التغير في السياسة المالية في خلافة الإمام علي (عليه السلام)

هوية الکتاب

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 2878 لسنة 2017 م مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف: BP37.35.S57 2017 المؤلف الشخصی: الشرهانی، حسین علی.

العنوان: التغیر فی السیاسة المالیة للدولة الإسلامیة فی خلافة الإمام علی علیه السلام.

بيان المسؤولیة: تألیف الأستاذ الدکتور حسین علی الشرهانی؛ تقدیم السید نبیل قدوری الحسنی.

بيانات الطبعة: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة - مؤسسة علوم نهج البلاغة. 1438 ه = 2017 م.

الوصف المادي: 408 صفحة.

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، سلسلة الرسائل الجامعیة - ایطالیا - 21.

تبصرة عامة:

تبصرة ببیلوغرافية: الکتاب يتضمن هوامش - لائحة المصادر (الصفحات 389 - 405).

تبصرة محتویات:

موضوع شخصي: علی بن أبی طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجریا.

موضوع شخصي: علی بن أبی طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجریا - نظریته.

موضوع شخصي: علی بن أبی طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجریا - سیاسته وحکومته.

مصطلح موضوعي: النظام المالی فی الإسلام.

مصطلح موضوعي: الإسلام والاقتصاد.

مؤلف إضافی: الحسنی، نبیل قدوری، 1965، مقدم.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة

ص: 1

اشارة

التغير في السياسة المالية في خلافة الإمام علي (عليه السلام)

ص: 2

سلسلة الرسائل الجامعية - إيطاليا / جامعة فردريكو الثاني وحدة الدراسات التاريخية (21)

التغير في السياسة المالية في خلافة الإمام علي (عليه السلام)

تألیف أ. د. حسین علی الشرهانی

إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة فی العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1438 ه - 2017 م

العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الاكبر (عليه السلام) مؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف: 07728243600 07815016633

الموقع الالكتروني: www.inahj.org

الايميل: Inahj.org@gmail.com

تنويه:

إن الأفكار والآراء الواردة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها، و لاتعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة

ص: 4

الإهداء

إليك سيدي يا رسول الله

إليك سيدي يا علي

أهدي بحثي المتواضع هذا عسى أن ينفعني

يوم لا ينفع مال ولا بنون

الى روح ابنتي خديجة

الى التي لا أنساها ما حييت

إلى من فارقتني قبل أن تكمل سنتها الخامسة

اهدي جهدي هذا

الى زوجتي وأولادي عمار وعبد الله وجعفر

اقدم عملي هذا

ص: 5

ص: 6

مقدمة المؤسسة

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن والاها، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أما بعد: فلم يزل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) منهلاً للعلوم من حيث التأسيس والتبيين ولم يتقصر الأمر على علوم اللغة العربية أو العلوم الإنسانية، بل وغيرها من العلوم التي تسير بها منظومة الحياة وإن تعددت المعطيات الفكرية، إلا أن التأصيل مثلما يجري في القرآن الكريم الذي ما فرط الله فيه من شيء كما جاء في قوله تعالى: «مَا فَرَّطْنَا فِی الْكِتَابِ مِنْ شَیْءٍ»(1)، كذا يجري مجراه في قوله تعالى: «وَكُلَّ شَیْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِی إِمَامٍ مُبِينٍ»(2)، غاية ما في الأمر أن أهل الاختصاصات في العلوم كافة حينما يوفقون للنظر في نصوص الثقلين يجدون ما تخصصوا فيه حاضراً وشاهداً فيهما، أي في القرآن الكريم وحديث العترة النبوية (عليهم السلام) فيسارعون وقد أخذهم الشوق لإرشاد العقول إلى تلك السنن والقوانين والقواعد والمفاهيم والدلالات في القرآن الكريم والعترة النبوية.

من هنا ارتأت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تتناول تلك الدراسات الجامعية المختصة بعلوم نهج البلاغة وبسيرة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفكره ضمن سلسلة علمية وفكرية موسومة ب (سلسلة الرسائل الجامعية) التي يتم عبرها طباعة هذه الرسائل وإصدارها ونشرها في داخل العراق وخارجه،

ص: 7


1- الأنعام: 38
2- يس: 12

بغية إيصال هذه العلوم الأكاديمية الى الباحثين والدارسين وإعانتهم على تبين هذا العطاء الفكري والانتهال من علوم أمير المؤمنين علي (عليه السلام) والسير على هديه وتقديم رؤى علمية جديدة تسهم في إثراء المعرفة وحقولها المتعددة.

وما هذه الدراسة الجامعية التي بين أيدينا لنيل شهادة الدكتوراه في الدراسات التاريخية إلا واحدة من تلك الدراسات التي وفق صاحبها للغوص في بحر علم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقد أذن له بالدخول إلى مدينة علم النبوة والتزود منها بغية بيان أثر تلك النصوص العلوية في الإثراء المعرفي والتأصيل العلمي.

وبلحاظ ذلك ركز الباحث مشكوراً على تتبع الفرق بين سياسة الإمام علي عليه السلام المالية وكيفية توظيفها في خدمة الرعية وسياسة من سبقه من الخلفاء وقد اتبع الباحث اسلوب المقارنات بين سياسة الإمام عليه السلام المالية وتلك التي كانت سائدة في عهد الخلفاء الذين سبقوه.

وبذلك يكشف البحث عن النشاط الاقتصادي الذي انتعش في عهد الإمام علي عليه السلام بالرغم من الحروب التي خاضها في زمن خلافته عليه السلام، فقدّم صورة علمية لهذا التغير في السياسة المالية في تلك الحقبة المهمة من التاريخ الإسلامي التي لا زالت تأثيراتها باقية إلى يومنا هذا.

فجزى الله الباحث خير الجزاء فقد بذل جهده وعلى الله أجره.

السيد نبيل قدوري الحسني رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 8

المقدمة

هناك الكثير من مواضيع التاريخ الإسلامي التي لم يسلط عليها الضوء بما فيه الكفاية، وظلت هذه المواضيع حبيسة الكتب لحقب طويلة، دون أن تنال ما تستحقه من بحث، لاسيما وأنها بحاجة إلى أن تكتسب حلة بحثية جديدة، ليتسنى للقراء الاطلاع على مواضيع كهذه تمكنهم من تكوين فهم وإدراك حقيقيين لحاضرهم، وأثر الماضي التاريخي في هذا الحاضر، والموضوع الذي نحن بصدده من هذه المواضيع التي أشرنا إليها، فعلى الرغم من أن شخصية الإمام علي (عليه السلام) من أكثر الشخصيات التي حظيت باهتمام الباحثين والمفكرين، إذ تناولوا حياته بكل تفاصيلها، وتناولوا شجاعته ودفاعه عن الإسلام وجهاده مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسلطوا الضوء على قضائه وعلمه وفقهه، وعلى معاركه وبطولاته وتناولوا إسهاماته في تثبيت حقوق الإنسان ودفاعه عنها، حتى يخيل أنهم لم يتركوا شيئا لم يتناولوه في هذه المدرسة الإنسانية الكبرى، إلا أننا رأينا أن الجانب الإداري والاقتصادي لم يكن التركيز عليه كافياً، وبما يستحقه من البحث، لما له من أهمية للتعرف على الفكر الاقتصادي الحي الذي كان يتمتع به الإمام علي، وطريقة إدارته للدولة الإسلامية في مدة خلافته، ومدى تطبيقه للنظرية الإسلامية التي آمن بها والتي كانت مطبقة في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد طرحها الإمام علي (عليه السلام) على من سبقه من الخلفاء، وعمل بها فعليا في خلافته، وأتت نتائجها في المدة القليلة التي حكم بها دولة الإسلام، وبقيت التشريعات الإدارية والاقتصادية التي وضعها شاخصة مع الزمن، كنظريات اقتصادية وإدارية قمة في العدالة، لهذا كان موضوع السياسة المالية للإمام علي مهما جدا، لاسيما أن الكثير منا لا يعرف عنه أكثر من كونه بطل الإسلام، دون أن يتعرف على الجوانب

ص: 9

الأخرى لهذه الشخصية، وقد يكون القصور في هذا الجانب نتيجة لقلة القراءة، لكن هذا لا يمنع أن يسلط الضوء على هذا الموضوع الحيوي والمهم، وقد يكون هناك بعض الباحثين تناولوا هذا الموضوع من الناحية النظرية، فأبرزوا لنا مشكورين رؤية الإمام علي للاقتصاد على مستوى النظرية، فأخذوا العهد الذي كتبه الإمام علي (عليه السلام) عندما وجه مالك بن الحارث الأشتر واليا على مصر، ففصلوا هذا العهد وبنوا نظرياتهم عليه، من دون الأخذ بنظر الاعتبار التطبيقات العملية التي سبقت هذا العهد، وإذا ما اخذوا التطبيقات العملية، فهم يأخذونها بالقدر المتعلق بالتنظير وليس بالواقع العملي، وفي بعض الأحيان قام الباحثون بمناقشة هذا الموضوع من وجهة نظر اقتصادية بحتة، وبلغة اقتصادية تخصصية من العسير فهمها، إلا لمن كان له إطلاع على لغة ومفردات الاقتصاد، وهذا يجعل هذه البحوث محصورة في نطاق ضيق ضمن دائرة المتخصصين، من دون أن تخرج من هذه الدائرة إلى عامة الناس، لذلك فإن دراستنا هذه تهدف إلى التعامل مع سياسة الإمام علي (عليه السلام) من جانب تاريخي بسيط، وأخذ التطبيقات العملية التي مارسها فعلا من خلال التدرج في إيضاح الفكر الاقتصادي له، والابتعاد عن التنظير إلى التطبيق، وضمن سياق المرحلة التاريخية التي عاشها المسلمون معه، وتقييم هذه التجربة التي أخذت حيز التنفيذ، أما أهمية الموضوع فتكمن في كون موضوع الاقتصاد أحد المواضيع المرتبطة بالتاريخ، إذ لا يمكن فهم الأحداث التاريخية من دون دراسة وافية لتأثير العامل الاقتصادي عليها، لذلك عندما نريد البحث في التاريخ الإسلامي، لابد ان يكون لدينا قدر كافٍ من الإلمام بالتفاصيل الاقتصادية وأثرها في الأحداث التاريخية، لأن هذا الأمر يسهم في فهم تاريخ المسلمين بصورة دقيقة.

لذلك اخترنا الجانب المالي من الاقتصاد الإسلامي ليكون موضوعا لبحثنا، ولم نقتصر في هذا البحث على مناقشة الجوانب المالية فقط، بل حاولنا التعرف على ارتباطه

ص: 10

بسياسة الدولة الإسلامية في المدة موضوع البحث، والسبب الرئيس في اختيارنا لهذا الموضوع هو أن اكثر البحوث والكتابات التي تناولت عهد الخلفاء الأربعة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ركزت على الجانبين السياسي والديني من دون الاهتمام بالجانب الاقتصادي، وهذه المسألة تؤثر سلبا في الفهم الصحيح لتلك الحقبة التاريخية، لأنه على الرغم من أهمية هذين الجانبين، لكنهما ليسا كافيين لتكوين صورة واضحة، ما لم يضفْ إليهما دراسات في الجانبين الاقتصادي والاجتماعي.

لذلك حاولنا في هذا البحث التركيز على الجانب المالي حتى نستطيع قراءة التاريخ بصورة صحيحة، ولم يكن بمقدورنا معالجة الواقع المالي للدولة الإسلامية في مدة الخلفاء الاربعة بشكل كامل، لأن ذلك يحتاج إلى وقت أطول، ويحتاج إلى مجموعة كبيرة من البحوث، ففضلنا أن نركز على السياسة المالية للدولة الإسلامية في عهد الإمام علي (عليه السلام)، ومن خلال هذا البحث نعقد مقارنات بين سياسته المالية، وتلك التي كانت سائدة في عهد الخلفاء الذين سبقوه، والسبب في هذا الأمر قلة البحوث التي تناولت الجوانب الاقتصادية في خلافة الإمام علي (عليه السلام)، وتلك التي تناولتها ركزت على الجانب العسكري والأحداث التي شهدتها الدولة الإسلامية في عهده، حتى أن من يقرأ البحوث التي تناولت مدة حكمه يعتقد أنه لم يحقق أي شيء للدولة الإسلامية، لذلك فقد ظُلم مرتين؛ الأولى بسبب التمرد غير المبرر لمجموعات من المسلمين ضد الخلافة في عهده، والثانية بسبب عزوف الباحثين عن دراسة إنجازاته في مجال الاقتصاد وإدارة الدولة، وقد نجد العذر للبعض منهم نتيجة لقلة الروايات التي وردت في مصادر المسلمين الأولى عن هذه الجوانب، ووضوح الجانب العسكري وما رافقه من معارك في تلك المدة، وورود الكثير من الروايات في المصادر الأولية، وسهولة البحث في هذا الجانب، لكن لم يكن هذا حال كل الباحثين، فقد ابتعد الكثير منهم عن الخوض في مناقشة الاقتصاد والإدارة في عهد

ص: 11

الإمام علي (عليه السلام)، لأن دراسة هذه المواضيع تعني البحث في التغيير الذي أجراه على السياسات التي كانت سائدة قبله، وإظهار سلبيات المرحلة التي سبقته، الأمر الذي قد يؤدي إلى انتقاد الخلفاء الذين اعتمدوا بعض السياسات الخاطئة، عن قصد أو عن قصور في الفهم، وهذا خط أحمر لا يمكن تجاوزه عند النسبة الغالبة من الباحثين، لأن هؤلاء الخلفاء مقدّسون منزّهون عند الشارع الإسلامي، لذلك عزفت النسبة الغالبة من هؤلاء عن الخوض في هذه التفاصيل، وحتى من تطرق منهم إلى هذا الموضوع درسه دراسة موجزة أو شوه الحقائق بتحليلات بعيدة عن المنطق، ونتيجة لما تقدم ركزنا على هذا الموضوع لأهميته التاريخية، من أجل تكوين صورة واضحة عن تلك الحقبة المهمة في التاريخ الإسلامي، والتي لمّا تزل تأثيراتها باقية إلى يومنا هذا، على الرغم من صعوبة هذا البحث نتيجة لقلّة الروايات الواردة وقصر المدّة الزمنية لحكم الإمام علي (عليه السلام)، وكثرة الروايات التي تحدثت عن المعارك الداخلية التي خاضها في تلك الحقبة.

وفي الختام فإن هذا البحث المتواضع لا يرقى إلا أن يكون محاولة بسيطة لتسليط الضوء على هذا الكم الهائل من الأخلاق والإنسانية والعدالة والمثل والقيم التي مثلها الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وإن كانت لا ترقى إلى مستوى من كتب عن هذه الشخصية العظيمة من المفكرين والكتاب، وهذا يعني أننا نحاول أن نقدم ما نستطيع تقديمه بقدر طاقتنا، على الرغم من اعترافنا بالقصور في هذا الجانب، إذ أسهم ضيق الوقت والإمكانية المتواضعة للباحث في الكثير من النقص الذي يعتري البحث، ونحن نعتذر إلى الله وإلى مقام الإمام (عليه السلام) إذا قصرنا في جانب من جوانب البحث فهذا مبلغ علمنا وطاقتنا. نسأل الله السداد والتوفيق.

الباحث

ص: 12

الفصل الأول تولي الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) خلافة المسلمين

اشارة

ص: 13

ص: 14

المبحث الأول الثورة على الخليفة عثمان بن عفان

بعد أن توفي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أُنشئ نظام الخلافة من أجل حكم الدولة الإسلامية، واختير أبو بكر خليفة للمسلمين من قبل مجموعة من المهاجرين(1)، لكن هذا الاختيار جوبه بمعارضة شديدة من أطراف عدة، أول هذه الأطراف المعارضة هو الإمام علي (عليه السلام)، ومعه أسرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من بني هاشم وبعض الصحابة(2)، وكانت معارضتهم تستند إلى أن الإمام علياً (عليه السلام) أحق بالخلافة من غيره، لأنه ابن عم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وزوج ابنته فاطمة (عليها السلام)، وأبو الحسن والحسين أحفاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الوحيدين، وهو أول من استجاب لدعوة

ص: 15


1- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 24 - 26، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 123 - 124، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 2 / 446، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 23 - 24
2- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 28 - 30، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 12124 - 126، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 2 / 446، اليوزبكي، النظم العربية الإسلامية، 41. Kennedy، Hugh، The Prophet and the Age of the Caliphates، second edition، Publisher: Longman، Published 2004، p51

الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وصلى معه(1)، وهو البطل الذي دافع عن الإسلام بقوة، بحيث اشترك في كل معارك المسلمين ضد المشركين، وكان حامل راية الرسول فيها، وثبت مع الرسول في هذه المعارك وكان سببا في انتصار المسلمين، في الوقت الذي هرب الكثير من الصحابة عندما شعروا بالخطر على حياتهم(2)، وهو أفقه الصحابة وأعلمهم بالقرآن والسنة النبوية والقضاء(3).

واستند الهاشميون إلى ترشيح الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) له في شغل منصب الخلافة مرتين متتاليتين، الأولى في السنة الثالثة للبعثة، عندما جمع بني هاشم من أجل دعوتهم إلى الإسلام، فقال لهم: فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فلم يجبه أحد من بني هاشم سوى علي، عندها قال لهم: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا(4)، والثانية في السنة الحادية عشرة للهجرة، عندما رجع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكة، بعد أن أدى الحج فيها، فوقف في منطقة تسمى غدير خم، تقع بين مكة والمدينة، وكان

ص: 16


1- البلاذري، انساب الأشراف، 1 / 92 - 93، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 23، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 2 / 55 - 59، النسائي، سنن النسائي، 5 / 105 - 106، الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحین، 3 / 500، الاميني، الغدير، 3 / 219 - 244. Kennedy ، op. cit.، p51
2- البلاذري، أنساب الأشراف، ص 94، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 10 / 179 - 183
3- البلاذري، أنساب الأشراف، ص 97 - 101، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 193، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 17 / 335، الخوارزمي، المناقب، 81 - 104، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7 / 219 - 220
4- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 2 / 63، الحسكاني، شواهد التنزيل، 1 / 486، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 42 / 50، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 13 / 211، المتقي الهندي، كنز العمال، 13 / 114، شرف الدين، المراجعات، ص 188 - 192

معه عدد كبير من المسلمين، فخطب فيهم خطبة طويلة، ومن ضمن ما قال لهم في تلك الخطبة: معاشر المسلمين ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: اللهم بلى، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه...(1)، كذلك نزول الكثير من الآيات القرآنية بحق علي بن أبي طالب، وتشديد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الكثير من أحاديثه على مكانته في الإسلام، وقربه من الله ورسوله، لكننا لا نريد الاسترسال في هذا الموضوع، لأنه يخرجنا عن موضوع البحث.

أما الطرف الثاني في المعارضة فقد كان سعد بن عبادة زعيم قبيلة الخزرج الأنصارية، الذي رأى انه أحق بالخلافة من أبي بكر(2)، لأنه زعيم قبيلة الخزرج، التي دعت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للهجرة إلى مدينتها من أجل مساندة الدعوة الإسلامية، ووقفت بكل ما تملك من اجل انتشار الإسلام، فاحتضنوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والدعوة الإسلامية، وقاسموا المهاجرين الذين قدموا مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أموالهم وبيوتهم، ودافعوا عن الإسلام حتى قتل منهم أعداد كبيرة وحوصرت مدينتهم وقطعت أرزاقهم(3)، كما أن سعداً كان من أبطال الإسلام، وسيداً من أسياد العرب في الجاهلية والإسلام، وهو مشهور

ص: 17


1- ابن حنبل، مسند احمد، 4 / 281، القزويني، سنن ابن ماجة، 1 / 45، الترمذي، سنن الترمذي، 5 / 279، النسائي، السنن الكبرى، 5 / 123، الطبراني، المعجم الصغیر، 1 / 65، الحاكم النيسابوري، المستدرك، 3 / 109 - 110، الهيثمي، مجمع الزوائد، 9 / 103 - 108، ابن حجر، فتح الباري، 7 / 61، البكري، من حياة عمر بن الخطاب، ص 192 - 194
2- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 22، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 123 - 124، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 2 / 457 - 458، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6 / 5 - 6، اليوزبكي، النظم الإسلامية، ص 41
3- للاطلاع على هذا الموضوع راجع ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1 / 217 - 239، 2 / 5 - 149، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 37 - 62، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 2 / 114 - 363

بالشجاعة والكرم وغير ذلك من الصفات الحسنة(1).

إلا ان المجموعة التي رشحت أبا بكر والتي كان يقف على رأسها عمر بن الخطاب، اعترضت على ترشيح سعد، بحجة أنّ أبا بكر هو من القبيلة نفسها التي ينتمي اليها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، والعرب لا تقر بالحكم إلا لمن كان من قريش قبيلة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان احتجاجهم مستندا إلى الأعراف القبلية التي كانت سائدة في تلك الحقبة(2)، مع العلم أنّ أبا بكر لم يكن قريبا من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، مثل قرابة علي بن أبي طالب، لكن هؤلاء أرادوا ان يسكتوا كل الأصوات المعارضة بأي وسيلة، حتى وصل الأمر إلى اغتيال سعد بن عبادة في خلافة عمر بن الخطاب، وبعد ان اغتيل روجوا لرواية عجيبة ذكرتها المصادر التاريخية، مفادها ان الجن اغتالت سعداً؛ لأنه بال في ماء راكد في منطقة قريبة من الشام، ولا يخفى أن هذا الاغتيال كان سياسيا، نتيجة للمعارضة التي أبداها سعد لترشيح أبي بكر وعمر(3).

وهذه المجموعة كانت قد اعترضت سابقا على ترشيح الإمام علي (عليه السلام)

ص: 18


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 613 - 617، ابن الأثیر، اسد الغابة، 2 / 283 - 285، ابن حجر، الإصابة 3 / 55 - 56
2- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 25، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 2 / 457، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 38
3- لا يستبعد أن هذا الجن كان سياسيا، ينظر ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 216 - 317، ابن الأثیر، أسد الغابة، 2 / 285، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 20 / 266، الهيثمي، مجمع الزوائد، 1 / 206، توجد مناقشة جيدة لموضوع قتل سعد عند مرتضى العسكري، معالم المدرستين، مؤسسة النعمان، بیروت 1990، 1 / 134

للخلافة، بحجة أن قريشاً لا تريد جمع النبوة والخلافة في بني هاشم(1)، وهو أمر مردود وحجة واهية، لأن عمر بن الخطاب صاحب هذا القول، هو نفسه رشح علي ابن أبي طالب لتولي الخلافة مع خمسة آخرين بعد أن تعرض لمحاولة اغتيال، اما كره قريش لهذا الأمر فهو طبيعي، إذ كره القرشيون سابقا بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، «وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلىَ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ»(2)، فلم يحبوا أن يكون النبي من بني هاشم وهو مرسل من الله، وقاتلوه اشد القتال من اجل القضاء على الدعوة الإسلامية، فيكون من السهل عليهم أن يعترضوا على ترشيح الإمام علي (عليه السلام)، لاسيما أنهم كانوا يرون أن الخلافة إذا ذهبت إلى بني هاشم لا تخرج منهم ابدا، وقد أوضح الإمام (عليه السلام) هذا المعنى بقوله: (إن الناس ينظرون إلى قريش، وقريش تنظر إلى بيتها، فتقول إن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم ابدا، وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم)(3)، ثم اعترضوا عليه بحجة أنه صغير السن، ولا يصلح للخلافة مع وجود الشيوخ من قريش، فقالوا له:

(لسنا ندفع قرابتك ولا سابقتك ولا علمك ولا نصرتك، ولكنك حدث السن، وابو بكر شيخ من شيوخ قومك، وهو احمل لثقل هذا الأمر)(4).

فأصبح أبو بكر خليفة للمسلمين على الرغم من هذه الاعتراضات، وذلك لأن

ص: 19


1- الجوهري، السقيفة وفدك، ص 131، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 288 - 289، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 189
2- القرآن الكريم، سورة الزخرف، الآية 31، والرجلان المقصودان بالآية الكريمة هما الوليد بن المغرة المخزومي أبو خالد بن الوليد أحد أكبر تجّار مكة، وعروة بن مسعود الثقفي احد الأشراف في مدينة الطائف في الجاهلية، الصنعاني، تفسیر القرآن، 3 / 196، الطبرسي، مجمع البيان 7 / 453
3- ابن شبة النميري، تاريخ المدينة المنورة، 3 / 931، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 298
4- الطبرسي، الاحتجاج، 1 / 96، المجلسي، بحار الأنوار، 28 / 185

الأطراف المعارضة لم تلجأ إلى استخدام القوة؛ إذ إنّها كانت حريصة على الإسلام، فتنازل الإمام علي (عليه السلام) عن المطالبة بالخلافة، لأنه رأى أن الإسلام أهم من شغل منصب الخلافة، وهو لا يريد أن يخوض نزاعا قد يؤدي بالنهاية إلى تحطيم الإسلام، على الرغم من أن أبا سفيان بن حرب والد معاوية الذي أصبح فيما بعد حاكما للشام وزعيم بني أمية، عرض عليه الأموال والرجال من أجل محاربة أبي بكر فقال للإمام علي: (يا أبا الحسن لو شئت لأملأها خيلاً ورجالا)، إلا أن الإمام علياً كان يعرف أن أبا سفيان الذي قاد المعارضة ضد الإسلام أكثر من عشرين عاما هو وابنه معاوية، ولم يدخل إلى الإسلام إلا في فتح مكة، بعد أن يئس من القضاء عليه، لا يمكن أن يكون بهذا الحرص على الإسلام والمسلمين، فقال له: (ما زلت عدوا للإسلام وأهله، فما أضر ذلك الإسلام شيئا)(1)، فقطع الإمام علي (عليه السلام) الطريق أمام من يريد الفتنة، وجعل الأمور تسير على ما سارت عليه خوفا على الإسلام.

واستمرت خلافة أبي بكر لسنتين وثلاثة اشهر تقريبا(2)، ثم اوصى أن يكون عمر ابن الخطاب خليفة من بعده، وبالفعل شغل الاخير منصب الخلافة بهذه الوصية(3)، وبقي خليفة للمسلمين مدة عشر سنوات(4)، ثم تعرض لمحاولة اغتيال من قبل احد

ص: 20


1- الصنعاني، المصنف، 5 / 451، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 2 / 449، المقريزي، النزاع والتخاصم، ص 59، الحسني، دراسات في الحديث والمحدثين، ص 90
2- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 35، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 2 / 612
3- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 35 - 36، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 136 - 137، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 2 / 618
4- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 159

الموالي، ادت إلى وفاته بعد مدة وجيزة قد تكون أربعة ايام(1)، لذلك أراد أن يختار خليفة للمسلمين بعد وفاته، لكنه لم يسمِ احداً لتولي هذا المنصب، بل اختار ستة من الصحابة، الذين ينتسبون لقبيلة قريش، وقال إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) توفي وهو راض عنهم، ليختاروا من بينهم خليفة، وهؤلاء الستة هم الإمام علي (عليه السلام) وعثمان بن عفان والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد ابن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، وفرض عليهم أن يختاروا خليفة من بينهم في غضون ثلاثة ايام(2)، وطلب من أبي طلحة الانصاري(3) أن يجمع خمسين رجلا من الانصار ويقف قريبا من المرشحين من أجل أن يحثهم على سرعة الاختيار، وحدد مدة ثلاثة ايام من اجل الانتهاء من اختيار الخليفة(4)، ثم اعطاهم طريقة غريبة من اجل اختيار الخليفة، هذه الطريقة تعتمد اكثرية الاصوات في اختياره، وأوكل إلى أبي طلحة الانصاري مهمة جمع هؤلاء الستة، وحثهم على الاختيار في غضون ثلاثة ايام، وقال لهم إذا اتفق خمسة منهم على مرشح وخالف واحد يضرب عنق الذي يخالف، وإذا اتفق أربعة على مرشح وخالف اثنان يضرب عنق المخالفين(5)، وإذا اتفق ثلاثة

ص: 21


1- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 266
2- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 61، ابن شبة النمیري، تاريخ المدينة المنورة، 3 / 895، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 295
3- أبو طلحة الأنصاري اسمه زيد بن سهل من بني النجار الذين ينتمون إلى قبيلة الخزرج الأنصارية، هو من النقباء الاثني عشر الذين اختارهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكونوا مسؤولين عن الأنصار قبل الهجرة، شارك في معركة بدر والمعارك التي تلتها، توفي سنة احدى وخمسین بعد الهجرة، ابن الأثير، اسد الغابة، 2 / 232 - 233
4- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 61 - 62، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 160، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 294
5- ابن شبة النمیري، تاريخ المدينة، 3 / 925، ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 42 - 43، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 160، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 294

على مرشح والثلاثة الآخرون على مرشح آخر يختار عبد الله بن عمر ابن الخليفة احد المرشحين(1)، فإذا رفضوا يتم اختيار مرشح الجماعة التي فيها عبد الرحمن بن عوف، ويُقتل من يرفض هذا الاختيار(2)، وهذا أمر غريب جدا لسببين:

اولهما: لا يستطيع احد معارضة هذا الاختيار لأنه يعرض نفسه للقتل، إذ أمر الخليفة عمر بقتل من يخالف، مع أنه يقول: (إن رسول الله مات وهو راض عن هذه الستة)(3)، وفي رواية أخرى انه قال: (إنهم من أهل الجنة)(4)، ومع أن رسول الله مات وهو راض عنهم، وانهم من اهل الجنة، حسب قول الخليفة، فإنه أمر بقتل من يعارض منهم.

ثانيهما: استبعاد الإمام علي (عليه السلام) من الخلافة، وعدم الأخذ بعين الاعتبار المؤهلات التي كان يتمتع بها، والتي ذكرنا قسماً منها فيما سبق، الأمر الذي شخصه الإمام (عليه السلام) جيدا، في أن الطريقة التي وضعت، من اجل اختيار الخليفة كان المقصود منها استبعاده من الخلافة، ووضح ذلك بقوله لعمه العباس بن عبد المطلب:

(عدل بالأمر عني يا عم، قال وما علمك؟ قال قرن بي عثمان، وقال عمر كونوا

ص: 22


1- ابن شبة النمیري، تاريخ المدينة، 3 / 925، ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 42 - 43، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 160، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 294
2- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 61، ابن شبة النمیري، تاريخ المدينة، 3 / 925، ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 42 - 43، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 160، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 294
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 185، المجلسي، بحار الأنوار، 31 / 395
4- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 293، ابن حزم، المحلى، 1 / 47، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 191، المجلسي، بحار الأنوار، 31 / 386

مع الأكثر، فإن رضي رجلان رجلا ورجلان رجلا، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن، فسعد لا يخالف ابن عمه وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون، فيوليها عبد الرحمن عثمان أو يوليها عثمان عبد الرحمن فلو كان الآخران معي لم يغنيا شيئا)(1)، ثم بينّ هذا الأمر في احدى خطبه، إذ قال: (جعلها في جماعة زعم اني احدهم، فيا لله وللشورى متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم أي أبا بكر حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر،....... فصغى رجل منهم لضغنه ومال الآخر لصهره)(2)، وعلى الرغم من هذه المعرفة بأنه مستبعد من الخلافة، لكنه دخل في هذا الشورى يدفعه الخوف على الإسلام من الخلاف.

ثم سحب عبد الرحمن بن عوف نفسه من الترشح للخلافة، من اجل أن يأخذ آراء الصحابة في الشخصية التي يرشحونها لهذا المنصب، وحسب ما تذكر الروايات فإنه وجد أغلبهم يريدون تولية عثمان لخلافة المسلمين(3)، إلا أننا نشك في هذه الروايات، لأنه ليس من المعقول ان يكون عبد الرحمن قد استطاع في يوم واحد، أن يأخذ آراء الصحابة الذين يزيد عددهم على آلاف الاشخاص، وإذا ما افترضنا أن عبد الرحمن بن عوف استطلع آراء الصحابة، فأشاروا عليه باختيار عثمان للخلافة، فربما انه شاور مجموعة الصحابة التي كانت مستفيدة من النظام المالي، الذي أسسه

ص: 23


1- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 294، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 191
2- فصغى رجل منهم لضغنه يقصد طلحة بن عبيد الله، لأنه ابن عم الخليفة الأول أبي بكر، وهناك خلاف بین بني هاشم اسرة علي وبین بني تيم اسرة أبي بكر وطلحة بسبب الخلافة، اما معنى ومال الآخر لصهره فهو يعني انحياز عبد الرحمن بن عوف لعثمان، لأنه متزوج أخت عثمان، ينظر ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 184، 189
3- ابن شبة النمیري، تاريخ المدينة، 3 / 928، ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 44، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 296

الخليفة عمر بن الخطاب، والذي جعل المسلمين على طبقات في اخذ العطاء، إذ ميز بينهم حسب السبق في الإسلام، فأعطى المسلمين الاوائل الذين دخلوا الإسلام في البداية عطاء كبيراً بالمقارنة مع الذين دخلوا بعدهم(1)، فتراكمت لديهم الثروات في نهاية عهد الخليفة عمر بن الخطاب، لذلك كانوا يريدون التمتع بها، ولم يكن احد منهم يرغب في أن يكون الخليفة بعد عمر الإمام علي (عليه السلام)، لأنهم يعرفون انه سيعود بالنظام المالي للدولة الإسلامية إلى ما كان سائدا في عهد النبي من المساواة، ولن يكون هناك طبقات عليا وسفلى في المجتمع، لأنه يرى أن الجميع متساوون امام الله والقانون.

وهذه المعرفة المسبقة بشخصية الإمام علي (عليه السلام)، المعروفة بمعارضتها لنظام التفاوت بالعطاء، الذي تحول بدوره إلى تفاوت بين المسلمين في المكانة الاجتماعية، جعلتهم يشعرون بالخطر فرجحوا جانب عثمان بن عفان لتولي الخلافة، ويؤيد الرأي المتقدم تشخيص الخليفة عمر بن الخطاب لمميزات كل واحد من المرشحين، إذ قال للإمام علي: (اما والله لئن ولّيتهم لتحملهم على الحق الواضح والمحجة البيضاء)(2)، وهذا يعني أنه بينّ للصحابة ان الإمام علياً (عليه السلام) سيكون شديداً في تطبيق الإسلام، وسيعيد الأمور إلى نصابها كما كانت في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان هذا القول بمثابة إنذار لكل من كان مستفيدا من النظام المالي الذي اوجده الخليفة عمر.

ثم تذكر هذه المصادر ان عبد الرحمن سأل الصحابة والأشراف، وكلهم أشاروا

ص: 24


1- أبو يوسف، الخراج، ص 45
2- ابن شبة النمیري، تاريخ المدينة، 3 / 924، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 294، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 186

عليه باختيار عثمان بن عفان للخلافة، دون أن تسمي هؤلاء الصحابة الذين سألهم عبد الرحمن بن عوف، وهل هم من المهاجرين أو الأنصار، وما معنى الأشراف الذين ذكرتهم الروايات، هل هم زعماء القبائل؟ ام كبار القرشيين الذين دخلوا إلى الإسلام بعد فتح مكة؟، فإذا كان الأمر كذلك، فإن هؤلاء كانوا على خلاف شديد مع الإمام علي (عليه السلام) لا يحبونه، لأنه قتل آباءهم واخوانهم في معارك الإسلام مع المشركين، وكان الأحرى بعبد الرحمن بن عوف أن يسأل عامة المسلمين، مادام الأمر شورى كما تذكر الروايات.

فضلاً عن أن عبد الرحمن بن عوف نفسه كان من المستفيدين من التفاوت في العطاء، وقد كوّن ثروة هائلة من هذه السياسة المالية(1)، زيادة على قرابته من عثمان بن عفان، وكان الخليفة عمر بن الخطاب يدرك هذه الحقيقة، إذ قال لعبد الله بن عباس: (إن أحراهم أن يحملهم على كتاب ربهم وسنة نبيهم لَصاحبك يعني علي بن أبي طالب والله لئن وليهم ليحملنهم على المحجة البيضاء والصراط المستقيم)(2)، والناس الذين ورد ذكرهم في قول الخليفة عمر هم من الصحابة المستفيدين من السياسة المالية القائمة، وليس من عامة المسلمين.

ثم اجتمع عبد الرحمن بن عوف بعثمان وقال له: (عليك عهد الله وميثاقه لئن بايعتك لتقيمن لنا كتاب الله وسنة رسوله وسنة صاحبيك، وشرط عمر أن لا تجعل

ص: 25


1- المسعودي، مروج الذهب، 2 / 350، ابن الأثیر، اسد الغابة، 3 / 317، الذهبي، دول الإسلام، 1 / 26
2- ابن شبة النمیري، تاريخ المدينة، 3 / 883، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 12 / 52، وقد أورد اليعقوبي هذه الرواية بلفظ آخر: إن عليا ابن عمك لأحق الناس بها، ولكن قريشا لا تحتمله ولئن وليهم ليأخذنهم بمر الحق لا يجدون عنده رخصة، تاريخ اليعقوبي، 2 / 110

أحدا من بني امية على رقاب الناس، فقال: نعم) ثم توجه إلى الإمام علي وقال له:

(أبايعك على شرط عمر، أن لا تجعل احداً من بني هاشم على رقاب الناس، فقال له عند ذلك: مالك ولهذا إذا قطعتها في عنقي؟ فإن عليَّ الاجتهاد لأمة محمد، حيث علمت القوة والأمانة استعنت بها، كان في بني هاشم أو غيرهم، قال عبد الرحمن: لا والله حتى تعطيني هذا الشرط، قال علي: والله لا أعطيكه ابدا، فتركه)(1). ثم طلب منه ان يسير بسيرة أبي بكر وعمر، فرفض الإمام علي الأمر وقال له: (اعمل بمبلغ علمي وطاقتي)(2)، وهذه المسألة بحاجة إلى وقفة، لأنها تتعلق بالسياسة المستقبلية التي ينتهجها الخليفة، وليس من المعقول أن يقبل الإمام علي (عليه السلام) برنامج حكومته قبل ان يتولى الخلافة، لاسيما انه كان معترضاً على بعض السياسات التي انتهجها الخليفتان، ويريد تغييرها، لذلك رفض هذا الشرط الذي يقيده، وهذا الأمر لم يرق لعبد الرحمن بن عوف والذين سألهم، لأنها تعني من ضمن ما تعني مخالفة سياسة الخليفة عمر المالية، الأمر الذي قد يضر بالكثير ممن كوّن الثروات نتيجة لهذه السياسة(3)، كذلك فإن الإمام علياً (عليه السلام) كان يعي حقيقة الأمر وإن عبد الرحمن بن عوف سيولّی عثمان، على أمل أن يتولى بعده، فقال لهما: (حبوته حبو الدهر، ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك)(4)، وفي رواية اخرى أنه قال لهما: إنما آثرته بها

ص: 26


1- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 45
2- ابن شبة النمیري، تاريخ المدينة، 3 / 930، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 297، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 12 / 264، الأميني، الغدير، 9 / 115 - 117
3- Kennedy ، op. cit.، p70
4- ابن شبة النمیري، تاريخ المدينة، 3 / 930، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 297، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 12 / 264

لتنالها بعده، دق الله بينكما عطر منشم(1)، وبالفعل اختلف عبد الرحمن مع عثمان بن عفان فقال: (لو استقبلت من امري ما استدبرت ما وليت عثمان شسع نعلي)(2)، والسبب في ذلك أن عثمان بن عفان اصابه مرض، وأراد أن يولي خليفة بعده فاختار عبد الرحمن بن عوف لهذا الأمر، وكتب عهدا سريا وأرسله إلى أم حبيبة بنت أبي سفيان التي كانت احدى زوجات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي من بني امية اسرة الخليفة عثمان، إلا أن الخادم فتح الكتاب وأخبر عبد الرحمن بن عوف، الأمر الذي أثار غضب الأخير وقال: (أستعمله علانية، ويستعملني سرا)(3)، وهذا يؤكد ما ذهبنا اليه من أن كل الأمور مرتبة بحيث لا يتولى الإمام علي (عليه السلام) الخلافة.

أصبح عثمان بن عفان خليفة للمسلمين بناءً على الطريقة المتقدمة، التي وضعها الخليفة عمر قبل وفاته، وعندما تولى الخلافة لم يستطع كبح جماح اقاربه، الذين اعتبروا الخلافة ملكا لهم يستطيعون التصرف به كما يشاؤون، وقد عبّر أبو سفيان ابن حرب بن امية عن هذا المعنى بالقول: (اعندكم احد من غيركم، قالوا: لا، قال:

يا بني امية تلقفوها تلقف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان، ما من عذاب ولا حساب، ولا جنة ولا نار، ولا بعث ولا قيامة. قال: فانتهره عثمان، وساءه بما قال، وأمر بإخراجه)(4)، وحسب المعنى المتقدم فإن خلافة المسلمين أصبحت ملكا لبني أمية.

ص: 27


1- الجوهري، السقيفة وفدك، ص 89، المفيد، 1 / 286، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 188
2- ابن شاذان الأزدي، الإيضاح، ص 519، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 20 / 25
3- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 169
4- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 8 / 186، الجوهري، السقيفة وفدك، ص 87، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 9 / 53

ثم ان الخليفة بدأ بتولية أقاربه على الولايات الإسلامية، وعزل عمال الخليفة عمر عنها، وأصبح لهم حق التصرف بالأموال، وهؤلاء كان أكثرهم من الطلقاء، الذين اسلموا عند فتح مكة، أو الشخصيات المشكوك في إسلامها، فعزل سعد بن أبي وقاص عن ولاية الكوفة وولى الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخوه لأمه بدلا منه(1)، وعزل عمرو بن العاص عن ولاية مصر، وأعطاها لأخيه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح(2)، وعزل أبا موسى الأشعري عن ولاية البصرة وولى بدلا منه عبد الله بن عامر الأموي(3)،

ص: 28


1- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 114، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 306، والوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية هو أخو عثمان بن عفان لأمه، أسلم عند فتح مكة، عينه الرسول على صدقات بني المصطلق فعاد واخبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنهم ارتدوا عن الإسلام، وكان هذا الخبر كاذبا، فنزلت فيه الآية «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِینَ»، سورة الحجرات، الآية 6، أنظر ابن الأثیر، أسد الغابة، 5 / 90 - 91
2- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 115، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 306، عمرو بن العاص بن وائل السهمي القرشي، كان من اشد أعداء الدعوة الإسلامية أرسلته قريش إلى ملك الحبشة من اجل ارجاع المهاجرين من المسلمين اليها لكنه فشل في ارجاعهم، ثم دخل الإسلام في السنة الثامنة للهجرة قبل فتح مكة، ابن الأثیر، أسد الغابة، 4 / 115 - 116، أما عبد الله بن سعد فهو عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري القرشي، أخو عثمان من الرضاعة، أسلم قبل الفتح وهاجر إلى المدينة وكان احد كتّاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم ارتد وهرب إلى مكة وكان يقول إني كنت أحرف بالقرآن عندما أكتبه ومحمد لا يعرف، فأمر النبي بقتله لكنه اختبأ عند عثمان عندما فتحت مكة، فطلب عثمان الأمان له من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ابن الأثیر، اسد الغابة، 3 / 173
3- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 116، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 166، أبو موسى الأشعري هو عبد الله بن قيس بن سليم الأشعري، أسلم في السنة السابعة للهجرة وقدم إلى المدينة مع جعفر بن أبي طالب وجماعته عندما عادوا من الحبشة، وكان احد قادة الفتوح في عهد عمر بن الخطاب، وولاه على البصرة فعزله عثمان، ثم ولاه أهل الكوفة عليهم بعد طرد سعيد ابن العاص والي عثمان، ابن الأثیر، أسد الغابة، 3 / 245 - 246، أما عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وهو ابن خال عثمان بن عفان ولد في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وولاه عثمان على البصرة سنة 29 ه، ابن الأثیر، أسد الغابة، 3 / 191

وجمع الشام كله لمعاوية(1)، وهؤلاء الذين ولاهم لم تكن سيرتهم حسنة عند المسلمين، فأثاروا الكثير من المشاكل للخليفة، وألّبوا الناس عليه، لأنهم كانوا واجهة الخلافة امام المسلمين في الولايات الإسلامية، لذلك نصحه الإمام علي بن أبي طالب أن يغير سياسته، ولا يجعل هؤلاء الولاة سببا في الثورة عليه، واستباحة دمه فقال له بعد كلام طويل عاتبه فيه، وحذره من غضب الله وعقابه:

(أحذرك الله، وأحذرك سطوته ونقماته فإن عذابه شديد أليم، وأحذرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول، فأنه يقال يقتل في هذه الأمة إمام، فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، وتلبس أمورها عليها، ويتركهم شيعا فلا ينصرون الحق لعلو الباطل، يموجون فيها موجا ويمرجون فيها مرجا)، فأخذ الخليفة عثمان يقدم مجموعة من الحجج للإمام علي (عليه السلام)، ومن ضمن ما قاله إن الخليفة عمر بن الخطاب هو الذي ولى معاوية، كذلك فإن ابن عامر ومروان والوليد هم أقارب علي بن أبي طالب، وليسوا أقارب عثمان فقط، فأجابه الإمام علي: (ان عمر بن الخطاب كان كل من ولى، فإنما يطأ على صماخه، إن بلغه عنه حرف جلبه، ثم بلغ به اقصى الغاية، وأنت لا تفعل ضعفت ورفقت على اقربائك، ..... هل تعلم ان معاوية كان اخوف من عمر من يرفأ غلام عمر منه قال: نعم، قال علي: فإن معاوية يقتطع الأمور

ص: 29


1- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 338 - 339، ص 112، ابن عساکر، تاريخ دمشق، 32 / 10

دونك، وأنت تعلمها فيقول للناس: هذا امر عثمان فيبلغك ولا تغير على معاوية)(1).

وعلى الرغم من ان الخليفة عمر هو الذي ولى معاوية على الشام، لكن هذه الولاية توسعت في عهد عثمان وشملت الشام كله(2)، وكانت شبه مستقلة إذ لا يعرف الخليفة ما يدور فيها، ولا يأتيه من الأموال إلا ما جادت به يد معاوية، ولا يخفى أن بلاد الشام لم تكن احدى الأمصار الإسلامية الهامشية، بل كانت اغنى مناطق الدولة الإسلامية، لأنها كانت دار مملكة الروم، وموضع أموالهم وكنوزهم، واتخاذهم لبلاد الشام عاصمة لهم لم يكن بالأمر الاعتباطي، بل لخصوبة أرضها وكثرة خيراتها(3)، فتحولت كل تلك القوة الاقتصادية والجغرافية بيد معاوية، وهو من الطلقاء والمؤلفة قلوبهم، الذين أعطاهم رسول الله الأموال في معركة حنين من اجل أن يتآلفهم للإسلام ويتقي شرهم(4).

ثم ظهرت مساوئ تولية الأمويين على الأمصار الإسلامية، بعد مدة من تولي الخليفة عثمان أمور المسلمين، وهو الأمر الذي حذره منه الخليفة عمر بن الخطاب عندما رشحه مع الستة، إذ قال له: (كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبها إياك، فحملت بني أمية وبني أبي معيط على رقاب الناس، وآثرتهم بالفيء، فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب، فذبحوك على فراشك ذبحا، والله لئن فعلوا لتفعلن، ولئن

ص: 30


1- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 376 - 377، المفيد، الجمل، ص 100
2- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 112، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 338 - 339، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 32 / 10
3- النعمان المغربي، شرح الأخبار، 2 / 88
4- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 2 / 326

فعلت ليفعلن، ثم أخذ بناصيته، فقال: فإذا كان ذلك فاذكر قولي فإنه كائن)(1).

فأوجدت هذه المساوئ حاجزاً نفسياً عند المسلمين، الذين كانوا يسكنون في هذه الأمصار مع هؤلاء الولاة، وعزز هذا الأمر سوء تصرف هؤلاء الولاة معهم، فجاء سكان مصر يتظلمون من عبد الله بن سعد بن أبي سرح، لكنهم لم يجدوا حلا عند الخليفة(2)، كذلك كان أهل الكوفة غير راضين عن واليهم الوليد بن عقبة، الذي كان سيء التصرف في تلك الولاية، لأنه يعد الكوفة ملكا صرفا له حصل عليه من الخليفة عثمان، وله الحق في أن يتصرف به كيفما يشاء، فقال لسعد بن أبي وقاص والي الكوفة السابق: (إنما هو الملك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون)(3).

وبعد فترة عزله الخليفة عثمان نتيجة لنقمة أهل الكوفة عليه، وذلك بعد أن كان ثملا من الخمر وتقيأ في محراب الصلاة(4)، وأرسل بدلا عنه أموياً آخر هو سعيد بن العاص، الذي كان يرى بدوره أن ارض العراق وأموالها ملك له ولبني أمية، وقد قال ذلك للمسلمين من أهل الكوفة(5)، فرد عليه مالك الأشتر: (أتزعم ان السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا، بستان لك ولقومك، والله ما يزيد أوفاكم فيه نصيبا، إلا أن يكون كأحدنا)(6).

ص: 31


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 186. وقد أوردت هذه الرواية مصادر أخرى بالفاظ مختلفة ينظر، ابن شبة النمیري، تاريخ المدينة، 3 / 883، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 158
2- البلاذري، انساب الأشراف، 5 / 26
3- ابن الأثير، الكامل، 3 / 83
4- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 165، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 330
5- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 365، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 129
6- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 365، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 129

ومن المآخذ الأخرى على الخليفة عثمان إنه حوّل بيت مال المسلمين إلى ملكية خاصة له، ولأقربائه من بني أمية، فتذكر الروايات أن الخليفة كان يتصرف بالذهب والجواهر التي كانت في بيت المال، كما يشاء فيلبسها لزوجاته وبناته، ثم أنه اقتنى الأموال وبنى القصور ونضد أسنانه بالذهب، وامتلك من الأموال ما لا حد له(1)، وقام بإعطاء أموال المسلمين لأقربائه، فوهب لعبد الله بن خالد بن أسيد بعد زواجه من ابنته ستمائة ألف درهم، وكتب إلى واليه على البصرة عبد الله بن عامر الأموي، أن يدفعها له من بيت المال(2)، ودخل الحكم بن أبي العاص عم الخليفة إلى المدينة، وهو يلبس ملابس رثة ويسوق تيسا، فقصد دار الخليفة والناس تنظر إليه، ثم خرج وعليه جبة خز وطيلسان، والحكم هذا هو الذي طرده الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة، وقال: (لا يساكنني ...)، ولم يقبله الخليفة أبو بكر أو عمر في خلافتهما، فأدخله الخليفة عثمان إليها(3)، وقال لعامل صدقات سوق المدينة أن يعطي هذا الصدقات للحكم بن أبي العاص، فلم يرض العامل فقال له الخليفة: (إنما أنت خازن لنا، فإذا أعطيناك فخذ، وإذا سكتنا عنك فاسكت، فقال: كذبت والله، ما أنا لك بخازن، ولا لأهل بيتك، إنما أنا خازن المسلمين، وجاء بالمفتاح يوم الجمعة وعثمان يخطب، فقال: أيها الناس زعم عثمان أني خازن له ولأهل بيته، وإنما كنت خازنا للمسلمين، وهذه مفاتيح بيت مالكم، ورمى بها، فأخذها عثمان، ودفعها إلى

ص: 32


1- البلاذري، انساب الأشراف، 5 / 36، المسعودي، مروج الذهب، 1 / 334
2- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 117، وروى أبو مخنف إنه أعطى عبد الله بن خالد ثلاثمائة ألف درهم، وأعطى كل واحد من أصحابه مائة ألف درهم، وأمر عبد الله بن الأرقم مسؤول بيت المال بدفع هذه المبالغ من بيت المال، إلا إن الأخیر استكثر هذه المبالغ واستقال من عمله، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 35 - 36
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 175، الذهبي، سیر أعلام النبلاء، 2 / 107، المجلسي، بحار الأنوار، 31 / 170

زيد بن ثابت)(1).

وأعطى الخليفة عثمان بن عفان خمس غنائم الغزوة الاولى في افريقيا لعبد الله بن سعد بن أبي سرح(2)، وهذا الخمس كان كبيرا جدا، إذ يذكر الطبري ان عبد الله بن سعد صاَلَح جرجير على ألفي ألف وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار(3)، ويذكر بن أبي الحديد ان الخليفة أعطى لعبد الله بن سعد جميع ما أفاء الله به على المسلمين من طرابلس الغرب إلى طنجة، من غير ان يشركه فيه احد من المسلمين(4)، وأعطى مروان بن الحكم خمس الغزوة الثانية في افريقيا، وهي الغزوة التي افتتحت فيها كل افريقيا(5)، وهي أموال كثيرة جعلها الخليفة لمروان وآل الحكم(6)، كما أعطى الخليفة عثمان ارض فدك لمروان بن الحكم(7)، وهي ارض كانت للرسول (صلى الله

ص: 33


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 169، وفي رواية ان الخليفة أرسل إلى الأرقم بن عبد الله أن يعطيه مالاً من بيت المال لكن الخازن قال له ان يكتب على نفسه صكا بذلك، فغضب الخليفة وقال له القول المذكور في المتن، وردّ عليه العامل كما ورد في الرواية أعلاه، المفيد، الامالي، ص 68
2- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 3 / 71
3- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 314، ابن كثير، البداية والنهاية، 7 / 152
4- شرح نهج البلاغة، 1 / 67
5- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 64 - 65، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 314، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 39 / 251، ابن الأثیر، الكامل في التاريخ، 3 / 71، ابن كثیر، البداية والنهاية، 7 / 170، ذكر اليعقوبي إنه أعطى لمروان هذه الأموال عندما تزوج ابنته ومجموع هذه الأموال ألفي ألف دينار وخمسائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، تاريخ اليعقوبي، 2 / 165 - 166
6- البلاذري، انساب الأشراف، 5 / 25 - 28، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 314، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 67، السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص 256
7- أبو داود، سنن أبي داود، 2 / 232، ابن عبد ربه، العقد الفريد، 4 / 273، البيهقي، السنن الكبرى، 6 / 310

عليه وآله وسلم) فوهبها إلى ابنته فاطمة (عليها السلام)(1)، ولم يعطها أبو بكر وعمر لفاطمة بنت النبي لما طالبتهم بها(2)، وأعطى الخليفة للحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم، ووهبه إبل الصدقة التي وردت إلى المدينة، وأعطاه سوقا بالمدينة كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد تصدق بها على المسلمين(3)، كما استقرض الوليد بن عقبة بن أبي معيط من بيت مال المسلمين في الكوفة مبلغاً من المال ولم يرجعه، فألحّ عليه عبد الله بن مسعود خازن بيت المال، من اجل إرجاع هذا المال فامتنع وكتب إلى الخليفة عثمان بالأمر، فأرسل الخليفة كتاباً إلى عبد الله بن مسعود يقول فيه: (إنما أنت خازن لنا فلا تعرض للوليد فيما اخذ من المال)، فترك عبد الله بن مسعود عمله، وقال: (كنت أظن إني خازن بيت مال المسلمين، فأما إذا كنت خازنا لكم فلا حاجة لي في ذلك)(4)، وعاد إلى المدينة، وكان الخليفة ناقماً عليه، فاسمعه كلام غير لائق، وأمر الخليفة غلمانه بإخراجه من المسجد، فضربوه حتى كسروا أحد أضلاعه، وفرض عليه إقامة جبرية، حتى توفي في المدينة وهو ناقم على الخليفة عثمان(5)، وكانت تولية الوليد بمثابة بداية تذمر أهل الكوفة على الخليفة، لأنه عزل سعد بن أبي وقاص عن الكوفة، وهو من أصحاب رسول الله (صلى الله

ص: 34


1- البلاذري، فتوح البلدان، 1 / 37 - 38، العياشي، تفسیر العياشي، 2 / 287، النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 3 / 32، الحسكاني، شواهد التنزيل، 1 / 439، ابن كثیر، تفسیر القرآن العظيم، 3 / 39، السيوطي، الدر المنثور، 4 / 177، المتقي الهندي، كنز العمال، 3 / 767، الشوكاني، نيل الاوطار، 3 / 224
2- ابن عبد ربه، العقد الفريد، 4 / 283، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 67
3- البلاذري، انساب الأشراف، 5 / 28، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 54
4- البلاذري، انساب الأشراف، 5 / 30
5- البلاذري، انساب الأشراف، 5 / 36، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 170، الأميني، الغدير، 9 / 3 - 15

عليه وآله وسلم) ومؤسس مدينة الكوفة، فقالوا: (عزل أبا اسحاق الهينّ الليّن الحبر صاحب رسول الله، وولى أخاه الفاسق الفاجر الأحمق الماجن)(1).

ومنح الخليفة لسعيد بن العاص الأموي مائة ألف درهم(2)، وأعطى أبا سفيان ابن حرب مائتي ألف درهم من بيت المال(3)، وكل هذا الذي تقدم جزء من أعطيات الخليفة للأمويين وغيرهم، ناهيك عن تصرفهم بأموال المسلمين في ولاياتهم، وقد أحصى أحد الباحثين بعض هذه الأعطيات، فوجدها وصلت أكثر من مائة وستة وعشرين مليون درهم(4).

ولم تكن للخليفة سيطرة على ولاته في الأمصار الإسلامية، لأن وفد مصر كان يشكو من سوء تصرف عبد الله بن سعد الوالي، وسوء إدارته للأموال، وهذا الأخير يقابل اعتراضات المسلمين في تلك الولاية بالقول إنه يتصرف وفق أوامر الخليفة، ويخرج لهم كتبا يقول إنها صادرة من الخليفة عثمان(5).

أما الجانب الآخر الذي أدى إلى زيادة النقمة على الخليفة، هو سياسة التفاوت في العطاء التي سنها الخليفة عمر بن الخطاب في خلافته، والتي بدأت آثارها بالظهور في عهد الخليفة عثمان، فأسهمت في تأجيج الثورة عليه، وسوف نناقش هذه السياسة عندما نبحث موضوع العطاء، لاسيما أنها أدت إلى اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء

ص: 35


1- البلاذري، انساب الأشراف، 5 / 29، 30، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 17، المجلسي، بحار الأنوار، 31 / 151
2- البلاذري، انساب الأشراف، 5 / 28
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 67
4- الأميني، الغدير، 8 / 286
5- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 407 / 3، . Kennedy ، op. cit.، p51

من المسلمين(1)، ثم بدأت المشاكل تظهر لاسيما في أمصار الدولة الإسلامية الكبرى مثل الكوفة والبصرة ومصر وغيرها.

وهذه المشاكل لا يعود سببها لسياسة الخليفة عثمان فقط، من تولية أقاربه أو التصرف بأموال المسلمين كما تقدم، بل إلى الثروات التي أخذت تتكدس بيد بعض الصحابة، منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وزادت في عهد الخليفة عثمان، الأمر الذي أدى بدوره إلى ايجاد أزمة اجتماعية، نتيجة لتلك السياسة المالية، وترافق هذا الأمر مع شعور بعض الصحابة الذين رشحهم الخليفة عمر مع عثمان والإمام علي (عليه السلام) لتولي الخلافة، بحاجتهم إلى مكانة سياسية تتناسب مع مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية، وهذه المكانة السياسية كانت شغل منصب الخلافة، على اعتبار أهليتهم لها بعد ترشيح الخليفة عمر لهم، لذلك وظفوا هذه الأزمة من أجل تحقيق أهداف سياسية.

وأسهمت السياسة المالية غير المتوازنة إلى تفاقم الأزمة، فكان الناس بحاجة إلى أي مبرر ليثوروا ضد الخليفة، فوجدوا المبرر في تصرفات ولاة بني أمية من اجل الثورة، والتحريض المنظم الذي مارسه بعض الصحابة، ضد الخليفة عثمان وتصرفاته بأموال المسلمين، إذ تذكر الروايات أن المسلمين الذين يسكنون الأمصار الإسلامية، استلموا كتابا من الصحابة وهم في أمصارهم يقول: (بسم الله الرحمن الرحيم، من المهاجرين الأولين وبقية الشورى، إلى من بمصر من الصحابة والتابعين، أما بعد، أن تعالوا إلينا وتداركوا خلافة رسول الله قبل ان يسلبها أهلها، فإنّ كتاب الله قد بُدّل، وسنّة رسوله قد غُيرّت، وأحكام الخليفتين قد بُدّلت، فننشد الله من قرأ كتابنا من بقية أصحاب رسول الله والتابعين بإحسان، إلّا أقبل إلينا، وأخذ الحق لنا، وأعطاناه، فأقبِلوا إلينا إن

ص: 36


1- Kennedy ، op. cit.، p69

كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ...)(1)، وهذا الكتاب يعني أن الصحابة الذين كانوا هم المستفيدين من السياسة المالية بالدرجة الاولى، لم يكونوا راضين ايضا عن سياسة الخليفة، لاسيما أن هؤلاء الولاة تجاوزوا في كثير من الأحيان على الشريعة الإسلامية نفسها، كذلك فإن الكتاب المذكور يعني أن بعض هؤلاء الصحابة، قد تضاربت مصالحه مع الخليفة نفسه، فأرادوا أن يؤلبوا المسلمين عليه.

إلا أن الشيء المؤكد أن هناك نقمة من السياسة المالية التي اتبعها الخليفة عثمان، كذلك تلك التي كانت متبعة في عهد الخليفة عمر، ويتضح ذلك من خلال قول أحد الصحابة من الأنصار للخليفة عثمان: (ما بال هؤلاء النفر من أهل المدينة يأخذون العطايا ولا يغزون في سبيل الله، وإنما هذا المال لمن غزا فيه وقاتل عليه)(2). وعلى الرغم من أن المؤرخين حاولوا أن يحمّلوا الخليفة عثمان بن عفان أسباب الثورة، إلا أن الحقيقة أنه ورث الكثير من المشكلات من عهد الخليفة عمر بن الخطاب، هذه المشكلات التي لم تجد الوقت الكافي لكي تبرز في عهد الخليفة عمر، فبرزت في عهد الخليفة عثمان وكانت نتيجتها مقتله.

وقد ذهب الكثير من المؤرخين إلى أن شدة الخليفة عمر مع الصحابة وغيرهم، أدت إلى استقرار الأمور في عهده، لذلك قالوا عن الخليفة عثمان: (لما ولي عثمان عاش اثنتي عشرة سنة أميرا يعمل ست سنين لا ينقم الناس عليه شيئا، وإنه لأحب لقريش من عمر بن الخطاب، لأن عمراً كان شديداً عليهم، فلما وليهم عثمان لأن لهم ووصلهم ثم توانى في أمرهم، واستعمل أقرباءه وأهل بيته في الست الأواخر)(3)،

ص: 37


1- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 54
2- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 52
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 64، ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 45

لكن هذا الرأي غير مقبول، لأن هؤلاء المؤرخين حاولوا أن يجعلوا لين الخليفة مع المسلمين، وعدم اخذهم بالشدة هو السبب الرئيس في الثورة عليه، وعلى الرغم من اتفاقنا معهم في أن الخليفة عثمان أعطى الحرية للصحابة، ولم يضيق عليهم كثيرا، لاسيما بعد أن ملوا سياسة التضييق التي انتهجها الخليفة عمر معهم، الأمر الذي جعلهم يشعرون أنهم قد فرضت عليهم الإقامة الجبرية، التي عبر عنها الخليفة عثمان بالقول: (أما والله يا معشر المهاجرين والأنصار، لقد عبتم علي أشياء ونقمتم أمورا أقررتم لابن الخطاب مثلها، ولكنه وقمكم وقمعكم، ولم يجترئ احد يملأ بصره منه ولا يشير بطرفه إليه، أما والله لأنا اكثر من ابن الخطاب عددا، وأقرب ناصرا واجدر)(1).

ونتيجة لهذا التضييق رأى الخليفة عثمان ان يعطي الصحابة الحرية في التنقل والعيش بما يتناسب والمكانة التي يتمتعون بها، والخدمات التي قدموها للإسلام.

لكننا نعتقد ان أحد الأسباب الرئيسة للثورة هو استمرار الخليفة في سياسة التفريق بالعطاء، التي تزامنت مع تدفق الأموال بصورة كبيرة، لأن الفتوح استقرت نسبيا في عهده فازدادت نسب العطاء، علاوة على أن الصحابة عملوا في التجارة والزراعة فتنامت هذه الثروات وكثرت، وهذا الأمر لم يكن الخليفة عثمان هو الذي ابتدأ به بل هو سابق لعهده، ولم يكن قادرا على معالجة هذا الواقع، لاسيما انه زاد عليه في اعطاء اقربائه الأمويين من بيت مال المسلمين الكثير من الأموال، وولاهم الولايات الإسلامية، وهؤلاء بدورهم أساءوا التصرف، وأساءوا للخليفة عثمان نفسه، وحفزوا المسلمين على الثورة، وزاد من صعوبة الأمر أن مجموعة من الصحابة، الذين أصبحوا من أصحاب الثروات الكبيرة، كانوا يتطلعون إلى تولي منصب الخلافة، مستغلين

ص: 38


1- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 46، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 377، ابن كثیر، البداية والنهاية، 7 / 189

النقمة التي سببها التمايز الطبقي، وسوء تصرف الولاة الأمويين، لذلك حاولوا ان يزيدوا نقمة المسلمين في الأمصار، لكنهم لم يتذكروا أن هذه الثورة، كانت بالدرجة الأساس على النظام المالي، الذي أوجد طبقات اجتماعية في المجتمع الإسلامي، وهؤلاء كانوا أحد أركان هذه الطبقات الاجتماعية، والمستفيدين من التمايز المالي بين المسلمين، اما الصحابة الآخرون الذين كانوا يسكنون في المدينة، فلم يطمح منهم احد في تولي الخلافة، وذلك لأنهم ليسوا من الستة الذين رشحهم عمر بن الخطاب للخلافة، وهؤلاء الستة يمكن تقسيمهم بالشكل التالي، عثمان تولى الخلافة، وعلي زاهد بها، وطلحة والزبير من أشد المؤلبين على الخليفة، وعبد الرحمن بن عوف توفي في عهد الخليفة عثمان، وسعد بن أبي وقاص كان محايداً في هذا النزاع، اما بقية الصحابة فقد كانوا إما محاصرين بين الاطراف المتصارعة، أو مشتركين في الثورة على الخليفة.

وفي هذه المدة برزت مراكز قوى أخرى علاوة على المدينة عاصمة الدولة، مثل الكوفة والبصرة ومصر وغيرها، لاسيما أن الأموال التي ترد إلى المدينة كان مصدرها هذه الولايات، وهي تختلف عن المدينة في كثير من الأمور، فالشام كانت مقفلة لمعاوية، ولا يستطيع احد أن يدخل إليها، إلا بإذن معاوية، وأهلها لا يعرفون من الإسلام إلا معاوية، الذي عبر عن هذا المعنى بالقول: (إن بالشام مئة ألف فارس كل يأخذ العطاء، مع مثلهم من ابنائهم وعبدانهم، لا يعرفون علياً ولا قرابته، ولا عماراً ولا سابقته، ولا الزبير ولا صحبته، ولا طلحة ولا هجرته، ولا يهابون ابن عوف ولا ماله، ولا يتقون سعدا ولا دعوته)(1)، وذلك لأنه حكم هذه المنطقة لمدة طويلة، وأصبح متحكما فيها إلى درجة كبيرة، وكان قادرا على عمل اي شيء، وقد عرض على الخليفة عثمان أن يقتل الصحابة، عندما بدأ المسلمون يعترضون على تصرفات

ص: 39


1- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 47، ابن شبة النميري، تاريخ المدينة، 3 / 1094

الخليفة وولاته، فقال له: (الرأي أن تأذن لي فأضرب أعناق هؤلاء القوم، قال:

من؟ قال: علي وطلحة والزبير)، لكن الخليفة عثمان لم يرض وقال له: (سبحان الله! اقتل أصحاب رسول الله بلا حدث أحدثوه، ولا ذنب ركبوه)(1)، وهذا القول يدل على أن معاوية كان يهيأ نفسه لتولي الحكم، بعد ان أصبح قوة لا يمكن تجاوزها في المعادلة السياسية في ذلك العهد، إلا أنه لم يكن يمتلك المؤهلات لتولي هذا المنصب، على اعتبار أنه من الطلقاء، وليس له مكانة تؤهله لتولي الخلافة مع وجود صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان يبحث عن طريق مناسب لتحقيق هذه الرغبة، ووجد الفرصة المناسبة عندما بدأت الثورة على الخليفة عثمان، إذ طلب من الخليفة عندما بدأ التذمر أن يطلب بدمه إذا قتل، فقال له: (اجعل لي الطلب بدمك إذا قتلت، قال عثمان: نعم هذه لك إن قتلت فلا يطل دمي)(2)، وعندما حوصر الخليفة كتب إلى معاوية من أجل أن يرسل له جيشاً من الشام، إلا أن الأخير لم يرسل هذا الجيش، فاضطر الخليفة ان يكتب إلى أهل الشام مباشرة من اجل حمايته(3)، لكنه استحى وبعث جيشاً من أهل الشام، وأمر قائد هذا الجيش ان يمكث بذي خشب، وهي منطقة قريبة من المدينة(4)، ولا يتدخل في الأمر حتى يأتيه أمره، فانتظر حتى قتل الخليفة وأمر الجيش أن يعود إلى الشام(5)، وعندما قتل وجد معاوية ذريعة ليطالب بدم الخليفة المقتول، فأعلن نفسه اميرا مستقلا عن الدولة الإسلامية، ثم

ص: 40


1- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 49
2- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 49
3- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 172، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 402
4- ياقوت الحموي، معجم البلدان، 2 / 372
5- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 172، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 4 / 57 - 58، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 98

أعلن نفسه خليفة بعد مقتل الإمام علي (عليه السلام)، ونسي أمر الطلب بدم الخليفة عثمان ولم يسأل عنه، وقال لابنة عثمان التي تذكرت أباها وبدأت تبكي عليه، أن أهل المدينة أعطونا السلطان وأعطيناهم الأمان، ولا نريد أن ننكث بهم خوفا من أن يثوروا علينا، وطلب منها أن تعرف من قتل ابوها ليعاقبه، لأنه لا يعرفه وهذا الأمر يكفي للدلالة على أه كان يريد الخلافة، ولا يستطيع أن ينالها إلا بالطلب بدم الخليفة المقتول(1)، وقد صرح هو نفسه بهذا الأمر عندما دخل الكوفة، بعد مقتل الإمام علي (عليه السلام) إذ قال لهم: (إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا، ولا لتحجوا ولا لتزكوا إنكم لتفعلون ذلك، إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم)(2).

اما الكوفة والبصرة ومصر فقد كان أكثر سكانها من المسلمين الفاتحين من الجيل الثاني، وكانوا متذمرين من السياسة المالية التي بدأت مساوئها تظهر في تلك المدة، وزادها سوءاً اختيار الخليفة عثمان للولاة، وسوء إدارة هؤلاء الولاة لهذه الولايات، وتزامن هذا مع الدعاية الإعلامية التي شنها بعض الصحابة، مثل طلحة والزبير ضد الخليفة عثمان، وكتابة الكتب إلى المسلمين من اجل الثورة، وكذلك الخلاف الشديد بين السيدة عائشة زوج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين الخليفة عثمان، والذي أسهم بدرجة كبيرة في النقمة على الخليفة، وسبب هذا الخلاف أن الخليفة عثمان بن عفان أنقص السيدة عائشة بعض الأموال، التي كانت تأخذها في زمن الخليفة عمر بن الخطاب، وأعطاها مثل نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأخريات، فكان هذا الأمر مدعاة لنقمتها عليه، وفي أحد الأيام كان الخليفة عثمان

ص: 41


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 172، النعمان المغربي، شرح الأخبار، 2 / 114
2- النعمان المغربي، شرح الأخبار، 2 / 157، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 52 / 380، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 46، المجلسي، بحار الأنوار، 44 / 53

يخطب في المسجد، فقامت السيدة عائشة بإخراج قميص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقالت للمسلمين في المسجد: )يا معشر المسلمين هذا جلباب رسول لم يبل وقد ابلى عثمان سنته)(1)، ثم أصبحت معارضتها علنية، وأطلقت قولها المشهور:

(اقتلوا نعثلاً فقد كفر)(2)، ثم تزامن خلافها مع الخليفة عثمان مع تصرفه ببيت المال، وإغداقه الأموال على أقربائه الأمويين، فقالت له: (اي عثمان! خصصت بيت مال المسلمين لنفسك، وأطلقت أيدي بني أمية على أموال المسلمين، ووليتهم البلاد، وتركت أمة محمد في ضيق وعسر، قطع الله عنك بركات السماء، وحرمك خيرات الأرض، ولولا أنك تصلي الخمس لنحروك كما تنحر الإبل)(3)، ثم كتبت للمسلمين - كما يذكر البلاذري - من اجل الثورة على الخليفة عثمان(4)، لذلك عندما حاصره المسلمون، أرسل إليها مروان بن الحكم وعبد الرحمن بن عتاب بن اسيد من أجل مساعدته وفك الحصار عنه، إلا إنها رفضت الأمر وقالت لهم: (قد قرنت ركائبي، وأوجبت الحج على نفسی، ووالله لا أفعل)(5).

فكان التحريض الذي مارسته أحد أسباب مقتل الخليفة، إذ دخل الثوار إلى

ص: 42


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 175، ابن اعثم، كتاب الفتوح، 2 / 421، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 126
2- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 72، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 477، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6 / 215، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 126، ونعثل هو شيخ كبیر من أهل مصر طويل اللحية يشبه عثمان، وكانت عائشة تسميه بهذا الاسم، ينظر ابن منظور، لسان العرب، 11 / 670
3- ابن اعثم، كتاب الفتوح، ص 115
4- البلاذري، انساب الأشراف، 5 / 103
5- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 5 / 36، ابن شبة النمیري، تاريخ المدينة، 4 / 1172، البلاذري، انساب الأشراف، 5 / 75

المدينة بعد أن راسلتهم، وأعلنت معارضتها العلنية له، ثم خرجت إلى مكة حتى لا تتدخل بهذا الأمر، ورافق ذلك استيلاء ابن عمها طلحة على بيت مال المسلمين(1)، ولما بلغها وهي في طريق مكة مقتل الخليفة عثمان، كانت فرحه بهذا الأمر وهي تظن أن المسلمين ولوا ابن عمها طلحة بن عبيد الله بدلا عنه، وقالت: (أبعده الله ذلك بما قدمت يداه وما الله بظلام للعبيد)، (أبعده الله قتله ذنبه، وأقاده الله بعمله، يا معشر قريش لا يسومنكم قتل عثمان، كما سام احمر ثمود قومه، إن أحقّ الناس بهذا الأمر ذو الأصبع «وتقصد ابن عمها طلحة»)، وأمرت غلمانها بردها إلى المدينة من اجل رؤية بيعة طلحة(2).

إلا أن الأمور لم تسر وفق رغبة السيدة عائشة، إذ سيطر الإمام علي (عليه السلام) على بيت المال، وقسم الأموال التي فيه بين المسلمين، وفرق الناس عن طلحة(3)، وأخبرها أحد الأشخاص أن الصحابة اختاروا الإمام علياً (عليه السلام) خليفة للمسلمين، وهي في الطريق إلى المدينة، فكان هذا الخبر بمثابة الصدمة لها، فأخذت تولول وتصيح، ثم قالت: (ردوني ردوني، فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوما، والله لأطلبن بدمه)(4)، وبهذا كانت اول المطالبين بدم الخليفة عثمان،

ص: 43


1- ابن شبة النمیري، تاريخ المدينة، 4 / 1199، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 453، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 148
2- البلاذري، انساب الأشراف، 5 / 91، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 476 - 477، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6 / 215 - 216
3- البلاذري، انساب الأشراف، 5 / 91، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 476 - 477، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6 / 215 - 216
4- البلاذري، انساب الأشراف، 5 / 91، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 476 - 477، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6 / 215 - 216

وأسهمت في قيادة التمرد ضد الإمام علي (عليه السلام).

كذلك أسهمت المعارضة العلنية للخليفة من بعض الصحابة، في التأثير على حركة المعارضة في الأمصار الإسلامية، ومنها دعوة الصحابي أبي ذر الغفاري، التي كانت موجهه ضد التمايز الطبقي، وتراكم الثروات في أيدي الصحابة والولاة، وابتدأت هذه الدعوة في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ كان يجلس في المسجد ويعلن معارضته العلنية للخلافة الأموية، المتمثلة بالخليفة عثمان وولاته من الأمويين، ومعارضته لتراكم الثروات عند مجموعة من الصحابة والولاة، مستندا إلى ما جاء في القرآن الكريم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ»(1)، ونتيجة لهذه الاعتراضات أمر الخليفة عثمان بتسييره إلى الشام عند معاوية بن أبي سفيان(2)، وهناك ازدادت معارضته للخلافة الأموية، وأخذ يتحدث مع المسلمين من اجل الاصلاح، فشعر معاوية بالخطر الذي قد يهدد الطوق الذي فرضه على بلاد الشام، فكتب إلى الخليفة عثمان: (إنك قد أفسدت الشام على نفسك بأبي ذر)، فأمر الخليفة أن يرجعه إلى المدينة بطريقة لا تليق بهذا الصحابي الجليل، كونه من المسلمين الأوائل المقربين من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعندما وصل إلى المدينة

ص: 44


1- سورة التوبة، الآيات 34 - 35
2- ابن شبة النمیري، تاريخ المدينة، 3 / 1040 - 1041، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 172، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 54 - 55

كانت حالته سيئة نتيجة لمعاناة السفر القاسي(1)، فعاتبه الخليفة عثمان على موقفه من بني أمية، إذ بلغه أنه يقول إنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقول: (إذا كملت بني أمية ثلاثين رجلا، اتخذوا بلاد الله دولا، وعباد الله خولا، ودين الله دغلا)، فأرسل الخليفة للإمام علي (عليه السلام) وذكر له قول أبي ذر، فأيده الإمام علي (عليه السلام) في قوله، فسأله الخليفة عثمان إن كان قد سمع هذا الحديث من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال له إنه لم يسمعه لكنه متأكد من صدق أبي ذر (قال: وكيف تشهد؟ قال: لقول رسول الله: ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء، ذا لهجة أصدق من أبي ذر)(2)، لكن هذا الأمر لم يعجب الخليفة فنفاه إلى منطقة تسمى الربذة، وتوفي في هذه المنطقة وحيداً، وليس معه سوى ابنته(3)، فكان هذا الأمر مدعاة لتطور المعارضة ضد الخليفة، وهو في الوقت نفسه يمثل حالة من الاستياء الاجتماعي، ضد السياسة المالية في تلك الفترة.

وبعد ذلك أصبح الاستياء حالة عامة، فكتب أهل المدينة للخليفة عثمان (يدعونه للتوبة ويقسمون له بالله لا يمسكون عنه أبدا حتى يقتلوه أو يعطيهم ما يلزمه من حق الله)(4)، ثم انتشر هذا الاستياء والتذمر ليشمل الولايات الإسلامية،

ص: 45


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 172، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 55، المجلسي، بحار الأنوار، 99 / 279
2- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 172، الحاكم النيسابوري، المستدرك، 4 / 480، الأميني، الغدير، 8 / 292 - 342
3- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 172 - 173، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 354، الجوهري، السقيفة وفدك، ص 78، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 44، والربذة منطقة تقع بین مكة والمدينة، وتبعد عن مكة ثلاثة ايام، ينظر ياقوت الحموي، معجم البلدان، 3 / 24
4- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 403

فجاءت مجاميع المسلمين من الصحابة وغيرهم، وقصدوا العاصمة عسى أن يجدوا حلا لمشاكلهم، وكان مجيئهم مدفوعاً بدوافع عدة، منها إرسال الصحابة لهم، ومنها سوء تصرف الولاة، والتوزيع غير العادل لأموال المسلمين، وتصرفات الخليفة مع الصحابة وغيرهم ممن اعترضوا عليه، وغير ذلك من الدوافع(1).

وزاد من نقمة المسلمين على الخليفة والنظام القائم، انه لم يحسن التصرف مع المشاكل التي كانت تعانيها الدولة الإسلامية، ولم يلجأ إلى الصحابة المتواجدين في المدينة من أجل مساعدته على حلها، بل لجأ إلى ولاته وأقربائه من الأمويين، بعد أن كثر اعتراض المسلمين عليه، في العاصمة وغيرها من الولايات، وهؤلاء كانوا هم الأسباب الرئيسة للمشكلة، فأشاروا عليه بمعاقبة المعترضين أو قتل رؤسائهم، أو إرسالهم إلى الولايات البعيدة حتى يشغلهم بالقتال، أو إعطاء المعترضين بعض الأموال، لأنهم كانوا يريدون استمرار الوضع على ما هو عليه، فكان مجلسه الاستشاري مكوناً من معاوية وعبد الله بن سرح ومروان بن الحكم وعبد الله بن عامر وسعيد بن العاص، فخرج هذا المجلس بتوصيات تقضي بالتضييق على كل الأصوات المعارضة لسياسة الخليفة وولاته، فأرجع ولاته إلى اعمالهم، وأمرهم بالشدة مع المعارضين، وحرمانهم من العطاء(2).

وعند ذلك قدم المسلمون من مختلف الأمصار ليحتجوا على هذه التصرفات، ونزلوا في منطقة تسمى ذو خشب(3)، والعدد الأكبر من هؤلاء جاء من مصر،

ص: 46


1- الأميني، الغدير، 9 / 17
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 373 - 374، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 136، الأميني، الغدير، 9 / 53 - 54
3- وهي منطقة قريبة من المدينة على طريق الشام، ينظر البكري، معجم ما استعجم، 2 / 499 - 500

وعندما علم الخليفة بمجيء هؤلاء كلف الإمام علياً (عليه السلام) بمحاورتهم ومعرفة مطالبهم، بعد أن تعهد له بإصلاح الأخطاء التي دفعتهم إلى المجيء إلى المدينة، فذهب اليهم مع مجموعة كبيرة من الصحابة، وحاورهم وعرف مطالبهم، ثم أقنعهم أن يرجعوا إلى ولاياتهم لأن الخليفة سيصلح الأمور، وبالفعل رجع هؤلاء إلى المناطق التي جاؤوا منها، إلا أن الخليفة لم يكن يمتلك القرار، ورأيه كان مرتبطاً ببطانته من بني أمية، فأقنعه مروان بن الحكم بالعدول عن الاتفاق الذي أبرمه مع الثوار، لأن ذلك مدعاة إلى التمرد عليه في الأمصار الإسلامية، فذهب إلى المسجد وصرح بأنه غير ملتزم بما وعد به الثوار، وقال للصحابة: (أما بعد إن هؤلاء القوم من أهل مصر، كان قد بلغهم عن إمامهم أمرا، فلما تيقنوا انه باطل ما بلغهم عنه، رجعوا إلى بلادهم)(1)، وهذا التحول في موقف الخليفة، كان السبب في رجوع الثوار مرة اخرى إلى المدينة، لاسيما أنه عندما كلّف الإمام علياً (عليه السلام) من أجل حل الأزمة، أعطاه تعهدات بإجراء إصلاحات في كل مرافق الدولة، ونتيجة لذلك طلب الثوار من الإمام علي، أن يكتب لهم كتابا ضامنا على هذا الاتفاق، فكتب لهم: (هذا كتاب من عبد الله عثمان أمير المؤمنين لمن نقم عليه من المؤمنين والمسلمين، إن لكم أن أعمل فيكم بكتاب الله وسنة نبيه، ويعطى المحروم، ويؤمن الخائف، ويرد المنفي، ولا تجمر البعوث، ويوفر الفيء، وعلي بن أبي طالب ضمين المؤمنين والمسلمين على عثمان بالوفاء في هذا الكتاب)، وشهد على هذا الكتاب مجموعة من الصحابة مثل طلحة والزبير وسعد وغيرهم(2)، وفي روايات أخرى أن الإمام علياً (عليه السلام) طلب من الخليفة أن يصعد المنبر ويعتذر عن تصرفاته، فأجابه الخليفة إلى هذا الأمر،

ص: 47


1- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 394 - 395
2- ابن شبة النميري، تاريخ المدينة، 3 / 1139 - 1140، البلاذري، انساب الأشراف، 5 / 62

وخاطب المسلمين، وتعهد لهم بأنه سيصلح بعض الأمور التي نقموها عليه، والتي لم تكن بقصد الإساءة لهم، بل لأنه كان يعتقد أنه تصرف بطريقة صحيحة، ومع ذلك فهو نادم على ما فعله، وسيعمل على الإصلاح في إدارة الدولة، وهذا الأمر كان موضع ارتياح من قبل المسلمين، لكنه سرعان ما بدل رأيه بتأثير مروان بن الحكم وأسرته من بني أمية، على الرغم من أن زوجته نائلة بنت الفرافصة نصحته بالالتزام بما وعد به المسلمين، والتمسك بنصائح الإمام علي (عليه السلام)، وعدم الانجرار وراء مروان لأن ذلك سيؤدي إلى قتله، لكن الخليفة لم يستطع التحرر من هذه السيطرة(1).

ثم إن المصريين الذين رجعوا إلى بلادهم بعد تعهد الإمام علي (عليه السلام) لهم، صادفوا أحد الأشخاص متوجها إلى مصر، فسألوه عن سبب توجهه إلى مصر، فقال لهم إنه غلام الخليفة عثمان، ومتوجه إلى والي مصر عبد الله بن سعد، وعندما فتشوه وجدوا معه كتاباً إلى ذلك الوالي، يأمره فيه بمعاقبة قادة الثوار بقطع الأيادي والقتل، لذلك أخذوا الكتاب والغلام ورجعوا إلى المدينة، وأعطوه للإمام علي بوصفه الضامن على الخليفة، فأخذه إليه فأقر بدوره أن الكتاب مختوم بختمه وإن الغلام والناقة له، لكنه لم يكتب هذا الكتاب ولا يعلم من كتبه، وفي الوقت نفسه اتهم الخليفة وبطانته من بني أمية الإمام علياً بكتابة هذا الكتاب(2)، وكانت النتيجة أن ترك علي بن أبي طالب الخليفة بعد هذا الاتهام، فرجع الثوار ليحاصروا بيت الخليفة من جديد، بعد

ص: 48


1- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 396، ابن كثیر، البداية والنهاية، 7 / 192. وذكر ابن قتيبة رواية قريبة من هذا المعنى ينظر الإمامة والسياسة، 1 / 49 - 50
2- ابن شبة النمیري، تاريخ المدينة، 4 / 1150 - 1151، ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 55 - 56، البلاذري، انساب الأشراف، 5 / 62، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 401

أن انضم اليهم آخرون من الكوفة والبصرة(1)، وهم مصممون على قتله فمنعوا الماء عنه، وكان قائدهم في هذا الأمر الصحابي طلحة بن عبيد الله، لكن الإمام علياً أستطاع أن يدخل الماء بالقوة(2)، فلما عرف الخليفة إصرارهم على الأمر، أرسل إلى الإمام علي من أجل فك الحصار عنه، وفي هذه المرة اشترط على الخليفة أن يفي لهم بما وعدهم، لاسيما أنه تعهد لهم في المرة الأولى لكنه لم ينفذ ما وعدهم به، فأعطاه الخليفة وعدا بأنه سينفذ كل الاتفاقات، وشهد على هذا الاتفاق الجديد مجموعة من الصحابة، لذلك خرج الإمام علي (عليه السلام) إليهم وحاول إقناعهم، فاشترطوا عليه إعطاءهم مدة محددة من اجل الإصلاح، لكن الخليفة لم ينفذ ما وعدهم به، وقام بجمع الأسلحة من أجل القضاء على التمرد، فعاد الثوار اليه وهم عازمون على قتله أو تنحيته عن الخلافة(3).

من هذه الروايات المتقدمة يمكن القول، إن مسألة الإصلاح عند الخليفة كانت شبه مستحيلة، لأنه لم يكن يمتلك القرار، واكتفى بأن يكون تابعا لرأي أقربائه مثل مروان وغيره، وكانت النتيجة أن تركه الإمام علي ولم يعد اليه، لأنه لم يلتزم بما وعد به المحتجين في المرات التي كان الإمام علي (عليه السلام) ضامنا له، بل بالعكس كان مروان بن الحكم هو المسيطر على الخليفة، فتذكر الروايات إنه خرج إلى المسلمين الذين حاصروا بيت الخليفة، وقال لهم: (ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم قد جئتم لنهب، شاهت الوجوه كل إنسان آخذ بإذن صاحبه، أجئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا

ص: 49


1- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 56 - 57، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 140
2- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 57، البلاذري، أنساب الأشراف، 5 / 90
3- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 402 - 403

من أيدينا، أخرجوا عنا)(1)، فزاد بكلماته التي يطلقها نقمتهم وعرفوا أن مروان هو المتصرف بأمر الخليفة، والشيء اللافت في هذا الأمر أن الخليفة لا يستطيع معارضة مروان، على الرغم من أن الصحابة والمسلمين كانوا يحاولون إنقاذه، فلم يأخذ برأي واحد منهم ويخالف مروان، لذلك جاءه الإمام علي (عليه السلام) يعاتبه على الكلام الذي كان يطلقه مروان والذي سيؤدي بالنهاية إلى قتله، فقال له: (أرضيت من مروان ولا رضى منك، إلا بتحريفك عن دينك، وعن عقلك مثل جمل الظعينة، يقاد حيث يسار به، والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه، والله إني لأراه سيوردك ثم لا يصدرك، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك وغلبت على أمرك)، ولما سمعت زوجته كلام الإمام علي (عليه السلام) قالت له: (سمعت قول علي لك، وليس يعاودك، وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء)(2)، ونتيجة لذلك لم يعد الإمام علي (عليه السلام) اليه مرة أخرى، حتى أنه عندما أرسل اليه من اجل مساعدته مرة اخرى، رفض هذا الأمر وقال للشخص الذي أرسله: (قل له ما أنا بداخل عليه ولا عائد)، وقال لأحد الصحابة الذي سأله عن سبب هذا الموقف:

(جاءني عثمان البارحة فجعل يقول إني غير عائد وإني فاعل، قال: فقلت له بعد ما تكلمت به على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطيت من نفسك ثم دخلت بيتك وخرج مروان إلى الناس فشتمهم على بابك)(3).

وهنا يجدر الإشارة إلى أن الولاة الأمويين، تركوا الخليفة يواجه مصيره لوحده،

ص: 50


1- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 398، المفيد، الجمل، ص 103، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 145 - 146، ابن كثیر، البداية والنهاية، 7 / 193
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 397، المفيد، الجمل، ص 103، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 146
3- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3/ 398

ولم يقدموا له المساعدة على الرغم من أنهم أحد الأسباب الرئيسة في الثورة عليه، وقد ذكرنا سابقا أن معاوية أرسل جيشا لمساعدة الخليفة، لكنه أمر قائده بعدم التدخل في الصراع، وزاد اليعقوبي برواية أخرى مفادها، أنه أرسل إلى معاوية من أجل مساعدته، لكن الأخير خرج بعدد كبير من الجنود وتركهم عند ابواب الشام، وجاء إلى الخليفة بمفرده، ولما سأله الخليفة عن جيشه قال له إنه قد تركهم بعيدا حتى يأخذ رأيه، وعندها عرف الخليفة نية معاوية بادره بالقول: (لا والله ولكنك أردت ان اقتل فتقول انا ولي الثار، ارجع فجئني بالناس، فرجع ولم يعد حتى قتل)(1)، وفي رواية أخرى أن الخليفة أرسل اليه أحد الأشخاص بكتاب، فامتنع عن مساعدته مبررا تصرفه هذا بالقول: (إني مصرح أن عثمان بدأ فعمل بما يحب الله ويرضاه ثم غيرّ فغيرّ الله عليه، أفيتهيأ لي أن أرد ما غيرّ الله عز وجل)(2)، وفي رواية الطبري ان الخليفة كتب اليه أن يرسل جيشاً من أهل الشام على وجه السرعة، إلا أن معاوية لم يرسل إليه أي مساعدة، لأنه: (كره إظهار مخالفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد علم اجتماعهم)، الأمر الذي اضطر الخليفة عثمان إلى أن يكتب مباشرة إلى زعماء القبائل في الشام، فأرسلوا له مساعدة لكنه قتل قبل أن تصل(3)، وفي رواية ابن شبة النميري أنه لما استلم كتاب الخليفة، أرسل جيشاً من أهل الشام إلى المدينة، وأمر قائد هذا الجيش أن يقف على مقربة منها، حتى يستلم الأوامر من معاوية، فبقي ذلك الجيش في هذه المنطقة حتى قتل الخليفة، فرجع إلى الشام، وسبب هذا التصرف هو (ليُقتل عثمان رضي الله عنه فيدعو إلى نفسه)(4).

ص: 51


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 175
2- ابن أعثم، كتاب الفتوح، 2 / 417
3- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 402
4- ابن شبة النميري، تاريخ المدينة المنورة، 4 / 1289

ثم انتهى الأمر بهجوم المحتجين على الخليفة في بيته، وقتله بطريقة وحشية وغير انسانية، ولا تليق بمنصب الخلافة الذي يمثله عثمان(1)، أو بأخلاق المسلمين أو بتوجيهات القرآن، وما علمهم رسول الله في سنته التي تركها لهم، ولا بمكانة عثمان ابن عفان وهو أحد صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الأوائل، وخليفة المسلمين في ذلك العهد.

ص: 52


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 73 - 76، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 399 - 426

المبحث الثاني بيعة الإمام علي بالخلافة وبرنامجه السياسي والمالي

البيعة:

بعد أن قتل الخليفة عثمان بن عفان، أراد المسلمون من الصحابة وغيرهم اختيار خليفة جديد، ووقع اختيارهم على الإمام علي (عليه السلام)، إلا أن الروايات التي اهتمت بهذا الشأن كثيرة جدا، ومتضاربة في كثير من الأحيان، ومن الصعوبة استخلاص الروايات الموثوقة، لذلك سنحاول التوصل إلى رؤية مبسطة للأحداث التي تلت مقتل الخليفة عثمان بن عفان.

في البداية يجب أن نتعرف على المدة التي استغرقتها مسألة اختيار الخليفة الجديد، إذ لم يتفق المؤرخون على هذه المدة، ففي الوقت الذي ذكر فيه سيف بن عمر أن المدينة بقيت خمسة ايام بدون خليفة(1)، ذكر غيره إن المسلمين بايعوا الإمام علياً (عليه السلام) في اليوم نفسه أو اليوم الذي يليه(2)، وكان الاختلاف فيما بينهم على اليوم الذي اختير فيه الإمام علي (عليه السلام) للخلافة، لأنهم اتفقوا على أن الخليفة

ص: 53


1- ابن عمر، الفتنة ووقعة الجمل، ص 91، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 454
2- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 31، البلاذري، أنساب الأشراف، 1 / 205، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 451

عثمان بن عفان قتل في يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة(1).

وأصل الخلاف في هذه المسألة نشأ من روايات سيف بن عمر التميمي، التي نقلها الطبري في تاريخه، ثم نقلها المؤرخون عنه، فملأت كتب التاريخ، حتى أصبحت هذه الروايات بحكم المسلمات، التي لا يجوز التشكيك بها، ثم نقلها الباحثون المعاصرون من مستشرقين وعرب عن المصادر القديمة، دون نقد أو تحليل، والحقيقة إن أساس هذه الروايات هو سيف بن عمر وحده، ولم يذكرها أي مؤرخ آخر غيره، لذلك يجب أن نكون على حذر من روايات سيف، لأنه غير جدير بالثقة، ومعروف بميله للأمويين ووضع الروايات لصالحهم، واستعداده لاختلاق أحداث وشخصيات غير موجودة، إذ نقلت عنه الكتب التي اهتمت بالصحابة، أسماء صحابة لا يعرفون إلا عنده، ونقلت كتب الرجال رواة لا وجود لهم إلا في أسانيده، كما اختلق أسماء أماكن جغرافية نقلتها كتب الجغرافية الإسلامية عنه، وهي في الحقيقة غير موجودة إلا في رواياته(2)، ومن الضروري أن نتعرف على شخصيته قبل الخوض في تفاصيل بيعة الإمام علي بالخلافة.

سيف بن عمر الضبي التميمي الأسيدي الكوفي من أهل الكوفة صاحب كتاب الفتوح الكبير والردة، وكتاب الجمل ومسير عائشة وعلي(3)، روى عنه اغلب

ص: 54


1- ابن عمر، الفتنة ووقعة الجمل، ص 85، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 177 - 178، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 451
2- ينظر مرتضى العسكري، عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى، 1 / 73 وما بعدها، الشرهاني، حياة السيدة خديجة بنت خويلد، ص 85 - 96
3- النديم البغدادي، كتاب الفهرست، ص 106

المؤرخين لاسيما الطبري(1)، أجمع أهل الحديث على أنه كاذب في رواياته وغير أمين في النقل، بل كان يروي عن اشخاص وهميين ليس لهم وجود إلا في رواياته، ويضع الروايات، وسنجمل آراء أهل الحديث فيه بالآتي: قالوا عنه: (متروك، ضعيف، اتهم بالزندقة، يروي الموضوعات عن الإثبات، ليس منه خير، متهم في دينه مرمي بالزندقة ساقط الحديث لا شيء، عامة حديثه منكر، بعض أحاديثه مشهورة وعامتها منكرة، إنه يضع الحديث)(2). وعلى الرغم من هذه الآراء في شخصية سيف، ومعرفة المؤرخين وأصحاب الحديث النبوي، بطبيعة شخصيته فقد نقلوا عنه كثيرا، بدون أن يدققوا رواياته، التي كانت السبب في الكثير من الاختلافات بين المسلمين حتى وقتنا الحاضر، لذلك سوف نحاول الإشارة إلى رواياته عند مناقشة بيعة الإمام علي بالخلافة.

لقد رأى الصحابة أن المسلمين لا بد لهم من خليفة، بعد أن انتهى الأمر بمقتل الخليفة عثمان، وشعروا بضرورة أن يكون لهم دور في إدارة الدولة، لاسيما أنهم أصحاب القرار في اختيار الخليفة، ويجب أن يسهموا في حل الأوضاع الصعبة، التي كانت تمر بها الدولة الإسلامية بعد مقتل الخليفة، لاسيما أن الأوضاع لم تعد كما كانت عليه الحال قبل تولي الخليفة عثمان الخلافة، وذلك لعدة أسباب منها:

ص: 55


1- الإجراءات المالية والإدارية التي وضعها الخليفة عمر، والتي لم تظهر نتائجها -1 الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 360 - 399، 447 - 462
2- ابن معین، تاريخ ابن معین، 1 / 336، العقيلي، كتاب الضعفاء الكبیر، 2 / 175، الرازي، الجرح والتعديل، 3 / 579، ابن حبان، كتاب المجروحین، 1 / 345، ابن عدي، الكامل، 3 / 435، أبو نعيم الاصبهاني، كتاب الضعفاء، ص 91، الذهبي، من له رواية في كتب الستة، 1 / 476، الذهبي، ميزان الاعتدال، 2 / 255، الهيثمي، مجمع الزوائد، 8 / 98، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 4 / 259 - 260

في عهده بل ظهرت في عهد الخليفة عثمان، والتي أسهمت في إرباك وضع الدولة الإسلامية إلى حد كبير.

2- لم يعمل الخليفة عثمان على تغيير الأوضاع الاقتصادية بل زاد عليها بإطلاق يد أقربائه من الأمويين في أموال المسلمين، وجعلهم يتولون إدارة الولايات الإسلامية.

3- استقلال معاوية في الشام بعد موت أخيه يزيد عام 18 ه(1)، وتكوينه دولة شبه مستقلة عن الخلافة الإسلامية، وجيشاً خاصاً لا يعرف سوى الولاء له ولبني أمية. وقد بلغ من سلطته هناك أن الخليفة عمر لما زار الشام تعجب من موكبه المهيب، فقال له: (أأنت صاحب الموكب العظيم؟. قال: نعم.

فقال عمر: مع ما يبلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟. قال: مع ما يبلغك من ذلك. فقال عمر: ولم تفعل هذا؟. فرد معاوية: نحن بأرض جواسيس، العدو بها كثير فيجب أن نظهر من عز السلطان ما نرهبهم به، فإن أمرتني فعلت وإن نهيتني انتهيت. فقال عمر:.. لا آمرك ولا أنهاك!!(2).

4- ظهور حالة التشظي في نسيج المجتمع الإسلامي بعد حادثة السقيفة، وتفاقم هذه الحالة بسبب النتائج السيئة للإجراءات المالية والإدارية التي أحدثها الخليفة عمر، لا سيما سياسة التفضيل في العطاء، التي أربكت وضع الدولة. والتي صرح بندمه على استحداثها فقال: «لو استقبلت من أمري ما

ص: 56


1- ينظر: ابن سعد، الطبقات الكبرى، 7 / 406؛ ابن قتيبة، المعارف، 345؛ الذهبي، سیر أعلام النبلاء، 1 / 330
2- ابن عبد البر، الاستيعاب، 3 / 1416 - 1418؛ ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق، 59 / 112 - 113؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 8 / 299

استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين»(1).

ومن ثم عدم قدرة ورغبة الخليفة عثمان بتغيير الأوضاع السابقة، واستفحال الآثار السيئة لتلك السياسة، إذ أنتجت مجتمعاً طبقياً، يكدس فيه الأغنياء من الذهب والفضة ما يكسر بالفؤوس، ويملكون الدور والبساتين والمئات من العبيد والإماء والخيول والجمال..(2). وقد زاد الخليفة عثمان الأمر سوءاً بإطلاق أيدي أقربائه من بني أمية وأعوانهم في أموال المسلمين، وتوليتهم على الولايات الإسلامية. أما من عارض تلك السياسات فكان نصيبه التنكيل والطرد والحرمان، حتى أن أبا ذر (رضي الله عنه) مات طريداً في الربذة، وهو لا يملك ما يكفن به سوى ثيابه(3)..

كان المسلمون بحاجة لشخص يتمتع بمواصفات خاصة، بحيث تكون له القدرة والكفاءة على مواجهة الوضع المتأزم المليء بالمشاكل والتحديات الصعبة. ولم يكن يصلح لهذه المرحلة سوى الإمام علي (عليه السلام)، لاسيما وأنه كان يدعو لمنهج مختلف تماماً عن سابقيه، وقد عبر عنه في مناسبات متعددة. ولعل المسلمين حينها كانوا بين عاملي ضغط؛ فهم من جهة أدركوا تماماً حراجة الموقف وخطره، وأن الإمام (عليه السلام) هو الوحيد القادر على ملء الفراغ، ومن جهة أخرى شعروا بالندم لتركهم إياه سابقاً. و لعل هذا ما يحيل إليه إصرارهم على توليه الخلافة رغم رفضه لها(4)، وقوله (عليه السلام): «فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي، ينثالون

ص: 57


1- الطبري، تاريخ الامم والملوك، 3 / 291؛ ابن حزم: المحلى، 6 / 158
2- ينظر: المسعودي، مروج الذهب، 2 / 261 - 263؛ ابن خلدون: تاريخ، 1 / 204 - 205
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 4 / 234 - 235؛ اليعقوبي: تاريخ، 2 / 172 - 173؛ ابن عبد البر، الاستيعاب، 1 / 253؛ ابن الأثیر، أسد الغابة، 5 / 187 - 188
4- إذ قال لهم: دعوني والتمسوا غیري، فأنا لكم وزير خیر مني لكم أمیر. ينظر: الطبري، تاريخ الامم والملوك، 3 / 450 - 454؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 1 / 169؛ وينظر. البلاذري: أنساب الأشراف، 209 - 210؛ ابن أعثم، كتاب الفتوح، 2 / 434 - 435

علي من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم. فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخرى وقسط آخرون»(1). إذن بيعة الإمام (عليه السلام) تمت برضا عموم المسلمين، بل إنه أصر أن تكون كذلك وأن تكون عامة في المسجد ليحضرها أكبر عدد ممكن منهم(2).

لكن قبل ذلك لا بد أن نستعرض الروايات التي تحدثت عن توليه الخلافة، ونبدأ بالروايات التي أوردها سيف بن عمر، والتي نقلها عنه الطبري في تاريخه، ثم نذكر بقية الروايات التي تحدثت عن هذا الأمر.

ذكر سيف بن عمر في رواياته التي نقلها الطبري عنه، أن السيدة عائشة وطلحة والزبير، كانوا غير راضين عن قتل الخليفة عثمان، وجلُّ الثوار على الخليفة عثمان من الهمج الرعاع، الذين لا يعرفهم أحد، فقال: (وتجهزت عائشة خارجة إلى الحج هاربة)، (وخرجت عائشة وهي ممتلئة غيظا على أهل مصر، وجاءها مروان بن الحكم، فقال يا أم المؤمنين: لو أقمت كان أجدر أن يراقبوا هذا الرجل، فقالت أتريد أن يصنع بي كما صنع بأم حبيبة، ثم لا أجد من يمنعني، لا والله ولا أعير، ولا أدري إلى ما يسلم أمر هؤلاء، وبلغ طلحة والزبير ما لقي علي وأم حبيبة(3) فلزموا

ص: 58


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 1 / 200
2- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 31؛ ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 65 - 66؛ البلاذري، أنساب الأشراف، ص 205 - 211؛ اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 178؛ ابن الأثیر، أسد الغابة، 4 / 31 - 32؛ ابن كثیر، البداية والنهاية، 7 / 253 - 255
3- يذكر سيف أن علياً وأم حبيبة بنت أبي سفيان زوجة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حاولوا الوصول إلى الخليفة عثمان فمنعهم الثوار، وكادوا أن يقتلوا أم حبيبة، ينظر، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 417 - 418

بيوتهم...)(1)، (وكان المصريون لا يطمعون في أحد من أهل المدينة، أن يساعدهم إلا في الثلاثة نفر، فإنهم كانوا يراسلونهم محمد بن أبي بكر ومحمد بن حذيفة وعمار ابن ياسر)(2)، ثم ينتقل بعد الحديث عن مقتل الخليفة عثمان بن عفان، إلى كيفية بيعة الإمام علي بالخلافة فقال: (بقيت المدينة خمسة أيام وأميرها الغافقي بن حرب، يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه، يأتي المصريون عليا فيختبئ منهم، ويلوذ بحيطان المدينة، فإذا لقوه باعدهم وتبرأ منهم ومن مقالتهم مرة بعد مرة، ويطلب الكوفيين الزبير فلا يجدونه، فأرسلوا إليه حيث هو رسلا، فباعدهم وتبرأ من مقالتهم مرة بعد مرة، ويطلب البصريون طلحة فإذا لقيهم باعدهم وتبرأ من مقالتهم مرة بعد مرة، وكانوا مجتمعين على قتل عثمان، مختلفين فيمن يهوون، فلما لم يجدوا ممالئا ولا مجيبا، جمعهم الشر على أول من أجابهم، وقالوا لا نبايع أحداً من هؤلاء الثلاثة، فبعثوا إلى سعد بن أبي وقاص، وقالوا إنك من أهل الشورى، فرأينا فيك مجتمع فاقدم نبايعك، فبعث اليهم أني وابن عمر خرجنا منها فلا حاجة لي فيها ...، ثم إنهم أتوا ابن عمر عبد الله فقالوا: أنت ابن عمر فقم بهذا الأمر، فقال: إن لهذا الأمر انتقاما والله لا أتعرض له فالتمسوا غيري، فبقوا حيارى لا يدرون ما يصنعون والأمر أمرهم)(3)، ثم ينقل الطبري روايتين عن سيف بن عمر، يكمل فيهما كيفية اختيار الإمام علي للخلافة، الأولى قال فيها: (لما كان يوم الخميس على رأس خمسة أيام من مقتل عثمان رضي الله عنه، جمعوا أهل المدينة فوجدوا سعدا والزبير خارجين، ووجدوا طلحة في حائط له ووجدوا بني أمية، قد هربوا إلا من لا

ص: 59


1- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 417، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 39 / 434 - 435
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 417، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 39 / 321، ابن كثیر، البداية والنهاية، 7 / 197
3- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 454

يطيق الهرب، وهرب الوليد وسعيد إلى مكة في أول من خرج، وتبعهم مروان وتتابع على ذلك من تتابع، فلما اجتمع أهل المدينة قال لهم أهل مصر: أنتم أهل الشورى، وأنتم تعقدون الإمامة، وأمركم عابر على الأمة، فانظروا رجلا تنصبونه، ونحن لكم تبع، فقال الجمهور علي بن أبي طالب، نحن به راضون)، والرواية الثانية: (فقالوا لهم دونكم يا أهل المدينة فقد أجلناكم يومين، فوالله لئن لم تفرغوا لنقتلن غدا عليا وطلحة والزبير وأناسا كثيرا، فغشي الناس عليا فقالوا: نبايعك فقد ترى ما نزل بالإسلام، وما ابتلينا به من ذوي القربى، فقال علي دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب ولا تثبت له العقول، فقالوا ننشدك الله الا ترى ما نرى، ألا ترى الإسلام، ألا ترى الفتنة، ألا تخاف الله، فقال قد أجبتكم لما أرى، واعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني فإنما أنا كأحدكم، إلا اني أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، ثم افترقوا على ذلك، واتعدوا الغد وتشاور الناس فيما بينهم، وقالوا إن دخل طلحة والزبير فقد استقامت فبعث البصريون إلى الزبير بصريا، وقالوا احذر لا تحابه، وكان رسولهم حكيم بن جبلة العبدي في نفر، فجاؤا به يحدونه بالسيف، وإلى طلحة كوفيا، وقالوا احذر لا تحابه، فبعثوا الاشتر في نفر فجاؤا به يحدونه بالسيف ...)(1)، ثم ينقل الطبري بقية الصورة التي رواها سيف عن البيعة، بإجبار طلحة والزبير على بيعة الإمام علي، فيقول: (وجاء القوم بطلحة فقالوا: بايع، فقال: إني أبايع كرها فبايع)، (قال: جاء حكيم بن جبلة بالزبير حتى بايع فكان الزبير يقول جاءني لص من لصوص عبد القيس فبايعت)(2).

ص: 60


1- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 456
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 457

يمكن أن نجمل ما أراده سيف بن عمر في رواياته، التي ذكرها عن بيعة الإمام علي بن أبي طالب بالخلافة، بالنقاط الآتية:

1- جعل سيف في رواياته السيدة عائشة غير راضية عن الثورة على الخليفة عثمان وقتله، كما جعل طلحة والزبير وبقية الصحابة مدافعين عن الخليفة وغير راضين عن هذه الثورة، وهو بذلك يريد أن يجعل معركة الجمل، التي قادتها السيدة عائشة وطلحة والزبير ضد خلافة الإمام علي، شرعية لأنها كانت لإصلاح الأمور في الدولة الإسلامية، وأن هؤلاء الثوار هم مجموعة من الهمج الرعاع الذين لا يعرفهم أحد، وحاول جعل تصرفهم الذي قاموا به نوعاً من التمرد غير المبرر، حتى يجنب الخليفة عثمان والخلفاء الذين سبقوه تحمل اي مسؤولية في هذه الثورة، وبذلك ينكر الصراع الطبقي الذي أسس له الخليفة عمر بن الخطاب، وسوء الإدارة المالية التي مارسها الخليفة عثمان وأسرته من بني أمية، فيحقق هدفين هما الدفاع عن السيدة عائشة والصحابة، ويزكي بني أمية ويجنبهم أي انتقاد، في الوقت الذي يحاول فيه تشويه صورة الإمام علي، وجهوده التي بذلها للإصلاح، وكذلك يشوه صورة كل الصحابة والتابعين الذين ساندوه في منهجه الإصلاحي.

2- حاول سيف في رواياته أن يجعل الثوار هم أصحاب القرار في اختيار الخليفة، في حين جعل الصحابة مسلوبي الإرادة، غير قادرين على اتخاذ اي قرار، كما حاول أن يجعل بيعة علي بن أبي طالب بالخلافة، تمت بالقوة حتى يفقدها شرعيتها، لأن الصحابة هم أصحاب القرار في اختيار الخليفة، وركز على أن طلحة والزبير لم يبايعوا إلا بحد السيف، وهدفه من هذه الروايات هو التأسيس للفترة الزمنية التي تلي هذه الفترة، والتي قام فيها التمرد ضد

ص: 61

الإمام علي (عليه السلام)، فيجعل طلحة والزبير محقين في قيادة حرب الجمل، لأنهم لم يبايعوه، ويجعل معاوية محقا في قيادته معركة صفين ضد الخلافة، لأن خلافة علي بن أبي طالب غير شرعية حسب ما ذكره من روايات، لأنها لم تأتِ عن طريق الصحابة، بل عن طريق هؤلاء الهمج الذين لا يعرفهم أحد، مستبعدا أن يكون سبب التمرد الذي قاده طلحة والزبير ثم معاوية، نتيجة للإصلاحات التي أجراها الخليفة في الجانبين الإداري والمالي.

يبدو من خلال ما قدمناه من روايات سيف بن عمر، أنه أراد أن يشوه كل الحقائق التاريخية لهذه الفترة، فانفرد بروايات لم يذكرها غيره، وأسند هذه الروايات إلى مجموعة من الرواة، لا يعرفهم أحد إلا في رواياته(1)، وعندما قارنّا روايات سيف مع روايات غيره من الرواة، وجدنا أن الصورة مختلفة عما رواه سيف، أما مسألة السيدة عائشة وموقفها من الخليفة عثمان، فقد قدمنا في المبحث الاول من هذا الفصل، أنها كانت المحرض الأول على الخليفة، بل كانت أحد الأسباب في مقتله، ونضيف إلى ذلك جوابها لمروان بن الحكم عندما دعاها إلى الدفاع عن الخليفة عثمان، والذي ذكره ابن أعثم: (فلما نظرت عائشة إلى ما قد نزل بعثمان من حصار القوم له قربت راحلتها وعزمت على الحج، فقال لها مروان بن الحكم: يا أم المؤمنين، لو أنك أقمت لكان أعظم لأجرك، فإن هذا الرجل قد حوصر، فعسى الله تبارك وتعالى أن يدفع بك عن دمه، فقالت: الآن تقول هذا وقد أوجبت الحج على نفسی، لا والله لا أقمت، وجعل مروان يتمثل ببيت الشعر:

ص: 62


1- لا نريد الإطالة في هذا الموضوع لأنه يخرجنا عن موضوع البحث، للتعرف عن هذا الأمر والرواة الوهميین راجع مرتضى العسكري، عبد الله بن سبأ، 2 / 45 - 46، الشرهاني، حياة السيدة خديجة، ص 86 - 87

ضرم قيس على البلاد دما *** إذا اضطرمت يوم به أحجما)(1).

وذكر غيره الرواية نفسها وأضاف إليها أنها قالت لمروان: (يا بن الحكم أعلي تمثل الأشعار، قد والله سمعت ما قلت، أتراني في شك من صاحبك، والذي نفسي بيده لوددت أنه الآن في غرارة من غرائري مخيط عليه، فألقيه في البحر الأخضر)(2)، وروى الطبري بسند غير سيف أن عائشة صادفت عبد الله بن عباس ذاهب إلى الحج، فطلبت منه أن لا يخذل الناس عن ابن عمها طلحة، وقالت له: (يا بن عباس أنشدك الله فإنك قد أعطيت لسانا وعقلا، أن تخذل الناس عن طلحة، فقد بانت لهم بصائرهم في عثمان وانهجت، ورفعت لهم المنار، وتحلبوا من البلدان لأمر قد حم، وأن طلحة قد اتخذ رجالا على بيوت الأموال، وأخذ مفاتيح الخزائن، وأظنه يسير إن شاء الله بسيرة ابن عمه أبي بكر، فقال: يا أمه لو حدث ما فزع الناس إلا لصاحبنا يعني الإمام علياً)(3) وهذه الروايات والتي قدمناها سابقا تبين دور السيدة عائشة في الثورة على الخليفة(4).

أما موقف طلحة والزبير فقد قدمنا بعض الروايات، التي تدل على أن طلحة كان أكبر المؤلبين على الخليفة، حتى وصل الأمر إلى أنه منع عليه وعلى عائلته الماء، وكان هو الذي كتب إلى المسلمين من أجل الثورة على الخليفة، ويتضح هذا من قول أحد البصريين لطلحة، عندما جاء إلى البصرة مع الزبير وعائشة للتمرد على الخلافة:

ص: 63


1- ابن أعثم، كتاب الفتوح، 2 / 421
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 8، المجلسي، بحار الأنوار، 31 / 298، ونقل هذه الرواية، بلفظ أخر كل من ابن سعد، الطبقات الكبرى، 5 / 37، واليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 176
3- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 435، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 10 / 6
4- لا نريد الإطالة في هذا الموضوع لأن الروايات كثیرة جدا، وللتفاصيل ينظر الأميني، الغدير، 9 / 78 - 86

(أتاهم رجل من أشراف البصرة بكتاب كتبه طلحة في التأليب على قتل عثمان، فقال لطلحة: هل تعرف هذا الكتاب؟ قال: نعم، قال: فما ردك على ما كنت عليه، وكنت أمس تكتب إلينا تؤلبنا على قتل عثمان، وأنت اليوم تدعونا إلى الطلب بدمه)(1)، كما أن الطريقة التي قتل بها طلحة تدل على المعنى الذي ذكرناه، فعلى الرغم من أن مروان بن الحكم خرج مع طلحة والزبير وعائشة إلى معركة الجمل، فإنه كان متأكداً من أن طلحة كان السبب الرئيس في مقتل الخليفة عثمان، لذلك رماه بسهم في تلك المعركة وقتله، وقال: (لا أطلب بثأري بعد اليوم)(2). أما موقف الزبير من الخليفة عثمان فقد ذكرت الروايات، أنه كان من المحرضين على قتله، فكان يقول: (اقتلوه فقد بدل دينكم، فقالوا: إن ابنك يحامي عنه بالباب، فقال: ما أكره أن يقتل عثمان ولو بدئ بابني، ان عثمان لجيفة على الصراط غدا)(3)، وفي رواية أخرى أن سعيد ابن العاص الأموي سأل مروان عن سبب ذهابه إلى البصرة، فكان رد مروان أنه يريد الأخذ بدم الخليفة عثمان، فقال له سعيد: (فهؤلاء قتلة عثمان معك؟ إن هذين الرجلين قتلا عثمان: طلحة والزبير)(4).

أما بقية الصحابة فقد كانت مواقفهم متفاوتة من الخليفة، وقد ذكرنا قسماً منهم مثل أبي ذر الغفاري وعبد الله بن مسعود وعبد الرحمن بن عوف، ورأينا أن الإمام علياً (عليه السلام) على الرغم من دفاعه عن الخليفة عثمان، ووساطته بين الخليفة والثوار، لكنه كان غير راض عن أداء الخليفة وعن سيطرة بني أمية عليه، فكان يقول

ص: 64


1- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 88
2- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 135، البلاذري، أنساب الأشراف، ص 246، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 25 / 112، ابن الأثیر، أسد الغابة، 3 / 61
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 9 / 36
4- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 82

له: (إني قد كلمتك مرة بعد مرة، فكل ذلك نخرج فتكلم، ونقول وتقول وذلك كله فعل مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وابن عامر ومعاوية، أطعتهم وعصيتني قال عثمان: فإني أعصيهم وأطيعك)(1)، فكان هذا مدعاة إلى أن يعتزل عنه الإمام علي، لأنه رأى أن أمره بيد بعض اقربائه من الأمويين، لذلك عندما جاء سعد بن أبي وقاص إلى علي، يسأله أن يرد الناس عن عثمان مرة اخرى، رفض الإمام علي (عليه السلام) الأمر لأنه كان يرى أن لا فائدة من الكلام مع الخليفة، ما دام أمره ليس بيده، فقال لسعد: (والله ما زلت أذب عنه حتى إني لأستحي، ولكن مروان ومعاوية وعبد الله بن عامر وسعيد بن العاص هم صنعوا به ما ترى)(2).

كذلك فإن عمرو بن العاص كان حانقا على الخليفة، لأنه عزله عن ولاية مصر، الأمر الذي جعل عمرو بن العاص يطعن على الخليفة عثمان علنا، فوبخه الخليفة لهذا الأمر فكان (يأتي عليا مرة فيؤلبه على عثمان، ويأتي الزبير مرة فيؤلبه على عثمان، ويأتي طلحة مرة فيؤلبه على عثمان، ويعترض الحاج فيخبرهم بما أحدث عثمان، فلما كان حصار عثمان الأول خرج من المدينة، حتى انتهى إلى أرض في فلسطين يقال لها السبع، فنزل في قصر له يسمى العجلان(3)، وكان يقول: أنا أبو عبد الله إذا حككت قرحة نكأتها، إني كنت أحرض عليه، حتى أني لأحرض عليه الراعي في غنمه في رأس الجبل)(4).

ص: 65


1- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 394
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 410
3- البلاذري، أنساب الأشراف، ص 281، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 392
4- البلاذري، أنساب الأشراف، ص 282، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 393، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 39 / 426

كذلك كان هناك خلاف شديد بين الخليفة عثمان وبين الصحابي عمار بن ياسر، بسبب اعتراض الأخير على سلوك الوليد بن عقبة والي الكوفة، الذي شرب الخمر وصلى بالمسلمين وهو سكران، لذلك جاء مجموعة من أهل الكوفة يشتكون الوالي، فاستعانوا بالصحابة على هذا الأمر، فذهب عمار بن ياسر إلى الخليفة ليخبره بتصرف الوليد، إلا أن رد الخليفة وأقربائه الأمويين على عمار كان عنيفا، فقال مروان للخليفة: (يا أمير المؤمنين إن هذا العبد الأسود قد جرأ عليك الناس، وإنك إن قتلته نكلت به من وراءه، قال عثمان: أضربوه فضربوه وضربه عثمان معهم، حتى فتقوا بطنه فغشي عليه فجروه وطرحوه بباب الدار)(1)، كما أن عماراً كان معترضا على سياسة الخليفة المالية، وتصرفه وأهل بيته بأموال المسلمين(2)، الأمر الذي سبب العداء بينهما، ولم يسهم عمار في الدفاع عن الخليفة عندما حاصره الثوار(3).

ولا نريد الاطالة في اختلاف الصحابة مع الخليفة في كثير من الأمور، وأهمها سياسته المالية والإدارية(4)، وهذا يعني عدم جدارة روايات سيف بن عمر، التي حاول فيها جعل الثورة التي قام بها المسلمون ضد سياسات اقتصادية، واستئثار مجموعة من اقرباء الخليفة بمقدرات الدولة الإسلامية، إلى شغب قام به مجموعة من الخارجين على القانون، وهذا خلاف لما سردناه عن مجموعة من الرواة غير المتهمين مثل سيف بن عمر.

ص: 66


1- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 51
2- ابن شبة النمیري، تاريخ المدينة، 3 / 1099، البلاذري، انساب الأشراف، 5 / 48، المجلسي، بحار الأنوار، 31 / 193
3- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 394
4- لمعرفة تفاصيل اختلاف الصحابة مع الخليفة عثمان بن عفان واشتراكهم في الثورة عليه، راجع الأميني، الغدير، 9/ 9 - 216، مرتضى العسكري، أحاديث أم المؤمنین عائشة، 1 / 58 - 117

والأمر الآخر الذي أراده سيف برواياته، هو أن الصحابة لم يكن لهم علاقة بالثورة، والثوار كانوا مجموعة من الخارجين على القانون، أو مجموعة من الرعاع غير المعروفين للمسلمين، كما يوحي سيف في رواياته، وقد بيّنا أن أكثر المؤلبين والمعترضين على سياسة الخليفة هم من كبار الصحابة، وهم الذين تبعهم المسلمون في الأمصار واستجابوا لدعوتهم، وسوف نعرض لبعض قادة هؤلاء الثوار حتى نتعرف على مكانتهم، تذكر الروايات أن قادة المسلمين الذين وفدوا إلى المدينة، والذين ساندوهم من المدينة نفسها هم من الصحابة، منهم جبلة بن عمرو الساعدي الذي كان معترضا على إعطاء الخليفة عثمان إبل الصدقة لأقربائه من بني الحكم، وقبل ذلك اعترض عبد الرحمن بن عوف والمسور بن مخرمة وكلاهما من الصحابة وأخذ عبد الرحمن بن عوف الإبل ووزعها على المسلمين(1)، أما جبلة فهو أنصاري خزرجي من الصحابة الذين شاركوا في معركة احد(2)، وذكر ابن اسحاق والواقدي إن أمر الثوار كان إلى عبد الرحمن بن عديس البلوي، وعمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وسودان بن حمران المرادي، وعروة بن النباع(3)، ومن خلال دراسة سيرة هؤلاء، نجد أن عبد الرحمن بن عديس البلوي هو من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن الصحابة الذين شهدوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيعة الرضوان في العام السادس للهجرة(4)، أما عمرو بن الحمق الخزاعي فهو أيضا من الصحابة، الذين شهدوا بيعة الرضوان وفي بعض المصادر أنه ممن شهد معركة بدر، وفي رواية

ص: 67


1- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 399
2- ابن الأثير، اسد الغابة، 1 / 269، ابن حجر، الإصابة، 1 / 566
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 65، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 413
4- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 7 / 509، ابن الأثیر، اسد الغابة، 3 / 309، ابن حجر، الإصابة، 4 / 281

أنه أسلم بعد حجة الوداع(1)، ومهما يكن من أمر فإنه كان من الصحابة، وأسهم في الثورة على الخليفة مع الثوار رفاعة بن رافع الأنصاري، وهو من الصحابة الذين شهدوا معركة بدر(2)، وكان رأس المعارضة في مصر محمد بن أبي حذيفة وهو من بني أمية، أسرة الخليفة عثمان بن عفان، إلا أنه كان غير راض عن تصرفات الخليفة، لاسيما فيما يتعلق بسياسته المالية، لذلك أرسل اليه الخليفة ثلاثين ألف درهم وغيرها من الأشياء، من أجل التخفيف من حدة انتقاداته للخليفة، لكن محمداً لم يرضَ بهذا الأمر، فأخذ الأموال وذهب إلى المسجد، وقال للناس: (يا معشر المسلمين ألا ترون إلى عثمان يخادعني عن ديني ويرشوني عليه)(3)، ومحمد هذا كان من الصحابة(4).

والأمر المهم في هذا الباب ما حاول سيف بن عمر ايحاءه من خلال ما ذكره من روايات، هو نفي مبايعة الصحابة للإمام علي، وأن الثوار هم الذين كانوا أصحاب القرار في اختيار الخليفة، وهذه الروايات انفرد بها سيف دون غيره من الرواة، وقبل الخوض في تفاصيل هذا الموضوع، لابد لنا من معرفة رؤية الإمام علي (عليه السلام) للخلافة في هذه الحقبة التاريخية، إذ ذكرت الروايات أنه كان لا يريد تولي الخلافة، لكثرة المشاكل التي كانت تحيط بها، والتغيرات التي طرأت على المجتمع الإسلامي، فلم تكن الحال كما كانت عليه عند وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لذلك عندما ألح عليه عبد الله بن العباس من أجل تولي الخلافة، قال له: (ما قيمة هذه

ص: 68


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 4 / 319، البخاري، كتاب التاريخ الكبیر، 3 / 322، اسد الغابة، 3 / 309، ابن حجر، الإصابة، 4 / 514
2- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 596 - 597، البخاري، صحيح البخاري، 5 / 18، 21، ابن الأثیر، اسد الغابة، 2 / 178
3- البلاذري، انساب الأشراف، 5 / 59
4- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 84، ابن حجر، الإصابة، 6 / 9

النعل، فقلت: لا قيمة لها، فقال (عليه السلام): والله لهي أحب إليَّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلا)(1).

إلا أن الحالة التي تمر بها الدولة الإسلامية، دفعت الصحابة إلى ممارسة الضغوط عليه من أجل أن يتولى الخلافة، لاسيما إنهم كانوا يعرفون إن هذه المرحلة، لا يستطيع أحد مواجهتها إلا شخص كالإمام علي (عليه السلام)، وقد أورد الطبري مجموعة من الروايات عن طريق رواة غير سيف، وهذه الروايات تؤكد أن الصحابة ألحوا عليه من أجل تولي الخلافة، فبعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان (أتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل، ولابد للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحدا أحق بهذا الأمر منك، لا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا تفعلوا فإني أكون وزيرا خيراً من أن أكون أميرا، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك، قال: ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خفيا، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين)(2)، وروى بسند آخر إن المهاجرين والأنصار اجتمعوا بعد مقتل الخليفة فيهم طلحة والزبير: (فأتوا عليا فقالوا: يا أبا الحسن هلم نبايعك، فقال: لا حاجة لي في إمرتكم، أنا معكم فمن اخترتم فقد رضيت به، فاختاروا، فقالوا: والله ما نختار غيرك، قال: فاختلفوا اليه مرارا، ثم أتوه في آخر ذلك، فقالوا له: لا يصلح الناس إلا بإمرة وقد طال الأمر، فقال لهم: إنكم قد اختلفتم إلي وأتيتم وإني قائل لكم قولا إن قبلتموه قبلت أمركم، وإلا فلا حاجة لي فيه، قالوا: ما قلت من شيء قبلناه إن شاء الله، فجاء فصعد المنبر فاجتمع الناس إليه فقال: إني كنت

ص: 69


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 80، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 76
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 450، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 7، وروى البلاذري وابن أعثم نفس هذه الرواية لكن بلفظ آخر ينظر، أنساب الأشراف، ص 209 - 210، كتاب الفتوح، 2 / 434 - 435

كارها لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم، ألا وإنه ليس لي أمر دونكم، إلا أن مفاتيح بيت مالكم معي، ألا وإنه ليس لي أن أخذ منه درهما دونكم رضيتم، قالوا: نعم، قال: اللهم أشهد عليهم ثم بايعهم)(1)، ثم روى الطبري بسند آخر فقال: (لما قتل عثمان خرج علي إلى السوق، وذلك يوم السبت لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة - أي في اليوم نفسه الذي قتل فيه الخليفة عثمان، فاتبعه الناس وبهشوا في وجهه فدخل حائط بستان بني عمرو بن مبذول، وقال لأبي عمرة بن عمرو: أغلق الباب فجاء الناس فقرعوا الباب، فدخلوا فيهم طلحة والزبير، فقالا: أبسط يدك فبايعه طلحة والزبير)(2)، وذكر بسند آخر (لما قتل عثمان بايعت الأنصار عليا إلا نفيرا منهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك...)(3)، وذكر البلاذري وغيره عن الزهري ان المسلمين في المدينة، جاؤوا إلى علي من اجل أن يبايعوه، لكنه اخبرهم ان هذا الأمر هو مسؤولية الصحابة ممن شاركوا في معركة بدر، فجاء الصحابة من أهل بدر وبايعوا الإمام علياً (عليه السلام) خليفة للمسلمين(4)، كما ذكرت المصادر الأخرى روايات مشابهة للروايات المتقدمة، نقلتها عن الكثير من الرواة، الذين أجمعوا على أن الصحابة كانوا هم أصحاب القرار في اختيار الخليفة وليس الثوار، كما أنهم ذكروا أن أول من بايع الخليفة طلحة والزبير، ثم تتابع الصحابة على هذه البيعة، ولم يكتف الإمام علي بهذا الأمر، بل اشترط أن تكون بيعته عامة في المسجد، وبرضى من المسلمين المتواجدين

ص: 70


1- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 450 - 451، وروى هذه الرواية النعمان المغربي باختلاف بسيط، شرح الأخبار، 1 / 376 - 377
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 451
3- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 452
4- البلاذري، انساب الأشراف، 5 / 70، الخوارزمي، المناقب، ص 49، ابن الأثیر، اسد الغابة، 4 / 31 - 32

في المدينة(1)، لذلك فإن بيعته كانت بيعة جماهيرية اشترك فيها المسلمون المتواجدون في المدينة.

وهذه الروايات المتقدمة تؤكد عدم جدارة روايات سيف بن عمر، ومن نقلها عنه، وتبين أن الصحابة هم الذين اختاروا الخليفة، وكان دورهم بارزا هذه المرة، عكس المرات الثلاث السابقة، إذ لم يكن لهم رأي فيها، كما أنها تدحض النظرية التي أراد سيف إثباتها في رواياته، من أن الزبير وطلحة لم يبايعوا الإمام علياً بالخلافة، وهو يريد أن يفقد خلافة الإمام علي (عليه السلام) شرعيتها، لأن هؤلاء هم أصحاب الشورى الذين وضعهم عمر بن الخطاب لاختيار الخليفة، ولو فرضنا جدلا صحة روايات سيف بأنهم لم يبايعوا الإمام، وهو أمر غير صحيح، فإن بيعة الإمام علي (عليه السلام) كانت لا غبار عليها، لأن الروايات المتقدمة تثبت أن أغلب الصحابة بايعوا عليا، ولم يتخلف عن بيعته سوى نفر قليل منهم لآراء لا تتعلق بأهليته لتولي الخلافة، بل لقناعات شخصية لديهم، ولم يجبرهم الإمام علي على البيعة، لأنه اعتبر أن الأمة هي التي قررت مصيرها، ومن حق بعضهم أن يبدي معارضته، بشرط أن لا يخل بالمصلحة الإسلامية، مثل ما فعل الزبير وطلحة وعائشة ومعاوية، وعليه إذا لم يبايع طلحة والزبير فليس معنى هذا أن الخلافة غير شرعية، لأن الذي جعل هؤلاء هم أصحاب القرار في اختيار الخليفة هو عمر بن الخطاب، ولا يمكن أن يكون الخليفة عمر حاكما على الأمة حتى بعد وفاته، لاسيما ان الأمة هي التي اختارت هذه المرة، والأمة أكبر من الخليفة عمر ومن آرائه وما قرره لها، لأنها لم تكن قاصرة حتى يقرر عنها أحد الأشخاص.

ص: 71


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 31، ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 65 - 66، البلاذري، أنساب الأشراف، ص 205 - 211، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 178، ابن الأثیر، أسد الغابة، 4 / 31 - 32، ابن كثیر، البداية والنهاية، 7 / 253 - 255

البرنامج السياسي والمالي للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)

بعد أن تولى الإمام علي (عليه السلام) أوضح برنامجه السياسي والاقتصادي في الخطبة التي ألقاها في يوم توليته، ومن المفيد ذكرها بالكامل حتى نتعرف على برنامجه الاصلاحي: (أما بعد فإنه لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استخلف الناس أبا بكر ثم استخلف أبو بكر عمر، فعمل بطريقة ثم جعلها شورى بين ستة فأفضى الأمر إلى عثمان، فعمل ما أنكرتم وعرفتم ثم حصر وقتل، ثم جئتموني طائعين فطلبتم إلي، وإنما أنا رجل منكم، لي ما لكم وعلي ما عليكم، وقد فتح الله الباب بينكم وبين أهل القبلة، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، ولا يحمل هذا الأمر إلا أهل الصبر والبصر والعلم بمواقع الأمر، وأني حاملكم على نهج نبيكم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومنفذ فيكم ما أمرت به، إن استقمتم لي، والله المستعان، ألا إن موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاته كموضعي منه أيام حياته، فامضوا لما تأمرون به، وقفوا عند ما تنهون عنه، ولا تعجلوا في أمر حتى نبينه لكم، فإن لنا عن كل أمر تنكرونه عذرا، ألا وإن الله عالم من فوق سمائه وعرشه إني كنت كارها للولاية على أمة محمد، حتى اجتمع رأيكم على ذلك، لأني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: أيما وال ولي الأمر من بعدي أقيم على حد الصراط، ونشرت الملائكة صحيفته، فإن كان عادلا أنجاه الله بعدله، وإن كان جائرا انتفض به الصراط حتى تتزايل مفاصله، ثم يهوي إلى النار فيكون أول ما يتقيها به أنفه وحر وجهه، ولكني لما اجتمع رأيكم لم يسعني ترككم.

ثم التفت (عليه السلام) يمينا وشمالا، فقال: ألا لا يقولن رجال منكم غدا قد غمرتهم الدنيا، فاتخذوا العقار وفجروا الأنهار، وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة الحسان، فصار ذلك عليهم نارا وشنارا، إذا ما منعتهم ما كانوا

ص: 72

يخوضون فيه، وأمرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك ويستنكرون، ويقولون حرمنا ابن أبي طالب من حقوقنا، ألا وأيماّ رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يرى الفضل له على من سواه لصحبته، فإن الفضل النير غدا عند الله، وثوابه وأجره على الله، وأيما رجل استجاب لله وللرسول فصدق ملتنا، ودخل ديننا واستقبل قبلتنا، فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله، والمال مال الله يقسم بينكم بالسوية، لا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله غداً أحسن الجزاء، وأفضل الثواب، لم يجعل الله الدنيا للمتقين جزاء، وما عند الله خير للأبرار)(1).

لقد لخص الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في هذه الخطبة الكثير من الأشياء، وأوضح للمسلمين انه عازم على تغيير الواقع المالي لدولة المسلمين، وإرجاع الدولة إلى ما كانت عليه في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويمكن أن نلخص هذا البرنامج بمجموعة من النقاط:

1- أشار الإمام علي (عليه السلام) إلى أن بيعته، كانت تختلف عن بيعة الخلفاء الذين سبقوه، لأنهم لم يتم اختيارهم بالشكل الذي اختير به، إذ بايعه المسلمون عامة ببيعة جماهيرية، بإرادتهم ورغبتهم، ولم تكن تعييناً أو فرضاً من أحد، على الرغم من أنه كان غير راغب في تولي الخلافة، فأصبح أمام خيارين، أما أن يرفض هذه البيعة، ولا يتولى أمر المسلمين، وهذا أمر صعب نتيجة للإلحاح الذي مارسه المسلمون عليه، وحاجة الدولة الإسلامية له، أو أن يقبل بالخلافة، وهو أمر صعب أيضا، في ظل الظروف التي تمر بها

ص: 73


1- الخصيبي، الهداية الكبرى، ص 271، ابن عبد ربه، العقد الفريد، 6 / 36 - 37، الطوسي، الأمالي، ص 729، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7 / 36 - 37، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 17

الدولة الإسلامية في تلك الفترة، فاختار الطريق الثاني من أجل إرجاع الأمور إلى ما كانت عليه في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، مهما كانت شدة المقاومة لهذا الطريق.

2- بينّ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في خطبته، أن السياسة المتبعة في عهد الخليفة عثمان، لم تكن موضع استحسان من قبل المسلمين، لاسيما ذلك الجانب المتعلق بأموالهم، وإدارة هذه الأموال (فأفضى الأمر إلى عثمان، فعمل ما أنكرتم وعرفتم ثم حصر وقتل)، وفي هذا الأمر إشارة واضحة، إلى أن الذين ثاروا على الخليفة عثمان كانوا من الصحابة، أو إن الصحابة كانوا مشتركين في الثورة، وهذا يؤيد ما ذهبنا اليه من أن روايات سيف بن عمر، التي ذكر فيها ان الذين قاموا بالثورة على الخليفة هم مجموعة من الخارجين على القانون غير صحيحة.

3- جعل الإمام علي (عليه السلام) نفسه واحداً من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، وسيعمل من أجل الإصلاح، لأن الوضع القائم في الدولة الإسلامية غير طبيعي، ويحتاج إلى جهد وعمل جماعي، بغية الوصول إلى الدولة التي أرادها الإسلام، وخلال هذا العمل قد تتضرر مصالح بعض الافراد، لذلك يجب أن يتمتع هؤلاء الأفراد بنكران الذات من أجل صلاح المجتمع، وهذا يعني أنهم يجب أن يقبلوا بالحلول، حتى ولو كانت تتعارض مع مصالحهم، مادام الهدف هو الإصلاح.

4- أراد الإمام علي (عليه السلام) أن يعلم الناس أن الذي يتولى من أمور المسلمين شيئا، يجب عليه أن يكون خادما لهم، لا أن يكون سيفا مسلطا عليهم، يتحكم بهم ويأكل حقوقهم، أو يهبها لمن يشاء، لأن الولاية تكليف وليست تشريفاً، والله سبحانه وتعالى وراء الولاة، يراقب أعمالهم ويكافئهم

ص: 74

على قدر هذه الأعمال، وفي هذا إشارة إلى عزمه على الإصلاح الإداري، وذلك بتعيين كادر إداري بمستوى المسؤولية المكلف بها، وهذا الأمر هو جزء من خطة الاصلاح التي سيتبعها في خلافته.

5- ألغى في هذه الخطبة الفروق الطبقية، التي وضعها الخليفة عمر، وسار عليها الخليفة عثمان من بعده، وذلك إنه قرر العودة إلى النظام المالي، الذي كان سائدا في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعرف من خلال استقرائه للواقع، إنه سيواجه معارضة من قبل المنتفعين من السياسات القديمة، لذلك أراد أن يضع بين أيديهم كل الأمور وبشفافية، ما داموا هم أصحاب الاختيار في أمر الخلافة، كي يعينوه على أنفسهم وعلى من لا يرضون بالحق، وهذا يعني إنه شخص أسباب المشكلة التي تمر بها الدولة الإسلامية، والتي تتلخص في الهوة الشاسعة التي خلقتها السياسة المالية السابقة بين المسلمين، وحالة اللااستقرار التي نتجت عنها، وقرر معالجة هذه المشكلة بالعودة إلى المساواة بين المسلمين في توزيع العطاء، فلا يوجد فرق بين المهاجرين والأنصار من الصحابة وبين غيرهم من المسلمين، لأن الفريق الأول قدموا التضحيات للإسلام، وهذا شيء ثوابه عند الله في الدار الآخرة، أما العطاء فيوزع بالتساوي، لأن الدنيا ليست للثواب وإنما الثواب في الآخرة، التي خيرها أفضل من كمية من الدراهم، تخرج صاحبها مما قدمه للإسلام، كما حدث معهم بعد أن امتلكوا الثروات.

وفي ظل الظروف غير الطبيعية التي تمر بها الدولة الإسلامية، لم تكن كل الأطراف راضية عن البرنامج الذي طرحه الخليفة في اليوم الأول لتوليه الخلافة، لاسيما تلك الأطراف التي كونت الثروات بالاعتماد على التمييز بالعطاء، لأن هذا البرنامج سيجردها من امتيازات، كانت تعتقد أنها أصبحت حقوقاً لها، نتيجة لمرور فترة

ص: 75

طويلة على اكتسابها، فتشكلت طبقة من المعارضين لسياسة الإصلاح التي أرادها الإمام علي (عليه السلام)، وهذه الطبقة كانت تشتمل على صنفين من المعارضين:

الصنف الأول: هم من الذين استفادوا من سياسة التفضيل في عهد الخليفة عمر ابن الخطاب، الذي ميز بين المسلمين على أساس القدم في الإسلام والجهاد وغير ذلك من المقاييس، وهو أمر كان الخليفة يستند فيه إلى رأي شخصي ووفق معيار الخدمة، التي قدمها الشخص للإسلام في بدايته، لكن لا يساوي بين خدمات قدماء الصحابة مع المسلمين الآخرين، على الرغم من أن هؤلاء يقدمون جهدا لا يختلف عن أولئك في حروب الفتوح الإسلامية والدفاع عن الدولة.

الصنف الثاني: هم أولئك المستفيدون من التفاوت الذي سار عليه الخليفة عثمان بن عفان، والذي لم يكن يستند على معيار محدد، إذ بدأ يعطي أموال المسلمين، لمجموعة من الأمويين، والمقربين منه من الصحابة وغيرهم بدون حق.

وهؤلاء كانت خطورتهم أكبر على السياسة الإصلاحية من الصنف الاول، لاسيما أن أكثرهم لم يكن من الصحابة الأوائل الذين أسسوا الدولة، بل كانوا من المعارضين للدعوة الإسلامية هم وعوائلهم، ولم يدخلوا الإسلام حتى رأوا أنهم لا يستطيعون مقاومته، وهؤلاء عندهم عداء شخصي للإمام علي (عليه السلام)، لأنه قتل آباءهم واخوانهم في معارك الإسلام الأولى، عندما كانوا مشركين لاسيما بني أمية، الذين فقدوا الكثير من افرادهم على يد الإمام علي (عليه السلام) في تلك المعارك، لذلك عندما دخلوا الإسلام عند فتح مكة، لم يستطيعوا أن ينسوا هذا العداء واستمر معهم إلى أن تولى الإمام علي (عليه السلام) الخلافة فأظهروه، وقد عبر الوليد بن عقبة الأموي عن هذا المعنى بقوله للإمام علي عندما تولى الخلافة: (إنك قد وترتنا جميعا، أما أنا فقتلت أبي يوم بدر صبرا، وخذلت أخي يوم الدار، وأما سعيد فقتلت أباه يوم

ص: 76

بدر في الحرب)(1).

كذلك فإن الصنف الأول كانوا من كبار الصحابة، الذين امنوا بالله وبالدعوة الإسلامية، وقدموا الكثير من التضحيات من أجل الإسلام، وهؤلاء كانوا حريصين على الإسلام، والكثير منهم يريد الإصلاح، وهم الذين اختاروا الإمام علياً لإصلاح الواقع الإسلامي، لكنهم لم يكونوا كلهم بهذا المستوى الذي أشرنا إليه، لأن قسماً منهم كان يريد من خلال الثورة على الخليفة عثمان بن عفان، تحقيق مكاسب سياسية إلى جانب المكانة الاجتماعية والمالية التي يتمتع بها، مثل الزبير وطلحة، اللذين تصورا أن وصول الإمام علي (عليه السلام) إلى الخلافة، فتح الباب أمامهم للتحكم بإدارة الدولة وأموالها، فقالوا للخليفة: (إنه قد نالتنا بعد رسول الله جفوة فأشركنا في أمرك، فقال: أنتما شريكاي في القوة والاستقامة، وعوناي على العجز والأود)(2)، لكن هذا الأمر لم يشبع رغبتهما في تولي السلطة، فطلبوا منه أن يتولوا مسؤولية إدارة بعض الولايات الإسلامية، مثل البصرة والكوفة إلا أنه رفض هذا الأمر(3)، لأنه لا يريد أن يجعل طالبي السلطة متحكمين بأموال المسلمين، ثم تفاجئوا بإعلان الخليفة في اليوم الأول لحكمه إلغاء الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها، والتي كانت تعني لهم مكانة اجتماعية، اعتادوها إلى جانب المكاسب المالية، لاسيما أن الخليفة لم يلغ التفاوت في العطاء فقط، بل انه ألغى الطبقية الاجتماعية التي كانت سائدة في مجتمعات العرب

ص: 77


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 178، ابن أعثم، كتاب الفتوح، 2 / 443، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7 / 38
2- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 180، وقد روى ابن قتيبة نفس الرواية بلفظ آخر، الإمامة والسياسة، 1 / 71
3- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 71، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 180، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 451 - 452

في الجاهلية، والتي يبدو أنها عادت إلى المجتمع الإسلامي بصورة جديدة، فطرح ضمن برنامجه الإصلاحي هذه الفكرة فقال: (إن آدم لم يلد عبدا ولا أمة، وإن الناس أحرار، ولكن الله خول بعضهم بعضا، فمن كان له باء فصبر في الخير، فلا يمن به على الله تعالى، ألا وقد حضر شيء ونحن مسوون فيه بين الأسود والأحمر)(1)، فاستشعروا بخطورة الموقف على الامتيازات التي حققوها، فقال مروان بن الحكم لطلحة والزبير انه يقصدكم بهذا الكلام(2).

وفي الوقت نفسه الذي واجه هذا البرنامج معارضة في اليوم الأول لطرحه من قبل الطبقات المستفيدة من النظام السابق، كان مصدر فرح للطبقات المسحوقة في المجتمع الإسلامي، إذ أنه أرجع اليها الثقة بالإسلام الذي آمنت به، وشعرت أن الثورة التي قامت بها، كانت نتيجتها التغيير في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي لدولة المسلمين، وقد نستشف من خلال تمسك هذه الطبقات الاجتماعية، بتولية الإمام علي (عليه السلام) للخلافة في العاصمة المدينة، ومجيء الوفود من الأمصار الإسلامية، من أجل بيعة الإمام علي بالخلافة(3)، أنها كانت تعرف أنه سيعيد إليها حقوقها، ويرفعها ليساويها بغيرها من الطبقات التي نتجت عن السياسة المالية السابقة، أو أنه سيقوم بإلغاء الطبقات، ويعيد مجتمع المسلمين إلى ما كان عليه الحال في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، خالياً من الطبقية والتفاضل بين الناس، تحت أي مسمى ولأي سبب، لاسيما أنهم يعرفون أن الإمام علياً (عليه السلام)، كان معترضا على التفضيل بالعطاء بين المسلمين، على الرغم من أنه يعلم أن الخليفة عمر ميز بين

ص: 78


1- الكليني، الكافي، 8 / 69، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 134
2- الكليني، الكافي، 8 / 69، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 134
3- ابن أعثم، كتاب الفتوح، 2 / 438 - 441

الناس على أساس السبق إلى الإسلام، وكان معترضاً على بذل الأموال من غير حق، لمجموعة من الناس لا يستحقونها في خلافة عثمان بن عفان.

لذلك كانت الأطراف التي تضررت من طرح هذا البرنامج، مستعدة لعمل أي شيء من أجل إفشاله، حتى لو كان الثمن القتال بين المسلمين، وإراقة دمائهم وهو ما حدث بالفعل، إذ خاض الإمام علي (عليه السلام) ومعه المسلمون معارك مع هؤلاء ومع من اتبعهم، لأن الذي فقدوه لم يكن شيئاً بسيطاً يمكن التنازل عنه بسهولة، إذ فقدت هذه الطبقة المتنفذة الأموال العظيمة، التي كانت تأخذها من دون ان تحاسب من أحد، بل إنها كانت تأخذها بمباركة الدولة، فكان هذا البرنامج بمثابة صفعة قوية للتكبر الجاهلي الذي مثلته هذه الطبقات، وانتصار للمستضعفين من المسلمين، الذين عبروا عن رفضهم لهذا الواقع بالثورة على الإدارة المالية في الدولة الإسلامية في عهد الخليفة عثمان، وتحالف معهم الكثير من الصحابة المستفيدين من سياسة التفضيل، لأسباب شتى، بعضها يعود إلى أن قسماً منهم شعروا بأن الإسلام مهدد من مجموعة من الولاة الذين كانوا يشرفون على إدارة الدولة، فثاروا من أجل تغيير هذا الواقع، والقسم الآخر تحالف معهم لأنه رأى أن الأموال أسهمت في ابتعاد الصحابة عن أهداف الإسلام، في حين تحالف قسم من هؤلاء مع الثوار نتيجة لخلاف شخصي مع الخليفة، أما بسبب مالي أو أنه كان يتطلع إلى مكانة سياسية، وهؤلاء كانوا أخطر الفئات التي تحالفت مع الثوار، لأنهم كانوا يريدون الصعود على ظهور هؤلاء الثوار، من اجل تحقيق أهدافهم، ولما شعروا بأن الواقع الجديد جاء ضد مصالحهم جردوا كل أسلحتهم من أجل مقاومته، على الرغم من أنهم كانوا أحد الأسباب في صنع هذا الواقع.

ص: 79

وكان الإمام علي (عليه السلام) يعرف كل تلك الاتجاهات في المجتمع الإسلامي، وعلى الرغم من ذلك أصر على تطبيق برنامجه الإصلاحي، الذي كان الهدف منه القضاء على الطبقية في المجتمع الإسلامي، إذ أنه كان يرى ان الإكثار والترف، الذي اتصف به الصحابة باطل، لاسيما إذا كان هذا الإكثار والترف على حساب جوع المسلمين وحاجتهم، كذلك فإن العدالة هي أن ينتفع الجميع من نعم الحياة، والتفاوت والطبقية التي حدثت أوجدت طبقات من الفقراء المحرومين، وهذا يتناقض مع الأسس التي قام عليها الإسلام، ونادى بها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأهمها العدالة الاجتماعية بجانبيها المادي والمعنوي، والعدالة تتناقض مع وجود غنى فاحش وفقر مدقع، هذا الفقر الذي يزعزع أركان المجتمعات، ويؤدي بها إلى الزوال، كما عبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذا الأمر بالقول:

(كاد الفقر أن يكون كفرا)(1).

ص: 80


1- الصدوق، الخصال، 1 / 12

الفصل الثاني واردات الدولة الإسلامية

اشارة

ص: 81

ص: 82

بيت المال

هو الاصطلاح الذي اطلق على المؤسسة التي قامت بالإشراف على ما يرد من الأموال، وما يخرج منها في أوجه النفقات المختلفة، كما أطلق عليه بيت مال المسلمين، وهذه العبارة تبين الاتجاه الديني للأموال(1)، وعندما تأسست الدولة الإسلامية في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لم تكن هناك حاجة إلى إنشاء بيت مال، من أجل حفظ الأموال أو جردها، أو غير ذلك من العمليات الحسابية، لأن واردات الدولة كانت بسيطة جدا، وكانت الأموال التي ترد اليها توزع بسرعة على المستحقين، دون أن تكون هناك حاجة إلى خزن الأموال، مادام المسلمون في تلك الفترة محتاجين لهذه الأموال، ولم يرد في المصادر التاريخية إشارة إلى أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد خصص مكاناً لخزن الأموال، إذ أن الأموال للدولة الإسلامية من الجزية والصدقات وغيرها، توضع في المسجد ثم توزع على المسلمين في نفس يوم وصولها، ولا تؤخر إلى اليوم الذي يليه(2)، فكان المسجد في هذه الفترة بمثابة المقر الحكومي للدولة، علاوة على وظيفته الدينية، اما اصطلاح بيت المال الذي قد يرد في بعض الكتب التاريخية في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)(3)، فلا يدل على المكان

ص: 83


1- خولة شاكر، بيت المال وتطوره، ص 14، علي، دراسات في التاريخ العربي، ص 56
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 229، المجلسي، بحار الأنوار، 97 / 60، علي، دراسات في التاريخ العربي، ص 56
3- الجوهري، السقيفة وفدك، ص 116

بقدر دلالته على الأموال الواردة للدولة.

وفي عهد أبي بكر كانت ترد بعض الأموال إلى الدولة الإسلامية، أكثر مما كانت ترد في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لاسيما ان الفتوح الإسلامية بدأت في عهد أبي بكر، ونتج عن ذلك وصول أموال من الغنائم والجزية والصدقات وغيرها، الأمر الذي يجعل وجود مكان لجمع هذه الأموال، قبل تقسيمها أمراً لابد منه، وقد ذكرت بعض الروايات أن أبا بكر كان عنده بيت يخزن فيه الأموال، وهذا البيت كان في منزله في منطقة تقع في ضواحي المدينة تدعى السنح(1)، ويبدو أن هذا البيت كان غرفة من غرف داره، لأن المصادر لم تذكر لنا انه كان يحتوي على سجلات، أو عمال يعملون فيه، وذكرت فقط أنه كان في بيته توضع الأموال الواردة للدولة، وكان أبو عبيدة بن الجراح يتولى شؤون بيت المال في عهد أبي بكر(2)، وفي بعض المصادر إن عبد الله بن الارقم كان يتولى بيت المال في عهد أبي بكر(3)، ثم تذكر المصادر أنه نقل بيت المال معه إلى داره الجديدة في المدينة، وهذا البيت كان بسيطاً جدا، لأن الصحابة اشاروا على الخليفة بأن يضع عليه حرساً فرفض الخليفة الأمر(4)، ويبدو ان سبب هذا الرفض ناتج عن قلة الأموال الواردة للدولة، وتوزيعها عند وصولها، فتنتفي

ص: 84


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 213، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 30 / 320، البكري، معجم ما استعجم، 3 / 760
2- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 82
3- ابن عساكر، تاريخ دمشق، 4 / 336، وعبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف الزهري أسلم في السنة الثامنة للهجرة عند فتح مكة، وكان من كتاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعمل في بيت المال في عهد الخليفة عمر بن الخطاب ومدة من خلافة عثمان، ابن الأثیر، أسد الغابة، 3 / 115
4- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 213، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 30 / 320

الحاجة إلى وجود حراسات لبيت المال، ويؤيد ذلك الرواية التي تذكر ان الخليفة عمراً وبعض الصحابة، دخلوا إلى بيت المال بعد وفاة أبي بكر، فلم يجدوا فيه إلا درهما واحدا(1).

وفي خلافة عمر بن الخطاب ظهرت الحاجة إلى انشاء بيت مال للمسلمين، من أجل استيعاب الأموال الكثيرة التي كانت ترد للدولة نتيجة للفتوح الإسلامية، الأمر الذي دفع الخليفة إلى التفكير بإنشاء مؤسسة تشرف على إدارة الأموال(2)، لاسيما أن الدولة كانت في حالة حرب مستمرة على اكثر من جهة، الأمر الذي يدفعها إلى إيجاد أنظمة ثابتة لتوزيع رواتب الموظفين فيها من ولاة وقضاة وجنود وغيرهم، وتذكر الروايات إن الدولة الإسلامية لم تكن قبل عهد عمر بن الخطاب، قد تعودت على استحصال مبالغ مالية كبيرة، لذلك كان رأي بعض الصحابة جرد الموظفين الذين يعملون في الدولة، وتدوين أسمائهم في سجلات أطلق عليها اسم الدواوين، ثم تحفظ هذه السجلات في مكان تشرف عليه الدولة(3)، ويمكن أن نعد هذه الخطوة البداية الرسمية لإنشاء بيت المال في عهد الخليفة عمر، وذلك لأن كثرة عدد المسلمين المشتركين في الفتوح، جعل هذه السجلات كبيرة وكثيرة، ومن الصعب وضعها في بيت الخليفة كما كان عليه الحال في عهد أبي بكر، لأن كل قبيلة كان لها سجل يدون فيه اسماء مقاتليها وموظفيها(4)، ونتيجة لاستحداث عمر بن الخطاب لبيت المال،

ص: 85


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 213
2- خولة شاكر، بيت المال وتطوره، ص 26، علي، دراسات في التاريخ العربي، ص 57
3- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 153، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 278، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 12 / 94
4- البلاذري، فتوح البلدان، ص 268، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 279

اعتقد بعض الرواة أن الخليفة عمر أول من وضع بيت مال للمسلمين(1)، إلا أن هذا الأمر غير صحيح، لأننا رأينا أَن الخليفة أبا بكر كان عنده بيت مال، لكن ربما أراد هؤلاء أن يشيروا إلى أن الخليفة عمر، أول من رتب الدواوين وسجل أسماء المقاتلين، ووضع هذه السجلات في بيت المال، فكان بيت المال في عهده مؤسسة كاملة، تشرف على الأموال، وقد أشرنا إلى أن الخليفة أبا بكر، رفض أن يضع حرساً على بيت المال، وفي هذا دلالة على بساطة هذه المؤسسة في عهده، وقلة الأموال الواردة إليها، لكن في عهد الخليفة عمر كبرت هذه المؤسسة، وأصبح لها مكان خاص، حتى أن احدى الروايات تشير إلى أن أهل الشورى الذين رشحهم الخليفة عمر من أجل اختيار خليفة اجتمعوا في بيت المال(2).

وتبع هذا التوسع في هذه المؤسسة تعيين مجموعة من الموظفين، ليكونوا مسؤولين عن إدارة بيت المال، فعينّ أحد الصحابة لتولي مسؤولية بيت المال وهو عبد الله بن الأرقم الزهري(3)، وعُينّ معه آخرون لتولي إدارة هذه الأموال، فكان الصحابي معيقب بن أبي فاطمة يعمل معه في بيت المال(4)، وعبد الرحمن بن عبد القاري حليف

ص: 86


1- ابن شبة النميري، تاريخ المدينة، 3 / 857
2- ابن شبة النمیري، تاريخ المدينة، 3 / 926، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 295، ابن كثیر، البداية والنهاية، 7 / 164
3- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 112، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 12 / 221، وهو من الصحابة الذين اسلموا في عام الفتح وكان من كتاب النبي، ثم استعمله أبو بكر للكتابة، وبعدها عمل في بيت المال في عهدي عمر وعثمان، ابن الأثیر، أسد الغابة، 3 / 115
4- ابن شبة النمیري، تاريخ المدينة، 2 / 700، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 7 / 46، معيقب بن أبي فاطمة الدوسي، حليف بني عبد شمس أسلم في مكة وهاجر إلى الحبشة، ثم عاد إلى المدينة قبل صلح الحديبية، عمل في بيت المال في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وتوفي في عهد الخليفة عثمان بن عفان، ابن حجر، الإصابة، 6 / 153

بني زهرة(1)، كذلك كان يرفأ غلام عمر بن الخطاب يعاون هؤلاء في العمل، وربما كان حلقة الوصل بين الخليفة ومسؤول بيت المال، لأن الخليفة إذا احتاج أن يعطي أحداً أموالاً من بيت المال، أو يرسل أموالاً إلى بيت المال يقوم يرفأ بهذه المهمة(2).

وعلى الرغم من قلة عدد هؤلاء الأشخاص الذين ذكرتهم المصادر، إلا أننا نعتقد ان هناك عدداً اكبر من الموظفين، لكن هذه المصادر أغفلت ذكرهم، وذلك لأن إدارة الأموال، تحتاج إلى كادر إداري من أجل إحصاء وخزن وتوزيع الأموال، وكلما كانت الأموال كثيرة، احتاج بيت المال إلى عدد أكبر من الموظفين، من أجل القيام بهذه الأعمال.

وعلاوة على وجود بيت المال الرئيس في العاصمة، الذي ترد إليه الأموال من مختلف ولايات الدولة، فقد أسست في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، بيوت أموال في الولايات الإسلامية الكبرى، مثل الكوفة والبصرة ودمشق ومصر وغيرها، وذلك لأن الأموال التي تجبى للدولة الإسلامية، كانت توضع في بيوت الأموال التابعة لتلك الولايات أولا، ثم ترسل إلى العاصمة بعد استيفاء الحصص المقررة لها، ويمكن أن نستدل على هذا الأمر من الإشارات التي وردت في بعض المصادر، إذ ذكر البلاذري وغيره أن الخليفة عمراً عينّ خالد بن الحارث على بيت المال بأصبهان(3)،

ص: 87


1- ابن حنبل، العلل، 2 / 115، ابن حجر، الإصابة، 5 / 34، عبد الرحمن بن عبد القاري ولد في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وسكن في المدينة، عمل في بيت المال في عهد الخليفة عمر، وتوفي في سنة 85 ه، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 6 / 202 - 203
2- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 5 / 85، ابن شبة النمیري، تاريخ المدينة، 2 / 699، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 287
3- فتوح البلدان، ص 230، خالد بن الحارث النصري، ويقال خالد بن غلاب، وغلاب اسم أمه أسلم في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتولى بيت مال اصبهان في عهد عمر، ثم أصبح واليا على اصبهان في عهد عثمان، وعندما قتل عثمان سكن في الطائف، ابن الأثیر، أسد الغابة، 2 / 90، ابن حجر، الإصابة، 2 / 212

كما ذكرت الروايات ان سعد بن أبي وقاص الذي أسس الكوفة، بنى بيت المال قريباً من القصر الحكومي في الكوفة، لكن هذا البيت قد سرق في عهده، بعد أن ثقب احد الأشخاص جدرانه، فكتب له الخليفة عمر أن يجعل بيت المال أمام المسجد، وبهذه الطريقة يكون أمام أنظار المسلمين، ولا يستطيع أحد سرقته، لأن المسلمين يرتادون المسجد في الليل والنهار(1)، وعندما ولى الصحابي عمار بن ياسر على الكوفة، عيّن معه الصحابي عبد الله بن مسعود مسؤولا على بيت المال(2)، ولا يستبعد ان يكون هناك مجموعة من الموظفين كانوا يعملون مع عبد الله بن مسعود في بيت المال، لكثرة الأموال الواردة وصعوبة إدارتها من قبل شخص واحد، ويمكن ان نستقرأ من تعيين عبد الله بن مسعود على بيت المال، ان الإدارة المالية في عهد الخليفة عمر أصبحت غاية في الأهمية لذلك فصلها عن إدارة الولاية، وجعل مسؤول بيت المال مرتبطاً به مباشرة، ويتمتع بنوع من الاستقلالية، لذلك نرى أن الخليفة عمر بن الخطاب، كان يذهب إلى مسؤول بيت المال من أجل استقراض بعض الأموال، التي يحتاج إليها في شؤونه الخاصة، فيكتب عليه هذا المسؤول كتابا بقيمة الأموال المأخوذة، وعندما يحين موعد دفع هذه الأموال، يأتيه هذا الموظف من أجل استيفاء هذه الأموال(3)، بغض النظر عن كون عمر بن الخطاب هو الخليفة والمسؤول الأول عن الأموال، لأن هؤلاء الموظفين كانوا يشعرون أنهم أمناء للمسلمين وليس لشخص الخليفة، وهذه

ص: 88


1- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 149، ابن قدامة، المغني، 6 / 226
2- الصنعاني، المصنف، 6 / 100، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 227، المجلسي، بحار الأنوار، 31 / 16
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 358، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 276

المسؤولية امام الله بالدرجة الأولى قبل أن تكون أمام الخليفة.

واستمر الحال كذلك في عهد الخليفة عثمان بن عفان، فلم يرد في المصادر ما يشير إلى أنه أستحدث بيوت أموال جديدة، ويبدو أنه اكتفى ببيوت الأموال التي بنيت في عهد الخليفة عمر في الولايات الإسلامية، كما استمر مسؤول بيت المال يتمتع بنوع من الاستقلالية في إدارة بيت المال، ولا يستطيع الخليفة أو الوالي أن يأخذ من بيت المال دون ان يأذن له ذلك الموظف، فاستمر عبد الله بن الأرقم مسؤولا عن بيت المال في العاصمة المدينة المنورة(1)، وعبد الله بن مسعود مسؤولا عن بيت مال الكوفة، غير أن المصادر لم تذكر لنا أسماء بقية الموظفين في الأمصار الإسلامية، ويبدو أن السبب في ذلك يعود إلى الأهمية القصوى التي كانت تمثلها العاصمة، ونسبة الأموال المحمولة اليها، وأهمية مدينة الكوفة الاقتصادية والسياسية بالنسبة للمسلمين.

لكن سياسة الاستقلال التي تمتع بها مسؤول بيت المال لم تستمر طويلا، إذ اختلف تعامل الخليفة عثمان بن عفان مع بيت المال والمسؤولين عنه بعد فترة من توليه الخلافة(2)، فبعد أن كان المسؤول عن بيت المال، يمتلك مساحة واسعة من الحرية في إدارة الأموال الموجودة في بيت المال، حاول الخليفة أن يجعل هذا المسؤول مجرد موظف يعمل عنده، وليس موظفا في الدولة الإسلامية يرعى شؤون المسلمين، واعتبر الأموال الموجودة في بيت المال ملكا خاصا له ولأسرته من بني أمية، فطلب من عبد الله بن الأرقم خازن بيت المال بعض الأموال، لكن مسؤول بيت المال طلب منه صكا، يكتب فيه كمية الأموال المستقرضة من بيت المال، لأن هذه الأموال

ص: 89


1- ابن الأثیر، اسد الغابة، 3 / 115، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 36، المجلسي، بحار الأنوار، 31 / 219
2- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 64، ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 45

للمسلمين وعبد الله بن الأرقم مسؤول عنها، لكن الخليفة رفض الأمر، وقال له:

(إنما أنت خازن لنا، فإذا أعطيناك فخذ، وإذا سكتنا عنك فاسكت)، لذلك اضطر عبد الله بن الأرقم إلى الذهاب إلى المسجد ورمي مفاتيح بيت المال للمسلمين، ثم قال لهم: (أيها الناس: زعم عثمان أني خازن له ولأهل بيته، وإنما كنت خازنا للمسلمين، وهذه مفاتيح بيت مالكم)(1)، فأخذ الخليفة عثمان مفاتيح بيت المال، وأعطاها لزيد ابن ثابت، الذي لم يكن يسأله كيف ينفق الأموال ولمن يعطيها(2)، وأمره أن يعطي من بيت المال ثلاثمائة ألف درهم لابن الأرقم، فرفض الأخير أن يأخذ هذه الأموال، لأنه يرى أن عمله لا يستحق هذه الكمية الكبيرة من الأموال، فكيف يدفع له هذه الأموال من بيت مال المسلمين، وإذا كانت هذه الأموال من أموال الخليفة عثمان الخاصة، فهو لا يحب أخذها لأنه لا يريد أن يكلف الخليفة(3).

وفي هذه المرحلة حدث الانقلاب في السياسة المالية للدولة، الأمر الذي لم يرق للكثير من الصحابة، الذين كانوا يعدون الخليفة مجرد موظف في الدولة محدود الصلاحية، وليس ملكا مطلق الصلاحيات يتحكم بهم بالطريقة التي يريدها، وقد

ص: 90


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 168 - 169، المفيد، الامالي، ص 70، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 36، ابن حجر، الإصابة، 2 / 212، المجلسي، بحار الأنوار، 31 / 481
2- زيد بن ثابت من بني النجار الخزرج الأنصاريین، كان عمره احدى عشرة سنة عندما هاجر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة فدخل الإسلام، شارك في بعض المعارك في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتوفي في زمن معاوية بعد سنة اثنین وأربعین، ابن الأثیر، أسد الغابة، 2 / 221 - 222، وقد كان زيد مواليا للخليفة عثمان، لأنه أعطاه أرضاً زراعية كبیرة اسمها الأشاريف، كما أعطاه عشرة الآف درهم، ينظر ابن أعثم، كتاب الفتوح، 2 / 419، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 7 - 8
3- البلاذري، انساب الأشراف، 5 / 58، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 168 - 169، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 36، القمي، الأربعین، ص 584، المجلسي، بحار الأنوار، 31 / 220

قدمنا في الفصل الأول قسماً من الاعتراضات التي واجهتها سياسة الخليفة عثمان المالية.

ولم يكن هذا التصادم في العاصمة فقط، بل تعداه إلى الولايات الإسلامية، إذ تذكر الروايات ان عبد الله بن مسعود، الذي استمر مسؤولا عن بيت مال الكوفة في عهد الخليفة عثمان، خاصم سعد بن أبي وقاص والي الكوفة على أموالٍ، كان الأخير قد اقترضها من بيت المال، وعندما طالبه عبد الله بن مسعود بها لم يؤدها له، فارتفع الأمر إلى الخليفة عثمان، فعزل سعد بن أبي وقاص عن ولاية الكوفة، وولى بدلا منه الوليد بن عقبة أخوه لأمه عليها(1)، وهذا يعني ان مسؤول بيت المال، وهو من الصحابة الاوائل، لم يكن يقيم وزنا لأي شخص، مهما كان منصبه في الدولة، إذا أراد التجاوز على المال العام، لأنه كان يشعر أن الحفاظ على الأموال هي مسؤولية أمام الله والمسلمين أولا، قبل أن تكون أمام الحكام، وهذا الأمر تعوّد عليه الصحابة منذ عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لذلك لم يستجيبوا لرغبات الحكام الأنانية، ووقفوا بوجه هذه الرغبات.

إلا أنهم لم يستطيعوا مقاومة السياسة المالية للخليفة عثمان، لاسيما انه أطلق يد أسرته من بني أمية في أموال المسلمين(2)، لذلك عندما اقترض والي الكوفة الجديد الوليد بن عقبة مائة الف درهم من بيت المال، ولم يردها لم يعزله الخليفة، كما فعل مع سعد بن أبي وقاص، ولم يطالبه بها لأنه أخوه ومن بني أمية، وعندما ألح عبد الله ابن مسعود على الوالي من أجل إرجاعها إلى بيت المال، كتب الوالي إلى الخليفة عثمان

ص: 91


1- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 311، ابن كثير، البداية والنهاية، 7 / 170
2- ذكرنا في الفصل الأول جزءاً من العطايا التي منحها الخليفة لأقربائه من بني أمية، ولا نريد إعادته، لأنه يحتاج إلى بحث منفرد

يشكو مسؤول بيت المال، وعندها أرسل الخليفة عثمان كتابا لعبد الله بن مسعود، يذكر فيه انه مجرد موظف عند الخليفة، استقال عبد الله بن مسعود على أثر ذلك، لأنه عرف أن الأمور تغيرت في عهد الخليفة عثمان، وانتقلت ملكية بيت المال للخليفة وأسرته(1).

لذلك عندما تولى علي بن أبي طالب الخلافة، حاول إصلاح الأوضاع غير الطبيعية في بيت مال المسلمين، وأول إجراء اتخذه هو إرجاع ملكية بيت المال للمسلمين، واعتبر الخليفة نفسه مسؤولا عن أموالهم، وليس له حق التصرف بتلك الأموال بدون رضاهم، فقال للمسلمين في العاصمة المدينة المنورة في اليوم الذي بويع فيه بالخلافة: (ألا إن مفاتيح مالكم معي، ألا وإنه ليس لي أن آخذ منه درهما دونكم رضيتم ؟ قالوا: نعم)(2)، وهذا يشبه العقد مع المسلمين الذين بايعوه بالخلافة، كما يعني أن الخليفة عبارة عن موظف يمتلك مجموعة من الصلاحيات، ومن ضمن هذه الصلاحيات إدارة أموال المسلمين والحفاظ عليها، وليس له حق التصرف في هذه الأموال بطريقة شخصية، لأنها ليست أموالاً خاصة له، ويؤيد ذلك الرواية التي تذكر ان الخليفة دخل إلى بيت المال من أجل تدقيق الحسابات، فأتاه طلحة والزبير، فأطفأ الخليفة السراج الذي في بيت المال، وأمر بإحضار آخر من بيته، ولما سألاه عن ذلك قال: (كان زيته من بيت المال لا ينبغي أن نصاحبكم في ضوئه)(3).

ثم عمل الخليفة على طمأنة المسلمين بأن بيت المال أصبح في يد أمينة، ولا يستطيع

ص: 92


1- البلاذري، انساب الأشراف، 5 / 30، ابن عبد ربه، العقد الفريد، 2 / 272، المجلسي، بحار الأنوار، 31 / 187 - 190
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 451
3- الهمداني، الإمام علي (عليه السلام)، ص 669

أحد أخذ شيء منه دون رضى المسلمين، وتعهد لهم بالحفاظ على هذه الأموال، وأن لا تنفق إلا بالحق، حتى أنه أعلن لهم انه سوف لن يأخذ أي راتب نظير عمله: (يا معشر المهاجرين والأنصار، يا معشر قريش، اعلموا والله أني لا أرزؤكم من فيئكم شيئا، ما قام لي عذق بيثرب)(1).

أما بالنسبة لبيوت الأموال في عهده، فقد استمرت في الأماكن نفسها، التي كانت عليها في زمن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، لأن المصادر لا تشير إلى أنه بنى بيوت أموال جديدة، وربما كان السبب أن البيوت السابقة، كانت كافية لاستيعاب الأموال الواردة إلى بيت المال، لاسيما أن سياسة الخليفة المالية كانت تقوم على توزيع الأموال بسرعة، عند وصولها ولا يترك في بيت المال أي شيء منها(2)، لذلك انتفت الحاجة إلى بناء أو توسيع تلك البيوت، وعندما ترد أموال كثيرة من الولايات الإسلامية إلى العاصمة، بحيث لا يستوعبها بيت المال، كان الإمام علي يضعها في رحبة المسجد ثم يقوم بتوزيعها(3)، وهذا الإجراء كان يتناسب مع سرعة توزيع الأموال في عهده، وعدم إبقائها في بيت المال، لاسيما أن الروايات تذكر أنه كان يوزع الأموال على المسلمين، كل يوم جمعة ثم يكنس بيت المال ويصلي فيه ركعتين(4)، وهذا الأمر يفسر

ص: 93


1- الكليني، الكافي، 8 / 182، الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 1 / 323، المجلسي، بحار الأنوار، 40 / 107، ومعنى هذا أني لا آخذ من بيت المال شيئاً ما دمت امتلك بساتين نخل في يثرب اعيش منها أنا وابنائي
2- الثقفي، الغارات، 1 / 45 - 50، الكوفي، مناقب الإمام أمیر المؤمنین، 3 / 32، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 199
3- الثقفي، الغارات، 1 / 54 - 56، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 198 - 200، المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 135
4- الثقفي، الغارات، 1 / 46 - 47، الكوفي، مناقب أمیر المؤمنین، 2 / 79، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 199، المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 136

لنا عدم تعيين حراس على بيت المال في العاصمة الكوفة، إذ لا تذكر الروايات أن الخليفة كان يضع حراسات على بيت المال هناك، بينما وضع الخليفة حراساً على بيت مال البصرة، إذ ورد في الروايات ان هناك مجموعة يسمون بالسيابجة(1)، عددهم يزيد عن الأربعين رجلا، كانوا يعملون كحراس لبيت المال(2)، وربما كان هذا الأمر مطبقا في جميع الولايات الإسلامية، لأن الأموال كانت تخزن في بيوت الأموال التابعة لتلك الولايات، لحين نقل حصة العاصمة منها، كما أن هذا العدد الكبير من الحراس على بيت مال البصرة، معناه إدراك الخليفة لأهمية هذه الولاية التي كانت تجبى إليها أموال كثيرة، كذلك حرصه الشديد على أموال المسلمين من الضياع، وبُعد البصرة عن مركز الدولة، لاسيما في بداية حكمه عندما كانت المدينة المنورة هي عاصمة الدولة الإسلامية.

ومن جانب آخر فإن بيوت الأموال لم تكن مهمتها خزن هذه الأموال فقط، بل كان فيها أقسام لخزن المواد الغذائية التي ترد إلى بيت المال، وغيرها من الأشياء من غير النقد، وذلك لأن الإمام علياً كان يأخذ الضرائب من المسلمين وغيرهم، كل حسب الحرفة التي يعمل بها(3)، فكانت ترد إلى بيت المال أشياء كثيرة مثل الأقمشة والحبال والأطعمة وغيرها(4)، وهذه الأشياء توضع في أماكن خاصة بها وليس مع

ص: 94


1- السيابجة هم مجموعة من الجنود الفرس دخلوا إلى الإسلام في الفتوح الإسلامية وسكنوا البصرة، ينظر البلاذري، فتوح البلدان، ص 224
2- البلاذري، فتوح البلدان، ص 224، الثقفي، الغارات، 1 / 311
3- الكوفي، مناقب أمیر المؤمنین، 2 / 34، ابن قدامة، المغني، 10 / 966، المتقي الهندي، كنز العمال، 4 / 501
4- الكوفي، مناقب الإمام أمير المؤمنين، 2 / 78، البلاذري، انساب الأشراف، ص 132، 136

الأموال النقدية، فالطعام يوضع في بيت يسمى بيت الطعام(1)، أو دار الرزق(2)، ويبدو ان هذه القسم من بيت المال كان موجوداً منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب، لأن بعض الروايات تشير إلى أن هناك حصة من المواد الغذائية كانت توزع على المسلمين في عهده(3)، واستمر هذا الأمر في عهد الإمام علي (عليه السلام)(4)، والأطعمة التي توضع فيه هي التي لا تفسد بسرعة مثل الزيت والخل والعسل وغيرها(5)، أما الأطعمة التي تفسد إذا تأخر توزيعها، فتوضع في رحبة المسجد، ثم توزع على المسلمين، خوفا عليها من الفساد(6)، أو تباع في السوق وتوضع أثمانها في بيت المال(7)، كما أن هناك أشياء أخرى مثل العطور والتحف والأواني كانت توضع في المسجد وتوزع حال وصولها(8)، أما الحيوانات التي ترد إلى بيت المال من الزكاة والجزية وغيرها من الضرائب، فقد خصص لها مكان للعناية بها، وتقديم الطعام لها لحين الفراغ من توزيعها(9)، وليس من المعقول وضع هذه الحيوانات في بيت المال، لأنه لا يستطيع استيعابها مهما كان حجمه، وربما كانت توضع في مكان مسيج يسمى

ص: 95


1- البلاذري، انساب الأشراف، ص 134، اليوزبكي، النظم الإسلامية، ص 155
2- البلاذري، فتوح البلدان، ص 131، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 9 / 318
3- البلاذري، فتوح البلدان، ص 131، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 44 / 353، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 12 / 48، العيساوي، النظم الإدارية والمالية، ص 266
4- الكوفي، مناقب أمير المؤمنين، 2 / 74، الكليني، الكافي، 1 / 406، الحلي، كشف اليقين، ص 115
5- البلاذري، فتوح البلدان، ص 131
6- أبو الشيخ، طبقات المحدثين باصبهان، 1 / 279
7- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، 1 / 378، المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 117
8- البلاذري، انساب الأشراف، ص 137
9- الشافعي، كتاب الام، 2 / 67، الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحین، 2 / 339، الشوكاني، نيل الأوطار، 6 / 52

المربد(1)، في أراضٍ تابعة لبيت المال تسمى الحمى.

ومسألة الحمى ابتدأت منذ عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ أنه حمى إحدى الأراضي التي تسمى النقيع(2)، من أجل اتخاذها مرعى لخيول المسلمين التي تشارك في المعارك(3)، وكذلك فعل الخليفة عمر بن الخطاب، إذ حمى مجموعة من الأراضي من أجل اتخاذها مراع تابعة للدولة، إلا أن هذا الإجراء لقي اعتراضات من المسلمين، لأنهم كانوا يريدون رعي حيواناتهم في تلك الأراضي(4)، والذي يبدو ان الخليفة عمر بن الخطاب لم يأخذ مراعي كثيرة من أجل هذا الغرض، لأن الإسلام نهى عن هذه الظاهرة، وسبب هذا النهي هو أن الزعماء في الجاهلية كانوا يحمون المراعي لحيواناتهم، ولا يسمحون للناس الرعي فيها، فمنع الإسلام هذه الظاهرة من أجل تحقيق العدالة بين الناس، فقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):

(المسلمون شركاء في ثلاث في الماء والكلأ والنار)(5)، لذلك لم يحم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سوى بقعة صغيرة من الأرض، تتناسب مع عدد خيول المسلمين المعدة للجهاد والدفاع عن الدولة، ومع حيوانات الصدقة التي هي حقوق فقراء المسلمين، وكذلك كان الحال في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، الذي حمى أرضين هما الشرف(6) والنقيع، من أجل أن ترعى فيها خيول المسلمين المعدة للجهاد، ونعم

ص: 96


1- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، 1 / 364، المجلسي، بحار الأنوار، 40 / 321
2- وادٍ يقع بين مكة والمدينة وفيه مراعٍ طبيعية، ينظر البكري، معجم ما استعجم، 4 / 1323
3- البلاذري، فتوح البلدان، ص 13، الطوسي، المبسوط، 3 / 270، الشوكاني، نيل الأوطار، 6 / 52
4- البلاذري، فتوح البلدان، ص 12، ابن قدامة، المغني، 6 / 167 - 168
5- القزويني، سنن ابن ماجة، 2 / 826، أبو داود، سنن أبي داود، 2 / 140، السرخسي، المبسوط، 23 / 164
6- تقع هذه الأرض في أطراف المدينة المنورة، ينظر ياقوت الحموي، معجم البلدان، 3 / 308

الصدقة، وأصدر تعليمات للموظف المسؤول عن هذه المراعي، أن لا يسمح لنعم عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان بالدخول إليها، لأنها كثيرة لا تستوعبها هذه المراعي، ويسمح لفقراء المسلمين بدخول هذه المراعي(1).

وفي عهد الخليفة عثمان بن عفان حجزت أراضٍ أخرى، علاوة على ما حجز في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والخليفة عمر بن الخطاب، فحمى الخليفة عثمان أراضي الربذة والشرف والنقيع وغيرها، لكن هذا الإجراء جوبه بمعارضة شديدة من قبل المسلمين، حتى أن الثوار الذين قدموا إلى المدينة، كانت إحدى اعتراضاتهم على الخليفة، هي قيامه بحماية مجموعة كبيرة من الأراضي، على الرغم من نهي الإسلام عن هذه الظاهرة، وأسباب الاعتراض التي واجهها الخليفة، لم تكن بسبب حماية الأراضي المخصصة لخيول الجهاد ونعم الصدقة، بل لأنه حمى هذه المراعي ومنع المسلمين من الدخول اليها، من أجل أنعامه وأنعام أسرته من بني أمية، إذ كان يمتلك لوحده ألف بعير(2)، لذلك عندما قال للثوار إن الزيادة في نعم الصدقة هي التي دفعته لاتخاذ هذا الإجراء(3)، لم يقتنعوا بهذا التبرير لأنهم يعرفون السبب، الذي حجزت من أجله هذه الأراضي.

وقد يكون هناك سبب آخر لحجز هذه الأراضي علاوة على ما قدمناه، هي السياسة المالية المتبعة منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب، التي تقضي بتوزيع الأموال في فترات متباعدة قد تصل إلى سنة(4)، والتي استمرت في عهد الخليفة عثمان، لذلك

ص: 97


1- أبو عبيد، الأموال، ص 298، الشوكاني، نيل الأوطار، 6 / 52
2- البلاذري، انساب الأشراف، 5 / 37، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 39
3- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 125، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 390
4- الثقفي، الغارات، 1 / 48، المتقي الهندي، كنز العمال، 12 / 586، المجلسي، بحار الأنوار، 97 / 60

فالنعم التي كانت ترد إلى بيت المال، تبقى فيه مدة من الزمن تحتاج معها إلى مراعٍ كثيرة.

وفي عهد الإمام علي (عليه السلام)، انتهت هذه المشكلة، لأنه لم يكن يبقي الأموال في بيت المال فترة طويلة، سواء أكانت هذه الأموال نقداً أم حيوانات أو غيرها، لذلك انتفت الحاجة إلى حجز المراعي، فكانت السرعة في توزيع الأموال معالجة لهذه المشكلة، التي استمرت فترة من الزمن دون أن تجد الحل في العاصمة المدينة، لاسيما أنها تقع في وسط الصحراء، ولا توجد مناطق كثيرة ترعى فيها الحيوانات، كذلك كان نقل العاصمة إلى الكوفة قد أسهم في حل هذه المشكلة، لأن الأخيرة كانت تقع في وسط أراضي زراعية كثيرة المراعي.

أما موظفو بيت المال في عهد الإمام علي (عليه السلام) فقد ازدادت أعدادهم، وذلك لأن السرعة في توزيع الأموال كانت تتطلب عدداً أكبر من الموظفين يعملون بشكل دائم في بيت المال، حتى أن هؤلاء في بعض الأحيان كانوا يشتكون من عدم قدرتهم على إحصاء وتوزيع هذه الأموال في الأوقات المحددة لذلك، وقد ورد في الروايات إن الأموال من الذهب والفضة وغيرها، كانت ترد بيت المال فيطلب العمال تأجيل التوزيع لليوم التالي: قد أمسينا يا أمير المؤمنين فأخره إلى غد، إلا أن الإمام (عليه السلام) رفض هذا الأمر بشدة، وقال لهم: تضمنون لي أن أعيش إلى غد؟ قالوا: ماذا بأيدينا، فقال لا تؤخروه حتى تقسموه(1)، ويبدو أن سبب رفضه تأخير التوزيع، حتى ولو ليوم واحد، هو انه لا يريد أن يتعود العمال على هذا الأمر، وبالتالي يؤثر على السياسة المالية التي انتهجها في خلافته.

ص: 98


1- الكوفي، مناقب أمیر المؤمنین، 2 / 54، ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، 1 / 364، المجلسي، بحار الأنوار، 40 / 321

وهؤلاء الموظفون الذين يعملون في بيت المال، لم يكن عملهم تطوعا، كما كان عليه حال بعضهم في عهد الخليفة عمر(1)، أو يعتمدون على هبات كبيرة، كما هو عليه الحال في عهد الخليفة عثمان(2)، بل كانوا يأخذون راتبا، يتناسب والعمل الذي يقدموه للمسلمين، وذلك لأن هؤلاء كانوا متفرغين للعمل في عهد الإمام علي (عليه السلام)، وليس عندهم عمل آخر غير هذا(3)، وكذلك فإنهم يعملون باستمرار في بيت المال، لأن الأموال تدخل إلى بيت المال، وتخرج منه بسرعة ولا تبقى فيه كما قدمنا.

ويبدو أن الإمام علياً (عليه السلام) استبدل الكادر الإداري الذي كان يعمل في بيت المال في عهد الخليفة عثمان بن عفان، ضمن السياسة التي اتبعها في إصلاح الإدارة بصورة عامة، لذلك استعان في بداية خلافته بمجموعة من الصحابة، من أجل الإشراف على توزيع الأموال التي وجدها في بيت مال المدينة(4)، لكن هذا الأمر لم يستمر طويلا، إذ عينّ مجموعة من الموظفين لإدارة بيوت الأموال، فكانت أسرة الصحابي أبي رافع تعمل في إدارة الأموال في عهد الإمام علي (عليه السلام)، فكان علي بن أبي رافع هو المسؤول عن بيت المال(5)، ويعمل معه اخوه عبيد الله بن

ص: 99


1- ابن الأثير، اسد الغابة، 3 / 116
2- ابن الأثير، اسد الغابة، 3 / 116، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 36
3- النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 2 / 538
4- النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 384
5- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 119 - 120، الشريف الرضي، خصائص الأئمة، ص 79، الطوسي، تهذيب الأحكام، 10 / 151 - 152، وذكر ابن البراج في كتابه جواهر الفقه ان المسؤول عن بيت المال كان أبو رافع مولى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ينظر ابن البراج، جواهر الفقه، ص 10

أبي رافع، زيادة على عمله كاتبا للإمام فإنه يعمل في بيت المال(1)، وكان ابن التياح مؤذن الكوفة يعمل في بيت المال ايضا(2)، وحملة بن حوية احد المشرفين على بيت المال في الكوفة، العاصمة الجديدة للخلافة الإسلامية في عهد الإمام علي بن أبي طالب(3)، كذلك كان أبو جحيفة عبد الله بن وهب يعمل في بيت مال الكوفة(4)، وتذكر الروايات ان قنبراً كان في كثير من الأحيان هو الواسطة بين الخليفة وعمال بيت المال(5)، وعلى الرغم من أن الروايات لا تذكر الكثير من العمال الذين كانوا يعملون في بيت المال، إلا ان ذلك لا يمنع من وجود عدد كبير من هؤلاء الموظفين، ويمكن أن نستدل على ذلك من إحدى الخطب للإمام علي (عليه السلام)، التي يشير فيها إلى وجود عمال في بيت مال البصرة: (فقدموا على عاملي بها اي البصرة وخزان بيت مال المسلمين، وغيرهم من أهلها، فقتلوا طائفة صبرا، وطائفة غدرا)(6).

والأمر الأخير الذي ينبغي الإشارة اليه، هو أن بيوت الأموال في عهد الإمام علي (عليه السلام) تحتوي على سجلات تحتوي على اسماء الموظفين في الدولة، وغيرهم ممن كانوا يستحقون العطاء أو أموال الصدقات، وهذا الأمر كان سائدا منذ عهد

ص: 100


1- الطوسي، تهذيب الأحكام، 10 / 151، العيساوي، النظم الإدارية والمالية، ص 265
2- احمد الطبري، ذخائر العقبى، ص 101، القندوزي، ينابيع المودة، ص 190
3- البلاذري، انساب الأشراف، ص 132، وذكر السمعاني أن اسمه حملة بن جوية، ينظر، الأنساب، 2 / 132
4- ابن الأثیر، أسد الغابة، 5 / 157، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 11 / 145، وأبو جحيفة هو أحد الصحابة توفي في الكوفة سنة اثنتین وسبعين للهجرة، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 6 / 63
5- الطوسي، تهذيب الأحكام، 6 / 306، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 199، المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 122
6- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 9 / 309، المجلسي، بحار الأنوار، 30 / 19

الخليفة عمر بن الخطاب، واستمر في عهد الإمام علي(1).

أما الموارد التي يعتمد عليها بيت المال فهي:

أ- الخراج

عبّر المسلمون عن الضريبة المفروضة على الأرض بالخراج(2)، وأطلقت تسمية الأراضي الخراجية عل الأراضي المملوكة للدولة والتي فتحت عنوة(3)، ويعد الخراج من أهم موارد بيت مال المسلمين، وهو يعني ما وضع على الأرض من حقوق تؤدى عنها، فهو إما أن يكون مقدارا معينا من المال أو من المحصول، أو من كليهما ويفرض على الأرض الصالحة للزراعة(4).

وفي بعض الاحيان استعمل الفقهاء المسلمون اصطلاح الخراج بمعنى الجزية، وذلك لأن الضريبتين تؤخذان من أهل الذمة من غير المسلمين، لاسيما الجزية لأن الخراج قد يؤخذ من المسلم الذي يشتري أرض الخراج من الذمي(5)، فقال أبو حنيفة:

(ولا يترك ذمي في الإسلام بغير خراج رأسه)(6)، وقالوا: (خراج الرؤوس)(7) أي

ص: 101


1- البلاذري، فتوح البلدان، ص 268، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 277، 279، الهمداني، الإمام علي (عليه السلام)، ص 669
2- أبو يوسف، الخراج، ص 26
3- الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 41
4- الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 146
5- الطوسي، النهاية، ص 423
6- أبو يوسف، الخراج، ص 132
7- الشيباني، السیر الکبیر، 1 / 15، الدينوري، الأخبار الطوال، ص 71، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 154، ابن قدامة، المغني، 10 / 585، الكلانتري، الجزية وأحكامها، ص 19 وما بعدها

الجزية، وهذا يعني تداخل الضريبتين، وقد يكون سبب هذا التداخل أن المسلمين عندما سيطروا على الأراضي المجاورة لهم، عقدوا اتفاقيات مع أهالي هذه المناطق، التي فتحت من أجل دفع مبالغ مالية كضرائب عن رؤوسهم وعن أراضيهم، ولم تعرف هذه الضرائب إن كانت جزية أو خراج، على عكس الاراضي التي دخلها المسلمون بالقوة، أي أراضي العنوة، والتي أصبحت أرضا للمسلمين وضع عليها الخراج(1)، وعليه يمكن تقسيم الأراضي إلى أربعة أنواع هي:

1- أرض الخراج: وهي كل أرض أخذت عنوة بالسيف وعن قتال، فهي أرض تابعة للدولة وملك لجميع المسلمين، ولا يجوز بيعها وشراؤها، ولإمام المسلمين تقرير نسبة الخراج المقررة على هذه الأرض حسب ما يراه من مصلحة للطرفين(2)، وقد تؤخذ هذه النسبة من مساحة الأرض الصالحة للزراعة، كما فعل الخليفة عمر بن الخطاب في أراضي العراق، أو تؤخذ بالمقاسمة أي أخذ نسبة من الحاصل الربع أو الثلث أو غير ذلك، وهو يؤخذ أكثر من مرة في السنة حسب زراعة الأرض، على عكس خراج المساحة الذي يؤخذ مرة واحدة في السنة(3).

2- أرض الصلح: وهي الأراضي التي صالح أهلها المسلمين، على مبالغ مالية يدفعونها عن هذه الأراضي، ولهم الحق في بيع هذه الأراضي، وعند ذلك

ص: 102


1- Bell، Richard، The origin of Islam in its Christian environment، London 1926،p176. Vercellin،Giorgio، Istituzioni Del Mondo Musulmano،Torino 1996،pp9596-. اليوزبكي، النظم العربية الإسلامية، ص 137 - 138، فوزي، النظم الإسلامية، ص 109 - 110
2- الطوسي، النهاية، ص 418 - 419
3- اليوزبكي، النظم العربية الإسلامية، ص 158

يدفعون تلك المبالغ المتفق عليها على شكل جزية، ويجوز للمسلم شراء هذه الأراضي ويدفع عنها العشر(1).

3- أراضي العشر: وهي التي يمتلكها المسلمون ويدفعون عنها ضريبة العشر(2)، وهي ثلاثة أنواع:

أ- أراضي الموات التي أحياها المسلمون يؤخذ منها العشر وليس الخراج.

ب- الأراضي التي أسلم عليها أصحابها يؤخذ منها العشر.

ج- الأراضي التي فتحها المسلمون ووزعت عليهم يؤخذ منها العشر(3).

4- أراضي الأنفال: وهي كل أرض جلى عنها أهلها من دون قتال، ويدخل فيها أيضا أراضي الملوك التي تسمى الصوافي، وهي التي أخذها هؤلاء الملوك ملكا خاصا لهم، ورؤوس الجبال غير المملوكة لأحد والغابات، الأراضي تكون ملكاً للدولة، وللإمام أن يتصرف بها كما يشاء بما فيه مصلحة للمسلمين(4).

وقد استند المسلمون في فرض هذه الضريبة إلى ما قررته المصلحة عند فتح الأراضي، لاسيما أن أكثر الأراضي فتحت بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فاجتهد الخلفاء في أخذ هذه الضرائب، حسب ما رأوه من مصلحة، وسوف نتتبع تعامل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، والخلفاء من بعده مع هذه الأراضي،

ص: 103


1- الطوسي، النهاية، ص 419
2- المفيد، المقنعة، ص 274، الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 41، الطوسي، النهاية، ص 419، اليوزبكي، النظم العربية الإسامية، ص 139
3- الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 147
4- الطوسي، النهاية، ص 420

لنصل إلى معرفة مدى تطابق، أو اختلاف السياسة الخراجية التي اتبعها الإمام علي (عليه السلام)، مع سياسة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء من بعده.

تعامل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الأراضي المفتوحة وفق معايير عدة، راعى فيها مصلحة المسلمين ومدى انتفاعهم منها، وهناك أمثلة كثيرة يمكن أن نتعرف من خلال الاطلاع عليها على السياسات التي اتبعها رسول الله في تعامله مع الأرض، ففي السنة السابعة للهجرة حدثت معركة خيبر بين المسلمين واليهود الساكنين في هذه المدينة، التي كانت تتكون من مجموعة من الحصون(1)، فاستطاع المسلمون افتتاح هذه الحصون بالقوة، فاستولوا عليها وعلى الأراضي الخصبة التابعة لها، فعرض اليهود الساكنون في خيبر على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، أن يبقيهم في الأرض لزراعتها وقالوا: (دعنا نكن في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها)(2)، فوافق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على هذا الأمر، وأعطاهم الأرض مقابل دفع نصف الحاصل الذي يخرج منها للمسلمين(3)، وفي رواية اخرى أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، هو الذي عرض عليهم البقاء في الأرض من أجل زراعتها(4)، لأنه رأى أن مصلحة المسلمين هي ابقاء الأرض بأيدي هؤلاء، إذ لم يكن في المسلمين من يستطيع زراعة هذه الأرض، لا من حيث العدد، ولا من حيث الكفاءة لزراعة هذه الأرض، فأكثر هؤلاء من مكة وغيرها من مناطق الجزيرة الذين لا يعرفون الزراعة، كذلك فإن المسلمين كانوا في هذه الفترة تحت السلاح، وما زالوا

ص: 104


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 2 / 106، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2/ 56، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 2 / 298
2- ابن شبة النميري، تاريخ المدينة المنورة، 1 / 177، البلاذري، فتوح البلدان، ص 22
3- الشافعي، كتاب الأم، 3 / 85، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 2 / 114، الطوسي، الخلاف، 3 / 474
4- الشافعي، كتاب الأم، 2 / 36، ابن شبة النميري، تاريخ المدينة المنورة، 1 / 177

في طور تأسيس الدولة، وهم بحاجة إلى الاحتفاظ بعزيمتهم وقوتهم العسكرية، لاسيما وأنهم محاطون بالأعداء، فإذا ما وزعت هذه الأراضي على المسلمين، انشغلوا بزراعتها وفترت عزيمتهم الحربية، الأمر الذي قد يؤدي إلى انهيار الدولة أمام أي هجوم .

ولو قدرنا الفائدة من هذه الخطوة التي قام بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لوجدناها كبيرة جدا، فقد حافظ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على الأراضي من الخراب، في حال لو استغلت من قبل أناس لا يقدرون قيمتها، فيؤدي ذلك إلى ضياعها، علاوة على أن هذه الأراضي بقيت بيد أصحابها يعملون فيها، ويعطون النصف من حاصلاتها للمسلمين ولهم النصف الآخر(1)، أي أنه أخذ منهم الخراج على أساس المقاسمة وليس المساحة، وهذا يؤدي إلى تحفيز الفلاحين من أجل الاهتمام بالأرض، إذ كلما كان الناتج كثيراً كلما زادت حصصهم. وبذلك استطاع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) استثمار خبرة هؤلاء في زراعة الأرض وإعمارها واحتفظ بقوة المسلمين، والأهم من هذا إنه ضمن مصدرا ثابتا يرد إلى خزينة الدولة، فأصبحت الأرض ملكا لجميع المسلمين، كذلك فإن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعط هذه الأراضي لمجموعة من المسلمين، فتكون سببا لتراكم الأموال عند هؤلاء، فيؤسس لبداية ظهور طبقة أرستقراطية في المجتمع الإسلامي، ربما تؤدي إلى ظهور مشاكل اجتماعية فيما بعد، كما أن رأي رسول الله في هذه الأرض، كان مستندا إلى ما جاء في القرآن الكريم، ذلك أن الله تعالى يقول في كتابه: «مَا أَفَاءَ الله عَلىَ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ

ص: 105


1- الشافعي، كتاب الأم، 3 / 85، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 2 / 304 - 305، البلاذري، فتوح البلدان، ص 23، الطوسي، الخلاف، 3 / 474

وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ، لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ»(1)، فجعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) واردات أرض خيبر للمسلمين المتواجدين في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن يأتي بعدهم من المسلمين، أي مورد ثابت لبيت مال المسلمين(2).

وعامل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أرض وادي القرى بنفس الكيفية، التي عامل بها ارض خيبر، إذ أنها فتحت عنوة فكانت ملكا للمسلمين، فأبقاها بيد اليهود لكي يعملوا بها، وتعود وارداتها على المسلمين مقابل نصف الحاصل، وقد نستدل من هذين المثالين المتقدمين أن سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الخراج تجلت فيها صور التسامح وتقبل الآخرين، علاوة على الإدارة الاقتصادية الكفوءة، فيذكر ابن إسحاق أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي عرض على اليهود إبقاء الأرض في أيديهم والعمل بها مقابل نصف الحاصل، ولم يطردهم على الرغم من اعتدائهم على المسلمين، فجعلهم يعمرون الأرض، لا يعتدى عليهم ولا يتعرض لديانتهم احد (إن شئتم دفعت إليكم هذه الأموال على أن تعملوها،

ص: 106


1- سورة الحشر، الآيات 6 - 10
2- السرخسي، المبسوط، 10 / 40

وتكون ثمارها بيننا وبينكم، وأقركم ما أقركم الله، فقبلوا)(1).

وفعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الشيء نفسه مع ارض البحرين إذ قاسمهم التمر مقابل العمل في الأرض(2)، وعندما حصل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أرض فدك(3) من دون قتال، أرسل إليهم أحد الصحابة، فصالحوه على أن يدفعوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نصف أرضهم ونصف ثمارهم مقابل بقاءهم في ديارهم واحتفاظهم بدينهم وحمايتهم(4)، فكانت هذه الأرض خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يتصرف بها كما يشاء، لذلك أعطى هذه الأرض لابنته فاطمة (عليها السلام)(5) فكانت بيدها حتى توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأخذها منها الخليفة أبو بكر، فنازعته في هذا الأمر لكنها لم تستطع استرجاعها(6)، فماتت وهي غاضبة على الخليفة لأنه حرمها من حقها(7).

ص: 107


1- الشافعي، كتاب الأم، 2 / 36، ابن هشام، السیرة النبوية، 3 / 304، ابن شبة النمیري، تاريخ المدينة المنورة، 1 / 177
2- البلاذري، فتوح البلدان، ص 54 - 55
3- هي قرية قريبة من خيبر يسكنها اليهود، بينها وبین المدينة يومان، ينظر ياقوت الحموي، معجم البلدان، 4 / 238
4- أبو عبيد، الأموال، ص 9، البلاذري، فتوح البلدان، ص 25 - 26
5- البلاذري، انساب الأشراف، 1 / 37 - 38، العياشي، تفسیر العياشي، 2 / 287، الحسكاني، شواهد التنزيل، 1 / 439، المتقي الهندي، كنز العمال، 3 / 767، ابن كثیر، تفسیر القرآن العظيم، 3 / 39، السيوطي، الدر المنثور، 4 / 177، الشوكاني، فتح القدير، 3 / 224
6- ابن حنبل، مسند احمد، 1 / 4، البخاري، صحيح البخاري، 5 / 25، الجوهري، السقيفة وفدك، الكليني، الكافي، 1 / 543، المفيد، المقنعة، ص 289
7- وللتفاصيل في هذا الموضوع ينظر الصدر، فدك في التاريخ، ص 36 وما بعدها، الاميني، الغدير، 7 / 191 وما بعدها، مرتضى العسكري، معالم المدرستين، 2 / 136 وما بعدها

وعلى الرغم من هذه السياسة التي اتبعها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الأراضي، ورد في بعض الروايات إنه وزع بعض الأراضي على الصحابة، إذ روي أنه أعطى للإمام علي أراضي الفقيرين وبئر قيس وشجرة(1)، وأقطع عمار بن ياسر موضع داره(2)، وأقطع الزبير بن العوام أرضا من أموال بني النضير(3)، وأقطع مجاعة اليمامي أرضا مواتا(4)، وأقطع فرات بن حيان من موات الأرض(5)، كما ذكرت المصادر إقطاعات أخرى منحها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لبعض الصحابة.

ولو أمعنا النظر في هذه الإقطاعات التي منحها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نجد أن بعضها منحت في أراضٍ موات غير صالحة للزراعة من أجل إحيائها، وليس في الأراضي التي تخص المسلمين، والتي كانت تجبى منها الضرائب لصالح بيت المال، وهي جميعها تقع في أطراف المدينة، وغير مملوكة لأحد، ولو سأل أي من الصحابة أن يأخذ أرضا مثل ما ذكرناه، لمنحه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من أجل إحياء تلك الأراضي الموات، وفي هذا مصلحة لجميع المسلمين، ففيه إحياء لأرض ميتة تدر على المسلمين النفع، لأنها عندما تحيا يؤخذ منها العشر، وتكون

ص: 108


1- ابن شبة النمیري، تاريخ المدينة المنورة، 1 / 223، البلاذري، فتوح البلدان، ص 16، ياقوت الحموي، معجم البلدان، 4 / 269
2- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 250، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 43 / 380
3- الشيباني، السیر الكبیر، 2 / 611، أبو يوسف، الخراج، ص 61، ابن أبي شيبة، المصنف، 7 / 640، ابن حجر، فتح الباري، 5 / 36
4- قدامة بن جعفر، الخراج، ص 281
5- أبو عبيد، الأموال، ص 281، ابن أبي عاصم، الآحاد والمثاني، 3 / 283، ابن الأثیر، اسد الغابة، 4 / 175

موردا لسد احتياجات المسلمين.

فضلاً عن أن الآخر من هذه الإقطاعات كان مواضع بيوت منحها الرسول لبعض الصحابة من المهاجرين الذين لا يمتلكون بيوتاً في المدينة، وهي أيضا في الأراضي المتروكة التي لا تخص بيت المال، أما الأرض التي منحها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للزبير بن العوام، فيذكر أبو عبيد القاسم بن سلام: (أما إقطاع النبي صلى الله عليه وسلم أرضا ذات نخل وشجر فإنا نراها الأرض التي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أقطعها الأنصاري، فأحياها وعمرها ثم تركها بطيب نفس منه .. ولا أعرف لإقطاعه أرضا فيها نخل وشجر وجها غير هذا)(1)، وهذه الرواية تبين أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) منح أرضاً مواتاً لأحد الأنصار، فعمل على إحياء هذه الأرض وزراعتها، ثم تركها بعد فترة فمنحها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للزبير، وحتى الرواية التي ذكرت أنه أعطاه من أراضي بني النضير، فهي لا تعني أنه منحه من الأراضي الخاصة بالمسلمين، لأن هذه الأراضي كانت ملكا خاصا للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، بعد أن أجلى منها بني النضير الذين نقضوا العقد الذي عقدوه مع المسلمين، وحاولوا اغتيال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأصبحت هذه الأراضي التي تركوها ملكا له، فأعطى منها أرضاً للزبير وغيره من الصحابة(2).

وملخص ما تقدم أن سياسة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الأرض، كانت تقوم على الاحتفاظ بالأرض تابعة للدولة، لتكون مورداً ثابتاً للمسلمين مع

ص: 109


1- أبو عبيد، الأموال، ص 276
2- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 2 / 57 - 59، البلاذري، فتوح البلدان، ص 18 - 20، الطوسي، الخلاف، 4 / 182

فرض نسبة من الضرائب عليها، وهذه الضرائب التي فرضها على الأراضي تقوم على نظام المقاسمة، ولم يفرق رسول الله بين الأراضي التي يمتلكها العرب أو غيرهم، عكس ما ذهب اليه بعض الباحثين، الذين أشاروا إلى أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) راعى في جباية الخراج طبيعة مالكي هذه الأرض من حيث كونهم عربا أو لا(1)، إذ يذكر هؤلاء الباحثين أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما استولى على أراضي بني النضير وخيبر صادرها وحكم فيها بصيغ تختلف عما تعامل به مع الأراضي التي يمتلكها العرب، إلا أنهم لم يقدموا لنا نماذج على السياسة التي يدّعون أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) اتبعها مع الأراضي العربية، وفي هذا المجال يجب أن نذكر رأي عبد العزيز الدوري الذي يرى أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) اتبع سياسة خاصة مع الأراضي التي يملكها العرب، فلم يضع عليها الخراج، بل فرض عليها العشر، وله في ذلك هدف سياسي واجتماعي، لأن الخراج حسب رأيه: (يحمل معنى الخضوع والذلة، وهو يريد للعرب وحدة سياسية)(2)، وهذا الرأي أخذه الباحثون الآخرون أخذ المسلمات دون تدقيق أو مناقشة، مع العلم أن الدوري استند في رأيه المتقدم إلى روايتين، الأولى عن أبي عبيد القاسم بن سلام في كتابه الأموال: (ان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لما افتتح مكة، مَنَّ على أهلها فردها عليهم، ولم يقسمها ولم يجعلها فيئا)(3)، والثانية عن أبي يوسف في كتاب الخراج (إن رسول الله افتتح فتوحا من الأرض العربية، فوضع عليها العشر، ولم يجعل على

ص: 110


1- الدوري، عبد العزيز، النظم الإسلامية، بغداد 1950، ص 102، اليوزبكي، دراسات في النظم العربية الإسلامية، ص 130، فوزي، النظم الإسلامية، ص 101
2- الدوري، النظم الإسلامية، ص 102
3- أبو عبيد، الأموال، ص 15

شيء منها خراجا)(1). ولا يخفى أن الروايتين المتقدمتين لا تدلان على الرأي المتقدم، إلا أن هؤلاء حاولوا أن يجدوا روايات، ولو كانت لا تدل على الآراء التي ذهبوا اليها، من أجل أن يجعلوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد تعامل مع العرب بصيغة تختلف عن باقي الناس، وهذا أمر مخالف لواقع سياسته، إذ انه لم يكن يفرق بين الناس على أساس قومياتهم، ورويت أحاديث كثيرة عنه تؤكد على أن الناس عنده سواسية، ولا تفاضل بينهم إلا على أساس القرب والبعد عن الله تعالى، كما أن الله تعالى عندما أرسل محمداً عربياً، لم يكن ذلك تفضيلا للعرب على غيرهم من الأمم: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»(2)، وعليه فلا يوجد سبب منطقي يجعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يفضلهم على غيرهم، أو من أجل ايجاد وحدة سياسية لهم أو يتعامل مع أراضيهم بطريقة تختلف عن أراضي الآخرين، لكن الذي يبدو ان التعصب للقومية العربية دفع البعض إلى تبني هذه الآراء، لاسيما أن الفترة التي كتبت فيها هذه الكتابات كانت الفترة التي سيطرتفيها النظم العسكرية التي تدعي القومية العربية، الأمر الذي دفع الكثير من هؤلاء الباحثين إلى مجاملة هذه الأنظمة على حساب البحث العلمي، كذلك فإن الروايات التي ذكرناها لا تحمل اي دليل على آرائهم، لأن مكة ليست أرضاً زراعية، حتى يضع عليها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) خراجا، ثم انها منطقة لا يصح القياس عليها، على اعتبار قدسيتها لجميع المسلمين، وليس من المعقول أن يقسمها بينهم أو يأخذ من أهلها الجزية، لاسيما وأنهم دخلوا إلى الإسلام، أما رواية أبي يوسف في أنه فرض على الأراضي العربية العشر، ولم يأخذ منها الخراج أو الجزية، لكنه لم يذكر

ص: 111


1- أبو يوسف، الخراج، ص 33
2- القرآن الكريم، سورة سبأ، الآية 28

أين تقع هذه الأراضي، ولم نجد رواية تؤيد ما ذهب إليه، بل وجدنا أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ الخراج من أهل البحرين وهم عرب فقاسمهم على نصف الثمر(1)، كذلك فإن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأخذ العشر من أي شخص يدخل إلى الإسلام، وهو يملك أرضا صالحة للزراعة، وليس بالضرورة أن يكون عربيا، ويبدو أن هذه الآراء المتقدمة استندت إلى ما قام به الخليفة عمر بن الخطاب من تعامله مع العرب بطريقة مختلفة عن الآخرين، إذ لم يأخذ الجزية من نصارى تغلب، وإنما أخذ منهم صدقة مضاعفة لأنهم كانوا عربا(2)، وشدد على التمييز بين العرب والموالي من غير العرب، فحرم على هؤلاء الموالي أن يتزوجوا من العربيات حتى لو كانوا مسلمين، حتى أنه منع أن تتزوج القرشية بغير القرشي، بينما أباح لقريش التزوج من العربيات والأعجميات(3)، وهذه الأعمال الغريبة عن الإسلام دفعت الكثير من فقهاء المسلمين إلى النظر إلى المسلمين من غير العرب نظرة دونية، فالموالي لا يستحقون حسب رأي هؤلاء الفقهاء أن يتزوجوا من العربيات، ويستندون في رأيهم هذا إلى أنهم غير أكفاء للنساء العربيات، على الرغم من أن هؤلاء الفقهاء يذكرون الآيات القرآنية التي تؤكد على المساواة بين أفراد المجتمع، ويروون أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الدالة على هذا المعنى، كذلك يعرفون سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في التعامل مع الموالي، ويعرفون أنه زوّج ابنة عمته زينب بنت جحش لزيد بن حارثة وهو من الموالي، وزوج ابنه أسامة بن زيد

ص: 112


1- البلاذري، فتوح البلدان، ص 55، ابن قدامة، المغني، 2 / 589 - 590
2- البلاذري، فتوح البلدان، ص 114، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 158
3- الكليني، الكافي، 5 / 318 - 319، المفيد، خلاصة الايجاز، ص 35، ابن قدامة المقدسي، الشرح الكبیر، 7 / 466، المجلسي، بحار الأنوار، 31 / 35

من عربية، وزوج بلالاً وهو عبد حبشي من عربية أيضا وغير ذلك من الأمثلة(1)، لكنهم على الرغم من ذلك لا يرون الموالي أكفاء للعرب، مستندين في آرائهم هذه إلى الإجراءات التي اتبعها الخليفة عمر بن الخطاب مع المسلمين من غير العرب، وتدل على عصبية بعيدة عن الإسلام وهي من الإرث الجاهلي، والقرآن الكريم صريح في محاربة هذه الظاهرة، إذ يقول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ»(2)، وأكد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا المعنى عندما قال (أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى)(3)، لذلك عندما تولى الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) خلافة المسلمين، سعى إلى تغيير هذه النظرة العنصرية، فساوى بين العرب وغير العرب في العطاء(4)، وسمح للموالي الزواج بالعربيات، وعندما اعترض بعضهم على هذا الأمر قال لهم: (تتكافأ دماؤكم، ولا تتكافأ فروجكم)(5)، لكن هذه الإجراءات التي اتخذها الإمام علي سرعان ما انتهت عندما استلم معاوية بن أبي سفيان الحكم، فألغى هذه المساواة وأمر زياد بن أبيه والي

ص: 113


1- السرخسي، المبسوط، 5 / 22 - 26، ابن رشد الحفيد، بداية المجتهد، 2 / 14، ابن قدامة المقدسي، الشرح الكبیر، 7 / 466 - 471
2- سورة الحجرات، الآية 13
3- ابن حنبل، مسند أحمد، 5 / 411، الهيثمي، مجمع الزوائد، 3 / 266، الشوكاني، نيل الأوطار، 5 / 164
4- ابن قتیبة، الإمامة والسیاسة، 1 / 173 - 174، الیعقوبی، تاریخ الیعقوبی، 2 / 183، الثقفی، الغارات، 1 / 75، المفید، الأمالی، ص 175 - 176، ابن أبی الحدید، شرح نهج البلاغة، 2 / 203
5- المجلسي، بحار الأنوار، 31 / 36

العراق بالتضييق على الموالي والعودة إلى سياسة التضييق والتمييز ضدهم، إذ كتب إلى هذا الوالي: (وانظر إلى الموالي ومن أسلم من الأعاجم، فخذهم بسنة عمر بن الخطاب فإن في ذلك خزيهم وذلهم، أن تنكح العرب فيهم ولا ينكحوهم، وأن ترثهم العرب ولا يرثوهم، وأن تقصر بهم في عطائهم وأرزاقهم،...)(1)، ثم تتابع الظلم على الموالي في عهد الدولة الأموية حتى وصل إلى القمة في عهد الحجاج بن يوسف الثقفي، والي العراق في عهد عبد الملك بن مروان، الذي أخذ الجزية والخراج من الموالي على الرغم من دخولهم في الإسلام، ثم ختم بالرصاص على رقابهم وأيديهم، أسماء المناطق التي ينتمي إليها هؤلاء، حتى لا ينتقلوا من هذه القرى إلى مناطق أخرى(2)، ونحن لانريد أن نتوسع في ذكر هذا الأمر، حتى لا يخرجنا عن موضوع البحث.

وفي عهد الخليفة عمر بن الخطاب فتحت الكثير من الأراضي القريبة من الجزيرة العربية، وكان على الدولة أن تجد حلا لهذه الأراضي المفتوحة، لاسيما إنها كانت أراض زراعية خصبة وتدر الكثير من الأموال، وقسم كبير من هذه الأراضي فتح عنوة، اي أه أصبح ملكا للدولة الإسلامية. وأهم المناطق المفتوحة في عهد الخليفة عمر أراضي العراق، التي كان يطلق عليها تسمية السواد(3)، فكتب سعد بن أبي وقاص قائد فتوح العراق للخليفة عمر بن الخطاب، إن المقاتلين الذين معه طلبوا منه أن يوزع عليهم الغنائم التي حصلوا عليها من معارك العراق، ومن ضمن هذه الغنائم توزيع الأراضي على المقاتلين، فأراد الخليفة عمر أن يقسم الأراضي المفتوحة عليهم، وأمر قائد الفتوح أن يحصی من شارك في هذه المعارك، لكنه قبل أن يباشر بالتوزيع فضل

ص: 114


1- سليم بن قيس، كتاب سليم بن قيس، ص 282، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 262
2- أبو يوسف، الخراج، ص 126، اليوزبكي، النظم الإسلامية، ص 156
3- البلاذري، فتوح البلدان، ص 161 وما بعدها

أن يستشير الصحابة، فكان أغلبهم يرى توزيع الأراضي على الفاتحين، لاسيما ان قسماً من هؤلاء اشترك في هذه الفتوح، فقالوا له: (نقسمها بيننا)، إلا إن الخليفة لم يقتنع بهذا الرأي، فسأل الإمام علياً (عليه السلام) عن رأيه في هذه المسألة، فكان رأيه في أن تبقى الأراضي بيد الدولة، لتكون ملكا لجميع المسلمين وليس لفئة واحدة، فقال للخليفة: (إن قسمتها اليوم، لم يكن لمن يجيء بعدنا شيء، ولكن تقرها في أيديهم يعملونها، فتكون لنا ولمن بعدنا، فقال: وفقك الله)(1)، كذلك فإن بعض الصحابة كان رأيهم رأي الإمام علي (عليه السلام) نفسه بعدم توزيع الأراضي وإبقاءها بيد الدولة، لذلك قرر الخليفة عدم توزيع هذه الأراضي(2).

إن هذه المشورة التي قدمها الإمام علي (عليه السلام) للخليفة تبين لنا رأيه في التعامل مع الأراضي الزراعية، والتي تقضي ببقاء هذه الأراضي كمورد مالي ثابت للدولة، وتكون الدولة مشرفة عليها وعلى وارداتها، إذ ان توزيعها على المسلمين يجعل الدولة لا تملك شيئاً، لأن الأموال حتى وإن بقيت في بيت المال فإنها سرعان ما تنفد، ولا تستطيع الدولة أن تسير أمورها الاقتصادية، لأنها لا تعتمد على مورد ثابت، لذلك رأى الإمام ان هذه الأراضي والفلاحين الذين يعملون فيها يجب أن يبقوا خزيناً لبيت المال (دعهم يكونوا مادة للمسلمين)(3)، وفي هذا تحقيق لهدفين:

ص: 115


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 102، وذكر البلاذري هذه المشورة بلفظ آخر فتوح البلدان، ص 162، كذلك ذكر هذه المشورة المصادر الآتية: أبو يوسف، كتاب الخراج، ص 39، أبو عبيد، الأموال، ص 83
2- ابن عساكر، تاريخ دمشق، 2 / 194، ابن قدامة، المغني، 2 / 580، المتقي الهندي، كنز العمال، 4 / 573
3- قدامة، الخراج، ص 362، ابن شاذان الأزدي، الإيضاح، ص 478، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 2 / 193، ابن حجر، فتح الباري، 6 / 158، المتقي الهندي، كنز العمال، 4 / 496

أولهما: إن المسلمين الأوائل كانوا قليلي الخبرة بالزراعة، وهذا قد يؤدي إلى ضياع وتخريب تلك الأراضي الخصبة أو بيعها، الأمر الذي قد يؤثر سلبا على اقتصاد المسلمين.

ثانيهما: إن فلاحي تلك المنطقة أصبحوا من رعايا الدولة، وهي مسؤولة عنهم، فتوزيع الأراضي قد يعرضهم للجوع والحرمان، فيكونون عالة على الدولة، الأمر الذي يؤدي إلى مشاكل اجتماعية تنعكس بصورة سلبية على استقرار الدولة، علاوة على خسارتها لخبراتهم.

وبذلك كان الرأي الذي اقترحه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) يضع الفلاحين من غير المسلمين الذين ورثتهم الدولة الإسلامية عند فتحها للألراضي الزراعية في السواد موضعا يستطيعون من خلاله إعالة أنفسهم، واستطاعت الدولة أن تضمن لهم رزقهم، الأمر الذي كان له انعكاسات إيجابية على اقتصاد الدولة، من حيث صيانتهم لهذه الأرض الزراعية، والحيلولة دون خرابها إذا ما وزعت على أناس لاخبرة لهم بها، وحفظ هذه الطبقة المهمة في المجتمع من الجوع والحرمان الذي قد يؤدي إلى هجرتهم إلى مناطق أخرى، فيكونون عبئا على الدولة، لاسيما إذا هاجروا إلى المدينة وشاركوا أهلها في أرزاقهم. فكان هذا الرأي موضع استحسان عند الخليفة، لذلك أخبر الصحابة الذين ألحوا على توزيع الأراضي بأنه لا يستطيع أن يوزعها خوفا عليهم من أن يختلفوا فيما بينهم بسبب المياه التي تسقي أراضي كل واحد منهم(1)، وهذا يؤدي إلى الضرر بالدولة كلها، لاسيما أنهم كانوا في حالة حرب.

وقد أشارت بعض المصادر إلى أن الخليفة عمر بن الخطاب وزع هذه الأراضي على

ص: 116


1- البلاذري، فتوح البلدان، ص 162، الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، 1 / 37، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 2 / 191

المقاتلين مدة من الزمن، ثم رأى أن هذا التوزيع أدى إلى انشغال المسلمين بالزراعة وتركهم الجيش، كما أنه سيؤدي إلى خراب الأرض إذا التحق هؤلاء بالجيش وتركوا الأرض، فاضطر إلى تعويض هؤلاء وإرجاع الأرض إلى الدولة(1)، وربما تكون هذا الرواية صحيحة، لاسيما أن الخليفة قبل رأي الإمام علي (عليه السلام) بسرعة عندما أشار عليه بإمساك الأرض وذلك لأنه رأى مساوئ هذا التوزيع.

وبعد أن اقتنع الخليفة بإمساك الأرض، أرسل اثنين من الصحابة من أجل مسح أراضي السواد، هما عثمان بن حنيف(2) وحذيفة بن اليمان(3) وهما من الأنصار ولديهما خبرة بالأراضي الزراعية، فمسح حذيفة الأراضي الواقعة في الجهة الشرقية لنهر دجلة، بينما تولى عثمان بن حنيف مسح الأراضي الواقعة على جهة دجلةالغربية(4)، وذلك من اجل تقدير الضرائب على هذه الأراضي، لكن المؤرخين لم يتفقوا على نسبة الضرائب التي أقرها الخليفة عمر بن الخطاب، ويمكن ان نجمل الروايات التي ذكرت هذه النسبة بالشكل الآتي:

ص: 117


1- ابن حزم، المحلى، 7 / 344، الطوسي، النهاية، 2 / 68، النووي، المجموع، 19 / 454، الحلي، تذكرة الفقهاء، 1 / 428
2- عثمان بن حنيف الأوسي الانصاري، من قدماء الصحابة شهد مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) معركة أحد والمعارك التي تلتها، وولاه الخليفة عمر مسح ارض السواد، ثم أصبح واليا على البصرة في عهد الإمام علي، ينظر ابن الأثیر، أسد الغابة، 3 / 371
3- حذيفة بن اليمان حليف بني الأشهل من الأنصار، شهد مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) معركة احد والمعارك بعدها، وكان صاحب سر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، شارك في الفتوح في عهد الخليفة عمر، وولاه عمر على المدائن، ينظر ابن الأثیر، أسد الغابة، 1 / 391 - 392
4- البلاذري، فتوح البلدان، ص 164، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 152، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 223

1- وضعوا على كل جريب(1) من الأرض التي يصل اليها الماء ويمكن زراعتها، وتزرع بالمزروعات الحولية مثل الحنطة والشعير ضرائب متفاوتة، فوضعوا على الجريب المزروع شعيرا درهما وقفيزا(2)، ودرهمين وقفيزيين على جريب الحنطة، أو أربعة دراهم على جريب الحنطة، ودرهمين على جريب الشعير.

2- وضعوا على جريب النخل عشرة دراهم، أو ثمانية دراهم، وفي رواية انهم فرضوا على النخلة الواحدة الجيدة درهمين، وعلى الأقل منها درهما.

3- على جريب الكرم عشرة دراهم.

4- على جريب القطن خمسة دراهم.

5- على جريب الخضروات ثمانية دراهم(3).

ولما انتهوا من مهمتهم، أخبروا الخليفة عمر بنسبة الضرائب التي وضعوها، فسألهم إن كانوا كلفوا الأرض أكثر مما تحتمل، فنفوا هذا الأمر، وأخبروه بأن الأرض، كانت تحتمل أكثر من هذا المقدار، فأقر الخليفة هذه الضرائب(4) التي كانت تؤخذ في السنة مرة واحدة، والمبالغ الباقية من إنتاج الأرض كانت من حصة الفلاحين، ويذكر البلاذري إن الخليفة عمر بن الخطاب جبى من أرض السواد في سنة واحدة مائة ألف ألف درهم أي مائة مليون درهم(5).

ص: 118


1- الجريب هو 1366 م
2- القفيز هو 751، 2 كغم
3- البلاذري، فتوح البلدان، ص 164، ابن أبي شيبة، المصنف، 7 / 592، النووي، المجموع، 9 / 454 - 456، المجلسي، بحار الأنوار، 31 / 17
4- الصنعاني، المصنف، 10 / 371، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 337، السرخسي، المبسوط، 3 / 51
5- البلاذري، فتوح البلدان، ص 164

ونتيجة لإبقاء أراضي السواد مملوكة للدولة، حسب الرأي الذي اتفق عليه الصحابة، بعدم توزيعها وإبقائها مورداً ثابتاً لجميع المسلمين المتواجدين في تلك الفترة والذين يأتون بعدهم، أصبح من غير الممكن بيعها أو إسقاط الخراج عنها لأنها ملك لجميع المسلمين، حتى لو دخل الفلاح الذي يعمل في هذه الأرض الإسلام، لأنها ليست أرض صلح بل فتحت عنوة، لذلك عندما جاء رجل من أهل السواد إلى الخليفة عمر بن الخطاب يطلب منه أن يرفع عن أرضه الخراج ويحولها إلى أرض عشر، رفض الخليفة الأمر لأن أرضه أخذت عنوة(1).

والخراج الذي أخذه الخليفة عمر بن الخطاب من أراضي العراق السواد هو ما أطلق عليه خراج المساحة، ويبدو من خلال الروايات أن المسلمين في عهد الخليفة عمر أخذوا الخراج مرة واحدة في السنة من الفلاحين، لأنه كان يعتمد على نظام المساحة، كذلك يمكن القول إن أراضي السواد التي فتحت عنوة، تحولت إلى أراضي صلح حسب اجتهاد الخليفة عمر بن الخطاب، الذي عقد اتفاقا مع الفلاحين الذين يعملون فيها، لكن هذه الأرض بقيت مملوكة للمسلمين، ولا يحق للعاملين فيها بيعها أو التصرف بها.

وبعد أن استقر المسلمون في العراق، تحركوا نحو المناطق الشرقية والشمالية الشرقية، واستطاعوا أن يفتحوا المدن الفارسية المجاورة للعراق، فبدأت هذه المدن تصالح المسلمين الواحدة تلو الأخرى وفق اتفاقيات تعهدوا بموجبها بدفع مبالغ مالية للمسلمين، وهذه المبالغ إما أن تكون جزية عن الرؤوس أو خراجاً عن الأراضي، أو تقسم جزءين بعضها عن الرؤوس وبعضها الآخر عن الأراضي، لأنه

ص: 119


1- مالك، المدونة الكبرى، 1 / 284

لا يجوز أن يدفع الشخص الجزية والخراج في الوقت نفسه(1)، وفي مقابل ذلك تعهد المسلمون لهم بالحماية، وأن يأمنوا على أنفسهم وأموالهم وأراضيهم، ومن الجدير بالذكر أن بعض المدن والأراضي الزراعية فتحت عنوة، لذلك أصبحت ملكا للمسلمين مثل أذربيجان والأهواز وغيرها، فوضعوا عليها الخراج وأبقوا الفلاحين يعملون فيها(2). ثم فتح المسلمون الجزيرة الفراتية التي تقع شمال العراق، فصالحوا أهلها على دفع مبالغ من المال(3).

اما بلاد الشام فقد كان فتحها متزامنا مع فتح السواد والمناطق الشرقية، إذ ابتدأت الفتوحات فيها منذ عهد الخليفة أبي بكر، ثم تواصلت في عهد الخليفة عمر(4)، واستطاع المسلمون فتح بعض المدن والقرى التابعة لها عنوة، فيما صالحوا البعض الآخر من هذه المدن، وعقدوا مع أهلها اتفاقيات تقضي بدفع هؤلاء مبالغ مالية مقابل حمايتهم وبقائهم على دينهم وعدم التعرض لهم(5)، وتذكر الروايات أن الخليفة عمراً أراد أن يوزع الأراضي التي فتحت عنوة بين المسلمين الذين فتحوها، فنهاه الصحابي معاذ بن جبل(6)، خوفا من أن تتكون إقطاعيات عند مجموعة من

ص: 120


1- الكليني، الكافي، 3 / 567، الطوسي، الاستبصار، 2 / 53، الحلي، منتهى الطلب، 2 / 966، الكلانتري، الجزية واحكامها، قم 1416، ص 132 - 135
2- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 97 وما بعدها، البلاذري، فتوح البلدان، ص 182 - 198
3- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 96 - 97، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 150
4- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 81، البلاذري، فتوح البلدان، ص 71 - 92، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 147، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 2 / 80
5- البلاذري، فتوح البلدان، ص 71 - 92، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 147
6- معاذ بن جبل الأوسي الأنصاري من قدماء الصحابة الأنصار بايع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع السبعين الذين بايعوه في مكة قبل الهجرة، اشترك في معركة بدر وجميع معارك الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، توفي في سنة 18 ه في طاعون الشام. ينظر ابن الأثیر، أسد الغابة، 4 / 376 - 377

المسلمين، ولا يبقى لمن يأتي بعد عهدهم من المسلمين شيء، لذلك قرر الخليفة إبقاء الأراضي بيد اهلها يزرعونها، وتعود ملكيتها لجميع المسلمين(1).

أما مصر فقد فتحت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وكان فتح أكثر مناطقها عنوة، لذلك فرض المسلمون الجزية على من بقي على دينه، واحتفظوا بالأرض مملوكة للدولة، بعد أن أبقوا الفلاحين يعملون فيها مقابل دفع الخراج(2)، وتذكر الروايات ان نسبة الخراج التي فرضت على أراضي مصر، كانت ديناراً وثلاثة أرادب على كل جريب(3)، فكانت الأموال الواردة منها كبيرة جدا، إذ بلغت حسب بعض الروايات مليوني دينار في السنة(4).

وعلى الرغم من أن الخليفة عمر بن الخطاب التزم رأي الإمام علي (عليه السلام) وغيره من الصحابة بعدم توزيع الأراضي وإبقائها بيد الدولة، إلا أن بعض الروايات تشير إلى أنه أقطع بعض الصحابة والأشراف أراض زراعية(5)، ومن هؤلاء زيد بن ثابت إذ تذكر الروايات أن الخليفة عمراً كان كلما رجع من سفر خارج المدينة يعطيه أرضا ذات نخل، لأنه كان يستخلفه مكانه في المدينة(6)، كما أقطع وادي العقيق الذي

ص: 121


1- ابن عساكر، تاريخ دمشق، 2 / 194، ابن قدامة، المغني، 2 / 580، ابن حجر، فتح الباري، 6 / 158
2- البلاذري، فتوح البلدان، ص 131، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 154
3- البلاذري، فتوح البلدان، ص 132، والأردب هو مكيال للحبوب مقداره أربعة وعرون صاعا، ينظر الشوكاني، نيل الأوطار، 8 / 164، والصاع مقداره ثلاثة كيلو غرامات، ينظر السيستاني، منهاج الصالحین، 1 / 381
4- البلاذري، فتوح البلدان، ص 132
5- Vercellin،op. cit.، p98
6- ابن عساكر، تاريخ دمشق، 19 / 318

يقع في العاصمة المدينة للزبير بن العوام وغيره من الناس(1)، لكن على الرغم من هذه الإقطاعات فقد كان الخليفة عمر بن الخطاب مقتصدا في هذا الأمر.

لكن هذا الاقتصاد الذي كان سائدا في عهده لم يستمر طويلا، إذ شهدت الفترة التي تولى فيها عثمان بن عفان الخلافة، توزيع الإقطاعات بصورة كبيرة، ولم تكن هذه الإقطاعات في الأراضي الموات بغية إحيائها، بل أن الخليفة منحها في أراضي الخراج التي كانت ملكا لجميع المسلمين، فيذكر ابن آدم أن أول من منح الإقطاعات هو الخليفة عثمان: (لم يقطع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا أبو بكر ولا عمر وأول من أقطعها وباعها عثمان)(2)، وورد في الروايات أن الخليفة عثمان بن عفان أقطع مجموعة من الصحابة أراضٍ، وهؤلاء كانوا يعطونها للفلاحين من أجل زراعتها بالثلث والربع، وقد كانت هذه الإقطاعات عن قرى كاملة(3)، ويذكر المقريزي أن عثمان أول من وزع الأراضي: (وأول من أقطع القطائع عثمان وبيعت الأرضون في خلافة عثمان)(4)، وقد باع بعض هؤلاء الصحابة الأراضي التي منحت لهم(5)، وعلى الرغم من أن قرار الصحابة كان يقضي ببقاء أراضي السواد مملوكة للدولة، إلا أن الخليفة أقطع منه لعدد من الصحابة، وكان هذا الإقطاع هو إقطاع تمليك وليس

ص: 122


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 104، ابن أبي شيبة، المصنف، 7 / 640، ابن شبة النمیري، تاريخ المدينة المنورة، 1 / 151 - 152
2- الخراج، ص 79، ابن أبي شيبة، المصنف، 7 / 641
3- أبو يوسف، الخراج، ص 62، أبو عبيد، الأموال، ص 276، ابن أبي شيبة، المصنف، 5 / 143، البلاذري، فتوح البلدان، ص 166، ابن سلمة، شرح معاني الآثار، 4 / 114، الدوري، نشأة الإقطاع، ص 9
4- المقريزي، الخطط المقريزية، 1 / 96
5- البلاذري، فتوح البلدان، ص 166، المقريزي، الخطط المقريزية، 1 / 96

مزارعة(1). ويذكر البلاذري أن: (اول من أقطع العراق عثمان بن عفان، أقطع قطائع من صوافي كسرى، وما كان من أرض الجالية)، أي أنه قسم أراضي الصوافي التي هي ملك لبيت المال على مجموعة اختارها من الصحابة(2).

وبهذه السياسة التي اتخذها الخليفة عثمان أصبحت الأرض المملوكة لجميع المسلمين ملكاً لمجموعة منهم دون عامتهم، فحرم بيت المال من أراضٍ كثيرة تدر الأموال على المسلمين، ويبدو أن السبب في ذلك هو أن الخليفة أراد أن يخفف من التذمر الذي سببته سياسته المالية والإدارية، فسمح لمجموعة من الصحابة بشراء أراضي الخراج وأراضي الصوافي(3)، وهذه الإقطاعات التي منحها الخليفة عثمان لم تكن كما كان عليه الحال في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعهد الخليفة عمر في منح الإقطاعات في الأراضي الموات أو غير المملوكة لأحد أو لفقراء الصحابة والمستحقين من المسلمين، بل كانت إقطاعاته في أراضي الخراج التابعة لبيت المال، والأشخاص الذين أعطيت لهم هذه الأراضي هم من الصحابة الأغنياء الذين يمتلكون ثروات كبيرة(4)، ولأسرته من بني أمية ممن تأخر إسلامهم، والذين لم يكونوا موضع احترام من قبل المسلمين(5).

اما الكيفية التي اتبعها الخليفة عثمان بن عفان مع الخراج، فكانت لا تختلف كثيرا

ص: 123


1- ابن رجب، الاستخراج، ص 22
2- البلاذري، فتوح البلدان، ص 166، أبو عبيد، الأموال، ص 23، ابن رجب، الاستخراج، ص 22
3- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 333، الدوري، في التنظيم الاقتصادي، ص 80، جودة، العرب والأراضي، ص 130
4- البلاذري، فتوح البلدان، ص 166
5- ابن عساكر، تاريخ دمشق، 2 / 207، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 269

عن سياسة الخليفة عمر بن الخطاب، لاسيما أن القسم الأكبر من الأراضي الخراجية فتحت في عهد الخليفة عمر، فأكمل في عهده فتح بقية المناطق التي لم تفتح في عهد سلفه(1)، ما اختلف هو التغيير الذي أجراه الخليفة عثمان بن عفان على الكادر الإداري والعسكري، الذي كان يشرف على الخراج وقيادة جيوش المسلمين في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، لاسيما توليته أسرته من بني أمية الولايات الإسلامية، كذلك توزيعه لأراضي الخراج والصوافي على أقربائه من بني أمية وغيرهم.

لقد كانت واردات الدولة الإسلامية من الخراج كبيرة جدا، بحيث أن العرب لم يتعودوا على هذه الكميات من الأموال، إذ تذكر الروايات إن الخليفة عمر جبى من السواد فقط مائة وعشرين مليون درهم(2)، ومن مصر فقط مليوني دينار(3)، وجبى الإمام علي (عليه السلام) (عليه السلام) من منطقة المدائن فقط، ما يزيد عن ثمانية عشر مليون درهم في سنة واحدة(4)، لكن المشكلة التي حدثت لم تكن قلة هذه الأموال، بل السياسة المالية التي اتبعت في توزيع وإدارة هذه الأموال.

لذلك ركز الإمام علي (عليه السلام) على صيانة المصادر المالية المهمة للدولة، لاسيما الخراج الذي يعد أهم هذه المصادر، وذلك لأنه يدر على بيت مال المسلمين الكثير من الأموال، فباشر عند توليه الخلافة بصيانة هذا المورد وتطويره وإصلاحه، وكان الإصلاح الذي قام به الخليفة، يرتكز على عدة أسس، منها تغيير نوع الضرائب المفروضة على الأراضي الخراجية، وتغيير مقدار هذه الضرائب بما يتلائم وإنتاج

ص: 124


1- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 115، 120، 121
2- أبو يوسف، الخراج، ص 26
3- البلاذري، فتوح البلدان، ص 132
4- الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 2 / 48 - 49

الأرض، الأمر الذي يؤدي إلى الحفاظ على إنتاجها، وعدم ظلم الفلاحين.

ففي عهد الخليفة عمر بن الخطاب كانت الضريبة الموضوعة على الأراضي الخراجية تعتمد على مساحة هذه الأراضي، على عكس ما فعله الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، عندما أخذ من يهود خيبر الضريبة على أساس المقاسمة(1)، لأن نظام المقاسمة فيه شيء من المراعاة للفلاحين، لاسيما أنه لا يأخذ الضريبة من الأرض غير المزروعة، كذلك إذا أصيب الحاصل بآفة زراعية أو غيرها، يكون الفلاح قادراً على دفع الضريبة لأنها تعتمد نسبة الإنتاج، علاوة على فائدته للدولة، لأنه دقيق في احتساب الضريبة المأخوذة من كل المحاصيل، فتكون الدولة مستفيدة من زيادة الإنتاج، والفلاحون مستفيدون في حالة تعرض محاصيلهم لمشاكل طبيعية أو غيرها.

ويبدو أن إنتاج الأرض في عهد الخليفة عمر بن الخطاب كان أكثر عندما فرض الخراج على السواد وغيره، لكن هذا الإنتاج ضعف بمرور الوقت نتيجة الزراعة المستمرة للأرض، لاسيما إذا لم تكن هناك عناية بهذه الأرض، ووجود مشاكل في الضرائب تؤثر على الإنتاج، وكما سبق القول في أن الخليفة عمر أخذ خراج المساحة الذي لا يراعي الأراضي المزروعة من غيرها، مع أن الخليفة كان حريصا على عدم الإضرار بالأراضي الزراعية، إلا أن المشكلة كانت في طبيعة نظام الجباية الذي قد يؤدي إلى الضرر بمرور الوقت، لاسيما مع تولي أشخاص غير كفوءين وغير أمينين إدارة هذه الأموال، كما حدث في عهد الخليفة عثمان، لذلك أولى الإمام علي (عليه السلام) اهتمامه الكبير بالفلاح وإنتاج الأرض، لأنه كان يرى أن أموال الخراج، لا يمكن الحفاظ عليها بدون العناية بالفلاح والأرض، فاتبع مجموعة من الإجراءات من أجل تحقيق هذا الهدف، ومن هذه الإجراءات هو محاولته جعل الفلاح الذي

ص: 125


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 2 / 304 - 305، البلاذري، فتوح البلدان، ص 23

يعمل في أرض الخراج سيد هذه الأرض، وليس عبدا مربوطا بها فرفع عنه الظلم والاستغلال، وجعله مسموع الكلمة فيما يتعلق بأرضه وإنتاجها، فوجه عماله بضرورة الاجتماع بالفلاحين، وسماع آرائهم فيما يتصل بأراضيهم والمشاكل التي يعانون منها، فقال لأحد ولاته: (اجمع أهل الخراج من كل بلد، ثم مرهم فليعلموك حال بلادهم، والذي فيه صلاحهم، وحال أرضهم وزجاء خراجهم، ثم سل عما يرفع إليك أهل العلم من غيرهم، فإن شكوا إليك ثقل خراجهم، أو علة دخلت عليهم من انقطاع شرب أو فساد أرض، غلب عليها غرق أو عطش أو آفة مجحفة، خففت عنهم ما ترجو أن يصلح الله به أمرهم، وإن سألوا معونة على إصلاح ما يقدرون عليه بأموالهم فاكفهم مؤنته)(1)، وهذا يعني أن الإمام علياً (عليه السلام) كان يرى ان هؤلاء الفلاحين هم جزء رئيس في التركيبة الاجتماعية للدولة، وليسوا عبيداً عند المسلمين، لذلك يجب أن يكون رأيهم محترماً فيما يتعلق بأراضيهم، فإذا كان خراج الأرض ثقيلاً ولا يستطيع الفلاح دفعه لعدم تناسبه مع إنتاج الأرض، أو أن المحصول أصيب بآفة زراعية، بحيث لا يستطيع دفع المقدار المحدد من الضريبة، فيجب مراعاة ذلك وتخفيف نسبة من هذه الضريبة بالقدر الذي يستطيع من خلاله الحفاظ على إنتاجه وعلى أرضه، فتكون الدولة قد أسهمت في تعمير الأرض وزيادة إنتاجها، لأنها استغنت عن جزء من حقوقها لمساعدة الفلاح في مواجهة الكوارث الطبيعية، وأسهمت أيضا في أن يشعر الفلاح أنه جزء مهم في الدولة، كذلك يشعر بالطمأنينة والرضى عن الدولة التي يراها تهتم به وبأرضه، فتشترك هذه الطبقة المهمة الكثيرة العدد والوافرة الإنتاج في الحفاظ على الدولة(2).

ص: 126


1- النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 362، ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 137 - 138، المجلسي، بحار الأنوار، 74 / 252 - 253
2- شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 87

ثم تحول إلى إصلاح نسبة الضريبة المفروضة على الأراضي الخراجية، فأرسل أحد العمال إلى منطقة المدائن والمناطق المحيطة بها من أجل تقدير ضرائب جديدة، بالشكل التالي:

1- جريب الأرض المزروع بالحنطة الجيدة الزرع ضريبته درهم ونصف، في حين كانت في عهد الخليفة عمر أربعة دراهم، وأخذ نصف هذا المقدار من الأرض المزروعة بالشعير التي كان يؤخذ منها سابقا درهمان.

2- جريب الأرض المزروع بالحنطة المتوسطة الزرع ضريبته درهم واحد، ونصف هذه النسبة من الجريب المزروع شعيرا، وهذه النسبة لم تكن موجودة سابقا.

3- جريب الأرض المزروعة بالحنطة الخفيفة الزرع ضريبته ثلثا درهم، ونصف ذلك من الأرض المزروعة شعيرا وهذه النسبة لم تكن موجودة سابقا.

4- جريب الأرض المزروعة نخلا، أو كرما بلغ عمره ثلاث سنوات ودخل في الرابعة، أو مزروعة زراعة مختلطة نخلا وكرما ضريبته عشرة دراهم، وفي عهد الخليفة عمر كانت تؤخذ النسبة نفسها تقريبا.

5- أعفى القطن من الضريبة، في حين كان يؤخذ منه في عهد الخليفة عمر خمسة دراهم.

6- أعفى الخضروات من الضريبة، في حين كان يؤخذ منها في عهد الخليفة عمر ثمانية دراهم من الجريب.

7- أعفى النخل الخارج من الأراضي من الضرائب وجعله وقفا لأبناء السبيل المارين بالقرب منه(1).

ص: 127


1- أبو يوسف، الخراج، ص 128، البلاذري، فتوح البلدان، ص 165، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 192، قدامة، الخراج، ص 368، الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 2 / 48، المفيد، المقنعة، ص 275

يمكن أن نلمس من نسب الضرائب التي وضعها الإمام علي (عليه السلام) انه استبدل النظام الضريبي الذي وضعه الخليفة عمر، وربما كان هذا الأمر ناتجاً عن ثقل هذه الضرائب على الفلاحين، لاسيما انها وضعت عندما فتح المسلمون أراضي السواد، وفي ذلك الوقت لم تكن لهم معرفة جيدة بالأراضي الزراعية، ومعدلات إنتاجها من أجل تقدير الضريبة المناسبة عليها، كما أن المسلمين ساروا على هذه النسب في عهد الخليفة عثمان دون تغيير أو معالجة لها، مع أنها كانت تضر بالفلاحين لأنها مقدرة على أساس مساحة الأرض بدون مراعاة للكمية المنتجة، ويبدو أن الفترة التي سبقت خلافة الإمام علي (عليه السلام) شهدت شكاوى من نسب الخراج المأخوذة من الفلاحين.

وقد أورد المسعودي ما يؤيد هذا الأمر إذ قال: إن الناس شكوا من كثرة الخراج(1)، وحتى بدون هذه الشكوى، فإن الإمام علياً كانت لديه خطة متكاملة لإصلاح الإدارة والاقتصاد في الدولة الإسلامية، وأساس هذا الإصلاح كان مراعاة العدالة التامة في جباية وتوزيع الأموال، لاسيما أن الدولة التي يقودها هي دولة دينية فكرتها الأساس تحقيق العدالة والمساواة بين الناس، وهذه المفاهيم موجودة كنظريات في مصادر الإسلام القرآن والسنة النبوية، فأراد الإمام إخراج هذه النظريات إلى حيز التطبيق وعدم الاكتفاء بها كشعارات لقيام الدولة، وازدادت الحاجة إلى هذا الأمر مع نهاية خلافة عثمان، التي تحولت فيها دولة المسلمين إلى دولة دنيوية، يحكمها مجموعة من المنتفعين الذين لا يهمهم إلا مصالحهم الشخصية، وسبب هذا لا يعود للخليفة عثمان فقط بل إلى البطانة التي كانت تحيط به، وهي بعيدة عن قيم الإسلام وما أراد أن يؤسس له، فكانت سياسة الإصلاح لابد منها لتبقى دولة الإسلام، وقد

ص: 128


1- المسعودي، مروج الذهب، 2 / 346

بينّ الإمام علي هذا الأمر في إحدى خطبه في الكوفة، إذ قال: (اضرب بطرفك حيث شئت من الناس، فهل تبصر إلا فقيرا يكابد فقرا، أو غنيا بدل نعمة الله كفرا، أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفرا)(1).

ويبدو ان الخبرة العملية التي كان يتمتع بها الإمام علي (عليه السلام) كانت سببا في هذا التغيير، إذ كان يعمل بالزراعة لمدة طويلة، بعد أن ابتعد عن العمل السياسي في الفترة التي سبقت خلافته، كذلك أراد ان يخفف الضريبة عن الفلاحين بالمقدار الذي لا يضر بهم أو باقتصاد الدولة، وعلى الرغم من أنه سار في جباية الضريبة على أساس المساحة، لكنه أدخل عنصر خصوبة التربة، وكمية الإنتاج كعناصر رئيسة في جباية الضريبة، فلم يأخذ الضريبة من مساحة الأرض سواء كانت مزروعة أو لا، بل إنه جباها من الأراضي حسب الكمية التي تنتجها هذه الأرض، وهذا يؤدي إلى العدالة في جباية الضريبة أولا، ومساعدة الفلاح الذي تصاب أرضه بآفة تؤدي إلى قلة الإنتاج ثانيا، لكن هذه الطريقة في احتساب الضريبة كانت متعبة بالنسبة لموظفي الدولة الإسلامية، لأنها تحتاج إلى خبرة بالأراضي الزراعية، وأمانة في تحديد الضريبة، ومراقبة مستمرة لإنتاج الأرض، وهذا يعني ان الدولة تكون مراقبة لنسب الضرائب وقريبة من الفلاحين، ويتبع ذلك توظيف أعداد كبيرة من العمال من أجل التدقيق في النسب المأخوذة، ويمكن أن نلمس من هذه الأمور، أن الإمام علياً كان مصمماً على هذا الإصلاح، والذي لا يهتم بزيادة كمية الأموال المجباة من الأراضي فقط، بل يسعى إلى إصلاح وعمارة الأراضي الزراعية أولا، لأن ذلك صيانة لها من الخراب وقلة الإنتاج، وقد أكد الإمام علي (عليه السلام) هذا المعنى في كتاب وجهه لأحد عماله: (وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك

ص: 129


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 8 / 244، المجلسي، بحار الأنوار، 100 / 108

لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة، أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلا)(1).

والأمر الأخر الذي نستنتجه من النسب المتقدمة أن الخليفة أعفى السلع الاستهلاكية الخضروات، وكذلك قسماً من السلع الإنتاجية القطن من الضريبة، وذلك لعدة أسباب منها إن الخضروات تزرع لأكثر من مرة وفي أوقات مختلفة من السنة، وهذا يجعل جباية الضريبة صعبة وغير مجدية لقلة قيمة هذه المنتجات، كذلك فإن فرض الضريبة على هذه المنتجات يؤدي إلى ارتفاع أسعارها، ويتبع ذلك الإضرار بالناس التي تعتمد على هذه المنتجات في استهلاكها اليومي، لذلك كان إعفاؤها من الضريبة تشجيعاً على زراعتها وإنتاجها بكميات كبيرة(2)، وقد ساوى الخليفة بين المسلمين وأهل الذمة في الإعفاء من هذه الضريبة، لأنه أعفى المسلمين من دفع هذه الضريبة أيضا(3)، أما إبقاء الضريبة مرتفعة نسبيا بالمقارنة مع غيرها على الكرم، فإنها ضريبة مانعة، لأن الكرم كان يستخدم في صناعة الخمور في تلك المناطق(4)، وهو محرم في الشرع الإسلامي، لذلك أراد الخليفة من خلال رفع الضريبة الحد من إنتاجهفي الدولة الإسلامية.

وتعد طريقة جباية الضريبة من الأمور التي اهتم بها الخليفة أيضا، إذ راعى في هذا الأمر تطابق الجباية مع تعاليم الإسلام القاضية باحترام الإنسان، فراعى الوضع المالي للفلاح، ولم يسمح للجباة بإكراه الفلاحين من أجل الجباية، وإبداء المرونة

ص: 130


1- ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 137، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17 / 70، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 606
2- البجاوي، دراسات في الفكر الاقتصادي، ص 87
3- الطوسي، النهاية، ص 176، الحلي، المعتبر، 2 / 496
4- البجاوي، دراسات في الفكر الاقتصادي، ص 87

في وقت الجباية، فكتب إلى جميع الموظفين الذين يعملون في جباية الخراج من أجل توضيح الكيفية التي يجبى بها الخراج، وكان من ضمن التعليمات التي أصدرها الإمام للموظفين هي إعطاء الفلاحين الحرية الكاملة في التنقل من أجل تنمية الأرض، لأن الفلاح يحتاج إلى حرية في عمله حتى يستطيع أن يكون إنتاجه أك رب، وكان الإمام علي (عليه السلام) يرى أن هؤلاء العمال كانوا ممثلين للخلافة الإسلامية، وسفراء لها أمام الناس، وعليه يجب ان يكونوا بمستوى هذا التكليف، على الرغم من كونهم موظفين صغار، ويترتب على ذلك حرص الخليفة على اختيار موظفين كفوئين من اجل تمثيل الدولة، كما أن الخليفة شدد على هؤلاء الموظفين أن لا يجبروا الفلاحين في حالة عدم امتلاكهم لمبالغ الضريبة أن يبيعوا ملابسهم أو دوابهم التي يعملون عليها، ويمكن تأجيل جباية الضريبة إلى وقت تيسر المال بيد الفلاح، وأعطاهم تعليمات مشددة تمنعهم من ضرب أي من الفلاحين بسبب الأموال(1)، والذي يبدو أن الفترة التي سبقته شهدت مثل هذه الممارسات غير الإنسانية، إذ سجلت بعض مصادر التاريخ حالات من التعذيب الذي مارسه العمال على الفلاحين، بسبب عدم دفع مبالغ الخراج، ولكن من المهم الإشارة إلى أن هذه الحالات قد تكون تصرفات فردية من العمال، وليس بالضرورة أن تكون برضى الخلفاء(2).

ص: 131


1- أبو يوسف، الخراج، ص 70، أبو عبيد، الأموال، ص 44، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17 / 19
2- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 147، السهمي، تاريخ جرجان، ص 128

وتأكيدا على المعنى السابق، كان الخليفة لا يسمح لعماله حتى بالتكبر على الناس، فكتب لأحد عماله يحثه على التواضع للناس(1)، على الرغم من أن هؤلاء الفلاحين هم بالغالب غير مسلمين، لكن هذا أمر لا يوجب عدم احترامهم أو الاعتداء عليهم، والاحترام هنا لا يعني الحماية فقط، بل هم كالمسلمين في الحقوق، وجباية الخراج من هؤلاء لا يعني إذلالهم، لأن الإسلام جاء لتكريم الإنسان مهما كان دينه واتجاهه الفكري والعقائدي، لذلك نرى الإمام علياً (عليه السلام) يحث عماله على إبداء أعلى درجات المرونة في الجباية، وهذا ليس أمرا طارئا على الإسلام، بل هو أمر أساسي فيه، فهؤلاء يتمتعون بحقوق في الدولة الإسلامية، وهم محترمو النفس والمال والعرض، وقد نلمس في حرص الإمام علي (عليه السلام) على معاملة من يدفع الخراج دافعاً اقتصادياً أيضا، علاوة على الدافع الإنساني، فالاعتناء بهؤلاء فضلاً عن انه يتوافق مع مبادئ الإسلام، فإن له بعداً آخر، إذ أن إفقارهم يعني الإضرار بهذا المورد الاقتصادي المهم والمفصل الحيوي من مفاصل الاقتصاد الذي تقوم عليه الدولة، لأن إفقار هؤلاء وظلمهم يضعف إنتاجهم، ويؤدي إلى خراب الأرض وضياع إنتاجها، وهذا الأمر يتوافق مع السياسة الاقتصادية التي اتبعها الإمام (عليه السلام)، والمقترنة بمبادئ الإسلام الأساسية القائمة على العدل الاجتماعي، لاسيما إن المجتمع الإسلامي كان زراعيا بالدرجة الأولى، وبذلك كان كيان الأمة الاقتصادي يقوم على الأرض ومنتجاتها، والرفاهية الاقتصادية التي كان الإمام يسعى إلى إنشائها في دولته كانت تعتمد على صيانة هذا المورد، وذلك بأن تتوفر لهؤلاء الفلاحين أفضل الوسائل من أجل الارتفاع بإنتاج هذه الأرض، لذلك نجد الإمام علياً (عليه السلام) يوصي واليه على مصر مالك بن الحارث الاشتر: (وأشعر قلبك الرحمة

ص: 132


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 137

للرعية والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا، تغتنم أكلهم فإنهم صنفان، إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق)(1).

أما تعامل الإمام علي (عليه السلام) مع المسلم الذي يعمل في أراضي الخراج فهو لا يختلف عن غير المسلم، ففي احتساب الضريبة كان يؤخذ منه نفس المقدار المفروض على غيره دون تمييز، لأن ملكية المسلم لهذه الأرض غير حقيقية، فهو اشتراها من الفلاح الذي يعمل في هذه الأرض، والتي هي ليست ملكه، لأنها أرض خراج مملوكة في الأصل للدولة، ومن ثم هي ملك لجميع المسلمين، وعليه عندما يشتري المسلم هذه الأرض من الفلاح، يجب أن يدفع مبلغ الضريبة المقدرة عليها(2)، وقد أشارت الروايات إلى هذا المعنى إذ قال بعض العمال له إن أحد المسلمين اشترى من أرض الخراج، فأمرهم أن يأخذوا منه الضريبة نفسها التي تؤخذ من أهل الذمة(3)، لكن الأمر المختلف هنا هو أن المسلم عليه ضريبة أخرى يدفعها للدولة هي ضريبة الزكاة، وتؤخذ من أموال المسلم التي تمضي عليها سنة، وفي حال شرائه لأرض الخراج تكون الأموال التي يحصل عليها من الأرض خاضعة لضريبة الزكاة، لذلك لا تؤخذ الزكاة من المسلمين الذين عندهم أرض خراجية، حتى لا تجتمع ضريبتان على المورد نفسه(4)، أما أهل الذمة الذين يدخلون الإسلام، فتسقط ضريبة الخراج عن أراضيهم إذا كانت هذه الأراضي ملكا لهم، ويؤخذ منهم بدلا عن ذلك ضريبة العشر، كما هو حال المسلمين، أما إذا كان الذمي يعمل في أرض

ص: 133


1- ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 127، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17 / 32، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 600
2- البيهقي، السنن الكبرى، 9 / 140، الطوسي، تهذيب الأحكام، 4 / 146
3- الطوسي، تهذيب الأحكام، 4 / 147
4- أبو يوسف، الخراج، ص 207 - 208، البلاذري، فتوح البلدان، ص 42

الخراج أي الأراضي التي فتحت عنوة، والتي هي مملوكة للدولة فلا تسقط عن تلك الأرض ضريبة الخراج، ويؤكد ذلك إن أحد الفلاحين الذين يعملون في أرض السواد دخل إلى الإسلام، وجاء إلى الإمام علي من أجل إسقاط الضريبة عن الأرض التي يعمل فيها، لكن الإمام علياً رفض الأمر، لأن أرض السواد فتحت عنوة وهي مملوكة للدولة، لكنه أسقط عنه ضريبة الجزية لدخوله الإسلام، وقال له: (أما جزية رأسك فنرفعها، وأما أرضك فللمسلمين)(1).

وفي الوقت نفسه الذي كان الإمام علي (عليه السلام) قد راعى فيه الفلاحين في جباية الضريبة، واتبع سياسة الرفق واللين معهم وراعى ظروفهم وأحوالهم، وساعدهم عندما كانوا يتعرضون إلى آفات زراعية أو غيرها، وضَمِن تقديم الخدمات الزراعية لهم مثل حفر الأنهار وتجفيف المستنقعات(2)، شدد الإمام علي (عليه السلام) على ضرورة الاهتمام بجباية هذه الضريبة، لأن اقتصاد الدولة يقوم على جباية هذه الضرائب، وحياة المسلمين تعتمد عليها، كما أن الدولة لا تستطيع أن تقدم الخدمات، إلا إذا كانت تمتلك أموالاً كافية، فكان لا يسمح بأن يكون هناك تلاعب أو تهاون في جباية الضرائب، لأن هؤلاء الفلاحين يجب ان يؤدوا واجباتهم بالمقدار الذي تقدمه لهم الدولة من خدمات، فإذا عيّن أحد عمال الخراج يوصيه بمجموعة من التعليمات، سواء في النسبة المقررة للضريبة أو الجدة في جمع الخراج من غير ظلم للفلاحين(3)، ويمكن أن نستشف هذا الأمر من الكتاب الذي وجهه إلى واليه على المدائن الصحابي حذيفة بن اليمان: (وآمرك أن تجبي خراج الأرضين على الحق والنصفة، ولا تتجاوز

ص: 134


1- ابن ادم، الخراج، ص 61، البيهقي، السنن الكبرى، 9 / 142
2- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 179، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17 / 70
3- الطوسي، تهذيب الأحكام، 4 / 98

ما تقدمت به إليك، ولا تدع منه شيئا، ولا تبتدع فيه أمرا)(1)، وهذا الكتاب يبين لنا أمراً آخر، هو إن الإمام علياً كان لا يسمح بأن يجتهد الوالي أو عامل الخراج ويزيد على الضرائب التي فرضتها الدولة، كما يؤكد ما ذهبنا اليه من أن الخليفة كان حريصا على هذا المورد المالي المهم، لذلك عندما تعذر زياد بن أبيه والي فارس للعامل الذي أرسله الإمام علي (عليه السلام) من أجل أخذ أموال الخراج المخصصة للعاصمة، في أن الخراج ناقص لأن مجموعة من الفلاحين تمردوا على الدولة ولم يدفعوا الخراج المقرر عليهم، أرسل إليه كتابا شديدا، لأنه كان يرى أن الوالي إما يكون سرق المال ويريد أن يغطي سرقته بهذا الادعاء، أو أن يكون مقصرا في جمع الخراج(2)، والأمر إن فيهما تقصير غير مقبول من الوالي، والذي يعنينا هنا إن الإمام علياً (عليه السلام) كان لا يقبل من ولاته أي تقصير في جمع الخراج.

أما أهم المناطق التي كان يوليها الإمام علي عناية خاصة فهي العراق السواد، وذلك لأنه المصدر الرئيس لاقتصاد الدولة، إذ أن أغلب الخراج الوارد إلى الخزينة المركزية كان يأتي من أراضيه، كما انه كان تحت سيطرة الخلافة بالكامل، لذلك كان الإمام علي (عليه السلام) حريصاً كل الحرص على العراق، لأنه يعرف أهميته الاقتصادية من جهة، فهو ينفتح على المشرق كله وإليه تجبى وارداته، فالوالي الذي يتولى البصرة أو الكوفة، يكون مسؤولاً عن ذلك كله، وأهميته النوعية من جهة أخرى، وعبر الإمام (عليه السلام) عن ذلك بالقول: (إن العراق بلد الرجال والأموال)(3)، وإذا عرفنا

ص: 135


1- المجلسي، بحار الأنوار، 28 / 88
2- البلاذري، انساب الأشراف، ص 162، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 204
3- أبو جعفر الإسكافي، المعيار والموازنة، ص 98، ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 71، الدينوري، الأخبار الطوال، ص 143

أن العراق كان غنيا بالأموال، فإن الرجال الذين جاء ذكرهم في مقولة الخليفة تعني الصلابة والقوة والإيمان، لاسيما وأن الخليفة قد ترك المدينة، وهي العاصمة في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء الثلاثة الذين جاؤوا بعده، وترك في المدينة الصحابة وأبناءهم وهم الجيل الأول من المسلمين وبناة الدولة، واتجه إلى العراق لأن القبائل العربية التي أسست مدن العراق كانت أقوى القبائل العربية، وأبناء هذه القبائل هم من أشد المؤيدين للتغيير الذي يريده الخليفة، لأنهم أكثر المتضررين من السياسات المالية السابقة، لذلك قرر الخليفة نقل عاصمته والاعتماد على هذه القبائل وأبنائها وهم الجيل الثاني من المسلمين، كما التحق عدد كبير من الصحابة بالخليفة ممن آمن بضرورة التغيير.

وكان طلحة والزبير حريصين على أن يوليهما الإمام (عليه السلام) البصرة والكوفة(1)، لكنه رفض الأمر لأنه يعرف أهمية العراق وثرواته لذلك كان يريد أن يولي من يأتمنه عليه لاسيما ولاية الكوفة، لذلك عندما أعلن طلحة والزبير والسيدة عائشة التمرد على الخلافة كان الإمام مهموما لا يدري أين سيتوجهون، فلما عرف انهم أرادوا البصرة سر بذلك وقال: (الكوفة فيها رجال العرب وبيوتاتهم(2)، وهو القائل: أهل الكوفة أشد حبا إلي، وفيهم رؤوس العرب وأعلامهم، فكتب إليهم أني قد اخترتكم على الأمصار بالأثرة)(3).

ص: 136


1- البلاذري، انساب الأشراف، ص 216
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 477
3- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 493، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 14 / 16

ب- الجزية

تعد الجزية المورد الثاني لبيت المال، وهي مثل الخراج تشكل أهمية كبيرة لبيت المال، إلا أن المعروف هو ان الجزية كانت أكثر ما تؤخذ من أهل الذمة الذين يسكنون في المدن، والذين لم تكن لديهم أراضٍ زراعية، أما إذا كان أهل الذمة يمتلكون أراضٍ فلا تؤخذ الجزية منهم والخراج من أراضيهم، بل تؤخذ منهم إحدى الضريبتين إما الجزية أو الخراج(1).

وقد أخذت الجزية من أهل الكتاب على أساس الآية القرآنية «قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ»(2)، لذلك أخذت الجزية من اليهود والنصارى والمجوس(3)، وبعض الصابئة(4)، ولم تؤخذ من المشركين لأنهم ليسوا أهل كتاب(5)، وفرضت الجزية على الرجال من أهل الكتاب الأصحاء العقلاء البالغين، دون النساء والعبيد والأطفال والمجانين ورجال الدين مثل الرهبان(6).

ص: 137


1- الكليني، الكافي، 3 / 567، الطوسي، الاستبصار، 2 / 53، الحلي، منتهى الطلب، 2 / 966، الكلانتري، الجزية وأحكامها، ص 132 - 135
2- سورة التوبة، الآية 29
3- الطوسي، المبسوط، 2 / 36
4- الحلي، مختلف الشيعة، 4 / 431، الكلانتري، الجزية وأحكامها، ص 73 - 78 . 7.Bell ، op. cit.، p17
5- الكلانتري، الجزية وأحكامها، ص 78 - 95 . 7.Bell ، op. cit.، p17
6- الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 154

وهذه المبالغ المالية التي تستوفى من هؤلاء كانت تؤخذ منهم نظير حماية الدولة لهم ولحريتهم في ممارسة شعائرهم، لذلك نرى أن هناك مجموعة من الشروط يجب أن تتوفر من أجل إعطاء غير المسلمين الذمة والعهد هي:

1- أن لا يقوم أهل الذمة بما يتنافى مع مفاد العقد المبرم كالتآمر على الإسلام ومصالح المسلمين، وشن الحرب ضدهم، ومساندة أعدائهم والمشركين.

2- أن يلتزم أهل الذمة بأحكام الإسلام الجزائية التي تطبق بحقهم.

3- دفع مبلغ سنوي من المال تحت عنوان الجزية للدولة الإسلامية(1).

وفي مقابل ذلك ضمن لهم الإسلام احترام دياناتهم وعقائدهم وحقوقهم، وأبرم معهم أشبه بالمعاهدات على شكل عقود من أجل التعايش السلمي، والأموال التي تؤخذ منهم تصرف في مصالح الوطن الإسلامي الذي يستظل هؤلاء بظله، وينعمون بالأمن الذي يوفره لهم هذا الوطن، والدفاع عنهم إذا تعرضوا للخطر، دون أن يكلفهم في أي مهمة عسكرية2، إلا بالقدر الذي يدافعون به عن مصالحهم التي قد تتعرض للخطر، وقد عبر الإمام علي (عليه السلام) عن هذا المعنى في معرض شرحه لأسباب أخذ الجزية من أهل الذمة إذ قال: (إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا)(2).

والجزية تشبه ما يؤخذ من المسلمين بعناوين مختلفة مثل العشر والزكاة، فما تأخذه الدولة الإسلامية من الأقليات ليست ضريبة قاسية، وإنما هي في مقابل الخدمات

ص: 138


1- كديور، المشروعية السياسية، ص 148
2- ابن قدامة، المغني، 10 / 479

المختلفة التي تقدمها لهم، فهي إذا ضريبة ضئيلة يقابلها تأمين الإسلام لحياتهم الاجتماعية والاقتصادية، فيبقى الكتابي على دينه وشعائره وفق شروط وأحكام، ويدفع شيئا إلى الحكومة الإسلامية إزاء ما تؤمنه من ضروريات الحياة له. ولأجل ذلك نرى أن الجزية لا تؤخذ من المجانين والبُلّه والصبيان والنساء وذوي العاهات من الفقراء، وذلك لأنها مقابل الدخل وهؤلاء ليس لديهم دخل(1)، وقد قال الإمام الصادق (عليه السلام): (جرت السنة على أن لا تؤخذ الجزية من المعتوه ولا من المغلوب على عقله)(2)، وقد اختلف المفسرون في معنى الآية القرآنية التي تذكر الجزية، فمنهم من قال إنها تؤخذ منهم جزاء على كفرهم(3)، وبعضهم الآخر رأى أنها تؤخذ فداء عن أنفسهم من اجل حمايتهم(4)، لكننا نعتقد أن الرأي الثاني هو الأرجح، ويؤيد ذلك ما جاء في القرآن الكريم «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»(5)، وما أوردناه من قول الإمام علي: إنما (بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا)، كذلك تأكيده المستمر على العمال بمراعاة أهل الذمة وعدم الاعتداء عليهم(6)، وسنورد الأمثلة على ذلك.

ص: 139


1- أبو عبيد، الأموال، ص 51، الكلانتري، الجزية وأحكامها، ص 97. Bell، op.cit.، p176
2- الكلانتري، الجزية واحكامها، ص 7
3- الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 142، الكلانتري، الجزية وأحكامها، ص 20 - 23
4- الماوردي، الاحكام السلطانية، ص 136، ابن قدامة، المغني، 10 / 567، الكلانتري، الجزية وأحكامها، ص 23 - 26
5- سورة البقرة، الآية 256
6- العيساوي، النظم الإدارية، ص 271

ومن الصعب تحديد الوقت الذي أخذت فيه الجزية، لأن المبالغ المالية التي أخذها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من يهود خيبر ووادي القرى كانت ضرائب على الأرض التي أبقاها في أيديهم لمصلحة تخص المسلمين، ويمكن أن نطلق عليه اسم الخراج، لذلك لا يمكن أن نعد بداية أخذ الجزية عند فتح خيبر، لكن يمكن القول إنه أخذها منهم عندما نزلت سورة التوبة التي تحتوي على آية الجزية في السنة التاسعة للهجرة، أو في السنة العاشرة للهجرة عندما جاءه وفد من نصارى نجران في اليمن، فعرض عليهم الإسلام فلم يقبلوه وقبلوا بالجزية(1)، كما أخذها من يهود تيماء مقابل أن يبقوا في أرضهم، ويضمن لهم حرية العبادة وعدم التعرض لهم(2)، وأن يصبحوا مواطنين في الدولة، لكنهم لا يشتركون في الجيش ويدفعون بدلا من ذلك مبلغاً من المال.

ومن أجل أن نفهم طبيعة الجزية لابد لنا أن نعرف الفرق بينها وبين الخراج، لأنها قد تتداخل معه في بعض الكتب الفقهية والتاريخية، ويمكن أن نجمل هذه الفروق بالآتي:

كان تشريع الجزية بنص في القرآن الكريم، أما الخراج فلم يكن كذلك إذ أنه وضع بناءً على الاجتهاد، كذلك فإن الجزية تسقط عن الشخص إذا أسلم، أما الخراج فلا يسقط بدخول الفرد الإسلام(3)، كما تسقط الجزية عن غير المسلم، إذا شارك المسلمين في الدفاع عن الدولة، مع أنه غير ملزم بهذا الأمر، لأنه يدفع الجزية

ص: 140


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 83
2- البلاذري، فتوح البلدان، ص 28، ابن حجر، فتح الباري، 5 / 17، ابن كثیر، البداية والنهاية، 4 / 248
3- الماوردي، الاحكام السلطانية، ص 153

مقابل حماية المسلمين له(1).

لذلك من الإنصاف القول إن الجزية لم تكن عقوبة لأهل الكتاب، كما ادعى بعض المستشرقين(2)، الذين استقوا آراءهم من بعض الكتب الفقهية لبعض مذاهب المسلمين(3)، التي تذهب إلى أن الجزية كانت بمثابة عقوبة لهؤلاء، بينما لا نجد في سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يؤيد ذلك، كذلك في سيرة الخلفاء الذين أتوا بعده لاسيما الإمام علي (عليه السلام)، لأن أموال الجزية ترد على أهل الكتاب إذا اشتركوا في الحرب مع المسلمين، وإذا لم يستطع المسلمون الدفاع عنهم، يرجعون لهم الأموال المأخوذة منهم(4)، ويمكن الاستدلال على ذلك من إرجاع أبي عبيدة بن الجراح المبالغ المالية التي أخذها من النصارى بعنوان الجزية، لأن المسلمين كانوا غير قادرين على حماية هؤلاء النصارى من الحشد العسكري الذي كان يقوده الإمبراطور البيزنطي هرقل من أجل مهاجمة بلاد الشام، فقال لهم أبو عبيدة: إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه قد بلغني ما جمع لنا من الجموع، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط، وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم(5)،كما أنها كانت تؤخذ من غير المسلمين من أهل الكتاب لتصرف في مصالح الدولة التي ينتمي إليها هؤلاء وللدفاع عنهم،

ص: 141


1- أبو يوسف، الخراج، ص 350، البلاذري، فتوح البلدان، ص 187
2- بيكر، الجزية في دار الإسلام، ص 7، كيتاني، سنوات الإسلام، ص 9، نقلا عن الكلانتري، الجزية وأحكامها
3- السرخسي، المبسوط، 2 / 179، القرطبي، تفسیر القرطبي، 8 / 109 - 110، ابن قدامة المقدسي، الشرح الكبیر، 10 / 605
4- البلاذري، فتوح البلدان، ص 350
5- أبو يوسف، الخراج، ص 81، البلاذري، فتوح البلدان، ص 87

لأنهم غير ملزمين بالخدمة العسكرية كما هو حال المسلمين، واشتراك أهل الكتاب في الفوائد المتحصلة من استقرار الدولة(1).

وقد دافع بعض المستشرقين عن أخذ المسلمين للجزية، فقال توماس ارنولد في كتابه الدعوة إلى الإسلام: (لم يكن الغرض من فرض الجزية على المسيحيين لونا من ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما كانوا يؤدونها عن سائر أهل الذمة، وهم غير المسلمين من رعايا الدولة، الذين كانت تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش في مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين)(2)، كذلك يقول ول ديورانت: (لم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان والنساء والذكور الذين هم دون البلوغ، والأرقاء، والشيوخ، والعجزة، والعمي، والشديد الفقر، وكان الذميون يعفون في نظير هذه الضريبة من الخدمة العسكرية، ولا تفرض عليهم الزكاة، وكان لهم على الحكومة أن تحميهم)(3)، ويمكن القول إن الجزية كانت تعني أن أهل الكتاب يشتركون في الدفاع عن الدولة، لكن ليس عن طريق القتال مع المسلمين، بل عن طريق دفع بعض الأموال، وكما قدمنا فمن غير المعقول أن تعتبر الجزية عقوبة لأهل الكتاب، بل هي مساهمة مادية من أجل الدفاع عن بلده الذي يسكنه، ولو كانت عقوبة لما أعفى منها المسلمون رجال الدين من أهل الكتاب، لأن الأولى أن تؤخذ منهم على أساس إنهم أصحاب الرأي في التمسك بدينهم، كذلك فهي تسقط عن الذمي إذا اشترك مع المسلمين في الدفاع عن الدولة، أو إذا لم يستطع المسلمون الدفاع عنهم يرجعون اليهم

ص: 142


1- المطهري، الجهاد، ص 66 نقلا عن الكلانتري، الجزية وأحكامها، ص 32
2- ص 79
3- ديورانت، قصة الحضارة، 13 / 30 - 31

الأموال التي أخذوها منهم(1).

أما مقدار الجزية فلا يوجد مقدار ثابت لها بل تخضع لرأي الإمام الذي قد يراعي فيها قدر غنى وفقر أهل الذمة(2)، وذلك لأن أهل الذمة يختلفون فيما بينهم في الغنى، واستدل فقهاء المسلمين في تقدير الجزية على ما أخذه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته من أهل الذمة، وجعلوه المقدار المحدد لأخذ الجزية، كما عد بعضهم الآخر المقدار الذي أخذه الخليفة عمر من أهل الذمة هو المقدار المحدد للجزية، وسنحاول أن نأخذ بعض الأمثلة في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمعرفة مقدار الجزية المحددة.

ذكر المؤرخون أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر معاذ بن جبل عندما أرسله إلى اليمن أن يأخذ من أهل الذمة من كل حالم ديناراً(3)، وصالح أهل نجران عندما أتوه على ألفي حلة، النصف في صفر، والنصف الآخر في رجب(4)، وفي رواية إنه جعلها ديناراً أو قيمته من الثياب(5)، وفي رواية الشافعي إن الثياب التي فرضها على أهل نجران كانت قيمتها ديناراً على كل رجل(6)، وقد بلغت الأموال المجباة من

ص: 143


1- اليوزبكي، دراسات في النظم العربية الإسلامية، ص 135
2- المفيد، المقنعة، ص 272
3- الدارقطني، سنن الدارقطني، 2 / 87، ابن قدامة، المغني، 10 / 566، النووي، المجموع، 19 / 402، الحلي، منتهى الطلب، 2 / 964، ابن حجر، فتح الباري، 6 / 185
4- أبو داود، سنن أبي داود، 2 / 43، البيهقي، السنن الكبرى، 9 / 195، ابن قدامة، المغني، 10 / 566، ابن كثیر، البداية والنهاية، 12 / 145
5- الشافعي، كتاب الام، 4 / 189، ابن أبي شيبة، المصنف، 3 / 20، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 81، البيهقي، السنن الكبرى، 9 / 193
6- البيهقي، السنن الكبرى، 9 / 195

نجران مائة وستين ألف درهم في السنة(1). بينما فرض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على نصراني يسكن مكة ديناراً في كل عام(2)، وربما يكون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد راعى فقر النصارى في تلك المناطق، لذلك فرض ديناراً واحداً على النصارى الساكنين فيها.

وعندما فتح المسلمون الطائف كانت هناك مجموعة من اليهود يعملون في التجارة، ففرضت عليهم الجزية(3)، لكنها لم تفرض على أهل الطائف لأنهم دخلوا الإسلام، وفرضت على أهل الكتاب الساكنين في تبالة وجرش وهي من المناطق التي تقع بين اليمن ومكة، بمقدار دينار على كل رجل(4)، وصالح أهل تبوك على الجزية فوضع على كل رجل منهم ديناراً، واشترط عليهم أن يطعموا من مر بهم من الجيش الإسلامي، وتعهد لهم بالحماية وعدم التعرض(5)، وهكذا كان الحال مع أذرح الذين صالحوه على مائة دينار في السنة، وأهل الجرباء وأهل مقنا الذين صالحوه على ربع صناعتهم وزراعتهم(6)، كما فرضت الجزية على المجوس الذين كانوا يسكنون في اليمن، والذين لم يدخلوا الإسلام(7)، وكذلك الحال مع المجوس واليهود في

ص: 144


1- لأن الجزية كانت أربعة الاف حلة في السنة، وثمن كل حلة أوقية، والأوقية أربعون درهما، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1 / 287 - 288
2- الشافعي، كتاب الام، 4 / 189، الصنعاني، المصنف، 6 / 86، البيهقي، السنن الكبرى، 9 / 195
3- البلاذري، فتوح البلدان، ص 41
4- البلاذري، فتوح البلدان، ص 43
5- البلاذري، فتوح البلدان، ص 43، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 2 / 372
6- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1 / 290، البلاذري، فتوح البلدان، ص 43
7- البلاذري، فتوح البلدان، ص 50

البحرين(1).

وقد كانت سياسة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أهل الكتاب تقوم على عدم الإكراه، وهذا الأمر جزء من تعاليم الإسلام التي تترك للإنسان الحرية في اختيار العقيدة، على عدِّ أن الإسلام هو فكر إنساني منظم للحياة، والإنسان مخير في قبوله أو عدمه، فكان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرض على أهل الكتاب الإسلام، فإن رفضوه كان يفرض عليهم الجزية، ويمكن أن نستدل على هذا الأمر، من خلال الكتاب الذي أرسله الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى والي نجران عمرو بن حزم الأنصاري (وانه من أسلم من يهودي أو نصراني إسلاما خالصا من نفسه ودان بدين الإسلام، فإنه من المؤمنين، له مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن كان على نصرانيته أو يهوديته، فإنه لا يرد عليهم، وعلى كل حالم: ذكر أو أنثى، حر أو عبد دينار واف من قيمة المعافر، أو عوضه ثيابا)(2).

والأموال المجموعة من الجزية كانت تنفق على المقاتلين في الدولة الإسلامية، وذلك لأن هؤلاء هم المسؤولون عن حماية الدولة، وليس لهم عمل سوى ذلك، وهذه الأموال أخذت من أهل الكتاب تحت عنوان حمايتهم وعدم اشتراكهم في الخدمة العسكرية، لذلك يكون المقاتلون هم المستحقون لها دون غيرهم من الطبقات الاجتماعية(3)، وهذا يؤيد ما ذهبنا اليه من أن الجزية كانت تؤخذ من أهل الكتاب،

ص: 145


1- البلاذري، فتوح البلدان، ص 55
2- ابن هشام، السيرة النبوية، 4 / 200، المتقي الهندي، كنز العمال، 5 / 866. 8.Bell ، op. cit.، p17
3- الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 2 / 53، الطوسي، تهذيب الأحكام، 4 / 118، فان فلوتن، السيادة العربية، ص 50، زيدان، أحكام الذمیين، ص 143

من أجل حمايتهم وتأمين سلامتهم، وعدم إعطاء أموال الجزية لغيرهم، لأنها خاصة بالجنود الذين يؤدون الخدمة العسكرية، والدفاع عن الدولة الإسلامية، ومن ضمنها الدفاع عن أهل الذمة، على عدِّ أنهم جزء من الدولة الإسلامية(1).

وموعد جباية الجزية في نهاية كل سنة أو في بداية العقد مع المسلمين(2)، وقد تقسط هذه الجزية على جزئين أو أكثر حسب العقد المبرم بين الطرفين، لذلك كان اتفاق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع نصارى نجران على جزية مقدارها ألفا حلة، يدفعون نصفها في شهر صفر والنصف الباقي في شهر رجب(3)، لكن هذا التقسيط لا يعني أنها تؤخذ أكثر من مرة في السنة، بل تؤخذ مرة واحدة فقط(4)، والتقسيط يقصد منه التخفيف.

وقد يضاف إلى كمية الأموال المأخوذة شرط استضافة المسلمين المارين بمناطق أهل الذمة لمدة قليلة يوم أو يومين أو ثلاثة، وذلك لأن المسلمين الذين يذهبون إلى مناطق يسكنها أهل الذمة، سواء كانوا من الجنود أو الموظفين يكونون بعيدين عن مناطق سكناهم، وهم بحاجة إلى الطعام، فكان هذا الشرط بمثابة علاج لهذا الأمر، لذلك كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما يعقد عقدا مع أهل الذمة يشترط عليهم أن يضيفوا المسلمين لمدة محدودة، ويشترط حتى نوع الطعام المقدم من قبل أهل الذمة للمسلمين، حتى لا يستطيع أحد من المسلمين أن يأخذ من أهل الذمة

ص: 146


1- الكلانتري، الجزية وأحكامها، ص 141
2- البيهقي، سنن البيهقي، 9 / 195، الكلانتري، الجزية وأحكامها، ص 151
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1 / 288، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 83، البيهقي، سنن البيهقي، 9 / 195
4- الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 2 / 48، المفيد، المقنعة، ص 275

أكثر من الاتفاق الذي عقدوه مع المسلمين، ومن الأمثلة على ذلك الصلح الذي عقده الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أهل إيلة، إذ اشترط عليهم أن يضيفوا من مر بهم من المسلمين لمدة ثلاثة أيام(1)، وإذا كانت هذه الضيافة غير مشروطة فليس في أموالهم للمسلمين شيء(2)، وفي حالة تقديم أهل الذمة شيئاً للمسلمين، فيحسب ذلك لهم من أموال الجزية(3).

ومن جانب آخر فقد شدد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على احترام أهل الذمة وعدم التعدي على أموالهم بحجة الضيافة، لأن بعض أهل الذمة اشتكوا اليه من أن المسلمين استغلوا هذا الشرط، وقاموا بذبح مواشي اليهود الساكنين في خيبر، وقاموا بأكل ثمارهم من دون أن يدفعوا الثمن، وتعدوا على نسائهم بالضرب، فأمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أحد الصحابة بالنداء على المسلمين المتواجدين هناك وقال لهم: (الجنة لا تحل إلا لمؤمن)، وعندما صلوا قال لهم: (أيحسب أحدكم متكأ على أريكته، قد يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن؟ ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء، انها لمثل القرآن أو أكثر، وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم، إذا أعطوكم الذي عليهم)(4)، ومن المعروف أن الكلام الذي يقوله الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للصحابة هو قانون لا يجوز نقضه أو التجاوز عليه، لذلك عندما ولى زيد بن أرقم استيفاء مبالغ الجزية من أهل الذمة قال له: (ألا من ظلم معاهدا،

ص: 147


1- الشافعي،كتاب الام، 4 / 189، البيهقي، السنن الكبرى، 9 / 195، الطوسي، المبسوط، 2 / 38
2- الحلي، تذكرة الفقهاء، 1 / 441
3- أبو عبيد، الأموال، 119
4- أبو داود، سنن أبي داود، 2 / 45، البيهقي، سنن البيهقي، 9 / 204، ابن قدامة، المغني، 11 / 76

وانتقصه وكلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة)(1)، كذلك فإن آيات القرآن الكريم تركز على عدم الاعتداء على أهل الكتاب «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»(2)، وعلى هذا الأساس فإن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثبت على المسلمين أن لا يأخذوا من أهل الذمة إلا الأموال المقررة في الاتفاقيات المعقودة بينهم، وليس لهم أن يزيدوا على الأموال المقررة في الاتفاقيات(3).

ويبدو أن أموال الجزية كانت تشكل موردا ماليا مهما، يحتاج إليه المسلمون لتمشية حياتهم، وهو مورد ثابت يرد إلى خزينة الدولة كجزء من الضرائب التي تفرضها الدولة، على رعاياها سواء أكانوا مسلمين أو غير مسلمين، وقد نظمه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وحدد مقاديره حسب الطاقة والإمكانية التي يتمتع بها دافعوها، وفي الوقت نفسه ضمن لهم حقوقاً وثقها بالكتب التي أرسلها إليهم.

وفي عهد الخليفة أبي بكر أخذ خالد بن الوليد قائد فتوح العراق الجزية من نصارى الحيرة، وهؤلاء كانوا عربا من قبائل تميم وطيء وغسان وغيرهم(4)، كما أخذها الخليفة عمر من أهل الكتاب، إلا أنه كان مترددا في أخذها من المجوس، فأخبره عبد الرحمن بن عوف أنه سمع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:

ص: 148


1- أبو داود، سنن أبي داود، 2 / 45، البيهقي، سنن البيهقي، 9 / 205، المتقي الهندي، كنز العمال، 4 / 364
2- سورة الممتحنة، الآية 8
3- الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 2 / 48
4- البلاذري، فتوح البلدان، ص 148

(سنوا بهم سنة أهل الكتاب)، لذلك أخذها الخليفة عمر من المجوس كما أخذها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من مجوس هجر(1)، وعندما فتحت الشام كتب إلى أمراء الأجناد أن يأخذوا الجزية من البالغين من أهل الكتاب، وكانت مقاديرها التي حددها الخليفة بالشكل الآتي:

جعل عمر بن الخطاب الجزية على البالغين من الرجال أربعة دنانير، وأن يضيفوا جيش المسلمين إذا مر بهم، وحدد نسبة الطعام الذي يقدم للمسلمين، وكتب بذلك عقودا معهم(2)، إلا أن هذه الجزية لم تكن ثابتة بل كانت مختلفة المقادير، فقد أخذ عياض بن غنم أربعة دنانير في السنة من كل رجل من أهل الذمة الذين كانوا يسكنون في الجزيرة الفراتية، وأن يقدموا للمسلمين بعض الأطعمة مقابل أن تحفظ كنائسهم وأموالهم(3)، بينما لم يفرض عمر الجزية على بني تغلب الذين سكنوا في الجزيرة وأعفاهم منها، واكتفى بأن يؤخذ منهم صدقة مضاعفة، لأنهم أنفوا من دفع الجزية كونهم عربا(4)، ونتيجة لذلك اعتقد أبو يوسف أن الجزية لا تؤخذ من العرب حتى لو كانوا من أهل الكتاب(5)، وهذا تمييز غريب لأن الإسلام لم يكن خاصا بالعرب، بل هو دين أراده الله للناس كافة، فما ميزة العربي على غيره حتى لا

ص: 149


1- الشافعي، الرسالة، ص 431، أبو عبيد، الأموال، ص 33
2- ابن أبي شيبة الكوفي، المصنف، 7 / 582، البيهقي، السنن الكبرى، 9 / 195 - 196، النووي، المجموع، 19 / 394
3- البلاذري، فتوح البلدان، ص 108 - 110، ابن قدامة المقدسي، الشرح الكبير، 10 / 613 - 614
4- البلاذري، فتوح البلدان، ص 113 - 114، السرخسي، المبسوط، 2 / 178، النووي، المجموع، 19 / 392. Kennedy ، op. cit.، p63
5- الشافعي، كتاب الام، 7 / 389، السرخسي، المبسوط، 10 / 40، ابن قدامة، المغني، 10 / 571، لقد تحدثنا في موضوع الخراج عن هذا التمييز بین العربي وغیره في عهد الخليفة عمر بن الخطاب

تؤخذ منه الجزية، مع العلم أن القرآن الكريم لم يميز العربي على غيره في آية الجزية، أما عدم اخذ الخليفة عمر الجزية من نصارى تغلب، فهو رأي رآه وليس له أساس في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وليس من المعقول أن يكون أساساً لتشريع الجزية عند المسلمين، مع العلم أن الرسول لم يأمر بذلك، وقد أخذ الجزية من نصارى نجران وهم عرب من اليمن، ولم يميزهم كونهم عربا، كما أخذها من الغساسنة الساكنين في بلاد الشام، وغيرهم من العرب(1)، كما أننا رأينا أن الخليفة أبا بكر أخذ الجزية من أهل الحيرة التي كان يسكنها مجموعة من قبائل العرب(2).

أما في عهد الإمام علي فلم تردنا تفصيلات كثيرة عن الجزية، وقد يعود السبب إلى أن أكثر مقادير الجزية، كانت محددة في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعهد الخليفة عمر بن الخطاب، لذلك لم تهتم المصادر بذكر الكثير عن هذا الأمر في عهد الإمام (عليه السلام)، كما أن أكثر الفتوح الإسلامية كانت في زمن الخليفة عمر بن الخطاب والخليفة عثمان بن عفان، ومقادير تلك الجزية بقيت ثابتة إلى زمن الإمام علي (عليه السلام)، لذلك لم تشر إليها المصادر، ولم تكن هناك فتوح في عهد الإمام علي (عليه السلام)، حتى تذكر المصادر مقدار الجزية المقررة على المناطق الجديدة، ولم تذكر إلا المعالجات التي أجراها الإمام في عهده على هذه الضريبة.

وأولى الخطوات التي اتخذها الإمام في عهده هي مراجعة العقود، التي أقرت في زمن الخلفاء الذين سبقوه، لكن هذا لا يعني إلغاء هذه العقود، لاسيما أنها كانت مطابقة لتعاليم الإسلام، وبعضها أبرم في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

فتذكر الروايات أن نصارى نجران طلبوا من الإمام علي (عليه السلام)، أن يردهم إلى

ص: 150


1- الحلي، تذكرة الفقهاء، 1 / 438
2- البلاذري، فتوح البلدان، ص 148

اليمن، وقد كان عمر رحّلهم إلى العراق بسبب تجميعهم للأسلحة، الأمر الذي أدى إلى تخوف الخليفة عمر منهم على الدولة الإسلامية، فأجابهم الإمام (عليه السلام) بأن تكون العقود معهم وفق الاتفاق الذي عقدوه مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من حيث المال، وعلى ما عاهدوا عليه الخليفة عمر من حيث بقاءهم في العراق، وتعهد لهم أن لا يؤخذ منهم شيء من غير حق: (إنكم أتيتموني بكتاب من نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه شرط لكم على أن أنفسكم وأموالكم واني وفيت لكم بما كتب لكم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبو بكر وعمر، فمن أتى عليهم من المسلمين فليف لهم، ولا يضاموا ولا يظلموا ولا ينتقص حق من حقوقهم)(1)، وقد قدمنا أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) اشترط على نصارى نجران مجموعة من الشروط، لكنهم نقضوا هذه الشروط لذلك أراد الخليفة عمر بن الخطاب أن يحفظ المسلمين من خطر هؤلاء، لاسيما إن الفترة التي نقضوا فيها عهدهم كان المسلمون فيها يحاربون على أكثر من جهة، لذلك لم يغير الإمام الإجراء الذي اتخذه الخليفة عمر بحقهم(2).

كما قرر الإمام علي (عليه السلام) أن يتعامل مع نصارى تغلب الذين لم يأخذ منهم الخليفة عمر الجزية لأنهم عرب بطريقة مختلفة إذا سمحت له الظروف، لأنهم اشترطوا على انفسهم أن لا يجبروا أولادهم على الدخول إلى النصرانية، فلم يلتزموا بهذا الشرط، لذلك قال الإمام (عليه السلام) (لئن تفرغت لبني تغلب ليكونن لي فيهم رأي، لأقتلن مقاتليهم ولأسبين ذريتهم، فقد نقضوا العهد وبرئت منهم الذمة،

ص: 151


1- أبو يوسف، الخراج، ص 24
2- ابن قدامة، المغني، 11 / 405

حين نصرّوا أولادهم)(1)، وربما أنه كان غير موافق على الاتفاقية التي أبرموها مع المسلمين في عهد الخليفة عمر من عدم دفع الجزية، لاسيما أنه كان يعتقد أنهم ليسوا نصارى ولا يعرفون النصرانية(2).

وفي اطار سياسة الإصلاح التي انتهجها الإمام علي مع كل الموارد المالية للدولة الإسلامية في عهده، باشر بإصلاح ضريبة الجزية، وهذا الإصلاح لم يكن في مبالغها المجباة من أهل الذمة فقط، بل شمل إصلاح طريقة الجباية أيضا والتعامل الذي يستحقه أهل الذمة، لأن هؤلاء تعرضوا إلى بعض أنواع الظلم في الحقبة التي سبقت عهد الإمام، ومن الأمثلة على ذلك أن والي حمص عياض بن غنم كان يعذب أهل الذمة الذين لا يدفعون الجزية، وذلك بأن يقيمهم تحت الشمس الحارة(3)، وهذه الممارسات لا تنسجم مع تعاليم الإسلام، وهي لم تصدر عن الخليفة عمر بل من أحد عماله الذي استغل سلطته بظلم الناس، لكن الخليفة يؤاخذ على أنه أعطاه تفويضاً بالحكم دون ردع، وهو يعرف أن عياض سيتجاوز على أموال المسلمين، لأن الصحابة قالوا له: (كيف تقر عياض بن غنم وهو رجل جواد لا يمنع شيئا يسئله؟ ونزعت خالد بن الوليد في أن كان يعطي دونك)، لكن جواب الخليفة كان غير مفهوم، إذ أخبرهم بأنه يعرف هذا الأمر، لكن على الرغم من ذلك أبقاه في منصبه، والسبب في ذلك كما يرى الخليفة عمر: (وإني مع ذلك لم أكن لأغير أمراً قضاه أبو عبيدة بن الجراح)(4) وهذا الأمر غريب لأن الإسلام أكبر من أبي عبيدة والخليفة عمر، فكيف

ص: 152


1- قدامة، الخراج، ص 80 - 81، الحلي، تذكرة الفقهاء، 9 / 287
2- الطبري، جامع البيان، 6 / 138، المجلسي، بحار الأنوار، 63 / 22
3- أبو يوسف، الخراج، ص 125، ابن حنبل، مسند احمد، 3 / 403، الحاكم النيسابوري، المستدرك، 3 / 290
4- الصنعاني، المصنف، 5 / 455، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 339، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 47 / 277

يسمح لوالٍ بالتصرف بهذه الطريقة، فقط لأن الذي رشحه أبو عبيدة.

ونتيجة لذلك لم يعط الإمام علي لأي شخص تفويضاً مطلقاً بالحكم مهما كانت مكانته في عهد الرسول، أو قربه من الخليفة، أو تمتعه بميزة اجتماعية أو قبلية أو غيرها، وكان شديدا مع المقصرين من الموظفين، كما سيأتي عندما نتحدث عن الإدارة المالية، فكان الإمام يرى ضرورة الإصلاح في هذا الجانب، وقد مر بنا توصيته لأحد عماله، في عدم ضرب أي شخص أو اهانته أو التك رب عليه بسبب المال، إذ قال للعامل: (اياك أن تضرب مسلما أو يهوديا أو نصرانيا في درهم خراج، أو تبيع دابة عمل في درهم، فإنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو)(1)، حتى لو أدى هذا الأمر إلى عدم جباية أي أموال، لأنه كان يرى إن بناء المجتمع واحترام الإنسان أهم من الأموال، فتذكر الروايات ان أحد العمال اعترض على الإمام علي، لأنه رأى أن توصيات الإمام تراعي أهل الذمة كثيرا، وأن هذا العامل سوف لن يجبي أي مبلغ مالي، إذا طبق هذه التوصيات، (يا أمير المؤمنين إذن أرجع إليك كما ذهبت من عندك، قال: وإن رجعت كما ذهبت، ويحك، إنا أمرنا أن نأخذ منهم العفو يعني الفضل)(2).

والأمر الآخر الذي عالجه الخليفة هو بعض الحالات الخاطئة التي استبد بها المسلمون على أهل الذمة، إذ على الرغم من ان هناك اتفاقيات أبرمها المسلمون مع أهل الذمة تقضي بدفع مبالغ مالية للدولة، إلا أنهم تجاوزا عليهم وفرضوا ضرائب خارج نطاق الاتفاقيات التي أبرموها معهم، لذلك عمل الإمام علي (عليه السلام) على رفع الحيف الذي قد لحق بهؤلاء، ومن هذه الحالات أنه مر بالأنبار في طريقه إلى معركة صفين فخرج له بعض أهل الذمة ومعهم دواب كثيرة، وقد صنعوا طعاما

ص: 153


1- الكليني، الكافي، 3 / 540، المفيد، المقنعة، ص 257، الطوسي، تهذيب الأحكام، 4 / 98
2- البيهقي، السنن الكبرى، 9 / 205، ابن الأثير، اسد الغابة، 4 / 24

كثيرا، فسألهم الإمام (عليه السلام) عن السبب الذي اخرجهم، فقالوا هذا أمر تعودنا عليه مع المسلمين الذين يمرون علينا، فتفاجأ الإمام من هذا التصرف الذي يتعارض مع الاتفاقيات المعقودة بين الطرفين، كما إنه مخالف لتعاليم الإسلام، إذ إن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حذر المسلمين من ظلم أهل الذمة، فقال: (ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة)(1)، فلم يرض الإمام علي (عليه السلام) بهذا التصرف، لأن أهل الذمة دفعوا ما عليهم من مستحقات، لذلك فإن هذه الزيادة هي ظلم يقع على هؤلاء الذين هم جزء من الدولة، فقال لهم: (وإنكم لتشقون به على أنفسكم وأبدانكم، فلا تعودوا له، وأما دوابكم هذه، فإن أحببتم أن آخذها منكم، وأحسبها لكم من خراجكم أخذناها منكم، وأما طعامكم الذي صنعتم لنا، فإنا نكره أن نأكل من أموالكم إلا بثمن، قالوا يا أمير المؤمنين: نحن نقدمه ثم نقبل ثمنه، قال: إذا لا تقومونه قيمته .. وإن غصبكم أحد فأعلمونا، قالوا: يا أمير المؤمنين إنا نحب أن تقبل هديتنا وكرامتنا، قال: ويحكم! فنحن أغنى منكم، وتركهم وسار)(2)، وفي رواية أخرى إن المجوس أهدوا للإمام علي بعض الهدايا بمناسبة عيد النوروز(3)، فوضع هذه الهدايا في بيت المال ووزعها بين المسلمين، ثم حسبها من جزيتهم التي يدفعوها

ص: 154


1- أبو داود، سنن أبي داود، 2 / 45، البيهقي، السنن الكبرى، 9 / 205
2- المنقري، وقعة صفین، ص 144، ابن عبد ربه، العقد الفريد، 3 / 203 - 204، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 204، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 425
3- النوروز أو النروز حسب الترجمة العربية، هو عيد رأس السنة الفارسية ومعناه اليوم الجديد، يصادف اليوم العاشر من شهر آيار، ينظر ابن ادريس الحلي، السرائر، 1 / 315، الأنصاري، كتاب المكاسب، 6 / 331

للمسلمين(1)، على الرغم من أنهم أعطوها هدية شخصية له، ولم يقصدوا أن تقتطع من مبالغ الجزية، لأن أمر هدايا النوروز هو شيء تعودوا على دفعه لملوك الدولة الساسانية(2).

إن هاتين الروايتين اللتين ذكرناهما لم تكن حالة فردية صادفها الإمام، بل هي جزء من سياسة إصلاح شاملة لهذه الضريبة والناس الذين تجبى منهم، فليس الهدف من أخذ الجزية إذلال الإنسان حتى لو كان غير مسلم مادام جزءاً من دولة المسلمين، فهو منهم من حيث تساويه معهم في حقوق المواطنة الصالحة، لذلك يجب أن يشعر بقربه من الدولة التي ينتمي إليها من خلال الحفاظ على كرامته وما يمتلكه، والمسلمون ليسوا سيوفا مسلطة على هؤلاء يتربصون بهم الدوائر، بل بالعكس كانوا جزءاً من تكوين الدولة التي ينتمون إليها جميعا، أما مسألة الدين فالناس أحرار في ما يعتنقون، وهذا ما جاء في القرآن الكريم، و سنتعرف على هذا الأمر من خلال دراستنا لتعامل الإمام مع الموظفين الذين يجبون الضرائب.

كما التزم الخليفة التزاما دقيقا بالدفاع عن أهل الذمة، ما داموا قد عقدوا اتفاقيات مع المسلمين تتضمن حمايتهم والاحتفاظ بعقائدهم، لذلك كان الخليفة يرى إنهم لا يختلفون عن المسلمين شيئا، وكان حريصاً عليهم حرصه على المسلمين، لذلك عندما

ص: 155


1- المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 118
2- اليوزبكي، النظم الإسلامية، ص 164. من الجدير بالذكر إن معاوية طالب أهل السواد بهذه الضريبة عندما استولى على حكم الدولة الإسلامية (طالب أهل السواد أن يهدوا له في النوروز والمهرجان ففعلوا ذلك فبلغ عشرة الآف درهم)، واستمرت هذه الحال في عهد الحكام الذين جاءوا بعده، حتى منعها عمر بن عبد العزيز ثامن حكام الدولة الأموية، ينظر أبو يوسف، كتاب الخراج، ص 23 - 24، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 218، 306، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 5 / 321

بلغه أن أصحاب معاوية أغاروا على إحدى الولايات، واعتدوا على من فيها من المسلمين وأهل الذمة، أبدى أسفه الشديد لهذا الأمر وقال: (لقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع قرطها وحجلها ما يمنع منها، ثم انصرفوا لم يكلم أحد منهم، فوالله لو أن امرءاً مسلما مات من هذا أسفا ما كان عندي ملوما، بل كان جديرا)(1)، وهنا لم يفرق الإمام بين المسلمين وغيرهم، فالدولة مسؤولة عن الجميع من دون استثناء، فأرسل حملة للدفاع لمطاردة جماعة معاوية، والدفاع عن الناس في تلك المنطقة(2).

وعندما بدأت عصابات معاوية تغير على أطراف العراق، تنهب وتسلب ما تجده في طريقها من أموال، وتقتل المسلمين وغيرهم، حاول الإمام علي أن يجنب أهل الذمة هذا الصراع الذي لا شأن لهم به، فكتب إلى معاوية بأن هذه الحرب التي يقودها ضد الخلافة، كان يدّعي أنها للطلب بدم الخليفة عثمان، لكنه كان يفسد في الأرض، ويقتل أهل الذمة ويسلب أموالهم (ويحك وما ذنب أهل الذمة في قتل عثمان)(3)، ولما لم تنفع هذه الكتب في تجنيب أهل الذمة وغيرهم هذا الصراع، بدأ الإمام علي (عليه السلام) بملاحقة هذه المجاميع التي كان يرسلها معاوية لإظهار الفساد في الدولة الإسلامية، وفي الوقت الذي كان فيه معاوية يوصي قائد الغارات، بنهب وسلب كل من يصادفوه من المسلمين وغيرهم، (سر حتى تمر بالمدينة فاطرد الناس وأخف من مررت به، وانهب أموال كل من أصبت له مالا ممن لم يكن يدخل في طاعتنا)، كان

ص: 156


1- النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 390، أنظر الدينوري، الأخبار الطوال، ص 212، البلاذري، انساب الأشراف، ص 441، الكليني، الكافي، 5 / 5، المفيد، الإرشاد، 1 / 283، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 74
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 88
3- الثقفي، الغارات، 2 / 489

الإمام علي يوصي جارية بن قدامة القائد الذي عينه للتصدي لهذه الغارات: (اتق الله الذي تصير اليه، ولا تحتقر مسلما ولا معاهدا، ولا تغصبن مالا ولا ولدا ولا دابة وإن حفيت وترجلت)(1)، وفي هذه الرواية دليل على أن الخليفة كان حريصاً على أهل الذمة، يحافظ عليهم قدر ما يستطيع، لكن الذي تعرضوا له لم يكن أمراً خاصاً بهم وحدهم، بل هو بلاء شملهم وشمل المسلمين، وعلى الرغم من أن معاوية كان خارجا عن القانون ومتمردا يقود مجموعة من العصابات، إلا أن الخليفة خاطبه عسى أن يتذكر إنه مسلم، وهؤلاء أصحاب ذمة لجميع المسلمين وكل ذلك حرص على أهل الذمة.

وتذكر روايات أخرى ان الإمام علياً (عليه السلام) كان يوصي الجنود إذا مروا بمنطقة من المناطق التي يسكنها أهل الذمة المكلفون بأداء الخراج والجزية للمسلمين، بعدم مضايقة هؤلاء أو الاعتداء عليهم تحت أي مبرر وفي الوقت نفسه الذي يشدد فيه على هذا الأمر في وصاياه للمسلمين يجعل الولاة الذين عينوا في مناطق أهل الذمة بمثابة مراقبين لأعمال الجيش وقادته، ويعطيهم هذه الصلاحية، وفي هذا دليل على أنهم جزء من دولة المسلمين، والعقود التي أبرموها مع المسلمين محترمة، ولا يمكن التجاوز عليها، استنادا إلى ما قرره الإمام (عليه السلام) بنفسه: (إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا).

وفي حالة تعرض أهل الذمة لأي مضايقة، فإن عمال في تلك المناطق كانوا يمثلون الضابط الرئيس لتصرفات الجيش في مناطقهم، لأنهم يكتبون مباشرة إلى الخليفة، وينقلون له أي سلوك غير صحيح، الأمر الذي قد يؤدي إلى عزل قائد الجيش ومعاقبة المسیء، وهذا واضح من الكتاب الذي وجهه الخليفة إلى الولاة والعمال: (من عبد الله

ص: 157


1- الثقفي، الغارات، 2 / 600، 624

علي أمير المؤمنين إلى من مر به الجيش من جباة الخراج وعمال البلاد: أما بعد فإني قد سيرت جنودا، هي مارة بكم إن شاء الله، وقد أوصيتهم بما يجب لله عليهم من كف الأذى وصرف الشذى، وأنا ابرأ إليكم والى ذمتكم من معرة الجيش، إلا من جوعة المضطر لا يجد عنها مذهبا إلى شبعة، فنكلوا من تناول منهم ظلما عن ظلمهم، وكفوا يد سفهائكم عن مضادتهم، والتعرض لهم فيما استثنيناه منهم، وأنا بين اظهر الجيش، فارفعوا إلي مظالمكم، وما عراكم مما يغلبكم من أمرهم، ولا تطيقون دفعه إلا بالله وبي، أغيره بمعونة الله إن شاء الله)(1)، وهذه الروايات تؤيد ما ذهبنا إليه من أن الجزية لم تؤخذ من أهل الذمة من أجل إجبارهم على الدخول في الإسلام.

وفي مجال حقوق أهل الذمة، فقد كان الإمام دقيقا في إقامة التوازن بين المسلمين وبينهم، لأن المسلمين وخاصة العرب منهم، كانوا يشعرون إنهم مواطنون من الدرجة الأولى، وهذا الأمر ليس مع أهل الذمة فقط بل حتى مع المسلمين من غير العرب، لذلك كان الإمام علي (عليه السلام) يؤكد باستمرار على المساواة في المواطنة بين جميع شرائح المجتمع، ومن الأمثلة على ذلك مخاطبته للجيش قائلاً: (أما بعد فإن الله جعلكم في الحق جميعا سواء أسودكم وأحمركم)(2)، وهذا يعني إن المفاهيم التي يجب أن يعتادها المسلمون في الدولة هي إن المواطنة من حق الجميع في الدولة، سواء أكانوا عرباً أو لا، مسلمين أو أهل كتاب، لذلك عندما قتل أحد المسلمين رجلا من أهل الذمة، حكم على المسلم بالقتل عقوبة على الجريمة التي قام بها، إلا إن أخو الذمي تنازل عن قتل المسلم، فسأله الإمام إن كان أهل المسلم هددوه أو خوفوه، فرد

ص: 158


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17 / 147، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 486
2- ابن مزاحم المنقري، وقعة صفین، ص 126، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 195، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 416

الذمي إنه أخذ مبلغاً من المال نظير التنازل فقبل بالمال(1).

أما المبالغ التي حددها الإمام للجزية في خلافته فلم تذكر الروايات الكثير عنها، وكما قدمنا ربما يعود السبب في ذلك إلى أنها كانت مقررة قبل خلافته، ولم يبرم عقوداً جديدة مع أهل الذمة، لكنها ذكرت إنه فرض على أهل الذمة، الساكنين في العراق جزية على ثلاثة مستويات، فجعل على الأغنياء الذين يلبسون الذهب ثمانية وأربعين درهما في السنة، والتجار من متوسطي الحال أربعة وعشرين درهما، والفقراء اثني عشر درهما فقط(2)، وهي المقادير نفسها التي حددها الخليفة عمر بن الخطاب، وتجبى الجزية في آخر كل سنة(3)، وقد ذكرت الروايات أن الخليفة عمر حدد هذه المستويات الثلاث بناءً على مشورة قدمها له الإمام علي (عليه السلام)(4)، أما مصرفها فكانت للمقاتلين الذين يدافعون عن الدولة(5)، وسنتحدث عن هذا الأمر بالتفصيل في موضوع العطاء.

ص: 159


1- الشافعي، كتاب الام، 7 / 339
2- قدامة، الخراج، ص 368، الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 2 / 49، المفيد، المقنعة، ص 275
3- الحلي، قواعد الأحكام، 1 / 510
4- أبو يوسف، الخراج، ص 38 - 39، أبو عبيد، الأموال، ص 283، ابن شاذان الأزدي، الإيضاح، ص 485، المفيد، المقنعة، ص 272، الحر العاملي، وسائل الشيعة، 15 / 153، الكلانتري، الجزية وأحكامها، ص 127
5- النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 380، الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 2 / 53، الطوسي، تهذيب الأحكام، 4 / 136

ج- الزكاة

شددت تعاليم الإسلام على أن للفقراء حقاً في أموال الأغنياء يجب أن يدفعوه لهم، لأن المال لله والإنسان أمين على هذا المال، فقرنها الله سبحانه وتعالى مع الصلاة في أكثر من خمس وعشرين آية قرآنية ومن هذه الآيات: «الَّذِينَ هُمْ عَلىَ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ، وَالَّذِينَ فِی أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(1)، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(2)، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ الله إِنَّ الله بِماَ تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»(3).

والزكاة هي إحدى المعالجات للقضية الاقتصادية في الدولة الإسلامية، إذ أن الإسلام يهدف من خلالها إلى توزيع الثروة بشكل عادل، والحيلولة دون تراكم الثروات في يد مجموعة دون أخرى، علاوة على كونها مسألة اجتماعية تسعى إلى تأكيد تضامن وتكافل المجتمع، لأنها ضريبة نظامية تأخذ الأموال من الطبقات المترفة لتنفقها على المعوزين والمحتاجين والعاجزين من أفراد المجتمع، فتهدم السياج الذي يفصل بين الجماعات التي تتكون منها الدولة، وتحقق مبدأ أن المال للمجتمع كله، والإنسان مستخلف عليه يضعه حيث شاء الله تعالى.

وعلى الرغم من كثرة الآيات التي ذكرت الزكاة، إلا أن الذي يبدو أن المسلمين لم يلتزموا بهذا الأمر، فجاءت آيات القرآن الكريم لتوضيح الآثار السلبية لتراكم الثروات عند بعض الناس «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ

ص: 160


1- سورة المعارج، الآية 23 - 25
2- سورة النمل، الآية 3
3- سورة البقرة، الآية 110

وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ»(1)، ويبدو أن هذا التأكيد المستمر على الزكاة جاء نتيجة لثقلها على الكثير من المسلمين على أساس حب الإنسان الفطري للمال، كما جاء في القرآن الكريم «وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا»(2)، فقرن الله تعالى في آيات القرآن بين الصلاة - على أهميتها بالنسبة للدين الإسلامي - وبين الزكاة في كثير من آياته، وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (ما فرض الله على هذه الأمة شيئا أشد عليهم من الزكاة وفيها تهلك عامتهم)(3).

أما وقت تشريع الزكاة فلم تذكر المصادر السنة التي شرعت فيها، واكتفت بالقول إنها شرعت في شهر رمضان، والذي يبدو إن تشريعها لم يكن في السنوات الأولى للهجرة، إذ كان المسلمون بحاجة للأموال، وحتى الموسرون من الأنصار كانوا يعيلون المهاجرين، إلا أن هناك روايات تشير إلى أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث المصدقين إلى الناس في السنة التاسعة للهجرة(4).

وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن الرسول حث الناس على الزكاة عندما نزلت الآية التي تأمر بها «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»(5)، وذلك في شهر رمضان، فكان فرضها على الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والحنطة والشعير والتمر والزبيب، ثم أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) انتظر سنة كاملة إلى رمضان الذي يليه من أجل جمع زكاة

ص: 161


1- سورة التوبة، الآية 34 - 35
2- سورة الفجر، الآية 20
3- الكليني، الكافي، 3 / 497
4- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 2 / 329
5- سورة التوبة، الآية 103

الأموال، وعندها وجه عمال الصدقات من أجل جمعها من المسلمين(1).

فكان ذلك إيذانا من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بجباية هذا المورد المالي، وكانت هذه الأموال تؤخذ من الأغنياء وتعطى للفقراء في القبيلة أو المنطقة نفسها، ويحمل ما زاد منها إلى العاصمة المدينة المنورة(2)، وهذا يؤكد أن الصدقات كانت ترمي إلى إعالة المحتاجين من الفقراء، وتسهم في تقليل الفوارق الطبقية في المجتمع، من خلال هذا الإنفاق وعدم الاكتناز(3)، لذلك نرى الأهمية الكبرى التي أولاها الإسلام لهذه الفريضة، لما لها من أثر في الاستقرار الاقتصادي للمجتمع الإسلامي، وأثر في زيادة لحمة المجتمع وتقوية أواصره، والذين يعطونها قال الله تعالى عنهم: «إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ»(4)، يستوفونه في يوم القيامة جنات تجري من تحتها الأنهار، وقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن الله فرض على الأغنياء ما يكفي الفقراء، فإن جاع الفقراء كان حقيقا على الله أن يحاسب أغنياءهم ويكبهم في نار جهنم على وجوههم)(5).

ثم باشر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بجمع هذه الصدقة من الناس، فكان كلما أتاه وفد من وفود العرب الساكنين في الجزيرة أو خارجها ليعلن إسلامه أرسل معهم أحد الصحابة يعلمهم الدين، ويعين أحدهم لجمع الصدقات، ويشترط فيه الشرف والأمانة والقوة من أجل تولي هذا الأمر، أما في المدن العربية التي دخلت إلى

ص: 162


1- الكليني، الكافي، 3 / 497
2- أبو عبيد، الأموال، ص 595
3- نجمان ياسين، الأوضاع الاقتصادية، ص 128
4- سورة الحديد، الآية 17
5- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 61

الإسلام فقد أرسل مجموعة من الصحابة إليها، فبعث المهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى صنعاء لجمع صدقاتها، وزياداً بن لبيد الأنصاري إلى حضرموت، والعلاء بن الحضرمي إلى البحرين، وغيرهم(1)، بينما أرسل أشراف القبائل إلى قبائلهم، فأرسل عدي بن حاتم إلى طيء وأسد، ومالكاً بن نويرة إلى بني حنظلة(2)، وبعث الضحاك ابن سفيان الكلابي إلى بني كلاب(3)، وبعث الزبرقان بن بدر إلى قومه، وكذلك قيس ابن مزاحم المنقري إلى قومه(4).

ومما تقدم نستنتج ان الزكاة كانت جزءاً من أموال المسلمين ومورداً من مواردهم، إلا أن أهميتها الاقتصادية تكمن في جانبها الاجتماعي الذي يتمثل في بناء وتقوية أواصر المجتمع، إذ تزول الطبقية ويستشعر أفراده أنهم جسد واحد، فيتراحموا ويتواصلوا فيما بينهم، وهذا هو البناء الذي سعى إليه الإسلام، فليس الهدف امتلاك الناس للأموال، لكن الهدف هو كيفية تصرفهم بها، لذلك نرى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حريصاً على جباية هذه الأموال، وحريصاً على أن تجبى وتوزع بعدالة، فعندما يعين أحدهم لجباية الصدقات يسأل عنه وعن سيرته، ولا يتركه يتصرف على هواه، ففي رواية إن أحد الوفود جاء إلى المدينة فكان أول أسئلته لهم هو عن سيرة العامل الذي بعثه ليجبي صدقتهم، فأجابوا: (سار فينا بكتاب الله وبسنتك التي أمرته، وإنه دعانا إلى الله فاستجبنا لله ولرسوله، وإنه أخذ الصدقة من أغنيائنا فردها على فقرائنا)(5).

ص: 163


1- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 147
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 147
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 2 / 329
4- ابن هشام، السيرة النبوية، 4 / 204
5- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1 / 145

وبعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) امتنعت بعض قبائل العرب، عن دفع الزكاة لأسباب مختلفة، بعضها اعتبر أن وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت نهاية للعقود التي أبرموها معه، وهذا يعني أنهم في حل من دفع الزكاة، وبعضهم الآخر طالب برفع الزكاة مع بقائه على الإسلام(1)، لكن الخليفة أبا بكر أرسل إلى مانعي الزكاة جيوشا لمحاربتهم، على الرغم من ان عمر بن الخطاب الذي كان مقربا من أبي بكر اعترض على الخليفة وقال له: (كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله فقال له أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فو الله ما هو إلا أني رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق)(2)، على الرغم من أن بعضهم كانوا باقين على الإسلام ولم يرتدوا عنه(3)، فخاضوا معهم

ص: 164


1- ابن حزم، المحلى، 11 / 193، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17 / 209 - 210، للتفاصيل ينظر شرف الدين، النص والإجتهاد، ص 117 - 138، النجيمي، أضواء على الصحيحن، ص 371 - 378، مرتضى العسكري، عبد الله بن سبأ، 1 / 172 - 175
2- الشافعي، كتاب الأم، 4 / 181، البخاري، صحيح البخاري، 2 / 110، الطوسي، الخلاف، 5 / 338، ابن قدامة المقدسي، الشرح الكبیر، 2 / 434
3- ومن الأمثلة على ذلك قتل خالد بن الوليد أحد قادة أبي بكر لمالك بن نويرة الذي عينه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لجمع زكاة قبيلته، وذلك لأنه كان متوقفاً في مسألة الزكاة على اعتبار وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنه كان مسلما مؤمنا هو وقبيلته، إلا ان خالداً رأى امرأة مالك فأعجب بها، فقتله من أجلها وتزوجها في اليوم نفسه قبل انقضاء عدتها، ولم يعاقبه الخليفة بل كافئه وجعله القائد الأعلى لجيش المسلمين، ينظر اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 131 - 132، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 2 / 503 - 504، ابن حزم، المحلى، 11 / 193، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17 / 209 - 210، شرف الدين، النص والاجتهاد، ص 117 - 138، النجيمي، أضواء على الصحيحین، ص 371 - 378، مرتضى العسكري، عبد الله بن سبأ، 1 / 179 - 191

معارك كبيرة قتل فيها من الطرفين عدد كبير، وانتهت بالقضاء على كل من رفض دفع الزكاة للخليفة أبي بكر(1)، لأن الخليفة اعتبر من امتنع عن دفع الزكاة مرتداً عن الإسلام، وبعدها التزم المسلمين بدفع الزكاة، وأستمر عمال الصدقة يمارسون عملهم في جمعها من الموسورين وإعطائها للفقراء، لكن حدثت بعض الانحرافات في عهد الخليفة عثمان إذ كان يعطي صدقات المسلمين لأقاربه(2)، ولم يحافظ على أموال الزكاة التي كانت مخصصة للفقراء والمعدمين في المجتمع الإسلامي، لكن هذا الأمر لم يكن حالة عامة في عهد الخليفة عثمان، بل كان على نطاق ضيق وفي حالات خاصة.

ومن الجدير بالذكر ان الصدقة التي يرد ذكرها في الكتب الفقهية والتاريخية هي ليست الصدقة التطوعية التي يؤديها المسلمون لبعض المحتاجين، لأن هناك فرقاً بين الصدقة والزكاة يجب الالتفات إليه، وهو إن الزكاة واجبة أما الصدقة فهي تطوع من صاحب المال، يقصد به القربة إلى الله وذلك بمساعدة الفقراء(3)، بل هي الزكاة التي جاء ذكرها في القرآن الكريم، التي هي في أغلب الأحيان يرتبط ذكرها بالصلاة، وهي نسب معينة تؤخذ من الأموال، لكن فقهاء المسلمين غير متفقين على مقاديرها، ونحن هنا لسنا بصدد احصاء الآراء الفقهية الخاصة بالزكاة، بل يهمنا معرفة تعامل الإمام علي (عليه السلام) مع هذا المورد المالي المهم.

ص: 165


1- ابن اعثم، الفتوح، 1 / 61، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17 / 210 - 214، ابن كثیر، البداية والنهاية، 6 / 342
2- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 168، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 35، المجلسي، بحار الأنوار، 31 / 219
3- الطبرسي، مجمع البيان، 2 / 197، مرتضى العسكري، معالم المدرستين، 2 / 89

والزكاة لا تؤخذ من جميع الأموال، بل يجب أن يتحقق فيها مجموعة من الشروط، منها الوقت والنصاب، ونقصد بالوقت مرور سنة كاملة على هذه الأموال، وتكون خارجة عن حاجة المسلم، لأن الأموال التي يستعملها المسلم في ملبسه ومسكنه، وغيرها من الاستعمالات لا يدفع عنها الزكاة، وإنما يدفعها عن الأموال الفائضة عن حاجته، أما النصاب فهو وصول مقادير الأموال إلى حد معين تؤخذ منه الزكاة، كما تؤخذ الزكاة مرة واحدة من الأموال في كل سنة، ولا تؤخذ مرة أخرى من الأموال نفسها، وسنركز البحث في هذا الموضوع لمعرفة هذه النسب، إذ تذكر الروايات أن الإمام علياً كان يأخذ الزكاة من الأموال المنقولة وغير المنقولة مثل الحيوانات وغيرها وفق النسب التالية :

1- كان يأخذ من كل خمسة من الإبل شاة، وليس عليها شيء حتى تصل إلى عشرة، ففيها شاتان وكلما زادت خمسة أخذت شاة واحدة، حتى تصل إلى ست وعشرين وفيها بنت مخاض(1)، حتى تصبح ستاً وثلاثين ففيها بنت لبون(2)، وعندما تصبح ستاً وأربعين فيها حقة(3)، ثم يؤخذ منها جذعة(4) إذا بلغت إحدى وستين، وبنتا لبون إذا بلغت ستاً وسبعين، وحقتان إذا بلغت إحدى وتسعين، فإذا بلغت مائة وإحدى وعشرين فصاعدا ففي كل خمسين منها حقة، وبنت لبون لكل أربعين(5).

ص: 166


1- وهي بنت الناقة التي دخلت في السنة الثانية
2- وهي بنت الناقة التي دخلت في السنة الثانية
3- وهي بنت الناقة التي دخلت في السنة الثانية
4- وهي بنت الناقة التي دخلت في السنة الثانية
5- ابن علي، مسند زيد بن علي، ص 187 - 188، المفيد، المقنعة، ص 237، الطوسي، الاستبصار، 2 / 19، السيستاني، المسائل المنتخبة، ص 229 - 230

2- كان يأخذ من الأبقار إذا بلغت ثلاثين (تبيعاً) وهو ابن البقرة الذي أكمل سنة، وإذا بلغت أربعين ففيها (مسنة) وهي الداخلة في السنة الثالثة، وإذا وصلت إلى ستين ففيها تبيعان، وفي السبعين مسنة وتبيع، وإذا وصلت ثمانين ففيها مسنتان، وفي التسعين ثلاث تبايع إلى مائة ففيها مسنة وتبيعان، وإذا وصلت أكثر من ذلك ففي كل ثلاثين تبيع وكل أربعين مسنة(1)، ويعامل الجاموس معاملة البقر نفسها.

3- ويأخذ من الغنم من كل أربعين شاة واحدة، ولا يؤخذ منها شيء حتى تبلغ المائة وإحدى وعشرين، فتكون فيها اثنتان، ولا يؤخذ منها شيء حتى تبلغ مائتين وواحد ففيها ثلاث شياه، وإذا كثرت الغنم ففي كل مائة شاة(2)، وتعامل الماعز المعاملة نفسها.

أما الحيوانات الأخرى فقد أعفيت من الضريبة بما فيها الخيول، وسبب إعفاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للخيول من الزكاة، هو إنها كانت الوسيلة الأكثر استعمالا في المعارك، فكان هذا الإعفاء تشجيعاً على تربيتها، وذلك لكونها تخدم المقاتلين الذين يدافعون عن الدولة(3)، لكن الإمام وضع على إناث الخيل السائمة(4) التي تنجب ولا تستعمل للركوب أو المعارك(5) زكاة مقدارها ديناران في

ص: 167


1- ابن علي، مسند زيد بن علي، ص 189 - 190، المفيد، المقنعة، ص 237، السيستاني، المسائل المنتخبة، ص 230
2- ابن علي، مسند زيد بن علي، ص 187 - 188، المفيد، المقنعة، ص 238، الطوسي، الاستبصار، 2 / 22
3- النسائي، السنن الكبرى، 5 / 35، ابن أبي شيبة الكوفي، المصنف، 3 / 42
4- السائمة هي المرسلة في رعيها وغیر موقوفة للحرب، ابن الأثیر، النهاية، 1 / 229، ابن منظور، لسان العرب، 12 / 311
5- الطوسي، الخلاف، 2 / 51

كل سنة، وعلى البراذين(1) السائمة دينار في كل سنة(2).

4- ويأخذ من الذهب إذا بلغ عشرين مثقالاً نصف مثقال، وإذا كان الذهب دنانيراً ففي كل عشرين ديناراً نصف دينار(3).

5- ويأخذ من دراهم الفضة من كل مائتي درهم خمسة دراهم(4).

وليس في الأموال المنقولة وغيرها زكاة دون المقادير التي ذكرناها، وتؤخذ الزكاة في وقت محدد من السنة، ولا تؤخذ مرة أخرى إلا عندما تمر عليها سنة، أي في الوقت نفسه من السنة الماضية(5)، كما ان الحيوانات التي تستخدم للركوب أو العمل لا تؤخذ منها الزكاة(6).

أما زكاة الأموال الأخرى مثل الحنطة والشعير وغيرها، فإن نسب الزكاة كانت تختلف عما قدمناه، لأنها ترتبط بالأرض وكيفية سقيها والجهود المبذولة في الزراعة، إذ تدخل في هذه النسبة طريقة سقاية الأرض، فإذا كانت الأرض المزروعة بالمحاصيل أعلاه تسقى سيحا من دون واسطة فيأخذ من تلك المحاصيل العشر، أما إذا كانت تسقى بواسطة فيؤخذ منها نصف العشر(7)، ويشترط فيها أن تبلغ النصاب مثل بقية

ص: 168


1- هي نوع من انواع الخيول غير العربية، الزبيدي، تاج العروس، 9 / 138
2- المفيد، المقنعة، ص 246، الطوسي، الاستبصار، 2 / 11
3- زيد بن علي، مسند زيد بن علي، ص 192، الكليني، الكافي، 3 / 509، الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 2 / 14
4- زيد بن علي، مسند زيد بن علي، ص 192، الكليني، الكافي، 3 / 516، الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 2 / 14
5- زيد بن علي، مسند زيد بن علي، ص 192، الصدوق، الهداية، ص 17، الطوسي، النهاية، ص 182
6- الطوسي، الاستبصار، 2 / 24
7- الكليني، الكافي، 3 / 514

الأموال لتؤخذ منها الزكاة، وقد كان النصاب الذي أخذت منه الزكاة في عهد الإمام علي (عليه السلام) ثلاثمائة صاع(1)، لكن الفقهاء اختلفوا في تحديد الصاع لأنه مكيال وليس وحدة للوزن، والغلات تختلف في الخفة والثقل في الصاع، فمثلا صاع الحنطة أثقل من الشعير، كما ان صاع التمر غير المكبوس لا يأخذ حيزا مثل الحنطة في المكيال، وغير ذلك من الاختلافات، لكن يمكن تحديد النصاب بأنه ثمانمائة وسبعة وأربعون كيلو غراما(2)، وسوف نبحث هذا الأمر عند الحديث عن العشر، أما الخضروات التي لا تبقى سنة كاملة، وتستخدم في الاستهلاك اليومي للناس، فقد أعفيت من الزكاة حتى لو كان ثمنها كبيرا، وكذلك أعفي القطن من الزكاة(3).

وهذه النسب التي قدمناها كانت تؤخذ في عهد الإمام من الأموال، وسار عليها المصدقين دون زيادة أو نقصان، ومن نفس الأصناف التي كانت مقررة في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي الحنطة والشعير والتمر والزبيب والذهب والفضة والإبل والبقر والغنم(4)، لكن هذا لا يعني انه أعفى بقية الأموال من الزكاة، لأنها تؤخذ من الذرة وغيرها من الحبوب مثل السمسم والدخن(5)، واتبع الخليفة في جباية الزكاة سياسة مالية هدفها التخفيف عن المسلمين الذين يدفعون الزكاة، وهذه السياسة تقوم على أخذ زكاة الأموال من نفس هذه الأموال،

ص: 169


1- المفيد، المقنعة، ص 236، الطوسي، المبسوط، 214
2- السيستاني، المسائل المنتخبة، ص 235
3- الكليني، الكافي، 3 / 510 - 512
4- الكليني، الكافي، 3 / 509، الصدوق، الهداية، 169
5- الكليني، الكافي، 3 / 511، النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 265، الأردبيلي، مجمع الفائدة، 4 / 42 - 43، الحر العاملي، وسائل الشيعة، 9 / 61

فمثلا كان يأخذ الإبل من الإبل والبقر من البقر والتمر من التمر(1)، وهذا الأمر لا يجعل أصحاب الصدقات يضطرون لبيع حيواناتهم ومنتجاتهم من أجل استحصال الأموال الأمر الذي قد يضر بهم، والأمر الثاني الذي اتبعه أن تنفق الأموال المجباة في مناطقها، ولا تحمل إلى مناطق أخرى(2)، وهذا الأمر يزيد من الترابط الاجتماعي بين المسلمين، لأن الموسرين الذين يدفعون من أموالهم تكون أموالهم عائدة على المحتاجين من أهل تلك المناطق، فيشعر المحتاجون إن هناك مجموعة من الذين يمتلكون الأموال يقتطعون جزءاً من أموالهم لتدفع لهؤلاء، فيختفي عندها الحقد الطبقي، وتسود المحبة بين أفراد المجتمع الإسلامي، وهذا هو الأمر الذي أراده الإسلام من تشريعه للزكاة.

أما المسلمون الذين يستحقون الزكاة فقد جاء ذكرهم في القرآن الكريم «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(3)، ومعنى الأصناف الثمانية عند فقهاء المسلمين: (الفقراء هم الذين لهم أموال لكنها دون كفايتهم، والمساكين هم الذين لا يملكون شيئاً، و [العاملين] عليها هم السعاة في جبايتها، والمؤلفة قلوبهم هم الذين أعطاهم رسول الله بعض الأموال ليحبب لهم الإسلام، ويأمن شرهم لاسيما انهم كانوا من أشد أعدائه، وفي الرقاب هم العبيد الذين يسعى الإسلام إلى تحريرهم، والغارمين هم من ركبتهم الديون من غير معصية لله تعالى، وفي سبيل الله فهو الجهاد، ويجوز استخدامه في عمارة الجسور والحج وتكفين الأموات،

ص: 170


1- النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 252
2- النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 252
3- سورة التوبة، الآية 60

الذين لا يجدون كفناً، وابن السبيل هو المنقطع عن أهله)(1)، لذلك لم تعط الزكاة لغير هذه الأصناف الثمانية التي حددها القرآن الكريم، لكن هناك بعض الأصناف لم يعد لها وجود بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مثل المؤلفة قلوبهم، لأن المسلمين أصبحوا قوة كبيرة، وأصبحت لهم دولة واسعة، ولا يمكن لمجموعة من الأشخاص أن يؤثروا عليها.

وقد وضع الإمام حدا معينا لامتلاك المال ليكون المسلم مستحقا للزكاة، وهذا الحد هو امتلاك المسلم لخمسين درهما فما فوق، أما دون هذا الحد فيكون مستحقاً للزكاة(2)، لذلك كان أمر الزكاة يعتمد المعلومات التي يدلي بها الشخص نفسه، لأن الدولة لا تستطيع تحديد الأشخاص الذين يمتلكون الأموال من غيرهم، لاسيما تلك الأموال التي تسمى الباطنة، وهي الذهب والفضة لأنها يمكن إخفاؤها، على عكس الأموال الظاهرة مثل الماشية والحبوب والثمار، التي لا يمكن للإنسان أن يخفيها(3)، وبهذا يكون المسلم المستحق للزكاة من الفقراء والمساكين وغيرهم هم الذين يبينون للدولة حاجتهم، كذلك المسلمون الذين في أموالهم زكاة، هم الذين يبادرون إلى دفع المستحقات التي في أموالهم للدولة من أجل توزيعها على المستحقين، وعلى الرغم من أن الإمام كان حريصا جدا على جباية هذه الأموال، لأنها تتعلق بمجموعة معدمة في المجتمع أولا، كذلك أثر هذه الأموال في الترابط الاجتماعي ثانيا، وضرورة التمسك بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان يرسل عمال الصدقات من

ص: 171


1- ابن زهرة الحلبي، غنية النزوع، ص 123، الحلي، تذكرة الفقهاء، 1 / 230
2- زيد بن علي، مسند زيد بن علي، ص 193
3- الطوسي، المبسوط، 1 / 196

أجل جمعها من المناطق المختلفة(1)، لكنه اتبع سياسة عدم الإكراه في جمع الزكاة، لأن الزكاة هي فريضة دينية تتعلق بعبادة المسلم، وآيات القرآن الكريم بينت للمسلمين أهمية دفعها، وحذرت من العقوبة الإلهية التي سيواجهها المسلم في الآخرة إذا امتنع عن دفعها، كما هو شأن بقية الفرائض مثل الصلاة والصوم وغيرها، لذلك لا توجد حاجة في إكراه المسلم على دفعها.

ومن أجل ذلك كانت السياسة المتبعة في عهد الإمام تعتمد بالدرجة الأساس على قبول هؤلاء أداء الزكاة، وهذا واضح من خلال التعليمات التي وضعها الإمام لعمال الصدقات، فعندما يرسل أحد العمال إلى منطقة من المناطق من أجل جباية الزكاة، يوصيه بعدم الدخول إلى بيوت المسلمين إلا بإذنهم، ولا يفرض عليهم دفع أموال الزكاة، بل يسألهم إن كان في أموالهم حقوق يؤدوها للدولة، فإذا قال أحدهم إنه لا توجد في أمواله زكاة يدفعها لهذا العامل، فلا يجوز له أن يرد على صاحب المال ويجبره على دفع الزكاة(2)، لأن هذا الأمر يتعلق بإيمان الشخص ومدى تمسكه بالإسلام، وهي قضية بين العبد وربه كما هو شأن الفرائض الأخرى، وهذا يعني أن الإمام علياً (عليه السلام) ربط بين موافقة صاحب المال في دفع الزكاة وبين جبايتها، فأمر المصدق أن يجبي الزكاة وفق رغبة أصحاب الأموال، وحتى إذا أبدى هؤلاء الاستعداد في دفع الزكاة، فإن المصدق لا يجوز له أن يأخذ من الأموال من دون إذن صاحبها(3).

ص: 172


1- الطوسي، المبسوط، 1 / 244
2- الكليني، الكافي، 3 / 536، المفيد، المقنعة، ص 254، الطوسي، الخلاف، 2 / 29، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 151
3- الكليني، الكافي، 3 / 536، المفيد، المقنعة، ص 254، الطوسي، الخلاف، 2 / 29، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 151

أما الطريقة التي وضعها الإمام علي لجباية الزكاة، فقد كانت تعتمد أسلوب اللين والرفق مع أصحاب الأموال، وإشعارهم بأنهم سادة أموالهم وليس للدولة الحق في التسلط عليهم، وهذا يتناسب مع تعاليم الإسلام المبنية على الحرية واحترام الإنسان، ويمكن أن نلمس ذلك من خلال توصيات الإمام علي لعمال الصدقات، إذ يعرف المصدق بمهمته المحددة التي أرسل من أجلها، والتي تتلخص بأخذ أموال الزكاة فقط دون أن تكون له أي سلطة على صاحب المال، لأن هذا المال هو ملك لصاحبه وليس للدولة، إلا نسبة قليلة منه، وهذه النسبة لا تستطيع الدولة استيفاءها دون موافقته، لذلك يجب أن يعرف المصدق صلاحياته البسيطة التي أعطاها له الإمام: (فإذا قدمت فانزل بمائهم من غير أن تخالط بيوتهم، ثم امض إليهم بسكينة ووقار حتى تقوم بينهم، فتسلم عليهم، ثم قل: يا عباد الله أرسلني إليكم ولي الله، لآخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم حق فتؤدوه إلى وليه، فإن قال لك قائل: لا، فلا تراجعه، وان أنعم لك منهم منعم، فانطلق معه من غير أن تخيفه، أو تعده إلا خيرا، فإذا أتيت ماله فلا تأخذه إلا بإذنه، فإن أكثره له)(1)، وهذه الصلاحيات تتلخص بأن يدخل مع صاحب المال، ويقسم المال إذا كان ماشية أو غيرها إلى قسمين، ويختار صاحب المال أحدهما، ثم يقسم الجزء الآخر إلى قسمين، فيختار صاحب المال أحدهما، ويفعل ذلك عدة مرات حتى يصل إلى مبلغ الزكاة، ومع هذا التساهل في جباية الزكاة فإن الإمام يوصي المصدق في حالة طلب صاحب المال تأجيل الدفع أن يمهله ولا يلح عليه في التسديد ويبقي هذه المسألة مرتبطة به (وقل: يا عبد الله أتأذن لي في دخول مالك؟ فإذا أذن لك فلا تدخله دخول متسلط عليه، ولا عنيف به، فاصدع المال صدعين، فخيره أي الصدعين شاء، فأيهما اختار فلا

ص: 173


1- الكليني، الكافي، 3 / 536، المفيد، المقنعة، ص 254

تعرض له، ثم أصدع الباقي صدعين، ثم خيره، فأيهما اختار فلا تعرض له، فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله عز وجل في ماله، فإذا بقي ذلك فاقبض حق الله منه، وإن استقالك فأقله)(1).

وفي الوقت نفسه الذي كان فيه الإمام يوصي المصدق بالتساهل مع أصحاب الأموال، يشدد عليه أن يحافظ على هذه الأموال، ويراعي فيها تعاليم الإسلام، فلا يجوز له أن يأخذ من الماشية وغيرها إلا أفضل الأنواع، ولا يأخذ الرديء منها مثل الحيوانات التي تشكو من عاهات، لأنها زكاة لأموال المسلمين، والله تعالى أمرهم أن يعطوا أفضل الأنواع: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ»(2)، وبعد جمع الأموال تعطى لموظفين يكونون مسؤولين عن نقلها إلى والي المنطقة من أجل توزيعها في المدينة نفسها أو الولاية التي جمعت فيها(3)، وذلك وفقا للسياسة التي كانت مقررة في عهد الإمام علي (عليه السلام) في إنفاق الأموال التي تجمع من الولايات المختلفة في تلك الولايات(4)، ولا يحمل من هذه الأموال إلى العاصمة إلا ما فاض عن حاجتها، لكن في بعض الحالات كان الإمام يوصي المصدق بإرسال الأموال إلى العاصمة، إذ تذكر إحدى الروايات إنه كتب إلى أحد المصدقين: (ثم احدر إلينا ما اجتمع عندك نصيره حيث أمر الله به)(5)،

ص: 174


1- الطوسي، الخلاف، 2 / 29، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 151
2- سورة البقرة، الآية 267
3- الكليني، الكافي، 3 / 536، المفيد، المقنعة، ص 254، الطوسي، الخلاف، 2 / 29، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 151
4- الطوسي، الخلاف، 4 / 228، ابن قدامة، المغني، 2 / 531، ابن حجر، فتح الباري، 3 / 247
5- الكليني، الكافي، 3 / 536، المفيد، المقنعة، ص 254

وقد يكون السبب أن هذا المصدق كان يعمل في المناطق التابعة للكوفة، أو أن المنطقة التي يعمل بها المصدق، لا يتواجد فيها من المستحقين ما يغطي الأموال المأخوذة منها، وهذه الأموال التي طلب الإمام منه إرسالها هي ما تبقى عنده فقط.

وتدل النصوص التي بين أيدينا على أن الإمام علياً (عليه السلام) كان حريصا جدا على أموال الزكاة، فلا يولي على هذه الأموال إلا من له ثقة بدينه وأمانته، على الرغم من ذلك يوصيه بأن يحافظ على هذه الأموال، لأنها تتعلق بحقوق الطبقة الفقيرة بالمجتمع الإسلامي، حتى أن الروايات تذكر انه أوصى العمال الذين ينقلون أموال الزكاة من منطقة إلى أخرى أن يراعوا هذه الأموال لاسيما الحيوانات، إذ يجب عليه أن لا يفصل بين الحيوانات وبين صغارها، ولا يجهد الحيوانات بالركوب ويعدل بينها في هذه المسألة، ويسير بها سيرا بطيئا ويمر بها على المراعي ومنابع المياه، حتى تصل إلى بيت المال وهي بحالة جيدة(1).

لذلك يمكن القول إن الإمام على الرغم من انشغاله بالحروب في عهده، وكثرة المسؤوليات الملقاة على عاتقه، كان لا يترك أي جزئية مهما كانت بسيطة للصدفة، بل كان يباشر كل أمور الحكم بنفسه حتى يستطيع أن يكون قريبا من المسلمين، ويزداد هذا الأمر بصورة طردية مع الأموال، لأنها تتعلق بحياة المسلمين، وتمثل مصداقية الحكم وعدالته، وبما أن الإمام كان يمثل دولة دينية، فإن حرصه كان أكبر على أموال المسلمين، لأن ذلك ينعكس على الصورة المثالية التي أراد الإسلام تأسيسها.

ص: 175


1- الكليني، الكافي، 3 / 537، الطوسي، تهذيب الأحكام، 4 / 97، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 152

د- الفيء والغنائم

1- الفيء

هي الأموال التي حصل عليها المسلمون دون قتال(1)، وتكون نقداً أو غيره ويدخل ضمنها الأراضي التي جلى عنها أصحابها وتركوها(2)، وبينت آيات القرآن الكريم كيفية توزيع هذه الأموال: «وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ»(3).

وفي عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت هناك مجموعة من أموال الفيء، ومن هذه الأموال التي أفاءها الله على رسوله أراضي بني النضير إحدى قبائل اليهود التي كانت تسكن المدينة، الذين وقعوا عهدا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ينص على التعايش السلمي بينهم وبين المسلمين(4)، إلا أنهم نقضوا هذا العهد عندما حاولوا اغتيال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لذلك أجلاهم عن المدينة، واشترط عليهم أن لا يأخذوا معهم إلا ما حملته الابل(5)، فكانت لهؤلاء أموال وأراضٍ كثيرة، حصل عليها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من دون

ص: 176


1- الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 199
2- الحلي، المعتبر، 2 / 633
3- سورة الحشر، الآيات 6، 7
4- ابن هشام، السيرة النبوية، 2 / 350 - 351
5- البلاذري، فتوح البلدان، ص 18 - 19، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 32

قتال، فكان ينطبق عليها اسم الفيء، لكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قام بتوزيع الأموال على المهاجرين بالتساوي، ولم يعط الأنصار من هذه الأموال إلا رجلين منهم هما سهل بن حنيف، وأبو دجانة سماك بن خرشة، لأن المهاجرين كانوا محتاجين ولا يملكوا شيئاً(1)، أما الأرض فقد أقطع منها بعض صحابته، فأعطى لأبي بكر وعبد الرحمن بن عوف وأبي دجانة سماك بن خرشة الساعدي وغيرهم(2)، واحتفظ بالباقي لنفسه ولم يوزعه، فكان ينفق منه على نفسه وأهله ويعطي منها من يشاء(3)، استنادا إلى الآيات التي جاءت في سورة الحشر(4).

ثم توجه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى خيبر التي يسكنها اليهود لأنهم ساندوا الأحزاب التي حاصرت المدينة، واستطاع أن يفتح خمسة حصون من حصونها السبعة بالقوة، بينما فتح الحصنين الباقيين صلحا وهما الوطيح والسلالم فكانت فيئا خالصا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(5)، ثم أن أهل فدك اليهود لما سمعوا بما جرى في خيبر، أرسلوا إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وصالحوه على أن يدفعوا نصف حاصلات أراضيهم له، فكانت هذه الأموال فيئا خالصا له(6).

وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يساعد المسلمين المحتاجين من

ص: 177


1- البلاذري، فتوح البلدان، ص 18 - 19، المفيد، الإرشاد، 1 / 93، المجلسي، بحار الأنوار، 93 / 207
2- الشيباني، السیر الكبیر، 2 / 611، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 195، البلاذري، فتوح البلدان، ص 19 - 20
3- الشافعي، كتاب الأم، 4 / 146، البلاذري، فتوح البلدان، ص 19 - 20، الطوسي، الخلاف، 4 / 182
4- الشافعي، كتاب الام، 4 / 146
5- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 5 / 389، الطوسي، المبسوط، 8 / 133
6- ابن هشام، السیرة النبوية، 3 / 334، ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 50، البلاذري، فتوح البلدان، ص 25، المفيد، الامالي، ص 40

أموال الفيء، ويشتري أيضا أسلحة للمسلمين من تلك الأموال(1)، ولم يكن هناك اختلاف في حياة رسول الله على هذه الأموال، لأن القرآن واضح في تحديد الجهة التي يحق لها امتلاكها، وقد أكده الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما طلب منه عمر بن الخطاب توزيع أراضي بني النضير، بالقول: (لا أجعل شيئا جعله الله لي دون المؤمنين مثل ما هو لهم)(2)، لذلك تسالم المسلمون على هذا الأمر من دون اختلاف، إلا إنهم اختلفوا بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ أن الخليفة أبا بكر لم يعط هذه الأموال التي كانت ملكاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لابنته فاطمة (عليها السلام) التي كانت وريثته(3)، والتي استندت في مطالبتها إلى أمرين، هما الوراثة والهبة أو النحلة، كما تسميها المصادر الإسلامية، فأما الوراثة فهي أراضي الفيء التي كان يملكها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي عديدة مثل أراضي بني النضير وبعض أراضي خيبر ووادي القرى وغيرها(4)، وأما الهبة فهي أرض فدك التي كانت ملكا خالصا لها، لأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) منحها إياها في حياته(5)، لكن الخليفة أبا بكر لم يعط فاطمة (عليها السلام) هذه الأراضي، مستندا في ذلك إلى حديث قال إنه سمعه من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنا معشر

ص: 178


1- الشافعي، كتاب الأم، 4 / 146، الواقدي، المغازي، 1 / 377، الطوسي، الخلاف، 4 / 182
2- الشيباني، السير الكبير، 2 / 611، الواقدي، المغازي، 1 / 377
3- البخاري، صحيح البخاري، 4 / 42، مسلم، صحيح مسلم، 5 / 155
4- للمزيد من المعلومات مرتضى العسكري، معالم المدرستين، 2 / 130 وما بعدها
5- أبو يعلى، مسند أبي يعلى، 2 / 334، الصدوق، الامالي، ص 619، النعان المغربي، شرح الأخبار، 3 / 27، ابن عدي، الكامل، 5 / 84، المفيد، المقنعة، ص 289، ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 430، السرخي، المبسوط، 12 / 29، الحاكم الحسكاني، شواهد التنزيل، 1 / 148، ابن كثیر، تفسیر ابن كثیر، 3 / 39، المتقي الهندي، كنز العمال، 3 / 767، السيوطي، الدر المنثور، 4 / 177

الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)، وسانده على هذا الأمر عمر بن الخطاب(1)، وأكثر المصادر تروي هذا الحديث عن أبي بكر ولم تروه عن غيره(2)، على الرغم من أنه يتعارض مع القرآن الكريم الذي ذكر في آياته أن الأنبياء يورثون لأبنائهم «وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ»(3)، «قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا، يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا»(4)، لكن الخليفة أبا بكر لم يصدق دعوى السيدة فاطمة (عليها السلام) في فدك، على الرغم من أنها جاءته بشهود على كلامها، وهم زوجها علي وخادمتها أم أيمن وابناها الحسن والحسين(5)، وحاجَجَته بالقرآن إلا أن هذه المطالبة لم تكن ذات جدوى مع إصرار الخليفة على موقفه.

وعلى الرغم من أن الخليفة كان مدعيا عليها في ذكره أنه سمع الحديث أعلاه من النبي، لكنه لم يجلب شهوداً على صحة ادعائه وبالمقابل طالب السيدة فاطمة

ص: 179


1- مالك، الموطأ، 2 / 993، البخاري، صحيح البخاري، 4 / 8، مسلم، صحيح مسلم، 5 / 155، الصنعاني، المصنف، 5 / 472، أبو داود، سنن أبي داود، 2 / 23، ابن خزيمة، صحيح ابن خزيمة، 4 / 61، الطبراني، المعجم الأوسط، 7 / 354
2- للتفصيل راجع، مرتضى العسكري، معالم المدرستين، 2 / 141 وما بعدها
3- سورة النمل، الآية 16
4- سورة مريم، الآيات 4 - 7
5- ابن أبي شبة النمیري، تاريخ المدينة، 1 / 199، النعمان المغربي، شرح الأخبار، 3 / 32، العياشي، تفسیر العياشي، 2 / 287، المفيد، المقنعة، ص 289، السرخسي، المبسوط، 16 / 124، الطوسي، تهذيب الأحكام، 4 / 148، الحاكم الحسكاني، شواهد التنزيل، 1 / 444

(عليها السلام) التي كانت الأرض تحت يدها، وعندما طالبه الإمام علي (عليه السلام) بهذا الأمر، استنادا إلى القاعدة القانونية الإسلامية (البينة على من ادعى) لم يفعل(1)، ورفض إرجاع هذه الأرض إلى فاطمة (عليها السلام)، ورفض أن يعطيها بقية أراضي الفيء التي كانت ملكا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، الأمر الذي أدى إلى أن تبقى السيدة فاطمة (عليها السلام) مخاصمة لأبي بكر حتى توفيت، وأوصت زوجها أن يدفنها ليلا، ولا يصلي عليها أبو بكر، أو أي شخص أخر من المسلمين، سوى عائلتها لأن موقفهم كان سلبيا من مطالبها(2)، وهناك مفارقة في هذا الأمر، إذ لم يسترجع الخليفة أبو بكر الأراضي التي أعطاها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لبعض الصحابة من ارض بني النضير، وهو أحد هؤلاء الصحابة الذين منحهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من تلك الأراضي، ولم يدّعِ عليهم أن هذه الأراضي صدقة، بل انه عندما أدركته الوفاة منح بعضاً من حصته من تلك الأراضي إلى ابنته عائشة(3)، كذلك فإن نساء النبي كن يسكن في بيوت النبي الملاصقة للمسجد، وهي أيضا كانت ملكا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكن الخليفة لم يخرج نساءه من هذه البيوت، لأنها صدقة حسب ادعائه(4)، وطلب من ابنته عائشة أن يدفن بجنب النبي في حجرتها التي ورثتها عن النبي(5).

ص: 180


1- أبو القاسم الكوفي، الاستغاثة، 1 / 12، الطبرسي، الاحتجاج، 1 / 119 - 123، المجلسي، بحار الأنوار، 29 / 124
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 2 / 448، المسعودي، التنبيه والأشراف، ص 250، البيهقي، السنن الكبرى، 6 / 300، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6 / 46
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 195
4- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1 / 499 - 500
5- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 209

لقد تصرف الخليفة أبو بكر بأموال الفيء التي كانت ملكا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حسب رأيه الخاص، الذي يقضي بأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأخذ من أموال الفيء نفقة أهله لسنة كاملة، وما بقي منها جعله لشراء السلاح، وهذا يعني ان الخليفة أبا بكر نقل ملكية هذه الأموال من ورثة النبي إلى الخليفة الذي أتى من بعده، وتصرف الخليفة عمر بن الخطاب بنفس الطريقة التي تصرف بها سلفه، لكن يبدو أنه بعد مدة من توليه الخلافة، أعاد أراضي بني النضير إلى ورثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يعد بقية الأراضي إليهم، ويمكن أن نستدل على ذلك من الرواية التي ذكرتها بعض المصادر، والتي تقول إن الإمام علياً (عليه السلام) والعباس بن عبد المطلب اختلفوا في إدارة أموال بني النظير، التي استطاع الإمام علي فيما بعد إدارتها لوحده(1)، ثم بقيت بيد أبنائه ولم ينازعهم أحد عليها(2)، ومن خلال دراسة هذه الروايات يمكن أن نعرف أن هذه الإدارة لا تعني تملك الإمام علي (عليه السلام) لها بل الإشراف عليها فقط، لأنها سحبت منه في عهد الخليفة أبي بكر، وأصبحت ملكا للخلافة، والخلفاء يتصرفون بها بالطريقة التي يريدونها، كذلك فإن الخليفة عمر لم يرجع كل أموال الفيء إلى الورثة مثل فدك وغيرها بل أرجع جزءاً منها(3)، واشترط عليهم أن يعملوا بهذه الأموال وفق الطريقة التي وضعها قبله الخليفة أبو بكر، وتدل الروايات التي على أن الخليفة عثمان أعطى فدك لابن عمه مروان بن الحكم(4)، على أن بقية أموال الفيء كانت تحت سيطرة

ص: 181


1- الشافعي، كتاب الأم، 4 / 146، البخاري، صحيح البخاري، 4 / 42
2- البخاري، صحيح البخاري، 5 / 25
3- مسلم، صحيح مسلم، 5 / 156
4- أبو داود، سنن أبي داود، 2 / 24، أبو القاسم الكوفي، الاستغاثة، 1 / 51، النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 385، البيهقي، السنن الكبرى، 6 / 301، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 198، ابن حجر، فتح الباري، 6 / 141، الشوكاني، نيل الأوطار، 6 / 51

الخلفاء يتصرفون بها وفق قناعاتهم.

واستمر الحال في عهد الخلفاء الثلاثة وفق الطريقة التي تعامل بها الخليفة أبو بكر مع أموال الفيء، إلا أن الخليفة عثمان بن عفان تصرف بطريقة تدل على أن تلك الأراضي ليست ملكا للخلافة، بل ملكا شخصيا له لذلك منح أراضي فدك لابن عمه مروان بن الحكم كما ذكرنا، أما الأراضي الجديدة التي أفاءها الله على المسلمين، فقد تعامل معها الخلفاء الثلاثة وفق المبدأ الذي أقره الخليفة أبو بكر، والذي يقضي بأن أموال وأراضي الفيء يتصرف بها الخليفة وفق ما يريده، لأنه ولي الأمر بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لذلك اختلف تعاملهم مع أراضي الصلح التي حصل عليها المسلمون، وقد بيّنا ذلك في موضوع الخراج.

وعندما تولى الإمام علي الخلافة تصرف بأراضي الفيء بطريقة لا تختلف عن تعامل أبي بكر وعمر، إذ أبقاها ملكا للدولة، مع قناعته التامة بمشروعية المطالبة بتلك الأراضي، لاسيما أرض فدك التي منحها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لابنته فاطمة (عليها السلام)، وقد بينّ ذلك في رسالته إلى واليه على البصرة عثمان بن حنيف: كانت عندنا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم - أي أبو بكر وجماعته، وسخت عنها نفوس آخرين - أي الإمام علي وأسرته، ونعم الحكم الله..(1)، كما أكد الإمام علي أحقية أهل بيته بالخمس، وأنهم المعنيون بآية الخمس (نحن والله الذي عنى بذي القربى الذي قرننا بنفسه وبرسوله، فقال تعالى:

فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله

ص: 182


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 208

شديد العقاب، .. ولم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيبا)(1)، أما السبب الذي دفعه إلى عدم تغيير هذا الأمر، هو أنه كان يكره أن يقولوا فيه إنه خالف أبا بكر وعمر(2)، في الوقت الذي كان يخوض فيه معارك مع مجاميع من المتمردين وفي مناطق مختلفة، وكان يحتاج إلى التأييد في هذه المعارك، والحقبة التي سبقت خلافته كانت قد وضعت فيها مجموعة من الأحكام لم تكن موجودة في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لاسيما في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، فأخذها المسلمون بحكم المسلّمات، لأنه حكم بعد فترة قليلة من وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، والغالبية العظمى من المسلمين في الأمصار الإسلامية لم يلتقوا بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو يسمعوا منه، وعرفوا أحكام الإسلام عن طريق الخليفة والولاة الذين كان يرسلهم إلى تلك المناطق، وهؤلاء الولاة لا يحق لهم الحديث كما يريدون، بل كما تريد الخلافة، حتى بلغ الأمر بالخليفة عمر بن الخطاب أن منع الولاة والصحابة المتوجهين إلى الأمصار من إشاعة أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، علما بأنها المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم، بحجة الخوف من اختلاط هذه الأحاديث بالقرآن الكريم، وخوفا على المسلمين من الانشغال بالأحاديث وترك الاهتمام بالقرآن، وهي حجج غير مقنعة، لأن الله سبحانه وتعالى حفظ القرآن من التحريف وغيره، بدليل قوله تعالى «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»(3)، كما أن الأحاديث وسيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مهمة ايضا لأنها كما أسلفنا المصدر الثاني للتشريع في الإسلام، وفي هذا الباب تذكر الروايات إنه أرسل جماعة من الصحابة إلى العراق،

ص: 183


1- الكليني، الكافي، 8 / 63، الطوسي، تهذيب الأحكام، 4 / 126
2- ابن سلمة، شرح معاني الأخبار، 3 / 309، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 231 - 232
3- سورة الحجر، الآية 9

وعندما أرادوا الخروج إلى هناك مشى معهم إلى أطراف العاصمة، وقال لهم: (أتدرون لم شيعتكم؟ قلنا: أردت أن تشيعنا وتكرمنا، قال: إن مع ذلك لحاجة، إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم جردوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله، أمضوا وأنا شريككم، قال قرظة(1): فما حدثت بعده حديثا عن رسول الله)(2)، والقسم الآخر من الصحابة الذين لم يشغلوا وظائف إدارية في الولايات الإسلامية، فلم يكن لهم الحق بالذهاب إلى هناك إلا بإذن الخليفة، إذ فرضت عليهم أشبه بالإقامة الجبرية، فتذكر الروايات إن الصحابة ملوا من الخليفة عمر نتيجة لهذه السياسة (لم يمت عمر حتى ملته قريش وقد كان حصرهم بالمدينة وسألوه أن يأذن لهم في الخروج إلى البلاد فامتنع عليهم، وقال إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد، حتى إن الرجل كان يستأذنه في غزو الروم أو الفرس، وهو ممن حبسه بالمدينة من قريش لاسيما المهاجرين، فيقول له: إن لك في غزوك مع رسول الله صلى الله عليه وآله ما يكفيك)(3).

ونتيجة لهذا الأمر أصبح من الصعب على الإمام علي (عليه السلام) أو غيره تغيير أي من الأحكام التي وضعها الخليفة أبو بكر أو عمر، لأن المسلمين في الولايات الإسلامية عرفوا أن هذه الأحكام هي جزء من الإسلام بعد أن عايشوها لمدة تزيد على خمس وعشرين سنة، وهم لا يفرقون بين ما وضعه الخليفة عمر وبين ما كان سائدا في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأي تغيير لشيء مما ألفوه يعني

ص: 184


1- قرة بن كعب الأنصاري أحد الصحابة الذين أرسلهم عمر إلى العراق، وهو صاحب الرواية أعلاه
2- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 6 / 7، ابن ماجة، سنن ابن ماجة، 1 / 12، الحاكم النيسابوري، المستدرك، 1 / 102
3- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 426، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 11 / 12، المتقي الهندي، كنز العمال، 14 / 76

تحريفاً للإسلام، كما أن هذه الإجراءات التي اتخذها الخليفة عمر أدت إلى تقديس مقام الخليفة عمر بن الخطاب والخليفة أبي بكر، وقد رأينا في الفصل الأول كيف اشترط عبد الرحمن بن عوف إتباع سيرة الخليفتين أساساً لتولي الخلافة، وكان رفض الإمام علي لهذا الشرط أحد أسباب استبعاده عن الخلافة وتولي عثمان بن عفان لها.

لقد كان الإمام علي يعرف صعوبة هذا الأمر، لاسيما أن الغالبية من جيشه كانوا من المسلمين الذين لم يلتقوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذين عرفوا أحكام الإسلام عن طريق الخلافة، وقد جرب تغيير احد الأشياء التي وضعها الخليفة عمر، لكنه جوبه بمعارضة شديدة من جيشه والمسلمين في الكوفة، لأنهم اعتادوا على هذا الأمر لمدة طويلة، وفي هذا الأمر يقول الإمام علي: (لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا فريضة، وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي: يا أهل الإسلام غيرت سنة عمر ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعا، ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري)(1)، فإذا كان حال المسلمين بهذا الشكل مع أمر واضح وبسيط، فكيف يستطيع الإمام علي تغيير مسألة الخمس وتوزيع الغنائم والأموال، مع معرفتنا حب الإنسان الفطري

ص: 185


1- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 426، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 11 / 12، المتقي الهندي، كنز العمال، 14 / 76. الكليني، الكافي، 8 / 62 - 63، الطبرسي، الاحتجاج، 1 / 393. لقد أمر الخليفة عمر المسلمين في شهر رمضان أن يصلوا بعد صلاة العشاء جماعة خلف إمام، وتسمى صلاة التراويح وما يزال قسم كبیر من المسلمين يصليها اليوم، على الرغم من معرفتهم بأنها لم تكن موجودة في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لذلك فهي صلاة ابتدعها الخليفة عمر، وهو يقول عنها بعد أن طبقها الناس نعم البدعة هذه، ينظر البخاري، صحيح البخاري، 2 / 251، ابن قدامة، المغني، 1 / 798

للمال وحرصه عليه، كما عبر القرآن الكريم «وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا»(1)، كذلك فإن قصر فترة خلافته وانشغاله بالإصلاح والحروب الداخلية جعلته يتخلى عن بعض الأمور لاسيما الخمس الذي كان من الممكن أن يتركه على اعتبار أنه يتعلق بحقوق خاصة له ولأسرته، وليست مثل بقية الأموال التي كانت للمسلمين ولا يستطيع أن يتركها، كما فعل مع القطائع التي منحها الخليفة عثمان، أو تغيير سياسة توزيع العطاء التي وضعها الخليفة عمر، لذلك يمكن القول إنه تنازل عن حقوقه الخاصة، ولم يسترجعها على الرغم من انه كان خليفة للمسلمين وقادراً على فعل هذا الأمر، والإجراء الذي اتخذه في هذا الشأن، هو انتزاع أرض فدك من يد مروان بن الحكم، وإرجاعها إلى ملكية الدولة، ويدل على ذلك ما أوردناه في أن الخليفة عثمان أقطعها لمروان(2)، ثم ذكرت روايات أخرى أن معاوية أقطع أرض فدك لمروان بن الحكم بعد استشهاد الإمام علي وتوليه حكم المسلمين بالقوة(3)، لذلك تصور بعض المؤرخين أن معاوية هو الذي أقطع هذه الأرض لمروان، والحقيقة إن الروايتين صحيحتان إذ أن الخليفة عثمان أقطعها لمروان، ثم أرجعها الإمام علي إلى ملكية الدولة، مع ما أرجع من الأموال التي أخذت من الدولة بغير حق، ثم أن معاوية قسمها على ثلاثة أقسام فأعطى لمروان ثلثاً وأعطى لعمرو بن عثمان بن عفان ثلثاً وأعطى لابنه يزيد ثلثها(4)،

ص: 186


1- سورة الفجر، الآية 20
2- أبو داود، سنن أبي داود، 2 / 24، أبو القاسم الكوفي، الاستغاثة، 1 / 51، النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 385، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 45 / 179، البيهقي، السنن الكبرى، 6 / 301، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 198، ابن حجر، فتح الباري، 6 / 141، الشوكاني، نيل الأوطار، 6 / 51
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 5 / 388
4- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 216

ثم انتزعها منه معاوية عندما عزله عن المدينة، وبعد ذلك أعادها إليه عندما أرجعه إلى ولاية المدينة مرة أخرى(1)، وعندما تولى مروان بن الحكم أخذ فدك كلها له(2).

2- الغنائم

الغنائم هي ما حصل عليه المسلمون من أعدائهم عند القتال(3)، وتقسم على خمسة أقسام، أربعة من هذه الأقسام توزع على المقاتلين الذين اشتركوا في المعركة، والقسم الأخير الذي يسمى الخمس يوزع وفق آية الغنائم: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(4)، لذلك كان الأمر واضحا في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في كيفية توزيع أموال الغنائم على المسلمين، وكانت أول غنيمة كبيرة حصل عليها المسلمون في معركة بدر، لكنهم اختلفوا في كيفية توزيعها، فالذين جمعوا هذه الغنائم ظنوا أنها لهم، وكذلك ظن الذين يحاربون، وقال الذين كانوا مسؤولين عن حماية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنهم يستحقون هذه الغنائم، فنزلت آية الأنفال التي بينت ملكية هذه الغنائم: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»(5)، فأصبحت هذه

ص: 187


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 5 / 388، البلاذري، فتوح البلدان، ص 27، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 173
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 216
3- الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 221
4- سورة الأنفال، الآية 41
5- سورة الأنفال الآية 1

الأموال التي حصلوا عليها في معركة بدر لله والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي قام بتوزيعها على جميع من اشترك في هذه المعركة بالتساوي(1).

وفي الحالات الفردية التي يخرج بها مجموعة من الصحابة في سرية ويحصلون على غنائم يؤخذ منها الخمس، ويوزع الباقي بالتساوي على المشتركين في تلك السرية، ومن الأمثلة على ذلك تقسيم الصحابي عبد الله بن جحش غنائم سرية نخلة بين أصحابه ممن اشترك في هذه السرية، بعد أن أخرج خمس الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) منها(2).

وفي بعض الحالات كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يوزع الأموال على المسلمين حتى لو لم تكن غنيمة، ومن الأمثلة على ذلك توزيعه أموال بني النظير على المسلمين، على الرغم من أنها لم تكن غنيمة لأن المسلمين لم يحاربوا فيها، بل كانت من الأموال التي أفاءها الله على رسوله، وهي ملك خالص للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكن الحاجة التي كان يعاني منها المسلمون، لاسيما المهاجرون منهم دفعت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى توزيع الأموال التي حصل عليها من بني النضير على المهاجرين، ولم يعط الأنصار من هذه الأموال، لأنهم كانوا أفضل حالا من المهاجرين الذين يسكنون مع الأنصار في بيوتهم، فكان إجراؤه هذا يلائم الوضع القائم في المدينة، لكنه لم يوزع أراضي بني النضير بل أعطى بعض الصحابة منها فقط(3). وتعامل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الغنائم التي حصل عليها من خيبر بطريقة تختلف عن أموال بني النضير، لأن المسلمين دخلوا إلى خمسة

ص: 188


1- الواقدي، المغازي، 1 / 100، 103، الطبري، جامع البيان، 9 / 226
2- ابن هشام، السيرة النبوية، 2 / 180
3- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 49، المجلسي، بحار الأنوار، 19 / 162

من حصونها السبعة بالقوة، فكانت هذه الحصون غنيمة لهم، بينما دخلوا إلى حصنين منها بدون قتال، فكانتا فيأ للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)(1)، فقسم أموال الحصون الخمسة التي كانت غنيمة بالتساوي بين المسلمين، فنال كل واحد منهم حصة متساوية مع الآخرين، بعد أن أخذ خمس هذه الأموال(2)، وورد في الروايات أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قسم أموال خيبر إلى ستة وثلاثين سهما، نصفها له أي ثمانية عشر سهما وهي أموال الفيء والنصف الآخر قسمه بين المسلمين بالتساوي(3)، وكان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قسم السهم الواحد من السهام الثمانية عشر إلى مائة سهم فكان مجموعها ألف وثمانمائة سهم(4)، بينما أبقى الأرض بيد أصحابها يزرعونها ويقاسمون المسلمين محصولها، ولم يوزعها على المسلمين(5).

ثم تعامل الرسول مع الغنائم التي حصلوا عليها من معركة حنين التي وقعت في السنة التاسعة للهجرة بين المسلمين وبين قبيلتي هوازن وثقيف اللتين كانتا جمعتا الجموع من أجل محاربة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنهم كانوا يعتقدون أن المسلمين عندما فتحوا مكة كانت وجهتهم التالية مدينة الطائف،

ص: 189


1- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 2 / 301، السرخسي، المبسوط، 15 / 3
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 2 / 306
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 2 / 113، أبو داود، سنن أبي داود، 2 / 36، السرخسي، المبسوط، 15 / 2، الطوسي، المبسوط، 8 / 133، البيهقي، السنن الكبرى، 6 / 317
4- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 2 / 113، أبو داود، سنن أبي داود، 2 / 37، ابن حنبل، مسند احمد، 4 / 37، السرخسي، المبسوط، 15 / 3
5- الشافعي، كتاب الام، 2 / 36، البخاري، صحيح البخاري، 3 / 113، الطوسي، الخلاف، 3 / 475، ابن حزم، المحلى، 8 / 213

فجهزوا أنفسهم للحرب، وبالفعل وقعت هذه المعركة وانتهت بهزيمة قبيلة هوازن وحصول المسلمين على غنائم كبيرة جدا(1)، وكما أسلفنا كانت سياسة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تقوم على المساواة في منح العطاء، لكنه أعطى مجموعة من القرشيين الذين أسلموا عند فتح مكة، وغيرهم من كبار زعماء القبائل العربية الذين لم يدخل الإسلام إلى قلوبهم بصورة مطلقة نسباً من الأموال قبل أن يعطي المسلمين من المهاجرين والأنصار ليتآلفهم إلى الإسلام ويأمن شرهم، ومن هؤلاء أبو سفيان وولداه معاوية ويزيد والنظر بن الحارث بن كلدة وحكيم بن حزام بن خويلد وأسيد ابن جارية وعيينة بن حصن الفزاري وغيرهم، ثم قسم الأموال الباقية بين المسلمين بالتساوي(2)، لكن الذي يبدو أن الأنصار لم يرضوا بهذا التقسيم، لأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطى القرشيين هذه الأموال، إلا أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أقنعهم بعد أن قال لهم: (يا معشر الأنصار، أما ترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم، قالوا: رضينا بك يا رسول الله حظا وقسما)(3).

وعلى ما تقدم فإن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد تعامل مع توزيع الغنائم وفق آيات القرآن الكريم التي بينت كيفية التوزيع، وراعى الظروف الاقتصادية التي يمر بها المسلمون في كثير من الحالات، لكنه كان لا يعطي من لم يشترك في الفتوح من أموال الغنائم، ويؤكد هذا ما أورده ابن آدم في أن الغنائم كانت

ص: 190


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 2 / 149 - 156
2- ابن هشام، السیرة النبوية، 4 / 123، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 2 / 151 - 152، الكليني، الكافي، 2 / 411
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 2 / 154

توزع على المقاتلين المشتركين في المعارك، أما الذين كانوا يعملون في أعمال أخرى مثل التجارة وغيرها فليس لهم من الغنائم حصة، إلا من كانوا محتاجين لا يملكون شيئا(1).

وكانت نسبة الخمس ثابتة تؤخذ من كل الغنائم في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يكن هناك اختلاف على هذه النسبة، إذ كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، يأخذها ويوزعها على المستحقين وفق آية الغنائم على ستة حصص هي: حصة لله وحصة لرسوله وحصة لذوي قربى الرسول، وثلاثة حصص لليتامى والمساكين وابن السبيل من أقرباء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)(2)، وذلك لأن هؤلاء كانت محرمة عليهم الزكاة، ولا يأخذون مثل بقية الفقراء من هذه الأموال(3)، لذلك خصصت لهم هذه النسب من أموال الخمس، وإن رأى الكثير من الفقهاء أن الفقراء والمساكين وابن السبيل المذكورين في الآية هم ليسوا فقط من أقرباء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بل من عامة المسلمين(4)، لكن هذا الأمر لا يمكن قبوله لأن هؤلاء قد خصصت لهم نسب من أموال الزكاة، كما جاء في آيات القرآن الكريم «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(5)، كذلك فإن الروايات لم تذكر إن الرسول أعطى من الخمس لعموم فقراء المسلمين، بل أعطى

ص: 191


1- ابن آدم، كتاب الخراج، ص 19
2- المفيد، المقنعة، ص 276، الحلي، تذكرة الفقهاء، 5 / 433
3- الكليني، الكافي، 4 / 59، الصدوق، الخصال، ص 62، ابن قدامة، المغني، 7 / 331
4- الشافعي، كتاب الام، 4 / 154، الطوسي، الخلاف، 4 / 217، الحلي، المعتبر، 2 / 630
5- سورة التوبة، الآية 60

للمستحقين من أقربائه(1)، أما الاسهم الباقية فسهم الله يصرف في المصالح التي يراها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإن كان هناك اختلاف بين الفقهاء في هذا السهم، لأن قسماً منهم يقول إن هذا السهم هو واحد مع سهم الرسول فيكون الخمس خمسة اقسام(2)، لكن هناك آخرين قالوا إن هذا السهم مستقل والخمس يوزع على ستة حصص(3)، ويؤيد ذلك إن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعطي من الخمس لكسوة الكعبة ويعطي منه المحتاجين من المسلمين(4)، أما سهم الرسول فقد كان ينفقه على نفسه وأهله(5)، أما سهم ذوي القربى فهو لآل بيت رسول الله، وقد أعطاه لهم في حياته(6)، وقد بيّن الإمام علي هذا الأمر في أكثر من مناسبة في أن ذوي القربى هم أهل البيت(7)، ولم يختلف المسلمون فيما بينهم على إعطاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سهم ذوي القربى لأهل بيته، لكن الاختلاف وقع بعد وفاته، عندما تولى أبو بكر الخلافة، إذ أن السيدة فاطمة (عليها السلام) طالبت أبا بكر بالخمس، لكنه لم يعطها إياه لأنه يرى انه ليس لهم، وإنما يصرف على مصالح

ص: 192


1- ابن سلمة، شرح معاني الآثار، 3 / 239، الحلي، المعتر، 2 / 630، ابن قدامة، المغني، 7 / 304 - 305، النووي، المجموع، 19 / 374
2- النووي، المجموع، 19 / 374، ابن قدامة، المغني، 7 / 301، الهيثمي، مجمع الزوائد، 5 / 340
3- الصدوق، المقنع، ص 171، الطوسي، المعتبر، 2 / 627، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 12 / 220، النووي، المجموع، 19 / 373
4- النسائي، سنن النسائي، 7 / 134 - 135، ابن قدامة، المغني، 7 / 300
5- الطوسي، تهذيب الأحكام، 4 / 125، 127
6- الشافعي، الرسالة، ص 68، النسائي، سنن النسائي، 7 / 134، الكليني، الكافي، 1 / 539، الصدوق، الهداية، ص 177، ابن حزم، المحلى، 7 / 328
7- الشافعي، كتاب الام، 4 / 156، المفيد، المقنعة، ص 276، الطبرسي، الاحتجاج، 1 / 393

المسلمين من أسلحة وغيرها(1)، واحتج عليها بأن الخمس هو شيء أعطاه الله لهم في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنه عندما توفي عادت أموال الخمس لبيت المال، واستند في هذا الأمر إلى حديث قال إنه سمعه من رسول الله: (إذا أطعم الله نبيا طعمة ثم قبضه جعله للذي يقوم بعده)(2)، وهذا الأمر غريب لأنه لا يوجد في القرآن والسنة ما يؤيد ذلك، والخليفة استند إلى رأي رآه في هذه الأموال، وهذا الرأي مفاده انهم لا يستحقون سوى جزء بسيط منها، وحتى هذا الجزء يكون حسب رأي الخليفة وهو الذي يتولى إنفاقه عليهم(3)، الأمر الذي لم يُرضِ السيدة فاطمة (عليها السلام) لأنها ترى أنه مخالف للقرآن وسنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم تطالبه بعد ذلك بأي شيء حتى توفيت(4)، وحتى هذا الجزء من الخمس فإن أقرباء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حرموا منه في خلافة عمر بن الخطاب، ويتضح هذا من الروايات التي ذكرت أن سهم ذوي القربى كان يدفع لهم، لكن مجيء أموال كثيرة من الفتوح جعلت الخليفة عمر يتردد في دفعه كاملا لهم، وتعذر بأن المسلمين كانوا بحاجة إلى هذه الأموال(5)، ثم ذكرت الروايات أن أنه كان

ص: 193


1- ابن حنبل، مسند احمد، 1 / 4، الحاكم النيسابوري، المستدرك، 2 / 128
2- ابن حنبل، مسند احمد، 1 / 4، أبو داود، سنن أبي داود، 2 / 24، أبو يعلى الموصلي، مسند أبي يعلى، 12 / 119، البيهقي، السنن الكبرى، 6 / 303، عبد الله بن قدامة، المغني، 7 / 302 - 303، المتقي الهندي، كنز العمال، 5 / 605
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 2 / 315، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 219، ابن كثیر، البداية والنهاية، 4 / 231
4- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 2 / 315، البخاري، صحيح البخاري، 4 / 42
5- الشافعي، كتاب الام، 4 / 156، النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 386 - 387، ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 347، ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، 2 / 52، المجلسي، بحار الأنوار، 93 / 208

مختلفا مع أقرباء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في النسبة، فدفع لهم قسماً من هذا المال حسب رأيه، لأنه يعتقد إن من حقه التصرف بهذه النسبة، إلا أنهم رفضوا استلام هذه الأموال، لأنها دون الحق المقرر لهم، ولم يطالبوا بعد ذلك بحقوقهم من الخمس(1).

فكان تصرف الخلفاء الثلاثة مع أموال الغنائم وفق المبادئ التي وضعها الخليفة أبو بكر هي أن يوزعوا أربعة أخماس الغنيمة بين المقاتلين بعد أخذ الخمس من هذه الغنائم، لكن إنفاق هذا الخمس لم يكن كما كان عليه الحال في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل وفق طريقة جديدة وهي أن يبقوا ثلاثة سهام لمستحقيها وهم اليتامى والمساكين وابن السبيل، لكن من عامة المسلمين وليس من أقارب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من بني هاشم فقط، والسهام الثلاثة الباقية سهم الله والرسول وذوي القربى لم يعطوها لآل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بل أنفقوها في شراء الأسلحة وغيرها من مصالح المسلمين(2)، ونتيجة للفتوح الكبيرة التي شهدتها الدولة الإسلامية في عهد الخلفاء الثلاثة، سواء في العراق وبلاد الشام وفي مصر والمغرب وبلاد فارس، تدفقت أموال الغنائم إلى بيت المال بكميات كبيرة جدا، وكما قدمنا فإن الغنائم كانت تقسم في عهدهم على المقاتلين الذين اشتركوا في هذه المعارك، بعد خصم نسبة الخمس منها.

ص: 194


1- أبو داود، سنن أبي داود، 2 / 26، النسائي، سنن النسائي، 7 / 129، الطوسي، الخلاف، 4 / 216، البيهقي، السنن الكبرى، 6 / 345، السرخسي، المبسوط، 10 / 11
2- النسائي، سنن النسائي، 7/ 133، الطبري، جامع البيان، 10 / 10، الحاكم النيسابوري، المستدرك، 2 / 128، البيهقي، السنن الكبرى، 6 / 343، ابن قدامة، المغني، 7 / 303، ابن كثیر، البداية والنهاية، 2 / 324

وفي عهد الإمام علي (عليه السلام) فإن الغنائم التي كانت واردة للدولة قليلة، وذلك لتوقف الفتوح في عهده، لكنه حصل على بعض الغنائم من المعارك التي خاضها، والتي يمكن من خلال دراستها التعرف على تعامله مع هذا المورد المالي، لكن قبل الخوض في هذا الموضوع، لابد أن نتعرف على الأسباب التي أدت إلى توقف الفتوحات في عهد الإمام علي (عليه السلام)، والتي قد يتبادر إلى الذهن أن أسبابها تعود إلى الحروب الداخلية التي شهدها في خلافته، على الرغم من أن هذا الأمر يحمل جانباً من الصحة، لأن الخليفة وجه جزءاً كبيراً من جهده إلى القضاء على حركات التمرد، لكن الذي يبدو أنه كان له رأي في مسألة الفتوحات، إذ لم يتبع السياسة التي كانت سائدة في عهد الخلفاء الذين سبقوه والمتمثلة بكثرة الفتوح، وقد يعود السبب في ذلك إلى عدم إيمانه بأهداف هذه الفتوح، فعلى الرغم من أن التاريخ يشهد أن النسبة الغالبة من المسلمين الذين اشتركوا في هذه الفتوح كان هدفهم نشر الإسلام والجهاد في سبيل الله، ولم يكن هدفهم الرئيس الحصول على الغنائم، إلا أن هذا لا يعني أن الجميع كانوا بنفس المستوى، فقد أشارت الروايات التاريخية إلى أن أهداف الكثير من الفتوح كانت الحصول على الغنائم أكثر من أي شيء آخر، وسنسوق بعض الأمثلة التاريخية على هذا الأمر.

ذكرت الروايات التاريخية أن الخليفة عمر بن الخطاب عندما تولى الخلافة أرسل أبا عبيد الثقفي إلى العراق من أجل إكمال فتوحه التي ابتدأت في عهد الخليفة أبي بكر، فأقبل هذا القائد (لا يمر بقوم من العرب إلا رغبهم في الجهاد والغنيمة فصحبه خلق)(1)، وفي هذا دلالة على أن قسماً من المسلمين كان يدفعهم إلى الفتوح الجهاد في سبيل الله ونشر الإسلام، والقسم الآخر من قبائل العرب اشتركت في الفتوح من

ص: 195


1- البلاذري، فتوح البلدان، ص 152 - 153

أجل الغنائم، ويمكن أن نتعرف على هذا الأمر من خلال الرواية التي تذكر أن المسلمين لم يقدموا على الذهاب إلى العراق لخطورة المعارك فيه، وقوة الساسانيين الذين كانوا يحكمون العراق في ذلك العهد، لاسيما بعد أن خسر المسلمون في معركة الجسر، وقتل القائد المسلم أبو عبيد الثقفي ومعه عدد كبير من المسلمين(1)، لذلك أضطر الخليفة عمر إلى ترغيب القبائل العربية في الذهاب إلى العراق مقابل قسم كبير من الغنائم: (ثم أن عمر ندب الناس إلى العراق فجعلوا يتحامونه ويتثاقلون عنه، حتى هم أن يغزو بنفسه، وقدم عليه خلق من الأزد يريدون غزو الشام فدعاهم إلى العراق، ورغبهم في غناء آل كسرى، فردوا الاختيار اليه فأمرهم بالشخوص، وقدم جرير بن عبد الله من السراة في بجيلة، فسأل أن يأتي العراق على أن يعطى وقومه ربع ما غلبوا عليه، فأجابه عمر إلى ذلك، فسار نحو العراق)(2)، وهذا يؤكد ما ذهبنا اليه من أن قسماً كبيراً من المسلمين كانت تدفعهم الغنائم للاشتراك في الفتوح.

وفي عهد الخليفة عثمان أصبحت الغنائم الهم الرئيس لكثير من القادة والولاة الأمويين الذين سيطروا على مرافق الدولة، لاسيما مع كثرة الأعطيات التي كان يمنحها الخليفة لهم كما قدمنا في الفصل الأول، فأخذ الولاة الأمويون يتسابقون على الفتوح، ومن الأمثلة على ذلك إن سعيد بن العاص الأموي والي الكوفة، وعبد الله بن عامر الأموي والي البصرة كانوا يتسابقون على فتح المناطق الواقعة في الجهة الشرقية للعراق(3)، لأن المنطقة التي يفتحها أهل الكوفة تكون تابعة لهم ماليا وإداريا، وكذلك المناطق التي يفتحها أهل البصرة، ومن الأمثلة الأخرى إن معاوية والي الشام أرسل

ص: 196


1- البلاذري، فتوح البلدان، 153
2- البلاذري، فتوح البلدان، ص 154
3- البلاذري، فتوح البلدان، ص 201

حملة من أجل فتح أرمينيا، إلا أنها واجهت مقاومة كبيرة، فاضطر القائد إلى طلب المعونة العسكرية من الخليفة عثمان، الذي كتب بدوره إلى معاوية والي الشام من أجل إرسال المساعدة: (فكتب إلى عثمان يسأله المدد، فكتب إلى معاوية يسأله أن يشخص إليه من أهل الشام والجزيرة قوما ممن يرغب في الجهاد والغنيمة)(1)، وعندما حدث التمرد ضد الخليفة عثمان بن عفان، جمع الأخير مستشاريه من بني أمية من أجل معرفة كيفية التعامل مع المعترضين على سياسته، وهؤلاء أشاروا على الخليفة بآراء مختلفة، والذي يهمنا من هذه الآراء ما اقترحه والي البصرة عبد الله بن عامر، ونصه (رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك، وأن تجمرهم في المغازي، حتى يذلوا لك، فلا يكون همة أحدهم إلا نفسه، وما هو فيه من دبرة دابته وقمل فروته)، وبالفعل طبق الخليفة عثمان هذا الأمر فوجه عماله وولاته (بالتضييق على من قبلهم وأمرهم بتجمير الناس في البعوث)(2).

ولو نظرنا إلى هذه الروايات بصورة جيدة، نجد بعض الذين اشتركوا في الفتوح وبعض قادتها لم تكن تهمهم مصالح الإسلام العليا، بل كانت من أجل إرضاء طموحاتهم وإشباع غرورهم، لاسيما مع المكاسب المادية المتحققة من هذه الفتوح، كما استخدموها من أجل تقوية أمرهم وتوسيع نفوذهم ونفي المعترضين على سياساتهم، لذلك لم يكن الجهاد ونشر الإسلام بحسب هؤلاء إلا شعاراً يخدم أهدافهم.

أما موقف الإمام علي (عليه السلام) من مسألة الفتوح، فلم تبينه لنا الروايات بصورة واضحة، لكن نستطيع أن نتعرف على موقفه منها من خلال دراسة السياسة التي اتبعها الإمام في خلافته والمتعلقة بالفتوح، كذلك بعض الروايات التي أشارت

ص: 197


1- البلاذري، فتوح البلدان، ص 122
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 373

إلى موقفه منها في عهد الخلفاء الذين سبقوه، إذ تذكر الروايات أن الخليفة عمر بن الخطاب اقترح على الإمام علي (عليه السلام) قيادة الجيش الإسلامي المتوجه إلى العراق، بعدما جمع الفرس قوات كبيرة من أجل القضاء على الجيش الإسلامي المتواجد هناك، إلا أنه رفض هذا الأمر ولم يستجب لرغبة الخليفة(1)، ولم يشارك في أي من الفتوح التي حدثت في عهد الخلفاء الثلاثة، سواء في الذهاب إلى المناطق المفتوحة، أو قيادة الجيوش المتوجهة للفتح، على الرغم من الخبرة العسكرية التي كان يتمتع بها، والتي كان يعرفها المسلمون، إذ كان يقود الكثير من الحملات في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويحمل رايته في كل المعارك التي خاضها ضد المشركين.

أما الرواية التي ذكرتها المصادر التاريخية، والتي تتضمن مشورة للإمام علي (عليه السلام) على الخليفة عمر بن الخطاب في مسألة الفتوح، فهي لا تدل على اشتراكه في هذه الفتوحات كما سنوضح ذلك، إذ تذكر هذه الرواية أن الخليفة جمع الصحابة، عندما علم باجتماع الفرس قرب مدينة نهاوند من أجل استشارتهم في الإجراء المناسب لهذه المشكلة، فكان للصحابة آراء متعددة، ومن الآراء التي طرحت عليه، ما اقترحه عثمان بن عفان على الخليفة (أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشام فيسيروا من شامهم، وتكتب إلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم، ثم تسير أنت بأهل الحرمين إلى المصرين، البصرة والكوفة، فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين)، لكن الخليفة لم يقتنع بهذه الآراء، وطلب من الإمام علي (عليه السلام) أن يبين رأيه في هذه المسألة، فكان رأي الإمام (عليه السلام) هو (أقم مكانك، واكتب إلى أهل الكوفة، فإنهم أعلام العرب ورؤساؤهم، وليشخص منهم الثلثان، وليقم الثلث، واكتب إلى

ص: 198


1- البلاذري، فتوح البلدان، ص 155

أهل البصرة أن يمدونهم ببعض ما عندهم، ولا تشخص الشام ولا اليمن، إنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم، سارت الروم إلى ذراريهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم، ومتى شخصت من هذه الأرض، انتقضت عليك الأرض من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات والعيالات، إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدا قالوا هذا أمير العرب وأصلهم، فكان ذلك أشد لكلبهم عليك، وأما ما ذكرت من مسير القوم، فإن الله هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما ما ذكرت من عددهم، فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، ولكنا كنا نقاتل بالصبر والنصر)(1)، وهذه الرواية لا تدل على اشتراكه في الفتوح، بل هو رأي أدلى به من أجل مصلحة الإسلام والمسلمين، لما رأى أن الخطر الذي يشكله الفرس في تلك المرحلة قد يؤدي إلى إنهاء الإسلام، كذلك فإن جيوش المسلمين في تلك المرحلة كانت تقاتل عند حدود العراق، وهذه المنطقة على الرغم من سيطرة الساسانيين عليها، فإنها كانت منطقة سكن القبائل العربية.

وإذا انتقلنا إلى خلافة الإمام علي (عليه السلام) نجد أن القوة العسكرية التي يمتلكها والمقاتلين المنتشرين في أمصار الدولة الإسلامية كانوا قادرين على الاستمرار بالفتوحات، وهذا يعني ان الحرب الداخلية التي شهدتها خلافته لم تكن السبب في توقف هذه الفتوحات، بل انه أراد تنظيم أمور الدولة من الداخل، وحماية الإسلام وتحقيق العدالة بين المسلمين، وابعاد أصحاب المصالح والنفعيين عن مراكز القوة في الدولة الإسلامية، لاسيما أن الفتوح استغلت من قبل الكثير من الولاة والقادة

ص: 199


1- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 211 - 212، المفيد، الإرشاد، 1 / 209، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 9 / 99 - 100

من أجل جمع الثروات، فلم يكن هَمَّ هؤلاء نشر الإسلام أو تحقيق أهدافه بقدر الحصول على الغنائم، لكن هذا الأمر لم يكن عاما عند جميع المسلمين المشتركين في هذه الفتوح، لأن قسماً كبيراً منهم كان من الصحابة والتابعين الذين آمنوا بمبادئ الإسلام السامية، وكانوا مستعدين لبذل أنفسهم في سبيل تحقيق أهدافه، ولم تكن الغنائم المتحصلة من هذه الفتوح تهمهم كثيرا، لذلك فإن الإمام علياً كان يعي هذه الحقيقة، ويريد أن يوصل المسلمين إلى قناعة مفادها أن مبادئ الإسلام أكبر من مجموعة من الأموال، لذلك أوقف كل الفتوح على الرغم من أنه كان يمتلك القدرة والقوة على الاستمرار فيها، من أجل إعادة تنظيم الدولة الإسلامية من الداخل، وتربية المسلمين على مبادئ الإسلام.

ولتأكيد ما ذهبنا إليه سنسوق بعض الأمثلة على القوة التي كانت تمتلكها الخلافة في عهد الإمام علي، إذ تذكر الروايات أن الإمام علياً (عليه السلام) خيرّ المسلمين قبل معركة صفين بين الذهاب إلى هذه المعركة أو الخروج من الكوفة، والذهاب إلى الحدود الشمالية الشرقية للدولة الإسلامية، لصد غارات الديلم المستمرة على تلك الحدود، فخرج إلى تلك المنطقة أربعة الآف مقاتل أو خمسة الآف(1)، وفي رواية أخرى انه أرسل حملة إلى تلك المنطقة بقيادة الربيع بن خثيم(2).

وعندما تمردت بعض المدن على الخلافة بعد معركة صفين، استطاع الإمام علي

ص: 200


1- البلاذري، فتوح البلدان، ص 194، وهؤلاء كانوا يسكنون في منطقة تسمى بلاد الديلم وهي محاذية لمدينة قزوين، ينظر ياقوت الحموي، معجم البلدان، 4 / 342 - 343
2- البلاذري، فتوح البلدان، ص 194، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 186، وهو أحد التابعین ومن الزهاد المعروفین ومعروف بولائه للإمام علي، ينظر ابن سعد، الطبقات الكبرى، 6 / 182 - 193

إخضاع هذه المدن بسرعة كبيرة جدا، ومن المدن التي تمردت مدينة اصطخر، فأرسل والي البصرة عبد الله بن عباس حملة عسكرية من أجل السيطرة عليها(1)، كما أرسل والي البصرة بأمر الخليفة حملة أخرى إلى مدينة سجستان تعدادها أربعة الاف مقاتل من أجل السيطرة عليها إثر تمردها(2)، وعندما تمردت مدينة خراسان أرسلت الخلافة حملة للقضاء على هذا التمرد(3).

كذلك فإن الحملات التي كانت ترسلها الخلافة لمطاردة المتمردين من أتباع معاوية، تدل على قدرة الخلافة على مواصلة الفتوح، لكن الخليفة استثنى عن هذه الفكرة، عندما رأى أن قسماً كبيراً من المسلمين لا يفرقون بين الغنيمة، وبين أهداف الإسلام العليا، فأصبحت الأموال هي الهدف الرئيس لكثير من القادة والجنود، وهذا ما كان يخشاه الإمام علي (عليه السلام). لكن المدة التي قضاها الإمام علي (عليه السلام) في الخلافة لم تكن كافية من أجل تغيير هذا الواقع، لذلك بعد وفاته عادت الأمور إلى ما كانت عليه، بل زاد الوضع سوءا عندما استلم معاوية والأمويين حكم الدولة الإسلامية، فأخرجوا جيوش المسلمين لتحارب في الشرق والغرب من أجل الغنائم، وهناك أمثلة كثيرة على هذا الموضوع، لا نريد الخوض فيها تجنبا للإطالة، وسنكتفي بمثال واحد على هذا الأمر ذكرته بعض المصادر التاريخية، مفاده أن أحد قادة المسلمين المتوجهين إلى منطقة خراسان أصاب غنائم كثيرة في تلك المنطقة، لذلك كتب زياد بن أبيه والي العراق في عهد معاوية إلى ذلك القائد: أما بعد فإن

ص: 201


1- البلاذري، فتوح البلدان، ص 233
2- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 151، البلاذري، فتوح البلدان، ص 236
3- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 151، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 46، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 357

أمير المؤمنين كتب ليصطفي له البيضاء والصفراء، ولا يقسم بين المسلمين ذهبا ولا فضة، فرفض ذلك القائد هذا الأمر؛ لأن هذه الغنائم ليست من حق معاوية بل هي حقوق الجنود، فقسمها بين الجنود ولم يلتزم بأمر معاوية، لذلك حبسه وقيده حتى مات في قيوده(1). وهذا الأمر يؤيد ما ذهبنا اليه من أن الفتوح أصبحت وسيلة لجمع الأموال، وإسباغ غرور الكثير من القادة والحكام، وأصبح الإسلام مجرد شعار يخدم هؤلاء في مجال تقوية سلطانهم.

ومن أجل أن نفهم طبيعة الغنائم في عهد الإمام علي (عليه السلام)، كونها أحد مصادر بيت المال في عهده، لابد لنا أن نأخذ بعض النماذج على تعامله معها، إذ تذكر الروايات ان الإمام علياً خاض معركة الجمل مع الناكثين لبيعته في البصرة، الذين كان يقودهم الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله والسيدة عائشة زوجة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي صاحبة الجمل الذي سميت المعركة باسمه، وانتهت هذه المعركة بانتصار الإمام علي (عليه السلام) عليهم ومقتل طلحة والزبير، فتعامل الإمام علي (عليه السلام) مع غنائم هذه المعركة وفق تعاليم الإسلام، فلم يأخذ كل الأموال التي خلفها المنهزمون في هذه المعركة، إذ قسم بين الجنود ما وجده من أسلحة كانوا يقاتلون بها(2)، أما أموال هؤلاء المقاتلين في البصرة فلم يقسمها، على الرغم من أن جنوده أرادوا منه تقسيمها عليهم، لأنه كان يرى أنهم مسلمون تحرم أموالهم بحرمة الإسلام(3)، إلا ان بعض الروايات تدل على أنه قسم الأموال بين

ص: 202


1- ابن أبي شيبة الكوفي، المصنف، 7 / 270، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 187، الحاكم النيسابوري، المستدرك، 3 / 442، ابن حجر، الإصابة، 2 / 381
2- البلاذري، انساب الأشراف، ص 262، يحيى بن الحسین، الأحكام، 2 / 507، النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 395، ابن حزم، المحلى، 11 / 103
3- الطوسي، المبسوط، 7 / 266، السرخسي، المبسوط، 10 / 126، الحلي، مختلف الشيعة، 4 / 450

المقاتلين الذين اشتركوا في المعركة(1)، ويمكن أن نجمع بين الروايتين بأن الإمام علياً قسم الأسلحة التي قاتل بها هؤلاء والحيوانات وغيرها بين المقاتلين، ومنع أصحابه من الاستيلاء على الأموال الموجودة خارج المعسكر الذي قاتلوا فيه، أي الأموال التي كانت موجودة في البصرة(2).

وكان تعامل الإمام علي مع الأموال التي غنمها أصحابه من معركة النهروان مع الخوارج الذين انشقوا عن جيشه، بنفس الطريقة؛ إذ قسم بين جنوده الأسلحة وغيرها من الأموال التي استعملوها في المعركة بين المقاتلين(3).

لذلك يمكن القول إن المعارك الثلاث التي خاضها الإمام علي، كانت مع مجموعات من المسلمين، لذلك لم يتبع السياسة التي اتبعها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع غير المسلمين بأخذ جميع أموالهم وتقسيمها على المقاتلين، فاكتفى الإمام بتجريدهم من الأسلحة وغيرها من المعدات، التي استعملوها في المعارك وقسمها بين المقاتلين.

ص: 203


1- الشافعي، كتاب الأم، 4 / 238، يحيى بن الحسين، الأحكام، 2 / 507، ابن قدامة، المغني، 10 / 65، الحلي، مختلف الشيعة، 4 / 452، 453
2- النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 395
3- البلاذري، انساب الأشراف، ص 375

ه- العشور

1- عشر الأرض

تعد ضريبة العشر التي تفرض على الأراضي التي يملكها المسلمون من الموارد المهمة لبيت المال، وتؤخذ من الأرض التي يملكها المسلم أو التي أسلم عليها أصحابها، لكن هناك تفاوتاً في نسبة هذه الضريبة، إذ يؤخذ العشر كاملا من الأراضي التي تسقى بماء المطر، والأراضي المزروعة بالأشجار التي لا تحتاج إلى سقي، ويؤخذ نصف العشر من الأراضي التي تسقى بآلات السقي(1).

وهذه النسب من الضريبة حددها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما جاءه أهل اليمن ليعلنوا إسلامهم في السنة التاسعة للهجرة التي تسمى عام الوفود، فأخذ العشر كاملا من الأراضي التي يسقيها المطر، ونصف العشر من الأراضي التي تسقى بالآلات(2)، كذلك تعامل مع أراضي البحرين وفق مبدأين فأخذ الخراج على النصف من الأراضي التي لم يدخل أهلها الإسلام(3)، وأخذ العشر من الذين عرض عليهم الإسلام وأسلموا(4).

وهذا يعني أن العشر قرره الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على أراضي المسلمين كضريبة لبيت المال، شملت المسلمين الذين يمتلكون الأراضي، وامتدت إلى الأشخاص الذين دخلوا الإسلام من أهل الكتاب، وهؤلاء أعفوا من ضريبة

ص: 204


1- الصدوق، المقنع، ص 156، المفيد، المقنعة، ص 236
2- ابن هشام، السيرة النبوية، 4 / 194 - 195، البلاذري، فتوح البلدان، ص 50
3- البلاذري، فتوح البلدان، ص 55
4- البلاذري، فتوح البلدان، ص 55

الجزية التي كانوا يدفعونها نتيجة لبقائهم على دينهم، لكن هذا الإعفاء لا يشمل الذين يعملون بأراضي الخراج، لأن هذه الأراضي مملوكة للدولة، ولا تسقط عنها الضريبة حتى لو دخل الشخص الذي يعمل عليها إلى الإسلام، لأن عمله فيها كان بناءً على اتفاق مع الدولة الإسلامية، يدفع بموجبها نسبة متفقاً عليها إما حسب مساحة الأرض أو نسبة المنتج من هذه الأرض.

كذلك فإن العشر لا يجتمع مع الخراج، لأن الأرض إما أن تكون لمسلم فلا يؤخذ منها إلا العشر، أو أن تكون فتحت صلحا، فلا يدفع أهلها إلا نسبة معينة من المال بالاتفاق مع المسلمين، وهذه النسبة من المال إما أن توضع على الأشخاص فتسمى الجزية(1)، أو على الأرض فتسمى الخراج، لكن المسلمين ليس لهم الحق بامتلاك هذه الأرض، أو أن تكون الأرض فتحت بالقوة، فتكون ملكاً للدولة الإسلامية، لذلك فإن العشر يتعلق بالأراضي التي فتحت صلحا، وبقيت بيد أصحابها فأسلموا عليها، أما الذي يعمل بأرض الخراج فإن دخوله الإسلام يعفيه من الجزية، لكن الأرض التي يعمل فيها تبقى تدفع الخراج(2).

ومن الجدير بالذكر أن العشر الذي يؤخذ من الأراضي الزراعية التي يملكها المسلمون هي عبارة عن زكاة للأموال(3)، لكن نسبتها تختلف عن نسب الزكاة في الأموال النقدية والحيوانات وغيرها، لذلك فإن إنفاق أموال العشر يشمل الفئات التي ذكرها القرآن الكريم بآية الصدقات «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ

ص: 205


1- Vercellin،op. cit.، p96. Bell ، op. cit.، p176.
2- عبد الرحمن بن قدامة، الشرح الكبير، 2 / 575
3- الصدوق، الهداية، ص 170، المفيد، المقنعة، ص 288

فَرِيضَةً مِنَ الله وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(1).

وعلى الرغم من قلة الروايات التاريخية التي تعالج موضوع العشر بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا أننا نلمس من خلال الروايات التاريخية أن النسب بقيت ثابتة بدون تغير، ويمكن أن نعزو قلة الروايات في هذا الباب إلى أنها ركزت على أراضي الخراج ونسب الأموال المجباة منها، وذلك لأهميتها من ناحية، وكثرة الفتوح في عهد الخلفاء الثلاثة من ناحية أخرى.

وهذا الأمر ينطبق على عهد الإمام علي (عليه السلام)، إذ لم تفصل الروايات التاريخية في هذا الموضوع، لاسيما أنها ذكرت موضوع العشر في معرض الحديث عن الزكاة، وليس بصورة مستقلة مثل الخراج، لكنها بينت حدود الضرائب التي قررها الإمام علي (عليه السلام) على المنتجات الزراعية التي تزرع في هذه الأراضي، فذكرت هذه الروايات أنه أخذها من مجموعة من المنتجات الزراعية مثل الزبيب والتمر والحنطة والشعير والأرز وغيرها، فيما أعفى منها الخضروات(2)، لأنها تعد مستهلكاً يتعلق بالحياة اليومية للناس، لذلك أعفيت من الضريبة من أجل تشجيع الفلاحين على زراعتها، كذلك لأن هذه المنتجات تتلف في وقت قصير ولا تبقى حتى رأس السنة(3)، والشرط في استيفاء ضريبة العشر مقرون بمرور سنة كاملة على المنتج الفائض عن الحاجة، أما المقدار الذي تؤخذ منه هذه الضريبة فهو بلوغ المنتج الفائض عن الحاجة خمسة أوسق أي ثلاثمائة صاع (ثمانمائة وسبعة وأربعين كيلو غراما تقريبا)(4).

ص: 206


1- سورة التوبة، الآية 60
2- زيد بن علي، مسند زيد بن علي، ص 196
3- الكليني، الكافي، 3 / 510
4- السيستاني، المسائل المنتخبة، ص 235

2- عشور التجارة

هي ضريبة تؤخذ من أموال التجارة، وقد فرضت هذه الضريبة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، إذ يذكر أبو يوسف أنه أخذ هذه الضريبة من التجار في الدولة الإسلامية، بعد أن جمع الصحابة واستشارهم في هذا الأمر، فأشاروا عليه بفرض العشر، لذلك أخذه من التجار وفق ثلاثة مستويات، ففرض على تجار أهل الحرب أي الذين لا يخضعون لحكم المسلمين العشر كاملا، وأخذ من تجار أهل الذمة الذين يسكنون في الدولة الإسلامية نصف العشر، فيما أخذ ربع العشر من التجار المسلمين(1)، وتؤخذ هذه الضريبة مرة واحدة في السنة مهما تعددت مرات التجارة(2)، كما لا تفرض هذه الضريبة على التجارة الداخلية (أي بين الولايات الإسلامية)، بل تؤخذ من السلع الداخلة من خارج حدود الدولة الإسلامية(3).

وفي عهد الإمام علي (عليه السلام) لم تذكر المصادر انه جبى هذه الضريبة، وربما يكون السبب في ذلك هو أن تجار المسلمين كانوا يدفعون ضريبة الزكاة عن الأموال التي تمر عليها سنة كاملة، وتجار أهل الذمة يدفعون الجزية عن أموالهم وفق المعاهدات التي عقدوها مع المسلمين.

لكن بعض الروايات تنقل لنا اهتمام الإمام علي بالتجارة، ودورها في التنمية الاقتصادية للمجتمع وتطوره، لذلك كتب لأحد عماله من أجل الاهتمام بالتجار ورعايتهم (ثم التجار وذوي الصناعات فاستوص وأوص بهم خيرا، المقيم منهم والمضطرب بماله، والمترفق بيده، فإنهم مواد للمنافع وجلابها في البلاد في برك

ص: 207


1- كتاب الخراج، ص 145، اليوزبكي، النظم الإسلامية، ص 160، فوزي، النظم الإسلامية، ص 107
2- اليوزبكي، النظم الإسلامية، ص 160
3- أبو يوسف، كتاب الخراج، ص 133

وبحرك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها من بلاد أعدائك من أهل الصناعات التي أجرى الله الرفق منها على أيديهم، فاحفظ حركتهم وآمن سبلهم، وخذ لهم بحقوقهم، فإنهم سلم لا يخاف بائقته، وصلح لا تحذر غائلته، أحب الأمور إليهم أجمعها للأمن، وأجمعها للسلطان، فتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك، واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقا فاحشا وشحا قبيحا، واحتكارا للمنافع، وتحكما في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة، وعيب على الولاية، فامنع الاحتكار فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عنه، وليكن البيع والشراء بيعا سمحا بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين مع البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك فنكّل وعاقب من غير إسراف)(1)، وهذا الكتاب يبين لنا مجموعة من الأمور، ففيما يخص الضرائب لم يتطرق الإمام إلى ضريبة العشر، وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه من أنه ألغى هذه الضريبة، ويبدو أن إلغاء الضريبة لم يشمل التجار المسلمين وأهل الذمة فقط، بل تعداه إلى غيرهم من تجار المناطق المجاورة (تجار أهل الحرب)، والتي لا يستطيع التجار المسلمون وغيرهم من رعايا الدولة الوصول اليها، وهذا واضح من خلال توصيته لعامله بضرورة رعاية التجار والاهتمام بهم، وذلك لدورهم في تنشيط الحركة الاقتصادية في الدولة، وقدرتهم على جلب المنتجات الضرورية من المناطق التي لا يستطيع تجار الدولة الإسلامية الدخول اليها، ويمكن أن نلمس من هذا الكتاب التنظيم الذي وضعه الإمام علي (عليه السلام) للحركة التجارية، وانعكاس هذا الأمر على حركة السوق والأموال في الدولة الإسلامية، وذلك من خلال تأكيده على أهمية التجارة ورعاية التجار، وتوفير البيئة الآمنة لحركة رؤوس الأموال وحمايتها من المتجاوزين، وفي الوقت نفسه الذي

ص: 208


1- ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 140 - 141، المجلسي، بحار الأنوار، 74 / 256

منح فيه هذه الرعاية لهم شدد على الوالي في ضرورة مراقبة هؤلاء التجار، ومنعهم من احتكار السلع بما يضر الناس، كما طبق سياسة الأسعار العادلة التي لا تجحف بالفريقين، وأكد على ضبط الموازين والمكاييل، والسماحة في البيع والشراء، وقد باشر الإمام هذا الأمر بنفسه في العاصمة(1)، إذ تذكر الروايات أنه كان يطوف في الأسواق يراقب الحركة التجارية ويعاقب المخالفين، فقال له أحد المسلمين (أنا أكفيك هذا، يا أمير المؤمنين، واجلس في بيتك)، لكنه رفض هذا الأمر لأنه كان يشعر أن هذه المسؤولية تقع على عاتقه(2).

وهذا الاهتمام الذي أولاه الإمام علي (عليه السلام) للتجارة يصب في سياسة الإصلاح التي انتهجها، على الرغم من أن أموالها لا تصب بصورة مباشرة في بيت المال، لكنها تسهم في الاستقرار الاقتصادي والمالي للدولة، وتوفر الكثير من فرص العمل للمسلمين، إذ ليس بمقدور الدولة أن توفر فرص العمل لجميع رعاياها، لذلك عندما رأى أن هناك نظرة تمييزية ضد الموالي في الدولة الإسلامية، أمرهم بالعمل في التجارة لما لها من أثر اقتصادي عليهم وعلى الدولة الإسلامية(3).

ص: 209


1- الطبرسي، مكارم الأخلاق، ص 111، ابن كثير، البداية والنهاية، 8 / 5 - 6
2- النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 2 / 538
3- الكليني، الكافي، 5 / 318 - 319، المجلسي، بحار الأنوار، 42 / 160

ص: 210

الفصل الثالث نفقات بيت المال

اشارة

ص: 211

ص: 212

لقد تحدثنا في الفصل السابق عن أهم الموارد المالية لبيت مال المسلمين، وفي هذا الفصل سنتحدث عن النفقات التي تكفلت بها الخزينة المركزية، وأهم الإصلاحات التي قام بها الإمام علي في هذا المجال، وذلك من خلال مناقشة كيفية إنفاق الأموال الموجودة في الخزينة.

يمكن أن نقسم هذه النفقات وفق النقاط الآتية:

أ- العطاء ورواتب الموظفين

اشارة

يعد العطاء من أهم نفقات بيت المال، لأن أكثر الأموال التي ترد إليه توزع على شكل مرتبات للمسلمين الذين يشتركون في بناء الدولة سواء في الجيش أو الوظائف المدنية، وقد ابتدأت الدولة الإسلامية منذ عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بتوزيع العطاء، لكن العطاء الذي كانت تمنحه الدولة في ذلك العهد لم يكن بالشكل الذي أصبح عليه العطاء في عهد الخلفاء بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك لأن الدولة في عهده لم تكن تمتلك موارد كبيرة كما هو عليه الحال فيما بعد، فعندما كانت الدعوة في مكة، لم يكن المسلم يأخذ شيئاً من المال، بل كان قسم منهم ينفقون أموالهم في سبيل الإسلام، حتى أصبحوا مفلسين نتيجة هذا الإنفاق كما هو الحال مع أبي طالب عم النبي وخديجة بنت خويلد زوجته(1)، لكن عندما هاجر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة حاول أن يجد علاجاً للضائقة الاقتصادية التي يمر بها المسلمون الذين هاجروا بعد أن تركوا كل أموالهم في مكة، لذلك أمر المسلمين أن يتشاركوا فيما بينهم في الأموال، فأوجد نظاماً خاصاً

ص: 213


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 31، الشرهاني، السيدة خديجة بنت خويلد، ص 139 - 150

أطلق عليه نظام المؤاخاة، الذي يستند إلى تقاسم الأموال بين المهاجرين والأنصار، فكل واحد من المهاجرين الذين قدموا إلى المدينة نزل في بيت واحد من الأنصار من أهل يثرب، وقدم له الأخير نصف ما يمتلك، فكان هذا الإجراء بمثابة حل مؤقت للضائقة الاقتصادية التي يمر بها المسلمون لاسيما المهاجرون منهم، أما الفقراء الذين لم تكن عندهم عوائل، فقد كان يطلق عليهم تسمية أهل الصفة، وهؤلاء سكنوا في المسجد، وكانت أوضاعهم الاقتصادية بالغة الصعوبة، لذلك كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو بعضهم إذا أكل، ويفرق القسم الآخر على أصحابه، فكان هؤلاء الصحابة يعيلونهم(1).

وبعد أن توسعت الدولة الإسلامية في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لتشمل مناطق واسعة من الجزيرة العربية، توفرت مصادر للأموال مثل الغنائم والفيء والزكاة وغيرها، فكانت سياسة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تقوم على مبدأين؛ أولهما توزيع الأموال بسرعة وبدون تأخير نتيجة لحاجة المسلمين الماسة لها، وثانيهما المساواة في العطاء بين المسلمين وعدم التمييز بينهم(2)، لأي سبب سواء على الخدمات التي يقدمها المسلم للدولة، أو مكانته الاجتماعية أو الدينية أو غيرها، لأن الجهاد والذب عن الإسلام ثوابههما عند الله تعالى، وهو الذي يجزيهم ويثيبهم على ما قدموه للإسلام، لاسيما أن الإسلام لم يكن همه الوحيد الأموال على الرغم من أهمية المسألة الاقتصادية، بل تعدى ذلك إلى بناء الإنسان من كل النواحي، ليكون إنساناً نموذجاً وليس إنساناً مرتزقاً، فهو أي الإسلام تربية قبل أن يكون عملاً، وهو إيثار قبل أن يكون استئثاراً، ويمكن أن نلمس ذلك من خلال نظام المؤاخاة

ص: 214


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1 / 123، الحاكم النيسابوري، المستدرك، 3 / 15 - 16
2- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 2 / 303، البلاذري، فتوح البلدان، ص 23

الذي أوجده الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما هاجر إلى المدينة، إذ كان الهدف منه تحطيم الاعتبار الطبقي، فآخى بين المهاجرين مع بعضهم ثم بينهم وبين الأنصار، وكذلك تحطيم للاعتبارين القبلي والاقتصادي، فتآخى المولى(1) والصريح، وزعيم القبيلة والعبد، فزالت جميع الفوارق بين المسلمين، ولم يبق إلا اعتبار العمل الصالح، فكان هذا النظام بمثابة تعبير عن مبدأ المساواة والمؤاساة الإسلاميين، إلى جانب ترسيخ النواحي الإيمانية(2)، فتقاسم المهاجرون والأنصار كل شيء؛ الأموال والأراضي والبيوت وتجاوزوا مسألة المال.

ثم قام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بإيجاد حلول لسكن هؤلاء الوافدين، فأمر المهاجرين ببناء دورهم بأنفسهم بعد أن قام الأنصار بالتبرع بالأراضي لبناء تلك الدور، كذلك وزع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الأراضي التي لم تكن مملوكة لأحد على المهاجرين(3)، إذ ذكر السمهودي أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أقطع (أصحابه هذه القطائع فما كان من عفائن الأرض فإنه أقطعهم إياه، وما كان من الخطط المسكونة العامرة فإن الأنصار وهبوه له فكان يقطع من ذلك)(4).

وبعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تأسست دولة المسلمين التي يمكن أن نطلق عليها الدولة الإسلامية الثانية، بعد أن أوجدوا نظاما للحكم مكملا لدولة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ووضعوا نظاما سياسيا لهذا الغرض، على الرغم من الاعتراضات عليه من قبل جهات ذكرناها في الفصل الأول، والتي يمكن

ص: 215


1- يقصد بالمولى هنا هو العبد الذي نال حريته، أو شخص يتحالف مع قبيلة غير قبيلته الأصلية
2- شمس الدين، نظام الحكم، ص 526
3- البلاذري، فتوح البلدان، ص 11، ابن سيد الناس، عيون الأثر، ص 50
4- السمهودي، وفاء الوفا، 1 / 518

تلخيصها بثلاث جهات هي: الهاشميون وهم أسرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويقف على رأسهم الإمام علي بن أبي طالب، وانضم اليهم بعض الصحابة من المهاجرين وغيرهم، ثم المعارضة التي مارسها الأنصار ضد خلافة أبي بكر بقيادة زعيمهم سعد بن عبادة، والجهة الثالثة التي عارضت خلافة أبي بكر هي بعض قبائل العرب، لكن هذه المعارضة سرعان ما انتهت، وذلك لأن الإمام علياً (عليه السلام) فضل مصلحة الإسلام على مسألة الترشح لمنصب الخليفة، وكذلك فعل الأنصار، فيما قضت الخلافة على معارضة القبائل العربية بالقوة.

ثم اتجه المسلمون إلى إيجاد حلول للمشكلة المالية، وكان من الطبيعي أن يرجعوا إلى تشريعات دولة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكن كثرة الأموال الواردة إليهم من الفتوحات الإسلامية جعلتهم أمام مسائل جديدة تحتاج إلى اجتهاد في حلها، وتحتاج إلى مراعاة الواقع الجديد في التعامل معها، فاجتهد خلفاء المسلمين كل بسياسة مالية من أجل إدارة الدولة.

فعندما تولى أبو بكر الخلافة سار على مبادئ وتشريعات الإسلام التي وضعها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في توزيع العطاء، فلما جاءت الأموال من الأمصار الإسلامية أشارت جماعة من المسلمين عليه برأي مفاده التمييز بين المسلمين حسب مجموعة من المعايير منها الخدمات التي قدمها الفرد للإسلام، وتاريخ دخوله للإسلام، فقالوا له: (فلو فضلت أهل السوابق والقدم، والفضل بفضلهم)(1)، وهذا أمر خطير على المجتمع الإسلامي وما أسس في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من المساواة، وما جاء في القرآن من آيات تؤكد التساوي بين المسلمين: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ

ص: 216


1- أبو يوسف، الخراج، ص 45، البيهقي، السنن الكبرى، 6 / 348، الهيثمي، مجمع الزوائد، 6 / 4

عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ»(1)، كذلك ما روي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في المساواة بين المسلمين: (ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى(2)، وهذا يعني ان الإسلام لم يرفع الناس على أساس أنسابهم أو ألوانهم أو أموالهم أو قومياتهم أو أي شيء آخر، وإنما كان مقياسه التقوى والعمل الصالح والسلوك القويم، والرأي الذي طرح على الخليفة أبي بكر كان يريد إعادة مقولة جاهلية، وهي التفريق بين الناس في معايشهم على أسس معينة، وعلى الرغم من اختلاف هذه الأسس في الجاهلية عما اقترحه هؤلاء الصحابة، لكنها تتطابق معها من حيث المبدأ، ونتيجة الاثنين واحدة، وهي خلق فجوة في المجتمع من خلال خلق طبقات اجتماعية ألغاها الإسلام، وهذه الطبقية أخطر من الأولى لأنها ارتدت رداء الإسلام، لكنَّ الخليفة أبا بكر رفض هذا الأمر وقال لهم: (إنما ذلك شيء ثوابه على الله جلّ ثناؤه، وهذا معاش فالأسوة فيه خير من الأثرة)(3)، ومن الملاحظ إن الذين أشاروا على الخليفة بهذا الرأي هم الصحابة، ويقف على رأسهم عمر بن الخطاب، إذ قال له: (يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أتجعل الذين جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وهجروا ديارهم له، كمن إنما دخلوا في الإسلام كرها؟) فرفض الخليفة هذا الرأي على الرغم من العلاقة الوثيقة بينهما(4)، ووزع الأموال الواردة إلى الدولة الإسلامية في عهده وفق مبدأ المساواة (فخرج على سبعة دراهم وثلث لكل

ص: 217


1- سورة الحجرات، الآية 13
2- ابن حنبل، مسند احمد، 5 / 411، الطبراني، المعجم الأوسط، 5 / 86، ابن حجر، فتح الباري، 6 / 382، الهيثمي، مجمع الزوائد، 3 / 266
3- أبو يوسف، الخراج، ص 46، البيهقي، السنن الكبرى، 6 / 348، الهيثمي، مجمع الزوائد، 6 / 4
4- الشافعي، كتاب الأم، 4 / 162، البيهقي، السنن الكبرى، 6 / 348، ابن قدامة، المغني، 7 / 309

إنسان، فلما جاء العام المقبل أتى مال كثير هو أكثر من ذلك، فقسمه بين الناس فأصاب كل إنسان عشرين درهما)(1).

لذلك يمكن القول إن الخليفة أبا بكر رفض مبدأ المفاضلة الذي اقترحه بعض الصحابة ممن يريدون أخذ امتيازات على حساب الآخرين، ومكافأة على دخولهم الإسلام في وقت مبكر، واستمر بهذه السياسة حتى نهاية خلافته.

وفي عهد الخليفة عمر بن الخطاب تغيرت السياسة المالية للدولة الإسلامية، إذ وردت كميات كبيرة من الأموال، فأصبحت هناك حاجة إلى إيجاد نظم إدارية ومالية دقيقة من اجل إدارة هذه الأموال الواردة، لاسيما في الموازنة بين ما يرد إلى الدولة من أموال والكيفية التي تنفق فيها، لاسيما أن المسلمين في الحقبة التي سبقت عهد الخليفة عمر، لم تكن عندهم حاجة إلى إيجاد نظم لإدارة هذه الأموال، فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يوزع ما اجتمع عنده من مال بعد مدة قليلة من وصوله اليه على المستحقين من المسلمين وفق مجموعة من القواعد سبق الكلام عنها، والتي تتناسب مع واقع المسلمين في ذلك الوقت، فلم يكن هناك بيت مال بالمعنى المعروف، كذلك لا يوجد ديوان لتسجيل المسلمين أو لتسجيل النفقات والمصروفات، وذلك لأن النفقات كانت قليلة والواردات كانت كذلك، أما الأراضي المملوكة للدولة الإسلامية لم تكن كثيرة أو واسعة بحيث تحتاج إلى ديوان لإدارتها ومراقبتها، لذلك لم تظهر الحاجة إلى نظم إدارية ومالية إلا في عهد الخليفة عمر، ولم يكن الحال مختلفاً فيعهد الخليفة أبي بكر.

لذلك فإن الحاجة دفعت عمر إلى السعي من اجل إيجاد نظم مالية وإدارية،

ص: 218


1- أبو يوسف، الخراج، ص 45، ابن سلمة، شرح معاني الآثار، 3 / 305

تتناسب مع حجم الأموال الواردة، وذلك بعد أن وردت كمية كبيرة من الأموال إلى العاصمة المدينة، فجمع الصحابة واستشارهم في الطريقة التي يوزع بها هذه الأموال، لأنه لا يعرف كيف يتعامل مع هذا المال المتجمع لديه، وأين يضعه، ولمن يعطيه، فقال للمسلمين في المسجد: (إن شئتم أن نكيل لكم كلنا، وإن شئتم أن نعد لكم عددنا، وإن شئتم أن نزن لكم وزنّا)، لكنه على الرغم من ذلك كان يعرف أن هذا الإجراء لا يتناسب مع اقتصاد الدولة، فأراد الاستفادة من خبرة بعض الصحابة الذين عملوا في التجارة والذين اكتسبوا معرفة بالإدارة من خلال احتكاكهم بالدول المجاورة للجزيرة العربية، وهؤلاء أشاروا على الخليفة بآراء مختلفة من أجل إيجاد سياسة مالية ثابتة للدولة الإسلامية، فقال له أحدهم إنه يجب أن يحصی المسلمين الذين يأخذون الأموال، ويسجل أسماءهم في سجلات خاصة لهذا الغرض: (يا أمير المؤمنين دوّن الناس دواوين يعطون عليها فدون عمر الديوان)(1)، وفي رواية أخرى أنه قال له: (قد جئت من الشام فرأيت ملوكها قد دونوا ديوانا وجنّدوا جندا فدون ديوانا وجنّد جندا)(2)، وعندما سمع الخليفة عمر هذا الرأي قبله لأنه وجد فيه حلاً لمشكلة توزيع الأموال التي كانت مشكلة حقيقية لا يعرف الخليفة كيف يتعامل معها، فبدأ بتأسيس سجل خاص لإحصاء المسلمين الذين يجب أن يأخذوا العطاء، وقد سمي هذا السجل بديوان الجند أو ديوان العطاء، وقد أطلق المسلمون عليه اسم الديوان، لأنه لم يكن في زمن الخليفة عمر ديوان غيره(3)، وهو يشمل كل من يأخذ العطاء من المسلمين، أي إن المسجلين فيه تكفل الدولة لهم عطاءهم، لاسيما

ص: 219


1- أبو يوسف، الخراج، ص 45، اليوزبكي، دراسات في النظم العربية الإسلامية، ص 113
2- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 295، البلاذري، فتوح البلدان، ص 267، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 12 / 94
3- صبحي الصالح، النظم الإسلامية، ص 313. .Kennedy ، op. cit.، p69

القادرين على الاشتراك في المعارك التي كان يخوضها المسلمون، لأن الدولة الإسلامية لم يكن عندها جيش بالمعنى المعروف، بل كانت السياسة العسكرية منذ زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تقوم على النفير العام كما جاء في القرآن الكريم «انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِی سَبِيلِ الله ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ»(1)، فليس هناك جيش ثابت بل كل مسلم يستطيع حمل السلاح يكون مقاتلا، لكن هذا العطاء لم يكن يشمل جميع المسلمين، بل انه شمل أهل المدينة الذين هم مركز الدولة الإسلامية، وكذلك المقاتلين والموظفين الذين يسكنون في الأمصار الإسلامية، ولم يكن يشمل الأعراب الذين يسكنون في الصحراء من غير المقاتلين، بل كان ينفق على المستحقين منهم من أموال الصدقات(2).

لذلك شكَّل الخليفة عمر بن الخطاب لجنة من أجل تسجيل الناس في الديوان، حتى يستطيع توزيع العطاء عليهم، وتتكون هذه اللجنة من عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم(3)، وأمرهم أن يبدأوا بتسجيل الناس حسب قرابتهم برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فبدأوا ببني هاشم، وأتبعوهم أبا

ص: 220


1- سورة التوبة، الآية 41
2- الدوري، النظم الإسلامية، 190، اليوزبكي، دراسات في النظم العربية الإسلامية، ص 113
3- عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب ابن عم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأخو الإمام علي، دخل إلى الإسلام عند فتح مكة سنة ثمان للهجرة، وكان عالما بأنساب العرب، أنظر ترجمته ابن الأثیر، أسد الغابة، 3 / 423 - 424، ومخرمة بن نوفل الزهري القرشي ابن عم سعد بن أبي وقاص أسلم يوم فتح مكة وكان من المعروفین بحفظ الأنساب، ينظر ترجمته إبن الأثیر، أسد الغابة، 4 / 337، وجبیر بن مطعم النوفلي القرشي أحد أشراف قريش ومن الذين كانت تربطهم صلة برسول الله، إذ كان أحد الذين كسروا الحصار عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبني هاشم في السنة العاشرة للبعثة، أسلم بعد سنة ست للهجرة، وفي رواية إنه أسلم عند فتح مكة، وكان من العارفین بأنساب العرب، ينظر ابن الأثیر، أسد الغابة، 1 / 271

بكر وقومه، ثم عمر وقومه، فإذا استوى الناس في القرابة قدموا أهل السابقة، ثم انتقلوا إلى الأنصار فسجلوهم ثم سائر العرب(1).

وبعد أن اكتمل تسجيل الناس، أصبح عند المسلمين سجل معتمد فيه إحصاء لجميع المسلمين القادرين على حمل السلاح والموظفين الذين يعملون في الدولة الإسلامية، والمستحقين لأخذ الرواتب من الدولة، وهي أول مرة يكون هناك تنظيم في إدارة الدولة على الرغم من مرور مدة طويلة على تأسيسها، وذلك نتيجة للحاجة إلى هذا التنظيم، إلا أن المؤرخين اختلفوا في السنة التي أنشأ فيها الديوان على قولين؛ أولهما إن الخليفة عمر دوّنه في سنة 15 ه(2)، وثانيهما إنه دوّنه في سنة 20 ه(3)، لكننا نرجح الرأي الأول لأن الأموال تدفقت للدولة الإسلامية في بداية خلافة عمر، وليس من المعقول أن تترك الأموال بدون حل على الرغم من مرور مدة من الزمن.

وبعد أن انتهى الخليفة من تسجيل الناس انتقل إلى الجزء الثاني من هذا التنظيم، وهذا الجزء هو المتعلق بنسب الرواتب التي يجب أن يأخذها كل واحد من المسلمين، لذلك وضع الخليفة مجموعة من القواعد من أجل تحديد مقدار هذا الراتب، فأسس سياسة خاصة لتوزيع العطاء، عبّر عن هذه السياسة الجديدة بالقول: (لا أجعل من قاتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كمن قاتل معه، ففرض لأهل السوابق

ص: 221


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 295، البلاذري، فتوح البلدان، ص 267، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 278
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 108
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 296، البلاذري، فتوح البلدان، ص 267، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 130

والقدم من المهاجرين والأنصار...)(1).

وهذه السياسة التي وضعها الخليفة عمر، تعني التمييز بين المسلمين في العطاء حسب سبقهم إلى الإسلام والخدمات التي قدمها كل شخص من هؤلاء للإسلام، لأنه كان يرى إن هؤلاء يجب أن يكافئوا على ما قدموه، فخالف السياسة التي اتبعها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقسم المسلمين إلى مجموعة من الطبقات حسب نسبة العطاء، ويمكن أن نلخص هذه الطبقات كالآتي:

1- طبقة نساء النبي وتأخذ أعلى نسبة عطاء في الدولة، وألحق بها العباس بن عبد المطلب لأنه عم النبي وهذه الطبقة تأخذ ما بين اثني عشر ألف درهم إلى ع رشة آلاف درهم(2)، وفي بعض الروايات أنه أعطى عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر بن الخطاب ألفي درهم زيادة على ما أعطى لبقية نساء النبي(3)، فيكون راتب عائشة وحفصة ألف درهم في الشهر الواحد، وبقية نساء النبي ثمانمائة وثلاثاً وثلاثين درهما تقريبا في الشهر، وهؤلاء يأخذون رواتب أشبه بالتقاعد من دون أن يقوموا بأي عمل للدولة.

2- طبقة المهاجرين والأنصار وهي أغنى الطبقات الاجتماعية، وتأخذ أعلى نسبة عطاء في الدولة الإسلامية بعد الطبقة الأولى، إذ تذكر الروايات إنه

ص: 222


1- أبو يوسف، الخراج، ص 45، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 296، ابن أبي شيبة، المصنف، 7 / 615، البيهقي، السنن الكبرى، 6 / 350
2- البلاذري، فتوح البلدان، ص 267 - 268، ابن أبي شيبة، المصنف، 7 / 615، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 108، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 154
3- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 152، ابن أبي شيبة، المصنف، 7 / 615، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 108، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 154

أعطاها خمسة آلاف درهم(1)، لكن هناك روايات أخرى ذكرت أن الخليفة عمر، فرق بين المهاجرين والأنصار في العطاء، فأعطى للمهاجرين الذين شهدوا معركة بدر خمسة آلاف(2)، وأعطى لمن اشترك في هذه المعركة من الأنصار أربعة آلاف(3)، وهو أمر أقرب للصحة لأن المهاجرين أسلموا قبل الأنصار، إذا أخذنا بنظر الاعتبار انه استند في إنشاء هذه الطبقات على الأسبقية في الدخول للإسلام، ويؤيد ذلك ما جاء في رواية أبي عبيد من أن الخليفة عمر قال: أفأجعل من تكلف السفر وابتاع الظهر بمنزلة قوم إنما قاتلوا في ديارهم(4)، فقال أحد الأنصار: إن كان الله تبارك وتعالى ساق الهجرة إلينا في ديارنا فنصرناها وصدقناها أذاك الذي يذهب حقنا؟، لكن هذا الاعتراض الذي واجهه الخليفة عمر لم يغير رأيه في التوزيع(5).

كما قام الخليفة بإلحاق الحسن والحسين أبناء الإمام علي (عليه السلام) بهذه الطبقة وذلك لقرابتهما من رسول الله(6)، ثم ألحق أبا سفيان بن حرب ومعاوية ابنه ولا نعرف سبب إلحاقهما بهذه الطبقة(7)، مع العلم انهما لم يسلما إلا في السنة الثامنة للهجرة بعد فتح مكة، فضلاً عن كونهما من أشد المعارضين للدعوة الإسلامية في

ص: 223


1- البلاذري، فتوح البلدان، ص 267 - 268، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 108
2- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 152، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 154
3- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 152، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 154
4- يقصد لا أساوي بین المهاجرين الذين اشتروا الحيوانات من أجل ركوبها عند هجرتهم، وبین الأنصار الذين جاءهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقاتلوا معه في المدينة
5- الأموال، ص 374
6- البلاذري، فتوح البلدان، ص 267 - 268، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 108
7- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 152

مكة وفي المدينة، وعليه يكون مرتّب المهاجر الشهري أربعمائة وسبعة عشر درهما تقريبا، والأنصاري ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين درهما تقريبا.

3- طبقة أبناء المهاجرين والأنصار الذين اشترك آباؤهم في معركة بدر، إذ أعطى لكل واحد منهم ألفي درهم(1)، فيكون مرتباتهم الشهرية مائة وستة وستين درهما.

4- طبقة من شارك في أحد إلى الذين اسلموا حتى صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة اربعة آلاف درهم(2)، وفي بعض الروايات إنه أعطى الذين اشتركوا في معركة أحد أربعة آلاف درهم(3)، فيكون مرتّبهم الشهري ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين درهما تقريبا.

5- طبقات المسلمين الذين أسلموا بعد صلح الحديبية، تراوح عطاؤهم بين الفين وخمسمائة درهم، إلى الفي درهم لكل واحد منهم(4)، فتكون مرتباتهم بين مائتين وثمانية دراهم في الشهر إلى مائة وستة وستين درهما.

6- تكونت هناك مجموعة من الطبقات تأخذ عطاء قليلاً، وهذه الطبقات انضم تحتها أغلب المسلمين الذين فتحوا الأراضي المجاورة للجزيرة العربية، ووقع عليهم عبء القتال، فكانت الأموال التي جاءت إلى الدولة الإسلامية نتيجة عمل هؤلاء، وهذه الطبقات كانت تسكن الأمصار الإسلامية التي تأسست حديثا مثل البصرة والكوفة ومصر وحمص وفلسطين ودمشق

ص: 224


1- البلاذري، فتوح البلدان، ص 267 - 268
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 108، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 154
3- البلاذري، فتوح البلدان، ص 267 - 268
4- البلاذري، فتوح البلدان، ص 267 - 268، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 108، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 154

وصنعاء ونجران وغيرها من الأمصار الإسلامية(1)، هؤلاء يأخذون على طبقات تتراوح مرتباتهم بين مائة وستة وستين درهما في الشهر، إلى خمسة وعشرين درهما في الشهر(2).

وعلى الرغم من أن المؤرخين لم يتفقوا على نسب العطاء التي منحها الخليفة عمر للمسلمين، إلا أنهم اتفقوا على أنه قسم المجتمع الإسلامي إلى مجموعة من الطبقات، حسب مقدار العطاء الذي تأخذه كل طبقة من هذه الطبقات، ثم تحولت هذه الطبقات الاقتصادية إلى طبقات اجتماعية، حسب نسبة الثراء الذي تتمتع، به فأصبح الجهاد والسابقة في الإسلام سبباً إلى أن يكونوا طبقة ارستقراطية غنية لا تقدم للدولة أي خدمات سوى كونها أسلمت ودافعت عن الإسلام في بداية الدعوة، ثم اتكلت على هذه الميزة، فأصبحت النسبة الغالبة منها تأخذ العطاء وهي لا تؤدي أي عمل، وكان عطاؤها المرتفع هذا بمثابة مرتبات تقاعدية.

وبعد ذلك استشار الخليفة عمر الصحابة في مقدار المرتّب الذي يستحقه، لأنه كان قبل تولي الخلافة تاجرا وعندما تولى الخلافة لم يعد لديه عمل(3)، فطرحوا عليه آراء عدة، لكنه رفض هذه الآراء، وتوجه إلى الإمام علي من أجل معرفة رأيه في هذا الأمر، فقال له: (ما تقول أنت يا أبا الحسن؟ فقال: ما أصلحك وأصلح عيالك بالمعروف، وليس لك من هذا المال غيره، فقال: القول ما قاله أبو الحسن)(4). فقبله

ص: 225


1- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 108
2- البلاذري، فتوح البلدان، ص 268، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 153. Kennedy ، op. cit.، p69
3- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 616، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 12 / 220
4- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 616، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 12 / 220

الخليفة عمر، لاسيما أنه كان رأياً يتناسب مع مبادئ الإيثار والزهد التي التزم بها الصحابة في بداية الدعوة، فكان رأي الإمام يقضي بأن يأخذ الخليفة من المال بالمقدار الذي يسد به حاجته وحاجة عياله، ويبقى الخليفة يأخذ من المال حسب القناعة التي يفرضها عليه دينه وورعه وزهده.

وبعد تحديد المرتبات في عهد الخليفة عمر وتوزيع الأموال على المسجلين في ديوان العطاء، أصبح هناك فائض من هذه الأموال في خزينة الدولة، لأن الزيادة في الأموال الواردة لا توزع، بسبب تحديد مقدار المرتبات التي يستحقها المسلمون، وهذا الفائض في الخزينة جعل الخليفة يفكر في طريقة ينفق بها هذه الأموال، فجمع المهاجرين والأنصار وفيهم علي بن أبي طالب وقال لهم: (ما ترون في فضل فَضَلَ عندنا من هذا المال؟ فقال الناس: يا أمير المؤمنين إنا شغلناك بولاية أمورنا عن أهلك وتجارتك وصنعتك فهو لك)(1)، لكنه لم يقتنع بهذا الرأي، فتوجه للإمام علي (عليه السلام) ليجد له حلا فالتفت إليه فقال: (ما تقول أنت، قال: قد أشاروا عليك، قال فقل أنت، فقال له: لمَ تجعل يقينك ظنا فلم يفهم عمر قوله، فقال: لتخرجنا مما قلت، قال: أتذكر حين بعثك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ساعيا، فأتيت العباس بن عبد المطلب، فمنعك صدقته فكان بينكما شيء، فجئتما إلي وقلتما انطلق معنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فجئنا إليه فوجدناه خائرا فرجعنا ثم غدونا عليه، فوجدناه طيب النفس، فأخبرته بالذي منع العباس، فقال: لك يا عمر أما علمت إن عم الرجل صنو أبيه، فذكرنا له ما رأينا من فتوره في اليوم الأول، وطيب نفسه في اليوم الثاني، فقال: إنكم أتيتم في اليوم الأول وقد بقي عندي من مال

ص: 226


1- ابن حنبل، مسند احمد، 1 / 94، ابو يعلى، مسند أبي يعلى، 1 / 414 - 415، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 12 / 100، الهيثمي، مجمع الزوائد، 10 / 238

الصدقة ديناران، فكان ما رأيتم من خئوري ذلك، وأتيتم في اليوم الثاني وقد وجهتها فذاك الذي رأيتم من طيب نفسي، أشير عليك أن لا تأخذ من هذا الفضل شيئا وأن تفضه على فقراء المسلمين، فقال: صدقت والله لأشكرن لك الأولى والآخرة)(1)، وهذا يعني ان الخليفة عمر أسس النواة الأولى لنظام الضمان الاجتماعي، بناءً على المشورة التي قدمها له الإمام علي (عليه السلام)، ثم تطور هذا النظام في زمن الإمام علي (عليه السلام) ليكون سياسة ثابتة تبنتها الدولة، وأنفقت عليه من بيت المال.

وبعد تبني الخليفة عمر لسياسة الضمان الاجتماعي، تكون الدولة الإسلامية قد غطت بعطائها الطبقة الفقيرة التي لا يوجد عندها أحد يستطيع حمل السلاح فيكون من العسكريين الذين يتسلمون المرتّبات، أو يعمل موظفا في الدولة، أو يكون من أهل السابقة في الإسلام فيأخذ مرتباً تقاعديا، كذلك هي محرومة من أي مورد اقتصادي، سوى أموال الزكاة التي ربما لا تسد حاجتها، لذلك أراد الإمام علي من الخليفة أن يقسم ما يفضل من الأموال على فقراء المسلمين، حتى لا يترك معوزا في المجتمع، فكان رأيه يقوم على تكفل الدولة لمعيشة كل أفرادها بما يحفظ لهم إنسانيتهم.

ومن خلال عرضنا للروايات المتقدمة يتضح أن الخليفة عمر بن الخطاب كان له آراء خاصة بالأموال، اجتهد بها على عكس ما عرفناه في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن له رؤية خاصة بررها بأنه يريد أن يكافئ من جاهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، واستشار الإمام علياً (عليه السلام) في مسائل عديدة وقبل ببعض آرائه، وطبقها فعلا على أرض الواقع، لكن هذه الاجتهادات أدت بعد مدة إلى بروز مشاكل في المجتمع الإسلامي، إذ نشأ تفاوت مادي كبير بين المسلمين،

ص: 227


1- ابن حنبل، مسند احمد، 1 / 94، أبو يعلى، مسند أبي يعلى، 1 / 414 - 415، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 12 / 100، الهيثمي، مجمع الزوائد، 10 / 238

فبعضهم يستلم ألف درهم في الشهر، والبعض الآخر يستلم خمسة وعشرين درهما فقط.

ثم ازدادت المشكلة تعقيدا عندما أخذت الأموال تتدفق على الدولة الإسلامية، إذ تكدست الثروات عند الكثير من الصحابة الذين أخذوا النسبة العالية من العطاء، والذين منعهم عمر بن الخطاب من الخروج إلى الأمصار الإسلامية، وألزمهم البقاء في المدينة(1)، فأخذت ثروات هذه الطبقة تتضخم من خلال عمل المنتمين إليها بالتجارة، وبمرور الوقت أصبح ثراؤهم فاحشا فاق حد الوصف، حتى انهم عندما ماتوا تركوا من الأموال ما يكسر بالفؤوس(2)، ورافق هذا الثراء وجود طبقة فقيرة من المسلمين الجدد لا تجد ما تعيل به نفسها، فكانت هذه السياسة التي أسسها الخليفة عمر سببا في إثارة المشاكل لدولة المسلمين، إذ أسس لطبقية مالية وطبقية اجتماعية، فتوزيعه العطاء حسب أعمال قام بها المسلمون في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان سابقة خطيرة ميزت الناس عن بعضهم، وأوجدت شرخاً في المجتمع، فهناك طبقة من المسلمين كانت جالسة في المدينة لا تعمل، وغير نافعة للجماعة الإسلامية يأتيها رزقها رغداً من دون أي جهد، وهؤلاء يمكن أن نسميهم الطبقة الارستقراطية في المجتمع الإسلامي، في مقابل طبقتين الأولى منهما هي التي تعمل وتجاهد وتبني الدولة، وهم من أصحاب العطاء الذين يأخذونه بناءً على دفاعهم عن الدولة ضد أعدائها، والثانية من الفقراء الذين لا يقوون على العمل(3)، فنظرت

ص: 228


1- ابن شبة النمیري، تاريخ المدينة المنورة، 2 / 701، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 158، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 426، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 40 / 500، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 11 / 12
2- قدامة، الخراج، ص 362، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 269
3- القريشي، حياة الإمام الحسين، 1 / 286

هاتان الطبقتان إلى تلك الطبقة نظرة حقد وحسد، ما دامت تأخذ العطاء الأكثر في الدولة دون أن تؤدي أي عمل، أما التبريرات التي قدمت في تفضيل هذه الطبقة فلم تكن مقنعة لطبقة العاملين في الدولة، إذ انهم يرون أنفسهم الآن يجاهدون كما جاهد من فضل عليهم، ويقتل منهم بقدر ما قدمت تلك الطبقة من تضحيات، ورأوا أنهم يحصلون على الغنائم، ويفتحون الأراضي التي تدر الأموال على الدولة من دون أن يستفيدوا من ثمار عملهم إلا بقدر يسير جدا، وهذه الأموال يتنعم بها غيرهم.

وزادت الخلافة بأن جعلت الناس مفضلين حسب قربهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن الزعماء، بينما أُدرج العاملون الحقيقيون في الدولة في نهاية القائمة، ففي الوقت الذي تم فيه التفريق بين الناس على أساس الجهاد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، تم تفريقهم مرة أخرى في التسجيل في سجل العطاء حسب قبائلهم وقومياتهم، الأمر الذي ألغاه الإسلام، كما جاء في القرآن الكريم «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ»(1)، فأصبح الناس في ظل هذا الوضع مميزين حسب قبائلهم وقومياتهم، فالموالي من الناحية الاجتماعية، يأتون في الدرجة الثانية بعد العرب، والعرب يأتون في الدرجة الثانية بعد قريش والأوس والخزرج ومن كان معهم، وبهذا تكون الخلافة تجاوزت الرابطة الدينية التي هي أرقى الروابط، إلى رابطة النسب والقومية التي ألغاها الإسلام، بعد أن ألزم السلطة بالمساواة والعدالة بين الناس على اختلاف قومياتهم وأديانهم حتى لا تحدث أي ثغرة في المجتمع(2).

ص: 229


1- سورة الحجرات، الآية 13
2- القريشي، الإمام الحسين، 1 / 284

وهذا الشرخ الذي أوجدته هذه السياسة الاقتصادية أدى إلى إيجاد طبقة من الأشراف المتعالين على الآخرين نتيجة لتمييز الدولة لهم بالعطاء عن غيرهم، وهؤلاء لا يستمدون قوتهم من الإسلام وإنما من الغنى والامتيازات، وانضم إلى هذه الطبقة بعض زعماء القبائل ممن لا سابقة لهم في الإسلام، وهؤلاء فضلوا على غيرهم من المسلمين، على الرغم من أن بعضهم كان من أشد أعداء الإسلام على مدى عشرين عاما مثل أبي سفيان بن حرب وابنه معاوية، لذلك شعر المسلمون الجدد من العرب والموالي وكذلك الفقراء والضعفاء بالدونية(1)، بينما شعر هؤلاء الأشراف بالاستعلاء، فتدفقت الأموال إلى جيوب الأغنياء وحرم الفقراء منها، لذلك نجد إن هؤلاء الأشراف قاموا بمعارضة كل حركة إصلاح في البلاد، واشتدت معارضتهم في أثناء خلافة الإمام علي، لأنهم شعروا بأن سياسة الإصلاح التي قرر أن يتبعها فيها خطر على مصالحهم، وسنتحدث عن ذلك بالتفصيل في تناولنا لسياسة الإصلاح في خلافته.

وقبل أن يتولى عثمان بن عفان الخلافة كان الخليفة عمر بن الخطاب قد أدرك وهو في أواخر أيام خلافته الأثر السلبي لسياسة التفريق في العطاء فكان يقول: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت من فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين)(2)، لكن هذا الإدراك كان متأخرا، فضلا عن كونه لم يعالج الخلل الذي تركته سياسة التفريق، إذ كان من المفروض أن يرجع الأموال التي أخذت بدون حق من خزينة الدولة، كونها ليست ملكا للخليفة أو لمن أخذها، بل هي ملك لجميع المسلمين، ويجب أن توزع عليهم بالتساوي، كما كان عليه الحال في زمن رسول الله

ص: 230


1- شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 40
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 291، ابن حزم، المحلى، 6 / 158

(صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد أدرك الخليفة عمر أيضاً إن الدولة ستتعرض لمشاكل كبيرة إذا تولى عثمان الخلافة، لكنه على الرغم من ذلك جعله من ضمن الستة الذين رشحهم للخلافة، وانتهى الأمر بتوليه للخلافة، وقد قال له قبل أن يتولى الخلافة إنه إذا تولاها فإنه سيحمل بني أبي معيط وبني أمية على رقاب الناس وإعطائهم مال الله، ولئن ولي ليفعلن والله، ولئن فعل لتسيرن العرب إليه حتى تقتله في بيته(1)، وهذا يعني إن الخليفة عمر يعرف حب عثمان لأقاربه، كما إنه عندما رشح ستة أشخاص ليختاروا من بينهم شخصاً ليتولى الخلافة بعده، كان يرى أن هؤلاء الستة توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو راض عنهم، وإنهم أفضل أصحاب النبي الذين كانوا يعيشون في تلك الفترة(2)، لكنه في الوقت نفسه كان لديه ملاحظات على جميع المرشحين لتولي الخلافة فقال لهم: (والله ما يمنعني أن استخلفك إلا شدتك وغلظتك مع إنك رجل حرب يعني سعد بن أبي وقاص، وما يمنعني منك يا عبد الرحمن إلا إنك فرعون هذه الأمة، وما يمنعني منك يا زبير إلا إنك مؤمن الرضا كافر الغضب، وما يمنعني من طلحة إلا نخوته وكبره، ولو وليها وضع خاتمه في إصبع امرأته، وما يمنعني منك يا عثمان إلا عصبيتك وحبك لقومك وأهلك، وما يمنعني منك يا علي إلا حرصك عليها، وإنك أحرى القوم إن وليتها أن تقيم الحق المبين والصراط المستقيم)(3)، كذلك كان يعرف الآثار السلبية التي تركتها سياسة

ص: 231


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 110، وقد أوردت هذه الرواية مصادر أخرى بألفاظ مختلفة ينظر، ابن شبة النمیري، تاريخ المدينة، 3 / 883، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 186
2- ابن الأثیر، اسد الغابة، 3 / 381، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 185، المجلسي، بحار الأنوار، 31 / 395
3- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 43

(التفريق في العطاء، التي أخذت بوادرها تظهر في أواخر خلافته.

وفي عهد الخليفة عثمان لم تتغير السياسة المالية للدولة الإسلامية، بل استمرت على نفس الطريقة التي أسسها الخليفة عمر، فأدى هذا الأمر إلى ازدياد ثروات بعض الصحابة بشكل كبير جدا، وسوف نعرض بعض النماذج على كثرة أموال هؤلاء الصحابة:

تذكر الروايات أن الخليفة عثمان بن عفان كان يمتلك في المدينة فقط سبعة قصور، وامتلك أموالا عظيمة كان يستثمرها في الزراعة والتجارة، إذ كان عنده ألف عبد مملوك وخلّف في خزائنه ثلاثين مليون درهم وخمسمائة ألف درهم ومائة وخمسين ديناراً فنهبت وذهبت، وترك ألف بعير بالربذة وترك صدقات كان تصدق بها ببراديس وخيبر ووادي القرى قيمتها مائتي ألف دينار(1)، وكذلك كان الزبير بن العوام يمتلك دورا وخططا وضياعا في الحجاز والعراق ومصر(2)، وكان عنده ألف عبد وأمة يؤدون إليه الخراج(3)، وترك عند موته إحدى عشرة دارا بالمدينة، ودارين بالكوفة، ودارا بمصر(4)، وكان ماله يبلغ مائة وخمسين مليوناً ومائتي ألف درهم(5)،

ص: 232


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 76 - 77، ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 50، الذهبي، دول الإسلام، 1 / 29، ابن كثیر، البداية والنهاية، 7 / 214، الدمیري، حياة الحيوان الكبرى، 1 / 49
2- المسعودي، مروج الذهب، 2 / 350
3- المسعودي، مروج الذهب، 2 / 350، الذهبي، دول الإسلام، 1 / 30
4- ابن أبي شيبة، المصنف، 8 / 717، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 108، البخاري، صحيح البخاري، 4 / 52 - 53، البيهقي، السنن الكبرى، 6 / 286، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 18 / 431
5- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 58 - 59،، البخاري، صحيح البخاري، 4 / 53، البيهقي، السنن الكبرى، 6 / 286، الذهبي، سیر اعلام النبلاء، 1 / 67

وكانت أرباح طلحة من أراضيه في العراق فقط أربعمائة ألف دينار(1)، وترك عند وفاته مليونين ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار(2)، وفي رواية إن طلحة عندما قتل كان في يد خازنه مليونان ومائتا ألف درهم وقيمت أصوله وعقاره ثلاثة ملايين درهم(3)، كما ترك كميات كبيرة من الذهب(4)، وترك عبد الرحمن بن عوف ألف بعير، وثلاثة آلاف شاة(5)، وكان لديه عند وفاته (ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه)(6)، وطلق إحدى نسائه في مرضه الذي مات فيه، فصولحت بعد وفاته فكانت حصتها مائة ألف دينار(7)، ناهيك عن باقي الورثة، وفي رواية ان عبد الرحمن بن عوف كان يخاف من كثرة ماله، فجاء إلى أم سلمة زوجة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال لها: (يا أمه قد خفت أن تهلكني كثرة مالي، أنا أكثر قريش مالا، فقالت له: يا بني فانفق)(8)، وتذكر الروايات ان سعد بن أبي وقاص ابتنى قصره بالعقيق على بعد عشرة أميال من المدينة، ورفع سمكها ووسع فضاءها وجعل

ص: 233


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 221 - 222، الذهبي، سير اعلام النبلاء، 1 / 32 - 33
2- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 221، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 25 / 120، الذهبي، سیر اعلام النبلاء، 1 / 33
3- المزي، تهذيب الكمال، 13 / 423، الذهبي، سير اعلام النبلاء، 1 / 39 - 40
4- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 222، القرطبي، تفسیر القرطبي، 3 / 420، الذهبي، دول الإسلام، 1 / 31
5- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 136، المسعودي، مروج الذهب، 2 / 350، الذهبي، دول الإسلام، 1 / 26، ابن كثیر، البداية والنهاية، 7 / 184
6- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 136، المسعودي، مروج الذهب، 2 / 350، ابن الأثیر، اسد الغابة، 3 / 317، الذهبي، دول الإسلام، 1 / 26، ابن كثیر، البداية والنهاية، 7 / 184
7- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 136، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 170
8- المفيد، الأمالي، ص 38، المجلسي، بحار الأنوار، 28 / 22

أعلاها شرفات، وبلغت زكاة عين ماله خمسة آلاف درهم، وترك عند وفاته مائتي ألف وخمسين ألف درهم(1)، وبلغت ثروة زيد بن ثابت عند وفاته (من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار)(2).

وهذه الكميات التي ذكرناها مجرد نماذج من الأموال لعينة من الصحابة أشارت إليها المصادر التاريخية، وهؤلاء استفادوا من سياسة التمييز في العطاء، علاوة على الهبات والغنائم التي كانوا يحصلون عليها من الفتوح، وعمل بعضهم في مجال التجارة، ونحن هنا لا نلوم الصحابة على امتلاكهم للأموال، كذلك لسنا ضد امتلاك الإنسان للمال لأنه حق طبيعي مادام يأتي عن طريق الكسب المشروع، بل نوجه نقدنا إلى السياسة المالية التي جعلتهم يمتلكون هذه الأموال وبهذه الكثرة، فيما لم يحصل غيرهم من المسلمين على مثل هذه الكميات الكبيرة من الأموال، ولو أن الغالبية العظمى من المسلمين كانوا يتمتعون بهذا الثراء لما كان في الأمر مشكلة، لكن الأمر لم يكن كذلك لأن سياسة التمييز بالعطاء قسمت المجتمع الإسلامي إلى أغنياء وفقراء، فتبع ذلك بروز العديد من المشاكل بسبب هذه السياسة.

وزاد في الأمر سوءا سياسة توزيع الإقطاعات في عهدي الخليفتين عمر وعثمان، لأن منح الصحابة وغيرهم أراضٍ أسهمَ في زيادة ثراء هذه الطبقة، على الرغم من أن الإمام علياً (عليه السلام) نصح الخليفة عمر بعدم منح الإقطاعات، وإبقاء الأرض مملوكة للدولة لتكون فائدتها لجميع المسلمين، لكن الخليفة عمر لم يلتزم بهذا الأمر بصورة كاملة، فأخذ يوزع الإقطاعات على كبار الصحابة في المدينة، إذ

ص: 234


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 148 - 149، المسعودي، مروج الذهب، 2 / 350
2- ابن حنبل، العلل، 2 / 5، المسعودي، مروج الذهب، 2 / 350

يذكر الواقدي إن الخليفة عمر خرج من المدينة، ونزل في وادي العقيق القريب من المدينة، وأخذ يقطع الصحابة منه حتى أقطعه كله، ولم تذكر لنا المصادر انه كانت هناك قاعدة ثابتة لهذه الاقطاعات، إذ طلب منه الزبير بن العوام أرضا فأقطعها إياه، كما طلب منه غيره أرضا فأعطاها إياهم(1)، وأعطى بعض الإقطاعات للمسلمين، فقد قام بتوزيع أرض خيبر بعد أن طرد منها اليهود، الذين عقدوا مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عقدا بأن يعملوا بالأرض مقابل نصف الحاصل(2)، وقسمها بين من اشترك في هذه المعركة من الصحابة(3)، وأعطى لأزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذه الأرض أيتكن شاءت أخذت الضيعة فكانت لها ولورثتها، وأقطع الخليفة عمر سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وخباب بن الأرت وأسامة بن زيد فباع الأرض التي أقطعت له(4)، كما اقطع من أراضي الصوافي التي كانت لأكاسرة الفرس(5).

لذلك عندما استلم الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الخلافة شرع في اليوم الأول بتطبيق برنامج الإصلاح في الهيكل الاقتصادي للدولة الإسلامية، واستند في برنامجه هذا إلى أمرين رئيسين هما:

أولا: إعادة النظر في الأشخاص القائمين على تسيير اقتصاد الدولة وسنتحدث

ص: 235


1- البلاذري، فتوح البلدان، ص 14 - 15
2- الصنعاني، المصنف، 4 / 122 - 123، البلاذري، فتوح البلدان، ص 23
3- الصنعاني، المصنف، 4 / 125، البلاذري، فتوح البلدان، ص 23
4- ابن ادم، الخراج، ص 78 للمزيد من التفاصيل عن اقطاعات الخليفة عمر راجع نجمان ياسین، تطور الأوضاع الاقتصادية، ص 198 - 210
5- أبو يوسف، الخراج، ص 58

عن هذا الأمر لاحقا.

ثانيا: معالجة الخلل الذي أحدثه التفاوت في العطاء، وهذا الأمر باشر به في يوم تسلمه للخلافة، وكان تطبيقه عمليا، إذ قال للمسلمين الذين بايعوه في مسجد المدينة: (إذا كان غدا إن شاء الله، فاغدوا علينا فإن عندنا مالا نقسمه فيكم، ولا يتخلفن أحد منكم، عربي وأعجمي، وكان من أهل العطاء أو لم يكن إلا حضر)(1).

وعلى الرغم من بساطة هذا الإجراء من الناحية النظرية، لكنه كان صعبا جدا من الناحية العملية، والإمام علي (عليه السلام) كان يعرف هذا الأمر، لأن السياسة التي وضعها الخليفة عمر مضى عليها فترة طويلة من الزمن، والمسلمون تعودوا عليها لأكثر من عقدين من السنين، فأزعج هذا الأمر بعض المنتفعين من السياسة السابقة، والذين تعودوا على امتيازات تختلف عن الآخرين، لذلك كرهوا ما قام به الخليفة علي، لاسيما انهم كانوا يستلمون مبالغ أكثر من الآخرين، وهؤلاء كانوا من كبار الصحابة، وكبار رجال القبائل ممن لهم تأثير واسع على المجتمع الإسلامي، لكن الخليفة أصر على تطبيق سياسته الجديدة، لأنه يرى إنها السبيل الوحيد لتطبيق العدالة في المجتمع الإسلامي، وحل للمشاكل التي خلفتها السياسة السابقة، لهذا أمر كاتبه عبيد الله بن أبي رافع أن ينادي بأسماء الناس من أجل استلام عطائهم، وأمره أن يبدأ بالمهاجرين ثم بالأنصار ثم سائر الناس، وأمره بإعطاء الناس ثلاثة دنانير دون تمييز(2).

ص: 236


1- ابن عبد ربه، العقد الفريد، 6 / 38، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7 / 37، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 18
2- ابن عبد ربه، العقد الفريد، 6 / 37 - 38، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7 / 37 - 38، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 18

وبعد قيام الخليفة بهذه الخطوة بدأت الاعتراضات ضدها، لأنها نسف للنظام المالي القديم، ومن الطبيعي أن تكون هناك معارضة، لأن المستفيدين من ذلك النظام لا يستطيعون تركه بسهولة، ويمكن أن نقسم هؤلاء المعترضين على ثلاثة أقسام حسب مواقفهم التي اتخذوها بعد إعلان التغيير في السياسة المالية:

القسم الأول: هم من الصحابة الذين رأوا أن هذا التغيير أفقدهم بعض مكاسبهم التي كانوا يحصلون عليها في زمن الخليفتين عمر وعثمان، ولا يعدو اعتراضهم هذا الأمر، وهم يشكلون النسبة الكبيرة من الصحابة، وقد عبر عن موقفهم سهل بن حنيف، وهو من أصحاب الخليفة المقربين بالقول: يا أمير المؤمنين، هذا غلامي بالأمس، وقد أعتقته اليوم فرد عليه الإمام: (نعطيه كما نعطيك، فأعطى كل واحد منهما ثلاثة دنانير)(1)، وانتهى الأمر عندهم عندما رؤوا إصرار الخليفة على الإصلاح، بل إن الكثير منهم ساندوه في برنامجه الإصلاحي، واشتركوا معه في الجيش، وعمل قسم منهم في إدارة الدولة.

القسم الثاني: هم الصحابة الذين حرضوا على الخليفة عثمان وكانوا يعتقدون إنهم سيتحكمون بإدارة الدولة، ويقف على رأس هؤلاء الزبير وطلحة، وهم يمثلون طبقة لا يستهان بها، لاسيما إنهم من كبار صحابة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويحضون باحترام كبير في المجتمع الإسلامي نتيجة لدخولهم الإسلام في زمن مبكر، واشتراكهم في الدفاع عنه في المعارك التي خاضها الرسول ضد المشركين وغيرهم، كما إن مكانتهم ارتفعت عندما رشحهم الخليفة عمر لتولي الخلافة إلى جانب علي وعثمان، لذلك استطاعوا فيما بعد الخروج إلى البصرة معارضين لسياسة الخليفة

ص: 237


1- ابن عبد ربه، العقد الفريد، 6 / 37 - 38، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7 / 38، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 18

علي، وجمع أعداد كبيرة من الأتباع ليحاربوا خلافة الإمام علي، وهؤلاء كان الإمام حريصاً عليهم لأنهم من كبار الصحابة، وكانوا في الأمس القريب يقفون معه في نفس الخط يحاربون الشرك ويدافعون عن الإسلام، ولهم مكانة في المجتمع الإسلامي لأنهم الجيل الأول الذي آمن بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو لا يريد أن يخسرهم، لذلك على الرغم من قناعته ببطلان دعواهم، ومعرفته بأن اعتراضهم لم يكن من أجل المال فقط، لأنهم غير محتاجين له وقد عرضنا جانبا من ثرواتهم فيما سبق، بل يخفون تحت اعتراضهم هذا أسباباً اجتماعية تتلخص بعدم الرغبة بالمساواة مع الآخرين ممن يشعرون بأنهم أفضل منهم، وسياسية تتلخص في رغبتهم في إدارة الدولة، لاسيما أنهم شعروا بعد ترشيح الخليفة عمر لهم لتولي الخلافة بعده بأنهم ليسوا أقل شأنا من علي بن أبي طالب، ونتيجة لما قدمناه أرسل الإمام علي (عليه السلام) إلى طلحة والزبير، وعاتبهما على السلوك الذي انتهجاه ضده، فكان التبرير الذي قدماه يرتكز على مسألتين، الأولى هي عدم إشراكهما بإدارة الدولة، وقد عبرا عن ذلك بالقول: (أعطيناك بيعتنا على أن لا تقطع الأمر دوننا وأن تستشيرنا في الأمور، ولا تستبد بها عنا، ولنا الفضل على غيرنا ما قد علمت، فأنت تقسم القسوم، وتقطع الأمور، وتمضي الأحكام بغير مشورتنا، ولا رأينا ولا علمنا)، والمسألة الثانية هي: (خلافك عمر بن الخطاب في القسم، إنك جعلت حقنا في القسم كحق غيرنا، وسويت بيننا وبين من لم يماثلنا في ما أفاء الله تعالى علينا بأسيافنا ورماحنا وأوجفنا عليه بخيلنا ورجلنا، وظهرت عليه دعوتنا)(1)، فرد الإمام (عليه السلام) على هذه الاعتراضات التي اعتبرها لا ترقى إلى مستوى العداء، بأن قال لهما: (أما ما ذكرتماه من الاستشارة بكما، فوالله ما كانت لي في الولاية رغبة، ولكنكم دعوتموني إليها،

ص: 238


1- أبو جعفر الإسكافي، المعيار والموازنة، ص 113، ابن عبد ربه، العقد الفريد، 6 / 41، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7 / 41، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 21

وجعلتموني عليها، فخفت أن أردكم فتختلف الأمة، فلما أفضت إلي نظرت إلى كتاب الله وسنة رسوله، فأمضيت ما دلاني عليه واتبعته، ولم أحتج إلى آرائكما فيه، ولا رأي غيركما، ولو وقع حكم ليس في كتاب الله بيانه ولا في السنة برهانه، واحتيج إلى المشاورة فيه، لشاورتكما فيه، وأما القسم والأسوة، فإن ذلك أمر لم أحكم فيه بادئ بدء، قد وجدت أنا وأنتما رسول الله صلى الله عليه وآله يحكم بذلك، وكتاب الله ناطق به، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وأما قولكما جعلت فيئنا وما أفاءته سيوفنا ورماحنا، سواء بيننا وبين غيرنا، فقديما سبق إلى الإسلام قوم ونصروه بسيوفهم ورماحهم، فلم يفضلهم رسول الله صلى الله عليه وآله في القسم، ولا آثرهم بالسبق والله سبحانه موف السابق والمجاهد يوم القيامة أعمالهم، وليس لكما عندي ولا لغيركما إلا هذا)(1)، هذه المحاورة تؤكد الرأي الذي ذهبنا اليه من أن هؤلاء المعترضين كانوا يخفون أهدافاً أخرى من خلال إبداء المعارضة للتسوية بالعطاء، لاسيما أن الإمام علياً (عليه السلام) ذكرهم بأن المساواة في العطاء سنها الرسول، وهم متمسكون بما سنه الخليفة عمر بن الخطاب(2)، لذلك لما يأسوا من الأمر بدأوا بتحريض الناس ضد الخليفة، فاتصلوا بالصحابة الذين لهم نفس الرأي، وغيرهم من الأشراف من أجل الثورة على الخلافة، مستندين إلى أن الإمام علياً (عليه السلام) غيَّر سنّة عمر بن الخطاب في التفضيل بالعطاء، وكما سبق

ص: 239


1- ابن عبد ربه، العقد الفريد، 6 / 42، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7 / 41 - 42، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 22
2- هناك فهم خاطئ عند بعض المؤرخین مفاده أن الإمام علياً (عليه السلام) عندما سنّ سياسة المساواة في العطاء، كان قد رجع إلى سياسة الخليفة أبي بكر، وهذا أمر غیر دقيق لأننا رأينا ان سياسة المساواة سنها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا واضح من خلال رد الخليفة على طلحة والزبیر، ينظر اليوزبكي، دراسات في النظم العربية الإسلامية، ص 114

القول فإن نسبة كبيرة من المسلمين لا يقبلون أي تغيير في تلك السنّة، فاستطاعوا جمع الكثير من الأتباع نتيجة لحب هؤلاء للمال وعدم استعدادهم لفقدان مكاسبهم(1)، مقابل إصلاح المشكلة الاقتصادية التي يعاني منها المجتمع، وانتهى الأمر بحرب الجمل التي فقد فيها المسلمون الكثير من الضحايا.

القسم الثالث: هو أقوى المعترضين على السياسة الجديدة، ويتكون هذا القسم من أسرة الخليفة عثمان بن عفان، وهؤلاء شعروا بأنهم سيتأثرون بدرجة كبيرة بسياسة الإصلاح الجديدة، لأنهم فقدوا امتيازاتهم المالية والسياسية والإدارية وحتى الاجتماعية بمقتل الخليفة عثمان، كما أنهم أحسوا بأن الخليفة علياً سيعيد النظر في كل الأموال التي أخذت من الخزينة، بعد أن أعلن عن ذلك بالقول: (والله لو وجدته قد تزوج به النساء، وملكت به الإماء، لرددته فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق)(2)، ثم بدأ بتطبيق هذا الأمر، وذلك بإرجاع أراضي الصوافي التي أقطعها الخليفة عثمان لبعضهم إلى أملاك الدولة(3)، وأعطى لورثة الخليفة عثمان حقهم الطبيعي، بعد أن صادر ما أُخذ من أموال المسلمين بغير حق(4)، وهذا دفع الأمويين في المدينة إلى الاجتماع بالخليفة من أجل التفاوض معه، وكان طلبهم يرتكز على أن لا يحاسبهم الخليفة على الأموال التي أخذوها في عهد الخليفة عثمان، (نحن إخوانك ونظراؤك من بني عبد مناف، ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنا ما أصبنا من المال في أيام عثمان، وأن تقتل قتلته، وإنا إن خفناك تركناك،

ص: 240


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 11 / 11
2- النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 396، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 46، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 16
3- ابن اعثم، الفتوح، 2 / 248، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 269
4- المسعودي، مروج الذهب، 2 / 353، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 270

فالتحقنا بالشام)(1)، وهذه الرواية تدل على خوفهم من البرنامج الذي يريد الخليفة تطبيقه، علاوة على انها تدل على انهم كانوا يشعرون بامتلاكهم عنصر قوة يستندون إليه، وهو معاوية بن أبي سفيان الذي كان يتمتع بشبه استقلال في ولاية الشام منذ عهد الخليفة عثمان، وهو بدوره لا يستطيع أن يفقد الامتيازات التي حصل عليها خلال حقبة ولايته الطويلة على تلك المنطقة، والتي ابتدأت منذ عهد الخليفة عمر، وهو يعرف ان الخليفة علياً سوف لن يتركه يتصرف بأموال المسلمين التي أخذها في الفترة السابقة كما يشاء، لاسيما ان عمرو بن العاص كتب له بعد تولي الإمام علي (عليه السلام) الخلافة كتابا يحذره من ان الخليفة علياً سيرجع كل الأموال التي أخذت من بيت مال المسلمين: (ما كنت صانعا فاصنع، إذا قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما تقشر العصا لحاها)(2)، لذلك أعلن تمرده في بلاد الشام ولم يبايع الخليفة، بحجة الأخذ بثأر الخليفة عثمان.

لكن هذه المعارضة التي واجهتها السياسة الجديدة للخليفة لم تثنه عن عزمه، لأن الدولة الإسلامية كانت بحاجة إلى إصلاح لاسيما في الجانب الاقتصادي، وقد استند الخليفة في إصراره على التغيير إلى التأييد الكبير الذي حظيت به خلافته، إذ رأينا أن بيعته كانت جماهيرية شارك فيها المسلمون في العاصمة والولايات الإسلامية، ومحور هذه البيعة كان يقوم على إجراء تغييرات في إدارة الدولة وفي سياستها المالية، لذلك عندما سمع بالاعتراضات ضد السياسة الجديدة، صعد المنبر وألقى خطبة في المسلمين قال فيها: (ليس لأحد عندنا فضل إلا بطاعة الله وطاعة الرسول، هذا

ص: 241


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 178، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7 / 39، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 19
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 270، الأميني، الغدير، 8 / 288

كتاب الله بين أظهرنا، وعهد رسول الله وسيرته فينا، لا يجهل ذلك إلا جاهل معاند عن الحق منكر، قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»، ثم صاح بأعلى صوته: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فان الله لا يحب الكافرين. ثم قال: يا معشر المهاجرين والأنصار أتمنون على الله ورسوله بإسلامكم، بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان، إن كنتم صادقين، ثم قال: أنا أبو الحسن وكان يقولها إذا غضب، ألا إن هذه الدنيا التي أصبحت تمنونها وترغبون فيها، وأصبحت تغضبكم وترضيكم، ليست بداركم ولا منزلكم الذي خلقتم له، فلا تغرنكم فقد حذرتكموها، واتقوا نعم الله عليكم بالصبر لأنفسكم على طاعة الله، والذل لحكمه جل ثناؤه، فأما هذا الفيء فليس لأحد فيه أثرة، وقد فرغ الله من قسمته فهو مال الله، وأنتم عباد الله المسلمون، وهذا كتاب الله به أقررنا وله أسلمنا، وعهد نبينا بين أظهرنا فمن لم يرض به فليتول كيف يشاء، فإن العامل بطاعة الله والحاكم بحكم الله لا وحشة عليه)(1)، وهذه الخطبة كانت موجهة للقسمين الأول والثاني من المعترضين، وقد نجح بعدها بتقليل حجم المعارضة للسياسة الجديدة، إذ كسب إلى جانبه القسم الأول من المعترضين وهم أغلب الصحابة الذين اشتركوا معه في القضاء على التمرد وإدارة الدولة، وقلل حجم التأييد للقسم الثاني من المعترضين، بحيث استطاع القضاء على تمردهم في البصرة، ولم يبق له سوى القسم الثالث الذي يقوده معاوية، وهذا القسم دخل معه في معارك كبيرة أهمها معركة صفين، وقد انتصر فيها جيش الخلافة لولا الخُدع التي استخدمها معاوية ومعاونوه، وكان في نية الخليفة القضاء عليه نهائيا، من أجل أن يطبق برنامجه بصورة كاملة في جميع أرجاء الدولة الإسلامية، وقد عبر عن ذلك بالقول: (والله

ص: 242


1- ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 184، ابن عبد ربه، العقد الفريد، 6/ 40، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7 / 40، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 20

إن بقيت وسلمت لهم لأقيمنهم على المحجة البيضاء والطريق الواضح)(1)، لكن اغتياله في سنة 40 ه حال دون إكمال مشروعه، لكن هذا لا يعني انه لم يطبق سياسته الجديدة، بل على العكس استطاع تغيير السياسة المالية والإدارية في جميع أرجاء الدولة الإسلامية عدا الشام.

وقبل أن ندخل في تفاصيل التطبيق العملي للسياسة الجديدة، لابد أن نعرف الهدف من هذه السياسة، والسبب الرئيس الذي أدى إلى إصرار الخليفة عليها من أجل تكوين صورة واضحة عن الإصلاح الذي تبناه الخليفة.

يبدو من خلال ما قدمناه من روايات أن الإمام علياً (عليه السلام) أراد تطبيق العدالة في المجتمع الإسلامي، فيجعل جميع المسلمين متساوين أمام الله والقانون، ولا فروقات بينهم لاسيما بالمعاش، وهذا الأمر يجعل الطبقات العليا لا تطغى وتغتر، والطبقات السفلى لا تشعر بالحيف والضعة والاستغلال، وبذلك تتقلص الفروق الاقتصادية والاجتماعية بين المسلمين، ولا يتحول المجتمع إلى مجموعة من المتصارعين، لأن هذا الأمر إذا حدث قد يؤدي إلى اندثار منابع الفضيلة، وعندها لا يستطيع المجتمع أن يطلب من الجائع أن يكون فاضلا، لأن حرمانه لا يدفعه إلى ذلك بل يدفعه إلى التمرد والإجرام، ويظهر بصورة جلية الصراع الطبقي المقيت، وقد كان الإسلام واعيا المسألة، فأراد صيانة المجتمع من أخطار التفاوت الطبقي، فجعل الناس كافة متساوين ولا فوارق بينهم إلا بتقوى الله، كذلك كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في أحاديثه يؤكد هذا المعنى، وطبقه بصورة فعلية على أرض الواقع، فلم يميز بين مسلم وآخر لحسابات مادية أو اجتماعية أو غيرها، بل كان جل أصحابه

ص: 243


1- ابن عبد ربه، العقد الفريد، 6 / 38، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7 / 38، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 18

المقربين من الفقراء والعبيد وبسطاء الناس، وعلى هذا الأساس فإن الخليفة علياً لاحظ سيادة فريق وعبودية فريق آخر، والمجتمع لا يمكن أن يستمر مدة طويلة، لأن أفراده تتنازعهم الأحقاد نتيجة للظلم الذي تمارسه طبقة على أخرى، فعلى أساس هذا الوعي جعل الخليفة علي الإصلاح الاقتصادي أساسا لإصلاح المجتمع، لذلك كان قد شخص هذه الحالة بدقة فقال: (ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع)(1)، فكان أول برامجه للإصلاح حل مشكلة الغنى والفقر، لاسيما ذلك الغنى والفقر الذي تسهم الدولة في إنشائه، إذ تعطي فريقاً أكثر من الآخر، وهذا الأمر هو من أهم الأمور التي واجهها الإمام علي (عليه السلام) في بداية حكمه، فأصحاب العطاء المرتفع من الصحابة وغيرهم من قريش مثل معاوية وغيره، يعدون أنفسهم طبقة فوق باقي الطبقات، وأخذوا ينظرون إلى المسلمين من غير طبقتهم بنظرة دونية، لاسيما غير العرب ممن يسمون بالموالي، ثم انسحبت هذه النظرة على باقي طبقات المجتمع، إذ جاءت للخليفة علي امرأتان إحداهما من العرب والأخرى من الموالي فسألتاه، فدفع إليهما دراهم وطعاما بالسواء، فقالت إحداهن: (إني امرأة من العرب وهذه من العجم، فقال: إني والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلاً على بني إسحاق)(2)، ثم تحولت هذه النظرة إلى حالة متأصلة في المجتمع، وأصبح تغييرها عسيرا جدا، حتى إن معارضي خلافة الإمام علي اتخذوها سببا لمعارضتهم، ويتضح هذا الأمر من خلال قول معاوية لأهل الشام: (يا أهل الشام قد عرفتم حبي لكم وسيرتي فيكم، وقد بلغكم صنيع علي بالعراق وتسويته بين الشريف وبين من لا يعرف قدره)(3)، هذه الرواية تدل على المستوى الذي وصل إليه المجتمع الإسلامي،

ص: 244


1- شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 40
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 200 - 201، المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 137
3- الثقفي، الغارات، 2 / 547، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 278

بحيث ان المسلمين يعجبون ممن يعود بهم إلى ما كان متبعاً في دولة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لذلك نرى معاوية ينتقد الإمام علياً (عليه السلام) بأنه ساوى بين الشريف والوضيع في العطاء والمعاملة، وهذا الأمر يبدو انه أصبح موضع انتقاد من المسلمين الذين عادوا إلى ما كان سائدا في الجاهلية من تمايز بينهم حسب الأموال والأنساب والأحساب، الأمر الذي دفع بعض أصحاب الخليفة المقربين يقترحون عليه تأجيل تطبيق برنامجه الإصلاحي لمدة من الزمن، بعد أن رأوا حجم المعارضة التي تعرض لها، وهروب الكثير من المنتفعين من السياسة القديمة إلى معاوية، فقالوا له: (يا أمير المؤمنين لو أخرجت هذه الأموال ففرقتها في هؤلاء الرؤساء والأشراف، وفضلتهم علينا حتى إذا استوسقت الأمور عدت إلى أفضل ما عودك الله من القسم بالسوية والعدل في الرعية)، والملاحظ في هذه الرواية أن هؤلاء الذين نصحوا الخليفة باتباع سياسة المراوغة على حساب المبادئ هم من أكثر الناس معرفة بالخليفة علي، لكنهم مع قوة التيار المعاكس لسياسة الزهد والمبادئ التي كان عليها الإمام علي (عليه السلام)، اضطروا إلى ابداء هذه النصيحة، فرد عليهم الخليفة بالقول: (أتأمروني ويحكم أن أطلب النصر بالظلم والجور فيمن وليت عليه من أهل الإسلام، لا والله لا يكون ذلك ما سمر السمير، وما رأيت في السماء نجما، والله لو كانت أموالهم مالي لساويت بينهم فكيف وإنما هي أموالهم)(1)، فكان هذا الرد يعني أن الأخلاق والدين ليست حالة مؤقتة عند الإمام علي (عليه السلام) يخفيها عندما تكون هناك ضرورة ومصلحة، ثم يظهرها إذا انتهت هذه الضرورة، بل كان الخليفة مدرسة للأخلاق والمبادئ التي استقاها وتعلمها من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو لا ينظر إلى الأمور نظرة آنية بل كان يرى ببعد نظر كبير جدا، لأن الانسجام مع السراق يعني

ص: 245


1- الثقفي، الغارات، 1 / 75، ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 185، الكليني، الكافي، 4 / 31، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 203، المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 122

إعطاءهم حجة لتكون السرقة مشروعة بإقرار من الخليفة، وتكون حجة لمن يأتي بعدهم، وهذه ليست أخلاق الخليفة أو الإسلام الذي يريد تحقيقه، لذلك كان رد الإمام علي (عليه السلام) واضحا في هذا المجال، إذ قال لهم إن سياسته تقوم على المساواة بين الناس، ولو كان المال له لساوى بينهم، فكيف الحال والمال لهؤلاء الناس وهو مجرد أمين عليه(1).

طريقة توزيع العطاء ووقته

اتخذ الإمام علي (عليه السلام) مجموعة من الإجراءات من أجل صيانة أموال الدولة، وأول معالجاته لهذه المسألة هي إرجاع الأموال التي صودرت من الخزينة، وهذه الأموال شملت أموالاً نقدية وأشياء عينية مثل الأسلحة، كذلك شملت الأراضي التي كانت تابعة للدولة، ووهبها الخليفة عثمان لمجموعة من أقاربه وغيرهم، وقد عبر عن ذلك بالقول: (ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود إلى بيت المال، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ولو وجدته تزوج به النساء، وفرق بين البلدان لرددته إلى حاله، فإن في العدل سعة ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق)(2)، فبدأ بالأسلحة التي كانت في بيت الخليفة عثمان، وكان قد أخذها طلحة عندما نهبت دار عثمان، فاستردها الإمام علي (عليه السلام) وأعادها

ص: 246


1- الثقفي، الغارات، 1 / 75، ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 185، الكليني، الكافي، 4 / 31، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 203، المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 122
2- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، 1 / 377، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 269، المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 116

إلى بيت المال(1)، وكف عن الأموال التي وجدها في بيته(2)، ثم أمر برد الأموال التي أعطاها الخليفة السابق عثمان لبعض الناس أثناء حصار المسلمين له(3)، ثم باشر باسترجاع الأموال التي استولى عليها الولاة في زمن الخليفة عثمان، فطالب الأشعث بن قيس والي أذربيجان بمائة ألف درهم أعطاها له الخليفة، ولما رفض هدده بالعقوبة الشديدة على الرغم من وزنه القبلي، كونه زعيم قبيلة كندة العربية إحدى القبائل القوية في الكوفة، وأرجع هذه الأموال إلى بيت المال، وكذلك فعل مع الولاة الآخرين الذين ثبت استيلاؤهم على أموال المسلمين بغير حق، وغرمهم الأموال التي أنفقوها أو أتلفوها(4)، وبعدها أرجع الأراضي التي أقطعها عثمان لبعضهم(5).

ص: 247


1- ابن عبد ربه، العقد الفريد، 6 / 215، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 270، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 137
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 270، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 137
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 270، الاميني، الغدير، 8 / 287، الهمداني، الإمام علي، ص 664
4- النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 396
5- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، 1 / 377، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 269، المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 116

ثم بدأ بتطبيق سياستهِ المالية في توزيع العطاء والتي تقوم على أربعة محاور هي:

1- المساواة بين المسلمين في العطاء.

2- توزيع الأموال الموجودة في بيت المال دون تأخير، أي في حال وصولها إلى بيت المال.

3- إبقاء الأراضي تابعة للدولة الإسلامية وعدم توزيعها على المسلمين من أجل أن تكون موردا ثابتا لبيت المال.

4- حجز كمية من الأموال لتكون مادة للضمان الاجتماعي وللإنفاق على الخدمات التي تقدمها الدولة.

وفيما يخص راتب الخليفة فقد امتنع عن استلام أي مبالغ مالية مقابل وظيفته التي يؤديها، واعتمد في حياته على أملاكه الخاصة في المدينة العاصمة(1).

وهذه القواعد المالية التي وضعها الإمام علي (عليه السلام) كانت منسجمة مع الواقع الاقتصادي الذي يعيشه المسلمون، إذ أن سرعة توزيع الأموال الموجودة في بيت المال كانت تنسجم مع حاجة المسلمين في ذلك الوقت، لذلك رأى الخليفة أنه يجب أن توزع عليهم، إذ لا توجد حاجة إلى حرمان الناس منها، مادامت هناك موارد مالية ثابتة، مثل الأراضي الزراعية التي يؤخذ منها الخراج، وضريبة العشر والجزية والزكاة، وهذه لاتصل في وقت واحد بل في أوقات متفاوتة، ولا يوجد وقت محدد لوصولها.

وكان أول توزيع للعطاء في اليوم الثاني لتوليه الخلافة، إذ وجد بعض الأموال في بيت المال علاوة على الأموال التي أرجعها، فأمر صاحب بيت المال بجمع الناس من

ص: 248


1- يمكن ملاحظة هذا الأمر بوضوح من خلال محاورته لأخيه عقيل عندما جاء يطلب منه المال، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 11 / 245 - 246

أجل استلام حصصهم، فنال كل واحد من سكان العاصمة ثلاثة دنانير(1)، ويبدو انه اعتمد في هذا التوزيع على ديوان العطاء الموجود منذ عهد الخليفة عمر، وهذا التوزيع الذي قام به قصد من خلاله تحقيق هدفين هما تأكيد مبدأ المساواة في العطاء الذي أعلن عنه أولا، وتطبيق المبدأ الثاني في سياسته والقائم على عدم إبقاء الأموال في بيت المال.

ومن خلال تتبع الروايات نرى أن الخليفة كان يمنح العطاء لكل أفراد المجتمع الإسلامي، حتى نساء المسلمين كنَّ يأخذن من هذا العطاء(2)، لكن الروايات لا تذكر إن كان عطاء النساء مثل عطاء الرجال أم أن هناك فرقاً بينهما، وإن كنا نرجح وجود فرق في الأعطيات، وذلك لأن التكاليف الاجتماعية في تلك الحقبة تختلف فيما بينهما، وهي أثقل على الرجال منها على النساء، كذلك فإن الخليفة علياً فرض العطاء للأطفال، وهذا العطاء يبتدأ من أول يوم لولادتهم، ويؤيد ذلك ما أوردته بعض المصادر من أن أحد الأشخاص جاء إلى الإمام علي (عليه السلام) بمولوده الجديد، ففرض له الخليفة مائة درهم(3)، كذلك فإن الأطفال اللقطاء - الذين لا يُعرف أبواهم - فرض لهم الخليفة مائة درهم(4).

كما كان العطاء يعتمد على أنواع الأموال الواردة إلى بيت المال، فكل فئة كانت تأخذ من الأموال المخصصة لها، فأموال الزكاة كانت توزع حسب ما جاء في القرآن

ص: 249


1- أبن عبد ربه، العقد الفريد، 6 / 37 - 38، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7 / 37، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 18
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 200 - 201، المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 137
3- أبو عبيد، الأموال، ص 339، المتقي الهندي، كنز العمال، 4 / 584
4- المتقي الهندي، كنز العمال، 4 / 584

الكريم على مجموعة من الفئات هي: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(1)، أي ان مال الزكاة لا يشمل المقاتلين أو غيرهم، بل يشمل الذين جاء ذكرهم في القرآن الكريم فقط، وأموال الجزية توزع على المقاتلين الذين يدافعون عن الدولة(2)، على اعتبار ان هذه الأموال هي بدل مالي يدفعه أهل الذمة عوضا عن عدم اشتراكهم في الخدمة العسكرية، ونظير لحمايتهم لذلك توزع أموال الجزية على المقاتلين، أما عطاء الطبقات الأخرى من غير المقاتلة، فيبدو أنها كانت تؤخذ من الأموال المجباة من الخراج، كما يشترك المقاتلون والموظفون مع بقية الطبقات في أموال الخراج، والمساواة في العطاء وفقا لما قدمناه، كانت تتم في الطبقة نفسها، فمثلا يتساوى المقاتلون عندما تقسم عليهم أموال الجزية أو الغنائم، كما تتساوى الفئات المستحقة للزكاة في تلك الطبقة، ويتساوى المسلمون في أموال الخراج.

أما الكيفية التي توزع فيها الأموال بين العاصمة والولايات الإسلامية، فقد كانت سياسة الخليفة تقوم على إنفاق الأموال في الولايات نفسها التي جبيت منها، أي توزع رواتب الموظفين والعسكريين، وتوزع أموال الزكاة على المستحقين، وتوزع أموال الضمان الاجتماعي على المحتاجين، وينفق على المشاريع الزراعية وغيرها والخدمات العامة، وبعد ذلك يحمل ما يفيض منها إلى العاصمة الكوفة، ويؤيد هذا الرأي ما أوردته بعض الروايات، إذ جاء فيها أن عبد الله بن عباس والي البصرة، أرسل أحد الأشخاص إلى الكوفة، وهو يحمل ستمائة ألف درهم فائضة عن الحاجة بعد أن أخذ

ص: 250


1- سورة التوبة، الآية 60
2- الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 2 / 53، الطوسي، تهذيب الأحكام، 4 / 118

الناس عطاؤهم(1)، وذلك بعدما كتب الخليفة اليه أن يقسم الأموال التي عنده بين المسلمين في تلك الولاية حتى يصلوا إلى حد الاكتفاء، ولا يكون هناك حاجة ثم يرسل ما بقي عنده إلى العاصمة(2)، وفي رواية أخرى ان الخليفة عندما أرسل محمد ابن أبي بكر واليا على مصر، أمره أن يجبي الخراج منها، ثم ينفق هذه الأموال على أهل العطاء في تلك الولاية(3)، وعندما ولى الخليفة عمرو بن سلمة على اصبهان حمل الأموال الفائضة من تلك الولاية إلى العاصمة الكوفة(4)، وكتب أيضا إلى سليمان بن صرد الخزاعي وهو واليه على الجبل أن يحصی الأموال التي اجتمعت عنده ويعطي الموظفين عطاءهم ثم يبعث الباقي إلى العاصمة(5)، وهذه الروايات تبين إن الخليفة كان يريد تحقيق العدل في توزيع الأموال، فليس معقولاً أن المسلمين في الولايات يواجهون الأعداء ويقاتلون ويعملون في تلك الولايات، ثم تحمل الأموال التي كانت تأتي للدولة، والتي كانوا سببا في جلبها إلى العاصمة ويظلم هؤلاء ولا يأخذون ما يستحقونه، علاوة على ان العاصمة الكوفة كانت فيها مصادر مالية كثيرة مثل الخراج والجزية والزكاة والعشر وغيرها.

والأمر الآخر الذي باشر به الإمام علي (عليه السلام) هو تقسيم جميع الأموال التي يحتويها بيت المال، لأنه يعتقد ان حاجة المسلمين إلى الأموال أهم من خزنها، لذلك عندما دخل إلى البصرة بعد انتصاره في معركة الجمل، حصل على أموال

ص: 251


1- الكوفي، مناقب أمير المؤمنين، 2 / 73 - 74
2- المنقري، وقعة صفين، ص 106، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 402
3- البلاذري، أنساب الأشراف، ص 393، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 557، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 540
4- أبو نعيم الاصبهاني، ذكر أخبار اصبهان، 1 / 72، ابن الدمشقي، جواهر المطالب، 1 / 274
5- البلاذري، انساب الأشراف، ص 166

وغنائم من هذه المعركة، تصرف فيها وفق المبدأ الذي ذكرناه في أنه يوزع الأموال وفق مبدأ المساواة على المقاتلين المشتركين في المعركة، ثم وجد في بيت مال البصرة ستة الاف درهم والمقاتلين كانوا اثني عشر ألفاً، فوزعها بين المقاتلين فحصل كل واحد منهم على خمسمائة درهم(1). ثم قسم ما وجدوه في معسكرهم من سلاح ودواب وغيرها(2). وذلك أيضا اتبع فيه مبدأ المساواة، وهذا الإجراء الذي اتخذه الخليفة مع أموال البصرة قد يدفع بعضهم إلى الاعتقاد انه راعى فيه ضرورات عسكرية، أي إنه أراد إرضاء المقاتلين الذين اشتركوا في هذه المعركة، لكن هذا الاعتقاد يخالفه الواقع، ولا يقوم على دليل، لاسيما ان تصرف الإمام علي مع مال البصرة كان قائماً على إيمانه بأن هذه الأموال كانت غنيمة حرب، وليس جزية أو صدقات أو خراج أو عشر، لذلك قسمها بين المقاتلين، والدليل على ذلك ان الصحابي أسامة بن زيد أرسل إليه يريد منه نصيباً من الأموال (ابعث إلي بعطائي، فو الله إنك لتعلم إنك لو كنت في فم الأسد لدخلت معك. فكتب إليه إن هذا المال لمن جاهد عليه ولكن لي مالا بالمدينة فأصب منه ما شئت)(3)، وكان أسامة من الذين لم يبايعوا الإمام علياً (عليه السلام) بالخلافة، أي انه رفض الانخراط مع إجماع المسلمين، وفضل البقاء خارج الإجماع، لذلك عليه أن يتحمل نتيجة عمله، وهو غير مغصوب عليه، إذ أن الإمام لم يجبره على البيعة ولم يفرضها عليه، فكيف يكون له عطاء من الدولة وهو خارج الخدمة فيها، ولا يقدم لها ما فرض عليه من واجبات، وليس عنده ما يمنعه من المشاركة من مرض أو عجز، وكذلك الحال مع المتخلفين الآخرين عن البيعة مثل عبد الله

ص: 252


1- المنقري، وقعة صفین، ص 168، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 544، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 249
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 250
3- الثقفي، الغارات، 2 / 577، ابن عبد ربه، العقد الفريد، 4 / 104

ابن عمر والمغيرة بن شعبة وسعد بن أبي وقاص وغيرهم. إذ قال لهم الإمام علي:

(ألستم تعلمون إن عثمان كان إماما بايعتموه على السمع والطاعة، فعلام خذلتموه إن كان محسناً، وكيف تقاتلوه إذ كان مسيئاً؟ فإن كان عثمان أصاب بما صنع فقد ظلمتم إذ لم تنصروا إمامكم، وإن كان مسيئاً فقد ظلمتم إذ لم تعينوا من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، قد ظلمتم إذ لم تقوموا بيننا وبين عدونا بما أمركم الله به، فإنه قال:

وقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فردهم ولم يعطهم شيئا)، وتبيان هذا الأمر يوضح الأمر الأول في تقسيم أموال المتمردين في البصرة، فهؤلاء كانوا خارج إطار الدولة وإجماع المسلمين متكاسلين فكيف يأخذون العطاء وهم لم يلبوا ما عليهم من واجبات لذلك لا يستحقون شيئاً من المال، لأن ذلك يساعد على الكسل والابتعاد عن المشاركة الفاعلة في بناء الدولة، وهم لم يكونوا فقراء لا يستطيعون العمل حتى يشملوا بالضمان الاجتماعي، أما الأموال الأخرى الموجودة في البصرة وغيرها من الولايات فلا توزع بالطريقة أعلاه، أي على العسكريين فقط بل توزع وفق ما ذكرناه سابقا، أي على جميع المسلمين المستحقين للعطاء.

وكذلك الحال مع الأموال التي ترد من الولايات الإسلامية إلى بيت مال العاصمة الكوفة، لكن الأمر المختلف هنا تعامل الخليفة مع هذه الأموال، إذ يشرف عليها بنفسه إشرافا مباشرا، فعند وصولها توضع في بيت المال، ويقوم العمال بإحصائها ثم توزع دون تأخير، وفي الحالات التي ترد فيها أموال كثيرة لا يستطيع بيت المال استيعابها، توضع في مكان قريب من بيت المال أو في المسجد(1)، ثم يبدأ العمال بجرد هذه الأموال سواء كانت نقداً من الذهب أو الفضة، أو أشياء عينية، ويقسمها بين

ص: 253


1- الثقفي، الغارات، 1 / 55، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 199 - 200، المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 135

المسلمين في اليوم نفسه أو اليوم الذي يليه، ويؤيد هذا أن الإمام علياً (عليه السلام) كان يكنس بيت المال بعد أن يوزع ما فيه من أموال ويقول: (ينبغي لبيت مال المسلمين أن لا يأتي عليه يوم إلا كان هكذا، ليس فيه شيء، قد أخذ كل ذي حق حقه)(1)، إلا إن إحصاء الأموال وتوزيعها في اليوم نفسه كان صعبا على هؤلاء العمال لكثرة هذه الأموال وصعوبة حسابها وتقسيمها، فكانوا يعترضون على هذا الإجراء، لكن الإمام علياً (عليه السلام) كان مصرا على هذا الأمر(2)، نتيجة لنظرته القاضية بعدم خزن المال وإعطائه للمسلمين، وعدم إذلالهم وذلك بجعلهم ينتظرون عطاءهم، ما دامت الدولة تمتلك هذه الأموال، وغير محتاجة لادّخارها، لأنه رأى في بداية خلافته تراكم الأموال في خزائن الولايات الإسلامية، مع وجود حاجة عند المسلمين لهذه الأموال، فتذكر الروايات إنه عندما عاد من معركة الجمل، وقرر اتخاذ الكوفة عاصمة للدولة الإسلامية، وجد في بيت مال الكوفة كميات كبيرة من الأموال، فتعجب من الأمر نتيجة لكثرة الأموال المتواجدة مع حاجة الناس اليها، لذلك قال لهم : (هذا ههنا والناس يحتاجون)، فقسم هذا المال بين المسلمين(3).

والأمر الآخر الذي ذكرته الروايات، هو ان الخليفة كان يقسم الأموال بنفسه في العاصمة الكوفة، وذلك بعد عملية الجرد والإحصاء التي يقوم بها العمال، يتم استدعاء رؤساء الأسباع وهم المسؤولون عن قبائل الكوفة، إذ قسمت إلى سبعة أجزاء على كل منها رئيس، فيعطيهم الأموال دون إبقاءها في بيت المال(4)، ثم يكنس

ص: 254


1- البلاذري، انساب الأشراف، ص 132، الصدوق، الأمالي، ص 357
2- الكوفي، مناقب امير المؤمنين، 2 / 54
3- البلاذري، انساب الأشراف، 1 / 133، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 42 / 476
4- الثقفي، الغارات، 1 / 55، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 42 / 476، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 199 - 200

بيت المال بنفسه كل جمعة ويصلي فيه ركعتين ويقول: (ليشهد لي يوم القيامة)(1)، أي لم يبق في هذا البيت أية أموال، مع استغناء الدولة وعدم حاجتها لها، وكونها حقوقاً للمسلمين، وهذا ناتج عن نظرة دينية مفادها ان الحاكم مجرد أمين على أموال الناس، ومن ثمّ ليس له الحق بالتصرف بها وفق رغباته، ونظرة إنسانية تتعلق بكرامة الإنسان وحقوقه على الدولة، وذلك بتوفير العيش الكريم له، وعدم تركه يقاسي من العوز، لاسيما إذا كانت الدولة قادرة على رفع معاناته.

ومن خلال ما تقدم من روايات يمكن أن نستنتج مجموعة من الأمور نجملها بالنقاط الآتية:

أولا: إن الأموال الواردة لبيوت الأموال مصادرها معروفة، وهي الخراج والجزية والعشر والزكاة والهدايا وغيرها، ومصرف هذه الأموال أيضا يمكن أن نحدده بأن الجزية والغنائم هي عطاء المقاتلة أو العسكريين ولا يشاركهم أحد فيه، والزكاة تعطى لمجموعة من الفئات ذكرناها عندما ذكرنا الآية القرآنية التي تبين مصرف هذه الأموال، أما الخراج والعشور فهي تصرف على جميع طبقات المجتمع الإسلامي، بما فيها الطبقات التي تأخذ من أموال الجزية والغنائم والزكاة، ومن خلال ذلك يمكن القول إن العطاء كان يشمل جميع المسلمين المستظلين بظل الدولة، والذين يؤدون الأعمال الملقاة على عاتقهم، سواء في الجيش أو الوظائف المدنية، كذلك المقاتلون الذين كانوا في الجيش في عهد رسول الله وبعده، ولم يعودوا قادرين على العمل يأخذون رواتب تقاعدية، محتفظاً بمبدأ التسوية في العطاء بين المسلمين وفق الفئة التي ينتمي إليها كل واحد منهم، ولم يحرم من عطاء الدولة سوى الذين لا يعملون

ص: 255


1- الكوفي، مناقب أمیر المؤمنین، 2 / 79، الصدوق، الأمالي، ص 357، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 42 / 476، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 199

فيها، سواء في فترة خلافة الإمام علي أو الفترة التي سبقته، وفي الوقت نفسه فهم غير محتاجين حتى يأخذوا من أموال الزكاة.

ثانيا: من خلال قراءة الروايات يتبين أن الإمام علياً (عليه السلام) كان يعطي العطاء مرارا في السنة الواحدة، لأن الروايات التي قدمناها والتي تذكر إنه كان يكنس بيت المال ويصلي فيه تدل على ذلك، فكلما اجتمع له مال أرسل إلى الرؤساء وقسم المال بينهم، ولا يترك في بيت المال شئاً، ولم نجد في الروايات أن هناك وقتاً محدداً لوصول الأموال إلى العاصمة، بل على العكس فإنّ كل الروايات التي وجدناها تدل على أن الخليفة كان إذا وصل إليه المال وزعه على المسلمين دون أن يبقيه في بيت المال(1)، وهذا يبين بما لا يقبل الشك أنهم كانوا يأخذون الأموال أكثر من مرة في السنة، وقد تكون هناك أوقات محددة لاستلام النسبة الأكبر من العطاء، وهي الأوقات التي تتزامن مع جمع الخراج والجزية في الأمصار، وإرسال الفائض منها إلى العاصمة، ويؤيد ذلك ما ذكرته بعض المصادر: (أعطى علي الناس في سنة ثلاث عطيات، ثم قدم عليه مال من أصبهان، فقال: هلموا إلى عطاء رابع فخذوا)(2).

زيادة على منحه هذه الأعطيات فإنه عندما يبعث حملة عسكرية ويوجهها إلى جهة معينة، يعطي المشتركين في هذه الحملة أموالاً من أجل أن يتجهزوا لها، ولا يعتمدون على عطائهم المخصص لهم، لأن هذا العطاء هو من أجل معيشتهم وأسرهم، وفي هذا العطاء الخاص كان الخليفة يساوي بينهم أيضا، ويؤيد ذلك الرواية التي تذكر

ص: 256


1- الكوفي، مناقب أمیر المؤمنین، 2 / 79، الصدوق، الأمالي، ص 357، أبي الشيخ، طبقات المحدثین بأصبهان، 1 / 279، أبو نعيم الاصبهاني، ذكر أخبار اصبهان، 1 / 72، ابن الدمشقي، جواهر المطالب، 1 / 274، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 199
2- الثقفي، الغارات، 1 / 83، البلاذري، انساب الأشراف، ص 132، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 42 / 477، المتقي الهندي، كنز العمال، 4 / 584

إنه أرسل حملة لمطاردة النعمان بن بشير وجماعته الذين أرسلهم معاوية للإغارة على عين التمر، إحدى المدن التي تقع غرب العراق، فأعطى كل واحد من المقاتلين سبعمائة درهم(1).

ثالثا: على الرغم من أن هناك عمالاً في بيت المال، فإننا نلاحظ من خلال الروايات أن الخليفة كان يباشر عملية التوزيع بنفسه، ففي رواية عن الشعبي إنه دخل مسجد الكوفة وهو غلام، فرأى الخليفة علياً وبين يديه أموال من الذهب والفضة، وهو يوزع المال على الناس حتى لم يبق منه شيء، فيقول الشعبي (إني عدت فأخبرت أبي، قلت: لقد رأيت خير الناس أو أحمق الناس، قال: من هو يا بني، قلت: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، رأيته يصنع كذا، فقصصت عليه، فبكى، وقال: يا بني بل رأيت خير الناس)(2).

ويبدو أن الخليفة كان يريد أن يعلّم الناس ان منصب الخلافة هو من أجل خدمة الناس لا من أجل التسلط عليهم، وهو أيضا ناتج عن القيم الإسلامية التي يحملها الخليفة، في انه يريد أن يشعر الناس إنه واحد منهم، فلا يخاف أحد من صاحب هذا المنصب، ولا يتردد في إبداء النقد من أجل الإصلاح، وللدلالة على ما قدمناه نذكر وصف أحد الكوفيين للإمام علي (عليه السلام)، عندما سأله معاوية عن طباعه وعلاقته بالناس، فقال عنه في كلام طويل نأخذ منه ما يخص الرأي المتقدم: (كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استفتيناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا، وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله

ص: 257


1- الثقفي، الغارات، 2 / 456، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 304
2- الثقفي، الغارات، 1 / 55، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 198، المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 135

ولا ييئس الضعيف من عدله)(1) رابعا: كان العطاء لا يشمل الأموال النقدية فقط، بل تعدى ذلك إلى المواد العينية، لأن سياسة الخليفة كانت لا تقوم على جباية الأموال فقط، بل كان يستحصل الضريبة من الأشياء العينية أيضا، من أجل أن لا يرهق الفلاحين والصناع وغيرهم، فقد كان يأخذ من دافعي الضرائب سواء أكانوا مسلمين أم غيرهم، من نفس المواد التي ينتجونها(2)، وذلك من أجل حماية هؤلاء لأن نسبة الضريبة إذا كانت تؤخذ أموالاً فقط، فهذا يعني إنهم سيضطرون إلى بيع منتجاتهم من أجل استحصال أموال الضريبة، وقد تؤدي العجلة في البيع إلى عدم حصولهم على أسعار تتناسب مع قيمة سلعهم، لذلك يأخذ منهم مواد عينية، فكان بيت المال في عهد الإمام علي (عليه السلام)، ترد إليه الأقمشة والحبال والأطعمة، وكان الخليفة ينادي على الناس أن يأخذوا الأشياء البسيطة إلا إنهم يزهدون فيها، الأمر الذي كان لا يرضي الخليفة فيجبرهم على أخذها(3)، لأنها حقهم وفي هذا الأمر تذكر الروايات انه قسم بين المسلمين حبالاً من كتان، وردت إلى بيت المال لكنهم رفضوا أخذها، ثم تبين لهم انها قيّمة فعادوا وأخذوها(4)، وقد خصص الخليفة أمكنة خاصة في بيت المال من أجل وضعها، لاسيما الأغذية التي كانت توضع في بيت خاص يسمى بيت الطعام(5)، كما

ص: 258


1- ابن عساكر، تاريخ دمشق، 24 / 401، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 18 / 224، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 275
2- الكوفي، مناقب امير المؤمنين، 7 / 623، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 152
3- الكوفي، مناقب أمير المؤمنين، 2 / 78، البلاذري، انساب الأشراف، ص 132، 136
4- البلاذري، انساب الأشراف، ص 132، الثقفي، الغارات، 1 / 83
5- البلاذري، انساب الأشراف، ص 134، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 9 / 318، اليوزبكي، النظم الإسامية، ص 155

سبق الحديث عن هذا الأمر في الفصل الثاني، وفي بعض الحالات كان الإمام (عليه السلام) يدعو المسلمين إلى تناول الأطعمة الواردة إلى بيت المال، لأن كميتها كانت قليلة وغير كافية عندما تقسم بينهم(1)، علاوة على أنها تسهم في توثيق العلاقة بين المسلمين، إذ يجتمعون ويتحدثون وتتوثق صلاتهم مع بعضهم ومع خليفتهم.

وفي حالات أخرى كان الإمام علي (عليه السلام) يضع الأطعمة مثل العسل والسمن عندما تصل في رحبة المسجد، ثم يوزعها بعد وقت قصير(2)، كذلك كانت تصل إلى بيت المال أنواع من الأبزار، فيقوم الخليفة بتوزيعها بين المسلمين (يقسم بين المسلمين أنواع الأبزار من الخردل والحرف والكمون والكزبرة حتى وزعه بينهم يصرونه صرا حتى لم يبق منه شيء)(3)، كما ان النساء كان لها حصة أيضا من الأشياء العينية، فكان يخصص لهن العطور الواردة إلى بيت المال(4).

والأمر الأخير الذي ينبغي الإشارة إليه في هذا الموضوع هو حماية الخليفة لأموال المسلمين من تجاوزات أقرباء الخليفة، وذلك من اجل أن يشعر المسلمون بأنهم متساوون لا فرق بينهم، لاسيما ان أحد أهم الانتقادات التي وجهت إلى الخليفة عثمان هي محاباته لأقربائه على حساب المسلمين بغير حق، مما أدى إلى ثورة انتهت بقتله، وفتحت من جراءها على الدولة الإسلامية مشكلات كثيرة، فأقرباء الإمام علي (عليه السلام) سواء كانوا أبناءه أو غيرهم كانوا يأخذون عطاءهم مثل غيرهم من

ص: 259


1- الكوفي، مناقب امير المؤمنين، 7 / 623، البلاذري، انساب الأشراف، ص 137
2- البلاذري، انساب الأشراف، ص 136، أبي الشيخ، طبقات المحدثين باصبهان، 1 / 279
3- الكوفي، مناقب أمير المؤمنين، 2 / 78، أبو جعفر الاسكافي، المعيار والموازنة، ص 252
4- البخاري، صحيح البخاري، 7 / 126، البلاذري، انساب الأشراف، ص 137، الكوفي، مناقب أمیر المؤمنین، 2 / 78

المسلمين، ويجب أن يكتفوا بهذا العطاء، ولا يطلبوا شيئاً آخر من أموال المسلمين، لأنهم ليس لهم أي امتياز على غيرهم.

وابتدأ الخليفة في هذا الأمر بنفسه، إذ كان يعمل بيده يصلح الأراضي دون الاعتماد على أحد معأنه كان يأخذ العطاء، لكنه كان يعطيه كله في سبيل الله، فأحيا أراضٍ بوار كثيرة بكده، ثم تصدق بها على المسلمين، إذ لم يورث أبناءه إلا مجموعة من الدراهم القليلة(1)، وتذكر الروايات انه كان يطعم الناس ويأكل هو من شيء كان يأتونه به من قبل أرض له بالمدينة(2)، وهذا الأمر لا يمكن أن نناقشه بمعزل عن نظرة الخليفة للمال، علاوة على تسلمه لهرم السلطة في الدولة الإسلامية، الأمر الذي يدفعه إلى أن يكون قدوة للموظفين المسؤولين عن أموال المسلمين، ففي مسألة الرؤية الشخصية التي اشتهر بها الخليفة علي للأموال، تذكر الروايات إنه كان زاهدا بمتاع الدنيا، لا يوجد في تفكيره أي مجال لملذات الحياة ومن ضمنها الأموال، فيقول: (والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن اعصی الله في نملة أسلبها جلب شعيرةٍ ما فعلته، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي ولنعيم يفنى، ولذة لا تبقى، نعوذ بالله من سيئات العقل وقبح الزلل)(3)، وفي كتاب له وجهه لأحد عماله، عندما بلغه انه حضر وليمة لأحد أغنياء ولايته: (ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه(4)، ومن طعامه بقرصيه(5)، ألا وإنكم لا تقدرون

ص: 260


1- النعمان المغربي، شرح الأخبار، 1 / 180، المفيد، الارشاد، 2 / 8، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 146
2- الكوفي، مناقب أمير المؤمنين، 2 / 79، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 42 / 482
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 11 / 247، المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 163
4- يقصد بالطمر الثوب البالي، وقوله طمريه أي الإزار والرداء اللذين كان يرتديهما الخليفة علي
5- يقصد بالقرص هو رغيف الخبز أي إنه اكتفى من الطعام بقرصين في اليوم

على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد، فوالله ما كنزت من دنياكم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا(1)، بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، ونعم الحكم الله، وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانها إلى جدث(2)، تنقطع في ظلمته آثارها وتغيب أخبارها، وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر والمدر، وسد فرجها التراب المتراكم، وإنما هي نفسی أروضها بالتقوى، لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق، ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل أحدهم بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى(3)، أو أكون كما قال القائل:

وحسبكَ داءً أن تبيتَ ببطنةٍ *** وحولكَ أكباد تحنُّ إلى القدّ أأقنع من نفسی بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها...)(4)، وعندما انتهت معركة الجمل تكلم مع أهل البصرة: (ما تنقمون عليَّ يا أهل البصرة؟ وأشار إلى قميصه وردائه، فقال: والله إنهما لمن غزل أهلي، ما تنقمون مني يا أهل البصرة؟ وأشار إلى صرة في يده فيها نفقته، فقال: والله ما هي

ص: 261


1- وهنا يخاطب الخليفة أتباعه بأنه لم يكنز ذهبا، ولا ادخر مالا، ولم يعد ثوبا إذا تقطع أحد ثوبيه
2- الجدث هو القبر
3- مبطانا يعني عظيم البطن من كثرة الأكل، وبطون غرثى أي بطون جائعة، وأكباد حرى أي عطشانة
4- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 286، المجلسي، بحار الأنوار، 320 - 321

إلا من غلتي بالمدينة، فإن أنا خرجت من عندكم بأكثر مما ترون فأنا عند الله من الخائنين)(1)، كما أن الخليفة كان يمتلك أراضٍ زراعية في المدينة المنورة، وهي أراضٍ موات أحياها بيده من خلال العمل فيها لفترة من الزمن، وحفر فيها آباراً من أجل سقيها(2)، وعلى الرغم من أن هذه الأراضي كانت وارداتها السنوية أربعين ألف دينار ذهباً(3)، إلا إنه خصص عوائدها للإنفاق على الفقراء والمحتاجين حتى بعد وفاته(4)، دون أن يبقي لنفسه منها شئاً، فيصل به الأمر في بعض الأحيان إلى أن يبيع سيفه من أجل أن يشتري عشاءً له ولعائلته، لأن واردات أراضيه وراتبه يذهب إلى هذه الطبقات المحتاجة(5)، كما ذكرت الروايات انه كان يرقع ثوبه الذي يلبسه مرات عدّة، لأنه لا يمتلك ثمن ثوب جديد، فكان يقول: (والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها)(6)، وهذا الأمر لا يتعلق بالزهد والدين الذي يدفعه إلى عدم التبذير فقط، بل انه كان يواسي بعمله هذا الفقراء والمحتاجين، ويعيش حياتهم، من أجل أن يكون قريبا من الفقراء، ويتعرف على أثر الجوع عليهم، فيجوع مثلهم ويشعر

ص: 262


1- المفيد، الجمل، ص 224، ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، 1 / 367
2- ابن شبة النميري، تاريخ المدينة، 1 / 221 - 222، الكوفي، مناقب امير المؤمنين، 2 / 81 - 83
3- البلاذري، انساب الأشراف، ص 117، ابن حنبل، مسند احمد، 1 / 159، الشريف الرضي، خصائص الأئمة، ص 79، ابن طاووس الحسيني، كشف المحجة، ص 124، المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 26
4- ابن شبة النمیري، تاريخ المدينة، 1 / 221 - 222، الكليني، الكافي، 4 / 22 - 23، الصدوق، من لايحضره الفقيه، 2 / 71، الكوفي، مناقب أمیر المؤمنین، 2 / 83، ياقوت الحموي، معجم البلدان، 1 / 469، 4 / 176، ابن حجر، الإصابة، 7 / 343
5- البلاذري، أنساب الأشراف، ص 117، الشريف الرضي، خصائص الأئمة، ص 79، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 42 / 482، المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 26
6- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، 1 / 370، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 9 / 233، المجلسي، بحار الأنوار، 40 / 346

بمعاناتهم، ويلبس الملابس البسيطة مثلهم، فيستطيع أن يجد الحلول لمشاكلهم، كذلك حتى لا يشعر الفقير بامتهان لكرامته، وهو لا يمتلك ما يكفيه للمعيشة، عندما يرى الخليفة يعيش مثل حياته، فلا يستنكف من فقره، لكن هذا لا يعني ان الخليفة كان يريد الناس أن تعيش حياة الفقر، بالعكس فقد كان يريد الرفاه للجميع، والزهد شيء اختص به لنفسه، ففي الرواية انه كان يأكل الطعام البسيط المتمثل بالخبز اليابس والزيت، فيما يطعم الناس اللحم والخبز(1)، وكان لا يرضى عن الذين يتركون الدنيا، ويتجهون إلى الزهد الشديد، بحيث يضرون بأنفسهم وعوائلهم، فقال لأحد أصحابه الذين اعتنقوا الزهد: (أما استحييت من أهلك؟ أما رحمت ولدك؟ أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أخذك منها، أنت أهون على الله من ذلك، أو ليس الله يقول:

والأرض وضعها للأنام، فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام)، وعندما سألوا الإمام علياً (عليه السلام) عن سبب الحياة البسيطة التي يعيشها، كان جوابه يرتكز على مواساة الفقراء: (يا أمير المؤمنين فعلى ما اقتصرت في مطعمك على الجشوبة وفي ملبسك على الخشونة؟ فقال ويحك إن الله عز وجل فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره)(2).

إن الروايات المتقدمة تبين لنا الزهد الذي كان يتمتع به الخليفة في التعامل مع أمواله الخاصة، لذلك فمن الطبيعي أن يكون حرصه أكبر على أموال المسلمين، وعدم المساس بها وهذا الأمر ليس مجرد تصحيح للسياسة المالية التي سبقته، بل كان تأسيساً لسياسة جديدة ترتكز على كون الخليفة مجرد موظف يدير الأموال، ويجب

ص: 263


1- الثقفي، الغارات، 1 / 68، الحميري، قرب الإسناد، ص 113، المجلسي، بحار الأنوار، 63 / 56
2- أبو جعفر الإسكافي، المعيار والموازنة، ص 243 - 244، الكليني، الكافي، 1 / 410 - 411، ابن عبد ربه، العقد الفريد، 2 / 374، المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 26

عليه أن يكون أمينا عليها، لذلك نراه عندما دخل الكوفة وأعلنها عاصمة للدولة الإسلامية، خاطب الناس فيها بالقول: (يا أهل الكوفة إذا أنا خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي فأنا خائن)(1)، أي إنه أعلن عما يملكه عندما دخل الكوفة، وأعطى الولاية الكاملة للمسلمين من أجل مراقبة أدائه، سواء في الناحية المالية أو غيرها، وفي الوقت نفسه فإنه استغنى عن الحق الطبيعي له بأن يتساوى مع بقية المسلمين في المأكل والملبس، كونه موظفاً في الدولة يتقاضى راتباً عن عمله، لذلك نراه حريصا جدا على أن يعيش المسلمون عيشا هنيئا، بينما كان هو يعيش عيشة الفقراء الذين لا يجدون ما يسدون به جوعهم(2)، وعندما سأله أحد الكوفيين عن سبب ذلك، قال له إنه يريد أن يواسي أفقر المسلمين، ولا نريد هنا الاسترسال في هذا الموضوع لأنه يحتاج إلى بحث منفرد(3).

أما فيما يتعلق بأسرته فقد كان الخليفة حريصا على أن لا يتجاوز أحد منهم على أموال المسلمين، فأبعدهم عن أي مسؤولية مالية سوى تعيينه لأبناء عمه العباس على بعض الولايات الإسلامية، وكان يراقبهم مراقبة شديدة ويحاسبهم على أي تصرف على الرغم من قربهم منه، وفيما يتعلق بأخوته وأبنائه فقد وردت روايات كثيرة في

ص: 264


1- الثقفي، الغارات، 1 / 68، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 200، المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 137
2- الثقفي، الغارات، 1 / 68، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 200، المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 137
3- للمزيد من التفاصيل عن هذا الموضوع ينظر البلاذري، أنساب الأشراف، ص 128 - 141، الكوفي، مناقب امیر المؤمنین، 2 / 53 - 83، الثقفي، الغارات، 1 / 45 - 125، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 42 / 477 - 488، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 197 - 203، العيساوي، النظم الإدارية والمالية، ص 244 - 261

هذا الباب، سنأخذ منها بعض الأمثلة للدلالة على ما قدمناه من حفاظ الخليفة على أموال المسلمين، فقد أوردت بعض المصادر إن الحسن والحسين أبناءه كانا يأكلان طعاما خشنا متواضعا، فتعجب من أكلهما هذا الطعام، ورحبة المسجد تحتوي على أطعمة طيبة، فكان جوابهما له يدل على مدى حفاظ الإمام علي (عليه السلام) على أموال المسلمين حتى في هذه الأشياء البسيطة، إذ قالا له: (ما أغفلك عن أمير المؤمنين)(1)، أي أنت لا تعرف حرص أمير المؤمنين على هذه الأموال، وفي رواية ان أحد الأشخاص نزل ضيفا على الحسن ابن الخليفة، فاشترى الحسن خبزا للضيف، وطلب من قنبر خادم الخليفة أن يقرضه شيئا من العسل الموجود في بيت المال، ويرجعه عندما يستلم حصته، فلما أراد الخليفة قسمة العسل بين المسلمين، لاحظ وجود نقص في أحد أواني زقاق العسل، الأمر الذي جعله يغضب غضبا شديدا ويعاتب الحسن على ما فعله، على الرغم من إنه لم يتجاوز على أموال المسلمين، وله حق مثلهم تماما وأخذ العسل على سبيل الاستعارة، لكن هذا الأمر مرفوض من الخليفة، لأنه يرى ان ابنه يجب أن لا يأخذ حصته قبل بقية المسلمين (فقال له: ما حملك على أن أخذت من هذا العسل قبل أن نقسمه؟ قال يا أمير المؤمنين إن لنا حقا فإذا أعطيتنا حقنا رددنا من حقنا، قال: فداك أبوك وإن كان لك فيه حق فليس لك أن تنتفع بحقك منه قبل أن ينتفع المسلمون بحقوقهم)(2)، وفي رواية أخرى ان ابنة الخليفة طلبت من خازن بيت المال عقد لؤلؤ تتزين به أيام العيد، على أن تضمنه هذه الفترة وترجعه كما هو دون أي ضرر، لكن الخليفة عندما علم بهذا الأمر حاسب خازن بيت المال، لأنه تصرف بأموال المسلمين من دون علم الخليفة، (فبعث إلي أمير

ص: 265


1- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، 1 / 375، المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 113
2- الكوفي، مناقب أمير المؤمنين، 2 / 75، المجلسي، بحار الأنوار، 42 / 117

المؤمنين (عليه السلام) فجئته فقال لي: أتخون يا ابن أبي رافع؟ فقلت له: معاذ الله أن أخون المسلمين فقال: كيف أعرت بنت أمير المؤمنين العقد الذي في بيت مال المسلمين بغير أذني ورضاهم؟ فقلت: يا أمير المؤمنين انها ابنتك وسألتني أن أعيرها إياه تتزين به، فأعرتها إياه عارية مضمونة مردودة فضمنته في مالي وعلي أن أرده سليما إلى موضعه، قال: فرده من يومك وإياك أن تعود لمثل هذا فتنالك عقوبتي)، وعندما استفسرت ابنته عن سبب غضبه من استعارتها للعقد، كان جواب الخليفة يدل على مدى حرصه على تطبيق العدالة بين المسلمين، فليس لابنته الحق في أخذ شيء من بيت المال حتى لو كان استعارة، لاسيما إن نساء المسلمين لا يستطعن فعل ذلك، (يا أمير المؤمنين أنا ابنتك وبضعة منك، فمن أحق بلبسه مني، فقال لها: يا بنت علي بن أبي طالب لا تذهبن بنفسك عن الحق أكل نساء المهاجرين تتزين في هذا العيد بمثل هذا؟ قال فقبضته منها ورددته إلى موضعه)(1)، وقد لخص أحد المسلمين تعامل الإمام علي (عليه السلام) مع أبنائه في مسألة المال بالقول: (ما تؤمل من رجل سألته أن يزيد في عطاء ابنيه الحسن والحسين دريهمات لما رأيته من حالتهما، فأبى علي وغضب من سؤالي إياه ذلك)(2).

أما بقية عائلته فقد كان الخليفة يتصرف معهم بنفس الطريقة التي كان يتصرف بها مع أبنائه، فتذكر الروايات أن عقيل بن أبي طالب أخا الخليفة جاء إليه يسأله مالا، وأحضر أبناءه معه من أجل أن يستدر عطف أخيه، فيقول: (فجمعت صبياني وجئته بهم والبؤس والضر ظاهران عليهم، فقال: ائتني عشية لأدفع إليك شيئا،

ص: 266


1- الطوسي، تهذيب الأحكام، 10 / 152، المجلسي، بحار الأنوار، 40 / 338
2- النعمان المغربي، شرح الأخبار، 2 / 97، أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 10 / 250، الهمداني، الإمام علي، ص 702

فجئته يقودني أحد ولدي(1)، فأمره بالتنحي، ثم قال: ألا فدونك، فأهويت حريصا من غلبة الجشع أظنها صرة .. فوضعت يدي على حديدة تلتهب نارا، فلما قبضتها نبذتها وخرت كما يخور الثور تحت يد جزاره، فقال لي: ثكلتك أمك، هذا من حديدة أوقدت لها نار الدنيا، فكيف بك وبي غدا إن سلكنا في سلاسل جهنم، ثم قرأ: إذا الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون ثم قال: ليس لك عندي فوق حقك الذي فرضه الله لك إلا ما ترى فانصرف إلى أهلك)(2)، ويصف الإمام علي (عليه السلام) حال عقيل عندما جاءه يطلب منه المال، بالقول: (والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهدا(3)، أو أجر في الأغلال مصفدا، أحب إلي من ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد، وغاصبا لشيء من الحطام، وكيف اظلم أحدا لنفس يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها(4)، والله لقد رأيت عقيلاً وقد أملق حتى استماحني من بركم صاعا(5)، ورأيت صبيانه شعث الشعور، غبر الألوان من فقرهم، كأنما سودت وجوههم بالعظلم(6)، وعاودني مؤكدا، وكرر علي القول مرددا، فأصغيت إليه سمعي، فظن أني أبيعه ديني، وأتبع قياده مفارقا طريقي، فأحميت له حديدة، ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضج ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق

ص: 267


1- لأن عقيل كان في هذه الفترة قد فقد نظره وأصبح أعمى
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 11 / 245
3- السعدان هو نبات تأكله الإبل له ثمر يسمى الحسك مليء بالأشواك، ومسهدا سهران، ومصفدا مقيد
4- البلى الفناء، والثرى التراب
5- البر هو الحنطة، والصاع وحدة لوزن الحبوب
6- شعث الشعور تعني الشعر المتلبد بالوسخ، والعظلم هو أحد أنواع الصبغ

من ميسمها(1)، فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل! أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه، أتئن من الأذى ولا أئن من لظى)(2)، وفي هذا الموضوع مفارقة غريبة، ففي الوقت الذي لم يفرط الإمام علي (عليه السلام) في أموال المسلمين، وكان يحافظ عليها أكثر من حفاظه على أمواله الخاصة، ولم يعطِ أخاه درهما من أموال المسلمين، على الرغم من معرفته بحاجته وحاجة أسرته إلى هذه الأموال، وذلك لأنه لا يعدُّ نفسه سوى موظف مسؤول أمام الله أولا والمسلمين ثانيا عن هذه الأموال، وهذه قمة التغيير الذي أجراه الخليفة على السياسة المالية للدولة الإسلامية، ذهب عقيل إلى الشام عند معاوية، فأكرمه وأعطاه مائة ألف درهم من أموال المسلمين، ثم سأله عن حرمان الخليفة علي، فقال له: يا أبا يزيد، أنا خير لك أم علي؟ فأجابه عقيل (وجدت عليا أنظر لنفسه منه لي، ووجدتك أنظر لي منك لنفسك)(3)، وفي رواية إن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب جاءه يطلب منه مالا، ولم يكن يملك ما يتقوت به إلا أن يبيع راحلته، فأجابه الخليفة: (لا والله ما أجد لك شيئا إلا أن تأمر عمك أن يسرق فيعطيك)(4)، مع أن الخليفة كان يحب أخاه جعفراً حبا شديدا، لكن ذلك لم يدفعه إلى مخالفة مبادئه فيعطي عبد الله غير حقه.

وهذا التغيير الذي أجراه الخليفة في سياسة العطاء أدى إلى رخاء في أرجاء الدولة الإسلامية، على الرغم من قصر مدة خلافته، وقد عبر الخليفة عن الرفاه الذي عاشه

ص: 268


1- الدنف هو المرض، والميسم هو المكواة
2- الشريف المرتضى، علي بن الحسن ت 436 ه، رسائل المرتضى، تحقيق مهدي رجائي، دار القرآن، قم 1405، 3 / 139، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 11/ 245 - 246
3- الثقفي، الغارات، 2 / 550 - 551، ابن عبد ربه، العقد الفريد، 4 / 92
4- الثقفي، الغارات، 1 / 67، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 200، المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 137

أهل الكوفة بالقول: (ما أصبح بالكوفة أحد إلا ناعما، إن أدناهم منزلة ليأكل البر، ويجلس في الظل، ويشرب من ماء الفرات)(1)، وعلى الرغم من أننا لا نستطيع أن نحدد مقدار الرواتب في عهد الخليفة علي، بسبب قلة الروايات التي تناولت المسألة المالية في عهده، وحتى لو وجدت مثل هذه الروايات فإنها لا تعطي تفاصيل دقيقة عن هذا الموضوع، لكن الشيء الذي يمكن استنتاجه مما قدمناه من ان نسبة العطاء قد زادت بشكل كبير، لاسيما للطبقات الفقيرة لأن الأموال التي كانت تأخذها الطبقات العليا عادت لتوزع عليها، كذلك عدم خزن الأموال في بيت المال وتوزيعها بعد فترة من وصولها، يدل على أن المسلم كان يستلم المال طيلة أيام السنة، وهذا يعني أن مستواه المعاشي ارتفع بدرجة كبيرة، ويمكن أن نستدل من إحدى الروايات على هذا الارتفاع، وكذلك على الحد الأدنى الذي كان يستلمه المسلم من العطاء، إذ تنقل هذه الرواية عن الإمام علي (عليه السلام) قوله: (من دخل في الإسلام طائعا، وقرأ القرآن ظاهرا فله في كل سنة مائتا دينار في بيت مال المسلمين)(2)، وهذا يعني إن الإمام علياً (عليه السلام) حدد الحد الأدنى من العطاء بألفي درهم في السنة(3)، أي أكثر من مائة وستة وستين درهما في الشهر، لكن هذا لا يعني أن العطاء اقتصر على هذا المبلغ فقط بل أكثر منه بكثير، إذ كلما زادت العوائد المالية للدولة كلما زاد عطاء المسلمين، لأن هناك تناسباً طردياً بين الاثنين يستند إلى سياسة الخليفة القاضية بتوزيع الأموال حال وصولها وامتناعه عن خزنها، ويمكن أن نستدل على ارتفاع نسبة العطاء من

ص: 269


1- ابن شبة النمیري، المصنف، 8 / 157، ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، 1 / 368، المتقي الهندي، كنز العمال، 14 / 174، المجلسي، بحار الأنوار، 40 / 327
2- الصدوق، الخصال، ص 602، المجلسي، بحار الأنوار، 89 / 180
3- الدينار يعادل عشرة دراهم في تلك الفترة، ينظر الطوسي، الخلاف، 5 / 227، الأردبيلي، مجمع الفائدة، 14 / 310

خلال الرواية التي ذكرت ان أحد الدهاقين أرسل هدية للإمام علي (عليه السلام)، هي عبارة عن ثوب من الحرير منسوج بالذهب، فأراد بيعها ووضع ثمنها في بيت المال، فاشتراها أحد المسلمين بأربعة الاف درهم من عطائه(1)، وهذا يعني ان عطاء هذا الشخص كان أكثر من هذا المبلغ، لأنه ليس من المعقول أن يشتري ثوبا بعطائه كله، وهذا العطاء الذي نتحدث عنه هو النسبة الكبيرة منه، أي التي يستلمها عند ورود أموال الخراج والجزية، وليس الأموال التي يستلمها المسلمون باستمرار من بيت المال، كما إن هذه الرواية تعني إن بقية المسلمين يستطيعون شراء الثوب بهذا الثمن، لأنهم يأخذون العطاء نفسه تبعا لسياسة المساواة.

كما يمكننا أن نستدل على العدالة والرفاهية التي تحققت في المجتمع الإسلامي في عهد الخليفة علي من خلال الرواية التي أوردتها بعض المصادر، والتي تفيد بأن أهل الكوفة طالبوا الوالي الذي أرسله عبد الله بن الزبير إلى الكوفة بعد وفاة الإمام علي (عليه السلام) بخمس وعشرين سنة(2) بأن يطبق فيهم سياسة الإمام علي (عليه السلام) المالية، لأنهم يرون ان هذه السياسة حققت لهم العدالة، وعاشوا في ظلها منعمين مترفين، لاسيما إن مسألة الفقر كانت قد انتهت في عهد الإمام علي (عليه السلام)، إذ لم تذكر المصادر التاريخية وجود فقراء في عهده، لذلك فإن أهل الكوفة رفضوا أن تطبق فيهم سياسة الخليفتين عمر وعثمان التي اقترحها الوالي الجديد كبديل لسياسة بني أمية في العراق، والتي تقضي بحرمان المسلمين في العراق وغيره من مناطق الدولة الإسلامية من الامتيازات التي حصلوا عليها في عهد الإمام علي

ص: 270


1- ابن أبي شيبة، المصنف، 5 / 34، الثقفي، الغارات، 1 / 62، ابن حزم، المحلى، 8 / 446
2- بعد أن توفي مروان بن الحكم رابع حكام الدولة الأموية سنة 65 ه، أعلن عبد الله بن الزبیر نفسه خليفة للمسلمين فسيطر على منطقة الحجاز وأرسل ولاته إلى العراق، ينظر الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 490

(عليه السلام)، إذ منع الأمويون كل من كان مع الإمام علي (عليه السلام) من العطاء، كما منعوه عن كل من أحب أهل بيته، ومنحوه لمن كان على رأيهم، فعادت الطبقية بأسوء مما كانت عليه قبل عهد الخليفة علي(1)، فقال لهم هذا الوالي: (أما بعد فإن أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير بعثني على مصركم وثغوركم وأمرني بجباية فيئكم وأن لا أحمل فضل فيئكم عنكم إلا برضى منكم ووصية عمر بن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته، وبسيرة عثمان بن عفان التي سار بها في المسلمين)، لكن أهل الكوفة رفضوا هذا الأمر وقالوا له: (إنا لا نرضى أن تحمل فضل فيئنا عنا، وأن لا يسار فينا إلا بسيرة علي بن أبي طالب، التي سار بها في بلادنا هذه حتى هلك رحمة الله عليه، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا، ولا في انفسنا فإنها إنما كانت أثرة وهوى، ولا في سيرة عمر بن الخطاب في فيئنا)(2).

ب- الرعاية الاجتماعية والمساعدات

لقد ذكرنا فيما سبق أن الإمام علياً (عليه السلام) اقترح على الخليفة عمر بن الخطاب أن يكون هناك أموال تخصص للضمان الاجتماعي كما كان سائدا في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)(3)، وهذه الأموال تؤخذ من الفائض بعد توزيع العطاء، وهذا يعني إن الفقراء والمساكين والمعدمين وغير القادرين على العمل، أو الذين يعملون لكن عملهم لا يدر عليهم الكثير من الأموال، أو الذين يأخذون

ص: 271


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 218، 233، 234، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 11 / 44 - 47، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 180 - 182
2- أبو مخنف الأزدي، مقتل الحسين، ص 318، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 490
3- ابن حنبل، مسند احمد بن حنبل، 1 / 94، ابو يعلى، مسند أبي يعلى، 1 / 414 - 415، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 12 / 100، الهيثمي، مجمع الزوائد، 10 / 238

العطاء، لكن هذا العطاء لا يسد حاجة عوائلهم، تخصص لهم نسب من الأموال من الخزينة العامة للدولة.

والمشمولون بهذا النظام كانوا يأخذون أموال الزكاة، لكن هذه الأموال ربما لم تكن كافية لسد حاجتهم، لذلك طبق الإمام علي (عليه السلام) مبدأ الضمان الاجتماعي، أما الطبقات المشمولة بالضمان الاجتماعي فهي:

1- اليتامى والأرامل: وهؤلاء لا يوجد لهم مورد مالي يكفيهم ليعيشوا حياة كريمة شأنهم شأن غيرهم، إذ فقد هؤلاء من يعيلهم سواء في الحروب، أو توفوا وفاة طبيعية، وبقوا بدون معيل، فشملهم الإمام علي (عليه السلام) بالضمان الاجتماعي، إذ تذكر الروايات التاريخية أن الأموال عندما تأتي إلى بيت المال من الولايات الإسلامية يدعو اليتامى من أجل أخذ حصصهم من هذه الأموال(1)، وعلى الرغم من أنهم لم يكونوا من الموظفين أو العسكريين، ويبدو أن هذه الحصص كانت تؤخذ من فائض العطاء، وقد كان الخليفة يباشر هذه الأمور بنفسه دون أن يتركها للموظفين الذين ربما لا يشعرون بالحاجة الفعلية لهذه الطبقة، لذلك نجد في الروايات أن الخليفة كان يتابع هذه الطبقة بنفسه، على الرغم من كونه خليفة المسلمين، ورأس السلطة في الدولة الإسلامية، ففي إحدى هذه الروايات نجد أن الخليفة يلتقي بامرأة وهي تحمل قربة ماء ثقيلة فحملها عنها، وسألها عن حالها فأخبرته بأن زوجها قتل في إحدى المعارك، وهي تعمل في خدمة الناس من اجل إعالة ابنائها، فأتاها في اليوم التالي وهو يحمل أطعمة لها، ثم ساعدها في عمل الطعام للصبيان، والمرأة لا تعرف إنه الخليفة، وعندما ساعدها في عمل الخبز للأطفال لفحه لهب التنور، فقال لنفسه: (ذق يا علي هذا جزاء من ضيع الأرامل واليتامى)، وهو يعتذر من الأطفال ويقول: (يا بني اجعل علي بن

ص: 272


1- البلاذري، انساب الأشراف، ص 136

أبي طالب في حل مما مر في أمرك)، فلما عرفت المرأة إنه الخليفة قالت: (واحيائي يا أمير المؤمنين)، فقال لها: (بل واحيائي منك يا أمة الله فيما قصرت في أمرك)(1)، ويبدو من خلال هذه الرواية أن الإمام تابع هذه الطبقة وسد حاجتها بشكل كامل، ولم يتركها بدون رواتب، وعلى الرغم من أن المصادر التاريخية لا تبين لنا بشكل دقيق مقدار هذه الرواتب، إلا أنها ذكرت انه خصص جزءاً من أموال بيت المال لهؤلاء، ويؤيد ذلك الكتاب الذي أرسله الخليفة لعبد الله بن عباس عندما علم انه أخذ بعض الأموال من ولايته، إذ قال له: (فحملت أموالهم إلى الحجاز رحيب الصدر، تحملها غير متأثم من أخذها كأنك إنما حزت تراثك عن أبيك وأمك، سبحان الله أفما تؤمن بالمعاد؟ ولا تخاف سوء الحساب؟ أما تعلم أنك تأكل حراما وتشرب حراما؟ وتشتري الإماء وتنكحهن بأموال اليتامى والأرامل والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم)(2)، ولا يخفى أن الإمام عندما يشير إلى اليتامى والأرامل في الكتاب أعلاه، يعني انهم طبقة تختلف عن طبقة العسكريين الذين ذكرهم في نفس الكتاب، الذين يأخذون رواتبهم من خراج الأراضي، وهذا يؤكد رأينا في أن الخليفة خصص جزءاً من أموال الخراج من أجل الرعاية الاجتماعية، لاسيما تلك المتعلقة باليتامى والأرامل، وربما يكون السبب في ذلك هو أن هؤلاء فقدوا آباءهم في المعارك، أي انهم كانوا جنودا، وكما ذكرنا فإن الجنود يأخذون رواتبهم من الخراج والجزية، فكان هذا الراتب الذي يأخذه اليتامى والأرامل هو أشبه براتب تقاعدي.

2- طبقة الفقراء والمساكين: وهي من الطبقات المعدمة في المجتمع التي كانت

ص: 273


1- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، 1 / 382، المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 52
2- البلاذري، انساب الأشراف، ص 175، الدمشقي، جواهر المطالب، ص 84، المجلسي، بحار الأنوار، 42 / 154

(تعيش على أموال الزكاة، وهذه الأموال لم تكن كافية لإعالة هؤلاء، لذلك التفت الخليفة إليهم، وأمر في كتابه إلى واليه على مصر مالك بن الحارث الأشتر أن يخصص لهؤلاء رواتب ثابتة من خلال تخصيص حصة من بيت المال، ومن عائدات أراضي الصوافي التابعة لبيت المال، فكتب له: (ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين.. واجعل لهم قسما من بيت مالك، وقسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد.. ولا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييع التافه لأحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم، ممن تقحمه العيون، وتحقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم)(1)، وهذا الكتاب يدل على ان هذا الأمر طبقه الخليفة في كل أرجاء الدولة، إذ ليس من المعقول ان يوصي واليه على مصر به فقط، كذلك إشارته على الخليفة عمر بتخصيص مبلغ من المال لهؤلاء تدل على أنه طبقه في جميع ارجاء الدولة وبصورة منظمة، ويبدو ان الخليفة باشر هذه الأمور بنفسه في العاصمة، وأمر ولاته بمباشرتها بأنفسهم في مناطق مسؤولياتهم، وأمرهم بتعيين أشخاص موثوقين من أجل إخبار الوالي عن الفقراء والمساكين الذين ربما يستحون من طلب الأموال من الوالي أو غيره رغم حاجتهم لها، ويدخل ضمن هؤلاء المعوقون الذين يشكون من عاهات دائمة تقعدهم عن العمل، والمرضى الذين يشكون من أمراض مزمنة(2)، وفي بعض الحالات التي تفيض فيها أموال في بيت المال، كان الخليفة ينتخب أشد الناس حاجة ليبعث بها إليهم، وفي كثير من الأحيان تبقى بعض الأموال سواء كانت نقداً أو غيره في بيت المال، فيكون تخصيص هذه

ص: 274


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17 / 85، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 607 - 608
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17 / 85، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 607 - 608

الأموال لهؤلاء المحتاجين(1)، كذلك تذكر الروايات انه كتب إلى ولاته أن يعملوا ولائم في شهر رمضان من أجل إطعام الفقراء المحتاجين، وهذه الولائم ينفق عليها من بيت المال(2).

وفي بعض الحالات نجد ان هؤلاء المحتاجين غير مسجلين في بيت المال، لأن بعضهم قد يكون فقيرا في بعض أيام السنة فقط، أو انه أصابه الفقر ولم يسجل مع الذين شملهم الضمان الاجتماعي، لذلك كان هؤلاء يأتون إلى الخليفة مباشرة من أجل طلب المساعدة، وفي بعض الحالات التي لا يوجد فيها أموال في بيت المال، يلجأ الخليفة إلى إعطاء هؤلاء من أمواله الخاصة(3)، ومن العطاء الذي خصص للخليفة، والذي تذكر المصادر التاريخية انه لم يأخذ منه شيئا، بل خصصه للفقراء والمحتاجين(4).

3- السجناء: اهتم الخليفة بهذه الطبقة وحدد لها رزقا تعيش عليه في داخل السجون، ويشمل العطاء المقدم لهم الألبسة والأطعمة، وكان الإمام علي (عليه السلام) أول من قام بهذا العمل، لكن هذا العطاء لا يشمل جميع السجناء الموجودين في السجن، بل كان يشمل الذين لا يمتلكون المال(5)، ويشير أبو يوسف إلى هذا المعنى إذ قال: (إن الخلفاء لم تزل تجري على أهل السجون ما يقوتهم في طعامهم

ص: 275


1- البلاذري، انساب الأشراف، ص 134
2- الثقفي، الغارات، 1 / 82 - 83
3- البلاذري، انساب الأشراف، ص 141
4- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 200 - 201، المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 137
5- أبو يوسف، الخراج، ص 161

وكسوتهم في الشتاء والصيف، وأول من فعل ذلك علي كرم الله وجهه بالعراق)(1)، كما أن هذه الرعاية الاجتماعية شملت الرعاية الصحية لهؤلاء المساجين، وفي بعض الحالات يعطي لهؤلاء مبالغ من المال بعد إطلاق سراحهم من أجل العودة إلى اهلهم(2)، كما قام الإمام علي بتأسيس ديوان خاص بأهل الحاجة من السجناء من أجل توزيع الصدقات على هؤلاء(3).

4- الفقراء من غير المسلمين: لم تقتصر الرعاية الاجتماعية على المسلمين، بل شملت غيرهم من أهل الكتاب الذين لا يمتلكون الأموال، فتذكر الروايات إن الخليفة شاهد أحد النصارى يتكفف الناس، فسأل عنه، فأخبروه أنه نصراني هرم، وصار لا يقوى على العمل فأخذ يتسول: فقال لهم الخليفة: استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه، ثم أمر أن يجرى له من بيت المال مرتبٌ يكفيه لمعيشته(4)، وهذا الأمر قمة العدالة الاجتماعية التي طبقها الإمام علي (عليه السلام) في حكمه، إذ لم يفرق بين الناس لمنزلتهم الاجتماعية أو الدينية، لأن العطاء يتعلق بكرامة الإنسان التي سعى الإسلام لصيانتها، كما أنه يبين ان ظاهرة التسول غير مقبولة في عهد الإمام علي (عليه السلام)، ويجب أن تعالج الدولة حاجة هؤلاء الذين لا يمتلكون أموالاً تكفيهم لحياتهم اليومية، لاسيما إنه كان يرى ان كرامة الإنسان ومعاشه، ليس لهما علاقة بالدين الذي يعتنقه، فحاول الإمام علي إزالة كل أنواع التمييز ضد الآخرين في دولته، لاسيما ان هذا التمييز أصبح متأصلا في نفوس المسلمين، وذلك

ص: 276


1- الخراج، ص 161
2- النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 2 / 470 - 471، الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 4 / 63، الطوسي، تهذيب الأحكام، 10 / 127
3- الحصونة، نشأة السجون، ص 181
4- الطوسي، تهذيب الأحكام، 6 / 293، الحر العاملي، وسائل الشيعة، 15 / 66

عندما صنف الخليفة عمر الناس وفق طبقات، وفرض الجزية على أهل الكتاب من غير العرب، ولم يأخذ الجزية من أقرانهم من العرب، بل فرض عليهم صدقة مضاعفة، وقد تعدى هذا التمييز أهل الكتاب إلى المسلمين، فأصبح المسلم العربي يتكبر على المسلم من غير العرب، إذ تذكر الروايات ان امراتين مسلمتين فقيرتين جاءتا إلى الخليفة من أجل طلب مساعدة مادية، فأعطى كل واحدة منهما مائة درهم، فأخذت غير العربية المال وذهبت، بينما بقيت العربية لتقول للإمام علي: (فضلني بما فضلك الله به وشرفك، قال: وبما فضلني الله وشرفني؟ قالت برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: صدقت وما أنت؟ قالت: أنا من العرب وهذه من الموالي، فتناول أمير المؤمنين شيئا من الأرض ثم قال: قد قرأت ما بين اللوحين، فما رأيت لولد إسماعيل على ولد إسحاق عليهما السلام فضلا ولا جناح بعوضة)(1)، لذلك أراد الخليفة معالجة هذه الأمور، وذلك بإزالة كل أنواع التمييز في الدولة الإسلامية، ومن ضمن هذه المعالجات ما ذكرناه من تغيير سياسة توزيع الأموال، وجعل الناس متساوين أمام القانون، ولم تكن هذه المعالجة خاصة بالمسلمين فقط، بل تعدت إلى غير المسلمين أيضا، ففي رواية ان أحد المسلمين قتل رجلا من أهل الذمة، فحكم الإمام على المسلم بالقتل نتيجة للجريمة التي اقترفها، إلا أن اخا الذمي تنازل عن الدعوى ضد المسلم، فقال له الإمام: (فلعلهم هددوك أو فرقوك)(2)، فقال الذمي إن قتل هذا المسلم لا يرجع أخي، وقد أعطاه اهل المسلم مبلغاً من المال كتعويض، فرضي بهذا الحل وترك الدعوى(3)، ومن أجل أن نصل إلى فهم حقيقي لموقف الخليفة من

ص: 277


1- البلاذري، أنساب الأشراف، ص 141، النووي، المجموع، 19 / 385، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 134
2- فرقوك: خوفوك
3- الشافعي، كتاب الأم، 7 / 339

غير المسلمين من رعايا الدولة الإسلامية، نقتبس هذا النص من كتاب كتبه إلى أحد عماله، يحثه على احترام غير المسلمين: (فإنهم صنفان اي البشر إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق)(1).

ج- النفقات العامة

لم يقتصر إنفاق الدولة الإسلامية على الرواتب والرعاية الاجتماعية فقط، بل شمل الخدمات العامة التي تقدمها الدولة، ويمكن أن نحصر هذا الإنفاق بالمجالات الآتية:

1- الإصلاح الزراعي: على الرغم من قلة الروايات الواردة عن هذا الموضوع، إلا ان هناك بعض الإشارات التي من الممكن الاستفادة منها في معرفة سياسة الخليفة في هذا الباب، إذ تبين الروايات ان الخليفة حاول إصلاح اقتصاد الدولة الإسلامية بشكل كامل دون أن يترك فيه ناحية بلا إصلاح، ومن أجل استحصال أكبر فائدة من الإنفاق الحكومي كان الخليفة يستمع مباشرة إلى المقترحات التي تقدم له من الأمصار، سواء من المسلمين أو أهل الذمة، وكانت سياسته تقوم على الإنفاق على المشاريع من بيت المال، لأن الإصلاح فيه زيادة لواردات بيت المال، فضلاً عن أن مشاريع كهذه تحتاج إلى جهد الدولة، فالأفراد مهما بلغت إمكانياتهم لا يستطيعون الإيفاء بمتطلبات المشاريع الكبيرة، ومن هذه المشاريع ما ورد ذكره في الروايات في أن أهل الذمة كتبوا إلى الخليفة من أجل حفر أحد الأنهار القديمة، والذي بدوره يسهم في زيادة الإنتاج الزراعي، وهم غير قادرين على القيام به لأنه يتطلب جهداً

ص: 278


1- ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 127، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17 / 32، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 600

حكومياً، فكتب إلى قرظة بن كعب وهو عامل الخراج على منطقة عين التمر التابعة لولاية المدائن(1)، أن يباشر بحفر النهر ويجعلهم يعملون فيه وينفق عليه من بيت المال، ولا يجبر أحداً على العمل فيه، وبنفس الوقت يكون النهر لمن عمل عليه(2)، وكان هذا العمل زيادة على فائدته للفلاحين، فإنه يسهم في انتعاش الأراضي الزراعية التي تقع في تلك المنطقة ويعود بالفائدة على اقتصاد الدولة، وهذا ينسجم مع رؤية الخليفة الاقتصادية، التي عبر عنها في كتابه إلى والي مصر مالك الأشتر، إذ قال له:

(وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة، أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلا، فاجمع إليك أهل الخراج من كل بلدانك ومرهم فليعلموك حال بلادهم وما فيه صلاحهم ورخاء جبايتهم، ثم سل عما يرفع إليك أهل العلم به من غيرهم، فإن شكوا ثقلا أو علة أو انقطاع شرب أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خففت عنهم ما ترجو أن يصلح الله به أمرهم، وإن سألوا معونة إصلاح ما يقدرون عليه بأموالهم فاكفهم مؤونته، فإن عاقبة كفايتك إياهم صلاحا، فلا يثقلن عليك شيء خففت به عنهم المؤونات، فإنه ذخر يعودون به عليك لعمارة بلادك وتزيين ولايتك مع اقتنائك مودتهم وحسن نياتهم)(3)، لقد قدّم الإمام علي (عليه السلام) في هذا الكتاب عمارة الأرض على جباية الضرائب، وعمارة الأرض تعني تحسين الحالة الاقتصادية لها، بحيث يكون إنتاجها مرتفعا، فكانت

ص: 279


1- المنقري، وقعة صفین، ص 11، البلاذري، انساب الأشراف، ص 446، الثقفي، الغارات، 2 / 447، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 302 - 304
2- البلاذري، انساب الأشراف، ص 162، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 203
3- ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 136 - 137، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17 / 70 - 71، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 606

جباية الضرائب تأتي بالدرجة الثانية من الأهمية، بعد أن تنفق الدولة الأموال على الإصلاح الزراعي، لذلك ألزم الإمام علي (عليه السلام) الدولة المتمثلة بالولاة بتفقد الفلاحين ومعرفة حاجاتهم، من أجل تقديم المعونات اللازمة لهم، ورفع إنتاجية الأرض، كذلك ألزمهم بالإنفاق على مشاريع الإصلاح الزراعي في الحالات التي تتعرض فيها الأراضي الزراعية إلى آفات مثل الفيضانات، وقلة المياه التي تحتاج إلى حفر الأنهار، لأن الفلاحين في هذه الحالات لا يكونون قادرين على معالجتها، ومن ضمن هذا الإنفاق الاستغناء عن ضريبة الخراج في بعض الحالات التي تصاب بها المحاصيل الزراعية بآفات طبيعية.

وهنا نستطيع القول إن الخليفة أراد من الدولة أن تكون مسؤولة على الإنفاق على الأراضي الزراعية، ولا تكون وظيفتها جباية الضرائب فقط، وهذا الأمر هو بمثابة استثمار في القطاع الزراعي، فالتخفيف عن الفلاح وأرضه هو لزيادة إنتاجيته، ومن ثمّ توسيع في الموارد التي تمتلكها الدولة، وتعود المنفعة على المجتمع بأكمله، وهذه السياسة علاوة على كونها مراعية للفلاح، وتطبيقاً للعدالة في الدولة الإسلامية، فإنها تحمل بعداً اقتصادياً يتلخص في الابتعاد عن استنزاف الموارد الزراعية للأرض والفلاح، هو ما يؤدي إلى التخلف الاقتصادي وضعف إنتاجية الأرض، وهنا يشير الخليفة إلى هذا المعنى بقوله: (وإنما يؤتى خراب الأرض لإعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإسراف الولاة، وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر، فاعمل عمل من يحب أن يدخر حسن الثناء من الرعية، والمثوبة من الله، والرضا من الإمام)(1)، كذلك كانت سياسة الخليفة تحمل بعداً اجتماعياً مهما هو التصاق الفلاح بالدولة

ص: 280


1- النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 363، ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 138، المجلسي، بحار الأنوار، 74 / 254

والولاء لها، لأنه يرى أنها تراعيه وتراعي أرضه، وهذا الأمر فيه ضمان لاستقرار الدولة، وعلاج للمشاكل الاقتصادية فيها، وذلك بإنفاق القليل من الأموال على هذا الإصلاح، هو في الحقيقة بمثابة استثمار لهذه الأموال يعود على الدولة بأرباح كبيرة.

2- الديات: هي الأموال التي تدفع للأشخاص كتعويض عن القتل غير المتعمد، وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا»(1)، والدية كما مبين في الآية عن القتل غير المتعمد، وقد تكون شخصية يدفعها بعض الناس لبعضهم الآخر نتيجة لقيامهم بقتل غير متعمد، ومن الأمثلة التاريخية على ذلك ان الخليفة عمر بن الخطاب أرسل إلى إحدى النساء من أجل أن يسألها عن أمر، فلما تكلم معها أجهضت طفلها من الخوف، فاستشار الصحابة فقالوا له: (إنما أنت مؤدب لا شيء عليك)، لكنه سأل الإمام علياً عن هذا الأمر، فأجابه الإمام : (إن اجتهدوا فقد أخطأوا، وإن تعمدوا فقد غشوك، عليك الدية)، فدفعت الدية من قبيلة عمر بن الخطاب إلى أسرة المرأة(2)، وقد تكون هذه الديات عامة يتحملها بيت المال، وهذا هو الموضوع الذي نحن بصدده، لأنه من نفقات بيت المال، لكن هذا الأمر لم يكن عاما بل في حالات محددة، لأن بيت المال ليس مسؤولاً عن أخطاء الأفراد، ومثال هذه الحالات ان الجيش الذي كان ذاهبا إلى

ص: 281


1- سورة النساء، الآية 92
2- الشافعي، كتاب الأم، 6 / 187، الطوسي، الخلاف، 5 / 276، النووي، المجموع، 19 / 143 - 144، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 174

البصرة للقضاء على المتمردين، مر على امرأة حامل في الطريق، فخافت من الجيش فأجهضت حملها، وماتت هي والطفل، وعندما عرف الخليفة بالأمر دفع لزوج المرأة، وورثتها ديتها ودية الطفل الميت من بيت المال(1)، كذلك فقد دفع الإمام علي دية أحد الأشخاص قتل في ازدحام الناس بعد خروجهم من صلاة الجمعة من بيت المال، وفي الحالات التي يقتل فيها شخص من دون أن يعرف قاتله، تدفع ديته من بيت مال المسلمين(2)، كذلك فإن الخليفة علياً كان يدفع الدية عن أخطاء القضاة، من بيت المال(3)، لأن الدولة الإسلامية هي التي عينت هؤلاء، وهم لا يقصدون الخطأ في أحكامهم، بل كانوا يحسبون إنهم أصدروا حكما صحيحا.

ص: 282


1- الكليني، الكافي، 7 / 138 - 139، الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 4 / 309، الطوسي، تهذيب الأحكام، 9 / 376، الجواهري، جواهر الكلام، ص 237
2- الكليني، الكافي، 7 / 354، الطوسي، تهذيب الأحكام، 10 / 202، ابن قدامة، المغني، 10 / 9، الجواهري، جواهر الكلام، ص 236، الحر العاملي، وسائل الشيعة، 29 / 145 - 146
3- الكليني، الكافي، 7 / 354، الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 3 / 7، الجواهري، جواهر الكلام، ص 236، الحر العاملي، وسائل الشيعة، 27 / 226

الفصل الرابع الإدارة المالية في عهد الإمام علي (عليه السلام)

اشارة

ص: 283

ص: 284

المبحث الأول معايير اختيار الولاة والعمال

اشارة

يعد إصلاح الإدارة المالية من أهم أركان الإصلاح الذي قام به الإمام علي (عليه السلام)، وذلك لأن المسلمين كانوا يشتكون من سوء تصرف الولاة والعمال، الذين كانوا مسؤولين عن إدارة أموال المسلمين، وقد كان الإمام علي (عليه السلام) قريبا من الأحداث التي شهدتها الدولة الإسلامية، لاسيما في عهد الخليفة عثمان بن عفان، وطرح مجموعة من الآراء في كيفية التعامل مع أموال المسلمين على الخليفة عمر بن الخطاب، الذي أخذ جزءاً منها وترك الجزء الآخر، وهذه الآراء كانت ترتكز على عنصرين رئيسين هما التعامل مع الأرض والأموال من جهة، وضرورة اختيار أشخاص مناسبين للقيام على إدارة أموال المسلمين وصيانتها من جهة أخرى، لكن الحقبة التي سبقت خلافته شهدت مجموعة من الأخطاء، سببت مشاكل سياسية ودينية لازال المسلمون يعانون من آثارها لهذا اليوم، وجزء كبير من هذه المشاكل كان سببه التعامل غير الصحيح مع الأموال، وعلى الرغم من أن الخليفة عمر بن الخطاب كان شديدا مع الولاة وعمال الخراج والجزية بحيث لم يجرأ أحد على مخالفة أوامره، كذلك لم تظهر آثار التمايز في العطاء وغيرها من السياسات في عهده، لكن هذا الأمر لم يستمر طويلا، إذ سرعان ما برزت الآثار السلبية لهذه السياسات في عهد الخليفة

ص: 285

عثمان بن عفان، وزادت المشكلة عندما بدأ الخليفة عثمان، بعزل ولاة عمر الذين كانوا يحظون بقبول عامة المسلمين، ويولي بدلا منهم أقرباءهُ من البيت الأموي، ممن لم تكن لهم سابقة في الإسلام، ولم يتمتعوا باحترام المسلمين نتيجة لسلوكهم السيئ، وحتى الآخرين الذين كانوا ولاة في عهد الخليفة عمر مثل معاوية، لم يكن أحدهم يجرأ على القيام بأي تصرف يخالف سياسة الخليفة، بينما في عهد الخليفة عثمان أصبح معاوية متفرداً بعمله وشبه مستقل في ولايته، لذلك كان اصلاح الإمام علي (عليه السلام) - كما قدمنا - قائماً على معالجة الخلل الاقتصادي المبني على السياسة المالية الخاطئة، وتكوين جهاز إداري يقوم على صيانة أموال المسلمين.

لذلك عندما تولى الخلافة سعى لتطبيق هذه السياسة على أرض الواقع، بعد أن شخص العلل وحاول أن يضع لها حلولا، وكان رأيه ان إحدى الآفات الرئيسية التي سببت الأزمة السياسية والاقتصادية هي تعيين أشخاص غير مناسبين في المواقع الإدارية(1)، لاسيما ماله مساس مباشر بأموال المسلمين، ولدينا أمثلة كثيرة على هذا الموضوع، إذ ان الولاة السابقين كانت الولاية بالنسبة لهم وليمة يأخذون منها الذي يشاءون وكيفما يشاءون، دون أن يحسبوا أن هذه الولاية ملك للمسلمين، وقد قدمنا رؤية عمال الخليفة عثمان لولاياتهم، لذلك أكد الإمام لعماله أنهم مجرد خدام للرعية، وليست الولاية تشريفا لهم بقدر ما كانت خدمة عامة يأخذون عليها أجرا، ويبتغون الفضل والثواب من الله إذا أحسنوا عملهم، لذلك عندما أراد أن يولى الزبير اليمامة والبحرين، ويولي طلحة اليمن قالا له: (وصلتك رحم)، لذلك استرد كتاب تعيينهم، وقال لهما: (إنما وصلتكما بولاية أمور المسلمين) واسترد العهد منهما، فأغضبهما ذلك وقالا له: (آثرت علينا) فكان جواب الخليفة واضحا في هذا الأمر:

ص: 286


1- بخيت، عصر الخلفاء الراشدين، ص 246

(لولا ما ظهر من حرصكما لقد كان لي فيكما رأي)(1)، وهذا يعني ان العمال كانوا يريدون إسناد الوظائف الحكومية لهم من اجل الاستفادة القصوى منها وليس خدمة المسلمين، وهذا ما ألفوه سابقا فأرادوا أن يحصلوا على ما حصل عليه من سبقهم، إذ تذكر الروايات ان الخليفة عمر بعد وفاة يزيد بن أبي سفيان أعطى ولايته لأخيه معاوية فقال الأخير لعمر: (وصلتك رحم)(2)، لأنه يعدّ هذه الولاية له ومن حقه أن يتصرف بها كيف يشاء، وبالفعل حدث ذلك فأصبح معاوية واليا تابعا للدولة الإسلامية بالاسم فقط، ثم جاءت صلة الرحم الثانية من الخليفة عثمان عندما عزل ولاة الشام وجمعها لمعاوية(3)، لكن بالرغم من استغلال معاوية لمنصبه في تعزيز استقلاله، فإنه كان يخاف من مخالفة الخليفة عمر، وبقي مجرد أحد الولاة الأقوياء في الدولة الإسلامية، بعد أن عينه الأخير واليا على دمشق والأردن(4)، لكن هذه الحال لم تستمر طويلا لأن وفاة الخليفة عمر ومجيء عثمان للخلافة هيأ له حكم الشام بصورة مطلقة(5)، الأمر الذي مكنه من إحكام قبضته على تلك المنطقة الواسعة، وكون فيها جيشاً قوياً جدا أنفق عليه من أموال الدولة الإسلامية، دون أن تكون عليه رقابة من أحد بحكم شبه الاستقلال الذي ناله في عهد الخليفة عثمان، كما ان

ص: 287


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 180
2- الصنعاني، المصنف، 5 / 456، ابن شبة النمیري، تاريخ المدينة، 3 / 837، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 339، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 47 / 284، ابن الأثیر، أسد الغابة، 4 / 485 - 486
3- الصنعاني، المصنف، 5 / 456، البخاري، التاريخ الصغیر، 1 / 73، البلاذري، فتوح البلدان، ص 114 الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 339، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 39 / 252
4- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 175، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 402، إبن أعثم، الفتوح، 2 / 416 - 417
5- الصنعاني، المصنف، 5 / 456، البخاري، التاريخ الصغیر، 1 / 73، البلاذري، فتوح البلدان، ص 114، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 339، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 39 / 252

مدّة حكمه الطويلة جعلت أهل الشام يتعودون عليه، لاسيما انهم لم يعرفوا الإسلام إلا منه ومن أخيه يزيد بن أبي سفيان الذي كان واليا قبله، لذلك تعلقوا به أشد التعلق على اعتبار انه ابن عم الرسول، وهم لا يعرفون من الإسلام إلا ما علمهم إياه وما يريد أن يتعلموه، وبذلك يكون الخليفة عثمان الذي أطلق يد معاوية في تلك المنطقة قد مهد لانتقال حكم المسلمين إلى البيت الأموي، الذي لم يستطع أن يواجه دعوة الإسلام وهو في الجانب المعارض لها، وخسر نفوذه السياسي والاجتماعي بعد قيام الدولة الإسلامية، فاستغل مقتل الخليفة عثمان للوصول إلى هذا الهدف، فأعلن نفسه متمردا على خلافة علي بن أبي طالب بذريعة الأخذ بدم عثمان(1)، فأصبحت بلاد الشام ملجأ للمتمردين على الخلافة من السراق والمجرمين، ثم جاءته الفرصة عندما اغتيل الإمام علي (عليه السلام) فأعلن نفسه حاكما مطلقا للمسلمين، بدون أن يكون لهم أي رأي في اختياره أو تنصيبه، فأسس لسياسة الاستيلاء على السلطة بالقوة التي لازالت حتى هذا اليوم مستحكمة على الوضع السياسي في العالم الإسلامي والعربي(2).

لذلك كان رأي الإمام علي (عليه السلام) معالجة هذه المشكلة بالتحديد، وأول إجراء اتخذه هو تغيير الكادر الإداري في عهد الخليفة عثمان بن عفان، وهذا التغيير لم يكن من أجل التغيير فقط، بل من أجل معالجة المشكلة السياسية والاقتصادية التي تعاني منها الدولة الإسلامية، وهذه المعالجة كانت ترتكز على إصلاح الإدارة

ص: 288


1- اليوزبكي، النظم الإسلامية، ص 55
2- نستطيع أن نتعرف على هذا الأمر من خلال النظم السياسية القائمة في الدول العربية والتي جاءت بالقوة وعن طريق الانقلابات العسكرية، بناءً على ما أسسه معاوية من التسلط على المسلمين بالقوة، وما ثبته في الفكر السياسي الإسامي من جواز انتزاع الحكم بالسيف، والذي كان يجد على طول الوقت من يؤيده ويحبذه

المالية للدولة الإسلامية، وهذا الإصلاح يقوم على اختيار موظفين كفوئين قادرين على صيانة أموال المسلمين، وهؤلاء الموظفون هم الولاة وعمال الخراج والجزية والصدقات، واختيارهم كان يعتمد على مجموعة من المعايير وضعها الإمام علي (عليه السلام)، مع ارتباط هذا الاختيار للموظفين الكفوئين بنظام رقابي شديد طبقه على ولايات الدولة الإسلامية، وسنتحدث عنه لاحقا.

وسنبتدأ بالكلام عن معايير اختيار الموظفين في الإدارة المالية التي وضعها الخليفة من أجل معالجة الخلل، وهذه المعايير لخصها الإمام علي (عليه السلام) في كتاب تعيين مالك بن الحارث الأشتر والياً على مصر، إذ كتب له: (انظر في أمور عمالك الذين تستعملهم، فليكن استعمالك إياهم اختيارا، ولا يكن محاباة ولا إيثارا، فإن الأثرة بالأعمال والمحاباة بها جماع من شعب الجور والخيانة لله، وإدخال الضرر علی الناس، وليست تصلح أمور الناس، ولا أمور الولاة إلا بصلاح من يستعينون به على أمورهم، ويختارونه لكفاية ما غاب عنهم، فاصطفِ لولاية أعمالك أهل الورع والفقه والعلم والسياسة، وألصق بذوي التجربة والعقول والحياء من أهل البيوتات الصالحة وأهل الدين والورع، فإنهم أكرم أخلاقا وأشد لأنفسهم صونا وإصلاحا، وأقل في المطامع إسرافا، وأحسن في عواقب الأمور نظرا من غيرهم، فليكونوا عمالك وأعوانك، ولا تستعمل إلا شيعتك منهم، ثم أسبغ عليهم العمالات، وأوسع عليهم الأرزاق، فإن ذلك يزيدهم قوة علی استصلاح أنفسهم، وغنى عن تناول ما تحت أيديهم، وهو مع ذلك حجة لك عليهم في شيء إن خالفوك في أمرك، وتناولوا من أمانتك، ثم لا تدع مع ذلك من القوة، واحذر أن تستعمل أهل التكبر والتجبر والنخوة، ومن يحب الإطراء والثناء والذكر ويطلب شرف الدنيا، ولا شرف إلا بالتقوى(1).

ص: 289


1- النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 361، ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 137، المجلسي، بحار الأنوار، 74 / 253

ويمكن من خلال هذا النص التعرف على المعايير التي ذكرناها، لأنه مادام ألزم أحد ولاته بإتباعها في ولايته، فهذا يعني انه طبقها أيضا في اختيار عماله، ويمكن أن نلخص هذه المعايير في اختيار الولاة بالنقاط الآتية:

1- الدين والورع والفقه والحياء:

عدَّ الإمام علي الالتزام بالدين والورع عن الحرمات التي أوصى الإسلام باجتنابها، والعلم بالتشريعات الدينية التي أقرها الإسلام، من الشروط الأساسية التي ينبغي أن تتوفر في الوالي أو العامل الذي يتم اختياره، وذلك لأن الإنسان بطبعه يميل إلى التسلط على الآخرين، وهذا الميل نحو هذه الغريزة سببه القوة والهيبة والنفوذ الذي يوفره له تولي منصب يتحكم بالناس، فتصبح هذه الغريزة سببا في الإيذاء للآخرين إذا ما استغلت في غير موقعها، فاحتاط لهذا الأمر ووضع هذه الشروط من أجل تجنب الإساءة إلى الرعية، لاسيما ان الولاة والعمال هم واجهة الدولة أمام رعاياها، والمرآة التي ينظر بها الناس إلى طبيعة الحكم، فأوجب الخليفة وجود مستوى أخلاقي راقٍ مرتبط بالتزام ديني يمنع صاحبه عن ظلم الناس(1) من أجل تولي هذه الوظائف، وعندما نطلع على قائمة الأسماء التي اختارها الإمام علي (عليه السلام) لشغل هذه المناصب، نجد أن الكثير منهم تتوفر فيهم سابقة دخول الإسلام علاوة على تميزهم بالالتزام الديني والخلقي والمعرفة بالفقه، الذي يمنعهم من التجاوز على الأموال التي هم مؤتمنون عليها أو ظلم الرعية، وذلك لأنهم متدينون ورعون يخافون من الله، وتمنعهم أخلاقهم عن القيام بهذه الأمور، لاسيما الحياء الذي هو من الصفات الأساسية التي اشترطها الخليفة في هؤلاء، وهذا

ص: 290


1- شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 68 - 69

الحياء ليس من الناس فقط بل الحياء من النفس، والترفع عن الوقوع في الخيانة، لأن الناس لا تعرف كل شيء ولها ما تراه أمامها فقط، لكن الوالي أو العامل لا يستطيع إخفاء أي عمل سيء عن نفسه، فإذا كان يستحي منها، عصمه هذا الأمر من الوقوع في الخطأ.

والقائمة التي اختارها الإمام علي (عليه السلام) للعمل كولاة وعمال خراج تتوفر فيها هذه الصفات، فقسم كبير من هؤلاء الذين اختارهم لهذه الوظائف هم من الصحابة الأوائل الذين سبقوا الناس في دخول الإسلام، وهم من أهل الورع والتقوى وعاشوا مع الرسول مدّة من الزمن تعلموا من خلالها الفقه الإسلامي، ولم يؤشر عليهم سلبيات في الحقبة التي سبقت خلافة علي بن أبي طالب، لذلك فإنهم قادرون على تطبيق تعاليم الإسلام في الولايات والمدن التي تقع تحت سلطتهم، وهو أمر مهم في الإصلاح الاقتصادي الذي انتهجه الخليفة، لأن هؤلاء يتحلون بصفات الإيمان والعلم بالأحكام الشرعية، والشجاعة والبذل والتضحية، وهذه هي صفات المسلمين الأوائل(1).

ومن هذه الأسماء عثمان بن حنيف الذي ولاة الخليفة على ولاية البصرة، وهو أحد الصحابة من الأنصار أسلم عند هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة، واشترك في معركة احد وجميع المعارك التي بعدها(2)، وكذلك اخوه سهل ابن حنيف الذي ولاه الإمام علي (عليه السلام) على المدينة، كان من خيار الصحابة الأوائل أسلم عند هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو من الصحابة الذين اشتركوا في معركة بدر الكبرى وجميع المعارك التي بعدها، ومن الذين ثبتوا

ص: 291


1- العيساوي، النظم الإدارية والمالية، ص 86
2- ابن الأثير، أسد الغابة، 3 / 371، ابن حجر، الإصابة، 4 / 372

يدافعون عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في معركة احد عندما حاصره المشركون وفر أغلب الصحابة، إذ بايعه على الموت في تلك المعركة(1). كما عين الخليفة أبا ايوب الأنصاري على المدينة، وهو من الصحابة الأوائل من الأنصار أسلم قبل هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الى المدينة، وبايع بيعة العقبة عندما كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة، وبعد وصول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة سكن في بيته، واشترك أبو ايوب في معركة بدر وجميع المعارك التي بعدها(2)، ومن الولاة الآخرين حذيفة بن اليمان الذي كان واليا على المدائن، وهو من الصحابة الأوائل من حلفاء الأنصار، اشترك في معركة احد وجميع المعارك التي بعدها، وكانت له مكانة كبيرة عند الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)(3)، واشترك في الفتوحات الإسلامية بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان أحد قادة الجيوش الإسلامية في هذه الفتوحات(4).

ومن الولاة الآخرين عبد الله بن عباس الذي ولاه الخليفة على البصرة، وهو من قدماء الصحابة، أسلم في مكة وهاجر مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة، وكان يسمى البحر لسعة علمه وهو ابن عم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام علي (عليه السلام)، ومن المقربين من الخليفة وسيرته كانت محمودة في عهد الخلفاء بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو من الفقهاء

ص: 292


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 471، ابن الأثیر، أسد الغابة، 3 / 264 - 265، ابن حجر، الإصابة، 3 / 166
2- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 484، ابن حجر، الإصابة، 2 / 200
3- الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، 1 / 174، ابن الأثير، أسد الغابة، 1 / 391
4- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 105، ابن الأثير، اسد الغابة، 1 / 391

المعروفين في عهدهم(1).

وهناك مجموعة أخرى من الصحابة ولاها الإمام علي (عليه السلام) على الولايات الإسلامية، مثل قيس بن سعد وأبو قتادة الأنصاري وقرظة بن كعب وعمر بن أبي سلمة ومخنف بن سليم وسليمان بن صرد وقثم بن عباس وتمام بن عباس وجعدة بن هبيرة وسعيد بن وهب وغيرهم، وهؤلاء جميعا من الصحابة الأجلاء الذين لم يكن في سيرتهم إلا الأعمال الصالحة، والسير على تعاليم الإسلام، وسنحاول اختصار سيرتهم من أجل التعرف على مدى حرص الإمام علي (عليه السلام) على أموال المسلمين، لذلك أعطى إدارة الدولة لهذه الشخصيات التي لم يسجل عليها التاريخ أية مساوئ، سواء قبل تولي الوظائف أو عندما أصبحوا يعملون في الجهاز الإداري للدولة.

كان قيس بن سعد بن عبادة والي مصر من أوائل الصحابة، وهو ابن سعد بن عبادة أحد سادات الخزرج الذين بايعوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل هجرته إلى المدينة، وأحد النقباء الإثني عشر الذين اختارهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكونوا ممثلين عنه في المدينة(2)، وقيس من شجعان العرب وكرمائهم المشهورين، وذو رأي صائب ومن بيت سيادة، وكان صاحب شرطة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(3). وكان أبو قتادة الأنصاري والي المدينة من أوائل الصحابة من الأنصار، اشترك في معركة احد وجميع معارك المسلمين، وكان يسمى فارس رسول

ص: 293


1- النسائي، السنن الكبرى، 5 / 51، ابن الأثیر، اسد الغابة، 3 / 192 - 194، الذهبي، سیر اعلام النبلاء، 3 / 331 - 332
2- الصنعاني، المصنف، 11 / 64، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 613
3- ابن عساكر، تاريخ دمشق، 49 / 406، ابن الأثیر، اسد الغابة، 4 / 215 - 216، الهيثمي، مجمع الزوائد، 9 / 345

(الله) صلى الله عليه وآله وسلم)(1)، وكان قرظة بن كعب الأنصاري من الصحابة الأوائل، اشترك في معركة احد مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمعارك التي تلتها، وكان أحد أبطال المسلمين في الفتوحات الإسلامية(2).

ومن الولاة الآخرين الذين اعتمد عليهم الخليفة في إدارة الدولة الإسلامية عمر ابن أبي سلمة الذي وليَ البحرين وفارس قبل معركة صفين، وهو ابن الصحابي أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي أول من هاجر إلى المدينة من المسلمين، ثم اشترك في معركة بدر وأحد، فجرح في معركة أحد ثم توفي بعد هذه المعركة متأثرا بهذا الجرح(3)، وعندما استشهد تزوج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أمه أم سلمة هند بنت أبي أمية بن المغيرة، فكان عمر قد تربى في حجر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان يسمى ربيب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)(4)، وكان مخنف بن سليم والي الإمام على أصبهان، وهو من الصحابة أسلم في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وسكن في الكوفة(5)، وكذلك كان الصحابي سليمان بن صرد الخزاعي أحد عمال الإمام على منطقة الجبل، وهو من الصحابة أسلم في عهد الرسول (صلى الله عليه

ص: 294


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 6 / 15، ابن الأثیر، اسد الغابة، 1 / 327، الذهبي، سیر أعلام النبلاء، 2 / 449 - 454
2- البلاذري، فتوح البلدان، ص 192، ابن الأثير، اسد الغابة، 4 / 202
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 239 - 240، الذهبي، سیر اعلام النبلاء، 1 / 150، ابن حجر، الإصابة، 4 / 131 - 133
4- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 8 / 87، ابن حجر، الإصابة، 4 / 487
5- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 6 / 35، البخاري، التاريخ الكبیر، 8 / 52، ابن الأثیر، أسد الغابة، 4 / 339

وآله وسلم)، وكان فاضلا خيرا له دين وعبادة سكن الكوفة بعد تأسيسها(1)، وكان عبد الرحمن بن أبزي الذي ولاه الخليفة خراسان(2) من الصحابة الأوائل وروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعض الأحاديث(3).

وسنكتفي بهذا الإيجاز السريع عن سيرة الولاة والعمال الذين اختارهم الإمام علي (عليه السلام) من أجل العمل في الولايات الإسلامية، وهؤلاء الذين ذكرناهم هم من الصحابة فقط، أما الآخرون فقد كانوا من التابعين الذين عاشوا مع الصحابة وتعلموا منهم، والهدف من هذا الإيجاز التعرف على دقة اختيار الخليفة لعماله، والذي يعني معالجة للمشاكل الاقتصادية والمالية التي خلفتها الحقبة الماضية، فهؤلاء لم يكن من بينهم من اتهم بسرقة أموال المسلمين أو قصر في المهمة الموكلة إليه، إذ لم تسجل كتب التاريخ وغيرها أي تصرف سيء قام به هؤلاء الموظفون، سواء لأموال المسلمين أو لإدارة الدولة أو للرعايا الذين كانوا ولاة عليهم، ومن هنا يمكن القول ان الخليفة عندما اشترط توفر الدين والورع والأخلاق في هؤلاء الموظفين أراد علاج أزمة الثقة التي كانت سائدة بين الرعايا والجهاز الإداري للدولة، وبالفعل نجح في هذا الأمر إلى حد كبير، في الحفاظ على أموال المسلمين وعدم التجاوز على غير المسلمين، لأن هؤلاء كانوا من الأتقياء الذين يمنعهم دينهم عن السرقة والخيانة، وتردعهم أخلاقهم لاسيما الحياء عن التجاوز على الأموال والأنفس.

ص: 295


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 4 / 292، ابن الأثير، أسد الغابة، 2 / 351
2- البلاذري، فتوح البلدان، ص 244، ابن الأثير، اسد الغابة، 3 / 278، ابن حجر، الإصابة، 4 / 238
3- ابن الأثير، اسد الغابة، 3 / 278، ابن حجر، الإصابة، 4 / 238، الهيثمي، مجمع الزوائد، 2 / 69

2- الانتساب إلى أسرة شريفة صالحة

قد يتبادر إلى الذهن ونحن نتحدث عن اشتراط الإمام علي (عليه السلام) أن يكون الوالي أو العامل من الأسر الشريفة الصالحة أن في هذا تمييز وإرجاع المجتمع إلى طبقية أبناء زعماء القبائل والأسر الغنية المتنفذة، وإبعاد للبسطاء عن المشاركة في إدارة الدولة، إلا ان هذا التصور ليس صحيحاً، فهذه الميزة التي أرادها الخليفة ملازمة لعماله، ليس القصد منها تلك الأسر المترفة الغنية، بل أراد البيوتات الصالحة المتدينة العفيفة، ولم يكن معيار الغنى والفقر وارداً في هذه الميزة، بل أراد أن تكون التربية العالية التي اكتسبها هؤلاء في أسر ترعى أبناءها وتربيهم على الفضيلة سببا في توليهم الإدارة، لتكون هذه التربية رادعاً لهم عن التجاوز على الرعية أو الأموال، كذلك فإن تلك الحقبة لم يكن فيها مدارس من أجل إعداد الموظفين الإداريين، لتعلمهم الثقافة الإدارية والحفاظ على الأموال العامة، فيكون اختيارهم من هذه الأسر المحافظة على التقاليد سببا في أمانتهم، لأنهم كانوا قد تربوا وفق طراز عال من التربية النموذجية(1). كذلك كانت هذه الميزة مهمة في الإدارة في تلك الحقبة، لأن هؤلاء الذين ينتمون إلى أسر شريفة هم أكثر تأثيرا في أبناء قومهم لما يتمتعون به من مكانة في نفوسهم، الأمر الذي يؤدي إلى تأمين الولاء للخليفة والهدوء في أنحاء الدولة، كما أنهم يستطيعون حشد أبناء قبائلهم ومواليهم إذا ما تعرضت الدولة إلى أي خطر(2)، وقد حدث هذا الأمر بالفعل، وأسهم هؤلاء في تكوين جيش قوي موالٍ للخليفة والمنهج الإصلاحي الذي سار عليه.

ولا يمكن لنا أن نفصل هذه الميزة عن المزايا الأخرى من الورع والتقوى والحياء،

ص: 296


1- شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 69
2- العيساوي، النظم الإدارية والمالية، ص 83

والخبرة الإدارية والسياسية، والولاء للخليفة والمبادئ التي يعتنقها، لأنها مجموعة واحدة متكاملة، يؤثر بعضها في البعض الآخر، فالإنسان الذي تربى تربية عالية يجب أن ترتبط تربيته هذه بدين وورع يمنعه عن الوقوع في الحرمات، لاسيما الظلم وخيانة الأمانة، كذلك لا يستطيع أن يدير ولايته بدون أن تكون له خبرة إدارية، ومعرفة بالسياسة تعطيه قدرة السيطرة على رعيته، وإذا كان مؤمنا بمبادئ الحكم الذي يمثله نجده يتفانى في تطبيق هذا المنهج، وقد راعى الخليفة في هذا الأمر كل هذه المزايا المتقدمة، ومن أجل التعرف على مدى تطبيقه لها على ولاته وعماله، ينبغي لنا أن نراجع الخلفيات الاجتماعية لهؤلاء الولاة والعمال.

لقد كانت المجموعة التي اختارها الخليفة لإدارة الدولة ليست بعيدة عن هذا المعنى المتقدم، فكان والي أذربيجان قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي الأنصاري ابنُ أحد زعماء قبيلة الخزرج التي ناصرت الدعوة الإسلامية، كذلك كان أحد النقباء الذين اختارهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لتبليغ الدعوة في المدينة قبل الهجرة(1)، وكان يسمى الكامل قبل الإسلام(2)، وهو من أسرة مسلمة مؤمنة دخلت الإسلام كلها، كما اشتهرت بالكرم وبذل الأموال للناس في الجاهلية والإسلام(3)، ولم يؤشر على هذه العائلة أي مؤشر سلبي في الجاهلية والإسلام، ومن الطبيعي أن تنعكس هذه الصفات الإيجابية على شخصيات أبنائها.

ص: 297


1- ابن الأثير، أسد الغابة، 2 / 283، ابن حجر، الإصابة، 3 / 55
2- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 613، ابن حجر، الإصابة، 3 / 55
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 613، ابن الأثیر، أسد الغابة، 2 / 283، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6 / 65، ابن حجر، الإصابة، 3 / 55

وكان عبد الله والي البصرة، وعبيد الله والي اليمن، وقثم والي مكة، وتمام والي المدينة أبناء العباس بن عبد المطلب ينتسبون إلى بني هاشم الأسرة التي ينتسب اليها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، والتي كانت سيدة قريش قبل الإسلام وبعده، كما كانت تحظى باحترام العرب وتقديرهم قبل الإسلام، لأنهم كانوا الذين يطعمون ويسقون الحجاج في تلك الحقبة، وجدّ هذه الأسرة هاشم هو الذي سنَّ أهم المعاهدات التجارية قبل الإسلام والتي سُميت بالإيلاف، كما ان عبد المطلب كان أمير مكة وسيد البطحاء، حفر بئر زمزم الذي كان يعتمد عليه كل الحجاج القادمين إلى مكة، ولم يعرف عن هذه الأسرة في الجاهلية والإسلام إلا مكارم الأخلاق(1)، وهذه الأسرة هي التي حمت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والدعوة الإسلامية من المشركين عندما كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة(2).

وهذا الذي قدمناه هو مجرد نماذج من الموظفين والعمال الذين اختارهم الخليفة لإدارة الدولة والإشراف على أموال المسلمين، وهو ينطبق على باقي الموظفين، لأنه أراد هذا المستوى من التنشئة الاجتماعية، لكي يكون رادعاً لهم عن خيانة الأمانة، ويؤكد ذلك إن الخليفة عزل مجموعة من العمال الذين تجاوزوا على أموال المسلمين، وفي كتب العزل التي وجهها لهم، أشار الخليفة أن اختياره لهم كان بناءً على انتسابهم إلى أسر شريفة كريمة، فنجد في كتابه إلى المنذر بن الجارود العبدي عامل مدينة اصطخر، الذي تجاوز على أموال المسلمين المعنى الذي قدمناه: (أما بعد فإن صلاح

ص: 298


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1 / 75 - 92، ابن حبيب، المنمق، 42 - 68، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 1 / 243 - 253، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 2 / 8 - 14، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 200 - 235
2- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1 / 201 - 211، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 31 - 32، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 2 / 62 - 80

أبيك غرني منك، وظننت أنك تتبع هديه وتسلك سبيله)(1)، وهذا الكتاب يؤكد أن الخليفة عندما اختاره للعمل، كان يظن أنه يحمل الصفات الإيجابية التي كان يتصف بها أبوه، لهذا اختاره لكي يكون عاملا على هذه المدينة، وأبوه الجارود العبدي كان من خيرة الصحابة، إذ تذكر الروايات انه كان سيد قومه قبيلة عبد القيس، وكان نصرانيا فوفد على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأعلن إسلامه، واشترك في الفتوح الإسلامية وقتل في منطقة فارس في خلافة عمر بن الخطاب(2).

كذلك كان الحال مع النعمان بن عجلان الزرقي الأنصاري، الذي ولاّه الخليفة على البحرين بعد عمر بن أبي سلمة، فبلغه أنه أخذ من أموال المسلمين، فكتب له الخليفة: (فخف الله أنك من عشيرة ذات صلاح، فكن عند صالح الظن بك)(3)، وهذا الجزء من الكتاب الذي ذكرناه، يبين أن الخليفة عندما اختاره كان بناءً على انتسابه إلى عشيرة شريفة صالحة، فهو من الأنصار من بني زريق(4)، ولا يخفى أن عشائر الأنصار كانت من أفضل العشائر العربية، لاسيما أنها وفَّرت المأوى والملاذ الآمن للرسول والمسلمين، كما أن الأنصار قدّموا للإسلام كل ما يملكون، ودافعوا عنه بكل قوة، ولم تؤشّر عليهم سلبيات في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الحقبة التي تلتها، لذلك اختار الإمام الكثير من ولاته من الأنصار، ومنهم النعمان الذي كان من الصحابة الذين آمنوا بالإسلام والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما هاجر إلى المدينة، كذلك فإنه كان سيدا شريفا في قومه، وشاعرا يدافع عن

ص: 299


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 18 / 54، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 506
2- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 5 / 559 - 560، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 18 / 55
3- البلاذري، انساب الأشراف، ص 159، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 174
4- ابن الأثير، أسد الغابة، 5 / 26، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 174

الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين(1)، كما نستنتج كذلك من الكتاب المتقدم أن الخليفة كان لا يركز في الاختيار على انتساب الولاة والعمال إلى أسر وبيوت شريفة صالحة فقط، بل تعدى ذلك إلى القبائل والعشائر المعروفة بالصلاح، واختيار الخليفة مجموعة من هؤلاء الموظفين ممن ينتمون إلى قبائل معينة يؤكد هذا المعنى، فاختياره لسهل بن حنيف وعثمان بن حنيف وأبي قتادة الأنصاري وقرظة بن كعب وعقبة بن عمرو الأنصاري والنعمان بن عجلان وأبي ايوب الأنصاري من أجل تولي إدارة الولايات الإسلامية وأموال المسلمين، وهم جميعا ينتمون إلى الأوس والخزرج الأنصار، يعني انه يعتقد بجدارة المنتسبين إلى هاتين القبيلتين في الحفاظ على المسلمين وأموالهم، وبالفعل كانوا بهذا المستوى من الاختيار، فحافظوا على أموال المسلمين ولم تصدر منهم أي خيانة سوى ما قدمنا في الكتاب الذي وجهه إلى النعمان بن عجلان.

كما أن هناك قبائل أخرى اعتمد عليها الخليفة في الإدارة، مثل بني أرحب وهم بطن من قبيلة همدان(2) التي كان ينتمي اليها عدد من الولاة مثل يزيد بن قيس الأرحبي والي المدائن وغيرها من الولايات الإسلامية(3)، وكذلك مالك بن كعب الأرحبي عامل عين التمر التابعة للمدائن(4)، وعمرو بن سلمة الأرحبي الذي كان واليا على همدان(5)، والسبب في اختيار الخليفة لهؤلاء من هذه القبيلة، هو صلاح هذه القبيلة ومواقفها المساندة للإسلام، كذلك مساندتها للبرنامج الإصلاحي للخليفة

ص: 300


1- ابن الأثير، أسد الغابة، 5 / 26، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 174
2- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 6 / 170، الشربيني، مغني المحتاج، 1 / 374
3- أبو نعيم الأصبهاني، ذكر أخبار أصبهان، 2 / 343، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 357
4- البلاذري، انساب الأشراف، ص 165، الثقفي، الغارات، 2 / 447، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 302
5- البلاذري، انساب الأشراف، ص 161، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 203

علي، كما لم تبرز منهم أية سلبيات تسیء إلى سيرتهم(1) منذ أن دخلوا في الإسلام على يد الإمام علي في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)(2).

3- الخبرة الإدارية والسياسية

تعد الخبرة الإدارية والمعرفة بالسياسة من الأمور المهمة التي اشترطها الإمام علي (عليه السلام) في عماله، لأن الدولة كانت بحاجة إلى من يمتلكون هذه الخبرة لإدارة الولايات، لاسيما أنهم كانوا يتعاملون مع الاقتصاد والإدارة في تلك الولايات، كما أن كل واحد منهم كان يقع تحت حكمه مجموعة من الناس، فيحتاج إلى معرفة بالسياسة حتى يستطيع توفير الاستقرار للمنطقة التي يحكمها، لذلك نرى من خلال متابعة أسماء الولاة والعمال انه اختار هؤلاء للعمل، وكلهم مارسوا أعمال الإدارة وجباية الضرائب وغيرها من الأمور الاقتصادية، وقد نستنتج من هذا انه كان يريد من خلال هذا الشرط الحفاظ على أموال المسلمين، لأن هذه الأموال ليست قابلة للتجارب، حتى يأتي بموظفين ليست لديهم خبرة بإدارة هذه الأموال فيضيعوها، أو أنهم لا يحسنون إدارة ولاياتهم فيؤدي هذا الأمر إلى التقصير بحقوق الرعايا الساكنين في ولاياتهم، وسنرى ان الخليفة غيرّ مجموعة من الولاة لأنهم لم يكونوا قادرين على إدارة ولاياتهم، واستبدلهم بآخرين أقدر على العمل منهم.

لكن على الرغم من اختيار الخليفة لهؤلاء الموظفين بناءً على الشروط المتقدمة، فإنه كان يضعهم تحت التجربة لمدة من الزمن، ويراقب أداءهم من خلال مجموعة

ص: 301


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 203، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 2 / 390، ابن الأثیر، أسد الغابة، 4 / 192
2- الشافعي، كتاب الأم، 1/ 159، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1 / 340 - 341، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 2 / 390، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 357

من الطرق التي وضعها، وسوف نتحدث عنها في موضوع الرقابة الإدارية، فإذا لمس من هؤلاء أي خيانة لأمانتهم عزلهم وعاقبهم، وإذا لمس منهم تقصيراً في أداء أعمالهم كتب إليهم من أجل تنبيههم إلى الخلل الذي ربما يكون غير مقصود.

والشيء اللافت للنظر إن الخليفة اختار المجموعة التي تعمل معه، مراعيا اجتماع الشروط المتقدمة جميعها فيها، وسنأخذ أمثلة على هذا الأمر، فعثمان بن حنيف الذي كان واليا على البصرة قبل معركة الجمل هو من الأنصار الذين يسكنون المدينة، والذين كانوا يعملون في الزراعة في مدينتهم، ولديهم خبرة في هذا العمل، لذلك عندما افتتح المسلمون العراق اختاره الخليفة عمر من أجل أن يكون مساحا لهذه الأراضي، بغية معرفة مساحة الأراضي المنتجة، وتقدير الضرائب على هذه الأراضي(1).

وكان زياد بن أبيه الذي عينه الخليفة عاملا على الخراج في البصرة(2)، ثم عينه على ولايات أخرى مثل فارس وكرمان(3) من العمال الذين يمتلكون خبرة كبيرة في الإدارة، لأنه عمل في إدارة البصرة مع أبي موسى الأشعري في خلافة عمر بن الخطاب(4)، كذلك كان زياد نائبا لوالي البصرة عبد الله بن عامر في خلافة عثمان بن

ص: 302


1- الطوسي، المبسوط، 2 / 33، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 205
2- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 105 - 106، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 19 / 170، ابن حجر، الإصابة، 4 / 129
3- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 144، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 105، ابن عبد ربة، العقد الفريد، 4 / 43، ابن الأثیر، اسد الغابة، 2/ 216، ابن حجر، الإصابة، 2 / 528
4- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 7 / 99، ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 133، ابن الأثیر، اسد الغابة، 2 / 212

عفان(1)، وكان زياد يوصف بحسن السياسة والإدارة الجيدة(2).

كما أن قرظة بن كعب كان من العمال الذين اختارهم الخليفة عمر بن الخطاب ووجههم إلى الكوفة مع الوالي عمار بن ياسر(3)، كما أنه كان احد القادة المسلمين في الفتوح الإسلامية(4)، وكان عبد الله بن شبيل الأحمسی والي اذربيجان بعد سعد بن قيس من قادة الفتوح الإسلامية في عهد الخليفة عثمان بن عفان، وهو الذي أعاد فتح ولاية اذربيجان بعد أن نقضت الصلح الذي عقدته مع حذيفة بن اليمان في عهد الخليفة عمر بن الخطاب(5).

وكان حال الولاة والعمال الآخرين لا يختلف كثيرا عما قدمناه، فهم إما عملوا في الإدارة أو قادوا الجيوش الإسلامية في الفتوحات، أو كانوا جنودا في هذه الجيوش، فتوفرت لهم خبرة كبيرة في كيفية فتح هذه المدن، ومقدار الضرائب التي وضعت في تلك الحقبة، أو أنهم سكنوا في تلك المناطق وبقوا فترة طويلة فيها، ومن خلال تتبع سيرة هؤلاء نجدهم استوطنوا في هذه المناطق، وعرفوا كل التفاصيل الإدارية والمالية في مناطقهم، الأمر الذي أهلهم لتولي الإدارة فيها.

ص: 303


1- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 134، البلاذري، فتوح البلدان، ص 241، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 13 / 14
2- ابن الأثير، أسد الغابة، 2 / 216، ابن حجر، الإصابة، 2 / 528
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 6 / 7، الحاكم النيسابوري، المستدرك، 1 / 102
4- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 62، ابن الأثير، اسد الغابة، 4 / 202
5- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 116، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 308، ابن الأثیر، اسد الغابة، 3 / 183، ابن حجر، الإصابة، 4 / 109 - 110

وكذلك فإن الخليفة راعى في اختيار العمال والولاة رضا المسلمين الساكنين في تلك الولايات، لأن الثورة على الخليفة عثمان كان أحد أسبابها التذمر من تصرفات الولاة والعمال، فعمل الخليفة على اختيار ولاة وعمال يحظون بالصفات التي قدمناها، لاسيما السابقة في الإسلام والشرف والوجاهة، والانتساب إلى بيوتات صالحة من أجل ضمان الاستقرار في الدولة الإسلامية(1)، وبالفعل حظي جميع الولاة والعمال الذين تولوا الإدارة برضا المسلمين وغيرهم، والدليل على ذلك ان كتب التاريخ لم تذكر شكاوى قدمت إلى الخليفة ضد هؤلاء بنفس الكثرة التي قدمت ضد الولاة في الحقبة التي سبقت خلافة علي بن أبي طالب، سوى بعض الشكاوى التي عالجها الخليفة بسرعة كبيرة.

وفي بعض الحالات التي ظهر فيها هؤلاء الولاة أو العمال غير قادرين على الإدارة استبدلهم الخليفة بآخرين قادرين على العمل بصورة أحسن، على الرغم من أن هؤلاء لم تصدر منهم أي خيانة للأموال أو ظلم للرعية، بل أن بعضهم توفرت فيه شروط الورع والتقوى والخبرة الإدارية والانتساب إلى عائلة شريفة وغيرها، لكنه لم يرتقِ بعمله إلى المستوى الذي كان يريده الخليفة، وتوجد أمثلة كثيرة على ذلك، فمثلا أرسل الخليفة سهل بن حنيف واليا على مدينة فارس بعد معركة صفين، لكنه لم يستطع أن يضبطها(2)، فاستبدله الخليفة وأرسل بدلا منه زياد بن أبيه(3)، ومن المهم أن نعرف سبب إسناد الإمام علي (عليه السلام) هذه الوظائف لزياد بن أبيه على

ص: 304


1- العيساوي، النظم الإدارية والمالية، ص 122
2- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 144، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 105، ابن الأثیر، أسد الغابة، 2 / 365
3- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 105، ابن الأثیر، اسد الغابة، 2 / 216، ابن حجر، الإصابة، 2 / 528

الرغم من أنه لم يكن ينتسب إلى اسرة شريفة(1)، ولم يكن من الصحابة أو من أهل الورع والتقوى(2)، كذلك فإن التاريخ سجل على زياد الكثير من الانحرافات، وهنا يمكن القول إن هذه الانحرافات لم تكن مسجلة عليه في تلك الحقبة(3)، بل بعد مدةٍ من مقتل الخليفة علي، فقد بقي واليا على فارس بعد استشهاد الإمام علي، وأبقاه الإمام الحسن عليها، فأرسل له معاوية كتابا يهدده فيه من أجل أن يكسب ولاءهُ، فرفض زياد هذا التهديد وألقى كلمة تتضمن تمسكه بنهج الخليفة علي، وخلافة ابنه الحسن، فقال: (العجب من ابن آكلة الأكباد، وكهف النفاق، ورئيس الأحزاب كتب إليّ يتهددني، وبيني وبينه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني الحسن بن علي وعبد الله بن عباس في تسعين ألفا واضعي سيوفهم على عواتقهم لا ينثنون، ولئن خلص إلي ليجدني أحمر ضرابا بالسيف)، ثم بقي زياد متحصنا في احدى القلاع في فارس، حتى بعد أن عقد الإمام الحسن الصلح مع معاوية(4)، لكن معاوية أراد أن يكسبه إلى جانبه، لما عرف عنه من كفاءة في الإدارة، فادعى انه أخوه، وأنه من أولاد أبي سفيان(5) بعد أن ذكر قصة ملفقة ادعى فيها أن زياداً ابن غير شرعي لأبي سفيان(6)، الأمر الذي كان مدعاة لفرح زياد، فبعد أن كان يقال له زياد بن ابيه، وهي

ص: 305


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 7 / 99، ابن الأثیر، اسد الغابة، 2 / 215، ابن حجر، الإصابة، 2 / 527 - 528
2- ابن الأثير، اسد الغابة، 2 / 215، ابن حجر، الإصابة، 2 / 527
3- الثقفي، الغارات، ص 192
4- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 130 - 131
5- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 7 / 99، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 179 - 181، ابن حجر، فتح الباري، 3 / 435
6- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 218، النووي، المجموع، 18 / 90، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 173

تسمية غير مرغوب فيها في المجتمعات العربية، أصبح بادَّعاء معاوية من قبيلة قريش التي تعد أشرف قبائل العرب في الجاهلية والإسلام، كما أصبح بهذا الإدعاء أخا للخليفة معاوية، وعلى أثر ذلك أصبح من أشد الموالين لمعاوية، فولاه على الكوفة والبصرة، وأخذ يلاحق أتباع الإمام علي في العراق فقتلهم وشردهم(1).

ومن خلال ما تقدم يتضح أن زياداً قام بأعمال سلبية بعد مقتل الإمام علي (عليه السلام)، ولم يسجل عليه مثل هذه الأعمال قبل هذه الفترة، لذلك فإن الإمام عندما اختاره لهذه الأعمال كان لكفائته الإدارية، وقدرته على إنجاز الأعمال التي أوكلت اليه، ويؤيد هذا الرأي أن الخليفة كتب إلى زياد كتابا يبين فيه أنه اختاره للولاية لأنه يستحقها لكفائته: (أما بعد فإني قد وليتك ما وليتك وأنا أراك لذلك أهلا)(2)، وذلك عندما علم أن معاوية يراسله من أجل إغرائه حتى يتمرد على الخلافة، وينحاز إلى جانبه في الحرب التي كانت مستمرة مع الإمام علي (عليه السلام)، كذلك فإن الخليفة لم يختر زياداً من أجل وظيفة قضائية أو تتعلق بالفقه، بل في الإدارة التي كان خبيرا بها، ووضع عليه رقابة شديدة بحيث لا يستطيع أن يتلاعب بأموال المسلمين أو يظلمهم.

كما غيرَّ الخليفة جعدة بن هبيرة بعد أن ولاّه عاملا على خراسان(3)، وأرسل بدلا عنه خليد بن قرة التميمي، على الرغم من أن جعدة كان أحد الصحابة ومن أسرة

ص: 306


1- الطبرسي، الاحتجاج، 2 / 17، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 11 / 44، المجلسي، بحار الأنوار، 39 / 321
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 182
3- الحاكم النيسابوري، المستدرك، 3 / 190، ابن الأثیر، اسد الغابة، 1 / 285، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 10 / 77

قرشية شريفة(1)، وهو أيضا ابن أخت الخليفة(2)، والسبب في ذلك أنه فشل في إدارة ولايته، ولم يستطع السيطرة عليها(3)، بينما استطاع الوالي الجديد السيطرة على هذه الولاية وجباية الضرائب منها(4).

كذلك عزل الخليفة قيس بن سعد بن عبادة عن ولاية مصر(5)، على الرغم من أن قيساً كان من أشد الموالين للخليفة، وهو من الصحابة الأوائل، ومشهور بالسياسة والشجاعة، لكن معاوية زوَّر كتابا على لسان قيس، يدعي فيه أن قيساً معه على رأيه، فرأى الخليفة إن هذا الأمر فيه شك ويجب أن يقطعه، لاسيما أن الخلافة كانت تخوض حربا مستمرة ضد معاوية، وجزء من هذه الحرب كان إعلاميا، لذلك كان الخليفة لا يريد أن تؤثر هذه الأمور في الحالة النفسية لمقاتليه، بالرغم من ثقته بقيس وقدرته على الإدارة، والدليل على ذلك أنه ولاه على أذربيجان بعد عزله عن مصر(6).

ص: 307


1- ابن الأثير، اسد الغابة، 1 / 285، ابن حجر، الإصابة، 1 / 628 - 629
2- ابن الأثير، اسد الغابة، 1 / 285
3- البلاذري، فتوح البلدان، ص 244، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 183 - 184
4- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 151، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 46، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 357
5- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 549
6- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 202، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 552 - 556

المبحث الثاني الولاة والعمال

اشارة

هناك نوعان من الموظفين اعتمدت عليهم الدولة الإسلامية في إدارة الولايات والمدن، هما الولاة الذين يديرون الولايات الكبرى والمدن الصغيرة، والعمال الذين كانت مسؤوليتهم تتركز في جمع أموال الخراج والجزية والصدقات وغيرها من الضرائب، ثم إيداع هذه الأموال في بيوت المال المنتشرة في الولايات والمدن بمساعدة عمال بيت المال، ثم تقسيم هذه الأموال حسب البرنامج الذي وضعته الخلافة.

وسنحاول في هذا المبحث مناقشة أسماء الولاة والعمال الذين أرسلهم الإمام علي (عليه السلام) إلى الولايات والمدن المختلفة من أجل معرفة الكيفية التي يتم بها اختيارهم، وانطباق المواصفات والشروط التي وضعها الخليفة على اختيارهم، وهذا الموضوع هو جزء من سياسة التغيير التي اتبعها الخليفة علي من أجل معالجة الأزمة الاقتصادية والسياسية، التي كان أحد أسبابها اختيار ولاة غير كفوئين في المدة السابقة، ومن خلال مناقشة هؤلاء الموظفين سنتعرف على الخارطة الإدارية للدولة الإسلامية في عهد الإمام علي (عليه السلام).

لقد كان النظام الإداري للدولة الإسلامية يقوم على اللامركزية في الإدارة، إذ أن الولايات الإسلامية كانت تتمتع بنوع من الحكم اللامركزي مع ارتباطها بالمركز، أي

ص: 308

ان الولاة كان عندهم حيز من الحرية في إدارة ولاياتهم، ويعود سبب ذلك إلى اتساع الدولة الإسلامية، وصعوبة الاتصالات بين الولايات والمركز، كذلك بعد المسافة ووعورة الطرق، الأمر الذي أدّى إلى إعطاء الولاة مجموعة من الصلاحيات لتسهيل حكم ولاياتهم، لكن بالرغم من مميزات هذا النظام، فإنه قد يكون خطرا إذا ما تَولّی أشخاص غير مناسبين إدارة هذه الولايات، لذلك تكفَّل النظام الرقابي الذي وضعه الإمام علي (عليه السلام) بمعالجة هذا الأمر، فالوالي كان لا يستطيع أن ينحرف عن المسار الذي وضعته الخلافة، لأنه يعرف أن هناك رقابة شديدة عليه.

وسنبتدأ بمناقشة الولاة والعمال الذين أرسلهم الإمام علي (عليه السلام) إلى الولايات الكبری والولايات الصغيرة التابعة للولايات الرئيسية، وبذلك نكون قد وضعنا خارطة إدارية للدولة الإسلامية في عهد الإمام علي (عليه السلام)، وحسب تسلسل الأهمية الدينية والاقتصادية لهذه الولايات:

اولا: المدينة المنورة:

لم تكن المدينة المنورة قبل عهد الإمام علي (عليه السلام) ولاية كباقي الولايات الإسلامية، بل كانت عاصمة للدولة في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء من بعده، لكن في عهده أصبحت العاصمة الكوفة فانتقلت الخلافة للعراق وأصبحت المدينة من الولايات الإسلامية، فولّی عليها سهل بن حنيف عندما خرج إلى الكوفة(1)، ثم عزله لأنه أراد أن يشترك معه في معركة الجمل وولى تمام بن عباس، ثم عزله وولى أبا أيوب الأنصاري، وعندما التحق بالإمام علي (عليه السلام)

ص: 309


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 32، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 9 / 321

استخلف بدلا عنه أحد الأنصار دون أن تذكر المصادر اسم هذا الوالي(1).

إلا أن المدينة فقدت أهميتها السياسية والاقتصادية عندما انتقلت منها العاصمة إلى الكوفة، لاسيما أنها كانت تقع في منطقة اقتصادية فقيرة وغير مؤثرة، لكن رغم ذلك فقد اختار الخليفة لهذه الولاية مجموعة من الصحابة الذين لم تسجل عليهم أية سلبيات، والذين كانوا يحظون بقبول من الساكنين في المدينة من الصحابة وغيرهم، وهم يتعاملون مع الأموال الواردة اليهم ويشرفون على توزيعها، فكان اختيارهم بناءً على المواصفات المتقدمة لأنهم مسؤولون عن أرزاق المسلمين.

ثانيا: مكة والطائف

جمع الإمام علي (عليه السلام) مدينتي مكة والطائف وجعلهما ولاية واحدة، وولى عليها والياً واحداً في حين كانتا ولايتين في زمن الخلفاء الذين سبقوه(2)، فولى الخليفة على مكة أبا قتادة الأنصاري ثم عزله وولى قثم بن العباس الذي بقي واليا عليها حتى قتل الخليفة علي(3)، وهناك بعض المؤرخين قال ان الخليفة ولى قثم بن العباس مباشرة(4)، لكننا نرجح الرأي الأول، لأن الخليفة ربما أرسل أبا قتادة لفترة قصيرة قبل أن يخرج إلى معركة الجمل، ثم استبدله بقثم بن العباس بعد خروجه إلى هذه المعركة، وهذه الولاية لم يكن لها تأثير كبير على اقتصاد الدولة الإسلامية، إلا ان

ص: 310


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 31، ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 152، ابن الأثیر، اسد الغابة، 1 / 213، احمد الطبري، ذخائر العقبى، ص 239
2- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 111، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 176
3- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 152، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 67 / 151، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 140
4- الثقفي، الغارات، 2 / 428، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 179، المفيد، الجمل، ص 129

الإمام علياً (عليه السلام) أولاها أهمية كبری، بسبب المكانة الدينية التي تتمتع بها مكة، فولى عليها اثنين من الصحابة الذين يحظون برضى المسلمين، وذلك لأن اهتمامه كان منصبا بالدرجة الأولى على تعامل الوالي مع المسلمين في ولايته، كذلك تعامله مع الأموال في تلك الولاية، لذلك نلمس حرص الخليفة على اختيار أشخاص يتمتعون بسمعة طيبة وأمانة لإدارة الولايات.

ثالثا: البصرة

اشارة

تعد البصرة التي تقع جنوب العاصمة الكوفة من الولايات المهمة في الدولة الإسلامية، بحكم اتساعها الجغرافي الكبير وسكن الكثير من قبائل العرب فيها، وتبعية بعض الولايات والمدن الأخرى لها إداريا، وعليه تكون البصرة مشرفة على مجموعة من الولايات، ويكون الوالي عليها مسؤولاً عنها وعن بقية المدن التابعة لها، وتبعا لأهمية ولاية البصرة كان الإمام علي (عليه السلام) حريصاً جدا عليها، فاختار لها أشخاصاً موثوقين من أجل تولي إدارتها، لاسيما إن أغلب أموال بيت المال تأتي عن طريق ولاية البصرة وولاية الكوفة، والولايات والمدن التابعة لهما، لذلك اختار الخليفة الكوفة عاصمة لدولته، وأرسل الصحابي عثمان بن حنيف والياً على البصرة، وكما قدمنا فهو من الصحابة الأوائل، ومن الأنصار الذين ساندوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والدعوة الإسلامية، وقد اشترك في معظم معارك المسلمين، واختاره الخليفة عمر بن الخطاب من أجل تقدير الضرائب على السواد(1). وكانت توليته في بداية خلافة علي بن أبي طالب، فتوجه إلى البصرة التي هرب منها عبد الله ابن عامر الأموي الوالي السابق في عهد الخليفة عثمان بن عفان، فسيطر على البصرة

ص: 311


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 337، ابن الأثیر، اسد الغابة، 3 / 371، ابن حجر، الإصابة، 4 / 371

وضبط أمرها(1)، وبقي واليا عليها مدة خمسة أشهر تقريبا(2)، ثم خرج الزبير وطلحة وعائشة متمردين على الخلافة وأتوا البصرة فمنعهم عثمان بن حنيف من دخولها، ولم يحب أن يقاتلهم وفضَّل أن ينتظر رأي الخليفة في هذا الأمر، لاسيما أن الاثنين كانوا من الصحابة ومعهم عائشة زوجة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فاتفق معهم على أن يبقى بيت المال والمسجد ودار الإمارة بيده، وينزلوا هم ما شاؤوا من أرض البصرة حتى يقدم الخليفة علي، وأمر أصحابه أن يرجعوا إلى منازلهم ويضعوا السلاح، إلا أنهم نقضوا هذا العهد مع الوالي وهجموا عليه ليلا، وقتلوا حراسه وقبضوا عليه ونتفوا لحيته وحاجبيه، وأرادوا قتله لكنهم خافوا من أخيه سهل بن حنيف والي المدينة أن يقتص من أسرهم هناك فأطلقوه بعد أن قتلوا عدداً من أهل البصرة المعترضين على أعمالهم، فخرج عثمان والتقى بالإمام علي (عليه السلام) في ذي قار(3)، وعندما وصل الإمام علي (عليه السلام) استطاع أن يقضي على التمرد في البصرة ويعيد النظام والهدوء إليها، وعفى عن المتمردين من أهلها ومن غيرهم.

ولم تذكر المصادر أن الإمام علياً (عليه السلام) عيّن مع عثمان بن حنيف عمالاً من أجل جباية الضرائب، وربما يكون هذا الأمر يعود إلى أن عثمان باشر بعمله في بداية خلافة علي بن أبي طالب، والمدّة التي عمل فيها والياً على البصرة مدة قصيرة جدا، لذلك لم تهتم كتب التاريخ بأسماء العمال الذين يعملون معه، إذ ليس من المعقول أن يباشر جباية الضرائب لوحده في هذه المنطقة الجغرافية الواسعة.

وبعد القضاء على التمرد في البصرة ولىّ الخليفة صحابياً آخر، وهو عبد الله بن

ص: 312


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 5 / 48 - 49، البلاذري، أنساب الأشراف، ص 222
2- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2/ 178 - 182
3- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 89 - 90، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 181

عباس ابن عم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والخليفة، الذي يعد من الصحابة ومن المقربين للخليفة وسيرته كانت محمودة في عهد الخلفاء بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو من الفقهاء المعروفين في عهدهم(1)، لذلك اختاره الإمام علي (عليه السلام) لكي يتولى شؤون البصرة، وعين معه زياد بن أبيه على الخراج وبيت المال(2)، ولم تذكر المصادر أن الخليفة عيّن أشخاصاً آخرين معهم، وهذا يعني أنه ترك الحرية للوالي وعامل بيت المال من أجل اختيار أشخاص للعمل في جباية الضرائب وبيت المال، إلا أن كتب التاريخ لم تذكر لنا كل العمال الذين كانوا يعملون في الجباية، بل تذكر المسؤول الأول فقط، لكن هذا لا يعني أنهم غير موجودين، وقد نستدل على هذا الأمر من كتاب الخليفة إلى أحد عماله: (أنظر في أمور عمالك الذين تستعملهم فليكن استعمالك إياهم اختيارا)(3)، والعمال المذكورون في هذا الكتاب هم عمال الخراج والجزية والصدقات، كما يمكن تأكيد هذا الرأي عند قراءة كتاب تعيين حذيفة بن اليمان والي المدائن: (فاجمع إليك ثقاتك ومن أحببت ممن ترضى دينه وأمانته واستعن بهم على أعمالك)(4).

وهذه الروايات المتقدمة تشير إلى أن زياد بن أبيه كان مسؤولاً عن جباية الضرائب، في الوقت نفسه كان نائباً إدارياً لعبد الله بن عباس، إذ تذكر الروايات أنه عندما التحق الوالي عبد الله بن عباس بالخليفة ليشارك معه في معركة صفين، ولّی على البصرة زياد

ص: 313


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 161، 177، ابن الأثير، اسد الغابة، 3 / 192 - 194
2- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 105 - 106، البلاذري، انساب الأشراف، ص 271، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 19 / 170، ابن حجر، الإصابة، 4 / 129
3- النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 361، ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 137
4- المجلسي، بحار الأنوار، 28 / 87 - 88، المحمودي، نهج السعادة، 4 / 19

ابن أبيه وجعل أبا الأسود الدؤلي على الخراج(1)، وكذلك الحال في كل المرات التي خرج فيها عبد الله بن عباس من البصرة ولىّ زياداً عليها(2)، وبعد أن ولى الخليفة زياد ابن أبيه على ولاية فارس، عيّن أبا الأسود الدؤلي مسؤولاً عن الأموال(3).

وعلى الرغم من المواصفات التي يتمتع بها عبد الله بن العباس، فقد كان الخليفة يراقبه ويدقق في أعماله، ولا يتركه يتصرف بالطريقة التي قد تؤدي إلى التجاوز على المسلمين أو على أموالهم، فأوصاه عندما ولاّه على البصرة بعد معركة الجمل بأن يتقي الله ويكون عادلا مع الرعية، ولا يجعل هناك حجابا بينه وبين الناس، ولا يجعل الأحقاد التي سببتها معركة الجمل التي اشترك فيها الكثير من أهل البصرة تؤثر على علاقته بالناس ولا يضطهدهم لأعمالهم التي اقترفوها سابقا، وجعل أمر عزله أو بقاءه في ولاية البصرة مرتبط بالحفاظ على أموال المسلمين والعدل ورضا الناس به(4)، لذلك نرى إنه حاسبه محاسبة شديدة عندما علم انه أخذ بعض الأموال من بيت مال المسلمين، الأمر الذي جعل الأخير يرجع هذه الأموال إلى بيت المال(5).

وقد ذكرنا سابقا أنَّ الكثير من الولايات والمدن كانت تابعة لولاية البصرة، وأهم المدن التي كانت تابعة لها هي فارس وكرمان والأهواز(6) وغيرها، والشيء

ص: 314


1- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 105، المفيد، الجمل، ص 224، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 138
2- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 148، ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 106، الثقفي، الغارات، ص 387، المفيد، الجمل، ص 224، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 4 / 41
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 7 / 99، البلاذري، انساب الأشراف، ص 169
4- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 105 - 106، المفيد، الجمل، ص 224
5- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 192 - 193، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 171
6- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 138، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 489

المهم هنا إن الإمام علياً (عليه السلام) لم يعطِ لوالي البصرة صلاحيات مطلقة من أجل التصرف بجميع هذه الولايات، بل كان يشاركه في الإشراف على إدارة هذه الولايات، وهذا الأمر سنتعرف عليه عند استعراض هذه الولايات:

أ- فارس:
اشارة

تعد ولاية فارس من الولايات الكبيرة التابعة لولاية البصرة، وهي تقع على ساحل الخليج، على مقربة من ولاية البصرة، في الجهة المقابلة لولاية البحرين(1)، لذلك عينّ الخليفة عمر بن أبي سلمة على ولاية البحرين، وضّم إليها فارس، فأصبح عمر والياً على البحرين وفارس(2)، ثم عزله لأنه أراده أن يشترك معه في معركة صفين، وولّی بدلا عنه النعمان بن عجلان الزرقي، ويبدو أنه كان مسؤولاً عن فارس أيضا(3)، لكن لمدة قصيرة لأنه عندما عاد من معركة صفين، وجد أن فارس كانت مضطربة، فأرسل الخليفة الصحابي سهل بن حنيف والياً عليها، إلا أنه لم ينجح في مهمته، فعزله عن هذه الولاية(4)، واستشار أصحابه في رجل يوليه على فارس، فأشاروا عليه أن يولي زياد بن أبيه، لذلك عندما عاد ان عباس إلى البصرة أرسل زياداً إلى فارس(5)، والملاحظة المهمة هنا أن أكثر الولايات والمدن الصغيرة

ص: 315


1- ياقوت الحموي، معجم البلدان، 4 / 266
2- ابن الأثير، اسد الغابة، 4 / 79
3- البلاذري، انساب الأشراف، ص 158، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 173، المجلسي، بحار الأنوار، 10 / 23
4- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 144، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 105، ابن الأثیر، اسد الغابة، 2 / 365
5- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 105، ابن الأثیر، اسد الغابة، 2 / 216، ابن حجر، الإصابة، 2 / 528

كان الوالي هو نفسه الذي يتولى جباية الضرائب، فيكون واليا وعاملا على الخراج والجزية، ويمكن أن نتأكد من ذلك إذا قرأنا بعض أوامر التعيين التي أعطاها الخليفة لبعض الولاة، فنرى أنه كتب لحذيفة بن اليمان والي المدائن: (وآمرك أن تجبي خراج الأرضين على الحق والنصفة)(1)، كذلك نجد الأمر نفسه في كتاب تعيين محمد بن أبي بكر على مصر: (وأمره أن يجبي خراج الأرض على ما كان يجبى من قبل)(2)، وبناءً على هذا لم يعين الخليفة عاملا على الضرائب في أغلب الولايات والمدن الإسلامية، بل اكتفى بأن يعين واليا، عدا ولاية البصرة بحكم اتساعها، وتبعية عدد من المدن إداريا لها، والأمر الآخر الذي نلاحظه هنا تعامل الخليفة مع الولاة، فعلى الرغم من انتماء عمر بن أبي سلمة والنعمان بن عجلان إلى طبقة الصحابة، إلا أن توصيات الخليفة لهم كانت تركز على الخوف من الله والحفاظ على أموال المسلمين(3)، كذلك فإن كفاءة زياد وخبرته بالإدارة، لم تجعل الخليفة يتركه دون رقابة، فنراه عندما علم أنه تلكأ في عمله أرسل إليه يحذره من أفعاله، إذا كان القصد من هذه الأفعال إلحاق الضرر باقتصاد المسلمين(4).

وكان يتبع ولاية فارس من الناحية الجغرافية مدن أخرى، وهذه المدن كانت تابعة بدورها إلى ولاية البصرة، لكن في حالة عدم وجود والٍ عليها فإن والي فارس يكون مسؤولاً عنها، وهذه الولايات هي:

ص: 316


1- المجلسي، بحار الأنوار، 28 / 88، المحمودي، نهج السعادة، 4 / 19
2- البلاذري، انساب الأشراف، ص 393، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 540
3- البلاذري، انساب الأشراف، ص 158، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 173، المجلسي، بحار الأنوار، 10 / 23
4- البلاذري، انساب الأشراف، ص 162، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 204، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 138
1- اصطخر:

تعد مدينة اصطخر من المدن التابعة لولاية فارس من الناحية الجغرافية(1)، ولّى عليها الخليفة المنذر بن الجارود العبدي، وربما يكون سبب توليته كونه ابن الجارود العبدي الذي كان قائدا لجيش المسلمين الفاتحين لهذه المدينة في عهد الخليفة عمر كما قدمنا(2)، ومن المحتمل أن يكون قد اشترك في فتح هذه المدينة، أو سكن فيها بعد فتحها، فاكتسب خبرة جعلت الإمام علياً (عليه السلام) يوليه عليها، كذلك فإن قبيلة عبد القيس كانت تسكن البحرين في الجهة المقابلة لولاية فارس(3)، إلا ان الخليفة عزله عن هذه المدينة عندما علم أنه يعطي من بيت المال لقومه(4)، ويبدو أن المنذر علاوة على كونه عمل مسؤولاً عن إدارة هذه المدينة، كان عاملا على الخراج والجزية.

ثم ولىّ الخليفة حضين بن المنذر الرقاشي على هذه المدينة بعد عزل المنذر بن الجارود عنها، وهو من خيار التابعين الذين رووا أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)(5)، كذلك كان من سادات قبيلة ربيعة العربية، وأحد القادة في معركة

ص: 317


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 1 / 176، المسعودي، التنبيه والأشراف، ص 92، ياقوت الحموي، معجم البلدان، 1 / 211
2- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1 / 314، 5 / 559 - 561، ابن الأثیر، اسد الغابة، 1 / 261، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 18 / 55 - 56
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1 / 314، البلاذري، فتوح البلدان، ص 54، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 18 / 56
4- البلاذري، انساب الأشراف، ص 163، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 203 - 204، الثقفي، الغارات، 2 / 522، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 18 / 54
5- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 7 / 155، البخاري، التاريخ الكبیر، 3 / 128، ابن حجر، الإصابة، 7 / 168

صفين(1)، لكن اضطراب الأوضاع في هذه المدينة بعد معركة صفين جعلت الخليفة يضمها إلى مسؤولية زياد بن أبيه والي فارس(2)، وربما بقي حضين بن المنذر عاملا على الخراج في هذه المدينة، لأن الروايات لا تذكر أن الخليفة عزله عنها.

2- اردشير خرة:

تعد هذه المدينة من المدن التابعة جغرافيا لولاية فارس، وهي تابعة لولاية البصرة إداريا، لذلك اختار عبد الله بن عباس والي البصرة مصقلة بن هبيرة الشيباني عاملا عليها، وجمع له مسؤولية الإدارة وجباية الضرائب(3)، لكن عدم أمانته جعلت الخليفة يستدعيه إلى العاصمة ويعزله عن عمله(4)، وعزل هذا العامل عن هذه المدينة من قبل الخليفة يبين مسألة صلاحيات العزل والتعيين في عهد الخليفة علي، فكما قلنا فإن الدولة الإسلامية كانت تتمتع بنظام لا مركزي في الحكم، لكن هذا لا يعني أن الولاة كانوا يتمتعون بصلاحيات مطلقة، بل جعل الخليفة الكثير من القضايا الإدارية تحت سلطته المباشرة، لاسيما إذا تعلق الأمر بأموال المسلمين، وعلى الرغم من التبعية الإدارية لهذه المدينة لولاية البصرة، وتعيين عامل الخراج عليها من صلاحية والي البصرة، لكن الخليفة عندما علم أن هذا العامل لم يحافظ على أموال المسلمين، كتب

ص: 318


1- العسكري، تصحيفات المحدثین، ص 611، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 14 / 398، المزي، تهذيب الكمال، 6 / 557، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 2 / 340 - 341
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 105، ابن كثير، البداية والنهاية، 7 / 355
3- البلاذري، انساب الأشراف، ص 160، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2/ 201، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 144
4- ابن أبي شيبة، المصنف، 7 / 596 - 597، البلاذري، انساب الأشراف، ص 160، الثقفي، الغارات، 1 / 362، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 201، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 97، ابن كثیر، البداية والنهاية، 7 / 342 - 343

إليه يحذره من هذه الأعمال إذا كانت صحيحة، ثم عزله بعد ذلك.

لكن بعد عزل هذا العامل لم تذكر لنا المصادر أنه ولىّ عاملاً أخر بدلا منه، وربما يكون الخليفة قد عين أحد العمال لكن المصادر أغفلت ذكره، لكن بالنظر لسير الأحداث في الدولة الإسلامية، لاسيما بعد معركة صفين، نستطيع القول بأن الخليفة ضم هذه المدينة إلى ولاية فارس، لأنها كانت تابعة جغرافيا لولاية فارس(1)، فأصبحت ضمن مسؤولية زياد بن أبيه والي فارس.

ب- الأهواز:

تقع الأهواز بين ولاية البصرة وإقليم فارس، وهي تتكون من سبع مدن أهمها سوق الأهواز، وتبعيتها الإدارية كانت لولاية البصرة(2)، وبذلك يكون والي البصرة هو المسؤول عن هذه الولاية، لكن كان هناك عامل في هذه المدينة مسؤوليته جباية الضرائب في هذه المدينة يدعى علي بن هرمة(3)، إذ تذكر الروايات أن الإمام علياً (عليه السلام) وجه كتاباً إلى قاضي الأهواز(4) من أجل معاقبة هذا العامل لأنه أخذ بعض الأموال، فعزله عن العمل وسجنه ثم غرمه الأموال التي أخذها(5)، ويبدو أن الخليفة جعل والي فارس مسؤولاً عن هذه المدينة أيضا، لأن زياد بن أبيه عندما وَلّیَ على فارس كان مسؤولاً عن الأهواز(6).

ص: 319


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 1 / 176
2- ياقوت الحموي، معجم البلدان، 1 / 284 - 285
3- النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 2 / 531
4- اسم هذا القاضي رفاعة ولم نجد له ترجمة
5- النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 2 / 531
6- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 93، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 138

ويمكن أن نستنتج مسألتين مهمتين من الكتاب الذي وجهه الخليفة إلى قاضي الأهواز، أولهما التأكيد على حرص الخليفة على أموال المسلمين، وحصر صلاحية عزل الولاة المسيئين به شخصيا، والأمر الثاني أن الخليفة أوعز إلى القاضي بمعاقبة هذا العامل، وهذا الإجراء هو الأول من نوعه، إذ كلف الخليفة أحد القضاة بتولي مثل هذه المسألة، وربما يقودنا هذا إلى أن الخليفة جعل هذا القاضي بمثابة المشرف والمراقب لتلك الولاية، فكانت هذه الولاية عملها مقسم إلى جزئين؛ الأول إدارة الولاية بيد القاضي، والثاني الإدارة المالية بيد عامل الخراج.

ج- سجستان:

تقع ولاية سجستان إلى الغرب من فارس وكرمان(1)، وهي تابعة إداريا لولاية البصرة(2)، وتذكر الروايات أن هذه الولاية لم تكن مستقرة، إذ حدثت فيها اضطرابات بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان(3)، لذلك أرسل الخليفة اليها أكثر من والٍ من أجل ضبطها، فولى عليها عون بن جعدة بن هبيرة لكنه قتل قبل أن يصل اليها(4)، ثم أرسل اليها الخليفة والياً أخر هو عبد الرحمن بن جزء الطائي، فقتله المتمردون في هذه المدينة(5)، لذلك طلب من والي البصرة عبد الله بن عباس أن يرسل أحد الأشخاص الكفوئين، لتولي أمورها وضبطها ويرسل معه أربعة آلاف مقاتل من أهل البصرة، فقام ابن عباس بإرسال ربعي بن الكاس العنبري برفقة أربعة آلاف مقاتل

ص: 320


1- ياقوت الحموي، معجم البلدان، 3 / 190
2- البلاذري، فتوح البلدان، ص 234 - 235، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 349
3- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 134، البلاذري، فتوح البلدان، ص 236
4- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 136، البلاذري، فتوح البلدان، ص 236
5- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 151، البلاذري، فتوح البلدان، ص 236

ونزلوا في هذه المدينة(1)، واستطاع هذا الوالي أن يضبط هذه الولاية ويسيطر عليها، فأصبح والياً عليها وعاملا على الخراج والجزية، وبقي مسؤولا عنها إلى نهاية خلافة الإمام علي(2).

ومن خلال قراءة تولية ابن عباس لربعي بن الكاس، يتضح أن الخليفة كان قد أعطى صلاحية التعيين في بعض الولايات والمدن التابعة للبصرة لعبد الله بن عباس، كذلك فإن إرسال الخليفة أكثر من شخص من أجل السيطرة على سجستان، يدل على أهمية هذه المدينة بالنسبة لاقتصاد المسلمين، لأن الروايات تذكر إن وارداتها كانت كبيرة جدا، إذ بلغت مليوني درهم(3).

ص: 321


1- المنقري، وقعة صفین، ص 12، ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 151، البلاذري، فتوح البلدان، ص 236
2- المنقري، وقعة صفین، ص 12، البلاذري، انساب الأشراف، ص 176، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 357
3- البلاذري، فتوح البلدان، ص 235
ح- كرمان:

تقع هذه المدينة بين سجستان وفارس وخراسان(1)، وهي تابعة لولاية البصرة من الناحية الإدارية(2)، ولى عليها الخليفة عبد الله بن الأهتم(3)، لكن هذه الولاية اضطربت بعد معركة صفين، فجمع الخليفة هذه المدينة مع ولاية فارس، وجعل زياد واليا عليهما مع بعض المدن الأخرى(4)، لكن ليس من المعقول أن يمارس زياد ابن أبيه كل هذه الوظائف لوحده، لذلك ربما كان يعتمد على مجموعة من العمال، لكن المصادر لم تذكر لنا أسماءهم.

د- خراسان:

هي من الولايات الشرقية التي كانت تابعة لولاية البصرة(5)، وهي تقع ملاصقة للعراق ولها حدود مع سجستان وكرمان، وأهم المدن التابعة لها هي مدينة مرو(6)، ولىّ عليها الخليفة في بداية استلامه للخلافة عبد الرحمن بن أبزي لكنه لم يستطع أن يضبطها(7)، فأرسل الخليفة جعدة بن هبيرة بعد معركة الجمل، لكنه لم يسيطر عليها، فجبى الضرائب من الذين كانوا مقرين بالصلح ولم يتعرض للمتمردين(8)، فعزله

ص: 322


1- ياقوت الحموي، معجم البلدان، 4 / 454
2- البلاذري، فتوح البلدان، ص 231 - 232، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 349
3- البلاذري، انساب الأشراف، ص 176، لم نجد له ترجمة سوى ما ذكره صاحب كتاب الفهرست في إنه كان احد الخطباء في خلافة الإمام علي، ينظر النديم، الفهرست، ص 139
4- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 105، ابن كثير، البداية والنهاية، 7 / 355
5- البلاذري، فتوح البلدان، ص 240 - 244، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 349
6- ياقوت الحموي، معجم البلدان، 2 / 348
7- البلاذري، فتوح البلدان، ص 244، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 6 / 121
8- البلاذري، فتوح البلدان، ص 244، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 183 - 184، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 69 ذكر الطبري عن الشعبي ان الخليفة ارسل جعدة بعد معركة صفین وهو الاقرب إلى الحقيقة لأن الاضطرابات حدثت بعد هذه المعركة وتحكيم الحكمین

الخليفة وولى عليها خليد بن قرة التميمي الذي استطاع أن يخضع المتمردين فيها، فاستقرت في عهده وبقي والياً عليها، وجبى منها أموال الخراج والجزية وبعث بها إلى العاصمة الكوفة(1)، فكان خليد والي خراسان وفي الوقت نفسه كان مسؤولا ماليا لهذه الولاية، وتعدد الولاة على خراسان يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الخليفة كان شديد الحرص على أموال المسلمين، لذلك كان يعزل أي عامل لا يستطيع أداء عمله بكفاءة.

رابعا: ولاية الكوفة

اشارة

تعد الكوفة من أهم المدن الإسلامية التي أسسها المسلمون عند دخولهم إلى العراق في السنة السابعة عشرة للهجرة في خلافة عمر بن الخطاب(2)، وهي لا تقل أهمية عن ولاية البصرة من حيث كثرة الواردات المالية وتبعية العديد من المدن والولايات لها، كما أن الكثير من القبائل العربية سكنت هذه المدينة، فكانت نسبة السكان فيها كبيرة جدا، حتى أن الخليفة عندما قرر أن يتخذها عاصمة له اعترض بعض أصحابه على تغيير العاصمة من المدينة المنورة إلى الكوفة، فكان رد الخليفة عليهم: (ان الأموال والرجال بالعراق)(3)، كذلك عندما اقترح عبد الله بن عباس على الخليفة أن يولي طلحة على البصرة، والزبير على الكوفة، رفض الخليفة لأن ذلك يعني تحكمهم باقتصاد الدولة الإسلامية، وهو لا يريد تجديد سياسة الخليفة عثمان بن عفان، فقال

ص: 323


1- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 151، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 46، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 357
2- البلاذري، فتوح البلدان،ص 167، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 144 - 145
3- الدينوري، الأخبار الطوال، ص 143، ابن حبان، كتاب الثقات، 2 / 273

لعبد الله بن عباس: (ان العراق بها الرجال والأموال، ومتى يملكان رقاب الناس، يستميلا بالطمع، ويضربا الضعيف بالبلاء، ويقويا على البغي بالسلطان، ولو كنت مستعملا أحدا لنفعه أو لضره في يومه أو غده، استعملت معاوية على الشام)(1).

لذلك كان الخليفة حريصاً على الكوفة والبصرة جدا، وقد قدمنا أنه لم يولّلِ على البصرة سوى الصحابة الموالين له، والذين لم تسجل عليهم أية ملاحظات تسیء لسيرتهم، كذلك الحال مع الكوفة كان شديد الحرص عليها، وقبل توليه للخلافة كان الوالي على الكوفة أبو موسى الاشعري، فأراد الخليفة أن يعزله عندما تولى الخلافة، لكن مالك بن الحارث الأشتر أقنع الخليفة بإبقائه، فقبل الخليفة هذا الرأي وأبقاه واليا عليها(2)، وأبو موسى الأشعري هو من الصحابة أسلم في السنة السابعة للهجرة، وولاه الخليفة عمر بن الخطاب على البصرة، وبقي واليا علي البصرة حتى وفاة الخليفة(3)، وأبقاه عثمان واليا على البصرة مدة ثم عزله، وولى عبد الله بن عامر بدلا عنه، فانتقل إلى الكوفة وسكن بها، فولاه الخليفة عثمان عليها، بعدما ثار أهل الكوفة على الوالي الأموي سعيد بن العاص، وبقي عليها حتى خلافة علي بن أبي طالب(4).

لكن عندما خرج الإمام علي (عليه السلام) الى البصرة من أجل القضاء على التمرد، أخذ أبو موسى يحرض الناس على عدم اللحاق بالخليفة، فأرسل له الخليفة عدة أشخاص لكنه لم ينفذ الأمر، فأرسل الخليفة مالك الاشتر إلى الكوفة،

ص: 324


1- أبو جعفر الإسكافي، المعيار والموازنة، ص 98، ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 51
2- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 179
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 4 / 105 - 109، ابن الأثير، اسد الغابة، 3 / 236 - 245
4- ابن عساكر، تاريخ دمشق، 32 / 82 - 83، ابن الأثير، اسد الغابة، 3 / 246

وأمر بعزله عن ولاية الكوفة ووبخه لموقفه المتخاذل(1)، وبعد أن عزل أبا موسى الأشعري عن الكوفة ولى عليها قرظة بن كعب الأنصاري(2)، ثم اتخذها الخليفة عاصمة للدولة الإسلامية بعد عودته من البصرة بعد أن قضى على التمرد، وأصبح هو المسؤول المباشر عليها(3)، لذلك كانت الأموال التي ترد إلى بيت مال الكوفة تقع تحت مسؤوليته المباشرة، وكان هو الذي يشرف مباشرة على تعيين وتوجيه عمال الخراج والجزية والصدقات، ويوجههم إلى المناطق التابعة للكوفة، ويمكن أن نستدل على ذلك من تعيين أحد العمال على منطقة بانقيا(4)، إذ أوصاه بجمع الخراج والجزية من هذه المنطقة التي يسكنها مجموعة من أهل الذمة، ولا يعتدي على أحد منهم ولا يأخذ من أموالهم سوى نسب الضريبة المقررة، وحتى هذه الضريبة يجب أن يأخذها برفق وبدون شدة(5).

وعلى الرغم من أن المصادر لا تذكر لنا أسماء العمال في المناطق التابعة للكوفة، إلا أن الشيء المؤكد أن هناك مجموعة كبيرة من العمال تولوا هذه المهمة، لأن الخليفة لا يستطيع أن يباشر هذه الأعمال بنفسه في منطقة زراعية واسعة مثل الكوفة.

ص: 325


1- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 85 - 86، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2/ 181، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3/ 500، 493 - 501. وكان أبو موسى احد الحكمین الذين اختارهم اصحاب الإمام علي (عليه السلام) بعد معركة صفین، فخدعه عمرو بن العاص الذي اختاره معاوية، وجعله يخلع الإمام علياً (عليه السلام)، فسبب مشكلة من اكبر المشاكل في التاريخ الإسلامي، وبعد استشهاد الإمام علي (عليه السلام) بايع معاوية الذي اعطاه الكثیر من الأموال، ينظر ابن سعد، الطبقات الكبرى، 4 / 112، الذهبي، سیر اعیام النبیاء، 2 / 395 - 396
2- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 152، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 512
3- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 184، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 562
4- بانقيا هي ناحية من نواحي الكوفة، انظر ياقوت الحموي، معجم البلدان، 1 / 331
5- الكليني، الكافي، 3 / 540، المفيد، المقنعة، ص 257، الطوسي، تهذيب الأحكام، 4 / 98

وبالنظر لأهمية الكوفة السياسية والمالية كان الخليفة لا يعينّ أي شخص عليها، فقد عيّن عليها قبل وصوله إليها الصحابي قرظة بن كعب، وعندما خرج إلى صفين ولّی عليها الصحابي عقبة بن عمرو الأنصاري(1).

أما المدن والولايات التابعة لولاية الكوفة فهي:

أ- اذربيجان:

تقع أذربيجان في شمال إيران في المنطقة القريبة من شمال العراق(2)، وهي تابعة إداريا لولاية الكوفة(3)، وقد كان الوالي عليها في عهد الخليفة عثمان الأشعث بن قيس الكندي، فعزله الإمام علي (عليه السلام) عنها عندما رجع من معركة الجمل، تماشيا مع سياسة التغيير التي انتهجها، لاسيما أن الأشعث لم يكن أمينا على أموال المسلمين ليبقيه واليا على تلك المدينة، لذلك عندما رجع من البصرة أرسل إليه يخبره بأمر المتمردين في البصرة وكيف تم القضاء على تمردهم، ويأمره بأخذ البيعة للخليفة من المسلمين في أذربيجان(4).

ثم طلب منه الحضور إلى العاصمة الكوفة ويحمل معه الأموال التي بعهدته، لأنه عزله عن تلك الولاية، وأمره برد الأموال التي أخذها من بيت المال، وكذلك عدم أمانته على أموال المسلمين، ففكر هذا الوالي بأخذ الأموال التي سرقها من ولايته

ص: 326


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 6 / 16، ابن الأثیر، اسد الغابة، 3 / 419، الذهبي، سیر اعلام النبلاء، 2 / 494، ابن حجر، الإصابة، 4 / 432
2- البكري، معجم ما أستعجم، 1 / 129
3- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 116، البلاذري، فتوح البلدان، ص 195 - 196
4- المنقري، وقعة صفین، ص 20 - 21، البلاذري، انساب الأشراف، ص 159، 161، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 560

والهرب إلى معاوية في الشام، لكنه استحى كونه أحد وجهاء قبيلته، وعندما يهرب إلى الشام يكون شخصا مغمورا من أتباع معاوية(1)، وعند وصوله إلى العاصمة أمره الخليفة بإرجاع الأموال التي أخذها من بيت المال(2).

وعندما عزله وجَّه قيس بن سعد بن عبادة إلى هذه المدينة ليكون واليا عليها، وهذه التولية كانت قبل معركة صفين(3)، فكان يتولى جمع الأموال علاوة على عمله بالإدارة، ويمكن أن نقرأ من اختياره لهذه المهمة مدى حرص الإمام علي (عليه السلام) على إدارة الدولة، لاسيما في المدن البعيدة عن العاصمة، فقد أرسل اليها قيساً وهو من كبار أصحابه، وأهم القادة الذين يعتمد عليهم في معركته مع المتمردين.

وعندما توجه الخليفة إلى الشام للقضاء على تمرد معاوية أرسل إلى قيس من أجل المجيء إلى الكوفة والمشاركة في هذه الحملة، وأمره أن يولي عبد الله بن شبيل الأحمسي على أذربيجان(4)، وهذا الأخير كان يمتلك خبرة بهذه المنطقة، لأنه كان من المشتركين في فتحها(5).

ص: 327


1- المنقري، وقعة صفین، ص 20 - 21، البلاذري، انساب الأشراف، ص 159، 161، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 560
2- الثقفي، الغارات، 1 / 362، ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 112، النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 396
3- البلاذري، انساب الأشراف، ص 161، الثقفي، الغارات، 1 / 257، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 202
4- البلاذري، انساب الأشراف، ص 480، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 203
5- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 116، ابن الأثير، اسد الغابة، 3 / 182

وفي رواية البلاذري أن الخليفة ولىّ قيس بن سعد على أذربيجان بعدما رجع من صفين(1)، أو بعد الانتهاء من معركة النهروان(2)، لكننا نتفق مع الرواية الأولى التي تذكر توليته قبل معركة صفين، لاسيما أن الطبری يذكر أن الخليفة عندما رجع من صفين، أخَّر ذهاب قيس بن سعد إلى اذربيجان، وجعله على شرطته(3)، ويؤكد ذلك إن الخليفة عندما رجع من معركة صفين قال لسعد: (أقم أنت معي على شرطتي حتى نفرغ من أمر هذه الحكومة ثم اخرج إلى اذربيجان)(4)، وقد اشترك قيس بن سعد مع الإمام علي (عليه السلام) في معركة النهروان بعد معركة صفين(5)، كذلك فإن سعداً كان في الكوفة عندما استشهد الإمام علي (عليه السلام)، لأنه كان أحد قادة الجيش الذي وجهه الإمام الحسن لقتال معاوية بعد بيعته بالخلافة، وظل يقاتل معاوية حتى بعد أن صالحه الإمام الحسن(6)، وهذا يعني أن عبد الله بن شبيل ظل واليا على أذربيجان إلى نهاية خلافة الإمام علي.

ص: 328


1- البلاذري، انساب الأشراف، ص 301
2- البلاذري، انساب الأشراف، ص 398
3- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 71، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 552
4- الثقفي، الغارات، 1 / 257، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 71، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 552
5- البلاذري، انساب الأشراف، ص 235، 369، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 62
6- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 214، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 121 - 122، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 40، ابن حجر، الإصابة، 5 / 361
ب- همدان:

هي من المدن الإسلامية التي تقع في الشمال الغربي من إيران، وتلاصق الحدود الشمالية للعراق(1)، وهي تابعة إداريا لولاية الكوفة(2)، لذلك كان الخليفة هو الذي يبعث الولاة عليها، وكان الوالي عليها جرير بن عبد الله البجلي من قبل الخليفة عثمان ابن عفان، فعزله الخليفة بعد رجوعه من معركة الجمل(3)، وولى عليها يزيد بن قيس الأرحبي وجمع معها أصبهان والري(4).

ومن خلال قراءة الروايات يتبين أن يزيد بن قيس كان قد شارك مع الخليفة في جميع المعارك التي خاضها(5)، كذلك عندما حدث تمرد في اليمن، أراد الخليفة إرساله من أجل القضاء على ذلك التمرد(6)، وهذا يعني انه تولى مهمة الولاية على المدن الثلاث في الفترة بين معركتي الجمل وصفين، على الرغم من أن بعض المؤرخين ذكروا أنه تولى على هذه المدن بعد معركة النهروان(7)، لأن التمرد في اليمن كان بعد

ص: 329


1- ياقوت الحموي، معجم البلدان، 3 / 117
2- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 113 ، البلاذري، فتوح البلدان، ص 186
3- البلاذري، انساب الأشراف، ص 275، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 184
4- المنقري، وقعة صفین، ص 11، أبي الشيخ، طبقات المحدثین بأصبهان، 1 / 277، الحافظ الأصبهاني، ذكر اخبار اصبهان، 2 / 343، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 552
5- المنقري، وقعة صفین، ص 101، البلاذري، انساب الأشراف، ص 294، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 47
6- البلاذري، انساب الأشراف، ص 453، الثقفي، الغارات، 2 / 517، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 5
7- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 47، ابن حجر، الإصابة، 6 / 551

معركة النهروان قبيل نهاية خلافة الإمام علي(1)، أي انه كان في العاصمة الكوفة في هذه الحقبة.

ويبدو أن الخليفة في الوقت نفسه الذي ولى فيه يزيد بن قيس الأرحبي على هذه الولايات الثلاثة، أرسل معه الصحابي مخنف بن سليم ليكون عاملا على أصبهان وهمدان(2)، فكان مقر يزيد في الري، على اعتبار أنه والٍ على هذه المدن الثلاث، بينما كان مخنف عاملا على الخراج، ويعاونه في جباية الضرائب الحارث بن أبي الحارث بن الربيع، وسعيد بن وهب، وعمرو بن سلمة الأرحبي، لأن الخليفة عندما استدعى مخنف بن سليم للمشاركة في معركة صفين(3)، ولى بدلا عنه الحارث بن أبي الحارث بن الربيع على أصبهان، وولى سعيد بن وهب على همدان(4)، وبعد نهاية معركة صفين لم يعد مخنف للعمل في تلك المدن، لأن الخليفة ولى مخنف بن سليم صدقات بكر بن وائل عندما انتهت معركة صفين(5)، لذلك جمع الخليفة أصبهان وهمدان لعمرو بن سلمة الأرحبي، فأصبح والياً عليها وعاملا على الخراج(6)، ويؤكد ذلك ما ذكرته الروايات عن حمل عمرو بن سلمة أموال الخراج من تلك المدن والمجيء بها إلى

ص: 330


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 5
2- المنقري، وقعة صفين، ص 11، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 357
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 182 - 183، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 399 - 400
4- المنقري، وقعة صفین، ص 105، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 182 - 183، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 399 - 400
5- المنقري، وقعة صفین، 2 / 450، الثقفي، الغارات، 2 / 450، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 102، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 304
6- أبو الشيخ، طبقات المحدثین باصبهان، 1 / 278، الحافظ الاصبهاني، ذكر اخبار اصبهان، 1 / 72، 2 / 343، ابن الدمشقي، جواهر المطالب، 1 / 274

العاصمة الكوفة بعد معركة صفين(1)، ومن خلال ذلك نستنتج أن عمرو بن سلمة بقي في تلك المدن حتى نهاية خلافة الإمام علي، ولم يعد إلى الكوفة حتى استشهد الخليفة وبايع الناس الإمام الحسن، فكان هو الوسيط بين الإمام الحسن ومعاوية(2).

ج- الري:

تقع مدينة الري إلى الغرب من مدينة همدان وشمال مدينة خراسان(3)، وهي تابعة للكوفة إداريا(4)، وقد ذكرنا أن الخليفة كان قد ولى عليها يزيد بن قيس الأرحبي(5)، وبعد أن التحق يزيد بن قيس الأرحبي بالخليفة، يبدو أنها وقعت تحت مسؤولية سعيد بن وهب الذي خلف مخنف بن سليم على همذان(6)، وعندما ولى الخليفة عمرو بن سلمة الأرحبي على همدان وأصبهان بعد معركة صفين، ولى معه يزيد بن حجية على الري(7)، لكن هذا العامل سرق من أموال الخراج، فعزله الخليفة عن

ص: 331


1- أبو الشيخ، طبقات المحدثین باصبهان، 1 / 278، الأصبهاني، ذكر اخبار اصبهان، 1 / 72، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 42 / 479
2- ابن عساكر، تاريخ دمشق، 13 / 264، ابن حجر، الإصابة، 2 / 64
3- البكري، معجم ما استعجم، 2 / 690، ياقوت الحموي، معجم البلدان، 3 / 116
4- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 108، البلاذري، فتوح البلدان، ص 191
5- المنقري، وقعة صفین، ص 11، أبو الشيخ، طبقات المحدثین باصبهان، 1/ 312، الحافظ الاصبهاني، ذكر اخبار اصبهان، 2 / 343، ابن الأثیر، اسد الغابة، 4 / 339، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 10 / 71، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 552
6- المنقري، وقعة صفین، ص 105، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 182 - 183، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 399 - 400
7- ابن حبان، الثقات، 2 / 298، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 65 / 147، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 262

تلك المدينة وحبسه(1)، وربما يكون الخليفة قد جمع هذه المدينة لعمرو بن سلمة، لأن المصادر لا تذكر أنه أرسل شخصاً آخر للعمل هناك.

د- أصبهان:

تعد مدينة اصفهان من المدن الكبرى التي تقع جنوب مدينة همدان(2)، وهي من المدن التابعة إداريا لولاية الكوفة(3)، لكن الإجراء الجديد الذي اتخذه الخليفة هو جعلها في بعض الأوقات مع همدان والري ولاية واحدة يكون والي الري مسؤولاً عنها مع تعيين والٍ على كل ولاية(4)، وفي أحيان أخرى يجعلها مدينة مستقلة تابعة للكوفة مباشرة، لذلك عندما قدم يزيد بن قيس الأرحبي إلى الكوفة، ولى مخنف بن سليم عليها(5)، وعندما التحق مخنف بن سليم بالخليفة في معركة صفين ولى عليها الحارث بن أبي الحارث بن الربيع(6)، وبعد معركة صفين جمع الخليفة أصفهان وهمدان لعمرو بن سلمة(7).

ص: 332


1- الثقفي، الغارات، 2 / 525 - 526، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 4 / 83
2- ياقوت الحموي، معجم البلدان، 1 / 206
3- البلاذري، فتوح البلدان، ص 188
4- المنقري، وقعة صفین، ص 11، أبو الشيخ، طبقات المحدثین بأصبهان، 1/ 312، الحافظ الأصبهاني، ذكر اخبار اصبهان، 2 / 343، ابن الأثیر، اسد الغابة، 4 / 339، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 10 / 71، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 552
5- المنقري، وقعة صفین، ص 11، أبو الشيخ، طبقات المحدثین بأصبهان، 1 / 312، الحافظ الاصبهاني، ذكر اخبار اصبهان، 2 / 343، ابن الأثیر، اسد الغابة، 4 / 339، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 10 / 71، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 552
6- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 182 - 183، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 399 - 400
7- أبو الشيخ، طبقات المحدثین بأصبهان، 1 / 278، الحافظ الأصبهاني، ذكر اخبار أصبهان، 1 / 72، 2 / 343، ابن الدمشقي، جواهر المطالب، 1 / 274
ه- كسكر:

وهي ولاية تقع بين البصرة والكوفة(1)، وهي تابعة للكوفة إداريا(2)، ولى عليها الخليفة قدامة بن عجلان الأزدي(3)، ثم عزله دون أن تذكر المصادر سبب العزل، لكن ربما يكون سبب عزله نتيجة لخيانة هذا العامل، لأن الخليفة كتب له: (أما بعد فاحمل ما قبلك من مال الله فإنه فيء للمسلمين، لست بأوفر حظا فيه من رجل فيهم، ولا تحسبن يا بن أم قدامة إن كسكر مباح لك كمالٍ ورثته عن أبيك وأمك، فعجل حمله وأعجل في الإقبال إلينا إن شاء الله)(4)، ثم ولى عليها القعقاع بن شور إلا أنه لم يكن أمينا على أموال المسلمين، إذ تذكر الروايات أنه أصدق امرأة تزوجها مائة ألف درهم، ثم هرب إلى معاوية بعد معرفته بعزم الخليفة على محاسبته(5)، ولم تذكر المصادر أن الخليفة أرسل اليها والياً أو عاملاً آخر، وربما ألحقها بالكوفة وأشرف عليها مباشرة بحكم قربها من العاصمة.

ص: 333


1- ياقوت الحموي، معجم البلدان، 4 / 461، معنى كسكر عامل الزرع، وذكر البكري ان معناها ارض الشعير، معجم ما استعجم، 4 / 1128
2- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 6 / 18، ابن أبي شيبة الكوفي، المصنف، 8 / 12
3- ذكرت بعض المصادر ان والي كسكر كان قدامة بن عجلان الأزدي انظر البلاذري، انساب الأشراف، ص 160، الدينوري، الأخبار الطوال، ص 153، بينما ذكر غیره انه ولى قدامة بن مظعون الأزدي، ينظر المنقري، وقعة صفین، ص 11، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 357 وربما هو اشتباه بالاسماء، وكسكر منطقة واسعة بین البصرة والكوفة، الحموي، معجم البلدان، 3 / 273
4- البلاذري، انساب الأشراف، ص 160، المحمودي، نهج السعادة، 5 / 350
5- الثقفي، الغارات، 2 / 533، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 4 / 87
و- بلاد الجبل:

وهي المناطق الجبلية الواقعة في شمال العراق، والمناطق المقابلة لها من إيران، وتقع إلى الجنوب من أذربيجان(1)، ولى عليها الخليفة سليمان بن صرد الخزاعي(2)، وهو من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل الكوفة وسكن بها(3)، وبقي واليا عليها حتى نهاية خلافة الإمام علي (عليه السلام).

خامسا: المدائن:

تقع المدائن في وسط العراق بالقرب من بغداد الحالية، وقد كانت عاصمة للدولة الساسانية(4)، ونتيجة لأهمية هذه الولاية من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، جعلها الإمام علي (عليه السلام) ولاية مستقلة، وفصلها عن ولاية الكوفة وذلك لكثرة المناطق الزراعية التابعة لها، وكذلك جعلها خطاً متقدماً أمام هجمات المتمردين من أصحاب معاوية الذين كانوا يهاجمون العراق، لأنها تقع شمال الكوفة العاصمة، وتتبع لها مناطق كبيرة تقابل بلاد الشام، لذلك نرى الإمام علي (عليه السلام) كان حريصاً على تولية ولاة أقوياء يثق بولائهم وقوتهم على هذه الولاية، وكان عامل الخراج عليها عندما استلم الخلافة الصحابي حذيفة بن اليمان(5)، فأرسل اليه الخليفة كتابا

ص: 334


1- ياقوت الحموي، معجم البلدان، 2 / 103
2- البلاذري، انساب الأشراف، ص 166، المحمودي، نهج السعادة، 5 / 351
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 4 / 292، ابن الأثیر، اسد الغابة، 2 / 351، ابن نما الحلي، ذوب النضار، ص 73، الذهبي، سیر اعلام النبلاء، 3 / 394
4- ياقوت الحموي، معجم البلدان، 5 / 74
5- ابن عساكر، تاريخ دمشق، 12 / 261، الذهبي، سیر اعلام النبلاء، 2 / 366، ابن حجر، الإصابة، 2 / 39

يكلفه بالولاية على المدائن، ومن خلال قراءة هذا الكتاب يظهر أنه كلفه أيضا بتولي مسؤولية جباية الضرائب: (وقد جعلت إليك أعمال الخراج والرستاق وجباية أهل الذمة)(1)، ثم اضطر الخليفة إلى تولية يزيد بن قيس الأرحبي عليها(2)، لأن حذيفة توفي بعد مدة قصيرة من توليته(3)، وكانت تولية يزيد قصيرة أيضا، لأن الخليفة ولاه على همذان وأصفهان والري كما قدمنا(4)، وبالرغم من قصر المدة التي تولى فيها حذيفة ويزيد على المدائن فقد أوصى الخليفة كلاً منهم بالحفاظ على أموال المسلمين، وتجنب خيانتهم لأنها سبب سخط الله، وأوصاهم بالعدل في الرعية(5).

ثم ولىّ الخليفة سعد بن مسعود الثقفي على المدائن(6) بعد أن كان عاملاً على الخراج في إحدى المناطق التابعة للمدائن(7)، وبقي سعد واليا على المدائن طيلة خلافة الإمام علي، وكذلك الحقبة التي تولى فيها الإمام الحسن الخلافة(8)، وهذا الوالي كان موثوقا عند الإمام علي (عليه السلام)، كونه من الصحابة ومن الأشخاص الذين

ص: 335


1- المجلسي، بحار الأنوار، 28 / 87 - 88، المحمودي، نهج السعادة، 4 / 19
2- المنقري، وقعة صفين، ص 11، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 357
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 6 / 15، ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط
4- المنقري، وقعة صفین، ص 11، أبو الشيخ، طبقات المحدثین بأصبهان، 1 / 277، الحافظ الأصبهاني، ذكر اخبار اصبهان، 2 / 343، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 552
5- البلاذري، انساب الأشراف، ص 159، المجلسي، بحار الأنوار، 28 / 88
6- البلاذري، انساب الأشراف، ص 158، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 563
7- المنقري، وقعة صفين، ص 11، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 375، مفردها الزاب وتجمع فيقال الزوابي، انظر البكري، معجم ما استعجم، 2 / 692، ياقوت الحموي، معجم البلدان، 3 / 123
8- أبو الفرج الأصبهاني، مقاتل الطالبيین، ص 41، المفيد، الإرشاد، 2 / 12، ابن كثیر، البداية والنهاية، 8 / 16

حافظوا على أموال المسلمين(1)، لذلك وجه اليه الخليفة كتاباً يمدحه فيه لأمانته(2).

وتتبع المدائن مجموعة من النواحي والمدن الصغيرة لأنها ولاية واسعة كما أسلفنا، وهذه المدن هي :

1- بهر سير: التي تعد إحدى المناطق الرئيسة التي تتكون منها ولاية المدائن، وتقع في الجهة الغربية من نهر دجلة قبالة المدائن(3)، وكان عامل الخراج عليها عدي بن الحارث الشيباني(4).

2- إستان(5) الزوابي: كان الوالي عليها سعد بن مسعود الثقفي، وذلك قبل أن يوليه الخليفة على المدائن كلها، والزوابي هي جمع زاب وهو النهر، وتقع على كل نهر من هذه الأنهار ناحية زراعية تسمى كورة(6)، والزوابي هي أربعة أنهر يقع نهران منها شمال بغداد ونهران يقعان جنوب بغداد(7)، وبعد أن أصبح سعد بن مسعود الثقفي واليا على المدائن، لم تذكر المصادر اسم

ص: 336


1- ابن الأثير، اسد الغابة، 2 / 295، ابن حجر، الإصابة، 3 / 70
2- البلاذري، انساب الأشراف، ص 158، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 201
3- الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، 1 / 139، ياقوت الحموي، معجم البلدان، 1 / 515
4- المنقري، وقعة صفین، ص 11، الدينوري، الأخبار الطوال، ص 153، البلاذري، انساب الأشراف، ص 361، فيما ذكر المجلسي أن العامل على هذه المنطقة هو عدي بن حاتم الطائي، بحار الأنوار، 32 / 357
5- الإستان هو الكورة والكورة هي الناحية الزراعية، فيقال طبرستان، وخوزستان..... الخ، والإستان ينقسم إلى الرساتيق، والرستاق ينقسم إلى الطساسيج، والطسوج ينقسم على عدة قرى، ينظر المسعودي، التنبيه والإشراف ص 36، ياقوت الحموي، معجم البلدان، 1 / 37
6- الدينوري، الأخبار الطوال، ص 11، ياقوت الحموي، معجم البلدان، 5 / 74
7- المنقري، وقعة صفين، ص 11، المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 375

العامل الذي تولى المهمة بعده.

3- إستان العالي التي تقع في المنطقة الغربية من بغداد أي على نهر الفرات، وتتكون من أربعة مناطق زراعية أهمها الأنبار(1)، كان عامل الخراج عليها أشرس بن حسان البكري الذي قتل في إحدى الغارات التي شنها معاوية على الأنبار التابعة لإستان العالي(2)، ولم تذكر المصادر أن الخليفة أرسل غيره لتولي هذه المهمة بعد مقتله.

4- البهقباذات وهي ثلاث مناطق زراعية، تسمى البهقباذ الأسفل والأعلى والأوسط، ومن نواحيها الزراعية المشهورة الفلوجة العليا والسفلى وعين التمر، وتقع إلى الجنوب الغربي من بغداد وهي تابعة لولاية المدائن(3)، عين الخليفة عليها في البداية مالك بن كعب الأرحبي، وشدد عليه عندما ولاه بضرورة صيانة الأموال التي تقع تحت مسؤوليته المباشرة، وهذا يعني أنه كان عاملا على الخراج(4)، وبعث معه الصحابي قرظة بن كعب الأنصاري ليكون عاملا على الخراج في منطقة عين التمر(5)، وهذا الأمر يتبع أهمية هذه المنطقة من الناحية الاقتصادية، لذلك اختار الخليفة هذين العاملين ليكونا

ص: 337


1- ياقوت الحموي، معجم البلدان، 1 / 174
2- الثقفي، الغارات، 2 / 472، البلاذري، انساب الأشراف، ص 442، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 196، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 103، وقد ذكرت بعض المصادر أن اسم هذا العامل حسان بن حسان البكري، ينظر الكليني، الكافي، 5 / 5، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 74
3- ياقوت الحموي، معجم البلدان، 1 / 174
4- البلاذري، انساب الأشراف، ص 165 - 166، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 204
5- المنقري، وقعة صفین، ص 11، البلاذري، انساب الأشراف، ص 446، الثقفي، الغارات، 2 / 447، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 302 - 304

مسؤولين عن هذه المنطقة، علاوة على قرب هذه المنطقة من الشام(1).

سادسا: ولاية مصر

كانت مصر في عهد الإمام علي (عليه السلام) تعد ولاية واحدة بالرغم من اتساعها، ويتبعها والسودان وطرابلس وبرقة، ولم يجزئها الإمام علي (عليه السلام) إلى ولايات بل أبقاها ولاية واحدة(2)، فولى عليها قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، بعد أن هرب منها عبد الله بن سعد بن أبي سرح الوالي في عهد الخليفة عثمان(3)، وكما ذكرنا فإن قيس بن سعد كان من كبار الصحابة، وهو معروف بالحزم وجودة الرأي، لذلك اختاره الخليفة لتولي هذه الولاية المهمة بالنسبة لاقتصاد المسلمين من ناحية، وقربها من الشام من ناحية أخرى، وكان واجب قيس بن سعد علاوة على الإدارة جباية الخراج وإدارة اقتصاد هذه الولاية(4)، ثم عزله الخليفة بعد فترة من توليته، ولم يكن سبب عزله بسبب سوء إدارته أو عدم حفظ الأموال، بل لأنه عندما قدم إلى مصر، امتنع مجموعة من المسلمين الساكنين في مصر عن البيعة للإمام علي (عليه السلام)، وأرادوا الطلب بدم الخليفة عثمان بن عفان، وكان زعيمهم اسمه مسلمة بن مخلد وهو من الأنصار، لكن سعد اتفق على عدم مطالبتهم بالبيعة مقابل عدم إثارة الاضطرابات(5)، كذلك فإن معاوية زور كتابا على لسان قيس، ادعى فيه إن

ص: 338


1- البلاذري، انساب الأشراف، ص 446، الثقفي، الغارات، 2 / 456، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 302 - 304
2- البلاذري، فتوح البلدان، ص 140
3- الثقفي، الغارات، 1 / 208، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 549
4- البلاذري، انساب الأشراف، ص 390، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 551
5- البلاذري، انساب الأشراف، ص 390، الثقفي، الغارات، 1 / 212، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 551، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6 / 59

الأخير اتفق معه على إرسال الأموال له، كذلك المشاركة معه في قتال الإمام علي (عليه السلام)، وقرأ هذا الكتاب على أهل الشام(1)، فوصل الخبر إلى الإمام علي (عليه السلام)، لذلك عزله عن تلك الولاية، على الرغم من أن هذا العزل كان له تأثير كبير على استقرار مصر، لأن قيس كان من الإداريين الكفوئين، علاوة على تمتعه بمجموعة من الصفات مثل الأمانة والورع، وتوليته على مصر كانت بمثابة حصار مفروض على معاوية، إلا إن الخليفة بالرغم من ثقته بقيس بن سعد، اتخذ هذا الإجراء لأن الدولة الإسلامية في تلك الحقبة، كانت تواجه مجموعة من الأخطار يأتي على رأسها تمرد معاوية في الشام، ومن الممكن أن يستغل معاوية أي فرصة لإحداث تخلخل في جيش الخلافة(2)، وهو ما حدث بالفعل عند تزوير معاوية للكتاب الذي ذكرناه، فأثر هذا الأمر بصورة كبيرة على معنويات ونفسيات المقاتلين في جيش الخلافة، كما كان له أثر كبير في رفع معنويات جيش معاوية.

وبعد أن عزل الإمام علي (عليه السلام) قيس بن سعد عن ولاية مصر، أرسل محمد بن أبي بكر واليا بدلا عنه، وبالرغم من صغر سن محمد بن أبي بكر، فإنه كان من أشد المخلصين للخليفة، ولمنهج الإصلاح الذي اتبعه(3)، لذلك حاول فرض سيطرته المطلقة على هذه الولاية، لاسيما أنه كان مسؤولا اداريا وماليا في تلك الولاية(4)، واستطاع محمد بن أبي بكر أن يضبط الأوضاع في تلك الولاية، إلا أن انتهاء

ص: 339


1- البلاذري، انساب الأشراف، ص 391، الثقفي، الغارات، 1 / 217، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 553، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6 / 62
2- البلاذري، انساب الأشراف، ص 391، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 552 - 556، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6 / 63
3- البلاذري، انساب الأشراف، ص 392 - 393، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6 / 65
4- البلاذري، انساب الأشراف، ص 393، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6 / 65

معركة صفين دون انتصار أحد الأطراف جعل هؤلاء الممتنعين عن البيعة يتمردون على الخلافة، ولم يستطع محمد أن يسيطر على الأمور في تلك الولاية(1)، لذلك قرر الخليفة أن يوجه إلى مصر أشد قادته ولاءً له، وأكثرهم قدرة على إدارة الولايات، وهو مالك بن الحارث الأشتر الذي كان واليا على الجزيرة الفراتية، وأهم الأسباب التي دفعته إلى هذا الإجراء علاوة على ضبط ولاية مصر، كان إطباق الحصار على معاوية من جهة العراق ومصر، وهو ما كان يشعر به معاوية، لذلك اتفق مع أحد الفلاحين على قتل مالك قبل وصوله إلى مصر، فقام هذا الأخير بدس السم بالعسل وقتل مالك(2).

وبعد أن قتل مالك بن الحارث الأشتر أعاد الخليفة محمد بن أبي بكر واليا على مصر مرة أخرى، لكنه لم يستطع ضبط الأمور فاضطربت مصر عليه، واستطاع معاوية أن يسيطر عليها ويقتل محمد بن أبي بكر(3).

ومن خلال ما تقدم يمكن أن نستنتج أن الخليفة كان حريصاً على ولاية مصر ليس من الناحية السياسية والعسكرية فقط، بل كان حريصاً عليها من الناحية الاقتصادية أيضا، لذلك الولاة الذين أرسلهم اليها كانوا من أشد الموالين له، والعارفين بالإدارة والمشهورين بالتقوى والشجاعة، لاسيما قيس بن سعد ومالك الاشتر، لكن سياسة معاوية التي اتبعها مع مصر ومع باقي مناطق الدولة الإسلامية لم تكن تستند إلى

ص: 340


1- البلاذري، انساب الأشراف، ص 398، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 557، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6 / 73 - 74
2- البلاذري، انساب الأشراف، ص 398 - 399، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 554، 4 / 71 - 73، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6 / 74 - 75
3- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 144، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 76 - 77

أي معيار أخلاقي أو ديني، فلم يكن له أي رادع يمنعه من فعل أي شيء، فهو يُزوّر الكتب ويعطي الرشاوى ويقتل، وهذا الأمر مختلف عن سياسة الإمام علي (عليه السلام) التي استندت إلى مبادئ الإسلام الأخلاقية والدينية.

وعلى الرغم من أن الخليفة كان على ثقة بعماله وولاته الذين أرسلهم إلى مصر، لكن الكتب التي زودهم بها عندما ذهبوا إلى عملهم كانت تؤكد على ضرورة احترام حقوق الرعية وعدم المساس بأموالهم، واحترام أهل الذمة ومساواتهم مع المسلمين، كذلك الحفاظ على الأموال، وغيرها من الأمور الإدارية، وهي أفضل ما كُتِبَ في نظام الإدارة والاقتصاد الإسلامي.

سابعا: الجزيرة الفراتية:

تقع الجزيرة الفراتية بين نهري دجلة والفرات في المنطقة الشمالية من العراق، ونتيجة لوقوعها بين النهرين سميت بالجزيرة، ولهذه الولاية حدود مشتركة مع بلاد الشام، وتتكون من مجموعة من المدن هي حران والرها والرقة ورأس العين ونصيبين وسنجار والخابور وماردين وآمد وميافارقين والموصل(1)، لذلك كان الخليفة شديد الحرص على هذه الولاية بحكم قربها من المتمردين في بلاد الشام، فولى عليها مالك ابن الحارث الأشتر وذلك بعد أن رجع من صفين(2)، لكن الذي يبدو أنه ولاه قبل هذا الوقت، لأنه ليس من المعقول أن يتركها بدون والٍ طيلة هذه الفترة، فكانت توليته عليها قبل المعركة وعاد إليها بعدما انتهت تلك المعركة(3)، وهذه المدن التي

ص: 341


1- ياقوت الحموي، معجم البلدان، 2 / 134
2- المنقري، وقعة صفين، ص 12، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 552
3- الثقفي، الغارات، 1 / 257، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 71، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 552

تتكون منها الجزيرة كانت مقسمة بين الإمام علي (عليه السلام) ومعاوية بن أبي سفيان، فكانت هيت وعانات ونصيبين ودارا وآمد وسنجار تحت سلطة الخلافة(1)، بينما كانت مدن الرقة وحران والرها وقرقيسيا تحت سيطرة معاوية(2).

ونتيجة للمواصفات التي كانت تميز مالك عن غيره اختاره الخليفة ليتولى مسؤولية إدارة هذه الولاية المهمة، فهو أحد أبطال العرب وساداتهم، اشترك في فتوح المسلمين وأصيبت عينه في معركة اليرموك، وكان سيدا فصيحا شجاعا، من قادة الثوار الذين ثاروا على الخليفة عثمان(3)، علاوة على كونه من أشد المخلصين للخليفة الذين يعتمد عليهم(4)، لذلك عندما أرسله واليا على تلك الولاية، لم يكن تعيينه مثل باقي الولاة من أجل الإدارة فقط، بل كان يمارس ثلاث مهام في وقت واحد فهو مسؤول عن إدارة الولاية، وجباية الأموال والتصرف بها، علاوة على المهمة العسكرية التي كان يمارسها، إذ كان يمثل خط التماس الأول مع معاوية، واستطاع أن يصد كل الحملات التي أرسلها معاوية، ولم يستطع معاوية أن يخترق هذه المنطقة بالرغم من قربها من الشام(5).

ص: 342


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 4 / 84
2- البلاذري، انساب الأشراف، ص 471، الثقفي، الغارات، 1 / 322
3- الذهبي، سير اعلام النبلاء، 4 / 34، ابن حجر، الإصابة، 10 / 10 - 11
4- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 179
5- البلاذري، انساب الأشراف، ص 474 - 476

وبعد أن اختاره الخليفة ليكون واليا على مصر، ولى بدلا منه شبيب بن عامر الأزدي(1) على الجزيرة وذهب إلى ولايته الجديدة(2)، فبقي شبيب واليا على تلك المنطقة حتى نهاية خلافة الإمام علي، وكما قدمنا فإن الخليفة كان يُقدّر أهمية ولاية الجزيرة بالنسبة للعراق، فأرسل كميل بن زياد النخعي ليكون عاملا على مدينة هيت، على الرغم من تبعية هذه المدينة إلى الجزيرة(3)، وبالفعل استطاع هذا العامل، أن يصد إحدى الحملات التي أرسلها معاوية(4).

ويمكن القول إن مهمة والي الجزيرة كانت إدارية وعسكرية علاوة على جباية الضرائب، لاسيما أن هذه المنطقة كانت زراعية، ويسكنها الكثير من أهل الذمة، وأرضها كانت خراجية تابعة للدولة(5)، وهي بحاجة إلى عمال من أجل جباية الضرائب، لكن المصادر لا تذكر سوى الوالي مالك بن الحارث وخليفته شبيب بن عامر وعامل هيت كميل بن زياد.

ص: 343


1- كان شبيب عاما عى مدينة نصيبین قبل توليته على الجزيرة، أنظر البلاذري، انساب الأشراف، ص 398
2- البلاذري، انساب الأشراف، ص 471، الثقفي، الغارات، 1 / 358، المفيد، الامالي، ص 80، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6 / 74
3- البلاذري، فتوح البلدان، ص 112، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 4 / 84
4- البلاذري، انساب الأشراف، ص 473 - 474
5- البلاذري، فتوح البلدان، ص 109

ثامنا: اليمن:

تقع اليمن في الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية وهي ولاية كبيرة جدا(1)، تتبع لها مجموعة كبيرة من المدن، كانت قبل خلافة الإمام علي، ولايتين هي اليمن وصنعاء(2)، لكن الإمام علي (عليه السلام) جعلها ولاية واحدة، وولى عليها عبيد الله بن عباس فبقي فيها طيلة خلافة علي بن أبي طالب(3)، ونتيجة لكبر هذه الولاية عينَّ الخليفة معه سعيد بن نمران الهمداني ليكون نائبا عنه ومساعدا له في عمله(4)، وهذا التعيين يعني أن الخليفة عندما وجَّه عبيد الله بن العباس إلى تلك المنطقة، جعله يؤدي دورين هما الإدارة وجباية الأموال، ويساعده في هذا الأمر سعيد بن نمران الذي كان كاتبا للخليفة، وهو من أهل اليمن ويعرف المنطقة جيدا(5).

ويمكن القول ان إرسال عبيد الله بن عباس واليا على اليمن، لأنها كانت بعيدة عن دائرة الصراعات، والساكنين فيها أكثرهم موالين للخليفة، لذلك لم يرسل لها أحد الولاة المعروفين بالقوة والصلابة مثل مالك بن الحارث، أو قيس بن سعد أو غيرهم من الولاة الأقوياء، والذين لم يستطع معاوية أن يتجاوزهم، أو يخترق ولاياتهم على عكس عبيد الله، الذي استطاعت احدى حملات معاوية من الإغارة على اليمن، والسيطرة عليها دون أن يكون لهذا الوالي موقف محدد، ولم يستطع السيطرة على

ص: 344


1- ياقوت الحموي، معجم البلدان، 5 / 447
2- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 134
3- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 152، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 3
4- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 6 / 84، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 21 / 314، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 3
5- الثقفي، الغارات، 2 / 593، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 21 / 313

الوضع إلا بعد تدخل الخليفة، وإرساله حملة لمطاردة أتباع معاوية(1).

لكن الخليفة لم يُغيرّ هذا الوالي على الرغم من ضعفه، وربما يعود السبب إلى أن حملة أتباع معاوية والاضطرابات في اليمن كانت قبل استشهاد الإمام علي (عليه السلام) بمدة قصيرة(2)، علاوة على أنه لم يكن في سيرته ما يشير إلى عدم أمانته، لأن الخليفة كان لا يتسامح في هذه المسالة.

تاسعا - البحرين:

تقع البحرين جنوب مدينة البصرة على ساحل الخليج(3)، وقد كانت في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر ولاية مستقلة(4)، لكن في زمن الخليفتين عمر وعثمان ضمت إليها ولاية عمان لتكون ولاية واحدة(5)، وفي عهد الإمام علي (عليه السلام) جعلها ولاية مستقلة، وولى عليها عمر بن أبي سلمة كما قدمنا، وهو من الصحابة استشهد أبوه في معركة أحد، وأمه أم سلمة تزوجها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد استشهاد أبيه(6)، ولم تذكر الروايات أن الخليفة أرسل معه شخصاً آخر من أجل جباية الضرائب، أو ليكون مسؤولاً ماليا في تلك الولاية، بل كان هو

ص: 345


1- البلاذري، انساب الأشراف، ص 456 - 458، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 198، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6 / 15، 3 - 16
2- ابن عساكر، تاريخ دمشق، 37 / 477، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 3 - 5
3- ياقوت الحموي، معجم البلدان، 1 / 347
4- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 61، 82، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 138
5- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 111، البلاذري، فتوح البلدان، ص 56
6- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 8 / 87، الذهبي، سیر اعیام النبیاء، 3 / 407، ابن حجر، الإصابة، 4 / 487

المسؤول الإداري والمالي في تلك الولاية، ويبدو أنه كان أمينا جدا، لذلك عندما عزله الخليفة عن تلك الولاية، كتب له: (فإني قد وليت النعمان بن العجلان على البحرين بلا ذم لك ولا تثريب عليك، فلقد أحسنت الولاية وأديت الأمانة فأقبل غير ظنين ولا ملوم ولا متهم ولا مأثوم، فقد أردت المسير إلى ظلمة أهل الشام، وأحببت أن تشهده معي، فإنك ممن أستظهر به على جهاد العدو وإقامة عمود الدين)(1).

كذلك عندما ولّی الخليفة النعمان بن العجلان الزرقي على هذه الولاية مارس نفس المهام، إذ لم يعينّ معه عاملا على الخراج، كذلك الكتاب الذي وجهه له الخليفة عندما علم أنه تجاوز على أموال المسلمين في ولايته(2)، يدل على أن عمله كان الإدارة وجباية الضرائب: (فخف الله أنك من عشيرة ذات صلاح، فكن عند صالح الظن بك وراجع إن كان حقا ما بلغني عنك، ولا تقلبن رأيي فيك، واستنظف خرجك، ثم أكتب إلي ليأتيك رأيي وأمري إن شاء الله)(3)، ويبدو أن النعمان بقي واليا على البحرين حتى نهاية خلافة الإمام علي، لأن المصادر لا تذكر أن الخليفة أرسل واليا بدلا عنه إلى تلك الولاية(4).

ص: 346


1- البلاذري، انساب الأشراف، ص 158 - 159، الثقفي، الغارات، 2 / 605، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 201، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 515
2- ابن الأثير، اسد الغابة، 5 / 26، ابن حجر، الإصابة، 6 / 351 - 352
3- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 201، المحمودي، نهج السعادة، 5 / 17
4- ذكر اليعقوبي إن النعمان سرق المال وهرب إلى معاوية، ينظر اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 201، لكن لم نجد في بقية المصادر ما يؤيد روايته أو يعارضها

عاشرا: عمان:

اشارة

تقع عمان في الجزء الجنوبي الشرقي من الجزيرة العربية(1)، كانت في زمن الخليفتين عمر وعثمان ولاية واحدة مع البحرين(2)، وفي عهد الإمام علي (عليه السلام) جعلها ولاية مستقلة، بعد أن فصلها عن ولاية البحرين، ويبدو أن سبب فصل هذه الولاية هو تبعية بعض الولايات للبحرين، إذ تبعت ولاية فارس لوالي البحرين لفترة من الزمن في عهد الوالي عمر بن أبي سلمة والنعمان بن العجلان الزرقي(3)، ولىَّ الخليفة عليها الحلو بن عوف الأزدي فَقُتِل من قبل بعض المتمردين في هذه الولاية(4)، ثم لم تذكر المصادر أن الخليفة أرسل اليها والياً آخر، ويبدو أنه ضمها للبحرين بعد ذلك(5).

عمال الصدقات المصدقين

يسمى العامل الذي يجمع الزكاة بالمصدق، ومهمة هذا العامل هي الذهاب إلى المسلمين الذين تجب في أموالهم الزكاة من أجل جبايتها، وفي خلافة الإمام علي بن أبي طالب كانت هذه المهمة منوطة بمجموعة من العمال الذين يعيَّنهم الخليفة مباشرة، ولا شأن لهم بالولاة وعمال الخراج الذين يتولون العمل في تلك المناطق، وعلى الرغم

ص: 347


1- ياقوت الحموي، معجم البلدان، 4 / 150
2- ابن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص 92 - 93، ص 111، الذهبي، سیر اعلام النبلاء، 2 / 374، ابن حجر، الإصابة، 4 / 374
3- البلاذري، انساب الأشراف، ص 158، ابن الأثیر، اسد الغابة، 4 / 79، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 173
4- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 195
5- الطوسي، رجال الطوسي، ص 83

من أن المصادر لا تشير إلى أسماء المصدقين الذين أرسلهم الخليفة إلى مناطق الدولة الإسلامية، لكن نستطيع أن نستفيد من الكتب التي وجهها الخليفة إلى عماله على الزكاة من أجل توجيههم في كيفية جباية الزكاة، والنسب المقررة التي يجب أن يجبوها من أموال المسلمين في معرفة آلية تعيين هؤلاء العمال.

تشير المصادر أن الخليفة عين الصحابي مخنف بن سليم مصدقا على المنطقة الممتدة من الكوفة وحتى الجزيرة الفراتية(1)، وهذا يعني ان عامل الزكاة كان لا يتقيد بحدود الولايات، لأن هذه المنطقة الواسعة التي كان يعمل فيها، كانت تابعة لثلاث ولايات هي العاصمة الكوفة والمدائن وولاية الجزيرة الفراتية، كما أن هذا التعيين كان يعني أن الخليفة جعل المصدق مرتبطاً به مباشرة ولا شأن له بالولاة، كذلك هم لا يتدخلون في عمله، لأن هذا العمل خارج حدود صلاحياتهم، ويمكن أن نستدل على هذا الأمر من خلال الشكوى التي تقدمت بها سودة بنت عمارة الهمدانية للخليفة ضد عامل الصدقات، إذ وفدت على الخليفة مع مجموعة من أهل اليمن، والملاحظ أنها لم تُقَدّم هذه الشكوى إلى والي اليمن، بل قدمتها إلى الخليفة مباشرة، كما أن الخليفة لم يطلب من الوالي أن يعزل هذا العامل، بل عزله بنفسه دون الرجوع إلى الوالي(2).

كما يمكن القول أن العمال الذين يوجههم الخليفة لجباية الصدقات كانوا يمتلكون حرية اختيار مساعديهم، إذ لا تذكر المصادر أنه عينَّ معهم مساعدين لأداء هذه المهمة، بل اكتفى بإصدار تعليمات تتعلق بكيفية جباية الزكاة، والأمر الآخر المهم هو

ص: 348


1- المنقري، وقعة صفین، 2 / 450، النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 259 - 260، المجلسي، بحار الأنوار، 93 / 70
2- ابن أعثم، كتاب الفتوح، 3 / 60 - 61، ابن طيفور، بلاغات النساء، ص 30، المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 119

أن عدم ذكر المصادر لأسماء العمال الذين أرسلهم الخليفة لجمع الزكاة، قد يعود إلى أن هذه الأموال المجباة كانت تنفق في نفس المناطق التي جبيت منها، لذلك لم يكن لها تأثير اقتصادي كبير على الدولة الإسلامية، والمعلومات البسيطة التي وصلتنا عن عمال الصدقات كانت تركز على الجانب الإجرائي لهذه المسألة، ومقادير الأموال التي تجب فيها الزكاة، وكيفية جباية هذه الأموال، وذلك لأنها تتعلق بالفقه الإسلامي، فحرصت المصادر على ذكر الكتب التي وجهها الخليفة إلى المصدقين، وذكرتها كاملة لأنها تتعلق بالجانب الذي ذكرناه، ولكن على الرغم من ذلك فإننا نعتقد أن من الطبيعي أن يكون الخليفة أرسل مصدقين إلى كل مناطق الدولة الإسلامية، وقد نستدل من بعض الروايات على ذلك، إذ أرسل الخليفة عاملا على بادية الكوفة، وأعطاه مجموعة من التعليمات تتعلق بنسب وكيفية جباية الزكاة(1)، كذلك الكتاب الذي وجهه الخليفة إلى جميع عمال الزكاة بشأن كيفية جباية الأموال(2)، كذلك الكتاب الذي أعطاه لعبد الله بن سبيع في كمية الزكاة التي يجب أن يأخذها من المواشي، لكن هذه المصادر لا تشير إلى المناطق التي توجه اليها هؤلاء العمال.

والأمر الآخر الذي يجب الإشارة إليه هو أن مواصفات عمال الزكاة لم تكن تختلف عن المواصفات التي ذكرناها في الولاة وعمال الخراج، ويمكن أن نستدل على ذلك من تعيين مخنف بن سليم على جباية الزكاة، وقد قدمنا سيرة هذا الصحابي في المبحث السابق.

أما التوصيات التي كان يوجهها الخليفة لهؤلاء، فهي لم تكن بعيدة عن التوصيات

ص: 349


1- الثقفي، الغارات، 1 / 126 - 130، الكليني، الكافي، 3 / 536، المفيد، المقنعة، ص 255 - 257
2- الكليني، الكافي، 3 / 536، المفيد، المقنعة، ص 254، الطوسي، الخلاف، 2 / 29، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 151

التي قدمها للولاة وعمال الخراج، وترتكز على ضرورة الحفاظ على أموال الصدقات، لأنها من حقوق طبقات معدمة تنتظر هذه الأموال لتكون سببا لحياتها، لاسيما أن الخلافة ضمنت حقه وعطاءه الذي يأخذه مقابل عمله، لذلك لا داعي لأن يتجاوز على هذه الأموال.

ص: 350

المبحث الثالث نظام الرقابة المالية

اشارة

لم تقتصر سياسة الإصلاح التي وضعها الإمام علي (عليه السلام) على حسن اختيار الموظفين من ولاة وعمال خراج وجزية وغيرهم، بل تعدى ذلك إلى وضع نظام رقابي شامل لمراقبة هؤلاء العمال، وذلك لأن الرقابة الإدارية والمالية تمنع هؤلاء الموظفين من التلاعب بأموال المسلمين، حتى أنه كان يمارس الرقابة بنفسه في المناطق التي تخضع لسلطته مباشرة، ليس على أموال المسلمين فحسب بل حتى على معاملتهم الاقتصادية فيما بينهم(1)، ويمكن أن نتعرف على هذا النظام الرقابي من خلال تقسيمه إلى مجموعة الإجراءات التي اتبعها الخليفة:

1- نظام العيون

كما قدمنا كان الإمام علي (عليه السلام) يختار العمال وفق معايير خاصة منها الأمانة والدين والخبرة وغيرها، إلا أنه لم يكتف بهذا الإجراء بل تعداه إلى وضع نظام متكامل يدقق على العمال أعمالهم، وجزء من هذا النظام كان العيون التي يستقي منها الخليفة معلوماته عن تصرفات هؤلاء الولاة والعمال في ولاياتهم البعيدة عن مركز

ص: 351


1- الكوفي، مناقب امير المؤمنين، 2 / 60 - 63، المفيد، الامالي، ص 197

الدولة، ويمكن أن نقول إن هذه النظام يشبه نظام الاستخبارات في وقتنا الحالي، لأن هؤلاء العيون لا يعرفهم سوى الخليفة، ويكتبون إليه مباشرة عن السلبيات والإيجابيات التي يرونها في مناطق عملهم، لذلك نرى أن الإمام علياً (عليه السلام) كان يعلم بكل الأشياء التي تجري في الولايات الإسلامية، وقد أدَّى هذا النظام الرقابي فاعليته في مراقبة تصرفات الموظفين التابعين للدولة الإسلامية، لأن الولاة كانوا حذرين في التعامل مع أموال المسلمين، وأصبحت لديهم قناعة أنهم لم يكونوا مطلقي اليد بهذه الأموال، وليس لديهم أي حصانة إذا خانوا الأمانة التي في أيديهم، لذلك كانوا حريصين على أداء أعمالهم بصورة جيدة.

وهؤلاء الولاة والعمال كانوا يعرفون أن هناك مجموعة من الأشخاص تابعين للخلافة يراقبون تصرفاتهم ويكتبون بصورة مستمرة للخليفة، لاسيما أن الخليفة أمر الولاة أن يستعينوا في عملهم بمجموعة موثوقة من الأشخاص ويجعلوهم عيونا لهم لمراقبة عمال الخراج والجزية: (ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة، والرفق بالرعية، وتحفظ من الأعوان، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة، اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك، اكتفيت بذلك شاهدا، فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصابه من عمله، ثم نصبته بمقام الذلة، ووسمته بالخيانة وقلدته عار التهمة)(1)، وفي كتاب آخر لعماله: (واجعل عليهم العيون في كل ناحية من أرضك...)(2) وهذا يعني أن هناك جهازين للعيون، أحدهما تابع للخليفة يراقب الولاة والعمال، والآخر

ص: 352


1- النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 361، ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 137، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17 / 69
2- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 89، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 130

تابع للولاة يراقب عمال الخراج والجزية، لاسيما أن الدولة الإسلامية كانت مترامية الأطراف، والولاة مسؤولون عن مجموعة كبيرة من المدن والقرى التابعة لولاياتهم، التي كانت تحتاج إلى مجموعة كبيرة من العمال من أجل جمع أموال الخراج والجزية والعشور والصدقات، وتوزيع العطاء على الموظفين، والإنفاق على الخدمات العامة، وليس بمقدور الوالي مباشرة هذه الأعمال بنفسه، لاسيما إذا عرفنا أن السفر من مدينة إلى أخرى قد يستغرق عدة أيام، ومن ثمّ يكون وجود نظام العيون ضروريا جدا بالنسبة للوالي من أجل معرفة ما يجري في ولايته.

وعلى الرغم من أن المصادر لا تذكر لنا أسماء العيون الذين كان يضعهم الخليفة في الولايات والمدن التابعة لها، فإن وجودهم كان أكيدا وغير قابل للشك، لأن الإجراءات التي اتخذها الإمام علي (عليه السلام) بحق بعض الولاة والعمال تبين أنه كان يعتمد على العيون في معرفة الأخبار، إذ جاء في أغلب الكتب التي وجهها لولاته وعماله الذين تجاوزوا على أموال المسلمين، كذلك في الأخطار التي تتعرض لها الولايات والمدن الإسلامية عبارة (قد بلغني)(1)، وفي هذا دلالة على أن الذي أبلغ الإمام علياً (عليه السلام) هي العيون التي وضعها في كل أرجاء الدولة الإسلامية، وفي أحيان أخرى نراه يصرح أن مصدر معلوماته جاء عن طريق عيونه، كما في الكتاب الذي وجهه إلى قثم بن عباس والي مكة، عندما وجَّه معاوية حملة على هذه المدينة، إذ قال له : (فإن عيني بالمغرب كتب إلي يخبرنی...)(2)، وتبين كتب الخليفة إلى الولاة والعمال حجم المعلومات الاستخبارية التي كانت تصل للخليفة عن تصرفات هؤلاء الولاة والعمال.

ص: 353


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 201، الكليني، الكافي، 5 / 5
2- الثقفي، الغارات، 2 / 509، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 491

ويمكن لنا خلال قراءة هذه الكتب أن نعرف ان الخليفة كان لا يسمح بأي تصرف ربما يؤدي في المستقبل إلى التلاعب بأموال المسلمين، وقد وجَّه كتباً شديدة اللهجة إلى مجموعة من الولاة بناءً على هذه المعلومات، مع العلم أن قسماً منهم كان من كبار الصحابة مثل عثمان بن حنيف وعبد الله بن عباس، لأنه بالرغم من الثقة التي أعطاها لهؤلاء الولاة كان يريد أن يحمي الناس من هؤلاء إذا ما استعملوا صلاحياتهم بصورة غير شرعية، كذلك كان يريد أن يحميهم من أنفسهم أيضا، ومن الأمثلة على المعلومات التي وصلت للخليفة عن الولاة، أن والي البصرة عثمان بن حنيف قَبِلَ دعوة أحد أغنياء البصرة لتناول وجبة طعام في بيته، فكتب له الخليفة كتابا بهذا الشأن، وسوف نأخذ جزءاً من هذا الكتاب من أجل التعرف على رقابة الخليفة على ولاته وعماله: (أما بعد يا بن حنيف فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة قد دعاك إلى مأدبة، فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان، وتنقل لك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو، وغنيهم مدعو.. ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعامه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد، فوالله ما كنزت من دنياكم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا، بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين ونعم الحكم الله، وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانها إلى جدث، تنقطع في ظلمته آثارها وتغيب أخبارها، وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر والمدر، وسد فرجها التراب المتراكم، وإنما هي نفسی أروضها بالتقوى، لتأتي آمنة يوم الخوف الأكر، وتثبت على جوانب المزلق، ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير

ص: 354

الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى؟ أو أكون كما قال القائل:

وحسبكَ داءً أن تبيتَ ببطنة *** وحولُكَ أكبادٌ تحنُّ إلى القدِ أأقنع من نفسی أن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو كالمرسلة شغلها تقممها تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها .............، فاتق الله يا بن حنيف، ولتكفك أقراصك ليكون من النار خلاصك)(1).

يمكن أن نلاحظ من خلال قراءة هذا الجزء من الكتاب عدة أمور، منها إن أخبار الوليمة التي حضرها الوالي وصلت للخليفة من خلال جهاز العيون، ويتضح هذا الأمر من خلال عبارة قد بلغني التي ذكرها الخليفة في كتابه، كذلك كون الوالي عثمان بن حنيف من الصحابة لم يشفع له عند الخليفة، إذ لم يتوانى عن توجيه اللوم اليه، على الرغم من انه لم يسرق الأموال، أو يخون الأمانة التي أوكلها له الخليفة، بل دعي إلى وليمة من قبل أحد أشراف البصرة، وهي قضية طبيعية على اعتبار أنهم يريدون التعرف عليه، وتقوية علاقتهم به مادام يعيش معهم ويتولى أمورهم، إلا أن هذا الأمر اعترض عليه الخليفة بشدة، لأن الوالي كان يمثل الدولة التي يقف على هرمها علي بن أبي طالب، وتستند في حكمها إلى تشريعات جاء بها محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من الله سبحانه وتعالى، وليست دولة قائمة على سلطة لا تكترث كثيرا بالسلوك والعمل بقدر ما يهمها تسيير الأمور في مرحلة ما، إنها دولة تريد أن تؤسس لحكم عادل، لذلك يمكن أن نقول إن اعتراض الخليفة كان سببه عدة أمور، منها أن الخليفة عندما اختار هذا الوالي وضع ثقته فيه فأمنه على الأنفس والأموال، لذلك يجب أن

ص: 355


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 205 - 208، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 474

يكون بمستوى الاختيار، لاسيما أن هؤلاء الذين دعوه انما دعوه ليتزلفوا له، ولم تكن دعوتهم له لوجه الله، والدليل ان الفقراء لم يكونوا مدعوين فيها، إذن كانت دعوة قائمة على المصلحة، وليس الهدف منها تقوية الأواصر، بل كانوا يريدون السيطرة عليه، لذلك اعترض الخليفة لأنه بعد ذلك لا يستطيع تطبيق الإصلاح والتغيير الذي ربما يمس هؤلاء الأغنياء الذين وجهوا إليه الدعوة، وهذا الأمر كان مطابقا لسياسة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع عماله، ففي رواية إنه أرسل أحد الصحابة ليجمع الزكاة، وعندما جاء هذا العامل أعطى الأموال للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن عزل منها شيئاً زعم أنه هدية أهديت إليه، فصعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المنبر وقال: (إني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم، وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا، والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه، إلا لقي الله عز وجل يحمله يوم القيامة)(1)، كما يمكن أن نستشف من الكتاب أن الخليفة أراد أن يكونوا متأسين به، سائرين على هديه وقد ارتضى بالبسيط من العيش في هذه الدنيا لقناعته بأنها زائلة لا تستحق أن يعيرها كبير اهتمام، فكان يريد ولاته على الناس على هذا النحو، ليقدموا النموذج الذي يريد الإمام علي (عليه السلام) طرحه لهم، كذلك أراد من الولاة أن يكونوا مواسين لأفقر الناس، وفي هذا رؤية رائعة إلى البناء الصحيح للمجتمع من خلال المساواة بين الحاكم والمحكوم فهو مثلهم ليس له ميزة عليهم، سوى أنه جنَّد نفسه لخدمتهم لقاء مكافأة كبرى يجدها عند الله تعالى، أما إذا أراد أن يحصل على هذه المكافأة في ولايته هذه، فعمال الإمام علي (عليه السلام) يجب أن لا ينتظروا مكافئات من الناس، فإذا لم يستطع ذلك فعليه أن يعتزل هذا العمل،

ص: 356


1- البخاري، صحيح البخاري، 8 / 66، مسلم، صحيح مسلم، 6 / 11 - 12

ليأتي غيره يستطيع تحمل ذلك، وليجلس هو في بيته يتناول ما يشاء من الأطعمة، ويحضر ما يشاء من الولائم، لأننا لم نرَ الخليفة يتكلم عن الذين حضروا الوليمة.

وعلى الرغم من أن المعلومات التي بلغت الخليفة جاءت عن طريق العيون، لكن ربما تكون هذه العيون التي أبلغت الخليفة غير معينة من قبله، بل تطوع من بعض المسلمين الذين يسكنون في هذه الولاية مثل كتاب أبي الأسود الدؤلي إلى الخليفة يخبره عن تصرف والي البصرة عبد الله بن عباس الذي أصبح واليا بعد عثمان بن حنيف، إذ كتب له أن الوالي أخذ عشرة آلاف درهم من بيت المال، فكتب الخليفة للوالي يأمره برد هذه الأموال، وبالفعل أرجعت هذه الأموال إلى بيت المال(1)، وكتب إلى أبي الأسود الدؤلي (أما بعد فقد فهمت كتابك، ومثلك نصح الإمام والأمة، ووالى على الحق، وفارق الجور، وقد كتبت إلى صاحبك، فيما كتبت فيه من أمره ولم أعلمه بكتابك فيه، فلا تدع إعلامي ما يكون بحضرتك، مما النظر فيه للأمة صلاح)(2)، ومن خلال قراءة هذا الرد نستنتج أنه عين أبا الأسود عينا للدولة بصورة رسمية في تلك الولاية، لاسيما أن هذا الأمر لا يعلم به إلا الخليفة وأبو الأَسود، وعلى أثر هذه المعلومات الواردة كتب الخليفة إلى عبد الله بن عباس (أيها المعدود عندنا من ذوي الألباب، كيف تسيغ شرابا وطعاما وأنت تعلم أنك تأكل حراما وتشرب حراما، وتبتاع الإماء وتنكح النساء من مال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال، وأحرز بهم هذه البلاد، فاتق الله وأردد إلى هؤلاء أموالهم، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك، لأعذرن إلى الله فيك، ولأضربنك

ص: 357


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 205، ابن اعثم، الفتوح، 4 / 241، الطبرسي، مكارم الأخلاق، 114، المجلسي، بحار الأنوار، 76 / 312
2- البلاذري، انساب الأشراف، ص 170، ابن اعثم، الفتوح، 4 / 241

بسيفي الذي ما ضَربت به أحدا إلا دخل النار، ووالله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة)(1)، وهذه الرواية تثبت قضية أخرى في هذا الباب هي أن المعالجة التي كان يقوم بها الخليفة للسلبيات التي يكتشفها نظام العيون، كانت بمستوى الخلل الذي قد ينتاب إدارة الدولة، إن لم تكن أكبر منه، فلم يكن الخليفة يترك شيئا من المعلومات الواردة له إلا ودقق فيه، حتى يتثبت منه أنه كان حقا أو لا، ولا يترك شيئاً للصدفة، وكان يحاسب أي شخص مهما كان وزنه الاجتماعي أو الديني، والمثال الذي سقناه يدلل على هذا الأمر، لاسيما أن عبد الله بن عباس كان من أشد المقربين للخليفة.

وهذه الروايات المتقدمة تدل على أن الإمام علياً (عليه السلام) كان لا يقبل بأقل التصرفات إساءة إلى أموال المسلمين أو إدارة الدولة، أو حتى التهاون أو العجز في إدارة هذه الأموال، ففي رواية أن العيون التي وضعها الخليفة في ولاية اصطخر أبلغت الخليفة أن الوالي المنذر بن الجارود العبدي كان لا يهتم بعمله ويخرج للصيد ويلعب بالكلاب، فكتب له: (بلغني أنك تدع عملك كثيرا، وتخرج لاهيا بمنبرها، تطلب الصيد وتلعب بالكلاب)، ثم أرسل إليه الخليفة وعزله عن تلك الولاية(2)، كما تذكر الروايات أن الخليفة عندما بلغه أن الوالي على أذربيجان الأشعث بن قيس الكندي أخذ بعض الأموال من ولايته في عهد الخليفة عثمان بن عفان، عزله الإمام علي (عليه السلام) وأمره برد تلك الأموال، وكتب إليه : (إن عملك ليس لك بطعمة، ولكنه في عنقك أمانة، وفي يديك مال من مال الله، وأنت من خزان الله عليه

ص: 358


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 167 - 168، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 500
2- البلاذري، انساب الأشراف، ص 163، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 203

حتى تسلمه إلي)(1)، ولما امتنع الأشعث عن رد تلك الأموال، لأنه أخذها عندما كان واليا للخليفة عثمان بن عفان، هدده الإمام علي (عليه السلام) بالعقوبة الشديدة ما لم يرجع تلك الأموال وقال له: (والله لئن لم تحضرها إلى بيت مال المسلمين، لأضربنك بسيفي هذا أصاب منك ما أصاب) فأرجعها إلى بيت المال، وعلى الرغم من أن بعض الروايات تذكر أنه أخذها بعلم الخليفة عثمان بن عفان(2)، لكن الخليفة عندما أعلن برنامجه وعد المسلمين بأنه سيرجع الأموال التي أخذت من بيت المال بغير حق، لذلك تتبع عمال الخليفة عثمان وأخذ منهم الأموال وأرجعها إلى بيت مال المسلمين(3) والملاحظ في جهاز العيون أنه كان يتقصى كل السلبيات التي يتعرف عليها، ويوصلها إلى الخليفة بسرعة، بالرغم من المسافة الكبيرة التي تفصل العاصمة عن بعض الولايات مثل أذربيجان، كما تبين أنه كان يتابع بدقة كل الأشياء التي تحدث في الولايات الإسلامية، وقد نتعرف على هذا الأمر إذا قرأنا الكتاب الذي وجهه الخليفة إلى والي المدينة سهل بن حنيف، والذي يشير إلى تسرب بعض أهل المدينة والتحاقهم بمعاوية، (فقد بلغني أن رجالا من أهل المدينة خرجوا إلى معاوية)(4)، وفي هذا دلالة على أن هذا النظام كان يعمل بدقة وفاعلية في كل أرجاء الدولة، ويعزز هذا الرأي معرفة الخليفة الدقيقة بكل التجاوزات التي قام بها بعض الولاة وعمال الخراج على أموال المسلمين، والإجراءات التي اتخذها بحقهم، إذ عزل قساً منهم وعاقبهم،

ص: 359


1- المنقري، وقعة صفین، ص 20، النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 396، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 14 / 33
2- الثقفي، الغارات، 1 / 365، النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 396، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 58 / 272، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 145
3- النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 396
4- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 201، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 18 / 52

وهرب البعض الآخر والتحق بمعاوية بعدما عرفوا أن الخليفة اكتشف أمرهم، كما اعتذر بعض منهم عن التصرفات التي بدرت منهم.

لكن على الرغم من الشدة التي اتصف بها الخليفة مع العمال المقصرين، إلا أننا في الوقت نفسه نلمس منه حرصه على عدم تصديق كل المعلومات التي ترد إليه، فقد كان يرسل إلى الولاة والعمال الذين ترد معلومات عنهم، ويتبع معهم مجموعة من الإجراءات لمعرفة حقيقة هذه الأعمال، ولا يعاقب أحداً منهم إلا عندما يقر على نفسه بارتكاب الجناية، وعلى سبيل المثال عندما بلغه أن المنذر بن الجارود أخذ مالاً من بيت مال المسلمين، كتب له كتابا وعظه فيه وطلب منه أن يأتي إلى العاصمة: أما بعد فإن صلاح أبيك غرَّني فيك، وظننت أنك تتبع هديه، وتسلك سبيله، فإذا أنت فيما رقى إلي عنك لا تدع لهواك انقيادا، وتبقي لآخرتك عتادا، تعمّر دنياك بخراب آخرتك، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك، ولئن كان ما بلغني عنك حقاً لجمل أهلك وشسع نعلك خير منك، ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يسد به ثغر، أو ينفذ به الأمر، أو يعلى له قدر أو يشرك في أمانة أو يؤمن على جباية، فأقبل إلي حين يصلك كتابي هذا إن شاء الله(1)، وعندما جاء إلى العاصمة عزله الخليفة عن تلك الولاية، ووضعه في السجن، وقرر تغريمه مبلغ ثلاثين ألف درهم، إلا أن صعصعة بن صوحان أحد أصحاب الخليفة شفع له، من أجل إخراجه من السجن، فحلف أنه لم يأخذ من الأموال شيئاً، لذلك أطلق سراحه(2)، لكنه لم يعد لتولي العمل في تلك الولاية نتيجة للسلبيات التي أثيرت عليه، لاسيما عدم اهتمامه بعمله كما قدمنا.

ص: 360


1- البلاذري، انساب الأشراف، ص 163، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2/ 203 - 204، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 18 / 54
2- البلاذري، انساب الأشراف، ص 163، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 204

كذلك فقد وردت للخليفة معلومات تفيد بأن مصقلة بن هبيرة عامل أردشير خرة يأخذ من أموال المسلمين ويفرقها على من أتاه من قومه، فكانت هذه المعلومة سبباً في توجيه الخليفة كتابا لهذا العامل، وهذا الكتاب كان يتضمن توبيخاً شديداً لهذا العامل، وفيه أيضا تهديد بالعقوبة، لكن في الوقت نفسه كان الخليفة يعرف أن بعض المعلومات قد تكون كيدية أو مبالغاً فيها، لذلك نلمس في هذا الكتاب أنه كان يؤكد على أن المعلومات الواردة ليست بالضرورة أن تكون صحيحة، لذلك قال في هذا الكتاب: (فقد بلغني عنك أمر أكبرت أن أصدقه، إنك تُقَسِّم فيء المسلمين في قومك ومن اعتراك من السألة والأحزاب وأهل الكذب من الشعراء، كما تقسم الجوز، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لأفتشنَّ عن ذلك تفتيشاً شافياً، فإن وجدته حقاً لتجدن بنفسك عليَّ هواناً، فلا تكونن من الخاسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)(1)، وبالفعل فإن العامل كتب إلى الخليفة أنه لم يأخذ أي شيء من أموال المسلمين، وأن المعلومات الواردة ليست صحيحة، فصدّقه الخليفة ولم يتخذ أي إجراء إزاءه(2)، أما عزله فقد كان سببه أنه لم يسدد مبالغ من المال كانت بذمته لبيت مال المسلمين، إذ أنه اشترى مجموعة من الأسرى بمبلغ من المال وأطلق سراحهم، فسدد جزءاً من هذا المال، لكنه عجز عن تسديد الجزء المتبقي منه، لذلك هرب إلى معاوية في الشام، على الرغم من أنه لو اعتذر عن تسديد الأموال لأمهله الخليفة إلى حين توفر الأموال لديه، وهذا واضح من قول الخليفة: (فعل فِعل السيد، وفر فرار العبيد، وخان خيانة الفاجر، أما أنه لو أقام فعجز ما زدنا على حبسه، فإن وجدنا له شيئا أخذناه، وإن لم نجد له مالا

ص: 361


1- البلاذري، انساب الأشراف، ص 160، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 201 - 202، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16 / 175، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 516
2- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 202، المحمودي، نهج السعادة، 5 / 154

تركناه)(1).

وفي الحالات التي كانت فيها المعلومات الواردة صحيحة، فإن الخليفة كان يحاسب هؤلاء المقصرين، وأول هذه العقوبات هو عزلهم عن العمل في إدارة الدولة، واسترجاع ما أخذوه من أموال بالنسبة للمتجاوزين على أموال المسلمين، وهذا واضح من خلال الرواية التي تذكر أن يزيد بن حجية والي الري أخذ من أموال المسلمين وهو يظن أن الخليفة لا يعلم بالأمر، فأرسل إليه أن يقدم إلى العاصمة، فلما وصل إلى العاصمة تفاجأ بأن الخليفة يعلم بسرقته لأموال المسلمين، فحبسه الخليفة إلا أنه استطاع أن يهرب إلى الشام ويلتحق بمعاوية(2)، وفي هذه الرواية إشارة واضحة إلى أن العيون هي التي نقلت هذه المعلومات الدقيقة للخليفة، كذلك فإن القعقاع بن شور هرب إلى معاوية بعدما عرف الخليفة أنه أصدق امرأة مائة ألف درهم، لأنه عرف أن الخليفة سيعاقبه على هذا العمل، لاسيما أن هذه الأموال أخذها من بيت مال المسلمين(3).

ومن المهم هنا أن نتحدث عن فرار هؤلاء العمال الذين سرقوا الأموال إلى الشام حيث يستطيعون التمتع بما سرقوه، فعلى الرغم من أن الإمام علياً (عليه السلام) كان قد سيطر على دولة المسلمين عن طريق العيون التي كانت توصل الأخبار إليه بسرعة، والعقوبات التي نفذها بحق البعض من هؤلاء، وعزل البعض الآخر، إلا أن وجود معاوية في بلاد الشام، وإعلانه التمرد في تلك الولاية الكبيرة الغنية بالأموال،

ص: 362


1- الثقفي، الغارات، 1 / 366، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 100، ابن عبد ربه، العقد الفريد، 3 / 145 - 147، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 145
2- الثقفي، الغارات، 2 / 525 - 526، ابن حبان، الثقات، 2 / 298
3- الثقفي، الغارات، 2 / 532 - 533، ابن عبد ربه، العقد الفريد، 3 / 13

والتي يسكنها عدد كبير من المسلمين المسيطر عليهم من قبل معاوية بشكل مطلق، كان بمثابة شوكة في جنب الدولة الإسلامية، وهذه المشكلة لا تعود جذورها إلى عهد الإمام علي (عليه السلام) بل هي سابقة لعهده، وقد تطرقنا فيما سبق إلى بعض جوانب هذه المشكلة، لكن من المهم جدا القول إن السياسة الإدارية التي اتبعها الخليفة عمر بن الخطاب كانت أحد الأسباب الرئيسية في هذه المشكلة، فعلى الرغم من أنه كان شديدا مع عماله، إلا أنه ولى مجموعة من العمال - وهم لا يستحقون أن يتولوا - إدارة الدولة أو أموال المسلمين، وعندما عرف أنهم سرقوا أموال المسلمين، كان الإجراء الذي اتخذه معهم لا يتناسب مع حجم الإساءة التي اقترفوها، ومن الأمثلة على هذا الأمر أن أحد المسلمين كتب للخليفة عمر بن الخطاب أن العمال في ولاية الأهواز سرقوا أموال المسلمين فأرسل الخليفة لهم وقاسمهم الأموال التي يمتلكونها، وقاسم أيضا نفيع بن الحارث الثقفي أبو بكرة مع أنه لم يكن من هؤلاء العمال، لأنه ادعى عليه أن أخاه زياد بن ابيه أعطاه عشرة آلاف درهم ليتاجر بها، وكان زياد مسؤولاً على بيت مال البصرة(1)، كما أن الخليفة عمر بن الخطاب عندما عزل خالد بن الوليد عن الجيش، سأله عن كثرة ماله(2)، فأجاب خالد إن ماله جاء عن طريق الأنفال والسهمان التي حصل عليها في المعارك التي خاضها، إلا أن الخليفة لم يقتنع بالأمر فأخذ جزءاً من ماله، ثم أدخله في بيت المال(3)، وهذا الأمر تكرر مع ولاة آخرين فشاطر سعد بن أبي وقاص الوالي على الكوفة ماله(4)، كذلك

ص: 363


1- البلاذري، فتوح البلدان، ص 229 - 230، ابن حجر، الإصابة، 6 / 553
2- لاسيما أنه أعطى للأشعث بن قيس عشرة الاف درهم
3- ابن عساكر، تاريخ دمشق، 16 / 266، ابن كثیر، البداية والنهاية، 7 / 93، نجمان ياسین، الأوضاع الاقتصادية، ص 234
4- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 149، المتقي الهندي، كنز العمال، 4 / 477

فعل مع يعلى بن أمية واليه على اليمن، وضرب أبا هريرة واليه على البحرين بالدرة حتى أدمى وجهه لما امتنع عن إعطاء نصف ماله(1)، وتلاعب أبو موسى الأشعري بأموال المسلمين، وأخذ منها لنفسه وعياله فكتب له الخليفة عمر، ولما لم يرتدع عزله عن ولاية البصرة وقاسمه أمواله(2)، وأثرى عمرو بن العاص والي مصر من أموال المسلمين، فأرسل الخليفة اليه محمد بن مسلمة ليقاسمه ماله، وكان الخليفة عمر بن الخطاب إذا أرسل أحد العمال إلى ولاية، يكتب ما يملكه من المال فإذا زاد ماله أرسل اليه من يقاسمه المال، فكتب إلى واليه على مصر: (انه قد فشت لك فاشية من متاع ورقيق وآنية وحيوان لم تكن حين وليت مصر)، فرد عليه عمرو أن أرض مصر أرض مزدرع ومتجر، والأموال تنمو في هذه المنطقة، إلا أن الخليفة عمر لم يقتنع بهذا الرأي وألزمه أن يدفع نصف ماله لمحمد بن مسلمة، فكان هذا الأمر سببا لغضب عمرو فقال: (إن الزمان الذي يعاملنا فيه ابن حنتمة - وهي ام الخليفة عمر - هذه المعاملة زمان سوء) وهو يفتخر بأن العاص والده كان يلبس الحرير قبل الإسلام(3).

وعلى الرغم من هذه المحاسبة التي كان يقوم بها الخليفة إزاء عماله، لكن الأمر المستغرب أن الخليفة كان يقاسم هؤلاء العمال أموالهم، ولا يعزلهم عن تلك الولايات بل يستمرون في عملهم، على الرغم من أنه يعتقد أنهم سرقوا أموال المسلمين، كذلك فإنه كان يجب أن يصادر كل الأموال مادام يعتقد أنها أموال المسلمين، وقد عبَّر أبو بكرة نفيع بن الحارث الثقفي عن هذا المعنى عندما امتنع أن يدفع نصف ماله

ص: 364


1- أبو عبيد، الأموال، ص 268، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 157، ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 194
2- ابن عبد ربه، العقد الفريد، 1 / 45
3- البلاذري، فتوح البلدان، ص 134

للخليفة عمر بالقول: (لئن كان المال لله فما يحل لك أن تأخذ بعضا وتترك بعضا، وإن كان المال لنا فما لك أخذه)(1). كما ان الإمام علياً (عليه السلام) عبر عن رفضه لهذا المنهج بالقول: (لئن كان عماله خونة، وكان هذا المال في أيديهم خيانة، ما كان حل له تركه، وكان له أن يأخذه كله فإنه فيء للمسلمين، فماله أن يأخذ نصفه ويترك نصفه، ولئن كانوا غير خونة، فما حل له أن يأخذ أموالهم ولا شيئا منه قليلا ولا كثيرا، وأعجب من ذلك إعادته إياهم إلى أعمالهم لئن كانوا خونة، ما حل له أن يستعملهم، ولئن كانوا غير خونة ما حقت له أموالهم)(2)، والأمر الأغرب من هذا أن الخليفة عمر، لم يطبّق هذه الإجراءات مع والي الشام معاوية، إذ تذكر الروايات انه سافر إلى الشام: (تلقاه معاوية في موكب عظيم، فلما دنا منه قال عمر: أنت صاحب هذا الموكب العظيم، قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك، قال: مع ما بلغك من ذلك، قال: ولم تفعل هذا، قال: نحن بأرض جواسيس العدو بها كثيرة، فيجب أن نظهر عز السلطان ما يرهبهم به، فإن أمرتني فعلت وإن نهيتني انتهيت، فقال عمر: يا معاوية ما أسألك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب الضرس، لئن كان ما قلت حقا إنه لرأي أريب، ولئن كان باطلا إنه لخدعة أديب، قال: فمرني يا أمير المؤمنين قال لا أمرك ولا أنهاك)(3)، وفي هذه الرواية يقول الخليفة لا آمرك ولا أنهاك، والذي يقرأ هذه الرواية يستنتج أن الخليفة تركه يتصرف على هواه، وهذا الأمر مخالف لما عرف عن الخليفة عمر من شدة حتى على أبسط التصرفات، حتى أنه ضرب الصحابي تميم الداري بالدرة لأنه صلى ركعتين بعد صلاة العصر، مع العلم أن هذه الصلاة مستحبة صلاها الصحابة مع الرسول (صلى

ص: 365


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 157، المجلسي، بحار الأنوار، 30 / 303
2- سليم بن قيس، كتاب سليم بن قيس، ص 224، المجلسي، بحار الأنوار، 30 / 303
3- ابن عساكر، تاريخ دمشق، 59 / 112

الله عليه وآله وسلم)، لكن الخليفة عمر منع أن يصلوها(1)، ونحن لا نستطيع أن نعرف على وجه الدقة لماذا ترك الأمور لمعاوية هكذا، ومكَّن له فعل أي شيء يريده وهو يعلم حقيقة معاوية فقال فيه مرة أنه كسرى العرب(2)، ثم ترك له الخليفة عثمان بن عفان الحبل على الغارب، فكان مستقلا في ولاية الشام كما قدمنا، لا يحاسبه أحد على أفعاله أو تصرفاته بأموال المسلمين، وعندما قتل الخليفة عثمان كانت الفرصة مواتية له للمطالبة بالخلافة.

والشيء المهم في هذا الأمر أن الولاة الذين سرقوا الأموال كانوا يجدون ملجأً آمنا عند معاوية بعد هربهم، فأصبحت ولايته ملجأً للسراق والخارجين على القانون، فكانت الدولة في عهد الإمام علي (عليه السلام) كلما أرادت محاسبة أحد العمال سرق مال ولايته وهرب إلى معاوية، الذي بدوره يستقبله ويكرمه على سرقته ويرفع مقامه(3)، ليهيأ لغيره القيام بنفس العمل، فهرب إلى معاوية كل من سرق أموال المسلمين، والذين أنفوا من حكم الإسلام، ليجدوا المال عند معاوية ويتبجحون بما سرقوه على الملأ في الشام، فاجتمع عند معاوية الكثير من قبائل العراق ووجوههم، ممن لم يستطع أن يعيش تحت ظل العدل الذي تميزت به دولة علي بن أبي طالب(4)، لأن الدولة الإسلامية في ذلك الوقت قامت فيها دولتان، الأولى دولة علي بن أبي طالب القائمة على العدل والمساواة بين المسلمين، والثانية دولة معاوية القائمة على شراء الضمائر بالأموال، ومعاوية لم يكن يهتم لصغار المسلمين وضعفائهم حتى يساويهم

ص: 366


1- ابن حزم، المحلى، 2 / 274، الهيثمي، مجمع الزوائد، 2 / 222
2- النعان المغربي، دعائم الإسلام، 2 / 164، ابن عساكر، تاريخ دمشق، 59 / 115، الذهبي، سیر اعلام النبلاء، 3 / 134
3- الثقفي، الغارات، 2 / 521 وما بعدها
4- النعمان المغربي، شرح الأخبار، 2 / 95 - 97

بزعماء القبائل والوجهاء، أو يهتم بدافعي الضرائب من أهل الجزية والخراج، في مقابل توفير أموال لإدامة جهازه العسكري الذي يحارب به دولة علي بن أبي طالب، لذلك كان الكثير من المتنفذين والزعماء في العراق وغيره من المناطق التي يحكمها الإمام علي (عليه السلام) ينظرون بإعجاب إلى سياسة معاوية تجاه الزعماء في الشام(1)، فكان معاوية عندما يأتيه هؤلاء هاربين، يغدق عليهم الأموال ويقطعهم الأراضي، وكان قسم من هؤلاء عندما يهربون إلى معاوية يرحل معهم الكثير من أفراد قبائلهم، لأن أغلب هؤلاء كانوا من الزعماء، وهذا يدلل على أن هؤلاء كانوا يتطلعون إلى تقسيم تفاضلي، ولا يساويهم مع أضعف المسلمين، ويريدون أن يحصلوا على أموال أكثر من غيرهم، وعندما يأخذو من الأموال لا يتعرضو للحساب، وقد عبر مصقلة بن هبيرة عن هذا المعنى عندما طالبه الخليفة بتسديد الأموال التي بذمته لبيت المال، فقال:

(والله لو إن ابن هند ما يطالبني بها، أو ابن عفان لتركها لي، ألم تر إلى عثمان كيف أعطى الأشعث مائة ألف درهم من خراج أذربيجان في كل سنة)(2)، لذلك نرى أن بعض أصحاب الإمام علي (عليه السلام) ورغم معرفتهم بالمبادئ التي كان يعتنقها، اقترحوا عليه لما رؤوا هروب الزعماء والوجهاء إلى معاوية أن يعطي بعض الأموال لهؤلاء الزعماء ولا يساويهم بعامة المسلمين، فقال له مالك بن الحارث الاشتر: (أنت تأخذ بالعدل وتعمل فيهم بالحق وتنصف الوضيع من الشريف، وليس للشريف عندك فضل منزلة على الوضيع، فضجت طائفة ممن معك عن الحق إذ عموا به، واغتموا من العدل إذ صاروا فيه، وصارت صنائع معاوية عند أهل الغنى والشرف، فتاقت أنفس الناس إلى الدنيا، وقل من ليس للدنيا بصاحب، وأكثرهم يحتوي الحق

ص: 367


1- شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 214
2- الثقفي، الغارات، 1 / 365، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4 / 100، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 145

ويشتري الباطل، ويؤثر الدنيا، فإن تبذل المال يا أمير المؤمنين تمل إليك أعناق الرجال، وتصف نصيحتهم وتستخلص ودهم)(1)، لكن الخليفة رفض هذا الأمر بشدة، ولم يكن يهمه هروب مجموعة من السراق والأشراف الذين كرهوا شرعة المساواة والعدل، فقال للأشتر: (وأما ما ذكرت من بذل الأموال واصطناع الرجال، فإنه لا يسعنا أن نؤتي امرءاً من الفيء أكثر من حقه)(2)، لذلك فإن النظام الذي وضعه الخليفة من أجل السيطرة على إدارة الدولة كان يواجه هذه المشكلة، إذ كلما عاقب الخليفة أحد هؤلاء المقصرين هرب إلى معاوية الذي حول الشام إلى مركز لتجمع الخارجين عن القانون والنظام.

لكن على كل حال فإن العيون التي وضعها الخليفة في أرجاء الدولة الإسلامية، كانت قد أدت المهمة التي أوكلت إليها، ولم يستطع أي من الولاة أو العمال التلاعب بأموال المسلمين من دون أن يعرف به الخليفة ويتخذ الإجراء المناسب بحقه.

وقبل أن نختم هذا الموضوع لابد من الإشارة إلى نقطة مهمة جدا، وهي ظهور سلبيات على الولاة وعمال الخراج، مع أن الخليفة كان يدقق في اختيار هؤلاء، ولا يُعينّ أحداً منهم إلا بعد توفر مجموعة من المميزات فيه كما ذكرنا سابقا، ونحن نعتقد أن هذه المسألة كانت للخليفة علي بن أبي طالب أكثر من كونها عليه، لأن هذه السلبيات كانت موجودة بكثرة في الحقبة التي سبقت خلافته، والحقبة التي تلتها، لكن لم تكن هناك محاسبة لهؤلاء، فلم يضطر أحد من الولاة أو العمال أن يهرب بأموال المسلمين مادام يتصرف كيفما يشاء ودون حساب، أما في عهد علي بن أبي

ص: 368


1- الثقفي، الغارات، 1 / 73 - 74، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 198
2- الثقفي، الغارات، 1 / 73، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 198، المجلسي، بحار الأنوار، 29 / 495

طالب فقد اختلفت الأمور، فهو لا يرضى بأي تصرف مهما كان بسيطا، إذا لمس فيه إساءة للمسلمين أو لأموالهم، كما أن هؤلاء الذين عينهم ممن توافرت فيهم الصفات المطلوبة لإشغال هذه الوظائف، ولم تسجل عليهم ملاحظات قبل قيامهم بالعمل، والسلبيات التي ظهرت كانت بعد مباشرتهم في أعمالهم، لذلك لا يتحمل الخليفة الإساءات التي ظهرت منهم، لاسيما أنه لم يسمح لهم بالاستمرار في الإساءة، فعزل قسماً منهم وعاقب القسم الآخر.

فضلاً عن أن كثرة العقوبات التي قد يلام عليها الخليفة من قبل الذين يؤمنون بأن حكم الدولة يجب أن يراعي الواقع، فهو أمر مرفوض عند الخليفة علي، لأنه كان يسعى في دولته إلى بناء الإنسان من جميع النواحي، فهو لم يكن رجل حكم وسياسة فقط، بل هو صاحب عقيدة قائمة على مبادئ إلهية منسجمة مع رؤية حضارية تميز بها الخليفة علي، وهو لا يحكم وفق سلطة زمنية يراعي فيها الواقع وما يفرضه عليه، حتى لو كان هذا الواقع يخالف مبادئه، بل كان مصداقاً للتمثيل الحقيقي للدعوة الإسلامية، إذ كان لا يهتم كثيرا بالمنافع الآنية، بقدر اهتمامه بالقضايا الاستراتيجية العليا التي أراد الإسلام بناءها، لذلك سعى إلى بناء نظام تربوي لهؤلاء الولاة، فلم يولهم محاباة، ولم يخترهم قربة إلى نفسه، بقدر ما اختارهم سفراء لدولة الإسلام، وواجهة لها أمام الناس، فكان حريصا على أن يعكسوا هذه الصورة، وإذا لم يستطيعوا تحمل هذه المسؤولية فالخليفة في غنى عنهم، ليأتي أحد غيرهم يتولى ما عجزوا عن تحقيقه، ومثالنا على ذلك والي البصرة الصحابي عثمان بن حنيف، وهو ممن ساروا على خط علي بن أبي طالب ولم يتخاذلوا عنه، لم يتركه يتصرف على هواه، بل شمله التدقيق في عمله، ونظام العيون لم يستثنه على اعتباره من الصحابة، أو لقربه من علي بن أبي طالب، والأمثلة كثيرة في هذا الباب ذكرنا قسماً منها عند الحديث عن الولاة وعمال الخراج.

ص: 369

2- التفتيش الإداري

يعد التفتيش الإداري الذي مارسه الإمام علي (عليه السلام) في الولايات الإسلامية الجزء الثاني المهم من الرقابة الإدارية على إدارة الولاة وعمال الخراج لأموال المسلمين والممارسات التي يقومون بها في مناطق عملهم، سواء مع المسلمين أو غير المسلمين من أهل الخراج والجزية، أو مع الموظفين الذين يعملون بمعيتهم، وكان هذا النظام يستند إلى محورين مهمين، أولهما إرسال مفتشين إلى المناطق، أو استدعاء الخليفة لهؤلاء الولاة ومراجعة حساباتهم المالية، والتدقيق عن تصرفاتهم.

وهؤلاء المفتشين لم يحدد لهم الخليفة وقتاً من أجل القيام بهذا العمل، بل يرسلهم حسب الحاجة إلى هذا الإجراء، كما أنه لا يوجد موظفين خاصين للقيام بهذه المهمة، بل كان الخليفة يرسل من يثق به من أجل القيام بهذه المهمة، ومن النصوص الواردة لنا عن هذا الإجراء هو تكليف الخليفة لمالك بن كعب الأرحبي عامل عين التمر، بالقيام بمهمة التفتيش في أراضي السواد، وقد أمره الخليفة بأن يختار أحد الأشخاص لتولي عمله، ثم يخرج بمجموعة من ثقات أصحابه، ليقوموا بمهمة التفتيش في هذه المنطقة الواسعة والمهمة جدا لأنها كانت أغنى المناطق الزراعية في الدولة الإسلامية، وقد حدد له المهمة التي يجب القيام بها، والتي يمكن أن نلخصها بأنه طلب منه أن يمر بجميع قرى السواد دون استثناء من أجل سؤال الناس الذين يسكنون في هذه المناطق عن رأيهم بالعمال الذين يتولون جباية الخراج والجزية وغيرها من الضرائب، وعن مدى أمانة هؤلاء العمال مع أموال المسلمين، كما أمره أن يتعرف على سيرة هؤلاء العمال بين الناس، وكيف يتعاملون معهم(1)، وهنا يمكن القول إن الخليفة اعتمد في معلوماته على عدة قنوات من أجل أن تكون عنده صورة كاملة لإدارة

ص: 370


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 204، المحمودي، نهج السعادة، 5 / 25

الدولة، فهو يستقي جزءاً من معلوماته من العيون التي وضعها في الولايات والمدن، ثم يرسل بعض الأشخاص من أجل التدقيق في عمل الولاة وعمال الخراج والجزية، وهؤلاء يقومون بنقل تصرفات هؤلاء العمال بأمانة للخليفة، ويقومون أيضا بمهمة أخرى هي حمل حصة العاصمة من أموال تلك الولايات، فتذكر الروايات أن الخليفة أرسل أحد الموظفين إلى ولاية فارس، وهناك التقى بالوالي زياد بن ابيه، لكن هذا الموظف اكتشف أن الأموال ناقصة، وعندما سأل الوالي عن سبب النقص، برر الأخير الأمر بأن مجموعة من الأكراد الساكنين في تلك المنطقة لم يدفعوا ما عليهم من أموال، وطلب من هذا الموظف عدم إخبار الخليفة بالأمر، بدوره لم يمتثل لهذا الطلب، لأن مهمته كانت تفتيشية بالدرجة الأولى، لاسيما إذا عرفنا أن كل الولايات الإسلامية هي التي تبعث الأموال للعاصمة، ولا توجد حاجة إلى إرسال موظف من أجل استلامها، إلا إذا عرفنا أن هذا الموظف قد أرسل من أجل التدقيق، وبالفعل نقل هذا الموظف هذه السلبيات للخليفة، فوجه الخليفة كتابا إلى هذا الوالي من أجل معالجة المشكلة، أو تحمل النقص في الأموال: (يا زياد، أقسم بالله إنك لكاذب ولئن لم تبعث بخراجك لأشدن عليك شدة؟ تجعلك قليل الوفر(1)، ثقيل الظهر(2)، إلا أن تكون لما كسرت من الخراج محتملا)(3).

كما أرسل الخليفة أحد مواليه ويسمى سعداً من أجل جلب بعض الأموال الفائضة في ولاية البصرة، وكما قدمنا فإن هذا المبعوث كانت مهمته تتضمن التفتيش في تلك الولاية أيضا، ونقل الأخبار إلى الخليفة، وبالفعل فقد نقل هذا الموظف إلى

ص: 371


1- قليل الاحترام
2- لا تستطيع إعالة اهلك
3- البلاذري، انساب الأشراف، ص 162، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 204، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 139

الخليفة أن مسؤول بيت المال في ولاية البصرة زياد بن ابيه كان يتكبر على الناس وقد أهان هذا الموظف، وكان لا يقتصد بإنفاق الأموال، لذلك كتب له الخليفة من أجل استيضاح هذه المعلومات الواردة له، لاسيما أن زياداً كان من الموظفين الكفوئين في خلافة علي بن أبي طالب، الذين ولاهم مجموعة من الأعمال الإدارية والمالية فنجح فيها بدرجة كبيرة، فكان الكتاب الموجه إليه يحتوي على تحذير شديد من عواقب هذه الأعمال إذا كانت صحيحة: (فإنك شتمت رسولي وزجرته، وبلغني أنك تبخر وتكثر من الأدهان وألوان الطعام، وتتكلم على المنبر بكلام الصديقين، وتفعل إذا نزلت أفعال المحلين، فإن يكن ذلك كذلك فنفسك ضررت وأدبي تعرضت، ..

وما حملك أن تشهد الناس عليك بخلاف ما تقول، ثم على المنبر حيث يكثر عليك الشاهد، ويعظم مقت الله لك، بل كيف ترجو، وأنت متهوع في النعيم جمعته من الأرملة واليتيم، أن يوجب الله لك أجر الصالحين)، فأنكر زياد أنه كان يتكبر أو يسرف في الإنفاق، وإن الموظف الذي أرسله الخليفة إلى ولايته نقل معلومات غير دقيقة للخليفة نتيجة لسوء التفاهم الذي حدث بينهما(1)، ومن هذه الرواية نستنتج شيئين مهمين، هما أن الرقابة كانت مستمرة على الموظفين فلا يستطيع أحد منهم أن يتجاوز على الأموال أو الناس، كذلك فإن الخليفة لا يأخذ كل المعلومات الواردة له دون تدقيق، بل يتثبت من هذه المعلومات قبل إصدار أي حكم، وهذا ما نلمسه من الرواية السابقة، ففي الكتاب كان يسأل زياداً عن هذه المعلومات، ولم ترد رواية تدل على أنه اتخذ أي إجراء ضده.

أما الجانب الآخر من التفتيش فهو إرسال الخليفة للعمال والولاة من أجل الحضور إلى العاصمة وتدقيق حساباتهم وأعمالهم، وهذا الإجراء كان مكملاً لإرسال الموظفين إلى الولايات، ويمكن أن نلمس من خلال الرواية التي تذكر أن الخليفة

ص: 372


1- البلاذري، انساب الأشراف، ص 165، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 202

أرسل إلى والي اذربيجان الأشعث بن قيس من أجل الحضور إلى العاصمة(1)، بعد أن بلغه اأن هذا الوالي أخذ بعض الأموال من ولايته، فلما حضر إلى العاصمة ألزمه إرجاع الأموال إلى بيت المال(2).

3- الرقابة الشعبية على الولاة والعمال:

جعل الإمام علي (عليه السلام) الناس الذين يسكنون في الولايات الإسلامية سواء كانوا مسلمين أو من أهل الذمة يراقبون تصرفات الولاة والعمال، ويشخّصون الأخطاء التي تحصل من هؤلاء، وأمرهم بإيصال أي سلبية يرونها في ولاياتهم إليه مباشرة، أما عن طريق الكتابة له، أو عن طريق المجيء إلى العاصمة وتقديم الشكاوي.

وهذه الطريقة في تشخيص الأخطاء جعلها الإمام علي (عليه السلام) حاكمة على تصرفات الولاة في المناطق البعيدة عن العاصمة، وهي بمثابة رافد آخر للرقابة المالية والإدارية من أجل السيطرة الكاملة على الإدارة في كل أنحاء الدولة الإسلامية.

لذلك اعتمد الإمام علي (عليه السلام) مجموعة من الوسائل من أجل تفعيل هذه الرقابة الإدارية، ومن هذه الوسائل التي اعتمدها الخليفة المخاطبة المباشرة للناس عندما يعين أحد الأشخاص في عمل ما، وهذه المخاطبة على نوعين إما إلقاء كلمة يجعل فيها الرعية رقيبة على الوالي أو العامل، أو إلزام هؤلاء بقراءة كتب التعيين على الناس عندما يتولوا أعمالهم كما سيأتي، ويمكن التعرف على النوع الأول من الخطاب

ص: 373


1- المنقري، وقعة صفین، ص 21 - 22، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 200، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 14 / 33
2- البلاذري، انساب الأشراف، ص 163، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 203 - 204، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 18 / 54

الموجه من الخليفة للناس، عندما ولى عبد الله بن العباس على البصرة بعد معركة الجمل، إذ خطب الناس في المسجد وقال لهم: (يا معشر الناس قد استخلفت عليكم عبد الله بن العباس، فأسمعوا له وأطيعوا أمره ما أطاع الله ورسوله، فإن أحدث فيكم أو زاغ عن الحق فأعلموني أعزله عنكم، فإني أرجو أن أجده عفيفا تقيا ورعا، وإني لم أوله عليكم إلا وأنا أظن ذلك به غفر الله لنا ولكم)(1)، وهذا يعني أن أمر بقاء الوالي أو عزله مرتبط بطاعته لله والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أولا، والعمل بمبادئ الإسلام التي تقوم على العدل والمساواة، ثم جعل الناس مصدر الرقابة على الوالي، فهو باق في عمله مادام يعمل بالحق، فإذا زاغ عن هذا المنهج فإن الخليفة خوّل الناس بالكتابة له من أجل معالجة هذا الموضوع، ومن اللافت للنظر في هذا الكتاب أن الخليفة أعطى هذا الحق للناس في الكتابة له إذا رأوا أي إساءة من الوالي لهم، مع أن أكثرهم اشترك في معركة الجمل، وحاربوه مع طلحة والزبير وعائشة، إلا أنه لم يتأثر بهذا الأمر، واعتبرهم رعايا للدولة يجب أن يحقق العدل المطلق لهم، وهذا الأمر ليس من باب كسب ودهم، أو سعيه لاستقرار الأمور في دولته الناشئة، بل هو جزء من عقيدته التي نرى فيها تطبيق مبدأ العدالة المطلقة مع رعايا الدولة، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، موالين له أو لا، وبالفعل فقد كتبت قبيلة تميم إحدى القبائل التي كانت تسكن البصرة للخليفة، ان الوالي عبد الله بن العباس كان يستعمل الشدة في معاملتهم نتيجة لأنهم ساندوا المتمردين في معركة الجمل، فأرسل الخليفة للولي كتابا يلومه فيه على هذا التصرف غير المقبول بحق الناس، لاسيما أن الخليفة أصدر عفوا عاما عن كل المشتركين بتلك المعركة، ولم يستخدم وسائل انتقامية مع أعدائه، فكتب له: (وقد بلغني تنمرك لبني تميم، وغلظتك عليهم وأن بني تميم لم

ص: 374


1- المفيد، الجمل، ص 224، المحمودي، نهج السعادة، 1 / 409

يغب لهم نجم إلا طلع لهم آخر، وإنهم لم يسبقوا بوغم في جاهلية أو إسلام، وإن لهم بنا رحم ماسة، وقرابة خاصة، نحن مأجورون على صلتها، ومأزورون على قطيعتها، فأربع أبا العباس رحمك الله فيما جرى على يدك ولسانك من خير أو شر، فإنا شريكان في ذلك، وكن عند صالح ظني بك، ولا يفيلن رأيي فيك)(1).

أما قراءة كتب تعيين الولاة والعمال على الناس، فمن أجل أن يكونوا مراقبين لأداء هذا الوالي أو العامل، ويمكن أن نأخذ مثلا على ذلك كتاب تعيين قيس بن سعد بن عبادة عندما ولاه على مصر، إذ كتب لأهل مصر: (وقد بعثت إليكم قيس ابن سعد الأنصاري أميراً فوازروه وأعينوه على الحق، وقد أمرته بالإحسان إلى محسنكم، والشدة على مريبكم والرفق بعوامكم وخواصكم، وهو ممن أرضى هديه وأرجو صلاحه ونصيحته، نسأل الله لنا ولكم عملا زاكيا وثوابا جزيلا ورحمة واسعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)(2)، وهذا معناه أن الخليفة عرف الرعية بحقوقهم، بحيث لا يستطيع أي والٍ أن يتجاوز على حقوقهم، رغم ثقة الخليفة بقيس وبسيرته.

كذلك كتاب تعيين محمد بن أبي بكر الذي ولاه الخليفة على مصر بعد عزل قيس ابن سعد، إذ قرأه الوالي الجديد على أهل مصر عندما وصل إليها، وفي هذا الكتاب توصيات وتشديد على الوالي في الحفاظ على حقوق الرعية، ونلمس تعريف الناس بحقوقهم وواجباتهم التي حددها الخليفة لهذا الوالي، والتي عرفها الناس من خلال قراءة هذا الكتاب عليهم، لذلك لا يستطيع أن يتلاعب بالأموال أو يظلم أحداً،

ص: 375


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 125، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 492
2- الثقفي، الغارات، 1 / 211، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6 / 59، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 535

وسنذكر جزءاً من هذا الكتاب : (هذا ما عهد به أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر، أمره بتقوى الله والطاعة له في السر والعلانية، وخوف الله في المغيب والمشهد، وأمره باللين للمسلم وبالغلظة على الفاجر، وبالعدل على أهل الذمة، وبالإنصاف للمظلوم، وبالشدة على الظالم، وبالعفو عن الناس، وبالإحسان ما استطاع، والله يجزي المحسنين، ويعذب المجرمين، وأمره أن يدعو من قلبه إلى الطاعة والجماعة،..... وأمره أن يجبي خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من قبل ولا ينتقص ولا يبتدع، ثم يقسمه بين أهله كما كانوا يقسمون عليه من قبل)(1).

كذلك فإن الخليفة قد أعطى الحق للناس بالكتابة إليه مباشرة في حال ظلمهم الوالي أو تجاوز على الأموال، لأن الوالي يعد أعلى سلطة في الولاية، فتكون الشكوى مقدمة إلى من هو أعلى منه في هرم السلطة وهو الخليفة، وقد رأينا ذلك في كتابة قبيلة تميم للخليفة عن تجاوز الوالي عليهم، لكن هذا الأمر سبقه توجيهات للولاة وعمال الخراج في تلقي الشكاوى المباشرة من الناس، سواء كانت هذه الشكاوى على العمال الذين يعينهم الوالي في الإدارة المالية، أو الذين يعملون في جباية الضرائب من الناس، ويمكن أن نعرف هذا الأمر عندما نقرأ بعض فقرات الكتاب الذي أعطاه الخليفة لمالك بن الحارث الاشتر لما ولاه على مصر: (أنصف الله وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله، كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته، وكان لله حربا حتى ينزع أو يتوب، وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظالم فإن الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد)(2)، ويمكن القول إن

ص: 376


1- الثقفي، الغارات، 1 / 224، ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 176، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6 / 65
2- ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 127 - 128، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17 / 34، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 601

مثل هذا التوصيات لم تكن موجهة لمالك الأشتر فقط، بل هي تعليمات يعمل عليها جميع الولاة والعمال في أرجاء الدولة الإسلامية، وجميع أوامر التعيين التي أصدرها الخليفة لهؤلاء الموظفين كانت تتضمن تعليمات قريبة من هذا النص، ولا يخفى أن الهدف من هذا النص هو أن الوالي يجب أن يستشعر هموم الناس البسطاء، ويعالج أي ظلم يقع عليهم، وهذه هي المرحلة الأولى التي أرادها الخليفة من الولاة والعمال، لذلك أوصاهم بضرورة أن تكون أبوابهم مفتوحة لاستقبال الناس في ولاياتهم دون أن يكون هناك حجاب يفصلهم عن رعيتهم، أو وجود مجموعة من الأشخاص يشكلون حاجزا بين الوالي أو العامل وبين الناس، فكتب بعض الكتب لهؤلاء في المعنى المتقدم، إذ تذكر الروايات أنه كتب لمالك الاشتر: (وأما بعد فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور)(1)، وفي كتاب آخر وجهه إلى قيس بن سعد: (فألن حجابك، وافتح بابك، واعمد إلى الحق)(2)، وفي بعض الحالات التي يقع الظلم على الرعية من الوالي نفسه، ولا يجدون في ولاياتهم من ينصفهم منه، يكتبون إلى الخليفة مباشرة، وهذه الكتابة لم تقتصر على المسلمين فقط، بل تعدت ذلك إلى غير المسلمين، لأن رعايا الدولة لم يكونوا من المسلمين فقط، بل كان هناك مجاميع كبيرة تعيش في ظل الدولة من الفلاحين والصناع والتجار من غير المسلمين، ففي رواية أن الدهاقين في ولاية أصفهان كتبوا إلى الخليفة، إن عامل الخراج عمرو بن سلمة الأرحبي كان لا يعاملهم باحترام، ويقسو عليهم ويحتقرهم، لذلك كتب اليه الخليفة كتابا يأمره بتغيير هذا السلوك مع هؤلاء الفلاحين الذين هم الركيزة الأساسية لاقتصاد الدولة، ونموذج

ص: 377


1- ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 144، ابن كثیر، البداية والنهاية، 8 / 9، المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 609
2- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 202، الاميني، الغدير، 2 / 71

التعايش بين المسلمين وغيرهم، وعليه فإن عدم دخولهم للإسلام يجب أن لا يكون مدعاة لاحتقارهم، (أما بعد فإن دهاقين بلدك شكوا منك غلظة وقسوة، واحتقارا وجفوة، ونظرت فلم أرهم أهلا لأن يدنوا لشركهم، ولا يقصوا ويجفوا لعهدهم)(1).

وعندما تحدث خيانة من أحد العمال، كان الناس الذين يسكنون في تلك الولاية أحد المصادر التي يعتمد عليها نظام الرقابة من أجل تأكيد أو نفي التهمة عن شخص الوالي أو العامل، ومن الأمثلة على ذلك الشكوى التي قدمها بعض المسلمين الذين كانوا يسكنون في اصطخر ضد عامل هذه المدينة المنذر بن الجارود العبدي(2)، ومفاد هذه الشكوى إن هذا العامل سرق بعض الأموال من تلك المدينة، لذلك عندما وردت للخليفة نفس هذه المعلومات من جهاز العيون، أحضر هذا العامل وعاقبه وعزله عن تلك الولاية.

وفي بعض الحالات كان الناس يفدون إلى الخليفة من أجل تقديم الشكاوى ضد الولاة والعمال، إذ تذكر الروايات أن سودة بنت عمارة ومجموعة من قومها قدموا إلى العاصمة لتقديم شكوى ضد عامل الصدقات في المنطقة التي يسكنون فيها، لأنه كان لا يلتزم بالأوامر التي أصدرها الخليفة، والمتعلقة في كيفية جباية هذه الصدقات، مما نتج عنه ظلم في الجباية والتوزيع، وكانت هذه المرأة هي التي تحدثت مع الخليفة عن الأمر لذلك عندما سمع الخليفة هذه الشكوى تأثر كثيرا نتيجة للإساءة التي صدرت من هذا العامل، وبكى لأن الظلم وقع على رعايا دولته، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: (اللهم إني لم أمرهم بظلم خلقك، ولا ترك حقك) ثم كتب كتابا إلى

ص: 378


1- البلاذري، انساب الأشراف، ص 161، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 203، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 137
2- البلاذري، انساب الأشراف، ص 163

العامل يأمره بحفظ الأموال التي بحوزته لحين تعيين شخص آخر يتولى المهمة بدلا عنه «بسم الله الرحمن الرحيم قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»(1)، (فإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا، حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام)(2). لكن هذا الإجراء الذي اتخذه الخليفة تبعه بالتأكيد تدقيق في صحة الشكوى المقدمة من الأهالي ضده، إذ ليس من المعقول أن يعاقبه بدون تدقيق، وربما الشخص الذي سيقبض الأموال منه كان هو الذي يدقق في هذه الشكوى.

ص: 379


1- الاعراف، الآية 85
2- ابن طيفور، بلاغات النساء، ص 30، ابن عبد ربه، العقد الفريد، 2 / 102 - 103، المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 119

ص: 380

الخاتمة

ص: 381

ص: 382

الخاتمة

بعد أن انتهينا من بحثنا توصلنا إلى مجموعة من النتائج التي يمكن إجمالها بالنقاط الآتية:

1- توصل البحث إلى أن السياسة المالية التي اتبعها الإمام علي (عليه السلام)، كانت متطابقة مع السياسة المالية التي كانت متبعة في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى لا تكاد تجد فرقا بين السياستين على الرغم من اختلاف الظروف والموارد، وهذا ناتج عن قناعة الإمام علي (عليه السلام) بأن حل المشاكل التي واجهت الدولة الإسلامية يكمن في الرجوع إلى سياسة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

2- تلمس البحث أسباب الأزمة التي مرت بها الدولة الإسلامية في عهد الخليفة عثمان، وتوصل إلى أن أحد الأسباب الرئيسية لهذه الأزمة كانت السياسة المالية التي اتبعها الخليفة عمر، لاسيما فيما يتعلق بتوزيع العطاء على المسلمين، هذه السياسة التي سار عليها الخليفة عثمان أيضا ولم يغيرها، برزت سلبياتها في عهده وانتهت بمقتل الخليفة، لذلك حاول الإمام علي (عليه السلام) معالجة هذه المشكلة بتغيير السياسة المالية التي سنها الخليفة عمر بن الخطاب.

3- عندما استلم الإمام علي الخلافة وجد الدولة الإسلامية تعاني من اقتصاد مستَغَل، قائم على تمتع مجموعتين من المسلمين بالأموال وهما أسرة الخليفة عثمان والصحابة الأوائل، إذ توزع المجتمع إلى طبقتين: طبقة لا تجد قوت

ص: 383

يومها، وطبقة لا تعرف كيف تنفق الأموال، وكل هذا في ظل دولة تعتنق الدين الإسلامي الذي يعد العدالة الاجتماعية أهم مبادئه، وزاد الأمر سوءاً أن الكثير من المقربين من الخليفة استطاعوا السيطرة على بعض أراضي وأموال الدولة، فعمل الخليفة على إلغاء الطبقية التي بدأت في الظهور في المجتمع الإسلامي من خلال توزيع أموال الدولة على المسلمين بالتساوي، ثم أرجع الأموال والأراضي التي أخذت من الدولة، لذلك يمكن القول بأن الخليفة علياً استطاع أن يواجه كل الصعوبات التي شهدتها خلافته، بحيث شعر المسلمون لاسيما الفقراء منهم بأنهم يعيشون في ظل دولة توفر لهم العدل والمساواة مع غيرهم.

4- توصل البحث إلى أن الإمام علياً (عليه السلام) استطاع إيجاد تنظيم دقيق لمسألة جمع الضرائب وتوزيعها، ففي مجال الجباية أوجد الخليفة آلية تقوم على الرفق واللين عند جباية الضرائب، ورفض أي عمل يؤدي إلى الإضرار بدافعيها، وفي مجال توزيع الأموال أوجد الخليفة آلية تقوم على التوزيع السريع لهذه الأموال وتجنب خزنها، انطلاقاً من حاجة المسلمين إلى هذه الأموال، وبذلك يكون قد غير السياسة التي كانت سائدة قبله، والتي كانت قائمة على خزن الأموال وإبقائها لمدة طويلة في بيت المال.

5- خلص البحث إلى أن الإمام علياً (عليه السلام) وضع نظاماً إدارياً متكاملاً من أجل إدارة أموال الدولة الإسلامية، وذلك من خلال تغيير الكادر الإداري الذي شكى منه المسلمون في عهد الخليفة عثمان، وإيجاد ضوابط مشددة في اختيار الولاة والعمال من اجل الحفاظ على الأموال، ثم وضع آليات لمراقبة أداء هؤلاء الموظفين مثل التفتيش الإداري، ونظام العيون وغيرها، فساهمت هذه الآليات في منع الموظفين من التجاوز على الأموال، كما أنه ربط الولايات

ص: 384

والمدن الإسلامية بالعاصمة وفق نظام لا مركزي، مع إبقاء رقابة الخليفة على أداء الولاة، أي أنه أعطى الولاة صلاحيات واسعة من أجل إدارة الولايات بصورة أفضل، لكن هذه الصلاحيات كانت تجمد حالما يكون هناك تجاوز على الأموال.

6- أهم نتيجة خلص إليها البحث هي أن العدل الذي تمسك به الإمام علي (عليه السلام) وطبقه في دولته استمر بالبقاء إلى يومنا هذا، بينما الظلم والجور الذي وقع على المسلمين من الحكام الظلمة انتهى بصفحات سوداء كتبها المؤرخون عن هؤلاء الحكام، فعلى الرغم من ان الدولة التي أسسها الإمام علي (عليه السلام) كانت مدتها قليلة، لكن الناس رأوا فيها ثمار العدالة، فعاشوا منعمين لا يخافون الظلم من السلطة التي شعروا بأنها حامية لهم ولمصالحهم، أما عدم الاستقرار الذي مرت به دولته، فقد كان سببه عدم رضى المنتفعين والأثرياء عن هذه الدولة التي ساوتهم بالبسطاء، لذلك وقف هؤلاء ووحدوا صفوفهم على الرغم من اختلاف توجهاتهم من أجل إسقاط هذه الدولة، لكنهم فشلوا في هذا الأمر، ولم ينجدهم سوى اغتيال الخليفة علي.

وهذا الاغتيال سبب مآسي كثيرة للمسلمين، فقد اعتلى بنو أمية الحكم الإسلامي بالقوة والسيف بعد أن اعتنقوا الإسلام، وهم الذين كانوا أعتى أعداءه لكنهم لم يستطيعوا مواجهته، فدخلوه واستطاعوا أن يصلوا لأعلى السلطات، فنشروا المظالم، وحرفوا الدين، وزوروا الحقائق، وأسسوا لاختلاف الأمة الإسلامية، وفرقوها إلى ملل ونحل، فتقاتل المسلمون فيما بينهم وكفر بعضهم بعضا، إلا أنهم على الرغم من طول المدة التي حكموا فيها نجد التاريخ لفظهم ووضع تاريخهم في صفحاته السود، وبقي نفس هذا التاريخ يسجل لعلي بن أبي طالب علما وعدلا وشجاعة وورعا وإنسانية، فانتصر علي ومبادئ علي وعدل علي.

ص: 385

ص: 386

المصادر والمراجع

ص: 387

ص: 388

المصادر والمراجع

- ابن آدم، يحيى بن ادم القرشي ت 203 ه، 1- كتاب الخراج، تحقيق احمد محمد شاكر، دار المعرفة، بيروت، 1979.

- ابن الأثير، عز الدين علي بن أبي الكرم الشيباني، ت 630 ه، 2- اسد الغابة، مطبعة اسماعيليان، طهران، د ت.

3- الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت 1966.

- ابن الأثير، المبارك بن محمد ت 606 ه، 4- النهاية في غريب الحديث، تحقيق طاهر احمد الزاوي، ط 4، مؤسسة اسماعيليان، قم 1364 ه.

- إبن إدريس الحلي، محمد بن منصورت 598 ه، 5- السرائر، قم 1410 ه.

- الأردبيلي، احمدت 993 ه، 6- مجمع الفائدة والبرهان، جماعة المدرسين، قم 1405 ه.

- ابن أعثم، احمد بن أعثم الكوفيت 314 ه، 7- كتاب الفتوح، تحقيق علي شيري، دار الأضواء، بيروت 1991.

- البخاري، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي ت 256 ه، 8- كتاب التاريخ الكبير، المكتبة الإسلامية، ديار بكر د ت.

9- صحيح البخاري، دار الفكر، بيروت 1401.

10- التاريخ الصغير، تحقيق محمود إبراهيم زايد، دار المعرفة، بيروت 1406 ه.

- ابن البراج، عبد العزيز بن البراج الطرابلسي ت 481 ه، 11- جواهر الفقه، تحقيق إبراهيم بهادري، مؤسسة النشر الإسلامي، قم 1411.

- ابن بكار، الزبير ت 256 ه،

ص: 389

12- الأخبار الموفقيات، تحقيق سامي مكي العاني، رئاسة ديوان الأوقاف، بغداد 1972.

- البكري، عبد الله بن عبد العزيز الأندلسي ت 487 ه، 13- معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع، تحقيق مصطفى السقا، ط 3، بيروت 1983.

- البلاذري، احمد بن يحيى ت 279 ه، 14- انساب الأشراف، الجزء الخامس، تحقيق محمد حميد الله، دار المعارف، مصر 1959.

15- انساب الأشراف، الجزء الأول، تحقيق محمد باقر المحمودي، مؤسسة الاعلمي، بيروت 1394.

16- فتوح البلدان، دار الكتب العلمية، بيروت، 2000.

- البيهقي، احمد بن الحسين ت 458 ه، 17- السنن الكبرى، دار الفكر، بيروت د ت.

- الترمذي، محمد بن عيسى ت 279 ه، 18- سنن الترمذي، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، دار الفكر، بيروت 1403.

- الثقفي، إبراهيم بن محمد الثقفي ت 283 ه، 19- الغارات، تحقيق جلال الدين المحدث، مطبعة بهمن، إيران 1395.

- الجاحظ، عمرو بن بحر ت 255 ه، 20- المحاسن والأضداد، تحقيق فوزي عطوى، دار صعب، بيروت 1969.

- أبو جعفر الإسكافي، محمد بن عبد الله المعتزلي ت 220 ه، 21- المعيار والموازنة في فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، تحقيق محمد باقر المحمودي، د. م د. ت.

- الجوهري، احمد بن عبد العزيز ت 323 ه، 22- السقيفة وفدك، رواية عز الدين ابن أبي الحديد المعتزلي، جمع وتحقيق محمد هادي الاميني، شركة الكتبي، بيروت 1413.

- الحاكم النيسابوري، محمد بن محمد ت 405 ه، 23- المستدرك على الصحيحين، تحقيق يوسف المرعشلي، دار المعرفة، بيروت 1406.

ص: 390

- ابن حبان، محمد بن حبان بن احمد البستيت 354 ه، 24- كتاب المجروحين، تحقيق محمود إبراهيم زايد، القاهرة 1360 ه.

25- كتاب الثقات، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن 1973.

- ابن حبيب، محمد بن حبيب البغدادي ت 254 ه، 26- المنمق في أخبار قريش، تحقيق خورشيد احمد فاروق، جامعة دهلي، الهند 1964.

- ابن حجر، احمد بن علي بن حجر ت 852 ه، 27- تهذيب التهذيب، دار الفكر، بيروت 1984.

28- الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق عادل احمد عبد الموجود وآخر، دار الكتب العلمية، بيروت 1415.

29- فتح الباري في شرح صحيح البخاري، ط 2، دار المعرفة، بيروت د ت.

- ابن أبي الحديد، عز الدين بن هبة الله ت 656 ه، 30- شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، بيروت د ت.

- ابن حزم، علي بن احمد ت 456 ه، 31- المحلى، تحقيق احمد محمد شاكر، دار الفكر، بيروت د ت.

- الحسكاني، عبيد الله بن احمد ت بعد 500 ه، 32- شواهد التنزيل، تحقيق محمد باقر المحمودي، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، طهران 1990.

- الحلي، الحسن بن يوسف ت 726 ه، 33- تذكرة الفقهاء، مؤسسة آل البيت، قم 1414.

34- منتهی الطلب، مجمع البحوث الإسلامية، إيران 1412.

35- مختلف الشيعة، مؤسسة النشر الإسلامي، قم 1413.

36- قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام، مؤسسة النشر الإسلامي، قم 1413.

37- كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين، تحقيق حسين الدركاهي، طهران 1991.

- الحميري القمي، عبد الله ت بعد 300 ه،

ص: 391

38- قرب الإسناد، مؤسسة آل البيت، قم 1413 ه.

- ابن حنبل، احمد ت 241 ه، 39- مسند احمد، دار صادر، بيروت د ت.

40- العلل ومعرفة الرجال، تحقيق وصي الله محمود عباس، المكتب الإسلامي، بيروت 1408 ه.

- ابن خزيمة، محمد بن اسحاق بن خزيمة ت 311 ه، 41- صحيح ابن خزيمة، د م 1412.

- الخصيبي، الحسين بن حمدان ت 334 ه، 42- الهداية الكبرى، مؤسسة البلاغ، بيروت 1991.

- الخطيب البغدادي، احمد بن علي ت 463 ه، 43- تاريخ بغداد، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت 1997.

- ابن خياط، خليفة بن خياط العصفري ت 240 ه، 44- تاريخ خليفة بن خياط، تحقيق سهيل زكار، دار الفكر، بيروت 1993.

- الخوارزمي، الموفق بن احمد الحنفي ت 568 ه، 45- المناقب، تقديم محمد رضا الخرسان، المطبعة الحيدرية، النجف 1965.

- الدارقطني، علي بن عمر ت 385 ه، 46- سنن الدارقطني، تحقيق مجدي بن منصور، دار الكتب العلمية، بيروت 1996.

- أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني ت 275، 47- سنن أبي داود، تحقيق سعيد محمد اللحام، ط 1، دار الفكر، بيروت 1990.

- ابن الدمشقي، محمد بن احمد ت 871 ه، 48- جواهر المطالب في مناقب الإمام الجليل علي بن أبي طالب (عليه السلام)، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، قم 1415 ه.

- الدميري، كمال الدين ت 808 ه، 49- حياة الحيوان الكبرى، مطبعة مصر 1309.

- الدينوري، احمد بن داود ت 282 ه،

ص: 392

50- الأخبار الطوال، تحقيق عبد المنعم عامر، دار إحياء الكتب العربية، بيروت 1960.

- الذهبي، محمد بن احمد ت 748 ه، 51- دول الإسلام، تحقيق فهيم محمد شلحوت، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1974.

52- سير أعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة، بيروت 1993.

53- من له رواية في كتب الستة، دار القبلة، السعودية 1992.

54- ميزان الاعتدال، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت 1382.

- ابن رجب، عبد الرحمن بن احمد ت 895 ه، 55- الاستخراج في أحكام الخراج، تحقيق عبد الله الصديق، دار المعرفة، بيروت 1979.

- ابن رشد الحفيد، محمد بن احمدت 595 ه، 56- بداية المجتهد ونهاية المقصد، تحقيق خالد العطار، دار الفكر، بيروت 1995.

- الرازي، محمد بن ادريس التميمي ت 327 ه، 57- الجرح والتعديل، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1371.

- الزبيدي، محمد مرتضى ت 1205 ه، 58- تاج العروس في جواهر القاموس، مكتبة الحياة، بيروت د ت.

- ابن زهرة الحلبي، حمزة بن علي ت 585 ه، 59- غنية النزوع في علمي الأصول والفروع، تحقيق إبراهيم البهادري، مطبعة اعتماد، قم 1417.

- ابن سعد، محمد ت 230 ه، 60- الطبقات الكبرى، دار صادر، بيروت د ت.

- السرخسي، أبو بكر محمد بن أبي سهل ت 483 ه، 61- المبسوط، دار المعرفة، بيروت 1406.

- ابن سلمة، احمد بن محمد بن سلمة الأزدي ت 321 ه، 62- شرح معاني الآثار، ط 3، تحقيق محمد زهري النجار، دار الكتب العلمية، مصر 1996.

- سليم بن قيس، سليم بن قيس الهلالي ت 76 ه،

ص: 393

63- كتاب سليم بن قيس، تحقيق محمد باقر الأنصاري، قم 1420 ه.

- السمعاني، عبد الكريم بن محمد ت 562، 64- الأنساب، تعليق عبد الله عمر البارودي، دار الجنان، بيروت 1408.

- السمهودي، أبو الحسن عبد الله ت 911 ه، 65- وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى، مطبعة الآداب، القاهرة 1326، 1 / 518.

- السهمي، حمزة بن يوسف ت 427 ه، 66- تاريخ جرجان، ط 4، عالم الكتب، بيروت 1407.

- ابن سيد الناس، محمد بن محمد ت 671 ه، 67- عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، مكتبة القدسي، القاهرة 1356 ه، ص 50.

- السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر ت 911 ه، 68- تاريخ الخلفاء، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، ط 1، مصر 1952.

69- الدر المنثور في التفسير المأثور، دار المعرفة، بيروت 1365.

- ابن شاذان الأزدي، الفضل بن شاذان الأزدي ت 260 ه، 70- الإيضاح، تحقيق جلال الدين الحسيني، طهران 1391.

- الشافعي، محمد بن إدريس ت 204 ه، 71- كتاب الأم، ط 3، دار الفكر، بيروت 1983.

72- الرسالة، تحقيق احمد محمد شاكر، المكتبة العلمية، بيروت 1939.

- ابن شبة النميري، عمر ت 262 ه، 73- تاريخ المدينة المنورة، تحقيق فهيم محمد شلتوت، دار الفكر، قم د ت.

- الشربيني، محمد ت 977 ه، 74- مغني المحتاج، دار إحياء التراث العربي، مصر 1958.

- الشريف الرضي، محمد بن الحسن الموسوي ت 406 ه، 75- خصائص الأئمة، تحقيق محمد هادي الاميني، مجمع البحوث الإسلامية، إيران 1406.

- ابن شعبة الحراني، الحسن بن علي ت بعد 400 ه،

ص: 394

76- تحف العقول عن آل الرسول، تحقيق علي اكبر غفاري، ط 2، مؤسسة النشر الإسلامي، قم 1404.

- ابن شهر آشوب، مشير الدين محمد بن علي بن شهر آشوب ت 588 ه، 77- مناقب آل أبي طالب، المطبعة الحيدرية، النجف 1376.

- الشوكاني، محمد بن علي ت 1255 ه، 78- نيل الاوطار من أحاديث سيد الأخيار، دار الجليل، بيروت 1973.

- الشيباني، محمد بن الحسن ت 189 ه، 79- السير الكبير، تحقيق صلاح الدين المنجد، مصر 1957.

- ابن أبي شيبة، عبد الله بن محمد بن أبي شيبة ت 235 ه، 80- المصنف، تحقيق سعيد محمد اللحام، دار الفكر، بيروت 1988.

- أبو الشيخ، عبد الله بن محمد بن حيان ت 369 ه، 81- طبقات المحدثين بأصبهان، تحقيق عبد الغفور عبد الحق، ط 2، مؤسسة الرسالة، بيروت 1992.

- الصدوق، محمد بن علي بن بابويه القمي ت 381 ه، 82- من لا يحضره الفقيه، ط 2، تحقيق علي اكبر الغفاري، جماعة المدرسين، قم 1404.

83- الهداية، مؤسسة الإمام الهادي، قم 1418.

84- الامالي، مؤسسة البعثة، قم 1417.

85- الخصال، تحقيق علي اكبر الغفاري، جماعة المدرسين، قم 1403.

86- المقنع، مؤسسة الإمام الهادي، قم 1415.

- الصنعاني، عبد الرزاق بن همام ت 211، 87- المصنف، تحقيق حبيب الرحمن الاعظمي، د م 1392.

88- تفسير القرآن، تحقيق مصطفى مسلم، مكتبة الرشد، الرياض د ت.

- ابن طاووس الحسيني، علي بن موسى ت 664 ه، 89- كشف المحجة لثمرة المهجة، المطبعة الحيدرية، النجف 1370 ه.

- الطبراني، سليمان بن احمد ت 360 ه،

ص: 395

90- المعجم الأوسط، تحقيق عبد الحسن إبراهيم الحسيني وآخر، مطبعة دار الحرمين، د م 1995.

91- المعجم الصغير، دار الكتب العلمية، بيروت د ت.

- الطبرسي، الفضل بن الحسن ت 560 ه، 92- مجمع البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الاعلمي، بيروت 1415.

- الطبرسي، احمد بن علي ت 560 ه، 93- الاحتجاج، تحقيق محمد باقر الخرسان، دار النعمان، النجف 1966.

- الطبرسي، الحسن بن الفضل ت 548 ه، 94- مكارم الأخلاق، إيران 1972.

- الطبري، محمد بن جرير ت 310 ه، 95- تاريخ الأمم والملوك، تحقيق مجموعة باحثين، مؤسسة الاعلمي، بيروت د ت.

96- جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار الفكر، بيروت 1415.

- احمد الطبري، محب الدين احمد بن عبد الله ت 694 ه، 97- ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، مكتبة المقدسي، القاهرة 1356.

- الطوسي، محمد بن الحسن ت 460 ه، 98- الامالي، تحقيق مؤسسة البعثة، دار الثقافة، قم 1414.

99- المبسوط في فقه الإمامية، تعليق محمد تقي الكشفي، المكتبة الرضوية، طهران 1387 ه.

100- تهذيب الأحكام، تحقيق حسن الخرسان، ط 4، دار الكتب الإسلامية، طهران 1390.

101- النهاية، دار الأندلس، طهران 1365، ص 423.

102- الاستبصار فيما اختلف من الأخبار، تحقيق حسن الخرسان، دار الكتب الإسلامية، طهران 1390.

103- الخلاف، مؤسسة النشر الإسلامي، قم 1417.

104- رجال الطوسي، تحقيق جواد القيومي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم 1415 ه.

- ابن طيفور، أبو الفضل بن أبي طاهر 380 ه، 105- بلاغات النساء، مكتبة بصيري، قم د. ت.

ص: 396

- ابن أبي عاصم، احمد بن عمرو بن الضحاك ت 287 ه، 106- الآحاد والمثاني، تحقيق فيصل احمد الجوابرة، دار الدراية، السعودية 1991.

- ابن عبد ربه، احمد بن محمد الأندلسي ت 328 ه، 107- العقد الفريد، تصحيح محمد أمين، القاهرة 1949.

- أبو عبيد، القاسم بن سلام ت 224 ه، 108- الأموال، تحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتب المصرية، القاهرة 1353.

- ابن عدي، احمد بن عبد الله بن عدي الجرجاني ت 365 ه، 109- الكامل في ضعفاء الرجال، تحقيق سهيل زكار، ط 3، دار الفكر، بيروت 1998.

- ابن عساكر، علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي ت 571 ه، 110- تاريخ دمشق، تحقيق علي شيري، دار الفكر، بيروت 1995.

- العسكري، الحسن بن عبد الله بن سعيدت 382 ه، 111- تصحيفات المحدثين، تحقيق محمود احمد ميرة، المطبعة العربية الحديثة، القاهرة 1402.

- العقيلي، محمد بن عمرو ت 322 ه، 112- كتاب الضعفاء الكبير، ط 2، تحقيق عبد المعطي أمين قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت 1418.

- ابن علي، زيد ت 122 ه، 113- مسند زيد بن علي، دار الحياة، بيروت 1328.

- ابن عمر، سيف بن عمر الضبي ت 200 ه، 114- الفتنة ووقعة الجمل، تحقيق احمد راتب عمروش، دار النفائس، بيروت 1391.

- العياشي، محمد بن مسعود ت 320 ه، 115- تفسير العياشي، تحقيق هاشم الرسولي، المكتبة العلمية الإسلامية، طهران 1380.

- أبو الفرج الأصبهاني، علي بن الحسين ت 356 ه، 116- مقاتل الطالبيين، تحقيق احمد صقر، دار المعرفة، بيروت د. ت.

- أبو القاسم الكوفي، علي بن احمد ت 352 ه،

ص: 397

117- الاستغاثة في بدع الثلاثة، النجف د ت.

- ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم ت 276 ه، 118- الإمامة والسياسة، تحقيق علي شيري، مطبعة أمير، قم 1413 ه.

- قدامة بن جعفر ت 310 ه، 119- الخراج وصناعة الكتابة، تعليق محمد حسين الزبيدي، وزارة الثقافة، بغداد 1981.

- ابن قدامة، عبد الله بن احمد بن محمود ت 620 ه، 120- المغني، دار الكتاب العربي، بيروت د ت.

- ابن قدامة المقدسي، عبد الرحمن بن قدامة المقدسي 682 ه، 121- الشرح الكبير، دار الكتاب العربي، بيروت د ت.

- القرطبي، محمد بن احمدت 671 ه، 122- تفسير القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت د ت.

- القزويني، محمد بن يزيد ت 275 ه، 123- سنن ابن ماجة، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط 2، دار الفكر، بيروت د ت.

- القمي، محمد طاهر، 124- الأربعين في إمامة الأئمة الطاهرين، تحقيق مهدي الرجائي، مطبعة الأمير، قم 1418.

- القندوزي الحنفي، سليمان بن إبراهيم ت 1294 ه، 125- ينابيع المودة لذوي القربى، تحقيق علي جمال الحسيني، دار الأسوة د. ت.

- ابن كثير، إسماعيل بن كثير الدمشقي ت 774 ه، 126- البداية والنهاية، تحقيق علي شيري، دار إحياء التراث، بيروت 1988.

127- تفسير القرآن العظيم، دار المعرفة، بيروت 1992.

- الكليني، محمد بن يعقوب ت 328 ه، 128- الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران 1388.

- الكوفي، محمد بن سليمان ت بعد 300 ه، 129- مناقب الإمام أمير المؤمنين، تحقيق محمد باقر المحمودي، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، قم 1412.

ص: 398

- مالك، مالك بن انس ت 179 ه، 130- المدونة الكبرى، مطبعة السعادة، مصر د ت.

131- الموطأ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1406.

- الماوردي، علي بن محمدت 450 ه، 132- الأحكام السلطانية، دار الكتب العلمية، بيروت 1978.

- المتقي الهندي، علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين ت 975 ه، 133- كنز العمال، تحقيق بكري حياني وآخر، مؤسسة الرسالة، بيروت 1989.

- المجلسي، محمد باقر ت 1111 ه، 134- بحار الأنوار، ط 2، مؤسسة الوفاء، بيروت 1983.

- أبو مخنف الأزدي، لوط بن يحيى ت 157 ه، 135- مقتل الحسين، المطبعة العلمية، قم 1398 ه.

- المزي، جمال الدين أبو الحجاج يوسف ت 742 ه، 136- تهذيب الكمال في أسماء الرجال، تحقيق بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بغداد 1986.

- المسعودي، علي بن الحسين ت 356 ه، 137- مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق أمير مهنا، مؤسسة النور، بيروت 2000.

138- التنبيه والأشراف، بيروت 1965.

- مسلم، مسلم بن الحجاج ت 261 ه، 139- صحيح مسلم، دار الفكر، بيروت د ت.

- ابن معين، يحيى بن معين الدارمي ت 280 ه، 140- تاريخ ابن معين، تحقيق احمد محمد، دار المأمون، دمشق 1400 ه.

- المفيد، محمد بن محمد بن النعمان ت 413 ه، 141- الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، تحقيق مؤسسة آل البيت، دار المفيد، قم د ت.

142- الامالي، تحقيق علي اكبر الغفاري، نشر جماعة المدرسين، قم 1403.

ص: 399

143- المقنعة، جماعة المدرسين، قم 1410.

144- خلاصة الإيجاز، مطبعة مهر، إيران د. ت.

145- الجمل، مكتبة الداوري، قم د. ت.

- المقريزي، احمد بن علي ت 845 ه، 146- الخطط المقريزية، مكتبة المثنى، بغداد 1970.

147- النزاع والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم، تحقيق علي عاشور، المطبعة العلمية، النجف 1368 ه.

- ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم ت 711 ه، 148- لسان العرب، دار إحياء التراث العربي، قم 1405.

- المنقري، نصر بن مزاحم المنقري ت 212 ه، 149- وقعة صفين، تحقيق عبد السلام محمد هارون، ط 2، المؤسسة العربية الحديثة، مصر 1962.

- النديم البغدادي، محمد بن إسحاق ت 438 ه، 150- كتاب الفهرست، مصر 1971.

- النسائي، احمد بن شعيب ت 303 ه، 151- سنن النسائي، دار الفكر، بيروت 1930.

152- السنن الكبرى، تحقيق عبد الغفار سليمان وآخر، دار الكتب العلمية، بيروت 1991.

- النعمان المغربي، النعمان بن محمد ت 363 ه، 153- شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار، تحقيق محمد الحسيني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم د ت.

154- دعائم الإسلام، تحقيق آصف بن علي اصغر فيضي، دار المعارف، مصر 1963.

- أبو نعيم الأصبهاني، احمد بن عبد الله ت 430 ه، 155- كتاب الضعفاء، تحقيق فاروق حمادة، دار الثقافة، الدار البيضاء د ت.

156- ذكر أخبار اصبهان، مطبعة بريل، إيران 1934.

- ابن نما الحلي، جعفر بن محمد بن جعفر ت 645 ه،

ص: 400

157- ذوب النضار في شرح الثار، تحقيق فارس كريم حسون، مؤسسة النشر الإسلامي، قم 1416 ه.

- النووي، محي الدين ت 676 ه، 158- المجموع، دار الفكر، بيروت د ت.

- ابن هشام، عبد الملك ت 213 ه، 159- السيرة النبوية، تحقيق احمد شمس الدين، دار الهلال، بيروت 1998.

- الهيثمي، علي بن أبي بكر ت 807 ه، 160- مجمع الزوائد، دار الكتب العلمية، بيروت 1988.

- الواقدي، محمد بن عمر ت 207 ه، 161- المغازي، تحقيق ماردسن جونس، دار المعارف، مصر، 1964.

- ياقوت الحموي، شهاب الدين ياقوت بن عبد الله الحموي ت 626 ه، 162- معجم البلدان، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1979.

- يحيى بن الحسين ت 298 ه، 163- الأحكام في الحلال والحرام، د م 1990.

- أبو يعلى، احمد بن علي الموصلي ت 307 ه، 164- مسند أبي يعلى، تحقيق حسين سليم، دار المأمون للتراث، بيروت د ت.

- اليعقوبي، احمد بن أبي يعقوب ت 284 ه، 165- تاريخ اليعقوبي، دار صادر، بيروت د ت.

- أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم ت 182 ه، 166- الخراج، دار المعرفة، بيروت 1979.

المراجع

- إدريس الحسيني، 167- لقد شيعني الحسين، إيران، د ت.

- الاميني، عبد الحسين احمد،

ص: 401

168- الغدير، دار الكتاب العربي، بيروت 1977.

- الأنصاري، مرتضى بن محمد أمين، 169- كتاب المكاسب، قم 1420 ه.

- البجاوي، جاسم محمد شهاب، 170- دراسات في الفكر الاقتصادي العربي الإسلامي، مطبعة الجمهور، الموصل 1990.

- بخيت، عبد الحميد، 171- عصر الخلفاء الراشدين، دار المعارف، مصر 1965.

- البكري، عبد الرحمن احمد، 172- من حياة عمر بن الخطاب، مطبعة الإرشاد، بيروت د م.

- الجواهري، محمد حسن، 173- جواهر الكلام، تحقيق محمد القوجاني، دار الكتب الإسلامية، قم د ت.

- جودة، جمال محمد، 174- العرب والأراضي في العراق، الأردن 1977.

- الحر العاملي، محمد بن الحسن، 175- وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت، قم 1414.

- الحسني، هاشم معروف، 176- دراسات في الحديث والمحدثين، دار التعارف، بيروت 1978.

- الحصونة، رائد حمود عبد الحسين، 177- نشأة السجون وتطورها في الدولة العربية الإسلامية حتى التسلط التركي 334 ه 945 م، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة البصرة 2002.

- خولة شاكر، 178- بيت المال وتطوره، بغداد 1976.

- الدوري، عبد العزيز، 179- النظم الإسلامية، بغداد 1950.

ص: 402

180- في التنظيم الاقتصادي في صدر الإسلام، مجلة العلوم الاجتماعية، جامعة الكويت 1981.

181- نشأة الإقطاع في المجتمعات الإسلامية، مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد 20، بغداد 1970.

- ديورانت، ول، 182- قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران، القاهرة 1964.

- زيدان، عبد الكريم، 183- أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام، مطبعة البرهان، بغداد 1963.

- السيستاني، علي الحسيني، 184- منهاج الصالحين، قم 1416.

- شرف الدين، عبد الحسين، 185- المراجعات، تحقيق حسين الراضي، ط 2، بيروت 1982.

186- النص والاجتهاد، مطبعة سيد الشهداء، قم 1404.

- الشرهاني، حسين علي، 187- حياة السيدة خديجة بنت خويلد، مكتبة الهلال، بيروت 2005.

- شمس الدين، محمد مهدي، 188- دراسات في نهج البلاغة، ط 2، دار الزهراء، بيروت 1972.

189- مهدی، نظام الحكم والإدارة في الإسلام، ط 3، دار الثقافة، إيران 1992.

- صبحي الصالح، 190- النظم الإسلامية نشأتها وتطورها، دار العلم للملايين، بيروت 1956.

- الصدر، محمد باقر، 191- فدك في التاريخ، تحقيق عبد الجبار شرارة، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، د م 1415.

- علي، جاسم صكبان، 192- دراسات في التاريخ العربي من خلافة أبي بكر حتى سقوط الدولة الأموية 11

ص: 403

132 ه، الموصل 1985.

- العيساوي، علاء كامل صالح، 193- النظم الإدارية والمالية في عهد الإمام علي (عليه السلام) 35 - 40 ه، 656 - 660 م، اطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة البصرة 2005.

- فان فلوتن، 194- السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات في عهد بني أمية، ترجمة حسن إبراهيم حسن، مطبعة السعادة، مصر 1934.

- فوزي، فاروق عمر وآخرون، 195- النظم الإسلامية، بغداد 1987.

- القريشي، باقر شريف، 196- حياة الإمام الحسين، مطبعة الآداب، النجف الأشرف 1974.

- كديور، محسن، 197- المشروعية السياسية ونظريات الحكم في الفقه الشيعي، مدخل إلى الفكر السياسي في الإسلام، مجموعة مقالات، إيران 2001.

- الكلانتري، علي اكبر، 198- الجزية وأحكامها، مؤسسة النشر الإسلامي، قم 1416.

- مرتضى العسكري، 199- معالم المدرستين، مؤسسة النعمان، بيروت 1990.

200- عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى، ط 6، دار التوحيد 1992.

201- أحاديث أم المؤمنين عائشة، مكتبة النهضة، د م 1994.

- نجمان ياسين، 202- تطور الأوضاع الاقتصادية في عهد الرسالة والخلفاء الراشدين، الموصل 1988.- النجيمي، محمد صادق، 203- أضواء على الصحيحين، ترجمة يحيى البحراني، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم 1419.

ص: 404

- الهمداني، احمد الرحماني، 204- الإمام علي (عليه السلام)، طهران د ت.

- اليوزبكي، توفيق، 205- النظم العربية الإسلامية، ط 3، بغداد 1988.

المصادر الأجنبية

-Bell، Richard، The origin of Islam in its Christian environment، London 1926.

2- Kennedy، Hugh، The Prophet and the Age of the Caliphates، second edition، Publisher: Longman، Published 2004.

3- Vercellin،Giorgio، Istituzioni Del Mondo Musulmano،Torino 1996.

ص: 405

المحتويات

مقدمة المؤسسة...7

المقدمة...9

الفصل الأول تولي الإمام علي بن أبي طالب خلافة المسلمين

المبحث الأول: الثورة على الخليفة عثمان بن عفان...15

المبحث الثاني :بيعة الإمام علي بالخلافة وبرنامجه السياسي والمالي...53

البيعة:...53

البرنامج السياسي والمالي للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)...72

الفصل الثاني: واردات الدولة الإسلامية بيت المال...83

أما الموارد التي يعتمد عليها بيت المال فهي:...101

أ- الخراج...101

ب- الجزية...137

ج- الزكاة...160

د- الفيء والغنائم...176

1- الفيء...176

2- الغنائم...187

ه- العشور...204

1- عشر الأرض...204

2- عشور التجارة...207

ص: 406

الفصل الثالث: نفقات بيت المال

أ- العطاء ورواتب الموظفين...213

طريقة توزيع العطاء ووقته...246

ب- الرعاية الاجتماعية والمساعدات...271

ج- النفقات العامة...278

الفصل الرابع الإدارة المالية في عهد الإمام علي (عليه السلام)

المبحث الأول: معايير اختيار الولاة والعمال...285

1- الدين والورع والفقه والحياء:...290

2- الانتساب إلى أسرة شريفة صالحة...296

3- الخبرة الإدارية والسياسية...301

المبحث الثاني: الولاة والعمال...308

اولا: المدينة المنورة:...309

ثانيا: مكة والطائف...310

ثالثا: البصرة...311

أ- فارس:...315

1- اصطخر:...317

2- اردشير خرة:...318

ب- الأهواز:...319

ج- سجستان:...320

ح- كرمان:...322

د- خراسان:...322

ص: 407

رابعا: ولاية الكوفة...323

أ- اذربيجان:...326

ب- همدان:...329

ج- الري:...331

د- أصبهان:...332

ه- كسكر:...333

و- بلاد الجبل:...334

خامسا: المدائن:...334

سادسا: ولاية مصر...338

سابعا: الجزيرة الفراتية:...341

ثامنا: اليمن:...344

تاسعا البحرين:...345

عاشرا: عمان:...347

عمال الصدقات المصدقين...347

المبحث الثالث: نظام الرقابة المالية...351

1- نظام العيون...351

2- التفتيش الإداري...370

3- الرقابة الشعبية على الولاة والعمال:...373

الخاتمة...383

المصادر والمراجع...389

المراجع...401

المصادر الأجنبية...405

ص: 408

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.