الفكر السياسي في رؤية الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)

هوية الکتاب

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 344 لسنة 2017 م مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف: BP38.09.S5 M8 2017 المؤلف الشخصی: الموسوی، علی جمیل عبد.

العنوان: الفکر السیاسی فی رؤیة الإمام علی بن أبی طالب (علیه السلام)/ بيان المسؤولیة: الدکتور علی جمیل عبد الموسوی، تقدیم سید نبیل الحسنی الکربلائی.

بيانات الطبعة: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة - مؤسسة علوم نهج البلاغة. 1438 ه = 2017 م.

الوصف المادي: 352 صفحة.

سلسلة النشر: سلسلة الرسائل الجامعیة / العراق - وحدة العلوم السیاسة - مؤسسة علوم نهج البلاغة.

تبصرة عامة: الکتاب بالأصل أطروحة دکتوراه تبصرة ببیلوغرافية: الکتاب يتضمن هوامش - لائحة المصادر (الصفحات 330 - 349).

موضوع شخصي: محمد (صلی الله علیه وآله) نبی الإسلام، 53 قبل الهجرة - 11 هجریاً - سیاسته وحکومته.

موضوع شخصي: علی بن أبی طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجریاً - سیاسته وحکومته.

موضوع شخصي: علی بن أبی طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجریاً - إثبات الخلافة.

موضوع شخصي: علی بن أبی طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجریاً - تأثیر فی الفکر السیاسی.

مصطلح موضوعي: العلماء المسلمون - الشیعة الإمامیة - تعقب وإیذاء.

مصطلح موضوعي: النظام السیاسی فی الإسلام.

مصطلح موضوعي: الخلافة.

مصطلح موضوعي: العباسیون - توراث.

مصطلح جغرافی: البلاد الإسلامیة - سیاسة وحکومة.

مؤلف إضافی: الحسنی الکربلائی، نبیل قدوری، 1965 -، مقدم.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة

ص: 1

اشارة

ص: 2

سلسلة الرسائل الجامعية - العراق

وحدة العلوم السياسية (18)

الفكر السياسي

في رؤية

الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)

تألیف الدکتور علی جمیل عبد الموسوی

إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة

فی العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1438 ه 2017 م

العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الاكبر (عليه السلام) مؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف: 07728243600 07815016633

الموقع الالكتروني: www.inahj.org

الايميل: Info@Inahj.org

تنويه: إن الأفكار والآراء المذكورة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها، و لا تعبر بالظرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة

ص: 4

الاهداء

الى من رآني قلبها قبل عينيها.....

وحضنتني احشاؤها قبل يديها.....

اهدي سلامي ومحبتي اليها.....

اليك امي.....

الى قدوتي الاولى.....

ونبراسي الذي يضيء دربي.....

الى من اعطاني ولم يزل يعطيني بلا حدود.....

الى من أرفع رأسي عاليا افتخارا به.....

اليك ابي.....

اهدي هذا الكتاب .....

علي

ص: 5

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤسسة

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم من عموم نعم أبداها وسبوغ آلاء أسداها والصلاة والسلام على من هم موضع سره، ولجأُ أمره، وعيبة علمه، ومؤمِل حكمه، وكهوف كتبه، وجبال دينه، وخیر نعمه وأتمها محمد وآله الأخيار الأطهار..

أما بعد:

لعله من بین أهم ما يحتاجه الباحث في تأصيل رؤيته البحثية وموضوع دراسته هو الفرز بین المفاهيم والمصاديق وتطبيقاتها الحياتية وفق المنهج الذي وضعه سيد الخلق وانموذجها الأقوم صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الأمة التي اختیرت أن تكون خیر أمة أخرجت للناس. والمحدد بین الثقلین القرآن وعدله وترجمانه الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهیراً.

والحديث عن السياسة (دراسةً وبحثاً) لا يخلو عن الاحتياج إلى تأصيل المفاهيم وفرزها والمصاديق وتطبيقاتها كي يصل القارئ مع الباحث في جولته البحثية إلى قناعة لا يشوبها الريب في أن آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم هم خیر الناس وللناس ومن ثم لا يقاس بهم أحد وإن علا شأنه وشمخ شرفه فقد طأطأ كل شريف لشرفهم.

ولذا:

تبقى السياسة بمفهومها ومصداقها الذي عايشته الأمم منذ انطلاق نظرية التوكيل والتأليه إلى العصر الملكي والجمهوري والإمبراطوري لدى الرومان نزولاً إلى البدو والحضر وقوة القبيلة لدى العرب وانتهاءً بالأنظمة المعاصرة والسياسية

ص: 6

الحديثة وتعدد نظرياتها وتعاريفها ومناهجها، لا تخرج عن كونها مصداق لما توصل إليه ميكافيلي (ت 1527 م) في تعريفه للسياسة فقال: (فن الإبقاء على السلطة وتوحيدها في قبضة الحاكم بصرف النظر عن الوسيلة التي تحقق ذلك).

سواء كانت هذه الوسيلة هي الدين كما قال سيد التغيیر والاصلاح الإمام الحسین عليه السلام: «الدين لعق على السنة الناس يديرونها ما دارت معائشهم» أو سواء كان بالتكافل الاجتماعي والرعاية الصحية وبذل المؤن للناس، أو سواء كان بالقيم الإنسانية كالحرية والمساواة والعدل وغيرها.

كل ذلك يتخذه الحكام ومن يسعون للسلطة وسيلة لغرض الإبقاء على السلطة وقبضها بيدهم.

والسلطة والوصول إليها ودوامها هي الفارق بین الفكر السياسي عند الناس جميعاً وبین الفكر السياسي عند الإمام علي عليه السلام والأئمة المعصومین من بعده فالإنسان هو السلطة وليس السلطة هي الإنسان والبحث الذي بین أيدينا وهو اطروحة دكتوراه والموسوم ب (الفكر السياسي في رؤية الإمام علي بن أبي طاب عليه السلام) للباحث الدكتور علي جميل عبد الموسوي واحد من الأبحاث الرصينة والجادة التي أخذت على عاتقها بحثاً واستدلالاً وتأصيلاً لبيان الفارق الحقيقي بین تقديم الإنسان على السلطة عند الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وبین تقديم السلطة على الإنسان، منذ أن عرف الإنسان الحكم والقيادة والنفوذ والسلطة.

فجزى الله الباحث كل خير فقد بذل جهده وعلى الله أجره.

السيد نبيل الحسني

رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 7

المقدمة

يعيش المجتمع الانساني في حالة انقسام مستمر ناجمة عن ازمة فقدان للثقة بین الشعوب والحكومات والدول المتجاورة والمتباعدة والحضارات والامم. ان جميع من يتناحر ويختلف يدعي انه يجسد القيم العليا، ويتخذ منها ذريعة في اقصاء الآخر، وهذا ما أثارني وحرني كما حیر الملايین من البشر في البحث عن نظام سياسي يمثل اسمى درجات التمسك بالقيم العليا. لذلك بدأت في جولة بین اروقة المكتبات المحلية والعالمية ومحاورة المختصین في المجال السياسي في محاولة لدراسة التاريخ السياسي العالمي، فوجدت ان هنالك موجة حضارية اولى يسعى الساسة من خلالها الى ادارة الدول دون الاكتراث لأي قيمة دينية او انسانية، لتصورهم بتمحور كل شيء في ذواتهم وهذا ما يعبر عنه كل الطواغيت.

ثم تقدمت خطوة في البحث فوجدت موجة حضارية ثانية يتخذ الساسة القيم ذريعة لتمرير مخططاتهم، للسيطرة على ثروات شعوب العالم منطلقین من نظرة متعالية يقسم بموجبها العالم الى قسمين، عالم فوق سقف التاريخ يتمثل بالحضارة الغربية في الربع الاول من القرن الواحد والعشرين؛ لامتلاكها قوى التغیير الثلاث؛ العسكرية، والاقتصادية، والتكنلوجيا. وعالم آخر يكون تحت سقف التاريخ؛ لان الحضارات التي تستظل تحت سقفه توصف بأنها محدودة ولا تمتلك موجا سياسيا منافسا للحضارة الغربية. ومن هنا بدأت التفكیر بموجة حضارية ثالثة يكون محورها القيم وتتحقق بها احلام وطموحات الامم. فكانت تلك موجة الفكر السياسي الاسلامي التي سادت في صدر الاسلام الاول، وكان انموذجها الامثل بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) الامام

ص: 8

علي (عليه السلام).

فقررت البحث في هذا المجال عبر مسارين: المسار الاول البحث عن معالم الفكر السياسي لذلك الانموذج، والآخر البحث في النماذج التي حاولت ان تستوعب ذلك الفكر مع الاخذ بنظر الاعتبار معطيات الواقع السياسي لذلك تضمن البحث مقدمة مدخلاً وثلاثة فصول وخاتمة.

يشمل المدخل الاول ثلاثة اجزاء، يتناول الاول بعض المفاهيم التي تدخل في المجال السياسي كمفهوم الفكر والسياسة وموضوعاتها والحضارة ومميزاتها مع بيان تداول كل منها وصولا الى تعريف مفهوم الفكر السياسي في اطاره العام والاسلامي وتحديد جملة من مصادر الفكر السياسي وخصائصه.

ويبحث الثاني في ملامح الفكر السياسي في الحضارات القديمة سواء أكانت شرقية أم غربية، ومحاولة الاجابة عن تساؤلات حول امكانية تثبيت اسبقية الوجود السياسي في حضارة معينة من دون غيرها من الحضارات الشرقية القديمة. وهل توجد حركة سياسية اصلاحية يقودها الانبياء موازية لوجود تلك الحضارات؟ ويشغل الفكر السياسي في اثنین من الحضارات الغربية القديمة وهما الحضارتان اليونانية والرومانية حيزا مهما من البحث لما تحوي هاتان الحضارتان من شخصيات أسهمت في تأسيس نظريات سياسية تحاول بيان اوجه الشبه والاختلاف بينها، ومعرفة اثرها في غيرها من الحضارات اللاحقة سلبا وايجابا.

ويرصد الجزء الثالث اوضاع العرب قبل الاسلام خصوصا في منطقة الجزيرة العربية. إذ يحدد اهمية موقعها الجغرافي بین الامم، ومزايا سكانها وما كانوا يتمتعون به من ثقافة فكرية وعقائدية، وبيان مكانتها السياسية، وهل كانت فعلا ترتقي الى مستوى النظرية أو انها مقصورة على مجرد آراء سياسية؟ يتناول الفصل الاول وجود الحضارة الاسلامية وفيما اذا كانت عدداً يضاف الى

ص: 9

الحضارات السابقة عليها أو انها تشكل نقلة نوعية في مختلف المجالات، سيما الفكر السياسي، ويقسم هذا الفصل الى جزءين يتحدث الاول عن معالم الفكر السياسي في الحضارة الاسلامية ولا سيما عصر النبوة الخاتمة.

وهل كانت الحاجة المتبادلة بین افراد المجتمع عاملاً رئيسيا في ضرورة وجود الدول أو ان هنالك اسباباً اخرى تسهم في تأسيس الدول حسب الرؤية الاسلامية، وما أثر الحاكم في ذلك ومعرفة مدى التزامه بالقانون وما يتمتع به من حقوق عامة وخاصة في ظل الدولة الاسلامية، وما نوع الطبقية في المجتمع الاسلامي؟ وهل كان معيار التفضيل فيها قائماً على المصلحة الشخصية أو المهنية والكفاءة؟ كل هذه الاسئلة وغيرها يظهر جوابها من خلال الاعلان عن أول دولة اسلامية بقيادة الرسول الاكرم محمد (صلى الله عليه وآله) التي ظهرت بوادرها في مكة المكرمة وتبلورت وتكاملت معالمها في المدينة المنورة، اذ نحاول تشخيص مظاهرها وعناصرها واركانها وتحديد ماهية السلطات الثلاث فيها التشريعية والتنفيذية والقضائية.

ويتحدث الجزء الثاني عن اهم مشكلة سياسية واجهت المسلمين بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألا وهي الامامة وتعني تحديد القيادة السياسية للأمة، اذ نتطرق الى مفهوم الامامة لغةً واصطلاحا مع ايراد بعض معاني الامامة التي وردت في القرآن الكريم وبيان الملابسات التي اثیرت حولها وردّ الشبهة عنها، ومعرفة مدى اتفاق المسلمين حول ضرورة وجود الامامة من عدمه ووحدة مفهوم الامامة والخلافة، وفي ان العصمة تعد شرطا اساسيا في وجود الامام. ونسعى الى متابعة بعض الآراء المختلفة وادلتها حول هذه المسائل من خلال الكتاب والسنة النبوية وآراء المفكرين والعلماء المختصین في هذا المجال، وينتقل البحث بعد ذلك الى تحديد آليات تعيین الامام، فهل حدد الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) عنوان الامام في حياته؟! أو انه وضع شروط اختياره للمسلمين من بعده او ترك الامر من دون ان يهتم به؟ فهل يوافق ذلك الراي الاخیر العقل والمنطق ويدور البحث حول هذه الآراء المختلفة، اذ حيث يقدم بعض

ص: 10

المسلمين ادلة اثبات لاختيار الحاكم عبر الشورى ويذهب آخرون الى القول بالنص بل التخصيص في النص والائمة الاثني عشر، ويستند القائلون به ايضا عبى ادلة تحاول بيان تلك الآراء مع ايراد بعض الملاحظات التقويمية عليها وينتقل البحث في الفصل الثاني الى الحديث عن الامام عبي واثره في رسم صورة مشرقة للاسبام وبيان مساهمته السياسية الفاعلة في ظهور اول دولة اسبامية الى جانب رسول الله وحرصه الكبشر في الحفاظ عليها من بعده وتصحيح مسارها عبر تسليم الامام قيادة الدولة الاسلامية، ويتضمن هذا الفصل جزءين يتحدث الاول عن نهج سياسة الامام ومحاولة كشف بعض مرتكزاته عبر متابعة نصوصه وخطبه وحكمه، وتأكيده على ان تكون سمة الشرعية حاضرة في اهداف ووسائل الساسة للوصول الى السلطة، وترسيخ مبدأ طاعة الله، وتنفيذ اوامره والابتعاد عن نواهيه وممازجة الواقع بالمثال عبر استيعاب القيم العليا في ممارسة الواقع السياسي بشكل تام ومن ثم تأسيس الدولة العقائدية وتحقيق اهدافها العليا عبر آليات معينة ويحدد الامام بعض الطرق والوصايا التي تؤدي الى الحفاظ على بقاء الدول وتجنب اسباب زوالها. ونسعى في البحث ايضا الى تخصيص بعض مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية. وكان من ابرزها مؤسسة الرئاسة والدفاع والداخلية والعدل والمالية والثقافة والخارجية، ولكي يحصن الامام الدولة من الانحراف اسس جهازاً رقابياً لتقويم مسار الدولة، وحدد نوعاً آخر من الرقابة يتمثل في المعارضة السياسية.

ويتطرق الجزء الآخر الى مفهوم المعارضة السياسية التي أسسها الامام على مستوى نظري، ومارسها عمليا فيما اذا كان المعارض خارج السلطة او في حالة مواجهة السلطة للمعارضة السياسية.

ونتناول في البحث بعض العوامل الشرعية التي تؤدي الى قيام المعارضة السياسية وتحديد مستوياتها واشكالها وتوفر مساحات التعبیر عن الرأي مع إعطاء الحقوق الكاملة لها؛ لكي تسهم في بناء الدولة مع بيان بعض الامثلة التاريخية التي تدعم هذه المبادئ التي رسخها الامام خلال حياته السياسية.

ص: 11

يتناول البحث في الفصل الثالث اثر الدولة الانموذج التي قادها الامام علي على مر التاريخ السياسي الاسلامي، ويقسم هذا الجزء الى جزءين يذهب الاول الى تحديد الدول التي كان لها أثر سلبي في مواجهة نهج الامام علي عليه السلام السياسي، وهو ما اثر في استمرار وجودها ومن ثم سقوطها، وقد تجسد ذلك في ما نطلق عليه بالدول الممانعة، وعلى وجه الخصوص عصر الدولتین الاموية والعباسية، على حین يوجد تأثر ايجابي بنهج الامام علي السياسي تمثل بالدول الموالية التي كانت على مرحلتین الاولى تعبر عن الثورات السياسية والحماسية وقد يهدف بعضها الى تأسيس دولة موالية او يقتصر البعض الآخر على مجرد ردود الفعل، وفي المرحلة الثانية تتحول الثورات ذات الطابع السياسي الى دول تقوم على أسس مستلهمة من نهج الامام علي عليه السلام، ونحاول في هذا البحث تحديد بعض الدول التي ظهرت في اماكن وازمنة مختلفة وأسهمت في بناء الحضارة الاسلامية، ويتناول الجزء الثاني اثر الامام علي عليه السلام على رواد الفكر السياسي القديم والمعاصر؛ حيث تشغل نصوص الامام علي حيزاً كبیراً من مؤلفاتهم السياسية، ويظهر لنا بعضها على مستوى تأسيس نظرية تكون عاما مساعدا للملوك والرؤساء في ادارة الدولة، وبعضها يبحث معالجة المشاكل السياسية ويتطرق آخر الى موضوعات سياسية متنوعة فضلا عن ان نصوص الامام علي السياسية كانت مؤثرة في غیر المسلمين في شتى بقاع العالم، ويقر بعض المفكرين بأن الإمام يمثل صوت العدالة الانسانية، بل أوصت منظمة الامم المتحدة جميع الملوك والرؤساء بضرورة الاستفادة من نصوص الامام وكتبت مقولة من كلماته على إحدى ابوابها تقول: (الناس صنفان اما أخ لك في الدين او نظر لك في الخلق)، ثم انتهينا من البحث بخاتمة حملت مجموعة من النتائج فضلا عن ذكر قائمة بالمصادر العربية والاجنبية، واني اسأل الله ان يكون هذا البحث قد حقق اضافة نوعية للمكتبة الفلسفية والله ولي التوفيق.

ص: 12

مدخل إلى الفكر السياسي

اشارة

* تحديد المصطلح ومجال تداوله

* ملامح الفكر السياسي في الحضارات القديمة

* أوضاع العرب قبيل الإسلام

ص: 13

ص: 14

مدخل إلى الفكر السياسي

اولا / تحديد المصطلح ومجال تداوله:

قبل البدء بالحديث عن معالم الفكر السياسي الإسلامي في عصر النبوة الخاتمة وما بعدها على وجه الخصوص لابد لنا من الحديث عن المعاني الأصلية لكل من لفظي الفكر والسياسة والحضارة ومراجعة الأصول اللفظية والمعاني المرادفة لها في تعاملنا السياسي اليومي، بغية تجنب الوقوع في تشوهات تؤدي إلى انحراف المصطلحات المتداولة عن معناها الأساسي التي قد تصل أحياناً إلى حد التناقض في فهم المراد من كل مصطلح؛ ليتسنى لنا بعد ذلك الانطلاق في تحديد بعض ملامح الفكر السياسي في الحضارات الشرقية والغربية القديمة وتخصيص البحث في معرفة مدى إمكانية أن نجد بيئة سياسية عند العرب قبل الإسلام ترتقي إلى مستوى الممارسة السياسية وفق قيم ثابتة في شقيها النظري والعملي تحت إطار ما يعرف في الأوساط السياسية بالدولة.

ص: 15

الفكر

الفكر والتفكر في الإطار اللغوي:

«التفكر: التأمل والفكر بالكسر اسم منه، وله لمعنيین: أحدهما القوة المودعة في مقدمة الدماغ وثانيهما: أثرها أعني ترتّب أمور في الذهن يتوصل بها إلى مطلوب يكون علماً أو ظناً»(1).

وقال ابن منظور «الفكر إعمال الخاطر في شيء»(2).

الفكر اصطلاحاً:

لقد ورد لفظ الفكر في الكثیر من آيات القرآن الحكيم نعرض منها قوله تعالى:

«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»(3).

وقوله تعالى «وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»(4) «هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّماَءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ

ص: 16


1- الطريحي، فخر الدين: مجمع البحرين، ج 3، تحقيق أحمد الحسيني، ط 4، قم، 1408 ه، ص 444
2- ابن منظور، جمال الدين أبو الفضل محمد بن مكرم: لسان العرب، ج 5، مؤسسة أدب الحوزة، قم، 1405 ه، ص 65
3- سورة آل عمران، الآيتان (190 - 191)
4- سورة الجاثية، آية (13)

شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِی ذَلِكَ لآيَات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»(1) «ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»(2). وقد عرف الفكر مؤخراً بأنه إعمال العقل في الأشياء للوصول إلى معرفتها بالمعنى العام على كل ظاهرة من ظواهر الحياة العقلية، وهو مرادف للنظر العقلي والتأمل ومقابل الحدس(3).

وعرفه الجابري بأنه «جملة من الآراء والأفكار التي يعبر بها الشعب عن اهتماماته وعن مثله الأخلاقية ومعتقداته المذهبية وطموحاته السياسية والاجتماعية»(4).

ويعرف الباحث الفكر بأنه مجموعة من الأفكار والآراء التي نرسم بموجبها صورة عن الكون والإنسان والحياة.

اما السياسة: فقد جاءت في اللغة العربية بمعنى القيام بالأمر وتدبیره قال ابن منظور في لسان العرب: «ساس الأمر سياسة: قام به: سوس الرجل أمور الناس إذا ملك أمرهم والسياسة: القيام على الشيء: بما يصلحه»(5).

قال الفیروز آبادي: ((سست الرعية سياسة أمرتها ونهيتها»(6). قال ابن

ص: 17


1- سورة النحل، الآيتان، (10 - 11)
2- سورة الأعراف، الآية 176
3- صليبا، جميل: المعجم الفلسفي، ج 2، الناشر دار العربي، ط 1، قم، 138 ه، ص 154 - 155
4- الجابري، محمد عابد: تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 9، بيروت، 2006 م، ص 11
5- ابن منظور، جمال الدين ابو الفضل: لسان العرب، ج 6، ص 108
6- فيروز آبادي، محمد بن يعقوب: القاموس المحيط، ج 2، مؤسسة الحلبي وشركاؤه، القاهرة، ص 22

حجر: (سيوس): «أي يتعهد الشيء بما يصلحه»(1).

السياسة اصطلاحا:

لما كانت نظرة المجتمعات للسياسة مختلفة كثرت تعريفات السياسة باختلاف الأشخاص الذين ينطلقون من اتجاهات ومدارس فكرية وفلسفية مختلفة، فمدرسة تؤكد أن السياسة ترتبط بالدولة والحكومة وعلاقة الأفراد مع الدولة وكل ما يتعلق بشؤونها سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي. ومدرسة يمتد مفهوم السياسة فيها ويشتمل على أية علاقات إنسانية إذا وجدت فيها عناصر القوة والقواعد والسلطة بشكل واضح.

وهنالك مدارس أخرى تربط تعريف السياسة بوجود الاختلافات الإنسانية، فحينما توجد الاختلافات الإنسانية توجد السياسة، ويهمنا في هذا البحث أن نعرف «السياسة» تعريفاً إسلامياً منبثقاً من النظرية الإسلامية، وفهمنا للسياسة إلا أنه من المفيد أن نتناول بعض التعريفات وصور الفهم غیر الإسلامية للسياسة ولا سيما الفلسفية لدى بعض الفلاسفة.

1. عرفها أفلاطون (ت 348 ق. م) بأنها: فن تربية الأفراد في حياة جماعية مشتركة، وهي عناية بشؤون الجماعة. أو في حكم الأفراد برضاهم، والسياسي هو الذي يعرف هذا الفن»(2).

ص: 18


1- العسقلاني ابن حجر: تفسير غريب الحديث، دار المعرفة للطباعة والنشر، ط 1، بيروت، لبنان، ص 157
2- أفلاطون: رجل الدولة «السياسي»، تعريب أديب نعور، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت، 1959، ص 34

2. وعرفها أرسطو (ت 384 ق. م) بأنها: «إدارة الدولة وتربية المواطنین، لاكتساب الخبرات وتوجيههم في الالتزام بالعقل والفهم بهدف تحقيق الراحة والسلام في الدولة»(1).

3. وعرفها ميكافيلي (ت 1527 م) بأنها: «فن الإبقاء على السلطة وتوحيدها في قبضة الحكام بصرف النظر عن الوسيلة التي تحقق ذلك»(2).

أما السياسة من وجهة نظر إسلامية فقد عرفها الإمام علي (عليه السلام) بأنها: «العدل في الحكم والعفو عند المقدرة»(3) وهي من أعلى مراتب السياسة التي يصل لها الحاكم، وعند ذلك يجب طاعته ومن أسوأ السياسات في نظر الإمام علي (عليه السلام) هي الجور في الحكم حيث يقول: ((بئس السياسة الجور»(4).

وقد عرف السياسة بعض الفلاسفة المسلمين من أمثال ابن سينا (ت 428 ه) اذ يرى بأنها: «قسم من أقسام الحكمة التي تحتوي كافة العلوم النظرية والعلمية والتي تتناول السياسات والرئاسات والاجتماعات المدنية الفاضلة والرديئة ومعرفة استيفاء كل واحد منها وعلة زواله ووجهة انتقاله ومصدر كل ما يتعلق بالملك من هذه الموضوعات»(5).

ص: 19


1- ينظر، أرسطو طاليس: السياسة، تعريب أحمد لطيفي السيد، دار الكتب المصرية القاهرة، 1947، ص .276 - 277
2- ميكافيلي: الأمير، تعليق، ثبينوموسوليني، مقدمة كرستيان غارس، تعريب خيري حماد، تعقيب فاروق سعد، منشورات دار الآفاق الجديدة، ط 3، بيروت، 1999، ص 231، 247
3- الآمدي، عبد الواحد: غرر الحكم ودرر الكلم، مجموعة من حكم الإمام علي، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، ط 2، بيروت، لبنان، 2002 م، ص 121
4- المصدر نفسه، ص 96
5- آملي، جوادي: خمس رسائل لابن سينا، دار الصفوة، ط 1، بيروت، 2009 م، ص 135

وعرّفها الغزالي (ت 505 ه) بأنها: «إصلاح الخلق، وذلك عن طريق إرشادهم إلى الطريق المنجي في الدنيا والآخرة»(1).

وعرفها ابن رشد (ت 595 ه) بأنها: «البحث في القيم والعادات المكتسبة وبيان العلاقة بينها وغرسها في نفوس البشر»(2).

إن الفيصل بین تعريفات السياسة السابقة هو تحديد الوسيلة في إدارة الحكم، فالبعض يضفي على السياسة طابعاً أخلاقياً بمعنى تحكم القيم الأخلاقية في الوصول للسلطة، على حین يؤكد آخرون على مقدار ما تحققه السياسة من نتائج بصرف النظر عن نوع الوسيلة المتبعة من حيث المصدر.

وعليه ينظر الباحث للسياسة بأنها: رعاية شؤون الأمة، ويندرج في ضمنها إدارة جهاز الدولة وتحقيق العدالة في قيام الحكومة أو الحاكم بالواجب تجاه المحكوم ومناصرة المظلوم ضد الظالم.

موضوعات السياسة:

1. النظرية السياسية: هي عملية وضع ظواهر السياسة في إطار قانوني سواء أكان من منطلق سماوي أم وصفي بهدف التحكم في سیر حركة التفاعلات السياسية المختلفة الداخلية والخارجية(3).

ص: 20


1- القاضي، أحمد عرفات: التربية والسياسة عند ابن حامد الغزالي، دار ضياء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، 2000 م، ص 79
2- ينظر، ابن رشد أبو الوليد: تلخيص السياسة لأفلاطون ومحاورة الجمهورية، ترجمة: حسن العبيدي، دار التكوين، ط 1، دمشق - سوريا، 2008 م، ص 66
3- المسعودي، سلام فاضل: الموجز في المصطلحات والمفاهيم لنظم الدولة، مؤسسة الثقافة، بغداد، 2005 م، ص 94

2. الفكر السياسي العمليات الذهنية المتعلقة بالسياسة والتعبير عنها(1).

3. النظم السياسية - النظام السياسي. يمثل السياسة الفاعلة في عملية بناء وإدارة الدولة(2).

4. المؤسسات الدستورية الثلاثة: التشريعية والتنفيذية والقضائية(3).

5. العلاقات الدولية: وهي تمثل السياسة الخارجية المتبادلة بين الدول(4).

6. القانون الدولي: هي القوانين التي تحدد سلوك السياسيين الدوليين(5).

7. التنظيم الدولي: ويقصد به المؤسسات الدولية القائمة الآن وتتكون من الجمعية العامة ومجلس الأمن والأمين العام(6).

الفكر السياسي:

وهو أحد موضوعات السياسة ويتضمن الأفكار السياسية التي يتم التعبیر عنها من خلال الشخصيات السياسية في إطار القيم الكبرى.

ص: 21


1- المسعودي، سلام فاضل: الموجز في المصطلحات والمفاهيم لنظم الدولة، مؤسسة الثقافة، بغداد، 2005 م، ص 77
2- الهنداوي، جواد: القانون الدستوري والنظم السياسية، العارف للمطبوعات، النجف، 2010 م، ص 179
3- المصدر نفسه، ص 457
4- ينظر، المفتي محمد أحمد علي: العلاقات الدولية في الفكر السياسي الغربي، نشر جامعة الإسكندرية، ط 1، الإسكندرية، 1990 م، ص 1 - 5
5- ينظر، ياوكار، طالب رشيد: مبادئ القانون الدولي العام، ومؤسسة موكرياني للبحوث والنشر، ط 1، أربيل، 2009 م، ص 15
6- ينظر، الدقاق، محمد سعيد: التنظيم الدولي، الدار الجامعة الإسكندرية، ط 1، ص 35

الفكر السياسي الإسلامي: مجموعة القيم السياسية التي وضعت أصولها الحضارة الإسلامية ثم مجموعة التجريدات المتكاملة أي التبيان الفكري لتصوير وتفسیر الوجود السياسي كما قدمه كبار الفلاسفة في تاريخ الحضارة الإسلامية.

وبهذا المعنى تحت كلمة الفكر السياسي نستطيع أن نميز بین القيم السياسية والفلسفة السياسية كل منها يمثل بنداً معيناً في التراث الفكري السياسي(1).

أما الفكر السياسي بنظر الباحث فهو عملية تأمل في القيم العليا التي تتحكم في تفاعات الوجود السياسي وبيان نظرة الساسة حول القيم.

العوامل التي ساعدت في نشوء الفكر السياسي الإسلامي:

1. العامل الديني: ويتمثل في الرسالة الإسلامية التي أوجدت ترابطاً وثيقاً بین العقيدة الدينية وبعض المبادئ السياسية العليا التي استلهمت في الكتابات والإبداعات الفكرية السياسية التي ظهرت عبر التاريخ الإسلامي.

2. العامل البشري: الذي يتمثل في المجموعة البشرية العربية وغيرها من التي تحمل ثقافات مختلفة والتي أسهمت في بناء الفكر السياسي الإسلامي.

3. العامل الطبيعي: والذي يتمثل في وجود أثر للبيئة القاسية في صناعة الصفات البشرية سواء أكانوا أفراداً أم مجموعات قبلية والتي أسهمت في بناء ثقافتهم وتوضيح أثرهم في الفكر السياسي(2)

ص: 22


1- ربيع، حامد عبد الله: تطور الفكر السياسي، نشر كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، القاهرة، 1977 م، ص 206
2- ينظر، محمد، فاضل زكي: الفكر السياسي العربي الإسلامي بين ماضيه وحاضره، سلسلة الكتب الحديثة، وزارة الأعلام، بغداد، 1976 م، ص 14. وصادق، جهاد تقي: الفكر السياسي العربي الإسلامي، جامعة بغداد - كلية العلوم السياسية، ط 1، 1993 م، ص 21

مصادر الفكر السياسي الإسلامي:

اشارة

تنقسم مصادر الفكر السياسي الإسلامي إلى قسمين:

الأول: الوثائق التي يمكن من خلال تحليلها اكتشاف الفكر السياسي الإسلامي:

1. الخطب: وهي خطب القيادات الحاكمة للسلطة والتي تعد من أنواع الممارسة التطبيقية للسياسة(1).

2. الرسائل: وهي الرسائل المتبادلة بین الحاكم والساسة من رجاله وقيادات الدول الأخرى(2).

3. الكتب الموسوعية: وهي تشمل أنواع الكتب الموسوعية حول الطبقات والسیر وقد انفرد المسلمون عن غيرهم في هذا المجال(3).

4. الكتب المعنية بالسياسة: وهي الكتب التي اهتمت بالقضايا السياسية على وفق مبادئ اجتماعية او فلسفية أو فقهية(4).

ص: 23


1- ربيع، حامد عبد الله: تطور الفكر السياسي، ص 212
2- المصدر نفسه، ص 212
3- الخالدي، طريف: دراسات في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1977 م، ص 84 - 85
4- ينظر: على سبيل المثال لا الحصر، الشريف المرتضى، كتاب الشافي في الإمامة، ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، الماوردي، الأحكام السلطانية، والولايات الدينية، الفارابي، كتاب آراء، أهل المدينة الفاضلة

الثاني / الأصول الفكرية التي أسهمت في بناء التقاليد السياسية الإسلامية:

1. التقاليد العربية قبل الإسلام:

ويقصد العادات الموروثة من مجتمع البداوة التي تخص إدارة القبيلة، فاختيار الرئاسة مثلاً يكون على وفق توفر صفات ممدوحة مثل الشجاعة والكرم، وحل المشاكل بينهم يكون على وفق مبدأ المشاورة(1).

2. المبادئ المتضمنة في القرآن الحكيم والسنة النبوية:

جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية نصوص كثیرة تعد أساساً للقيم السياسية الإسلامية ومنطلقًا للممارسة السياسية على صعيد الواقع، ومن أمثلة هذه المبادئ مبدأ العدالة والمؤاخاة وغيرها(2).

3. التراث اليوناني:

إن أثر الفكر اليوناني على المسلمين جاء نتيجة تقدم روح البحث والتطلع عند المسلمين خصوصاً في العصر العباسي إذ إنّ الأفكار الفلسفية اليونانية غیرت من وجهة نظر الفلاسفة المسلمين في مجالات مختلفة ولا سيما في مجال الفكر السياسي(3).

ص: 24


1- ربيع، حامد عبد الله: تطور الفكر السياسي، ص 213
2- المصدر نفسه، ص 213
3- محمد، فاضل زكي: الفكر السياسي العربي الإسلامي بين ماضيه وحاضره، ص 87

4. التقاليد السياسية الأجنبية:

تأثر الفكر السياسي الإسلامي ببعض الممارسات السياسية الأجنبية من قبيل التفرد بالسلطة من قبل الحاكم، وتوارث السلطة وانحصارها بفئة معينة، ومظاهر الترف والإسراف والتكبر على الناس، وهذا أدى إلى ظهور موقفین، موقف مساند برر لهذا التأثیر. وموقف آخر معارض دعا إلى العودة للنهج السياسي المتبع في العصر السياسي الأول(1) (صدر الإسلام).

5. الأحداث الحاسمة والعنيفة في التاريخ الإسلامي:

وهي الأحداث التي أدت إلى وجود صراع وانقسام في الرأي وتفسیر هذا الاختلاف من منطلق التنظیر السياسي وإيجاد تبرير لكل من الاتجاه المناهض، والمؤيد مما أسهم في ظهور المذاهب السياسية والإسلامية(2).

خصائص الفكر السياسي الإسلامي:

اشارة

تميز الفكر السياسي الإسلامي بعدة ميزات نذكر منها:

1. العالمية:

إن الفكر السياسي الإسلامي لا يحده زمان ومكان بل يحمل صفات تجعل منه فكراً يتجاوز المحلية إلى العالمية، بما يمتاز به من ثراء فكري يتغلغل إلى أعماق النفس الإنسانية، وعدم الانغلاق الذي يؤدي إلى التعصب والانعزال عن غیره(3).

ص: 25


1- محمد، فاضل زكي: الفكر السياسي العربي الإسلامي بين ماضيه وحاضره، ص 79
2- ربيع، حامد عبد الله: تطور الفكر السياسي، ص 213
3- ينظر محمد، فاضل زكي: الفكر السياسي العربي الإسلامي، ماضيه وحاضره، ص 35

2. الأصالة:

إن الفكر السياسي الإسلامي يمتاز بالأصالة دون التقليد؛ لأنه يتمسك بأصالة البيئة التي نشأ فيها، ويعكس أسلوب وتفكیر تلك البيئة(1).

3. المرونة:

ومعنى ذلك أنه فكر لا يعيش في الماضي والحاضر بل يتعداه في الحاضر والمستقبل(2) فمقاييسه تقبل التطور؛ لما فيه من مرونة تتضح من خلال أمور منها:

أ- أن ما جاءت به الشريعة الإسلامية من مبادئ سياسية خاصة تناولت في الأغلب الأعم الخطوط العريضة دون التفاصيل الجزئية الدقيقة.

ب- وجود مبدأ الاجتهاد(3).

4. الشمولية:

وتعني النظر للسياسة كجزء من كل متكامل، فتكون أجزاؤه متفاعلة في داخل هذا الكل فتؤثر وتتأثر سلباً وإيجاباً حسب معطيات الواقع المحيط في مختلف جوانبه الدينية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية، ولذلك فإن تفهّم السياسة إنما يتم من خلال الفهم العام والكلي للحياة عموماً(4)، ويشیر بعض الدارسین العرب المعاصرين الى ذلك بالقول «إن الفكر السياسي الذي وجد في القرآن الكريم لم يكن

ص: 26


1- ينظر محمد، فاضل زكي: الفكر السياسي العربي الإسلامي، ماضيه وحاضره، ص 41
2- صادق، جهاد تقي: الفكر السياسي العربي الإسلامي، نشر جامعة بغداد، كلية العلوم السياسية، ط 1، 1993، ص 30
3- ينظر، محمد، فاضل زكي: الفكر السياسي العربي الإسلامية بين ماضيه وحاضره، ص 43
4- المصدر نفسه، ص 55

منفصلاً ولا متميزاً عن الفكر الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي»(1).

5. التقارب بين السياسة والأخلاق:

تعد القيم الأخلاقية منطلقاً في الفكر السياسي الإسلامي على العكس منها في بعض الأفكار السياسية الأوربية التي عدت الفصل بین السياسة والأخلاق أحد منطلقاتها الأساسية فمثلاً (فصل ميكافيلي علم السياسة عن علم الأخلاق فلم يؤمن بأن السياسة تتشكل من مذهب أخلاقي ولا تصب ذاتها في دائرة القيم الأخلاقية)(2)

6. التقارب بين الفكر وحركة المجتمع السياسي:

إن الفكر السياسي في الحضارة الإسلامية يؤكد على أن السياسة فكر وحركة؛ لذلك نجد المفكرين إما في صراع أو تعاون مع السلطة (كابن سينا وابن رشد وابن خلدون والغزالي الذي قضى فترة معينة في حياته منعزلاً يرفض الاحتكاك بالمجتمع السياسي أيضاً عرف الخبرة نفسها وعاش التجربة نفسها)(3).

ص: 27


1- شرف، محمد جلال و محمد علي المعطي: خصائص الفكر السياسي في الإسلام وأهم نظرياته، دار الجامعات المصرية، الإسكندرية، 1975، ص 20
2- المصدر نفسه، ص 21
3- ربيع، حامد عبد الله: تطور الفكر السياسي، ص 207

الحضارة

اشارة

لمعرفة معنى الحضارة لابد لنا من عرض المدلولین اللغوي والاصطلاحي لكلمة الحضارة:

1. الحضارة لغةً: الحضارة تعني في أصل اللغة الإقامة في الحضر والحضارة ضد البادية يقال فلان من أصل الحاضرة وفان من أصل البادية»(1) وفي لسان العرب «الحضارة والحضر وهي المدن والقرى والريف، بذلك لأن أصلها حضروا الأمصار ومساكن الديار التي يكون بها قرار»(2).

2. الحضارة اصطلاحاً: «إن الحضارة هي مدة ما وصلت إليه أمة من الأمم في نواحي نشاطها الفكري العقلي من عمران وعلوم وفنون وما وصل إلى ذلك والترقي بها في مدارج الحياة ومسالكها حتى تصل إلى الغاية»(3).

وهذا يعني ان الحضارة حسب هذا التعريف تختص بالجانب المادي فقط، وعرفها آخرون بأنها المظاهر الفكرية التي تسود أي مجتمع»(4).

وهذا يعني أن الحضارة مرادفة للثقافة ومقتصرة على الجانب الفكري والمعنوي فقط، وفي كلا الحالین نلاحظ أن الحضارة قد قصرت على جانب واحد فقط فلم يتم الإحاطة بكلا الجانبین المعنوي والمادي، وهذا يدعونا إلى اختيار تعريف آخر

ص: 28


1- معلوف، لويس: المنجد في اللغة، نشر دار العلم، ط 1، قم، 1382 ش، ص 139
2- ابن منظور، جمال الدين: لسان العرب، ج 4، ص 197
3- عبد الرزاق، احمد: الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، دار الفكر العربي، القاهرة، 1411 ه - 1990 م، ص 10
4- ديورانت، ول: قصة الحضارة، تعريب زكي نجيب محمود، الهيئة المصرية، ط 1، القاهرة، 1393 ه، 1973 م، ص 1 / 3

للحضارة يشمل كلا هذين الجانبین.

أولا / التعريف الإسلامي المعاصر للحضارة:

اشارة

الإنتاج الروحي والمادي الذي قدمته الحضارة الإسلامية للمجتمع البشري من قيم ومبادئ روحية وأخلاقية ومنجزات واكتشافات في الجوانب التطبيقية والتنظيمية.

مراحل الحضارة:

1. المرحلة البدائية: عبارة عن اجتماع بشري أفكارهم متفرقة وتجمعهم ضرورات الحياة في الحياة.

2. المرحلة الرسالية: مرحلة ينبعث فيها نبي يحمل رسالة سماوية يشعرهم بوضعهم المتردي ويبدأ بتغيیره عبر تعاليم هذه الرسالة فيتمحورون حولها ويفجرون طاقاتهم من أجل تحقيق ذلك.

3. مرحلة الاصطدام: في هذه المرحلة تصطدم الحضارة بعد نموها بما حولها من أفكار ومجتمعات تؤثر فيها سلباً وتصيبها بالانكماش، ولكن تبقى تتميز بالشجاعة وروح الإقدام من أجل الأهداف التي تحملها.

4. مرحلة المراجعة والتقييم: في هذه المرحلة تبدأ الحضارة بتقييم نفسها وتتخذ إلى جانب الإيمان الاهتمام بالتطوير والتنظيم وتهيئة الوسائل والسعي إلى زيادة الحلفاء والحصول على الأسلحة والأخذ بكل الأسباب العلمية والمادية للبناء والتقدم.

5. مرحلة التحجر: هي المرحلة التي تصاب بها الذاكرة الحضارية بالتهرب مع

ص: 29

استمرار الوقت وطوله نتيجة نسيان التجربة الإيمانية كالشجاعة والتضحية ونسيان التجربة المادية التي حصلت عليها في مرحلة سابقة.

6. مرحلة التغني بالأمجاد: بعد هذه المرحلة تأتي مرحلة الصراعات الداخلية في الحضارة فتوصف بها وربما تصل إلى مشارف النهاية إلا أنها تبقى تتفاخر بالأمجاد السابقة(1).

تتشابه الحضارات من حيث المراحل التي تمر بها، غیر ان لكل حضارة ميزاتها ومقوماتها الخاصة ولاسيما الحضارة الإسلامية التي تميزت بالوحدانية المطلقة في العقيدة فهي ترفض كل أنواع الوثنية التي كانت أبرز مظاهر الحضارات القديمة وتمتاز أيضاً بأنها إنسانية النزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة، فالإسلام يدعو إلى وحدة النوع الإنساني رغم تنوع أعراقه ومواطنه، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»(2) وتتجلى عالمية رسالة الحضارة الإسلامية من منطلقاتها الأولى التي حددت الهدف من رسالة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وحددت مهمات هذه الرسالة فهدف رسالة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكون رحمة للعلمين: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِیرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ»(3).

فضلاً عن أنها حضارة صالحة في كل زمان ومكان يمتزج فيها الجانب الأخلاقي بجوانب حياة الإنسان المادية والروحية بكل أشكالها المختلفة على مستوى التشريع

ص: 30


1- ينظر، المدرسي، محمد تقي: كيف نبني حضارتنا، دار محبي الحسين، قم، 2010 م، ص 79
2- سورة الحجرات، آية 13
3- سورة سبأ، آية 28

والتطبيق.

أما مقومات الحضارة الإسلامية فهي تشترك إلى جانب الحضارات السابقة في عوامل قيامها إلا أن الفرق يكمن في أسباب قيام الحضارات فيرجح البعض مرتكزاً على الآخر على وفق ما يتوفر من ظروف تدعو إلى قيام هذه الحضارة او تلك على أساس تربوي أو جغرافي أو ديني أو اقتصادي او سياسيظن وهذا مدار بحثنا حيث أن الفكر السياسي في كل مكان وزمان يؤثر في قيام ونمو وازدهار الحضارات وسقوطها.

ثانيا / ملامح الفكر السياسي في الحضارات القديمة:

اشارة

اعتقد كثیر من المفكرين ممن عني بكتابة التاريخ السياسي ان بداية هذا التاريخ كانت في العهد الإغريقي «لوجود كثیر من المؤلفات السياسية والفلسفية والعلمية التي يسطرها الكتاب الإغريق من أمثال أفلاطون وأرسطو»(1).

وتمتع شعوب الحضارة الإغريقية بمساحة كبیرة من الحرية(2) لذلك أيد الكاتب الإيطالي موسكا(3) هذا الرأي ونفى وجودها في الحضارات الشرقية القديمة(4). لكن هذا الرأي لم يلق قبولًا بین أوساط الدارسین في مجال الفكر

ص: 31


1- Georhy Sabine: AHistory of politicak theory dourth rdition Dryden press Hins dale، Illinois، U.S.A، 1973، p: 7
2- يرى موسكا في كتابه تاريخ المذاهب السياسية أن وجود الفكر السياسي مرهون بوجود الحرية في كل حضارة
3- موسكا: عالم السياسة الإيطالي (1858 - 1941)
4- G. mosca: Histioire des doctrines politigues depuis I antiquite، payout )paris، 1955، p: 22

السياسي لاسيما في (القرن التاسع عشر الميلادي)، فالكاتب نور تكوث باركينون(1) أشار في معرض تشخيصه لبعض الأخطاء في دراسة تاريخ الفكر السياسي يقتصر على بعض المؤلفین لينكر على الآخرين من البشر.

«والذي يترتب على هذا هو أن نجعل من بلاد الإغريق القديمة منبعاً لكل فكر سياسي، أن مؤرخي التشكيلات الكلاسيكية لم يستشعروا الحاجة إلا نادراً للعودة إلى أبعد من العهد الأغريقي»(2).

أما الطعان فنراه يفند الحجة التي تمسك بها موسكا في نفيه لوجود فكر سياسي في الحضارات الشرقية. يقول الطعان «إنّ موسكا أخطأ في تصوره لمفهوم الحرية عند شعوب الحضارات الشرقية والتي تعني عدم سيطرة قوة خارجية متمثلة بشعب ودين آخر عليها»(3) ويضيف الطعان «أن موسكا ينطلق في مواجهة الحرية من منطلق ليبرالي بحت وفي ظل الأنظمة الاستبدادية التي تفرض هيمنتها في الشرق القديم لا يمكن طبعاً للمفهوم الليبرالي أن يطرح مسألة الحرية للنقاش على اعتبار أن التصادم بین الفرد و الدولة ليس له وجود.

وفي ظل انعدام الظرف الموضوعي لطرح مسألة الحرية للنقاش فإن الفكر السياسي يفقد سبب وجوده طالما أنه يمثل التعبیر الصادق عن حرية الفرد»(4).

ص: 32


1- نورتكوث باركنيون
2- C.northcote parkinsonl Evolutonde lanenseepolitigue. Tomel. Eal Li-mord porisrsb، p. 11،(io)(11)
3- ينظر، الطعان، عبد الرضا: الفكر السياسي في العراق القديم، ج 1، دار الشؤون الثقافية العامة، ط 2، بغداد، 1986 م، ص 42 - 43
4- ينظر، الطعان، عبد الرضا: الفكر السياسي في العراق القديم، ج 1، دار الشؤون الثقافية العامة، ط 2، بغداد، 1986 م، ص 42 - 43

أن هذه الآراء بمجملها تواجه اعتراضين:

1. الاعتراض الأول: أن كتاب تاريخ الحضارات أغفلوا حقيقة مهمة ألا وهي وجود قيم السماء المنزلة في الكتب السماوية عن طريق بعث أنبياء ورسل كان لهم اثراً إصلاحيٌّ وتوعويٌّ في تغيیر مسار البشرية نحو الحق ونشر الوعي الاجتماعي والتاريخي والسياسي وتحقيق قيم العدالة والمساواة والحرية، وهذا ما نجده مبثوثاً في أغلب النصوص الدينية ولاسيما القرآن الحكيم حيث قال تعالى «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ»(1)، وهذه الآية تؤرخ نزول وحي السماء إلى أقدم الحضارات الإنسانية وهي حضارة وادي الرافدين(2).

لذلك نرى كتاب الفكر السياسي يقسمون السلالات الحاكمة تاريخيا في هذه الحضارة إلى قسمين:

1. سلالة حاكمة قبل الطوفان.

2. سلالة حاكمة بعد الطوفان.

ص: 33


1- سورة الشورى، آية (13)
2- أكد المختصون في دراسة تاريخ الحضارات القديمة وجود حقيقتين الأولى: أثر الأنبياء الإصلاحي في مجتمع الحضارات القديمة. والثاني: التأكيد على أسبقية حضارات وادي الرافدين على الحضارات الشرقية القديمة في مجال الفكر السياسي: ينظر: وايدن، الأصول السومرية للحضارات المصرية، ترجمة: زهير رمضان، الشركة الأهلية للنشر والتوزيع، ط 1، الأردن، عمان، 1999 م، ص 17 - 281

وهذا دليل واضح على أسبقية وجود الفكر السياسي النبوي الذي ينظم حياة الإنسان قبل الحضارات القديمة الشرقية والإغريقية كلها.

2. الاعتراض الثاني: أن وجود الفكر السياسي حسب رأي (موسكا) الليبرالي منوط بعدم وجود أي تأثیر داخلي أو خارجي على حرية الفرد الذاتية بينما الطعان خص مفهوم الحرية بذات الدولة؛ لأنها تعبر تعبراً صادقاً عن ذات الفرد حتى وإن كانت استبدادية، ونحن نرى أن كلا الرأيین وقع في خطأ الإطلاق فالأول نفى وجود أي حرية في الحضارات الشرقية القديمة والثاني جعل من الدولة الاستبدادية خیر معبر.

الفكر السياسي في الحضارات الشرقية القديمة

اشارة

لقد تعددت وتنوعت الأساليب والمناهج في عرض أي موضوع من الموضوعات الفكرية والأخلاقية والسياسية، حيث اتخذ بعضهم منهجاً تاريخياً أو تحليلياً أو نقدياً وغيرها، ونحاول في هذا المبحث طرح أسلوبٍ يجمع المناهج الثلاثة.

أولاً: نظرية التوكيل:

هي عملية توكيل الآلهة للملوك والأباطرة بتولي حكم البشر وقد سارت هذه النظرية في حضارات الشرق القديم وتقسم السلطة وفق هذه النظرية إلى قسمين:

أ- الجهاز الحكومي: «ويتمثل بالملك كمؤسسة بالإضافة إلى المؤسسات الإدارية

ص: 34

الأخرى»(1) إذ إن مهمة الملك كانت تنسيق عمل المؤسسات الإدارية التي تحكم المدينة «فحاكم المدينة في ما بین النهرين (العراق القديم) لم ينل مركزه بسبب تفوق داخلي أو حق وراثي بل كان يحكم بالنيابة عن المجلس أو بصفته وكيلاً عن الإله الذي يمثل السیر الحقيقي»(2)، ومن مهام الملك أيضاً تشريع القوانین بالتعاون مع الجهاز الشعبي، والتي كانت تتضمن قيم العدالة والمساواة والحرية وغيرها فالعدالة مثلاً كانت من الأفكار الأساسية.

في بلاد وادي الرافدين في كلتا الناحيتین النظرية والممارسة العملية(3)، فالملك حمورابي عد تثبيت العدالة من أولى الأمور التي اهتم بها عند اعتلائه العرش «فأرخ السنة الثانية من حكمه بالسنة التي نشر فيها العدالة في البلاد وهي صيغة استخدمها غیره من الحكام»(4) لكن من الملاحظ أن هذه التشريعات والقوانین كانت نسبية من وجهة نظرنا وليست مطلقة كما يظن بعض الدارسین من أمثال «الطعان»(5)، أما «المؤسسات الإدارية الأخرى فكانت تنحصر مهمتها بتديیر الأملاك الملكية وكانت تتخذ من القصر مركزاً ولكن رويداً رويداً امتدت

ص: 35


1- الطعان، عبد الرضا: الفكر السياسي في العراق القديم، ج 1، ص 246
2- Giakorets.koraver.sous ladirection: histoirede I v.diakov a.s.kovalev( sous la directionhistoirede I antiguite.editionsen langnes etran geres moscou(sans date ) p: 103-104
3- ينظر، رشيد فوزي: الشرائع العراقية القديمة، دار الشؤون الثقافية العامة، ط 3، بغداد، 1987 م، ص 107
4- ساكند، هاري: عظمة بابل، موجز حضارة بلاد وادي الرافدين القديمة، ترجمة، عامر سليمان إبراهيم، مؤسسة دار الكتب للطباعة والنشر، 1979 م، ص 222
5- الطعان، عبد الرضا: الفكر السياسي في العراق القديم، ج 1، ص 249

صلاحيات هذه الإدارة إلى الدولة بأسرها»(1)، ومن الحضارات التي كانت تؤمن بنظرية التوكيل أيضاً الحضارة الصينية التي تقوم على أساس أن السماء أو الآلهة هي التي أوكلت الى الملك تولي حكم البشر(2).

ب- الجهاز الشعبي: والذي كان يتمثل في مجلسین: (المجلس العام) و (مجلس الكبار) ويؤكد الكاتب (توركليد باكويس) «أن من الصعب الجزم بصدد العهد الذي ازدهرت فيه الديمقراطية البدائية وازدهر معها هذان المجلسان، ولكن الملاحظ أن هذه الحقبة التي كانت قد ظهرت فيها الكتابة كانت قد شهدت الآثار المتبقية لهذه الديمقراطية، ومن ثم لهذين المجلسین»(3).

وذهب آخرون إلى أن أول برلمان سياسي كان قد وجد من قبل خمسة آلاف سنة»(4)، ويبدو أن السلطة في العراق القديم كانت بأيدي المواطنون الأحرار إضافة إلى حاكم لم يكن إلا واحداً من الأعيان وعندما كانت تتطلب الحالة اتخاذ قرارات حيوية بالنسبة للمدينة ككل «كان هؤلاء المواطنون الأحرار يجتمعون في برلمان مؤلف من مجلسین مجلس أعلى من كبار الرأي الشيوخ، ومجلس عموم من الرجال أي النواب»(5)، في حین كانت الفترة ما بین القرنین الثالث عشر والحادي عشر قبل الميلاد العصر الذهبي للفكر الصيني فقد جسد الفلاسفة الصينيون

ص: 36


1- الطعان، عبد الرضا: الفكر السياسي في العراق القديم، ص 251
2- ينظر، غالي، بطرس: المدخل إلى علم السياسة، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، 1974، ص 37
3- شلير، إبراهيم أحمد: تطور الفكر السياسي، دراسة تأصيلية لفكرة الديمقراطية في الحضارات القديمة /، الدار الجامعية، بيروت، 1985 م، ص 60
4- الطعان، عبد الرضا: الفكر السياسي في العراق القديم، ص 153
5- المصدر نفسه، ص 252

ولاسيما (كونفوشيوس) مبدأ سيادة القانون من خلال محاربتهم للسلطات المطلقة للملوك «واعتبارهم عدم مشروعية السلطة إذا لم تقترن برضا الشعب»(1).

ثانياً: نظرية التأليه:

هي عملية إعلان الملك نفسه إلهاً فالملك يعد مالكاً لكل نواحي المملكة من أرض ومال وشعب، فسلطاته مطلقة غیر مقيدة بقانون او دستور «لأنه هو الذي يضع القوانین ويعدلها كيفما يشاء فهو يمثل جميع السلطات في البلاد من تشريعية وإدارية وقضائية»(2).

وقد كان الاعتقاد بهذه النظرية سائداً في الحضارة المصرية القديمة.

و تصور البعض أن الحضارة المصرية كانت عادلة تبحث عن سبل تحقيق العدالة وتطالب بها في الدنيا مثلما تطالب بها في الآخرة»(3)، وهذا التعميم خاطئ لأن الواقع التاريخي يذكر وجود حكام طغاة ومسيئين وقد نص القرآن الحكيم على هذه الحقيقة بقوله تعالى: «اذْهَبْ إِلَی فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى»(4)، بل وصل هذا الطغيان الفرعوني إلى مستوى ادعاء الربوبية حيث قال تعالى: «وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَیْرِي»(5) وقوله تعالى: فقال: «أَنَا رَبُّكُمُ الَأعْلىَ»(6).

ص: 37


1- بدوي، ثروت: النظم السياسية، دار النهضة العربية، مصر، 1964 م، ص 37
2- ينظر مقدمة كتاب (السير ولوس برج): الديانة الفرعونية، ترجمة وتقديم يوسف سامي اليوسف، دار منارات، ط 1، عمان، 1985، ص 12 - 14
3- ينظر، شبل، فؤاد أحمد: الفكر السياسي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، 1974 م، ص 55
4- سور طه، آية 24
5- سورة القصص، آية 38
6- النازعات، آية 24

أما الحضارة الهندية: ولا سيما البراهمة فالمجتمع عندهم يقسم إلى أربع طبقات:

1. طبقة البراهمة (الكهنة والفلاسفة).

2. طبقة الكشتريا (الملوك والحكام والقضاة والجنود).

3. طبقة الفيشيا (التجار والزارعون).

4. طبقة الشودرا (الأولاد من العبيد والخدم).

«وكان يرأس السلطة السياسية ملك من طبقة (الكشتريا) يحمل صفات الألوهية، فالملك هو إله في صورة إنسان على الأرض»(1) وهكذا فقد تبین لنا أن شكل السلطة السياسية القديمة يقوم إما على نظرية التوكيل أو على نظرية التألية، لكن تؤكد مصادر التاريخ إلى وجود نوع وسط بین هاتین النظريتین وهي «نظرية البنوة المقدسة» والتي تعني أن الملك هو ابن الإله إلا أن هذه النظرية اعتقد بها بعض ملوك العراق القديم «فملوك سومر وأكد لم يترددوا عن الزعم بأنهم أولاد الإله»(2).

إن هذه الأفكار الساذجة تعبر عن مدى تغلغل الأسطورة في تلك الحضارات الشرقية القديمة، بل نستطيع القول إنه خلط بین المتناهي واللامتناهي في تقرير الحاكمية على الأرض، وسوف نجد أن هذه الأفكار قد تلاشت مع ظهور الحضارة الإسلامية، وهذا ما سوف يتضح في ثنايا صفحات الفصل الأول.

ص: 38


1- زيعور، علي: الفلسفات الهندية، دار الأندلس، بيروت، 1980 م، ص 125
2- الطعان، عبد الرضا: الفكر السياسي في العراق القديم، ص 107

الفكر السياسي في الحضارات الغربية القديمة

أولاً: حضارة اليونان
اشارة

إن العقلية اليونانية كان لها إسهام كبیر في تطور الفكر البشري ولاسيما مجال الفكر السياسي من خلال إنتاج المبادئ والقيم والقواعد السياسية والتنظيرية والتطبيقية، وإن كثیراً من المذاهب السياسية في أوربا الحديثة استفادت من تراث الفكر السياسي اليوناني، وقد انشغل اليونانيون ومفكرو اليونان القدماء بقضية محورية تتعلق بماهية النظام السياسي الفاضل وطبيعة العدالة وتمثل أفكار مفكري اليونان القدماء مثل أفلاطون وأرسطو إسهاماً حقيقياً لدراسة علم السياسة، لذلك سنتخذهما أنموذجا لهذه الحضارة:

أفلاطون:

ولد أفلاطون حوالي سنة 427 قبل الميلاد من أسرة أثينية ارستقراطية عريقة، وتوفي سنة 348 قبل الميلاد، عاصر الفترة الأخیرة لحرب البلويوينز وارتبط بعلاقات قوية مع عدد ممن اشترك في حكومة الطغاة الثلاثین التي حكمت أثينا بعد هزيمتها أمام اسبرطة، وقد عزا هذه الهزيمة إلى الديمقراطية التي كان يحتقرها بحكم منزلته الاجتماعية وروابطه العائلية، تتلمذ على يد سقراط وكان يكنّ له حباً عميقاً واحتراماً وعندما حكم عليه بالموت ونفذ ترك المصیر المحزن أثراً على كل تفكیره وملأه احتقاراً للديمقراطية وكراهية للجماهیر وساقه إلى قرار يستدعي ضرورة القضاء على الديمقراطية واستبدالها بحكم الأعقل والأفضل من الرجال،

ص: 39

ولهذا أدار بصره نحو اسبرطة ليلتمس ما يؤيد مثله الأعلى في الدولة(1).

عن طريق تثقيف وتوجيه الملك الشاب (ديونيسيوس الثاني) ملك جزيرة سیر الحوز ولكنه أخفق في إقامة دولته المثالية لعدم استيعاب الملك لأفكار أفلاطون، لذلك عاد إلى أثينا للشروع في تكوين مدرسته الفكرية الأكاديمية في حدائق أكاديموس بالقرب من أثينا، وقد تضمن لقاء أفلاطون بتلاميذه بعض الأفكار والقيم السياسية، غیر أن منهج أفلاطون السياسي قد ظهر بشكل واضح وجلي في محاوراته ومؤلفاته ومن أهمها كتاب (الجمهورية ورجل الدولة والقوانین).

- أفلاطون في الجمهورية:

يؤمن أفلاطون في كتابه (الجمهورية) أن مدينته المثالية يجب أن تكون السيادة فيها خاضعة لحاكمية الفلاسفة لامتلاكهم المؤهل الوحيد لقيادة السلطة وهي الفضيلة والمعرفة(2).

إن هذا التصور لدى أفلاطون يجعلنا نتساءل عن كيفية نشوء دولته المثالية ومفهوم العدالة وواقع الملكية والتعليم، إضافة إلى تصوراته بخصوص نظم الحكم وطبيعتها.

- نشوء الدولة عند أفلاطون:

يرى أفلاطون أن نشوء الدولة يكون نتيجة الحاجة المتبادلة بین أبناء البشر

ص: 40


1- ينظر، صالح، غانم محمد: الفكر السياسي القديم والوسيط، نشر العلوم السياسية، بغداد، ص 47
2- ينظر، أفلاطون: جمهورية أفلاطون، نقلها إلى العربية، حنا خباز، دار العلم، ط 2، بيروت، 1980 م، ص 44

ولا يوجد من يستطيع العيش على أساس الاكتفاء الذاتي(1)، ويعني ذلك ضرورة وجود تخصص في تقسيم العمل بن أفراد المجتمع(2)، وسنأخذ مثالًا على ذلك.

إن ما ينتجه الفلاح من المحاصيل أكثر من حاجته في حین ينتج صانع الأحذية عدداً منها يزيد على ما يلبسه فيكون من صالح كل منهما تبعاً لذلك أن ينتج للآخر ليكون كلاهما أوفر طعاماً وأحسن كساءً، وذلك بفضل عملها معاً بدلاً من أن يوزع كل منهما جهده لعمل كل ما يحتاج إليه من أشياء، ومن هنا الدولة بنظر أفلاطون وحدة حية مكونة من أجزاء مترابطة تهدف إلى تحقيق الخیر.

إن وصف أفلاطون للدولة بهذا الشكل لزم وجود ثلاث وظائف يجب تأديتها.

أ- سد الحاجات الأساسية من السلع والخدمات.

ب- حماية الدولة داخلياً وخارجياً.

ج- حكم وإدارة الدولة(3).

وهذا التقسيم الثلاثي ارتبط بتقسيم طبقات المجتمع إلى ثلاث طبقات بحسب الوظائف.

أ- طبقة العمال: المنتجون الذين يقومون بسد الحاجات الأساسية الاستهلاكية.

ب- طبقة الجنود: الذين يتولون مهمة الدفاع وتتوفر لديهم الشجاعة.

ص: 41


1- المصدر نفسه، ص 56
2- ينظر، أفلاطون: جمهورية أفلاطون، ص 58
3- المصدر نفسه،ص 65

ج- طبقة الحكام: الذين يتولون أعباء الحكم والإدارة(1).

ولكي يؤصل أفلاطون هذا التقسيم الثلاثي فهو يقدم مبرراً دينياً فقد كان يرى أن مما يسر الآلهة أن يمزجوا ببعض الأفراد ذهباً وبالبعض الآخر فضة وبالآخرين نحاساً وحديداً وطبقة الحكام كانت من الذهب وطبقة المحاربین من الفضة والطبقة الثالثة المنتجة هي من الحديد والنحاس(2).

العدالة:

يرى أفلاطون أن وجود المجتمع المدني وحتى الدولة منوط بوجود العدالة، لذلك يقول «أن يؤدي كل إنسان عمله الخاص به دون أن يتدخل في عمل سواه فالمدينة عادلة أذا قام الصانع والجندي والحاكم فيها كل بعمله دون أن يتدخل في أعمال الطبقتین الأخريین»(3)، وقد دخل أفلاطون في حوارات حول مفهوم العدالة مع شخصيات عديدة في كتاب (الجمهورية) وقد عقب على كل تعريفاتهم حتى وصل إلى مفهوم العدالة وهو «إعطاء كل ذي حق حقه»(4).

فالعدالة وفق هذا التعريف هي صفة لصيقة بالفرد من جهة ومن جهة أخرى تكون العدالة من مهمة الدولة حيث تقوم بتنمية صفة العدالة في الفرد، ولو سلمنا بذلك التعريف فقد ينظر للعدالة من جانب أخلاقي فحسب دون النظر إلى العدالة بالمعنى السياسي والعدالة عند أفلاطون تختلف عن المساواة التي تساوي

ص: 42


1- أفلاطون، جمهورية أفلاطون، ص 68
2- ينظر، أفلاطون: جمهورية أفلاطون، ص 50
3- أفلاطون: جمهورية أفلاطون، ص 55
4- المصدر نفسه، ص 20

جميع الناس في الحقوق والواجبات، في حین العدالة بالمعنى الأفلاطوني هي توزيع الحقوق وفق معيار الكفاءة. وبهذا قد يعتلي مناصب إدارة دفة السلطة السياسية من جميع الطبقات شرط توفر صفة الحكمة في المواطن الحاكم. أما في الجانب الاقتصادي فيؤكد أفلاطون على (شيوعية الملكية والأسرة)(1).

عن طريق إلغاء ملكية الحراس والقضاء على النظام والأسرة، أما طبقة المنتجين فلها الحق في التملك وتكوين الأسرة، ولم يكن هدفه اقتصادياً فحسب بل كان يسعى للوصول إلى هدف سياسي وهو تحقيق الوحدة داخل الدولة ورفع مستوى الولاء للوطن من جانب حراسه لذلك أقترح إلغاء الملكية، أما فكرة إلغاء نظام الأسرة فيعلل أفلاطون ذلك أن العاطفة العائلية تكون منافساً قوياً لعاطفة الولاء للدولة، وهذا يؤدي بالحراس إلى الانشغال عن أداء واجباتهم وقد أولى أفلاطون التعليم أهمية كبیرة وجعل منه «نظاماً إلزاميا وتحت رقابة الدولة»(2)، فمن طريق التعليم يتأهل الحاكم لامتاك ناصية المعرفة التي تمكنه من توجيه الفرد إلى المكان المناسب للعمل، ويمر البرنامج التعليمي بثلاث مراحل للأفراد ومن يجتاز المرحلة الأخیرة مرحلة دراسة الفلسفة يمكنه تولي وظيفة الحاكم.

أشكال نظم الحكم: لقد انطلق أفلاطون من التحليل العقلي والواقع التاريخي في رسم صور وأشكال نظم الحكم، وقسمها إلى خمسة نظم:

1. النظام المثالي (الأرستقراطي): وهو أفضل وأكمل الأنظمة لدى أفلاطون؛ لأنه يهدف الخیر والفضيلة ويكون الحاكم عادلاً ومن ذوي المعرفة.

ص: 43


1- ينظر، أفلاطون: جمهورية أفلاطون، ص 148
2- أفلاطون: جمهورية أفلاطون، ص 65

2. النظام التيموقراطي: وهو حكم الأقلية العسكرية.

3. النظام الاوليجارشي: وهو يمثل حكم الأغنياء وأصحاب الثروات.

4. النظام الديمقراطي: وهو يمثل حكم الأحرار.

5. النظام الاستبدادي: وهو يمثل أصحاب الجهل. المستبدين بالسلطة(1).

لقد أراد أفلاطون أن يوضح من خلال تسلسل هذه الأنظمة، أن كل نظام يولد من رحم النظام الذي يسبقه ويكون رد فعل عليه.

أفلاطون في رجل الدولة «السياسي»
اشارة

أفلاطون في رجل الدولة «السياسي»(2):

لقد بدأ أفلاطون في محاورة رجل الدولة بتحديد أمرين:

الامر الأول: تحديد موقع القانون في الدولة.

أ- عدم تقييد الحاكم الفيلسوف بالقانون، لأن القانون لا يمكن أن يسمو على العقل، وإن المعيار الأساسي لدى الحاكم هو المعرفة وليس القانون.

ب- إلزام المواطنين بقانون سلطة الحاكم، لأن ممارسته ستكون عاقلة وحكيمة.

الأمر الثاني: تحديد أنظمة الحكم:
اشارة

قدم أفلاطون تقسيماً جديداً أكثر إحكاماً لأنظمة الحكم في كتابه السياسي كما يلي:

ص: 44


1- ينظر، أفلاطون: جمهورية أفلاطون، ص 234
2- رجل الدولة السياسي: محاورة فكرية يحاول أفلاطون من خلالها أن يغطي ذلك المأخذ الذي سجل على نظريته السياسية، استبعاد القانون كلياً من الدولة المثالية المحكومة من قبل الملك الفيلسوف، ينظر، صالح، غانم محمد: الفكر السياسي القديم والوسيط، نشر جامعة بغداد، كلية العلوم السياسية، بغداد، ص 70

1. الدولة المثالية: التي يرأسها الحاكم الفيلسوف والتي لا يتيسر وجودها في الدنيا ولا وجود للقانون فيها.

2. الدولة الزمنية: وهي ست دول تختلف من حيث الالتزام بالقانون من عدمه وهي كالآتي:

أ- دول مقيدة بالقانون وهي:

- الملكية: ويكون فيها الملك مقيداً بالقانون وهي الأفضل.

- الارستقراطية: وتكون فيها القلة الحاكمة ملتزمة بالقانون.

- الديمقراطية الدستورية: وتكون فيها الكثرة الحاكمة معتدلة وملتزمة بالقانون.

ب- دول غير مقيدة بالقانون وهي:

- الاستبدادية: ويكون فيها الحاكم الظالم غیر الملتزم بالقانون وهي أسوأ أنواع الدول.

- الاوليكارشية: وتكون فيها القلة غير الملتزمة بالقانون هي الحاكمة.

- الديمقراطية غير الدستورية: ويكون فيها الحكم للكثرة المتطرفة الجائرة(1).

أفلاطون (القوانين):

لقد تنوع الطرح الأفلاطوني في كتبه الثلاث، إذ قدم في كتابه الجمهورية المجتمع السياسي في صورة مثالية وفي كتابه رجل الدولة وضع الحاكم الفيلسوف في مرتبة الحصانة من القوانین في حین فضل في كتابة القوانین ضرورة وجود مدينة القوانین.

ص: 45


1- أفلاطون: رجل الدولة، نقلها إلى العربية أديب نصور، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت، 1959 م، ص 93 وما بعدها

والذي يحتوي على اثني عشر كتاباً: طرح في الكتب الأربعة الأولى تطور الدولة التاريخي والمبادئ العامة للسياسة، فيما تناول في الكتب الأربعة التالية حوارات لتأليف دستور بعد الدستور الذي طرحه في الجمهورية، أما الكتب الثلاثة التالية فتحتوي علی لائحة قانونية يمكن عدّها جوهراً للقوانین في حین خصص الكتاب الآخر لبيان أنظمة سياسية جديدة والتي هي مدار البحث في الفكر السياسي لدى أفلاطون فقد اقترح أفلاطون في كتاب القوانین فكرة العمل بالنظام المختلط والذي يعني مزج الأنظمة المتباينة بصورة متوازنة فلو أخذنا على ذلك مثلاً «الجمع بین النظام الملكي الذي يقوم على مبدأ السلطة الحاكمة والنظام الديمقراطي يقوم على مبدأ الحرية لتحققت الحكمة لدى الحاكم وأمكن ضمان الحرية للمحكوم»(1)، الذي هو السبيل لتحقيق التوافق بین النظامین فهو التزام مبدأ الاعتدال في كل منها ومن هذا الامتزاج ينتج نظام ارستقراطي ديمقراطي وهو ما يسميه أفلاطون «نظام مدينة القوانین»(2)، ويحتوي هذا النظام على ثلاث هيئات رئيسية:

1. الهيئة التشريعية للمؤتمر العام: والذي تشترك فيه طبقات المواطنین الأربعة ويكون الحضور فيه اجبارياً.

2. الهيئة التنفيذية (المجلس): والذي يشترك فيه ثلثمائة وستين عضواً منتجین وينقسم إلى اثني عشرة لجنة تقوم بمهام مختلفة في إدارة الدولة.

3. الهيئة القضائية (الحكام): وتمثل هذه الهيئة ثلاث فئات:

ص: 46


1- أفلاطون: القوانين، نقلها إلى العربية، محمد حسين ظاظا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986 م، ص 164
2- المصدر نفسه، ص 165

أ- هيئة حراس القوانين: مهمتها ضمان سلامة تطبيق القوانين.

ب- هيئة صيانة الدستور: مهمتها المحافظة على الدستور(1).

ج- هيئة القضاة: مهمتها النظر في القضايا الجنائية والمدنية.

ومع نهاية عرضنا لآراء أفلاطون السياسية توصلنا إلى ما يلي:

1. رغم هذا الثراء الفكري والعطاء العلمي لدى أفلاطون ألا أنه لم يكن مستقراً في طرح فلسفته السياسية تحديداً في كتبه الثلاث (الجمهورية، والسياسي، والقوانین) فلماذا هذا التباين والخلط في طرح أنظمة الحكم لاسيما في القوانین، فهل شاخ أفلاطون كما يقول (غانم محمد صالح)(2)، أم أن ذلك يعود إلى مرتبة متقدمة في النضوج في المنظومة الفكرية الأفلاطونية.

2. أن الدولة المثالية كانت أحلاماً من نسيج أفلاطون في نظريته حول الدولة المثالية التي يحكمها الملك الفيلسوف غیر المقيد بقانون.

3 .3 أن شيوعية الأسرة والملكية عند أفلاطون تتعارض وحق الحرية وإنسانية الإنسان وتؤدي إلى ظهور فوارق طبقية تتحول مع الزمن إلى دولتین متقابلتین وفق النظام الطبقي الذي طرحه أفلاطون.

4. لقد غفل أفلاطون حينما جعل سلطة الحاكم مطلقة دون أن تكون مقيدة لمعيار يحده قانون فهو بذلك ينجو من الوقوع في شهوة السلطة.

5. لقد فات أفلاطون أن يجعل من الموهبة السياسية صفة ضرورية يتصف بها

ص: 47


1- أفلاطون: القوانين، نقلها إلى العربية، محمد حسين ظاظا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986 م، ص 290
2- صالح، غانم محمد: الفكر السياسي القديم والوسيط، جامعة بغداد، كلية العلوم السياسية، ص 68

الحاكم الفيلسوف إلى جانب المعرفة والفضيلة.

66. عدم تحديد أفلاطون فترة زمنية في انتقال الدولة من مرحلة إلى أخرى وفق الصورة التي رسمها أفلاطون حول الأنظمة.

7. لم يستمر أفلاطون في رأيه حول وجود تعارض بین القانون وحكمة الفيلسوف بل أنه أكد في كتابه السياسي على ضرورة وجود القانون ولكن في مرتبة تأتي دون مرتبة الحاكم الفيلسوف صاحب المعرفة الكاملة.

أرسطو:

ولد أرسطو عام (384 ق. م) في ستاجيرا كان أبوه طبيباً لملك مقدونيا ووالد الإسكندر وربما كان لهذا أثره على تكوين ارسطو الذي نشأ وهو محب للعلوم الطبيعية فامتلأت فلسفته بالعديد من التشبيهات والاستدلالات البيولوجية وما شابهها، كما أن نشأته بالقرب من قصور الحكام قد أعطته مزاجاً خاصاً متميزاً ربما ترك أثره على أعماله، التحق أرسطو بأكاديمية أفلاطون في أثينا عام (367 ق. م) ولازمه حتى وفاته ثم ترك أثينا في جولة استمرت أثني عشر عاماً عمل في أثنائها معلماً للاسكندر المقدوني، وفي عام (335 ق. م) عاد إلى أثينا لينشئ فيها أكاديميته الشهيرة «اللقيون)) ويبقى فيها ما يقارب الأثني عشر عاماً أخرى كتب خلالها معظم ما وجد من مؤلفاته(1).

ص: 48


1- ينظر عبد القادر، علي أحمد: مقدمة في النظرية السياسية، مطبعة الكيلاني، القاهرة، 1974 م، ص 129. ورسل، برتراند: تاريخ الفلسفة الغربية، الكتاب الأول، الفلسفة القديمة، ترجمة، زكي نجيب محمود، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1967 م، ص 128

والتي تناولت موضوعات عديدة في السياسة والمنطق والتاريخ الطبيعي والطبيعة وقد كان من أهم كتاباته السياسية:

الدساتير: وهو مقارنة وتحليل لمجموعة من الدساتير الإغريقية وقد عالج فيه حكومة الطغاة ودساتير البربر والمطامع الإقليمية للدولة إلا أن هذا الكتاب فقد ولم يصلنا منه سوى ما يتعلق بدستور أثينا.

السياسة: وهو يحتوي على ثمانية أبواب موزعة إلى ثلاثة أقسام وهي:

القسم الأول: يتضمن مقدمة بين فيها قاعدة عامة حول الموضوع.

القسم الثاني: وضح فيه طبيعة الدساتير وبين الفوارق فيها وما تحتاج من تعديل.

القسم الثالث: وبین فيه أهم الأسس التي تقوم عليها أفضل دولة، ولهذا نحاول ملامسة أهم الأفكار السياسية لدى أرسطو من خلال ما طرحه من آراء سياسية حول نشأة الدولة ونظم الحكم وفصل السلطات.

1. نشوء الدولة:

يرى أرسطو أن البعد الاجتماعي هو أساس نشوء الدولة فنتيجة «اجتماع الأسرة تتكون القرى وباجتماع القرى تتكون الدولة شرط أن يتحقق فيها الاكتفاء الذاتي»(1)، وأن أكثر من يسهم في أساس الدولة هو أكثر الناس فعلاً للخیر والتزاماً بالقانون «الذي هو من ضرورات وجود الدولة»(2). أما بخصوص الملكية الخاصة فيؤكد أرسطو على أن ترك للأفراد بشرط أن يربوا على فعل الخیر

ص: 49


1- ))) أرسطو طاليس: السياسة، ونقلها إلى العربية، أحمد لطفي السيد، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1974 م، ص 95
2- المصدر نفسه، ص 96

إزاء الغیر»(1).

وإما مشاعية الأبناء فإنها تقلل من الاهتمام بهم ولذلك يشیر أرسطو إلى ضرورة ترك رعايتهم تحت كنف آبائهم الحقيقيین. أما بالنسبة للزواج فيجب أن يقوم على مبدأ التكافؤ بین الرجل والمرأة.

2. سيادة القانون:

القانون هو العقل المجرد عن الهوى(2)، وهو ميزان الحق والإنصاف بین الناس يشیر أرسطو إلى «أن السلطة يجب أن تكون للقانون وليست للحاكم»(3)، ومهما كان هذا الحاكم ذكياً لا يمكنه الاستغناء عن القانون إضافة إلى ذلك فرق أرسطو بین نوعین من القوانین، القوانین الدستورية التي تصنع القواعد الأساسية للمدينة، والقوانین العادية التي تنتج الأولى وتخضع لها، لكن أرسطو لا ينفي وجود حكام يمتازون برجاحة العقل وهم بمثابة الإله بین الناس ومن غیر المعقول إخضاع هؤلاء إلى الدستور(4).

3. العدالة:

ينظر أرسطو للعدالة من خلال معنيين:

المعنى الأول - عام -: فالعدالة توازي كل الفضيلة الخلقية.

المعنى الثاني - خاص -: فالعدالة فضيلة خاصة محددة تأخذ مكانها إلى جانب

ص: 50


1- ارسطو طاليس، ص 98
2- ارسطو طاليس: السياسة، ص 104
3- المصدر نفسه، ص 106
4- ينظر، المصدر نفسه، ص 175

الشجاعة والكرم(1).

فالرجل الذي يتصف بالعدالة بمعناها الثاني لا يمكن أن يصل إلى معنى العدالة بالمعنى الأول فهي أوسع والعكس هو الصحيح، كذلك في مجال تطبيق كل منها.

4. التعليم:

يعرفه أرسطو بأنه: «عملية تحويل الناس إلى مواطنین صالحین او تدريبهم على ممارسة الفضيلة»(2) ثم يقرر أرسطو ضرورة أن يكون التعليم إلزامياً يشمل كل أعضاء الدولة على أن تكون في إطار القانون وأن المنهج التربوي الذي يقترحه أرسطو يشمل الجميع باستثناء أولاد العبيد فهم يتعلمون فنونًا تفيدهم في مجال عملهم كفن الطبخ الذي لا يعد من فروع التعلم، ويختلف المنهج التربوي في رأي أرسطو بین مدينة وأخرى حسب اختلاف الحكومات إن كانت ديمقراطية أو اوليكارشية.

5. نظم الحكم:

انطلق أرسطو في تقسيمه لأنظمة الحكم من خلال معيارين هما:

الأول: معيار عددي «كمي» تكون فيه السلطة بيد قلة أو جماعة.

الثاني: معيار كيفي «موضوعي»: تكون الحكومة فيه صالحة أو فاسدة.

ص: 51


1- ارسطو طاليس: السياسة، ص 148
2- ينظر، أرسطو طاليس، السياسة، ص 289

إذا استأثر بالسلطة لصالح أفراد معينین، فيقدم أرسطو ستة أنظمة للحكومات نتيجة الجمع بین كل من المعيارين «الكمي والكيفي» وهي كما يلي ثلاث صور من أنظمة الحكم الصالحة:

أ- النظام الملكي: ويكون الحكم فيه فردياً وفق القانون ويستهدف الصالح العام.

ب- النظام الارستقراطي: ويكون الحكم فيه للقلة المتميزة تحكم طبقاً للقانون والصالح العام.

ج- النظام الجمهوري (الديمقراطية المعتدلة): وهو أفضل نظام عند أرسطو ويكون الحكم فيه للأغلبية من الطبقة الوسطى(1).

وثلاث صور من أنظمة الحكم الفاسدة:

أ- النظام الاستبدادي: تكون فيه السلطة للفرد المستبد الذي لا يتقيد بقانون.

ب- النظام الاوليكارشي: تكون السلطة فيه للأقلية الثرية التي تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة.

ج- النظام الديمقراطي «المتطرف»: تكون السلطة فيه للأغلبية من الفقراء وتعمل على استغلالها ضد الأغنياء(2).

ويضيف أرسطو ان هناك أنظمة سياسية هي خليط من أكثر من نوع واحد كلما اقتربت من النظام الصالح كانت أكثر صلاحاً، وكلما ابتعدت عنه كانت أكثر فساداً. ويكون تحديد صلاح او فساد الأنظمة من خلال الصفات الأخلاقية التي يتسم بها الحاكم بغض النظر عن ماهية الدستور القائم.

ص: 52


1- ارسطو طاليس: السياسة، ص 198
2- أرسطو طاليس، السياسة، ص 206
6. الفصل بين السلطات:

لقد كان أرسطو من الرواد الأوائل الذين فصلوا بین السلطات الثلاثة (تشريعية وتنفيذية وقضائية)(1).

وظائف السلطات الثلاثة:

1. السلطة التشريعية (الجمعية العمومية): وتحدد وظيفة السلطة من خلال ما يلي:

أ- سن قوانين الدولة.

ب- انتخاب الحكام.

ج- مراجعة ميزانية الدولة(2).

2. السلطة التنفيذية: حيث توكل إليهم مهمة تنفيذ القوانین التي تم سنها من قبل السلطة التشريعية.

2. السلطة القضائية (هيئة القضاة): حيث يكون تنصيب القضاة عن طريق أسلوب الانتخاب أو القرعة ومن وظائف الهيئة القضائية:

أ- الفصل في المنازعات.

ب- العقاب على الجرائم(3).

ويؤكد أرسطو على أن تكون هيئة القضاة متكونة من عدة قضاة حتى لا يسهل إفسادها، ثم إن أرسطو يشیر في نهاية كتابه (السياسة) إلى أن الدستور الأمثل الذي تقوم عليه الدولة الفاضلة هو الذي يطرح فيه فكرة النظام السياسي المختلط حيث يمزج فيه بین النظام الديمقراطي والاوليكارشي وهو ما يسميه أرسطو

ص: 53


1- ارسطو طاليس: السياسة، ص 206
2- المصدر نفسه، ص 308
3- المصدر نفسه، ص 310

النظام الدستوري وأحياناً الجمهوري(1).

ولتحقق هذا النظام لابد من إتباع جملة من الوسائل وهي:

أ- إيجاد مبدأ وسط بين النظامين المتعارضين:

- الديمقراطي: الذي لا يشترط وجود نصاب مالي في المساهمة السياسية.

- والاوليكارشي: الذي يحدد الثراء شرطاً للمساهمة.

وهذا المبدأ الوسط هو اشتراط نصاب مالي بسيط.

ب- تحديد مبدأ اختبار الحاكم: إما بوسيلة الاقتراع التي يفضلها النظام الديمقراطي أو بوسيلة الانتخاب التي يستخدمها النظام الاوليكارشي أو بجمع الوسيلتين معاً في جميع الوظائف.

ج- تقنین عملية حضور جلسات الجمعية الشعبية: وذلك من خلال مكافأة الفقراء عند حضورهم ومعاقبة الأغنياء عند تخلفهم عن الحضور، ولا يعترض أرسطو على تخصيص أجر عن الوظائف العامة شرط عدم المغالاة(2). وفي النهاية بأنه لا ضیر من وضع كل ما قدمه هذان الفيلسوفان أفلاطون وأرسطو من إسهامات في مجال الفكر السياسي تحت أنظار التقييم، وذلك من خلال تحديد أوجه الشبه والاختلاف.

أوجه الشبه بين افلاطون وارسطو.

1. قدم كل من الفيلسوفين تصوراً لدولة مثالية غايتها تحقيق السعادة للناس

ص: 54


1- أرسطو طاليس، السياسة، ص 235
2- ينظر أرسطو طاليس: السياسة، ص 364

بشرط أن تتعهد الدولة بإقرار العدالة والفضيلة التي تكتسب بالتعلم.

2. بما أن الفضيلة تنحصر في أفراد معينین لذلك يجب أن تكون صفة المواطنة مقيدة بشروط حتى ترسخ فكرة المواطن الصالح في الدولة.

أوجه الاختلاف:

1. أكد أفلاطون على المثالية المطلقة للدولة وجعل كل ما سواها غیر صالح على حین فرق أرسطو بین المثالية والمثالية النسبية مستنداً في ذلك إلى ما هو قائم في الواقع لبناء نظامه السياسي ولهذا واجه المشكلة السياسية في اليونان بأسلوب وضعي متخذاً من الخبرة نقطة البدء وليس الخيال كما يظن أفلاطون.

2. لا ضیر بتعدد النظام السياسي الأصلح تبعاً لخصوصية كل شعب حسب رأي أرسطو، وهذا نقيض ما اعتقد به أفلاطون في شكل الدولة المثالية ذات النظام الأوحد.

3. وضح أرسطو حاكمية السلطة بيد المجتمع السياسي نابذاً ما كان يعتقد به أفلاطون من حاكمية الفرد العاقل في إدارة السلطة.

حضارة الرومان:

رغم أن الفكر السياسي الحديث قد استند في كثیر من طروحاته إلى ما قدمه اليونان من أسس فكرية في تفسیر الظواهر السياسية إلا أنه استفاد أيضاً من المباني السياسية التي كانت سائدة في الحضارة الرومانية، وذلك عن طريق استيعاب النظم السياسية القانونية وتنظيم العلاقة بین الفرد والدولة، وقد مرّ تاريخ روما السياسي بثلاثة عصور هي: العصر الملكي والجمهوري والإمبراطوري، وهي تعبر عن النظم السياسية الرومانية ومدى تطور الفكر السياسي لديهم، وقد كان لكل

ص: 55

عصر سمات سياسية واجتماعية يختلف بها عن الآخر، وقد كان من أبرز المساهمين في رسم ملامح الفكر السياسي الروماني (بوليب وشيشرون وسنيكا) حيث تعبر أفكارهم السياسية عن جملة من الحقائق.

بوليب:

((يمثّل مرحلة ازدهار الفكر السياسي الروماني ومدى تأثیره في الحضارة الرومانية))(1) لكونه درس روما وتوصل إلى أن سر عظمة الحضارة الرومانية لا يكمن في الانتصارات العسكرية فحسب بل في تطبيق نظرية الدستور المختلط التي كانت من نتاجات الحضارة اليونانية والتي لا تزل تؤثر في الأوساط السياسية المعاصرة.

شيشرون:

ويمثل الخريف اليوناني في صياغة أفكاره السياسية ولا يعني ذلك محاكاة وتقليد كل ما جاء في الفلسفة السياسية اليونانية، ويتضح ذلك في كتاباته ولا سيما في (الجمهورية والقوانین) اذ اهتم شيشرون في مجال السياسة التطبيقية الواقعية وجعل المحور هو الإنسان والإحساس الواعي بالعالم وبهذا اختلف عن (أفلاطون وأرسطو) وقد طرح شيشرون فكرة الدولة الكاملة التي تبنى على ركيزتین هما:

أ- فكرة الدستور المختلط: وهي عملية المزج المتوازن لعناصر ثلاثة أنظمة مختلفة هي (الملكية والارستقراطية والديمقراطية) والوصول إلى نظام مثالي تنسجم فيه

ص: 56


1- عقل، محمد، تاريخ الرومان، مطابع غندور، بيروت، 1974، ص 192

عناصر هذه الأنظمة(1).

ب- فكرة التطور التاريخي الدوري للدساتير: هي عملية تحول الأنظمة من الأحسن إلى الأسوة نتيجة ما يصيب هذه الأنظمة من الفساد.

أما طبيعة الدولة، فيتفق شيشرون والرواقية على أن الدولة مؤسسة عقلانية غیر أنه يختلف مع الابيقورية بقولهم أن الدولة تجسيد لمصلحة الأفراد الذاتية.

فالدولة عند شيشرون هي (مصلحة الناس المشتركة)(2). والسلطة مستمدة من الشعب ولا يمارسها الحاكم إلا بالعودة إلى القانون والهدف من وجود السلطة هو هدف أخلاقي(3). وقد كان أيضاً ليشيشرون نظرية في القانون الطبيعي كانت مرجعاً لدى الفكر الغربي حتى القرن التاسع عشر وتنص على أن القانون الطبيعي ينبثق من العناية الإلهية للعالم كله ومن الطبيعة العقلية الاجتماعية للبشر وأن هنالك دستوراً موحداً للعالم يلزم جميع الناس في كل مكان وزمان(4)

سنيكا:

رغم أنه كان متأثراً بالفكر الرواقي إلا أن أفكاره السياسية كانت مطابقة لما جاءت به المسيحية، خصوصاً في تصوره حول وجود عالمین للإنسان هما. عالم صغیر يمثل عالم الدولة يعيش فيه الفرد على وفق مبدأ المساواة الإنسانية وعالم

ص: 57


1- ينظر، محمد، علي المعطي، الفكر السياسي الغربي، دار الفكر للنشر والطباعة، القاهرة، 1970 م، ص 110
2- ينظر، درويش، إبراهيم، النظرية السياسية في العصر الذهبي، دار النهضة العربية، القاهرة، 1973 م، ص 198
3- ينظر، درويش، إبراهيم، النظرية السياسية في العصر الذهبي، ص 199
4- ينظر: محمد، علي المعطي، الفكر السياسي الغربي، ص 111

آخر أكبر تعيش فيه الكائنات العاقلة بدلاً من الروابط القانونية والسياسية(1) وتقترب أفكاره مرة أخرى والمسيحية في فكرة العصر الذهبي التي يفترض فيها وجود عصر سابق على عصر المدينة والدولة وهو يتصف بأوصاف ممدوحة دون أن تكون فيه الحاجة إلى قوة القانون.

ومن أفكار سنيكا أيضاً عدم اكتراثه بتعدد أنظمة الحكم؛ لأنه كان يعتقد أنها تمثل الشر، لذلك أعطى الأفضلية في الحكم للطاغية، وأن معيار صلاح وفساد الحكومة هو المنفعة فقط(2).

وأخیراً مثل سنيكا نهاية مرحلة التاريخ السياسي الروماني وبداية مرحلة أخذت من أفكاره الكثیر متمثلة بالمسيحية.

ص: 58


1- ينظر، محمد، علي المعطى، الفكر السياسي الغربي، ص 113
2- الفكر السياسي الغربي، ص 117

ثالثا / أوضاع العرب قبل الإسلام:

الموقع الجغرافي للجزيرة العربية.

شبه الجزيرة العربية تحيط بها المياه ومن ثلاث جهات من بحر القلزم (البحر الأحمر) إلى الخليج العربي إلى خليج عمان وما سوى ذلك فهي أرض منبسطة ممتدة الأطراف مجراها من الشمال بلاد الشام، ومن أقصى الجنوب بلاد اليمن، وفي الجنوب الشرقي عمان، وفي مناطق يغلب عليها البداوة ماعدا حواضر مكة وعمان واليمن باعتبار مواقعها التجارية، حيث إن عادة العرب البحث عن رغيد العيش والكلأ والمرعى، ولقد كانت مكة عاصمة تجارية؛ لارتباطها بالبيت الحرام وعمان واليمن، كذلك لتقاسمها المواقع الاسراتيجية التي تتيح حرية التجارة، وكذلك اشتمالها على مقومات الحضارة من وفرة المياه وخصوبة الأرض وغيرهما(1).

سكانها:

تشير المصادر التاريخية إلى ان العرب قبل الإسلام كانوا على ثلاثة أنماط:

1. العرب العاربة: وهم من أبناء سام بن نوح وهم القحطانيون عاشوا باليمن وتفرقوا إلى عمان وبلدان شتى في الجزيرة العربية.

2. العرب المستعربة: وهم من نسل إبراهيم (عليه السلام) وإسماعيل وهم العدنانيون عاشوا في مكة وتفرقوا بالحجاز ومنهم من ذهب إلى عمان(2).

ص: 59


1- ينظر، علي، جواد، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج 1، نشر جامعة بغداد (1993 م)، ص 30
2- ينظر، المسعودي، علي بن الحسين، مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج 2، دار الفكر. ط 1، بيروت، (1993 م)، ص 44

3. العرب البائدة: وهم طسم وجديس وثمود وعاد وقيل سكنوا عمان بالأحقاف وزاد ابن خلدون العرب المستعجمة وهم الذين خالطوا الأعاجم من الفرس والرومان وأخذوا عنهم. يقول ابن خلدون: (ولما كانت لغتهم مستعجمة على اللسان المضري الذي نزل به القرآن وهو لسان سلفهم سميناهم لذلك العرب المستعجمة فهذه أجيال العرب منذ بدأت الخليقة)(1).

وكان المجتمع العربي الجاهلي يتكون من طبقات اجتماعية هي.

1. الأحرار: وهي الطبقة العليا من القبيلة كانوا يتمتعون بامتيازات خاصة لذلك استغل بعضهم رئاسة القبيلة وكان همهم ملذاتهم وشهواتهم بل وصل بعضهم إلى الطغيان بالبطش بالناس وتخريب البلاد، ويصور لنا الأعشى هذا المضمون فيقول:

إذا ما سار نحو بلاد قوم *** أزارهم المنية والحماما(2)

وكان يكتسب الشرف والرفعة عندهم عن طريق النسب والجاه والمال والقيام بالأعمال البطولية وأهمها الظفر بالحرب(3).

كما أن بنات الإشراف كان لا يتم تزويجهن إلا من رجال في منزلتهن، ولذلك كثرت العوانس والقواعد منهن(4).

ص: 60


1- ابن خلدون، عبد الرحمن، تاريخ ابن خلدون، ج 1، مؤسسة جمال للطباعة والنشر، ط 1، بيروت، ص 16
2- ديوان الأعشى، قصيدة 29، شرح: محمد محمد حسين، المكتب الشرعي، (1968 م)
3- ينظر، حسن، حسين الحاج: - حضارة العرب في صدر الاسلام، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ط 1، بيروت، 1992 م، ص 20
4- ينظر، الأصفهاني، أبو الفرج: الأغاني، ج 13، دار الكتب المصرية، ص 126

2. الموالي: وهي الطبقة الثانية من مجتمع القبيلة، والمولى يكون حراً بعد أن يعتقه صاحبه فتكون له حقوق الأحرار نفسها، ولكن رابطة الولاء تبقى تربطه بسيده القديم، وفي حال موت المولى يرثه معتقه ويستلم ديته في حال قتله، وإذا كان المولى أمة (امرأة) تخطب من معتقها ويستلم مهرها، ولكن لا يتزوج المولى من الحرة أبداً، وهو ينسب إلى سيده السابق الذي أعتقه(1).

أما الموارد الاقتصادية التي كان يعتمد عليها المجتمع العربي الجاهلي فلم تكن بمستوى التبادل الاقتصادي الذي كانت تتمتع فيه الحضارات المجاورة، فالعرب لم تعرف الزراعة إلا في المناطق الخصبة في الجزيرة التي تتوفر فيها المياه؛ لأن الأغلبية كانت تعيش على ما تحصل عليه من الماشية، أما التجارة فكانت مزدهرة نوعاً ما؛ لأن الجزيرة العربية كانت طريقاً للتجارة، وكانت أسواقهم تكتظ في مواسم الحج فقط، في حین أن الصناعة لم تكن حرفة عند العرب إلا بشكل بدائي(2).

وقد استوطن العرب الحجاز على شكل جماعات قبلية ((وهي الوحدات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عاشت حياة تمثلت فيها المحافظة على التقاليد والعادات التي ورثوها عن الأسلاف فحياة الجماعة ومفاهيمها أعراف القبيلة ومنهاجها في السيطرة على المجتمعات البدوية وحتى المستقرة منها فنرى مجتمع الحجاز عموماً بمدره وحضره يسیر وفق التقاليد القبلية(3)، إلا أن بعض تلك التقاليد كانت تتسم بصفات سلبية كما تشیر مصادر التاريخ، فخطاب جعفر ابن أبي طالب (عليه السلام) أمام ملك الحبشة النجاشي ووصفه المجتمع العربي

ص: 61


1- حسن، حسين الحاج: حضارة العرب في صدر الإسلام، ص 21
2- ينظر، حسن الحاج: حضارة العرب في عصر الجاهلية، المؤسسة الجامعية، بيروت، 1984 م، ص 32
3- الدوري، عبد العزيز: مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي، دار الطليعة للطباعة والنشر، ط 1، ص 55

قبل الإسلام دليل ذلك بقوله ((أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف وكنا على ذلك حتى بعث الله تعالى إلينا رسولاً منا))(1).

الثقافة الفكرية والعقائدية:

يختلف العرب في مستواهم الفكري والثقافي قبل الإسلام فأولئك الذين احتكوا بالأمم وسافروا إلى الممالك بقصد التجارة وغيرها استطاعوا أن يأخذوا عنهم الكتابة والقراءة ويتثقفوا بثقافتهم وهم قلّة قليلة. وأما السواد الأعظم فهم أميون لا يجيدون الكتابة ولا يحسنون القراءة وإنما يعيشون على السليقة والفطرة.

وإذا أردنا أن نحصي مظاهر الحياة الفكرية في الجاهلية وجدنا أنها ((لا تتعدى بعض المعارف المتفرقة في اللغة والشعر والخطابة والقصص والأمثال يضاف إلى ذلك علم الأنساب والحيافة والريافة والفراسة وبعض المعارف الفلكية ورصد النجوم))(2).

أما عقيدة العرب في الجاهلية فكان لديهم عدّة معبودات منها الأوثان والأشجار والحيوان والظواهر الطبيعية والكواكب كالشمس والقمر.

وكغيرهم من الأمم الأخرى المجاورة لهم التي استعاروا كثیراً من آلهتها، وقد جعلوا من الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل (عليه السلام) مركزاً دينياً لهم يحجون إليه ويكرمونه وفيه كانوا يضعون أصنامهم المختلفة الأشكال والأحجار.

ص: 62


1- المجلسي، محمد باقر: بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ج 18، دار الكتب الإسلامي، طهران، 1343 ش، ص 415
2- حسن، حسين الحاج: حضارة العرب في صدر الإسلام، ص 26

وأشهر هذه الأصنام اللات ومناة والعزى، يتقربون إليها بالذبائح والقرابین وقد كانوا يعدّونها بنات الله(1)، وهنا يتضح لنا مدى انغماس بعض عرب الجاهلية في مهاوي الشرك.

وقد كان بعض العرب يعتقدون بالنصرانية والمجوسية بحكم اختلاطهم بالروم من جهة والفرس من جهة أخرى، إلا أنهم لم يتهودوا للجفاء القائم بينهم منذ قبل الإسلام ولطبيعة اليهود الاستبدادية ومنزلتهم الاجتماعية إلا ان بعض الباحثین يشیر إلى وجود الديانة اليهودية عند عرب اليمن ويعزو سبب اعتناق ملوك اليمن لليهودية لرغبتهم مخالفة جيرانهم الأحباش الذين يعتنقون المسيحية(2).

أما القلة القليلة فبقوا على الحنفية السمحة وهي ملّة إبراهيم (عليه السلام) وذلك في ما تشیر إليه المصادر التاريخية(3).

ص: 63


1- ينظر، علي، جواد: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج 3، ص 721
2- ماجد، عبد المنعم: التاريخ السياسي للدولة العربية، ج 1، ط 1، القاهرة، 1982 م، ص 69
3- ينظر، المسعودي، مروج الذهب، ج 1، ص 75

السياسة:

كان العرب في الجاهلية ينقسمون إلى قسمين (بدو، وحضر) ((فالبدو كانوا لا يجتمعون تحت لواء واحد ولا يعترفون بسلطة عامة وعندما يجف الماء والكلأ يعمدون إلى الغزو والحروب))(1) غیر أنّ الأمر كان يختلف في المراكز الحضرية مثل (مكة ويثرب والطائف) حيث كانت السيطرة على الأوضاع في إدارة الشؤون العامة بین القبائل في الحجاز على أمرين:

1. الأمر الأول: قوة القبيلة.

1. الأمر الثاني: توفر صفات شخصية في بعض الزعماء العرب فمن خلال نظرة بسيطة على الواقع السياسي على حواضر الحجاز نجد الفرق كبیراً بین كل منهما، فنرى في مكة أن للجاه والشرف الأثر الكبیر في السيادة والقيادة بينما في يثرب العامل الاقتصادي هو العامل الرئيسي في تحديد الرئاسة.

أما في الطائف فهو خليط من الاثنین إلا أن اللاعب الكبیر في الأحداث هم الملأ أصحاب الحل والعقد في عموم المنطقة(2).

أما عن القضاء في الجاهلية، فما وصل إلينا أن العرب لم يعرفوا القضاء بالمعنى الصحيح، إنما كانوا يحتكمون في ما بينهم من خلاف إلى شيخ القبيلة لثقتهم به، ولم

ص: 64


1- حسن، حسين الحاج: حضارة العرب في صدر الإسلام، ص 22
2- حسن، حسين الحاج: حضارة العرب في صدر الإسلام، ص 22

يكن هناك محاكم لهؤلاء الحكام، والقانون الذي يستند إليه الحاكم هو الأعراف والعادات والتقاليد وحكمه لم يكن ملزماً للمتخاصمین(1).

هكذا بدت لنا حياة العرب قبل الإسلام في سماء المشهد السياسي والذي هو مدار بحثنا حيث نتفق مع القائلین بوجود دولة عند العرب وهي على نحوين.

1. الأول: دولة بسيطة: شعبها مجتمع القبيلة يكون فيها اختيار الرئيس من بواطن تلك القبيلة.

1. الثاني: الدولة في الحضر: ومثال ذلك اليمن حيث كان الحكم فيها ملكيًّا يتم عبر التوارث(2). ولهذا نعتقد انه لم يكن هنالك مظاهر سياسية واسعة كتحديد شكل القيادة السياسية تحت إطار ما يعرف بالدولة ذات المعالم الكاملة.

ص: 65


1- حسن، حسين الحاج: حضارة العرب في صدر الإسلام، ص 23
2- ينظر: علي، جواد: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج 1، ص 205

ص: 66

الفصل الأول: معالم الفكر السياسي في الحضارة الإسلالمية

اشارة

* المبحث الأول: الفكر السياسي النبوي

* المبحث الثاني: الإمامة في الفكر السياسي الإسلامي.

ص: 67

ص: 68

معالم الفكر السياسي في الحضارة الإسلامية:

بعد أن كانت سماء الجزيرة العربية ملبدة بالغيوم الجاهلية ومظلمة بثقافاتها أشرقت شمس الإسلام لترسل بأشعتها على ربوع الأراضي العربية، لتحدث تغیراً في مختلف المجالات سيما الفكر السياسي الذي هو عملية تعاط مرن مع القيم العليا ولكن هذا الفكر السياسي يتفاوت من شخص إلى آخر من حيث استيعاب تلك القيم وكيفية التعامل معها سلباً وإيجاباً؛ فإذا فقدت هذه القيم فقدت المصداقية في طرح الأفكار السياسية، إذ إن ميدان الفكر في الحضارة الإسلامية واسع جداً وسيقتصر بحثنا في هذا الفصل على مبحثین:

1. الأول: يتناول الفكر السياسي النبوي.

1. الثاني: سنتطرق فيه إلى الإمامة في الفكر السياسي الإسلامي ولكن قبل الشروع في ذلك يتبادر إلى الذهن سؤال مهم وهو: هل تأثرت الحضارة الإسلامية بالحضارات الأخرى في عملية التغیر والبناء الحضاري؟ الإجابة عن هذا السؤال كانت مدار بحث بین أوساط الدارسین والمفكرين المسلمين وهنا يمكن تحديد نوعین من الآراء:

الرأي الأول: أكد أصحاب هذا الرأي على فكرة «انفصال الحضارات»(1)

ص: 69


1- يمثل هذا الرأي اشبنجلرت 1936 م، الذي طرح فكرة الحضارات المغلقة، بمعنى أن كل حضارة لا تتأثر ولا تؤثر في غيرها من الحضارات الأخرى من حيث النشأة والنمو والازدهار وحتى أسباب السقوط وبهذا يكون انفصال الحضارات. ينظر: اشبنجلر، اموالد، تدهور الحضارة الغربية، ج 2، دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان، ص 75

والتي تعني عملية تقاطع بین الحضارات فكل حضارة تختلف عن غيرها من الحضارات بخصوصية الزمان والمكان والمحتوى الثقافي(1).

الرأي الثاني: ذهب أصحاب هذا الرأي إلى القول بفكرة «اتصال الحضارات»(2) التي تعني عملية تواصل بین الحضارات إن الرأي الذي يدعو إلى وجود تقاطع بین الحضارات كان ينطلق من بعدين هما زماني ومكاني يفصل كلاهما الحضارات عن بعضها، وكان هذا الرأي يتعارض مع القول بتواصل الحضارات، بيد أن هذا التواصل لا يلغي خصوصية الزمان والمكان لكل حضارة، فتواصل الحضارات لا يكون عن طريق الغزو، والفتوحات والسياحة، والتجارة والتجاور»(3) ونرى ان التواصل بین الحضارات يتضمن رؤيتین.

الرؤية الأولى: امتداد مطابق وتام بين الحضارات ويعود هذا الرأي إلى أمرين:

الأمر الأول: ارتكاز جميع الحضارات في أسباب وجودها إلى عوامل واحدة.

الأمر الثاني: وجود سمات متشابهة في المحتوى الثقافي لكل حضارة.

الرؤية الثانية: اتصال مستفاد بین الحضارات، وهذا يتضح بصورة جلية في

ص: 70


1- ينظر، شوقي أبو خليل: الحضارات العربية، الإسلامية، موجز عن الحضارات السابقة، دار الفكر، ط 1، 1996، ص 206
2- يمثل هذا الرأي ابن خلدون ت 808 ه. الذي طرح فكرة الحضارات المنفتحة والتي تعني أن كل الحضارات تتفاعل في عملية الأثر والتأثير مع بعضها البعض سلباً وإيجاباً وبهذا يكون تواصل الحضارات. ينظر: ابن خلدون، عبد الرحمن: المقدمة، ج 1، ص 747
3- شوقي: أبو خليل: الحضارات العربة الإسلامية، ص 25

نصوص القرآن الكريم، كقوله تعالى: «وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا»(1) والاتصال المستفاد لابد أن يعتمد على منطلقین أساسيين:

أ- التمسك بالثوابت، ويعني الحفاظ على جوهر العقيدة وأصالتها.

ب- الانفتاح على الآخر، ويعني المرونة في التعامل مع الآخر، سواء كان يؤمن بعقيدة سماوية أم ايدلوجية وضعية، وخیر مثال تطبيقي على ذلك هو ظهور الحضارة الإسلامية في الحقبة الذهبية للإسلام سيما عهد الرسول محمد (صلى الله عليه وآله)(2).

ص: 71


1- سورة الحجرات، آية 13
2- ولد الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وآله) في عام الفيل يوم الجمعة شهر ربيع الأول في يوم السابع عشر منه

ص: 72

المبحث الأول: الفكر السياسي النبوي

* - نشوء الدولة

* - التزام الحاكم بالقانون

* - طبقات المجتمع الإسلامي

* - حقوق الحاكم

* - أول دولة إسلامیة

ص: 73

ص: 74

المبحث الأول الفكر السياسي النبوي

اشارة

اعتقد بعض الباحثین ان أفضل مراحل تطور الفكر السياسي هي المرحلة التي تزامنت مع الحضارة اليونانية؛ إذ كان لفلاسفتها اسهامات رائعة لبناء وتطوير مفاهيم الفكر السياسي من خلال اعطاء صورة مثالية للدولة الكاملة بدءاً من بيان نظرتهم حول نشوء الدولة وصفات الحاكم الحكيم الذي يخضع لقانون بغض النظر عن ماهيته وترسيخ مبدأ الطبقية في المجتمع الذي هو أساس انظمة الحكم وغيرها من مفاصل الدولة، ولكن هنالك مرحلة أخرى مر بها الفكر السياسي تعد تأسيساً جديداً لمفاهيم هذا الفكر تلك هي مرحلة ظهور الفكر السياسي الإسلامي في العصر النبوي، ووفقاً لذلك يمكننا ان نتناول بعض السمات المهمة في مجال الفكر السياسي النبوي عبر دراسة الموضوعات الآتية:

1. نشوء الدولة:

هناك شبه أجماع بین الكتاب القدماء والمتأخرين على ان أساس تكوين الدولة يكمن في وجود جماعة بشرية تحتاج إلى سد حاجاتها المعيشية والأمنية، وهذا يحتاج لوجود القانون، فالبعض جعل من الإرادة العامة للأمة المشرع لذلك النظام، إلا أن الإسلام يختلف وتلك النظرة؛ فهو يوقف مصدر ذلك النظام على ثقافة

ص: 75

الوحي، أما نشوء الدولة الإسلامية فقد مرت بعدة مراحل أهمها:

1. أ- إعداد المجتمع ليكون نواة لقيام الدولة الإسلامية.

1. ب- إعلان الدولة الإسلامية وسوف نتطرق لذلك خلال ثنايا البحث.

إن استمرار وجود الدولة الإسلامية وازدهارها يعلل بوجود جهاز حكومي متخصص وبإرادة مركزية من قبل الرسول (صلى الله عليه وآله) وهذا ما نجده في أحد بنود وثيقة المدينة المنورة «إن اختلفتم فيه من شيء فأن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد» (صلى الله عليه وآله)، وهذا النص يدل على ربط نجاح التجربة السياسية بوجود الحاكم الذي يلتزم بالقانون الإلهي.

2. التزام الحاكم بالقانون:

أن أحد مرتكزات الفكر السياسي الإسلامي، التزام الحاكم بالقانون والذي يعد أساساً لمشروعية الدولة «فالحاكم بما يتخذ من قرارات ويمارس من إجراءات وبما يصدر من أوامر يجب أن يكون مقيداً بأحكام الشريعة كما ان طاعة الحاكم مقترنة بمدى التزامه وخضوعه للقانون»(1)، وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم:

«وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(2).

إن تطبيق الحاكم السياسي لهذه القوانین يعد توحيداً عملياً يمكن استنباطه من هذه الآية وغيرها، وكذلك من شعار التوحيد حينما نقول (لا اله إلا الله) فإننا نوحد الله نظريا بأن لن نعبد غیره، وعملياً بأن نطبق أحكامه في كل مجالات الحياة

ص: 76


1- القرشي، باقر شريف: حياة النبي محمد، ج 2، دار جواد الأئمة، ط 1، بيروت، ص 101، ص 102
2- سورة المائدة: آية 45

سيما في مجال التفكیر السياسي يقول أحد الكتاب المعاصرين «ان دور التوحيد يتضح في التفكیر السياسي الموحد الذي قبل جميع مراتب التوحيد ودرجاته من التوحيد الذاتي والصفاتي إلى التوحيد في الربوبية التشريعية»(1).

فضلاً عن أن هذه القوانین تحتوي على قيم عليا تنسجم وفطرة الإنسان وتسمو بمن يلتزم بها سواء كان حاكماً أم محكوماً فالعدالة من ضمن تلك القيم التي تعني ضمان الحق لمن يستحق(2)، وهذا ما جسده رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عطائه وتعامله مع فئات المجتمع المختلفة التي كانت تعيش في كنف الدولة الإسلامية من اليهود والنصارى، أما المساواة في نظر الإسلام فتعني ان جميع أبناء المجتمع متساوون في الحقوق(3) خصوصا في مجال توزيع الثروات والحقوق، ولا يفرق بينهم من حيث اللون والعرق، فالناس متساوون بنظر رسول الله وهذا ما أكده في كثیر من الأحاديث إذ قال:

«الناس سواسية كأسنان المشط»(4) وكذلك تعد الحرية من منظومة القيم الإسلامية التي تمنح حرية الرأي والانتماء الديني(5)، ويؤيد ذلك ما ورد في أحد بنود الوثيقة السياسية للمدينة المنورة «لليهود والنصارى دينهم وللمسلمين دينهم

ص: 77


1- بشية فرد، مصطفى جعفر: مطارحات في الفكر السياسي الإسلامي، دار الهادي، ط 1، بيروت، 2009 م، ص 55
2- يشير إلى هذا المعنى القرآن الكريم في سورة النحل آية، 9
3- يشير إلى هذا المعنى القرآن الكريم في سورة المائدة، آية، 8
4- الهندي، علاء الدين علي: كنز العمال، في سنن الأقوال والأفعال، ج 9، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1989 م، ص 35
5- يشير إلى هذا المعنى القرآن الكريم في سورة البقرة، آية 256

ومواليهم وأنفسهم(1).

إن التزام الرسول (صلى الله عليه وآله) بهذه القيم وتجسيدها على أرض الواقع كان عاملاً مهماً في استقطاب القبائل التي كانت تسكن خارج المدينة وقد أدى ذلك إلى توسيع الدولة الإسلامية.

3. طبقات المجتمع الإسلامي:

يعد تقسيم المجتمع إلى طبقات أساس تعيین الموظفین الساسة المسؤولين في الدولة في بعض الثقافات القديمة، ولاسيما اليونانية، وهذا النوع من التقسيم للمجتمع مذموم في نظر الإسلام، فهو يرسخ مبدأ الفوارق الطبقية بین الفقراء والأغنياء حيث يكون منصب الرئاسة والحكم حكراً على طبقة النبلاء «الارستقراطية» فقط.

ألا أن الإسلام يقر بوجود طبقية في المجتمع الإسلامي غیر مذمومة بل ضرورية وتعني التخصص في العمل، ويؤيد ذلك ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث حول بيان بعض سمات الحاكم السياسي؛ إذ قال: «لا تصح الإمامة في رجل إلا إذا اجتمعت فيه «خلال ثلاث ورع يعصمه عن معاصي الله وحلم يملك به غضبه وحسن الرعية لمن يلي»(2).

أذاً فالإسلام حدد معايیر لاختيار الحاكم واهمها الكفاءة والعدالة، فكلما اتصف الحاكم بهذه الصفات فإنه يكون مؤهلاً لأداء الواجبات تجاه المحكومین بصورة أكمل.

ص: 78


1- القرشي، باقر شريف: حياة الرسول محمد (صلى الله عليه وآله)، ج 2، ص 101، ص 103
2- الكليني، أبو جعفر بن يعقوب: الكافي، ج 1، دار الكتب الإسلامية، ط 3، طهران، 1388 ه، ص 328

حقوق الحاكم:

ينظر الإسلام إلى الحاكم من زاوية إنسانية فهو يجب ان يتمتع بحقوق الملكية وتنظيم الأسرة التي عدتها بعض الثقافات القديمة حقوقاً محرمة على الحاكم بحجة تهذيب سلوكه وعدم استبداده. إن تقويم سلوك الحاكم لا يكون عبر حرمانه من حقوقه المشروعة؛ إذ حدد الإسلام عدة أمور تحقق تحصین الحاكم من الخطأ أهمها جانبان:

1. الأول: مادي: العمل بقاعدة لا أفراط ولا تفريط.

1. الثاني: معنوي: محاسبة النفس.

ويمكننا أن نلمس ما على الحاكم من واجبات وماله من حقوق وتحقيق الوسطية في الحكم السياسي وتطبيق قيم السماء في الوقائع وملامسة نهج الحاكم العادل عبر متابعة الخطوات العملية التي مرت بها اول دولة إسلامية تحت قيادة النبي الخاتم محمد (صلى الله عليه وآله).

أول دولة إسلامية:

اشارة

إن الفكر الإسلامي الأصيل في القرآن الكريم يحمل في طياته تعاليم ومبادئ عامة تشمل مجالات عديدة ولاسيما المجال السياسي؛ حيث نجد مبادئ تنظيرية وممارسة تطبيقية من خلال بعث الرسالات السماوية على يد الأنبياء والرسل عبر التاريخ الذين استطاعوا أن يقدموا اصلاحات سياسية أسهمت في تغیير المجتمع الإنساني وصولاً إلى الرسالة الإسلامية على يد النبي الخاتم محمد (صلى الله عليه وآله). وقبل التطرق إلى مفاصل أركان دولة الرسول لابد لنا أن نتطرق إلى ماهية العلاقة بین الرسالة الإسلامية (كدين) وبین السياسة لوجود بعض من ينفي هذه

ص: 79

الصلة المتمازجة تماما وهناك في المجموع ثلاث نظريات لكل واحدة منها أتباع وأنصار وهي على النحو الآتي:

1. نظرية التضاد:

وتنص على نفي أي ارتباط بین السياسة والدين بل ان هناك تضاداً تاماً وكاملاً؛ لأن الدين جاء لإصلاح الآخرة وهو يدعو الناس إلى الزهد بالدنيا وتجنب الانغماس في المظاهر المادية، في حین تهتم السياسة بإعمار الدنيا والغفلة عن الآخرة، فالدين يعلّم أتباعه القيم والأخلاق، على حین لا تعني السياسة سوى الخداع والاحتيال والسعي إلى السلطة مهما كانت التكلفة وأياً كانت الوسائل والسبل، يرى الكاتب المصري محمد سعيد عشماوي «إن الله أراد للإسلام أن يكون ديناً ولكن الناس أبوا الا أن يجعلوه سياسة، إن تسييس الدين او العكس سعي يمارسه الفجار والأشرار؛ لأنهم بذلك يفتحون الطريق أمام الانتهازیين ويحملون أعمالهم القبيحة من خلال تأييدها بآيات من القرآن الكريم ويضفون شرعية على أعمالهم»(1).

ص: 80


1- ينظر، عشماوي، محمد سعيد: الإسلام السياسي، مكتبة الصغير، ط 1، 1416 ه، ص 25
2. النظرية العلمانية:
اشارة

ومفادها أن لكل من الدين والسياسة مجالاً خاصاً ولا يوجد بينهما تلازم بالضرورة وان الذي يؤدي بهما إلى التضاد والتزاحم هو خروج كل منهما عن دائرته ومساحته والتدخل في مجال دائرة الآخر.

يؤكد مهدي بارزكان «ان التلازم بین الدين والسياسة هو هبوط بالدين ومقام الأنبياء إلى أمور السياسة المادية وهم أرفع وأسمى من الخوض بتلك الأمور.

فلكل مجاله الخاص، فالدين يكتفي بتوضيح قضايا الحلال والحرام دون التدخل في تفاصيل الحياة ولاسيما السياسة»(1).

تعقيب:

ان النظريتین اللتین ذكرناهما سابقا تتشابهان وتختلفان في آن واحد. فهما يتفقان على فصل الدين عن السياسة، ولكن الفيصل في رؤية كل منهما ميل أصحاب نظرية التضاد إلى الدين على حساب السياسة بينما عد أنصار النظرية العلمانية لكل من الدين والسياسة مجاله الخاص، لو سلمنا بفهم هاتین النظريتین للعلاقة بین «الدين والسياسة» لوجدنا أنه يتعارض تماما وحقيقة الدين الإسلامي، إذ إن الدين يؤكد في كثیر من نصوصه على ان سعادة الإنسان في عالم الآخرة، تكون من خلال عمارة الدنيا في مختلف نواحي الحياة ومنها السياسة تحديداً. فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال «الدنيا مزرعة الآخرة»(2) وروي عن أمیر المؤمنين

ص: 81


1- بارزكان، مهدي: مجلة كيان، مركز الدراسات الثقافية، العدد (28) طهران، عام 1274 ه - ص 46 - 61
2- العجلوني، إسماعيل بن محمد: كشف الخفاء ومزيل الألباس، ج 2، دار الكتب العلمية، ط 3 بيروت،، 1988، ص 176

انه قال «الدنيا متجر أولياء الله»(1) أما المذموم على لسان النصوص الدينية فهو حب الدنيا والخضوع لسلطانها وأما توظيف الدنيا واستخدام ما توفره للإنسان من الأدوات المادية وجعلها مزرعة ومتجراً يستثمره لآخرته فإنها ستكون في مثل هذه الحالة أفضل وسيلة لضمان السعادة في الآخرة. ان الدنيا إذا كانت للإنسان فهي ممدوحة بعكس ذلك إذا كان الإنسان لها ستكون حينئذ مذمومة.

أن تبني النظريات السابقة لفكرة فصل الدين عن السياسة جاء نتيجة الخلط بین رؤية الكنيسة في العصور الوسطى للسياسة والرؤية الإسلامية التي تختلف من حيث الأسس والأهداف، فالإسلام يفسر الحكم بمعنى إدارة المجتمع وفق القوانین والتشريعات الإلهية وكذلك السعي لتحقيق العدالة الاجتماعية ومقارعة الطواغيت والظالمین والحفاظ على استقلال الأمة الإسلامية، وبمعنى آخر أن السياسة هي من مفاصل الهداية العامة في الإسلام وهي تختلف عن السياسة الميكافيلية التي تفصل تماماً الحراك السياسي من الأخلاق والالتزام بالقيم والمواثيق الإنسانية فهي تعتقد بأن الغاية تبرر الوسيلة خصوصاً في الوصول إلى السلطة بأي ثمن، وذلك لا يجتمع ومبادئ الإسلام.

3. نظرية التلازم:

وتنص هذه النظرية على ان السياسة في المنظار الإسلامي جزء من الهداية العامة والشاملة التي تكفل الدين ضمانها ولذلك فإن الارتباط القائم بین الدين

ص: 82


1- ابن أبي الحديد، عز الدين: شرح نهج البلاغة، ج 9، دار احياء الكتب العربية، بيروت، 1960 م، ص 190

والسياسة هو ارتباط الكل بالجزء، وهو جزء يحصل على مساره وهدفه من الكل هذا اولاً وثانياً ان لها دوراً أساسياً في تحقيق هذا الكل. فانتفاء ذلك الجزء ينفي الكل أيضاً. ان القسم الأعظم من الحكمة العملية في الإسلام الناشئة عن الحكمة النظرية والمتناسبة وإياها يشتمل على القوانین والأحكام الاجتماعية والسياسية وفي الأساس فإن الإسلام بمعزل عن أحكامه الاجتماعية والسياسية لن يكون إسلاماً.

«إن فلسفة الدين هي هداية الإنسان بشكل كامل وشامل وتنمية استعداداته وطاقاته وان الاثر الاكبر في هداية القافلة الإنسانية، تتكفل به الإدارة العامة والنظام السياسي والحكومي، لذلك لا يمكن للدين أن لا يتخذ موقفاً بإزائها إن مسار المجتمع يحدده قادته وزعماؤه، وإذا تم إصلاح مصدر القرار سيتجه المسار العام للمجتمع نحو الصلاح والكمال وأما إذا فسد هذا فيعم الفساد جميع أفراد المجتمع»(1) أما ما يتعلق بالأمور التي لا يكون لها دور جوهري في هداية الإنسان او ضلالته التي يمكن للعقل ان يستقل في تحديدها فلم يصدر الإسلام أحكاماً نهائية بشأنها وقد أدرجها ضمن عنوان المباحات العامة او منطقة الفراغ، وان كان قد بین المسار العام في هذه الأمور أيضاً. إن السیرة السياسية للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ومراحل بناء الدولة الإسلامية تعدّ مادة خصبة وممارسة عملية في إدارة النظام السياسي وأنموذجاً يستدل به على عمق العلاقة بین الإسلام والسياسة.

ص: 83


1- الصادقي، عبد الله حاجي: فلسفة النظام السياسي في الإسلام، منشورات رشيد، ط 1، 2010 م، ص 82

دولة الرسول الإسلامية:

ان ظهور الدولة الإسلامية في عصر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) لم يكن محض صدفة أو إرادة مختلفة فرضتها ظروف المرحلة آنذاك بل كان من ضمن ستراتيجيات رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنشاء دولة إسلامية بدأت في خطوات سياسية محكمة ومدروسة توزعت بین مكة ويثرب.

اولاً: بوادر سياسية في مكة المكرمة:

اشارة

اختار الله النبي الأكرم محمداً (صلى الله عليه وآله) ليكون خاتم الأنبياء، ومكة لتكون المقر الأول للدولة الإسلامية، لأنها بيت الله الحرام الذي تحج العرب إليه كل عام وتلتقي به وهي مسقط رأس الرسول ومقر أهله وعشرته وكان النهج الأول لرسول الله لإقامة دولته وتكوين الشعب هو الكلمة المجردة التي يخاطب بها الناس، وقد مرت دعوته بمرحلتین:

1. أ- المرحلة الخاصة: دعا فيها أهله وعشيرته والأقربين من الناس.

1. ب- المرحلة العامة: دعا فيها القبائل وكلما آمن به فرد ارتبط به فرد آخر وشكل من هؤلاء الأفراد النواة الأولى للشعب، وقد كان لأهل مكة من الدعوة الإسلامية موقفان:

- الموقف الأول (مؤيد):

ويمثل هذا الموقف بنو هاشم وبنو عبد المطلب أبناء عبد مناف الذين أعلنوا منذ البداية أنّ محمداً (صلى الله عليه وآله) منهم وأنهم لن يسلموه ولن يسمحوا لأحد أن يصيبه بمكروه.

ص: 84

- الموقف الثاني (معارض):

ويمثل هذا الموقف بعض أفخاذ قريش بزعامة بني أمية وبالتحديد برئاسة أبي سفيان، فقد طعنوا الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) والقرآن الكريم واستهزؤوا فيه وقاموا بتعذيب المستضعفين من الذين أسلموا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)(1) ثم قاطعوا بني هاشم وبني عبد المطلب ثلاث سنوات في شعب أبي طالب(2)، ومن أجل الحفاظ على المسلمين من الضغوط التي تعرضوا لها من قريش شجع الرسول أصحابه على الهجرة حفاظاً على أنفسهم ولنشر الدعوة الإسلامية وبناء علاقات خارجية «وقد أدرك الرسول (صلى الله عليه وآله) أن بقاءه في مكة أمر لا طائل تحته وبمثل ظروفه فإنه لن يؤمن من قومه إلا من آمن وان الكلمة قد أدت دورها تماما وأن اللغة التي تفهمها زعامة قريش هي لغة القوة أو الكلمة المسلحة بالقوة وان نبتة الإيمان التي زرعها في جميع قوافل الأوس والخزرج قد أثمرت»(3).

وقد بايعوه عبر بيعتین، إذ جاء جمع من أهل يثرب والذين سموا فيما بعد ب (الأنصار) إلى مكة لأداء مراسم الحج فالتقوا بالنبي (صلى الله عليه وآله) وهداهم الله إلى الإسلام والتوحيد فبايعوه من صميم قلوبهم وعاهدوه ان يكونوا أتباعه ولا يخالفوا له أمراً(4)، فأرسل النبي (صلى الله عليه وآله) إليهم مصعب ابن

ص: 85


1- ابن سعد: الطبقات الكبرى، ج 1، ص 23
2- ينظر، المجلسي، محمد باقر: بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ج 97، مؤسسة الوفاء، ط 2، بيروت، 1983 م، ص 168
3- يعقوب، احمد حسين: النظام السياسي في الإسلام، مؤسسة أنصاريان للطباعة، ط 4، قم، 2006 م، ص 222
4- ابن سعد: الطبقات الكبرى، ج 1، ص 216 ص 217

عمیر ليقرأ لهم القرآن ويعلمهم مبادئ الإسلام، وفي السنة التي بعدها زاد عدد الوافدين اليثربيین فوجد النبي (صلى الله عليه وآله) يثرب أرضاً صالحة لإبلاغ دعوته السماوية فعقد معاهدة معهم وبايعوه مرة أخرى ثم طلب منهم ان ينتخبوا منهم اثني عشر رجلاً لينظروا في مشاكلهم و يكون رأيهم حجة عليهم(1)، وهكذا بدأت مرحلة جديدة من تاريخ الإسلام وهي الهجرة من مكة إلى يثرب.

ثانياً: الدولة في المدينة المنورة:

إن بناء الدولة الإسلامية كان نتيجة الجهود التي قام بها الرسول (صلى الله عليه وآله) عبر لقائه بوفود القبائل ودعوتهم للإسلام وبعث القادة الرساليين لهم لحل مشاكلهم وتنظيم أمورهم و خلق أجواء مناسبة لقيام الدولة الإسلامية المتكاملة بكل عناصرها في (يثرب).

عناصر تكوين الدولة:

جاء الأمر الإلهي للرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) للهجرة إلى يثرب عندما تكاملت عناصر تشكيل الدولة التالية.

أولاً: الأرض (عاصمة الدولة):

وهي مدينة يثرب؛ إذ كانت حاضرة حجازية تسكنها قبائل عربية وغيرها سميت فيما بعد بالمدينة المنورة وفيها يقيم رئيس الدولة ومساعدوه وإليها تفد

ص: 86


1- ينظر، المجلسي، محمد باقر: بحار الأنور، ج 19، ص 78

الوفود ومنها كانت تسیر الجيوش والبعوث(1).

ثانياً: الشعب:

ويتكون شعب الدولة الإسلامية الأولى من:

أ- المسلمين: ويتألفون من المهاجرين من مكة، والأنصار وهم الأوس والخزرج ومواليهم.

ب- اليهود: المتحالفین مع قبائل الأوس والخزرج وهم يهود بني النجار ويهود بني الحارث ويهود بني ساعدة ويهود بني جشم ويهود بني الأوس ويهود بني ثعلبة.

ج- اليهود: الساكنين حول المدينة.

د- من بقي على الشرك من الأعراب المتواجدين داخل المدينة وخارجها(2).

ثالثاً: الإمام (رئيس الدولة):

وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله) والكادر السياسي من أصحابه فلم يكن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) نبياً مصلحاً اجتماعيا وداعياً للناس إلى الاعتقاد برسالته فحسب بل كان في الوقت نفسه رجلاً سياسياً وعسكرياً بلغ القمة في التفكیر السياسي والاجتماعي والإداري فقد وضع برنامجاً سياسياً عند

ص: 87


1- ينظر، البغدادي، شهاب الدين: معجم البلدان، ج 5، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1979 م، ص 74
2- ينظر:، الحلبي، علي بن برهان: السيرة الحلبية في سيرة الأمين والمأمون، ج 1، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1400 ه، ص 234

وصوله إلى المدينة المنورة مباشرة تضمن عدة أمور منها التأكيد على القيم الكلية التي تشمل إقامة العدل والمساواة والحرية في مختلف مفاصل الدولة. والدعوة إلى التعاون والمؤاخاة بین جميع المواطنین إن كانوا مسؤولين في السلطة فعليهم تقوى الله وحسن معاملة الناس قولاً وفعلاً وعلی الشعب الطاعة والإيمان بالقيادة الصالحة وذلك من أجل تحقيق هذه المبادئ العليا على أرض الواقع العملي.

وعندما بدأت تتسع الرقعة الجغرافية للدعوة الإسلامية ركز رسول الله (صلى الله عليه وآله) على بناء السلطات الثلاث «التشريعية - والتنفيذية والقضائية» وذلك بواسطة ما يأتي:

- السلطة التشريعية:

كان مصدر التشريع الأسلاسي في الإسلام هو القرآن الكريم الذي أنزلت آياته حيث بلغ الرسول (صلى الله عليه وآله) تلك التشريعات الإلهية التي تنظم حياة الإنسان في مختلف جوانبها، وقد وجد في التراث النبوي كثیر من التشريعات ومن أمثلة ذلك الملحق الدستوري الذي أصدره الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أو الدستور أو القانون ونحن نطلق عليه تسمية (ميثاق الدولة)(1)..

السلطة التنفيذية: وهي تمثل رئيس الحكومة وكادرها السياسي وقد عمل الرسول (صلى الله عليه وآله) على رسم معالم السياسة الداخلية والخارجية من خلال ما يلي:

السياسة الداخلية: إذ قام الرسول (صلى الله عليه وآله) بتوزيع بعض مهام قيادة وإدارة الدولة الإسلامية عبر الأمور التالية:

ص: 88


1- يتكون نص الميثاق من سبعة وأربعين بنداً وقد أشرت إلى بعضها في صفحات المبحث السابق

1. تسمية بعض الولاة، إذ وضع الرسول (صلى الله عليه وآله) مواثيق وضع فيها معايیر اختيار الولاة وبین وظائفهم تجاه الرعية، ومن المناسب هنا أن نشیر إلى جدول تناول أسماء من كان يمثل النبي (صلى الله عليه وآله) من الولاة الذين استمروا في ولايتهم حتى وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله).

2. اختيار مسؤولين في إدارة الأمور الاقتصادية للدولة الإسلامية مهمتهم تنشيط الأمور الاقتصادية للدولة ومراقبة امور التجارة والصناعة والزراعة؛ نظراً لما كان يعانيه اقتصاد المدينة المنورة المتردي لذلك عالج الرسول (صلى الله عليه وآله) هذا الواقع من خلال محورين.

ص: 89

المحور الأول: وتضمن عدة إجراءات لتطوير البنية الاقتصادية:

أ- الحث على العمل في كل المجالات سيما الزراعة والصناعة والنهي عن الكسل والبطالة التي تعيق التطور الاقتصادي للأمة، فقد روي عن الرسول (صلى الله عليه وآله) أنه أخذ بيد عامل فجعل يقبلها أمام أصحابه وهو يقول «هذه يد يحبها الله ورسوله»(1).

ب- إنشاء سوق للمسلمين بدلاً من سوق اليهود ومراقبته بغية تجنب الوقوع في الغش والمحافظة على الأسعار وتحريم بعض المبادلات في الأموال والبضائع ولاسيما ظاهرة الربا والغبن والاحتكار. فقد روي عن الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «درهم ربا يأكله الرجل أشد عند الله من ست وثلاثین زنية»(2). وكذلك قوله: «الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله والمحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله»(3).

ج- فرض الضرائب المالية مثل الزكاة والخمس وغيرها التي تسهم في رفع الفقر عن المسلمين وتوزيع العطاء بالمساواة والعدالة بین أبناء المجتمع الإسلامي.

المحور الثاني: يتعلق بالإجراءات التي تكون من مسؤولية الدولة من توفیر فرص العمل للمواطنین ورفع مستوى المعيشة لذوي الدخل المحدود من خلال سد النقص الحاصل في مدخولهم وإعانة من كان عليه دين لا يستطيع سداده من قبل الدولة، وغيرها من المسؤوليات التي تلقى على عاتق الدولة تجاه الشعب في المجال الاقتصادي، ومن خلال هذين المحورين وغيرهما

ص: 90


1- ابن ماجة، محمد بن يزيد: سنن ابن ماجة، ج 1، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، ص 727. النيسابوري، مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، ج 3، دار الفكر للطباعة، بيروت، ص 1228
2- ابن حنبل، أحمد: مسند احمد، ج 5، دار صادر، بيروت، لبنان، ص 225
3- الحاكم النيسابوري، أبو عبد الله: المستدرك على الصحيحين، ج 2، دار المعرفة، بيروت، ص 12

من الإجراءات الاقتصادية التي عمل بها رسول الله تتضح لنا بعض معالم السياسة الاقتصادية للدولة الإسلامية.

3. تعيین موظفین في أمور الإدارة المالية وتوزيع الثروات بشكل عادل بین الناس وتنظيم أمور الجباية والضرائب(1).

4. اختيار قضاة مهمتهم تحقيق العدل والمساواة بين المتخاصمين.

5. تحديد بعض الشخصيات من رؤساء القبائل مهمتهم فض النزاعات القبلية بین أبناء المدينة(2).

6. اختيار نخبة من الصحابة العارفین باللغة العربية ومن حفظة القرآن توكل لهم مهمة تعليم القراءة والكتابة للمسلمين فضلاً عن نشر الوعي بتعاليم الإسلام(3).

7. إنشاء جيش إسلامي مهمته الدفاع عن الدولة الإسلامية من أي اعتداء خارجي.

ص: 91


1- ينظر، القرشي، باقر شريف: حياة محمد، ج 2، ص 24
2- ينظر، القرشي، باقر شريف: حياة محمد، ج 1، ص 214
3- القرشي، باقر شريف: حياة محمد،: ج 2، ص 99

وقد خاض المسلمون عدة معارك، قاد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بعضاً منها بصورة مباشرة وفي ما يلي جدول بأهم هذه المعارك(1).

ص: 92


1- للإطلاع على تفاصيل الحروب والمعارك التي خاضها المسلمون في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله)، ينظر، القرشي: باقر شريف: حياة محمد، ج 3، ص 22. ينظر، جاسم، عزيز السيد: محمد الحقيقة العظمى، دار الشورى الثقافية، بغداد، 1387 م، ص 214

صورة

ص: 93

صورة

ص: 94

صورة

ص: 95

صورة

ص: 96

صورة

ص: 97

صورة

ص: 98

لقد عمل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على تغيیر مراكز قادة الجيش الإسلامي باستمرار وهذا الأسلوب من الأمور الأساسية المتبعة في الجانب العسكري عبر ما يسمى ب (التكتيك العسكري) المباغت للعدو. حيث تخبرنا مصادر التاريخ الإسلامي ان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أمر باستبدال حوالي أكثر من سبعة وعشرين قائداً عسكرياً في أوقات متفاوتة وفي مختلف المناطق والمدن التي تقع تحت سيطرة الدولة الإسلامية(1).

إلا أن اهتمام الرسول (صلى الله عليه وآله) بالجانب العسكري والحروب الكثیرة التي خاضها قد يثیر إشكالاً وهو أن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) كان اسلوبه الوحيد في نشر الاسلام هو القتال ولكن المطلع على السیرة النبوية يكتشف ان للرسول (صلى الله عليه وآله) ستراتيجية في عملية الإصلاح والتغیر فنراه مرة يتخذ من منهج قوة الكلمة أسلوباً له في التعامل وعندما يتوقف مسار الحوار مع الآخر تكون الكلمة غیر مجدية وتشن الحرب على المسلمين تراه يتخذ من منهج كلمة القوة والعمل العسكري أسلوبا أخیراً في عملية التغيیر. ولذلك كانت أغلب الحروب مفروضة على المسلمين ولم تكن نهجاً متبعاً للدولة الإسلامية.

السياسة الخارجية: يؤكد المختصون في كتابة التاريخ الإسلامي(2) ان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) قد وضع ستراتيجية محكمة في العلاقات الدولية ورسم معالم السياسة الخارجية للدولة الإسلامية عن طريق إيفاد شخصيات كفوءة إلى الدول المجاورة والبعيدة عن الأراضي الإسلامية لتوضيح

ص: 99


1- ينظر، ابن سعد: الطبقات الكبرى، ج 2، ص 27
2- ينظر، الحلبي، علي بن برهان: السيرة الحلبية، ج 3، ص 55

تعاليم الإسلام وفتح آفاق التعاون الاقتصادي وتطوير حجم التبادل التجاري وتشجيع الحوار الثقافي والسياسي بین الدول التي يسميها العرف السياسي اليوم بالسفارة والقنصلية والملحق الدبلوماسي، وذلك عبر إبرام المعاهدات ورسائل التبليغ.

نماذج المعاهدات والرسائل:

اشارة

من الممارسات الأساسية في السياسة الخارجية لكل دولة إبرام المعاهدات وبعث الرسائل. وهذا ما نجده واضحاً في سياسة الرسول الخارجية ومن أجل تنظيم هذا الأمر عین الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) جماعة من أصحابه ليقوموا بعدة مهام منها توثيق المعاهدات وكتابة الرسائل وختمها بختم يحمل شعار الدولة الإسلامية كذلك عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) من يقوم بمهمة ترجمة الرسائل المدونة إلى لغات أخرى.

1. معاهدة صلح الحديبية: وهذه المعاهدة عقدت بین النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في مكان يدعى الحديبية مع مشركي مكة وقد تم الاتفاق على عدم المساس بأمن وتجارة كلا الطرفین وكذلك على الحرية في ممارسة الطقوس الدينية(1).

2. المعاهدة مع يوض: وهذه المعاهدة عقدها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ويوض حاكم (أيلة) واتفق الطرفان على الجانب الامني وعدم التعرض إلى التجارة البرية والبحرية وتطوير وسائل التجارة بينهما(2).

ص: 100


1- ينظر، المجلسي، محمد باقر: بحار الأنوار، ج 2، ص 317
2- ينظر، الشيرازي، محمد مهدي: أول حكومة إسلامية في المدينة المنورة، مركز الرسول الأعظم للطباعة، بيروت، لبنان، ص 186

3. المعاهدة مع نصارى نجران: التي عقدها الرسول (صلى الله عليه وآله) مع نصارى نجران وقد تضمنت التأكيد على التبادل الثقافي والفكري والسياسي من خلال عقد المجالس الحوارية مع النصارى والتعاون في إسناد الجيش الإسلامي في الحروب ورسم الحدود بین الطرفین والحفاظ عليها(1).

أما الرسائل فهي تقسم إلى قسمين:

القسم الأول: رسائل إلى الملوك:

حيث شكل الرسول (صلى الله عليه وآله) بعثة سياسية إلى الملوك والرؤساء ضمت كلًّا من:

1. عمر بن أمية الضمري: أوفده إلى ملك الحبشة.

2. دحية بن خليفة الكلبي: أوفده إلى قيصر ملك الروم.

3. عبد الله بن جذامة المهمي: أوفده إلى خسرو برويدا ملك إيران.

4. حاطب بن بلتعة: أوفده إلى المقوقس ملك مصر.

5. شجاع بن وهب الأسدي: أوفده إلى الحارث بن أبي شكر الغساني ملك دمشق.

6. سليط بن عمرو العامري: اوفده إلى هوذة بن علي ملك اليمامة(2).

ص: 101


1- ينظر، المجلسي، محمد باقر: بحار النوار، ج 97، ث 63
2- ينظر، ابن سعد: الطبقات الكبرى، ج 1، ص 26
القسم الثاني: رسائل إلى رؤساء القبائل:

ولم تقتصر دعوة النبي (صلى الله عليه وآله) على الملوك وإنما شملت الوجوه والأعيان فقد أوفد رسله إلى بعض زعماء الجزيرة وكان منهم:

أ- أكثم بن صيفي: إذ بعث النبي (صلى الله عليه وآله) شخصاً يدعوه إلى الإسلام ومعه رسالة «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى أكثم بن صيفي، احمد الله إليك ان الله أمرني أن أقول: لا الله إلا الله وأمر الناس بها - والأمر كله لله، خلقهم وأماتهم وينشرهم وإليه المصیر أدبكم المرسلين ولتسئلن عن النبأ العظيم، ولتعلمن نبأه بعد حین» ولما انتهت إليه رسالة النبي (صلى الله عليه وآله) بعث رجلین من خیرة قومه ليتعرفا خبر النبي ويقفا على دعوته ولما انتهيا إلى يثرب تشرفا بمقابلة النبي (صلى الله عليه وآله) وقالا له «نحن رسولا أكثم بن صيفي وهو يسألك من انت! وما أنت وبما جئت: فأجابهما النبي (صلى الله عليه وآله) «أنا محمد بن عبد الله وانا عبد الله ورسوله ثم تلا قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»(1)، وقفلا راجعین وقد أصابهما إيمان بالرسول وتصديق بدعوته وأخبرا أكثم بما شاهداه وسمعاه، فالتفت إلى قومه قائلاً «يا قوم، أراه يأمركم بمكارم الأخلاق، وينهى عن مضادها فكونوا في هذا الأمر رؤساء ولا تكونوا فيه أذناباً وكونوا فيه اولاً ولا تكونوا آخراً))(2).

ب- زياد بن جمهور: وأوفد النبي (صلى الله عليه وآله) شخصاً إلى زياد بن

ص: 102


1- سورة النحل،اية 90
2- ينظر، ابن الأثير، عز الدين أبي الحسن: اسد الغابة في معرفة الصحابة، ج 1، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ص 213

جمهور وهو من وجوه العرب ومعه هذه الرسالة: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى زياد بن جمهور، إني أحمد إليك الله الذي لا إله ألا هو، أما بعد، فإني أذكرك الله واليوم الآخر أما بعد فليوضعن كل دين دان به الناس إلا الإسلام(1).

أساليب دبلوماسية:

لم تخلُ رسائل النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بوصفه نبياً ورئيساً لأكبر دولة إسلامية من التنوع في الأسلوب الرفيع في اختيار الألفاظ الأدبية فضلاً عن السمات التبليغية والسياسية الدبلوماسية فكان يراعي أيضاً الأمور التالية:

1. يجب ان يتحلى الرجل السياسي الدبلوماسي بالشجاعة والثقة بالنفس حتى يستطيع إيصال رسالته وثقافته إلى العالم.

2. التأكيد على الألقاب الرسمية فقد حرص الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) على فعل ذلك في أغلب رسائله مثل (إلى هرقل عظيم الروم، إلى كسرى عظيم فارس، وعظيم القبط) وغیر ذلك.

3. استخدام أسلوب الترغيب والترهيب المعقول والمناسب مثل (اسلم تسلم).

4. رفع مستوى الخطاب باستخدام الاستدلال والمنطق عندما يكون مخاطبوه من أهل الكتاب ومن أصحاب الجدل مثل الرسالة التي بعثها إلى النجاشي ملك الحبشة.

5. تأكيد رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ان الاستجابة لنداء الإسلام وقبول

ص: 103


1- ينظر، ابن الأثير، عز الدين أبي الحسن: اسد الغابة في معرفة الصحابة، ج 2، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ص 215

حاكمية الدولة الإسلامية لا يلغي حاكميتهم واستمرار نفوذ السلطة كما يظهر في رسالته إلى هوذه بن علي ملك اليمامة والحارث ابن أبي شمر الغساني ملك دمشق(1).

السلطة القضائية: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو رئيس ما يمكن ان نسميه بالسلطة القضائية فهو المرجع الرسمي لحل الخلافات التي نشأت بین المسلمين أو بین الجماعات التي يتكون منها مجتمع الدولة الإسلامية وعندما توسعت الرقعة الجغرافية للدولة الإسلامية اشتدت الحاجة إلى قضاة العدل لذلك كان النبي (صلى الله عليه وآله) يستعين بصحابته في أمور القضاء.

أما بالنسبة إلى المسائل المهمة من قبيل قضايا الدم والقصاص فكان يُرجع إلىشخص النبي (صلى الله عليه وآله).

مبادئ قضائية في دولة الرسول (صلى الله عليه وآله):

لقد وضع الرسول (صلى الله عليه وآله) مبادئ قضائية ووصايا لكل قاضٍ في مختلف الأزمان يمكن أن نكتشفها من خلال متابعة الأحاديث الشريفة منها ما يلي:

1. لا يقضي حكم بين اثنين والحاكم غضبان(2).

2. لا يجوز إصدار الحكم قبل سماع حجة الطرفین، فإذا جلس بین يديك الخصمان لا تقضي حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فانه أحرى

ص: 104


1- ينظر، الشيرازي، محمد مهدي: أول حكومة إسلامية في المدينة المنورة، مركز الرسول العظيم (صلى الله عليه وآله) للتحقيق والنشر، ط 1، بيروت، 1419 ه - 1998 م، ص 176 - ص 177
2- البهيقي، احمد بن الحسين: السنن الكبرى، ج 30، دار الفكر للطباعة، بيروت، ص 105

ان يتبین لك القضاء(1).

3. البينة على من ادعى واليمین على من أنكر. قيل يا رسول الله، انه فاجر لا يبالي بما حلف ليس يتورع من شيء فقال الرسول (صلى الله عليه وآله) ليس لك منه الا ذلك(2).

4. واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلین فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ان تضل إحدهما فتذكر احداهما الأخرى ولا يأبَ الشهداء إذا ما دُعوا(3).

5. قال الرسول (صلى الله عليه وآله) لرجل حلفه: احلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عندك شيء(4).

6. اليمین المتممة: قضى الرسول بيمین وشاهد، ترد شهادة الخائن والخائنة والزاني والزانية(5).

حكام النبي وقضاته:

لقد عن الرسول (صلى الله عليه وآله) جماعة من أصحابه لتولي مهمة القضاء

ص: 105


1- الترمذي، محمد بن عيسى: سنن الترمذي، ج 3، دار الفكر للطباعة والنشر، ط 2، بيروت، لبنان، 1983 م، ص 71
2- المصدر نفسه، ج 3، ص 73
3- البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل: صحيح البخاري، ج 3، دار الفكر للنشر، استنبول، 1981، ص 61
4- النسائي، احمد بن شعيب: سنن النسائي، ج 8، دار الفكر للطباعة والنشر، ط 1، بيروت، لبنان، 1348 ه، ص 221
5- أبو داود، سليمان، بن الأشعث، سنن أبي داود، ج 1، دار الفكر للطباعة، ط 1، بيروت، 1990، ص 479

وذلك في انحاء الدولة الإسلامية لحل المشاكل بین المتخاصمین وقد كان من بينهم:

1. الإمام علي بن أبي طالب فقد بعث الرسول الإمام عليًّا إلى اليمن: فقال علي للنبي (صلى الله عليه وآله) يا رسول الله اتبعثني لقضاء اليمن وانا شاب لا خبرة لي في هذا العمل: فأجابه النبي (صلى الله عليه وآله) «ان الله سيهدي قلبك ويحكم لسانك، فلو جلس إليك طرفا الدعوى للتقاضي فلا تقضي بينهما حتى تسمع أقوالها، لأن إستماعك إلى أقوالها يظهر لك الحكم دون ان يحجبه شيء ثم ضرب النبي (صلى الله عليه وآله) بيده إلى صدر علي وأخذ يدعو له فقال علي ما شككت في قضاء بعد ذلك»(1). كذلك أكد الرسول (صلى الله عليه وآله) في أكثر من حادثة تميز الإمام علي في جانب القضاء حيث قال «أقضاكم علي»(2).

2. معاذ بن جبل: الذي بعثه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) على اليمن للقضاء أيضاً. فأوصاه النبي (صلى الله عليه وآله) بأن يلین للناس ويرأف بهم ويحذر المحاباة لبعضهم والشدة على الآخرين ومما جاء في وصيته (صلى الله عليه وآله) له قوله «يسر ولا تعسر، وصل عليهم صلاة أضعفهم ستقدم على قوم من أهل الكتاب يسألونك ما مفتاح الجنة فقل: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له»(3). هكذا بدت ملامح الفكر السياسي النبوي التي أحدثت تغیيراً في منظومة التفكر السياسي وفتحت آفاقاً جديدة.

ص: 106


1- الكوفي، محمد بن سليمان: مناقب الإمام أمير المؤمنين، ج 2، مجمع أحياء الثقافة الإسلامية قم المقدسة، ط 1، 1412 ه، ص 606
2- الأحمدي، علي: مكاسب الرسول، ج 2، دار الحديث، طهران، 1419 ه، ص 590
3- ابن هشام: السيرة النبوية، ج 4، ص 289

أسهمت في إعطاء انموذج يقتدى فيه خصوصاً في مجال بناء الدولة التي ظهرت ملامحها خلال الدعوة الإسلامية الأولى في مكة المكرمة وشيدت أركانها المتكاملة في المدينة المنورة(1). إذ وجدنا كيف تجسدت القيم على أرض الواقع وكيف وضع الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) وصحابته المنتجبون اللبنات الأولى لبناء الحضارة الإسلامية.

ص: 107


1- رغم وجود من ينكر تلك الدولة الإسلامية جملة وتفصيلا من امثال، علي، عبد الرزاق: في كتابه الإسلام وأصول الحكم، منشورات دار المدى للثقافة والنشر، 2004 م، ص 64. ولو تسنى لهؤلاء ان يطلعوا على ما تقدم في بحثنا فهم قطعاً سيوافقون على كل ما توصلنا إليه من أدلة حول وجود دولة الرسول (صلى الله عليه وآله) الإسلامية

ص: 108

المبحث الثاني: الإمامة في الفكر السياسي الاسلامي

اشارة

* - مفهوم الإمامة

* - ضرورة الإمامة

* - الخلافة والإمامة

* - الإمام والعصمة

* - طرق تعين الإمام

ص: 109

ص: 110

المبحث الثاني الإمامة في الفكر السياسي الإسلامي

اشارة

ظهرت أول دولة إسلامية تعبر عن الفكر السياسي لدى المسلمين تحت قيادة النبي الخاتم محمد (صلى الله عليه وآله) كانت متماسكة خلال مدة حياته (صلى الله عليه وآله) إلا أن تلك الدولة قد تعرضت إلى هزة سياسة كبیرة بعد وفاته (صلى الله عليه وآله) شملت مختلف أصقاع الدولة من حيث الالتزام بالدستور وترويض الشعب وتثبيت الأرض فضلاً عن بروز مشكلة أخرى تكمن في تحديد القيادة الصالحة في إدارة الدولة الإسلامية.

فقد أخذت هذه المشكلة حيزاً كبیراً من اهتمام المسلمين؛ إذ تركت أثراً عميقاً على مسار الفكر السياسي بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) وانقسم المسلمون على أثرها إلى عدة أقسام، قسم نفى وجود أي نص من الرسول يحدد القيادة من بعده، وقسم شكك في هذا التصور قائلاً: هل من المعقول أن الرسول (صلى الله عليه وآله) قد تحدث عن تفاصيل جزئية من حياة المسلمين وترك مصیر الأمة مجهولاً دون أن يعین خليفة من بعده؟ فبین ضغط الواقع وضرورة النص تبلور لدى المسلمين فكر سياسي يتعامل مع النص المقدس (القرآن الكريم) والسنة النبوية على وفق ما يعتقد به أنه طريق حق.

ص: 111

لذلك سوف نتطرق في هذا المبحث إلى الإمامة؛ لما لها من أهمية كبرى في مجال الفكر السياسي الإسلامي بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)، ولمعرفة وجوبها من عدمه نبحث في ضرورة الإمامة ثم نتطرق إلى موضوعات العلاقة بین الخلافة والإمامة. والإمام والعصمة وكيفية تعيین الإمام. ولا بد لنا أولاً ان نعرف مفهوم الإمامة في اللغة والاصطلاح فالإمامة من ناحية لغوية تعني، مصدر الفعل أم تقول أمهّم وأمّ بهم، تقدمهم وهي الإمامة، والإمام كل من اُئتم به من رئيس او غیره(1) والجمع أئمة، وإمام كل شيء، قيمته والمصطلح له والقرآن إمام المسلمين ورسول الله (صلى الله عليه وآله) إمام الأئمة، والخليفة إمام الرعية وأممت القوم في الصلاة إمامة وأئتم به اقتدى به(2)، وأما مصطلح الإمامة فقد ورد في القرآن الكريم اثنتي عشرة مرة. بعدة ألفاظ (إمام)، و (إماماً) و (إمامهم) و (أئمة) وقد جاء المعنى القرآني للإمامة منسجماً مع المعنى اللغوي وتفصيل ذلك.

1. قال تعالى: «وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا»(3).

2. قال تعالى: «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»(4).

3. قال تعالى: «وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ»(5).

4. قال تعالى: «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا»(6).

ص: 112


1- الفيروز، أبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب: القاموس المحيط، ج 4، دار الجبل، بيروت، ص 18
2- ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم، لسان العرب، ج 2، دار صادر، بيروت، 1388 ه، ص 24
3- سورة الفرقان، آية 74
4- سورة البقرة، آية 24
5- سورة القصص، آية 5
6- سورة السجدة، آية 24

5. قال تعالى: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ»(1).

6. إن المتتبع للآيات التي أوردناها يجد أن القرآن الكريم يشیر إلى نوعین من الإمامة.

النوع الأول: الإمامة الشرعية:

ويضرب الله مثالاً لهذا النوع في إمامة نبي الله إبراهيم، والأئمة الذين جاءوا بعده وهذا النوع لا يقبل التأويل؛ لأنه عهد من الله لا يناله إلا الصفوة من عباد الله وأن الله هو الذي يختار الأئمة؛ لأنه الوحيد القادر على معرفة الصفوة، قال تعالى:

إني جاعلك للناس إماماً، وقال: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً» فعملية الجعل تدل على أن اختيار الأئمة بيد الله، وقد خصص الله أيضاً الإمامة في أبناء إبراهيم وصولاً إلى نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) ثم حدد الواجب الذي يقع على الإمامة الشرعية وهو هداية الناس على وفق التعاليم الإلهية إذ قال تعالى «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا»(2).

ص: 113


1- سورة القصص، آية 41
2- سورة الأنبياء، آية 73

النوع الثاني: الإمامة غير الشرعية

ويسوق الله تعالى مثالاً لذلك النوع وهو إمامة فرعون وجنوده وزعامة بطون قريش مثالاً آخر، إلا ان هذا النوع من الإمامة يحتمل التأويل، وقد وضح القرآن الكريم معالمها ومميزاتها، فالإمام غیر الشرعي رجل ظالم استولى على منصب الإمامة بالغصب والقهر من الحاكم الشرعي وفرض رأيه على الناس بالقوة لقبول هذا الأمر ثم يشیر القرآن الكريم في تتمة الآيات السابقة إلى بعض سمات الحكم الفرعوني الظالم ولعل من أبرزها تعطيل الأوامر الإلهية «الشرعية وتحريف الكلم وقلب موازين الحق» وعرفها بعض علماء المسلمين من أمثال:

الجويني: رياسة تامة وزعامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا(1).

وعرفها الماوردي: الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا(2).

أما ابن خلدون ت 808 ه: فيعرفها بانها حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به(3).

ص: 114


1- الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد: الإحكام السلطانية والولايات الدينية، دار الكتب العلمية، بيروت، 1982، ص 5
2- الجويني، أبو المعالي عبد الملك: عيان الأمم في التبيان الظلم، الدوحة، 1400 ه، ص 22
3- ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد: المقدمة، ج 4، دار الفكر للطباعة والنشر، 2001 م، ص 18

وعرفها آخرون «بأنها رياسة في الدين والدنيا ومنصب إلهي يختاره الله بسابق علمه ويأمر النبي (صلى الله عليه وآله) بأن يدل الأمة عليه»(1).

ويتضح مما تقدم أن الإمامة: هي رئاسة الأمة وزعامة مصالح الناس الدنيوية والأخروية(2).

ضرورة الإمامة:

إن المتتبع للفكر السياسي لدى المسلمين يجد أنهم لا يختلفون في وجوب وجود الإمام ألا أنهم اختلفوا في كيفية الاستدلال على هذا الوجوب فقال بعضهم بوجوبها عقلاً وقال آخرون إنها تجب شرعاً وجمع آخرون بین العقل والشرع في وجوب الإمامة(3).

وقد وقع بعض الباحثین والدارسین في خطأ تقسيم آراء المذاهب والفرق فقالوا: إن الإمامية توجب الإمامة بدليل عقلي فقط، وان المعتزلة توجبها نقلاً، وجماعة أخرى من المعتزلة توجبها عقلاً ونقلاً. وبعد البحث والدراسة ومراجعة المصادر الأصلية وجدنا ان الإمامة في رأي الإمامية هي أحد أركان أصول الدين وقد استدلوا في إثبات وجوبها عقلاً ونقلاً. وفي كثیر من كتبهم ولاسيما كتاب

ص: 115


1- ينظر أل كاشف الغطاء، محمد حسين: أصل الشيعة وأصولها، مؤسسة الإمام علي، ط 1، بيروت، 1415 ه، ص 24
2- أن أحد مراتب الإمامة (الرئاسة) ويتميز رئيس الدولة الإسلامية عن سواه في الأمم ببعض ألقاب أخرى مثل (ولي الأمر، والخليفة، وأمير المؤمنين، والحاكم)
3- ينظر، مهران، محمد بيومي: الإمامة وأهل البيت، ج 1، دار النهضة، بيروت، 1991 م، ص 41. وينظر، الدليمي، عارف عبد: الفكر السياسي عند ابن تيمية، رسالة ماجستير تقدم بها إلى جامعة بغداد، 1999 م، ص 70

الألفین للعلامة الحلي الذي خصص ألف دليل عقلي في إثبات الإمامة وألف دليل نقلي آخر كما تطرقنا إلى بعضها في موضوع سابق. أما قولهم بأن الإمامة تجب عقلاً فذلك يكون من خلال ربط وجوب الإمامة بوجوب النبوة يقول الحسيني:

«كل ما دل على وجوب النبوة فهو دال على وجوب الإمامة، إذ الإمامة ما هي إلا خلافة النبوة قائمة مقامها إلا في تلقي الوحي الإلهي بلا واسطة وكما ان النبوة واجبة عقلاً على الله تعالى فكذلك الإمامة»(1).

واستدل الإمامية على هذا الرأي بأن العقلاء يتفقون على ضرورة تأمین وجوب الإمام؛ لأنها من المصالح العامة، فالإمام عامل مهم لتحقيق الصلاح ودرء الفساد، لذلك لابد للمجتمع من إمام. يقول الطوسي: (لابد من رئيس مطاع منبسط اليد يردع المعاند ويؤدب الجاني ويأخذ على السفيه والجاهل وينتصف للمظلوم»(2). هذا كله في صورة الحاجات الطبيعية للمجتمعات فكيف «إذا كان المجتمع مجتمع دعوة يحمل أفكاراً تغييرية انقلابية، ويستهدف بناء أمة واستئصال كل الجذور الجاهلية منها)(3) لا شك ان ضرورة وجود الإمام ستصبح أكثر تأكيداً وإلا فان المجتمع سيتعرض لأفدح الخسائر.

في حین تبنى أهل الجماعة من المسلمين الرأي القائل: بأن الإمامة هي أحد فروع الدين وانها تجب شرعاً لا عقلاً(4). واعتمدوا على ذلك بأدلة من الكتاب

ص: 116


1- الحسيني، حيدر الحلي: الكلام الجلي في ولاية أمير المؤمنين علي، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1982 م، ص 75
2- الطوسي، أبو جعفر محمد بن الحسن: الإقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد، دار الأضواء، بيروت، 1986 م، ص 296
3- الصدر، محمد باقر: بحث حول الولاية، دار التعارف للمطبوعات، ط 2، بيروت، 1982 م، ص 19
4- الغزالي، أبو حامد بن محمد: الإقتصاد في الاعتقاد، دار الأمانة، ط 1، بيروت، 1961 م، ص 99

والسنة والاجماع، ومن الأدلة الأخرى على وجوب الإمامة شرعاً القاعدة الشرعية القائلة بأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (لأن هنالك واجبات لا يمكن للفرد القيام بها مثل إقامة الحدود وتجهيز الجيوش وجباية الزكاة وصرفها إلا بوجود سلطة وقوة لها حق الطاعة على الأفراد تقوم بتنفيذ هذه الواجبات وهذه السلطة هي الإمامة(1).

وكذلك من لوازم وجود الإمام دفع ضرر الفوضى التي تتعرض لها الرورات الخمس (الدين والنفس والعرض والمال والعقل) في حال عدم وجود إمام للمسلمين يقوم بحمايتها. قال الإمام أحمد: (الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس)(2) بل إن الفطرة تقتضي وجود الإمام فالإنسان اجتماعي بالطبع فلابد أن يعيش مع الناس حتى تستقيم أمور حياته وتتحقق مصالحه، ونتيجة المخاطر تتضارب مصالح الناس، ومن هنا كان تنصيب الإمام أمراً ضرورياً للمحافظة على حقوق الناس وضمان استمرار الحياة(3).

ويمكننا القول من خلال هذا التصنيف إن الإمامة تجب عقلاً وشرعاً؛ لأن الشرع يتطابق وما يصل إليه العقل من أدلة على وجوب الإمامة، إذاً فاختلاف المسلمين في آلية وجوب الإمامة لا يقل أهمية عن موضوع اختلافهم في التفريق بین الخلافة والإمامة والذي كان مداراً للبحث بین أوساط المفكرين الإسلاميين قديماً وحديثاً وهذا ما سوف نتطرق له في البحث القادم.

ص: 117


1- الديمجي، عبد الله بن عمر: الإمامة العظمى، دار طيبة، الرياض، 1403 ه، ص 60
2- الماوردي: الأحكام السلطانية، ص 19
3- ينظر، الديمجي: الامامة العظمى، ص 70

الخلافة والإمامة:

ان احد إشكاليات الفكر السياسي الإسلامي بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) هو الخروج بمعنى واحد لمفهومي الخلافة والإمامة.

فبعض المسلمين ذهب بالقول إلى أن الإمامة هي منصب يختص بالأمور الدينية فحسب والخلافة هي تولي أمور الحكم وتنظيم دين الناس(1). في حین ذهب فريق آخر من المسلمين إلى وجود تطابق تام بین مفهوم الخلافة والإمامة في أمور الدين والدنيا، إذ يرى أخوان الصفا ان الإمامة هي الخلافة(2).

ويوضح البيضاوي «عبد الله بن عمر 685 ه، 1286 م» فيقول: دور الإمامة يكمن في حفظ الأمة من خلال التمسك بقوانین الشريعة؛ إذ يقول «الإمام عبارة عن خلافة شخص من الأشخاص لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في إقامة القوانین الشرعية وحفظ حوزة الملة»(3) وهذه القوانین الشرعية يجب أن يلزم بها الإمام في عملية ممارسة الحكم. ويضيف الجويني «بأن الإمامة رياسة تامة وزعامة عامة تتعلق بالخاصة والعامة من مهمات الدين والدنيا مهمتها حفظ الحوزة ورعاية الرعية وإقامة الدعوة بالحجة والسيف وكف الخيف والحيف والانتصاف للمظلومین بالظالمین واستيفاء الحقوق من المختصین وإيفاؤها على المستحقين»(4) ويظهر لنا أن الإمامة عامة تشمل أمور الدين والدنيا بما فيها السياسة وهذه هي

ص: 118


1- ينظر، الدريبي، حسينة حسن: ولاية اهل البيت في القران والسنة، مركز الابحاث العقائدية، ط 1، قم، 1430، ص 92
2- رسائل أخوان الصفا وخلان الوفا، دار صادر، ط 3، بيروت، 1992 م، ص 494
3- البيضاوي، ناصر الدين: أنوار التنزيل وأسرار التأويل، مكتبة القاهرة، مصر، ص 300
4- الجويني: غياث الأمم في التياث الظلم، ص 22

الإمامة الكبرى وأما في الصلاة فتسمى الإمامة الصغرى. فالإمامة والخلافة إذاً هي النظام الذي جعله الإسلام أساساً للحكم بین الناس بهدف اختيار الأصلح من المسلمين قدر الطاقة لتجتمع حوله كلمة الأمة وتتحد به صفوفها وتقام به أحكام الشريعة»(1).

الإمام والعصمة:

إن الإمام هو الحارس علی الرعية في أمور الدين والدنيا، وهذه المهمة تتطلب ان يوصف الإمام ببعض الصفات الخاصة بمرتبة الإمامة ومن اهمها العصمة، إلا أن بعض المسلمين كابن تيمية يرى بعدم وجوب العصمة في الإمام. ويصف هذا الرأي بأنه ضرب من الخيال وغیر واقعي؛ لأن الإنسان يخطئ ويصيب، فإمام الصلاة والإمام الحاكم كلاهما يقع في الزلل ويخطئ وحتى الأنبياء عند ابن تيمية لا يصلون إلى درجة الكمال والعصمة المطلقة فهم معصومون بما يبلغون عن الله بالكليات دون الجزئيات(2)، ويظهر من فهم ابن تيمية للعصمة إشكالان:

1. الأول: الفهم الخاطئ للعصمة 1. الثاني: نفيه العصمة المطلقة عن الأنبياء وللوقوف على معنى العصمة الصحيح لابد لنا من الرجوع إلى المعنى اللغوي

ص: 119


1- مهران، محمد بيومي: الإمامة وأهل البيت، ص 27
2- ابن تيمية، أبو العباس أحمد: دقائق التفسير، ج 2، مؤسسة علوم القرآن، القاهرة، 1404 ه، ص 218. وينظر، الاندلسي، أبو حيان: تفسير البحر المحيط، ج 2، دار الكتب العلمية، ط 1، بيروت، 2001 م، ص 314. من الجدير بالذكر هنا ان الفيلسوف الكبير الفارابي كان قد تحدث بهذاالموضوع من خلال تأثره بالقضاء الاسماعيلي. (الامامة والعصمة). ينظر: الفارابي ابو نصر: آراء أهل المدينة الفاضلة، تحقيق: ابيرنصري نادر، ط 2، بيروت، 1959 م، ص 18

والاصطلاحي للعصمة.

العصمة في اللغة:

معناها المنع(1) والعاصم هو المانع الحامي(2).

وأما من ناحية إصطلاحية فقد عرفها:

الشيخ المفيد: لطف يفعله الله تعالى بالمكلف بحيث تمنع معه وقوع المعصية وترك الطاعة مع قدرته عليها(3).

وعرفها عبد الله شبر: ليس معنى العصمة ان الله يجبره بل يفعل به الطافاً یترك معها المعصية باختياره مع قدرته عليها(4).

ويذكر الحلي «أن المعصية لطف بالمكلف بحيث لا يكون له داعٍ إلى ترك الطاعة أو ارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك»(5).

ويفصل الشيخ المظفر في تعريفه «بأنها التنزه عن الذنوب والمعاصي صغارها وكبارها وعن الخطأ والنسيان وان لم يمتنع عقلاً عن النبي ان يصدر منه ذلك بل يجب يكون منزها عما ينافي المروءة وكل عمل يستهجن فعله عند العرف العام(6).

ص: 120


1- الرازي، أبو بكر: مختار الصحاح، دار الكتب العلمية، ط 1، بيروت، 1994 م، ص 437
2- ابن منظور: لسان العرب، ج 12، ص 403
3- المفيد، ابن عبد الله: عدم سهو النبي، دار المفيد للطباعة والنشر، ط 2، بيروت، 1993 م، ص 21
4- مهران، محمد بيومي: الإمامة وآله البيت، ص 189
5- الحلي، جمال الدين الحسن بن يوسف: نهج الحق وكشف الصدق، دار الهجرة، قم، 1421 ه، ص 173
6- المظفر، محمد رضا: عقائد الإمامية، مؤسسة انصاريان، قم، 1999 م، ص 23

ويظهر لنا من التعريفات السابقة ان العصمة هي لطف من الله في ترك المحرمات وأداء الواجبات مع القدرة على اختيار الفعل فالعصمة هي العلم المانع.

ورغم ذلك فقد افترقت الفرق الإسلامية في الجزم بعصمة الأنبياء قبل بعثتهم أو بعدها في الكليات او الجزئيات او بعدهما، ويمكن تلخيص آراء تلك الفرق عبر المحاور الآتية:

1. المحور الأول: ما يقع في باب الكفر والضلال في العقائد فقد أجمعت الأمة على عصمتهم عنهما قبل النبوة وبعدها الا الازارقة من الخوارج(1).

2. المحور الثاني: فقد اتفقت الأمة بل جميع أرباب الملل والشرائع على وجوب عصمتهم عن الكذب والتحريف فيما يتعلق بالتبليغ عمداً وسهواً إلا القاضي أبو بكر الباقلاني (ت 403 ه)(2).

3. المحور الثالث: ما يقع في الأحكام والفتيا، فاجمعوا على أنه لا يجوز خطؤهم عمداً وسهواً إلا القلة من العامة(3).

4. المحور الرابع: ما يقع في أفعالهم وسيرهم فقد اختلفوا فيه إلى أربعة أقوال:

1. الأول: رأي الإمامية: أنه لا يصدر عنهم أي ذنب لا عمداً ولا سهواً ولا نسياناً(4).

2. الثاني: رأي المعتزلة: أكثرهم يرى أنهم يجوز عليهم ارتكاب الكبائر قبل

ص: 121


1- الشهرستاني، ابن الفتح محمد بن عبد الكريم: الملل والنحل، ج 1، دار المعرفة، بيروت، ص 118
2- المصدر نفسه، ج 1، ص 95
3- المصدر نفسه، ج 1، ص 65
4- المصدر نفسه، ج 1، ص 162

وقت النبوة(1).

3. الثالث: رأي أبي علي الجبائي والنظام: اتفقوا على أنه لا يجوز ان يأتوا صغیرة او كبیرة على جهة العمد لكن يجوز على جهة السهو وأضاف النظام بمؤاخذتهم بما يقع منهم سهواً(2).

4. الرابع: رأي الحشوية: وكثیر من أصحاب الحديث من العامة وهو أنه يجوز عليهم الكبائر والصغائر عمداً وسهواً وخطاً(3).

ثم اختلفوا في تحديد وقت العصمة، فالإمامية قالت بأنها تبدأ من وقت ولادتهم إلى ان يلقوا الله سبحانه. أما المعتزلة فقد قالوا بأنها تبدأ من حین بلوغهم.

لكن الاشاعرة جوزوا صدور المعصية عنهم(4).

أدلة القائلين بالعصمة:

يستند القائلون بعصمة الأنبياء إلى نوعين من الأدلة:

الأدلة العقلية:

1. إن ارتكاب الذنوب الصغیرة والكبیرة وكل ما تنفر منه النفس الإنسانية يسبب خللاً في مصداقية مدعي النبوة حتى ولو أتى بمعجزة تؤيد ادعاءه لذلك يصح القول هنا باقتران العصمة بوجود الأنبياء.

ص: 122


1- المصدر نفسه، ج 1، ص 43
2- ابن الفتح محمد بن عبد الكريم: الملل والنحل، ج 1، دار المعرفة، بيروت،، ج 1، ص 53 - 58
3- ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن: دفع التشبيه بأكف التنزيه، دار النوري، عمان - الأردن، ص 113
4- الشهرستاني، أبو الفتح محمد: الملل والنحل، ج 1، ص 94

2. ان صدور الذنب من الأنبياء يؤدي إلى تناقض في سلوكهم مما يخلف فوضى في اتباع الناس لهم، فبعضهم يتبع الأنبياء في كل شيء وآخرون يرون وجوب ردعهم عن الذنب وهذا الردع لا يجوز تجاه الأنبياء لتحريم الشرع ذلك الفعل.

3. لا يجوز صدور أي ذنب عن الأنبياء؛ لأنه يسبب خللاً في قبول شهادتهم وهذا منافٍ لمرتبة النبوة.

4. ان ارتكاب الأنبياء ذنبا يقلل من شأنهم ويجعلهم مستحقين للعقاب وهذا يتعارض مع تنزيه الله لهم.

5. لا يصح ان يصدر الظلم من الأنبياء؛ لأنه يستحق اللعن وهذا باطل بالضرورة قوله على الأنبياء(1). وعليه لا يمكن تصديق صدور الذنب عن النبي في كل لحظاته سواء كان في أمور التبليغ أم في أموره الشخصية ان كانت قولاً أو فعلاً أو تقريراً، لأنه يسبب خللاً في مصداقية صدور الأحكام عن الله تعالى وهنا يبطل القول بحصر العصمة في حال التبليغ لذلك «فالنبي بشر مثلنا له ما لنا وعليه ما علينا وهو مكلف من الله تعالى بما كلف به الناس، الا ما قام الدليل الخاص على اختصاصه ببعض الأحكام اما من جهة شخصه وأما من جهة منصب الولاية فما لم يخرجه الدليل فهو كسائر الناس في التكليف هذا مقتضى عموم، اشتراكه معنا في التكليف فإذا صدر منه فعل ولم يعلم اختصاصه به فالظاهر في فعله ان حكمه فيه حكم سائر الناس فيكون فعله حجة علينا وحجة لنا لاسيما مع ما دل على عموم حسن الناس به»(2).

ص: 123


1- ينظر، مهران، محمد بيومي: الإمامة وأهل البيت، ص 186
2- المظفر، محمد رضا: أصول الفقه، ج 2، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1990 م، ص 62

الأدلة النقلية:

وهي على قسمين:

- أدلة القرآن على العصمة:

1. قال تعالى: «وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ»(1).

اتفق المفسرون على ان الأرض لا تخلو في أي زمان من هادٍ يدعو إلى الحق. قال القرطبي: في ذيل تلك الآية: «على ان الله عز وجل لا يخلي الدنيا في وقت من الأوقات من داعٍ يدعو إلى الحق»(2) وقال الجبائي: «وهذه الآية تدل على أنه لا يخلو زمان البتة عمن يقوم بالحق ويعمل به ويهدي إليه وأنهم لا يجتمعون في شيء من الأزمنة على الباطل وقال الطباطبائي: تدل على ان النوع الإنساني يتضمن طائفة قليلة او كثیرة مهتدية وتوجب العصمة من الضلال. وإسناد الهداية إلى هذه الأمة لا يخلو عن الولاية على صيانهم من الضلال واعتصامهم بالله من الزيغ فأما أن يكون جميع هؤلاء المشار إليهم بقوله تعالى: «انهم يهدون بالحق متصفین بهذه العصمة والصيانة كالأنبياء والأوصياء وأما أن تكون بعض هذه الأمة كذلك»(3).

ويتبین مما سبق ان هذه الآية تدل على ضرورة وجود من يدعو للحق وأنه لابد أن يكون معصوماً أما الإشارة إلى أمة معصومة بالذات او إلى الأمة المرحومة

ص: 124


1- الأعراف، آية 7
2- القرطبي، أبو الحسن علي بن محمد: الجامع لأحكام القرآن، ج 7، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1982 م، ص 329
3- الطباطبائي، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، ج 8، مؤسسة النشر الإسلامي، بيروت، ص 345

جميعاً إضافة إلى وجود المعصوم فيها في كل وقت.

2. قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ»(1) نستدل من هذه الآية على تفضيل الله تعالى، واصطفائه للأنبياء على كل مخلوقاته ومن ضمنهم الملائكة إذ يقر القرآن بعصمتهم، قال تعالى: «لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ»(2) وهذا دليل لا يشوبه لبس على عصمة الأنبياء الكرام.

3. قوله تعالى: «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّ وَحْيٌ يُوحَى»(3).

دلت هذه الآية على ان الرسول (صلى الله عليه وآله) لا ينطق إلا عن وحي فيستحيل ان يسلم في الصلاة في غیر محله ويتكلم قبل تمام صلاته ثم يكذب ذا الشمالين وهو صادق في قولكم ثم يعترف بخطئه وكذلك ينافي مدلول الآية كما ان وجود (ما) النافية يدل على نفي الهوى مطلقاً عن منطق الرسول (صلى الله عليه وآله) وإن كل نطقه وحي من السماء إلا إذا قام الدليل على خلافه.

4. قال تعالى: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»(4).

ذهب بعض المفسرين إلى أن معنى الإمامة مطابق لمعنى النبوة في هذه الآية؛ إذ قال الرازي: «ان المراد من الإمامة هنا النبوة وان ملاك إمامة الخليل نبوته؛

ص: 125


1- آل عمران، آية 3
2- التحريم، آية 66
3- العاملي، محمد بن الحسن: التنبيه للمعلوم من البرهان، على تنزيه المعصوم، المكتب العلامي الإسلامي، قم 1418 ه، ص 77
4- سورة البقرة، آية 124

لأنها تتضمن مشاقاً عظيمة»(1).

وقال محمد عبده: «الإمامة هنا عبارة عن الرسالة وهي لا تنال بكسب الكاسب»(2).

لكن جعفر سبحاني يختلف معهم في ذلك إذ يقول: «إن إبراهيم كان نبياً قبل الابتلاء بالكلمات وقبل تنصيبه إماماً فكيف يصح ان تفسر الإمامة بالنبوة على مافي لفظ الرازي أو بالرسالة على ما في لفظ المنار»(3) فالآية: واني جاعلك للناس أماماً، تدل على ان النبي إبراهيم كان متلقياً للوحي ولم يكن وحياً ابتدائياً بل كان استمراراً لنزوله، والمقصود من الإمامة هنا هي قيادة المجتمع وتنفيذ الأحكام الإلهية بقوة وقدرة وهذه تصح للأنبياء ولمن بعدهم، لذلك قال النبي إبراهيم (ومن ذريتي) فهو يطلب ان تسري قيادة المجتمع في ذريته لكن الله سبحانه وتعالى يضع شرطاً أساسياً لنيل مرتبة الإمامة الإلهية. وهي العصمة من كل أنواع الظلم «لا ينال عهدي الظالمین) وهذه الآية تشیر إلى موضوع ضرورة اتصاف الإمام الذي يأتي بعد الأنبياء بصفة العصمة لكبر مسؤوليته التبليغية.

«والإمامة التي يتبناها المسلمون بعد رحلة النبي الأكرم تتحد واقعيتها مع هذه الإمامة»(4).

وقد ورد في القرآن الكريم آيات أخرى تدل على عصمة الأنبياء من الذنوب

ص: 126


1- الرازي، فخر الدين: مفاتيح الغيب، ج 1، دار الفكر، بيروت، 1981 م، ث 490
2- رضا، محمد رشيد: تفسير المنار، ج 1، دار المنار،ط 2، مصر، 1373 ه، ص 455
3- السبحاني، جعفر: الإلهيات، ج 4، مؤسسة الصادق، ط 2، 1423 ه، ص 118
4- المصدر نفسه، ص 121

والنسيان إلا ان بعض الدارسین فهمها على أنها نافية للعصمة كقوله تعالى «سنقرئك فلا تنسى» لكن هذه الآية لا تنهي الرسول عن النسيان وإنما تنفيه عنه لوجود (لا) النافية وليست الناهية وغيرها من الآيات التي تدل على عصمة الأنبياء والأوصياء.

- أدلة السنة على العصمة:

توجد احاديث كثیرة وردت عن الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومین من أهل بيته تدل على تثبيت عصمتهم نذكر بعضا منها.

إذ روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انه قال: «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع علياً فقد أطاعني ومن عصى علياً فقد عصاني»(1) وهذا الحديث دليل واضح على عصمة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والإمام علي عليه السلام فالرسول قرن طاعة الله بطاعتهما وهذا ما اكده الإمام علي؛ إذ قال: «إن الله طهرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه وحجته في أرضه وجعلنا مع القرآن وجعل القرآن معنا لا نفارقه ولا يفارقنا)(2).

وفي مناسبة أخرى أوصى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بالتمسك في الثقلین العظيمین، اللذين يحرزان عدم الضلالة من بعده. إذ قال: ((أني تارك فيكم الثقلین. احدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض))(3). ويؤكد الإمام

ص: 127


1- النيسابوري، أبو عبد الله: المستدرك على الصحيحين، ج 3، دار المعرفة، بيروت، ص 121
2- العاملي، محمد بن الحسن: رسائل الشيعة، ج 27، المكتبة الإسلامية، طهران، 1388 ه، ص
3- ابن حنبل، احمد: مسند أحمد، ج 3، ص 14 وللإطلاع كثيراً ينظر، المجلسي، محمد باقر: بحار الأنوار، ج 23، ص 126 والصدوق، أبي جعفر محمد: مؤسسة البعثة، ط 1، قم، 1417 ه، ص 500

الصادق الذي شهد أئمة المذاهب الأربعة على عصمة الأئمة من أهل البيت إذ قال «نحن خزان علم الله. نحن تراجمة أمر الله نحن قوم معصومون، أمر الله تبارك وتعالى بطاعتنا ونهى عن معصيتنا، نحن الحجة البالغة على من دون السماء وفوق الأرض))(1).

إذاً يتضح من كل ذلك ان عملية تبليغ الرسالات السماوية مرهونة بوجود الأنبياء والأوصياء أي الأئمة من بعدهم وهم الصفوة المختارة والمعصومون وبهم تحقق الهداية والعدالة الاجتماعية والسياسية إلا أن وجود الإمام المعصوم القائد في الفكر السياسي الإسلامي بعد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) قد واجه معارضة من قبل بعض المسلمين الذين شرعوا إلى اتخاذ طريق آخر في إدارة الحكم الإسلامي.

طرق تعيين الإمام:

لقد تفاوتت آراء المسلمين في تحديد آلية معينة يمكن من خلالها تنصيب أول خليفة بعد الرسول الأكرم فكان هنالك آليات مختلفة اهمها النص والشورى او الشورى والنص من حيث الممارسة التطبيقية على أرض الواقع التاريخي والاجتماعي ولذلك سنحاول البحث في ادلة هاتین النظريتین والملابسات التي أثیرت حولها سلباً وإيجاباً.

ص: 128


1- الكليني، أبو جعفر بن يعقوب: الكافي، ج 1، دار الكتب الإسلامية، ط 3، طهران، 1388 ه، ص 369

الشورى:

شغلت الشورى حيزاً كبیراً في اهتمام الكتاب والمؤرخین المسلمين فقد كانت أساساً لنظام الحكم حسب ما يعتقد به فريق من المسلمين وقبل ان نتطرق إلى معنى الشورى بالتفصيل لابد لنا من ان نعرج على بيان مفهوم الشورى في اللغة والاصطلاح.

فالشورى في اللغة: مأخوذة من (شور) يقال «شار العسل» شورة شوراً ويشار وشيارة ومشاراً. استخرجه من الوقيه واجتناه. والمشار: المجتنى يقال: مشار قد أعین على أخذه» والمشوار ما شار به والمشوارة والشورة الموضع الذي تقد فيه النحل إذا دجنها»(1) والشارة والشورة: الحسن والهيئة واللباس.

وقيل ((الشورة الهيئة والشورة بفتح الشین اللباس»، وشاوره مشاورة وشواراً واستشارة طلب منه المشورة» والمشار الخلية يشتار منها العسل»(2) ويظهر لنا من كلام اللغويین ان في الشورى دلالتین:

1. الدلالة الأولى: استخراج الرأي من منبعه.

1. الدلالة الثاني: يجب ان يكون ما يستخرج متميزاً من حيث القوة والتأثیر أما مفهوم الشورى من ناحية اصطلاحية فقد جاء في ثلاثة معانٍ:

المعنى الأول: اقتصر على استطلاع رأي الأمة.

ص: 129


1- ابن منظور: لسان العرب، ج 3، ص 434
2- المصدر نفسه، ج 7، ص 235

إذ قال عبد الوهاب خلاف «الشورى ليست نظام حكم وليست معالجة لأي عمل من الأعمال وإنما هي وسيلة أو أسلوب أو كيفية تتبع في التحري عن الرأي الصائب»(1).

وهذا الرأي جعل من الشورى وسيلة في إبداء الرأي فحسب في حین حدد آخرون «أهل الشورى» في مجموعة من المختصین قال إسماعيل البدوي «ان الشورى طرح أمراً من الأمور على أهل الشورى وأرباب الاختصاص وإحالة النظر فيه حتى يظهر الصواب ويبن الحق»(2) إلا أن الكاتب محموداً الخالدي يرى «ان الشورى اجتماع الناس على استخلاص الصواب بطرح جملة آراء في مسألة لكي يهتدوا إلى قرار»(3) ويبدو أنه يريد من الشورى أن تكون مطلقة فهي حق يعطى لكل الناس.

والمعنى الثاني: وسع من دائرة الشورى فجعل من مهماتها تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية للدولة الإسلامية، وأيد هذا المعنى محمد يوسف موسى قائلاً «جعلتها الرسالة الإسلامية - من الأسس التي يقوم عليها الحكم وتدبیر شؤون الأمة»(4) وعد فهمي هويدي الشورى بأنها «الوسيلة الشمولية التي تصدر بها الجماعة او الأمة قراراً في شأن من شؤونها العامة»(5).

إن هذه الآراء تربط بین الشورى وتحقيق الاستقرار في السلطة من خلال عملية

ص: 130


1- خلاف، عبد الوهاب: السياسة الشرعية، مؤسسة الرسالة، ط 5، بيروت، 1993 م، ص 68
2- البدوي، إسماعيل: معالم الشورى في الإسلام، دار الفكر العربي، ط 2، مصر، 1986، ص 11
3- الخالدي، محمود: نظام الشورى في الإسلام، مكتبة الرسالة الحديثة، ط 2، القاهرة، 1986 م، ص 16
4- موسى، محمد يوسف: نظام الحكم في الإسلام، دار الكاتب العربي، ط 2، القاهرة، ص 178
5- هويدي، فهمي: الإسلام والديمقراطية، مؤسسة الأهرام، ط 1، القاهرة، 1993 م، ص 111

تنظيمها في الأمة وكيفية اتخاذ القرار.

المعنى الثالث: لقد أخذ معنى الشورى مدى أوسع مما تقدم فأصبح لأبناء الأمة مساهمة فاعلة ومشاركة في حل قضايا الأمة الإسلامية، يقول سيد قطب:

«الشورى؟ عمق في حياة المسلمين من مجرد ان تكون نظاماً سياسياً للدولة فهي طابع أساسي للجماعة كلها يقوم عليها أمرها كجماعة ثم يتسرب من الجماعة إلى الدولة بوصفها إفرازا طبيعياً للجماعة»(1) ثم يقول عن مبدأ الشورى «أنه إنطباع ذاتي للحياة الإسلامية وسمة مميزة للجماعة المختارة لقيادة البشرية»(2)» واشترط احد الكتاب المعاصرين ضرورة ان يكون المشاركون في الشورى من ذوي الوعي في إدارة شؤون الأمة، إذ قال محمود البابلي «وعندما يتحقق هذا المبدأ الشورى ويتم تطبيقه بشكل صحيح فإنه يكون قد أشرك المجموعة الداعية من الأمة في بحث معضلات الأمور والتعرف على أسرار الحكم والإسهام في حمل أعباء الدولة والتعاون على البر والتقوى في جميع مناحي الحياة»(3).

وهنا يثار سؤال هل يوجد معنى للشورى يدل على المشاورة في اختيار الحاكم؟ وهل يوجد ما يشیر إلى ذلك المعنى في «كتاب الله» وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) او الفقرة التي تلت وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) مباشرة، وهذا ما سيتضح خلال ثنايا البحث.

ص: 131


1- سيد قطب: في ضلال القرآن، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج 27، 1971 م، ص 292
2- المصدر نفسه، ص 292
3- البابلي، محمود: الشورى في الإسلام، دار الإرشاد، بيروت، ص 51

أدلة القائلين بالشورى:

اتخذ بعض المسلمين من مبدأ الشورى منهجاً لهم في اختيار الحاكم بعد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وقدموا في إثبات ذلك أدلة من الكتاب والسنة النبوية أهمها:

1. النص الأول: قال تعالى: «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ.... فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَااَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا»(1).

1. النص الثاني: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ»(2).

1. النص الثالث: قال تعالى: «وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ»(3). إن النصین الأول والثاني يدوران حول موضوعین يختلفان عن بحثنا فالأول يعالج إحدى قضايا الأسرة وهي مسألة مدة إرضاع الأطفال ومن يقوم بعملية الرضاعة(4). والنص

ص: 132


1- البقرة، آية (233)
2- آل عمران، آية (159)
3- الشورى، آية (42 - 36 - 39)
4- ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل: تفسير القرآن، ج 1، دار المعرفة، بيروت، 1992 م، ص 285 . وينظر، الطبطبائي: الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 253

الثاني: يتحدث عن معالجة الهزيمة التي لحقت بالمسلمين في معركة أحد، إذ أمر الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله) بمشاورة المسلمين في قضايا الحرب، لكن أبقى القرار النهائي بيد الرسول (صلى الله عليه وآله) بقوله تعالى: (فإذا عزمت فتوكل على الله)).

أما بخصوص النص الثالث فقد جاءت الآية المباركة «وأمرهم شورى بينهم» ضمن سياق عام يتحدث عن خصائص المجتمع الأمثل، ضمن السمات البارزة التي يتحلى بها أبناء المجتمع المسلم المشاورة فيما بينهم للوصول إلى الرشاد في اتخاذ الرأي الصائب.

وهنا نسجل استغرابنا من استخدام البعض هذه الآية في موضوع شورى اختيار الحاكم ففي ظلال نص الآية يورد السيوطي حديث ينسبه إلى الإمام علي حينما يسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) قائلاً: «يا رسول الله الأمر ينزل بنا بعدك لم ينزل فيه قرآن ولم يسمع منك فيه شيء» فيجيب رسول الله (صلى الله عليه وآله) اجمعوا له العابد من أمتي واجعلوه بينكم شورى ولا تقضوه برأي واحد»(1).

فلو فرضنا صحة هذا الحديث على أنه لم يرد في شيء من مصادر الحديث المعتمدة(2) مع ذلك فإن فحوى السؤال كان يقصد به المتغیرات التي سيواجهها المسلمون بعد انقطاع الوحي ولم يقصد به اتخاذ الشورى آلية لاختيار الحاكم،

ص: 133


1- السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر: الدرر المنشور في التفسير بالمأثور، ج 7، دار الفكر، بيروت، ص 357
2- قال حول هذا الحديث ابن عبد البر «حديث، لا أصل له، وقال الدارقطني ولا يصح) وقال الخطيب البغدادي لم يثبت عن ذلك) انظر، ابن حجر، أحمد بن علي: لسان العرب الميزان، ج 3، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات دائرة المعارف النظامية، بيروت، 1986 م، ص 78

والرسول (صلى الله عليه وآله) في جوابه يحدد مرجعية المسلمين من بعده إلى الصالحین من امته فعليهم تقع مسؤولية مواجهة المتغیرات وهذا لم يحدث بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله)؛ إذ رجحت كفة كلمة القوة على قوة الكلمة.

ولو سلمنا بان هذا الحديث ينص على شورى اختيار الحاكم لوجدناه يتناقض مع كثیر من النصوص الواردة في القرآن الكريم التي حددت مسبقاً مرجعية المسلمين أثناء حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) وبعده مثل قوله تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(1).

فقد حدد القرآن الكريم في هذه الآية ولاية الله والرسول (صلى الله عليه وآله) والمؤمنین عیى كافة المسلمين.

متى بدأت الشورى في الإسلام؟

تعد الشورى في اختيار الحاكم أحد الموضوعات المهمة في منظومة الفكر السياسي عند المسلمين بعد وفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) إذ ظهرت الشورى في تلك الفترة بأشكال مختلفة ويمكن تصنيف هذه الأشكال إلى ما يلي:

1. الشورى المفروضة: وهي اجتماع فئة من الأمة تفرض قراراتها على الآخرين بغض النظر عن ما تحمل من نتائج ولعل ما حدث في شورى السقيفة كان أبرز مثال على ذلك الأمر؛ إذ تم على أثرها تفضيل أبي بكر على غیره ليكون خليفة للمسلمين وقد كان من أهم العوامل التي استدل بها في السقيفة على افضلية أبي بكر قربه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصحبته في الغار وإمامته للصلاة مكان الرسول (صلى الله عليه وآله) ولكونه أكبر المسلمين

ص: 134


1- سورة المائدة، آية 55

سناً ولمعرفته في الأنساب(1). إلا أن هذه المعايیر نجدها غیر كافية لتولي خلافة المسلمين.

لأنه كان هناك من هم أقرب من أبي بكر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من ناحية النسب والعشرة مثال الإمام علي والعباس عم النبي.

أما صحبته في الغار فتوجد مواقف لدى الصحابة توازي هذا الموقف بل أكثر فدائية وتضحية ومثال على ذلك بقاء الإمام علی في فراش الرسول (صلى الله عليه وآله) ليلة رحيله إلى المدينة.

أما أمر الرسول (صلى الله عليه وآله) لأبي بكر لكي يؤم الناس في الصلاة فهذا امر طبيعي اعتاد عليه الرسول (صلى الله عليه وآله) حيث كان يأمر كثیراً من أصحابه للقيام بهذه المهمة بدلاً عنه كسالم مولى ابن حذيفة الذي كان يؤم المهاجرين والأنصار في مسجد قباء، بل إن الرسول (صلى الله عليه وآله) قدم «عبد الرحمن بن عوف» وصلى خلفه في أحد المرات.

أما الاستدلال بكبر سنه ومعرفته بالأنساب فلا تعد هذه الأمور مؤهلة لتولي خلافة المسلمين فهما ليستا صفتین متلازمتين (العلم والعمر) فقد وجد من يحمل علوماً كثیرة من الصحابة رغم صغر سنه. ويرى احد الكتاب المعاصرين ان مرجعية هذا التفضيل لم تكن من منطق عقائدي وإنما كانت من منطق سلطوي يقول الجابري « ان المرجعية التي حكمت الكيفية التي جرت بها الأمور عند بيعه أبي بكر خليفة للنبي لم تكن، لا العقيدة ولا الغنيمة وإنما

ص: 135


1- الدنيوري، ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، المكتبة الحيدرية، ص 11، قم، ص 23

كانت الكلمة الأولى والأخیرة لمنطق القبيلة(1) ومن هذا المنطلق عن أبو بكر عمر بن الخطاب ليكون خليفة من بعده رغم اعتراض كثیر من المهاجرين والأنصار(2).

2. الشورى المشروطة: وتعني تحديد شروط مسبقة ملزمة لمن يعمل بها وهذا النوع من الشورى ظهر في عهد الخليفة عمر بن الخطاب؛ إذ إنه حدد جملة من الشروط العجيبة للشورى، وهي على النحو الآتي:

1. أنها شورى بين ستة أنفار يعينهم الخليفة وحده من دون الأمة.

2. أن يكون الخليفة المنتخب واحداً من هؤلاء الستة لا من غيرهم.

3. ... إذا اتفق اثنان على رجل... واثنان على آخر رجحت الكفة التي فيها عبد الرحمن بن عوف أحد الستة وان لم يسلم الباقون ضربت اعناقهم.

4. إذا اتفق أكثر الستة على رجل وعارض الباقون ضربت أعناقهم.

5. ألا تزيد مدة التشاور على ثلاثة أيام وإلا ضربت أعناق الجميع.

6. يتولى صهيب الرومي مراقبة ذلك في خمسين رجلاً من حملة السيوف(3).

ان هذه الشروط التي كانت من اجتهاد الخليفة عمر بن الخطاب جاءت لكي تحدد نمطاً جديداً للحكم يختلف عن الطريقة السابقة إذ قال عمر بن الخطاب «إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت ولكن وقى الله شرها فمن بايع رجلاً من غیر

ص: 136


1- الجابري، محمد عابد: العقل السياسي العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 1، بيروت، 2006 م، ص 141
2- المصدر نفسه، ص 141
3- ابن الأثير، عز الدين علي بن أبي الكرم: الكامل في التاريخ، ج 3، دار الكتب العلمية، بيروت، ص 66 - 67

مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغره أن يقتلا»(1). إلا أنه في أواخر لحظاته قبل أن يموت تمنى أن يعمل بالطريقة الأولى في تعيین الحاكم فكان يقول «لو كان أبو عبيد حيا لوليته لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لوليته»(2)... إذاً لم يكن عمر يرى ان الأصل في هذا الأمر هو الشورى وان كان قد قال الشورى الا أنه لم يعمل بها الا اضطراراً حین لم يجد من يعهد إليه. وقد كان نتيجة هذه الشورى تولي عثمان بن عفان خلافة المسلمين بشرط ان يعمل بكتاب الله وسنة الرسول (صلى الله عليه وآله) وسیرة الشيخين وان لا يسلط بني أمية على رقاب الناس كما حذره الخليفة الثاني عمر بن الخطاب إذ قال له «فإن وليت هذا الأمر فلا تحمل أحداً من بني أمية على رقاب الناس»(3).

إلا انه بعد توليه الخلافة أصدر أوامر بتعيین ولاة غیر كفوئین من قرابته عاثوا في الأرض فساداً من حيث مصادرة الرأي والاستئثار بالسلطة وتلاعبهم في أموال المسلمين لتحقيق منافع خاصة فضلاً عن قيامهم بإجراءات تعسفية تجاه الناس وهذا ما أدى إلى اجتماع الناس عند صحابة الرسول (صلى الله عليه وآله) لينقلوا رسالة فيها تقرير عن أوضاع الولاة الفاسدين إلى الخليفة عثمان بن عفان، إلا أنه لم يتخذ أي إجراء او موقف رافض حسب بعض الروايات(4).

في حین تذهب بعض الروايات إلى أنه حاول تغیير بعض الولاة المفسدين(5).

ص: 137


1- البخاري، أبو عبد الله بن إسماعيل: صحيح البخاري، ج 8، دار الفكر، القاهرة، 1981 م، ص 13
2- ابن سعد، محمد: الطبقات الكبرى، ج 3، دار صادر، بيروت، ص 328
3- الدينوري، الإسلام والسياسة، ص 42
4- ينظر: الدينوري، الإسلام والسياسة، ص 51
5- ينظر، الدينوري: الامامة والسياسة، ص 55

ووضع بعض الحلول التي كانت بطيئة ومتأخرة لعلاج وامتصاص نقمة الناس من الأوضاع السيئة التي أدت إلى نشوب ثورة عارمة وانتفاضة شعبية نتج عنها مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان.

وبهذا ينتهي عهد أصحاب نظرية الشورى التي لم تقدم حلاً لمشكلة تعيین الإمام الذي يجب ان يحمل تفكیراً سياسيا يطابق فيه ويمازج بین القيم العليا ومعطيات الواقع السياسي، فهل يا ترى نجد هذا النوع من التفكیر السياسي عند أصحاب منهج النص:

النص:

النص لغة: وله عدة تعريفات لغوية منها:

النص: رفعك الشيء، ونص الحديث ينصه نصا رفعه، وكل ما ظهر فقد نص، وقال عمر بن دينار، ما رأيت رجلاً، أنص الحديث من الزهري: أي أرفع له وأسند، وقال أبو عبيدة: النص التحريك، والسیر الشديد، والحث، وأصل النص:

أقصى الشيء وغايته، ثم سمي به ضرب من السیر سريع، والنص التوقيف، والنص التثبت على شيء ما، ونص الرجل نصاً إذا سأله عن شيء حتى يستقصي ما عنده، ونصُّ كل شيء أقصاه، قال الزهري، النص أصله منتهى الأشياء ومبلغ اقصاها وفي حديث هرقل ينصهم أي يستخرج رأيهم ويظهره ومنه قول الفقهاء:

نص القرآن ونص السنة: أي ما دل ظاهر لفظهما عليه من الأحكام»(1) هذه بعض معاني النص لغةً والذي يظهر لي والأقرب إلى موضوعنا هو القول الذي قيل إنه مأخوذ من الظهور والبيان؛ لأن النص بالقرآن او السنة يكون واضحاً وظاهراً

ص: 138


1- ابن منظور، لسان العرب، ج 7، ص 97 - 98

للإنسان ولا يحتاج إلى عالم من أجل ان يعرفه ويبنيه إلا في قليل من الآيات الواردة في القرآن الحكيم.

النص اصطلاحاً:

معناه ما لا يحتمل الا معنى واحداً وقيل ما لا يحتمل التأويل وقيل ما زاد وضوحاً على الظاهر لمعنى في نفس المتكلم وهو سبق الكلام لأجل المعنى(1).

ذلك وقد ذكر التهانوي(2).

ان النص له معان متعددة وهي:

1. كل ملفوظ مفهوم المعنى من الكتاب والسنة ظاهراً او نصاً او مفسراً، حقيقة او مجازاً عاماً او خاصاً.

2. والنص بمعنى الظهور.

3. مالا يتطرق إليه احتمال أصلاً.

4. مالا يتطرق إليه احتمال مقبول يعضده دليل.

5. الكتاب والسنة، والنص يختص بما هو قطعي الثبوت وقطعي الدلالة في الثوابت وفهم النص ضروري لإنزال أحكامه منازلها هو أمر لا مناص منه مع أي نص من النصوص قطعية الدلالة والثبوت. ومن هذه التعريفات التي أوردناها يتضح لنا ان النص هو اللفظ الواضح الدلالة على المعنى المراد منه من خلال الكلام الذي سبق من اجله والذي يحمل معنى واحداً ولا يقبل التأويل.

ص: 139


1- الجرجاني، علي بن محمد: التعريفات، دائرة المعارف العربية، مصر، 1938 م، ص 237
2- التهاوني، محمد بن علي بن عبد الله: كشف اصطلاحات الفنون والعلوم، مكتبة لبنان، ط 11، بيروت، 1996 م، ص 117

التخصص في النص:

لقد خصص رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عدة نصوص جملة من الصفات التي يجب ان يتصف بها الإمام من بعده أهمها:

1. ان يكون من قريش: ويعني ان يكون نسب الإمامة قرشيّاً؛ إذ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الأئمة من قريش»(1) وقد احتج بهذه الصفة أبو بكر وعمر وأبو عبيدة على المهاجرين والأنصار في سقيفة بني سعد في أثناء مطالبتهم بالخلافة.

ولكن يوجد نص آخر يضيف دائرة النص المتقدم ففي صحيح البخاري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش»(2) فكيف إذاً سيتم التوفيق بین النصین.

يمكن القول ان السنة الشريفة يوجد نوعان من التخصيص في أمر قريش.

التخصيص السلبي: ويتمثل في وجود نصوص صريحة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يستثني أقواماً من قريش ففي حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انه قال «شر قبائل العرب بنو أمية وبنو حنيفة وثقيف))(3) فهل يصح ان تسند الإمامة إلى شر قبائل العرب وأبغض الناس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) قطعاً (لا)؛ لأن ذلك يعد انحرافاً عن النص الشريف.

ص: 140


1- الهندي، علاء الدين علي المتتقي بن حسام: كنز العمال في سنن الأموال والأفعال، ج 12، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1989 م، ص 33
2- البخاري، صحيح البخاري، ج 8، ص 86
3- الهيثمي، أبو العباس أحمد بن حجر: تطهير الجنان واللسان، مطبعة القادة الدينية، القاهرة، ص 30

التخصيص الايجابي: ويتمثل في اصطفاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) جماعة من قريش؛ إذ قال: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم»(1) ويتضح من هذا الحديث تقديم بني هاشم على غيرهم من قبائل قريش وهذا التفضيل لم يأتِ الا لتميزهم بالصفات والأعمال الحسنة.

2. أن يكون من الأئمة الأثني عشر: لقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كثیر من النصوص الشريفة التي تدل على أن هنالك أئمة اثني عشر يأتون من بعده. إذ قال «يكون بعدي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش»(2).

وفي أحاديث أخرى يشیر الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى أهمية وجود الأئمة الاثني عشر في حياة المسلمين قائلاً:

«لا يزال الإسلام عزيزاً من.... إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش»(3) «لا يزال الدين عزيزاً من.... إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش»(4) «لا يزال هذه الأمة مستقيم أمرها حتى يكون اثنا عشر خليفة كلهم من قريش»(5)

ص: 141


1- النيسابوري، مسلم بن الحجاج: صحيح مسلم، دار الفكر، بيروت، ص 1
2- ابن حنبل، أحمد بن محمد: مسند أحمد، ج 5، دار صادر، بيروت، ص 992
3- النيسابوري: صحيح مسلم، ج 12، باب الخلافة في قريش، ص 202
4- النيسابوري: صحيح مسلم، ص 202
5- الطبراني، أبو القاسم سليمان بن محمد بن أيوب المعجم الكبير، ج 3، مكتبة ابن تيمية، ط 2، القاهرة، ج 3، ص 196، ص 197

لا يزال أمر أمتي صالحاً حتى يمضي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش»(1) ونلاحظ ان الرسول (صلى الله عليه وآله) ركز على إن قيام الأمة الإسلامية واستقامتها وصلاحها وعزتها مرهون بوجود هؤلاء الأئمة الاثني عشر، إلا ان المسلمين اختلفوا في تفسیر وتشخيص هؤلاء الأئمة.

فبعضهم حاول ان يذكر أسماءهم فعد خمسة عشر اسماً(2). وبعضهم اعترف بعجزه عن فهم هذا الحديث.

قال الحافظ ابن العربي المالكي: «لم أعرف للحديث معنى» ومن فتح الباري قال المهلب: «لم ألق أحداً يقطع في الحديث شيئاً معيناً. وعن ابن الجوزي قال: « قد أطلت البحث عن معنى هذا الحديث وتطلبت حضانة وسألت عنه فلم أقع على المقصود».

في حین لم يرك الرسول (صلى الله عليه وآله) الأمر مطلقاً، بل توجد أحاديث شخّص فيها هوية الأئمة، فعن جابر بن سمرة «أنه قال: كنت مع أبي عند النبي محمد (صلى الله عليه وآله) فسمعته يقول: «بعدي اثنا عشر خليفة كلهم من بني هاشم»(3). وفي نص آخر لرسول الله (صلى الله عليه وآله) يذكر بعض أسماء الأئمة الاثني عشر قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أنا سيد النبيین وعلي

ص: 142


1- الحاكم، أبو عبد الله: المستدرك على الصحيحين، ج 3، دار المعرفة، بيروت، ص 918
2- ابن كثير، أبو الفدا إسماعيل: البداية والنهاية، ج 3، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1988 م، ص 649
3- القندوزي، سلمان بن إبراهيم: ينابيع المودة، دار الأسوة، قم، 1416 ه، ص 440

سيد الوصيین وان أوصيائي بعدي اثنا عشر أوّلهم علي وآخرهم القائم المهدي»(1).

وفي مناسبة أخرى عدّد رسول الله (صلى الله عليه وآله) الأئمة الاثني عشر بأسمائهم فعن جابر بن عبد الله الانصاري أنه قال: «دخل جندل بن جندة بن جبیر اليهودي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمد أخبرني يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن أوصيائك من بعدك لا تمسّك بهم فقال الرسول (صلى الله عليه وآله): أوصيائي الاثنا عشر قال جندل هكذا وجدناهم في التوراة، وقال: يا رسول الله سمهم لي فقال النبي محمد (صلى الله عليه وآله): أولهم سيد الأوصياء أبو الأئمة علي ثم ابناه الحسن والحسین فأنت تمسك بهم ولا يغرنك جهل الجاهلین، فإذا ولد علي بن الحسین زين العابدين يقضي الله عليك ويكون آخر زادك من الدنيا شربة لبن تشربه فقال جندل: وجدنا في التوراة وفي كتب الأنبياء وايليا وشبراً وشبيراً» فهذه أسماء علي والحسن والحسین فمن بعد الحسین ما أسميهم؟ قال النبي محمد (صلى الله عليه وآله): «إذا انقضت مدة الحسین فالإمام ابنه علي ويلقب بزين العابدين فبعده ابنه محمد يلقب بالباقر فبعده ابنه جعفر يدعى بالصادق، فبعده ابنه موسى يدعى بالكاظم فبعده ابنه علي يدعى بالرضا فبعده ابنه محمد يدعى بالتقي والزكي فبعده ابنه علي ويدعى بالتقي والهادي فبعده ابنه الحسن ويدعى بالعسكري فبعده ابنه محمد يدعى بالمهدي القائم والحجة فيغيب ثم يخرج فإذا خرج يمأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً طوبى للصابرين في غيبته طوبى للمقيمین على حجتهم»(2).

ويبقى امتداد هؤلاء الأئمة عليهم السلام إلى قيام يوم الساعة كما في الحديث

ص: 143


1- ينابيع المودة، ص 447
2- القندوزي، الحنفي، ينابيع المودة: الباب 76، ص 442 - 443

عن سعد بن وقاص قال: كنت إلى جابر بن سمرة مع غلامي فقلت له: أخبرني شيئاً سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال فكتب إلي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم الجمعة عشية رجم الأسلمي يقول «لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة او يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش»(1).

ومما تقدم يمكننا القول: ان الأئمة من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) هم من قريش ومن بني هاشم وهم اثنا عشر إماماً. أولهم علي والحسن والحسین والبقية من ولد الحسین.

أدلة القائلين بالنص:

يعتقد القائلون بالنص بأن الإمام عليًّا هو الخليفة المنصوص عليه من الله سبحانه وتعالى بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)(2) وانه الأصلح لقيادة الحكومة الإسلامية لاتصافه بالعصمة عن الزلل كبیراً وصغیراً وهذه من الموجبات العقلية في ضرورة وجود الإمام في الفكر السياسي الإسلامي(3). وقدم الإمامية في الاستدلال على إمامته قسمين من الأدلة النقلية:

أولاً: النص الدال على إمامته بالفعل: وتعني أفعال الرسول (صلى الله عليه وآله) المخبرة بتفضيل الإمام علي على غیره من تعظيم شأنه والإجلال له وتقديمه وتزويجه لابنته الزهراء سيدة نساء العالمین ومؤاخاته إياه بنفسه وجعله الوالي في

ص: 144


1- ابن حنبل، احمد مسند احمد بن حنبل، ج 5، ص 89
2- لم يستلم الإمام علي زمام الخلافة حتى سنة 35 ه فبعد وفاة الخليفة الثالث اجتمع المسلمون وطالبوا الإمام عليًّا بتولي الخلافة وتمت المبايعة في المسجد
3- للتفصيل أكثر في وجود الإمامة عقلًا ينظر موضوع ضرورة الإمامة في ص 5 - 6

كل مهمة وحرب يبعثه فيها(1) الثاني: النص الدال على إمامته بالقول: فينقسم الى نوعين:

أ- النص الخفي: وهو مالا يقطع بأن سامعيه علموا النص عليه بالإمامة منه ضرورة وان كان لا يمتنع ان يكونوا يعلمونه كذلك او علموه استدلالاً من حيث اعتبار دلالة اللفظ وهو على جانبین قرآني وإخباري.

ب- النص الجلي: وهو النص الصريح المروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله) الذي يدل على خلافة الإمام علي بشكل واضح من بعده - وهنا نختار بعض ما استدل به الإمامية من نصوص نقلية.

الدليل الأول (حديث الدار): يعد أصحاب منهج النص (حديث الدار) أدل الأدلة على خلافة الإمام علي بعد النبي محمد (صلى الله عليه وآله) فلما نزلت آية «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ»(2) جمع الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) عشیرته وعرض عليهم الإسلام وطلب منهم نصرته في هذا الأمر إلا أنهم لم يستجيبوا له إلا الإمام علي الذي آمن بهذه الدعوة لذلك قال الرسول (صلى الله عليه وآله):

إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا(3).

الدليل الثاني: (آية الولاية): قال تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(4).

ص: 145


1- صاحب، ابن شهر أشوب، ج 3، ص 124، تاريخ الطبري، ج 5، ص 514، المعجم الكبير للطبراني، ج 1، ص 318، تاريخ ابن عساكر، ص 214 - 215
2- الشعراء، آية 214
3- الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير: تاريخ الطبري، ج 3، مطبعة ليزبريل، 1979 م، ص 63 - 64
4- المائدة، آية 55

فعن عمار بن ياسر قال: وقف على علي بن أبي طالب سائل وهو راكع في تطوع فنزع خاتمه فأعطاه السائل فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأعلمه ذلك فنزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذه الآية (إنما وليكم.....) فقرأها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم قال: (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه)(1)الهيثمي، نور الدين علي بن أبي بكر: مجمع الزوائد ومنيع الفوائد، ج 7، دار الكتب العلمية، بيروت، 1988، ص 7(2).

وقد قال في هذا الحديث شاعر الرسول (صلى الله عليه وآله) حسان بن ثابت عدة أبيات وهي:

أبا الحسن تفديك نفسي ومهجتي *** وكل بطيء في الهدىة ومسرع

أيذهب مدحيك المحبر ضائعاً *** وما المدح في ذات الاله بضائع

فأنت الذي اعطيت إذ انت راكع *** فدتك نفوس القوم يا خیر راكع

فانزل فيك الله خیر ولاية *** فأثبتها في محكمات الشرائع(3)

وقد أثیرت عدت إشكالات حول هذا الدليل أهمها ان معنى الولاية في الآية يعني النصرة وليس بمعنى الولاية على الناس، والبعض أشكل بأن الإمام عليًّا مفرد فلماذا جاءت الآية بصيغة الجمع؟ أما بخصوص لفظة (ولي) هنا إنما هو الأولى بالتصرف كما في قولنا: فلان ولي القاصر وقد صرح اللغويون. بأن كل من ولي أمر أحد فهو وليه فيكون المعنى ان الذي يلي أموركم يكون أولى بها منكم وهو الله عز وجل ورسوله وعلي؛ لأنه هو الذي اجتمعت به هذه الصفات (الإيمان

ص: 146


1-
2-
3- الحكائي، عبد الله بن احمد: شواهد التنزيل، ج 1، دار حوزة طهران، 1418 ه، ص 413

وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في حال الركوع، وقد أثبت الله في آية الولاية لنفسه تعالى ولنبيه ولوليه على نسق واحد وولاية الله عز وجل عامة مطلقة وكذا ولاية النبي والولي مثلهما إذ لم تقيد، والنصرة ما هي إلا إحدى معاني لفظة الولاية كما في الكتب اللغوية)(1).

ولا يجوز عقلاً بغض النظر عن النقل أن يكون معنى الولي هنا بمعنى النصیر أو المحب او نحوهما، لأنه لا يبقى لهذا الحصر وجه، حيث إنه تعالى نفى ان يكون ولياً غیر الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) والذين آمنوا بلفظه (إنما) وهي تفيد حصر الصفة على من ذكر ونفيها عمن لم يذكر، أما القول ان علياً (مفرد) فلماذا جاءت الألفاظ بصيغة الجمع، فقد وضح المفسرون كالزمخشري الغاية والحكمة من هذا الأسلوب المتكرر في كتاب الله بأن الفائدة في مجيء اللفظ بصيغة الجمع في مثل هذه الموارد هو ترغيب الناس في مثل فعل أمیر المؤمنین علي لينبه أن سجية المؤمنین يجب ان تكون على هذا الحد من الحرص على الاحسان إلى الفقراء والمساكين، فيكونوا حريصین على مساعدة الفقراء واعانة المساكين حتى في أثناء الصلاة وهذا شيء مطلوب من عموم المؤمنین ولذا جاءت الآية بصيغة الجمع»(2)

ص: 147


1- الزبيدي، محمد بن أحمد: تاج العروس في شرح القاموس، ج 1، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1205 ه، ص 299
2- الزمخشري، محمود بن عزت: الكشاف عن غوامض التنزيل، دار الحوزة، قم، ص 649، وابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج 6، ص 168، والهندي، كنز العمال في سنن، الأقوال والأفعال، ج 3، ص 128

الدليل الثالث (حديث المنزلة):

وهو ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرج إلى معركة تبوك فاستخلف علياً فقال: أتكلفني بالصبيان والنساء؛ قال ألا ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى الا أنه ليس بعدي نبي»(1) وهذا الحديث يبن ان الرسول (صلى الله عليه وآله) قد استخلف الإمام عليًّا في حياته لأداء كل مهام القائد السياسي ومنها الصلاة كما استخلف نبي الله موسى أخاه هارون، على نبينا وآله وعليهما الصلاة والسلام.

الدليل الرابع (حديث الغدير):

فلما رجع النبي (صلى الله عليه وآله) من حجة الوداع ونزل غدير خم وصلى بالناس جماعة وأخذ بيد الإمام علي وقال: «ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه» فبارك الصحابة للإمام علي الولاية عليهم ومنهم عمر بن الخطاب حيث قال له: بخ بخ لك يا علي أصبحت وأمسيت مولى لكل مؤمن ومؤمنة»(2) إلا أن بعض العلماء كالرازي كذب هذا الحديث بحجة ان الإمام عليًّا كان قاضيا في البحث ورد عليه ابن حجر الهيثمي قائلاً ولا التفات لمن قدح في صحته (حديث الغدير). ولا لمن رده، بان علياً كان باليمن لثبوت رجوعه منها وإدراكه الحج مع النبي(3).

ص: 148


1- البخاري: صحيح البخاري، ص 208
2- ابن حنبل: مسند أحمد، ص 281
3- ابن حجر، أحمد: الصواعق المحرقة على أصل الرفض والضلال والزندقة، ج 1، مؤسسة الرسالة، ط 1، ص 187

والبعض الآخر حاول ان يؤول الحديث قائلاً: إن الإمامة تنقسم إلى قسمين إمامة باطنية تختص بالقضايا المعنوية وإمامة ظاهرية سياسية كخلافة الصحابة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)، وهذا الحديث يخص الجانب المعنوي لا السياسي(1) ولكن هذا التقسيم فاقد للشرعية لعدم وجود نص عليه من قبل الرسول (صلى الله عليه وآله) الذي جعل ولاية الإمام علي في هذا الحديث مطلقة بدون استثناء ومن دون قيد، من هنا يمكن القول: إن الفكر السياسي الإسلامي بدأ معصوماً تحت قيادة الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله)، وقد كان مؤثراً في وجوده السياسي عبر تأسيس الدولة الإسلامية الأولى إلا ان معالم هذه الدولة فقدت بريقها الساطع بعد وفاة الرسول؛ إذ اختلف المسلمون في مسألة تنصيب الإمام الحاكم بین من يرى ان منهج النص هو الأصلح. ومن يرى أن الشورى وإن كانت مشروطة او مفروضة هي الأمثل كما وضحنا سابقاً لذلك فإن الفكر السياسي الإسلامي كان متفاوتاً من حيث الوجود والتأثیر في الأمم الأخرى فكلما تمسك القائد السياسي بالعقيدة الصحيحة تصاعد شأن الدولة وكلما أنحرف عنها قل أثرها بین الأمم وعلى المستويين الداخي والخارجي.

ص: 149


1- ينظر: الدريبي، حسينة حسن: ولاية أهل البيت في القرآن والسنة، ص 93

ص: 150

الفصل الثاني الفكر السياسي عند الإمام علي

اشارة

* المبحث الأول: نهج سياسة الإمام علي

* المبحث الثاني: المعارضة السياسية في فكر الإمام علي

ص: 151

ص: 152

الفكر السياسي عند الإمام علي

لا يمكن تحديد الفكر السياسي لدى الإمام علي في مرحلة معينة من تاريخ الإسلام؛ لأنه كان مشاركاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومساهماً فاعلاً في تأسيس الدولة الإسلامية الأولى، ومقوماً ناجحاً لتلك الدولة من انحراف اصابها فقد عمل الإمام بجد في تلك المرحلة للحيلولة دون إفراغ الأمة من محتواها القيمي الإسلامي الأصيل. وفي مرحلة أخرى كان الإمام موجهاً للأمة وقائداً سياسياً مباشراً للدولة الإسلامية فقرر تصحيح مسار البنية السياسية لتلك الدولة في مختلف مستوياتها وتأسيس مفاهيم أصيلة وتحديد منهجية واضحة في إدارة الدولة وإعداد القادة وتهيئة المجتمع لكي يصل إلى أعلى درجات الاستجابة في مقابل تحديات تلك المرحلة، ولرصد أبرز معالم سياسة هذه الدولة الإسلامية الأنموذج لابد لنا أن نتطرق في هذا الفصل إلى مبحثین، الأول منهما بعنوان نهج سياسة الإمام علي. والثاني يوضح المعارضة السياسية في فكر الإمام.

ص: 153

ص: 154

المبحث الأول نهج سياسة الإمام علي

* شرعية الأهداف والوسائل.

* ضرورة وجود الدولة.

* أهداف الدولة.

* مقياس بقاء الدول وزوالها.

* بناء مؤسسات الدولة.

ص: 155

ص: 156

المبحث الأول نهج سياسة الإمام علي

اشارة

إن استبدال الأنظمة السياسية على مر التاريخ الإنساني هو من الأمور البديهية، فقد يكون التحول في رأس النظام السياسي فحسب ويوصف بأنه تغیر جزئي وشكلي، أو يشمل مفاصل الدولة المختلفة في النظام الإداري والاقتصادي والسياسي، ويعرف بالتحول الكلي في نهج الدولة، وهذا ما حصل فعلاً حین تولى الإمام علي بن أبي طالب قيادة الدولة الإسلامية.

إذ قام الإمام بتأسيس دولة عقائدية من ناحية نظرية أعاد بها الروح للأسس الدستورية الأصيلة. ومن ناحية أخرى جسد الإمام عملياً تلك الرؤى والأفكار خلال مدّة حكمه وهذا يعد من السمات الرئيسية في شكل الدولة الإسلامية التي قادها الإمام علي لذلك نتطرق في هذا المبحث إلى ما يأتي:

شرعية الأهداف والوسائل والدولة وضرورة وجودها وأهدافها ومقومات بقائها أو زوالها وبناء مؤسسات الدولة.

شرعية الأهداف والوسائل:-

اشارة

إن صفحات التاريخ البشري تنقسم إلى صفحات مشرقة وأخرى مظلمة، والمعيار الذي يصنف تلك الصفحات في مختلف جوانب الحياة. هو ما يتبعه الإنسان من أسس ووسائل وأهداف، ولاسيما المجال السياسي، فسياسة كل دولة تعتمد على نوعین من المناهج والأسس التي تمثل تلك السياسة.

ص: 157

سياسة التعالي: وهي السياسة الربانية التي يرجع فيها السياسي إلى المصادر الدينية ويتخذها منهجاً له في التعامل السياسي.

التعالي السياسي: وهي السياسة التي تعتمد على مصادر وضعية تكون فيها القيم نسبية وتصبح السياسة جهة فوقية وحاكمة عليها. فبعض الساسة عد هذه الأسس منهجاً له والبعض الآخر اتخذها ذريعة لتبرير ما يعتقد به وبعد دراسة معمقة لتاريخ الإسلام السياسي وجدنا أن هنالك ثلاثة أصناف من السياسيين يسعى كل منهم لتحقيق أهدافه عبر وسائل متنوعة.

الأول: يعتمد فيه الساسة على وسائل وأهداف غیر شرعية وأبرز ما يميز هذا الاتجاه جعل السلطة هدفاً أسمى لتحقيق منافع شخصية ومصالح فئوية ضيقة عبر وسائل غیر شرعية والسعي إلى إفراغ الدولة من المبادئ العليا والمحتوى القيمي الأصيل، لذلك نرى أن الإمام عليًّا يبین الفرق بينه وبین معاوية في هذا المجال قائلاً «ما معاوية بأدهى مني لكنه يغدر ويفجر»(1)، وأشار بعض أصحاب الإمام إلى تولية معاوية على الشام لكن الإمام وضح بأن معاوية لا يلتزم ببيعته؛ إذ قال: «لو أعطي معاوية الشام لامتنع عن البيعة»(2) أيضا لأن الإمام كان يعلم بأن معاوية ليس له أي ارتباط بمحورية القيم الإسلامية والإنسانية، لذلك كان الإمام يعرف هدف معاوية ووسائله الخبيثة للوصول إلى السلطة بأي شكل من الأشكال.

الثاني: يعتمد فيه على وسائل غیر مشروعة وأهداف شرعية يرفع أصحاب هذا

ص: 158


1- ابن أبي الحديد، عبد الحميد: شرح نهج البلاغة، ج 4، مؤسسة الأ علمي للمطبوعات، بيروت، 2009، ص 449
2- المصدر نفسه، ج 4، ص 449

الاتجاه شعار القيم هدفاً أعلى وجهة فوقية تحكم السلطة بموجبها إلا أنهم اتخذوا وسائل باطلة وغیر شرعية في تحقيق هذا الهدف والخوارج نموذج لذلك الاتجاه؛ إذ رفعوا في عهد الإمام علي شعار «لا حكم إلا لله وليس لك يا علي»(1). وبین الإمام علي بأنها «كلمة حق يراد بها باطل»(2) فكيف يمكن الوصول إلى حكم الله من دون حاكم يطبق شرائع الله. ويدير حياة الناس، فالخوارج بذلك أرادوا نسف وجود الحكومة التي تعد ضرورة إنسانية قبل أن تكون دينية لتحقيق حكم الله في الأر ض.

الثالث: ويعتمد فيه على شرعية الوسائل والأهداف. وهو اتجاه مثله الإمام علي بقوله وأفعاله وكلمات الإمام كثیرة يبین فيها هدفه من تولى الحكم؛ إذ قال: «أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً»(3).

أما منهجه السياسي فقد تمثل بأفعاله التي جسد بها برنامج حكومته الذي اتسم خلال مدّة خلافته بالعدل والرحمة والمساواة والحرية والسلام، وهذا ما كان واضحاً في مؤسسات حكومته الغراء حيث أزال مظاهر الفقر واستأصل كل رموز الفساد حتى تركه أقرب الناس لعدم تركه للحق وهذا ما عبر عنه الإمام إذ قال «لم يبقِ لي الحق صديقاً»(4).

كل ذلك لأنه رفع شعار «لا يطاع الله من حيث يُعصى»(5) لأن في عقيدته الغاية

ص: 159


1- ابن أبي الحديد، ج 4، ص 450
2- ابن أبي الحديد، عبد الحميد: شرح نهج البلاغة، ج 4، مؤسسة الأ علمي للمطبوعات، بيروت، 2009، ج 4، ص 450
3- المصدر نفسه، ج 4، ص 451
4- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 321
5- المصدر نفسه، ج 3، ص 322

لا تبرر الوسيلة حتى لو كانت الأهداف ظاهرها مشروع أو يقصد من ورائها منفعة شخصية، إذاً فالوسائل والأهداف يجب أن يكون محورها طاعة الله فلا يطاع الله إلا من حيث يطاع وبذلك نكون قد أعطينا نموذجاً للدولة الصالحة التي تصلح لكل زمان وتضيء صفحات التاريخ.

1- ضرورة وجود الدولة:

لقد تأملت فكرة الدولة في العصور القديمة منذ بداية نشأة المجتمعات البشرية نتيجة الحاجة إلى التعاون والاجتماع حول المنفعة المتبادلة ودفع الضرر والمفسدة وهذا تجسيد لما جاءت به الكتب السماوية وما وجد في الفلسفات القديمة أن الإنسان مدني بالطبع ولكن الجديد في الفكر الإسلامي تدخل العناية الإلهية في عملية تنظيم التعاون البشري عبر تقييدها بقوانین شرعية ووجود الحاكم، وهذا ما أكده الإمام علي؛ إذ قال: «لا يصلح للناس إلا أمیر برٌ أو فاجر قالوا هذا البر فكيف بالفاجر قال: إن الفاجر يؤمن الله به السبل ويجاهد به العدو ويجبي به الغي وتقام به الحدود ويحج به البيت ويعبد الله فيه المسلم آمنا حتى يأتيه أجله»(1).

ويفهم من قول الإمام علي أن وجود الحاكم ضرورة اجتماعية وطبيعية وإنسانية لكونه مدبراً سواء كان عادلاً أم جائراً.

«ولا يعني هنا قبول الإمام بالأمیر الفاجر بل إن الإمام أكد عیى التدبیر لا على قبول الحاكم السيىّء وهو الرأي الأفضل بالتأكيد من حال اللانظام»(2) والذي

ص: 160


1- القبانجي، حسن: مسند الإمام علي، تحقيق طاهر السلامي، ج 9، مؤسسة الأعلمي، ط 1، بيروت، 2000 م، ص 15
2- سالم، رحيم محمد: الاتجاهات الفكرية عند الإمام علي، مركز الشهيدين الصدرين، للدراسات والبحوث، ط 1، بغداد، 2007 م، ص 330

يؤدي حتما إلى الفوضى وتمزيق أواصر المجتمع.

2- أهداف الدولة:

أما بالنسبة إلى أهداف الدولة فقد بين الإمام علي بأنها تتلخص في أمور:

1. التأمین المالي: وهو عملية جمع الضرائب من الأموال التي لا حاجة للفرد فيها وتعد نقطة ارتكاز في نجاح الدولة لتحقيق الأهداف الأخرى. لذلك كانت هذه النقطة من الأولويات التي أكد عليها الإمام في عهده لمالك الاشتر حین أوصاه بجباية الأموال.

2. توفير الأمن: ويقسم إلى قسمين.

1. الأمن الداخلي: ويعني دفع الظلم عن الناس وتأمین الطرق والمواصلات من السراق.

2. الأمن الخارجي: ويعني ردع أي اعتداء خارجي على الدولة. وقد بین الإمام ذلك المعنى في قوله: «ويقاتل به العدو ويأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي»(1).

3. عمارة البلاد واستصلاح أهلها.

«واستصلاح أهلها وعمارة بلادها»(2).

الاصلاح على نوعين في منظور الامام علي (عليه السلام)

ص: 161


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 400
2- المصدر نفسه، ج 1، ص 68

الأول: إصلاح الشعب: ويكون عبر إصلاح النظام الأخلاقي والعقائدي والثقافي والاجتماعي لأبناء الدولة الإسلامية من كل أنواع الفساد، وهذا ما أكده الإمام في قوله واستصلاح أهلها.

الثاني: إصلاح البلاد: ويكون عبر إصلاح الأرض وبناء مرافق الدولة الأخرى وهو ما أشار له الإمام علي في قوله وعمارة بلادها.

4- إقامة العدل:

إن استقرار الدولة يكون عبر الالتزام بالعدل قال الإمام علي ويجب على السلطان أن يلتزم العدل في ظاهر أفعاله لإقامة أمر سلطانه، وفي باطن ضمیره لإقامة أمر دينه، فإذا فسدت السياسة ذهب السلطان، ومدار السياسة كلها على العدل والإنصاف فلا يقوم سلطان لأهل الإيمان والكفر إلا بهما والإمام العادل كالقلب بین الجوارح تصلح الجوارح بصلاحه وتفسد بفساده»(1).

آليات تحقيق الأهداف:

آليات تحقيق أهداف الدولة. إذ قال في عهده لمالك الأشتر: «أمره بتقوى الله وإيثار طاعته واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها وأن ينصر الله سبحانه بيده وقلبه ولسانه فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره وإعزاز من أعزه»(2) فالإمام هنا يتحدث عن ثلاث آليات أساسية لدى الحاكم يعتمد عليها في تحقيق الأهداف هي التقوى والتربية والقوة. يقدم المفكر محمد تقي المدرسي توضيحاً حول وسائل

ص: 162


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 12
2- المصدر نفسه، ج 2، ص 26

تحقيق تلك الأهداف من منظور الإمام علي؛ إذ يقول التقوى: هي الحصانة من وقوع الحاكم في الأخطاء أثناء تنفيذ الأحكام. والتربية هي مجموعة القيم والمثل الطيبة التي يعمل الإسلام على نشرها ويحمل الحاكم مسؤولية تركيزها وترسيخها في ذهنية الفرد فتحافظ عليهم من الانحراف أمام القوة فهي آلية لتنفيذ النظام الإصلاحي في الدولة ولا تعني الاستبداد والظلم»(1).

مقياس بقاء الدول وزوالها.

إن الدول تمر بمراحل من النمو والتطور والازدهار أو الانحطاط والسقوط وهذا يقترن بمدى ضعف أو قوة الدولة في مختلف المجالات، ويعود ذلك إلى عوامل داخلية وخارجية. لأن الممارسات السياسية الخاطئة لحاكم الدولة تؤدي إلى ضعف وانحلال الدولة فتكون الدولة معرضة للثورة الداخلية والغزو الخارجي، وعند تجنب الحاكم السياسي الوقوع في هذه الأخطاء ووعيه في تدبیر أمور الحكم تحافظ الدولة على بقائها فتكون مؤثرة على مر الدهور. وهذا ما دعا له القرآن الكريم في كيفية الاعتبار من قصص الماضین وقد أعطى ذلك وعياً تاريخياً للنبي الكريم ولكل الحكام، وهذا ما نرى تأثیره واضحاً في وصية الإمام علي لابنه الحسن (عليهما السلام) إذ قال «يا بني إني وان لم أكن عمرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمارهم وفكرت في أخبارهم وسرت في آثارهم حتى عدت كأولهم بل كأني بما انتهى إلى أمر من أمورهم فقد عمرت مع أولهم إلى آخرهم»(2) وهذه المعرفة التاريخية في أحوال الأمم السابقة لدى الإمام علي كانت أحد العوامل التي كشف من خلالها عن سنن مقياس بقاء وزوال الدولة ويمكننا أن نستشف ذلك

ص: 163


1- المدرسي، محمد تقي: الحكم الإسلامي، مركز العصر للثقافة والنشر، ط 1، بيروت، 2010، ص 70
2- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 209

في أحاديث الإمام علي، على النحو الآتي:

أسباب زوال الدول:

يحدد الإمام علي أسباباً موضوعية تؤثر في انحراف الدول عن مسارها الصحيح تؤدي إلى ضعفها ومن ثم إلى زوالها. فمنها ما يرتبط بالممارسات السياسية للحاكم فالظلم وسوء التدبیر في إدارة الدولة هما معولا هدم لصرح وكيان الدولة ويشیر الإمام علي إلى ذلك في كثیر من أحاديثه ووصاياه لولاته للتحذير من كل مصاديق الظلم. إذ يقول «إياك والدماء وسفكها بغیر حلها فإنه ليس أدنى لنقمة.. ولا أمرى بزوال نعمة من سفك الدماء بغیر حله فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله»(1).

وفي وصية أخرى يقول «إحذر العسف والحيف فإن العسف يعود بالجلاء والحيف يدعو إلى السيف»(2).

أما سوء التدبیر فينبه الإمام إلى خطورته إذ يقول: «سوء التدبیر سبب التدمیر»(3). وفيما يخص دور المجتمع السلبي الذي يؤدي إلى انهيار الدول فهنالك عاملان أساسيان هما انقلاب المفاهيم الفكرية والأخلاقية لدى المجتمع، ويصور لنا ذلك نصٌّ في أحد أحاديث الإمام في قوله «يستدل على إدبار الدول بأربع؛ تضييع الأصول والتمسك بالفروع وتقديم الأراذل وتأخیر الأفاضل(4).. فالمجتمع

ص: 164


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 99
2- الريشهري، محمد: ميزان الحكمة، ج 6، مؤسسة دار الحكمة، ط 3، بيروت، 2000، ص 2337
3- الريشهري، محمد: ميزان الحكمة، ج 3، ص 1256
4- الريشهري، محمد: ميزان الحكمة، ج 3، ص 1256

عندما يترك أصوله الفكرية والعقائدية التي يّعد ثوابت يتفق عليها أبناء المجتمع وتستقر بها الدول فإن الدولة تهتز وتتعرض للانهيار حتى لو التزم أبناء المجتمع شكلها بممارسة بعض الطقوس.

أما الانقلاب الأخلاقي فيتجسد بتقديم الأراذل وتأخیر الأفاضل في تولي مناصب الدولة وهو ما يؤدي إلى سوء إدارة الدولة وانهيارها، وهذا الانقلاب في المفاهيم جاء نتيجة تقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة ونشوء روح القبلية والعنصرية في المجتمع ويحذر الإمام من تفشي التعصب القبلي والعنصري في المجتمع وأثره القبلي على الدولة وأن هذه الآفة الخطیرة قد ابتليت بها الأمم السابقة وذاقت مرارتها، فيقول في أحد خطبه: «ألا وقد أمعنتم في البغي(1) وأفسدتم في الأرض مصارحة لله بالمناصبة(2) ومبارزة للمؤمنین بالمحاربة يقصد بالمؤمنین أولئك الذين توجه ضدهم العصبية - فوالله الله في كبر الحمية وفخر الجاهلية فإنه ملاقح الشنآن(3) ومنافخ الشيطان(4) التي خدع بها الأمم الماضية والقرون الخالية أمراً تشابهت القلوب فيه وتتابعت القرون عليه وكبراً تضايقت الصدور به»(5) ويضيف الإمام أن سبب ظهور الفساد وتولي الحكام الفاسدين، ومن ثم انهيار المجتمع والدولة يكون نتيجة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويصور لنا الإمام هذا المعنى في بعض خطبه؛ إذ يقول ظهر الفساد فلا منكر مغیر

ص: 165


1- أمعنتم في البغي: بالغتم به
2- بالمناصبة: مصارحة لله يعني الإعلان بالمعاصي وعدم التستر في شأن المعصية والتكبر الجاهلي
3- ملاقح الشنان: أي إن الكبر والفخر الجاهلي مكامن البغضاء والحق ومكارهما
4- منافخ الشيطان: أي إن الكبر والفخر الجاهلي المكان الذي ينفخ فيه الشيطان في نفس الإنسان فيدفعها إلى الشر والجريمة
5- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 300

ولا زاجر مزدجر وكذلك يقول (لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيول عليكم شراركم)(1).

أسباب بقاء الدول:

إن أهم ما يوجب بقاء الدول من منظور الامام علي. هو أن يتصف الحاكم بالعدل؛ لأن العدل من أقوى دعائم الدول، يقول الإمام علي: «العدل أقوى أساس»(2) وفي حديث آخر يقول: «ما عمرت البلدان بمثل العدل»(3)، ومن أروع ما قاله الإمام حول هذا المفهوم «العالم حديقة سياجها الشريعة والشريعة سلطان يوجب الطاعة والطاعة سياسة يقوم بها الملك راع يعضده الجيش والجيش أعوان يكفلهم المال والمال رزق جمعه الرعية والرعية سواد يستعبدهم العدل والعدل أساس به قوام العالم»(4)، كذلك يعد حسن التدبیر من موجبات بقاء الدول، وهذا ما صرح به الامام علي بقوله: (حسن السياسة يستديم الرياسة) وقوله: «حسن التدبیر وتجنب التبذير من حسن الرياسة»(5).

إذاً تعاقب الدول مسألة حتمية(6) إلا أن الإمام عليًّا ينهيه إلى ضرورة أن يكون للفرد معرفة تاريخية عبر أخذ العبرة والموعظة من قصص الأمم السابقة ورصد

ص: 166


1- ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 55
2- الريشهري، محمد: ميزان الحكمة، ج 6، ص 2424
3- المصدر نفسه، ج 6، ص 2424
4- المجلسي، محمد باقر: بحار الأنوار، ج 75، ص 83
5- الريشهري، محمد: ميزان الحكمة، ج 6، ص 2424
6- لقد أشار الإمام علي (عليه السلام) إلى هذا المعنى في أكثر من حديث ومنها قوله «لكل دولة برهة» ينظر، الريشهري، محمد: ميزان الحكمة، ج 6، ص 2424

أحداث التاريخ المتكررة ومحاولة استخلاص القوانین التي تتحكم في سیر حركة التاريخ هبوطاً وصعوداً في الماضي والحاضر والمستقبل.

بناء مؤسسات الدولة:

لقد جاء مفهوم رئيس الدولة في تراث الامام علي الفكري متعدد التسميات، فمنها الامام وولي الأمر والولي والخليفة والراعي وتسميات أخرى تشیر إلى الشعب بمعنى الرعية، كما أن لفظة «الكاتب»(1) في كلمات الامام علي تأتي بمعنى الوزير في الاصطلاح السياسي «لأنه صاحب تدبیر حضرة الأمیر والقائم عنه في غيابه»(2). في حین يقسم الإمام علي مؤسسات الدولة إلى عدة أقسام أهمها «جباية الأموال وجهاد عدوها واستصلاح أهلها وعمارة بلادها»(3).

وهذا ما يسمى في العرف السياسي قديماً وحديثاً بمؤسسات الدولة السيادية والمؤسسات الخدمية.

والذي يعطي انطباعاً بإن سياسة الدولة الإسلامية تحت قيادة الإمام علي لم تكن تصحيحية فحسب، بل كانت تأسيسية عبر بناء مؤسسات الدولة ومراقبتها باستمرار.

مؤسسة الرئاسة:

تعد مؤسسة الرئاسة ركناً مهماً في بناء مؤسسات الدولة الأخرى وتقسم إلى قسمين.

ص: 167


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 110
2- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 221
3- المصدر نفسه، ج 1، ص 200

الأول: يتمثل في الرئيس وما يحمل من صفات وما له من حقوق وعليه من مسؤوليات وعلاقته مع الشعب.

الثاني: يتمثل في مستشاري الرئيس.

صفات الرئيس: يعد الرئيس في قمة الهرم السياسي للحكومة الإسلامية وبيده السلطة العليا في الحكم لذلك لابد أن يتصف بصفات يمتاز بها عن غیره. يحددها الامام علي على النحو الآتي:

1. العلم: إن من صفات الحاكم الناجح هي صفة العلم؛ لأنه يعطيه الأسلوب الامثل في إدارة الدولة وتجنب الوقوع في الأخطاء السياسية ويحفظه من انطلاء الخدع والأباطيل عليه لذلك يقرر الإمام أن يكون الحاكم متصفاً بالعلم. إذ يقول «إن أحق الناس بأمر الحكم أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله»(1).

فبین الإمام منبع الحكم الصحيح الذي يتمثل بالعلم بأمر الله (القرآن والسنة النبوية).

2. الورع والحكم وحسن الرعية: فهذه الصفات تسهم في عملية صنع الحاكم وفق رؤية الإمام علي؛ إذ قال: «لا تصح الإمامة في رجل إلا إذا اجتمعت فيه خلال ثلاث: ورع يعصمه من معاصي الله وحلم يملك به غضبه وحسن الرعية لمن يلي»(2).

فالسلطة تتضمن مغريات متنوعة كالمال والقوة فالورع وازع داخلي جاء نتيجة الإيمان الحقيقي بالله واليوم الآخر؛ لذلك يكون حصنا عن الوقوع في مغريات

ص: 168


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 25
2- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 466

السلطة.

3. والحلم: هو التأني وعدم التسرع في إصدار الأوامر وتنفيذ الأحكام في حالة غضب الحاكم حتى لا يقع مالا يحمد عقباه، وأما حسن الرعية فتعني أن يكون الحاكم بمثابة الأب للرعية فيعفو عن مسيئهم ويقابلهم بالعطف والتسامح وأن لا يحتجب عنهم ويخصص وقتاً للجلوس معهم ويراعي المحتاجین منهم.

4. التواضع: وهو ضد الافتخار والتكبر والغرور ففي نصيحة للإمام حذر فيها الحاكم من الوقوع في فخ التعالي على الناس.

إذ قال «إياك ومساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته فان الله يذل كل جبار ويهین كل مختال»(1). وفي حديث آخر يبین خطر إعجاب الحاكم بنفسه؛ إذ يقول:

«وإياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الإطراء فان ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه يمحق ما يكون من إحسان المحسنين»(2).

5. النزاهة: على الحاكم أن تكون ذمته المالية غیر مختلطة بأموال المسلمين فكثیراً ما حذر الإمام علي من الاستئثار بأموال المسلمين إذ حذر أحد ولاته. قائلاً: «اتق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك لأعذرن إلى الله فيك - لاعاقبك. ولاضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً.

إلا دخل النار»(3).

6. العدل والمساواة: فلابد أن يتصف الحاكم بهذه الصفات وان تتسع دائرة العدل والمساواة عنده لتشمل كل الناس وهذا ما أكد عليه الإمام علي في وصيته لأحد

ص: 169


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 115
2- المصدر نفسه، ج 1، ص 400
3- الشيرازي، محمد: نهج البلاغة، دار العلوم، ط 1، بيروت، 2008 م، ص 405

ولاته «فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء فإنه ليس في الجور عوض من العدل»(1).

في حین يشیر الإمام إلى عوامل سلبية يجب أن لا يتصف بها الحاكم؛ لأنها تسلب الكفاءة منه.

ويصور لنا الإمام في أحد خطبه تلك الصفات بقوله «وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم تهمته(2).

ولا الجاهل فيضلهم بجهله. ولا الجافي فيقطعهم بجفائه(3) ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم(4) ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع(5) ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة))(6).

7. حقوقه: لقد أقر الإسلام حق الحاكم على رعيته مثلا أكد على حق الرعية لديه ويلخص الامام علي أبرز حقوق الحاكم على الرعية في قوله «أما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب والإجابة حین أدعوكم والطاعة حین آمركم»(7).

ص: 170


1- الخوئي حبيب الله: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ج 19، مؤسسة آل البيت، ط 4، طهران، 1979، ص 39
2- تهمته: الإفراط في الشهوة
3- بجفائه: الاحتجاب عن الناس
4- الحائف: الإنسان الظالم في تقسيم الأموال فيفضل قوماً على قوم بغير موجب التفضيل
5- المقاطع: حدود الله
6- التستري، محمد تقي: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، ج 10، مؤسسة آل البيت، ط 1، طهران، 1997، ص 200
7- الحسون، فارس: نهج البلاغة، مركز الابحاث العقائدية، ط 1، قم، 2000، س 38

وقوله «ولي عليكم حق الطاعة وألا تنكصوا عن دعوة ولا تفرطوا في صلاح وان تخوضوا الغمرات إلى الحق»(1) وهذا النص يصور لنا نوعین من حقوق الحاكم على الرعية هما حق النصيحة وحق الطاعة فالإمام يبین مشروعية تقديم النصيحة للحاكم والذي يعد من أوليات حقوق الشعب في المشاركة السياسية. بل نرى أن النصيحة في هذا النص تأخذ بعداً آخر وهو محاسبة الحاكم على أي شيء يثیر الريبة والشك والامام بذلك يعطي شرعية لضبط سلوك الحكام عبر مساءلة الناس له.

ويعد ذلك تأسيساً لمفهوم الحرية الجماعية وتجسيداً لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وينتج عن ذلك تكاملية في الوعي السياسي بین الحاكم والمحكوم. وأما حق الطاعة فتكون على مستويين في نظر الأمام علي. مستوى يختص بطاعة الرعية فطاعة الحاكم تكون واجبة عليهم إذا كانت طاعة واعية عبر التعرف على شخصية الحاكم ووفق المعایير الإسلامية.

وهذا ما أكده الامام علي في كلام له لرعيته إذ قال «فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحق»(2) وقال أيضاً «الحذر الحذر من طاعة ساداتكم الذين تكبروا عن حسبهم وترفعوا فوق نسبهم والقوا الهجينة على ربهم وجاحدوا الله على ما صنع بهم مكايدة لقضائه ومغالبة لآلائه فإنهم قواعد أسس الجاهلية ودعائم أركان الفتنة وسيوف اغترار الجاهلية»(3).

وفي مستوى آخر يختص بالحاكم يشترط الامام علي أن تكون الواجبات

ص: 171


1- الصالح، صبحي: شرح نهج البلاغة، دار الكتاب المصري، ط 4، القاهرة، 2004، ص 410
2- شمس الدين، محمد مهدي: دراسات في نهج البلاغة، المؤسسة الدولية، ط 4، بيروت، 2001 م، ص 143
3- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 121

التي تلقى على الرعية مستطاعة ولا تكون ثقيلة حتى يحصل على طاعة الجميع فهو يقول: «لا تعذبوا خلق الله ولا تكلفوهم فوق طاقتهم»(1) وتأتي الحكمة من مطالبة الإمام بهذه الحقوق للحاكم «لأنها أمور ضرورية لاستمرار الحاكم وصلاحه والتعبیر عن الرغبة المشتركة بین الحاكم والمحكومین في إصلاح ما يفتقر إلى الإصلاح وتقويم ما يحتاج إلى تقويم من شؤون الناس والبلاد»(2) إذ إن استخدام النصيحة من قبل الشعب تجاه الحاكم يرتبط بما تمتلك تلك الجماعة البشرية من وعي سياسي ودراية في حقوقه المشروعة. وكذلك الطاعة فهي واجبة على الرعية وليست مطلقة؛ لأنها تتعلق بالأمور التي تهدف إلى تحقيق مرضاة الله فقط.

88. مسؤولياته: مثلما كانت هنالك حقوق للحاكم كذلك توجد حقوق ومسؤوليات للرعية على الحكام ويمكننا تحديد مسؤوليات الحاكم في رؤية الامام علي بإيجاز.

9. مسؤوليته نحو الدين. فحفاظ الحاكم علی الشريعة الإسلامية وتطبيق بنودها يعد من أهم المسؤوليات الرئيسة التي تناط بالحاكم والهدف الذي يتمحور حوله فيساعده في بناء التفكیر السياسي الصحيح كذلك تقع على الحاكم مسؤولية تنمية الوعي الديني للمجتمع كل ذلك نجده في نص للامام علي حينما قال: «لكم علينا العمل بكتاب الله وسیرة رسوله والقيام بحقه والنعش لسنته»(3) وفي نص آخر للإمام قال فيه: «إنه ليس على الإمام إلا ما حمل من

ص: 172


1- الحائري، جعفر: نهج البلاغة، مؤسسة دار الهجرة، ط 1، بيروت، 1990، ص 337
2- محمد عبده: شرح نهج البلاغة، ج 3، دار المعرفة، ط 1، بيروت، 1993، ص 82
3- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 1، 449

أمر به. الإبلاغ في الموعظة والاجتهاد في النصيحة والأحياء للسنة»(1).

10. مسؤوليته نحو المجتمع(2): يعد المجتمع اللبنة الأساسية لقيام أي دولة ويقاس مدى نجاح الحاكم باهتمامه بالمجتمع، وهذا ما نراه واضحاً في نصوص الامام علي حيث أكد على «مسؤولية الحاكم في الحفاظ على نواة المجتمع ولاسيما الأسرة وتلبية كل متطلباتها التربوية» والتعليمية. وكذلك العناية بكل فئات المجتمع لذلك نجد الامام في نهج البلاغة ولاسيما في عهده لمالك الاشتر يقسم المجتمع إلى طبقات ويبین قيمة كل طبقة وعلاقتها بالأخرى.

إذ يقول: «الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ولا غنى لبعضها عن بعض»(3). ثم يذكر الامام طبقات المجتمع ضمنها فمنها.

1. الجنود.

2. كتاب العامة والخاصة.

3. القضاة.

4. الزراع.

5. التجار.

6. أهل الجزية والخراج.

7. الطبقة السفلى من ذوي الحاجات والمسكنة.

وهذا التقسيم يعتمد معيار الكفاءة المهنية في تصنيف المجتمع وهو يختلف عن

ص: 173


1- مغنية، محمد جواد: في ظلال نهج البلاغة، ج 3، دار العلم، ط 3، بيروت، 1979، ص 414
2- رهبر، محمد تقي: دروس سياسية في نهج البلاغة، دار الولاء، ط 1، بيروت، 2004، ص 179
3- الحائري، جعفر : نهج البلاغة، ص 337

المعيار الطبقي السائد في العالم والذي يجعل من الثروة والفئوية أساساً في النظر إلى المجتمع أما قضية ترتيب الطبقات عند الإمام فكان الأساس فيها أن تكمل كل طبقة الأخرى في تقديم الخدمات الاجتماعية ولا يعني ذلك صراعاً بین الطبقات «فالإنسان الذي يستغل إمكاناته في سبيل خیر المجتمع هو في القمة أما الإنسان الذي يتخذ هذه الإمكانات سبيلاً إلى العبث والإفساد وإضرار المجتمع فذلك شخص يحتل مركزه في الطبقات السفلى»(1).

وإن ترابط فئات المجتمع وحاجة كل منها إلى الأخرى يعبر عن وجود نظام اجتماعي متكامل وهذا ما نجده في أحد فقرات عهد الإمام لمالك الاشتر.

إذ قال: «فالجنود بإذن الله حصون الرعية وزين الولاة وعز الدين وسبل الأمن وليس تقوم الرعية إلا بهم ثم لاقوام للجنود إلا بما يخرج الله بهم من الخراج الذي يقومون به على جهاد عدوهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ويكون من وراء حاجتهم ثم لاقوام لهذين الصنفین إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب لما يحكمون من المعاقد ويجمعون من المنافع ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها ولأقوام لهم جميعاً إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ويقيمونه من أسواقهم»(2) ومن الجدير بالذكر أن هذا العهد كان موجها إلى أهل مصر إلا أنه يحتوي على قواعد وقوانین عامة تتجاوز مرحلية الزمان وصیرورة المكان إلى المستقبل وهو ما أكدته مؤخراً لوائح حقوق الإنسان في الأمم المتحدة (عام 2002 م) كما يتضح لاحقاً في أحد فصول البحث.

ص: 174


1- شمس الدين، محمد مهدي: دراسات في نهج البلاغة، ص 173
2- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 84

مسؤوليته نحو الحكومة:

لقد حدد الامام جملة من المسؤوليات المهمة تقع على عاتق الحاكم السياسي من أبرزها الوحدة السياسية بین كافة أبناء الدولة؛ إذ بیّن الإمام أن من مسؤوليات الحاكم أن (يجمع أمرهم)، وكذلك الحفاظ على الأمن الداخلي والخارجي للدولة وهذا ما أشار له الإمام في نهج البلاغة؛ إذ أوحى الى الولاة (الحكام) بأن «يحفظوا أطرافهم»، وهذا يتطلب أن يتولى هذه المسؤوليات الأمناء الأكفاء وهو ما نص عليه الإمام إذ قال «ثم اختر للحكم بین الناس أفضل رعيتك في نفسك»(1) ولكن الإمام لم يترك الحكام بدون رقيب بل أسس جهاز مراقبة كل تصرفاتهم ومحاسبة المقصرين منهم إذ قال الإمام «ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدده (حث) لهم على استعمال الأمانة وأرفق بالرعية»(2) ونجد في نهج البلاغة كثیراً من النصوص التي توضح الممارسة العملية للامام لمراقبة ومحاسبة ولاته مثل كتابه لشريح القاضي وابن حنيف وغیره من الكتب التي تبین كيفية محاسبة الامام «إن استكمال الصورة بالترابط بین واجبات الحاكم وحقوقه عند الإمام هي السبيل لتطوير المجتمع وتحقيق العدالة»(3) بل ولضمان بقاء الدولة وأفضل حصن للوقوف بوجه الأعداء وهذا ما أكده الإمام إذ قال: «فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه وأدى الوالي إليها حقها علا الحق بينهم وقامت مناهج الدين واعتدلت معالم العدل وجرت على إذلالها

ص: 175


1- التستري، محمد تقي: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، ج 10، ص 201
2- الحسون، فارس: نهج البلاغة،ص 39
3- السعد، غسان: حقوق الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام)، مؤسسة أنصار الله، ط 1، النجف، 2006، ص 229

السنن فصلح بذلك الزمان وطمح في بقاء الدولة ويئست مطامع الأعداء»(1).

مستشارو الرئيس:

لقد تحدث الإمام علي عن قيمة المشاورة بالنسبة للحاكم، لما لها من أهمية في تقويمه والتأثیر في قراراته سلباً وإيجاباً؛ لأنها «مصلحة مشتركة وسبب لتأكيد وتوثيق العلاقة بین القيادة والأمة كما تتجسد هذه المصلحة من طرف الأمة في تربيتها على تحمل المسؤولية والمشاركة في قضاياها واقترابها من الواقع وسعيها إلى معرفة الحقيقة والموقف الصحيح»(2)، وقد صور الامام هذا المعنى في كثیر من أحاديثه حينما قال «لا تكفوا عن مقال بحق أو مشورة بعدل فإني لست بنفسي بفوق أن أخطئ»(3).

وقوله «شاور ذوي العقول تأمن من الزلل والندم»(4).

والمشاورة في نظر الإمام على شكلين:

شورى الأمة: وهو أحد الحقوق التي أقرها الإمام لكل أبناء الأمة الإسلامية في المشاركة السياسية وتوجيه الفكر السياسي الصحيح لدى الحاكم، وهذا ما دعا له الإمام في مشاورة صغیر الأمة وكبيرها؛ إذ قال: «لا يستصغرن عندك الرأي

ص: 176


1- الصالح، صبحي: شرح نهج البلاغة، ص 411
2- السعد، غسان: حقوق الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام)، ص 229
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 473
4- الحائري، جعفر: نهج البلاغة، ص 338

الخطیر إذا أتاك به الرجل الحقیر»(1) وأيضاً قال (إذا احتجت إلى المشاورة في أمر قد طرأ عليك فاستبده ببداية الشبان فإنهم أحدّ أذهاناً وأسرع حدساً ثم رده بعد ذلك إلى رأي الكهول والشيوخ ليستعقبوه ويحسنوا الاختيار له فإن تجربتهم أكثر»(2).

شورى النخبة: وهي أهم الركائز التي يستند إليها الحاكم في إدارة أمور الحكم ويصنف الامام المستشارين بحسب صفاتهم إلى نوعين.

المستشار الطالح: وهو الذي حذر منه الامام وبین خطورته لما يحمل من صفات سيئة تؤدي إلى تخريب مؤسسات الدولة وإفساد العلاقة بین الرئيس والشعب فقال: «إن شر وزرائك من كان لأشرار قبلك وزيراً ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة فإنهم أعوان الأثمة وأخوان الظلمة»(3) والحكمة دعوة الإمام إلى اجتثاث المستشارين السابقين للحاكم السابق خصوصاً إذا كان ظالماً؛ لأنه يحمل الأمراض النفسية نفسها التي كان الظالم يسیر عليها في إدارة دفة الحكم ويضيف الإمام صفات أخلاقية سيئة أخرى يجب أن لا تتوفر في المستشار.

إذ قال «لا تدخل في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ولاجباناً يضعفك عن الأمر ولا حريصاً يزين لك الشدة بالجور فإن البخل والجین والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله»(4).

ص: 177


1- الحائري، جعفر: نهج البلاغة، ص 339
2- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 85
3- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 90
4- بيضون، لبيب؛ تصنيف نهج البلاغة، ص 55

المستشار الصالح: وهو من أوصى الإمام بمشاورته والأخذ برأيه؛ لما يتحلى به من صفات أخلاقية ايجابية إضافة لكونه خبیراً في أمور الحكم ويلخص الامام في نهج البلاغة صفات هذا المستشار في قوله: «خیر ما شاورت ذوي النهى والعلم وأولو التجارب والحزم»(1)، وقال «والصق بأهل الورع والصدق»(2) فهولاء مما ينبغي للحاكم أن يجعلهم بطانة له. إذاً فالمشاورة هي حق طبيعي للأمة والنخبة الصالحة منها لتسديد خطى الحاكم ومساهمة ضرورته لتطوير مؤسسات الدولة.

مؤسسة الدفاع:

اشارة

وهي أحدى المقومات الرئيسية في وجود الدولة ومعيار يقاس به قوتها وضعفها فنجد أن الدول عبر التاريخ السياسي توليها اهتماماً كبیراً وترصد لها ميزانية خاصة وتحاول أن تطور من إمكانياتها. وفي نهج البلاغة وغیره نلمس معالم الفكر العسكري لدى الإمام علي وكيف اهتم بمؤسسة الدفاع جاعلاً منها قمة الهرم في تقسيم طبقات المجتمع؛ لما تقدمه هذه الطبقة من خدمات، فهو يقول:

«فالجنود بإذن الله حصون الرعية وزين الولاة وعز الدين وسبل الأمن وليس تقوم الرعية إلا بهم»(3) ويمكن تحديد الركائز الأساسية لمؤسسة الدفاع في رؤية الإمام علي عبر توضيح الجوانب الآتية.

ص: 178


1- بيضون، لبيب؛ تصنيف نهج البلاغة، ص 63
2- التستري، محمد تقي: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، ج 10، ص 201
3- الحسون، فارس: نهج البلاغة، ص 39
1- الجانب التنظيمي:
اشارة

لقد اهتم الامام علي بإشباع جوانب الحياة الإنسانية بالقيم المثلى محاولاً تنظيمها وصولاً إلى حياة حضارية متماسكة ومن تلك القيم التي حث الامام على الاهتمام بها هي قيمة التنظيم في كل مجالات الحياة وكانت هذه آخر وصاياه إذ قال قبل استشهاده «الله الله في نظم أموركم»(1) ونجد من مصاديق تلك القيمة «التنظيم العسكري» والذي له شواهد كثیرة في نصوص ومواقف الامام علي يصنف الجيش إلى قادة وجنود جاعلاً لكل صنف حقوقاً وواجبات.

- تصنيف المراتب العسكرية:

أ- القادة: وهم قمة الهرم العسكري والمثل الأعلى لبقية الجنود قي الجيش لما يمتازون به من صفات عقائدية ونفسية ونسبية حسب رؤية الامام علي. فسلامة الجانب العقائدي ضرورية بالنسبة للقائد؛ لأنه مسؤول عن ثقافة الجنود وعن رد الشبهات التي يثيرها المعسكر الآخر، وللإعداد لذلك يشترط الإمام وجود هذا الأمر إذ يقول: «اختر من جنودك انصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك»(2).

2- أما الجانب النفسي:

فيؤكد الإمام على ضرورة سيطرة القائد العسكري على نفسه؛ لما يتعرض له من مغريات مادية ومواقف تتطلب الحلم والعفو والحزم، وهو ما عبر عنه الإمام بقوله «دخول من جنودك... وانقاهم جيباً وأفضلهم حلماً ممن يبطن عند

ص: 179


1- الصالح، صبحي: شرح نهج البلاغة، ص 412
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 425

الغضب ويستريح إلى العذر ويرأف بالضعفاء وينبو على الأقوياء وممن لا يثیره العنف ولا يقعد به الضعف»(1) وإلى جانب الصفات السابقة يضيف الإمام صفة أصالة النسب في القائد التي توفر له صفة الهيبة وتضمن له نفوذ الأمر وحصول الطاعة لأن تلك «البيوتات تحتل في نفوس أبناء الشعب وهم الذين يؤخذ منهم عامة الجند مركزاً سامياً حصلت عليه بسبب الخدمات التي تقدمها هذه البيوتات للأمة في الحرب والسلم على السواء»(2) وهذا ما عبر عنه الإمام بقوله «ثم والصق بذوي الإحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة فإنهم جماع من الكرم وشعب من العرف»(3) ثم يوضح الإمام ماهية العلاقة بین القائد وجنوده فيصفها بعلاقة الأبوة، يقول الإمام ناصحاً أحد القادة العسكريين: «ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما ولا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم به ولا تحقرن لطفاً تعاهدتهم به وإن قل فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك»(4) فمراعاة احتياجات الجنود ومشاركتهم بأفراحهم وأحزانهم وتقبل نصائحهم من واجبات القائد، والتي تستنزل طاعة كل المراتب، وهذا مالا نجده في الجيوش العالمية فهم لا يعطون للجيش بكل مكوناته أي قيمة متخذين من العقوبة أساسا لا ستحصال طاعة الجنود.

ب- الجنود: وهم القاعدة الكبیرة من الجيش والتي أعطاها الإمام أهمية كبیرة فهو يصفهم بالحصن المدافع عن الأمة والدين وبهم تستقر الحياة الاجتماعية.

ص: 180


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 255
2- شمس الدين، محمد مهدي: دراسات في نهج البلاغة، ص 182
3- الحائري، جعفر: نهج البلاغة، ص 338
4- المصدر نفسه، ص 339

ويقسم الامام الجنود إلى عدة أقسام كل حسب مهماته. فمنهم من وظيفته القتال وآخر إيصال الرسائل وقسم وظيفتهم الاستطلاع. لذلك يوضح الامام لبعض قادته دور أحد القطعات العسكرية وهم المستطلعون إذ يقول «واعلما أن مقدمة الجيش عيونهم وعيون المقدمة طلائعهم فإذا أنتما خرجتما من بلاد كما فلا تسأما من توجيه الطلائع ومن نفض الشعاب والشجر والحجر في كل جانب كي لا يغتربكم عدو أو يكون لكم كيد»(1) ومن الأمور الأخرى التنظيمية في المجال العسكري لدى الإمام علي تخصيص حوافز للجنود الأبطال المتميزين ومكافئتهم على دورهم البطولي في ساحات الوغى والدفاع والذود عن بيضة الإسلام فقد كان الامام علي يوصي قادته بمنح الامتيازات للجنود؛ إذ يقول: «ثم اعرف لكل أمرئ منهم ما أبلى ولا تضمن بلاء امرئ إلى غیره»(2).

«فهذا النص يفتح أمامنا باباً لقضية مهمة في النظام العسكري وهي قضية توزيع الأوسمة»(3) وهو ما يعرف حديثاً بتقليد أوسمة الشجاعة. وكذلك فقد نظم الإمام مسألة توزيع الغنائم بین الجنود بشكل عادل وحسب أدوارهم وأفعالهم بعد انتهاء المعارك التي كان النصر فيها حليف المسلمين.

- الفكر الاستراتيجي واعداد الخطط العسكرية: لقد كان الامام علي أحد مهندسي الفكر الاسلراتيجي والخطط العسكرية الذين عرفهم التاريخ الإسلامي فقد كانت إسهاماته أشهر من نار على علم لا يمكن للقادة العسكريين أن يمروا عليه مروراً سريعاً إلا ويحتاجون إلى تحليل ودراسة لما فيها من دروس وعبر وعند

ص: 181


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 90
2- الحائري، جعفر: نهج البلاغة، ص 338
3- المدرسي، محمد تقي: الحكم الإسلامي، ص 112

مطالعة أحداث التاريخ نجد نوعین من الخطط العسكرية يوضحها الإمام لنا.

الخطط الدفاعية: فالخليفة عمر بن الخطاب نراه يستنجد بالإمام علي في أحد المواجهات الإسلامية الدفاعية من خطر العدوان الفارسي فيجيبه الامام بخطة عسكرية دقيقة «إن أحببت فاكتب إلى أهل البصرة أن يتفرقوا على ثلاث فرق فرقة تقيم في ديارها فيكونوا حراساً لهم يدفعون عنهم حريمهم، والفرقة الثانية يقيمون في المساجد يعمرونها بالأذان والصلاة لكي لا تبطل الصلاة ويأخذون الجزية من أهل العهد لكي لا ينتفضوا عليك والفرقة الثالثة يسیرون لإخوانهم من أهل الكوفة ويصنع أهل الكوفة كصنع أهل البصرة ثم يجتمعون ويسیرون إلى عدوهم - فلما سمع عمر مقالة علي كرم الله وجهه ومشورته أقبل على الناس وقال ويحكم عجزتم كلكم أن تقولوا كما قال أبو الحسن»(1). الخطط الهجومية: فالإمام في أكثر المعارك الهجومية نراه يوصي قادته بعدة وصايا تسهم في تحقيق النصر منها.

ترتيب القطعات العسكرية: فمن أجل الحفاظ لهيبة الجيش يؤكد الإمام على أن تكون مقدمة القطعات العسكرية مدرعة «قدموا الدروع وأخروا الحاسر»(2).

تنظيم المسیر: ولضمان سرية تقدم الجيش وللحفاظ على الاستقرار النفسي للجنود أثناء المسیر وللابتعاد عن الفوضى يوصي الإمام قائیاً: «غضوا أبصاركم

ص: 182


1- الطبري، أبو جعفر: تاريخ الطبري، ج 3، دار الفكر، القاهرة، 1879، ص 85
2- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 140

وأكثروا من ذكر ربكم وإياكم وكثرة الكلام فإنه فشل»(1) وفي نص آخر يبین الإمام الحكمة من تنظيم مسیر الجيش يقول: «امشوا إلى أعدائكم كدبيب النمل صفاً واحداً فإنه لا يقدر أحد على اقتطاع شيء منهم»(2).

اختيار مكان المعسكر: ويضيف الإمام معلومة أخرى تبین مدى سعة الفكر العسكري لدى الإمام، فهو يدعو إلى الاهتمام بجغرافية المكان الذي يعسكر فيه الجيش قائلاً: «فإذا نزلتم أو نزل بكم فليكن معسكركم في قبل الأشراق أو سفاح الجبال أو أثناء الأنهار كي ما يكون لكم داء ودونكم مرداً»(3).

تنظيم الهجمات: وللحفاظ على استمرار الهجمات على معسكر الأعداء يؤكد الإمام على استبدال المقاتلین وتخصيص وقت للاستراحة لعدم إرهاق الجنود وصيانة السلاح فيوعز الإمام قائلاً: «لا تشدن عليكم كرة بعد كرة ولا جولة بعد حملة وأعطوا السيوف حقوقها ووطنوا للجنوب مصارعها»(4).

3- الجانب العبادي:

إن العبادات لها دور أساسي في صيانة نفسية وحركية المقاتل في ساحات القتال ولذلك نجد الامام يؤكد على تنمية الجانب الروحي من خلال عدة قنوات أهمها:

الصلاة: وهي إحدى القنوات التي يقف عندها المقاتل لينهل من إفاضاتها

ص: 183


1- التستري، محمد تقي: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، ج 10، ص 202
2- المصدر نفسه، ج 10، ص 204
3- التستري، محمد تقي: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، ج 10، ص 204
4- الصالح، صبحي، شرح نهج البلاغة، ص 413

ما ينمي روحه عبر الشعور المستمر بالخضوع لله وما فيه من عدم الاغترار بنشوة النصر، وكذلك تربية المقاتل على التنظيم والالتزام بالوقت؛ لذلك نجد الإمام في كثیر من الشواهد التاريخية يؤكد على ضرورة الاهتمام بالصلاة ولا يجعل أهداف الحروب تؤثر في إقامة الصلاة في وقتها فعندما يسمع هاتفًا للصلاه في إحدى المعارك نجده يقول: «يا مرحباً بالقائلین حقاً - وبالصلاة مرحباً وأهلاً»(1).

الدعاء: فالامام يؤكد على أهمية الدعاء في أثناء الحروب لما له من بعث للطمأنينة والسكينة في نفوس المقاتلین، وهذا ما نجده في صحيفة الامام الدعائية التي تحوي كثیراً من الأدعية الواردة عنه، فالامام يرتب الأدعية حسب أوقات المعركة. فكثیراً ما شاهده أصحابه يدعو في بداية المعارك قائلاً: «اللهم إليك أفضت القلوب ومدت الأعناق وشخصت الإبصار ونقلت الأقدام وأنضيت الأبدان، اللهم قد صرَّح مكنون الشنآن وجاشت مراجل الأضعان اللهم إنا نشكو إليك غيبة ولينا وكثرة عدونا وتشتت أهوائنا»(2) وفي عدة وقائع يراه أصحابه حينما يحمي وطيس المعارك ينتقل الامام إلى القبلة ويتضرع إلى الله بالدعاء.

4- الجانب الإنساني:

إن اهتمام الامام علي بالجانب الإنساني في مسیرة معاركه كان واضحاً من خلال الشواهد التاريخية التي تحدثنا عن عدم اتخاذه لمبدأ الحل العسكري الخيار الوحيد بل كان يعده آخر الوسائل التي يحاول أن يعيد بها الطرف المعادي إلى صوابه لذلك نجد القانون الدولي اليوم يُحرم من يبتدئ القتال بین الأطراف المتنازعة

ص: 184


1- الصالح، صبحي: نهج البلاغة، ص 415
2- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 113

ومن الجوانب الإنسانية الأخرى التي نبه الإمام إلى ضرورة الالتزام بها وهي بمثابة قوانین عسكرية تفرض على الجنود في أوقات الحروب التزام المقاتل بالأخلاق رغم وحشية الطرف المعادي. ومن مصاديق تلك الأخلاقيات العفو عند المقدرة إذ يقول الأمام «إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو شكراً للقدرة عليه»(1) بل نجده يرسم لنا عدة صور إنسانية نستشفها من خلال المواقف التالية.

موقفه من القتلى: ففي معركة الجمل لا نشاهد الامام يفرح بانتصاره على الطرف المعادي، بل نرى ملامح الحزن والأسى عليه وهو يمسح الأتربة عن وجوه القتلى ويتحسر على سوء العاقبة التي لحقت بأعدائه ويبكي عليهم ويترحم لهم «كان علي بین القتلى فجعل كلما مر برجل يعرفه ترحم عليه»(2) وهذه الصورة الإنسانية التي يقدمها لنا الإمام قل نظيرها قديماً وحديثاً في تاريخ الحروب فهو يؤسس لقانون الرحمة بالموتى وعدم التمثيل بهم وحفظ قيمتهم قبل أن تأتي معاهدة جنيف وغيرها فتشرع قانون دولي لمعاملة القتلى.

موقفه من الأسرى: يعرف الأسیر بأنه كل من أخذ من الجيش المعادي سواء كان ينتمي للقوات المسلحة أو من الإداريین، فلا توجد تشريعات تضمن حقوق الأسرى إلى وقت وصول الإسلام الذي شرع حقوقاً لأسرى، والإمام علي جسد تلك التشريعات في معاملته مع الأسرى؛ إذ أكد على عدم قتل الأسرى إن كانوا جرحى أو مرضى أو مدبرين، وقد جمع الامام تلك الحقوق في كلمه واحدة. إذ قال موصياً جنوده: «لا تقتلوا مدبراً ولا تصيبوا معوراً ولا تجهزوا على جريح ولا

ص: 185


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 25
2- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 44

تدخلوا داراً إلا بإذني»(1) وهذا النص يؤكد على عدم تعذيب الأسرى، بل نجد الإمام في نص آخر يشیر إلى ضرورة توفیر المأكل والشرب إلى الأسرى ونرى لذلك مصداقاً تاريخياً في وصية الإمام، لابنه الامام الحسن بالرفق في ابن ملجم الذي قام باغتيال الامام إذ يقول (بحقي عليك يابني إلا ما طيبتم مطعمه ومشربه»(2) وهذه الصورة الإنسانية تعد من أروع صور معاملة الأسیر إنسانياً. كذلك يضيف الامام قاعدة جديدة في قانون معاملة الأسرى وهي سرعة إطلاق سراح الأسیر فعند انتهاء الحرب يأمر الإمام بإطلاق سراح الأسرى بدون شرط أو قيد وهذه المعاملة للإمام تجاه الأسرى أصبحت تشريعات وقوانین لازمة لكل الدول كما نصت عليها الاتفاقيات الدولية في العصر الحديث.

موقفه من المدنيین: وهم الفئة المستضعفة في أوقات الحروب خصوصاً النساء والأطفال. والإمام علي ضمن لهم كافة الحقوق ومنع الأذى عنهم فتراه يوصي أصحابه بعدم اثارة النساء، حتى وان تجاوزن عليهم؛ إذ يقول: «ولا تهيجوا النساء بأذى وان شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم إنا كنا لنؤمر بالكف عنهن وأنهن لمشركات»(3). وأما الشيوخ والعجزة والأطفال فقد نهى الإمام عن التعرض لهم.

قال «ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة»(4).

مؤسسة الداخلية:

ص: 186


1- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة، ص 200
2- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة، ص 125
3- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 85
4- الحائري، جعفر: نهج البلاغة، ص 339

اهتم الامام علي بالحفاظ على الأمن الداخلي للدولة الإسلامية مثلما حافظ على أمنها الخارجي إذ قام بتأسيس بعض الهيئات التي تقوم بهذه المهمة وهي على قسمين.

1. الشرطة: وهو نظام امتاز بتأسيسه الإمام علي عن غیره خلال مدّة حكمه وحث أصحابه على الانتماء إليه. إذ قال «تشرطوا فأنا أشارطكم على الجنة»(1) وأيضاً قال «اكتتبوا في هذه الشرطة»(2) وقد اختار الامام قائداً لذلك النظام يمتاز بصفات معينة، وتولى زمام تلك المسؤولية عدد من أصحاب الإمام منهم «معقل بن قيس الرياحي ومالك بن حبيب اليربوعي والأصبغ بن نباته»(3) وبلغ عدد الشرطة في عهد الامام علي ستة الآلاف رجل»(4)، وحدد الإمام وظيفة الشرطة وهي دعم الحكومة ومساعدتها في بسط الأمن وتنفيذ الأحكام الصادرة عن القضاء بحق المجرمین وإيداعهم بالسجون أو انزال القصاص بهم، ومن الأمثلة على ذلك كتابه إلى قاضيه في الأحواز يأمره بسجن ومعاقبة مدير السوق بسبب خيانته؛ إذ قال الإمام: «فإذا قرأت كتابي هذا فنح ابن هرمة عن السوق وأوقفه للناس واسجنه وناد عليه واكتب إلى أهل عمالك برأيي فيه ولا تأخذك فيه غفلة ولا تفريط فتهلك عند الله عز وجل من ذلك فإذا كان يوم الجمعة فأخرجه من السجن واضربه خمسة وثلاثین سوطاً وطف به في الأسواق فمن أتى عليه بشاهد فحلفه مع شاهده وادفع إليه من مكسبه ما شهد به عليه ومر به إلى السجن مهاناً مقبوضاً واحزم رجليه بحزام ولا

ص: 187


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 285
2- المصدر نفسه، ج 3، ص 285
3- المصدر نفسه، ج 3، ص 286
4- الحسون، فارس: نهج البلاغة، ص 40

تدع أحداً يدخل إليه»(1).

2. الاستخبارات: وهي أحد الأجهزة الأمنية التي اعتمد عليها الامام في مراقبة مؤسسات الدولة الأخرى، وكذلك استطلاع آراء الناس تجاه حكام الأقاليم التابعة للدولة الإسلامية إضافة إلى رصد الظواهر السلبية التي يتعرض لها المجتمع، وقد أطلق الامام على هذا الجهاز الرقابي (العيون) كما هو واضح في وصيته لأحد قادته: «ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون»(2) وهم على قسمين؛ فمنهم من تتعلق وظيفته بالجانب العسكري وهم المخابرات بالمصطلح الحديث، وقسم يرتبط بالجانب المدني وهم الاستخبارات، ويضع الامام مواصفات يجب أن يتحلى بها من ينتمي لهذا الجهاز؛ إذ يقول: «وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء»(3) فكما أن العین لا تخون صاحبها وتعينه في رؤية الحقائق كذلك موظف الاستخبارات يجب أن يكون عيناً للحاكم ينقل الحقائق بصدق ووفاء.. وإن عدم توفر تلك الصفات يؤثر في مصداقية الأخبار، ونتيجة ذلك تكون قرارات الحاكم غیر واقعية وخاطئة؛ لذلك نجد اليوم الدول العالمية كثیراً ما تحاسب أجهزتها الاستخبارية نتيجة إيصال المعلومات الخاطئة؛ بسبب افتقادها صفة الإخلاص، وكثیراً ما أشار الامام في رسائله لولاته بكلمة «بلغني» وهي شاهدٌ على الدور الذي يقوم به «العيون» ومدى مصداقيتهم في نقل المعلومات. ففي رسالة للامام إلى أحد ولاته نبه إلى ضرورة الالتزام بحدود الله؛ إذ قال: «بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك وعصيت إمامك أنك تقسم في المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم

ص: 188


1- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة،ج 3، ص 84
2- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 86
3- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة،ج 3، ص 87

وأريقت عليه دماؤهم فيمن اعتامك من أعراب قومك فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة لئن كان ذلك حقاً لتجدن لك عليّ هوانا ولتخفن عندي ميزاناً فلا تستهن بحق ربك، ولا تصلح دنياك بمحق دنيك فتكون من الخاسرين عملاً))(1).

مؤسسة العدل:

تعد المؤسسة القضائية من المؤسسات التي أولاها الامام علي اهتماماً كبیراً لما لها من دور في فصل النزاعات الاجتماعية وتحقيق العدالة، فالامام يوضح لأحد قضاته أهمية منصب القضاء؛ إذ يقول له: ((يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلا نبي أو وصي أو شقي»(2) فقد كانت تناط مهمة القضاء بالأنبياء والأوصياء كما جاء في قوله تعالى «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ»(3).

مواصفات القاضي:- يؤكد الإمام على ضرورة تمتع القاضي بعدة صفات تؤهله بأن يعتلي هذا المنصب الرفيع ويحكم بالعدل، وهي تقسم إلى صفات علمية وأخلاقية وصحية.

الصفات العلمية:- وتأتي هذه الصفات في قمة الشروط التي يجب أن تتوفر في القاضي فلابد أن يكون عالماً بكتاب الله وسنة نبيه إضافة إلى إحاطته ببعض العلوم الأخرى المساعدة مثل اللغة العربية والمنطق. لذا نجد الامام يؤكد على

ص: 189


1- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 88
2- المصدر نفسه، ج 3، ص 89
3- سورة ص، آية 26

هذه الصفات؛ إذ يقول واصفاً القاضي الجيد: «ممن يعض على العلم بضرس قاطع»(1) وفي نص آخر يسأل الامام أحد القضاة عن علمه بعلوم القرآن لما لها من صلة وأثر على إصدار الأحكام القضائية؛ إذ يقول له: «أتعرف الناسخ والمنسوخ فيجيبه القاضي ب (لا) فيقول له الامام علي «هلكت وأهلكت»(2)، والقاضي بمعرفته العلمية «يترجم للوقائع والأدلة المتحصلة لديه عبر مجريات المرافعة في القضية المثارة في مجلس قضائه إلى مفهوم شرعي يسمح بإدراجها داخل نطاق قاعدة معينة تحدد عبر عملية وصف محصلة تلك الوقائع والأدلة الوصف الشرعي المناسب وصولاً إلى إحقاق الحق وتحقيق العدالة بین المتداعيین في قرار حكمه المسبب»(3).

الصفات الأخلاقية: ويرسم لنا الامام في أحد نصوصه الشريفة صورة للقاضي الناجح، فهو يؤكد على ضرورة اتصاف القاضي بصفات أخلاقية مهمة إذ يقول لأحد ولاته: «ثم اختر للحكم بین الناس. ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزلة ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه ولا تشرف نفسه على طمع ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، أوقفهم في الشبهات، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستمليه إغراء وأولئك قليل»(4). ويتضح من هذا النص أن هنالك سبعة شروط لاختيار القاضي.

ص: 190


1- الحائري، جعفر: نهج البلاغة، ص 340
2- الحائري، جعفر: نهج البلاغة، ص 342
3- الملا، فاضل عباس: الإمام علي (عليه السلام) ومنهجه في القضاء، نشر العتبة العلوية المقدسة، ط 1، النجف، 2010، ص 81
4- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 211

1. أن يتسع صدره لاستيعاب كل مجريات القضايا المطروحة.

2. أن يتمتع بشخصية قوية لا تؤثر فيه سطوة المتخاصمين.

3. أن لا يصر على الخطأ بالحكم بعد اكتشافه.

4. أن لا تغره الأموال والجاه ويبقى ملتزماً بالحق.

5. أن يتحلى بالدقة والدراية وعدم التسرع في اتخاذ القرارات.

6. أن يتصف بالتواضع فيقف عند اشتباه الأمور عليه.

7. الشجاعة والإصرار بالالتزام بالحكم الحق.

الصفات الصحية: فالامام يوصي بأن يكون القاضي أفضل الناس ومنها ضرورة أن يتمتع بسلامة أعضاء البدن والحواس؛ لما له من أثر في الدقة في معاينة الأخطاء في ما يصدره القاضي من قرارات وعدم ثقة المتخاصمین في حالة عدم سلامته البدنية.

شروط القضاء النزيه: ومن خلال استقراء نص الامام علي نجده يضع ضمانات للوصول إلى قضاء نزيه ومستقل ومؤثر وذلك عبر توفیر بعض المتطلبات وهي.

الاكتفاء المادي والمعنوي: ولكي تكون مؤسسة القضاء محصنة من الانحراف والانجراف لابد أن يقوم الحاكم بتأمین الناحية المعيشية للقاضي، ولا يشكو الحاجة إلى أحد وأن يمنحه قدراً أكبر من الاحترام اللائق والمنزلة المناسبة للدور الذي يؤديه في المجتمع، لذلك يوصي الامام علي في عهد لمالك الأشتر بالاهتمام بالقضاة؛ إذ يقول: «ثم أكثر تعاهدك قضاءه وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس وأعطه من المنزلة لديك مالا يطمح فيه غیره من

ص: 191

خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك»(1).

علنية المحاكمة: ويعد الإمام علي أول من جسد هذه العلنية حيث خصص مكان لإجراء المحاكمات في مسجد الكوفة وعرف ب ((دكه القضاء))(2) ووضع لوحة بقرب القاضي كتب عليها «إن الله يأمر بالعدل والإحسان»(3) وتأتي الحكمة من علنية المحاكمات في ما له من أثر في مصداقية القضاء وتحقيق الاطمئنان والثقة بالأحكام الصادرة إضافة إلى «أنها تشكل عاملاً مهماً وفاعلاً في عملية الردع العام»(4).

المساواة بین الخصوم: وهي جزء من مبادئ العدالة في القضاء فلابد للقاضي أن يشيع الثقة بین المتخاصمین عبر المساواة بينهم في كيفية الجلوس في مجلس القضاء وتوزيع حتى نظرات القاضي تجاههم واحترامهم وعدم التمييز بينهم. ففي وصية للإمام لأحد قضاته يعلمه فيها آداب القضاء يقول له: «واسِ بين الناس في وجهك ومجلس عدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك»(5).

وفي حادثة أخرى يعطي الإمام درساً للحكام والقضاة في المساواة بین الخصوم، وقد حصلت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب؛ «إذ خاصم ذمّيّ الامام عليًّا وكان جالساً في مجلس عمر فالتفت عمر إلى علي قائلاً له: يا أبا الحسن قم فاجلس مع خصمك وقد لاحظ عمر تغيیراً في وجه الإمام فسأله الخليفة عمر عن ذلك

ص: 192


1- التستري، محمد تقي: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، ج 10، ص 204
2- التستري، محمد تقي: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، ج 10، ص 211
3- المصدر نفسه، ج 10، ص 213
4- الملا، فاضل عباس: الإمام علي ومنهجه في الفضاء، ص 82
5- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 55

فأجابه علي كنيتني بحضرة خصمي هلا قلت: قم يا علي فاجلس مع خصمك وعندما سمع ذلك عمر قام وقبل عليًّا وقال له بكم هدانا الله وبكم أخرجنا من الظلمة إلى النور»(1).

حرية الدفاع وسعه الصدر: وهي من الحقوق الأساسية التي يؤكد الإمام علي على ضرورة منحها للمتخاصمین، فلابد أن يشعر الأطراف المتخاصمون بحرية الدفاع عن أنفسهم، وأن يكون صوت كل طرف مسموعاً من قبل القاضي؛ لذلك نجد الامام عليًّا يعزل أحد قضاته لعدم التزامه بهذه الوصية، فعندما قام الإمام بعزل القاضي أبا الأسود الدؤلي قال مستفسراً من الامام عن سبب عزله:

«لم عزلتني وما خنت وما جنيت فأجابه الإمام «إني رأيت كلامك يعلو كلام الخصم»(2)، وهذا تأكيد من الإمام على أن يكون القاضي عادلًا في الإنصات أثناء ترافع الخصوم أمامه وكلمة «رأيت كلامك» تدل على أن الإمام كان يراقب كل مؤسسات الدولة من الانحراف. ويضيف الإمام درساً آخر ومبدأ راقياً في أن تكون المؤسسة القضائية أعلى سلطة، إذ نجده يخضع لحكم القضاء الذي حكم لصالح أحد النصارى الذي وجد عنده درعاً مفقوداً للإمام، وهو ما يدل على استقلال القضاء نتيجة الحرية التي منحها الإمام لقضاته.

طرق الإثبات في أثناء عملية التحقيق:

إن المسیرة القضائية للإمام علي وقضاته فية أثناء مدّة حكمه تشیر إلى أنه كان يعتمد على مجموعة من الأدوات الكشفية خلال عملية التحقيق في بعض القضايا

ص: 193


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 55
2- الحائري، جعفر: نهج البلاغة، ص 346

التي تعدّ أدلة للإثبات وهي متنوعة أهمها.

1. الاعتراف: ويعني إقرار المرء بالحقيقة كما هي ومنهج الامام علي من الاعتراف هو اعتماده عليه كدليل للإثبات موجود في كثیر من الحوادث القضائية «مثل اقامة الحد على قوم شربوا الخمر بعد أن تحقق له سلامة اعترافهم ومصداقيته»(1). وفي قضية أخرى وجد أحد الأشخاص حاملاً سكينة قريباً من شخص مقتول وقد قبض عليه الشرطة واقتادوه للإمام وقد أعترف بأنه القاتل، لكن قبل إجراء القصاص عليه تدخل أحد الأشخاص معترفاً بأنه القاتل الحقيقي وأن الشخص الأول بريء وعندما سأل الإمام المتهم الأول أقر بأنه قصاب وأراد أن يقضي حاجته ووجده الشرطة وعندما سمع الامام أقوال المتهمین قام بالعفو عنهما معللاً ذلك بآية قرآنية وهي قوله تعالى (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) ثم قام بدفع دية المجني عليه من بيت المال»(2).

2. الشهود: وهي إحدى وسائل الإثبات عند الامام علي لكن مع الفحص والتمحيص، ويعدُّ الامام أول من فرق بین الشهود عند الاستماع إليهم فأحكامه القضائية تدل على أنه كان يستمع إلى شهادات الشهود كل على انفراد، كي لا تؤثر شهادة الشاهد في مسامع الشاهد الآخر، وهذا ما أشار له الإمام «أنا أول من فرق بین الشهود»(3) «فتفريق الشهود عند الاستماع إلى أقوالهم في المرافعة يكشف للقضاء الحقيقة بشكل أقرب للدقة وأدعى للقناعة

ص: 194


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 200
2- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 200
3- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 221

والاطمئنان»(1).

3. اليمین: وهو القسم بالله أو بأسمائه، ويعد من وسائل إثبات الوقائع وكشف الحقائق وتوجد شواهد كثیرة على اعتماد الامام لهذه الطريقة «فقد اختصم أمامه رجلان حول عائدية دابة وأقام كل منهما البينة بالتكافؤ فحلف أحدهما وأبى الآخر أن يحلف فقضى بها للحالف»(2).

4. الكشف العيني: وهو معاينة القاضي أو من ينوب عنه من أهل الخبرة في تفاصيل القضايا عينياً «ففي إحدى قضايا الإرث حكم الامام علي في رجل وامرأة ماتا في الطاعون على فراش الزوجية وبعد الكشف وجد أن يد ورجل الرجل موضوعتان على جسم الزوجة فقرر جعل المیراث للرجل وقال إنه مات بعدها»(3) وهنالك وسائل أخرى كان يعتمد عليها الامام علي لإثبات الحقائق تدل على سعة أفق الإمام وعظمة فراسته ودقة تشخيصه في كلام المتخاصمین. «فقد أنكرت إحدى النساء عائدية أحد إبنائها معززة قولها بشهادة إخوتها وشهادة أربعین رجلاً، وعندما سألها الإمام بأن يعقد قرانها عليه انفجرت بالبكاء معترفة بأنه ابنها وان أخوتها من دعوها لإنكاره»(4) وتضاف إلى سلسلة الانجازات القضائية التي تحقق للعدالة بین الناس «تأسيس الامام لبيت القصص»(5) وهو أشبه بصندوق للشكاوى التي ترفع للامام علي من الأحكام الخاطئة التي يقوم بها بعض الولاة، وكذلك إحيائه

ص: 195


1- التستري، بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، ج 10، ص 211
2- التستري، بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، ج 10، ص 213
3- المصدر نفسه، ج 10، ص 220
4- ابن أبي الحديد: شرح البلاغة، ج 1، ص 405
5- ابن أبي الحديد: شرح البلاغة، ج 5، ص 53

للجنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي كانت تعرف آنذاك بالحسبة تقوم بمراقبة الجرائم الاقتصادية ومعالجة الظواهر السلبية للمجتمع.

مؤسسة المالية:

إن مؤسسة المالية هي العمود الفقري الذي تستند إليه مؤسسات الدولة فلا وجود للدولة بدون سياسة اقتصادية مالية ناجحة، لذا نجد كثيراً من الدول تنهار اليوم نتيجة حدوث خلل في الميزانية المالية، ويأتي هذا العجز المالي نتيجة أمرين؛ إما لقلة الموارد المالية أو سوء تطوير تلك الموارد. لذلك نجد الإسلام قد اهتم باستحداث موارد جديدة كانت معطلة في أيام الجاهلية مثل الزراعة والصناعة والتجارة؛ لان قيمة العمل كانت تعدّ عاراً. والإسلام جاء واهتم بالعمل وهذا نجده بشكل ملحوظ في نصوص القرآن الكريم وأحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله) كما أن الإمام علي سار على هذا النهج بل عمل على تنمية الموارد المالية.

وقبل أن نتحدث عن وسائل التطوير لابد من توضيح نوعية الموارد حتى يتسنى لنا معرفة كيفية تكوين الميزانية المالية للدولة التي كانت تعرف (ببيت المال).

الموارد المالية:

كانت موارد بيت المال في خلافة الإمام علي متنوعة وهي على النحو الآتي.

1. الخراج: وهو المورد الأساسي للدولة الإسلامية؛ لأنه ضريبة تؤخذ من كل فلاح يمتلك أرضا مزروعة كما أكد ذلك الإمام علي في وصيته لمالك الاشتر؛ إذ قال: «الناس كلهم عيال على الخراج وأهله»(1)، وقد سعى الإمام علي

ص: 196


1- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 88

إلى تطوير مورد الخراج عبر الاهتمام بالإصلاح الزراعي، وهذا ما عبر عنه الإمام بالأعمال؛ إذ قال لأحد ولاته: «وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغیر عمارة أضرب البلاد وأهلك العباد»(1)، ويكون الإمام بذلك قد أسس لقاعدة اقتصادية رائعة في مجال تطوير وسائل الإنتاج الزراعي تتلخص في إعانة الفلاحین على زراعة أراضيهم وتوفیر قنوات الري ليزداد إنتاجهم وينتج عن ذلك زيادة في الخراج «فالاهتمام بالإنتاج هو عصب الاقتصاد والسبيل إلى الثروة فالإنتاج سيزيد من ثروة الفلاحین وسيمكنهم من دفع الخراج وكلما زاد الإنتاج ازداد الخراج»(2) ويحدد الامام الأسلوب الأمثل في استحصال أموال الخراج عبر أخذ الأموال منهم برضاهم وقبول عذرهم في حال عدم استطاعتهم دفع الخراج؛ إذ يقول: «وإذا شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع بشرب أو بالة أو حالة أرض اعتمرها غرق أوبها عطش خفضت عنهم بما ترجو أن يصلح أمرهم»(3). فالإمام هنا يستثني بعض الحالات التي سقط بها الخراج أو يخفف عن المزارعین من بدار الأرض نتيجة قلة المياه أو غرقها أو إصابتها بالآفات الزراعية.

2. الزكاة: وهي فريضة وركن من أركان الإسلام قال تعالى «وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»(4) ومن الموارد الأساسية لبيت المال وتؤخذ من أصحاب الأموال والإبل والبقر والغنم والحنطة والشعير

ص: 197


1- عبده، محمد: نهج البلاغة،ج 3، ص 87
2- القزويني، محسن باقر: علي بن أبي طالب رجل المعارضة والدولة، دار العلوم، ط 1، بيروت، 2004
3- الصالح، صبحي: شرح نهج البلاغة، ص 415
4- سورة النور، أية 56

والتمر والزبيب وبین الإمام علی أهمية هذه الفريضة بالنسبة للمنفقین بقوله:

«إن الزكاة جعلت مع الصلاة قربانا لأهل الإسلام فما أعطاها طيب النفس بها فإنها تجعل له كفارة ومن النار حجازاً ووقاية»(1). وقد حذر الإمام من الآثار السيئة التي تترتب على منع الزكاة، إذ يقول: «إذا منعت الزكاة منعت الأرض بركاتها من الزرع والثمار والمعادن كلها»(2). وأوصى الإمام جباة الزكاة بعدة وصايا أثناء عملية استحصال الأموال والتي تعد من آداب أخذ الزكاة، بأن يذهبوا بسكينة ووقار ويبتدروا صاحب الزكاة بالسلام وان يطلبوا منه بدون أخافته بشرط أن يكون راضياً غیر مكره، ولا يؤخذ منه إلا حق الله في ماله.

3. موارد أخرى: وهناك موارد أخرى تعد من ضمن مدخولات الدولة المالية من أبرزها ضريبة الجزية؛ وهي ضريبة تؤخذ من غیر المسلمين لتحفظ بها دماؤهم وتصان بها حقوقهم وحرماتهم، «فالمسلمون والذميون في نظر الإسلام رعية واحدة ويتمتعون بحقوق واحدة، ومنتفعون بمصالح الدولة العامة بنسبة واحدة ومن هنا فرضت الجزية على أهل الذمة مقابل فرض الزكاة على المسلمين، وكانت الزكاة معنى تعبديًّا بينما الجزية معنى قانوني دولي»(3) واستثنى الإمام من الجزية بعض الحالات الإنسانية من المساكين وأصحاب الحاجات الخاصة. ومن الموارد الأخرى لبيت المال «أموال المواريث» وهي «ما يؤخذ من مواريث من يموت ولا يخلف وارثاً لماله فهذه وجوه الأموال»(4).

ص: 198


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 11
2- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 55
3- الصالح، صبحي: شرح نهج البلاغة، ص 416
4- المصدر نفسه، ص 417

وكذلك اهتم الامام بالموارد التي تعدّ مشتركة بین الناس والدولة مثل التجارة والصناعة والزراعة، فقد أوصى الأمام أحد ولاته بذلك «استوصِ بالتجار وذوي الصناعات وأوصِ بهم خیراً فأنهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح»(1) ويصب هذا النص في مصلحه أصحاب المهن التجارية والصناعية. بل سعى الإمام إلى تشجيع وتطوير هذه المهن عبر إعطاء الحرية الكاملة لهم بشرط أن لا يتجاوزوا على حدود الله. لذلك قام الإمام بمراقبة العملية التجارية والصناعية وحماية المستهلك من جشع التجار عبر رصد أي ظاهرة سلبية «كالاحتكار». إذ قال في أحد وصاياه الذهبية لمالك الأشتر «فامنع من الاحتكار فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) منع منه وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقین من البائع والمبتاع فمن قارف حكره بعد نهيك إياه فنكل به وعاقبة في غیر إسراف»(2) وهذا النص يضع فيه الامام أسساً للتعامل التجاري بان يكون البيع وفق مبدأ السماحة بین البائع والمشتري وبأسعار معتدلة مما يؤدي إلى آثار ايجابية على السياسية الاقتصادية للدولة والمجتمع كذلك منع الامام كل المنافع التي يقترفها التجار بطرق ملتوية كالربا إذ قال «كل قرض جد منفعة فهو ربا»(3) ونهى الإمام عن أخذ العشر وهو الضريبة المأخوذة من القوافل التجارية أثناء مرورها بالدولة الإسلامية مما يسهم في انخفاض الأسعار. إذ قال لأحد أصحابه «يا نوف إياك أن تكون عشاراً»(4). ودعا الامام التجار إلى معرفة الأحكام الشرعية حتى لا يقعوا في المهالك. إذ قال «من اتجر بغیر فقه فقد

ص: 199


1- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 88
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 400
3- المصدر نفسه، ج 3، ص 51
4- المصدر نفسه، ج 3، ص 63

ارتطم بالربا»(1) وهنا يربط الامام بین الدين والأخلاق بمهنة التجارة.

أسس توزيع الأموال:

اعتمد الامام في عملية توزيع الموازنة المالية للدولة على بعض الأسس نذكر أهمها.

1. المساواة في العطاء: إن سياسة المساواة في العطاء هي من الأسس التي أكد عليها الإمام في نهجه المالي. إذ قام بإلغاء كل أشكال التمييز وكما يلي:- أ. إلغاء التمييز على أساس الأسبقية في الإسلام: إذ قال: «يا أيها الناس المال مال الله نقسمه بينكم بالسوية وليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى، للمتقین عند الله الجزاء وأفضل الثواب»(2).

ب. إلغاء التمييز على أساس القرابة: وقصة أخيه عقيل بن أبي طالب خیر شاهد على ذلك؛ إذ جاء يستميله ليزيد في عطائه لكن الامام رفض ولم يعطِه شيئاً.

كذلك حينما جاءه ابن أخيه عبد الله بن جعفر يريد الزيادة وإعطائه معونة مالية فأجابة الامام بالرفض قائلاً: «لا والله ما أجد لك شيئاً أن تأمر عمك أن يسرق فيعطيك»(3).

ج. إلغاء التمييز الطبقي: فقد رفض الامام كل الوفود التي أرادت أن يستمر هذا التمييز الذي كان سائداً قبل خلافته؛ إذ جاءته طائفة من أصحابه وأرادوا منه أن يفضل الأشراف العرب من قريش على الموالي والعجم في عملية توزيع الأموال

ص: 200


1- عبده، محمد، شرح، نهج البلاغة، ج 3، ص 90
2- التستري، محمد تقي، بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، ج 10، ص 204
3- التستري، محمد تقي، بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، ج 10، ص 222

وضمنوا نصرتهم له في حربه مع معاوية فرفض قائلاً «أتأمروني أن أطلب النصر بالحور فيمن وليت عليهم»(1). وفي جانب آخر فضل الامام بعض المجاهدين على بعض الصحابة الذين لم يؤازروا المسلمين وهذا يعد اسمى صور العدالة فعندما جاءه أسامة بن زيد طالباً زيادة في العطاء قال له «إن هذا المال لمن جاهد عليه ولكن لي مالاً بالمدينة فاصب منه ما شئت»(2) فالإمام أعطاه من ماله الخاص ولم يعطيه من أموال المجاهدين.

إن المساواة والعدالة في العطاء لم يرتضِها بعض الأصحاب لذلك ارتموا في أحضان أعداء الامام ليشكلوا جيشاً من المنحرفین شل حكومة الامام بكثرة الحروب التي فرضت عليه.

2. التعجيل في العطاء: فعندما جاء الإمام مالٌ في وقت متأخر طلب منه عماله في بيت المال أن يؤخروا التوزيع لليوم التالي فأجابهم بالرفض قائلاً: «لا تؤخروه حتى تقسموه»(3)،. واليوم نرى عكس هذه التعاليم؛ إذ يؤخر إقرار الموازنة المالية التي يرتبط بها قضاء حوائج الناس لعدم قبول بعض المسؤولين الذين لا تصب الموازنة في مصالحهم.

3. ضمان حقوق ذوي الحاجات الخاصة: اهتم الامام بهذه الشريحة من المجتمع مخصصاً لهم حقاً من بيت المال وهو جزء من التعامل الرحيم الذي أقره الإمام. فعندما رأى نصرانياً مكفوفاً قال لأصحابه «استعملتموه حتى إذا

ص: 201


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 157
2- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 160
3- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 90

كبر وعجز منعتموه. أنفقوا عليه من بيت المال»(1) ويكون الامام بذلك قد أسس لما يعرف اليوم بالتقاعد لمن کبر في السن إزاء ما قدمه من خدمات للدولة وكذلك يؤسس الإمام في هذا النص لمبدأ التضامن الاجتماعي. أما مجالات توزيع الأموال فقد أوصى الإمام ولاته بإسباغ العطاء وزيادته لبعض المسؤولين في الدولة حتى تصان مؤسساتهم من الانحراف والانجراف وراء الماديات خصوصاً الولاة والقضاة والجنود. وأيضاً اهتم الإمام بالمسلمين والمحتاجین واليتامى وأصحاب الأمراض والعاهات وجعل لهم حقاً في بيت المال؛ لأنهم غیر قادرين على العمل؛ إذ قال: «فهولاء من بین الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم»(2).

مؤسسة الثقافة:

تعدّ مؤسسة الثقافة من مؤسسات الدولة المهمة؛ لأنها تهدف بناء الإنسان الصالح الذي تناط به إدارة كل مجالات الحياة وهذا الهدف هو من صميم أهداف الأنبياء، فالقرآن يحدد الغاية من بعث الأنبياء «وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِینٍ»(3) ويمكن أن نتعرف على بعض ملامح العملية الثقافية للإمام والتي مرت بمستويين هما:-

المستوى الأول:

التوعية: كان الدور التوعوي للامام علي مهماً في عملية تحصین الإنسان المسلم في بداية الدعوة الإسلامية وبعد وفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وقد

ص: 202


1- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 88
2- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 90
3- سورة آل عمران، أية 164

نال هذا الدور عدة شهادات من قبل الخلفاء، وفي مدّة خلافته تجلى بوضوح هذا الدور فقد ركز على إعادة صياغة ثقافة المسلمين ويتضح ذلك عبر اهتمامه بجانيین هما :- اولاً / الجانب الفكري: عبر توضيح العقائد الإسلامية الأصيلة وغرسها من جديد بعد أن ظهرت بعض التيارات الفكرية المنحرفة في عهد الامام؛ لذلك نجده في بداية أكثر خطبه يركز على العقائد الحقة خصوصاً مبدأ التوحيد بالله وبيان صفاته وأفعاله واستكشاف أدوار الأنبياء والأوصياء التي ترتبط بمواقف الإنسان تجاه ما يجري من أحداث مصيرية. وكذلك نرى الامام يقف متصدياً للثقافات الدخيلة من خلال حضوره المجالس التي تثار بها الشبهات.

ففي مجلس الخلافة الإسلامية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب نجد كعب الأحبار يدخل على عقائد المسلمين بعض الروايات الغريبة فيقول: «كان في التوراة قديماً وقبل العرش على صخرة بيت المقدس في الهواء ثم تفل فكانت البحار عندها قام الامام علي ونفض ثيابه ثم قال الصخرة لا تجوز أقطار الله ولو كانت الصخرة قديمة لكانت معه وإذا كانت تفلته فكيف تحويه الصخرة»(1) كما انتقد الإمام القدرية والجبرية وأصحاب الرأي والقياس الذين قال فيهم «من نصب للقياس لم يزل دهره في التباس»(2).

ثانياً / الجانب السلوكي: فقد وضح الإمام المفاهيم السلوكية الإسلامية الصحيحة بعيداً عن الإفراط والتفريط. فالسلوك معناه العلاقة بالله تعالى والإمام يبین ركائز هذه العلاقة. فهي لا تعني الاعتزال عن الناس والاكتفاء بالأوراد والرياضيات

ص: 203


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 351
2- الحائري، جعفر: نهج البلاغة، ص 343

بل تعني الشعور الواقعي بالله تعالى في كل مكان واتقاء كل ما يجلب بغضه واستحضار كل ما يقرب من محبته، لذلك نجده يخصص خطبة طويلة يبین بها صفات الإنسان السالك المتقي وكيفية علاقته بالله فيقول «فالمتقون هم أهل الفضائل منطقهم الصواب وملبسهم الاقتصاد ومشيهم التواضع. غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم. ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم. نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء ولولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عین شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب.....»(1).

والإمام في هذين الجانبین أراد أن يصون أصول العقيدة الإسلامية وفروعها من الانحراف وإقامة حدود الإسلام بصورة صحيحة.

المستوى الثاني:

الإعداد: بعد أن قام الإمام بالتوعية العامة لإبناء الأمة الإسلامية اختار بعض الأشخاص الذين يتميزون عن غيرهم بوضوح علاقات الفهم والتعلم بدأ بإعدادهم كي يكونوا صناعاً للحضارة الإسلامية عبر اعلاء بعض العلوم المهمة ومن أبرز تلك الشخصيات التي قام بإعدادها الإمام أبو الأسود الدؤلي مؤسس علم النحو وميثم التمار وكميل بن زياد وحجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي الذي قال لأمیر المؤمنین: «فو الله لو كلّفت نقل الجبال الرواسي ونزح البحار الطوامي أبداً حتى يأتي علي يومي في شيء أوهن به عدوك وأقوي به وليك ويعللي به كعبك ويفلح الله علي به حجتك ما ظننت أني أديت كل الذي علي من حقك فقال الإمام علي له اللهم نور قلبه باليقین واهده الصراط المستقيم

ص: 204


1- الحائري، جعفر: نهج البلاغة، ص 225

ليت في جندي مائة مثلك»(1). وبذلك يكون الإمام قطف ثمار الجهد الثقافي الذي بذله من أجل أن ينتج جيلاً يقف مع الحق ويحمل أهداف الإسلام في كل أصقاع الأرض.

دوائر الوعي الثقافي: جاء الخطاب الثقافي للامام متنوعاً نتيجة لتعدد دوائر الوعي ومعرفة تلك المحطات ذخیرة ثمينة بالمعارف. لابد للدارسین أن يمروا عليها للاستفادة منها ويمكن تحديد أهم تلك الدوائر كما يلي:

1. المسجد: وهو الدائرة الأولى للعمل الثقافي للامام «يعد مسجد الكوفة المقر المعنوي الذي تهوي إليه الأفئدة وتقام فيه الصلاة»(2) وكان أمیر المؤمنین يلقي أكثر خطبه فيه خصوصاً في خطبة صلاة الجمعة، ومن أشهر خطبه الغراء والناصعة والفاضحة والافتخار»(3) وتعد هذه الخطب رصيداً ثقافياً يحتوي على كثیر من العلوم يعرضها بأجمل الأساليب البلاغية المؤثرة في الناس.

الأسواق: وهي أحد المحافل العامة التي تضج بحركة الناس والتي كان الإمام يمارس بها النصح والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ كان يقف عند كل أصحاب مهنة ويقدم لهم التوجيه الثقافي المناسب لهم فكان يقول لأصحاب الإبل: «إياكم والأيمان (القسم) فإن اليمین ينفق السلعة ثم

ص: 205


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 511
2- العبادي، محمد: الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة الأمة، مؤسسة الثقلين، ط 1، 2008، بيروت، ص 42
3- التستري، محمد تقي: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، ج 10، ص 223

يمحق»(1) ثم يقول لأصحاب التمر: «أطعموا الطعام يربُ كسبكم»(2) ثم يمر على أصحاب السمك ويقول لهم: «لا تبيعوا الجري ولا الطافي»(3) وينبه القصابین وينهاهم عن نفخ اللحم، وكان الإمام يؤدي كل هذه الإرشادات بتواضع وبدون أي حماية، وبذلك يكون قد جسد تلك الثقافة عملياً.

2. التراث الخطي: ويحتوي هذا التراث على كمية كبیرة من الكتب والوصايا والرسائل التي خاطب بها الأصدقاء والأعداء وصلت إلى ثمان وسبعين مخطوطاً في مدة أربع سنوات و ((أن هذه الكتب والوصايا لها تأثیرات ثقافية وتعدّ أحد الأطر الثقافية التي توضح ما عند الأطراف من مواقف وتترك أثرها على الناس»(4)، ويضاف إلى دوائر الوعي الثقافي المناسبات العامة السنوية مثل شهر رمضان والحج والأعياد وغيرها من العبادات والشعائر الدينية التي حاول الإمام إحياءها واستثمار أوقاتها في تنمية الوعي الثقافي لأبناء الأمة الإسلامية.

مؤسسة الخارجية:

تعد السياسة الخارجية للدولة المرآة التي تعكس شخصية الشعوب وثقافتها لذلك كانت سياسة الامام الخارجية تقوم على مبادئ وقواعد رصينة فهو «مثلما كان رجلاً للحرب عندما يكون السيف الوسيلة الوحيدة لإزالة الفساد وإعادة

ص: 206


1- التستري، محمد تقي: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، ج 10، ص 211
2- المصدر نفسه ج 10، ص 213
3- عبده، محمد، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 84
4- العبادي، محمد، الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة الأمة، ص 40

الحق إلى نصابه كان أيضا رجلاً للسلام»(1)، والنصوص الواردة عنه ترسم لنا أسمى نموذج لرجل السلام وترك الاقتتال. فالامام يدعو ولاته إلى ضرورة عقد الصلح مع الأعداء إذ يقول: «ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه رضا فإن في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك وأمنا لبلادك»(2) ويبین الامام في هذا النص فوائد السلام بثلاث نقاط.

1. راحة لجنودك: فكثرة الحروب تفترس الشعوب وتزيد من عدد الأيتام والامام كان يضع كل هذه الصور أمامه فيحاول أن يبتعد عن الحروب ويتجنبها وينهى ولاته ببداية القتال لعل الطرف المعادي يرتدع فيحافظ على جنوده.

2. راحة للحاكم: فعندما ينشغل الحاكم بالحروب يكون قلقاً ولا يصبح أداؤه في بقية مؤسسات الدولة جيداً لذلك يدعو الامام إلى قبول أي بادرة صلح ليس خوفاً بل لبداية العمل الحقيقي من خدمة الناس عبر توفیر الخدمات لهم.

3. وأمنًا للبلاد: إن انعدام الأمن نتيجة الغارات التي يشنها الاعداء على حدود الدول وكثرة الاغتيالات. والتصدي المستمر لكل ذلك يرهق الدول «ويشل برامجها في التنمية والتوعية وتنهار الخطط الاقتصادية وتتوقف التجارة»(3) وفي النتيجة تتوقف عجلة التقدم لبناء حضارة رصينة لا تزلزلها العواصف مهما اشتدت.

أسس الاتفاقيات والمعاهدات:

يعتقد العالم اليوم أن معاهدة لاهاي هي أرقى الاتفاقيات العالمية؛ لأنها أسست

ص: 207


1- الفكيكي، توفيق: الراعي والرعية، دار الحديد، ط 1، قم، 1429 ه، ص 175
2- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 88
3- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 251

لتعامل الشعوب مع بعضها إلا أن الواقع التاريخي يثبت لنا أن الإسلام بتعاليمه التي أوصلها لنا الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) وأصحابه كان سباقاً في إرساء القواعد المهمة التي تبنى عليها العهود والمواثيق خصوصاً أمیر المؤمنین الذي ترك لنا تراثاً زاخراً بالوصايا المفيدة في هذا الشأن. ففي إحدى وصاياه يقول: «وان عقدت بينك وبین عدوك عقدة أو البسته منك ذمة فحط عدوك بالوفاء وارع ذمتك بالأمانة»(1) فالامام يضع هنا قيمة الوفاء ثابتاً أساسياً للتعامل مع الدول الأخرى؛ لأن الوفاء يخلق الاطمئنان والاستقرار في العلاقات الخارجية «فالذمة يجب أن تركن وتحفظ إلى أن تعطى حقها والوفاء بالعقود والعهود أمر أخلاقي مطلوب حتى في الموقف من العدو»(2) وبهذا يكون الإمام قد أسس مؤسسة الخارجية على قيم السلام وقوة الكلمة بعيداً عن فرض الآراء بمنطق القوة تاركاً العنف لترتاح البلاد والعباد. ومن هنا يمكننا القول: إن الإمام كانت لديه رؤية منهجية متكاملة وإحاطة بكل ما يخص مفاصل مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، فالإمام يؤكد علی أن العلاقة التي تجمع البناء الفوقي للدولة والبنية التحتية (المجتمع) تؤثر سلباً وإيجابيا على استقلال وفاعلية مؤسسات الدولة.

فالحاكم وما يحمل من فكر سياسي يعد الواسطة التي تربط تلك العلاقة برابطة قيمية فيكون بذلك عاملاً أساسياً في قوة أو ضعف الدولة وتماسكها عبر تعاطيه وتفاعله والقيم العليا الحقة. ولكن يرافق تأسيس كل دولة بمختلف مؤسساتها ومهما كان نظامها السياسي يتصف بالظلم أو العدل يرافقه ظهور كيان سياسي آخر له حقوق ومسؤوليات يعرف بالمعارضة.

ص: 208


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 65
2- المدرسي، محمد تقي: الحكم الإسلامي، ص 244

المبحث الثاني: المعارضة السياسية في فكر الإمام علي عليه السلام

* - المعارضة السياسية.

* - عوامل قيام المعارضة السياسية.

* - متطلبات المعارضة.

* - مستويات المعارضة.

* - أشكال المعارضة.

* - طرق مواجهة المعارضة.

* - حقوق المعارضة.

ص: 209

ص: 210

المبحث الثاني المعارضة السياسية في فكر الإمام علي - عليه السلام - .

اشارة

إن المعارضة السياسية عملية تقويمية لمسار السلطة الحاكمة في إدارة الدولة.

وتقوم بهذه العملية جماعة من الشعب تحمل فكراً سياسياً بديلاً وبصورة جماعية تعلن عن موقفها الرافض بشكل منظم ولا تتخذ من السرية والفردية منهجاً لها، وتهدف المعارضة السياسية أحياناً إلى إسقاط السلطة السياسية.

والمعارضة واجب شرعي وحق أكدت عليه الرسالات السماوية في الكتب المنزلة ولاسيما القرآن الكريم الذي نجد فيه وصفاً لحركة الأنبياء الإصلاحية وأساليب معارضتهم للطواغيت؛ إذ تنوعت عملية رفضهم حسب ظروف المرحلة.

والرسول الخاتم كان قدوة للأحرار في رفض الباطل فمنذ بداية الدعوة الإسلامية إلى أيام وفاته كان يؤسس لمبدأ المعارضة عبر مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتأثر به كثیر من الصحابة ولاسيما الامام علي الذي بین أهمية دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعده من أعمدة الايمان إذ قال: «والجهاد من دعائم الإيمان وهو على أربع شعب: على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصدق في المواطن وشنآن الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمن، ومن نهى عن المنكر أرغم أنوف الكافرين، ومن صدق في المواطن قضى ما عليه. ومن

ص: 211

شنى الفاسقين وغضب لله غضب الله له وأرضاه يوم القيامة»(1) وضح أيضاً النتائج السلبية المترتبة نتيجة ترك هذه الفريضة المهمة.

فقال: «إنما أهلك الله الأمم السابقة قبلكم بتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(2). ومن خلال متابعة التراث الفكري والعملي للامام علي نجد أنه أسس مبادئ للمعارضة الموجهة أو في حالة مواجهة المعارضة من قبل السلطة. وهذا ما سوف نتناوله خلال ثنايا البحث

عوامل قيام المعارضة:

إن العوامل التي تؤدي إلى قيام المعارضة وتعطيها الحق في الوقوف بوجه السلطة الحاكمة هي ظهور الانحراف في سياسة الحاكم ومؤسسات الدولة ولعل أخطرها ما يلي:

1. التعدي على تعاليم الدين: لقد عد الامام علي تجاوز الحاكم على التعاليم الإسلامية مسوغاً شرعياً لقيام المعارضة فعندما يقوم الحاكم بمخالفة تعاليم الإسلام الموجودة في كتاب الله وسنة نبيه وآله ويقدِّم أهواءه عليها تجب معارضته. وهذا ما أكده الامام علي لمعارضيه طلحة والزبیر حينما سألهما عن سبب خروجهما عليه اذ قال: «فليس لكما غیر ما رضيتما به الا ان تخرجا مما بويعت عليه بحرف فإن كنت أحدثت حدثاً فسموه لي»(3) ويقصد الإمام علي بالحدث هنا تغیير وحرف التعاليم الإلهية عن مسارها الحقيقي. لذلك نجد

ص: 212


1- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 87
2- المصدر نفسه، ج 3، ص 88
3- الحسون، فارس، ص 45

الإمام ينمي شعور أصحابه لمجاهدة ومعارضة من يحدثون في دين الله فيقول لهم: «إن جهاد من حرف عن الحق رغبة عنه وهب في نعاس الضلال اختياراً له لفريضة على العارفین. إن الله يرضى عمن أرضاه وبسخط على من عصاه قد هممنا بالمسیر إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغیر ما أنزل الله»(1).

2. انحراف سياسة الحاكم: يقاس فشل الحكومة بسوء إدارة مؤسسات الدولة فعندما يكون الحاكم ضعيفاً تهزمه ابسط الأزمات وهذا ما تضمنه الحوار الذي دار بین الإمام علي وطلحة والزبیر؛ إذ حدد الامام لهما الأسباب التي تعطيهم الشرعية لمعارضته «أوقع حكم أو حق لأحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت عنه قالوا معاذ الله»(2)، ومما يضعف الحاكم ويجعل ادارته سيئة ظهور الخلل في ميزان العدالة الذي يؤدي إلى انحراف سياسته؛ لأنه سيتخذ الموقف والأسلوب الخاطئ فتسعى بذلك المعارضة لإسقاطه بالعنف، وهذا ما حذر منه الإمام أحد ولاته إذ قال: «استعمل العدل واحذر العسف والحيف فإن العسف يعود بالجلاء، والحيف يدعو إلى السيف»(3)، فالإمام علي في هذا النص يدعو إلى الابتعاد عن الظلم والاستبداد؛ لأنهما معول لهدم العلاقة بین الحاكم والمحكوم، لذلك نجد الامام في نص آخر يدفع المؤمنین لمقاومة الظلم أينا كان إذ قال: «سیروا إلى قوم يقاتلونكم كي ما يكونوا في الأرض جبارين ملوكاً يتخذهم المؤمنون أرباباً ويتخذون عباد الله خولاً»(4).

3. الفساد المالي: يضاف إلى قائمة العوامل التي تعطي شرعية للمعارضة في القيام

ص: 213


1- الحسون، فارس، نهج البلاغة، ص 50
2- الحسون، فارس، ص 45
3- الصالح، صبحي، شرح نهج البلاغة، ص 412
4- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 197

على الحاكم ما يمارسه من فساد مالي، والذي يعد من علامات الانحراف الأخلاقي للحاكم، وهذا ما وضحه الامام علي لأبناء شعبه عند تسلمه للخلافة إذ قال: «دخلت بلادكم بشمالي هذه ورحلي وراحلتي هاهية فإن أنا خرجت من بلادكم بغیر ما دخلت فإنني من الخائنین»(1) لذلك نجد الإمام يتأسف على اعتلاء الحكام الفاسدين منصة الحاكم؛ لأنه يؤدي إلى نتائج سلبية تعود على المسلمين بالمصائب والنوائب فينشر الفقر والمرض والتخلف وأن سبب هذا الفساد المالي ضعف الواعز الديني لدى الحكام، فيضعف أمام المال، ويتخذ الأشرار وسيلة لتحقيق كل رغباته، وهذا ما أكده الامام إذ قال:

«ولكن أسفا يعتريني وجزعاً يريبني من أن يلي هذه الأمة سفهاؤها وفجارها فيتخذون مال الله دولاً وعباد الله خولاً والصالحین حرباً والقاسطين خزباً»(2).

متطلبات المعارضة:

يحتاج قيام أي معارضة سياسية إلى توفر بعض المتطلبات لتحقيق أهدافها المشروعة، وهذا ما أكده الامام علي في بعض نصوصه نوجزها بما يلي:

1. التكافؤ المادي: يعد العامل المادي من ضرورات نجاح قيام المعارضة فلا يمكن لها مواجهة السلطة الحاكمة إلا بتوفر هذا العامل لها ويحدد لنا الإمام نوعین من الاستعداد المادي.

2. توفر الجماعة الصالحة: وهي كفيلة بتحقيق التوازن بین المعارضة والسلطة وهذا ما علله الإمام في عدم قيام معارضته؛ إذ قال في أحد خطبه: «فسدلت دونها

ص: 214


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 197
2- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 40

ثوباً وطويت عنها كشحاً وطفقت أرتئي بین أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء»(1) وفي المضمون نفسه يقول الإمام: «فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذاب ولا مساعد»(2) فلو توفر للإمام العدد الكافي من الأنصار لوقف بقوة للمطالبة بالحقوق إلا أنه اكتفى بالتصدي الفردي لتصحيح الأخطاء عبر تقديم النصح والمشورة حفاظاً على المسلمين من الانحراف عن التعاليم الإسلامية.

3. توفر القيادة: ان مما يضعف دور المعارضة ويقوض كيانها عدم وجود هيكلية إدارية واضحة تحافظ على انضباط أعضاء المعارضة من تشتت الآراء نتيجة الأهواء؛ لذا نرى الامام يحذر من خطر التشتت والتفرق ويعدّه بداية للانهيار إذ يقول: «إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع وأحكام تبتدع يخالف فيها كتاب الله ويتولى عليها رجال رجالاً على غر دين الله»(3). لذلك يؤكد الإمام علي على ضرورة وجود القيادة لما لها من دور مركزي يسهم في ديمومة وجود المعارضة وقوة تأثيرها في المستوى السياسي إذ قال: «إن الفتنة إذا أقبلت شبهت فقام رجل وقال: يا أمیر المؤمنین ما يصنع في الزمان؟ قال: «انظروا أهل بيت نبيكم إن لبدوا فالبدوا وان استصرخوكم فانصروهم تؤجروا ولا تسبقوهم فتصرعكم البلية»(4) فالإمام في هذا النص يؤكد على أهمية موقعية أهل البيت في قيادة الأمة وضرورة السیر على نهجهم.

ص: 215


1- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 44
2- المصدر نفسه، ج 3، ص 50
3- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 97
4- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 100

2- الاستعداد الفكري والنفسي:

ويتمثل بضرورة توفر الوعي الفكري لدى المعارض والرؤية الواضحة في كل جوانب الحياة فلابد من وجود رصيد فكري متنوع لدى المعارض يأتي من الإطلاع على العلوم التي ترسم له حركته نحو تحقيق غاياته المشروعة حيث يقول الامام: «العامل بغیر علم كالسائر على غیر طريق فلا يزيده بعده عن الطريق الواضح إلا بعداً عن حاجته»(1).

ويبین الامام في هذا الحديث أهمية العلم للعاملین في كل المجالات ومنها المعارضة ويؤكد عیى الاستفادة من تجارب الأخیر؛ لأنها رافد آخر للمعرفة فيقول: «في التجارب علم مستأنف»(2)، وكذلك يوصي الامام بضرورة الاستعداد النفسي والسلوكي عبر تجسيد القيم الأخلاقية على أنفسهم قبل توجيه النقد للآخرين إذ يقول: «لعن الله الآمرين بالمعروف التاركین له والناهین عن المنكر العاملین له»(3). وفي حديث آخر يقول: «من كان على نفسه أقدر كان على غيرها أقدر ومن على نفسه أعجز كان على غيرها أعجز»(4) ويجعل من نفسه نموذجاً للإنسان العامل بما يعلم فيقول: «أيها الناس إني والله ما أحثّكم على طاعة إلا وأسبقكم إليها ولا أنهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها»(5).

ص: 216


1- عبده، محمد، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 40
2- التستري، محمد تقي: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، ج 10، ص 223
3- المصدر نفسه، ج 10، ص 213
4- عبده، محمد، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 39
5- عبده، محمد، شرح نهج البلاغة،ج 3، ص 45

3- تحقيق الأهداف العامة:

إن الهدف الرئيسي الذي يجب أن تسعى إليه المعارضة تحقيق الأهداف العامة للأمة والذي ينبغي أن يقدم على كل هدف آخر، وهذا ما جسده الامام علي؛ إذ كان في صف المعارضة إلا أنه اتخذ موقفاً آخر لأجل الحفاظ على الأهداف العليا للإسلام إذ قال: «فامسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام وأهله أن أرى فيه كلماً تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم»(1) فقد أعطى الإمام «الأولوية في الحفاظ على الإسلام والشريعة على أي هدف سياسي آخر»(2) لذلك يجب أن تبتعد المعارضة عن كل الأهداف الفئوية الخاصة.

مستويات المعارضة:

يأتي تعدد مستويات المعارضة نتيجة السياسة التي تنتهجها السلطة فكلما كانت سياستها تسیر نحو الابتعاد عن القيم واستخدام العنف والاستبداد انتهجت المعارضة أسلوباً يعادل ويوازي تلك السياسة ويمكن تحديد مستويات المعارضة على النحو الآتي:

التنبيه: وهو أول مظاهر التعبیر عن المعارضة السياسية للسلطة الظالمة من خلال الرفض العقلي والقلبي وهذا ما أكده الإمام علي حينما قال «إن من رأى عدوانا يعمل به ومنكراً يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد برئ وسلم»(3) فالامام يؤكد من خلال النص على فلسفة رائعة وهي أن السكوت عن الظلم نوعان سكوت

ص: 217


1- عبده، محمد، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 42
2- السعد، غسان: حقوق الإنسان عند الإمام علي، ص 43
3- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 41

سلبي وهو عدم المبالاة بالوضع القائم وسكوت ايجابي هادف يدل على عدم الرضا عن سياسة السلطة الحاكمة.

التقويم: وهو المستوى الثاني للدلالة على المعارضة السياسية باستخدام اللسان عن طريق النقد المباشر للحاكم، وهذا ما عبر عنه الامام إذ قال: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»(1) وفي السياق نفسه قال الامام: «ومن أنكره بلسانه فقد أوجر»(2).

التغيیر: وهو المستوى الأخیر تلجأ فيه المعارضة إلى عدة إجراءات تجاه النظام القائم.

المقاطعة: ويعني ترك الحضور في مجالس الحاكم الظالم وعدم تقديم العون له، وهذا ما أشار له الامام: «لا تطرق أبواب الظالمین للاختلاط بهم والاكتساب معهم وإياك ان تعظمهم وأن تشهد مجالسهم بما يسخط الله عليك»(3) وفي نص آخر أكد الإمام المضمون نفسه «العامل بالظلم والمعین عليه والراضي به شركاء»(4).

المطالبة بعزله وإسقاطه: وهي إعلان الثورة ضد السلطة الجائرة «بالتظاهر السلمي ومن ثم العصيان وبعدها إعلان الثورة المسلحة»(5). كما عبر عن ذلك الامام علي «ومن أنكره بسيفه لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمین هي

ص: 218


1- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 45
2- المصدر نفسه، ج 3، ص 50
3- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 46
4- بيضون، لبيب، تصنيف نهج البلاغة، مؤسسة النشر الاسلامي، ط 1، قم، 1997 م، ص 63
5- السعد، غسان: حقوق الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام)، ص 60

السلفى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى وقام على الطريق ونور قلبه اليقین»(1).

هذه المستويات الثلاثة تعدّ من المظاهر الحضارية في الإسلام، فهي تؤكد على مبدأ حاكمية القيم في مواجهة السلطة عبر التدرج في عملية إظهار الرفض لها، وأن مدى التزام المعارضة بتلك القيم ينبئ عن وجود أشكال للمعارضة.

أشكال المعارضة:

1. إن مطالعة التاريخ السياسي للامام علي يكشف لنا عن وجود عدة صور وإشكال للمعارضة السياسية وهي:- - المعارضة الهادفة: وهي المعارضة التي تعمل على تحقيق الأهداف العليا للأمة وتسعى إلى الوصول لها بالطرق المشروعة وبمرحلية في الأسلوب أثناء وقوفها ضد السلطة الحاكمة، وخیر من حمل لواء تلك المعارضة الامام علي؛ إذ كان أنموذجاً يقتدى به للمعارضة الهادفة خلال مدّة حكم الخلفاء السابقين، والتف حوله بنو هاشم وكثیر من المهاجرين والأنصار ممن يرون الحق والشرعية بالخلافة لعلي بن أبي طالب، وكان الامام يصرح كثیراً بحقه بقوله: «أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وأنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطیر»(2) لكن الإمام صبر على ذلك لأجل أن تبقى راية الإسلام خفاقة بل سعى إلى التدخل لصيانة الدولة الإسلامية من الأخطار خصوصاً ما تعرض له المسلمون من ارتداد البعض عن الإسلام وظهور المدعین الكاذبین للنبوة والهجمات الأجنبية التي أرادت الإطاحة بالدولة الإسلامية فقد

ص: 219


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 33
2- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 123

كان للإمام أثر كبیر في إعطاء المشورة السلمية للخلفاء وقد صرحوا بذلك عبر كلماتهم المشهورة، فقال الخليفة عمر بن الخطاب في أكثر من مناسبة: «لولا علي لهلك عمر»(1) و «لولاك لافتضحنا»(2) وقد اختار الخليفة عمر شخصيتين من تيار المعارضة الذي ينتمي للإمام علي فاستعمل عماراً ليكون واليه على الكوفة وسلمان ليكون واليه على المدائن»(3) وهذا دليل على التأثیر الايجابي للمعارضة الهادفة على الخلفاء لكن في عهد الخليفة عثمان بن عفان تصاعدت أصوات المعارضة نتيجة سياسة الولاة الخاطئة.

فقد طلبوا من الإمام علي أن يكون قائدهم لإسقاط الخليفة بالقوة إلا أنه رفض فقد «التقى الإمام بجماعة من المعارضین فسلموا عليه وعرضوا أمرهم (إسقاط الخليفة بالقوة). فصاح بهم الإمام وطردهم»(4). وكان الإمام يمارس دور التهدئة والوساطة بین المعارضة والخليفة. وعندما حاصر المعارضون بيت الخليفة أرسل الإمام ابنيه الحسن والحسین لحماية الخليفة، وقد استغاث الخليفة بالامام عیي قائلاً «إن طلحة قد قتلني بالعطش. فخرج الإمام إلى بيت طلحة وقال له: إن عثمان أرسل إنكم قتلتموه بالعطش وأن ذلك ليس بحسن وأنا أحب أن تدخل عليه الماء فرفض طلحة قائلاً: لا تتركه يأكل ولا يشرب»(5)، فغضب الإمام علي وأرسل الماء إلى الخليفة رغما عن أنف المعارضین إلا أن المعارضین استطاعوا فرض الطوق الأ مني وقتلوا الخليفة عثمان بن عفان.

ص: 220


1- التستري، محمد تقي: بهج الصباغة في نهج البلاغة، ج 3، ص 231
2- التستري، محمد تقي: بهج الصباغة في نهج البلاغة، ج 10، ص 231
3- المصدر نفسه، ج 10، ص 232
4- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 232
5- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة،ج 3، ص 231

- المعارضة الجاهلة: وهي المعارضة التي تفتقر للفهم السياسي لنظرية الدولة في الإسلام وتوصف بعدم وعيها لفلسفة الأحكام الفقهية وسوء تقدير المنطلقات والأساليب لذلك قد تطابق المعارضة الهادفة في شعاراتها إلا أنها تختلف عنها لانتهاجها العنف الوسيلة الوحيدة للمعارضة، والخوارج أبرز من عبر عن هذا الشكل من المعارضة. فعند ما انشقوا من جيش الإمام علي بعد حرب صفین قاموا بقتل عبد الله بن خباب صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبقروا بطن امرأته وهي حامل، وقتلوا ثلاث نسوة من طي، وقتلوا أم سنان الصيداوية، فبعث الإمام علي أحد أصحابه وهو الحرث بن مرة العبدي ليتأكد من صحة الجند فلما دنا منهم قبضوا عليه وقتلوه، فتحرك الامام علي إليهم بجيشه فقام بقتالهم بعد أن رفضوا إعطاءه القتلة وكانت معركة النهروان التي انتصر بها الإمام علي على الخوارج(1).

- المعارضة النفعية: وهذا الشكل من المعارضة يجعل من الانتفاع بالسلطة هدفاً أساسياً لها فتسعى لتحقيق هذه الغاية بشتى الوسائل فتسفك الدم الحرام وتنتهك الحرمات ولا تكترث بالأحكام الشرعية وتقوم بمعارضة السلطة الحاكمة إما بصورة خفية وقد انتهج هذا الأسلوب طلحة والزبیر إذ قاما بمبايعة الامام علي في بداية تسلمه للخلافة طائعین غیر مكرهین إلا أنهم كانوا يحيكون المؤامرة على خليفة المسلمين بل سعوا إلى الانفصال فذهبوا إلى البصرة وقتلوا من يوالي الإمام عليًّا وصادروا بيت المال فبعث لهم الامام الرسائل كي يرجعهم إلى صوابهم إلا أنهم لم يعوا كلامه بل أصروا على محاربته في واقعة الجمل(2) المعروفة.

ص: 221


1- النقدي، جعفر: غزوات علي بن أبي، دار الأندلس، ط 1، بيروت، 2009، ص 71
2- للاطلاع، أكثر حول تفاصيل واقعة الجمل ينظر، النقدي، جعفر: غزوات علي بن أبي طالب، ص 833

أما النوع الآخر من المعارضة النفعية والذي أعلن العداء للإمام علي. فقد جسده معاوية ابن أبي سفيان؛ إذ انفصل عن حكومة الإمام علي متخذاً من الشام منطلقاً لإعلان الحرب على خليفة المسلمين فقام باغتيال خیرة الصحابة المنتجبین أمثال عمار بن ياسر الذي قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله): «تقتلك يا عمّار الفئة الباغية»(1) وأيضاً قام باغتيال ولاة الامام علي محمد بن أبي بكر في مصر ومالك الاشتر وغيرهما من المؤمنین، وكذلك جرت بينه وبین أمیر المؤمنین علي حرباً طاحنة في موقعة صفین(2).

طرق مواجهة المعارضة:

مع ما قدمه الامام علي من دروس وعبر أصبحت في ما بعد قواعد وقوانین سياسية عامة لكل جماعة معارضة، فان الامام قد شرع ضوابط وشروطًا حدد بموجبها أساليب مواجهة رأس النظام السياسي وحكومته للمعارضة فقد تكون المواجهة سلمية أو مسلحة، وذلك وفق معطيات ما يقدمه المقابل أو متطلبات ما يحتاج من تعامل في إطار الشريعة وتحت قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

1- المواجهة السلمية:

لقد اتبع الامام علي أسلوب المواجهة السلمية مع كل من اختار المعارضة السياسية خلال مدّة حكم الامام علي، ولعل من أبرز معاني السلم ما يلي:

- الحوار الهادف: لقد آمن الامام علي بحق المواطنة لأبناء الأمة الإسلامية

ص: 222


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 65
2- للاطلاع أكثر حول تفاصيل واقعة الجمل ينظر: النقدي، جعفر: غزوات على بن ابي طالب، ص 133

فأعطى لهم حق الاعتراض، لذلك استخدم أسلوب الحوار الهادف وتقديم النصائح للمعارضین ورد الشبه التي تثار حوله، بل استخدم الامام التسامح والأخوة معهم فالحوار أولاً.. الحوار قبل كل شيء.. الحوار ما دامت سبله لم تنفذ ولماذا لا يكون الحوار مادام الإنسان يمتلك موهبة العقل الذي يعطيه الحجة والبرهان ليقوّي به موقفه سلباً أو إيجاباً مع وضد، فليدفع الموقف بالموقف والحجة بالحجة والبرهان بالبرهان»(1) فعندما اعترض عليه الخوارج قال لهم:

«معاشر الخوارج إني جئت لأقدم الإعذار والإنذار إليكم وأسألكم ما تريدون وما تطلبون وتسمعون ما أقول واسمع ما تقولون»(2) فالامام لا يجلس في القصور وتأتيه شكاوى أبناء أمته هناك، بل يقف مع المعترضین ويسمع آراءهم وينظر في ما يريدون لذلك كان لهذا الخطاب الهادئ أثره في نفوس الجيش الخوارجي، فقد كان عددهم اثني عشر ألف مقاتل، وبعد خطاب الامام لهم لم يبقَ سوى أربعة آلاف وأيضاً كان لحوار الامام مع الزبیر وطلحة أثره في واقعة الجمل فكلا الرجلین بعد حوار الامام معهما انسحبا ورجعا عن محاربة الامام.

- تلبية المطالب: ويأتي بعد الحوار الهادف مع المعارضة تلبية مطالبهم المشروعة فقد لبس الإمام ما كان ينسجم من مطالبهم مع التعاليم الدينية وهناك شواهد كثیرة على ذلك حدثت في عهد الامام. فمنها قبوله بمطلب المعارضة لمسألة التحكيم مع معاوية رغم عدم قناعة الإمام به ولعلمه بأنها خدعة فقد طالب مجموعة من الخوارج الذين كانوا في جيش الامام أن يقبل بالتحكيم إلى كتاب الله مع معاوية عندما رفعوا المصاحف وإلا قاموا بقتل الامام فأجابهم قائلاً: «والله

ص: 223


1- جرداق، جورج: علي صوت العدالة الإنسانية، ج 2، دار ذوي القربي، ط 2، قم، 1424 ه، / ص 921
2- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة ج 3، ص 42

إنهم ما رفعوا المصاحف إلا مكيدة وخديعة حین علوتموهم. فقالوا: يا علي أجب إلى كتاب الله وإلا قتلناك أو بعثنا بك إلى القوم فقال احفظوا مقالتي فإني آمركم بالقتال فإن تعصوني فافعلوا ما بدالكم»(1).

2- المواجهة المسلحة:

بعد أن نفذت حلول الامام السلمية مع الطرف المعارض نراه يلجأ إلى منطق القوة لإرجاع الضالین إلى حريم الهدى والإيمان لذلك نجده يرفع شعاره المشهور الذي يبین فيه سماحته مع المعارضین له ما لم يعتدوا على المسلمين؛ إذ يقول «سأمسك الأمر ما استمسك وإذا لم أجد بداً فآخر الدواء الكي»(2) وفي كلمة أخرى يقول «إن هؤلاء قد تمالأوا على سخطة إمارتي وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم»(3) وقد واجه الامام عسكرياً ثلاثة تيارات تنبأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل وفاته بها؛ إذ قال للامام علي: «يا علي لتقاتلن الفئة الناكثة والفئة الباغية والفرقة المارقة إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون»(4).

وهو ما أكده الامام علي في كثیر من كلماته لإلقاء الحجة على الناس خصوصاً خصومه فكان يقول: «أنا عبد الله وأخو رسوله لا يقولها بعدي إلا كذاب مازلت مظلوماً منذ قبض رسول الله أمرني بقتال الناكثین طلحة والزبیر والقاسطين معاوية وأهل الشام والمارقین وهم أهل النهروان»(5).

ص: 224


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 161
2- التستري، محمد تقي: بهج الصباغة في نهج البلاغة، ج 10، ص 213
3- المصدر نفسه، ج 10، ص 234
4- التستري، محمد تقي: بهج الصباغة في نهج البلاغة، ج 10، ص 235
5- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 48

وفي ما يلي جدول بأبرز المواجهات العسكرية التي خاضها أمیر المؤمنین خلال مدّة خلافته.

ص: 225

وعلى الرغم من وجود بعض أساليب المعارضة السياسية التي كانت تصل إلى درجة تهديد وجود الدولة برمتها إلا أن الامام ضمن لهم كافة حقوقهم.

حقوق المعارضة:

لقد أقر علي بوجود حقوق للمعارضة تضاف إلى حقوقهم الإنسانية في المشاركة السياسية وقد تنوعت تلك الحقوق وفق ظروف المرحلة ونوعية الأسلوب الذي تتخذه المعارضة في مواجهة السلطة ويمكن إيجاز تلك الحقوق بما يلي:

1. الاعتراف السياسي بالمعارضة: ويعني منح المعارضة كياناً سياسياً خارج نطاق الدولة هو الاعتراف بوجودها القانوني والشرعي، وقد أشار الامام علي إلى هذا الحق عندما سأله أحد أصحابه أثناء مسیره إلى البصرة قائلاً: «يا أمیر المؤمنین أي شيء تريد أن تذهب بنا؟ فقال: أما الذي نريد وننوي فالإصلاح إن قبلوا منا وأجابونا إليه، قال: فإن لم يجيبونا إليه قال ندعهم بعذرهم ونعطيهم الحق ونصبر، قال: فان لم يرضوا؟ قال: ندعهم ما تركونا، قال: « فان لم يتركونا قال امتنعنا عنهم»(1)، ويمكن أن نلمس الاعتراف السياسي بالمعارضة في نظر الامام من خلال إجاباته في كلمه ندعهم بعذرهم ونعطيهم الحق ونصبر وهذه العبارة فيها دلالات واضحة على القبول السياسي للآخر وإن كان خارج نطاق الدولة، وتوجد نصوص أخرى تضاف إلى هذا النص تكشف لنا عن اعتراف الامام بالمعارضة عندما رفض بعض الشخصيات البارزة مع أنصارهم مبايعة الامام الذي قبل عدم مبايعتهم ولم يعرض عليهم ما لم يقوموا بأي عمل مضر بالمجتمع. فحین جاءه عبد الله بن عمر وقال الإمام له: «بايع قال: لا أبايع

ص: 226


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 421

حتى يبايع الناس جميعاً فقال له. فأعطني حميلاً أن لا تبرح قال. لا أعطيك حميلاً فحاول بعض أنصار الإمام أن يلجأ إلى استعمال القوة قائلاً للإمام:

يا أمیر المؤمنین إنّ هذا قد أمن سوطك وسيفك فدعني أضرب عنقه فقال الإمام: لست أريد ذلك منه (المبايعة) على كره وخلّوا سبيله»(1) فالامام كان لا يريد الكثرة في عدد أنصاره بل يريد الأنموذج الأمثل. وفق المعايیر الإسلامية لذا نجده يوضح ذلك عندما أتاه سعد بن أبي وقاص وقال له الإمام «بايع» فقال له «يا أبا الحسن خلني فإذا لم يبقَ غیري بايعتك فوالله لا يأتيك من قبلي أمر تكره أبداً فقال الإمام: صدق خلّوا سبيله»(2). وأيضاً عندما أتاه محمد بن سلمة قال له الإمام: (بايع) قال محمد: «إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمرني إذا اختلف الناس وصاروا هكذا وشبك أصابعه أن أخرج بسيفي فاضرب به عرض أحد فإذا انقطعت اتيت منزلي لا أبارحه فقال الإمام له:

«انطلق إذن بما أمرت به» ويعلل الإمام سبب تركه للمعترضین بقوله: «لا حاجة لنا فيمن لا حاجة له فينا»(3).

2. عدم قتل المعارضین: فالإمام حافظ على حياة كل من عارضه ورفض فكرة تصفيتهم عندما أشار إليه بعض أنصاره، فقال له الإمام: «والله ما أظنك ورعاً ولا عاقلاً نافعاً والله لقد كان ينبغي لك لو أني أردت قتلهم أن تقول: اتق الله بما تستحل قتلهم ولم ينابذوك ولم يخرجوا من طاعتك»(4). وهنا نرى الامام يعلل رفضه بعدم قبول الشرع والعقل لتلك المشورة بل يفصح الامام عن

ص: 227


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 421
2- الصالح، صبحي: شرح نهج البلاغة، ص 419
3- المصدر نفسه، ص 420
4- عبده، محمد، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 48

موقفه الرافض لقتل المعارضین في حادثة أخرى؛ إذ قال أحد أصحاب الامام: «في أصحابك رجال خشيت أن يفارقوك فما ترى فيهم؟ فقال له الإمام: إني لا آخذ على التهمة ولا أعاقب على الظن ولا أقاتل إلا من خالفني وناصبني وأظهر لي العداوة ولست مقاتله حتى أدعوه واعذر إليه، فإن تاب ورجع إلينا قبلنا منه وهو أخونا، إن أبى إلا الاعتزام على حربنا استعنا عليه وناجزناه»(1) ومن أجمل المواقف التي جُسد الإمام فيها كلامه حول الحفاظ على حياة المعارضین قصة حفاظه على حياة السيدة عائشة زوج رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث قامت بالاشتراك بمعارضته في واقعة الجمل، وبعد أن انتصر الإمام قال لمحمد بن أبي بكر: «سر مع أختك حتى توصلها إلى المدنية وعجل اللحوق بي بالكوفة فقال: اعفني من ذلك يا أمیر المؤمنين فقال علي: لا أعفيك منه ومالك بد فسار بها مع أربعین امرأة ألبسهن العمائم والقلانس وقلدهن السيوف وأمرهن أن يحفظنها ويكن عن يمينها وشمالها ومن ورائها فجعلت عائشة تقول في الطريق اللهم افعل بعلي ابن أبي طالب بما فعل بي، بعث معي الرجال ولم يحفظ بي حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلما قدمت المدينة معها القین العمائم والسيوف ودخلن معها فلما رأتهن ندمت على ما فرطت بذم أمیر المؤمنین وسبه وقالت: جزى الله ابن أبي طالب خیراً فلقد حفظ في حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)(2).

3. رفض تكفیر المعارضة: لأن هذه الفكرة خطرة على وحدة المسلمين وتؤدي إلى الاستخفاف بدمائهم وأعراضهم وكل ما يمتلكون. وهذا ما رفضه الامام عندما سئل عن أهل النهروان: «أمشركون؟ قال: «من الشرك فروا» فقيل یا

ص: 228


1- عبده، محمد، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 44
2- عبده، محمد، شرح نهج البلاغة، ص 45

أمیر المؤمنین فمنافقون قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً فقيل له فماهم؟ قال: قوم « بغوا علينا»(1)، ويؤكد الامام هذه الفكرة في نص آخر بقوله: «إنا لم نقاتلهم على التكفیر ولن نقاتلهم على التكفیر لنا ولكنا رأينا إنا على حق ورأوا أنهم على حق»(2).

4. فسح المجال لممارسة العبادة: ويمنح الامام حق ممارسة الشعائر الدينية في المساجد لكل معارضيه قائلاً «لا نمنعكم مساجد الله أن تصلوا فيها»(3) ففي المساجد مسؤوليتان.

الأولى: مسؤولية المنبر: الذي يعد أداة إعلامية لتوجيه الخطاب للجماهير.

الثانية: مسؤولية المحراب: لأن المسجد يحضره كل الناس لإقامة الصلاة ولذلك يعد وسيلة لتوحيد الناس والامام يقر بحق المعارضة في دخول المسجد لكنه «كان يدعو للسمو ببيوت الله عن دخول أي تعارض سياسي ليحافظ على قدسية المكان وأراد أن يخلص المسجد من هيمنة السلطة محافظاً بذلك على وحدة المسلمين وأخوتهم»(4).

5. الحقوق المالية للمعارضة السياسية: ويُضاف إلى قائمة الحقوق التي يقرها الامام للمعارضة إعطاؤهم للحق المالي المقرر لهم من بيت المال، وهذا يعدّ أحد الامتيازات التي ينفرد بها الإمام في سياسته المالية؛ إذ يخاطب مجموعة من المعارضة قائلاً: «أشهد الله أنكم تبغضوني وأبغضكم فخذوا عطاءكم

ص: 229


1- عبده، محمد: نهج البلاغة، ج 3، ص 45
2- عبده، محمد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 47
3- الحسون، فارس: نهج البلاغة، ص 49
4- السعد، غسان: حقوق الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام)، ص 161

واخرجوا»(1) وأيضاً قال في نص آخر «من كره منكم أن يقاتل معاوية فليأخذ عطاءه وليخرج»(2) بل نجد الإمام يفسح المجال للمعارضة للاشتراك في الجهاد والحصول على الغنائم، وهذا ما وضحه للخوارج «لا نمنعكم الفي ما كانت أيدينا بأيديكم»(3) ويضيف الإمام حقوقاً أخرى تضاف إلى ما ذكرناه سابقاً فهو يجيز قبول شهادة الخوارج عندما استشاره أحد قضاته بذلك، كذلك منح الإمام للمعارضة حرية التنقل في البلاد الإسلامية ما لم يحدثوا أمراً وهذا مضمون رسالة الإمام للخوارج إذ قال لهم: «أن سیروا إلى حيث شئتم»(4).

إن التعاليم التي نص عليها الإمام في مجال المعارضة السياسية أصبحت عنواناً يقتدي به القادة والثوار في كل زمان، يقول جرداق: «وان أنت أحصيت الثائرين على النظام في العهد الأموي والعباسي يقف علي أمامهم وان أنت أحصيت غايات هذه الثورات التي زلزلت الشرق في قرون طوال وقضت مضاجع الطغاة ألفيتها الغايات الاجتماعية التي من أجلها كافح علي وإليها دعا وفي سبيلها استشهد»(5).

ويمكننا القول: إن هنالك نوعاً من التفكیر السياسي الإسلامي يقصد السلطة دون الاكتراث بنوع الوسيلة المتبعة وهو مالا نجد له أساساً في مبادئ الإسلام الأصيل إلا أنه أصبح جزءاً من المنظومة السياسية للفكر السياسي الإسلامي القديم والمعاصر، وله أمثلة كثیرة في تاريخ الإسلام السياسي ذكرنا بعضها في صفحات

ص: 230


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 61
2- المصدر نفسه، ج 3، ص 273
3- المصدر نفسه، ج 3، ص 156
4- التستري، محمد تقي: بهج الصباغة في شرح البلاغة، ج 10، ص 231
5- جرداق، جورج علي صوت العدالة الإنسانية، ج 2، ص 921

البحث السابقة، وقد أخذ بعض الساسة من مبدأ الغاية تبرر الوسيلة منهجاً لهم وهو منطلق للسياسة السائدة في العالم الغربي الحديث، وقد شرع له (مكيافيلي) في كتابه (الأمیر والغريب) إذ جعل الجريمة أحد الوسائل للوصول إلى السلطة.

بالمقابل نجد نوعاً آخر من التفكر السياسي الإسلامي قصد الحق بواسطة السلطة وشكل منظومة سياسية وشرع أصوله من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة عبر مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد كان هذا المنهج واضحاً في السياسة النظرية والممارسة العملية للدولة الإسلامية في عهد الإمام علي. وهذا النوع من السياسة أصبح منهجاً لكثیر من الدول والشخصيات السياسية ومناراً يضيء درب الوصول إلى الحق.

ص: 231

ص: 232

الفصل الثالث أثر الإمام علي في الفكر السياسي

اشارة

* المبحث الاول: أثر الإمام علي في قيام الدولة الاسلامية

* المبحث الثاني: أثر الإمام علي في رواد الفكر السياسي

ص: 233

ص: 234

أثر الامام (علي) في الفكر السياسي.

إن مصادر الفكر الإسلامي كثیرة ولا يمكن أن تحصى عددا أهمها القرآن الكريم وكتب العقائد والفقه والتفسیر والصحاح، حيث نجد فيها موضوعات سياسية كالإمامة والحقوق والقضاء.

ويأتي بعد هذا المستوى الأول من مصادر الفكر السياسي الإسلامي مستوى آخر من المصادر في كتب التاريخ والتراجم والأدب والبلاغة والتي تتضمن وصفا لأحداث سياسية مرت في التاريخ الإسلامي. ويعد تراث كبار الشخصيات في الإسلام من المصادر الرئيسية في الفكر السياسي خصوصا في صدر الإسلام ولا سيما الامام علي بن أبي طالب، الذي عمل دوما على تثبيت العقيدة والدفاع عن القيم الأصيلة، والفناء في تحقيقها وعدم التراجع عنها.

من هنا يمكننا القول إن عمق الأثر الذي أحدثه الامام علي اجتماعيا وسياسيا كان قبل الممات وبعد الممات وإلى آخر الزمان، لذلك نتناول في هذا الفصل مبحثين؛ الأول أثر الامام علي في قيام الدول الإسلامية، والثاني أثر الامام علي في رواد الفكر السياسي.

ص: 235

ص: 236

المبحث الأول: أثر الإمام علي في قيام الدول الإسلامية

اشارة

* - الدول الممانعة.

* - الدول الموالية.

ص: 237

ص: 238

المبحث الأول أثر الامام علي في قيام الدول الإسلامية.

اشارة

إن توحيد الفكر السياسي حول منهج معین يتحكم بالوجود السياسي لكل الدول هو أمرٌ يصعب حدوثه في ضوء تنوع معطيات الواقع السياسي الإنساني القديم والمعاصر.

ولكن هنالك مناهج مؤثرة كما يصور لنا التاريخ السياسي الإسلامي ومن ضمنها المنهج السياسي للامام علي الذي أصبح دستوراً للكثیر من الدول، وكان من أسباب ومسببات قيام أو سقوط دول أخرى. ويمكننا أن نلمس اثر هذا المنهج عبر تحديد نوعین من الدول الإسلامية.

1. الدول الممانعة.

2. الدولة الأموية.

3. الدولة العباسية.

4. الدول الموالية.

ص: 239

1. الدول الممانعة:

ويقصد الدول التي رفعت شعار الإسلام إلا أنها لم تلتزم بمحتواه وقيمه، بل ابتدعت مبادئ جديدة حسب مزاجها السياسي. ولعل ابرز من حكم وفق هذا الأساس وتربع على عرش الدولة الإسلامية لفرات طويلة الأمويون والعباسيون.

2. الدولة الأموية

كانت الدولة الأموية هي السلطة الحاكمة قبل الإسلام للجزيرة العربية لكن بعد ظهور الإسلام وسيادته اختفت هذه الدولة وحاول رموزها التسلل والنفوذ عبر تولي بعض المناصب وصولا إلى السلطة المطلقة. وهذا ما عبر عنه أبو سفيان بعد أن تسلم زمام السلطة الخليفة الثالث عثمان بن عفان إذ صرح قائلا: ((يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة فوالذي يحلف به أبو سفيان لتصیرن إلى صبيانكم وراثة فما هنالك جنة ولا نار))(1).

ولكن الدولة الأموية تأسست فعليا في الشام سنة (41 ه) عندما تولى معاوية ابن أبي سفيان السلطة بعد صلحه مع الامام الحسن واستمر الحكم الأموي إلى سنة (132 ه) وكان ابرز الحكام الأمويین معاوية بن أبي سفيان. ويزيد بن معاوية والوليد بن عبد الملك وإبراهيم بن الوليد(2).

المنهج السياسي الأموي:
اشارة

إن متابعة التاريخ السياسي للحكم الأموي يكشف عن سیرورته وفق أسس

ص: 240


1- المسعودي، أبو الحسن بن علي: مروج الذهب، ج 2، ص 37
2- الدنيوري، ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، ج 1، ص 235

توارثها الحكام الأمويون خلال مدّة حكمهم ومن أهمها مايلي:

1. تبديل نظام الحكم:

فقد حول الأمويون الحكم الإسلامي إلى نظام ملكي وراثي ليس للأمة الإسلامية أي إرادة في اختيار الحاكم الذي أصبح يفرض عليها الواحد تلو الآخر.

مما أثار رفضاً وأدى الى قيام ثورات على النظام المتسلط كأن أبرزها ثورة الامام الحسین والحرة والتوابین وثورة المختار الثقفي وثورة عبد الله بن الزبیر مما أسهم في زعزعة النظام الأموي التي أدت بعدها إلى زواله.

2. إحياء العصبية الجاهلية:

لم يكن اختيار القادة والولاة في العهد الأموي يبنى على أسس إسلامية أو معايير الكفاءة والصلاح، وإنما كان يتم الاختيار وفق الانتماءات الضيقة التي شجعت على إحياء العصبية الجاهلية من جديد ((فالأمراء الأمويون كانوا يساعدون على إنماء هذه الروح الخبيثة. فإذا ولي يماني رفع رؤوس أهل اليمن واستعملهم عمالا على الأمصار فإذا تلاه حضري عكس الأمر وانتقم من سلفه ومن عماله))(1)، وقد برزت ظاهرة العصبية(2) خلال مدّة الحكم الأموي خصوصا في أوقات الحروب بین القبائل.

ص: 241


1- الحضري بك، محمد: محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية - الدولة الأموية، دار القلم، ط 1، بيروت - لبنان، 1986 م، ص 575
2- العصبية: اولًا العصبة، واصل الكلمة من عصب وتعني الشد والربط وتطلق على الروابط القوية بين ابناء القبيلة وقد ذكرها القرآن الكريم في اكثر من سورة، سورة يوسف آية 8، سورة يوسف آية 4، سورة النور آية 8، سورة القصص آية 76، وقد ذكرها ابن خلدون في مقدمته، انظر ابن خلدون، المقدمة، ص 137
1. 3. إشاعة ثقافة الجبرية:

تحتاج الدول المستبدة عادة إلى دعم سلطاتها بالقوة تارة وبالدعامة الفكرية الفلسفية تارة أخرى، لتبرير أي سلوك سياسي خاطئ تتخذه لتحاول تضليل الرأي العام. والدولة الأموية سعت لإشاعة بعض الثقافات الدخيلة على تعاليم الإسلام لتخدير الجماهیر كثقافة الجبرية التي تعني نسب كل تصرفات السلطة الحاكمة إلى الله، وأنه لولا المصلحة التي يعرفها الباري في ذلك الأمر لما حدث ما كان ((فأن منطق الجبريین هو أن ما هو كائن هو الذي يجب أن يكون وأن ما هو غیر كائن هو الذي يجب أن لا يكون))(1) ويمكننا أن نلمس اهتمام الأمويین بإشاعة تلك الثقافة عبر تكليفهم بعض علماء السلاطين، لصياغة روايات مزيفة تدعم هذه الفكرة أو عن طريق كتابة القصائد))(2)، اضافة إلى الحوارات التي كانت تدور بین قادة البلاط الأموي ومعارضيهم ومنها الحوار الذي دار بین عبيد الله بن زياد حاكم الكوفة الأموي وزينب بنت الامام علي بن أبي طالب، اذ قال لها بعد قتل اخيها الامام الحسین.

((كيف رأيت فعل الله باهل بيتك فقالت: كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجون اليه وتختصمون اليه فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك امك يابن مرجانة))(3).

ص: 242


1- الشهرستاني، محمد الكريم: الملل والنحل، ج 1، دار المعرفة، ط 3، بيروت، 1993، ص 97
2- (قال) ابو جعفر الاسكافي المعتزلي ((ان معاوية وضع قوما من الصحابة وقوما من التابعين على رواية إخبار موضوعة)) ينظر، ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 300
3- المقرم، عبد الرزاق: مقتل الحسين، دار اليضيع، ط 1، بيروت، 2002، ص 87
4. محاربة نهج الامام علي السياسي:

فعندما تمكن الأمويون من السلطة سعوا إلى إلغاء كل ما أسسه الامام علي (عليه السلام) من سياسته العادلة بل قاموا بمحاربة أتباعه ومحبيه وأصبحوا يسبونه ويلعنونه على منابر صلوات الجمعة في كل بلاد المسلمين لمدة ستين سنة إلى أن تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز الذي ألغى هذه السنة السيئة))(1).

أسباب سقوط الدولة الأموية:
اشارة

لم يستمر الحكم الأموي في السيطرة على البلاد الإسلامية طويلا بسبب سياساته التعسفية ولوجود عدة أسباب أخرى أدت إلى سقوط حكمهم نذكر بعضًا منها.

1. الصراع حول السلطة:

إن نشوء الاختلافات بین مكونات الدولة الأموية الحاكمة جاء نتيجة لمبدأ الثورات في تولي الحكم السيىء مما أدى إلى حدوث صراع دموي انتهى بقتل احدهم الآخر من اجل السلطة، وهذا كان واضحا من خلال الاغتيالات التي كانت تحدث في البيت الأموي كقتل عمر بن عبد العزيز بالسم من قبل ابن عمه يزيد بن عبد الملك))(2)، والتي ادت إلى ضعف الوجود الأموي على رأس السلطة الحاكمة.

2. تفشي ازدياد ظاهرة النساء في مؤسسة الخلافة الأموية:

فكان الحكام الأمويون هم الذين ادخلوا إلى دار الخلافة الخلاعة والمجون والفجور وشرب الخمر وممارسة المحرمات الشاذة ففقدت الخلافة هيبتها

ص: 243


1- الحضري بك، محمد: محاضرات في تاريخ الامم الإسلامية، ص 523
2- ابن كثير، اسماعيل بن علي: البداية والنهاية، ج 12، هجر للطباعة والنشر، ط 1، مصر 1998، ص 714

الروحية ومكانتها في النفوس، يقول الصحابي عبد الله بن حنظلة بعد أن التقى بيزيد ورأى فجوره: ((والله ما خرجنا على يزيد حتى ظننا أن ترمى الحجارة من السماء، إنه رجل ينكح أمهات الأولاد والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة))(1).

وقد سئل احد مشايخ الأمويین عن سبب سقوط الدولة الأموية فأجاب ((إنا شغلنا بلذاتنا عن تفقد ما كان تفقده يلزمنا فظلمنا رعيتنا فيئسوا من إنصافنا وتمنوا الراحة منا وتحمل على أصل خراجنا فتخلوا عنا وخربت ضياعنا فخلت بيوت أموالنا ووثقنا بوزرائنا فآثروا منافعهم على منافعنا وأمضوا اموراً دوننا اخفوا علمها عنا وتأخر عطاء جندنا فزالت طاعتهم لنا واستدعاهم أعادينا فتضافروا معهم على حربنا وطلبنا أعداؤنا فعجزنا عنهم لقلة أنصارنا))(2) وهذا النص يشیر بوضوح إلى حالة الانتكاسة التي كانت تعيشها الدولة الاسلامية في عهد الأمويین فلا اقتصاد ولا ازدهار، وليس كما يصور لنا بعض الكتاب ((بأن العصر الأموي هو العصر الذهبي للدولة الإسلامية(3)، وهذا الكلام صحيح لانحصار الذهب في ايدي الحكام الأمويین فقط وبنائهم للقصور ((وافتقار الناس لابسط مستلزمات العيش))(4).

ص: 244


1- الدنيوري، ابن قتيبة: الامامة والسياسة، ج 2، ص 6
2- المسعودي: مروج الذهب، ج 3، ص 189
3- الصلابي، علي محمد: عصر الدولتين الاموية والعباسية، دار البيارق، ط 1، عمان، 1998، ص 52
4- المدرسي، محمد تقي: التاريخ الإسلامي، دار المحبين، ط 7، قم، 1425 ه، ص 144
استخدام العنف واهانة المقدسات:

إن سياسة القمع والاستبداد كانت من سمات السياسة الأموية التي عجلت بزوال ملكهم. فقد قام الحكام الأمويون بداية من معاوية إلى آخر حاكم باقصاء كل معارض لهم مهما كانت منزلته كبیرة في الاسلام))(1)، كذلك لم يحافظ الأمويون على قداسة الاماكن المقدسة الإسلامية فقد حرقوا الكعبة واستباحوا مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وانتهكوا الاعراض فيها))(2)، هذه السياسة التي انتهجها الأمويون ادت إلى ردود افعال قوية تمثلت بقيام ثورات عارمة تبنتها التيارات الإسلامية المتنوعة من ابناء التيار العلوي الرسالي، وكذلك من بقية الفرق الإسلامية فاستفادت العائلة العباسية من هذا الموج فاستقطبته لتؤسس به الدولة الجديدة.

الدولة العباسية:

كانت الدولة العباسية محط أنظار وآمال الثوار الذين أطاحوا بالحكم الأموي وقد رفع العباسيون شعارات الاصلاح والعدل والسیر على النهج الإسلامي الاصيل والرضا من آل محمد كما يعبرون. الا أن الواقع التاريخي يتحدث عن صدمة أصابت الثوار نتيجة عدم وفاء العباسيين بوعودهم. ويصور لنا احد الشعراء هذه الصدمة قائلا:

ياليت ظلم بني مروانَ دام لنا *** وليت عدل بني العباس في النار(3)

ص: 245


1- الدنيوري، ابن قتيبة: الامامة والسياسة، ج 1، ص 241
2- الدنيوري، ابن قتيبة: الامامة والسياسة، ج 2، ص 19
3- ابن الاثير: الكامل في التاريخ، ج 5، ص 174

فالعباسيون استمروا على السياسة نفسها التي اتبعها الأمويون من توارث الحكم بينهم واستخدام القمع ضد كل من يعارض سياستهم خصوصا أبناء التيار الرسالي من اتباع الامام علي. وللوقوف على ابرز محاور السياسة العباسية خلال مدّة حكمهم التي استمرت من سنة 132 ه وانتهت في سنة 656 ه فلا بد من تقسيم الدولة العباسية إلى ثلاثة عصور.

العصر الاول: (عصر القوة) 132 ه - 232 ه.
اشارة

ويعدّ هذا العصر من ازهر العصور التي عاشها العباسيون لقوة سيطرتهم فيه على البلاد الإسلامية. نتيجة السياسة الصارمة التي أبدوها منذ بداية نفوذهم، ويمكن أن نحدد معالمها عبر بيان الاجراءات التي اتخذها حكام هذا العصر خلال هذه الحقبة.

1. 1. القضاء على الأمويين:

ابتدأ العباسيون باجتثاث كل الوجود الأموي واستخدام وسائل غیر مشروعة في تصفيتهم من قبيل ((اصدار العفو العام))(1)، وعند ظهور الأمويین من اماكن اختبائهم يقتلون، وكذلك نكثوا عهود الأمان التي منحت للامويین كقتل ابن هبیرة قائد جيوش مروان الأموي(2)، بعد أن اعطوه الامان.

2. اغتيال قادة الاجهزة الامنية:

فبعد أن قام العباسيون بقتل الأمويین ببعض القادة العسكريين عملوا على ازالة كل هؤلاء القادة حتى تختفي كل اسرار عمليات القتل، فقد أمر المنصور

ص: 246


1- محمد، نبيلة حسن: تاريخ الدولة العباسية، دار المعرفة الجامعية، ط 1، الاسكندرية، 1993 م، ص 94
2- المصدر نفسه، ص 111

قائده أبا مسلم الخراساني بقتل (عبد الله بن علي))(1) الذي لاحق الكثیر من الأمويین. ومن ثم سعى المنصور إلى قتل ((أبو مسلم الخراساني))(2) وهذا يدل على عدم وجود اي قيم اسلامية وإنسانية يرجع اليها العباسيون في سياستهم بل كان همهم الاكبر فرض السيطرة بأي طريقة كانت وازالة كل خوف يعترض نفوذهم.

3. قمع المعارضين لهم:

ثم انتقل الشره العباسي للدماء إلى من رفعوا شعار المطالب بحقهم فقد كان شعارهم ((رضا آل محمد))(3) وارجاع الحقوق لاهل البيت واذا بهم يقومون بقتل كل علوي يقف امامهم وينتقدهم ويذكرهم بنهج الامام علي السياسي وعدالته.

لذلك نجد أن العباسيين اجروا كثیراً من المذابح بحق اهل البيت من قبيل ((واقعة فخ والتي تعد مثل واقعة كربلاء في مأساتها))(4)، وكذلك قاموا بقتل ائمة العلويین وعلى رأسهم الامام الرضا في عهد المأمون العباسي الذي اعطى ولاية العهد ظاهريا إلى الامام الرضا. لكن بعد أن شاهد التفاف الناس حوله ((دس له السم وقتله))(5).

ص: 247


1- حسن، علي ابراهيم: التاريخ الاموي العام، مكتبة النهضة المصرية، ط 1، القاهرة، 1960، ص 340 - 341
2- محمد، نبيلة حسن: تاريخ الدولة العباسية، ص 125
3- المصدر نفسه، ص 135
4- الاصفهاني، أبو الفرج: مقاتل الطالبيين، دار الشريف الرضي، ط 2، قم المقدسة، 1416 ه، ص 540
5- المصدر نفسه، ص 453
4. بناء المدن المحصنة:

وهي احدى الوسائل السياسية التي استخدمها الحكام العباسيون لفرض سيطرتهم؛ اذ قاموا ببناء مدن عسكرية تضم أغلب افراد الجيش من مثل مدينتي ((بغداد وسامراء)) وتشييد القصور الفارهة ((كقصر الخلد وقصر الذهب))(1). وتهيئة سبل العيش الاخرى وبناء مراكز الاسواق والتجارة وقد بذخوا الاموال في عمران تلك الاماكن رغم احتياج الناس وفقرهم.

5. استيراد الثقافات غير الإسلامية:

وفي هذا الامر رأيان: الاول، ترجمة العلوم الذي جاء من اجل اشغال الناس بالعلوم غیر الهادفة التي لا تمت إلى الاسلام بصلة، فقد قام الحكام العباسيون ((باستيراد الثقافات غیر الإسلامية عبر ترجمة العلوم الفارسية واليونانية والصينية والهندية))(2) وبذل الاموال في نشرها من خلال بناء البيوتات العلمية التي تضم هذه المؤلفات الاجنبية واقامة المجالس الحوارية فيها لبث تلك السموم الخطرة التي أدت إلى ظهور الافكار الغريبة التي سفكت بها دماء الناس كقضية خلق القرآن والتجسيم وغيرهما.

وحقق العباسيون مرادهم عبر تفريق كلمة المسلمين، كي لا يسمعوا صرخة حق تجاه ما يقومون به من ظلم وفساد وكانوا يتواصون في نشر تلك الثقافات، فعند اقتراب وفاة المأمون نراه يوصي ابنه المعتصم بأن يستمر في طرح تلك الافكار ((قضية خلق القرآن))؛ اذ يقول ((عليك بخلق القرآن))(3) في حین يرى

ص: 248


1- محمد، نبيلة حسن، تاريخ الدولة العباسية، ص 127
2- المدرسي، محمد تقي، التاريخ الإسلامي، ص 284
3- الصلابي، محمد علي: عصر الدولتين الاموية والعباسية، ص 87. كذلك للمزيد: ينظر احمد محمود صبحي، في علم الكلام، مصر، 1999، ص 99

بعض الكتاب ((أن حركة الترجمة التي اشتهرت في زمن المأمون العباسي كانت تهدف إلى الانفتاح على الثقافات مما ادى إلى نبوغ كثیر من العلماء في كافة المجالات الفكرية.))(1)

6. الاستعانة بالقوات الأجنبية:

ولاجل حماية عرش الدولة العباسية وضمان استمرار سيطرتها على الدول الإسلامية ((قاموا بعقد تحالفات مع الدول الاجنبية كالفرنجة او الاتراك))(2) والاستعانة بهم للقضاء على بعض الثورات التي زعزعت السيطرة العباسية.

العصر الثاني: عصر الضعف والتجزئة 232 ه - 334 ه.

يمتاز هذا العر بضعف السيطرة على البلاد، وذلك نتيجة الصراع من اجل الحكم بین ابناء البيت العباسي ((فقد اشتهر هذا العصر بقتل اغلب حكامه))(3) ونفوذ البرامكة وتحكمهم بمقادير السلطة، إضافة إلى تدخل النساء في امور الحكم مع غفلة الحكام العباسيين وانشغالهم بالمجون والترف وشرب الخمر مما ادى إلى انتفاضة ابناء الامة الإسلامية وكان من ابرز قادة تلك الثورات ((العلويون)) الذين زلزلوا عروش العباسيين، ورغم أن تلك الثورات لم تسيطر على كل البلاد الإسلامية الا أنها استقلت ببعض الاقاليم ونجحت في بناء بعض الدول المستقلة والتي سوف نتطرق لها لاحقا.

ص: 249


1- المصدر نفسه، ص 107
2- محمد، نبيلة حسن: تاريخ الدولة الإسلامية، ص 135
3- حسن، علي ابراهيم، التاريخ الإسلامي العام، مكتبة النهضة المصرية، ط 3، القاهرة ص 419
العصر الثالث: (عصر الانهيار) (447 ه - 656 ه)

ويلاحظ فيه انحسار السيطرة العباسية وفقدان هيبتها وبريقها فقد أمسى الحكم العباسي شكلا فقط للدولة الإسلامية متمثلا بالحاكم، أما السيطرة فقد كانت غیر عربية مما جعلها فرصة للاطماع ((لكي تنقض عليها الايدي الخارجية من المغول وغيرهم لتطيح بالخلافة العباسية)(1).

لا يمكن لعاقل أن ينكر بأن الأمويین والعباسيين جزء من التاريخ السياسي للمسلمين الا أنهم لم يسیروا على منهج الاسلام بل سعوا لخلق ثقافة اسلامية مزيفة لما تزل آثارها السلبية قائمة عند بعض المسلمين رغم تباعد المكان والزمان، عبر تبني سياسة الارهاب الفكري والثقافي وممارسة الاقصاء والتهميش للآخرين.

الا أن ذلك لم يثنِ اتباع الفكر السياسي العلوي وغیره من مواصلة الثورات والظهور مرة اخرى من خلال تأسيس الدولة الموالية.

- الدول الموالية:

في مقابل سياسة الممانعة التي سادت في العصرين الأموي والعباسي كانت هنالك سياسة أخرى تسیر في اتجاه مغاير لها وعاشت صراعاً معها؛ لأنها حاولت تطبيق تعاليم الإسلام من القرآن والسنة النبوية وتبني الأصول السياسية لمنهج الامام علي وترسيخ أسس العدالة في ادارة الدولة الإسلامية.

وبعد قراءة دقيقة للتاريخ السياسي لأتباع منهج الامام يمكننا القول بأنه قد مر بمرحلتین:

ص: 250


1- حسن، علي ابراهيم: التاريخ الاسلامي العام، مكتبة النهضة المصرية، ط 3، القاهرة، ص 465

.1 مرحلة الثورات.

2. مرحلة الدول.

مرحلة الثورات:
اشارة

إن الصراع بین الحق والباطل بین الطاغوت والمظلومین أزلي منذ بداية الخليقة وسلسلة الانتصارات والهزائم بین الطرفین يحكمها التكافؤ بينهما، وعند قراءة تاريخ الثورات الإسلامية التي واجهت الأنظمة القمعية للحكام الذين رفعوا شعار الاسلام، نجد أنها تصنف إلى صنفین من ناحية التحدي والمواجهة، فصنف واجه تلك الأنظمة لاجل المواجهة فقط ليختار الاستشهاد حلا اخیرا. وصنف آخر اختار المواجهة المنظمة التي تحمل اطارا سياسيا يستوعب هموم ومتطلبات الناس ليطرح بديلا منقذا من سياط الظالمین، لذلك تقسم الثورات الإسلامية التي تبنت نهج وطريقة الامام علي في الحكم إلى قسمين:

أ. الثورات السياسية.

ب. الثورات الحماسية.

ص: 251

أ. الثورات السياسية:
اشارة

وهي الثورات التي تهدف إلى الاصلاح السياسي عبر تغیير رأس السلطة الظالمة التي انحرفت عن الثوابت التي يعتقد بها ابناء المجتمع، فتطرح تلك الثورة بديلاً سياسياً يقوم على تحقيق اهداف وطموحات المجتمع عبر الوسائل المشروعة، ومن ابرز تلك الثورات الاصلاحية التي تحمل مشروعا سياسيا كبیرا ثورة الامام الحسین.

- ثورة الامام الحسين:

إذ قام الامام الحسین بثورة اصلاحية تهدف استئصال الفساد المستشري في مؤسسات الدولة الإسلامية التي كان يرأسها يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، ومن ثم بناءها على القواعد المستقاة من بصائر القرآن وسنة النبي ونهج الامام علي السياسي بعد أن حاول التيار الأموي أن يطمس معالم الحضارة الإسلامية وارجاعها إلى المنحدر الجاهلي قبل الاسلام. لذلك رفع الامام الحسین شعاره الاصلاحي المعروف الذي أعلنه في بداية ثورته قائلا: ((إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا ظالما ولا مفسدا إنما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي))(1).

وعند التأمل في مسیرة الامام الحسین من المدينة إلى العراق نلمس تأثره بنهج الامام علي بل تواصله في السیر عليه من خلال ملاحظة عدة مواقف، فهو يؤمن بالشعار الاصلاحي نفسه الذي رفعه الامام علي اثناء توليه للخلافة الإسلامية من اقامة العدل والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وحماية الضعفاء من سلطة الاقوياء وعدم قبول الحلول الوسطى على حساب الحق، ويلاحظ أيضا التأثر

ص: 252


1- الاصفهاني، أبو الفرج: مقاتل الطالبيين، ص 84

بنهج الامام علي في سقايته للجيش الأموي؛ ((اذ كان الامام الحسین على مشارف العراق وحاصره الجيش الأموي، الذي كان منهكا من طول السفر ففسح الامام الحسین المجال لجيش يزيد لكي يشرب الماء))(1)، وهذه الحادثة شبيهة بسابقة لها؛ اذ اعطى الامام علي المجال لجيش معاوية في معركة صفین لكي يرتوي من الماء، كذلك الخطاب الوعظي الذي أطلقه الامام الحسین في ساحة المعركة حتى أن الجيش الأموي اشتكى من كثرة الخطب، بل تأثر وارتد بعض الاشخاص عن محاربة الامام من امثال الحر بن يزيد الرياحي، وغیره ويضاف إلى تأثر الامام الحسین بنهج الامام علي عدم بدئه بالقتال وبكاؤه على قتل الجيش المعادي. هذه السلوكيات النبيلة نجد امثالها في مواقف الامام علي مما يشیر بوضوح إلى التأثر والاتصال.

ثورة الامام الحسین في المعادلات الحربية انتهت ولم تحقق اهدافها من الاطاحة بالنظام الحاكم، الا أنه في المعادلات الالهية يختلف التقييم، فالامام الحسین بدمه الشريف أيقظ الضمائر النائمة والساكتة، وكشف القناع عن السلطة التي تدعي السیر على النهج الإسلامي؛ ليعطي درسا للبشر عبر التاريخ وهو أن الشعار الذي يرفعه الحاكم لا بد أن يتحول إلى شعور إنساني يرفع الظلم والحيف عن الضعفاء والفقراء، والا فذلك يعد اطارا فارغا يجب ازالته، لذلك يعد الامام الحسین هو المنتصر، وهذا ما نراه اليوم وبعد 1400 سنة يذكر الامام الحسین بكل اجلال بل يعد رمزا ونبراسا و (متراساً) لكل الثوار والاحرار في العالم.

ص: 253


1- الاصفهاني، أبو الفرج: مقاتل الطالبيين، ص 85
- ثورة المختار - (65 ه - 67 ه)

تعد ثورة المختار بن أبي عبيدة الثقفي من الثورات السياسية التي لاقت نجاحا باهرا؛ لأنها كانت تطمح لاقامة حكومة وفق سياسة عادلة واضحة المعالم لتستقطب خیرة الكفاءات من القادة العسكريين والسياسيين ورؤساء العشائر وبقية الطبقات المحرومة، وتقيم بهم كيانا سياسيا منظما حقق طموحات المظلومين من ابناء الامة الإسلامية. وقد رفع المختار شعار ((يالثارات الحسین))(1).

ليعبر عن سياسة موالية للامام علي واهل بيته تعبیراً واضحا للسیر على نهجهم. اثارت انتصارات المختار على الأمويین وامتداد حكومته جسد آل الزبیر الذين ارسلوا جيشا جرارا ضم مواليهم وبقايا قتلة الامام الحسین، حدثت معارك بينهما انتهت بمقتل المختار في الكوفة واسر بقية اصحابه الذين اعطاهم مصعب ابن الزبیر الامان لكنه غدر بهم ليقتل ستة آلاف شخص ويقطع رؤوسهم(2).

- الثورة الزيدية (121 ه - 125 ه)

قاد الثورة الزيدية زيد بن علي بن الحسین بن عیي بن ابي طالب ضد الظلم الأموي، كانت ثورته منظمة فقد اتصل بكل فئات وابناء الفرق والمذاهب الإسلامية وايده زعماؤها، وقتل بعضهم مثل الامام أبي حنيفة الذي زج في السجن ودس له السم لتقتله السلطة الأموية(3).

قال الامام جعفر الصادق ((ان ابا حنيفة تحققت مودته لنا في نصرته زيد بن

ص: 254


1- القرشي، باقر شريف: المختار الثقفي، دار الذخائر الإسلامية، ط 1، النجف، 2011 ص 225
2- القرشي، باقر شريف: المختار الثقفي، ص 264
3- زميزم، سعيد رشيد، ثورات الشيعة، دار القارئ، ط 1، بيروت، 2006، ص 51

علي))(1) اعلن زيد عن انطلاق ثورته في 1 صفر عام 121 ه وكان المفروض أن تنطلق من عدة اتجاهات من البصرة والكوفة والمدائن الا أن جواسيس الأمويین قاموا بعملية استباقية واغتالوا زيداً بسهم. ليقضوا على ثورته(2).

إن المبادئ العظيمة التي سار عليها الشهيد زيد كان يريد من كل المسلمين أن يسیروا عليها خصوصا السیرة الطيبة للامام علي، يقول الكاتب المصري أبو زهرة: ((إن آراء زيد بن علي قد استمدها من آراء الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) التي ذاعت بین الناس جميعا وأن زيدا اراد أن يرد المذهب الشيعي إلى اصوله في عهد علي بن ابي طالب))(3).

وقد سار على نهج تلك الثورة ابنه يحيى بن زيد الذي اختفى مع بعض اصحابه ليصل إلى خراسان ويعلن الثورة هناك ((الا أن قوة الجيش الأموي قضت على ثورته))(4)، فالزيدية تعد حركة تشبه في رفضها للأنظمة وعدم مهادنتها لها اكثر الحركات الإسلامية ولكنها كانت اكثر تنظيما ووعيا من باقي الحركات الاخرى التي انتهت قبل أن تنهي الحركة الزيدية))(5)

ص: 255


1- زميزم، سعيد رشيد، ثورات الشيعة، دار القارئ، ط 1، بيروت، 2006، ص 55
2- النفيس، احمد راسم: الشيعة والثورة، دار المحجة البيضاء، ط 1، بيروت، 2010 ص 169
3- النفيس، احمد راسم: الشيعة والثورة، ص 182
4- النفيس، احمد راسم: الشيعة والثورة، ص 182
5- زميزم، سعيد رشيد: ثورات الشيعة ص 89
- الثورة الحسنية:

بعد أن تم اسقاط الدولة الأموية كان المفروض أن يتولى الحكم العلويون وهذا كان واضحا في شعار الثورة ((الرضا لآل محمد))(1)، وقد بايع ابو العباس السفاح واخوه ابو جعفر المنصور القائد محمداً ذا النفس الزكية الا أن العباسيين سرعان ما انقلبوا على هذا الامر ناكثین بذلك بيعتهم وسائرين على نفس السياسة الأموية الظالمة.

مما ادى إلى قيام ثورة جديدة لتصحيح مسار الثورة بقيادة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب الذي ارسل اكثر اصحابه وقادة ثورته إلى البلدان لتحريض الناس، فقام بالسيطرة على المدينة المنورة وخطب بالناس معللا سبب ثورته قائلا: ((أما بعد أيها الناس فإنه كان من امر هذا الطاغية عدو الله ابي جعفر أن لم يخف عليكم من بناء القبة الخضراء التي بناها معاندا الله في ملكه وتحقیرا للكعبة الحرام وإنما اخذ الله فرعون لقوله: (أنا ربكم الاعلى) وإن احق الناس بالقيام بهذا الدين ابناء المهاجرين الاولین والأنصار المواسین اللهم إنهم قد أحلوا حرامك وحرموا حلالك وأمنوا من أخفت وأخافوا من أمنت، اللهم فاحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم احدا، ايها الناس إني والله ما خرجت من بین أظهركم وانتم عندي اهل قوة ولاشك، ولكني اخترتكم لنفسي والله ما جئت هنا وفي الارض مقر يعبد الله فيه الا وقد اخذ لي البيعة))(2) ويوضح محمد في رسالة له بعثها إلى المنصور الذي عرض عليه الامان والمغريات، لكي يترك ثورته أنه احق منه لنص الرسول على جده الامام علي بالولاية اذ يقول: ((وأنا

ص: 256


1- حسن، علي ابراهيم: التاريخ الإسلامي في العالم، ص 345
2- زميزم، سعيد رشيد: ثورات الشيعة ص 219

اعرض عليك من الامان مثل الذي عرضت علي، فإن الحق حقنا وإنما ادعيتم هذا الامر بنا وخرجتم له شيعتنا وحظيتم بفضلنا وأن أبانا عليا كان الوصي وكان الامام فكيف ورثتم ولايته وولده احياء))(1) وقد امتدت الثورة الحسنية لتشمل مناطق عدة نوجزها في الجدول التالي:

ص: 257


1- زميزم، سعيد رشيد: ثورات الشيعة، ص 225. - للاطلاع اكثر حول تفاصيل هذه الثورات ينظر، الاصفهاني، أبو الفرج: مقاتل الطالبيين ص 166 - 206

صورة

ويلاحظ تأثر الثورة الحسنية بنهج الإمام علي وأهل بيته من خلال مفردات الخطب التي يلقيها قادة الثورة، وكذلك توافق شعارهم وسلوكياتهم مع نهج الامام علي السياسي في الحكم. وعلى سبيل المثال قوله: ((أنا ابن بنت رسول الله على منبر رسول الله وفي حرم رسول الله أدعوكم إلى سنة رسول الله (صلى الله عليه

ص: 258

وآله)، أيها الناس تطيبون آثار رسول الله في الحجر والعود وتتمسحون بذلك وتضعون بضعة منه ثم قال ((ابايعكم على كتاب الله وسنة رسوله وعلى أن يطاع الله ولا يعصى وادعوكم إلى الرضا من آل محمد وعلى أن يعمل فيكم بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) والعدل في الرعية))(1) فهو يشیر فيه إلى اهمية استعمال العدل في الرعية وهذه المفردة طالما اكد عليها الامام علي.

- الثورة الجعفرية (200 ه):

قاد هذه الثورة ابراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسین ابن علي بن ابي طالب. سنة 200 ه حمل نفس الشعارات المناهضة للحكم الظالم والدعوة إلى النهج السليم في اقامة الدولة الإسلامية متخذا من سياسة الامام علي أنموذجا وحلما يسعى إلى تحقيقه و ((امتدت ثورته من مكة إلى بلاد اليمن في ايام حكم المأمون العباسي))(2). الذي أرسل له جيشا كبیرا إلا أنه لم يستطع القضاء على تلك الثورة بسهولة لقوة المقاومة والتفاف الناس حوله، تمكن بعدها العباسيون من السيطرة على اليمن واعتقلوا ابراهيم واودع السجن ودس له السم ليقتل فيه.

ص: 259


1- زميزم، سعيد رشيد: ثورات الشيعة، ص 219
2- زميزم، سعيد رشيد: ثورات الشيعة، ص 269
الثورة العلوية
ب- الثورات الحماسية:
اشارة

لقد ضم التاريخ في صفحاته ثورات سياسية كانت تستهدف تغيیر الأنظمة المستبدة عبر السيطرة على البلاد بصورة منظمة ومدروسة، ولكن توجد ثورات أخرى أيضاً عارضت تلك الأنظمة ألا أنها لم تكن تستهدف تغييرها فكانت بمثابة عمليات استشهادية أرادت كشف زيف الحكام الظلمة فقط، ألا وهي الثورات الحماسية التي اتخذت من كلام الإمام علي منطلقاً للثورة الذي كان يؤكد دائماً على وظيفة الأمة التقويمية تجاه حكامها، ومن تلك الثورات الحماسية ثورة التوابین.

- ثورة التوابين: (65 ه).

انطلقت هذه الثورة من منطقة المدائن وكان أبرز قادتها سليمان بن صرد الخزاعي والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد قد ضمت الأشخاص الذين لم تسنح لهم الفرصة لنصرة الإمام الحسین والأشخاص الذين لم يلتحقوا به كان هدفهم الرئيسي إنزال القصاص على قتلة الإمام الحسین والذي نلمسه من خطاب أحد قادة الثورة وهو المسيب بن نجبة الغزاوي إذ قال: «كنا مغرمین بتزكية أنفسنا وتفريط شيعتنا حتى أبلى الله خيارنا فوجدنا كاذبین في موطنین من مواطن ابن بنت نبينا (صلى الله عليه وآله)، وقد بلغنا كتبه وقدمت علينا رسله وأعذر ألينا يسألنا نصرته عوداً وبدءاً وعلانية وسراً فبخلنا عنه بأنفسنا حتى قتل إلى جانبنا لا نحن نصرناه بأيدينا ولا جلالنا عنه بأنفسنا ولا قويناه بأموالنا ولا طلبنا له النصرة

ص: 260

إلى عشائرنا فما عذرنا عند الله وعند لقاء نبينا لا والله لا عذر دون أن تقتلوا قاتليه والموالین عليه أو تقتلوا في طلب ذلك فعسى ربنا أن يرضى عنا عند ذلك»(1).

مما أثار هذا الخطاب الدولة الأموية التي انتهجت سياسة قطع الألسن التي تنادي بالمطالبة بالحقوق إضافة إلى انتماء أبناء الثورة إلى التيار العلوي المحب لأهل البيت. فأرسل يزيد جيشاً بقيادة عبيد الله بن زياد الذي اصطدم مع الثوار في أكثر من معركة في منطقة عین الوردة ليقضي على الثورة ويقتل أبرز قادتها وعلى غرار تلك الثورة الحماسية نجد في التاريخ ثورات مماثلة لها في الأهداف نفسها.

من مثل ثورة عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الذي قام بالثورة ضد المأمون العباسي في سنة 208 ه في الحجاز فتوفي عبد الله أثناء الطريق وانتهت الثورة»(2).

وثورة علي بن زيد بن الحسین بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسین بن علي بن أبي طالب إذ خرج في الكوفة في عهد المهتدي العباسي سنة 221 ه فقضى عليها الجيش العباسي(3) وأيضاً ثورة الحسین بن حمزة بن عبد الله بن الحسین بن علي ابن الحسن بن علي بن أبي طالب الملقب (بالحرون) الذي انتفض في سنة 251 ه في الكوفة «إلا أن المستعين العباسي اعتقله وزج به السجن»(4) وأخيراً ثورة إسماعيل ابن يوسف بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن أبي طالب سنة 251 إذ أعلن ثورته بالمدينة المنورة «فأرسل المعتز العباسي جيشاً أرهق الثوار مما تسبب

ص: 261


1- القرشي، باقر شريف: المختار الثقفي، ص 202
2- زميزم، سعيد رشيد: ثورات الشيعة، ص 285
3- الأصفهاني، أبو الفرج: مقاتل الطالبين، ص 528
4- زميزم، سعيد رشيد: ثورات الشيعة، ص 95

بالقضاء على الثورة وقادتها»(1).

إن السياسة الموالية لأهل البيت ومنهج الامام علي تحديداً كانت من أبرز الشعارات التي رفعها الثوار خلال ثوراتهم السياسية والحماسية.

إضافة للمطالبة بعدم استلاب حقوق المجتمع والدعوة لتغليب المصلحة العامة على الخاصة ومقارعة الحكام الظالمین. فهل تغیرت هذه المبادئ بعد أن تحولت الأصول النظرية للممارسة الفعلية التطبيقية وانقلاب معادلة الحكم حین تحول الثوار من محكومین إلى حاكمي الدولة.

2- مرحلة الدول:

لم يقتصر التاريخ العلوي السياسي على ظهور ثورات سياسية أو حماسية تحمل هم الإصلاح والتغيیر فقط، بل إن هنالك دولاً أقيمت، أما نتيجة الثورات التي حدثت أو عن طريق بعض القيادات العلوية التي اتخذت من كلام الإمام علي ومواقفه دستوراً لبناء مؤسسات الحكومات التي أُنشئت.

لذلك سوف نتناول بعض تلك الحكومات التي أقيمت في أماكن وحقب زمانية مختلفة على أراضي البلاد الإسلامية.

ص: 262


1- الأصفهاني، أبو الفرج: مقاتل الطالبيين، ص 524
أفغانستان
- الدولة الغورية (37 ه - 594 ه).

تعد الدولة الغورية من أوائل الدول الشيعية التي أنشاها الزعيم الأفغاني وشنسب بن خزنك بعد أن أسلم على يد أمیر المؤمنین علي وأعطاه على أثرها الإمام راية وعهداً «أرسله بيد جعدة بن هبیر المخزومي واليا على خرسان»(1) وقد تناقل هذه الأمانة ملوك الغور من ملك إلى آخر تعرف قبيلة الغور اليوم باسم (الهزادة)(2)، ظل أبناء هذه القبيلة موالین للإمام علي حتى بعد استشهاده حيث إنهم رفضوا أوامر معاوية بن أبي سفيان بشتم وسب الإمام علي على منابر المساجد، وعلى إثر إصرارهم على ذلك «أرسل إليهم معاوية جيشاً بقيادة حكم بن عمر سنة 47 ه؛ إذ اتهم هذه القبيلة بالارتداد عن الدين إلا أنه لم يستطع القضاء عليهم»(3) وقد استمرت الدولة وأسهم الغوريون في إسقاط الدولة الأموية. امتدت الدولة الغورية في حقبتین زمنيتین:

1. الأولى: من سنة 37 ه إلى سنة 599 ه.

1. الثاني: من سنة 884 ه إلى سنة 964 ه.

تولى حكم الدولة الغورية عدة ملوك أبرزهم الزعيم شنسب بن خزنك وقطب الدين بن حق الملقب بملك الجبال لقوة دولته وغياث الدين بن سام

ص: 263


1- زميزم، سعيد رشيد: دول الشيعة التأريخ، دار القارئ، ط 1، بيروت، 2008، ص 11
2- المصدر نفسه، ص 17
3- زميزم، سعيد رشيد: دول الشيعة التاريخ، ص 18

وذو النون رغون مؤسس الدولة الغورية في المرحلة الثانية»(1).

وقد امتازت سياسة الغوريين بالولاء للإمام علي والسير على نهجه.

إذ حاولوا تطبيقه خلال مدّة حكمهم ويمكن أن نلمس الخدمات التي قدمها الغوريون خلال مدّة حكمهم عبر ما يلي:- 1. 1. الإسهام بنشر الدعوة الإسلاميه في أفغانستان.

1. 2. بناء المساجد وتشييد دور العلم والمعرفة وإقامة المناظرات فيها.

1. 3. حفر الآبار ومد القناطر والاهتمام بالزراعة.

1. 4. تقوية الجيش والاهتمام بتسليمه.

1. 5. تقديم المنح المالية للفقراء ومعالجتهم من الإمراض.

ويضاف إلى انجازات هذه القبيلة دورهم في التصدي للانجليز حيث قام العالم الشيعي الكبير (الملا عبد الله) في مدينة قندهار بالنضال وبمقاومة الانجليز، يقول أبو العينین فهمي عن الشيعة الهزارية: (يتصف الهزارة بالأمانة والشجاعة وطيب القلب وهم يقدمون للبلاد أفضل الخدمات وقد امتاز شبابهم في صفوف الجيش بالشجاعة النادرة والوطنية الصادقة)(2).

ص: 264


1- زميزم، سعيد رشيد، دول الشيعة التاريخ، ص 20
2- زميزم، سعيد رشيد، دول الشيعة التاريخ، ص 21
العراق
اشارة

كان الامام علي مؤسس الدولة في العراق عندما اتخذ من الكوفة عاصمة للدولة الإسلامية، لوجود الجماهیر الموالية والمحبة له وبعد استشهاده أصبح العراق منطلقاً للثورات ضد الأنظمة المستبدة، فالعراقيون بدأوا بمقارنة دولة الامام علي مع أي حاكم يريد أن يحكمهم؛ لذلك لا تجدهم ينساقون لأي حاكم بسهولة.

وهذا كان دافعاً لهم لإقامة دولة مشابهة لدولة الامام علي، لذا توالت على العراق عدة دول علوية نذكرها حسب التسلسل الزمني:

- دولة المختار الثقفي: (65 ه - 67 ه).

بعد مخاض كبیر من الحروب والصراعات ولدت دولة المختار الثقفي في الكوفة وامتدت حسب الروايات إلى حدود أرمينية. وقد تفانى أصحاب المختار في خدمة الناس وإرجاع الحقوق المغتصبة إلى أصحابها والقصاص من قاتلي الإمام الحسین. يقول الإمام الباقر: «لا تسبوا المختار فانه قد قتل قتلتنا وطلب بثأرنا وزوج أراملنا وقسم فينا المال على العسرة»(1).

كذلك قام ببناء قبر الإمام الحسین والحفاظ على حياة البقية من قادة البيت العلوي خصوصاً محمد بن الحنفية أخا الإمام الحسین؛ «إذ حاول عبد الله بن الزبیر أن يأخذ بالقوة البيعة من محمد وعندما رفض حاول أن يحرقه مع مجموعة من أهل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله)، فبعث لهم المختار كتيبة استشهادية

ص: 265


1- القرشي، باقر شريف: المختار الثقفي، ص 221

قامت بفك الحصار عن محمد بن الحنفية وأنقذته من بطش ابن الزبیر»(1).

وقد وضع المختار برنامجاً سياسياً قدم به الخدمات لأبناء رعيته متأثراً بكلمات الإمام علي الذي قال عنه وهو في الصغر: «هذا الولد كيّس»(2) دلالة على رجاحة عقل المختار الثقفي التي كانت واضحة عليه وهو في الصغر.

- دولة آل مسيب (384 ه).

تمكنت حمولة آل مسيب أو بني عقيل التي ترجع إلى عامر بن صعصعة من السيطرة على مدينة الموصل وتوابعها وأعلنوا عن قيام دولة شيعية تحت قيادة الزعيم أبي الذواد محمد بن المسيب وامتدت تلك الدولة إلى بعض المناطق في سوريا وتركيا إضافة إلى العديد من المدن العراقية، وقد تولى حكم تلك المناطق عدة أمراء بعد (أبو الذواد) منهم المقلد بن المسيب والأمیر قراوش والأمیر قريش ابن بدران، «واتسمت سياسة آل مسيب بالعدل والتفاني في خدمة الناس متأثرين بنهج الإمام علي لذلك قاموا بتدريس كلامه وخطبه في المدارس الدينية التي أنشأوها»(3).

كذلك قاموا بإنعاش الوضع الاقتصادي من خلال دعم المزارعین، وتوزيع الأراضي عليهم بدون مقابل، وإنشاء القناطر، وشق الأنهر، وبناء الأسواق.

إضافة إلى إعمار البلاد، ولاسيما مدينة الموصل؛ لكونها عاصمة لدولتهم

ص: 266


1- القرشي، باقر شريف: المختار الثقفي، ص 225
2- القرشي، باقر شريف: المختار الثقفي ثورة وجهاد، دار الذخائر الإسلامية، ط 3، النجف الاشرف، 1432 ه، 2011 م، ص 25
3- الموصلي، سليمان صائح: تاريخ الموصل، ج 1، المطبعة السلفية، ط 1، مصر، 1923، ص 131

وإنشاء صندوق لرعاية المحتاجین. ولم يغفل حكام آل مسيب عن تطوير القوات العسكرية للحفاظ على استقرار دولتهم، وقد كان سبب انتهاء حكمهم الهجمات التي تعرضت لها من قبل القوات العثمانية.

- الدولة المزيدية (495 ه).

وهي إحدى الدول الشيعية التي أسست في العراق ثم توسع نفوذها حتى شمل مناطق شاسعة من العراق إلى سواحل الخليج العربي. قام القائد رد بيس بن فريد الاسدي أحد القادة الكبار لقبيلة بني أسد مع القبائل الأخرى في المنطقة الغربية خصوصاً في منطقة عانة وتكريت بتأسيس هذه الدولة التي أطلق عليها بعد مناقشات (الدولة المزيدية)(1)، اتخذت من مدينة الحلة عاصمة للدولة، أنجبت هذه الدولة أمراء عرفوا بسياستهم العادلة التي اتخذت من سياسة الامام علي قدوة وسراجاً في أثناء حكمهم، كان من أكثرهم خدمة لأبناء شعبه الأمیر صدقة الاسدي والأمیر منصور وبدران بن صدقة، ومن ضمن الخدمات التي اهتموا بها تأمین الطرق المؤدية إلى مدينة كربلاء المقدسة من قطاع الطرق واللصوص الذين كانوا يقومون بسلب زائري الإمام الحسین، إضافة إلى صد الهجمات التي يتعرض لها المرقد الشريف، «وكان أكثرها خطراً ما قام به المدعو ضبة الاسدي؛ إذ ضرب وسرق محتويات مرقد الإمام الحسین، من السجاد الفاخر والتحفيات النادرة»(2)، ورد هذا الهجوم الأمیر صدقة الاسدي فقام ببناء المرقد الشريف وتعويض أهالي كربلاء فعم الفرح في الأوساط الشيعية مما حدا بالشعراء الى كتابة القصائد أمثال الشيخ محمد السماوي الذي انشد قائلا يؤرخ هذا الحدث:

ص: 267


1- زميزم، سعيد رشيد: دول الشيعة التأريخ، ص 219
2- زميزم، سعيد رشيد، دول الشيعة التاريخ، ص 220

«والحادث الخامس ما أهاجهْ *** بنهب كربلا بنو خفاجةْ

وذاك أنهم أتوا من غزوِ *** واستطرفوا الطفّ بفرط زهوِ

فنهبوا سكانه وفتكوا *** وخفروا ذمامه وانتهكوا

فكبس الطف عليهم صدقة *** وكلّم السيف بهم صدّقهْ

كما سمعته بمعجزات *** له فارخه «أبا دعاتي»(1).

وكذلك اهتم الحكام المزيديون بالتربية والتعليم وإنشاء المدارس العلمية والدينية وقاموا أيضاً بمراعاة الطبقة المحرومة عبر تخصيص المبالغ المالية لسد حاجاتهم وحاولوا تقوية الجيش عبر إقامة تحالفات كثیرة مع أبناء القبائل العربية الأخرى.

المغرب
- الدولة الادريسية (83 ه - 949 ه):

ولدت هذه الدولة المباركة من رحم الثورة الحسنية فقد كان مؤسسها هو إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب. أحد أعمدة ثورة محمد ذي النفس الزكية ضد السياسة المستبدة التي مارسها العباسيون، الذين قضوا على الثورة وقياداتها إلا ان إدريس تمكن من الإفلات من قبضتهم ليذهب إلى مصر ومنها إلى المغرب وبالخصوص في مدينة (وليله)، وما أن علم الناس بتواجده في المدينة سرعان ما ذهبوا لمبايعته وكانت في مقدمة القبائل التي

ص: 268


1- زميزم، سعيد رشيد: دول الشيعة، ص 226

بايعته قبيلة (أوريه) البربرية «فأعلن إدريس تأسيس الدولة الادريسية»(1)، مما أثار الحاكم العباسي هارون الملقب بالرشيد «فقام بإرسال شخص ليدس السم إلى إدريس ويقتله»(2) فتولى نائبه راشد أمور الدولة الادريسية إلى أن بلغ ابن إدريس سن الرشد، والذي كان اسمه إدريس الثاني فتولى زمام الدولة. لتبدأ بذلك سلالة الأمراء الادارسة من بعده.

واستمروا بسياسة مرنة وعادلة شهد العدو والصديق بها. كان من أشهر الأمراء يحيى الأول ويحيى الثاني، وغيرهم. ويلاحظ تأثرهم بمواقف الامام علي وسياسته بتواصلهم على المنهج نفسه، وهذا ما صرح به مؤسس دولة الادارسه عندما وضح سبب حب الناس له واستقرار الدولة؛ إذ قال: «ذاك ببركة جدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ووراثة من أبينا علي بن أبي طالب»(3) ومن المواقف التي توضح إيمان حكام الإدارسة بمبادئ الديمقراطية وسلطة الشعب.

«ما حدث لأحد الأمراء وهو الأمیر علي الذي كانت سياسته غیر صائبة فذهب الناس له وصارحوه برفضهم لسياسته فتنازل مباشرة عن الحكم»(4)، وهذا يدل على أن الأمراء الادارسه لم يكن همهم التمسك بالسلطة كما يفعل الأمويون والعباسيون بل كان هَمّ الحاكم الإدريسي خدمة الناس. يقول المستشرق (سيديو) عن الأعمال التي قام بها رجال هذه الدولة الشيعية: «ظل الأدارسة قابضین على ما ملكوه من سنة 83 ه إلى سنة 949 ه مقيمین في البلاد التي هي مدينة لهم

ص: 269


1- الطبري، محمد بن جرير: تاريخ الطبري، ج 1، ص 29
2- الطبري، محمد بن جرير: تاريخ الطبري، ج 1، ص 35
3- زميزم، سعيد رشيد، دول الشيعة التاريخ، ص 46
4- الطبري، محمد بن جرير: تاريخ الطبري، ج 1، ص 35

بجليل الأعمال»(1) وكان من أهم الأعمال التي أشرفوا على إنجازها.

1. 1. نشر الإسلام في المناطق الإفريقية التي لم يصل الإسلام إليها.

1. 2. بناء المدن الحضارية فقد بنى الأمیر إدريس الثاني أجمل مدينة في العالم ليومنا هذا وهي مدينة فاس.

1. 3. بناء المساجد والمدارس الدينية من قبيل مسجد المدينة الكبیر في (فاس) والذي افتتحه الأمیر إدريس وكان أول من يخطب به إذ قال: «اللهم إنك تعلم أني ما أردت ببناء هذه المدينة مباهاة ولا مفخرة ولا رياء ولا سمعة ولا مكابرة وإنما أردت أن تعبد فيها ويتلى فيها كتابك وتقام بها حدودك وشرائع دينك وسنة نبيك ما بقيت الدنيا، اللهم وفق سكانها للخیر، وأعنهم عليه واكفهم مؤونة أعدائهم وادرر عليهم الأرزاق واغمد عنهم سيف الفتنة والشقاق أنك على كل شيء قدير(2)، وهذا الكلام خیر شاهد على حب الأمیر إدريس ورأفته بأبناء بلده وإيمانه الكبیر بتعاليم الإسلام.

1. 4. الاهتمام بالزراعة؛ لأنها المصدر الرئيسي لدخل الدولة فهي قوت الفقراء والمساكين، كذلك قاموا بتعويضهم في حال حدوث الأضرار التي تلحق بهم نتيجة موجات الجفاف في مواسم الحر الشديد في فصل الصيف.

ص: 270


1- زميزم، سعيد رشيد: دول الشيعة عبد التاريخ، ص 47
2- زميزم، سعيد رشيد: دول الشيعة عبد التاريخ، ص 47
إيران
- الدولة العلوية (250 ه - 360 ه).

بعد صراع كبیر ضد الحكم العباسي تمكن الحسین بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب من السيطرة على منطقة طبرستان وهي أحد أقاليم إيران وأسس فيها دولة عرفت حينئذ بالدولة العلوية في أيام خلافة المستعين سنة 250 ه(1).

وقد نعم المسلمون في هذه المنطقة بالعدالة والمساواة للسياسة الرشيدة التي عمل بها الحسن بن زيد واستمر الأمراء من بعده على السياسة نفسها التي ورثها العلويون من جدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأمیر المؤمنین الامام علي، وقد عد التاريخ أفضلهم انجازاً لبلده محمد بن زيد والحسن بن علي الملقب بالاطروش ومحمد بن الحسن.

ومما يحسب للحكام العلويین خلال مدّة حكمهم القيام بنشر الإسلام، وهم جالية، ومنهم مجوس فدعوهم إلى الله فاستجابوا واسلموا إلا قليلاً منهم في مواضع من بلاد الجبل والديلم وهي جبال شاهقة وقلاع وأودية ومواضع فشنه وقد بنى الاطروش في بلادهم الكثیر من المساجد(2)، وقاموا أيضاً ببناء مرقد أمیر المؤمنین علي بن أبي طالب ومرقد الإمام الحسین وإنشاء الأماكن المخصصة لمبيت

ص: 271


1- منصور، محمد علاء: تاريخ إيران بعد الإسلام، دار الثقافة للنشر، القاهرة، 1989، ص 17
2- منصور، محمد علاء: تاريخ إيران بعد الإسلام، ص 20

الوافدين لزيادة المراقد المشرفة، وكذلك اهتموا بتسليح الجيش وتنمية اقتصاد الدولة ورعاية الفقراء.

- الدولة البويهية:

في الربع الأول من القرن الرابع الهجري وبالتحديد في سنة 321 ه أسست الدولة البويهية في مدينة شیراز الإيرانية المعروفة باتصاف أهلها بالعلم والأدب، كان أول حاكم لتلك الدولة علي بن بوبه الملقب بعماد الدولة لسماحته وشجاعته وحب العلم، الأمر الذي دعا العديد من العلماء والأدباء يلتفون حوله ويقتربون منه(1) ومن الشعراء الذين تغنوا بعدالة الدولة البويهية الشاعر أبو الطيب المتنبي الذي عاصر أحد حكامهم فقال في مدحه.

وقد رأيت الملوك قاطبة *** وسرت حتى رأيت مولاها.

أبا شجاع بفارس عضد الدولة *** فناخُسْروا وشاهنشاها.

أسامياً لم تزده معرفة *** وإنما لذة ذكرناها(2).

تولى حكم الدولة البويهية التي امتدت من إيران إلى العراق ومن ثم إلى بقية الأقاليم الإسلامية، كثیر من الأمراء منهم عماد الدين علی بن بويه والسلطان عماد الدولة وعضد الدولة وغيرهم، ومن الأعمال التي تمت في عهدهم.

1. تأسيس عدد كبیر من الجامعات العلمية والمدارس التي تدرس الفقه الإسلامي لجميع المذاهب دون استثناء.

ص: 272


1- زميزم، سعيد رشيد: دول الشيعة عبر التاريخ، ص 155
2- زميزم، سعيد رشيد: دول الشيعة عبر التاريخ، ص 157

2. الاهتمام بالزراعة وتوزيع القروض على المحتاجین مما أنعش الحالة الاقتصادية للناس.

33. تجديد بناء مرقد الامام علي ومرقدي الامام الحسین وأخيه أبي الفضل، وتعمیر المساجد والمراقد الأخرى في سامراء والكاظمية، ومن المواقف التي تشیر بوضوح إلى تأثر الحكام البويهین بالإمام علي واحترامهم له، يقول ابن الأثیر في حوادث سنة 425 ه عن جلال الدولة وهو أحد حكام آل بويه: «كان يزور الصالحین وزار مرة مشهد علي بن أبي طالب وولده الحسین وكان يمشي حافياً قبل أن يصل إلى مشهده نحو فرسخ»(1)، إضافة إلى تعطيل الدوائر الحكومية وإقفال الأسواق وإبداء مظاهر الحزن في يوم العاشر من محرم ذكرى شهادة الامام الحسین.

4. اهتم بتقوية الجيش وتطوير الأسطول التجاري الذي كان يجوب مناطق الخليج العربي.

الدولة الجلائرية (814 ه).

تأسست هذه الدولة في القرن السابع الهجري على يد الشيخ حسن الجلائري الذي اتخذ من مدينة تبريز عاصمة لدولته وبسط الجلائريون سيطرتهم على إيران والعراق وأجزاء من الأراضي التركية والأفغانية وبلاد القفقاس، وقد رحب أبناء تلك البلاد بحكمهم؛ لاهتمامهم ببناء تلك البلاد ولسياستهم الرحيمة، وكان من بينهم السلطان أديس الجلائري والسلطان حسین(2).

ص: 273


1- الطائي، نجاح: الوحدة الشيعية والغزو الوهابي، ج 2، دار الهدى لإحياء التراث، بيروت، 2005، ص 307
2- طرطور، شعبان: الدولة الجلائرية، دار الهداية للطباعة والنشر، القاهرة، 1987، ص 7

وقد اهتموا بعدة جوانب أبرزها.

1. إعمار مرقد أمیر المؤمنین والإمام الحسین والأئمة في الكاظمية وسامراء، إضافة إلى مرقد الإمام أبي حنيفة والشيخ عبد القادر الكيلاني والإمام أبي يوسف وسيد أحمد الرفاعي، وهذا دليل على سياستهم العادلة وعدم التفريق بین المذاهب الإسلامية.

2. الاهتمام بالجيش لصد الهجمات المغولية.

3. تنشيط التجارة الداخلية والخارجية وتسهيل نقل البضائع ومرور القوافل التجارية.

4. تقديم الرعاية للمزارعين عبر القيام بكري الأنهار وإقامة القناطر.

- الدولة السريدارية: (738 ه - 783 ه).

تعد هذه الدولة من ثمرات العمل الثوري الذي قام به الثوار العلويون ضد الحكم المغولي، فقد كانوا يهتفون أثناء ثورتهم: «نحن نحافظ علی أعراضنا أو مستعدون أن نسلم رؤوسنا إلى المشنقة»(1) ومعنى سريدار. رأس على المشنقة، وكان أول حاكم لتلك الدولة السيد عبد الرزاق العلوي، متخذاً من مدينة ينشابور عاصمة لدولته سنة 738 ه وتولى بعده عدة أمراء منهم الأمیر وجيه الدين وشمس الدين يحيى الكرابي والأمیر علي بن المؤيد(2).

وقد بذلوا جهودا كبیرة من أجل تطوير دولتهم مما نال إعجاب الجميع، وكان من بينها إنشاء المساجد والمدارس الدينية ورعاية العلماء والفقهاء والشعراء

ص: 274


1- زميزم، سعيد رشيد: دول الشيعة عبر التاريخ، ص 243
2- طرطور، شعبان: الدولة الجلائرية، ص 85

واتخاذ الفقه الامامي منهجاً للدولة حتى قضى المغولي تيمورلنك على هذه الدولة الراشدة في سنة 783 ه واهتموا بالجانب الاقتصادي وتوفیر لقمة العيش لأبناء رعيتهم (والقيام بسك نقود خاصة بدولتهم نقشوا عليها اسم الامام علي)(1) والأئمة من بعده، وهذا يشیر إلى مدى تأثرهم وولائهم لأهل البيت واهتموا أيضاً بالجيش وتقويته لتأمین حدود دولتهم من الأطماع الخارجية.

- الدولة الصفوية (915 ه - 1148 ه):

في بداية القرن العاشر الهجري قام القائد إسماعيل بن حيدر بن جنيد بن صفي الدين الذي ينتهي نسبه إلى الامام موسى الكاظم بن جعفر بن محمد بن علي ابن الحسین بن علي بن أبي طالب بتأسيس الدولة التي عرفت حينئذ بالصفوية في سنة 905 ه قاد السيد إسماعيل الموالین للامام علي وسيطر على مدينة شیراز وتبريز وغيرهما من المدن الإيرانية التي كانت خاضعة للسيطرة التركية، ومن ثم ضم العراق وأفغانستان وبعض المدن التركية في سنة 914 ه إلى دولته إلا أن تلك السيطرة لم تدم لشراسة المقاومة التي أبدتها القوات العثمانية؛ لذلك استقرت بلاد إيران وأفغانستان لهم(2)، وكان من أكثر القادة الصفويین الذين قدموا انجازات الشاه إسماعيل والشاه طهماسب والسلطان عباس الصفوي الذي مدح المؤرخون شخصه؛ لما قدمه لأبناء شعبه من خیرات. يقول شاهين ماكريوس: «خطت البلاد في أيام السلطان عباس خطوة واسعة إلى العظمة والتقدم فكثرت التجارة مع الإفرنج وتردد التجار والسائحون إلى البلاد وتوطدت العلاقات الطيبة مع الدول الأوربية وسلطنه الهند وأشاد الصروح الضخمة وزين المدائن وأمر

ص: 275


1- طرطور، شعبان: الدولة الجلائرية، ص 137
2- منصور، محمد علاء: تاريخ إيران بعد الإسلام، ص 639

بالعدل وترك من الآثار العظيمة ما يخلد الذكر بخاصة في أصفهان التي ليس لها مثيل في الشرق»(1)، كذلك يقول مصطفى حجازي: «وقد نشط الشاه عباس الكبیر في إقامة علاقات سياسية مع دول أوربا مما ساعد على تبادل المعلومات الصحيحة وكان عباس الكبیر يبدي روح التسامح الديني نحو غیر المسلمين، وكان يهتم بترقية إيران صناعياً، وقد احضر ثلاثمائة من الصناع الصينین المهرة في صناعة الخزف مع عائلاتهم ليعلموا الصناع الإيرانيین الجودة في هذه الصناعة.

أما الصناعات الأخرى فإن صناعة السجاد قد بلغت في عهد الصفويین حداً من الروعة والإتقان كان أساساً لتفوقها الكبیر»(2)، وقد اهتم قادة الدولة الصفوية بعدة جوانب أدت إلى ازدهار بلادهم منها تطوير الجانب التعليمي بإنشاء المدارس العلمية والدينية لأبناء المذاهب الإسلامية، وتنمية الجانب الاقتصادي عبر دعم الصناعات ورعاية الفلاحین وتنظيم أمور الجيش، إضافة إلى إعمار مراقد أهل البيت في إيران والعراق ولما تزل أسماؤهم مكتوبة على بعض أبواب تلك المراقد.

- الدولة القاجارية (1760 م - 1923 م).

قامت إحدى القبائل التركمانية المعروفة بالقاجارية التي تستوطن إيران بتنصيب أحد قادتها وهو محمد حسن خان ليكون سلطاناً عليهم ثم انطلق لمد نفوذه ليصل إلى العراق وأفغانستان ونتيجة للسياسة المتزنة مع جميع أبناء الطوائف الإسلامية التف حولهم الناس(3).

ص: 276


1- منصور، محمد علاء: تاريخ إيران بعد الإسلام، ص 642
2- منصور، محمد علاء: تاريخ إيران بعد الإسلام، ص 655
3- زميزم، سعيد رشيد، دول الشيعة عبد التاريخ، ص 319

وبعد استتباب الأمن واستقرار البلاد عمل سلاطين تلك الدولة على تقديم الخدمات للناس ورعاية الفقراء وتأسيس المدارس الدينية لكل أبناء المذاهب الإسلامية، إضافة إلى تحسین الوضع الاقتصادي للدولة عبر تنمية الصناعات والزراعة وتسهيل الممرات التجارية وعرفاناً منهم لما قدمه الإمام علي للإسلام والمسلمين قاموا بإعادة تشييد مرقدة الشريف ومراقد الأئمة المعصومین، كذلك سعوا لإقامة علاقات خارجية مع الدول الأوربية وإقامة الاتفاقات التجارية ولا سيما سنة 1873 م كما أنهم واجهوا وبحزم الحركة البهائية التي انشقت عن الدين الإسلامي وادعى قادتها أنهم جاؤوا مبشرين إلى الإنسانية وأنهم مرسلون من الباري عز وجل لإنقاذ البشرية، فقام الشاه ناصر الدين باعتقال مؤسس هذه الحركة وإعدامه بعد صدور فتاوى العلماء بضرورة قتله(1)، وكان من أبرز الحكام القاجاريین السلطان محمد حسن خان والشاه ناصر الدين وغيرهم وانتهت أيام هذه الدولة بالانقلاب العسكري الذي قاده المدعو رضا الكبیر بدعم من الانجليز سنة 1923 م.

الجمهورية الإيرانية الإسلامية 1979 م.

كان نتيجة الصراع مع القوات الملكية أن استطاعت الجماهیر الإيرانية التي بذلت الدماء الكثیرة وبقيادة العلماء الرسالين إسقاط حكم الشاه محمد رضا البهلوي، وتمكنت من السيطرة على كل المدن الإيرانية لتعلن عن قيام هذه الدولة التي لما تزل مستمرة لحد الآن رغم التحديات التي واجهتها من دول الاستكبار العالمي الذين أفزعهم الانجازات والتطور الذي وصلت له تلك الدولة. لذلك فرضت عليها حرباً من قبل النظام البعثي الذي كان يمثل دولة الاستكبار وحاولوا به

ص: 277


1- زميزم، سعيد رشيد: دول الشيعة، عبر التاريخ، ص 325

إسقاط الجمهورية الإسلامية إلا أن محاولتهم باءت بالفشل وحالياً تفرض بعض الدول حصاراً كبیراً على الحكومة الإسلامية استمدت إيران كتابة دستور الدولة من بصائر القرآن وهدى الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) وأمیر المؤمنین.

اهتمت قيادات الجمهورية الإسلامية بعدة مجالات أسهمت في ازدهار إيران.

ففي المجال التربوي والتعليمي حرصت الحكومة الإسلامية على رصد المواهب العلمية والقدرات المتميزة والاهتمام بالطاقات والنخب، أما في مجال الاقتصاد فقد عمدت الجمهورية إلى الاكتفاء الذاتي نتيجة الحصار المفروض، لذلك تمكنت من توفیر كل لوازم الحياة بالاعتماد على الصناعة المحلية. واليوم تعد إيران من الدول المصدرة لكثیر من مستلزمات الحياة وغيرها من المجالات التي أذهلت بها العالم.

سوريا
- الدولة الحمدانية (282 ه - 312 ه).

ينتسب الحمدانيون الى قبيلة تغلب العربية المعروفة التي لها منزلة في قلوب العرب؛ لأنها أنجبت رجالاً عظماء اتصفوا بالشجاعة والبلاغة والأدب فكان منهم حمدان الجد الأعلى للحمدانيین الذي كان أمیرًا على قلعة ما درين القريبة من الموصل.

وعندما رأى جور بني العباس ولاسيما في أيام المعتضد أعلن الاستقلال وتكوين دولة في سنة 282 ه فأرسل العباسيون أكثر من حملة لإسقاط هذه الدولة إلا أن حملاتهم باءت بالفشل(1)، لاجتماع الناس حول أبناء حمدان الذي

ص: 278


1- صائح، سليمان: تاريخ الموصل، ج 1، ص 96

لم يكتفِ بالموصل بل سعى إلى توسيع نفوذه إلى سوريا، كان أول عمل قام به حمدان سك نقود جديدة كاتبا عليها «لا إله إلا الله محمد رسول الله أمیر المؤمنین علي ابن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسین»(1) ليعلن بذلك عن هوية الدولة وهي حب أهل البيت والاستمرار على نهجهم، وقد تولى إدارة الدولة الحمدانية أكثر من أمیر كان أشهرهم الأمر ناصر الدولة والأمیر سيف الدولة الملقب (أبو المعالي) والذي هو «أحد أبطال التاريخ وصاحب شخصية حافلة بالحياة والنشاط وذو نواح متعددة تتراقص على جنباتها المغامرة والشعر والقلم والبطولة والأدب فهو من الشخصيات المثیرة للإعجاب التي تسترعي النظر، إذ مر تاريخ العرب في فترة كادت الفوضى تقتلها فخلق من ضعف العرب قوة وصمد أمام قوات الروم وقاد جموع العرب يذود عن دولته بحد سيفه وهو في هذا كله يدافع عن العرب والإسلام))(2). وعن الدولة الحمدانية يقول جارودي: «يحق لجميع المسلمين أن يفخروا بتلك الانجازات والانتصارات التي قام بها أمراء هذه الدولة الإسلامية الرائدة التي ساهمت مساهمة كبیرة في إعلاء مجد العرب والمسلمين من خلال الانتصارات العسكرية الباهرة التي حققها فرسان هذه الدولة على أعداء الإسلام (الروم) الذين كانوا يتحينون الفرص للقضاء على هذه الدولة المسلمة»(3).

ص: 279


1- الطائي، نجاح: الوحدة الشيعية والغزو الوهابي، ج 2، ص 294
2- الطائي، نجاح: الوحدة الشيعية والغزو الوهابي، ج 2، ص 294
3- صائح، سليمان: تاريخ الموصل، ج 1، ص 97
اليمن
- الدولة المتوكلية: (284 ه - 897 م - 1382 م - 1961 م).

نشأت هذه الدولة في اليمن فقد بويع لرئاستها المرتضى لدين الله محمد بن يحيى واتخذوا من المذهب الزيدي وهو أحد الفرق الشيعية مذهباً رسمياً لهذه الدولة، ثم جاء بعدهُ عدة ملوك كالمنصور بالله القاسم بن علي اليماني، والناصر أبو الفاتح والمتوكل على الله احمد بن سلمان الهادي، والمتوكل على الله المحسن ابن احمد الحوثي جد الحوثيین(1). وقد عم الخیر حكم المتوكلین لليمن لما قدمه قادة هذه الدولة فقد سعوا إلى تطوير الجانب الاقتصادي عبر الاهتمام بالزراعة والصناعة والتجارة، وكذلك حاولوا تصفية الجانب القضائي من بعض الفاسدين، فكان هؤلاء الحكام يخصصون وقتاً في الأسبوع لسماع مظالم الناس إضافة إلى خروجهم ليلاً ليتفقدوا رعيتهم، وهذه الأعمال ورثوها من السیرة العطرة لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأمیر المؤمنین لذلك كانوا يحيون مراسيم يوم الغدير الذي نصب رسول الله (صلى الله عليه وآله) الامام عليًّا خليفة من بعده، وقد قاموا أيضاً ببناء المساجد والمستشفيات ولم ينسوا تقوية الجيش وتسليمه وتأسيس مجلس يستشیر فيه الحاكم رؤساء القبائل في أمور البلاد «وتميز حكام هذه الدولة بعدم انفرادهم بالحكم إذ قاموا بتعيین أبناء المذاهب الأخرى في مناصب عليا في الحكومة»(2).

استمر حكم الدولة المتوكلية إلى سنة 1961 حيث قام مجموعة من الضباط برئاسة عبد الله السلال بقيادة حركة انقلابية لينهوا بذلك عهد الدولة التي لما

ص: 280


1- شرف الدين، احمد: اليمن عبر التاريخ، مؤسسة السنة المحمدية، ط 2، بيروت، 1964، ص 183
2- شرف الدين، احمد: اليمن عبر التاريخ، مؤسسة السنة المحمدية، ط 2، بيروت، 1964، ص 180

يزالأبناؤها يستوطنون مدينة صعدة وغيرها من مدن اليمن.

- الدولة الصليحية: (435 ه - 567 ه).

كانت هذه الدولة امتداداً للحركة الإسماعيلية في مصر؛ إذ قام الزعيم علي بن محمد الصليحي بتأسيس دولته في اليمن ونشر الأفكار الإسماعيلية. تعاقب على حكم تلك الدولة عدة زعماء كان أبرزهم الأمیر محمد المكرم والأمیر أبو حميد بن سبأ بن احمد المظفر وغيرهم»(1) عرفت سياستهم بالرصانة فقد كان مؤسس تلك الدولة يردد دائماً قولاً وهو «أنصف المظلوم واقمع الظالم»(2). وهذه الكلمة رددها الامام علي في أكثر من موقف ويتضح هنا تأثرهم بكلمات الامام علي وسياسته وقد سعوا إلى تأمین الطرق المؤدية إلى بيت الله الحرام والمدينة المنورة؛ إذ كان كثیراً ما يتعرض الحجاج إلى القتل والسرقة من اللصوص وأسسوا المدارس العلمية وشيدوا كثیراً من المساجد وسعوا إلى خدمة أبناء بلدهم عبر توفیر الخدمات والاحتياجات والنهوض بالواقع الاقتصادي والأمني لأبناء اليمن فلم تعجب هذه السياسة الحكام الظلمة والمبغضین لخط أهل البيت لذلك أسقطت هذه الدولة القوات الأيوبية وارتكبت مجازر فظيعة بأبناء اليمن.

ص: 281


1- شرف الدين، احمد: اليمن عبر التاريخ، ص 205
2- زميزم، سعيد رشيد: دول الشيعة عبر التاريخ، ص 140
مصر
- الدولة الإسماعيلية الفاطمية.

سميت هذه الدولة بالإسماعيلية نسبة إلى إسماعيل بن الإمام جعفر الصادق كان هذا العبد الصالح من خیرة أبناء الإمام، توفي في أيام حياة أبيه وحزن عليه حزناً كبیراً وأعقب إسماعيل ابناً اسمه محمد تولىّ الإمام موسى الكاظم تربيته وإعداده ليكون قائداً للثورة الإسماعيلية في مصر لكنه توفي فبايع الناس ابنه عبد الله الملقب (احمد الوفي الذي أسس حركة إسلامية عرفت بإخوان الصفا وخلان الوفا(1) وكتب منهجاً لحركته سميت رسائل (إخوان الصفا)(2).

كانت تضم الأفكار العقائدية والسياسية والأخلاق وفي شتى المجالات المختلفة وهي على شكل دروس حركية تلقى في الحلقات الخاصة لكبار الدعاة الإسماعيلية في البلاد الإسلامية الذين استطاعوا الوصول إلى مناصب عليا في الدولة العباسية للسرية التي امتازوا بها فنشروا أفكارهم وأقنعوا كثیراً من أبناء البلاد الإسلامية فسيطروا على مناطق واسعة فيها، وجاء بعدهم الخلفاء الفاطميون وكان أبرزهم المهدي وأبو القاسم الملقب بالقائم وبعده المنصور، فقدموا أعمالاً جليلة يشهد لها المؤرخون منها: بناء المدن الحضارية مثل مدينة المهدية وزيلة والمنصورية، إضافة إلى الاهتمام بالجوانب الاقتصادية والعلمية والدينية فقد الغى الفاطميون اللباس الأسود العباسي؛ لأنه كان شعاراً لهم كذلك أكدوا على أن تبدأ خطب الجمعة بدعاء الولاية «اللهم صل على محمد المصطفى وعلي المرتضى وفاطمة البتول

ص: 282


1- المدرسي، محمد تقي: التاريخ الاسلامي دروس وعبر، ص 231
2- ويوجد رأي آخر يقول بان تأسيس حركة اخوان الصفا وتأليف رسائلهم يعود الى مجموعة من اعضاء تلك الحركة. ينظر: العوا، عادل: حقيقة اخوان الصفا، الاهالي للطباعة والنشر، ط 1، دمشق، 1993، ص 62

والحسن والحسین سبطي الرسول»(1) كذلك قاموا ببناء مساجد ومدارس أبرزها «جامع الأزهر والقاهرة»(2) وغيرهما التي لما تزل ليومنا هذا مشيدة وتمارس دورها الإسلامي يقول المستشرق سيديو «أخذ العرب يتلقون أسطع الأنوار من القاهرة لامن بغداد حيث ازدهرت التجارة والصناعة والزراعة والأدب والفنون والعلوم في عهد الفاطمين في مصر»(3) أما المستشرق (بروكلمان) فيقول: «إن آثار الفاطميین العظيمة مثل جامع الحاكم والجامع الأزهر الذي لا يزال مزدهراً إلى يومنا هذا كأعظم المؤسسات الرسمية في الإسلام»(4) يقول المقريزي: «قام صلاح الدين بحرق المكتبات الفاطمية وألقيت في العراق»(5).

وكانت هناك أيضاً دول شيعية لكنها كانت محدودة البقاء لتعرضها إلى هجمات كبیرة أدت إلى انهيارها خصوصاً في كشمير فقد أعلن عن مملكة الجك التي قضى عليها الهنود وفي الهند كانت دولة صغیرة سميت بمملكة أوده وفي جزر القمر سيمر أحد علماء الشيعة حاكماً على تلك الجزر الصغیرة.

يعد الإيمان بمنهج الامام علي السمة البارزة في سياسة (الدولة الموالية إلا أن هنالك نواحي أخرى نستشف منها مدى تأثر حكام تلك الدولة بكلام ومواقف الامام علي فمن ناحية تنظيرية لاحظنا اعتماد كثیر من الدول على كلام وخطب الامام علي وعهوده وجعلها دستوراً ومنهاجاً من قبيل الدولة الغورية في أفغانستان بل قام بعض مؤسي الدول إلى صياغة نظرية فلسفية فكرية تستمد تفصيلها من أحاديث الامام علي وهذا ما قام به الأمیر احمد الوفي حيث أسس حركة جماعة

ص: 283


1- دخيل، أحمد حسين: الدولة الفاطمية، مؤسسة الانتشار العربي، ط 1، بيروت، 2009، ص 83
2- دخيل، أحمد حسين: الدولة الفاطمية، مؤسسة الانتشار العربي، ط 1، بيروت، 2009، ص 141
3- زميزم، سعيد رشيد: دول الشيعة عبر التاريخ، ص 140
4- المصدر نفسه، ص 145
5- دخيل، محمد حسن: الدولة الفاطمية، ص 179

إخوان الصفا ووضع لهم رسائل عرفت بعدها برسائل إخوان الصفا وخلان الوفا ومن ناحية أخرى تطبيقية كان أثر المنهج العلوي واضحاً في السلوك الشخصي لأمراء تلك الدول عبر ممارسة السلوك نفسه الذي كان يتصف به الامام علي من تفقد الفقراء ليلاً والاستماع إلى همومهم ومظالمهم والعطف والرحمة بهم.

وكذلك من خلال متابعة عمل المؤسسات الحكومية التي تركزت على تنمية الوعي الديني والعلمي. وتطوير الموارد الاقتصادية وتقوية مؤسسة الجيش وغيرها. هذه الاهتمامات كانت من أبرز ما اهتم به الامام علي في أثناء مدّة حكمه وقام الحكام العلويون بالسیر على خطاه إلا أن هنالك مظاهر سلبية وجدت في تلك الدول أدت إلى ضعفها ومن ثم إلى انهيارها. منها حالة التوسع التي قامت بها بعض الدول العلوية على حساب دول أخرى علوية وهذا ما قام الفاطميون عندما اسقطوا دولة الادارسه ويضاف أيضا إلى قائمة المظاهر السلبية في تلك الدول التجزئة التي حصلت نتيجة انفراد بعض الأمراء بالسلطة مما أدى إلى تفكك الدولة وإضعافها وأصبحت بعد ذلك فريسة ولقمة سائغة للدول المعادية.

ص: 284

المبحث الثاني: أثر الإمام علي في رواد الفكر السياسي

اشارة

* - أثر الإمام علي في رواد الفكر السياسي القديم.

* - أثر الإمام علي في رواد الفكر السياسي المعاصر.

ص: 285

ص: 286

المبحث الثاني أثر الإمام علي في رواد الفكر السياسي.

اشارة

من الضروري أن يكون المجتمع على قدر كبیر من الوعي السياسي؛ لكي يقوم بمراقبة مسار الدولة بشكل صحيح وان يلتزم الحاكم بمنهج يستند إليه في إدارة أمور الدولة ومعاملة الرعية وحل المشاكل السياسية. وكل ذلك يسهم به الكاتب السياسي من خلال مؤلفاته السياسية التي يستدل بها على نصوص ومفاهيم من التراث ويوظفها حسب معطيات الواقع السياسي المعاش في كل عصر، فهل كان هناك أثر لنصوص الإمام علي في كتابات رواد الفكر السياسي القديم والمعاصر؟

1- أثر الإمام علي في رواد الفكر السياسي القديم:

إن أثر منهج الإمام علي السياسي في رواد الفكر السياسي القديم كان واسعاً؛ إذ وردت نصوص الامام في كثیر من مؤلفاتهم السياسية ويمكن تحديدها عبر مستويات.

1. مستوى يبحث في تأسيس نظرية.

2. مستوى يبحث في تقديم معالجة لمشاكل سياسية.

3. مستوى يبحث في مواضيع سياسية متنوعة.

ص: 287

1- مستوى يبحث في تأسيس النظرية:
عبد الله بن المقفع المتوفى سنة 142 ه.

يعدّ من أوائل من ترجم كتب المنطق وقد كتب (لعيسى بن علي) الوالي على منطقة كرمان في العهد العباسي كتب له نظرية سياسية في إدارة الحكم في كتاب (الأدب الصغیر والأدب الكبیر ورسالة الصحابة).

إذ كان يعمل موظفاً عنده ويعد كتابه هذا من مصادر الفكر السياسي ويمكن ملاحظة تأثره بفكر الامام علي السياسي من متابعة نصوص كتابه التي تشابه كلام الامام لكنه لا ينسبها له بل يقول: «هذا كلام الناس» خوفاً من السلطات العباسية فمن هؤلاء الناس يا ترى؟ يقول محمد كردي عن ابن المقفع «لقد تخرج في البلاغة بخطب علي بن أبي طالب»(1) ويمكن عرض جملة من كلمات ابن المقفع التي تشابه كلمات الامام علي من خلال الجدول الآتي(2):

ص: 288


1- كرد، محمد علي: أمراء البيان، ج 2، الفكر، القاهرة، 1937، ص 105
2- ابن المقفع، عبد الله: الأدب الصغير والأدب الكبير، مكتبة البيان، ط 3، مصر، 1964، ص 37

صورة

- احمد بن مسكوية المتوفى 421 ه.

وهو من العلماء الذين اهتموا بالفلسفة والكيمياء والمنطق والأدب والتاريخ كان أميناً خازناً على مكتبة عضد الدولة لقّبه أحد الحكام البويهيین بالخازن أهداه كتابه «تجارب الأمم وتعاقب الهمم، بین له نظريته في إدارة الدولة وله كتاب آخر

ص: 289

وهو «تهذيب الأخلاق وتطهیر الأعراق»(1).

كان ابن مسكوية يعدّ أمیر المؤمنین الامام عليًّا مثله الأعلى في الحاكم الملتزم وقدوة للإنسان المتشرب بالأخلاق الفاضلة، لذلك يقول: «من سمع كلام الإمام الذي صدوره عن حقيقة الشجاعة، قال لأصحابه مرة: «أيها الناس إن لم تقتلوا تموتوا والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف على الرأس أهون من ميتة على الفراش»(2).

- أبو الحسن الماوردي المتوفى 449 ه.

كان من وجوه فقهاء الشافعية ومن كبارهم؛ لذلك عین قاضياً على بلدان كثیرة إضافة إلى كونه مفسراً وأديباً وسياسياً ولا يمكن للدارسین في الفكر السياسي أن يستغنوا عن كتبه يعدّ من أبرزها كتاب «قوانین الوزارة وسياسة الملوك والذي يرسم به نظريته في مجال الحكم(3)، كان تأثره بالامام علي أمراً طبيعياً، لأنه عاش بین البصرة وبغداد، إذ كانت تنتشر خطب الإمام لذلك نجده لم يدع فرصة إلا ومجده فيها، ففي مقدمة كتابه هذا يبدأ بحديث للإمام «العقل حسام قاطع والحلم غطاء سابغ))(4) وفي موضوع الدفاع الذي هو من مهمة الوزير يستشهد بكلامه أيضا «خذ على عدوك بالفضل فإنه أحد الظفرين»(5)، ويحذر الوزراء ذاكراً كلامه

ص: 290


1- الزركلي، خير الدين: الإعلام، دار العلم للملايين، ط 6، بيروت، 1984، ص 213
2- الزركلي، خير الدين: الإعلام، دار العلم للملايين، ط 6، بيروت، 1984، ص 263
3- الماوردي، أبو الحسن: قوانين الوزارة وسياسة الملوك، مكتبة الخانجي، ط 1، مصر، 1939، ص 57
4- البغدادي، أبو جعفر: هدية العارفين في أسماء المؤلفين وآثار المعنفين، ج 1، دار الفكر، بيروت، 1982، ص 689
5- الماوردي، أبو الحسن: قوانين الوزارة وسياسة الملوك، ص 7

«من حاول أمراً بمعصية الله كان أبعد لما رجا وأقرب لمجيء ما اتقى»(1).

ويؤكد على أهمية الاستشارة «ربما أخطأ البصیر قصده وأصاب الأعمى رشده»(2)، وفي كتاب (الأحكام السلطانية والولايات الدينية) نجد الماوردي متأثراً بالامام بوضوح؛ لأنه يستنبط من كلامه ومواقفه أحكاماً شرعية من شأنها أن تنظم الحياة السياسية في الدولة الإسلامية.

- أبو يعلى الفراء المتوفي سنة 458 ه:

يعد الفراء أحد علماء الأصول والفروع أصبح قاضياً في عهد القائم العباسي على بغداد. ترك عدة كتب سياسية منها كتابه (الأحكام السلطانية) وضح فيه خطوط نظريته حول الولايات على غرار كتاب الماوردي كان كثیراً ما يعرض فيه مواقف الامام علي ويستخرج منها أحكاماً لذلك يعد هذا تأثراً ففي موضوع قتال أصل البغي مثلاً - يعرض موقف الامام علي مع الخوارج ويحلل كلامه لهم «لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ولا نبدؤكم بقتال ولا نمنعكم الغي مادامت أيديكم معنا»(3).

يقول الفراء «ويقصد الامام علي إذا لم يخرج الخوارج عن المظاهرة بطاعة الامام ولم يتحيزوا بدار اعتزلوا فيها وكانوا أفراداً متفرقین تنالهم القدرة وتمتد إليهم اليد تركوا ولم يحاربوا وأجريت عليهم أحكام أهل العدل في الحقوق والحدود أما إذا اعتزلت هذه الطائفة الباغية أهل العدل وتميزت بدار فيها نظرت فإن لم تمتنع من

ص: 291


1- الماوردي، أبو الحسن: قوانين الوزارة وسياسة الملوك، ص 8
2- الماوردي، أبو الحسن: قوانين الوزارة وسياسة الملوك، ص 14
3- كحالة، عمر رضا: معجم المؤلفين، ج 2، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1989، ص 254

حق ولم تخرج عن طاعة لم يحاربوا»(1).

- الوزير نظام الملك المتوفى سنة 485 ه.

وهو أبو علي الحسن بن علي كان عالماً بالحديث عین وزيراً للملك شاه ابن السلطان السلجوقي داود بن ميكائيل بن سلجوق - يعد كتابه (سیر الملوك) منهجاً تنظيرياً لتنظيم سياسة الحكام وكيفية التعامل مع الرعية مع توفیر الخدمات لهم مما دعاه إلى الاستفادة من أحاديث الإمام علي، ففي ممارسة الأعمال يذكر قول الأمام التأني محمود في كل شيء إلا في عمل الخير»(2) فعلى الحاكم الاستعجال في خدمة الناس لأنها من أفعال الخیر التي لا يمكن تأخيرها ويستشهد بكلام الامام في ذمه للغضب إذ يقول: «حينما سأل الامام عن أي الرجال أشد قوة فيجيب من ملك نفسه عند الغضب ولم يفعل ما يندم»(3).

- ابن الطقطقي المتوفى 709 ه:

إن محمد بن علي بن محمد بن طباطبا العلوي المعروف بابن الطقطقي من المؤرخین والباحثین النقاد وهو من أهل الموصل كان نقيباً للعلويین لديه كثیر من المؤلفات أبرزها كتاب الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية وقدمه إلى والي الموصل فخر الدين عيسى بن إبراهيم، جمع هذا الكتاب بین السياسة والأخلاق. راسماً فيه نظرية رائدة في إدارة دفة الدولة وقد أبرز ابن الطقطقي

ص: 292


1- الفراء، أبو يعلى: الأحكام السلطانية، مكتب الإعلام الإسلامي، طهران، 1406، ص 95
2- ابن خلكان، أبي عباس: وفيات الأعيان وأبناء أبناء الزمان، ج 2، منشورات الشريف الرضي، قم، إيران، ص 128
3- الزركلي، خير الدين: الإعلام، ج 7، ص 202

كفاءته في هذا الكتاب لذلك عد من مصادر الفكر السياسي لاعتماده كلام الأئمة والعلماء خصوصاً الامام علي إذ اعتبر كلماته مرجعاً للعقيدة والسياسة والأخلاق والأدب»(1).

- أبو حامد الغزالي المتوفى سنة 505 ه.

يعد الغزالي من المتصوفین والعلماء الإجاء لذلك كلفه الوزير نظام الملك بالتدريس في مدرسة النظامية في بغداد. ترك كتباً كثیرة أبرزها «تهافت الفلاسفة» و (إحياء علوم الدين) و (التبر المسبوك في نصيحة الملوك)، وهو من مصادر الفكر السياسي التنظيرية يشاهد تأثره بالامام علي من خلال جانبین - أولاً في كيفية صياغة هذا الكتاب؛ إذ كان على شكل وصايا الامام إلى أولاده، وثانياً لكثرة ذكره لأحاديث الامام ومواقفه فعندما يحذر الحكام من مغبة الظلم يستشهد بقول الامام: «ويل لقاضي الأرض من قاضي السماء»(2)، ثم يتناول بالشرح سياسة الوزراء فيذكر وصية الإمام لكاتبه: «يا عبد الله الق دواتك واطلع جلفة قلمك ووسع بین السطور واجمع ما بین الحروف»(3)، وهنا يؤكد على أهمية الاقتصاد في أموال الدولة والاعتناء بالخط أثناء الرسائل المبعوثة إلى حكام الأقاليم.

ص: 293


1- الزركلي، خير الدين: الإعلام، ج 6، ص 483
2- حاجي خليفة، مصطفى: كشف الفنون من أسامي الكتب والفنون، ج 1، دار الفكر، 1982، ص 337
3- حاجي خليفة، مصطفى: كشف الفنون من أسامي الكتب والفنون، ج 1، دار الفكر، ج 1، ص 337
- ابن أبي ربيع المتوفى في القرن السابع الهجري.

كان من رجال المعتصم العباسي؛ لذلك كتب له كتاب «سلوك المالك في تدبیر الممالك» رسم فيه أوليات سياسة الدولة مستشهداً في أكثر من موضع بكلام الامام علي إلا أنه لم ينسب له هذا الكلام، ومن تلك الشواهد ما ذكره في موضوع تأديب أولاد الحكام: «وأما الولد فينبغي أن يؤخذ بالأدب من صغره فإن الصغیر أسلس للقيادة وأسرع، ولم تغلب عليه عادة تمنعه من اتباع ما يراد منه ولا له عزيمة تصرفه عما يؤمر به فهو اعتاد الشيء ونشأ عليه خیراً كان أو شراً لم يكد ينتقل عنه»(1)، وهذا الكلام مأخوذ من كلام الامام حينما يقول «وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما القي فيها من شيء إلا قبلته»(2).

- محمد بن الأزرق: 896 ه.

كان عالماً في الاجتماع استوطن بلاد الأندلس في مدينة غرناطة تولى القضاء فيها إلى أن استولى عليها الفرنجة، فذهب إلى مصر وبعدها أصبح قاضي قضاة مدينة القدس كانت كتاباته ذات طابع سياسي صاغ فيها نظرياته أهمها (الإبريز المسبوك في كيفية آداب الملوك) و (تخیر الرياسة وتحذير الساسة) وكتاب (بدائع السلك في طبائع الملك)، وفيه نرى تأثره بالامام علي لاستخدام مواقفه وأقواله في ثنايا كتابه من قبيل موضوع الاستشارة فيورد هنالك كلامه إذ يقول: «الاستشارة عین الهداية وقد خاطر من استغنى برأيه»(3).

ص: 294


1- الشريف الرضي: حقائق التأويل في متشابه التنزيل، مطبعة الغري، النجف الاشرف، 1936، ص 225
2- المصدر نفسه، ص 225
3- الخطيب، عبد الزهراء: مصادر نهج البلاغة وأسانيده، مؤسسة إلا علمي، ط 2، بيروت، 1975، ص 384

وحول أدب مجالس الأمراء يذكر كلامه «من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى فليقل آخر مجلسه سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين»(1) وغيرها من الشواهد التي يستنبط منها ابن الأزرق برامج سياسية تنفع الحكام والملوك.

- رفيع الدين نظام العلماء المتوفى سنة 1326 ه:

يعد السيد رفيع الدين بن علي أصغر من العلماء السابقين له مصنفات سياسية كثیرة أهمها المقالات النظامية وتحفة الأمثال وتحفة الولي ودستور الحكمة وكتاب آداب الملوك والذي كان عبارة عن نظرية للأمراء في تنظيم أمور البلاد متخذا عهد الإمام علي لمالك الاشتر العمود الفقري لنظريته فيقوم بشرحه لذلك يقول في مقدمة كتابه:

«بالنظر إلى المصلحة العامة كنت أتمنى أن أجمع في آداب الملوك مجموعة من نصائح الحكماء ومواعظ العلماء وتجارب العقلاء وأخبار الأنبياء والأولياء حتى تصبح دستوراً للعمل يستفيد منه القارئ ويكون برنامجًا للأمراء وولاة العهد العظام، وقد وجدت في أثناء مطالعتي لخطب نهج البلاغة عهداً من أمیر المؤمنین علي إلى مالك الاشتر كان ضالتي التي كنت أبحث عنها فهي تتضمن جانباً كاملاً من الآداب الحسنة التي يحتاجها الحكام .. لقد قمت بشرح مختصر مع ترجمة هذه الولاية الشريفة حتى يعم نفعها للجميع»(2)، ويضيف «وفي الحقيقة ص 384 .

ص: 295


1- الخطيب، عبد الزهراء: مصادر نهج البلاغة وأسانيده، مؤسسة الإعلمي، ط 2، بيروت، 1975، ص 385
2- ابن الأزرق، محمد بن علي: بدائع السلك في طبائع الملك، ج 1، وزارة الإعلام، بغداد، 1977، ص 362

أن الالتزام بالنهج الذي بينه الإمام لمالك الاشتر، والحفاظ على هذا الخط هو أفضل للسلاطين من الحفاظ على خزائن الأرض، لذلك قام السلطان مظفر الدين بطباعة هذا الكتاب»(1).

2- مستوى يبحث في معالجة المشاكل السياسية:
- أبو الحسن الأشعري المتوفى سنة 330 ه.

يرجع نسبه إلى أبي موسى الأشعري ويعد من العلماء البارزين من أهم كتبه السياسية كتاب مقالات الإسلاميين والذي عالج فيه كثیراً من المشاكل السياسية ذاكراً آراء أهل الفرق الإسلامية في كل موضوع ويرجح الآراء التي تأخذ من كلام الإمام علي من مثل علاجه لمشكلة التحكيم التي يعدّ فيها الصواب هو الرأي الذي اتخذه الامام.

- إبراهيم الشاطبي المتوفى سنة 790 ه:

كان الشاطبي من أئمة المالكية محدثاً وفقيها ومفسراً تعد مصنفاته من المراجع السياسية ترك كتباً متنوعة منها (الموافقات في أصول الفقه) و (المجالس) وكذلك كتاب (الاعتصام) حيث يبحث فيه مشكلة البدعة ويبین انعكاساتها السياسية والاجتماعية فهو يقوم بتعريف البدعة ويشخص منبعها وأسباب رواجها وكيفية معالجتها متخذاً من كلمات الإمام علي ومواقفه معياراً مهماً في قياس صحة الآراء ومثال على ذلك استشهاده بحديث للإمام حول منبع البدع يقول: «إياكم

ص: 296


1- ابن الأزرق، محمد بن علي: بدائع السلك في طبائع الملك، ج 1، ص 363

والاستنان بالرجال فإن الرجال يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله»(1) فالامام يعدّ أهواء الرجال هي منبع الفتن والبدع.

3- مستوى يبحث في الموضوعات السياسية:
- أبو عثمان عمرو بن بحر (الجاحظ) المتوفى سنة 255 .

يعدً الجاحظ من أئمة الأدب وكذلك رئيس الفرقة الجاحظية من المعتزلة كان محباً للعلم وقعت عليه مجلدات من كتبه فقتلته، له مؤلفات تناولت كثیرًا من الموضوعات السياسية كالمحاسن والأضداد والذي تضمن جملة من القضايا الأخلاقية منها ما يتعلق بحكام البلاد من محاسن المشورة والولايات وأضدادها.

ويمكن ملاحظة أثر الإمام علي عليه لاستشهاده في أكثر من مرة بكلمات ومواقف الامام علي خصوصاً الخطب التي كانت حول معاوية. أما في كتاب الحيوان فالجاحظ يستنبط من حياة الحيوان العبر التي تنفع الإنسان في مجالات حياته المختلفة والذي نرى فيه أيضاً ذكره للامام علي. وللجاحظ كتاب آخر هو (التاج في أخلاق الملوك) وهو كتاب أخلاقي سياسي جاء على نسق وصايا أمیر المؤمنین لولده الحسن جمع فيه جملة من أفكار استنبطها من كلمات وحكم الأولین ومنهم الامام علي(2).

ص: 297


1- كحالة، عمر رضا: معجم المؤلفين، ج 1، ص 118
2- الجاحظ، أبو عثمان: المحاسن والأضداد، مطبعة السعادة، مصر، 1938، ص 47
- أبو جعفر البرقي المتوفى سنة 280 ه:

وهو من أصحاب الامام الرضا وكتبه كثیرة منها كتاب العويض والتبصرة والمحاسن والرجال ويعد كتاب المحاسن مرجعاً لعلماء التاريخ والجغرافية والتراجم. تناول هذا الكتاب كثیراً من الموضوعات السياسية كالعدل والولاية، وقد تضمن أحاديث الإمام علي وكلماته القصار. منها ذكره لحديث قلة العاملین بالحق؛ إذ يقول الإمام: «أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى والحق لقلة أهله»(1).

- أبو محمد عبد الله بن قتيبة الدنيوري المتوفى سنة 276 ه.

شارك هذا العالم في كثیر من العلوم كاللغة والنحو وغريب القرآن ومعانيه عن قاضياً على منطقة دنيور. تعد كتبه من مراجع الفكر السياسي ومن أهم كتبه؛ عيون الأخبار الذي اشتمل على موضوعات سياسية متنوعة خصص الكاتب في الجزء الأول موضوع السلطان، وفي الجزء الثاني موضوع الحرب استفاد من أحاديث الإمام علي في عدة موضوعات، كالإصابة بالظن وخيانات العمال وغيرها، وهو يعدّ الإمام مثالاً للوفاء والإخلاص، فيذكر حديثه عندما كان يدخل بيت المال، ويقول: «يا حمراء يا بيضاء غري غیري»(2)، وفي أدب الحرب يقول:

عن الامام: «ما رأيت رئيساً يوزن به»(3)، أي لا يوجد أحد يقاس به أما في كتاب الإمامة والسياسة فإننا نرى الدنيوري يذكر الإمام ومواقفه بشكل ملفت للنظر.

ص: 298


1- البرقي، أبو جعفر: المحاسن، المطبعة الحيدرية، النجف، 1964، ص 208
2- الدنيوري، ابن قتيبة: عيون الأخبار، ج 1، الهيئة المصرية العامة، القاهرة، 1973، ص 57
3- الدنيوري، ابن قتيبة: عيون الأخبار، ج 1، ص 58
- إبراهيم بن محمد البيهقي المتوفى سنة 908 ه.

كان البيهقي من علماء القرن الخامس نبغ في خلافة المقتدر له عدة كتب منها كتاب المحاسن والأضداد، ذكر فيه البيهقي مواضيع سياسية مثل محاسن المشورة والولايات والنظر في الظلم ومحاسن العفو وتعدي السلطان. وقد استشهد في عدة مواضع بمواقف الامام علي بل نجده قد أفرد فصلاً كاملاً حول محاسن أمیر المؤمنین ومساوئ من عاداه.

- أبو بكر الطرطوشي المتوفى سنة 520 ه

وهو من فقهاء المالكية وكان عالماً عاملاً زاهداً من أهالي طرطوش في الأندلس تولى التدريس، واستمر حتى توفى. تناول في كتابه مواضيع السياسة. يعد كتابه سراج الملوك من أهم كتبه، حوى من الحكم السياسية ما يستغني به الملوك عن مستشاريهم، وقد تضمن الكتاب خطب الامام علي وكلماته ومحاوراته(1)، ولأهمية الكتاب عدّه ابن خلدون وابن الأزرق من مصادر كتبهم.

- العلامة الحلي: المتوفى سنة 746 ه:

لقد أنجبت مدينة الحلة كثیراً من العلماء البارزين، كان من أشهرهم جمال الدين أبو منصور الحسن بن سديد الدين يوسف بن علي بن محمد بن المطهر الحلي، قال عنه محسن العاملي: «هو العلامة على الإطلاق الذي طار صيته في الآفاق»(2) اغنى المكتبة الإسلامية بكثیر من المؤلفات التي ناقش فيها الموضوعات

ص: 299


1- الطرطوشي، أبو بكر: سراج الملوك، المطبعة الحيدرية، مصر، 1306 ه، ص 262
2- العاملي، محسن: أعيان الشيعة، دار التعارف، بيروت، 1989، ص 284

السياسية المهمة خصوصا كتاب (منهاج الكرامة في إثبات الإمامة) وقد حفل الكتاب بكثیر من كلمات وخطب الامام أمیر المؤمنین علي، وقد عدّ الحلي الامام عليًّا هو المؤمن الثاني بالإسلام قولاً وفعلاً بعد رسول الله(1) (صلى الله عليه وآله)، كذلك ضم هذا الكتاب مآثر ومواقف الإمام في القضايا السياسية والقضائية؛ لذلك عده العلماء من مصادر الفكر السياسي الشيعي.

كان هذا استعراضًا لبعض النماذج من رواد الفكر السياسي القديم المتأثرين بكلام الامام عي(2)، فهل ياترى استمر هذا الأثر في كتابات المفكرين السياسین المعاصرين؟

2- أثر الإمام علي في رواد الفكر ال سياسي المعاصر.

في خضم التفاعلات السياسية المعاصرة التي تمخض عنها اتجاهان سياسيان: الأول يدعو إلى انفصال مطلق عن التراث السياسي الإسلامي، والثاني طرح منهجاً يعتمد الأصالة والمعاصرة في إطار مفاهيمي ومنهجي موحد ينبثق عنه رؤية سياسية تتسم بالوعي يتكون من خلالها عقل سياسي إسلامي معاصر يدعم كل توجه سياسي يسعى لبناء دولة إسلامية معاصرة، لذلك نجد نصوص الامام علي حاضرة في كثیر من كتابات السياسيين المعاصرين؛ لكونه يعبر عن الأصالة الإسلامية وقد تبنى هذا الاتجاه السياسي الأخیر عدد كبیر من المفكرين السياسيين كان من جملتهم المفكر الصدر الأول والمفكر شمس الدين والمفكر الشیرازي.

ص: 300


1- العاملي، محسن: أعيان الشيعة، دار التعارف، بيروت، 1989، ص 284
2- من الجدير بالذكر ان هنالك كثيًرا من المؤلفات والموسوعات والشروحات لتراث الإمام علي ولاسيما خطبه في نهج البلاغة تناول بعضها جوانب سياسية من سيرة الإمام وهي تعد المئات
المفكر محمد باقر الصدر (1935 - 1980 م).

يعدّ الصدر الأول من المفكرين الذين جمعوا بین الأصالة والمعاصرة في كتاباتهم، لذلك أصبحت كتبه منهجاً يدرس في كثیر من الجامعات العربية والإسلامية، وقد لاقت نظرياته ترحيباً حتى في دول الغرب. لاسيما في المجال السياسي فقد انطلق الصدر في تأسيس نظريته السياسية على قواعد فلسفية، فهو ينظر إلى الوجود نظرة شمولية تربط بین عالم الشهادة وعالم الغيب. فلا ينظر لخالق هذا العالم كخالق فقط بل يعد مديراً لكل احتياجات المخلوقات، «فلا يوجد منهج ولا دستور أفضل من تعاليم رب العالمین لانسجامها مع فطرة الإنسان ومرونتها لتساير كل الأزمان»(1)، وهذا معناه أن الصدر لا يفصل الدين عن السياسة؛ لأنها جزء لا يتجزأ عن تعاليم السماء، «لهذا أرسل الله سبحانه وتعالى الأنبياء لينظموا حياة البشر ومن هنا جاءت فكرة تأسيس الدول»(2).

وقد أراد الصدر في هذا الطرح أن يبین أن الإسلام صالح لكل زمن وفي أي مكان لذلك عندما طلب علماء إيران منه أن يضع دستوراً للجهورية الإسلامية لم يتردد وصاغ لهم دستوراً يعتز بالثوابت الإسلامية وينفتح على معطيات البشر.

دستوراً لبناء دولة حضارية تقوم على العدل. يقول الصدر: «إن العدالة أهم ركن في كل قمع بشري، وهي محور التحول في كل مجتمع»(3)، وهذا ما نص عليه الإمام

ص: 301


1- الصدر، محمد باقر: الإسلام يقود الحياة، ج 5، مركز الإيمان التخصصية للشهيد الصدر، ط 1، قم، 1424، ص 14
2- المصدر نفسه، ج 5، ص 15
3- الصدر، محمد باقر: الإسلام يقود الحياة، ج 5، مركز الإيمان التخصصية للشهيد الصدر، ط 1، قم، 1424، ص 20

علي؛ إذ قال: «العدل أساس به قوام العالم»(1).

أما عن الحرية فنجد الصدر يستشهد بكلمة الامام علي حينما يقول: «ولا تكن عبد غیرك وقد خلقك الله حراً»(2)، فلا يحق للدولة ومؤسساتها المساس بحريات الناس المشروعة، وفي موضوع بناء اقتصاد الدولة ومعالجة الظواهر الاجتماعية يأخذ الصدر الامام عليًّا أنموذجاً يعالج به كل ما يطرأ من ظاهرة اقتصادية، لذلك يستشهد بكلمة الامام في تشخيص سبب الفقر يقول: «ما جاع فقیر إلا بما متع به غني»(3)، وفي معرض حديثه عن التنمية الاقتصادية يورد كلمة الامام في بيان أهمية دور التجار والصناع في إنماء اقتصاد الدولة يقول: «فإنهم موارد المنافع وجلابها من المباعد والمطارح»(4).

وعن المظالم يؤكد الصدر على ضرورة إنشاء ديوان للمظالم، وهذا ما عمل عليه الإمام علي هذه النصوص وغيرها توضح تأثر الصدر بالإمام علي، لذلك نجده يدعو أبناء الشعب الإيراني في أحد خطاباته إلى التمسك بالأطروحة العلوية التي أسس بها دولته وحارب من أجل نجاحها وضحّى بدمه الشريف»(5)، وهذا ما جسده الصدر أيضاً فقد قدم روحها خدمة قضايا الإسلام ونصرة العقيدة.

ص: 302


1- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ج 6، ص 1425
2- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ج 2، ص 768
3- المصدر نفسه، ج 7، ص 361
4- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ج 1، ص 428
5- ينظر، الصدر، محمد باقر: الإسلام يقود الحياة، ج 5، ص 30
المفكر محمد محمد صادق الصدر (1943 - 1999 م).

من منهج الولاء للنبي وآله الأطهار وأحاديثهم الشريفة صاغ الصدر أفكاره ورؤاه فكان عالماً مجاهداً وفيلسوفاً عارفاً كان تراثه الخصب دليلاً على سعة فكره وأصالة رأيه وعدت مواقفه مثالاً وأنموذجاً للجهاد والتضحية والشجاعة فأصبح وريثاً لجده أمیر المؤمنین لاقتدائه بكلماته وسلوكه. ارتفع الصدر بفكره الأصيل حى بلغ أعنان السماء ونالت بساطة عباراته إعجاب الفقراء، وحار في ألفاظه وكلماته الفلاسفة والحكماء، كان كتابه (ما وراء الفقه) بأجزائه الكثیرة مصدراً من مصادر الفكر والعلوم لاسيما السياسة؛ إذ تعدّ نظرته في مسألة ولاية الفقية محوراً مهماً تتضح فيه رؤيته حول الحكم والحاكمین والمحكومین. فأكد فيها على أهمية أن يكون هنالك نظام يلتجئ إليه الفقیر والغني فيأمن الطرفان من الفوضى التي تحل في حال عدم وجود دولة فيها نظام»(1) جاعلاً كلمة أمیر المؤمنین نصب عينيه ليستدل بها على رأيه الذي يقول «حاكم ظلوم خیر من فتنة تدوم»(2)، ثم يؤكد الصدر على ضرورة «اتصاف الحاكم بعدة شروط لا يمكن الاستغناء عنها»(3)، آخذاً من قول الإمام علي شاهداً كلامه حينما يقول: «لا تصح الإمامة في رجل إلا إذا اجتمعت فيه خلال ثلاث خصال: حلم يملك به غضبه وورع يملك به غضبه وحسن الرعية لمن يلي»(4)، وأكد الصدر على ضرورة «اتخاذ الشريعة منهجاً

ص: 303


1- الصدر، محمد صادق: تاريخ ابعد الظهور، مؤسسة إحياء الكتب الإسلامية، ط 1، طهران، 1427، ص 286
2- الريشهري، محمد: ميزان الحكمة، ج 8، ص 144
3- الصدر، محمد صادق: تاريخ ما بعد الظهور، ص 290
4- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ج 1، ص 158

في الحكم؛ لأنها السبيل الوحيد لنجاة العالم من المشاكل»(1).

والامام علي كثیراً ما أكد على هذه الحقيقة، إذ قال: «ألا إن شرائع الدين واحدة ووسيلة قاصدة فمن أخذ بها لحق وغنم ومن وقف عنها ضل وندم»(2).

المفكر روح الله الخميني (1920 م - 1989 م).

لقد شخص الشعب الإيراني القيادة التي يجب أن تتولى شوونه فثاروا على الحاكم الظالم ونصبوا العالم والقائد روح الله الخميني ليكون حاكماً عليهم.

الذي قدم كل ما يمتلك من أجل تحرير أبناء الشعب الإيراني من قيد الحكم الشاهنشاهي، فقد قدم ابنه شهيداً واعتقل هو أكثر من مرة، إضافة إلى ذلك فقد طرح فكراً سياسياً واعياً صالحاً لبناء الدولة، لذلك لاتزال الجمهورية الإيرانية ثابتة لا تزعزعها هجمات الاستكبار العالمي.

أكد الخميني في خطاباته وكتبه على مرجعية الإسلام في التشريع والتطبيق، ومن واجب الأمة الوقوف على هذه الحكومة يقول: «ما تطرحه هذه الحكومة هو الإسلام وأحكامه السامية، وعلى الشعب الإيراني أن يسعى لتحقيق الإسلام بجميع أبعاده وحفظه وحراسته حفظ للإسلام على رأس جميع الواجبات»(3)، ومن خلال قراءة المؤلفات التي طرح فيها الخميني أفكاره السياسية نرى أنه يوضح الركائز التي تقوم عليها الدولة الإسلامية وهي:

ص: 304


1- الصدر، محمد صادق، تاريخ ما بعد الظهور، ص 291
2- ألريشهري، محمد: ميزان الحكمة، ج 3، ص 1266
3- الخميني، روح الله، الحكومة الإسلامية، مؤسسة الفكر، ط 3، قم 1389 ه، ص 25

1. القيادة: فالقائد في فكر السيد الخميني لابد أن يكون ملتزماً بالقانون «نحن نحتاج إلى خليفة ينفذ القوانین ففي جميع بلدان الدنيا الأمر بهذا النحو، فوليّ الأمر هو المتصدي لتنفيذ القوانین أيضاً»(1)، وهذا ما أكد عليه الامام يقول «لابد للناس من إمارة»(2). ويضيف إلى صفة الالتزام بالقانون «العدالة والفقاهة والعقل والتدبیر حتى يستطيع إدارة شؤون الدولة وإجراء القانون والشريعة ليكون مقبولاً لدى الناس، وذلك وفق آليات محدودة وصلاحيات مستمدة من القانون وخاضعة له»(3).

2. الجمهور: فلا تستقيم أمور الدولة الإسلامية بمعزل عن التفاف الجمهور حولها وتمسك الشعب بها ومع غض النظر عن مدى أثر الجماهیر في إضفاء صفة المشروعية على الدولة الإسلامية فإن تمسكهم بها يشكل ركنا في قيامها وعاملاً في ديمومتها، إذ إن اجتماع المشروعية القيادية والقبول الجماهیري يؤدي إلى تثبيت كيان الدولة ودفعها نحو أهدافها وغاياتها. يقول السيد الخميني: «إن القوانین الإسلامية التي وردت في القرآن والسنة يتلقاها المسلمون بالقبول والطاعة وهذا مما يسهل عمل الحكومة ويجعلها مرتبطة بالشعب»(4) وهذه النقطة تميز الحكومة الإسلامية عن غيرها بحسب ما يرى الإمام «بينما في الحكومات غیر الإسلامية فإن غالبية الذين يعدون أنفسهم ممثلي أكثرية الشعب يضعون ما يشاؤون ويسمونه قانوناً ويفرضونه على الشعب»(5).

ص: 305


1- الخميني، روح الله، الحكومة الإسلامية، مؤسسة الفكر، ط 3، قم 1389 ه، ص 23
2- الريشهري، محمد: ميزان الحكمة، ج 1، ص 126
3- الخميني، روح الله: الحكومة الإسلامية، مؤسسة الفكر، ط 3، قم، 1389 ه، ص 25
4- الخميني، روح الله: الحكومة الإسلامية، ص 119
5- الخميني، روح الله: الحكومة الإسلامية، ص 199

3. التأصيل النظري (الفكر): كذلك لا يمكن أن تقوم الدولة من دون مجموعة من العلوم النظرية والإنسانية القابلة للتطبيق في قطاعاتها ومؤسساتها من قبيل السياسة والحقوق والاجتماع وغيرها، لما كان الإسلام دينًا ودولة على حد سواء بل الدولة جزء من الدين فمن البديهي أيضاً أن الإسلام قد ضمّن رسالته ما تحتاج إليه الدولة من مقومات على مستوى هذه العلوم؛ لضمان قيامها واستمرارها ومن ثَمَّ فإن الإسلام يشكل مرجعية فكرية تجعله قادراً على الاستغناء عن الآخر يقول الخميني: «تشتمل قوانین الشرع على قوانین ومقررات متنوعة تبني نظاماً اجتماعياً شاملاً ويتوفر في هذا النظام الحقوقي كل ما يحتاج إليه البشر»(1).

المفكر محمد مهدي شمس الدين (1936 م - 2001 م) لبنان.

يعد شمس الدين أحد أهم أعلام الفكر الإسلامي المعاصر وما أعطى من تراث فكري ومنهاج عملي. فعلى مستوى الفكر أنتج شمس الدين كثیراً من المؤلفات في شتى المجالات من مثل التاريخ والفقه والسياسة متخذاً من كلام أمير المؤمنین مادة لأبحاثه وأساساً ترتكز عليه نظرياته السياسية على وجه الخصوص ومن تلك الكتابات (نظام الحكم والإدارة في الإسلام) و (دراسات في نهج البلاغة) و (شرح عهد الاشتر) و (حركة التاريخ عند الامام علي)، إضافة إلى العديد من المقالات والبحوث أما على مستوى الجهاد والعمل الإسلامي فقد عمل على تنمية الوعي الديني والسياسي في مدن الفرات الأوسط في العراق وأنشأ فيها ما يزيد على عشرين مسجداً وعند عودته إلى لبنان واكب مسرته الجهادية مع الإمام موسى الصدر وأسس الجامعة الإسلامية اللبنانية، ونرى أثر فكر الامام علي عليه

ص: 306


1- الخميني، روح الله: الحكومة الإسلامية، ص 27

السلام في كتاب نظام الحكم والإدارة في الإسلام في عدة موضوعات.

فعن حتمية الدولة وضرورتها يقول شمس الدين: «إن الدولة ضرورة اجتماعية لا يمكن الاستغناء عنها في جميع الأحوال فلابد من أن يوجد إشراف على المجتمع ينظم علاقاته وتنظيماً يحول بينه وبین التفكك وتصادم المصالح بین الأفراد والجماعات وينظم النشاط الاجتماعي في ميادينه المختلفة ويشرح من القوانین ما يصون به حقوق الأفراد على المجتمع وواجباتهم نحوه»(1).

وهذا الكلام لطالما أكد عليه الامام علي في إحدى كلماته يقول: «لا يصلح الناس إلا أمیر بر أو فاجر»(2).

وفي معرض بيان أنواع السلطة في القرآن الحكيم يوضح شمس الدين «أن هنالك نوعین للسلطة في القرآن نوع تتحول فيه الدولة مجسدة في آلة السلطة وأجهزتها إلى مقدس ويتحول الحاكم إلى آلة وتتمحور الدولة فيه كما في الديكتاتوريات القديمة والحديثة. ونوع آخر نقي يقتضي أن تكون وظيفة السلطة وأثرها في مالكها بالنسبة إلى موضوعها المجتمع هي رعاية هذا المجتمع فالسلطة وظيفة ووسيلة.

وقد مثل هذا المنهج الرائع الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله)، وحاول السیر عليه المسلمون، وكان أقرب العهود إلى النهج النبوي هو عهد الخلفاء الأربعة الذين مثلت خلافة علي بن أبي طالب النموذج الأنقى والأصفى فيه»(3).

ص: 307


1- شمس الدين، محمد مهدي: نظام الحكم والإدارة في الإسلام، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، ط 2، بيروت، 1999 م، ص 39
2- الريشهري، محمد: ميزان الحكمة، ج 1، ص 126
3- شمس الدين، محمد مهدي: نظام الحكم والإدارة في الإسلام، ص 42

أما في كتاب دراسات في نهج البلاغة فيقوم شمس الدين بتحليل نصوص الإمام علي وتوضيح أهميتها في المجال السياسي، فقد تناول فيه أقسام طبقات المجتمع ثم بین شروط الحاكم وحقوقه، وكذلك تطرق إلى حقوق الرعية وسبل التعاون بينهما لإنجاح الدولة»(1).

المفكر محمد الحسيني الشيرازي (1928 م - 2001 م).

كان الشرازي من رواد الفكر السياسي المعاصر خلال مدّة حياته وتعدّ اليوم كتبه من المصادر السياسية التي بلغت 700 كتاب ودراسة ومن أبرز كتبه في مجال السياسة كتابه فقه الساسة موضحاً فيه نظريته في إدارة الدول والتي يلاحظ اتصافها بصفتین:

1. الأولى: التأصيل الشرعي عبر الأدلة المقررة في الشرع وهي القرآن، وسنة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأحاديث أمیر المؤمنین والأئمة من بعده والعقل والإجماع.

1. الثانية: مواكبة أفكار للعصر والواقع ونقد النظريات التي لا تمت إلى الإسلام بصلة مثل الماركسية. أما عن ركائز الفكر السياسي لدى الشیرازي فهو يقوم على عدة أسس أهمها.

1. 1. الحرية: فالشیرازي يعد الحرية الأصل في الإنسان، فالحرية في قبول الإنسان الآخر؛ إذ لا وجه لتسلط إنسان على إنسان، كما ان الأصل في الإنسان العبودية لله تعالى ويستشهد الشیرازي بحديث للإمام علي؛ إذ يقول: «لا تكن عبد

ص: 308


1- ينظر، شمس الدين، محمد مهدي: دراسات في نهج البلاغة، الدار الإسلامية، ط 3، بيروت، 1981 م، ص 19 - 182

غیرك وقد خلقك الله حراً»(1).

1. 2. الديكتاتورية والاستبداد: فالاستبداد يقمع كل شيء في الحياة لذلك يؤكد الشیرازي على عدم وجود ديكتاتورية في الإسلام «ليس للحاكم حق للديكتاتورية إطلاقاً وكل حاكم يستبد يعزل من منصبه في نظر الإسلام تلقائياً. والاستبداد معناه التصرف خارج النطاق الإسلامي أو خارج نطاق رضا الأمة»(2)، وهذا ما أشار إليه الامام بقوله: «الظلم يزل القدم ويسلب النعم ويهلك الأمم»(3).

1. 3. الشورى والتعددية: يؤكد الشیرازي على أهمية اعتماد آلية الاستشارة في حال غياب المعصوم «كل شيء يرتبط بشؤون الأمة لابد فيه من الاستشارة»(4).

والامام علي أكد على أهمية الاستشارة «بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى اليمن فقال وهو يوصيني: يا علي ما حار من استخار ولا ندم من استشار»(5).

1. 4. الدولة الإسلامية: إن من أبرز أهداف الدولة الإسلامية التي يجب على الحاكم العمل على تطبيقها ما ذكره الشیرازي وهي:

1. 4. 1. وحدة الأمة الإسلامية.

1. 4. 2. تطبيق الأحكام الشرعية.

ص: 309


1- الشيرازي، محمد الحسني: الفقه كتاب السياسة، ج 2، مؤسسة دار العلوم، بيروت، ج 2، 1988 م، ص 213
2- الشيرازي، محمد الحسني: الفقه كتاب السياسة، ج 1، ص 34
3- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ج 6، ص 2334
4- الشيرازي، محمد الحسيني: الشورى في الإسلام، مؤسسة سيد الشهداء، ط 1، قم، 1985، ص 11
5- الريشهري، محمد: ميزان الحكمة، ج 5، ص 2121

1. 4. 3. حفظ الأمة من الانهيار.

1. 4. 4. تنمية الأمة في مختلف الميادين.

1. 4. 5. توسيع نطاق الدولة الإسلامية عن طريق إرسال المبلغين(1).

ومن الأحاديث التي يستند إليها الشیرازي قول الامام علی «إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله»(2) وغيرها من أحاديث الإمام.

أما من صفات الحاكم الصالح فيؤكد الشيرازي على ضرورة اتصافه بنقطتين:

1. الأولی: أن يكون مؤمنا عادلاً رجلاً طاهر المولد إضافة إلى بلوغه.

1. الثانية: أن يكون منتخبا من قبل أكثرية الأمة.

وعن الثورة والمعارضة فالشیرازي يفضل أن يراعي توفیر التوعية الإسلامية عبر العمل الحزبي باستخدام الوسائل السلمية (اللاعنفية)(3).

وخیر مثال يدعم هذه الفكرة رفض الإمام علي لاستخدام العنف في أيام الخليفة عثمان.

المفكر محمد باقر الحكيم (1939 - 2003 م).

وهو من العلماء الأجلاء والمجاهدين الكبار فلا يحتاج أن نكتب عن سیرته العطرة التي كانت أنموذجاً مصغراً من سیرة جده أمیر المؤمنین منذ بداية حياته

ص: 310


1- الشيرازي، محمد الحسيني: الفقه كتاب السياسة، ج 1، ص 14
2- الريشهري، محمد: ميزان الحكمة، ج 8، ص 158
3- الشيرازي، محمد الحسيني، السبيل إلى انهاض المسلمين، الرسول الأعظم، ط 2، بيروت، ص 186

حتى مماته. ترك آثاراً معرفية في مجال علم الاجتماع والسياسة أبرزها كتاب (دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة). وكتاب (الحكم الإسلامية) وغيرهما.

وأكد فيها على الموضوعات الرئيسية في الفكر السياسي الإسلامي فقد عدّ الحكيم «أن مصدر التشريع الأول في صياغة أي دستور هو القرآن الحكيم وأحاديث النبي (صلى الله عليه وآله)، والأئمة المعصومین من ولد أمیر المؤمنین علي»(1)، ذاكراً أن هنالك ((صفات للحاكم العادل يجب أن يتصف بها من العلم والتدين والعدالة والخبرة والكفاءة السياسية والصفات الكمالية في الشخصية الإنسانية»(2).

ويؤكد الحكيم على أهمية العدالة كصفة ملازمة وبرنامج عمل للحاكم «إن الإمامة والحكم لا يعطيان إلا للإنسان العادل»(3).

وفي مقطع آخر يقول: «لابد للحاكم أن يتصف بدرجة عالية من العدالة تتناسب وعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه»(4). لأن العدل النظام الأمثل قال الإمام علي: ((العدل نظام الآخرة»(5)، ثم يوضح آلية تنصيب الحاكم وهي ال.شورى لكن مع الرجوع إلى الأمة أي استشارة الأمة في تشخيص الحاكم عن طريق الانتخابات يقول الحكيم: «فالرجوع للأمة بمختلف قطاعاتها لتشخيص

ص: 311


1- الحكيم، محمد باقر: الحكم الإسلامي بين النظرية والتطبيق، مؤسسة المنار، ط 1، إيران، 1992 م، ص 39
2- المصدر نفسه، ص 172
3- الحكيم، محمد باقر، المجتمع الانساني في القرآن، المركز الإسلامي المعاصر، ط 1، بيروت، 2003 م، ص 411
4- المصدر نفسه، ص 412
5- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ج 6، ص 2423

الواقع تمثل مصلحة حقيقية للقيادة والأمة»(1).

لذلك نجد أمیر المؤمنین لم يرضَ بالخلافة إلا بعد أن بايعه الناس كلهم في المسجد. أما عن الحقوق المتبادلة بین الحاكم والمحكوم فيوضح الحكيم «أن حق الحاكم علی الرعية حق الولاء والطاعة» «أما حق المحكوم على الحاكم فهو رعايته والرأفة به والمساواة واستشارة الرعية والعدل بينهم»(2). وفي نهج البلاغة كثیر من الأحاديث التي اعتمدها الحكيم ليؤسس عليها نظرياته وأفكاره خصوصاً عهد الإمام علي لمالك الاشتر واليه على مصر.

السيد السيستاني ومحايثة النص العلوي:

تتضح محايثة الامام السيستاني للنص العلوي بعد توليه زعامة الحوزة العلمية في النجف الاشرف في أواخر القرن العشرين، وقد كان للسيد السيستاني دورا كبیرٌ في ترسيخ مبادئ التراث الاسلامي الاصيل لاسيما النهج القرآني واحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله) والائمة المعصومين (عليهم السلام) عبر افكار ورؤى ومفاهيم حداثوية تعبر عن دراسة عميقة للواقع الاجتماعي والسياسي، ويمكن تحديد كل ذلك في اقواله وافعاله ومواقفه عبر مستويين:

المستوى الاول في اقواله: فقد سئل الامام السيستاني في اجد الرسائل الموجهة اليه حول كتاب نهج البلاغة والذي يتضمن خطب ورسائل وحكم امیر المؤمنین علي (عليه السلام) فاجاب قائلا: ((ان ما تضمنه هذا الكتاب الشريف من كلام مولانا امیر المؤمنين (عليه السلام) يعد في ذروة الكلام، بعد كلام الله تعالى وكلام

ص: 312


1- الحكيم، محمد باقر، الحكم، ص 238
2- الحكيم، محمد باقر، المجتمع الانساني في القرآن، ص 402

نبيه المصطفى (عليه السلام) لما فيه من تبيان للمنهج الفطري للتفكیر والتأمل في الكون وحقائقه وبيان لأصول الإسلام ومعارفه وايضاح لحكم الحياة والسنن التي يبتني عليها، وتبین لسبل تزكية النفس وترويضها وتوضيح لمقاصد الشريعة وما بني عليها من احكام وتذكیر باداب الحكم وشروطه واستحقاقاته وتعليم لاسلوب الثناء على الله تعالى والدعاء بین يديه وغیر ذلك كثیر، كما انه من جهة اخرى مرآة صادقة للتاريخ الاسلامي وما وقع فيه من حوادث بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، خاصة في زمن خلافة الإمام علي (عليه السلام)، ويتضمن جانبا من سیرته وخلقه وسجاياه وعلمه وفقهه وحري بالمسلمين عامة ان يستنيروا في امور دينهم تعلما وتزكية بهذا الكتاب، ويهتموا ولا سيما الشباب منهم بمطالعته والتفكر فيه وحفظ طرف منه كما يجدر بمن يدعون محبة الامام ويتمنون انهم لو كانوا في عصره ليستمعوا الى مواعظه ويهتدوا بهديه ويسیروا على نهجه ان يفعلوا ذلك في ضوء ما ورد في هذا الكتاب، ولقد قال (عليه السلام) في حرب الجمل انه حضره في هذه الحرب قوم من الناس لم يزالوا في اصلاب الرجال وارحام النساء وانما يحيي بذلك الدين علم الله منهم صدق النية فيما يتمنونه من الحضور في زمانه والاقتداء به في افعاله وهم الذين سيحشرون مع اوليائه (عليه السلام) يوم القيامة يوم يحشر كل انسان خلف إمامه، وذلك لأنهم عملوا بما عملوه من الحق من غیر ان يعتذروا عن ذلك بالشبهات ويتمنوا انتمءهم اليه بالاماني وينبغي لرجال الحكم من المسلمين ان يطبقوا ما به من وظائف امثالهم ويقتفوا اثره ويتبعوا خطاه في سلوكهم واعمالهم ليقدروا في انفسهم انهم بمثابة ولاته وعماله ليظهر لهم مقدار التزامهم بنهجه وتأسيهم به))(1)

ص: 313


1- العيساوي، علي لفتة كريم: من روائع ما قيل في نهج البلاغة، دار الكفيل للطباعة والنشر، كربلاء، ط 1، 1435، ص 81 و 82

ومن خلال هذا النص نستشف مطابقة الامام السيستاني لكلام امیر المؤمنین الامام علي (عليه السلام) فهو يعده من النصوص المقدسة ويأتي بالمرتبة الثالثة بعد كلام الله ورسول الله لكونه يحتوي على فوائد:- 1. منهج للتفكير في الكون 2. بيان لمعارف الاسلام الاصيلة 3. ايضاح السنن المستخلصة من احداث الماضين في الامم السابقة 4. سبيل لفهم فلسفة الشريعة 5. قوانين للحكم السليم 6. تنظيم للعلاقة بين العبد والمعبود 7. ارضنة احداث التاريخ الاسلامي منذ وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) وخصوصا اثناء مدّة حكم الامام علي (عليه السلام).

من جهة اخرى وجه الامام السيستاني رسائل الى أربع فئات من المجتمع للاستفادة من كلام امیر المؤمنين (عليه السلام) والاستنارة بحكمه وتطبيقها على ارض الواقع الى عامة المسلمين والى الشباب والموالین بالخصوص والى قادة الدول والسياسین.

المستوى الثاني في مواقفه: من خلال رصد مواقف الامام السيستاني حول الاحداث الاجتماعية والسياسية نرى مدى استلهامه من النهج العلوي في عملية البناء والاصلاح في الحوزة الشريفة عبر تطوير مؤسساتها الدينية وضرورة وضع ستراتيجية لانشاء الدولة التي تحتكم على اسس قانونية يديرها ابناء الشعب من خلال كتابة الدستور واجراء انتخابات وتغيیر الوجوه الفاسدة بعيدا عن

ص: 314

تدخلات الدولة الخارجية وصيانته للنسيج الاجتماعي عبر محاربة الطائفية ورموزها وقد اتضح ذلك في عام (2007) وكذلك عام (2014) حین اصدر فتواه الشهيرةب (الجهاد الكفائي) التي حفظت الدولة العراقية من الوقوع في شراك الفكر التكفیري الداعشي. تلك الفتوى التي حملت في طياتها عدة دلالات وابعاد:

1- البعد العسكري:

ويعني تأسيس جيش قوي يكون نواته المتطوعون من الحشد الشعبي الوطني.

2- البعد العقائدي:

ويعني به ترسيخ مبدأ الدفاع عن العقيدة الاسلامية ودرء الخطر عنها وتنمية الشعور بالانتماء والمواطنة والإيمان لحب الوطن، وهذا ما اشار له سيد البلغاء بقوله (حب الوطن من الايمان)

3- البعد السياسي:

ونعني به توحيد الخطاب السياسي وتوثيق العلاقة بين الشعب والحكومة.

4- البعد الثقافي:

ونعني به تسقيط ثقافة العنف والاستلاب التي اتخذها داعش اسلوبا ومنهجا مؤدلجا معتمدا على تأويل مزيف لحقائق التاريخ ومبتعدا عن الاسلام المعتدل والاعراف الانسانية.

ان فتوى الامام السيستاني خلقت مجتمعا متجانسا متكاملا موحدا ماديا وروحيا. وجعلت الامة الاسلامية تنعت هذه الفئة الباغية ب (خوارج العصر) المنحرفین عن مسار الاسلام الصحيح، وهو مشهد مر به التاريخ الاسلامي حین وقف الامام علي (عليه السلام) في مواجهة (الخوارج). ان الامام السيستاني قدم دروسا في الحكم السياسي المعتدل اشادت بها منظمة الامم المتحدة في لوائحها

ص: 315

وتقاريرها مؤخرا كما اشارت هذه المنظمة الاممية في لائحة سابقة بضرورة اقتداء الحكام بكلام الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) حول العدالة الانسانية في ادارة الدولة.

وهكذا فتح الامام السيستاني آفاقاً جديدة وصفحات مضيئة من تأريخ الاسلام المعاصر.

المفكر محمد تقي المدرسي: 1945 م.

يعد المفكر محمد تقي المدرسي من العلماء المعاصرين الذين أغنوا المكتبة الإسلامية بمجموعة من الكتب في شتى المجالات ولاسيما المجال السياسي فقد عدَّ المدرسي السياسة جزءاً لا يتجزأ من الدين؛ لأن الإسلام ثورة إسلامية تغييرية شاملة، لذلك نجده في أغلب كتبه يتطرق للموضوعات السياسية ومن جملة تلك الكتب التي يوضح فيها نظريته السياسية كتاب القيادة الإسلامية والمجتمع الإسلامي والمنهج الإسلامي وفقه الولايات ولاسيما كتاب الحكم الإسلامي والذي يعد فقه الدستور وأحكام الدولة الإسلامية، فالكتاب ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: يقوم المدرسي فيه بتحليل عصري لعهد الامام علي لواليه على مصر مالك الاشتر.

وفي القسم الثاني: يصوغ المدرسي نقاط العهد ليحولها إلى دستور للدولة يصلح لكل زمان وفي كل مكان.

ومن أبرز الخطوط التي وردت في ذلك الدستور المستوحى من فكر الامام علي، انه ليست هنالك صيغة ثابتة لتشكيل الحكومة الإسلامية وإنما هي تابعة

ص: 316

للمتغیرات بعد الاعتماد على ثوابت الشريعة(1). «إن الأمة مسؤولة عن المؤسسات الدستورية من خلال آلية الشورى فتلك المؤسسات تقدم المشورة للرئيس وتفرض رقابة على أعماله وتصرفاته»(2)، «لابد أن تتوفر في الرئيس مجموعة من الصفات منها الإيمان والكفاءة والنزاهة والدراية بالأحكام الشرعية مع القدرة على الاستنباط»(3)، وحديث الامام علي واضح في بيان صفات الحاكم إذ قال:

«لا تصح الإمامة في رجل إلا إذا اجتمعت فيه خلال ثلاث. حلم يملك به غضبه وورع يعصمه عن معاصي الله. وحسن الرعية لمن يلي»(4)، وقد حدد هذا الدستور أيضاً مسؤوليات رئيس الدولة وهي كالآتي:

1. تطبيق الأحكام الشرعية في الوقائع الحادثة وتلك الأحكام ترد من لجنة الفقهاء.

2. تقوية وإدارة القوات المسلحة.

3. تعيين الوزراء الأكفاء.

4. تقديم الخدمات وتطوير التعليم وتنمية الاقتصاد.

5. فض الخصومات من خلال تأسيس المؤسسات القضائية»(5).

وللحفاظ على الدولة ومن فيها في حالة غياب الرئيس أو موته ولمنع الدكتاتورية

ص: 317


1- المدرسي، محمد تقي: الفقه الإسلامي، أحكام الولايات، ج 3، مركز العصر للثقافة والنشر، ط 1، بيروت، 2010 م، ص 13
2- المدرسي، محمد تقي: الفقه الإسلامي، أحكام الولايات، ج 3، مركز العصر للثقافة والنشر، ط 1، بيروت، 2010 م،، ص 14
3- المصدر نفسه، ج 3، ص 17
4- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ج 8، ص 158
5- المدرسي، محمد تقي: الفقه الإسلامي أحكام الولايات، ج 3، ص 20

يشیر المدرسي إلى ضرورة «انتخاب هيئة كبار العلماء والتي تضم مجموعة من علماء الشريعة كل خمس سنوات تكون هذه الهيئة مسؤولة عن مراقبة الرئيس وإعانته في إدارة البلاد مع مراقبة قرارات مجلس الشورى وإدارة البلاد في حال غياب أو فقدان الرئيس»(1).

ولم يكن أثر الامام علي السياسي محدوداً في الفكر الإسلامي بل نجد مفكرين من شتى بقاع العالم تفاعلوا مع نهج الإمام ونصوصه السياسية ولاسيما المفكر جورج جرداغ الذي كتب موسوعة بعنوان (الامام علي صوت العدالة الإنسانية) وفيها يجري به مقابلة بین الامام علي وحقوق الإنسان وسقراط والقومية العربية وعصره وأخیراً مع الثورة الفرنسية، وفي هذا الجزء يبین أسبقية الإمام على مفكري الثورة الفرنسية في وضع أسس للدولة وقوانينها وغيرها من المجالات. ويقارن بین كلماتهم كالآتي.

- الحكومة هي بمثابة الأب بالنسبة للشعب - سافونا رولا.

- الحاكم والد والناس أبناؤه - الإمام علي.

- يجب أن تنظر إلى البشر كأنهم رجل واحد - باسكال.

- الإنسان مرآة الإنسان يتأمله ويسد حاجته - الإمام علي.

- لا وطن مع الظلم - لا بروير.

- خير البلاد ما حَمَلَكَ والفقير غريب في وطنه - الإمام علي.

- ويحرمون من ذلك الخبز الذي نذروه - أديب فرنسي.

ص: 318


1- ينظر، جورج جرداغ: بين علي والثورة الفرنسية، ج 2، دار صعصة، ط 1، البحرين، 2003 م، ص 221

-_ وجناه أيديهم لا تكون لغير أفواههم - الإمام علي.

-_ وعض الموسرون على ما في أيديهم وتعصبوا له - الإمام علي.

-_ هل يحب رجل المال وطنه حباً قلبياً - فوليتر.

-_ الحياة بطبيعتها خبرة - روسوا.

-_ إن الدنيا دار صدق لمن صدقها وما أحل لكم أكثر مما حرم عليكم - الإمام علي(1). فضلاً عن أن تراث الامام علي السياسي كان مؤثراً في أوساط عالمية وأممية.

الإمام علي في تقرير الأمم المتحدة:

حيث عد التقرير الدولي الصادر من منظمة الأمم المتحدة وبالتحديد برنامج التنمية وحقوق الإنسان لعام 2002 م الامام علي شخصية حضارية متميزة.

وكيف لا يعطي الامام هذه المنزلة فقد تربى على يد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فهو خريج مدرسته الحضارية إضافة إلى كون مطلبه الأساسي كان حفظ العدالة الاجتماعية وإشاعتها في دولته، لذلك ليس غريباً أن يتخذ هذا الرجل انموذجاً في المنهج السياسي الصحيح ونبراساً في أساليب الحكم والدولة الصالحة ومنهجاً قوياً في احترام الآخر وحقوق الإنسان والتعددية وأخلاقاً رفيعة تكون أساساً للعلاقات الدولية بین الأمم، وقد تضمن التقرير الأممي مقتطفات من وصايا أمیر المؤمنین الموجودة في نهج البلاغة التي يوصي بها عماله وقادة جيشه.

وشدد التقرير على أن تأخذ الدولة العربية بهذه الوصايا في برامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية؛ «لأنها لا تزال بعيدة عن عالم الديمقراطية

ص: 319


1- المدرسي، محمد نقي: الفقه الإسلامي - أحكام الولايات، ج 3، ص 25

ومنع تمثيل السكان وعدم مشاركة المرأة في شؤون الحياة وبعيدة عن التطور وأساليب المعرفة»(1).

ومن ضمن النصوص التي أخذت من وصايا الامام علي حديثه عن شروط الحاكم الصالح يقول.

«إن من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غیره، وليكن تأديبه بسیرته قبل تأديبه بلسانه فمعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس»(2)، كذلك اقتبس التقرير الدولي وصية الامام لعامله على مصر مالك الاشتر التي يوعد بها على استصلاح الأراضي والتنمية. يقول: «وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ومن طلب الخراج بغیر عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلاً»(3)، وورد أيضاً حول أساليب مواجهة ومحاربة الجهل والأمية وتطوير المعرفة ومجالسة العلماء يقول الامام لأحد ولاته: «وأكثر من مدارسة العلماء ومنافسة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك وإقامة ما استقام به الناس قبلك» وعن شروط اختيار الموظف العادل والنزيه يستشهد التقرير بوصية أخرى للإمام «ثم اختر للحكم بین الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الذلة ولا يحصر من الغي إلى الحق إذا عرفه ولا تشرف نفسه على طمع ولا يلتقي بأدنى منهم دون أقصاه وأوقفهم في الشبهات

ص: 320


1- عباس، قاسم خضير: الإمام علي رائد العدالة الاجتماعية، دار الأضواء، ط 1، بيروت، 2004 م، ص 11
2- الشيرازي، محمد الحسيني: نهج البلاغة، دار العلوم، ط 1 بيروت، 2008 م، ص 566
3- الشيرازي، محمد الحسيني: نهج البلاغة، دار العلوم، ط 1 بيروت، 2008 م، ص 566

وآخذهم بالحجج وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشف الأمور وأصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدريه إطراء ولا يستحيله إغراء، وأولئك قليلون ثم أكثر تعاهد قضائه وأفسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس وأعطه من المنزل لديك مالا يطمح فيه غیره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك فانظر في ذلك نظراً بليغاً»(1).

ان وجود كل دولة واستمرارها يعد تحدياً كبیراً يستدعي أن تكون الاستجابة من قبل الجماعة المتصدية بمستوى هذا التحدي، وأن المنهج السياسي للامام علي قد شكل تحدياً كبیراً؛ لكونه نموذجاً مطابقاً للمنهج القرآني والسنة النبوية إلا أن الخلل المزدوج الذي يكمن في تحديد نوع الاستجابة والتفكیر السياسي للمسلمين المتصدين لرئاسة الدولة الإسلامية أدى لتقلبات سياسية عكست صورة سلبية لمعالم الفكر السياسي الإسلامي الأصيل، وقد لمسنا كل ذلك عبر متابعة مسار حكم الدولة الإسلامية، فكان هنالك خط تبنى سياسة مما نعة ومغايرة لمنهج الامام علي خصوصاً في العصرين الأموي والعباسي.

وخط آخر تبنى سياسة موالية لهذا المنهج السياسي الإسلامي الأصيل عبر قيام الثورات ضد المستبدين وتأسيس الدولة وظهور شخصيات عدة. هذا المنهج أحد مصادر الفكر السياسي بل تعدى أثره المحلية إلى العالمية والأممية مؤخراً.

ص: 321


1- الشيرازي، محمد الحسيني: نهج البلاغة، ص 572

الخاتمه

وهكذا ترنم القلم على قيثارة الفكر والشجن متجولاً حيناً ومتأملا أحياناً، فالموضوع كالدوحة المثمرة أغصانها وثمارها متعة لذيذة فحقاً تحتاج الى صفحات وصفحات كي نأتي على ثمارها، فما بالنا بظلالها الوارفة، فهذا جهد متواضع لعله أنار غصناً من أغصانها وهفا عبر اشجان وافكار متدافعة لعلني قدمت شيئاً نافعاً احاول عرضه عبر الاضاءات التالية؛ اذ تمثلت اولى الاضاءات في التعبر عن مفهوم الفكر السياسي ومجال تداوله بشكل عام ورصدت اهم ما شهده هذا المفهوم من تطور في اطاره الاسلامي عبر استيعاب القيم العليا وممارستها على ارض الواقع السياسي بدقة عاليه، واستحداث مصادر متنوعة للفكر السياسي الاسلامي، وهي على قسمين: الاول: الوثائق التي يمكن من خلال تحليلها اكتشاف الفكر السياسي الاسلامي. كالخطب والرسائل والكتب الموسوعية والكتب المعنية بالسياسة.

وثانيها: تحديد الاصول الفكرية التي أسهمت في بناء التقاليد الاسامية السياسية.

من مثل مبادئ القرآن الحكيم والتقاليد العربية قبل الاسلام وبعض التقاليد من التراث الاجنبي والأحداث الحاسمة في التاريخ الاسلامي. ومن ثم يكون للفكر السياسي الاسلامي سمات وخصائص تميز بها عن غیره كان من أبرزها العالمية والاصالة والشمولية والمرونة والتقارب بین السياسة والأخلاق. وحاولت في الاضاءة الثانية الكشف عن رؤية مختلفة حول الوجود السياسي في الحضارات الشرقية القديمة فصنفت هذه الحضارات وفق نظريتین:

أ. نظرية التوكيل: وهي عملية توكيل الإله للملوك والاباطرة بتولي حكم البشر، وقد سادت هذه النظرية في بعض الازمان من حضارة وادي الرافدين وحضارة الصین وغيرهما.

ص: 322

ب. نظرية التأليه: هي عملية اعلان الملك نفسه إلهاً فالملك مالك لكل ما في المملكة من أرض ومال وشعب، فسلطاته مطلقة غیر مقيدة بقانون أو دستور؛ لأنه هو الذي يضع القوانین ويعدلها كيفما يشاء.

واخترت بعض النماذج من الحضارات الشرقية القديمة التي كان الاعتقاد بهذه النظرية سائداً فيها كالحضارة المصرية القديمة والحضارة الهندية.

ولكني وجدت نوعاً وسطاً بین هاتین النظريتین تشیر له بعض مصادر التاريخ يعرف بالنبوة المقدسة ويعني ان الملك هو ابن الإله واعتقد بها بعض ملوك العراق القديم فملوك سومر وأكد لم يترددوا عن الزعم بأنهم اولاد الاله.

ان هذه الافكار الساذجة تعبر عن مدى تغلغل الاسطورة في تلك الحضارات الشرقية القديمة، بل تستطيع القول انه خلط بین المتناهي واللامتناهي في تقرير الحاكميه على الارض وسوف نجد ان هذه الافكار قد تلاشت مع ظهور الحضارة الاسلامية. فضلاً عن اني دخلت ساحة اللقاء والمقارنة بین الحضارات القديمة لمعرفة اسبقية الوجود السياسي فيها فتوصلت الى ريادة حضارة وادي الرافدين في تناول الافكار السياسية وغفل كثیر من الباحثین والدارسین لتاريخ الحضارات عن وجود حركة سياسية اصلاحية قادها الانبياء، وهي موازية ومتداخلة مع تلك الحضارات في ازمان واماكن مختلفة. وفي الاضاءة الثالثة حولت بوصلة البحث صوب الفكر السياسي في الحضارات الغربية القديمة ووجدت ان اهمها حضارة اليونان وحضارة الرومان وناقشت مبادئهم السياسية عبر تسليط الضوء على ثلة من فلاسفتهم الذين كان لهم دور كبیر في رسم معالم سياسة تلك الحضارات وقمت بتصحيح رؤية خاطئة لدى بعض الباحثین حول اعتقادهم بأن سياسة هذه الحضارات ظلت محصورة في الجانب النظري، ولم يكن لها أثر على غيرها من

ص: 323

الحضارات الاخرى، فلاحظت عكس ذلك تماماً بالمقابل لم أجد ما يشیر الى وجود مبادئ سياسية تصل الى مستوى نظرية سياسية عند العرب قبيل الاسلام فكانت مجرد مظاهر سياسية محدودة.

وتأتي الاضاءة الرابعة عند انتقال البحث في الحديث عن معالم الفكر السياسي في الحضارة الاسلامية عبر حضور اول دولة اسلامية في المدينة المنورة بقيادة رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي كانت تعبر عن ممارسة عملية للرؤية السياسية النظرية الاسلامية السماوية حيث امتزاج الواقع بالمثال لتفتح بذلك آفاقاً جديدة لتغیر مفهوم السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتدخل إرادة الله الغيبية في نشوء الدول مع الاحتفاظ بعلة الحاجة المتبادلة بین الفرد والمجتمع التي كانت سائدة في الفلسفات القديمة وتأكيد الاسلام على ضرورة ان يلتزم الحاكم بالقانون والدستور، والذي يتيح له التمتع بكافة حقوقه العامة والخاصة دون ان يكون ترشيحه لمنصب الحاكم مقصوراً على طبقة معينة كطبقة البناء كما هو في الفلسفات القديمة؛ لان معيار التفضيل بین الطبقات الاجتماعية في الاسلام مبنيُّ على التخصص والكفاءة المهنية ومدى الالتزام بالسلوك القديم.

وشخصت في الاضاءة الخامسة مدى اختلاف المسلمين حول منصب الامامة.

وقد ادى هذا الخلاف الى ظهور مشكلة بین المسلمين حاولت معرفة اسبابها واساليب معالجتها، فوجدت فريقین من المسلمين. الاول، قال بأن الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله)، حدد عنوان الامام في حياته وهم القائلون بالنص، وأظهرت أدلتهم الواضحة التي تخص هذا الموضوع فحسب، والثاني قال: إنه حدد منهج اختيار الامام للمسلمين من بعده، وهم القائلون بالشورى فقمت بتحديد وقت ظهور الشورى في الاسلام وصنفتها الى نوعین: الشورى المشروطة.

ص: 324

والشورى المفروضة ثم وجدت ان المسلمين أجمعوا على ضرورة وجود الامام بعد الرسول الا أنهم تفرقوا في عدة مسائل اهمها:

أ. مسألة وحدة مفهوم الامامة والخلافة حيث اكد كثیر من المسلمين على ان الامامة منصب ديني ودنيوي بمعنى اجتماع الامامة في شخص يجمع مستوى عالياً من الصفات الحسنة. باستثناء بعض المسلمين حيث فرقوا بین الامامة والخلافة باعتبار ان الخلافة منصب سياسي يتعلق بالحكم فقط وحصروا الامامة في معالجة الامور الدينية.

ب. مسألة اقتران الامامة بالعصمة وهنا توصلت الى رأي لبعض المسلمين يقول بعدم اقتران الامام في العصمة لتمرير دليلهم على اثبات منصب الامامة في بعض الحكام الاوائل في الاسلام في حین اشترط آخرون ضرورة ان يقترن الامام بالعصمة ولا اجد ضیراً في ان يكون الامام حاكماً يتمتع بصفة العصمة النسبية او المطلقة.

وجاءت الاضاءة السادسة لتركز البحث حول ادوار الامام علي السياسية التي لم تقتصر على مدّة حكمه للدولة الاسلامية بل ظهرت في مشاركته لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في تكوين اول دولة اسلامية وعبر دوره الموجه والمشاور للامة في عهد الخلفاء (الحكام) السابقين عليه، وقمت برصد هذه الادوار في فكر الامام علي السياسي من مستوى نظري وآخر عملي. فقد كان للامام علي منهجية خاصة حكمت فكره السياسي استندت إلى عدة ثوابت اهمها اصالة المنطلق وشرعية الاهداف والوسائل في الوصول للسلطة وهو ما عبر عنه الامام بقوله: لا يطاع الله من حيث يعصى، وهذا يعني لا يطاع الله إلا من حيث يطاع، اضافة الى ان الامام استخدم مبدأ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في مختلف مفاصل الدولة لتقويم مسارها فضلاً عن ان هذه الدولة قد تميزت بإنها تقوم على اسس

ص: 325

عقائدية وتهدف الى اقامة العدل وتوفیر الامن والتأمین المالي للمجتمع وعمارة البلاد واصلاح اهلها وتتخذ من التقوى والتربية والقوة احيانا سبلاً وآليات لتحقيق تلك الاهداف، وصرح الإمام علي ان بقاء الدول يكمن في اتصاف الحاكم بالعدل وحسن تدبیر امور الدولة.

وان ما يسبب زوالها هو اتخاذ الظلم والقمع سياسة للحاكم، وكذلك سوء ادارة مفاصل الدولة اضافة الى انقلاب المفاهيم الفكرية والأخلاقية لدى المجتمع.

ثم جاءت الاضاءة السابعة بعد انتقال البحث من تحديد المستوى النظري في نهج الامام السياسي الى حيز الممارسة العملية خلال قيادته المباشرة للدولة الاسلامية فقد شخصت بعض الامور التي قام بها الامام خلال تلك الحقبة من تاريخ الاسلام السياسي اهمها:

1. اعادة الروح للتجربة السياسية الاسلامية الاصيلة من خلال القضاء على جذور الفساد المتوارث في ادارة الدولة وتصحيح مسارها لتكون انموذجاً مطابقاً لمبادئ القرآن الحكيم والسنة النبوية ونهج الامام لمعرفته ودرايته بهذه المبادئ والواقع السياسي.

2. تأسيس مؤسسات الدولة فقد عمل الامام علي على مسار تطوير مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية وانشاء مؤسسات جديدة كان من أبرزها تأسيس جهاز الشرطة الذي لم يعرفه الاسلام بصورته المفصلة الا في عهد الإمام علي ابن أبي طالب.

3. اعداد القادة للدولة ويظهر ان الامام اختار نخبة من الخبراء المختصین الاكفاء في مختلف المجالات وسعى الى تنمية قابلياتهم وتطوير امكاناتهم وفق برنامج وضعه الامام تضمن التأكيد عل الجانب الروحي اضافة الى جوانب أخر،

ص: 326

وقد اختار الامام منهم مساعدين ومشاورين له في ادارة الدولة.

4. انشاء بيت القصص فكان الامام يستقبل فيه الناس لعرض مظلوميتهم ومتابعة شؤون المجتمع وهو بمثابة ما يعرف اليوم بصندوق الشكاوى.

5. تأسيس جهاز المراقبة فقد عین ثلة من المؤمنین حيث كان يسميهم الامام بالعيون والمخبرين وكانت احدى المهمات التي تناط بهم متابعة افعال الموظفين والولاة وعزل المفسدين منهم ومعرفة المخلصین من ذوي الكفاءة والنزاهة ومدى صلاحهم في ادارة الدولة الاسلامية.

وفي الاضاءة الثامنة حاولت تسليط الضوء على مفهوم المعارضة السياسية وعلاقتها بالدولة، فوجدت ان الامام اسس مبادئ نظرية للمعارضة وجسدها عمليا حيث اكد على ضرورة وجود المعارضة، وحدد اسباب قيامها في تعدي الحاكم على تعاليم الدين وتقديم اهوائه عليها وانحراف سياسته خصوصا وجود الخلل في عدالته، اضافة الى تفشي الفساد المالي في مؤسسات الدولة الادارية. ثم وضح الامام بعض المتطلبات الضرورية لنجاح المعارضة كتوفر الجماعة الصالحة مع وجود قيادة نزيهة وكفوءة وتوفیر الوعي الفكري والنفسي لابناء المجتمع لخلق تعبئة عامة لمعارضة السلطة المستبدة لتحقيق الاهداف العامة. ولاحظت ايضا ان المعارضة يجب ان تبدأ بتنبيه السلطة والمجتمع ثم المشاركة في تقويم مسار الدولة وصولا الى مرحلة التغيیر في حالة عدم وجود الاستجابة. فضلا عن ان الامام منح حقوقاً للمعارضة من خلال الاعتراف بهم وعدم تكفيرهم وفسح المجال لممارستهم للعبادة واعطاء حقوقهم المالية وعدم قتلهم وخوض السلطة و المواجهة مع المعارضة الجاهلة والنفعية؛ لاستخدامهم العنف وتجاوزهم على السلم الاجتماعي وقوانین الدولة ثم انتقلت الى الاضاءة التاسعة للبحث حول اثر الامام علي في الفكر السياسي فوجدت ان هنالك مناهضین وموالین لنهج الامام

ص: 327

السياسي في عصره، فكان سبب معارضة البعض له خوفهم من ذهاب امتيازاتهم الا ان هنالك من اتخذ نهج الامام دستورا له في سياسته مع رعيته.

واستمر الصراع بین خط الممانعة والموالاة لنهج الامام علي بعد وفاته. فقد شكل خط الممانعة دولاً عديدة لاسيما الدولتین الاموية والعباسية واتخذ الخط الموالي من المعارضة دورا له فتنوعت معارضته من حيث نضوج الوعي السياسي فكان هنالك معارضة حماسية استشهادية واخرى ذات طابع سياسي تطمح لبناء دول.

لذلك حقق بعض الحركات الموالية هدفه في بناء تلك الدول في ازمان واماكن مختلفة من التاريخ السياسي الاسلامي.

وفي الاضاءة الاخیرة بحثت أثر الامام علي على رواد الفكر السياسي القديم والمعاصر، فتوصلت الى ان نصوص الامام ظهرت في صورة اصبحت فيها هذه النصوص منهجاً لكثیر من الانظمة السياسية، كما صورها لنا ابن الطقطقي في كتابه (الآداب السلطانيه) الذي قدمه لوالي الموصل، وصورة تناولت نصوص الامام لمعالجة مشاكل سياسية كما صورها لنا إبراهيم الشاطبي في كتابه الاعتصام وصورة ظهرت فيها نصوص الامام في مواضيع سياسية متنوعة كما صورها الجاحظ في كتابه المحاسن والاضداد. اما المفكرون المعاصرون فقد صاغوا من احاديث الامام اسساً لنظرياتهم السياسية من امثال المفكرين الصدرين والمفكر شمس الدين والمفكر المدرسي.

واتسع اثر منهج الامام علي الى غیر الاسلاميين جاعلین منه رائداً للعدالة الانسانية وصوتاً لها كما عبر عن ذلك المفكر جورج جرداغ في موسوعته، وكذلك

ص: 328

رئيس الامم المتحدة كوفي انان الذي أوصى بضرورة ان يتخذ حكام دول العالم من منهج الامام علي أساساً لسياستهم، وهي رسالة الى العالم بأسره واقرار بأن المستقبل سوف يشهد تحولات كبیرة تكون من خلالها السيادة والريادة للحضارة الاسلامية في مختلف المجالات ولا سيما في مجال الفكر السياسي.

ص: 329

المصادر

1- أفلاطون: جمهورية أفلاطون، نقلها إلى العربية، حنا خباز، دار العلم، ط 2، بيروت، 1980 م.

2- أفلاطون: القوانين، نقلها إلى العربية، محمد حسين ظاظا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986 م.

3- ابن خلدون، عبد الرحمن: تاريخ ابن خلدون، ج 1، مؤسسة جمال للطباعة والنشر، ط 1، بيروت.

4- اشبنجلر، اموالد: تدهور الحضارة الغربية، ج 2، دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان.

5- ابن أبي الحديد، عز الدين: شرح نهج البلاغة، ج 9، دار احياء الكتب العربية، بيروت، 1960 م.

6- ابن ماجة، محمد بن يزيد: سنن ابن ماجة، ج 1، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت،، مسلم بن الحجاج النيسابوري: صحيح مسلم، ج 3، دار الفكر للطباعة، بيروت.

7- أفلاطون: رجل الدولة «السياسي»، تعريب أديب نعور، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت، 1959،.

8- ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن: اسد الغابة في معرفة الصحابة، ج 1، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.

ص: 330

9- ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل: تفسير القرآن، ج 1، دار المعرفة، بيروت، 1992 م.

10- ابن الاثير: الكامل في التاريخ، ج 5.

11- أرسطو طاليس: السياسة، تعريب أحمد لطيفي السيد، دار الكتب المصرية القاهرة، 1947 .

12- أبو داود، سليمان، بن الأشعث: سنن أبي داود، ج 1، دار الفكر للطباعة، ط 1،بيروت، 1990.

13- ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم: لسان العرب، ج 2، دار صادر، بيروت، 1388 ه.

14- ابن حجر، أحمد بن علي: لسان العرب الميزان، ج 3، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات دائرة المعارف النظامية، بيروت، 1986 م.

15- ابن رشد، أبو الوليد: تلخيص السياسة لأفلاطون ومحاورة الجمهورية، ترجمة: حسن العبيدي، دار التكوين، ط 1، دمشق- سوريا، 2008 م.

16- ابن الأثير، عز الدين علي بن أبي الكرم: الكامل في التاريخ، ج 3، دار الكتب العلمية، بيروت.

17- ابن خلكان، أبو عباس: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ج 2، منشورات الشريف الرضي، قم، إيران.

ص: 331

18- ابن كثير، أبو الفذا إسماعيل: البداية والنهاية، ج 3، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1988 م.

19- ابن تيمية، أبو العباس أحمد: دقائق التفسير، ج 2، مؤسسة علوم القرآن، القاهرة، 1404 ه.

20- ابن أبي الحديد، عبد الحميد: شرح نهج البلاغة، ج 2، مؤسسة الأ علمي للمطبوعات، بيروت، 2009.

21- ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن: دفع التشبيه بأكف التنزيه، دار النوري، عمان - الأردن.

22- ابن المقفع، عبد الله: الأدب الصغير والأدب الكبير، مكتبة البيان، ط 3، مصر، 1964.

23- آملي، جوادي: خمس رسائل لابن سينا، دار الصفوة، ط 1، بيروت، 2009 م.

24- ابن الأزرق، محمد بن علي: بدائع السلك في طبائع الملك، ج 1، وزارة الإعلام، بغداد، 1977،.

25- بيضون، لبيب: تصنيف نهج البلاغة، مؤسسة النشر الإسلامي، ط 1، قم، 1997.

26- ابن كثير، اسماعيل بن علي: البداية والنهاية، ج 12 ،هجر للطباعة والنشر، ط 1، مصر 1998.

27- بدوي، ثروت: النظم السياسية، دار النهضة العربية، مصر، 1964 م.

ص: 332

28- بشية فرد، مصطفى جعفر: مطارحات في الفكر السياسي الإسلامي، دار الهادي، ط 1، بيروت، 2009 م.

29- بارزكان، مهدي: مجلة كيان، مركز الدراسات الثقافية، العدد (28) طهران، عام 1274 ه- 30- البغدادي، شهاب الدين: معجم البلدان، ج 5، دار أحياء التراث العربي، بيروت، 1979 م، 31- ابن حنبل، أحمد: مسند احمد، ج 5، دار صادر، بيروت، لبنان.

32- البدوي، إسماعيل: معالم الشورى في الإسلام، دار الفكر العربي، ط 2، مصر، 1986.

33- ابن حجر، احمد: الصواعق المحرقة على أصل الرفض والضلال والزندقة، ج 1، مؤسسة الرسالة، ط 1.

34- البيهقي، احمد بن الحسين: السنن الكبرى، ج 30، دار الفكر للطباعة، بيروت.

35- البغدادي، أبو جعفر: هدية العارفين في أسماء المؤلفين وآثار المعنفين، ج 1، دار الفكر، بيروت، 1982.

36- البيضاوي، ناصر الدين: أنوار التنزيل وأسرار التأويل، مكتبة القاهرة، مصر.

37- البابلي، محمود: الشورى في الإسلام، دار الإرشاد، بيروت.

38- البخاري، أبو عبد الله بن إسماعيل: صحيح البخاري، ج 8، دار الفكر، القاهرة، 1981 م،.

ص: 333

39- التهاوني، محمد بن علي بن عبد الله: كشف اصطلاحات الفنون والعلوم، مكتبة لبنان، ط 11 ، بيروت، 1996 م.

40- جاسم، عزيز السيد: محمد الحقيقة العظمى، دار الشورى الثقافية، بغداد،’ 1387 م.

41- الجابري، محمد عابد: تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 9، بيروت، 2006 م.

42- الجويني، أبو المعالي عبد الملك: عيان الأمم في التبيان الظلم، الدوحة، 1400 ه.

43- الجرجاني، علي بن محمد: التعريفات، دائرة المعارف العربية، مصر، 1938 م.

44- جرداغ، جورج: علي صوت العدالة الإنسانية، ج 2، دار ذوي الغربي، ط 2، قم، 1424 ه.

45- الجاحظ، أبو عثمان: المحاسن والأضداد، مطبعة السعادة، مصر، 1938.

46- حسن، حسين الحاج: -حضارة العرب في صدر الاسلام،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ط 1، بيروت، 1992 م.

47- حسن، علي ابراهيم، التاريخ الإسلامي العام، مكتبة النهضة المصرية، ط 3، القاهرة.

48- يعقوب، احمد حسين: النظام السياسي في الإسلام، مؤسسة أنصاريان للطباعة، ط 4، قم، 2006 م.

ص: 334

49- الحسون، فارس: نهج البلاغة، مركز الابحاث العقائدية، ط 1، قم، 2000.

50- الحلبي، علي بن برهان: السيرة الحلبية في سيرة الأمين والمأمون، ج 1، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1400 ه.

51- الحاكم النيسابوري، أبو عبد الله: المستدرك على الصحيحين، ج 2، دار المعرفة، بيروت.

52- الأحمدي، علي: مكاسب الرسول، ج 2، دار الحديث، طهران، 1419 ه.

53- الحسيني، حيدر الحلي: الكلام الجلي في ولاية أمير المؤمنين علي، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1982 م.

54- الحاكم، أبو عبد الله: المستدرك على الصحيحين، ج 3، دار المعرفة، بيروت.

55- الحكائي، عبد الله بن احمد: شواهد التنزيل، ج 1، دار حوزة طهران، 1418 ه.

56- الحائري، جعفر: نهج البلاغة، مؤسسة دار الهجرة، ط 1، بيروت، 1990.

57- الحضري بل، محمد: محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية - الدولة الأموية، دارالقلم، ط ، بيروت - لبنان، 1986 م.

58- الحلي، جمال الدين الحسن بن يوسف: نهج الحق وكشف الصدق، دار الهجرة، قم، 1421 ه.

59- حسن، علي ابراهيم: التاريخ الاموي العام، مكتبة النهضة المصرية، ط 1، القاهرة، 1960.

ص: 335

60- الحكيم، محمد باقر، المجتمع الانساني في القرآن، المركز الإسلامي المعاصرة، ط 1، بيروت، 2003 م.

61- الحكيم، محمد باقر: الحكم الإسلامي بين النظرية والتطبيق، مؤسسة المنار، ط 1، إيران، 1992 م.

62- الحكيم، محمد باقر: الحكم الإسلامي بين النظرية والتطبيق، مؤسسة المنار، ط 1، إيران، 1992 م.

63- حاجي خليفة، مصطفى: كشف الظنون من اسامي الكتب والفنون، ج 1، دار الفكر، 1982،.

64- خلاف، عبد الوهاب: السياسة الشرعية، مؤسسة الرسالة، ط 5، بيروت، 1993 م.

65- الخالدي، محمود: نظام الشورى في الإسلام، مكتبة الرسالة الحديثة، ط 2، القاهرة، 1986 م.

66- الخوئي، حبيب الله: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ج 21، مؤسسة آل البيت، ط 4، طهران، 1979.

67- الخالدي، طريف: دراسات في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1977 م.

68- الخطيب، عبد الزهراء: وصادر نهج البلاغة وأسانيده، مؤسسة الإعلمي، ط 2، بيروت، 1975.

69- الخميني، روح الله، الحكومة الإسلامية، مؤسسة الفكر، ط 3، قم 1389 ه.

ص: 336

70- ديوان الأعشى، قصيدة 29، شرح: محمد محمد حسين، المكتب الشرعي، (1968 م).

71- الدوري، عبد العزيز: مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي، دار الطليعة للطباعة والنشر، ط 1.

72- الدليمي، عارف عبد: الفكر السياسي عند ابن تيمية، رسالة ماجستير تقدم بها إلى جامعة بغداد، 1999 م.

73- درويش، إبراهيم: النظرية السياسية في العصر الذهبي، دار النهضة العربية، القاهرة، 1973 م.

74- الديمجي، عبد الله بن عمر: الإمامة العظمى، دار طيبة، الرياض، 1403 ه.

75- الدنيوري، ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، المكتبة الحيدرية، قم.

76- الدقاق، محمد سعيد: التنظيم الدولي، الدار الجامعة الإسكندرية، ط 1.

77- دخيل، أحمد حسين: الدولة الفاطمية، مؤسسة الانتشار العربي، ط 1، بيروت، 2009.

78- الدنيوري، ابن قتيبة: عيون الأخبار، ج 1، الهيئة المصرية العامة، القاهرة، 1973.

79- رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، دار صادر، ط 3، بيروت، 1992 م.

80- رشيد، فوزي: الشرائع العراقية القديمة، دار الشؤون الثقافية العامة، ط 3، بغداد، 1987 م.

ص: 337

81- الريشهري، محمد: ميزان الحكمة، ج 6، مؤسسة دار الحكمة، ط 3، بيروت، 2000 82- الرازي، أبو بكر: مختار الصحاح، دار الكتب العلمية، ط 1، بيروت، 1994 م.

83- رهبر، محمد تقي: دروس سياسية في نهج البلاغة، دار الولاء، ط 1، بيروت، 2004.

84- رضا، محمد رشيد: تفسير المنار، ج 1، دار المنار، ط 2، مصر، 1373 ه.

85- الرازي، فخر الدين: مفاتيح الغيب، ج 1، دار الفكر، بيروت، 1981 م.

86- زيعور، علي: الفلسفات الهندية، دار الأندلس، بيروت، 1980 م.

87- زميزم، سعيد رشيد، ثورات الشيعة، دارالقارئ، ط 1، بيروت، 2006.

88- الزبيدي، محمد بن أحمد: تاج العروس في شرح القاموس، ج 1، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1205 ه.

89- الزمخشري، محمود بن عزت: الكشاف عن غوامض التنزيل، دار الحوزة، قم، 90- زميزم، سعيد رشيد: دول الشيعة عبر التأريخ، دار القارئ، ط 1، بيروت، 2008.

91- الزركلي، خير الدين: الإعلام، دار العلم للملايين، ط 6، بيروت، 1984.

92- سالم، رحيم محمد: الاتجاهات الفكرية عند الإمام علي، مركز الشهيدين الصدرين، للدراسات والبحوث، ط 1، بغداد، 2007 م.

ص: 338

93- السبحاني، جعفر: الإلهيات، ج 4، مؤسسة الصادق، ط 2، 1423 ه.

94- سيد قطب: في ظلال القرآن، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج 27، 1971 م،.

95- السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر: الدرر المنشور في التفسير بالمأثور، ج 7، دار الفكر، بيروت.

96- السعد، غسان: حقوق الإنسان عند الإمام علي، مؤسسة أنصار الله، ط 1، النجف، 2006.

97- شبل، فؤاد أحمد: الفكر السياسي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، 1974 م.

98- الشيرازي، محمد مهدي: أول حكومة إسلامية في المدينة المنورة، مركز الرسول الأعظم للطباعة، بيروت، لبنان.

99- شوقي، أبو خليل: الحضارات العربية، الإسلامية، موجز عن الحضارات السابقة، دار الفكر.

100- الشهرستاني، ابن الفتح محمد بن عبد الكريم: الملل والنحل، ج 1، دار المعرفة، بيروت.

101- شلير، إبراهيم أحمد: تطور الفكر السياسي، دراسة تاصيلية لفكرة الديمقراطية في الحضارات القديمة، الدار الجامعية، بيروت، 1985 م.

102- الشيرازي، محمد: نهج البلاغة، دار العلوم، ط 1، بيروت، 2008 م.

ص: 339

103- شمس الديل، عمر مهدي: دراسات في نهج البلاغة، المؤسسة الدولية، ط 4، بيروت، 2001 م.

104- الشيرازي، محمد الحسيني: الشورى في الإسلام، مؤسسة سيد الشهداء، ط 1، قم، 1985 105- شرف الدين، أحمد: اليمن عبر التاريخ، مؤسسة السنة المحمدية، ط 2، بيروت، 1964.

106- الشريف الرضي: حقائق التأويل في متشابه التنزيل، مطبعة الغري، النجف الاشرف، 1936، 107- شمس الدين، محمد مهدي: دراسات في نهج البلاغة، الدار الإسلامية، ط 3، بيروت، 1981 م.

108- شمس الدين، محمد مهدي: نظام الحكم والإدارة في الإسلام، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، ط 2، بيروت، 1999 م.

109- الصدر، محمد باقر: بحث حول الولاية، دار التعارف للمطبوعات، ط 2، بيروت، 1982 م.

110- الصلابي، محمد علي: عصر الدولتين الاموية والعباسية، 111- صالح، غانم محمد: الفكر السياسي القديم والوسيط، نشر العلوم السياسية، بغداد.

112- صبحي، أحمد محمود، في علم الكلام، مصر، 1999.

ص: 340

113- الصادقي، عبد الله حاجي: فلسفة النظام السياسي في الإسلام، منشورات رشيد، ط 1، 2010 م.

114- الأصفهاني، أبو الفرج: الأغاني، ج 13، دار الكتب المصرية. بيروت.

115- الاصفهاني، أبو الفرج: مقاتل الطالبيين، دارالشريف الرضي، ط 2، قم المقدسة، 1416 ه.

116- الصالح، صبحي: شرح نهج البلاغة، دار الكتاب المصري، القاهرة، 2004 م.

117- صليبا، جميل: المعجم الفلسفي، ج 2، الناشر دار العربي، ط 1، قم، 138 ه.

118- الصلابي، علي محمد: عصر الدولتين الاموية والعباسية، دارالبيارق، ط 1،عم ان، 1998.

119- صادق، جهاد تقي: الفكر السياسي العربي الإسلامي، جامعة بغداد - كلية العلوم السياسية، ط 1، 1993 م.

120- الصدر، محمد باقر: الإسلام يقود الحياة، ج 5، مركز الإيمان التخصصي للشهيد الصدر، ط 1، قم، 1424.

121- الصدر، محمد صادق: تاريخ مابعد الظهور، مؤسسة أحياء الكتب الإسلامية، ط 1، طهران، 1427،.

122- الطريحي، فخر الدين: مجمع البحرين، ج 3، تحقيق أحمد الحسيني، ط 4، قم، 1408 ه

ص: 341

123- الطوسي، أبو جعفر محمد بن الحسن: الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد، دار الأضواء، بيروت، 1986 م.

124- الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير: تاريخ الطبري، ج 3، مطبعة ليزبريل، 1979 م،.

125- طرطور، شعبان: الدولة الجلائرية، دار الهداية للطباعة والنشر، القاهرة، 1987.

126- الطائي، نجاح: الوحدة الشيعية والغزو الوهابي، ج 2، دار الهدى لإحياء التراث، بيروت، 2005.

127- الطباطبائي، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، ج 8، مؤسسة النشر الإسلامي، بيروت.

128- الطرطوشي، أبو بكر: سراج الملوك، المطبعة الحيدرية، مصر، 1306 ه 129- الطعان، عبد الرضا: الفكر السياسي في العراق القديم، ج 1، دار الشؤون الثقافية العامة، ط 21 ،بغداد، 1986 م.

130- عبد القادر، علي أحمد: مقدمة في النظرية السياسية، مطبعة الكيلاني، القاهرة، 1974 م.

131- عقل، محمد: تاريخ الرومان، مطابع غندور، بيروت، 1974.

132- العاملي، محمد بن الحسن: رسائل الشيعة، ج 27، المكتبة الإسلامية، طهران، 1388 ه،.

ص: 342

133- علي، جواد: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج 1، نشر جامعة بغداد (1993 م).

134- العسقلاني، ابن حجر: تفسير غريب الحديث، دار المعرفة للطباعة والنشر، ط 1، بيروت، لبنان،.

135- عشماوي، محمد سعيد: الإسلام السياسي، مكتبة الصغير، ط 1، 1416 ه.

136- العجلوني، إسماعيل بن محمد: كشف الخفاء ومزيل الألباس، ج 2، دار الكتب العلمية، ط 3 بيروت،، 1988.

137- عبد الرزاق، علي: في كتابة الإسلام وأصول الحكم، منشورات دار المدى للثقافة والنشر، 2004 م.

138- العبادي، محمد: الإمام علي وتنمية ثقافة الأمة، مؤسسة الثقلين، ط 1، 2008، بيروت.

139- عباس، قاسم خضير: الإمام علي رائد العدالة الاجتماعية، دار الأضواء، ط 1، بيروت، 2004 م،.

140- عبد الرزاق، احمد: الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، دار الفكر العربي، القاهرة، 1411 ه - 1990 م.

141- العاملي، محسن: أعيان الشيعة، دار التعارف، بيروت، 1989.

142- العاملي، محمدين الحسن: التنبيه للمعلوم من البرهان، على تنزيه المعصوم، المكتب الإعلامي الإسلامي، قم 1418 ه.

ص: 343

143- الغزالي، أبو حامد بن محمد: الاقتصاد في الاعتقاد، دار الأمانة، ط 1، بيروت، 1961 م.

144- غالي، بطرس: المدخل إلى علم السياسية، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، 1974.

145- فيروز آبادي،محمد بن يعقوب: القاموس المحيط، ج 2، مؤسسة الحلبي وشركاؤه، القاهرة.

146- الفارابي بن ابو نصر، التنبيه على سبيل السعادة تحقيق عشماوي، محمد سعيد: الإسلام السياسي، مكتبة الصغير، ط 1، 1416 ه،.

147- الفراء، أبو يعلى: الأحكام السلطانية، مكتب الإعلام الإسلامي، طهران، 1406.

148- الفكيكي، توفيق: الراعي والرعية، دار الحديد، ط 1، قم، 1429 ه.

149- القرشي، باقر شريف: حياة النبي محمد، ج 2، دار جواد الأئمة، ط 1، بيروت،.

150- القرشي، باقرشريف: المختار الثقفي، دار الذخائر الإسلامية، ط 1، النجف، 2011.

151- القاضي، أحمد عرفات: التربية والسياسة عند ابن حامد الغزالي، دار ضياء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، 2000 م.

152- القندوزي، سلمان بن إبراهيم: ينابيع المودة، دار الأسوة، قم، 1416 ه.

ص: 344

153- القبانجي، حسن: مسند الإمام علي، تحقيق طاهر السلاحي، ج 9، مؤسسة الأعلمي، ط 1، بيروت، 2000 م.

154- القرشي، علي أكبر: مفردات نهج البلاغة، ج 2، مؤسسة نهج البلاغة، ط 1، طهران، 1999 م.

155- القزويني، محسن باقر: علي بن أبي طالب رجل المعارضة والدولة، دار العلوم، ط 1، بيروت، 2004.

156- القرشي، باقر شريف: المختار الثقفي ثورة وجهاد، دار الذخائر الإسلامية، ط 3، النجف الاشرف، 1432 ه، 2011 م.

157- القرطبي، أبو الحسن علي بن محمد: الجامع لأحكام القرآن، ج 7، دار أحياء التراث العربي، بيروت، 1982 م.

158- الكوفي، محمد بن سليمان: مناقب الإمام أمير المؤمنين، ج 2، مجمع أحياء الثقافة الإسلامية قم المقدسة، ط 1، 1412 ه.

159- الكليني، أبو جعفر بن يعقوب: الكافي، ج 1، دار الكتب الإسلامية، ط 3، طهران، 1388 ه.

160- أل كاشف الغطاء، محمد حسين: أصل الشيعة وأصولها، مؤسسة الإمام علي، ط 1، بيروت، 1415 ه.

161- كرد، محمد علي: أمراء البيان، ج 2، الفكر، القاهرة، 1937.

162- كحالة، عمر رضا: معجم المؤلفين، ج 2، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1989.

ص: 345

163- المسعودي، علي بن الحسين: مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج 2، دار الفكر. ط 1، بيروت، (1993 م).

164- المدرسي، محمدتقي: التاريخ الإسلامي، دارالمحبين، ط 7، قم، 1425 ه،.

165- المجلسي، محمد باقر: بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ج 18، دار الكتب الإسلامي، طهران، 1343 ش.

166- ماجد، عبد المنعم: التاريخ السياسي للدولة العربية، ج 1، ط 1، القاهرة، 1982 م.

167- مغنية، محمد جواد: في ظلال نهج البلاغة، ج 3، دار العلم، ط 3، بيروت.

168- محمد بن عيسى الترمذي: سنن الترمذي، ج 3، دار الفكر للطباعة والنشر، ط 2، بيروت، لبنان، 1983 م.

169- الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد: الإحكام السلطانية والولايات الدينية، دار الكتب العلمية، بيروت، 1982.

171- مهران، محمد بيومي: الإمامة وأهل البيت، ج 1، دار النهضة، بيروت، 1991 م.

172- ميكافيلي: الأمير، تعليق، موسوليني، مقدمة كرستيان غارس، تعريب خيري حماد، تعقيب فاروق سعد، منشورات دار الأفاق الجديدة، ط 3، بيروت، 1999.

ص: 346

173- الأمدي، عبد الواحد: غرر الحكم ودرر الكلم، مجموعة من حكم الإمام علي، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، ط 2، بيروت، لبنان، 2002 م.

174- محمد، فاضل زكي: الفكر السياسي العربي الإسلامي بين ماضيه وحاضره، سلسلة الكتب الحديثة، وزارة الإعلام، بغداد، 1976 م.

175- المسعودي، سلام فاضل: الموجز في المصطلحات والمفاهيم لنظم الدولة، مؤسسة الثقافة، بغداد، 2005 م.

176- المقرم، عبد الرزاق: مقتل الحسين، داراليضيع، ط 1،بيروت، 2002.

177- المفتي، محمد أحمد علي: العلاقات الدولية في الفكر السياسي الغربي، نشر جامعة الإسكندرية، ط 1، الإسكندرية، 1990 م.

178- محمد عبده: شرح نهج البلاغة، دار المعرفة، ط 1، بيروت، 1993.

179- الملا، فاضل عباس: الأمام علي ومنهجه في القضاء، نشر العتبة العلوية المقدسة، ط 1، النجف.

180- المفيد، ابن عبد الله: عدم سهو النبي، دار المفيد للطباعة والنشر، ط 2، بيروت، 1993 م.

181- المدرسي، محمد تقي: كيف نبني حضارتنا، دار محبي الحسين، قم، 2010 م.

182- المدرسي، محمد تقي: الفقه الإسلامي، أحكام الولايات، ج 3، مركز العصر للثقافة والنشر، ط 1، بيروت، 2010 م،.

183- محمد، نبيلة حسن: تاريخ الدولة العباسية، دارالمعرفة الجامعية، ط 1، الاسكندرية، 1993 م.

ص: 347

184- الموصلي، سليمان صائح: تاريخ الموصل، ج 1، المطبعة السلفية، ط 1، مصر، 1923.

185- منصور، محمد علاء: تاريخ إيران بعد الإسلام، دار الثقافة للنشر، القاهرة، 1989.

186- المظفر، محمد رضا: عقائد الإمامية، مؤسسة انصاريان، قم، 1999 م.

187- معلوف، لويس: المنجد في اللغة، نشر دار العلم، ط 1، قم، 1382 ش.

188- النفيس، احمد راسم: الشيعة والثورة، دارالمحجة البيضاء، ط 1،بيروت، 2010.

189- النقدي، جعفر: غزوات علي بن أبي طالب، دار الأندلس، ط 1، بيروت، 2009.

190- النسائي، احمد بن شعيب: سنن النسائي، ج 8، دار الفكر للطباعة والنشر، ط 1، بيروت، لبنان، 1348 ه.

191- هويدي، فهمي: الإسلام والديمقراطية، مؤسسة الأهرام، ط 1، القاهرة، 1993 م.

192- الهيثمي، أبو العباس أحمد بن حجر: تطهير الجنان واللسان، مطبعة القادة الدينية، القاهرة.

193- الهندي، علاء الدين علي: كنز العمال، في سنن الأقوال والأفعال، ج 9، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1989 م.

ص: 348

194- الهيثمي، نور الدين علي بن أبي بكر: مجمع الزوائد ومنع الفوائد، ج 7، دار الكتب العلمية، بيروت، 1988.

195- الهنداوي، جواد: القانون الدستوري والنظم السياسية، العارف للمطبوعات، النجف، 2010 م.

196- وايدن، الأصول السومرية للحضارات المصرية، ترجمة: زهير رمضان، الشركة الأهلية للنشر والتوزيع، ط 1، الأردن، عمان، 1999 م.

197- یاوکار، طالب رشيد: مبادئ القانون الدولي العام، ومؤسسة موكرياني للبحوث والنشر، ط 1، أربيل، 2009 م.

المصادر باللغة الانكليزية 1- Georhy Sabine: AHistory of politicak theory dourth rdition Dryden press Hins dale، Illinois، U.S.A، 1973.

2- G. mosca: Histioire des doctrines politigues depuis I antiquite، payout paris، 1955.

3- Diakivets kovalavcsoila direction، Histoirese l- Antigaite Etra ngers mosvou csansdatw.

ص: 349

المحتویات

المقدمة...7

مدخل إلى الفكر السياسي...15

تحديد المصطلح ومجال تداوله:...15

التعريف الإسلامي المعاصر للحضارة:...29

مراحل الحضارة:...29

ملامح الفكر السياسي في الحضارات القديمة:...31

الفكر السياسي في الحضارات الشرقية القديمة...34

نظرية التوكيل:...34

نظرية التأليه:...37

الفكر السياسي في الحضارات الغربية القديمة...39

حضارة اليونان...39

حضارة الرومان:...55

أوضاع العرب قبل الإسلام...59

الفصل الاول معالم الفكر السياسي في الحضارة الاسلامية

المبحث الأول: الفكر السياسي النبوي...75

نشوء الدولة:...75

أول دولة إسلامية:...79

دولة الرسول الإسلامية:...84

ص: 350

المبحث الثاني: الإمامة في الفكر السياسي الإسلامي...11

النوع الأول: الإمامة الشرعية:...113

النوع الثاني: الإمامة غير الشرعية...114

ضرورة الإمامة:...115

الخلافة والإمامة:...118

الإمام والعصمة:...119

العصمة في اللغة:...120

أدلة القائلين بالعصمة:...122

الأدلة العقلية:...122

الأدلة النقلية:...124

- أدلة السنة على العصمة:...127

طرق تعيين الإمام:...128

الشورى:...129

النص:...138

الفصل الثاني الفكر السياسي عند الإمام علي (عليه السلام)

المبحث الأول: نهج سياسة الإمام علي...157

شرعية الأهداف والوسائل...157

مقياس بقاء الدول وزوالها...163

بناء مؤسسات الدولة:...167

مؤسسة الرئاسة:...167

مؤسسة الدفاع:...178

مؤسسة الداخلية:...186

ص: 351

مؤسسة العدل:...189

مؤسسة المالية:...196

الموارد المالية:...196

مؤسسة الثقافة:...202

مؤسسة الخارجية:...206

المبحث الثاني: المعارضة السياسية في فكر الإمام علي...211

عوامل قيام المعارضة:...212

متطلبات المعارضة:...214

مستويات المعارضة:...217

أشكال المعارضة:...219

طرق مواجهة المعارضة:...222

حقوق المعارضة:...226

الفصل الثالث أثر الامام (علي (عليه السلام)) في الفكر السياسي

المبحث الأول: أثر الإمام علي في قيام الدول الإسلامية...239

الدول الممانعة...240

الدول الموالية:...250

المبحث الثاني: أثر الإمام علي في رواد الفكر السياسي...287

أثر الإمام علي في رواد الفكر السياسي القديم...287

أثر الأمام علي في رواد الفكر السياسي المعاصر...300

الخاتمه...322

المصادر...330

ص: 352

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.