الأمة الواحدة

هویة الکتاب

بسم الله الرحمن الرحیم

الأمة الواحدة؛ مجلة نصف سنوية

السنة الأولى، العدد الأول، خريف و شتاء 2015م

صاحب الامتياز: المؤتمر العالمي لمواجهة التيارات المتطرفة و التكفيرية

المدير المسؤول: عبدالمجيد حکيم إلهي

رئيس التحرير: مهدي فرمانیان

نائب رئيس التحرير: أحمد كوثري

المدير التنفيذي : محمد مهدي عمادي

هیئت التحرير:

- أ. السيد عمار أبو رغيف العراق

- أ. الشيخ عليرضا أعرافي؛ إيران

- أ. الشيخ محمد علي التسخيري؛ إيران

- أ. د. الشيخ أحمد بدر الدين حسون؛ سوريا

- أ. الشيخ مولانا نذير أحمد سلامي؛ إيران

- أ. د. عمر شهاب ؛ إندونيسيا

- أ. د. الشيخ مهدي الصميدعي العراق

- أ. د. الشيخ عبدالله كتمتو؛ سوريا

- أ.د. الشيخ أحمد مبلغي؛ إيران

تصميع الغلاف: أمير أكبر زاده

الإخراج الفني: محبوب محسني

السعر : 12000 تومان

لأعمال الخيرية الرقمية: جمعية الإمام زمان (عج) إصفهان المساعدة

ص: 1

اشارة

إيران، قم، ساحة معلم، شارع المعلم الجنوبي، الحوزة الامام الكاظم علیه السلام العلمية، الامانة العامة للمؤتمر

هاتف: 982537842161+

Email: info@takfircongress.com ... website: www.takfircongress.com

المسؤولية العلمية للمقالة تقع على عاتق كاتبها

و آراؤه لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المجلة.

ص: 2

«دعوة عامة»

لإرسال المقالات

يسر مجلة "الأمة الواحدة" أن توجه دعوة إلى جميع العلماء و الباحثين و الكتاب الأعزاء في العالم الإسلامي لتدوین مقالات في إطار المحاور و الأهداف التي يسعى إليها المؤتمر و هي «محاربة التيارات المتطرفة و التكفيرية» مساهمة منهم في تفعيل دور العلماء المسلمين في التصدي للتيارات التكفيرية و تحقيق الوحدة المنشودة بين المسلمين و التقريب بين أجزاء الأمة الإسلامية على هدي الآية القرآنية الكريمة «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ»

محاور المجلة النصف سنوية:

- فقه التكفير

- المسيرة الفكرية للتيارات التكفيرية

- أواليات التصدي للتيارات التكفيرية

- الوحدة في الكتاب و السنة و الفكر الإسلامي

- نقد و تحليل لأسس و عقائد التيارات التكفيرية

بالإضافة إلى سائر الموضوعات ذات الصلة بالأمة الواحدة

ص: 3

به دلیل تدوين المقالات

يرجي من الباحثين الكرام الالتزام بالملاحظات التالية عند تدوين المقالات:

1. أن لا تكون المقالة المرسلة قد نشرت سابقا أو حاليا في أي مجلة أخرى.

2. أن تكون المقالة عبارة عن بحث مستند ينسجم مع موضوعات المجلة التخصصية، و لا يقبل أن تكون المواقع الالكترونية جزءا من المصادر المعتمدة في البحث

3. تقع المسؤولية العلمية للمقالة على كاتبها أو كتابها، ولا تعبر الآراء المطروحة في المقالة بالضرورة عن وجهة نظر المجلة.

4. یرجی تنضيد حروف المقالة في برنامج Word و خط Noor_Mitra بحجم 16 بالنسبة للمتن و 10 للهوامش

5.يجب أن لا يزيد عدد صفحات المقالة المرسلة عن 20 صفحة بواقع 300 کلمة للصفحة كحد أعلى، لذا يرجى عدم الإطناب ما أمكن ذلک (و في حال زادت الصفحات عن العدد المقرر سيتم اجتزاؤها).

6. تقدم ملفات المقالات المنضودة حضوريا أو ترسل عبر البريد الألكتروني E-mail .

7. للمجلة الحرية التامة في قبول أو رفض أو تلخيص المقالات المرسلة، و في كل هذه الحالات لن ترد إلى أصحابها.

8. في حال اختيار المقالة و دفع حقوق التأليف لكاتبها، فإن المؤسسة ستكون صاحبة الامتياز، ما يتيح لها نشرها باسم كاتبها، و حيثما ارتأت ذلک.

9. لا مانع من الاستعانة بموضوعات المجلة في كتابة المقالات و الكتب شرط ذكر المصدر.

كما يرجي من الكتاب المحترمين تنظیم مقالاتهم على النحو التالي:

1. الصفحة الأولى: صفحة العنوان و تتضمن عنوان المقالة و اسم و لقب كاتبها و رتبته العلمية و بریده الالكتروني (Email)، و رقم هاتفه و عنوانه

2. المستخلص و الكلمات المفتاحية: و يشعلان حيزا من 5 إلى 7 أسطر.

3. المقدمة: و تتضمن عرض الموضوع و ضرورات البحث و تاريخه و أسسه النظرية و أهدافه و الأسئلة و الفرضيات التي يطرحها.

4. يتم ترتيب إحالات الهوامش على النحو التالي:

الاسم و اللقب، اسم الكتاب، الجزء ...، ص ....

الاسم و اللقب، «اسم المقالة»، ص...

5. وفي ختام البحث يعرض الكاتب استنتاجاته و ما توصل إليه ضمن 300-400 کلمة تحت عنوان «خلاصة البحث».

6. ثم يذكر في ختام المقالة كشفا بالمصادر و المعلومات الخاصة بشأنها وفقا للترتيب التالي:

اللقب، الإسم : اسم الكتاب أو «المقالة»، المترجم أو المنقح، مكان النشر: الناشر، السنة.

مثال:

إلغار، حامد، وهابیگری، المترجم: أحمد نمایی، مشهد: مؤسسة البحوث الإسلامية، ط. الثانية، 2008م.

ص: 4

فهرس المحتويات

المقالة الافتتاحية: التيارات التكفيرية و التنكر للأصول الإسلامية الواضحة...7

نص المقابلة الصحفية التي أجرتها مجلة «الامة الواحدة» مع سماحة آية الله العظمی مکارم شيرازي (دام ظله الوارف)...11

الفتوى و دورها في حرمة تكفير أهل القبلة في فكر علماء الإسلام علاء محمد سعيد...21

الأثر العكسي للارهاب على الدول الراعية له: مقاربة تحليلية محمد هاشم البطاط...49

الإسلام دين السلام و الرأفة و المحبة و الرحمة عبد الله الشريف الحسني...69

تكفير التكفير: العنف التكفيري كوظيفة للاستعمار الجديد ادریس هاني...97

فقه التكفير بين البرهانية الشرعية و الاستخدام القصدي عبد الامير کاظم زاهد...141

عرض لكتاب «إجماع المسلمين على احترام مذاهب الدين» أحمد كوثري...163

عرض لكتاب «ببليوغرافيا التكفير» أبو الفضل قاسمي...173

قائمة بمنشورات المؤتمر العالمي حول مواجهة التيارات المتطرفة و التكفيرية...183

ص: 5

ص: 6

المقالة الافتتاحية التيارات التكفيرية و التنكر للأصول الإسلامية الواضحة

من خلال مراجعة القواعد و الأصول الفقهية التي تعاهدها المفسرون و المحدثون و المتكلمون و الفقهاء المسلمون على مدى 1400 سنة من عمر الإسلام، و مقارنتها مع المفاهيم التي يطرحها التكفيريون في عصرنا الراهن، سوف نتبين بأن الفريق الثاني يتنكر لجملة من القواعد و المبادئ الراسخة في الفكر الإسلامي، مدفوعا، في الأعم الأغلب، بجهله و أهوائه و نزواته، و مسببا كل هذه الكوارث و الفجائع التي يعيشها عالمنا اليوم. و المبادئ المذكورة عبارة عن:

1. المسلم هو من آمن بالإسلام، إلا إذا أقيم دليل قاطع على كفره أو فسقه. فإجماع علماء الإسلام و ما يصرح به قسم كبير من علماء السلفية هو أن المسلم من نطق بالشهادتين، و طبقا للقواعد الفقهية، فإن التخلي عن اليقين السابق لا يزول بأقوال الآخرين أو بالاحتمالات و الاجتهادات، ذلك لأن التكفير يستند إلى الدليل النقلي، و كل ما يحتاجه هو دليل نقلي شرعي بين فحسب(1) . بناء على هذا، فإن التكفير لا يثبت إلا بدليل واضح على إنكار الألوهية أو النبوة أو المعاد أو تكذيب أنبياء الله أو إنكار ضروري الدين. في حين نجد أن التيارات التكفيرية تكفر الآخرين على أدنى شبهة و أضعف دلیل، مستندة في ذلك إلى اجتهادات صادرة عن أشخاص قليلي العلم و الخبرة، و هو ما يتناقض مع روح الإسلام.

ص: 7


1- محمد بن ابراهيم ابن الوزير، العواصم والقواصم، ج 4، ص 178

2. لقد كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في تعاطيه مع المنافقين يكتفي منهم الإقرار بالشهادتين فقط، ليحسبهم من المسلمين و يعاملهم على هذا الأساس، فهو صلی الله علیه و آله و سلم لم يكفرهم قط و لم يغمطهم حقوقهم في بيت مال المسلمين. لذلك، فإن العدول عن هذه القاعدة و إضافة زيادات على ما شرعه الله تبارك و تعالى و عمل به نبي الإسلام صلی الله علیه و آله و سلم مخالف لشريعة النبي و سنته.

3. الخلط بين الكفر الأكبر و الكفر الأصغر؛ عقديا كان أو عمليا، هو من أهم المآخذ على التيارات التكفيرية. فرفع الكفر الأصغر إلى مرتبة الكفر الأكبر هو، للأسف، خطأ يؤدي إلى توسيع دائرة التكفير و استباحة دماء المسلمين و يشيع القتل و العنف و الإسلاموفوبيا.

4. لقد ربطت السلفية الجهادية بين التكفير و موضوعات أخرى؛ من بينها الحاكمية و الجاهلية و الجهاد و العمل بالفروع، و اعتبرت التكفير نتيجة حتمية لعدم الامتثال لفكرها. كما أن تقسيم العالم الإسلامي إلى «دار الإسلام» و «دار الكفر» هو من النتائج الخطيرة لهذا الفكر و الذي لا يستند إلى أي دليل شرعي.

5. ترفض التيارات التكفيرية الحالات التي يعتبرها الفقه الإسلامي غير كافية لتكفير الآخرين مثل «لازمة المذهب» و «نتيجة المذهب» و تنظر إلى لازمة المذهب على أنها عين المذهب، و في هذا خلط على درجة كبيرة من الخطورة، لطالما حذر منه علماء الإسلام على مدى التاريخ.

6. تتجاهل التيارات التكفيرية موانع التكفير من قبيل الجهل و الخطأ و التأويل و الانقياد للآخرين، و ذلك على العكس مما جرى عليه نهج فقهاء الإسلام إذ كانوا يتورعون عن تكفير الآخرين حيثما وجدت مثل هذه الموانع

7. لقد تنكر التكفيريون للقاعدة الذهبية القائلة بأن قول الكفر لا يعني تكفير قائله؛ إلا بعد رفع الشبهات و الموانع؛ فهم يقولون إن الذي يرتكب المعصية و يقيم عليها كافر، في حين أنه يعتبر مسلم عاص طبقا لآراء معظم علماء الإسلام. لقد كفر

ص: 8

التكفيريون جميع الحكام بصورة مطلقة و بلا استثناء؛ لأنهم، من وجهة نظرهم، رضوا بغير ما أنزل الله . لم يتورع هؤلاء عن تكفير حتى الشخصيات الروحية و علماء الدين؛ لأنهم، بحسب زعمهم، لم يكفروا الحكام. كما يرى هؤلاء، أن من تعرض عليه فكرة التكفير و يرفضها و من لا يلتحق بجاعتهم و لا يبايع أميرهم كافر. و من يلتحق بهم ثم يتخلى عنهم لاحقا مرتد و دمه مباح. هذا القول و السلوک يتطابق تماما مع قول الخوارج و سلوكهم الذين وصفهم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالمارقين.

8. لقد رفض الفكر التكفيري القاعدة القائلة بأن حكم التكفير، بحسب الموروث العقدي الإسلامي، لا يصدر إلا عن مجتهد مشهود له بالإحاطة العلمية و الورع و العدالة؛ أو عن جهة قضائية تمتلك معايير القضاء، و حق إصدار أحكام التكفير إلى الأجهزة التابعة لها و إقامة الحد على المكفرین (بفتح الفاء).(1)

و خلاصة القول، إن التيارات التكفيرية ضربت عرض الحائط جهود الفقهاء و علماء الإسلام على مدى ألف سنة في مجال شرح المفاهيم المهمة مثل الإيمان و الكفر و التوحيد و الشرک، و كأنه لم يصدر أي رأي أو قول في هذا المجال عن أية شخصية، و كأن العالم الإسلامي يعيش في القرن الأول الهجري، لذا اقتضى الأمر إعادة صياغة المفاهيم الدينية و تعريفها من جديد.

في هذا الإطار، تمضي مجلة «أمة واحدة» في طريقها لتقصي المفاهيم الإسلامية الأصيلة التي تنكرت لها الجماعات التكفيرية و إعادة قراءتها من جديد. فالقواعد التي ذكرناها آنفا هي مجموعة من مئات القواعد التي دأب جهابذة فقهاء الإسلام بعد جهود مضنية على شرحها و تبيينها لقرون متوالية، حتى تمكنوا في نهاية المطاف من رسم ملامح الإسلام الأصيل و وضعه في متناول أيدينا، و لكن بظهور الجماعات التكفيرية في عصرنا الحاضر فإن الأمر يتطلب إعادة شرح و تبيين لتلك القواعد إذا أردنا سد المنافذ على التطرف و التكفير .

ص: 9


1- انقر: مقالة «فقه التكفير»، هذه المجلة، ص 141.

بهذه المناسبة، نتمنى على جميع العلماء والمفكرين و الكتاب في العالم الإسلامي إرسال مقالاتهم في المحاور و الموضوعات التي نذرت هذه المجلة نفسها لها، ليشاركوا في مهمة التصدي لآفة التكفير و التطرف. على أمل أن يأتي يوم يكون فيه عالمنا خال من أي تطرف أو تكفير .

مهدي فرمانیان

رئيس التحرير

ص: 10

نص المقابلة الصحفية التي أجرتها مجلة «أمة واحدة» مع سماحة آية الله العظمی مکارم شیرازي (دام ظله الوارف)

*نص المقابلة الصحفية التي أجرتها مجلة «أمة واحدة» مع سماحة آية الله العظمی مکارم شیرازي (دام ظله الوارف)(1)

في البداية نتقدم بجزيل الشكر والامتنان لسماحتكم على إتاحة هذه الفرصة لنا، سؤالنا الأول هو : ماذا كان هدفكم من عقد المؤتمر العالمي حول مخاطر التيارات التكفيرية؟

لقد ارتأينا تحقيق ثلاثة أهداف مهمة من وراء عقد هذا المؤتمر: الهدف الأول، أن نبرهن للعالم أن ما تقوم به الجماعات التكفيرية لا علاقة له بالإسلام لا من قريب و الا من بعيد، طبقأ لتأكيدات علماء الإسلام، و لذلك لا ينبغي أن تتخذ هذه الأعمال ذريعة لإثبات أن الإسلام دين عنف و رعب. فالإسلام دين الرحمة و الرأفة و المحبة و التعايش مع جميع الطوائف و المكونات المسالمة

الهدف الثاني، أن نبرهن لبعض السذج و المغرر بهم من الشباب الملتحقين بالجماعات التكفيرية ظنا منهم أن ما يفعلونه هو في سبيل الله و طلبا لمرضاته، أن

ص: 11


1- أجريت هذه المقابلة الصحفية في يوم الأربعاء 1- 12 -2015م في منزل سماحة آية الله العظمی مکارم شيرازي و قد حاوره كل من حجة الإسلام و المسلمين الدكتور مهدي فرمانیان و حجة الإسلام أحمد كوثري

نبرهن أن الطريق الذي يسلكونه لا يؤدي إلا إلى جهنم و الله عليم بذلك. فلا يضحوا بأنفسهم و أرواحهم في هذا الطريق، و لا يعطوا صفقة قلوبهم للتكفيريين.

الهدف الثالث، أن يتداول علماء الإسلام في الآليات و السبل الكفيلة بمواجهة هذا الخطر الداهم، و وضع المسلمين أمام مسؤولياتهم في هذا المجال.

أين تكمن جذور التكفير من وجهة نظر سماحتكم؟

1. في الاستبداد بالرأي و احتكار فهم معاني الكتاب و السنة

2. التعاطي الانتقائي مع آيات القرآن.

3. الخطأ الأكبر في تفسير الشرك و الإيمان .

بعبارة أخرى، أن هؤلاء يحتكرون بصورة عملية فهم و تفسير الكتاب و السنة و يقولون: إن معنى الشرك و الإيمان هو ما نقوله و على المسلمين كافة السمع و الطاعة، و من اعترض فليس له عندنا إلا السيف.

و كلما قيل لهؤلاء أن قراءتكم للشرك و الإيمان خاطئة من وجهة نظر كبار علماء الإسلام، و أن المحافل العلمية التي هي أفقه منكم و أعلم بالكتاب و السنة تقول بأن هذه القراءات خاطئة و غير صحيحة، قالوا الصحيح هو ما نقوله و حسب، و جميع العلماء المسلمين الذين يخالفون هذا النهج الفكري آثمون بمن فيهم علماء السلف حتى ألف عام قبل اليوم.

لقد كفر التكفيريون جميع حكام و ملوك البلاد الإسلامية استنادا إلى الآية الكريمة «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ»(1) و بالتالي اعتبروا مواجهتهم و التصدي لهم واجب. ما هو رأي سماحتكم في هذا الاستدلال، و ما وجه الإشكال فيه؟

وجه الإشكال في هذه المسألة هو أن المقطع الثاني في الآية الكريمة تكرر ثلاث مرات في القرآن الكريم؛ المرة الأولى «فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»، و المرة الثانية «أُولئِكَ هُمُ

ص: 12


1- المائدة: 44

الْفَاسِقُونَ» و المرة الثالثة «فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ»، و بدلالة الآيتين الأخريين يتبين لنا أن الكفر هنا لا يعني الخروج عن الإسلام، و إنها الفسق و الظلم

ماذا لو استدل هؤلاء أن من كفر يكون فاسقا و ظالمأ، و لكن من فسق ليس بكافر، و عليه فإن الآية الكريمة «فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» تحكم الآيتين السابقتين، فيكون الحكم بالنتيجة أن هؤلاء كفار، فما هو رد سماحتكم عليهم؟

ردنا هو أن الفاسق و الظالم يفسران الكافر، و الجمع بين هذه الآيات هو الذي يوجب ذلك. بمعنی، حين نقول الفاسق أو الظالم، إذا فهو ليس كافر.

يستند التكفيريون إلى حديث نبوي شريف مفاده أن حق الشهادتين هو أن يعمل المرء بهما و لا يعتمد على التوسل و الشفاعة، و أن يصلي ويصوم. بمعنى أنهم يعتقدون إن العمل جزء من الشهادتين. ما رأي سماحتكم في هذه المسألة، و ما هو مأخذكم على هذا الاستدلال؟

يقينا أنه كان من بين الصحابة و غير الصحابة أفراد عديدون يؤمنون بالله و بالنبي و يوم القيامة، و لكن كانت تشوب أعمالهم بعض الشوائب. مع ذلك لم يكن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يعاملهم معاملة الكفار. أفراد مثل الوليد بن عقبة الذي نزلت في حقه الآية الكريمة «إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا»(1) يدل هذا على أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لم يعاملهم ککفار، و أهم دليل يفند عقيدة الخوارج بأن كل معصية توجب الكفر، هو سلوك النبي الأكرم صلی اله علیه و آله و سلم، إذ لم يكن يعامل المذنبين كمعاملته الكافرين.

ربما قال هؤلاء إنه تبدر من المسلمين أعمال شركية، لهذا السبب فإن المسلم الذي يجمد على النطق بالشهادتين مشرك و كافر.

إذا كان الأمر كذلك، لعمري أنهم لم يفقهوا معنى الشرك و التوحيد بالمرة. فالتوسل بالأولياء ليشفعوا لنا عند الله لا يتناقض مع التوحيد، بل هو عين التوحيد. لأن المرء يدعو الله عبر وليه. فلا شرك في هذه المسألة. لقد وردت عبارة «بإذن الله» مرتين في

ص: 13


1- الحجرات: 6

الآية 49 من سورة آل عمران المباركة(1)، و ذكرت أن معجزات السيد المسيح وقعت «بإذن الله» ، معنى هذا، إذا توسلت بأحد أولياء الله أن يشفيني بإذن الله أو أن يدعو لي بالشفاء، فليس في هذا القول نقض للتوحيد؛ لو كان هناك نقض لوجب أن تكون معجزات السيد المسيح نقضا للتوحيد. أو عندما يقول القرآن الكريم «وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» فمعنى ذلك أن يذهبوا إلى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم فلو كان الذهاب إلى النبي في حياته أو مماته شركا فكيف يدعو القرآن الكريم إلى هذا الشرك؟

و ماذا لو قال أحدهم بأن هذا يصح في حياة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم و ليس عندنا دليل على أنه يشمل مماته أيضا، فما هو جواب سماحتكم؟

أحيلكم على الآيات الكريمة النازلة في الشهداء «أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» و التي تعني أنهم أرفع منزلة بعد الوفاة منهم في حياتهم، و أنهم سوف يلمسون عيانا ما وعدوه بعد الوفاة. و بناء عليه، فإن هؤلاء أجدر بالوساطة في سبيل الله.

المأخذ الرئيسي للتكفيريين على المسلمين هو استغاثتهم بأولياء الله، ما رد سماحتكم عليهم؟

معنى الاستغاثة هو: اشفع لي عند الله، و أن لأولياء الله القدرة على الشفاعة في البرزخ. و استغاثة المسلمين بأولياء الله هي بإذن الله، و لا ضير في ذلك. و من هذا المنطلق، إذا وضع المرء في حسبانه أن طلبه لحاجته و استغاثته هي بإذن الله، فإن ذلك جائز بصريح القرآن. من المعلوم أن القرآن الكريم ينسب إلى السيد المسيح علیه السلام خمس معجزات هي: معالجة «الأكمه» و «الأبرص» ؛ «إحياء الموتى»؛ «صنع شيء أشبه بالطائر و عندما نفخ الروح فيه تحول إلى طائر حي» و «الإخبار عن الأمور الغيبية»،

ص: 14


1- وَ رَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَ مَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

فعلى الرغم من أنه علیه السلام ينسب هذه الأعال لنفسه لكنه يردف قائلا أنها بإذن الله، أي إن الإرادة الأصلية فيها الله تبارك و تعالى.

و من البديهي القول هنا، بأن أولئك الذين سمعوا هذا الكلام من السيد المسيح علیه السلام لا بد أنهم طالبوه بأن يأتي بهذه المعجزات، فجاءهم بأمثلة منها، فهل أصبح هؤلاء كفارا؟ أم إن السيد المسيح علیه السلام بسبب كلامه هذا أو الذين لجأوا إليه أصبحوا كفارا مهدوري الدم و يستحقون القتل؟ ربما كان التكفيريون سيفعلونها لو كانوا في ذلك العصر

إننا نعتقد بأن عبارة «بإذن الله» تنطوي على تأكيد واضح على التوحيد، و ذلك لأننا نؤمن بأن تأثير الشفاعة و التوسل و الدعاء و ما شابه هذه الأمور كلها تجري بإذن الله ، و في ذلك تأكيد صريح على مفهوم التوحيد. نعم، لو كنا نعتبر هؤلاء مستقلون في تأثيرهم و متساوون مع الله لكان ذلك يعتبر كفرا.

حتى لو كان ذلك في حياة البرزخ؟

نعم، يجوز ذلك.

يقول هؤلاء [التكفيريون] أن ثمة فرق بين الحياة و الممات، و أن عبارة بإذن الله تقتصر على فترة الحياة [الأولياء].

لا يجوز لنا أن نصف التوسل بأنه كفر في مرحلة، و توحيد في مرحلة أخرى. فإذا كان التوسل بغير الله كفرا، فلا بد أن يكون كذلك في جميع الأحوال. أي، يجب أن يكون كفرا في فترة الحياة أيضا. و إذا قلتم أن عبارة «بإذن الله» تحول دون كفر المرء، فإذا، نفس الحالة تنطبق على الإنسان في مماته، و نحن نعلم أن في فترة الموت يكتسب الإنسان قدرة خارقة، و الدليل على ذلك أننا نسلم في صلواتنا على النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم. فإذا لم يكن صلی الله علیه و آله و سلم شيئا بعد الموت فعلی من نسلم إذا «السلام عليك أيها النبي و رحمة الله و بركاته»؟ للأسف، البعض يريد أن يحافظ على التوحيد و إذا به يشوه النبوة. ذات يوم جرى حوار بيني و بين أحد رجال الدين في المدينة المنورة، فقلت له: إنكم تقولون

ص: 15

أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم سيفني بعد الموت، إذا لماذا تكتبون فوق ضريحه الطاهر عبارة : «لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ»(1) ؛ فاذا لم يكن النبي شيئا فليس له صوت، فما معنى ذلك «لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ» يبدو أنهم يقرون في بواطنهم أن للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم و قوة و قدرة حتى بعد مماته. مرة أخرى، التقيت بذلك الرجل في أحد المجالس، فبادرته بالقول، إنكم تزعمون أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، و العياذ بالله ، کالحجر، فأجاب: لا، لا نقول هذا، هذا كلام جاف، بل له حياة برزخية.

ما هي مديات الولاية التكوينية لأولياء الله بحسب رأي سماحتكم؟

إذا كان المقصود بالولاية التكوينية أن يفعل أولياء الله شيئا بإذن الله، فبوسعهم أن يفعلوا كل شيء في هذا الإطار. لأن الافتراض هو أن يحدث الأمر المطلوب بإذن الله ، و إذا أحيل الأمر على قدرة الله، فمن المعلوم أن قدرة الله ليس لها حدود.

مبحث آخر لطالما دأبت السلفية الجهادية على طرحه ألا و هو مبحث العدو القريب و العدو البعيد. فهي تعتقد أن المسلمين الذين يتمثلون أفكار الثقافة الغربية و يشيعون الفكر الجاهلي في العالم الإسلامي جميعهم ينضوي تحت مصطلح العدو القريب، ما يعني وجوب محاربتهم، حسب رأي هذه الجماعة. فبماذا تردون على هؤلاء لإقناعهم بعدم جواز محاربة المسلمين؟

أولا، طبقا للأحاديث الشريفة المنقولة عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، إن الذي يصلي إلى القبلة مسلم، حتى و إن اختلفت معتقداته. لهذا السبب، لا يجوز تكفيره طبقأ لصريح الأحاديث النبوية الشريفة، و نتيجة أعمال هؤلاء هي تخريب البلاد الإسلامية على أيدي المسلمين، و تدمير بعضهم البعض، ليتسلط الكفار عليهم في نهاية المطاف. فهل تفسير الآية الكريمة «قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ»(2) هو أن ندمر جميع البلاد الإسلامية؟ يقينا، إن أعمالهم تلك سوف تستثير المقاومة ضدهم و سيقتل الكثير و

ص: 16


1- الحجرات: 2.
2- التوبة: 121

يحدث دمار واسع. أعتقد لو أعطي العالم لداعش فلن يبقي على وجه الأرض غير أنصاره. و من ثم سيتولى بعضهم أمر بعض و سيقتل بعضهم بعضا، و بهذه العقيدة ستخلو الأرض من سكانها.

أساسا، هل يجوز الجهاد ضد غير المسلمين و المشركين الذين لا يناصبون المسلمين أي عداء؟

أبدا، و ذلك بصريح القرآن إذ يقول في غير المسلمين الذين لم يؤمنوا بأي من أحكام الإسلام ولم يقاتلوا المسلمين ما يلي: «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»

ثم تستعمل الآية الكريمة الأداة «إِنَما» و هي أداة حصر فتقول: «إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَ ظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» فتبين طريق التعايش السلمي مع المسلمين و غير المسلمين.

و بفضل هذه الرسائل الصريحة، جسد العرب و العجم و الحمر و السود جميعا مصداق الآية الكريمة «يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً» فاستلهموا و ما زالوا من مفهوم الآية «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» مشاعر الأخوة و التعاضد.

يعتقد التكفيريون أن للجهاد في الإسلام أربع مراحل، نسخت ثلاث منها. المرحلة الأولى هي الفترة الملكية التي لم يأذن الله تبارك و تعالى فيها بالجهاد مطلقا، و المرحلة الثانية أذن عز و جل بالدفاع عن النفس، أما المرحلة الثالثة فقد أمر بقتال المهاجمين، في حين إن المرحلة الرابعة هي ما بعد نزول سورة التوبة أو البراءة من المشركين حيث صرحت السورة الكريمة بوجوب أن لا يبقى مشرك واحد على وجه الأرض. فالمراحل الثلاث الأولى قد نسخت و بقیت المرحلة الرابعة فقط. لذا فهؤلاء يعتقدون وجوب محاربة المشركين و إن الآيتين «فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ»(1)، «وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ

ص: 17


1- التوبة: 12.

ثَقِفْتُمُوهُمْ» هما الساريتان. فهما ناسختان و بقية الآيات الدالة على الرحمة و الرأفة منسوخة. ما هو رد سماحتكم على هؤلاء؟

لا شك في أن هذه العقيدة تحريف للقرآن و تفسیر بالرأي في آن معا. فما من أحد من علماء الإسلام استنبط هذا الدليل على النسخ. الكل يقول إن جميع مراحل الجهاد ما تزال قائمة، و ما من دليل يشير إلى وجود نسخ؛ و لو كان الأمر كذلك لفقد الإسلام جاذبيته بشكل كامل، بمعنى إن الإسلام نصير العنف فقط لا غير. إن الضربة التي سددها هؤلاء للإسلام لا سابقة لها طيلة التاريخ الإسلامي. على غرار الخوارج الذين كانوا يعتقدون أنهم هم المسلمون فقط، و جميع من سواهم كفار بما في ذلك الإمام علي علیه السلام، و العياذ بالله. لقد استلهم هؤلاء نفس عقائد الخوارج؛ إنهم الخوارج الجدد. هذا المصطلح استخدمه بعض علماء أهل السنة في كتبهم حيث اعتبروا الدواعش الخوارج الجدد. لقد بلغت وحشية الدواعش درجة دفعت بقية السلفيين يستنكرون الأعمال الوحشية التي يمارسها هؤلاء «المتطرفون»؛ من بينهم المفتي العام في المملكة السعودية الذي أصدر فتويين ملفتتين جدا. يقول في الفتوى الأولى: «لا شك في أن كل من يرتكب هذه الأعمال الوحشية لا يمت للإسلام بصلة»، بل و صرح أيضا «إنهم من أهل النار».

على الرغم من الأعمال الوحشية لداعش و نبذ العلماء المسلمين لهذه الفرقة إلا أن أعداء الإسلام يصرون على تسمية داعش بالدولة الإسلامية، ما السبب برأيكم؟

إنهم من أجل أن يوصموا الدين الإسلامي بالعنف و الوحشية، يصرون على تسمية جماعة داعش الضالة و التي هي دون أدنى شك جماعة إرهابية مارقة، بالدولة الإسلامية، في حين أن هذه الجماعة لا هي دولة و لا هي إسلامية، إنه اسم اخترعوه لأنفسهم زورا و بهتانا، و نجد أعداء الإسلام يرددونه من أجل تشويه سمعة الإسلام و صورته.

ص: 18

يعتقد البعض أن التكفيريين يطرحون تصورا عن الإسلام مخالفا لإجماع المسلمين، و لهذا السبب يحظون بدعم الاستكبار، فهل الأمر حقا على هذا النحو؟ نعم الأمر كذلك، فهم يعتقدون أنهم يحتكرون معنى الشرك و الإيمان. و كذا مفهوم البدعة و السنة، فضلا عن تفسير آيات القرآن، فهو حكر عليهم، و بالتالي لا ينبغي للآخرين أن يشككوا فيما يقول الدواعش، أو أن يبدوا رأيا مخالفا لرأيهم، و إلا كان مصيرهم القتل و مصادرة أموالهم و سبي نسائهم.

إنهم يخرجون جميع علماء الإسلام ماضيا و حاضرا من الملة، على سبيل المثال، لماذا وافقوا على أن يبقى الضريح الطاهر للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم داخل المسجد النبوي في حين أن هذا العمل حرام و لا بد من نقل الضريح إلى خارج المسجد، كما أنهم خطأوا نهج علماء الإسلام على مدى الألف سنة الماضية و أكثر، و قد وصل بهم الأمر أن حرفوا تفسير الآية الكريمة حول أصحاب الكهف معنويا «قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا»

هل ترون سماحتكم أن أعمال الدواعش نابعة عن عقيدة أم عن جهل ؟

إنما تحركهم الأهواء و النزوات. إنهم يريدون إقامة حكومة، و هم يقصدون ذلك و غير غافلين عن هذا الأمر. طبعا هذا الكلام ينطبق على زعمائهم، أما الأفراد من مستويات أدني فيتحركون من دوافع الجهل و الغفلة .

ص: 19

ص: 20

الفتوی و دورها في حرمة تكفير أهل القبلة في فكر علماء الإسلام علاء محمد سعید

*علاء محمد سعید(1)

مدخل:

هل تحولت الفتوى من وسيلة للاجتهاد و الإبداع لنشر مبادئ الإسلام العالمية، و قيمة الإنسانية الفاضلة، بما يضمن ترسيخ الرحمة الشاملة و الحب الواسع، و تحقیق العدل العالمي، و نشر الأخوة الإنسانية، و إرساء السلام في المعمورة، و تسخير الأرض لمصلحة الإنسان

إلى قناع يختفي وراءه الحكام، و يخفي بها المتحاربون مآربهم الشخصية، و مصالحهم الضيقة، و بما تمليه الظروف النفسية و الاجتماعية، للفرد أو الجماعة، ثم يزين (یزیف) اندفاعه و طمعه و استکباره بطلاء من الدين أو الفضيلة.

فتاوى تحريم خوض انتخابات ما.

فتاوى تكفير الأشخاص و الأحزاب والحكومات و الدول.

فتاوی قتل الحكام، عامة، أو أشخاص منهم أو ممن يوالونهم أو يلوذون بهم، أو يعملون لديهم بأعيانهم.

فتاوی برفض الأوامر الإدارية للدول، و التخلي عن الوثائق الرسمية.

فتاوی من لا يكون مع جهة ما أو حزب معين فقد خان الله و رسوله والمؤمنين و الوطن

ص: 21


1- عالم موثر و ریئس سابق لمینات دارلفتوى

فتاوی مغادرة الوطن؛ حفاظا على الحياة من بطش العدو .

و في المقابل:

فتاوی تدعو للحفاظ على وحدة البلد و سلامة الوطن .

فتاوى تحريم الاستعانة بالأجنبي على المواطنين.

فتاوی تطلب من الجنود مراقبة الله في جهادها.

فتاوی تدعو الجنود إلى حماية الأنفس البريئة، و ستر الأعراض و سلامة الأموال.

و في المجمل:

إن فتاوى الحفاظ على دماء الأبرياء من القتل، و حماية الدين، و سلامة العقول، و صيانة الأعراض، و استقلالية الأموال، و وحدة الأوطان؛ لهي الفتاوى التي لا يختلف عليها أحد، و لا يتنازع فيها اثنان.

إن الفتاوی الجامعة (التي تجمع الأمة في أهدافها) تسير في خط الجهاد القولي، المبنية على المقاصد الكبرى، و الأهداف العليا للدين الحنيف، هي ما يحتاجها العالم الإسلامي اليوم.

و أما الفتاوى المفرقة بين المسلمين؛ المبعدة بين المؤمنين، أحزابا سياسية، و طوائف دينية، و مذاهب فقهية، و تيارات فكرية، أو فتاوی تتصل بالسياسة عاملا متغيرا، فإنها تفقد صاحبها المصداقية، و تنزع الاحترام عن الذين يصدرونها.

نماذج تاريخية من توظيف الفتوى للدعاية السياسية

دخل رجل من أهل الشام على معاوية فقام خطيبا بين يديه، و كان آخر كلامه أن لعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأطرق الناس، و تكلم الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا القائل لو يعلم أن رضاك في لعن المرسلين للعنهم، فاتق الله، و دع عنك عليا فقد لقي ربه .

و لم يتورع (فقيه) من القول بأن الإمام الحسين قتل بسيف جده؛ تقربا من ولاة بني أمية في الأندلس.

ص: 22

و أفتى أبو البختري الرشيد بجواز قتل ثائر، كان الرشيد قد كتب له - من قبل - الأمان بیده، و أشهد على ذلك القضاة و العلماء و كبار بني هاشم، فعين الرشيد أبا البختري قاضيا للقضاة؛ تكريما له على هذه الفتوى التي أحل له بها الخيانة و الغدر، رغم أنف محمد بن الحسن الشيباني الذي أفتى بحرمة قتل هذا الثائر؛ لأن الخليفة لم يكن يبحث عن الحكم الشرعي. بل كان يريد ( فقيها) يستبيح به دم هذا الرجل.

إن من حق كل فقيه أن يعبر عن رأيه السياسي بحرية، و يناصر من يشاء، و يعادي من يشاء، و لكن ليس من حقه أن يخلط بين آرائه الشخصية و بين الفتاوى الشرعية.

فالفتاوى الشرعية في أمور السياسة يجب أن تكون مستقلة عن تأثير السياسة، و بعيدة عن أجندة الساسة، و أن تكون فتوی جماعية تعبر عن رأي هيئة تمثل الأمة المسلمة، و تجمع أصحاب تخصصات عديدة حتى تكون أقرب لمقصد الشارع.

ذلك أن الدين حق كله، و عدل كله، و رحمة كله، و سلام كله، و حكمة كله، و أخوة كله، و عمل صالح كله.

و السياسة مصالح، و خداع، و تضليل، و إخفاء للحقيقة، و تقديم الأكاذيب على أنها حقائق ثابتة، و شيطنة الخصم لتبرير الانقضاض عليه.

و هذا ما يحتم على (الفقهاء و المفتين) الحذر من أن يقعوا تحت تأثير السياسيين و أجندتهم السرية التي لا تعرف حقائقها، فكيف يعرفها فقيه مسلم لا حول له و لا قوة، أو خطيب جمعة ذو ثقافة محدودة في دولة عربية أو إسلامية بائسة.

و لنتذكر قول الإمام محمد عبده: (ما دخلت السياسة في عمل إلا أفسدته).

تمهیدان:

التمهيد الأول عن الصحوة

1- المؤتمر عن الصحوة، و اسمحوا لي أن أبدأ الحديث عن الغفلة.

فقد غفل المسلمون عن ثلاث آيات، هي من أهم موجبات ضوابط الفتوى في الصحوة اليوم.

ص: 23

فالقرآن الكريم دعانا إلى الوحدة الإسلامية؛ إذ قال: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَ لَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَ كُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» [آل عمران: 103]

و القرآن الكريم دعانا إلى الوحدة الدينية؛ إذ قال: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَ لَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَ لَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» [آل عمران: 64]

و القرآن الكريم دعانا إلى الوحدة الإنسانية؛ إذ قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»[الحجرات: 13]

و واقع المسلمين اليوم في غفلة عن هذه الآيات؛ إذ إن الكل أعجب برأيه، و تاه بفكره، و راح يسبح حول دائرة ذاته، و يمجد وجوده، ناسيا أو متناسية ما يجري من أحداث حوله، و أهمية العمل الجماعي.

التمهيد الأخر عن الفتوى

2_ رأى رجل ربيعة بن أبي عبد الرحمن - شيخ الإمام مالك - يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: استفتي من لا علم له، و ظهر في الإسلام أمر عظيم! قال: و لبعض من يفتي هاهنا أحق بالسجن من السراق !(1)

ذاك الكلام كان في القرن الثاني الهجري، فما بالك بهذا الزمان، حيث أقدم على الفتوى من لا علم له بها، و مد باع التكلف إليها، مع قلة الخبرة، و في بعض الأحيان

ص: 24


1- إعلام الموقعین عن رب العالمين، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد دار الجيل، بیروت، 1973م، ج4 ص 208 207، و أدب المفتي و المستفتي، عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري تحقيق د. موفق عبد الله عبد القادر، مكتبة العلوم و الحكم، عالم الكتب، بیروت، الطبعة الأولى 1407 ه 85/1

مع سوء السيرة و شؤم السريرة، و هو من بين أهل العلم منکر أو غریب، فليس له في معرفة الكتاب و السنة نصيب ؟!.

و كيف أصبح يفتي في قضايا الدين الكبرى من لا علم له بالأصول الكبرى، و لا بالفروع التفصيلية، و لم يتصل بالقرآن و السنة اتصال الدارس المتعمق، بل اتصال الخاطف المتعجل؟

بل كيف أصبح بعض الشباب يفتون في أمور خطيرة بمنتهى السهولة و السذاجة، مثل قولهم بتكفير الأفراد المعينين و المجتمعات التي لا توافق آراءهم، و تحريمهم على أتباعهم حضور الجمع و الجماعات، و كثير من هؤلاء ليسوا من «أهل الذكر» في علوم الشريعة.

و لعله لم يكلف نفسه أن يجلس إلى أهل الذكر و يأخذ عنهم، و يتخرج على أيديهم، إنما كون ثقافته من قراءات سريعة في كتب المعاصرين، أو سماع أشرطة المحرضين.

أما المصادر الأصلية فبينه و بين قراءتها مئة حجاب و حجاب، و لو قرأها ما فهمها، و لو حاول التأمل فيها لفهمها؛ للوي عنق النص بما يتفق مع هواه و يحقق مطلبه الدنيوي؛ لأنه - أصلا - لا يملك المفاتيح المعينة على فهم النصوص الشرعية و هضمها.

قال الإمام النووي: (عن ابن مسعود و ابن عباس رضي الله عنهما من أفتي في كل ما يسأل فهو مجنون)(1)

و إن مما ابتليت به الأمة اليوم ظهور بعض الحدثاء ممن يستبيح الفتاوى الشرعية بمجرد اطلاعه على نص أو اثنين في المسألة!!، و الشريعة لا تؤخذ أحادا إنما لا بد من جمع نصوص المسائل، و استقراء الشريعة للوصول إلى الصواب.

ص: 25


1- أدب الفتوى و المفتي و المستفتي، يحيى بن شرف النووي أبو زكريا، تحقیق بسام عبد الوهاب الجابي، الناشر دار الفكر، سنة النشر 1408، مكان النشر دمشق ص 13

روى أبو نعيم(1)، عن الربيع بن سليمان قال: سأل رجل من أهل بلخ الشافعي عن الإيمان.

فقال للرجل: فما تقول أنت فيه ؟ قال : أقول: إن الإيمان قول.

قال و من أين قلت؟ قال: من قول الله تعالى : «إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ» [البقرة: 277]، فصارت الواو فصلا بين الإيمان و العمل، فالإيمان قول، و الأعمال شرائعه.

فقال الشافعي: و عندك الواو فصل؟.

قال: نعم.

قال: إذا، أنت تعبد إلهين، إلها في المشرق، و إلها في المغرب؛ لأن الله تعالى يقول: «رَبُّ الْمَشْرِقَیْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَیْنِ» [الرحمن: 17]

فغضب الرجل، و قال : سبحان الله أجعلتني و ثنيا؟!.

فقال الشافعي: بل أنت جعلت نفسك كذلك.

قال: كيف؟.

قال: بزعم أن الواو فصل.

فقال الرجل: فإني أستغفر الله مما قلت، بل لا أعبد إلا ربا واحدا، و لا أقول بعد اليوم إن الواو فصل، بل أقول إن الإيمان قول و عمل و یزید و ينقص.

فانظر كيف كاد يضل الرجل بحرف واحد، قطعي الثبوت لكنه فهمه بغير الفهم الصحيح، و لم يفهمه بغيره من النصوص الصريحة.

فكيف بمن فهم حرفا ظني الثبوت بغير فهمه، و عارض به غيره من النصوص الواضحة الصحيحة.

ص: 26


1- حلية الأولياء و طبقات الأصفياء، أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الرابعة، 1405، 110/9

و عن الشعبي و الحسن و أبي حصين بفتح الحاء التابعيين قالوا إن أحدكم ليفتي في المسألة و لو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر(1).

تحرير المصطلحات (الفتوى، الصحوة)

أولا: تعريف الفتوى:

الفتوى لغة (2): اسم مصدر بمعنى الإفتاء، و الجمع الفتاوی و الفتاوي، يقال : أفتيته فتوی و فتيا إذا أجبته عن مسألة، و الفتيا: تبيين المشكل من الأحكام.

و الفتوى شرعا: بيان الحكم الشرعي في قضية من القضايا؛ جوابا عن سؤال سائل، معين كان أو مبهم، فرد أو جماعة(3)

الفتوى: تبيين الحكم الشرعي لمن سأل عنه في واقعة نزلت فعلا (نازلة الفتوى) أو يتوقع حصولها، لا على سبيل الافتراض.

و المفتي هو من يتصدى للفتوى بين الناس، و يبين لهم حكم الله تعالى، و یکشف لهم رأي الدين و الشرع.

و تختلف الفتوى عن الحكم القضائي في أمرين:

الأول: إن الفتوى إخبار عن الحكم الشرعي، أما القضاء فهو إنشاء للحكم بين المتخاصمين.

الثاني : إن الفتوى لا إلزام فيها للمستفتي أو غيره، أما الحكم القضائي فهو ملزم .

ثانيا: مفهوم الصحوة:

الصحوة في اللغة:

مادة (صحا) في العربية تعني - إذا وصف بها الإنسان - التنبه و الإفاقة و اليقظة.

ص: 27


1- أدب الفتوى و المفتي و المستفتي، ص 14
2- المصباح المنير، 622/2
3- إعلام الموقعین عن رب العالمين، ج 196/4

و قد تكون من الصحو، و هو ذهاب الغيم و ارتفاع النهار، و ذهاب السكر، و ترك الباطل(1).

و تعرف الصحوة من مقابلها و هو: النوم أو السكر، يقال: صحا من نومه أو من سكره، صحوا، بمعنى: أنه استعاد وعيه بعد أن غاب عنه، نتيجة شيء طبيعي، و هو النوم، أو شيء اصطناعي، و هو السكر.

و الأمم يعتريها ما يعتري الأفراد من غياب الوعي، مددا تطول أو تقصر نتيجة نوم و غفلة من داخلها.

أو نتيجة (تنويم) مسلط عليها من خارجها.

و الأمة الإسلامية يعتريها ما يعتري غيرها من الأمم فتنام أو تنوم ثم تدركها الصحوة كما نرى اليوم.

و لذا فإن صحوة الأمة تعني: عودة الوعي و الانتباه لها بعد غيبة.

و قد عبر عن هذه الظاهرة في بعض الأحيان: بعنوان (اليقظة) في مقابل (الرقود) أو (النوم) الذي أصاب الأمة الإسلامية، في عصور التخلف و الركود.

كما عبر عنها أحيانا بعنوان (البعث)، و هو أيضا يكون بعد (النوم)، كما في قوله تعالى : «وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»[الانعام: 60]

كما يكون بعد (الموت) و لعله المتبادر إلى ذهن المسلم: كما في قوله تعالى: «وَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ» [الحج: من الآية 7]. و الأمة المسلمة لا تموت، و لكن النوم شبیه بالموت و خصوصا إذا طال.

و قد قيل: النوم موت خفيف، و الموت نوم ثقيل، أو النوم هو الموتة الصغرى، الموت هو النومة الكبرى.(2)

ص: 28


1- لسان العرب، مادة (صحا)
2- المعجم الوسيط 508/1 ، د. إبراهيم أنيس و زملاؤه

الصحوة اصطلاحا:

بناء على التعريف اللغوي السابق ممكن أن نعرف الصحوة بأنها:

تلك الظاهرة الاجتماعية الجديدة التي تشير إلى تنبه الأمة الإسلامية، و إفاقتها و إحرازها تقدما مطردا في إحساسها بذاتها، و اعتزازها بدينها وفي تحررها من التبعية الفكرية و الحياتية و في سعيها للخروج من تخلفها، و انحدارها و لقيامها بدورها الحضاري الخيري المتميز باعتبارها خير أمة أخرجها الله الإعمار الأرض.(1)

و اصطلاحا: اليقظة، تصيب الفرد أو الأمة، بعد سنة و غفلة و تخلف و تراجع.

و في مصطلحات الصوفية، الصحوة: رجوع إلى الإحسان بعد الغيبة بوارد قوي .(2)

و قد شاع إطلاقها في هذا العصر على نزوع أمتنا الإسلامية إلى النهضة، بعد عصر التراجع الحضاري، الذي امتد تحت حكم العسكر أيام المماليك و السلطنة العثمانية .

و هي صحوة تجاهد على صعيدين، و في جبهتين:

1- التخلف الذاتي الموروث عن حقبة التراجع الحضاري.

2- التحديات الغربية، التي تريد تهميش دور الأمة الإسلامية، و إلحاقها بالتبعية للغرب، ليتأبد استغلال الغرب و هيمنته على عالم الإسلام.

و وصف هذه الصحوة بالإسلامية، إنما يأتي تمييزا لها عن مشاريع النهوض التي اختار أصحابها المذاهب و الفلسفات الغربية مرجعية لدعوات النهوض، و نماذج التحديث التي يبشرون بها ليبرالية، أو اشتراكية، أو قومية.

فالصحوة الإسلامية: هي ذلك التيار العريض المتعدد الفصائل و المستويات الذي يسعى إلى تجديد العمل بالدين الإسلامي لتتجدد به دنيا المسلمين.

ص: 29


1- انظر تعریف محي الدين عقلية، مجلة المسلم المعاصر العدد 42 ص 2.
2- كما في رسالة ابن عربي (مصطلحات الصوفية).

و لما كانت سنة الله سبحانه و تعالى في مسارات الأمم و الحضارات، هي سنة (التداول) و الدورات التي تتعاقب فيها الأمم و الحضارات فترات و حقب التقدم و التراجع، و الصعود و الهبوط، و النهوض و الركود، و الحياة و الموت.

و هي السنة التي أشار إليها القرآن الكريم بقوله تعالى : «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» [آل عمران: 140]

وقوله تعالى : «وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ» [محمد: 38]

و قوله تعالى : «وَ لَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» [البقرة: 251]

و التي بينها حديث رسول الله ، الذي قال فيه: "لَا يَلْبَثُ الْجَوْرُ بَعْدِي إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى يَطْلُعَ، فَكُلَّمَا طَلَعَ مِنَ الْجَوْرِ شَيْءٌ ذَهَبَ مِنَ الْعَدْلِ مِثْلُهُ، حَتَّى يُولَدَ فِي الْجَوْرِ مَنْ لَا يَعْرِفُ غَيْرَهُ، ثُمَّ يَأْتِي اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِالْعَدْلِ، فَكُلَّمَا جَاءَ مِنَ الْعَدْلِ شَيْءٌ ذَهَبَ مِنَ الْجَوْرِ مِثْلُهُ، حَتَّى يُولَدَ فِي الْعَدْلِ مَنْ لَا يَعْرِفُ غَيْرَهُ"(1)

فإذا كانت سنة الدورات هي التي تحكم مسارات الأمم و الحضارات، فإن هذه السنة تقتضى الصحوة، و اليقظة، و التجديد، خروجا من مراحل و دورات الغفلة، و التراجع، و الجمود.

فصحوة التجديد هي الأخرى سنة من سنن الله في الاجتماع الإنساني و في مسارات الحضارات.

وعن هذه الحقيقة ينبئ حديث رسول الله ، الذي قال فيه: "اِنَّ اللّهَ یَبْعَثُ لِهذِهِ الْاُمَّةِ عَلی رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ یُجَدِّدُ لَها دینَها."(2)

ص: 30


1- أخرجه أحمد (26/5 ، رقم 20323). قال الهيتمي (196/5): فيه خالد بن طهمان و ثقه أبو حاتم الرازی و ابن حبان و قال يخطئ و يهم وبقية رجاله ثقات.
2- أخرجه البيهقي في المعرفة (208/1 ، رقم 422) عن أبي هريرة. و أخرجه أبو داود (109/4، رقم 4291)، و الطبراني في الأوسط (323/6 ، رقم 6527)، و الحاكم (567/4 ، رقم 8592)، و الخطيب (61/2 ترجمة 454)، و الدیلمی (148/1 ، رقم 532). قال المناوي (282/2): قال الزين العراقي و غيره: سنده صحيح

و إذا كانت الثقافات الإنسانية هي توافقات بشرية و إبداعات مدنية، لا توصف بالخلود و لا بالإطلاق، و من ثم يجوز عليها الموت و إخلاء الطريق لثقافات أخرى وارثة لأمها و شعوبها و تاريخها، في طريق استمرار الحضارة الإنسانية، ومن يتابع مسيرة الثقافة الإسلامية و حاضنها اللغة العربية، يجد أنهما كانا و ما زالا استثناء من مصير موت و فناء الثقافات و اللغات، و ذلك لارتباطها بالدين السماوي الخاتم، و القرآن الكريم الذي تعهد الله خالق الكون و الحياة بحفظه بلسان عربي مبين.

و من هنا كانت الصحوة الإسلامية و التجديد سنة مطردة، و قانونا لازما في مسار الحضارة الإنسانية بقيادة الثقافة الإسلامية، يقودها إلى النهوض بعد كل رکود، و هذا الذي جعل الأمة الإسلامية تقود الحضارة الإنسانية عمرا أطول من سائر الثقافات عبر التاريخ، و أرسخها قدما على درب النهوض من العثرات، و أكثرها استعصاء على فقدان الهوية و الخصوصية.

فهي إبداع مدني بشري، حفز إليه و صبغه و حدد معاييره الوحي الإلهي، و تلك خصوصية تفردت بها الأمة الإسلامية عن سائر الأمم

و إذا كانت العقود الأخيرة قد شهدت تعاظم الصحوات الدينية، في مختلف الديانات، بعد أن فشلت مشاريع النهوض و التحديث اللادينية، فإن تعاظم الصحوة الإسلامية يستند إلى خصيصة إسلامية، ينفرد بها الإسلام عن غيره من الشرائع السماوية و الديانات الوضعية، هي منهاجه الشامل، الذي يجعله مؤثرا في التغيير المنشود في أنحاء العالم.

و هكذا ارتبطت الصحوة الإسلامية بحلم الأمة في النهوض، و الانعتاق من أسر التخلف الموروث، و من الهيمنة الاستعمارية و الحضارية الغربية، منذ فجر هذه الصحوة و حتى الآن.

مظاهر أزمة الفتوى في الصحوة الإسلامية:

للتعرف على خطورة الفتوى في الصحوة الإسلامية، نعرض جملة من المظاهر:

ص: 31

أولا: وضع النص في غير موضعه الصحيح:

و هو من المزالق الخطيرة التي ينبغي التيقظ و الالتفات إليها و التنبه عليها، فكثيرا ما يكون النص صحيحا لا مطعن فيه و لا خلاف على ثبوته، فهو آية من كتاب الله، أو سنة قولية أو عملية أو تقريرية، ثابتة عن رسول الله و لكن العيب في الاحتجاج بهذا النص على أمر معين و هو لا يدل عليه لأنه سيق مساقا آخر.

و قد يأتي ذلك كله من الخلل في الفكر و سوء الفهم للنص، و ذلك نتيجة العجلة التي نراها و نلمسها عند السطحيين من الناس، الذين يتخرصون على النصوص بغير بينة، و يتطاولون بغير سلطان آتاهم و يقولون على الله ما لا يعلمون.

و قد يكون ذلك من الخلل في الضمير و فساد النية، حيث يعمد بعض الناس إلى لي أعناق النصوص لتوافق هواه مثل الخوارج الذين احتجوا على رفض التحكيم بقوله تعالى : «إِنِ الْحُکْمُ اِلاّ لِلِّه» فرد عليهم الإمام علي بقوله: (كلمة حق يراد بها باطل).(1)

ثانيا: سوء التأويل

إن ما أشد ما تتعرض له النصوص خطرا: سوء التأويل لها، بمعنى أن تفسر تفسيرا يخرجها عما أراد الله تعالى و رسوله بها إلى معنى أخر يريدها المؤولون بها.

و قد تكون هذه المعاني صحيحة في نفسها و لكن هذه النصوص لا تدل عليها، و قد تكون المعاني فاسدة في ذاتها، و أيضا لا تدل النصوص عليها فيكون الفساد في الدليل و المدلول معا.

ص: 32


1- فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، الناشر: دار المعرفة - بیروت، 1379، 284/12 ، و المجموع، النووي، 318/19 ، و تاريخ الطبري، 53/4 ، و تاریخ بغداد، أحمد بن علي أبو بكر الخطيب البغدادي، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، 160/1 ، و البداية و النهاية، إسماعيل بن عمر بن كثیر القرشي أبو الفداء، الناشر: مكتبة المعارف ۔ بیروت، 282/7

ثالثا: التسرع في الفتوى دون رؤية:

بعض المتصدرين للفتوى يتعجل الأمور، و يريد أن يحمل الناس على الحق و تطبيق شرائع الإسلام جملة واحدة، فيصدر فتوى يؤجج فيها المشاعر، و يدفع الناس إلى أتون فتنة، بدراية و تخطيط، أو بغفلة و جهل بالعواقب.

مما يسبب نفورا من غير المسلمين جراء النتائج من الفتوى المتسرعة.

إن أكثر ما يخشى على الصحوة الإسلامية منه تيار الاستعجال، الذين يريدون أن يقطفوا الثمرة قبل أوانها، يريدون أن يزرعوا اليوم و يحصدوا غدا، بل يريدون أن يغرسوا في الصباح و يحصدوا في المساء، و يضغطون لإصدار فتاوى هنا و هناك تؤيد أعمالهم.

إن الاستعجال قد يدفع إلى العنف - ولا سيما في الذين يستعجلون الوصول إلى السلطة - و هذا العنف يدفع إلى عنف مضاد أشد و أقسى، و كل هذا خطر على الصحوة، بل خطر على الأمة.

رابعا: الخلل في فقه الأولويات:

و نعني به: وضع كل شيء في مرتبته، فلا يؤخر ما حقه التقديم، و لا يقدم ما حقه التأخير، ولا يصغر الأمر الكبير، ولا يكبر الأمر الصغير.

فهناك خلل واضح في فقه الأولويات، فقد تقدم النافلة على الفريضة، و قد يقدم فرض الكفاية على فرض العين، و قد يقدم فرض العين الذي يتعلق بالفرد، على فرض العين المتعلق بالجماعة، و هكذا.

خامسا: الخلل في فقه الموازنات:

و نعني به جملة أمور:

ص: 33

أ- الموازنة بين المصالح بعضها و بعض، من حيث حجمها و سعتها، و من حيث عمقها و تأثيرها، و من حيث دوامها و بقاؤها، و أيها ينبغي أن يقدم و يعتبر، و أيها ينبغي أن يسقط و يلغي

ب - الموازنة بين المفاسد بعضها و بعض، من تلك الحيثيات المذكورة في شأن المصالح، و أيها يجب تقديمه و أيها يجب تأخيره أو إسقاطه.

ج - الموازنة بين المصالح و المفاسد، إذا تعارضا، بحيث نعرف متى نقدم درء المفسدة على جلب المصلحة، و متى تغتفر المفسدة من أجل المصلحة

سادسا: الخلل في فقه الاختلاف

و نعني به الاختلاف العلمي، حيث وقع هذا النوع بين الرعيل الأول، فلم يضرهم شيئا، فقد بلغوا من الإخلاص و صفاء السريرة، و علو الأخلاق ما لم يبلغه أحد مثلهم.

أما اليوم في الصحوة المعاصرة، فقد جهل الناس كثيرا من مفردات هذا الفقه، فأصبح بعضنا يعادي بعضا، بسبب مسائل يسيرة.

سابعا: الخلل في فقه المقاصد:

الذي لا يقف عند جزئيات الشريعة و مفرداتها، بل ينفذ منها إلى كلياتها و أهدافها في كل جوانب الحياة.

إن تكثيف دراسات المقاصد و الأهداف و الغايات و تعليل الأحكام و البحث عن الحكم يساعد كثيرا في علاج أمراض العقل، و يعيد إليه نقاءه، و صفاءه، و تألقه، و قدرته على العطاء و الاجتهاد و ترتيب الأولويات(1)

ص: 34


1- انظر: مقدمة د. طه جابر العلواني، لكتاب: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، د. يوسف العالم، من إصدارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، ص7

ثامنا: فتاوى التكفير و التحريض على العنف

لعل من أبرز مظاهر أزمة الفتوى في الصحوة الإسلامية ( التكفير)، و الذي مرده قلة بضاعة المتلبسين به في الفقه الإسلامي و أصوله، و عدم تعمقهم في علوم الإسلام، الذي جعلهم يأخذون بالمتشابهات، و ينسون المحكات، أو يأخذون بالجزئيات و يغفلون عن القواعد الكلية، أو يفهمون بعض النصوص فهما سطحيا سريعا.

إن الغلو الذي انتهى ببعض شباب الصحوة الغيورين على دينهم إلى تكفير من خالفهم من المسلمين حملهم على استباحة دماءهم و أموالهم

و هذا کما حدث مع الخوارج قديما حيث إنهم استحلوا دم أمير المؤمنین سیدنا الإمام علي سلام الله عليه و الرضوان.

الأمراض التي قد تصيب الفتوى، و هي:

• قد يتصدى للفتوى غير المختصين بعلوم الشريعة.

• و قد يقوم بأعبائها من يفقد الأهلية لها، بفقد شروط المفتي .

• و قد ينبري لها من لها يعرف إلا القليل في الدين و الشرع، أي أنصاف العلماء.

• و قد يتطاول عليها من يبتعد عن الالتزام بقواعد الفقه.

• و قد يتولاها من يفرط بأركان الدين.

• و قد يتعرض لها المختص و لكن بالتساهل و عدم المبالاة.

• و قد يستغلها بعض الناس لأهواء شخصية، و أغراض مادية، و أهداف وضيعة .

• و هناك من يعمل رأيه و فكره أكثر من الوقوف عند النصوص الشرعية.

• و هناك من يغلب جانب الأعراف و العادات على قواعد الشريعة المحكمة .

ضوابط الفتوى و محدداتها بوجه عام، و الحاجة إلى ذلك في زمن الصحوة

العمل على ضرورة حفظ النفس و الدين و العقل و العرض و المال .

ص: 35

التركيز على مآلات الأفعال أكثر من النظر إلى ظواهرها.

حقوق المسلمين واجبة تجاه بعضهم "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ، وَ لا يُسْلِمُهُ، وَ مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَ مَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَ مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(1) (المسلم لا يتخلى عن أخيه، و لا يستعين عليه، بل يستعين به)؛ "ألْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ"،(2) (وليس المؤمن على المؤمن) و إن تعددت الألسن و الأعراق و البلدان.

الأصل في العلاقات بين المسلمين : التعاون القائم على المحبة، و مع غير المسلمين : السلم القائم على قاعدة التعارف.

تجنب الخطاب الاستفزازي، و غلب جانب التآلف للمحبين، و المداراة للخصوم.

تجنب الخطاب الاستعلائي، أو الفعل الإلغائي و الإقصائي

تجنب تحميل النصوص ما لا تحتمله من الدلالات طبقا للمقرر في أصول الفقه و قواعد الاستنباط، و التحرز من الاستدلال بما لم يثبت من الأحاديث، مع الاهتمام بتخريج ما يستدل به من الحديث.

التوثق من نقل الإجماع أو أقوال المجتهدين، و استمدادها من مصادرها المعتمدة، و مراعاة المفتى به أو الراجح أو المشهور أو الصحيح في كل مذهب طبقا لأصول الفتوى فيه، حسب العبارات المصطلح عليها بين فقهائه، مع الاستعانة بما تضمنته الكتب المؤلفة في أصول الإفتاء أو رسم المفتي

ص: 36


1- أخرجه أحمد (91/2 ، رقم 5646)، و البخاری (862/2 ، رقم 2310)، و مسلم (4/ 1996، رقم 2580)، و أبو داود (273/4 ، رقم 4893)، و الترمذی (34/4، رقم 1426) و قال: حسن صحيح غريب. و النسائي في الكبرى (309/4 رقم 7291)، و ابن حبان (291/2 ، رقم 533). و أخرجه القضاعی (132/1 ، رقم 169)، و البيهقى (6 /201 رقم (11908)
2- أخرجه البخاری (863/2 ، رقم 2314)، ومسلم (1999/4 ، رقم 2585)، و الترمذی (325/4 ، رقم 1928) و قال حسن صحيح و النسائی (79/5 ، رقم 2560)، و ابن حبان (467/1 ، رقم 231). و أخرجه ابن المبارك (118/1 ، رقم 350)، و الطيالسي (ص 68، رقم 503)، و الحمیدی (340/2 ، رقم 172)، و ابن أبي شيبة (163/6 ، رقم 30348)، و الیزار (160/8 ، رقم 3182)، و أبو يعلى (279/13 ، رقم 7295)، و عبد بن حميد (ص 196، رقم 556)، و الرویانی (301/1 ، رقم 445)، و القضاعی (112/1 ، رقم 134)

إذا تكافأت الأدلة أو كان في الأمر تخيير بين مباحين فينبغي اختيار الأيسر، و إذا كان يترتب على أحدهما مصلحة و على الآخر مفسدة، فينبغي سد الذريعة إلى المفسدة الراجحة مع بذل الجهد لإيجاد الحلول للقضايا النازلة.

لا يجوز اتخاذ الإفتاء بالرخص الفقهية منهجا طلبأ للأهون في كل أمر، و لا يفتي بها إلا إذا اقتضى النظر و الاستدلال الصحيح ترجيح الرخصة الفقهية، و يشترط لذلك ألا يترتب على الأخذ بالرخصة حقيقة مركبة ممتنعة بالاتفاق بين الفقهاء، و ألا يؤدي إلى اختلاف الحكم في و اقعتين مماثلتين، و هو التلفيق الممنوع

ضوابط الفتوى في التقريب بين المذاهب الإسلامية:

بداية أنقل مروية تصلح نبراسا لطلبة العلم، و كيف يمكن استيعاب الاختلافات الفقهية في حركة الحياة، و إجابة المستفتين.

فعن عبد الوارث بن سعيد قال(1) : قدمت الكوفة فإذا أنا بثلاثة من الفقهاء، أبو حنيفة، و ابن أبي ليلى، و ابن شبرمة.

فسألت أبا حنيفة قلت: ما تقول في رجل باع بیعا و شرط شرطا؟ .

قال: البيع باطل و الشرط باطل.

ثم أتیت ابن أبي ليلى فسألته فقال : البيع جائز و الشرط باطل.

ثم أتیت ابن شبرمة فسألته فقال : البيع جائز و الشرط جائز .

فقلت: سبحان الله ثلاثة من فقهاء العراق اختلفوا علي في مسألة واحدة!

فأتيت أبا حنيفة فأخبرته فقال: لا أدري ما قالا حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضی الله عنه" أن النبي نهى عن بيع و شرط، البيع باطل و الشرط باطل.

ص: 37


1- رواه الطبراني و ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4-84 و قالة طريق عبد الله بن عمرو فيها مقال و ذكره السيوطي في تبييض الصحيفة في مناقب أبي حنيفة ط حیدر آباد 1380: 40 قال: رواه الطبراني في الأوسط قال حدثنا عبد الله بن أيوب القزي ثنا محمد بن سليمان الذهلی ثنا عبد الوارث بن سعيد

ثم أتيت ابن أبي ليلى فأخبرته فقال : لا أدري ما قالا حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أمرني رسول الله أن أشتري بريرة و أشترط فأعتقها"، البيع جائز و الشرط باطل.

ثم أتیت ابن شبرمة فأخبرته فقال : لا أدري ما قالا حدثني مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله قال: "بعت النبي ناقة و شرطت حملانها إلى المدينة"، البيع جائز و الشرط جائز

و هكذا فقد أخذ كل إمام بظاهر حدیث ثابت .

أما مالك، فقد عرف الأحاديث كلها و عمل بجميعها و قسم البيع و الشرط إلى أقسام ثلاثة:

شرط يناقض المقصود؛ کشرط العتق؛ فيحذف.

و شرط لا تأثير له؛ كرهن أو حميل؛ فيجوز.

و شرط حرام كبيع جارية بشرط أنها مغنية فيبطل البيع كل.

فطوبى لمن أنعم النظر، و حرر المناط.

إن المسائل الفقهية الخلافية قد تكونت منها ثروة فقهية و فكرية عالية و غالية، و هي نتاج فهم النصوص و تفسيرها، أو ثبوت الحديث الوارد فيه النص.

و أن الصحابة الذين كانوا يجتهدون و يعملون عقولهم عند ورود النص، كانوا أشد حرصا على الأخذ بالدليل القرآني و اتباع سنة الرسول الكريم.

فجوهر الاختلاف الفقهي كان أساسه طلب الحق.

و مما لا ريب فيه أن العقل مصدر من مصادر التشريع الإسلامي.

الاختلاف دون فرقة غير مذموم:

الاختلاف سعة في الدين و رحمة للخلق؛ ما لم يؤد إلى الشقاق و النفاق .

فهنا و صفان: الاختلاف، و الافتراق، و هما خلافان لا يلزم وجود أحدهما حصول الآخر، فالافتراق وصف مذموم في الشرع، و لهذا نهى الله عنه نهيا مطلقا فقال :

ص: 38

«وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا» [آل عمران: 103]. وقال: «أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» [الشورى: 13]

أما الاختلاف فقد يكون رحمة، و أهله معذورون فيه، ليختار كل ما يلائم البيئة المحيطة، و الظرف المكاني، دون التخلي عن الأصول الشرعية و القواعد الفقهية.

و عن المعلى بن إسماعيل، قال: (ربما اختلف الفقهاء، و كلا الفريقين مصيب في مقالته)(1).

وعن أبي عون، قال : (ربما اختلف الناس في الأمر، و كلاهما له الحق)(2).

فاختلاف الفقهاء في فروع الأحكام، و فضائل السنن رحمة من الله بعباده، و الموفق منهم مأجور، و المجتهد في طلب الحق إن أخطأه غير مأزور، و هو يحسن نيته .

و إن تأول متأول من الفقهاء مذهبا في مسألة من الأحكام خالف فيها الإجماع، و قعد عنه فيها الاتباع، كان منتهى القول بالعتب عليه: أخطأت، لا يقال له: كفرت، و لا جحدت و لا ألحدت؛ لأن أصله موافق للشريعة، و غير خارج عن الجماعة في الديانة"(3).

وعن موسی الجهني قال : كان إذا ذكر عند طلحة بن مصرف الاختلاف قال: (لا تقولوا: الاختلاف، و لكن قولوا: السعة)(4).

وعن ابن عباس رضی الله عنهما قال: قال رسول الله : "من عمل لله في الجماعة فأصاب تقبل الله منه، و إن أخطأ غفر الله له، و من عمل لله في الفرقة فأصاب لم يقبل الله منه، و إن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار".(5)

ص: 39


1- الإبانة الكبرى، ابن بطة العكبري، رقم (712)
2- الإبانة الكبرى، این بطة العكبري، رقم (713)
3- الإبانة الكبرى، ابن بطة العكبري
4- الإبانة الكبرى، ابن بطة العكبري، رقم (715)، و حلية الأولياء (طلحة بن مصرف)، و الطبقات الكبرى، الشعراني طلحة بن مصرف)
5- الإبانة الكرت، أبن بطلة العكبري، رقم (136) و (716)، و الطبراني في الأوسط

فالإصابة في الجماعة توفيق و رضوان، و الخطأ في الاجتهاد عفو و غفران.

و لما صنف إسحاق بن بهلول كتابا سماه : کتاب الاختلاف، فقال له الإمام أحمد: سمه کتاب السعة.(1)

وقد حصل الاختلاف في الاجتهاد الفقهي و التنزيل الواقعي للأحكام بين سلف هذه الأمة الذين هم أفضل قرونها من الصحابة و التابعين ولم يلزم منه افتراقهم، بل كانوا أهل مودة و تناصح، كما لم يكن سببا للذم أو مدعاة للتأثم ما دام هذا الخلاف في المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد و إبداء الرأي.

و الاختلاف بين الناس سنة كونية؛ لتفاوت إرادتهم و أفهامهم و قدرات إدراكهم، و یقبل الاختلاف إذا كان الأصل واحدا، و الغاية المطلوبة واحدة، فاختلاف الصحابة لم يكن خلافا بمعنى البعد عن المنهج، بل كان الأصل - الذي بنوا عليه اختلافهم - واحدا و هو كتاب الله وسنة رسوله ، و كان القصد واحدا، و هو طاعة الله و رسوله ، و الطريق واحد و هو النظر في أدلة القرآن و السنة.

و قال ابن عبد البر: روينا عن محمد بن يحيى بن سلام عن أبيه قال: ينبغي للعالم أن يحمل الناس على الرخصة و السعة ما لم يخف المأثم.(2)

و مع ما ورد في هذا الباب، فإنه لا يخفى على ذي تمييز، أن الاختلاف في فروع الأحكام الشرعية جائز؛ إذ لا دليل على امتناعه.

و أوضح دليل على جوازه عقلا و ثبوته نقلا، وقوعه و بروزه على الساحة الفقهية بشكل بين و جلي.

حيث ثبت حدوثه في أوائل عهد الإسلام، و قد حدث بالفعل في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، كما حدث بعدهم، و تتابع حتى يومنا هذا، و سيستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ص: 40


1- طبقات الحنابلة، إسحاق بن بهلول الأنباري
2- التمهيد لابن عبد البر، 147/8

و المهم أن المذاهب الفقهية القائمة على الدليل الصحيح لا يفضل فيها مذهب على مذهب، و لا ينقص أتباع مذهب على أتباع مذهب آخر.

و مهما وجدت اختلافات حول جزئیات بعض القضايا، أو في شكليات بعض المسائل، أو التزم بها المقلدون، فإن ذلك لا يعني الخروج عن أصول التشريع و مصادره، أو يبرر القول بأن الاختلاف في الفروع الفقهية هو اختلاف في الأصول.

لذلك يميل كثير من أئمة العلم و فقهائه إلى أن اختلاف المذاهب الفقهية الإسلامية مزية تفرد و تميز بها الدين الإسلامي الحنيف، كما (أنها نعمة كبيرة و فضيلة عظيمة، و له سر لطيف أدركه العالمون و عمي عنه الجاهلون).(1)

و ثبوت الاختلاف، و مبررات وجوده، لا تعني أنه لازم الوقوع، فإذا ما أمكن الجمع بين الدليلين أو تغليب الأرجح سندا، أو التوفيق بين آراء العلماء و المجتهدین و الفقهاء، فإن ذلك أولى وأحرى، بل أجدى و أقوى دلالة.

و من منطلق جواز الاختلاف، و اعتباره رحمة بالمسلمين، و کونه خاصية إسلامية؛ فإن الاختلاف لا شك يأتي في إطار ضوابط عقلية و منطقية متبعة، و وفق شروط جعلت من الاختلاف سببا في عدم التضييق على عامة المسلمين.

و روی ابن عبد البر عن يحيى بن سعيد قال: (ما برح أولو الفتوى يفتون فيحل هذا و يحترم هذا فلا يرى المحرم أن المحل هلك ولا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه)(2)

و روى الذهبي عن الحجة التابعي يحيى بن سعيد الأنصاري ما مفاده أن: (أهل العلم أهل توسعة)، و قول آخر: (وما برح المفتون يختلفون، فيحلل هذا و يحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا، و لا هذا على ذاك)(3)

ص: 41


1- د. طه جابر العلواني، أدب الاختلاف في الإسلام، ص 29
2- جامع بیان العلم و فضله، لابن عبد البر، 302/2
3- تذكرة الحفاظ، للذهبي، 139/1

قراءة في الحل الشرعي للاختلاف في الفتوى:

لعل من أهم ما دفع الغيورين إلى الدعوة إلى توحيد الفتوى ما قد يحصل من بعض من يتصدى للإفتاء من التساهل، و ما يجدونه من تفاوت في آراء أهل العلم في عدد من المسائل، مما يقع العامي في الإشكال، و لعل من نظر فيما تقدم يتساءل عن الحل الشرعي لهذه المشكلة، و هي و إن كانت تستحق الإفراد ببيان خاص لعله أن يكون في عدد مقبل إلا أنني أشير هنا إلى أبرز الحلول الشرعية:

1- نشر ثقافة التعامل مع الخلاف:

و ذلك بتوعية الناس أن الخلاف واقع و موجود، و هو إنما يذم إذا عارض قاطعا من الدين أو ضروريا منه، و أن صحابة النبي في زمنه و بعده و كذلك من بعدهم اختلفوا، و تفاوتت اجتهاداتهم، و لم يكن هذا سببا لفرقة و لا اضطراب.

و من أمثلة هذا ما رواه ابن عمر رضی الله عنهما، قال : قال النبي لما رجع من الأحزاب: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، و قال بعضهم: بل نصلي، لم يرد ذلك منا فذكر ذلك للنبي ، فلم يعنف واحدا منهم.(1)

فالقوم كانوا حال قتال و هم أحوج ما يكونون إلى ما يكونون إلى الاتفاق و ترك النزاع كما أمروا بذلك عند الحرب: «وَ لَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ» [الأنفال: 46]. و مع ذلك لم يترك واحد منهم ما أداه إليه اجتهاده، و لم يكن ذلك سببا للفرقة.

فاختلاف الاجتهاد يلزم كل مجتهد أن يأخذ بما أداه إليه اجتهاده، و يلزم مخالفة ألا يثرب عليه.(2)

و يوضح هذه الفقرة ما يلي :

2- تعليم الناس التعامل مع اختلاف المدرسة الفقهية :

ص: 42


1- صحيح البخاري (946)، صحیح مسلم (1770) بلفظ: الظهر .
2- انظر في هذا شرح صحيح مسلم، للنووي، مصر 1139.

فإذا وجد السائل فتويين مختلفتين فإنه يتعامل معهما بالطريقة التي بينها أهل العلم بإسهاب كثير في كتب الفقه و الأصول.(1)

و قد أوجز النووي الخلاف، و بين الراجح بقوله: (إذا اختلف عليه فتوى مفتيين ففيه خمسة أوجه للأصحاب:

أحدها: يأخذ بأغلظهما

و الثاني: بأخفهما.

و الثالث: يجتهد في الأولى فيأخذ بفتوى الأعلم الأورع... و اختاره السمعاني الكبير و نص الشافعي رضی الله عنه على مثله في القبلة.

و الرابع: يسأل مفتيا آخر فيأخذ بفتوى من وافقه.

و الخامس: يتخير فيأخذ بقول أيهما شاء، و هذا هو الأصح عند الشيخ أبي إسحاق الشيرازي المصنف، و عند الخطيب البغدادي، و نقله المحامي في أول المجموع عن أكثر أصحابنا و اختاره صاحب الشامل فيما إذا تساوی المفتيان في نفسه.

و قال الشيخ أبو عمرو: المختار أن عليه أن يبحث عن الأرجح فيعمل به؛ فإنه حكم التعارض فيبحث عن الأوثق من المفتين فيعمل بفتواه، و إن لم يترجح عنده أحدهما استفتی آخر، و عمل بفتوى من وافقه، فإن تعذر ذلك و كان اختلافهما في التحريم و الإباحة، و قبل العمل، اختار التحريم، فإنه أحوط، و إن تساويا من كل وجه خیرناه بینهما، و إن أبينا التخيير في غيره؛ لأنه ضرورة و في صورة نادرة.

قال الشيخ: ثم إنما نخاطب بما ذكرناه المفتين، و أما العامي الذي وقع له فحكمه أن يسأل عن ذلك ذينك المفتيين أو مفتيا آخر و قد أرشدنا المفتي إلى ما يجيبه به.

و هذا الذي اختاره الشيخ ليس بقوي بل الأظهر أحد الأوجه الثلاثة، و هي: الثالث

و الرابع، و الخامس، و الظاهر أن الخامس أظهرها؛ لأنه ليس من أهل الاجتهاد،

ص: 43


1- انظر مثلا: الإحكام لابن حزم، ص 114، المجموع للنووي 54/1، الفقيه و المتفقه (183/2)، صفة الفتوى، ص 82

و إنما فرضه أن يقلد عالما أهلا لذلك، و قد فعل ذلك بأخذه بقول من شاء منهما و الفرق بينه و بين ما نص عليه في القبلة أن أمارتها حسية فإدراك صوابها أقرب، فيظهر التفاوت بين المجتهدين فيها، و الفتاوى أمارتها معنوية فلا يظهر كبير تفاوت بين المجتهدين و الله أعلم).(1)

فلا يكفي المستفتي أن يتبع قولا سمعه من أحد المفتين فقط، ولا تبرأ ذمته به بمجرده.

3. التأكيد على ضرورة ترسيخ مفهوم الاحترام المتبادل بين علماء و أتباع المذاهب المختلفة فيما يتصل بر موز كل مذهب و الشخصيات التي يقدرها و على رأسها آل البيت الأطهار و الصحابة الكرام جميعا.

4. اعتبار فقه الخلاف و فقه الأولويات أساسا في حوارات المسلمين و العمل لوحدتهم و الدعوة إلى تأسيس منهج فقه الائتلاف و العمل على تطبيقه في المسارات كافة، و إشاعة ثقافة الألفة و التآخي و النصح بدلا من ثقافة البغض و التجهيل و الأحكام المسبقة على الآخرين.

5. الاهتمام بإبراز النقاط المشتركة بين المذاهب، و الحديث دائما عن نقاط التلاقي؛ و بخاصة مع العامة، و توجيههم إلى أهمية الوحدة الإسلامية كما أرادها القرآن الكريم : «هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ»، و إشاعة ثقافة التقريب، و تضافر الجهود لذلك، و ترك الجدل و المناظرات الفكرية و العقدية و الفقهية للمختصين في المستويات العليا.

6. التأكيد على أن الاختلاف بين المذاهب الإسلامية هو اختلاف خطأ و صواب، و ليس اختلاف کفر و إيمان .

ص: 44


1- أدب الفتوى و المفتي و المستفتي، ص 78 وما بعدها.

7. عدم تضخيم مسائل الخلاف، و تحويلها إلى منازعات تشاحنية، و خصومات تنافرية، تنسي مقومات الوحدة و عوامل الوفاق، مع أن نقاط التلاقي و الاتفاق أكثر بكثير من نقاط الخصام و التفرق.

8. عدم الانشغال بمناظرات جانبية و جدالات داخلية؛ فالأهم هو الدعوة إلى الإسلام بعرض جوهره النقي، و صفائه الروحي، و بيان رسالته الواضحة و إبراز جمال الدين و شموله لكل مجالات الحياة، و أنه يصلح الإنسان و الزمان والمكان.

9. التخلص من عقدة كمال الصحة المطلقة، و عقدة الوصاية على الدين، فما تحمله حق و صواب يحتمل الخطأ، و ما أحمله حق و صواب يحتمل الخطأ، قال تعالى : «وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ، و إذا كان هذا في الحوار مع غير المسلمين فهو مع المسلمين من باب أولى.

فالمجتهد مهما بلغ لا يستطيع الجزم بأن اجتهاده هو الحق المطلق، و أن اجتهاد غیره هو الخطأ المتيقن؛ فذلك لا يعلمه إلا الله و رسوله، و لا سبيل إلى ذلك العلم بعد انقطاع الوحي.

10. تجنب التعصب المذموم و محاربته؛ فإنه يعمي و يصم القلوب و العقول و البصائر، و منهج القرآن النهي عن التعصب المقيت، و يدعو إلى التسامح الديني، و من باب أولى التسامح المذهبي، و يدعو إلى التآخي البشري فكيف بالتآخي الإيماني؟.

11. الابتعاد عن مواجهة المسلم للمسلم بأشد الكلمات، و أغلظ العبارات، و أقسى الأساليب، و تجنب التجريح و التنقيص، و إحصاء الأخطاء و العثرات لدرجة قد تصل إلى الإهانة، فمثل هذا يولد مزيدا من الأحقاد و الكراهية و البغضاء، و ما أروع منهج القرآن: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» . [آل عمران: 159]

فما أجمل اللقاء إذا كان بألطف الكلام و أرهف العبارات، و ما أحسن الحوار إذا كان بأقوى الحجة و أصدق الدليل.

ص: 45

12. مراعاة الشعور و العواطف و احترام تباين الآراء و اختلاف الأفهام؛ فمثل هذا يولد المحبة و الصفاء، قال تعالى: «وَ لَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» [فصلت : 34]، و حينها يتحول العدو إلى صديق، و المبغض إلى محب، و البعيد إلى قريب.

للتوصيات:

ضرورة استناد الفتوى الأدلة الشرعية

1. تجنب الإفتاء بمقتضى الرأي دون دليل أو تعليل.

2. المذاهب الفقهية القائمة على الدليل الصحيح لا يفضل فيها مذهب على مذهب.

3. نشر ثقافة التعامل مع الخلاف.

4. تعليم الناس التعامل مع اختلاف المدرسة الفقهية .

5. التأكيد على ضرورة ترسيخ مفهوم الاحترام المتبادل بين علماء و أتباع المذاهب المختلفة.

6. اعتبار فقه الخلاف و فقه الأولويات أساسا في حوارات المسلمين و العمل لوحدتهم

7. الدعوة إلى تأسيس منهج فقه الائتلاف، و إشاعة ثقافة الألفة و التآخي و النصح

8. الاهتمام بإبراز النقاط المشتركة بين المذاهب .

9. التأكيد على أن الاختلاف بين المذاهب الإسلامية هو اختلاف خطأ و صواب، و ليس اختلاف کفر و ایمان

10. عدم تضخيم مسائل الخلاف، و تحويلها إلى منازعات تشاحنية، و خصومات تنافرية، تنسي مقومات الوحدة و عوامل الوفاق.

11. عدم الانشغال بمناظرات جانبية و جدالات داخلية .

ص: 46

12. التخلص من عقدة كال الصحة المطلقة، و عقدة الوصاية على الدين.

13. تجنب التعصب المذموم و محاربته.

14. مراعاة الشعور و العواطف و احترام تباين الآراء و اختلاف الأفهام.

نصائح للمفتي:

1. المعرفة الدقيقة بالمسألة .

2. تتبع الحكم الشرعي و بذل الجهد لمعرفة الدليل في القضية .

3. ضرورة الاستفادة من الاجتهادات الجماعية مثل: قرارات المجامع، و فتاوی الندوات، و المؤتمرات الفقهية.

4. تجنب تحميل النصوص الشرعية ما لا تحتمله من الدلالات.

5. التحرز من الاستدلال بما لم يثبت من الأحاديث النبوية.

6. التوثق من نقل الإجماع أو أقوال المجتهدين، و استمدادها من مصادرها المعتمدة.

7. مراعاة المفتي به أو الراجح أو المشهور أو الصحيح في كل مذهب طبقا لأصول الفتوى فيه، حسب العبارات المصطلح عليها بين فقهائه .

8. مراعاة اختيار الأيسر إذا تكافأت الأدلة.

9. ضرورة سد الذريعة إلى المفسدة الراجحة.

10. تجنب اعتماد الإفتاء بالرخص الفقهية في كل أمر.

ص: 47

ص: 48

الأثر العكسي للارهاب على الدول الراعية له مقاربة تحليلية محمد هاشم البطاط

*محمد هاشم البطاط(1)

المقدمة:

كان و مايزال الفعل الارهابي يمثل احد ابرز الموضوعات الاشكالية حول تفسير العناصر المشكلة لها و الاسباب التي تدفع إلى القيام بها، و كلما ارتفعت مديات التأثير التي يؤثر عبرها الارهاب على مجتمعات العالم المختلفة ازداد السعي صوب تفسير هذه الظاهرة التي ما انفكت عن قتل و ترويع الناس الأبرياء بذريعة التمسك بالدين أو تطهير الأرض من الشرك و الانحراف، و على الرغم من كثرة الدراسات و البحوث الساعية إلى مقاربة الفعل الارهابي من زوايا متباينة، بيد أن هناك ثمة نقض في المقاربات الهادفة إلى تحليله من لحاظ الرعاية Sponsorship التي تقدمها جملة من الدول للارهابيين؛ بغية توظيف النتائج المترتبة على اعمالهم الارهابية، و على هذا الأساس يهدف هذا البحث إلى القيام بمقاربة تحليلية للاثر العكسي الذي ينجم عن تمثل مجموعة من الدول المعاصرة لدور الراعي للجماعات الارهابية بطريقة تسهم في بيان كيفية انعكاس اثر الرعاية هذه على نفس الدول التي تقوم بها، لا سيما في ظل میکانزم التحليل المتقوم باسس علم النفس السياسي و الهادف إلى تقديم قراءة علمية لكيفية الانتقال الذهني / النفسي - السياسي للارهابيين من شن الهجمات على دول معينة

ص: 49


1- استاذ العلوم السياسية في الجامعة المستنصرية - العراق

ارادت الدول الراعية للارهاب من توجيه الارهابيين إلى محاربتها إلى شن الهجمات على نفس الدول الراعية، ومن هنا ينطلق البحث من فرضية مفادها أن هناك ثمة اثر عكسي لرعاية الارهاب الذي تقوم به بعض الدول، و انه سينعكس على هذه الدول في المستقبل، و بغية اثبات هذه الفرضية فقد تم تقسيم البحث إلى المحاور الآتية:

المحور الأول: دلالة و اهداف الدول الراعية للارهاب.

المحور الثاني: الفعل الارهابي و الاثر العكسي على رعاته .

المحور الثالث: مستقبل الأثر العكسي للارهاب على الدول الراعية له .

سيتم خلال هذا المحور تقدیم فهم ماهوي / دلالي للدول التي ترعى الارهاب، و كذلك مقاربة الاهداف التي تدفعها إلى المخاطرة برعاية جماعات خطيرة تنتهج العنف كوسيلة احادية في التغيير و التعامل مع الآخرين کالارهابيين.

اولا: دلالة الدول الراعية للارهاب Sposor States of Terrorism : تكشف دلالة الدول الراعية للارهاب عن تبني خيار التعاون و تقديم الدعم للجماعات الارهابية من قبل جملة من الدول، و تلجأ هذه الدول إلى تبني هذا الخيار و انتهاجه بعدما تعتقد ان مصلحتها القومية يمكن أن تتحقق عبر هذا التعاون،(1) و تبدأ الدولالراعية للارهاب بتقديم الدعم و المساعدة اللوجستية و كل ما يسهم في نجاح الارهابيين في تنفيذ العمليات التي تسهم في اضعاف الطرف الآخر الذي يشكل تهديدا للدول الراعية للإرهاب، و لعل من الجدير ذكره أن هذه الدول الراعية سترزح تحت وطأة حالة اشکالية معقدة ترتبط في كيفية اقناع الارهابيين بان هذه الدول لاتشكل تناقضا مع المعتقد الارهابي الذي يعتنقه الارهابيون في الوقت الذي تختلف ایدئولوجيات الكثير من هذه الدول مع ايديولوجية الارهاب، الأمر الذي يجعل من الدول الراعية للارهاب في نطاق تحديد مفهومها ترزح تحت و طاة من التناقض الايديولوجي مع المعتقد الإرهابي، و هو ما سيفضي إلى تشخیص جنبة من جنبات البعد الدلالي و

ص: 50


1- احمد زيدان، الارهاب - دراسة في الاسباب و الأبعاد، ط1 2005م، دار الاصل، بیروت، ص 32

المتمثلة بان هذه الدول مستعدة لتبني مختلف الخيارات الشرعية و غير الشرعية في تنفيذ مصلحتها القومية حتى لو قاد الأمر إلى تعارض كبير مع مقررات المجتمع الدولي و طبيعة القواعد القانونية التي تحدد خيارات تسيير العلاقات بين الدول، و هو ما يشي بان هذه الدول تتناقض كليا مع ما تعلنه من انها مناهضة للارهاب في تعاملاتها و علاقاتها الخارجية مع الدول الاخرى.

و يسعى ديفيد بيترسون إلى تحديد مفهوم الدول الراعية للارهاب بانها

" مجموعة من الدول التي تؤمن بان مصلحتها القومية يجب أن تتحقق بغض النظر عن الوسائل و الآليات التي تنتهجها في سبيل ذلك، و هو ما يدفعها إلى أن تضع يدها بیدالارهابيين و تقدم لهم كل ما يحتاجوه في سبيل تنفيذ عمليات يؤمن الارهابيون انها تعبر عن نزوعهم العقائدي في تنفيذ ما يعتقدون انه جهاد، و في الوقت نفسه تخدم هذه العمليات المصلحة الخاصة للدول الراعية"(1)

أي أن تلاقي المصالح بين هذه الدول و الارهابيين يدفع الدول إلى أن تتولى مهمة توفير متطلبات تنفيذ العمليات الارهابية و تقديم الدعم و المشورة إلى الجماعات الارهابية من اجل تحقيق مصلحة مشتركه بين طرفين قد يكونا على اتفاق ايديولوجي في الاسس و قد لا يكونا كذلك.(2)

و يشير و لیام سون إلى أن التحديد الدلالي للدول الراعية للارهاب يتمثل في انها تقوم برعاية العمل الارهابي و تقديم الدعم و المشورة و التخطيط للارهابيين ينبغي ان لا يدفعنا إلى اغفال الكيفية التي تتعاطى بها هذه الدول مع الارهابيين و اقناعهم بقبول الرعاية و التعاون معها، الأمر الذي يكشف على أن الدول الراعية للارهاب هي دول اما تقترب ايديولوجيا من المعتقد الارهابي كالمملكة العربية السعودية أو انها

ص: 51


1- David Peterson, Sponsor states of Terrorism, 1stEdtion, New York Printing Home 2002 P321
2- يوسف فرج، العمليات الارهابية في ضوء القانون الدولي الإنساني، مجلة (القانون الدولي الإنساني) عدد 15 بيروت 2010م، ص 21

دول تقوم بتجنيد وكلاء لهذه الدول مهمة التقرب من الارهابيين و الانضمام اليهم کافراد مؤمنين بهذا الفكر، و من ثم تقوم هذه الدول برعاية الارهابيين و عملياتهم من خلال وكلائها، و هذا ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية،(1) و هكذا لا ينبغي أن يغفل الفهم الدلالي للدول الراعية الارهاب اختلافها الأيديولوجي و التخطيطي في القيام بفعل الرعاية، و ذلك لان احد عناصر التاثير في العمليات الارهابية التي يتم تنفيذها أنها تقوم على مرتكز الترويع - الترهيب Terror، بشكل يتطلب في كثير من الاحيان القيام بالعمليات الانتحارية التي تودي اولا بروح الارهابي الذي ينفذ العملية، و هو ما يدفع الدول الراعية إلى انتهاج آلية تقنع من خلالها الارهابيين - بشكل مباشر أو غير مباشر - إلى أنها تؤمن بصحة المعتقد التكفيري، و أن المنهجية التكفيرية في التعاطي مع الآخرين هي الأكثر نجاعة في تحقيق المراد، و نتيجة لتعاظم انتهاج میکانزم رعاية الإرهاب من قبل بعض الدول، ظهر مصطلح "الارهاب المدعم بالدولة Terrorism Sponsored by State" الذي يشير إلى عين مضمون الدولة الراعية للإرهاب، و الكاشف عن "اتخاذ دولة ما من الارهاب وسيلة بديلة عن الحرب النظامية أو الحرب المعلنة و توجه انشطتها ضد دولة كبريأو أي دولة أخرى تناصبها العداء و تتصارع معها سياسيا أو عرقيا...، و يهدف هذا الأسلوب إلى تحقيق مكاسب سياسية أو غيرها".(2)

و کیما تکتمل دلالة موضوعة البحث يكون من الأهمية بمكان الاشارة إلى الفرق بين مصلحتي "الرعاية Sponsorship" و الدعم Supporting"، فالداعمة تتولى تقديم الدعم للجماعات الإرهابية، أي أن الجماعات قد تشكلت و تكونت من عدد من الخلايا الإرهابية، و هذا يعني استبعاد دور هذه الدول التاصيلي و اتأسيسي للجماعات

ص: 52


1- William Son, Terrorism - Study in Thought and Conduct, Second Edition, William House for Printing Service, 2014, p52
2- ماجد موریس، الارهاب - الظاهرة و ابعادها النفيسة، ط1 2005 م، دار الفارابی، بیروت، ص 29.

الارهابية، في حين أن مصطلح "الراعية" يشمل دور التاسيس و التاصيل و الدعم اللوجستي و غيره، و هذا ما دفع بنا إلى استخدامه بدلا من المصطلح الآخر.

ثانيا: اهداف الدول الراعية للارهاب:

تتباين اهداف الدول للارهاب نتيجة جملة من المحددات التي وفقها تهدف هذه الدول إلى رعاية الفعل الارهابي و الاستعداد للمخاطرة بالتعاون مع الارهابيين، و لعل بالامكان ایراد ابرز الاهداف التي وفقها تلجا الدول إلى تبني خيار رعاية الارهاب:

1- التعانق و الارتباط الأيديولوجي بين الدولة الراعية للارهاب و الارهابيين، اذ يفضي هذا التواشج في المعتقد إلى أن تقوم هذه الدول إلى رعاية الفعل الارهابي و تقدیم المعونة للارهابيين، بل و في أحيان كثيرة، بتاسيس جماعات ارهابية و تولي مسؤولية هندسة الخلايا الارهابية داخل هذه الجماعات، و ربما يمكن القول أن هذا المحدد يعد من المحددات القوية لجملة من الاسباب من اهمها أن التعانق و التمازج الايديولوجي يسهل على هذه الدول مهمة التقرب من الارهابيين و تجنيدهم و شرح كيفية التعاون بينهم، لان التشابه في المعتقد لن يجعلها بحاجة إلى البحث عن آلية التفاف على العقل الارهابي، بل الدخول اليه بشكل مباشر و فتح التنسيق المشترك/ المباشر معه، و ايضا ان هذه الدول لن ترزح تحت وطأة الخشية من تبني الخيارات المتناقضة مع ايديولوجيتها الذاتية، بعبارة أخرى، لن تكون هذه الدول في تناقض بين ما تدعيه في العلن، أو ما تؤمن به من معتقدات، و بين طريقه الرعاية للارهابيين، الأمر الذي لن يجعلها في تناقض کما هو الحال عند غيرها من الدول التي تختلف في ايديولوجياتها أو في متبنياتها في العلن مع ما يؤمن به الارهابيون، و لعل من ابرز الامثلة على الدول التي تتطابق ايديولوجيا مع الإرهاب هو المملكة العربية السعودية.(1)

ص: 53


1- Daniel brown, the Conflict between East and West, 2nd Edition Chicago University, 2002 p351

2- التطابق المصلحي بين الدول الراعية للارهاب و الأعمال الإرهابية بالشكل الذي يدفع هذه الدول إلى رعاية الارهابيين و تقديم كل ما يحتاجون اليه من دعم حيث تقتنع هذه الدول بان المحصلة الناجمة عن تنفيذ عمليات ارهابية في مكان ما من العالم سيقود، بشكل أو بآخر، إلى تحقيق مصلحة قومية لها، الأمر الذي يدفعها إلى القيام بدور الراعي للارهابيين، و لعل من اوضح الأمثلة على ذلك قيام الولايات المتحدة الامريكية برعاية جماعة طالبان الارهابية ابان الاحتلال السوفيتي لافغانستان لدرجة انها كانت تطلق عليهم "مقالتلو الحرية Freedom Fighters" قبل أن تنقلب العلاقة بين الطرفين إلى الصدام و الاحتراب فيما بعد كموشر على الأثر العكسي للارهاب، فعلى الرغم من التباين الايديولوجي بين امریکا و جماعة طالبان الا ان الأولى سعت و بجهد إلى رعاية الثانية نتيجة التطابق المصلحي بين الاثنين الا و هو محاربة الاتحاد السوفيتي. (1)

3- احداث خلل داخل الجسد الارهابي نتيجة السعي إلى احداث تغيير في ميزان القوى داخل الجماعات الإرهابية، اذ يكشف هذا المحدد عن أن بعض الدول قد تلجا إلى رعاية الارهاب لاسباب معينة، لكن ضمن محدد توازن القوى داخل الجماعات الارهابية، اذ ليس هدفها الحقيقي هو التوازن بعينه، و انا الاخير هو الهدف اللجوء إلى رعاية الارهاب سعيا وراء تحقيق الارهاب، و لهذا سعت امارة قطر إلى رعاية تنظيم داعش في سوريا بغية اضعاف الدور السعودي الذي يرعى جبهة النصرة(2)

4 - الحاق الأذى بالاعداء: اذ تعمد جملة من الدول الراعية للارهاب إلى القيام بالرعاية بغية الحاق اكبر قدر من الأذى بالدول التي تعاديها دون الحاجة إلى الدخول

ص: 54


1- John Houseman, the Contemporary State and Society, 3rd Edition, Joseph Park Printing p17
2- William son, op.cit p55.

معها في حرب معلنة، فمن خلال رعاية الارهابيين سيقوم هؤلاء بتحقيق ما تصبو اليه هذه الدول دون الحاجة إلى الدخول في مواجهة معلنة تكون خسائرها فادحة. (1)

5- تحصيل القوة الدبلوماسية للتفاوض: تهدف الدول في ضوء هذا الهدف إلى تحقيق اكبر قدر من القوة الدبلوماسية ابان ولوجها مسرح التفاوض مع الدول التي تعاديها من خلال الضغط عليها بورقة الارهابيين،(2) و أن على الدول المعادية لها الاستجابة لمطالبها في مقابل الكف عن رعاية الإرهاب، و هكذا تهدف بعض الدول إلى تقوية اوراقها التفاوضية من خلال رعاية الارهاب.

6 - منع الدول الأخرى من أن تكون قوية: عندما تعتقد بعض الدول إلى أن مصلحتها القومية ترتبط ایا ارتباط في اضعاف الدول الاخرى و منعها من أن تكون قوية، لإيمانها بان قوة هذه الدول سيقود إلى تحجيم دورها اقليميا أو دوليا، و على هذا الأساس تسعى جهد امکانها إلى منع الآخرين من أن يكونوا أقوياء، و لعل من انجح الطرقا لى اضعاف الخصوم یکمن - في اعتقاد هذه الدول - في استنزاف قواها من خلال اذكاء العمليات الارهابية داخل اراضيها، و بالتالي ستستنزف القوى في حرب طويلة على الارهاب، لا سيما في ظل طبيعة قواعد الاشتباك مع الارهاب التي تختلف عن قواعد الاشتباك بين الجيوش في الحروب النظامية، لان الجماعات الارهابية تعتمد آلية الحرب الاستنزافية - الطويلة.

7- تحقيق السيطرة على جزء من دولة الاخرى: من خلال رعاية الارهاب تهدف بعض الدول إلى السيطرة على جزء من دولة تعاديها، اذ بسيطرة الارهابيين على جزء من الدولة المعادية ستتمكن الدولة الراعية للإرهاب من التحكم بمقررات الجغرافية التي تمت السيطرة عليها، و فرض ارادتها على الدولة الأخرى، الامر الذي يجعل من

ص: 55


1- Daniel L. Byman, the Changing nature - State sponsorship of Terrorism - Analysis, paper, theSaban Center for Middle East Policy, 2008, p25
2- Ibid p 25

الدولة الراعية للارهاب ذات سيادة على جزء من الدولة الأخرى، و بالتالي ستكون الاخرى ترزح تحت وطأة شكل من اشكال الخضوع للدولة الراعية.

8- تحصيل قوة الردع: عندما تشعر بعض الدول بانها تحت ضغط من قبل دولة أو دول اخرى فانها قد تلجا إلى رعاية الارهاب في بعض الدول المعادية أو في المناطق التي تعتبر محطات للنفوذ الاستراتيجي للدول المعادية، مما يمنحها قوة ردع مهمة تسهم في القضاءأو تقليل مخاطر تعرضها للهجوم أو العقوبات من قبل الدول المعادية لها(1) المحور الثاني: الفعل الارهابي و الاثر العكسي على رعاته

لا يمكن استيعاب طبيعة المجازفة في الفعل الارهابي الا من خلال الولوج إلى طريقة التكفير التي يتداول عبرها الارهابيون نظرتهم إلى الوجود الدين - المستقبل، اذ ينطلق العقل الارهابي من مسلمة الرجوع إلى نقاوة عبر آلية الارتداد التاريخي إلى سيرة السلف البعيدة عن ملابسات الادخال (البدعي) للدين من قبل المسلمين، و الانطلاق - حسب العقلية الارهابية - إلى تنقية الدين، و بالتالي الوجود و من ثم ضمان المستقبل الالهي على الأرض في تمثل المصادیق الدينية، من خلال القيام بعمليات تطهيرية لحالات الشرك التي هيمنت على الشعوب الإسلامية، و السعي تجاه التخلص منها بآليات القتل - الترهيب - الترويع.

لذا فان الادراك للذهنية الارهابية يتقوم بمجموعة من الاسس الاستيعابية لطريقة تفكير موغلة في التسطيح و انعدام التعمق في تحليل المسائل اي اننا امام رؤية نكوصية لميكانزم التفكير الانفتاحي في التعاطي مع قضايا الدين و الوجود، من هنا سعي الدول الراعية للارهاب إلى تعشيق طريقة التفكير هذه و تنميتها كونها ستسهم في استفحال الحنق الارهابي على الخصوم، سواءا أكان هؤلاء الخصوم ينتمون إلى الداخل الاسلامي، اي مسلمون يختلفون مع المنظومة التكفيرية للارهابيين، أم من خارج

ص: 56


1- Ibid p 25

الحيز الاسلامي، اي الذين ينتمون إلى ديانات أخرى، و تسعى الدول الراعية اللارهاب إلى توظيف و تعظيم التعارض الفكري أو السلوكي أو الاثنين معا بين الارهابيين و خصومهم من أجل كسب المنجز السياسي الناجم عن العمليات الإرهابية التي ينفذها الارهابيون،(1) و لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الدول الراعية للارهاب لم تستوعب أن موضوعة التفكير الارهابي لا يمكن التفاهم معه حول قضايا الصداقة و العداوة الا في اطار الممارسة التشابهية مع الفكر و السلوك الارهابيين، و هو امر سيقود في أية لحظة مستقبلية إلى تعارض و تناقض، لاسيما مع الاقرار بان المنحى التكفيري لا يجيد غير آلية العنف في التعامل مع الآخرين و هو امر لا يمكن أن ينجح دائما في تسيير الدول لعلاقاتها فيما بينها، الأمر الذي يعني أن الصدام سيحصل في مطلق الاحوال بين الدول الراعية للارهاب و بين الارهابيين، حيث أن العقلية الارهابية "تفكر بطريقة أن من معنا هو الخير كله، و من ليس معنا حتى لو لم يكن علينا هو الشر كله، و من اجل ان الاخر هو الشر كله فلا يوجد اي مبرر يمنع من استعمال كل ما يمكن من عنف كي تقصيه عن الوجود ندمره و تنفية"(2)، في سياق هذه العقلية لا يمكن ضمان الوفاق و الصداقة مع الارهابيين، و هو امر لم تدركه الدول الراعية للارهاب، أو على الاقل ادركته بيد انها ظنت و تظن انها عبر التوافق مع الفعل الارهابي و رعايته انها ستكون بمأمن منه، و هو امر لا يمكن أن يتحقق لجملة من الأسباب لعل من أبرزها، آن فداحة المجازفة و المخاطرة في العمليات الارهابية ناجمة عن اعتقاد الارهابيين أن ما يقومون به في سبيل تطهير الاسلام من مظاهر الشرك التي لحقت به حسب زعمهم باستخدام الترهيب تجاه الآخرين بغض النظر عن الوسائل و العواقب و النتائج، و انهم يطلبون الشهادة من اجل تحقيق هذه الغاية هذا الأمر يجعل من الارهابي، ضمن اطار علم النفس

ص: 57


1- يوسف سليمان، الأرهاب و العنف السياسي - مدخل الى التحليل النفسي، ط 2، 2010م، موسسة الفكر الديمقراطي، بيروت، ص 82
2- ماجد موریس، مصدر سابق ، ص 269

السياسي، عبارة عن عقلية منغلقة غير قابلة لتفهم طبيعة التغييرات في العلاقات بين الافراد و الجماعات و الامم و الدول، فالعنف تجاه الاخر هو الملجا الاول و الاخير في تسيير العلاقة مع الآخرين، و أن الصديق هو من يتوافق مع طريقة التفكير هذه، و العدو من يختلف معها، و بطبيعة الحال فان اية دولة دولة مهما كانت مغرقة في التطرف في سياستها الخارجية لا يمكنها أن تستمر في التعامل مع الدول الأخرى بهذه الآلية، لاسيما و ان عالم السياسة متغير بسرعة كبيرة، و العداوة و الصداقة ترتبط بموضوعة الثوابت و الاولويات و المصالح، و التغيير يحصل في أية لحظة لتنتقل دولة ما إلى صديقة لدولة اخرى بعد ان كانت في عداوة معها، هذا الأمر لا ينفع مع الارهابيين الذين يفكرون بان الآخر يجب أن يقضي، وأن التحولات بين الصداقة و العداوة ترزح تحت وطأة ضروب كثيرة من الصعوبة و التشدد، و لهذا يشير جوزيف وینسلت إلى أن مشكلة الدول التي رعت الارهاب انها لم تتامل في النتائج اللاحقة التي ستترتب على عمل الرعاية هذا، اذ لا يمكن الاستمرار في كسب ود الارهابيين عبر تقديم الدعم لهم، فالارهابي يفكر بطريقة منغلقة سرعان ما ينقلب خلالها أي شيء إلى عدو له، و ما يزيد من تعقيد الأمر أن جميع دول العالم، حتى تلك التي تكشف عن حالة من الأصولية الدينية المتشددة كالمملكة العربية السعودية غير قادرة في المستقبل ان تتماشى مع السياسة الارهابية في التعاطي مع الأمور، و بالتالي فان الاختلاف الذي يتم تمريره اليوم بذرائع الاتفاق الاستراتيجي بين الدول الراعية للارهاب و بين الارهابيين سرعان ما سيظهر بشكل يصعب معه تحصيل اي منحى من مناحي التوافق بين الطرفين، و سينقلب الوفاق إلى صدام، و من التحاشي الاستراتيجي إلى الاحتراب و الاقتتال(1) ، و لعل من اجلى الأمثلة على هذا الامر الانتقال الذي حصل في العلاقات من التلاقي إلى الاحتراب بين الولايات المتحدة الامريكية و جماعة طالبان الارهابية، فبعد ان كانت امریکا تسميهم "مقاتلو الحرية Freedom Fighters" تحولوا بين ليلة و

ص: 58


1- Joseph Wenslete, the Interational Policies - an Introduction, 2nd Edition George Grahare Home. Washington, 2010, p321.

ضحاها إلى اعداء لها حد الاقتتال، و بطبيعة الحال فان الاعمال، كما يرى المفكر على حرب، ترتد على أصحابها،(1) انقلب الارهابيون الذين رعتهم امریکا عليها، و اضحوا في حرب معها، و ما احداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر الا دليل على هذا الأمر، و ليس هذا فحسب بل أن التقارير كشفت عن حجم كبير من التهديد الذي قام و يقوم به الارهابيون داخل الولايات المتحدة الامريكية.(2)

أن الأثر العكسي للفعل الارهابي على رعاته ينطلق من ذاتية الانغلاق الفكري الذي يعتري الارهابيين، و الايمان المطلق بالعنف كوسيلة في التعامل الآخر، و تضييق مساحة التزاحم بين الأصدقاء و الاعداء داخل المنظومة الارهابية، الأمر الذي جعل الكثير من الدول التي رعت الارهاب، و ايقنت ان رعايتها للاخير ستفضي إلى تحقيق جزء أو كل الاهداف التي دفعتها إلى القيام بهذا الأمر، جعلها تعاني العديد من الآثار العكسية التي ردت عليها، فقد كشفت التقارير المسربة ضمن وثائق ويكيلكس إلى وجود العديد من المخططات لتنظيم القاعدة لتنفيذ هجماتداخل السعودية و قطر و تركيا و الاردن و امریکا و اسرائیل و غيرها من الدول تعد من ابرز الدول الراعية للارهاب(3)

و يتعلق الأثر العكسي للارهاب على الدول الراعية له إلى أن السبب في مشكلة الارهاب الحديث تتمثل في طابعها الانتقالي، اي ان الارهاب ظاهرة متنقلة، بحيث انها تتخطى الحدود القومية و تتجاوز سيطرة الحكومات،(4) هذا الانتقال، و الذي يكون في كثير من احيانه سريعا، يتم تمريره داخل العقلية الإرهابية من خاصية متعدد

ص: 59


1- على حرب، ثورات القوة الناعمة في الوطن العربي - من المنظومة الي الشبكة،ط3 1434 ه / 2013 م، الدار العربية للعلوم - ناشرون، بيروت ص 46
2- Stephen downs and others, inventing terrorists – the law fare of preemptive prosecution, study by project salam and NCPCF, 2014. P13
3- Michele stockman, terrorism in twenty on century, 1st edition, Nuremburg widen printing haine, 2011, p163
4- Martha Crenshaw, the psychology of political terrorism, in (political psychology) edited by: Margaret G. herman. Ist edition, p383

الجوانب، احد جوانبها يعبر عن اقتناع الارهابيين بان الدول بجملتها كافرة و لا تطبق الشريعة الاسلامية بالفهم التكفيري لهذه الشريعة، و في جانب آخر ایمان العقل الجمعي الارهابي بان الحدود التي تحد الدول الاسلامية لا ينبغي لها أن تبقى لانها صنيعة الاستعمار الذي مزق جسد الأمة، وبالتالي فان العمليات الارهابية يجب ان تنفذ في مختلف الدول و ليس في دولة ما دون أخرى، و هذا ما يكشف سيطرة تنظيم داعش الارهابي على اجزاء من العراق و سوریا و اعلانه عن نيته السيطرة على اجزاء لبنانية و اردنية، و من ثم التوجه صوب الكويت و السعودية و سائر الدول الخليج العربي، و هكذا ينتقل الارهاب إلى داخل دول لطالما رعت الارهاب و قدمت له امکانات هائلة ظنا منها انها ستكون بمنجی منه، و انها ستوظفه لصالحها کسبة للتاثير الاستراتيجي في صنع القرار الداخلي للدول الاخرى.

وقد تمكن الكاتب دانييل بايمان من أن يتوصل في كتابه ( الاتصالات المميتة - الدول الراعية للارهاب) إلى تحليل طبيعة العلاقة بين الطرفين، ليذهب إلى أن امكانية انتقال الارهاب إلى هذه الدول يبقى متاحا، بل وعلى درجة كبيرة من المنطقية لان رعاية الارهاب، في خضم آلية التفكير التكفيرية التي يفكر بها الارهابيون، ستؤدي إلى انقلاب العلاقة من الوئام إلى الصدام.(1)

في حين ذهب جوزيف هارت إلى أن الأثر العكسي للفعل الارهابي يتشكل عبر الدوال الآتية :(2)

ا- وجود قناعة ارهابية بان لا دولة اليوم تحظى بالشرعية الدينية في ممارسة حکامها للسلطة السياسية و طريقة مباشرة الأمور في الدول القائمة.

ص: 60


1- Daniel L. byman, deadly connections: states that sponsor terrorism, Istedition,p
2- Joseph heart, the international terrorism - historical understanding, 2nd edition, London institution for publishing, 2014, p15 - 16

2- مهما كانت الطريقة التي من خلالها تقوم الدول الراعية للارهاب برعاية الاخير، فانها عاجزة عن اقناع العقل الجمعي الارهابي بشرعية نظام الحكم فيها، أو دفعه على مجاوزتها و الابتعاد عن التفكير في تنفيذ العمليات و شن الهجمات فيها.

3- كلما كانت الدول الرعاية للارهاب تعتبر دولة اسلامية فان دخولها إلى المجال الانتقامي الذي يمارسه الارهاب وارد بقوة، صحيح أن هذا لا يعني أن الدول غير المسلمة ستكون بمامن من الانتقام الارهابي، بيد أنه لا يمنع ايضا من الاقرار بان الدول الاسلامية ستكون أكثر عرضة لخطر الارهاب لجملة من الأسباب، منها قناعة الجماعات الارهابية بان الدول الاسلامية التي تعتبرها منحرفة اخطر من الدول الكافرة؛ لكونها - حسب اعتقاد الارهابيين - تاكل و تنخر بالدين الاسلامي من داخله، و ايضا لكونها قريبة من العمق الاستراتيجي الذي ينطلق منه الارهابيون، و في الوقت نفسه من هذه الدول ما يشكل مجالا حيويا للفعل الارهابي، بالاضافة إلى وجود القاعدة الاجتماعية التي تشكل المصدر الاساسي للتجنيد بغية توفير العماد الاجتماعي للتنظيمات الارهابية.

4- في كثير من الأحيان تسعى الدول الراعية للارهاب إلى توظيف المنجز المتحقق من العمليات الارهابية بالخاصية السياسية، بعبارة أخرى، أنها تسعيالى تحقيق مكسب سیاسي مهم عبر رعاية الإرهاب، و هو ما اخذ الارهابيون بالالتفات اليه موخرا، و بما ان التفكير الذي يفكر به الارهابيون ضيق و محدود لذا فانهم وضعوا هذه الدول في حساب المناطق المرشحة لحروب استنزاف عبر میکانزمات الاشغال الارهابي الذي يشغل به خصومه، و الغاية من ذلك عدم تقوية الدول الراعية له على حساب قوة التنظيمات الارهابية.

5- و استنادا إلى ما سبق فان الارهابيين بدأوا يبحثون عن مصادر تمويل خاصة بهم، و هذا ما يكشف عن سيطرة الجماعات الارهابية على بعض مصادر الطاقة في سوریا کالنفط و الغاز و بيعها و تحقيق التمويل الخاص بها بعيدا عن تأثيرات الدول

ص: 61

الراعية و السعي إلى اضعافها من خلال تنفيذ العمليات الارهابية و ادخال هذه الدول في حرب مفتوحة بنمط الاستنزاف الطويل الذي تجيده التنظيمات الارهابية.

المحور الثالث: مستقبل الأثر العكسي للارهاب على الدول الراعية له.

مازالت العديد من الدول التي عمدت إلى القيام برعاية الارهاب غير مدركة بفداحة الخطر المحدق بها جراء اقدامها على هكذا خيار خطير اذ ان ذاتية العنف عند الجماعات الارهابية تجعلها غير قادرة على التمييز في التعامل مع الاعداء باكثر من آلية، بعبارة أخرى، مهما كانت درجة العداء و الاختلافات الايديولوجية لهذه الدولة أو تلك عن عقيدة هذه الجماعات، فان الاخيرة لا تميز بين حجم التفاوت و المنهج العنفي المستخدم في قتال الخصوم، و بالتالي فان القسوة الارهابية لن تقل تجاه الدول التي رعتها، لاسيما وان اعتماد هذه الجماعات على العمليات الانتحارية التي يضحي عبرها الارهابي بحياته دفع بالكثير من الدول إلى ممارسة رعاية الارهاب بطريقة خفية و غير مباشرة، و السبب في ذلك أن الارهابيين لا يبحثون عن المال لأنفسهم لانهم مقدمون على التضحية بارواحهم تحقيقا لما توهموا انه الحق، الامر الذي دفع الدول إلى استبعاد الاتفاق العلني مع هذه الجماعات، و اللجوء، في كثير من الأحيان، إلى التعامل السري مع القيادات العليا للجماعات الارهابية، و ابقاء الامر سرا عن سائر افراد الجماعات، هذا الأمر بدات بعض الدول الراعية، كما یرى اسماعيل فادي، بعد أن لاحظت هذه الدول أن الخلايا الارهابية وضعتخططة و نفذت جزءا منها داخل الدول الراعية للإرهاب، بالشكل الذي اظهر ضربا من ضروب انقلاب السحر على الساحر،(1) هذا الانقلاب الذي سيقود إلى مستقبل خطر يحدق بالدول التي رعت و ترعى الارهاب، و يجعلها على حافة الهاوية فيما يتعلق بدخولها تحت وطاة العمليات الإرهابية، أن العنصر الجوهري الذي يفاقم خطر الارهابيين هو اعتکازهم على مرتكز

ص: 62


1- سليمان فادي، العقل الارهایی - دراسة في ضوء علم النفس السياسي، مجلة ( علم النفس) عدد 26 2011م، القاهرة ص 153

الحرب الاستنزافية، و تجنب الحروب المباشرة مع الجيوش النظامية (1)، و بالتالي ستكون الدول الراعية أمام حرب استنزافية تقوم على وسائل المباغتة في التفجير أو الهجومأو غيرها من آليات التعبئة العسكرية، هذا الأمر يثبت ما حصل في بعض الدول الراعية کامریکا التي حصل فيها موخرا انفجار مدوي في ماراثون بوسطن Marathon of Boston في عام 2013، أو ما حصل في قطر من انفجار احد الموسسات عام 2013 و تم الاعلان عن انه انفجار لاحد الانابيب الغازية، و كذلك الانفجار الذي حصل في السعودية عام 2014م، و غيرها الكثير من التفجيرات التي حصلت في دول لطالما اعتقدت أنها ستكون بمامن من طائلة الارهاب، و قد اعلن ما يسمى بتنظيم الدولة الاسلامية في العراق و الشام "داعش" انه يسعي إلى اسقاط انظمة الحكم في الخليج لكونها غير شرعية و أنه يسعي إلى مد جغرافية دولته غربا و جنوبا، اذن احد موشرات مستقبل الأثر العكسي للارهاب على هذه الدول انها مقدمة على الدخول في قضايا هي في غنى عنها لو لم تتدخل و ترعى الارهاب تجاه الدول الأخرى(2)

بيد أن الاشكالية المركزية في هذا السياق ترتبط في مديات الادراك عند القرار في هذه الدول تجاه هذا المستقبل الذي تتجه صوبه، يبدو أنها ما زالت غير مقتنعة تماما بطبيعة الملابسات التي هي مقبلة عليها، و لذلك يلاحظ أن العديد من هذه الدول ما زالت راغبة في ديمومة رعايتها للارهاب بالشكل الذي يزيد من مستقبل الأثر العكسي للارهاب عليها على غير ما تروم، خصوصا في اطار التحليلات المعاصرة للعقلية الإرهابية في ضوء منجزات علم النفس السياسي التي توصلت على أن هذه العقلية تنظر إلى المستقبل في الأرض بعين السوداوية منطلقة من مسلمة أن السماء/ العالم الآخر هو الحياة الحقيقية، و لا ضير في قتل من في الأرض جميعا ما دام سيسهم

ص: 63


1- مع وجود بعض الاستثناءات كما هو الحال في العراق و سوریا و ليبيا حيث هناك مواجهات مباشرة بين الجيوش النظامیة و الارهاربین
2- محمد احمد فوزي، الارهاب و الارهاب المضاد، صحيفة العقاري الالكترونية، على الأنترنت www.alfaris.net

ذلك في الاسراع بالكافر إلى النار و بالمومن إلى الجنة، و ان العقلية الارهابية لا تومن في داخلها بجميع الأنظمة السياسية القائمة اليوم، مهما حاولت بعض الأنظمة أن تعلن عن انتسابها للشريعة الإسلامية، فالجماعات الارهابية، كما يرى و لیام کراون، تظهر تحليلاتها في ضوء علم النفس السياسي انها جماعات تعيش الحنق تجاه الآخر، و هي غير قابلة لان تتغافل أو تغض النظر عن كفر الآخر بذريعة أنه رعاها أو قدم دعما لها، ولا يمكن اقناع العقلية الإرهابية بامكانية تكوين صداقات أو علاقات ودية مع الآخر/ المختلف؛ لأنها في عجز عن ادراك طبيعة العلاقات الودية خارج دالة العنف و القتل، فاما الحياة مع الاتفاق المطلق، و هذا أمر صعب جدا - إن لم يكن مستحيلا - و اما الترهيب و القتل للآخر الذي و في عقيدتهم كافر، و بالتالي فان المستقبل الذي ينتظر الدول الراعية للارهاب لا تحمد عقباه(1)، ليقدم الكاتب بعد ذلك نصيحة إلى هذه الدول بالكف عن رعاية الارهاب ان لم يكن لاجل الدول التي تعاني من ويلاته، فعلى الأقل من اجلها هي قبل ان ياتي المستقبل عليها بايام عصيبة، لاسيما وأن العنف الذي تنتهجه الجماعات الارهابية على درجة كبيرة من الايلام من اجل تحقيق اكبر قدر من الاستجابة لمطالبها.(2) و ربما يمكن القول أن الجماعات الارهابية تخطط في المستقبل إلى شن هجمات قوية على الدول التي رعتها بعد أن تمكنت من تمويل نفسها ذاتيا، لاسيما بعد سيطرة تنظيم داعش على مصادر نفطية جعلت من اغنى التنظيمات الارهابية - ان لم يكن أغناها على الاطلاق - اذ اشار الخبراء إلى أن وارداته المالية بلغت مليون دولار في اليوم،(3) ما يعني ان التنظيم لم يعد بحاجة إلى الرعاية التي تقوم بها بعض الدول له، و سيكون منعتقا

ص: 64


1- Wiliam grown, the future of terrorism in next decade, western studies magazine, Issue 64 2012 cariabrige p26
2- lbid p28
3- ينظر التقرير الدولي الذي اعتمدته الأمم المتحدة و حذرت من خلاله العالم من خطر هذا التنظيم، و المنشور کملحن في the democratic magazine _ Issue 14, 2014, U _ K 231

من الخضوع إلى مطالبها، و الملفت في الأمر أن تنظيم داعش، على سبيل امثال، اعلن انه سيضم إلى دولته الجديدة دول شبه الجزيرة العربية مباشرة بعد ان تمكن من بيع النفط المستخرج من حقول العراق و سوريا، و هذا يعني تهديدا لهذه الدول التي منها من قدم رعاية كبيرة لهذا التنظيم و غيره.

وعلى هذا الأساس يمكن القول أن مستقبل الأثر العكسي للارهاب على الدول الراعية سيعني انتقال هذه الدول من حالة السلمية التي عاشت تحتها إلى حالة الانشغال بالاستنزاف المتواصل الذي ستداخلها فيها الجماعات الإرهابية، و ربما إلى حالة الاشتباك المباشر كما هو الحال في العراق و سوريا، و هذا ما يثبت أن لا مامن من الارهاب و ان الدول الراعية له سيطالها ما كانت تعتقد انها بمنای عنه، و إذا كانت الدول البعيدة في جغرافيتها عن العمق الاستراتيجي للجماعات الارهابية لم تكن بمعزل عن الأثر العكسي للارهاب، فان الدول القريبة عليه ستكون بطریق اولى اكثر عرضة لهذا الاثر.

خلاصة البحث:

سعى هذا البحث إلى تقديم مقاربة تحليلية للاثر العكسي للارهاب على الدول الراعية ليتوصل الباحث من خلاله إلى أن اعتقاد الدول التي قدمت رعاية للارهاب بانها ستكون بمنای عنه اثبت خطاه، و أن عليها أن تكف عن قيامها بالتأثير على الدول الاخرى و التدخل في شوونها الداخلية عبر هكذا آلية غير شرعية، لا سيما و أن الارهاب يعد ظاهرة لطالما اقلقت العالم، و انها تمتاز بخاصية الانتقال السريع و التمدد من دولة إلى أخرى، و أن العقلية الإرهابية غير قابلة للانفتاح و تقبل الآخر مهما قدم لها من رعاية، الأمر الذي يجعل الدول الراعية للارهاب امام اشكالية المعاناة و التعرض إلى ما تعرضت له الدول الأخرى، وهو ما يفرض عليها - منطقيا - الكف عن رعايته و التوجه بجدية كبيرة تجاه كل الممكنات التي تسهم في مكافحة الارهاب و درء خطره، ذلك الخطر الذي لن تنجو منه أية دولة مهما اعتقد انها بمامن، خصوصا

ص: 65

بعد ظهور الكثير من البوادر الكاشفة عن تعرض عدة دول تعد راعية للارهاب لهجات نفذتها الجماعات الارهابية، فضلا عن التهديدات العلنية التي وجهها اكثر من تنظيم ارهابي إلى هذه الدول في اشارة إلى حصول تغيير في سياسة هذه التنظيمات تجاه الدول التي شكلت تحالفا مع الارهابيين عبر رعايتها اياهم، و لعل المستقبل بايامه الحبلی سیکشف المزيد من المعاناة و الانتكاس لهذه الدول ما لم تتخل عن رعاية الارهاب و تتجه بصدق و جدية نحو الكف عما قامت و تقوم به تجاه الدول الاخرى.

ص: 66

المصادر:

اولا: الكتب العربية

1.احمد زيدان، الارهاب - دراسة في الاسباب و الأبعاد، ط1 2005م، دار الامل، بیروت.

2. على حرب، ثورات القوة الناعمة في الوطن العربي - من المنظومة إلى الشبكة، ط3 1434ه/2013م، الدار العربية للعلوم ناشرون، بیروت.

3. ماجد موريس، الارهاب - الظاهرة و ابعادها النفسية، ط1 2005م، دار الفارابي، بيروت.

4. يوسف سليمان، الارهاب و العنف السياسي - مدخل إلى التحليل النفسي، ط 2 2010م، موسسة الفكر الديمقراطي، بيروت.

ثانيا: المجلات

1. سليمان فادي، العقل الارهابي - دراسة في ضوء علم النفس السياسي، مجلة (علم النفس) عدد 201126م، القاهرة.

2. يوسف فرج، العمليات الارهابية في ضوء القانون الدولي الإنساني، مجلة (القانون الدولي الانساني) عدد 15 2010م، بيروت.

ثالثا: الانترنت

أ. محمد احمد فوزي، الارهاب و الارهاب المضاد، صحيفة الفارس الالكترونية، على الانترنت:

1. www.alfaris.net

English Resource: Books:

1 - Daniel Brown, the Conflict between East and West, 2

Edition, Chicago University, 2002

2 - Daniel L. Brown, the changing nature - state sponsorship of terrorism - analysis

paper, the Saban center for Middle East Policy, 2008.

3 - Daniel L. Byman, Deadly Connections; States that Sponsor Terrorism, 1" Edition

U.S.A

4 - David Peterson, Sponsor States of Terrorism, 1st Edition, New York Printing Home 2002

ص: 67

5- John Houseman, the Contemporary State and Society, 3rd Edition Joseph Park Printing, 2004.

6 - Joseph Heart, the International Terrorism - Historical Understading, 2nd Edition, London Institution for Publishing, 2014.

7 - Joseph Wenslete, the International Policies - an Introduction, 2 nd Edition, George GrahajreHome. Washington, 2010.

8 - Martha Crenshaw, the Psychology of Political Terrorism, in (Political Psychology) Edited by: Margaret G. Herman. 1 st Edition.

9 - Michele Stockman, Terrorism in Twenty one Century, 1st Edition, Nuremburg Widen Printing Home, 2011.

10 - Stephen Downs and Others, Inventing Terrorist - the Law fare of Preemptive Prosecution, Study by Project Salam and NCPCF, 2014.

11 - William Son, Terrorism - Study in Thought and Condoct, Second Edition, William House for Printing service, 2014.

11 - William Grown, the Future of Terrorism in next Decade, Western Studies Magazine, Issue 64 2012, Cambridge.

12 - The Democratic World Magazine - Issue 14,2014,U_K.

ص: 68

الإسلام دين السلام و الرأفة و المحبة و الرحمة عبد الله الشريف الحسنی

*عبد الله الشريف الحسنی(1)

مقدمة

أنني قد اخترت من بين العناوين المطروحة في قائمة عناوين المشاركة في المؤتمر، و ذلك لأهميته من حيث أنه لب الإسلام رحمة و أن صاحب الرسالة محمد عليه و على آله الصلاة والسلام رحمة بل هو رحمة للعالمين و رسالته رحمة للعالمين ... (للعالمين !!!) و ليس للمسلمين فقط و ليس للعرب فقط!، واخترت هذا الموضوع لكونه عکس ما يجري اليوم في عالمنا الإسلامي من انتشار منظمات عنفوانية تمارس العنف و القساوة و الغلظة ضد المسلمين أنفسهم و ضد الديار الإسلامية و كل ما تحتويه من آثار وحضارة و تاریخ و بشر و حجر و شجر!

و نستطيع القول بأن الإسلام هو الدين الأوحد الذي ارتضاه الله للناس كافة منذ آدم و مرورا بأبي الأنبياء إبراهيم، و انتهاء بخاتم الأنبياء محمد بن عبدالله عليهم الصلاة والسلام جميعا، و الإسلام مشتق من الفعل «سلم» و هو الجذر لكلمة «السلام»، و بهذا كان الإسلام في معناه اللغوي التسليم و القبول و الإذعان لارادة الخالق سبحانه، ولهذا ارتضاه الخالق لعباده كل عباده «فمشرع احکامه هو الله سبحانه، و هو دين الشمول الجامع بين مصالح الدنيا و الدين، و هو دين الوسطية

ص: 69


1- امين عام لمجلس الاشراف في الصومال و رئیس جمعیت الاحسان الخيريه بكالوريوس في العلوم السياسية في الجامعة.

الذي يوازن بين الطرفين المتقابلين بحيث لا ينفرد أحدهما بالتأثير و يطرد الطرف الآخر، و دين الواقعية الذي يراعى واقع الكون من حيث هو حقيقة واقعة ووجود مشاهد، ولكنه يدل على حقيقة أكبر منه ووجود أسبق من وجوده، هو وجود الواجد بذاته و هو الله تعالى، و مراعاة واقع الإنسان من حيث ازدواج طبيعته و اشتمالها على الجانب الروحي و الجانب المادي، و هو الدين الذي يجمع بين الثبات و المرونه في أحكامه و تعاليمه و نظمه»، ولهذا كان الدين الأوحد، لله الأوحد، القائل : «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ» سورة آل عمران، آیه 85.

فالإسلام دين الأنبياء عليهم السلام بدأ من نبي الله آدم، و مرورا بإبراهيم، و موسی و عیسی، و انتهاء بنبينا محمد بن عبدالله عليه و على آله الصلاة و السلام، و الانبياء جميعا لم يبشروا بغيره و لم يتنزل عليهم سواه - بغض النظر عن الاختلاف في التسميات - فما زابور دارد و توراة موسی و انجیل عیسی و قران محمد سوی رسائل خرجت من مشكاة واحدة، تدعو إلى عبادة الله الواحد، و هذه هي حقيقة الإسلام من قبل و من بعد.

و بالمقابل، ليس الإسلام دين شخص ما أو جماعة ما، بحيث تستطيع التصرف به كيفما تشاء تبعا للهوى الشخصي أو الجماعي کما نراه اليوم تفعل كذلك الجماعات المتطرفة التي تتعنون بالإسلام، لو كان الدين بالرأي لادعي رجال ما يريدون حسب تعبير سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه الشريف، و لذلك يجب على كل مسلم الإذعان و الخضوع لله و لدينه و التجرد له دون الالتفات إلى هواه الشخصي و ميولاتها و رغباتها، فالمسلم مأمور في حال الدعوة إلى الله حقه تحت ذريعة الدعوة إلى الله أن يفعل بعباد الله ما يشاء، و من ثم يحسب أنه يحسن الصنع !!

وليس هناک آفة أضر بالدعاة من الاعجاب بالنفس و الغرور بالعمل القليل الناقص الذي يؤديه في حقل الدعوة إلى الله، وهنا استحضر عبارة سيد قطب عندما قال (الإنحراف يبدأ يسيرا فيتدرج!)، نعم، بدأ الإنحراف يسيرا في بعض الأفراد و

ص: 70

الجماعات الإسلامية، حتى بلغ بهم الأمر إلى تقتيل الأحياء من المسلمين و نبش قبور موتاهم! بينها العدو المحتل يمرح و يتبجح أمامهم دون أن يعطوا أهمية ما لمسألته!

خصوصية كلمة السلام في الإسلام

فمفردات السلام كثيرة و متعددة، سواء في القرآن الكريم أو الحديث الشريف و هي تنساح على الأسماء و المعاني الآتية:

أولا: السلام اسم من أسماء عز وجل، و في هذا يقول القران الكريم «هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ» فقد أراد الله - سبحانه - أن يجعل من اسمه عنوانا لرسالته، و مهمة لأنبيائه و رسله يبشرون بها و يعملون بوحيها.

ثانيا: الجنة دار السلام، سماها الله سبحانه و تعالى حين قال : «وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» (یونس - 25)، و هي دار المتقين التي فيها و مستقرهم و مكان راحتهم، و التي تهفو اليها أرواح المؤمنين كافة.

ثالثا: السلام دعوة لأهل الإيمان، فقد خاطب الله المؤمنين كافة بقوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَ لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» سورة البقرة(208)، إذا عد الامتناع عن الدخول في السلم اتباعا لخطوات الشيطان الذي هو العدو الواضح العداوة للمومنین .

تحية المسملين هي السلام

وعن أبي هريرة رضی الله عنه عن النبي قال: «لما خلق الله آدم قال اذهب فسلم على أولئک نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونک فإنها تحيتك و تحية ذريتك فقال السلام عليكم فقالوا السلام علیک و رحمة الله فزادوه و رحمة الله» متفق عليه.

فالله تعالى يعلم أبا البشرية كيف تكون التحية و ما هي ألفاظها، و كأن السلام تحية الله - سبحانه - لعباده المومنين، و عليهم أن يردوا بما يليق بها، نتعلم من هذا الحديث

ص: 71

أن (السلام، تحية الملائكة أيضا قبل نزول إلى الأرض، و أنه الأمانة التي حملها إلى ذريته، و عليهم أن يتعاملوا بها إلى يوم الدين.

لكل امة من الأمم تحيتها الخاصة مثل صباح الخير، و مساء الخير، و تصبحون على خیر، و نهار سعيد و ليلة سعيدة إلى ما هناك من ألفاظ التحية التي تتعامل بها الأمم و الشعوب على اختلاف لغاتها ... ولكن المسلمين يمتازون عن سواهم من الأمم بتحية الإسلام المعروفة و هي «السلام عليكم» يقولها الراكب للماشی، و الواقف للجالس، و الصغير للكبير و القادم للماكث، و الراحل للمقيم، يقولونها في الأسواق و البيوت و المتاجر و المكاتب و المصانع و المعامل و في كل موقع من مواقع الحياة. فعن أبي يوسف عبدالله بن سلام قال: سمعت الرسول يقول: (يا أيها الناس أفشوا السلام و أطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل و الناس نيام تدخلوا الجنة بسلام) رواه أبن ماجة، فقد قدم الرسول إفشاء السلام على ما عداه من القضايا مثل، إطعام وصلة الأرحام، وربطه بدخول الجنة. و يكون إفشاء السلام على من تعرف و من لا تعرف، فقد ورد عن عبدالله بن عمرو أن رجلا سأل النبي أي الإسلام خير؟ قال : (تطعم الطعام و تقرأ السلام على من عرفت و على من لم تعرف) رواه البخاري

و لهذا، ينصح الرسول المسلمين بإفشاء السلام إن أرادوا دخل الجنة، فعن أبي هريرة قال: قال النبي: (و الذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تو منوا، ولا تومنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟، أفشوا السلام بينكم) رواه مسلم، لأن إفشاء السلام هو المقدمة الطبيعية للأيمان و المحبة و هما السبب في دخول الجنة.

السلام هي نهاية كل صلاة

فالمسلم الذي يؤدي خمس فرائض في اليوم، ينهي كل صلاة بقوله: السلام علیکم و رحمة الله، مرة ذات اليمين و أخرى ذات الشمال، أي عشر مرات في الصلاة المكتوبة و اثنتي عشرة مرة في صلاة السنة، مما يجعل المسلم العابد في صلاته يستشعر السلام

ص: 72

حقيقة في سلوكه و معاملاته كافة، و هي تربية يحرص الإسلام على غرسها في النفوس لتكون متصالحة مع ذاتها أولا وسواها من المخلوقات ثانيا؛ و بهذا كان لفظ السلام جزء من عبادة المومن في الصلاة و جزءأ من ترتيله لكتاب الله سبحانه و تعالی.

السلام للجميع و الرد عليها واجب

قال تعالى: (فاذا دخلتم بيوتا فسلموا على انفسكم تحية من عند الله مباركة طيبه كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون) سورة النور آیه: 61. و قال فيما يرويه أنس بن مالک قال قال لي رسول الله : (يا بني اذا دخلت على أهلک فسلم يكن بركة علیک و على أهل بیتک) رواه الترمذي، و هذا أدب رفيع يلقنها الرسول و يعلمها كيف تتصرف مع الذات و مع الآخرين سواء كانوا من الأرقاب أم من غيرها.

عن شيبة الحجبي عن عمه عثمان بن أبي طلحة عن النبي قال: (ثلاث يصفين لک ود اخیک : تسلم عليه اذا لقيته، و توسع له في المجلس، و تدعوه بأحب أسمائه إليه)، فقد جعل الرسول إفشاء السلام مدخلا للوصول إلى مودة الأخ و کسب صداقته . فالله - سبحانه - يستقبل عباده المؤمنين الداخلين جنته بالسلام يوم القيامة ، و قال تعالی : «تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً»، سورة الأحزاب آية 44.

ولقد وردت آثار تدل على تطبيق الصحابة رضوان الله عليهم بالأدلة الواردة في السلام و التحية حيث كان بعضهم يذهب إلى السوق و ليس من أجل البيع أو الشراء أو قضاء أمر من أمور السوق، بل يذهبون إليها من أجل و افشاءها بين أهل السوق من الباعة و غيرهم !!

هذا، و اذا كان السلام أمرا محببا فإن الجواب عليه أو الرد به صار واجبا يصل إلى مرتبة الفريضة، بل القرآن الكريم يحث علينا أو يأمرنا بأن يكون الرد بأحسن من التحية أو على الأقل قدر التحية، بمعنى إذا قال أحدهم السلام عليكم، يجب أن يكون الرد عليها هكذا، و علیکم السلام و رحمة الله و بركاته، او علیکم السلام حسب

ص: 73

التحية! ولذلك يقول الله تعالى في كتابه الكريم: «وَ إِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا» سورة النساء آیه 86. وروي عن عمران بن حسين: أن رجلا جاء إلى النبي فقال: السلام علیکم، فرد عليه، فقال النبي : «عشر» ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم و رحمة الله ، فرد عليه فجلس، فقال : «عشرون» ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم و رحمة الله و بركاته، فرد عليه، فقال: «ثلاثون» و اعلم أن السلام سنة ورد السلام فريضة، و هو فرض على الكافية، و كذلک السلام سنة على الكفايه فإذا سلم واحد من جماعة كان كافيا في السنة، و إذا سلم واحد على جماعة ورد واحد منهم سقط الفرض عن جميعهم.

هذا، و اذا كان السلام أمرا محببا فإن الجواب عليه أو الرد به صار واجبا يصل مرتبة الفريضة، بل القرآن الكريم يحث علينا أو يأمرنا بأن يكون الرد بأحسن من التحية أو على الأقل قدر التحية، بمعنى إذا قال أحدهم السلام علیکم، يجب أن يكون الرد عليها هكذا، و علیکم السلام و رحمة الله و بركاته، او علیکم السلام حسب التحية ! ولذلك يقول الله تعالى في كتابه الكريم: «وَ إِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا» سورة النساء آية (86) وروي عن عمران بن حسين: أن رجلا جاء إلى النبي فقال: السلام علیکم، فرد عليه، فقال النبي : «عشر» ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم و رحمة الله، فرد عليه فجلس: «عشرون» ثم جاء آخر فقال : السلام علیکم و رحمة الله و بركاته، فرد عليه، فقال : «ثلاثون» و اعلم أن السلام سنة ورد السلام فريضة، و هو فرض على الكفایه، و كذلك السلام سنة على الكفایه فإذا سلم واجد من جماعة كان كافيا في السنة، و إذا سلم واحد على جماعة ورد واحد منهم سقط الفرض عن جميعهم.

الإسلام دين الرحمة و الهداية

فقد جاء الإسلام ليهدي الضالين ليتمكنوا بحججه و بيناته من التفريق بين الحق و الباطل، كما قال تعالى : «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى

ص: 74

وَالْفُرْقَانِ» [البقرة (185)]، و قال تعالى: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» [و الاسراء، (9)]، و هو امتداد للهدى الذي منحه الله تعالى للبشرية من يوم خلق أصلها آدم ، و جعله معيارا يفرق به بين المهتدين والضالين، كما قال تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ» [ البقرة (39)]

فمن طلب الهدى في هذا الدين وجده، و من أبى فقده، و الناس في ذلک يشبهون المرضى الذين يصف لهم أطباؤهم أدوية أمراضهم، فمن استعمل الدواء شفي بإذن الله، و من أبى فقد رضي لنفسه بالبقاء في مرضه... ولهذا خص الله تعالى الهدى في آية بالمؤمنين المتقين لربهم، لأن هؤلاء هم المنتفعون به، فاستحقوا ذلک التخصيص... کما قال تعالى: «ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» [البقرة(2)]. و قال تعالى: «قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدًى وَ بُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ» [البقرة(97)]

إنه رحمة للبشر و الشجر و الحيوان أجمعين

و الإسلام كذلک رحمة لكل من رغب في رحمة الله من الناس، كما قال تعالى واصفا رسالة نبيه محمد : «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» [الأنبياء (107)]، فمن طلب رحمة الله في هذا الدين وجدها، و من أباها ورفضها فقدها، وهذا خص تعالی رحمته في غير ما آیه بمن آمن به وأطاعه، كما قال تعالى: «وَ لَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» [الأعراف (52)]

و على هذا الأساس تنال رحمة الله في الآخرة لمن طلبها في الدنيا بطاعة الله و رسوله . كما يتبين لك في حديث أبي هريرة، أن رسول الله قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبی) قالوا: يا رسول الله و من يأبي! قال: (من أطاعني دخل الجنة و من عصاني فقد أبى) [صحيح البخاري، برقم (6851 )]، و رحمة الإسلام ليست خاصة بالاخرة فقطف و إن كانت رحمة الآخرة هي الأعلى و الأغلى والأبقى.

ص: 75

ولكن رحمة الدنيا تسبق رحمة الآخرة، فلا رحمة في الآخرة لمن لم ينل رحمة الله الدينية في الدنيا، و رحمة الله في الدنيا إنما ينالها حقا من اتصل بخالقه إيمانا و عبادة و سلوكا، و طبق شرع الله في حياته، فقام بحق الله و حق نفسه و حق خلقه، على ضوء ما شرع الله في كتابه وسنة رسوله... و سيأتي بيان شيء من ذلك في سياق أسباب استعصاء الإسلام. و أما رحمتة في الآخرة، فهي خاصة بالمومنين من عباده، ممن آمنوا برسله ولم يفرقوا بين أحد منهم، و خاتمهم رسول الله إلى العالمين محمد ، الذي لا ينال رحمة الله إلا من آمن به واتبع صراطه المستقيم

قال تعالى : «قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» [الأعراف 156 و 157]. قال الألوسي رحمه الله : «و رحمتي وسعت كل شيء» «أي شأنها أنها واسعة تبلغ كل شيء، ما من مسلم و لا كافر، و لا مطيع و لا عاص، إلا وهو متقلب في الدنيا بنعمتي «[روح المعاني (76/9)]، و قال السعدي رحمه الله : «و رحمتي وسعت كل شيء» من العالم العلوي و السفلي، و البر و الفاجر المؤمن و الكافر، فلا مخلوق إلا قد وصلت إليه رحمة الله و غمره فضله و إحسانه.

ولكن الرحمة الخاصة المقتضية لسعادة الدنيا و الآخرة ليست لكل أحد، و لهذا قال عنها: «فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» المعاصي صغارها و کبارها، «و یؤتون الزكاة» الواجبة مستحقيها، «وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ» [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان تفسير (1/ ص 305]. المسلمون هم أهل الإسلام و حاملوه، و هم دعاته و هم أمة إجابة رسوله و متبعوه، فرض الله عليهم دعوة الناس إلى دينهم كما فرض ذلك على نبيهم: «قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَ مَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» [يوسف

ص: 76

(108)]. و كلفهم الله بيان ما أنزل على رسوله كما كلفه، و حذرهم من التقصير في هذه الوظيفة كما حذره، فقال لنبيه : «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» [المائدة (67)]. و قال لهذه الأمة: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۚ وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)» [البقرة]، و کما أن نبیهم جاء بالهدی و الرحمة للعالمين: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ» [التوبة (128)] فلهم فيه قدوة حسنة و هدي کریم: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا» [الأحزاب (21)]، و رحمة المسلمين لا تختص بهم فقط، بل هي شاملة لهم و لغير هم من المخلوقات في الدنيا، فقد أمر أمته برحمة كل من أوجده الله تعالى على هذه الأرض، من إنسان و حیوان، كما روى عبدالله بن عمرو رضی لله عنه، قال قال رسول الله : الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ...) [سنن الترمذي (4/ 323) رقم (1924) و قال: «هذا حديث حسن صحيح]، و الظاهر أن (من) الموصولة في قولة: (ارحموا من في الأرض) شاملة للإنسان مسلما أو كافرا، و للحيوان كذلک، و على هذا حمله العلماء. قال الحافظ رحمه الله : « قال بن بطال: فيه الحض على استعمال الرحمة لجميع الخلق، فيدخل المؤمن و الكافر، و البهائم المملوک منها و غير المملوک، و يدخل في الرحمة التعاهد بالإطعام و السقي و التخفيف في الحمل و ترک التعدي بالضرب...» [فتح الباري [(440/10)]

وقد وردت أدلة أخرى يدل عمومها على أن هذا الشمول مقصود، فقد وصف الله تعالی المومنين بالتراحم بينهم، كما قال تعالى: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ» [الفتح (29)] و الكفار الذين يكون المؤمنون أشداء عليهم، هم المحاربون لهم المعتدون عليهم، الذين يقاتلونهم و يخرجونهم من ديارهم، أو

ص: 77

يدعمونهم على ذلك و يظاهرونهم، كما هو حال اليهود في فلسطين، و حال قادة أمريكا في مظاهرتهم، و حال هؤلاء في عدوانهم على البلدان الدسلامية .

قال تعالى: «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَ ظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)» [الممتحنة)، و نفی الله تعالى رحمته عمن لم يرحم الناس، كما في حديث جرير بن عبدالله رضی الله عنه قال قال رسول الله : (لا يرحم الله من لا يرحم الناس) [صحيح البخاري (6/ 2986) رقم (6941) و صحیح مسلم (1809/4) رقم (2319)]

و هو نفي عام يدخل فيه كل الناس، و النفي هنا للوعيد و التحذير و التنفير من الغلظة و الشدة و العدوان على الناس، ولا يلزم منه حرمان من فقد الرحمة الواجبة من رحمة الله له في الدنيا، بمنحه الرزق و الصحة و القوة الماديه و الذرية و غيرها، سواء كان من المسلمين أو غيرهم، ابتلاء له و امتحانا، لأن رحمة الله في الدنيا تعم جميع خلقه.

و من الأدلة على شمول رحمة الخلق أن جعل من يقوم على اليتامى، بالإنفاق و الكفالة الشاملة التي يحتاجون إليها، شرکاء لرسوله في الجنة، كما في حديث سهل عن الرسول ، قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا (و أشار بالسبابة و الوسطى)، و فرج بينهما شيئا. [صحيح البخاري، (5/ 2032)]، و بين في حديث أبي هريرة أنه يستوي في هذه المنزلة من كفل يتميما من أقاربه أو من غيرهم، فقال رسول الله : (كافل اليتيم - له أو لغيره - أنا و هو كهاتين في الجنة و أشار مالک بالسبابة و الوسطى) [صحيح مسلم ( 2287/4)]، و هو يشمل كذلك يتامى المسلمين و غيرهم، كما تدل عليه صيغة العموم، لأن «أل» في اليتيم للجنس، و أنزل ، من اهتم بالمحتاجين، و بخاصة الأرامل و المساكين، منزلة المجاهدين في سبيل الله، و المجتهدين في التقرب إلى الله بما يرضيه من فرائض العبادات و نوافلها ليلا و نهارا، كما روى أبو هريرة قال قال النبي :

ص: 78

(الساعي على الأرملة و المسكين، كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار) [صحيح البخاري (2047/5) و صحیح مسلم صحيح مسلم 4/ 2286)]، و هذا السعي شامل لكل المحتاجين من المسلمين و غير المسلمين، و شامل كذلک لكل ما يحقق مصالحهم من طعام و شراب و کساء و مسکن و تطبیب و دفع ضر أو ظلم عنهم

وقد ذكر الرسول لأمته بعض القصص المتعلقة بالرفق و الرحمة بالحيوان، حضا لهم على تطبيق ذلك السلوك السوي الذي يحقق رحمة الله العالمة بكل مخلوقاته في الدنيا، و من أمثلة ذلك: حديث أبي هريرة، رضی الله عنه أن رسول الله قال : (بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئرا فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملا خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقیف فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له. قالوا: يا رسول الله ! و إن لنا في البهائم أجرا؟ قال : (في كل كبد رطبة أجر) [صحيح البخاری (2/ 833) رقم (2234) و صحيح مسلم (4/ ص1761) رقم (2244)]

و صحح عنه ، أن الله غفر لامرأة بغي لسقيها كلبا اشتد عطشه، كما في حديث أبي هريرة: (أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطوف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له بموقها فغفر لها) [صحيح مسلم (1761/4) رقم (2245)]

و إذا كان الله تعالى يغفر بعض كبائر الذنوب المسلم برحمة الحيوان و الرفق به، فإنه تعالی یعذب من نزعت الرحمة من قلبه، فيعذب الحيوان، كما في حديث ابن عمررضی الله عنهما، عن النبي برحمة الحيوان و الرفق به، فإنه تعالى يعذب من نزعت الرحمة من قلبه، فيعذب الحيوان، كما في حديث ابن عمر رضی الله عنهما، عن النبي ، قال : (دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض) [صحيح البخاري (1205/3) رقم (3140) و هو في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة (4/ 2110) رقم (2619).

ص: 79

و حتى في الجهاد، الأصل أن يقوم المسلمين بدعوة غير هم إلى هذا الدين، ليتمتعوا برحمة الله في منهج حياتهم في الدنيا و لينالوا رضاه و رحمته في الآخرة، تحقيقا لقول الله تعالى: «و ما ارسلناك إلا رحمة للعالمين»، و أساس دعوتهم اللين و الحكمة و الموعظة الحسنة، كما أمر الله تعالى بذلک نبيهم، و أمره أمر لهم، فقال تعالى: «ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَ جَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» [ النحل (125)]

و لشدة حرص الرسول صلى الله عليه و لم على إيصال رحمة الله إلى عباده، رغب المجاهدين في سبيل الله في دعوة الناس إلى هذا الدين، وربط دعوتهم برجاء ثواب الله الجزيل على هداية خلقه، كما في حديث سهل بن سعد الساعدي رضی الله عنه، أنه قال لعلي رضی الله عنه عندما أرسله إلى يهود خيبر: (انفذ على رسلک حتی بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام و أخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لک حمر النعم) [صحيح البخاري (4/ 1542) و صحیح مسلم (4/ 1872).

ومع أن المسلمين هداة رحماء، فهم يجاهدون في سبيل الله، من اعتدى عليهم و على دينهم، لا يخافون فيه لومة لاثم، يحفظون بجادهم ضرورات حياة البشر، من الدين و النفس و النسل و العقل و المال، و ما يحوطها من الحاجيات و التكميليات، و يحمونها من عدوان المعتدين و ظلم الظالمين، فهم إما يجاهدون دفعا لعدوان المعتدين على المسلمين، و إما لإزالة من وقف أمام دعوة الله في أرض الله، لدعوة الناس إلى عبادة الله، لتقوم بذلک الحجة على خلق الله، و من تتبع تاریخ جهاد المسلمين المنضبط بقواعد شرع الله تبين له أنه عام شامل لكل نشاط يحقق للمسلمين و للعالم ما فيه صلاحهم و سعادتهم، و أن القتال إنما هو جزء ضئيل من الجهاد الوارد في كتاب الله و سنة رسوله ، و قد بينت أنواع الجهاد و شموله في كتابه «الجهاد في سبيل - الله حقيقته و غایته»

ص: 80

و معلوم کذلک أن الجهاد في سبيل الله لم يشرع لإكراه الناس على ترک دينهم و الدخول في الإسلام، و إنما شرع لردعدوان المعتدين، و تحطيم سدود القهر و الاستبداد التي تحول بين الناس و بين التمتع بالحرية التي منحهم الله تعالى، فيدخلون في الإسلام بعد إقامة الحجة عليهم بأنه الحق مختارین راضين غير مكرهين، أو يبقون على دينهم الذي اعتقدوه، کما صرح الله تعالى بذلك في كتابه، و جری علی ذلک عمل الرسول و أصحابه و أتباعهم، و سيبقى كذلک إلى يوم الدين، ما تمسک المسلموين بهذا الدين : «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» [البقرة (256) ولكن يجب على من رغب في البقاء على دينه، أن يلتزم الأمة العام الذي يأمنون فيه على ضرورات حياتهم و ما يكلها.

دعوة للناس أجمعين

إننا نعلن دعوة للناس في مشارق الأرض ومغاربها، بأن هذا الدين، ليس عدوا لأحد من البشر، و إنما هو رحمة للعالمين، و نحن نؤمن بذلک إيمانا صادقا لا يشوبه شک، لثالثة أمور:

أولا: اعتقادنا الجازم بأن القران حق، و أن الرسول حق، و أن الإسلام هو الدين الحق الذي يعتبر كل ما يخالفه من الأديان و المبادی باطل و ليس بحق

ثانيا: دلالة الواقع التاريخي في العصور التي طبق فيها الإسلام على صحة ما نقول.

فقد سعد الناس الذين حظيت بلدانهم بدخول المسلمين فيها بما لم يكونوا يحلمون به من العدل و الرحمة و الحضارة، في ظل الإمبراطوريات اليونانية و الفارسية و الرومانية.

و الشاهد على ذلك أن أغلب تلک الشعوب أصبحت تدين بالإسلام، بالدعوة المجردة من السلاح في أغلب المعمورة، ولم يستعمل المسلمون السلاح إلا عندما وقف الطغاة المستبدون ضد حرية الدعوة و ضد سماع شعوبهم الحق سواء آمنوا به أم

ص: 81

لا؟ و الدليل على ذلك قلة الشعوب التي فتحها المسلمون عنوة، وكثرة الشعوب التي دخلت في الإسلام عن طريق التجار و الدعاة المخلصين... في بلدان آسیا و أفريقيا و غيرها

ثالثا: المقارنة النظرية بين ما تضمنه القرآن و السنة و السيرة النبوية، و أبواب التشريع الإسلامي في كتب الفقه و غيرها، عن حقوق الإنسان، رجلا وامرأة، صغيرا و كبيرا، فردا و أسرة، و مجتمعنا، حاکما و محکوما، و بين ما تضمنته القوانين الدولية المعاصرة في ذلک...

إن المنصف الذي يقارن بين ما تضمنه الإسلام و بين ما تضمنته تلك القوانين، يتجرد من التعصب و الهوى، سيجد في تشريع الإسلام كل ما تضمنته تلك القوانين من إيجابيات في أعلى صورها و المزيد الذي لم تتعرض له، مع تجنبه التشريع الإسلامي من السلبيات التي احتوت عليها تلك القوانين، و نحن ندعو الشعوب غير الإسلامية و بخاصة المفكرين منهم و المثقفين القادرين على دراسة حقيقة الإسلام، و بخاصة الغربية منها، أن تجتهد في دراسة المبادى الإسلامية في القرآن و السنة، و في كتب الفقه الإسلامي، و يعملوا عقولهم متجردين من دعايات من نصبوا أنفسهم أعداء للإسلام و المسلمين، من بعض الساسة و الإعلاميين و بعض رجال الكنيسة المتعصبين مع الصهاينة، ليطلعوا بأنفسهم على عظمة الإسلام الذي لو حمله أي شعب من شعوب الأرض، في الغرب أو الشرق، لقاد العالم إلى مراقي التقدم و الحضارة النافعة السليمة من آفات الظلم و الفساد الذي انتشر في الأرض اليوم بسبب البعد عن منهج الله.

رابعا: المقارنة بين أحوال الأفراد و الأسر و الشعوب الإسلامية المعاصرة، مع ما هو معلوم من عدم تطبيقها الكامل للإسلام، و مع ما يعانيه كثير منها من فقر و ظلم و شظف عيش، و بين أحوال الأفراد و الأسر والمجتمعات غير الإسلامية، مع ما هي

ص: 82

فيه من غني ورخاء و حضارة مادية عظيمة، لمعرفة أي الفئتين أكثر سکنا وطمأنينة في الحياة.

إننا ندعو الغني غير المسلم الذي حاز في دنياه كل ما تشتهيه نفسه، أن يقارن بين نفسه و بين كثير من ذوي الفقر المدقع من المسلمين.

و ندعو المرأة غير المسلمة التي تيسرت لها غالب سبل الراحة المادية، أن تقارن بين نفسها و بين المرأة المسلمة التي تعيش في وضع يقول عنه الغريبون: إنه وضع بؤس و شقاء...

و ندعو الأسرة غير المسلمة المتحضرة ماديا القليلة العدد الكثيرة الرفاه، أن تقارن بين نفسها و بين الأسرة المسلمة، الكثيرة العدد، القليلة الأرزاق ...

و ندعو المجتمعات غير المسلمة، أن تقارن بين نفسها، و هي تملك المال الوفير، و الرزق الكثير و وسائل العيش المادي المريح، و بين المجتمعات الإسلامية التي لا تملك كل ذلک....

ثم ليوازن أولئك الأفراد، و تلك الأسر، و أولئك المجتمعات، بين راحتهم النفسية واطمئنانهم المعنوي، و ما يحصل بينهم من تعاون و تعاطف، و تراحم و تكاتف، و بين ما يحوزه غالب الأفراد و الأسر و المجتمعات المسلمة، ولو لم يطبقوا الإسلام کاملا، في ذلك كله...

و إنا لنتمنى أن تتاح الفرص لغير المسلمين، أفرادا و أسرا، أن يزوروا الأسر الإسلامية في البلدان الإسلامية و في غيرها، ليطلعوا على ما يطبق من الإسلام و أثره على حياة المسلمين، و ليعرفوا أن كثيرا من زعمائهم و أجهزة إعلامهم و مثقفيهم، شوهوا صورة الإسلام و المسلمين في عقولهم و نفروهم منه، و أن الأولى بهم أن لا يقلدوا أعداء الإسلام تقليدا أعمى، فيعينوا قادتهم من السياسيين و العسكريين و الإعلاميين و المتصهينين، على حربه و هو جدير بالدفاع عنه و بمسالمته...

ص: 83

لقد حرم قادة الغرب بتشويههم حقائق الإسلام و التجني عليه، من رحمته وعدله و أخوته، و النجاة من سلبيات الحضارة المادية التي ذقتم منها القلق و الأسى، ولو أنها بنيت على أساس الإسلام لكان لكم شأن آخر، ربما تصبحون بفضل استجابتكم للإسلام قادة العالم بحق، تنشرون فيه و في أوطانكم الأمن و السلام، بدلا من نشر قادتكم الظلم و العدوان، لقد جاء الاسلام بالرحمة و السلام و المودة و الحب والأمن و الأمان و التعاون و الترابط بين كل البشرية، لكي يعيشوا في اطمئنان و احترام. و كفل لكل فرد حريته في العقيدة و الاختيار، فقال تعالي: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»

عندما قدم المدينة المنورة النبي محمد عليه و على آله الصلاة و السلام فقال: «أيها الناس أفشوا السلام و أطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا و الناس نيام تدخلون هذا ما بينه لنا المولي عزو جل من حسن معاشرة أصحاب العقائد الأخري و احترام مقدساتهم و التعامل معهم في بر وخير و سلام و رحمة. ولقد أرسي لنا المصطفي عليه و على آله الصلاة و السلام القواعد السليمة و المبادی القويمة السامية و القيم الرفيعة في بيانه الأول الجنة بسلام»، فهذه هي الوثيقة الأولي لحقوق الإنسان الذي كرمه الرحمن ليخرجه من ظلمات الجهالة و العدوان إلى نورالحق و العدل و الحرية و الأمان. فالإسلام دين الرحمة و السلام بساحته و عدالته، قال تعالى : «وَ لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا» و هذا فضل و کرم من الله للإنسانية كلها بالقيادة و السيادة و الريادة على غيرها من جميع الكائنات الأخري، ولقد قال المصطفي عليه الصلاة و السلام: «لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه ما يجب لنفسه»، فالرحمة و التعاون و المودة و المحبة أساس الترابط و السعادة فی الحياة و تعمير الكون.

ص: 84

و لما قدم المصطفي المدينة المنورة أخذ العهود و المواثيق بين المسلمين و أصحاب الأديان الأخري و أعطي لهم الحرية في العقيدة و تعامل معهم في مودة ورحمة و حسن معاشرة و خير جوار. و بهذا ضرب لنا المصطفي المثل الأعلى في السماحة و الأسوة الحسنة و القدوة الطيبة فكان له جار يهودي يضع القاذورات علي بابه ويضع الأذي و الشوك في طريقه، و ذات يوم خرج الرسول الكريم فلم يجد القاذورات علي بابه فسأل عن جاره اليهودي فقالوا إنه مريض، فذهب إليوذي !!! و بذلک يعلمناه ديننا الحنيف السماحة و الرحمة و السلام، فإن ما حدث و يحدث في بعض البلدان العربية الإسلامية كمصر و لبنان و سوريا و العراق في الزمن الراهن من فتن طائفية أحيانا و مذهبية أحيانا أخرى ما هو إلا حقد و حسد و کراهية و ترجمان صارخ لمخططات إستعمارية تهدف إلى تفکیک أوصال المسلمين و تخریب ديارهم و حضارتهم و تاريخهم المجيد و جعلهم إمارات و دويلات مشتتة مشغولة على نفسها، أو يريدون أن نبقى على حالة من الفوضى المهلكة، و التي لا تبقي ولا تذر شیدا من البشر و الحجر و الشجر كالنار الهشيم! و لنا عبرة وعظة بما يجري في الصومال، ذلك أن هذا البلد غرق في الفوضى المهلكة أكثر من عقدين من الزمن و اشتعلت نيران الحرب و الشجر كالنار الهشيم! لنا عبرة وعظة بما يجري في الصومال، ذلك أن البلد غرق في الفوضى المهلكة أكثر من عقدين من الزمن و اشتعلت نيران الحرب بين أبناءه تحت مسميات و عناوين متنوعة حتى اشتدت العداوة و القساوة بين بعضهم البعض، و قد تفنن مدیر و ادارة الأزمات! في تنفيذ وتطبيق نظرية التفرقة القائلة (فرق تسد) طيلة تلك العقود في هذا الشعب المسكين والمغلوب على أمره، وهاهم اليوم تحت غطاء الأمم المتحدة و الإتحاد الافريقي و غير هما من العناوين يجزئون البلاد و العباد إلى مجموعة إمارات و سلطنات و فيدر اليات التي تأتمر بأوامر المستعمر و قوى الهيمنة، بل تراه منقذها من غارات و ويلات القبائل الأخرى الذين هم من بني جلدتها!

ص: 85

يصور الإستعمار أن دين الإسلام دين القسوة، ولكن هذا التصوير خاطی جدا عندما ننظر إليه بعين الواقع، فأول كلمة في الدستور الإسلامي: و هي آية البسملة تدعو

إلى الرحمة و ليس إلى العنف و القسوة و هي: «بسم الله الرحمن الرحیم». نجد في أول سورة في الكتاب الإسلامي المقدس، القرآن الكريم، دعوة محضة إلى الرحمة تتجلى بقوله تعالى «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ». فهو يعامل كافة العالمين بالرحمة لأنه تعالى ذاته رحیم.

فإذن قاموس و ناموس الإسلام قوامه الرحمة و ليس العنف ولا الشدة، فقوته تعالی محولة كليتا للرحمة (إلا بالدفاع عن النفس و دفع العدوان و التعدي، و شاهدنا قول الله في كتابه الكريم يخاطب رسوله محمدا (صلی الله عليه و سلم) بتلخيص وظيفته الدنيوية حصرا بالرحمة، و ليس بالتعدي ولا القسوة إذ قال تعالى: [و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين] .

وصف تعالی رسوله بالقرآن الكريم بما يحمله في قلبه تجاه المشركين قبل المؤمنين بآية: [لقد جاءكم]:أيها المشركون بما فيهم أهل الكتاب من نصاری و یهود «رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ» أنتم أيها المشركن، بعدها [بالمومنين رؤوف رحیم]، فقد رحم المشركين قبل المومنين.

و القانون الإسلامي عام، و بما أنه (صلى الله عليه و سلم) رحمة للعالمين فما خص (صلى الله عليه و سلم) المومنين من المشركين أو عباد النيران أو البقر أو غيرهم، فهو رحمة للناس جميعا يخرجهم من الشقاء إلى السعادة، كان (صلی الله عليه و سلم) يوري في القتال رحمة بالمشركين و بالمؤمنين، و بذا فقد حقن دماءهم و هداهم للإيمان و هكذا عندما كان يريد (صلى الله عليه و سلم) أن يغزو بلدا ما قد اعتدوا على المومنين كان يبعث بالأخبار بأنه عازم على غزو بلد مغایر و باتجاه معاكس، حتى إذا اطمأن أهل البلد الذين هو قاصدهم أتاهم بغتة على حين غفلة في التفاف عسكري في ضحی

ص: 86

النهار، حيث الرجال وقد خرجوا لأعمالهم ولم يبق إلا النساء و الشيوخ و الأطفال، و بالتالي لا مقاتلين و لا قتال بل ولا مقاومة تذكر فيستسلموا فرادى و يقبلوا بالحق، فيحق دماء الطرفين و هذا أسلوبه ، و تلک خططه الرحمة دائما من أجل حقن الدماء، فهو (صلى الله عليه و سلم) لا يريد أن يريق دم کافر و لا مومن و حريص على عدم قتل الكافر رحمة به إذ بقتله سيؤول لعذاب الآخرة و النبي (صلى الله عليه و سلم) يريد له الهداية و السعادة في الجنات

لكنه فقط (صلی الله عليه و سلم) أعلن هجومه المستقبلي على قومه في مكة قبل أربعة أشهر، و كان هذا الاعلان على الملأ بأن الهجوم المقبل على مكة محض الرحمة بالمشركين ليخافوا و يرجعوا للحق، حيث لم تبق مع قريش أية قوة تناصر هم في الجزيرة العربية و بالفعل أحدث هذا الاعلان نتائج صاعقة فقد خاف الكثير من أهل مكة، و منهم خالد بن الوليد و أسلم هو وفلذة أكباد قریش و عادوا للحق، عندها جمع كافة جيوشه و دخل بهم مكة علانية دون إسالة قطرة دم واحدة. فرحمة بأهل مكة الذين كانوا بمنتهى الضعف والاضمحلال ولا قوة أبدا لديهم، وضع ثقله بكثرة الجيوش عطفا عليهم ليخافوا فلا يخرجوا للقتلا لئلا يقتل أحد من المشركين و يذهب إلى النار بدل الجنات و هكذا فقد رجعوا للحق و عفا عنهم، و من بالغ رحمته أنه أغدق على ألد خصامه في مكة و الذين كانوا يتآمرون على قتله عندما كان فيهم و يناصبونه العداء و يصدون الناس عنه و يجمعون العرب لحربه و يحملون السلاح في وجهه بالأمس، أغدق عليهم العطايا و الإكرام بل منحهم عطاء بدون مقابل، مئات الجمال لكل من أعدائه ... لقد أعطى أعداءه الأعطيات الكبيرة خاصة بعد انتصار حنين، ووزع الأموال عليهم رغم أن لا شوكة ولا قوة لديهم، ولم يعط أصحابه الكرام رغم عظیم محبتهم له ، و بذا لا بالقسوة ألف بين قلوبهم جميعا إخوانا متحابين.

وفي وقعة تبوک، و هي آخر الغزوات التي شارك فيها تتجلى الرحمة بالأعداء بأجلى معانيها ولو كانوا من أعظم الدول العالمية في ذلك الحين، لقد جهزت هذه

ص: 87

الدولة العظمى (الدولة الرومانية و التي كانت تحكم نصف العالم المعروف في ذلک الوقت تقریبا) جيشا عظيما ترى القضاء المبرم على سيدنا محمد و دینه الناشيء، و الذي صار يشكل خطرا على حدودهم الجنوبية، و كان ذلك في سنة شديدة الحر و مجدبة، و قد أخطأ الرومان من حيث لا يعلمون في اختيارهم القتال و الغزو في هذه السنة، و كان يمكن له أن يتركهم يدخلوا الصحراء الحارقة ليموتوا فيها من الحر و العطش، حيث إنهم لم يعتادوا من قبل على مثل هذه الظروف القاسية، و مشی و أصحابه في الصحراء الحارقة حرصا على حياة أعدائه لئلا يموتوا و مصيرهم النيران بالاخرة و لأن الله ينصره بالرعب فلا یراق دم من الفريقين و هكذا تم، فقد فروا بالرعب من ذلك قوله «نصرت بالرعب مسيرة شهر». إنه الرحيم الذي يريد للبشرية السعادة و الفوز بما أعده الله سبحانه و تعالى لها من الإكرام في الجنات العلا، لا يريد لها الخسارة الدنيوية و الأخروية و الحرمان من إكرام الحريم الرحمن، لقد قذف الله تعالى الرعب في قلوب أعدائه عندما وصلتهم الأنباء الغير متوقعة أن عدوهم خارج أليهم من قلب الصحراء بكامل جيوشه و كله حزم و عزم و تصمیم و اصرار على دحرهم و الاطاحة بهم، و دوا الفرار فهربوا دون مجابهة و لا قتال لا يلوون على أحد، و كانوا كما وصفهم القائل يود المرء فيهم لو أنه يعار جناحي طائر فيطي! و هكذا كانت موقعة تبوک أشهر المواقع لم يقتل فيها ولا رومانيا واحدا ولكنه انتصر عليهم و هربوا فرارا فقط بالرعب.

و خلاصة القول أنهم كانوا بقتالهم رحمة على عدوهم، إذ يفر العدو ولا تسف الدماء، و الدليل على ذلك المعارك التي خاضها خالد بن الوليد الإحدى عشر في بلاد العراق تجاه مئات الألوف ما كان يقتل من الطرفين إلا القليل القليل، إذ يحل الرعب في قلوب أعداء الله فيفرون هاربين، إذ لو قتل خالد بن الوليد جنود الفرس لما بقي هناک جنود لمعركتي القادسية و نهاوند و غيرها ولكنه ما كان ليحدث قتل و لا سفك دماء على الغالب لأن غاية المومنين الهداية لا أموالهم أو أرضيهم أو أعراضهم

ص: 88

لذا كان يحل الرعب و الرهبة فتتوفر الدماء لأن دين الإسلام دين الرحمة، و اسمه الإسلام من السلام لا من التعدي و العنف و الطغيان و کما ورد في الكتاب المقدس القرآن: الله هو السلام، عكس ظن من أخطا من الأجانب بأنه ثم بالقتل و سفک الدماء، و القرآن يقول «وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ...» (یونس 25) و الله في دستورنا القرآن لا يحب المعتدين «وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (190 البقرة) فكيف يزعمون بأن انتصارات المسلمين، و اسمهم المسلمون و هو من المسالة لا من الحرب و المخاصمة، كيف يتهمونهم بالقسوة و العنف. و الدليل على مسالمتهم أن كافة الشعوب التي انتصروا عليها أصبحوا محبي مسلمين و تبنوا الإسلام أكثر من المسلمين السابقين إذ أصبحت دمشق عاصمة العصر الذهبي للإسلام. تقبلت أمم الأرض حتى الصين هذا الدين الرحیم ولو بنی - على حساب الزعم الخاطئ - على العنف و القهر لقابلته الشعوب التي أسلمت بالعنف و القتال ولكنهم تبنوه واستقبلوه و أصبحوا هم أهله و حماته، لقد تبنته شعوب الأرض أكثر من العرب كالمماليک والأكراد و الأتراك العثمانيون و التتر و شعوب الهند والسند و دول روسيا و ترکستان و الصين و غيرها. و معلوم أن ألمانيا كانت تستعمل الشدة و القسوه في البلاد التي احتلتها حتي أن البلدان الإسلامية و غيرها التي كانت تحت نیر الشيوعية و شدتها بالحرب العالمية الثانية و حينما انساح الألمان على روسيا سارعت هذه البلدان لمساعدة ألمانيا ضد الشيوعية و لكنهم عندما ذاقوا قسوة الألمان وجدوا أن الشيوعية أرحم فانفكوا عن مناصرتهم، و هذا الامر معلوم تاريخيا.

لقد كانت ألمانيا كلما دخلت واحتلت قطرا من الأقطار نقص عدد جنود جيوشها و بدا الضعف يسري شيئا فشيئا و بالتدريج، إذ كلما فتحت قطرا وضعت حماية فيه لئلا ينقلبوا عليها بسبب قسوتها في معاملتهم، عکس الإسلام الرحيم الذي كان كلما افتتح بلدة ظالمة متعدية انقلب أهلها للإسلام و أصبحوا من جنوده المخلصين فكانت الفتوحات تتري و يزداد و يغني الإسلام بزيادة المقاتلين و معروف أنه لما أنقذ صحب

ص: 89

رسول الشام قتل منهم عشرة آلاف فبقي عشرون ألفا و بعد فترة زمنية قصيرة لا تتعدى الشهرين عندما عادت الروم بجيوش ضخمة لجبهة خرج سبعون ألفا لقتالها فمن أين جاء الخمسون ألفا زيادة عن عدد جيش المسلمين الذي دخل الشام!... أضف إلى ذلك أن الجزيرة العربية لا تستطيع ابدا جمع خمسين ألفا و هؤلاء أصبحوا سبعين ألفا!... كل ذلك بسبب معاملة المسلمين الإنسانية، ذلك أن أهل الشام لما شاهدوه من رحمة المسلمين و عطفهم و أحسانهم انضموا اليه و نصروهم حتى عدا العصر الذهبي اللإسلام ينبع من دمشق عاصمة الشام إلى الهند و الصين، ناهیک عن رحمتهم و طيب عنصر أخلاقهم، أما الصينيون سموا الطريق الذي أتى منه المسلمون بطريق الحرير، و غدا للمسلمين شأن عند أباطرة الصين بحيث أنه و كما هو معلوم تاريخيا اذا اضطر مسلم لقتل صيني ففديته (أعزكم الله) جمار عند الإمبراطور، أما العكس اذا قتل أحد الصينيين مسلما فكان جزاؤه قتله و قتل حمولته الذين يؤازرونه و أنتم تعلمون قول الفيلسوف الفرنسي غوتساو لوبون: « ما عرف التاريخ فاتحا أرحمن من العرب».

و من المعروف عمومة و تاريخية أن الذين أسلموا من دول الكرة الأرضية أسلموا عن طريق التجارة و المعالمة الحسنة الرحيمة أكثر عددا بكثير ممن أسلموا بالقتال، في وقعة اليرموک جمع هرقل كبير الروم جيوش اثنتي عشرة دولة للقتال في هذه الوقعة، و التي هي بمثابة الحرب العالمية بالعهد القديم من تلك الجيوش و الدول التي كانت تابعة لروما فكان هناک جیش السلاف (الروس) و جیش الأرمن الشرس بالقتال و جیش الأوربيين ويضم هذا الجيش جيوش، إسبانيا و فرنسا و غيرها من الدول الغربية و بقية الجيوش، إذن اسبانيا كانت تدور في فلک روما حتى أن الإسبانيين و الأوربيين هم أبناء الرومانيين و هم يعتزون بآبائهم العظماء الرومان حتى الآن، و روما كانت في قتال دائب مع المسلمون العرب الذين حرروا بلاد العرب من الاستعمار الروماني، و منها بلاد الشام التي حرروها من الروم، و بما أن الروم ما كانوا

ص: 90

ليكفوا عن الهجوم على ثغور الشام و اعمال القتل و الخطف فيها ثم يفرون سراعا لذا قام الحجاج بن يوسف الثقفي باستعمال المراصد الفلكية لكشف الجيوش المعتدية على الثغور الإسلامية و وضع الكمائن لصدهم عن القتل و السلب و النهب من جهة، و من جهة ثانية أراد أن ينهي هذا العدوان من الأصل و ذلک بأن يهاجم القسطنطينية عاصمة الروم الشرقيين والغربيين، و ذلك بالالتفاف على روما عن طريق اسبانيا (الأندلس) التابعة لروما و الدخول و العبور منها لمحاصرة القسطنطينية من جهة و منع المدد عنها و مهاجمتها إيضا م الجهة الأخرى من قتل بلاد الشام: و هذه خطة قتالية بين دولتين متقاتلتين، و الحقيقة أن روما بعد هزيمتها و خروجها من سوريا ما كانت لتكف عن العدوان على ثغور بلاد الإسلام و إعمال القتل و الخطف و النهب مما اضطر الحجاج أن يرسل قادته موسی بن النصير و طارق بن زیاد للالتفاف على القسطنطينية عن طريق الاندلس.

إذن لم يكن هناك ثمة عدوان من المسلمين على اسبانيا إنما هي حروب لردع العدوان نهائيا عن ثغور الشام و إلى الأبد، طبعا هذا الحصار للقسطنطينية لم يتم لأن الخليفة الجاهل سليمان بن عبدالملک کان قد نال الخلافة بالوراثه لا بالاستحقاق فكان لا يفهم كيف ينصر بلاده على العدو المغتصب، بل كان يحقد على الحجاج (فاتح السند و الهند و بلاد ما وراء النهر و مشکل و منقط القرآن الكريم (الكتاب المقدس)) و ذلك لضعف بصيرة سليمان، بل بالعكس جاء یهؤلاء القادة العظماء و سجنهم في دمشق و أوقف فتوحاتهم، و قتل القائد الأكبر (قتيبه بن مسلم الباهلي) فاتح بلاد الصيين و مملكة «بخاری» و حوض نهر «جيحون» و بلاد «الصغد» و خوارزم، و سمرقند و بلخ الطالقان و کاشغر، و کاشان، إذن لم يكن هناك عدوان قطعا على اسبانيا من قبل الإسلام إنما هي مناورات عسكرية و حركات التفافية على الدولة روما التي تكن لها شكوى إلا أن العرب المسلمين حرروا بلاد الشام العربية من نيرها وطغيانها.

ص: 91

كان هذا مطلب أهل الشام إذ انضموا لدين الرحمة الجديد وضلوه على حكم روما القاسي، كما في حمص و قبل يجلو عنها المسلمون أعاد أبو عبيدة الجزية إلى أهلها لأنه كان قد أخذها لحمايتهم و الدفاع عنهم و الآن لا يستطيع أن يحميهم لذلك أعاد إليهم أموالهم و ذهب لملاقاة الرومان على اليرموك و ما أن أراد الرومان الدخول إلى حمص حتى أو صد أهلها الأبواب في وجوههم، و قالوا لا نريدكم بل نريد المسلمين الرحماء، ثم فتحوها على مصراعيها للفاتحين المسلمين الرحماء ورفضوا حكم الرومان القاسين المستبد أموا و كما في دمشق إذ شارك أهلها بخمسين ألف مقاتل مع جيش خالد بن الوليد البالغ عشرين ألفا بالمعركة بالبقاع ضد الرومانيين. حقا لم يشهد التاريخ فاتحا ارحم من المسلمين، لو بحثنا في كتاب الإسلام «القرآن الكريم» لوجدنا بالآيات الصريحة أن مشيئة الله هي الرحمة لا الحرب لا القتال فالإنسان نسيج الخضرة الالهية فهل يعقل أن يصنع امرو ما صنعا بديعا ثم يأمر بتحطيمه! طبعا لا يفعل هذا ذو عقل، و الآيه تقول أن الله تعالى منح الانسان الخيار و الإطلاق ليعمل الإنسان الخير بإرادته فيكسب به نوال الجنات أما و القتل و الحرب فهو من صنع الأنسان لا إرادة الله لكنه تعالى لا يجبر فالاية الكريمة تقول على لسان حضرة الله ورسوله : «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ۖ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ۚ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَ أَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَ لَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ۚ وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَ لَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ» «253 سورة البقرة». و لا يريد إلا الخير و الرحمة لعباده.

إذن فالله هو الرحمن الرحيم و القسوة وسفك الدماء هي من صنع الإنسان المعرض عن الرحيم، وقد ذكرت كلمة «وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا» مرتان ما يدل على أن الإسلام دین الرحمة لا دين السفک و القسوة، ودليل عملي واقعي على مدى ثلاثة عشر قرنا حيث كان الإسلام بمعظم هذه الفترات هو المسيطر تقريبا على العالم بالصدر الأول و بعهد الأمويين و بعهد العباسيين و السلجوقيين و أخيرا بعهد العثمانيين الأوائل لا

ص: 92

الأتراك المتأخرين، و مع أن الإسلام في تلك العهود و الأحقاب و القرون هو الدولة الضاربة الأقوى في العالم، مع ذلك تتجلى الرحمة التي يفيض بها الاسلام على الديانتين السماويتين اليهودية و النصرانية، فقد أبقى لهم كنائسهم و معابدهم وحريتهم الدينية المطلقة ناهيا إياهم فقط عن إشاعة الفساد و التعدي على حريات الآخرين، فظلت طقوسهم ونواقيسهم تقرع في عواصم الدول الإسلامية و بلدانها و قراها دون إجبار و لا إكراه حتى يومنا هذا، عكس ما رأينا مع بالغ الأسى في قتال الصرب ضد المسلمين لإنهائهم عن بكرة أبيهم و هدم معابدهم وطلبهم أن تكون هناك أوربا خالية من المسلمين ولک الحق في المقايسة بين الفريقين أيهما أرحم. فدين الإسلام هو دين الرحمة لا دين السيف، لأنه من الرحمن الرحيم جل شأنه.

الخاتمة

و هناک آیات و أحاديث أخرى جمة تضاهي تلك الأدلة الشريفة التي سقناها في سياق حديثنا السالف من حيث الدلالة و الموضوع، و كلها تدل دلالة واضحة على أن الإسلام دين سلام و رحمة و هداية ووئام، و ليس دين عداوة و بغض و کراهية وعنف و غلظة أو دين تفرقة و تمزیق و تشتيت، فهو يجمع ولا يفرق، و هو دين تيسير ولا تعقيد، و دین تبشير و لا تكفير! و أما المسلمون يجب عليهم الاتباع لا الإبتداع يتبعون الرسول النبي محمد عليه وعی آله الصلاة و السلام، و لا يجوز لهم في حال من الأحوال أن يقلدوا بأهوائهم و يتصرفوا بعد ذلك كيفما يشاءون ليستبيحوا حرمات الناس باسم الإسلام و الإسم بری من ذلک.

لاشك أنه عندما تكون القلوب صافية و الأعمال خالصة لله تعالى بعيدة عن الأهوائ و المصالح و سوء النيات و العقد يكون مشروع الدعوة إلى الله صافيا و بريئا عن الشوائب و المخالطات و المغالطات، و يكون قابلا للنجاح كما أن الجماهير و المدعوين تستجيب لها بشكل سلس سهل رطب، لكن المشكلة الكبرى و الطامة العظمى تأتي عندما تختلط المصالح بالدعوة و الأهواء بالدين و تنظر قادة الجماعات

ص: 93

الإسلامية أو النخبة القيادية في الجماعات مصالحها الآنية و الدنيوية في خلال المسيرة الدعوية، و من ثم بتدأ تفسير القرآن و الاحادیث وفق تلك المصالح من أجل تحقيقها، تلك هي الحالة البئيسة التي تتدخل فيها الغرباء و قوى الهيمنة لتوظف أولئك المنحرفين وفق مصالحها الإستعمارية تحت عباءة إسلامية !! و هذا هو ما يحدث اليوم في عالمنا الإسلامي!.

ظاهرة التكفير ظاهرة قديمة حديثة، فكلما برزت إلى السطح كانت تتلقى ضربات عنيفة تقضي عليها تماما في العالم العربي كما هو معروف في تاريخنا الإسلامي، و ها هي اليوم مرة أخرى تجتاح العالم الإسلاي بكل قوة و عنفوان و كأنها عاصفه هو جاء مظلمة تدمر كل شيء تمر عليه، بل و أكثر من ذلك، ذلك أن العواطف ربما تتعاطی مع الموجات فوق سطح الأرض بينها عاصفة التكفير لا تكتفي بما فوق الأرض بل تتعدى إلى باطنها لتنبش قبور الصالحين و الذاكرين الله كثيرا و ينتشلون عظامهم دون أدنى أحترام لهم، علما بأن المسلم تبقى حرمته دوما سوائ كان حيا أم ميتا؟

إن التكفير اليوم ليس مجرد حركة دينية متطرفة في الفهم الديني بل هي - على ما يبدو - حركة موجهة موظفة لتنفيذ أغراض تخدم للقوى الإستعمارية و أدواتهم داخل العالم الإسلامي، لذلك فهي حركة تتمتع اليوم بتغطية إقليمه أو دولية كبيرة في كل المجالات الإعلامية و التمويلية و السياسية، الأمر الذي يجعل سيرها و تأثيرها الأفقي والرأسي اكثر و أشد من أي وقت سابق! ذلك أن التكفير في جملته عبارة عن هدم الدين باسم الدين، و هي من حيث تدري أو لا تدري - تحارب الأسلام و أهله و ذلک خدمة مجانية لأعداء الاسلام و المسلمين و المتربصين لها!

و لهذا، أرى أن أية تتعاطى مع الحركة التكفيرية الراهنة يجب أن يكون على بعدين أساسيين:

1- البعد الدفاعي المادي الفعلي، أي إيقاف تقدمها نحو السيطرة و التمدد جغرافيا و ذلك دفاعا عن النفس و العرض و الملل

ص: 94

2- و البعد الثقافي و التربوي، لأنه هو المنطق الأساسي الذي دفعهم إلى ما یمارسونه اليوم من العنف و القساوة و الغلظة، ذلك أن المواجهة القتالة قد تنتهي خلال زمن محدود بينما البعد الثقافي التربوي يستمر في أزمان كثيره، و من هنا يجب وضع إستراتيجية ثقافية مقاومة بعيدة الأمد و ذات مراحل متعددة تمسح أثر التكفيريين في نفوس الناس و أذهانهم أو تزيل الصدأ عن معدن الناس الصافي، بحيث يستطيع الناس إستعادة عافيتهم المتملثة في الوسطية و التسامح و الأخوة و الألفة و المحبة تحت كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله ! بعيدا عن الإعتبارات المستحدثة التي تخدم قوى الإستكبار والهيمنة!

و من هذا المنطلق نقترح تكوين لجنة تحضيرية من خلال المؤتمر تقوم بتهيئة برنامج ثقافي إسلامي عالمي يكون لبنة أساسية لحركة ثقافية مقاومة و کاشفه بقدر ما هي ترسخ جذور الفهم الوسطي الإسلامي الذي يربي الناس على المعاني الجميلة و الأخلاقي الإسلامية الصحيحة السلمية السهلة!

هذا، و أقول قولي هذا و أستغفر الله لي ولكم و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

ص: 95

ص: 96

تکفیر التكفير العنف التكفيري كوظيفة للاستعمار الجديد ادریس هاني

*ادریس هاني(1)

إذا كان العنف ظاهرة تسم سلوك البشر تحت ظروف و شروط تاريخية و اجتماعية و نفسية خاصة، فما هي هذه الظروف و الشروط التي تؤدي إلى اختيار فئة من التيار الإسلامي العنف وسيلة و الإرهاب طريقا لتحقيق مآربها؟ ما هو علم نفس الأعماق لهذه الجماعات حينها تجعل التنكيل و الفتك طريقها الأوحد لتحقيق مشروعها؟ و إذا كانت هذه العينة المحدودة من التيار الإسلامي التي تبنت العنف کاستراتيجيا في نشاطها مقتنعة هي الأخرى بجاذبية الإسلام التي لا تحتاج إلى إعمال السيف على رقاب المسلمين، فهل يا ترى يعتبر اعتمادها العنف دليلا على عدم اقتناعها بجاذبية مشروعها الخاص في محيط أغلبي من المسلمين تعتبرهم هذه الجماعات أهل ردة و جاهلية؟

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت قيادات القاعدة تتحدث عن أهمية البأس و التنكيل بمن سمتهم الكفار و المرتدين و بأن منسوب الاهتمام بالإسلام از داد و عدد الداخلين في الإسلام تكاثر أكثر من أي وقت مضى؟ لم تكن قيادة القاعدة المعزولة في شعاب و أودية "تورا بورا" تدرك أن منسوب الاهتمام بالإسلام إنما ازداد

ص: 97


1- كاتب وباحث من المغرب عضو الرابطة الدولية للخبراء و المحللين السياسيين عضو اللجنة التنفيذية للتجمع العربي و الإسلامي لدعم خيار المقاومة

برسم الإسلاموفوبيا التي شكلت جائزة الغرب كما كان ينظر لها برنارد لويس، حيث اختاروا أن يدعموا أكثر النماذج تطرفا في الجغرافيا الإسلامية قصد تعزيز الكراهية للإسلام، و ذلك للقضاء على ما سبق و تحدث عنه غربيون آخرون عن: جاذبية الإسلام. لقد كانت جاذبية الإسلام هي واحدة من مشاكل كثيرة لدى الغرب، حيث أعداد المسلمين في أوروبا تتزايد بشكل سيثير الكثير من المخاوف لدى الأوربيين. و كان هنتنغتون قد نبه بدوره إلى مخاطر الهجرة و تهديد الهوية الأمريكية ذات الجوهر الأنغلوساکسوني، و في النهاية تصبح أمريكا هي أولى الدول الغربية التي لن تكون غربية(1) . و ليس هناك من مخطط لإيقاف جاذبية الإسلام إلا بتعزيز الاسلاموفوبيا، و كانت جماعات العنف قد شكلت المثال الذي كان الغرب يحتاجه لمواجهة هذا التحدي. فلقد قدمت جماعات الإرهاب المتأسلم للغرب الكثير من الخدمات المباشرة و غير المباشرة لعل أهمها أنها أعطت دليلا موثقا على دموية الإسلام من خلال نشاط هذه الجماعات. و لقد وجه الإعلام الغربي لخدمة هذا الغرب مركزا و مختزلا الإسلام في هذه الجماعات و هو ما شكل حاجزا نفسيا بين الشعوب الغربية و الإسلام. فالرأي العام الغربي هو في نهاية المطاف صناعة إعلامية بامتياز. أما الخدمة الثانية التي قدمتها هذه الجماعات فهي الفتنة و الهلع و الانقسام الذي أحدثته هذه الجماعات داخل النسيج الاجتماعي في العالم العربي و الإسلامي، و هو عنصر أساسي في ما سيعرف بالفوضى الخلاقة التي كشفت عنها "كوندولیزا رایس" أثناء توليها حقيبة الخارجية في إدارة جورج بوش الإبن. و كانت الخدمة الثالثة التي قدمتها جماعات العنف للغرب هو منحها قدرة المناورة لانتزاع قرار أممي و أحيانا من دون الحاجة إليه لغزو مناطق عديدة من العالمين العربي و الإسلامي. لقد تكاملت الأدوار ضمن اتفاق معلن أو غير معلن بين الغرب و هذه الجماعات التي أصبحت أقرب إن لم نقل إلى جماعات

ص: 98


1- ادريس ماني: المفارقة و المعانقة (رؤية نقدية في مسارات العولمة وحوار الحضارات)، ص 181، ط 1، 2001، المركز الثقافي العربي، بيروت

وظيفية ترفد الغرب بكل مبررات الهيمنة و التدخل في البلاد العربية و الإسلامية. و كان الغرب الإمبريالي دائما يجتهد في توفير جماعات وظيفية لتمرير مخططاته إلى منطقة الشرق الأوسط. و كانت الجماعات الدينية المتطرفة و التكفيرية هي أهم تلك الأدوات التي سهلت المأمورية أمام سياسات التدخل. تستند الولايات المتحدة الأمريكية على حقائق علمية في فهم الظاهرة المتطرفة داخل الإسلام. و على أساسها تدير مخططاتها حول الشرق الأوسط. ورثت الإدارة الأمريكية مخزونا من تلك الأفكار التي يرفدها بها كبير المستشرقين الذين يمثلون جيل الثورة على الاستشراق الكلاسيكي المرتبط بالاستعمار التقليدي و أعني بهم برنار لويس. الأهمية الأساسية البرنار لويس هنا تكمن في أنه ينتمي معرفيا إلى جيل الاستشراق الجديد الذي يبني أحكامه خارج أنماط الأرثذكسيات الكبرى في الإسلام نزولا إلى دراسة الأقليات المنبوذة، كما هو كتابه العمدة :" الحشاشون". الفارق بين الاستشراق القديم و الجديد يتحدد بالتحول في أنماط الاستعمار ما بين قدیمه و حديثه. و هكذا فإن الاستشراق الجديد الذي يمثله برنار لويس يتكامل مع المنعطف التاريخي في تطور أساليب الاستعمار، و الذي يقوم على جملة من الثوابت الجديدة مثل الموقف الإيجابي للمستشرق، و علاقة المعرفة بالسلطة، و تركيز البحث حول الأقليات المنبوذة و هلم جرا. يتمثل الموقف الإيجابي للمستشرق هنا في أنه ليس دورا سلبيا كما كانت تفرضه المؤسسة الاستعمارية التقليدية على المستشرق الذي يدرس التاريخ و الخرائط و الذهنيات و البنيات الاجتماعية للكيانات الشرقية، بل دوره يتجلى في تأطير القرار السياسي بمعطيات معرفية دقيقة عن الشرق و وضع معالم طريق أمام السياسات . فبرنار لويس مثلا سيتحول من مؤرخ و عالم استشراق إلى مستشار في البيت الأبيض و هو واضع الخريطة الجديدة للشرق الأوسط التي تستهدف تغيير معالم خريطة الشرق الأوسط القديم على أسس دينية و طائفية، لمنح الاستعمار الجديد مساحة لتدبير مختلف، حيث مكتسبات الاستعمار القديم التي فقدت قدرتها على الاستجابة

ص: 99

لتحديات المنطقة أصبحت عائقا أمام وظائف الاستعمار الجديد. أما علاقة المعرفة بالسلطة فلا شك أن منحى استشراق ادوارد سعيد هو الانتصار لفكرة أن المعرفة سلطة، و بالتالي فإن تغيير ملامح الشرق الأوسط أمر ممكن انطلاقا من جملة الأفكار التي تضعنا أمام حقيقة ما حدث و ما يحدث داخل هذه المجتمعات. إن مشکلات العالم الإسلامي في نظر برنار لويس تتعلق بالاستبداد و اضطهاد المرأة و الإدارة الاقتصادية الفاشلة. و يبقى الحل في نظر برنار لويس كالتالي : "إذا واصلت شعوب الشرق الأوسط در بها الحالي، فيمكن أن يصبح الانتحاريون رمزا في المنطقة بأكملها، و لن يكون هناك مفر من دوامة الكراهية و الضغائن، الحقد و رثاء الذات، الفقر و القمع، تصل ذروتها عاجلا أو آجلا، بل و حتى من هيمنة أجنبية لاحقا؛ ربما من أوربا جديدة ترتد إلى طرقها القديمة و ربما من روسيا منبعثة من جديد أو ربما من قوة عظمی جديدة في الشرق. و إذا استطاعت هذه الشعوب التخلي عن التشكي و عقدة الضحية و تسوية خلافاتها و دمج مواهبها و طاقاتها و مواردها في مسعى خلاق مشترك، فسوف تتمكن ثانية من أن تجعل من الشرق الأوسط في العصور الحديثة كما كان في العصور القديمة و الوسطى، مركزا أساسيا للحضارة. و في الوقت الراهن، فالخيار خيارها". (1)

هذا النص يضعنا أمام خبير حقيقي بتاريخ العالم الإسلامي. و كلامه صحيح إلا عبارته الأخيرة:" في الوقت الراهن، فالخيار خيارها". ذلك لأن خيارات شعوب الشرق الأوسط في تحقيق هذا الخيار يتطلب قرارا سياسيا. و القرار السياسي هنا يمثل تحديا جيوسياسيا ممتنعا يتوقف على موقف ممانع. و من هنا بات واضحا کما سيظهر من خريطة برنار لويس التقسيمية أن المطلوب جيوستراتيجيا هو الإبقاء على هذه الشعوب بعيدا عن أي فرصة لتسوية خلافاتها و التحكم بمواردها. و هنا ستصرف حقائق برنار لويس تصريفا يراعي الأبعاد الجيوستراتيجية للاقتصاد السياسي

ص: 100


1- برنار لويس: أين يكمن الخطأ؟ ص 140 - 141، ت عماد شيحة، ط1، دار الرأي للنشر، 2006، دمشق

للاستعمار الجديد القائم على تعزيز الخلافات و تشجيع الأنماط التي تكرس الإسلاموفوبيا بوصفها العنوان الوظيفي الذي يمنح شرعية لسياسات التدخل. لقد توضح من خلال الدعم اللامحدود و تجاهل الإسناد اللوجيستيكي لجماعات التكفير و التطرف على خلفية الحرب في سوريا، أننا كنا أمام سيناريوهات واضحة الملامح. فتغض أمريكا الطرف عما يجري هناك مع الإبقاء على تصريحات لفظية بوجود القاعدة في سوريا. و كان بإمكانها أن توقف عمليات الإسناد هذه الجماعات قبل ثلاث سنوات. مما يعني أن التصريحات و إظهار الحياد تكتيك لتمكين الجماهات التكفيرية و الإرهابية بالتمكن. و هو ما يحقق الحاجة إلى التدخل. ثم يبدأ التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب يستثني قوى الممانعة المعني الأول بهذا الشل من الإرهاب التكفيري. و يبرر أوباما سبب هذا الحراك المتأخر بأن أمريكا لم تقدر جيدا قوة هذه الجماعات، ثم يطرح أن القضاء عليها يستوجب قرنا من الزمان، فيعود و يربطه بعبارة مغرية لكنها غاية في المفارقة ألا و هي محاولة حل الخلاف بين الشيعة و السنة. إن جماع هذه المخططات و ربطه بمفارقات الخطاب السياسي الأمريكي عن الشرق الأوسط يؤكد أن هذه الجماعات المتطرفة هي حصيلة جهد من العمل و التحكم بالمزاج. فما دام التدخل قدر الدولة العظمى لأسباب تتعلق بحتمية مواجهة الاختلالات التي تفرضها الأزمة الرأسمالية على الاقتصاد الأمريكي فلا بد من التفكير دائما في بدائل تشرعن هذا التدخل حتى من دون اللجوء إلى الأمم المتحدة، و حتى الآن لا زال الإرهاب، و الجماعات التكفيرية هي العنوان الأكثر حيوية لتأمين هذا التدخل.

مقابل هذا الوضع كانت الجماعات القتالية تؤمن بعدد من الأفكار التي ليس لها من مخرج سوى أن تتحول في النهاية و عند أي منعطف من المنعطفات إلى رافد معنوي للعنف. فالأفكار المتبناة من قبل السلفية العلمية أو التقليدية هي نفسها الأفكار المتبناة من قبل السلفية الجهادية. إن المرجعية الدينية هي نفسها، و الجميع يستند في نهاية المطاف على آراء ابن تيمية و تلميذه ابن القيم و شروح محمد ابن عبد الوهاب و شرح

ص: 101

العقيدة الواسطية و هلم جرا. لكن ما الذي يجعل السلفي التقليدي مرشحا لكي يصبح سلفيا جهاديا؟ هناك إذن ثلاث أمور يثيرها هذا السؤال:

الأمر الأول: أن هناك واقع يعزز شكلا من التحول شبه الحتمي من السلفيات التقليدية إلى السلفية الجهادية.

الأمر الثاني: ما هي الأسباب التي تفسر هذا التحول و تجعله شبه حتمي؟

الأمر الثالث: ما هي أدوات السلفية العلمية أو التقليدية لتأمين نفسها من اختراق السلفية الجهادية التي تتربص بها و تمارس أشكالا من الاستقطاب من داخلها؟

لعله من المفارقة أن جماعة السلفية الجهادية التي تتبنى اليوم مشروع الخلافة الإسلامية و تتباكى على سقوط الخلافة العثمانية تتناسى أن واحدة من عوامل تخریب هذه الخلافة هي الحركة الوهابية التي شكلت غطاء دينيا في مشروع مواجهة الأتراك. حتى الشيخ محمد رشيد رضا الذي كان أكثر مديحا للحركة الوهابية تراجع عن فكرة الجامعة الإسلامية لصالح قضايا خلافية جزئية فجرتها الحركة الوهابية حينها. و بالفعل لقد تزامن صعود الموجة التكفيرية الوهابية مع تراجع خطاب الجامعة الإسلامية. و الذي تزعم هذه الحركة الارتدادية هو آخر عنقود فكر النهضة و الإصلاح: الشيخ محمد رشيد رضا. و في زمن مبکر و حتی قبل ظهور النفط كان هذا الأخير قد أعجب بدعوی محمد بن عبد الوهاب و كتب عنها و لا زالت الوهابية تستند في شرعيتها على شهادة الشيخ محمد رشید رضا. و لم أجد رجلا شجاعا يعبر بوضوح عن هذه الحقيقة الجلية أكثر من سمير أمين حين قال :" و هو (يعني الشيح محمد رشيد رضا) الذي أدخل الوهابية مصر قبل حتى ما يمتلك الخليج الأموال الطائلة لينفقها على الترويج لهذا الفكر".(1) و تكمن المفارقة هنا في أن محمد رشید رضا الذي دافع عن الخلافة العثمانية يدافع عن دعوة وجهت في البداية لمواجهة العثمانيين و تعزيز نفوذ البريطانيين، كما حاربت عقائد المسلمين و في مقدمتهم المصريين. لقد

ص: 102


1- سمير أمين: ثورة مصر، ص 28، ط 2، دار المعين للنشر، 2012، القاهرة

كانت الحركة الوهابية في نشأتها الأولى شكلا من الحرب أو لنقل کما تسميه هذه الجماعات الإرهابية بإدارة التوحش في المناطق التي خرجت من سيطرة العثمانيين . كانت الحركة الوهابية في أصلها سلفية جهادية ( = و ليست إلا جهادية). و لكنها منضبطة و موجهة لتفجير عنفها في الخارج، و ذلك حينما انخرط ابن عبد الوهاب نفسه في تعزيز الحرب على من اعتبروا بالمرتدين و البدعيين برسم التعاقد التاريخي مع الدولة الناشئة يومها. و حين توقفت حركة توحيد الجزيرة العربية و تراجعت غزوات السلفية الجهادية في مراحلها الأولى، تحولت إلى نشاط الحسبة و إلى هيئة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. كان هذا الاستقرار موهوما لأن عملية مأسسة نشاط الوهابية و التمكين له لم يكن نهائيا، فبين الفينة و الأخرى كانت تقوم انشقاقات من داخل المؤسسة نفسها لتعلن الحرب على الدولة نفسها. و قد اتضح ذلك في أمثلة كثيرة كحركة الإخوان الإخوان السلفيين و ليس إخوان حسن البنا)، و أيضا حركة جهيمان العتيبي. كانت هذه الحركة التي لا زال يحوم حولها الالتباس و الذي استطاع الإعلام العربي يومها و حتى الغربي يومها أن يجعل منها حدثا له علاقة بإيران قبل أن يتهم الإعلام الإيراني بأن أمريكا وراء أحداث مكة، كان الأمر يتعلق بمجموعة من الجماعة السلفية المحتسبة كما اقترح عليهم ذلك بن باز الذي باركها، قبل أن تتطور في مشروع انشقاق و سلفية جهادية. أفكار جهيمان هي أفكار السلفية التقليدية حينما تصبح جهادية. و لذا كان الكثير من السلفيين متأثرين بها. المقدسي نفسه يمتدح حركة جهیمان، و كثيرون لهم ذات الملاحظات و القاعدة وصولا إلى داعش تتبني فكر جهیمان و لكنها تختلف معه في الأسلوب. أي إن جهيمان في نظر هذه الجماعات مجرد رجل درویش مغلوب على أمره يجهل وسائل ممارسة الغلب و التنكيل. إن السلفية التقليدية محكومة اليوم بالولاءات و الانتهازية و المال. و لكن حينما تتوقف كل هذه الوسائل من الاستمالة فإن نهاية السلفية التقليدية أن تكون سلفيات جهادية. و سيكون الوضع في تزايد بعد أن أصبح المنشقون خارج البلاد التي انطلقوا منها و

ص: 103

شکلوا لهم دولة و أصبحت لهم موارد مالية و بشرية من مصادر عديدة. و إذا ما اعتبرنا أن السعودية في نظر هذه الجماعات هي العدو الأول لمن يسمون أنفسهم بالمجاهدين، و أيضا إذا اعتبرنا أكبر بيئة حاضنة تاريخية لهذا الفكر توجد هناك، و إذا أدركنا ثالثة بأن التقسيم لهذا البلد وارد في مخططات الغرب نفسه، اعتبرنا حينئذ بأن استهداف السعودية سيكون هو الهدف الأسمى لهذه الجماعات نفسها.

هل من الممكن أن تهدم داعش الكعبة؟

تظهر داعش ما تخفيه القاعدة. بل إن الخلاف الذي تفجر بين الإثنين أدى إلى فضح ما هو مؤجل في أجندة القاعدة. و كان الإعلام عشية بروز داعش كرقم في معادلة الإرهاب الممنهج في المنطقة قد سرب عددا من الإشاعات للفت الرأي العام و جس نبضه مثل قولهم: إن داعش تخطط لهدم الكعبة. هذا يذكرنا تماما بإشاعة من المصدر نفسه أيام الحرب العراقية - الإيرانية يقول أن الخميني يسعى لتحويل الكعبة إلى إيران. و هذه الإشاعات على ما يحيط بها من التبسيط هي محاولة لجس نبض الجمهور و تهيئته لمواجهة أي خطر يستهدف منطقة الخليج. هنا امتزج النفط بالمقدس. و الحقيقة هي أن داعش لا تفكر في هدم الكعبة، و لكن هذه الإشاعة هي تلويح استباقي لما يمكن أن ينتج في حال ما إذا اقتحمت داعش منطقة الحرمين الشريفين. لا شيء يحول دون العصبية الأيديولوجية التي قد تعاقر أشكالا من تجاوز المقدس نفسه. هذا التجاوز يقوم على الرغم المستمرة في إعادة بناء المتشظي، لا شيء يمكن أن يصلح عنصر اختباء من اللعنة حينما تحل. و المقدس هنا يستمد معناه من سلطة الله. و ليس ممثلا عن الله غير هذه الجماعة. فيجوز لها التترس بالبريء، فلم لا یا ترى لا يجوز لها هدم المقدسات ؟

حقیق بنا التذكير بأن العدوان على الكعبة له سابقة في التاريخ الإسلامي. فحروب التطرف ذات الجوهر السياسي استباحت الإنسان و المقدس بشكل يعيدنا حادثة قصف ابن الزبير للكعبة بالمنجنيق، و استباحة جيش يزيد للمدينة و المسجد النبوي

ص: 104

ناهيك عن صنوف قطع الرؤوس التي طالت حتى أحفاد نبي الإسلام و عائلته. و إذا عدنا إلى حادثة مكة، و لكن هذه المرة تسليح الحرم المكي مع جماعة لا تؤمن بالمحرمات إذا ما ارتبط الأمر بتحقيق هدفها الأسمى ألا وهو التمكن من الخصم بوصفه عدو الله . و لا حرمة بعد ذلك لمن تنزل لدى الجماعة منزلة عدو الله . حينئذ أي مواجهة مع داعش من داخل الحرم - الذي سبق لعائلة بن لادن أن رممته کما رممت القدس بما يستتبع ذلك من إجراءات وضع أجهزت التصوير و التنصت - ستكون مدمرة، فلا نستغرب تهديم الكعبة أثناء تبادل إطلاق النار داخل الحرم المكي. إن معركة بين داعش و السلطات السعودية حتما ستكون حول الحرم، إذا ما اتخذت داعش قرار الحرب على السعودية من الداخل. فداعش تدرك أي قيمة للحرمين الشريفين إذا ما استطاعت أن تسيطر عليهما عسكريا. هنا نستحضر تجربة جهیمان العتيبي، الذي يبدو في نظر داعش مجرد درویش سلفي لا يحسن ممارسة الإرهاب المقدس. هذا مع أن كثيرا ممن هجا طريقة داعش من أبناء ملتها ربطوا بين مشروع البغدادي و بين حركة جهيمان العتيبي، مثلما فعل أبو قتيبة في رسالته الموسومة ب "ثياب الخليفة". من الممكن إن لم نقل أن نهاية المسار الذي تسلکه داعش سيؤدي بها حتما إلى الثأر لجهيمان العتيبي. لقد أخذت داعش فكرة مسبقة عن قدرات الجيش السعودي للصمود في مواجهة أي حركة مسلحة غير نظامية، انطلاقا من تجربة الحرب على الحوثيين. و يبقى احتمال نقل داعش، أو أي جسم سيتولد من رحمها، للمعركة إلى السعودية أمرا واردا جدا لأسباب كثيرة منها : أن الحاجة إلى الرأسمال الرمزي سيجعل حالة الهذيان الداعشي تدفع باتجاه التفكير في احتلال مكة اليوم أو غدا. فداخل المملكة العربية السعودية توجد أكبر حاضنة شعبية لفكر القاعدة عموما. و لا تتطلب عملية الاستقطاب سوى الإقناع بعدم شرعية الولاء للسلطة. و هذا ما حدث في حركة جهيمان. فبعد أن عملت في إطار الجماعة السلفية المحتسبة تحت رعاية بن باز منذ بداية الستينيات سرعان ما حصلت انشقاقات و تغير الموقف ليس في طبيعة

ص: 105

التفكير بل في طبيعة الموقف من شرعية السلطة. و مهما حصل من تطور في النسيج الاجتماعي فهو لا يزال ضعيفا أمام أمواج الثقافة الدينية الوهابية التي تعيد إنتاج نفسها بأشكال متعددة .

تصدير السلفية الجهادية ليس حلا

لقد كان هناك سبب رئيسي أجل الثورة السلفية من داخل السعودية هو الجهاد الأفغاني. كان المطلوب أن يتم احتواء هذا الجهاد أمريكيا و وهابیا خوفا من أن يتكامل مع الثورة الإيرانية. منحت الوهابية هوية السلفية الجهادية للجهاد الأفغاني غير أن هذا الأمر لم يتحقق بشكل كبير، و ظهرت ملامحه إبان حكومة المجاهدين المتعددة المشارب، مما أدى إلى خطة اجتياح طالبان لحكومة المجاهدين لتعزيز الهوية الوهابية لأفغانستان منعا لأي تقارب مع إيران تفرضه استحقاقات الجوار الجغرافي. و هناك بدأت حركة تصفية رموز الجهاد الأفغاني المعتدلين و غير الوهابيين. و هناك أيضا كان لحادث قتل الديبلوماسيين الإيرانيين التسعة الأثر البالغ لإحداث شرخ بين أفغانستان و إيران. كانت القاعدة هي حكومة الظل في دولة طالبان. لكن تعين القول بأن سنوات من الجهاد الأفغاني التي شكلت قبلة لكل الجهاديين من داخل السعودية و الذين كانوا خلايا سلفية جهادية نائمة خفف الوطأ عن السعودية. و نستطيع معاينة ذلك من خلال أن سنوات الجهاد الأفغاني لم يشهد أي تمرد سلفي من داخل المملكة . في حين بداية التمرد بدأت عمليا بعد نهاية الجهاد الأفغاني و بداية الحديث عن القاعدة و مع تفجيرات الخبر التي سعى الإعلام إلى تحويل الأنظار عن مسئوليها الحقيقيين و اتهام إيران بذلك قبل أن تظهر للرأي العام أن القاعدة هي من كان وراء هذه العملية . ولأجل تحقيق هذا الغرض أصبحنا أمام حاجة لخلق أفغانستان أخرى لامتصاص السلفيات الجهادية و تشکيل محاج أخرى للجهاديين، فكانت الشيشان ثم العراق ثم سوریا و هكذا. و دائما كانت ارتدادات الفشل في هذه الدول تشكل بداية تهدید للسعودية و البلاد العربية الأخرى. لم يكن الحل جذريا بل كان مجرد عملية ربح

ص: 106

الوقت حتى إشعار آخر. و كان الحل السهل هو البحث عن بؤر صراع جديدة لتصدير أزمة إرهاب السلفية الجهادية إليها. و هذا يعني أننا لن ننعم باستقرار حقيقي في المنطقة، و بأن الإرهاب أصبح عنصرا وظيفيا تتوقف عليه الحاجة لاستقرار الجبهة الداخلية للسلفية التقليدية نفسها. إن تصدير السلفية الجهادية إلى مناطق الهند الصينية و البلقان و غيرها من شأنه تفجير التخوم الإسلامية نفسها. و إذا كان البعض يعتبر أن سبب جاذبية و استقرار الإسلام في هذه المناطق ناتج عن حركة التجار و الدعوة فإن ما لم تلتفت إليه هذه المقاربات هو أنه تم و لأسباب جيوستراتيجية وعاها المسلمون في تلك الأثناء أن أطلقوا على تخوم الهند حركة صوفية كبری كادت تتماهی مع التيارات الروحية في هذه الأقاليم و هو ما شكل عنصر تسامح باعتبار أن الأمر كان يدور بين أمرين: إما وضع حركات تكفيرية متشددة تنتهي بتصفية الأقليات مما يؤدي إلى حرب ساخنة مع الهند و إما وضع حركة متسامحة ذات زخم روحي و معنوي يوقف عملية الاستقطاب المعنوي من جهة و من جهة أخرى يرسي ثقافة للتسامح مع التنوع. هذا يفسر سبب جلب تيارات فكرية صوفية من أقصى الغرب الإسلامي إلى أقصى الشرق الإسلامي (= ابن عربي مثالا). غير أن خريطة داعش اليوم تسعى لتغيير هذا الوضع الجيوستراتيجي التقليدي للعالم الإسلامي لتضع على تلك التخوم حرکات استئصالية و هو ما سيثير حروبا عظمى على العالم الإسلامي، هذه المرة من جهة الهند و الصين. و هذا الوضع هو نفسه ما يقتضيه الموقف الجيوستراتيجي الغربي. حيث أصبحت هذه الجماعات الإرهابية تشكل جماعات وظيفية للغرب أكثر مما فعلت الأقليات المسيحية التي أصبحت مستهدفة بهذا العنف المزكي غربيا، كما حصل في العراق و سوریا و لبنان اليوم. يسعى الغرب في مخططه الجديد لاستنزاف منطقة أوراسيا عن طريق هؤلاء الجهاديين. و لكن الأمر الأهم هو البناء حاجز نفسي بين المسلمين و كل من الصين و روسيا تحديدا. و مثل هذا حصل إبان الجهاد الأفغاني ضد الاتحاد السوفياتي و أيضا ضد الصين و على تخوم الهند. هذا

ص: 107

الحاجز النفسي هو حاجة جيوستراتيجية للغرب لمزيد من الهيمنة على الشرق الأوسط و الحؤول دون وصول الصين و روسيا إلى المنطقة. المواجهة القادمة ضد دول "بريكس" سيلعب فيها التطرف التكفيري دورا كبيرا من شأنه إذكاء الكراهية العربية ضد الصين و روسیا و الهند تماما كما نجحوا في إذكائها ضد إيران. و ستتجلی آثار هذه الكراهية في جملة المذابح التي سنشهدها على خلفية الصدام بين الأقليات المسلمة هناك و تلك الدول، ستستتبعه قطيعة بين العرب و تلك الشعوب بما يؤدي إلى طرد الهنود من الخليج و منع الاستثمارات و التعاون مع الصين. في أفريقيا ستتكفل جماعات الإرهاب التكفيري مثل بوكو حرام و القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي و باقي التشكيلات المتعاونة معها على طرد اليد العاملة أو الاستثمارات الآتية من بلدان الممانعة أو "بريكس". و سيكون المتضرر الأول كما لمحنا مرارا هو الجالية اللبنانية في أفريقيا المعرضة لمخاطر العنف في هذه البيئات التي تتصاعد فيها موجات التطرف التكفيري، و أيضا بالدرجة الثانية سيواجه المستثمرون و الجالية الصينية الآخذة في التكاثر هناك المصير نفسه على المدى المتوسط و البعيد.

لقد بات العنف الإسلامي إذن حاجة للغرب أكثر من كونه حاجة إسلامية. لا سيما حينما نجد أن هذا الفائض من العنف لا يتجه نحو إسرائيل، بقدر ما يتجه نحو إضعاف المقاومة و بؤر المقاومة للاحتلال الإسرائيلي. و من هنا بات من الصعوبة بمكان الحديث عن تحصين السلفية التقليدية من اجتياح السلفية الجهادية. فأكثر السلفيات التقليدية التي تهاجم السلفية الجهادية هي سلفيات متملقة و فاقدة لمصداقيتها و مستهلة. يتذكر المهتمون بقضية جهيمان العتيبي حين بدأ حركته منشقا عن ابن باز نفسه أنه نعته بأعمى البصر و البصيرة. و أما شيوخ السلفية التقليدية اليوم في نظر أمراء القاعدة فهم شيوخ سوء منحرفين و وعاظ سلاطين. و نلاحظ أن وتيرة السلفية الجهادية في تزايد و مواردهم في تكاثر و قدرتهم على الاستقطاب لا تتوقف و أن خطاب السلفية التقليدية بات غير قادر على تأمين نفسه من السلفية الجهادية. و

ص: 108

كلما زاد التهميش و عم الفقر إلآ و تكاثرت حظوظ السلفية الجهادية في المنطقة العربية. فلقد كانت تلك المنشورات و الكتب السلفية التي وزعت خلال الثمانينات في كل المنطقة العربية هي مصدر انبثاق جيل كامل من السلفية الجهادية التي أصبحت تهدد حتى البلدان العربية الأخرى التي تعتبر الوهابية دخيلة عليها. و لكنه و بسبب التغلغل الوهابي لجسم المؤسسات و الحركات الإسلامية في هذه البلدان، أصبحت السلفيات الجهادية قضية داخلية لكل هذه البلدان و لم يعد يجدي بعد ذلك أن يقال أن مصدر هذا البلاء هو دول مشرقية.

السلفية الجهادية على هامش أحداث 11 سبتمبر

ثمة خطأ شاع يومئذ يرى في أحداث الحادي عشر من سبتمبر أو ما حدث تباعا، هو تحقق للنبوءة الهنتنغتونية. بينما الواقع يثبت أن هنتنغتون لم يفعل أكثر من وصف حالات ظاهرة بمفاهيم ملتبسة. فهي أشبه ما تكون بقراءات و أحكام بأثر رجعي حول ما حصل خلال نصف قرن، أي تحديدا منذ أن أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية لاعبا أساسيا و وارثا "شرعيا" لملف الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، و ما أنتجه هذا الوضع الجديد من إفرازات و تداعيات شملت معظم العالم العربي و الإسلامي. و قد بنا هنتنغتون على هذه الحقائق رؤية تتسم بالعمومية من جهة و من جهة أخرى بالتشاؤمية. على أن التشاؤمية، هي ما يسم، حقا، جزءا من الإرث الشعوري التقليدي للأمريكي الذي جرب في مرحلة من المراحل العزلة السياسية. و قد جاء هنتنغتون أخيرا - و ربما اختار التوقيت المناسب - لإعادة هذا الإحساس التقليدي إلى الذهن الأمريكي. هذا علاوة على أنها رؤية مسكونة بذهان الرهاب من الآخر، و الاستهتار بثقافته. و هذه موضوعة متشعبة في حد ذاتها. إنها الحديث عن الوجه الثاني الذي يتعلق بهذه الرؤية من حيث نعتناها بالعمومية، لاسيما حينما نعتبر ما سيقع غدا، صراعا من جنس حضاري. في الواقع لا نحمل هنتنغتون القول بأن حرب الإرهاب أو محاربة الإرهاب هما مظهران للصراع الحضاري. لأن هنتنغتون اعتبر كل

ص: 109

أشكال النزاع و الصراع المستقبلي بين الحضارات سوف تكون فيه الدول بمثابة اللاعب الأساسي و الرئيسي. في حين ما يحدث الآن لا علاقة له بما قرره هنتنغتون بل إننا نجد خلافا لذلك رأيا يتبناه توفلر حين كتب عن تحول السلطة قبل أن يتحدث هنتنغتون عن صدام الحضارات. إن الدول لن تكون هي اللاعب الأساسي و الوحيد في المسرح الدولي و لا هي من سيحتكر العنف. بل قد نجد قوى جديدة قد تمثلها حرکات " فوق وطنية" كالخضر أو المافيا أو المنظمات الإرهابية الدولية. و إذن، و إن كان و لابد أن نتحدث عن نبوءة في هذا المجال فهي في صالح ما طرحه توفلر و ليس هنتنغتون. لعل نقطة القوة و نقطة الضعف في الوقت نفسه في مقولة هنتنغتون هي رد الصدام الحضاري إلى الدين و الثقافة. ذلك لأنه من جهة كونها نقطة الضعف، نلاحظ حصول نوع من الالتباس في منشأ الصراع بين الدول و الجماعات. فهو يختزلها في المنشأ الحضاري و الثقافي مع أن حروبا خطيرة كانت ولا زالت تقوم بين إخوة أعداء ينتمون للمنطقة نفسها أو الحضارة نفسها أو الثقافة نفسها، بل ربما بين الحزب الواحد نفسه. في حين أن تعایشا سلميا واضحا بين المختلفين على اختلاف ثقافتهم أمر له أمثلة و نماذج حتى في راهننا الموسوم بالصراع الثقافي. إن أطروحة هنتنغتون تخفي مناشئ الصراع الحقيقي، و التي كانت ولا زالت و ستبقى تتمثل في العامل الاقتصادي و النزعات السياسية على الحدود و الحروب التحريرية من أجل تقرير المصير و من أجل سيادة الأمم و کرامتها. أما من جهة كونها نقطة قوة، فذلك لأننا من جهة نقول: نعم، إن الحروب التي تحصل الآن قد تحصل غدا و إن كانت مناشئها (اقتصاد - سیاسية)، تتصل بالمصالح القومية و السيادية فهي تأخذ لونا ثقافيا . فالثقافة هنا ليست هي المنشأ بل هي الوظيفة. و لذا لا عجب أن يرفع صدام حسين شعار الإسلام و العروبة في مواجهة الأمريكان كما حمل الأمريكيون يافطة النسر النبيل، محرر الشعوب، و غيرها من العناوين، إما ذات منشأ ديني إنجيني أو ذات صفة تتعلق بالقيم الديمقراطية. و لكن المستبعد ما بين اليافطتين هو أن ثمة قوة

ص: 110

غاشمة تسعى لوضع يديها على النفط، في حين تترك للشعوب و الدهماء أن ترعی و تقتات على شعارات الحداثة و البولميك السياسي، و كأنه حطام من العلف الذهني اليومي. إذن سوف تكون فكرة هنتنغتون صحيحة في حالة واحدة فقط، هي حينما تعتبر الثقافة عاملا وظيفيا و ليس منشأ موضوعيا للحروب. إذا كان فوكوياما يؤكد بأن لا وجود للوحوش على الأبواب، فالأولى أن نقول بأن لا وجود لحروب حضارية أو تهديد حضاري وراء الحدود. فالصراع هو موضوع الحضارة نفسها و يتحدد بأنماطها و يتغذى على تداعياتها. ليس ثمة حروب حضارية، بل ثمة فقط حروب الإنسان داخل حضارته و تمأزقه داخلها. و لهذا السبب تحديدا يقدم هینتنغتون نصيحة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بأن تكف عن حشر أنفها في واقع هو آيل إلى الصراع لحتمية هذا الواقع الثقافي المختلف. نعم كل دولة بهذا المعنى لها حدود دموية مع الناشزين عنها ثقافيا. هذه من جهة فيها خطورة على التعايش السلمي. لكنها من جهة أخرى تطرح نقطة استفهام حول وجود کیان صهيوني يحمل ثقافة عنصرية في قلب عالم يختلف معه ثقافيا و حضاريا. ألا يعني هذا أن الذين يساندون إسرائيل اليوم هم بشكل أو بآخر يرسمون حولها حدودا دموية؟

الخوف على الهوية و العنف المسلح

قيل إن السؤال الذي كان يطرح خلال الحرب الباردة هو: مع من نحن. و لكن بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أصبح السؤال من نحن. أي تفجر سؤال الهويات. و لا شيء نهائي هنا. لقد كان هینتنغتون كما وضحنا مرارا بصدد إرساء نموذج لتفسير الأحداث الدولية عشية سقوط الاتحاد السوفياتي، أي بعد أن استنفذ نموذج الحرب الباردة أي قدرة على تفسير الأحداث. و لكنه لم يمنح الضفة الأبدية للنموذج الحضاراتي. غير أننا ندرك أن الحرب الباردة رجعت بقوة بعد أن استعادت الأطراف المتضررة قدراتها على استئناف هذه الحرب بعيدة المدى. و بالتالي نحن اليوم في سياق عودة السؤال: مع من نحن. ففي الظروف التي كان العالم فيها يعيش في ظل توازن دولي سیاسي و

ص: 111

إيديولوجي، كان الأمر أخف نوعا ما على الهويات. لا سيما الهويات المهددة في وجودها. و هذا ما يفسر أن الانتهاء حتى هذه الفترة كان أحيانا يأخذ معنى الابتزاز . هذا لا يعني أن الهويات لم تكن تواجه تحديات في هذه الفترة، و لكن التوازن الدولي كان يتيح - على الأقل - لهذه الدول و هذه الهويات هامشا للمناورة. و من هنا نفهم كيف استطاعت أن تثبت نفسها إلى حد ما منظمات و هیئات شتى، كمنظمة دول عدم الانحياز في صلب هذا التوازن مثلا. و بالفعل، كان السؤال المطروح هو: إلى أين تنتمي؟ و هو سؤال عام. إذ لا يعني الانتماء إلى المعسكر الشرقي مثلا، انتماءا مطلقا لمنظومته الإيديولوجية السياسية و الاقتصادية بالضرورة. أما بعد نهاية الحرب الباردة و بعد افتقاد العالم للتوازن، أصبح سؤال الهوية يواجه تحديا خطيرا، لا سيما في ظل العولمة التي لم تجد أمامها سوى قطبا واحدا يمتلك كل أسباب احتكارها. أصبح سؤال من نحن مؤشرا حقيقيا لوجود هذه الكيانات في دائرة الخطر. فقد يكون هذا التساؤل هو بداية لنشوء وعي جديد بمسؤولية النهضة، و بداية الرجوع إلى الذات . ليس للتقوقع حول سؤال الهوية، بل لتأهيل الذات كي تكون في مستوى التحديات التي تواجهها اليوم. لكن حينما يتراجع هذا الوعي و يصبح سؤال الهوية يعالج بصورته النكوصية المبسطة، هنا تحصل الكارثة. يبقى السؤال الأساسي هنا: هل إن الهويات الضعيفة التي تعاني الهشاشة مرشحة دائما لتبني خيار العنف إثباتا لوجودها أم أن اللجوء إلى العنف هو رد فعل على الإقصاء؟ و الحقيقة هي أن كليهما متغير في معادلة صعبة. فإحساس الهويات بالهشاشة و الضعف بالتحديات التي تفرضها القوى الكبرى كما يحصل اليوم في العالم، يؤدي إلى محاصرة هذه الهويات في الزاوية الضيقة بحيث لا تجد مجالا آخر للتفاوض حول حقها إلا باللجوء إلى خيار العنف. فالقوى الكبرى تتحمل النسبة الأكبر في السلوك العنفي الذي يصدر عن بعض هذه الهويات. سواء أكانت کیانات سیاسية قائمة أو حركات أو منظمات داخل هذه الكيانات. فالعنف صناعة مشتركة تنمو بشكل طبيعي في مناخ التوتر بين کیانات

ص: 112

ضعيفة أو جماعات مضطهدة و قوى عظمى لا تعترف لهذه الأخيرة بحقوقها. هذا ناهيك عن أن العنف في ظل هذا الانزياح في التلبرل و التوحش الرأسمالي و مجتمع الاستهلاك ليست ظاهرة خارج نطاق الاستثمار. فكل شيء هنا، قابل للاستثمار في هذا المجتمع. حتى و لو كان الأمر يتعلق بالعنف. فعلى الأقل، إن المجتمع الرأسمالي يحتوي على منشآت لصناعة السلاح؛ لا أعني التقليدي الذي يصلح للحروب بل ذلك الجيل من الأسلحة التي تصلح للإرهاب. كما أن ثمة هوليود التي تجد نفسها تستثمر في العنف. فحينما نقول الاستثمار، فإننا نقول التسويق. و بلا شك في زمن العولمة سنجد اجتياحا لهذه السلعة ذات النكهة الهوليودية المتاحة في يد الجميع. إذن الإرهاب تصنع مبرراته و فلسفته و أدواته و تقنياته في هذه الدول العظمی، و هي التي تقدم دروسا لهؤلاء المحبطين إن أرادوا أن يمارسوا العنف بأن يمارسوه على هذه الطريقة. أي على الطريقة الأمريكية. و هذا الذي حصل في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، حيث ظهر للعالم و كأنها بالفعل أمام مقطع من مشهد هوليودي.

و تظل هذه العلاقة التي كادت أن تصبح علاقة نمطية بين التنظيمات الإسلامية و العنف، فيها ما هو حقيقي و فيها ما هو مغالط. إذا أردنا أن نتحدث عن الوجه المغالط هذه العلاقة، قلنا لا يخفى أن ثمة أكثر من مبرر لحشر الحركات الإسلامية في هذه الصورة النمطية التي تجاوزت كونها تهمة موجهة للحركات الإسلامية ذات برنامج سياسي و اجتماعي إلى أن تصبح تهمة للإسلام نفسه كما لاحظنا ذلك في تقارير استشراقية في فترات ما. لا ننسى أننا في عالم يوجد فيه من يحمل كراهية للإسلام من منطلق عقائدي أو إيديولوجي أو ثقافي سیاسي. و الذي بلغ أوجه مع الإسلاموفوبيا التي أصبحت لعنة تتربص بجميع المسلمين سواء أكانوا ينتمون إلى الحركات الإسلامية أو لا ينتمون. و لقد غدت الحركات العنفية كما تمثلها القاعدة و بلغت أوجها مع داعش الإسلاموفوبيا مما يطرح سؤال التبادل الوظيفي بين سلوك هذه الجماعات و تعزيز خطاب الاسلاموفوبيا في الغرب. أصبحت للمسألة علاقة مباشرة

ص: 113

بالهوية. و بالإمكان تقويض هذه المغالطة، و ذلك، بمزيد من العمل و الاشتغال في سبيل تقديم رؤية أكثر نضوجا عن حقيقة الإسلام بوصفه دین تسامح و حوار و إنماء للمهارات الإنسانية. مثل هذه المهمة هي مسؤولية ملقاة على العلماء و المثقفين و المفكرين و مراكز البحوث و الدراسات و الإعلام، دون أن نستثني دور الدولة في مجال تمكين أهل الرأي و الخبرة و الاختصاص من النهوض بهذا المشروع. أما الجانب الحقيقي لهذه العلاقة بين الحركات الإسلامية و العنف، فيتداخل فيها الموضوعي بالذاتي. فلا يخفى كذلك أن هذه الحركات في نشأتها الأولى داخل دول موصوفة بالشمولية و الاستبداد كانت قد تلقت ضربات قاتلة، ساهمت بشكل من الأشكال في انشداد هذه الحركات في خيارات العنف المضاد. مما أهل المناخ لتبلور خطاب محتوي تكفيري انعزالي بلغ مداه مع التيارات التي جعلت من العنف وسيلتها الوحيدة في تصفية حساباتها. فهذه الخطابات كانت تقتات على هذه الأدبيات المحنوية التي يمكن تكوين صورة عنها من خلال عناوین مثل "الإخوان المسلمين في السجن الحربي و ليمان طري" أو كتاب: "لماذا أعدموني" و غيرها من هذه المنشورات التي حولت المشروع الإسلامي من دعوة إلى التربية و التخليق و الإصلاح إلى دعوة للانتقام و التكفير. يمكننا أن نتحدث عن ظاهرة نكوص هذه الحركات في هذا المفصل التاريخي المحتوي حيث تراجع خطاب حركات الإصلاح الإسلامي التي كان قد دشنها جيل من الإصلاحيين أمثال جمال الدين الأفغاني و محمد عبده و الكواكبي... إلخ، إلى خطاب نقیض، انتقل من فكرة الجامعة الإسلامية كما نادى بها الأفغاني و تلامذته إلى فكرة الجماعة الإسلامية. لقد شكلت أفكار سيد قطب ثورة ضد كل الأفكار التي بدت له ملتبسة ولا تقف على جوهر مشکلات العالم الإسلامي، منذ محمد عبده حتى مالك بن نبي. لقد حاول محمد قطب أن يقدم رؤية غير تاريخية عن التاريخ. لقد نقل عن غيره و من دون إحالة عن ازدواجية المعايير لدى المسلمين القدامى في أخذهم عن البزنطيين و الفرس. و اعتبر أنهم أخذوا العلوم و لم يأخذوا الأفكار و أنماط السلوك و

ص: 114

الاعتقادات باعتبارها في نظرهم من أنماط الجاهلية. و الحقيقة أنها قراءة سطحية جدا لأن الذي تجنبته حركة النقل و الترجمة هو الديمقراطية اليونانية الأولى و ذلك لأنها لم تكن ناضجة بالقدر الذي كانت عليه الآداب السلطانية و أخلاق الملك عند أهل فارس. ثم إن اليونان لم يكن لهم من يدافع عن ثقافتهم من داخل العالم الإسلامي کما هو الأمر بالنسبة للثقافة الفارسية. نشطت حركة الترجمة في زمن التأسيس للاستبداد العربي و الاسلامي . و قد دعا محمد قطب إلى إعادة النظر في تلك الأسماء اللامعة التي اعتبرها من الأسماء التي لمعها الاستعمار. و من يا ترى يكون هؤلاء العملاء الذين أدوا خدمة للاستعمار الصليبي الصهيوني في نظر محمد قطب؟ يجيب بالقول:" بهذا الميزان نزن رفاعة الطهطاوي و محمد عبده و جمال الدين الأفغاني و سعد زغلول و قاسم أمين و لطفي السيد و طه حسين و عشرات غيرهم و عشرات.. فنجد فيهم عاملا مشتركا على اختلاف مواقفهم ما بين الغفلة و العمالة المأجورة، أن شخصياتهم ضئيلة. أضأل بكثير مما صورت لنا بواسطة أجهزة التكبير - أو أجهزة التضليل - "(1) هذه العبارة تؤكد على أن سؤال محمد قطب کما هو سؤال سيد قطب - كما يتضح في نقده لموقف مالك بن نبي بخصوص أهمية قيد المتحضر بالنسبة للمجتمع الإسلامي - لم يكن يعني بالسؤال النهضوي أو الحضاري. و هذا هو المظهر البارز للنكوص الذي يؤدي إلى حالة التوحد و العزلة الشعورية التي مآلها الحتمي العزلة المادية التي تمنح العنف شرعيته و تبريراته. لقد انتقل الفكر القطبي من فكرة الحوار و محاربة الجهل إلى فكرة تدعوا إلى ممارسة العزلة الشعورية في المجتمع المسلم بوصفه مجتمعا جاهليا، لا شيء إلا لأن الشريعة لا تحكمه، ما هو شكل هذه الحكومة و ما هي تفاصيلها؟ هذا أمر لا وجود له. بل لا جدوى من طرحه الآن!؟ و إذن كل هذه المعركة قامت للمطالبة بشيء لا نملك حوله تصورا حقيقيا. بل إن سيد قطب الذي أطنب كثيرا في حديثه عن الحاكمية، لم يكن يحمل تصورا عن الحاكم الشرعي و مشروعية السلطة. و

ص: 115


1- محمد قطب: كيف نكتب التاريخ الإسلامي، ص 230، ط 1995، دار الشروق، القاهرة

لهذا السبب تحديدا نجد في نصوص داعش و القاعدة التي دارت حول مفهوم الحكم و الإمارة و الدولة جنوحا خارج سيد قطب، حيث لا نكاد نجد سید قطب في مجال أجرأة بناء الدولة أو من يحكم أو تنصيب الأمير. إنهم لن يجدوا عند سيد قطب سوی أفكارا عامة حول الحاكمية لا تنفع في مجال التأسيس و التأصيل الإجرائي لقيامها. فيكون الرجوع إلى نصوص ما قبل سيد قطب في قلب التراث حول فقه البيعة و السياسة الشرعية.

و قد جاءت بعد ذلك الطامة الكبرى التي زادت الطينة بلة حيث حصل الزواج التاريخي بين الخطاب الإسلامي العنفي و بين الفكر الوهابي، خاصة ما يتعلق بذلك التراث التكفيري لابن تيمية. أفرز بعد ذلك أشكالا من الحركات أكثر تشددا و استعدادا لممارسة العنف. فبتنا نسمع بالهجرة و التكفير أو بالسلفيات المقاتلة. ومع ذلك نقول: إن تقويض هذا الوجه من العلاقة بين الحركات الإسلامية و العنف هو أيضا مهمة ملقاة على أهل الفكر و العلم، لممارسة التنوير و فك العزلة الشعورية عن هذا الجيل من الشباب الذي يقع فريسة لخطاب متمأزق يحمل مرکب مرض الأمة العضال، و ضحية للجهل و الاستبداد و التهميش و انسداد باب الاجتهاد. ليس بالضرورة أن يكون التصحيح بالعنف الذي كان سببا في نشوء هذه الأصناف من الحركات المتشددة، فهذا من شأنه أن يشكل المناخ الذي يتيح لهؤلاء مزيدا من النمو و الإصرار. بل المطلوب، مزيد من الانفتاح و التعليم و التسامح، لاجتثاث جذور مناشئ هذا الفكر الانعزالي. هناك اختلاف في المرجعيات و في طبيعة الخطاب و في الأهداف و الوسائل، فهناك من الحركات الإسلامية من تجد نفسها في حرج شديد مما يحدث هنا أو هناك من أعمال عنف تصدر عن بعض الحركات العنيفة المتطرفة. ليس بالضرورة أن يرجع ذلك إلى المنابع الفكرية لهذه الحركات، فقد تجد وحدة في المرجعية بين حركة عنيفة هنا و حركة مسالمة هناك. ففي مثل هذه الحالة يعود السبب إلى المناخ السياسي الذي تعيش فيه هذه الحركات. في البلدان القمعية أو في الظروف الاجتماعية

ص: 116

الصعبة أو في مناخات الجهل و الانسداد العلمي تنمو ظاهرة الحركات العنيفة. في حين نجد مثل هذه الحركات تنحو أكثر إلى التهدئة في مجتمعات أكثر تسامحا و ديمقراطية. و تبقى مناهج التعليم الديني معنية بالأنسنة و التكيف مع مقتضي التعايش و التسامح و احترام الآخر. و لا زالت هذه البرامج في كثير من البلدان تكرس ثقافة العنف الرمزي الذي يتجه في الغالب إلى العنف المادي.. هنا يكون التكفير اكتسب له صفة قانونية و رسمية. و هنا منبع الخطر.

ثمة تحدي أمام الحركات الإسلامية التي تدعي التسامح و الانفتاح في حين تراها عاجزة عن تحديد منطلقات فكرية مؤصلة تحدد هويتها الفكرية و خطابها. إن ما يميز الخطاب الفكري لبعض الحركات الإسلامية في العالم العربي التي تدعي التسامح و الانفتاح و غيرها عن الحركات العنيفة، لا يتجاوز مسألة الشعار، في حين تظل البنية قائمة كأنها بنية عنف نائمة و محتملة. إذن نحن بصدد بنية فكرية مشتركة يلعب فيها الشرط الموضوعي دورا أساسيا في ظهور أو غياب ظاهرة العنف لدى الحركات الإسلامية. و هذه البنية للأسف التي أصبحت كالسرطان داخل الجسم العقائدي لهذه الحركات لم تستطع القطع مع الخطاب الخوارجي الذي عاد إلى الواجهة في خطاب بعض الحركات الإسلامية الذي يصرف بأشكال مختلفة، تارة دفعة واحدة و بالجملة و تارة بصورة مخاتلة و بالتقسيط. لا نتحدث هنا عن الخوارج كفرقة كلامية أو طائفة دينية، و إنما نتحدث عن بنية خطاب يمكن أن تجده في صلب مختلف أدبيات بعض الحركات الإسلامية التي لم تقم حتى الآن بنقد ذاتي جذري لخطابها الحركي هذا الفكر في أولى تمظهراته التاريخية و الراهنة يقوم على أساس الاستهانة بمشروعية السلطة. إذ لا يخفى أن الفكر الخوارجي هو الفكر الوحيد الذي لا يرى ضرورة لقيام الدولة. و ذلك بناء على الشعار التاريخي المغلوط "إن الحكم إلا لله" و هو للأسف الموقف الذي ترجم بشكل صريح في فكر المودودي و بلغ مداه مع الفكر القطبي مما جعل فكرة الخوارج الدولتية تستعيد الحنين إلى شكل آخر من الدولة. و هنا أصبحنا

ص: 117

مع دولة الدولة في مفارقة يصعب هضمها في علم السياسة. هذا رغم أن الجواب التاريخي کما صدر عن الإمام علي تقويضا لهذه المغالطة الخوارجية " كلمة حق يراد بها باطل. و قد علموا أنه لا بد من أمير بر أو فاجرا". و كانت هذه بمثابة المسوغ الشرعي المغلوط الذي برر به الخوارج كل الأعمال التخريبية عبر التاريخ.

يصعب الحديث عن خوارج العصر بعد أن عرف هذا المفهوم تمييعا ممنهجا نتيجة تداوله المفرط التدليس. فالخوارج الجدد يتبادلون هذه الصفة بينما تنطبق شروطها عليهم. هذا ما ستكشف عنه حروب الخوارج - الخوارج (الجدد) کما ظهر في حرب داعش على تنظيم القاعدة الأم. يا لها من مفارقة حينما يأتي أبو قتادة الذي سبق و أفتى الجماعات المقاتلة بجواز قتل الأطفال في الجزائر، يتهم داعش بأنها من الخوارج. نلاحظ أن فكرة الجهاد حينما تبناها الخوارج حولوها إلى فوضى تهدد الكيان الداخلي أكثر مما توجه نحو الدفاع عن حمي الأوطان. إنه جهاد أعمى لا فقه يحدده و لا أخلاق تهذبه و لا فكر ينوره. و إذا أردت أن تعرف كيف يسري هذا الفكر في صميم الخطاب الخوارجي عبر التاريخ، يمكننا الحديث عن مثال واحد فقط؛ لقد مرت علينا إحدى الواقعات مرور الكرام. أذكر يوم بثت قناة الجزيرة تسجيلا عن بن لادن حيث كان في زيارة بقندهار لأحد الشيوخ الوافدين من دولة خليجية. و كانوا بصدد الحديث عن أحداث الحادي عشر و يتبادلون الأشعار و القصائد. حينما أراد الشيخ الزائر أن يصف الضربة الموجهة للبرجين أنشد يقول:

و یا ضربة من تقي ما أراد بها *** إلا ليبلغ عند ذي العرش رضوانا

ويتضح أن هذين البيتين هما لعمران بن حطان رأس الخوارج. إن هذين البيتين كان قد مدح بهما هذا الأخير ابن ملجم قاتل علي بن أبي طالب. إذن الخوارجي المعاصر يشبه الاعتداءات على برجي التجارة بطعنة الإمام علي !؟ انظر كيف أنهم يحفظون قصائد الخوارج عن ظهر قلب. هذا ما أسميه بسريان الفكر الخوارجي في خطاب الجماعات المتشدد. لكن إلى أي حد كانت هذه الجماعات رد فعل عن فشل تطبيق

ص: 118

برامج في الإنماء و الإصلاح السياسي و الاقتصادي كما يقولون، أو رد فعل على سياسات التحديث؟ مرة أخرى نقول، أن هذه الأحكام لم تتحرر من آفة الاختزال. و هي تكشف عن تصور مغلوط للحداثة نفسها؛ هذه الأخيرة التي لا تزال محور جدل لا من حيث كيفية تعريف دلالاتها و تطبيق مضامينها في مجتمعات، و إن كان ثمة مشترك بين تاريخها الخاص و التاريخ الغربي الخاص الذي يتلخص في وحدة المسار التاريخي العام؛ لأن التاريخ العام في تصورنا هو ذلك الحيز المشترك بين كل أشكال التواريخ الخاصة. فلا تاريخنا هو العام و لا التاريخ الغربي هو العام، بل التاريخ العام هو حصيلة ما هو مشترك و ما يشكل جملة القوانين التاريخية التي تجري على كل أشكال التاريخ الخاص. فالجدل الجاري الآن حول الحداثة هل سنقبلها كما هي، ما دامت هناك شريحة ترفض التعاطي مع الإسلام كما هو، فهناك من يرى أن المجتمع الحديث و الديمقراطي يخلو من وجود مثل أعلى، لأن في النهاية لابد من أن يطرح كل شيء للنقاش و الاستشكال، و هذه نقطة هي قابلة للنقاش. لنقول، عودا إلى بدء، بأن الحداثة التي طرحت منذ البداية على أساس هذا النفي لحضور الإسلام ضمن مناخ التوتر بين التيارين الإسلامي و العلماني في العالم العربي من شأنه أن يعزز من صعود نجم التيار الإسلامي في أفق هذا الفشل الذي منيت به التيارات الحداثية التي أنتجت و لأول مرة في التاريخ العربي نظما شمولية، و قمعية لا تنموية، و لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نعتبر أن هذا هو العامل الوحيد الذي يفسر صعود نجم ما يسمى حركات العنف الأصولية. فلا ننسى أن الرجوع إلى الإسلام هو مطلب روحي و ربما أيضا براغماتي. فالشعوب بطبعها ترفض الفراغ و ترفض أن تتخلى عن إرثها الثقافي و الديني لصالح شعارات أثبتت بأنها أعجز من أن تضعنا في مسارات الدول المتقدمة صناعيا و تنمويا و ديمقراطيا، لا سيما أن الذين أجهزوا على الحداثة و الحريات المدنية و الديمقراطية و التنمية هي الدول القمعية التي جاءت إلى السلطة تحت شعارات الدول الحديثة و التقدمية. إذن علينا أن نكون موضوعيين أكثر و هو أن

ص: 119

الكرة هي في مرمى الفشل الذريع لهذه الخيارات ثم لا ننسى أنه ليس من الموضوعية أن نتحدث عن ظاهرة تنامي الحركات الإسلامية، لأن هذه الظاهرة إن صح هذا الوصف هي في مجال إسلامي، فالإسلام ليس حدثا طارئا في هذا المجال حتى نتحدث عن ظاهرة بل هو راسخ متجذر في بنية المجتمع العربي، نعم يمكننا أن نتحدث عن ظواهر لا تتمتع بالرسوخ في هذا المجال كالحركات المتطرفة التي لا تحمل مشروعا و لا بديلا حضاريا سوى العنف. و قد تندرج في هذا الإطار حتى الحركات الإسلامية المسالمة التي تدخل المعترك السياسي من دون برنامج تنموي و حضاري. إن مفهوم الخصوصية أصبح من أكثر المفاهيم التي تسلط عليها الجهل، و خضعت لضروب من الاستثمار المغلوط. و مع ذلك نقول، بأنه ليس مفهوم الخصوصية و حده الذي تعرض لهذا النوع من التمييع، بل حتى مفهوم الكونية تعرض للتعسف نفسه. لا أنكر بأنني قد تورطت في مقاربات أنثربولوجية لمفهوم الخصوصية العربية و الإسلامية في فترة سابقة، و ذلك نتيجة استفحال مفهوم الكونية نفسه، الجارف لكل ما هو خاص. و لكن هذه المقاربة الأنثربولوجية التي غلب عليها المنظور البنيوي للثقافة، كانت هي الأخرى رد فعل على المقاربة الانثربولوجية الكلاسيكية، التي مالت كل الميل إلى المنظور التاريخي بكثير من التمامية. إذن كان الأمر يتعلق بمنظورين أو بالأحرى بين ليفي بروهل من جهة و ليفي ستراوس من جهة ثانية. لكن الدعوة في تقديري قائمة، من أجل إنشاء أنثربولوجية جديدة، كما دعا إلى ذلك امبرتو إيكو، و هي التي من شأنها إخراجنا من هذا المنغلق الباراديغمي، لمدرستين انثربولوجيتين على تمام التناقض. إذن كان الهدف من الإصرار على الخصوصية، ليس انتصارا لسكونية الجهل، بل محاولة لفتح البنيتين على الخلاف. ففي تقديري، أنه إن كان و لابد من قيام هذه الأنثروبولوجيا الجديدة، فلابد من قيامها على أساس تجادل الخصوصي و الكوني. فتقدم الخصوصي لا يتم إلا بالانفتاح على الكوني، لأنه هو من يملك قوانين التطور. إن اختراق الكوني للخصوصي هو الطريق الأوحد للتطور. من هنا الدعوة إلى أن

ص: 120

نتعاطف مع الإسلام بوصفه تعاليم مجردة قابلة للتشخيص في كافة البيئات. ليس الإسلام ثقافة، بل هو تعاليم قد تتفاعل مع مختلف الثقافات. و من هنا كان فالمطلوب هو التعاطي مع هذه التعاليم و ليس مع خبرات جماعية أو نماذج سوسيوثقافية. ففي تقديري أن الكوني هو الجامع بين كافة التقاطعات الثقافية. ففي كل ثقافة هناك هامش لما هو كوني، و ما به تستطيع أي ثقافة أن تتواصل مع غيرها و أن تتجاوز سکونيتها. إذا أحسنا فهم هذا التجادل، استطعنا الخروج من دائرة السوء لكل أشكال التمامية، سواء أكانت كونية تاريخية أو بنيوية. فالعرب عرب و الغرب غرب، و يمكن أن يلتقيا في نقطة التقاطع الكوني و يمكن أن يختلفا في طبيعة التفاعل مع هذا الكوني نفسه. إن جوهر التقدم واحد و إن تعددت مساراته. قد تكون البومة طائرا عند جميع الثقافات، لكن ما ترمز إليه قد يختلف من ثقافة إلى أخرى. فهي نذير شؤم عند البعض و رمز للحكمة عند البعض الآخر و ربما طائر عادي عند الجميع. هذا ما أعني به جدل الكوني و الخصوصي! و مع ذلك لا بد من القول بأن المواقف الرفضوية للقيم الكونية العقلانية تصدر عن فئات محدودة جدا و لا تمثل عموم الفعاليات الإسلامية. ثمة شرائح واسعة من داخل الحركات الإسلامية لا يرون هذا التناقض بالشكل الذي يطرح الآن و إن كان لديهم بعض التحفظات على بعض المفاهيم أو المبادئ أو المواثيق الدولية. و هذه الشرائح تقبل بالحوار و بالنقاش. مع ذكر التفاوتات على مستوى الانفتاح من جهة لأخرى، لا أدل على ذلك أن كثيرا من هذه الحركات قبلت بالعمل ضمن مؤسسات الدولة و ضمن syste me سيستيم الدولة الحديثة. و لا أهمية بعد اليوم لتلك الدعوات المتطرفة التي تكفر بالدستور، و لا تستحق أن تعار أي اهتمام إذ لا مستقبل لها، لأنها تعيد المجال إلى الموقف الخوارجي الأعمى"لا حكم إلا لله". و الجواب القديم المتجدد لهذه المقولة الخوارجية هو من الإمام علي ابن أبي طالب :" إنها كلمة حق يراد بها باطل، و قد علموا أنه لابد من أمير بر أو فاجر". إذن القول هنا بأنه لا شرعية للدستور أو القول بأن القرآن هو دستورنا هو ضرب من المجاز الذي قد

ص: 121

يتحول إلى مغالطة. لأن القرآن حمال وجوه و أن الدساتير هي التصريف الزمني للتعاليم و هي قابلة للنظر بحسب تجدد الأحوال و تطور الأزمان. هؤلاء لا يحملون تصورا سياسيا و لا رؤية حقيقية للنظام السياسي في الإسلام ولا يحملون في جعبتهم أي بديل سوى هذا الحطام من التعاليم التي قصاراها أن تجعل المسلم مسلما، و لكن هي أعجز عن أن تبني كيانا سياسيا متقدما للجماعة المسلمة. و هذا يعود بنا إلى الموقف القطبي من البديل السياسي حيث رأى عدم جدوى تفصيل الحديث عن شكل الدولة و عن فقهها معللا ذلك بأن إقامة الدولة الإسلامية أمر سابق لبحث تفاصيلها، و بذلك يكون قد وضع العربة أمام الحصان. لقد أجل سيد قطب التفصيل في إجراءات تحقق الحاكمية إلى الجيل الذي يتمكن من إقامة حكم الله في الأرض بالغلب. و هو بذلك منح داعش بعد عقود حق التصرف في تفاصيل إقامة هذا المشروع. لقد غاب عنه أن الشيطان يكمن في التفاصيل.

ويظل نموذج الخلافة يشد حنين هذه الجماعات إلى القديم في ضرب من المغالطة التاريخية إلى نموذج حكومة طالبان. هو النموذج المثال بالنسبة للفئة التي ترى هذا الرأي، لكن هذه الإمارة لم تحض برضى الأغلبية الساحقة من المسلمين. بل كان أحرى بها أن لا تكون. لأنها وضعت سمعة الإسلام و المسلمين في حرج شديد. إن النظام السياسي الذي سعى صاحب الدعوة لتثبيته هو أكبر من مشروع دولة يكون همها الأكبر أن تضع مقاييس لقياس اللحي و استحضار تفاصيل قيم البداوة و فرضها على النسيج الاجتماعي للشعب الأفغاني - الذي كان مسلما قبل طالبان و بعدها، بل و الذي كان له الفضل في دعم الطلبان في أن يتفرغوا للدرس و التبليغ من مساعداته و من دعمه و من محنته أيضا - بوصفها قيما إسلامية فيما اقتصادها قائم على ريع المخدرات و صناعة الموت. و فيما يتعلق بالدولة السياسية في الإسلام حتى لا أقول "الدولة الإسلامية" لا وجود لتصميم جاهز و نهائي. فحتى صاحب الدعوة في تصوري لم يحكم القوم بالمستوى القيمي الذي كان يطمح إليه. بل حكمهم بالمستوى

ص: 122

الذي فرضه النسق الاجتماعي لذلك العصر مع الحد الأدنى من القيم الممكنة من حيث التنفيذ الواقعي. و من هنا فالرهان ليس على تصميم ما جرى بل الرهان على تصمیم مستقبلي انطلاقا من هذه التعاليم الخالدة للإسلام. و لذلك نجد مثل هذه الدعوات و إن اختلفت في أسلوبها فهي تؤكد على هذه النزعة الاستحضارية الماضوية. فالإخوان المسلمون على لسان زينب الغزالي يؤكدون على أنه لابد من مراعاة 13 سنة من الدعوة قبل إقامة الدولة، آخرون يتحدثون عن إقامة الدولة على غرار نموذج الخلافة في حين أن تاريخنا السياسي ليس نظيفا بالقدر الذي يعطينا الحق في أن نعيد أستنباته بلا شرط، في عصرنا الذي شهد تطورا كبيرا في النظم السياسية و في علم الاجتماع السياسي. من هنا أرى أنه إن كان و لابد من الحديث عن دولة إسلامية حديثة، فهي دولة يتعين عليها أن تأخذ بإكراهات عصرها و تنطلق من تعاليم الإسلام المجردة لإبداع شكل حديث لهذه الدولة. الذي ربما هو الشكل الذي فشل في تحقيقه أسلافنا. و لا يمكن إنجاز تصور معقول و واقعي للدولة في مخيال تتحكم به الطوبا أو في ذهن مبتلى بالوعي الشقي. لابد من مراعاة الواقع في كل رؤية أو موقف. الدولة كمؤسسة هي معطى تاريخي، و بالتالي فهي خاضعة لقانون التطور. إن مفهوم الدولة في الأزمنة القديمة ليس هو نفسه مفهومها الآن. ثمة تحول كبير في شكلها و وظيفتها، و هذا يسري على مفهوم السلطة ذاتها، هل السلطة بالمعنى التقليدي هي نفس السلطة بمعناها المعاصر. و إذن، لابد من مراعاة الواقع الموضوعي، لأن الدولة و شكلها و وظيفتها ليس نحن من يصنعه، بل إن ذلك خاضع لمعطيات تطور الاجتماع السياسي. فملامح الدولة كما أتصورها، هي الدولة التي يمكن أن يتحقق فيها المقصد الإسلامي الكبير، ألا و هو ما ينفع الناس؛ أي، عدالة اجتماعية، تنمية حريات عامة و كل ما يحقق هذا الغرض في إطار قيم العدالة المعنوية و المادية. ليس هناك ما يميز الدولة الإسلامية سوى أنها مشروع لتحقيق دولة مجتمع الإنسان الكريم و الحر و المسؤول و المستمتع بكافة حقوقه في إطار قيمة الدينية و الأخلاقية الجماعية .

ص: 123

إذ ما قيمة الدعوة الإسلامية السمحة إذا وجدت في مجتمع لا يتحمل مسؤوليته أمام الله ؟! وهذه المسؤولية هي مشروطة بحرية الإنسان. فإذا كانت هناك في هذا العالم دول يستمتع مواطنوها بحقوق أكثر مما عليه في الدولة الإسلامية، فعلينا إذاك طرح سؤال على مدى حقيقة ما ندعوا إليه. هذه هي ملامح الدولة الإسلامية؛ أن تنظر في كل المكتسبات السياسية و الاجتماعية لتكون مثلها أو أفضل منها. هذا منطق کوني و إلهي . الله سبحانه و تعالى يقول في كتابه الكريم:«مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ».فالذين يريدون تجاوز الدولة الحديثة و عدم الإفادة من التراث الإنساني عليهم أولا أن يضمنوا تفوق بديلهم على مستوى الحقوق و العدالة الاجتماعية، أي بتعبير أوضح أن يكونوا قدوة نموذجية تقدم ما هو مدهش للآخر و ليس قدوة سوء تنفر العالم. فالقرآن الكريم يقول: «تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ».ليس صحيحا أنك على حق لمجرد أنك تتحدث باسم الإسلام و تعاليمه. هذه هي ملامح الدولة الإسلامية، لا بوصفها تتميز بشعارات و فظاعات، بل بوصفها دولة الإنسان و دولة الحقوق قبل الواجبات التي تستطيع أن تستلفت انتباه العالم إليها، بمقدار ما تحققه من عدالة اجتماعية و كرامة لمواطنيها و تنمية لمجتمعها. هذه هي المعايير. أما ما السبيل إلى ذلك، ففي اعتقادي أن الاجتهاد في هذا الموضوع أمر لا غنى عنه. هذا الاجتهاد في اعتقادي له

آلية واضحة و ليس مجرد تلفيق و التفاف على الواقع. أعني أننا مطالبون بأن نستفيد من كل منجزات نضالات الشعوب الحرة و ما حصل من تطور في الاجتماع السياسي المعاصر، ثم إن كان ولا بد من الاطمئنان، بأن نعرضه على قيمنا و تعاليمنا، لنرى ما يوافق مقاصدها فنتبناه بلا شرط. لأن ما تم إقراره بهذا العرض هو من الإسلام و إليه. و هذا منظور ينهض على فعالية التأويل. أمام المسلمين مهمة طويلة لكنها ممكنة التحقيق . ليس المطلوب منهم أن يجترحوا المعجزات، بل أمامهم فرصة لكي يعرضوا تراث البشرية و مكتسباتها على تعاليمهم، ليحكموها، و تصبح جزءا من تعاليمهم أيضا. و هنا، الدعوة الملحة للتأويل، المخرج الوحيد لهذه الأمة.

ص: 124

في النصوص المؤسسة لدولة الخلافة الحديثة القائمة على فكرة التمكين بممارسة العنف نقف على ما يوحي بمفارقاتها التاريخية. تعتمد القاعدة و مشتقاتها على كتب السياسة الشرعية و تأصيلات أخرى لابن تيمية و نظرائه تتناقض في تحقيق أمر الدولة. فبينما تعتبرها من الفروع المتروكة للشورى تجدها ترقى بها في التطبيق إلى أصول الدين . هذا النوع من الخطاب المتهافت يسعى للإقناع بأن تاريخنا السياسي هو تاریخ نظيف و نموذجي و عنده انتهى التاريخ. لكن هذا للأسف قراءة أيديولوجية طوباوية للتاريخ، لأن تاريخنا السياسي هو تاريخ له منسوب عالي من المظالم و المقاتل . و أرى أننا فشلنا في أن نحقق خروجنا التاريخي المعافي من زمن التنزيل إلى زمن التأويل. هذا الفشل في التأويل هو سبب مأزقنا السياسي منذ غياب صاحب الدعوة . لا زلت أتساءل : إذا كان التأويل جاريا حتى في زمن الوحي فكيف نقصيه من وعينا و فكرنا في زمن الانسداد الكبير. فحينها قلت قبل قليل، أنه بإمكاننا النجاح فيما فشل فيه أسلافنا على صعيد النظام السياسي، فأنا أعني التجارب السياسية التاريخية غير تلك التي قامت على يد صاحب الدعوة . فالخلط الذي يقع فيه هؤلاء جميعا، هو اعتبارهم كل ما مضى هو مشرق. في حين أن تاريخنا السياسي فيه الكثير من الإحراج. إن "المنهج النبوي" يحتاج إلى ضامن سیاسي، بمعنى آخر، المنهاج النبوي يطبقه النبي أو من قيل في حقه «مَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى»و في تقديري أن غير من عصمه الله لا يمكن أن يتحدث عن بديل تام و مطلق أو بأنه يمثل الوحي على النحو التام. و هذا ما يؤسس للمافيا الروحية لجماعات القتال الأصولية. إذن، لنتحدث عن نوع من التجريب السياسي و بأن تكون الحركات الإسلامية أكثر تواضعا و حياء في حديثها عن النموذج السياسي التاريخي، لأنها لا تملك كامل الوصفة. و لا بد من الإشارة هنا إلى أنه ليس صحيحا أن الدولة من المسائل العقائدية، بل هي مسألة مرتبطة بالاجتماع السياسي. و بما أن الاجتماع السياسي متطور و متجدد فالدولة كذلك. من هنا و بما أن الدولة منتج من منتجات الأمة فلا حديث عن صفة عقائدية للدولة. الخلط الكلامي بين مفهوم

ص: 125

الإمامة و مفهوم الدولة أدى إلى إقحام فن التدبير و الإدارة لجهاز الدولة ككيان تعیش عليه جماعة ضمن تعاقد طبيعي و اجتماعي في صميم أصول الدين. حتى بالمعنى الذي يذهب إليه الشيعة في علم كلام الإمامة يمكن القول أن الإمام بالمعنى العقدي هو إمام على المعتقدين داخل دولة متنوعة في الوقت الذي هو حاكم أو إمام بالمعنى السياسي على غير المعتقدين. فالإمامة هنا تتعدى الحدود السياسية لجغرافيا الدولة عقديا لكنها قد لا تستوعب عقديا دولتها إلا بالبيعة السياسية، حيث توجد أقليات تتعاقد اجتماعيا لا عقديا على أساس المواطنة. إن اختزال الدولة ككيان متطور في مفهوم عقائدي هو واحدة من مناشئ العنف نفسه. يمكننا أن نتحدث عن تكييف الدولة مع المقاصد العليا للعقيدة باعتبار أن العقيدة نفسها هي عنصر داخل في متكون الاجتماع السياسي. أما إذا أردنا الحديث عن مفهوم الحاكمية فإن لها أكثر من مفهوم و دلالة. فهي تارة تعني قضاء الله بما نعنيه بالحتمية التاريخية و الاجتماعية و هذا النوع من الحاكمية أو حكم الله لا يحتاج إلى ممثل أو من ينهض به. لأن الحتمية تفرض نفسها بنفسها. أما لو كان الأمر يتعلق بالحاكمية من حيث أنها هي السلطة، فثمة مغالطة سبق و أن أشرنا إليها، أي القول السابق (و قد علموا أنه لا بد من إمرة). أي لابد من دولة و من مؤسسات لتصريف حكم الله باعتباره يتلخص في العدالة و الكرامة و الحقوق ... و كذلك هو الأمر بالنسبة للشوری فهي من حيث ماهيتها الملزمة و المعلمة بطبيعة الحال تتصل بمبنى العقلاء. و لذا، فالحكم الشرعي فيها هو من باب الإرشاد إلى ما حسنه العقل و ليس أن اعتبارها قائما على مرتكز الجعلية. و هي أيضا في شکلها و میکانیزماتها خاضعة للاجتهاد. إذا كانت الشورى ثابتة مضمونا بحسب مبنى العقلاء فهي متطورة شكلا بحسب منطق الاجتماع السياسي و بحسب العرف الذي يعتبر جزءا داخلا في التشريع الإسلامي حسب قوله تعالى «و أمر بالعرف»..على أن العرف هنا ليس مسألة جعلية ثابتة بل هو معطی متطور. بمعنى أوضح: العرف هو المتكون السوسيو ثقافي و السوسيوسياسي لأمة من الأمم

ص: 126

مفهوم الجهاد

قد يكون من مآسي المسلمين اليوم أن أنبل فريضة في الإسلام تتحول بفعل الاختزال و الجهل إلى وبال على الأمة و حرج شديد على سمعة الإسلام. في تقديري أن الجهاد هو ضلع في ثالوث يقوم على الجذر الاشتقاقي للجهاد نفسه و الذي يتلخص في ثلاثة أحرف "جهد". هذه الأضلاع المتفرعة عن الحروف الثلاثة المذكورة لها مجالات ثلاثة: المعرفة و النفس و الجسد. باعتبار الجهاد المادي هو جهاد جسدي و إن تطلب قدرا من الجهاد المعرفي و النفسي أيضا. فحضور الجهاد في المعرفة هو اجتهاد. و في النفس هو مجاهدة. و في الحرب هو جهاد. و إذن لا يمكننا أن نتحدث عن واحدة من هذه الثلاث إلا في إطار التفاعل بين أضلاع هذا الثالوث الذي هو بمثابة معيار للمصداقية و الشرعية. فحيثما رأينا جهادا لا يحضر فيه اجتهاد و مجاهدة كان ذلك كافيا للخدش في مصداقيته. و الحال أن ما يحدث اليوم من فظاعات باسم الجهاد يغلب عليه التوتر النفسي و الجهل. و هو بخلاف فريضة المجاهدة و الاجتهاد و هما أهم ضلعين في الثالوث إذ لا يشغل الضلع الأول " الجهاد" إلا ذلك الجانب الاستثنائي، من هنا سمي بالجهاد الأصغر، نظرا لاستثنائيته باعتباره حماية للأمة و دفاعا عن حدودها. فهو جهاد دفاعي يرتفع بارتفاع مبرراته، و بطبيعة الحال هذا النوع من الجهاد هو قرار الأمة بكاملها و بإمضاء من أولي الأمر، و ليس مسألة أهواء فردية أو فتاوی تصدر عن وعاظ و خطباء و تفتقد إلى المسوغات الاجتهادية . أما الفريضة الغائبة في نظري، فهي جهاد النفس و جهاد المعرفة، و هو جهاد اکتساحي و هجومي على النفس بالتدبير و التهذیب، و على المعرفة بالتنوير و الاجتهاد و النقد. إنه الجهاد الوحيد الذي لا حدود له: «يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا ۚ لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ»

قد يكون الذين نفذوا تلك العمليات العنيفة واقعين في شبهة كونهم ينفذون حكم الله . و لذلك تراهم يقتلون أنفسهم تعبيرا عن قناعتهم بما يقومون به . أنا لا أتحدث عن

ص: 127

شباب لا يتجاوز العشرين من العمر وقعوا في فخ خطابات يصنعها الكبار. فالنقد هو موجه لهذا الخطاب الذي يصنعه رجال قد يكونون فوق الأربعين، و قد خبروا الحياة و منحت لهم فرصة ليتعرفوا على أشياء كثيرة، ثم يتعامون فينتجون خطابا لصناعة الموت و الدمار، و يذهب ضحيته شباب متوثب مستهين بالحياة أو ربما يستغلون طراوة وعي الشباب و ظروفهم الاجتماعية، ليحولوهم إلى فرسان يجسدون الأحلام الجهنمية لمشایخ، قطعا هم ليسوا فقهاء، بل هم محترفوا خطابة و وعظ. إن الأصل في الإسلام هو حفظ الحياة . و إذا كان الموت في سبيل الله مشروعا في الجهاد الشرعي، فذلك لجهة خروجه بالدليل. ثمة فرق إذن بين أن أموت دفاعا عن الوطن مثلا و بين أن أموت في سبيل فكرة جهنمية ليس لها من الفقه إلا الديكور المشيخي و الثرثرة باسم الإسلام. و الغريب أن هذه الفتاوی الجهنمية الصادرة عن هؤلاء الكهول، يتبناها شباب دون العشرينات، و يزيدونها حماسة، فتحصل الكارثة.

ما مغزی شعار العدو الصليبي - الصهيوني؟

رفعت القاعدة شعار مواجهة العدو الصليبي الصهيوني، و هي العبارة التي تكررت كثيرا في كتب محمد قطب. لكن في الواقع رأينا كيف تحالف هؤلاء الجهاديون في بداية الأمر مع الصليبيين في مواجهة الاتحاد السوفياتي، كما رأينا كيف تعاونوا مع الصهيونية في مواجهتهم للنظام السوري. فلقد أصدرت داعش بیانا في ذروة الحرب على غزة تؤكد فيه بأن المعركة ضد إسرائيل ليست أهم من محاربة المرتدين. و هذا يعني أن القاسم المشترك في سياسات التمكين هو استثناء فلسطين من معارك السلطة أو معارك الجهاد. فلقد صرح الغنوشي نفسه كسائر الجماعات التي انصهرت في لعبة التمكين في إطار ما عرف بحكومات الربيع العربي، بأن فلسطين ليست أولوية. إن المواجهة ضد العدو الصليبي الصهيوني جاءت في الوقت بدل الضائع، و في الغالب تأتي بمزيد من إضعاف الموقف الإسلامي أو لنقل هي شكل من النضالية الممسرحة، لسبب بسيط و هو أن الجهد المالي و الرمزي الذي قدمه هؤلاء لأفغانستان لم يقدموا

ص: 128

أقل منه بكثير للقضية الفلسطينية مثلا. فحينما كان أحرار العالم مجندين لمواجهة الإمبريالية الأمريكية كان هؤلاء جزءا من معادلة الحرب الباردة التي ساهمت في إضعاف الاتحاد السوفياتي، أي، ساهموا في تغول القطب الأمريكي. بل ساهموا حتى في الإطاحة بحكومة المجاهدين لما أصبحت هذه الحكومة تهتم بالدولة و تحيد عن شروط أن تصبح دولة محورية وظيفية لصناعة الإرهاب. فهل يا ترى، أمریکا أصبحت صليبية فقط بعد أن تخلى عملاء C.I.A عن ملف الجهاد في أفغانستان، و بدأ التفكير في بناء الدولة. و إذا كان في نظرهم التحالف مع الولايات الأمريكية كفر، فهل نحكم بأثر رجعي على تحالفهم مع الأمريكان سابقا؟ إن للجهاد فقه يحدده و مقاصد تبرره. و ما نراه اليوم من جنون لا نشتم منه رائحة فقه. أما من ناحية المقاصد، فلنا أن نتساءل: ما الذي تحقق حتى الآن من هذا الانتحار الذي استعدی القوى الكبرى و منحها مسوغات لبناء أحلاف دوليين ضد العرب و المسلمين؟ فمنذ بدء هذه العمليات أعني منذ أحداث 11 سبتمبر ماذا ربحنا و ماذا خسرنا؟ أجل لقد كان ثمن انهيار البرجين احتلال أفغانستان و احتلال العراق و إرباك لمنطقة الشرق الأوسط و خرائط الطريق وصولا إلى الفوضى الخلاقة.

عروس دم داعشي

يبدو أن العنصر الأموي طاغي على نهج داعش بشكل يؤكد على أن الأمر له علاقة بفكرة قتالية خاصة. إن طلب التمكين بالمتاح من أدوات العنف لا يعوض نقائصه سوى الاستعداد الكامل لتجاوز كل الحدود الممكنة في التنكيل. و في مثل هذه الحالة ليس في مصلحة الجماعات الضعيفة أن تتبنى الموقف الأخلاقي في الحرب. و الحقيقة هنا بل المفارقة التي لا زالت ترخي بظلالها على هذه المسألة هو النزاع حول الأصل الأخلاقي أو اللأخلاقي للحرب. يميز بناء على ذلك ديفيد فيشر في "الأخلاقيات و الحرب" بين الواقعية المطلقة من خلال مثال الحرب البلوبونيزية كما قدمها ثيوسيديس في كتابه حول هذه الحرب، و بين الواقعية الجزئية في جواب الجنرال شيرمان قائد

ص: 129

أنصار الوحدة خلال الحرب الأهلية الأمريكية. يكمن الفرق بين الواقعيتين في أن الواقعية المطلقة كما يصفها ديفيد فيشر لا تدخل الاعتبارات الأخلاقية بالحرب قبل اندلاعها و أثناء خوضها و بعد أن تضع الحرب أوزارها.(1) هذا في الوقت الذي يرى فیشر في جواب شيرمان مثالا عن الواقعية الجزئية من خلال قول هذا الأخير بأن " الحرب هي الوحشية و لا يمكن تنقيتها"(2). فشيرمان يجيب على من استشكل على الفظاعات الحربية التي ارتكبها بهذا القول الذي يفهم منه فيشر أنها تعكس الواقعية الجزئية لأنها تجعل الموقف الأخلاقي ليس أثناء الحرب بل في اتخاذ قرار الحرب ابتداء. و هذا يفيدنا في معرفة الفكرة المهيمنة على سلوك داعش الحربي. إنهم يؤمنون بالواقعية المطلقة، أي عدم إدخال الاعتبارات الأخلاقية بدء من قرار الحرب و أثناء الحرب و بعدها. جزء من النزاع بين داعش و تنظيم القاعدة الأم هو في اعتقادي نزاع حول الواقعية المطلقة (=داعش) و الواقعية الجزئية ( = القاعدة). و كلاهما يعبران عن الواقعية في الحرب و التي تستبيح كل شيء، و من هناك مسألة التترس في الحرب بالمدنيين و من لا عهد لهم و لا دخل لهم بالحرب. و لقد وجدت هذه الواقعية طريقها إلى العقيدة الحربية لهذه الجماعات فيما أعتبره يمثل نموذج فن الحرب لسان تزو عند الجماعة. أقصد بذلك كتاب "إدارة التوحش" الذي ألفه المدعو " أبو بكر الناجي"، و الذي يعتبر الثمرة الخالصة لتجارب القتال و جاء لكي يملا هذا النقص في التنظير الحربي للجماعات المذكورة. " إدارة التوحش" هو إذن بمنزلة "فن الحرب" عند داعش و نظيراتها. هذا الكتاب يضع مراحل إدارة التوحش كما يسميها، و هي الإدارة التي ستمكن و تسبق قيام الخلافة المنشودة. و هو يرى أن الفشل في إدارة التوحش لا يعني نهاية الأمر بل إنه سيؤدي إلى مزيد من التوحش، على أن هذا التوحش مهما بلغ أمره هو في نظر صاحب "إدارة التوحش" أهون و أخف من الاستقرار تحت نظام

ص: 130


1- ديفيد فيشر : الأخلاقيات و الحرب، ص 30، ت. د. عماد عواد، عالم المعرفة يوليو 2014، الكويت
2- م،ن،50

الكفر (1). إدارة التوحش لها أمثلة حتى عند من تعتبرهم الجماعة كفارا. و لذا أعطى صاحبه أمثلة من طرق المسلمين حسب رأيه في هذا النوع من الإدارة و أيضا أمثلة ممن ساهم الكفار. لذا يقول: "هذا بالنسبة للمسلمين أما الكفار فهناك عشرات بل مئات الأمثلة الإدارات توحش أقامها الكفار في أوروبا و أفريقيا و باقي القارات في العصور السابقة"(2). نفهم من هذا أن دخول الجماعات القتالية إلى هذه البؤر يقع في إطار تطبيق بنود و مراحل إدارة التوحش. إدارة التوحش هي مرحلة في مسلسل بحث في باب "طريق التمكين" و هي مراحل أربعة:

المرحلة الأولى : شوكة النكاية و الإنهاك

المرحة الثانية : إدارة التوحش

المرحلة الثالثة: شوكة التمكين

المرحلة الرابعة : قيام الدولة

وأما الجانب الغائب من معالجة سبب نقمة إخوان داعش من السلفية الجهادية على بیان البغدادي بإنشاء الدولة و إعلان الخلافة فهو ليس خلافا جوهريا بل هو خلاف في أصله حول التوقيت. و هذا التوقيت يراعي المراحل الأربعة التي تقررت في "إدارة التوحش" ل" سن تزو" السلفية الجهادية. و أما المناطق المرشحة لخطة إدارة التوحش فهي تشمل دو لا مثل السعودية و نيجيريا. و كان قيادة القاعدة تعتبر الضرب داخل السعودية أمرا مؤجلا لاعتبارات كثيرة، لكنها غيرت خطتها للقبول بهذه الضربات باعتبارها السعودية هي أكثر عدو للمجاهدين ضعفا. و هذا ما يعني أن جماعة بوکو حرام و القاعدة في المغرب الإسلامي هي جزء من مخطط التمكين في إطار إدارة التوحش. و حسب الكتاب نفسه فإن بعض الدول من بعد أحداث 11 سبتمبر قد رشحت مبدئيا ضمن مخطط إدارة التوحش: و هي كالتالي الأردن و بلاد المغرب و

ص: 131


1- أبو بكر الناجي: إدارة التوحش، ص 4، مركز الدراسات و البحوث الإسلامية، من منشورات الجماعة (لا تاریخ و لا مكان الطبع).
2- م،ن،ص13

نيجيريا و باکستان و بلاد الحرمين و اليمن،(1) إن مرحلة ما يسمى الإنهاك تقضي بتسديد ضربات موجعة إلى الجيوش النظامية و تشتيتها و عدم السماح لها بالتقاط الأنفاس. و الكتاب هنا يميز بين الضربات الصغرى مثل ما كان يحصل في العراق أو أحداث جربة بتونس و الضربات الکبری کما هي حادثة 11 سبتمبر. فهذه الأخيرة تحتاج إلى قرار من القيادة العليا للقاعدة لتوفير الغطاء لها و كذا إمكانيات استيعاب تداعياتها. فالضربات الصغرى مسموح بها لفروع القاعدة من دون الرجوع إلى القيادة. و هذه العمليات الغرض منها بين الفينة و الأخرى هو لفت أنظار الناس. و هذا أيضا ما يفيد في جلب شباب جدد للانخراط في هذا العمل. في مثل هذه الحالة يبلغ المخطط مرحلة انتزاع مناطق من سيطرة النظام و من ثم إخضاعها لإدارة التوحش. و لا شك أن إدارة التوحش غير معنية بالنسيج الاجتماعي و لا بمفاهيم الأوطان التي تعتبر من المفاهيم الكافرة في التنظيم. يستشهد المدعو أبي بكر الناجي بما قاله عمر محمود لتثبيت شرعية اقتطاع المناطق لصالح إدارة التوحش : "هنا لابد التنبيه على شبهة هامة يقول الشيخ العلامة عمر محمود أبو عمر فك الله أسره: (و هنا لا بد من التنبيه على ضلال دعوة بعض قادة الحركات المهترئة بوجوب الحفاظ على النسيج الوطني أو اللحمة الوطنية أو الوحدة الوطنية، فعلاوة على أن هذا القول فيه شبهة الوطنية الكافرة، إلا أنه يدل على أنهم لم يفهموا قط الطريقة السننية لسقوط الحضارات و بنائها).(2) إن مسألة الوطنية و الدولة الوطنية من الأمور المتفق عليها بين هذه الجماعات. يقول في هذا منشور للجماعة تحت عنوان"(واقع الجهاد في العراق): " إن المواطنة و الوطن و الوطنية و ما يلحق بها من حدود قطرية ليست أواصر معتبرة شرعيا"(3)

و تتطلب هذه الخطة إعداد عناصر قادرة للاضطلاع بمهمة شوكة النكاية و الإنهاك و إدارة مرحلة التوحش. إحدى أهم القواعد المستعملة في مرحلة الإنهاك هي قاعدة "

ص: 132


1- م، ن، ص 15.
2- م،ن،17
3- واقع الجهاد في العراق، ص 51، لجنة الإعلام في جماعة أنصار الإسلام، لا تاريخ ولا مؤلف.

اضرب بقوتك الضاربة و أقصى قوة لديك في أكثر نقاط العدو ضعفا ". اعتماد الشدة و البأس هو عنوان الفصل الرابع من إدارة التوحش. و فيه يؤكد أبو بكر الناجي أن هذا الأمر يتطلب الخروج من حال الرخاوة إلى حال البأس، و يقول: "الذين يتعلمون الجهاد النظري أي يتعلمون الجهاد على الورق فقط لن يستوعبوا هذه النقطة جيدا". فالمراهنة على البطش و الشدة هي سبب النجاح في نظر مقاتلي السلفية الجهادية. و لهذا سنجد هناك رؤية تاريخية لتاريخ القتال في التاريخ الإسلامي حيث اختار أصحاب نظرية التوحش الموقف غير المتسامح في الحرب. يضرب منظر إدارة التوحش مثالا بتلك الحركات التي فشلت أن تحقق النصر. و يختزلون هذا الفشل في غياب القسوة و الشدة. مثالهم على ذلك هو أن الحركات الجهادية الإصلاحية التي قادها الطالبيون کالنفس الزكية فشلت أمام العباسيين، نظرا لشدة العباسيين و رخاوة الطالبيين و اتقائهم الدماء "حتى إن النفس الزكية كان يطلب من قادة جيشه . و قد كان يمكن أن ينتصر - أن يتقوا الدماء ما أمكن ". و يرى منظروا إدارة التوحش أن هذا الموقف غير ملزمين به لأنهم يقاتلون صليبيين و مرتدين فلا مجال لاتقاء الدم. فلا شيء يمنعهم من ذلك بل هو من أوجب الواجبات. و يبدو أن منظري إدارة التوحش لم يقفوا على تفسير تاريخي كالذي ذكره ابن خلدون تعليلا لفشل الطالبيين، و هو تراجع الشوكة و صعود عصبيات أخرى، بما يرمز إليه اليوم بالنفوذ العشائري و البيئة الحاضنة . الشوكة أيضا في نظرهم هي قوة البطش. إن تظافر الشركات في مراحل النكاية داخل مناطق التوحش و توفر موالاة إيمانية بمشروع الجماعة في نوع من العقد بأهم بنوده التي يسميها منظر إدارة التوحش ب:" الدم الدم، الهدم الهدم"، كل هذا من شأنه في نظر الجماعة القتالية يحقق الشوكة الكبرى. إن إدارة التوحش ليس عسكرية خالصة، بل يهمها أن تكون ملمة بخريطة المصالح للعدو مثل إلمامها بالخريطة العسكرية. و من هنا كان واضحا في ضوء فكرة إدارة التوحش أن لا نتعاطي ببساطة مع خريطة البغدادي للخلافة. فهي تعكس فهما لخريطة المصالح و أيضا شكلا من القراءة

ص: 133

السياسية للعدو. و هناك جانب آخر من إدارة التوحش هو استعمال المال لشراء المواقف. فإدارة التوحش تجلب للجماعة مزيدا من المال. ويجب أن يصرف بعض منه في تأليف القلوب لصالح جماعتهم. و من التحديات التي تواجها إدارة التوحش هي الجانب الأمني في صراعها مع العدو. و يبدو هذا من أخطر ما في إدارة التوحش. و هو يؤكد على فكرة سبق و تحدثنا عنها مرارا و اعتبرت من المبالغة. إن الفصل التاسع من إدارة التوحش تعطينا فكرة واضحة عن هذه الحقيقة حيث جاء فيه: (إتقان الجانب الأمني و بث العيون و اختراق الخصوم و المخالفين بجميع أصنافهم). و الخطورة هنا لا تكمن فقط في ذكرهم أن تجاربهم الطويلة أتاحت لهم قدرة اختراق خصومهم من جهة الأجهزة الأمنية و الجيش و الأحزاب السياسية و الصحف و الدول و شركات البترول كعامل أو مهندس و شركات الحراسة الخاصة و العامة و المؤسسات المدنية الحساسة، بل يؤكد منظر إدارة التوحش على أن هذا الأمر تم منذ عقود و لكنهم يريدون المزيد. الخطورة هنا تكمن أيضا في أن مقتضى إدارة التوحش هو اختراق الجماعات الإسلامية الأخرى الموصوفة بالاعتدال و التدرج في سلك قيادتها. و في عملية الاختراق تلك يتحدث منظر إدارة التوحش عن الحاجة إلى اختراق المكان الواحد بأكثر من عضو كل منهم لا يعرف الآخر. على أن يكون هذا العضو غير معروف و ليس ورقة محروقة. و لمواجهة مشكلة الاختراق العكسي فهم يتبنون القسوة في التنكيل و أيضا إغراق مجال إدارة التوحش بالمال و تأليف القلوب بحيث لا يخرج منه جاسوس مفترض ضد القتاليين ناهيك عن تشخيص القيادة لا سيما أمام تدفق الشباب الذي يأتي لأجل الاستشهاد، فيمكن توجيههم للاختراق بدعوى أن هذا شبيه بعملية استشهادية. إن اختراق الجماعات الإسلامية الأخرى و التدرج في سلم قيادتها أمر مقرر في إدارة التوحش. و هم يفرقون بين قسمين منها: الجماعات التي تتعامل مع الطواغيت فذلك لأجل جمع المعلومات عنهم و أما التي لا تتعامل مع الطواغيت فبقصد استمالتهم إلى موقف الجماعة و تحويلهم إلى مجاهدين. من

ص: 134

هنا كان من أهم مقتضيات إدارة التوحش إنشاء جهاز استخبارات للجماعة ينتشر في مواقع كثيرة و يتغلغل في صفوف الجماعات الإسلامية و في الصحف قصد الدعاية و في هيئات المجتمع المدني. و هذا ما جعل الكثير من أعمال القاعدة و داعش تنجح بشكل ملحوظ. فاختراق المؤسسات هو من صميم اهتمامهم.

الإرهاب المدنس و الإرهاب المقدس

تدرج الجماعة هذا العنف المفرط و الذي يحمل سمات الذهان في إطار مفهوم الإرهاب الشرعي. بينما الإرهاب الشرعي كما تدل عليه الآية الكريمة«وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ»، هو الإعداد العسكري لجيش نظامي لمنع العدوان. فالإرهاب في الآية هنا لا يعني الإرهاب بمعناه السياسي اليوم بل هو يقابل معنى الردع. و الردع هنا مهم لأنه يجعل الحرب مستحيلة في نهاية المطاف. بينما الإرهاب بمعناه الجرمي يتوقف على أن يقع، و هو إرهاب يقوم على التخريب أولا و ليس الردع من بعد. و هذا ما فهم يومها حيث الأخبار دالة على تحریم قتل المدنيين من الأطفال و النساء و الشيوخ و غير المحاربين في المعارك، تكريسا الأخلاقيات الحرب. و حينما تضفي داعش على سلوكها العنفي غطاء دینیا نصبح أمام العنف كطقس یمارس ببرودة و اطمئنان. هنا و كما يؤكد روجيه کايو في " الإنسان المقدس" أن " فرحة التدمير المكبوت طويلا تتفجر في كل مكان، و كذا لذة ترك الأشياء فاقدة الأشكال و مشوشة المعالم بل لذة الانقضاض التي يعرفها الأطباء على شيء مسكين و تعاوره حتى لا يبقى منه إلا حطام لا صفة له و لا إسم". لا يشكل الموت في حد ذاته رادعا أمام الجماعات الإرهابية التي تستمتع بحز الرؤوس في مشهد فرجوي لا يستثني مختلف الأعمار. تتراجع مشاعر المهابة، و تصبح الألفة مع الجثث من شأنها رفع كل أنواع الاحترام. بل " يجعل المارة لا يتورعون عن ممازحتها و توجیه الكلام إليها و مداعبتها باليد (...) یرفسونها بأقدامهم .. و یهینونها بالإشارة أو الكلام". باختصار لقد " ولى زمن الانحناء أمام الموت و تقديم الإجلال له بحجب

ص: 135

حقيقته المنكرة عن الفكر و الأنظار"(1). لقد ساهمت القاعدة و داعش من خلال حمام الدم العراقي في إرساء معالم جديدة للتطبيع مع القتل. هناك تحولات لم تدرس بعد في مشاعر الإنسان العربي و المسلم حتى اليوم إزاء جلال الموت و حرمة الحياة .

إن التمكين هو الشرط الأساسي في نشاط القاعدة. و خلافا للإخوان، فإن هذا التمكين لا يتحقق بالتدرج السلمي بل يتحقق بالقتال بأقل ما يتاح. في العراق تضخم تنظيم داعش لأسباب كثيرة أهمها الاحتضان الإقليمي لتيارات العنف في العراق . فمصادر تمويل داعش هي الأموال المسروقة من الأبناك و ريع مصافي النفط التي استولوا عليها. عملیات انتقال الأرتال إلى داعش أمر لا يمكن أن يتم في وضح النهار. هناك إذن من يساهم في نقل المعدات من داخل العراق هذا التنظيم. و کما سنرى في منشورات التنظيم نفسه حديثا عن الدعم الذي يلقونه من البيئة الحاضنة لهم و التسهيلات الكبيرة. نتساءل كيف ستسوق داعش نفطا غير جاهز للاستعمال بالتهريب؟ يفترض إذن أن من يستقبل منها هذه البضاعة و بشكل منظم هي دول قادرة على تكريره و جعله صالحا للاستعمال. تناقضات المشهد العراقي كان لها دور كبير في تمكين هذا التنظيم الذي عرف كيف يستغل الخلافات السياسية الداخلية في العراق. لا يخفى أن جماعة عزة الدوري كانت بعد سقوط النظام العراقي قد تقاسمت اللوجستيك العراقي مع تنظيم الزرقاوي. و لكن وجب و في ضوء إدارة التوحش أن ندرك بأن القاعدة و داعش تنطلق من حسابات سياسية لا تقل عن حساباتها العسكرية. و هي تدرك تماما نقاط ضعف الخصم و تستغلها بضربات فورية.

البيت الداخلي للسلفية الجهادية

كما هو وضع السلفية عموما في الداخل موسوم بالتناقضات و الهشاشات فإن السلفية الجهادية هي الأخرى تعاني من ذلك. و ما صراع داعش و النصرة سوى فصل من فصول النزاع الذي تفجر بالتطور الطبيعي لتنامي فائض القوة لدى داعش

ص: 136


1- روجيه تايو: الإنسان و المقدس، ص 240، ت سميرة ريشا، المنظمة العربية للترجمة، ط1۔ 2010، بیروت

مقارنة بنظيراتها من فروع القاعدة. كان للجبهة السورية فضل في البلوغ بهذا النزاع إلى نهايته. ففي محاولة النصرة أن تستقل بعملها في سوريا بعيدا عن تنظيم داعش كان السبب خطة خاصة لا يستبعد أنها من فكر الظواهري و هو التدليس. أي تبني لغة مختلفة توحي بالثورة و لا تستعمل عنوان الجهاد. و كانت النصرة على وشك النجاح في هذا التدليس. فلقد كان يراد من مؤتمر أصدقاء سوريا نزع اعتراف بشرعية النصرة في سوريا. و بعد سنتين تقريبا ستتداول وسائل الإعلام كلاما منسوبا لهيلاري کلینتون التي تجنبت حضور مؤتمر أصدقاء سوريا تعترف فيه بدور أمريكا في صناعة داعش و تهيئ دول كثيرة للاعتراف بها، كان المشروع سيبدأ من سيناء مصر لولا اكتشاف الجيش المصري لتحركات الأمريكيين في البحر الأبيض المتوسط و کانت ثورة 30 يونيو قد غيرت مجرى المخطط بل أفشلته، حيث كان من المنتظر أن يساهم الإخوان في مساعدة واشنطن للسيطرة على المنافذ المائية و على الطاقة في المنطقة. تبدو حسابات الدول و حسابات الجماعة على اختلاف و تفصيل. بالمنظور الجيوستراتيجي فإن تجربة إن صح البناء على فكرة إدارة التوحش هي من تجارب الجماعات القتالية في المجال الهندي. يتزامن الحديث عن حرب داعش بإعلان الظواهري تأسيس فرع القاعدة في الهند. هنا يبدو الأمر بمثابة بضاعتنا ردت إلينا. و لكن هنا الهند هي البداية لأن الأمر سیتوزع عبر الأقاليم التي تتواجد فيها أقليات إسلامية في الهند و الصين و روسيا - أي ال (بریکس) - سنشهد موجة أخرى من الإرهاب في المجال الحيوي الأوراسي. فيما تستمر حركات بنفس الوتيرة و النمط في شمال أفريقيا و منطقة الساحل حيث القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي و بوکو حرام في نيجيريا و حركة الشباب بالصومال و غيرها. و من هنا فإن داعش عجزت عن تغيير الخريطة البشرية و الدينية في هذه المناطق. فالحلم الذي كان يعتمل لدى أولئك الذين منحوا فرصة لهذه الجماعات أن تعمل في المنطقة هو حلم غير قابل للتحقق. لم يكن مستبعدا فيما لو سقط النظام في سوريا و تحولت هذه الأخرى إلى مسرح لحرب أهلية طويلة الأمد، أن

ص: 137

تكون هجمة داعش على الموصل هدفها طرد مسيحيي العراق إلى لبنان لأسباب سيكشف عنها التاريخ. و بالمقابل من المنتظر أن تقوم هناك محاولة قاسية لفرض الهجرة على شيعة لبنان باتجاه العراق تحت أي هجمة إسرائيلية موازية أصبحت اليوم صعبة التحقق. و بالموازاة اكتساح البقاع عبر عرسال و توطين سنة سوريا فيها قبل ضمها. فيكون التوزيع المذهبي الذي هو في قاعدة إعادة تقسیم سایکس بیکو، هو إفراغ الجنوب من الشيعة و إحلال مسيحيي لبنان و سوريا و العراق على شمال الكيان الإسرائيلي، و إلحاق البقاع بسوريا. من جهة أخرى إن السعودية عملت ضمن الهامش المتاح لها في لعبة المحاور الإقليمية إلى انتزاع المبادرة من قطر و تركيا. فأفشلت مخططا أمريكيا يقوم على تحالف بديل بين واشنطن و الإخوان على حساب التحالف التقليدي مع السعودية. حاولت السعودية في حركتها الأخيرة أن تؤكد قدرتها على التأثير في المنطقة و بأن تبلغ رسالة لواشنطن بأن لا بديل لهذه الأخيرة عن السعودية في رسم مصير المنطقة. أكبر قدر من المال صرفته الرياض للحفاظ على موقعها كحليف عربي أول لواشنطن في المنطقة. بينما ثمة الكثير من الاعتراضات في الداخل الأمريكي على هذا الحليف و هو موضوع فقط كبديل في مرحلة غياب حليف جيوستراتيجي حقيقي في المنطقة. كان من الممكن أن تقوم دولة داعش بمباركة أمريكية و يضمنون لها اعترافا دوليا. و هذا ليس مستبعدا إذا أدركنا أن هذا الاعتراف الدولي كانت قد حظيت به دولة الملا عمر (طالبان) من قبل، و الملا عمر هو الملهم و القدوة الأولى العمر البغدادي. لا نستبعد أن أمريكا أو عزت لداعش عبر وسائل تأثيرها على هذا التنظيم إلى عدم التحرش بإسرائيل بل بتوقيت نشاطاته مع محاولة إسرائيل الفتك بغزة أو لبنان. كما لا نستبعد أن تكون أوعزت لتنظيم البغدادي بأن لا يتحرش بإيران في هذه المرحلة حتى لا يكرر خطأ في موضوع الديبلوماسيين لأن من شأن ذلك تبرير تدخل إيراني كاسح في الموصل بخلاف الوضع يومئذ في مزار الشريف. داعش لیست لاعبا مارقا خارج لعبة الأمم في المنطقة، بل هو إحدى أبرز أدواتها اليوم. الخلاف مع

ص: 138

داعش دوليا و إقليميا يكمن في كونها تجاوزت لحدودها. فحينما دخلت داعش إلى الموصل مستعملة كل تقنيات الإنهاك في إدارة التوحش بضم الشوكات المختلفة کجماعة عزة الدوري و النقشبندية و ممارسة القتل و الفتك الذي ذهب ضحيته آلاف الضحايا العراقيين في جو من الاختلاف و الاضطراب و التناقض داخل الحكومة العراقية، لم تواجه موقفا حاسما دوليا و إقليميا. بينما بدأت الماكنة الإعلامية للجزيرة و غيرها تتحدث عن ثورة شعبية و عودة البعثيين. و سيحصل هذا التحول في الموقف حين بدأت دولة البغدادي تفكر في غزو أربيل. تريد داعش أن تستقل بأهدافها فيما يراد لها أن تكون جماعة لعبية بالمعنى الجيوستراتيجي للعبارة.

ص: 139

ص: 140

فقه التكفير بین البرهانية الشرعية و الاستخدام القصدي عبد الامير کاظم زاهد

*عبد الامير کاظم زاهد(1)

لعل ابرز خصائص الأصوليات الجارية ممارستها للتكفير و التوسع فيه تنظيرا و ممارسة، و يعد التكفير حلقة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمنظومة الكفرية للاصوليين و بالمتغيرات العقائدية التي كونها الفكر الاصولي ابتداء من نظرية عقيدة السلف المحدودة الانفتاح على العصر، الى عقيدة التوحيد الأصولية و ما حفلت به من متغيرات على ما هو معروف من عقيدة التوحيد في علم الكلام الاسلامي التقليدي، كما تعد صاغ الفكر الاصولى الجهادي من التكفير نظرية عمل شمولية، و وضعت احکام الجهاد لمواجة المكفرين و بسببه كان التوسع في جغرافية دار الكفر الذي اشتمل عندهم على الكفار الاصليين و المسلمين المكفرين.

فما هو التكفير؟ و ما هي أحكامه في التراث الفقهي الإسلامي، و ما الذي اضافه الفكر الاصولي و كيف تم توظيفه في البيئة الايديولوجية الأصولية، و على ماذا استندوا في اضافاتهم، و ما النقد الموجه لنسخ النصوص في التكفير في المعرفة الدينية...

ص: 141


1- عضو في مركز دراسات العراق و مدير مركز الدراسات بجامعة كوفة - العراق .

المطلب الأول: مفهوم التكفير و ضوابطه في التراث الفقهي الاسلامي

التكفير في اللغة: من الفعل كفر، و الكاف و الفاء و الراء أصل صحيح يدل على معنى واحد، هو الستر و التغطية، لذا يقال للزراع كافر لانه يغطي الحب بالتراب ، و الكفر في الاصطلاح ضد الایمان، و سمي بذلك لانه تغطية للحق(1) و كفر النعمة يعني نقيض الشکر او جحود النعمه، و التكفير: اتهام للاخر بالكفر، او نسبة أحد من أهل القبلة الى الكفر، و هو اسم مصدر يراد به احد معنيين.

الأول: اعتقاد کفر احد من المسلمين سواء كان عن دلیل او عن ظن

و الثاني : نسبة الكفر الى مسلم، فيقال كفره

إذا: فهو الحكم بالقول، أو الاعتقاد بخروج شخص معين من دائرة الايمان بالاسلام

و قيل هو اصطلاحا: الحكم على المسلم بالخروج عن دين الاسلام سواء كان الحكم على المسلم بالخروج عن دين الاسلام بالردة او لارتكابه لناقض من نواقض الايمان، و لا يفرق أن كان الحكم بحق او بغير حق و يقسم العلماء الكفر الى انواع : منها الكفر الأكبر الذي يخرج من الملة، و الكفر الاصغر الذي لايخرج من الملة.

اما الذي يخرج من الملة مثل تكذيب الشخص الكتب السماوية و تكذیب الانبياء و الرسل و جحود الثوابت و العناد و الإعراض عن الحق و النفاق. أما ما لا يخرج من الملة فهو الاعتقاد بشبهة بسبب لتأول و غيرها.

علاقة التكفير بماهية الايمان و الارتكاب الذنوب:

ترتبط قضية التكفير في علم الكلام الاسلامي بقضية الایمان من حيث ماهيته، و بما يتحقق، و هل هو قابل للزيادة و النقصان و ما أثر الذنوب في إزالته، و في هذه المسألة اختلف علماء المدارس الكلامية فيها على مجموعة من الأقوال لأن الأيمان - كما تقدم -

ص: 142


1- ابن فارس، معجم مقاییس اللغة، ابن دريد: جمهرة اللغة 1/435، الزبیدی: تاج العروس العرب60/14، ابن منظور لسان العرب 151/5.

عند بعض المدارس هو التصدیق بالقلب و معرفة الله تعالی فقط بينما عند الاخرين إقتران بين التصديق بالقلب و الاقرار باللسان و النطق بالشهادتين، و عند فريق ثالث تلازم بين التصديق و الاقرار باللسان و العمل بالطاعات و إجتناب المعاصي، فالايمان يتحقق على وفق القول الأول بمجرد التصديق و المعرفة بالله ، و على وفق القول الثاني بالاقرار بالشهادتين المعبر عن التصديق القلبي، و لا يتحقق على وفق القول الثالث الا بالعمل و الامتثال للاوامر الالهية .(1). لاجل هذا التلازم في ماهية الايمان و علاقته بالعمل و الالتزام بالاحكام الشرعية افترقت مدارس الكلاميين على اقوال:

1- قول الخوارج: يرى الخوارج ان المسلم إذا إرتكب كبيرة او أصر على الصغائر و لم يتب فهو كافر في الدنيا، و مخلد في النار بالاخرة، لان العمل بالفروع تصدیق للاقرار بالقلب فمتي عبر عنه بالالتزام افصح عن وجوده، و متى خالف المسلم السلوك العملي المطلوب عبر عن عدم عدم وجوده و استدلوا به بآيات الوعيد.(2)

2- قول المعتزلة: ذهب المعتزلة إلى أن مرتكب كبائر الذنوب ليس مؤمنا لارتباط الايمان بالعمل، لكنه عندهم ليس كافرا لانه صدق بقلبه و نطق بالشهادتين، لذلک جاء في قواعد العقيدة المعتزلية مبدأ المنزلة بين المنزلتين، و استدلوا على قولهم بآيات الوعيد كذلك سماهم العلماء بالوعيدية لتغليبهم نصوص الوعيد على نصوص الوعد. (3)

3- قول جمهور أهل الحديث الذين يرون أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من دائرة الايمان انما يسمى مرتكب الذنوب فاسقا، و لا يخلد في النار الا من اشرك بالله الشرک

ص: 143


1- عبد الله الأهدل التكفير و مذاهب العلماء فيه ص 2.
2- الشهرستاني: الملل و النحل 8/1.
3- القاضي عبد الجبار الهمداني: المغني 67/1 ، ظ جعفر ستجاي: الايمان و الكفر في الكتاب و السنة 8/1.

الاكبر و مات عليه بلا توبة، و ما عداه فهو تحت المشيئة(1) لقوله تعالى«إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا»(2)

4- و لدى الشيعة الامامية اتجاهان في طبيعة الايمان و ماهيته، فالمتقدمون منهم پرونه متحققا بالتصديق، و لا اعتبار لما يجري على اللسان ركن في ماهية الايمان فمن كان عارفا بالله و بما اوجب معرفته بذلک مصدقا فهو مؤمن، أما المتأخرون فيرونه التصدیق بالقلب و النطق بالشهادتين و العمل مکمل لهما .(3)

5- اما المرجئة: فهي الفرقة التي ترى ان الايمان هو التصديق بالله و معرفته فقط، و تنفي دخول الأعمال في ماهيته فأنهم قالوا بان لا تضر مع الايمان معصية(4) و استدلوا على آرائهم بايات الوعد كقوله تعالى«قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»(5) و على هذا لا يكفر المسلم بذنب و لا يخلد في النار الا عند الخوارج، اما عموم المسلمين فملتزمون بان لا يكفر أهل القبلة العشرات الآيات و الاحادیث المانعة، هذا من جهة ارتباط الاعمال و سلوک بالايمان اما من جهة الاعتقادات و ظهور آراء و نظریات و افکار و مفاهیم دینية ليست متطابقة مع السائد فان إجماع الأمامية و ابي حنيفة و الشافعي و مالک على أن لا يكفر المسلم بقول قاله في إعتقاد فكل من اجتهد في شيء من ذلک و دان بما اجتهد فيه على انه الحق فهو مأجور أجراً واحداً اذا اخطأ فان أصاب فله أجران، لذلك لا يجد التكفير في التراث العقدي منفذا الا على تأويل الخوارج من جهة الاعمال ناهيك عن الاراء، و ليس له منفذ عند فقهاء المذاهب لمن اعتقد امراً تفصيليا في مجال العقيدة او الفروع مخالفا للدليل المشهور او المعتمد و على هذا فان الموقف الديني الإسلامي في

ص: 144


1- النووي: شرح صحيح مسلم 150/1، ط الطحاوي: العقيدة الطحاوية / 118.
2- سورة النساء 4/ الآية 48.
3- السيد المرتضى: الذخيرة في علم الكلام ص 536، ظ المفيد: أوائل المقالات ص15.
4- ابن حجر: فتح الباري 110/1 ، الأشعري: مقالات الاسلاميين 132/1.
5- سورة الزمر الاية 53.

أغلبه موقف يغلق باب التكفير غلقا شبه كامل، فاذا توافرت أسبابه و شروطه و انتفت موانعه فان له خصوصية إذ ليس امرا عاديا أنما هو حكم شرعي فرعي ذو مضمون عقدي لا يصح صدوره ممن ليس بفقيه و لا عبرة بكلام غير الفقهاء، (1)و كل حکم شرعي فرعي لا بد له من دلیل جلي من الكتاب او السنة، و لا بد له من اجتهاد لتنزيل النص على الواقعة، و هو على الرغم من كونه من الأحكام الشرعية الا ان له خصوصية في الاستدلال الفقهي، فهو لا يثبت بالقياس او الاجتهاد بالمصادر الظنيه، و الاستحسان و المصلحة المرسله، و لانه حکم شرعي عقدي فهو حق محض للرب لا تملكه هيئة او جماعة، و أدنى الثبوت للتكفير ان يتفق جميع الفقهاء على حكم التكفير بدليل لا مدفع له و لا شبهة، و هذا قول أغلب علماء الاسلام الا ما نقل عن الغزالی الذي يجوز الاعتماد فيه على أدلة الظن الغالب كيفية فروع الفقه(2)، لكن الغزالي في موضع آخر يوجب الاحتراز الكامل من التكفير فيقول (أن الخطأ في ترک کافر في الحياة أهون من الخطأ في سفک دم المسلم)(3)

6- و أما فقهاء الحنفيه فيذهبون أنه اذا كان لمسألة التكفير تسع و تسعون إحتمالا، و إحتمال واحد للنفي فالاولى للفقيه أن يعمل باحتمال النفي)(4)، لأن الأصل في المسلم الايمان و العدالة حتى يتحقق زوال ذلک بمقتضى الدليل.

و قد أحجم فقهاء المالكية و الشافعية و الحنابلة عن التوسع في التكفير، فقد قال ابن عبد البر المالكي المذهب (ان كل من ثبت له عقد في الاسلام في وقت ما بأجماع المسلمين، ثم أذنب او تأول فقد أختلفوا في خروجه عن الاسلام لانه لم يكن الاختلافهم بعد اجماعهم على دخوله الاسلام معنی یوجب حجة لذلك و لايخرج من

ص: 145


1- ابن الهمام: شرح فتح القدير 334/5.
2- الغزالي: فيصل التفرقة بين الاسلام و الزندقة
3- الغزالي: الاقتصاد فی الاعتقاد ص 269
4- الملا على القاری، شرح الافقة الأكبر (لأبي حنفية ) ص 162.

الاسلام الا بأتفاق فلا يكفر الا من اتفق الجميع على تكفيره او قام على تكفيره دلیل لا مدفع له من كتاب أو سنة.(1)

وعن ابن عابدین: قال (لا يفتی بكفر مسلم ما امكن حمل كلامه على محمل حسن، او كان في كفره إختلاف و لو لرواية ضعيفة)(2) بل حتى ابن تيمية ينص على القول (ليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين و ان أخطا... و من ثبت اسلامه بيقين لم يزل عنه بالشک)(3)

و يطالب الشوكاني لتكفير المسلم برهانا اوضح من الشمس(4) لقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا»(5) و للنهي الوارد عن جمع من الصحابة عن النبي قوله «من قال لاخيه: یا کافر فقد باء به احدهما».(6)

اما فقهاء الامامية فتسا لموا على ان يكون التفكير لدليل قاطع و جازم عند جميع المسلمين على اختلاف مذاهبهم سواء كان موضوع التكفير اصلا او فرعا او نكارا لما علم من الدين بالضرورة. (7)

ان هذه الخلاصة السريعة من آراء الفقهاء من مسألة التكفير تكشف عن النقاط الآتیة:

1- ينبغي أن لا يقدم على اصدار فتوى التكفير الا من له باع مشهود له في الفقه و لا يقبل من غير هذا النوع من العلماء العدول قول و لا فتوى في تكفير أحد.

ص: 146


1- ابن حجر العسقلاني: فتح الباري شرح صحيح البخاری 480/10، ظ ابن عبد البر: التمهيد 461/6.
2- ابن عابدین: حاشية رد المحتار 244/4.
3- ابن تيمية مجموع الفتاوی 468/12.
4- الشوكاني: السيل الجرار 578/4.
5- سوره نساء 4/آیة 94
6- ابن حجر العسقلانی: فتح الباري شرح صحيح البخاری 480/10،، ظ ابن عبد البر: التمهيد 461/6.
7- العلامة الحلي: قواعد الأحكام مصر 435.

2- لا يقبل التكفير المذهبي اذا خالفه مذهب آخر، و لابد للمسألة المكفر لاجلها ان تكون كفرا بواحا عند كل المذاهب الاسلامية، فالتكفير بالمسألة الاجتهادية المذهبية لا يصح.

3- متی صح تأويل المسألة المكفر بها و حملها على وجه ينفي التكفير فأن ذلک يتعين عند العلماء.

4- و مع حصول كل هذه الشروط فيرى جمع من اهل العلم أن كفة الرحمة و إزالة الشبهة و التريث هو الحكم الأمثل.

5- لايجوز التكفير في المسائل الاجتهادية التفصيلية التي تتعلق بالعقائد الا على وفق ضوابط صارمة.

6- ظهر في التراث الفقهي الاسلامي مصطلح (اهل القبلة) و يراد بهم عموم المسلمين اخذا من عموم قوله «من صلى صلاتنا و استقبل قبلتنا و أكل ذبيحتنا فذلک المسلم الذي له ذمة الله و رسوله فلا تحقروا الله في ذمته»(1)، و اهل القبلة من تحقق منهم الايمان بيقين و اليقين لا يزول بالشك فلا يكفر أهل القبلة الا بعد انتفاء الموانع و تحقيق اليقين.

و من الناحية العلمية فأننا نشهد أن فقهاء المسلمين لم يكفروا حتى الخوارج الذين هم اكثر الناس تكفيرا للمسلمين، و اكثرهم تأويلا للنصوص و استحلالا لأشد المحرمات القطعية، و قد قاتلهم الامام علي و من بعده قاتلهم المسلمون و لكنهم لم يكفر وهم و لم يعاملوهم معاملة الكفار او المرتدين (2)عملا بسيرة علي بن أبي طالب بهم في معركة النهروان.

ص: 147


1- البخاري: الجامع الصحيح 108/1 ، سنن النسائي 105/8 ظ: عبد الله بن يوسف الزيلعي نصب الراية في تخريج احاديث الهداية 186/5.المصطلح ما علم بلا ضرورة اي ما علمناه علما يشبه الضروري و هو اشمل من الاجماع و التواتر فان الأمر المجمع عليه الذي ليس معلوما من الدين بالضرورة لايكفر المرء بانکاره ظ فتح الباري 210/12 ظ الايجي: المواقف 388، شرح العقائد النفسية، مر 258.
2- ابن قدامة المقدسي: المغني 85/10.

و قد قال عنهم ابن تيمية (انهم الذين ثبت ضلالهم بالنص و الاجماع لكنهم لم يكفروا مع أمر الله و رسوله بقتالهم) ثم يقول فكيف بمن اشتبه عليهم الحق؟(1) و قد يناقش هذا الموضوع بما ورد عن مالك فيهم (اری ان يستتابوا فأن تابوا و الا قتلوا) و لكن هذا النص لا دلالة فيه على تكفيرهم فالبغاة و المحاربون يستتابون قبل قتالهم و هم مسلمون.(2)

و اتفق الفقهاء على أن مآل المذهب ليس مذهبا فلا يصح التكفير بمآل قول فقهی او عقدی، کما آن لازم المذهب ليس بمذهب، لان قصد القائل أرجح من لوازم مقولته، و من هنا فان لوازم کلام مذهب ما لا يلزم أصحابه ما لم يصرحوا بالتزامهم بما نسب اليهم من لازم قولهم، فلا يعول على اجتهاد منتزع من قول او رأی بل أن الثابت في العرف الشرعي ان المسلم لا يكفر الا بعد اقامة الحجة عليه و ازالة الشبهة منه لقوله تعالى «مَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا»(3) و لا يكتفي باقامة الحجة بمجرد إبلاغها بل لابد من التمكن من فهمها و عدم وجود شبهة تقاومها(4)، و لعل العذر في المسائل الخفية آکد و اولى من العذر في غيرها، و العذر في الزمان و المكان الذي يغلب عليه الجهل و يقل العلم اولی و آكد، و العذر في غير المتمكن من العلم بالشرع اولی و آكد من غيره .

ص: 148


1- ابن تيمية: مجموع الفتاوی 282/3.
2- ظ سحنون: المدونة الكبرى 47/2 محمد الطالبي عيال الله ص 105.
3- سورة الإسراء الآية 15
4- ابن تيمية: مجموع الفتاوی 465/12.

التكفير المطلق و تكفير المعين:

تعد هذه المسألة في مباحث التكفير من اهم المسائل، فالمراد بالتكفير المطلق: الحكم بكفر القول أو الفعل او الاعتقاد الذي ينافي أصل الاسلام و يناقضه، على سبيل الاطلاق بدون تحديد احد بعينه.

اما تكفير المعين: فهو تكفير شخص بعينه او جماعة بعينها لاتيانها ما يناقض الاسلام.

يقول أهل العلم: أن التكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين فإذا صدر تكفير المقالة او رأي او نظرية فلا يستلزم تكفير القائل بها الا اذا استكملت الشروط و انتفت الموانع لان نصوص الوعيد في الكتاب و السنة وردت على الأقوال و افعال و نواقض الايمان و لم ترد على الأشخاص و الجماعات، لان في ثنايا العلاقة بين القول أو الفعل الناقض للايمان و المعين احتمالات الخطأ و الجهل و العجز و غيرها من موانع التكفير التي تراعي حماية الحق المسلم في الاعتبار المعنوي المكتسب عند دخوله الاسلام بالتصديق القلبي و النطق بالشهادتين.

لقد نقل حجة الاسلام الغزالي عن ابن العز الحنفي (انه لمن اعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له و لا يرحمه بل يخلده في النار)(1)، و في ذلك نهي قاطع عن ممارسة التكفير فتوی او اعتقادا .

المطلب الثاني آراء فقهاء المذاهب الاسلامية في التكفير

دلت عشرات النصوص الدينية من القرآن و السنة على تضييق ممارسة التكفير الى قدر الضرورة و لا يلجأ اليه الا اذا لم يكن للمسلم أي مندوحة و هو يعتقد كفرا او يفعل فعلا مناقضا للايمان و من تلك النصوص ما ورد في القرآن الكريم مما أسماه الكلاميون آیات الوعد و منها:

ص: 149


1- الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد 436/2.

قوله تعالى: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»(1)

قوله تعالى:«إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا»(2)

و من الحديث النبوي:

- قوله (مَنْ مَاتَ لَا یشرک بِاللَّهِ شَيْئاً دَخَلَ الْجَنَّةَ)(3)

- قوله (يَخْرُجُ مِنِ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ ایمان)(4)

- قوله : (أَيُّهَا رَجُلٍ قَالَ لاخيه يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا ، أَنْ كانَ كَمَا قَالَ وَ الَّا رَجْعَةُ عَلَيْهِ) (5)

- عن أبي ذر أنه سمع النبي يقول «لَا يَرْمِي رَجُلُ رَجُلًا بِالْفُسُوقِ وَ لَا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ الَّا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ انَّ لَمْ يَكُنْ صَاحِبِهِ كذلک»(6)

و على هذه النصوص الدينية و المواقف الفقهية توصل العلماء إلى أن من كفر احدا من اهل القبلة فان كان مستبيحا ذلك فقد کفر و الا فهو فاسق يجب على الحاكم ان يؤدبه و يعزره بما يكون رادعا لامثاله، فان ترکه الحاكم مع القدرة عليه فهو آثم، و تضافرت اقوال الفقهاء في ذلك: يقول ابن حجر (لقد أقدم على التكفير كثير من الناس فسقطوا)(7)، و بمثله قال ابن حجر الهيثمي (8) و الشوكاني(9)

ص: 150


1- سورة الزمر الآية 53.
2- سورة النساء 4/ الآیه 48
3- رواه البخاري ومسلم
4- صحيح البخاري 290/4 ، مسند احمد 286/8.
5- رواه البخاري ح (6103) مسند احمد 328/10.
6- رواه البخاري و مسلم
7- ظ ابن حجر: فتح الباري 314/2.
8- ابن حجر الهیثمی: تحقة الجرار 578/4.
9- الشوكاني: السيل الجرار 578/4.

المطلب الثالث: المتغيرات الأصولية على فقه التكفير

اضاف الفكر الاصولي لما تقدم من حقيقة التكفير و ماهيته و شروطه و موانعه مجموعة اضافات، فقد حكى الأشعري عن اول موجة تكفيرية ظهرت في تاريخ الاسلام هي حركة الخوارج فقال هم قوم يكفرون بالذنب و قد كفروا كثيرا من الصحابة، و كان قسم منهم يكفرون بالكبائر و يستحلون دماء مرتكبيها و اموالهم و يعتبرونهم مخلدين في النار، و أخرون يكفرون بمطلق لعموم الذنب من خالف منهجهم و يستحلون منه ما لا يستحلونه من الكافر الأصلي. (1)

يتفق أهل العلم ان اول للتكفير كان على يد الخوارج مثل العلامة الألباني و هو احد اهم اقطاب الاتجاه السلفي الذي يعيد أمر التكفير إلى الخوارج الاوائل و كان يؤكد على ان مقاصدهم في استخدام التكفير دنيوية و ناتجة عن ظنون سيئة (2)و قد مر في هذه الأطروحة باكثر من موضع اراء الخوارج و المبررات التي يكفرون الناس استنادا اليها، و يلاحظ المتتبع لتراث الامام احمد بن حنبل على الرغم من انه المؤسس للاتجاه السلفي لكنه لم يتورط بتكفير الاخرين حتى الذين عاقبوه، فالامام احمد رغم كل ما حصل له لم يكفر احدا بل نقل عنه انه دعا للمعتصم العباسي و استغفر له فلو كان قد اعتبر المعتزلة مرتدين لم يجز له الاستغفار لهم نصا او اجماعا(3) لكن ظل منهج التكفير سلاحا بيد الجماعات المتشددة التي ظهرت في تاريخ المسلمين مثل تيار الحنابلة الذي تعاظم شأنه في القرن الرابع و الخامس الهجريين (4)...

و بظهور مفهوم البدعة الذي قد توسع على يد اتباع احمد بن حنبل و تحول الى ممارسة عقائدية بينهم لقي فيها المخالف للحنابلة اتهامات بالبدعة و الفسق و الضلالة فكانوا أقرب الى التكفير بما يترتب عليه من آثار.

ص: 151


1- الأشعري: مقالات الاسلاميين ص 22.
2- فتاوى الألباني: نص كلمة الألباني المنشورة في جريدة المسلمون العدد 556 في 1995/9/29.
3- ابن قدامة: المغنی ج 102/4.
4- للتفاصيل: ظ المقريزي السلوك لمعرفة دول الملوک ج16/1، ابن الأثير: الكامل في التاريخ ح 409/3.

لقد نشر تيار الحنابلة فكرة الفرقة الناجية او مفهوم الطائفة المنصورة الذي يعد أقوى الأدلة التي يستند اليها المكفرون في إخراج مخالفيهم من الملة.

حتى اذا جا عصر ابن تيمية فصار فيه لفظ الكافر يعم كل من ليس مؤمنا بالرسالة سواء كان متصورا لها او غير متصور، متيقظا او غافلا عنها، و كل من انطبق عليه وصف الكافر فهو مستحق للعقوبة في الدنيا، و الخلود في النار في الآخرة، و يلفت الانظار تركيز کتاب السلفية المعاصرين على أن إبن تيمية كان من أشد الناس إنكارا للتكفير و أكثرهم تحذيرا منه و طالما كانوا يكررون مقولته (و انا كنت من اعظم الناس تأليفا لقول المسلمين و طلبا لاتفاق كلمتهم(1) الا انه استبدل قضية التكفير بمسألة قريبة منه و هي مسألة البدعة و من سماهم أهل الأهواء و البدع فقد قال «و الداعي الى البدعة مستحق للعقوبة باتفاق المسلمين و عقوبته القتل کما قتل السلف جهم بن صفوان و الجعد بن درهم و غيلان القدري».(2)

و معلوم أن هؤلاء قتلوا بفتوى من الفقهاء تم تكفيرهم بها اولا ثم قتلوا و هم في اعتقاد من افتى بقتلهم مخلدون في النار فالخيط الفاصل - عند ابن تيمية - بين التكفير و التبديع لا يبدو واضحا او مميزا من حيث العقوبة التي تحل بهما في الدنيا، و الاخرة.

فابن تيمية يضع المسلک الذي هو عليه فهما واحدا للاسلام و يعتبره الفهم المعياري و هو فهم السلف الذين كانوا الأجيال الأولى التي تلقت الدين من النبي فتسمى من زعم انه تتبع آثارهم اهل السنة و الجماعة و في التسمية مفهومان ( اقتفاء سنة النبي و الصحابة)، (و الالتزام بما عليه الأكثرية) التي تصنعها السياسة او الثقافة المقصودة، اما من إفترق عن هذه الجماعه فهو من أهل البدع و الضلال، و هم عند ابن تيمية الأشعرية و الصوفية و المعتزلة و الشيعة و الزيدية و المرجئة، فهو يخاطب الصوفية في

ص: 152


1- ابن تيمية: مجموع الفتاوی 135/3.
2- ابن تيمية مجموع الفتاوی 242/34.

کتاب ( العبادة و حقيقة العبودية) بانهم جهلة أدخلوا انفسهم في الحقيقة و الشهود، و انزلق قسم منهم فاصبح يدعي ما يتجاوز الانبياء(1) و من هجوماته على المتصوفة.

فقد هاجم ابن عربي في ما قيل عنه انه ادعى انه خاتم الاولياء في كتابيه (الفتوحات الملكية) و (فصوص الحكم) حتى قال ابن تيمية عنه لقد خالف بذلک الشرع و العقل و خالف بذلك جميع الأنبياء و الاولياء.(2)

و افتی بكفر النصيرية و وجوب قتلهم و قاد جيشا بنفسه سنة 705ه فقتل منهم خلقا كثيرا (3)و واجه عقائد اصحاب الجهم بن صفوان القائلين بنفي الصفات و المعتزله و الأشعرية و له مع الشيعة مشوار، فقد صنف كتابا اسماه جواز قتال الرافضة کما يثبت ذلك السيد صائب عبد الحميد.(4)

و بالمحصلة فان ابن تيمية صنف المسلمين الى (أهل سنة) و (أهل بدعة)، لذلك يشخص رائد السمهودي في كتابة (نقد الخطاب السلفي) بين الخطاب النظري حول جمع الكلمة و بين الفعل العملي عند ابن تيمية يشخص التناقض، كما يناقش السمهودي الأصل النظري لمعيارية أهل السنة و الجماعة فيقول «لماذا كان السلف هم الصالحين دون غيرهم؟ فسيقال لان عقائدهم صحيحة، فيجاب بانهم هم الذين رووا نصوص العقيدة و قبلوها على شروطهم و ردوا أحاديث غيرهم اذا خالفتهم، فلم قبلت روايتهم دون غيرهم؟ فسيقال لان عقائدهم صحيحه، و هكذا نقع في الدور المنطقي المحال»(5)على الرغم من كل ما قيل من أن ابن تيمية ابتعد عن التكفير الا انه قد وقع منه تكفير المعين و قد ذكرنا التاريخ أن ابن تيمية في كتابه (تلبيس الجهمية)

ص: 153


1- ابن تيمية: العبادة و حقيفة العبودية 53-58 ظ صائب عبد الحميد ابن تيمية حياته و عقائد، ص 155.
2- ابن تيمية: الفرقان بین اولیاء الله و اولیاء الشیطان ص 80.
3- ابو الفداء: المختصر في تاريخ بني البشر 498/1.
4- ظ صائب عبد الحميد ابن تيمية ص 84.
5- رائد السمهودي: نقد الخطاب السلفي (ابن تيمية انموذجا) ص 60.

اطلق على الرازي (صاحب مفاتيح الغيب) أنه محاد الله و لرسوله (1)و هذا الوصف لا يطلق الا على المنافقين و الكافرين.(2)

و لاننا قلنا ان الخيط الفاصل بين مفهوم البدعة و التكفير خيط رفيع، فان ابن تيمية يضع اسلوبا للتعامل مع المبتدع المتأول نذكر بعضا منه فان المبتدع اذا اعلن (بدعته) فيجب الإنكار عليه و عقوبته و هجرته و التحذير منه و عزله عن التصدر لسائر الولايات و حرمانه من حقه في الزكاة و الفيء.(3)

و لو طبقنا اسلوب ابن تيمية و أخذت كل فرقة بهذا الاسلوب ازاء الأخرى المخالفة لها بحيث أن كل فرقة تدعى الاستقامة لنفسها و البدعة عند غيرها فستتحول الحياة الحياة الاسلامية الى صراعات دائمية بين الفرق الاسلامية و المدارس الاجتهادية على ان كتب التاريخ، تذكر ان حروب اهلية و تمزق في صفوف الأمة قد حصلت في مطلق القرن الثامن الهجري.(4)

و تذكر مؤلفاته أن الأصل عنده العقاب فيقول أن من كان داعيا الى ضلال لا ينكشف شره الا بقتله فالحكم انه يقتل و ان أظهر التوبة ثم يقول (كما قتل المسلمون غيلان و الجعد).(5)

و عند ابن تيمية يقتل الداعية الى (بدعة) حتى لو لم يكن كافرا، و يسوغ ابن تيمية ذلك بالقول (لكف ضرره عن الناس)(6) و بذلك يضع ابن تيمية حكما كليا مطلقا هو وجوب قتال المخالفين له من طوائف المسلمين حتى و لو كان منهجا في فهم النص الديني و لها أدلتها العقلية و النقلية، لكن لأنها خالفت «اهل السلف: او اهل السنة و الجماعة» و يراد بذلک عقيدته و اراءه في الفكر و الفقه و الاعتقاد فأنها من أهل البدع،

ص: 154


1- ابن تيمية: بيان تلبيس الجهمية ج 459/1.
2- المقریزی، اللوك المعرفة دول الملوک 210/1.
3- ابن تيمية: مجموع التفاوی 217/10.
4- المفريزي: السلوك المعرفة دول الملوک 210/1.
5- ابن تيمية: مجموع الفتاوی 303/28.
6- ابن تيمية: مجموع الفتاوی 197/23.

و هكذا نمت في ذاكرة التاريخ اراء ابن تيمية التي لم يكفر الناس بها بل حول قضية التكفير من حكم له الكثير من الشروط و المحترزات و الموانع الى نظريه تشتمل على الكفر و البدعة و الضلالة و التي تترتب عليها اغلب الآثار التي تترتب على التكفير، فمهدت لظهور قضايا البدعة بشكل فاعل عند الحركة الوهابيه بعد خمسة قرون من إنصرام عصر إبن تيمية.

المطلب الرابع: الأسس الدينية للمتغيرات الأصولية

و لا بد من الاشارة الى ان الغزالي الذي عاش في عصر الحنابلة و قبل ابن تيمية بقرنين (ت505ه) قد كتب كتابه (تهافت الفلاسفة) و الذي كفر فيه الفلاسفة المسلمون في ثلاثة مسائل و فسقهم في سبع عشرة مسألة (1) و تبعه ابن الصلاح الشهروزي (ت 654ه) الذي افتی بكفر المشتغل بالفلسفة، و حرم المنطق الأرسطي، و افتی بكفر من يشتغل بهما تعلما او تعليما او نشرا عادة ذلك كله من كتب الضلال(2) ثم اكد على ذلك ابن تيمية و تلميذه ابن قيم الجوزية.(3)

لقد ظهرت في عصر ابن تيمية بصورة حادة نظرية الفرقة الواحدة الناجية، و هم اهل الحديث و متبعو السلف، و هاجمت بقية فرق المسلمين، فقد هوجم المتصوفة و اتهموا بالشطحات، و الخروج عن الصراط المستقيم و عزوا سبب (ضلالتهم) على حسب رأي إبن تيمية الى تسرب الافكار الفلسفية الى مضامين التصوف(4) ، کالحلول و وحدة الوجود، فقد كان له موقف حاد مع المتصوف (ابن عربي) و (القشيري) فصار التيار السلفي المعاصر يطلق وصف الابتداع و الضلالة على عموم المسالك الصوفية تقليدا لموقف ابن تيمية (5) و على الرغم من أن الاتجاه السلفي يتعامل مع آراء ابن

ص: 155


1- الغزالي: تهافت الفلاسفة، مر 80-81، الغزالي المنقذ من الضلال ص 84-88.
2- ابن الصلاح الشهروزي الفتاوى.
3- ابن قيم الجوزية: الاعلام
4- ابن تيمية: الفتاوی ج 82/10.
5- الكثيري: السلفية بينا هل السنة ص 241.

تيمية على انها حقائق دينية، الا أن الشيخ البوطي بعد اطلاعه على المؤاخذات التي اوردها ابن تيمية على الصوفية فانه قد وجد أن أغلبها آراء اجتهادية لا يجوز أن يبنی عليها موقف، و تظهر دعوى الفرقة المارقة عندما ينسب للاخر الابتداع و الضلال.(1) او عندما يعرف البدعة (بأنها ما خالف الكتاب و السنة و اجماع سلف الأمة من الاعتقادات و العبادات کاقوال الخوارج و الروافض و القدرية و الجهمية و الذين يتعبدون بالرقص و الغناء في المساجد) .(2)

و يصنف ابن تيمية الفرق المخالفة لمن يسميهم (أهل السنة و الجماعة) فيقول أن منهم من يكون كافرا و منهم من يكون فاسقا ضالا و منهم من يكون مخطئا(3) و لكنه يعاملهم جميعا معاملة تنتهي بقتلهم.

حتى اذا جاء القرن الثاني عشر الهجري شهد العالم الاسلامي عملية احياء للفكر المتشدد و الافكار ابن تيمية التي اضحت مرجعا فكريا و نظريا اساسيا للفكر الوهابي، فقد تحقق تراکم عملي و نظري كنموذج. و يذكر ابن بشر رسالة الشيخ محمد بن عبدالوهاب الى الامير محمد بن سعود التي جاء فيها (و انت ترى نجدا لها و اقطارها أطبقت على الشرک و الجهل(4) و بذلک ينطلق ابن عبد الوهاب من الاعتقاد أن نجدا كلها قد كفرت بالله و استقر الحال عندما بسط الوهابية نفوذهم على الجزيرة على أن كل مسلم لا يعتنق عقيده الشيخ ابن عبد الوهاب فهو أشد جهلا و شركا من أولئک الذين كانوا في الجاهلية الأولى(5) و بناء عليه فقد ساد الاستعمال المفرط للعنف، و مصادرة حرية الاعتقاد، و الألزام بالتعبد بطريقة معينة لا يجوز العدول إلى غيرها و تكفير المخالفين لها و الدعوة الى استئصالهم (6) و نتج عن ذلک ظهور عدد من اصحاب

ص: 156


1- السيوطي: السلفية مهلة ص 190.
2- ابن تيمية: مجموع الفتاوی 346/18.
3- م.ن: 359/184.
4- فتاوى ابن الصلاح الشهروزي عثمان بن عبد الله بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد ج 24/1 .
5- ظ: فؤاد ابراهيم: السلفية الجهادية في السعودية ص 3.
6- م.ن 199

الفكر المتشدد مثل صالح الفوزان الذي كتب كتابه (الولاء و البراء) و الذي يصنف فيه سكان المعمورة كلهم في قائمة الكفار الا اهل السنة و الجماعة أي (اتباع ابن عبد الوهاب) الذي يسميهم بالفرقة الناجية.(1)

لكن الذي يعتذر فيه للفكر الوهابي أن هذا التكفير في الغالب كان تكفيرا للمقولات و الاراء و المفاهيم و النظريات و يتحرج التيار السلفي (بتنوعاته) من تكفير المعين، كما يمتنع هذا التيار من المساس باولياء الامور و الحكام و السلاطين اذ یری شیوخه آن طاعتهم واجبة و ان جاروا و ظلموا و خرجوا عن جادة الصواب، و ان النصح لهم واجب و الدعاء لهم من الأولويات على اهل التقوى(2) و يستندون على ذلک بما نقله ابن تيمية أن احمد بن حنبل كفر المعطلة و لم يكفر اعيانهم.(3)

ان انتقال الفكر السلفي المتشدد الى مصر و اجتذاب السيد رشيد رضا له، و نشوء اول جماعة للاسلام السياسي على يد حسن البنا قد فتح الباب ليدخل الفكر السلفي المتشدد إلى جماعة الاخوان المسلمين الذين لم يكن فكرهم إبان سنوات التأسيس الاولى فكرا سلفيا محضا انما كانت الاتجاهات السلفية من الروافد الفكرية و المسالک النظرية الفكرهم الى جنب التصوف و العقلانية و النزعة الواقعية، الا أن آراء المودودي التي مر ذكرها حول كون الأمة المسلمة لا تفهم حقيقة الدين لأنها جاهلة به كما يعتقد المودودي فأنها قد وقعت في الشرک و الكفر و بذلك ينتقل الفكر الأصولي من تكفير الأفكار و النظريات و الاجتهادات و المسالك النظرية الى تكفير الجماعات و الشعوب و المجتمعات ناهيك عن الأفراد فاذا كان الاوائل - حتى المتشددين - منهم يتحرجون من تكفير الافراد و يقفون عند تكفير الأقوال و الاراء فان المودودي جعل اغلب المسلمين بأعيانهم في غيبوبة و عي، و انهم لم يعرفوا حقيقة

ص: 157


1- صالح الفوزان: الولاء والبراء 110.
2- ظ ابن حزم الأحكام في أصول الأحكام 49/1 ، الغزالي: فيصل التفرقة بين الاسلام و الزندقة ص 128، السبكي الفتاوی 586/2.
3- ابن تيمية: الفتاوی 487/12.

الايمان(1) و يكفي أن نظريته في الحاكمية التي مر الحديث عنها في الفصول السابقة تنطوي على تكفير الحكام و المجتمعات، و حينما ينتقل الأمر إلى عصر سيد قطب فأننا نشهد أن مفهوم الجاهلية المعاصرة التي اسماها اخوه محمد قطب جاهلية القرن العشرين و هو عنوان کتابه الذي يضع فيه فكرة أن العالم المعاصر قد عاد الى الاوضاع الجاهلية التي حاربها الاسلام بوصفها كفرا و شركا(2) أصبح واقعا مدانا بحيث يأتي منظر التشدد سيد قطب ليؤكد على معاني التكفير العام للانظمة و الحكام و المجتمعات و الجيش و الشرطية و الموظفين و فقهاء المساجد و اهل الفتيا في كتابيه معالم الطريق و تفسير في ظلال القرآن ليمهد الى مشروعية القتال و التغيير بالوسائل غير السلمية . و بهذا الشكل من الثورات الفكرية انتقلت قضية التكفير للجماعات الجهادية المسلحه كالقاعدة و التنظيمات التابعة لها بتسمياتها المتعددة ليترتب على هذا التكفير أن المكفر: يفقد حقه في الحياة، و تهدر حقوقه في الملكية، و لا يحق له طلب النصرة من المسلمين و لا تجرى عليه بعد موته احكام المسلمين..

المطلب الخامس نقد الأسس الدينية الفقه التكفير

من خلال الجدل المتقدم بين الموقف التقليدي للفقه و العقيده، و الاضافات الأصولية فقد تبين أن الفكر الاصولي قد أهدر في توسعه لنطاق التكفير مجموعة من القواعد العلمية و العقائدية المستقرة في الفكر و التراث الاسلامي و منها:

1- اهدار قاعدة: إن الأصل في المسلم العدالة و السلامة من الفسق حتى يقوم الدليل القاطع على كفره او فسقه، فالمسلم يقينا مؤمن و اليقين لا يزال بالشک، و لا يجوز العدول عن اليقين الا بدلیل صریح و صحيح و لا ينفع دليل قول او باحتمال او

ص: 158


1- المودودي
2- محمد قلب: جاهلية القرن العشرين: المقدمة من 5.

باجتهاد او رأی محض في هذا المجال على ازالة اليقين، ذلك لان التكفير سمعي محض ولا يدخل العقل فيه و الدليل عليه لا يكون الا سمعيا(1) شرعيا واضحا قاطعا.

فلا يثبت التكفير الا بدليل واضح جلي على جحد الألوهية او النبوات او المعاد او تکذیب الرسل او ارتکاب ناق من نواق الایمان، او استحلال ما علم من الدين بالضرورة.

فصار الفكر التكفيري يكفر بأبسط الشبهات و أقل الأدلة و يعتمد على اجتهادات صادرة من اشخاص قليلي الخبرة في التكفير.

2- اهدار قاعدة أن الله تعالى تعبدنا بالظاهر و لم يوجب علينا التحري و التفتيش و امرنا بالاكتفاء بنطق الشهادتين، فقاعدة: الحكم على العقائد بالظاهر قاعدة التزم بها النبي في تعامله مع المنافقين و لم يكفرهم فالعدول منها الى التحري عن حقيقة الايمان زيادة على ما شرعه الله و هذا ما اضافه الفكر التكفيري بلا دلیل شرعي.

3- الخلط بين الكفر الاكبر و قد تقدم (القول فيه و الكفر الاصغر سواء كان عقديا او عمليا و رفع الكفر الاصغر (الذنوب) إلى مصاف الكفر الاكبر يعد خلطا يوجب النقد و الادانة لما يترتب عليه من توسعة نطاق التكفير و اهداره حق الحياة .

4- لقد ربط الفكر الاصولي بين التكفير و موضوعات عقدية أخرى منها الحاكمية، و الولاء و الجهاد، و العمل بالفروع، و جعل التكفير ناتجا ضرريا لعدم التقيد بالفكر الاصولي في هذه الموضوعات، و على خلفية التكفير أعاد الفكر الأصولي تقسيم العالم إلى دار الاسلام و دیار الكفر لتكفير الشعوب الاسلامية لتكون مقدمة لاجتياحها بالقوة المسلحة و العنف الديني من دون دليل شرعي واضح.

5- خرج الفكر الاصولي المعاصر على قاعدة أساسية من قواعد العمل في الفكر السلفي و هو عدم جواز الخروج على الحاكم المسلم، و هذه من ابرز نقاط الخلاف بين التيارات السلفية و الجماعات الأصولية الجهادية .

ص: 159


1- محمد بن ابراهيم ابن الوزير: العواصم و القواصم 178/4.

6- منهجيا اعتمد الفكر الاصولي فقط على آيات الوعيد و لم يوازن مع آیات الوعد، كما أنه لم يعتمد المصادر المتنوعة للمذاهب و الاتجاهات و المسالك الفكرية المتعددة، انما اقتصر على (نماذج محددة) من التفاسیر، و اکثر استناده على كتب الشيخ ابن تيمية، مما يكشف عن أحادية في المنهج و مصادرة الفكر الديني لمختلف المدارس .

7- على الرغم من اتفاق علماء الاسلام بان التكفير المذهبي لا يجوز و لا يصح الا أن التيارات الأصولية اهدرت ذلک و اعلنت ان (عقيدة السلف و فقهه) هي المعيار الذي يكفر المخالفون له على مفهوم الفرقة الناجية او الطائفة المنصورة.

8- اهدر الفكر الاصولي ما اعتبره التراث الاسلامي غير كاف في التكفير مثل (لازم المذهب) و (مال المذهب) فكفر الناس بهما و هو ما لا يجوز التكفير به.

9- لم يراع الفكر الأصولي موانع التكفير مثل الجهل و الخطا و التأويل و تقليد الغير، فهذه موانع للتكفير متى وجدت امتنع أهل العلم من تكفير الأشخاص في مثل هذه الظروف.

10- اهدر الفكر الاصولي قاعدة أن تكفير المقالة لا تعني تكفير القائل بها الا بعد ازالة الشبهة و انتفاء الموانع لكن الأصوليين كفروا شخص مرتكب الصغيرة الذي يصر عليها و لم يتب و الحال أنه عاص غير كافر عند اغلب اهل العلم، و كفروا شخوص الحكام باطلاق دون تفاصيل و المحكومين باعيانهم لانهم - على حد قولهم - رضوا بالحکم بغیر ما انزل الله، و يكفرون شخوص علماء الدين لانهم لم يكفروهم، و كل من يعرض عليه الفكر الاصولي و لم يقبله، و كل من لم ينضم إلى جماعتهم و يبايع اميرهم فهو كافر، و من انضم اليهم و تركهم فهو مرتد حلال الدم.

11- أهدر الفكر الأصولى أن حكم التكفير في التراث العقدي الاسلامي لا يصدر الا عن مجتهد معروف باجتهاده و احاطته و معروف بورعه و عدالته، او هيئة قضائیه، لها سمات القضاء و اعطى لاتباعه حق اصدار أحكام التكفير و اعطاهم حق

ص: 160

تنفيذ العقوبات على المكفرين على الرغم من أن المتسالم عليه انه من صلاحيات اولیاء الأمور.

و زبدة القول: ان هذه المتغيرات الفكرية و العقدية على التكفير يخلوا اغلبها من ادلة شرعیه ناهضة بل قامت الأدلة الشرعية على النقيض من بعضها، و بذلک يصح القول أن الفكر الاصولي المعاصر يعيد انتاج المعرفة الدينية على اسس ايديولوجيا و قصدية تنسجم مع تطلعاته السياسية.

الخاتمة

اما التكفير فأنه يعد وسيلة فكر اقصاني لممارسة الاقصاء، و استبعاد المخالف و لو بالجزئيات و التفاصيل. لقد وجدنا أن التكفير ناتج طبيعي (لأضافاتهم على مفهوم التوحيد و الولاء و البراء و الحاكمية) من جهة عقائدية و التكفير أصبح سببا للجهاد و استخدام القوة حتى في نطاق الأمر بالمعروف و معاقبة رعایا بلدان غير اسلامية، و كل ذلك ناتج عقائدی و سبب فقهي.

و وجدنا أن لهذه الاضافات جذورا تاريخية و هي ذات الجذور للاصولية، و ظهر ان مخالفات الفكر الاصولي لفقه الفقهاء و ائمة المذاهب في مسألة التكفير مخالفة كبيرة و صريحة و مثالها عدم حصر الموضوع بالقضاة و المجتهدين، و القبول بالتكفير المذهبي، و إحلال البدعة محل التكفير - عند عدم تحقق مقدماته - و التكفير بالمسائل الاجتهادية و سريان تكفير المعين من خلال التكفير المطلق على الرغم مما بينهما من فروق، كما وجدنا اهدارا لقواعد شرعية كثيرة مثل إصالة صحة عمل المسلم، إصالة التعبد بالظاهر و قاعدة عدم تكفير الحاكم (بالمعاصي) و عدم التعويل على اللازم و المال..

و الى جنب هذه المخالفات فان بقية فقه التكفير عند الأصوليين يخلو من ادلة شرعية ناهضة، و احيانا تقوم الأدلة الشرعية على خلافها مما يصح القول أن الفكر

ص: 161

الأصولي اعاد انتاج المعرفة الدينية على أسس ایدئولوجية تنسجم مع مقاصده و تطلعاته.

ص: 162

عرض لكتاب «إجماع المسلمين على احترام مذاهب الدين»أحمد كوثري

*أحمد كوثري(1)

كتاب «إجماع المسلمين على احترام مذاهب الدين»من تأليف غازي بن محمد بن طلال الحائز على شهادة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية من جامعة الأردن و کذلک على الدكتوراه في أصول الدين من جامعة الأزهر بمصر في عام 1427ه/2006م يقع الكتاب في 713 صفحه، يحمل المؤلف الجنسية الأردنية و يتبوأ منصب الممثل الخاص الملك الأردن (عبد الله بن الحسين) و كبير مستشاريه . كما يرأس الدكتور غازي بن محمد مؤسسة و مجمع آل البيت للفكر الإسلامي في الأردن.

طبع الكتاب في عمان بالأردن و يتناول مسألة إجماع المسلمين على احترام المذاهب الإسلامية، و قد حظي بأهمية واسعة، يدل على ذلك التقريظ الذي كتبه ملك الأردن عبد الله بن الحسين و الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي، و طبع

ص: 163


1- ماجستير في المذاهب الإسلامية باحث في مؤسسة دار الإعادم لمدرسة أهل البيت علیهم السلام

الكتاب ثلاث مرات في أقل من عام واحد، و فيما يلي نقدم هنا عرضا للطبعة الثالثة للكتاب.

دون الدكتور غازي بن محمد كتابه في عشرة أبواب، و يقول في مقدمته أن الكتاب ثمرة الجهود و المؤتمرات العلمية التي شهدتها الأمة الإسلامية في العامين 1426 ه و 1427 ه و لا سيما العاصمة الأردنية عمان و بمشاركة علماء العالم الإسلامي. كما يذكر الدكتور غازي أن نقطة التحول في هذه المؤتمرات كانت في عقد المؤتمر الدولي «حقيقة الإسلام و دوره في المجتمع المعاصر» في عمان بتاريخ 27-29 جمادى الأول 1426ه و الذي حضره الملك عبد الله بن الحسين ملك الأردن و لفيف من العلماء المسلمين، و يعتقد الدكتور غازي أن هذه المؤتمرات و الإجماع الذي توصل إليه العلماء من خلالها يعد أمرا فريدة على مدى القرون الأربعة عشر الماضية.

يقول الدكتور غازي بن محمد بن طلال: لقد طرحنا على كبار العلماء المسلمين ثلاثة أسئلة هي: 1- من هو المسلم؟ 2- من المؤهل لإصدار الفتاوی؟ 3- هل يجوز التكفير، و في أي ظروف؟ لقد أطلقنا على هذه الأسئلة الثلاثة الحوارات الثلاثية للعلماء حول التكفير و المذاهب و الفتاوی.

بعد ذلك يشير الدكتور غازي إلى صدور البيان الفائق الأهمية للمؤتمر الإسلامي المذكور في العاصمة الأردنية و الذي حاز على إجماع العلماء الحاضرين، و يقول إن ذلک البيان كان الحصيلة النهائية للحوارات الثلاثية للعلماء و أجوبتهم على الأسئلة الثلاثة المطروحة. من بين النقاط التي تم الاتفاق عليها في البيان الصادر بين العلماء الحضور في المؤتمر و بين بقية كبار العلماء المسلمين مثل شيخ الأزهر و آية الله العظمی السيستاني و المجالس الإسلامية الكبرى نذكر: 1- كل من يقلد أحد مذاهب أهل السنة الأربعة (الحنفي، المالكي، الشافعي و الحنبلي) و المذاهب الجعفري و الزيدي و الإباضي و الظاهري، فهو مسلم، و بالتالي لا يجوز تكفيره، و أن دمه و عرضه و ماله مصان. كما لا يجوز تكفير أتباع العقيدة الأشعرية و أتباع التصوف الحقيقي و كذا

ص: 164

تكفير أتباع الفكر السلفي الصحيح. و في الحقيقة، لا يجوز تكفير أي من فرق المسلمين التي تؤمن بالله تعالى و رسوله صلی الله علیه و آله و بأركان الإيمان و أركان الإسلام و لا تنكر ضرورات الدين.

2- إن المشتركات التي تجمع المذاهب أكبر بكثير من الاختلافات التي تفرق بينها . و تتفق المذاهب الإسلامية الثمانية على الأصول الأساسية للإسلام. و يؤمن جميعها بالله الواحد و القرآن النازل و برسالة النبي الأكرم (صلى الله عليه و آله و سلم) و .... و إن اختلاف علماء الإسلام ليس في أصول الدين بل في فروعه، و حتى هذا الاختلاف فهو رحمة للأمة.

3- إن الاعتراف بوجود المذاهب في الإسلام يعني الالتزام بالمنهج المبين و المحدد في الفتوى، لذا لا يجوز لأحد أن يتبوأ منصب الإفتاء ما لم يكن حائزا على شروط الأهلية التي وضعها كل مذهب للتصدي لهذا المنصب. كما لا يجوز الإفتاء دون التقيد بمنهج أحد المذاهب. و لا يجوز لأحد أن يدعي الاجتهاد و استحداث مذهب جدید أو إصدار فتاوی شاذة و غير مقبولة من قبل المسلمين .... إلخ.

و يتابع الدكتور غازي بن محمد حديثه فيشير إلى أنه بعد شهرين من انعقاد المؤتمر الإسلامي الكبير في الأردن، عقد مؤتمر كبير آخر في مكة المكرمة، تلته مؤتمرات أخرى، و كلها كانت رائعة في دعوتها لوحدة المسلمين و احترام المذاهب. بعد ذلک يسهب الدكتور غازي في شرح تفاصيل عقد هذه المؤتمرات مبينا أهمية مبدأ الإجماع في الإسلام و ....

و كما ذكرنا سابقا، يتألف هذا الكتاب من عشرة أبواب، نستعرض فيما يلي المباحث التي تناولتها هذه الأبواب:

الباب الأول: تحت عنوان رسالة عمان و يستعرض الموضوعات التي وردت في الرسالة التي تليت بتاريخ 27 رمضان عام 1425 ه في مسجد الهاشميين في العاصمة الأردنية عمان بحضور الملك عبد الله الثاني ملك الأردن. يعتقد المؤلف أن الرسالة

ص: 165

كانت البداية العملية لشروع الدعوة للأمة الإسلامية من أجل عقد المؤتمر الكبير في عام 1426 ه بعمان و سائر المدن الإسلامية الأخرى. حاولت الرسالة أن تبين للعالم المعنى الحقيقي للإسلام، و قد ذكر أن الرسالة أرسلت لغير المسلمين أيضا، و بالنسبة للمسلمين فإنها وجهت خطابها إلى شريحة الشباب بوجه خاص، و جاء فيها بأن الدين الإسلامي هو دين الاعتدال و الوسطية و الرحمة و ذلک استنادا إلى القرآن الكريم و الأحاديث النبوية الشريفة، و حثت العلماء المسلمين على الدعوة للإسلام الحقيقي و الابتعاد عن الجهل و الفساد و ... إلخ.

الباب الثاني: في هذا الباب يستعرض مؤلف الكتاب الاستفتاءات و الأسئلة التي طرحها على علماء العالم الإسلامي، إذ أرسل هذه الأسئلة بشكل مدون و مکتوب إلى العلماء، و أورد أجوبتهم عليها، و ما يحوز على الأهمية هنا هو إجماع العلماء المسلمين من جميع المذاهب على عدم جواز تكفير أتباع المذاهب الأخرى، و احترام معتقداتهم. لقد طرح المؤلف ثلاثة أسئلة على كبار العلماء المسلمين، و هذه الأسئلة هي: 1- هل تشكل المذاهب الأخرى، كما هو مذهبنا، جزءا من الإسلام الحقيقي؟ 2- ما هي مديات التكفير؟ هل يجوز تكفير من يقلد أحد المذاهب التقليدية أو يتبع العقيدة الأشعرية؟ هل يجوز تكفير من يتبع الطريقة الصوفية الحقيقية؟ 3- من هو المفتي الحقيقي في الإسلام، و من المؤهل لإصدار الفتاوی؟ و إليك عزيزي القارئ بعضا من أجوبة العلماء على أسئلة المؤلف:

قال الإمام الأكبر شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي في جواب أسئلة المؤلف ما يلي:

1- الإسلام الحقيقي هو ما علمنا إياه نبينا الكريم (صلى الله عليه و آله و سلم) و هو : الشهادة بوحدانية الله تبارک و تعالی و رسالة النبي الأكرم (صلى الله عليه و آله و سلم) و إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و صوم رمضان و حج البيت الحرام ... فمن أقر بالشهادتين و اعتقد بأركان الإسلام و لم ينكر ضروريا من ضروريات الدين كان مسلما .

ص: 166

2- لا يجوز لأحد تكفير من ليس على مذهبه. و ذلک لإجماع المذاهب كلها على إخلاص العبادة الله تبارک و تعالى و الاعتقاد بوجوب الإيمان بالملائكة و كتاب الله و النبي و يوم القيامة و ...، و معتقدات الأشاعرة أيضأ صحيحة، و كذا الطريقة الصوفية التي جوهرها الإكثار من ذكر الله و الزهد في الدنيا. و قد نهى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله بشدة عن رمي المسلمين بالكفر.

3- المؤهل لإصدار الفتاوی باستحقاق و جدارة هو الذي يحفظ القرآن و يفقه ألفاظه و تفسيره و يحفظ الأحاديث النبوية الشريفة و يدرک معانيها من حيث النص و الأسانيد و الصحة و الحسن. و يكون مدرسا و مطلعا على أبواب الفقه الإسلامي و أصول الفقه، و ملما بالآراء المطروحة في مسائل العقيدة و المعاملات و الأحكام الشرعية .... و قبل هذا و ذاک لا يقصد من وراء الإفتاء إلا خدمة الحق و مراعاة العدل و نشر مكارم الأخلاق و تحقيق المصلحة العامة التي تسوق الأمة نحو الخير و الصلاح.

و كان جواب المفتي الأكبر في مصر الدكتور الشيخ علي جمعة ما يلي:

1- كل من يقلد أحد المذاهب الإسلامية مسلم صحيح الإسلام. و قد أمرنا الله و رسوله الكريم أن نتمسک جميعا بحبله و أن نكون أمة واحدة.

2- المسلم الذي ينطق بالشهادتين دمه و ماله مصان، إلا إذا ارتكب عالما و عامدا فعلا ينطوي على الكفر، كأن يصرح بأنه غير مسلم، أو ينكر وجود الله تبارک و تعالی أو رسالة النبي أو حقية القرآن الكريم، أو يؤمن بأمور لا يؤمن بها أهل القبلة كأن يحلل الزنا. و الأشاعرة و أهل الطرق الصوفية أيضا مسلمون، و لا يجوز لأحد أن يتهمهم بأنهم خوارج.

3- من شروط الإفتاء أن يكون المفتي مسلما عاقلا بالغا عادلا مجتهدا.

ص: 167

يستعرض الدكتور الشيخ علي جمعة بعد ذلك شروط الاجتهاد و الإفتاء منهجهما،و يذكر المصادر المعتبرة عند المذاهب الإسلامية، و يصرح بأنه إذا أردنا التعرف على أي مذهب لا بد من الرجوع إلى مصادره المعتبرة و الموثوقة.

أما رأي الشيخ أحمد كفتار و المفتي العام للجمهورية العربية السورية و رئیس مجلس الإفتاء فهو:

1- لا يجوز تكفير أحد من أهل القبلة، و ما دام يقر بالشهادتين فإن دمه و ماله حرام ... 2- أتباع جميع المذاهب الإسلامية مسلمون. 3- الإفتاء بغير علم حرام لأنه كذب على الله و رسوله و إضلال للناس.

رأي الشيخ سعيد عبد الحفيظ الحجاوي، المفتي العام للمملكة الأردنية الهاشمية :

لا يجوز لمسلم أن يكفر مسلما نطق بالشهادتين و من أهل القبلة، و أن أتباع المذاهب الأربعة لأهل السنة و المذاهب الظاهري و الجعفري و الزيدي و الإباضي مسلمون طاهرون.

المجلس الأعلى للشؤون الدينية في تركية :

كل إنسان يؤمن بوجود الله و وحدانيته و برسالة خاتم الرسل و بيوم القيامة فهو مسلم.

مجمع الفقه الإسلامي - في جدة - العربية السعودية:

المسلمون أمة واحدة يؤمنون بالله الواحد و کتابهم القرآن و قبلتهم واحدة و أصول دينهم خمسة و هي: الشهادتين، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج. و كل من يؤمن بهذه الأصول و يتمسک بها فهو مؤمن مهما كان مذهبه.

و قال الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي مدير مركز السنة و السيرة في قطر :

من نطق بشهادة أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله فهو مسلم و من المسلمين، و من الناجين من الخلود في نار جهنم. و قد جاء في الحديث الشريف: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله ... فإذا فعلوا ذلک

ص: 168

عصموا مني دماءهم و أموالهم... و لا يجوز أن يرمی مسلم بإخراجه من الملة بسبب معصية ارتكبها حتى لو كانت من الكبائر.

رأي الشيخ محمد تقي العثماني:

لا يجوز تكفير من أقر بالإسلام و من اختلف معنا في الفروع، ما دام يؤمن بالأصول، فهذه الأصول هي مدار الإسلام و الكفر.

آية الله العظمى(1) الخامنئي:

تشكل الفرق الإسلامية في مجموعها الأمة الإسلامية، و هي تتمتع بجميع المزايا الإسلامية و أن التفرقة بين طوائف المسلمين عدا عن كونه مخالفا لتعاليم القرآن الكريم و سنة الرسول الأكرم ، فإنه يؤدي إلى إضعاف المسلمين و يعطي ذريعة بيد أعداء الإسلام، لذلك، لا تجوز التفرقة بين طوائف المسلمين بأي حال من الأحوال.

آية الله العظمى السيد علي السيستاني - النجف الأشرف:

من نطق بالشهادتين و لم تصدر منه أعمال تنقض الشهادتين، و لم يناصب أهل البيت علیهم السلام العداء، فهو مسلم.

آية الله العظمی فاضل لنکراني:

جميع الفرق الإسلامية تنضوي تحت لواء الإسلام إلا من كان منها منكرا الضروريات الدين، أو ، العياذ بالله ، وجه إساءة إلى الأئمة الأطهارا علیهم السلام.

آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحکیم:

من ينطق بالشهادتين و يقر بالفرائض الضرورية للدين مثل الصلاة، تجري عليه أحكام الإسلام و دمه و ماله حرام.

ثم يواصل المؤلف هذا الباب فيستعرض فتاوى لعلماء آخرين على مذهب الشيعة الإثني عشرية (آية الله العظمی اسحاق فیاض، آية الله العظمی بشير النجفي، آية الله

ص: 169


1- جميع الألقاب المذكورة هنا وردت عينها في كتاب المؤلف.

العظمى السيد حسين إسماعيل الصدر، آية الله محمد علي التسخيري، السيد محمد حسين فضل الله و مؤسسة الإمام الخوئي) و فتاوی علماء الزيدية (الشيخ محمد بن محمد بن إسماعيل المنصور، الشيخ حمود بن عباس بن عبد الله، الشيخ إبراهيم بن محمد) و الإسماعيلية (آقا خان) و الإباضية (الشيخ أحمد بن حمد الخليلي)، و جميع هؤلاء مجمعون على حرمة دم و مال و عرض مسلمي جميع المذاهب الإسلامية، و من نطق بالشهادتين و كان من أهل القبلة فهو مسلم

وعلى مدى ثمانية أبواب يتابع المؤلف بحثه فيقدم تقرير عن المؤتمرات و الملتقيات التي انعقدت في مختلف البلدان الإسلامية حول إجماع العلماء على احترام المذاهب الإسلامية و عدم تكفير المسلمين، و قد جاء تقريره على النحو التالي:

الباب الثالث: تقرير عن مؤتمر «حقيقة الإسلام و دوره في المجتمع المعاصر»الذي عقد في العاصمة الأردنية عمان في الفترة 27-29 جمادى الأول 1426ه .

الباب الرابع: تقرير عن مؤتمر «منتدى العلماء و المفكرين المسلمين»، مكة المكرمة، 11-9 شعبان، 1426ه.

الباب الخامس: تقرير عن «المؤتمر الدولي الأول: المذاهب الإسلامية و التحديات المعاصرة» جامعة آل البيت بعمان، 13-15 شوال، 1426 ه.

الباب السادس: تقرير عن البيانات الصادرة عن الدورة التاسعة لمجلس وزراء الأوقاف و الشؤون الإسلامية، الكويت، 20-21 شوال، 1426 ه.

الباب السابع: تقرير عن الدورة الثالثة للقمة الإسلامية الاستثنائية، مكة المكرمة، 6-5 ، ذي القعدة، 1426ه.

الباب الثامن: تقرير عن «المؤتمر الدولي الثاني المنتدى الوسطية للفكر و الثقافة»، عمان، 25-27 ، ربيع الأول، 1427ه-.

الباب التاسع: تقرير عن «الدورة السابعة عشرة لمجمع الفقه الإسلامي»، عمان،28 جمادى الأول-2 جمادی الثاني 1427 ه.

ص: 170

الباب العاشر: استعراض بیان مؤتمر «مسلمو أوروبا»، قصر توبكابي في أسطنبول بتركيا، 1-2 تموز/يوليو 2006م.

ص: 171

ص: 172

عرض لكتاب «ببليوغرافيا التكفير»أبوالفضل قاسمي

*أبو الفضل قاسمي(1)

مقدمة:

لقد صنفت کتب عديدة في موضوع التكفير، حيث ازدادت و تيرة عرض تلك الكتب في المكتبات في العقود الأخيرة.

بطبيعة الحال، تستدعي الضرورة من الباحثين و المفكرين التعرف على تلك الكتب و ذلك في إطار نشاطاتهم لمواجهة التيارات التكفيرية. و تعد الببليوغرافيا من بين الطرق المتاحة للتعريف بالكتب التي تتناول موضوعا خاصا، و منها، على سبيل المثال، «ببليوغرافيا التكفير»، لهذا السبب ارتأينا في هذه العجالة تقديم عرض سریع

ص: 173


1- طالب في مرحلة الدكتوراه فرع تدريس المعارف الإسلامية و باحث و محقق في مؤسسة دار الإعلام لمدرسة أهل البيت علیهم السلام

لهذا الكتاب من أجل الإطلاع على آخر الإصدارات في هذا المجال. يستعرض كتاب «ببليوغرافيا التكفير»مجموعة من الكتب و الرسائل الجامعية و المقالات التي تتناول موضوعة التكفير.

نبذة عن الكتاب

في البداية، تم تدوين الكتاب باللغة الفارسية، ثم ترجم إلى اللغة العربية، لغة العالم الإسلامي العلمية .

عنوان الكتاب باللغة الفارسية «کتابشناسي تكفير»و عنوانه باللغة العربية «ببليوغرافيا التكفير»، كتبه أبو ذر نصر أصفهاني، و نقله إلى العربية حسين صافي، بطلب من المؤتمر العالمي «آراء علماء الإسلام في التيارات المتطرفة و التكفيرية»، و قامت منشورات دار الإعلام لمدرسة أهل البيت(عليهم السلام) في قم بطبعه في عام 2014م في 200 صفحة و حجم 24×17 سم.

أقسام الكتاب:

مقدمتان

يضم الكتاب مقدمتين نقدم فيما يلي توضيحا سريعا عنهما .

قبل الولوج في المضمون، تصدرت الكتاب مقدمة المسؤول العلمي للمؤتمر سماحة آية الله العظمی سبحاني (دام ظله)، حيث سلط الضوء فيها على جذور ظاهرة التكفير و الدوافع التي دعت إلى عقد مؤتمر«آراء علماء الإسلام في التيارات المتطرفة و التكفيرية»، و تضمنت المقدمة العديد من المباحث المفيدة، من جملتها الإشارة إلى نقطة مهمة و هي أن الفكر التكفيري انتقل من مرحلة التنظير إلى مرحلة العمل و التطبيق، ما جعل الأمر أكثر خطورة. ففي الصفحة الثامنة من الكتاب نقرأ «كان التكفير عند أسلاف هذه الفرقة بالقلم و اللسان، لكنه أخذ طابعا عنيفا في عهد الوهابيين

ص: 174

المتطرفين، حيث كان أتباعهم يغيرون على القرى و القصبات و القرى المحيطة بمنطقة «نجد»و ينهبون ما أمكنهم و بذلك أصبحت لديهم قوة مالية كبيرة».

کما وردت في متن الكتاب مقدمة أخرى بقلم مؤلف الكتاب تضمنت شرح لدوافع العمل و طبیعته. فعن أهمية العمل و الدافع من ورائه کتب مؤلف الببليوغرافيا يقول:

«و مع تزايد خطر التطرف و التكفير في العقود الأخيرة، ازدادت و تيرة تدوین الأعمال المناهضة للفكر التفكيري الأمر الذي يستدعي تغطية مناسبة لهذه الأعمال للتعريف بها. و يحظى أسلوب تأليف الببليوغرافيا بمكانة و أهمية خاصتين في مجال عرض الخدمات العلمية بوصفها واحدة من أنسب المراجع في جمع و تنظيم المصادر المدونة في موضوع خاص. يساعد الرجوع إلى الببليوغرافيا على رصد حجم البحوث و الدراسات المنجزة في مختلف المجالات زيادة و نقصانا، ليتم على ضوء ذلك تحديد مسار البحوث. كما أن وجود ببليوغرافيا في كل موضوع سوف يساعد الباحث أيضا على التقليل من الوقت و الجهد المبذول للبحث عن المصادر المتاحة، فضلا عن تقديم صورة عن الباحثين في مجال معين».(1)

أما الجزء الرئيسي من الكتاب فيضم استعراضا للكتب و المصنفات، و قد ارتأی المؤلف تبويبها بحسب اللغة الأصلية للكتاب، و بذلك قسم الكتاب إلى بابين، خص الباب الأول بالكتب المدونة باللغة العربية بينما أفرد الباب الثاني للمصنفات الفارسية.

و قد قسم الباب الأول الذي يضم المؤلفات العربية إلى ثلاثة أقسام: الكتب و الرسائل الجامعية و المقالات، فيما قسم الباب الثاني الخاص بالمصنفات الفارسية إلى : الكتب، الرسائل الجامعية، المقالات، النشرات الخاصة.

و الملاحظة التي قد تتبادر إلى ذهن القارئ للوهلة الأولى هي، إن عنوان الكتاب هو «ببليوغرافيا كتب التكفير» في حين أن الكتاب يغطي الرسائل الجامعية و المقالات

ص: 175


1- ببليوغرافيا التكفير، ص 20.

أيضا(1)، مما لا تندرج ضمن عنوان الكتاب، و هو من المآخذ المطروحة على هذا العمل، حيث لم يستطع العنوان أن يستوعب محتويات الكتاب. و يشار إلى أنه أضيفت إلى النسخة الفارسية فقرة النشرات الخاصة.

عدد الأعمال

ضمت هذه الببليوغرافيا 528 عملا شملت 235 کتابا، 240 مقالة، 49 رسالة جامعية، 4 نشرات خاصة. بالنسبة للكتب، فقد توزعت بين 213 كتابا باللغة العربية، و 22 كتابا باللغة الفارسية، أما المقالات فكانت حصة اللغة العربية منها 195 مقالة، و اللغة الفارسية 45 مقالة. و بالنسبة للرسائل الجامعية، فقد بلغ عدد العناوين العربية فيها 23 عنوانا، و الفارسية 26. بينما كانت جميع النشرات الخاصة باللغة الفارسية. و بذلك، يصبح المجموع 528 عملا مطروحا، 431؛ منها باللغة العربية، و 97 باللغة الفارسية.

أسلوب عرض الأعمال

أ- عرض الكتب

تضمن أسلوب المؤلف في عرض الكتب المراحل التالية، في البداية ذكر عنوان الكتاب ثم اسم المؤلف أو المحقق فمكان الطبع فدار النشر فسنة الطبع و أخيرا عدد صفحات الكتاب. ثم يلي ذلك توضيح سريع لمضمون الكتاب، و لزيادة التوضيح نستعرض الكتاب التالي الذي ورد في صفحة 23.

المثال الأول : الآثار الأمنية لظاهرة التكفير و الإرهاب. على بن فايز الجحنی، الرياض، دار مملكة نجد للنشر و التوزيع، 2014م، 172 ص.

الكتاب عبارة عن دراسة للآثار الأمنية التي تتركها ظاهرة التكفير و الإرهاب، يعتقد المؤلف، و هو أحد أساتذة جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية في المملكة العربية

ص: 176


1- طبعا يجب التنويه بأن هذه المالحظة تخص النسخة الفارسية للكتاب دون النسخة العربية.

السعودية، ضرورة أن يتم تحليل ظاهرة التكفير و النزعة التكفيرية و الإرهاب بصورة شفافة، لأن توفير الأمن و الاستقرار للمجتمع و الدولة هو الذي يفرض هذه الضرورة. و يرى المؤلف أن الفكر التكفيري انعكاس للأفكار الراديكالية المتطرفة و الفتاوى الضالة.

المثال الثاني : آراء و فتاوى علماء المسلمين في تحريم تكفير أتباع المذاهب الإسلامية. تحقيق: فؤاد كاظم المقدادی، طهران، مجمع الثقلين العلمي، ط. 3، 1428ه/ 2007م، 401 ص، الحجم 16×23 سم.

يضم الكتاب دراسة تحليلية لفتاوی و آراء علماء الشيعة و السنة في النهي عن تكفير أتباع المذاهب الإسلامية.

ب- عرض الرسائل الجامعية

بالنسبة للرسائل الجامعية، تضمن أسلوب المؤلف في العرض ذکر عنوان الرسالة ابتداء، ثم اسم كاتبها ثم المرحلة الدراسية للرسالة فاسم الأستاذ المشرف فاسم الكلية و الجامعة و مكان مناقشة الرسالة و المدينة و البلد و سنة المناقشة، و ختم العرض بشرح موجز عن مضمون الرسالة.

مثال على أسلوب عرض الرسائل الجامعية (نقلا عن الصفحة 91).

المثال الأول : الآثار الأمنية التكفير المعين. عبد الله بن زهير بن علي الشهري، رسالة جامعية لمرحلة الماجستير، الأستاذ المشرف: محمد المدني بوساق، قسم العدالة الجنائية، كلية الدراسات العليا، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض (المملكة العربية السعودية) 2012م.

يناقش البحث الحكم الشرعي للتكفير و الخروج على الإمام، ثم يتابع فيحلل الآثار و النتائج الأمنية الناجمة عن التكفير في المجتمع. بعد ذلك يستعرض المؤلف العقوبات المفروضة على التكفيريين و يقارن مدى تناسبها مع فعلهم. في المبحث الأخير لهذه

ص: 177

الرسالة يطرح المؤلف بعض الآليات التي ينبغي للبلدان الإسلامية اتباعها للخلاص من التيارات التكفيرية.

المثال الثاني : الأشاعرة و موقفهم من التكفير. سمير عمر سعيد أحمد البرزنجی، رسالة المؤلف لنيل شهادة الدكتوراه، الأستاذ المشرف: محمد رمضان عبد الله، كلية الامام الأعظم، ديوان الوقف السني (العراق)، 2010م

موضوع الرسالة دراسة آراء الأشاعرة حول التكفير، كما يحلل المؤلف موقع التكفير و مسيرته في هذه الفرقة.

ج- عرض المقالات

في عرضه للمقالات، ذكر المؤلف أولا عنوان المقالة ثم كاتبها، ثم مواصفات المجلة التي نشرت فيها المقالة، فمكان الطبع و عدد الصفحات، بالإضافة إلى بعض الإيضاحات حول مضمون المقالة، و أحيانا جاء العرض خاليا من أية إيضاحات دون ذکر سبب ذلک، مثلا في صفحة 98 ورد تعريف المقالة على النحو التالي: «أبو حامد الغزالي: تكفير المقلدين له و رأيه في الردة و الكفر»، من دون أية إيضاحات إجمالية حولها.

أمثلة لعرض بعض المقالات (نقلا عن الصفحة 97)

المثال الأول: «الآثار الأمنية لظاهرة التكفير و مواجهتها عالميا».مختار حسين شبیلی، السجل العلمي لمؤتمر ظاهرة التكفير : ملخصات البحوث المقدمة بالمؤتمر (جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1432 ه).

دراسة لظاهرة التكفير و تطورها و الآثار الأمنية الناجمة عن تنامي الفكر التكفيري من قبيل الدعوات الهدامة، إشاعة أجواء الرعب، تشكيل الجماعات المسلحة. كما يشير المؤلف إلى السبل و الآليات الكفيلة بمواجهة الجماعات التكفيرية مثل العمليات الاستباقية، العمليات الميدانية، تعاون الحكومات لمواجهة الإرهاب، مساعي الحكومات لمواجهة العنف و الإهاب .

ص: 178

المثال الثاني : «آثار ظاهرة التكفير».اسماء بنت سلیمان السويلم، السجل العلمي لمؤتمر ظاهرة التكفير: ملخصات البحوث المقدمة بالمؤتمر (جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1432 ه).

تبحث هذه المقالة في الموضوعات التالية: الآثار الفردية للتكفير من قبيل التهديد الإلهي الشديد، الخروج من ملة المسلمين، الآثار الاجتماعية للتكفير مثل زوال الألفة و المودة بين الناس، تلاشي قوة المجتمع و الابتعاد عن المصالح

ثم ختم الكتاب (في صفحة 193) بتكشیف للمؤلفين.

خاتمة:

هذا الكتاب ذو فائدة للباحثين و علماء العالم الإسلامي، و لكن على الرغم من هذه الجهود، تشوبه بعض نقاط الضعف، من بينها عدم تغطيته للكتب المدونة باللغات الأخرى، كالأنجليزية مثلا، و هي لغة عالمية مهمة، إذ كان يمكن لهذه الخطوة أن تثري الكتاب بشكل أكبر. كما أن تبويب محتويات الكتاب بصورة موضوعية كانت لتزيد استفادة الباحثين أضعافا.

ملاحظة

لا بد من التنويه هنا إلى أن كتاب «ببليوغرافيا التكفيره صدر باللغتين العربية و الفارسية بالتزامن مع عقد المؤتمر العالمي «آراء علماء الإسلام في التيارات المتطرفة و التكفيرية»، ليكون في متناول الباحثين والمهتمين، لكنه لم يغطي أعمال المؤتمر و المقالات المرسلة إليه.

و أثناء انعقاد جلسات المؤتمر صدرت مجموعة كاملة بأعمال المؤتمر ضمت حوالي 25 مجلدا، بالإضافة إلى عشر مجلدات تحت عنوان المجموعة الكاملة لمقالات المؤتمر احتوت على 700 مقالة مشاركة في المؤتمر.

ص: 179

و قد مثلت مقالات المؤتمر تلک عصارة آراء و نظريات العلماء و المفكرين في العالم الإسلامي، حيث توزعت على أربعة محاور هي:

1. نسابية (جينالوجيا) التيارات التكفيرية؛ 2. جذور معتقدات التيارات التكفيرية؛ 3. التيارات التكفيرية و السياسية ؛ 4. آليات العالم الإسلامي في محاربة التيارات التكفيرية. و من أجل استفادة القراء بشكل أمثل و أكبر فقد جمعت مستخلصات جميع المقالات في كتاب عنوانه «مستخلصات مقالات المؤتمر العالمي "التيارات المتطرفة و التكفيرية من منظار الإسلام"».و صدرت هذه المجموعة من المقالات باللغتين الفارسية و العربية.

كما أنه و طيلة العام الماضي، بعد انعقاد المؤتمر و صدور كتاب ببليوغرافيا التكفير، صدرت كذلك أعمال جديدة في إيران و بعض البلدان الإسلامية في نفس الموضوع، نستعرض هنا بعضا منها زيادة في استفادة القارئ:

نصوص متوحشة ... التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية. علي أحمد الديري، بيروت، مرکز أوال للدراسات والتوثيق، 2015م. (أحمد الديري، هو کاتب بحريني يناقش في كتابه الحالي القاعدة الفكرية و العقدية لداعش و الجماعات الإرهابية الأخرى التي ارتكبت على مدى التاريخ أبشع الجرائم الوحشية استنادا إلى تلک المعتقدات و باسم الدين. صدر الكتاب عن مركز دراسات «أوال» في بيروت، و يقدم المؤلف دراسة نقدية عن التكفير منذ العصر السلجوقي حتى سلفية ابن تيمية و من سار على نهجه. يقول الديري: إن الأعمال الوحشية التي ارتكبها تنظيم داعش جعلتني أبحث عن جذور هذه المسألة. ففي النصوص القديمة، و بالتحديد في كتب الغزالي و ابن تيمية نجد الكثير من الآراء التي تشرعن القتل و الاغتيال و التكفير سياسيا و فقهيا. و بحسب اعتقاد المؤلف، إن داعش و النصرة و أخواتهما من الجماعات التكفيرية ليست وليدة هذا العصر بل إن هذا الفكر يضرب بجذوره في تاريخنا ممثلا في كتب و فتاوی أشخاص مثل ابن تيمية و ابن تومرت و الغزالي و

ص: 180

المماليك الذين أفتوا بكفر من يخرج على طاعة الخليفة و وجوب قتله. (شعار: اقتل لتدخل الجنة)

آراء علماء الإسلام في التكفير. ذياب المهداوي، تحقيق: أحمد محمد قيس، بیروت، دارالملاک، 2015م، 168 صفحه. (الشيخ ذياب المهداوي، عالم فلسطيني مقيم في جنوب لبنان، جمع في كتابه آراء العلماء و المفكرين المسلمين حول التكفير و قام بمناقشتها)

بين الكفر و التكفير في ضوء الكتاب و السنة . طه محمد فارس، بیروت، مؤسسة الريان، 2015م، 224 صفحة.

تكفير أهل الشهادتين: موانعه و مناطاته- دراسة تأصيلية. الشريف حاتم بن عارف العوني، بيروت، مرکز نماء للبحوث و الدراسات، 2015م، 171 صفحه.

الإسلام و التكفير؛ التكفيريون: وداعا يا إسلام. حسن عباس نصر الله، بيروت، دار القاري، 2015م، 192 صفحة.

زبدة التكفير في رفض السب و التكفير. العلامة السيد علي الأمين، بیروت، دار مدارک للنشر، 2015م، 201 صفحة.

إذن، من خلال النشاط الأخير الذي لحظناه في المراكز العلمية و الدراساتية في إيران و بعض البلدان الإسلامية عقب انعقاد المؤتمر لمواجهة التيارات التكفيرية، و الإصدارات الجديدة التي ظهرت في المكتبات في نقد الفكر التكفيري و التيارات التكفيرية، يمكن القول بثقة كاملة أنه بعد صدور كتاب «ببليوغرافيا التكفير»في كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي، صدر على الأقل 250 عملا جديدا (بما في ذلك الكتب و المقالات و الرسائل و الأطروحات الجامعية) في موضوع التكفير. و على هذا الأساس، إذا أردنا اليوم أن نقدم إحصاءات و أرقام حول حجم الأعمال الصادرة في هذا الموضوع، فإن الرقم قد يبلغ حوالي 800 عملا هو مجموع نتاج المفكرين المسلمين.

ص: 181

ص: 182

قائمة بمنشورات المؤتمر العالمي حول مواجهة التيارات المتطرفة و التكفيرية

1. فتنة التكفير و جذورها و آثارها في المجتمع

هذا الكتاب بقلم سماحة آية الله العظمی سبحاني و يتناول فيه موضوع التكفير و أسبابه و جذوره و آثاره على المجتمع .

2. الإيمان و الكفر

بحث من تأليف حجة الإسلام و المسلمين الدكتور علي زاده موسوي و يسلط الضوء فيه على مختلف زوايا الإيمان و الكفر.

3. التكفير من وجهة نظر علماء الإسلام

يستعرض الكتاب و هو من تأليف علي أصغر رضواني، آراء مشاهير علماء المذاهب و الفرق الإسلامية حول نبذ التكفير، و قد سعى إلى تغطية آراء العلماء في القرون الماضية حتى اليوم في موضوع تكفير أهل القبلة. صدر هذا الكتاب باللغتين الفارسية و العربية.

ص: 183

4. هدم المزارات و المشاهد الإسلامية في البلدان العربية

من تأليف أحمد خامه یار و يضم السجل الأسود للتيارات التكفيرية في هدم الأماكن و المشاهد المقدسة في العالم الإسلامي. و الكتاب عبارة عن بحث مصور عن المزارات قبل الهدم و بعده، و قد صدر باللغتين الفارسية و العربية .

5. فتاوى التيارات التكفيرية في جواز قتل المسلمين

تصدر أحيانا عن التيارات التكفيرية، بسبب انحرافهم، بعض الفتاوى التي لا تستقيم مع أي من القواعد الفقهية، و بعيدة كل البعد عن التعاليم الإسلامية. قام مؤلف الكتاب السيد محمد یزداني، بجمع الفتاوى التكفيرية الصادرة عن هذه التيارات، و قد طبع الكتاب بنسختين: عربية و فارسية.

6. ببليوغرافيا التكفير

لو رجعنا إلى الأعمال و المؤلفات التي دونت في موضوع التكفير سنجد بأن عدد هذا النوع من الأعمال كبير جدا. يقدم الكتاب الحالي عرضا توصيفيا بالمؤلفات الصادرة في موضوع التكفير و نبذه. دون الكتاب أبو ذر نصر الأصفهاني، و صدر باللغتين العربية و الفارسية.

7. الوهابية المتطرفة؛ موسوعة نقدية:

تنطوي الوهابية على أفكار و آراء تؤكد على تكفير المسلمين. يحتوي هذا الكتاب: الوهابية المتطرفة؛ موسوعة نقدية، بعض المصنفات لعلماء مسلمين دونت منذ ظهور التيار الوهابي و حتى اليوم، و تتناول بالنقد و التحليل عقائد هذا التيار . صدر الكتاب في خمسة مجلدات و باللغة العربية.

ص: 184

8. مجموعة المقالات:

صدرت مجموعة مقالات المؤتمر المختارة في 10 مجلدات و باللغتين العربية و الفارسية، و اختصت المجلدات 1، 2، 5، 6، 7، 8، 9 و 10 من هذه المجموعة بالمقالات المحلية الشيعية، بينما اختص المجلد الثالث بمقالات علماء أهل السنة و بعض المقالات الأجنبية، و أفرد المجلد الرابع للمقالات الخارجية فقط.

9. كراسات التيارات السلفية باللغة العربية:

ثمة كراسات صدرت باللغة الفارسية تقوم بتسليط الضوء على التيارات السلفية المعاصرة و تحليلها، دونها كتاب متخصصون في باب التيارات السلفية، أشرف عليها و راجع مادتها العلمية حجة الإسلام و المسلمين الدكتور مهدي فرمانیان رئيس كلية المذاهب في جامعة الأديان و المذاهب، و رئيس مؤسسة دراسات «بنيان ديني» في مؤسسة دار الإعلام لمدرسة أهل البيت علیهم السلام (عليهم السلام)، و قد قام قسم البحوث في الأمانة العامة للمؤتمر بترجمتها إلى اللغة العربية. العناوين العربية للكراسات المذكورة عبارة عن:

1. تاريخ الفكر السلفي، بقلم: الدكتور مهدي فرمانیان؛

2. داعش؛ دراسة نقدية، بقلم: محمد إبراهيم نجاد؛

3. التيار السلفي - الزيدي، بقلم: السيد محمد مهدي عادي؛

4. جماعة التبليغ، بقلم: علي ملا موسی میبدي؛ .

5. السلفية الجهادية، بقلم: مجيد فاطمي نجاد؛

6. تنظيم القاعدة، بقلم: أحمد ربيعي؛

7. الإخوان المسلمون، بقلم: صادق مصلحي.

ص: 185

10. الرصد الخبري التحليلي للتيارات المتطرفة و التكفيرية

يقوم هذا الكتاب بر صد و نشر ما ترتكبه التيارات المتطرفة و التكفيرية و التحليلات الصادرة بشأنها، و كذا انعقاد المؤتمرات المناهضة للتكفير، و آخر الإصدارات ذات الصلة، و انعكاس الأعمال التي تقوم بها التيارات المتطرفة و التكفيرية في العالم بغية إطلاع المرجعيات الرشيدة و العلماء و المفكرين و الباحثين و اتخاذ القرارات الصائبة و وضع البرامج الدقيقة في ضوء التطورات المتلاحقة في العالم الإسلامي

الكتاب من إعداد محمد إبراهيم نجاد و محمد علي موحدي بور و أحمد ربيعي.

11. تسجيل الوقائع الخاصة بمؤتمر آراء علماء الإسلام في التيارات المتطرفة و التكفيرية

يسرد الكتاب جميع الوقائع الخاصة بالمؤتمر منذ أوائل تشکیل الأمانة العامة للمؤتمر في عام 2012م حتى يوم انعقاده في تشرين الثاني 2014 م.

12. کراس حرمة تكفير المسلمين و الإساءة لمقدسات المذاهب الإسلامية

يجمع الكراس فتاوی و آراء مراجع الدين و العلماء المسلمين حول حرمة تكفير المسلمين و الإساءة لمقدسات المذاهب الإسلامية في إطار تعزيز أسس التقريب بين المذاهب الإسلامية و زيادة التقارب أكثر فأكثر بين العلماء و المفكرين

ص: 186

من سائر المذاهب الإسلامية للتصدي للتكفير و جرائم التكفيريين على الصعيد النظري. في البداية، تم إعداد هذا العمل في مركز بحوث الحج و الزيارة، و من ثم اضطلع قسم البحوث بالمراجعة العلمية و إضافة فتاوی و آراء جديدة لمراجع الدين. قام بالمراجعة أحمد كوثري و أشرف عليه الدكتور مهدي فرمانیان، و قد صدر باللغتين العربية و الفارسية.

ص: 187

درباره مركز

بسمه تعالی
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
با اموال و جان های خود، در راه خدا جهاد نمایید، این برای شما بهتر است اگر بدانید.
(توبه : 41)
چند سالی است كه مركز تحقيقات رايانه‌ای قائمیه موفق به توليد نرم‌افزارهای تلفن همراه، كتاب‌خانه‌های ديجيتالی و عرضه آن به صورت رایگان شده است. اين مركز كاملا مردمی بوده و با هدايا و نذورات و موقوفات و تخصيص سهم مبارك امام عليه السلام پشتيباني مي‌شود. براي خدمت رسانی بيشتر شما هم می توانيد در هر كجا كه هستيد به جمع افراد خیرانديش مركز بپيونديد.
آیا می‌دانید هر پولی لایق خرج شدن در راه اهلبیت علیهم السلام نیست؟
و هر شخصی این توفیق را نخواهد داشت؟
به شما تبریک میگوییم.
شماره کارت :
6104-3388-0008-7732
شماره حساب بانک ملت :
9586839652
شماره حساب شبا :
IR390120020000009586839652
به نام : ( موسسه تحقیقات رایانه ای قائمیه)
مبالغ هدیه خود را واریز نمایید.
آدرس دفتر مرکزی:
اصفهان -خیابان عبدالرزاق - بازارچه حاج محمد جعفر آباده ای - کوچه شهید محمد حسن توکلی -پلاک 129/34- طبقه اول
وب سایت: www.ghbook.ir
ایمیل: Info@ghbook.ir
تلفن دفتر مرکزی: 03134490125
دفتر تهران: 88318722 ـ 021
بازرگانی و فروش: 09132000109
امور کاربران: 09132000109