكاليف، كما لو وجب الغسل بالجنابة، ووجب بمس الميت، فهل يلزم عليه غسلان أم يمكنه الاكتفاء بغسل واحد، أو كما في المثال المتقدم في الفرض الثاني إذا ظاهر وأفطر، فهل عليه كفارة واحدة أم كفارتان، وكذلك مثلاً لو كان الناقض للوضوء البول والنوم، وشخص بال ونام فهل يكتفي بوضوء واحد أم لابد لكل ناقض وضوء، وهذه المسالة هي المعبر عنها في كلماتهم (بتداخل الأسباب)، ويعنون بها موضوعات الأحكام، فالبول سبب لوجوب الوضوء والنوم سبب وكذلك الجنابة سبب لوجوب الغسل ومس الميت سبب فهل إذا تعددت الأسباب تكون بحكم السبب الواحد أم يكون لكل سبب تأثيره، والكلام فيها مبتنٍ على أن تعدد موضوع الحكم الشرعي في الخارج هل يوجب تعدد الحكم به أم لا، فإن قيل بتعدد الحكم بتعدد موضوعه فيلزم حينئذٍ لكل موضوع امتثال، ولا يكون هناك تداخل بين الأسباب، وإن قيل بعدم تعدد الحكم بتعدد موضوعه، بل يكون هناك حكم واحد، فتتداخل الأسباب، ويكتفى بامتثال واحد عن جميع التكاليف، مع الفراغ عن أن موضوع المسألة إذا لم يتخلل بين الحكمين امتثال من المكلف للحكم الأسبق، فإذا تخلله امتثال فالمقطوع به لزوم التكرار وعدم التداخل

والمشهور بين الأعلام أن الأصل عدم التداخل مطلقاً لما هو المعلوم أن الحكم يدور مدار موضوعه وجوداً وعدماً والمفروض أن كل موضوع يدعو لإيجاد حكمه ولا علاقة له بوجود حكم لموضوع آخر قبله.

وفصَّل بعضهم فحكم بالتداخل في حال إتحاد الموضوعات جنساً كما إذا بال مرات عدة ولم يتوضأ بعد البول فإنه يكتفي بوضوء واحد أو أجنب عدة مرات ولم يغتسل بينها فيكفي غسل واحد، وعدم التداخل إذا اختلفت

ص: 66

الموضوعات جنساً كما إذا بال ونام، فلابد من وضوءين أو أجنب ومس الميت فلابد من غسلين وهكذا.

ولو فرض أن الحكم يتعدد تبعاً لتعدد موضوعه في الخارج أي بعد الفراغ عن تعدده، فهناك مسألة أخرى في انه هل يمكن الاكتفاء عن جميع التكاليف بامتثال واحد، إذا كان متشابهاً في الامتثال، أم لابد من تعدد الامتثال بعدد التكاليف وإن تشابهت، وهذه المسألة هي المعبر عنها في كلماتهم (بتداخل المسببات)، فالوضوء مسبب للحدث الأصغر والغسل مسبب للحدث الأكبر فإذا وجب السبب حصل للمكلف سببان للوضوء هل يمكن الاكتفاء بوضوء واحد لتداخل المسببات فيما بينها، وكذلك الغسل فهل يمكن الاكتفاء بغسل واحد لتداخل المسببات فيما بينها، والكلام فيها مبتنٍ على الاكتفاء بامتثال واحد عن جميع التكاليف المتشابهة فتتداخل المسببات وإن قيل بعدم تداخل الأسباب، وعلى عدم الاكتفاء بامتثال واحد عن جميع التكاليف فلا تتداخل المسببات، والظاهر منهم البناء على التداخل لو علم وحدة الأثر من المسبب بحيث يكون المسبب الثاني لاغياً كما في تطهير الثوب من النجاسة ففي تعدد النجاسة يكفي فيه تطهير واحد ولا يحتاج إلى تعدد لأن الغرض هو إزالة النجاسة وحصلت بالغسل الأول، ومثل الوضوء والغسل حيث المراد منها رفع الحدث وقد ارتفع بالفعل الأول، وزيادة الكلام في هذه المسألة وفروعها ليس محلها هذا المختصر.

ص: 67

المورد الثاني : مفهوم الوصف

الوصف المبحوث عنه هنا ليس المراد به هو النعت عند النحويين، بل مراد الأصوليين هو كل ما يصلح أن يكون قيداً للحكم، ولو لم يكن عند النحويين نعتاً، مثل الظرف، والجار والمجرور، والحال، وغيرها.

فوقع الكلام بينهم في أنه إذا كان هناك حكم مقيد بوصف ما فهل يعني ذلك أن هذا الحكم منوط وجوداً وعدماً بوجود هذا الوصف، وهو عبارة أخرى عن ثبوت المفهوم له، أو أن الحكم منوط به وجوداً لا عدماً، وهو عبارة أخرى عن عدم ثبوت المفهوم، فمثلاً إذا قال (أكرم زيداً راكباً) أو قال (صل في المسجد) أو غير ذلك، فهل يدل ذلك على لزوم إكرام زيد في حال كونه راكباً فقط، بحيث لا يصح إكرامه في غير هذا الحال، أم هذا الحال يلزم إكرامه ومع عدم ركوبه مسكوت عنه يمكن لزوم إكرامه وعدمه، أو تستحب الصلاة في المسجد فقط، بحيث لا تستحب في غيرها أم أن الوجود في المسجد موجب لاستحباب الصلاة ويمكن استحبابها في غير المسجد أيضاً.

ذكر أكثر الأعلام أنه لا مفهوم للوصف، فلا يدل على أكثر من ثبوت الحكم عند وجود الوصف، ولا يدل على انتفائه عند انتفاء الوصف، وذكر بعضهم أن للوصف مفهوماً، فيدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف،

ص: 68

وكأن منشأ النزاع هو من جهة الخلاف في أن الوصف هل هو قيد للحكم، أم للموضوع، والمراد بالحكم هنا هو وجوب الإكرام، والموضوع هو زيد المكرم، أو كون الصلاة في المسجد قيداً للاستحباب أم قيداً لنفس الصلاة، فمن ذهب إلى كون الوصف قيداً للحكم، يعني الركوب يكون قيداً للإكرام، والكون في المسجد قيداً للاستحباب، فيكون عنده للوصف مفهوماً، ففي المثال المتقدم يكون الإكرام مقيداً بوجود زيد في الدار، والصلاة المستحبة مقيدة بكونها في المسجد، فإذا انتفى الوصف وهو الركوب أو الكون في المسجد، فالحكم وهو الإكرام أو الاستحباب ينتفي معه، وذلك لأن حكم الإكرام مقيد بكون زيد في حال ركوب، وحكم استحباب الصلاة مقيد بكونها في المسجد ومع انتفاء الوصف لا إكرام ولا استحباب.

أما من ذهب إلى كون الوصف قيداً للموضوع وهو زيد، أو نفس الصلاة فلا يكون عنده للوصف مفهوم، وذلك لأن الحكم بالإكرام لزيد واستحباب الصلاة سوف يكون مطلقاً غير مقيد بشيء ويكون وصف الركوب حينئذٍ لتحديد وقت الإكرام، أو مكان الاستحباب وعليه يكون أصل الحكم بالإكرام مطلق والحكم بالاستحباب كذلك لكن المكرم وهو زيد مقيد إكرامه بكونه راكباً، والصلاة المستحبة مقيدة بكونها في المسجد، فيكون الحكم بالأصل ثابتاً وهو الإكرام، والاستحباب وأحد موضوعاته هذا الفرد وهو زيد الراكب، وكون الصلاة في المسجد فيكون أصل الإكرام لزيد ثابت في نفسه، لكنه مقيد فعلاً بحال الركوب، ولا مانع من أن يكون هناك حال آخر يمكن إكرام زيد فيه، ككونه هاشمياً مثلاً، لثبوت أصل الإكرام في حقه. وكذلك استحباب الصلاة بأصله ثابت لكنه مقيد فعلاً بكونه في المسجد ولا مانع من استحبابها في مكان آخر كالمشاهد المشرفة مثلاً.

ص: 69

المورد الثالث : مفهوم الغاية

مرادهم بالغاية هنا هو أنه إذا قيد أمر ما بأحد حروف الغاية فهل يكون للجملة مفهوم أم لا، فإذا دخل على الجملة أحد الحروف الدالة على الغاية، فهل أن الحكم الوارد مقيداً بالغاية ينتهي أمده بانتهاء الغاية، أم يبقى مستمراً حتى بعد انتهاء الغاية، فمن قال بالمفهوم بنى على انتفاء الحكم بعد انتهاء الغاية، ومن نفى المفهوم بنى على عدم انتفاء الحكم بعد انتهاء الغاية، فمثلاً إذا قال (صم إلى الليل)، فهل أن الصوم بعد دخول الليل يكون باطلاً، أم يمكن استمرار الصوم إلى ما بعد دخول الليل، أو إذا قال (يجب السير من النجف إلى كربلاء)، فهل إذا سار إلى ما بعد كربلاء هل يكون سيره مجزياً أم لا، وهكذا، وحروف الغاية التي ذكروها هي (إلى) و (اللام التي بمعنى إلى) و (حتى) الجارة دون العاطفة، ولكنهم ذكروا أن البناء على المفهوم وعدمه إنما نشأ من جهة اختلاف دخول الغاية وكونها قيداً للحكم أو الموضوع.

فإذا كانت الغاية قيداً للحكم يكون للغاية مفهوم؛ لأنها تكون حينئذٍ واردة لبيان ثبوت هذا الحكم لحين حصول الغاية، مثل قوله (عليه السلام) (كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر)(1)،فهنا الحكم الأولي بالطهارة للأشياء مغيى

ص: 70


1- وسائل الشيعة ج3 كتاب الطهارة باب 37 ح 6

لحين العلم بالنجاسة، أما بعد العلم فلا يمكن الحكم بالطهارة، فيكون للجملة مفهوم وهو كل ما علم قذارته ليس بنظيف.

وإن كانت الغاية قيداً للموضوع الذي ورد عليه الحكم فهنا وقع الخلاف في أن للغاية مفهوماً أم لا، كما إذا قال: (يجب عليك السير من النجف إلى كربلاء)، فالحكم بوجوب السير غير مقيد وإنما المقيد هو الموضوع وهو المسار إليه وهي كربلاء، فأصل السير واجب لكن غايته ومنتهى السير الواجب هي كربلاء، ذهب بعضهم إلى عدم ثبوت المفهوم لها؛ لأن الغاية واردة لبيان الموضوع الذي عليه الحكم لا لتحديده عن غيره، أي واردة لبيان أقل ما يكفي من المسير الواجب وعليه يمكن السير لأكثر من كربلاء.

وذهب بعضهم إلى ثبوت المفهوم لها حتى لو كانت قيداً للموضوع، خصوصاً إذا كان ما بعد حرف الغاية جزءاً مما قبلها؛ فإن الغاية تكون واردة لبيان التحديد، ومثلوا لذلك بآية الوضوء وهي قوله تعالى [ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ](1)ومعناه تحديد المكان المغسول من اليد؛ لأن ما بعد المرفق جزء من اليد، فذكر الغاية معناه التحديد بها للمكان المغسول، وعليه لا يصح نية غسل أكثر من المرفق إلا من باب المقدمة لإحراز غسل اليد، وكذلك مثل قوله تعالى [ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ](2).

ثم ذكروا أنه إذا ورد قيد بغاية وشك في أنه راجع للحكم أم للموضوع فالأصل كونه راجعاً للحكم، ورجوعه للموضوع هو الذي بحاجة إلى قرينة، وزيادة التفصيل في ذلك موكول للمطولات.

ص: 71


1- آية 6 من سورة المائدة
2- آية 6 من سورة المائدة
المورد الرابع : مفهوم الحصر

من الواضح جداً أن حصر الحكم بمورد ما يعني نفي ذلك الحكم عن غيره من الموارد، وهذا هو عبارة أخرى عن المفهوم، فلا ينبغي الريب في دلالة الحصر على المفهوم، فإذن الكلام في مفهوم الحصر ليس في دلالته على المفهوم، وإنما في ما يفيد الحصر ليكون له مفهوم، فذكروا لما يفيد الحصر أموراً:

منها: (أدوات الاستثناء) مثل (إلا وغير وسوى) وغيرها، لكن حيث إن هذه الأدوات تارة يؤتى بها للاستثناء مثل قوله تعالى [ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ ](1)، فإذا وردت للاستثناء أفادت الحصر، وهو عدم الشرب من النهر لم يحصل إلا من القليل والأكثر قد شرب، وأخرى للوصف مثل قوله تعالى [ لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةُ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ](2)،وقوله تعالى [ غَيْرُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ](3)فإذا وردت للوصف تدخل في مسألة مفهوم الوصف، من البناء على ثبوت المفهوم له وعدمه.

ومنها: (إنما) وقد ذكر بعضهم أنه لا يوجد مخالف في دلالة (إنما) على الحصر، لكنها قد تكون لحصر الموصوف على الصفة فلا يراد منها

ص: 72


1- آية 49 من سورة البقرة
2- آية 21 من سورة الأنبياء
3- آية 7 من سورة الفاتحة

الحصر الحقيقي، مثل قولنا (إنما زيد عالم)، حيث يراد قصر صفات زيد على العلم مع أن له صفات أخرى يتصف بها وليس العلم فقط، لكن ظهوره في العلم يعني كأنه منحصر بهذه الصفة، فيكون حصرا مجازياً وليس حقيقياً، وقد تكون لحصر الصفة على الموصوف وهو الأغلب فيها، والشائع من استعمالها للحصر، مثل (إنما العالم زيد) أي لا يوجد من يتصف بهذه الصفة غيره، أي علم غيره في مقابل علمه كلا علم، فهو العالم لا غير، وحينئذٍ يكون لها مفهوم وهو حصر هذه الصفة بهذا الموصوف، ومثل قوله تعالى [ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ](1)، وقوله تعالى [ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ أَمِنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهْمُ راكِعُونَ ](2).

ومنها: (بل) إذا كانت تفيد إبطال ما ثبت أولاً كقوله تعالى [ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةُ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ ](3)أي ما جاءهم إلا بالحق، أي حصر الجائي به أنه هو الحق وليس به جنة كما يقولون.

ومنها: (تعريف المسند إليه باللام)، فإنه يدل على أن المسند إليه منحصر بالمسند، ومنفي الثبوت لغيره مثل (الكر لا ينجسه شيء) أي حصر صفة عدم التنجس بالكريّة ومثل (الصلاة عمود الدين) .

ومنها: تقديم ما من حقه التأخير، كتقديم المفعول به على الفعل، مثل قوله تعالى [إِيَاكَ نَعبُدُ](4) أي نعبدك وحدك ولا نعبد غيرك أي نحصر عبادتنا لك دون غيرك.

ص: 73


1- آية 33 من سورة الأحزاب
2- آية 55 من سورة المائدة
3- آية 70 من سورة المؤمنون
4- آية 5 من سورة الحمد
المورد الخامس : مفهوم اللقب

ومرادهم به هو كل ما جعل موضوعاً للحكم، فإن إثبات حكم ما لموضوع هل يعني اختصاص ذلك الموضوع بذلك الحكم وعدم تعدي الحكم لموضوع آخر، أم يمكن ثبوت الحكم نفسه لموضوع آخر، وذلك مثل قوله تعالى [ الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ](1) وقوله تعالى [ وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ](2)فهل تعني هذه الجمل أن الحكم بالجلد للزاني هل هو حكم مختص بالزاني ولا جلد لغير الزاني، أم يمكن أن يكون هناك من هو محكوم بالجلد غير الزاني، وهكذا قطع اليد هل هو مختص بالسارق أم يمكن أن تثبت لغيره، فمن بنى على ثبوت المفهوم للقب بنى على عدم ثبوت الحكم لغير الموضوع، ولزوم اختصاصه به، وهذا هو معنى المفهوم هنا هو ثبوت الحكم للموضوع ونفيه عما عداه، ومن بنى على عدم ثبوت المفهوم للقب بنى على إمكانية ثبوت الحكم لغير الموضوع، والظاهر أن جل الأعلام (رض) بنوا على عدم ثبوت المفهوم للقب؛ لأن مجرد إثبات حكم لموضوع ما لا يعني نفيه عن غيره، بل أقصى ما يدل عليه اللقب هو ثبوت هذا الحكم لهذا الموضوع في حال ثبوته، أما نفي الحكم عن غيره من الموضوعات فهذا مما لا ينهض به اللقب، فيكون اللقب لا مفهوم له.

ص: 74


1- آية 2 من سورة النور
2- آية 38 من سورة المائدة
المورد السادس : مفهوم العدد

إذا قُيّد الحكم بعدد فهل يعني ذلك عدم جواز تجاوزه في امتثال الحكم بحيث لو زاد عنه لم يعد ممتثلاً، أم يمكن ثبوت الحكم في ضمن العدد لو تجاوز، فمثلاً إذا قال (كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين)، فهل أن الكفارة لا تسقط إلا بإطعام عشرة، أم يمكن سقوطها بإطعام خمسة عشر، فمن بنى على ثبوت المفهوم للعدد بنى على عدم جواز تجاوز العدد، وأن الحكم لا يمكن امتثاله إلا بنفس العدد، ومن بنى على عدم ثبوت المفهوم بنى على جواز تجاوز العدد، وقال إن العدد إذا قيد به الحكم يلزم بالمحافظة عليه فقط، أي لا يكفي الأقل منه، لكنه لا ينهض بنفي الأكثر وهو المفهوم، والظاهر أن أكثر الأعلام (رض) بنوا على عدم ثبوت المفهوم للعدد وأنه مقيد للقلة لا للكثرة.

نعم ذكروا أن جميع ما تقدم قد يكون له مفهوم بالقرائن الخاصة، وهذا خارج عن محل كلامهم، فالعدد لو ورد للتحديد، أو اللقب لو ورد لنفي الحكم،وهكذا فإنه يكون لها مفاهيم، لكن حيث إن هذه الموارد غير منضبطة، بل ترجع لقرائن الكلام المحيطة به، فلم يتعرضوا لها.

ص: 75

المبحث الخامس من مباحث الألفاظ : العام والخاص

اشارة

قد عرف العام والخاص عند الأعلام بتعريفات عدة، وحيث إنهم قد اختلفوا في التعريف، فلا يمكننا استقصاء التعاريف المذكورة في كلمات الأعلام، وهو ليس من الأهمية بمكان بعد أن كان معناهما يمكن إدراكه، لكنه لابد لنا من ذكر تعريف لهما من باب التوضيح، لا على أن يكون جامعاً مانعاً، ولا على أننا نعتبره هو الأصح دون غيره.

فالعام: هو اللفظ الشامل بمفهومه لجميع ما يصلح انطباق عنوانه عليه في ثبوت الحكم له كلفظ (كل) و (جميع).

والخاص: هو كل ما دل على حكم يكون فوقه حكم أوسع منه، سواء كان ذلك الحكم موافقاً له أم مخالفاً.

ويجري في كلامهم في العام والخاص الخروج عن حكم العام لبعض أفراده (تخصيصاً) وهو إخراج بعض الأفراد عن حكم العام بعد أن كان حكم العام شاملاً لها بنفسه، فيخرج بعض الأفراد بمخصص مخرج عن حكم العام، فيقال إن هذا الفرد خارج تخصيصاً عن حكم العام مثل إذا قال (أكرم العلماء إلا زيداً)، وكان زيد عالماً، فيكون الحكم بالإكرام شاملاً له بما أنه عالم، لكنه أخرج من الحكم بالتخصيص لعلة ما.

و (تخصصاً)، وهو خروج بعض الأفراد عن شمول حكم العام لها من

ص: 76

أول الأمر، أي أن حكم العام غير شامل لها، بل هي من أول الأمر غير مشمولة بحكم العام، فيقال إن هذا الفرد خارج عن حكم العام تخصصاً، مثل إذا قال (يستحب أكل لحم الغنم) فهنا الحكم بالاستحباب غير شامل للحم الغنم الميتة، أو اللحم المغصوب، بل خارجان تخصصاً عن حكم العام باستحباب أكل لحم الغنم وإن كان من أفراده لكنه خارج عن الحكم المجعول له وهو استحباب الأكل.

وبعد هذه المقدمة فيقع الكلام في أمور:

الأمر الأول : في أقسام العموم

قسموا العموم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: العموم الاستغراقي، وهو أن يكون الحكم في العام شاملاً لكل فرد من أفراد العام، مع قطع النظر عن شموله لبقية الأفراد، فيكون لكل فرد من أفراد العام حكمه وطاعته، ومعصيته، من حكم العام، كما إذا أمر المكلفين بالصوم، حيث قال { يَاأيُّهَا الَّذِينَ أَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامِ }(1)فكل مكلف قد كلف بأداء الصيام بنفسه، من دون لحاظ الحكم بالنسبة إلى بقية أفراد العام، ويكون مطيعاً لو أداه، وعاصياً لو تركه، ولا علاقة له بالمكلفين الآخرين سواءامتثلوا أم تركوا، فلكل فرد طاعته ومعصيته، مع أن حكم العام شامل لجميع المكلفين المخاطبين بذلك الحكم.

الثاني: العموم المجموعي، وهو أن يكون الحكم في العام شاملاً لمجموع الأفراد بما هو مجموع، فيكون الحكم بالحقيقة وارداً على الطبيعة الجامعة للأفراد، لا كل فرد فرد، فيكون الحكم بلحاظ مجموع الأفراد، ولا يكفي امتثال أحدها، كالأمر بأداء بالصلاة المشتملة على ركعات، فلا بد من

ص: 77


1- آية 183 من سورة البقرة

امتثال مجموع الركعات، ولا يكفي امتثال ركعة واحدة أو أكثر، ما لم تمتثل كلها، فامتثال حكم العام يكون بلحاظ امتثال الجميع، ومثله الحكم بالإيمان بالأئمة الإثنى عشر (عليه السلام)، فإنه لابد من الإيمان بهم بمجموعهم، ولذا فإن إنكار إمامة واحد منهم (عليه السلام) إنكار لهم جميعاً، ولا ينفع الإيمان ببعض دون بعض، لأن الإيمان بهم مأخوذ على نحو العموم المجموعي.

الثالث: العموم البدلي، وهو أن يكون الحكم في العام شاملاً لكل الأفراد ووارداً على الطبيعة التي تجمع تلك الأفراد، لكن بنحو يكتفى بتحقق الحكم الوارد على الطبيعة بامتثال فرد من أفراد تلك الطبيعة بنحو البدلية، فيكون الحكم بعمومه شاملاً لجميع الأفراد، لكن يسقط الحكم بامتثال واحد منها، كما إذا قال (تصدق على فقير)، فيكون الحكم العام بوجوب الصدقة شاملاً لكل من يصدق عليه عنوان الفقير، ويسقط الحكم العام بوجوب الصدقة بالصدقة على أي فقير.

الأمر الثاني : فيما يدل على العموم

ذكروا لما يدل على العموم أموراً:

منها (كل) وما في معناها مثل (جميع) و (تمام) و (أي) وغيرها، فإذا قال (أكرم كل رجل) أو (أكرم جميع الرجال) أو (أي رجل) فإنه يدل على لزوم إكرام جميع من يصدق عليه عنوان الرجل، وهكذا في غيرهما من الألفاظ.

ومنها (وقوع النكرة في سياق النفي أو النهي)، مثل لو قال (لم أر أسداً) فمعناه عدم روية جميع من يتصف بهذه الصفة من الحيوان، ولا حتى فرداً واحداً، وكذلك لو قال (لا تكرم فاسقاً) فمعناه عدم جواز إكرام كل من يتصف بأنه فاسق.

ص: 78

ومنها (الجمع والمفرد المحلى بالألف واللام إذا لم تكن الألف واللام عهدية) كما إذا قال (أكرم العلماء) أو (أكرم العالم) فاللازم إكرام جميع من يتصف بكونه عالماً بدون استثناء، أما إذا كانت عهدية فيكون المقصود إكرام المقصودين بالعهد فقط دون غيرهم وهم العلماء المخصوصون أو العالم المخصوص ولا يكون شاملاً لكل من اتصف بصفة العلم.

ومنها (اسم الجنس المحلى بالألف واللام إذا لم تكن عهدية وكان مسنداً إليه مع وجود قرينة دالة على العموم ولو بمقدمات الحكمة التي سيأتي الكلام عنها إن شاء الله تعالى)، وذلك مثل قولهم (الرجل أقوى من المرأة)، ومثل (العلم خير من الجهل)، وهكذا فالمراد أن جنس الرجل أقوى من جنس المرأة لا من حيث الأفراد، وإلا قد تكون هناك امرأة أقوى من كثير من الرجال، وكذلك جنس العلم خير من جنس الجهل لا من حيث أفراد كل علم مع أفراد كل جهل.

والكلام فيها مفصلاً ليس محله هذا المختصر.

الأمر الثالث : في أقسام المخصص

بعد ما تقدم من ذكر العام والخاص؛ فإنه مما لا ريب فيه من أنه يمكن تخصيص حكم العام وإخراج بعض الأفراد الداخلة في العام عن حكمه، ويكون حكم العام غير شامل لها، وهذا التخصيص على حالين تارة يكون متصلاً، وأخرى يكون منفصلاً.

فالمتصل: هو أن يكون المخصص مذكوراً مع العام في نفس الكلام، وحينئذٍ يكون المراد من العام المحكوم عليه هو ما عدا الخاص، لانعقاد ظهور الكلام بذلك؛ لأن الكلام إنما يتم ظهوره بعد تمامه، وحيث إن المفروض وجود الخاص في نفس الكلام، فيكون ظهور العام محدداً بما عدا

ص: 79

الخاص، لعدم اقتصار المتكلم في كلامه على ذكر العام فقط، مثل قوله تعالى [ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ أَمِنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتُ ](1)فالمراد من الإنسان الذي في خسر، هو كل إنسان غير الذين أمنوا وعملوا الصالحات.

والمنفصل: هو أن لا يكون المخصص مذكوراً مع العام في نفس الكلام، وإنما يكون مذكوراً في كلام آخر، سواء كان مذكوراً قبل وجود العام، أم بعده، مثل ما إذا قال (أكرم العلماء)، ثم قال في مورد آخر (لا تكرم الفاسق)، قبل أن يقول لا تكرم العلماء أم بعده، أي سواء تكلم بالحكم الخاص أولا ثم بالعام أم بالعكس، فحيث إن الخاص لم يذكر مع العام في نفس الكلام، فيكون ظهور العام قد انعقد في عموم الحكم لجميع الأفراد، ولكن مع ذلك هنا يقدم حكم الخاص عليه ويستثنى من حكمه، وذلك من باب تقديم الأظهر على الظاهر؛ لأن حكم الخاص أظهر من حكم العام، فيكون مقدماً عليه ويلزم إكرام كل عالم غير فاسق، وعليه يكون الفرق بين المخصص المتصل والمنفصل هو، إنه في المتصل لا ينعقد ظهور للعام في العموم، بل ينعقد ظهوره رأساً بما عدا الخاص، أما في المنفصل فإن العام ينعقد له ظهور بالعموم، لكن يقدم الخاص عليه بإخراج حكم الخاص من العام لأنه أظهر.

الأمر الرابع : حكم العام بعد التخصيص

قد تقدم من إمكانية تخصيص حكم العام وإخراج بعض الأفراد عن حكمه، فحينئذٍ يكون العام غير مراد على عمومه بعد ورود التخصيص عليه، بل يكون مراداً به ماعدا الخاص من الأفراد، وعليه يكون العام قد أطلق وأريد

ص: 80


1- أية 2 من سورة العصر

به بعض أفراده وليس كلها، كما قال تعالى [ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ أَمِنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتُ ](1) فالإنسان استعمل وأريد منه خصوص الذين أمنوا وعملوا الصالحات وليس كل إنسان، وحينئذ وقع الخلاف بين الأعلام في أن استعمال العام في بعض أفراده بعد ورود التخصيص عليه هل هو استعمال حقيقي أم مجازي، وفي المسألة أقوال كثيرة، أهمها ثلاثة:

الأول: أنه استعمال مجازي مطلقاً، أي سواء كان المخصص متصلاً أم منفصلاً، ووجهه أن العموم موضوع للشمول لجميع الأفراد، فإذا أريد منه بعضها فإنه يكون استعمالاً للعام في غير ما وضع له، وهو عبارة أخرى عن المجاز وقرينته ورود الخاص.

الثاني: أنه استعمال حقيقي مطلقاً، أي سواء كان المخصص متصلاً أم منفصلاً، ووجهه أن العموم إنما يراد منه العموم لجميع الأفراد الداخلة عليها لفظة العموم، فيكون استعمال العام في المخصص حقيقة؛ لأنه المراد به جميع الأفراد بعد التخصيص، ولا يكون المراد به بعض أفراد العام، فلا يكون استعمالاً للفظ العموم في غير ما وضع له، ويكون معنى كلامك مثلاً (ادفع الزكاة لكل فقير إلا الفاسق) هو عموم دفع الزكاة لكل فقير غير فاسق وهم العدول، فحينئذٍ تكون كل إذا دخلت على الفقراء مجرداً يراد منها جميعهم، وإن دخلت على الفقراء غير الفساق فيراد منها جميع الفقراء غير الفساق، وهكذا فيكون استعمالاً حقيقياً، وتكون كأنك قد قلت (أدفع الزكاة للفقراء العدول).

الثالث: التفصيل بين ما إذا كان المخصص متصلاً، أو منفصلاً، فإذا كان متصلاً فهو حقيقة، ووجهه أن في التخصيص المتصل لا ينعقد ظهور للعام في العموم من أول الأمر، بل يكون المراد منه ما دون الخاص، فيكون

ص: 81


1- آية 2 من سورة العصر

استعمال لفظ العام في ما عدا الخاص حقيقة فيه؛ لأنه هو المراد من العموم، فيكون المراد من دفع الزكاة للفقراء في المثال هم الفقراء غير الفساق أي العدول، ويكون كالوجه الثاني، وأما إذا كان التخصيص منفصلاً، فإن ظهور العام في العموم ينعقد حينئذٍ، فإذا جاء المخصص فبعد التخصيص يكون المراد من العام بعض أفراده، فيكون استعمالاً له في غير ما وضع له، فيكون مجازاً، ويكون كالوجه الأول.

الأمر الخامس : في إجمال المخصص
اشارة

الكلام المتقدم في التخصيص إنما كان مع فرض كون المخصص معلوماً، لكن قد يكون في بعض الأحيان المخصص مجملاً، فهل هذا الإجمال فيه يؤثر على عموم العام أم لا، وإن إجمال المخصص على نحوين:

الأول: الإجمال في مفهوم الخاص وهو المعبر عنه في كلماتهم ب-(الشبهة المفهومية)، فيكون مفهوم الخاص مجملاً غير معلوم المراد منه، كما إذا قال (أكرم كل عالم إلا الفاسق)، ولم يعرف أن مفهوم الفاسق بالتحديدماهو، هل ينطبق على مرتكب الصغائر والكبائر أم أنه خاص بمرتكب الكبائر، فيكون الإجمال حينئذٍ في مفهوم الفاسق وعنوانه.

الثاني: الإجمال في مصداق الخاص وهو المعبر عنه في كلماتهم ب-(الشبهة المصداقية)، وذلك بأن يكون مفهوم الخاص معلوماً، لكن وقع الإجمال في أفراده، كما إذا قال (أكرم العلماء إلا الفساق)، وعلم أن المراد بالفاسق هو مرتكب الكبائر فقط، لكن اشتبه بأن الفاسق هو زيد أم عمر، أم أن زيداً هل ارتكب كبيرة من الكبائر أم لا، وحيث إن الكلام في كل من الشبهتين يختلف عن الآخر اختلافاً بيناً، فاللازم إفراد كل مورد بالبحث على حده، فيكون الكلام في موردين :

ص: 82

المورد الأول : الشبهة المفهومية

وحيث إن الشبهة في المفهوم تارة تكون للترديد بين الأقل والأكثر كما ذكرناه في الفاسق، وتارة تكون للترديد بين المتباينين، كما إذا قال (لا تكرم غير العالم إلا إذا كان ذا شرف) وتردد ذو الشرف بين كونه خصوص من ينتسب للرسول (صلى الله عليه وآله) أو ذو الشرف بين الناس، وحيث أنه قد تقدم أن المخصص تارة يكون متصلاً وأخرى منفصلاً فتكون الصور أربعة:

الصورة الأولى والثانية: هي ما إذا كان المخصص متصلاً سواء كان الترديد بين الأقل والأكثر أم بين المتباينين، ذكر الأعلام هنا أنه يسري إجمال المخصص للعام، فلا يمكن التمسك بالعام في شمول حكمه للفرد المتردد؛ وذلك لأنه قد مر أن المخصص المتصل يكون كالقرينة الصارفة للعام عن ظهوره في العموم فلا ينعقد ظهور للعام إلا فيما عدا الخاص، وحيث المفروض أن الخاص مجمل فيكون العام مجملاً أيضاً، فمثلاً لو قال (أكرم العالم إلا الفاسق)، وشك في كون الفاسق مرتكب الصغائر أم الكبائر، فلا يجوز إكرام مرتكب الصغيرة لعموم وجوب إكرام العالم؛ لعدم إحراز كون مرتكب الصغيرة غير فاسق فيجوز إكرامه، وحيث إن الفاسق غير معلوم، فيكون مرتكب الصغيرة غير معلوم الحكم بوجوب إكرامه من حيث كونه عالما غير فاسق وعدم وجوب إكرامه من حيث كونه فاسقاً، فلا يمكن إدخاله تحت حكم العام بوجوب إكرام العالم غير الفاسق، لعدم إحراز عدم فسقه.

الصورة الثالثة: هي ما إذا كان المخصص منفصلاً، وكان الترديد بين الأقل والأكثر، فهنا حيث تقدم أن العام مع التخصيص المنفصل ينعقد له ظهور في العموم وإنما يقدم عليه الخاص لأنه أظهر منه، وحيث المفروض أن الخاص مجمل فلا يكون ظهوره أقوى من ظهور العام إلا في القدر المتيقن وهو الأقل، فيبقى الأكثر داخلاً تحت حكم العام لبقاء العام فيه على

ص: 83

الحجية ولا يعارضه الخاص هنا، فيصح التمسك بالعام هنا في إدخال الفرد المشكوك تحت حكم العام، مثل ما إذا قال (أكرم كل عالم) ثم قال (لا تكرم الفاسق)، ومع فرض اشتباه الفاسق بين مرتكب الصغائر والكبائر، فهنا يعلم بخروج مرتكب الكبيرة من حكم العام وهو وجوب الإكرام لحجية الخاص فيه، أما مرتكب الصغيرة فحيث أنه مشكوك الخروج عن حكم العام لعدم العلم بشمول الخاص له، والمفروض أن العام حجة لعدم صلوح الخاص لإخراج الفرد المردد؛ لأنه ليس أظهر منه، فيبقى حكم العام فيه حجة بلا منازع، فيجوز إكرام مرتكب الصغيرة؛ لأنه عالم ولم يحرز دليل على عدم إكرامه، لعدم العلم بدخوله تحت عنوان الفاسق.

الصورة الرابعة: هي ما إذا كان المخصص منفصلاً وكان الترديد بين متباينين، فقد ذكر الأعلام (رض) عدم حجية العام في هذا الفرض؛ لإن إجمال الخاص يسري للعام، وذلك لأنه وإن قلنا في المخصص المنفصل ينعقد ظهور للعام، لكنه لما كان المخصص دائراً أمره بين متباينين ليس بينهما قدر مشترك، فكل فرد يحتمل دخوله تحت الخاص وخروجه عنه، ودخوله تحت العام وخروجه عنه، فلا يكون هناك ظهور للعام في إدخال فرد دون فرد، فلا يصح حينئذٍ التمسك بالعام بكل من الفردين، مثاله كما إذا قال (لا تكرم العالم)، ثم قال (أكرم العالم ذا الشرف)، وشك في المراد من ذي الشرف هل خصوص من ينتسب للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أم من كان له شرف عند الناس فلا يمكن إكرام أحدهما وإن كان عالماً لعدم إحراز دخوله تحت حكم العام وهو ذو الشرف.

المورد الثاني : الشبهة المصداقية

وهنا أيضاً يكون لها صور أربع كما تقدم في الشبهة المفهومية، لكن ظاهر الأعلام هنا عدم جواز التمسك بالعام في جميع الصور، لعدم بقاء العام

ص: 84

على ظهوره في هذا الفرض، وذلك لأن المفروض أن الخاص قد قصر عموم العام على ما عدا الخاص فأصبح عمومه مقيداً بما عدا الخاص، وحيث إن الخاص غير محرز فلا يكون العام أيضاً محرزاً، فمثلاً لو قال (أكرم العلماء إلا زيد بن عمرو) فيكون المراد هنا هو لزوم إكرام جميع من وصف بأنه عالم غير زيد بن عمرو؛ لأن زيد بن عمرو لا يجوز إكرامه، فكل فرد يشك في كونه زيد بن عمرو لا يصح إكرامه تمسكاً بعموم إكرام العالم؛ لأن عموم الإكرام للعالم مقيد بكون المكرم عالم غير زيد بن عمرو، وهذا الفرد لا يعلم كونه عالم غير زيد بن عمرو، فهنا لا يصح التمسك بالعام سواء كان المخصص متصلاً، أم منفصلاً، وسواء كان الدوران بين الأقل والأكثر، أم بين المتباينين.

((تتميم))

نعم نبه بعض الأعلام (رض) تنبيه بخصوص الشبهة المصداقية في أنه إذا كان المخصص لبياً هل يصح التمسك بالعام في الشبهة المصداقية أم لا، وذلك لأن الدليل اللبي لا إطلاق له فيؤخذ منه القدر المتيقن فهل يصلح لتخصيص للتأثير على عموم العام مع الاشتباه.

ومرادهم باللبي هو كل دليل غير لفظي، كحكم العقل، والإجماع، وما شابههما، وتشعب من هذا التنبيه أقوال كثيرة نذكر أهمها :

الأول

جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية إذا كان المخصص لبياً، وذلك لأن المخصص إذا كان لفظياً فإن أفراد الخاص تكون معلومة للمخاطَب؛ لأنها قد بينت له بدليل لفظي، فيكون المخاطِب كأنه قد أحال معرفة أفراد الخاص وتمييزها إلى المخاطَب، فإذا شك المخاطَب في فرد منها أنه داخل تحت حكم العام بعد فرض تخصيصه أو داخل تحت حكم الخاص فلا يكون دخوله تحت العام أولى من دخوله تحت الخاص عند المخاطَب؛ لأن

ص: 85

كلا من العام والخاص حجة في حق المخاطَب لأنها بينت إليه لفظاً، أما إذا كان المخصص لبياً فإن المخاطِب لم يذكر إلا حجة واحدة وهو العام، فيكون الظاهر من حال المخاطَب أنه أراد بيان جميع مصاديق حكمه بذكر عنوان العام، فكل فرد لم يعلم خروجه من حكم العام أكيداً يكون داخلاً تحت حكمه، ولا موجب لخروجه عن حكم العام، فيكون العام حجة بلا منازع بعد فرض أن الخاص لم يبين بلفظ، فيكون مقصوراً على القدر المتيقن، وهو المعلوم الخروج

عن حكم العام كما إذا قال (أكرم العالم) وقام الإجماع على عدم جواز إكرام الفاسق وشك في فسق زيد العالم، فإن عموم إكرام العالم شامل لزيد ما لم يحرز كونه فاسقاً وحيث أن منع إكرام الفاسق ثبت بالإجماع فيؤخذ منه المتيقن وهو من ثبت فسقه أكيداً دون من شك في فسقه.

الثاني

التفصيل بين ما إذا كان المخصص اللبي مما يصح للمتكلم الاتكال عليه في بيان مراده كالحكم العقلي الضروري، فإنه يكون كالمخصص المتصل الذي يكون الإجمال فيه سارياً إلى العام فلا يصح التمسك بالعام معه، ومثل له إذا علم من حكم العقل أن تارك الصلاة لا يستحق الزكاة ضرورة، ثم ورد دليل بوجوب دفع الزكاة للفقراء، فالفقير الذي يشك في كونه مصلياً لا يجوز دفع الزكاة له؛ لأنه هنا لابد من إحراز كون الفقير مصلياً ليدفع له الزكاة.

أو كان مما لا يصح الاتكال عليه في بيان مراده كالعقلي غير الضروري، فلا مانع من التمسك بالعام؛ لأن ظهوره لا يكون مزاحماً بظهور أقوى منه، فيبقى العام حجة بلا منازع، ومثل له كما إذا علم من حكم العقل بأن العدو لا يكرم، وورد دليل لفظي بلزوم إكرام الجار، فإذا شك في جار أنه عدو أم لا فإنه يكرم، ولا يصح ترك إكرامه لاحتمال كونه عدواً.

ص: 86

الثالث

التفصيل بين ما إذا ذكر حكم العام بقضية حقيقية وبين ما إذا ذكر بقضية خارجية

فإذا ذكر بقضية حقيقية، وهي التي يكون تطبيق الموضوع فيها على مصاديقها راجع لنفس المكلف، ولا يلاحظ فيها وجود الموضوع في الخارج وعدمه، مثل قوله (العالم يجب إكرامه)، ولم يحدد من هو العالم، فعلى المكلف البحث عن مفهوم العالم وتحديده من أجل إكرامه، فإذا كان هناك مخصص

لهذا الإكرام بعدم جواز إكرام الفاسق، فهنا لا يصح التمسك بالعام مع الشبهة المصداقية، كما إذا شك بأن زيد عالم فاسق لا يجوز إكرامه أم ليس بفاسق فيجب إكرامه، فلا يتمسك بوجوب إكرام العالم في إكرامه سواء كان المخصص لبياً أم لفظياً؛ لأن حكم العام هنا معلوم التقييد فلا يبقى له ظهور بالعموم، وحيث إن المخصص هنا مجهول فلا يصح التمسك بعموم العام للعلم بعدم بقائه على عمومه.

وإذا ذكر بقضية خارجية، وهي التي يلحظ فيها وجود الموضوع في الخارج، ويكون تحديده من قبل الآمر كما إذا قال (أكرم مثل هذا العالم)، ووجه خطابه لمخاطب معين، فهنا إذا كان المخصص لفظياً كما أذا قال (ولا تكرم الفاسق)، لا يصح التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، كما إذا شك في كون زيد عالم يجب إكرامه أم لا؛ لأن المخاطِب قد أوكل تعيين إفراد العام له فلا يصح للمخاطب التمسك بعموم كلامه من إكرام العالم، مع علمه بأن كلامه مخصص، وهذا المخصص غير معلوم بالخارج.

وإذا كان المخصص لبياً، فإن كان مما يصح الاتكال عليه كالعقلي الضروري كحكم العقل بعدم جواز إكرام تارك الصلاة، فإنه يكون كالقرينة المتصلة الصارفة للعام عن عمومه فلا يصح معه التمسك بالعام، وإن كان

ص: 87

مما لا يصح الاتكال عليه، كما إذا كان عقلياً نظرياً كحكم العقل بعدم إكرام العدو، فيصح التمسك بالعام هنا لأن المخاطِب قد أحرز انطباق موضوع حكمه على جميع أفراد العام فيكون حكم العام حجة؛ لأن المخاطِب يعلم أن المخصص لا يصح الاتكال عليه في التخصيص.

الرابع

عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية سواء كان المخصص لفظياً أم لبياً .

وذلك لأنه لا فرق في المخصص بين اللفظي واللبي، فيصح للمخاطِب الاتكال عليه والاحتجاج به في مقام التخاطب، وهو كاشف عن مراد المتكلم، فيلزم حينئذٍ أن يكون حكم العام واقعاً قاصر عن أفراد الخاص، فما لم تحرز أفراد الخاص لا يكون للعام ظهور بحيث يمكن التمسك به، لعدم إحراز دخول كل فرد من الأفراد المشكوكة تحت حكم العام.

الأمر السادس : تعقب العام بضمير يعود حكمه إلى بعض أفراده

قد يرد عام في جملة، ثم يأتي بعده ضمير يعود على ذلك العام، لكن الحكم الوارد في الضمير مقصور على بعض أفراد ذلك العام، وقد مثل له بمثل قوله تعالى [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورُ رَحِيمُ * وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعُ عَلِيمُ ](1) فالآية ذكرت الإيلاء وهو الحلف على ترك وطء الزوجة، وذكرت له حكماً، وهو إما الرجوع عن يمينه بالكفارة والجماع بقوله تعالى [فإن فاءوا]، أو الطلاق بقوله تعالى [ وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ ]، والمفروض أنه حكم عام يشمل كل زوج، لكنه عقب ذلك العام بواو الجماعة في قوله تعالى [ عَزَمُوا الطَّلَاقِ ] وهو عائد على

ص: 88


1- آية 226 و227 من سورة البقرة

اللذين يؤلون، لكن الطلاق حكم خاص ببعض الأزواج، وهم من كان زواجهم بالعقد الدائم دون المنقطع، فهم اللذين لهم الطلاق، فهنا الإيلاء عام لكل زوج يحلف على عدم وطء زوجته وحكم الطلاق مقصور على بعض الأفراد من الأزواج وهم من عقدهم دائم.

فجرى الكلام هنا في أن العام وهو الحكم على من حلف بعدم وطئ زوجته عام لكل متزوج يبقى على عمومه وحكمه إما أن يكفر ويراجع أو يطلق ، وعليه فالمتزوج دائما مخير بين أحدهما والمتزوج متعة عليه حكم واحد وهو الكفارة والرجوع دون الطلاق، أو يكون حكم من حلف على عدم وطئ زوجته خاصاً بالمتزوج دائماً؛ لأنه هو الذي له أن يطلق، ويكون عليه إما الكفارة والرجوع أو الطلاق دون المتزوج متعة، وتشعبت من ذلك أقوال أهمها:

الأول:

هو جريان أصالة العموم في حكم الإيلاء، ولا يعارضها قصر حكم الضمير على بعض الأفراد وعليه يكون حكم الإيلاء شامل للدائم والمنقطع لكن كل منهما بحسب ما يجري عليه.

الثاني:

قصر حكم العام على الأفراد التي دخلت تحت حكم الضمير، ولا يبقى العام على عمومه وعليه يكون حكم الإيلاء خاص بالزواج الدائم دون المنقطع.

الثالث:

التفريق بين كون الحكم المقصور مستفاد من قرينة متصلة أو منفصلة، فإذا كانت متصلة فلا يبقى ظهور للعام في العموم، كما تقدم من الآية الكريمة وإذا كانت منفصلة فإن العام ينعقد له ظهور ويبقى على عمومه، نعم

ص: 89

حكم الضمير يكون خاص بما قصر عليه ولا يتناول بقية أفراد العام، مثل قوله تعالى [ وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لَا یحل لَهُنَّ انَّ یکتمن مَا خَلَقَ اللَّهُ فی أَرْحامِهِنَّ انَّ کن یومن بِاللَّهِ والیوم الاخر وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ ](1)حيث يظهر من صدر الآية الكريمة هو عموم العدة المذكورة لجميع المطلقات وظاهر ذيل الآية المشتمل على الضمير هو جواز الرجوع بكل مطلقة ذات عدة ولكن تخصيصه ببعض أقسام الطلاق ككونه الأول والثاني دون الثالث قد استفيد من أدلة خارجية وهي الروايات الدالة على ذلك، وعليه هنا ينعقد الظهور بعموم العام ويكون حجة في نفسه، ولا ملزم برفع اليد عن عمومه بالدليل الخارج الذي أوجب تخصيص حكم الضمير فقط دون عموم العام لعدم التلازم بينهما.

الأمر السابع : تعقب الاستثناء لعمومات متعددة

قد ترد في بعض الأحيان عمومات متعددة في كلام واحد، ثم يأتي بعد تلك العمومات استثناء مخصص، فوقع الكلام بين الأعلام في حكم هذا الاستثناء الوارد بعد تلك العمومات، هل هو مخصص لخصوص حكم العام الأخير الوارد في الجملة، أم أنه يخصص جميع العمومات الواردة قبله، ومثلوا له بقوله تعالى [ وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا ](2)،فذكر تعالى أن من يرمي المحصنة بدون بينة فإنه يجلد ولا تقبل شهادته ويكون فاسقاً إلا إذا تاب، فذكروا أن التائب هل يخرج من حكم الفاسق فقط فلا يحكم بفسقه، وباقي الأحكام تبقى على حالها، وهي الجلد، وعدم قبول

ص: 90


1- آية 228 من سورة البقرة
2- آية 4 من سورة النور

الشهادة، أم يكون التائب مستثنى من جميع الأحكام، فصار في المسألة أقوال منها:

الأول:

أن الظهور في مثل ذلك يقتضي رجوع الاستثناء للعموم الأخير فقط، نعم ويمكن أن يرجع للجميع لكن بقرينة خاصة.

الثاني:

أن الظهور في مثل ذلك يقتضي رجوع الاستثناء للجميع، نعم ويمكن رجوعه للعموم الأخير بخصوصه لكن بقرينة.

الثالث:

لا ظهور في رجوع الاستثناء للأخير ولا للجميع، لكنه القدر المتيقن من الاستثناء هو الاستثناء من الأخير؛ لأنه إما هو المستثنى منه لوحده، أو مع الجميع فهو مقطوع الاستثناء منه، أما باقي العمومات فتكون مجملة ولا يمكن إجراء أصالة العموم فيها، لاحتفاء الكلام بما يصلح لأن يكون قرينة صارفة للعموم عن عمومه، خصوصاً مع كون الاستثناء من القرائن المتصلة التي لا توجب الانعقاد للظهور، نعم يمكن رجوعه للجميع مع القرينة.

الرابع:

التفريق بين ما إذا كان الموضوع في جميع العمومات واحداً وذكر في صدر الكلام، فيكون ظاهر الاستثناء هو رجوعه للجميع؛ لأن الاستثناء إنما يكون من الموضوع، والمفروض أنه واحد كما لو قال (أحسن إلى كبار السن والعلماء والفقهاء إلا الفساق) وهنا معناه أن الفاسق لا يحسن من الأقسام الثلاثة.

وبين ما إذا كان الموضوع متعدداً ومتكرراً مع كل عموم، فيكون ظاهر الاستثناء أنه من العموم الأخير لاختلاف الموضوعات، ورجوعه إلى باقي

ص: 91

العمومات يحتاج إلى القرينة، فتبقى باقي العمومات على عمومها، وذلك مثل لو قال (أحسن إلى الناس وأحترم العلماء وصل خلف الفقهاء إلا الفساق)، فيكون ظاهر كلامه عدم الصلاة خلف الفقيه الفاسق، أما الاحترام للعالم، والإحسان للناس، لا يمنع منه الفسق.

الأمر الثامن : تخصيص العام بالمفهوم

قد تقدم أن الخاص إنما يقدم على العام لأنه أظهر منه دلالة، فيكون تقديمه عليه من باب تقديم الأظهر على الظاهر، لكن هذا إذا كان الخاص وارداً في المنطوق، فيكون ظهور الخاص منطوقاً أقوى من ظهور العام منطوقاً، أما إذا كان الخاص مستفاداً من المفهوم فهل يقدم على العام أم لا؛ لأن المفروض أن المنطوق أقوى دلالة من المفهوم، فهل يقدم الخاص لأنه أقوى وإن كان مفهوماً، أم العام المنطوق لأنه اقوي وإن كان عاماً، وبعبارة أخرى هل أن الخاص مقدم ولو كان مفهوماً أم المنطوق مقدم ولو كان عموماً، فوقع الكلام في تقديم العام المستفاد من المنطوق على الخاص المستفاد من المفهوم، أم يقدم الخاص على كل حال ولو كان مستفاداً من المفهوم.

وحيث كان المفهوم على قسمين كما تقدم مفهوم موافقة ومخالفة، فإذا كان مفهوم موافقة، فالظاهر منهم أنه لا خلاف بينهم في أن الخاص المستفاد منه يكون أظهر من العام؛ لأنه ملازم للمنطوق، فإذا لم نقل بالتخصيص في مفهوم الموافقة لزم رفع اليد عن دلالة نفس المنطوق وظهوره، فالتخصيص بمفهوم الموافقة أظهر من العام فيقدم عليه مثل قوله تعالى [ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ](1)فإن هذا عام يلزم منه الوفاء بكل عقد، فإذا دل

ص: 92


1- آية 1 من سورة المائدة

دليل على لزوم كون العقد بالماضي إذا كان العقد بالعربية، فعدم صحة العقد بغير الماضي إذا كان بغيرالعربية أولى، فمفهوم عدم صحة وقوع العقد بغير الماضي أقوى من عموم وجوب الوفاء بالعقد.

أما إذا كان مفهوم مخالفة، فاختلفوا على أقوال، أهمها:

الأول:

تقديم العام المنطوقي على الخاص المفهومي؛ لأن المنطوق ظهوره أقوى من المفهوم، فيقدم على كل حال وحينئذٍ لا يخصص العام بالمفهوم الخاص، كما إذا قال (أكرم العالم) ثم قال (أكرم الهاشمي) فمقتضى عموم منطوق (أكرم العالم) وجوب إكرام العالم ولو لم يكن هاشمياً ومقتضى مفهوم (أكرم الهاشمي) عدم إكرام غير الهاشمي ولو كان عالماً، فيقدم هنا عموم إكرام العالم ولو لم يكن هاشمياً على مفهوم عدم إكرام غير الهاشمي.

الثاني:

تقديم الخاص على العام؛ لأنه مقدم عليه دائماً، لأقوائية ظهور الخاص على العام ولو كان مفهوماً، لأنه لا فرق بين المنطوق والمفهوم في الظهور وعليه يقدم الخاص، وحينئذٍ يخصص منطوق العام بالخاص وإن كان مفهوماً، وعليه يجب إكرام العالم الهاشمي فقط، لأن عموم إكرام العالم مخصص بالهاشمي.

الثالث:

عدم تقديم أحدهما على الآخر، ويكون الكلام مجملاً، فلا يمكن العمل لا بالخاص ولا بالعام، لأن العام أقوى ظهوراً من جهة كونه منطوقاً، وأضعف من جهة كونه عاماً، والخاص أقوى ظهوراً من جهة كونه خاصاً، وأضعف من جهة كونه مفهوماً، وعليه فالعالم الهاشمي يكرم لأنه متيقن أما العالم غير الهاشمي لا يجب إكرامه للعموم ولا يمنع من إكرامه للمفهوم.

ص: 93

المبحث السادس من مباحث الألفاظ : المطلق والمقيد

اشارة

عرف علماء الأصول (المطلق) هو (ما دل على معنى شايع في جنسه) و (المقيد) هو (ما لا يدل على معنى شايع في جنسه)، ولم يختلفوا بمعنى الإطلاق عن معناه اللغوي الذي ذكره اللغويون، وهو الإرسال مقابل التحديد، ولكن الإطلاق يكون ملحوظاً من جهة الأحوال والكيفيات، لا من جهة الأفراد، لأنه بلحاظ الأفراد يسمى عموماً إذا اقترن بلفظ دال عليه، فمثلاً إذا قال (أكرم العالم)، فيكون هناك عموم من جهة شمول الإكرام لجميع أفراد العالم بسبب تعريف المسند إليه، كعالم الطب، والهندسة، والنحو، والفقه، وغيرها، وهناك إطلاق بلحاظ جميع أحوال الإكرام وكيفياته، وأحوال العالم وكيفياته، كأن يكون الإكرام في البيت، أم في المسجد، والإكرام بالمال، أم بغيره، وكأن يكون العالم جالساً أم واقفاً، وهكذا، والكلام في المطلق والمقيد يكون بأمرين:

الأمر الأول : التلازم بين الإطلاق والتقييد

ذكروا إن المطلق والمقيد متقابلان تقابل الملكة وعدمها، فهما متلازمان في كل مورد يمكن فيه التقييد، فإذا أمكن التقييد أمكن الإطلاق، فإذا لم يقيد المتكلم كلامه في المورد الذي يمكن فيه التقييد بأي قيد من القيود الممكنة فلابد أنه لا يريد المقيد ويريد المطلق؛ لأنه لو كان يريد المقيد لقيد مع فرض إمكانه؛ لأن الكلام لا يخلو إما أن يكون مطلقاً، أو مقيداً، ومع عدم ذكر

ص: 94

القيدفلابد من إرادة الإطلاق، وإلا كان المتكلم مخلاً ببيانه، مع إرادته المقيد وإمكانه ولم يقيد، والمفروض أن المتكلم حكيم وملتفت لبيانه.

نعم لو كان المورد مما لا يمكن فيه التقييد لعلة مانعة من التقييد، ككون الموضوع جزئيأ لا يقبل التقييد على ما ذكره بعضهم، أو كونه من موارد التقية، أو يلزم منه الدور، وبيان العلل المانعة وتفصيل الكلام فيها يخرجنا عما نروم إليه من الاختصار، وعليه فمع وجود العلة المانعة من التقييد فإذا لم يقيد المتكلم كلامه لا يعني عدم إرادته التقييد؛ لأنه غير ممكن؛ فعدمه لا يكشف عن إرادة الإطلاق.

فكل مورد يمكن فيه التقييد مع عدمه يكشف عن إرادة الإطلاق، بخلاف الموارد التي لا يمكن فيها التقييد فإن عدمه لا يكشف عن عدم إرادته، بل يكون الكلام مجملاٍ من هذه الناحية.

نعم قد يقال أنه مع عدم التقييد حتى في مورد عدم إمكانه يكشف عن إرادة الإطلاق؛ لأنه لما كان المتكلم حكيماً ومريداً للمقيد، وغرضه لا يتأتى إلا به، فاللازم عليه بيان القيد بأي طريق من الطرق، لئلا يلتبس الحال على السامع ويعمل بالإطلاق مع عدم إرادته من المتكلم، ويكون حينئذٍ المتكلم مخلاً ببيانه، وهذا لا يتصور في حق الحكيم العارف.

الأمر الثاني : موارد استفادة الإطلاق
اشارة

ذكر الأعلام (رض) أنه يستفاد الإطلاق من كلام المتكلم (بمقدمات الحكمة)، وهي مقدمات إذا تمت في حق المتكلم يستفاد منها الإطلاق في كلامه، والمقدمات المذكورة في كلماتهم أربع، لا تخلو عن مناقشات بينهم، سنذكرها ونترك المناقشات فيها للمراحل اللاحقة.

المقدمة الأولى : إمكان الإطلاق والتقييد

وهو أن يكون المورد مما يمكن فيه الإطلاق والتقييد كما تقدم، كي

ص: 95

يمكن الاتصاف بهما؛ لأنهما من قبيل الملكة وعدمها كما تقدم، لا يتصف بهما إلا ما من شأنه الاتصاف، فإذا كان المورد مما يمكن فيه التقييد والإطلاق ولم يقيد المتكلم فلابد أنه يريد الإطلاق، ولو امتنع التقييد امتنع الإطلاق كما في تقييد متعلق الأمر بقصد امتثاله في باب التعبدي والتوصلي، وتقييد الحكم بالعلم به.

المقدمة الثانية : عدم القرينة على التقييد

وهو أن لا يكون في الكلام قرينة على إرادة التقييد متصلة أو منفصلة، والمتصلة هي الموجودة في ضمن الكلام كما إذا قال (أكرم زيداً إذا كان حاجاً)، فهنا قرينة في ضمن الكلام على إرادة إكرام زيد لكن بقيد كونه حاجاً، والمنفصلة هي التي تكون في كلام آخر، كما إذا قال (أكرم زيداً) في مورد، ثم قال في مورد آخر (لا تكرم إلا من كان حاجاً)، فهنا أيضاً يكون كلامه بإكرام زيد مقيداً، ولا يمكن فهم إرادة الإطلاق منه مع وجود قرينة على التقييد ولو لم تكن في نفس الكلام الواحد.

المقدمة الثالثة : كون المتكلم في مقام البيان

وهو أن يكون المتكلم في صدد بيان تمام مراده الجدي، لأجل أن يعمل عليه المخاطب، أما لو كان مراده من البيان غير العمل، كمجرد بيان وجود حكم بهذه الواقعة، وهو غير متصد لبيان مقداره وحدوده، كما إذا قال (يجب الصوم على الناس) لبيان أن هناك صوماً واجباً وليس بصدد بيان حدوده، فلا يفهم منه الإطلاق بوجوب الصوم على كل حال، أو كان مراده بيان جهة خاصة من الحكم، غير منظور فيها الإطلاق من غيرها من الجهات، كما في قوله تعالى [ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مادمتم حَرَماً ](1)، فهنا ليس المراد بيان حلية صيد كل ما في

ص: 96


1- آية 96 من سورة المائدة

البحر مطلقاً، لعدم كونه في صدد بيان أحكام الصيد من البحر، حتى يستفاد منها حلية أكل كل حيوان مصيد من البحر، بل من جهة حكم المحرم في الأكل وبيان حلية أكل صيد البحر له من جهة كون الصائد محرماً، وهو مقابل صيد البر الذي يحرم عليه الأكل منه، فلا يفهم من هذه الآية إطلاق حلية كل ما موجود في البحر من الحيوان، بل المصيد من البحر يحل للمحرم لكن يبقى ما يحل أكله وما يحرم من أنواع حيوان البحر يرجع فيه لمورد بيانه، وغير ذلك من الموارد التي لا يكون فيها المتكلم بصدد بيان الحكم من أجل العمل عليه من جميع الجهات.

المقدمة الرابعة : عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب

وإلا اقتصر في ثبوت الحكم عليه ولا يكون هناك إطلاق

وهو ما إذا كان بين المتكلم والسامع قدر معلوم من الكلام، يعلم أنه المراد دون غيره، كما إذا كان هناك عهد سابق بينهما، أو لمناسبة الحكم والموضوع، مثلاً لو كان الأب جالساً مع ابنه على مائدة الطعام، وقال له (أريد ماءً) فالابن لا يفهم من طلب أبيه إرادة مطلق الماء وإن أطلق الأب، بل خصوص ماء الشرب، أو كما ورد (صل ركعتين تحية المسجد عند الدخول إليه) فلا يفهم منه إرادة مطلق الصلاة ولو لم يكن الداخل متوضئاً وهكذا.

وفي كل من هذه المقدمات مناقشات في تماميتها وكفايتها لا يتناسب التعرض لها مع هذا المختصر.

وفي المطلق والمقيد كلام أخر من جهات أخرى ليس محلها هذا المختصر لذا نحيل الطالب فيها للمراحل اللاحقة.

إلى هنا تم بحمد الله تعالى وتوفيقه الباب الأول من القسم الأول ويليه الباب الثاني من القسم الأول وهو الملازمات العقلية.

ص: 97

الباب الثاني : في الملازمات العقلية

وفيه مبحثان

((المبحث الأول)) :((في المستقلات العقلية))

يعتبر العقل أحد الأدلة على الحكم الشرعي، ولكن البحث عن دليليته يقع على نحوين: النحو الأول: عن حجية حكم العقل، وهذا موكول للباب الأول من القسم الثاني من مباحث الحجج إن شاء الله تعالى، والنحو الثاني: عن الموارد التي يمكن للعقل فيها أن يدرك الحكم الشرعي ويستنبطه، وهذه الموارد على قسمين، قسم يستقل العقل بإدراكها لوحده، وأخرى يدركها بضميمة مقدمة شرعية، ولذا انقسم البحث في الملازمات العقلية على قسمين، القسم الأول المستقلات العقلية، والقسم الثاني غير المستقلات العقلية، وسنبحث في القسمين كلا على حده.

ص: 98

((القسم الأول)) :((المستقلات العقلية))

والمذكور في الكتب الأصولية في هذا المورد مسالة واحدة، وهي مسألة التحسين والتقبيح العقليين، وهذه المسالة وقع الخلاف فيها قديماً بين الأشاعرة، والعدلية،(1)وسيكون الكلام فيها في أمرين.

ص: 99


1- العدليّة - خلافا للأشاعرة ذهبوا إلى أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للملاكات والمناطات الواقعيّة ونفس الأمريّة، ولا يمكن للشارع المقدّس أن يقرّ حكما لموضوع بدون ملاك واقعيّ له، لما يلزم من قبول هذا الأمر من إنكار لحقائق الأشياء، وتسليم التغيّر في الحقيقة الثابتة، مع أنّ الواقع الخارجي للأشياء يمكن أن يكون معرضا للحوادث الزمانيّة والمكانيّة ويتغيّر بخلاف حقيقة الأشياء وماهيّتها. مثلا السرقة والتصرّف في مال الغير بدون رضاه مذموم وقبيح على أيّ حال، وفي كلّ زمان ومكان. ولذا كان القبيح الذاتي محكوما بالحكم الشرعي التحريمي. فلو وصل المجتهد بالطرق المقرّرة إلى الحكم الواقعي للشارع المقدّس كان مصيبا، ولو اشتبه كان مخطئا لأنّ حقيقة الحكم الإلهي لا تتغيّر بحسب فتواه. كي يقال: إنّ المجتهد مصيب على كلّ حال، وإنّ فتواه وحكمه حكم القانون الإلهي. وكلّ ما أفتى به هو - وإن كان قبيحا - كان حسنا، وكذا العكس. فالمجتهد عند الإماميّة مستنبط وكاشف لا مشرّع ومقنّن، وهو يمكن أن يصل إلى واقع حكم اللَّه تعالى وقد يخطئ، كلّ ذاك خلافا لما ذهب إليه الأشاعرة من القول بكون المجتهد على كلّ حال مصيبا. أي أن حكمه هو الحكم الواقعي للشارع. هذا من جهة، ومن جهة أخرى ذهبوا إلى أنّ الحسن ما حسّنه الشارع والقبيح ما قبّحه، ففي الواقع قد جوّزوا أن يكون موضوعا واحدا له عدّة أحكام في آن واحد بحسب تعدّد الفتوى عليه، وكلَّها صحيحة ومصابة ! وهذا ما يخالف بداهة العقل وما أقرّته الشرائع السماويّة. هذا مع أنّ ثبوت الشرايع الإلهيّة أساسا موقوف على قبول الحسن والقبح الواقعيّ الذاتي للأشياء، وإلَّا فإذا كان ثبوت الشريعة مستندا إلى الطرق الشرعيّة فما هو البرهان على وجوب قبول ذلك الطريق فلا بدّ أن يكون ذلك الطريق منتها إلى مستند عقلي حذرا من التسلسل إلى غير النهاية. وعلى كلّ فيلزم قبول أنّ أساس جعل الشرائع الإلهيّة والأحكام الشرعيّة تابع للملاكات الواقعيّة.

الأمر الأول: معنى الحسن والقبح، وهل هما ذاتيان أم لا.

اختلف العدلية والأشاعرة في ذلك، فقال العدلية إن الأفعال لها حسن وقبح بذاتها، بحيث يمكن للعقل إدراكهما بغض النظر عن حكم الشارع،والشارع يحكم على طبق الحسن والقبح الذاتيين، فلا يأمر بما هو قبيح بالذات، ولا ينهى عما هو حسن بالذات.

وقال الأشاعرة إن الحسن والقبح ليسا ذاتيين بل يرجعان للشارع المقدس، فما حكم بكونه حسناً فهو حسن، وما حكم بكونه قبيحاً فهو قبيح، وما لم يحكم به الشارع لا يكون حسناً ولا قبيحاً، ولذا للشارع أن يعكس حكمه، فيحكم بالحُسن في أمر حكم بكونه قبيحاً قبل ذلك ويحكم بالقبح في أمر حكم بكونه حسناً قبل ذلك، وحيث إن هذا الخلاف ناشئ من المراد من الحسن والقبح، ومعناهما فلابد من فهم المراد من الحسن والقبح في كلامهم حتى يعرف الصحيح من الخطأ.

ومرادهم به عند الشارع هو المدح والذم، فكل فعل اختياري استحق فاعله عليه المدح فهو حسن كالعدل، وكل فعل اختياري استحق فاعله عليه الذم فهو قبيح كالظلم، فالحسن ما كان ممدوحاً عند ذوي العقول السليمة، والقبيح ما كان مذموماً عندهم ، فيكون مدار الحسن والقبح هو مدح العقلاء وذمهم، ومنه يعرف مدح الشارع وذمه، وبذلك يحكم على الممدوح أنه حسن والمذموم أنه قبيح، وحيث إن المدار على مدح العقلاء وذمهم، فلابد أن يكون مدحهم وذمهم بما أنهم عقلاء مع تجردهم عن المؤثرات الخارجية، فلا يكفي إذا كان المدح والذم نابعاً من هذه المؤثرات، كالعاطفة، والشفقة، والحمية، والعادة المستحكمة، والأعراف العشائرية، أو البيئية، أو الدينية، أو غير ذلك،

ص: 100

بل لابد أن يكون المدح والذم بالعقل المجرد عن جميع هذه المؤثرات؛ لأن المراد من هذا المدح والذم من العقلاء هو إثبات حكم الشارع تبعاً لحكم العقل والعقلاء، والشارع إنما يشارك العقلاء بعقولهم، أي بما هم عقلاء حيث إنه جل وعلى سيد العقلاء، ولا يشاركهم بعواطفهم أو عاداتهم؛ لأن هذه الصفات لا يمكن طروها على الشارع بل يستحيل عليه الاتصاف بهذه الصفات، لأنهاصفات توجب النقص عليه، ولأنها ليست صفات لهم بما هم عقلاء، حتى يشاركهم فيها بل بما هم عاطفيون مثلاً، ثم استدل كل طرف على دعواه بأدلة، وسنستعرض أهمها، فاستدل العدلية بأدلة منها:

الأول: الوجدان

فذكر العدلية أن الإنسان إذا حرّر نفسه عن كل مؤثر خارجي، كالعاطفة، والشفقة، والشهوة، والغضب، وغيرها من المؤثرات، فإنه سوف يدرك أن هناك أفعالاً حسنة بذاتها، وينبغي لكل عاقل فعلها، ويستحق فاعلها المدح أياً كان، كالعدل، والإحسان، وأداء الأمانة، وغيرها، وهناك أفعالاً قبيحة بذاتها، وينبغي لكل عاقل تركها، ويستحق فاعلها الذم أياً كان، كالظلم، وخيانة الأمانة، وهذه الأمور تكون مدركة لكل عاقل، ولو لم يكن يؤمن بوجود الله تعالى، وهذا دليل عدم ارتباط حسن هذه الأفعال وقبحها بالله تعالى، بل بالعقل والفطرة السليمة.

الثاني: حصول التسلسل

وذلك لأنه لو قلنا أن الأفعال لا يثبت حسنها وقبحا إلا من طريق الشارع لما أمكن ثبوت الحسن والقبح لها أصلاً، للزوم التسلسل الباطل، وذلك لأنه إذا أمر الشارع بحسن شيء أو قبحه، فهل يلزم متابعة أمره أم لا، فإن قلنا بوجوب طاعته لقبح عصيان المولى عقلاً، فهذا الأمر بوجوب الطاعة هل يجب طاعته أم لا، فإن قلنا بوجوب طاعته عقلاً أيضا لقبح

ص: 101

عصيان المولى، فهذا الأمر هل يجب طاعته أم لا وهكذا، فيلزم التسلسل الباطل.

وهناك أدلة أخرى لا مجال لإطالة الكلام فيها في هذا المختصر واستدل الأشاعرة بأدلة منها:

الأول: أن حكم العقل لا يختلف فيه اثنان، ككون الكل أكبر من الجزء، والواحد نصف الاثنين، وغيرهما، مع أنه في الحسن والقبح قد اختلفوا فيه، ولو كانت قضية عقلية لما اختلف فيها.

الثاني: أن بعض الأفعال قد تنقلب عما هي عليه، كالصدق الذي هو حسن، قد يؤدي إلى قتل النفس فيكون قبيحاً، والكذب الذي هو قبيح يكون حسناً إذا كان لإصلاح ذات البين، وهذا دليل على عدم ذاتية الحسن والقبح لهما، وإلا فالذاتي لا ينقلب عما هو عليه.

الثالث: أن القول بكون الحسن والقبح عقليين يلزم منه نسبة العجز لله تعالى؛ لأنه لا يتمكن الأمر بفعل ما، كالكذب لأنه قبيح، أو ينهى عن فعل ما، كالصدق لأنه حسن، وهكذا غيرهما وعدم إمكان الشارع الأمر بشيء أو النهي عنه يلزم منه نسبة العجز له تعالى، بخلاف ما لو كانا تابعين للشارع، فيكون أمرهما إليه.

وفي كل من الأدلة مناقشات ليس محلها هذا المختصر.

الأمر الثاني: في ملازمة حكم الشرع لحكم العقل

ومرادهم من هذه الملازمة أنه إذا حكم العقل بحسن فعل أو قبحه بعد فرض إمكانه ذلك فهل يلزم من هذا الحكم أن يحكم الشارع على طبقه، فيأمر بما حكم العقل بحسنه وينهى عما حكم العقل بقبحه، وفائدة ثبوت هذه الملازمة الحصول على قاعدة نافعة في مقام استنباط الحكم الشرعي، وهي أن كل ما حكم به العقل من حسن أو قبح فهو حكم للشارع، يستفاد

ص: 102

منه وجوب فعل الحسن وحرمة فعل القبيح، فأنقسم القول بالملازمة إلى قولين مثبتٍ ونافٍ، فمن أثبتها استدل بما حاصله

أن حكم العقل يلزم أن يكون حكماً يحكم به جميع العقلاء بما هم عقلاء، وحيث إن الشارع المقدس رئيس العقلاء وسيدهم، فلابد أن يكون حكمه موافقاً لحكمهم، وإلا لما كان هذا الحكم حكماً للعقلاء، وإذا فرض عدم مشاركة الشارع لهم بالحكم فلا يمكن اعتبار هذا الحكم حكماً للعقلاء، والمفروض خلافه، ولا يمكن القول بعدم اعتبار الشارع من العقلاء بل هو سيدهم فلابد من ثبوت الملازمة.

ومن أنكرها استدل بما حاصله:

أنه إنما يجب متابعة أوامر الشارع بما هو مولى وآمر، لا بما هو عاقل وإن كان سيد العقلاء، فلا يلزم على المكلف متابعة العقلاء بأوامرهم ما لم يكن لهم الحق بالطاعة، وهذا الحق من شأن الخالق، فالطاعة له بما هو خالق لا بما هو عاقل، فإذا حكم العقلاء بشيء بما هم عقلاء لا يلزم متابعة الشارع لهم بما هو خالق؛ لأنه قد يكون أن الخالق يرى أن هذا الأمر وإن كان العقلاء يحكمون به بما هم عقلاء لكنه ليس من مصلحته بما هو خالق أمر مخلوقاته به، لوجود أمر آخر يعارضه عنده أهم منه لا يدرك معارضته العقلاء بعقلهم، أو لوجود ضرر غيبي من امتثال هذا الأمر لا يدركه العقلاء لعدم اطلاعهم على الغيبيات، بل يدركه الخالق جل وعلى بما أنه الخالق العالم بكل شي، أو غير ذلك مما يعلم بعدم إمكان العقل إدراك مصالح ومفاسد آثار الأحكام الشرعية، لخضوعها لأمور خارجة عن نطاق حكم العقلاء بما هم عقلاء، فمشاركة الشارع للعقلاء بالعقل لا يلزم منه مشاركته لهم بالحكم والتشريع؛ لأن أحكام الشارع لمخلوقاته ليست دائماً تابعة لحكم العقل المجرد، بل قد تكون بداعي الرأفة، أو مراعاة المصلحة العامة، أو غير ذلك مما تكون في نظر الخالق المدبر، ولا يمكن للعقل بما هو عقل إدراكها.

ص: 103

القسم الثاني : في غير المستقلات العقلية

اشارة

وهي القضايا التي لا تكون جميع مقدماتها عقلية، بل بعضها عقلي، وبعضها شرعي يستفاد من حكم الشارع، وبالجمع بين هذه المقدمات ينتج قياس من الشكل الأول تكون نتيجته حكم شرعي مستنبط منها، وذكروا لذلك موارد.

المورد الأول : الإجزاء

اشارة

مما لاشك فيه ولا ريب عند الجميع أن المكلف إذا أتى بما أُمر به على الوجه الذي أمره به المولى بكامل أجزائه وشروطه فإنه يكون ممتثلاً لذلك الأمر، ويكون فعله مجزياً عند الآمر، ويخرج بذلك المكلف عن عهدة التكليف فيسقط عنه التكليف ويكون ممتثلاً، لكن الكلام ليس في ذلك، وإنما في بعض

الأحيان قد يتعذر على المكلف فعل المأمور به كاملاً وهو المأمور به الاختياري، والنقص في الاختياري تارة يكون لعجز المكلف عن الإتيان ببعض الأجزاء والشرائط، كالمريض الذي لا يتمكن من الغسل، أو العاجز عن القيام في الصلاة، وأمثالهما، وحينئذٍ ينتقل للبدل الذي وضعه الشارع له كالتيمم بدل الغسل، والصلاة من جلوس بدل القيام، وتارة يكون العجز من

ص: 104

المكلف بسبب عدم وصوله للحكم الواقعي، لعدم وصول الأدلة الموصلة للحكم الواقعي إليه، كما إذا جهل حكم الصلاة في فرو السنجاب واقعاً وصلى به اعتمادا على أصالة الحل ظاهراً، أو جهل حكم الماء المتغير برائحة النجاسة بالمجاورة من حيثية الطهارة والنجاسة وحكم بطهارته ظاهراً لأصالة الطهارة وتوضأ به، فهنا أيضاً إنتقل للبدل عن الحكم الواقعي المجهول للحكم الظاهري.

فهنا وقع الكلام بين الأعلام (رض) أنه من عمل حال الاضطرار بالبدل الاضطراري بدل التكليف الاختياري، أو عمل حال الجهل بالحكم الواقعي بالحكم الظاهري الذي وضعه الشارع بدلاً عنه، هل يكون ذلك مجزياً في حقه لو أداه أول الوقت ---- مع فرض جواز المبادرة إلى فعل الاضطراري في أول الوقت ---- أو أداه في الوقت وزال عنه العذر بالوقت حيث لم يكن متوقعاً له أو زال بعد خروج الوقت، فهل يجب الإعادة في الوقت لو تمكن وبرئ في أثناءه، أو عرف حكم الماء أو الفرو، وهل يجب القضاء بعد الوقت إذا ارتفع العذر بعد خروج الوقت، أم لا يجب عليه الإعادة في الوقت ولا القضاء في خارجه، فوقع الكلام في هذه المسألة في أمرين:

الأمر الأول : في إجزاء الأمر الاضطراري عن الاختياري

من الظاهر بدواً أنه إذا تعذر على المكلف الإتيان بالمأمور به على الوجه الذي أُمر به بكامل أجزائه وشروطه أن يسقط عنه الأمر؛ لأنه يكون عاجزاً عن امتثاله على الوجه الذي أمر به والمفروض أن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها وهو الآن عاجز عن أداء التكليف التام.

ولكنه علم من حال الشارع اهتمامه ببعض الواجبات، فلم يشأ لها أن تفوت، فإذا عجز المكلف عن الإتيان بالكامل منها جعل له بدلاً عنه، ورضي منه بالناقص في حال عجزه، فمن عجز عن الغسل أو الوضوء فرض عليه

ص: 105

التيمم، ومن عجز عن القيام في الصلاة فرض عليه الصلاة جالساً، وغير ذلك من الواجبات، وحينئذٍ فما فرضه الشارع حال العجز مجز في ذلك الحال بلا كلام، لقبول الشارع به في هذا الحال، وهذا كله مما لا خلاف فيه، وإنما الكلام فيما لو زال العذر في أثناء الوقت وجوزنا للمكلف المبادرة للأداء في أول الوقت مع العذر، أو امتثل رجاء عدم زوال العذر في الوقت ثم زال عنه العذر في الوقت، أو زال العذر بعد خروج الوقت وقد امتثل في الوقت بالناقص، فهل يكتفي المكلف بما أتاه من الناقص، أم لابد عليه من الإعادة في الوقت، أو القضاء في خارجه، قال قسم بعدم إجزاء الاضطراري عن الاختياري بعد زوال العذر، فمن قال بعدم الإجزاء بالأمر الاضطراري عن الأمر الاختياري استدل لما قال بما محصله:

أنه من المعلوم أن المأتي به حال الاضطرار أنقص من المطلوب حال الاختيار، والمفروض أن الناقص لا يكفي عن الكامل مع فرض إمكان تحصيل الكامل، وكون المولى قد رضي بالناقص حال الاضطرار حرصاً منه على عدم ترك الواجب بحال، ولا يعني ذلك منه التنازل عن فعل الكامل حين القدرة عليه؛ لأن المفروض أن التشريع تابع لمصالح في المأمور به، والمصلحة إنما تتقوم بالكامل، والناقص لم يحقق تلك المصلحة، فلابد من الإتيان بالكامل مع القدرة عليه، تحصيلاً لمصلحة التشريع بالأداء في الوقت إذا كان قد أدى أول الوقت وزال العذر في الوقت، والقضاء في خارجه إن استوعب العذر تمام الوقت.

وذهب قسم آخر باجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الاختياري واستدلوا لما ذهبوا إليه بأدلة منها:

الأول : بما أنه من المفروض أن الأحكام الشريعة التي شرعها الله عز وجل بحق العاجز عن امتثال التكليف الكامل إنما شرعها له تخفيفاً لعجزه،

ص: 106

والشريعة مبتنية على السماح والتخفيف، لقوله تعالى [ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر](1)،وتكليف المكلف مرتين مرة بالامتثال بالناقص في الوقت ومرة بالإعادة بعد ذلك عند التمكن خلاف التسهيل عليه؛ لأن التسهيل يقتضي إما إلغاء التكليف بالكامل والناقص معاً، كما أسقط الشارع الصلاة عن الحائض أداءً وقضاءً تسهيلاً، أو طلب أداء الكامل فقط عند التمكن منه، كالصوم في النهار بالنسبة للعاجز عن تمامه، حيث لم يكلف الشارع العاجز عن صوم تمام النهار بصوم بعض النهار ثم قضاء يوم كامل، بل أسقط عنه الصوم حال العجز، وكلفه بصيام يوم كامل عند القدرة، فالمفروض إما تكليف المكلف بالناقص فقط حال التعذر، أو بالكامل فقط حال القدرة، أو إلغاء التكليف بحقه رأساً، أما التكليف مرتين فهذا خلاف ذوق الشارع من التسهيل بحق مكلفيه.

الثاني : أنه لا يخلو إما أنه يجب الإعادة في الوقت مع زوال العذر في أثناءه أو القضاء في خارجه إذا استوعب العذر تمام الوقت.

أما الإعادة في الوقت إذا امتثل أول الوقت، فحيث فرضنا أن الشارع قد رخص للمكلف المبادرة في أول الوقت لفعل الناقص، ولم يلزمه بالانتظار إلى آخر الوقت رجاء تحصيل الكامل، فمعنى ذلك أن الشارع قد رضي من المكلف الامتثال بالناقص بدل الكامل في حال عجزه، وهذا يوجب سقوط التكليف عنه لو أداه وهو بهذا الحال وإلا كان اللازم عليه أن لا يرخص في فعل الناقص أول الوقت مع احتمال رجاء الكامل أخره، ومعنى قبوله بالناقص هو عدم التكليف بالإعادة حين إدراك الكامل، وإلا فالمفروض عدم التكليف بالناقص والإعادة حين إدراك الكامل لو لم يكن الناقص مجزياً.

وأما القضاء خارج الوقت إنما يكون مع صدق الفوت للواجب في الوقت،

ص: 107


1- آية 185 من سورة البقرة

ومع فرض كون المكلف معذوراً في الوقت، فهو لم يكن مكلفاً بالواجب الكامل أثناء الوقت بل بالناقص وقد أداه، فلا يصدق الفوت معه حتى يجب في حقه القضاء، وبعد الوقت لا يتوجه تكليف للمكلف بالكامل لانتهاء وقت التكليف، فما كلف به حال العجز قد جاء به، وبعد خروج الوقت لا تكليف بالكامل حتى يمتثله، فلا يصدق الفوت في حقه لما أُمر به حتى يجب عليه القضاء، والقضاء فرع الفوت.

الثالث: إن النقص الحاصل للمأمور به حال الاضطرار من الأجزاء والشرائط لا يخلو إما أن يكون دخيلاً في الواجب حتى حين العجز عنه بحيث لا يتم الواجب إلا به أو لا، فإن كان دخيلا ولايتم الواجب إلا بوجوده فاللازم عدم تشريع الناقص لعدم وفائه بغرض الشارع، وإما أن لا يكون دخيلاً بالواجب حين العجز عنه، بل يكون دخيلاً في حال القدرة عليه، ويكون الناقص كافياً حين الاضطرار، فهنا يكون الناقص قد سد الأمر؛ لأنه حيث أمر الشارع به في هذا الحال فلابد أنه يكون كافياً في الامتثال حين العجز، والمفروض حينئذٍ سقوط الواجب بهذا الامتثال لوفاء الناقص بالأمر حين العجز.

الرابع: إن المفهوم عند العرف أن تشريع البدل حال الاضطرار معناه كفايته عن الامتثال حال الاختيار، وإلا لو كان البدل الاضطراري لا يكفي عن الاختياري لما أمر به الشارع، بل يلزم من أمر الشارع بفعل الناقص حين الاضطرار سقوط الأمر بالكامل، هذا إذا كانت القدرة في آخر الوقت ورخص بالمبادرة أول الوقت، أما القضاء بعد خروج الوقت إذا استوعب العذر تمام الوقت فأولى بعدم الإعادة؛ لأن معنى تشريع البدل الناقص في الوقت هو كفايته عن الكامل حتى لو قدر عليه بعد خروج الوقت.

الأمر الثاني : في إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي

ص: 108

ومرادهم من الظاهري هو كل أمر لا يعلم أنه يكشف عن الحكم الواقعي الثابت في علم الله تعالى، فيشمل الإمارات(1)،كالبينة، وخبر الواحد، وقاعدة اليد، وغيرها، والأصول العملية، كالاستصحاب(2)،

وأصالة الطهارة، والحل، وقاعدتي التجاوز والفراغ، وغيرها، فمثلاً لو جهل حكم هذا الماء واقعاً، وقامت عنده البينة على طهارته أو كانت حالته السابقة الطهارة واستصحبها وتوضأ بذلك الماء وصلى، ثم انكشف خطأ البينة، أو خطأ الاستصحاب، في الوقت، أو خارجه، فهل يكون ما فعله من الوضوء والصلاة بهذا الماء مجزياً، أم لابد من الإعادة في الوقت، أو القضاء خارجه.

ثم فرق بعض الأعلام (رض) أن العمل على خلاف الواقع تارة يكون بمتابعة الإمارة، وأخرى يكون بمتابعة الأصل، وانكشاف الخطأ تارة يكون بيقين، وتارة بحجة معتبرة عند الشارع، فيكون هناك صور أربع حاصلة من ضرب الصورتين ببعضهما، لكن ذكروا أن صورتين منهما مشتركتان بالحكم، وهما مع انكشاف الخطأ بحجة معتبرة سواء كان العمل بالأصل أم بالإمارة، فيكون في المقام ثلاثة صور:

الصورة الأولى: ثبوت الحكم بالإمارة وانكشاف الخطأ يقيناً

إن الإمارة تارة تقوم على ثبوت حكم شرعي، كما إذا قامت البينة على أن صلاة الآيات عند الزلزلة واجبة، وأخرى تقوم على إثبات موضوع للحكم شرعي، كما إذا قامت على أن وقت صلاة الظهر قد دخل فهنا قامت على إثبات موضوع الحكم الشرعي وهو وجوب الصلاة لدخول وقتها، والمعروف عند الإمامية هو عدم الإجزاء مع انكشاف الخطأ، وذلك منهم واضح، أما في الحكم فحيث أن الإمامية مخطّئة، يبنون على أن لله تعالى أحكاماً واقعية

ص: 109


1- يأتي تعريفها في مباحث الحجج ص
2- يأتي تعريفه إن شاء الله تعالى في الأصول العملية ص

ثابتة في ذاتها سواء وصل إليها المجتهد أم لم يصل، والمفروض أنه لم يصل في الفرض للحكم الواقعي، فالمفروض عدم إجزاء ما جاء به عن الحكم الواقعي، وفي الموضوع فكذلك، حيث أن الواقع لا يتبدل عما هو عليه، وقيام البينة على طهارة هذا الماء لا يغير واقعه، فإذا كان بالواقع هو نجس، فشهادة البينة أنه طاهر لم تغير الواقع، لأنها طريق محض للوصول للواقع ولم يوصل له، فيكون قد توضأ بماء نجس، وهو غير مجزي عند الشارع؛ لأنه يشترط الوضوء بماء طاهر واقعاً، وذلك لأن الإمارة إنما هي عند الإمامية طريق محض للواقع، إن أصابت فهي وإلا فالواقع باق على ما هو لم يتغير، وحيث أن الإمارة أخطأت الوصول إليه فما فعله على طبقها غير مجزي، لعدم فعل الواقع، ولا ما يسد مسده عند الشارع، فاللازم القول بعدم الإجزاء في كلا الفرضين.

الصورة الثانية: ثبوت الحكم بالأصل وانكشاف الخطأ يقيناً

حيث تقدم في التعريف أن الأصول العملية هي وظيفة للشاك حين العمل، فهي تعني العمل على طبقها مع عدم تنجز الواقع في حق المكلف، فالمفروض القول فيها بعدم الإجزاء أيضاً، لكن ذكر بعض الأعلام إمكان القول بالإجزاء في الأصول مع انكشاف الخطأ، وذلك إذا كان الأصل ناظراً للموضوع المكلف به، فيكون بالحقيقة ناظراً إلى أن الشرط المراد في التكليف هو الأعم من الشرط الواقعي أو الشرط الحاصل بالأصل، فمثلاً إذا حكم الشارع بجواز الوضوء بالماء المستصحب طهارته، يكشف ذلك عن صحة الوضوء بالماء الطاهر سواء كان واقعاً أم استصحاباً وليس خصوص الطاهر في الواقع، فمع انكشاف الخطأ في الأصل ويتبين أن الماء نجس واقعاً يكون المكلف معذوراً؛ لأنه قد أتى بما كلف به حين الجهل من غير تقصير أو نقصان؛ لأن الشارع هو الذي رضي بالوضوء بماء محكوم

ص: 110

بالطهارة بالواقع مع إمكان تحصيله و محكوم بالطهارة بالاستصحاب حال الجهل بالواقع، فعليه يمكن القول بصحة الوضوء بالماء المستصحب الطهارة كالماء الطاهر بالواقع.

الصورة الثالثة: ثبوت الحكم بالأصل أو الإمارة مع انكشاف الخطأ بحجة معتبرة

هذه المسالة هي المسألة الأكثر محلاً للابتلاء من المكلفين، كأن يعدل المكلف من مجتهد لآخر، أو يتبدل رأي المجتهد نفسه، أو تقوم البينة ثم يتبين خطأها وهكذا، ثم الحكم المنكشف خطأه تارة يكون حكماً تكليفياً، مثل ما إذا كان يقلد من يقول بكفاية تسبيحة واحدة في الركعة الثالثة والرابعة من الصلاة ثم قلد من يقول بوجوب ثلاث تسبيحات، وأخرى يكون وضعياً مثل ما إذا كان يقلد من يقول بطهارة ماء الاستنجاء وكان يتوضأ به ثم قلد من يقول بنجاسته، والمفروض على كلا الفرضين هو عدم الإجزاء؛ لانكشاف أن ما فعله سابقاً لم يكن على الوجه المطلوب منه، لكن الأعلام (رض) أجمعوا هنا على الإجزاء في كلا الفرضين وذكروا لذلك وجوهاً كثيرة منها:

الأول: لزوم العسر والحرج على المكلفين بتكليفهم بإعادة أعمالهم السابقة لو تبين خطأها، مع تجويز التقليد لهم من أول الأمر والعمل على طبق فتوى المجتهد، مع العلم بتغير فتاوى المجتهدين غالباً، لعدم وقوف المجتهد نفسه على رأي واحد، وعدم اتفاق المجتهدين غالباً على رأي واحد.

الثاني: الإجماع على الإجزاء وعدم الإعادة كما نسب لبعض الأعلام بل قد أدعى بعضهم قيام الضرورة عليه.

الثالث: سيرة المتشرعة على البناء على الإجزاء، لابتلائهم كثيراً بذلك، خصوصا على ماهو المشهور بينهم بعدم جواز البقاء على تقليد الميت،

ص: 111

وندرة عدم اختلاف فتاوى الحي عن الميت، فلو كان بناؤهم على عدم إجزاء الأعمال السابقة للزم الهرج والمرج.

الرابع: الظاهر أن الشيعة ابتلوا في عهد الأئمة (عليه السلام) بالخطأ كثيراً في وصول الأحكام الواقعية لهم، بسبب انتشار فقهاء العامة، وأخذ الشيعة منهم غفلة خصوصا قبل عصر الصادقين (عليه السلام)، وبداية تميز الفرقة المحقة بفقهها، خصوصا في المسائل التي يكثر الابتلاء بها، ولذا أخذت تصل الأحكام لهم تدريجا بعد عصر الصادقين (عليه السلام) مع ضياع البعض وابتلاء بعضها بالتقية، مما قد يلزم العمل على طبق غير الواقع كثيراً بسبب الاشتباه، ومع ذلك لم يظهر من الأئمة (عليه السلام) بلزوم الإعادة في حال الاشتباه، ولكثر عنه السوأل من الشيعة أنفسهم إذا كان المعروف من حال الأئمة (عليه السلام) عدم الإجزاء.

وفيها مناقشات طويلة ليس محلها ما نرومه من الاختصار.

ص: 112

المورد الثاني : مقدمة الواجب

اشارة

مما لا خلاف فيه أنه لو كان هناك واجب شرعي يتوقف وجوده على مقدمات، يجب عقلاً إيجاد تلك المقدمات التي يتوقف عليها وجوده من أجل تحقيق ذلك الواجب، وهذا اللزوم العقلي لم يقع فيه كلام، وإنما وقع الكلام في أنه بعد هذا اللزوم العقلي هل يلزم شرعاً فعل المقدمات، أي هل ينتج من هذا اللزوم العقلي لزوم شرعي بوجوب الإتيان بالمقدمات شرعاً، كما أنه يلزم الإتيان بها عقلاً، ومعنى ذلك أنه هل هناك تلازم بين حكم العقل وحكم الشرع أم لا ؟

ولكن الحديث في هذه الملازمة صار مؤخراً آخر ما يشغل بال الأصوليين في البحث، بعد أن استوضحوا كفاية اللزوم العقلي بفعل المقدمات عن القول بوجود اللزوم الشرعي، فصار البحث عن وجود هذه الملازمة هامشياً، ولذا لم تكن أهمية مبحث مقدمة الواجب في البحث عن ثبوت هذه الملازمة وعدمها، بل تشعبت من الحديث فيه أمور مهمة صارت هي محل البحث والنظر وسنذكر أهمها.

ص: 113

الأمر الأول : أقسام المقدمة

اشارة

قسم الأعلام المقدمة إلى أقسام على خلاف بينهم في كون بعضها من أقسام المقدمة أولا، ليس محل هذا المختصر الدخول في تفاصيلها ولذا سنذكر ما قسم في كلامهم من مقدمات:

أولا ً: إلى مقدمة وجوب وواجب

ويعنون بمقدمة الوجوب هي المقدمة التي يتوقف عليها وجوب الواجب، أي: لا يكون الواجب واجباً إلا بعد حصولها، كالبلوغ، والقدرة على الفعل، والعقل، لجميع الواجبات، والوقت للصلاة والصوم، وبعض الواجبات الأخرى، والاستطاعة للحج، والنصاب للزكاة، وغيرها، وعرفها بعضهم بأنها المقدمات التي لا يجب السعي لتحصيلها من أجل تحصيل الواجب؛ لأنه قبل وجودها لا يكون الواجب منجزاً في حق المكلف لعدم التكليف به، فلا يجب على المكلف السعي لتحصيل النصاب حتى تجب عليه الزكاة، أو السعي لتحصيل الاستطاعة حتى يجب عليه الحج وهكذا، لعدم وجوب إيقاع النفس بالتكليف قبل وجوده، والمفروض هنا توقف وجوده على وجود المقدمة، وبعضها قد يكون وجوده خارج عن قدرة المكلف رأساً كالوقت بالنسبة للصلاة والصوم والحج.

ومقدمة الواجب هي المقدمة التي يتوقف عليها وجود الواجب بعد فرض وجوبه، فبعد أن يكون الواجب قد تعلق في ذمة المكلف تكون هناك مقدمات يتوقف عليها حصوله بالخارج، كالطهارة من الحدث بالوضوء أو الغسل أوالتيمم، ومن الخبث للصلاة، والكون في مكة المكرمة لأداء مناسك الحج، وغسل الجنابة قبل الفجر لصوم شهر رمضان، وعرّفها بعضهم بالمقدمات التي يجب السعي لتحصيلها من أجل أداء الواجب، وذكروا أن الفرق بين

ص: 114

المقدمتين، من وجوب السعي للأولى دون الثانية، أن مقدمة الوجوب إنما لم يجب السعي لتحصيلها؛ لأن الواجب بعد لم يجب على المكلف فلا يلزم على المكلف إحداث الوجوب على نفسه بإجادها، أما مقدمة الواجب إنما وجب السعي لتحصيلها لأن المفروض أن الواجب قد تنجز على المكلف فيلزم عليه السعي لتفريغ الذمة من وجوبه، وتفريغ الذمة يوجب السعي لتحصيل المقدمات من أجل إفراغ الذمة من نفس الواجب.

ثانياً : مقدمة داخلية وخارجية

ومرادهم من الداخلية هي نفس أجزاء الواجب التي يتركب منها كالقراءة، والركوع، والسجود، وغيرها من أجزاء الصلاة، والطواف، والسعي، والوقوف بعرفات والمزدلفة، وغيرها من أجزاء الحج، فهذه الأجزاء وإن كانت أجزاء للواجب يتكون من حصول مجموعها الواجب، لكن كل جزء منها يعتبر مقدمة لحصول الواجب بوجوده، فهذه الأجزاء بوجودها مجموعةً تكون مقدمة لوجود الواجب في الخارج.

والخارجية هي كل مقدمة خارجة عن حقيقة نفس الفعل، لكن يتوقف وجوده بالخارج على وجودها، كالطهارة، والساتر، والقبلة للصلاة، وتهيئة الزاد، والراحلة وجواز السفر في هذه الأيام للحج.

ثالثا : مقدمة عقلية وشرعية

ومرادهم من العقلية هي المقدمة التي يحكم العقل بكونها مقدمة، وإن لم يصدر حكم من الشارع بكونها مقدمة، وهي المقدمات التي يتوقف وجودالواجب عليها تكويناً، كقطع المسافة للوصول إلى مكة المكرمة لأداء مناسك الحج، أو الحركة اللازمة لأداء أفعال الصلاة.

ومرادهم من الشرعية هي المقدمات التي لا يعرف بكونها مقدمات إلا

ص: 115

من قبل الشارع، كالاستقبال للقبلة من أجل صحة الصلاة، وطهارة البدن من الخبث في الصلاة، والطهارة من الجنابة للصوم.

الأمر الثاني : الشرط المتأخر

من المعلوم أن للشارع شروطاً في بعض الواجبات، منها ما يلزم تحصيله قبل فعل الواجب، فيتوقف وجود الواجب على حصوله قبله، كالطهارة للصلاة، وغسل الجنابة للصوم، ومنها ما يلزم تحققه أثناء فعل الواجب، كالطمأنينة، واستقبال القبلة في الصلاة، وهذه الشروط مما لا خلاف في وجودها، لكن هناك شروطاً يبدو منها أنها متأخرة عن فعل الواجب، كشرط الغسل للمستحاضة الكبيرة بعد المغرب لصحة صوم ذلك اليوم، وشرط إذن المالك في صحة بيع الفضولي، بعد وقوع العقد من الفضولي، وغيرها، فوقع الكلام في أنه هل يمكن أن تكون هناك شروط متأخرة عن الواجب، أم أن الشرط لابد إما أن يكون متقدماً أو مقارناً.

فمن قال بالإمكان استدل لما قال بما حاصله، أن الشارع من حقه أن يشترط في فعل الواجب شروطاً له، فكما أن له أن يشترط الشرط المتقدم والمقارن، له أن يشترط الشرط المتأخر؛ لأن فرض كونه شرطاً يكون تابعاً للغرض المراد من الشرط للآمر، فكما يتعلق غرضه بوجود الشرط قبل الواجب أو في أثنائه يمكن أن يتعلق غرضه به بعد فعل الواجب، ويكون حاله حال أجزاء الواجب، فكما يكون للواجب أجزاء على طوله، جزء في أوله وجزء في آخره كذلك الشروط.

ومن قال بعدم الإمكان استدل بما حاصله، أن الشرط الشرعي كالشرط العقلي، يلزم وجوده قبل الواجب أو في أثنائه، لأن العقل يلزم بتحقق الشرط قبل تحقق مشروطه، أما بعد تحقق الواجب فلا يعقل فرض شرط يتوقف

ص: 116

الواجب عليه، وقد تحقق الواجب فعلاً؛ لأن المشروط عدم عند عدم شرطه، والمفروض أن هذا الواجب مشروط بهذا الشرط، فكيف يمكن تحققه قبل فعل شرطه، ولذا حاول توجيه ما يبدو أنه شرط متأخر بتوجيهات لا يسعنا التعرض لها فيما نرمي إليه من إختصار.

الأمر الثالث : المقدمات المفوّته

هناك بعض المقدمات يلزم الإتيان بها قبل حلول وقت الواجب، وإذا لم يأت بها المكلف قبل حلول وقته فإن الواجب سوف يفوت في وقته، عقلية كانت كقطع المسافة للوصول إلى مكة المكرمة لأداء الحج، أم شرعية كغسل الجنابة قبل حلول الفجر لصحة الصوم نهاراً، وأمثالها وسميت بالمقدمات المفوته، وهي المقدمات التي لو لم يؤتى بها قبل الوقت فات الواجب في الوقت.

فوقع الكلام في كيفية تصوير وجوب مثل هذه المقدمات؛ لأن المفروض أن المقدمة إنما تجب وجوباً غيرياً لا نفسياً، والوجوب الغيري يكون تابعاً للوجوب النفسي، وحيث إن المفروض أن الواجب النفسي بعد لم يحن وقته ولم يجب، فكيف يمكن فرض وجوب ما هو مقدمة له، ووجوبه متوقف على وجوبه، وإذا فرض عدم وجوبها قبل حلول وقت الواجب فمعناه جاز للمكلف عدم الإتيان بها لعدم وجوبها عليه حينئذٍ، وحين حلول وقت الواجب يسقط عنه الواجب لعدم القدرة على أدائه في وقته لعدم وجود مقدمته، ويلزم حينئذٍ عدم معاقبة تارك الواجب، وهذا مما لا يمكن الالتزام به، بل المفروغ منه أن تارك هذه المقدمات مفوت للواجب معاقب على ترك الواجب بتفويت مقدماته، لذا حاول الأعلام توجيه وجوب فعل هذه المقدمات قبل حلول وقت الواجب بوجوه:

ص: 117

الوجه الأول:

ما تقدم الكلام به في الواجب المعلق، من أن الوقت شرط لفعل الواجب لا شرط لحصول الوجوب، وذلك يعني كون هذه المقدمات شرط واجب لا شرط وجوب، فالوجوب حاصل قبل الوقت، ولذا يلزم الإتيان بجميع المقدمات ولو لم يحن وقت الواجب بعد، نعم نفس الواجب لا يجب الإتيان به إلا بعد دخول الوقت، فيلزم تهيئة جميع المقدمات قبل الوقت إذا كان فعل الواجب في الوقت يتوقف عليها، فيكون مثل الصوم واجب على المكلف قبل حلول الفجر فيلزم عليه تهيئة جميع ما يشترط في صحة الصوم، نعم إنما يجب الإمساك عن المفطرات عند حلول الفجر.

الوجه الثاني:

بما أن اللفظ له مادة وهيئة، والمادة هي ما يتكون منه اللفظ من الحروف، والهيئة هي الهيئة التركيبية لهذه الحروف بالكيفية المعينة، فمثلاً لفظ (صلِّ)، يتكون من مادة وهي حرف الصاد واللام والياء، ويكون مراد بها حركات فعل الصلاة، وهيئة وهي فعل الأمر، أي الأمر بفعل المادة، فهنا إذا ورد الأمر بشيء كما إذا قال (صم في نهار شهر رمضان)، فالهيئة وهي وجوب الصوم تكون هي متعلق الوجوب والمادة وهي الإمساك عن المفطرات تكون متعلق الواجب، فذكر القائل هنا أن القيود الواردة على الواجب تكون للمادة لا للهيئة، ففي قوله هنا (صم في نهار شهر رمضان) قيد النهار قيد لفعل الصوم وهو الإمساك عن المفطّرات لا لوجوبه، ووجوب الصوم يكون مطلقاً غير مقيد بالنهار، وعلى ذلك يلزم فعل جميع شروط الواجب قبل الفجر،لكون وجوب الصوم فعلي في حق المكلف غير مقيد بالنهار، ولكن ذكر صاحب هذا الوجه أن مختاره مخالف للقواعد العربية، المقتضية لرجوع

ص: 118

القيود في الجمل للهيئة لا للمادة، لكنه اضطر إلى ذلك من أجل حل مشكلة المقدمات المفوته.

الوجه الثالث:

إن الآمر إنما يأمر بالشيء إذا تم عنده الشوق لفعله، ومع تمامية شوقه له يكون عنده شوق آخر لفعل جميع مقدماته التي يتوقف عليها وجوده تحصيلاً له، فإذا كان ذلك الفعل المراد الأمر به له وقت خاص عند الآمر، فلا يكون الشوق لنفس الفعل دافعاً للأمر به قبل حلول وقته، أما مقدماته التي يتوقف عليها وجوده، فالشوق نحوها يكون فعلياً، ولو قبل حلول وقت الواجب، فيمكنه الأمر بها لتمامية موضوعها، أما نفس الفعل فالشوق إلى فعله تام في نفس الآمر لكن الأمر به متوقف على حلول وقته، أما المقدمات فحيث يلزم فعلها قبل حلول وقت الواجب، فيكون الأمر بها فعلياً، فيكون الفعل الواجب هو المقيد بالوقت دون مقدماته؛ لأنه لا مانع من التفكيك بين وجوب المقدمة ووجوب الواجب، فتكون المقدمة واجبة قبل الوقت لفعلية الشوق إليها، والواجب واجب عند دخول الوقت لعدم فعلية الشوق إليه فعلاً لعدم حلول وقته.

الوجه الرابع:

إن العقل يحكم بلزوم الإتيان بالمقدمات المفوته ولو قبل حلول وقت الواجب، فيجب الإتيان بها بحكم العقل، وذلك لأنه يقبح على العبد تفويت أمر المولى في وقته، فإذا كان تنفيذ أمر المولى في وقته يتوقف على فعل مقدمات قبل حلول وقته، إذن يقبح على العبد تفويت أمر المولى بتفويت هذه المقدمات، كما يقبح عليه تفويت أمره بتفويت المقدمات اللازمة عند فعل الواجب بعد دخول وقته بلا فرق؛ لأن القبيح هو عدم طاعة المولى في تنفيذ أمره، سواء كان بتفويت نفس الواجب، أم بتفويت مقدماته التي توجب فواته

ص: 119

ولو كانت قبل حلول وقت الواجب؛ لأن الواجب على العبد المحافظة على تحقيق أوامر المولى، وذلك بتحقيق مقدماته المتقدمة والمقارنة والمتأخرة على حد سواء.

الأمر الرابع : الأقوال في مقدمة الواجب

اشارة

ذكرنا في البداية أن آخر ما يشغل بال الأصوليين هو الكلام في الملازمة بين وجوب المقدمة عقلاً ووجوبها شرعاً، لكن لابد للتعرض للأقوال فيها وأهمها هي:

القول الأول :

هو ثبوت الملازمة بين وجوب المقدمة عقلاً ووجوبها شرعاً، واستدلوا له تارة بأنه لو لم تجب المقدمة شرعا لجاز تركها شرعاً، ومع فرض بقاء الواجب على وجوبه عند الآمر يلزم التكليف بالمحال، وهو التكليف بالواجب شرعا دون مقدماته مع توقف وجوده على وجود مقدماته، وأخرى بأن الوجدان السليم يقضي بوجوب المقدمة شرعاً إذا كانت مقدمة لواجب، مع فرض أن الآمر يريد وجود الواجب، ويستحيل غفلة الشارع عن هذه الملازمة الوجدانية وعدم الأمر بها شرعاً كما أمر بنفس الواجب شرعاً.

القول الثاني :

عدم الملازمة بين وجوب المقدمة عقلاً ووجوبها شرعاً، واستدلوا له بأنه لما كان هناك دافع عقلي نحو فعل الواجب وهو طاعة للمولى فإن هذا الدافع كاف في الدفع لمقدماته، مع إدراك العقل توقف الواجب على هذه المقدمات، وهو في مقام الدفع لامتثال الواجب، فلابد أنه يدفع أيضاً نحو فعل المقدمات، ولا حاجة للأمر الشرعي حينئذٍ؛ لأن المكلف إن كان في مقام طاعة المولى في نفس الواجب فهذا الدافع العقلي نحو الواجب كاف في الدفع

ص: 120

للمقدمات، وإن لم يكن في مقام الطاعة للمولى في الواجب نفسه فلا يكون الأمر الشرعي بالمقدمات مؤثراً مع تصميمه على عدم فعل نفس الواجب، فيكون لزوم وجوب المقدمة شرعاً بعد وجوبها عقلاً عبث، فلا حاجة للأمر الشرعي بعد تمامية الأمر العقلي.

القول الثالث :

التفصيل بين الشرط الشرعي والعقلي، فإذا كان الشرط شرعياً وهو الشرط الذي لا يدرك العقل شرطية وجود الواجب به، كشرطية الطهارة للصلاة فلا يكون واجباً بالملازمة؛ لعدم إدراك العقل لزومه، لأن الشرط الشرعي لما كان وجوبه من قبل الشارع فمعنى ذلك أنه دخيل في نفس الواجب شرعاً، فيكون كالجزء من الواجب فيكون وجوبه كوجوب الواجب يحتاج لأمر من الشارع، أما الشرط العقلي وهو الذي يحكم العقل بشرطيته، كقطع المسافة للوصول لأداء فريضة الحج، فحيث أن وجوبه ليس من الشارع، وإنما بحكم العقل، فتكفي الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته عقلاً في لزوم الإتيان به.

القول الرابع :

التفصيل بين المقدمة الموصلة وغيرها، فتكون هناك ملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته الموصلة فقط، ويعنون بالموصلة هي المقدمة التي يتحقق الواجب بها وتوصل إليه، وهي المقدمة الأخيرة التي يوجد الواجب بعدها مباشرة، دون المقدمة التي لا توصل للواجب مباشرة وهي بقية المقدمات، وحينئذٍ فلو كانت المقدمة موصلة تكون هناك ملازمة بين وجوب الشيء شرعاً ووجوبها كذلك؛ لأن اللازم على المكلَّف هو متابعة غرض المولى، وغرض المولى من فعل المقدمة هو الوصول للواجب، فإذا كانت

ص: 121

المقدمة توصل للواجب لابد للشارع من الأمر بها وإيجابها، وإن كانت لا توصل للواجب لا تكون هناك ملازمة بين وجوب الواجب ووجوبها شرعاً.

القول الخامس :

التفصيل بين المقدمة التي قصد بها التوصل للواجب وإن لم تكن واقعاً موصلة وغيرها، فما قصد بها التوصل للواجب، وهي التي يفعلها المكلف من أجل التوصل إلى فعل الواجب، فتكون بينها وبين وجوب الواجب ملازمة فتجب شرعاً، وما لم يقصد بها التوصل للواجب وإن كانت بالواقع هي مقدمة لكن لا تكون بينهما ملازمة، لعين ما سبق من لزوم متابعة غرض المولى من الوصول للواجب، فمع قصد الوصول للواجب تكون هناك ملازمة بين وجوب الواجب وجوب المقدمات شرعاً، أما مع عدم قصد التوصل بالمقدمة فلا ملازمة بين وجوب الواجب ووجوبها شرعاً؛ لأن غرض المولى من المقدمة هو الوصول للواجب، ومع عدم قصد الوصول بالمقدمة للواجب لا تكون تلك المقدمة واجبة بوجوب الواجب.

ص: 122

المورد الثالث : مسألة الضد

اشارة

وقع الكلام بين الأعلام (رض) في أن الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده أم لا ومرادهم من الضد أمران:

الأول: الضد العام، ويعنون به مجرد عدم الفعل وتركه كعدم جواز ترك الصلاة.

الثاني: الضد الخاص، ويعنون به كل فعل وجودي ينافي فعله الفعل المأمور به كالنوم بعد وجوب الصلاة، وحيث كان الحكم فيهما مختلفاً كان الكلام في أمرين:

الأمر الأول : الضد العام

الظاهر أن عنوان الترك أي عدم فعل الأمر المأمور به أمر مفروغ عن عدم جوازه إذا كان الفعل المأمور به واجباً، كما هو الحال في مفروض المسالة، لكن الخلاف وقع في وجه حرمة هذا الترك.

فقال بعضهم: إن الأمر بالشيء هو عين النهي عن ضده، أي أن الأمر بالشيء والنهي عن ضده شئ واحد، فالأمر بالصلاة وعدم جواز تركها واحد، فتكون دلالة الأمر عن النهي عن الضد بالدلالة المطابقية.

وقال آخرون: إن الأمر مركب من الأمر بالشيء والمنع من تركه، فيكون

ص: 123

المنع من الضد جزء الأمر وليس نفسه، فيكون الأمر دالاً على النهي عن ترك الضد بالدلالة التضمنية؛ لأنه جزؤه.

وقال آخرون: إن الأمر بالشيء يلازم النهي عن فعل ضده فيكون الأمر بالشيء دالاً بالدلالة الإلتزامية على ترك الضد.

بينما ذهب بعض إلى عدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده؛ لأن الأمر نسبة إضافية بين الآمر والمأمور والمأمور به، وهذه النسبة تقتضي على المأمور فعل الأمر الذي يأمر به الآمر، من دون زيادة على ذلك الشيء، وعدم ترك الأمر يكون بحكم العقل، وذلك للزوم امتثال أمر الآمر إذا كان واجباً.

إذن فما فائدة هذا النزاع في المسالة بعد اتفاق الكل على حرمة الترك، إما بنفس الأمر أو بحكم العقل، ذكر بعضهم أنه لو كان الترك وهو الضد العام أي عدم الفعل أمر عبادي هل يمكن التقرب به مع الأمر بضده أم لا، مثلاً هناك أمر من الشارع للمريض في نهار شهر رمضان بالإفطار أي ترك الصوم فيكون الأكل أو استعمال الدواء واجباً عليه، فلو أراد ترك الأكل أو الدواء تقرباً لله تعالى ونية الصوم الذي هو أمر عبادي يتقوم بقصد التقرب، هل يمكن له ذلك أم لا، فقالوا على القول الأول والثاني لا يمكن، باعتبار أن الأمر بالشيء إما هو عين النهي عنه أو جزؤه، فيكون هناك نهي من الشارع عن فعل الضد، ولا يمكن التقرب بالنهي، أما على الثالث والرابع فهو ممكن؛ لأنه إما ملازم له بالدلالة الإلتزامية، أو لازم عقلي له، فلا يكون هناك نهي

من الشارع بفعل الضد بل المنع للازم العقلي، ومع ذلك فقد ناقش بعض بهذه الثمرة، لعدم الفرق في عدم جواز فعل الضد على جميع المباني؛ لأنه سواء قلنا بوجود النهي المولوي عن الضد أم لم نقل لا يجوز التقرب بفعله مادام هو ضد لأمر واجب؛ لأنه يمتنع التقرب بالأمر وضده في آن واحد،

ص: 124

وما دام الأمر واجباً فلا يمكن التقرب بضده سواء نهى عنه الشارع أم لم ينه.

الأمر الثاني : الضد الخاص

ومرادهم به كل فعل وجودي ينافي فعله فعل المأمور به، كالنوم، والأكل، والمشي، بعد وجوب الصلاة مثلاً مما يؤدي إلى تركها، فمع أمر الشارع بالصلاة هل يكون فعل هذه الأفعال منهي عنه بالنهي الشرعي المولوي بنفس الأمر بالصلاة، بحيث يكون كل منها محرماً تشريعاً بالأمر بالصلاة أم لا.

فمن بنى على ثبوت النهي المولوي عن الضد العام بنفس الأمر كالقول الأول والثاني بنى على ثبوت النهي عن الضد الخاص، وذلك لبنائهم على أن حرمة احد المتلازمين تستلزم حرمة ملازمه، وحيث إن فعل الضد الخاص يلازم ترك فعل المأمور به وحيث أن الضد العام هو الترك وهو منهي عنه بنفس الأمر، فإذا ثبت النهي عن فعل الضد العام ثبت النهي عن فعل الضد الخاص؛ لأنه يستلزم ترك فعل المأمور به، فإذا أمر المولى بفعل الصلاة فيكون بهذا الأمر قد نهى عن كل فعل ينافيها من أكل أو شرب أو غير ذلك.

وأما من لم يثبت عنده وجود النهي الشرعي عن الضد العام فلم يثبت عنده النهي عن الضد الخاص، وكذلك من لم تثبت عنده الملازمة بين حرمة الفعل وحرمة ملازمه. بل أقصى ما يلزم هو عدم ثبوت حكم في اللازم ينافي حكم الملزوم، كان يكون الحكم في احدهما الوجوب والآخر الحرمة، فمثلا لا يمكن أن يحكم الشارع بوجوب الأكل أثناء الصلاة مع حرمة الأكل أثنائها، أما لزوم أن يكون اللازم محكوماً بما حكم به الملزوم فهذا مما لا دليل عليه، فإذا كان الملزوم محكوماً بالوجوب مثلاً وهو الصلاة فلا يلزم أن

ص: 125

يكون اللازم هو أيضاً محكوماً بالوجوب وهو عدم الأكل لأنه لازم لفعل الصلاة فهذا مما لم يثبت.

ويترتب على هذا الخلاف في الضد الخاص ثمرة، وهي ما إذا أمر المولى بشيء وكان ضده الخاص أمراً عبادياً، كما إذا حدثت الزلزلة وحدوثها يوجب صلاة الآيات بعد وقت حلول صلاة الظهر وضيق وقتها، فمن قال بحرمة الضد الخاص بنفس الأمر، فيلزم حرمة أداء صلاة الآيات للزلزلة في وقت صلاة الظهر، لأن الأمر بصلاة الظهر يقتضي النهي عن ضدها وهي صلاة الآيات أما مطابقة أو تضمناً، فلو ترك صلاة الظهر وصلى صلاة الآيات تقع باطلة لأنها منهي عنها شرعاً، ومن لم يقل بالحرمة تقع عنده صلاة الآيات صحيحة لعدم النهي عنها شرعاً، نعم يكون المصلي لصلاة الآيات قد فعل حراماً بترك الظهر، لكن فعله لصلاة الآيات وقع صحيحاً، لعدم النهي عنها، ولهذه الثمرة أفتى بعض الأعلام بصحة عمل بعض الناس الذين يتركون أداء الواجب من اجل فعل المستحب، كمن يدخل إلى زيارة الحسين (عليه السلام) بعد حلول وقت الصلاة ويبدأ بالزيارة قبل أداء الصلاة، فحيث وقت الصلاة موسع ولا يلزم من الأمر بالصلاة النهي عن كل ما يضادها كان فعل الزيارة جائزاً، أو يترك أداء الدين الحال الواجب ويذهب لأداء الزيارة وهكذا، فإن فعله يقع صحيحاً لكنه يكون آثماً بترك الواجب لو فات على القول الثاني، وباطلاً غير صحيح على القول الأول، وزيادة الكلام ليس محلها هذا المختصر.

ص: 126

المورد الرابع : اجتماع الأمر والنهي

هناك بعض الأفعال قد يؤمر بها من جهة وينهى عنها من جهة أخرى، فيكون فعلاً واحداً يتوجه إليه الأمر والنهي لكن من جهتين مثلاً الصلاة الواجبة لو أوقعها المكلف في أرض مغصوبة، فتكون مأموراً بها من جهة كونها صلاة واجبة، ومنهياً عنها من جهة كونها تصرفاً في المغصوب، فهل يمكن اجتماع الأمر والنهي في فعل واحد، فتكون الصلاة واجبة بما أنها صلاة مأمور بها، وحرام بما أنها تصرف في ملك الغير، فإذا أداها المكلف في الأرض المغصوبة فهل يكون المكلف مطيعاً بالصلاة وعاصياً بالغصب في آن واحد، أم لا يتوجه للفعل الواحد إلا شئ واحد إما الأمر فيكون مطيعاً فقط، أو النهي فيكون عاصياً فقط.

فوقع الكلام بين الأعلام (رض) في إمكان اجتماع الأمر والنهي وعدمه، مع مفروغية كلامهم في أن يكون الاجتماع من جهتين وعنوانين، كما في المثال المتقدم، أما لو كان من جهة واحدة وعنوان واحد فهذا مفروغ عندهم بعدم إمكانه، كالأمر بالصلاة والنهي عنها لأنها صلاة.

ومن هنا كان البحث في هذه المسألة متفرعاً على البحث في أن تعدد العنوان(1) بالفعل الواحد موجب لتعدد المعنون أم لا، ولو أوجب التعدد فهل

ص: 127


1- يمكن الرجوع لفهم مقصودهم من العنوان والمعنون لأصول المظفر أو غيره

هذا كاف في جواز اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد ذي العنوانين أم لا.

والذي يظهر منهم أن القائل بالجواز إما أنه يرى أن الأحكام تتعلق بالعنوان ولا تسري للمعنون، وعليه بما أنه قد تعدد العنوان فلا مانع من تعدد الأحكام المتعلقة به ولو كان المعنون واحداً؛ لتعلق الأحكام بالعنوان وهو متعدد كما في الفرض، أو أنه يرى أنها تسري للمعنون ولكن تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون وعليه لا يحصل اجتماع للأمر والنهي في معنون واحد؛ لأن كل عنوان محكوم بحكم وهما متعددان، وتعددهما يوجب تعدد معنونهما أيضاً فلا إجتماع بين الحكمين لا في العنوان ولا في المعنون.

وأما القائل بالامتناع لا يلتزم بهما فيبني إما على سريان الأحكام من العنوان للمعنون، أو عدم تعدده بتعدد معنونه.

وحيث إن هذه المسألة من أعقد المسائل الأصولية، ويتوقف فهم المباني فيها على مطالب أخرى معقدة، وكذلك على فهم مرادهم من العنوان والمعنون فارتأيت أنه من الأفضل ترك الخوض في تفاصيلها للمراحل اللاحقة؛ لأني أراها فوق مستوى حاجة الطالب في هذه المرحلة، خصوصا مع ما نرومه من الاختصار.

ص: 128

المورد الخامس : اقتضاء النهي الفساد

اشارة

ذكر الأعلام (رض) أنه إذا ورد نهي من المولى على عبادة أو معاملة، فهل هذا النهي يقتضي فساده العبادة وبطلان المعاملة أم لا، فيمكن بقاء العبادة على ماهي عليه من العبادية لكن منهي عنها، يعني أن فاعل العبادة المنهي عنها يمكن يكون عاصياً في فعله للعبادة المنهي عنها من دون أن تبطل تلك العبادة، كما ورد نهى عن صوم يوم العيدين فهل الصوم فيهما باطل، أم يمكن أن يكون صحيحاً و لكنه محرم، وكذلك المعاملة إذا نهى الشارع عنها يمكن أن تكون المعاملة صحيحة لكنها محرمة، أم تكون باطلة، كما ورد النهى عن البيع وقت النداء للصلاة يوم الجمعة، فإذا باع وقت النداء هل يكون البيع باطلاً، أم يمكن أن يكون صحيحاً ولكنه محرم، والفرق بين هذا المورد والذي قبله وهو مسالة الاجتماع، أن الأمر والنهي في الاجتماع يكونان على عنوانين متعددين لكنهما وقعا بفعل واحد فالأمر وقع لعنوان من جهة والنهي وقع لعنوان أخر من جهة أخرى، أما هنا فالفعل الواحد الذي هو بالأصل عبادة مأمور به بالذات لكنه غير مأمور به بخصوص مورد النهي كالنهي عن الصوم يوم العيد بعنوان كونه صوما عبادة لا غير أو معاملة جائزة بالذات نهى عنها بعنوانهما الخاص كالنهي عن البيع وقت النداء بما أنه بيع لا غير، وحيث إن البحث فيهما مختلف فصار الكلام في أمرين:

ص: 129

الأمر الأول : النهي عن العبادة

المراد من العبادة هي الأعمال التي لا يصح الإتيان بها إلا عن قصد التقرب بها لله تعالى، كما تقدم في مبحث التعبدي والتوصلي، والنهي عنها يمكن أن يتصور بصور:

الأولى: النهي عن أصل العبادة، كالنهي عن نفس الصوم يوم العيدين وعن نفس الصلاة للحائض.

الثانية: النهي عن جزء من أجزاء العبادة، كالنهي عن قراء من سورة من سور العزائم(1) في الصلاة الواجبة والنهي عن الطواف بين حجر اسماعيل والبيت الحرام.

الثالثة: النهي عن شرط في العبادة، كالنهي عن لبس الثوب المغصوب في الصلاة وعن الطواف بإحرام نجس.

الرابعة: النهي عن وصف ملازم للعبادة كالنهي عن الجهر في صلاة الظهرين.

واهم الأقوال في المسالة قولين:

القول الأول: إن النهي في جميع الصور المتقدمة موجب لفساد العبادة، سواء كان عنها، أم عن جزئها، أم عن شرطها، أم عن وصف ملازم لها، وذلك لأن النهي عن الشئ مبعد عن المولى، والعبادة مقربة، ولا يمكن التقرب بالمبعد، قياساً في ذلك للقرب والبعد المعنويين على القرب والبعد المكانيين، إلا أن يدل الدليل الخاص على أن هذا النهي لا يوجب الفساد في العبادة.

ص: 130


1- وهي السور التي تحتوي على سجود واجب وهي أربعة سورة السجدة وفصلت والنجم والعلق

القول الثاني: التفصيل بين ما إذا كان النهي عن أصل العبادة أو جزئها فيكون مفسداً لها، إلا إذا اكتفى الشارع بالناقص بدليل خارج كما في موارد حديث لا تعاد الصلاة وهو ما ورد {عن زرارة عن أبي جعفر ( عليه السلام ) أنه قال لا تعاد الصلاة إلا من خمسة الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود}(1)،فلا يكون النهي حينئذٍ عن الجزء غير المذكورات مبطلاً للصلاة، لأنه بالنهي عنه يكون هو باطل والمفروض أن نقصه لا يوجب بطلان الصلاة فلا يؤثر في بطلانها، وإن كان النهي عن شرطها فهو بنفسه غير مفسد للعبادة، إلا إذا ثبت من دليل خارج أن النهي عن الشرط مانع من الصحة في العبادة فيكون مفسداً لها، كما ثبت أن لبس الحرير في الصلاة للرجل مبطل لها، وإلا فلا يكون مفسداً، وإن كان النهي عن وصفها، فالوصف إذا كان منتزعاً من فعل منفصل للمكلف غير راجع لنفس العبادة، فلا يكون مفسداً كالعجب، وإن كان منتزعاً من فعل مقارن له في الوجود كالجهر في القراءة والرياء في العبادة فيكون مفسداً.

الأمر الثاني : النهي عن المعاملة

النهي عن المعاملة قد يرد تارة ويراد منه بيان مانعية الأمر المنهي عنه عن تمامية المعاملة، بحيث يكون وجوده مخلاً بها، وبالحقيقة يكون الأمر المنهي عنه كالشرط في صحة المعاملة بعدم وجوده، كالنهي عن أن يكون العاقد مجنوناً، أو عن بيع ما لا يملكه، وهذا معناه مانعية الجنون من حصول أصل العقد، وكذلك بيع غير المملوك، لا أن العقد يقع صحيحاً ونهى عنه الشارع لعلة ما، وهذا النهي لا كلام لهم في إفساده للمعاملة لأن صحتها تتوقف على عدمه كما ذكرنا.

ص: 131


1- وسائل الشيعة ج 4 الباب 10 من أبواب الركوع ح 5

وتارة أخرى يرد النهي عن المعاملة من الشارع مع فرض أن المعاملة بنفسها لولا النهي تامة الأجزاء والشرائط، والنهي عنها لجهة أخرى، وهذا النهي يتصور بصورتين:

الأولى: أن يكون النهي عن إيقاع هكذا عقد فيكون النهي عن إيجاد سبب المعاملة، وهو وقوع العقد نفسه كالنهي عن البيع وقت النداء للصلاة من يوم الجمعة، فالمعاملة لو أوقعت قبل النداء فهي صحيحة تامة وورد النهي عن إيقاعها حالة النداء لعلة النداء، وإيقاع عقد النكاح للمحرم حال إحرامه.

الثانية: أن يكون النهي عن حصول تمامية المعاملة لا عن نفس إنشائها أي النهي عن حصول النتيجة المرادة منها، وهو حصول الملك منها في البيع مثلاً، كالنهي مثلاً عن بيع المصحف الشريف للكافر، فالمنهي عنه نتيجة البيع وهو تملك الكافر للمصحف بعقد البيع لا نفس إنشاء عقد البيع مع الكافر.

أما الصورة الأولى فذكر الأعلام عدم فساد المعاملة بالنهي عنها، بل يوجب النهي حرمة إيقاع المعاملة في هذا الوقت، فلو أوقع المعاملة وقت النداء لا تقع باطلة بل تقع محرمة، فيقع البيع صحيحاً لكنه البائع مأثوم بإيقاع العقد حين النداء فتكون الحرمة تكليفيه لا وضعية.

وأما الصورة الثانية فأختلف فيها بقولين:

قول بالصحة ومبناه أنه لم يثبت مانعية مثل هذا النهي عن صحة المعاملة مع فرض كونها مستوفية لشروط العقد من جميع الجهات، فيقع العقد محرماً، ونهي الشارع عن شيء لا يمنع من وقوع أثره، لكن يكون إيقاع الفعل محرماً، كالظهار المحرم إيقاعه، لكن لو أوقعه المكلف فإن أثره يترتب عليه، ولا يرتفع إلا بدفع الكفارة، فهنا كذلك فإن نهي الشارع عن بيع

ص: 132

المصحف للكافر موجب لحرمة الفعل، ولا مانع من ترتب أثر البيع لو وقع، فالكافر يملك المصحف بهذا البيع، ولكن البائع فعل محرماً، ولم يثبت إفساد هذا النهي عن المعاملة.

وقول بالفساد ومبناه أن صحة المعاملة مشروطة بكون العاقد له سلطة كاملة على إجراء العقد، ونهي الشارع عن إجراء العقد موجب لسلب سلطنة هذا العاقد عن إجراء العقد شرعاً، فيقع العقد فاسداً لعدم قدرة العاقد عليه، كما لو نهى المولى عبده عن البيع، فإن العبد لا تكون له قدرة على إجراء العقد لقصور سلطنته حينئذٍ.

ص: 133

ص: 134

القسم الثاني : في المسائل العملية وفيه بابان:

اشارة

ص: 135

ص: 136

الباب الأول : مباحث الحجج

اشارة

قبل الخوض في مباحث الحجج لابد من التعرض من باب المقدمة للكلام في بعض المباحث المهمة للقطع وبعض مباحث العلم الإجمالي ثم الدخول في مباحث الحجج.

فيقع الكلام:

أولاً : في القطع وفيه فصول

الفصل الأول في حجية القطع
اشارة

قد يرد في لسان الأعلام أن القطع حجة، وتارة يعنون بذلك أنه مع حصوله لابد من متابعته ولا يجوز مخالفته.

وأخرى يعنون بذلك أنه معذِّر للمكلف أمام المولى فيكون في مأمن من العذاب، ومنجَّز في حقه موجب لاستحقاق الثواب مع الفعل والعقاب مع المخالفة فيما قطع به من الحكم، ولو تبين بعد ذلك أنه مخطئ في قطعه، و وعليه سيكون الكلام في كلا الأمرين:

الأمر الأول : في متابعة القطع

مما لا ريب فيه أنه لابد من متابعته، ولهم في لزوم المتابعة وجوه ملخصها، بما أن الواقع الذي يتعلق به القطع هو مورد لعمل المكلف، وبما أن عمل المكلف أمر اختياري له والأمر الاختياري بحاجة لمعرفة جهة

ص: 137

الداعي للإقدام على فعله أو تركه. ومع الالتفات للواقع والوصول إليه لابد من ترتب العمل المناسب لذلك الواقع إذ ليس بعد الوصول إليه شئ يبتغيه المكلف، وحيث كان القطع بنفسه وصولاً للواقع تعين متابعته، لتحقق شرط العمل به. ومن هنا كانت متابعة القطع من لوازم ذاته تكويناً، ولا تحتاج إلى جعل من الشارع، بل يكون جعله لغواً، لعدم استناد العمل حينئذٍ لجعله، ولا إلى حكم العقل زائداً على مقتضى ذاته، لأن حكم العقل إنما يتجه مع إمكان التخلف عن الواقع، لا مع لزومه تكويناً.

وهذا مما يمتاز به القطع عن بقية الطرق، حيث إنها لما لم تكن بنفسها وصولاً للواقع، ولا موصلة له، لاحتمالها الخطأ، فلابد في وجوب متابعتها من أمر خارج عنها إما حكم الشارع أو العقل.

وكذلك لا مجال للردع عن متابعة القطع لأنه المفروض أن المطلوب للآمر تحصيل الواقع والعمل عليه، والقطع هو عين الوصول للواقع فلابد للمأمور من متابعته، فالردع عن متابعة القطع ردع عن الوصول للواقع مع إرادة الوصول له لتحصيله، وهذا خلف محال أن يصدر من الحكيم.

وبذلك يظهر أن معنى لزوم متابعة القطع هو لابدية المتابعة تكويناً بمقتضى ذات القطع لا بمعنى لزوم متابعته عقلاً أو شرعاً.

ويظهر أيضا أن إطلاق الطريق الموصل للواقع على القطع تسامح؛ لأنه كما ذكرنا أن القطع هو انكشاف الواقع نفسه لا طريق أوصل للواقع.

كما أن إطلاق الحجية على القطع أيضا تسامح؛ لأن الحجة هو ما يعتمد عليه لإثبات متعلقه والوصول به للواقع والقطع هو ثبوت الواقع نفسه ووصول إليه لا هو مثبت للواقع وموصل بل هو الواقع وهو الوصول، نعم الحجية بمعنى المعذرية والمنجزية تنطبق عليه كما سيأتي.

الأمر الثاني : منجزية القطع ومعذريته

ص: 138

وذكروا في ذلك وجوها:

الأول: أنه منجِّز ومعذِّر ببناء العقلاء من أجل حفظ النظام فهو من القضايا المشهورات عند العقلاء كما في يذكر في علم المنطق وعليه قد جرى الشارع فأمضى ذلك البناء من العقلاء وجرى على سيرتهم.

الثاني: أنه معذِّر ومنجِّز بحكم العقل فإن العقل يحكم بكون حصول القطع كاف في تنجِّز الأمر المقطوع به بحق القاطع وكذلك معذِّر له أمام المولى.

الثالث: أن منجزية القطع ومعذريته من لوازم ذاته وقد أدركه العقل، فالعقل أدرك ملازمة المنجزية والمعذرية لذات القطع وليس هذا الإدراك من بناء العقلاء وإنما من مدركات العقل للملازمات العقلية.

وعليه فمنجزية القطع معلومة وكافية في الإلزام حتى مع الخطأ في القطع لأنه يكون القاطع حين قطعه غير ملتفت أصلاً لكون قطعه خطأ فلذا يلزم متابعته لعدم المؤَمن من مخالفته مع فرض تماميته.

أما معذريته فأيضاً تامة لكن مع عدم التقصير في حصول أسباب القطع ومقدماته ولذا إذا اعتمد القاطع على مقدمات لا توجب القطع عند العقلاء وقطع بسببها واخطأ الواقع لا يكون معذوراً بقطعه كما إذا قطع من الحلم أو خفقان الطير أو كلام المنجمين، فإنه وإن كان لا يؤاخذ على قطعه بل على الأسباب التي أوجبت له القطع مع كونها غير عقلائية.

الفصل الثاني : في التجري

وفيه نقاط عدة كانت محلاً للكلام بينهم:

الأولى: لو قطع القاطع بأمر ما وكان ما قطع به إما حرام أو واجب وخالف قطعه ففعل ما قطع بحرمته أو لم يفعل ما قطع بوجوبه تمرداً على المولى، ثم تبين أن قطعه كان خطأ، وما فعله قاطعاً بحرمته لم يكن

ص: 139

حراماً واقعاً، أو ما تركه قاطعاً بوجوبه لم يكن واجباً واقعاً، فهل يستحق العقاب على مخالفته القطع وتمرده على مولاه وإن لم يخالف الواقع أم لا.

الثانية: ثم الذي يظهر منهم أن ذلك لا يختص بالقطع بل يعم مخالفة جميع الحجج الشرعية، كما لو قامت البينة وخالفها، أو كان هناك خبر واحد حجةوخالفه وهكذا.

الثالثة: ثم المراد في كلامهم ليس التمرد فقط ومخالفة القطع والحجة بل يعم الفعل كذلك بحسب القطع أو الحجة، فلو قطع بوجوب فعل ما وفعله أو بحرمة شئ ما وتركه إطاعة للمولى وتبين عدم وجوبه واقعاً أو عدم حرمته، فهل يستحق الثواب على فعله وانقياده أم لا.

رابعاً: وكلامهم أيضاً في استحقاق العقاب والثواب عقلاً لا استحقاق العقاب الموعود عليه من قبل الله تعالى على فعل الحرام الواقعي أو ترك الواجب، ولا الثواب على فعل الواجب الواقعي أو ترك الحرام، بل ذلك أمر موكول لعدله تعالى ورحمته، وهذا هو المعروف بينهم بالتجري.

واستدل على حرمته بأدلة:

الأول: إن التكاليف الواقعية ظاهراً يراد منها الشيء بما هو عليه في الواقع، لكنه حسب الظاهر يراد منه ما كان باعتقاد المكلف انطباق العنوان عليه ولو كان مخطئاً فيما اعتقد؛ لأن التكليف يتعلق بما يكون تحت قدرة واختيار المكلف، وما تحت قدرته واختياره هو ما يعتقد به؛ لأن تمام موضوع الإرادة هو الصورة الذهنية المتحققة للمكلف مما يحرزه من العناوين، وذلك إنما يكون إذا قطع بشي من العناوين، أو قامت عنده الحجة بكونه هو العنوان المقصود ولو لم يكن واقعاً هو نفس العنوان.

الثاني: إن القطع أو قيام الحجة عند المكلف بكون شيء ما معصية

ص: 140

وفَعَلَهُ المكلف، أو واجب وتَرَكَهُ المكلف يوجب القبح الفاعلي(1)بحق المكلف بل حتى القبح الفعلي(2)؛لأن ذلك يعتبر تمرداً على المولى، وانتهاكاً لحرمته، وخروجاً عن مقتضى حق الطاعة والعبودية، وهذا القبح يوجب كونه فعلامحرماً شرعاً، للتلازم بين حكم العقل وحكم الشرع فيما يكون الفعل علة تامة للقبح كما في المورد.

الفصل الثالث : القطع طريقي وموضوعي

قسم الأعلام القطع إلى قسمين طريقي وموضوعي:

وذلك لأن القطع بالنسبة إلى الحكم المقطوع به تارة لا يكون دخيلاً في نفس الحكم بل يراد من أجل الوصول إلى متعلق الحكم مع فرض أن موضوع الحكم هو شي آخر غير القطع، بحيث لو تم ذلك الموضوع يترتب عليه الحكم وإن لم يكن مقطوعاً به، لعدم دخل القطع بذلك، وعليه يكون القطع مجرد طريق للوصول للحكم، وهنا يكون القطع متأخر رتبة عن الحكم، وذلك مثل قوله تعالى: [ وُكِّلُوا وَ اشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ](3)فإن موضوع وجوب الإمساك للصوم هو طلوع الفجر واقعاً لا علم المكلف بطلوعه، والقطع بطلوعه طريق لمعرفة الحكم وهو وجوب الإمساك للصوم، وهذا يسمى القطع الطريقي.

وأخرى يكون القطع مأخوذاً في موضوع الحكم المراد القطع به، وعليه لا يترتب الحكم بدون القطع به، وعليه لا يكون حكماً تاماً إلا بعد القطع به، وهنا يكون الحكم متأخراً رتبة عن القطع، كما قد يقال بلزوم القطع بعدد

ص: 141


1- القبح الفاعلي في الفعل، هو بمعنى كشف الفعل عن سوء سريرة العبد مع المولى أما نفس الفعل بالخارج فلا يكون قبيحاً في نفسه
2- حيث يوجب كون الفعل نفسه تمردا على المولى وخروجا عن مقتضى العبودية وعليه يكون نفس الفعل قبيحاً بسبب التجري وإن لم يكن واقعاً قبيح لولا التجري
3- آية 187 من سورة البقرة

ركعات صلاة الصبح والمغرب بحيث لو شك المكلف فيها بطلت الصلاة فيكون القطع بها حين الصلاة موضوعاً لصحة الصلاة، ولذا لو أحرز الركعات بغير القطع لا ينفع بل تبطل صلاته، أو ظن أنه في الثانية من المغرب وأتم بثالثة ثم تبين أنه كان في الثانية واقعاً لم يحكم بصحة صلاته، وهذا يسمى القطع الموضوعي.

الفصل الرابع : عموم القطع لجميع أفراده

بما أن القطع كما تقدم طريقي وموضوعي، فالموضوعي يكون حكمه من حيثية العموم والخصوص كسائر الموضوعات المأخوذة في الأحكام تابع لعموم جعل الحكم أو خصوصه.

ولكن ادعى بعضهم انصراف إطلاق الحكم إن كان له إطلاق في القطع الموضوعي عن قطع القطاع، ويقصدون به هو من يكثر قطعه ويكون قطعه ناتجاً من مقدمات غير متعارفة للعقلاء في حصول القطع بها، بحيث إن عموم العقلاء لو اطلعوا عليها لا يحصل لهم القطع، كالأحلام وعلم الرمل وقول المنجمين في بعض الموارد، لا من يكثر منه القطع مع توفر أسبابه الطبيعة العقلائية بحيث لو اطلع غيره من العقلاء لقطع أيضاً.

وبما أن القطع الموضوعي في الحكم على نحوين:

تارة يتعلق الحكم بقطعه لغيره ككون شهادته حجة بحق غيره، كما إذا شهد برؤية الهلال وأراد غيره الإفطار على طبق شهادته، أو فتواه كما إذا قطع بالحكم بحرمة شئ من حلم رآه، إذا أراد غيره العمل بها.

فهنا ذكر الأعلام أنه لا يخلو عن وجه احتمال قصور حجية القطع الحاصل من هذه المقدمات في حق غيره؛ لأنه من الظاهر أن القطع هنا في حق الغير ملحوظ من جهة كشفه عن الواقع غالباً، ومع حصوله عند القاطع

ص: 142

بمثل هذه المقدمات يكون قاصراً عن ذلك بحق الغير، وإن كاشفاً عند القاطع نفسه.

وأخرى يتعلق الحكم بحق نفسه، كوجوب الإفطار عليه لرؤيته الهلال، أو حرمة ما أفتى بحرمته في حقه هو، فالمنع من حجيته بحقه مشكل جداً؛ لأنه يرى أن قطعه في محله وهو حجة عنده، وعدم قطع غيره به لعدم وضوح السبب عندهم، فالحكم بعدم حجيته بحقه ملزم للتناقض عنده؛ لأنه يراه قطعاً تاماً وحجته ذاتيه، والشارع يحكم عليه بعدم الحجية مع فرض بقاء كونه قطعاً في حقه.

أما الطريقي فكما تقدم أن متابعته أمر ملازم لذاته فلا يفرق فيه بين أفراده، ولكن نقل الخلاف فيه عن الإخباريين، حيث نسب لهم المنع من حجية القطع الحاصل من مقدمات عقلية، أي المنع من الحجية كبروياً وإن حصل القطع منها، وإن نسب لهم أنهم يقولون بمنع حصول القطع من المقدمات العقلية في الحكم الشرعي صغروياً أي لا يمكن حصول القطع من المقدمات العقلية، لا عدم حجية القطع من مقدمات عقلية أصلاً كما قد يظهر من كلمات بعضهم، ولكن المهم هو المنع كبروياً وقد استدلوا له بنصوص لا تفي بمرادهم كما يلاحظ كلام كل من تعرض لكلامهم وناقشه، وليس هذا المختصر محل التعرض لذلك.

وثانياً : في العلم الإجمالي وفيه فصلان:

الفصل الأول : كفاية العلم الإجمالي في تنجز التكليف ووصوله

مما لا ينبغي التأمل فيه أن العلم الإجمالي منجز للتكليف وملزم بمتابعته كالعلم التفصيلي بلا فرق من حيثية الجهة المقتضية للعمل؛ لأن الغرض هو الوصول للواقع وقد تحقق، وليس فارقاً عن العلم التفصيلي إلا

ص: 143

كون الأمر المعلوم إجمالاً مردداً بين أفراد، بينما العلم التفصيلي يكون الأمر المعلوم محصوراً بفرد أو أفراد وهذا لا أثر له من حيثية لزوم العمل والمتابعة، وعليه يلزم تكرار العمل إن كان فعلاً كما إذا علم إجمالاً بوجوب صلاة الظهر عليه أو المغرب، فيأتي بصلاتين رباعية وثلاثية من أجل إحراز براءة ذمته، والاجتناب عن المحتملات جميعها إن كان نهياً كما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الإنائين، فيلزم عليه الاجتناب عنهما معاً.

وأما ما قد يتصوره البعض من كفاية الموافقة الاحتمالية في الامتثال من الامتثال بأحد الأفراد أو الاجتناب عن أحد الأفراد بدعوى أن المعلوم إجمالاً هو أحد الأطراف فلا يكون المنجز في حق المكلف زيادة على المعلوم ولا يجب إحراز الفراغ عما لا يعلم تنجزه، وعليه يكون الامتثال بأحد الأفراد إطاعة احتمالية للتكليف الواقعي فهو مما لا مجال له.

لأن المعلوم إجمالاً ليس هو عنوان أحد الفردين حتى يكتفى بامتثال العنوان، بل المعلوم أن المكلف به هو مصداق أحدهما إجمالاً الذي لا يحرز الإتيان به بامتثال احدهما فلا يحرز سقوط التكليف إلا بامتثالهما معاً.

الفصل الثاني : الاكتفاء بالعلم الإجمالي في امتثال التكليف
اشارة

الظاهر أنه مما لا ريب فيه صحة الاكتفاء بالامتثال إجمالا في التوصليات ولو مع إمكان الامتثال تفصيلا، كما إذا شك في إناءين أحدهما ماؤه مطلق والآخر مضاف كان له التطهير بهما معا ولو كان يمكنه معرفة المطلق منهما بعينه بالفحص.

وكذلك مما لا ريب فيه صحة الامتثال إجمالا مع تعذر الامتثال تفصيلا في العبادات، كما إذا لم يعلم بأن ما فاته هي صلاة الظهر أو المغرب فيكفي

ص: 144

الإتيان بأربع ركعات وثلاث برجاء المطلوبية، أو شك في أن ما قطعه مسافة شرعية توجب القصر أم لا فيصلي قصراً وتماماً.

ولكن الكلام في صحة الامتثال إجمالا مع إمكان الامتثال تفصيلا في العبادات كما في الفرض المتقدم وكان يمكنه معرفة الفائت من شخص آخر، أو أن ما قطعه مسافة أم لا

كما أنه هل يكفي الامتثال الاحتمالي مع إمكان التأكد من الثبوت وعدمه كما إذا شك بوجوب غسل يوم عرفه فهل له الاغتسال بنية القربة مع إمكانه الفحص عن الوجوب أم لا ولذا يقع الكلام في أمرين:

الأول : كفاية الامتثال الإجمالي مع إمكان التكليف

ذكر بعض الأعلام عدم كفاية ذلك واستدلوا لذلك بوجوه منها:

أن المعتبر في العبادة الإتيان بها بوجهها الخاص من وجوب أو ندب ولا يكفي الإتيان بها بدون تمييز وتقدم بعض الحديث والمناقشات في مبحث التعبدي والتوصلي.

ومنها: أن المعتبر في العبادة الإتيان بها بداعي أمرها وعليه لابد من إحراز ذلك الأمر ليمكن امتثال داعويته وأنه على نحو الوجوب أو الاستحباب ولا يكفي الإتيان به على إجماله.

ومنها: أن مراتب الامتثال عقلاً أربعة لا يصح التعدي عن السابقة إلى اللاحقة إلا بعد العجز عن السابقة وهي الامتثال التفصيلي ثم الإجمالي ثم الظني ثم الاحتمالي وحيث كان المفروض إمكان إحراز التفصيلي فلا يصح التعدي للاحتمالي.

ولكن الأكثر على كفايته واستدلوا له بعد عدم تمامية الوجوه المتقدمة من المنع عندهم.

ص: 145

إن الأصل في العبادات التوصلية لا التعبدية ولو كانت نية الوجه مشترطة لكان الأصل فيها هو التعبدية مع أن الامتثال الاحتمالي وعدم لحاظ نية الوجه هو مقتضى سيرة العرف والمتشرعة.

مضافا إلى نصوص قاعدة التسامح فهي وان لم تثبت بها القاعدة لكنه يستفاد منها مشروعية الاحتياط في العمل وتقييدها بصورة تعذر الفحص غير واضح بل بعيد عن ظهورها.

الثاني : كفاية الامتثال الإجمالي مع العلم الإجمالي
اشارة

وهو قد يستلزم التكرار في العمل كمورد تردد التكليف بين القصر والتمام والصلاة في الثوبين المعلوم نجاسة أحدهما إجمالاً

وقد منع من ذلك بعض للوجوه المتقدمة وغيرها مثل:

أن التكرار في العبادة مخالف لسيرة المتشرعة مع إمكان الامتثال التفصيلي وعدم التكرار ولو عملاً بمطلق الظن لو تم دليل الانسداد(1) أو الوصول للحكم الشرعي بالعلم أو الظن المعتبر فلم يعهد من المتشرعة اللجوء للتكرار مع إمكان الوصول للحكم الشرعي وأدائه من دون تكرار

وأن ذلك يستلزم اللعب بأمر المولى فقد يستلزم على المكلف من اجل إحراز شرط في الصلاة إلى تكرارها مراراً متعددة لو لم يتأكد من تماميته ومثل هذا التكرار يعد لعباً بأمر المولى إذا كان يمكنه إحراز ذلك الشرط وأداء التكليف من دون تكرار.

ص: 146


1- وهو ملخصاً حجية مطلق الظن وذلك لانسداد باب القطع والظن الحجة المعتبر بالحكم الشرعي وامتناع الرجوع للأصول الشرعية والعقلية المقررة للجاهل وقبح ترجيح المرجوح على الراجح مع فرض تمامية ما تقدم يتعين العمل بالظن وقد اطالوا الكلام فيه مما لا يناسب مختصرنا

ولكن مع ذلك فلم يرتض هذه الوجوه آخرون وبنوا على الجواز وأنه لا مانع من الامتثال الإجمالي ولنكتف بهذا المقدار من الكلام في القطع.

مباحث الحجج
تمهيد : في معنى الحجة
اشارة

هو كل أمر يكون المكلف ملزماً بالعمل على طبقه، ويكون معذوراً بالعمل به عند المولى، كما أن له الاحتجاج به على المولى، ولو خالفه يكون للمولى محاسبته، فسيكون البحث عن كل ما أدعي كونه حجة عند الشارع، ويصح له الاحتجاج به على المكلفين في مقام العمل، ويصح منهم الاحتجاج به في الخروج عن عهدة التكليف، وما ثبت كونه حجة عند الشارع يكون العمل على طبقه ملزماً، وما لم يثبت حجيته لا يكون العمل على طبقه ملزماً، وعليه سيكون الكلام فيما أدعي كونه حجة عند الشارع، وما أدعي له الحجية أمور تقع في مباحث:

المبحث الأول الاطمئنان

ومرادهم به هو الوثوق الذي يكون قريباً من القطع قبل حصوله، وهو ما تركن إليه النفس ولم تقطع به، فهو المرحلة التي تكون فوق الظن وتحت العلم المنطقيين أي بينهما.

واستدل القائلون بحجيته بدليلين:

الأول: أنه علم عادي، أو عرفي، أي علم معتبر عند عامة العقلاء وفي عرف أهل المحاورة، بل عبر عنه بعض أنه يقين عقلائي، حيث يطلق عليه اليقين في لسان أهل المحاورة، كما أنه يقين لغة؛ لأن اليقين مأخوذ من يقن بمعنى سكن وثبت، كما أن الاطمئنان معناه سكن واستقر، فهو يقين لغة وعرفاً وإن لم يطلق عليه يقين اصطلاحاً.

ص: 147

الثاني: أنه حجة عقلائية في مقام الإثبات، فالعقلاء يعتمدون عليه في شؤونهم وحياتهم اليومية، كما أنه ثبت كفاية الاطمئنان في موارد عند الشارع، ولم يثبت ردع الشارع عنه، والسيرة العقلائية يكتفى بعدم ردع الشارع عنها العمل بها، فلا تحتاج إلى إثبات الحجية لها؛ لأنها حجة بالذات، وعليه فلو حصل اطمئنان للمكلف بحكم شرعي يلزم العمل به، فيكون منجزاً في حقه، ومعذراً له أمام الشارع.

وقد أنكر حجيته آخرون، لعدم تمامية ما ذكر من الأدلة، وما تم من حجيته في بعض الموارد إنما هي موارد خاصة، لا يمكن استفادة العموم منها، فيكون حجة في كل مورد دل عليه الدليل الخاص بكفاية الاطمئنان، مثل كفايته في شك المأموم مع حفظ الإمام وبالعكس.

المبحث الثاني الظواهر
اشارة

من نعم الله تعالى على الإنسان هي نعمة إمكانية التعبير عن المراد بالكلام، وفهم المخاطب ذلك الكلام والمراد منه، ولذا كان للعقلاء طرقهم العقلائية في إيصال مراداتهم فيما بينهم، وهذه الطرق معتبرة عند العقلاء في باب التخاطب وإيصال المراد، وهي حجة عندهم من المتكلم على السامع، ومن السامع على المتكلم، ولم يرد من الشارع المقدس نهي عن الأخذ بتلك الظواهر، ومن المعلوم من حال العقلاء في اعتمادهم على الظواهر في باب التخاطب لا بما أنها توجب القطع عندهم، بل يكتفون بما يظهر من الكلام وإن لم يوجب القطع، ولذا فإنهم يدفعون كل الاحتمالات التي قد توهم احتمال مخالفة الظاهر للمراد الواقعي، ويدفعون احتمال عدم إرادة الظاهر بأصول عقلائية تامة عندهم، مثل أصالة عدم القرينة، وأصالة عدم التخصيص، وأصالة عدم الغفلة، وأصالة الجهة، ولولا اعتمادهم على هذه الأصول في دفع الاحتمالات المخالفة للظاهر، لما استطاع العقلاء التفاهم

ص: 148

بالكلام فيما بينهم، لوجود احتمالات كثيرة توجب صرف الكلام عن ظاهره لا دافع لها إلا هذه الأصول العقلائية، وهذا مما لا خلاف بينهم فيه، وإنما وقع الخلاف في بعض الموارد، إما لاعتقادهم أن الظهور فيها غير معتبر عند العقلاء، أو لاعتقادهم ورود نهي من الشارع عن إتباع هكذا ظهورات، وهذا ما سيكون مورد البحث.

المورد الأول : حجية الظواهر بحق من قصد بالإفهام

ذكر بعض الأعلام أن الظواهر إنما تكون حجة في حق من قصد بالإفهام من قبل المتكلم، والمقصود بهم المخاطبون بالكلام فعلاً، وليست هي

حجة على كل حال وبحق كل أحد حتى من لم يقصد بالإفهام؛ لأن المتكلم قد يُظهِر لمن يقصد إفهامه قرائن خارجية حالية لا يمكن إدراكها لغير المقصود بالإفهام لخفائها عليه، ولا يجري بحق من لم يقصد بالإفهام أصالة عدم القرينة، وذلك لاحتمال وجودها مع من قصد بالإفهام ولم تصل له لأنه غير مقصود بالكلام، ويترتب على هذا عدم حجية ظواهر الأخبار بحقنا نحن، لأننا غير مقصودين بالإفهام منها، لأن المقصود بها هو المخاطب بها وهو الراوي لها أو السائل، وكذلك ظواهر القرآن الكريم بناءً منهم على كون المخصوص بالإفهام به هو النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليه السلام).

لكن ذكر آخرون أن الظواهر حجة حتى بحق من لم يقصد بالإفهام؛ لأن من سيرة العقلاء العمل بظواهر الكلام وإن لم يكونوا مقصودين به، كمن يطلع على رسالة يهمه ما جاء فيها وإن كانت موجهة إلى غيره، فإنه لا يتردد بالعمل على مضمونها وإن لم تكن موجهة إليه، ومن يسمع شخصا يبين لآخر أمراً يهمه هو أيضاً فإنه يأخذ بكلامه وإن لم يكن الكلام موجهاً إليه، ولذا أخذ علماؤنا بظواهر الروايات دون أدنى تردد منهم مع علمهم بأنهم غير مقصودين بالإفهام منها، وذلك لاعتقادهم

ص: 149

حجيتها بحقهم عين حجيتها بحق المخاطب بها، أو لأننا أيضاً مخاطبون بها، فنكون مقصودين بالإفهام أيضاً لأن ذكر الأئمة (عليه السلام) لها للعمل بها على مدى الدهر ولكل من يحتاج إليها وليس لخصوص من خوطب بها؛ لأنهم من شأنهم التشريع لكل عامل بها من الناس لا لخصوص السامع لها منهم مباشرة، والأصول اللفظية هنا جارية ولا مانع منها حتى أصالة عدم القرينة.

المورد الثاني : حجية الظواهر وإن لم تفد الظن أو ظن بخلافها

يبدو من بعض الأعلام أن الظواهر إنما تكون حجة إذا أفادت الظن بمضمونها أو لم يظن بخلاف ظاهرها حتى لو كان ظناً غير معتبر.

ولكن خالف الأكثر من الأعلام بعدم تمامية ذلك، وأن الظواهر حجة وإن لم تفد الظن، أو كان هناك ظن غير معتبر على خلاف ظاهرها؛ لأن ظاهر حال العقلاء البناء على الظواهر وحجيتها في هذا الحال، نعم إذا كان المراد تحصيل الواقع لأهميته جداً قد لا يكتفون بالظاهر في هذا الحال، لكن هذا قد يمنعهم من الأخذ بالظاهر حتى مع الظن القوي لشدة أهمية الواقع وهذا خارج عما نحن فيه في باب التفاهم الطبيعي الجاري على الوضع المألوف.

المورد الثالث : حجية ظواهر القرآن الكريم

قد يظهر من بعضهم عدم جواز العمل على ظاهر القرآن الكريم ما لم يرد تفسير الظاهر منه من النبي (صلى الله عليه وآله) أو الأئمة (عليهم السلام) لخروج الشارع عن الطريقة المألوفة في بيان مراداته ولا يمكن معرفة ظواهر كلامه إلا ممن يمكنه فهم ذلك وهم النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة الأطهار (عليه السلام)

ولكن ظاهر الأكثر عدم تمامية ذلك، لوضوح جريان سيرة الأصحاب قديماً وحديثاً على الأخذ بظاهر القرآن الكريم، والعمل به حتى أنهم جعلوه أحد مصادر التشريع، وبحثوا في إمكانية تخصيصه بخبر الواحد، وغير ذلك مما يظهر منهم التسالم على العمل بظواهره.

ص: 150

المبحث الثالث قول اللغويين

لا إشكال بين الأعلام في أنه إذا علم المعنى الحقيقي للفظ من علامات تمييز الحقيقة من المجاز فهو، أو علم من طريق يقيني آخر كذلك، وإذا لم يحصل العلم بالمعنى الحقيقي بل لا يوجد إلا كلام أهل اللغة، مع عدم إيجابه القطع بالمعنى الحقيقي، بل الظن هل يكون كلامهم حجة أم لا.

ذهب جمع من الأعلام إلى القول بحجيته واستدلوا له بأدلة منها:

أولاً: إجماع العلماء على الرجوع إليهم عند الحاجة إلى معرفة معنى لغوي من المعاني في الروايات الشرعية وغيرها، من دون أن ينكر احد منهم حجية كلامهم، وهذا التسالم على الرجوع لهم دليل حجية كلامهم عند العلماء.

ثانياً: إن من مقتضى سيرة العقلاء جميعاً الرجوع لأهل الخبرة بملاك رجوع الجاهل للعالم في كل شيء، ومنها العلوم، ومن الظاهر كون اللغويين من أهل الخبرة في مجال علوم اللغة، فيكون الرجوع إليهم مقتضى سيرة العقلاء بالرجوع لأهل الخبرة في كل مجال، التي هي حجة ما لم يثبت الردع عنها، ولم يثبت ردع من الشارع بالخصوص عن الرجوع للغويين.

ثالثاً: أنه لو لم يكن الرجوع للغويين حجة لزم انسداد باب العلم باللغة؛ لانحصار معرفة المعنى اللغوي بهم، ومع عدم حجية كلامهم لا يبقى مجال لمعرفة المعاني مع الحاجة الكثيرة لمعرفتها، ولو انسد باب العلم لعدم حجية قولهم لزم الرجوع للظن بالمعنى اللغوي، وعليه لابد حينئذٍ من الرجوع لقولهم لأنه يوجب الظن بالمعنى لا اقل.

وذهب جمع إلى عدم حجية قولهم لعدم تمامية هذه الأدلة عندهم، أما الإجماع فقالوا إن الحجة منه ما كان إجماعاً تعبدياً يحرز فيه دخول

ص: 151

المعصوم، وهنا غير ممكن لعدم حاجة المعصوم لكلام علماء اللغة في معرفة المعنى الحقيقي، وغيره من الإجماعات لم يثبت حجيته، وأما سيرة العقلاء بالرجوع لأهل الخبرة فهي تامة لكن لم يثبت كونهم أهل خبرة في معرفة المعاني الحقيقية من غيرها، بل لعل خبرتهم تقتصر على معرفة استعمال اللفظ في معناه دون إمكانية تمييز كونه معنىً حقيقياً أو مجازياً، وأما انسداد باب العلم فيوجب الرجوع لكل ظن لا لخصوص كلام اللغويين، مع أنه انسداد باب العلم باللغة لا يكون مؤثراً في معرفة الأحكام الشرعية، لمعرفة أكثر المعاني الموجودة في النصوص، وعدم وجود معاني خفية لا يمكن للفقيه فهمها من القرائن والأدلة.

نعم لا بأس بالاستئناس بكلامهم للوصول للمعاني الحقيقة مع مراجعة القرائن الأخرى، ويكون كلامهم مساعداً في الوصول للمعنى الحقيقي، لا أنه حجة بنفسه.

المبحث الرابع خبر الواحد
اشارة

الظاهر أن المراد بالخبر الواحد في كلامهم هو كل خبر لا يعلم بصدوره، وإن كان المخبر به أكثر من واحد، وهو في مقابل الخبر المتواتر، وهو الخبر الذي يقطع بصدوره من جهة كثرة رواته، أو المحفوف بقرائن توجب القطع بصدوره، واختلفوا في حجيته وعدمها

فقد ينسب للأخباريين دعوى أن جميع ما موجود في الكتب المدونة من قبل الأصحاب كالكتب الأربعة(1) وأمثالها هو قطعي الصدور، ومن شاء الإطلاع على هذه الدعوى فليراجع فوائد خاتمة كتاب الوسائل للحر العاملي

ص: 152


1- والمراد بها الكافي للشيخ الكليني ومن لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق والتهذيب والاستبصار للشيخ الطوسي

(قده) حيث أطال في ذكر الوجوه وسرد القرائن على تماميتها ولم نتعرض لذكرها لبناء الكتاب على الاختصار(1).

ومع ذلك لم يرتض كثير من الأعلام ماذكره صاحب الوسائل، لعدم تمامية تلك الوجوه التي ذكرها في حجية كل ما موجود في كتب الأصحاب وقد وقع الاختلاف في حجية الأخبار بأقوال كثيرة، قد يصعب استيفاؤها في هذا المختصر، نعم المهم من ذلك قولان، القول بالمنع من الحجية مطلقاً، والقول بالحجية في الجملة مقابل القول بالمنع المطلق، ومن هذين القولين تتضح أدلة كثير من الأقوال الأخرى، فلنقتصر في ذكر أدلة القولين المشهورين رعاية للاختصار المنشود.

أولاً: المنع من حجية الخبر بقول مطلق، وقد أستدل له بأدلة منها:

الأول : الكتاب المجيد

وعمدة ما ذكروه من الأدلة من الكتاب المجيد هي الآيات الناهية عن التمسك بالعمل بغير العلم، وآيات النهي عن العمل بالظن، كقوله تعالى: [ وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمُ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ](2) وقوله تعالى: [ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ] (3) وقوله تعالى: [ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ](4) وقوله تعالى: [ وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ إِتْبَاعِ الظَّنِّ ](5) وقوله تعالى: [ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ](6) وقوله تعالى: [ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ

ص: 153


1- وسائل الشيعة الجزء الأخير الفائدة السادسة وما بعدها
2- آية 36 من سورة الإسراء
3- آية 78 من سورة البقرة
4- آية 24 من سورة الجاثية
5- آية 157 من سورة النساء
6- آية 116 من سورة الأنعام

إلاَّ تَخرُصُونَ](1)وقوله تعالى: [ وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ](2)وقوله تعالى: [ يأيها الَّذِينَ أَمِنُوا اجتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ](3) وقوله تعالى: [ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ ](4) وقوله تعالى: [ وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ](5) وقوله تعالى: [ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا ](6).

ووجه الاستدلال بهذه الآيات بما أن خبر الواحد لا يفيد العلم، بل أقصى ما يفيده هو الظن كما هو المفروض في تعريفه، وهذه الآيات صريحة في النهي عن العمل بالظن، فتكون صريحة في النهي عن العمل بالخبر الواحد، لكن لا بعنوان كونه خبر واحد بل بما انه لا يفيد إلا الظن وعموم العمل بالظن منهي عنه.

الثاني : السنة الشريفة

وقد استدلوا منها بعدة أحاديث، منها: ما ورد في النهي عن العمل بغير العلم، كما في الآيات الكريمة، كصحيح أبي عبيدة قال: قال أبو جعفر عليه السلام: من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه(7).

ومعتبر مفضل بن مزيد ( يزيد ) قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: أنهاك عن خصلتين فيهما هلك الرجال: أنهاك أن تدين الله بالباطل، وتفتي الناس بما لا تعلم(8).

ص: 154


1- آية 148 من سورة الأنعام
2- آية 36 من سورة يونس
3- آية 12 من سورة الحجرات
4- آية 23 من سورة النجم
5- آية 28 من سورة النجم
6- آية 32 من سورة الجاثية
7- وسائل الشيعة كتاب القضاء أبواب صفات القاضي باب4 ح1
8- وسائل الشيعة كتاب القضاء أبواب صفات القاضي باب4 ح2

وصحيح عبد الرحمن بن الحجاج قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: إياك وخصلتين ففيهما هلك من هلك: إياك أن تفتي الناس برأيك، أو تدين بما لا تعلم(1).

وصحيح زياد بن أبي رجاء، عن أبي جعفر عليه السلام قال: ما علمتم فقولوا، وما لم تعلموا فقولوا: الله أعلم إن الرجل لينتزع الآية يخر فيها أبعد ما بين السماء(2).

والصحيح عن زرارة بن أعين قال: سألت أبا جعفر عليه السلام ما حق الله على العباد؟ قال: أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند مالا يعلمون(3).

وصحيح هشام بن سالم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما حق الله على خلقه ؟ قال: أن يقولوا ما يعلمون ويكفوا عما لا يعلمون، فإذا فعلوا فقد أدوا إلى الله حقه(4).

ومعتبر طلحة بن زيد قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بعداً(5).

وموثق حمزة بن الطيار، أنه عرض على أبي عبد الله عليه السلام بعض خطب أبيه حتى إذا بلغ موضعا منها قال: كف واسكت، ثم قال: إنه لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلا الكف عنه والتثبت والرد إلى أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه على القصد ويجلو عنكم فيه العمى قال الله تعالى: [ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ](6)(7).

ص: 155


1- وسائل الشيعة كتاب القضاء أبواب صفات القاضي باب4 ح3
2- وسائل الشيعة كتاب القضاء أبواب صفات القاضي باب4 ح5
3- وسائل الشيعة كتاب القضاء أبواب صفات القاضي باب4 ح9
4- وسائل الشيعة كتاب القضاء أبواب صفات القاضي باب4 ح10
5- وسائل الشيعة كتاب القضاء أبواب صفات القاضي باب4 ح11
6- آية 43 من سورة النحل
7- وسائل الشيعة كتاب القضاء أبواب صفات القاضي باب4 ح14

واستدلوا أيضا بما ورد من الأحاديث الناهية عن العمل بالخبر مع عدم العلم بصدوره أو إذا خالف كتاب الله أو إذا لم يكن موافقاً له وهي أحاديث كثيرة نذكر بعضاً منها ونحيل الطالب للمطولات في الاطلاع على الباقي إذا أراد.

منها: مكاتبة محمد بن علي بن عيسى إلى الإمام الهادي (عليه السلام) كتب إليه يسأله عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك عليهم السلام قد اختلف علينا فيه فكيف العمل به على اختلافه ؟ أو الرد إليك فيما اختلف فيه ؟ فكتب عليه السلام: ما علمتم أنه قولنا فالزموه، وما لم تعلموا فردوه إلينا(1).

وصحيحة جابر، عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: انظروا أمرنا وما جاءكم عنا، فان وجدتموه للقرآن موافقا فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقا فردوه، وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا(2).

وصحيح هشام بن الحكم وغيره، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: خطب النبي صلى الله عليه وآله بمنى فقال: أيها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله(3).

الثالث : الإجماع
اشارة

فقد ادعى السيد المرتضى (قده) إجماع أصحابنا على عدم العمل بأخبار الآحاد، بل يبدو منه اعتبارها بمنزلة القياس الذي يعلم من مذهب أصحابنا ضرورةً عدم العمل به، فقد قال في رسائله:

(اعلم أنه لا بد في الأحكام الشرعية من طريق التوصل إلى العلم بها

ص: 156


1- وسائل الشيعة كتاب القضاء أبواب صفات القاضي باب9 ح36
2- وسائل الشيعة كتاب القضاء أبواب صفات القاضي باب9ح37
3- وسائل الشيعة كتاب القضاء أبواب صفات القاضي باب9ح15

لأنا متى لم نعلم الحكم ونقطع بالعلم على أنه مصلحة لنا جوزنا كونه مفسدة لنا فيقبح الإقدام منا عليه، لأن الإقدام على ما لا نأمن كونه فسادا، كالإقدام على ما نقطع كونه فسادا.

ولهذه الجملة أبطلنا أن يكون القياس في الشريعة الذي يذهب مخالفونا إليه طريقا إلى الأحكام الشرعية، من حيث كان القياس يوجب الظن ولا يقتضي العلم.

ألا ترى إنا نظن حمل الفرع في التحريم على أصل محرم يشبه بجميع بينهما، أنه محرم مثل أصله، ولا نعلم من حيث ظننا أنه يشبه المحرم أنه محرم.

وكذلك إذاً أبطلنا العمل في الشريعة بأخبار الآحاد، لأنها لا توجب علما ولا عملا، وأوجبنا أن يكون العمل تابعا للعلم، لأن خبر الواحد إذا كان عدلا فغاية ما يقتضيه الظن بصدقه، ومن ظننت صدقه يجوز أن يكون كاذبا وإن ظننت به الصدق، فإن الظن لا يمنع من التجويز، فعاد الأمر في العمل بأخبار الآحاد إلى أنه إقدام على ما لا نأمن كونه فسادا أو غير صلاح.

ثم ذكر بعد ذلك (الدليل على بطلان العمل بهما) وإنما منعنا من العمل بالقياس في الشريعة وأخبار الآحاد، مع تجويز العبادة بهما من طريق العقول، لأن الله تعالى ما تعبد بهما ولا نصب دليلا عليهما فمن هذا الوجه أطرحنا العمل بهما، ونفينا كونهما طريقين إلى التحريم والتحليل. وإنما أوردنا بهذه الإشارة أن أصحابنا كلهم سلفهم وخلفهم ومتقدمهم ومتأخرهم يمنعون من العمل بأخبار الآحاد ومن القياس في الشريعة، ويعيبون أشد عيب الذاهب إليهما والمتعلق في الشريعة بهما، حتى صار هذا المذهب لظهوره وانتشاره معلوما ضرورة منهم، وغير مشكوك فيه من المذاهب .وقد استقصينا الكلام في القياس وفرعناه وبسطناه وانتهينا فيه إلى أبعد الغايات

ص: 157

في جواب مسائل وردت من أهل الموصل متقدمة، أظنها في سنة نيف وثمانين وثلاثمائة، فمن وقف عليها استفاد منها جميع ما يحتاج إليه في هذا الباب)(1).

وكذلك ادعى ابن إدريس في السرائر حيث قال (وإن أراد بقولهم عليهم السلام فلا يجوز عليهم الرجوع إليها ولا العمل بها، لأن خبر الواحد لا يوجب علما ولا عملا كائنا من كان راويه، فإن أصحابنا بغير خلاف بينهم، ومن المعلوم الذي يكاد يحصل، ضرورة أن مذهب أصحابنا ترك العمل بأخبار الآحاد، ما خالف فيه أحد منهم، ولا شذ، فعلى هذا التحرير ما أراد المصنف بقوله إلا خبر الواحد)

وقال أيضاً في مقام مناقشة الشيخ الطوسي (قده): (أيضا فقد بينا أنه لا يجوز العمل بأخبار الآحاد، وإن كانت رواتها ثقات عند أهل البيت عليهم السلام، لأنها لا توجب علما ولا عملا، وأكثر ما يثمر غلبة الظن، ولا يجوز العدول عن المعلوم الذي هو كتاب الله تعالى إلى المظنون، وأدلة العقول تعضد ذلك، وتشهد به. وقال فإن كان شيخنا أبو جعفر عاملا بأخبار الآحاد، فلا يجوز له أن يعمل بهذه الرواية إذا سلمنا له العمل بأخبار الآحاد تسليم جدل، على ما يقترحه وذكره في عدته، وإن كان مخالفا لإجماع أصحابنا سلفهم وخلفهم، حتى أن المخالفين من أصحاب المقالات يذكرون في كتبهم ومقالات أهل الآراء والمذاهب، أن الشيعة الإمامية لا ترى العمل في الشرعيات بأخبار الآحاد، وشيخنا المفيد ذكر ذلك أيضا في كتاب المقالات الذي صنفه، ومذهب السيد المرتضى ومقالته في ذلك، فأشهر من أن يذكر، وما أظن خفي على هذين السيدين الأوحدين العالمين مقالة أهل مذهبهما، بل ربما لم يكن لأصحابنا في المتقدمين والمتأخرين أقوم منهما بمعرفة

ص: 158


1- رسائل المرتضى - الشريف المرتضى - ج 1 - ص 202

المقالات، وتحقيق أصول المذهب، ومعرفة الرجال، وخصوصا شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان رحمه الله فإنه خريت هذه الصناعة. قال شيخنا أبو جعفر الطوسي في عدته: والذي أذهب إليه أن خبر الواحد لا يوجب العلم، وكان يجوز أن ترد العبادة بالعمل به عقلا، وقد ورد جواز العمل به في الشرع، إلا أن ذلك موقوف على طريق مخصوص، وهو ما يرويه من كان من الطائفة المحقة، ويختص بروايته، ويكون على صفة يجوز معها قبول خبره من العدالة وغيرها)(1).

وفي هذه الأدلة مناقشات محلها المطولات.

ثانياً: إثبات حجية الخبر في الجملة مقابل المنع المطلق، وقد استدل القائلون بذلك بأدلة:

الأول : الكتاب المجيد

حيث استدلوا بآيات كريمة ادعوا دلالتها على حجية الأخبار

منها: قوله تعالى [ إِنْ جاءَكُمْ فاسِقُ بنبأ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ](2)

ووجه الاستدلال بالآية الكريمة إما لدلالة مفهوم الشرط فيها، وهو أن الآية ذكرت لزوم التبين إذا كان الجائي بالخبر فاسقاً، وذلك لعدم كون خبره حجة لفسقه، ومقتضى مفهوم الشرط أنه إن كان الجائي بالخبر غير فاسق وهو العادل لا يلزم التبين من خبره، فيكون خبره حجة.

أو لدلالة مفهوم الوصف، وهو حيث كان المانع من الأخذ بخبر الفاسق هو فسق الناقل للخبر، وليس المانع من الأخذ به من جهة كونه خبراً، وإلا لجعل السبب بعدم الأخذ به لكونه خبراً، لا كون الجائي به فاسقاً، لأنه أولى

ص: 159


1- السرائر - ابن إدريس الحلي - ج 1 - ص 82 و ص 341 وص 495 وج 3 - ص 289
2- آية 6 من سورة الحجرات

بالتعليل بالمنع، وعلى ذلك فيكون في الخبر جهتان: جهة قبول لكونه خبراً، كما هو الوضع العرفي العام من الاعتماد على الخبر، وجهة منع كون المخبر

به فاسقاً، ولذا ذكر الفسق مانعاً، وإلا لو كان أصل الإخبار ليس بحجة لذكره في الآية، وهو كونه خبر ولا خصوصية حينئذٍ لخبر الفاسق من غيره، وذلك لأن الخبر بنفسه صالح للحجية بما هو خبر، فلذا نبه على جهة المنع وهي الفسق دون نفس الإخبار، فإذا أخبر العادل لزم حجية خبره لزوال المانع وهو الفسق المذكور في الآية.

وإن كان في دلالتها مناقشات يطول الكلام فيها عن هذا المختصر.

ومنها: قوله تعالى [ وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةُ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ](1)

ووجه الاستدلال بهذه الآية الكريمة، أن النفر فيها ليس المراد به الجهاد، وإن وردت في سياق آيات الجهاد، بل النفر من أجل طلب تعلم الأحكام من الرسول (صلى الله عليه وآله)، ومن أجل التفقه في الدين، وحيث إن الله تعالى في الآية الكريمة لم يوجب النفر على جميع الناس للذهاب للنبي (صلى الله عليه وآله) من أجل التفقه وأخذ الأحكام منه مباشرة، كما تضمنه صدر الآية، بل أوجب النفر على بعض منهم، كما قال تعالى [ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةُ ] وعلى ذلك يجب على ذلك البعض بعد أن يكمل تعلمه للإحكام أن يرجع إلى قومه ويبلغهم بها كما أشارت الآية الكريمة [ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ] وإذا أنذروهم وجب عليهم القبول منهم لما ذكره ذيل الآية الكريمة [ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ] من لزوم الحذر على المنذَرين، وحيث من المعلوم عدم وجوب الإنذار على المتفقهين النافرين بصورة جماعية، بحيث يكون إنذارهم

ص: 160


1- آية 122 من سورة التوبة

بنحو المجموع بل كل منهم ينذر على حده، وكل منهم ينذر قوماً، وهذا معناه حجية إخبار الواحد منهم بالحكم الشرعي، ولزوم الحذر على المخبَرين، وهذا معناه حجية الخبر الذي يخبر به الواحد منهم , وإلا كان وجوب الإنذار من لزوم لإتباع المنذر لغواً.

وإن كان في دلالتها مناقشات يطول الكلام فيها عن هذا المختصر.

ومنها: قوله تعالى [ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ](1)

ووجه الاستدلال بالآية الكريمة: أن تحريم الكتمان لما انزل الله من البينات يلزمه لزوم قبول تلك البينات بعد بيانها، وإلا كان تحريم الكتمان لاغياً، وحيث حرم الكتمان فقد وجب البيان، وإذا وجب البيان وجب الأخذ به، ولو كان المخبر به واحداً، وإلا كان وجوب البيان لاغياً.

وفيها أيضاً مناقشات لا تليق بهذا المختصر

ومنها: قوله تعالى [ وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنُ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةُ لِلَّذِينَ أَمِنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابُ الْيَمُّ ](2)

ووجه الاستدلال بالآية الكريمة: أن بعض المنافقين الذين كانوا يؤذون النبي (صلى الله عليه وآله) بذمه وقول السوء فيه لما أخبروا بأنه سيصل ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله)، قالوا للمؤمنين بان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كالأذن يصدق كل ما يقال له ويسمعه، فإذا سألنا عن ذلك أنكرنا وحلفنا له بعدم قولنا وسوف يصدقنا بذلك، فنزلت الآية الكريمة لبيان أن تصديق النبي (صلى الله عليه وآله) لهم ليس تصديقاً حقيقياً بل هو تصديق ظاهري، وهذا التصديق خير لهم؛ لأنه لو لم يصدقهم لعاقبهم على

ص: 161


1- آية 159 من سورة البقرة
2- آية 61 من سورة التوبة

أقوالهم، نعم هو يصدق ويؤمن بقول الله تعالى وأقوال المؤمنين، وتصديقه لهم هو التصديق الحقيقي دون تصديق أقوالكم، وهذا يدل على لزوم تصديق المؤمن وحسن الاعتماد على ما يخبر به دون الفاسق، وإلا لو لم يكن تصديق خبر المؤمن حسناً لما مدح الله تعالى نبيه بذلك، وكذلك هو مدح للمؤمنين من حيث إن كلامهم موجب للتصديق عند النبي (صلى الله عليه وآله) دون خبر المنافقين، وهو ما أوجب فرقاً بين خبر المنافق وخبر المؤمن.

وإن كان فيها مناقشات لا يسعها هذا المختصر.

هذه عمدة ما ذكروه من الآيات الدالة وإن كانت هناك آيات أخر ذكرت في كلامهم لا مجال للتعرض لها روماً للاختصار.

الثاني : السنة

والمراد ليس الاستدلال بحجية الأخبار على حجيتها حتى يلزم إشكال الدور عليهم، لأنها أيضاً أخبار أحاد والكلام في حجيتها، بل مرادهم الاستدلال بأخبار متواترة توجب القطع بحجية الخبر، وعلى ذلك يكون القطع هو الحجة، فيكون الاستدلال بالقطع من طريق الأخبار المتواترة وهي روايات كثيرة يضيق مختصرنا عن استيعابها وذكر وجوه الاستدلال بها، وسنتعرض لذكر بعضها على طائفتين تاركين من يرغب الإطلاع على المزيد للمطولات.

الطائفة الأولى: ما ورد في كيفية العمل مع تعارض الأخبار

حيث يظهر من هذه النصوص المفروغية عن العمل بالخبر وأن المانع من العمل بالخبر هنا هو التعارض، فهي وإن اختلفت في الحكم في كيفية العمل حال التعارض لكن هذا من جهة المفروغية من العمل بالخبر، وإلا لكان الأجدر بهذه الروايات طرح العمل بهذه الأخبار لو كان نفس العمل بالأخبار في غير حال التعارض ليس حجة ففي حال التعارض يكون أولى، ولذا ذكرت

ص: 162

كيفية العمل بالأخبار حال التعارض، أما مع عدم التعارض فالعمل بها يكون متعيناً كما هو ظاهرها.

ثم يظهر منها العمل بالأخبار المتعارضة غير المقطوع بصدورها؛ لأن المقطوع بصدوره لا يتعارض مع غير المقطوع؛ لأنه مقدم عليه حال التعارض، ولا مع المقطوع بصدوره لزوال القطع غالباً بالصدور مع العلم بوجود المعارض، فلابد أنها واردة في الأخبار غير المقطوع بصدورها، وهي أخبار الآحاد المظنونة منها:

مقبولة عمر بن حنظلة، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى أن قال: فإن كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما واختلف فيهما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم ؟ [ حديثنا ] فقال الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر قال: فقلت: فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل [ ليس يتفاضل ] واحد منهما على صاحبه ؟ قال: فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فان المجمع عليه لا ريب فيه ... إلى أن قال: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم ؟ قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة، قلت : جعلت فداك إن رأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم بأي الخبرين يؤخذ ؟ فقال: ما خالف العامة ففيه الرشاد، فقلت: جعلت فداك فان وافقهما الخبران جميعا ؟ قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر، قلت:

ص: 163

فان وافق حكامهم الخبرين جميعا ؟ قال: إذا كان ذلك فأرجئه حتى تلقى إمامك فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات.(1)

وصحيحة المعلى بن خنيس، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ ؟ فقال: خذوا به حتى يبلغكم عن الحي فان بلغكم عن الحي فخذوا بقوله، قال: ثم قال أبو عبد الله عليه السلام إنا والله لا ندخلكم إلا فيما يسعكم.(2)

وصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: قال الصادق عليه السلام: إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه.(3)

الطائفة الثانية: وهي النصوص التي يبدو منها لزوم العمل بالأخبار

كصحيحة معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل راوية لحديثكم يبثُّ ذلك في النّاس ويسدّده في قلوبهم وقلوب شيعتكم، ولعلّ عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرّواية أيّهما أفضل ؟ قال: الراوية لحديثنا يشدّ به ( يسدّده في ) قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد.(4)

وصحيحة جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سارعوا في طلب العلم فوالذي نفسي بيده لحديث واحد تأخذه عن صادق خير من الدنيا وما حملت من ذهب وفضة الحديث.(5)

ص: 164


1- وسائل الشيعة كتاب القضاء باب9 من أبواب صفات القاضي ح1
2- وسائل الشيعة كتاب القضاء باب9 من أبواب صفات القاضي ح 8
3- وسائل الشيعة كتاب القضاء باب9 من أبواب صفات القاضي ح29
4- وسائل الشيعة كتاب القضاء باب 8 من أبواب صفات القاضي ح1
5- وسائل الشيعة كتاب القضاء باب 8 من أبواب صفات القاضي ح68
الثالث : الإجماع

ويقصد به الإجماع من الشيخ الطوسي وغيره ،ولكن قد تقدم في أدلة عدم الحجية دعوى الإجماع من المرتضى وابن إدريس على عدم الحجية، فتكون دعوى الإجماع على الحجية معارضة لتلك الدعوى فيتساقطان.

وقد يقصد بالإجماع العمل من الجميع بالخبر من دون نكير أو تردد، ويسمى الإجماع العملي، مقابل الإجماع القولي المتقدم

ويعرف ذلك من تتبع سيرة العلماء في مقام العمل والفتوى والاستدلال، فكثيراً ما تكون هناك فروع فقهية لا دليل عليها سوى خبر واحد ويفتون بذلك على طبقه من دون تردد منهم أو نكير من أحد، وقد يمكن القطع بكون ذلك منهم اعتمادا على سيرة عملية متصلة بعصور المعصومين (عليهم السلام)، ولو كان هناك ردع من المعصوم (عليه السلام) لظهر وبان، ولو لم تكن هناك سيرة على العمل بأخبار الآحاد لاضطرب نظام الفتوى عندهم كثيراً، لعدم تيسر الأخبار المتواترة والقطعية في جميع الفروع الفقهية، وعدم وجود وسيلة أخرى لأخذ الفتاوى غير الأخبار، وعليه يكون هذا الإجماع حجة لاتصاله بعصر المعصومين (عليهم السلام).

المبحث الخامس الإجماع
اشارة

اشتهر بين الأصوليين أن الإجماع هو أحد الأدلة الأربعة التي يستنبط بها الأحكام الشرعية، لكن الظاهر عدم تمامية ذلك بإطلاقه بين الإمامية

فالمراد بالإجماع الحجة عندنا هو إحراز قول المعصوم (عليه السلام) من خلال كلام المجمعين، فالإجماع بنفسه بما هو إجماع لا قيمة له عندنا، نعم إذا كشف عن رأي المعصوم (عليه السلام) يكون حجة، فالحجة بالحقيقة هو قول المعصوم (عليه السلام) لا نفس الإجماع، فهو كاشف عن حجة وليس هو الحجة، ولذا

ص: 165

كان إجماع جماعة قليلة يحرز دخول الإمام (عليه السلام) معهم هو الحجة، وإجماع جماعة كثيرة مع عدم إحراز دخول الإمام (عليه السلام) معهم ليس بحجة.

وقد قسم الأصوليون الإجماع في إلى قسمين:

الأول : الإجماع المحصل

والمراد به الإجماع الذي يحصله الفقيه بنفسه، بحيث يحرز أن قول الإمام (عليه السلام) موافق لقول للمجمعين، وذكر الأعلام طرقا لتحصيل قول الإمام (عليه السلام) من الإجماع وإن كانت لا تخلو من مناقشات

الطريق الأول: العلم برأي الإمام (عليه السلام) بطريق الحس، كالسماع منه (عليه السلام) ولو في ضمن مجموعة قد لا يتميز هو (عليه السلام) من بينها بشخصه، لكن يحرز وجوده مع المجمعين، ويحرز أن هذا الحكم صادر منه، كما إذا تتبع أقوال المجمعين في عصر فيه الإمام (عليه السلام) وحصل له العلم بأن رأي الإمام (عليه السلام) معهم لكن لم يعلمه بعينه، أو ينقل بالتواتر رأي المجمعين مما يحرز كون الإمام (عليه السلام) أحدهم، أو تقريره (عليه السلام) للمجمعين في حضرته مع اطلاعه على إجماعهم وإمكانه الرد ولم يرد على الحكم الصادر من المجمعين، فيحرز أنه موافق لهم بالحكم المجمعين عليه، لكن هذه الطريقة قاصرة على زمن الحضور مع المعصوم (عليه السلام)، أما في العصور المتأخرة كعصر الغيبة فلا يمكن تحصيل مثل هذا الإجماع.

ثم إن هذا الإجماع لا يضر فيه وجود مخالف معلوم النسب وأن كانوا كثيرين، نعم لو كان المخالف مجهول النسب فإنه يخدش بالإجماع لاحتمال كونه هو الإمام (عليه السلام).

الطريق الثاني: العلم برأي الإمام (عليه السلام) بطريق الحدس، وهو القطع بأن رأي المجمعين مأخوذ من الإمام (عليه السلام) ولو من باب حسن الظن بالمجمعين، بحيث يتيقن أن إجماعهم مأخوذ يداً بيد من إمامهم (عليه السلام)، أو من باب كون

ص: 166

المسألة ابتلائية حتى في عصر المعصوم (عليه السلام) ولم يظهر مخالف مع كثرة العمل بها والحاجة إليها.

لكن يشرط هنا عدم وجود المخالف في جميع العصور، سواء كان معلوم النسب أو مجهوله؛ لأنه يخدش في تمامية الإجماع

الطريق الثالث: العلم برأي الإمام (عليه السلام) أيضاً بطريق الحدس لكن بقاعدة اللطف، وذلك أنه إذا أجمع العلماء على حكم وكان هذا الحكم على خلاف الحكم الشرعي الواقعي فاللازم على الإمام (عليه السلام) بأن يوجد الخلاف بينهم لامتناع اجتماع الأمة على الخطأ بحضوره، لوجوب وصول الحكم الشرعي الصحيح للأمة.

وذلك بما أن قاعدة اللطف اقتضت وجود الأمام (عليه السلام) وعصمته من أجل تبليغ الأحكام، فكذلك قاعدة اللطف تقتضي بيان الحق إذا اتفقت الأمة على الحكم الخطأ، وعدم تبليغه ذلك إخلال منه (عليه السلام) بأعظم مسؤولياته.

هذا الإجماع الذي يمكن للفقيه تحصيله بنفسه ولذا سمي محصلاً.

الثاني : الإجماع المنقول

وهو الإجماع الذي لا يحصله الفقيه بنفسه، بل ينقل إليه ممن حصله، سواء كان النقل من المحصل مباشرة أم بالواسطة، والواسطة قد تكون متواترة

وقد تكون خبر واحد، وعلى ذلك فإذا كان النقل بالتواتر يكون حجة؛ لأن التواتر يوجب القطع والقطع حجة ذاتية، وإن كان بخبر الواحد كان الكلام في حجيته مبتنياً على القول بحجية خبر الواحد.

المبحث السادس الشهرة
اشارة

وهي بالاصطلاح كل مسألة فقهية لم تبلغ حد الإجماع بحيث يكثر القائلين بها، بل يكون هناك قول نادر مقابلها، وذكروا أن الشهرة على قسمين:

ص: 167

الأول : الشهرة في الرواية

وهو شيوع الرواية لكن مع عدم بلوغها حد التواتر، ولا يلزم شيوع العمل بها، بل مجرد شهرتها بينهم ووجودها في الكتب الروائية، وسيأتي الكلام أن شاء الله تعالى في باب التعارض أن هذه الشهرة في الخبر هل تكون مرجحة له على غير المشهور وإن كان المشهور ضعيف السند وغيره قوي السند أم لا.

الثاني : الشهرة في الفتوى

وهو شيوع فتوى من الفتاوى بين الأعلام لم تبلغ درجة الإجماع، بل يوجود مخالف نادر وهي على نحوين:

الشهرة العملية: وهي أن يعلم بأن مستند الفتوى المشهورة هو رواية معلومة بين أيدينا، وسيأتي أيضاً في باب التعارض إن شاء الله تعالى أن هذه الشهرة هل تكون موجبة لجبر الخبر الضعيف سنداً إذا كان المشهور قد استند إليه في الفتوى أم لا.

الشهرة الفتوائية: وهي عدم العلم بمستند فتوى المشهور، بل هناك فتوى مشهورة بين الأعلام، وقد يوجد خبر موافق للشهرة لكن لم يحرز اعتماد المشهور عليه في الفتوى، أو لم يوجد خبر أصلاً، وحينئذٍ تكون الفتوى فقط مشهورة بين الأصحاب، فهل هي حجة مع عدم العلم بمستندها أم لا، والأعلام بين قائل بحجيتها وبين منكر.

وقد ذكر القائلون بحجيتها أدلة على دعواهم لا تخلو من مناقشات:

الأول: حجية الشهرة تستفاد من أدلة حجية خبر الواحد لكن بدليل الأولوية، تصوير الدليل أن الظن الحاصل بالحكم من الشهرة أقوى من الظن الحاصل من خبر الواحد عادة، وحيث إن خبر الواحد إنما صار حجة لإفادته

ص: 168

الظن، وعلى ذلك تكون الشهرة أولى من خبر الواحد بالحجية لأن الظن الحاصل منها أقوى.

لكن تمامية ذلك يبتني على كون حجية خبر الواحد من جهة إفادته الظن لا أن حجيته مستفادة من أدلة خاصة كما هو المشهور.

الثاني: التمسك بعموم التعليل الوارد في آية النبأ، حيث أنها قالت [أن تُصِيبُوا قَومَاً بِجِهَالَةِ](1)،والذي يفهم من هذا التعليل أن المانع من قبول خبر الفاسق ولزوم التبين هو إصابة القوم بجهالة، فإذا أمن الإصابة من الجهالة فلا مانع من قبول الخبر وعدم الحاجة للتبين، والشهرة في الفتوى بين الأعلام مؤمن من الإصابة بالجهالة.

لكن تمامية ذلك يبتني على أن يكون التمسك بعموم التعليل، وهذا تمسكاً بنقيض العموم لا بنفسه؛ لأن العموم هو إصابة القوم بجهالة، ونقيضه عدم الإصابة فهو تمسك بالنقيض لا بنفس العموم، ولا دليل على حجية التمسك بنقيض عموم التعليل، لأن عموم التعليل هو المنع من الأخذ بخبر الفاسق من جهة خشية الإصابة وهو لا يعني جواز الأخذ بكل ما لا يخشى إصابته، فالآية تدل على أن عموم الإصابة بجهالة مانع من الأخذ بما يخشى إصابته لا أن عدم الإصابة مقتضي للحجية بحيث يكون كل ما لا يخشى إصابته يعمل به.

الثالث: الاستدلال بالأخبار التي يبدو منها حجية المشهور، كمرفوعة زرارة {قلت جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيهما نعمل، فقال (عليه السلام) خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر قلت يا سيدي هما معاً مشهوران مأثوران عنكم}(2)ووجه الاستدلال بهذه الرواية

ص: 169


1- آية 122 من سورة البقرة
2- مستدرك الوسائل كتاب القضاء باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 2

من جهة قوله (عليه السلام) خذ بما اشتهر بين أصحابك بناء على أن المراد به كل مشهور بما هو مشهور لا خصوص الخبر المشهور حتى يعم الشهرة بالفتوى.

ولكن كما يحتمل هذا من معنى الشهرة يظن أن المراد به خصوص الخبر بقرينة السؤال عن الخبر لا عن كل مشهور فلا يصلح للتعميم

نعم يمكن أن يقال حتى لو قيل بخصوصيتها بالخبر فيستفاد العموم للشهرة من جهة أن العبرة بالأخذ بالخبر هو كونه مشهوراً وهذا معناه أنها علة الحجية فيدور الحكم بالحجية معها لا بخصوص الخبر.

وهو مردود بما أنه تقدم السؤال عن الخبر فيكون الحجة خصوص الخبر بما هو مشهور فيكون العلة الخبر المشهور لا مجرد الشهرة، فلا يستفاد منه عموم التعليل لكل مشهور.

وكمقبولة ابن حنظلة حيث قال (عليه السلام) {ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه}(1).والكلام في دلالتها عين الكلام في دلالة المرفوعة.

المبحث السابع السيرة
اشارة

المراد من السيرة المبحوث عنها في المقام أمران:

الأول : سيرة العقلاء

ويعبر عنها في كلماتهم ببناء العقلاء، والمراد بها هي سيرتهم على أمر بحسب ارتكازياتهم كعقلاء من دون مؤثر خارجي من خوف، أو عادة، أو حب، أو عاطفة، أو غيرها من المؤثرات على طبيعة العقل.

وهذه السيرة تعتبر بذاتها حجة، ولا حاجة إلى إمضائها لأنها بنفسها

ص: 170


1- وسائل الشيعة كتاب القضاء باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 1

مقتضي للعمل عليها؛ لأن مقتضى الأصل العقلي هو لزوم متابعتها والعمل عليها في مقام التعذير والتنجيز، نعم لابد من عدم إحراز ردع الشارع عنها فهي لا تحتاج في إثبات حجيتها إلى الدليل فحجتها ذاتية كما العلم، بل يكفي عدم العلم بالردع عنها في جواز العمل بها، نعم تفارق العلم بإمكان ردع الشارع عنها دون العلم.

الثاني : سيرة المتشرعة

ويقصد بها سيرة أهل الشريعة من المسلمين بما هم مسلمين على لزوم فعل شئ أو تركه من باب التدين والالتزام بالشريعة، وهذه السيرة لا تكون حجة بذاتها ما لم يحرز اتصالها بعصور المعصومين (عليه السلام) حتى تكتسب حجيتها من فعل المعصوم (عليه السلام) أو تقريره، لاحتمال نشوئها من عادة، أو عرف خاص، أو طقس خاص، أو حب، أو عاطفة، أو أي مؤثر آخر، بحيث لم تكن مستندة لحكم الشارع وسيرته.

وأقصى ما تدل عليه هذه السيرة جواز العمل بما جرت عليه السيرة، وعدم لزوم ما جرت السيرة على تركه، من دون أن يكون لها ظهور في إثبات وجوب العمل أو حرمته بل حتى كراهته واستحبابه لا تدل عليه.

هذا تمام الكلام في الباب الأول فيما أدعي حجيته ويأتي الكلام في الباب الثاني.

ص: 171

الباب الثاني الأصول العملية

اشارة

المراد بالأصول العملية هي الوظائف المقررة للجاهل بالحكم الشرعي حين العمل، سواء كانت بحكم العقل، أو بحكم الشرع، من اجل عدم التحير للمكلف في مقام العمل.

من المعلوم أن لله تعالى حكماً لكل واقعة، فعلى المكلف الفحص في الأدلة للوصول للحكم الشرعي الواقعي للخروج عن عهدة التكليف، ولو كان الفحص من جهة المجتهد للوصول للحكم والمكلف يكون مقلداً للمجتهد في ذلك الحكم، فإذا فحص المكلف أو المجتهد ولم يجد حكماً في واقعة ما، إما لضياع الدليل، أو لقصوره عن المورد، أو لكونه أمرا مستجداً عن عصر التشريع فلا نص فيه من الشارع، مع حاجة المكلف للعمل، فلابد من وجود وظائف يعمل عليها المكلف في هذه الموارد من أجل إفراغ ذمته، وهذه الوظائف قد تكون عقلية، أي يحكم بها العقل لعدم وجود حكم شرعي، أو قد تكون شرعية أي مأخوذة من الشارع للعمل عند فقد الدليل أي يكون فيها نصوص تبين كيفية العمل حين التحير وفقد الدليل، والأصول المبحوثة في كتبهم أربعة.

البراءة، والاحتياط، والتخيير، والاستصحاب.

وعلى ذلك يكون مورد العمل بهذه الأصول هو الشك بالحكم وعدم وجوده، ولذا لا يجوز العمل بها مع وجود الدليل؛ لأنها إنما كانت معذرة للمكلف مع فقد الدليل، وأما مع وجوده لا يحرز تعذيرها.

ص: 172

ومن ثم جرى الكلام في موارد العمل بهذه الأصول، فقد ذكروا أنه الشك في الحكم تارة يكون للشك في أصل التكليف به من حيث الحرمة أوالوجوب،كالشك مثلا في حكم شرب التتن، حيث انه أمر مستحدث فيكون مورداً للبراءة، وتارة أخرى يكون الشك في المكلف به ، كمن قطع مسافة وشك في بلوغ الحد الموجب للقصر من جهة الشك في مقدار المسافة الموجبة للقصر، فيكون مورداً للاحتياط بالجمع بين القصر والتمام، وتارة أخرى يكون الشك في تعيين الحكم مع فرض العلم بورود التكليف به مع عدم إمكان الجمع بين الحكمين المشكوكين، كدوران الأمر بين وجوب شيء وحرمته، مثلا إذا شك المكلف بوجوب شرب الدواء لنفعه أو حرمته لضرره، فهذا مورد التخيير لعدم إمكان الجمع، وتارة أخرى يكون الشك في الحكم مع وجود حالة سابقة له لها حكم شرعي وهو مورد الاستصحاب، وعلى ذلك لابد من إفراد لكل أصل مبحثا خاصاً به فيكون الكلام في مباحث أربعة:

ص: 173

المبحث الأول البراءة

اشارة

قد يحصل للمكلف الشك بالتكليف، إما من جهة عدم وصوله له لعدم وجود دليل واضح يدل عليه، أو كونه أمرا مستحدثاً لا حكم له في النصوص، أو وجود النص لكنه مجمل لم يتضح منه حكم واضح، والشك تارة يكون من جهة الحكم، كما إذا شك في حكم شرب التتن هل هو حرام أم لا، أو شك في وجوب قراءة دعاء رؤية الهلال عند رؤيته، ويعبر عنه بالشك في الشبهة الحكمية. وأخرى يكون من جهة الموضوع كما إذا علم بحرمة شرب المسكر ولكن شك في أن العصير المأخوذ من الفراولة مثلاً مسكر أو لا، وكما إذا علم أن الحيوان غير ذي النفس السائلة ميتته طاهرة ولكن شك في أن الجرذ له نفس سائلة أم لا، أو شك أن قوله تعالى في الآية الكريمة [حَتَّى يَطهُرنَ](1)مشدد أو لا، بناء على الفرق بين التشديد في [يَطَّهْرنَ] من عدم جواز الوطء للحائض إلا بعد الغسل، والتخفيف [يَطْهُرنَ] جوازه بعد النقاء من الحيض قبل الغسل، ويعبر عنه الشك في الشبهة الموضوعية.

فالمشهور بين الأصوليين الرجوع للبراءة في كلتا الشبهتين، والمعروف عن أكثر الأخباريين وجوب

ص: 174


1- آية 223 من سورة البقرة

الاحتياط في الشبهة الحكمية التحريمية، كما إذا شك في حرمة شرب التتن فاللازم ترك شربه، ونقل عن الاستربادي وجوب الاحتياط حتى في الشبهة الحكمية الوجوبية، كما إذا شك في وجوب نافلة العشاء مثلاً فيجب الإتيان بها، أما الشبهة الموضوعية فالظاهر عدم الخلاف من أحد في الرجوع للبراءة فيها.

وعلى ذلك وقع الكلام بين الأعلام أولا فيما هو مقتضى حكم العقل في هذه الصورة، ويعبر عنه مقتضى الأصل الأولي العقلي، وثانيا ما هو حكم الشارع في هذه الصورة، أي هل هناك أدلة من الشارع على ذلك، ويعبر عنه الحكم الثانوي الشرعي بحيث يُخرَج به عن حكم العقل الأولي.

أولاً : مقتضى الأصل الأولي العقلي:

قد تظافرت كلماتهم على أن مقتضى حكم العقل هو البراءة، وذلك لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، وهذا الحكم من العقل معناه السعة للمكلف مع الشك في التكليف مادام لم يصله حكم من الشارع، فإذا شك في الوجوب فالأصل عدمه، وإذا شك في الحرمة الأصل عدمها، ولا فرق بين الشبهةالحكمية

والموضوعية ، ومع ذلك فقد استدلوا لحكم العقل بالبراءة بالكتاب والسنة.

أما الكتاب فآيات كريمة لا تخلو من مناقشات نذكر تلك الآيات الكريمات ونحيل الطالب في مناقشاتها للمطولات:

الآية الأولى: قوله تعالى: [ وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ](1)بناءً على أن المراد من بعث الرسول هو وصول البيان منه للمكلفين، ليكون بيانه حجة عليهم ومنجزاً للتكليف في حقهم، لا مجرد كونه رسولاً مبعوثاً ولو من دون أن يصل بيانه للمكلفين، وحينئذٍ يكون مضمون الآية موافق للقضية العقلية وهو قبح العقاب بلا بيان.

الآية الثانية: قوله تعالى: [ رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ

ص: 175


1- آية 15 من سورة الإسراء

عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ](1)والمراد من الآية الكريمة أن الله تعالى بعث الرسل لتكون له الحجة على عباده، لأنهم سوف يكونوا مبلغين لأحكامه للمكلفين، فتكون الحجة له عز وجل على المكلفين، ولولا بعث الله للرسل لكانت الحجة للناس على الله تعالى، وهذا معناه أن الأصل الأولي للناس هو البراءة، لو لم يبين لهم الحكم ولذا تكون الحجة لهم لو لم يبعث الله الرسل، ولو كان الأصل الأولي الاحتياط لكانت الحجة لله على كل حال، وكان العبد يستحق العقاب حتى لو لم يبعث الله تعالى الرسل؛ لأنه المفروض مع الشك يجب عليه الاحتياط، وهو الإتيان بالأمر المشكوك، وهذه الآية أيضاً موافقة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان العقلية.

الآية الثالثة: قوله تعالى: [ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ](2) بناء على أن المراد من البينة هو الحكم وما شابهه كالأدلة والرسل،فتكون الآية الكريمة دالة على أنه إذا لم تكن هناك بينة يعني وصول للحكم للمكلف فلا تعذيب ولا هلاك، وهي موافقة لقضية العقل بقبح العقاب بلا بيان.

الآية الرابعة: قوله تعالى: [ وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا ](3)بناء على أن بعث الرسول ليس لمجرد كونه رسولاً مبعوثا كما تقدم، بل لابد أن يكون مبلغاً للأحكام وموصلاً لها للناس حتى يمنع عنهم الهلاك، وإلا مجرد بعثه بدون تبليغ الأحكام لهم لا يمنع عنهم العذاب، ثم عقبها بقوله تعالى: [ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا ] إذا كان المراد من الآيات هي الأحكام، ولو بكونها جزءاً من الآيات، وهذا يعني أن مهمة الرسول منع العذاب عن الناس الذين يرسل إليهم بتلاوة الأحكام

ص: 176


1- آية 165 من سورة النساء
2- آية 42 من سورة الأنفال
3- آية 59 من سورة القصص

عليهم، فمن لم يتل له حكم لا يستحق العذاب، وهو عبارة أخرى عن قاعدة العقل بقبح العقاب بلا بيان.

وهناك آيات أخرى كثيرة تذكر في المطولات

وأما السنة فأحاديث كثيرة أيضاً لا تخلو من مناقشات نذكر منها بعض ونترك الباقي والمناقشات للكتب الموسعة.

الحديث الأول: حديث الرفع المشهور

المروي عن الصدوق بسند صحيح عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة.(1)

ومما رفعه الله تعالى عن عباده في هذا الحدسث ما لا يعلمون، والمراد ما لا يعلمون به من الأحكام، لأنه هو الذي فيه المنة عليهم، ومعنى الرفع هنا ليس عدم وجود ما لا يعلمون أي ليس الرفع التكويني، أي ليس أن الله تعالى يرفع الحكم الذي لا يعلمون به تكويناً فلا يكون موجوداً، بل لابد أن يكون المراد رفع الأثر المترتب عليه من المؤاخذة والعقاب ما داموا لم يعلموا به، وإن كان العقاب على الفعل المعين فعلا لو كان حراماً أو تركاً لو كان واجباً ثابت في علمه تعالى، لكن حيث كان المكلف لا يعلم بكونه حراماً وفَعَله أو لا يعلم بكونه واجباً وتركه فلا يؤاخذ على ذلك، وهو موافق لحكم العقل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

لكن في الحديث كلاماً طويلاً فصله الأعلام في محله لا مجال لاستقصائه في هذا المختصر

ص: 177


1- التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 353 و الخصال - الشيخ الصدوق - ص 417

الحديث الثاني: حديث الحجب

كما رواه الصدوق عن أبي الحسن زكريا بن يحيى، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما حجب الله علمه عن العباد، فهو موضوع عنهم(1).

بناءً على أن المراد من ما لم يعلمه العباد من الحديث هو ما لا يعلموه من الأحكام وهو الذي حجبه الله عنهم لأي سبب كان ولو لعدم وصوله لهم، وما حجبه عنهم موضوع عنهم، والموضوع عنهم هو وزره، وتبعته، والمؤاخذة عليه، والعقاب، وذلك لأنهم لا يعلمون به، وهذا هو معنى البراءة، وهو مقتضى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

الحديث الثالث: ما ورد في الموثق أو الصحيح عن حمزة بن الطيار

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: اكتب فأملى علي: إن من قولنا إن الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم، ثم أرسل إليهم رسولا وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى... وما أمروا إلا بدون سعتهم، وكل شئ أُمر الناس به فهم يسعون له، وكل شئ لا يسعون له فهو موضوع عنهم... إلخ(2).

بناء على أن الله إنما يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم، فما لم يأتهم فهم غير محاسبين عليه، وهو ما لم يصلهم من الأحكام، لعدم الاحتجاج به عليهم، وهذا موافق لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.

وهناك أحاديث كثيرة ذكرها الأعلام في كتبهم لا مجال لاستقصائها في هذا المختصر.

ثانياً : مقتضى الأصل الثانوي الشرعي
اشارة

وهنا إذا قامت الأدلة على وجوب الاحتياط في حالة الشك بالحكم، فإنها تكون رافعة لما تقدم من الأدلة الدالة على قبح العقاب بلا بيان، لصلوح هذه

ص: 178


1- وسائل الشيعة (الإسلامية) - الحر العاملي - ج 18 - ص 119 عن التوحيد والكافي
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 164

النصوص للبيان بوجوب الاحتياط، فتكون قاعدة قبح العقاب بلا بيان قاصرة عن المورد، لوجود البيان بوجوب الاحتياط مع عدم الحكم، وتكون رافعة لموضوع الحكم العقلي الأولي بالبراءة، وهنا لابد من ملاحظة الأدلة التي ذكرت في المقام هل تدل على البراءة كما دل عليها حكم العقل أم تدل على الاحتياط، وقد استدل للبراءة الشرعية بأدلة:

الأول : الكتاب المجيد

وقد أستدل منه بآيات نذكر منها آيتين:

الآية الأولى: قوله تعالى: [ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّاَ مَا آتَاهَا ](1) بناءً على أن المراد من الإتيان هو وصول الأحكام الشرعية للمكلف، وعلى ذلك فهي تدل على أن الله تعالى لا يكلف الإنسان بما لم يصله من التكاليف، فلا يحاسبه على تركها لو كانت واجبة، أو فعلها لو كانت محرمة، وحيث إن المفروض أن المراد بعدم التكليف ليس رفعه في عالم الواقع، وأن لا يكون هناك تكليف أصلاً، لما هو المتفق عليه بين الإمامية من الاشتراك في الأحكام بين العالم والجاهل، فلابد أن يكون المراد من عدم التكليف هو عدم كونه منجزاً في حق المكلف الجاهل، أي لا يحاسب عليه وإن كان الحكم موجود في الواقع لكنه معذور بعدم امتثاله لعدم وصوله له، وذلك مقتضى البراءة.

الآية الثانية: قوله تعالى: [ وَ ما كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ](2) بناءً على أن الله لا يخذل ولا يضل قوماً بعد هدايتهم في الدنيا إلا إذا بَيّن لهم الحق، فإذا كان الله تعالى لا يخذل عبده في الدنيا إلا بعد البيان، ففي الجزاء الأخروي أولى بأن لا يؤاخذ

ص: 179


1- آية 7 سورة الطلاق
2- آية 115 سورة التوبة

الله العبد على ما لم يبين له من الأحكام ولا يحاسبه على عدم امتثالها، وهذا حكم من الشارع بالبراءة من العقاب إذا لم يصل الحكم للمكلف.

وفي دلالة الآيتين مناقشات مذكورة في المطولات

الثاني : السنة

وقد أستدل بأحاديث منها:

الأول: حديث الرفع المتقدم ذكره(1)حيث انه كما تقدم دل على رفع ما لم يعلموا به، ومعنى ذلك أنهم لا يؤاخذون على ترك العمل بما لا يعلمون، ولا يجب عليهم الاحتياط، وفي معنى الرفع كلام طويل بين الأعلام لا بأس بالرجوع لما ذكروه لزيادة الاطلاع.

الثاني: حديث الحجب المتقدم ذكره أيضاً(2)فهو ظاهر في أن الحكم المحجوب عن العباد وهو غير الواصل موضوع عنهم التكليف به، فهو أيضاً يدل على عدم وجوب الاحتياط.

الثالث: قوله (عليه السلام) {كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي}(3) وقوله (عليه السلام) {الأشياء مطلقة ما لم يرد عليك أمر ونهي}(4) بناءً على أن المرادمن الورود في الحديث العلم بالحكم ووصوله للمكلف، ولا يكفي صدوره من الحاكم وعدم وصوله للمكلف وإن وصل لغيره، بل لابد من وصوله له حتى يصدق الورود، أما إذا كان المفهوم من الورود مجرد الصدور من الحاكم لا الوصول للمكلف فلا يصلح الحديث للاستدلال.

الرابع: نصوص قاعدة الحل كصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال {كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف

ص: 180


1- ص ()
2- ص ()
3- وسائل الشيعة باب 12 من أبواب صفات القاضي ح60
4- مستدرك الوسائل باب 12 من أبواب صفات القاضي ح6

الحرام منه بعينه فتدعه}(1)ومجموعة من الأحاديث الأخرى التي يستدل بها على قاعدة الحل، بناءً على أن كل ما لم يعلم حرمته فهو حلال، ولو من جهة عدم وجود الدليل على الحرمة، لعدم تقييد النص بعدم صدور الأمر، بل هو مغيى بالمعرفة، ومعناها وصول الدليل، ولو كان صادراً قبل ذلك لكنه لم يصل للمكلف ولم يعرفه.

وإن كان في دلالة مناقشات

الثالث : الإجماع

وهو دعوى اتفاق العلماء على قبح العقاب على مخالفة التكليف إذا لم يصل للمكلف، أو دعوى اتفاق العلماء على أن الحكم الشرعي المجعول من الشارع عند جهل المكلف بالحكم الواقعي وعدم وصوله هو الإباحة.

وقد نوقش هذا الإجماع بمناقشات أهمها أن هذا الاتفاق على حكم عقلي لا حكم شرعي ليعرف منه رأي المعصوم فكيف يحرز منه الحكم الشرعي ويكون إجماعا تعبديا حجة.

الرابع : حكم العقل

وهو حكم العقلاء بقبح معاقبة المولى لعبده على أمر لم يبينه له فعلاً أو تركاً

لكنهم ذكروا أنه إنما يتم هذا الحكم من جهة العقل إذا لم تتم الأدلة التي ذكروها بوجوب الاحتياط عند الجهل حيث يعد ذلك بياناً من الشارع، وعليه لا ينفع حكم العقل في المورد لأن حكم العقل بقبح العقاب مع عدم وصول البيان وأدلة وجوب الاحتياط كافية في البيان لو تمت.

الخامس : الاستصحاب
اشارة

ويستدل به بلحاظين:

ص: 181


1- وسائل الشيعة باب 4 من أبواب ما يكتسب به ح 1

اللحاظ الأول: أن التكليف حكم مسبوق بالعدم قبل التكليف به من قبل المولى، فقبل أن يكلف به المولى لم يكن هناك حكم أصلاً، ومع الشك بالتكليف به يحكم باستصحاب عدمه؛ لأن وجود الأحكام تدريجي، فكل حكم يشك في وجوده الأصل عدمه، لسبق وجوده بالعدم.

اللحاظ الثاني: أن الحكم إنما يلزم امتثاله إذا كان فعلياً، ويكون الحكم فعلياً إذا تحقق موضوعه خارجاً، وموضوع التكليف هو البلوغ بالنسبة للمكلف، ومع عدم الموضوع فلا وجود للحكم، فإذا شك في ثبوت الحكم بعد وجود الموضوع، فيستصحب عدمه، لأنه مسبوق بالعدم قبل وجود موضوعه، وبعد وجود موضوعه يشك في وجوده فالأصل العدم.

أدلة وجوب الاحتياط:
اشارة

ومع ذلك قد استدل القائلون بوجوب الاحتياط بالدليل الشرعي الموجب للخروج عن حكم العقل الأولي بالبراءة لأنه يكون ذلك بياناً وكذلك لو تمت فهي حاكمة على أدلة البراءة الشرعية التي ظاهرها البراءة لعدم وجود البيان وتكون هذه الأدلة هي البيان، وعلى ذلك استدلوا بأدلة ثلاثة:

الأول : الكتاب المجيد

واستدلوا منه بآيات كريمة نذكر بعضها منها:

قوله تعالى: [ وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمُ ](1)بدعوى أن الحكم بالترخيص من الشارع وعدم العمل والحكم بالبراءة في حال عدم وصول الحكم دعوى بلا علم لعدم الدليل عليها من الشارع وهو تشريع محرم، فلابد من وجود دليل يدل على الترخيص في ترك الحكم مع الشك فيه، لا عدم وجود دليل.

ورد الاستدلال بها بان حكم القائل بلزوم الاحتياط أيضا حكم بلا دليل،

ص: 182


1- آية 36 من سورة الإسراء

فيكون تشريعاً محرماً أيضاً، مضافاً إلى أن القائل بالبراءة يدعي العمل بالدليل لا بدونه كما تقدم منهم.

وقوله تعالى: [ وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ](1) ومع الشك في الحكم وعدم امتثاله إلقاء للنفس بالتهلكة، لاحتمال تشريع الحكم وعدم امتثاله، واحتمال معاقبة الشارع على تركه، لاحتمال أن الحكم في حال الشك هو الاحتياط لا البراءة، أما مع الاحتياط فيسلم من العقاب.

وردَّ الاستدلال بها بأن القائل بالبراءة يرى سلامته من العقاب بذلك؛ لأنه يعمل بدليل مبرئ مانع من الوقوع في التهلكة.

وقوله تعالى: [ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ](2)وترك العمل على الحكم المشكوك خلاف التقوى، مع فرض إمكان الاحتياط، أما العمل على الحكم المشكوك احتياطاً فهو من التقوى.

ورد الاستدلال بها بأن العمل على طبق الدليل الدال على الترخيص غير مناف للتقوى

وفيها مناقشات أخرى يرجع فيها للمطولات.

الثاني : السنة

واستدلوا منها بعدة أخبار، منها:

قوله (عليه السلام) {الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة}(3)ونظيراتها وظاهرها هو التوقف والسكون وعدم المضي وهو عبارة أخرى عن عدم ارتكاب الفعل المشكوك.

ورد ذلك بأن العمل على أدلة الترخيص يخرج الأمر المشكوك عن

ص: 183


1- آية 195 من سورة البقرة
2- آية 16من سورة التغابن
3- وسائل الشيعة باب 12 من أبواب صفات القاضي ح 2 وغيره

عنوان الشبهة، ويكون معلوم الحكم فلا تشمله هذه النصوص، وأن الاعتماد على أدلة الترخيص لا يكون اقتحاماً للهلكة بل لأمر معلوم.

وقوله (عليه السلام) {أخوك دينك فاحتط لدينك}(1)أو {خذ بالحائطة لدينك}(2)وما شابه ذلك من النصوص التي يظهر منها حسن الاحتياط في الدين.

لكن ردَّ ذلك بأن حسن الاحتياط حكم عقلي وهذا إرشاد له ولذا هو يختلف باختلاف موارده فقد يكون لازما كما في موارد الشبهات قبل الفحص وقد يكون غير لازم كما في الشبهة بعد الفحص.

مضافاً إلى شمول هذه النصوص للشبهات الموضوعية مع اتفاق الجميع بعدم وجوب الاحتياط فيها.

الثالث : العقل

وقد استدل بوجهين:

الأول: حيث إنه من المعلوم وجود تكاليف على الإنسان عند بلوغه، وحيث يحتمل أن يكون مورد الشبهة واحداً من تلك التكاليف فلابد من الخروج عن عهدته بدليل، وحيث أن العلم الإجمالي بوجود تكاليف منجز ولا ينحل بالعلم ببعض التكاليف، فالعقل يحكم بلزوم الخروج عنها بالاحتياط.

وقد ردَّ هذا الوجه بأن العلم الإجمالي بوجود تكاليف واقعية ينحل بقيام الإمارات على وجود تكاليف إلزامية معلومة.

الثاني: إن العقل يحكم بأن الأصل في الأفعال غير الضرورية قبل التشريع هو الحضر، ما لم يعلم الترخيص بدليل من الشارع.

وردَّ ذلك بعدم ثبوت ذلك بل الأصل بحكم العقل في الأفعال غير الضرورية الإباحة، حتى يعلم الحضر بدليل.

ص: 184


1- السابق ح 46
2- السابق ح 42

المبحث الثاني الاحتياط

وهو مع فرض الشك في تعيين الحكم مع فرض العلم بورود التكليف به مع إمكان الجمع بين الحكمين المشكوكين وهو المعبر عنه في كلماتهم بدوران الأمر بين المتباينين، كما لو دار الأمر بين وجوب القصر أو التمام، أو الظهر أو الجمعة في عصر الغيبة.

فوقع الكلام في أنه هل تجب الموافقة القطعية، فيلزم الجمع في مقام الامتثال بين أطراف الترديد، أم يكتفى بالموافقة الاحتمالية وعدم المخالفة القطعية بالإتيان بأحد الأطراف، أم تجوز المخالفة القطعية بترك امتثالهما معاً، وسبب هذا الاختلاف بسبب مقدار تنجز العلم الإجمالي في المقام

الكلام في جواز المخالفة القطعية: وذلك لوجود علم إجمالي بوجوب أحد التكليفين لا كليهما، وعلى ذلك فكل تكليف لوحده تجري فيه البراءة؛ لأنه مشكوك التكليف به فالأصل يقتضي عدم التكليف به وعليه يجوز له ترك كلا التكليفين لأصالة البراءة في كل منهما.

لكن هذا الوجه مبتن على عدم كون العلم الإجمالي منجز للحكم كالعلم التفصيلي، وهو خلاف المشهور بينهم من أنه لا فرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي، من حيث كونه منجزاً على المكلف، إلا من جهة الإجمال والتفصيل لا غير، فمخالفة العلم الإجمالي ممنوعة كمخالفة العلم التفصيلي،

ص: 185

وحيث في المورد يوجد علم إجمالي بالتكليف لكنه غير معلوم بأي منهما تفصيلاً.

ومبتنٍ أيضاً على إمكان جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي، وقد يظهر منهم عدم جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي وذلك لوجوه:

الأول: أن أدلة العمل بالأصول كقاعدة الحل وغيرها قد جعل فيها الغاية بعدم العمل بالأصل هو العلم بالحرمة، كقوله (عليه السلام) { كل شئ هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون قد اشتريته وهو سرقة أو المملوك عندك ولعله حر قد باع نفسه أو خدع فبيع أو قهر أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة.}(1)والعلم الإجمالي بوجود الحرام كاف في رفع موضوع الأصول وهو الحلية ولا يقتصر على العلم التفصيلي وعين ذلك يجري في الوجوب.

الثاني: إن جريان الأصول في كلا طرفي العلم الإجمالي موجب للتناقض في أفراد العلم، وذلك لأن المعلوم بالإجمال هو الخصوصية التي تصلح للانطباق على كل من الفردين بنفسه، لولا الطرف الآخر فإذا أعمل الأصل في أحدهما وهو البراءة مثلاً لزم وجوب الآخر، فإذا أعمل البراءة بالآخر لزم وجوب الأول، ووجوب الآخر مناف لإعمال البراءة فيه.

الثالث: لزوم التناقض بين التعبد بالأصل والتعبد بالعلم الإجمالي؛ لأن مقتضى التعبد بالأصل أن هذا الشيء حلال حتى تعلم بأنه حرام بعينه، وحيث أنه لا يعلم بأنه بعينه حرام فيلزم كونه حلالاً بحكم الأصل، والعلم الإجمالي يعبدك بكون هذا حرام للعلم إجمالا بكونه أحد أطراف الحرام المردد الموجب للحكم بحرمته، كما مر من كون العلم الإجمالي منجز كالعلم

ص: 186


1- وسائل الشيعة باب 4 من أبواب ما يكتسب به ح 4

التفصيلي، فيلزم التناقض بين التعبد بالأصل الموجب لحلية هذا الفرد لعدم العلم بحرمته خصوصاً، والتعبد بالعلم الإجمالي الموجب لحرمة هذا الفرد للعلم بحرمته إجمالاً، فالعلم الإجمالي ينهاك عن ارتكاب كل منهما للعلم بالحرمة والأصل يبيح لك ارتكاب كل منهما، وهذا تناقض .

الكلام في وجوب الموافقة القطعية: والمعروف بين الأعلام وجوبها وقد يدعى الإجماع عليها، لوجوب الخروج عن عهدة التكليف اللازم بالعلم الإجمالي، وإن كان هناك قائل بجواز ترك الموافقة القطعية والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية.

ثم إن عدم وجوب الموافقة القطعية قد يتصور لوجهين قد تم دفعهما.

الأول: إما لقصور العلم الإجمالي عن اقتضائها، ولكن الظاهر عدم الفرق في تنجز الأحكام بين العلم الإجمالي والتفصيلي من حيث لزوم الفراغ منه عقلاً، وذلك يحصل بالموافقة القطعية

أو أن العلم الإجمالي في المقام يقتضي وجوب أحد الأمرين لا على التعيين لا وجوبهما معاً، فهو بذاته يقتضي كون أحدهما غير المعين هو المنجز، وهذا يقتضي عدم جواز تركهما معاً لا وجوب امتثالهما معاً، فيكون الامتثال بأحد الأطراف امتثال للمتنجز منه، وهو وجوب أحد الأطراف، فهوإطاعة قطعية للعلم الإجمالي، وان كان إطاعةً احتماليةً للتكليف الواقعي، ولكن الظاهر أن التنجز تابع للواقع المعلوم، وحيث أن الواقع هنا معلوم بطلب أحد الأمرين لا على التعيين، فلابد من الخروج منه بامتثالهما معاً للزوم الفراغ اليقيني من التكليف اليقيني، وهو لا يكون إلا بامتثال كلا الأمرين.

الثاني: أدلة الأصول تدل على كفاية الموافقة الاحتمالية بالإتيان ببعض الأطراف، بعد امتناع جريانها في تمام الأطراف للزوم المخالفة القطعية

ولكن الظاهر أن وجوب الموافقة القطعية إنما هو حكم العقل بلزوم

ص: 187

الفراغ يقيناً عن التكليف المتيقن المنشغل به الذمة، وحيث أن الذمة منشغلة إما بهذا أو بهذا فلابد من امتثالهما معا للعلم بفراغها.

فأدلة الأصول لا تنهض برفع التكليف المنجز بالعلم الإجمالي، بل هي وضيفتها بيان وظيفة المكلف في حال العمل عند الشك في التكليف بعد الفراغ عن كونه فعلياً لو كان التكليف ثابتاً.

ولا قابلية لها لردع المكلف عن لزوم الموافقة القطعية والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية؛ لأن وظيفتها تقتصر على بيان وظيفة المكلف في حال عدم وجود تكليف منجز في حقه، لا الاكتفاء بأحد التكاليف مع العلم بتنجز أحدها.

ص: 188

المبحث الثالث التخيير

وهو مع فرض الشك في تعيين الحكم مع فرض العلم بورود التكليف به مع عدم إمكان الجمع بين الحكمين المشكوكين كما لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة، وهو يتصور على فروض قد يكون الحكم بالتخيير في بعضها والآخر غير ذلك.

الفرض الأول: الدوران بين الوجوب والحرمة من جهة عدم تعيين الدليل الدال على أحدهما بعد وجوده، وهنا يتصور فيما أذا كان الأمر توصلياً غير محتاج لقصد القربة، كما إذا دار الأمر بين وجوب النفقة على ولده وحرمتها من جهة كونه تاركاً للصلاة.

فهنا قد يقال بالتخيير بين أحد الأمرين لأنه لا خيار غيرهما، لأنه إما أن ينفق أو يترك، وأما القول بالإباحة هنا يكون موجباً للمخالفة القطعية؛ لأنه المفروض أنه إما واجب أو حرام وليس مباح، فالحكم بالإباحة مخالف للواقع قطعاً.

وقد يقال بالتوقف وعدم الحكم بأحدهما؛ لأنه يكون قولا بلا علم بعد عدم المرجح لأحدهما.

الفرض الثاني: الدوران بين الوجوب والحرمة من جهة إجمال الدليل، كما إذا ورد أمر وشك في كونه للوجوب أو لا وكان مقابله تهديد وشك في دلالته على الحرمة أو لا، كما إذا ورد أمر للحائض بقراءة من سورة القدر

ص: 189

ليلة القدر، وأحتمل كونه واجباً، وورد تهديد للحائض من قراءة القرآن وأحتمل كونه تحريماً.

فقد يقال هنا بالتخيير أيضاً بين أحد الأمرين؛ لأنه لا خيار غيرهما، وقد يقال بالتوقف وعدم الحكم بأحدهما، كم تقدم في المسألة السابقة.

الفرض الثالث: الدوران بين الوجوب والحرمة من جهة تعارض الأدلة، بوجود نصين أحدهما دال على الوجوب والآخر دال على الحرمة، فإذا تحير المكلف في الجمع بين الأدلة مع عدم وجود المرجح، فقد يرجع للتخيير كما ورد في بعض النصوص التي ذكرت التخيير حالة التكافؤ بين الأخبار المتعارضة كقوله (عليه السلام) {بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك}(1)

الفرض الرابع: الدوران بين الوجوب والحرمة من جهة اشتباه الموضوع، كما إذا دار أمر هذه المرأة بين كونها زوجة فيجب وطؤها بعد مرور أربعة أشهر، أو كونها أجنبية يحرم وطؤها، أو حلف على شرب مائع دار أمره بين العصير والخمر

فقد يحكم بالتخيير هنا أيضاً؛ لأنه لا مخرج عن أحدهما، لكن قد يقال بعدم التخيير في كثير من الأمثلة، فمثال الزوجة حيث أن الشارع يحتاط في الفروج فعدم الوطء مقدم فيقدم الترك، أو يطلقها إن كانت زوجة ثم يعقد عليها من جديد، ومثال الخمر والعصير حيث أن شرب الخمر محرم بنفسه وشرب العصير واجب لليمين، ومع الشك في كون هذا عصيراً يجب شربه لليمين أم لا، فالأصل يقتضي عدم كونه عصيراً محلوف على شربه، فيكون ترك شربه لاحتمال خمريته مقدم على وجوب شربه لاحتمال عصيريته

وفي هذه الفروض مناقشات لا نريد إشغال الطالب بها في هذا المختصر

ص: 190


1- الكافي باب اختلاف الحديث ح 7

المبحث الرابع الاستصحاب

اشارة

وهو أن يكون الشك في الحكم لكن مع وجود حالة سابقة لها حكم شرعي، كما إذا كان هناك ماء طاهر وتغيرت رائحته بمجاورة النجاسة وليس بملاقاتها، وشك في حكمه بعد التغير بالمجاورة هل ينجس كما لو لاقته النجاسة أم يبقى على طهارته، وحيث كان مسبوقا بحكم الطهارة قبل الشك فهل يبقى الحكم بالطهارة بعد التغير أم لا، هذا الشك وأمثاله مورداً للاستصحاب، وعرِّف الاستصحاب بتعاريف عديدة، بعضها راجع للمباني فيه، وبعضها لاحظ المعنى اللغوي له، وغير ذلك، ولكن المهم أنها ليست تعاريف حقيقية يراد منها التعريف الجامع المانع، بل هي لمجرد شرح معناه ليتسنى لهم البحث فيه، ولعل أقرب التعاريف وأيسرها هو (حكم الشارع بإبقاء حكم اليقين السابق بشئ في زمان الشك اللاحق فيه).

ويقع الكلام في أمرين، وتتمة.

الأول: في أدلة الاستصحاب

الثاني: في أركانه

وأما التتمة فهي تنبيهات ذكرها الشيخ الأنصاري (قده) لاحقة للاستصحاب ذات أهمية كبرى لا ينبغي تجاهل بعضها وترك الأخرى للكتب الموسعة.

ص: 191

الأمر الأول : أدلة الاستصحاب
اشارة

وقد استدل له بأدلة أهمها ثلاثة:

الأول : سيرة العقلاء

قد يدعى أنه يظهر من كلام العلامة أنه من القضايا الفطرية لكل ذي شعور، وقد يدعى أنه مقتضى حيوانيته بحسب خلقته، ولذا تشاركه الحيوانات في الرجوع للحالة السابقة من مرتع ومقر، وكذلك الإنسان فإنه لما يخرج صباحا يرجع إلى بيته من دون أدنى شك في زوال مكانه، وهكذا في كل أمور حياته في سفره وحضره، فإنه يدرك ذلك بالرجوع لفطرته.

ولكن وقع الشك في ابتناء هذه السيرة على البناء على اليقين السابق من جهة كونه أمرا معذِّراً أمام الشارع ومنجزاً للتكاليف، بل قد يكون من جهةالاطمئنان بالبقاء الطبيعي للموجودات، لا من جهة الاعتماد على اليقين السابق، وقد يكون لرجاء البقاء، وقد يكون للغفلة عن البقاء وعدمه كالرجوع للدار حيث يغفل الإنسان عن وجود شك بزوال داره ويغفل عن كونه قد رجع لأنه كان متيقنا ببقائه وهكذا، فلم يثبت وجود سيرة عقلائية على الاعتماد على الحالة السابقة في مقام الحياة العملية لتصلح للاستدلال في مقام الحكم الشرعي.

الثاني : الإجماع

كما قد ادعاه جماعة على اختلاف منهم في معقد الإجماع.

لكن الظاهر عدم إمكان التعويل عليه في الكشف عن رأي المعصوم (عليه السلام) بحيث يكون حجة بعد الخلاف في حجيته، وكثرة المباني والأقوال في المسالة، بحيث يحرز تحصيل قول الإمام (عليه السلام).

ص: 192

الثالث : السنة

وهي العمدة في حجيته وقد استدل له بنصوص كثيرة منها:

صحيحة زرارة الأولى: قال: {قلت له: الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب (أيوجب) الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال: يازرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن، فإذا (وإذا) نامت العين والأذن والقلب (فقد) وجب الوضوء قلت: فإن حرك على (إلى) جنبه شئ ولم يعلم به؟ قال: لا حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن، وإلا فإنه على يقين من وضوئه، ولا تنقض (ينقض) اليقين أبداً بالشك، وإنما تنقضه (لكن ينقضه) بيقين آخر}(1).

وقد نوقش بسندها من جهة أنها إضمارها أي لم يذكر زرارة من هو المسؤول، لكن ذكر الأعلام عدم ضير ذلك، إما لأن مثل زرارة عادة لا يسأل غير الإمام (عليه السلام) ولو كان المسئول غيره لنصب قرينة أو لأن بعض الأعلام ذكرها مسندة عن الباقر (عليه السلام) وبعضهم عن الصادق (عليه السلام)

فالمهم الكلام في دلالتها على الاستصحاب.

وتقريب الاستدلال بها هو قوله (عليه السلام): { لا حتى يستيقن أنه قد نام حتى يجيء من ذلك أمر بين وإلا فإنه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين أبداً بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر}

باعتبار أن السائل يسال عن حكم الشك في حصول النوم الناقض للوضوء بعد أن كان متيقناً من الطهارة، وأجابه الإمام (عليه السلام) بعدم الحاجة لإعادة الوضوء ما لم يتيقن بانتقاضه، وهو مفاد الاستصحاب.

وللأعلام في دلالتها على عموم الاستصحاب كلام طويل لا يمكن استيفائه، ولكن ملخصه هو أن جملة {وإلا فإنه على يقين من وضوئه} جملة

ص: 193


1- وسائل الشيعة أبواب نواقض الوضوء باب 1 ح1

شرطية يرجع معناها وإن لم يجيء من ذلك أمر بين، ولابد لها من جزاء، ووقع الكلام بينهم في تقدير الجزاء لها على وجوه:

الأول: أن يكون محذوفاً ومقدراً ويكون تقديره (وإلا فلا يجب عليه الوضوء لأنه على يقين من وضوئه).

الثاني: أن يكون الجواب قوله (عليه السلام) بعد ذلك {فإنه على يقين من وضوئه} ويكون الجواب جملة إنشائية، يقصد منها لزوم ترتيب أثر اليقين بالوضوء مع حصول مثل هذا الشك بالوضوء من حيث النوم.

الثالث: أن يكون الجواب قوله (عليه السلام) بعد ذلك {ولا ينقض اليقين بالشك أبداً} ولا يكون قوله (عليه السلام) {فإنه على يقين} هو الجواب، بل تمهيد وتوطئة لذكر الجواب.

وكل وجه فيه مناقشات محالة للمطولات.

ومنها صحيحة زرارة الثانية: { قال: قلت: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره، أو شئ من مني، فعلّمت أثره إلى أن أصيب له الماء، فأصبت، وحضرت الصلاة ونسيت أن بثوبي شيئاً، وصليت، ثم إني ذكرت بعد ذلك؟ قال: تعيد الصلاة وتغسله.

قلت: فإني لم أكن رأيت موضعه وقد علمت أنه أصابه فطلبته فلم اقدر عليه، فلما صليت وجدته، قال: تغسله وتعيد.

قلت: فإن ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك، فنظرت فلم أرَ شيئاً ثم صليت فرأيت فيه، قال: تغسله ولا تعيد الصلاة.

قلت: لم ذلك؟ قال: لأنك كنت على يقين من طهارتك، ثم شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً.

قلت: فإني قد علمت انه قد أصابه ولم ادرِ أين هو فاغسله؟ قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك.

ص: 194

قلت: فهل علي إن شككت في أنه أصابه شيءٌ أن أنظر فيه؟ قال: لا، ولكنك إنما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك.

قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال: تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رايته، وإن لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته، ثم بنيت على الصلاة لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك.(1)

مع اختلاف بسيط في فقراتها لاختلاف النسخ

وقد ذكر فيها لسان الاستصحاب مرتين، الأولى بقوله (عليه السلام) { لأنك كنت على يقين من طهارتك، ثم شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً } أي بما أنك كنت على يقين من الطهارة ثم شككت في زوالها فلا ينبغي نقض اليقين السابق بالطهارة بالشك اللاحق بالنجاسة، وهذا هومعنى الاستصحاب، والثانية {فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك} وظاهره العموم لكل مورد يكون فيه الشك بعد اليقين لا ينقض ذلك اليقين بالشك الذي هو مفاد الاستصحاب.

وإن كان في دلالتها مناقشات.

وهناك نصوص أخر إما أنها ضعيفة السند أو قاصرة الدلالة وفيها مناقشات كثيرة تخرجنا عن الاختصار الذي نرومه في الكتاب فمن أراد المزيد فليرجع للمطولات.

الأمر الثاني : أركان الاستصحاب
اشارة

ذكروا أن للاستصحاب أركاناً ثلاثة:

ص: 195


1- التهذيب ج1باب تطهير البدن والثياب من النجاسات ح8
الأول: اليقين بتحقق الشيء سابقاً

وظاهر مرادهم من اليقين هنا ليس اليقين بما هو صفة نفسية قائمة في النفس الذي هو عبارة أخرى عن اليقين الحقيقي المقابل للظن والشك والوهم باصطلاح المناطقة، لما هو المعلوم بينهم في جريان الاستصحاب في مؤدى الطرق والإمارات الظنية مع أنه ليس من اليقين بالحالة السابقة بالمعنى المتقدم، كما لو طهر ثوبه بماء مستصحب الطهارة ثم شك في طهارته فيستصحبون الطهارة أيضاً، وإن كان الحكم بحصول الطهارة ليس يقينياً بل ظنيا ناشئاً من الاستصحاب

ولذا من الظاهر أن أخذ اليقين في لسان الاستصحاب ليس مأخوذاً بما هو صفة نفسية خاصة بل بما هو وصول للواقع ومحرز له، وحينئذ يكون المراد من اليقين هو كل محرز للواقع ولو تعبداًُ كما في القواعد الشرعية والأصول العملية، ووضوح ذلك بين الأعلام وتسالمهم عليه يستغني عن إقامة الدليل عليه.

كما إن ظاهر مرادهم من الشك هنا هو كل ما قابل اليقين من ظن ووهم كما هو معناه لغة وعرفاً.

وعليه لأبد من وجود يقين سابق بالحكم ولو من طريق غير قطعي وشك لاحق ببقاء الحكم السابق.

الثاني: الشك في بقاء ذلك المتيقن واستمراره.

لابد من اتحاد الأمر المشكوك مع الأمر المتيقن من جميع الجهات، ولا يكون الفرق إلا من جهة الشك واليقين، فلابد من اليقين بطهارة الثوب ثم الشك في طهارته أي نفس الثوب، أو طهارة الماء ثم الشك في نجاسته أي نفس الماء، أما التيقن بطهارة الماء ثم الشك بطهارته بعد استحالته بخاراً أو تبدله إلى ماهية أخرى فهو خارج عن موضوع الاستصحاب؛ لأن اليقين

ص: 196

والشك لابد من طروهما على موضوع واحد يكون هو متيقناً في زمن ومشكوك في آخر والتبدل والاستحالة موجبة لتبدل الموضوع.

الثالث: الحكم ببقاء حكم اليقين السابق لزمان الشك اللاحق.

كما هو ظاهر أدلة الاستصحاب، وذلك أن المراد منه التعبد بحكم اليقين السابق حال الشك اللاحق والعمل بذلك التعبد، لا مجرد وجود اليقين حال الشك من دون تعبد به وعمل عليه لعدم الفائدة حينئذٍ، والغرض من عدم نقض اليقين السابق ليس هو إلا من أجل العمل على طبقه حال الشك، وعليه لابد من اتصال زمن اليقين مع زمن الشك، ولا يكفي مجرد تأخر الشك عن اليقين بحيث تكون هناك بين الزمانين طفرة، وذلك لظهور الفاء في الترتيب والتعقيب في بعض النصوص، فلابد مثلاً من اليقين بطهارة الثوب يوم الجمعة والشك بطهارته يوم السبت، أما لو تيقن طهارته يوم الجمعة وبنجاسته يوم السبت وشك فيه يوم الأحد فاليقين بالطهارة يوم الجمعة لا قيمة له يوم الأحد لوجود الفاصل باليقين بالنجاسة، ولو لم نقل بلزوم اتصال زمان اليقين بزمان الشك لزم استصحاب كلا الحكمين المتيقنين وهما الطهارة والنجاسة حسب الفرض ولو كانا متناقضين لعدم أولوية أحدهما على الآخر من حيث السبق فكلاهما يقين سابق بعده شك لاحق لولا لزوم اتصال الزمانين، ولذا فهنا يستصحب اليقين المتأخر وهو النجاسة لأن زمانها هو المتصل مع وقت الشك ولا يعتنى باليقين بالطهارة لعدم اتصال زمانه بزمان الشك.

ص: 197

تتمة : تنبيهات الاستصحاب

التنبيه الأول : استصحاب الكلي

إن الأمر المتيقن تارة يكون جزئياً ويراد استصحابه كطهارة هذا الماء الخاص، وأخرى يكون أمراً كلياً ككلي الطهارة والحدث وأشباه ذلك إذا كان الحكم الشرعي مترتباً على حكم الطهارة والحدث الكلي، وعلى ذلك فالشك في بقاء الكلي يتصور على وجوه:

الأول: الشك في بقاء الكلي للشك في بقاء الفرد الذي علم بوجود الكلي بوجوده، كما لو كان الأثر الشرعي يترتب على وجود ضيف في الدار كمن نذر الصدقة كل يوم إن كان في بيته ضيفٌ لا على التعيين ثم جاءه زيد ضيفاً أمس وشك اليوم في بقاء زيد الذي كان ضيفاً عنده يوم أمس هل لا زال موجوداً في داره اليوم حتى تجب عليه الصدقة أم أنه قد خرج من الدار، فهنا هل يستصحب حكم الكلي وهو وجود الضيف ليتصدق أم لا.

وهذا المورد من الموارد المتفق على جريان استصحاب الكلي فيه لتمامية أركانه من اليقين السابق والشك اللاحق، فيمكنه استصحاب وجود الضيف والتصدق.

ص: 198

الثاني: الشك في بقاء الكلي من جهة تردد الفرد الذي أوجد الكلي بين الطويل المعلوم بقاؤه والقصير المعلوم ارتفاعه، كما لو تردد الفرد المتيقن بين كونه حدثاً اكبر، أو أصغر بعد الوضوء، كما إذا خرج منه سائل مشكوك إما بول أو مني وتوضئ بعده، فإن كان أكبر أي مني فهو باق قطعاً لعدم رفع الوضوء له بل لا يرتفع إلا بالغسل، وإن كان أصغر أي بول فهو مرتفع قطعاً لرفع الوضوء له.

والظاهر منهم هنا جريان أحكام استصحاب الكلي وهو عنوان الحدث دون أحكام الفرد الطويل بخصوصيته، فالأحكام المترتبة على كلي الحدث تستصحب كحرمة مس القرآن الكريم، وحرمة الصلاة، أما الأحكام الخاصة بالفرد الطويل فلا تستصحب كحرمة دخول المساجد للجنب مثلاً لعدم تمامية أركان الاستصحاب فيه.

الثالث: الشك في بقاء الكلي من جهة احتمال تبدل الفرد الموجد للكلي بفرد آخر بعد العلم بزوال الفرد الأول الذي وجد الكلي بوجوده، كما إذا تحقق عنوان الضيف بدخول زيد للدار ولكنه خرج قطعاً، ولكنه احتمل دخول عمرو للدار ضيفاً مكانه، أو علم أنه مجنب وأغتسل ثم وجد على ثوبه منياً وشك في أنه من الجنابة الأولى التي أغتسل منها أو من جنابة ثانية لم يغتسل منها بعد.

وهذا الوجه وقع فيه خلاف بين الأعلام، قال بعضهم بعدم جريان الاستصحاب فيه، وذك لأن الكلي لا يحرز بقاؤه وهو عنوان الضيف؛ لأن ما أحرز به الكلي من الأفراد قد ارتفع قطعاً، والفرد الثاني مشكوك الحدوث من أول الأمر فلا محرز لوجود الكلي.

وفصلّ آخرون بالفرق بين احتمال وجود الفرد الآخر مقارنا لوجود الفرد الأول وبين احتمال وجوده حين ارتفاع الأول، فعلى الصورة الأولى

ص: 199

يجري الاستصحاب دون الثانية، والفرق بينهما أنه في الصورة الأولى يكون الكلي بنحو يحتمل عدم ارتفاعه بخروج الفرد المتيقن لاحتمال تحقق الكلي بالفرد اللاحق قبل زوال الفرد السابق، ففي الآن اللاحق يحتمل وجود عين الموجود سابقاً وهو الفرد اللاحق حيث إنه كان موجوداً حال اليقين السابق فيجري فيه الاستصحاب، بينما في الصورة الثانية فإن المعلوم الحدوث قد ارتفع قطعاً ووجود الكلي في ضمن الفرد الجديد مشكوك فلا يستصحب

الرابع: أن يكون الشك في بقاء الكلي من جهة الشك في انطباق العنوان عليه، كما إذا علم بحدوث جنابة يوم الخميس وأغتسل منها قطعاً ثم رأى منياً في ثوبه يوم الجمعة فهو يحرز كونه مجنباً بخروج هذا المني الموجود في ثوبه لكنه يشك في انطباق عنوان المجنب عليه فعلاً بوجود هذا المني لأنه إن كان المني قد وجد يوم الخميس فقد اغتسل منه قطعاً وزال عنه عنوان المجنب وإن كان قد وجد يوم الجمعة فهو مجنب فعلاً وينطبق عليه عنوان المجنب.

والظاهر هنا جريان استصحاب كلي الحدث لوجود يقين بالحدث وهو الجنابة وشك في ارتفاعه بالغسل يوم الخميس، وما هو معلوم كونه رافعاً وهو غسل يوم الخميس مشكوك رفعه للموجود لاحتمال تحققه قبله فيكون الموجود غير ما ارتفع، فاليقين بوجود الحدث لم يرتفع بالغسل لاحتمال كونه من غير ذلك الحدث المرتفع ولا دافع لهذا الاحتمال.

التنبيه الثاني : استصحاب التدريجيات

وهي على قسمين:

الأول: الأمور غير الزمانية التي توجد بتعاقب وجود أجزائها كالكلام والحركة والسير وجريان الماء وغيرها.

ص: 200

ذهب بعضهم إلى جريان الاستصحاب فيها، وذلك لأن وجود كل شيء بحسبه وبقاء الأمور التدريجية إنما هو بتعاقب أجزائها لأنه يصح نسبة الوجود للأمر التدريجي بما أنه أمر واحد بلحاظ وجود أجزائه متعاقبة؛ ولأن موضوع الأثر هو الموجود بهذا الوجود الملحوظ وحدته، حيث أن هذا المقدار من التعدد لا ينافي الوحدة المعتبرة فيه عرفاً فيتم فيه ركنا الاستصحاب لكن في وجود المجموع لا في كل جزء جزء، لأن الملحوظ هو المجموع بما هو مجموع، فمثلا إذا جرى الماء من الميزاب وشك في بقاء جريانه، أمكن استصحاب الجريان.

وذهب بعضهم إلى استصحاب جريانه وإن تعددت أجزاؤه عقلا لانه يعتبر أمراً واحداً عرفاً مع البناء منهم على كفاية الوحدة العرفية في تمامية الموضوع مع فرض عدم تمامية الوحدة العقلية كما هو مبناهم في كثير من الموارد.

وقد منع بعض من جريان الاستصحاب فيها لعدم اجتماع ركني الاستصحاب في التدريجيات، لأن ما علم حدوثه من الأجزاء السابقة علم ارتفاعه، وهو ما جرى من ماء الميزاب كما في المثال المتقدم، وغيره من الأجزاء اللاحقة مشكوكة الحدوث والأصل عدمه فلا يمكن فرض أمر واحد معلوم الحدوث مشكوك البقاء حتى يمكن جريان الاستصحاب فيه، لأن معلوم الحدوث منه معلوم الارتفاع ومشكوك الحدوث منه مشكوك الحدوث.

الثاني: الزمانيات وحيث إنه يتقوم وجود كل جزء منه بانعدام الجزء الذي قبله كالليل والنهار واليوم، فإذا شك مثلاً ببقاء النهار أو الليل أو اليوم هل يمكن جريان استصحاب بقاء النهار أو الليل أو غيرهما من الزمانيات مع فرض انعدام كل جزء بوجود الآخر.

قالوا بجريان الاستصحاب فيه إما من جهة كون المراد بالزمان هو

ص: 201

الوجود الواحد ذو العنوان الواحد المتقوم بتصرمه كعنوان النهار أو الليل أو الشهر فيكون وجوده وجوداً واحداً حقيقة فالنهار هو الزمان الواحد حقيقة من بدايته حتى نهايته وكذلك مثل اليوم والشهر وأمثالهما، فإذا وجد بأول أزمنته يمكن استصحاب بقائه لحين العلم بانتهائه.

وإما من جهة كون الزمان آنات صغيرة متصرمة متعددة عقلا لكنها واحدة عرفاً فتكون وحدة الزمان عرفية فيجري فيها الاستصحاب بناء منهم على كفاية الوحدة العرفية في تحقق الموضوع في الاستصحاب كما جروا على ذلك في موارد عديدة.

التنبيه الثالث : استصحاب العدم الأزلي

والمراد به العدم قبل وجود الموضوع فقد يترتب عليه أثر شرعي، والعدم الذي ينفع استصحابه هو الذي ينفى به ما هو من عوارض وجود الموضوع بحيث يمكن نفيه عنه قبل وجوده بنحو السالبة بانتفاء الموضوع كالبياض والانتساب للقبيلة وأشباهها، دون ما يكون من الذاتيات للموضوع التي توجد بوجود الموضوع كالإنسانية والحيوانية، أو الزوجية للعدد، فمثلاً إذا ورد أن المرأة إذا كانت قرشية فيأسها من الحيض يكون ببلوغها ستين سنة وإذا لم تكن قرشية فيأسها يكون ببلوغها خمسين سنة فإذا شكت المرأة في كونها قرشية أو لا فهل يمكنها استصحاب عدم كونها قرشية قبل وجودها فهي الآن ليست قرشية من باب كون القرشية سالبة عنها بانتفاء الموضوع أي قبل وجودها وتحكم بانقطاع الدم عنها بالخمسين سنة أم لا.

فأثبت جريان الاستصحاب غير واحد مستدلين بتمامية أركان الاستصحاب في المورد وذلك لليقين بانتفاء النسبة قبل وجود الموضوع،

ص: 202

والشك في تحققها بعد وجوده، فيستصحب ذلك العدم مع ما هو المرتكز من كون العدم هو الأصل للأشياء فيكفي البناء عليه من دون حاجة للاستدلال.

ومنع من جريانه آخرون إما لأن العدم قبل وجود الموضوع يغاير العدم بعد وجوده فإن العدم الأول مستند لعدم الموضوع والآخر مستند لأمر آخر وهو عدم التولد من قرشي كما في المثال السابق، وإما لأن المعتبر من موارد التقييد بالعدم المراد به العدم الذي هو صفة للموضوع بعد وجوده لا العدم الثابت بانتفاء الموضوع فإنه لا يكون صفة للموضوع لأن الحكم يكون للموضوع الموجود الموصوف بعدم ذلك الشئ.

التنبيه الرابع : الاستصحاب التعليقي

الحكم المستصحب تارة يكون حكماً فعلياً، وأخرى يكون مفاد قضية شرطية تعليقية، فإذا كان مفاد قضية تعليقية شرطية هل يتم الاستصحاب أم لا؟ مثاله إذا علم أن الماء القليل المتصل بالكثير يكون معتصماً، فإذا اتصل الماء القليل بماء يحتمل كثرته وغير متيقن كونه كثيراً ولاقته نجاسة، فهل يقال هذا الماء قبل اتصاله بمحتمل الكثرة كان لو لاقته النجاسة لتنجس لكونه قليلاً فهو الآن كذلك، وبعبارة أخرى يقال هذا الماء إن لاقته هذه النجاسة قبل اتصاله بهذا الماء المحتمل كثرته لتنجس لأنه كان قليلاً فهو الآن نجس استصحاباً لقلته.

وقد منع من جريان هذا الاستصحاب جماعة، وذلك لان الحكم المراد استصحابه في القضية التعليقية لا وجود له كي يستصحب وهو النجاسة بالملاقاة، بل المقطوع به عدمه لليقين بعدم النجاسة قبل الملاقاة والآن يشك بحصول النجاسة بهذه الملاقاة.

وإن حاول بعضهم تقريب جريانه من جهة استصحاب السببية التي لا

ص: 203

علاقة لها بوجود طرفيها، وتقريبها أن يقال إن ملاقاة النجاسة للماء القليل سبب لتنجس الماء القليل سواء كان الماء موجودا أم لا، وسواء كانت الملاقاة حاصلة أم لا، وحينئذٍ تستصحب هذه السببية وهي سببية الملاقاة للنجاسة، فإذا لاقت النجاسة الماء القليل فعلا نجسته وإن اتصل بماء محتمل كثرته بحيث يكون مانعا من نجاسته.

فالمستصحب هو سببية ملاقاة النجاسة للماء القليل فبما أن النجاسة سبب لتنجس الماء القليل وهي لا زالت سبباً وقد لاقت هذا الماء الذي كان قليلاً قبل الملاقاة فباستصحاب السببية يحكم بالنجاسة، لا استصحاب نفس النجاسة.

التنبيه الخامس : استصحاب الحكم الشرعي

ويراد به الحكم الفعلي الثابت فعلاً لثبوت موضوعه ولكن يشك في بقائه، والشك في بقائه تارة يكون للشبهة الموضوعية، كما إذا شك في بقاء نجاسة ماءٍ كان نجساً من احتمال وقوع ماء المطر عليه وتطهيره، أو شكت المرأة ببقاء وجوب الصلاة عليها مع احتمال طروء الحيض عليها في أثناء الوقت قبل أن تصلي.

وأخرى يكون للشبهة الحكمية، كما لو شك في طهارة الماء القليل النجس إذا تمم كرا بماء طاهر، أو شك في وجوب أداء الواجب المؤقت خارج الوقت لو فات في الوقت.

وأخرى يكون للشبهة المفهومية، كما إذا شك في طهارة ثوب متنجس بعد تطهيره بماء يحتمل كونه كراً للشك في تحديد مقدار الكر، أو شك في وجوب بقائه ممسكاً بعد سقوط القرص قبل ذهاب الحمرة المشرقية لوجوب الصوم عليه من جهة الشك في تحديد النهار شرعاً.

ص: 204

وقد استشكل من جريان الاستصحاب من جهتين:

الأولى: عدم اتحاد الأمر المشكوك مع الأمر المتيقن، وذلك لأن الأمر المتيقن هو الحكم المقيد بالزمان الخاص أو الحال الخاص والمفروض إما زوال الزمان أو تبدل الحال فنقل الحكم لما بعد الزوال والتبدل إنما هو إثبات لحكم آخر مباين للحكم الأول وهذا ليس استصحاباً بل إثبات لحكم جديد.

وقد ذهب بعضهم إلى جريان الاستصحاب، وذلك بناءً منهم على كفاية التسامح العرفي في بقاء الموضوع، فإذا كان الزمان مثلاً بنظر العرف مقوماً للمتيقن وقيداً فيه فيمنع استصحابه وإذا كان بنظرهم ظرفاً له غير مقوم يجري الاستصحاب، وهكذا غيره.

فمثلاً إذا تعذر بعض أجزاء الواجب فإذا كان المتعذر مقوماً له عند العرف لم يجر الاستصحاب لإثبات وجوب الميسور منه، وإن لم يكن مقوماً عندهم كان مقتضى الاستصحاب وجوب الميسور.

وذهب بعض للتفصيل في أن ما عرض له الحكم إن كان أمراً جزئياً خارجياً كهذا الماء النجس الذي شك في تطهيره بتساقط ماء المطر عليه فيمتنع أن يكون الزمان قيداً له بل يكون ظرفاً له، وعليه يصح الاستصحاب للحكم لكن لا بلحاظ التسامح العرفي بل لوحدة الموضوع.

وإن كان ما عرض له الحكم أمراً كلياً كفعل المكلف أو أمراً ذمي كالدين فهو يقبل التقييد بالزمان، وحينئذٍ إذا أحرز تقييده بالزمان أو احتمل تقييده بالخصوصية الزمانية امتنع استصحاب الحكم، وذلك لعدم اتحاد الموضوع بين المتيقن والمشكوك، أو لعدم إحراز الإتحاد، وإن أحرز الإطلاق من جهة الزمان من دون إحراز قيديته له تعين كون الخصوصية المحتملة دخيلة في الحكم وعلة له، لكن من دون أن تكون مقومة له، وحينئذٍ جرى استصحاب الحكم لوحدة الموضوع.

ص: 205

الثانية: إن استصحاب الحكم بعد زوال الزمان أو تبدل الحال وهو زمان الشك في بقاء الحكم معارض باستصحاب عدم الحكم الأزلي في نفس الزمان، وذلك أن العدم الأزلي ثابت في الجملة قبل ورود الحكم ويعلم انتقاضه بالزمن الأول وهو الزمن المتيقن زواله فيه وثبوت الحكم، أما الزمان الثاني فلا يحرز زواله لعدم إحراز ثبوت الحكم في الزمان الثاني أو الحال الثاني، وعليه يتعارض استصحاب عدم الحكم الأزلي في الزمان الثاني مع استصحاب بقاء الحكم الثابت في الزمان الأول في زمان الشك ومع التعارض لا يمكن جريان أحد الاستصحابين.

التنبيه السادس : أصالة تأخر الحادث

إنما ينهض الاستصحاب بإحراز بقاء الحالة السابقة في زمان اليقين إلى زمان الشك مع الشك بانتقاضها، كما إذا شك في طهارة الماء يوم الجمعة مع العلم بطهارته يوم الخميس فإنه يستصحب طهارته يوم الجمعة، ومن الظاهر أنه كذلك ينهض بإحراز بقائها مع العلم بانتقاضها لكن مع الشك في التقدم والتأخر، فيمكن استصحاب طهارة الماء يوم الجمعة إذا علم بطهارته يوم الخميس وعلم بنجاسته إما يوم الخميس أو الجمعة.

لكن هذا الاستصحاب لا يستلزم إثبات الحدوث في الزمان الثاني المتأخر وذلك كما في المثال المتقدم إذا قيل بصحة استصحاب الطهارة يوم الخميس لا يعني لزوم حصول النجاسة يوم الجمعة؛ لأن الأصول لا تثبت لوازمها غير الشرعية، وعليه فلو لاقى ثوب طاهر نفس الماء يوم الجمعة لا يحكم بنجاسته وإن كان استصحاب الطهارة يوم الخميس يستلزم حدوث النجاسة يوم الجمعة للعلم بحصول النجاسة في أحد يومين لكن

ص: 206

الاستصحاب لا يثبت ذلك لعدم الترتب بينهما شرعاً أو لعدم التلازم شرعاً وهو المعبر عنه في كلماتهم بالأصل المثبت.

وعليه وقع الكلام في أنه لو علم بكلا الحادثين وشك في المتقدم والمتأخر منهما هل يجري الاستصحاب أو لا وهذا على صورتين:

الصورة الأولى: أن يكون اجتماعهما ممكناً في الوجود كموت المورث وإسلام الوارث أو موت الأب والابن.

الصورة الثانية: أن لا يكون اجتماعهما ممكناً بل لابد من تقدم أحدهما وتأخر الآخر كالحدث والطهارة فيتعين بقاء أحدهما المتأخر وترتيب أثاره دون المتقدم.

أما الصورة الأولى فلها حالتان:

الحالة الأولى: أن يجهل تاريخ الحادثتين معاً كما إذا علم بموت الأب والابن وتردد بين موت الأب يوم الجمعة وموت الابن يوم السبت أو موت الأب يوم السبت والابن يوم الجمعة.

وظاهرهم هنا جريان الاستصحاب في كل منهما ذاتاً من دون لحاظ الشك فيه من جهة الآخر للعلم بالحادث السابق، ففي المثال السابق حيث يعلم بحياة الأب يوم الخميس والشك في موته يوم الجمعة أو السبت فتستصحب حياة الأب يوم الجمعة وكذلك الابن حيث إنه معلوم الحياة يوم الخميس ومشكوك الموت يوم الجمعة أو السبت فتستصحب حياة الابن يوم الجمعة، والعلم بكذب احدهما كالعلم بالتكاذب في جريان الأصلين المعلوم كذب أحدهما.

نعم لو أردنا أن نستصحب عدم موت كل منهما يوم الجمعة من أجل إثبات أثره كالميراث فهنا تارة يكون بالجهل بتاريخ الحادثتين معا كالصورة

ص: 207

السابقة فقد يظهر من بعض جريان الاستصحاب أيضاً ويعاملان كما تقدم من كذب أحد الأصلين.

ومنع آخرون وعلله بعضهم بعدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين وهذا من أهم أركان الاستصحاب؛ لأنه لابد أن يكون المشكوك استمرار للمتيقن ولا يكفي مجرد تقدم زمان اليقين على زمان المشكوك مع الفصل بزمان آخر أو احتمال الانفصال وهو هنا حاصل؛ لأن عدم احد الحادثتين حين حدوث الآخرى وهو موت الابن أو موت الأب وإن كان مشكوكا فيه بعد اليقين به سابقاً من حيث أن موت الأب متيقن وموت الابن متيقن لكنه لما كان معلوم الحدوث في الجملة فاحتمال حدوثه قبل الحادثة الآخرى أو بعدها وارد، فيحتمل أن يكون زمان حدوثه فاصلا بين زماني الشك واليقين حسب الفرض، نقربه بالمثال حيث إن موت الأب والابن متردد بين الجمعة والسبت فزمان اليقين بحياة كل منهما هو الخميس، فإذا حكمنا ببقاء حياة الابن وأردنا استصحابها إلى يوم الجمعة فهو صحيح لكنه لا ينفع في الحكم بتأخر وفاته عن وفاة والده لاحتمال وفاة والده يوم السبت وإذا أردنا استصحابها ليوم السبت كان هناك فاصل بين الخميس والسبت وهو الجمعة حيث لا يحرز عدم الموت فيها، وكذلك العكس لو حكمنا بحياة الأب يوم الخميس واحتمال موت الابن يوم السبت لا يمكن استصحاب حياة الأب ليوم السبت لفصل يوم الجمعة.

وعلله آخرون بوجوه أخرى لا مجال لإطالة الكلام فيها.

الحالة الثانية: أن يجهل تاريخ أحدهما دون الآخر كما لو علم بموت الأب يوم الجمعة وتردد موت الابن بين يوم الخميس ويوم السبت.

وهنا ذكروا أنه لا مانع من جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ وهو استصحاب حياة الابن حين موت الأب وهو يوم الجمعة والحكم بميراثه

ص: 208

منه لعدم المانع من ذلك، لأن الابن محرز الحياة قبل يوم الخميس مشكوك يوم الخميس والجمعة فتستصحب حياته .

أما معلوم التاريخ فلا يمكن استصحاب حياته وهو الأب للحكم بميراثه لابنه لعدم إحراز وفاة الابن قبله لاحتمال أنه مات يوم السبت فلا يجري استصحاب حياة الأب للسبت للعلم بموته يوم الجمعة وعدم إحراز وفاة الابن يوم الخميس.

وزيادة التفصيل في المطولات.

وأما الصورة الثانية فلها حالتان أيضاً:

الحالة الأولى: أن يكون تاريخ كل منهما مجهولاً كما لو علم بإصابة البول لثوبه إما يوم الخميس أو يوم الجمعة وعلم بتطهيره في أحد اليومين أيضاً ولكن لا يعلم من هو السابق واللاحق.

ذهب بعضهم إلى جريان الاستصحاب ذاتاً في كلا الطرفين من حيثية وجود الشك واليقين فالثوب يوم السبت مشكوك الطهارة والنجاسة وحيث يعلم بحصول النجاسة في أحد اليومين المتقدمين فيمكن استصحابها ليوم السبت المشكوك وكذلك يعلم بحصول الطهارة في أحد اليومين المتقدمين فيمكن استصحابها ليوم السبت لكن يتساقطان بالتعارض بينهما يوم السبت لأن التعبد بجريان كل منهما يوم السبت يلزم التعبد بالضدين ظاهراً وهما الطهارة والنجاسة، وهو راجع للتعبد بالنقيضين، وهو كون الثوب طاهراً وليس بطاهر ونجساً وليس بنجس وهو ممتنع فيلزم أن يكون الثوب يوم السبت طاهراً ونجساً في آن واحد.

وذهب بعض إلى عدم جريان الاستصحاب ذاتاً لوجوه كثيرة ذكرت في كلماتهم، أهمها عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين، وذلك لأن زمان اليقين مردد بين زمانين أحدهما متصل بزمان الشك والآخر منفصل عنه،

ص: 209

وذلك لأن زمان اليقين بالطهارة مردد بين يومي الخميس والجمعة، فإن كان يوم الخميس لزم الفصل عن يوم جريان الاستصحاب وهو السبت ولو كان يوم الجمعة كان متصلاً بزمان الشك، وكذلك التطهير لو كان يوم الخميس لزم الفصل عن يوم السبت ولو كان يوم الجمعة كان متصلاً بيوم الشك وحيث لا يمكن جر الاستصحاب ليوم السبت من يوم الخميس إذا كان يوم الملاقاة للنجاسة للقطع بعدم بقائه نجساً يوم الجمعة للعلم بحصول الطهارة أما بعد النجاسة أو قبلها فإذا أحرزت النجاسة يوم الخميس لابد أن يكون التطهير يوم الجمعة وكذلك العكس نعم يمكن بنحو الطفرة وقد سبق عدم نهوض الاستصحاب بذلك.

الحالة الثانية: أن يجهل بتاريخ أحدهما مع العلم بتاريخ الآخر، كما إذا علم بنجاسة ثوبه يوم الجمعة وأنه طهره إما يوم الخميس أو يوم السبت، وحينئذٍ لا إشكال في جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ من حيثية ذاته

وأما مجهول التاريخ فيكون حكم جريان الاستصحاب فيه الحكم المتقدم في الصورة الأولى وحيث تقدم هناك عدم جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ ذاتاً تعين عدم جريانه في مجهول التاريخ في هذا المورد وعليه يجري استصحاب معلوم التاريخ بلا معارض.

نعم بنى بعض الأعلام على جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ أيضاً وحينئذٍ يقع التعارض بين الاستصحابين فلا يمكن جريان كلا الاستصحابين كما في الصورة السابقة.

ص: 210

خاتمة : في التزاحم والتعارض

اشارة

معنى التزاحم هو التدافع بين أمرين أو أكثر في مقام التشريع أو في مقام العمل، فالتزاحم تارة يكون بين ملاكات الأحكام أي الأسباب التي دعت الحاكم للحكم، فتتزاحم فيما بينها من حيث المصلحة والمفسدة، فمثلا قد يكون في فعل ما مصلحة من جهة تقتضي الأمر به، وفيه مفسدة من جهة أخرى تقتضي النهي عنه، وهذا النوع من التزاحم خارج محل البحث، لأنه من شؤون المشرع للأحكام وهو عليه مراعاة الأهم من الأمرين وجعل الحكم على طبقه، وبما أننا نعتقد أن المشرع هو الله تعالى وهو أحكم الحاكمين فهو المتكفل في حل مشكلة هكذا تزاحم لو وجد في الملاكات، ولا تعني المكلف.

وأخرى يكون التزاحم بين الأحكام في مقام الامتثال والفعلية، ويحصل هذا التزاحم بسبب عجز المكلف عن أداء كلا التكليفين في مقام العمل؛ لأنه إذا صرف قدرته نحو أحدهما من أجل امتثاله عجز عن امتثال الأخر لانتفاء موضوعه وهو القدرة عليه، أما أصل تشريعهما فلا تزاحم فيه، فمثلاً إذا وجب إنقاذ الغريق، وحرم التصرف في مال الغير بدون إذنه، فيدور الأمر بين إنقاذ الغريق والدخول للأرض المغصوبة، أو إذا وجد المكلف أمامه غريقان لا يمكنه إنقاذهما معاً، بل قادر على إنقاذ أحدهما فيتزاحم عنده

ص: 211

وجوب الإنقاذ بين الغريقين، أو إذا لزم من إنقاذ الغريق الركوب في مركب غير مأذون في التصرف فيه، فهنا يقع التزاحم بين التكاليف من جهة الامتثال، حيث أن كلاً منها يدعو لامتثال نفسه وترك غيره.

وأما التعارض فهو التنافي بين مدلولي الدليلين في مقام التشريع إما بنحو التناقض كما إذا دل دليل على وجوب شيء وآخر على عدم وجوبه أو التضاد كما إذا دليل دليلٌ على وجوب شيء وآخر على حرمته، والتنافي إما بالذات والمراد به ما يكون التنافي بين المدلولين بالدلالة المطابقية، أو الإلتزامية، أو بالعرض وهو ما كان التنافي لأمر خارج عن المدلول كما إذا دل دليل على وجوب شيء ودل آخر على وجوب آخر، ولا تنافي ولا تضاد بينهما بالذات لكن علم من دليل آخر عدم إمكان وجوبهما معاً، كما إذا دل دليل على وجوب صلاة الجمعة ودل آخر على وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة ولا تنافي بين هذين الوجوبين لإمكان الحكم بوجوب كلتا الصلاتين يوم الجمعة على المكلف، لكن دل دليل آخر على أنه لا يجب في اليوم والليلة أكثر من خمس صلوات بينما مقتضى هذين الدليل يكون الواجب ستة.

ومن هنا كان الفرق بين التزاحم والتعارض واضحاً، فالتزاحم راجع لعدم قدرة المكلف على الامتثال من دون منافاة وتضاد بين نفس الدليلين في مقام التشريع، وأما التعارض فهو المنافاة والتضاد بين نفس مدلولي الدليلين والعلم بمخالفة أحدهما للواقع.

وحيث إن الكلام في كل منهما يختلف عن الأخر فسيكون البحث في كل منهما مستقلاً عن الآخر فيكون البحث في بابين:

ص: 212

الباب الأول : التزاحم

اشارة

والكلام في أمرين:

الأمر الأول : مقتضى القاعدة الأولية في التزاحم

والظاهر على ما عليه الأعلام هو التخيير مع فرض عدم وجود المرجحات التي يأتي الكلام عنها في الأمر الثاني، وذلك بما أن المكلف عاجز عن فعلهما معاً دون فعل أحدهما فلا موجب لسقوطهما معاً عن التكليف، بل سقوط أحدهما بسبب العجز عن الجمع في الامتثال، وعليه يحكم العقل بلزوم فعل أحدهما وهو المقدور للمكلف، ومع فرض عدم وجود المرجح لأحدهما على الآخر فيكون ترجيحه بلا مرجح، فيكون المكلف مخيراً بفعل ما شاء منهما بحكم العقل، ضرورة عدم سقوط التكليف به بعد فرض عدم العجز عن الإتيان به لوحده.

الأمر الثاني : ما ذكر من المرجحات لتقديم أحد المتزاحمين

أولاً : كون أحد الواجبين ليس له بدل والآخر له بدل

فيقدم ما لا بدل له على ماله البدل، كما إذا كان أحد الواجبين تخييراً والأخر تعيينياً، فيقدم التعييني على التخيري؛ لأن التخيري حيث كان له بدل يمكن الامتثال به، لأنه ليس مطلوباً بعينه كالواجب التعييني الذي لا بدل له، فلابد من امتثال التعييني لعدم البدل له في مقام الامتثال، والانتقال للبدل في

ص: 213

التخيري، كما إذا تزاحم أداء الدين مع إطعام ستين مسكيناً كفارة إفطار يوم من شهر رمضان، فيقدم وفاء الدين على الإطعام؛ لإمكانه امتثال الكفارة بالصوم، دون وفاء الدين الذي لا بدل له إلا الوفاء بالمال.

وكما إذا كان أحد الواجبين له بدل اضطراري دون الآخر، كالطهارة المائية من الحدث والطهارة من الخبث، فتقدم الطهارة من الخبث على الطهارة المائية من الحدث؛ لأن الطهارة من الخبث لا بديل لها حال الاضطرار، لعدم وقوع التطهير بغير الماء، بينما الطهارة المائية لها بديل اضطراري وهو الطهارة الترابية، فإذا كان عنده ماء لا يكفي إما لتطهير بدنه من المني آو الغسل للجنابة، فيلزمه تطهير بدنه من نجاسة المني بالماء والتيمم بدل الغسل للجنابة.

ثانياً : كون أحد الواجبين عينياً والآخر كفائياً

فيقدم العيني على الكفائي؛ لأن العيني لازم للمكلف بشخصه ولا يسقط التكليف عنه بفعل غيره، بينما الكفائي يسقط التكليف عنه بفعل غيره، كما إذا دار الأمر بين أداء صلاة الصبح إذا ضاق وقتها والصلاة على الميت، فتقدم صلاة الصبح لعدم سقوطها عنه بامتثال غيره، ويترك الصلاة على الميت لإمكان غيره الصلاة عليه ويسقط بذلك تكليفه هو.

ثالثا ً: كون أحد الواجبين مضيقاً والآخر موسعاً

فيقدم المضيق على الموسع لأنه مأمور بامتثال المضيق فوراً في أول أزمنة الإمكان، بخلاف الموسع فإنه مأمور به في تمام الوقت فيمكن تأخيره عن أول الوقت، كما إذا دار الأمر بين تطهير المسجد الذي يظهر أن وجوبه فوري والصلاة اليومية في أول الوقت، فيقدم تطهير المسجد على الصلاة، لسعة وقت الصلاة دون التطهير الذي يجب المبادرة لفعله.

رابعاً : كون أحد الواجبين تشترط فيه القدرة العقلية والأخر الشرعية

ص: 214

فيقدم المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالشرعية، وذلك لأن المشروط بالقدرة العقلية تام الملاك لاشتراطه بالقدرة العقلية وهي حاصلة فعلاً، فلا قصور في فعليته إلا بعدم فعل الآخر، بينما المشروط بالقدرة الشرعية يتوقف وجوبه فعلاً على تمامية ملاكه، والمفروض أنه يتوقف على القدرة العقلية والشرعية، فوجوبه فعلا مع وجود القدرة العقلية فقط غير تام لحاجة تمامية ملاكه لشرط آخر وهو القدرة الشرعية، وحيث أنه مأمور فعلاً بالواجب المشروط بالقدرة العقلية فقط وملاكه تام فهو مانع من تمامية القدرة الشرعية في الواجب الآخر؛ لأنه ممنوع من فعله فعلاً شرعاً بسبب التكليف فعلاً من الشارع بامتثال الواجب الآخر، فلا يكون الواجب المشروط بالقدرة الشرعية مزاحماً له حتى يقدم عليه، كما إذا دار الأمر بين وجوب النفقة على الزوجة، أو الوالدين ووجوب الحج إذا كان عنده مال يكفي لأحدهما، فيقدم وجوب النفقة لأنه يشترط فيها أن يكون قادراً عليها عقلاً وهو فعلاً قادر، على وجوب الحج لأن وجوبه مشرط بالاستطاعة عقلاً وشرعاً وبما أن الشارع أمره بالنفقة على الزوجة فهو غير قادر شرعاً على الحج وإن كان قادر عقلاً لكن مع ترك الواجب الآخر.

خامساً : كون أحدهما مشروطاً بالقدرة شرعاً فعلاً والآخر معلقاً

فيقدم المشروط فعلاً على غير الفعلي، كما إذا دار الأمر عند الفجر بين القيام في الصلاة لصلاة الصبح ويصلي الظهر من جلوس، أو يصلي الصبح من جلوس والقيام لصلاة الظهر، لعدم قدرته من القيام لهما معاً، فيقدم القيام لصلاة الصبح لأن وجوب القيام إليها فعلياً لحلول وقتها بينما القيام لصلاة الظهر معلق على دخول وقتها وهو الزوال، أو كما إذا كان عنده ماء لا يكفي إما لصلاة الصبح أو الظهر فإذا توضأ للصبح يلزمه التيمم لصلاةالظهر أو يتيمم للصبح ويتوضأ للظهر، فإنه يجب عليه الوضوء للصبح لفعلية الأمر بها والتيمم لصلاة الظهر عند دخول وقتها.

ص: 215

سادساً : كون أحد الواجبين أهم في نظر الشارع

فيقدم الأهم على المهم كما لو دار الأمر بين إنقاذ الغريق ووفاء الدين مثلاً، حيث يعلم من الشارع اهتمامه بحفظ النفس أكثر من الاهتمام بالأموال، أو كما إذا دار الأمر بين حفظ الإنسان من الغرق أو حفظ ماله من التلف، فيقدم حفظ نفسه على ماله، أو دار الأمر بين إنقاذ إنسان من الغرق أو حيوان محترم النفس، كما إذا كان مأكول اللحم فيقدم إنقاذ الإنسان، أو كما إذا دار الأمر بين إنقاذ النفس المحترمة من العطش وتطهير المسجد فيقدم إنقاذ النفس، إلى غير ذلك من الموارد التي يحرز بدليل من الشارع اهتمامه بها.

وهناك موارد أخرى ذكرت في الكتب الأوسع.

ص: 216

الباب الثاني : التعارض

اشارة

والكلام في أمور:

الأمر الأول : مقتضى القاعدة الأولية في المتعارضين

الظاهر أن القاعدة الأولية في التعارض تقتضي التساقط وعدم حجية كل منهما؛ لأن الدليلين المتعارضين لا تخلو حجيتهما إما من بناء العقلاء، وهو قاصر عما إذا عارضه ظهور آخر حيث يمنع من تمامية ظهوره، ويكونان حينئذٍ مجملين في الدلالة، وإما من دليل لفظي، وحيث أنهما تعارضا فإما أن يشملهما معاً دليل الحجية اللفظي حال التعارض، وهذا ممنوع، لأنه يلزم التعبد بالمتعارضين، أو يشمل أحدهما بعينه دون الآخر، وهذا ترجيح بلا مرجح، أو يقصر عنهما معاً وهو المتعين، وهو معنى عدم الحجية لكل منهما والتساقط.

الأمر الثاني : كيفية علاج المتعارضين

اشارة

الدليلان المتعارضان لا يخلوان إما أن يكونا معاً قطعيي الصدور، أو ظنيي الصدور، أو احدهما قطعي والآخر ظني.

فإذا كانا قطعيي الصدور كما إذا حصل التعارض بين ظاهر آيتين، أو ظاهر آية وظاهر خبر متواتر، أو خبر محفوف بقرينة قطعية بصدوره، فمن الظاهر لزوم رفع اليد عن ظهورهما وعدم اعتبار دليليتهما بل يرجع إما

ص: 217

لدليل آخر في الحكم، أو أصل عملي، وذلك لوضوح عدم شمول دليل الحجية حينئذٍ لكل منهما، لعدم إمكان ترجيح ظهور أحدهما على الآخر بعد فرض كونهما قطعيي الصدور، وذكر بعضهم لابد من محاولة تأويلهما وإزالة التعارض ويكون العمل على المعنى المؤول، ولكن أنكر آخرون ذلك لعدم ثبوت حجية التأويل، وعدم إحراز كون المعنى المراد هو المعنى المؤول، بل لابد من تساقطهما وعدم حجيتهما معاً.

وأما إذا كان أحدهما قطعياً والآخر ظنياً كما إذا تعارض ظاهر الآية مع خبر الواحد المظنون الصدور، أو ظاهر خبر متواتر وخبر واحد ظني الصدور، فلابد من الأخذ بظاهر القطعي الصدور وطرح ظاهر الظني، وذلك ليس لترجيح أحد الظهورين على الآخر؛ لأن الظاهر تساويهما في الحجية من جهة الظهور، بل للأخبار الكثيرة الدالة على أن كل خبر خالف الكتاب أو السنة فهو (زخرف وباطل، أو لم نقله، أو فاضربوه على الجدار)(1)وما شابه ذلك من العبارات الدالة على طرحه وعدم حجيته، ولا فرق بين كون المخبر به عادل أو فاسق؛ لأنه من شرائط حجية الخبر عدم مخالفته الكتاب والسنة، فالخبر المخالف لهما ليس بحجة أصلا.

وأما إذا كانا ظنني الصدور كخبري الواحد الظنيين، فمقتضى القاعدة الأولية كما تقدم هو التساقط لتساويهما من حيثية الظهور والصدور ولا مرجح لأحدهما، لكنه وردت نصوص كثيرة علاجية لحالة التعارض لابد من التعرض لها.

لأن التعارض إما أن يكون بنحو التباين، كما إذا دل أحدهما على الوجوب والآخر على عدم الوجوب، أو على نحو العموم من وجه، وعليه يكون الكلام على كلا الفرضين.

ص: 218


1- وسائل الشيعة كتاب القضاء أبواب صفات القاضي
الفرض الأول : التعارض بين المتباينين

وذكر بعضهم أنه قد دلت عليه طوائف من النصوص لكنه حيث كان فيها مناقشات سنتعرض لأهمها وهي طائفتان:

الطائفة الأولى: دلت على التخيير بين المتعارضين، وهي عدة روايات نذكر أهمها:

منها: ما عن فقه الرضا (عليه السلام) (والنفساء تدع الصلاة أكثره مثل أيام حيضها وهي عشرة أيام، وتستظهر بثلاثة أيام ثمّ تغتسل، فإذا رأت الدم عملت كما تعمل المستحاضة، وقد روي ثمانية عشرة يوماً، وروي ثلاث وعشرين يوماً وبأيّ هذه الأحاديث أُخذ (أخذت) من جهة التسليم جاز)(1).

ودلالة هذه الرواية على التخيير بين المتعارضين تامة لكنه استشكل بعضهم بصحة نسبة الكتاب المذكور للإمام (عليه السلام) مع أن إرجاع الإمام (عليه السلام) للتخيير في واقعة شخصية للروايات لا يناسب وظيفته وهي بيان الحكم الواقعي المطلع عليه.

ومنها : ما في ذيل مرفوعة زرارة المذكورة في كتاب عوالي اللآلي من قوله (عليه السلام) بعد فرض الراوي كلا الخبرين موافقاً للاحتياط أو مخالفاً له (إذن فتخير أحدهما فتأخذ به ودع الآخر)(2).

واستشكل بعضهم بضعفها من جهة كونها مرفوعة في كتاب العوالي عن العلامة وان الراوي عن زرارة لم تثبت وثاقته فضلا عن عدم وجودها في كتب العلامة الذي نسب الرفع عنه وغير ذلك من الإشكالات فيها.

ومنها : ما رواه أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي عن الحسن بن

ص: 219


1- مستدرك الوسائل باب 1 من أبواب النفاس ح1
2- مستدرك الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح2

الجهم عن الرضا (عليه السلام) ( قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ، ولا نعلم أيّهما الحق ؟ قال (عليه السلام): فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت)(1).

وهذه الرواية من جهة دلالتها على التخير بين المتعارضين ظاهرة إلا أنه استشكل بعضهم بكونها مرسلة لا يمكن الاعتماد عليها.

ومنها : ما رواه أيضاً الطبرسي مرسلاً عن الحارث بن مغيرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال ( إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة، فموسّع عليك حتى ترى القائم، فتردّ عليه)(2).

واستشكل بعضهم بأن هذه الرواية - مضافاً إلى ضعف سندها بالإرسال - لا دلالة لها على حكم المتعارضين لأن مفادها حجية أخبار الثقة إلى ظهور الحجة.

ومنها: ما رواه الكليني ( قدس سره ) في الموثق عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال (سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه، أحدهما يأمره بأخذه، والآخر ينهاه عنه، كيف يصنع ؟ قال: يرجئه حتى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتى يلقاه)(3).

والتخيير فيها من جهة قوله (عليه السلام) في سعة أي المراد سعة من العمل بين الروايتين

وأستشكل بعضهم بأن السعة المراد منها السعة في بقائه على جهله لأنه حصل عنده علم إجمالي بالتكليف المردد بين الوجوب والحرمة، وهذا العلم وإن تنجز في حقه لكنه المكلف لما كان جاهلاً في تعيين حكمه منهما

ص: 220


1- وسائل الشيعة باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 40
2- وسائل الشيعة باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 41
3- وسائل الشيعة باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 5

فهو معذور في جهله لحين يلقى من يرفع له جهله وهذا غير التخيير في مقام العمل مع إحراز كلا الحكمين

وأن مورد هذه الرواية دوران الأمر بين المحذورين حيث إنّ أحد الخبرين يأمر والآخر ينهى، والعقل يحكم فيه بالتخيير بين الفعل والترك، وقول الإمام ( عليه السلام ) (فهو في سعة . . . إلخ) لا يدل على أزيد منه.

الطائفة الثانية:

دلت على الترجيح بين الأخبار المتعارضة بمرجحات منها:

مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله (عليه السلام) الواردة في مورد الخصومة.

(قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى أن قال: فإن كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما، واختلفا فيهما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم {حديثنا} ؟ فقال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. قال: فقلت: فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا، لا يفضل {ليس يتفاضل} واحد منهما على صاحبه. فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فان المجمع عليه لا ريب فيه...إلى أن قال: قلت: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة. قلت: جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة، ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم، بأي الخبرين يؤخذ؟ فقال: ما خالف العامة ففيه

ص: 221

الرشاد. فقلت: جعلت فداك، فان وافقهما الخبران جميعاً؟ قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل --- حكامهم وقضاتهم ---- فيترك، ويؤخذ بالآخر. قلت: فان وافق حكامهم الخبرين

جميعاً؟ قال: إذا كان ذلك فأرجئه حتى تلقى إمامك، فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات)(1).

واستشكل بعضهم فيها بضعف السند من جهة عدم ثبوت وثاقة عمر بن حنظلة، وآخرون بأن موردها تعارض الحَكَمين في القضاء الذي لا مجال فيه للتخير لعدم فض الخصومة بالتخيير ولا يتعدى منه للفتوى التي يمكن فيها التخيير، كما أنه قد يظهر منها اختصاصها بزمن الحضور فلا تنفع دليلاً في زمن الغيبة.

ومنها: صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله (قال: قال الصادق عليه السلام: إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه)(2).

ومنها: صحيح الحسن بن الجهم (قال: قلت للعبد الصالح عليه السلام: هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إلا التسليم لكم؟ فقال: لا والله لا يسعكم إلا التسليم لنا. فقلت: فيروى عن أبي عبد الله عليه السلام شئ، ويروى عنه خلافه، فبأيهما نأخذ؟ فقال: خذ بما خالف القوم، وما وافق القوم فاجتنبه)(3).

ومنها الصحيح عن محمد بن عبد الله (قلت للرضا (عليه السلام) كيف نصنع

ص: 222


1- وسائل الشيعة كتاب القضاء باب 9 من أبواب صفات القاضي ح1
2- وسائل الشيعة كتاب القضاء باب9 من أبواب صفات القاضي ح29
3- السابق ح31

بالخبرين المختلفين؟ فقال: إذا ورد عليكم خبران مختلفان فانظروا ما يخالف منهما العامة فخذوه، وانظروا إلى ما يوافق أخبارهم فدعوه)(1)34.

الفرض الثاني : التعارض بين العامين من وجه

إذا كان التعارض بين دليلين بينهما عموم من وجه، كما إذا ورد دليل يقول (بحلية أكل ما في سوق المسلم) وورد دليل أخر (بعدم جواز أكل السمك الذي لا فلس له) فيتعارض الدليلان في السمك الذي لا فلس له وفي سوق المسلمين، فالدليل الأول يجوز أكله والآخر ينهى عنه، ويفترق الأول في غير السمك مما في سوق المسلمين والثاني في السمك الذي له فلس.

فيظهر من بعض أنه يؤخذ من الدليلين بما يفترقان به لعدم التعارض، ويتساقطان بما اجتمعا به، فيحل كل ما في سوق المسلمين من غير السمك الذي لا فلس له، ويحرم كل سمك لا فلس له، وأما السمك الذي لا فلس له وفي سوق المسلمين فلا حكم له من أحد الدليلين بل لا بد من أخذ حكمه من دليل آخر.

وقد يظهر من آخرين الرجوع في مورد الاجتماع إلى مرجحات جهة الصدور والمضمون دون غيرها، لإمكان حمل بعض مضمونه على التقية دون البعض الآخر.

وقد يظهر من بعض أنه إذا كان العموم في كل من الدليلين مستفاداً من الوضع فيؤخذ بظاهر الخبرين في مورد الافتراق، ويرجع للمرجحات المنصوصة في مورد الاجتماع، ويؤخذ بالمرجح إن وجد، وذلك لإمكان التفكيك في الحجية من حيثية المدلول.

وإن كان العموم في كل منهما مستفاداً من الإطلاق فيتساقطان في مورد الاجتماع، ويكون كل منهما حجة في مورد الافتراق.

ص: 223


1- السابق ح

ولو كان العموم في احدهما بالوضع ولو كان خبراً وفي الآخر بالإطلاق سواء كان من الكتاب أم من السنة، يقدم الخبر ذو العموم الوضعي في مورد الاجتماع لعدم تمامية الإطلاق مع وجود عموم وضعي في قباله.

وفي ذلك كلام طويل ليس محله هذا المختصر.

الأمر الثالث : في ما ذكر كونه مرجحاً في التعارض.

اشارة

حيث تقدم أن الأصل الأولي في المتعارضين التساقط وعدم حجية كل منهما، ومن الظاهر أن هذا الأصل الأولي في تعارض الأخبار يخرج عنه ولا يتساقطان، وذلك لوجود نصوص كثيرة تتضمن حلولاً للتعارض بين الأخبار بالترجيح بينها، وعليه سيكون الكلام فيما ذكر كونه مرجحاً منصوص عليه.

أولا ً: الشهرة في الرواية

أي يؤخذ بالرواية المشهورة عند الأصحاب دون المتروكة والمهجورة عندهم، وذكرت في مقبولة عمر بن حنظلة بقوله (عليه السلام) فيها (المجمع عليه عند أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه)(1).

وفي مرفوعة زرارة (يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر)(2).

ومرسلة الكليني في ديباجة الكافي (وقوله (عليه السلام) خذوا بالمجمع عليه فإن المجمع عليه لا ريب فيه)(3).

ومرسلة المفيد (فخذوا بالمجمع عليه فإن المجمع عليه لا ريب فيه)(4).

ص: 224


1- وسائل الشيعة باب 9 من أبواب صفات القاضي ح1
2- مستدرك الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح2
3- الكافي ج1 ص8
4- مستدرك الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح11
ثانياً : صفات الراوي

من الأعدلية والأفقهية والأصدقية والأورعية والأوثقية.

وذكرت في المقبولة (الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما)(1).

ومرفوعة زرارة (خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك)(2).

ثالثاً : موافقة الكتاب

أي يؤخذ بالحديث الذي يوافق نصه القرآن الكريم أي توجد آية تتضمن الحكم الذي موجود فيه وذكرت في المقبولة (قال ينظر، فما وافق حكمه كتاب الله والسنة وخالف العامة فيؤخذ به، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة)(3).

وصحيح عبد الرحمن (فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه)(4).

ومرسلة الكليني (اعرضوهما على كتاب الله فما وافى كتاب الله عز وجل فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه)(5).

ومرسلة المفيد (فخذوا بما وافق منهما القرآن، فإن لم تجدوا لهما شاهداً من القرآن ...الخ)(6).

رابعاً : مخالفة العامة

أي يؤخذ بالحديث الذي يخالف حكمه الحكم الموجود عند العامة ويترك

ص: 225


1- وسائل الشيعة باب 9 من أبواب صفات القاضي ح1
2- مستدرك الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح2
3- وسائل الشيعة باب 9 من أبواب صفات القاضي ح1
4- وسائل الشيعة باب 9 من أبواب صفات القاضي ح29
5- الكافي ج1 ص8
6- مستدرك الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح2

الحديث الذي يوافق الحكم الذي عندهم، وذكرت في المقبولة (قال ينظر، فما وافق حكمه كتاب الله والسنة وخالف العامة فيؤخذ به، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة)(1).

وصحيح عبد الرحمن (فاعرضوهما على أخبار العامة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه)(2).

وصحيح الحسن بن الجهم (فقال: خذ بما خالف القوم، وما وافق القوم فاجتنبه)(3).

وخبر الحسين بن السري (فخذوا بما خالف القوم)(4).

وصحيح محمد بن عبد الله (فانظروا ما يخالف منهما العامة فخذوه، وانظروا على ما يوافق أخبارهم فدعوه)(5)

ومرفوعة زرارة (فقال: انظر ما وافق منهما العامة فاتركه، وخذ ما خالفه، فإن الحق فيما خالفهم)(6).

ومرسلة الكافي (دعوا ما وافق القوم، فإن الرشد في خلافهم).

ومرسلة المفيد (فخذوا بأبعدهما من قول العامة)(7).

خامساً : موافقة السُنة

أي يؤخذ بالحديث الذي يوافقه حديث آخر مما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله)

ص: 226


1- وسائل الشيعة باب 9 من أبواب صفات القاضي ح1
2- السابق ح29
3- السابق ح 31
4- السابق ح 30
5- السابق ح 34
6- مستدرك الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح2
7- السابق ح11

وذكرت في المقبولة (قال ينظر، فما وافق حكمه كتاب الله والسنة وخالف العامة فيؤخذ به، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة)(1).

سادساً : الإجماع

أي الحديث الذي على الحكم فيه إجماع الطائفة وذكر في ما ورد في الاحتجاج (وروي عنهم (عليه السلام) أيضاً أنهم قالوا: إذا اختلفت أحاديثنا عليكم فخذوا بما اجتمعت عليه شيعتنا، فإنه لا ريب فيه)(2).

سابعاً : الأحدثية

أي الأخذ بالمتأخر زماناً فيكون الأحدث هو الحجة دون المتقدم زماناً الذي يكون قديماً بالنسبة إليه ووردت في معتبر المعلى بن خنيس (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ ؟ فقال: خذوا به حتى يبلغكم عن الحي، فإن بلغكم عن الحي فخذوا بقوله. قال: ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: إنا والله لا ندخلكم إلا في ما يسعكم)(3).

وفي خبر أبي عمرو الكناني: (قال لي أبو عبد الله عليه السلام: يا أبا عمرو أرأيت لو حدثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثم جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك بأيهما كنت تأخذ ؟ قال: بأحدثهما وأدع الآخر. فقال: قد أصبت يا أبا عمرو أبى الله إلا أن يعبد سرا. أما والله لئن فعلتم إنه لخير لي ولكم، أبى الله عز وجل لنا في دينه إلا التقية)(4).

ص: 227


1- وسائل الشيعة باب 9 من أبواب صفات القاضي ح1
2- السابق ح43
3- السابق ح8
4- وسائل الشيعة باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 17

وفي مرسل الحسين بن المختار عنه عليه السلام: (قال: أرأيتك لو حدثتك بحديث العام ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه بأيهما كنت تأخذ ؟ قال: كنت اخذ بالأخير. فقال لي: رحمك الله)(1).

وفي مرسل الكليني: (وفي حديث آخر: خذوا بالأحدث)(2).

ثامناً : موافقة الاحتياط

أي تأخذ بما يقتضيه الاحتياط للدين وتترك الأخر وذكر ذلك في مرفوعة زرارة (فقال: إذن فخذ ما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر)(3).

وفي بعضها كلام في كونها مرجحات أم لا وكلام في التقديم والتأخير فيما بينها وغير ذلك يضيق عنه هذا المختصر.

والحمد لله رب العالمين هذا ما أردنا ذكره من المهم من المطالب الأصولية المهمة التي تنفع الطالب في بداية مشواره مع الأصول بحسب نظري القاصر وإن كان فيه خلل فهو من مساوئ العبد الحقير.

ص: 228


1- السابق ح 7
2- السابق ح 9
3- مستدرك الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح2

خاتمة الكتاب

تم بحمد الله تعالى ما أردنا سرده من بعض المطالب الأصولية المهمة التي يحتاجها الطالب في بداية دراسته لعلم الأصول، وكذلك تنفع الباحث عن علم الأصول من دون تعمق في مطالبه وهناك مطالب أخرى كثيرة اعرضنا عن ذكرها لطول الكلام فيها، ومن ثم أحلناها للمراحل اللاحقة والكتب المطولة.

ولم نذكرها ليس استهواناً بها أو لعدم أهميتها في علم الأصول بل لقناعتنا بكفاية هذه المطالب لذهن الطالب في هذه المرحلة ولمن يريد الإطلاع على علم الأصول خصوصاً مع عمق الكلام في بعضها وسعته في الآخر بما لا يناسب الاختصار الذي كنا ننشده من هذا الكتيب.

نسأل الله تعالى أن نكون قد وفقنا لهذا العمل المتواضع لخدمة المؤمنين، ونرجو من الله تعالى أن ينفع به من يريد النفع وينفعني به يوم لا ينفع مال ولا بنون، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم إنه نعم المولى ونعم المعين، والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

وقد تم الانتهاء من تسويد هذه الأوراق بيد الأقل الذي سودت وجهه الذنوب (علي السيد محمد حسين الحكيم) جنب الحرم المطهر لسيد

ص: 229

الأوصياء وخليفة اشرف الأنبياء زوج البتول وبن عم الرسول (صلى الله عليه وآله) مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم في النجف الأشرف، وكان ذلك يوم الاثنين المصادف الخامس والعشرون من شهر ذي الحجة الحرام، السنة الخامسة والثلاثون بعد الألف والأربعمائة من الهجرة النبوية الشريفة، الموافق للعشرين من تشرين الأول للسنة الرابعة عشرة بعد الألفين ميلادية.

25/ذو الحجة/1435 ه 2014/10/20 م

ص: 230

مصادر الكتاب

فرائد الأصول للشيخ الأعظم الأنصاري (قده) طبع مؤسسة مطبوعات ديني إيران قم المقدسة.

كفاية الأصول للشيخ الأخوند الخونساري (قده) طبع مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة سنة الطبع 1424 ه الطبعة الثامنة.

أجود التقريرات تقريرات السيد الخوئي (قده) للميرزا النائيني (قده) طبع مؤسسة صاحب الأمر بقم المقدسة سنة الطبع 1419 ه الطبعة الأولى.

موسوعة السيد أبو القاسم الخوئي (قده) طبع مؤسسة الخوئي الإسلامية سنة الطبع 1434 ه الطبعة الخامسة.

أصول الفقه للشيخ محمد رضا المظفر (قده) طبع مطابع دار النعمان النجف الأشرف سنة 1390 ه الطبعة الثالثة.

المحكم في أصول الفقه للسيد محمد سعيد الحكيم (دام ظله) طبع دار الهلال قم سنة 1434 ه الطبعة الرابعة.

الكافي في أصول الفقه للسيد محمد سعيد الحكيم (دام ظله) طبع المؤسسة الدولية لبنان سنة 1423 ه الطبعة الثالثة.

ص: 231

ص: 232

الفهرس

مقدمة الكتاب

تمهيد

تعريف علم الأصول

منهجية البحث

ماهو الحكم الشرعي

الحكم التكليفي

الحكم الوضعي

القسم الأول في المسائل النظرية وفيه بابان

الباب الأول مباحث الألفاظ وفيه أمور

الأمر الأول في حقيقة الوضع

الأمر الثاني من هو الواضع للغة

الأمر الثالث في تقسيمات الوضع

الوضع التعييني والتعيني

الوضع الشخصي والنوعي

الوضع العام والموضوع له عام

الوضع العام والموضوع له خاص

الوضع الخاص والموضوع له خاص

ص: 233

الوضع الخاص والموضوع له عام

الأمر الرابع في تحقيق المعنى الحرفي

القول الأول في المعنى الحرفي

القول الثاني في المعنى الحرفي

القول الثالث في المعنى الحرفي

القول الرابع في المعنى الحرفي

الأمر الخامس في الحقيقة والمجاز

علامات الحقيقة

التبادر

صحة الحمل وعدمه وصحة السلب وعدمه

الإطراد

الأمر السادس في الترادف والإشتراك

عدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى

عدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى في التثنية والجمع

الأمر السابع في الحقيقة الشرعية

الأمر الثامن في الصحيح والأعم

أدلة القائلين بالوضع للصحيح

أدلة القائلين بالوضع للأعم

المبحث الأول من مباحث الألفاظ المشتق

المبحث الثاني من مباحث الألفاظ الأوامر وفيه أمور

الأمر الأول مادة الأمر

الأمر الثاني اعتبار العلو أو الإستعلاء في الآمر

ص: 234

الأمر الثالث دلالة الأمر على الوجوب

الأمر الرابع في صيغة الأمر

الأمر الخامس تقسيم الطلب إلى مولوي وإرشادي

الأمر السادس في دلالة صيغة الأمر

الأمر السابع ورود الأمر بعد الحظر أو توهمه

الأمر الثامن في دلالة الجملة الخبرية

الأمر التاسع دلالة الأمر على الفور أو التراخي

الأمر العاشر في تقسيمات المأمور به

الأول التعبدي والتوصلي

الثاني العيني والكفائي

الثالث التعييني والتخييري

الرابع النفسي والغيري

الخامس المطلق والمشروط

السادس المنجز والمعلق

السابع المطلق والموقت

الأمر الحادي عشر تكرر الأمر

المبحث الثالث من مباحث الألفاظ النواهي

في مادة النهي وصيغته

المبحث الرابع من مباحث الألفاظ المفاهيم

معنى المفهوم

مفهوم الموافقة

مفهوم المخالفة وفيه موارد

ص: 235

المورد الأول مفهوم الشرط وفيه أمور

الأمر الأول أقسام الجملة الشرطية

الأمر الثاني في دلالة الجملة الشرطية على المفهوم

الأمر الثالث إذا تعدد الشرط وأتحد الجزاء

الأمر الرابع التداخل وعدمه في الأسباب والمسببات

المورد الثاني مفهوم الوصف

المورد الثالث مفهوم الغاية

المورد الرابع مفهوم الحصر

المورد الخامس مفهوم اللقب

المورد السادس مفهوم العدد

المبحث الخامس من مباحث الألفاظ العام والخاص

الفرق بين التخصيص والتخصص

ويقع الكلام في أمور

الأمر الأول أقسام العموم

العموم الاستغراقي

العموم المجموعي

العموم البدلي

الأمر الثاني فيما يدل على العموم

الأمر الثالث أقسام المخصص

المخصص المتصل

المخصص المنفصل

الأمر الرابع حكم العام بعد التخصيص

ص: 236

الأمر الخامس في إجمال المخصص

الشبهة المفهومية

الشبهة المصداقية

تتميم هل يصح التمسك بالعام إذا كان المخصص لبياً

الأمر السادس إذا تعقب العام ضمير يعود حكمه إلى بعض أفراده

الأمر السابع إذا تعقب الإستثناء عمومات متعددة

الأمر الثامن تخصيص العام بالمفهوم

المبحث السادس من مباحث الألفاظ المطلق والمقيد

التلازم بين الإطلاق والتقييد

موارد استفادة الإطلاق

مقدمات الحكمة

المقدمة الأولى إمكان الإطلاق والتقييد

المقدمة الثانية عدم القرينة على التقييد

المقدمة الثالثة كون المتكلم في مقام البيان

المقدمة الرابعة عدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب

الباب الثاني في الملازمات العقلية

المبحث الأول في المستقلات العقلية

معنى الحسن والقبح

ملازمة حكم الشرع لحكم العقل

المبحث الثاني في غير المستقلات العقلية وفيه موارد

المورد الأول الإجزاء وفيه أمران

الأمر الأول إجزاء الأمر الاضطراري

ص: 237

الأمر الثاني إجزاء الأمر الظاهري

ثبوت الحكم بالأمارة وانكشاف الخطأ يقيناً

ثبوت الحكم بالأصل وانكشاف الخطأ يقيناً

ثبوت الحكم بالأمارة أو الأصل مع انكشاف الخطأ بحجة معتبرة

المورد الثاني مقدمة الواجب وفيه أمور

الأمر الأول أقسام المقدمة

مقدمة وجوب وواجب

مقدمة داخلية وخارجية

مقدمة عقلية وشرعية

الأمر الثاني الشرط المتأخر

الأمر الثالث المقدمات المفوتة

الأمر الرابع الأقوال في مقدمة الواجب

القول الأول

القول الثاني

القول الثالث

القول الرابع

القول الخامس

المورد الثالث مسألة الضد وفيها أمران

الأمر الأول الضد العام

الأمر الثاني الضد الخاص

المورد الرابع إجتماع الأمر والنهي

المورد الخامس اقتضاء النهي الفساد وفيه أمران

ص: 238

الأمر الأول النهي عن العبادة

الأمر الثاني النهي عن المعاملة

القسم الثاني المسائل المبتنية على العمل وفيه بابان

الباب الأول مباحث الحجج وفيها مقدمة بامرين

الأمر الأول في القطع وفيه فصول

الفصل الأول في حجية القطع

لزوم متابعة القطع

منجزية القطع ومعذريته

الفصل الثاني في التجري

الفصل الثالث القطع طريقي وموضوعي

الفصل الرابع عموم القطع لجميع أفراده

الأمر الثاني العلم الإجمالي وفيه فصلان

الفصل الأول كفاية العلم الإجمالي في تنجز التكليف ووصوله

الفصل الثاني كفاية العلم الإجمالي في امتثال التكليف وفيه أمران

الأول كفاية الإمتثال الإجمالي مع إمكان التكليف

الثاني كفاية الامتثال الإجمالي مع العلم الإجمالي

مباحث الحجج

في معنى الحجة

المبحث الأول الإطمئنان

المبحث الثاني الظواهر

المورد الأول حجية الظواهر بحق من قصد بالإفهام

المورد الثاني حجية الظواهر وإن لم تفد الظن أو ظن بخلافها

ص: 239

المورد الثالث حجية ظواهر القرآن الكريم

المبحث الثالث قول اللغويين

المبحث الرابع خبر الواحد

أدلة المنع من حجية الخبر

الكتاب المجيد

السنة الشريفة

الإجماع

أدلة إثبات حجية الخبر

الكتاب المجيد

آية النبأ

آية النفر

آية الكتمان

آية الإيذاء

السنة الشريفة

الإجماع

المبحث الخامس الإجماع

الإجماع المحصل

طريق حصوله من الحس

طريق حصوله من الحدس

طريق حصوله بقاعدة اللطف

الإجماع المنقول

المبحث السادس الشهرة

ص: 240

الشهرة في الرواية

الشهرة في الفتوى

الشهرة العملية

الشهرة الفتوائية

المبحث السابع السيرة

الأول سيرة العقلاء

الثاني سيرة المتشرعة

الباب الثاني في الأصول العملية

المبحث الأول البراءة

البراءة العقلية

مقتضى الأصل الأولي العقلي

أدلة البراءة العقلية

الكتاب المجيد

السنة الشريفة

مقتضى الأصل الثانوي الشرعي

أدلة البراءة الشرعية

الكتاب المجيد

السنة الشريفة

الإجماع

العقل

الاستصحاب

أدلة الاحتياط

ص: 241

الكتاب المجيد

السنة الشريفة

العقل

المبحث الثاني الاحتياط

المبحث الثالث التخيير وفيه فروض

الأول دوران الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة عدم تعيين الدليل

الثاني دوران الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة إجمال الدليل

الثالث دوران الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة تعارض الأدلة

الرابع دوران الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة اشتباه الموضوع

المبحث الرابع الاستصحاب وفيه أمور وتتمة

الأمر الأول أدلة الاستصحاب

الأول سيرة العقلاء

الثاني الإجماع

الثالث السنة الشريفة

الأمر الثاني أركان الاستصحاب

الأول اليقين بتحقق الشئ سابقاً

الثاني الشك في بقاء ذلك المتيقن واستمراره

الثالث الحكم ببقاء حكم اليقين السابق لزمان الشك اللاحق

تتمة تنبيهات الاستصحاب

التنبيه الأول استصحاب الكلي

القسم الأول

القسم الثاني

ص: 242

القسم الثالث

القسم الرابع

التنبيه الثاني استصحاب التدريجيات

الأول في غير الزمانيات

الثاني في الزمانيات

التنبيه الثالث استصحاب العدم الأزلي

التنبيه الرابع الاستصحاب التعليقي

التنبيه الخامس استصحاب الحكم الشرعي

التنبيه السادس أصالة تأخر الحادث

الجهل بتاريخ الحادثين

الجهل بتاريخ أحد الحادثين

خاتمة في التزاحم والتعارض

معنى التزاحم والتعارض

الباب الأول التزاحم

الأمر الأول: مقتضى القاعدة الأولية في التزاحم

الأمر الثاني: ما ذكر من المرجحات لتقديم أحد المتزاحمين

كون أحدهما ليس له بدل والآخر له بدل

كون أحدهما عينياً والآخر كفائياً

كون أحدهما مضيقاً والآخر موسعاً

كون أحدهما تشترط فيه القدرة العقلية والآخر الشرعية

كون أحدهما تشترط فيه القدرة الشرعية والآخر معلقاً

كون أحدهما أهم بنظر الشارع

ص: 243

الباب الثاني: التعارض

الأمر الأول: مقتضى القاعدة الأولية في المتعارضين

الأمر الثاني: كيفية علاج المتعارضين

التعارض بين المتباينين

نصوص التخير بين المتعارضين

نصوص الترجيح بين المتعارضين

التعارض بين العامين من وجه

الأمر الثالث: في ما ذكر كونه مرجحاً في التعارض

الشهرة في الرواية

صفات الراوي

موافقة الكتاب

مخالفة العامة

موافقة السنة

الإجماع

الأحدثية

موافقة الاحتياط

خاتمة الكتاب

مصادر الكتاب

الفهرس

ص: 244

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.