سیرة سیدالاٴنبیاء والمرسلین محمد صلی الله علیه و آله وسلم جامع المحامد کلها

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: جعفریان، رسول، 1343 -

عنوان العقد: سیره رسول خدا .عربی

عنوان واسم المؤلف: سیرة سیدالاٴنبیاء والمرسلین محمد صلی الله علیه و آله وسلم جامع المحامد کلها/ رسول جعفریان؛ نقله الی العربیة علی هاشم الاسدی.

تفاصيل المنشور: مشهد: مؤسسة البحوث الإسلامية ، 1428ق.= 1386.

مواصفات المظهر: 878 ص.

ISBN : 75000 ریال 978-964-971-184-3 :

حالة الاستماع: فابا (الطبعة الثالثة)

ملاحظات: عربي.

ملاحظة: الطبعة الأولى: 1385 (فيبا).

ملاحظة: الطبعة الثالثة.

ملاحظة: الببليوغرافيا مترجمة.

الموضوع: محمد (ص) نبي الإسلام ، 53 قبل الهجرة - 11 ه_. - سيرة ذاتية

عنوان : Muhammad, Prophet -- Biography

عنوان : الإسلام - تاريخ - منذ البداية

المعرف المضاف: اسدی، علی، 1336 - ، مترجم

المعرف المضاف: بنیاد پژوهش های اسلامی

ترتيب الكونجرس: DS37/7/ج7س9043 1386

تصنيف ديوي: 909/097671

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 84-47896

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

عرض قاصد واعد للمترجم

بسم اللّه الرحمن الرحیم

«اللهمّ داحی المدحوّات ، وداعم المسموکات ، وجابل القلوب علی فطرتها شقیِّها وسعیدِها ، اجعل شرائف صلواتک ونوامی برکاتک علی محمّد عبدک ورسولک ، الخاتم لما سبق ، والفاتح لما انغلق ، والمعلن الحقّ بالحقّ ، والدافع جیشات الأباطیل ، والدامغ صولات الأضالیل ، کما حُمِّل فاضطلع قائما بأمرک ، مستوفزا فی مرضاتک ، غیرَ ناکلٍ عن قُدُم ، ولا واهٍ فی عزمٍ . واعیا لوحیک ، حافظا لعهدک ، ماضیا علی نفاذ أمرک حتّی أوری قبسَ القابس ، وأضاء الطریق للخابط ، وهُدیتْ به القلوبُ بعد خوضات الفتن والآثام ، وأقام موضحات الأعلام ، ونیّرات الأحکام ، فهو أمینُک المأمون ، وخازنُ علمک المخزون ، وشهیدُک یومَ الدین ، وبعیثک بالحقّ ، ورسولک إلی الخلق . اللهمّ افسح له مفسحا فی ظلّک ، واجزهِ مضاعفات الخیر من فضلک . اللهمّ أَعلِ علی بناء البانین بناءه ، وأکرم لدیکَ منزلتَهُ ، وأتمم له نورَهُ ، واجزهِ من ابتعاثکَ له مقبولَ الشهادة ، ومرضیّ المقالة ، ذا منطقٍ عدلٍ ، وخُطّةٍ فصلٍ . اللهمّ اجمع بیننا وبینه فی برد العیش وقرار النعمة ، ومُنی الشهوات ، وأهواء اللذّات ، ورخاءِ الدَعَة ، ومُنتهی الطُمَأْنینة ، وتُحف الکرامة»(1) .

ص: 5


1- نهج البلاغة ، شرح الشیخ محمّد عبده ، ص120 - 123 .

بهذه الکلمات الکریمة البلیغة التی علّم فیها أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام الناسَ کیفیّةَ الصلاة علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یبدأ هذا العرض الیسیر . أمّا کلماتنا القاصرة فهی عاجزة عن التعبیر حسیرة عن التصویر . وأنّی لها أن تحیط إلاّ بمثل قائلیها ؟ ومهما بلغت فلا تبلغ مبلغ الثناء الذی نطق به ربّ العالمین الّذی انتجبه وابتعثه وختم به رسله بعد أن بشّرهم به وبشّروا به ممهّدین وموطّئین . ثمّ هی لا تبلغ بلاغة الوصف الّذی أعرب عنه أخوه وحبیبه وتلمیذه علیّ بن أبی طالب الّذی عرفه حقّ معرفته ونال به فضلَه ومعرفتَه . ولا یخالج الریب أحدا فی أنّ أفضل من ذکره أحسن الذکر هما صانعه وصنیعه لأنّهما أعلم به من غیرهما . فصانعه هو الذی اجتباه وبعثه ، وصنیعه هو الذی تربّی علیه وورثه . من هنا لم یجد هذا العرض المُزجی أنجع من کلماتهما لأنّها الأثیرةُ التی یُستغنی بها عمّا سواها . فلا کلام لصاحبه الکلیل الذی آثر تسمیته عَرضا علی تسمیته مقدّمةً لشعوره بوجوب تذکیر الأمّة منسیَّ نعمةِ نبیّها العظیم وأبیها الرحیم ، ولفت نظرها إلی عظمة سیرته وأحقّیّة رسالته لتستحبّه علی ما تحبّ من زینة الحیاة الدنیا وزخارفها الموهومة بشتّی ألوانها. ولتُقبل علیه إقبال الصدیّ علی العذب الرویّ ، ولتعلم أنّه صلی الله علیه و آله وسلم عزّها وفخرها وزهرة وجودها وحیاتها ، ولولاه لفقدت الحیاة معناها ؛ ولما کان لها موقعها ومقامها . فمعالم عظمته صلی الله علیه و آله وسلم فی کتاب اللّه الذی یمثّل المصدر الأوّل لمعرفة سیرته :

إنّه الرحمة المهداة للعالمین کما عرّفه الجلیل الأعلی سبحانه فی قوله : « وَمَا أَرْسَلْنَاکَ

إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِینَ »(1) . ومنه نعرف أنّ وجوده رحمة ، وکلّ شیء فیه ومنه رحمة ، وهَدْیه وتعالیمه ونظامه رحمة ، فکلّ ما عداه وبال ونقمة . فهو الأحقّ بالاتّباع لأنّ الناس تنشد الرحمة وتطیب لها نفوسهم إذ تنعمهم بالسعادة .

ص: 6


1- الأنبیاء : 107 .

وإنّه البشارة بل الدعوة المستجابة لأنّ أباه إبراهیم صلوات اللّه وسلامه علیه دعا ربّه لظهوره وابتعاثه . فقد قال جلّ من قائل : « رَبَّنَا وَابْعَثْ فِیهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیَاتِکَ وَیُعَلِّمُهُمُ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَیُزَکِّیهِمْ إِنَّکَ أَنْتَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ »(1) . فإلی أیّ مدی بلغت عظمته - وهی لا تُدرک - إذ بشّر به الأنبیاء الذین سبقوه ؟ وکأنّهم کانوا یمهّدون لنبوّته صلی الله علیه و آله وسلم - وهو الحقّ - فقال سبحانه علی لسان عیسی ابن مریم : « یَا بَنِی إِسْرَائِیلَ إِنِّی رَسُولُ اللّه ِ إِلَیْکُمْ مُصَدِّقا لِمَا بَیْنَ یَدَیَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرا بِرَسُولٍ یَأْتِی مِنْ بَعْدِی اسْمُهُ أَحْمَدُ ... »(2) وقال تعالی : « الَّذِینَ یَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِیَّ الْأُمِّیَّ الَّذِی یَجِدُونَهُ مَکْتُوبا عِنْدَهُمْ فِی التَّوْرَاةِ وَالاْءِنْجِیلِ ... »(3) وفی الآیة تلویح إلی عالمیّة رسالته وشمولیّتها التی لا مِراء فیها ؛ فهو صلّی اللّه علیه وآله رسول اللّه إلی الناس جمیعا « قُلْ یَا أَیُّهَا النَّاسُ إِنِّی رَسُولُ اللّه ِ إِلَیْکُمْ جَمِیعا »(4) .

وأمتع ما نتلو فی کتاب اللّه تبارک اسمه من معالم عظمته وجلالته التی تفرّد بها أنّ دینه هو دین اللّه تعالی . فقد قال جلّ شأنه : « إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ اللّه ِ الاْءِسْلاَمُ »(5) والإسلام وحده ، کما سمّاه دین الحقّ فی قوله : « هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَی وَ دِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ وَکَفَی بِاللَّهِ شَهِیدا »(6) . فالإسلام هو دین اللّه الحقّ وما خلاه باطل ، وهو الذی سینتصر علی جمیع الأدیان عند خروج خاتم الأوصیاء المهدیّ المنتظر علیه السلام کما وعد سبحانه بقوله الحکیم : « لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ » أی : ینتصر علی الأدیاکلّها . ثمّ إنّه لا یُقبَل دین إلاّ دینه صلی الله علیه و آله وسلم یوم القیامة ، ومن أبی فقد خسر . قال تعالی : « وَمَن یَبْتَغِ غَیْرَ الاْءِسْلاَمِ دِینا فَلَنْ یُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِی الاْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِینَ »(7) . وإذا

ص: 7


1- البقرة : 129 .
2- الصفّ : 6 .
3- الأعراف : 157 .
4- الأعراف : 158 .
5- آل عمران : 19 .
6- الفتح : 28 .
7- آل عمران : 85 .

أنعمنا الفکر فی هذه الآیات الأربع وقفنا علی عظمة نبیّنا صلی الله علیه و آله وسلم باستیقافها إیّانا . فإنّ أدنی تأمّلٍ فیها یرفدنا بأعظم أمل ، ویدعونا إلی اکتناه سیرته والتوفّر علی دراستها والتأسّی بها . کما یبیّن منها أنّ الإسلام هو - غیر مُدافَع - دین البشریّة جمعاء ولا یوازیه دین .

ورفع اللّه سبحانه ذکره إذ جعل اسمه المبارک بعد اسمه الأعظم فلا تبجیل أعلی من هذا ولا توقیر ولا تعظیم . قال سبحانه : « وَرَفَعْنَا لَکَ ذِکْرَکَ »(1) . وکأنّه تعالی رتّب درجات العالمین من الأوّلین والآخرین فوهبه فی أعلاها لا یُدانی ولا یُباری . فإنّ « یَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ یَشَآءُ وَاللّه ُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِیمِ »(2) .

وجعله أولی بالإنسان من نفسه علی نفسه فقال جلّ وعلا : « النَّبِیُّ أَوْلَی بِالْمُؤْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ »(3) فلا ولایة لهم علی أنفسهم بل الولایة المطلقة العامّة هی لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فهو المسلّط علی النفوس بأمر اللّه تعالی . وتلک مزیّة عالیة دونها سائر المزایا .

وکرّمه ربّه برفع العذاب عن قومه لوجوده بین ظهرانیهم فقال تبارک وتعالی : « وَمَا کَانَ اللّه ُ لِیُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِیهِمْ »(4) . وفی هذا عظیم الإجلال وبالغ الإکبار لشخصیّته المقدّسة الغالیة عند ربّها ؛ لاسیّما إذا علمنا أنّه سبحانه أنزل العذاب علی أقوام مَن سبقه مِن إخوانه الأنبیاء . فأمّته هی الأمّة المرحومة بفضله لو استفاقت من سُباتها .

وأقسم تعالی بحیاته الشریفة الکریمة ولم یقسم بحیاة غیره من الأنبیاء کما جاء فی بعض التفاسیر ، فقال : « لَعَمْرُکَ إِنَّهُمْ لَفِی سَکْرَتِهِمْ یَعْمَهُونَ »(5) . وقال ابن عبّاس :

«ما خلق اللّه عزّ وجلّ ولا ذرأ ولا برأ نفسا أکرم علیه من محمّد صلی الله علیه و آله وسلم وما سمعتُ اللّه

أقسم بحیاة أحد إلاّ بحیاته»(6) .

ص: 8


1- الانشراح : 4 .
2- آل عمران : 74 .
3- الأحزاب : 6 .
4- الأنفال : 33 .
5- الحجر : 72 .
6- مجمع البیان 3 : 342 .

وصلّی علیه هو وملائکته وأمر المسلمین أن یصلّوا علیه ویسلّموا تسلیما ، فقال ونعم القائل : « إِنَّ اللّه َ وَمَلاَئِکَتَهُ یُصَلُّونَ عَلَی النَّبِیِّ یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَیْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِیما »(1) . وصلاة اللّه رحمة ، والملائکة تزکیة واستغفار ، والمؤمنین دعاء بالرحمة . وقد استفاضت الروایات من طرق الشیعة وأهل السنّة أنّ طریق صلاة المؤمنین أن یسألوا اللّه تعالی أن یصلّی علیه وآله(2) . اللهمّ صلّ علی محمّد وآل محمّد کما أمرتَنا بذلک وعلّمتناه .

وجعل اتّباعه صلی الله علیه و آله وسلم معیارا لحبّه سبحانه وتعالی فلا یستقیم حبّه إلاّ باتّباعه والاهتداء به صلوات اللّه علیه وآله . قال جلّ اسمه : « قُلْ إِن کُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّه َ فَاتَّبِعُونِی یُحْبِبْکُمُ اللّه ُ وَیَغْفِرْ لَکُمْ »(3) . ویتبیّن منه أنّ اتّباعه هو الدّلیل القاطع والبرهان الساطع علی حبّ اللّه . ولا یتحقّق حبّ اللّه إلاّ بالسیر علی هَدْیه . وقرن سبحانه طاعته صلی الله علیه و آله وسلم بطاعته فقال : « مَن یُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه َ »(4) . بل إنّ طاعتهما واحدة لا تفترق ولا تتجزّأ : « وَأَطِیعُوا اللّه َ وَالرَّسُولَ لَعَلَّکُمْ تُرْحَمُونَ »(5) . وقال : « قُلْ أَطِیعُوا اللّه َ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللّه َ لاَ یُحِبُّ الْکَافِرِینَ »(6) .

وشاءت إرادته سبحانه أن یکرّمه أحسن تکریم حین أسری به من المسجد الحرام إلی المسجد الأقصی . قال تعالی : « سُبْحَانَ الَّذِی أَسْرَی بِعَبْدِهِ لَیْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَی الْمَسْجِدِ الأَقْصَی »(7) . ثمّ عرج به إلی السماء لیریه من آیاته الکبری ، ویطیّب نفسه الشریفة ، قال سبحانه : « وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَی * مَا ضَلَّ صَاحِبُکُمْ وَمَا غَوَی * وَمَا یَنطِقُ عَنِ الْهَوَی * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْیٌ یُوحَی * عَلَّمَهُ شَدِیدُ الْقُوَی * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَی *

ص: 9


1- الأحزاب : 56 .
2- المیزان 16 : 338 .
3- آل عمران : 31 .
4- النساء : 80 .
5- آل عمران : 132 .
6- آل عمران : 32 .
7- الإسراء : 1 .

وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَی * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّی * فَکَانَ قَابَ قَوْسَیْنِ أَوْ أَدْنَی * فَأَوْحَی إِلَی عَبْدِهِ مَا أَوْحَی * مَا کَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَی * أَفَتُمارُونَهُ عَلَی مَا یَرَی * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَی * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَی * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَی * إِذْ یَغْشَی السِّدْرَةَ مَا یَغْشَی * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَی * لَقَدْ رَأَی مِنْ آیَاتِ رَبِّهِ الْکُبْرَی »(1) .

والذی یُستخلَص منها أنّ ربّه حین رأی إخلاصه وجدّه وجهاده وما لاقی من الأذی والمحن فی سبیله أراد أن یخفّف عنه عب ء المهمّة ، ویریح باله ، ویطیّب نفسه ، ویسرّه ویتحفه ویعوّضه إذ کشف له الحجب وأطلعه علی الغیوب ، لیُظهر عظیم منزلته وسموّ مقامه ، ولینبّه أهل السماوات والأرضین علی جلالة قدره وعلوّ شأنه صلوات ربّی وسلامه وتحیّاته علیه وعلی أهل بیته الأکرمین . وما أبلغه من تعظیم !

وأقسم جل شأنه أنّ نبیّه علی صراط مستقیم فقال : « یس * وَالْقُرْآنِ الْحَکِیمِ * إِنَّکَ لَمِنَ الْمُرْسَلِینَ * عَلَی صِرَاطٍ مُّسْتَقِیمٍ »(2) . أی : إنّ استقامة صراطه دلیل علی أحقیّته وعلی وجوب اتّباعه . کما أنّها تُطمئن السالکین بصواب نهجهم وسداد أمرهم . وخاطب سبحانه النّاس بأنّ رسوله جاء بالحقّ من ربّه کی یؤمنوا به فقال تبارک اسمه : « یَا أَیُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَکُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّکُمْ فَآمِنُوا خَیْراً لَکُمْ »(3) .

وأثنی علیه سابغ الثناء إذ خاطبه سبحانه فی حکیم آیهِ قائلاً : « وَإِنَّکَ لَعَلَی خُلُقٍ عَظِیمٍ »(4) . فهذا وصف وصفه به ربّه ومُرسله . وفیه تزکیة صریحة من لدنه تعالی . ویمثّل أعلی القیم وأسناها وکفاه فخرا ومجدا أنّ أحدا من مناوئیه الجاهلین لم ینبزه بذمیم فعل ولا سوء صنیعٍ ، إذ کان متعالیا عن کلّ الدنایا ، وهو فی المحلّ الأعلی من التقدیس والتعظیم . وفی الآیة إشارة إلی أنّ التعامل السلیم مع البشریّة یتعیّن أن ینبع

ص: 10


1- النجم : 1 - 18 .
2- یس : 1 - 4 .
3- النساء : 170 .
4- القلم : 4 .

من الخلق القویم ولولا الخلق الرغیب لعاشت الإنسانیّة محنا تُضنیها وتفقدها لذّة الحیاة وإمتاعها . ولا یختلف اثنان فی أنّ ما قاست منه وکابدته هو بسبب فقدان الأخلاق الصحیحة ، ولا یختلفان أیضا فی أنّ العالم الیوم بحاجة إلی الأخلاق النابعة من الدین أکثر من حاجته إلی العلم والمال ونظائرهما .

وجعله سبحانه أسوة حسنة لمن کان یرجو اللّه والیوم الآخر فقال : « لَقَدْ کَانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللّه ِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن کَانَ یَرْجُوا اللّه َ وَالْیَوْمَ الآخِرَ وَذَکَرَ اللّه َ کَثِیرا »(1) . فلو سأل أحد متحیّرا : بمن أتأسّی ؟ بمن أقتدی ؟ ما هو المثال الذی اهتدی إلیه واهتدی به ؟ فالجواب هو رسول اللّه محمّد بن عبد اللّه صلی الله علیه و آله وسلم . وفی ذلک إنقاذ من الضیاع ، وإنجاء من التخبّط ، وإطلاق من الارتباک . فلا عثرة فی المسیر ، ولا نکسة فی التقدیر ، ولا قلق علی المصیر !

ونقرأ فی التنزیل العزیز ستّ آیات تستأهل التأمّل والتدبّر ، وتسترعی الأنظار . قال تعالی : « مَا أَنزَلْنَا عَلَیْکَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَی »(2) . وقال : « فَلَعَلَّکَ بَاخِعٌ نَّفْسَکَ عَلَی آثَارِهِم إِن لَّمْ یُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِیثِ أَسَفا »(3) . وقال : « لَعَلَّکَ بَاخِعٌ نَفْسَکَ أَلاَّ یَکُونُوا مُؤْمِنِینَ »(4) . وقال : « فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُکَ عَلَیْهِمْ حَسَرَاتٍ »(5) . وقال : « إِن تَحْرِصْ عَلَی هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّه َ لاَ یَهْدِی مَن یُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِینَ »(6) . وقال : « لَقَدْ جَاءَکُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِکُمْ عَزِیزٌ عَلَیْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِیصٌ عَلَیْکُم بِالْمُؤْمِنِینَ رَؤُوفٌ رَحِیمٌ »(7) . فهذه الآیات تدلّ علی حبّه الشدید لربّه ورسالته ، وتحمّسه وحرصه علی هدایة قومه ، وعظیم إخلاصه لهدفه ومهمّته ، وَنَصَبه فی عبادته ودعوته ، وشفقته علی رهطه ، ورأفته

ص: 11


1- الأحزاب : 21 .
2- طه : 2 .
3- الکهف : 6 .
4- الشعراء : 3 .
5- فاطر : 8 .
6- النحل : 37 .
7- التوبة : 128 .

بالمؤمنین ، وشعوره بثقل مسؤولیّته ، وسکّنه ربّه بأن لا یعتنی بتولّیهم فقال : « فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَیْکَ الْبَلاَغُ الْمُبِینُ »(1) . فحقیقٌ أن نکثر الصلاة علیه ، وننشدّ إلی رسالته .

ودافع عنه ربّه أشدّ الدفاع أمام ما نبزه القوم به من تهم ، وما ألقوه من شبهات . تنزّهت ساحته المقدّسة عن تخرّصات الجاهلین . فقالوا : مجنون ، فقال : « وَمَا صَاحِبُکُم بِمَجْنُونٍ »(2) ، وقال : « مَا بِصَاحِبِکُم مِن جِنَّةٍ »(3) . وقال : « مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّکَ بِمَجْنُونٍ »(4) . وقال : « مَا بِصَاحِبِهِم مِن جِنَّةٍ »(5) . وقالوا : أبتر ، فقال : « إِنَّ شَانِئَکَ هُوَ الْأَبْتَرُ »(6) . وقالوا : «محمّد قلاه ربّه» ، فقال : « مَا وَدَّعَکَ رَبُّکَ وَمَا قَلَی »(7) . ودعا علیه أحدهم بالهلاک ، فلم یُجبه ترفّعا عمّا أساء فیه الأدب إلیه بلفظ مَشین . وأجابه ربّه إنّه نعم الربّ : « تَبَّتْ یَدَا أَبِی لَهَبٍ وَتَبَّ ... »(8) وقالوا : یعلّمه بشر ، فقال : « لِسَانُ الَّذِی یُلْحِدُونَ إِلَیْهِ أَعْجَمِیٌّ وَهذَا لِسَانٌ عَرَبِیٌّ مُبِینٌ »(9) . وقالوا : هو الذی تقوّل القرآن ، فقال : « فَلْیَأْتُوا بِحَدِیثٍ مِثْلِهِ إِن کَانُوا صَادِقِینَ »(10) . وقالوا : کتابه قول شاعر ، فقال : « وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِیلاً مَا تُؤْمِنُونَ »(11) . وقال : « وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا یَنبَغِی لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِکْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِینٌ »(12) . وقالوا : کاهن ، فقال : « وَلاَ بِقَوْلِ کَاهِنٍ قَلِیلاً مَا تَذَکَّرُونَ »(13) . وقالوا : « لَسْتَ مُرْسَلاً »(14) ، فقال : « قُلْ کَفَی بِاللَّهِ شَهِیدا بَیْنِی وَبَیْنَکُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْکِتَابِ »(15) . وقال : « إِنَّکَ لَمِنَ الْمُرْسَلِینَ »(16) . وقالوا : مفترٍ ، فقال : « بَلْ أَکْثَرُهُمْ لاَ

ص: 12


1- النحل : 82 .
2- التکویر : 22 .
3- سبأ : 46 .
4- القلم : 2 .
5- الأعراف : 184 .
6- الکوثر : 3 .
7- الضحی : 3 .
8- المسد : 1 .
9- النحل : 103 .
10- الطور : 34 .
11- الحاقّة : 41 .
12- یس : 69 .
13- الحاقّة : 42 .
14- الرعد : 43 .
15- الرعد : 43 .
16- یس : 3 .

یَعْلَمُونَ »(1) ، وقال : « بَلِ الَّذِینَ لاَ یُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِی الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِیدِ »(2) ، وقال : « قُلْ إِنِ افْتَرَیْتُهُ فَلاَ تَمْلِکُونَ لِی مِنَ اللّه ِ شَیْئا »(3) ، وقال : « قُلْ مَا کُنتُ بِدْعا مِنَ الرُّسُلِ »(4) ، وقال : « بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّکَ »(5) . وقال : « فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْما وَ زُورا »(6) . وقالوا : أساطیر الأوّلین ، فقال : « قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِی یَعْلَمُ السِّرَّ فِی السَّم-وَاتِ وَالْأَرْضِ »(7) . وقالوا : یُلقیه إلیه الشیطان ، فقال : « وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّیَاطِینُ »(8) . وقالوا : « فَقَالَ إِنْ هذَا إِلاَّ سِحْرٌ یُؤْثَرُ * إِنْ هذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ »(9) ، فقال : « کَذلِکَ مَا أَتَی الَّذِینَ مِن قَبْلِهِم مِن رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ »(10) .

واتّخذوه هزوا ، فقال : « إِنَّا کَفَیْنَاکَ الْمُسْتَهْزِئِینَ »(11) . وحین أزلقه الکافرون بأبصارهم لمّا سمعوا الذّکر ، قال : « وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِکْرٌ لِلْعَالَمِینَ »(12) . وقالوا : « لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَیْهِ مَلَکٌ »(13) ، فقال : « وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَکا لَقُضِیَ الْأَمْرُ ثُمَّ لاَ یُنْظَرُونَ »(14) . وقالوا : « لَوْ مَا تَأْتِینَا بِالْمَلائِکَةِ إِن کُنتَ مِنَ الصَّادِقِینَ »(15) ، قال : « مَا نُنَزِّلُ الْمَلاَئِکَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَا کَانُوا إِذا مُّنظَرِینَ »(16) . وقالوا : « لَوْلاَ نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلَی رَجُلٍ مِنَ الْقَرْیَتَیْنِ عَظِیمٍ » ، قال: « أَهُمْ یَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّکَ »(17) . وقالوا : « مَالِ هذَا الرَّسُولِ یَأْکُلُ الطَّعَامَ وَیَمْشِی فِی الأَسْوَاقِ »(18) ، قال : « وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَکَ مِنَ الْمُرْسَلِینَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَیَأْکُلُونَ الطَّعَامَ

ص: 13


1- النحل : 101 .
2- سبأ : 8 .
3- الأحقاف : 8 .
4- الأحقاف : 9 .
5- السجدة : 3 .
6- الفرقان : 4 .
7- الفرقان : 6 .
8- الشعراء : 210 .
9- المدّثّر : 24 ، 25 .
10- الذاریات : 52 .
11- الحجر : 95 .
12- القلم : 52 .
13- الأنعام : 8 .
14- الأنعام : 8 .
15- الحجر : 7 .
16- الحجر : 8 .
17- الزخرف : 32 .
18- الفرقان : 7 .

وَیَمْشُونَ فِی الأَسْوَاقِ »(1) .

ومنّوا علیه بإسلامهم ، فقال : « لاَ تَمُنُّوا عَلَیَّ إِسْلاَمَکُم بَلِ اللّه ُ یَمُنُّ عَلَیْکُمْ أَنْ هَدَاکُمْ لِلاْءِیمَانِ إِن کُنتُمْ صَادِقِینَ »(2) . وحین تواطأت علیه اثنتان من أزواجه ، قال لهما محذّرا ومهدّدا : « إِن تَتُوبَا إِلَی اللّه ِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُکُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَیْهِ فَإِنَّ اللّه َ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِیلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِینَ وَالْمَلاَئِکَةُ بَعْدَ ذلِکَ ظَهِیرٌ »(3) . ولمّا قالوا : « ءَإِنَّا لَتَارِکُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ »(4) ، قال : « بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِینَ »(5) . وحین استبعدوا إرسال رسول من البشر ، قال لهم : « قُل لَوْ کَانَ فِی الْأَرْضِ مَلاَئِکَةٌ یَمْشُونَ مُطْمَئِنِّینَ لَنَزَّلْنَا عَلَیْهم مِنَ السَّماءِ مَلَکا رَسُولاً »(6) . وعندما قالوا : « لَئِن رَجَعْنَا إِلَی الْمَدِینَةِ لَیُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ »(7) ، قال : « وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِینَ وَلکِنَّ الْمُنَافِقِینَ لاَ یَعْلَمُونَ »(8) . وحینما قالوا : « لاَ تُنفِقُوا عَلَی مَنْ عِندَ رَسُولِ اللّه ِ حَتَّی یَنفَضُّوا »(9) ، قال : « وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّم-وَاتِ وَالْأَرْضِ وَلکِنَّ الْمُنَافِقِینَ لاَ یَفْقَهُونَ »(10) .

فهذه الآیات جمیعها تدلّ علی عنایة المولی بعبده ، وتولّیه دفع الشبهات عنه ، وتسدیده، وتعنیف خصومه ، وازدراء حججهم ، فهو مُرسله ، والرسالة رسالته ، والمواجهة رسالیّة .

وعُنی الکتاب الکریم بملاطفته صلی الله علیه و آله وسلم وتطییب نفسه الشریفة ، وتخفیف همومه

وغمومه . فقوله سبحانه : « یَا أَیُّهَا الْمُدَّثِّرُ »(11) ، وقوله : « یَا أَیُّهَا الْمُزَّمِّلُ »(12) آیتان

ص: 14


1- الفرقان : 20 .
2- الحجرات : 17 .
3- التحریم : 4 .
4- الصافّات : 36 .
5- الصافّات : 37 .
6- الإسراء : 95 .
7- المنافقون : 8 .
8- المنافقون : 8 .
9- المنافقون : 7 .
10- المنافقون : 7 .
11- المدّثّر : 1 .
12- المزّمّل : 1 .

علی تلک الملاطفة والتطییب ؛ وکذا قوله تعالی : « یَا أَیُّهَا النَّبِیُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللّه ُ لَکَ »(1) ؛ وقوله : « أَلَمْ نَشْرَحْ لَکَ صَدْرَکَ * وَوَضَعْنَا عَنکَ وِزْرَکَ ... »(2) ؛ وقوله : « وَلاَ یَحْزُنْکَ قَوْلُهُمْ ... »(3) وقوله : « فَلاَ یَحْزُنکَ قَوْلُهُمْ »(4) ، وقوله : « وَاصْبِرْ عَلَی مَا یَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرا جَمِیلاً »(5) . وقوله : « وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُکَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَیْهِمْ وَلاَ تَکُ فِی ضَیْقٍ مِّمَّا یَمْکُرُونَ »(6) . وقوله : « وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّکَ یَضِیقُ صَدْرُکَ بِمَا یَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّکَ وَکُن مِّنَ السَّاجِدِینَ »(7) . وقوله : « فَلَعَلَّکَ تَارِکٌ بَعْضَ مَا یُوحَی إِلَیْکَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُکَ أَن یَقُولُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَیْهِ کَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَکٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذیرٌ وَاللّه ُ عَلَی کُلِّ شَیْ ءٍ وَکِیلٌ »(8) . وقوله : « لاَ یَحْزُنکَ الَّذِینَ یُسَارِعُونَ فِی الْکُفْرِ » . وقوله : « یَا أَیُّهَا الرَّسُولُ لاَ یَحْزُنکَ الَّذِینَ یُسَارِعُونَ فِی الْکُفْرِ »(9) وقوله : « قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَیَحْزُنُکَ الَّذِی یَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ یُکَذِّبُونَکَ وَلکِنَّ الظَّالِمِینَ بِآیَاتِ اللّه ِ یَجْحَدُونَ »(10) وقوله : « یَا أَیُّهَا النَّبِیُّ حَسْبُکَ اللّه ُ وَمَنِ اتَّبَعَکَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ »(11) . وقوله : « وَلاَ تَحْزَنْ عَلَیْهِمْ وَلاَ تَکُن فِی ضَیْقٍ مِمَّا یَمْکُرُونَ »(12) . وقوله : « مَا کَانَ عَلَی النَّبِیِّ مِنْ حَرَجٍ فِیمَا فَرَضَ اللّه ُ لَهُ ... »(13) وحین عرف سبحانه عتوّهم ونفورهم قال : « فَذَکِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَکِّرٌ * لَسْتَ عَلَیْهِم بِمُصَیْطِرٍ »(14) .

وعلّم سبحانه القوم وأدّبهم کیف یتصرّفون مع نبیّهم صلی الله علیه و آله وسلم ، فقال لهم : « یَا أَیُّهَا

ص: 15


1- التحریم : 1 .
2- الانشراح : 1 ، 2 .
3- یونس : 65 .
4- یس : 76 .
5- المزمّل : 10 .
6- النحل : 127 .
7- الحجر : 97 ، 98 .
8- هود : 12 .
9- المائدة : 41 .
10- الأنعام : 33 .
11- الأنفال : 64 .
12- النمل : 70 .
13- الأحزاب : 38 .
14- الغاشیة : 21 ، 22 .

الَّذِینَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَیْنَ یَدَیِ اللّه ِ وَرسُولِهِ »(1) ، أی : لا تحکموا فیما للّه ولرسوله فیه حکم إلاّ بعد حکم اللّه ورسوله ...(2) . وقال : « یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَکُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِیِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ کَجَهْرِ بَعْضِکُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُکُمْ ... »(3) ومدح الذین یغضّون أصواتهم عنده صلی الله علیه و آله وسلم فقال تعالی : « إِنَّ الَّذِینَ یَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللّه ِ أُولئِکَ الَّذِینَ امْتَحَنَ اللّه ُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَی لَهُم مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِیمٌ »(4) وأمر المسلمین أن یقدّموا صدقةً عند مناجاتهم إیّاه صلی الله علیه و آله وسلم ، فقال : « یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذَا نَاجَیْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَیْنَ یَدَیْ نَجْوَاکُمْ صَدَقَةً ذلِکَ خَیْرٌ لَکُمْ وَأَطْهَرُ ... »(5) وعرّفهم التفاوت بین دعائه صلی الله علیه و آله وسلم ودعائهم ، فقال : « لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَیْنَکُمْ کَدُعَاءِ بَعْضِکُم بَعْضا »(6) . وذکّرهم بأن لا خیار لهم أمام خیاره ، أی : أنّه صلی الله علیه و آله وسلم إذا حکم بشیء فلیس لهم أن یعترضوا أبدا ولا أن یبدوا آراءهم ، وفی السیاق تحذیر ، قال سبحانه : « وَمَا کَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَی اللّه ُ وَرَسُولُهُ أَمْرا أَن یَکُونَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن یَعْصِ اللّه َ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِینا »(7) . وأکّد جلّ شأنه فی آیة أُخری أنّ القرار هو قراره والرأی رأیه فإذا رأی شیئا وعزم علیه أمضاه وأجراه بلا منازع ولا مدافع ، قال سبحانه : « فَبِمَ-ا رَحْمَةٍ مِنَ اللّه ِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ کُنتَ فَظّا غَلِیظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِکَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِی الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَکَّلْ عَلَی اللّه ِ إِنَّ اللّه َ یُحِبُّ الْمُتَوَکِّلِینَ »(8) . ومن الحریّ بالذکر أنّه أُمر بمشاورتهم لا لحاجةٍ منه إلی ذلک ولا لنقصٍ أو جهل نعوذ باللّه لأنّه مجمع الفضائل کلّها . وإنّما لإشعارهم بشخصیّتهم ومکانتهم، وتطییب قلوبهم، وتطویع أنفسهم ، وتعلیمهم أسلوب المشاورة

ص: 16


1- الحجرات : 1 .
2- المیزان 18 : 306 .
3- الحجرات : 2 .
4- الحجرات : 3 .
5- المجادلة : 12 .
6- النور : 63 .
7- الأحزاب : 36 .
8- آل عمران : 159 .

کی یُطبّقوه فی حیاتهم ویبتعدوا عن الاستبداد والتعسّف والأثرة والاستئثار ، وأن یتواضعوا فیما بینهم ویحترم أحدهم رأی الآخر ؛ ومن ثمّ لیصلوا إلی الرأی الأقسط الأقوم . وألزمهم بإجراء ما یأمرهم به و ترک ما ینهاهم عنه فقال لهم مؤدِّبا : « وَمَا آتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ... »(1) .

وجاء فی آیة أُخری أنّ إیمان القوم لا یتحقّق إلاّ بتحکیمه صلی الله علیه و آله وسلم لفضّ نزاعاتهم ، ومن ثمّ إذعانهم لحکمه وتسلیمهم لقضائه ، قال تعالی : « فَلاَ وَرَبِّکَ لاَ یُؤْمِنُونَ حَتَّی یُحَکِّمُوکَ فِیمَا شَجَرَ بَیْنَهُمْ ثُمَّ لاَ یَجِدُوا فِی أَنْفُسِهِمْ حَرَجا مِمَّا قَضَیْتَ وَیُسَلِّمُوا تَسْلِیما »(2) . کما أوصاهم بالرجوع إلیه إذا تنازعوا فی شیء فقال : « ... فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِی شَیْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَی اللّه ِ وَالرَّسُولِ إِن کُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّه ِ وَالْیَومِ الاْخِرِ ذلِکَ خَیْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِیلاً »(3) فما أنزل علیه الکتاب إلاّ لیحکم بین الناس : « إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَیْکَ الْکِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْکُمَ بَیْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاکَ اللّه ُ »(4) .

وحذّرهم سبحانه من إیذائه صلی الله علیه و آله وسلم وأوعد علی ذلک فقال : « وَمِنْهُمُ الَّذِینَ یُؤْذُونَ النَّبِیَّ وَیَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَیْرٍ لَکُمْ یُؤْمِنُ بِاللّه ِ وَیُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِینَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِینَ آمَنُوا مِنکُمْ وَالَّذِینَ یُؤْذُونَ رَسُولَ اللّه ِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ »(5) . وخوّفهم بالذلّ والخزی إذا حادّوه صلی الله علیه و آله وسلم : « إِنَّ الَّذِینَ یُحَادُّونَ اللّه َ وَرَسُولَهُ أُولئِکَ فِی الأَذَلِّینَ »(6) بل أوعدهم جهنّم إذا شاقّوه فقال : « وَمَن یُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُ الْهُدَی وَیَتَّبِعْ غَیْرَ سَبِیلِ الْمُؤْمِنِینَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّی وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِیرا »(7) .

وأنذرهم تعالی من دخول بیوته بغیر إذنه صلی الله علیه و آله وسلم کما نبّههم علی ما یؤذیه ولایُبدیه،

ص: 17


1- الحشر : 7 .
2- النساء : 65 .
3- النساء : 59 .
4- النساء : 105 .
5- التوبة : 61 .
6- المجادلة : 20 .
7- النساء : 115 .

وعرّفهم کیف یتعاملون مع أزواجه ، وعنّفهم علی إیذائه ، وأدّبهم أن لا یفکّروا بزواج نسائه من بعده فقال عزّ من قائل : « یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُیُوتَ النَّبِیِّ إِلاَّ أَن یُؤْذَنَ لَکُمْ إِلَی طَعَامٍ غَیْرَ نَاظِرِینَ إِنَاهُ وَلکِنْ إِذَا دُعِیتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِینَ لِحَدِیثٍ إِنَّ ذلِکُمْ کَانَ یُؤْذِی النَّبِیَّ فَیَسْتَحْییِ مِنکُمْ وَاللّه ُ لاَ یَسْتَحْییِ مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُ-مُوهُنَّ مَتَاعا فَسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذلِکُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِکُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا کَانَ لَکُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللّه ِ وَلاَ أَن تَنکِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدا إِنَّ ذلِکُمْ کَانَ عِندَ اللّه ِ عَظِیما »(1) .

وحذّرهم من الکفر وفیهم رسوله الحبیب صلی الله علیه و آله وسلم فقال : « وَکَیْفَ تَکْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَی عَلَیْکُمْ آیَاتُ اللّه ِ وَفِیکُمْ رَسُولُهُ وَمَن یَعْتَصِم بِاللّه ِ فَقَدْ هُدِیَ إِلَی صِرَاطٍ مُسْتَقِیمٍ »(2) . والعجیب فی هذه الآیة هو أنّ وجوده صلی الله علیه و آله وسلم فیهم یتعیّن أن یرغّبهم عن الکفر لو یشعرون . أی : علیهم أن یستحیوا منه ، وتمنعهم هیبته وجلالته من الکفر ، إذ إنّ وجوده فرصة جدّ ثمینة للإقبال علی الإیمان لأنّهم کانوا یرونه « رَأْیَ الْعَیْنِ »(3) و « یَعْرِفُونَهُ کَمَا یَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ »(4) . وحذّر تعالی المؤمنین من معصیته فی تناجیهم فقال : « یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَیْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِیَتِ الرَّسُولِ ... »(5) .

وأحسن سبحانه کلّ الإحسان حین منّ علی المؤمنین بمبعثه المبارک فقال : « لَقَدْ مَنَّ اللّه ُ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ إِذْ بَعَثَ فِیهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیَاتِهِ وَیُزَکِّیهِمْ وَیُعَلِّمُهُمُ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَإِن کَانُوا مِن قَبْلُ لَفِی ضَلاَلٍ مُبِینٍ »(6) . فهو منّة اللّه تعالی ، أی : نعمته . والنعمة تستوجب الشکر ، وشکرها بالطاعة التامّة المطلقة له والاتّباع بلا قید

ص: 18


1- الأحزاب : 53 .
2- آل عمران : 101 .
3- آل عمران : 13 .
4- البقرة : 146 ، الأنعام : 20 .
5- المجادلة : 9 .
6- آل عمران : 164 .

ولا شرط ولا اعتراض . ورعایة النعمة حقّ رعایتها تدلّ علی ذوق سلیم ونظر سدید وبصیرة ثاقبة .

ونقرأ فی القرآن الحکیم آیةً ناهیک من آیةٍ ، وهی آیة المیثاق . وأیّ میثاق ؟ إنّه المیثاق الذی أخذه اللّه سبحانه من النبیّین علیهم السلام ، وهو میثاق خاصّ غیر المیثاق المأخوذ من عامّة البشر(1) . قال جلّ شأنه : « وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِیِّینَ مِیثَاقَهُمْ وَمِنکَ وَمِن نُوحٍ وَإِبْرَاهِیمَ وَمُوسَی وَعِیسَی ابْنِ مَرْیَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِیثَاقا غَلِیظا »(2) . بأن یصدّق بعضهم بعضا ویتبع بعضهم بعضا أو بأن یعبدوا اللّه ویدعوا إلی عبادته(3) . أو أنّه مأخوذ علی وحدة الکلمة فی الدین وعدم الاختلاف فیه(4) . ومهما کان فإنّ تسمیة الخمسة منهم دلیل علی عظمة شأنهم ورفعة مکانهم(5) . وتقدیم نبیّنا صلی الله علیه و آله وسلم علیهم وهو آخرهم زمانا آیة علی منتهی عظمته وغایة مکانه . «وإنّما قدّمه لفضله وشرفه»(6) . «ومعنی العطف إخراج الخمسة من بینهم وتخصیصهم بالذّکر کأنّه قیل : وإذ أخذنا المیثاق منکم أیّها الخمسة ومن باقی النبیّین ... لکن قدّم ذکر النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وهو آخرهم زمانا لفضله وشرفه وتقدّمه علی الجمیع»(7) . «قیل : یا رسول اللّه متی أُخذ میثاقک ؟ قال : وآدم بین الروح والجسد»(8) .

وهو الموعود بالمقام المحمود الذی فُسِّر بالشفاعة التی یطمع فیها کلّ الخلائق یوم الجزاء حتّی ورد أنّ أُناسا یستشفعون بعض الأنبیاء بمن فیهم أُولی العزم فیرشدونهم إلی محمّد صلی الله علیه و آله وسلم(9) . فالجمیع یرجون شفاعته یومئذٍ . قال تعالی : « وَمِنَ الَّیْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ

ص: 19


1- المیزان 16 : 278 .
2- الأحزاب : 7 .
3- مجمع البیان 4 : 339 .
4- المیزان 16 : 278 .
5- نفسه .
6- مجمع البیان 4 : 339 .
7- المیزان 16 : 278 .
8- نفسه : 282 نقلاً عن «الدرّ المنثور» .
9- المیزان 13 : 179 ، 180 .

نَافِلَةً لَّکَ عَسَی أَن یَبْعَثَکَ رَبُّکَ مَقَاما مَّحمُودا »(1) . ونحن نطمع فی شفاعته صلی الله علیه و آله وسلم أیضا ولیس لنا ذلک الیوم إلاّ رحمة اللّه سبحانه وتعالی وشفاعته . اللهمّ آته المقام المحمود الذی وعدته وارزقنا شفاعته کما وعده سبحانه بعدم الإخزاء یوم القیامة فقال : « یَوْمَ لاَ یُخْزِی اللّه ُ النَّبِیَّ وَالَّذِینَ آمَنُوا مَعَهُ ... »(2) .

وهو الشهید علی الناس یوم القیامة . قال سبحانه : « فَکَیْفَ إِذَا جِئْنَا مِن کُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِیدٍ وَجِئْنَا بِکَ عَلَی هؤُلاَءِ شَهِیدا »(3) . وهذه الآیة قرأها علیه ابن مسعود رضی اللّه عنه ففاضت عیناه بالدموع وابتلّت لحیته الشریفة الکریمة حتّی قال : حسبی بها یا ابن مسعود . هذه حاله صلی الله علیه و آله وسلم وهو المبشَّر بالجنّة فکیف بالمشهود علیهم وهم نحنُ ؟ اللهمّ بیّض وجوهنا أمام نبیّنا صلواتک علیه وعلی آله ولا تخزنا عنده .

ووصفه سبحانه بأنّه : « رَسُولٌ مِنَ اللّه ِ یَتْلُوا صُحُفا مُّطَهَّرَةً * فِیهَا کُتُبٌ قَیِّمَةٌ »(4) ونوّه بنَصَبه فی عبادته صلی الله علیه و آله وسلم وقیامه باللیل ، فقال : « إِنَّ رَبَّکَ یَعْلَمُ أَنَّکَ تَقُومُ أَدْنَی مِن ثُلُثَیِ الَّیْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ... »(5) .

وأوجب علی المسلمین - وهذه ملاحظة بالغة الشأن مثیرة لافتة - التمسّک برسالته والالتزام بدینه حتّی لو لم یکن فیهم فقال جلّ من قائل : « وَمَا مُحمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَی أَعْقَابِکُمْ وَمَن یَنْقَلِبْ عَلَی عَقِبَیْهِ فَلَن یَضُرَّ اللّه َ شَیْئا وَسَیَجْزِی اللّه ُ الشَّاکِرِینَ »(6) .

وطلب سبحانه من الذین آمنوا أن یتّقوه جلّ شأنه وأن یؤمنوا برسوله فقال : « یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه َ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ یُؤْتِکُمْ کِفْلَیْنِ مِن رَحْمَتِهِ وَیَجْعَل لَکُمْ نُورا

ص: 20


1- الإسراء : 79 .
2- التحریم : 8 .
3- النساء : 41 .
4- البیّنة : 2 ، 3 .
5- المزّمّل : 20 .
6- آل عمران : 144 .

تَمْشُونَ بِهِ وَیَغْفِرْ لَکُمْ وَاللّه ُ غَفُورٌ رَحِیمٌ »(1) . فجعل الإیمان به صلی الله علیه و آله وسلم عدیلاً لتقواه ویتبیّن منه أنّ الإیمان المطلوب لا یتحقّق إلاّ من خلاله . وما أنزل اللّه تعالی آیاته علیه إلاّ لإنقاذ الناس من ظلمات الضلال إلی نور الهدی فقال تبارک اسمه : « هُوَ الَّذِی یُنَزِّلُ عَلَی عَبْدِهِ آیَاتٍ بَیِّنَاتٍ لِیُخْرِجَکُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَی النُّورِ »(2) . وإذا کان صلی الله علیه و آله وسلمیدعو الناس للإیمان بربّهم فما لهم لا یؤمنون ؟ « وَمَا لَکُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ یَدْعُوکُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّکُمْ »(3) . ویستبین من هذه الآیة أنّ فرضا علیهم تلبیةُ دعوته صلی الله علیه و آله وسلم تلبیة جمیلة إذ لا برهان لهم بترک الاستجابة . علما أنّه صلی الله علیه و آله وسلم لم یطلب منهم أجرا علی دعوته إلاّ مودّة قرباه وطاعتهم والتعبّد بأحکامهم نظاما للناس وأمانا لهم من الفُرقة وهم علیّ وفاطمة والحسن والحسین علیهم السلام کما ذکر ذلک جلّ المفسّرین إن لم نقل : کلّهم . قال تعالی : « قُل لاَ أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْرا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی »(4) .

وطلب سبحانه من المسلمین أن یستجیبوا له صلی الله علیه و آله وسلم إذا دعاهم لما فیه خیرهم وسعادتهم فقال : « یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اسْتَجِیبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاکُمْ لِمَا یُحْیِیکُمْ »(5) .

وأمره ربّه أن یذکّر الناس بأُمورٍ تبیّن لهم توجّهاته وما هو علیه من استقامة الصراط، وخلوص أعماله کلّها للّه وحده فقال جلّ من قائل : « قُلْ إِنَّنِی هَدَانِی رَبِّی إِلَی صِرَاطٍ مُسْتَقِیمٍ دِینا قِیَما مِلَّةَ إِبْرَاهِیمَ حَنِیفا وَمَا کَانَ مِنَ الْمُشْرِکِینَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِی وَنُسُکِی وَمَحْیَایَ وَمَمَاتِی لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ * لاَ شَرِیکَ لَهُ وَبِذلِکَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِینَ »(6) . وهذه الآیات تبیّن مفردات عقائدیّة وأخلاقیّة مهمّة فی سیرته صلی الله علیه و آله وسلم بل هی معالم هویّته الّتی یتعیّن أن تُحتذی .

ص: 21


1- الحدید : 28 .
2- الحدید : 9 .
3- الحدید : 8 .
4- الشوری : 23 .
5- الأنفال : 24 .
6- الأنعام : 161 - 163 .

وأهداه اللّه الفتح المبین فقال : « إِنَّا فَتَحْنَا لَکَ فَتْحا مُبِینا »(1) . وصرف إلیه الجنّ لیؤمنوا به ولیکون لهم نبیّا وعلیهم حجّة فقال سبحانه : « وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَیْکَ نَفَرا مِنَ الْجِنِّ یَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِیَ وَلَّوْا إِلَی قَوْمِهِم مُنذِرِینَ * قَالُوا یَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا کِتَابا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَی مُصَدِّقا لِمَا بَیْنَ یَدَیْهِ یَهْدِی إِلَی الْحَقِّ وَإِلَی طَرِیقٍ مُسْتَقِیمٍ * یَا قَوْمَنَا أَجِیبُوا دَاعِیَ اللّه ِ وَآمِنُوا ... »(2) وقال : « قُلْ أُوحِیَ إِلَیَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنا عَجَبا »(3) .

وتدلّ هذه الآیات علی أنّه صلی الله علیه و آله وسلم مبعوث إلی الإنس والجنّ .

وأراه سبحانه فی منامه ما دلّ علی صدق منامه ، بل إنّ ما یراه فی منامه کالذی یراه فی یقظته فلا یختلفان قید أنملة ، أی : منامه ویقظته سواء . فرؤیاه حقیقة کرؤیته صلی الله علیه و آله وسلم . قال تعالی : « إِذْ یُرِیکَهُمُ اللّه ُ فِی مَنَامِکَ قَلِیلاً »(4) . وقال : « وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْیَا الَّتِی أَرَیْنَاکَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِی الْقُرْآنِ »(5) . وقال : « لَقَدْ صَدَقَ اللّه ُ رَسُولَهُ الرُّؤْیَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللّه ُ آمِنِینَ مُحَلِّقِینَ رُؤُوسَکُمْ وَمُقَصِّرِینَ لاَ تَخَافُونَ ... »(6) .

ومسک الختام فی هذه القطوف القرآنیّة الدانیة - وهو صلی الله علیه و آله وسلم مسک الختام و زین الکرام وسیّد الأنام - قوله تعالی : « مَا کَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِن رِّجَالِکُمْ وَلکِن رَّسُولَ اللّه ِ وَخَاتَمَ النَّبِیِّینَ »(7) . ووصفه بخاتمهم تعظیم بیّن له لأنّ ذلک یعنی أنّ «شریعته باقیة إلی یوم الدین . وهذا فضیلة له صلوات اللّه علیه وآله اختصّ بها من بین سائر المرسلین»(8) .

ص: 22


1- الفتح : 1 .
2- الأحقاف : 29 - 31 .
3- الجنّ : 1 .
4- الأنفال : 43 .
5- الإسراء : 60 .
6- الفتح : 27 .
7- الأحزاب : 40 .
8- مجمع البیان 4 : 362 .

ویتلو هذه المجموعةَ الطیّبةَ من الآیات القرآنیّة الکریمة التی تبرّک بها العرض کلام ذی القرابة القریبة والمنزلة الخصیصة علیّ بن أبی طالب علیه السلام وصیّه ومرجع أصحابه من بعده الذی کان یتباهی أنّه تلمیذ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم والمتربّی علیه . وکلامه علیه السلام المصدر الثانی المهمّ للتعرّف علی السیرة النبویّة الشریفة . وما لنا لا نأخذ بکلامه وهو الذی نشأ فی بیته طفلاً وشابا وکهلاً ؟ ولا ینکر أحد أنّ أصدق الکلام وأدقّه فی وصف رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بعد کلام اللّه هو کلامه - بلا مراء - لأنّه کان یتّبعه اتّباع الفصیل أثر أمّه ، وکان مکینا عنده . فقد احتضنه ولیدا ، وغذّاه فطیما ، وربّاه طفلاً ، ورعاه صبیّا ، وعلّمه شابّا یافعا ، فکان کثیر اللزوق به ، خالص الطاعة له ، شدید التعلّق به . وکان یراه یجاور فی حراء قبل مبعثه المبارک ولم یره غیره . وهو أوّل من صدّقه ، وأعظم من واساه وذاد عنه . فلا یقاس به أحد ، ولا یقرن بکلامه الصادق البلیغ کلام ، وکلامه علیه السلام هو الکلام الذی لا تصاب له قیمة ولا توزن به حکمة کما قال الشریف الرضیّ شرّفه اللّه وأرضاه . بید أنّا لا نستطیع أن نحیط بکلامه الذی ذکر أو وصف به رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، ولیس لهذه الصفحات أن تستوعبه برمّته لذا نستنیر بقبساتٍ منه علی قدر ما یسعدنا جدّنا . ویدخل فی تضاعیف کلامه علیه السلام عنه صلی الله علیه و آله وسلم شیء من مواقفه الکریمة الطیّبة التی سجّلها فی محیاه ومماته صلی الله علیه و آله وسلم . وعهدنا قریب من تلک الکلمات الفخمة الجزلة التی تصدّر بها العرض ، وهی خلیقة بأن تُقرأ لاشتمالها علی مفاهیم رائعة عن سیّد الأنبیاء والمرسلین یستعذ بها کلّ ذی ذوق رفیع .

وقال علیه السلام یصف قداسته وتعاهد اللّه سبحانه برعایته المباشرة له :

«ولقد قرن اللّه به صلی الله علیه و آله من لدن أن کان فطیما أعظم مَلَکٍ من ملائکته یسلک به طریق المکارم ، ومحاسن أخلاق العالم لیله ونهاره»(1) .

ص: 23


1- نهج البلاغة ، شرح الشیخ عبده 2 : 157 .

وقال علیه السلام بعد وصفه لتواتر الأنبیاء الذین سبقوه صلی الله علیه و آله وسلم من لدن آدم علیه السلام حتّی عیسی علیه السلام :

«... علی ذلک نُسلت القرون ، ومضت الدهور ، وسلفت الآباء ، وخلفت الأبناء ، إلی أن بعث اللّه سبحانه محمّدا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لإنجاز عِدَته ، وتمام نبوّته ، مأخوذا علی النبیّین میثاقه ، مشهورة سماته ، کریما میلاده ... فهداهم به من الضلالة ، وأنقذهم بمکانه من الجهالة»(1) .

والضمیر فی عِدَته للّه سبحانه وتعالی لأنّه وعد بإرساله علی لسان أنبیائه السابقین . وأخذ علی النبیّین میثاقه وعهده بأن یبشّروا به . وسماته علاماته صلی الله علیه و آله وسلم التی ذکرت فی کتب الأنبیاء السابقین الذین بشّروا به(2) .

وجاء بعد النصّ السابق قوله علیه السلام :

«ثمّ اختار سبحانه لمحمّد صلی الله علیه و آله وسلم لقاءه . ورضی له ما عنده وأکرمه عن دار الدنیا . و رغب به عن مقارنة البلوی . فقبضه إلیه کریما صلی الله علیه و آله وسلم . وخلّف فیکم ما خلّفت الأنبیاء فی أُممها إذ لم یترکوهم هملاً بغیر طریق واضح ، ولا علم قائم»(3) .

ویظهر من هذا النصّ شدّة معاناته صلی الله علیه و آله وسلم فی تبلیغ رسالته ، وتفکیره بمستقبل دعوته والتخطیط لها والحرص علی سلامتها .

وقال علیه السلام :

«بعثه والناس ضلاّل فی حیرة ، وخابطون فی فتنة . قد استهوتهم الأهواء ، واستزلّتهم الکبریاء، واستخفّتهم الجاهلیّة الجهلاء. حیاری فی زلزال من الأمر، وبلاء من الجهل.

فبالغ صلی الله علیه و آله وسلم فی النصیحة، ومضی علی الطریقة، ودعا إلی الحکمة والموعظة الحسنة»(4).

ص: 24


1- نهج البلاغة ، شرح الشیخ عبده 1 : 24 ، 25 .
2- نفسه .
3- نفسه 1 : 25 .
4- نفسه 1 : 186 .

وتدلّ هذه الکلمات علی شدّة کدحه صلی الله علیه و آله وسلم وجدّه فی عمله ، وعزمه علی مواصلة الطریق ، وسداد أسلوبه فی الدعوة إلی اللّه تعالی .

ووصفه فی نصّ آخر ذاکرا انحداره من أشرف الأرومات ، وإقبال الواعین الهادفین علیه ، وانطفاء الأحقاد بمبعثه ، ولمّ الشمل به ، وتفریق أخلاّء الشرک بوجوده ، وإعزاز المستضعفین ، وإذلال المستکبرین ، وختمه بذکر بلاغة منطقه صلی الله علیه و آله وسلم ، فقال :

«مستقرّه خیر مستقرّ ، ومنبتهِ أشرف منبت ، فی معادن الکرامة ، وممّا هو السلامة . قد صُرفت نحوه أفئدة الأبرار ، وثُنیت إلیه أزمّة الأبصار . دفن به الضغائن ، وأطفأ به الثوائر ، ألّف به إخوانا ، وفرّق به أقرانا . أعزّ به الذلّة ، وأذلّ به العزّة . کلامه بیان وصمته لسان»(1) .

وأثنی علیه فی موضع آخر فقال :

«حتّی بعث اللّه محمّدا صلی الله علیه و آله شهیدا وبشیرا ونذیرا : خیر البریّة طفلاً ، وأنجبها کهلاً . أطهر المطهَّرین شیمةً ، وأجود المستمطَرین دِیمة»(2) .

ویا لها من کلمات جمیلة وصف فیها نجدته وکرمه ومعونته صلی الله علیه و آله وسلم . فهو «أغزر النّاس فیضا للخیر علی طلاّبه»(3) علی حدّ تعبیر الأستاذ الشیخ محمّد عبده .

وذکر علیه السلام إعراضه صلی الله علیه و آله وسلم عن الدّنیا واستهانتها لمعرفته بما أراد ربّه سبحانه منها . وعقّب ذلک بعظیم جهده صلی الله علیه و آله وسلم فی التبلیغ والنصح والدعوة فقال علیه السلام :

«قد حقّر الدنیا وصغّرها وأهون بها وهوّنها . وعلم أنّ اللّه زواها عنه اختیارا ، وبسطها لغیره احتقارا . فأعرض عنها بقلبه ، وأمات ذکرها عن نفسه ، وأحبّ أن تغیب زینتها عن عینه لکیلا یتّخذ منها ریاشا ، أو یرجو فیها مقاما . بلّغ عن ربّه مُعذرا ، ونصح لأمّته منذرا ، ودعا إلی الجنّة مبشّرا»(4) .

ص: 25


1- نهج البلاغة ، شرح الشیخ عبده 1 : 187 .
2- نفسه 1 : 200 .
3- نفسه 1 : 200 .
4- نفسه 1 : 215 .

وأوصی علیه السلام - وهو الملتزم بوصیّة نبیّه وسیّده صلی الله علیه و آله وسلم بحذافیرها - باستهدائه والاستنان بسنّته صلی الله علیه و آله وسلم فقال :

«واقتدوا بهدی نبیّکم فإنّه أفضل الهدی . واستنّوا بسنّته فإنّها أهدی السُنن»(1) .

ودلّ علی علوّ همّته وطول نَفَسه ورحابة صدره صلی الله علیه و آله وسلم فی تبلیغه ، وقوّته وإقدامه فی جهاده ، فقال :

«أرسله داعیا إلی الحقّ وشاهدا علی الخلق . فبلّغ رسالات ربّه غیر وانٍ ولا مقصّر ، وجاهد فی اللّه أعداءه وغیر واهنٍ ولا معذِّر . إمام من اتّقی ، وبصر من اهتدی»(2) .

فهو صلی الله علیه و آله وسلم إمام المتّقین وبَصَر المهتدین ودلیل الحائرین ومنهل الظامئین .

وأرشد إلیه طبیبا یُستوصَف وما أحوج البشریّة هذا الیوم إلی طبیب مثله ! فأدواؤها لا تُداوی إلاّ به صلی الله علیه و آله وسلم . قال علیه السلام :

«طبیب دوّار بطبّه قد أحکم مراهمه ، وأحمی مواسمه . یضع ذلک حیث الحاجة إلیه من قلوب عمی ، وآذان صُمّ ، وألسنة بُکم . متّبع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحیرة»(3) .

وما أروع الکلمات التی تبسّط بها الإمام علیه السلام فی وصفه صلی الله علیه و آله وسلم . وهی کلمات جاذبة لافتة تزدهی بمفاهیمها الکافیة فی الدلالة علیها ومهما طال التعلیق علیها والتحلیق فی أجوائها فقد قصر المعلِّق وعجز المحلِّق . قال علیه السلام ، وقوله البشیر الأثیر :

«فتأسَّ بنبیّک الأطیب الأطهر صلی الله علیه و آله ، فإنّ فیه أسوةً لمن تأسّی ، وعزاءً لمن تعزّی . وأحبّ العباد إلی اللّه المتأسّی بنبیّه والمقتصّ لأثره . قضم الدنیا قضما ، ولم یُعرها طرفا . أهضم أهل الدنیا کشحا ، وأخصمهم من الدنیا بطنا . عُرضت علیه الدنیا فأبی

ص: 26


1- نهج البلاغة ، شرح الشیخ عبده 1 : 216 .
2- نفسه 1 : 229 .
3- نفسه 1 : 207 .

أن یقبلها ، وعلم أنّ اللّه سبحانه أبغض شیئا فأبغضه ، وحَقَر شیئا فحقره ، وصغَّر شیئا فصغّره . ولو لم یکن فینا إلاّ حُبُّنا ما أبغض اللّه ورسوله وتعظیمنا ما صغّر اللّه ورسوله لکفی به شقاقا للّه ومحادّة عن أمر اللّه . ولقد کان صلی الله علیه و آله یأکل علی الأرض ، ویجلس جِلسةَ العبد ، ویخصف بیده نعله ، ویرقع بیده ثوبه ، ویرکب الحمار العاری ویُردف خلفه . ویکون الستر علی باب بیته فتکون فیه التصاویر فیقول یا فلانة - لإحدی أزواجه - غیّبیه عنّی فإنّی إذا نظرتُ إلیه ذکرتُ الدنیا وزخارفها . فأعرض عن الدنیا بقلبه ، وأمات ذکرها من نفسه ، وأحبّ أن تغیب زینتُها عن عینه ، لکیلا یتّخذ منها رِیاشا ، ولا یعتقدها قرارا ولا یرجو فیها مُقاما ، فأخرجها من النفس ، وأشخصها عن القلب ، وغیّبها عن البصر . وکذا من أبغض شیئا أبغض أن ینظر إلیه وأن یُذکَر عنده .

ولقد کان فی رسول اللّه صلی الله علیه و آله ما یدلّک علی مساوی الدنیا وعیوبها . إذ جاع فیها مع خاصّته ، وزُویت عنه زخارفها مع عظیم زُلفته . فلینظر ناظر بعقله أکرم اللّه محمّدا

[ صلّی اللّه علیه وآله ] بذلک أم أهانه ؟ فإن قال : أهانه . فقد کذب والعظیم ؛ وإن قال : أکرمه فلیعلم أنّ اللّه قد أهان غیره حیث بسط الدنیا له وزواها عن أقرب الناس منه ... فإنّ اللّه جعل محمّدا صلی الله علیه و آله علما للسّاعة ، ومبشِّرا بالجنّة ، ومنذرا بالعقوبة . خرج من الدنیا خمیصا ، وورد الآخرة سلیما . لم یضع حجرا علی حجر حتّی مضی لسبیله ، وأجاب داعی ربّه . فما أعظم مِنّة اللّه عندنا حین أنعم علینا به سلفا نتّبعه ، وقائدا نطأ عَقِبَه !»(1)

والذی بعثه بالحقّ لا یتمّ دیننا إلاّ بالتأسّی به . والعجیب العجیب أنّ الدنیا عُرضت علیه فأعرض عنها طائعا مختارا ولم یتمتّع بها مع عظیم منزلته ورفعة مقامه . وهو

ص: 27


1- نهج البلاغة ، شرح الشیخ عبده 2 : 58 - 60 .

بعدُ نعمة اللّه علینا . ویرید الإمام علیه السلام أن یقول لنا : إنّ استمتاعنا بهذه النعمة لا یتحقّق إلاّ باتّباعه وسلوک طریقه نقفوه خطوة خطوة حتّی کأنّنا نطأ مؤخّر قدمه !!

وأشار علیه السلام فی خطبته القاصعة الطویلة إلی معجزة من معجزاته صلی الله علیه و آله وسلم وهی ذات سماعٍ . وذکر فی سیاقها منزلته الخصیصة علیه السلام منه صلی الله علیه و آله وسلم ، فقال :

«ولقد سمعتُ رنّة الشیطان حین نزل الوحی علیه صلی الله علیه و آله ، فقلتُ : یا رسول اللّه ما هذه الرنّة ؟ فقال : هذا الشیطان أیس من عبادته . إنّک تسمع ما أسمع وتری ما أری إلاّ أنّک لست بنبیّ ولکنّک وزیر و إنّک لعلی خیرٍ . ولقد کنتُ معه صلی الله علیه و آله لمّا أتاه الملأ من قریش ، فقالوا له : یا محمّد إنّک قد ادّعیت عظیما لم یدّعه آباؤک ولا أحدٌ من بیتک ، ونحن نسألک أمرا إن أجبتنا إلیه وأریتناه علمنا أنّک نبیّ ورسول ، وإن لم تفعل علمنا أنّک ساحر کذّاب . فقال صلی الله علیه و آله : وما تسألون ؟ قالوا : تدعو لنا هذه الشّجرة حتّی تنقلع بعروقها وتقف بین یدیک ، فقال صلی الله علیه و آله : إنّ اللّه علی کلّ شیء قدیر ، فإن فعل اللّه لکم ذلک أتؤمنون وتشهدون بالحقّ ؟ قالوا : نعم . قال : فإنّی سأُریکم ما تطلبون ، وإنّی لأعلم أنّکم لا تفیئون إلی خیر ، وإنّ فیکم من یُطرح فی القلیب ، ومن یحزّب الأحزاب . ثمّ قال صلی الله علیه و آله : یا أیّتها الشّجرة إن کنتِ تؤمنین باللّه والیوم الآخر وتعلمین أنّی رسول اللّه فانقلعی بعروقکِ حتّی تقفی بین یَدَیَّ بإذن اللّه . فوالّذی بعثه بالحقّ لاَنقلعت بعروقها وجاءت و لها دویٌّ شدید وقصفٌ کقصف أجنحة الطیر حتّی وقفت بین یدی رسول اللّه صلی الله علیه و آله مرفرفةً ، ألقت بغصنها الأعلی علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وببعض أغصانها علی منکبی ، وکنتُ عن یمینه صلی الله علیه و آله . فلمّا نظر القوم إلی ذلک قالوا - علوّا واستکبارا - : فمُرها فلیأتک نصفها ویبقی نصفها فأمرها بذلک ، فأقبل إلیه نصفها کأعجب إقبال وأشدّه دویّا ، فکادت تلتفّ برسول اللّه صلی الله علیه و آله . فقالوا : - کفرا وعتوّا - : فمُر هذا النصف فلیرجع إلی نصفه کما کان . فأمره صلی الله علیه و آله فرجع . فقلتُ أنا : لا إله إلاّ اللّه فإنّی أوّل مؤمن بک یا رسول اللّه ، وأوّل من أقرّ بأنّ الشجرة فعلت ما فعلت بأمر اللّه

ص: 28

تعالی تصدیقا بنبوّتک وإجلالاً لکلمتک . فقال القوم کلّهم : بل ساحر کذّاب ، عجیب السحر خفیف فیه ، وهل یصدّقک فی أمرک إلاّ مثل هذا (یعنونی) ؟!!»(1)

وألمع علیه السلام إلی جانب من جوانب قدسیّته صلی الله علیه و آله وسلم واتّصاله بالملأ الأعلی حین أعانه الملائکة علیهم السلام علی غسله بعد قبضه صلی الله علیه و آله وسلم فقال :

«ولقد قُبض رسول اللّه صلی الله علیه و آله و إنّ رأسه لعلی صدری ، ولقد سالت نفسه فی کفّی فأمررتها علی وجهی(2) . ولقد ولیتُ غُسله صلی الله علیه و آله والملائکة أعوانی ، فضجّت الدار والأفنیة ملأ یهبط وملأ یعرج وما فارقت سمعی هَیْنَمَةٌ منهم . یصلّون علیه حتّی واریناه فی ضریحه . فمن ذا أحقُّ به منّی حیّا ومیّتا ؟»(3)

ووصفه فی سیاق خطبة له علیه السلام ذاکرا شیئا من خصائصه صلی الله علیه و آله وسلم ، فقال :

«جعله اللّه بلاغا لرسالته ، وکرامة لأُمّته ، وربیعا لأهل زمانه ، ورفعةً لأعوانه ، وشرفا لأنصاره»(4) .

وأخبرنا علیه السلام بکلامه فی الصلاة فقال :

«وشبّهها رسول اللّه صلی الله علیه و آله بالحمّة(5) تکون علی باب الرجل فهو یغتسل منها فی الیوم واللیلة خمس مرّات فما عسی أن یبقی علیه من الدَرَن ؟»(6)

ونقل لنا تعبه صلی الله علیه و آله وسلم فی صلاته واهتمامه البالغ بها وتوجّهه الکامل إلیها - وهو من هو ! - فقال علیه السلام :

«وکان رسول اللّه صلی الله علیه و آله نَصِبا بالصلاة بعد التبشیر له بالجنّة لقول اللّه سبحانه : « وَأْمُرْ أَهْلَکَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَیْهَا » فکان یأمر أهله ویصبر علیها نفسه»(7) .

ص: 29


1- نهج البلاغة ، شرح الشیخ عبده 2 : 157 - 159 .
2- نفسه : دمه ، روی أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم قاء فی مرضه فتلقی قیأه أمیرالمؤمنین فی یده ومسح به وجهه . للشیخ محمّد عبده
3- نهج البلاغة 2 : 172 .
4- نهج البلاغة ، شرح الشیخ عبده 2 : 176 .
5- الحمّة : عین تنبع بالماء الحار .
6- نهج البلاغة ، شرح الشیخ عبده 2 : 179 .
7- نفسه 2 : 179 .

ویدلّ هذا الکلام علی عظم شأن الصلاة وعلوّ منزلتها . وفیه تنبیه لنا علی أهمّیّة هذه الفریضة ووجوب الاهتمام بها .

وذکره صلی الله علیه و آله وسلم فی کلام له علیه السلام أرانا فیه نهجه العدل الوسط فی مهمّته الرسالیّة فقال :

«أرسله بالضیاء وقدّمه فی الاصطفاء فرتق به المفاتق ، و ساور به المغالِب ، وذلّل به الصعوبة ، وسهّل به الحزونة حتّی سرّح الضلال عن یمین وشمال»(1) .

ومن کلام له علیه السلام قاله وهو یلی غُسله صلی الله علیه و آله وسلم وتجهیزه :

«بأبی أنت وأمّی لقد انقطع بموتک ما لم ینقطع بموت غیرک من النبوّة والأنباء وأخبار السماء . خصّصتَ حتّی صرت مسلّیا عمّن سواک وعمّمتَ حتّی صار الناس فیک سواء . ولولا أنّک أمرتَ بالصبر ونهیتَ عن الجزع لأنفدنا علیک ماء الشؤون ، و لکان الداء مماطلاً والکَمَد محالفا وقلاّ لک ، ولکنّه ما لا یُملک ردّه ، ولا یُستطاع دفعه . بأبی أنت وأمّی أذکرنا عند ربّک واجعلنا من بالک»(2) .

ویُلحَظ فی هذه الکلمات التأبینیّة الحارّة أنّه علیه السلام صرّح بانقطاع الوحی ، ووصف خلقه الکریم صلی الله علیه و آله وسلم فی تسلیة أقاربه وأهل بیته إذ خصّهم ، وفی نظرته العادلة إلی جمیع الخلق إذ عمّهم فالنّاس فی النسبة إلی دینه سواء . کما أنبأنا بأمره صلی الله علیه و آله وسلم بالصبر ونهیه عن الجزع . وبیّن لنا النصّ شدّة تعلّقه به صلی الله علیه و آله وسلم ووجده علیه وأسفه وحزنه العمیق

لفقده حین عبّر عن ذلک فی أنّ مماطلة الداء بالشفاء وملازمة الحزن قلیلتان لحبیب اللّه سبحانه وحبیبه علیه السلام وحبیب القلوب السلیمة . ثمّ أشار إلی حتمیّة الموت ، وطلب منه أن یذکره عند ربّه ویکون علی باله . وهذه أعلی درجات الیقین .

وکم أوصی علیه السلام برعایة سنّته صلی الله علیه و آله وسلم حتّی فی أحرج الساعات وأحلکها فقال مثلاً قُبیل رحیله :

ص: 30


1- نهج البلاغة ، شرح الشیخ عبده 2 : 194 .
2- نفسه 2 : 228 .

«وصیّتی لکم أن لا تشرکوا باللّه شیئا . ومحمّد صلی الله علیه و آله فلا تضیّعوا سنّته . أقیموا هذین العمودین وخلاکم ذمّ»(1) .

فهو یؤکّد الالتزام بالسنّة النبویّة الشریفة . وذکر النبیَّ صلی الله علیه و آله لیکون المسلم علی صلةٍ دائمةٍ بنبیّه صلی الله علیه و آله .

وقال الشریف الرضیّ رحمه الله :

«وحکی عنه أبو جعفر محمّد بن علیّ الباقر علیهماالسلام أنّه قال : کان فی الأرض أمانان من عذاب اللّه وقد رُفع أحدهما فدونکم الآخر فتمسّکوا به . أمّا الأمان الذی رُفع فهو رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وأمّا الأمان الباقی فالاستغفار . قال اللّه تعالی : « وَمَا کَانَ اللّه ُ لِیُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِیهِمْ وَمَا کَانَ اللّه ُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ یَسْتَغْفِرُونَ »(2) . وهذا من محاسن الاستخراج ولطائف الاستنباط»(3) .

وخاطبه علیه السلام ساعة دُفن صلی الله علیه و آله وسلم فقال :

«إنّ الصبر لجمیل إلاّ عنک ، وإنّ الجزع لقبیح إلاّ علیک ، وإنّ المصاب بک لجلیل ، وإنّه

قبلک وبعدک لجلل»(4) .

فبیّن علیه السلام أثر وجوده صلی الله علیه و آله وسلم بینهم وشدّة حزنه علی فقده .

ومن الآداب الجمیلة الّتی أدّب بها المؤمنین هی استهلال أدعیتهم فی طلب الحاجات بالصّلاة علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فقال وقوله الحقّ :

«إذا کانت لک إلی اللّه سبحانه حاجةٌ فابدأ بمسألة الصلاة علی رسوله صلی الله علیه و آله ثمّ سل حاجتک فإنّ اللّه أکرم من أن یُسأل حاجتین فیقضی إحداهما ویمنع الأُخری»(5) .

وکلامه علیه السلام هذا من غرر الآداب ودرر التعالیم وجواهر الأخلاق . وفیه ترسیخ

ص: 31


1- نهج البلاغة ، شرح الشیخ عبده 3 : 21 .
2- نفسه 4 : 19 ، 20 .
3- نفسه 4 : 19 ، 20 .
4- نفسه 4 : 71 .
5- نفسه 4 : 84 .

لمفهوم الصلاة علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، وانشداد دائم إلیه صلی الله علیه و آله وسلم ، وهویّة الصلاة شعیرة واجبة التعظیم ، وشعار لازم الإحیاء والتکریم . ولعلّ فی الدعاء قبل الصلاة سوء أدب ونکران جمیل وجحود نعمة . والإمام علیه السلام کثیر الصلاة علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم . فکلّما ذکر اسمه المبارک أو وصفه المیمون صلّی علیه حتّی لو تکرّر ذلک مرّات کثیرة ، فلا یسأم ولا یملّ ولا یضجر لعلمه بعظمتها وتعلیمنا مداومةَ ذکرها تطبیقا لسنّة صالحة وتعبیرا عن شیء من الوفاء .

ووصف علیه السلام جهده الجهید فی بثّ دعوته ، وتجرّعه للغصص والمرارات من أجلها فقال :

«خاض إلی رضوان اللّه کلّ غمرة ، وتجرّع فیه کلّ غصّة . وقد تلوّن له الأدنون ، وتألّب علیه الأقصون»(1) .

وذکره فی موضع آخر فقال :

«أرسله وأعلام الهدی دارسة ، ومناهج الدین طامسة . فصدع بالحقّ ، ونصح للخلق ، وهدی إلی الرشد ، وأمر بالقصد ، صلّی اللّه علیه وآله»(2) .

وصرّح علیه السلام بهیمنته صلی الله علیه و آله وسلم علی المرسلین علیهم السلام ، وهذی لعمر اللّه منزلة فذّة فریدة لا تُوازی ولا تُباری . قال علیه السلام فی أحد کتبه إلی أهل مصر مع الشهید العظیم مالک الأشتر رضوان اللّه علیه لمّا ولاّه إمارتها :

«أمّا بعد فإنّ اللّه سبحانه بعث محمّدا صلی الله علیه و آله نذیرا للعالمین ومهیمنا علی المرسَلین»(3) .

ومجّد الإمام علیه السلام شجاعة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وهو هو فی شجاعته و بسالته فقال ما یستحلیه الإنسان :

ص: 32


1- نهج البلاغة ، شرح الشیخ عبده 2 : 165 .
2- نفسه 2 : 168 .
3- نفسه 3 : 118 .

«کنّا إذا احمرّ البأس اتّقینا برسول اللّه صلی الله علیه و آله فلم یکن منّا أقرب إلی العدوّ منه»(1) .

(ومعنی ذلک أنّه إذا عظم الخوف من العدوّ واشتدّ عضاض الحرب فزع المسلمون إلی قتال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بنفسه فیُنزل اللّه علیهم النصر به ویأمنون ممّا کانوا یخافونه

بمکانه . واحمرار البأس کنایة عن اشتداد الأمر)(2) .

وعدّد له صفاتٍ حَریّة بالذّکر حقیقة بالحفظ تزدان بها خطبة من خطبه علیه السلام ، قال:

«حتّی أفضت کرامة اللّه سبحانه إلی محمّد صلی الله علیه و آله ، فأخرجه من أفضل المعادن منبتا ، وأعزّ الأرومات مغرسا . من الشجرة الّتی صدع منها أنبیاءه وانتخب منها أُمناءه . عترته خیر العتر ، وأُسرته خیر الأُسر ، وشجرته خیر الشجر . نبتت فی حرم ، وبسقت فی کرم ، لها فروع طوال وثمرة لا تُنال . فهو إمام من اتّقی وبصیرة من اهتدی . سراج لمع ضوءه ، وشهاب سطع نوره ، و زَند برق لمعه . سیرته القصد ، وسنّته الرشد وکلامه الفصل . وحکمه العدل . أرسله علی حین فترةٍ من الرّسل ، و هفوة عن العمل ، وغباوة من الأمم»(3) .

وفخر علیه السلام علی یهودیّ زعم أنّ آدم علیه السلام أفضل من نبیّنا صلی الله علیه و آله وسلم لأمر اللّه سبحانه الملائکة علیهم السلام بالسجود له ، فذکر الإمام أنّ السجود کان للّه تعالی فضیلةً لآدم علیه السلام . أمّا نبیّنا صلی الله علیه و آله وسلم فإنّ اللّه تعالی صلّی علیه فی ملکوته وملائکته وتعبّد المؤمنون بذلک(4) . بل لا تُقبل الصلاة الواجبة إلاّ بالصلاة علیه وآله وذلک فی التشهّد الأوسط والأخیر کما قال الشافعیّ مخاطبا أهل البیت علیهم السلام :

کفاکم من عظیم الفخر أنّکم * من لم یصلّ علیکم لا صلاة له

هذا قبسٌ ممّا استضاء به هذا العرض من کلام اللّه سبحانه وتعالی وکلام عبده

ص: 33


1- نهج البلاغة ، شرح الشیخ عبده 4 : 61 .
2- نفسه 4 : 61 .
3- نفسه 1 : 185 .
4- المیزان فی تفسیر القرآن 1 : 124 نقلاً عن الاحتجاج : 210 .

وولیّه علیّ بن أبی طالب علیه السلام فی حبیبه ورسوله محمّد صلی الله علیه و آله وسلم . والحدیث عن السیرة النبویّة الشریفة تعظیم لشعیرة من شعائر اللّه تعالی ، وموقف حمید من صاحب الرسالة صلی الله علیه و آله وسلم بإحیاء ذکره وبثّ رسالته ، والاقتداء به . کما أنّ سردها تمتیع للرّوح بذکر حبیب ربّ العالمین صلی الله علیه و آله وسلم وفرصة ثمینة للوقوف الهادف الواعی علی ما ازدهت به من محاسن الأقوال والأفعال . وصفوة القول أنّ السیرة النبویّة هی للعمل والاتّعاظ وهی منجع للقاصدین ومهیع للهادفین .

ویَثمُن العرض بعروض مُربحة تُستثری وتُبتغی و لها من القدر ما یقدِره أهلها وهی تنظُر من یرعاها حقّ رعایتها . ومن هذه العروض الّتی لا تبتغی إلاّ التوجّه تلقاء نبیّ الرحمة ومفتاح الخیر وقائد البرکة ، والتعبیر عن نزرٍ من الوفاء الذی هو

توأم الصدق لذلک السراج المنیر صلی الله علیه و آله وسلم :

1 - الإکثار من الصلاة علیه فی کلّ یوم وعلی قدر الوُسع ، وحبّذا هی فی وقتٍ یُخصّص لها . وحَسُن أن تکون قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ، وقُبیل النوم وبُعید الاستیقاظ ، وفی السرّاء والضرّاء ، والحضر والسفر . ونعم المداومة علیها عن بصیرةٍ إجابةً لأمر اللّه سبحانه وتعالی ، ودعاءً لرسوله صلی الله علیه و آله وسلم ، و إقبالاً علیه ، وتحصینا من الزیغ ، واستقامة علی سبیل الرشد ، وابتغاءً للثواب . وریاضة اللسان علیها مناعة للنفس من أهوائها وأدوائها . ولتکن هادفةً واعیةً حتّی یجتمع جانباها الروحیّ والتربویّ إن شاء اللّه . ویجمل التذکیر بها عند السهو والغفلة . وخلیق بالمسلم أن

یلهج بها وهجرها جفاء .

2 - السلام علیه بعد کلّ صلاة . فیقف المسلم متوجّها إلی القبلة مخاطبا نبیّه الکریم قائلاً :

«السّلام علیک یا سیّدی یا رسول اللّه وعلی أهل بیتک الطیّبین الطاهرین جمیعا ورحمة اللّه وبرکاته» .

ص: 34

3 - الصلاة علیه کلّما ذُکر اسمه المبارک أو وصفه الجمیل عرفانا لجمیله ، وشکرا لصنیعه ، وتثمینا لکدحه ، وسخاءً عند الإمساک عنها ، وتطییبا لنفسه الشریفة ، وإغاظةً لأعداء اللّه . فلا یسأم مسلم غیور علی نبیّه ولا یملّ منها حتّی لو تکرّرت مرّات کثیرة ، ولیشعر أنّه کلّما فعل ذلک فهو قلیل بحقّه . وتردادها ترویض حمید للنفس ، وآیة علی زیادة الثناء ودفع الجحود . وإذا کُتب اسمه أو وصفه فلتکتب الصلاة علیه بصورتها التامّة صلّی اللّه علیه وآله وسلّم بلا قوسین ویُترک حرف الصاد . صلّی اللّه علیه وآله کلّما طلعت شمس أو غربت .

4 - تَمَثُّل قداسته صلی الله علیه و آله وسلم . أی : النظر إلی جانبه القُدسیّ أکثر من جانبه البشریّ . وصحیح أنّه بشر لکنّه بشر لا کالبشر ولیس مثله بشر . فهو بشر یکلّمه اللّه جلّ شأنه ، ویوحی إلیه ، ویطأمنه برسله من ملائکته المقرّبین ، وهو رسوله وأمینه وصفیّه وحبیبه وخیرته من خلقه وحافظ سرّه ومبلّغ رسالاته . وهو الذی لا ینطق عن الهوی ، ولدیه أخبار السماء ، وله المحلّ الأعلی فی الملأ الأعلی . ولم یعرفه حقّ معرفته إلاّ ربّه الذی اختاره واصطفاه . ولیس لأحد أن یُدرک عظمته وهی لا تُدرک ولا تُنال . وهو المقدّس الذی استخلصه ربّه لنفسه . ولا تُقدَّس الأمّة إلاّ إذا قدّسته وعلمت أنّه المتّصل الوحید بالسماء ، المنزَّل علیه روح القُدُس ، المؤیّد بالملکوت الأعلی ، المسدَّد بربّه الأعلی ، الذی أمّ الأنبیاءَ فی إسرائه ، والملائکة فی معراجه وهو القائل : «أممتُهم ولا فخر»(1) . وهو القائل : «کنت نبیّا وآدم بین الماء والطین»(2) وهو القائل : «لی مع اللّه وقت لا یسعنی فیه مَلَک مقرّب ولا نبیّ مُرسل»(3) .

5 - حبّه صلی الله علیه و آله وسلم حبّا رسالیّا هادفا یکون علاجا لأدواء الهوی وحبّ الذات والجاه

ص: 35


1- المیزان فی تفسیر القرآن 13 : 8 .
2- شرح القیصریّ علی تائیّة ابن الفارض المطبوع مع تائیّة عبدالرحمن الجامیّ : 222 ، شرح البیت 628 .
3- نفسه : 163 البیت 206 .

والمال والعِرق والعنصر . ویُصبح هو المحور بعد حبّ اللّه تعالی . أی : لا یجتمع حبّه صلی الله علیه و آله وسلم وحبّ واحد من الأشیاء المذکورة . ولا یؤمن المؤمن إلاّ إذا کان صلی الله علیه و آله وسلم أحبّ إلیه من کلّ شیء . ولا یتحقّق حبّه بحقیقته إلاّ بالالتزام بسنّته ، والتمسّک بأهل بیته علیهم السلام الذین أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهیرا نظما للأُمور وتوحیدا للصفّ . أی : إنّ الاهتداء بهدی أهل البیت علیهم السلام أو التعبّد بمذهبهم یضمن للأُمّة نظامها ویقیها شرّ الفُرقة والتشتّت . وهذه حقیقة لا سبیل إلی إنکارها البتة . کما أنّه عمل بالوصیّة النبویّة المتّفَق علیها فی کتب الفریقین أتباع أهل البیت وعامّة المسلمین . وتقدّمت الإشارة إلی أنّ حبّ اللّه جلّ جلاله لا یتحقّق إلاّ باتّباع رسوله صلی الله علیه و آله وسلم - وهو ما نصّ علیه القرآن الکریم - أمّا حبّ رسوله فلا یتحقّق إلاّ باتّباع أهل بیته . وکأنّه صلی الله علیه و آله وسلم یخاطب المسلمین قائلاً : إن کنتم تحبّونی فاتّبعوا أهل بیتی أُحببکم ویغفر ربّی لکم . واتّباعهم ضمان فی الدنیا وأمان فی الآخرة . ویضاف إلی ذلک تکریم أصحابه رضی اللّه عنهم والإحسان إلیهم بجمیل الثناء علیهم ، والجدّ فی توقیرهم وتبجیلهم . فلسنّته الاهتداء ، ولأهل بیته الاقتداء ، ولصحابته حسن الثناء .

6 - مذاکرة سیرته صلی الله علیه و آله وسلم کلّما سخت الفرصة کی نعیش أجواء النبوّة الخاتمة باستمرار ولا نفرّط بذکر نبیّنا صلی الله علیه و آله وسلم والإشادة به والتمدّح المتّزن المطلوب له . ولا تتمّ المذاکرة إلاّ بعد مطالعة السیرة والتعرّف علیها . والمطالعة المطلوبة هی المطالعة المنتظمة الهادفة . وجهل المسلم بسیرة نبیّه تقصیر بیّن لا یُغفَر . فحقیق به أن یطّلع علیها ویُحیط بحذافیرها ویتّخذها شعارا ابتغاء الاستنارة بها ، والتعلّم منها ، والاعتبار بها . ومصدرها الأوّل هو الثقل الأکبر القرآن الکریم ، والثانی هو الثقل الأصغر عِدل القرآن أهل البیت النبویّ الکریم علیهم السلام ، والثالث کلام الصحابة والتابعین رضیاللّه عنهم إلاّ ما وُضع منه اجتراءً علی اللّه ورسوله ، والرابع ما کتبه المعنیّون بالسیرة إلاّ ما وهم فیه بعضهم أو اختلقه تطاولاً . ویصاحب ذلک کلّه التمحیص والتثبّت للوقوف علی الصحیح منه ، فلا یُقبَل إلاّ ما صحّ منه .

ص: 36

7 - الاهتمام بالسیرة اهتماما بالغا بجعلها درسا مستقلاًّ فی مدارس المسلمین جمیعا ، وترجمتها إلی مختلف اللغات لیعرف أبناء الأُمم الأخری من هو نبیّنا ، و ردّ الشبهات التی یثیرها بعض الأعداء علیها ، وتمییز صحیحها من سقیمها ، وتمحیصها باتّئاد ، والتأنّی فی منقولاتها . والتفاعل معها بوعی وبصیرة . وبعد هذا کلّه جعلها میزانا لوحدة المسلمین . فسیرته صلی الله علیه و آله وسلم تدعونا إلی تحسین سیرتنا ، وتوحید کلمتنا وتثمیر مودّتنا ، وتقریض أضغاننا ، ولن یرضی عنّا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم إلاّ إذا أثّرت فینا سیرته بما یُرضیه عنّا . ولا فائدة فی قراءتها وتکرارها دون العمل بها ، ویتجلّی تأثیرها فیرفع المستوی الإیمانیّ والروحیّ والأخلاقیّ للأُمّة المرحومة .

أمّا هذا الکتاب الذی فُرغ من تعریبه فهو لأحد علماء إیران المتخصّصین فی التاریخ الإسلامیّ وهو الشّیخ رسول جعفریان الذی صنّف کتبا نافعةً لها قیمتها . ومنها هذا الکتاب الذی یتناول فیه مؤلّفه المتقصّی السیرة النبویّة الشریفة بأُسلوب جدید ، ونظرة فاحصة، وتوجّه سدید . ویتمیّز الکتاب بتنوّع معلوماته ، وتفصیل موضوعاته، وکثرة مصادره . وسهولة فهمه . ووضوح مراشده تدلّ علی رُشده . وله بعدُ قسطه من الإقبال علیه ، والنظر فیه ومطالعته . وهو یُخبر عن سعی حمید .

ومن المناسب أن یُختَم هذا العرض بفقرات من دعاء للإمام الرابع من أئمّة أهل البیت علیّ بن الحسین زین العابدین علیه السلام عند ختم القرآن ، ثمّ بدعائه علیه السلام بالصلاة علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم .

«اللهمّ صلّ علی محمّد عبدک ورسولک کما بلّغ رسالتک وصدع بأمرک ونصح لعبادک . اللهمّ اجعل نبیّنا صلواتک علیه وعلی آله یوم القیامة أقرب النّبیّین منک مجلسا وأمکنهم منک شفاعةً وأجلَّهم عندک قدرا وأوجههم عندک جاها . اللهمّ صلّ علی محمّد وآل محمّد وشرّف بنیانه وعظّم برهانه وثقّل میزانه وتقبّل شفاعته وقرّب وسیلته وبیّض وجهه وأتمّ نوره وارفع درجته وأحینا علی سنّته وتوفّنا علی ملّته وخذ بنا منهاجه واسلک بنا سبیله واجعلنا من أهل طاعته واحشرنا فی زمرته

ص: 37

وأوردنا حوضه واسقنا بکأسه وصلّ اللهمّ علی محمّد وآله صلاةً تبلّغه بها أفضل ما یأمل من خیرک وفضلک وکرامتک إنّک ذو رحمة واسعة وفضلٍ کریم . اللهمّ اجزه بما بلّغ من رسالاتک وأدّی من آیاتک ونصح لعبادک وجاهد فی سبیلک أفضل ما جزیتَ أحدا من ملائکتک المقرّبین وأنبیائک المرسلین المصطَفین والسّلام علیه وعلی آله الطیّبین الطّاهرین ورحمة اللّه وبرکاته»(1) .

ومن دعائه علیه السلام بالصلاة علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وهو دعاء خاصّ مستقلّ . أمّا الفقرات السابقة فهی فی سیاق دعاء طویل کان یقرأه علیه السلام بعد ختم القرآن الکریم . وحریّ بکلّ مسلم محبّ للّه ورسوله أن یقتنی تلک الصحیفة النفیسة التی لا یقدَّر لها ثمن ، ویتربّی علی أدعیتها البلیغة البلیغة التی تحلّق به فی عالم الصفاء الروحیّ ، وتنقذه من أوساخ هذه الحیاة الدنیّة ، وتوصله إلی رضوان اللّه إن شاء اللّه . قال علیه السلام :

«والحمد للّه الذی مَنَّ علینا بمحمّد نبیّه صلّی اللّه علیه وآله دون الأُمم الماضیة والقرون السالفة بقدرته التی لا تعجز عن شیءٍ وإن عَظُم ولا یفوتها شیء وإن لَطُف فختم بنا علی جمیع من ذرأ وجعلنا شهداء علی من جحد وکثّرنا بمنّه علی من قلّ . اللهمّ فصلّ علی محمّد أمینک علی وحیک ونجیبک من خلقک وصفیّک من عبادک إمام الرحمة وقائد الخیر ومفتاح البرکة کما نصب لأمرک نفسه ، وعرّض فیک للمکروه بدنه ، وکاشف فی الدعاء إلیک حامّته ، وحارب فی رضاک أُسرته ، وقطع فی إحیاء دینک رَجمَه ، وأقصی الأدنین علی جحودهم ، وقرّب الأقصین علی استجابتهم لک ، ووالی فیک الأبعدین ، وعادی فیک الأقربین ، وأدأب نفسه فی تبلیغ رسالتک ، وأتعبها بالدعاء إلی ملّتک ، وشغلها بالنصح لأهل دعوتک . وهاجر إلی بلاد الغربة ومحلّ النأی عن موطن رحله وموضع رِجله ومسقط رأسه ومأنس نفسه إرادةً منه لإعزاز دینک واستنصارا علی أهل الکفر بک حتّی استتبّ له ما حاول فی أعدائک ، واستتمّ له

ص: 38


1- الصحیفة السجّادیّة ، الدعاء 42 . دعاؤه علیه السلام عند ختمه القرآن .

ما دبّر فی أولیائک . فنهد إلیهم مستفتحا بعونک ومتقوّیا علی ضعفه بنصرک فغزاهم فی عُقر دیارهم وهجم علیهم فی بحبوحة قرارهم حتّی ظهر أمرک وعلت کلمتک ولو کره المشرکون . اللهمّ فارفعه بما کدح فیک إلی الدرجة العلیا من جنّتک حتّی لا یُساوی فی منزلة ولا یُکافأ فی مرتبة ولا یوازیه لدیک مَلَک مقرّب ولا نبیّ مُرسل وعرّفه فی أهله الطاهرین وأمّته المؤمنین من حسن الشفاعة أجلَّ ما وعدته یا نافذ العِدّة یا وافی القول یا مبدّل السیّئات بأضعافها من الحسنات . إنّک ذو الفضل العظیم الجواد الکریم»(1) .

إنّها لکلمات شافیة وعبارات من الدعاء وافیة لحفید من أحفاد رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم . وهو الإمام الرابع من أئمّة أهل البیت الذین أوصی صلی الله علیه و آله وسلم بالتمسّک بهم وصیّة شرعیّة واجبة علی جمیع المسلمین . والتمسّک هو التعبّد بأحکامهم ، والأخذ بأقوالهم ، وتطبیق سننهم علیهم السلام لخیر الدّنیا والآخرة .

وزبدة الکلام أنّ السنّة النبویّة الشریفة هی للاقتداء ، وأعظم ما فیها وأهمّه هو تحکیم الدّین فی الحیاة ، والاهتمام البالغ بسلامته ورفع شأنه ، وجعله المعیار فی کلّ شیء واتّخاذه بدیلاً عن سائر المقاییس الجاهلیّة الأُخری من قومیّة وعنصریّة وفئویّة وحزبیّة ومالٍ وثروة وجاه وسلطة وغیرها من المقاییس التی أشاعها خصوم الدین هذا الیوم ، وتثبیته مصدرا لجمیع القیم الإنسانیّة والأخلاق الرغیبة . جعلنا اللّه من المعتصمین بحبله ، المتمسّکین بسنّة نبیّه صلی الله علیه و آله وسلم ، الملتزمین بهُدی أهل بیت نبیّه علیه وعلیهم السّلام . وکفانا فخرا وشرفا أنّ محمّد بن عبد اللّه صلی الله علیه و آله وسلم هو نبیّنا . أغارنا اللّه علیه فی دنیانا ورزقنا رؤیته وشفاعته فی أُخرانا إنّه سمیع مجیب وهو حسبنا ونعم الوکیل .

مترجم الکتاب

صفر 1425 ه

ص: 39


1- الصحیفة السجّادیّة ، الدعاء الثانی .

بسم اللّه الرّحمن الرّحیم

توطئة

إنّ تدوین التّاریخ الإسلامیّ ضرورة علمیّة وثقافیّة فی بلدنا الإسلامیّ هذا الیوم ، فی حین أنّ المثقّفین الشّیعة لم یهتمّوا بهذا الموضوع کما هو حقّه . ویعود ذلک إلی طبیعة الاتّجاه الّذی یحمله علماء الشیعة حیال الفروع المختلفة للعلوم الإسلامیّة ، ومنها التاریخ . والشّیعة - مبدئیّا - لم تخصّص وقتا لکتابة التّاریخ والبحث والتّتبّع فیه ، لأنّها ترفض فصولاً من التاریخ الإسلامیّ ولم تقم لها وزنا من منطلق مذهبیّ . والآن إذ یحاول الشیعة أن تکون لهم صلة أکثر بالعالم الإسلامیّ ، وأن یمارسوا دورا أهمّ فیه ، من الضّروریّ أن یزید اهتمامهم بالتّاریخ ، ویفیدوا من تجاربه الإیجابیّة والسّلبیّة .

وکانت تراودنی - منذ سنین - فکرة تألیف کتاب یتناول الجانب السّیاسیّ من التّاریخ الإسلامیّ . وأطمح أن یستوعب التّاریخ الإسلامیّ بعامّة ، وتاریخ المعصومین بخاصّة. وطفقت أُدوّن کتابا بعنوان «پیش درآمدی برشناخت تاریخ اسلام» [ مدخل إلی معرفة التّاریخ الإسلامیّ] . وقامت مؤسّسة «در راه حقّ» [ فی طریق الحقّ ] بطبع الکتاب المذکور سنة 1405 ه . بتشجیع من أُستاذی العزیز آیة اللّه السّیّد محسن الخرّازیّ . ثمّ طُبع کتاب «التاریخ السّیاسیّ للإسلام حتّی سنة أربعین للهجرة» . وتمّ الفراغ أخیرا من طبع کتاب «التاریخ السّیاسیّ للإسلام من سنة أربعین حتّی سنة مئة

ص: 40

للهجرة» . وهو الّذی عرضته دار النشر التابعة لوزارة الإرشاد الإسلامیّ فی جزءین عنوانهما «سیره رسول خدا» [ سیرة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ] و«تاریخ خلفاء» [ تاریخ الخلفاء ] وأعادت «إصدارات الهادی» طبعه بعد إصلاحات أُجریت فی الجزء الأوّل منه .

إنّ ما یُلاحَظ علی هذا الکتاب هو غلبة الجانب التّحلیلیّ علی کتابة التّاریخ . والباعث الأساس علی هذا الأمر مراعاة المطّلعین علی مفردات السّیرة النّبویّة ، الّذین لا یحتاجون إلی تکرار الحوادث . یضاف إلی ذلک أنّنا حاولنا أن نذکر المرحلة التاریخیّة لحرکة الإسلام النامیة ، ونحجم عن أحداث ما قبل الإسلام ، حتّی فیما یتعلّق بالنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . ویعود ذلک إلی أنّ الأخبار المنقولة فی هذا المجال تتّسم بالهشاشة والضعف . وإذا لم نقل کلّها ، فینبغی أن نقول إنّ أکثرها مقدوح السند ومرفوض .

وأرانی فی غنیً عن التّنویه باسم أُستاذی العزیز العلاّمة المعزّز المعظّم آیة اللّه السّیّد جعفر مرتضی - حفظه اللّه وأبقاه - فإنّی مدین له فی عملی التّاریخیّ . وقد استفدت منه سنین متوالیة . وحُرمت منه الآن بعد عودته إلی لبنان الّتی مرّ علیها قرابة أربع سنین . یضاف إلی ذلک أنّی استنرتُ فی مجالات متنوّعة من هذه المباحث بتوجیهات آیة اللّه السیّد مهدی روحانی ، وآیة اللّه احمدی میانجی خلال عدد سنین . ومن الطّبیعیّ أنّی مسؤول عن کلّ نقص فی الکتاب ، کما أنّی مسؤول عن الآراء المعروضة فیه .

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمین

رسول جعفریان

1419 ه

ص: 41

ص: 42

1- کتابة التّاریخ عند المسلمین

اشارة

ص: 43

بسم اللّه الرحمن الرّحیم والحمد للّه ربّ العالمین والصّلاة والسّلام علی سیّدنا محمّد

وعلی آله الطیّبین الطّاهرین .

المسلمون وکتابة التّاریخ

اشارة

التّراث التّاریخیّ الضّخم عند المسلمین آیة علی وجود البواعث القویّة لدیهم من أجل إنضاجه . وإذا ألقینا نظرة مطابقة علی الفروع العلمیّة الّتی یرغب فیها المسلمون ، أمکنتنا أن نقف علی غَناء هذا العلم ونعرف أنّ التّاریخ کان من أهمّ الفروع العلمیّة المألوفة فی الحضارة الإسلامیّة . ولکلِّ قومٍ دوافعُ کثیرة من الناحیة الذاتیّة تحفّزهم علی کتابة تاریخهم ، وهذه الدّوافع کانت موجودة عند المسلمین أیضا . وبالتّغاضی عن هذه الدّوافع یتسنّی لنا أن نشیر إلی موضوعات خاصّة کان لها تأثیرها فی تنبیه المسلمین علی هذا العلم .

التّراث التّاریخی للعرب فی الجاهلیّة

یرد التّراث التّاریخیّ للعرب ، قبل کلّ شیء ، تحت عنوان «أیّام العرب» . ویُقصَد من الیوم هنا الیوم الّذی وقعت فیه حادثة مهمّة وأصبح تاریخیّا . من هنا فإنّ «الیوم» و«الواقعة» فی «یوم صفّین» أو «وقعة صفّین» بمعنیً واحد . ولا شکّ أنّ العرب قد استذکروا هذه «الأیّام» ، ونقلوها من جیلٍ إلی آخر شفویّا ، وکانوا یقرأونها فی

ص: 44

مجالس أدبهم وأُنسهم . مع هذا ینبغی الالتفات إلی أنّ ما نلحظه فی الکتب الأدبیّة عن «العصر الجاهلیّ وأیّام العرب قبل الإسلام» یرتکز نقله من العصر الجاهلیّ إلی العصر الإسلامیّ علی ما رُوی مشافهةً ، وهو ما دوّنه العلماء فی عصر متأخّر فحسب . وذکری هذه الأیّام هی أوّل عقلیّة تاریخیّة کانت عند العرب ، وقد أبقت الاهتمام بأحداث الماضی حیّا عندهم .

یحوم الشّکّ حول مدی تأثیر «أیّام العرب» علی «المعلومات التّاریخیّة» عند المسلمین . وهذه الرّؤیة تذهب إلی أنّ الاهتمام بأیّام العرب کان ذا طابعٍ أدبیّ ، لا تاریخیّ . وقد نالت ذلک الاهتمام نتیجة لمرور الزّمن ولاشتمالها علی العناصر التّاریخیّة . وقال روزنتال : کانت هذه القصص غالبا تُسرد للهوایة والترف وإمتاع المستمعین عاطفیّا . ولمّا کانت أیّام العرب تضبط الأحداث المهمّة ، وکانت تنظر إلیها من وجهة أخلاقیّة خاصّة ، فقد اشتملت علی عناصر تاریخیّة أیضا . مع أنّها لم یلحظ فیها استمرار قطّ . ولا یُنظَر إلی هذه القصص من منظار علاقة العلّة والمعلول التّاریخیّة ، وجوهرها خلوّها من العنصر الزّمانیّ(1) . ومن الجدیر ذکره هنا أنّ صورة من کتابة التّاریخ الإسلامیّ الّتی تمثّل نظرةً أُحادیّة الموضوع ترتبط بالحروب والأحداث المؤقّتة تُشبه أیّام العرب تشابها ملحوظا من حیث قلّة الاهتمام بعنصر الزّمان وهذا لا یقوم دلیلاً علی ضآلة القیمة التّاریخیّة لأیّام العرب أو النّظرات الأُحادیّة الموضوع للکتابة . علما أنّه قد أصاب من قال إنّ محتوی أیّام العرب ذو طابع أدبیّ أکثر من أیّ شیء آخر .

وینکر کاتب آخر وجود علم التّاریخ عند العرب أساسا مستندا إلی عدم وجود اصطلاح خاصّ للتّاریخ فی أوساطهم . یقول هذا الکاتب :

ص: 45


1- تاریخ تاریخنگاری در اسلام [ تاریخ کتابة التّاریخ فی الإسلام ] 1 : 32 ، 33 .

«من البدیهیّ أنّهم (العرب) إلی ما قبل ظهور الإسلام لم تکن لهم رؤیة عن التّاریخ بدون وجود کلمة مناسبة خاصّة له ... وفی الحقیقة کانوا أُناسا بلا علمٍ عن التّاریخ . من هنا لم یتسنّ للمسلمین أن یستلهموا من العرب قبل الإسلام شیئا من أجل سنّ کتابة التاریخ وتوسیعها»(1) .

ومن الواضح أنّنا لا یمکن أن نعدّ صورة کتابة التّاریخ عند المسلمین وما کان سائدا بین العرب ممّا یعرف بأیّام العرب شیئا واحدا . ولکن لا ریب أنّ من أسباب الاهتمام بالتّاریخ «نفس الاهتمام بالماضی» . وهذا الاهتمام ملحوظ فی أیّام العرب بجلاء(2) .

ویتعیّن أن نقول : یری البعض فی مقابل هذه العقیدة أنّ لأساس کتابة التاریخ الإسلامیّ جذورا فی وجود هذا العلم بین العرب قبل الإسلام لاسیّما العرب الیمانیّین منهم ، والتاریخ الإسلامیّ علم لم یؤخذ من الحدیث قطّ . وأخذ التاریخ من الحدیث هو رأی بعض المستشرقین ، وقد رفضه الدکتور جواد علی . إذ استنتج فی ضوء البحث الّذی قام به فی مصادر الطّبریّ أنّ التاریخ علم أقدم من الحدیث . وأنّ مقدارا کبیرا من أخبار العصر الجاهلیّ ، حتّی مع طابعها القصصیّ یدلّ علی الاهتمام التامّ البالغ الّذی أبداه العرب قبل الإسلام حیال هذا العلم(3) . وعلم الأنساب أیضا قسم من هذا العلم الّذی لا یرتاب أحد أبدا فی أصل وجوده عند العرب فی الماضی ، ویمکن أن یؤدّی الإفراط فی هذه الرؤیة إلی اتّهام القائل بوجود النوازع القومیّة لدیه .

وأری أنّ الالتفات إلی هذه النّقطة مفید أیضا ، وهی أنّ «أیّام العرب» کانت تدلّ علی مغزی علم التّاریخ عند عرب الجاهلیّة . وواجه القرآن الکریم العلم المذکور

ص: 46


1- تاریخ فلسفه در اسلام [ تاریخ الفلسفة فی الإسلام ] 3 : 296 .
2- قال إحسان عبّاس ما مضمونه : إنّ اهتمام المسلمین بمغازی النبیّ صلی الله علیه و آله و حروبه فی بدایة اهتمامهم بالسیرة مأخوذ من رؤیة «أیّام العرب» وفی ظرف اسلامیّ طبعاً . انظر : فنّ السّیرة : 13 .
3- انظر : موارد تاریخ الطّبریّ ، القسم الأوّل ، ص157 ، 158 .

بطرح الاصطلاح القرآنیّ «أیّام اللّه» . وهذه المواجهة مَعلَم علی شأن هذین الاصطلاحین تاریخیّا . یضاف إلی ذلک أنّنا یتسنّی لنا أن نعدّ أیّام العرب التّراث التّاریخیّ لعرب الجاهلیّة ، وکذا علم الأنساب فإنّه یدخل فی عداد هذا التراث بحجمٍ أقلّ ، کما یعتبر من العوامل المؤثّرة فی توجیه المسلمین إلی التّاریخ ، وإن کان فی قالب النّسب(1) .

تأثیر المباحث التّاریخیّة للقرآن الکریم

جاز لنا أن نقول بلا مقدّمة : إنّ القرآن الکریم ترک أعمق الأثر علی المسلمین فی لفت نظرهم إلی التّاریخ(2) . ولم یعرض القرآن الکریم قسما من المعلومات التّاریخیّة فحسب ، بل حثّ المسلمین علی مطالعة التّاریخ لیستضیئوا به منارا للهدی والتّدیّن . وکلاهما کان مؤثّرا فی تولید الحافز الدّینیّ عند النّاس من أجل الاهتمام بالتّاریخ .

من الطّبیعیّ أنّ نطاق هذا الاهتمام کان محدودا بتقویم تیّارات الحقّ والباطل ، وفی مضمارٍ قانونیّ خاصّ طرحه القرآن الکریم عن الحیاة الاجتماعیّة للنّاس فی التّاریخ . والطّابع الدّینیّ للتواریخ الإسلامیّة ، بخاصّة التّوکّؤ علی موضوع الأنبیاء ، وکذلک العمل المستمرّ فی مغازی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم متأثّران بهذه النّظرة . ومع أنّ مباحث تاریخیّة موسّعة قد طرحت فی النّصوص التّاریخیّة للمسلمین علی مرّ الزّمن ولأسباب أُخری ، بید أنّ عنوان «العِبرة» الّذی یمثّل الإطار التّاریخیّ للقرآن نال اهتمام المسلمین فی کثیر من الأوقات ، وعُرض التاریخ بوصفه «تجارب الأمم» . ویتبع اهتمام المسلمین بتاریخ الأنبیاء السّابقین الّذی جرّهم بعد ذلک إلی النصوص التاریخیّة لأهل الکتاب ، وترک

ص: 47


1- انظر : تاریخ تاریخنگاری در اسلام [ تاریخ کتابة التّاریخ فی الإسلام ] : 32 ؛ تاریخنگاری در اسلام [ کتابة التّاریخ فی الإسلام ] : 13 .
2- تاریخ کتابة التّاریخ فی الإسلام : 39 .

أثرا بالغا علی ثقافة کتابة التاریخ ومحتوی الکتب التّاریخیّة عند المسلمین من رغبتهم فی تفسیر الآیات القرآنیّة لشأن تاریخ الأنبیاء .

ضرورة الاستهداء بالسّنّة النّبویّة

لو فرضنا أنّ أحدا لم یهتمّ بالحوادث التّاریخیّة بشکل مستقلّ ، فإنّا یمکن أن نقبل بسهولةٍ أنّ أهمّ واجبات المحدّثین الاهتمام بالسّیرة النّبویّة وتدوینها من أجل الاستضاءة بها فی الفقه ، والأخلاق ، وغیرهما .

إنّ الکتب المختلفة الّتی اضطلعت بجمع الأحادیث سواءً علی شکل مسانید أم سنن ، أم جمع موضوعیّ تضمّ قسما کبیرا من السّیرة النّبویّة ، مع تأکید الجوانب الدّینیّة لهذه المنقولات . وهذه المجموعات تتکوّن من أحادیث جمعها المسلمون تدریجا بعد وفاة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم من منطلق ضرورة معرفة الدّین . ووردت ملاحظات تاریخیّة فی معظم أبواب الفقه ، وفی تضاعیف المنقولات . ویعدّ «کتاب الجهاد» أو «کتاب السّیر» أقرب باب فقهیّ یرتبط بمغازی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . وفی هذا الحقل نفسه جاءت القضایا التّاریخیّة للحروب مقرونة بضرورة معرفة أحکامها . وکتاب السِّیر الّذی ألّفه أبو إسحاق الفزاریّ وطُبع أخیرا آیة علی الاهتمام التّاریخیّ للمحدِّثین . کما کان لمحمّد بن الحسن الشّیبانیّ کتاب السّیر الکبیر أیضا ! وجاء کتاب السّیر فی هذه المجموعات کلّها کجزء من الکتب الحدیثیّة .

کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بوصفه الشّخصیّة البارزة قد ترک انطباعا تاریخیّا خاصّا له فی أذهان المسلمین . وکانت نظرة المسلمین إلیه کأُسوةٍ لهم تستلزم دراسة دقیقة عمیقة لحیاته . من هنا فإنّنا نمتلک الآن معلومات مفصّلة عن شخصیّته صلی الله علیه و آله وسلم . وإذا وازنّا بینها وبین المعلومات المتعلّقة بحیاة سائر الشّخصیّات الإسلامیّة فی العصور

ص: 48

اللاحقة وجدناها تدلّ علی تأثیرها التّاریخیّ وضبطها فی التّاریخ بین المسلمین علی سبیل المثال نلحظ أنّ فرع تصویر الشّمائل فی التاریخ الإسلامیّ مأخوذ من جهود الجیل الأوّل فی تصویر هیئته صلی الله علیه و آله وسلم إلی حدّ ما . وسنری أنّ کتب السیرة لم تظلّ فی مستوی دراسة حیاته الخاصّة صلی الله علیه و آله وسلم أو التاریخ العامّ للإسلام بل اهتمّت بالتاریخ مبدئیّا کتاریخ و زادت الکتب التاریخیّة شراءً .

إهتمام الحکّام بالتّاریخ

عندما یرغب سواد النّاس فی تخلید ذکرهم تاریخیّا ، فإنّ هذه الرغبة تزداد ، لا محالة ، عند الحکّام لأنّهم یشعرون أنّ تأثیرهم علی المجتمع أعمق فیسعون إلی تثبیت هذا التّأثیر . ویحبّون أن یذکرهم الناس کشخصیّات بارزة .

یضاف إلی ذلک ، أنّهم کانوا یرون أنفسهم بحاجة إلی تجارب الآخرین من أجل بسط السّیادة . من هنا فإنّهم یتوخّون دراسة ما مضی من التاریخ ، وکتابة تاریخ العصر الذی یعلَقونه علی حدٍّ سواء . وهم یرغبون أن تحمل الأجیال القادمة صورة مناسبة عنهم فی الأذهان . وهذا ما یحدوهم علی الاهتمام بتدوین الحوادث الواقعة فی عصورهم . ومن الطّبیعیّ أنّ لهم اهتماما أیضا بالماضی الذی یتعلّقون به لإثبات قاعدتهم التاریخیّة کی یظهروا ولهم جذور ضاربة فی التّاریخ . وفی ضوء ما جاء فی نهج البلاغة من الاعتبار بالتاریخ نلحظ أنّ الإمام علیّا علیه السلام أوّل شخصیّة من بین حکّام العصر الإسلامیّ طالبت بالاهتمام الحقیقیّ بالتاریخ فمن منظاره علیه السلام أنّ الانتفاع بالماضی هو من أجل الظفر بحرکة صحیحة فی المستقبل فی إطار الاعتبار القرآنیّ . کما ذکّر معاویة بالماضی بصراحة وأفاد منه . فقد طلب من عبید بن شرّیة أن یکتب له أخبار ملوک الیمن ، وقام بذلک وألّف کتابا تحت عنوان کتاب الملوک وأخبار

ص: 49

الماضین(1) . وقیل : إنّه کان یخصّص قسما من وقته للاستماع إلی ما یُتلی علیه من أخبار الماضین قراءة من الکتب(2) . وطلب من النّسّابة دِغْفَل أیضا أن یعلّم یزیدَ الأنساب(3) . وکان اهتمامه بماضی العرب یغلب علیه الطابع الترفیهیّ والهوایة ، وله رغبة فی المحافظة علی صلته بالثقافة الجاهلیّة للعرب .

وکان عبد الملک بن مروان - من بین الملوک الأمویّین - راغبا فی الاطّلاع علی السّیرة النّبویّة . وکان یسأل عروة بن الزّبیر فی هذا المجال(4) . وطلب سلیمان بن عبد الملک من أبّان بن عثمان أن یؤلّف کتابا فی السّیرة . وإن کان أتلف ما استنسخه بعد مدّة لأسباب سیاسیّة(5) . وإنّ إهداء سیرة ابن إسحاق إلی المنصور العبّاسیّ لافت للنظر فی هذا المضمار(6) . ویدلّ طلب هارون من الواقدیّ بیان السّیرة علی اهتمام الحکّام بالتّاریخ والسّیرة وتشجیعهم المؤرِّخین(7) . وأدّی اتّساع الرّقعة الجغرافیة للبلاد الإسلامیّة إلی أن یفکّر الحکّام بالإفادة من تجارب سائر الملوک ، فیتّسع نطاق کتابة التّاریخ عبر هذا الطّریق أیضا . وبلغ اهتمام الحکّام بالتاریخ مبلغا أنّ البعض قال : علم النّسب والخبر علم الملوک(8) . وهکذا عُدَّ علم التّاریخ ممّا اختصّ به الملوک .

وأشرنا إلی أنّ الإمام أمیرالمؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام دعا الناس فی خطبه کثیرا إلی قراءة التاریخ مستلهما ذلک من التّعالیم القرآنیّة ، ومنطق العِبرة . ودعوته علیه السلام امتداد لدعوة القرآن الکریم إلی قراءة التّاریخ والاعتبار به . وجُمعت إضمامة من

ص: 50


1- الفهرست : 102 .
2- مروج الذّهب 2 : 72 ، نقلاً عن التّاریخ العربیّ والمؤرِّخون 1 : 124 .
3- التّاریخ العربیّ والمؤرّخون 1 : 136 .
4- المغازی الأُولی ومؤلِّفوها : 20 ، 21 .
5- الموفّقیّات : 332 ، 333 .
6- انظر : بحث سیره نگاری [ بحث کتابة السّیرة ] .
7- المغازی الأولی ومؤلّفوها : 102 ؛ الطّبقات الکبری 5 : 315 .
8- المزهر 1 : 357 .

کلماته

علیه السلام فی الاستهداء بالتّاریخ والدّعوة إلی الاتّعاظ بأحداثه(1) . وننقل فیما یأتی نموذجا واحدا من ذلک :

«واحْذَروا ما نزل بالأُممِ قبلکم مِنَ المَثُلات بسوء الأفعال ، وذمیم الأعمال . فتذکّروا فی الخیر والشّرِّ أحوالهم ، واحْذَروا أنْ تکونوا أمثالهم . فإذا تفکّرتم فی تفاوت حَالَیهم ، فالزَمُوا کُلَّ أمرٍ لَزِمَتِ العِزَّةُ به شأنهم ، وزاحتِ الأعداءُ لَهُ عنهم ، ومُدَّتِ العافیةُ بِهِ عَلَیْهِم ، وانقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ ، وَوَصَلَتِ الکرامةُ عَلَیْهِ حَبْلَهُم مِنَ الاجتنابِ للفُرقَةِ ، واللّزومِ لِلأُلْفَةِ والتَّحَاضِّ عَلَیْهَا ، والتّواصی بها . واجتنبوا کُلَّ أمرٍ کَسَرَ فِقْرَتَهُمْ ، وَأَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ ، مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ ، وتَشَاحُنِ الصُّدور ، وتَدَابُرِ النُّفوسِ ، وتَخَاذُلِ الأیدی . وتَدَبَّروا أحوالَ المَاضینَ مِنَ الْمُؤْمِنینَ قَبْلَکُم ، کَیْفَ کَانُوا فی حَالِ الَّتمْحیصِ وَالبَلاَءِ ... فانْظُروا کیف کانوا حیثُ کانتِ الأملاءُ مُجْتَمِعَةً ، والأهواءُ مُؤْتَلِفَةً ، والقُلوبُ معتدلةً ، والأیدی مُتَرادِفَةً ، والسُّیوفُ مُتَنَاصِرَةً ، وَالبَصَائِرُ نافِذَةً ، وَالعَزَائِمُ وَاحِدَةً . أَلَمْ یَکُونُوا أَرْبَابا فی أَقْطَارِ الأَرَضینَ ، وَمُلُوکا عَلی رِقابِ العالمینَ ؟ فانْظُروا إلی مَا صَارُوا إلَیْهِ فی آخِرِ أُمورهم ، حِینَ وَقَعَتِ الفُرْقَةُ ، وتَشَتَّتتِ الأُلْفَةُ ، واختَلَفَتِ الکَلِمَةُ والأَفْئِدَةُ ، وَتَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِینَ ، وَتَفَرَّقُوا مُتَحارِبینَ . قَدْ خَلَعَ اللّه ُ عَنْهُمْ لِبَاسَ کَرَامَتِهِ ، وَسَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ ، وَبَقِیَ قَصَصُ أَخْبَارِهِم فیکُم عِبَرا لِلمُعْتَبِرینَ»(2) .

تأثیر الکتابات التّاریخیّة لسائر الأقوام علی العرب

إنّ وجود النّصوص التّاریخیّة المتعلّقة بسائر الشّعوب فی أیدی المسلمین کان من العوامل المؤثّرة فی تطوّر کتابة التّاریخ الإسلامیّ . وهذا الموضوع یصدق بخاصّة کتب

ص: 51


1- انظر : حرکة التّاریخ عند الإمام علیّ علیه السلام ، محمّد مهدی شمس الدّین ، إصدارات مؤسّسة نهج البلاغة .
2- نهج البلاغة : الخطبة 185 فی شرح الشیخ محمّد عبده .

الفُرس والبیزنطینیّین ، وإن کان هناک اختلاف فی وجهات النظر حول مدی هذا التأثیر . وإذا نظرنا فی کتب التّاریخ العامّة الّتی دُوِّنت فی العصر الإسلامیّ کتاریخ الیعقوبیّ ، والأخبار الطّوال للدینوریّ ، ومروج الذّهب للمسعودیّ ، وتاریخ الطّبریّ استبان لنا أنّها استنارت بالمصادر الفارسیّة . ونحتمل أنّها حاکت أُسلوبها .

کتب سواجه Jean Sauvaget قائلاً : تأثّرت کتابة التّاریخ فی مراحل تطوّرها بالّنماذج الفارسیّة السّاسانیّة ، وبحجمٍ أقلّ بالّنماذج البیزنطینیّة والسّریانیّة ، بید أنّ سیرتها الأُولی قامت علی دعائم السّنن العربیّة والصّیغ الفکریّة الإسلامیّة(1) . وذهب روزنتال أیضا إلی تأثیر الکتابات الفارسیّة علی الأسلوب الّذی یؤرّخ للسلالات فی التّواریخ الإسلامیّة ، وقال : لعلّ المسلمین تعرّفوا علی مبدأ تقسیم العصور التّاریخیّة علی أساس السلالة من خلال أوّل اتّصالٍ لهم بأُسلوب کتابة التّاریخ عند الفُرس(2) . ولم یعتقد بتأثیر الکتابات المذکورة علی أُسلوب تدوین الوقائع ، کما أنکر تأثیر الکتابات الیونانیّة والبیزنطینیّة بسبب جهل المسلمین بها . وأضاف قائلاً : لا نلحظ کتابا خاصّا قد ترک تأثیره علی المؤلّفین المسلمین ، بید أنّ فکرة تنظیم الوقائع قد وصلت إلی علماء المسلمین عن طریق علماء النّصاری ، أو النّصاری الّذین أسلموا(3) . ثمّ أورد أدلّةً حول وجود بعض المصادر المذکورة عند علماء المسلمین ، فأنکر مرّة أُخری تأثّر المسلمین بها فی أُسلوب کتابة الوقائع ؛ إذ لم یثبت قطّ أنّ تلک المعلومات قد وصلت إلیهم بتلک السرعة الفائقة فأفادتهم فی کتابة الوقائع . وأضاف : تعود جمیع الکتب الّتی نمتلک اطّلاعا واضحا عنها - بعد ظهور کتابة الوقائع بشکلها المعیّن فی الکتابات التّاریخیّة الإسلامیّة - إلی زمنٍ طویل(4) .

ص: 52


1- مدخل تاریخ شرق اسلامی [ المدخل إلی تاریخ الشّرق الإسلامیّ ] : 29 .
2- تاریخ تاریخنگاری در اسلام [ تاریخ کتابة التّاریخ فی الإسلام ] 1 : 106 .
3- نفسه 1 : 92 - 94 .
4- نفسه 1 : 106 .

أمّا المصنّفات الفارسیّة فیمکن أن نبدی رأیا إیجابیّا فی تأثیرها وتأثّرها . فقد صارت الکتب الفارسیّة المدوّنة فی میدان التاریخ والأخلاق العملیّة والحکومیّة بأیدی المسلمین . وترجم ابن المقفّع (م 144) کتاب خُدای نامه وجعل له عنوان سیر الملوک . وترجم أیضا آیین نامه وهو کتاب کبیر . وترجم إسحاق بن یزید کتاب اختیار نامه الّذی کان معروفا بسیرة الفُرس ، وکذلک ترجم کتبا أُخری(1) . وتُرجم بعض هذه المخطوطات لهشام بن عبد الملک (م 124)(2) . وینبغی أن نؤکّد هنا تأثیر الکتابات الیهودیّة - الّتی کان یغلب علیها الطّابع التّاریخیّ کثیرا - علی کتابات المسلمین . فقد ظهر کتاب المبتدأ الّذی یشتمل علی قصّة الخلق وهبوط آدم ، وقصص الأنبیاء نوعا ما ، محاکاةً للیهود من جهة ، وتبیانا لبعض الآیات القرآنیّة الّتی تتحدّث عن الأنبیاء من جهة أُخری . وکان کعب الأحبار ، ووهب بن منبّه من أهمّ مصادر هذه الأخبار . فقد بثّا أخبار الأُمم السابقة بین المسلمین علی صعید واسع .

الأنماط المتنوّعة لکتابة التّاریخ عند المسلمین

اشارة

نلحظ تقسیمات متفاوتة لأنماط الکتابات التاریخیّة عرضها روزنتال ، وجیب ، والدوریّ ، وسواجه ، وغیرهم و یتسنّی لنا أن نقسم الکتابات التاریخیّة للمسلمین إلی أقسام مختلفة اعتمادا علی عناوین الکتب والکتابات التّاریخیّة :

کتابة السّیرة والتّرجمة

لعلّ هذین العنوانین یتباینان من جهات معیّنة ، بید أنّ أُسلوبهما واحد . ومن

ص: 53


1- التاریخ العربیّ والمؤرّخون 1 : 143 - 148 .
2- دائرة المعارف الإسلامیّة 4 : 487 .

الثّابت أنّ الأدیان السماویّة ، لاشتمالها علی عنصر النّبوّة ، تعتقد بمنزلة رفیعة للنّبیّ . وأدّت هذه النظرة إلی ظهور رؤیة خاصّة حول أهمّیّة الشخص بوصفه شخصا یحمل مواصفات معیّنة . ویعرّف لنا القرآن الکریم - بنظرةٍ له - تاریخ الأُمم متمحورا حول أنبیائها ، حتّی إنّه یذکر أسماءهم . ونلحظ فی هذا الأُسلوب أنّه یدلّ علی شأن الأنبیاء وأهمّیّتهم مضافا إلی عدِّه الدین هو المحور الأصلیّ . من هنا ، فإنّ الصحابة اهتمّوا بالسیرة النبویّة منذ البدایة ، واحتفظوا بمذکّراتهم عن نبیّهم وخصائصه ، وکانوا ینقلونها للآخرین . ثمّ شاعت کتابة السیرة هذه بنحو أوجز ، وموضوعها الخلفاء ، والسلاطین ، والعلماء ، بل سائر الطبقات متّخذةً طابع «کتابة الترجمة» .

التّرجمة لیست تاریخا بالمعنی الاصطلاحیّ للتّاریخ ، لأنّها قلّما تهتمّ بعنصر الزمن ، غیرَ أنّها تعدّ من أهمّ المصادر التاریخیّة لاحتوائها علی معلومات وافیة نسبیّا حول الحیاة الفردیّة والاجتماعیّة للناس والشخصیّات البارزة فی المجتمع ! ویستفاد من هذه المعلومات فی التعرّف علی الوجوه الدینیّة والثقافیّة للشعوب أکثر من الوقوف علی التّطوّرات السّیاسیّة .

واستعمل المسلمون هذا الأُسلوب علی صعید واسع جدّا . وألّفوا کتبا فی ترجمة الفقهاء وعلماء المذاهب الفقهیّة والاعتقادیّة المختلفة . کما تمّ تألیف الکتب فی ترجمة المحدِّثین ، والفلاسفة ، والأطبّاء . وأخیرا دوِّنت کتب ذاتُ نظرة أُحادیّة الموضوع حول العلماء أو السّاسة ، وکذلک صُنِّفت مجموعات مهمّة ومفصّلة . ومثل هذه المصنّفات یتطلّب ببلیوغرافیّته الخاصّة . وننوی هنا استعراض الکتابات التاریخیّة بالمعنی الخاصّ مع هذا نشیر إلی مثل هذه الکتب .

ویمکن أن نقسم کتب التراجم فی تبویب عامّ إلی عدّة أقسام .

قسم منها یتناول سیرة الصّحابة . ویشمل الکتب الأربعة المعروفة : الاستیعاب فی معرفة الأصحاب لابن عبد البرّ (368 - 463) ؛ ومعرفة الصحابة لأبی نعیم الإصفهانیّ

ص: 54

(م430) ؛ وأسد الغابة فی معرفة الصحابة لابن الأثیر (م 630) ؛ والإصابة فی تمییز الصحابة لابن حجر العسقلانیّ (م 852) .

وقسم أورد تراجم الرجال فی تاریخ المدن ، نحو تاریخ بغداد للخطیب البغدادیّ (م463) ؛ وتاریخ نیسابور للحاکم النیسابوریّ (أصله مفقود) ؛ والسیاق وهو ذیل تاریخ نیسابور ، وما زال موجودا ؛ وتاریخ إصبهان لأبی نعیم ؛ وطبقات المحدّثین بإصبهان لأبی الشیخ ؛ والتدوین فی أخبار قزوین للرافعیّ (القرن السادس) ؛ وإعلام النبلاء بتاریخ حلب الشهباء لمحمّد راغب الطبّاخ الحلبیّ ؛ وبغیة الطلب فی تاریخ حلب لابن العدیم ؛ وتاریخ جرجان لأبی القاسم حمزة بن یوسف السهمیّ (م427) . وأکثرها تفصیلاً تاریخ دمشق لابن عساکر (499 - 571) وصدر منه لحدّ الآن خمسون جزءا (بیروت ، دار الفکر) ، وسیبلغ ثمانین ؛ ومختصر تاریخ دمشق لابن منظور ، وصدر فی ثلاثین جزءا أیضا .

وقسم منها صُنِّف متّخذا منحی الطبقات بوصفه تاریخ المحدِّثین . وأهمّها الطبقات الکبری لابن سعد ؛ وکتاب الطبقات لخلیفة بن الخیّاط ؛ وتذکرة الحفّاظ للذهبیّ .

وکثیر منها اقتصر علی علماء مذهب خاصّ نحو طبقات الشافعیّة للسُبکیّ ؛ وطبقات الحنابلة لابن أبی یعلی ؛ والطبقات السنیّة فی تراجم الحنفیّة لتقیّ الدین بن عبد القادر التمیمیّ الداریّ الحنفیّ (م 1005 أو 1010) ؛ والجواهر المضیئة فی طبقات الحنفیّة لمحیی الدین عبد القادر بن محمّد القرشیّ الحنفیّ (696 - 775) .

وبعضها فهرس بالترتیب الألفبائیّ جمیع رجالات الإسلام من فقهاء ، ومحدّثین ، ومؤرّخین ، وساسة . وتدخل فیها مجموعات ضخمة مثل معجم الأدباء لیاقوت الحمویّ ؛ ووفیّات الأعیان لابن خلّکان (608 - 681) ؛ وسیر أعلام النبلاء للذهبیّ ؛ والوافی بالوفیّات للصفدیّ (م 764) ؛ وفوات الوفیّات لابن شاکر الکتبیّ . وینبغی أن نذکر فی هذا التبویب حلیة الأولیاء لأبی نعیم الإصفهانیّ (م 430) ، وقدّم فیه فهرسا طویلاً لفئة الزاهدین والعارفین .

ص: 55

ودُوّنت مصادر خاصّة تدور حول علم الرجال وحده ، وقلّما تناولت ترجمة مفصّلة للأشخاص . ومنها تاریخ یحیی بن معین ؛ وتاریخ أبی زرعة الدمشقیّ ؛ والتاریخ الکبیر للبخاریّ ؛ والجرح والتعدیل لأبی حاتم الرازیّ ؛ والثقات ، والمجروحین لابن حبّان ؛ وتهذیب الکمال للمزّیّ (654 - 742) ؛ والکامل فی ضعفاء الرجال لابن عدیّ ؛ ومیزان الاعتدال للذهبیّ ؛ ولسان المیزان لابن حجر (773 - 852) ؛ وتهذیب التهذیب له أیضا .

وأورد بعضها التراجم تحت عنوان النسب الذی یعنی هنا اللقب ، کالأنساب للسمعانیّ ، أو الإکمال لابن ماکولا .

وربّما تکون کتب التاریخ العامّة أکثرها قیمةً وتفصیلاً ، إذا ذکرت المتوفَّین فی ذیل الحوادث الواقعة فی کلّ سنةٍ . ولا یمکن أن نجد فی مصادر التراجم العامّة معلوماتٍ عن کثیرٍ منهم . وسنستعرض نماذج منهم فی موضعها .

النّظرة الأُحادیّة الموضوع فی تدوین الوقائع المهمّة

النّظرة الأُحادیّة الموضوع فی تدوین الحوادث شکل آخر من أشکال الکتابات التّاریخیّة ، وقد استهدی المسلمون بها فی ضبط الوقائع المهمّة . وکانت هذه الکتابات تحوم غالبا حول الأیّام الحافلة بالأحداث ، من هنا فهی تماثل «أیّام العرب» . وأیّام العرب هی أیّام الحروب والصراعات ، ومن الطبیعیّ فهی أیّام زاخرة بالحوادث . وهذا الأُسلوب یمثّل من الوجهة الذاتیّة تنظیما لأخبار حادثة واحدة . وجاز لنا أن نعدّه أوّل أُسلوب مارسه المسلمون فی کتابة التاریخ . ثمّ ظهرت کتب التاریخ العامّة من انضمام هذه الکتابات الأُحادیّة الموضوع بعضها إلی بعض .

التنظیم الموجود فی الکتابات المذکورة یقوم علی أساس وقائع ولّدت حادثة معیّنة . أی : یراعی الترتیب الداخلیّ للتطوّرات الدقیقة لتلک الحادثة فحسب . ونلحظ

ص: 56

أنّ أبا مخنف ، وهشاما الکلبیّ ، والمدائنیّ هم من المؤرِّخین الّذین یغلب علی کتبهم هذا الأُسلوب . وفیما یأتی عناوین بعض الکتب الّتی صنّفها أبو مخنف : کتاب الجمل ، وکتاب صِفّین ، وکتاب الشّوری ، ومقتل عثمان ، ومقتل حجر بن عدیّ ، ووفاة معاویة وولایة ابنه یزید ، وقصّة الحرّة وحصار ابن الزّبیر(1) . ونلحظ فی کثیر من الحالات والحالة آنفة الذکر أنّ ترتیب الکتابات الأحادیّة الموضوع علی نحوٍ یؤلّف فیه انتقاؤها المنظّم کتابا فی عدّة أجزاء یدور حول عصرٍ مدیدٍ .

لا تحوم الکتابات الأُحادیّة الموضوع حول الأحداث السیاسیّة والعسکریّة وحدها ، بل تشمل الموضوعات الاجتماعیّة الّتی یمکن أن یرغب فیها المؤرّخ من الوجهة التّاریخیّة - الاجتماعیّة . ومن المؤسف أنّ کثیرا من هذه الآثار قد ضاع واندثر . ولنا أن نشیر فیما یأتی إلی نماذج منها : کتاب المعمَّرین فی التعریف بمن عمّر طویلاً ، کتاب المثالب فی مساوئ القبائل والأشخاص ، کتاب الأوائل فی الذین تحقّقت علی أیدیهم أوّل الأعمال ، کتاب أسواق العرب ، کتاب الموؤدات ، کتاب فخر

الکوفة علی البصرة ، کتاب أسماء بغایا قریش فی الجاهلیّة ومَنْ وَلَدْنَ ، کتاب مَنْ تَزوّج من الموالی فی العرب ...

هذه نماذج ألّفها بعض المؤرّخین الکبار ذوی التوجّه الأُحادیّ الموضوع کهشام الکلبیّ ، والمدائنیّ ، وغیرهما . وإذا کانت النصوص التاریخیّة قد أصابت حظّا من هذه الکتب ، فإنّ الکتب الأدبیّة قد أصابت منها حظّا أکبر .

ویری روزنتال من خلال الإشارة إلی الشّکل الخبریّ والحدیثیّ الّذی کان فی قالب المعلومات التّاریخیّة أوّلاً أنّ النظرة الأُحادیّة الموضوع فی کتابة التاریخ تمثّل الشکل النهائیّ لضبط الخبر ، وأنّ الخطوة اللاحقة هی «تدوین الوقائع»(2) .

ص: 57


1- الفهرست : 105 .
2- تاریخ تاریخنگاری در اسلام [ تاریخ کتابة التّاریخ فی الإسلام ] 1 : 85 .

کتابة التّاریخ العامّ والتّقویمیّ

إذا قُدّر أن نحسب ما صُنِّف علی أساسٍ زمنیّ تاریخا ، فلابدّ أن نحسب سائر الکتابات شبه التاریخیّة مقدِّمة أو حاشیة لهذا الضرب من الکتابات . ومن المحتمل أنّ کتابة التّاریخ علی أساس السنین قد نالت اهتماما معیّنا إلی حدٍّ ما فی تدوین المغازی والسیرة ؛ إذ نلحظ فی السّیرة أنّ التّسلسل الزّمنیّ للغزوات قد روعی أیضا ، مضافا إلی ذکر الحوادث التی تتّخذ من النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم محورا(1) . وولّدت ترجمة الخلفاء وسرد الحوادث التی جرت فی عصورهم الحاجة إلی الإفادة من الزّمن والتّقویم فائدةً أکثر .

وقلّما نعثر علی هذه الکتابات من القرن الثانی . والموجود الیوم یعود کلّه إلی القرن الثالث فما تلاه . وبعض هذه الکتابات مع اشتمالها علی التّسلسل الزّمنیّ لم تسرد الأحداث علی أساس السنین ، نحو تاریخ الیعقوبیّ ، والمسعودیّ والدینوریّ . واستخدمت هذه الکتب بخاصّة فی قسم تاریخ الملوک والأنبیاء تسلسلاً زمنیّا عامّا کان مألوفا عند النصاری والیهود ، ثمّ جعلت الحوادث المهمّة کبدایة لکلّ فصل من فصولها . وانتهج الطبریّ هذا الأُسلوب فسرد الحوادث علی أساس السنین . وکذلک فعل خلیفة بن الخیّاط فی تاریخه ، والفَسَویّ فی کتاب المعرفة والتّاریخ الّذی فُقد منه یا للأسف تاریخ الإسلام حتّی نهایة الأمویّین . وقیل إنّ تاریخ هیثم بن عدیّ (م207) کان قائما علی حساب السنین . وظلّ أُسلوب الکتابة علی أساس السّنین قائما بین المسلمین کأفضل أُسلوب رضوه فی الکتابات التّاریخیّة . ویعدّ الکامل لابن الأثیر ، والبدایة والنّهایة لابن کثیر ، والمنتظم لابن الجوزیّ ، وکثیر أمثالها نماذج أفادت من هذا الأُسلوب . والخطّة الأصلیّة لبحثنا فی هذا الکتاب هی استعراض مثل هذه الکتابات التی سنواصل الحدیث عنها مفصّلاً .

ص: 58


1- حدّد الواقدیّ تاریخ الغزوات علی أساس عدّ الشّهور الّتی مضت من الهجرة .

کتابة التّاریخ علی أساس علم الأنساب

إذا کانت أیّام العرب تراثا تاریخیّا لعرب الجاهلیّة ، فإنّ علم الأنساب ینبغی أن یُعدّ فرعا آخر من کتابة تاریخهم . وإنّ کثیرا من المعلومات التاریخیّة المتعلّقة بتلک الفترة والواردة فی تضاعیف المعلومات المرتبطة بالأنساب لابدّ أن تکون من وضع العصور اللاحقة . إذ یتعذّر علینا أن نصدّق بأنّ هذه المعلومات الدقیقة الوافرة قد وصلت إلی الأجیال اللاحقة شفویّا وهی سلیمة فی نفس الوقت . مع هذا فإن الثابت هو أنّ علم الأنساب کان قالبا لنقل الأخبار والمعلومات التاریخیّة منذ العصر الجاهلیّ . والموادّ الأوّلیّة الموجودة فی المصنّفات المتأخّرة هی من مخلّفات ذلک العصر .

وظلّت التّرکیبة القبلیّة قائمةً بعد الإسلام . وشقّ علم الأنساب ، الّذی انبثق من هذه التّرکیبة أیضا ، طریقه إلی الثقافة الإسلامیّة متقارنا مع تنامی سائر الفروع العلمیّة ، وإلی جانب التاریخ غالبا . ونُظّم الدیوان فی عهد الخلیفة الثانی علی أساس أنساب القبائل ، وکذلک بیت المال . وساعد هذا الأثر علی تنامی العصبیّات القبلیّة من جهة ، وازدهار علم الأنساب من جهة أخری . وبلغت العصبیّات القبلیّة فی العصر الأمویّ حدّ الإفراط وکلّ ذلک ترک تأثیر علی إیضاح علم الأنساب(1) . ولم یظلّ علم الأنساب علما بحتا ، بل أُضیف علی عبئه التاریخیّ بسرعة ، فتبلور کأخ للتاریخ . وکان وما زال هذا العلم ضرورةً لمعرفة تاریخ التطوّرات المختلفة للمجتمع الإسلامیّ الذی کان ضمن المجتمع القبلیّ . ذلک أنّ أهمیّة النّسب فی المجتمع الإسلامیّ تُفضی إلی

التوشیج بین الأنساب والقبائل وبین القضایا التّاریخیّة . ویمکن أن یدلّ هذا علی ترابطهما أکثر فأکثر . وکان معظم الأخباریّین - اسم کان یطلق علی رواة الأخبار التاریخیّة والأدبیّة یومئذٍ - یتعلّمون علم النسب ، ویذکرون أنساب القبائل فی کتبهم

ص: 59


1- موارد تاریخ الطّبریّ ، القسم الأوّل ، ص147 .

کثیرا . وکانوا یوردون «الأنساب» و«الأخبار» فی بعض کتاباتهم متمازجَین . وذکر ابن النّدیم لأبی العبّاس عبد اللّه بن إسحاق المکاریّ کتابا بعنوان «کتاب الأخبار والأنساب والسّیر» ، ولأبی الحسن النسّابة کتبا منها «کتاب أخبار الفُرس وأنسابها» ، و«کتاب الأنساب والأخبار» . وهذه کلّها آیة علی ترابط الاثنین .

من الطبیعیّ أنّ الهدف الأساس لبعض الکتب هو علم الأنساب . ومن هذا الضّرب کتاب النّسب الکبیر لهشام الکلبیّ (م 204) ، والجمهرة فی نسب قریش لمصعب الزّبیریّ (م 236) ، ونسب قریش للزّبیر بن بکّار (م 235) . بید أنّ البعض الآخر جعل عمله الأصلیّ فی سیاق النسب ، نحو أنساب الأشراف للبلاذریّ ، وهو تاریخ مفصّل یتناول الأُسر الّتی حکمت المجتمع الإسلامیّ ، وکذلک القبائل العربیّة المقتدرة .

ومن المصنَّفات النسبیّة - التاریخیّة الأُولی التی یؤسَف علی فقدها مصنّفات أبی الیقظان عامر بن حفص العجیفیّ (م 190) الذی ظلّت أقسام من کتابه الضخم النسب الکبیر وکتبه الأخری ککتاب أخبار تمیم ، وکتاب حلف تمیم بعضها بعضا ، وکتاب النوادر فی کتب ابن قتیبة ، وأبی الفرج ، وخلیفة بن الخیّاط ، والجاحظ(1) . وکان أبو فید السدوسیّ (م 195) من النسّابین فی العصر الأوّل لتدوین هذا العلم ، وله کتاب مطبوع بعنوان حذف من نسب قریش(2) . ولابن حزم الأندلسیّ (384 - 456) کتاب جمهرة أنساب العرب من القرن الخامس، وهو من مصادر هذا العلم . وقام عبد السلام هارون بطبعه فی سلسلة إصدارات دار المعارف بالقاهرة .

وظلّ علم الأنساب قائما عند العرب . أمّا العلویّون فقد کانوا یرکّزون علیه أکثر

ص: 60


1- إسهامات مؤرّخی البصرة : ص71 .
2- صدر بجهود صلاح الدین المنجّد ، بیروت ، دار الکتاب الجدید ، 1976 . ویعنی الحذف هنا أنّه لم یذکر نسب قریش بصورة تامّة بل اکتفی بمقتطفات منه . وله کلام تاریخیّ أو أدبیّ حول کلّ من یذکره .

من غیرهم . ولهذا التوجّه أسبابه القانونیّة والاجتماعیّة ، بل السیاسیّة الخاصّة . وصُنِّفت کتب کثیرة تشتمل علی أنساب العلویّین وأخبارهم . منها : الأصیلیّ لصفیّ الدین محمّد بن الطقطقیّ (م 709) ، وغایة الاختصار (وهو علی منوال کتاب الأصیلیّ) ، والمجدیّ لنجم الدین علیّ العمریّ النسّابة (من القرن الخامس) ، ولباب الأنساب للبیهقیّ (القرن السادس) ، وعمدة الطّالب لابن عنبة (القرن التاسع) ، والفخریّ لإسماعیل بن الحسین الأزورقانیّ (من القرن السابع)، وتحفة الأزهار لابن شدقم المدنیّ (القرن الحادی عشر) ، وسراج الأنساب لسیّد أحمد بن محمّد الکیلانیّ (القرن العاشر) ، وتهذیب الأنساب ونهایة الأعقاب لأبی الحسن محمّد العبیدلیّ النسّابة (م 435) ، والشجرة المبارکة (وهو منسوب إلی الفخر الرازیّ)(1) .

إنّ الکتب المؤلَّفة فی النسب لم تتّخذ طابع تدوین کتاب الأنساب بالضرورة ، بل إنّ أکثرها ، ککتب المدائنیّ ، أخبار خاصّة فی قضایا خاصّة عن القبیلة . وصنّف المدائنیّ کتبا کثیرةً فی نساء قریش . کما لاحظنا أنّ أبا الیقظان صنّف کتابا فی الأحلاف الموجودة بین بطون بنی تمیم . مع هذا ، کانت کتب الأنساب تُصنَّف مبدئیّا علی أساس التطوّر التاریخیّ لظهور القبائل وإیجاد البطون .

الأُسلوب الحدیثیّ المسنَد

ضرب آخر من التقسیم فی الکتابات التاریخیّة المتعلّقة بطریقة عرض المعلومات التاریخیّة . ولمّا کان تدوین الحدیث والعلوم المرتبطة به قلیلاً فی البدایة ، فقد أصبح للنقل الشفویّ شأنه ، وشاع الاهتمام بالسند . وکان أکثر ما یذکر فی أحادیث

ص: 61


1- الکتب المذکورة من منشورات مکتبة آیة اللّه المرعشیّ فی قمّ إلاّ غایة الاختصار ، وعمدة الطالب ، وتحفة الأزهار

النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . بید أنّ الحدیث لمّا کان بمنزلة الأمّ لسائر العلوم الإسلامیّة فقد فرض طابعه علی سائر المنقولات . من هنا ، عبّر التاریخ أیضا عن نفسه فی الشکل الخبریّ وبصورة منقطعة ، مع ذکر السند فی معظم المواطن . وجاز لنا أن نقول : إنّ سرد الوقائع بأُسلوب حدیثیّ أوّل شکل لعرض المعلومات التاریخیّة وهذا لا یعنی أنّ التاریخ لم تکن له هویّة مستقلّة قبل الحدیث . وقد انعکست هذه الصّورة حتّی فی تاریخ الطّبریّ الّذی کان محدّثا . وهذا یعنی أنّ التاریخ قد انبثق من قلب الحدیث .ویُلْحَظُ هذا الأُسلوب فی أنساب الأشراف ، ومقاتل الطّالبیّین ، وکثیر من الکتب الأُخری .

وأهمّ مزیّة لهذه الکتب نقلها سند الأخبار جزءا جزءا . مع أنّ بعضها قد ذکر أسنادا مختلفةً فی البدایة ، وعرض أقوالهم فی تبویب معیّن . ویعتبر السّند أوّل خطوة فی تقویم الخبر المنقول تاریخیّا ، وإن کان خطوة واحدة فحسب . ویمکن أن یدلّ ذکر السّند علی ترابط المصادر التّاریخیّة المتنوّعة ، وهو فی غایة الأهمّیّة أیضا عند تقویم المنقولات التّاریخیّة . وقلّما راعی المؤرّخون المحترفون هذا الأسلوب . فقد ذکر الیعقوبیّ ، والدینوریّ ، والمسعودیّ بعض مصادرهم فی مواطن قلیلة ، وأحیانا فی أوّل

الکتاب . لکنّهم بعد ذلک ذکروا الأخبار الّتی اختاروها بالتّرتیب . وقد نقلوا الأقوال الّتی لم یریدوا أن یتحمّلوا تبعتها تحت عنوان : «قیل : کذا» . وسرد الطبریّ فی أُسلوبه الخبریّ حتّی الأخبار المتضاربة . والکتابات من الضرب الثانی ، أی : التی لا تذکر سند الخبر ، یسیرة المطالعة ، غیر أنّها عسیرة عند التقویم . إذ ینبغی تلمّس طرق غیر سندیّة لدراستها وتحلیلها . وهو عمل ضروریّ فی الروایات المسندة أیضا .

کتابة التّاریخ الإقلیمیّ

وهو شکل من أشکال کتابة التاریخ . وکان متداولاً منذ القرنِ الثالث بصورةٍ

ص: 62

وافیةٍ . وألّف المسلمون کتبا مفصّلة فی هذا المجال ما زال بعضها ماثلاً . وتتوکّأ هذه الکتب علی ثلاث دعائم هی : المعلومات الجغرافیّة ، والتّاریخیّة ، والرّجالیّة . وأکثر الأقسام الثلاثة تفصیلاً هی المعلومات الرّجالیّة الّتی تتناول الرّجال وترجمتهم . ونلحظ فی الفصول الأُولی للکتب المذکورة أحداث المدن والأقوال المتعلّقة بها ، والسابقة التاریخیّة ، والتّطوّرات المصیریّة الحادثة فی المدینة ، والحکّام ، وبعض المعلومات المتعلّقة بأحیاء المدینة أو محاصیلها أیضا . یلی ذلک ترجمة رجال المدینة . وفی بعض المواطن یُذکَر المحدِّثون ، وأحیانا جمیع المشاهیر حسب الترتیب الألفبائیّ

أو غیره . وفی سیاق ترجمة المحدِّثین تُنقَل معظم الأحادیث عنهم أیضا ، وهذا لافت للنظر کثیرا من وجهة علم الحدیث .

وکانت کتابة التاریخ الإقلیمیّ موضع اهتمامٍ منذ البدایة . وذکر ابن الندیم فی تقسیمه لمصنّفات هشام الکلبیّ تحت عنوان : «کتبه فی أخبار البلدان» کتاب البلدان الکبیر ، کتاب البلدان الصغیر ، کتاب تسمیة من بالحجاز من أحیاء العرب ، کتاب الحیرة ، کتاب أسواق العرب ، کتاب الأقالیم(1) .

ومن المؤسف أنّ هذه المصنّفات علی کثرتها فی الثقافة التاریخیّة المکتوبة للمسلمین لم یظلّ منها إلاّ القلیل . وأقدم کتاب وصل إلینا فی هذا المجال هو کتاب فتوح مصر والمغرب لابن عبدالحکم (م 257)(2) ، وکتاب تاریخ واسط لأسلم بن سهل الرزّاز المعروف ببحشل الواسطیّ (م 292) ، ونشره کورکیس عوّاد .

ومن هذه الّنماذج تاریخ إصفهان لأبی نعیم ، ومثله طبقات المحدّثین بإصبهان لأبی الشیخ، ویغلب علیه الطابع الرجالیّ والحدیثیّ، وظلّت فقرات کثیرة من تاریخ إصبهان لحمزة الإصفهانیّ فی معجم الأدباء وغیره من المصادر لکنّ أصله مفقود ، وتاریخ بغداد

ص: 63


1- الفهرست : 109 .
2- تحقیق علی محمّد عمر ، القاهرة ، مکتبة الثقافة الدینیّة ، 1415 .

الّذی یعدّ من أکثرها تفصیلاً فی الحضارة الإسلامیّة ، وتاریخ دمشق لابن عساکر الذی صدر منه لحدّ الآن خمسون جزءا ، ومختصر تاریخ دمشق لابن منظور ، ونُشر فی ثلاثین جزءا(1) .

وأکثر الکتب صبغةً تاریخیّةً فی هذا المجال هو تاریخ المدینة المنوّرة لعمر بن شبّه (م 262) الذی کان من المؤرّخین البارزین فی القرن الثالث الهجری(2) . ویتناول معظم ما بقی منه تاریخ التّطوّرات السّیاسیّة للمدینة ، وبعض المعلومات الجغرافیّة . ومنها : أخبار مکّة للأزرقیّ(3) ، وکذلک أخبار مکّة للفاکهیّ(4) ، وهما من الکتب التّاریخیّة المهمّة الّتی تتحدّث عن مکّة ، والصبغة التاریخیّة لهما ضافیة . وسنتحدّث عنهما بعد ذلک . وینبغی أن نذکر فی هذا المضمار تاریخ الموصل للأزدیّ .

وکانت المصنّفات المؤلَّفة فی فتح المدن فرعا خاصّا من التواریخ الإقلیمیّة التی نالت اهتماما بالغا فی العصر الأوّل لتدوین التاریخ . وتدلّ نظرة علی مصنّفات المؤرّخین المشهورین علی أنّ عددا ملحوظا منها یبدأ بکلمة (فتوح) أو (فتح) . ومثلها کثیر بین مصنّفات أبی مخنف ، والمدائنیّ ، وکذلک عمر بن شبّه وآخرین غیرهم ، نحو فتوح کور دجلة ، فتوح الدینور ، فتوح مدن قمّ وقاشان وإصبهان ، وفتوح الشام ، وفتوح خراسان وجرجان ... وحصّة المدائنیّ أکثر من غیره فی هذا العلم(5) .

وذکر السخاویّ دلیلاً (فهرسا) لهذا الّنموذج من التواریخ الإقلیمیّة . ومن المؤسف أنّ عددا کبیرا منها قد ضاع واندثر(6) . ویعبّر هذا الدلیل عن ضخامة العمل الذی قام

ص: 64


1- دمشق ، دار الفکر المعاصر .
2- انظر : مجلّة نور علم ، العدد 40 ، ص151 - 156 .
3- انظر : مجلّة میقات ، العدد 9 .
4- انظر : نفسه ، العدد 3 ، ص221 - 239 .
5- إسهامات مؤرّخی البصرة : 112 - 134 .
6- الإعلان بالتّوبیخ نقلاً عن ترجمته فی تاریخ تاریخنگاری در اسلام [ تاریخ کتابة التّاریخ فی الإسلام ] 2 : 289 - 326 . وذکر روزنتال معلومات فی هذا المجال فی کتاب تاریخ تاریخنگاری در اسلام 1 : 173 فما بعدها . وأورد سزگین أیضا المؤلّفین ومؤلّفاتهم فی المجلّد الأوّل ، الجزء الثّانی ، ص201 - 253 من تاریخ التّراث العربیّ .

به المسلمون فی هذا المجال .

ومن النماذج الأخری التی وصلت إلینا حول بعض المدن هی تاریخ بیهق لابن فندق البیهقیّ ، وتاریخ سیستان لمؤلّف مجهول ، وصحّحه ملک الشعراء بهار ، وکان تصنیفه بین سنة 445 و735 ، وتاریخ طبرستان لابن إسفندیار وثمّة کتاب بالغ الأهمّیّة فی التواریخ الإقلیمیّة لمدن إیران ، وهو تاریخ نیسابور للحاکم النیسابوریّ (م 450) . وقد ضاع ولم تبق منه إلاّ أسماء الرجال التی تؤلّف مداخله(1) ، ونصوص متفرّقة فی سائر المصادر(2) .

وصُنِّف لکثیر من المدن فی خراسان وحدها کتاب أو عدّة کتب لکنّنا لا نعرف شیئا عن معظمها . منها تاریخ أبیورد لأبی المظفّر محمّد بن أحمد الأبیوردیّ (م507) ؛ وأربعة فی تاریخ بخاری ، الأوّل : لأبی عبد اللّه محمّد بن إسماعیل الجعفیّ البخاریّ (م256) ، ولم یبق منه إلاّ نصوص منقولة ؛ والثانی لأبی بکر محمّد بن جعفر النرشخیّ (م348) ، وفارسیّه لأبی نصر أحمد بن محمّد القباویّ (م522) ، وطُبع عربیّه بمصر عام 1965 م ؛ والثالث لسعد بن جناح ؛ والرابع لأبی عبد اللّه محمّد بن أحمد بن سلما البخاریّ المعروف بغنجار (م 410 أو 412) ؛ وتاریخ بلخ لتسعة رجال ؛ وتاریخ بیهق أحدهما لابن فندق (م 560) ، وهو مطبوع ؛ والآخر لعلیّ بن أبی صالح الخواریّ ، وهو مفقود ؛ وتاریخ خراسان لثمانیة أشخاص ، ولم یبق منها إلاّ بعض الأخبار ؛ وتاریخ

ص: 65


1- قام الدکتور شفیعی کدکنی بطبع هذا الفهرس الذی کان قد صدر بلا تحقیق مع حواشٍ وتعلیقات کثیرة وذلک سنة 1416 ه ، طهران .
2- انظر : مجلّة میراث جاویدان تراث الخالدین ، العدد 2 ، ص118 - 121 .

خوارزم لستّة ، ولم یبق منها إلاّ بعض الأخبار أیضا ؛ وتاریخ سمرقند لثلاثة ؛ وتاریخ کشّ لشخصین ؛ وتاریخ مرو لأحد عشر رجلاً ؛ وتاریخ نسا ؛ وتاریخ نسف ؛ وتاریخ نیسابور ؛ وتاریخ هرات لتسعة أشخاص(1) .

ومن أهمّ التواریخ المحلّیّة التواریخ التی تناولت الحرمین الشریفین . وبلغت من الکثرة وغزارة المحتوی مبلغا یمکن أن نقول إنّه لم تسجّل معلومات دقیقة عن مدینة فی العالم بهذا الحجم کالتی دُوّنت عنهما . وممّا صُنّف حول مکّة أخبار مکّة للفاکهیّ ؛ وأخبار مکّة للأزرقیّ ؛ وغایة المرام بأخبار سلطنة البلد الحرام لعزّ الدین عبد العزیز بن فهد المکّیّ (م 922) ؛ والجامع اللطیف فی فضل مکّة وأهل وبناء البیت الشریف لجمال الدین بن ظهیرة المخزومیّ (م 986) ؛ والإعلام بأعلام بیت اللّه الحرام لقطب الدین النهروالیّ (م 988) ؛ وشفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ؛ والعقد الثمین فی تاریخ البلد الأمین ، کلاهما لمحمّد بن أحمد بن علیّ الفاسیّ المکّیّ (م 832) ؛ والمغانم المطابة فی معالم طابة ، ویدور حول تاریخ المدینة ، وهو من تألیف محمّد بن یعقوب الشیرازیّ الفیروزآبادیّ (م 817) ؛ وإتحاف الوری بأخبار أمّ القری لنجم بن فهد (م 885)(2) .

وصُنِّفت خلال القرون التالیة کتب کثیرة فی تاریخ مصر . منها : النجوم الزاهرة فی ملوک مصر والقاهرة (فی 15 جزءا) لجمال الدین أبی المحاسن یوسف بن تغری البردیّ الأتابکیّ (813 - 874) ؛ وکتاب کنز الدرر وجامع الغرر (فی 9 أجزاء) لأبی بکر بن عبد اللّه بن أیبک الدواداریّ ، ویضمّ الحوادث حتّی سنة 725 . ومنها : حسن المحاضرة لجلال الدین السیوطیّ .

ص: 66


1- انظر : التواریخ المحلّیّة لإقلیم خراسان ، قحطان عبدالستّار الحدیثیّ ، جامعة البصرة ، 1411 ه .
2- وردت أسماء کتب جمّة حول تاریخ مکّة والمدینة فی کتاب «التاریخ والمؤرّخون بمکّة» فی ذیل ترجمة المؤرّخین الذین کانوا یعیشون فی مکّة .

وکان للشیعة أیضا دور فی کتابة التواریخ المحلّیّة(1) . ومن أقدم مصنّفاتهم فی هذا المیدان : نحل العرب لمحمّد بن بحر الرهنیّ (أوائل القرن الرابع) ، وهذا الکتاب مقدَّم علی کلّ کتاب(2) . وقال یاقوت فی مؤلِّفه وفیه :

«له تصانیف منها : کتاب سمّاه کتاب نحل العرب یذکر فیه تفرّق العرب فی بلاد الإسلام ، ومن کان منهم شیعیّا ومن کان منهم خارجیّا أو سنّیّا فیحسن قوله فی الشیعة ، ویقع فیمن عداهم . وقفت علی جزء من هذا الکتاب ذکر فیه نحل أهل المشرق خاصّة من کرمان وسجستان وخراسان وطبرستان»

ولم یبق من هذا الکتاب إلاّ ما نقله یاقوت فی معجم البلدان .

ومنها : کتاب البلدان والمساحة أو البنیان فی أحوال البلدان لأحمد بن محمّد بن خالد البرقیّ . أفاد منه مؤلّف تاریخ قمّ فی القرن الرابع عند تألیفه الکتاب المذکور ، ومن المحتمل أنّه أفاد من کتاب البلدان نفسه(3) . وأورد الموضوعات التاریخیّة المرتبطة بقمّ نقلاً عن البرقیّ ، فی مواضع متعدّدة من النسخة المطبوعة ، وقال فی موضع : کذا ذکر البرقیّ فی کتاب البنیان ...(4) . والاحتمال الآخر هو أنّ کشف الظنون ذکر ذلک ، وهو أنّ عنوان الکتاب کان التبیان فی أحوال البلدان(5) .

ونُسب کتابٌ بعنوان البلدان والمساحة إلی أبی أحمد ، محمّد بن خالد أیضا(6) .

ص: 67


1- انظر : مقالتنا شیعه وچهار اثر در تاریخ محلّی [ الشیعة والمصنَّفات الأربعة فی التاریخ المحلّیّ ] فی مقالات تاریخی [ المقالات التاریخیّة ] ، الکرّاسة الثانیة ، قمّ ، أنصاریّان ، 1417 ه .
2- معجم الأدباء 18 : 31 ؛ الوافی بالوف-یّات 2 : 244 ؛ الذریعة 24 : 83 .
3- ذکر مدرّسی فی تاریخ قمّ الموارد المنقولة من کتاب التبیان . انظر : المصادر المختصّة بقمّ ، ص18 . ومن الجدیر ذکره أنّ الرافعیّ نقل فی ص44 - 48 من التدوین عددا من الموارد عن کتاب التبیان .
4- تاریخ قمّ : 56 .
5- انظر : الذریعة 3 : 145 ، وقم 497 .
6- نفسه 3 : 145 .

وکان لأبی جعفر محمّد بن عبد اللّه بن جعفر بن الحسین بن جامع الحمیریّ کتاب یحمل نفس العنوان فی القرن الثالث . وکان یبحث عن کتاب أحمد البرقیّ ، وبحث عنه فی بغداد ، والرّیّ ، وقمّ فلم یجده ، ثمّ قام بتصنیف کتاب فی هذا الموضوع(1) .

والکتاب المهمّ الآخر فی هذا المجال هو تاریخ قمّ لحسن بن محمّد بن حسن القمّیّ الذی صنّفه سنة 378 . وهذا المصنَّف التاریخیّ المهمّ من أروع المؤلَّفات فی الحضارة الإسلامیّة العریقة وأکثرها علمیّةً . وقد توفّر صاحبه علی تدوین الموضوعات العلمیّة المتعلّقة بتاریخ المدینة ، فی حین أنّ القسم الأعظم من التواریخ المحلّیّة المعدَّة فی الحضارة الإسلامیّة یتناول ترجمة رجالات المدن . وجعل المؤلِّف کتابه فی المقدّمة عشرین بابا لا نری منها الآن - یا للأسف - إلاّ الترجمة الفارسیّة لخمسة أبواب . ولیس فی أیدینا معلومات عن متنه العربیّ . أمّا متنه الفارسیّ فقد أنجزه الحسن بن علیّ بن الحسن بن عبد الملک القمّیّ سنة 805 ه . ومضافا إلی ما ورد فیه من أخبار عن مدینة قمّ ، أنّه

اشتمل علی معلومات ثمینة عن وضع الخراج یومئذٍ . کما تحدّث مفصّلاً عن الأشاعرة منذ کانوا فی الیمن ، ثمّ وفدوا علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، وتوجّهوا إلی العراق ، وبعد ذلک هاجروا إلی قمّ . ومضی الکلام فیه عن دورهم فی الفتوحات لاسیّما فتح بعض المناطق فی إیران .

وثمّة کتاب ثمین آخر لکنّه مفقود ، وهو تاریخ الریّ لمنتجب الدین صاحب الفهرست ، وکان یعیش فی القرن السادس . ونقل ابن حجر فقرات منه فی لسان المیزان . وکان لأبی سعد منصور بن حسین الآبیّ مؤلّف الکتاب الأدبیّ الثمین نثر الدرّ کتاب بعنوان تاریخ الریّ أیضا(2). والکتاب الآخر هو تاریخ طبرستان لابن اسفندیار. وهذا المصنَّف الخالد من أهمّ الکتب فی تاریخ طبرستان ، وکان مؤلِّفه الذی عاش فی

ص: 68


1- رجال النجاشیّ : 355 .
2- الذریعة 3 : 254 .

القرن السادس أحد المؤرّخین الشیعة . ومن التواریخ المحلّیّة النفیسة تاریخ رویان لمولانا أولیاء اللّه الآملیّ . وقدّم فیه قسما من الآراء التاریخیّة للشیعة ، بخاصّة حتّی عصر الأئمّة علیهم السلام .

ویضاف إلی الکتب التی تُحسَب فی عداد التواریخ المحلّیّة أنّ الکتب الجغرافیّة التی تتناول جغرافیّة العالم أو مناطق محدودة منه عرضت معلومات تاریخیّة ورجالیّة جمّة . ومنها : أخبار البلدان لابن الفقیه الهمدانیّ ؛ والمسالک والممالک للاصطخریّ ؛ وأحسن التقاسیم للمقدسیّ(1) ؛ وأهمّها معجم البلدان لیاقوت الحمویّ ؛ والروض المعطار لمحمّد ابن عبد المنعم الحمیریّ .

وحریّ بالذکر أنّ کتابا شاملاً إلی حدٍّ ما صُنِّف فی الآداب الجغرافیّة فی الحضارة الإسلامیّة . وتناول المصنَّفات المعدَّة فی هذا الموضوع بدقّة وهذا الکتاب هو تاریخ الأدب الجغرافیّ العربیّ لکراتشکوفسکی (م1951) ، وقام صلاح الدین عثمان هاشم بتعریبه(2) .

کتابة التّاریخ الثّقافیّ والاجتماعیّ

التاریخ عند المسلمین یشتمل علی سنة الولادة ، والوفاة ، والحوادث الّتی یؤدّی عنصر الزمان فیها دوره . من هنا ، فإنّ تصوّر المسلمین عن التاریخ یتمثّل فی الحوادث

والتغییرات السیاسیّة والإنسانیّة الأساسیّة فحسب . ویری السخاویّ أنّ موضوع التاریخ عبارة عن «الأحداث العجیبة الغریبة البارزة» الّتی تهدف إلی «الترغیب

ص: 69


1- بشأن المقدسیّ وکتاب أحسن التقاسیم أصدر عدیّ یوسف مخلص کتابا مفصّلاً عنوانه المقدسیّ البشاریّ ، حیاته ومنهجه ، دراسة کتابه أحسن التقاسیم فی معرفة الأقالیم من الناحیة التاریخیّة ، وذلک بالنجف سنة 1393 ه .
2- بیروت ، دار الغرب الإسلامیّ ، 1408 ه .

والتحذیر والإمتاع وإیقاف الأعمال الشیطانیّة»(1) . وهکذا لم یهتمّ المسلمون بالتطوّرات الثقافیّة کظاهرة تاریخیّة ، فی حین هی من أهمّ المباحث التاریخیّة . وذُکرت هذه التطوّرات فی المصادر الأدبیّة ، لا فی طابعٍ تاریخیّ ، بل فی طابع آخر وبأهداف خاصّة . وهذه المصادر التی تتناول تاریخ الشعر والشعراء . وتعمد إلی عرض الموضوعات الإنسانیّة والاجتماعیّة الخطیرة تحتوی علی قسم مهمّ من العناصرالثقافیّة التی یمکن أن تساعد الباحثین فی دراساتهم حول مسار التطوّرات الثقافیّة للمسلمین .

وکانت الصلة بین التاریخ والأدب وثیقةً فی القرون الأُولی حقّا ، حتّی نجد لکثیر من المؤرّخین الأُوَل مصنَّفات فی کلا الموضوعین ، وأبدعوا کتبا أدبیّة - تاریخیّة أو بالعکس . ونلحظ أنّ کثیرا من کتابات المدائنیّ هی فی التاریخ وأخبار الشعر والشعراء . وتتّسم کتب محمّد بن حبیب (م 240) ، وهیثم بن عدیّ (م 207) ، وأبی عبیدة (م 209) بهذه السمة .

ومن أقدم المجموعات الأدبیّة الّتی ترکها الأُوَل : عیون الأخبار لابن قتیبة (م276) ؛ والبیان والتّبیین للجاحظ (م 255) ؛ والکامل فی اللغة والأدب لأبی العبّاس محمّد بن یزید المبرّد (م 285) ؛ وربیع الأبرار للزمخشریّ (م 538) ؛ ونثر الدرّ لأبی سعید الآبیّ (م 421)(2) ؛ والعقد الفرید لابن عبد ربّه (م 328) ؛ ونشوار المحاضرة للقاضی التنوخیّ (م 384) ؛ وبهجة المَجالس وأُنس المُجالس لابن عبد البرّ ، ومحاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء للرّاغب الإصبهانیّ (أوائل القرن الخامس) ؛ والتذکرة الحمدونیّة(3) لابن حمدون (م 562) ؛ والمحاسن والمساوئ لإبراهیم بن محمّد البیهقیّ . ونلحظ فی هذه الکتب أنّ الموضوعات الأدبیّة والاجتماعیّة المهمّة

ص: 70


1- الإعلان بالتّوبیخ ، نقلاً عن ترجمته فی کتاب تاریخ تاریخنگاری در اسلام 2 : 61 ، 62 ، 141 .
2- انظر : مجلّة آینه پژوهش مرآة التحقیق ، العدد 20 ، ص31 - 38 .
3- أصدرت دار صادر ببیروت هذا الکتاب بتصحیح إحسان عبّاس وبکر عبّاس سنة 1996 م .

أصبحت مدعاة إلی نقل کثیر من الأخبار الثقافیّة والتاریخیّة . وإنّ موضوعات من قبیل السلطة والحکومة ، والحروب ، والأمثال ، والنساء ، والعدالة ، والعشق ، والعلم ، والخیانة ، والخوف ، والقضاء صارت محورا لنقل الروایات التاریخیّة والثقافیّة المتنوّعة . وکلّ منها لشخصٍ ، وتدور حول إقلیم من الأقالیم . وقد أُعدّت بصورة کشکول أدبیّ . وتضمّ أهمّ العناصر لتدوین التاریخ الاجتماعیّ .

وصُنِّفت کتب أیضا فی تاریخ الشعر والشعراء لها شأنها الکبیر فی کتابة التاریخ الثقافیّ . منها : طبقات الشّعراء لابن سلام (م 231) ، والشّعر والشّعراء لابن قتیبة ، وأهمّ منها المصنَّف النفیس الثمین المتمثّل بکتاب الأغانی لأبی الفرج الإصفهانیّ (م356) . وهو موسوعة تتناول الشعراء وکثیرا من رجال السیاسة ، وتشتمل علی معلومات ثقافیّة وتستعرض حتّی بعض التطوّرات السیاسیّة . وهی مأخوذة من کتب کثیرة مماثلة قد ضاعت . أمّا هذه الموسوعة فمن حسن الحظّ أنّها خَلُدت لنا .

تدوین السیرة وکتّابها

تدوین السیرة قبل ابن إسحاق

عندما طرح تدوین السّیرة کفرع تخصّصیّ وعلیه مسحة من کتابة التّاریخ ، فإنّه کان یشتمل علی قسمین رئیسین أحدهما «المبعث» ، والآخر «المغازی» . ویبدأ القسم الأوّل بترجمة أجداد النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وینتهی بالهجرة . ویتناول القسم الثانی المغازی الّتی تشمل الأحداث العسکریّة وغیر العسکریّة التی جرت فی المدینة . ونحتمل أنّ ابن إسحاق ککثیر من معاصریه قد أفاد ممّا کتبه أهل الکتاب والمسلمون الّذین تأثّروا بهم . وجعل فی بدایة کتابه کتاب المبتدأ ، وهو یتناول تاریخ الخلق وسیرة الأنبیاء

ص: 71

حتّی نبیّنا صلی الله علیه و آله وسلم(1) . وقام ابن هشام الّذی هذّب سیرة ابن إسحاق بإسقاط هذا الفصل من کتابه .

ولمّا کانت سیرة ابن إسحاق خاتمة الجهود المتفرّقة لأرباب السیرة ، وجامعة لتلک الأعمال التمهیدیّة ، فلا بدّ من نظرة نلقیها علی الفترة التی سبقته کی یتسنّی لنا أن نقف علی موقع هذه السیرة واتّجاهاتها بنحو أفضل من غیره .

إنّ أوّل سؤال یثار حول تدوین السّیرة وکتابة التاریخ وتدوین الحدیث فی القرنین الأوّل والثانی هو : هل کان هناک شیء مکتوب یومئذٍ أو لا ؟ یرتبط الجواب عن هذا السؤال بتاریخ تدوین الحدیث ، إذ إنّ الاهتمام بالسیرة فی البدایة قد انبثق من الانشغال بالحدیث الشریف والسیرة النبویّة ؛ مع أنّ بعدها التاریخیّ کان مستقلاًّ عن الحدیث إلی حدٍّ ما ، ویمکن أن یکون الاهتمام بها غیر مرتبط بالحدیث .

ولمّا کان الأمر مرتبطا بتدوین الحدیث ، جاز لنا أن نقول : بدأ التدوین فی أوائل القرن الثانی الهجریّ بشکل رسمیّ . أمّا بشکل غیر رسمیّ فقد طفق رجال ، یناهضون الجوّ العامّ ، بتدوین الحدیث . وکان أوّل من أمر بتدوین الحدیث من السلاطین هو عمر بن عبد العزیز (م 101) . وکان أوّل محدِّثٍ اهتمّ بذلک بعد الأمر المذکور هو ابن شهاب الزهریّ (م 124)(2) .

ومن الواضح أنّ الحدیث بسبب طابعه الدینیّ کان قد مُنی بمثل هذه المشکلة لمعاذیر کان یتشبّث بها بعض السلاطین . ولم یسلم التاریخ أیضا من ذلک فی المجال المرتبط بهذا القسم . وفی الوقت نفسه ، السیرة لم تعبّر عن الحدیث فحسب ، بل کانت

ص: 72


1- ورد هذا الفصل نوعا ما فی الکتابات التاریخیّة للمسلمین کما ذکر الطبریّ ، والیعقوبیّ ، وکثیرون غیرهم کتاب المبتدأ فی بدایة کتبهم ، ثمّ تناولوا تاریخ العصر الإسلامیّ .
2- انظر : مقدمه ای بر تاریخ تدوین حدیث [ مقدّمة علی تاریخ تدوین الحدیث ] قمّ ، انتشارات فؤاد ، 1410 ه .

لها أبعادها التاریخیّة أیضا . من هنا ، قلّما تعرّضت لمشکلة بسبب الجوّ الدینیّ الذی لم یسمح بتدوین الحدیث ، فنلحظ أنّ موضوعات من قبیل أخبار الجاهلیّة ، وأنساب العرب ، بل سیر الملوک ، کان یمکن أن تُدوَّن ، کما یبدو أنّ کتابات کانت موجودة فی هذه المجالات .

ونقل المسعودیّ أنّ سیر الملوک کانت موجودة عند معاویة ، وکانت تُقرأ علیه کلّ لیلة ، وهی مدوّنة(1) . ونُسبت کتب فی هذا الصدد إلی بعض النسّابین والمطّلعین علی أخبار الجاهلیّة . ومنهم عُبَیْد بن شریّة وآخرون غیره(2) .

إنّ ما یجعل الحکم عسیرا علی المدوّنات المحتملة الموجودة فی القرن الأوّل هو أنّ الرواة المتأخّرین الّذین قاموا بالتألیف أحیانا لم یوضّحوا لنا فیما إذا نقلوا عن الرواة السابقین شفویّا أو أنّهم استهدوا بکتبهم بعد استئذانهم . مثلاً عندما ینقل ابن إسحاق عن عروة بن الزبیر ، فهل ینقل الروایة المذکورة عن الزهریّ الّذی سمعها من عروة شفویّا أو ینقلها عن کتاب عروة ، بإجازة کانت عنده من الزهریّ الّذی أجازه عروة ؟ وکان المألوف منذ القرن الثانی فما تلاه أنّهم کانوا إذا نقلوا عن کتابٍ ما بإجازة ، فإنّهم یذکرون اسم شیخهم المجیز فحسب ، وإذا قرأ الشیخ من کتاب ، فإنّهم یروون عنه ویوردون اسمه فی السند . وظلّ هذا التقلید سائدا مدّة مدیدة إلی أن شاع ذکر عنوان الکتاب والنّقل المباشر عن مؤلّفه شیئا فشیئا . ولا أدری هل کان هذا مألوفا فی القرن الأوّل وبدایة القرن الثّانی أو لا ؟ ویمکن القول علی سبیل الاحتمال : إنّ معظم المعلومات کانت تؤخذ من الکتب الموجودة ، أمّا النقل الشفویّ فقد کان وجوده محتملاً أیضا فی حالات قلیلة . والإشکال القائم هو أنّ کتابات القرن الأوّل

ص: 73


1- مروج الذّهب 2 : 72 ، نقلاً عن التّاریخ العربیّ والمؤرّخون 1 : 124 .
2- تاریخ التّراث العربیّ ، المجلّد الأوّل ، الجزء الثّانی ، ص29 - 43 .

الهجریّ لو کانت وفیرة حقّا لوصلت إلینا معلومات أکثر فی هذا المجال . والنقل الشفویّ ، بخاصّة فی المواطن الّتی یُنقل فیها شیء عن أُناس عادیّین لکنّهم مرتبطون بالحادث ، قطعیّ ثابت . علی أیّ حال أنّ النقل من الکتابات الّتی ینبغی أن نسمّیها کرّاسة أو مسودَّة کان أساس التألیف فی النصف الثانی من القرن الثانی فصاعدا .

ینبّه سزگین علی ضرورة الالتفات إلی أنّ الطبریّ حین یقول فی تاریخه : «حدّثنا ابن حمید ، قال : حدّثنا سلامة ، قال : حدّثنا ابن إسحاق» فإنّه قد اقتبس من مغازی ابن إسحاق کلمة کلمة(1) . ویقول : علی سبیل المثال جاء فی روایة عن کتاب الأغانیّ : «نقل محمّد بن الحسن بن درید عن قول عمر بن شبّه ، وهو عن أبی عبیدة ، عن عوانة ابن الحکم ... کذا وکذا» . وحینئذٍ نقرّ بأنّ کتب أحد هؤلاء المؤلّفین کانت فی متناول ید أبی الفرج الاصفهانیّ ، وهو نقل اللفظ نفسه وربّما کان لابن درید کتاب أو أنّه أخذ هذا الخبر من کتاب عمر بن شبّه ، أو کتاب أبی عبیدة ، أو کتاب عوانة - وکان ذانک الرجلان یرویان کتاب عوانة . وربّما کان مصدر الخبر الّذی أورده أبو الفرج کتابا لعمر بن شبّه أو لأبی عبیدة أو لعوانة(2) .

ویذهب جواد علیّ إلی أنّ الطّبریّ اختار الأُسلوب الروائیّ لنقل الأخبار ، ولا حاجة إلی ذکر عنوان الکتاب فی مثل هذا الأسلوب، ذلک أنّ اسم الراویّ یُذکَر مکان الکتاب . علی سبیل المثال ، قال فی خبر عن عمر بن شبّه (م 262) : «وحدّثنی عمر مرّةً أُخری فی کتابه الذی سمّاه کتاب أهل البصرة» . ویدلّ هذا علی أنّه أفاد من مصنَّفاته المکتوبة . ویضیف جواد علیّ أنّ المشکلة فی هذا الأُسلوب هو أنّه لم یستبن فی کثیر من المواضع علی کتب أیّ الأشخاص الذین وردت أسماؤهم فی السند اعتمد الطّبریّ(3) .

ص: 74


1- گفتارهایی پیرامون تاریخ علوم عربی واسلامی [ مقالات حول تاریخ العلوم العربیّة والإسلامیّة ] : 170 .
2- نفسه : 179 .
3- موارد تاریخ الطّبریّ ، القسم الأوّل : 166 .

ومن المفید أن نلتفت إلی هذه النّقطة وهی أنّ کتابات المحدّثین فی صدر الإسلام کانت فی الأصل مساعدة للذّاکرة . ولم تک هذه الکتابات ذات ترتیب وتدوین خاصّ . ویمکن أن یکون لها شأن یماثل شأن مسودّةٍ ما .

فی متناول أیدینا روایات حول تدوین السّیرة . منها ما ذکره الزبیر بن بکّار حول قیام أبان بن عثمان بن عفّان (م بین 96 - 105) بکتابة السیرة . قال : أمر سلیمانُ بن عبد الملک أبانَ بن عثمان أن یکتب له سِیَر النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ومغازیه . فقال أبان : هی عندی ... فأمر بنسخها وألقی فیها إلی عشرة من الکُتَّاب . وبعد کتابتها وجد فیها فضائل الأنصار ، فأمر بحرقها . وقال : إن وافق أبی فسأستنسخ کتاب أبان(1) . قد یصحّ هذا النّقل بید أنّا یمکن أن نعدّ کتابته فی مستویً محدود جدّا ، إذ لم تُؤثَر عنه روایات تُذْکَرُ فی السِّیَر .

ونظرا إلی اعتماد الطّبریّ علی منقولات سهل بن أبی حَثْمَة (المولود فی السّنة الثّالثة للهجرة) ، الّتی قیل إنّها کانت مکتوبة عند بعض أحفاده ، فقد ذهب بعض الباحثین إلی أنّه کان یرمی إلی تدوین غزوات النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، وکتب قسما منها أیضا(2) .

وأراد ذلک المؤلّف نفسه أن یثبت استهداء ابن إسحاق بما کتب قبله فی السّیرة کما تدلّ علیه بعض أسناده(3) . وأهمّ خبر فی تدوین السیرة إبّان القرن الأوّل هو الذی أفاد أنّ عروة بن الزبیر صنّف کتابا فی السیرة . وذهب الواقدیّ إلی أنّه «أوّل من

ص: 75


1- الموفّقیّات : 332 .
2- تاریخ التّراث العربیّ ، ج1 ، الجزء الثّانی ، ص20 . الأساس عند سزگین أنّ مدوّنات کانت موجودة من القرن الأوّل فی جمیع العلوم الإسلامیّة کالحدیث ، والتّفسیر ، والسّیرة . انظر فی هذا المجال : تاریخ العرب قبل الإسلام ، جواد علیّ ، ص17 - 19 .
3- تاریخ التّراث العربیّ ، ج 1 ، جزء 2 ، ص23 .

صنّف فی المغازی»(1) . ویدلّ نقله الکثیر فی السّیرة علی أنّه لم یستطع أن یحفظ هذا الحجم من المعلومات ویزوّد به الآخرین دون کتابة . وقام محمّد مصطفی الأعظمیّ بجمع هذه الأخبار فی کتاب بعنوان مغازی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لعروة بن الزبیر بروایة أبی الأسود . وبادر «مکتب التربیة العربیّ» إلی طبعه مستقلاًّ سنة 1401 ه . وکانت أوراق عن وهب بن منبّه فیها بعض الأخبار الّتی تدور حول مکّة ، وکذلک غزوة خثعم بروایته عن طریق سبطه(2) .

واتّخذ التدوین طابعا رسمیّا فی مطلع القرن الثانی . وکان الزهریّ ثمرة لجهود فریق مهمّ من محدّثی المدینة وفقهائها وعلماء السیرة فیها ، وبشأنه قال الطبریّ : کان مقدّما فی العلم بمغازی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم(3) . وقصد الشام لهواه فی بنی أُمیّة ، وخدم بلاط هشام بن عبد الملک أکثر من غیره . وکان تعلّم روایات المغازی علی عروة بن الزبیر ، ونقلها لکثیر من الناس(4) . وذهب غیب إلی أنّه أساس الکتب التی صُنِّفت فی المغازی آجلاً(5) . وقام سهیل زکّار بجمع أخباره فی السیرة تحت عنوان المغازی النبویّة لابن شهاب الزهریّ ، وطبعها فی کتاب مستقلّ(6) . وأُعدّت العناصر الأصلیّة لهذا الکتاب من قسم المغازی فی کتاب المصنَّف لعبد الرزّاق بن همام الصنعانیّ (م212) .

واحتمال وجود مکتوبات فی هذا المجال ، فالنّقطة المهمّة هی أنّ أشخاصا کانوا

ص: 76


1- الطّبقات الکبری 5 : 133 ؛ البدایة والنّهایة 9 : 101 ؛ الفهرست : 123 نقلاً عن مقدّمة «مغازی رسول اللّه لعروة بن الزّبیر» . ذکر هشام بن عروة أنّ لأبیه کتابات کثیرة حول واقعة الحرّة أتلفها جمیعا .
2- موارد تاریخ الطّبریّ ، القسم الأوّل ، ص186 .
3- المنتخب من ذیل المذیل : 97 .
4- الإعلان بالتّوبیخ : 88 ، نقلاً عن تاریخ تاریخنگاری در اسلام [ تاریخ کتابة التاریخ فی الإسلام ] 2 : 214 ؛ تاریخ التّراث العربیّ 1 ، الجزء 2 ، ص76 - 79 .
5- دائرة المعارف الإسلامیّة 4 : 486 .
6- دمشق ، دار الفکر المعاصر ، 1401 .

موجودین قبل ابن إسحاق وکان لهم اهتمام بهذا الأمر ، وقد بذلوا جهودهم فی جمع أخبار النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم .

علی أیّ حال ، جَدَّ بعض المحدِّثین فی جمع السّیرة النبویّة خلال القرن الأوّل الهجریّ ، وفی أجیال سبقت ابنَ إسحاق ، لکنّهم لمّا لم ینظّموا أعمالهم کابن إسحاق ، فقد أُهملوا نوعا ما . وأصبحت سیرة ابن إسحاق نموذجا تامّا ارتضاه المؤرّخون من أهل السّنّة . وهم قد جمعوا لاحقا أخبارا أُخری أیضا ، لکنّها اعتبرت حواشی لسیرة ابن إسحاق . فظلّت سیرة ابن إسحاق هی المحور حتّی إنّ الشّافعیّ یری الآخرین عیالاً علی سیرته(1) .

وذکر هورفتس وسزگین فهرسا بأسماء الّذین اشتهروا بمعلوماتهم فی السّیرة قبل ابن إسحاق ، وهم : سعید بن سعد بن عبادة ، وسهل بن أبی حثمة (م 41) ، وسعید بن المسیّب (م 94) ، وعبد اللّه بن کعب (م 97) ، والشّعبیّ (م 103) ، وأبان بن عثمان بن عفّان (م 96 - 105) ، وعروة بن الزّبیر (م 94) ، وشُرَحبیل بن سعد (م 123) ، وقاسم بن محمّد بن أبی بکر (م 107) ، وعاصم بن عمر بن قتادة (م 120) ، ومحمّد ابن شهاب الزّهریّ (م 124) ، وأبو إسحاق عمرو بن عبد اللّه الهمدانیّ (م 127) ، ویعقوب بن عتبة (م 128) ، وعبد اللّه بن أبی بکر بن ... حزم (م 130) ، ویزید بن رومان (م 130) ، وأبو الأسود محمّد بن عبد الرّحمن الأسدیّ (م 131) ، وداود بن الحسین (م 135) ، وأبو المعتمد التّیمیّ (م 143) ، وموسی بن عقبة (م 141)(2) .

ص: 77


1- تاریخ بغداد 1 : 219 ؛ شذرات الذّهب 1 : 227 . وکانت لموسی بن عقبة سیرة منظّمة ، کان مالک بن أنس یراها أصحّ من سیر الآخرین بخاصّة ابن إسحاق .
2- ذکر ترجمة هؤلاء کلّ من سزگین فی تاریخ التّراث العربیّ ، وهورفتس فی المغازی الأُولی ومؤلّفوها ؛ وشاکر مصطفی فی التّاریخ العربیّ والمؤرّخون .

تدوین السیرة النبویّة فی المدینة

من الموضوعات المهمّة التی ینبغی أن نقف علیها فی معرفة مقدّمات السیرة هی الطریقة التی انتظم بها ما نعرفه من السیرة وما هو فی متداول أیدینا من تاریخ حیاة النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، والأشخاص الذین تولّوا تنظیمها .

من الثّابت أنّ ابن إسحاق أخذ علمه من المدینة . وعلینا أن نتعرّف علی المصادر التی استند إلیها علماء المدینة و رواتها فی جمع هذه المعلومات . ومن المفید أن نشیر ابتداءً إلی اتّخاذ کلّ مدینة نزعة سیاسیّة ومذهبیّة خاصّة علی مرّ التّاریخ الإسلامیّ ، وفی القرن الأوّل الهجریّ أیضا . وکان جُلّ الناس علی هذه النزعة سواءً انسجمت مع ذوق الحکومات أم لم تنسجم . وکان طبیعیّا أن یتأثّر علماء کلّ مدینة ورواتها بهذه النزعات إجمالاً .

وفی ضوء ما نستشفّه من التاریخ فإنّ الشام کانت ذات میول أُمویّة لبرهة من الزمن . أمّا الکوفة فقد احتضنت النزعات الشیعیّة لأسباب متعدّدة . وأمّا البصرة فقد کانت عثمانیّة الهوی لمنافستها الکوفة ، واشتراکها فی معرکة الجمل . وأمّا مکّة والمدینة فهما منحازتان إلی الشیخین وکانت تراهما منطلقا لرؤیتهما الدینیّة والسیاسیّة . ولمّا هاجر بعض الصحابة إلی سائر المدائن بعد وفاة النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، فقد ظهرت فی کلّ مدینة منها مدرسة حدیث خاصّة تدریجا . ولکلّ مدرسة خصوصیّة ترتبط بعقیدة الصحابة أو الصحابی الوجیه الذی سکن فی تلک المدینة وربّی فیها عددا من الطلاّب . وکان لعائشة ، وأبی هُریرة ، وعبد اللّه بن عمر ذلک الجاه فی المدینة . یلیهم زید بن ثابت ، وأنس بن مالک ورواة آخرون غیرهما . واشتهر أمیرالمؤمنین علیه السلام ، وابن مسعود فی الکوفة . وهکذا فی بقیّة الأمصار . وکانت النزعة السیاسیّة الموجودة فی بعض المناطق أقوی من وجود الصحابة فیها حتّی إنّها بلورت التعصّب المذهبیّ فی هذه المناطق .

ص: 78

وینبغی أن نعدّ المدینة هی المؤسّس فی مجال تدوین السیرة(1) . وتدلّ نظرة علی أوّل شریحة من علماء السّیرة أنّ الأکثریّة الساحقة منهم کانوا من أهل المدینة . ومن الأسماء الّتی ذکرناها سابقا الشعبیّ ، وأبو إسحاق السبیعیّ . فهذان کانا بالکوفة ، وثمّة شخص آخر لم نعثر علی المکان الذی عاش فیه . أمّا الباقون فقد نشأوا فی المدینة وتأثّروا بجوّها الفکریّ . وفی مقابل ذلک ، کان أهل الشام یُمنعون من الانشغال بالسیرة النبویّة لأسباب ما . وأهمّ سبب هو انکشاف ماهیّة الأُسرة الأُمویّة من خلال بیان السیرة . إذ لم یستطع الأمویّون بدعایاتهم أن یعرّفوا أنفسهم علی أنّهم من قُربی النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . ومن الطریف أنّ عبد الملک بن مروان نفسه لم یرض حتّی بنقل سیرة عمر ، لأنّه کان یراها مضنیة للأُمراء مفسدة للرعیّة(2) .

علما أنّه ظهر بین المحدّثین الشامیّین من کان ینقل بعض الروایات فی المغازی(3) ، لکنّ هؤلاء لیسوا من الشأن بمکان فیُثیرون مشکلة للأمویّین . وکان الزهریّ الذی أخذ علمه من المدینة یتردّد بین الشام والمدینة فی العقدین الأخیرین من القرن الأوّل حتّی آخر عمره فی العقد الثالث من القرن الثانی بما یربو علی أربعین سنةً . وهو ممّن له

ص: 79


1- قسّم شاکر مصطفی المدارس المرتبطة بالسّیرة إلی مدارس صغیرة وکبیرة . وذهب إلی أنّ أوّل مدرسة فی السّیرة - ولو صغیرة - کان بالشّام . والأدلّة الّتی ذکرها لإثبات هذه النقطة لا تدلّ علی هذا الموضوع . علی سبیل المثال ذکر عن أبی عُیَینة «من أراد المقاسم وأمر الغزو ، فعلیه بأهل الشّام» فقد اعتبر هذا الکلام دلیلاً علی وجود السّیرة فی الشّام ، فی حین أنّ القصد منه هو المسائل الفقهیّة المرتبطة بالحرب . وکانت مطروحة فی الشّام أکثر من غیرها بسبب استمرار الحرب فی جبهات الشّام . وأراد أیضا أن یدلّ علی تقدّم الشّام فی تدوین المغازی من خلال ذکر رواة الأخبار المتعلّقة بفتوحات الشّام وکانوا شامیّین . ولو فرضنا أنّ أحدا من الصّحابة والتّابعین نقل الرّوایات المرتبطة بفتوحات الشّام ، فلا علاقة لِهذا الأمر بنقل مغازی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم . انظر : التاریخ العربیّ والمؤرّخون 1 : 119 - 122 .
2- البدایة والنّهایة 9 : 66 .
3- روایة الشامیّین للمغازی والسیر فی القرنین الأوّل والثانی الهجریّین : 52 - 54 .

قسط عظیم فی علم المغازی ، وطبیعیّا لابدّ أن یکون أحد ناقلیه إلی الشام . وکان خلال تلک المدّة یخدم البلاط الأمویّ . وسنواصل الحدیث عنه .

وکان سعید بن سعد بن عبادة ، وسهل بن أبی حثمة کلاهما مدنیّین أنصاریّین . ونقل الزهریّ روایات فی السیرة عن سهل بن أبی حثمة بنحو مرسل . وکان سعید بن المسیّب من فقهاء المدینة ، واشتهر براوی عمر ، وتلمذ له الزّهریّ وقتادة . وکان عبید اللّه بن کعب بن مالک أنصاریّا ، أثنی علیه ابن إسحاق ، ونقل عنه روایات فی المغازی ، کما نقل عنه الزهریّ أیضا .

وکان أبان بن عثمان بن عفّان والیا علی المدینة سنة 75 ه ونقل عن عائشة کثیرا . وهو من أقدم علماء السیرة . ونقل عنه ابن إسحاق(1) . ویعدّ عروة بن الزبیر من أهمّ

المحدّثین فی المدینة . ونقل عن الصحابة بخاصّة عن عائشة نقلاً جمّا . ویعتبر مصدرا مهمّا للزهریّ(2) ، ولموسی بن عُقْبة الذی کان من موالی آل الزبیر فی السیرة . وکان نجله هشام بن عروة راویا لأخباره ، ولم یرتضیه أهل العراق(3) . وکان القاسم بن محمّد بن أبی بکر من فقهاء المدینة ، ومن مشایخ الزهریّ . وکان عاصم بن عمر بن قتادة أنصاریّا ، واشتهر بالمغازی ، ونقل عنه ابن إسحاق عددا من الرّوایات . ثمّ رحل إلی الشام ، وأمره عمر بن عبد العزیز بقراءة «قصص المغازی ومناقب الصحابة» فی الجامع الأمویّ(4) .

وکان یعقوب بن عتبة مدنیّا ومعاصرا للزهریّ، ومطّلعا علی المغازی. وعُدَّ عبد اللّه ابن أبی بکر بن حزم المدنیّ من رواة أخبار المغازی لابن إسحاق وغیره . وکان

ص: 80


1- انظر : تذکرة الحفّاظ 1 : 173 .
2- تهذیب التّهذیب 9 : 307 ؛ تاریخ التّراث العربیّ ، ج 1 ، الجزء 2 ، ص71 .
3- تذکرة الحفّاظ 1 : 145 .
4- تاریخ التّراث العربیّ ج1 ، الجزء 2 ، ص73 ؛ المغازی الأُولی ومؤلّفوها : 48 .

یزید بن رومان مدنیّا ومن موالی آل الزبیر ، وله کتاب فی المغازی أیضا یتوکّأ فیه علی روایات عروة والزهریّ .

وکان أبو الأسود محمّد بن عبد الرّحمن الأسدیّ ربیب عروة بن الزبیر ، وعروة من مشایخه . وکان موسی بن عُقبة من المتقدّمین فی المغازی ، ومن تلامیذ الزهریّ ، وهو ممّن عاش فی المدینة . وترکّزت جهوده العلمیّة علی المغازی وسیرة الخلفاء . ویبدو أنّ له تاریخا حسب السّنین . وذهب سزگین إلی أنّ مغازیه تتوکّأ علی مغازی الزهریّ(1) . وهو من موالی آل الزّبیر أیضا(2) . ودعا مالک بن أنس ، ویحیی بن معین ، وأحمد بن حنبل الناس إلی قراءة مغازیه(3) .

النّقطة الّتی نستشفّها من القسم الأخیر للموضوعات المتقدّمة هی أنّ لآل الزّبیر تأثیرا مهمّا فی تبلور السیرة . وأشار هورفتس أیضا إلی أنّ ابن إسحاق قد نقل کثیرا عن المنتسبین لآل الزبیر ، مضافا إلی أخذه من الزهریّ . فقد روی عن أشخاص مثل یزید بن رومان الذی کان من موالی عروة ، عن هشام بن عروة وعمر بن عبد اللّه ابن أخی عروة ، ومحمّد بن جعفر ابن أخی عروة أیضا ، وکذلک عن یحیی بن عباد بن عبد اللّه بن الزبیر(4) .

موسی بن عُقْبة (م 141)

موسی بن عقبة بن أبی عیّاش القرشیّ أحد الوجوه البارزة فی علم المغازی . رأی عبد اللّه بن عمر سنة 68 ه ، فبذا کان فی أقلّ التقادیر یافعا یومئذٍ . وکان من موالی

ص: 81


1- تاریخ التّراث العربیّ ، التدوین التاریخیّ ، ص184 - 186 .
2- تذکرة الحفّاظ 1 : 148 .
3- الجرح والتّعدیل 1 : 22 ؛ تذکرة الحفّاظ 1 : 148 ؛ المغازی الأُولی ومؤلّفوها : 71 .
4- المغازی الأُولی ومؤلّفوها : 88 ، 89 .

آل الزبیر ، وهذه نقطة طریفة کما یبدو بالنظر إلی رغبة هؤلاء فی المغازی ، وهو ما أشرنا إلیه من قبل(1) . وتلمذ للزهریّ زمیلاً لابن إسحاق ، وانشغل فی تدوین المغازی بنحو مستقلّ ومفصّل . مع هذا لم یشتهر لأسباب متنوّعة یمکن أن نعدّ منها موعده غیر المناسب لنشره فی العراق أو لضعف تألیفه قیاسا بعمل ابن إسحاق ، أو لأسباب أخری . وکان هذا الکتاب سهل المنال حتّی القرن التاسع الهجریّ ، وبعد ذلک لم تبق منه إلاّ فقرات .

وذکر سزگین أنّ اعتماده الأساس کان علی الزهریّ ، وإن قلّ قوله : حدّثنی الزهریّ ، وکثر قوله : قال ابن شهاب وزعم ابن شهاب . وکان مالک بن أنس إذا قیل له مغازی من نکتب ؟ قال : علیکم بمغازی موسی بن عقبة ، فإنّه ثقة . وأضاف أنّه طلبها علی کبر سنّه لیقیّد من شهد مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم(2) . ولا بدّ أن یکون اهتمام مالک بن أنس بمغازی موسی بن عقبة ذا صلةٍ بانعدام ثقته بابن إسحاق . وبعد ذلک کان یحیی بن معین یقول : کتاب موسی بن عقبة عن الزهریّ من أصحّ هذه الکتب(3) . ویمکن أن یشیر هذا الکلام إلی القدح فی طرقه الحدیثیّة الأُخری . وتدلّ الحکایة التی ذُکرت فی اهتمامه بالمغازی علی بعض النقاط فی تدوین السیرة . وقال سفیان بن عیینة : کان بالمدینة شیخ یقال له شُرَحبیل أبو سعد ، وکان من أعلم الناس بالمغازی ، فاتّهموه أن یکون یجعل لمن لا سابقة له سابقة ، وکان قد احتاج فأسقطوا مغازیه وعلمه . قال إبراهیم بن المنذر : فذکرتُ هذا الحدیث لمحمّد بن طلحة ابن الطویل ، ولم یکن بالمدینة أحد أعلم بالمغازی منه ، فقال لی : کان شُرَحبیل بن سعد عالما بالمغازی فاتّهموه أن یکون یُدخِل فیهم من لم یشهد بدرا ومن قُتل یوم أحد والهجرة ومن

ص: 82


1- تهذیب الکمال 29 : 115 ، 116 .
2- نفسه 29 : 118 .
3- نفسه 29 : 120 .

لم یکن منهم ، وکان قد احتاج فسقط عند الناس . فسمع بذلک موسی بن عقبة ، فقال : وأنّ الناس قد اجترؤوا علی هذا ؟! فدبّ علی کبر السنّ وقیّد من شهد بدرا وأُحدا ومن هاجر إلی أرض الحبشة والمدینة ، وکتب ذلک(1) . وأفاد یاقوت من نسخة من مغازی موسی بن عقبة التی کانت بخطّ أبی نعیم الإصفهانیّ(2) . وقام ساخو بطبع قسم من المغازی الذی هذّبه ابن شهبة (م 789) ، مع ترجمته الألمانیّة . وکتاب الدرر فی اختصار المغازی والسیر لابن عبد البرّ (م 463) تلخیص لمغازی موسی بن عقبة . وأورد ابن حجر فی الإصابة فقرات کثیرة من هذا الکتاب ، وعیّن سزگین أرقام صفحاتها(3) . کما نقل البیهقیّ (م 458) فی دلائل النبوّة فقرات کثیرة منه أیضا .

محمّد بن إسحاق (81 - 85 / 150 - 151)

هو مؤلّف أوّل سیرة شاملة نسبیّا ، وعُرفت سیرته کأوّل عمل أصیل فی هذا المجال بسبب ما اتّسمت به من نظم موضوعیّ(4) . وکان ابن إسحاق عراقیّا ومن الموالی - العرب أو الفرس - وآباؤه نصاری ، وأُسر جدّه یسار فی موقعة عین التمر بالعراق . وکان نشأ فی المدینة ، ثمّ توفّی ببغداد ، ودُفن فی مقبرة الخیزران . وإذا استثنینا

ص: 83


1- تهذیب الکمال 29 : 119 .
2- معجم البلدان 4 : 1008 طبعة أوربّا .
3- تاریخ التّراث العربیّ ، التدوین التاریخیّ : 85 .
4- صدرت دراسات کثیرة حول ابن إسحاق . وأُعدّت رسالة مستقلّة عنه بهذا العنوان : JFÜck Mohammad Ibn Ishaq, Frankfurt, am Main, 1923.وثمّة دراسة أخری ل- Horowitz وعنوانها المغازی الأولی ومؤلّفوها . وتولّی حسین نصّار تعریبها القاهرة 1946 . وأصدر باحث آخر المتن الأصلیّ لسیرته خالیا من إضافات ابن هشام ومشتملاً علی ما جاء فی المصادر الأخری نقلاً عن ابن إسحاق ، وکان قد حُذف من سیرة ابن هشام . ومواصفاته هی کالآتی : A. Guillaume, The Life of Mohammad, O U P. 1955

المدینة التی قرأ القسم الأعظم من علمه الحدیثیّ علی شیوخها ، فإنّه توجّه إلی مصر وهو یناهز الثلاثین ، وتلمذ لرجالٍ مثل یزید بن أبی حبیب (م 127) ، وأفاد منه فی أخبار السیرة(1) . وبعد استیلاء العبّاسیّین علی الحکم سنة 132 ه یمّم العراق ، وألّف مغازیه عندما کان المنصور فی الحیرة ، فانتشر بین أهل الکوفة ، ثمّ فی سائر المناطق منذ ذلک الحین . وأدّت هجرة ابن إسحاق من المدینة تلقاء العراق إلی نقل علم السیرة الذی ولد بالمدینة إلی أهمّ نقطة فی العالم الإسلامیّ ، أی : العراق .

وترک ابن إسحاق سیرة مدوّنة تستبین صبغتها التاریخیّة تماما . وکان کتابه یشتمل علی الأخبار التاریخیّة منذ بدایة حیاة آدم علیه السلام حتّی نهایة حیاة النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم .

وقام ابن هشام بتهذیب سیرة ابن إسحاق بحذف ما سمّاه من الزوائد ، ولم یره ذا علاقةٍ بالنبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . وینبغی أن نقول إنّ مزیّة کتاب ابن إسحاق تتجلّی فی سبکه المنظّم الذی لا یمکن أن یکون من بنات أفکاره وحدها، بل هو مزیج من عمل شیخه الزهریّ وسائر المصنّفین الذین کان لهم باع فی هذا العمل قبل ذلک ، کما ذهب إلیه بعض الباحثین . وإن کان لا بدّ من القول إنّ مصنَّفا لم یبلغ هذا المستوی من قبل ، کماذکر المسعودیّ ذلک(2) .

نشأ ابن إسحاق فی المدینة ، فجاءت روایاته مشتملةً علی أخبار مدنیّة فی الأغلب ، وأُخری مصریّة فی الأقلّ . لکنّ رواة کتابه من الشرق إلاّ واحدا منهم کان من أهل المدینة . ویعود هذا إلی أنّه دوّن سیرته فی المدینة تدوینا أوّلیّا ، ثمّ نشرها فی

ص: 84


1- منها رسالة له تحت عنوان : «کتاب فیه ذکر من بعث رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم إلی البلدان وملوک والعرب والعجم وما قال لأصحابه حین بعثهم» . انظر : البحوث والمحاضرات ، 1385 ، مقالة بعنوان : دراسة فی سیرة النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، ص 117 .
2- مروج الذّهب 4 : 116 ج 5 ، ص211 : أوّل من جمع «کتب المغازی والسیر وأخبار المبتدأ ، ولم تکن قبل ذلک مجموعة ولا معروفة ولا مصنّفة» .

العراق . من هنا ، یجب أن نلتفت إلی أنّه کان محدودا فی الأخبار المدنیّة التی لها قیودها الخاصّة . وأهدی سیرته فی الحیرة إلی المنصور أو المهدیّ یوم کان ولیّا للعهد(1) .

وکان ابن إسحاق تأثّر برواة الیهود والنصاری ، أو المسلمین المتأثّرین بهم . وصنّف القسم الأوّل من کتابه - الذی سمّاه «کتاب المبتدأ فی أخبار الأنبیاء والملوک» وحذفه ابن هشام(2) - اعتمادا علیهم واستعانة بمصادرهم . ویضاف إلی ذلک أنّه أخذ أخباره من العرب قبل الإسلام ، من مصادر قصصیّة موجودة فی الحجاز ، وطابعها القصصیّ واضح تماما . ومع أنّ أُسلوبه حدیثیّ لکنّه لم یذکر الأسناد فی جمیع الموارد ، وإنّما أوردها فی مواطن یتّصل أکثرها بعصر ما بعد الهجرة . وقبل ذلک یبدأ کلّ عنوان

بلفظ «قصّة ...» .

إنّ ألفاظا غامضةً من قبیل : «حدّثنی أهل العلم» أو «زعموا کذا» أو حتّی إبداء الشکّ بذکر عبارة «اللّه أعلم» کلّ ذلک یدلّ علی أنّه کان بحاجة إلی الإفادة من جمیع ما حوله لإکمال عمله التاریخیّ ، وهذا الأُسلوب لیس أسلوب محدّث طبعا ، بل أسلوب مؤرّخ یستهدی بکلّ دلیل عندما یواجه قلّة المصادر لإتمام البنیة التاریخیّة لبحثه . ومن ذلک الأشعار التی قدح فیها کثیر من القدماء والجدد(3) . وأسقط ابن هشام کثیرا من هذه الأشعار حتّی زُعم أنّ الأشعار الموجودة فی سیرته تبلغ خمس الأشعار التی کانت فی النسخة الأصلیّة لابن إسحاق(4) .

ونلحظ فی مقابل ذلک أنّه أفاد من القرآن الکریم مفصّلاً ، وذکر فی کلّ باب الروایات الخاصّة بشأن النزول .

ص: 85


1- تاریخ بغداد 1 : 211 .
2- ذکر المقدسیّ أنّ «کتاب المبتدأ» لابن إسحاق أوّل مصنَّف من نوعه . البدء والتاریخ 1 : 149 .
3- نصّ یاقوت وابن الندیم علی اختلاق کثیر من الأشعار الموجودة فی السیرة . انظر : معجم الأدباء 6 : 400 ؛ الفهرست : 92 ؛ طبقات الشعراء : 4 لیدن نقلاً عن البحوث والمحاضرات : 127 ، 128 .
4- موارد تاریخ الطّبریّ ، القسم الأوّل ، ص147 عن : Noldeche-Sehwally.Vol,2.P,188 .

إنّ الحدیث عن توثیق ابن إسحاق أو قدحه من أکثر الموضوعات التی أثارت ضجیجا من نوعها . ولمّا کان بالمدینة اصطدم باثنین من فقهائها ومحدّثیها وهما مالک ابن أنس(1) ، وهشام بن عروة(2) لأسبابٍ ربّما المنافسة أحدها . من هنا اتُّهم بشتّی التهم منها التشیّع والقدریّة(3) . وتبع ذلک أنّ الکتب الرجالیّة أوردت أخبارا متباینة وأحکاما متفاوتة حوله . ودافع عنه ابن حبّان فی الثقات ، وابن سیّد الناس بشدّة(4) .

وحریّ بالقول أنّ تهمة تشیّعه لا تصحّ بالمعنی المصطَلح هذا الیوم . ویُحتَمل أنّه اُتّهم به لنقله بعض الفضائل - التی أسقط ابن هشام عددا منها فی السیرة الموجودة کحدیث إنذار العشیرة ، وذکرها الطبریّ عن طریق ابن إسحاق - ولا یمکن أن یعنی هذا إلاّ مودّة أهل البیت علیهم السلام ، وهو ما لا یرتضیه المذهب العثمانیّ المتسلّط علی المدینة والشام . ووصفنا أمثال هؤلاء فی موضع آخر بالشیعة العراقیّین ، وهم ذوو درجات مختلفة طبعا . ولیس لنا أن ننکر ذِکرَ ابن إسحاق کثیرا من فضائل الإمام أمیرالمؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام فی السیرة .

ووثّقه عدد کبیر من المؤرّخین فی نقل الأخبار فحسب ، لا فی الحلال والحرام(5) . ویدلّ مثل هذا الضرب من إبداء الرأی علی تسامح السلف فی الأخبار التاریخیّة المنقولة . وأثنی علیه الطبریّ ووثّقه ، وهو الذی أخذ قسما وافرا من أخبار السیرة

ص: 86


1- کان ابن إسحاق یقول : أنا بیطار علم مالک . الکامل فی ضعفاء الرجال 6 : 106 . وکان مالک یقول أیضا : ابن إسحاق دجّال من الدجاجلة .
2- یعود سبب خلافه مع هشام إلی نقله روایةً عن زوجته ممّا أغضب هشاما إذ کیف التقی بها ابن إسحاق ونقل عنها ؟
3- تاریخ یحیی بن معین 1 : 247 . قیل : أقام الحاکم علیه الحدّ لاعتقاده بالقدر . الکامل فی ضعفاء الرجال 6 : 106 .
4- انظر : عیون الأثر 1 : 54 - 67 .
5- تذکرة الحفّاظ 1 : 173 ؛ تاریخ یحیی بن معین 1 : 60 ، 225 .

وما تلاها من مصنّفات ابن إسحاق(1) . وفی مقابل ذلک نقرأ عن ابن الندیم البیّنة میولُه الشیعیّة تماما أنّه عَنَّفَ ابنَ إسحاق ورماه بائتثاره من الیهود ، وتضعیف أهل الحدیث إیّاه(2) ، واختلاقه شعرا وجعله فی السیرة ، وأنکی من ذلک أنّه قذفه أخلاقیّا(3) . وکان الزهریّ - وهو من مشایخ ابن إسحاق - یقول فیه مادحا : ما دام هذا الأحول - ابن إسحاق - فی هذه الدیار ، فالعلم باقٍ(4) . وکان شعبة یقول : لو کانت لی قدرة لحکّمتُ ابن إسحاق علی جمیع المحدّثین(5) .

وأشرنا من قبل إلی أنّ علم المغازی تبلور فی المدینة . وذهب بروکلمان إلی أنّ أحادیث ابن إسحاق کلّها تعود إلی أهل المدینة(6) . وربّما لم ینقل ابن إسحاق عن الأشخاص الذین ذکرناهم فحسب ، بل نقل أیضا عن أُناس عادیّین مجهولین کانوا علی صلة بالحوادث الواقعة فی عصر رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لأسباب ما ، بید أنّ أساس عمله - علی أیّ حال - رؤیة خاصّة بلورت هذه الأحادیث ؛ ونظرا إلی أنّ عمل هؤلاء کان یقتصر علی النقل بلا نقد وتلاعب فی اللفظ عادةً فإنّ أهمیّة دور الرواة الاُوَل یتبیّن أکثر فأکثر . وحسبنا أن ننقل أمثلةً من أسناد ابن إسحاق : «حدّثنی صالح بن کیسان عن عروة بن الزبیر عن عائشة» ؛ «حدّثنی عاصم بن قتادة ، ذکر الزهریّ عن عروة بن الزبیر عن عائشة» ؛ «حدّثنی یحیی بن عروة بن الزبیر عن أبیه عروة» ؛ «حدّثنی محمّد بن عبد اللّه بن عامر بن زید ، عن بعض أهله» ؛ «حدّثنی نافع

ص: 87


1- المنتخب من ذیل المذیل : 654 .
2- انظر : الکامل فی ضعفاء الرجال 6 : 103 . ویعود تضعیف أهلِ الحدیث المؤرِّخینَ إلی أنّهم غیر متمسّکین بأُصولهم فی نقل الروایات ، بل لهم أُسلوبهم الخاصّ . ومن الطبیعیّ أنّهم لا یمکن أن یظلّوا فی إطار الأسناد الصحیحة نوعا ما لمزاولتهم عملاً تاریخیّا .
3- الفهرست : 102 .
4- الکامل فی ضعفاء الرجال 6 : 105 .
5- نفسه 6 : 107 .
6- تاریخ الأدب العربیّ 3 : 11 .

مولی عبد اللّه بن عمر عن ابن عمر» ؛ «حدّثنی عبد الرحمن بن الحارث عن بعض آل عمر أو بعض أهله» .

ونقل ابن إسحاق روایات قلیلةً عن الإمام الباقر علیه السلام أو عن طریق الزهریّ عن الإمام السجّاد علیه السلام ، وهی محدودة . ویروی معمر بن راشد (م 154) الذی کان له دور فی کتابة المغازی عن الزهریّ غالبا(1) . واستنتج الدوریّ خلال بحوثه فی علم التاریخ عند العرب أنّ الزهریّ هو المؤسّس لمدرسة المدینة ، وأنّ موسی بن عقبة وابن إسحاق کلیهما کانا من تلامیذه . وعنده أنّ موسی بن عقبة یعتمد علی عمل شیخه الزهریّ مع إضافات له فی الوقت نفسه(2) ، وکذلک کان ابن إسحاق .

ونصّ غیب علی أنّ المدینة استأثرت بالسیرة إلی ما قبل القرن الثانی الهجریّ(3) . وجمع ابن إسحاق سیرته فی المدینة . ومن المحتمل أنّه قام بتدوینها فی العراق آجلاً .

واصطدم بمالک بن أنس وهشام بن عروة بالمدینة ، واضطُرَّ إلی مغادرة المدینة(4) ؛ بخاصّة لسخریته من علم مالک(5) . وانتشرت سیرته فی العراق . وذکر ابن سعد أنّه قرأ سیرته بالکوفة ، ثمّ قرأها علی جماعة فی الجزیرة والریّ أیضا(6) .

وأمضی ابن إسحاق العقدین الأخیرین من حیاته فی العهد العبّاسیّ . وقیل إنّه أهدی سیرته إلی المنصور أو المهدیّ یوم کان ولیّا لعهد أبیه . من هنا کان علیه أن یعید النظر فیما یتعلّق بالعبّاس بن عبد المطّلب بشکل جزئیّ(7) .

ولم یصل إلینا النصّ الذی أعدّه ابن إسحاق بنحو تامّ ، وإنّما فی أیدینا تهذیبه الذی

ص: 88


1- تاریخ التّراث العربیّ ، التدوین التاریخیّ : 92 .
2- بحث فی نشأة علم التاریخ عند العرب : 32 ، 33 النصّ الإنجلیزیّ .
3- دائرة المعارف الإسلامیّة 4 : 486 .
4- تاریخ بغداد 1 : 223 ؛ الجرح والتّعدیل 1 : 19 .
5- تذکرة الحفّاظ 1 : 173 ؛ الجرح والتّعدیل 1 : 19 ، 20 .
6- متمّم الطّبقات الکبری : 402 .
7- المغازی الأولی ومؤلّفوها : 81 ؛ مقدّمة کتاب السیر والمغازی لزکّار : 13 ، 14 .

أنجزه عبد الملک بن هشام (م 213 أو 218) . وأسقط منه - کما ذکر فی المقدّمة - الموضوعات التی وجدها غیر مرتبطة بالنبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وکذلک بعض الأشعار(1) ، وما استشنعه . وثمّة خلاف حول الموضوعات التی أسقطها فیما إذا کانت هامّة أم لا(2) . وفی الوقت نفسه یجب أن نعبّر عن شکرنا علی إمکانیّة تشخیص أقوال ابن إسحاق بدقّة ، وعلی وجود إضافات ابن هشام بآسمه .

وکان تهذیب ابن هشام المشهور بسیرة ابن هشام موضع اهتمام ومراجعة منذ البدایة . فقد أفاد منه الیعقوبیّ . وشرحه عبد الرحمن السهیلیّ (508 - 581) شرحا مفصّلاً طبع تحت عنوان الروض الانف . ومن الخلیق بالذکر أنّ هدف السهیلیّ شرح سیرة ابن إسحاق التی هذّبها ولخّصها ابن هشام ، وعمد السهیلیّ إلی شرح الکلمات الغریبة ، والعبارات العویصة ، وتبیان الأنساب المشکلة ، وإتمام ما ظلّ ناقصا . وطُبع هذا الکتاب فی مصر بتصحیح عبد الرحمن الوکیل ، کما طُبع بالأوفسیت فی بیروت عام 1412 .

ص: 89


1- تشتمل نسخة یونس بن بکیر علی أشعار لم ترد فی متن ابن هشام . انظر : البحوث والمحاضرات : 130 .
2- بَزْمَ آوَرْدْ الشطیرة : 97 . وانظر : مجلّة آینَه پَژوهِشْ (مرآة التحقیق) ، السنة الثانیة ، العدد الخامس ، مقالة «ابن هشام وسیره اُوْ» [ ابن هشام وسیرته ] 9 - 30 ؛ وتدلّ موارد فی السیرة علی أنّ ابن هشام أضاف إلیها أحیانا ما فیه مصلحة الإمام علیّ علیه السلام . منها أنّ صیحته علیه السلام فی فتح حصن بنی قریظة عجّلت فی استسلامهم لحکم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم . انظر : السّیرة النبویّة 3 : 240 . ولفظ ابن هشام فی الحذف : «... ممّا لیس لرسول اللّه فیه ذکر ، وما نزل فیه من القرآن بشیء ولیس سببا لشیء من هذا الکتاب ولا تفسیرا له ولا شاهدا علیه لما ذکرت من الاختصار ، وأشعارا لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر یعرفها ، وأشیاء بعضها نشنع الحدیث به ، وبعض یسوء بعض الناس ذکره ، وبعض لم یقر لنا البکائیّ بروایته» . وممّا أسقطه ابن هشام بعض الأخبار المتعلّقة بالنبیّ صلی الله علیه و آله وسلم قبل البعثة ، وخبر دور العبّاس بن عبد المطّلب ببدر ! وکذلک خبر دعوة الإمام علیّ علیه السلامللإسلام ، الموجود فی نسخة یونس ، ولم یرد فی سیرة ابن هشام . وکذلک الخبر الوارد فی کیفیّة إسلام أبی بکر .

وکتب أبوذر بن محمّد بن مسعود الخَشَنیّ (533 - 604) شرحا أدبیّا علی سیرة ابن هشام أیضا فی جزء واحد(1) .

وإذا استثنینا ما نقله ابن هشام عن طریق زیاد بن عبد اللّه البکائیّ (م 183) ، فإنّ الطبریّ نقل أخبارا کثیرةً من سیرة ابن إسحاق عن طریق محمّد بن حمید الرازیّ ، وهو عن سلمة بن الفضل . وأفاد سلمة هذا من المتن الأصلیّ الذی أعدّه ابن إسحاق للمنصور(2) . والراوی الآخر لکتاب ابن إسحاق یونس بن بکیر الذی أفاد منه ابن الأثیر فی أسد الغابة ، وعُثر علی قسم منه فی مراکش أخیرا . وتولّی تصحیحه محمّد حمید اللّه ، ثمّ سهیل زکّار کلٌّ علی حدة وطبعاه . وألحق یونس بن بکیر بهذا القسم من سیرة ابن إسحاق أخبارا نقلها عن آخرین غیره(3) .

وبغضّ النظر عن نقطة الضعف الأساسیّة فی سیرة ابن إسحاق ، وهی توکّؤه البحت علی أحادیث المدینة وانعکاس ذلک فی المتن ، فإنّها تتمیّز بقوّة لافتةٍ للنظر فی تماسکها الداخلیّ واتّسامها بطابع تاریخیّ . ونظرا إلی الماضی المحدود لکتابة التاریخ ، ینبغی أن نعدّ عمل ابن إسحاق خطوةً بالغة الأهمیّة فی تطوّر علم کتابة التاریخ الإسلامیّ . فقد أضفی نظما خاصّا علی الأخبار التاریخیّة ، وانطلق بتفکیر تاریخیّ فی عرض الأخبار . وهو - علی حدّ تعبیر غیب - لم یکتب تاریخ النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فحسب ، بل کتب تاریخ النبوّة کلّها(4) . ولنا أن نحسبه أوّل محلّل لأخبار السیرة أیضا ، إذ قدّم فی

ص: 90


1- تصحیح بولص برونله ، أوفسیت فی بیروت ، دار الکتب العلمیّة .
2- تاریخ بغداد 1 : 221 .
3- بَزْمَ آوَرْدْ : 102 - 107 . توفّر المؤلّف علی تحلیل روایة یونس بن بکیر عن ابن إسحاق وهو جدیر بالاهتمام . وانظر أیضا : مقدّمة الدکتور مهدوی علی سیرة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم . فقد عرّف الرواة المختلفین لابن إسحاق وطبع کتاب سیرة ابن إسحاق فی قمّ بالأوفسیت أیضا .
4- دائرة المعارف الإسلامیّة 4 : 487 .

بدایة کثیر من المباحث نوعا من التلخیص التحلیلیّ ، فی حین نلحظ نقائص وأخطاء کثیرة فی سیرته بسبب المصادر التی اعتمد علیها . وسیرته تعکس قسما من أخبار السیرة لا جمیعها ، ذلک أنّ فی سائر المدائن أخبارا أُخری عند صحابة کانوا هاجروا إلیها ، فلم یُفد منها . ویضاف إلی ذلک أنّ الواقدیّ وغیره ، بتتبّعهم فی المصادر الأوّلیّة ، دوّنوا موضوعات جدیدة کثیرة فی السیرة ، وهی حقیقة باهتمام الباحثین . وتواصل التتبّع فی أخبار السیرة بعد ابن إسحاق ، وانهمک محدّثون وأخباریّون کُثر فی جمع هذه الأخبار ، ولم یبق منها إلاّ کتابات عدد من مشهوریهم .

وترجم شرف الدین محمّد بن عبد اللّه بن عمر سیرة ابن إسحاق إلی الفارسیّة ولخّصها فی القرن السابع . وتولّی أصغر مهدوی ومهدی ق-مّیّ نجاد طبعها تحت عنوان سیرت رسول اللّه بعد أن صدّراها بمقدّمة مفصّلة حول کتابة السیرة بعامّة ، وسیرة ابن إسحاق بخاصّة(1) . وصدرت ترجمة أخری لها حملت نفس العنوان ، وصاحبها رفیع الدین إسحاق بن محمّد الهمدانیّ أحد علماء القرن السابع(2) .

وکان لابن إسحاق کتاب آخر فی أخبار الخلفاء وهو صغیر ، وبقیت منه بعض المنقولات(3) . ومن الحریّ بالذکر أنّ خلیفة بن الخیّاط أخذ أخبار الردّة والفتوحات من ابن إسحاق فی کتابه أخبار الخلفاء(4) .

ص: 91


1- طهران ، شرکت انتشارات علمی و فرهنگی [ شرکة الإصدارات العلمیّة والثّقافیّة ] ، 1410 ه .
2- طهران ، نشر مرکز [ إصدار مرکز ] ، 1415 ه .
3- تاریخ التّراث العربیّ ، التدوین التاریخیّ : 90 . انظر بشأن ابن إسحاق : الطّبقات الکبری 7 : 321 ، 322 ؛ المغازی الأولی ومؤلِّفوها : 84 ؛ بزم آورد : 81 - 107 .
4- طبع شخص یدعی N.Abbott قسما من تاریخ الخلفاء لابن إسحاق . وفیما یأتی مواصفاته : N. Abbott, Studies in Arabic Literary Papyrii. I. Historical texts, chicago U.P. 1957. pp. 80-100.

أبان بن عثمان البجلیّ (م ح 170)

تذکره معظم المراجع باسم أبان بن عثمان الأحمر البجلیّ . وجاء فی المصادر الشیعیّة أنّه کان من موالی قبیلة بجیلة التی عُدّت من القبائل القحطانیّة ، ولها میول شیعیّة أیضا . وسمّته بعض المصادر أبان الأعرج(1) . ویلزم لفت النظر إلی وجود رجل آخر غیر أبان بن عثمان الأحمر ، واسمه أبان بن عثمان بن عفّان ، وهو نجل الخلیفة الثالث . وبالتغاضی عن السنین التی حکم فیها المدینة ، فقد زُعم أنّ له دورا فی أخبار السیرة النبویّة أیضا . وأدّی التشابه فی الاسم إلی إیهام البعض بجعل ابن عثمان بن عفّان مکان أبان الإمامیّ المذهب . ومن هؤلاء فؤاد سزگین الذی ذکر أبان بن عثمان بن عفّان فی کلامه عن کتّاب السیرة فی العصر الأوّل وذهب إلی وجود أخبار منقولة عنه فی تاریخ الیعقوبیّ(2) ، فی حین أنّ المنقول عنه فی تاریخ الیعقوبیّ هو أبان بن عثمان الأحمر . وسبب ذلک أیضا هو ما نصّ علیه الیعقوبیّ نفسه أنّه راوٍ أخبارَ الإمام الصادق علیه السلام . ومن الطبیعیّ أنّ عُمْرَ ابنِ الخلیفة الثالث الذی کان مع عائشة فی حرب الجمل لا یقتضی أن یکون راویا لأخبار الإمام الصادق علیه السلام . ویضاف إلیه أنّ نظرةً علی کتب الحدیث الشیعیّة ومعرفة یسیرة لأحادیث أبان تدلاّن علی أنّ هذا الخطأ خبط وخلط فی غایة الفداحة .

وأبان هذا من أصحاب الإجماع الذین «أجمعت العصابة علی تصحیح ما یصحّ عنهم» ، ولا یلیق الشکّ فی صحّة ما نُسب إلیهم . وهذا أفضل دلیل علی الدرجة العلمیّة الرفیعة لأبان بن عثمان وتوثیقه .

وکان أبان من أصحاب الإمام الصادق علیه السلام ، ونقل عنه عددا کبیرا من الأحادیث بلا واسطة . مع هذا تلمذ لبعض الأعاظم من أصحاب الإمامین الباقر والصادق علیهماالسلام ،

ص: 92


1- انظر : طبقات فحول الشعراء 2 : 482 .
2- تاریخ التّراث العربیّ ، التدوین التاریخیّ : 70 .

ونقل عنهم أحادیث لا تحصی لهما . وربّما یعود هذا إلی أنّه کان من الشباب بین أصحاب الإمام الصادق علیه السلام .

ولأبان کتابان أحدهما فی السیرة ، وسنواصل الحدیث عنه ؛ والآخر هو «الأصل» الذی ذکره الشیخ مجملاً ، وفیه أحادیث فقهیّة واعتقادیّة کثیرة اشتملت علیها کتب الحدیث عن ذلک الطریق أو بواسطة التلامیذ . هذا ما عدا العدد الکبیر من التلامذة الذین ربّاهم .

وأهمّهم ابن أبی عمیر الذی کان أبان من علیة مشایخه . ومن رواته : محمّد بن زیاد البیاع ، ومحمّد بن زیاد الأزدیّ ، وحمّاد بن عیسی ، والحسن بن علیّ بن فضّال ، وأحمد ابن محمّد بن أبی نصر البزنطیّ ، وعلیّ بن مهزیار ، ومحمّد بن الولید الصیرفیّ ، وعبداللّه ابن حمّاد الأنصاریّ ، والحسن بن علیّ الوشّاء ، ومحمّد خالد البرقیّ ، والحسن بن محبوب ، ویونس بن عبد الرحمن ، وابراهیم بن أبی البلاد ، وفضالة بن أیّوب الأزدیّ ، ومحمّد بن سنان ، وعلیّ بن الحکم . وکان أبان عالما بأخبار الشعراء ، وأیّام العرب ، والأنساب مضافا إلی الفقه والکلام الشیعیَّین . وعُرف عنه تخصّصه فی السیرة النبویّة

بالنظر إلی قابلیّته العلمیّة هذه . وکان یصطلح علی أولئک الرجال یومئذٍ الأخباریّون . ولأبان فی هذا المجال أیضا تلامذة لامعون مشهورون .

وذکر الشیخ الطوسیّ والنجاشیّ أنّ أبانا عاش فی البصرة مدّةً ، وفی الکوفة أُخری . فسمع رجال مثل أبی عبیدة معمر بن المثنّی ومحمّد بن سلام الجمحیّ «أخبار الشعراء والنسب والأیّام» منه فی البصرة . وکتب العلاّمة التستریّ : (هذا وأبو عبد اللّه محمّد بن سلام الذی قال فی الفهرست والنجاشیّ : «أخذ عن أبان هذا» لم أعرفه ، والمعروف أبو عبید قاسم بن سلام ، ویأتی فی محلّه محمّد بن سلام لکنّه متأخّر . فقال الحمویّ فی ذاک : «مات سنة 232 فیشکل أن یأخذ عن هذا الذی من أصحاب الصادق علیه السلام) .

ص: 93

ولا بدّ أن نقول بصراحة : إنّ تلمذة محمّد بن سلام وأبی عبیدة معمر بن المثنّی لأبان ، وهما من الوجوه الأدبیّة البارزة فی القرن الثانی والثالث الهجریّین ، تدلّ علی مکانته المرموقة آنذاک . ومن هنا ینبغی ألاّ نعدّه محدِّثا للأخبار الفقهیّة فحسب ، بل کان عالما متمیّزا ، وأدیبا مکینا ، ومؤرِّخا ملمّا بأخبار العرب وأیّامها .

ونظرا إلی ما وصل إلینا من أخبار السیرة عن أبان ، نقول : کان کتابه منذ البدایة فی متناول رجال من المحدِّثین والأخباریّین ، بمعنی المؤرّخین ، وإن کان - ککثیر من مصنّفات الشیعة - قلّ ذکره فی کتب المتقدّمین بسبب الإفادة المحدودة منها ، حتّی إنّ ابن الندیم - فی القسم الباقی - لا اسما لکتاب مغازیه ذَکَرَ ، ولا عن شخصه تَحَدَّثَ . بید أنّ الشیخ الطوسیّ فی کتابه الفهرست الذی عمد فیه إلی التعریف بمصنّفات الإمامیّة ذکر کتابه ، ولم یعرف له غیره مع نصّه علی وجود أصل له . ولفظه بشأن کتابه کما یأتی :

(وما عُرف من مصنّفاته إلاّ کتابه الذی یجمع «المبدأ والمبعث والمغازی والوفاة والسقیفة والردّة») . وکان هذا الکتاب فی الأصل أقساما یُذکَر کلٌّ منها تحت عنوان «کتاب» ، لکن کلّها کتاب واحد کما نصّ الشیخ . وعرض الشیخ أسانیده المتعدّدة إلی هذا الکتاب وأضاف قائلاً : «وهناک نسخة أخری أنقص منها رواه القمّیّون»(1) . وسنلحظ أنّ هذا الکتاب کان فی متناول علیّ بن إبراهیم القمّیّ ، ونقل منه فی تفسیره غیر مرّة .

وکان النجاشیّ عارفا بالکتاب أیضا . وقال فیه : «له کتاب حسن کبیر یجمع المبتدأ والمغازی والوفاة والردّة»(2) .

ص: 94


1- الفهرست : 18 ، 19 .
2- رجال النجاشیّ : 13 .

وکرّر یاقوت اللفظ نفسه بشأن الکتاب ، ولم یُشر إلی أنّه رآه أو لم یره(1) .

وکان الشیخ الطبرسیّ هو الشخص الوحید الذی أفاد من کتاب أبان مفصّلاً وصرّح بذلک أیضا . أمّا الذین أفادوا من الکتاب سواه ، فقد اکتفوا بإسناد الروایة إلیه عن طریق مشایخه ، ولم یذکروا الکتاب نفسه . وصرّح أحمد بن محمّد بن واضح الیعقوبیّ وهو أحد المؤرّخین فی العصر الأوّل لتدوین التاریخ العامّ أنّه أفاد من کتاب أبان . وکان فی عداد المؤرّخین الذین لم یعرضوا التاریخ بطابع حدیثیّ - أی : بشکل مسند - بل عرضه بجمیع أخباره خالیا من ذکر السند . مع هذا قدّم فهرسا عامّا لمصادره فی بدایة الجزء الثانی . ویُلحَظ اسم أبان فی تضاعیف فهرسته . «وکان من روینا عنه ما فی هذا الکتاب ... أبان بن عثمان عن جعفر بن محمّد علیه السلام» . وقلنا سابقا أنّ فؤاد سزگین ذکر استنادا إلی هذا الکلام أنّ لأبان بن عثمان بن عفّان کتابا فی السیرة أفاد منه الیعقوبیّ(2) ، فی حین أنّ أبان بن الخلیفة الثالث توفّی بین سنة 95 و105 ه ، فمثله لا یمکن أن ینقل عن جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام . وهذا الخطأ ارتکبه عبد العزیز الدوریّ أیضا(3) .

ونقل الیعقوبیّ فی مواضع من تاریخه عن الإمام الصادق علیه السلام ، لکن ینبغی الالتفات إلی أنّه صرّح فی فهرس مصادره أنّه نقل روایات عن جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام بواسطة أبی البَختریّ . وحینئذٍ لا یمکن أن یکون کلّ ما نقل فی هذا الکتاب عن الإمام الصادق علیه السلام هو بواسطة أبان . وفیما یأتی المواضع التی نقل فیها الیعقوبیّ عن الإمام الصادق علیه السلام بواسطة أبان أو أبی البختریّ :

1 - مطلب حول ولادة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی الثانی عشر من شهر رمضان (ج2 ،

ص7) .

ص: 95


1- معجم الأدباء 1 : 108 ، 109 .
2- تاریخ التّراث العربیّ ، التدوین التاریخیّ : 70 .
3- بحث فی نشأة علم التاریخ عند العرب : 20 ، 21 .

2 - خبر یذکر أنّ المدّة بین زواج عبد اللّه بآمنة وولادة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عشرة أشهر (ج2 ، ص9) .

3 - خبر یُبین أنّ أوّل مرّةٍ نزل فیها جبرئیل علیه السلام علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم کانت فی یوم الجمعة العشرین من شهر رمضان . لذلک اتّخذ المسلمون یوم الجمعة عیدا (ج2 ، ص22 ، 23) .

4 - خبر فیه أنّ معجزة کلّ رسول تناسب ما یشیع فی زمانه من أمور خاصّة ، وأنّ القرآن هو المعجزة بسبب انتشار السجع والخطابة وما شابههما إبّان المبعث النبویّ (ج2 ، ص35) .

5 - خبر حول نزول القرآن وانتظار رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم إلی أن نزلت آیة القتال وبدأت الحروب . (ج2 ، ص44) .

6 - خبر حول کلام جبرئیل علیه السلام ساعةَ دفن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، وأنّ الحاضرین کانوا یسمعون الصوت ولم یروا أحدا (ج2 ، ص114) .

واشتمل تاریخ الیعقوبیّ علی أخبار عدّة تُشبه تماما ما نُقل عن أبان فی المصادر الأُخری . ومثالها خبر بشأن خدیجة علیهاالسلام ، وهو مذکور فی أمالی الشیخ المفید أیضا (ص110) ، وأورده الیعقوبیّ فی ص35 من الجزء الأوّل من تاریخه . وأشرنا إلی أمثلة أُخری فی الهامش .

ونلحظ إلی جانب الأخبار الفقهیّة الوفیرة أنّ المصادر الحدیثیّة فی القرن الثالث والرابع نقلت أخبارا کثیرة عن السیرة النبویّة . وأهمّها الکافی للکلینیّ ، وتفسیر القمّیّ ، وکتب الشیخ الصدوق ، وبعض کتب الشیخ المفید . فقد نقل المرحوم الکلینیّ بخاصّة فی الروضة عددا من أحادیث أبان فی السیرة النبویّة . وفی أغلب الظنّ أنّ ما جاء فی الروضة وفی تفسیر القمّیّ أیضا تکرار لکتاب أبان ، خاصّةً أنّ الشیخ الطوسیّ أشار فی الفهرست إلی نسخة من الکتاب الذی «رواه القمّیّون» . ونقل الشیخ الصدوق

ص: 96

فی علل الشرائع والأمالی أحادیث کثیرة عن أبان ، یرتبط بعضها بتاریخ الأنبیاء ، وبعضها بسیرة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم .

ونقل الإمام أبو طالب یحیی بن الحسین بن هارون (321 - 340) الذی کان من أئمّة الزیدیّة فی دیار الدیلم وجیلان أخبارا عن أبان فی مواضع عدّة من أمالیه المسمّی تیسیر المطالب . وسند هذه الأخبار حتّی أبان علی وتیرة واحدة : «أخبرنی أبی ، قال : أخبرنا محمّد بن الحسن بن الولید ، قال : حدّثنا محمّد بن الحسن الصفّار ، عن محمّد بن الحسین بن أبی الخطّاب ، قال : حدّثنا جعفر بن بشیر البجلیّ ، عن أبان ابن عثمان» . ویمکن أن یکون هذا الاشتراک فی السند فی النقل عن أبان إشارةً إلی الاستهداء بکتابه .

وأورد الشیخ المفید الذی یرد اسمه کأوّل شخص فی أوّل طریق من طرق الشیخ الطوسیّ إلی کتاب أبان أخبارا عن أبان أیضا .

وکان المرحوم الطبرسیّ الشخص الوحید الذی نصّ علی أنّه ینقل عن کتاب أبان ، وذلک فی کتابه إعلام الوری علما أنّه حفظ لنا مقدارا کبیرا منه . ونقل أقساما منه فی فصل مغازیه بألفاظ نحو «وفی کتاب أبان» أو «قال أبان» . وفی بعض المواضع یواصل کلامه إلی عدّة صفحات ، وهو من کتاب أبان لا محالة لأنّه ینقل مصادر موضوعاته فی أغلب الموارد .

ومن المحتمل أنّه أفاد منه فی تفسیره مجمع البیان أیضا ، لکنّ مواضع الإفادة غیر معلومة فیه إذ یکتفی هناک بذکر اسم المعصوم معرضا عن نقل السند .

وکان کتاب إعلام الوری عند ابن شهرآشوب الذی نقل عن کتاب أبان أیضا بواسطته ، ونلحظ بین الأحادیث التی نقلها ابن شهرآشوب عن أبان حدیثا واحدا حول ولادة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لم یرد فی إعلام الوری ، لکنّ مصدره فی سائر المواضع هو هذا الکتاب نفسه وإن لم یُشر فی کلامه إلیه . وممّا یدلّ علی ذلک أنّه فی الوقت

ص: 97

الذی ینقل الموضوعات التی نقلها الطبرسیّ عن أبان ، یذکر معها فی مناقبه الموضوعات التی قبلها وبعدها ، عن ابن إسحاق وغیره .

وأفاد الراوندیّ فی القسم المتعلّق بالمغازی من کتابه قصص الأنبیاء من کتاب إعلام الوری أیضا ، بید أنّه لا إلیه أشار ولا أبانا ذکر . وإنّما التشابه فی الألفاظ یُثبت هذا الأمر .

ولم یرد فی مصادر أهل السنّة إلاّ خبر واحد عن أبان فی السیرة . وهو خبر مفصّل یدور حول «عرض رسول اللّه نفسه علی قبائل العرب» . ونقل أبو نعیم الإصفهانیّ والبیهقیّ سندین له : أحدهما عن أبان بن عبد اللّه البجلیّ عن أبان بن تغلب عن عکرمة عن ابن عبّاس عن علیّ بن أبی طالب . والآخر عن أبان بن عثمان بن أبان بن تغلب ... الخ .

وکان کتاب المبتدأ هو القسم الأوّل من کتاب أبان . وهذا العنوان مأخوذ من «البدء والبدی ءُ : الأُوَل» بمعنی أخبار الأوائل أو المتقدّمین . والمصداق الخاصّ لأخبار الأوائل هو أخبار الأنبیاء من عصر آدم علیه السلام فما تلاه . وکان المؤرّخون المسلمون یبدأون تاریخ الإنسان منذ ذلک الزمن . وهذا أمر کان متأثّرا بالتوراة وبالقرآن نفسه . ولوهب بن منبّه الیهودیّ الأصل الذی أسلم کتب ذات عناوین مختلفة مثل کتاب المبتدأ أو کتاب المبدأ أو کتاب المبتدأ والسیرة أو مبتدأ الخلق ، وأفاد منها الثعلبیّ فی تفسیره ، ثمّ حوی تاریخ الطبریّ ومصادر أُخری أشیاء منها أیضا . وذکر ابن إسحاق کتاب المبتدأ فی بدایة سیرته ، وحذف ابن هشام ذلک القسم فی تهذیبه . ونلحظ مثل هذه الأقسام فی التواریخ العامّة کتاریخ الیعقوبیّ ، وتاریخ الطبریّ . ونُقلت فی هذه الأقسام أخبار عن أهل الکتاب عادةً ، وهی من الأقسام التی تُدسّ فیها إسرائیلیّات کثیرة علی قول الیهود أو المصادر الیهودیّة . وذکر ابن الندیم عددا من الکتب بهذا

ص: 98

العنوان(1) . وأشرنا من قبل أنّ القسم الأوّل من کتاب أبان کان یُسمّی «کتاب المبتدأ» أیضا . ویمکن أن یشتمل عنوان الکتاب علی کتاب مستقلّ ، ویمکن أن یکون قسما من کتاب ، وإن کانت الأبواب الفقهیّة لأیّ کتاب تُعیَّن من خلال عنوان الکتاب .

وکان أبان قد أعدّ أخبار هذا القسم مستهدیا بروایات الأئمّة علیهم السلام وبالمصادر الأُخری أیضا . لذلک لا یمکن الرکون إلی کلّ ما نقله . ولم نذکر فی هذه المجموعة أخبار «کتاب المبتدأ» . ذلک أنّ بالغ همّنا واهتمامنا هو السیرة النبویّة . ویضاف إلیه أنّنا نشعر بأنّ نقل أخباره بلا نقدٍ وتمحیص عمل غیر مستساغ . وفی الوقت نفسه عمدنا إلی تقدیم فهرس لهذه الأخبار الواردة فی مختلف المصادر نقلاً عن أبان .

ومن الحریّ بالذکر أنّ بین المصادر اللاحقة کتابین هما علل الشرائع وقصص الأنبیاء للراوندیّ اختصّا بأکثر النقل من هذا الکتاب . ونلحظ بین الإرجاعات التالیة أخبارا ربّما أُخذ أحدها من الآخر . بخاصّة أنّ هذا الموضوع یصدق علی بحارالأنوار إذ ذکر أخبار قصص الأنبیاء جمیعها تقریبا . ووردت مطالب أُخری من کتاب المبتدأ فی تفسیر القمّیّ ، وتفسیر العیّاشیّ ، وبعض مصنَّفات الشیخ الصدوق(2) .

ومن المؤسف أنّ سیرة أبان لیست بأیدینا ، حتّی نتحدّث عن کیفیّة تدوینه لها . وفی حدود اطّلاعنا أنّه کان ینقل أخبار السیرة مُسنَدةً متأثّرا بمدرسة الحدیث . والدلیل علی ذلک هو الأقسام الباقیة منها ، ویمثّل کلّ قسم خبرا مستقلاًّ .

وحاول أبان بوصفه محدِّثا شیعیّا أن یدوّن سیرةً تتوکّأ علی أخبار الأئمّة المعصومین . لذلک نلحظ أنّ معظم أخباره منقولة عن الإمام الصادق علیه السلام مباشرةً أو بواسطة بعض أصحابه ، وتصل إلی الإمام الصادق أو الإمام الباقر علیهماالسلام . مع هذا نقل

ص: 99


1- الفهرست : 92 ، 106 ، 122 .
2- ذکرنا فهرس هذه الموارد فی مقدّمة کتاب المغازی .

بعض الأحادیث عن طرق عادیّة أیضا لإتمام کتابه . علی سبیل المثال ، نقل عن أبان ابن تغلب عن عکرمة عن عبد اللّه بن عبّاس فی مواضع مختلفة . وقد تأتی روایته مرسَلةً فی بعض المواطن حتّی لم یُذکَر فیها اسم المعصوم . فمن المحتمَل أنّه نقل خبرا عن غیر الأئمّة المعصومین فی مثل هذه الحالات .

ولمّا کان الطبرسیّ قد نقل قسما کبیرا من هذه السیرة فی کتابه إعلام الوری ولم یذکر سندا لأخباره ، فلا یتسنّی لنا أن نقدّم تحلیلاً مفصّلاً لأسناد أبان فی هذا الکتاب . مع هذا یمکن أن نقف علی رصانة الکتاب ممّا بقی منه ، وبنقله عن ثقات کزُرارة ، وأبی بصیر ، ومحمّد بن مسلم ، وأبان بن تغلب وأمثالهم .

وبالنظر إلی أنّ جمیع کتب السیرة المستقلّة التی صنّفها الشیعة قد ضاعت یا للأسف ، فإنّنا نستطیع أن نعدّ هذا الحجم من الصیاغة الجدیدة لسیرة أبان خطوةً علی طریق معرفة آراء الشیعة فی السیرة النبویّة من جدید . وبذلتُ جهدی فی إعداد المتن المذکور ، وتولّت إصدارات مکتب الإعلام الإسلامی فی قمّ طبعه .

محمّد بن عمر الواقدیّ (130 - 207)

کان محمّد بن عمر الواقدیّ من المؤرّخین فی العقود الأخیرة من القرن الثانی ، وتخصّص فی المغازی والفتوحات . وأمضی فترة تعلّمه فی المدینة ، لکنّه رحل إلی بغداد سنة 180 ه ، ومرکزیّة بغداد کانت الباعث الرئیس فی استقطاب مثل هذه الوجوه المشهورة إلیها . وذکر ابن سعد أنّه کان من أهل المدینة ، وقدم بغداد سنة 180 ه . ثمّ ذهب إلی الشام والرقّة ، ورجع إلی بغداد مرّةً أُخری ، وفیها نصبه المأمون

قاضیا للعسکر بعد مغادرته خراسان إلی بغداد . وظلّ قاضیا حتّی مات لیلة الثلاثاء

ص: 100

الحادی عشر من ذی الحجّة سنة 207 ه(1) .

وطعن علیه أهل الحدیث لتمسّکه بالأسالیب التاریخیّة ، بخاصّة أنّ أصابع الانتقاد مُدّت إلیه لتداخل أسناد أخباره وإعداده متنا واحدا من عدّة أسانید . وذهب ابن عدیّ إلی أنّ متون أخباره غیر مضبوطة ، وضعفها واضح(2) . ومن الطبیعیّ أنّ نهجه یتفاوت ونهج المحدّثین(3) . ویری یاقوت أنّه موثّق فی تاریخ الناس والسیرة والفقه والفنون الأخری بالإجماع(4) ! وکتب الذهبیّ أنّه ضعیف لکنّ الحاجة إلیه فی المغازی والتاریخ بیّنة . ونحن نذکر مصنّفاته ولا نستدلّ بها !(5) وتحدّث ابن سیّد الناس وابن کثیر عنه بنبرةٍ دفاعیّة(6) . ونلحظ بین علماء الشیعة أنّ الشیخ المفید ذهب إلی أنّه کان یمیل إلی عثمان ، کما کان فیه بعض الرغبة إلی أمیرالمؤمنین علیه السلام(7) .

وقیل إنّه کان من أعلم الناس بأخبار العصر الإسلامیّ ولم یعلم شیئا عن الجاهلیّة(8) . وکتابه المهمّ الباقی هو المغازی الذی یدلّ علی سعة عمله وتتبّعه الکثیر الأحادیثَ من الهجرة حتّی الوفاة . ومقایسته بسیرة ابن إسحاق تُبینُ جلالة کتابه جیّدا حتّی إنّه یترجّح علی سیرة ابن إسحاق کثیرا فی عرض التفاصیل والحوادث الکبیرة والصغیرة . وشرع الواقدیّ یحقّق فی مغازی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم مستعینا بجمیع المصادر الشفویّة والتحریریّة ، وأکمل معلوماته بذهابه إلی المناطق التی جری فیها القتال ، وأخذه الأخبار من نسّابی القبائل . ونُقل أنّ شخصا رآه یحمل إناء ماء وهو

ص: 101


1- الطّبقات الکبری 7 : 335 .
2- الکامل فی ضعفاء الرجال 6 : 243 .
3- انظر : مقدّمة حمد الجاسر علی المناسک للحربیّ : 100 .
4- معجم الأدباء 18 : 279 .
5- انظر : تهذیب الکمال 26 : 194 .
6- عیون الأثر 1 : 26 ؛ البدایة والنّهایة 3 : 224 .
7- قاموس الرجال 8 : 325 .
8- تاریخ بغداد 3 : 9 .

یرید السفر . فسأله عن مقصده . فأجاب : حُنین لیری عن قُرب المنطقة التی جرت فیها غزوة حنین(1) .

وتدلّ بعض أسناد المغازی علی أنّ الواقدیّ أفاد من المصادر المتداولة ، کما یُحتَمل أنّه أفاد من المصادر المدوَّنة أیضا کالذی نقله عن الزهریّ . لکنّه أفاد من معلومات عائلیّة فی بعض المواضع کقوله : «حدّثنی محمّد بن الحسن بن أُسامة بن زید عن بعض أهله ...» ولابدّ أن یکون أخذ هذا الخبر من أعقاب أُسامة بن زید . ومثله لا یُستبعَد من الحیاة القبلیّة للعرب ، إذ إنّ سنّة تدوینهم تاریخَ الجاهلیّة کانت تتمثّل فی حفظ أخبار الأجداد بین الأجیال اللاحقة . والشیء العجاب هو أنّ الواقدیّ لم ینقل شیئا عن ابن إسحاق فی قسم المغازی مع أنّه أخذ علمه من المدینة وقدم العراق أیضا(2) . فهل یمکن أن یکون أفاد منه ولم یذکر اسمه لطعن أهل الحدیث علیه ؟

ویضاف إلی ذلک أنّ النواة الأصلیّة لکتاب الطبقات الکبری الذی صنّفه ابن سعد هی فی الحقیقة للواقدیّ ، وإن کان له کتاب أیضا باسم الطبقات(3) الذی أدرجه ابن سعد فی کتابه . ونلحظ فی جزء واحد متمّم للطبقات الکبری أنّ ابن سعد نقل عن الواقدیّ مئةً وثلاثا وأربعین مرّةً ممّا یدلّ علی أنّه أورد قسما کبیرا من طبقات الواقدیّ - وربّما أورده کلّه - فی طبقاته . وأخذ الطبریّ قسما مهمّا من معلوماته عن الواقدیّ . وورد اسم الواقدیّ فی تاریخ الطبریّ (387) مرّةً ، وهذا معلَم علی سعة إفادة الطبریّ منه ، علما أنّ قسما من معلوماته نُقل عن ابن سعد ، لکنّه ذکر بعض المطالب بقوله : «قال الواقدیّ» وبلا إشارةٍ إلی طریق خاصّ .

وذهب ابن الندیم إلی أنّ الواقدیّ کان شیعیّا ، وکان یستعمل التقیّة ، وعقیدته أنّ

ص: 102


1- انظر : مقدّمة کتاب الردّة .
2- نشأة علم التاریخ عند العرب : 31 .
3- انظر : معجم الأدباء 18 : 282 .

علیّا

علیه السلام معجزة النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم(1) . ولم یحتمل غیره ذلک . ولا یُعلَم کیف نسب ابن الندیم هذه العقیدة إلیه وموقفه فی قبول الآراء السنّیّة واضح لا غبار علیه ؟

وعُدَّ ابنُ سعد کاتبه ، وهو الذی وصفه بأنّه عالم بالمغازی ، والسیر ، والفتوح ، واختلاف الناس فی الحدیث والأحکام(2) . وکان له کتاب فی موقعة الجمل ، نقل الشریف الرضیّ عنه إحدی خطب الإمام أمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام(3) . ووردت فقرات کثیرة منه فی کتاب الجمل للشیخ المفید(4) .

ونُسب إلیه کتاب عنوانه فتوح الشام (طبعته دار الجیل فی جزءین ببیروت وعلیه اسم أبی عبد اللّه بن عمر الواقدیّ !) ومعظمه حماسیّ ، وأکثر مطالبه فاقدة للسند ، بل أسناده غیر مألوفة ، لذا شُکَّ فی نسبته إلی الواقدیّ . وذهب بروکلمان إلی أنّ البعض نسب إلیه فی أیّام الحروب الصلیبیّة کتبا فی الفتوح کانت قد کتبت بأُسلوب حماسیّ لیطمئنّ إلیها الناس(5) .

وطُبع له أخیرا کتاب آخر بعنوان کتاب الردّة یُشبه کثیرا ما جاء فی فتوح ابن الأعثم بشأن الردّة . ویمکن أن یدلّ هذا علی ابن الأعثم نقل حوادث الردّة عن کتاب الواقدیّ . مع هذا إنّ نظرةً علی السند الأوّل للکتاب ، وکذلک الوضع العامّ الذی یتّسم به ، ومقایسته بأسلوب الواقدیّ فی المغازی ، کلّ أولئک یولّد الشکّ فی صحّة انتسابه إلی الواقدیّ . وحینئذٍ یمکن أن یکون شخص قد رأی قسما من فتوح ابن الأعثم فی مکانٍ ما ونسبه إلی الواقدیّ !

ص: 103


1- الفهرست : 111 ؛ المغازی الأولی ومؤلّفوها : 124 ، 126 .
2- الطّبقات الکبری 5 : 422 .
3- نهج البلاغة : الخطبة 231 .
4- انظر : الجمل للشیخ المفید ، تصحیح سیّد علی میر شریفی فهرست أعلام : 574 . وأشار الشیخ فی ص131 إلی کتاب صنّفه الواقدیّ فی «حرب البصرة» .
5- انظر : تاریخ الأدب العربیّ 3 : 422 .

ومرّ بنا أنّ الواقدیّ عمل قاضیا فی الحکومة العبّاسیّة فحصل بسبب ذلک علی امتیازاتٍ خاصّة نوعا ما(1) . وعدّته بعض المصادر من موالی العبّاسیّین(2) ، وبعضها من موالی بنی سهم . وذهب ابن سعد إلی أنّه کان من موالی عبد اللّه بن بریدة الأسلمیّ(3) .

محمّد بن سعد (168 - 230)

محمّد بن سعد بن منیع الزُهریّ البصریّ المشهور بکاتب الواقدیّ من الموالی(4) . أصله من البصرة ، ثمّ قدم بغداد بعد فترة قصیرة ، وشرع یتعلّم مع الواقدیّ بوصفه کاتبا له . وطعن علیه أصحاب الحدیث نوعا ما کسائر المؤرّخین ، فی حین کان سنّیّا متعصّبا کما یبدو من طبقاته بوضوح . کذّبه یحیی بن معین وأحمد بن حنبل ، فی وقت عدّه ابن الندیم ، وأبو حاتم ، والخطیب ، والذهبیّ ، وابن حجر صدوقا . وکان من العلماء البارزین فی العقود الثلاثة الأُولی من القرن الثالث . ولمّا طلب المأمون من العلماء جمیعا أن یقرّوا بخلق القرآن عام 218 ه ، دُعی ابن سعد إلی الرقّة مع سبعةٍ آخرین فأقرّ بذلک مع من أقرّوا(5) .

ص: 104


1- الطّبقات الکبری 5 : 426 ، 427 . وعُدَّ وصیّا للمأمون ، الطّبقات الکبری 5 : 428 .
2- وفیات الأعیان 3 : 473 .
3- الطّبقات الکبری 7 : 334 .
4- أصدرت دار الغرب کتابا صغیرا بعنوان ابن سعد وطبقاته لعزّ الدین عمر موسی عام 1407 ه .
5- وهم أبو مسلم المستملیّ یزید بن هارون ، ویحیی بن معین ، وزهیر بن حرب ، وإسماعیل بن داود ، وإسماعیل أبی مسعود ، وأبو إسحاق کاتب الواقدیّ ، وأحمد بن الدورقیّ . انظر : تاریخ الطبریّ 8 : 434 ؛ الکامل 6 : 423 ؛ البدایة والنّهایة 10 : 272 ؛ ومقدّمة السلمیّ علی الطبقات الکبری ، الطبعة الخامسة : 27 . ومن الملاحظات الطریفة فی هذه المقدّمة أنّ صاحبها حمل عملهم علی التقیّة مستندا إلی الآیة 28 من آل عمران ، وهو من خرّیجی السعودیّة !!

وأشهر عمله هو کتابه الطبقات الکبری الذی عدّه حاجی خلیفة أکبر مصنَّفٍ فی طبقات الرواة(1) . وقدّم هذا الکتاب لأوّل مرّة معلومات جامعة واسعة عن الصحابة والتابعین والعلماء حتّی زمانه(2) . وعدد مشایخه فی الطبقات قرابة مئتین وخمسین ، ذکر منهم السلیمیّ فی قسم الطبقة الخامسة تسعةً وتسعین مع ترجمة موجزة لهم(3) . ووصل إلینا کتاب ابن سعد بواسطة تلمیذَیه الحارث بن محمّد بن أبی أُسامة (م282) ، والحسین بن محمّد بن فهم (289) . وموضوعاته جدیرة بالاهتمام کثیرا ، وفذّة فریدة فی مواضع جمّة . ونلحظ فیه أنّه یبدأ کلامه بمعلومات عن نسب المترجَم له ، فهو فی غایة الغُنم . ثمّ یتحدّث عن بِزّته وقدّه وزِیّه . وقلّما نجد مثل هذه المعلومات فی المصادر الأُخری . وفی الحقیقة لابدّ أن نقول إنّه یضمّ أقدم معلومات شمائلیّة عن النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم والصحابة والتابعین قیاسا بالمصنَّفات الموجودة(4) .

واختار ابن سعد أُسلوبا خاصّا فی تراجم الصحابة والتابعین ، وذلک فی ما عدا الجزءین الأوّلین اللذین وقفهما علی سیرة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم . وجعل فی أوّل وهلة قسما للرجال ، وآخر للنساء . والجزء الأخیر من الکتاب فی النساء . وأجزاؤه الأُولی فی الصحابة إذ قسمهم خمس طبقات ، وأساسه فی التقسیم تقدّمهم فی الإیمان ، وفضلهم وشرفهم فی الإسلام . وأوّل طبقة هم البدریّون الذین بدأهم بقُربی النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم (بنی هاشم) ، ثمّ واصل کلامه عن الآخرین منهم . وذکر أصلاء کلّ أُسرةٍ فی البدایة ثمّ لحقهم بحلفائهم وموالیهم . وبعد فراغه من المهاجرین البدریّین تحدّث عن الأنصار ، فبدأ بالأوس ثمّ الخزرج . والطبقة الثانیة من الصحابة هم قداماهم الذین لم یشهدوا بدرا ، وفیهم مهاجرو الحبشة . والطبقة الثالثة منهم هم الذین شهدوا الخندق إلی

ص: 105


1- کشف الظنون 2 : 1099 .
2- تاریخ الأدب العربیّ 3 : 320 .
3- الطّبقات الکبری ، الطبقة الخامسة : 32 - 54 .
4- نشأة علم التاریخ عند العرب : 32 .

مسلمة الفتح الذین یمثّلون الطبقة الرابعة . والطبقة الخامسة هم الذین کانوا صغارا إبّان وفاة النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ولم یشهدوا حربا من الحروب(1) .

وکان ابن سعد حدیثیّ الأُسلوب ، فجاءت أخباره مسندةً . وبلغت طبقاته فی معلوماتها الاجتماعیّة والفردیّة من الأهمیّة مبلغا أنّنا لا نستطیع أن نُلمّ بالقرن الأوّل والثانی الهجریّین بدونها . ویضاف إلی ذلک کلّه أنّ الکتاب المذکور عظیم الفائدة فی محتواه لاشتماله علی معلومات حول المدن المختلفة وحضور الصحابة والتابعین فیها وکذلک هجرة بعض القبائل إلی شتّی المدن . وعلینا أن نعدّه کتابا رجالیّا أیضا بمعناه المصطلح ، لأنّه توفّر فی تراجمه علی مدح العلماء والمحدّثین أو ذمّهم ، وتوثیقهم أو تضعیفهم .

وازدان القسم الأوّل من الکتاب بسیرة النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وعنوانه «أخبار النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم» وکان منفصلاً عن أصل الکتاب ثمّ ألحقه أحمد بن معروف الخشّاب به(2) . وتحدّث ابن سعد عن الأنبیاء السابقین وتاریخ حیاتهم بإیجاز ، ثمّ سرعان ما بلغ التاریخ الإسلامیّ الذی تناول فیه بعض القضایا بنحو ملخّص ، ولیس فیه تفصیل ابن إسحاق أو الواقدیّ .

وذهب ابن الندیم إلی أنّ طبقاته مأخوذة من مصنَّفات الواقدیّ ، والکلبیّ ، وهیثم ابن عدیّ ، والمدائنیّ . وتدلّ نظرة فی أسناد الکتاب علی أنّ للواقدیّ قسطا کبیرا فیه . فهو یذکر اسمه فیه بین تارةٍ وأخری . وانصرف إلی التصنیف کأُستاذه ، وذلک فی الجزءین الأوّلین ، وفی الطبقات علی حدٍّ سواء ، إذ کان للواقدیّ کتاب فی المغازی وفی الطبقات معا . وقیل إنّ 80% من أخبار الجزءین الأوّلین منقولة عن الواقدیّ(3) .

ص: 106


1- الطّبقات الکبری ، الطبقة الخامسة : 64 .
2- المغازی الأُولی ومؤلّفوها : 127 .
3- إسهامات مؤرّخی البصرة فی الکتابة التاریخیّة : 55 بغداد ، 1990 .

وذهب السلیمیّ إلی أنّ حصّة الواقدیّ فی الطبقة الخامسة 26% . وشیخه التالی هو الفضل بن دکین الذی نقل عنه 10% من أخباره(1) .

وأفاد ابن سعد أیضا من مصنَّفات موسی بن عقبة ، وأبی معشر عبدالرحمن بن نُجیح (م 170) ، والولید بن مسلم الأمویّ (م 195) ، والفضل بن دکین فی السیرة(2) .

وکان مقیّدا بذکر أسناد أخباره . وروعی هذا الموضوع حتّی فی الجزئیّات التی تتناول وصف الخصائص الشخصیّة للناس ، وإن کان «تداخل الأسناد» ملحوظا فیه أیضا . وعدّه الذهبیّ صادقا نقلاً عن أبی حاتم ، وأراد - نقلاً عن الخطیب - أن ینسب ما قذفه به یحیی بن المعین من الکذب إلی الواقدیّ ، وفی جمیع الأحوال ذکر بأنّه یوثق به(3) . وله کتاب آخر تحت عنوان طبقات الصغیر .

وطُبع کتاب الطبقات الکبری لأوّل مرّة بلیدن فی تسعة مجلّدات . ورُتِّب المجلّد الأوّل ، والثانی ، والثالث ، والرابع ، والسابع ، والتاسع کلٌّ منها فی جزءین . ثمّ طبعته دار صادر ببیروت مصدَّرا بمقدّمة إحسان عبّاس ، ولا یختلف عن طبعة لیون فی المقدار المطبوع ووجود النقص . فکلتاهما ناقصة . وطُبع قسم منه سنة 1408 ه مشتملاً علی التابعین المدنیّین من ربع الطبقة الثالثة حتّی منتصف الطبقة السادسة(4) . ثمّ أورد الأستاذ المرحوم السیّد عبد العزیز الطباطبائیّ ترجمة الإمامین الحسن والحسین علیهماالسلام فی مجلّة «تراثنا» (العدد 10 و11) . وقدّمت دار الکتب العلمیّة ببیروت طبعةً جدیدةً للطبقات ، ویشتمل علی جزء متمّم أعدّه زیاد محمّد منصور . وطبع محمّد بن صامل السلیمیّ قسما آخر من القسم غیر المطبوع للطبقات عام 1414 ه ،

ص: 107


1- مقدّمة الطبقات الکبری ، الطبقة الخامسة : 33 .
2- انظر مثلاً : الطّبقات الکبری 4 : 129 . وأفاد خلیفة بن الخیّاط من سیرة أبی معشر أیضا ، انظر : مقدّمة تاریخ خلیفة بن الخیّاط : 18 .
3- تاریخ بغداد 5 : 321 ؛ میزان الاعتدال 3 : 560 .
4- المدینة ، مکتبة العلوم والحکم .

ویضمّ ترجمةً للطبقة الخامسة من الصحابة ، وذلک فی جزءین ، یحتوی الأوّل علی ترجمة أولاد العبّاس والحسنین علیهماالسلام ، ویتناول الآخر عبد اللّه بن الزبیر وعدّةً آخرین(1) . وذکر السلیمیّ أنّ صدیقه عبد العزیز السلومیّ حقّق قسم الطبقة الرابعة من الصحابة . وتولّی مهدوی دامغانی تفریسَ أربعة أجزاء من الطبقات . ونأمل أن تصدر الأجزاء الأخری بالفارسیّة أیضا .

أبو سعد الخرگوشیّ (م 407)

أبو سعد عبد الملک بن محمّد بن إبراهیم الخرگوشیّ الزاهد الواعظ المنسوب إلی محلّة خَرْگُوش فی نیسابور من العلماء والمحدّثین البارزین فی النصف الثانی من القرن الرابع . وأورد السمعانیّ ترجمته ومشایخه ، واکتفی بالإشارة إلی أنّ له مصنَّفات فی علوم الشریعة ودلائل النبوّة وسِیَر العبّاد والزهّاد ، انتشرت منها نُسَخٌ فی شتّی الأرجاء(2) . وکان من مشایخ البیهقیّ صاحب دلائل النبوّة .

والکتاب الذی بقی له یحمل عنوان شرف النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . وعُرف من متنه العربیّ نسخة ناقصة وأُخری ملخّصة . أمّا ترجمته الفارسیّة فقد اضطلع بها نجم الدین محمود الراوندیّ (کان علی قید الحیاة فی سنة 577 ، 585) فی نسخ مختلفة طبعها محمّد رُوشَنْ (طهران ، 1402 ه) تحت عنوان شرف النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وعدد صفحاته قرابة (730) مع فهارس متعدّدة . والعنوان الآخر لهذا الکتاب هو دلائل النبوّة . ونقل أمین الإسلام الطبرسیّ فی القرن السادس أخبارا عن کتاب شرف المصطفی .

ونُظِّم الکتاب فی سبعة وخمسین بابا . وهو یحتوی علی أخبار متعلّقة بمعجزات النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم والسیرة النبویّة . وتناول هذا الکتاب الذی یعدّ فی نظم کتب «الدلائل»

ص: 108


1- الطائف ، مکتبة الصدیق ، 1414 ه .
2- الأنساب 2 : 350 ، 351 .

نوعاً ما القضایا الخاصّة بالنبیّ صلی الله علیه و آله وسلم غالبا ، ثمّ تاریخ الإسلام فی عصره صلی الله علیه و آله وسلم ، وشمائله ، وأخلاقه ، ومطایباته ، وأسمائه ، وشرفه صلی الله علیه و آله وسلم فی القرآن . تلا ذلک حدیث عن نسبه ، وأقاربه ودلائل نبوّته صلی الله علیه و آله وسلم فی الکتب السابقة . وهی من المباحث التمهیدیّة فی الکتاب ، ثمّ استعرض الکتاب مباحث السیرة . وذکر المؤلّف سندا فی بدایة کلّ باب ، ویشتمل علی مطالب ذلک الفصل . وبین الأبواب روایات بلا سند ، وذکرت بلفظ «ذکروا» أو اکتفت بذکر اسم الراوی الصحابیّ کابن مسعود عن النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم .

البیهقیّ (384 - 458)

أبو بکر أحمد بن الحسین البیهقیّ من المحدّثین الکبار عند أهل السنّة . وهو مؤلّف کتاب دلائل النبوّة ومعرفة أحوال صاحب الشریعة . ولد فی منطقة من مناطق نیسابور تُدعی خسروگرد ، ونشأ فی بیهق . ویمکن أن نعدّ من أهمّ مشایخه الحاکم النیسابوریّ (321 - 405) ، وأبا سعد الخرگوشیّ (م 407) ، وأبا عبد الرحمن السلمیّ(1) . وأهمّ مصنَّف ترکه هو السنن الکبری . وله مصنَّفات کثیرة فی الحدیث أیضا .

وأشرنا فی موضع آخر إلی أنّ «تدوین الدلائل» کان من الاتّجاهات الخاصّة التی شاعت فی کتابة السیرة خلال القرن الرابع . وهذه المصنّفات ألّفها الأخباریّون فی الجواب عن الشبهات التی کانت مثارةً حول إثبات النبوّة . وأهمّها وأوسعها هو کتاب البیهقیّ المذکور .

وکتاب الدلائل هو کتاب حدیثیّ ومصادره فی الدرجة الأُولی هی کتب الحدیث کالکتب المعروفة بالصحاح . مع هذا أفاد من کتب المغازی أیضا . ومن المصنّفات التی أفاد منها کتاب المغازی لموسی بن عقبة ، ولم یصل إلینا منه إلاّ فقرات . ولم ترد فی

ص: 109


1- ذکر محقّق دلائل النبوّة عددا من مشایخه فی مقدّمة الکتاب ج1 ، ص94 - 109 .

المصادر الأُخری بعض الروایات التی ذکرها مسندةً(1) . وجاءت روایات کثیرة لابن إسحاق فی هذا الکتاب . وعلی هذا الأساس یمکن أن نحصل علی قسم من الموضوعات التی حذفها عبد الملک بن هشام من السیرة . والدقّة فی أسناد هذا الکتاب یمکن أن تستبین الفقرات المفقودة لکثیر من مصنّفات ذلک العصر ، علی شرط أن یتبیّن أیّ الأشخاص المذکورین فی السند لهم کتاب فی هذا المجال . وربّما ورد خبر من السیرة باسم یعقوب بن سفیان الفسویّ ، وهو قسم من الجزء الأوّل المفقود من کتاب المعرفة والتاریخ . وترتیب کتاب الدلائل هو غیر الترتیب الموجود فی مصنَّفات المغازی ، لکنّ محتواه أخبار تتعلّق بشخصیّة النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم والسیرة بأیّ نحو کان . والدلائل فی رأی البیهقیّ وغیره هی المعنی الخاصّ للمعجزة ؛ من هنا أورد فی القسم الأوّل من الکتاب معجزات الأنبیاء السّابقین . ثمّ أشار بعد ذلک إلی معجزة النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم الخالدة المتمثّلة بالقرآن الکریم . تلاه حدیث عن مولد النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم والأخبار التی کانت قبل البعثة . و ورد بعده کلام طویل حول شمائله صلی الله علیه و آله وسلم . ثمّ تطرّق إلی أخلاقه وخصاله وسرد معجزاته بعد میلاده مفهرَسةً . وتناول المبعث والأخبار التاریخیّة لهذا العصر . و تواصل هذا النسق حتّی آخر الکتاب . وحاول المصنّف فی کلّ قسم أن یفهرس معجزاته والأعمال الخارقة للعادة ، التی بدت منه . وأصدرت دار الکتب العلمیّة کتاب دلائل النبوّة بتصحیح عبدالمعطی قلعجی فی سبعة أجزاء سنة 1405 ه . وینبغی أن ننظر إلی کتاب دلائل النبوّة لأبی نعیم الإصفهانیّ المعاصر للبیهقیّ بهذا المعیار نفسه . وطبع هذا الکتاب مرارا أیضا .

ص: 110


1- دلائل النبوّة ، المقدّمة ج1 ، ص89 .

تدوین السیرة بعد القرن الخامس

علی الرغم من أنّ کتاب ابن إسحاق ومصنَّفات الواقدیّ وابن سعد کانت فی ذروة الکمال من حیث التدوین وتناسبا مع الظروف الزمانیّة ، فإنّ معلومات کثیرة ما زالت تفتقر إلیها سیرة ابن إسحاق لأسباب مختلفة . من هنا واصل المؤرّخون التحقیق والتتبّع بعده .

وللمدائنیّ (م 214) کتابات رائعة فی بعض قضایا السیرة لم یبق منها الیوم أثر ، لکنّ عناوینها تدلّ علی محتواها . ومنها کتاب تسمیة الذین یؤذون النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، کتاب فتوح النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، وکتب أخری(1) .

وخصّص البلاذریّ جزءا من أنساب الأشراف للسیرة النبویّة . ووقف ابن حِبّان البُستیّ الجزء الأوّل من کتابه الرجالیّ الثقات علی السیرة النبویّة لکنّه قلّما نال اهتمام المؤرّخین ، وإن خلا من موضوعات جدیدةٍ تُذکَر . وصنّف ابن عبد البرّ الدرر فی السیرة ، وقیل إنّه تلخیص لمغازی موسی بن عقبة (م 141) . وألّف القاضی عیاض (474 - 544) کتاب الشفاء بتعریف حقوق المصطفی ، ویدور معظمه حول شخصیّة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وحقوقه صلی الله علیه و آله وسلم علی الأمّة . وهو فی حدیثه عن شخص النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أکثر منه فی سیرته العلمیّة أو السیاسیّة . وکان هذا الکتاب یحظی باحترام بالغ(2) . وأصدرت دار الفکر بالقاهرة کتابا بعنوان نسیم الریاض فی شرح الشفاء للقاضی عیّاض لأحمد شهاب الدین الخفّاجیّ قبل عقود من الزمن . وللملاّ علی القاریّ (م1014) شرح علی شفاء القاضی عیّاض ، ویوصف بأنّه أشهر شرح(3) . وترجم

ص: 111


1- الفهرست : 113 ، 114 .
2- طُبع هذا الکتاب مرارا . والطبعة التی اعتمدنا علیها هی طبعة دار الفکر ببیروت ، 1415ه .
3- التاریخ والمؤرّخون بمکّة : 273 .

أبوبکر محمّد بهاروجی هذا الکتاب إلی اللغة الفارسیّة سنة 910 ه(1) .

وجعل ابن عساکر (م 571) الجزء الأوّل من کتابه تاریخ دمشق فی السیرة النبویّة؛ کما صنّف ابن حزم جوامع السیرة النبویّة وهی سیرة موجزة . واعتمد فی کتابه هذا علی تاریخ أبی حسّان الزیادیّ ، وسیرة ابن إسحاق ، ومغازی موسی بن عقبة ، ومغازی الواقدیّ ، وکتاب السیر لسعید بن یحیی الأمویّ ، وأعلام النبوّة لأبی داود السجستانیّ ، وأعلام النبوّة لأبی جعفر أحمد بن قتیبة ، والدرر لابن عبد البرّ(2) .

وصنّف ابن القیّم (691 - 751) - وهو من السنّة المکثرین فی التألیف وعلی نهج ابن تیمیّة - کتاب زاد المعاد فی هدی خیر العباد فی خمسة أجزاء (ومع الفهرس ستّة أجزاء)(3) . وأشرنا قبل ذلک إلی أنّ سبک هذه الکتب یتفاوت مع السِیَر الأُوَل . ویضاف إلی ما تتحدّث به هذه الکتب عن شخصیّة النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أنّها تتناول الروایات الفقهیّة أیضا فیتألّف منها کتاب یمکن أن یستعرض السیرة الفقهیّة ، والعسکریّة ، والقضائیّة وغیرها . وتضمّ مباحث الجزء الأوّل من هذا الکتاب نسب النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، وأولاده ، وأعمامه ، وأزواجه ، وموالیه ، وخدّامه ، وکتّابه ، ومؤذّنیه ، وحرّاسه ، وغزواته ، ولباسه ، وزواجه ، وکیفیّة جلوسه ، وکیفیّة حلق وجهه ، وکیفیّة عباداته ، وصلاته ، الخ ، وهذا المبحث الأخیر أهمّها جمیعا . ویتکوّن الجزء الثانی من الزکاة ، والصیام ، والحجّ ، وآداب السفر وتفاصیل أخری . أمّا الجزء الثالث فموضوعه الجهاد ،

إذ تناول الحروب والسرایا حسب ترتیبها التاریخیّ ، ونلحظ هنا أنّ الاتّجاه الفقهیّ بالغ الأهمیّة فیه أیضا . وفی ختامه کلام حول الوفود . ویدور الجزء الرابع حول طبّ

ص: 112


1- ادبیات فارسی [ الأدب الفارسیّ ] : 768 .
2- ابن حزم الأندلسیّ وجهوده فی البحث التاریخیّ والحضاریّ ، عبدالحلیم عویس ، القاهرة ، الزهراء للإعلام العربیّ ، 1409 ه ، ص152 ، 153 .
3- بیروت ، مؤسّسة الرسالة ، 1412 ه .

النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وآداب حیاته الخاصّة ومأکولاته ومشروباته وما شابهها . وخُصّص الجزء الخامس للحدیث عن القصاص والأخبار التاریخیّة - الحدیثیّة ، وبحث النکاح ، والطلاق ، والبیع والشراء وأبواب مماثلة . ویُستَشَفُّ من هذا التقسیم أنّ المؤلّف نهج فیه أُسلوبا جدیدا یتشکّل من الفقه والحدیث والتاریخ .

ولعلّ أبرز مصنَّفٍ فی السیرة من القرن العاشر هو کتاب سبل الهدی والرشاد لمحمّد ابن یوسف الصالحیّ الشامیّ (م 942) . وله مصنَّفات أخری فی التاریخ أیضا منها : عین الإصابة فی معرفة الصحابة(1) . وهذا المصنَّف فی غایة الروعة سواءً فی جمعه لما یتعلّق برسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أم فی نقده وتحلیله وشرح ما صعب من الأخبار أدبیّا . ویقع هذا الکتاب فی عشرة أجزاء ، وتولّی المجلس الأعلی للشؤون الإسلامیّة بمصر طبعه (طبع الجزء الأوّل منه سنة 1972 م)(2) .

ویمکن الإفادة من نهج سبل الهدی فی تقسیم موضوعات السیرة من کلّ الجهات . فقد اعتمد صاحبه علی کثیر من المصادر فأبدع عملاً عظیما فی السیرة . وهو الذی ذکر فی المقدّمة أنّه أفاد ممّا یربو علی ثلاثمائة کتاب . وأورد عناوین بعضها فی المقدّمة نفسها(3) . وحاول أن یتفادی نقل الأخبار الموضوعة المختلفة ، ویذکر الألفاظ الغریبة العویصة عند نقل الأخبار التی تتضمّنها . وتدلّ نظرة علی الکتاب وأبوابه إلی أنّه لم یُصَنَّف مثله فی تنوّعه حتّی الآن .

وما کتبه ابن الأثیر وابن کثیر فی السیرة یُعدّ فی الدرجة الثانیة من المصادر . وموضوع الجزءین الأوّلین من تاریخ الإسلام للذهبیّ هو السیرة . ومن التصانیف

ص: 113


1- سبل الهدی والرشاد 1 : ص ط .
2- أعدّت دار الکتب العلمیّة المتخصّصة فی تنضید الحروف المطبعیّة لشتّی المصنّفات طبعةً أخری له فی ثلاثة عشر جزءا واضطلع بها ناشرون آخرون ، ودخلت سوق الکتاب سنة 1414ه .
3- سبل الهدی والرشاد 1 : 403 .

الأخری فی هذا المجال إبّان القرن الثامن والتاسع السیرة النبویّة لابن سیّد الناس (م734) فی جزءین(1) ؛ والسیرة النبویّة لابن کثیر ؛ والجزء الأوّل من عیون التواریخ لمحمّد بن شاکر الکتبیّ (764) ؛ وإمتاع الأسماع للمقریزیّ (م845) .

ویعتبر کتاب السیرة الحلبیّة أو إنسان العیون فی سیرة الأمین والمأمون(2) لعلیّ بن برهان الدین الحلبیّ (975 - 1044) مصنَّفا بدیعا فی جمع الأخبار ورفع التناقضات خلال القرن الحادی عشر .

ومن المصنَّفات النافعة التی لا یُغفَل عنها تاریخ الخمیس الذی یتناول القسم الأعظم منه السیرة النبویّة ، کما یُلحَظ فیه تاریخ الخلفاء أیضا ، وتحدّثنا عنه فی موضع آخر . وطُبع کتاب المواهب اللدنیّة بالمنح المحمّدیّة لأحمد بن محمّد القسطلانیّ (م 923) فی ثلاثة أجزاء(3) . وآخر الأعمال المنجَزة فی هذا المیدان کتاب السیرة النبویّة لزینی دحلان (م 1304) ، وهو یذکّر بکتاب السیرة الحلبیّة(4) .

تحریف السّیرة

اشارة

اجتمعت عوامل عدیدة أدّت إلی تحریف أخبار السّیرة ، مع وجود الرّغبة الشدیدة فی المحافظة علی السیرة النبویّة وتفاصیلها . ویمکن أن تکون هذه العوامل نابعةً من التکتّلات السیاسیّة والمذهبیّة ، وکذلک الخلافات القبلیّة . کما أنّ إهمال علماء السّیرة فرزَ الأخبار الصحیحة ، وجمعهم الغثَّ والسّمینَ أفضیا إلی تغلغل انحرافات کثیرة فی کتب السّیرة .

ص: 114


1- تصحیح محمّد العید الخطراویّ ومحیِ الدین مستو ، دمشق ، دار ابن کثیر ، 1413 ه .
2- بیروت ، دار المعرفة . سنة الطبع غیر مذکورة .
3- تصحیح مأمون بن محیِ الدّین الجنان ، بیروت ، دار الکتب العلمیّة ، 1416 .
4- صدرت الطبعة الأخیرة للکتاب فی جزءین ببیروت ، دار إحیاء التراث العربیّ ، 1416 .

ینبغی الالتفات إلی أنّ خلافات سیاسیّة قد ظهرت بین قریش بعد وفاة النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . وأدّت التکتّلات السّیاسیّة المتجذّرة فی النزاعات القبلیّة الماضیة إلی فصل مصالح کلّ تکتّل عن الآخر . ویمکن أن تبلور شدّة هذا النزاع ، بعد تسلّط الأمویّین (41 ه) ودفاعهم عن میراث الخلفاء الأُوَل فی مقابل أمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام والأنصار ، موقف هذه الفئات من حوادث صدر الإسلام والتجمّعات المشارکة فی تأیید النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ومعارضته ، وکلّ موقف متمیّز عن الآخر . ونلحظ نماذج تدلّ علی أنّ قسما من هذه التّحریفات الموجودة فی السّیرة نابعة من نزعة تحاول أن تعظّم بعض الأجنحة ، وتحطّ من شأن البعض الآخر . علی سبیل المثال نقرأ فی التّاریخ أنّ هشام ابن عبد الملک الأمویّ (105 - 125 ه) کتب رسالة إلی الأعمش ذی المیول الشیعیّة (م 148 ه) طلب منه فیها أن یکتب له مناقب عثمان ومثالب علیّ علی حدّ زعمه . فوضع الأعمش رسالة هشام فی فم شاة ، ثمّ کتب إلیه أن لو کانت مناقب أهل الأرض کلّها لعثمان ومثالبهم لعلیّ فلا ینفعک ولا یضرّک ذلک شیئا(1) .

وجاء فی خبر آخر أنّ معمّرا سأل ابن شهاب الزُّهریّ عن کاتب صلح الحدیبیّة . فقال : علیّ علیه السلام . ثمّ ضحک وقال : لو سألتَ هؤلاء (بنی أُمیّة) لقالوا لک : عثمان !(2) وذکرالمدائنیّ أیضا أنّ ابن شهاب حدّثه قال : طلب منّی خالد بن عبد اللّه القُسَریّ (م 126) عامل الأمویّین علی العراق یوما أن أُصنّف له کتابا فی الأنساب . فبدأتُ بنسب مضر . فقال لی بعد مدّة : دعه واکتب لی السیرة . فقلتُ : وأخبار علیّ بن أبی طالب علیه السلام ، أکتبها ؟ قال : لا ، إلاّ أن تراه فی قعر الجحیم !(3) کنایة عن ذمّه .

ص: 115


1- شذرات الذّهب فی أخبار من ذهب 1 : 221 .
2- المصنّف ، عبد الرزّاق 5 : 343 .
3- الأغانی 22 : 15 . وقال الإصفهانیّ : لعن اللّه خالدا ومن والاه وقبّحهم وصلوات اللّه علی أمیر المؤمنین. ونقل مارسدن جونز هذا وقال : إنّ کلمة «السّیرة» طُرحت منذ ذلک الزمان . انظر : مقدّمة المغازی : 19 .

الّنموذج الآخر روایة تدور حول موقف مروان بن الحکم (حکومته من سنة 65 إلی سنة 66 ه) من أبی سعید الخُدریّ . فقد روی أبو سعید عنده أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال بعد نزول سورة الفتح : لا هجرة بعد الفتح ولکن جهاد ونیّة . فقال له مروان : کذبتَ . وعنده زید بن ثابت ورافع بن خدیج ، وهما قاعدان معه علی السریر . فقال أبو سعید : لو شاء هذان لحدّثاک ، ولکن هذا یخاف أن تنزعه عن عرافة قومه ، وهذا یخاف أن تنزعه عن الصدقة . فسکتا . فرفع مروان الدرّة لیضربه ، فلمّا رأیا ذلک ، قالا : صَدَقَ !(1)

وکان إصرار معاویة علی إسقاط فضائل الإمام علیّ علیه السلام مؤثّرا فی تحریف روایات السّیرة المرتبطة بدور الإمام علیه السلام . وعندما کان صَعْصَعة بن صوحان مصرّا علی نقل فضائل الإمام علیه السلام ، قال له المغیرة بن شعبة حاکم الکوفة : ... فإنّک لستَ بذاکرٍ من فضل علیّ شیئا أجهله ، بل أنا أعلم بذلک ، ولکن هذا السلطان (معاویة) قد ظهر ، وقد أُخِذنا بإظهار عیبه للناس ، فنحن ندع کثیرا ممّا أُمرنا به ، ونذکر الشیء الذی لا نجد منه بدّا ، ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا تقیّةً . فإن کنتَ ذاکرا فضله فاذکره بینک وبین أصحابک وفی منازلکم سرّا !(2)

وخصّص ابن أبی الحدید فصلاً للأحادیث الموضوعة الّتی اختُلقت ضدّ الإمام علیّ علیه السلام بتحریض معاویة(3) . وذهب أحمد أمین أیضا إلی أنّ معظم الأحادیث الّتی رویت فی فضائل الصّحابة وُضعت فی عهد بنی أمیّة تزلّفا إلیهم(4) . وروایة البخاریّ أیضا یمکن أن تسعفنا فی هذا المجال ، فقد نقل أنّ رجلاً سأل البراء بن عازب قائلاً :هل شهد علیّ علیه السلام بدرا ؟!(5)

ص: 116


1- المصنّف ، ابن أبی شیبة 7 : 407 .
2- تاریخ الطّبریّ 5 : 189 .
3- شرح نهج البلاغة 4 : 63 .
4- فجر الإسلام : 213 ؛ مقدّمة شرح نهج البلاغة 11 : 44 .
5- صحیح البخاریّ [ أو حاشیة السّندیّ ] 3 : 5 .

ینبغی أن نقول فی مثل هذه الأجواء : إنّ ما نُسب فی تضاعیف السّیرة - وهو أهمّ من کلّ شیء - إلی الصحابة المهمّین یجب أن یخضع للتّحلیل والتّقویم . فعقیدة کتّاب السّیرة بعدالة جمیع الصّحابة بخاصّة الخلفاء جعلتهم یتجنّبون ذکر ما یخالفها(1) . علی سبیل المثال جاء فی خبر أنّ رجلاً ذمّ المهاجرین إلی الحبشة بعد عودتهم منها بسبب بقائهم فیها . وهذه الروایة نقلها ابن أبی شیبة عن الشّعبیّ فی موطنین ، ورد فی أحدهما اسم الرجل [ عمر ] ، ولم یرد فی الثانی . والسّبب هو أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عنّف المعترض بشدّة(2) . وجاء فی خبر آخر أیضا أنّ أحد الصّحابة سأل النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بعد الحدیبیّة معترضا : أَوَ کان هذا فتحا ؟ فأجابه النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم : نعم(3) . ونقلت هذه الروایة عن طریق الزّهریّ أیضا ، وذکر فیها اسم عمر بوصفه المعترض مکان «أحد الصّحابة»(4) .

وورد مثل هذا التّحریف فی الرّوایة المرتبطة بیوم الخمیس ؛ فقد جاء فی خبر اسم الشّخص الّذی حال دون الإتیان بالکتف والدواة اللذین طلبهما النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، فی حین لم یرد اسمه فی خبر آخر إذ اکتفی ناقله بکلمة «قالوا»(5) . وکان للکتّاب والرّواة الأُوَل لکتب السیرة دور فی بعض التّحریفات . وذکر مارسدن جونز محقّق کتاب المغازی للواقدیّ المتوفّی سنة 207 ه أنّ النسخة الّتی جعلها أصلاً فی طبع الکتاب وفیها أسماء الفارّین یوم أُحد تخلو من اسم الخلیفة الثّانی والثّالث . بینما ورد اسماهما فی شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید نقلاً عن الواقدیّ . أمّا البلاذریّ الّذی نقل عن الواقدیّ أیضا

ص: 117


1- علی سبیل المثال قال ابن هشام فی خبر حول معتب بن قشیر أنّه کان فی عداد المنافقین یوم الخندق : لا یصحّ هذا لأنّه کان من أصحاب النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی بدر . انظر : السّیرة النّبویّة 3 : 222 .
2- المصنّف ، ابن أبی شیبة 7 : 351 ؛ مقدّمة : 415 .
3- المصنّف ، ابن أبی شیبة 7 : 384 .
4- مجمع البیان 9 : 110 .
5- مقدّمة صحیح البخاریّ 4 : 7 ؛ 2 : 178 ؛ 3 : 91 .

فقد ذکر اسم الخلیفة الثالث فحسب(1) . وهکذا یتبیّن أنّ ید التحریف قد مسّت روایةَ الواقدیّ .

معاداة الأنصار وتحریف السیرة

کان لمعاداة الأمویّین الأنصارَ تأثیر کلُّ التأثیر فی تحریف السیرة ، مع أنّ کثرة رواة الأنصار ، وکذلک خفّة العداء لهم قد ثبّتا موقعهم فی السّیرة کثیرا . ونصّت المصادر علی هجاء الأمویّین وشعرائهم للأنصار(2) . وجاء فیها أنّ معاویة ویزید کانا یحرّضان الأخطل علی هجائهم(3) .

وبلغ موقف معاویة منهم حدّا أنّه کان لا یستحسن لقب الأنصار لهم(4) . وهذا العداء - مضافا إلی أنّه شبّ بینهم وبین قریش الکافرة فی عصر النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم - کان بسبب مقتل الخلیفة الثالث فی المدینة وخذلان الأنصار إیّاه ، وهی الحادثة الّتی تدارکها الأمویّون فی واقعة الحرّة سنة 63 ه . ونتیجة هذا العداء فی تدوین السیرة روایة نقلها الزبیر بن بکّار . وفیها أنّ سلیمان بن عبد الملک قدم المدینة حاجّا یوم کان ولیّا للعهد ، وزار المعالم الإسلامیّة فیها . ورغب فی تدوین السیرة النّبویّة . فأتاه أبان ابن عثمان بسیرته التی کان قد کتبها من قبل . ولمّا استُنسخ له الکتاب ولاحظه ، رأی اسم الأنصار فی بیعة العقبة وغزوة بدر ، فقال : «ما کنت أری لهؤلاء القوم هذا الفضل ، فإمّا أن یکون أهل بیتی غمصوا علیهم ، وإمّا أن یکونوا لیس هکذا ... فأمر بذلک الکتاب فحُرّق ... وقال : ما حاجتی إلی أنسخ ذاک حتّی أذکره لأبی عبد الملک ... فإن یوافقه ، فما أیسر نسخه . فرجع سلیمان فأخبر أباه بالذی کان من قول أبان ، فقال

ص: 118


1- مقدّمة جونز علی المغازی 1 : 18 .
2- الموفّقیّات : 227 ، 228 .
3- العقد الفرید 6 : 170 .
4- الأغانی 16 : 42 - 48 .

عبد الملک : وما حاجتک أن تقدم بکتاب لیس لنا فیه فضل ؟(1) وهکذا یتبیّن أنّ الأمویّین لم یتحمّلوا فضائل أهل البیت علیهم السلام ، ولیس هذا فحسب ، بل کانوا یستاءون من اسم الأنصار أیضا إذا ذُکروا فی بیعة العقبة أو فی غزوة بدر ، ویأمرون بحرق الکتاب الذی یذکرهم .

تأثیر کتّاب السّیرة فی التحریف

من الجدیر بالذکر أنّه علی الرغم من ضروب الإصرار علی إخفاء الحقیقة ، فقد بلغت الرواة اللاحقین حقائقُ جمّة دُوِّنت فی کتب السّیرة . وفی الوقت نفسه کانوا یتلاعبون فیها زیادةً ونقصا تبعا لعقائدهم وأفکارهم وکذلک اتّجاهاتهم السیاسیّة .

ذکر ابن هشام فی بدایة تهذیبه لسیرة ابن إسحاق أنّه حذف منها بعض المطالب ، منها علی حدّ قوله : «وأشیاء بعضها یشنع الحدیث به وبعض یسوء بعض النّاس ذکره»(2) . وهذا الموقف أفضی به إلی أن یُسقط شعرا لأبی طالب علیه السلام یدلّ دلالة واضحة علی إیمانه بنبوّة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، وکان ابن إسحاق قد رواه فی سیرته(3) .

إنّ اختیار ما نُقل - فی القرن الثالث وبعده - مُنی بأشدّ الرّقابات الفکریّة والمذهبیّة . ونظرة علی قسم المغازی فی کتاب البخاریّ تدلّ علی أنّ ما أُقِرَّ من الروایات بوصفه صحیحا روایات تمّ تنقیتها من منطلقٍ مذهبیّ متعصّب . ورواة هذه الأخبار أشخاص معروفون من الصحابة والتابعین ، وهؤلاء لم یقوموا بأیّ عمل قطّ فی معارضة الأُمویّین ، ولم تکن لهم سوابق تدلّ علی أنّهم دعاة عدالة ، بل کان بعضهم

ص: 119


1- الأخبار الموفّقیّات : 331 - 334 .
2- السّیرة النبویّة 1 : 4 .
3- انظر : مجلّة آینه پژوهش [ مرآة التحقیق ] ، السنة الثانیة ، العدد الخامس ابن هشام وسیره او [ ابن هشام وسیرته ] : 20 ، 21 .

فی خدمتهم عدد سنین کابن شهاب الزّهریّ . وإذا کان آلاف الصحابة کلّهم عدولاً فمن الواضح أنّه لا ینبغی نقل روایة تمسّ عدالتهم ، أو إذا نقلها الآخرون فیجب ترکها جانبا .

یضاف إلی ما یتعلّق بمصالح الأُمویّین أو ما ینطلق من اعتبار العقائد والأفکار کمعاییر ، فإنّ لمصالح الزبیریّین تأثیرها أیضا فی تدوین السیرة . فقد کان بعض کتّاب السّیرة من آل الزّبیر ، لذا ینبغی الاحتیاط أکثر فی المعلومات المرتبطة بهم ، کالأخبار المنقولة حول وَرَقة بن نوفل أو الّتی تتحدّث عن دور الزّبیر فی الغزوات . وأحد هؤلاء الرّواة هو هشام بن عروة بن الزّبیر الّذی کان من أساتذة ابن شهاب الزُّهریّ ، ونقل أخبار السّیرة إمّا عن أبیه عروة ، أو عن بعض موالی آل الزبیر . ومصدر أخبار عروة عائشة خالته . ونتیجة لما کانت تحظی به من نفوذ فی العقود الأُولی من الهجرة ، فقد روت کثیرا من أخبار السیرة . وینبغی التریّث أیضا فی الأخبار المنقولة حول بنی العبّاس ودور العبّاس نفسه فی العصر الإسلامیّ الأوّل . وفی ضوء ما أشار إلیه بعض الباحثین فإنّ ابن إسحاق - أهمّ مؤلّف فی السیرة - أجری تعدیلات علی سیرته لمصلحة بنی العبّاس(1) . ویعود ذلک إلی أنّه أهدی سیرته إلی المنصور أو إلی ولده المهدیّ .

الصّور القصصیّة فی السّیرة

تتباین الرّوایة القصصیّة لحادثةٍ ما عن الروایة التاریخیّة والحقیقیّة لها . وسبب هذا التّباین هو ما طرأ علی الرّوایة الحقیقیّة والتّاریخیّة من زیادة ونقصان ، وأضفی علیها صورة قصصیّة ورومانطیقیّة . وما یستلزم هذه الصورة هو بعض الانحرافات الّتی قد

ص: 120


1- المغازی الأُولی ومؤلّفوها : 81 .

لا تکون متعمَّدة دائما . ورغبة الناس العادیّین فی الرّوایة القصصیّة أدّت إلی ازدهار عمل القصّاصین فی صدر الإسلام . وکان تاریخ الأنبیاء وحده یعرض فی البدایة بأُسلوب قصصیّ . ثمّ اتّخذت بعض حوادث السیرة طابعا قصصیّا علی مرّ الزمن . وهنا لا بدّ أن نذکّر بأنّ تمییز الرّوایة التّاریخیّة عن الرّوایة القصصیّة متعذّر فی نقطة واحدة تتمثّل فی الحالات الّتی تتّخذ طابع الوحی ، والمعجزة ، والإخبار عن المستقبل

- بخاصّة فی تاریخ الأنبیاء - وبکلمة : ما وراء الطبیعة . أمّا الّذین یقتصرون علی الأفکار المادّیّة ، ویخالون التاریخ مظهرا للعناصر المادّیّة ، فإنّهم یحسبون کلّ روایة مشتملة علی هذه العناصر قصصیّة ، ویقرّون ببعدها التاریخیّ بعد إسقاط هذه العناصر . وینبغی أن نقول هنا : إذا کانت القضیّة قضیّة غیب أو وحی ، فلا یحقّ لنا أن نعدّ هذه الحادثة روایة قصصیّة أبدا . وفی الحقیقة إذا کنّا نملک دلیلاً کافیا علی أصل وقوع مثل هذه الحادثة ، فلیس لنا أن ننکرها بسبب بُعدها الغیبیّ . أمّا فی المواضع الّتی یتفوّق فیها الطابع القصصیّ ، ویفقد السّند اعتباره وشأنه ، وتقام الأدلّة ضدّه ، فیتسنّی لنا أن نمتری فیها ، ومن ثمّ ننکرها بعد التحلیل الدقیق للسّند والمتن .

إنّ من الثابت هو أنّ القصّاصین کان لهم نفوذ ملحوظ فی المجتمع ، وکانوا یجدّون فی إضفاء الطّابع القصصیّ علی الحقائق فی کثیر من المواضع ، بل کانوا أحیانا یغیّرون البنیة أو الهیکل العام لواقعة من الوقائع جملةً وتفصیلاً . وکان أبو أیّوب السختیانیّ یعتقد أنّ القصّاصین قد أفسدوا الحدیث علی الناس(1) . وذکر الذهبیّ (م 748) قضیّة المعراج فی جملة تحریفات القصّاصین فی السّیرة(2) . وکان صلة بن الحارث الغفاریّ یقول : ضاعت السّیرة والسّنّة بسبب القصّاص(3) . علی سبیل المثال روی أحد

ص: 121


1- حلیة الأولیاء 3 : 11 .
2- انظر : مقدّمة الدکتور السّامرّائیّ علی کتاب القصّاص والمذکّرین : 34 .
3- حیاة الصّحابة 3 : 281 ؛ الإصابة 2 : 193 .

القصّاصین أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم کان قد رأی صورة عائشة قبل أن یتزوّجها ثمّ نظر من نافذة لیری صاحبة الصورة !(1) وکان المحدّث المشهور شعبة یقول : لا نحدّث القصّاص ... قال : یأخذون الحدیث منّا شبرا فیجعلونه ذراعا(2) . وإلی جانب هذا الموضوع ینبغی الإشارة إلی أنّ الأخباریّین حاولوا بذهنیّتهم القصصیّة أن یختلقوا قصصا لجمیع مظاهر التّاریخ الجاهلیّ والإسلامیّ . وکانت أذهانهم الفعّالة قویّة جدّا فی اختلاق القصص حتّی إنّ قصصهم کانت ذات طابع أدبیّ . وعلینا أن لا ننخدع بالنثر الأدبیّ لقصصهم وأشعارهم الّتی یأتون بها . ومن المؤسف أنّ هذه القصص أصبحت منبعا لکثیر من التّحریفات الحقیقیّة فی السّیرة . وقیل فی سیرة أبی الحسن البکریّ أنّها لا یوثق بها لأنّ صاحبها کذّاب وقد اختلق قصصا لا یُرکَن إلیها أبدا . ومعظم کتبه قصصیّة مثل : رأس الغول ، کتاب کُلُنْدجه ، وغیرهما . وکان عنوان کتابه فی السّیرة الذّروة فی السّیرة النبویّة(3) .

إنّ أحد المجالات القصصیّة فی السیرة هو الموارد الّتی نقلت فیها الأشعار علی لسان الجنّ . وینبغی أن نذکّر هنا أنّ کلامنا لا یعنی نفی وجود الجنّ ، لأنّ القرآن الکریم ذکر وجودهم بصراحة (سورة الجنّ ، الآیة 1) . فالموارد المعنیّة هی الأحداث الّتی لم یحضر فیها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، وزعم أشخاص عادیّون أنّهم سمعوا الجنّ أو الشّیطان . علی سبیل المثال ، أنعموا النّظر فی هذا الخبر : [ عندما هاجر النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم مع أبی بکر ] مکثنا ثلاث لیال لا ندری أین توجّه رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم حتّی أقبل رجل من الجنّ من أسفل مکّة یغنّی بأبیات من الشعر غناءَ العرب ، والناس یتبعونه یسمعون صوته وما

ص: 122


1- القصّاص والمذکّرین ، ابن الجوزیّ : 106 .
2- نفسه : 100 - 103 . وتحدّثنا عن هؤلاء مفصّلاً فی کتابٍ لنا تعریب عنوانه : بحث فی التأثیر الدینیّ والاجتماعیّ للقصّاص فی التاریخ الإسلامیّ .
3- سبل الهدی والرشاد 4 : 24 ؛ میزان الاعتدال 1 : 112 .

یرونه ، حتّی خرج من أعلی مکّة ، وهو یقول :

جَزَی اللّه ُ رَبُّ النَّاسِ خَیْرَ جَزَائِهِ * رفیقَیْنِ حَلاّ خَیْمَتَی أُمِّ مَعْبَدِ

الراوی لهذا الخبر أسماء بنت أبی بکر ، ونقله عنها ابن إسحاق [ ویحتمل أنّه نقله عن طریق الزّهریّ ، عن هشام بن عروة ، عن عروة ] . والأبیات الّتی تتلو البیت المذکور تتحدّث عن مکان الهجرة والإقامة(1) . فهذه الروایة نموذج بیّن علی موضوعات القصّاص ، إذ وضعت من أجل اختلاق فضیلةٍ لأشخاص معیّنین. ویشهد متنها کلّه علی کذبها . کما یحوم الشّکّ حول سندها ککثیر ممّا نُقل عن ابن إسحاق ، بخاصّة أنّها نقلت عن أسماء بنت أبی بکر . وأشار العالم الإسلامیّ المعاصر محمّد الغزالیّ إلی أنّ عادة العرب فی الجاهلیّة أنّهم کانوا ینسبون بعض الأشعار إلی الجنّ ، وذهب إلی أنّ الخبر المذکور متأثّر بهذه العادة الجاهلیّة(2) . وینبغی أن نُضیف إلی أنّ بعض السّاسة المتأخّرین کانوا أیضا ینسبون إلی الجنّ أعمالاً لم یروا مصلحة فی إظهارها ، کما کانوا ینسبون إلیهم شعرا فی دعمها(3) .

ص: 123


1- السّیرة النبویّة ، ابن هشام 2 : 487 ؛ تاریخ الطّبریّ 2 : 380 ؛ السّیرة النبویّة ، ابن کثیر 2 : 255 ؛ المستدرک علی الصّحیحین 3 : 10 نقل عشرة أبیات ؛ مجمع الزوائد 6 : 57 ؛ وانظر : الطبقات الکبری 1 : 229 - 231 . ونقل البلاذریّ بیتین ونسبهما إلی أحد الشّعراء ، أنساب الأشراف 1 : 262 .
2- فقه السّیرة ، الغزالیّ : 177 ، 178 . ویری الغزالیّ أنّ الأبیات لشخص مؤمن فی مکّة کان یکتم إیمانه . بید أنّا لا نجد دلیلاً علی ذلک ، والروایة من أصلها قصصیّة یقول الجاحظ فی الاعتقاد بالهاتف : والأعراب وأشباه الأعراب لا یتحاشون من الإیمان بالهاتف بل یتعجّبون ممّن ردّ ذلک . الحیوان 6 : 202 ، وعنه نقل صاحب المفصّل 6 : 716 . وجمع ابن أبی الدّنیا مثل هذه الأخبار فی کتاب عنوانه الهواتف .
3- الّنموذج المناسب هنا قتل سعد بن عبادة فی أیّام أبی بکر ونسبة ذلک إلی الجنّ ، ونقل بیتین عنهم فی تعلیل قتله . انظر : أنساب الأشراف 1 : 250 ؛ والمفصّل فی تاریخ العرب قبل الإسلام 6 : 713 . ووردت فیه نماذج من القتل کانت تنسب إلی الجنّ فی العصر الجاهلیّ .

ویلحظ دور الشّیطان والجنّ فی وقائع أُخری أیضا ؛ منها حضور الشّیطان فی مجلس مشورة عقدته قریش قبل الهجرة بقلیل لاتّخاذ قرار جادّ بشأن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم . فقد جاء فی الرّوایات أنّ إبلیس کان من بین الحاضرین ، فاعترضهم فی هیئة شیخ جلیل علیه بتلة (الکساء الغلیظ) وهو الذی أیّد الرأی بقتل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم(1) . ولم یتبیّن من الّذی شخّص أنّ الشّیخ الجلیل هو الشّیطان الّذی ظهر فی لباس رجل ! ومن المحتمل أنّه کان مسافرا فی مکّة [ وقیل : کان نجدیّا ] دخل فی جمعهم یومئذٍ . وهذا الشّیخ النّجدیّ کنایة عن الشّیطان الّذی کان حاضرا أیضا فی نصب الحجر الأسود یوم کان عمر النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم خمسا وثلاثین سنة(2) .

وجاء فی موضع آخر أنّه بعد أن بایع أهل یثرب رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی العقبة، صرخ الشیطان من رأس العقبة بأنفذ صوته سمعته یقول : یا أهل الجباجب (المنازل) هل لکم فی مذمَّم(3) والصباة معه ؟(4) قد اجتمعوا علی حربکم . وأُضیف فی هذا الخبر أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم قال : هذا أزب العقبة(5) . وجاء فی معنی الأزب أنّه اسم للشّیطان أو اسم آخر للثّعبان . ومن الطّبیعیّ أنّنا یمکن أن نؤیّد هذا الخبر بسبب وجود رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی الحادثة ، هذا إذا کان (أزب) بمعنی الشّیطان ، واطمئننّا أنّ المقصود هو هذا نفسه ، لا کنایة عن بعض المشرکین المحتالین . وثمّة نماذج أُخری من هذه الأخبار الّتی تتحدّث عن حضور الشّیطان أو الجنّ فی لباس الإنسان أو فی شکل هاتف یصیح

ص: 124


1- السّیرة النبویّة ، ابن هشام 2 : 481 .
2- انظر : تاج العروس ، الزّبیدیّ ، ذیل کلمة نجد ؛ الروض الأنف ، السهیلیّ 1 : 291 ؛ المفصّل 6 : 734 . وانظر : سبل الهدی والرّشاد 5 : 60 للاطّلاع علی نموذج آخر فی واقعة أُخری .
3- إشارة إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم .
4- کان المشرکون یسمّون من یسلم صابئیّا .
5- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 2 : 442 .

وینشد الشعر ، لا مجال لتفصیلها هنا(1) .

وذهب البعض إلی أنّ الرّوایة المربوطة برؤیا عاتکة قبل غزوة بدر من نوع القصص العامیّة الّتی رسخت فی السیرة(2) . ویبدو أنّ هذه النّظرة نابعة من عدم الاعتقاد بالرؤیا بعامّة . ویمکن أن نقبل متنها إذا کان سندها خالیا من الإشکال . والرّؤیا المذکورة - حتّی لو لم تکن ذات طابع میتافیزقیّ - قابلة للتوجیه من الوجهة المادّیّة بالنظر إلی ذعر قریش المحتمل من الحرب [ وهو ما عبّر عنه بعضهم قبل الحرب ] . وقد أُنکر أیضا ما أورده جُهَیم بن الصّلت ، إذ ذکر أنّه رأی فی الیقظة والنّوم فارسا وقف ، وقال : قُتل عُتْبة ، وشیبة ، وأبو الحکم ، وأمیّة بن خلف ... فقال فیه أبو جهل أیضا : هذا نبیّ آخر [ کعاتکة ] من بنی المطّلب بن عبد مناف !(3)

ینبغی ألاّ ننکر مثل هذه الواقعة ببساطة . فهذه الحالات النفسیّة یمکن أن تکون لها موارد مماثلة کثیرة ، حتّی فی الیقظة یضاف إلیه أنّنا یجب أن ننتبه إلی أنّ هذه الأخبار اتّخذت طابعا قصصیّا علی تواتر الأیّام . ومن المحتمل أنّ لأصل روایتها التاریخیّة صورة أکثر تعقّلاً . ولا یتسنّی لنا أن نتوکّأ علی المفاهیم الواردة فی الروایة فی کثیر من هذه المواضع ، بل نکتفی بمضمونها العامّ .

التّطوّر فی تدوین السّیرة

صُنِّف عدد من الکتب حول شخصیّة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم . منها الکتب الّتی اشتهرت بعنوان السیرة ، وأهمّها سیرة ابن إسحاق ، ومغازی الواقدیّ . وکان الباعث علی

ص: 125


1- انظر : الطّبقات الکبری 1 : 190 . ذکر العلاّمة الأمینیّ خمسة عشر موردا من الأشعار الّتی نُقلت بتعبیر «سمعتُ هاتفا یقول» . وذهب إلی أنّها کانت من معجزات النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، ومن الطبیعیّ أنّها صارت سببا فی هدایة الناس . انظر : الغدیر 2 : 9 - 16 .
2- مقدّمة المغازی ، مارسدن جونز : 20 .
3- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 2 : 618 ؛ وانظر : أضواء علی کتب السّیرة : 51 .

تدوین هذه الآثار عرض صورة تاریخیّة للحوادث الواقعة فی عصر صدر الإسلام ، ومحورها شخصیّة النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . واتّخذ القسم الأوّل من هذه السّیرة عنوان المبعث ، أمّا القسم الثّانی فاتّخذ عنوان المغازی . وجاء فی أوّلها حدیث حول ماضی العرب ، وقریش وعقائد الجاهلیّة وأفکارها . ویضاف إلی الکتب الّتی صنّفت تحت عنوان السّیرة آثار أُخری دوّنت بنزعات خاصّة حول شخصیّة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وحوادث صدر الإسلام . وورد عنوان کتاب المغازی - ما عدا القسم الأوّل منه - فی کتب الحدیث . ونلحظ فی هذه المواضع عددا من الأخبار الوثائقیّة حول الحروب . ونجد کتاب المغازی فی مصنّف عبدالرّزّاق (م211) وکذلک فی صحیح البخاریّ ، ویضمّ مصنّف ابن أبی شیبة (م 235) أخبارا حول المغازی ، وقد عُرضت فیه بأسلوب روائیّ . وفی بعض هذه الکتب مثل صحیح البخاریّ أخبار السیرة حتّی الهجرة ، وذکرها البخاریّ مثلاً فی سیاق کتاب بدء الخلق . وفی کتاب الجهاد أیضا موارد عدیدة من هذه الأخبار التاریخیّة المتعلّقة بالغزوات ، إلاّ أنّ المستهدَف فی مثل هذه الموارد الجوانب الفقهیّة لتلک الأحداث العسکریّة . ویُدعی کتاب الجهاد أحیانا کتاب السّیر . ونموذجه کتاب السّیر لأبی إسحاق الفزاریّ (م 186) .

إلی هنا أشرنا إلی نزعتین تاریخیّتین فقهیّتین تحویان معلومات حول السیرة النبویّة . وفُتح باب آخر علی مرور الأیّام ، وهذا الباب الجدید اتّخذ عنوان دلائل النّبوّة . وتتناول هذه الکتب ، کما یُستشفّ من عناوینها ، معجزات النّبوّة ودلائلها . وفیها مراجعة لحوادث السیرة ، وحیثما وجدت مَعْلما علی الإعجاز والنّبوّة ذکّرت به کما ینبغی . وصوّرت السّیرة تصویرا غیر طبیعیّ نوعا ما .

ومن هذه الکتب دلائل النبوّة لأبی داود السجستانیّ (م 275) ؛ وأعلام النبوّة لابن قتیبة الدینوریّ (276) ؛ ودلائل النبوّة لابن أبی الدنیا (م 281) ؛ ودلائل النبوّة لأبی إسحاق إبراهیم بن إسحاق الحربیّ (م 285) ؛ ودلائل النبوّة لأبی أحمد العسّال

ص: 126

(م349) ؛ ودلائل النبوّة لأبی الشیخ بن حیّان (م 369) ؛ ودلائل النبوّة لابن مندة (م395) ؛ ودلائل النبوّة لأبی سعید الخرگوشیّ (م 407) الخ(1) .

وثمّة کتابان مهمّان فی هذا المیدان أحدهما دلائل النبوّة لأبی نُعَیم الإصفهانیّ (م430) ؛ والآخر یحمل نفس العنوان لأبی بکر البیهقیّ (م 458) . وکان تصنیفهما فی القرن الخامس . وقد تحدّثنا عنهما فی موضع آخر . وألّف القاضی عبد الجبّار (م 415) کتابا فی دلائل النّبوّة تحت عنوان تثبیت دلائل النّبوّة ، ویُلْحَظُ فیه البعد التّحلیلیّ أکثر من غیره .

فُتح فی تدوین السّیرة باب رابع أیضا یتناول البعد الأخلاقیّ فی شخصیّة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، ویتحدّث عن شخصیّته وخصائصه مضافا إلی البعد التّاریخیّ ، والفقهیّ ، والدلائل . ومن أهمّ الکتب الّتی یمکن أن نذکرها فی هذا المجال کتاب الشّفاء بتعریف حقوق المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم للقاضی عیّاض بن موسی الأندلسیّ (دمشق ، مکتبة الفارابیّ ومؤسّسة علوم القرآن الکریم) . وکتاب الخصائص الکبری لجلال الدّین السّیوطیّ (تحقیق محمّد خلیل هراس ، مصر) . وذکر السّیوطیّ فی مقدّمته أنّ کتابه یشتمل علی معجزات النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وخصائصه المختصّة به . ومعظم هذه الکتب ولعلّها کلّها خالیة من التحلیل ، ولا تحوی إلاّ النقد والدّراسات المقتضبة . ویترکّز عمل أصحابها علی نقل الأخبار وتنظیمها وتبویبها .

وکان أُسلوب آخر متّبعا فی تدوین السّیرة من القرن التّاسع حتّی القرن الحادی عشر . ویتمثّل هذا الأسلوب فی جمع کافّة أخبار السّیرة . أمّا طریقة تبویبها فهی کانت علی النحو المألوف یومئذٍ ولا سابقة لها . وذکر مؤلّفو هذا الضرب من الکتب فی بدایتها نظرة خاطفة من السّیرة ، ثمّ صنّفوا الأخبار المتعلّقة بالنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم موضوعیّا .

ص: 127


1- دلائل النبوّة 1 : 90 - 92 .

ویبدو أنّ المقریزیّ کان یحذو هذا الحذو فی تألیف کتابه إمتاع الأسماع . ومن المؤسف أنّ الجزء الأوّل منه قد طُبع وهو یستعرض جمیع أخبار السّیرة استعراضا عامّا . والکتاب الآخر هو سبل الهدی والرّشاد الّذی یُذکَر أیضا بعنوان السّیرة الشّامیّة . أمّا الأجزاء الثّلاثة الأُولی منه تتناول أخبار السّیرة . وأمّا الجزء الرّابع والخامس فیشتملان علی المغازی ، والجزء السّادس یختصّ بالسّرایا . وأمّا الجزء السّابع والثّامن فیتحدّثان عن الموضوعات الخاصّة فی حیاة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . وألّف ابن القیّم الجوزیّة کتاب زاد المعاد الّذی تضمّ الأجزاء الثلاثة الأُولی منه (من الطبعة الجدیدة) نبذة تاریخیّة عن أخبار السیرة . أمّا الأجزاء الباقیة فهی تتحدّث عن قضایا السیرة حسب التبویب الموضوعیّ .

وأفرزت الأعمال الجدیدة فی تدوین السّیرة کتبا بعنوان فقه السّیرة (أحدهما لمحمّد الغزالیّ ، والآخر لرمضان البوطیّ) وهی تواکب فهما جدیدا للسیرة . وثمّة کتب صنّفت أیضا وهی تتوخّی تکوین فکرٍ ثمّ حکومةٍ ، وجهادٍ علی طریق إقامة هذه الحکومة مثل : انقلاب تکاملی اسلام [ ثورة الإسلام التکاملیّة ] للأُستاذ جلال الدین الفارسیّ .

الشیعة وتدوین السیرة

قسط الشیعة فی کتابة التاریخ الإسلامیّ کبیرٌ کبیرٌ . وینطبق هذا الأمر علی شیعة العراق کأبی مخنف والکلبیّ وغیرهما کما ینطبق علی الإمامیّة بعامّة . وسنکتفی بإشارةٍ فی هذا الباب ثمّ نعرّج علی الکتب التی صنّفها الشیعة الإمامیّة فی السیرة النبویّة .

کان الأصبغ بن نباتة من أقدم الشیعة المصنّفین إذ کان له کتاب فی مقتل الإمام

ص: 128

الحسین علیه السلام(1) . والآخر هو أحمد بن عبید اللّه الثقفیّ ، ومن کتبه : کتاب المبیضّة فی أخبار مقاتل آل أبی طالب ، کتاب فی تفضیل بنی هاشم وذمّ بنی أمیّة وأتباعهم(2) . والثالث محمّد بن زکریّا بن دینار ، ومن کتبه علی ما روی النجاشیّ : الجمل الکبیر ؛ الجمل المختصر ؛ صفّین الکبیر ؛ مقتل الحسین(3) ؛ کتاب النهروان ؛ مقتل أمیرالمؤمنین علیه السلام ؛ أخبار زید ؛ أخبار فاطمة(4) . ومثالنا الآخر إبراهیم بن محمّد الثقفیّ الذی کان زیدیّا ثمّ صار إمامیّا ، وله مصنّفات فی التاریخ منها : کتاب المبتدأ والمغازی والردّة ؛ أخبار عمر ؛ أخبار عثمان ؛ کتاب الدار ؛ الغارات (وهو موجود الآن) ؛ أخبار زید ؛ أخبار محمّد النفس الزکیّة وأخوه إبراهیم(5) . ولجابر بن یزید الجعفیّ مصنّفات فی هذه المجالات أیضا : کتاب الجمل ؛ کتاب صفّین ؛ کتاب النهروان ؛ کتاب مقتل أمیرالمؤمنین علیه السلام ؛ کتاب مقتل الحسین علیه السلام(6) .

ومن الکتب التاریخیّة التی ترکها علیّ بن الحسن بن علیّ بن فضّال : کتاب الدلائل ؛ کتاب الأنبیاء ؛ کتاب البشارات ؛ کتاب الکوفة(7) .

ومن المصنّفات التاریخیّة التی صنّفها عبد العزیز الجلودیّ الأزدیّ الذی کان فی عداد علماء الشیعة المعروفین فی البصرة : کتاب الجمل ؛ کتاب صفّین(8) ؛ کتاب

ص: 129


1- تنقیح المقال 1 : 150 .
2- الفهرست ، ابن الندیم : 166 .
3- کان هذا الکتاب متداوَلاً فی الأوساط الزیدیّة بروایة محمّد بن سلیمان الکوفیّ . انظر : مقدّمة مناقب الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام 1 : 12 . وأورد الکوفیّ فی هذا الکتاب أیضا خمسین فضیلةً من فضائل أمیرالمؤمنین علیه الصلاة والسلام - ومعظمها تاریخیّ - عن محمّد بن زکریّا بن دینار . انظر : الجزء الثالث من هذا الکتاب ، ص177 .
4- رجال النجاشیّ : 347 .
5- نفسه : 18 ؛ وانظر : لسان المیزان 1 : 102 ، 103 ؛ معجم الأدباء 1 : 233 .
6- نفسه : 129 .
7- نفسه : 258 ، رقم 676 .
8- نقل السیّد ابن طاووس عنه دعاءین فی مهج الدعوات کان یدعو بهما الإمام أمیرالمؤمنین علیّ علیه السلامقبل وقعة صفّین . انظر : مکتبة ابن طاووس : 525 .

الحکمین ؛ کتاب الغارات ؛ کتاب الخوارج ؛ کتاب ذِکر علیّ علیه السلام فی حروب النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ؛ کتاب مآل الشیعة بعد علیّ علیه السلام ؛ أخبار التّوّابین وعین الوردة ؛ أخبار المختار ؛ أخبار علیّ بن الحسین ؛ أخبار أبی جعفر محمّد بن علیّ علیه السلام ؛ أخبار عمر بن عبد العزیز ؛ أخبار من عشق من الشعراء ؛ أخبار قریش والأصنام ؛ کتاب طبقات العرب والشعراء ؛ کتاب خطب النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ؛ کتاب خطب عثمان ؛ کتاب رسائل عمر ؛ کتاب رایات الأزد ؛ کتاب مناظرات علیّ بن موسی الرضا علیه السلام(1) .

وکانت لأحمد بن إسماعیل بن عبد اللّه البجلیّ الذی کان من أهل قمّ مصنّفات فی التاریخ . ومن أهمّها کتاب العبّاسیّ الذی قال فیه النجاشیّ : «وهو کتاب عظیم نحو من عشرة آلاف ورقة من أخبار الخلفاء والدوله العبّاسیّة . رأیتُ منه أخبار الأمین . وکان فی ید محمّد بن الحسن القمّیّ الذی نقل منه أربعة شواهد فی تاریخ قمّ(2) . وصنّف علی بن أحمد الجوّانیّ کتابا فی أخبار صاحب فخّ ، وکتابا فی أخبار یحیی بن عبد اللّه بن الحسن(3) . وکان لأحمد بن محمّد بن خالد البرقیّ المحدّث القمّیّ البارز کتاب فی السیرة تحت عنوان کتاب المغازی . وله أیضا مصنّفات تاریخیّة أُخری هی : کتاب الشعر والشعراء ؛ کتاب البلدان والمساحة ؛ کتاب التاریخ ؛ کتاب الأنساب(4) .

وکان أَبان بن عثمان الأحمر البجلیّ من أبرز المؤرّخین فی عصر الأئمّة علیهم السلام . وسبق أن تحدّثنا عنه .

وبشأن تدوین السیرة عند الشیعة یمکننا أن نقول فی التفاوت بین الرؤیتین الشیعیّة

ص: 130


1- رجال النجاشیّ : 241 ، 244 .
2- رجال النجاشیّ : 97 ، رقم 242 . انظر : کتابشِناسی آثار مربوط به قمّ [ علم المصادر فی المصنّفات المتعلّقة بمدینة قمّ ] : 19 . وهذه الشواهد المنقولة مذکورة فی ص145 ، 200 ، 236 ، 237 من تاریخ قمّ .
3- نفسه : 263 .
4- نفسه : 76 رقم 182 .

والسنّیّة أنّ الشیعة تنظر إلی حیاة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بنظرة أکثر قداسةً ، وتجعل عصمته هی الأساس فی رؤیتها . ومن الحریّ بالقول إنّ حالة الإعجاب بحیاته صلی الله علیه و آله وسلم وإن کانت ملحوظةً تماما فی کتابة التاریخ عند السنّة لکنّ عصمته صلی الله علیه و آله وسلم بجمیع أبعادها لم تنل نصیبها من الاهتمام . ومثال ذلک کتاب ألّفه أبوالفضل المشّاط(1) تحت عنوان زلّة الأنبیاء ردّا علی کتاب تنزیه الأنبیاء للشریف المرتضی(2) . وذکر التقابل بین هذین الفکرین المؤلّف الشیعیّ لکتاب معتقد الإمامیّة فی القرن السابع الهجریّ(3) . وبلغ الأمر مبلغا أنّ عالما سنّیّا آخر صنّف کتابا فی القرن الثالث تحت عنوان معاصی الأنبیاء ، وقد أنکره علیه المتکلّم السمرقندیّ المشهور أبو منصور الماتریدیّ(4) .

وما ارتبط الأمر بالسیرة النبویّة ، یجب أن نقول : إنّ تعلیم المغازی کان فی جملة تعالیم الأئمّة علیهم السلام . وأهمّ دلیل علی ذلک هو کلام الإمام السجّاد علیه السلام إذ قال : «کنّا نُعَلَّمُ مغازی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم کما نُعَلَّم السورة من القرآن»(5) . وبین أخبار الإمام الباقر والإمام الصادق علیهماالسلام کثیر من أخبار السیرة ، وورد عدد وفیر منها فی المصادر المدوَّنة . علی سبیل المثال نقل ابن إسحاق بعض الأخبار فی سیرته عن الإمام الباقر علیه السلام . ویُلحظ قسم من هذه الأمثلة فی طبقات ابن سعد أیضا . ونجد بین المصنَّفات الشیعیّة قرابة ربع من تفسیر علیّ بن إبراهیم القمّیّ فی أخبار السیرة وتاریخ الأنبیاء . وکان إجمال تدوینه الأخیر من عدّة مصادر ، وأفاد صاحبه من المصنَّفات المدوَّنة التی کانت سهلة المنال فی القرن الثالث والرابع . فقد أخذ من کتاب المبعث والمغازی لأبان بن عثمان مثلاً . وهو من جملة المصنَّفات التی اقتصر قسم السیرة فیها علی أخبار الإمامین الباقر

ص: 131


1- کتاب نقض : 344 .
2- نفسه : 11 .
3- معتقد الإمامیّة : 47 طبعة دانِشْ بَزوه ، طهران ، 1339 شمسیّ .
4- انظر : ادبیات فارسی اسطوری [ الأدب الفارسیّ الأُسطوریّ ] : 725 .
5- الجامع لأخلاق الراویّ 2 : 288 ؛ البدایة والنّهایة 3 : 242 ؛ سبل الهدی والرشاد 4 : 20 .

والصادق علیهماالسلام تقریبا . ویشهد علیه إقحام تفسیر أبی الجارود فیه ، وجمیع أخبار هذا التفسیر منقولة عن الإمام الباقر علیه السلام ، کما أنّ فیه مطالب من السیرة تناسبا مع شأن نزول الآیات . وتمتاز أخبار أبی الجارود عن سائر الأقسام . وأورد العلاّمة المجلسیّ أخبار هذا الکتاب کلّها فی مجلّدات تاریخ نبیّنا من بحار الأنوار .

والمثال الآخر کتاب مبعث النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وأخباره لعبد اللّه بن میمون القدّاح الذی کان راویا لأخبار الإمامین الباقر والصادق علیهماالسلام(1) . فهذه أمثلة علی اهتمام الأئمّة والشیعة بأخبار السیرة . وکذلک کان اهتمامهم بتاریخ الإسلام عامّةً .

ونشیر فیما یأتی إلی عدد من المصنّفات التی دوّنت فی شخصیّة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ولها بعد موضوعیّ غالبا .

کتاب صفات النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم لوهب بن وهب (رجال النجاشیّ : 430) .

کتاب وفود العرب إلی النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم للمنذر بن محمّد بن المنذر (ومن مصنّفاته الأُخری : کتاب الجمل ، کتاب صفّین ، کتاب النهروان ، کتاب الغارات) (رجال النجاشیّ : 418) .

مسألة فی إیمان آباء النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم لأبی یعلی محمّد بن الحسن بن حمزة الجعفریّ (رجال النجاشیّ : 404) .

کتاب مسألة فی معرفة النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم للشیخ المفید (رجال النجاشیّ : 402) .

کتاب زهد النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، کتاب أوصاف النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، کتاب فی معرفة فضل النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وأمیرالمؤمنین والحسن والحسین علیهم السلام للشیخ الصدوق (رجال النجاشیّ : 389 ، 391) . وله أیضا کتاب فی عبد المطّلب وعبد اللّه وأبی طالب (رجال النجاشیّ : 390) .

ص: 132


1- رجال النجاشیّ : 213 .

کتاب البیان عن خیرة الرحمن فی إیمان أبی طالب وآباء النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم لعلیّ بن بلال المهلبیّ الأزدیّ (رجال النجاشیّ : 265) .

کتاب مبعث النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وأخباره لعبد اللّه بن میمون القداح (النجاشیّ : 213) .

کتاب وفاة النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم لسلمة بن الخطّاب البراوستانیّ الاذدورقانیّ (النجاشیّ : 187) .

کتاب الردّ علی من زعم أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کان علی دین قومه قبل النبوّة لجعفر بن أحمد بن أیّوب السمرقندیّ (النجاشیّ : 121) .

کتاب الردّ علی من زعم النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کان علی دین قومه لحسین بن إشکیب الخراسانیّ (النجاشیّ : 44) .

کتاب أخبار النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم لأبی علیّ أحمد بن محمّد بن عمّار الکوفیّ . وکان له کتاب أیضا عنوانه : کتاب إیمان أبی طالب (النجاشیّ : 95) .

کتاب ذکر النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم والصخرة والراهب وطرق ذلک لأحمد بن محمّد بن سعید السبیعیّ الهمْدانیّ (النجاشیّ : 94) .

کتاب فضل النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم لأحمد بن محمّد بن عیسی الأشعریّ (النجاشیّ : 81) .

کتاب سیرة النبیّ والأئمّة علیهم السلام فی المشرکین لحسین بن علیّ بن سفیان البزوفریّ (النجاشیّ : 68) .

کتاب الوفود علی النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم لحسین بن محمّد بن علیّ الأزدیّ (النجاشیّ : 65) .

کتاب نسب النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، کتاب کُتُب النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، کتاب أخبار الوفود علی النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم لعبد العزیز الجلودیّ الأزدیّ (النجاشیّ : 241 - 244) .

کتاب أسماء آلات رسول اللّه وأسماء سلاحه ، وکتاب وفاة النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم لعلیّ بن الحسن بن علیّ بن فضّال (النجاشیّ : 258) .

کتاب المغازی لأحمد بن محمّد بن خالد البرقیّ (النجاشیّ : 76) .

ص: 133

المُنبئ عن زهد النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم لأبی محمّد جعفر بن أحمد بن علیّ القمّیّ ابن الرازیّ . ونقل عنه السیّد ابن طاووس فی عدد من مصنّفاته(1) .

کتاب أسماء رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لحسن بن خرزاد (النجاشیّ : 44) .

وظلّت السیرة النبویّة موضع اهتمام المجتمع العلمیّ الشیعیّ حتّی فی القرون اللاحقة . بید أنّ هذا الاهتمام کان منحصرا فی الاطّلاع علیها ، بخاصّة أنّه کان یعنی الشیعة أکثر فی المباحث الکلامیّة . یقول ابن أبی الحدید : حضرتُ عند محمّد بن معد العلویّ الموسویّ الفقیه علی رأی الشیعة الإمامیّة رحمه اللّه فی داره بدرب الدوابّ ببغداد فی سنة ثمانٍ وستّمائة ، وقارئ یقرأ عنده مغازی الواقدیّ ، فقرأ : حدّثنا الواقدیّ قال : ... إلی أن بلغ خبر الواقدیّ الذی یذکر فیه مَنْ فَرّ یوم أُحد مشیرا بکلمة فلان

وفلان ... فقال لی محمّد بن معد : یرید أبا بکر وعمر . فأنکرتُ علیه ذلک فقال : لیس فیالصحابة من یُحتشَم ویُستحیا من ذکره بالفرار وما شابهه من العیب ، فیضطرّ القائل إلی الکنایة إلاّ هما . قلت له : هذا وهم ... فبان فی وجهه التنکّر من مخالفتی له(2) .

ویُلحَظ بین مصنّفات ابن أبی طی ، العالم والمؤرّخ الشیعیّ البارز فی القرن السادس وأوائل القرن السابع کتابٌ فی المغازی من ثلاثة أجزاء ، لکن یؤسفنا أن لا أثر منه الیوم .

وللشیعة محاولات فی تاریخ الأنبیاء أیضا . وأُنجز هذا العمل فی المصنّفات التاریخیّة للمسلمین تحت عنوان کتاب المبتدأ . ویشمل هذا الاصطلاح تاریخ البشر منذ البدایة إلی ما قبل خاتم الأنبیاء . وفی هذا المجال ، یدلّ قسم کتاب المبتدأ والمبعث والمغازی لأبان بن عثمان الأحمر الذی ذکرنا موارده فی مقدّمة کتابه المبعث والمغازی علی أنّ

ص: 134


1- کتابخانه ابن طاووس [ مکتبة ابن طاووس ] : 449 ، 450 .
2- شرح نهج البلاغة ، ابن أبی الحدید 15 : 23 ، 24 .

تقلیدا کان سائدا بین الشیعة لتدوین مثل هذه الأخبار ، علما أنّ هذا المصنَّف یضمّ أخبارا أُخذ بعضها من مصادر إسرائیلیّة لا یوثق بها طبعا .

وجاء القسم المتعلّق بتاریخ الأنبیاء متفرّقا فی المصادر الشیعیّة لکنّه واسع کثیرا . وذکر العلاّمة المجلسیّ مجموعة هذه الأخبار فی الجزء الحادی عشر إلی الرابع عشر من بحارالأنوار . ومعظمها ملحوظ فی مصنَّفات الصدوق ، وتفسیر علیّ بن إبراهیم القمّیّ ، وتفسیر العیّاشیّ ، وتفسیر مجمع البیان وأمثالها ، وکما قیل إنّ مثل هذه المصنّفات یضمّ کثیرا من أخبار أهل السنّة المأخوذة من أشخاص مثل کعب الأحبار ، وعبد اللّه بن سلام ، وبخاصّة وهب بن منبّه . ونقل ابن طاووس فی فرج المهموم مطلبا عن کتاب عنوانه قصص الأنبیاء قال إنّه لمحمّد بن خالد بن عبد الرحمن البرقیّ . ویبدو أنّ شخصا آخر لم یُخبر عن هذا الکتاب . ومن بین المصنَّفات الباقیة بشکل مستقلّ یمکن أن نشیر إلی کتاب قصص الأنبیاء لقطب الدین الراوندیّ (م 573) . وتولّی مجمع البحوث الإسلامیّة فی مشهد طبعه بتحقیق الأُستاذ غلام رضا عرفانیان . ویضاف إلی ما یشتمل علیه من تاریخ الأنبیاء أنّ قسما منه یضمّ معجزات النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم (الباب التاسع عشر من ص280 فما تلاها) وقسما یتناول أحواله صلی الله علیه و آله وسلم وهو الباب العشرون من الکتاب ، فلا بدّ أن ینال نصیبه من الاهتمام لهذه الجهة .

ولم یُشر الراوندیّ إلی مصادره ، لکنّ الأسناد التی ذکرها تدلّ علی أنّه لم یعتمد فی معلوماته علی کتاب معروف . ویُحتَمل أنّ قسما مهمّا من بابه العشرین مستلّ من تفسیر علیّ بن إبراهیم القمّیّ .

وتلا الراوندیَّ السیّد نعمةُ اللّه الجزائریّ (م 1112) فی کتابه النور المبین فی قصص الأنبیاء ، وهو یدور حول قصص الأنبیاء بخاصّة .

ص: 135

کتابة التاریخ والمؤرّخون من البدایة حتّی القرن الخامس

اشارة

مرّ بنا أنّ سنّة کتابة التاریخ عند المسلمین سنّة قویّة فعّالة شاملة . وتطوّر هذا العلم سریعا بتأثیر أیّام العرب فی الجاهلیّة ، والقَصص القرآنیّ وعلم الحدیث ، وتبلور بترکیبة من الأسالیب المتداولة فی العلوم الثلاثة المذکورة لبیان الحوادث التاریخیّة . ونشأ التاریخ فی قسم من کتاباته فی سبک الحدیث ، وعرض الأخبار فی بعض المواضع بلا مراعاة للأُسلوب الحدیثیّ ، وبدون ذکر للسند .

إنّ ما یجب أن یُلتَفت إلیه من وجهة أُسلوب العمل هو أنّ ظهور المصنَّفات التاریخیّة فی مرحلتین زمنیّتین متباینتین اتّخذ طابعین . الأوّل : هو الأُسلوب الذی اختبر من القرن الأوّل وعلی امتداد القرن الثانی وفی فترات من القرن الثالث ، ویتجسّد فی عرض الموضوعات التاریخیّة فی قالب الکتابات التجزیئیّة التی استأثر کلّ منها بمبحث خاصّ . والعناوین العامّة التی کانت تُنتخَب لمثل هذه الکتابات هی : «أخبار» ، «وقعة» ، «مقتل» ، وما شابهها . وهذا اسلوب اختاره بعض المؤرّخین فی القرن الثانی کأبی مخنف ، والمدائنیّ ، والکلبیّ .

والثانی هو الأسلوب المتطوّر الذی انتُهج منذ أواخر القرن الأوّل وکثر استعماله فی القرنین الثالث والرابع ، ویتمثّل فی کتابة المصنَّفات التاریخیّة علی شکل تاریخ عام کلّیّ . وتعرض هذه الکتب القضایا التاریخیّة إمّا علی أساس ترتیب الخلفاء أو بشکل تقویم سنویّ . واعتُمد فی تدوینها علی کثیر من الکتابات التجزیئیّة وأُدرجت موضوعاتها فی التاریخ العام . والمؤرّخون البارزون من الجیل الثانی هم خلیفة بن الخیّاط ، والیعقوبیّ ، والدینوریّ ، وأخیرا الطبریّ الذی صنّف تاریخه العظیم مستضیئا بکثیرٍ من الکتابات التجزیئیّة .

ومن الواضح أنّ هذین الأُسلوبین یتعارضان ، ولکلٍّ منهما مزایاه الخاصّة غابرا

ص: 136

وحاضرا . وکثیر من المباحث الجزئیّة التی کانت تُطرَح فی الکتابات التجزیئیّة لم یرد فی التواریخ العامّة . وضاع حجم کبیر من المعلومات التاریخیّة ، بخاصّة فی مجال التاریخ الثقافیّ والاجتماعیّ نتیجةً للانقطاع الذی طرأ فی إعداد الکتابات التجزیئیّة فی العصور اللاحقة . وتدلّ نظرة علی الکتابات التجزیئیّة الداثرة للمدائنیّ ، وأبی مخنف علی عمق هذه المحنة الثقافیّة .

وینبغی الالتفات إلی أنّ لبعض المؤرّخین فی تلک الفترة أُسلوبهم الخاصّ بهم کالزبیر بن بکّار الذی اتّخذ نهجا خاصّا فی تألیف الموفّقیّات ، أو محمّد بن حبیب الذی جمع فی المنمّق والمحبّر کثیرا من الکتابات التجزیئیّة المتفرّقة لذریعةٍ ما . ویمکن أن نحدس من محتواها مدی الأهمیّة البالغة التی کانت تتّصف بها هذه الکتابات التجزیئیّة .

أبو مِخْنَف (ح 90 - 157)

وهو لوط بن یحیی بن سعید بن مخنف بن سُلَیم الأزدیّ الذی کان من مشاهیر المؤرّخین فی القرن الثانی الهجریّ(1) . وثبت تشیّعه ، لذا ترکه أصحاب الحدیث . وذکر ابن حِبّان أنّه کان رافضیّا ویسبّ الصحابة(2) . وأورد ابن عدیّ أنّه کان شیعیّا مفرطا(3) . وفی ترکه عند أصحاب الحدیث یجب أن نلتفت إلی أنّه کان أخباریّا ومؤرّخا . ولم یوثّقه الذهبیّ لنزعته الأخباریّة(4) . وفی مقابل هؤلاء أیّده الرجالیّون من الشیعة . وذکر النجاشیّ أنّ أبا مخنف کان شیخ الأصحاب فی الکوفة ولنا أن نثق

ص: 137


1- العجیب أنّ الیعقوبیّ ذکر اسم أبی مخنف فی عداد الفقهاء الذین عاشوا أیّام المهدیّ العبّاسیّ عهده منذ أواخر سنة 158 . انظر : تاریخ الیعقوبیّ 2 : 403 .
2- لسان المیزان 4 : 344 .
3- الکامل فی ضعفاء الرجال : 6 ، رقم 2110
4- میزان الاعتدال : 3 ، رقم 2992 .

بأخباره . ویروی عن جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام(1) .

وکان جدّه مخنف بن سلیم من صحابة النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم(2) والإمام علیّ علیه السلام . وشهد الجمل مع الإمام علیه السلام رئیسا لطائفة الأزد . وبعد ذلک ولاّه الإمام علیه السلام علی إصفهان .

وتخصّص أبو مخنف فی حوادث العراق(3) ، وله کتابات تجزیئیّة فی معظم حروبه المهمّة . وتضمّ أکثر هذه الکتابات أخبار الشیعة ، وبعضها فی صراعات الخوارج وثورة عبد الرحمن بن محمّد الأشعث . وتدلّ نظرة علی مؤلّفاته فی فهرست ابن الندیم علی مراحل عمله فی هذا المضمار(4) . وتشمل هذه المراحل تقریبا القسم الأعظم من أخبار تاریخ الإسلام حتّی أواخر العهد الأُمویّ . وجاء أکثر الأحداث المهمّة فی تلک

الفترة تحت عناوین مستقلّة فی کتاباته التجزیئیّة(5) .

ومع أنّ أبا مخنف کان شیعیّا ، لکنّه حافظ علی رحابة صدره اللازمة فی نقل الأخبار ، حتّی نقل أهل السنّة أخباره أیضا . وربّما أنکر ابن أبی الحدید تشیّعه لهذا السبب(6) ، وهو ما لم یؤیّده الآخرون . وفی روایة أبی مخنف موضوعات کثیرة تعدّ فریدةً فی نوعها ، من هنا فهی بالغة الأهمیّة . وأفاد الطبریّ من کتاباته التی روی

ص: 138


1- رجال النجاشیّ : 320 ، رقم 875 .
2- انظر : مسند أحمد 2 : 183 ، 4 : 215 ، 5 : 76 ؛ سنن النسائیّ 7 : 167 . ونُقلت فی هذه المصادر أخبار حول کیفیّة قدومه علی النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم .
3- انظر : معجم الأدباء 17 : 41 . وتخصّص المدائنیّ فی خراسان والهند وفارس ، والواقدیّ فی الحجاز والسیرة . الفهرست : 106 .
4- الفهرست : 105 ؛ وانظر : النجاشیّ : 320 .
5- التاریخ العربیّ والمؤرّخون 1 : 178 .
6- یقول ابن أبی الحدید : وأبو مخنف من المحدّثین وممّن یری صحّة الإمامة بالاختیار ولیس من الشیعة ولا معدودا فی رجالاتها . شرح نهج البلاغة 1 : 147 .

أکثرها عن طریق الکلبیّ إفادة وافیة . وتبلغ أخباره التی نقلها عنه (586) خبرا(1) . وکذلک أفاد أبو الفرج الإصفهانیّ منه کثیرا فی کتابَیه : مقاتل الطالبیّین ، والأغانی(2) .

ومن أثمن أعمال أبی مخنف مقتل الحسین علیه السلام الذی نقل الطبریّ أکثر أخباره ، ومن المؤسف أنّ أصله مفقود(3) . أمّا مقتل الحسین علیه السلام المتداوَل هذا الیوم والذی أُعید طبعه مرارا فهو منسوب إلی أبی مخنف وموضوع علیه ، ویتأیّد سقمه من خلال مقایسته بما جاء فی تاریخ الطبریّ(4) . وکذلک مقتل المختار ، وکتاب المختار وابن زیاد إذ هما من الموضوعات المنسوبة إلیه ، ولا ینسجم متناهما مع محتوی ما نقله الطبریّ عنه(5) . ومن الحریّ بالذکر أنّ رسالةً بعنوان مولد علیّ بن أبی طالب علیه السلام طُبعت باسم أبی مخنف أیضا .

ویبدو أنّ ما نُسب إلی أبی مخنف یماثل بعض الکتابات التاریخیّة التی وُضعت فیما بعد ونُسبت إلی الواقدیّ ، ومعظمها فی الفتوحات . وتقتنی شتّی المکتبات فی العالم نسخا کثیرة من کتاب مقتل الحسین علیه السلام المعهود منذ قرون(6) .

وکان کتاب الجمل من مصنّفاته المهمّة ، وأورد ابن أبی الحدید بعض أخباره فی شرح نهج البلاغة ، ومنها أشعار لأصحاب أمیر المؤمنین علیه السلام ، ذُکرت فیها کلمة

ص: 139


1- مرویّات أبی مخنف : 58 .
2- جُمع فی تاریخ الطبریّ کتاب بعنوان مرویّات أبی مخنف . وجامعه شدید التعصّب ضد الشیعة لذلک وجّه انتقاداته إلی أخباره کلّها من حیث السند .
3- تولّت انتشارات اسلامی [ دار النشر الإسلامیّة ] أخیرا طبع هذا القسم من الکتاب مستقلاًّ بعنوان غیر صحیح وهو وقعة الطفّ . وما فی متناول الید من کتاب مستقلّ بعنوان مقتل أبی مخنف غیر صحیح قطعا .
4- الکنی والألقاب 1 : 155 .
5- مرویّات أبی مخنف : 48 ، 49 .
6- تجد فهرسا لها فی مرویّات أبی مخنف : 53 .

الوصایة(1) . وله مصنَّفات أُخری متفرّقة فهرسها سزگین(2) .

وحاول مؤلّف کتاب مرویّات أبی مخنف فی تاریخ الطبریّ «عصر الخلافة الراشدة» أن یعدّ فهرسا لأخبار أبی مخنف فی عصر الخلفاء الأُوَل وینقدها . وهدفه من الکتاب زعمه أنّ فی الکتابات التاریخیّة للطبریّ نزعة شیعیّة ، لذا لا قیمة لها من منظار سنّیّ . وفصّل الکلام - فی مقدّمته - عن مشایخ أبی مخنف الذین کانوا من الوجوه الشیعیّة البارزة فی العراق ، کما أنّ فیهم علماء غیر شیعة .

نصر بن مزاحم المِنقَریّ (م 212)

نصر بن مزاحم المنقریّ أحد المؤرّخین الأخباریّین فی النصف الثانی من القرن الثانی الهجریّ . وهو من أصحاب الکتابات التجزیئیّة الذین اضطلعوا بجمع الأخبار المتعلّقة بالتّیارات الشیعیّة فی العراق من وحی میولهم الشیعیّة . ذکره ابن الندیم وعدّه من طبقة أبی مخنف وقال إنّه کان عطّارا . ومن مصنّفاته کتاب الغارات ، کتاب صفّین ، کتاب الجمل ، کتاب مقتل حجر بن عدیّ ، کتاب مقتل الحسین علیه السلام(3) . واتّهمه الرجالیّون من أهل السنّة لتشیّعه . وفی مقابل ذلک عدّه النجاشیّ مستقیم الطریقة ، صالح الأمر لکنّه أضاف أنّه یروی عن الضعفاء . ثمّ ذکر له کتاب النهروان ، وکتاب المناقب ،

ص: 140


1- شرح نهج البلاغة ، ابن أبی الحدید 1 : 145 ؛ قاموس الرجال 7 : 447 . وجمع سزگین المقطوعات المنقولة فی تاریخ الطبریّ وشرح ابن أبی الحدید عن کتاب الجمل لأبی مخنف . انظر : Sezgin, U. Abu Mihnaf; ein Beigrag zur Historiongraphie der unaiyadischen, zeit, leiden, 1971. ونقل ابن أبی الحدید ثلاثةً وأربعین موردا منها .
2- تاریخ التّراث العربیّ ، ج1 ، الجزء الثانی ، ص128 - 130 .
3- الفهرست : 106 .

وکتاب أخبار محمّد بن ابراهیم وأبی السرایا(1) الذی تناول فیه الحوادث الواقعة فی السنین الأخیرة من حیاته .

والکتاب الوحید الذی خلّفه لنا هو وقعة صفّین . وهو الکتاب الأُحادیّ الموضوع المهمّ الذی أخذ منه ابن أبی الحدید فی شرح نهج البلاغة . وکانت نسخة منه فی متحف بغداد وطُبع سنة 1300 ه . وتولّی فرج اللّه کاشانیّ طبعه بطهران سنة 1301 ه . بعد تصحیحه ، لکنّ طبعته المقبولة تحقّقت بجهود المحقّق البارز فی العالم العربیّ عبد السلام هارون سنة 1365 ه . وهذه الطبعة نفسها أُعیدت بالأوفسیت فی طهران بعد أن فرّسها بَرویز أَتَابکی بأسلوب أنیق فصیح وحملت عنوان پَیْکارِ صِفِّین . وکتاب وقعة صفِّین من أفضل الکتابات الأُحادیّة الموضوع التی بقیت من القرن الثانی وهو یدلّ علی أهمیّة هذه الکتابات التی ضاع ما یربو علی 95% منها . وبضیاعها تلقّی الشیعة خاصّةً ضربة ثقافیّة کبیرة . وکتاب نصر بن مزاحم کتاب مسند ، فقد ذکر سند مطالبه فی أکثر المواضع ، ولم یدّخر وسعا فی تدوین التفاصیل المتعلّقة بهذه الحرب المهمّة فی تاریخ الإسلام . وورد اسم نصر بن مزاحم فی کتاب الفتوح لابن أعثم کثیرا ، إلاّ أنّه أخطأ فی اسمه فقال : نعیم بن مزاحم . ومن المؤسف أنّ المصحّح لم ینتبه إلی هذا الأمر . وهکذا یمکننا أن نجد عددا وافرا من نصوص المصنّفات التی صنّفها نصر بن مزاحم فی فتوح ابن أعثم أیضا .

هشام بن محمّد الکلبیّ (204 - 206)

هشام بن محمّد بن السائب بن بشر بن عمرو الکلبیّ المعدود من کبار المؤرّخین فی العصر الإسلامیّ . وأبوه محمّد بن السائب بن بشر الکلبیّ (م 146) من مشاهیر علماء

ص: 141


1- رجال النجاشیّ : 428 .

عصره أیضا . وأصاب نجله حظّا کبیرا من تراث أبیه العلمیّ . وذکر ابن سعد أنّ جدّه بشر بن عمرو وأبناءه السائب ، وعبید ، وعبد الرحمن شهدوا الجمل مع علیّ علیه السلام(1) .

وطُعن فیه وفی أبیه کثیرا لأنّهما کانا خارج سلک أصحاب الحدیث ، ولهما أسالیبهما التاریخیّة الخاصّة بهما ، وکذلک بسبب میولهم الشیعیّة . وذُکر محمّد فی عداد السبّابین وهو اسم آخر للروافض(2) . مع هذا بلغ من العلم مبلغا أنّ عبّاد بن صهیب الذی لم یرغب فی أن ینقل عنه شیئا فی البدایة ، اضطُرّ فیما بعد إلی أن یروی عنه بالواسطة(3) . وغایة هذا الأمر أنّ شخصیّات موثّقة من أهل السُنّة روت عنه فی علم التفسیر - الذی قیل إنّه کان فذّا فیه - لکنّها لم تثق به فی الحدیث(4) .

وذکر ابن الندیم أنّ محمّد بن السائب (م 146) کان من علماء الکوفة ، وله فی التفسیر والأخبار وأیّام الناس باعٌ ، کما أنّ له تفسیرا أیضا(5) . وفی سیاق إشارة الطبریّ إلی حضوره فی ثورة ابن الأشعث عدّه متبحّرا فی التفسیر والأخبار وأحادیث العرب(6) . وروی عنه ابن اسحاق بتعبیر «حدّثنا أبو النصر» . وأورد السمعانیّ أنّه أتی بکنیة محمّد بن السائب لئلاّ یُعرَف !(7)

وکان هشام بن محمّد یحظی بتفوّق أکثر . وکان شیعیّا کأبیه وأُسرته . وهو ما رکّزت علیه المصادر التی ترجمت له بصورةٍ وافیة . وقیل : إنّه کان یعتقد بالرجعة ، وأنّ

ص: 142


1- الطّبقات الکبری 6 : 359 .
2- الکامل فی ضعفاء الرجال 6 : 115 ؛ الأنساب 5 : 86 . وربّما نُقل عنه سخریةً أنّه قال ما مضمونه : کان جبرئیل مرّة عند النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وعلیّ معه . فذهب النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی شغل فأوحی جبرئیل علیه السلام إلی علیّ علیه السلام . انظر : الوافی بالوفیّات 3 : 83 .
3- الکامل فی ضعفاء الرجال 6 : 116 .
4- نفسه 6 : 120 .
5- الفهرست : 107 .
6- المنتخب من ذیل المذیل : 652 . وانظر : الطّبقات الکبری 6 : 358 ؛ میزان الاعتدال 3 : 556 - 558 .
7- الأنساب 5 : 86 .

تصنیفه فی مثالب الصحابة من آیات تشیّعه(1) . وقال النجاشیّ : «کان یختصّ بمذهبنا»(2) .

وکانت له کتابات تجزیئیّة (أُحادیّة الموضوع) وفیرة ضاع أکثرها ، ولم یبق منها إلاّ شذرات مبثوثة فی سائر المصادر . وکان کثیر من المؤرّخین آنذاک من تلامذته وأفادوا من أخباره فی التاریخ . وکان أغلب عمله فی أخبار الجاهلیّة وکذلک أخبار إیران والیمن . ویبدو أنّه أعدّ مجموعات عظیمة فی هذا المجال . وکان طبعا کأبیه مؤرّخا لا محدّثا ، ولهذا السبب قال فیه أحمد بن حنبل : هو صاحب شعر ونسب ولا أظنّ أحدا یروی عنه(3) .

وتخصّص هشام الرئیس علم الأنساب . ومصنّفاته فیه أمّ المصنَّفات التی تلتها فی هذا العلم . وکثرة عمله تبعث علی الإعجاب وتدلّ علی نبوغه التاریخیّ الرفیع . وذکر جواد علی أنّه سبق أباه فی الإفادة من المصادر الأصلیّة والوثائق المکتوبة بخاصّة فی تاریخ الحیرة وتاریخ الفرس . وکان ملمّا بالفارسیّة أیضا . وأثبت قابلیّته واستیعابه فی هذا المجال ، وهو - من مؤرّخ - بمعنی الفهم العلمیّ للتاریخ . وعلی الرغم من أنّه لم یسلم من تُهَم أصحاب الحدیث الذین رموه بالتزویر والکذب فی الروایة ، فإنّ الدراسات الجدیدة دلّت علی أنّ خصومه لم یُصیبوا فی کلّ ما قالوه فیه . وکان موفّقا فی عمله وقطع أشواطا بعیدةً فی تألیف المصنّفات التاریخیّة علی أساس منهج علمیّ(4) .

وأثنی جواد علی علی نهجه فی موضوع آخر إذ کان یبحث عن الوثائق الرسمیّة ویذهب إلی الکنائس والأدیرة ابتغاء الکتب کی یتوفّر علی التحقیق مستعینا بها ، وجاء ثناؤه فی سیاق إشارته إلی الأُسلوب الروائیّ الذی انتهجه الطبریّ ونقصه فی

ص: 143


1- میزان الاعتدال 4 : 304 ؛ شذرات الذّهب 2 : 13 ؛ الذریعة 19 : 75 . وقال السمعانیّ : کان غالیا فی التشیّع . الأنساب 5 : 86 .
2- رجال النجاشیّ : 434 ، رقم 1164 .
3- الأنساب 5 : 87 .
4- موارد تاریخ الطّبریّ ، القسم الأوّل : 149 .

تحلیل صحّة الأخبار وسقمها(1) .

وکانت لهشام مصنَّفات فی أخبار العصر الإسلامیّ أیضا . وهو الذی روی أخبار أبی مخنف الشیعیّ بشکل رئیس کما یُستشفّ من تاریخ الطبریّ . وأحصی ابن الندیم مؤلّفاته فی ثلاث صفحات . وهی تتناول مجالات متنوّعة منها : الأحلاف، والأنساب ، والأوائل ، وأخبار الجاهلیّة ، وأخبار العصر الإسلامیّ ، وأخبار المدن ، والشعراء ، وأیّام العرب(2) . وتحقیقاته العلمیّة فی قراءة البلاطات التی کانت علی قبور اللخمینیّین غایة الروعة والإبداع من نوعها(3) . وفهرس سزگین آثاره الباقیة(4) . وطُبع عدد من آثاره المعروفة بتصحیحات عدیدة : وهی النسب الکبیر ، الأصنام ، کتاب نسب معد والیمن الکبیر .

ونُقلت فی تشیّع هشام روایة طریفة یلطف ذکرها . فقد أورد زائدة أنّه کان یختلف إلی الکلبیّ ویقرأ علیه القرآن . فقال یوما : مرضتُ مدّةً ونسیتُ کلّ شیء . فذهبتُ عند رجلٍ من آل محمّد [ صلی الله علیه و آله وسلم ] فوضع لسانه فی فمی ، فتذکّرتُ کلّ شیء . یقول زائدة : فقلتُ له : واللّه لا أروی عنک أبدا(5) . ورأی زائدة هذا یعود إلی جحوده بآل محمّد علیه وعلیهم الصلاة والسلام .

هیثم بن عدیّ (م 207)

أبو عبد الرحمن هیثم بن عدیّ من مؤرّخی النصف الثانی من القرن الثانی الهجریّ . وعلی الرغم من أنّه لم یترک شیئا بصورة مستقلّة لکنّ معظم المؤرّخین فی

ص: 144


1- موارد تاریخ الطّبریّ ، القسم الأوّل : 168 .
2- الفهرست : 108 - 110 ؛ النجاشیّ : 435 .
3- تاریخ التّراث العربیّ : ج1 ، الجزء2 ، ص52 .
4- تاریخ الأدب العربیّ 3 : 8 .
5- الکامل فی ضعفاء الرجال 6 : 115 . انظر فی تشیّعه : الأنساب 5 : 86 .

القرن الثالث والرابع تقریبا أفادوا من مصنّفاته ، حتّی إنّ اسمه ورد فی أکثر المصادر التی کانت فی العصر الذی تلاه . وذکره ابن الندیم بلفظ عالم بالشعر والأخبار والمثالب والمناقب والمآثر والأنساب . وهو وسط بین جیلین من المؤرّخین ، جیل التاریخ الأُحادیّ الموضوع ، وجیل التاریخ العامّ ، ولهذا نلحظ فی مصنّفاته کتابات أُحادیّة الموضوع کمصنّفات أبی مخنف والمدائنیّ ، وکتابات عامّة أیضا . وصنّف رسائل وکتبا فی أنواع المباحث التاریخیّة والنسبیّة ، وتنوّعُ الموضوعات المفضّلة عنده ، التی تستبین نطاق کتابة التاریخ آنذاک ، فی غایة السعة . ومن کتبه : کتاب هبوط آدم وافتراق العرب ، کتاب نزول العرب بالسواد وخراسان ، کتاب الدولة ، کتاب تاریخ العجم وبنی أمیّة ، کتاب المثالب الکبیر ، کتاب من تزوّج من الموالی فی العرب ، کتاب طبقات الفقهاء والمحدّثین ، کتاب الخوارج ، کتاب التاریخ علی السنین ، کتاب خواتیم الخلفاء ، کتاب تاریخ الخلفاء ، کتاب ولاة الکوفة(1) الخ .

وأفاد هیثم بن عدیّ من المصادر التی کانت قبله ، لکنّه - علی عکس الذین جلسوا علی مائدة الکتب الجاهزة فیما بعد - کأبی مخنف والمدائنیّ أخذ کثیرا من أخباره من مصادر الطراز الأوّل بین القبائل والشخصیّات البارزة . مع هذا کان عدد من أساتذته ومشایخه أخباریّین . وأحدهم مجالد بن سعید الذی نقل عنه هیثم الکثیر من أخباره کما ذهب إلی ذلک ابن الندیم(2) . وکان له تلامذة من أهل التاریخ أیضا . ومنهم أبو حسّان الزیادیّ (243) الذی کانت له کتب مثل کتاب المغازی لعروة بن الزبیر ، وکتاب طبقات الشعراء ... وتکرّر اسم هیثم بن عدیّ فی کتاب طبقات ابن سعد ، ومصنّفات محمّد بن حبیب ، والأخبار الطوال ، وتاریخ الیعقوبیّ ، وتاریخ الطبریّ ، ومروج الذهب للمسعودیّ ، ومصنّفات أبی الفرج الإصفهانیّ ، وهذا یدلّ علی أنّ کتبه

ص: 145


1- الفهرست : 112 .
2- نفسه : 103 .

کانت مظنّة لإفادة المذکورین . وذکر الذهبیّ فی مقدّمة تاریخ الإسلام أنّ تاریخ هیثم بن عدیّ کان من مصادره(1) .

أبو عبیدة معمر بن المثنّی (110 - 209 أو 211 - 213)

وهو من الشخصیّات البارزة الأُخری التی کانت کتاباتها الأُحادیّة الموضوع الکثیرة مموّنةً لمصنّفات ضخمة أُعدّت منذ القرن الثالث فما تلاه . وأثنی علیه الجاحظ(2) . وکان شعوبیّ النزعة ، ولهذا السبب ، أو لمیله إلی الخوارج ، لم یعبأ به الناس . وقیل : لم یحضر جنازته أحد !

ومعظم مصنّفاته ذات موضوعات أدبیّة . وهی فی مفردات القرآن ، وجمع الأخبار والمعلومات حول مختلف الحیوانات (کالذی فعله الجاحظ فی الحیوان ، وبعده الدمیریّ فی حیاة الحیوان) ومصنّفات تاریخیّة بخاصّة الفتوحات . ومن کتبه فی التاریخ : مقاتل الأشراف ، وکتاب الجمل وصفّین ، وکتاب الغارات ، وکتاب مقتل عثمان ، وکتاب قضاة البصرة ، وکتاب فتوح ارمینیة ، وکتاب فتوح الأهواز ، وکتاب أخبار الحجّاج ، وکتاب قصّة الکعبة(3) . ومصنّفاته فی الفتوحات موضع إفادة البلاذریّ فی فتوح البلدان ، وکذلک خلیفة بن الخیّاط الذی کان ابن مدینته . فقد نقلا من کتبه مباشرةً ، لأنّهما لم یأتیا بسندٍ فی النقل عنه(4) .

وجاء فی أخبار مکّة للفاکهیّ أحد عشر نصّا منقولةً عن کتاب لأبی عبیدة کان صنّفه فی آبار مکّة(5) . وله کتب فی مثالب القبائل العربیّة وکتاب بعنوان فضائل الفُرس ، ممّا أدّی إلی رمیه بالشعوبیّة .

ص: 146


1- تاریخ الإسلام «السّیرة النّبویّة» : 13 .
2- البیان والتبیین 1 : 347 .
3- الفهرست : 59 .
4- إسهامات مؤرّخی البصرة : 136 - 142 .
5- أخبار مکّة ، الفاکهیّ ، المقدّمة : 34 .

أبو الحسن المدائنیّ (135 - 228)

أبو الحسن المدائنیّ (135 - 228)(1)

ولد علیّ بن محمّد بن عبد اللّه بن أبی سیف المدائنیّ (من موالی سمرة بن جندب) فی البصرة . ثمّ توجّه إلی المدائن . ومات فی دار صدیقه إسحاق الموصلیّ ببغداد وهو ابن ثلاث وتسعین سنةً . وهو من المؤرّخین القلائل الذین یثق بهم أهل السنّة ، وهذا ممّا أثار شکّا خاصّا حوله . ووثّقه یحیی بن معین والخطیب البغدادیّ(2) . وأوصی یحیی ابن معین أحمد بن زهیر أن یدوّن کتب المدائنیّ(3) . وهذا فی وقتٍ کانت له روایات مسندة محدودة . وأورد ابن عدیّ فی سیاق ذکره هذا الموضوع روایةً مسندةً عنه(4) . ولمّا کان المدائنیّ قد نشأ فی البصرة - مع أنّه ذهب إلی المدائن فیما بعد ولقّب بها - فلا بدّ أن یتأثّر بأجوائها ومیولها العثمانیّة . وهو الذی روی أخبار عوانة بن الحکم الذی کان عثمانیّ الهوی علی حدّ تعبیر یاقوت . وجاء فی الخبر الذی نقله الجاحظ عن المدائنیّ أنّ المدائنیّ ذکر بأنّ الأُمویّین کانوا لا یرضون إلاّ بروایات المراثی . وعندما سئل عن السبب قال : لأنّها تشتمل علی مکارم الأخلاق !(5)

وبلغت مصنّفاته (239) علی ما أحصاه ابن الندیم ، فی حین تُلحظ کتب أُخری فی الفهرس الذی عرضه یاقوت لمصنّفاته التی ذکر البعض أنّها تبلغ (261) . وهذا الحجم من المصنّفات دفع البعض إلی أن یلقّبه شیخ الأخباریّین . ومن هذه المصنّفات سبعة وعشرون فی سیرة النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ؛ وواحد وثلاثون فی قریش وشخصیّاتها البارزة ؛ وثلاثة وثلاثون فی أخبار النساء والزواج بین الأشراف وأمثال ذلک ؛ وسبعة عناوین

ص: 147


1- اختلفوا فی تاریخ وفاته : 215 ، 225 ، 231 ، 234 ، 235 .
2- تاریخ بغداد 12 : 55 ؛ لسان المیزان 4 : 253 ؛ الأنساب 4 : 232 .
3- تاریخ بغداد 12 : 55 .
4- الکامل فی ضعفاء الرجال 5 : 213 .
5- البیان والتبیین : 320 القاهرة 1380 .

فی أخبار الخلفاء ؛ وسبعة وعشرون فی أیّام العرب بعد الإسلام ، وسبعة وثلاثون فی الفتوحات ؛ وعشرة فی أخبار العرب ؛ واثنان وثلاثون فی أخبار الشعراء ؛ والباقی منها فی موضوعات أُخری .

والذی یستشفّ من عناوین هذه الکتابات هو أنّ المدائنیّ کان من أهمّ المؤرّخین فی عصرٍ کان المألوف فیه کتابة تاریخ أُحادیّ الموضوع یتناول حوادث وموضوعات خاصّة . وکان ولع المدائنیّ الخاصّ بهذه الموضوعات جلیّا تماما فی کتاباته . علی سبیل المثال ، کان عَلِقا بجوانب خاصّة من السیرة ، ورسائله تدلّ علی میله إلی ذلک بوضوح . ومنها کتاب أمّهات النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، وکتاب اقطاع النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، وکتاب عهود النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، وکتاب رسائل النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، وکتاب أخبار المنافقین ، وکتاب أزواج النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، وکتاب عمّال النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم علی الصدقات .

ویلزمنا أن نعدّ کثیرا من هذه الکتابات التی بقی منها النزر الیسیر وطُبع ، مقالات موجزة . مثلاً کتابه الفرج بعد الشدّة والضیق الذی لاحظه التنوخیّ خمس أو ستّ أوراق(1) . ورسالته المردفات من نساء قریش التی طبعها عبد السلام هارون قصیرة . وهی تتحدّث عن نساء من قریش کنّ تزوّجن بعد وفاة بعولتهنّ . وبقیت له رسالتان أیضا وهما التعازی وعلم الخواصّ . ومن المحتمل وجود مصنّفات عالیة بین کتاباته أیضا لکنّا لم نحصل علی خبرٍ منها لحدّ الآن . علی سبیل المثال ، قیل فی مغازیه أنّها کانت ثلاثة أجزاء .

ووردت أقسام کثیرة من مصنّفاته المفقودة فی الکتب المتأخّرة ، ککتاب مقاتل الطالبیّین لأبی الفرج الإصفهانیّ الذی اشتمل علی فقرات جمّة من کتاب أسماء مَن قُتل من الطالبیّین(2) . ونقل البلاذریّ (1416) خبرا عن المدائنیّ(3) . کما جاءت فی

ص: 148


1- الفرج بعد الشدّة ، التنوخیّ 1 : 7 .
2- انظر ذلک فی شیخ الأخباریّین : 26 - 28 .
3- موارد البلاذریّ 1 : 167 .

بلاغات النساء أقسام ضافیة من کتبه التی صنّفها فی النساء(1) . ونقل ابن أبی الحدید شذرات من مصنّفاته أیضا(2) .

وأفاد الطبریّ من کتابات المدائنیّ بخاصّة من فتوح خراسان فی مواضع کثیرة من القسم المتعلّق بتاریخ خراسان . کما أورد البلاذریّ أخبارا وافرةً عن المدائنیّ أیضا وذلک فی حدیثه عن السیرة والأُمویّین . وکتابه تاریخ الخلفاء من المصنّفات المهمّة التی یبدو أنّ الطبریّ أصاب حظّا أکبر منها(3) .

أجل ، کانت مصنّفات المدائنیّ علی سعتها وکثرتها موقوفةً علی أخبار العصر الإسلامیّ . ولم یبق منه فی موضوع المبتدأ شیء . ووصلت إلینا کتابات قلیلة عن الجاهلیّة ، وسائر کتاباته تدور حول العصر الإسلامیّ . من هنا قیل : إذا رام أحد أخبار العصر الجاهلیّ فلیقرأ کتب أبی عبیدة ، وإذا رام أخبار العصر الإسلامیّ فلیقرأ مصنّفات المدائنیّ(4) . وعرض الأُستاذ بدری محمّد فهد بأناة وتُؤَدَة فهرسا طویلاً لما نُقل عن المدائنیّ فی تاریخ العصر الإسلامیّ من مصادر متنوّعة ، مع الاحتفاظ بالترتیب التاریخیّ(5) . وفی مجال النصوص الأدبیّة نُقلت أخبار کثیرة عن المدائنیّ فی مصنّفات الجاحظ ، والزبیر بن بکّار ، والمبرد ، وابن عبد ربّه ، وأبی الفرج الإصفهانیّ وغیرهم(6) .

خلیفة بن الخیّاط (م 240)

خلیفة بن الخیّاط المعروف بشباب العُصفریّ(7) . کان أحد المؤرّخین المهمّین فی

ص: 149


1- شیخ الأخباریّین : 31 - 34 .
2- تاریخ التّراث العربیّ ج1 ، الجزء2 ، ص141 ، 142 ؛ وانظر : التاریخ العربیّ والمؤرّخون 1 : 128.
3- إسهامات مؤرّخی البصرة : 212 - 215 .
4- تاریخ بغداد 12 : 55 .
5- شیخ الأخباریّین : 65 - 140 .
6- نفسه : 141 - 161 .
7- تذکرة الحفّاظ 2 : 436 .

القرن الثالث الهجریّ ، ووصفه ابن کثیر بأنّه «من أئمّة التاریخ»(1) . وهو کابن سعد تماما کان فی عصرٍ مُنیَ فیه «بالمحنة» أو تشدّد المعتزلة - والمأمون علی رأس الجمیع - علی الناس فی مسألة خلق القرآن(2) . وذکره ابن الندیم ، وأحصی له خمسة کتب هی : الطبقات ، وکتاب التاریخ ، وطبقات القرّاء ، وتاریخ الزمنی والعرجان والمرضی والعمیان ، وأجزاء القرآن(3) . ولم یصل إلینا منها - علی ما نعلم - إلاّ کتاب التاریخ ، والطبقات وهما مطبوعان .

واختلف فیه علماء الرجال ، وإن وثّقوه نوعا ما . وهو بصریّ ، والبصریّون محظوظون فی تأیید أصحاب الحدیث إیّاهم لمیولهم العثمانیّة ، أو ما یقرب منها کمثل المدائنیّ . ونقل عنه البخاریّ روایات فی ثمانیة عشر موضعا من کتابه ، وهذه فرصة أُخری لعلماء الرجال المتأخّرین أن یُقلّوا فی قدحه . ولا مَعْدِلَ فی أن نعترف أنّه لم یعتن اعتناءا وافیا بالسند ، وهو ما یرضاه أصحاب الحدیث . ولا تُلحَظ فی میول خلیفة أدنی درجة من التشیّع العراقیّ .

وطبع له أکرم ضیاء العمریّ فی العراق کتاب التاریخ الذی بقی بروایة بقیّ بن مخلد القُرطبیّ(4) (201 - 276) سنة 1386 ه بمساعدة المجمع العلمیّ فی العراق . وأصدر سهیل زکّار طبعة أُخری منه عام 1414 ه (بیروت ، دار الفکر) ! وذکر العمریّ فی المقدّمة ترجمة مفصّلة له وما کان عنه وعن أُسرته .

وأورد فهرسا لمصادر خلیفة فی تاریخه . واعتمد خلیفة فی القسم الأعظم من سیرته علی ابن إسحاق . وأفاد أیضا من کتابه تاریخ الخلفاء ، کما نقل عنه روایات عدیدة حول عصر الخلافة الأُولی . وقیل إنّه ذکر اسم ابن إسحاق فی تاریخه أکثر من

ص: 150


1- البدایة والنّهایة 10 : 322 .
2- أخبار القضاة 2 : 175 .
3- الفهرست : 288 .
4- قیل : کان أوّل من أخذ علم التاریخ إلی الأندلس .

مئة مرّة(1) . والراوی أو الکاتب الآخر الذی أفاد منه هو وهب بن جریر الذی أفاد ابن سعد من روایاته أو مصنّفاته فی طبقاته أیضا . وکان مصنّف أبی معشر المفقود من مصادر خلیفة أیضا . وکان المدائنیّ من شیوخه ، ونقل عنه خلیفة مباشرةً . وقیل إنّ 50% من الأخبار المتعلّقة بالفتوحات وأخبار عصر الخلفاء الأُوَل منقولة عن المدائنیّ ، ومن المحتمل أنّها مأخوذة من کتاب الجمل ، وکتاب صفین ، وکتاب الخوارج(2) . ومن مشایخه الذین کان بعضهم أصحاب کتب ، ومن المحتمل أنّه نقل عنهم روایات اعتمادا علی مدوّناتهم بإجازة أو شفویّا : أبو عبیدة معمر بن المثنی (م 209) ، وهشام الکلبیّ ، وسحیم بن حفص (م 190) ، والولید بن هشام القحذمیّ(3) ، وعبد اللّه بن المغیرة ، وکثیر غیرهم(4) .

وقیل فی تاریخ خلیفة إنّه أقدم مصنَّفٍ تاریخیّ وصلنا وحوادثه مسجّلة بحساب السنین . والمزیّة الأُخری للکتاب هو أنّه ضبط إحصائیّاتٍ وأرقاما لم ترد فی ما سواه من المصادر . وقلّما تناول الکتاب الأحداث الداخلیّة للمسلمین کتمرّد یزید بن المهلّب ، لکنّه استعاض عنها بأخبار کثیرة فی الفتوحات(5) .

وعلی الرغم ممّا مضی فی تاریخ خلیفة قیل : إنّ معاصریه لم یرحّبوا بکتابه ، ولم ینقل عنه أصحاب المصنّفات التی صُنِّفت بعده بقلیل . وذکره الطبریّ مرّة واحدة ، وذلک فی حوادث سنة 141 ه . وأفاد الأزدیّ (م 334) منه فی تاریخ الموصل(6) ، لکنّ الذهبیّ أو ابن کثیر لم یُفد منه فیما بعد . ومن المحتمل أنّ الکتاب لم یکن فی متناوله .

والتاریخ عند قُدامی المؤرّخین هو السنة ، ویُستعمل بشکل رئیس بمعنی التقویم

ص: 151


1- إسهامات مؤرّخی البصرة : 191 .
2- إسهامات مؤرّخی البصرة : 192 .
3- انظر : ص 150 - 162 من المصدر نفسه للاطّلاع علی أخبار الولید بن هشام .
4- انظر : مقدّمة العمریّ علی تاریخ خلیفة : 26 - 45 .
5- مقدّمة زکّار علی تاریخ خلیفة : 10 .
6- إسهامات مؤرّخی البصرة : 201 - 212 .

سواءً فی سنة الولادة ، أم الوفاة ، أم سنة وقوع الحوادث وأمثال ذلک . وذکر خلیفة نفسه فی مقدّمة کتابه واصفا التاریخ بأنّ کتابه کتاب تاریخ والناس یعیّنون حجّهم وصومهم وعدّة نسائهم ومدّة دیونهم بالتاریخ . ثمّ تحدّث عن تاریخ الیزدجردیّ ، وبعد ذلک تناول بدایات تاریخیّة متعدّدة کان العرب یحتفظون بها بعد کلّ حادثة برهةً من الزمن ، وآخرها حملة أبرهة علی مکّة . تلا ذلک حدیث ظهور التاریخ الهجریّ ، وتبعه بحث تاریخیّ یبدأ بولادة النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ویتواصل حتّی سنة 232 ه .

ومن المزایا الرئیسة لهذا الکتاب اشتماله علی معلومات حول أصحاب المناصب الحکومیّة فی کلّ سنةٍ وکلّ مدینة . فقد قدّم فی جمیع مواضع الکتاب فهرسا بأسماء المدن مع ذکر أمرائها وأصحاب مناصبها(1) . والمزیّة الأُخری للکتاب ذکر السنین ، وکذلک أیّام الأُسبوع ، وهو فی هذا الأمر لافت للنظر قیاسا بغیره من المصادر . ففهرس قتلی الیمامة ، وقتلی الجمل والحرّة(2) أیضا لا عهد لأحدٍ به .

ومن الحریّ بالذکر أنّ تاریخ خلیفة لم یسجّل انحیازا لجهةٍ علی عکس بعض الکتب ککتاب الیعقوبیّ والمسعودیّ اللذین تلحظ فیهما المیول المذهبیّة والسیاسیّة .

والمصنَّف الآخر لخلیفة طبقاته التی تعدّ مع طبقات ابن سعد من أقدم المصنّفات الباقیة فی هذا المجال . وعلی الرغم من وجازته فإنّه یفوق طبقات ابن سعد فی معلوماته الجغرافیة إذ ذکر کثیرا من المدائن الصغیرة مضافا إلی عدد من المدائن الکبیرة فی العالم الإسلامیّ(3) . ویشتمل علی معلومات تاریخیّة خاصّة تدور حول الأشخاص ، منها أنّه یتحدّث فی بعض المواضع عن مساکنهم ، ولهذا قیمته الخاصّة به من منظار التاریخ الإقلیمیّ .

ص: 152


1- إسهامات مؤرّخی البصرة : 187 ، 188 .
2- تاریخ ، طبعة العمریّ : 187 ، 240 .
3- إسهامات مؤرّخی البصرة فی الکتابة التاریخیّة : 64 .

محمّد بن حبیب (م 245)

وهو محمّد بن حبیب بن أمیّة الهاشمیّ البغدادیّ أحد المؤرّخین والنسّابین البارزین فی القرن الثالث الهجریّ ، ومن سلالة علمائیّة ، وله کتابات تاریخیّة أُحادیّة الموضوع کثیرة فی موضوعات متنوّعة . وکان من موالی بنی العبّاس ، وعمله الرسمیّ تأدیب [ تعلیم ] أبناء العبّاس بن محمّد العبّاسیّ (وذا أخو السفّاح والمنصور) . وهو عالم أخباریّ أیّ عالم ، وکان مولعا بالقضایا التاریخیّة - النسبیّة والأدبیّة . ویمکن أن یُقرَن إلی هشام الکلبیّ والمدائنیّ فی الموضوعات التی کان یرغب فیها مقایسةً بسائر المؤرّخین یومئذٍ ، وإن کان حجم عمله أقلّ من المدائنیّ بکثیر .

وذکره ابن الندیم بقوله : «کان من علماء بغداد بالأنساب والأخبار واللغة والشعر والقبائل» ، وأحصی مصنّفاته ، وقال : «وکتبه صحیحة» . وتدور مصنّفاته حول علم الأنساب والتاریخ وأخبار الشعراء . وبعد أن ذکر ابن الندیم کتاب القبائل الکبیر والأیّام قال إنّه کتبه للفتح بن خاقان ، وإنّه رأی منه نسخةً وهی أکثر من عشرین جزءا ومئتَی ورقةٍ بل أکثر ، وکان یقال إنّها أربعون جزءا(1) . وذُکِرَ له «تاریخ الخلفاء» ، لکنّه کمصنّفاته الکثیرة الأُخری لم یُعثَر علی أثرٍ له لحدّ الآن .

وبقیت مخطوطة واحدة لکلٍّ من مصنَّفیه الکبیرین ، ورسالتَیه أیضا بنحوٍ أشبه بالإعجاز . والمصنَّفان هما المنمّق ، والمحبّر . ویبدو أنّ الثانی کان ذائع الصیت فی القرن الخامس ، لذلک ذکره الخطیب البغدادیّ بلفظ «صاحب کتاب المحبّر» بعد اسمه مباشرةً . وقال : إنّه یروی عن هشام الکلبیّ . وکان محمّد بن حبیب من بغداد ، بَیْدَ أنّه توفّی بسامرّاء فی ذی الحجّة سنة 245 ه(2) .

وأورد یاقوت ترجمته عن ابن الندیم والمرزبانیّ . وذکر المرزبانیّ أنّه کان یقتبس

ص: 153


1- الفهرست : 119 .
2- تاریخ بغداد 2 : 277 ، 278

من کتب الآخرین ویسطره فی کتابه . ومن ذلک کتاب کان اسماعیل بن أبی عبد اللّه قد ألّفه ، ونقله محمّد بن حبیب فی کتابه دون أن یزید علیه أو ینقص منه کلمة(1) ، وأفاد المسعودیّ من کتبه بعد ذکر اسمه(2) .

وکانت عند ابن طاووس العالم الشیعیّ فی القرن السابع (م ذی القعدة 664) نسخة من «المحبّر» ، ونقل منه فی طرائفه ، وفیه أنّ ستّة من الصحابة وستّة من التابعین کانوا یرون جواز المتعة . وذکر کلبرک أنّ خمسة من الصحابة مذکورون فی النسخة الحالیّة ولم یُذکَر فیها تابعیّ واحد . ویبدو أنّ ابن طاووس کان یقتنی نسخة من الکتاب ، وهی متفاوتة مع النسخة الوحیدة الموجودة فی المتحف البریطانیّ التی اعتمد علیها المحقّق فی طبع الکتاب(3) . وکان عند ابن طاووس کتاب آخر لمحمّد بن حبیب أیضا وعنوانه «من استجیبت دعوته» ، ولخّصه ابن طاووس ، ونقل منه فی مهج الدعوات وإقبال الأعمال ، ولا أثر منه الیوم(4) .

والمهمّ هو أنّ مصنَّفَیه الباقیین الیوم یشتملان علی أخبار تاریخیّة فریدة وذات قیمة وفیهما معلومات عن حیاة العرب وعلاقاتهم الاجتماعیّة والقبلیّة ، ویحتویان علیرسائل صغیرة کلّ منها یسجّل نوعا خاصّا من المعلومات الاجتماعیّة والتاریخیّة .

ویتسنّی لنا أن نقول إنّ معظم أخبار کتاب المنمّق(5) تدور حول قریش ، وبشکل رئیس ، حول العصر الجاهلیّ . وبدأ البحث بنسب قریش ، ودار حدیث حول فضائل العبّاس ، ثمّ ورد کلام مفصّل عن حلف الفضول وسائر الأحلاف والمنافرات والمنازعات التی کانت محتدمة بین الأُسر القرشیّة . والقسم الآخر الوارد فی تضاعیف

ص: 154


1- معجم الأدباء 18 : 113 .
2- انظر : التنبیه والإشراف : 174 .
3- کتابخانه ابن طاووس [ مکتبة ابن طاووس ] : 439 .
4- نفسه : 362 - 364 .
5- المنمّق ، تصحیح أحمد خورشید فاروق الهند 1964 م ، بیروت ، عالم الکتب ، 1405 ه .

هذه المباحث یحوم حول أیّام العرب الخاصّة بقریش ، وهو ذو قیمة کبیرة تاریخیّا . کما حفل الکتاب بأخبار العصر الإسلامیّ . إذ تُلحَظ فیه مباحث من نحو «المؤذّنون لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم» ، «المستهزئون من قریش» ، «المشبّهون برسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم من قریش» . وتناولت الأقسام الأُخری عُمی قریش وحُولِها وکواسجها . وعرّفت بالأشخاص الذین کانت أمّهاتهم من النصاری ، أو الیهود ، أو النبط ، أو الحبش أو السند .

ویتناول کتاب المحبّر(1) العصر الإسلامیّ ، وهو فی الحقیقة مجموعة رسائل صغیرة فی موضوعات متنوّعة . وجاءت فیه نُتَفٌ من المباحث المهمّة للسیرة ، وإن کانت موجزة . مثل مولد النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، والمؤاخاة ، ونساء النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، والغزوات والسرایا ، وأسماء الذین شهدوا بدرا ، والمتخلّفین فی تبوک ، ونقباء الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ، واختیرت إلیها موضوعات مع مصادیقها نحو من سُمّی محمّدا من أبناء الأنصار ، وأسماء الذین حرّموا علی أنفسهم شرب الخمر ، وملوک حمیر وکندة وغسّان ، وأخبار النساء اللاّئی لم یتزوّجن بعد وفاة أزواجهنّ ، وأصنام العرب ، وشعائر الحجّ عند العرب فی الجاهلیّة ، وتلبیتهم ، والرجال الذین کانوا متزوّجین عشرا عند مجیء الإسلام ، وأسماء المصلوبین من الأشراف ، والنساء اللاتی کان لهنّ أکثر من ثلاثة أزواج ، ومباحث من هذا النمط .

وذکر فی هذین المصنَّفَین کثیرا من المشاهیر قبله . ولعلّ أکثرهم ذکرا هشاما الکلبیّ الذی کان من مشایخه ، وشارکه فی عمله . ومنهم أبو عبیدة معمر بن المثنّی ، هیثم بن عدیّ ، وعبد العزیز بن عمران ، وابن إسحاق ، والواقدیّ .

وحقّق له عبد السلام هارون رسالة أخری عدا ما ذکرناه ، وهی تحت عنوان

ص: 155


1- المحبّر ، تصحیح الدکتورة ایلزه لیختن شتیتر ، بیروت ، دار الآفاق الجدیدة .

کتاب من نُسب إلی أمّه من الشعراء(1) . ومن الطریف أنّه نفسه کان مشهورا باسم أُمّه حبیب . کما حقّق له رسالةً غیرها أیضا ، وعنوانها أسماء المغتالین من الأشراف فی الجاهلیّة والإسلام وأسماء من قُتل من الشعراء(2) . وله رسالة أُخری أیضا بعنوان کنی الشعراء ومن غلبت کنیته علی اسمه(3) ، ورسالة بعنوان ألقاب الشعراء ومن یعرف منهم بأُمّه(4) . وأهمّها رسالة بأسماء القتلی ، وفیها ترجمة لکثیر من السلاطین والأُمراء والوجوه المعروفة من الشعراء وغیرهم . ومنها صفحات فی أخبار استشهاد أمیرالمؤمنین علیه السلام(5) .

وکانت أمالیه عند ابن أبی الحدید ، ونقل منها فی أجزاء مختلفة من شرحه علی النهج(6) . وقیل إنّه کان ذا میول شیعیّة . ودلیل ذلک أنّه إذا ذکر اسم أبی بکر أو عمر أردفه بتعبیر «رحمه اللّه» وإذا ذکر اسم خدیجة أو الإمام علیّ علیه السلام أدرفه بتعبیر «رضی اللّه عنه»(7) . والدلیل الآخر أنّه قال : کان عمر أحول(8) ، وکان یضرب جاریته المسلمة قبل إسلامه(9) . ومن الحریّ بالذکر أنّه أورد مساوئ کثیرٍ من قریش والصحابة وأولادهم بجرأةٍ بالغة . ویمکن أن یکون فهرسه بأسماء الذین أُقیم علیهم الحدّ من الصحابة وأبنائهم دلیلاً علی انفتاحه أو میوله الشیعیّة فی قدح الصحابة . وربّما أهمل علماء السنّة کتاب المنمّق علی مرّ التاریخ لهذا السبب(10) .

ص: 156


1- نوادر المخطوطات ، المجلّد الأوّل : 83 - 96 ، القاهرة ، 1972 م .
2- نفسه ، المجلّد الثانی : 112 - 275 .
3- نفسه : 281 - 296 .
4- نفسه : 299 - 328 .
5- نفسه : 160 - 163 .
6- شرح نهج البلاغة ، ابن أبی الحدید 1 : 294 ؛ 2 : 36 ؛ 12 : 81 ؛ 13 : 42 و208 ؛ 14 : 250 ؛ 15 : 53 ؛ 16 : 10 ، 1 ، 12 ، 182 ؛ 17 : 236 . وفی هذا المجلّد وحده ورد اسم محمّد بن حبیب .
7- المحبّر : 509 .
8- نفسه : 303 .
9- نفسه : 184 .
10- انظر : المنمّق ، مقدّمة خورشید أحمد فاروق : 11 .

الأزرقیّ (م 248)

أبو الید محمّد بن عبد اللّه بن أحمد الأزرقیّ مؤلّف الکتاب المهمّ کتاب مکّة وأخبارها وجبالها وأودیتها ، وهو المصنَّف الخالد فی تاریخ مکّة . وعدّه ابن الندیم «أحد الأخباریّین وأصحاب السیر» ، ومن المؤرّخین ، وذکر أنّ کتاب مکّة کتاب عظیم(1) . وهذا الکتاب وإن کان یمثّل نوعا من التاریخ المحلّیّ لکنّه أصبح مصدرا مهمّا لتاریخ الإسلام عملیّا لأنّه أرّخ لأقدس مدینة فی العالم الإسلامیّ . وطُبع تحت عنوان أخبار مکّة وما جاء فیها من الآثار .

إنّ ما یجب الالتفات إلیه بالنسبة لمصنّف الکتاب هو أنّه لمحمّد بن عبد اللّه ، إلاّ أنّ قسطَه فیه روایةُ القسم الأعظم منه عن جدّه أحمد بن محمّد بن الولید ، وقلیل منه عن غیره . من هنا یمکن أن نحسب المصنِّفَ الأصلیّ للکتاب جدَّهُ لا شخصه ، وهو کفستنفلد یعتقد بأنّ أصل الکتاب أصغر من حجمه الحالیّ مستشِفّا ذلک من وجود بعض الأسناد الأُخری فی الکتاب ، وکذا وجوه الشَبَه بینه وبین ما جاء فی سیرة ابن هشام ، ثمّ أُضیف إلی حجمه بإلحاق بعض المطالب تدریجا(2) . ولُخِّص الکتابُ غیرَ مرّةٍ کما نُظم شعرا .

وبدأ الکتاب فی فصوله الأُولی بتاریخ الکعبة ، وتحدّث مصنِّفه عن التطوّر التاریخیّ للکعبة والمسجد الحرام . تلاه بحث حول جرهم وسیادتها علی مکّة ، ثمّ خزاعة ، وبعد ذلک قریش . کما جری الکلام عن الوثنیّة وأسباب انتشارها فی الجاهلیّة ، وکذا أداء الحجّ فی العصر الجاهلیّ . وأعقبه حدیث عن تاریخ الکعبة ومکّة بعد الإسلام حتّی قیام الأمویّین بحرقها ... ثمّ أرکان الکعبة وأقسامها الأُخری ، والمسجد الحرام ، وذلک

ص: 157


1- انظر : مقدّمة ملحس علی أخبار مکّة : 16 ، 17 .
2- نفسه .

بنحو مفصّل مع نبذة تاریخیّة عنها . ومن الأبواب الأُخری للکتاب تقدیم جغرافیة دقیقة لمدینة مکّة ، وبیوتها ، ومحلاّتها ودُور الشخصیّات البارزة فیها بعد الإسلام ، وتوضیح لأحیاء المدینة ومقابرها ... الخ .

وطبع فستنفلد هذا الکتاب لأوّل مرّةٍ سنة 1858 م اعتمادا علی ثلاث نسخ فی أروبّا . وأُنجزت طبعته المتداولة الیوم بتحقیق رشدی ملحس سنة 1352 ه . وأضاف المصحّح للکتاب ملحقات فی تاریخ تجدید الکعبة بعد العصر الذی أورده الأزرقیّ ، وذکر السیول التی طالت مکّة حتّی فی الفترة المتأخّرة ، وموضوعات أُخری . وطُبع الکتاب بالأوفست فی قمّ سنة 1411 ه من علی طبعة رشدی ملحس ، وفرّسه الدکتور محمود مهدوی دامغانی .

الزبیر بن بکّار (م 256)

وهو آخر من نهج الأُسلوب الأُحادیّ الموضوع فی تدوین الوقائع التاریخیّة ، لا أُسلوب التاریخ العامّ . وهذه الأُحادیّة لا تعنی کتابة مقالة قصیرة ، وَلِمَ ذاک ؟ ذاک لأنّنا یجب أن نعدّ کتاب وقعة صفّین لنصر بن مزاحم مثلاً من نوع التاریخ الأُحادیّ الموضوع علی ضخامته . ومعظم مصنَّفاته یبدأ بکلمة أخبار . ووصفه یاقوت بالأخباریّ(1) . والزبیر هذا هو ابن بکّار بن عبد اللّه بن مصعب بن ثابت ، وثابت هو ابن عبد اللّه بن الزبیر الذی حکم الحجاز والعراق ردحا من الزمن ، وصمد أمام الأُمویّین وانتهت حیاته بقتله سنة 73 ه . وکانت لآل الزبیر میول علمیّة . ومن متقدّمیهم عروة بن الزبیر الذی کان الراوی الأصلیّ لأخبار عائشة . ومن متأخّریهم مصعب الزبیریّ ، والزبیر بن بکّار هذا ، ومصعب عمّه . وجمعهما قاسم مشترک من

ص: 158


1- معجم الأدباء 4 : 218 .

الوجهة العلمیّة . والدلیل المهمّ علی ذلک هو أنّ کلاًّ منهما ترک کتابا فی نسب قریش .

والمجال العلمیّ لعمل الزبیر بن بکّار هو التاریخ ، والنسب ، والشعر ، والأدب . وهذه علوم مترابطة ترابطا عمیقا .

وکان الزبیر حاذقا فی مثل هذه المعلومات الأدبیّة - التاریخیّة . وکتابه الموفّقیّات ، وکذا نسب قریش وأخبارها آیتان علی إلمامه بالأخبار التاریخیّة ونسب قریش المکینة . وله کتاب آخر تحت عنوان أزواج النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، وهو مطبوع بتحقیق سکینه الشهابیّ (بیروت ، مؤسّسة الرسالة ، 1403ه ) .

ومن المناسب أن نشیر هنا إلی أنّنا یجب أن نغتنم المصنَّفات التی أفرزها القرن الثالث من جمیع الجهات ، بخاصّة ما کان فی النصف الأوّل منه . وهذه المصنَّفات زاخرة بالأخبار التی استطاعت أن تصمد أمام الضغوط الاجتماعیّة - المذهبیّة نوعا ما ، ویمکن أن نجد فیها أخبارا صحیحةً کثیرةً . ویضاف إلی ذلک أنّها - باستثناء بعض المتون الموجَزة والمُسهِبة من القرن الثانی - من أقدم المصنَّفات التی وصلت إلینا ، ولا جرم أنّ مرجعنا فی تحلیل التطوّرات التاریخیّة القرنان الهجریّان الأوّلان .

ومن هذا الضرب مصنَّفات الزبیر بن بکّار التی تحتوی علی أخبار تاریخیّة فریدة ذات قیمة مع ما فیها من بعض المیول الأُسریّة والقبلیّة . وکان له کتاب فی أخبار مکّة أیضا أفاد منه الفاکهیّ فی کتابه أخبار مکّة إذ حوی مئةً وثلاثة وأربعین نصّا منه(1) . وورد فی کتاب المغانم للفیروزآبادیّ قسم مهمّ من کتابه تاریخ المدینة بشأن مساکن القبائل فی المدینة . ونقل ابن حجر نصوصا منه فی الإصابة أیضا(2) .

ولیس فی أیدینا معلومات کثیرة عن الحیاة السیاسیّة - الاجتماعیّة للزبیر بن بکّار . ولا نعلم منه إلاّ أنّه کان قاضیا علی مکّة فی السنین الأخیرة من حیاته . وهو منصب

ص: 159


1- أخبار مکّة ، الفاکهیّ ، المقدّمة ، ص34 .
2- التاریخ والمؤرّخون بمکّة ، ص19 .

خوّله إیّاه الحاکم العبّاسیّ المشؤوم الوضیع المتوکّل مکافأةً له . وکان قبل ذلک مرتبطا بالحکومة العبّاسیّة . ومن أمارات هذا الارتباط عنوان کتابه الموفّقیّات ، إذ أخذه من اسم أبی أحمد طلحة الموفّق بن المتوکّل . وکان الموفّق ولیّا لعهد أخیه المعتمد ، لکنّه لم یدم طویلاً فمات قبل أن یخلفه .

وصنّف الزبیر بن بکّار کتاب الموفّقیّات باسمه . وهذا یدلّ علی علاقاته الحمیمة بالأُسرة العبّاسیّة . ومهما کان فهو عالم وجیه ینتسب إلی قریش ، فمن الطبیعیّ أنّه یعدّ شخصیّةً بارزةً ، بخاصّة أنّه عمّر طویلاً إلی حدٍّ ما ، فأُتیحت له فرصة لیزید نفوذه . ومات فی ذی الحجّة سنة 256 ه وهو ابن أربع وثمانین سنةً .

ووثّقته المصادر الرجالیّة لأهل السنّة بنحوٍ عامّ . وممّن وثّقه الدارقطنیّ ، والبغویّ ، والخطیب البغدادیّ(1) . بید أنّ أحمد بن علیّ السلیمانیّ هاجمه بعنف ، ووصفه بأنّه «منکَر الحدیث» ، وأنّه من الوضّاعین(2) . وفی هذه الحالة ینبغی الاحتیاط فی أخباره علی الرغم من دفاع ابن حجر عنه . ولا نعتمد علی معاییر السلیمانیّ المذکور فی التضعیف والتوثیق . وربّما رُمیَ بهذه التهمة لذکره بعض الأخبار حول السقیفة . وربّما کان سوء الظنّ العامّ الذی حاق بالأخباریّین یومئذٍ سببا فی تضعیفه . ومن المحتمل أیضا أنّ للسلیمانیّ معلومات خاصّة عنه أو عدّ روایته منقولةً عن رواة ضعفاء - وهو ما کان یرضخ له الأخباریّون لیکبّروا حجم کتبهم ویُغنوها . ولا ینسجم هذا مع ما أورده السلیمانیّ فی الزبیر ، وجعله فی زمرة الوضّاعین . ومهما کان لا بدّ من القول أنّ مشکلة توثیق المؤرّخین والأخباریّین وتضعیفهم کانت قائمة ، ونادرا ما تجد مؤرّخا فی أمان منها .

وإذا تخطّینا الزبیر بن بکّار کشخصٍ ، فیجب أن نقول : من حسن الحظّ أنّ کتابه

ص: 160


1- مقدّمة الموفّقیّات : 17 .
2- نفسه .

الموفّقیّات مجموعة من الأخبار التاریخیّة التی نُقل کلٌّ منها مسندا ، وعلیها صبغة حدیثیّة . أی : لکلّ خبر سنده المستقلّ ، ومن هنا یتسنّی تثمینه . مع هذا لا مناص من إفشاء هذه الحقیقة وهی أنّ وجود سنده وسلامة رواته لا یعنیان أنّه صحیح حقّا ، ذلک أنّ اختلاق السند کان أمرا یسیرا کاختلاق الخبر ، فلا محیص من التوفّر علی تقدیر الأخبار بدقّة أکثر ، کما یُشفَع ذلک بتمحیص السند أیضا .

وأشرنا إلی أنّ کتب التاریخ آنذاک إمّا کانت أُحادیّة الموضوع تتناول حوادث خاصّة أو أنّها تواریخ عامّة تؤرّخ لفترةٍ تاریخیّة معیّنة . وقلنا إنّ ابن بکّار کان فی عداد المؤرّخین الذین تخصّصوا فی موضوعٍ واحد . والسؤال الآن هو : ما حال کتاب الموفّقیّات ؟

یشتمل الکتاب علی (429) خبرا تاریخیّا . وکلٌّ منها یشغل سطرین أو ثلاثة أسطر إلی صفحتین أو ثلاث صفحات . وهذه الأخبار تاریخیّة أکثر من کَونها أدبیّة . ومحورها الأصلیّ أیضا القضایا السیاسیّة ، والاجتماعیّة ، والثقافیّة المهمّة إبّان القرنین الهجریّین الأوّلین . وکان الزبیر بن بکّار فی صدد اختیار ما هو طریف عذب تربویّ مهمّ من تلک التغییرات فیُریَه فی کتابه . من هنا ینبغی أن نقول إنّ الکتاب ذو سبک فی غایة الجِدَّة جعله جدیرا بالقراءة لهواة التاریخ وإن کان لا یمکن أن یُعدّ خاصّا بواقعةٍ

أو أنّه فی مصافّ التواریخ العامّة .

والمهمّ هو أصل الاختیار . ومراجعة لفهرس موضوعاته تکشف قیمته أکثر فأکثر. وکان لأخباره کلّها تقریبا اتّجاه خاصّ . وعلینا أن نحسبها کتاباتِ مؤرّخٍ أعدّها فی دفتر خاصّ علی امتداد حیاته . ونحن نعلم مدی قیمة هذه الکتابات إذ أعدّها مؤرّخ ، خصوصا أنّه بذل جهده طوال حیاته .

وذکر محقّق الکتاب فی مقدّمته أنّ أخبار الزبیر بن بکّار علی ثلاثة أنواع . فنوع لم یرد فی أیّ مصدر غیره ، ونوع ورد فی المصادر الأُخری موجَزا ونجد تفصیله فیه ،

ص: 161

ونوع جاء فی ما سواه من المصادر أیضا . علی أیّ حال یجدر بالانتباه إلی أنّ هذه الأخبار موجودة فی کتابٍ صُنِّف فی النصف الأوّل من القرن الثالث الهجریّ ، وهو عندنا . وکان المؤلِّف معاصرا لکثیر من القضایا المتعلّقة بأواخر القرن الثانی أو عصر المأمون ممّا یزید القیمة التاریخیّة للکتاب .

وما یبدو طریفا هو حسّاسیّة المؤلّف فی اختیار الأخبار ، ولهذا الاختیار نزعة فکریّة وتحلیلیّة قویّة ، لا أنّه طریف فی شکله بحتا . وبتعبیر آخر ، إنّ لأکثر هذه الأخبار أثرا فی تحلیل تاریخ القرنین الهجریّین الأوّلین ، وقلّما یمکن التغاضی عن واحدٍ منها . والمحقّق طبعا یجب أن یقرأ مثل هذا الکتاب کلّه لیتیسّر له أن یفید من کلّ ما هو مبثوث فیه ، لأنّ الکتاب یفتقد ترتیبا تاریخیّا معیّنا ، والمؤلّف أساسا لم یقصد مثل هذا الأمر .

وقبل أن نمرّ علی محتوی الکتاب مرورا أدقّ ، ینبغی أن نقول فیه : من المؤسف أنّ النسخ الباقیة من هذا الکتاب کانت ناقصة ، ولیس فی أیدینا إلاّ قسم منه ، وهو مفصّل نسبیّا . مع هذا حاول محقّق الکتاب أن یصلح القسم المفقود منه نوعا ما بأخبار نقلها الماضون عنه فی القرون الخالیة . لذا جاء «القسم الضائع» منه فی آخر الکتاب (ص573 فما تلاها) وهو یشتمل علی (58) خبرا تاریخیّا أغلبها منقول عن شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید . وینبغی أن نشکر المحقّق علی إلحاقه هذا القسم . ویبدو أنّ صراحة هذا الکتاب فی الأخبار التاریخیّة جعلت المتعصّبین لا یُطیقونه . من هنا فإنّه - ککثیر من مصنّفات القرن الثالث - لم یلق ودّا ، فاندثر قسم معتدّ به منه .

وعلی الرغم من العلاقات غیر الطیّبة التی کانت بین آل الزبیر وبنی هاشم ، فإنّ فی أخبار الموفّقیّات أخبارا لافتة للنظر جالبة للانتباه بحقّ أمیرالمؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام . ومن أطرفها ما جاء تحت عنوان «رسول اللّه یوصی بولایة علیّ» ... عن عمّار بن یاسر قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم :

ص: 162

«أوصی من آمن باللّه وصدّقنی بولایة علیّ بن أبی طالب ، من تولاّه فقد تولاّنی ، ومن تولاّنی فقد تولّی اللّه ، ومن أحبّه فقد أحبّنی ، ومن أحبّنی فقد أحبّ اللّه عزّ وجلّ»(1) .

واستطرد بنقل ثلاثة أسناد لهذا الخبر . وهو مَعلَم علی تأکیده صحّةَ الحدیث .

عمر بن شبّه (173 - 262)

أبو زید عمر بن شبّه بن عبید النمیریّ البصریّ (من موالی بنی نمیر) أحد المؤرّخین البصریّین المشهورین . وکتاباته من المصادر المهمّة للکتب التی صُنِّفت فی الأعصار اللاحقة . وذکره ابن الندیم وأورد فهرسا لمؤلّفاته . والقسط الأکبر من مصنّفاته یدور حول الکوفة والبصرة ومکّة والمدینة ، وبعض المصنّفات الأدبیّة والنَسَبیّة : کتاب الکوفة ، کتاب البصرة ، کتاب أُمراء الکوفة ، کتاب أُمراء البصرة ، کتاب أُمراء المدینة ، کتاب مقتل عثمان ، کتاب محمّد وإبراهیم ابنیّ عبد اللّه بن الحسن ... الخ(2) .

وکتابه المهمّ الثمین الذی ترکه هو تاریخ المدینة المنوَّرة . وطُبع فی أربعة أجزاء (مجلَّدین) بتحقیق فهیم محمّد شلتوت اعتمادا علی نسخةٍ مخطوطةٍ وحیدة(3) .

وأقدم کتاب فی تاریخ المدینة هو «تاریخ المدینة» لابن زبالة الذی وردت أقسام منه فی کتاب وفاء الوفاء للسمهودیّ ، وطبعها فستنفلد فی کُتیّب بعنوان تاریخ المدینة لابن زبالة . ومن المؤسف أنّ النسخة الباقیة من هذا الکتاب ناقصة . وهی تشتمل علی ثلاثة أقسام : الأوّل عن النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ؛ والثانی عن عمر ؛ والثالث عن عثمان . وکلّها ناقصة البدایة والخاتمة ، لکنّ المقدار الباقی منها غُنم وذو قیمةٍ . وأورد ابن شبّه فی القسم الأوّل من الکتاب معلومات دقیقة عن المدینة ووضعهما من حیث التمدّن

ص: 163


1- أخبار الموفّقیّات : 312 ، رقم 171 و172 - 174 .
2- الفهرست : 125 .
3- أوفسیت قمّ ، دار الفکر ، 1410 ه .

والعمارة . وقلّ اهتمامه بالتاریخ السیاسیّ لهذا العصر ، بید أنّه قدّم معلومات فریدة دقیقة فی وصفه الأماکن والأحیاء ، کالمساجد التی صلّی فیها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم (57 - 79) ، والأحادیث الواردة فی جبل أُحد (79 - 85) ، والأخبار المتعلّقة بمقبرة البقیع ومدفن الأکابر فیها (86 - 104) ، وقبر السیّدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام (104 - 110) ، وودیان المدینة ، ومطالب أُخری فی جغرافیة المدینة . وتحدّث عن صدقات النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم والإمام علیّ علیه السلام بالمدینة مفصّلاً . ویضاف إلی ذلک یتسنّی لنا أن نجد فیه أخبارا عن الحروب ، والوفود ، وکثیر من موضوعات السیرة .

والملاحظة المهمّة فی الکتاب هی صراحة ابن شبّه الخاصّة فی نقل الأخبار التی کانت محظورة عند أصحاب الحدیث فی القرن الثالث والرابع . ولهذا السبب نلحظ أنّ الکتاب حافل بأخبار مهمّة کشفت حقائق تاریخیّة ترتبط بذلک العصر . ووردت هذه الأخبار مسهِبةً ، لاسیّما فی القسم المتعلّق بعثمان وثورة الناس علیه . ولا کتابَ یبلغ دقّته فی استعراض الجزئیّات المتعلّقة بتلک الحادثة .

وموضوعات الکتاب من جزئه الأوّل إلی ص651 تدور حول عصر النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وتلیها أخبارٌ عن عصر عمر ، وأوّلها فی نسبه ، ووضعه فی الجاهلیّة والإسلام . وفُصّلت فی هذا القسم سیرة عمر فی الحکم ، ومبتدَعاته فی مجالات مختلفة منها فرضه صلاة التراویح وغیرها نحو سیرة عمر ، وموافقات عمر (ص859) . والقسم الأخیر یحوم حول مقتله وتشکیله الشوری وأخبارها (ص868) .

وتبدأ أخبار عثمان من (ص952) . وأوّلها إجراءاته الدینیّة ومنها بعض تشریعاته ، وجهوده فی جمع المصاحف وتوحیدها ، وختمها بالثورة علیه مُفصِّلاً فی ذلک أبلغ التفصیل. وهکذا ینبغی أن نقول إنّ تاریخ المدینة لابن شبّه مصدر قدیم أخباره لافتة للنظر من جمیع الجهات ، وهو أوّل النصوص التاریخیّة التی وصلت إلینا ، وهو متن مهمّ فی التواریخ المحلّیّة لاسیّما تاریخ مدینة الرسول من جهة ، ویشتمل علی أخبار مهمّة

ص: 164

عن عصر الخلفاء الأُوَل من جهةٍ أُخری . ومن الطبیعیّ أنّه لیس لباحث فی التاریخ الإسلامیّ أن یحقّق فی تاریخ المدینة وعصر الخلفاء الأُوَل إلاّ أن یُلمَّ به وبموضوعاته المتنوّعة . ویضاف إلی تاریخ المدینة کتاب مخطوط له بعنوان جمهرة أشعار العرب ، وتوجد نسخة منه بالقاهرة . ووردت فی تاریخ الطبریّ فقرات من کتاب آخر له تحت عنوان أخبار أهل البصرة(1) . وفی کتاب الأغانی فقرات من کتابه أخبار بنی نمیر . کما نقل ابن حجر فی الإصابة نصوصا من کتابه أخبار مکّة أیضا . ونقل أبو الفرج الإصفهانیّ فی مقاتل الطالبیّین من کتابه الموسوم بأخبار محمّد وإبراهیم ابنی عبداللّه (2) .

ابن قتیبة (213 - 276)

أبو محمّد عبد اللّه بن مسلم المعروف بابن قتیبة المَرْوزیّ الدِینَوَریّ أحد الأُدباء والمؤرّخین من أهل السنّة فی القرن الثالث الهجریّ . وله مصنّفات فی الأدب ، والحدیث ، والقرآن ، والتاریخ ، وبقی عدد وافر منها بسبب کثرة الإفادة منها . وکان أبوه فی مَرْوْ ، أمّا هو فقد ولد ببغداد ، وتولّی القضاء فی مدینة دِینَوَرْ برهةً . ومن مشایخه ببغداد : محمّد بن سلام الجُمَحیّ (م 231) ، ویحیی بن أکثم القاضی (242) ، وأبو حاتم سهل بن محمّد السجستانیّ (م 248 أو 255) ، وغیرهم من المحدّثین والأخباریّین البارزین فی ذلک العصر . ومن مصنّفاته : غریب القرآن ، ومشکل القرآن ، ومختلف الحدیث ، ودلائل النبوّة ، والاختلاف فی اللفظ ، وأدب الکاتب ، والأسئلة والأجوبة ، وفضل العرب علی العجم ، وعیون الأخبار ، وطبقات الشعراء ، والمعارف(3) .

ص: 165


1- موارد تاریخ الطّبریّ ، القسم الأوّل ، ص166 .
2- تاریخ التّراث العربیّ ، التدوین التاریخیّ : 205 ، 206 .
3- انظر : الفهرست لابن الندیم ، ص86 . وذکره ابن الندیم فی طبقة اللغویّین . وورد فی مقدّمة المعارف عناوین سبعة وثلاثین کتابا له .

والمعارف هذا هو أهمّ مصنَّف تاریخیّ له . واتّخذ طابعَ موسوعةٍ وجیزة فیما یجدر علمه من التاریخ الإسلامیّ . فهو عمل بدیع من نوعه . والعجیب أنّ المسعودیّ اتّهمه بأخذ الموضوعات من کتب أبی حنیفة الدینَوریّ ووضعها فی کتبه(1) .

وخُصّص فصلٌ من کتاب المعارف فی ترجمة الصحابة ، وإن لم یکن بمنزلةِ کتابِ ترجمةٍ . وتلاه فصل عن الحکّام والسلاطین مع نبذة عنهم حتّی عصر المعتمد العبّاسیّ . کما وقف فصلاً علی الأشراف الذین کان لکلّ منهم تأثیر فی الحوادث المهمّة الواقعة فی زمانهم نوعا ما . وواصل کلامه عن التابعین فی فصلٍ ، وفصل آخر فی التعریف بأهل الحدیث . ثمّ تحدّث عن القرّاء ، والنسّابین ، والأخباریّین ، والرواة ، والأشعار ، والمعلّمین ، والمتهاجرین(2) . وختم ببحث عن «الأوائل»(3) ، والفتوحات ، وحکّام العراق ، والفرق ، والکتّاب وکتّاب الملوک والأُمراء ، وملوک الحبشة ، والحیرة والعجم . ویدلّ هذا الفهرس علی أنّ ابن قتیبة کان فی صدد تألیف کتاب جامع وموسوعة تاریخیّة لکنّها کانت موجَزة . وأفضل طبعة للکتاب هی طبعة ثروت عکاشة التی أصدرتها (انتشارات رضی) [ دار الرضیّ للنشر ] فی قمّ سنة 1415 ه(4) .

ومن مصنّفاته الأُخری التی حوت معلومات تاریخیّة جمّة کتاب عیون الأخبار وهذا الکتاب من المصنَّفات الأدبیّة التی یتخصّص کلّ باب منها بموضوع اجتماعیّ أو سیاسیّ أو أدبیّ . وجُمع فیه کلّ خبر ، أو شعر ، أو حکایة ، أو کلمة قصیرة تتعلّق بالموضوع المنقول . وأصدرت دار الکتاب العربیّ ببیروت هذا الکتاب فی أربعة أجزاء کما طُبع بالأوفسیت فی قمّ . ویشتمل کتاب الشعر والشعراء لابن قتیبة علی ترجمة لعدد کبیر من الشعراء البارزین فی العصر الجاهلیّ والإسلامیّ ، ووردت فیه أیضا مادّة غزیرة حول تاریخ الأدب .

ص: 166


1- مروج الذّهب 2 : 202 .
2- کسعد بن أبی وقّاص الذی قدم العراق من المدینة .
3- فرع من کتابة التاریخ میدانه الوقائع الأُولی .
4- کانت الطبعة السابقة لهذا الکتاب بتصحیح محمّد إسماعیل عبد اللّه الصاویّ فی سنة 1390 ه ، 1970م .

ونُسب إلیه کتاب الإمامة والسیاسة فیالتاریخ. ویری ثروت عکاشة مصحّح کتاب المعارف أنّ نسبته إلیه غیر صائبة . ذلک أنّ الذین ترجموا له - إلاّ أبا عبد اللّه التوزیّ المعروف بابن شباط - لم یذکروا هذا الکتاب فی عداد کتبه . وجاء فی الکتاب أنّ المصنِّف کان بدمشق فی حین أنّ ابن قتیبة لم یرحل عن بغداد إلاّ إلی دینَور . ورُوی فیه عن أبی لیلی ، وأبو لیلی کان قاضیا علی الکوفة سنة 148 ه ، أی : قبل ولادة ابن قتیبة بخمسٍ وستّین سنةً . وورد فی الکتاب خبر حول فتح الأندلس عن امرأةٍ کان المصنَّف قد رآها ، وهذا أیضا لا ینسجم مع السنة التی ولد فیها ابن قتیبة . وذُکرت فیه حملة موسی بن النصیر علی مراکش، والحال أنّ هذه الحاضرة بناهایوسف بن تاشفین سنة 455ه ، ممّا لایتّفق مع السنه التی توفّی فیها ابن قتیبة وهی سنة 276ه(1) . وربّما یکون السبب الأهمّ فی وهم انتساب الإمامة والسیاسیة إلی ابن قتیبة اختلاف نثره عن نثر مصنّفاته الأُخری . ویضاف إلیه أنّ أُسلوبه فی التاریخ یدلّ علی أنّ ما کتبه فی المعارف لا یتّفق مع ما جاء فی الإمامة والسیاسة . کما أنّ انتماءه المذهبیّ لا یوائم ما ورد فی الإمامة والسیاسة حول السقیفة واختلاف المسلمین . علما أنّ فی کتابه الاختلاف فی اللفظ تعبیرا أثار الوهم فی نزعته الشیعیّة ممّا دفع عکاشة إلی الإجابة عنه(2) . وجعل ابن قتیبة نفسه نوعا ما فی مواجهة أهل الحدیث الذین کانوا سنّة متعصّبین غایة التعصّب وذلک بسبب موقفه من المشبّهة . وامتعض فی موضع آخر من أهل الحدیث وتشکّاهم لإخفائهم فضائلَ الإمام علیّ علیه السلام ، بخاصّة حدیث الغدیر ، فلِمَ یکتمون هذه الحقائق محادّةً للمخالفین (الروافض)(3)؟ وهوسنّیّ ولا علاقة له بالشیعة.

ص: 167


1- المعارف : 56 . وانظر أیضا : التاریخ العربیّ والمؤرّخون 1 : 241 .
2- مقدّمة المعارف : 59 .
3- ولفظه فی کتابه الاختلاف فی اللفظ بتحقیق محمّد زاهد کوثریّ ، ص47 - 49 . «وقد رأیتُ هؤلاء(أهل الحدیث) أیضا حین رأوا غلوّ الرافضة فی حبّ علیّ وتقدیمه علی ما قدّمه رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وصحابته علیه ... قابلوا ذلک أیضا بالغلوّ فی تأخیر علیّ کرّم اللّه وجهه وبخسه حقّه ، ولحنوا فی القول وإن لم یعرضوا إلی ظلمه ، واعتدوا علیه بسفک الدماء بغیر حقّ ، ونسبوه إلی الممالأة علی قتل عثمان رضی اللّه عنه ، وأخرجوه بجهلهم من أئمّة الهدی إلی جملة أئمّة الفتن ، ولم یوجبوا له اسم الخلافة لاختلاف الناس علیه ، وأوجبوها لیزید بن معاویة لإجماع الناس علیه ، واتّهموا من ذکره بغیر خیر . وتحامی کثیر من المحدّثین أن یحدّثوا بفضائله کرّم اللّه وجهه أو أن یُظهروا ما یجب له ، وکلّ تلک الأحادیث لها مخارج صحاح ، وجعلوا ابنه الحسین علیه السلام خارجیّا شاقّا لعصا المسلمین حلال الدم لقول النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم : (من خرج علی أُمّتی وهم جمیع فاقتلوه کائنا من کان) . وسوّوا بینه فی الفضل وبین أهل الشوری لأنّ عمر لو تبیّن له فضله لقدّمه علیهم ، ولم یجعل الأمر شوری بینهم . وأهملوا من ذکره أو روی حدیثا من فضائله ، حتّی تحامی کثیر من المحدّثین أن یتحدّثوا بها وعنوا بجمع فضائل عمرو بن العاص ومعاویة کأنّهم لا یریدونهما بذلک وإنّما یریدونه . فإنْ قال قائل : أخو رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم علیّ وأبو سبطیه الحسن والحسین ، وأصحاب الکساء علیّ وفاطمة والحسن والحسین تمعّرت الوجوه وتنکّرت العیون وطرّت حسائک الصدور . وإن ذکر ذاکر قول النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم : (من کنتُ مولاه فعلیّ مولاه) ، و(أنت منّی بمنزلة هارون من موسی) وأشباه هذا التمسوا لتلک الأحادیث المخارج لینتقصوه ویبخسوه حقّه بغضا منهم للرافضة وإلزاما لعلیّ علیه السلام بسببهم ما لا یلزمه . وهذا هو الجهل بعینه» .

ومهما کان ، فإنّ کتاب الإمامة والسیاسة - ولو لم یکن لابن قتیبة - یعدّ من المصنّفات التاریخیّة ذات القیمة فی القرن الثالث . وهو فی الأصل تاریخ الخلفاء . وبدأ بخلافة أبی بکر، وانطلق من حوادث العراق فواصل الکلام حتّی مقتل الأمین العبّاسیّ. وکثیر من أخباره فریدٌ فی بابه إذ تدعمه القرائن التاریخیّة الأُخری ، لکنّها عینها لم ترد فی ما سواها من الأخبار . من هنا فلا مناص من أن نحسب هذا المصنَّف من أمّهات المصادر لتاریخ الخلفاء الأُوَل حتّی العصر العبّاسیّ الأوّل . وأنجزت مطبعة مصطفی البابیّ الحلبیّ طبعته القدیمة بالقاهرة سنة 1388 ه(1) . أمّا طبعته الجدیدة فقد

ص: 168


1- أوفسیت قمّ ، دار الرضیّ للنشر ، 1405ه .

نهض بها علی شیری مقرونةً بالفهارس(1) .

یعقوب بن سفیان الفَسَویّ (حوالی 195 - 277)

أبو یوسف یعقوب بن سفیان الفَسَویّ من المحدّثین والمؤرّخین فی القرن الثالث الهجریّ . وقف سنینَ طویلةً من عمره علی السفر إلی مدائن شتّی من العالم الإسلامیّ لسماع الحدیث ، وهو من مدینة فَسَا فی محافظة فارس . ورحل إلی مکّة ، ومصر ، والشام ، وحواضر مختلفة من العراق لتعلّم الحدیث . ومات بالبصرة فی الثالث عشر من رجب سنة 277 ه وعمره یربو علی الثمانین . وأهمّ مصنَّف له هو المعرفة والتاریخ الذی طُبع فی أربعة أجزاء بتصحیح أکرم ضیاء العمریّ(2) . و«المعرفة» هی معرفة الرجال ، و«التاریخ» هو التاریخ حسب السنین . وسنلحظ أنّ الکتاب مزیجٌ من الأُسلوبین .

ووثّقه أصحاب الرجال بأسرهم ، ووصفوه بالعبادة والزهد والتقوی . ونسبه ابن الأثیر إلی التشیّع(3) . وقال ابن کثیر : بلغ یعقوبَ بن اللیث الصفّاریّ أنّه یتکلّم فی عثمان بن عفّان فأمر بإحضاره . فقال له وزیره : إنّه لا یتکلّم فی شیخنا عثمان بن عفّان السجزیّ ، إنّما یتکلّم فی عثمان بن عفّان الصحابیّ . فقال : دعوه مالی وللصحابیّ !(4) وبقی من مصنّفاته کتاب المعرفة والتاریخ الذی یقع فی ثلاثة أجزاء ، وفُقد جزؤه الأوّل . کما بقی قسم من کتابه الموسوم بالمشیخة . وکان کتاب المعرفة فی متناول المؤرّخین المتأخّرین . وأفادت منه مصادر متنوّعة وأثنت علیه غیر مرّة(5) . ومن

ص: 169


1- وهذا الکتاب طبعته دار الرضیّ للنشر أیضا وذلک سنة 1371 شمسیّ الموافق 1992 م ، ومن المؤسف أنّه لم یحتفظ باسم الناشر وعام الإصدار من الطبعة التی طبع علیها بالأوفسیت .
2- المدینة المنوّرة ، مکتبة الدار ، 1410 ه .
3- المعرفة والتاریخ 10 : 15 .
4- البدایة والنهایة 11 : 60 .
5- انظر : مقدّمة المعرفة والتاریخ : 22 .

المؤسف أنّ قسمه المفقود هو تاریخ عامّ للإسلام علی أساس السنین ، وبلغ به حتّی عصر السفّاح . وأرجع مصحّح الکتاب فی المقدّمة ما نُقل من هذا القسم فی الکتب الأُخری(1) .

وتابع الجزءان الآخران الباقیان حوادث التاریخ الإسلامیّ من سنة 136 حتّی سنة 242 ه . وأورد المصنّف لکلّ سنةٍ فهرسا لحوادثها . وهکذا ینبغی أن نعدّ کتابه من التواریخ العامّة للقرن الثالث الهجریّ ککتاب الیعقوبیّ ، والدینَوَریّ ، ولا سیّما تاریخ خلیفة . والموضوعات التی نقلها فی ذیل کلّ سنة موجزة وقصیرة . وقدّم معلومات رائعة عمّا جری فی السنین التی عاصرها ، ومن ذلک تعیین قبر ابن شهاب الزُهریّ ، وبعض ما کان کُتب علی جدار المسجد الجامع بدمشق من تاریخ البناء ، والآیات القرآنیّة المنقوشة علیه منذ عصر الولید بن عبدالملک(2) .

واتّخذ کتابه طابع الترجمة والرجال بعد بیان الحوادث الواقعة سنة 242 ه . فبدأ بترجمة الصحابة ، وثنّی بالتابعین . واستطرد بعناوین مثل «معرفة القضاة» ، وفضائل مصر والصحابة الذین دخلوها ، وکذلک الشام وتابعیها ، ثمّ أخبار الکوفة والصحابة والتابعین الذین کانوا فیها ، وفصل فی أبی حنیفة وأصحابه ، وکذا الأعمش . فهو یماثل الطبقات الکبری لابن سعد فی هذا الاتّجاه ، وتُلحظ فیه تراجم ومعلومات تاریخیّة متنوّعة جمّة .

وفی ضوء ما استقصاه مصحّح الکتاب فإنّ مصنّف الکتاب نقل فیه عن (232) شیخا . ویضاف إلیه أنّه أخذ بعض الموضوعات من علماء ومؤلّفین قبله ، وهی من کتبهم فی مواضع من مصنَّفه . ونقل فی السیرة (40) نصّا عن عروة بن الزبیر ، وهی ممّا لا ینبغی أن تُنقَل عن کتابة کما ارتأی المصحّح ذلک . والکتاب الذی ورد فیه حدیث

ص: 170


1- مقدّمة المعرفة والتّاریخ : 23 - 40 .
2- نفسه : 52 .

الزهریّ من مصادر الفسویّ أیضا . وبعض العلماء الذین یُحتمل أنّه أفاد من مصنّفاتهم هم محمّد بن إسحاق ، وعبد الملک بن جریج (م150) ، ومعمر بن راشد (م153) ، واللیث بن سعد (م175) ، وأبو نعیم الفضل بن نعیم (م219) ، وعدد آخر من المحدِّثین(1) .

محمّد بن إسحاق الفاکهیّ (217 - 272 إلی 278)

أبو عبد اللّه محمّد بن إسحاق الفاکهیّ أحد المؤرّخین فی القرن الثالث الهجریّ . وصل إلینا نصف من کتابه المهمّ ، وعنوانه أخبار مکّة . وهذا الکتاب کما یبدو من المصنّفات التی تعدّ من التواریخ المحلّیّة ککتاب أخبار مکّة للأزرقیّ ، وتاریخ المدینة المنوّرة لابن شبّه ، لکنّه لمّا کان مشتملاً علی معلومات حول المدینتین الأصلیّتین مکّة والمدینة ، فیجدر الاهتمام به کسائر المصادر فی التاریخ الإسلامیّ . وقلّ وجود ترجمة للفاکهیّ فی المراجع القدیمة ، إلاّ أنّ الفاسیّ أورد له ترجمة موجزة فی العقد الثمین ، وکذلک ابن حجر فی تغلیق التعلیق . وحاول المصحّح الکریم للکتاب عبد الملک بن دهیش أن یأتی فی المقدّمة بما صحّ من معلومات متفرّقة عنه(2) .

وکان سعید بن منصور المتوفّی سنة 227 ه من أقدم شیوخه . وإذا کان عمره عند نقله عنه عشر سنین فی الأقلّ ، فولادته فی سنة 217 لا محالة . ومن جهة أخری ذکر الفاسیّ أنّه کان حیّا فی سنة 272 ه . ویُحتمل أنّه توفّی فی الفترة الواقعة بین سنة 272 و278(3) . ویستشفّ من بعض الأخبار أنّه کان معاشرا لأُمراء مکّة ، لذا کان وجیها

ص: 171


1- مقدّمة المعرفة والتاریخ : 52 .
2- طبعه فی ستّة أجزاء ثلاثة مجلّدات بأفضل شکل ومن الحریّ بالذکر أنّ قسما منه طُبع قبل ذلک فی مجموعة اشتملت علی قسم من کتب التاریخ المتعلّقة بمکّة . انظر : تاریخ التّراث العربیّ ، التدوین التاریخیّ : 207 .
3- انظر : مقدّمة أخبار مکّة : 32 .

وعالما بارزا . وجاء کتابه أخبار مکّة مُسنَدا ، إذ روی فقط فی الجزء الثانی منه عن (231) شیخا . ومن أهمّ مشایخه : محمّد بن إسماعیل البخاریّ ، ومسلم بن الحجّاج ، وأبو حاتم الرازیّ ، وأبو زرعة الجرجانیّ ، وإبراهیم بن یعقوب الجوزجانیّ ، وحسن ابن عرفة العبدیّ ، والزبیر بن بکّار . وأورد المصحّح جدولاً بأسماء مشایخه مع تحدید عدد الأخبار التی نقلها عنهم .

ویکتسب الکتاب أهمّیّته من جهود مصنّفه فی تهیئة الأخبار التاریخیّة المهمّة ، واحتفاظه بنصوص بعض الکتب المفقودة . فقد حوی سبعةً وأربعین نصّا من کتاب تاریخ مکّة والمسجد الحرام لعثمان بن عمرو بن الساج ؛ وستّةً وعشرین من کتاب الواقدیّ فی مکّة ؛ ومئة وسبعة وأربعین من مصنّفات الزبیر بن بکّار الذی کان له کتاب أخبار مکّة ، وأحد عشر من کتاب أبی عبیدة معمر بن المثنّی الذی کان فی آبار مکّة . وثلاثة عشر من کتاب المغازی لموسی بن عقبة . کما احتفظ بمقاطع من بعض المصنّفات الحدیثیّة المندثرة(1) .

وخصّص الکتاب عددا من فصوله للبیت الحرام وملحقاته المقدّسة کالحجر الأسود ، والملتزَم ، وطواف الکعبة ، ومقام إبراهیم ، وزمزم ، والمسجد الحرام ، والصفا والمروة . وعددا آخر منها لتاریخ مدینة مکّة وتطوّراتها وتبدّلاتها والسیول التی أتت علیها قبل الإسلام وبعده(2) . ومن أروع فصوله فصل یدور حول موقع الأحیاء والبیوت ، وقد روعیت فیه دقّة بالغة . ووردت فی فصول أُخری منه معلومات جغرافیّة حول مکّة ، آبارها ، وطرقها ، وموقع منی وعرفات والمشعر ، والمساجد والمنازل التی صلّی فیها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم . کما اهتمّ الکتاب فی فصول خاصّة منه ببعض

ص: 172


1- أخبار مکّة ، الفاکهیّ ، المقدّمة ، ص34 ، 35 .
2- انظر : مجلّة میقات ، العدد الثالث ، مقالة فی التعریف بکتاب أخبار مکّة للفاکهیّ .

الموضوعات الفقهیّة إذ تُلحَظ فیه روایات مرتبطة بأحکام الحرم ، والأحکام المتعلّقة بشراء دور مکّة وبیعها واستئجارها ، ونحو ذلک .

ویذکر مصحّح الکتاب أنّ الجزء الأوّل المفقود یشتمل علی مباحث فی تاریخ مکّة من البدایة حتّی هجرة النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . والدلیل علی ذلک أنّنا لا نجد فی القسم الباقی منه الموضوعات المتعلّقة بعصر البعثة إلاّ ما أورده بشأن بیعة العقبة عند حدیثه عن منی . وعلی ما نقله الفاسیّ فی العقد الثمین وما نقله غیره من الجزء الأوّل من کتاب الفاکهیّ فإنّ المصنّف أضاف فی الصفحة الحادیة عشرة والمئة فما تلاها من الجزء الخامس قسما تحت عنوان «ملحق» . وتدلّ أخبار هذا القسم علی رأی المصحّح نفسه وهو أنّ الجزء الأوّل من الکتاب کان فی تاریخ مکّة من الجاهلیّة حتّی هجرة النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم إلی المدینة .

أحمد بن یحیی البلاذریّ (170 إلی 180 - 279)

أحمد بن یحیی بن جابر البلاذریّ البغدادیّ الکاتب من أهمّ المؤرّخین والنّسابین فی القرن الثالث الهجریّ . وسنة ولادته مجهولة ، إلاّ أنّ أقدم شیوخه هو وکیع بن الجرّاح المتوفّی عام (197) علی ما قیل ، فلا بدّ أن یکون عمره یومئذٍ بین سبعٍ وعشر سنین(1) . وذکره ومصنَّفاتِه ابنُ الندیم وعدّه من مترجمی الکتب الفارسیّة إلی العربیّة ، ومن مصنّفاته ترجمة عهد اردشیر شعرا(2) . کما ذکره یاقوت بتفصیل أکثر . ویستشفّ من إیراده مشایخَه أنّه أخذ علمه من المحدّثین الشامیّین والعراقیّین(3) .

وکان البلاذریّ من أهل الشعر أیضا ، ومعظم شعره فی الهجاء . وله شعر فی مدح

ص: 173


1- موارد البلاذریّ 1 : 48 .
2- الفهرست : 126 ، 127 .
3- معجم الأدباء 5 : 91 .

المأمون ، وصار بعده من ندماء المتوکّل (م 247) ، ثمّ المستعین (م 251)(1) . ولعلّ هذا هو الذی ولّد فیه المیول العبّاسیّة ، والدلیل علی ذلک أنّه لم یُسَمِّ أحدا من الأمویّین خلیفةً إلاّ عثمانَ وعمرَ بن عبد العزیز . ولم یتحدّث عن الأمویّین فی الأندلس أیضا .

وترک البلاذُریّ کتابَین نفیسَین هما : فتوح البلدان الذی أثنی علیه المسعودیّ ، وذکر أنْ لا کتاب أفضل منه فی فتح البلدان . وموضوعه فتح البلدان فی القرون الإسلامیّة الأُولی . والآخر أنساب الأشراف الذی تناول فیه تاریخ العصر الإسلامیّ فی قالب علم الأنساب والسلالات . وعناوینه الأُخری : الأخبار والأنساب ، وجمل أنساب الأشراف ، وأنساب الأشراف وأخبارهم وتاریخ الأشراف . وصُنِّف هذا الکتاب علی أساس النسب ، لکنّه أورد فی مجال المعلومات التاریخیّة أخبارا أکثر من الطبریّ فی مواضع جمّة من الکتاب . وإذ حاول أن یأتی بترجمة الشخصیّات البارزة ، فإنّ المعلومات التی قدّمها تتمثّل فی مجالین هما التاریخ والترجمة . وهذه مزیّة للکتاب علی غیره من الکتب التاریخیّة . علما أنّه یخلو من نَسَقٍ منطقیّ . علی سبیل المثال ، ذکر قرابة (3483) خبرا عن الأمویّین فی حین تبلغ أخبار الطبریّ فیهم (638) . بکلمة أخری ، شغلت أخبار الأمویّین ثلث الکتاب(2) .

وبدأ البلاذُریّ حدیثه بنسب العدنانیّین . فشرع کلامه ببنی هاشم ، وثنّی ببنی عبد شمس الذی استأثر بحجم أکبر . وبعد فراغه من أخبار قریش ، طفق یتحدّث عن القبائل الأُخری .

ولا سبیل لنا الیوم إلی معظم المصادر التی أفاد منها ، لکنّه بانتقائه المعلومات التی عرضها ترک لنا نصّا فی غایة الروعة والنفاسة . فقد نقل عن المدائنیّ وحده (1416)

ص: 174


1- لسان المیزان 1 : 323 ؛ وانظر : موارد البلاذریّ 1 : 57 ؛ مقدّمة أنساب الأشراف ، تصحیح زکّار ، ص ش .
2- موارد البلاذُریّ 1 : 10 .

خبرا(1) ، وکان کتاب ابن سعد من مصادره أیضا(2) . والشیء العجاب هو إغفال المؤرّخین کتابه علی مرّ الأعصار الممتدّة عمدا وسهوا . وطُبع هذا الکتاب متفرّقا غیرَ طبعته الأخیرة .

کما طُبع قسم منه بألمانیا سنة 1883 م تحت عنوان الجزء الحادی عشر لمؤلِّف مجهول . کما طبع بالقدس سنة 1938 و1971 م جزءان ، أحدهما تحت عنوان الجزء الرابع - القسم الأوّل ، والآخر القسم الخاصّ بمعاویة تحت عنوان الجزء الرابع والجزء الخامس . وتولّی المعهد الألمانیّ ببیروت طبع هذین الجزءین لاحقا بعد أن أعدّهما إحسان عبّاس بعنوان القسم الرابع من الجزء الأوّل مع تغییرات طفیفة زیادةً ونقصا . وقام المعهد نفسه بطبع جزء آخر منه بعنوان القسم الثالث وذلک بجهود عبد العزیز الدوریّ ، ویشتمل علی أخبار العبّاس بن عبد المطّلب وأبنائه . کما جدّت مؤسّسة الأعلمیّ بطبع الجزء الثانی وقسم من الجزء الثالث فی مجلّدین سنة 1974 م بتحقیق الأُستاذ محمّد باقر المحمودیّ مع حواشٍ مفصّلة ، وهما فی أخبار الطالبیّین . وطُبع الجزءان الأخیران فی مجلّد واحد بقمّ سنة 1416 ه بعد إجراء تغییر علی شکلهما . وأصدرت دار المعارف بمصر مجلّدا واحدا منه بإعداد محمّد حمید اللّه ، وهو فی أخبار السیرة . وطُبع منه مجلّد آخر أیضا بالریاض سنة 1414 ه ، ویشتمل علی أخبار أبی بکر وعمر ، وأخذ إحسان العمد معظم أخباره من طبقات ابن سعد . واضطلع خلیل الثمینة بطبع مجلّد آخر من هذا الکتاب تحت عنوان الجزء السادس ، القسم ب (Hebrew University, 1993) ، وموضوعه هشام بن عبد الملک(3) . وبغضّ النظر

ص: 175


1- موارد البلاذریّ 1 : 31 .
2- نفسه 1 : 246 .
3- انظر فی هذا الشأن : نامه فرهنگستان [ رسالة مجمع اللغة ] ، السنة الثانیة ، 1375 شمسیّ ، العدد الأوّل ، ص152 . وبذریعة التعریف بهذا القسم من الأنساب ، وردت توضیحات لا تخلو من إشکال فی نسخة اسطنبول والأقسام المطبوعة وغیر المطبوعة منها .

عن الطبعات المذکورة، ظهرت طبعة جدیدة فیالأسواق ذات ثلاثة عشر جزءا بجهود سهیل زکّار وریاض زرکی(1) . ومع أنّ أنساب الأشراف صُنِّف فی القرن الثالث ، إلاّ أنّنا لا نجد له ذکرا فی الکتابات المتأخّرة ، لاسیّما کتابات أبی الفرج الاصفهانیّ . وقلّ النقل عنه حتّی فی القرون التالیة أیضا ، من هنا نلحظ أنّ مخطوطاته مبعثرة(2) .

أبو حنیفة الدِینَوَریّ (م 282)

کان الدینوریّ(3) ریاضیّا ومنجّما وأدیبا قبل أن یکون مؤرّخا . رحل إلی إصفهان سنة (235) ، وانشغل فیها بعلم الفلک والهیئة وتسجیل نتائج الإرصاد التی یقوم بها فی معمله الفلکیّ . وبلغت منزلته الأدبیّة مبلغا أنّه قِیسَ بالجاحظ . وذکر أبو سعید السیرافیّ أنّ أبا حنیفة أکثر نداوةً ، وأبا عثمان - الجاحظ - أکثر حلاوةً . وأُثر له واحد وعشرون مصنَّفا فی موضوعات شتّی(4) .

وأحصی ابن الندیم مصنّفاته وذهب إلی أنّه أخذ علمه من البصریّین والکوفیّین ،

ص: 176


1- بیروت ، دار الفکر ، 1417ه . وموضوعات هذه الأجزاء کما یأتی : الأوّل : السّیرة النّبویّة . الثانی : الشمائل النبویّة وأخبار علیّ بن أبی طالب علیه السلام . الثالث : أخبار علیّ بن أبی طالب علیه السلام وأولاده . الرابع : أخبار العبّاس وأبنائه . الخامس : أخبار بنی عبد شمس . السادس والسابع والثامن : أخبار بنی أُمیّة بن عبد شمس . التاسع : بنو عبد شمس وبنو عبد العزّی بن قصیّ . العاشر : بنو زهرة - بنو عدیّ . الحادی عشر : بنو عامر بن لؤیّ وبنو مزینة . الثانی عشر : مرّة بن أدین طابخة - بنو سعد بن زید بن مناة بن تمیم . الثالث عشر : بنو عمرو بن تمیم - بنو ثقیف .
2- أورد سزگین معلومات حول نُسَخِهِ ، انظر : تاریخ التّراث العربیّ ، ج1 ، الجزء الثانی ، ص152 . وقیل إنّ سهیل زکّار أصدر المجلّدات المطبوعة وغیر المطبوعة فی مجموعة موحَّدة .
3- تقع دینور بین کرمانشاه وسنقر وکلیائیّ . وتُعرف فی مصادر التاریخ الإسلامیّ بماه الکوفة .
4- مقدّمة الأخبار الطوال لصادق نشأت ، ص : یج .

وعدّه متبحّرا فی اللغة ، والهندسة ، والحساب والهیئة ، کما وثّقه(1) .

وفی الوقت نفسه یُلحَظ أنّ کتابه المهمّ الأخبار الطوال ذو قیمة عالیة وحاوٍ أخبارا طریفةً من الطراز الأوّل . وکان الدینوریّ فارسیّا ، ومع تحرّره من النزعة الشعوبیّة ، فإنّ اهتمامه ببلاد فارس جعل کتابه مصدرا مهمّا لتاریخها .

ویشتمل کتابه علی ثلاثة أقسام : الأوّل فی أخبار الأنبیاء ومَن مضی مِن الملوک . الثانی : أخبار فارس . الثالث : أخبار العصر الإسلامیّ حتّی سنة (227) . وینبغی أن نعدّه فی جملة التواریخ العامّة التی ظهرت فی زمن تطوّر کتابة التاریخ الإسلامیّ وازدهارها إلی جانب تاریخ الیعقوبیّ ، وتاریخ خلیفة بن الخیّاط وغیرهما من المصنَّفات المفقودة .

والقسم الأعظم من أخباره یدور حول العراق وتطوّرات الکوفة . من هنا فإنّ مجال اهتمامه یماثل أبا مخنف فی کتاباته وإن کان قد ذکر موضوعات لافتة للنظر حول عصر ما بعد الأمویّین أیضا .

ولم یتعرّض الدینوریّ فی کتابه إلی السیرة النبویّة ، کما لم یتناول من عصر الخلفاء الأُوَل إلاّ الفتوحات . وتحدّث عن عثمان والقضایا الجاریة فی عصره ، واستعرض الحیاة السیاسیّة للمجتمع الإسلامیّ فی عصر الإمام علیّ علیه السلام . ثمّ واصل کلامه عن الأمویّین والعبّاسیّین ، ولم یخرج من موضوع حوادث العراق . ومن البحوث الأصلیّة للکتاب تأسیس بغداد ، ومقتل أبی مسلم ، وثورة النفس الزکیّة ، وسیرة الأمین والمأمون ، وتمرّد بابک .

ویدلّ هذا المسار علی أنّه کان یرید عرض الأخبار المتعلّقة بإیران فحسب . وقسم من أخباره فی حوادث العراق ذو قیمة عالیة . ومنه أخبار کربلاء التی شغلت

ص: 177


1- الفهرست : 86 . وأورد عبد المنعم عامر ترجمته فی مقدّمة الکتاب .

صفحات کثیرة من الکتاب (ص229 - 262) . وهذا الحجم کبیر قیاسا بغیره . وفی الوقت نفسه لا یمکن أن نشیر إلی تشیّعه . ویبدو عجیبا ما نقله عن موسی بن جعفر علیه السلام أنّه حدّث هارون بالخلافات التی ستنشب بین الأمین والمأمون .

وذُکر فی الأخبار الطوال عدد من الکتب منها کتاب الملوک وأخبار الماضی لعبید ابن شریّة الجرهمیّ الذی کان ینقل التاریخ لمعاویة . وتُلحظ إلی جانب هذا تعابیر نحو : قال الهیثم (بن عدیّ) ، وقال الکلبیّ ، وقال الأصمعیّ ... وهی تدلّ علی بعض مصادر الکتاب .

واحتمل البعض أنّ الکتاب الموجود هولمؤلّف آخر، لأنّ عنوانه - الأخبار الطوال - لا ینسجم وحجم الکتاب(1) . لکنّ هذا لا یمکن أن یکون دلیلاً صحیحا علی نفی النسبة المعروفة للکتاب المذکور .

وتُرجم الکتاب بالفارسیّة مرّتین . الأولی أنجزها صادق نشأت الذی طبعت مؤسّسة الثقافة الإیرانیّة ترجمته سنة (1346) شمسیّ (1967 م) . والأُخری قام بها محمود مهدوی دامغانی ، وطبعتها دار «نَیْ» للنشر سنة (1371) شمسیّ (1992 م) . وعرض المرکز الکومبیوتریّ للعلوم الإسلامیّة فی قمّ أخیرا النصّ العربیّ وترجمته الفارسیّة فی CD نور السیرة .

أبو إسحاق الثقفیّ (م 283)

أبو إسحاق إبراهیم بن محمّد بن سعید الثقفیّ الکوفیّ الإصفهانیّ أحد المؤرّخین فی النصف الثانی من القرن الثالث الهجریّ . وهو من نسل سعد بن مسعود الذی کان ابن

ص: 178


1- التاریخ العربیّ والمؤرّخون 1 : 248 . انظر بشأن الأخبار الطوال : مجلّة نور علم ، العدد 38 ، ص154 - 163 .

عمّ المختار ووالی المدائن فی خلافة الإمام علیّ علیه السلام .

وذکره النجاشیّ وأحصی مصنّفاته مفصّلاً . وأورد أنّه انتقل إلی إصفهان وأقام بها . وکان زیدیّا أوّلاً ثم انتقل إلینا (الإمامیّة) . ووفد إلیه جماعة من القمّیّین کأحمد البرقیّ وسألوه الانتقال إلی قمّ ، فأبی ، واختار إصفهان لکثرة النواصب فیها . وحلف أن لا یروی کتابه إلاّ بها . ثمّ قال : وله مصنّفات کثیرة . ثمّ عدّ ستّةً وثلاثین منها ، وهی تاریخیّة إلاّ قلیلاً منها .

وکتاباته أحادیّة الموضوع کأبی مخنف والمدائنیّ وهشام الکلبیّ . ومعظمها یتعلّق بالتطوّرات الشیعیّة فی العراق . ومنها : کتاب المبتدأ ، کتاب السیرة ، کتاب المغازی ، کتاب السقیفة ، کتاب فدک ، کتاب الردّة ، أخبار عمر ، کتاب الشوری ، أخبار عثمان ، کتاب مقتل عثمان ، کتاب بیعة علیّ علیه السلام ، کتاب الجمل ، کتاب صفّین ، کتاب الحکمین ، کتاب النهروان ، کتاب الغارات ، کتاب مقتل علیّ علیه السلام ، کتاب رسائله وأخبار علیه السلام ، کتاب قیام الحسن علیه السلام ، کتاب مقتل الحسین علیه السلام ، کتاب التّوّابین ، وغیرها(1) .

وترتیب الکتب المذکورة منّا ، ویبدو أنّه صنّفها متقاربةً لتکون تاریخا عامّا فی جمیع التطوّرات الواقعة آنذاک . وعندما نتحدّث عن الکتابات الأحادیّة الموضوع عادةً ، فعلینا الالتفات إلی أنّها یمکن أن تکون أبوابا مختلفة ککتاب واحد . ولعلّ عنوان الکتاب هنا ، کالذی یستعمل فی أبواب الفقه وهو تراث العصر الأوّل ، بمعنی الباب أو الفصل .

ولم یبق من کتبه إلاّ کتاب الغارات . وهو الذی طبعته جمعیّة المصنَّفات الوطنیّة سنة (1355) شمسیّ (1976 م) بتصحیح الأُستاذ المحدِّث الأرمویّ الذی فصّل الکلام عنه فی المقدّمة ، وذکر فهرسا لمشایخه البالغ عددهم اثنین وثلاثین ، ورواته الذین

ص: 179


1- رجال النجاشیّ : 17 .

کانوا اثنی عشر. وصدرت طبعة أخری للکتاب ببیروت سنة 1407ه بتصحیح المرحوم السیّد عبد الزهراء الحسینیّ .

ویتناول هذا الکتاب الفترة التاریخیّة الواقعة بین النهروان واستشهاد الإمام علیّ علیه السلام . وهی الفترة التی کان معاویة یشنّ فیها الغارات علی مناطق مختلفة من العراق والحجاز والیمن للسلب والنهب وترویع الناس إمعانا منه فی إضعاف العراق . وهذه الغارات هی التی دوّن الثقفیّ تاریخها . ویضاف إلی الغارات أنّه تحدّث کثیرا عن شخصیّة الإمام علیّ علیه السلام وفضائله ومناقبه .

ومن کتبه کتاب المعرفة الذی کان فی المناقب والمثالب . وکان عند ابن طاووس (م664) ، فذکره ونقل منه فی کتبه : الیقین ، وسعد السعود ، والطرائف ، وکشف المحجّة(1) . ولعلّ هذا الکتاب هو الذی حمله علی مغادرة الکوفة بعد أن لم یُجَز روایتَه فیها . ونقل الطَبْرِسیّ فی إعلام الوری خبرا منه فی فتح خیبر(2) . وکان عند ابن طاووس أیضا کتاب آخرمن کتب الثقفیّ وهو کتاب الحلال والحرام الذی نقل منه فی کتابه إقبال الأعمال . وقیل من المحتمل أنّ هذا الکتاب هو نفسه کتابه الجامع فی الفقه والأحکام الذی ذکره النجاشیّ(3) .

أخبار الدولة العبّاسیّة (القرن الثالث)

وهو من المصنَّفات المجهول مصنِّفها فی القرن الثالث ، لکنّه ذو قیمة تاریخیّة . ولم یُعرف المصنِّف لنقص الصفحات الأُولی من هذه النسخة الفریدة الباقیة . وطُبعت هذه

ص: 180


1- کتابخانه ابن طاووس [ مکتبة ابن طاووس ] : 406 ، رقم 369 .
2- إعلام الوری 1 : 365 .
3- کتابخانه ابن طاووس [ مکتبة ابن طاووس ] : 291 ، رقم 172 .

النسخة مرّةً بنحو تامّ مصوَّرةً . وصدر قسم منها مقرونا بالترجمة والتعلیقات باللغة الروسیّة . وتتألّف من جزءین ، الأوّل فی تاریخ العصر الأوّل من الخلافة وتاریخ الأمویّین ؛ والثانی فی أخبار الدولة العبّاسیّة . ونشر الدکتور عبد العزیز الدوریّ وعبد الجبّار المطّلبی القسم الثانی تحت عنوان أخبار الدولة العبّاسیّة وفیه أخبار العبّاس وولده (بیروت ، دار الطلیعة ، 1971 م) . وذهب المحقّق إلی أنّ الکتاب المذکور صنِّف فی القرن الثالث اعتمادا علی القرائن التی أوردها فی المقدّمة ، واحتمل أن مصنِّفه هو

محمّد بن صالح بن مهران بن النطاح (م 252) . وهذا الکتاب بالغ الأهمّیّة لاشتماله علی الأخبار المتعلّقة بظهور الدعوة العبّاسیّة وتبلور دولتها ، ولهذا السبب یعدّ مصنَّفا ممتازا . وأُخذت أخباره من مصنَّفات لمؤرّخین مشهورین منهم : أبو مخنف (م 157) ، وعوانة بن الحکم (م 147) ، وهیثم بن عدیّ (م 207) ، والمدائنیّ (م 235) ، وغیرهم کالواقدیّ ، وهشام الکلبیّ ، ومصعب الزبیریّ ، ومحمّد بن سلام .

وللمصنِّف هویً تامّ فی بنی العبّاس وما یستشفّ من محتوی کتابه هو علاقته الودّیّة بهم ، کما أنّه أفاد من معلوماتهم . والرؤیة التی تطبع الکتاب رؤیة عبّاسیّة فی العصر الأوّل ، وإلی ما قبل المهدیّ علی سبیل الدقّة(1) . ومهما کان فإنّ المعلومات التی

ص: 181


1- قال المصنِّف بشأن الکیسانیّة فی ص165 : «قالت الکیسانیّة بإمامة محمّد بن علیّ . وذکروا أنّ أباه أوصی إلیه . والکیسانیّة منسوبون إلی المختار بن أبی عبید ، وکان یلقّب بکیسان ، وهو أوّل من قال بإمامة محمّد بن علیّ . وبها کان یقول علیّ بن عبد اللّه وولده إلی أیّام المهدیّ . وکان تشیّع العبّاسیّة أصله من قبل محمّد بن الحنفیّة ، وإلی ذلک دعا أبو مسلم حتّی کان زمان المهدیّ ، فردّهم المهدیّ إلی إثبات الإمامة للعبّاس بن عبدالمطّلب ، وقال لهم : إنّ الإمامة کانت للعبّاس عمّ النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فإنّه کان أولی الناس به وأقربهم إلیه . ثمّ من بعده عبد اللّه بن العبّاس ، ثمّ بعده علیّ بن عبد اللّه ، ثمّ من بعده محمّد بن علیّ ، ثمّ من بعده إبراهیم بن محمّد ، ثمّ أبو العبّاس ، ثمّ أبو جعفر ...» أی : أنّه نقل إمامة العبّاسیّین من النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم إلی العبّاس ثمّ إلی أعقابه لا من طریق محمّد بن الحنفیّة ونجله أبی هاشم ، وانتقلت بعده إلی العبّاسیّین کما یعتقد به الجیل الأوّل من ملوک العبّاسیّین .

عرضها حول ظهور الدعوة العبّاسیّة من سنة (100) ه فما تلاها ، والصورة التی قدّمها للنقباء والدعاة فریدة ذات قیمة فی کثیر من المواضع .

وتدلّ الدراسات الأخیرة حول هذا الکتاب أنّه لأبی علیّ أحمد بن إسماعیل بن سمکة البجلیّ القمّیّ (أوائل القرن الرابع) الذی عبّرت بعض المصادر عن کتابه «بالعبّاسیّ» . وقال الدکتور حسین المدرّسیّ فی کتاب Tradition and Surviral ، ص420 : یبدو أنّ موشی شارون کان أوّل من ذهب إلی أنّ الکتاب المذکور جزء من کتاب «العبّاسیّ» کما جاء فی مقالته المنشورة سنة 1973م (علی ما ورد فی کتابه Black Banners From the East: 233-236) . ونقل منه حسن بن محمّد القمّیّ فی تاریخ قمّ : 145 - 146 ، 200 ، 236 ، 237 . (انظر : کتاب کتابشناسی آثار مربوط به قم : 19) . إذ إنّ الخبرین الأخیرین وردا فی المتن المطبوع (84 - 85 ، 165 علی الترتیب) . ونُقل خبر آخر عن مؤلّف کتاب «العبّاسیّ» أبی علیّ أحمد بن سمکة النحویّ فی «تاریخ قمّ» : 217 - 218 ، وهو من هذا الکتاب حتما وإنْ لم یصرّح به . وجاء خبر آخر فی «المناقب» 3 : 191 عن «تاریخ القمّیّ» ویمکن أن یکون مأخوذا من الکتاب المقصود ، أو حدث تصحیف فی الاسم ، فأُخذ من کتاب «تاریخ أحمد بن إبراهیم العمی» الذی کان تلمیذا للمؤرّخ عبد العزیز بن یحیی الجلودیّ (م 332) (النجاشیّ : 96 ؛ فهرست الطوسیّ : 30 ؛ رجال الطوسیّ : 411 ، 416) . وفی الوقت نفسه لم یعرف شارون مصنِّف الکتاب . ولم یلتفت من صحّح الکتاب إلی روایة المصنِّف عن علیّ بن إبراهیم القمّیّ (کان حیّا سنة 307) الواردة فی ص32 من المتن المطبوع ، وکذا إلی روایته عن سلیم بن قیس الواردة فی ص45 - 47 من المتن المذکور، وأیضا إلی النقل عن المصادر الشیعیّة الأخری مواضع متعدّدة . وکان المصنِّف

أُستاذا لأبی الفضل بن العمید (م 360) وزیر البویهیّین الذی صنَّف له رسالة ذات مئتی ورقةٍ . ویُلحظ نصّ لإحدی رسائله المکتوبة إلی ابن العمید فی مخطوطة قدیمة

ص: 182

استُنسخت فی عام 754 . وهی فی المکتبة الخاصّة لأصغر مهدوی بطهران (فهرست : 142 - 143) . وفی متناوَل الأیدی صورة للنسخة المذکورة تحت عنوان «جُنْگِ مهدوی» «کشکول مهدوی» . وورد النصّ المعهود فی ص192 - 193 من هذه الطبعة . وکان تلمیذ أحمد بن محمّد بن خالد البرقیّ (م 274 - 280) وهو أدیب ومصنّف لعدد من الکتب (النجاشیّ : 97 ؛ فهرست الطوسیّ : 31 ؛ رجال الطوسیّ : 417) . وجاء فی قصّة منقولة فی «تاریخ قمّ» : 217 - 218 أنّه کان مرافقا لأبی مسلم محمّد بن بحر الإصفهانیّ فی ملاقاته للعلویّین المشهورین فی قمّ ، وقد دخل المدینة سنة 309 بوصفه حاکما آنذاک . (نفسه 106 ، 142) .

الیعقوبیّ (م 284)

أحمد بن أبی یعقوب إسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح ، وهو اسم الیعقوبیّ فی المصادر التی ترجمته . واشتهر «بالکاتب» ، و«الأخباریّ» . والأوّل إشارة إلی عمله کاتبا فی البلاط العبّاسیّ ، والثانی إشارة إلی کونه مؤرّخا ملمّا بالأخبار التاریخیّة . وعُرف «بالمصریّ» و«الإصفهانیّ» ، وهو ما یدلّ علی تعلّق أجداده الوطنیّ . وکان مولده ببغداد ، وفیها عاش . ولمّا کان جدّه واضح من موالی المنصور العبّاسیّ فقد عُرف بالعبّاسیّ ، وعُدّت أُسرته من موالی العبّاسیّین .

تاریخ ولادته مجهول ، لکنّ یاقوت الحمویّ ذهب إلی أنّه توفّی سنة 284 ه . وختم الیعقوبیّ نهجه التاریخیّ فی کتابه مشاکلة الناس بالمعتضد العبّاسیّ «الذی حکم من (20) رجب سنة (279) إلی ربیع الآخر سنة (289)» . ویضاف إلی ذلک أنّه تحدّث فی کتاب البلدان(1) عن سقوط الطولونیّین سنة 292ه ، فلا بدّ أنّه کان حیّا حتّی هذه

ص: 183


1- البلدان : 126 طبعة النجف ولفظه : ذهب الملک والزینة لمّا مضی بنو طولون .

السنة فی الأقلّ(1) . وکان واضح حاکما علی أرمینیّة وآذربایجان ومصر ردحا من الزمن فی عهد المنصور ، کما کان والد الیعقوبیّ من کبار العاملین فی دیوان البرید . وما من معلومات عن شغل الیعقوبیّ نفسه ، لکنّه لمّا کان یلقّب بالکاتب ، فمن الممکن أن یکون فیه إشارة إلی أنّه کان کأبیه مشغولاً بالکتابة والإنشاء فی أحد الدواوین .

وقیل: کانت لواضح میول شیعیّة ، وهو کذلک . فحینما کان مسؤولاً عن برید مصر، ساعد إدریس بن عبد اللّه بن الحسن أخا النفس الزکیّة علی الفرار إلی المغرب ، فضحّی بنفسه فی سبیل هذا العمل ، ویبدو أنّ الهادی العبّاسیّ قتله(2) .

وهکذا لنقُل أنّ تشیّع آل الیعقوبیّ کان تقلیدیّا ، وقد وصل إلی الیعقوبیّ المؤرّخ أیضا . علما أنّ الشیعة الإمامیّة کانوا یومئذٍ ذوی مناصب إداریّة فی الحکومة علی تشیّعهم . والمثال الساطع هو علیّ بن یقطین الذی کان یزاول عمله فی الحکومة العبّاسیّة بأمر الإمام الکاظم علیه السلام .

ولا شکّ فی أنّ الیعقوبیّ کان مؤرّخا شیعیّا ، وأمارات تشیّعه واضحة تماما فی تاریخه . فأخباره فی السقیفة ، ومواقف الخلفاء ، وما حکاه عن خلافة أمیرالمؤمنین علیه السلام ، کلّ ذلک آیة علی تشیّعه التامّ ، والمعتدل نوعا ما . ویضاف إلی ما قدّمه عن تاریخ الحوادث الإسلامیّة ، وذکره عناوین تتعلّق بحکم السلاطین بعد حدیثه عن معاویة ، أنّه تکلّم عن أئمّة الشیعة علیهم السلام أیضا . ومن ذلک «وفاة الحسن بن علیّ» ، «مقتل الحسین بن علیّ» ، «وفاة علیّ بن الحسین» ، «وفاة أبی جعفر محمّد بن علیّ» ، «وفاة أبی عبد اللّه جعفر بن محمّد وآدابه» ، «وفاة موسی بن جعفر» ، «وفاة علیّ الرضا علیه السلام» «وفاة علیّ بن محمّد بن علیّ الهادیّ»(3) . ونقل فی ذیل هذه العناوین

ص: 184


1- التاریخ العربیّ والمؤرّخون 1 : 249 .
2- تاریخ الطبریّ 10 : 591 ؛ النجوم الزاهرة 2 : 41 عن «الیعقوبیّ ... ص29» .
3- تاریخ الیعقوبیّ 2 : 503 .

کلمات قصارا لهم . وسرد الحوادث حتّی سنة 259 ه ، من هنا لم یتطرّق إلی وفاة الإمام العسکریّ علیه السلام . وکلامه عن ثورة زید بإجمال تامّ دلیل علی إمامیّته کما ذُکر(1) .

أمّا مصنّفاته فینبغی أن نقول أنّه کان مؤرّخا وجغرافیّا(2) . وهی تدور حول هذین العلمین . ولم تبق له إلاّ ثلاثة کتب من بین التی نُسبت إلیه فی المصادر المختلفة . وکتبه المفقودة هی کتاب المسالک والممالک ؛ وفتح إفریقیّة وأخبارها ؛ وأخبار الطاهریّین . والکتب الثلاثة الباقیة - وکلّها مطبوعة - هی تاریخه ؛ والبلدان ؛ ومشاکلة الناس لزمانهم . والکتابان الأخیران کلاهما صغیر ، وقد طُبعا أیضا . وکتاب البلدان الذی نُقل إلی الفارسیّة یحوم حول الجغرافیة العامّة للمدن ، وفیه فوائد تاریخیّة بالغة الأهمّیّة . وکتاب المشاکلة فی تقلید الناس لحکّام زمانهم ، وقد قُرن بنماذج تاریخیّة .

وأهمّ کتاب له هو تاریخه الذی لم یعرف إلاّ بعنوان تاریخ الیعقوبیّ ویمثّل دورةً فی التاریخ العامّ الذی بدأه بهبوط آدم علیه السلام ، ثمّ بلغ به حتّی ظهور الإسلام ، وواصل الکلام فی الحوادث الواقعة حتّی سنة 259 ه(3) . ونظرا إلی تاریخ تصنیفه ، فحریّ بالعلم أنّه أقدم تاریخ عامّ صُنّف فی الحضارة الإسلامیّة ووصل إلینا . علما أنّ تاریخ خلیفة بن الخیّاط صُنِّف قبله لکنّه بدأ بحثه التاریخیّ بالإسلام لا بابتداء الخلق .

وطُبع تاریخ الیعقوبیّ مرارا . ومن المؤسف أنّنا لا نجد نسخا مخطوطةً منه کما ینبغی بسبب عدم تداوله فی الأعصار الماضیة . وطُبع مرّةً فی هولندا سنة 1883م (1301 ه) . ثمّ طُبع بالنجف فی ثلاثة أجزاء مع مقدّمة محمّد صادق بحرالعلوم

ص: 185


1- نشأة علم التاریخ عند العرب : 52 ، 53 .
2- بالنظر إلی معلوماته التی أوردها فی تاریخه عن الفلک والهیئة ، فلا ریب أن نعدّه منجّما بالمعنی العلمیّ للکلمة .
3- بشأن ترجمة الیعقوبیّ ومصنّفاته انظر : الیعقوبیّ ، المؤرّخ والجغرافیّ ، یاسین إبراهیم علیّ الجعفریّ ، بغداد ، 1980 م .

وتعلیقاته(1) . والطبعة المتداولة له نشرتها دار الصادر ببیروت فی جزءین . الأوّل من بدایة حیاة آدم علیه السلام حتّی ظهور الإسلام . الثانی من ظهوره حتّی سنة 259 ه .

وأسلوب تدوینه أُسلوب تاریخیّ لا حدیثیّ . أی : إنّ الیعقوبیّ کبعض المؤرّخین المحدّثین لم یسرد الحوادث التاریخیّة بأسلوب روائیّ مشفوع بسلسلة السند ، بل نهج أسلوب المؤرّخین بوصفه واحدا منهم فصنّف کتابه بعد الإفادة من مختلف المصادر . فمثله فی هذا کمثل الدینوریّ فی الأخبار الطوال ، والمسعودیّ فی مروج الذهب لا کمثل الطبریّ فی تاریخه . وینبغی الالتفات إلی أنّ طابع الکتاب وإن کان تاریخیّا لکنّه سدّ الطریق أمام الباحثین لتحلیل السند وذلک لإحجام صاحبه عن ذکر الأسناد المتعلّقة بموضوعاته . ویضاف إلی ذلک أنّ نسق الکتاب قائم علی أساس رؤوس المطالب التاریخیّة کإمرة الخلفاء لا علی أساس السنین . وهذا ما نهجه المسعودیّ فی مروج الذهب أیضا ، بید أنّ تاریخ الطبریّ سرد الحوادث علی أساس السنین .

وممّا یبعث علی الأسف ضیاع مقدّمة الجزء الأوّل فی النسخ المحدودة الباقیة ، ولهذا لم یصل إلینا أُسلوب تدوینه والمصادر التی اعتمد علیها المؤلّف فی کتابه . ومن الثابت أنّ الجزء الأوّل من الکتاب صُنّف علی أساس مصادر کثیرة لأنّ صاحبه کان یعیش فی عصر دخلت العربیّةَ فیه مصنَّفات جمّة من ثقافة الأمم والشعوب الأُخری ، من هنا فهو یشتمل علی معلومات فریدة تخلو منها سائر المصادر . ومن الطبیعیّ أنّ کلاًّ من المصادر التی هی فی متناول الید صُنِّف بالأسالیب المتداوَلة فی الثقافات المعنیّة ، فلا یوثق بها تماما . وهذا الموضوع یشمل المصادر الإسرائیلیّة أیضا ، وهی التی أفاد منها

الیعقوبیّ فی الجزء الأوّل ، وفی أخبار الأنبیاء . ومن حسن الحظّ أنّ مقدّمة الجزء الثانی موجودة ، وأشار المؤلّف فیها إلی بعض مصادره .

ص: 186


1- النجف ، منشورات المکتبة الحیدریّة ، 1394 ه .

ومن أبرز المؤرّخین والأخباریّین الذین ذکرهم : إسحاق بن سلیمان الهاشمیّ (الذی ینقل عن شیوخ بنی هاشم) ، وأبو البختریّ وهب بن وهب القرشیّ (الذی ینقل عن جعفر بن محمّد وغیره)(1) ، وأبان بن عثمان البجلیّ (عن جعفر بن محمّد) ، وعبد الملک ابن هشام (بروایة البکائیّ عن ابن إسحاق) ، وأبو حسان الزیادیّ (عن الکلبیّ وغیره) ، وهیثم بن عدیّ (عن عبد اللّه بن عبّاس الهمدانیّ) ، ومحمّد بن کثیر القرشیّ (عن أبی صالح وغیره) والمدائنیّ ، وأبو معشر المدنیّ ، ومحمّد بن موسی الخوارزمیّ المنجّم(2) . واعتماده علی الأخیر أفضی به إلی تشخیص معلومات فلکیّة واسعة فی تعیین العصر النجومیّ لإمرة کلّ خلیفة بدقّة .

وذکر الیعقوبیّ فی مقدّمة الجزء الثانی أنّه کان یرید تصنیف کتاب موجز ، فأسقط کثیرا من أشعاره وأخباره الطویلة(3) . مع هذا تدلّ مقایسة قصیرة لتاریخ الیعقوبیّ بغیره من المصنّفات بما فیها المفصّلة علی أنّه أورد فی کتابه أخبارا بالغة البداعة تخلو منها نظائره ، وذلک لظفره ببعض المصادر . وحجم أسناده الموجودة فیه ، التی لم یرد کثیر منها فی ما عداه من أمثاله لافت للنظر . وضمّ الکتاب ما یربو علی (460) رسالة أُشیر إلی بعضها ، وأُتی بعین نصوصها فی کثیر من المواضع . ویضاف إلی ذلک أنّ أخبار الیعقوبیّ تتفاوت مع الأخبار المتداولة فی سائر المصادر لأسباب ما ، ویمکن أن تکون دلیلاً للباحث فی بلوغ الحقیقة قیاسا بما خلاها من النصوص المماثلة . وطبعت فهارس تاریخ الیعقوبیّ فی مجلّد واحد حدیثا ، وعرضت فهرسا دقیقا لهذا الکتاب التاریخیّ الثمین(4) .

وکان تاریخ الیعقوبیّ عند ابن شادی مؤلّف مجمل التواریخ والقصص فی القرن السادس ، وأفاد منه فی الصفحات 229 ، و271 ، و278 من کتابه .

ص: 187


1- قیل إنّ الإمام الصادق علیه السلام تزوّج أمّه ، فهو ربیبه . انظر : الفهرست ، ابن الندیم : 113 .
2- تاریخ الیعقوبیّ 2 : 6 .
3- نفسه .
4- قمّ ، مرکز البحوث الکمبیوتریّة للعلوم الإسلامیّة ، 1376 شمسیّ - 1997 م) .

محمّد بن جریر الطبریّ (5 - 224 / 310)

أبو جعفر محمّد بن جریر بن یزید الطبریّ(1) من مشاهیر المؤرّخین فی العصر الإسلامیّ . وکان عمله الرئیس فی الفقه ، بید أنّ کتابَیْه المشهورَین فی التفسیر وهو جامع البیان ، والتاریخ وهو تاریخ الرسل والأمم والملوک أکسباه شهرةً بالغةً . وهو واضع لمذهب فقهیّ خاصّ کان له أتباعه لقرنٍ واحد بعده(2) . وله مصنَّف فقهیّ روائیّ مرموق لم یُکمله ، وعنوانه تهذیب الآثار (فی ستّة أجزاء) ، وظلّ ماثلاً علی مرّ الزمن .

ولقی تاریخه ترحیبا عامّا منذ البدایة(3) . وهذا الترحیب ینطلق من رؤیة سنّیّة ویرتبط بمواصفات الکتاب فی تفصیله واستناده واتّزانه . وأدّی هذا الترحیب إلی اعتماد الکتب التاریخیّة المتأخّرة علی أخباره ، وإعدادها خلاصةً له ، وهذا ما فعله ابن مسکویه ، وابن الأثیر ، وابن کثیر فی کتبهم .

وأراد الطبریّ فی بدایة الکتاب أن یُبرّئ نفسه بسبب نقل الموضوعات السقیمة وذلک من خلال إشارته إلی أنّه نقل الأخبار مُسندةً . ومع أن هذا الأسلوب ساعد علی حفظ حجم کبیر من الأخبار التاریخیّة ، بید أنّ بعض الباحثین أنکر علیه ذلک حقّا لمختاراته غیر الصحیحة من الأخبار ، بخاصّة نقله عن أشخاص کذّابین کسیف ابن عمر(4) .

ص: 188


1- أُعدّت مقالات وکتب کثیرة فیه وفی تاریخه وتفسیره ، منها : الطبریّ ، السیرة والتاریخ لعبد الرحمن حسین العزّاویّ بغداد ، دار الشؤون الثقافیّة العامّة ، 1989 م ؛ وأحوال وآثار طبری [ الطبریّ : ترجمته ومصنّفاته ](فارسیّ) لعلی أکبر شهابی (طهران ، دار أساطیر للنشر) ؛ ویادنامه طبری [ فی ذکری الطبریّ ] ویشتمل علی مقالات أُلقیت فی مؤتمر عُقد فی مدینة بابُلْسَرْ سنة 1410 ه لتکریمه طهران ، دار الطباعة والنشر فی وزارة الإرشاد ، 1990 م .
2- الفهرست : 291 ؛ ذکره ابن الندیم فی الفقهاء لا فی المؤرّخین .
3- یری ابن خلّکان أنّ کتاب الطبریّ «أثبت الکتب وأصحّها» ، وفیات الأعیان 3 : 332 .
4- کتاب عبد اللّه بن سبأ للعلاّمة الباحث السیّد مرتضی العسکریّ . نقد روایات سیف بن عمر فی تاریخ الطبریّ

وذهب جواد علی إلی أنّه لم یهتمّ بأصول أهل الحدیث فی رجوعه إلی المصادر ، فروی عن الضعفاء أیضا . ورجّح روایات سیف بن عمر فی قضایا الردّة علی روایات الواقدیّ والمدائنیّ ، فی حین هو متّهم بالزندقة ، بل إنّ رأی الطبریّ نفسه فیه رأی سلبیّ(1) . وبدأ حضور سیف فی تاریخ الطبریّ من حروب الردّة ، واستمرّ حتی موقعة الجمل ، وبهذا شوّه الطبریّ تاریخه بأخبار سیف الکاذبة فی أحرج مرحلة تاریخیّة تتمثّل بقسم من التاریخ الدینیّ لجمیع الفرق .

وحفل الجزء الأوّل الذی یتناول تاریخ العالم من بدء الخلیقة حتّی المبعث النبویّ الشریف بالإسرائیلیّات ، مَثَلُهُ بذلک کَمَثَل تفسیره الذی شُحن بها . ونُقلت هذه الأخبار عن طریق وهب بن منبّه الذی کان نشر نظیرها بین المسلمین فی أواخر القرن الأوّل الهجریّ أکثر من غیره(2) .

وأملی الطبریّ تاریخه فی الفترة الممتدّة بین سنة 283 و290 ، ثمّ أضاف إلیه الوقائع التی جرت حتّی ربیع الآخر سنة 303 ه . وزاد علی ذلک أنّه صنّف کتابا تحت عنوان ذیل المذیّل فی ترجمة الصحابة والتابعین تبعا لسنة وفاتهم ، ولم یظلّ منه إلاّ تلخیصه الذی نهض به عریب بن سعد (م370) ، وطُبع فی آخر تاریخه تحت عنوان المنتخب من ذیل المذیّل .

ودوّن عدد من الکتّاب فی العصر اللاحق ذیولاً علی تاریخ الطبریّ . وسرد عریب ابن سعد الحوادث حتّی سنة 320 ه ، وعنوانها صلة تاریخ الطبریّ . وواصل ثابت بن سنان الصابیّ (م 363) ذلک إلی سنة (360) . وبلغ به هلال بن محسّن الصابیّ سنة (448) ، وعیون التواریخ امتداد له حتّی سنة (479) . ثمّ تابعه محمّد بن عبد الملک

ص: 189


1- موارد تاریخ الطّبریّ ، القسم الأوّل : 179 ، 182 .
2- انظر القسم الأوّل من موارد تاریخ الطّبریّ : 186 - 190 للاطّلاع علی تأثیر وهب بن منبّه فی الجزء الأوّل من تاریخ الطبریّ .

الهمدانیّ (م 521) إلی سنة (487) . وللکتاب تتّمات أخری مفقودة(1) . وقدّم سزگین توضیحات حول الذیول والتتّمات التی کُتبت علی التاریخ المذکور(2) .

وتتّخذ أخبار الطبریّ طابع الحدیث بشکل رئیس . فقد بدأ بالسند ، وثنّی بمتن الخبر . ومثالنا علی ذلک قوله : «حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن عبد الحکم ، قال : حدّثنا أیّوب بن سوید ، عن الأوزاعیّ ، قال : حدّثنا إسماعیل بن عبد اللّه : قدم أنس بن مالک علی الولید بن عبد الملک ، فقال له الولید ...» ، وقال فی بعض المواضع : «حدّثنی فلان» . ونقل متن الخبر فی الجزء الأخیر من کتابه عمّن شهد الحوادث بألفاظ مثل «ذکر لی بعض أصحابی» ، أو «حدّثنی جماعة من أهل ...» . وتدلّ بعض عباراته نحو «قال ابن إسحاق» ، أو «قال الکلبیّ» علی أنّه أفاد من مصنّفاتهم المکتوبة .

وممّا یلزم الالتفات فی الوقت نفسه هو أنّ سندیّة أخبار الطبریّ لا تعنی جمعها من المصادر الشفویّة . وکان الطبریّ یقتنی کثیرا من کتب الأقدمین ، فنقل عنها بطریق مسند أو بذکر أسماء مشایخه دون الإشارة إلی عناوینها ، معتمدا بذلک علی الإجازة الروائیّة أو نظائرها . وقسم الأستاذ جواد علیّ مصادر الطبریّ تحت عنوان موارد تاریخ الطبریّ(3) .

والمزیّة الأُخری لتاریخ الطبریّ هو أنّه أورد فی النقل الروائیّ أخبارا متنوّعة عن حادثة من الحوادث بأسناد متباینة . ویُتیح هذا الأُسلوب الفرصة للباحث فیحصل علی الآراء المتعارضة فی حادثة من الحوادث ، ویحقّق حوالیها بالنظر إلی الأسالیب العلمیّة . ویداخل «حدیث البعض فی حدیث الآخرین» أحیانا ، لکنّه حین یبلغ

ص: 190


1- الإمام الطبریّ ، محمّد الزحیلیّ : 221 - 223 .
2- وانظر أیضا : بحث فی نشأة علم التاریخ عند العرب : 55 ، 56 ؛ بزم آورد : 38 - 64 .
3- مجلّة المجمع العلمیّ العراقیّ ، الأعداد الثلاثة الأولی سنة 1950 ، 1952 ، 1954 م ومجموعها (184)صفحة .

موضع الخلاف فی بعض الحالات ینقل الخبر المعارض ، ثمّ یواصل کلامه عن الخبر السابق . ونهج هذا الأُسلوب الروائیّ فی تفسیره وتاریخه ، ولا یُبدی رأیه الخاصّ إلاّ فی حالات نادرة جدّا(1) .

ونظرا إلی سند الأخبار یجدر بالمؤلّفین والمحقّقین أن لا یلقوا الوزر علی الطبریّ فی ما نقل عن المؤرّخین الکذّابین . وعلیهم أن یتنبّهوا إلی أنّ الاکتفاء بالسند لا یصحّ فی تقدیر الأخبار ، لأنّ صدق الراویّ لا یدلّ علی صحّة نقله ، فربّما کان مصدره خاطئا أو أنّه سبک الخبر منطلقا من آرائه وعواطفه . والمهمّ هو الاستهداء بجمیع الأسالیب العلمیّة من أجل الدراسة والتحلیل .

وأسهب الطبریّ مفصّلاً فی سرد الحوادث بسبب رؤیته التاریخیّة الخاصّة . ولم یرد هذا التفصیل فی مواضع عدیدة من المصادر الأُخری . ومن الطبیعیّ أنّ أسلوبه هذا لا یمکن أن یستوعب المعلومات الاجتماعیّة . فهو یتوکّأ علی الخبر فحسب ، والأخبار إمّا تاریخیّةٌ خالصةٌ أو - بکلمةٍ - سیاسیّةٌ بحتةٌ . وحینئذٍ لا یُجدی الظفر - فی تاریخ الطبریّ - بمعلومات فی المجال الحضاریّ والثقافیّ کالتی نجدها فی مصنّفات المسعودیّ . ولکن ینبغی أن نستثنی مواضع قلیلة منه .

وأورد الطبریّ الحوادث إلی ما قبل الإسلام بشکل موضوعیّ ونسق تاریخیّ عامّ ، أمّا الحوادث الواقعة بعد الإسلام فقد ذکرها علی أساس السنین .

وبسط جواد علیّ الکلام فی مصادر الطبریّ . وهو یری أنّها کانت فی القسم الخاصّ بتاریخ الأنبیاء وإیران قبل الإسلام أخبارا ومصنّفات تفسیریّة أُعدّت فی مدرسة تلامذة ابن عبّاس فی شرح الآیات القرآنیّة استهداءً بشتّی المصادر حتّی ذلک الحین . وفی ما یتعلّق بإیران فإنّه أفاد فی الأغلب من الکتب المترجَمة من الفارسیّة

ص: 191


1- موارد تاریخ الطّبریّ ، القسم الأوّل : 167 .

ککتب ابن المقفّع والکلبیّ التی کانت غنیّة فی هذا المجال . ولم یصرّح بعناوینها أو أسماء مؤلّفیها غالبا ، ونقل الموضوعات بألفاظ من مثل قال بعض العجم .

وأفاد من کتب الکلبیّ فی القسم المختصّ بتاریخ العرب قبل الإسلام ، لاسیّما تاریخ العراق ، الذی تفرّد فی النقل عنها بشأنه . واستنار فی تاریخ الیمن بما کتبه ابن إسحاق الذی أخذ عن وهب بن منبّه ومحمّد بن کعب القُرَظیّ . وهذان الأخیران مع کعب الأحبار کانوا مصدر الأخبار المرتبطة بتاریخ الأنبیاء فی الجزء الأوّل من الکتاب . ولم یرد فیه مطلب مهمّ حول تاریخ الروم قیاسا بما أورده حول تاریخ إیران . واعتمد فی قسم السیرة علی سیرة ابن إسحاق(1) ، لکنّه نقل عن عروة بن الزبیر ، وأبان بن عثمان، وشرحبیل بن سعد ، وهیثم بن عدیّ أیضا . وأشرنا سابقا إلی أنّه توکّأ علی أخبار سیف بن عمر فیما یخصّ حروب الردّة حتّی آخر حرب الجمل . وبعد ذلک أثر عن أبی مخنف بشکل رئیس فی بیان حوادث العراق حتّی نهایة العصر الأمویّ، وواصل کلامه بالنقل عن المدائنیّ ، وعوانة بن الحکم ، والواقدیّ ، وعمر بن شبّه ، والکلبیّ(2) .

وتکمن القیمة العلیا لکتاب الطبریّ فی أنّه أفاد ممّا کان یقتنیه من کتابات تاریخیّة کثیرة متداولة وغیر متداولة آنذاک ، ولم یبق هذا الیوم إلاّ ما حفظه الطبریّ لنا من تلک الکتب . ولعلّ أفضلها مقتل الحسین علیه السلام لأبی مخنف الذی حُفِظ قسم مهمّ منه بواسطة تاریخ الطبریّ . وینطبق هذا الأمر علی مصنّفات وهب بن منبّه فی أخبار الأنبیاء السابقین ، ومصنّفات عبید بن شریة ، والأصمعیّ ، والشعبیّ ، والکلبیّ فی تاریخ العرب والفرس قبل الإسلام ، وکذلک النسخة الأصلیّة من سیرة ابن إسحاق فی قسم المغازی(3) . والموقف الدینیّ للطبریّ فی کتابة التاریخ واستخلاص الأخبار واضح

ص: 192


1- نفسه : 200 ، 201 .
2- نفسه : 182 .
3- موارد تاریخ الطّبریّ ، القسم الأوّل : 174 .

تماما . ودلّ علیه فی مواضع منه کامتناعه عن نقل الأخبار المتعلّقة بمقتل عثمان . وما یُستشفّ من بعض الأخبار ، ومصنّفات الطبریّ فی أواخر حیاته هو احتمال تغییر موقفه الدینیّ . وفی مکان آخر تناولنا هذه الأخبار التی قد یُشمّ منها رائحة التشیّع(1) . منها کتاب الولایة الذی صنّفه فی طرق حدیث الغدیر(2) .

ومن الثابت أنّه تعرّض لطعون أصحاب الحدیث والأهواء العثمانیّة فی السنین الأخیرة من حیاته ببغداد ، وضُیّق علیه أشدّ التضییق بسبب تألیفه کتاب الولایة ، وکتاب فی صحّة حدیث الطیر . وذکر یاقوت خبر المضایقات التی مرّ بها عند ترجمته فی معجم الأدباء . وحاول بعض الکتّاب من أهل السنّة فی السنین الأخیرة أن یبرّئوا الطبریّ من هذه النزعة الشیعیّة المحدودة فذکروا أنّه خُلط بمحمّد بن جریر بن رستم الطبریّ الشیعیّ ، ونسبوا بعض المطالب إلی الطبریّ المعروف خطأً . وإذا صحّ هذا الخطأ فی کتابٍ ما ، فإنّه لا یصحّ فی کتاب الولایة ، لأنّ الذهبیّ رآه ، وأعدّ له تلخیصا ما زال موجودا .

وقیل إنّ أبا علیّ البلعمیّ العامل فی بلاط السامانیّین ترجم تاریخ الطبریّ إلی الفارسیّة سنة 352 ه . وذهب محقّق (تاریخنامه) [ کتاب التاریخ ] إلی أنّ نسبة هذه الترجمة إلی البلعمیّ غیر صحیحة(3) . وکتب علی غلاف الکتاب : «گردانیده منسوب به بلعمی) أی : [ الترجمة المنسوبة إلی البلعمیّ ] . وبهذا غیّر عنوانه من تاریخ بلعمی إلی تاریخ الطبریّ وحذف الأسناد وأورد متن الأخبار فی کتابه ملخّصا . واحتذی حذو غیره فی انتهاج الأسالیب المتداولة فی الترجمة یومئذٍ ، فتصرّف فی موضوع

ص: 193


1- انظر : جغرافیای انسانی شیعه در جهان اسلام [ الجغرافیّة البشریّة للشیعة فی العالم الإسلامیّ ] : 133 - 153 .
2- انظر : مجلّة تراثنا ، العدد 21 ، ص171 - 174 .
3- انظر : تاریخنامه طبری [ تاریخ الطبریّ ] ، ج1 ، المقدِّمة ، ص16 طهران ، سروش ، 1374 شمسیّ ، 1416 ه .

الأخبار وموقعها . ومن الطریف أنّ الترجمة الفارسیّة للکتاب نُقلت إلی العربیّة مرّةً أُخری !

وقام ملک الشعراء بهار وبَروین گُنابادی بطبع تاریخ البلعمیّ أوّل مرّة فی جزءین ، ویشمل تاریخ الأنبیاء والملوک حتّی تاریخ الفُرس . وأصدرت (انتشارات سروش) [ دار سُروش للنشر ] هذین الجزءین بجهود محمّد رُوشَن سنة 1374 ش - 1416ه . وبمساعیه أیضا اهتمّت دار اَلْبُرْزْ للنشر بطبع تتمّتها حتّی حکومة المسترشد باللّه (م529) فی ثلاثه أجزاء سنة 1373 ش - 1415ه ، ففی أیدینا خمسة أجزاء منه الآن.

وطُبع تاریخ الطبریّ لأوّل مرّة فی أروبّا ، ثمّ أُعیدت هذه الطبعة بالأوفسیت فی إیران . وله طبعات متکرّرة فی مصر وبیروت ، بید أنّ أفضلها وأکثرها تداولاً الیوم هی الطبعة المؤلَّفة من أحد عشر جزءا بتحقیق محمّد أبوالفضل إبراهیم . وتضمّ الأجزاء التسعة الأُولی ونصف من الجزء العاشر نصوصا تاریخیّة ، أمّا النصف الآخر فیحتوی علی فهارس الکتاب . ویحمل الجزء الحادی عشر عنوان صلة تاریخ الطبریّ لعریب بن سعد ، والمنتخب من ذیل المذیّل للطبریّ نفسه .

وعرض المرکز الکومبیوتریّ للعلوم الإسلامیّة المتن الکامل لتاریخ الطبریّ مع ترجمته الفارسیّة التی أنجزها أبوالقاسم باینده فی خمسة عشر جزءا علی (CD) بعنوان نور السیرة .

أحمد بن أعثم الکوفیّ (م ح 314)

محمّد (أبو محمّد علیّ أو أحمد) بن علیّ بن أعثم الکوفیّ(1) مصنّف کتاب الفتوح ذی المحتوی الغزیر الذی غفل عنه المؤرّخون وأرباب التراجم حتّی الفترة الأخیرة ،

ص: 194


1- تاریخ التّراث العربیّ ، التدوین التاریخیّ : 169 .

ولم یکن نصّه العربیّ فی متناول الباحثین إلاّ فی العقد أو العقدین الأخیرین ، ویبدو أنّه طُبع اعتمادا علی نسخةٍ وحیدة منه(1) . وکملت أقسام من نصّه العربیّ بواسطة النصّ الفارسیّ الباقی من القرن السادس . ویتراءی لنا أنّ النصّ الحالی لا یستلزم اشتماله علی النصّ الأصلیّ کلّه . فلم یرد فیه مثلاً مطلب نقله السیّد ابن طاووس منه(2) . وهذه الترجمة حرّة ولها بالغ الأهمّیّة أدبیّا ، لکنّها لا تتعدّی وقائع الإمام الحسین علیه السلام . وبدأ النصّ العربیّ للکتاب بما تلا وفاة النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، وتواصل حتّی آخر حکم المستعین . ولم یذکر ابن أعثم مصادره فی أغلب المواضع ، لکنّنا نستطیع أن نجد أخباره فی سائر المصادر ، وفی الوقت نفسه ذکر شیئا منها فی بعض المواطن . ومن الأسماء المعروفة : الشعبیّ ، ونصر بن مزاحم(3) ، والواقدیّ ، والزهریّ ، وهشام الکلبیّ . وقال بعد ذکر هذه الأسماء التی جری فیها تصحیف نوعا ما : «وقد جمعت ما سمعت من روایاتهم علی اختلاف لغاتهم ، فألّفته حدیثا واحدا علی نسق واحد»(4) .

وکذلک فعل فی موضع آخر إذ ذکر هذه الجملة نفسها حین أورد الأسماء والأسناد علی غیر ترتیب أیضا(5) . ولاریب فی أنّ مصنّفات أبی مخنف من أهمّ مصادره ، ویضاف إلی ذلک أنّه ذکره فی السند المتقدّم عن طریق الکلبیّ . ونقل مطالب عنه بسنده المستقلّ فی بعض المواضع(6) . وعلی هذا النمط أورد خبرا معیّنا فی بعض

ص: 195


1- انظر بشأن ابن أعثم : الذریعة 3 : 220 ، مقدِّمة ترجمة الفتوح بتصحیح غلام رضا محمّد مجد طباطبائی ، ص11 - 32 .
2- کتابخانه ابن طاووس [ مکتبة ابن طاووس ] : 562
3- وجاء فی المتن : «نعیم بن مزاحم» خطأً .
4- الفتوح 2 : 147 - 149 الإرجاعات علی أساس طبعة حیدر آباد فی الهند .
5- نفسه 2 : 344 ، 345 .
6- الفتوح 4 : 36 ، 37 .

الفقرات نقلاً عن الهیثم بن عدیّ (وهو عن عبد اللّه بن عیّاش عن الشعبیّ)(1) . وعرض فی موضع آخر سلسلة من الأسناد التی تحتاج إلی تحلیل مفصّل . ویُلحَظ من بینها سند جاء فی آخره : «... حدّثنی أبو عمر حفص بن محمّد عن جعفر بن محمّد الصادق ، عن أبیه ، عن آبائه» . ونقرأ فی هذه الأسناد أسماء معروفة کنصر بن مزاحم المنقریّ ، والواقدیّ ، وهشام الکلبیّ عن أبی مخنف ، وعوانة بن الحکم ، والهیثم بن عدیّ ، وابن دأب ، وأبی البختریّ(2) .

ونقل ابن أعثم عن المدائنیّ ما یتعلّق بحرب الأمویّین والعبّاسیّین وبدایة الحکم العبّاسیّ بنحو متّسق(3) . ونقل عن أحمد بن یحیی (البلاذریّ) بعض الأخبار(4) .

وأفاد من کتاب المدائنیّ فی القسم المتعلّق بفتح خراسان کما أفاد فی فتح أرمینیّة وآذربایجان من کتابی أبی عبیدة معمر بن المثنّی : فتح أرمینیّة ، وفتح آذربایجان(5) . وتبدأ معظم الأخبار بکلمة (قال) التی یمکن أن تکون لابن أعثم أو لراوی الکتاب ، وتستوعب صفوةً من الأخبار المرتبطة بالوقائع . ولا شکّ فی أنّ الکتاب اعتمد علی مصادر من الطراز الأوّل وفیه موضوعات فریدة غزیرة .

وینتهی الکتاب فی الصفحة 244 من الجزء الثامن ، لکن جاء بعدها موضوع تحت عنوان «حکایة الإمام الشافعیّ مع الرشید» . وتلاه عنوان «أیضا خبر الشافعیّ»(6) ، ثمّ عاد الکتاب إلی نسقه الطبیعیّ وهو تاریخ عصر الرشید فعبارة «تمّ کتاب الفتوح» إمّا خطأ أو أنّ المؤلّف أضاف القسم الأخیر إلی الکتاب بعد تصنیف أصله . ویُشبه هذا القسم أخبار الطبریّ کثیرا .

ص: 196


1- الفتوح 7 : 124 ، وانظر أیضا 8 : 266 .
2- نفسه 4 : 209 ، 210 .
3- نفسه 8 : 190 ، 192 ، 195 ، 196 ، 202 ، 205 ، 207 ، 218 .
4- نفسه 8 : 212 .
5- نفسه 1 : 90 - 92 ؛ 2 : 5 ، 6 ، 65 ، 69 ؛ انظر : إسهامات مؤرّخی البصرة : 100 .
6- الفتوح 8 : 252 .

ومن الحریّ بالذکر أنّ کتابا طُبع أخیرا للواقدیّ تحت عنوان کتاب الردّة ، ویُلحظ أنّ بینه وبین قسم أخبار الردّة فی کتاب الفتوح وجوه شبه جمّة . ویُخمّن أنّ ابن أعثم ألّف هذا القسم مستعینا بکتاب الواقدیّ ، والظنّ الآخر هو أنّ النصّ أُعدّ لاحقا علی أساس کتاب ابن أعثم ونُسب إلی الواقدیّ . وهذا موضوع یحتاج إلی تحقیق أکثر .

واتّهم ابن أعثم بالتشیّع . لکنّ نظرةً علی کتابه تدفع هذه التهمة سواءً کان التشیّع إمامیّا أم زیدیّا أم إسماعیلیّا . ذلک أنّه ذکر موضوعات مثبتة کثیرة بشأن الخلفاء الأُوَل . وفی الوقت نفسه تُلحظ فیه حقائق وافرة تناسب عقائد الشیعة ویعود هذا إلی تشیّعه العراقیّ ونحن نعلم أنّ الأصل فی الرواة والأخباریّین الکوفیّین علی التشیّع ولا بدّ أن یکون ابن أعثم متأثّرا بهذا النوع الخاصّ من التشیّع . وتدلّ نظرة علی ما ذکر فی میلاد الإمام الحسین علیه السلام واختلاف الملائکة وإخبار جبرئیل عن استشهاده وطبیعة هذه الأخبار علی أنّه استنار بالمصادر الشیعیّة ، وأورد ما أورده بلا تغییر فی نبرتها(1) . وکتاب الفتوح مصدر أخباریّ یُنبّئ علم النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم والإمام الحسین علیه السلام باستشهاد الإمام فی کربلاء(2) .

وما جاء فی الکتاب حول حروب الردّة یضمّ علی سبیل الحصر أخبارا تُرشد إلی أنّ بعض من وُصفوا بالارتداد کانوا ممّن نهض دفاعا عن حقّ الإمام علیّ علیه السلام وأهل البیت علیهم السلام ، وامتنعوا عن دفع الزکاة إلی حکومة أبی بکر .

وتدور موضوعاته حول حوادث العراق ، مضافا إلی أخباره عن سائر المدائن . وتناول جزء من الطبعة ذات الأجزاء الثمانیة ملحمة کربلاء وهو من أُمّهات المصادر فی هذه الملحمة العظیمة . وورد هذا النصّ نفسه فی مقتل الحسین علیه السلام للخوارزمیّ مع تغییر یسیر . وأتی یاقوت بترجمة موجزة له ، وذکر له کتابین فی سیاق اعتقاده بتشیّعه

ص: 197


1- الفتوح 4 : 211 - 217 .
2- نفسه 4 : 213 ، 214 .

الأوّل تاریخه من عصر أبی بکر إلی عصر هارون . والآخر تاریخه المشتمل علی الحوادث الواقعة فی عهد هارون إلی عهد المقتدر(1) .

وذهب إلی أنّ کتابه الأوّل یبدأ من خلافة أبی بکر حتّی زمان هارون ، فی حین أنّ الکتاب الموجود یستوعب الفترة الممتدّة من خلافة أبی بکر حتّی حکومة المعتصم .

وتولّی مجلس دائرة المعارف العثمانیّة فی حیدر آباد الدکن الطبعة الأولی للکتاب بإشراف محمّد عبد المعید خان . ونهضتْ دار الندوة الجدیدة ببیروت بطباعتها علی الأوفسیت وأنجزت دار الفنون فی بیروت الطبعة الاخری للکتاب بتحقیق علی شیری . ومزیّتها وجود فهرس علی الکتاب فی جزء واحد .

وأشرنا إلی أنّ طبعة الهند اعتمدت علی نسخة ذُکرت فی الحواشی المدوّنة علی الأصل ، وأجری المصحّح إصلاحات علیها مستهدیا بسائر الکتب . وذکر سزگین نسخا متنوّعة من هذا الکتاب وأضاف أنّ کتابا بعنوان «ابتداء خبر وقعة صفّین» موجود فی مکتبة منجانا ، واحتمل أنّه قسم من الفتوح نفسه(2) .

أبوبکر الجوهریّ (م 323)

أبوبکر أحمد بن عبد العزیز الجوهریّ البصریّ البغدادیّ من الأخباریّین

ص: 198


1- معجم الأدباء 1 : 379 . وانظر بشأن ابن أعثم : لسان المیزان 1 : 138 ؛ وأورد العلاّمة السیّد محسن الأمین ترجمته فی أعیان الشیعة 2 : 488 . وذهب القاضی نور اللّه التستریّ إلی أنّه کان شافعیّا ! واضطلع محمّد بن محمّد المستوفیّ بترجمته إلی الفارسیّة سنة 598 . ولعلّ الکتاب المذکور طُبع لأوّل مرّة سنة 1300 ه . وأنجز غلام رضا مجد طباطبائی طبعته المنقّحة طهران ، 1372 ش - 1993 م انظر بشأن المترجم : مقدّمة طبعته الجدیدة ، وکذلک مقالة دبیر سیاقی فی مجلّة (راهنمای کتاب) [ دلیل الکتاب ] السنة 19 ، العدد 12 ، ص839 فما بعدها .
2- تاریخ التّراث العربیّ ، التدوین التاریخیّ : 170 .

والمؤرّخین الذین ضاعت آثارهم ، لکنّ فقرات کثیرة منها تُلحظ فی بعض الکتب . وشیخاه البارزان هما عمر بن شبّه مؤلّف تاریخ المدینة المنوّرة ، ومحمّد بن زکریّا الغلابیّ (م 298) . وهو نفسه کان أستاذ أبی الفرج الإصفهانیّ الذی نقل عنه أخبارا فی الأغانیّ ومقاتل الطالبیّین(1) .

وذکرت له المصادر کتاب السقیفة وفدک . وکان هذا الکتاب عند ابن أبی الحدید وقد صرّح به(2) . وکان عند علیّ بن عیسی الإربلیّ (م 692) أیضا وأفاد منه فی کشف الغمّة(3) . والفقرات المنقولة منه فی شرح نهج البلاغة کثیرة جدّا . وجمعها الأُستاذ محمّد هادی الأمینیّ الذی جدّد الکتاب المذکور(4) . ویستشفّ من مرویّات الکتاب أنّه کان جامعا للأخبار ، ومن هنا لم ینحز إلی فرقة خاصّة . ولم تصفه المصادر المعنیّة بالتشیّع قطّ .

وتُلحظ فی کتاب السقیفة وفدک أخبار کثیرة عن عمر بن شبّه . ویبدو أنّها من القسم الذی فُقد من کتابه تاریخ المدینة الذی کانت فیه أخبار السقیفة . وهکذا یتسنّی أن یُجدَّد القسم الذی ضاع من کتاب ابن شبّه الموسوم بتاریخ المدینة ویُشاهَد اسم أبی زید عمر بن شبّه فی مدخل کثیر من الأسناد الموجودة فی الکتاب . وکذلک وردت فیه أخبار عن الغلابیّ ، ولا بدّ أن تکون من آثاره ، وهو من الأخباریّین البارزین .

ص: 199


1- الأخبار المنقولة عن أبی بکر الجوهریّ فی المقاتل من الوفرة بمکان . انظر : فهرس أعلام المقاتل .
2- شرح نهج البلاغة ، ابن أبی الحدید 16 : 210 .
3- علیّ بن عیسی الأربلیّ وکتاب کشف الغمّة : 112
4- طهران ، مکتبة نینوی ، 1401 ه .

قدامة بن جعفر (م 337 ؟)

قدامة بن جعفر بن قدامة أحد المؤرّخین فی القرن الرابع الهجریّ . وذکر ابن الندیم أنّ جدّه کان نصرانیّا وأسلم علی ید المکتفی العبّاسیّ . وکان فی عداد البلغاء والفصحاء والفلاسفة والمناطقة ومن کتبه : کتاب الخراج ، وکتاب السیاسة وغیرهما(1).

وأثنی علیه المسعودیّ فی مقدّمة مروج الذهب حقّ الثناء ووصفه بحُسن التألیف وعرضه معانی عالیة فی ألفاظ قصیرة . وضرب مثلاً بکتابیه زهر الربیع وکتاب الخراج للوقوف علی صواب کلامه(2) . وأشار یاقوت إلی کتابه زهر الربیع فی الأخبار نقلاً عن ابن الندیم ، لکنّ اسم هذا الکتاب لم یرد فی الفهرست .

ولیس فی أیدینا معلومات کافیة تُذکَر عن حیاته. وذکر یاقوت أنّه کان کاتبا لابن الفرات . وأشار فی تعلیقه علی کلام ابن الجوزیّ الذی ذهب إلی أنّه مات فی أیّام المطیع العبّاسیّ سنة 337 ه إلی أنّ کلامه لا یُرکَن إلیه ، وآخر ما وافاه حول قدامة هو ما قاله أبو حیّان أنّه کان فی مجلس مناظرة بین السیرافیّ ومتّی المنطقیّ سنة 320ه(3) .

إنّ ما یُعدّ مهمّا هو کتابه الخراج وصناعة الکتابة . وبقیت بعض مصنّفاته الأدبیّة ، وذکر مصحّح کتاب الخراج فی المقدّمة أنّ طه حسین نشر أحدها . وصنّف قدامة هذا الکتاب الذی ظلّت المنازل الأربعة الأخیرة من منازله الثمانیة کدلیلٍ للکتّاب الذین کانوا بحاجةٍ إلی معرفة شتّی المسائل والأمور . علی سبیل المثال کان منزله الثالث المفقود فی موضوع البلاغة والرابع فیالإنشاء ولیس فی متناول أیدینا موضوع المنزلین الأوّلین . وتحدّث المنزل الخامس الذی یعتبر أوّل قسم موجود عن الدواوین

ص: 200


1- الفهرست : 144 .
2- مروج الذّهب 1 : 24 .
3- معجم الأدباء 17 : 12 .

الحکومیّة ، وتطرّق المنزل السادس إلی جغرافیة الأرض شرقها وغربها . أمّا المنزل السابع فموضوعه الأموال والإیرادات ، وأمّا المنزل الثامن فموضوعه نشوء المجتمع وتوسّعه وبروز المجتمع البشریّ واضمحلاله ، وکذلک سیاسة الأُمور وإدارتها .

وأشرنا إلی أنّ کتاب السیاسة کان فی عداد مصنّفاته . والمعلومات التی ذکرها فی مجال تبلور المجتمع البشریّ ومراحل تطوّره - بالنظر إلی میوله الفلسفیّة واطّلاعه علی الأفکار المتداوله - ذات أهمّیّة بالغة ، وتحتاج إلی تحلیلات ودراسات منطلقة من نظریات علم الاجتماع .

ومن الأبواب المهمّة فی الکتاب هو منزله السابع الذی بسط الکلام عن فتح المدن ، وحوی أخبارا مفصّلة رائعة حول الفتوحات . واشتمل الباب التاسع عشر من هذا المنزل (من ص256 إلی ص424) علی نبذة تاریخیّة عن فتح المناطق المختلفة .

ویلحظ بین المباحث أحیانا أسماء رواة ومحدّثین ومؤرّخین(1) . ومنهم أبو عبید قاسم بن سلام الذی یحتمل أنّه أفاد من مصنَّفه کتاب الأموال(2) . کما ورد اسم الکلبیّ ، والواقدیّ(3) ، ویحیی بن آدم(4) فی صفحات مختلفة منه .

ولا تستشفّ التوجّهات الدینیّة للمؤلّف من الکتاب المذکور مع هذا فإنّ ما أورده عن فدک ، وما عبّر عن السیّدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام بقوله «رضوان اللّه علیها» لافت للنظر(5) .

وطُبع هذا الکتاب فی بغداد سنة 1981 م بجهود محمّد حسین الزبیدیّ .

ص: 201


1- وله روایة عن جعفر بن محمّد الصادق أیضا ، وهی فی ص256 .
2- الخراج : 215 ، 216 ، 219 ، 230 ، 250 ، 243 ، 254 .
3- انظر : نفس المصدر : 296 .
4- نفسه : 356 ، 364 ، 368 و ... ومن المؤسف أنّ فهرس أعلام الکتاب المذکور لا یوثق به أبدا .
5- نفسه : 259 ، 260

محمّد بن أحمد التمیمیّ (م 333)

أبو العرب محمّد بن أحمد التمیمیّ أحد المؤرّخین الأفارقة المجهولین - فی الشرق الإسلامیّ - إبّان القرن الرابع الهجریّ . وله مصنَّف بدیع فی کتابة تاریخ العصر الإسلامیّ الذی ما زال ماثلاً من حسن الحظّ . وهذا الکتاب الثمین هو کتاب الِمحَن . ولنا فی أدبیّاتنا التاریخیّة - فی سیاق بعض الکتب - آثار فی المقتولین غدرا وغیلةً . کما لغیرنا آثار فی مقتل رجالٍ رأینا نماذج منها بین مصنّفات أُحادیّة الموضوع لمختلف الکتّاب . وفی هذا المجال مصنّفات فهرست المصائب والمحن الشخصیّة الخاصّة مثل کتاب محن أمیرالمؤمنین لابن دأب (م171) ، وکتاب محنة أحمد بن حنبل لصالح بن أحمد بن حنبل (م265) ، وکتاب محن الرسول وذکر إحن أعدائهم لمحمّد بن أحمد الصفوانیّ(1) . بید أنّ کتاب التمیمیّ یشتمل علی فهرسٍ لرجالٍ مُنی کلٌّ منهم بمصائب ومحن معیّنة نوعا ما ، وقُتل فیها کثیر منهم . ونظرا إلی أنّ تصنیف الکتاب کان فی النصف الأوّل من القرن الرابع ، فمن الطبیعیّ أن یکون مصنَّفا قدیما یشتمل علی أخبار بدیعة حول أشخاص مهمّین کان لهم تأثیر تاریخیّ آنذاک . ویرید المصنِّف من المحن أنواع المصائب وأقسامها کالسجن والإبعاد والتعذیب والقتل وغیرها ممّا ابتلی به الصحابة والتابعیّون والعلماء والفقهاء والأُمراء والخلفاء .

وکان أبو العرب التمیمیّ من أمراء أفریقیة ، لکنّه أقبل علی الدرس والعلم ، واختیر فی منصب الإفتاء علی المذهب المالکیّ آخر الأمر . وهو ممّن اصطدم بالحکومة الفاطمیّة الحدیثة العهد فی أفریقیة . وله مصنَّفات عدیدة فی الفقه والتاریخ وترجمة علماء أفریقیة بلغت أربعة عشر عنوانا(2) .

وبدأ التمیمیّ حدیثه عن محنة الأشخاص بمقدّمة حدیثیّة عن المحنة والبلاء ، وبعد

ص: 202


1- انظر : مقدّمة کتاب المحن : 17 .
2- مقدّمة کتاب المحن : 30 .

إشارته إلی مقتل عثمان تحدّث عن اغتیال عمر ثمّ عاد إلی عثمان نزلةً أُخری ، وواصل حدیثه عن نماذج غیرهما مراعیا النظم التاریخیّ . ومنهجه الاعتماد علی الأسناد ونقله الأخبار مسندةً ، وإن أدخل أحیانا بعض الأخبار المماثلة وذکر أسماء الرواة فی البدایة من أجل بلورة صیغة الخبر(1) . ونُقل فی موضع واحد کتاب داود بن حصین الذی کان من موالی عثمان فی قتلی الحرّة عن طریق الواقدیّ(2) . ومهما کان فإنّ من الیسیر ملاحظة سند معظم الأخبار تقریبا بلا عناء ، ومن ثمّ تقویمها من هذا المنطلق .

وممّن جاء خبر قتلة أو محنته فی هذا الکتاب : عمر ، وعثمان ، وعلیّ بن أبی طالب علیه السلام ، وطلحة ، والزبیر ، وعمّار ، ومحمّد بن أبی بکر ، ومن قتلی الجمل وغارات معاویة : خبّاب بن الأرت ، وعمرو بن الحَمِق ، والحسن بن علیّ علیه السلام ، وعمیر بن هانی ، وهمدان مؤذّن علیّ علیه السلام ، وقتلی یوم الحرّة (یُلحظ کلام مفصّل فی هذا المجال) ، وعمر بن سعد ، وسلیمان بن صرد ، والمسیّب بن نجبة ، وقتلی حرب الجماجم کابن أبی لیلی ، وکمیل ، وسعید بن جبیر ، والنفس الزکیّة ، وأصدرت دار الغرب الإسلامیّ ببیروت کتاب المحن بجهود یحیی وهیب الجبوریّ سنة 1403 ه .

علیّ بن الحسین المسعودیّ (م 346)

کان علم التاریخ قد تطوّر تطوّرا لافتا للنظر فی عصر المسعودیّ ، وهو نفسه قد قطع أشواطا جدیدة فی هذا المجال . ومن أهمّ أعماله أسفاره الطویلة خارج حدود المدائن الإسلامیّة لجمع الأخبار والمعلومات المتعلّقة بسائر الشعوب(3) . وتتبیّن آثار

ص: 203


1- مقدّمة کتاب المحن : 159 .
2- نفسه : 173 .
3- انظر بشأن أسفاره : تاریخ تاریخنگاری در اسلام [ کتابة التاریخ فی الإسلام ] : 62 ، 63 . وأکثر تفصیلاً منه : موارد تاریخ الطّبریّ لجواد علیّ ، القسم الأوّل : 2 ، 3 ؛ منهج المسعودیّ : 53 - 68 .

هذه الأسفار فی مروج الذهب مقرونةً بانطباعاته الاجتماعیّة عن الحیاة الاجتماعیّة لمختلف الناس . من هنا سمّاه کریمر «هرودت العرب»(1) .

ووردت أقدم ترجمة له فی فهرست ابن الندیم الذی کان معاصرا له . وذکر أنّه کان من أهل المغرب ومن نسل عبد اللّه بن مسعود(2) . ثمّ عدّ بعض مصنّفاته ومنها : مروج الذهب ومعادن الجوهر فی تحف الأشراف والملوک وأسماء الدیارات ، وکتاب التاریخ فی أخبار الأمم من العرب والعجم(3) . ویبدو أنّ ابن الندیم وهم فی مغربیّته . وذهب یاقوت إلی أنّه کان بغدادیّا وتوطّن مصرا ، ورأیه هذا قائم علی ما ذکره المسعودیّ فی السفر الثانی من مروجه أنّه ولد ببابل(4) .

وصنّف المسعودیّ کتبا عدیدةً سمّی بعضها فی مروجه . وکتب المستشرقون مقالات کثیرة حول أعماله التاریخیّة وآرائه ، وفهرسها سزگین(5) .

وتُلحظ آراء متضاربة حول مذهب المسعودیّ فقد ذکره ابن حجر وعدّه شیعیّا

ص: 204


1- ثقافة الشرق 2 : 423 ، نقلاً عن مقدّمة مروج الذّهب 1 : 2 .
2- جاء فی جمهرة أنساب العرب ص 197 : علیّ بن الحسین بن علیّ بن عبد اللّه بن زید بن عتبة بن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن مسعود .
3- الفهرست : 171 . جاء فی المتن المطبوع «القرابات» بدل «الدیارات» ، وفی تنبیه الأشراف : 1 : «الدیارات» .
4- معجم الأدباء 13 : 91 . ومن المحتمل أنّ قصد ابن الندیم من مغربیّة المسعودیّ مصریّته ، وحینئذٍ لن تبرز مشکلة خاصّة فی هذا المجال . انظر : منهج المسعودیّ : 45 .
5- تاریخ التّراث العربیّ ج1 ، جزء 2 ، ص178 ، 179 . ویضاف إلی ذلک إنّ جواد علیّ کتب مقالة مفصّلة حول المسعودیّ فی مجلّة سومر ، السنة العشرین تحت عنوان موارد تاریخ المسعودیّ کما کتب هادی حسین حمود مقالةً فی مجلّة المورد ، الجزء 8 ، العدد 3 ، وعنوانها مؤلّفات المسعودیّ . وموضوع أُطروحته هو المسعودیّ نفسه ، وطبعت هذه الأُطروحة تحت عنوان منهج المسعودیّ فی بحث العقائد والفرق الدینیّة . والکتاب المفصّل الذی تحدّث عن المسعودیّ هو منهج المسعودیّ فی کتابة التاریخ لسلیمان بن عبد اللّه المدید السویکت ، وطُبع سنة 1407 ه .

معتزلیّا نظرا إلی ما جاء فی کتبه(1) . وأورد السبکیّ رسالة تشتمل علی الآراء الفقهیّة للشافعیّ ، ومالک ، وأبی حنیفة ، وداود بن علیّ الظاهریّ ، وسفیان الثوریّ ، وقرأ المسعودیّ هذه الرسالة علی کاتبها أبی العبّاس بن سرج ، وأملی علیه قسما منها . وذهب السبکیّ إلی أنّه کان شافعیّا(2) . وعدّه علماء الشیعة شیعیّا إمامیّا ، فقد ذکره النجاشیّ ومصنّفاته التی أحصی منها إثبات الوصیّة(3) ، وهو الکتاب الذی لو کان له فهو شیعیّ إمامیّ بلا لُبسٍ ، بید أنّ الحقیقة هی أنّ نظم الکتاب وترتیبه یدلاّن علی تفاوت کبیر بینه وبین أُسلوب مروج الذهب(4) . ونظرا إلی أنّ النجاشیّ یعتقد بأنّ الکتاب للمسعودیّ فی القرن الخامس ، فانّ العثور علی شخص بهذا الاسم - أی: علیّ ابن الحسین المسعودیّ - بین علماء الشیعة المعاصرین للمسعودیّ المؤرّخ تقریبا یمکن أن یدحض انتسابه إلیه. وفی الوقت نفسه نلحظ فی مروج الذهب نظریّة الوصایة علی عهد الأنبیاء السابقین ، وهی ما یتوکّأ علیه الشیعة .

وتشیر نظرة علی الکتاب المذکور إلی أنّ میوله الشیعیّة کانت واسعة الامتداد إلاّ أنّنا لا نری فیه أثرا من التشیّع الإمامیّ غیر ما ذکره بشأن شروط الإمام عند الإمامیّة(5). وله أیضا رسالة مستقلّة تحت عنوان رسالة البیان فی أسماء الأئمّة القطعیّة

ص: 205


1- لسان المیزان 4 : 225 .
2- طبقات الشیعة 3 : 456 ، 457 .
3- رجال النجاشیّ : 254 ، رقم 665 .
4- أبدی مختلف الباحثین آراءهم فی وهم انتسابه إلی المسعودیّ . انظر : منهج المسعودیّ فی کتابة التاریخ : 107 - 109 . ویبدو أن تفاوت الأسلوب هو السبب الوحید لِلإنکار . ونُقل فی المصدر المذکور عن شخصٍ کان یری أنّ کتاب المسعودیّ هو لابن المطهّر العلاّمة الحلّیّ وهذا کلام لیس بصحیح ، ذلک أنّ النجاشیّ کان یعرف الکتاب فی القرن الخامس ونسبه إلی المسعودیّ المؤرّخ .
5- یعتقد مؤلّف کتاب منهج المسعودیّ فی کتابة التاریخ . وحده بمیوله الشیعیّة الشدیدة ، ویشکّ فی کَونه إمامیّ المذهب أو - کما قال اندریه میکال - إسماعیلیّا ومن دعاة الإسماعیلیّة فی القرن الرابع . انظر : المصدر نفسه : 71 - 77 فقد بسط فیه الکلام عن الأدلّة التی تهدی إلی میوله الشیعیّة .

من الشیعة(1) ، ولابدّ أن تکون فی ترجمة الأئمّة الاثنی عشر علی وجه الدقّة . وتحدّث عن الفرقة القطعیّة فی کتاب آخر له وذکر الحدیث النبویّ الشریف فی خطاب الإمام علیّ علیه السلام : «... أنت واثنا عشر(2) من أولادک أئمّة الحقّ» مستندا إلی کتاب سلیم بن قیس الذی روی عنه أبان بن أبی عیّاش. ووصف القطعیّة بضمیر «هم»، وذکر أنّ هذا الحدیث لم ینقله إلاّ سلیم . وأضاف بعد ذلک قائلاً : إنّ إمامهم المنتظر ظهوره فی وقتنا هذا المؤرَّخ به کتابنا : محمّد بن الحسن بن علیّ بن ... بن علیّ بن أبی طالب رضوان اللّه علیهم أجمعین(3) .

وهل یمکن أن یکون المسعودیّ قد امتنع عن إبداء موقفه الصریح فی مروج الذهب بسبب تهیئة کتابٍ للعامّة ؟ ومهما کان فإنّ نوعا من التشیّع العراقیّ الصریح یُشَمُّ من کتاب مروج الذهب ، وهو فی مستواه یتفاوت عن التشیّع الإمامیّ ، أو الإسماعیلیّ ، بل الزیدیّ . ونحن نعرف أنّ التشیّع العراقیّ نوع مستقلّ عن التشیّع بعامّة(4) .

وتدلّ نظرة علی فهرس مصنّفات المسعودیّ أنّ له رغبةً خاصّةً فی مبحث الإمامة . وکتبه فی هذا المجال التی لم یبق منها شیء : الاستبصار فی الإمامة ووصف أقاویل الناس فی ذلک من أصحاب النصّ والاختیار وحجاج کلّ فریق منهم ؛ کتاب الصفوة فی الإمامة ؛ کتاب الانتصار فی الإمامة ؛ کتاب حدائق الأذهان فی أخبار آل محمّد علیه الصلاة والسلام ؛ کتاب مزاهر الأخبار وظرائف الآثار للصفوة النوریّة والذرّیّة الزکیّة أبواب الرحمة وینابیع الحکمة(5) . ویستشفّ من عناوین هذه الکتب شیء أکثر من التشیّع العراقیّ المحدود ، لکنّنا لا ندری ماذا کان .

ص: 206


1- التنبیه والأشراف : 258 .
2- نحن نعلم أنّ هذا الخبر من المؤاخذات علی کتاب سلیم لأنّ العدد یجب أن یکون أحد عشر لا اثنی عشر.
3- التنبیه والأشراف : 198 ، 199 .
4- انظر : الشیعة فی إیران ، ج1 ، فصل أقسام التشیّع .
5- موارد تاریخ المسعودیّ : 13 ، 14 .

وکتابه الأهمّ هو مروج الذهب . وهذا المصنَّف الذی طُبع غیر مرّة حتّی الآن تلخیص لکتابین کان قد صنّفها من قبل . وأفضل طبعةٍ له هی الطبعة التی تقع فی سبعة أجزاء ، ونهض بها شارل بلا فی بیروت بین سنة 1966 و1979م مقرونةً بفهارس کثیرة(1) .

وأشار فی المقدّمة إلی أنّه صنّف کتابا بعنوان أخبار الزمان تحدّث فیه عن بدایة الخلیقة حتّی عصر الإسلام . بعد ذلک أعدّ کتابه الأوسط فی التاریخ ، ثمّ عزم علی أن یجعل جمیع ما فصّله فیهما داخل کتاب واحد هو مروج الذهب ومعادن الجوهر . وقد صنّفه سنة 333 ه ، وأضاف إلیه سنة 336ه ما وقع من أحداث حتّی هذه السنة . ونقل المقریزیّ عنه موضوعا تاریخه سنة 345ه . ویری بعض الباحثین أنّ المسعودیّ زاد فیه أیضا لکن لم تصل إلینا نسخته(2) .

وأتی المسعودیّ فی مقدّمته بفهرس لأهمّ الکتب التاریخیّة الموجودة فی عصره ، وهو فهرس زاخر القیمة . وفیه نفسه خصّ تاریخ الطبریّ بأکثر الثناء ، وذکر أنّه جمع فیه أنواع الأخبار ، وهو کتاب مفید عظیم الفائدة . وأثنی أیضا علی قدامة بن جعفر وکتاب خراجه .

وعرض فی المقدّمة أیضا فهرسا لأبواب کتابه . وتصدّر الکتاب بقصّة النشأة الأُولی ، وواصل الکلام فی تاریخ الأُمم المختلفة ، والبلدان ، والسلالات الملکیّة ، والجغرافیة التاریخیّة للعالم . ورؤیته فی هذه المباحث لیست بتاریخیّة بحتة ، بل کان ینظر إلی الماضی من کلّ جهة ویقدّم مجموعة من المعلومات التاریخیّة ، والجغرافیّة ، وتاریخ العلوم ، والتقاویم ، والأدیان والعقائد . ویصل بعد هذه الموضوعات إلی ولادة

ص: 207


1- للاطّلاع علی طبعاته الأُخری انظر : منهج المسعودیّ فی کتابة التاریخ : 96 ، 97 .
2- موارد تاریخ المسعودیّ : 10 ، 11 ؛ منهج المسعودیّ فی کتابة التاریخ : 92 - 95 .

النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، ویدخل فی التاریخ الإسلامیّ ، والتقسیم فیه علی أساس خلافة الخلفاء ، ویدور الکلام فی ذیل أسماء الخلفاء حول حوادث عصره . وآخر سنةٍ ذکرت فیها الحوادث هی سنة 346ه .

وکانت مصادره جمّةً ، والسبب فی ذلک أنّه لم یتحدّث عن التاریخ فحسب ، بل تناول کثیرا من المجالات الفکریّة والاجتماعیّة الأُخری . وسطر فی الأقسام الأُولی التی ضمّت مباحث کتاب المبتدأ وقصص الأنبیاء فی الکتاب المذکور تعابیر نحو : «ذهب أکثر أهل الکتاب»، «وقد زعمت المجوس»، و«ذکر أهل الکتاب»، و«ذکر أهل التوراة والکتب الأُولی» وأمثالها ممّا یدلّ علی أنّه أفاد من مصادر أهل الکتاب طبعا . وأشار إلی کتاب المبتدأ والسیر لوهب بن منبّه أیضا(1) .

وأخذ فی قسم السیرة من مغازی ابن إسحاق (عن طریق تهذیبها الذی أنجزه ابن هشام) . وذکر فی بعض الأخبار التاریخیّة المتعلّقة بصفّین وأنساب الیمن وغیرهما ولید ابن الحصین المعروف بابن القطامیّ (م155) . وجیء باسم أبیمخنف فی مواطن کثیرة . ویُلحظ فیه أیضا أخبار نقلت عن عیسی بن یزید بن بکر بن دأب (م171) فی الخلفاء . ولنا أن نشیر إلی هیثم بن عدیّ (م 207) ، والواقدیّ ، والمدائنیّ ، وأبی عبیدة معمر بن المثنّی وکُثْرٍ سواهم فی جملة المشاهیر والأخباریّین الذین نقل عنهم(2) .

وجملة القول إنّه لا بدّ من الالتفات إلی أنّ کتاب المسعودیّ نُخبة من مئات الکتب التی ضاع الیوم ما یربو علی تسعین بالمئة منها . ونظرةٌ علی فهرسٍ لعناوین الکتب الواردة فی المتن المذکورة فی فهارس کتاب مروج الذهب یمکن أن تدلّ علی جانب من هذه المصادر . وفی هذا الشأن نقل عن کتاب أبی حنیفة الدینوریّ مطلبا فی الجغرافیّة

ص: 208


1- موارد تاریخ المسعودیّ : 28 .
2- انظر : منهج المسعودیّ فی کتابة التاریخ : 206 - 277 .

ثمّ ذکر أنّ جمیع هذه المطالب أخذها ابن قتیبة من کتب الدینوریّ وأدرجها فی کتبه ، وطبّق هذا العمل أیضا علی الکتب الأُخری لأبی حنیفة الدینوریّ(1) .

وجمع المسعودیّ فی کتبه أیضا معلومات شفویّة کثیرة بفضل أسفاره المتوالیة . والمثال الرائع الآخر فی مصنّفاته هو کتابة علی حجر منقوش کان موضوعا علی قبور الأئمّة الأطهار علیهم السلام فی البقیع . فقد ذکر أنّ فی البقیع حجرا من الرخام کتب علیه : (الحمد للّه مُبید الأُمم ومحیی الرمم . هذا قبر فاطمة بنت رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم سیّدة نساء العالمین والحسن بن علیّ بن أبی طالب ، وعلیّ بن الحسین بن علیّ ، ومحمّد بن علیّ ، وجعفر بن محمّد رضوان اللّه علیهم أجمعین)(2) . وأورد کذلک بعض مذکّراته التی منها خبر عن حفلة لیلیّة أُقیمت بمصر سنة 330 ه(3) .

ولا یشتمل کتاب مروج الذهب علی الأخبار التاریخیّة فحسب ، بل یضمّ کثیرا من القضایا الثقافیّة والفرقیّة والکلامیّة وکذلک الأدبیّة . وأفاد فی هذه المجالات من مصادر لیست فی متناول الید أیضا .

وللمسعودی کتاب آخر تحت عنوان التنبیه والأشراف وهو یحتوی علی مجمل لتاریخ عامّ للعالم قبل الإسلام وبعده حتّی سنة 345 ه إذ کانت حکومة المطیع . وعرض الکتاب موضوعاته فی ثلاثة أقسام ، الأوّل ویشتمل علی القضایا الجغرافیّة ؛ الثانی ویحوی تاریخ فارس والروم ؛ الثالث ویتناول تاریخ العصر الإسلامیّ . والقسم الذی یتوسّط الأوّل والثانی سرد لقضایا تخصّ الأُمم السبع الماضیة ، وهی تؤلّف فی الأصل مقدّمة القسم الثانی. وبین القسم الثانی والثالث فصلان حول تعیین التاریخ عند الأُمم المختلفة . وطُبع هذا الکتاب لأوّل مرّة سنة 1810 مع ترجمة لمستشرق یُدعی

ص: 209


1- مروج الذّهب 2 : 202 .
2- التنبیه والأشراف : 260 .
3- مروج الذّهب 1 : 379 ، 380 .

ساکی. وأعاد دخویه طبعه عام 1894 . وتکرّرت طبعاته المتأخّرة بمصر وبیروت(1) . وطُبع کتیّب کقسمٍ من کتاب کبیر للمسعودیّ عنوانه أخبار الزمان ، وشکّک جواد علی بالکتیّب المذکور(2) .

أبو الفرج الإصفهانیّ (284 - 356)

أبو الفرج علیّ بن الحسین بن هیثم القرشیّ الأمویّ المنحدر من نسل هشام بن عبد الملک أحد أبرز المصنّفین المسلمین فی تاریخ الأدب العربیّ وتدوین موضوعات تاریخیّة مهمّة تدور حول تاریخ الثقافة فی الحضارة الإسلامیّة . ذکره ابن الندیم المعاصر له وعدّ بعض مصنّفاته(3) . ومصنّفه التاریخیّ البحت هو مقاتل الطالبیّین . أمّا کتابه الأغانیّ الذی یترجم للشعراء والمغنّین فهو ملیء بأخبار تاریخیّة عن حوادث صدر الإسلام ، إذ ما إن یدور الحدیث حول شخصیّة من الشخصیّات فإنّه یسرد شرحا تاریخیّا للحوادث التی مرّت به وله فیها یدٌ . وهذا الکتاب من أفضل المصنّفات الباقیة من القرون الهجریّة الأُولی فی الثقافة الإسلامیّة المسطورة . ولا یُقاس به کتاب فی تاریخ الأدب العربیّ من الوجهة الأدبیّة .

وله رسائل صغیرة نحو کتاب أدب الغرباء وکتاب الدیارات ، وطُبع کلاهما . ومن مشایخه : أبو بکر بن دُرید ، وأبو بکر بن الأنباریّ ، ومحمّد بن جریر الطبریّ ، وجعفر ابن قدّامة(4) .

ونظرة مجملة علی کتابه مقاتل الطالبیّین الذی یضمّ ترجمة لقتلی آل أبی طالب تدلّ

ص: 210


1- انظر : منهج المسعودیّ : 101 ، 102 .
2- موارد تاریخ المسعودیّ : 7 .
3- الفهرست : 127 ، 128 .
4- انظر : أبو الفرج الإصفهانیّ وکتابه الأغانیّ : 62 - 69 القاهرة ، دار المعارف .

علی نزعته الشیعیّة . وهذا أمر عجیب إذا أخذنا بنظر الاعتبار نسبه الأمویّ مع هذا فإنّ تشیّعه نوع من التشیّع العراقیّ شبه المعتزلیّ لا التشیّع الإمامیّ . وقال ابن العماد الکاتب : «ومن العجائب أنّه مروانیّ یتشیّع»(1) . واعتداله هذا حداه علی نقل أخبار کثیرة خالیة من التعصّب المذهبیّ .

وهو فی أغانیه ومقاتله شدید التمسّک بالنهج الحدیثیّ وذکر الأسانید ، من هنا أتاح فرصة مناسبة للتحقیق فی مصادر الأحادیث والروایات التی نقلها . علما أنّ اهتمامه بأشعار شِرذمة من الفاسقین ومعاقری الخمرة والرقّاصین وأغانیهم وأخبارهم جعله فی موضع لا یؤبه له ولا یقام له وزن من الوجهة الدینیّة .

ویجدر الالتفات إلی أنّ کتاب الأغانیّ ، بغضّ النظر عن موضوعه المتمثّل بترجمة الأُدباء ، نقل أخبارا تتعلّق بأقسام کثیرة من تاریخ الإسلام بشکل متفرّق . فنقرأ فیه بحثا مبسوطا عن الإمام الحسین علیه السلام وابنته سکینة ، وبحثا عن عبد اللّه بن الزبیر ودولته ، وعن حوادث جمّة من أیّام العرب فی الجاهلیّة ومئات الأمثلة المماثلة . ومن الضروریّ فصل الأقسام التاریخیّة من الکتاب وطبعها علی أساس تسلسل تاریخیّ منظّم .

وطُبع قسم من الکتاب فی أوربّا إبّان النصف الأوّل من القرن التاسع عشر ، ثمّ طبع بعد ذلک بمصر أواخر القرن المذکور . وعقیب مدّةٍ أصدرت دار الکتب منها طبعةً منقّحةً له . ونهضت دار إحیاء التراث العربیّ فی بیروت بآخر طبعةٍ له فی ثلاثة عشر جزءا مع فهارس مفصّلة .

وکتاب مقاتل الطالبیّین کتاب ثمین ثمین من نوعه. وسبق أبا الفرج أحمد بن عبیداللّه الثقفیّ إذ کان صنّف کتابا تحت عنوان کتاب المبیضّة فی أخبار مقاتل آل أبی طالب(2) ،

ص: 211


1- شذرات الذّهب 3 : 19 .
2- الفهرست ، ابن الندیم : 166 .

ویبدو أنّ مصنّفات أُخری کانت موجودةً فی هذا المجال . ومهما کان فإنّ هذا الکتاب ظلّ ماثلاً وحفظ أخبارا کثیرةً فی سیرة العلویّین وطُبع الکتاب المذکور بتحقیق أحمد صقر(1) .

أبو نصر المقدسیّ (منتصف القرن الرابع)

مطهر بن مطهر (أو طاهر) المقدسیّ من المؤرّخین والمؤلّفین فی القرن الرابع الهجریّ . وهو مصنّف کتاب البدء والتاریخ الذی یمثّل مصنَّفا تاریخیّا یُشبه مروج الذهب للمسعودیّ فی بعض الجهات(2) . وصُنِّف الکتاب المذکور سنة 355 ه(3) ، وهو نفسه ذکر ذلک فی المقدّمة(4) . وقام کلمان هوار بطبع الجزء الأوّل منه بباریس سنة 1899م باسم أبی زید أحمد بن سهل البلخیّ (م 322) . بید أنّ ما جاء علی الصفحة الأُولی من الجزء الثالث المطبوع سنة 1903م هو أنّ الکتاب لمطهر بن طاهر المقدسیّ (المنسوب تألیفه لأبی زید أحمد بن سهل البلخیّ) . وأخذ هذا ممّا ورد فی غرر السیر للثعالبیّ(5) . وذکر سزگین أنّه هو الذی صنّف الکتاب فی بُست من أعمال سجستان(6) ، المکان الذی کانت فیه ولادته أو عیشته علی سبیل الاحتمال أیضا . وأورد شفیعی

ص: 212


1- قمّ ، أوفسیت منشورات الرضیّ .
2- وکتب محمّد کرد علی حول هذا الکتاب مقالة فی مجلّة المقتبس ، الجزء الثالث 1326 - 1908 تحت عنوان «مطبوعات ومخطوطات کتاب البدء والتاریخ» . وتحدّث شفیعی کَدْکَنی عن المقدسیّ وکتابه مفصّلاً فی مقدّمة الترجمة الفارسیّة للکتاب المذکور .
3- ذکر فی الصفحة السابعة عشرة من المقدّمة فی موضوعات الفصل الأخیر من الکتاب أنّه سیذکر أسماء الملوک العبّاسیّین حتّی سنة 350 ه .
4- البدء والتاریخ 1 : 6 .
5- للاطّلاع علی السبب المحتمل لهذه النسبة الخاطئة انظر : آفَرِینِشْ وتاریخ [ الخلیقة والتاریخ ] 1 : 36 .
6- تاریخ التّراث العربیّ ، التدوین التاریخیّ ، ص187 .

فهرسا لمشایخه اعتمادا علی ما جاء فی کتابه ، کما تحدّث عن أسفاره إلی سجستان ، ومرو ، وسیرجان ، وماسبذان ، وخوزستان ، وفارس ، وجندی سابور ، ومکّة ، والعراق ، والشام ، ومصر ، تلک الأسفار أشار إلیها المقدسیّ فی تضاعیف کتابه(1) .

ویُستشفّ من مقدّمته علی الکتاب أنّ المقدسیّ کان متمسّکا بالعقل فی تثمین الأخبار التاریخیّة . وما قیل فی العالَم الغابر وأفکاره وآرائه وأدیانه . فقد ذکر «غرائب العجائب» التی نقلها القصّاصون ، وهی مرفوضة من منظار العقل . ولیست إلاّ ترّهات وأباطیل وأسمارا کلّها باطلة ولا خَلاق للحقّ فیها(2) . بعد ذلک ذکر شخصا ولم یسّمه - ولعلّ اسمه کان فی النصّ الأصلیّ - وعبّر عنه بفلان ، وأنّه طلب منه أن یدوّن له کتابا خالیا من هذه الترّهات بعیدا عن الإفراط والتفریط ... «منحطّا عن درجة العلوّ، خارجا عن حدّ التقصیر، مهذّبا من شوائب التزیّد، مصفّی عن سقاط الغسالات وخرافات العجائز وتزاویر القصّاص وموضوعات المتّهمین من المحدّثین» . وفی الوقت نفسه یری هدفه دینیّا تماما ، وکتابه «ذبّا عن بیضة الإسلام وردّا لکید مناوئیه» .

ویرینا المقدسیّ فی المقدّمة فهرسا مجملاً للمباحث المطروحة فی کتابه . وشرع کلامه بالمبتدأ ، ثمّ أورد أخبار الأنبیاء والأُمم وسلالات ملوک العرب والعجم ، بعد ذلک نقل أخبار السلاطین حتّی زمن تصنیف الکتاب عام 355 ه . وله فی النهایة نظر إلی المستقبل ، وهو نقل أخبار الملاحم والفتن ، لا سیّما ما جاء منها فی الکتب المتقدّمة . وتطرّق فی غضون ذلک إلی أُمور من قبیل عمران الأرض ، وطبیعة الأقالیم والممالک ، والفتوحات والحروب . ومع کلّ ما مضی فإنّه کان یری ضرورة البحث الاعتقادیّ فی الفصول الأولی من کتابه .

ص: 213


1- آفَرِینِشْ وتاریخ 1 : 47 .
2- قال بعد نقل الخبر المتعلّق بخیبر : هذا هو الصحیح ، ولا نعرف ما قاله القصّاص . البدء والتاریخ 4 : 227 ، انظر : آفَرِینِشْ وتاریخ 1 : 51 .

ویدور الفصل الأوّل حول علم المعرفة وتقویم العقل والنظر . ویتناول الفصل الثانی إثبات وجود اللّه والتوحید وردّ التشبیه . ویتحدّث الفصل الثالث عن صفات الباری ویحوم الفصل الرابع حول النبوّة وإثباتها وکیفیّة الوحی . ویتطرّق الفصل الخامس إلی ابتداء الخلق . ویتکلّم الفصل السادس عن اللوح والقلم والعرش والکرسیّ ... ویشتمل الفصل السابع علی خلق السماء والأرض . ویضمّ الفصل الثامن ظهور آدم وأبنائه ، وینطوی الفصل التاسع علی ذکر الفتن والحوادث إلی قیام الساعة . ویحتوی الفصل العاشر علی تاریخ الأنبیاء . وموضوع الفصل الحادی عشر ملوک العجم . والثانی عشر تاریخ الأدیان . والثالث عشر جغرافیّة الأرض . والرابع عشر أنساب العرب . والخامس عشر سیرة النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم من ولادته إلی بعثته ... وهکذا حتّی الثانی والعشرین فی ملوک بنی العبّاس(1) .

إذن ، نحن أمام کتاب تاریخیّ یمتاز علی غیره فی شیئین . الأوّل : وجود مبحث اعتقادیّ فی بدایة الکتاب . الآخر : نظرته إلی مستقبل العالم فی ضوء روایات الملاحم والفتن . وهذا أُسلوب تخلو منه الکتب المشابهة یومئذٍ ، مع أنّ ابن کثیر ألّف ملحقا لکتابه البدایة والنهایة فی هذا الباب .

وقلّما تعرّض الکتاب إلی الأسناد . وفی البحوث العقلیّة أفاد من بعض مصنّفات المعتزلة فی مواضع منه . علی سبیل المثال نقل بحثا مفصّلاً من کتاب أوائل الأدلّة لأبی القاسم الکعبیّ البلخیّ . وأخذ فی المباحث الفلسفیّة من کثیرٍ من الکتب المنسوبة إلی علماء الیونان . ویمکن أن نشیر إلی کتبٍ أخری مذکورة فیه مثل النقض علی الباطنیّة لابن رزّام ، ورسالة فی وصف مذاهب الصابئین لأحمد بن الطیّب السرخسیّ(2) . وجاء

ص: 214


1- البدء والتاریخ 1 : 5 - 17 . وکتب شفیعی بحثا مفصّلاً حول نظم الکتاب ونوع موضوعاته ، وهو جدیر بالقراءة . آفرینش وتاریخ ، طهران ، آگه 1 : 55 - 97 .
2- آفرینش وتاریخ 1 : 69 ، 70 .

فی موضعٍ منه : «حدّثنی أحمد بن محمّد بن الحجّاج المعروف بالسجزیّ بالشیرجان سنة 325ه »(1) . وهی سیرجان نفسها . وورد فیه اسم الواقدیّ أکثر من سائر المؤرّخین . وقال فی موضع واحد بشأن النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم : «فلمّا بلغ عشرین سنةً ، هاجت حرب الفجار فی روایة ابن إسحاق والواقدیّ ، وروی أبو عبیدة ...»(2) .

وجاء اسم ابن إسحاق أیضا فی صفحات کثیرة من الجزء الثانی والثالث والرابع . وأفاد المقدسیّ من کتاب المبتدأ لابن إسحاق الذی حذفه ابن هشام أکثر من غیره . وقال فی موضع : أمّا محمّد بن إسحاق فیقول فی کتابه وهو أوّل کتابٍ عُمل فی بدء الخلق ...(3) .

وذکر فی ص169 من الجزء الأوّل موضوعات من أهل الکتاب نقلاً عن ابن إسحاق(4) . ونبّه فی مقدّمة الفصل السابع التی تتناول خلق السماء والأرض علی أنّه أخذ مطالب هذا الفصل من ابن عبّاس ، ومجاهد ، وابن إسحاق ، والضحّاک ، وکعب الأحبار ، ووهب بن منبّه ، والسندیّ ، والکلبیّ ، ومقاتل ، وغیرهم ممّن کان لهم باع فی هذا العلم . وأضاف قائلاً : «فلنذکر الأصحّ من روایاتهم والأقسط للحقّ والأشبه بالصواب» . ثمّ قال : نأتی بما قاله أهل الکتاب ولا نکذّب إلاّ ما وجدنا خلافه فی

ص: 215


1- البدء والتاریخ 2 : 181 . وشیرجان هی سیرجان التابعة لکرمان . وفی هذا دلیل علی أنّ الکتاب صُنِّف فی دیار سجستان .
2- نفسه 4 : 135 . وجاء اسم الواقدیّ فی 2 : 154 ؛ و3 : 53 ؛ و4 : 135 ، 137 ، 139 ، 145 ، 146 ، 155 ، 159 ، 161 - 163 ، 166 ، 171 ، 175 ، 182 ، 183 ؛ و5 : 16 ، 33 ، 58 ، 59 ، 61 ، 67 ، 72 ، 73 ، 80 - 84 ، 86 ، 87 ، 91 - 93 ، 97 ، 98 ، 100 ، 110 ، 113 ، 114 ، 116 ، 160 ، 191 ؛ و6 : 58 . ومعظمها فی النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم والصحابة رضی اللّه عنهم . وهی أخذت إمّا من مغازی الواقدیّ أو من کتابه فی الطبقات .
3- نفسه 1 : 149 .
4- انظر أیضا 2 : 1 ، 5 ، 11 ، 52 ، 80 ، 81 ، 83 ، 93 ، 99 ؛ و3 : 16 ، 20 ، 26 ، 30 ، 36 ، 37 ، 79 ، 99 ، 126 . وما جاء فی الجزء الرابع أخبار تتعلّق بأنساب العرب وأدیانهم والعصر الإسلامیّ .

القرآن أو الأخبار الصحیحة(1) .

وجمیع ما نقله عن الکلبیّ یتعلّق بالجزء الثانی(2) الذی یرتبط بکتاب المبتدأ . وذُکر اسم المسعودیّ أیضا ، لکنّنا بالنظر إلی المورد المذکور نستبعد أن یکون المسعودیّ المؤرّخ نفسه . ونقل بیتین بالفارسیّة بعد قوله : «قال المسعودیّ فی قصیدته المحبّرة بالفارسیّة :

نخستین کیومرث آمد بشاهی * گرفتش بگیتی درون بیش گاهی

چو سی سال به گیتی پادشا بود * کی فرمانش به جایی روا بود

بعد ذلک ذکر أنّه أتی بهذه الأشعار لأنّ الفرس یعظّمونها ویرونها کتاریخهم(3) . ثمّ قال فی ص173 : قال المسعودیّ فی آخر قصیدته الفارسیّة :

سپری شد نشان خسروانا * چو کام خویش راندند در جهانا

ولا بدّ أن کان المقدسیّ سنّیّا معتزلیّا غیر متعصّب أو قریبا من ذلک لأنّ له مؤاخذات علی مدرسة الاعتزال أیضا . وفی الوقت نفسه أبدی میولاً ضدّ الباطنیّة حیث سمّی الزندقة فی عصره علم الباطن والباطنیّة(4) . وذکرها فی موضع آخر بقوله : «هذه الشرذمة الخسیسة الموسومة بالباطنیّة»(5) . وخصّص فصلاً من کتابه «لمقالات أهل الإسلام» . وتحدّث فی الصفحة 124 إلی الصفحة 134 من الجزء الخامس عن فرق الشیعة ، لکنّه لم یسجّل موقفا خاصّا منها . ونجد فی هذا القسم معلومات موجزة

ص: 216


1- البدء والتاریخ 2 : 1 ، 2 .
2- انظر أیضاً 2 : 1 ، 3 ، 6 ، 86 ، 89 ، 96 ، 156 ، 223 ، 232 .
3- نفسه 3 : 138 .
4- نفسه 3 : 157 .
5- نفسه 5 : 45 . وینبغی الالتفات إلی أنّ عنوان الباطنیّة إذا کان متعلّقا بالإسماعیلیّة فإنّ هذه الأمور إلی القرن الخامس والسادس أقرب منها إلی القرن الرابع . وکان المؤلّف یعیش فی القرن الرابع طبعا ولابدّ من أن یکون قد أدرک خطر الإسماعیلیّة مبکّرا . انظر : نفسه 5 : 133 ، 134 .

عن الفِرَق بید أنّها مهمّة نسبیّا . وذهب إلی أنّ أوّل فرقة شیعیّة کانت تتکوّن من عمّار وسلمان والمقداد وجابر وأبی ذرّ وعبد اللّه بن عبّاس الذین کانوا یُظهرون الولاء للإمام علی علیه السلام فی حیاته(1) . وختم الجزء الرابع بعبارة وصلواته علی سیّدنا محمّد النبیّ وآله الطاهرین الطیّبین .

وتولّت دار صادر ببیروت طبع کتاب البدء والتاریخ فی ستّة أجزاء بالأوفسیت . وأضاف إلیه عبد اللّه الجبوریّ جزءا مستقلاًّ طُبع ببغداد سنة 1965 م تحت عنوان فهارس کتاب البدء والتاریخ .

ونهض الأُستاذ شفیعی کَدْکَنی بترجمة کتاب البدء والتاریخ إلی الفارسیّة ، فصدر فی ستّة أجزاء ومجلّدین تحت عنوان آفَرِینِشْ وتاریخ .

الشیخ المفید (م 336 - 413)

أبو عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان البغدادیّ أحد علماء الشیعة البارزین فی النصف الثانی من القرن الرابع والعقد الأوّل من القرن الخامس الهجریّ . وکان متکلّما فقیها مؤرّخا ، وله فی کلّ باع مصنّفات جلیلة . وکان عالما وقف حیاته علی توجیه الشیعة وهدایتهم ومناظرة الفرق الزاعمة أمام الشیعة . فنوع رؤیته وکتابته تنطلق من هذا المنطلق .

وترک الشیخ کتابین تاریخیّین مهمّین : الأوّل : الإرشاد فی معرفة حجج اللّه علی العباد وقد اضطلعت مؤسّسة آل البیت بتحقیقه ونشره فی جزءین . وفیه ترجمة لحیاة أئمّة أهل البیت علیهم السلام ، والجزء الأوّل منه یدور حول الإمام أمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام ، والقسم الأوّل من هذا الجزء یتناول حیاته علیه السلام فی عصر النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم (حتّی ص195) ،

ص: 217


1- البدء والتّاریخ 5 : 124 .

کما یُلحظ فیه کثیر من القضایا التی ترتبط بالسیرة ، وتلاها الحدیث عن الإمام علیه السلام . أمّا الجزء الثانی فقد اشتمل علی حیاة سائر الأئمّة علیهم السلام .

واستضاء الشیخ المفید بمصادر متنوّعة فصنّف کتابه المذکور بنحو أفاد فیه الشیعة ، فعرفوا سیرة أئمّتهم بمطالعته . وفی الوقت نفسه کان مهتمّا بالمصادر والأسناد أیضا فأورد أسناد أخباره فیه کلّه .

ونقل عن أبی مخنف ، وإسماعیل بن راشد ، وأبی هشام الرفاعیّ ، وأبی عمرو الثقفیّ أخبارا تتعلّق باستشهاد الإمام علیّ علیه السلام(1) . وجاء اسم أبی مخنف والواقدیّ فی مطلع بعض الأخبار(2) . وکذلک اسم الکلبیّ والمدائنیّ(3) ، وأبی الفرج الإصفهانیّ(4) . ویصرّح فی بعض المواضع أنّه أفاد من کتاب خاصّ کقوله : «وجدت فی کتاب أبی جعفر محمّد بن العبّاس الرازیّ»(5) . ویشیر فی مواضع أُخری بعامّة إلی أنّ «أهل السیر» ، أو «أهل الآثار» أو «نقلة الآثار من الخاصّة والعامّة» أو «علماء الأخبار ونقلة السیرة والآثار» نقلوا هذه أو أجمعوا علیه(6) .

وفی نقل الموارد الحدیثیّة ذکر اسم الراویّ أوّلاً لکنّه لم یورد مصدر کتابه . وأفاد فی قسم السیرة من ابن إسحاق فی سیرته التی هذّبها ابن هشام(7) . وجاء فی موضع آخر: «روی یونس بن بکیر عن ابن إسحاق»(8). ونحن نعلم أنّ روایة یونس روایة مستقلّة

ص: 218


1- الإرشاد 1 : 17 .
2- نفسه 2 : 100 ، 147 ؛ 2 : 107 .
3- نفسه 2 : 32 ، 263 . ویبدأ الحدیث عن کربلاء من ص32 فما تلاها . ویبدو أنّ الشیخ المفید نقل القسم الأعظم من أخباره عن الکلبیّ - راوی کتاب أبی مخنف فی المقتل - والمدائنیّ . وموضوع الصفحة 263 عن المدائنیّ فی ولایة عهد الإمام الرضا علیه السلام .
4- نفسه 2 : 190 ، 193 (مع الإشارة إلی مقاتل الطالبیّین) .
5- نفسه 1 : 37 .
6- نفسه 2 : 61 ، 128، 210 ، 234 .
7- نفسه 1 : 91 .
8- نفسه 2 : 104 .

عن روایة البکائیّ وابن هشام . ومن مصادر الشیخ المفید هشام الکلبیّ أیضا(1) . أمّا أخباره الحدیثیّة والتاریخیّة حول الأئمّة المتأخّرین فقد نقلها عن طریق الکتب الشیعیّة .

والثانی : کتاب الجمل أو النصرة لسیّد العترة فی حرب البصرة . وهو کتاب أُحادیّ الموضوع یدور حول معرکة الجمل وحدها(2) . وصُنِّف عدد من الکتب الأُحادیّة الموضوع فی هذا المجال إبّان القرن الثانی والثالث . منها : کتب أبی مخنف ، وهشام الکلبیّ ، والواقدیّ ، ونصر بن مزاحم ، والمدائنیّ ، وإبراهیم الثقفیّ ، وابن أبی شیبة(3) .

والمزیّة الأساسیّة لکتاب الجمل هی أنّه عرض التاریخ علی شکل بحث کلامیّ . والحقیقة أنّ حرب الجمل أصبحت مصدرا لکثیر من الخلافات المتأخّرة بین المسلمین فی تعریف الکفر والإیمان والفسق . وکان للشیعة موقفهم الخاصّ الذی لابدّ أن یُفصح عن سقم موقف المعارضین . وکانوا بحاجة إلی أن تتبیّن الحقیقة التاریخیّة لهذه القضیّة أفضل فأفضل . ونهض الشیخ المفید وهو المتکلّم الحاذق والمؤرّخ اللامع والمحیط بشتّی المصادر بدراسة هذه الواقعة بأُسلوب جدید وصنّف کتابه الخالد الجمل غیر مماثل لسائر المؤرّخین فی القرن الثانی .

ولم ینوِ الشیخ المفید ذکر کتبه ، لکنّه قدّم مصدر الحجم الکبیر من الروایات . وأشرنا غیر مرّة إلی أنّ ذکر السند لا یعنی نقلاً شفویّا ، بل یعنی أنّ مؤلّف الکتاب هو واحد من بین عدد من الرواة الأُوَل . ویمکن أیضا أن یکون قد رأی ذلک الخبر بسنده فی کتابٍ ما ، وأورده فی کتابه نصّا ، إلاّ أنّه لم یذکر عنوان الکتاب الذی کان فیه الخبر المذکور . وجاء فی کتاب الجمل اسم کتاب الجمل لأبی مخنف تحت عنوان کتاب صنّفه

ص: 219


1- انظر : الإرشاد 1 : 103 ؛ 2 : 32 .
2- طبعه مکتب الإعلام الإسلامیّ فی قمّ سنة 1414 ه بتصحیح السیّد علیّ میرشریفیّ .
3- انظر : مقدّمة کتاب الجمل : 22 .

فی حرب البصرة(1) . وجاء فیه أیضا کتاب السیرة لابن إسحاق ، وفضیلة المعتزلة للجاحظ ، ومقتل عثمان لأبی حذیفة ، والبیان والتبیین للجاحظ ، وکتاب الجمل للواقدیّ تحت عنوان کتاب صنّفه فی حرب البصرة(2) ، والمنبئ لعلیّ بن حسن بن فضّال(3) . ویستشفّ من الکتاب بنظرةٍ خاطفةٍ أنّه أدرج قسما کبیرا من کتاب الجمل للواقدیّ فیه ، وبذا یتبیّن أنّ کتاب الشیخ المفید یشتمل علی أقسام من کتاب ثمین مفقود . وتُلحظ فیه أیضا أسماء لمؤرّخین آخرین فی بعض الأسناد ، منهم نصر بن مزاحم المنقریّ ، ومحمّد بن السائب الکلبیّ ، والمدائنیّ(4) .

ویشتمل کثیر من مصنّفات الشیخ المفید الأُخری ذات الطابع الکلامیّ علی أخبار تاریخیّة جمّة نُقلت بشکل رئیس من کتب مفقودة آنذاک(5) .

أبو علیّ أحمد بن محمّد بن مسکویه (320 - 421)

وهو مصنّف الکتاب الثمین تجارب الأُمم ، وکتب أخری نحو تهذیب الأخلاق ، والهوامل والشوامل ، وغیرهما من الکتب التی لا تُحصی . ونظرا إلی أعماله العلمیّة ، ینبغی أن نمیّزه عمّن سواه بوصفه عالما فیلسوفا ومحقّقا فی الأخلاق والریاضیّات . وله باع فی التاریخ . وقسم من هذا الکتاب تلخیص لتاریخ الطبریّ ، لکنّه أفاد فی القسم المتعلّق بحیاته من مشاهداته ومسموعاته .

إنّ المهمّ فی تاریخ ابن مسکویه رؤیته للتاریخ . وهو ما یتبیّن من عنوانه . وقال فی بدایته : «وإنّی لمّا تصفّحت أخبار الأُمم ، وسِیَر الملوک ، وقرأتُ أخبار البلدان ، وکتب

ص: 220


1- الجمل : 95 ، 128 ، 167 .
2- نفسه : 131 .
3- نفسه : 561 .
4- انظر : فهرست أعلام کتاب الجمل .
5- قام المؤتمر التکریمیّ لألفیّة الشیخ المفید بطبع مصنّفات الشیخ فی خمسة عشر مجلّدا .

التواریخ ، وجدتُ فیها ما تُستفاد منه تجربةً فی أُمور لا تزال یتکرّر مثلها ویُنتظَر حدوث شبهها وشکلها کذکر مبادئ الدول ، ونشئ الممالک ، وذکر دخول الخلل فیها بعد ذلک ، وتلافی من تلافاه وتدارکه إلی أن عاد إلی أحسن حال وإغفال من أغفله واطّرحه إلی أن تأدّی إلی الاضمحلال والزوال ...»(1) .

ویتبیّن من کلامه هذا أنّه کان فی صدد التعرّف علی ظهور الدول وسقوطها ، وکان یهتمّ اهتماما بالغا بزوال الدولة . وبعد ذلک تحدّث عن العبرة فقال : «ورأیتُ هذا الضرب من الأحداث إذا عُرف له مثال ممّا تقدّم ، وتجربة لمن سلف ، فاتّخذ إماما یُقتدی به ، حذر ممّا ابتلی به قوم ، وتُمُسّک بما سعد به قوم . فإنّ أُمور الدنیا متشابهة ، وأحوالها متناسبة ، وصار جمیع ما یحفظه الإنسان من هذا الضرب کأنّه تجارب له ، وقد دُفع إلیها ، واحتُنک بها ، وکأنّه قد عاش ذلک الزمان کلّه ، وباشر تلک الأحوال

بنفسه»(2) .

وذهب إلی أنّ الکتابات التاریخیّة مشوبة بالأساطیر وقال : «ووجدت هذا النمط من الأخبار مغمورا بالأخبار التی تجری مجری الأسمار والخرافات التی لا فائدة فیها غیر استجلاب النوم بها ، والاستمتاع بأُنس المستطرف منها»(3) .

وبدأ ابن مسکویه تاریخه بالحدیث عن الفیشداذیّة . وهذا یدلّ علی رسوخ کتابة التاریخ الفارسیّ فی أعماقه ، ویشیر إلی تفاوته وأُسلوب المصادر التاریخیّة الأُخری کتاریخ الیعقوبیّ ، وتاریخ الطبریّ اللذین بدءا تاریخهما بالحدیث عن الخلیقة ، وهبوط آدم ، والأنبیاء ، حتّی الإسلام . وبعد أن بیّن ابن مسکویه مجملاً لتاریخ فارس حتّی العصر الساسانیّ ، وصل إلی العصر الإسلامیّ ، وأوّل بحثه فی المتن المطبوع من

ص: 221


1- تجارب الأُمم ، المقدّمة 1 : 1 .
2- نفسه 1 : 2 .
3- نفسه 1 : 2 .

الکتاب تاریخ حرب الأحزاب(1) . ولم یستبن سبب خلوّه من الأقسام السابقة .

ویقع تاریخ ابن مسکویه فی مجلّدین ، الأوّل الذی یشتمل علی الوقائع الحادثة حتّی سنة 103ه اختیار للحوادث من مصادر أُخری . والمتن الأصلیّ الذی أفاد منه هو تاریخ الطبریّ ، وما فی هذا القسم إلاّ تلخیص لعمل آخر .

وقام مستشرق یدعی کایتانی بطبع المجلّد الأوّل ، والخامس ، والسادس من تجارب الأُمم لأوّل مرّة بشکل مصوَّر . أمّا المجلّد الثانی ، والثالث ، والرابع فإنّها لم تُطبع لأنّ الجزءین التالیین ، أی : الخامس والسادس متمّمان لتاریخ الطبریّ . وبعد ذلک لم تسنح فرصة لطبع الأجزاء الباقیة .

ونهض مستشرق آخر یُدعی اِمدروز بطبع الجزء الخامس (من سنة 295 ه حتّی سنة 329 بوصفه الجزء الأوّل) ، والجزء السادس (من سنة 329ه حتّی سنة 369 بوصفه الجزء الثانی) فی مصر (دار الکتاب الإسلامیّ ، القاهرة) . کما طبع مجلّدا آخر تحت عنوان ذیل تجارب الأُمم (وتواصل بعمل مرکلیوث علیه) ویشتمل علی ذیلین . الأوّل : ذیل أبی شجاع محمّد بن الحسین الملقّب بظهیر الدین روذراوری ، ویضمّ حوادث الفترة الواقعة بین سنة 369 و389 ه . الثانی : وهو الجزء الثامن من کتاب تاریخ أبی الحسین هلال بن محسّن الصابیّ ، ویستوعب أحداث ما بین سنة 389 و393ه (بوصفه الجزء الثالث) . وطُبع قسم آخر من التجارب ، وهو یتناول وقائع ما بین سنة 198 وسنة 251 ه ، مع کتاب مجهول المؤلّف یُدعی العیون والحدائق فی أخبار الحقائق ، وذلک بلیدن سنة 1869م(2) . وحریّ بالذکر أنّ هذا الکتاب من المصنّفات القدیمة التی لم یُعرف مصنِّفها ، وفیه حوادث البرهة الواقعة بین حکومة

ص: 222


1- تجارب الأُمم ، المقدّمة 1 : 2 .
2- کتاب العیون والحدائق فی أخبار الحقائق الجزء الرابع ، القسم الثانی ، طبعته نبیلة عبد المنعم داود ببغداد سنة 1973م .

الولید بن عبد الملک الأمویّ وبدایة حکم الواثق العبّاسیّ .

من هنا نعرف أنّ الأجزاء الأولی إلاّ الجزء الأوّل الذی کان طُبع مصوَّرا لم تکن تُطبع إلی ما قبل قیام الدکتور أبی القاسم إمامیّ بتصحیح الجزء الأوّل والثانی منه وطبعه (طهران ، سروش ، 1366 شمسیّ - 1408 ه) . وهو الذی ترجم الجزء الأوّل منه إلی الفارسیّة أیضا . بید أنّه لم یتمّ مشروعه بطبع الکتاب کلّه بَعْدُ أو أنّه لم یَرَ نور الطبع کحدّ أدنی .

وهذا الضرب من الرؤیة جعله یختار ما ینسجم مع عمله من حوادث ما قبل الإسلام. وقد صرّح بأنّه صنّف کتابه فی الدرجة الأُولی للوزراء ، والقوّاد ، والعسکر ، والساسة ، والشخصیّات الوجیهة المعتمدة من العامّة والخاصّة ، ثمّ لسائر الطبقات ، بما فیها الطبقات الدانیة فإنّ لها أن تفید منه فی سیاسة المنزل ومعاملة الأصدقاء(1) .

والملاحظة التی لا بدّ من تأکیدها هنا هی أنّ علی ابن مسکویه أن ینظر إلی التاریخ من وحی فلسفیّ کما کان وعد فی المقدّمة ، لکنّه حینما دوّن تاریخه لم یفِ بما قطعه علی نفسه وکأنّه أراد باختیار الحوادث أن یستخرج القارئ ذاته تلک النتائج بشکل ضمنیّ . والمهمّ من الکتاب أجزاؤه الأخیرة التی عرضت معلومات جدیدة بوصفها متمّمة لتاریخ الطبریّ . ومن المؤسف أنّ آخر سنةٍ حرّر فیها أخباره هی سنة 369 ه . ومع أنّه ظلّ حیّا بعدها قرابة نصف قرن ، لم یذکر فیه شیئا من تلک السنین .

ص: 223


1- انظر : موارد تاریخ الطّبریّ ، القسم الأوّل ، ص172 .

ص: 224

2- العصر الجاهلیّ

اشارة

ص: 225

تمهید فی مفهوم الجاهلیّة

علینا قبل کلّ شیء أن نستعرض النّطاق الزّمانیّ والمکانیّ للعصر الجاهلیّ ، ثمّ نتحدّث عن خصائصه ، فمن حیث الزّمان یُسمّی العصر الّذی سبق البعثة النّبویّة بمائة وخمسین سنة أو مائتی سنة کحدّ أعلی العصر الجاهلیّ(1) . بید أنّ ما یتسنّی لنا أن نأخذ به بعد إنعام النّظر فی الحوادث المنقولة لهذا العصر هو أنّه یشمل الحوادث الواقعة حتّی قرابة عام الفیل ، أی : الواقعة قبل البعثة بأربعین سنة . وقد نقلت أشعار

وأخبار عن الحوادث الّتی سبقتها بمائتی سنة تقریبا ، لکنّ نصیبها من الصّحّة ضئیل ؛ أمّا تاریخ العرب قبل هذین القرنین ، فلعلّ القرآن الکریم أشار إلیه فی موطن واحد فحسب ، وهو قدوم إبراهیم وإسماعیل وهاجر علیهم السلام إلی وادٍ غیر ذی زرع(2) ، مکّة(3) . وفی التّوراة أیضا إشارات لا یُطمئنُّ إلیها .

أمّا فیما یتعلّق بالنّطاق المکانیّ للمنطقة الّتی أُطلق علیها اسم الجاهلیّة فینبغی أن نقول : استعمل القرآن الکریم هذا الاسم لأوّل مرّة للفترة الّتی سبقت البعثة النّبویّة ، بید أنّه لم یحدّد مکانه . ویعتبر القرآن غالبا المصادیق الغالطة ، من منظور قرآنیّ ،

ص: 226


1- تاریخ الأدب العربیّ ، العصر الجاهلیّ : 38 . والأخبار الموجودة فی المصادر الإسلامیّة حول عصر ما قبل الإسلام تمتدّ إلی زهاء مائة وخمسین سنة قبل الإسلام . انظر المفصّل 1 : 73 .
2- إبراهیم : 37 .
3- لعلّها إشارة إلی أصحاب الأُخدود ، وهو ما یتعلّق بالعرب النّصاری فی الجنوب .

ممارسات جاهلیّة. من هنا جاز لنا أن نعدّ بلاد الرّوم وفارس أیضا من بلاد الجاهلیّة، وهما کذلک فی الحقیقة . ولمّا کنّا نری هذه الدّراسة مدخلاً للتّاریخ السّیاسیّ فی الإسلام ، لذا نحدّد الجاهلیّة فیها بجزیرة العرب ، لا سیّما مکّة والمدینة . وهدفنا هو التّعرّف علی موقف الإسلام والنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم من هذه البیئة . وتعدّ الجزیرة العربیّة فی بدایة الإسلام مهدها .

اشتُقّت کلمة «الجاهلیّة» من الجهل . لکن هذا لا یدلّ علی أنّ مفهومها بمعنی الجهل الّذی یستعمل فی مقابل العلم . وعلینا أن نستعرض مواضع استعمالها فی تلک الفترة للتعرّف علیها کمصطلح موضوع .

أشرنا فیما تقدّم إلی أنّ القرآن الکریم هو أوّل من استعمل هذه الکلمة ، لذا نلقی فی البدایة نظرة علی مواضع استعمالها فیه . فالآیات الّتی وردت فیها کلمة «الجاهلیّة» هی کالآتی : قال تعالی : « وَقَرْنَ فِی بُیُوتِکُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِیَّةِ الْأُولَی »(1) . وقال سبحانه : « یَظُنُّونَ بِاللّه ِ غَیْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِیَّةِ »(2) . وقال تبارک اسمه : « أَفَحُکْمَ الْجَاهِلِیَّةِ یَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّه ِ حُکْما لِقَوْمٍ یُوقِنُونَ »(3) . وقال جلّ شأنه : « إِذْ جَعَلَ الَّذِینَ کَفَرُوا فِی قُلُوبِهِمُ الْحَمِیَّةَ حَمِیَّةَ الْجَاهِلِیَّةِ »(4) .

یدلّ استعمال «الجاهلیّة» فی الآیات المتقدّمة علی أنّ القرآن الکریم حسب بعض الممارسات المرتبطة بالعصر الجاهلیّ ، الّتی لا تنسجم مع المعاییر الحقیقیّة فی الإسلام ، جاهلیّة وأدانها . کما شجب العقائد والأحکام الجاهلیّة ، وعدّ الحمیّة الموجودة فی النّظام القبلیّ حمیّة جاهلیّة .

وجاءت کلمة «الجاهلیّ» و«الجاهلیّة» فی مواضع من نهج البلاغة أیضا . ففی

ص: 227


1- الأحزاب : 33 .
2- آل عمران : 154 .
3- المائدة : 50 .
4- الفتح : 26 .

أحدها حذّر الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام النّاس من جاهلیّة بنی أمیّة فلیس فیها منار هدیً ، ولا عَلَمٌ یُری(1) . وفی موضع آخر حذّرهم من طاعة السّادات والکبراء الّذین هم قواعد أساس العصبیّة ، ودعائم أرکان الفتنة ، وسیوف اعتزاء الجاهلیّة(2) . وفی موضع ثالث نهاهم عن الجاهلین إذ لا فی الدّین یتفقّهون ، ولا عن اللّه یعقلون(3) . فمن هنا یتبیّن أنّ الأفعال والأفکار النّابعة من الجهل المخالفة للمعاییر القرآنیّة تُعدّ من الأفعال والأفکار الجاهلیّة .

یری بلاشر أنّ الإسلام أطلق صفة الجاهلیّة علی جمیع الخصائص النّفسیّة للعرب کالطّبیعة القتالیّة ، والحمیّة العربیّة ، والقسوة عند الثّأر ، وأطلقها علی بعض عاداتهم کشرب الخمر ، والمیسر ، وما ماثلهما(4) . ویذهب جواد علی إلی أنّ الجاهلیّة تعنی السّفاهة ، والحمق ، والحقارة ، والغضب ، وعدم الانقیاد للإسلام وأحکامه(5) . وهذا هو عین ما ذهب إلیه أحمد أمین أیضا(6) .

وجعل بعض الکتّاب کلمة الجاهلیّة فی مقابل العلم لاشتقاقها من الجهل . وذهبوا إلی أنّ الإسلام استعملها فی مقابل العلم الّذی وعد به النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم(7) . بید أنّا إذا أنعمنا النّظر فی مواضع استعمالها فی القرآن الکریم ، رأینا أنّها لم تستعمل فی مقابل العلم ، مع أنّا لا نرید أن نُثبت علما للعصر الجاهلیّ . وسنتحدّث فی هذا المجال بالتّفصیل لاحقا لنذکر أنّ العرب کانوا فی مستویً جدّ واطئ من الوجهة العلمیّة . وتقدّم لنا کتب اللغة أیضا معنیً للجاهلیّة ینسجم مع الاستعمال القرآنیّ لها . والنّاس الّذین کانوا فی حال

ص: 228


1- نهج البلاغة ، الخطبة 93 ، ص138 .
2- نفسه ، الخطبة 191 ، ص289 .
3- نفسه ، الخطبة 166 ، ص240 .
4- تاریخ الأدب العربیّ ، بلاشر 1 : 47 .
5- المفصّل 1 : 40 .
6- فجر الإسلام : 70 ؛ وانظر : العصر الجاهلیّ 1 : 39 .
7- تاریخ الأدب العربیّ ، بلاشر نقلاً عن جولد تسیهر : 47 ؛ المفصّل 1 : 40 .

من الجهل باللّه سبحانه ورسوله وشرائع الدّین ، والمفاخرة بالأنساب والکِبر والتّجبّر والغرور وغیر ذلک یُدعون جاهلیّین(1) . وقال کاتب آخر : والظّاهر أنّ الأصل الواحد فی هذه المادّة هو ما یخالف العلم وفقدان العلم إمّا بالنّسبة إلی المعارف الإلهیّة أو العلوم الظّاهریّة أو بالنّسبة إلی تکالیف شخصیّة(2) .

وفی خاتمة المطاف لابدّ أن نقول فی توضیح هذه الکلمة : إنّ کلّ خلاف وعمل غالط هو عمل جاهلیّ سواءً نتج عن الجهل أم عن عدم تحکیم العقل فی القوی الإنسانیّة . وتصدق الکلمة علی کلّ من قام بعملٍ ولیس له علم ، أو کان له علم ولم یستطع أن یسیطر علی نفسه . ونقل ابن عبّاس أنّ قوله تعالی : « قَدْ خَسِرَ الَّذِینَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَها بِغَیْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللّه ُ افْتِرَاءً عَلَی اللّه ِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا کَانُوا مُهْتَدِینَ »(3) یکفی فی إثبات جاهلیّة العرب(4) .

الفصل الأوّل : الأوضاع السیاسیّة والاجتماعیّة

الأوضاع السیاسیّة الدّاخلیّة والعلاقات الخارجیّة

إذا ألقینا نظرة علی حیاة العرب فی شبه الجزیرة العربیّة عرفنا أنّ بونا شاسعا کان بینها وبین حیاة الفُرس والرّوم یومئذٍ . ویتمثّل هذا البون فی وجود الحکومة المرکزیّة للسّاسانیّین فی بلاد فارس ، والحکومة المرکزیّة للقیاصرة فی بلاد الرّوم . وهی الحکومة الّتی کان بیدها جمیع شؤون المجتمع علی صعید القانون والعمل به وإجبار الجمیع علی اتّباع القانون . وکانت زوایا ذلک المجتمع کلّها خاضعة لسلطة عسکریّة واحدة ، حتّی إنّ وجود الحکومة المرکزیّة کان محسوسا فی کلّ جانب من جوانبه .

ص: 229


1- انظر : لسان العرب ومجمع البحرین .
2- التّحقیق فی کلمات القرآن 2 : 20 .
3- الأنعام : 140 .
4- بلوغ الأرب : 20 .

أمّا ما کان فی کلّ منطقة من مناطق شبه الجزیرة العربیّة فهو اجتماع ثلّة من الناس علی أساس النّسب العائلیّ المشترک کقبیلة من القبائل ، وینحصر نطاق الحکم لکلِّ قبیلة فی المکان الّذی اختارته لسکنها ، حتّی إنّ مساحة عملها محدودة بها ولا علاقة لها بالقبائل الأُخری . ومن الثّابت أنّ هذا الضّرب من الحیاة المتداوَل بین عرب الجزیرة معلَم علی تشتّتهم . ذلک التّشتّت الّذی فصل بعضهم عن بعض وأدّی إلی غیاب الحکومة المرکزیّة فی الجزیرة . وإنّ وجود الاختلاف آیة علی انعدام التّنظیم المتماسک والعلاقات الموحّدة بین الجماعات المتنوّعة الّتی کانت تعیش فی تلک البیئة . وما یهمّنا هنا هو معرفة الأسباب الّتی أفضت إلی اتّخاذ الحیاة الاجتماعیّة للعرب طابع التّفرّق . وینبغی تلمّسها عبر الإمعان فی أوضاعهم الفکریّة ، والثّقافیّة ، والجغرافیّة ، والاقتصادیّة .

ینبغی أن نقول فی البدایة إنّ الأُمة تحتاج من أجل وحدتها إلی ثقافة تجمع قواسمها المشترکة وتوحّدها حول فکر واحد وهدف واحد . ولم یکن فی الجزیرة العربیّة مثل هذا الفکر الواحد والهدف الواحد . وکان لکلّ قبیلة فی جوار الکعبة صنم خاصّ بها ، بل کان فی کلّ بیت صنم(1) ، وهکذا لا وعی عندهم لإلهٍ واحد یعبدونه ، فلم یُلحَظ هناک إلاّ التّفرقة والتّشتّت . من هنا کانت النّزعة الفردیّة والتّفکیر بالذات سائدَین فی أوساطهم(2) .

ویضاف إلی العامل الثّقافیّ المذکور عوامل أُخری فی المجال الاقتصادیّ والجغرافیّ ، وهی جدیرة بالاهتمام . وفی الدّرجة الأُولی تدلّ الأوضاع الجغرافیّة لشبه الجزیرة العربیّة علی أنّ المناطق الصّالحة للسکن کانت جدَّ متباعدة فی مسافاتها الجغرافیّة ،

ص: 230


1- المغازی 2 : 871 .
2- المفصّل 1 : 283 ؛ تاریخ الأدب العربیّ ، بلاشر : 37 .

فلا توجد فیها إلاّ مناطق محدودة صالحة للسّکن . فتباعد العرب ، وانعدام طرق الاتّصال بینهم ، ووجود الصّحاری القاحلة الّتی غطّت أرضهم عوامل رئیسة أدّت إلی تفرّقهم . من جانب آخر ، إذا ألقینا نظرة علی المنابع الاقتصادیّة فی الجزیرة ، أدرکنا محدودیّتها الّتی کانت لها تبعاتها . ومن هذه التّبعات التّفرقة والتّشتّت ؛ إذ عندما یکون الحصول علی المنابع محدودا بین قوم بدوٍ لا ثقافة لهم ، فلا مناص من حدوث القتال بینهم . وکانت کلّ جماعة تحاول أن تصل إلی منطقة من المناطق مبکّرا لیتسنّی لها أن ترعی حیواناتها مدّة وتعیش فیها برهة من الزّمن بنحو أفضل . ونظرا إلی المحدودیّة الموجودة ، فإذا استطاعت القبیلة أن تُخرج المرعی من قبضة شخص آخر فإنّها ستفعل ذلک ، وحینئذٍ لا یبقی أمام صاحبه خیار إلاّ القتال أو النّزوح عنه(1) . وهکذا لا یتسنّی أن نجد حکومة مرکزیّة بسبب تلک المحدودیّة المذکورة ، إذ إنّ النّزعة الفردیّة موجودة بشدّة ، والقبائل تفکّر فی مصالح أبنائها ، ولا یستتبع هذا الأمر إلاّ التشتّتُ .

وعلی الصّعید الخارجیّ کانت السّیطرة علی العرب متعذّرة بسبب حیاتهم البدویّة . وکان طبیعیّا للحکومات المجاورة ألاّ تفکّر بهذا الأمر . فی الوقت نفسه کان أمام هذه الحکومات أمران ما ارتبط هذا الموضوع بعرب بادیة الشّام والعراق: أحدهما الحؤول دون هجماتهم للسّلب والنّهب ، والآخر الاستعانة بهم لصدّ غارات القوی السّیاسیّة الأُخری . فکان الفُرس یستعینون بهم علی الرّوم والرّوم علی الفُرس . وعرض الدکتور جواد علی وسائر الباحثین معلومات فی هذا المجال(2) .

إنّ ما ذکرناه یرتبط بعرب العراق والشّام . أمّا عرب الحجاز فقد کانت محاولات

ص: 231


1- المفصّل 1 : 274 .
2- انظر : نفسه 1 : 550 ، 2 : 40 ، 620 ، 650 ؛ الأموی-ّون والبیزنطینی-ّون : 5 - 7 .

للروم من أجل السیطرة علیهم ، بید أنّها لم تکن جادّة . ویُستشفّ من موقف خسرو برویز حیال رسالة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، وما طلبه من بازان حاکم الیمن بإرسال من یأتیه برأس النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أنّ معلوماته عن بیئة مکّة کانت غیر وافیة أو أنّه کان یزدری أهلها . علما أنّ لعرب الحجاز علاقات تجاریّة بجیرانهم ، وهو ما سنشیر إلیه فی موضعه .

طبیعة القبیلة وقضایاها

یتطلّب العیش فی بیئةٍ تتّسم بمواصفات عشائریّة ضربا من الحیاة ذا طابع قبلیّ عشائریّ نظرا إلی المشکلات التی تکتنف البادیة ، والارتزاق ، والمنازعات الکثیرة للحصول علی المرعی ، وغیر ذلک . وکان أفضل خیار للعربیّ أن یعیش مع الجماعة ، لا سیّما مع من یستطیع أن یقارع به ما یواجهه من مشکلات کثیرة . لکن هل یمکن الاتّحاد مع کلّ أجنبیّ ؟ وهل یتیسّر الاطمئنان بکلّ أحد؟ وعزم العربیّ - صدّا لکلّ خطر - علی الاتّحاد مع من یشترک معه فی النّسب ورابطة الدّم . وتُسمّی الجماعة المتّحدة القائمة علی أساس التعایش والقرابة والنسب المشترک فی الآباء والأجداد : القبیلة .

ویستتبع ذلک أن تکون مصالح الأفراد مصالح القبیلة عینها ، وعلیهم أن یذودوا عنها کما یذودون عن أنفسهم ، إذ إنّ مصیرهم مرتبط بمصیرها فإذا فنیت فنوا . قال أمیرالمؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام : «عَشیرَةُ الرَّجُلِ خَیْرٌ للرَّجُلِ مِنَ الرَّجُلِ للعَشیرَةِ»(1) . فالمشکلات فی القبیلة تقع علی عاتق جمیع أفرادها . من هنا تقلّ معاناة الفرد عمّا إذا أراد أن یعیش وحده . ونقل أنّ النّعمان ملک الحیرة أجاب کسری حین سأله عن

ص: 232


1- العقد الفرید 2 : 366 ؛ منتخب کنز العمّال فی حاشیة مسند أحمد نقلاً عن نهج السّعادة 3 : 146 .

السّبب الّذی جعل العرب غیر خاضعین لنظام واحد وحکومة واحدة بأنّ الشّعوب جعلت زمام أمورها بید أُسرة واحدة وفوّضت إلیها شؤونها لشعورها بالضّعف وخوفها من هجمات الأعداء . أمّا العرب فکلّهم یریدون أن یصیروا ملوکا ، ویمتعضون من دفع الضّرائب والخراج ، ویرون ذلک عارا علیهم(1) . وهکذا تذوب النّزعة الفردیّة فی النّزعة القبلیّة . ویستعدّ کلّ شخص للتّضحیة والإیثار من أجل قبیلته(2) . فوحدة الدّم فی القبیلة هی أساسها وقوامها حقّا(3) . من هنا کان للحسب والنّسب قیمتهما عند العرب . ویحدّدون قیمهم ، بعامّة ، تبعا للموقف القبلیّ لکلّ فرد . والعربیّ مضطرٌّ للمحافظة علی نسبه حفاظا علی نفسه(4) . وکلّما زاد أفراد القبیلة زاد فخرها إذ تشعر بزیادة قوّتها . وبلغ الافتخار بالأفراد مبلغا أنّ القرآن الکریم ذکر أنّ المشرکین کانوا یحصون حتّی موتاهم کما جاء فی تفسیرٍ لسورة التّکاثر(5) . وقال النّعمان فی موضع آخر وهو یخاطب کسری : « ... فلیست أُمّة من الأُمم إلاّ وقد جهلت آباءها وأُصولها وکثیرا من أوّلها حتّی إنّ أحدهم لیُسأل عمّن وراء أبیه دُنْیا فلا ینسبه ولا یعرفه ولیس أحد من العرب إلاّ یسمّی آباءه أبا فأبا حاطوا بذلک أحسابهم وحفظوا به أنسابهم فلا یدخل رجل فی غیر قومه ولاینتسب إلی غیر نسبه ولا یُدعی إلی غیر أبیه»(6). من هنا فلابدع أن یکون علم الأنساب من أعلی المعارف العلمیّة عند عرب الجاهلیّة . وذلک لحاجتهم إلیه فی الحیاة ، ولأنّه کان معیارا لقیمهم

النّسبیة(7) . ولا یعنی الاهتمام بالنّسب امتلاک الأصالة العائلیّة عندهم . إذ لیس بوسعهم ادّعاء الأصالة العائلیّة مع وجود قانون «الاستلحاق» الجاهلیّ الّذی یسری علی

ص: 233


1- بلوغ الأرب 1 : 150 .
2- تاریخ الأدب العربیّ ، بلاشر 1 : 37
3- المفصّل 4 : 315 .
4- بلوغ الأرب 1 : 140 .
5- التّکاثر : 3 .
6- العقد الفرید 2 : 6 ؛ بلوغ الأرب 1 : 149 .
7- العصر الجاهلیّ : 57 .

الفرد الّذی لیس له أب معیّن ، ویُلحق بأب خاص ، فیعتبر ابنه(1) . وکانت الشعوبیّة تقول : إنّما کانت العرب فی الجاهلیّة ینکح بعضهم نساء بعض فی غاراتهم بلا عقد نکاح ولا استبراء من طمث فکیف یدری أحدهم من أبوه ؟(2) وکان بعض زواجهم یجری بهذا الشّکل : یدخل عدد من الرجال علی امرأة ، فاذا ولدت ، ونسبت ولدها إلی أحدهم ، قبله المنسوب إلیه . وما أکثر النّساء اللائی کنّ زانیات ولیس لأولادهنّ أب معیّن(3) فینادَون بأسماء أمّهاتهم ! وکان زیاد بن أبیه أحدهم(4) . واتُّهم آخرون بذلک أیضا کعمرو بن العاص(5) ، ومعاویة(6) . کما أنّ ظاهر الآیة الکریمة « لاَ یَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ »(7) یشیر إلی الزّانیات اللاتی کنّ یقتلن أولادهنّ ، لذا ینهاهنّ القرآن الکریم عن ذلک(8) . علی أیّ حال ، ینبغی ألاّ نرتّب أثرا علی إفراط الشّعوبیّة ، ولا نُصرّ علی أصالة النسب أیضا . ولمّا کانت البادیة محلاًّ لحیاة العرب الخالصة ، فقد کانت تهتمّ بحفظ النّسب أکثر من الحاضرة(9) .

ونظرا إلی تحلیل الأسباب الّتی أدّت إلی التّفرقة والتّشتّت ، یتسنّی لنا أن نفهم أنّ عدد أفراد القبیلة حین یزداد ، فلا بدّ من تفرّقهم لضیق البیئة عن استیعابهم . فتتفرّق القبیلة الأُولی تدریجا نتیجة للهجرات الطّویلة الکثیرة ، وتظهر قبائل متعدّدة من داخلها . وقد تتّحد القبیلة أمام العدوّ ، فی حین یتنازع أفرادها فیما بینهم . فهم جمیع فی

ص: 234


1- المفصّل 4 : 357 ، 358 .
2- العقد الفرید 3 : 412 ؛ بلوغ الأرب 1 : 173 .
3- بهج الصّباغة 2 : 168 نقلاً عن سنن أبی داود ؛ بلوغ الأرب 2 : 6 .
4- بهج الصّباغة 2 : 168 ؛ المحاسن والمساوئ 1 : 124 .
5- العقد الفرید 4 : 12 ؛ الصّولة العلویّة : 49 نقلاً عن ربیع الأبرار للزمخشریّ .
6- المنمّق : 118 فما بعدها ؛ المثالب ، هشام الکلبیّ علی ما نقل صاحب الطّرائف : 501 ، وتذکرة الخواصّ : 203 .
7- الممتحنة : 12 .
8- بهج الصّباغة 2 : 269 .
9- المفصّل 1 : 466 .

مواجهة العدوّ ، لکنّهم متفرّقون فیما بینهم . وتُطلَق القبیلة فی الحقیقة علی أضخم تجمّع سکّانیّ تربطه علاقة النسب والحیاة المشترکة نوعا ما ، مثل : قبیلة ربیعة ومضر . وتأتی بعد القبیلة «العمارة» کقریش من مضر . تلیها البطون کبنی عبد مناف ، وبنی هاشم ، وغیرهم من قریش . ثمّ «الفصیلة» کبنی أبی طالب ، وبنی العبّاس من قریش(1) . وذکر ابن کثیر «العشیرة» بعد الفصیلة ، وقال : لا أحد أقرب إلی المرء من العشیرة(2). وذکر البعض مجموعات کثیرة کابن سعدالّذی عدّ اثنتی عشرة مجموعة(3) . ومن أشهرها : (بنی) الّتی تشمل أحیازا مختلفة حتّی إنّ القبیلة نفسها تعرف بهذا العنوان کما کان یُطلق علی الأوس والخزرج «بنی قیلة» .

المعاییر القِیَمیّة لعرب الجاهلیّة تعود فی الحقیقة إلی القیم القبلیّة . فقیمة کلّ فرد فی القبیلة تتبع موقعه ونفوذه فیها ، ودوره الّذی یمارسه للمحافظة علیها . وفی المرحلة الأولی کان رؤساء القبائل یحتازون أعلی القیم ، وفی مرحلة أوطأ من القیم کان العبید والإماء المشغولون فی خدمة القبیلة . ولمّا کانت للنّسب قیمته بینهم ، فالمعیار القِیَمیّ یرتبط به . یقول أکثم بن صیفیّ لابنه : «إیّاک أن یخدعک جمال النّساء فإنّ المناکحَ الکَریمَةَ مَدَارِجُ الشَّرَفِ !»(4) ونلحظ فی هذا النظام أنّ الشخص الذی أبواه من القبیلة نفسها یعتلی الذّروة من القیمة . أمّا إذا کانا من العرب لکنّهما من قبیلتین مختلفتین ، فهو فی مرحلة أوطأ من القیم للقبیلة . وإذا کانت الأمّ غیر عربیّة ، فإنّه یُعاب باسم الهجین(5) . وإذا تزوّج الابن زوجة أبیه بعد وفاته ، فابنه یسمّی «المقتی» ، أی : المبغوض(6) ، وفقا

ص: 235


1- العقد الفرید 3 : 383 ؛ السّیرة الحلبیّة 1 : 31 ؛ فقه اللغة وسرّ العربیّة ، الثّعالبیّ : 318 ؛ بلوغ الأرب 3 : 188 .
2- البدایة والنّهایة 2 : 157 .
3- السّیرة الحلبیّة 1 : 31 .
4- ثمار القلوب : 691 ، نقلاً عن المفصَّل 4 : 641 ؛ وانظر : بلوغ الأرب 3 : 21 .
5- المفصّل 4 : 390 .
6- بلوغ الأرب 3 : 53 ؛ المنمّق : 54 .

لتقالیدهم . کما یُسمّی العرب مَنْ وُلد من أمّ عربیّة وأب أعجمیّ : المذَّرع(1) . وهکذا نجد أنّ کلماتهم القیمیّة جمیعها تعود إلی النّسب . وکانوا یصرّون شدید الإصرار علی

قضیّة العروبة والعُجمة حتّی إنّ النّعمان ملک الحیرة الّذی کان عمیلاً لکسری لم یرض أن یزوّجه ابنتَه ویولّد له متاعب کثیرة .

ومن الأشخاص الّذین کان لهم الشّرف والقیمة أبطال القبائل وفرسانها وشجعانها الّذین کانوا یتولّون حمایتها فی الحروب . من هنا ، کانت الشّجاعة من معاییر القیمة عندهم(2) . وکلّ شیء ، وکلّ أحد یزید شرف القبیلة بطریقةٍ ما فله قیمته أیضا . وکان الشّعراء والخطباء یضاعفون مفاخر قبائلهم بشعرهم وخطبهم ، وبهجاء أعدائهم . کما أنّ النّسّابین کانوا بارعین فی ذکر مثالب الآخرین ومناقب قبائلهم ، لذا کانت لهم منزلتهم المناسبة .

وتقدّم أنّ رؤساء القبائل کانوا من أشرف أفرادها عادةً ، وتتمثّل مسؤولیّتهم فی اتّخاذ القرار فی الشّؤون العامّة المرتبطة بالقبیلة ، کاستقبال سفراء القبائل الأُخری ، والبتّ فی الحرب والسّلم ، وعقد الأحلاف مع القبائل الأُخری(3) . وکانوا یرثون

الرّئاسة من آبائهم بین الحین والآخر . فی الوقت نفسه تستلزم الرّئاسة سجایا معیّنة حتّی یستطیع الرّئیس أن یواصل نفوذه ، کما أنّ هذه السّجایا إذا اجتمعت فی أحد ، فإنّه یصبح شریفا ورئیسا تدریجا . وقیل : إنّ الرّئاسة فی الیمن کانت تنتقل بالنّسب ، وفی ربیعة بالإطعام . وقیل أیضا : کان عرب الجاهلیّة لا یخوّلون الرّئاسة إلاّ لمن اجتمعت فیه ستّ خصال : البیان ، والتّواضع ، والحلم ، والصّبر ، والسّخاء ،

ص: 236


1- العقد الفرید 7 : 141 ؛ تاج العروس 21 : 14 . [ المذَّرع من النّاس : مَن أمّه أشرف من أبیه ، والهجین من أبوه عربیّ وأُمّهُ أَمَة ] .
2- بلوغ الأرب 1 : 180 .
3- تاریخ الأدب العربیّ ، بلاشر : 38 ؛ العصر الجاهلیّ : 59 .

والشّجاعة(1) . وربما ترأسّ بعضهم لصفات فیه کالعقل ، والعفّة ، والأدب ، والعلم(2) . وقیل : کانت علی أبواب بیوت الرّؤساء علامات تدلّ علی رئاستهم . وعندما کانت تنتقل الرّئاسة إلی شخص آخر فإنّ هذه العلامات تُنصب علی باب داره(3) .

وینبغی الالتفات إلی أنّ النّظام القبلیّ یتلخّص فی طاعة أفراد القبیلة للرّئیس . ولیس لهذه الطّاعة منطلق سیاسیّ ، بل تنبثق من الروح العنصریّة والنّسبیّة للقبیلة المتجلّیة فی رئیسها والمتّخذة طابعا روحیّا أکثر من غیرها . ونقرأ فی کثیر من الآیات القرآنیّة أنّ الکفّار والمشرکین کانوا یصرّون علی طاعة آبائهم وأجدادهم . وکانوا یطیعونهم حتّی لو لم یکن لهم تعقّل(4) . ویقول هؤلاء یوم القیامة : « رَبَّنَا إِنّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَکُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبیلاَ »(5) . وکانت المسؤولیّات العامّة تُقسّم فی القبائل الّتی کان یزداد عدد أفرادها یوما بعد آخر ، کما یزداد عدد المدّعین للرئاسة والسّیادة عادةً ، وهذا ما کان مألوفا فی قریش .

وکانت کلّ قبیلة ، وبالدّرجة الأولی رئیس القبیلة ، تأخذ علی عاتقها مسؤولیّة الردّ علی کلّ عدوان مُهین تقوم به القبائل الأُخری ضدّها . وفی هذه الأثناء لم تکن المسألة مسألة ظالم ومظلوم قطّ ، بل یُدعم الفرد بمجرّد انتمائه إلی قبیلته . ولم یعرض موضوع الحقّ فی تاریخ العرب إلاّ «حلف الفضول» الّذی اضطلع بمسؤولیّة الدّفاع عن الحقّ والمظلوم من أیّ قبیلة کان . ویظلّ الفرد مدعوما فی العشیرة حتّی لو کان مخالفا لها فی الفکر والعقیدة. وکان مؤمن بنیهاشم وکافرهم کلاهما یدافع عن النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم(6).

ص: 237


1- بلوغ الأرب 2 : 187 ؛ وانظر : الطّبقات الکبری 3 : 4 ، 5 ، 542 ، 623 .
2- المفصّل 4 : 351 .
3- المغازی 2 : 591 .
4- البقرة : 170 ؛ المائدة : 104 ؛ الأعراف : 173 ؛ الأنبیاء : 53 ؛ الشّعراء : 74 ؛ الزخرف : 22 .
5- الأحزاب : 67 .
6- المغازی 2 : 591 .

وکلّهم ذهبوا إلی شعب أبی طالب(1) . وکان أبو طالب ، الذی أخفی إسلامه وظنّه المشرکون منهم ، یدافع عن النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم حتّی آخر لحظة من حیاته ، ولم یجرؤ أحد علی إیذاء النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ما کان حیّا(2) .

وإذا بایع أفراد القبیلة رئیسهم علی أمرٍ ، أو إذا تحالفت قبیلة مع قبیلة أخری أو مع أحد الأشخاص ، فإنّ نَکْثَ البیعة والحلف یشقّ کثیرا علی الطرفین . ویقول ابن أبی الحدید :

«وکانت العرب لا تری الغدر ، ولا تنقض البیعة صوابا کانت أو خطأً»(3) .

وهذه التّربیة الّتی ظلّت ماثلةً بین بعض الأفراد حتّی بعد النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أفضت إلی أحد الانحرافات الکبیرة . فعندما بایع الأنصار أبا بکر ، ثمّ التقوا بعد ذلک بأمیرالمؤمنین علیه السلام ، قالوا له : لو دعوتَنا إلی نفسک قبل البیعة لما عدلنا بک أحدا . ولکنّا قد بایعنا ، فکیف السبیل إلی نقض البیعة بعد وقوعها ؟ فی حین هم أنفسهم کانوا قد بایعوا الإمام علیه السلام یوم الغدیر ، بید أنّهم لم یفوا ببیعتهم لأسباب سیاسیّة . وها هم الآن یستندون إلی بیعتهم الخاطئة لأبی بکر .

إنّ العامل الّذی حال دون تفرّق القبیلة وتشتّتها هو الحمیّة والتّعصّب الّذی کان موجودا عند أفرادها . ذلک التّعصّب الّذی کان یبنی ثقافتهم ویبلور کلّ فکرة وقیمة متناسبة مع هذه النّزعة . فإذا ما استغاث(4) أحد أفرادَ القبیلة ، وسمعوا استغاثته ، فإنّهم یسارعون إلی إغاثته ظالما کان أم مظلوما . وکان التّعصّب فی الحقیقة نزعة حلّت محلّ المنطق والفکر بوصفها أهمّ حافز . وعدّ القرآن الکریم هذه الصّفة من خصائص الکافرین ، وسمّ-اها الحمیّة الجاهلیّة ، وجعلها فی مقابل التّقوی والإیمان(5) .

ص: 238


1- بلوغ الأرب 1 : 325 .
2- شرح نهج البلاغة ، ابن أبی الحدید 13 : 268 .
3- نفسه 12 : 86 ، 87 .
4- المفصّل 4 : 402 ؛ العقد الفرید 1 : 58 .
5- الفتح : 26 .

وهذه الحمیّة الّتی زالت معالمها بعد ظهور النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ووحدة القبائل فی طاعتها إیّاه نجم قرنها مرّة أُخری فی العصر الأمویّ ، وعادت المفاخر القبلیّة کما کانت یومئذٍ(1) . ورفض الإسلام المعاییر القیمیّة القبلیّة وطبیعة حیاة القبیلة التی تمثّل عامل التّفرقة والتّشتّت ، وسعی إلی استبدال الإیمان والتّقوی فی قلوب النّاس بالنزعات الجاهلیّة . وقد وحّد النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم القبائل بنحوٍ أثار إعجاب أبی سفیان إذ رأی القبائل المتشتّتة تطیع رجلاً واحدا(2) . ومن الطّبیعیّ أنّ الإسلام لم یُضعف رابطة القربی ، ذلک أنّ هذه الرابطة بین أفراد المجتمع إذا توکّأت علی الروابط الإلهیّة فإنّها تعالج مشکلاتهم فی کثیر من المواطن . قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم :

«تَعَلَّمُوا مِنَ النَّسَبِ ما تَعْرِفُونَ بِهِ أَحْسَابَکُمْ وَتَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَکُمْ»(3) .

وخاطب النّاس فی حجّة الوداع فقال صلی الله علیه و آله وسلم :

«کلّکم من آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ لَیْسَ لعربیٍّ علی عَجَمِیّ فَضْلٌ إلاّ بِالتَّقْوی»(4) .

وقال فی موضع آخر :

«لا تَأتونی بأَنْسَابِکُمْ وَأتُونی بِأَعْمَالِکُمْ»(5) .

وقال أمیرالمؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام أیضا :

«فإنْ کان لا بُدَّ مِنَ العَصَبیَّةِ فَلْیَکُنْ تَعَصُّبُکُمْ لِمَکَارِمِ الخِصَالِ ، وَمَحَامِدِ الأَفْعَالِ ، وَمَحَاسِنِ الأُمورِ الَّتی تَفَاضَلَتْ فِیهَا الُمجَدَاءُ والنُّجَدَاء مِنْ بُیوتَاتِ العَرَبِ وَیَعَاسیبِ القَبَائِلِ بِالأَخْلاَقِ الرَّغیبَةِ ، وَالأَحْلامِ العَظِیمَة ... فَتَعَصَّبُوا لخِلالِ الحَمْدِ مِنَ الحِفْظِ للجِوارِ ، والوَفَاءِ بِالذِّمامِ ، والطَّاعَةِ لِلبرِّ ، والمَعْصِیَةِ للکِبْرِ ، والأَخْذِ بِالفَضْلِ ، والکَفِّ

ص: 239


1- فجر الإسلام : 57 .
2- التّراتیب الإداریّة 1 : 64 .
3- العقد الفرید 3 : 312 ؛ التّراتیب الإداریّة 2 : 301 ، 231 ؛ عمدة الطّالب : 17 .
4- العقد الفرید 4 : 58 ؛ بلوغ الأرب 1 : 165 .
5- تاریخ الیعقوبیّ ، نقلاً عن المفصّل 4 : 369 .

عَنِ الْبَغْیِ ، والإعْظَامِ لِلْقَتْلِ ، والإنْصَافِ لِلخَلْقِ ، وَالکَظْمِ لِلغَیْظِ ، وَاجْتِنابِ الفَسَادِ فی الأَرْضِ ...»(1) .

وجاء فی الحدیث النّبویّ الشریف :

«من قُتِل تحت رایةٍ عُمِّیَّة یدعو عصبیّةً أو ینصر عصبیّةً فقِتلة جاهلیّة»(2) .

لا نعلم علی وجه الدّقة متی تمّ تقسیم العرب إلی قحطانیّین وعدنانیّین ، وکذلک إلی عرب بائدة . ویقال للقحطانیّین العرب العاربة ، وللعدنانیّین العرب المستعربة . وذهب البعض إلی أنّ مصطلح العرب یعنی البدو(3) . ولا یتسنّی لنا أن نحصل علی معلومات صحیحة عنهم بسبب الاختلاط الکبیر الذی حصل بین القبائل علی مرّ الزّمن . وکان القحطانیّون هم عرب الجنوب الأُصلاء ، أمّا العدنانیّون فیرون أنفسهم من نسل إسماعیل علیه السلام ، وهم عرب الشّمال . وعرض جواد علی أدلّة علی التفاوت فی إطلاق هذه العناوین علی القبائل(4) .

وعندما انتظم الدّیوان قسّم عمر الامتیازات علی أساس النّظام القبلیّ ومراعاة السبق للصحابة المقرّبین . فقدّم العدنانیّین علی القحطانیّین لأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم کان عدنانیّا. وفضّل قریشا علی سائر قبائل مضر ، وبنی هاشم علی سائر بطون قریش(5). فعزّز هذا العمل فی الحقیقة موضع النّسب فی المجتمع العربیّ(6) . وینبغی أن نذکّر بأنّ عرب الشّمال کانوا بدوا وإن اشترکوا مع القحطانیّین فی کثیر من الخصائص . وللاهتمام بالنّظام القبلیّ تأثیر مهمّ فی فهم الحوادث التّاریخیّة للعصر الإسلامیّ فهما صحیحا .

ص: 240


1- شرح نهج البلاغة ، ابن أبی الحدید 13 : 166 .
2- صحیح مسلم نقلاً عن فجر الإسلام : 79 .
3- المفصّل 1 : 36 .
4- نفسه 1 : 363 - 389 .
5- الکامل فی التّاریخ 2 : 312 .
6- المفصّل 1 : 473 .

الحیاة فی الحاضرة والبادیة

تدلّ نظرة علی الأوضاع الاجتماعیّة فی شبه الجزیرة العربیّة أنّ معظم سکّانها کانوا یعیشون فی البادیة ، ویواصلون حیاتهم فی بیئةٍ تضمن لهم شروط العیش إلی حدٍّ ما . وکانت هذه الحیاة المقرونة بحیوان مقاوم کالبعیر ثابتة . والحیاة البدویّة فی شبه الجزیرة العربیّة أمر طبیعیّ یتطلّبه ظرفها الجغرافیّ ، من هنا تنتفی الحاجة إلی السّؤال عن سبب معیشة النّاس فی البادیة . مبدئیّا کان جُلّ أهالی الجزیرة بدوا أعرابا یرحلون إلی شتّی المناطق بحثا عن المطر(1) .

إنّ ما ینبغی أن نتوفّر علی دراسته هو سبب ظهور المدینة ونشوء الحیاة المرکزیّة فی بعض المناطق من شبه الجزیرة العربیّة . ویعود ظهور المدینة إمّا إلی مرکزیّتها العبادیّة الّتی أدّت الی اجتماع فئةٍ من الناس ، وإمّا إلی موقعها علی طریق القوافل التّجاریّة کمکان لاستضافة المسافرین أو کمحلّ ثابت للقری المجاورة . وثمّة مناطق أُخری کالمدینة والطّائف کانت مستثناة بین مناطق شبه الجزیرة إذ عُرفت بأراضیها العامرة ومصادرها المائیّة . واتّخذت مکّة أیضا طابع الحاضرة لقداسة الکعبة ، ولموقعها فی مسیر القوافل التّجاریّة وکونها أمّ القری(2) . ولمّا کان العرب البدو بعیدین عن ضوضاء المدینة وتلوّثها ، ومحرومین من الاتّصال بالغرباء الوافدین للزّیارة أو للتّجارة عادةً ، فلا شکّ فی أنّهم أنقی من سکّان الحاضرة لهجةً ولغةً وسجیّة وعادةً وخصلةً عربیّةً(3) . إلاّ أنّ علینا أن نتلمّس الشّعر والأدب من البادیة وإن کان للحاضرة قسطها منهما(4) . وکانت الحاضرة تتفاوت مع البادیة فی الفکر والخصال العربیّة بسبب تردّد الفئات الاجتماعیّة المختلفة ذات الثّقافات المتنوّعة علیها . فکانت

ص: 241


1- انظر : المغازی ، الواقدیّ 2 : 575 .
2- الأنعام : 92 .
3- المفصّل 4 : 274 .
4- فجر الإسلام : 22 .

البادیة أنقی من الحاضرة . وکان أهالی الحاضرة یرسلون أولادهم إلی البادیة منذ ولادتهم حتّی الخامسة من أعمارهم لینشأوا علی عاداتها وتقالیدها ویتربّوا فی أجوائها ، وینعموا بلهجة عربیّة خالصة . کما أُرسل النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم إلی حلیمة السّعدیة عدد سنین أیضا . ولمّا کانت الثّقافة فی المدینة أکثر تلوّثا فالمستوی الفکریّ لأبنائها أعلی من المستوی الفکریّ لأبناء البادیة ، ومعرفتهم بالقضایا الخارجة عن أکنافهم أکثر . وتحدّث ابن خلدون فی فصلین عن «أنّ أهل البدو أقرب إلی الخیر من أهل الحضر» ، و«انّ أهل البدو أقرب إلی الشجاعة من أهل الحضر»(1) .

یقول النّجدیّ :

«إنّ العربیّ الأوّل لم یکن یمیل إلی استیطان موضع معیّن ، فقد اضطرّته عوامل التکوین ومطالب العیش وظروف الحیاة إلی أن ینزح من مکان إلی آخر انتجاعا لمواقع القطر ومنابت الکلأ لأنّ علیها مدار معاشه»(2) .

من هنا ینبغی ألاّ نسأل عن السّبب الّذی دفع العرب إلی العیش فی البادیة ؛ ولنا أن نسأل عن سبب رغبتهم فی البادیة أکثر من المدینة . ویذکر المسعودیّ فی هذا الصّدد أنّ ذلک لعلّه یعود إلی أنّ المدینة لم تکن میدانا للاستباق فی إظهار الغرائز الإنسانیّة ... أو أنّهم کانوا یعتقدون أنّ الأرضین تمرض کما تمرض الأجسام ، وتلحقها الآفات(3) .

من الواضح أنّ القیود فی البادیة أقلّ منها فی الحاضرة ، والنّاس فیها یستمتعون بحریّة أکثر . فکلّ شخص یتصرّف کیف یشاء ، وقبیلته تعینه وتعضده أیضا . یقول لامانس: العرب مثال الحرّیّة ، لکنّها حرّیّة مفرطة غیر محدودة(4) . ویقول جواد علی أیضا :

ص: 242


1- مقدّمة ابن خلدون : 123 ، 125 دار الکتب العلمیّة ، 1978 م .
2- صحیح الأخبار عمّا فی بلاد العرب من الآثار 1 : 6
3- مروج الذّهب 2 : 96 .
4- فجر الإسلام : 33 .

«ولا یعرف الأعرابیّ شیئا غیر القوّة ولا یخضع إلاّ لسلطانها . وبموجب هذه النظرة بنی أُصول الحقّ والعدل وما یتبعهما من حقوق»(1) .

وجلیٌّ أنّنا لا نستطیع أن نجد الحلم والصّبر فی البادیة بسبب هذه الحرّیّة المفرطة ، إذ إنّ الصّبر مع أنّه فی اختیار الإنسان نفسه بید أنّ للبیئة تأثیرها العامّ فی إیجاده(2) . ولمّا کانت الحرّیّة موجودة ، وکان کلّ شخص حرّا فی القیام بأیّ عمل حتّی لو کان اعتداءً ، فلا یتسنّی للمرء أن یکون صبورا أمام المشکلات ، والنتیجة هی استعار الرّوح العصبیّة . ولیس لعشیرة سلطة علی عشیرة أُخری هناک ، وکلّ منهما یستمتع بحریّة تامّة(3) . ویری الآلوسیّ أیضا أنّ الجُبن نتیجة لحیاة الترف فی المدینة ، والشّجاعة والإقدام علی المخاطرات نتیجة لحیاة البادیة(4) . من هنا نلحظ أنّ القتال أمر طبیعیّ مألوف عند عرب البادیة . والتمرّس بالحرب یولّد المعنویّة القتالیّة تلقائیّا وکان شجعان العرب فی الحروب من أهل البادیة . وینقل ابن أبی الحدید أنّ اسم عمرو بن عبد ودّ فارس قریش (الّذی قتله أمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام فی غزوة الخندق) لم یُذکَر مع فرسان العرب الثلاثة المعروفین (عُتبة وبِسطام وعامر) لأنّه کان یعیش فی المدینة . أمّا الثّلاثة الآخرون فقد کانوا أصحاب غارات ونهب ، وأهل بادیة ، وقریش أهل مدینة وساکنو مَدَر وحجر ، وهم مقتصرون علی حمایة حرمهم ؛ فلذلک لم یشتهر اسم عمرو کاشتهار هؤلاء(5) .

ویشیر کعب الأحبار أیضا (مع أنّه قصّاص ! لکنّ القصّة تعبّر عن الثّقافة الشّعبیّة العامّة) إلی أنّه اختار الشّقاوة منذ الیوم الأوّل للبادیة والتحق بها بأمر اللّه . ولعلّ ذلک

ص: 243


1- المفصّل 4 : 296 .
2- الصّحیح من سیرة النّبیّ الأعظم صلی الله علیه و آله وسلم 1 : 51 .
3- العصر الجاهلیّ : 52 .
4- بلوغ الأرب 1 : 110 .
5- شرح نهج البلاغة ، ابن أبی الحدید 13 : 291 .

یعود إلی ما ذکره أحد الکتّاب أنّ تاریخ العرب لا یکوّنه إلاّ الجریمة والخیانة(1) . وأورد هذا الکاتب فی موضع آخر أنّ :

«العربیّ کان عصبیّ المزاج ، سریع الغضب یهیج للشیء التافه ، ثمّ لا یقف فی هیاجه عند حدٍّ ... وإذا اهتاج أسرع إلی السیف واحتکم إلیه ... وحتّی صارت الحرب نظامهم المألوف ، وحیاتهم الیومیّة المعتادة ...

والمزاج العصبیّ یستتبع عادةً ذکاء ، وفی الحقّ أنّ العربیّ ذکیّ ، یظهر ذکاؤه فی لغته ، فکثیرا ما یعتمد علی اللمحة الدالّة والإشارة البعیدة ... أمّا ناحیتهم الخلقیّة فمیل إلی حریّة قلّ أن یحدّها حدّ ، ولکن الذی فهموه من الحرّیّة هی الحرّیّة الشخصیّة لا الاجتماعیّة ... والعربیّ یحبّ المساواة ولکنّها مساواة فی حدود القبیلة»(2) .

ویذکر هیکل أنّ الحیاة فی البادیة وإن کانت عسیرة علی العرب لکنّها بعیدة عن العار (بزعمهم)(3) . ومع أنّهم جاءوا إلی المدینة وذاقوا طعم الحیاة ولذّة القصور فیها بید أنّهم رغبوا عنها إلی البادیة وطنهم الأصلیّ(4) . حتّی إنّ امرأة معاویة أمّ یزید رجعت إلی البادیة وآثرت الحیاة فیها علی قصر الخضراء(5) . ونقل هیکل أنّ معظم العرب فی شبه الجزیرة العربیّة ما برحوا بدوا ، ولم یألفوا حیاة المدینة والسّکن فی بقعة من بقاعها ، ولم یستقرّوا فی محلّ من محالّها ؛ ولم یتحمّلوا إلاّ التّنقّل والترحّل الذی تألفه البادیة(6) .

وقیل أیضا : الحیاة فی البادیة خشنة ، ومعاش النّاس فیها ثقیل وأخلاقهم فظّة . وقلّما کان أهلها یفکّرون فی القضایا الدّینیّة بسبب صعوبة الحیاة والحروب الدّائمیّة ،

ص: 244


1- فجر الإسلام : 33 . نقل أحمد أمین هذا الکلام عن أولیری فی کتابه : Arabia before Mohammad .
2- نفسه : 37 ، 38 .
3- حیاة محمّد : 39 .
4- المفصّل 4 : 299 ؛ مروج الذّهب 2 : 40 .
5- بلوغ الأرب 3 : 426 .
6- حیاة محمّد : 39 .

وعلی العکس من ذلک کانوا یشعرون بتعصّب أکثر حیال صیانة العلاقات العائلیّة والمعتقدات التّقلیدیّة . وهم علی ما یقول أحمد أمین مقلّدون فی اعتقاداتهم أکثر من کونهم متأمّلین فیها عادةً(1) . والعربیّ کلّما فعل ، یشعر أنّه فعل قلیلاً ، وکلّما جاب الصّحراء ، تُضْمَنُ معیشته بنحو أفضل(2) .

ویُدعی سکّان البادیة «الأعراب» ، وسکّان الحاضرة «العرب»(3) . وقیل لأعرابیّ : هل لک أن تدخل الجنّة علی أن تعفو عمّن آذاک ؟! فقال : یهون علیّ أن أذهب إلی جهنّم وأثأر لنفسی(4) . ولا یقرّ القرآن الکریم أیضا بإیمان الأعراب فی المرحلة الأُولی کإیمان حقیقیّ ، ویقول : « قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلکِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا یَدْخُلِ الاْءِیمَانُ فِی قُلُوبِکُمْ »(5) .

وهؤلاء الأعراب أنفسهم کانوا یؤثرون أموالهم وأهلیهم علی الجهاد فی سبیل اللّه عادةً ، وکانوا یتمحّلون الأعذار ویطلبون من النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أن یستغفر لهم بتخلّفهم عن الغزو والجهاد(6) . وکانوا یظهرون علی ألسنتهم ما لیس فی قلوبهم . وبعد أن أسلموا أمر النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أن لا یُطلق علیهم الأعراب من بعد(7) . وکان یُطلق هذا الاصطلاح أیضا علی من تَعَرَّب بعد الهجرة ، أی : عاد إلی وطنه الأصلیّ بعد هجرته إلی المدینة .

الأحلاف السّیاسیّة بین القبائل

لمّا کانت شبه الجزیرة العربیّة تضمّ قبائل مختلفة ، فإنّ قدرة کلٍّ منها تتراوح بین الشّدّة والضّعف قیاسا بغیرها من القبائل . وإذا کانت کلّ قبیلة تعیش فی صراعٍ مع

ص: 245


1- فجر الإسلام : 10 و23 .
2- نفسه : 46 .
3- بلوغ الأرب 1 : 13 .
4- نهایة الإرب 6 : 68 .
5- الحجرات : 14 .
6- الفتح : 11 .
7- الطّبقات الکبری 8 : 215 .

القبائل الأُخری من أجل معیشتها ، فمن الضّروریّ للقوی الصّغیرة أن تفکّر بحیلة لها وتسعی لتعزیز قدرتها الدّفاعیّة . وعلیها أن توطّد قدرتها بنحوٍ تستطیع معه أن تصدّ الهجمات الّتی یشنّها الآخرون علیها . من هنا کانت القبائل الضّعیفة تتحالف فیما بینها . وذکر البکریّ أنّ القبائل المختلفة لمّا کانت تعیش الصّراع والتّنازع فیما بینها علی الماء والمرعی ، فإنّ هذا یحفّز القبائل الضّعیفة علی التّحالف فیما بینها أو الانضواء تحت لواء قبیلة قویّة مقتدرة(1) .

وتنصّ هذه الأحلاف علی أنّه إذا تعرّض أحد الطّرفین إلی أدنی اعتداء ، فإنّ الطّرف الآخر یُسارع إلی نصرته . وهکذا یتحقّق توازن القوی بین القبائل المتنوّعة والأطراف المختلفة إلی حدٍّ ما ، ممّا یحول دون الحرب أحیانا ، کما إذا شبّت الحرب ، فإنّها تکون حربا شاملةً بین القبائل استنادا إلی الحلف المعقود بینها . ویظلّ هذا الحلف ثابتا ما دام الطّرفان یرتضیانه . وکانوا لا ینکثون العهود والأحلاف . وإذا ما نُکث الحلف من جانب واحد ، فهذا النّکث یعدّ خیانة عندهم .

ذکرنا سابقا أنّ الحلف کان یعقد عادةً بین القبائل الضّعیفة حسب طلبها . بید أنّ بعض القبائل الصّغیرة کانت لا ترضخ لمثل هذه الأحلاف لو کان بین ظهرانیها رجال شجعان . وکان من الیسیر أن یتحالف عدد من القبائل ، کما نجد ذلک فی «حلف الأحابیش» الّذی عُقِدَ بین قریش ومجموعات مختلفة من الأحابیش الّذین کانوا یقطنون فی ضواحی مکّة(2) . وقد تُقدِم قبیلة من القبائل علی التّحالف مع شخص واحد أیضا - وإن قلّ أبناؤه - بسبب عظمته وشرفه . کما تحالفت خُزاعة مع عبد المطّلب ، إذ ذکروا أنّهم لم یجدوا أبرّ وأعظم خلقا وحلما منه(3) . وهذه الأحلاف کانت

ص: 246


1- معجم ما استعجم ، نقلاً عن العصر الجاهلیّ : 58 .
2- أنساب الأشراف 1 : 53 .
3- المنمّق : 88 ؛ أنساب الأشراف 1 : 71 .

تعقد علی أساس المصالح المشترکة ، کالأحلاف الّتی تعقد الیوم فی العالم . ومن الطّبیعیّ أنّ زوال هذه المصالح کان سببا فی فسخ الحلف . وإذا ما استقرأنا أحلاف العرب جمیعها ، نجد أنّ الحلف الوحید الّذی کان یدافع عن حقّ المظلوم أمام الظّالم هو «حلف الفضول» . وذهب المؤرّخون إلی أنّه أشرف حلف عُقِدَ بین العرب(1) . وهو الحلف الّذی اشترک فیه النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وکان فی الخامسة والعشرین من عمره الشّریف . وکان یفتخر به ویقول ما مضمونه : لو دُعیتُ إلیه مرّة أُخری لأجبتُ(2) . وسبب انعقاد هذا الحلف أنّ رجلاً من زبید جاء ببضاعة إلی مکّة ، فاشتراها منه العاص بن وائل السّهمیّ ولم یدفع له المال . فاستغاث الزبیدیّ عند الکعبة قائلاً :

یا قصیّ لمظلومٍ بضاعته * ببطن مکّة نائی الدارِ والنَّفَر

وأشعث محرمٍ لم یُقضَ حُرْمَتُه * بین المقام وبین الرّکن والحَجَرِ(3)

وحینئذٍ دعا الزّبیر بن عبد المطّلب قریشا إلی حلف الفضول فی دار عبد اللّه بن جدعان ، ثمّ أخذوا حقّ الزّبیدیّ من العاص بن وائل(4) . وأعلنوا أنّ کلّ من ظُلِمَ فی مکّة فإنّهم سیدفعون عنه ، سواءً کان الظّالم من الرؤساء أم من الضّعفاء ، ومن قبیلتهم أم من غیرها، وعبدا کان أم حرّا(5) . ونقلت أیضا حالات أُخری من سعی المتحالفین إلی أخذ الحقّ(6) . وکما قیل فإنّ حلف الفضول هو الحلف الوحید الّذی انعقد من أجل

ص: 247


1- حول تسمیته بحلف الفضول ، انظر : شرح نهج البلاغة ، ابن أبی الحدید 15 : 203 ؛ السّیرة الحلبیّة 1 : 129 ؛ المنمّق : 45 ، 218 .
2- بلوغ الأرب 1 : 276 ؛ المنمّق : 203 ، 220 ؛ الأغانی 17 : 292 ، 293 .
3- الأغانی 17 : 299 ؛ المنمّق : 45 .
4- السّیرة الحلبیّة 1 : 131 - 132 ؛ مروج الذّهب 2 : 20 ؛ الکامل فی التّاریخ 2 : 41 ؛ المنمّق : 45 ، 46 ، 218 ، 219 ، 243 ؛ المحبّر : 167 ؛ الأغانی 17 : 290 .
5- الأغانی 17 : 289 ، 290 ، 291 .
6- المنمّق : 48 ، 49 ؛ ونقل أنّ الإمام الحسین علیه السلام هدّد الأمویّین مرّةً بأخذ حقّه بدعوة النّاس إلی حلف الفضول . السّیرة الحلبیّة 1 : 132 .

الدّفاع عن حقّ المظلوم ، أمّا سائر الأحلاف فلم تتناول حقّا ولا باطلاً ، وکان الحلیف یحظی بالدعم والحمایة ظالما أم مظلوما(1) . ومن المحتمل أنّ أحلافا اقتصادیّة کانت تعقد بینهم أیضا . وما حلف قریش وثقیف إلاّ من هذا النّوع إذ حصلت قریش علی حظٍّ من بساتین الطّائف فی حین تکون ثقیف شریکة فی الحرم الإلهیّ(2) .

وقدّم محمّد بن حبیب فهرسا وافیا لأحلاف الجاهلیّة(3) . ویتسنّی لکثیر من قبائلهم أو طوائفهم علی أساسها أن ینضمّ بعضها إلی بعض . ویُلحَظ فی العصر الإسلامیّ حین خضعت الکوفة والشام والبصرة لسیطره القبائل أنّ أشخاصا یُذکَرون دائما بأنّهم حلفاء أو موالی للطائفة التی یعیشون فی أحضانها .

لم یکن الحلف قضیّة سیاسیّة فحسب ، بل کان یتّخذ طابعا عائلیّا أحیانا . ویذکر الآلوسیّ أنّ العرب کانوا یقصدون کسب أعدائهم وربّما کان یتمّ ذلک من خلال الزّیجات المتبادلة ، فتستبدل الإلفة بالنّفرة ، والمودّة بالعداء . وکان خالد بن یزید عدوّا لآل الزّبیر ، وعندما تزوّج رملة ، أصبح من أشدّ النّاس حبّا لهم(4) . ولعلّ من الأسباب الّتی دعت إلی تعدّد زوجات النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم هو التّألیف بین القبائل وتوحیدها(5) . وهذا الموضوع کان یملأ حیّز الإلفة بصورة طبیعیّة . والنّقطة اللافتة للنّظر فی الحلف هی أنّ وجود مثل هذه الأحلاف بین القبائل قد یُفضی إلی الاتّصال بین قبیلتین علی المدی البعید بحیث تُعرَفان علی أنّهما من أُرومة واحدة . وضرب الدکتور جواد علیّ أمثلة علی هذا الاتّحاد النسبیّ الذی کانت بدایته حلفا معقودا بینهم(6) .

وعُرِف أنّ الأحلاف قد انطوت صفحتها بعد الإسلام . ومن الواضح أنّ الإسلام

ص: 248


1- العصر الجاهلیّ : 61 .
2- المنمّق : 280 ، 281 .
3- نفسه : 229 - 281 بیروت ، عالم الکتب .
4- بلوغ الأرب 2 : 6 ، 7 .
5- نفسه : 7 .
6- المفصّل 1 : 516 ، 517 .

کدینٍ یدعو الی الوحدة علی أساس العقیدة الإسلامیّة لا یتواءم وأحلاف الجاهلیّة . ثمَّ إنّ الحلف قد فقد ضرورته بشکل کبیر بعد ولادة الحکومة المرکزیّة . وأُثر عن النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : لا حِلْفَ فی الإسلام بل تمسّکوا بأحلاف الجاهلیّة(1) . ویُراد منه أنّ أشخاصا لو اتّصلوا بقبیلة من القبائل علی أساس الحلف فإنّهم یحفظون ارتباطهم لکن لا حلف جدید بعد ذلک . وجدیر بالالتفات أنّه أوّلاً : القسم الثانی من الحدیث لا ینسجم مع العقیدة الإسلامیّة ، وقد مرّ بنا أنّه لا یمکن أن تکون للإسلام مصالح مشترکة مع الأحلاف الجاهلیّة . ثانیا : رُوی هذا الحدیث عن قیس بن عاصم وحده . فلا یمکن أن یکون صحیحا بالنّظر إلی مضمونه(2) . ثالثا : نقل ابن أبی الحدید أنّ أمیرالمؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام عقد حلفا بین أهل الیمن(3) ، وهذا ما ینقض الحدیث المذکور . رابعا : لو صحّ الحدیث ، فلعلّ ما یصحّ من بین الأحلاف الجاهلیّة هو حلف الفضول وحده أو قضیّة الجوار ومراعاة حقوق الجار . خامسا : قال النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم نفسه ما مضمونه : لا یبقی من الجاهلیّة إلاّ سدانة الکعبة وسقایة الحاجّ(4) . یضاف إلی ذلک أنّ المؤاخاة فی الحقیقة حلف عقده النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بین المؤمنین بعد دخوله المدینة .

ص: 249


1- المفصّل : 316 ؛ تاج العروس 6 : 57 ؛ الکامل فی التّاریخ 1 : 267 ؛ شرح نهج البلاغة 18 : 67 ؛ بلوغ الأرب : 278 ؛ المصنّف ، عبد الرّزّاق 10 : 306 - 307 ، 11 : 436 . وانظر : مسند أحمد بن حنبل 1 : 317 - 329 ، و2 : 25 ، 180 ، 207 ، 212 .
2- شرح نهج البلاغة ، ابن أبی الحدید 18 : 67 .
3- نفسه 18 : 66 .
4- أنساب الأشراف ، القسم الثّالث ، [ حول العبّاسیّین ] : 16 .

الحرب والنّزاع بین القبائل

أصبح النّزاع بین القبائل سنّة مألوفة بین العرب . وقد شغل أذهانهم علی الدّوام . وکان لهذا النّزاع أسبابه المتفاوتة . منها متطلّبات حیاتهم الطّبیعیّة . فقد استلزمت حیاة البادیة وضرورة تعلیف الماشیة أن تقیم القبیلة فی مکان تتهیّأ فیه الظّروف المناسبة للمعیشة(1) . ویذکر النّجدیّ أنّ العرب لا یمکن أن یسکنوا فی محلّ خاصّ بنحوٍ دائمٍ ، إذ إنّهم یحتاجون إلی ظروف معاشیّة ونسق خاصّ من الحیاة یستدعی منهم التّنقّل طلبا للماء ، والعشب ، والکلأ ، والأشیاء الّتی یرتبط بها معاشهم(2) . ولمّا لم یَسُد هناک قانون واحد وحاکم واحد فیتسنّی إرضاء جمیع القبائل حسب تقسیم معیّن للبیئة ، لذا نلحظ أنّ کلّ من کانت قدرته أکبر ، فإنّه یستولی علی أراضٍ أکثر . من هنا کانت تحدث اصطدامات بینهم دائما . وعندما عرفوا النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کقدرة مسیطرة علی شبه الجزیرة العربیّة فی السّنین الأخیرة من حیاته ، شعرت القبائل المختلفة بخطر علی مناطقها ، فأقبلت إلی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم علی شکل مجموعات متنوّعة بعنوان «الوفود» . ویضاف إلی إعلانها إسلامَها أنّها طلبت من النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم تعلیماته وتوجیهاته حول الأراضی الّتی بأیدیهم .

وأورد أحد الباحثین أنّ التّاریخ یدلّ علی أنّ القبائل العربیّة کانت تأتی إلی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بعد ظهور الإسلام وتعلن إسلامها، ثمّ تأخذ منه کتاب الأمان، وکان صلی الله علیه و آله وسلم

یعطیها ذلک لئلاّ یتعرّض أحد إلی أموالهم وأراضیهم . وفیما یأتی مضمون بعض الکتب : «من کانت له أرض فهی ملکه» أو «من کانت لهم أراضٍ عامرة ومیاهٌ حین

ص: 250


1- جزیرة العرب فی القرن العشرین : 11 .
2- صحیح الأخبار عمّا فی بلاد العرب من الآثار 1 : 9 .

إسلامهم فهی محفوظة لهم ولطائفتهم» . «إنّ الأرض والماء لهم» . «من أحیا أرضا تعدّ مهجعا للماشیة فهی له»(1) .

لکنّنا لا بدّ أن نقول : إنّ هذه المسألة تعدّ أحد أسباب النّزاع . وثمّة أسباب أُخری کان لها دورها أیضا فی إیقاد نار الحروب والنّزاعات . منها حبّ الاستعلاء وکسب الفخر والشّرف ، من هنا کانت تندلع نار الحرب بین حین وآخر بذرائع واهیة . فقد قیل فی سبب اندلاع إحدی حروب الفجار إنّ رجلاً من قبیلة بنی غفار جاء إلی سوق عکاظ ، وقال بعد أن ارتجز : أنا أعزّ العرب ! ومن أبی فلیضرب رجلی بسیفه ! فجرح رجل من قشیر رجله . فنشبت حرب الفجار الثّانیة لهذا السّبب(2) . وقیل فی سبب نشوب الحرب بین تغلب وبکر أنّ کلیب بن ربیعة ، وهو من تغلب ، قال لزوجته : أتعرفین من هو الأفضل بین العرب ؟ فقالت بعد إصراره علیها : بلی ، أخوای جسّاس وهمّام ، وکانا من قبیلة بکر . ومنذ ذلک الحین طفق یؤذی عددا من أقرباء جسّاس لقولها حتّی قتل علی ید جسّاس نفسه فاندلعت الحرب بین تغلب وبکر ودامت أربعین سنة(3) .

وکان العشق أحیانا یؤدّی إلی نشوب الحرب الّتی قد تستنزف عدد سنین . ونُقل فی السبب الّذی أفضی إلی اضطرام إحدی حروب الفجار (الأربعة) أنّ فتیة من مکّة أرادوا ذات مرّة أن یتکلّموا مع فتاةٍ مرّت بهم ! فلم تُجبهم ، فاحتالوا ورفعوا قمیصها من خلفها فضحکوا بأجمعهم ، فاستغاثت وبدأت حرب الفجار الثّالثة من هذه النّقطة(4). ورُویت حالات أُخری من هذا القبیل أیضا(5). وکان ثلّة من النّاس یُعرفون

ص: 251


1- مالکیت خصوصی زمین [ الملکیّة الخاصّة للأرض ] : 8 - 12 .
2- الأغانی 5 : 34 - 40 ؛ العقد الفرید 5 : 151 .
3- المنمّق : 189 .
4- نفسه : 190 ؛ بهج الصّباغة 2 : 176 ؛ العقد الفرید 5 : 252 . ومثله تعرّض یهود بنی القینقاع لامرأة مسلمة ممّا أدّی إلی إبعادهم عن المدینة .
5- المحاسن والمساوی 1 : 218 ، 219

بالصّعالیک ، دأبهم القتل والنّهب والسّرقة فی الطّرقات . وهؤلاء کانوا إمّا من الّذین طردتهم قبائلهم بسبب جرائمهم الکثیرة ، واصطُلح علیهم «الخلعاء» ، أو کانوا من أولاد الإماء السّود ، الّذین کان العرب یرون فی انتسابهم إلیهم عارا علیهم(1) . ولم یستطع أحد أن یحول دون أعمالهم ؛ فوقوفهم علی الطّرقات ، وغارتهم علی القوافل کانا من الأسباب المهمّة لاندلاع الحرب والخصام بین العرب .

إنّ علم الأیّام هو العلم التّاریخیّ للعرب بهذه الحروب . وکان یستهدفون منه کسب الفخر وإحیاء ذکر أجداد القبیلة . وکانت حیاة العرب وصفاتهم وعاداتهم تتطلّب مثل هذا العلم . وهم کانوا یتّخذون من هذه المذکّرات عنوانا لکسب الفخر فی حیاتهم . وأحصی الآلوسیّ شجعان کلّ قبیلة اعتمادا علی ما ذکره نسّابو العرب المعروفون(2) .

قبیلة قریش

کانت قریش من أکبر القبائل نفوذا بین العرب . وظلّت حاکمة علی العالم الإسلامیّ بعد البعثة لعدّة قرون . وکان الخلفاء جمیعهم قبل العصر العثمانیّ من قریش ، بل کان معظم الولاة فی البدایة منها أیضا . ویمکن أن یکون لتأثیرها فی تاریخ العصر الجاهلیّ والإسلامیّ من جهةٍ ، والتّعرّف علی أوضاعها الدّاخلیّة بوصفها قبیلة نموذجیّة فائدة لنا فی مضمار حدیثنا عن الأوضاع السّیاسیّة والاجتماعیّة لشبه الجزیرة العربیّة . وکانت تعرف هذه القبیلة الّتی نهض منها النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کأشهر القبائل العربیّة وأشرفها . وهی من بنی کنانة ، وبنو کنانة من مُضَر ، ومضر من عدنان ، وهکذا حتّی

ص: 252


1- العصر الجاهلیّ : 375 .
2- بلوغ الأرب 2 : 189 .

تنتهی بإسماعیل علیه السلام . ویُطلق النسّابون علی أولاد النّضر بن کنانة لقب «القرشیّ»(1) . واستطاع قصیّ بن کلاب الّذی کان من أولاد قریش ، وکانت قریش متفرّقة فی أطراف الحرم أیّام شبابه ، أن یُخرج سدانة الکعبة من ید خزاعة بدهائه الخاصّ . وذکر البعض أنّ هذا الأمر قد تمّ بمؤازرة قیصر ملک الروم(2) ! ولا جرم أنّه مُسْتَبْعَد . وجمع قصیّ قبیلته من أطراف مکّة ، وأسکن کلّ بطن من بطونها فی نقاط بعیدة وقریبة من الحرم علی أساس شرف کلّ واحدة منها(3) . من هنا سُمّی «الُمجَمِّع»(4) . ومن أعماله الهامّة تشکیل «دار النّدوة» ، وکانت مرکزا لمشورة رؤساء قریش فی الشّؤون الخطیرة(5) . وتعدّ هذه الخطوة من نوعها مبادرةً سیاسیّةً . ویضاف إلی ذلک أنّه تولّی النّظر فی شؤون الحجّاج ، وکان یطلب من النّاس أن یساعدوهم(6) .

وکانت قریش القاطنة فی وادی مکّة تعرف بقریش البطائح ، والسّاکنة فی أطرافها تعرف بقریش الظّواهر . ویبدو أنّهم جمیعا کانوا فی ظواهر مکّة قبل مبادرة قصیّ . وحافظت قریش علی نظمها البدویّ حتّی بعد استقرارها فی مکّة(7) . وبعد قصیّ تولّی ولداه عبد الدار وعبد مناف أعمال الکعبة وشؤون قریش . وقال البعض أیضا أنّه خوّل عبد الدّار جمیع مناصبه(8) . وبعد ذلک قسّم هاشم وعبد شمس ولدا عبد مناف المناصب بینهما : فتقلّد هاشم شؤون الکعبة ، وتقلّد عبد شمس الرّئاسة . وأصبحت

ص: 253


1- المعارف : 31 ؛ مجمع البیان 10 : 545 ؛ السّیرة الحلبیّة 1 : 16 ؛ تاریخ ابن خلدون 2 ، الجزء الأوّل : 324 ، 320 ؛ لسان العرب ذیل کلمة قریش ؛ عمدة الطّالب : 26 .
2- بلوغ الأرب 2 : 173 .
3- مروج الذّهب 2 : 32 ؛ المعارف : 51 .
4- تاریخ الیعقوبیّ 1 : 237 - 240 ؛ حیاة محمّد : 57 ؛ وانظر : المفصّل 4 : 56 .
5- أخبار مکّة 1 : 110 ؛ المنمّق : 32 ؛ أنساب الأشراف 1 : 49 ؛ المعارف : 32 .
6- تاریخ الطّبریّ 2 : 295 ؛ الطّبقات الکبری 1 : 72 ، 73 ؛ المفصّل 4 : 56 .
7- المنمّق : 14 .
8- المفصّل 1 : 512 .

شؤون مکّة جمیعها بید أولاد عبد مناف(1) .

کانت خدمات قصیّ وهاشم وعبد المطّلب للحجّاج من الأُمور الّتی جلبت صیتا ذائعا لقریش . وتمتّع عبد المطّلب بمکانة مرموقة متمیّزة من بین قریش لتمسّکه بدین إبراهیم الحنیف علیه السلام ، وذکائه فی إدارة الشّؤون المختلفة حتّی رضوا به شیخا(2) . وعندما ازدادت عشائر قریش وبطونها تدریجا فإنّ المسؤولیّات المهمّة للقبیلة والکعبة وقعت علی عاتق الطّوائف المختلفة . ومنذ بُعث رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم من بین بنی هاشم کان العبّاس یتولّی سقایة الحاجّ . ومن بنی أمیّة کان أبو سفیان یتولّی قیادة الجیش القرشیّ (الّذی اشترک فی حرب أُحد والخندق أیضا) . ومن بنی نوفل کان الحارث بن عامر مسؤولاً عن رفادة الحجیج وإطعامهم . ومن بنی أسد کان یزید بن زمعة یتقلّد المشاورة حیث کانت قریش تستشیره فی أعمالها المهمّة . وکان أشخاص آخرون من سائر البطون یتولّون بعض المهامّ أیضا(3) .

سُمعة قریش

یستشفّ من کتب التّاریخ أنّ قریشا کانت تتمتّع بشرفٍ وعزٍّ خاصّین بین العرب . وکانت تُدعی عادةً «آل اللّه» ، و«جیران اللّه» ، و«سکّان حرم اللّه»(4) . ورضی بها النّاس کقبیلة عظیمة وشریفة(5) . ولعلّهم کانوا یقاتلون مکانها فی الحروب(6) . وینبغی أن نقول : لا تتجلّی عظمة قریش وشهرتها فی جمیع بطونها وأُسرها وعشائرها ، بل

ص: 254


1- أخبار مکّة ، الأزرقیّ 1 : 66 ؛ تاریخ الیعقوبیّ 1 : 241 .
2- تاریخ ابن خلدون 2 : 226 ؛ بلوغ الأرب 1 : 248 .
3- العقد الفرید 3 : 316 ؛ بلوغ الأرب 1 : 249 ، 250 .
4- العقد الفرید 3 : 327 ؛ الأغانی 17 : 313 .
5- العقد الفرید 3 : 323 .
6- نفسه 3 : 327 .

تقتصران علی آل قصیّ ، ثمّ بنی هاشم وعبد المطّلب . ذلک أنّ هؤلاء هم الّذین صاروا سببا فی شهرتها . ونقل أنّ أبا بکر انتسب إلی قریش فی مسابقة اعتزازٍ بالنّسب . فسأله الطرف المقابل مبتهجا : أنت من قصیّ ؟ قال : لا . قال : عبد المطّلب وهاشم منکم ؟ قال : لا . فلم یحفل به السّائل(1) .

وکانت لخدمات قصیّ فی تأسیس دار النّدوة(2) والقیام بالأعمال التّرفیهیّة للحجّاج تأثیر بالغ فی ذیوع صیت قریش . وذکر الیعقوبیّ أن قصیّا کان أوّل من منح العزّة لقریش وأبان فخرها(3) . یضاف إلی ذلک أنّ عشیرته هی الّتی تولّت سدانة الکعبة . لذا کانت شتّی المناطق علی اتّصالٍ بها ممّا أذاع صیتها(4). ومن الواضح أنّ هذا الشّرف والرئاسة کانا فی أولاد قصیّ وحدهم ، ولم ینازعهم أحد علیهما إلاّ غُلب علی أمره(5) .

وکانت لهاشم أیضا جهود کبیرة فی حمایة الحجیج . وکان یحثّ أهالی مکّة علی إکرامهم ، ویطلب منهم أن یساعدوهم بکلّ معونة ممکنة(6) . وکانت قریش تأخذ الضرائب أحیانا من الحجّاج کحقّ لها(7) . فی مقابل ذلک قیل إنّ قریشا کانت تسلّم هاشما قسما من أموالها لیصرفها علی الحجّاج(8) . وهو أیضا قدّم لقریش خدمات کثیرة إذ سیّر قوافلها التجاریّة الشّتویّة والصّیفیّة الّتی أشار إلیها القرآن الکریم ، وأخذ

ص: 255


1- عقد الفرید 3 : 327 ؛ شرح نهج البلاغة ، ابن أبی الحدید 4 : 127 ؛ المحاسن والمساوی 1 : 121 .
2- بلوغ الأرب 1 : 235 ؛ حیاة محمّد : 57 . کانت هذه الدّار مرکزا لمشاورة قریش فی الشّؤون المهمّة ؛ بخاصّة فی الحرب والسّلم . ونُقل أنّ من کان عمره أقلَّ من أربعین سنةً فلا یحقّ له الاشتراک فیها . انظر : المنمّق : 18 ، 19 ، 21 .
3- تاریخ الیعقوبیّ 1 : 240 ؛ وانظر : أنساب الأشراف 1 : 50 .
4- فجر الإسلام : 14 ؛ المنمّق : 13 ؛ العصر الجاهلیّ : 50 .
5- المحبّر : 165 ؛ المنمّق : 530 .
6- نهایة الإرب 16 : 34 .
7- المفصّل 4 : 21 .
8- المنمّق : 11 ، 12 .

لها الأمان من قیصر(1) . فقیل فیه :

هو الّذی سَنَّ الرحیلَ لقومه * رحل الشتاء ورحلة الأصیافِ(2)

قال ابن عبّاس : حین کانت قریش فی عُسرٍ ومسغبة ، جمعها هاشم وعرّفها علی العمل والتّجارة(3) . وأشار آخرون أیضا إلی أنّ هاشما کان أوّل من سیّر القوافل الصیفیّة والشتویّة(4) . ویبدو أنّ تجارة قریش کانت محدودة قبله بمکّة والعرب أنفسهم ، وهو الّذی أخرجها من مکّة(5) .

وذهب ابن خلدون إلی أنّ الرحلات الصّیفیّة والشَّتْویّة لم تکن من ابتکار هاشم ، وذکر أنّها کانت نابعة من رغبة العرب فی الرحیل إلی المصایف هربا من أذی الحرّ ، وإلی المشاتی فرارا من قَرْس البرد(6) . ونقول فی جوابه : أوّلاً : هذا الموضوع المذکور حول العرب هو غیر الرحلات التّجاریّة الصیفیّة والشّتویّة الّتی ذکرها القرآن الکریم لقریش . ثانیا : الّذین ذکروا هذه الرحلات أشاروا إلی أنّ هدفها التّجارة لا الفرار من الحرّ . ثالثا : التّاریخ ینصّ بصراحة علی أنّ هاشما هو المبتکر لهذه الرحلات ، والدلیل علی ذلک بیت الشّعر المتقدّم . فکلام ابن خلدون اجتهاد فی مقابل النصّ . ویضاف إلی هاشم أنّ عبد المطّلب کان یتمتّع بموقع ممتاز أیضا . ویقول الحلبیّ : کان ملجأ قریش فی الملمّات ، وکان من حلمائها وحکمائها . وهو أوّل من تعبّد فی غار حراء(7) . وکانت قریش وحدها ذات أرضیّة مناسبة للتجارة بسبب وجود الأمان فی أرجائها أوّلاً ،

ص: 256


1- تاریخ الیعقوبیّ 1 : 242 ؛ الکامل فی التاریخ 2 : 16 ؛ المنمّق : 32 ؛ شرح نهج البلاغة ، ابن أبی الحدید 15 : 211 ؛ أنساب الأشراف 1 : 59
2- أنساب الأشراف 1 : 59 ؛ السّیرة النّبویّة 1 : 125 ؛ وانظر : المحبّر : 162 ؛ بلوغ الأرب 1 : 245 ، 307 .
3- مجمع البیان 10 : 546 .
4- نفسه : 454 .
5- المنمّق : 31 ، 32 .
6- تاریخ ابن خلدون 2 : 336 ، 337 .
7- السّیرة الحلبیّة 1 : 237 ؛ المنمّق : 13 .

وأهمّ من ذلک أنّها کانت أهل الحرم ثانیا . وکلّما تعرّضت لغارة من الغارات فإنّها تعرّف نفسها علی أنّها أهل الحرم . وأشار القرآن أیضا إلی هذا الموضوع فی سورة قریش(1) . وکانت للکعبة قداستها عند معظم العرب ، وکانوا یحترمون أهل الکعبة والحرم . ولمّا کانت قریش تری نفسها أهل الحرم فقد استأثرت بامتیازات دینیّة خاصّة ، واختارت لها عنوان «أهل الحمس» . وکانت تعتقد أنّها أکثر دیانةً من الآخرین ، من هنا کانت تشعر بالتفوّق علی غیرها(2) .

النّقطة الأُخری الّتی زادت صیت قریش الصّبغة التّجاریّة لمکّة وموقعها علی مفرق الطرق الّتی تجتازها تجارة الحبشة ، والیمن ، والشّام . وکانت هذه التّجارة تشمل الرحلة إلی الیمن ، وحضرموت ، والحیرة (فی الشّرق) ، وبصری (فی الشّمال) ، والشّام ، وغزّة ، ومصر(3) . وقد شغلتهم التّجارة عن الحرب فترکوها لئلاّ یؤسروا أو یفقدوا أموالهم(4) . ویضاف إلی ذلک أنّ قریشا استطاعت أن تحصل علی دعم أشخاص کثیرین بسبب تقدّسها . من هنا ، کانت من أقدر القبائل وأقواها ، بخاصّة أنّها تمکّنت أن تحصل علی قدرة أکبر فی الحلف الّذی عقدته مع الأحابیش ، أی : الجماعات الکثیرة المستقرّة فی جبال مکّة(5) . ولمّا کان العرب یهتمّون بزیادة قواهم ویرون ذلک معلما علی الشّرف ، فإنّ هذا التّوجه أفضی إلی ذیوع صیت قریش واستعلائها(6) . وانتصر الإسلام انتصارا ساحقا بعد هزیمة قریش أمام النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی الفترة الّتی تلت الهجرة . ذلک أنّ أشهر قبیلة ، وهی قریش ، کانت قد مُنیت بالهزیمة . واستتبعت غارة

ص: 257


1- مجمع البیان 1 : 456 . الإیلاف هو أن یأمن النّاسُ بلا حلف . وکان فی سیاق العقد الموقّع بین قریش والرّوم والعرب . انظر : المنمّق : 32 ، 33 .
2- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 199 - 203 .
3- العصر الجاهلیّ : 50 .
4- ثمار القلوب : 11 .
5- أنساب الأشراف 1 : 53 .
6- للاطّلاع علی صفات قریش وخصالها الأُخری ، انظر : رسائل الجاحظ ، الرسائل السیاسیّة : 102 - 110 .

أبرهه علی الکعبة وحمایة اللّه تعالی لبیته فخرا منیفا للکعبة وأهلها(1) . ویقول هیکل : هذه الحادثة المهمّة رفعت الهیبة الدینیّة لمکّة ، وضاعفت قیمتها التّجاریّة لا محالة(2) . ووطّدت عقیدة الناس الّذین کان إیمانهم بالکعبة ضعیفا وطَمْأَنَتْهُم . ویقول آبی : کانت قصّة الفیل سببا لعظمة قریش عند العرب ولذا کانوا یسمّونها «أهل اللّه»(3) .

کانت لقریش سمعتها قبل الإسلام ، للأسباب المارّ ذکرها ، بید أنّ هذه السّمعة تضاعفت بعد الإسلام للباعثَین الآتیین : أوّلاً : انتماء النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم إلیها ، وهذا أهمّ باعث علی سمعتها . ثانیا : طرح الأمویّین المبدأ القائل بخلافة القرشیّین . وقد وضعوا الأحادیث لأجل ذلک ، فرسخ هذا المبدأ تماما فی الفکر السّیاسیّ - المذهبیّ لأهل السّنّة . علما أنّ أهمّیّة الانتماء القرشیّ للخلیفة کانت مطروحة منذ الأیّام الأُولی للخلافة . کما قال العبّاس لعلیّ علیه السلام : إن بایعناک (أنا وأبو سفیان) ، لم یختلف علیک أحد من بنی عبد مناف ، وإذا بایعک بنو عبد مناف لم یختلف علیک أحد من قریش . وإذا بایعتک قریش لم یختلف علیک أحد من العرب(4) .

وکان للدّعایات الأمویّة تأثیرها البالغ فی سمعة قریش کی تدلّ علی تفوّق قریش علی سائر العرب . قال معاویة لصعصعة بن صوحان وجماعة معه : لولا قریش لکنتم أذلّةً! فقال له صعصعة : أمّا قریش فإنّها لم تکن أکثر العرب ولا أمنعها فی الجاهلیّة(5) . وکان أبو بکر یقول للأنصار فی السّقیفة : قد علمتم أنّ العرب لا تقرّ ولا تطیع إلاّ لامرئٍ من قریش(6) . وقال عمر أیضا : وقومه [ قریش قوم النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ] أشرف العرب(7) . وقال الإمام علیّ علیه السلام فیها :

ص: 258


1- سورة الفیل .
2- حیاة محمّد : 64 .
3- نثر الدّرّ 1 : 394 .
4- شرح نهج البلاغة ، ابن أبی الحدید 2 : 48 .
5- نفسه 2 : 130 .
6- نفسه 6 : 40 .
7- نفسه 12 : 95 .

ولولا أنّ قریشا جعلت اسمه [ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ] ذریعةً إلی الرئاسة ، وسلّما إلی العزّ

والإمرة لما عبدت اللّه بعد موته یوما واحدا ، ولارتدّت فی حافرتها ...(1)

وکان بلال یدعو علی قریش قبل الأذان دائما(2) ویستعین اللّه علیهم .

مع هذا ، فقد اختلق الوضّاعون عشرات الأحادیث فی فضل قریش(3) . منها ما مضمونه : أتانی جبرئیل وقال : قلبت الشرق والغرب والشمال والجنوب فلم أجد أفضل من قریش ، وأفضل منها هاشم . ومنها : «قریش ملح هذه الأمّة ، وهل یکون الطعام بغیر ملح ؟» ووقفت قریش أیضا بعد الإسلام أمام حفّاظ سنن النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وأهل بیته علیهم السلام وغصبت الخلافة . وما هی إلاّ قریش الّتی أشعلت حرب الجمل وصفّین علی أمیرالمؤمنین علیه السلام .

علی أیّ تقدیر ، یعود صیت قریش إلی ما قبل البعثة نوعا ما ، وقسم منه یعود إلی ما بعد الإسلام . وکان قبل البعثة رجال من العرب یذهبون إلی أنّ قریشا أفضل من غسّان وکسری أیضا(4) . ویری جواد علی بعد حدیث له فی هذا المجال أنّ الإسلام هو الّذی جعل قریشا قریشا ، وسوّدها علی العرب وبلغ بها هذا النجاح(5) . ونحن فی سیاق تأییدنا هذه النقطة نؤکّد الأهمّیّة النسبیّة لقریش فی الجاهلیّة . وثمّة أسباب جمّة جعلت کثیرا من العرب لم یسلموا إلی ما قبل فتح مکّة نتیجة للحرمة الّتی کانوا یعتقدونها لقریش(6) . ونُقل عن النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال ما مضمونه : النّاس تبع لقریش ، الصّالحون للصالحین منها ، والفجّار لفجّارها(7) . وأورد محمّد بن حبیب فهرسا لبعض الأحادیث المأثورة فی وصف قریش ، وبعضها موضوع(8) .

ص: 259


1- شرح نهج البلاغة ، ابن أبی الحدید 20 : 298 ، 299 .
2- التراتیب الإداریّة 1 : 79 .
3- انظر : سیرة دحلان 1 : 3 ، 4 .
4- العصر الجاهلیّ : 51 .
5- المفصّل 4 : 126 .
6- التنبیه والإشراف : 239 .
7- المنمّق : 7 .
8- نفسه : 7 فما بعدها .

الفصل الثّانی : دین الناس وتدیّنهم فی الجاهلیّة

السّوابق الدینیّة لجزیرة العرب

سنتحدّث فی هذا القسم عن العقائد الدینیّة والشّرعیّة العملیّة المرتبطة بها . فأهمّ العقائد الّتی کانت سائدة فی شبه الجزیرة العربیّة هی الشّرک ، والیهودیّة ، والنّصرانیّة ، والحنفیّة . وسنذکر موضوعات تدور حول طبیعة هذه العقائد وتأثیرها فی الحیاة الفردیّة والاجتماعیّة لعرب الجاهلیّة . ومصدرنا الأوّل فی تحلیل الحوادث الدّینیّة المرتبطة بالعصر الجاهلیّ هو القرآن الکریم . فلمّا کان لهذا الکتاب المقدّس بوصفه المخزون الفکریّ لثورة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم موقف من البیئة الّتی نزل فیها ، وکان یهدف إلی تغییرها ، ویصطدم بأفکارها السّائدة فیمکن أن یساعدنا فی التّعرّف علی العقائد الدینیّة لذلک العصر . ومصدرنا الآخر هو بعض الشّعر الجاهلیّ الّذی لا مراء فی جاهلیّته . ولا ننسَ کلمات الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام فإنّها ترشدنا فی بعض الحالات أیضا . وإلی جانب هذه المصادر استهدینا بمصدر یتناول التّاریخ الجاهلیّ وآدابه .

وذکرالمؤرّخون العرب أنّ العرب العدنانیّین والقحطانیّین قبل ظهور عمرو بن لحیّ کانوا علی دین إبراهیم علیه السلام ، وکانوا قد أخذوا دینهم من إسماعیل علیه السلام(1) . ومن الثابت فی المنظار القرآنیّ(2) أنّ إبراهیم علیه السلام قدم مکّة والکعبة تذکاره ومرامه(3) . ولهذا السبب وغیره من الأسباب کان العرب وبعض الشّعوب الأُخری یحترمون الکعبة(4) . ونلحظ

ص: 260


1- بلوغ الأرب 2 : 194 .
2- الحجّ : 78 .
3- المیزان 3 : 358 .
4- منها الهنود ، والصّائبة من الفرس والکلدانیّین ، والفرس ، والیهود ، والنّصاری . انظر : المیزان 3 : 361 ، 362 .

فی جمیع الذکریات الشّعریّة وغیر الشّعریّة للعرب کلاماً حول إبراهیم ، والکعبة ، وموضوعات تحوم حول الشّریعة الإبراهیمیّة . من هنا فإنّ ما کان له سابقة تاریخیّة فی شبه الجزیرة العربیّة من الوجهة العقیدیّة هو الاعتقاد بالتّوحید وقد استُبدل به الشرک علی مرّ الزّمن . وذکر لذلک عدد من الأسباب الآتیة :

الف : السبب الأوّل یتمثّل فی موضوع نصّ علیه النّسّابة المعروف ابن الکلبیّ . فقد ذکر أنّ ما حد اسکّان الجزیرة العربیّة علی ترک الملّة الإبراهیمیّة والتّوجّه إلی عبادة الأحجار والأصنام هوأنّ کلّ مسافر کان یخرج من مکّة یأخذ معه حجرا من أحجار الحرم . وحیثما توقّف فی سفره فإنّه یضعه علی الأرض ویطوف حوله ، کما کان یطوف حول الکعبة . ویعود هذا العمل إلی اعتقادهم بالکعبة والحرم . فقد کانوا یحترمون الکعبة ویؤدّون شعائر الحجّ والعمرة . ثمّ أفضی بهم هذا العمل إلی عبادة ما کانوا یحبّونه تدریجا ونسوا دینهم القدیم . وغیّروا دین إبراهیم وإسماعیل علیهماالسلام وأضحوا عبدةً للأوثان(1) .

ب : أُشیر فی الأخبار التّاریخیّة إلی نقطة أُخری فی هذا المجال . وهی أنّ عمرو بن لحیّ العاملیّ کان سببا فی عبادة النّاس الأصنام . فقد أتی من الشّام إلی مکّة بصنمٍ یُدعی هُبَل، ودعا النّاس إلی عبادته. ومن هنا انتشرت عبادة الأصنام شیئا فشیئا(2) . ونُقل عن النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أیضا أنّه ذکرعمرو بن لحیّ علی أنّه أوّل من غیرّ دین العرب(3).

ج : قیل : إنّ أساس الصّنمیّة نابع من التّنزیه الّذی کان یعتقد به علماء السّلف للّه

ص: 261


1- أخبار مکّة 1 : 72 ؛ الأصنام : 6 ؛ السّیرة النّبویّة 1 : 72 ؛ الروض الأنف 1 : 350 ؛ بلوغ الأرب 2 : 200 ، 201 ؛ البدایة والنّهایة 2 : 188 ؛ بهج الصّباغة 4 : 171 ؛ المیزان 3 : 305 .
2- الأصنام : 7 ؛ البدایة والنّهایة 2 : 187 ؛ تاریخ الیعقوبیّ 1 : 254 و229 ؛ المنمّق : 353 ؛ مروج الذّهب 2 : 29 ؛ السّیرة الحلبیّة 1 : 10 - 12 .
3- الاستیعاب 1 : 20 ؛ السّیرة الحلبیّة 1 : 10 ؛ تاریخ ابن خلدون 2 : 333 ؛ السّیرة النّبویّة 1 : 71 .

تعالی . فقد کانوا ینزّهون اللّه عن کلّ شیء ویعلّمون النّاس ذلک حین رأوهم یقولون بالتّعطیل .

جعلوا لهم أصناما وستروها وعظّموها بسجودهم أمامها لیذکروا بها الإله الغائب عنهم(1) . ومن نافلة القول أن نذکر بأنّ هذا السبب لا یرتبط بالعصر الجاهلیّ ، إذ لم یطرح مثل هذه المباحث الکلامیّة فی أوساطهم .

د : یذکر الیعقوبیّ فی تحلیله للصنمیّة وسببها أنّ عبادة الأصنام بدأت عند النّاس حین کانوا یصنعون التماثیل لموتاهم ویحترمونها تذکارا لهم فظنّ أخلافهم بعد سنین أنّ هذه التماثیل آلهتهم(2) . ویمکن أن یقوم کلام المشرکین مع النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم دلیلاً علی هذا الأمر إذ قالوا : هذه الأصنام تمثّل مَنْ غبر ممّن کان یُطیع اللّه ، فصنعنا منها صورة ونعبدها(3) . وقیل فی الأصنام الثلاثة المشهورة : یعوق ، ویغوث ، ونسر أنّهم کانوا من قوم نوح علیه السلام وکانوا صالحین ، ثمّ أصبحت تماثیلهم أصناما(4) . وقیل فی اللات أیضا إنّه کان صالحا إذ کان یصنع الطعام للحجّاج . وعندما مات شیّدوا له تمثالاً ، وبنوا علیه بنیانا ووضعوا له اسم «بیت الربه»(5) .

قال ابن القیّم فی أسباب الصنمیّة : صار تعظیم الموتی سببا فی صناعة صور منهم علی شکل أصنام تدریجا . ونقل عن هشام الکلبیّ عن أبیه أنّ ودّا وسواعا ویغوثَ ونسرا کانوا صالحین ثمّ صنعت خمسة أصنام بأشکالهم(6) . وذکر العلاّمة الطّباطبائیّ

ص: 262


1- السّیرة الحلبیّة 1 : 13 . توضیحا لهذا الموضوع نشیر إلی أنّ التّعطیل یعنی عدم نسبة أیّة صفة إلی اللّه وهذا یُفضی لا محالة إلی إنکار اللّه . لذا نظر أولئک إلی الأصنام کعلامة علی وجود اللّه .
2- بهج الصّباغة 2 : 147 .
3- نفسه 2 : 154 .
4- الروض الأنف 1 : 359 .
5- بلوغ الأرب 1 : 346 .
6- نفسه 2 : 212 ، 213 .

أدلّة علی هذا الموضوع أیضا(1) . مبدئیّا لا شکّ فی أصل هذه المسألة إلاّ أخبارا ترتبط بقوم صالح وغیرهم ولا یُعَوَّل علیها .

ه : السّبب الآخر الّذی کان له دور کبیر فی بثّ الشّرک یتمثّل فی الخلافات التی کانت موجودة بین القبائل . بعبارة أُخری کانت القضایا الاجتماعیّة والسیاسیّة سببا فی نشر الصنمیّة وتوسیع رقعتها . فقد کانت الحرب والمصادمات المتواصلة بین القبائل عاملاً ثقافیّا أهمّ مؤشّر له هو انفصال القبائل بعضها عن بعض . فقد کانت القبائل تتباعد علی أساس هذه الثقافة ، وکان کلٌّ منها یسعی إلی حصر الشرف والفخر به ، وإلی إبادة القبیلة المواجهة له . واتّسعت هذه الخلافات تدریجا حتّی عرّضت التّوحید

إلی التّغییر ومهّدت الأرضیّة لکلّ قبیلة أن تختار إلهها الخاصّ بها . وعندما نعتبر نتیجة التّوحید العملیّ فی المجتمع وحدة الشّرائح الاجتماعیّة المختلفة باتّجاه واحد نحو اللّه تعالی فماذا ننتظر من وجود الاختلاف والتشتّت بین النّاس إلاّ الاختلاف بین الآلهة . وعلی أولئک أن یتّخذوا إلها یقضی علی عدوّهم ، والعدوّ یتّخذ إلها یقضی علیهم . وعندما ذهب عمرو بن لحیّ إلی الشّام ، ورأی النّاس یعبدون الأصنام ، قال : ما هذه الّتی تعبدونها ؟ قالوا : آلهة نستعین بها علی عدوّنا(2) . وعلی أساس هذه النّظرة الّتی کانت علیها القبائل ، فقد کان العزّی صنم قریش وبنی کنانة(3) ، ومناة صنم الأوس والخزرج وأهل یثرب(4) ، واللات صنم ثقیف والطّائف(5) ، وعشرات الأصنام

الأخری لقبائل غیرها(6). وعندما فتح رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم مکّة کان فیها (360) صنما(7).

ص: 263


1- المیزان 10 : 285 . وفی هذه الصّفحة بالذّات روایة عن الإمام الصّادق علیه السلام فی هذا الموضوع وهی منقولة عن کتاب علل الشّرائع .
2- المنمّق : 353 .
3- السّیرة النّبویّة 1 : 78 ؛ الأصنام : 18 .
4- السّیرة النّبویّة 1 : 79 ؛ الأصنام : 13 .
5- السّیرة النّبویّة 1 : 79 - 142 .
6- انظر : المحبّر : 315 و316 ؛ المنمّق : 406 و407 ؛ بهج الصباغة : 171 - 174 .
7- بهج الصّباغة 2 : 174 .

واتّسعت شقّة التّفرقة والتّشتّت إلی درجة أنّ فی کلّ بیت من بیوت مکّة صنما(1) . وکانوا قد جعلوا عند الکعبة طواغیت یعظّمونها کما یعظّمون الکعبة(2) . وکان لکلّ قبیلة صنم خاصّ بها(3) . وذکر الیعقوبیّ أنّ العرب عندما کانوا یأتون إلی الحجّ فکلّ قبیلة منهم تقف أمام صنمها الخاصّ بها وتصلّی وتلبّی(4) . وکانوا ینشغلون بعبادة الحجر ، فإذا وجدوا أفضل منه ینتقلون إلی عبادته . وقال کثیر من المحدّثین أنّ قوله تعالی : « أَفَرَأَیْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ »(5) نزل فی الحارث بن قیس(6) . فقد کان یترک عبادة حجر وینتقل منه إلی عبادة حجر آخر .

وعندما لاحظ العرب عظمة الکعبة ودورها فی زیادة نفوذ قریش وقدرتها بنوا فی مناطقهم کعبةً لئلاّ یُحرموا من هذا الفخر . فقد قام بنو عبد المَدَان بتشیید کعبة لهم فی نجران قبل قدوم النّصاری إلیها(7) . وأُنشأت کعبة فی غطفان أمام بیت اللّه کما بُنیت لها صفا ومروة(8). وشیّد أبرهة کعبة فی الیمن مقابل کعبة مکّة(9) . ویبدو أنّها کانت کنیسةً. وبُنیت فی الشّام أیضا کعبة الشّامیّة(10) . وکانت کعبة واقعة فی منطقة بین الکوفة والبصرة(11) . وکان أصحاب هذه الکعبات یریدون تزهید العرب عن حجّ الکعبة

ص: 264


1- الأصنام : 32 ؛ المغازی 2 : 871 ؛ بهج الصباغة 1 : 71 ؛ تاریخ مکّة ، احمد السّباعیّ : 19 .
2- البدایة والنّهایة 2 : 192 .
3- المختصر فی أخبار البشر 1 : 98 .
4- تاریخ الیعقوبیّ 1 : 255 .
5- الجاثیة : 23 .
6- الاشتقاق : 76 ؛ المحبّر : 159 ؛ مجمع البیان 9 : 78 ؛ المنمّق : 485 ؛ أنساب الأشراف 1 : 132 .
7- المحاسن والمساوی 1 : 11 ؛ الأصنام : 44 ؛ معجم البلدان 5 : 268 ؛ فجر الإسلام : 26 .
8- تاج العروس 4 : 109 ؛ مرصد الاطلاع : 937 نقلاً عن المفضّل 6 : 444 .
9- الأصنام : 48 ؛ البدایة والنّهایة 2 : 192 ؛ بلوغ الأرب 1 : 346 .
10- البدایة والنّهایة 2 : 192 ؛ بلوغ الأرب 1 : 346 .
11- الأصنام : 45 .

وترغیبها فی قصد کعابهم . ومن هؤلاء أبرهة الّذی ثبت عنه هذا التّوجّه(1) . یقول الآلوسیّ : کان عرب الجاهلیّة متفرّقة متشتّتة ... ولذا کانت أعیاد کلّ قبیلة منها تتباین وأعیاد القبائل الأُخری(2) .

و : یذهب القرآن الکریم إلی أنّ صنمیّة النّاس نابعة من جهلهم . وما هو إلاّ الجهل حقّا إذ سرّب العقائد المشرکة إلی أنفسهم وحال دون اعتقادهم بالتّوحید. قال تعالی :« وَخَرَقُوا لَهُ بَنِینَ وَبَنَاتٍ بِغَیْرِ عِلْمٍ »(3) . وقال سبحانه : « وَیَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّه ِ مَا لَمْ یُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانا وَمَا لَیْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ »(4) .

ولا جرم أنّ الجهل کان أُسّ الانحرافات جمیعها فی تاریخ البشریّة . واتّباع الهوی حتّی مع وجود العلم ضرب آخر من الجهل . وکان بین العرب من عارض عمرو بن لحیّ الّذی انفرد بنشر الوثنیّة بل غیّر کثیرا من الأحکام الإبراهیمیّة الأُخری(5) . فقد أنشد أحد الشّعراء قائلاً :

یا عمرو إنّک قد أحدثتَ آلهةً * شتّی بمکّة حولَ البیت أنصابا

وکان للبیت ربٌّ واحدٌ أبدا * فقد جعلت له فی النّاسِ أربابا(6)

وکان التّقلید الأعمی من البواعث علی انتشار الوثنیّة أیضا . وأدّی کلٌّ من العوامل المذکورة دورا فی انحراف النّاس عن التّوحید وترویج الوثنیّة .

دین إبراهیم علیه السلام

لا شکّ فی أنّ عرب مکّة ومَن رأی نفسه أنّه من نسل عدنان کانوا ینتسبون إلی

ص: 265


1- تاریخ ابن خلدون 2 ، القسم الأوّل ، ص61 ؛ لسان المیزان 3 : 361 .
2- بلوغ الأرب 1 : 347 .
3- الأنعام : 100 .
4- الحجّ : 71 .
5- بلوغ الأرب 2 : 244 .
6- مروج الذّهب 2 : 29 .

إسماعیل علیه السلام وقد أکّدوا هذا الموضوع فی شعرهم وغیره عدد سنین متباهین بذلک(1) . وأشار القرآن الکریم أیضا إلی هذه النّقطة(2) . من هنا کان العرب فی بادئ أمرهم موحّدین - وألمعنا الی ذلک سابقا - ثمّ شابوا نزعتهم التّوحیدیّة بالشّرک لبعض الأسباب والدلیل علی هذا الأمر وجود أُثَرٍ من دین إبراهیم علیه السلام بین النّاس . وبعضها سنن بقیت ماثلة . ونقل الطبرسیّ عن الإمام الصّادق علیه السلام أنّ دین العرب قبل الإسلام کان أفضل من دین المجوس بسبب وجود بعض السّنن الإبراهیمیّة کالختان ، والتکفین والدّفن ، وعدم نکاح المحارم ، وحجّ البیت وسنن أُخری غیرها(3) .

وظلّت جذور کثیر من هذه السّنن راسخة کما یبدو بید أنّ أشکالها مُنیت بتحریفات شتّی . ومن ذلک تغییر الأشهر الحرم - الّذی أشار إلیه القرآن الکریم أیضا(4) - إذ عراه التّحریف ولم تبق الأشهر المذکورة علی حالها نزولاً عند رغبات العرب من أجل شنّ الحروب فی الوقت الّذی یریدونه .

ومنه شعار التّلبیة فقد مسخوا صورته التّوحیدیّة الّتی کان علیها وعکّروه بالشّرک . وکانت کلّ قبیلة تُلبّی فی أیّام الحجّ بشعار تتّخذه لنفسها . ومن أشهر أشکاله المحرَّفة : لبّیک اللهمّ لبّیک لا شریک إلاّ شریک هو لک ، تملکه ومَا مَلَکَ(5) ! وباتّساع رقعة الانحرافات بین النّاس أتی النّسیان علی دین إبراهیم شیئا فشیئا ، بید أنّ منهم مَن التفت إلی هذه المسألة ، وأدرک ما کان علیه سابقا فعزم علی إحیاء دین

ص: 266


1- الهدی إلی دین المصطفی 2 : 103 .
2- الحجّ : 78 .
3- وسائل الشّیعة 1 : 465 ، الباب الأوّل ، الحدیث رقم 14 علما أنّ الحرّ العاملیّ نقل ذلک عن کتاب الاحتجاج للطّبرسیّ 2 : 346 .
4- التّوبة : 36 .
5- تاریخ الیعقوبیّ 1 : 255 ؛ المحبّر : 311 ، 312 ؛ بهج الصّباغة 2 : 148 و270 ؛ فقه السّیرة : 38 ، 39 . حول الحجّ وأدائه انظر : مجلّة میقات ، السّنة الأُولی ، العدد 4 ، ص102 - 114 ؛ سیره رسول اللّه ، زریاب ، ص63 - 65 .

إبراهیم . ولابدّ أن تکون لنهضة العودة إلی دین إبراهیم علیه السلام سابقة طویلة بین العرب ، بحیث یستبین لعدد من المتأخّرین أنّ الاعتقاد بالتّوحید أو ببعض الفروع الأُخری قد ظلّ قائما منذ عصر إبراهیم علیه السلام . وإنّها لسنّة جاریة فی الحقیقة أن یدعو جماعة إلی الرّجوع إلی الأصل بعد طروء التّحریف التّدریجیّ علی الدّین . وأحصی المؤرّخون الأشخاص الّذین أحیوا الاعتقاد بالتّوحید ، ودعوا إلی إحیاء العقائد الإبراهیمیّة بحکم فطرتهم التّوحیدیّة . ومن هؤلاء : أبوذرّ الغفاریّ ، وسلمان الفارسیّ(1) ، وعثمان ابن حویرث ، وورقة بن نوفل ، وزید بن عمرو بن نفیل(2) ، وعبید اللّه بن جحش(3) ، وأُمیّة بن أبی الصّلت . ومنهم من کان یتحدّث إلی الآخرین عن الخطأ الموجود وینبّههم علی أن لا نفع ولا ضرر فی الخشب والحجارة . من هنا تفرّق هؤلاء للعثور علی الدّین الحنیف . فتنصّر ورقة بن نوفل(4) ، وتوقّف زید بن عمرو ودعا النّاس إلی دین إبراهیم علیه السلام(5) ، وذکر أُمیّة بن أبی الصّلت إبراهیم وإسماعیل فی شعره ، وحرّم علی نفسه الشّراب ، وشکّ فی عبادة الأوثان(6) . وقال فی شعر له :

رَبُّ الحَنیفیّةِ لَمْ تَنْفَذْ خَزَائِنُها * مَمْلُوءَةً طَبَّقَ الآفاقَ سُلْطَانا(7)

وقال النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فیه :

ص: 267


1- أسباب النّزول : 247 .
2- البدایة والنّهایة 2 : 237 - 243 ؛ الأغانی 3 : 123 ؛ السّیرة النّبویّة 1 : 204 ؛ الإصابة 1 : 569 - 570 ؛ الطّبقات الکبری 3 : 379 - 381 .
3- الأغانی 3 : 119 ، 120 ؛ تاریخ ابن خلدون 2 ، القسم الأوّل : 326 ؛ بلوغ الأرب 2 : 247 .
4- تاریخ الیعقوبیّ 1 : 257 . ینبغی التّأمّل کثیرا فی ما نُسب إلی ورقة .
5- المنمّق : 175 فما بعدها ؛ تاریخ ابن خلدون 2 ، القسم الثّانی : 4 ؛ المحبّر : 171 ، 172 . من الحریّ بالذّکر أنّ بعض هؤلاء بحکم میلهم إلی إبراهیم رکنوا إلی التّوحید ، ثمّ اعتنقوا المسیحیّة . وبعضهم - لا اتّباعا لإبراهیم - نزعوا إلی التّوحید بحکم دلیلهم الفطریّ . ونحتمل أن أبا ذرّ کان منهم .
6- الأغانی 4 : 122 ؛ بلوغ الأرب 2 : 253 .
7- نفسه 4 : 129 ؛ نفسه .

«شعره مؤمن وقلبه کافر»(1) .

وهو الّذی رثی قتلی المشرکین فی غزوة بدر(2) . ونقل أبو نعیم أنّ أبا ذرّ قال فی الجاهلیّة : لا إله إلاّ اللّه ولم یعبد صنما(3) . وکان النّابغة الجعدیّ من هؤلاء . وقیل فیه إنّه ارعوی عن الخمر ، وقال فی شعره :

الحَمْدُ للّه ِِ لاَ شَریکَ لَهُ * مَنْ لَمْ یَقُلْهَا فَنَفْسَهُ ظَلَما

وأسلم بعد قدومه المدینة وکان مع أمیرالمؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام فی حرب صفّین(4) . علما أنّ هذا لا یعنی أنّ هؤلاء کانوا یعتقدون بالتّوحید بجمیع مواصفاته . فقد کان أمیّة بن أبی الصّلت مثلاً یصوّر اللّه تعالی جسما(5) . وأشار الیعقوبیّ إلی أنّ أدیان العرب کانت تتباین فیما بینها بسبب مجاورتها الشّعوب المختلفة ، وذکر أنّ أولاد معد بن عدنان کانوا علی دین إبراهیم علیه السلام ، وکانوا یحجّون ویعظّمون الأشهر الحرم(6) . لکن کما أشرنا إلی أنّ دین إبراهیم علیه السلام کان قائما بین النّاس بشکل محرّف .

حول الحنیفیّة

یُصطلح علی الأشخاص الّذین کان بعضهم من أُولی الفکر التوحیدیّ ، وکانوا قد رغبوا عن الشرک وعبادة الأوثان ، ووجّهوا وجوههم لإبراهیم علیه السلام : الحنفاء . وأشار أحد الباحثین إلی التّعریف المذکور فی قسم من کتابه الذی سمّاه «التیّارات التّوحیدیّة»(7) . وذکر آخرون مطالب فی هذا المجال أیضا(8) . ونُقل عن أبی عبیدة أنّه

ص: 268


1- الأغانی 4 : 130 ؛ بلوغ الأرب 2 : 254 .
2- بلوغ الأرب 2 : 255 ، 256 .
3- حلیة الأولیاء 1 : 157 ؛ الصّحیح من سیرة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم 1 : 263 .
4- الأغانی 5 : 9 .
5- بهج الصّباغة 2 : 148 .
6- تاریخ الیعقوبیّ 1 : 254 .
7- تاریخ الأدب العربیّ ، بلاشر 1 : 134 .
8- العصر الجاهلیّ : 96 .

قال : من کان علی دین إبراهیم فهو حنیف(1) . وأشار ابن منظور فی لسان العرب إلی أنّه کان یقال لمن اختتن وحجّ البیت فی الجاهلیّة حنیف ، لأنّ العرب لم تتمسّک فی الجاهلیّة بشیء من دین إبراهیم غیر الختان وحجّ البیت ! ولمّح آخرون إلی معنیً یمکن

ترجیحه علی المعانی المذکورة لهذه الکلمة . وهو أنّ الحنیف یراد به الشّخص الّذی ترک الیهودیّة والنّصرانیّة ومال إلی دین قریب للفطرة . وأنشد أحد الشّعراء قائلاً :

فَلَوْلاَ رَبُّنَا کُنَّا یهودا * وَمَا دینُ الیَهُودِ بِذِی شَکُولِ

وَلَوْلاَ رَبُّنَا کُنَّا نَصَاری * مَعَ الرُّهْبَانِ فی جَبَلِ الجَلیل

وَلکِنَّا خُلِقْنَا إِذْ خُلِقْنَا * حَنیفا دِینُنا عَنْ کُلِّ جیلِ(2)

وهذه الأبیات تحمل مضمون الآیة (67) من سورة آل عمران . ولعلّ هذه القضیّة هی التی دعت إلی إنشادها بعد نزول القرآن . وذکر المرحوم الطّبرسیّ عددا من المعانی لکلمة «الحنیف» فی مجمع البیان . ونُقل عن ابن عبّاس ، والحسن البصریّ ، ومجاهد أنّ الحنفیّة حجّ بیت اللّه الحرام . وعن مجاهد أنّها اتّباع الحقّ . وعن آخرین أنّها اتّباع إبراهیم فیما أتی به من الشّریعة ... من الحجّ والختان وغیر ذلک من شرائع الإسلام . والمعنی الآخر لها هو الإخلاص للّه وحده فی الإقرار بالربوبیّة والإذعان

للعبودیّة . ویضیف المرحوم الطّبرسیّ أنّ کلّ هذه الأقوال ترجع إلی ما ذکره من معنی الاستقامة والمیل إلی ما أتی به إبراهیم من الملّة(3) . ومحصّلة ما أوردناه أنّ الحنیف هو من ناهض الشّرک ومال إلی الحقّ وإلی التّوحید الإبراهیمیّ . ویشیر القرآن الکریم إلی أنّ الیهودیّة والنّصرانیّة هما ضربان من الشّرک فی الحقیقة ، وأنّ التمسّک بإبراهیم هو الدّین الحنیف وهو الجَنَف عن الیهودیّة والنّصرانیّة(4) .

ص: 269


1- لسان العرب 9 : 57 ، ذیل کلمة «حنیف» .
2- دائرة المعارف الاسلامیّة 8 : 129 .
3- مجمع البیان 1 : 216 .
4- انظر : البقرة : 135 ؛ آل عمران : 67 ؛ الأنعام : 167 ؛ یونس : 105 ؛ النّحل : 120 ، 123 ؛ الحجّ : 31 ؛ الرّوم : 30 ، 31 .

ومن الحریّ أن نذکّر هنا أنّ ما یضاف إلی الموحّدین الّذین سبق ذکرهم هو أنّ الشّیعة تعتقد أنّ أجداد النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کانوا جمیعهم موحّدین . وورد هذا کثیرا فی الرّوایات المأثورة عن الأئمّة المعصومین علیهم السلام . ومزیدٌ علی هذا الأمرِ أنّ المؤرّخین نقلوا حول بعضهم معلومات تدلّ علی توحیدهم . فقد جاء فی عبد المطّلب أنّه ترک عبادة الأصنام (وفی عقیدتنا أنّه لم یعبد صنما قطّ) وصار موحّدا ، وقام بأعمالٍ ارتضاها القرآن الکریم وأمر بها فی ما بعد ، منها : الوفاء بالنذر ، وحظر الزواج من المحارم ، وقطع ید السّارق ، والنّهی عن الوأد ، وتحریم الخمر والزّنا ، والنّهی عن تعرّی النساء

فی الطّواف(1) . ونُسب إلیه التّحنّث وهو الذّهاب إلی غار حراء .

یقول ابن هشام : التحنّث هو التحنّف . لذلک تعرف هذه السُّنّة بالسُّنّة الحنیفیّة(2) . وجاء فی بعض الأخبار التاریخیّة أنّ کتابا لعبد مناف بن قُصیّ وُجد علی حجر ، وفیه : أنا المغیرة بن قُصیّ أوصی قریشا بتقوی اللّه وصلة الرحم(3) . ونُقل أیضا أنّ عبد المطّلب کان یعتقد بالقیامة(4) . وأشار الإمام علیّ علیه السلام إلی هذا الموضوع(5) . وورد فی کعب بن لُؤیّ بن غالب أحد أجداد النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أنّه کان علی الحنیفیّة ، وکان یجمع قریشا فی أیّام الجمعة ویرشدها ، ویدعوها إلی التفکّر فی خلق السّماوات والأرض ، وینقل أعمال الماضین من أجل العِبرة ، ویُذکّر بصلة الرّحم ، وحفظ العهد ، ومراعاة حقوق الأرحام ، والتّصدّق علی الفقراء والأیتام(6) .

ومهما کان فالحنیفیّة لم تقتصر علی أشخاص معدودین ، بل کانت مهوی أفئدة

ص: 270


1- السّیرة الحلبیّة 1 : 40 .
2- السّیرة النّبویّة 1 : 23 .
3- السّیرة الحلبیّة 1 : 80 .
4- نفسه : 21 .
5- نهج السّعادة 3 : 76 .
6- الطّبقات الکبری ، ج1 ، القسم الأوّل ، ص39 طبعة لیدن .

أُناس غیرهم علی مرّ التّاریخ(1) . فقد عُدّ عمیر بن جندب الجهنیّ(2) ، وأبو قیس صرمة بن أبی أنس(3) من أتباعها . وما أصابَ من ذهب إلی انعدام العلاقة بین الحنفاء وتبلیغ إبراهیم القدیم فی أرض العرب ... واعتَقَدَ أنّ دین الحنفاء ظاهرة جدیدة فیها(4) . فمضافا إلی تصریح القرآن الکریم بقوله « مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْرَاهِیمَ » ، نلحظ أنّ الرّوایات التّاریخیّة تدعم الرأی القائل بوجود الکلام الکثیر حول ابراهیم علیه السلام وشریعته فی أرض الجزیرة العربیّة قبل مبعث النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم .

الشّرک وأبعاده فی شبه الجزیرة العربیّة

کان الشّرک من منظار عَقَدیّ أشهر وأعمّ فکرة سائدة فی شبه الجزیرة العربیّة . فقد کانت القبائل المختلفة جمیعها مشرکة . وأطلق القرآن الکریم اصطلاح «المشرکین» علی عبدة الأصنام من العرب . وعلی الرغم من أنّ لهذه الکلمة معنی أوسع من وجهة لغویّة ، بید أنّها استعملت کاسمٍ للمشرکین الصّنمیّین . والفارق الوحید الّذی کان بین الجماعات المشرکة هو الفارق القابل للتصوّر بین ضروب الشّرک المتنوّعة . وفی الوقت نفسه کان بین سکّان الجزیرة من لا یعتقد باللّه أساسا ، لا من منطلق الشّرک ولا غیره(5) . ولعلّ الآیة الکریمة الآتیة تشیر إلی هذه الشّریحة . قال تعالی : « وَقَالُوا مَا هِیَ إِلاَّ حَیَاتُنَا الدُّنْیَا نَمُوتُ وَنَحْیَا وَمَا یُهْلِکُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ »(6) . ویُستشفّ من هذه الآیة أنّ هؤلاء لم یعتقدوا بالمبدأ والمعاد(7) وکانوا یرون أنّ الحیاة منحصرة بهذه الدّنیا وأنّ الدهر هو الّذی یهلکهم . وذکر العلاّمة الطّباطبائیّ أنّ هذه الآیة - علی قولٍ - هی

ص: 271


1- بلوغ الأرب 2 : 196 .
2- نفسه 2 : 261 .
3- نفسه 2 : 266 .
4- اسلام در ایران [ الإسلام فی إیران ] : 22 .
5- المختصر فی أخبار البشر 1 : 98 ؛ تاریخ ابن الوردیّ 1 : 115 .
6- الجاثیة : 24 .
7- بلوغ الأرب 2 : 220 ؛ مجمع البیان 9 : 78 .

لسان حال المنکرین للّه (1) . وذهب المسعودیّ إلی أنّها تتحدّث عن قوم کانوا یعتقدون بالخالق لکنّهم ینکرون المعاد(2) . وهذا الرأی لا ینسجم مع ظاهرها . وأورد بعض المفسّرین کالرازیّ ، والطّبرسیّ ، والطّبریّ ، والنیسابوریّ إلی أنّها تشیر إلی منکری المبدأ والمعاد(3) . ویمکن أن نتعرّف من بعض الآیات القرآنیّة أیضا أنّ أشخاصا کانوا لا یؤمنون بالخالق أساسا ، ویردّ علیهم القرآن الکریم قائلاً : « أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَیْرِ شَیْ ءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّم-وَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لاَ یُوقِنُونَ »(4) . وهذه الآیة فی صدد إثبات وجود اللّه تعالی أیضا(5) .

وکان فریق آخر من المشرکین یعتقد باللّه خالقا بید أنّه کان یجعل له شرکاء بوصفهم خالقین . فهو فی الحقیقة کان یجعل له شرکاء بوصفهم خالقین . فهو فی الحقیقة کان یعتقد بالشّرک فی الخالقیّة . قال تعالی : « أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَکَاءَ خَلَقُوا کَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَیْهِم »(6) . وقال سبحانه : « نَحْنُ خَلَقْنَاکُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَیْتُم ما تُمْنُونَ ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ »(7) . وربّما نستطیع أن نعتبر الآیة الثّانیة خطابا لمنکری اللّه وخالقیّته . لکنّنا نستنتج من الآیتین فی الأقلّ أنّ الشّرک فی الخالقیّة کان موجودا . ویتسنّی لنا أیضا أن نهتدی إلی الموضوع نفسه من آیات أُخری تحاول إثبات أصل وجود اللّه . والآیات المذکورة تنفی الشّرک فی الخالقیّة . قال تعالی : « مَا

ص: 272


1- المیزان 10 : 297 .
2- مروج الذّهب 2 : 130 . بعامّة کان هناک بعض الأشخاص إمّا اعتقدوا بالتّوحید کالحنفاء أو أنّهم أبدوا میولهم التوحیدیّة فی مناطق خاصّة بتأثیر الیهود والنّصاری . وذکر جواد علی هذا الرأی فی مشرکی الیمن . انظر : المفصّل 2 : 243 - 582 .
3- انظر : کشف الارتیاب : 205 .
4- الطور : 35 ، 36 .
5- تفسیر الرازیّ 28 : 259 .
6- الرعد : 16 .
7- الواقعة : 57 - 59

اتَّخَذَ اللّه ُ مِن وَلَدٍ وَمَا کَانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذا لَّذَهَبَ کُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَی بَعْضٍ »(1) . وتدلّ هذه الآیة علی أنّ المشرکین کانوا یعتقدون بخالِقَین أو أکثر . ولیس هذا إلاّ شرک فی الخالقیّة وهو غیر الشّرک الربوبیّ .

وکانت فئة ثالثة من المشرکین تعتقد باللّه الخالق الواحد ، بید أنّها کانت تؤمن بمدبِّرین آخرین مع اللّه فی تدبیر نظام الوجود . وکانت تری أنّ لکلّ نظام من نظم تدبیر العالم إلها یستقلّ بتدبیره . وأنّ کلّ صنم من الأصنام خاصّ بتدبیر أمور خاصّة من الکَون ؛ لذا نزلت آیات کثیرة فی تأکید التّوحید فی الأفعال ودعمه ؛ أی : إرجاع کلّ تدبیر وفعل إلی اللّه ، قال تعالی : « أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَکَ اللّه ُ رَبُّ الْعَالَمِینَ »(2) . وقال سبحانه : « لَوْ کَانَ فِیهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّه ُ لَفَسَدَتَا »(3) . وهذه الآیة علی ما قاله العلاّمة الطّباطبائیّ فی الشّرک الربوبیّ أیضا . ویری العلاّمة أنّ أهل الجزیرة العربیّة هم وحدهم مشرکون . وأنّ الشّرک هو الشّرک الربوبیّ فحسب ، کما أنّ نزاع الموحّدین لم یکن حول واجب الوجود بل حول الربّ المعبود . وکان عبدة الأوثان یعتقدون أنّ تدبیر العالم قد فُوّض إلی موجودات شریفة لها عند اللّه زُلفی وهی أهلٌ للعبادة کی تکون شفیعة لهم(4) .

وفی ضوء ما تقدّم من موضوعات لا یمکن أن نتّفق معه فی کلامه کقاعدة عامّة . ویضاف إلیه أنّ هذا التفسیر للآیة احتمال واحد لا غیره ، وطُرحت وجوه أُخری فی تفسیرها أیضا(5) . وذهب البعض إلی أنّ الشّرک الربوبیّ وحده کان قائما فی شبه الجزیرة العربیّة مستدلاًّ بآیات قرآنیّة منها قوله تعالی : « وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ

ص: 273


1- المؤمنون : 91 .
2- الأعراف : 54 .
3- الأنبیاء : 22 .
4- المیزان 14 : 291 .
5- انظر : الجزء الخامس من کتاب مبادئ الفلسفة ... ، تعلیقات الأستاذ مطهریّ .

السَّم-وَاتِ وَالْأَرْضَ لَیَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِیزُ الْعَلِیمُ »(1) . ولا یصحّ هذا الاستدلال للسّببین الآتیین : أوّلاً : یمکن أن نوجّه هذه الآیة بآیة الفطرة(2) أو آیة الذّرّ(3) ، لا أنّ المشرکین عبّروا عن ذلک بألسنتهم ، وإنْ تسنّی لنا أن نستنبط أیضا أنّ عددا من النّاس کانوا یعتقدون باللّه (4) . وهو ما نقبله لا بوصفه عقیدة عامّة ، بل بوصفه عقیدة محدودة . ثانیا : لدینا آیات من هذا القبیل تبدو فی النّظرة الأُولی أنّها تنفی وجود الشّرک الربوبیّ أیضا . قال تعالی : « قُلْ مَن یَرْزُقُکُم مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ... وَمَن یُخْرِجُ الْحَیَّ مِنَ الْمَیِّتِ ... وَمَن یُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَیَقُولُونَ اللّه ُ »(5) . ونلحظ هذا الّنمط من الآیات فی مواطن أُخری من القرآن الکریم(6) . وهکذا ینبغی أن نتبیّنَ من هذه الآیات أنّ الشّرک الربوبیّ لم یکن موجودا فی شبه الجزیرة العربیّة یومئذٍ ، کما استبان ذلک بعضُهم(7) . وقال آخرون إنّ الشّرک الربوبیّ فی الوجود کان شرکا عبادیّا فحسب(8) . فی حین ذهب العلاّمة الطّباطبائیّ إلی أنّ الشّرک الرّبوبیّ کان موجودا . والحقیقة أنّ التّحلیل العقلیّ الدقیق یدلّنا علی أنّ أولئک القوم کانوا یرون الأصنام رمزا للّه ، بید أنّ ما کان موجودا عندالمشرکین هو الاعتقاد بالأصنام وتأثیرها فی التغییرات الطّبیعیّة الجاریة.

وکانت هناک طائفة أُخری تشرک فی عبادة اللّه ، وتعبد الأصنام لتقرّبها إلی اللّه زُلفی ، لا بوصفها خالقة أو مدبّرة . فهی إذن تعتقد بالخالق(9) . وقال الإمام علیّ علیه السلام یصفها :

ص: 274


1- الزخرف : 9 ؛ والآیة الکریمة « وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَیَقُولُنَّ اللّه ُ ... » الزخرف : 87 .
2- الروم : 30 .
3- الأعراف : 172 .
4- مجمع البیان 8 : 498 ؛ المیزان 14 : 290 .
5- یونس : 31 .
6- الزمر : 38 ؛ لقمان : 26 ؛ العنکبوت : 61 - 63 ؛ المؤمنون : 84 ، 89 .
7- بلوغ الأرب 1 : 197 .
8- زاد المعاد 3 : 224 الطبعة الأولی .
9- مروج الذّهب 2 : 102 ، 109 .

«... الذین نسوا عبادتک وجهلوا معرفتک ، واتّخذوا [ لک ] أندادا ، وجحدوا ربوبیّتک وأنکروا وحدانیّتک ، وجعلوا لک شرکاء وأولادا ، وصبوا إلی عبادة الأوثان ...»(1) .

شرکاء للّه

إنّ من الشّرکاء الّذین جعلهم المشرکون للّه الجنّ ، قال تعالی : « وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَکَاءَ الْجِنَّ »(2) . ومن الّذین کانوا فی عداد الشرکاء أیضا الأحبار والرّهبان ومن کان فی مصافّ الرؤساء أحیانا . قال تعالی : « أَمْ لَهُمْ شُرَکَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِنَ الدِّینِ مَا لَمْ یَأْذَن بِهِ اللّه ُ »(3) . وممّا عُدَّ فی الشّرکاء الأصنام المصنوعة من الذّهب والحجر . قال تعالی : « أَفَرَأَیْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّی * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَی »(4) .

وذکر ابن حزم أصنام کلّ قبیلة(5) . وکان للاعتقاد بالأصنام أثره الخاصّ فی حیاتهم الفردیّة والاجتماعیّة حتّی إنّ أسماء معظم النّاس کانت ترتبط بالأصنام بنحوٍ ما ، فاسم مثل زید کان مأخوذا من صنم فی الجاهلیّة(6) . وکان بعض القبائل یعبد صنما ، ثمّ یترکه إلی صنم آخر ، کما نُقل عن الهَمْدانیّین أنّهم کانوا یعبدون فی البدایة صنما یُدعی «تالب» ، ثمّ تحوّلوا عنه إلی «یعوق»(7) . ومن القبائل من کان یشرک الملائکة باللّه (8) . وطائفة أُخری کانت تعبد الشّمس ، وأُخری تعبد النّجوم ، وثالثة

ص: 275


1- نهج السّعادة 3 : 77 .
2- الأنعام : 100 ؛ سبأ : 41 « ... بَلْ کَانُوا یَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَکْثَرُهُم بِهِم مُؤْمِنُونَ » .
3- الشّوری : 21 .
4- النّجم : 19 ، 20
5- جمهرة أنساب العرب : 491 - 493 . وألّف هشام الکلبیّ أیضا کتابا بعنوان الأصنام ، تحدّث فیه عن أصنام العرب .
6- الاشتقاق : 13 .
7- المفصّل 2 : 354 .
8- سبأ : 40 . « ثُمَّ یَقُولُ لِلْمَلاَئِکَةِ أَهؤُلاَءِ إِیَّاکُمْ کَانُوا یَعْبُدُونَ » .

تعبد النّار(1) ، وبغضّ النظر عن الأصنام وسائر الشّرکاء الّذین جُعلوا للّه ، فإنّ الکعبة کانت تحظی باحترام خاصّ عندهم . وکان ربّ الکعبة من الآلهة الّتی نالت اهتمامهم . وبلغ احترام العرب الکعبةَ درجةً أنّهم کانوا یشیدون بیوتهم مدوّرةً علی عکس الکعبة المکعّبة الشّکل . وقیل إنّ أوّل من عمل خلاف هذه القاعدة هو حمید بن زهیر(2) .

وعُرف عدد من النّاس فی التّاریخ الجاهلیّ بالزّندقة منهم أبو سفیان ، وأمیّة بن خلف وأمثالهما . وأُضیف إلی هذا الخبر أنّ العرب أخذت الزّندقة من الحیرة(3) . ویُطلق الزّندیق علی من یقول ببقاء الدهر ، أو بالنّور والظّلمة أو ینکر المعاد . وهذا لا ینسجم مع الرأی القائل أنّهم أخذوا الزّندقة من نصاری الحیرة . ونحتمل فی الأغلب أنّ القصد من الزندیق هو ما قاله عَبَدَةُ النّار والثّنویّة (المعتقدون باللّه والشّیطان) . وهو ما کان شائعا فی الحیرة تأثّرا بالفرس یومئذٍ . وذهب الآلوسیّ إلی هذا الاحتمال أیضا وذکر أنّ هذا هو اعتقاد المجوس بالثّنویّة والنّور والظّلمة(4) . والدلیل الآخر علی هذا الموضوع هو أنّ کلمة «الزّندیق» معرّبة من الکلمة الفارسیّة (زَنْدِه ای) أی المعتقد بالزَنْد (کتاب المجوس)(5) . ووجود المجوس المشهورین بهذا الاسم بین ظهرانی العرب یدعم وجود هذه الفکرة بین العرب . وکان الأقرع بن حابس الّتمیمیّ من هؤلاء الأشخاص(6) . وأورد ابن قتیبة أنّ دین المجوس کان سائدا فی قبیلة تمیم ومن رموزه لقیط ، وزرارة بن عدس ، ونجله حاطب ، والأقرع بن حابس ، وأبو الأسود جدّ وکیع

ص: 276


1- بلوغ الأرب 2 : 233 ، 237 ، 239 .
2- المفصّل 4 : 51 .
3- المنمّق : 48 ؛ المحبّر : 166 ؛ بلوغ الأرب 2 : 228 عن : المعارف ، بهج الصّباغة 2 : 167 .
4- بلوغ الأرب 2 : 229 .
5- أقرب الموارد 1 : 477 . حول معنی الزندیق انظر : بِیست گُفتار [ عشرون مقالة ] للدکتور مهدی محقّق : 191 - 192 .
6- بلوغ الأرب 1 : 316 .

ابن حسّان(1) . ویستشفّ من مصادر أُخری أنّ للمشرکین لقاءات مع مجوس فارس ، کما کانت بینهما مراسلات أیضا(2) . وقیل : إنّ إشراک الجنّ مع اللّه کان نابعا من الزّندقة وتعالیم الثّنویّة(3) . ولعلّنا نستطیع أن نحتمل من هذه الشّواهد أنّ المقصود من الزنادقة هم المعتقدون بالثّنویّة ، ولا نغفل أنّ من المحتمل شیوع هذا المعنی بعد الإسلام .

المشرکون والمعاد

یتبیّن من الآیات القرآنیّة الکریمة أنّ منکری المعاد کانوا کثیرین . وکان عرب الجاهلیّة ینکرون المعاد مبدئیّا . قال تعالی : « وَقَالُوا مَا هِیَ إِلاَّ حَیَاتُنَا الدُّنْیَا نَمُوتُ وَنَحْیَا وَمَا یُهْلِکُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ »(4) . ونُقل أنّ أُمیّة بن خلف أو غیره جاء إلی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بعظم بالٍ ، وقال : هل یحیی هذا مرّة أُخری ؟ ونقل لنا القرآن سؤاله . قال سبحانه : « وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِیَ خَلْقَهُ قَالَ مَن یُحْیِی الْعِظَامَ وَهِیَ رَمِیمٌ * قُلْ یُحْیِیهَا الَّذِی أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ... »(5) . وتُشیر آیات أُخری أیضا إلی إنکار المشرکین المعاد(6) . وألمع بعض المؤرّخین أیضا إلی إنکار العرب فی الجاهلیّة المعادَ(7) . وأنشد شدّاد بن الأسود قصیدة فی رثاء قتلی قریش ، قال فیها :

ص: 277


1- بلوغ الأرب 2 : 345 ؛ جمهرة أنساب العرب : 491 .
2- أسباب النزول : 150 .
3- نفسه : 148 .
4- الجاثیة : 24 .
5- یس : 78 ؛ أسباب النّزول : 246 ؛ أنساب الأشراف 1 : 137 . وقیل أیضا إنّ الآیة المذکورة نزلت فی النّضر بن حارث . انظر : أنساب الأشراف 1 : 143 .
6- النّحل : 38 ؛ الإسراء : 49 و98 ؛ الصّافّات : 16 و53 ؛ التّغابن : 7 ؛ الحجّ : 5 ؛ هود : 7 ؛ المؤمنون : 82 ؛ الرّعد : 5 ؛ الّنمل : 67 ؛ السّجدة : 10 ؛ الدخان : 34 .
7- المختصر فی أخبار البشر 1 : 58 ؛ مروج الذّهب 2 : 103 ؛ تاریخ ابن الوردیّ 1 : 115 .

أیُخْبِرُنا ابنُ کَبْشةَ أنْ سَنُحیی * وکَیْفَ حیاةُ أصداءٍ وَهامِ

أَیَقْتُلنی إِذَا مَا کُنْتُ حَیّا * وَیُحْیینی إذَا رَمَّتْ عِظامی(1)

وأشار الإمام أمیرالمؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام إلی أنّ العرب لم تعتقد بالمعاد(2) . وجاء فی خبر أنّ أحد المشرکین کان یستهزأ بالمعاد(3) .

الکعبة ، والدّین ، والوضع المعیشیّ للنّاس

کان الوضع المعیشیّ للنّاس فی شبه الجزیرة العربیّة لیس بالمستوی المطلوب کثیرا . ولاقی الناس مصاعب فی حیاتهم بسبب فقدان الماء والظّروف المساعدة علی الزّراعة فی معظم المناطق . غیر أنّ الطّائف ، والمدینة تمتّعتا بوضع أفضل قیاسا بالمناطق الأُخری . من جهة أخری ، کان انعدام المواصلات مشکلة أُناس یحتاجون إلی وسائط المناطق الأُخری ، وکان متعذّرا علیهم أن یحصلوا علی احتیاجاتهم متی شاؤا . وکانت مکّة مرکزا دینیّا یتقاطر علیه سکّان الجزیرة من فجاج بعیدة(4). وکانوا یستفیدون منها کمرکز تجاریّ مضافا إلی أداء واجباتهم الدّینیّة فیها . کما کانوا یهیّئون

وسائلهم اللازمة منها علاوة علی بیع المحاصیل . قال تعالی : « أَوَ لَمْ نُمَکِّن لَهُمْ حَرَما آمِنا یُجْبَی إِلَیْهِ ثَمَرَاتُ کُلِّ شَیْ ءٍ رِزْقا مِن لَدُنَّا وَلکِنَّ أَکْثَرَهُمْ لاَ یَعْلَمُونَ »(5) .

یقول ابن عبّاس : کانت أسواق عکاظ ، والمجنة ، وذی المجاز قائمة فی أیّام الحجّ . والسّوقان الأوّلیان قریبان من مکّة ، والثّالث قریب من عرفات . وکانت العرب

ص: 278


1- بهج الصّباغة 2 : 148 . وورد هذان البیتان فی مصادر أُخری أیضا بتغییر یسیر . انظر : المفصّل 1 : 287 . وذکر الآلوسیّ بیتا آخر فی نفی المعاد بلوغ الأرب 2 : 198 وهو قول أحدهم :حَیاةٌ ثمّ مَوْتٌ ثمّ نَشْرُ حدیثُ خُرافةٍ یا أمَّ عمرو
2- نهج السّعادة 1 : 149 ؛ 3 : 154 .
3- أنساب الأشراف 1 : 132 .
4- الحجّ : 27 .
5- القصص : 57 .

تتاجر فی هذه الأسواق . وکانت تمضی ثمانیة عشر یوما من ذی القعدة فی السّوق الأوّل ، ومثلها فی السّوق الثّانی ، ثمّ تیمّم السّوق الأخیر القریب من عرفات(1) . ونقل عن ابن عبّاس فی موضع آخرأنّ العرب بعد الإسلام کانت تری هذا العمل عارا حتّی نزل قوله تعالی(2) : « لَیْسَ عَلَیْکُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِن رَبِّکُمْ »(3) . والآیة الأُخری الّتی اعتنت بالمنافع المادّیّة والمعنویّة للحجّ هی قوله تعالی : « وَأَذِّن فِی النَّاسِ بِالْحَجِّ ... * لِیَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ »(4) . وذکر ابن جبیر أنّ المراد من المنافع هنا المنافع التّجاریّة فی الدّنیا والثّواب فی الآخرة . وذهب ابن عبّاس أیضا إلی أنّ المنافع هنا هی المنافع التّجاریّة(5) . وأشار الیعقوبیّ إلی تقارن سوق عکاظ وذی المجاز ، وموسم الحجّ(6) .

وکانت الأسواق تقام فی الأشهر الحرم بسبب الأمن الاقتصادیّ الّذی کان موجودا ، وکذلک بسبب إمساک القبائل عن القتال فی الأشهر المذکورة .

من جهة أُخری کان الأمن الّذی یسود الوسط الدّینیّ بمکّة باعثا علی سفر قریش إلی أیّ نقطةٍ تریدها ، فقد کانت مصونةً من کلّ أذیً یصل إلیها من السلاّبین بما عرفت به أنّها أهل الحرم الإلهیّ . وأشار القرآن الکریم إلی هذه النّقطة فی سورة قریش . فقد ذکرت هذه السّورة الرّحلات التّجاریّة الّتی کانت تقوم بها قریش إلی الیمن شتاءً ، وإلی الشّام صیفا ، ودعتهم إلی عبادة ربّ البیت (الکعبة) الّذی أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف(7) .

وذکر الجاحظ أنّ قریشا کانت إذا خرجت من مکّة علّقت علیها أشیاء خاصّة

ص: 279


1- المحبّر : 267 ؛ تفسیر الخازن فی تفسیر الآیة «وأذّن فی النّاس بالحجّ» .
2- أسباب النّزول : 38 .
3- البقرة : 198 .
4- الحجّ : 27 ، 28 .
5- مجمع البیان 7 : 81 .
6- تاریخ الیعقوبیّ 1 : 270 ؛ بلوغ الأرب 1 : 276 .
7- انظر : سورة قریش .

حتّی یعرف الآخرون أنّهم أهل الحرم . فلم یؤذهم أحد(1) . وجاء فی القرآن الکریم قوله تعالی : « إِنَّ أَوَّلَ بَیْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِی بِبَکَّةَ مُبَارَکا وَهُدًی لِلْعَالَمِینَ »(2) .

وقال العلاّمة الطّباطبائیّ فی تفسیر «مُبارَکا»(3) : المقصود من ذلک البرکة الدّنیویة الموجودة فی مکّة . وقوله «هدیً للعالمین» یشیر إلی البرکة المعنویّة أیضا . وهذه البرکة الدّنیویّة هی وفور النّعمة والأرزاق التی تتوفّر هناک بسبب وجود العمران فیها ، وحضور النّاس وما یُلاحَظ من احترامهم وإکرامهم . وتعود هذه المسألة إلی دعاء إبراهیم علیه السلام : « رَبَّنَا إِنِّی أَسْکَنتُ مِن ذُرِّیَّتی بِوَادٍ غَیْرِ ذِی زَرْعٍ عِندَ بَیْتِکَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِیُقِیمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِی إِلَیْهِمْ وَارْزُقْهُم مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ یَشْکُرُونَ »(4) .

الشریعة الدینیّة عند العرب

تحدّثنا حتّی الآن عن القضایا الاعتقادیّة والفکریّة للعرب فی مجال التّوحید والشّرک ، وکذلک المعاد . وقلنا : إنّ القاسم المشترک الأعمّ لجمیع الأفکار الموجودة هو الشّرک باللّه الّذی شاع بینهم بضروب متنوّعة . ونتحدّث فیما یأتی عن الشّریعة العلمیّة - الدّینیّة للعرب ، والقوانین الّتی کانت تنظّم علاقاتهم فی الأبعاد العبادیّة - الاجتماعیّة المختلفة .

وأشرنا فی المباحث المتقدّمة إلی أنّ أعمال العرب وممارساتهم کان تجری تقلیدا لکبرائهم بسبب غیاب الفکر والاستدلال والمنطق عنهم . ولو لوحظ إبداع فی ذلک المجتمع ، فإنّه ینطلق من سلوک الأشراف .

ص: 280


1- رسائل الجاحظ 1 : 188 .
2- آل عمران : 96 .
3- المیزان 3 : 350 ، 351 .
4- ابراهیم : 37 .

وکان کلّ ما یحدث فی الأعراف الیومیّة یتّخذ طابع السّنّة شیئا فشیئا ومن هنا ظهرت السّنن الجاریة . وکانت البیئة تلزم الجمیع بإطاعتها ، إذ إنّ إهمالها کان یُفضی إلی طرد الخاطئین من القبیلة . ولم یکن الحلال والحرام عندهم إلاّ ما تراه القبیلة نهجا طبیعیّا فی حیاتها . ویُلحظ فی النّظام القبلیّ أنّ رؤساء القبائل کانوا مصدر التّشریع ، وأنّ موقفهم هو معیار الصّواب والخطأ عند القبیلة . وذکر جواد علی أنّ العرب فی الجاهلیّة لم یکن لهم حکم فی الأطعمة ومرجع الحلال والحرام من منظارهم هو عرف القبائل(1) . وأورد الیعقوبیّ أنّ العرب کان لهم حکّام یرجعون إلیهم فی شتّی شؤونهم ، ویذهبون عندهم لحلّ دعاواهم وفضّ نزاعاتهم ... إذ لیس لهم شریعة وقانون یرجعون إلیهما بل کان یتصدّی للقضاء بینهم أولو الشّرف والصّدق والأمانة والزّعامة والتّجربة(2) ، من هنا کان لکلّ قبیلة حاکمها الخاصّ بها(3) . ولم تکن سیرة الرّؤساء أُسوة وسنّة فی الشّؤون العامّة المرتبطة بالقبیلة فحسب بل کانت کذلک فی الشّؤون الدّینیّة أیضا . وقیل إنّ أفعال عمرو بن لحیّ وأقواله کانت کالشّریعة عند العرب ، لأنّه کان من الأشراف والسّادات(4) . وهؤلاء الّذین کانت أعمالهم تُتّخذ کقانون کثیرون . وقیل : إنّ عامر بن ظرب کان أوّل من حکم فی الخنثی وأقرّ الإسلام حکمه أیضا(5) . وذهب البعض إلی أنّ عمرو بن حُمَمة الدّوسیّ کان أوّل من حکم فی ذلک(6) . وقیل فی تقسیم الإرث إنّ أوّل من جعل للذّکر مثل حظّ الأنثیین فی الإرث هو ذو المجاسد(7) ، أو عامر بن جشم الجهمیّ(8) . وکان الولید بن المغیرة أوّل من خلع

ص: 281


1- المفصّل 6 : 223 .
2- تاریخ الیعقوبیّ 1 : 258 .
3- فجر الإسلام : 56 .
4- أخبار مکّة 1 : 58 ؛ الرّوض الأنف 1 : 395 .
5- المعارف : 240 ؛ المحبّر : 236 .
6- بلوغ الأرب 1 : 179 .
7- المحبّر : 324 ، 237 ، 236 .
8- بلوغ الأرب 1 : 179 .

نعلیه عند دخوله إلی الکعبة فی الجاهلیّة ، ثمّ أقرّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم هذا العمل أیضا(1) . ونُقل کذلک أنّه کان أوّل من حرّم الخمر علی نفسه (یبدو أنّ هذه القضیّة لا یمکن أن تکون صحیحةً لأنّه سُبق بأشخاص کثیرین کانوا قد حرّموا علی أنفسهم شرب الخمر فهو لیس أوّل من سبق إلیها) أو أوّل من سنّ قطع ید السّارق(2) . وممّن قطعت أیدیهم بسبب السّرقة مدرک بن عوف ، وخیار بن عدیّ ، ومقیس بن قیس ، وغیرهم(3) . وفی روایة مأثورة عن الإمام الرّضا علیه السلام أنّ الإسلام أقرّ خمسةً من أعمال عبد المطّلب وهی تحریم الزّواج علی الأبناء من أزواج آبائهم بعد موتهم ، وجعل دیة القتل مائة بعیر(4) ، والطّواف حول الکعبة سبعة أشواط ، وإخراج الخمس من کنزٍ یُعثر علیه(5) ، والوفاء بالنّذر . ونُسب إلیه أیضا القول بمنع النکاح من المحارم ، وتحریم الزّنا والخمر وطواف الناس حول بیت اللّه عراةً(6) . وعندما عزم علی ذبح ولده عبد اللّه قال له النّاس : إذا فعلتَ فسیذبح النّاس جمیعهم أولادهم(7) . وقیل فی قصیّ أیضا إنّ أعماله کانت کالدّین عند العرب ولم یعمل أحد منهم خلافها(8) .

وینبغی أن نقول فی إقرار الإسلام بعض الأحکام الجاهلیّة : إنّ إبراهیم وإسماعیل علیهماالسلام ترکا شریعةً خاصّةً عند العرب ، کما أنّهما خلّفا فکرة التّوحید فی أوساطهم . ثمّ طمس العرب معالم التّوحید الإبراهیمیّ ، وحرّفوا شریعة إبراهیم علیه السلام ، حتّی إنّهم أبقوا بعضها علی سیرته الأُولی ، وغیّروا البعض الآخر ، ولعلّ هذه الأحکام

ص: 282


1- المعارف : 240 .
2- نفسه ؛ بلوغ الأرب 2 : 292 .
3- المنمّق : 530 .
4- المعارف : 240 .
5- وسائل الشّیعة 6 : 346 ؛ الخصال : 312 .
6- السّیرة الحلبیّة 1 : 40 . وحظر النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم هذه المسألة الأخیرة فی السّنة التّاسعة للهجرة ممّا یدلّ علی أنّها کانت شائعة حتّی ذلک العصر .
7- السّیرة النّبویّة 1 : 141 .
8- نفسه 1 : 116 ؛ بهج الصّباغة 2 : 29 ؛ بلوغ الأرب 1 : 272 .

الّتی نُسبت إلی أشخاص معیّنین کانت من بقایا شریعة إبراهیم علیه السلام . وقیل فی عمرو ابن لحی إنّ من الانحرافات الّتی أحدثها فی شریعة العرب الدّینیّة جواز أکل لحم المیتة فی حین أنّ أولاد إسماعیل علیه السلام کانوا یحرّمونه(1) . ونُقل عن النّبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وسلم أنّه ذکر أنّ العرب کانت علی دین إبراهیم علیه السلام حتّی جاء عمرو بن لحیّ فغیّرها(2) . وکانت المراحل الثّلاث للطّلاق (لا أن یقول المطلّق مرّةً واحدة : طلّقتک ثلاثا) من شریعة إسماعیل علیه السلام وغیرّتها الجاهلیّة(3) . ثمّ أعادها الإسلام علی ما کانت علیه . وحُرّفت هذه المسألة بعد ذلک عند بعض المسلمین ، والیوم نلحظ أنّ الفقه الشّیعیّ وحده یقرّر أنّ الطّلقات الثّلاث ینبغی أن تقع فی ثلاث مراحل . یضاف إلی ذلک أنّنا یجب ألاّ نقیم وزنا للأخبار الّتی مرّت علی الأوّلین . وإنّ ما أردناه من هذا البحث هو أنّ الأشراف فی الجاهلیّة هم الّذین کانوا یسنّون القوانین .

المستوی الإیمانیّ للعرب المشرکین

قلنا : کان الشّرک عقیدة معظم النّاس فی العصر الجاهلیّ . ویری بعض الکتّاب أنّ العرب کانوا شدیدی الّتمسّک بعقائدهم . وقال طه حسین : «أفتظنّ أنّ قریشا کانت تکید لأبنائها وتضطهدهم وتذیقهم ألوان العذاب ثمّ تخرجهم من دیارهم ثمّ تنصب لهم الحرب وتضحّی فی سبیلها بثروتها وقوّتها وحیاتها ولو لم یکن لها من الدین إلاّ ما یمثّله هذا الشعر الذی یضاف إلی الجاهلیّین ؟ کلاّ کانت قریش متدیّنة قویّة الإیمان بدینها ولهذا الدین وللإیمان بهذا الدین جاهدت ما جاهدت وضحّت بما ضحّت . وقل مثل ذلک فی الیهود»(4) . وینبغی أن نقول إنّ هذه الموضوعات لیست إلاّ أوهاما ، إذ إنّ الأدلّة القائمة تشیر إلی أنّهم لم یکونوا أولی إیمان

ص: 283


1- السّیرة الحلبیّة 1 : 10 .
2- نفسه : 11 .
3- بلوغ الأرب 2 : 49 .
4- فی الأدب الجاهلیّ : 73 .

راسخ بمعتقداتهم . وإذا ألقینا نظرة علی الحوافز الّتی تدفع النّاس إلی التحرّک الفردیّ والاجتماعیّ ، تسنّی لنا أن نقف علی المحاور والعوامل الّتی تحرّکهم فی حیاتهم . ولمّا کانت القضایا الدّینیّة تمثّل رؤیة کَونیّة ، وکانت محدِّدة للمسار العملیّ فی حیاة الإنسان ، فلا بدّ أن تکون محورا لجمیع تحرّکاته العملیّة . وإذا طالعنا حیاة العرب فی الجاهلیّة ، عرفنا أنّ الحمیّة والتعصّب القومیّ والقبلیّ قد حلاّ محلّ الدّین والقیم الدّینیّة . وکان حافزهم فی تحرّکاتهم الجماعیّة وکافّة الحروب الّتی شنّوها هو المصالح القبلیّة . وکانوا مستعدّین أن یُخضعوا عقیدتهم الدّینیّة للدوافع القبلیّة . علی سبیل المثال کانوا یغیّرون وقت الأشهر الحرم لیتمکّنوا من القتال والجدال فی أیّ وقتٍ أرادوا(1) . بعبارة أُخری ، بالنظر إلی أنّ الثقافة والقیم الاجتماعیّة تحدّد مستوی العقیدة الدّینیّة للمجتمع ، لذا ینبغی أن نقول : إنّ أهل الجزیرة العربیّة الّذین کان معظمهم من سکّان البادیة لم یصیبوا حظّا من المعارف العقلیّة ، وکان بعض القضایا کالثأر أهمّ ما یشغل بالهم . ولم یدع الصّراع والقتال والجدال الدائم لهم فرصةً للتأمّل فی العقائد الدّینیّة . ویستشفّ من بعض الآیات أنّهم کانوا یرون أنّ تأثیر آبائهم أکبر من تأثیر اللّه ، أو تأثیر الآلهة . ویمکن أن نستنبط هذا المطلب من الآیة الکریمة الآتیة : « فَإِذَا قَضَیْتُمْ مَنَاسِکَکُمْ فَاذْکُرُوا اللّه َ کَذِکْرِکُمْ آبَاءَکُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِکْرا »(2) ونقل فی ذیل الآیة عن مجاهد أنّ النّاس کانوا یجتمعون فی أیّام الحجّ ویتحدّثون عن آبائهم وأعمالهم وحروبهم ، ویتفاخرون بأنسابهم(3) وبسبب هذه العلاقة والانشداد القومیّ إلی الآباء والأجداد وقف القرآن الکریم قسما من تعالیمه لإضعاف ذلک ، وحاول توطید ارتباطهم باللّه تعالی(4). ونقرأ فی آیات کثیرة أنّهم تبنّوا عقائدهم الدّینیّة بسبب

ص: 284


1- السّبب الآخر الّذی ذُکر هو تطبیق الأشهر القمریّة مع الشّمسیّة بالاستفادة من الکبیسة کالیهود .
2- البقرة : 200 .
3- أسباب النزول : 39 .
4- انظر : التّوبة : 23 ، 24 ؛ المؤمنون : 101 ؛ المجادلة : 22 .

ارتباطهم بأجدادهم. « قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آباءَنَا کَذلِکَ یَفْعَلُونَ »(1). ویُلحظ مثل هذا أیضا فی آیات أُخَر(2) ؛ فقد جاء علی لسان إبراهیم علیه السلام قوله لعبدة الأصنام : « وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِن دُونِ اللّه ِ أَوْثَانا مَّوَدَّةَ بَیْنِکُمْ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا »(3) . وجاء فی تفسیر الآیة أنّ العرب - لفقدانهم الحجّة والدّلیل العقلیّ - لم یکن لهم وجه لعبادة الأصنام إلاّ الشّأن الّذی کان یراه الکبار والوجهاء کالآباء والرؤساء للأبناء. وبسبب هذا الضرب من العلاقة ظلّت التقالید القبلیّة سائدة وواصلت مسیرها الطّبیعیّ . فالاقتداء بالصنمیّة اذن کان من إفرازات العلاقات الاجتماعیّة الّتی کانت قائمة بینهم. وکانت هذه العلاقات هی منطلق التّقلید عندهم أیضا(4) . وجاء فی القرآن الکریم قوله تعالی : « أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً وَاحِدا إِنَّ هذَا لَشَیْ ءٌ عُجَابٌ »(5) . وکانوا یتعجّبون أیضا لبشریّة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم(6) .

النقطة الأُخری اللافتة للنّظر فی معرفة عقائدهم الدّینیّة هی حرّیة المجتمع القبلیّ فی القیام بأیّ عمل یرغب فیه . من هنا لا یمکن أن نتلمّس الصّبر والحلم عندهم - فالبیئة الحرّة - مع الأخذ بنظر الاعتبار الفساد الّذی یسودها - من جهة ، وشحّة المصادرالاقتصادیّة وضغط الحیاة من جهة أُخری ترکا الباب مفتوحا لعرب الجاهلیّة فی الاختیار الغالط . ونلحظ فی هذا المجتمع أنّ الأهواء تتّخذ طابعا عملیّا فیه . لذلک قلّما یعیر أحدهم اهتماما بالقیم الدّینیّة ویظلّ متمسّکا بتعالیم الدّین . وبلغوا مبلغا من الحرّیّة أنّهم کانوا یتدخّلون فی اختیار عقائدهم الدّینیّة وتأویلها أنّی شاءوا ، کما مرّ بنا أنّ قوله تعالی « أَفَرَأَیْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ »(7) نزل فی شخصٍ کان یغیّر صنمه من حجرٍ إلی حجرٍ آخر کلّ یوم .

ص: 285


1- الشعراء : 74 .
2- البقرة : 170 ؛ الأعراف : 28 .
3- العنکبوت : 25 .
4- المیزان 16 : 124 ، 125 .
5- ص : 5 .
6- الأعراف : 63 ، 69 ؛ ص : 4 ؛ ق : 2 ؛ یونس : 2 .
7- الجاثیة : 23 .

یضاف إلی ذلک أنّنا لا نجد بین العرب الوثنیّین فئة تحرس الدّین وتبیّن عقائده . وهذا یعدّ من المعالم المهمّة لغفلتهم عن الدّین ، بخاصّة لم یکن عندهم نصّ مقدّس یعتمدون علیه فی تبیان عقائدهم . ومن الواضح أنّ الدّین حینئذٍ لا یمکن أن یکون موجودا بوصفه مجموعة من العقائد المعیّنة المحدّدة . ولعلّ فی بعض مناطق الیمن کهّانا کانوا یضطلعون بمثل هذه المهمّة(1) ، بید أنّا قلّما نجد مثل هذه الفئة فی الجاهلیّة وهی تقوم بمهمّة دینیّة خاصّة . وکان عمل الکهّان یماثل عمل العرّافین فی عصرنا هذا إلی حدّ بعید . وکان مثلَ قریش الّتی تری نفسها أهل الحُمس من یحاول إظهار تمسّکه بعقائده الدّینیّة ومناسک الحجّ أکثر فأکثر ، ویحسب أنّه متولّ للدّین ، لکنّا لا نذکر هؤلاء کمجموعة حامیة للعقائد الدّینیّة . وکانت قریش تزعم أنّها من أهل الحمس لتحقیق مکاسب خاصّة فی أمر الحجّ والطّواف .

الیهود فی شبه الجزیرة العربیّة

سمّوا الیهود یهودا نسبة إلی یهودا بن یعقوب(2) . وربّما سمّوا بذلک أیضا لأنّ هذا الاسم کان اسم قبیلة أو مدینة(3) . ومهما کان فلعلّ اسم ابن یعقوب أُطلق علی القبیلة کلّها . وکان الیهود وهم من أهل الکتاب إبّان البعثة یقطنون فی أرض الجزیرة العربیّة

بشکل شبه موسَّع . ویستشفّ من مواقف القرآن الکریم بالنسبة إلی الیهود ، بخاصّة فی السور المدنیّة ، أنّ وجودهم فی یثرب یفوق وجودهم فی المناطق الأُخری کما ذهبت کتب التّاریخ إلی ذلک أیضا . ویذکر الیعقوبیّ أنّ معظم المناطق الیهودیّة تترکّز فی یثرب والیمن(4) . ونقل ابن قتیبة أیضا أنّ الیهودیّة کانت شائعة فی قبیلة حمیر ، وکنانة ،

ص: 286


1- انظر : المفصّل 2 : 14 .
2- المعارف : 270 .
3- لسان العرب وتاج العروس .
4- تاریخ الیعقوبیّ 1 : 257 .

وبنی الحارث بن کعب ، وکندة(1) . ویُستنبَط من بعض المصادر أیضا أنّ جماعات من الأوس والخزرج تهوّدت بسبب معاشرتها للیهود فی حیّ خیبر ، وبنی قریظة ، کما تهوّد عدد من بنی الحارث بن کعب ، وثلّة من قبیلة غسّان وجذام(2) ، وأشار المسعودیّ أیضا إلی رغبة العرب فی الدین الیهودیّ(3) . وذکر جواد علی أنّ ظاهر کتاب التّلمود(4) یفید أنّ عددا من العرب انضمّ إلی المجتمع الیهودیّ وتهوّد بعد وفوده علی أحبار الیهود(5) . واشتهر الیهود فی الجزیرة العربیّة بالزّراعة ، أمّا یهود یثرب فقد اشتهروا فی الأعمال المعدنیّة، والحِدادة ، وصنع الأسلحة(6) . ویستفاد من بعض الأخبار التّاریخیّة أنّهم کانوا یتمتّعون بوضع جیّد من الوجهة الاقتصادیّة . وشیوع الربا بینهم ، مع الأخذ بعین الاعتبار حیاة الأعراب فی البادیة بل الیهود فی المناطق الأُخری(7) ، یدلّ علی جودة وضعهم الاقتصادیّ .

وذکر المؤرّخون تخمینات شتّیً حول تاریخ سکنهم فی الجزیرة العربیّة بخاصّة یثرب ، وهی غیر ثابتة تاریخیّا ، بید أنّ ما یُرکَن إلیه هو أنّهم سکنوا بادئ الأمر فی یثرب ، ثمّ قدمت إلیها القبائل العربیّة کالأوس والخزرج بعدهم(8) . وذهب البعض إلی أنّ سبب نزوحهم إلیها هو ما لقوه من ضغط الحکومة الرّومانیّة واضطهادها(9) ، لکنّا نلحظ فی بعض الأخبارالتّاریخیّة معلومات ذات مدلول خاصّ ، وهو أنّهم نزحوا إلیها

ص: 287


1- المعارف : 266 .
2- تاریخ الیعقوبیّ 1 : 257 .
3- مروج الذّهب 2 : 103 .
4- التّلمود یعنی التّعالیم وهو عبارة عن الرّوایات الشّفویّة الّتی جمعها أصحاب موسی علیه السلام . انظر : قصّة الحضارة دیورانت ، ج4 ، عصر الإیمان ، قسم التّلمود للاطّلاع علی تاریخه ومحتواه .
5- المفصّل 6 : 24 .
6- فجر الإسلام : 24 .
7- الأغانی 22 : 109 .
8- نفسه 22 : 110 .
9- نفسه 22 : 108 .

لعلمهم بظهور نبیّ جدید فیها . وقیل إنّ یهود یثرب عندما کانوا یصطدمون بالأوس والخزرج فإنّهم کانوا یهدّدونهم بظهور نبیّ جدید ، وأنّهم سوف یتّبعونه ویفعلون بهم کما فُعل بعاد وإرم(1) . ویستفاد من خبر آخر أنّهم عندما وصلوا إلی یثرب یمّموا جبل أحد فی البدایة ظنّا منهم أنّه مهجر النّبیّ الجدید ، بید أنّ طائفة منهم أدرکوا خطأه وقدموا إلی أطراف یثرب وقطنوا فی خیبر وغیرها ...(2) ونُقلت أخبار کثیرة حول علمهم المبکّر بظهور النّبیّ(3) .

ومن الواضح أنّ منطقة الجزیرة العربیّة کانت غیر مناسبة علی صعید المصادر الاقتصادیّة ، کما کانت الحیاة فیها عسیرة . من هنا ینبغی أن نقول : ثمّة سبب آخر دفع الیهود إلی اختیارها لنزوحهم . ونقرأ خبرا آخر یفید أنّ سیف بن ذی یزن أخبر عبد المطّلب بظهور نبیّ جدید وأنّه سیقوی أمره فی یثرب(4) . وذکر أنّه وجد ذلک فی کتاب ناطق وعلم سابق(5) . وأشار القرآن الکریم أیضا فی آیات کثیرة إلی أنّ أهل الکتاب یعرفون النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کما یعرفون أبناءهم . وأکّد هذه النّقطة کثیرا(6) . ویمکن أن تدلّ هذه الآیات الّتی نزل عدد منها فی المدینة بمحضر الیهود والمنافقین علی أنّ القرآن کان یصرّ علی هذا الأمر من وحی الاحتجاج وإلقاء الحجّة . ویضاف إلی ذلک أنّ سکوت أهل الکتاب ، وقبول المسلمین هذا الموضوع معلَمان علی أنّهم کانوا واثقین بهذه المسألة . وبین کبارهم من أسلم نتیجة إقراره بها کعبد اللّه بن سلام . من جهة

ص: 288


1- السّیرة النّبویّة 3 ، 4 : 162 ؛ کمال الدّین : 101 و102 ؛ الثّقات 1 : 90 ؛ وانظر : الصّحیح من سیرة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم 1 : 174 .
2- بحارالأنوار 15 : 226 .
3- انظر : مجمع الزّوائد 8 : 230 - 241 ؛ بحارالأنوار 15 .
4- المنمّق : 545 ، 546 .
5- الأغانی 17 : 314 - 316 .
6- الأنعام : 20 ، 114 ؛ القصص : 52 ؛ البقرة : 89 ، 101 ، 146 ؛ آل عمران : 82 ، 178 ، 188 ؛ الأعراف : 157 ؛ الصّفّ : 6 ، 7 .

أخری نلحظ فی العهد القدیم ، أی : التّوراة ، معالم تشیر إلی ظهور النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . وممّا جاء فی التّوراة الموجودة الآن بعد تحریفات کثیرة جرت علیها منذ عصر موسی علیه السلام حتّی یومنا هذا : (وهذه بشارة بشّر بها موسی الرجل الإلهیّ بنی إسرائیل قبل وفاته قائلاً : «خرج یهوه من سینا ، وطلع علیهم من سعیر ، وأشرق من جبل فاران) . وهنا ثلاثة موارد : الأوّل یشیر إلی ظهور موسی من جبل سینا ، والثّانی یشیر إلی ظهور عیسی من جبل سعیر ، والثّالث یشیر إلی ظهور نبیّنا من جبل فاران(1) . ومن الثّابت عند الجغرافیّین کیاقوت الحمویّ فی معجم البلدان أنّ جبل فاران هو السلسلة الجبلیّة الواقعة فی أطراف مکّة .

وتحدّث المرحوم الشّیخ محمّد جواد البلاغیّ عن هذا الموضوع مفصّلاً فی کتاب الهدی إلی دین المصطفی(2) . وتحدّد التّوراة فی نصّ من نصوصها مکان فاران عندما یقال لإبراهیم : «قُم وخذ ولدک بیدک إذ ستظهر منه أمّة عظیمة . وفتح اللّه عینیه ،

فرأی عین ماء ، فذهب وملأ قربته منها وسقی ولده وکان اللّه مع ذلک الولد ، ونما ، وسکن الصحراء ، ونشأ علی الرّمایة وسکن صحراء فاران»(3) . وقد ثبت تاریخیّا أنّ إبراهیم أتی بإسماعیل إلی مکّة ، وأنّ إسماعیل سکن فیها وعاش هناک . من هنا یستبین أنّ مکان فاران لیس إلاّ وادی مکّة . وهاجر الیهود إلیها لعلمهم بذلک ، بید أنّهم لم یؤمنوا بالنّبیّ الجدید لأنّه لیس من بنی إسرائیل ، ومنهم من آمن به(4) .

ویعود عدم اتّساع الدّین الیهودیّ إلی أسباب متنوّعة . منها : إنّ الیهود لم یستعدّوا لقبول أحد فی دینهم بسبب عنصریّتهم ، فقد کان اعتناق العرب لدینهم محالاً إلاّ فی مواضع نادرة جدّا . ومنها : إنّهم لم یکونوا أقویاء فکریّا وعملیّا إلی درجة أنّهم یستطیعون معها أن یستقطبوا الآخرین إلی دینهم .

ص: 289


1- سفر التّثنیة ، الباب 33 ، الفقرة 1 ، 2 .
2- الهدی إلی دین المصطفی 2 : 103 - 105 .
3- سفر الظّهور ، الباب 21 ، الفقرة 18 .
4- مجمع البیان 1 : 158 ؛ بحارالأنوار 15 : 176 .

ویعدّ القرآن الکریم أقرب مصدر معتمَد یبیّن وضعهم الدّینیّ والفکریّ . فقد جاء فیه : أنّ الیهود أناس ترکوا شرائعهم لأجل مصالحهم الخاصّة ، وأنّهم یعملون ببعضها ولا یهتمّون ببعضها الآخر(1) . وفیه : إنّهم یسارعون فی الإثم والعدوان وأکلهم السّحت .. لولا ینهاهم الرّبّانیّون والأحبار عن قولهم الإثم وأکلهم السّحت(2) . وفیه : إنّهم وأحبارهم یرتشون ویأکلون السّحت(3) . وفیه : إنّ کثیرا من الأحبار والرهبان لیأکلون أموال النّاس بالباطل ویصدّون عن سبیل اللّه (4) . وفیه : مثل الّذین حُمّلوا التّوراةَ ثمّ لم یحملوها کمثل الحمار یحمل أسفارا(5) . وفیه : إنّهم أشرکوا فی عقائدهم(6) . وقالوا عزیر ابن اللّه (7). واتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه (8) . وفی تعاملهم مع الکلم الحقّ کانوا یحرّفونه من بعد مواضعه(9) . وکانوا یفترون علی اللّه (10) . ومن أفعالهم کتمان الحقّ(11) . وقولهم علی مریم بهتانا عظیما(12) . وأخذهم الربا وقد نُهوا عنه(13) . وکان الغدر أهمّ صفة من صفاتهم(14) . وعندما أُتی بمروان أسیرا إلی أمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام لیبایعه فإنّه علیه السلام وصفه بالغدر مشبّها إیّاه بالیهود(15) . ویعود هذا التشبیه إلی أنّ أهمّ شیء کان یتّصف به الیهود وما زالوا هو الغدر ونکث العهود . وجاء فی التاریخ أنّهم عاهدوا النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم غیر مرّة ونقضوا عهودهم . ویتحدّث النّاس الیوم فی العالم عن غدر الصّهاینة ونقضهم العهود فی فلسطین المحتلّة .

ص: 290


1- البقرة : 85 .
2- المائدة : 62 ، 63 .
3- المائدة : 42 .
4- التّوبة : 34 .
5- الجمعة : 5 .
6- آل عمران : 64 ، 67 .
7- التّوبة : 30 .
8- التّوبة : 31 .
9- المائدة : 41 .
10- البقرة : 79 ؛ آل عمران : 78 .
11- البقرة : 146 .
12- النّساء : 156 .
13- النّساء : 161 .
14- البقرة : 83 ؛ الأنفال : 55 ، 58 .
15- نهج البلاغة ، الخطبة 73 .

النّصرانیّة فی شبه الجزیرة العربیّة

یقدّم لنا التّاریخ معلومات محدودة عن أوضاع النّصاری فی شبه الجزیرة العربیّة . وإذا أردنا أن نستعرض هذا الموضوع من منظار قرآنیّ علمنا أنّ للقرآن الکریم موقفا عَقَدیّا من النّصاری کموقفه من المشرکین والیهود . بید أنّ من الواضح هو أنّ موقفه السّیاسیّ والعسکریّ منهم هو لیس کموقفه من المذکورین . وهذا معلَم علی قلّة عددهم قیاسا بالیهود ، أو کانوا - کحدّ أدنی - قلیلین جدّا فی مکّة والمدینة قیاسا بالمناطق الأُخری . وکانت نجران وحدها مرکزا لتجمّعهم . علما أنّ هذا لا یعنی خلوّ المدینتین المهمّتین هاتین منهم . فإنّ بعض الأخبار التّاریخیّة تفید أنّ نصاری الیمن کانوا یجدّون فی توسیع نطاق المسیحیّة ، کما کانت لبعض الرّوم بیوت تجاریّة بمکّة وکانوا یستغلّونها أحیانا للتجسّس علی العرب(1) .(2) وذکر ابن حزم أنّ أفرادا من قریش تنصّروا ! وأورد أسماء بعضهم . وجاء فی أخبار تاریخیّة أنّ الروم حاولوا مرّات أن یستولوا علی هذه المناطق عن طریق الیمن أو عبر استغلال الغساسنة . ونُقل أنّ عثمان ابن حویرث أحد العرب الّذین تنصّروا توجّه تلقاء آل جفنة الّذین کانوا یحکمون فی الشّام من قبل الرّوم واقترح علیهم استعداده لإدخال قریش فی الدّین النّصرانیّ بشرط أن یجعلوه حاکما علیهم . بید أنّهم رفضوا اقتراحه ، فترکهم میمّما قیصر الروم ، وعندما وصل إلیه عرض علیه الاقتراح نفسه . فوافق علیه وعیّنه حاکما لکنّه مات قبل بلوغ مقصده(3) .

ولمّا کانت حکومة الغساسنة الّتی أسّسها الروم فی الشّام عمیلةً لهم فقد عملت

ص: 291


1- فجر الإسلام : 13 .
2- کما جاء فی بعض الأخبار التّاریخیّة أنّ صورة عیسی ومریم کانت فی الکعبة ؛ أخبار مکّة 1 : 112 .
3- المنمّق : 178 ، 180 ، 181 .

علی توسیع نطاق المسیحیّة . ولعلّ هذا یعود إلی أنّ عددا من العرب کان قد ترهبن من قبل(1) . وهو من نتائج الأواصر التّجاریّة الّتی کانت تقام بین هذه المناطق . وکان تنصُّر العرب فی بادیة الشّام مهمّا من منظار الرّوم ، إذ یمکنهم أن یکونوا المدافعین الطّبیعیّین عنهم أمام سائر القبائل والفرس أیضا مضافا إلی سهولة السّیطرة علیهم وکَونهم تحت تصرّفهم . فی مقابل ذلک نجد أنّ الفرس - علی مجوسیّتهم - کانوا یدعمون المذهب النّسطوریّ الّذی کان معارضا للمسیحیّة الرّسمیّة فی الدّولة البیزنطینیّة ، لیوجدوا قوّة مقاومة أمام الرّوم(2) . ویحتمل شوقی ضیف أنّ انتشار النّصرانیّة فی الیمن کان قد بدأ منذ غُرّة القرن الرّابع المیلادیّ . ومن أهمّ أسباب ذلک هو الدّوافع الدّینیّة الّتی کان القیاصرة وراءها . ویضاف إلیه أنّهم کانوا یطمحون إلی الاستیلاء علی هذه المناطق عبر هذا الطّریق(3) .

ویذکر الیعقوبیّ أنّ من کبار العرب الّذین تنصّروا من قریش من بنی أسد بن عبد العزّی : عثمان بن حویرث ، وورقة بن نوفل ، ومن بنی تمیم أبناء امرئ القیس بن زید ، ومن ربیعة أبناء تغلب ، ومن الیمن قبائل طی ، ومذحج ، وبهراء ، وسلیح ، وتنوخ ، وغسّان ، ولخم(4) . وعدّ ابنُ قتیبة أرباب بن رئاب ، وورقة بن نوفل ، وزید ابن عمرو بن نفیل ، وأبا قبیس صرمة بن أبی أنس فی نظم النّصاری(5) . وذکر فی موضع آخر أنّ النّصرانیّة کانت منتشرةً بین ربیعة ، وغسّان ، وبعض طوائف قضاعة(6) . وأورد الآلوسیّ أیضا أنّ النّصرانیّة کانت عند ربیعة ، وغسّان ، وأفراد من قبیلة قضاعة أکثر من غیرهم . وأضاف أنّ هؤلاء کانوا متأثّرین بالرّوم ، ذلک أنّ

ص: 292


1- فجر الإسلام : 27 ؛ المختصر فی أخبار البشر 1 : 97 .
2- المفصّل 2 : 629 .
3- العصر الجاهلیّ : 99 .
4- تاریخ الیعقوبیّ 1 : 257 .
5- المعارف : 27 ، 28 .
6- نفسه : 266 .

العرب کانت تربطهم علاقات تجاریّة متواصلة بالرّوم وکانوا یختلفون إلی مناطقهم وکان بنو تغلب من العرب المتنصّرین أیضا(1) .

وأثنی القرآن الکریم علی النّصاری لقبولهم الحقّ ، وعدّهم أقرب النّاس مودّةً للمسلمین فی مقابل الیهود الّذین کانوا أشدّ النّاس عداوةً لهم(2) . بید أنّه - من جهة أخری - خطّأهم کما خطّأ الیهود ، وکفّرهم بسبب عقیدتهم بالتثلیث والسیّد المسیح علیه السلام(3) . ونقل لنا التاریخ مواقف للنبیّ صلی الله علیه و آله وسلم منهم ، وأصرحها تمثّل فی المباهلة الّتی تحدّثت عنها کتب التاریخ الإسلامیّ ، کما تمثّلت بالمعاهدات والاتّفاقیّات المعقودة مع نصاری الشّمال ، وبالکتب المُرسَلَة إلی قیصر الرّوم والأسقف الأعظم .

الفصل الثالث : الثقافة والعلم فی العصر الجاهلیّ

الثقافة والمعارف العلمیّة

الثقافة الجاهلیّة کما یستشفّ من عنوان الجاهلیّة تفتقر إلی روح التفکّر وکانت غالبا مجموعة من الآداب والتقالید العربیّة المتعصّبة . والشیء الوحید الّذی لم توله البیئة الجاهلیّة اهتماما هو العلم والثّقافة والاطّلاع . ولم یکن معیار القیم عندهم إلاّ القوّة والسّیف والرّمح ، ولغة التملّق والتزلّف المتمثّلة بالشّعر والخطابة ، والقتال وإراقة الدماء وطلب الثأر والتباهی بالحسب والنسب . وکان سلوکهم وتحرّکاتهم الفردیّة والاجتماعیّة نابعة من جهلهم . وذهب ابن عبّاس(4) إلی أنّ قوله تعالی : « قَدْ خَسِرَ الَّذِینَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَها بِغَیْرِ عِلْمٍ »(5) ، یکفی فی الدلالة علی جهالة العرب . ویُخطئ

ص: 293


1- بلوغ الأرب 2 : 241 .
2- المائدة : 82 .
3- المائدة : 17 ، 72 ، 73 ؛ النساء : 171 ؛ التّوبة : 30 .
4- البدایة والنّهایة 2 : 190 .
5- الأنعام : 140 .

الّذین یحاولون أن یجعلوا العرب أولی ثقافةٍ ، ویزعمون أنّ «الجهل فی الجاهلیّة مقابل الحِلم لا العلم ، إذ کان للعرب حظّ کبیر من العلم !»(1) والأفضل هنا أن نبدأ حدیثنا من القراءة والکتابة .

القراءة والکتابة

الإلمام بالقراءة والکتابة فی المجتمع آیة علی المعارف العلمیّة والثّقافة والتحضّر فیه ، وإذا حُرم المجتمع من ذلک فإنّ حیاته ستکون خلیّةً من الثّقافة والعلم . ولا یتسنّی للأمم الغابرة أو المعاصرة أن تنقل تجاربها إلی الآخرین إلاّ عبر القراءة والکتابة . وإذا ما فقدت الأمّة هذه النّعمة فلا یُرجی تنامیها وتقدّمها حتّی لو تصرّمت القرون المتطاولة . وما یُستفاد من القرآن الکریم والأحادیث وکتب التاریخ القدیمة والحدیثة هو أنّ العرب فی الجاهلیّة کانوا محرومین من نعمة القراءة والکتابة إلاّ قلیلاً منهم . وأشار القرآن الکریم إلی أمّیّة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وقومه(2) ، کما أشار إلی أنّه صلی الله علیه و آله وسلم لم یعرف القراءة والکتابة(3) . یقول الأستاذ مطهّریّ : إنّ أحد معانی الأُمّیّ هو الّذی لم یدرس ولم یعرف الخطّ . ویضیف أنّ الأکثریّة تؤیّد هذا المعنی أو ترجّحه فی الأقلّ(4) . ویقول الإمام أمیرالمؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام : «إِنَّ اللّه َ بَعَثَ محمّدا صلی الله علیه و آله وسلم ولیس أحدٌ من العرب یَقْرَأُ کِتابا»(5) . علما أنّ الإمام علیه السلام إذا قصد کتابا سماویّا ، فلا یدلّ علی ما نحن فیه .

ص: 294


1- تاریخ صدر الإسلام والدولة الأمویّة : 40 . والصحیح هو أنّ الجاهلیّة مقابل الدین لا مقابل الحلم أو العلم ! وهذا ما صرّح به القرآن الکریم نفسه فی عدد من آیاته . منها : «أفحکم الجاهلیّة یبغون ومن أحسن من اللّه حکما لقوم یوقنون» المائدة : 50 . المترجم
2- الأعراف : 157 ، 158 ؛ الجمعة : 2 ؛ آل عمران : 20 ، 75 .
3- العنکبوت : 48 .
4- النّبیّ الأُمّیّ : 49 .
5- شرح نهج البلاغة ، ابن أبی الحدید 2 : 189 ؛ 7 : 114 ؛ نهج السّعادة 1 : 250 .

وقال البلاذریّ : کان مجاشع أمّیّا وشمیلة تکتب . فذکر الأُمّیّ فی مقابل من یکتب(1) . وذهب الجاحظ إلی أنّهم کانوا أمّیّین ولم یقدروا علی الکتابة(2) . وعلّق أحمد أمین علی قول الجاحظ بأنّ خلاصة رأیه فی تأیید کلام الشّعوبیّة هو أنّ العرب لم یکن لهم علم ولا فلسفة ولا کتب ورثوها من القدیم(3) . وذکر الواقدیّ ، وهو أحد الأوائل الّذین ألّفوا فی مغازی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، أنّ سبعة عشر من قریش کانوا قادرین علی الکتابة إبّان ظهور الإسلام(4) . ونظرا إلی تداول العرب فی الجاهلیّة اصطلاحَ أهل الکتاب فمن المحتمل أنّ الأُمّیّ قد استُعمل مقابلاً له . ویخطر هذا الاحتمال فی البال أیضا بعد ملاحظة الآیة (75) من سورة آل عمران بید أنّه احتمال من الاحتمالات علی أیّ حال . ومن یری أنّ الأُمّیّة تعنی «الصفاء الفطریّ» ، والأرضیّة لإدراک مفاهیم لا یدرکها الآخرون(5) فرأیه هذا لا ینسجم مع إطلاق «الأمّیّین» علی العرب جمیعهم . ذلک أنّ هؤلاء الأمّیّین ینبغی أن یتّصفوا بهذا الصّفاء حینئذٍ . وذکر البلاذریّ فی موضع آخرمن کتابه أنّ الکتابة کانت نادرة بین الأوس والخزرج ، وکان بعض الیهود لا غیرهم یعرفون الکتابة العربیّة . وکانت ثلّة من القبیلتین المذکورتین قادرة علی الکتابة(6) . وأشار غیره إلی هذا الموضوع أیضا(7) . وأورد الواقدیّ أنّ حنظلة بن أبی الربیع کتب لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، فسُمّی حنظلة الکاتب(8) . مبدئیّا لمّا کان عدد الکتّاب فی غایة النّدرة فقد کُتبت أسماؤهم وضُبطت(9) . وتحدّث ابن قتیبة عن تاریخ ظهور

ص: 295


1- أنساب الأشراف 1 : 137 .
2- البیان والتّبیین 3 : 15 ، نقلاً منّا عن کتاب فجر الإسلام : 31 .
3- فجر الإسلام : 29 .
4- فتوح البلدان : 457 ؛ العقد الفرید 4 : 157 .
5- روش شناخت اسلام [ منهج معرفة الإسلام ] : 101 .
6- فتوح البلدان : 459 .
7- تاریخ القرآن : 5 ، نقلاً عن کتاب بحوث فی تاریخ القرآن وعلومه : 14 .
8- فجر الإسلام : 142 .
9- النّبیّ الأمّیّ : 18 .

الکتابة عند العرب ، فذکر أنّ قریشا سئلت ممّن أخذت الکتابة ، فقالت : من أهل الحیرة ، وأهل الحیرة من مدینة الأنبار . وقیل إنّ بشر بن عبد اللّه العبادیّ علّم أبا سفیان بن أمیّة (عمّ أبی سفیان المعروف) الکتابة لأوّل مرّة(1) . وهذا معلَم علی أنّ الکتابة ظهرت عند قریش قبیل بزوغ فجر الإسلام بلیل . وأشار أحمد أمین أحد کتّاب العرب المعاصرین إلی هذه الحقیقة المتمثّلة بندرة الکتابة عند عرب الجاهلیّة(2) ، وشیوع الجهل بینهم ، واتّساع نطاق الأمّیّة فی أوساطهم بخاصّة فی البادیة(3) ، وذهب إلی أنّ أحد الأسباب الّتی دعت إلی تخلّف العرب هو جهلهم بالقراءة والکتابة(4) . وفصّل جواد علی الکلام فی شرح معنی کلمة (الأمّیّ) فذکر أنّها عدم القدرة علی الکتابة والقراءة(5) . وقال الآلوسیّ : إنّ من أسباب تمتّع العرب بالذاکرة هو أنّ معظمهم کان أمّیّا لا یعرف القراءة والکتابة ، بل یمکن القول أنّ جمیعهم کانوا کذلک فی البادیة(6) . ولا یری السّباعیّ صحّة ما نُقل حول وجود صحف مکتوبة فی العصر الجاهلیّ وتداول النّاس لها آنذاک ، ذلک أنّ الأمّیّة کانت شائعة عندهم ، والکتابة منحصرة بأفراد قلائل یُعدّون بالأصابع ، کما صرّح بذلک بعض المؤرّخین(7) . ویعتقد جواد علیّ أن لا خلاف بین العلماء فی عدم العثور علی کتاب جاهلیّ باللهجة الّتی نزل بها القرآن الکریم أو بلهجة الأشعار المأثورة عن الجاهلیّة ، لا منذ عهد سحیق ولا قریب ، مع أنّ بعض الکتابات الجاهلیّة بغیر اللهجة المذکورة

ص: 296


1- المعارف : 240 ؛ بلوغ الأرب 3 : 368 .
2- فجر الإسلام : 29 .
3- نفسه : 140 .
4- نفسه : 29 .
5- تاریخ العرب قبل الإسلام : 169 - 174 .
6- بلوغ الأرب 1 : 41 .
7- تاریخ مکّة ، أحمد السّباعیّ ، ص24 . للاستزادة حول أمّیّة العرب ، انظر : مقدّمة ابن خلدون ، الفصل 30 ، ص419 ؛ ودائرة المعارف الإسلامیّة ، ج3 ، ذیل «خط» .

قد عثر علیها وهی تعود إلی الفترة الّتی سبقت ظهور الإسلام بقلیل(1) . وعلی الرغم من أنّ لهجة قریش هی لهجة القرآن والأشعار الباقیة ، بید أنّا لا نجد کتابا وصل إلینا منهم . فی حین أنّ المؤرّخین نصّوا علی أنّ هذه اللهجة کانت موجودة منذ عهد إسماعیل علیه السلام البعید غایة البعد عن الجاهلیّة القریبة من الإسلام(2) .

ونقل ابن قتیبة خبرا یفید أنّ العرب کانت تری الکتابة عیبا(3) . وأُثر أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بعث کتابا إلی قبیلة بکر بن وائل ، ولم یستطع أحد منها قراءته علی کثرتها(4) .

إنّ هذه النصوص التّاریخیّة جمیعها لا تدع مجالاً للشّکّ فی أنّ العرب کانوا غیر قادرین علی القراءة والکتابة إبّان العصر الجاهلیّ . وهنا ندرک قیمة القسم المذکور فی القرآن الکریم بالقلم . ومن الشیء العجاب هنا أنّ العرب حین کانوا یعیشون الجهل والأمّیّة ، کان الرّوم والفرس یستمتعون بنعمة القراءة والکتابة علی مستوی رفیع . وکان العلم فی الیونان متطوّرا وصُنِّفت مئات الکتب هناک قبل قرابة ألف سنة من ذلک التاریخ . ومع أنّ العرب کانوا یتردّدون علی الرّوم والفرس بحکم علاقاتهم التّجاریّة بهم ، بید أنّهم ظلّوا متخلّفین(5) .

وحاول بعض الکتّاب الجدد أن یغضّ الطّرف عن هذه النّصوص التّاریخیّة والآیات القرآنیّة لیثبت وجود الکتابة وشیوعها عند القوم یومئذٍ . وذهب هؤلاء إلی أنّ ذکر

ص: 297


1- المفصّل 8 : 248 ؛ تاریخ العرب قبل الإسلام : 15 ؛ وانظر أیضا : معارج نهج البلاغة : 250 .
2- طبقات الشّعراء : 4 .
3- الشّعر والشّعراء : 334 .
4- الصّحیح من سیرة النّبیّ الأعظم 1 : 49 .
5- ذکر محمّد بن سعد فی الجزء الثالث من طبقاته عددا من الکتّاب وبعد أن قال إنّهم کانوا یعرفون الکتابة ذهب إلی أنّ الکتابة کانت قلیلة عند العرب فی الجاهلیّة . انظر : ص450 ، 465 ، 498 ، 522 ، 526 ، 531 ، 536 ، 604 ، 613 .

وسائل القراءة والکتابة فی القرآن الکریم یدلّ علی أنّ القوم کانوا یعرفونها ، ویستعملونها ، وکانت القراءة والکتابة منتشرة بینهم علی نطاقٍ واسع(1) . ویقول أحد الکتّاب فی ذیل الآیة الّتی تأمر بکتابة الدَّین : هذا دلیل علی أنّ الأمر کان ممکنا فأمر به اللّه (2) . ویقول الآلوسیّ : من الأدلّة الدالّة علی وجود الکتابة عند العرب الألفاظ الکثیرة الجاریة علی ألسنتهم ، المرتبطة بالقراءة والکتابة(3) .

وذکر جواد علی أنّ فی لغة الجاهلیّة کلمات تشتمل علی القراءة والکتابة کالقلم ، والقرطاس ، والدّواة ، والمداد ، واللوح ، والصّحف ، والکتاب ، والمجلّة ، وغیرها ممّا لا تُبقی شکّا أنّ الجاهلیّین کانوا یستعملونها ؛ ذلک أنّ هذه الکلمات وردت فی القرآن الکریم ، وهذا دلیل علی استعمال عرب الجاهلیّة لها(4) . ومن الضّروریّ التّذکیر هنا بالنّقاط الآتیة :

أوّلاً : صرّح شخصان آخران فی موضوعات تقدّم ذکرها أنّ الأمّیّة کانت شائعة بینهم ، ولم یصل إلینا أیّ کتاب جاهلیّ لحدّ الآن . ولعلّ قصد أولئک هو أنّ أصل مسألة الکتابة کان قائما هناک . ونحن لا ننکر هذا الأمر ، بل ننکر شیوعه ، ولا نقرّ باستخدام الکتابة فی الشّؤون الثّقافیّة وانتقال العلم . وعلی الّذین یرون أنّ ورود الکلمات فی القرآن الکریم دلیل علی شیوع الکتابة فی الجاهلیّة أن یعلموا بأنّ ورود کلمة «الأُمّیّ» أیضا دلیل تامّ علی أنّ العرب کانوا أُمّیّین لا یعرفون القراءة والکتابة(5) .

ثانیا : إنّ وجود هذه الکلمات فی اللغة لا یدلّ علی شیوع القراءة والکتابة . فقد کانت القراءة والکتابة قبل ذلک التّاریخ بقرون ، وکان الیهود والنّصاری بین العرب

ص: 298


1- عصر النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم : 444 .
2- نفسه : 445 .
3- بلوغ الأرب 3 : 370 .
4- المفصّل 8 : 252 .
5- العقد الفرید 4 : 160 ؛ بحوث فی تاریخ القرآن وعلومه 139 ، 140 .

وبأیدیهم التّوراة والإنجیل ، ولا بدّ للعرب أن یختاروا اسما للأدوات الّتی یستخدمها الآخرون فی القراءة والکتابة . والأمر بکتابة الدّیون لا یدلّ علی شیوع الکتابة ، فلعلّ عشرة أشخاص فی المدینة یکفون لکتابة الدّیون جمیعها ، کما ذکر المؤرّخون أنّ سبعة عشر شخصا کانوا یعرفون الکتابة . ویضاف إلی ذلک أنّ القرآن الکریم ، بأمره بکتابة الدّیون ، أراد أن یعزّز وجود القراءة والکتابة عند العرب ، وبتثمینه القلم عبر القسم به أراد أن یوسّع نطاقهما بینهم .

ثالثا : أیّ کتابةٍ للتاریخ هذه ؟ إنّها اجتهاد فی مقابل النّصّ ! وقد أقرّ بذلک مؤرّخون قدامی مثل البلاذریّ ، وابن قتیبة ، والواقدیّ ، وابن عبد ربّه الأندلسیّ ، ومؤرّخون معاصرون کالآلوسیّ(1) ، ومحمّد کرد علی(2) .

رابعا : یتعیّن الالتفات إلی أنّنا لا یمکن أن نعدّ کلّ کلمة استعملها القرآن الکریم هی نفسها الّتی کانت تستعمل معانیها فی الجاهلیّة . وذکر أحمد أمین أنّ فی القرآن الکریم ألفاظا تغیّر معناها فی الإسلام ، وإذا کان لها فی الجاهلیّة معنی عامّ فقد صار لها فی الإسلام معنی خاصّ ، ومن هذه الکلمات : الصّلاة ، والزّکاة ، والحجّ ، والبیع ، والمزارعة . وأضاف أنّ الألفاظ ومعانیها لا تستبین لغة العرب فی الجاهلیّة بنحوٍ وافٍ ، إذ إنّ القرآن الکریم استعمل ألفاظا کان العرب لا یستعملونها فی الجاهلیّة . ونسب ألفاظا إلی معانی کانت لا تُستخدم فی الجاهلیّة بنحو تامّ ؛ کما أجری استعارات ومجازات خارج الإطار الّذی کان العرب فی الجاهلیّة یُجرونها . وللقرآن أُسلوبه الخاصّ البعید عن أُسلوب العرب فی العصر الجاهلیّ . ثمّ نقل أحمد أمین عن السّیوطیّ فی المزهر أنّه قال : ذکر ابن خالویه أنّ الجاهلیّة اسمٌ ظهر فی الإسلام وأُطلق علی عصر ما قبل البعثة ؛ وکلمة المنافق مفهوم إسلامیّ لم یُستعمل فی الجاهلیّة . وقال ابن

ص: 299


1- بلوغ الأرب 3 : 37 .
2- الإسلام والحضارة الدّینیّة : 124 .

الأعرابیّ : لم تُسمَع کلمة (الفاسق) قطّ لا فی کلام الجاهلیّة ولا فی شعرها . ویستنتج أحمد أمین بعد نقل هذه الکلمات أنّه لا یستطیع أن یعدّ کلمات القرآن دلیلاً علی المعارف العقلیّة فی العصر الجاهلیّ(1) . ونجد مثل هذا البحث فی معنی «الکتاب» أو «القلم» وبعض المفاهیم الأُخری إلی حدٍّ ما .

الشّعر والخطابة

یقال : إنّ الشّعر والخطابة من معالم الثّقافة والّتمدّن . وکانا متداوَلین فی الجاهلیّة تداولاً کبیرا . ونحن لا ننکر أهمّیّتهما بل نؤکّد أنّ ما یمکن أن یدلّ علی التکامل العقلیّ للمجتمع فی الشّعر والخطابة هو محتواهما . وکان إنشاد الشعر فی غایة الازدهار عند عرب الجاهلیّة ، وسوقه ساخنةٌ ساخنةٌ . فقد کانوا ینشدون الشّعر فی مجالس اللهو والسّمر ، وفی میادین القتال والجدال ، وفی رثاء الموتی ، والتحریض علی أخذ الثّأر أو الفخر والمباهاة وإبداء الفضل والاستعلاء . وکان سوق عکاظ أحد المواضع المعروفة الّتی کان الشّعراء ینشدون فیها أشعارهم(2) . وذکر ابن سلام أنّ الشّعر فی الجاهلیّة کان دیوان علم العرب(3) ومنتهی حکمتهم ، ومنه یبدأون وبه یختمون(4) . وقال الیعقوبیّ : وکانت العرب تقیم الشّعر مقام الحکمة وکثیر العلم . فإذا کان فی القبیلة الشّاعر الماهر ... أحضروه فی أسواقهم الّتی کانت تقوم لهم فی السّنة ومواسمهم عند حجّهم البیت ، حتّی تقف وتجتمع القبائل والعشائر فتسمع شعره ، ویجعلون ذلک فخرا من فخرهم ، وشرفا من شرفهم(5) . ویستشفّ من هذه المعلومات التّاریخیّة أنّ للشّعر

ص: 300


1- فجر الإسلام : 54 .
2- بلوغ الأرب 1 : 267 .
3- المحاسن والمساوئ 1 : 10 و11 .
4- طبقات الشّعراء : 10 .
5- تاریخ الیعقوبیّ 1 : 262 .

عند العرب منزلة رفیعة ، ومن مفاخر کلّ قبیلة نبوغ عدد من الشّعراء فیها . وقال عمر : کان الشّعر علم قوم لیس لهم أفضل وأصحّ منه ، ولمّا جاء الإسلام وانشغل العرب بالجهاد أمسکوا عن قول الشّعر وروایته ، بید أنّهم رووه مرّتین بعد الفتوحات(1) .

قال السّیوطیّ : بفضل الشّعر حفظ العرب أنسابهم ، وذکروا مآثرهم ، وتعلّموا العربیّة(2) . وتحدّث الدکتور جواد علی بالتّفصیل عن تأثیر الشّعر فی ضبط الأخبار الجاهلیّة(3) . ومهما کان ، یتعیّن أن نقول : إنّ ماضی الشّعر الموجود یمتدّ إلی مائة وخمسین سنة قبل البعثة کما یبدو(4) ، ولا وجود لشاعر معروف وشعر مأثور قبل تلک الفترة . واتّخذ إنشاد الشّعر أبعاده الواسعة فی عصر عبد مناف ونجله هاشم فحسب ، وکان بعض الأشعار یُنشَد قبل ذلک فی سرد بعض الحوادث(5) . وبلغ الشّعر مبلغا فی العصر المذکور أنّ العرب کانوا به یتخاصمون ، وبه یتفاضلون ... ویتمادحون ویتعایبون علی حدّ قول الیعقوبیّ(6) . ولم تدوّن الأشعار الّتی أُنشدت فی الجاهلیّة یومئذٍ ، وبدأ تدوینها جمیعا فی أواخر القرن الأوّل الهجریّ فصاعدا . وقد جُمعت فی کتبٍ منها : المعلّقات السّبع ، والمفضّلیّات الّتی تضمّ 128 قصیدة ، ودیوان الحماسة لأبی تمّام ، ودیوان الحماسة للبحتریّ . کما نلحظ شعرا جاهلیّا فی کتاب الأغانی ؛ وکتاب الشّعر والشّعراء ؛ ومختارات ابن الشّجریّ ؛ وجمهرة أشعار العرب لأبی زید القرشیّ(7) . ولعلّ المعلّقات السّبع (علی ما قالوا) هی القصائد السّبع الّتی عُلِّقت علی الکعبة . لذا فهذه المجموعة کانت مدوّنة منذ العصر الجاهلیّ(8) ، بید أنّ مِنَ القدماء مَنْ

ص: 301


1- طبقات الشّعراء : 10 ؛ المزهر 2 : 473 .
2- المزهر 2 : 470 .
3- المفصّل 1 : 70 - 73 .
4- فجر الإسلام : 58 .
5- طبقات الشّعراء : 11 ؛ المزهر 2 : 474 .
6- تاریخ الیعقوبیّ 1 : 262 .
7- فجر الإسلام : 58 .
8- المزهر 2 : 480 .

نفی ذلک کابن النحّاس(1)، ومن المعاصرین من ذهب إلی أنّ ذلک أسطورةٌ لاغیرها(2).

النّقطة الجدیرة بالملاحظة هنا هی أنّ عددا من العلماء والأُدباء امتروا فی کثیر من الشّعر الجاهلیّ ، واعتقدوا إلی أنّه لیس لشعراء الجاهلیّة بل لشعراء آخرین کانوا جمیعهم یعیشون فی العصرالإسلامیّ ولذا یرتابون فی صحّة الشّعر المنسوب إلی شعراء الجاهلیّة . ویبدو أنّ أوّل من جمع الشّعر الجاهلیّ رجل یعرف بحمّاد بن أبی لیلی المشهور بحمّاد الرّاویة ؛ ویقذفه عدد کبیر من المؤرّخین بالوضع والکذب(3) . فقد قال فیه ابن سلام : هو أوّل من جمع الشّعر الجاهلیّ لکن لا یُوثَق به ، لأنّه نسب شعر بعضهم إلی بعض آخر ولعلّه زاد فی شعرهم(4) . واتّهمه أبو الفرج أیضا بالزّندقة(5) . لکنّه فی الوقت نفسه یراه من أعلم النّاس بأیّام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغتها(6) ، وفی الآن ذاته ینقل عن الآخرین أنّه أفسد شعر العرب(7) .

یقول طه حسین :

«... إنّ الکثرة المطلقة ممّا نسمّیه أدبا جاهلیّا لیست من الجاهلیّة فی شیء وإنّما هی منحولة بعد ظهور الإسلام . فهی إسلامیّة تمثّل حیاة المسلمین ومیولهم وأهوائهم أکثر ممّا تمثّل حیاة الجاهلیّة . ولا أکاد أشکّ فی أنّ ما بقی من الأدب الجاهلیّ الصحیح قلیلٌ جدّا لا یمثّل شیئا ولا یدلّ علی شیء ، ولا ینبغی الاعتماد علیه فی استخراج الثورة الأدبیّة الصحیحة لهذا العصر الجاهلیّ»(8) .

من الطّبیعیّ أنّ کثیرا من الأُدباء یرفضون الرأی المذکور بشکله العام هذا ، وهو

ص: 302


1- معجم الأدباء 1 : 266 نقلاً عن العصر الجاهلیّ : 141 .
2- العصر الجاهلیّ : 139 ، 140 .
3- لسان المیزان 2 : 352 .
4- طبقات الشّعراء : 14 ، 15 ؛ المزهر 1 : 175 .
5- الأغانی 6 : 74 .
6- نفسه 6 : 70 .
7- نفسه : 89 - 92 .
8- فی الأدب الجاهلیّ : 65 .

الحقّ . یقول شوقی ضیف ما مضمونه : الحقیقة أنّ فی الشّعر الجاهلیّ کذبا کثیرا لکن علینا أن نُذعن بأنّ قدماءنا لم یغفلوا عن هذا الأمر ، وکانوا أنفسهم یدقّقون الأشعار بالنّقد الداخلیّ (محتوی الشّعر) ، والخارجیّ (دراسة الرواة) ، لذا من المناسب ألاّ یفرط بعض الأشخاص کبرجلیوث وطه حسین فی الشّکّ فیها ، وإلاّ یُفضی إنکارها إلی رفض الشّعر الجاهلیّ کلّه(1) . فی حین أنّ الشّعر هو الأساس فی علم العرب(2) . وعندما نلحظ الطعن فی الشّعر الجاهلیّ یبلغ هذه الدرجة ، ولا یمکن التمییز بین صحیحه وسقیمه ، فلا یتسنّی لنا أن نعرف الجاهلیّة حقّ معرفتها فی الوهلة الأُولی عبر هذا الشّعر . ونحن واثقون أنّ بعض الشّعر المذکور من إفرازات العصر الجاهلیّ وإن نال التحریف قسما منه تأثّرا بالبواعث القومیّة والعنصریّة المختلفة . ونضیف إلی ما سبق أنّنا إذا أخذنا الجوانب المتنوّعة بعین الاعتبار فالأشعار الموجودة إن دلّ بعضها علی الحکمة والعلم والفکر فقد دلّ بعضها الآخر علی الحقارة والضعة والبعد عن القیم الإنسانیّة الواقعیّة . ویتعیّن أن نتلمّس الدّوافع علی إنشادها والفترات الّتی کان یستفاد منها فیها . بعامّة ، کان الشّعر أحد الضّرورات فی حیاة العرب ، کما کان أداةً للتفاخر والاستعلاء النّسبیّ . وذکر الآلوسیّ أنّ العرب فی الجاهلیّة لمّا کانوا یتفاخرون بحسبهم ونسبهم ویرومون المحافظة علی شرفهم ومجدهم وسیادتهم ، فإنّهم عند نشوب الحوادث بینهم کالحرب والنهب کانوا یحتاجون إلی کلمات تنبّههم علی الثّأر وتبعد قبائلهم عن العار ، لذا مضافا إلی استعانتهم بالشّعر فی هذا المجال ، کانوا یستعینون بالخطب والوصایا أیضا(3) . ومرّ فی کلام الیعقوبیّ أیضا أنّ الهدف من

ص: 303


1- العصر الجاهلیّ : 175 . إنّ إنکار الشّعر الجاهلیّ برمّته یمکن أن یولّد مشاکل لمسألة إعجاز القرآن الکریم إذ یُقدَح فی أدب العصر الجاهلیّ . وحول هذا الموضوع نشب خلاف کبیر بین طه حسین وعلماء الأزهر . انظر : مجلّة الدراسات التّاریخیّة الفصلیّة ، السّنة الأولی ، العدد 2 ، ص197 - 200 .
2- بلوغ الأرب 3 : 82 .
3- بلوغ الأرب 3 : 151 .

الشّعر هو التّخاصم وال-تّمادح والتهاجی . وفی ذلک العصر الّذی کان الشّعراء فیه یهدون قصائدهم ملوکَ فارس والشّام وغیرهما من المناطق ، فلا یُرجی من الشّعر إلاّ المدح والذّمّ . وکان هذا أُسلوب الشّعراء إذ یقصدون الملوک ورؤساء القبائل فی وفود مختلفة من أجل مدحهم والثّناء علیهم(1) ، ومن هؤلاء الشّعراء : النّابغة الذّبیانیّ ، وزهیر بن أبی سُلمی ، والأعشی الأکبر وغیرهم من الشّعراء الذین اتّخذوا الشّعر وسیلةً للتکسّب(2) .

یضاف إلی ذلک - وذکرناه سابقا - أنّ الشیء المهمّ الّذی یمکن أن یجعل الشّعر مَعْلَما علی تألّق الثّقافة هو محتواه الرّفیع وعواطفه الإنسانیّة النّبیلة . وإلاّ فإنّ وصف الخضرة ، وطلوع الشّمس وغروبها ، ووصف الحبیب ، والحرب ، وأمثالها کلّ ذلک لا یدلّ علی تقدّم ثقافیّ وحضاریّ . ولم یکن للشّاعر الجاهلیّ موضوع یتناوله فی شعره إلاّ البعیر فی الصحراء ، والسّفر فی المفاوز السّحیقة ، ووصف معشوقته ، والدفاع عن مجد قبیلته وشرفها الخیالیّ ، وهجاء أعدائها . إذ إنّ الحیاة المادیّة الصرفة لاسیّما الحیاة فی البادیة والصّحراء والأراضی القاحلة لا تتطلّب موضوعا آخر غیر ما ذکرنا . وننقل فیما یأتی نموذجا من إحدی المعلّقات السّبع للشّاعر طرفة بن العبد فی وصف جَمَلِه :

کقنطرة الرّومیّ أقسَمَ ربُّها * لَتُکْتَنَفَنْ حتّی تُشادَ بِقَرمَدِ

صُهابیَّة العُثنونِ مُؤجَدَة القَرَا * بعیدةُ وَخْدِ الرجلِ موّارةُ الیَدِ

أُمِّرَت یَدَاها فَتْلَ شزرٍ وأُجنحتْ * لها عَضُداها فی سقیفٍ مُسَنَّدِ

جَنوحٌ، دَقاقٌ، عندلٌ، ثمّ أُفرعت * لها کَتِفَاها فی مُعَالَی مُصَعَّدِ

ص: 304


1- صحیح الأخبار عمّا فی بلاد العرب من الآثار ، النّجدیّ 1 : 9 .
2- بلوغ الأرب 3 : 91 .

کَأَنَّ عُلوبَ النِسْعِ فی دأیاتِهَا * مواردُ مِنْ خلقاءَ فی ظَهْرِ قَرْدَدِ

تلاقی ، وأحیانا تبینُ کَأَنَّها *بَنَائِقُ غُرٌّ فی قمیصٍ مُقَدَّدِ(1)

وهکذا سائر الشّعر الجاهلیّ فلیس دأبه إلاّ الشّرّ والخمر والسّیف والجمل ، وغیر ذلک . وکلامنا هنا یحوم حول محتوی الشّعر الجاهلیّ ، أما شکله فالألفاظ أدبیّة رائعة . وإنّ کثرة المفردات فی اللغة العربیّة مع قابلیّة اللغة الخاصّة فی استعمال ضروب التشبیهات والاستعارات یمکن أن تدلاّ علی سعة هذه اللغة . وهذا الموضوع من الوجهة الشّکلیّة یعکس الثقافة العربیّة بمستویً فی غایة الجمال الأدبیّ ، وهو شطرٌ من الحُسن ، وشطره الآخر محتوی الشّعر الّذی لا خلاقَ له من العلم والفلسفة .

النُّقطة الأُخری الّتی یمکن أن نذکرها فی تحلیل الشّعر الجاهلیّ کمعلم علی ثقافة الجاهلیّة هی أنّ إنشاد الشّعر حلیف الخیال والکلام غیر الواقعیّ وهذه هی طبیعة الشّعر (إلاّ ما ندر منه) إذ یضخّم العمل الصّغیر ، أو یقدّم صورةً للعمل إمّا تعجیزیّة لا یتسنّی تطبیقها أو أنّ تطبیقها عسیرعویص. وأشار القرآن الکریم إلی هذا الموضوع فقال فی الشّعراء : « أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِی کُلِّ وَادٍ یَهِیمُونَ »(2) . وقال الزمخشریّ فی تفسیر هذه الآیة :

«فیه تمثیل لذهابهم فی کلّ شعب من القول واعتسافهم وقلّة مبالاتهم بالغلوّ فی المنطق ومجاوزة حدّ القصد فیه ، حتّی یفضّلوا أجبن النّاسِ علی عنترة ، وأشحّهم علی حاتم ، وأن یبهتوا البریء ، ویفسّقوا التّقیّ»(3) .

وذکر الطبرسیّ والعلاّمة الطّباطبائیّ ما یماثل هذا المعنی أیضا . من هنا لا یتیسّر لنا أن نعدّ الشّعر الجاهلیّ - مع فرض قبوله - آیةً علی تقدّم ثقافیّ حضاریّ ، إذ إنّ محتواه

ص: 305


1- المعلّقات السّبع : 32 .
2- الشّعراء : 225 .
3- الکشّاف 3 : 133 .

لا یکون منطقیّا إذا أخذنا وصف القرآن الکریم للشّعراء بعین الاعتبار . ومن الطّبیعیّ أنّ کلّ من کانت له قریحة شعریّة فإنّه ینشد من الشّعر ما یشاء . وفیما یأتی رأی القرآن الجامع فی الشّعراء ، قال تعالی : « وَالشُّعَرَاءُ یَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِی کُلِّ وَادٍ یَهِیمُونَ * وَأَنَّهُمْ یَقُولُونَ مَا لاَ یَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... »(1) نلحظ هنا أنّ القرآن الکریم ذمّ شعراء المشرکین الّذین ینضمّ إلیهم شعراء الجاهلیّة أیضا ، واتّهمهم بقول ما لا یفعلون . لکنّه استثنی المؤمنین منهم کبعد اللّه بن رواحة ، وکعب بن مالک ، وحسّان بن ثابت وسائر شعراء المؤمنین الّذین مدحوا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، وردّوا هجاء مَنْ هجاه(2) . وفی الختام ینبغی أن نشیر إلی أنّ بعض الرّواة ذکر أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم جعل الشّعر فی مستوی علم الأنساب الّذی لا ینفع من علمه ولا یضرّ مَنْ جَهِله(3) .

علم الأنساب

إنّ إحدی الضّرورات الأُخری لحیاة العرب فی الجاهلیّة ، مع ذلک التّفرّق والتّشتّت کلّه ، هی معرفة القبیلة نفسها ، وصیرورتها نسّابةً ، وإدراکها أُرومة القبائل ، وإحاطتها بالتّقسیمات الدّاخلیّة للقبائل واستقلال کلّ عشیرة عن غیرها ، وعلمها بآباء القبائل وأجدادها فردا فردا ، واطّلاعها أحیانا علی أخبارها وبطولاتها . ولم یشعر أحد بشخصیّته خارج قبیلته وقیمها ، من هنا کان یسعی فی حفظ کلّ قیمة مأثورة من ماضی قبیلته ویتباهی بها . وقال الآلوسیّ فی ضرورة علم الأنساب عند العرب فی الجاهلیّة : والعرب فی الجاهلیّة کان لهم مزید اعتناء بضبطه ومعرفته فإنّه أحد أسباب

ص: 306


1- الشّعراء : 224 - 227 .
2- مجمع البیان 7 : 208 .
3- التراتیب الإداریّة 2 : 230 .

الألفة والتّناصر ، وهم کانوا أحوج شیء إلی ذلک حیث کانوا قبائل متفرّقین ، وأحزابا مختلفین ، لم تزل نیران الحروب مستعرة بینهم ، والغارات ثائرة فیهم ، فإنّهم امتنعوا عن سلطان یقهرهم ، ویکفّ الأذی عنهم ، فحفظوا أنسابهم لیکونوا متظافرین به علی خصومهم ، ومتناصرین علی من شاققهم وعاداهم ، لأنّ تعاطف الأرحام ، وحمیّة الأقارب یبعثان علی التّناصر والألفة ویمنعان من التخاذل والفرقة(1) . وهذه الحاجة أفضت إلی تمتّع النّسّابین فی کلّ قبیلة بمنزلة اجتماعیّة جیّدة لأنّهم مراجع النّاس فی الأنساب(2) . علی أیّ حال کان هذا علما ونحن نقرّ بأنّ أحد علوم العرب هو علم الأنساب(3) .

إنّ المهمّ هنا هو تحلیل قیمة هذا العلم . وننقل هنا حدیثا نبویّا فی هذا الباب . فقد ورد أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم دخل المسجد ذات یوم فرأی عددا من الناس مجتمعین حول رجل ، فقال : من هذا ؟ فقالوا : علاّمة . فقال : فی أیّ شیء ؟ فقالوا : هو أعلم النّاس بأنساب العرب ... فقال صلی الله علیه و آله وسلم : هذا علم لا ینفع وجهل لا یضرّ(4) . وهذا ما لا یقرّ به ابن عبد البرّ ، فقد قال : ... لم یُنصف من زعم أنّ علم النّسب علم لا ینفع وجهله لا یضرّ ! ومن الطّبیعیّ أنّ ابن عبد البرّ لا یری الحدیث المذکور صحیحا(5) . ویقدّم النّسّابون المسلمون أدلّتهم علی لزوم معرفة الأنساب من منظار الدّین لما تستدعیه ضرورة عملهم . وذکر ابن حزم عددا من النّقاط فی هذا المجال : أوّلاً : ضرورة معرفة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ونسبه . ثانیا : الخلافة فی أبناء قریش فینبغی معرفتهم لئلاّ یدّعی الخلافة غَیرهم . ثالثا : معرفة الصّحابة ، ومعرفة الأنصار لأمر النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بالإحسان إلیهم ،

ص: 307


1- بلوغ الأرب 3 : 182 .
2- المفصّل 1 : 472 . وذکر أسماء أهمّ النسّابین .
3- المختصر فی أخبار البشر 1 : 99 .
4- لسان المیزان 3 : 104 ؛ التراتیب الإداریّة 2 : 230 .
5- بلوغ الأرب 3 : 187 .

فعلینا أن نعرفهم حتّی یتسنّی لنا أن نُحسن إلیهم . وقال بعد هذه التّوجیهات : فلا یصحّ قول من یعتقد أنّ علم الأنساب لا ینفع وجهله لا یضرّ(1) .

ویتعیّن الالتفات إلی أنّ هؤلاء کانوا یستغلّون هذا الموضوع فی فخرهم والدّفاع عن مجدهم وشرف قبیلتهم . ولمّا کان رؤساء القبیلة وأبطالها ، وطهارة المولد وأمثالها معاییر لتحدید القیم ، فالعلم بها وبما یرتبط بالقبیلة من شؤون کأیّها أفضل رؤساءً وأکثر أبطالاً أو أیّها من أبناء العرب الأُصلاء الأقحاح ، کلّ ذلک یُقام له وزنه عند القبیلة . والدلیل علی هذا الأمر أنّ لها نسّابیها المعروفین ، المشهورین بالحکّام فی أمر النّسب . وعندما کان یتنازع اثنان فی هذا الموضوع فإنّهم یقضون بینهما . ومن هؤلاء :

مخرمة بن نوفل ، وحویطب بن عبد العزّی ، وأبو الجهم بن حذیفة ، وعقیل بن أبی طالب(2) . والدلیل الآخر علیه أنّ مصدر کلمة (المنافرة) هو الفخر بالقیم النّسبیّة . وأصلها من «نَفَر» . ونحن نعلم أنّ أحد ضروب الفخر عند کلّ قبیلة هو کثرة أنفارها قیاسا بالقبائل الأُخری ، من هنا عُرف النّزاع علی هذه المسألة بالمنافرة(3) .

وکان للنّسب قیمته البالغة عند من لم یزل متخلّقا بأخلاق الجاهلیّة من المسلمین . وکان زیاد بن أبیه من أصحاب علیٍّ علیه السلام فی بادئ أمره ، ثمّ انحاز إلی معاویة وصار من ألدّ أعداء آل علیّ علیه السلام بعد أن استلحقه معاویة وشهد علی ذلک جماعة حسب تقالید الجاهلیّة(4) . وقال کسری للنعمان بن المنذر : هل فی العرب قبیلة تشرف علی قبیلة ؟ قال : نعم . قال : فبأیّ شیء ؟ قال : من کانت له ثلاثة آباء متوالیة رؤساء(5) . وأشار القرآن الکریم إلی هذا الموضوع فی سورة التکاثر ، عندما تفاخر حیّان من قریش وتکاثرا بالسّیادة والإشراف بالإسلام ، فقال کلّ حیّ منهم : نحن أکثر سادةً ، وأعظم

ص: 308


1- جمهرة أنساب العرب : 2 - 3 .
2- المنمّق : 482 .
3- بلوغ الأرب 1 : 288 .
4- لسان المیزان 2 : 493 ، 494
5- بلوغ الأرب 1 : 282 .

رجالاً ، وأکثر قادةً ولمّا لم یحصلوا علی شیء من التّفاخر بالأحیاء ، ذهبوا إلی القبور للتکاثر بالأموات ، فنزلت هذه السّورة علی ما نقل بعض المفسّرین(1) . فقال النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم :

«من انتسب إلی تسعة آباء یرید بهم عزّا وکرامةً فهو عاشرهم فی النار»(2) .

علم الأیّام

إنّ أحد علوم العرب الّذی یعدّ ضربا من الاطّلاع العلمیّ هو العلم بأیّام العرب . وهذه الأیّام الّتی مرّت علی العرب هی الأیّام الّتی کان فیها القتل والحرب وإراقة الدّماء بین شتّی القبائل . وهی الأیّام الّتی تعدّ فخرا للظافر الغالب ، وخزیا للمهزوم المغلوب . وهذه الحروب آیةٌ علی قدرة الغالب . ولمّا کانت الکثرة والقدرة والقوّة معاییر للتفاضل والمشارفة فإنّ قبیلة الغالب أشرف من قبیلة المغلوب ! وبلغت هذه الأیّام وهذه الحروب فی الحقیقة مبلغا أنّ الأدب العربیّ بشعره وخطابته ومفرداته أصبح مدینا لها إلی حدّ کبیر . وکانت الخطب الّتی تُلقی والأشعار الّتی تُنشد فی تلک الأیّام تستهدف إثارة العدوّ أو تحریضه علی الهجوم أو رثاء القتلی . وقال المغیرة بن زرارة الأسیدیّ لیزدجرد : کان دیننا ودیدننا غابرا أنّ بعضنا یقتل بعضا(3) . وخصّصت المجموعات الأدبیّة العربیّة کثیرا من صفحاتها لذکر «أیّام العرب» ووقائع تلک الأیّام(4) . قال الآلوسیّ :

«اعلم أنّ العرب فی الجاهلیّة لم یزالوا فی کرّ وفرّ وغارات ومحاربات . أرخصوا نفوسهم فی طلب العزّ وإشادة المجد ... حتّی أصبحوا کلّهم فرسانا کماة»(5) .

ص: 309


1- بلوغ الأرب 1 : 279 ؛ المیزان 20 : 498 ؛ أسباب النزول : 305 .
2- لسان المیزان 3 : 50 .
3- بهج الصّباغة 2 : 168 .
4- انظر : بلوغ الأرب 2 : 68 فما بعدها .
5- نفسه 2 : 124 .

وفی ضوء هذه المنازعات والبطولات یتسنّی لنا أن نشهد الشّجاعة وأمثالها هناک . ولا جرم أنّ الحیاة القاسیة فی البادیة من جهة ، والقتال الدّائم بین القبائل من جهة أُخری ولّدا هذه الروح عندهم . ولمّا کانت الحروب تُفضی إلی تحدید القیم عندهم ، فإنّهم کانوا ینظرون إلی النصر والهزیمة علی أنّهما فضیلة ورذیلة فی الحقیقة ، والقبیلة الّتی أبطالها أکثر من غیرها تستأثر بفخرٍ ورفعة أکبر بین القبائل جمیعها . ورجال مثل ربیعة بن مکرم ، وعنترة بن عمرو بن شدّاد ، وعامر بن مالک ، وزید الخیل (الّذی سمّاه رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم زید الخیر) ، وعامر بن الطفیل ، وعمرو بن معدیکرب هم نماذج من أشهر فرسان العرب(1) . وقیل : لیس بین العرب رجل أخطب وأشجع وأحظی عند الملوک من زهیر بن جناب بن هبل بن عبد اللّه . عاش مائتین وخمسین وشهد مائتی واقعة(2) . وکان لهذه الحروب قیمتها عند العرب حتّی إنّهم کانوا مستعدّین أن یدوسوا علی عقائدهم الدّینیّة من أجل إیقادها . وقد فعلوا ذلک إذ داسوا علی عقیدتهم فی حرمة القتال فی الأشهر الحرم - بتغییر وقتها إلی أشهر أخری - لیتسنّی لهم القتال فی الوقت الّذی یریدونه ، کما وقعت حرب الفجار فی الأشهر المذکورة وعُرفت بهذا الاسم للسبب المشار إلیه .

وما نستخلصه ممّا تقدّم هو کلام الدکتور شوقی ضیف إذ یقول ما مضمونه : هذا القسم من العلوم کلّه من النّوع البدائیّ القائم علی أساس التجارب البشریّة الناقصة ، غیر المرتکز علی قاعدة معیّنة ؛ وکان العرب إجمالاً بدوا ، ولم یکونوا من أولی العلم والفکر القائم علی أسلوب علمیّ(3) .

ص: 310


1- بلوغ الأرب 2 : 125 و128 .
2- الأغانی 19 : 21 .
3- العصر الجاهلیّ : 85 .

ثقافة أهل الکتاب عند العرب

مرّ بنا أنّ العرب الّذین اعتنقوا الیهودیّة والنّصرانیّة کانوا ینظرون إلی الیهود والنّصاری علی أنّهم أفضل منهم لهیبتهم الدّینیّة بوصفهم «أهل الکتاب» الّذین کان لهم رصید ثقافیّ لیس للعرب مثله فی الجاهلیّة . وکانت المعلومات التّاریخیّة الواسعة للیهود وقرّاء التوراة والإنجیل ، ومعرفة القصص العجیبة باعِثَین علی إظهارهم بمظهر المستعلی علی العرب فی العصر الجاهلیّ ، بید أنّ هؤلاء العرب الّذین کانوا یرون الیهود والنّصاری أفضل منهم قلّما یغیّرون عقائدهم بسبب التعصّب القبلیّ الخاصّ وطاعتهم آباءهم وأجدادهم ، وکان یتشدّدون فی الاحتفاظ بوثنیّتهم ، لکنّهم - علی أیّ حال - کانوا یحسبون أهل الکتاب أفضل منهم ثقافیّا .

ویقول ابن خلدون :

«وإذا تشوّقوا (العرب) إلی معرفة شیء ... فی أسباب المکوَّنات وبدء الخلیقة وأسرار الوجود فإنّما یسألون عنه أهل الکتاب قبلهم ویستفیدونه منهم وهم أهل التّوراة من الیهود ومَن تَبع دینهم من النصاری ، وأهل التّوراة الّذین بین العرب یومئذٍ بادیة مثلهم ولا یعرفون من ذلک إلاّ ما تعرفه العامّة من أهل الکتاب»(1) .

وذکر شوقی ضیف أیضا أنّ النّصاری فی الجاهلیّة کانوا لا یعرفون من دینهم إلاّ ظاهره ولم یقفوا علی حدوده الدقیقة(2) . ونُقل عن أُمیّة بن أبی الصّلت شعر نلحظ فیه ألفاظا من مصطلحات أهل الکتاب ، ممّا یدلّ علی تأثیرهم الثّقافیّ فی العرب إبّان العصر الجاهلیّ . وأقرّ جواد علی بهذا التأثیر ، بید أنّه ذهب إلی أنّ قسما من هذه الأشعار ولید العصر الإسلامیّ(3) .

ص: 311


1- تاریخ ابن خلدون 1 : 439 .
2- العصر الجاهلیّ : 101 .
3- المفصّل 1 : 413 - 416 .

ومن الأدلّة علی السّیطرة الثقافیّة لأهل الکتاب علی العرب فی الجاهلیّة أنّ أبا سفیان زعیم قریش کان یسأل کعب بن الأشرف الیهودیّ ویقول : دیننا خیرٌ أم دین محمّد ! من جهة أُخری أوفد کفّار قریش النضر بن الحارث وعقبة بن أبی معیط إلی أحبار الیهود فی المدینة لیسألوهم عن دین محمّد صلی الله علیه و آله وسلم ویتحدّثوا لهم عن صفاته بوصفهم أهل الکتاب(1) . وجاء الیهودیان حیّ بن أخطب وکعب بن الأشرف إلی مکّة ، فقال لهما أهلها : أنتما من أهل الکتاب والعلم القدیم أخبرانا عن دیننا ودین محمّد ، فقالا لهم : أنتم أهدی سبیلاً منهم(2) . وجاء فی خبر آخر أنّ کفّار قریش عندما لجأوا إلی الیهود متلمّسین حلاًّ منهم طلب منهم الیهود أن یسألوا النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ثلاثة أسئلة ترتبط بالروح ، وذی القرنین ، وأصحاب الکهف(3) . وحینما تشاجر یهودیّ وعربیّ وأرادا اختیار قاضٍ یحکم بینهما اختار العربیّ کعبَ بن الأشرف فی حین أنّ الیهودیّ اتّهمه بالرشوة واختار النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم لیحکم بینهما(4) .

ونظرا إلی هذه النماذج یتسنّی لنا أن نفهم أنّ قریشا الّتی کانت أکبر القبائل العربیّة قداسةً ، وتدّعی أنّها أهل الحُمْس (التّشدّد فی الدّین) کانت خانعة أمام الیهود بهذا الشکل الّذی رأیناه . واستمرّت هذه السّیطرة الثّقافیّة بعد ذلک ، وحافظ مسلمو أهل الکتاب علی هذه السّیطرة من خلال نقل قصص التّوراة والإنجیل وکلماتهما القصار . ونقل ابن جریر ، وابن أبی حاتم ، والدّارمیّ فی مسنده عن طریق عمرو بن دینار ، عن یحیی بن جعدة أنّ عددا من المسلمین کانوا یکتبون بعض المعلومات الّتی یسمعونها من الیهود ، فقال النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ما مضمونه : کفی بأمّة ضلالةً أن تعرض عمّا جاء به نبیّها ،

ص: 312


1- السیرة الحلبیّة 1 : 31 .
2- أسباب النّزول : 103 ، 104 .
3- لباب النقول : 143 ؛ وانظر : أسباب النزول : 197 ؛ تفسیر ابن کثیر 3 : 71 ، 72 .
4- مجمع البیان 3 : 65 ، عن ابن عبّاس ، ومجاهد ، والربیع ، والضّحّاک .

وتقبل علی ما جاء به غیره ، فنزلت هذه الآیة(1) : « أَوَ لَمْ یَکْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَیْکَ الْکِتَابَ یُتْلَی عَلَیْهِمْ »(2) . وحاول النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کثیرا أن یحدّ من سیطرتهم الثّقافیّة هذه . وقال مرارا : «لا تأخذوا دینَکم مِن مُسلم أهل الکتاب»(3) . ونلحظ فی موضع آخر أنّ عمر بن الخطّاب لمّا أتی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بصحف من التّوراة تغیّر وجه النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وأنحی الحاضرون باللائمة علی عمر بسبب عمله المذکور(4) . ونقرأ فی خبر آخر أنّ حفصة زوجة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم جاءته بصحیفةٍ فیها قصّة یوسف علیه السلام فتغیّر وجهه لفرط غضبه(5) . بید أنّ المؤسف هو أنّ أشخاصا ککعب الأحبار ، وأبی الدرداء کانوا أحرارا فی نقل التّوراة والقَصص بعد النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فتعزّزت السّیطرة الثّقافیّة السّابقة لأهل الکتاب . وذکر الکتانیّ أنّ کثیرا من الصّحابة أخذوا علومهم من کعب الأحبار ، وأنّ معاذاً أوصی بالحضور عند أبی الدرداء ، وابن مسعود ، وعبد اللّه بن سلام لطلب العلم(6) .

ص: 313


1- لباب النقول : 167 .
2- العنکبوت : 51 .
3- انظر : صحیح البخاریّ ، کتاب تفسیر القرآن ، الباب 42 .
4- المصنّف 6 : 112 ، 113 .
5- نفسه : 114 .
6- التراتیب الإداریّة 2 : 326 ، 327 .

ص: 314

3- بدایة الإسلام

اشارة

ص: 315

بدایة الوحی

بدأت إرهاصات الوحی فی غارحراء بعد أن بلغ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أربعین سنةً من عمره. ووردت فی المصادر التّاریخیّة معلومات حول کیفیّة إقامة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی غار حراء وسابقة ذلک فی الجاهلیّة، وهی تحتاج إلی البحث والتأمّل. ویصطلح علی إقامته صلی الله علیه و آله وسلم فی الغار : التحنّث . والحنث فی اللغة هو الإثم ، والتحنّث هو التحرّز من الإثم ، وهو التّعبّد للّه تعالی فی معناه الإثباتیّ . وعُرف به «الحنفاء» فی الجاهلیّة(1) . ومنه کلام حکیم بن حزام الّذی کان «فی الجاهلیّة یتحنّث فی بعض المسائل کصلة الرحم ، ودفع الصّدقة» . أی : کان یتقرّب إلی اللّه بهذه الأمور(2) . علی أیّ حال ، استعمال التّحنّث فی التّعبّد نوع من المجاز علی خلاف معناه الحقیقیّ - الإثم - فی «الاجتناب عن الإثم»(3) . یقع غار حراء علی جبل بهذا الاسم فی الشّمال الشّرقیّ من مکّة علی بعد فرسخین

ص: 316


1- قال ابن هشام فی معنی التحنّث : تقول العرب : التحنّث والتحنّف ، یریدون الحنفیّة ، فیُبدلون الفاء من الثاء کما قالوا جدث وجدف ، یریدون القبر السّیرة النّبویّة 1 : 235 من هنا ، فالحنث هو الحنف أساسا .
2- تاج العروس 5 : 224 ، 225 . قیل إنّ التحنّث معرّبة عن الأصل العبریّ وهو «یحینوت» أو «تحینوث» . وتعنی بالعبریّة الاعتکاف والانقطاع إلی اللّه بالصّلاة والدعاء ؛ انظر : تاریخ العرب فی الإسلام : 163 .
3- النموذج الآخر له قولهم : «فلان یتنجّس» فی من یحاول تطهیر النّجاسة .

عنها(1) ، ویعرف أیضا بجبل النّور . وذُکر هذا الجبل فی عداد بعض الجبال المقدّسة . ومن المحتمل أنّ هذه القداسة قبل الإسلام عُرف بها الحنفاء کحدّ أدنی . وجاء فی حدیث عن أنس أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : لمّا تجلّی اللّه عزّ وجلّ للجبل تشظّی فطارت لطلعته ثلاثة أجبل فوقعت بمکّة ، وثلاثة أجبل فوقعت بالمدینة ؛ فوقع بمکّة حراء ، وثبیر ، وثور ؛ ووقع بالمدینة أحد ، وورقان ، ورضوی(2) . وقیل : إنّ جبل حراء کان من المصادر الّتی تزوّد الکعبة بیت اللّه بالحجر(3) . وذُکر هذا الجبل فی مصادر أُخری إلی جانب جبال مقدّسة مثل طور سیناء ، والجودیّ(4) . وجاء فی نصّ مکتوب حرّره عبد المطّلب مع قبیلة خزاعة أنّهم سیتّحدون ما دام حراء وثبیر قائمین(5) . وأنشد أبو طالب فی الجبال الثلاثة المقدّسة بمکّة قائلاً :

وثورٍ وَمَنْ أرسی ثبیرا مکانه * وراقٍ لیرقی فی حراء ونازلِ(6)

ولا یتسنّی لنا أن نُبدی رأیا قاطعا فی التّحنّث بغار حراء ، هل کان سنّةً متداولةً بین العرب أو قریش . وینبغی الالتفات سلفا إلی أنّ غار حراء کان لا یسع أکثر من بضع نَفَر ، وورد أنّ سنّة التحنّث کانت فی شهر رمضان فحسب . من هنا لا یمکن أن تکون سنّةً شائعة . یقول ابن عبّاس :

«کانت قریش إذا دخل رمضان خرج من یرید التحنّث منها إلی حراء ، فیقیم فیه شهرا ، ویطعم من یأتیه من المساکین ، حتّی إذا رأوا هلال شوّال لم یدخل الرجل علی أهله حتّی یطوف بالبیت أُسبوعا ، فکان رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یفعل ذلک»(7) .

ص: 317


1- حول مکانه الدقیق انظر : أخبار مکّة 2 : 288 ؛ معجم البلدان 2 : 233 ، ویقع الآن فی نطاق مکّة .
2- أخبار مکّة 2 : 281 ؛ کتاب مناسک وأماکن طرق الحجّ ومعالم الجزیرة : 406 .
3- أخبار مکّة : 1 : 222 .
4- انظر : نفسه 1 : 36 ؛ ومناسک وأماکن طرق الحجّ : 481 .
5- المغازی 2 : 781 .
6- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 235 .
7- أنساب الأشراف 1 : 105 .

والمألوف أنّ هذا الأمرکان یرتبط بعدد قلیل من قریش ، ولعلّه - کما ذکرنا سابقا - کان من سجیّة الحنفاء أنفسهم ، بخاصّة قد قیل : إنّ عبد المطّلب هو الّذی سنّه لقریش(1) . وقیل أیضا : إنّ المتألّهین الآخرین بعده قد فعلوا هکذا ، بید أنّه لم یُذکر منهم إلاّ اثنان وهما ورقة بن نوفل ، وأبو أمیّة بن المغیرة(2) . وفی مقابل هذه المعلومات یقول ابن حزم :

«کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ینفرد متقرّبا إلی اللّه عزّ وجلّ فی غارٍ معروف بغار حراء، حُبِّب إلیه صلوات اللّه وسلامه علیه ذلک ، لم یأمره بذلک أحد من الناس ، ولا رأی من یفعل ذلک فتأسّی به ، وإنّما أراده اللّه تعالی لذلک ، فکان یبقی فیه علیه الصّلاة والسلام الأیّام واللیالی ، ففیه أتاه الوحی»(3) .

ومن الثابت أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم کان یفعل هذا وحده ، ومن المستبعَد وجود هذه السنّة قبله بنحوٍ جادّ .

وجاء فی أکثر المعلومات التّاریخیّة المنقولة أنّه صلی الله علیه و آله وسلم کان وحده فی غار حراء ، وکان یُحمل إلیه مقدار من الزاد بین الحین والآخر ، وبعد نفاده کانت تُعاد الکرّة لأیّام أُخَر . لکنّ معلومات أُخری ذکرت أنّ أهله کانت معه أیضا(4) .

ولم ترد معلومات دقیقة حول کیفیّة التّحنّث إلاّ ما نخمّنه بقوّة ، وهو أنّ الاعتزال نفسه ، والتفکّر فی خلق اللّه وعبودیّة الحقّ هی أهمّ الأعمال الشائعة فی مثل هذا

ص: 318


1- السّیرة الحلبیّة 1 : 237 ؛ سبل الهدی والرشاد 2 : 319 . قیل : لمّا کان عبد المطّلب هو أوّل من تحنّث فی غار حراء ، لذلک کانت قریش تحفظ هذا الحق لحفیده محمّد صلی الله علیه و آله وسلم .
2- السّیرة الحلبیّة 1 : 237 ؛ سبل الهدی والرّشاد 2 : 319 .
3- جوامع السّیرة النّبویّة : 36 .
4- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 236 ؛ سبل الهدی والرشاد 2 : 312 . وحینا معه أهله ، وآخر معه أولاده . انظر : السّیرة الحلبیّة 1 : 237 .

الاعتکاف(1) . وفی الحقیقة کان هذا الاعتزال بدایة الحیاة الروحیّة للرّسول الأکرم صلی الله علیه و آله وسلم واتّصاله بالوحی ، وکان تمهیدا للبعثة ونزول الوحی علیه . وقیل : إنّ الجلوس فی غار حراء کانت ترافقه ثلاثة أشیاء : الاختلاء ، والتعبّد ، والنّظر إلی الکعبة(2) .

نزلت الآیات القرآنیّة الأُولی علی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی غار حراء . وذکرت المصادر

التّاریخیّة والحدیثیّة روایات عدیدة حول کیفیّة تعرّف النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم علی الوحی وحامله جبرئیل . ویضاف إلی ما فی هذه الروایات من جوانب تاریخیّة وجود نقاط ترتبط بمباحث کلامیّة مثل ماهیّة الوحی ، وعصمة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . وبالنظر إلی الخلاف الموجود فی أسس المذاهب الإسلامیّة حول المسائل المتقدّمة ، فقد تعرّضت الروایات المذکورة إلی تفاسیر مختلفة ، بل أُنکرت أیضا . وینبغی أن نشیر فی البدایة إلی أنّ مجموع الروایات الّتی وصلت إلینا حول الوحی الأوّل منقولة عن قسم من الصّحابة الّذین یلحظ فی نقلهم عدد من وجوه الالتقاء والافتراق . والراوی الأصلیّ للوحی الأوّل عند ابن إسحاق هو عبید بن عمیر بن قتادة اللیثیّ . وواسطة ابن اسحاق فی النّقل عن عبید هو وهب بن کیسان أحد موالی آل الزّبیر . ونلحظ هنا أنّ لعبد اللّه بن الزّبیر یدا فی هذا النقل ، إذ طلب من عبید أن ینقل قصّة البعثة(3) . وثمّة روایة أُخری عن ابن إسحاق ، عن الزّهریّ ، عن عروة بن الزّبیر عن عائشة(4) . والنقل الآخر

ص: 319


1- انظر : السّیرة الحلبیّة 1 : 236 ، 237
2- سبل الهدی والرشاد 2 : 319 .
3- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 235 ؛ تاریخ الطبریّ 2 : 300 ، 301
4- تاریخ الطّبریّ 2 : 298 ، 299 ؛ مغازی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، عروة بن الزبیر : 100 - 102 ؛ دلائل النّبوّة ، البیهقیّ 2 : 135 - 137 . وذکره البخاریّ ومسلم أیضا . وروی فی بعض المصادر عن الزهریّ مباشرة مثل : دلائل النّبوّة 2 : 143 ، 144 .

للواقعة هو عن سلیمان الشّیبانیّ ، عن عبد اللّه بن شدّاد(1) . وهناک نقل عن إسماعیل بن أبی حکیم ، وهو من موالی آل الزّبیر(2) . وأورد البلاذریّ عددا من الروایات أیضا عن ابن عبّاس(3). ونجد نقلاً عن أبیمسیرة أیضا(4) . وذکر جابر بن عبداللّه الأنصاریّ بدایة الوحی نقلاً عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم(5) .

ونلحظ فی هذه المنقولات بعامّة نقطة ثابتة ، وهی وجود الزبیریّین ومن دار فی فلکهم . فشخصان من موالی آل الزبیر مضافا إلی عبد اللّه بن الزبیر ، وأخیه عروة ، وعائشة (خالتهما) لهم حضور فی معظمها ؛ یضاف إلی ذلک أنّ عائشة ، وابن عبّاس لا یتسنّی لهما أن یکونا راویین مستقلّین للحادثة بسبب صغر سنّهما . علما أنّ الإشکال یرافق حوادث مکّة فی کثیر من المواطن . فالإشکال فی وجود آل الزّبیر فی هذه الواقعة یرتبط إلی حدٍّ ما بورقة بن نوفل ، وخدیجة علیهاالسلام ، والحکایة الّتی تُنقل بشأن نبوّة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . ونحن نعلم أنّ هذه الطّائفة هی من بنی أسد ، ومن قریش . علی أیّ حال ینبغی أن ننقل قسما مهمّا من هذه الروایات ثمّ نناقشها .

تقول عائشة (النقل بالمضمون لا بالنصّ) : کان أوّل الوحی النازل علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم رؤیا صادقة ألهمت له فی النوم ، وتحقّقت فی الیقظة کالفجر . ثمّ إنّه رغب فی الاعتزال للتحنّث ، وبقی فی غار حراء بعض اللیالی والأیّام حتّی نزل علیه المَلَک قائلاً : اقرأ . فقال صلی الله علیه و آله وسلم : لا أستطیع أن أقرأ ، فضغطه الملک وطلب منه مرّة أخری أن یقرأ ، فأجاب کجوابه الأوّل واحتمل الضغط . وفی المرّة الثالثة تلا علیه الملک الآیات

ص: 320


1- تاریخ الطّبریّ : 299 ، 300 .
2- نفسه : 302 ، 303
3- أنساب الأشراف 1 : 104 ، 105 ، رقم 190 - 195 ؛ الطّبقات الکبری 2 : 194 ، 195 .
4- أنساب الأشراف 1 : 105 ، رقم 193 .
5- دلائل النّبوّة ، البیهقیّ 2 : 139 ونُقل عن البخاریّ أیضا فی الهامش ، للاطّلاع علی الوثائق الأُخری للواقعة انظر : سبل الهدی والرشاد 2 : 311 .

الأُولی من سورة العَلَق ، ففزع واضطرب ورجع إلی بیته وطلب أن یدثّروه لإزالة فزعه . فسألته خدیجة ، وحین رأته بتلک الحالة قالت له : لن یترکک اللّه ، إنّک لتصل الرحم ، وتعطی الصّدقة ، وتُقری الضّیف . ثمّ ذهبت إلی ورقة بن نوفل وسألته عن قصّة نزول المَلَک . فقال لها : هو النّاموس الّذی کان ینزل علی موسی . وتمنّی أن یطول عمره حتّی یدرک النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلموینصره(1) .

ورد هذا النقل الّذی تعدّ عائشة مصدره الأوّل باختلافات متعدّدة عن طرق متباینة وفی مصادر متنوّعة . ثمّة روایات أُخری أیضا تنطوی علی هذه الموارد إلی حدٍّ ما إلاّ أنّ فقرات کلٍّ منها تتفاوت بین الشدّة والضعف . یقول عبید بن عمیر : هبط جبرئیل وبیده کتاب وطلب من رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أن یقرأ . وعندما قال له النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم : لستُ بقارئ ، ضغطه ضغطةً أحسّ فیها أنّ الموت قد غشیه . وحین رجع سمع صوت جبرئیل وهو یخاطبه بالرّسالة ، وکان ظاهرا فی آفاق السّماء کلّها . ونلحظ فی روایة ابن عبّاس نقلاً للقسم الأخیر من الرّوایة الآنفة الذّکر ؛ أی : بعد نزول الآیات الأولی علی النّبیّ نازلاً من الجبل ، شاهد جبرئیل فی الأُفق(2) .

إنّ المشکلة الکبری فی هذه الرّایات ارتیاب النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی نبوّته ، وهو أمر مثیر

للإشکال من الوجهة الدّینیّة والکلامیّة . ونقرأ فی التّاریخ أنّ وسائط إثبات هذه النّبوّة فی الرّوایات المرتبطة ببدایة الوحی تتمثّل فی ورقة بن نوفل ، وبعضها فی نسطور المسیحیّ، وعدّاس(3) ، وغیرهما من المجهول أمر معظمهم . ولم تستبنْ إلی الآن شخصیّة ورقة وزمان وفاته(4) ، وهل مات علی النّصرانیّة أو علی الإسلام . وأورد ابن عساکر

ص: 321


1- دلائل النّبوّة 1 : 135 - 137 .
2- أنساب الأشراف 1 : 104 .
3- أسلم فی وقعة الطّائف . ولم یُشر المؤرّخون إلی دوره فی بدایة الوحی عند حدیثهم عن إسلامه .
4- انظر : الصحیح من سیرة النّبیّ 1 : 228 ، 229 للاطّلاع علی المزاعم المتضاربة فی إسلامه أو کفره ، وهل مات فی البدایة أو ظلّ حیّا إلی ما بعد إذن المسلمین بالقتال ، وغیر ذلک من الأخبار المضطربة حوله . ومن الطریف نقل شعرٍ له فی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم والإسلام ، وهو مثار شکٍّ . انظر : دلائل النّبوّة 1 : 150 ؛ البدایة والنّهایة 3 : 10 - 13 ؛ سبل الهدی والرّشاد 2 : 317 - 318 . ومن النقاط الطّریفة أیضا ما نُقل عن النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أنّه رآه فی حلّة بیضاء أی : إنّه من أهل الجنّة مع النّصّ الوارد فی عدم إسلامه بعامّة . (سبل الهدی 2 : 1327) . أمّا أبو طالب الّذی کان حامیا للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم علی طول عصر البعثة فهو فی النّار بزعمهم ! فمن الجلاء بمکان أنّ هذه الأخبار موضوعة .

أنّ أحدا لم یذکر أنّه أسلم ، فی حین ذهب البعض إلی أنّه کان أوّل من أسلم(1) . ومرّت الإشارة إلی أنّ تسلیط الضوء علی دور ورقة یرمی إلی تضخیم دور بنی أسد فی القضایا المرتبطة بعصر صدر الإسلام . ویبدو متعذّرا أنْ نقرّ بأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قد بعث وهو غیر عارف بوضعه معرفةً وافیةً . وإنّه لأمر عویص علما أنّه ورد فی أخبار مأثورة عن أشخاص معیّنین لا یصلحون - نوعا ما - لنقل الوقائع المرتبطة بأوّل الوحی . والموضوع الآخر هو ضغط النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم لیقرأ شیئا لم یعرفه . ومن الطّبیعیّ أنّ تحمّل الوحی أمر عسیر وکان رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم تعتریه رعشةٌ شدیدةٌ عند تلقّی الوحی(2) . علی أیّ حال بدایة الوحی لا یمکن أن تکون عادّیة علی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، لکن لا علی حساب أبسط الأُصول العقلیّة والدّینیّة فی أمر الوحی والنبوّة فینساها مثلاً . ونقرأ فی روایات مأثورةٍ عن الإمام الصّادق علیه السلام تأکیدا لطمأنینة النّبی صلی الله علیه و آله وسلم فی تلقّیه الوحی ، فقد قال فی سؤالٍ حول کیفیّة معرفة الرّسل رسالتهم : یماط عن وجوههم الحجاب(3) . ویبیّن اللّه تعالی هذه الطمأنینة بقوله : « قُلْ إِنِّی عَلَی بَیِّنَةٍ مِن

ص: 322


1- الإصابة 3 : 633 ؛ إرشاد السّاری 1 : 67 نقلاً عن الصحیح من سیرة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم 1 : 288 - 289 .
2- قیل فی هذا المجال : کان ضغط جبرئیل علیه لصرف ذهنه عن أشیاء أُخری أو لإراءته أهمّیّة تحمّل الوحی . وحین تبیّن أنّه یتحمّل الضغط المذکور أوحی إلیه اللّه ما أوحی . للاطّلاع علی توجیهات أخری انظر : سبل الهدی والرّشاد 2 : 321 ، 322 . وسنلحظ فی الآیات الأولی من سورة المزّمّل أنّ الوحی وُصِف ب- «القول الثّقیل» .
3- بحارالأنوار 11 : 56 ؛ وانظر : 18: 262؛ تفسیر العیّاشیّ 2 : 201 ؛ التمهید فی علوم القرآن 1: 49.

رَبِّی »(1) وقوله : « قُلْ هذِهِ سَبِیلی أَدْعُوا إِلَی اللّه ِ عَلَی بَصِیرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِی »(2) .

وجاء فی بعض الرّوایات أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ذکر بأنّ جبرئیل هبط علیه وهو نائم . وفی حدیث عائشة قُرنت بدایة الوحی برؤیا صادقة . وینبغی الالتفات إلی أنّ أکثر الرّوایات ذهبت إلی نزول سورة العلق فی الیقظة ، مضافا إلی أنّ هذا هو ما ورد فی حدیث عائشة أیضا. وقصدها أساسا أنّ الرؤیا الصّادقة کانت متحقّقة کبیاض الصّبح قبل نزول الوحی القرآنیّ . من هنا لا ینبغی أن نعتبر الوحی القرآنیّ متحقّقا فی النوم(3) . وصرّح القرآن الکریم نفسه بالطریقة الّتی یتّصل بها الرّسول بربّه ، قال تعالی : « وَمَا کَانَ لِبَشَرٍ أَن یُکَلِّمَهُ اللّه ُ إِلاَّ وَحْیا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ یُرْسِلَ رَسُولاً فَیُوحِیَ بِإِذْنِهِ مَا یَشَاءُ إِنَّهُ عَلِیٌّ حَکِیمٌ »(4) . وهذا الاتّصال کان صعبا فی البدایة . فإذا تصوّرنا أنّ بشرا یرید أن یتلقّی کلام اللّه وهو ما یزال علی طبعه البشریّ ، فلا بدّ له أن یواجه صعوبةً . ونلحظ أنّ الآیات الأولی الّتی نزلت علی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أجاءته إلی ردّ الفعل

ص: 323


1- الأنعام : 57 .
2- یوسف : 108 . قال الطّبرسیّ فی نقد روایة منقولة عن جابر بن عبد اللّه ، ونُسب فیها وَهْمُ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی أوّل الوحی : «... وفی هذا ما فیه لأنّ اللّه تعالی لا یوحی إلی رسوله إلاّ بالبراهین النیّرة والآیات البیّنة الدّالّة علی أنّ ما یوحی إلیه إنّما هو من اللّه تعالی» . انظر : مجمع البیان 10 : 384 ؛ جواب الشّامی سبل الهدی 2 : 326 هذا الإشکال غیر مُقنع أبدا إذ لا یتسنّی لأحدٍ أن یقتنع بأنّ ورقة کان واثقا بنبوّة محمّد صلی الله علیه و آله وسلم أکثر من محمّد صلی الله علیه و آله وسلم نفسه !
3- لتوجیه هذه الرّوایات انظر : سبل الهدی والرشاد 2 : 302 .
4- الشّوری : 51 . أشار المتکلّمون إلی أنواع الوحی استنادا إلی الآیات والروایات : 1 - رؤیا صادقة فی النوم وشاهدها قصّة إبراهیم علیه السلام الصّافات : 102 . 2 - إلقاء الآیات فی قلب النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم (البقرة : 97 ؛ الشعراء : 192 - 194) . 3 - سماع صوت الملک الّذی یظهر له . 4 - تکلیم اللّه المباشر من وراء حجاب . 5 - تکلیمه بدون حجاب (فی ضوء ما ذکره بعض السنّة إذ قال : رأی الرسول بعینه اللّه تعالی ! وهذا کلام جُزاف) . 6 - مکالمة اللّه سبحانه الرسول فی النوم . انظر فی هذا المجال : الکتب المؤلّفة فی علوم القرآن ، منها : «الوحی» للاستاذ الأمینیّ ، العدد (59) من سلسلة المقالات الّتی نشرها مؤتمر الشیخ المفید .

حتّی طلب من زوجته أن تزمّله ؛ ثمّ ناداه اللّه تعالی أن یقوم ویُعدّ نفسه لحمل رسالة ثقیلة . قال تعالی : « یَا أَیُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ الَّیْلَ إِلاَّ قَلِیلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِیلاً * أَوْ زِدْ عَلَیْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِیلاً * إِنَّا سَنُلْقِی عَلَیْکَ قَوْلاً ثَقِیلاً »(1) . وحکی المحدّثون ثقل الوحی هذا أیضا فی أحادیث نقلوها عن شهود(2) . وقالوا إنّ هذه الآیات نزلت والنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کان مدّثّرا . قال تعالی : « یَا أَیُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّکَ فَکَبِّرْ * وَثِیَابَکَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ »(3) . ویستشفّ من الآیات الأولی لسورة المزمّل أنّ شیئا من القرآن کان قد نزل قبل ذلک ، والنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم یتلوه منتصف اللیل أو أقل منه قلیلاً . من هنا لا ینبغی أن تکون تلک الآیات قد نزلت مباشرة بعد نزول الآیات الأولی من سورة العلق(4) .

ونقول فی الآیات الأولی لسورة المدّثّر أیضا : إنّ اللّه سبحانه ألقی عب ء رسالة الإنذار علی عاتق رسوله منذ البدایة . وإذا صحَّ تأخّر الرّسالة عن النّبوّة ، فهذه الآیات لم تنزل فی أوّل البعثة . ومن المحتمل أنّ الرّسالة تقارنت مع النّبوّة منذ انبثاقها إلاّ أنّ السّیاسة العملیّة للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم تطلّبت أن یتّخذ سبیله شیئا فشیئا تجنّبا لإثارة المشرکین(5) . وثمّة روایة أُخری تذهب إلی نزول سورة المدّثّر حین کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یعانی ضغط المشرکین ومضایقتهم إیّاه فادّثّر من شدّة الضغط فنزلت علیه

ص: 324


1- المزمّل : 1 - 5 .
2- سبل الهدی والرّشاد 2 : 343 ؛ الطّبقات الکبری 1 : 197 ؛ مسند أحمد 6 : 455 - 458 ؛ مجمع البیان 10 : 378 وذُکرت هناک معان مختلفة للثقیل
3- المدّثّر : 1 - 5 .
4- سبل الهدی والرّشاد 2 : 366 .
5- یعتقد الدکتور جواد علی أنّ کلمة «الرسول» وردت فی سورة المزّمّل - وهی من السور الّتی نزلت فی أوّل عصر نزول الوحی - فی حین لم ترد کلمة «النّبیّ» فی السور الأولی . لذا لا یصحّ قول من تصوّر أنّ النّبیّ أخصّ من الرّسول مفهوما . ویری أنّ هذا من ثقافة الیهود . بید أنّ معنی النّبیّ فی الإسلام أوسع ممّا جاء فی تعالیم الیهود . انظر : تاریخ العرب فی الإسلام : 157 .

الآیات الأولی من السّورة المذکورة وأمرته بالقیام واستدامة الإنذار(1) . وحینئذٍ ینبغی ألاّ تکون لهذه السّورة صلة بالقضایا المتعلّقة بأوّل الوحی . ومهما کان فلا مریة فی أنّ الآیات الأولی من سورة العلق کانت أوّل الآیات النّازلة علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : « اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّکَ الَّذِی خَلَقَ * خَلَقَ الاْءِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّکَ الْأَکْرَمُ * الَّذِی عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الاْءِنسَانَ مَا لَمْ یَعْلَمْ »(2) . ونری أنّ أهمّیّة ما تحتویه الآیات المذکورة فیما یرتبط برسالة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بیّنة جلیّة .

إنّ مثار الخلاف حول بدایة الوحی هو زمن نزول الآیات الأولی وتاریخ البعثة النّبویّة . وجاء فی عدد من الأحادیث المرتبطة بتحنّث النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی غار حراء أنّه کان مشغولاً بالعبادة فی شهر رمضان . وإذا رکنّا إلی هذا الکلام ، فعلینا أن نقرّ بأنّ الآیات الأُولی من سورة العلق نزلت علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی شهر رمضان علی جبل حراء . وذهب ابن إسحاق إلی هذا الرأی أیضا(3) . واستشهد بثلاث آیات قرآنیّة : الأولی : « شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِی أُنْزِلَ فِیهِ الْقُرْآنُ هُدیً لِلنَّاسِ وَبَیِّنَاتٍ مِنَ الْهُدی وَالْفُرْقَانِ »(4) والثّانیة سورة القدر ، قال تعالی فیها : « إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِی لَیْلَةِ الْقَدْرِ » . والثّالثة الّتی رآها ابن إسحاق تتعلّق بتعیین یوم الفرقان [ یوم القرآن (5)] فی القرآن ، وهو «یوم التقی الجمعان» أی : یوم بدر (17 رمضان المبارک) . وجاء فی تلک الآیة : « وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَیْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی الْقُرْبَی وَالْیَتَامَی وَالْمَسَاکِینِ وَابْنِ السَّبِیلِ إِن کُنتُمْ آمَنتُم بِاللّه ِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَی عَبْدِنَا یَوْمَ الْفُرْقَانِ یَوْمَ الْتَقَی الْجَمْعَانِ وَاللّه ُ عَلَی کُلِّ شَیْ ءٍ قَدِیرٌ » ویری ابن إسحاق أنّ یوم الفرقان هو یوم القرآن

ص: 325


1- الدرّ المنثور 6 : 281 ؛ مجمع البیان 10 : 386 ، 387 .
2- العلق : 1 - 5 (أکثر المفسّرین علی أنّ هذه السّورة أوّل ما نزل من القرآن ؛ مجمع البیان 10 : 514) .
3- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 239 ، 240 .
4- البقرة : 185 .
5- ذهب إلی أنّ الفرقان فی هذه الآیة هو القرآن لا ما فُرّق به بین الحقّ والباطل .

- وهو الیوم السّابع عشر من رمضان - لا الیوم الّذی کانت فیه وقعة بدر . أی : الیوم الّذی نزل فیه القرآن علی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . وإذا تساءلنا عن مصدر السابع عشر من رمضان ، وجدنا أنّه أُخذ من انطباقه علی یوم بدر الّذی کان فی السابع عشر من رمضان عام 2 ه . وثمّة روایة مأثورة عن الإمام الباقر علیه السلام تدلّ علی أنّ أوّل نزول المَلَک علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم کان فی الیوم المذکور(1) .

وقیل فی الآیة الواردة فی سورة البقرة الّتی تنصّ علی نزول القرآن فی شهر رمضان إنّها صریحة فی نزول الآیات القرآنیّة الأولی . من هنا فالأقوال الأُخری الذّاهبة إلی نزول الآیات فی وقت آخر تعارض هذه الآیة(2) . بید أنّ توجیهات أخری قد وردت بشأن الآیة المذکورة . منها أنّ القرآن نزل کلّه إلی السماء الدنیا فی شهر رمضان ، ثمّ نزل علی الرسول صلی الله علیه و آله وسلم تدریجا ؛ والدّلیل علی ذلک ما جاء فی سورة القدر أنّ القرآن نزل فی لیلة القدر ، ونحتمل أنّ المراد هو القرآن کلّه(3) . ونحن نعرف أنّ القرآن جمیعه لا یمکن أن ینزل علی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی بدایة الوحی . ولعلّ روایة البیت المعمور الّذی عُدَّ موضعا لنزول القرآن کانت لرفع هذا الإشکال . وهی روایة مرفوضة من منظار کثیر من الباحثین . علی أیّ حال یمکن أن یقال إنّ الآیات الأولی نزلت فی لیلة القدر ، وإنّ الآیة النازلة ینبغی تحدیدها . والمشکلة هی کیف یمکن الجمع بین قول أهل البیت علیهم السلام فی وقت البعثة المتمثّل فی السّابع والعشرین من رجب وبین نزول الآیات الأولی فی شهر رمضان ؟ یبدو أنّ السبیل الوحید لذلک هو أن نعتبر تعرّف الرسول صلی الله علیه و آله وسلم علی المَلَک کان قبل نزول الآیات الأولی من سورة العلق . وهذا ما جاء

ص: 326


1- الطّبقات الکبری 1 : 194 .
2- تاریخ العرب قبل الإسلام : 158 ، 159 .
3- هذا احتمال فحسب إذ لا یمکن القول : إنّ القصد من استعمال کلمة «القرآن» هو القرآن کلّه أو بعضه . ففی مواضع مثل سورة المزّمّل أُطلق علی جزء منه کان قد نزل حتّی ذلک الحین «ورتّل القرآن ترتیلاً» . وحینئذٍ فالاحتمال المذکور مقبول ، لأنّ القصد هو المقدار الّذی کان قد نزل حتّی ذلک الوقت .

فی بعض المعلومات التاریخیّة أیضاً(1) . فی ضوء ذلک کانت أرضیّة التّعرّف علی الوحی ممهّدة لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قبل نزول الآیات الأولی . وذهب بعض السّنّة أیضا إلی أنّ البعثة کانت فی ربیع الأوّل ، فجمعوا بین کلامهم وبین نزول الآیات الأُولی فی شهر رمضان(2) .

وقیل إنّ الوحی قد انقطع مدّة بعد نزول الآیات الأُولی . وتباینت الأقوال فی مقدارها بین ثلاث سنین ، وسنتین ونصف ، وسنة(3) ، وأربعین یوما (رأی ابن عبّاس)، وخمسة عشر یوما (ابن الجوزیّ ، والفرّاء) ، وثلاثة أیّام (مقاتل بن سلیمان)(4) . ولا یتسنّی لنا أن نبدی رأیا فی تحدیدها علی نحو دقیق ، لأنّ الخلاف فیها بلغ مبلغا یتعذّر فیه الجمع بینها . مبدئیّا ینبغی أن تکون الفترة طویلة بین نزول سورة العلق وسورة المدّثّر الّتی قیل إنّها نزلت بعد انقطاع الوحی(5) . ولکن کم کانت ؟ نستطیع أن نکتفی بالقول إنّها لا ینبغی أن تکون طویلة جدّا . وقیل فی فلسفة هذه الفترة إنّ الهدف منها إعداد النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم روحیّا بعد نزول الآیات الأُولی علیه(6) . وتکرّر انقطاع الوحی بعد ذلک مرارا ممّا دفع المشرکین إلی التعنیف والتقریع ، ومنه إشارة فی سورة «الضحی» . وهذه السورة من السور المکّیّة القدیمة أیضا . قال تعالی فیها ردّا علی لوم المشرکین بسبب تأخیر الوحی : « وَالضُّحَی * وَالَّیْلِ إِذَا سَجَی * مَا وَدَّعَکَ رَبُّکَ وَمَا قَلَی »(7) .

ص: 327


1- الصحیح 1 : 195 .
2- سبل الهدی والرّشاد 2 : 340 .
3- هذا هو رأی الدکتور رامیار ، انظر : تاریخ القرآن : 75 .
4- سبل الهدی والرّشاد 2 : 363 . ذهب الشّامیّ إلی صحّة الرأی الأخیر .
5- أنساب الأشراف 1 : 108 . والقول الآخر هو أنّ سورة «الضحی» کانت أوّل سورة نزلت بعد انقطاع الوحی ، 108 ، 109 . ونُقل فی ص109 عن ابن عبّاس أنّ الأولی هی «العلق» ، ثمّ تلتها «القلم» ، ثمّ أعقبتها «المدّثّر» و«المزمّل» .
6- انظر : تاریخ القرآن ، رامیار : 72 ، 73 .
7- الضُّحی : 1 - 3 . وذهب ابن إسحاق إلی أنّ هذه الآیات تعود إلی الفترة التی تلت نزول الآیات الأولیالسّیرة النّبویّة 1 : 241 بید أنّ البعض رفض هذا الرأی وذهب إلی أنّ سورة «المدّثّر» هی السورة الأولی بعد الفترة .

کان نزول الوحی علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم مقرونا بظهور حالات خاصّة علیه صلی الله علیه و آله وسلم ، إذ یحمرّ وجهه ، وتأخذه الرّجفة ، ویعرق جبینه ویتصبّب العرق علی وجهه ، ثمّ یعود إلی حالته الأولی بعد فترة ، ویتلو علی مَن حوله مِن أصحابه ما أُوحی إلیه من القرآن. وجاء فی روایة عن الإمام الصّادق علیه السلام أنّ هذا النوع من الوحی یتحقّق عندما یکلّم اللّه رسوله مباشرة(1) . وورد أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کان فی بعض الحالات یعجل فی قراءة الآیات . قال تعالی : « وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن یُقْضَی إِلَیْکَ وَحْیُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِی عِلْما »(2). ولعلّ سبب ذلک ورد فی قوله سبحانه: « لاَ تُحَرِّکْ بِهِ لِسَانَکَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَیْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَاْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ »(3) .

الخطوات الأولی لبثّ الإسلام وتوسیع نطاقه

یبدو أنّ تحدید تاریخ دقیق للتطوّرات الأُولی الّتی رافقت عصر البعثة أمر عسیر . ویعود هذا الموضوع إلی قلّة اهتمام الصّحابة بتدوین الوقائع بدقّة(4) ، ووجود أخطاء غیر متعمَّدة ، وإقحام المآرب القبلیّة والسیاسیّة فی نقل الوقائع . وعُنیت مصادر السّیرة بجانبین من تطوّرات المسیرة الإسلامیّة . الأوّل : إسلام الصّحابة بالترتیب . الثّانی : مرحلیّة الدّعوة النّبویّة وانتقالها من المرحلة السّرّیّة إلی المرحلة العلنیّة . ویضاف إلیهما أنّ المؤرّخین حاولوا من خلال نوع من التّقسیم التّاریخیّ فی ضوء التّاریخ المتداول المبتنی علی محوریّة واقعة خاصّة ، فی سنین عصر البعثة ، أن یدلّوا علی

ص: 328


1- بحارالأنوار 18 : 256 ، 268 .
2- طه : 114 .
3- القیامة : 17 - 19 .
4- یؤکّد الدکتور جواد علی هذا السبب بنحو خاصّ ویذهب إلی أنّه الباعث علی غموض الحدود التاریخیّة لأحداث عصر البعثة . انظر : تاریخ العرب قبل الإسلام : 192 .

الحدود التّاریخیّة للوقائع . منها الذّهاب إلی دار الأرقم ، والهجرة إلی الحبشة ، وشعب أبی طالب ، وغیرها من الّنماذج الأُخری .

أمّا التّرتیب فی إسلام الصّحابة فتکتنفه بعض المشاکل ، بخاصّة عندما یخضع للنقاش علی أساس مرحلیّة الدّعوة أو المحاور التّاریخیّة المذکورة الّتی تعانی من مشکلة التّحدید التّاریخیّ أیضا . وذهب ابن إسحاق إلی أنّ خدیجة هی أوّل من أسلم ، ثمّ تلاها من الرّجال الإمام علیّ علیه السلام . وبعد ذلک ذکر زید بن حارثة ، وأبا بکر ، وعثمان ، والزبیر ، وابن عوف ، وسعد بن أبی وقّاص ، وطلحة . ورأی أنّ هؤلاء الّثمانیة هم أوّل من أسلموا . ثمّ أورد فهرسا بأسماء مسلمین آخرین قدامی بلا أدنی توضیح(1) . ویذهب کثیر من المصادر التّاریخیّة إلی أنّ الإمامَ علیّا علیه السلام کان أوّل من أسلم . ومن البیّن أنّه علیه السلام کان یعیش فی بیت النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم(2) ، فسبقه إلی الإسلام بتلک السّرعة کان أمرا طبیعیّا . وکذلک سبق خدیجة إلیه . ویضاف إلیهما أنّ زید بن حارثة کان فی عداد موالی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، فلا بدّ أن یعتنق الإسلام بسرعة أیضا .

ومن قال أنّ أبا بکر کان أوّل من أسلم ، فکلامه لا یتوکّأ علی دعامة من الوجهة التاریخیّة ، ولا نمتری فی أنّه ناتجٌ من الصّراعات المذهبیّة . وذکر الواقدی أنّ علیّا علیه السلام رأی خدیجة تصلّی مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فسأل النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم عن ذلک ، فدعاه صلی الله علیه و آله وسلم إلی التّوحید ، واجتناب اللات والعزّی اللّتین لا تنفعان ولا تضرّان . واستأذنه فی أن یستشیر أباه لکن النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم لم یرغب آنذاک تکتّما علی الدّین ، فجاءه من الغد وأعلن إسلامه . وهؤلاء الثلاثة أو الأربعة علی حدّ تعبیر الواقدیّ کانوا یحذرون ظهور إسلامهم حتّی لأبی طالب نفسه . ونقل ابن إسحاق أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وعلیّا علیه السلام

ص: 329


1- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 245 - 252 .
2- نفسه : 245 ، 246 (إشارة إلی ذهاب جعفر إلی بیت العبّاس ، وذهاب علیّ علیه السلام إلی بیت النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم) ویذهب ابن إسحاق إلی أنّ هذا الذهاب من نعم اللّه تعالی علی علیّ علیه السلام .

کانا یذهبان إلی الجبال المحیطة بمکّة ویصلّیان ثمّ یعودان إلی مکّة لیلاً .

وأورد الواقدیّ أنّ زید بن حارثة کان معهما أیضا . ونقل أنّهم کانوا یصلّون الظهر عند الکعبة ، ولم تنکر قریش صلاتهم . أمّا الأوقات الأُخری فقد کانوا یصلّون حیث لا تعلم بهم قریش . وکان زید أو الإمام علیّ علیه السلام یراقب الأوضاع یومئذٍ . وکان أبو طالب یتقصّی الحقائق عن ولده علیّ علیه السلام وبعد مدّة عرف ما جری . وعندما سمع حقیقة الأمر طلب من النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أن یثبت علی کلامه وأمر علیّا علیه السلام أن یواصل دعمه لابن عمّه(1) . مبدئیّا ینبغی أن یکون خبر النّبوّة قد شاع بمکّة تدریجا . وشهد عدد من مسافری مکّة صلاة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، وعلیّ ، وخدیجة علیهماالسلام عند الکعبة .

ولا یستبین کم استغرق ذلک الوضع ، بید أنّا نری أنّ هذه الأسرة وحدها رضیت الإسلام دینا حتّی حین . وفی غضون ذلک الحین بدأ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم دعوته سرّیّةً لا علنیةً . ولعلّ ذلک یعود إلی رغبة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم عن إثارة المشرکین لمواجهة الإسلام . وذهب المؤرّخون إلی أنّ هذه الدّعوة استغرقت ثلاث سنین . وروی الواقدیّ أنّ الدعوة کانت سرّیّة لثلاث سنین ثمّ أُمر النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بإعلانها(2) . وقال ابن هشام مشیرا إلی قوله تعالی : « وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّکَ فَحَدِّثْ » : کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یُسرّ إلی من یثق بهم من أهله بالنّعمة الّتی منَّ اللّه بها علیه(3) . وقال الزّهریّ : دعا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم سرّا ، وکان یجتنب الأصنام . (وجاء فی «الطبقات» نقلاً عن الزّهریّ أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کان یدعو سرّا وجهرا) . وظلّ یدعو حتّی استجاب له ثلّة من الفتیان وضعفة النّاس فزاد عدد المسلمین . وکان هذا فی وقت لم ینکر فیه الکبراء من کفّار قریش دین اللّه ،

ص: 330


1- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 246 ، 247 ؛ أنساب الأشراف 1 : 113 وورد قسم ممّا ذکرناه أعلاه فی سیرة ابن هشام ، وقسم آخر فی الأنساب .
2- الطّبقات الکبری 1 : 199 ؛ أنساب الأشراف 1 : 116 .
3- السّیرة النّبویّة 1 : 243 .

وکان رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یمرّ بهم فیشیرون إلیه قائلین : «ابن عبد المطّلب» یتحدّث عن السّماء . هکذا کان الوضع إلی أن عاب آلهتهم وأخبرهم بمصیر آبائهم وأنّهم ماتوا علی الکفر والضلال وأنّهم فی النّار . فحنقوا علیه وعادوه وطفقوا یؤذونه(1) . وتحدّث ابن إسحاق عن هذه الفترة أیضا ، وذهب إلی أنّها دامت ثلاث سنین حتّی جاء الأمر بإعلانها(2) .

وینبغی الالتفات هنا إلی أنّ ثلاث مراحل یُعنی بها منذ بدایة النّبوّة إلی الفترة الّتی تلتها . الأُولی : الصّدع بالدّعوة ، وکان بعد ثلاث سنین مرّت علی الدّعوة ، وبدأ بآیة الإنذار [ « وَأَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ » ] . الثّانیة : بدایة الأذی الّذی مارسه المشرکون بعد أن عاب النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم آلهتهم . ومن المحتمل أنّ هذه المرحلة تنطبق علی بدایة إعلان الدّعوة ، وإن کان ممکنا أیضا إیذاء بعض المسلمین قبل ذلک ، مع أنّه لم یکن هناک عداء مع النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم نفسه . الثّالثة : ذهاب النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم والمسلمین إلی دار الأرقم بن أبی الأرقم . وکان ذلک بعد عداء المشرکین وتشدّدهم علی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم والمسلمین . بید أنّنا لا نستطیع أن نجزم بزمانه . ومن الثابت أنّ هذا الذّهاب إلی دار الأرقم کان حادثة مهمّة ، وکان رواة أخبار السّیرة یعدّونه مرحلة من مراحل الدعوة ، إذ نلحظ مثلاً أنّ الواقدیّ ، وابن سعد استند إلی هذه المعرفة فی تاریخ إسلام الصّحابة الأُوَل . علی أیّ حال ینبغی أن نقول : إنّ الذّهاب إلی دار الأرقم کان قبل إعلان الدّعوة وقبل هجرة المسلمین إلی الحبشة ، أی : السّنة الرّابعة للبعثة تقریبا . وإذا قیل إنّ فلانا من الصّحابة أسلم قبل دار الأرقم فمن الممکن أن یکون ذلک فی السّنین الثّلاث الأُولی من البعثة أو بعد إعلان الدّعوة بقلیل حتّی الذّهاب إلی دار الأرقم .

ص: 331


1- أنساب الأشراف 1 : 115 - 117 ؛ الطّبقات الکبری 1 : 199 .
2- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 262 .

وعلی الرغم من أنّ ابن سعد لم یتحدّث فی المضمار التّاریخیّ لحوادث البعثة عن الذّهاب إلی دار الأرقم بوصفه مبحثا مستقلاًّ ، وکذلک ابن إسحاق إذ لم یورد تلک الحادثة أساسا ، بید أنّ ابن سعد نفسه تطرّق فی ترجمة الصّحابة الأُوَل إلی إسلام عدد منهم تحت عنوان «أسلم قبل أن یدخل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم دار أرقم بن أبی أرقم ویدعو فیها» . وفی ما یأتی فهرس الأشخاص الّذین ذکرهم فی کتاب الطبقات الکبری : عیّاش بن أبی ربیعة (4 : 129) ، عثمان بن عفّان (3 : 55) ، أبو حذیفة بن عتبة بن ربیعة (3 : 84) ، عبد اللّه وعبید اللّه وأبو أحمد أبناء جحش (3 : 89) ، عبد الرحمن بن عوف (3 : 124) ، عبد اللّه بن مسعود (3 : 151) ، خبّاب بن الأرتّ (3 : 165) ، مسعود بن ربیع القاری (3 : 168) ، عامر بن فهیرة (3 : 230) ، أبو سلمة بن أسد (3 : 239) ، سعید بن زید بن عمرو (3 : 382) ، عامر بن ربیعة (3 : 386) ، واقد بن عبد اللّه (3 : 390) ، خُنیس بن حُذافة (3 : 392) ، أبو عبیدة بن الجرّاح (3 : 393) ، عثمان بن مظعون (3 : 393) ، عبیدة بن الحارث (3 : 393) ، عبد اللّه بن مظعون (3 : 400) ، معمر بن حارث (3 : 402) ، حاطب بن عمرو (3 : 405) ، جعفر بن أبی طالب (4 : 34) ، سلیط بن عمرو(1) . وذُکر أبو بکر أیضا فی نظم من أسلم قبل الذهاب إلی دار الأرقم . وثمّة أدلّة تشیر إلی أنّ إسلامه کان بعد مرحلة الدّعوة السّرّیّة

الّتی استغرقت ثلاث سنین ، وبعد أن سفّه النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم آلهة المشرکین(2) . وزُعم أنّ

ص: 332


1- أنساب الأشراف 1 : 219 .
2- انظر : البدء والتّاریخ 5 : 77 ؛ البدایة والنّهایة 3 : 29 - 30 ؛ وانظر : الصّحیح من سیرة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم1 : 248 ، 249 . وذکر الطبریّ أیضا نقلاً عن الصّحیح ... المذکور 1 : 248 أنّ إسلام أبی بکر کان بعد خمسین شخصا . وقال الدکتور جواد علی أیضا وهو ینقل کلام الطّبریّ إنّ موضوع «أوّل من أسلم» کان خاضعا للمیول السیاسیّة والعاطفیّة بشدّة . انظر : تاریخ العرب فی الإسلام : 190 .

الزّبیر کان رابع أو خامس من أسلم(1) . وذکر سعد بن أبی وقّاص أنّ شخصا واحدا فحسب سبقه إلی الإسلام ، وأنّه أسلم فی نفس الیوم الّذی أسلم فیه سعد(2) ! وقیل إنّ خالد بن سعید کان ثالث المسلمین أو رابعهم ، وکان یصلّی مع النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی ضواحی مکّة یوم کانت الدعوة سرّیّة(3) . ونُقل أنّ أبا ذرّ الغفاریّ کان خامس من أسلم ، وعدّه البعض رابعهم(4) . وعندما قدم إلی مکّة لاعتناق الإسلام کان الجوّ فیها مُرعبا مخیفا ، فأتی به الإمام أمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم سرّا . ولمّا أسلم ، جاء إلی المسجد الحرام ونادی بالتّوحید فضربه المشرکون بشدّة ، وأرادوا قتله لولا خوفهم من قبیلته بنی غفار . وبعد ذلک توجّه تلقاء بنی غفار ونشر الإسلام فی أوساطهم(5) . وکان قد هجر عبادة الأصنام فی الجاهلیّة وصار موحّدا . وقیل : إنّه حینما أسلم قالت له امرأة: صبأتَ ، وبعد ذلک قامت جماعة من قریش بضربه(6). وقال عمرو بن عبسة أیضا : إنّه کان رابع من أسلم إذ لم یسبقه إلاّ بلال وأبو بکر(7) ! ومن الواضح أنّه إمّا لم یطّلع علی حقیقة الأمر أو تقوّلوا علیه ذلک ، لأنّنا لو افترضنا أنّ أبا بکر لا یقال عنه شیء ، فإنّ بلالاً قد سبقه إلی الإسلام کثیرون . وقال نعیم بن عبد اللّه أیضا : إنّه أسلم بعد عشرة ، لکنّه کان یکتم إیمانه(8) . ونقل نجل الأرقم بن أبی الأرقم أنّ أباه کان سابع من أسلم(9) . إلی هنا ورد أکثر من ثلاثین مسلما وقد ذکرنا أسماءهم .

ص: 333


1- الطّبقات الکبری 3 : 102 .
2- نفسه : 139 .
3- نفسه 4 : 95 .
4- نفسه : 224 .
5- نفسه 4 : 224 ، 225 .
6- نفسه : 223 .
7- نفسه : 214 ؛ السّیرة النّبویّة ، الذّهبیّ : 140 ، 141 ، نقلاً عن کتاب مسلم ، رقم 832 . ومن الطّریف أنّ الیعقوبیّ نقل علی لسانه أنّه أتی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وسأله قائلاً : هل استجاب لک أحد ؟ فقال : نعم ، امرأة ، وفتیً علیّ ، وعبد (زید بن حارثة) . تاریخ الیعقوبیّ 2 : 23 .
8- الطّبقات الکبری 4 : 138 .
9- المنتخب من ذیل المذیل : 519 .

وأشار ابن سعد إلی عدد من المسلمین بقوله : «کان قدیم الإسلام بمکّة وهاجر إلی أرض الحبشة»(1) . ویستشفّ من هذه الجملة أنّ هؤلاء کانوا قد أسلموا قبل السّنة الخامسة الّتی هاجر فیها المسلمون إلی الحبشة . وعددهم ثمانیة وعشرون شخصا . وینبغی أن نضیف إلیهم عددا من النساء . ومن المحتمل أنّ عدد المسلمین فی السّنة الخامسة للبعثة کان یربو علی المائة قلیلاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار عدد المهاجرین إلی الحبشة ، وهم بضع وثمانون .

ونعود الآن الی مرحلة الدّعوة السّرّیّة ، أی : السّنین الثلاث الأُولی من البعثة ، ونستعرض مرحلتین تاریخیّتین ترتبطان بعلنیّة الدّعوة ، والذّهاب إلی دار الأرقم .

مرّ بنا أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لم یتعرّض لعقائد المشرکین فی البدایة ، وترکهم وشأنهم لذلک لم تعاده قریش . ونجحت هذه السّیاسة المقرونة بالدعوة غیر الرسمیّة فی استقطاب من کانت عندهم أرضیّة للنزوع نحو التّوحید . ولم یبال عامّة المشرکین إذا تخلّی أحد عن الوثنیّة أو اعتنق النّصرانیّة أو الإسلام ، ولکنّهم یقلقون إذا تعرّض نظامهم القیمیّ والقبلیّ للتشکیک . وسنری أنّ المشرکین کانوا علی استعداد أن یعبدوا ربَّ محمّد صلی الله علیه و آله وسلم سنةً علی أن یعبد آلهتهم سنةً أیضا . وطفق المشرکون یعادون النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم منذ أن جهر بالدّعوة ، وعاب عقائدهم المشوبة بالشّرک . یقول الیعقوبیّ : کتم النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم دعوته ثلاث سنین وکان یدعو إلی التوحید ، وعندما یلتقی بمجموعة من قریش کانوا یقولون : ابن عبد المطّلب یتحدّث عن السّماء ؛ وظلّ هکذا إلی أن عاب آلهتهم وضلّل آباءهم لکفرهم . ثمّ أمره اللّه تعالی أن یصدع برسالته . فصدع بها ، ووقف بالبطحاء وقال : أنا رسول اللّه ، أدعوکم إلی عبادة اللّه وترک عبادة

ص: 334


1- الطّبقات الکبری 4 : 120 - 122 ستّة ، 124 ، 128 (اثنان) ، 130 ، 135 (اثنان) ، 136 ، 139 ، 140 ، 141 (اثنان) ، 191 (اثنان) ، 194 ، 201 ، 202 (اثنان) ، 203 (اثنان) ، 213 ، 214 (اثنان) .

الأصنام الّتی لا تضرّ ولا تنفع ، ولا تخلق ولا ترزق ، ولا تُحیی ولا تُمیت . وبدأت قریش باستهزائها منذ ذلک الحین ، وطلبت من أبی طالب أن یصدّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم عن مراده(1) . وذکرعامّة کتّاب السِّیَر أنّ الدّعوة العلنیّة بدأت بعد نزول قوله تعالی : « وَأَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ »(2) ، وقوله سبحانه : « فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِکِینَ * إِنَّا کَفَیْنَاکَ الْمُسْتَهْزِئِینَ »(3) .(4) وفی روایة عن الإمام الصّادق

علیه السلام أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کتم عمله ثلاث سنین بمکّة ثمّ أمره اللّه تعالی أن یصدع به ففعل(5) .

وکان رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بعد ذلک یعلن رسالته مرارا فی اجتماعاتٍ کان یعقدها ، ویطلب من النّاس أن یُسلموا . وکُلِّف فی ضوء الآیة المذکورة أن یبدأ بإنذار عشیرته الأقربین . ونقل الطبریّ عن ابن إسحاق فی شأن نزولها قائلاً : قال علیّ علیه السلام : لمّا نزلت هذه الآیة علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : « وَأَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ » دعانی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فقال لی : یا علیّ ! إنّ اللّه أمرنی أن أُنذر عشیرتی الأقربین . فضقت بذلک ذرعا ... حتّی جاءنی جبرئیل فقال : یا محمّد إنّک إلاّ تفعل ما تؤمر به یعذّبک ربّک فاصنع لنا صاعا من طعام ... ثمّ اجمع لی بنی عبد المطّلب حتّی أکلّمهم وأبلّغهم ما أُمرتُ به ففعلتُ ما أمرنی به ، ثمّ دعوتهم له وهم یومئذٍ أربعون رجلاً یزیدون رجلاً أو ینقصونه فیهم أعمامه ... فلمّا أراد رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أن یکلّمهم بدره أبو لهب إلی الکلام ... ولم یکلّمهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، فقال الغد : یا علیّ إنّ هذا الرّجل سبقنی إلی ما قد سمعت من القول فتفرّق القوم قبل أن أکلّمهم فعُد لنا من الطعام بمثل ما صنعتَ ، ثمّ اجمعهم لی ، قال : ففعلتُ ... فأکلوا ... ثمّ تکلّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فقال :

ص: 335


1- تاریخ الیعقوبیّ 2 : 23 .
2- الشّعراء : 214 .
3- الحجر : 94 ، 95 .
4- انظر : الدرّ المنثور 4 : 106 ، 107 ؛ تاریخ الطّبریّ 2 : 318 ، 319 ؛ السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 262 ، 263 .
5- تفسیر العیّاشیّ 2 : 253 .

«یا بنی عبد المطّلب إنّی واللّه ما أعلم شابا فی العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتکم به . إنّی قد جئتکم بخیر الدّنیا والآخرة . وقد أمرنی اللّه تعالی أن أدعوکم إلیه فأیّکم یؤازرنی علی هذا الأمر علی أن یکون أخی ووصیّی وخلیفتی فیکم» .

قال : فأحجم القوم عنها جمیعا وقلتُ : ... أنا یا نبیّ اللّه أکون وزیرک علیه ، فأخذ برقبتی ثمّ قال : إنّ هذا أخی ووصیّی وخلیفتی فیکم فاسمعوا له وأطیعوا . قال : فقام القوم یضحکون ویقولون لأبی طالب : قد أمرک أن تسمع لابنک وتطیع(1) . ونقل الطبریّ هذه الواقعة فی تفسیره أیضا إلاّ أنّه ذکر غیر الجملة السّالفة وقال مکانها : فأیّکم یوازرنی علی هذا الأمر علی أن یکون أخی وکذا وکذا(2) . وهذا تحریفٌ بیّن لخبر تاریخیّ مهمّ !

إنّ دعوة العشیرة الأقربین نابعة من تکلیف ألقاه اللّه تعالی علی عاتق رسوله صلی الله علیه و آله وسلم . ومن منظار اجتماعیّ ومن وحی الظّروف السّائدة فی مکّة ینبغی أن نقول : کانت لدعوة العشیرة الأولویّة التّامّة للأسباب الآتیة : أوّلاً : کانت العشیرة مطّلعة علی خلق النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم عن قرب ، فکانت تعتقد بنزاهته وصدقه أکثر من جمیع العرب . ومن الطّبیعیّ له صلی الله علیه و آله وسلم أن یستثمر هذا الوضع فی الظّروف الاعتیادیّة ، بالرغم من وجود بعض العقبات فی طریقه . ثانیا : إیمان العشیرة به صلی الله علیه و آله وسلم یترجم شعورها القبلیّ العاطفیّ حیاله . ویضاف إلیه أنّ بنی عبد المطّلب إلاّ من شذّ وندر کانوا ینحازون إلیه ، فلو آمنوا به مع الشّعور العاطفیّ الّذی کانوا یحملونه تجاهه فإنّهم یکونون حماةً ثابتین أقویاء له . ولا شکّ فی أنّ کثیرا من بنی هاشم - علی الرغم من مخالفتهم لدعوته فی ذلک الاجتماع - أسلموا تدریجا ، وإن لم یجهروا بإسلامهم ، وأُکرهوا

ص: 336


1- تاریخ الطّبریّ 2 : 320 ، 321 ؛ مجمع البیان 7 : 206 خلیفتی فی أهلی عن تفسیر الثّعلبیّ .
2- تفسیر الطّبریّ 19 : 75 . وأورد الذّهبیّ الواقعة أیضا بنفس السّند لکنّه حذف القسم الأخیر من الحدیث . انظر : السّیرة النّبویّة ، الذّهبی : 145 .

بعد ذلک علی حضور بدر ، وورد أنّ جُلّهم اعتنق الإسلام باطنا . وما موقف أبی لهب منه صلی الله علیه و آله وسلم إلاّ خوفا علی بنی هاشم من العرب أن یبیدوهم(1) . ثالثا : کانت العشیرة الأقربون یتوقّعون منه صلی الله علیه و آله وسلم أن یُطلعهم علی رسالته فی جلسة خاصّة وهم رهطه الأدنون . ولو لم یفعل لاتّهموه بعدم الاعتناء بهم . رابعا : ینبغی الالتفات إلی أنّ عشیرته الأقربین إذا رضیته وآمنت به فالقبائل الأُخری لا تتّهم دعوته بعدم الشّرعیّة ، وهذا ما حدث یومئذٍ . فقد قال له المشرکون مرّة : کان رهطک الأقربون یعرفونک أکثر منّا ولم یتّبعوک(2) . ونقل خالد بن أبی جبل عن أبیه أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم لمّا قرأ سورة الطارق حفظتها منه ؛ فسألتنی ثقیف ، ماذا تعلّمت منه ؟ فقرأت لهم السّورة. فقال رجل قُرَشِیّ کان معهم : نحن نعرف صاحبنا أکثر ، فلو کان کلامه حقّا لاتّبعناه(3) . وقال شیخ من قبیلة کلب فی دعوة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أیضا : ما أحسن ما یدعو إلیه هذا الشّاب ، إلاّ أنّ قومه ابتعدوا منه ؛ ولو وادعهم لتبعته العرب کلّها(4) . وقالت له ثقیف أیضا : کرهک قومک ورفضوا دعوتک ، وجئتنا تدعونا . واللّه لنحن أشدّ مخالفةً لک منهم(5) .

بید أنّ دعوتَهُ صلی الله علیه و آله وسلم عشیرتَه أجدت نوعا ما . وبعدها عقدالجلسات لیدعو عامّة المکّیّین . وذهب أرباب السِّیَر إلی أنّ هذه الجلسات کانت تُعْقَد قریبا من جبل الصّفا . ونقل الواقدیّ عن ابن عبّاس أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کان ینادی قریشا عند الصّفا ، ویقول مستندا إلی صدقه ، ساعیا إلی أخذ الدعم من النّاس : یا بنی عبد المطّلب ! یا بنی عبد مناف ! یا بنی زهرة ! - ونادی قبائل قریش کلّها - إنّ اللّه أمرنی أن أنذرکم ، خیر دنیاکم وآخرتکم فی قول لا إله إلاّ اللّه . فقام أبو لهب وقال : تبّا لک ، ألهذا جمعتَنا ؟

ص: 337


1- انظر : أنساب الأشراف 1 : 118 ، 119 .
2- الطّبقات الکبری 1 : 216 .
3- تاریخ یحیی بن معین 1 : 27 .
4- أنساب الأشراف 1 : 238 .
5- نفسه : 237 .

فنزلت فیه سورة المسد(1) .

ونقل ابن معین روایةً کاملةً نسبیّا حول تأثیر الدّعوة النّبویّة الأولی ، ومن المناسب أن نوردها هنا . علما أنّ الحاکم النّیسابویّ ذکرها ناقصةً . قال : نقل مِسْور ابن مخرمة الزّهریّ عن أبیه أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم حین أعلن دعوته إلی الإسلام ، أسلم أهل مکّة جمیعهم ، وکان ذلک قبل وجوب الصّلاة ، إلی أن قرأ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . فسجدوا کلّهم حتّی لم یبق مکان للسّجود لکثرة النّاس . وظلّوا علی ما هم علیه إلی أن رجع رؤساء قریش إلی مکّة، وکانوا قد ذهبوا إلی الطّائف یستخبرون عن أراضیهم ، فوبّخوا النّاس وقالوا لهم : ترکتم دین آبائکم ؟ بعد ذلک کفر النّاس(2) . وقال عروة بن الزّبیر أیضا : لمّا دعا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قومه إلی النّور والهُدی ، لم یبتعد عنه النّاس وکادوا أن یتّبعوا کلامه ، إلی أن رجع جماعة من قریش من ذوی الجاه قادمین من الطّائف ، وعارضوه ، فتبعهم أکثر النّاس وابتعدوا عنه(3) . هاتان الرّوایتان تتطابقان إلی حدٍّ ما . وفی ضوء هذه الرّوایة ینبغی أن نقول : اعتنق جمهور الناس فی مکّة الإسلام بسرعة أو کانوا مستعدّین لاعتناقه ، مثلهم بذلک کمثل أهل المدینة ، بید أنّ رؤساء قریش مستغلّین نفوذهم حالوا دون تنامی الإسلام فی حین أنّ المدینة کانت تخلو من نظرائهم فیحولوا دون إسلام الناس .

إنّ الصّدع بالرّسالة فی مکّة ، وإسلام عدد من شبابها ، وعبدانها ، حتّی نسائها ولّدا ردّة فعل عند رؤساء قریش . وشعروا أنّهم إذا تقاعسوا قلیلاً فی مقاومته فسیفلت

ص: 338


1- أنساب الأشراف 1 : 120 (من اللازم ذکره أنّ بعض أرباب السِّیَر أرادوا أن یطبّقوا الآیة المذکورة علی هذه الجلسة من أجل نفی حکایة الإنذار . فی حین أنّ الجلسة المذکورة خاصّة ببنی عبد المطّلب لأنّهم کانوا العشیرة الأقربین) . حول إطلاق العشیرة علی الأقربین انظر : البدایة والنّهایة 2 : 157 .
2- تاریخ یحیی بن معین 1 : 53 .
3- مغازی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، عروة بن الزّبیر ، ص104 ؛ تاریخ الطّبریّ 2 : 328 .

الزّمام من أیدیهم تماما . من هنا بدأ تشدّدهم ، علما أنّ هذا التشدّد کان بعد إعلان الدّعوة . ویعود ذلک إلی جرأة بعض المسلمین علی الجهر بإسلامهم . فعبد اللّه بن مسعود بعد ما أسلم کان یقرأ القرآن فی مکّة جهرا ممّا سبّب فی إیذائه(1) . ومرّ بنا أیضا أنّ أبا ذر ما إن أسلم حتّی وقف عند الکعبة رافعا صوته بالتّوحید فلقی من المشرکین أذیً کثیرا . وقال زید بن عمرو بن نفیل : کنّا متخفّین سنةً بسبب إسلامنا ولم نستطع الصّلاة إلاّ فی بیت مُقفَل أو شِعب غیر مسکون ومع ذلک کان بعضنا یراقب بعضنا الآخر(2) . وذکر الواقدیّ أنّ الصّحابة کانوا یصلّون الظّهر مختارین لکنّهم یتفرّقون فی الشِعاب لصلاة العصر ویصلّونها فرادی ومثنی . ولمّا صلّی طُلیب بن عمیر وحاطب بن عمرو فی شعب «الأجیاد الأصغر» حمل علیهما ابن أصداء وابن غیطلة . وکانا فحّاشَین فهاجماهما بالحجارة(3) .

ونقل البلاذریّ عن سعد بن وقّاص أنّه ذهب إلی «شعب أبی دبّ» مع نفر من الصّحابة ، وتوضّؤوا وصلّوا خفیةً . فأقبل جماعة من المشرکین ولاحقوهم . وفیهم الأخنس بن شریق ورهط منهم ، ولاموهم وحملوا علیهم ، فأخذ سعد عظم بعیر ورمی به أحدهم فجرحه ، وانهزموا(4) !

ومن المحتمل أنّ راوی هذه الحادثة غیّر آخِرها إذ یدلّنا مصدر آخَر علی أنّ المسلمین فقدوا حتّی الشّعاب البعیدة الّتی کانوا یصلّون فیها آمنین بسبب موقف سعد غیر السّدید هذا . وقبل ذلک کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نفسه یصلّی مع بعض الصّحابة فی أطراف مکّة(5) . ونحن نعلم أنّه صلی الله علیه و آله وسلم کان ینهی أصحابه إبّان البعثة عن أیّ لونٍ من ألوان العُنف . ولعلّ هذه الحادثة أدّت إلی تحدید المسلمین أکثر من ذی قبل ،

ص: 339


1- الطّبقات الکبری 1 : 151 .
2- أنساب الأشراف 1 : 116 .
3- نفسه 1 : 117 .
4- نفسه : 116 .
5- الطّبقات الکبری 4 : 95 .

واختفائهم فی دار مقفلة علی جبل الصّفا ، وهی دار الأرقم بن أبی الأرقم . ونقل نجل الأرقم أنّ أباه کان سابع من أسلم . وکانت داره علی الجبل المذکور . وهی الدّار الّتی مکث فیها النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی «أوّل الإسلام» ، وکان یدعو فیها الناس إلی الدّین الجدید ، وأسلم کثیر منهم . وأصبحت هذه الدار فیما بعد ملکا للمنصور العبّاسیّ ، ثمّ أعطاها ولدُه المهدیّ زوجتَه الخیزرانَ ، فعرفت «بدار الخیزران» منذ ذلک الحین(1) . وتحوّلت إلی مسجد مبارک . وذلک یعود إلی إقامة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فیها مدّةً مع ثلّة من أصحابه عندما کان متولّیّا عن المشرکین(2) . ولم یتطرّق ابن إسحاق إلی هذا الموضوع . واکتفی البلاذریّ بالإشارة إلی أسماء بعض الّذین أسلموا قبل ذهاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم إلی دار الأرقم (نقلاً عن الواقدیّ طبعا) . بید أنّ السِیَر المتأخّرة کسیرة الحلبیّ والشّامیّ أشارت إلیه . ولعلّ سیرة ابن إسحاق لم تذکره لضآلة شأنه .

لقد مرّ بنا (ونصّ علیه الحلبیّ أیضا) أنّ الذّهاب إلی دار الأرقم کان بعد مشکلة طرأت علی المسلمین فی جبال مکّة ، وهی جرح سعد بن أبی وقّاص أحد المشرکین(3) . ونقل البعض أن إسلام عمر کان فی هذه الدار(4) . لکنّ الشّامیّ لا یری ذلک صحیحا . لأنّ المشهور بین المؤرّخین من أهل السّنّة هو أنّ عمر أسلم بعد هجرة ثلّة من المسلمین إلی الحبشة فی حین أنّ الذّهاب إلی دار الأرقم کان فی السّنة الرّابعة من البعثة(5) . وذکر ابن سعد أشخاصا أسلموا یوم کان النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی دار الأرقم . ومن هؤلاء بنو أبی البُکَیر بن یالیل الأربعة إذ أسلموا وبایعوا النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فیها(6) .

ص: 340


1- الطّبقات الکبری 3 : 242 - 244 .
2- أخبار مکّة 2 : 200 - 260 .
3- السّیرة الحلبیّة 1 : 283 .
4- أخبار مکّة 2 : 200 .
5- سبل الهدی والرّشاد 2 : 229 - 248 . إنّ الخبر المعروف المأثور فی إسلام عمر ینافی إسلامه فی دار الأرقم . للاطّلاع علی تاریخ إسلام عمر والآراء المطروحة حوله انظر : الصّحیح 2 : 91 - 94 .
6- الطّبقات الکبری 3 : 388 .

ونقل أنّ مصعب بن عمیر سمع بدعوته صلی الله علیه و آله وسلم النّاسَ فی الدّار المذکورة فدخلها وأسلم ، لکنّه کتم إسلامه خوفا من أُمّه وقومه إلی أن رآه عثمان بن طلحة یتردّد علی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، فأخبر أُسرته ، فحبسوه من جرّاء ذلک ، إلی أن هاجر إلی الحبشة(1) . وأسلم طلیب بن عمیر فی دار الأرقم أیضا . وأضاف ابن سعد ذاکرا هذا الموضوع أنّه ذهب عند أمّه أروی بنت عبد المطّلب وأخبرها بإسلامه ، فحثّته علی ذلک واستحسنت له أن یحمی ابن خاله ، وودّت أنّها لو کانت تستطیع الذبّ عنه کالرّجال . فطلب منها أن تسلم کما أسلم أخوها حمزة بن عبد المطّلب ؛ واستجابت لذلک، وکانت تدافع عن النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بلسانها(2) . ویُستشفّ من هذا النقل أنّ حمزة بن عبد المطّلب کان قد أسلم آنئذٍ . ونُقل عن عمّار بن یاسر أنّه رأی صهیبا علی باب الأرقم ، فسأله عن قصده ، وسأله صهیب أیضا عمّا جاء به ، فقال إنّه جاء لیسمع کلام محمّد صلی الله علیه و آله وسلم . فقال صهیب إنّه جاء لذلک أیضا . وأسلم الاثنان ، ومکثا نهارهما هناک . ثمّ خرجا منه لیلاً یترقّبان(3) .

ولیس من معلومات دقیقة حول المدّة الّتی لبث خلالها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی دار الأرقم . وذهب الحلبیّ إلی أنّها کانت شهرا واحدا(4) ، وأنّه أقام هناک فی بدایة الجهر بالدّعوة ، بید أنّ ما سلف یدلّ علی أنّ ذهابه إلی دار الأرقم کان بعد إعلان الدّعوة واصطدام المسلمین بالمشرکین . وکان کلّ من یسلم آنذاک یُدعی صابئیّا(5) ، وکفی بذلک ذریعةً لقومه ، بل لأبویه فی إیذائه وتعذیبه(6) ، وإذا کان عبدا فمولاه یتولّی إیذائه وتعذیبه . وسنری أنّ هذا الوضع هو الّذی أجبر المسلمین علی الهجرة إلی الحبشة .

ص: 341


1- الطّبقات الکبری 3 : 116 .
2- نفسه 3 : 123 .
3- أنساب الأشراف 1 : 158 ؛ الطّبقات الکبری 3 : 227 - 247 .
4- السّیرة الحلبیّة 1 : 283 .
5- الطّبقات الکبری 3 : 267 ، 4 : 100 - 220 .
6- نفسه 4 : 124 .

تأثیر النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم تاریخیّا

اشارة

کان لقیادة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم خلال الثلاث والعشرین سنة تأثیر باهر فی انتصار الاسلام علی الشّرک الجاهلیّ . وتبدأ مزایا هذه القیادة منذ عصر ما قبل البعثة ، وتبلغ ذروتها مع بدایة البعثة عبر تغییرٍ مهمّ سببه الأساس هو تأثیر الوحی فی شخصیّته صلی الله علیه و آله وسلم . وکان لهذه المزایا تأثیرها البالغ فی بثّ الدّعوة الإسلامیّة . وقبل البدء بالحدیث یجدر بنا الإشارة إلی التعبیر القرآنیّ «أولو العزم» بشأن بعض الأنبیاء . قال تعالی مخاطبا نبیّه : « فَاصْبِرْ کَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ »(1) . وکان أنبیاء أولو العزم حلماء صابرین ، لذا جاء فی عدّة مواضع من القرآن اقتران العزم بالصبر ، فقال سبحانه : « وَاصْبِرْ عَلَی مَا أَصَابَکَ إِنَّ ذلِکَ مِنْ عَزِمِ الْأُمُورِ »(2) . وورد فی القرآن أیضا أنّ آدم کان خلیّا من العزم ، قال تعالی : « وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما »(3) . وکان رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم من أُولی العزم والإرادة ، صبورا ، مقاوما ، مصرّا علی نشر دعوته التّوحیدیّة ، وهذه المزایا مجتمعةً جعلت منه شخصیّةً متألّقة ، وکان لها تأثیرها العامّ الشّامل فی قیادته . ویحسن بنا أن نتناولها بشیء من الحدیث بغیة التعرّف علی شخصیّته صلی الله علیه و آله وسلم .

1 - ارتباط النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بقریش والعرب

من الحریّ بالعلم أنّ موقع النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کان رفیعا ممتازا من الوجهة الاجتماعیّة والقبلیّة . فقد کان من قریش . وذکرنا آنفا أنّ قریشا کانت تتمتّع بأعلی وجاهة معنویّة بین المشرکین فی الجزیرة العربیّة . ویعود ذلک إلی سیطرتها علی مکّة أمّ القری

ص: 342


1- الأحقاف : 35 .
2- لقمان : 17 . وانظر : آل عمران : 186 ؛ الشّوری : 43 .
3- طه : 115 .

فی الحجاز وأقدس مکان عند العرب . من هنا کان معظم العرب ینظرون إلیها نظرة إجلال وإکبار وسؤدد . ودلّت الأحداث الّتی تلت وفاة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم علی وجود قبائل أخری کانت تحاول منافسة قریش ، بید أنّ قریشا ظلّت راسخة الموقع قویّة الجاه .

وذکر الجاحظ خصائص قریش بقوله : لم یُرَ فی قریش من ینتسب إلی قبیلة أخری . ولم یلد فیها مولود لغیرها إلاّ فی ثقیف فی الطّائف وکانوا أهل الحُمس أیضا . ومع أنّها کانت قد ترکت الحرب لکنّها ظلّت أعزّ وأعلی . وکانت تکرّم ضیوف مکّة وتصل الشّعراء کما کان یفعل الملوک . وکانت قریش أفصح العرب ، کما قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : «أنا أفصح العرب بید أنّی من قریش» [ ونحن نعلم أنّ القرآن نزل بلهجة قریش ] . وکان العرب یفدون علی مکّة للحجّ والتّجارة کلّ سنة ویعرفون قریشا(1) . وهذا الجاه الّذی تمتّعت به قریش کان فی البدایة سدّا أمام الإسلام ثمّ أصبح سببا فی امتداده أکثر فأکثر . وکان لآل قُصیّ وبنی هاشم جاه معنویّ متمیّز بین قریش . وأشرنا سابقا إلی الشّأن الّذی کان لبنی هاشم بین قریش ، وذلک فی حدیثنا عن العصر الجاهلیّ . کما تولّی عبد المطّلب زعامة قریش لسنین طوال . وفی أحضان هذه الأسرة نشأ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم . فقد رعاه جدّه عبد المطّلب فی البدایة ، ثمّ عمّه أبو طالب . وکان لبنی عبد المطّلب جاه ملحوظ ، ممّا شکّل عقبة فی طریق القبائل الأخری من أن تنال من مشرکی قریش . وهذا الشّرف النّسبیّ أشار إلیه أمیرالمؤمنین علیه السلام فی نهج البلاغة أیضا فقال : «ونحن الأعلون نسبا»(2) . وافتخر به المغیرة

ابن شعبة أمام قائد الجیش الفارسیّ فقال : «وإنّ اللّه قد ابتعث منّا نبیّا فی شَرَفٍ منّا ،

ص: 343


1- رسائل الجاحظ ، الرسائل السّیاسیّة ، ص102 - 106 . وجاء فی الطّبقات الکبری أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلمقال : أنا أعربکم ، أنا من قریش . انظر : المصدر المذکور 1 : 113 .
2- نهج البلاغة : 162 .

أوسطنا حَسَبا وأصدقنا حدیثا»(1) . فکان له أن یجعل النّبیَّ صلی الله علیه و آله وسلم فی موقع یُحسب له حسابه فی المجتمع الجاهلیّ .

وکانت للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم مزیّة أُخری تربطه بالعنصر العربیّ لاسیما بقریش . فقد کان عربیّا . من هنا فقد کان لقریش والقبائل العربیّة الأُخری الّتی کانت تعیش فی إطار النّظام القبلیّ المغلَق نبیّ منها . ولم تکن ملزمة باعتناق الیهودیّة والنّصرانیّة اللّتین کانتا غریبتین علیها عنصریّا . قال تعالی مخاطبا إیّاها : « وَهذَا کِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَکٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّکُمْ تُرْحَمُونَ * أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْکِتَابُ عَلَی طَائِفَتَیْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن کُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِینَ * أَوْ تَقُولوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَیْنَا الْکِتَابُ لَکُنَّا أَهْدَی مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَکُم بَیِّنَةٌ مِن رَبِّکُمْ وَهُدیً وَرَحْمَةٌ ... »(2) . ویستفاد من هذه الآیات أنّ العرب کانت تری نفسها مستقلّة عن تینک الطّائفتین ولابدّ أن یکون لها کتاب مستقلّ عنهما . ولم یبعث اللّه تعالی کتابا جدیدا فحسب بل اختار رسولاً منها أیضا . ونزل القرآن بلسان عربیّ مبین لینسجموا معه تماما ولا یخالفوه . « وَإِنَّهُ لَتَنزِیلُ رَبِّ الْعَالَمِینَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِینُ * عَلَی قَلْبِکَ لِتَکُونَ مِنَ الْمُنذِرِینَ * بِلِسَانٍ عَرَبِیٍّ مُبِینٍ * ..... وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَی بَعْضِ الْأَعْجَمِینَ * فَقَرَأَهُ عَلَیْهِم مَا کَانُوا بِهِ مُؤْمِنِینَ »(3) . وقال جلّ من قائل : « وَلَوْ جَعَلْنَاهُ

قُرْآنا أَعْجَمِیّا لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آیَاتُهُ ءَأَعْجَمِیٌّ وَعَرَبِیٌّ »(4) .

ومن البیّن أنّ اللّه تعالی راعی تکییف لغة العرب مع لغة القرآن ، وهذا ما یمکن أن ینسف کثیرا من الاعتراضات . وعلی هذا المنوال اهتمّ القرآن بالانسجام القومیّ للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم مع العرب . فلیس للعرب إذن أن یعترضوا فی هذا المجال . وإنّهم کانوا مغلولین بغلّ مجتمع مغلَق فمن الطّبیعیّ لهم أن یعترضوا ، مع أنّ منزلة القرآن من جهة

ص: 344


1- أخبار إصبهان 1 : 21 ؛ المصنّف ، ابن أبی شیبة 13 : 10 طبعة الهند .
2- الأنعام : 155 - 157 .
3- الشّعراء : 192 - 195 ، 198 ، 199 .
4- فصّلت : 44 .

اشتماله علی الهُدی کانت تعدّ معیارا أساسیّا من هنا جاء فی تتمّة الآیة السّابقة قوله : « قُلْ هُوَ لِلَّذِینَ آمَنُوا هُدیً وَشِفَاءٌ وَالَّذِینَ لاَ یُؤْمِنُونَ فِی آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَیْهِمْ عَمیً أُولئِکَ یُنَادَوْنَ مِن مَکَانٍ بَعِیدٍ »(1) . ولعلّ التّعبیر القرآنیّ «من أنفسهم» بشأن النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم

یعکس مزیّة هی نصب عینه صلی الله علیه و آله وسلم لمخاطبی القرآن العرب . قال سبحانه : « لَقَدْ جَاءَکُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِکُمْ عَزِیزٌ عَلَیْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِیصٌ عَلَیْکُم بِالْمُؤْمِنِینَ رَؤُوفٌ رَحِیمٌ »(2) . وذهب عدد من المفسّرین فی صدر الإسلام إلی الاحتمال المعهود(3) . ونظرا إلی هذا الموضوع ، فإنّ تعبیر «من أنفسهم» الوارد فی الآیة الّتی تحدّثت عن تعلّق النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بقومه یجد له مکانةً أرفع . وقال تعالی فی موضع آخر : « لَقَدْ مَنَّ اللّه ُ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ إِذْ بَعَثَ فِیهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیَاتِهِ وَیُزَکِّیهِمْ وَیُعَلِّمَهُمُ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَإِن کَانُوا مِن قَبْلُ لَفِی ضَلاَلٍ مُبِینٍ »(4) . وأشار الطبرسیّ إلی بعض الأقوال فی تبیین قوله تعالی : «مِنْ أنفسهم» فقال :

«فیه أقوال : أحدها : أنّ المراد به من رهطهم یعرفون منشأه وصدقه وأمانته وکونه أمّیّا لم یکتب کتابا ولم یقرأه لیعلموا أنّ ما أتی به وحی منزّل ... وثانیها : أنّ المراد به أنّه یتکلّم بلسانهم فیسهل علیهم تعلّم الحکمة منه ... وثالثها أنّه عامّ لجمیع المؤمنین ، والمراد بأنفسهم أنّه من جنسهم لم یُبعَث مَلَکا ولا جنّیّا»(5) .

فالآیات المذکورة مجتمعةً تؤکّد انسجام النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم والکلام الإلهیّ مع البیئة الّتی کان فیها مبعثه .

ص: 345


1- فصّلت : 44 .
2- التوبة : 128 .
3- انظر : مجمع البیان 5 : 86 .
4- آل عمران : 164 .
5- مجمع البیان 2 : 532 .

2 - السّابقة الدّینیّة للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم

کان ماضیه صلی الله علیه و آله وسلم فی مکّة معروفا عند قریش . إذ کان منذ عنفوان شبابه مشهورا بالخصال الأخلاقیّة الحمیدة ، ولم یعهد النّاس منه سوءَ سابقة وذمیم فعلٍ . فقد کان ذا شخصیّة أخلاقیّة متینة ، مستأنسا بنفسه نوعا ما ، ولم ینشغل بعبث الشباب ومجالس اللغو واللهو الحیوانیّة قطّ . وکان مداریا للناس ، مضیافا ، واصلاً للرحم ، معینا للضّعفاء والمساکین والبائسین . وهذه صفات وصفه بها النّاس فی الجاهلیّة وأوّل البعثة(1) . من هنا کانوا یحکّمونه فی خلافاتهم(2) . وسمّوه «الأمین» . وکلّما کانوا ینحرون کانوا یطلبون منه أن یحضر معهم ویدعو لهم(3) . وخاطبوه بالأمین أیضا فی واقعة نصب الحجر الأسود . وعُدَّ قراره صلی الله علیه و آله وسلم فی اشتراک طوائف قریش کلّها فی نصب الحجر آیة علی علمه وحنکته(4) . وعندما نشب النزاع بینه وبین قریش بعد النّبوّة لم تنبزه بسوء سابقة وغیرها قطّ ، فی حین لو کانت له ، وهو الّذی ما برح یدعو النّاس إلی الحیاة الأخلاقیّة السّلیمة ، لبدا طبیعیّا لقریش أن تُذیع بها .

ویتسنّی لنا أن ننوّه بهذا الموضوع أیضا فیما یخصّ سابقته الدّینیّة صلی الله علیه و آله وسلم . وإذا تغاضینا عمّا فی أیدینا من معلومات حول عقیدته الدّینیّة قبل البعثة ، فإنّه لم یُلحَظ أنّ قریشا لمزته بالشّرک وعبادة الأصنام یوما کما لم تتبجّح علیه وتقدح فی سابقته . فعلی أیّ دینٍ کان قبل النّبوّة ؟ ونقول : إنّ هذا الموضوع مثار نقاش عند المفکّرین المسلمین فی النّصوص التّاریخیّة والرّوائیّة ، ومن ثمّ فی النّصوص الکلامیّة منذ البدایة .

ص: 346


1- کتاب البخاریّ ، کتاب بدء الوحی ، الباب 3 ؛ کتاب مسلم ، کتاب الإیمان ، 252 - 254 ؛ سبل الهدی والرّشاد 2 : 198 .
2- الطّبقات الکبری 1 : 157 ؛ سبل الهدی والرّشاد 2 : 202 .
3- سبل الهدی والرّشاد 2 : 202 .
4- الطّبقات الکبری 1 : 146 .

وسنستعرض هنا بعض المعلومات المنقولة فی هذا المجال مع اعتقادنا سلفا بطهارته صلی الله علیه و آله وسلم من کلّ أنواع الشّرک من منظارٍ إسلامیّ . ونترک هذا الموضوع إلی موضعه . وذکر ابن إسحاق أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم حین بلغ سنّ الشّباب کان اللّه تعالی یرعاه ویحفظه من دَنَس الجاهلیّة ورجسها لأنّ إرادته اقتضت أن یکرمه بکرامة الرّسالة . وکان علی دین قومه إلی أن نشأ وکبر . وهو أمثلهم مروءةً وأخلاقا . وکان له أفضل سلوک فی تعامله مع الآخرین ، وعرف برعایة حقوق الجار أکثر من غیره . وکان أفضل النّاس وأصدقهم وآمنهم فی الأخلاق والکلام والأمانة(1) . والمثیر للإشکال فی هذه العبارة کلمة ابن اسحاق الّتی یقول فیها : «هو علی دین قومه» . ومن الجدیر بالذکر أنّ الّذی رواها هو یونس بن بکیر(2)، فی حین أنّ خبر ابن إسحاق ورد فی سیرة ابن هشام أیضا لکنّ العبارة المذکورة لم ترد فیها . ومن المحتمل أنّ ابن هشام لم یعتقد بها فأسقطها . مع أنّنا عهدناه لا یحذف شیئا من الأخبار ، بل یعلّق علیها عادةً إذا کان له رأی فی نصوصها . علی أیّ حال لم تنقل العبارة المعهودة فی سیرته(3) .

وجاء فی خبر آخر عن ابن إسحاق أنّ جبیر بن مطعم قال : رأیتُ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم «وهو علی دین قومه» وکان جالسا علی ناقته فی عرفات(4) . وهنا تثار ملاحظتان . الأولی : إنّ هذا الخبر ورد فی موضع آخر أیضا ، لکنّ العبارة المذکورة لم ترد فیه ، بل ورد مکانها ما نصّه : «رأیت رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی الجاهلیّة»(5) . الثانیة : إنّ البیهقیّ یرفض رفضا قاطعا نسبة أیّ لون من ألوان الشّرک إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، ویری ذلک مغایرا للرّوایات الأُخری الّتی تنزّه ساحة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم عن الشّرک ، ویقول : هذا یعنی أنّه کان علی إرث إبراهیم وإسماعیل الّذی کان مألوفا بین القوم

ص: 347


1- سیرة ابن إسحاق : 78 .
2- دلائل النّبوّة ، البیهقی 2 : 30 .
3- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 183 .
4- دلائل النّبوّة ، البیهقیّ 2 : 37 .
5- سبل الهدی والرشاد 2 : 201 .

یومئذ کالحجّ ، والشّؤون المتعلّقة بالنّکاح والبیع والشّراء ، ولیس الشّرک إذ لم یشرک باللّه طرفة عین(1) .

ومن المناسب أن نذکر هنا توضیحا آخر أیضا ، وهو أنّ کلمة «الدّین» فی الاستعمال اللغوی أوسع بکثیر ممّا نعرفه عنها أنّها مجرّد مجموعة من العقائد . فالدّین جاء بمعنی الجزاء والحساب (یوم الدّین) ، والطّاعة والاتّباع ، والعادة والشّأن . کما تقول العرب : «ما زال ذلک دینی ودَیْدَنی»(2) . ویبدو أنّ ما نُقل أنّه «کان علی دین قومه» یراد به أنّه کان فی الحجّ والوقوف فی عرفة یتسنّن بما کان من سنن قبل الإسلام فی ذلک العصر الّذی کان عصر جاهلیّة . وهکذا فالعبارة المذکورة فی مجال الدّین لا تعنی عبادة الأصنام ، بل هی مجرّد إشارة إلی أنّ العهد لم یزل عهد جاهلیّة کما ورد فی خبر آخر عن جبیر بن مطعم نفسه أنّه رأی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم والعهد عهد جاهلیّة(3) . وکذا جاء فی روایة ابن إسحاق ، فقد أراد أن یقول : إنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کان منزّها من کلّ رجسٍ ودَنَس فی ذلک العصر الّذی کان عصر جاهلیّة . وإلاّ لا ینبغی أن نقول : إنّ ابن إسحاق نفسه فی کلامه الّذی أراد به أن ینزّهه صلی الله علیه و آله وسلم من کلّ عیب نسب إلیه أسوأ رِجسٍ وهو الشّرک . وأورد ابن الأثیر کلام البیهقیّ نفسه فی شرح الجملة المذکورة ، وذهب فیه إلی أنّ الدّین بمعنی العادة(4) .

ص: 348


1- دلائل النّبوّة ، البیهقیّ 2 : 37 .
2- لسان العرب 4 : 460 ، 461 ، ذیل کلمة «دین» .
3- ینبغی أن نقرّ بوجود موارد تفید أنّ تعبیر «علی دین قومه» یراد منه معناه الظّاهر کالّذی جاء بشأن حمزة ، انظر : بحارالأنوار 18 : 159 . وحینئذٍ لا بدّ من رفض الخبر المنقول بشأن النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم من الأساس لوجود روایات تعارضه ، وستأتی لاحقا .
4- انظر : لسان العرب 4 : 462 ؛ من المؤسف أنّ عبد الحسین زریاب ذهب إلی أنّ المراد من الدّین فی تعبیر «علی دین قومه» هو دین الشّرک . وقال : لو لم یکن علی دینهم ولم یحترم عقائدهم لما لقّبوه بالأمین سیرة رسول اللّه : 100 . وقد أکّدنا سابقا فی الموضوعات المرتبطة بالعصر الجاهلیّ أنّ قریشا لم تُبد حسّاسیّة حیال عبادة الأصنام وکانت مستعدّة فی اقتراحاتها علی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أن تعبد إلهه سنةً کاملة ، ونحن نعرف أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لم یُثر أحدا ضدّه فی السّنین الثّلاث الأولی من البعثة لعدم اتّخاذه موقفا متطرّفا من عبادة الأصنام .

وإذا استثنینا خبر ابن إسحاق فإنّ هناک حدیثا آخر بهذا الشّأن ولا بدّ من تقویمه . وهذا الحدیث یعرف بحدیث البَلْدَح(1) . ونُقل فیه أنّ النّبی صلی الله علیه و آله وسلم ، ومعه زید بن حارثة ، التقی قبل البعثة بزید بن عمرو بن نفیل الّذی کان حنیفیّا فی موضعٍ یُدعی «بلدح» . وکان النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وزید قد بسطا مائدةً علیها لحم من ذبیحة الأصنام، ودعوا زید بن عمرو إلیها . فقال : لا آکل لحما ذُبح للأصنام . فقال النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم : وهذا دعانی إلی أن لا آکل مثل هذا اللحم . وأضاف صلی الله علیه و آله وسلم : هو أوّل من عرّفنی بعیب الأصنام وعبادتها(2) . ولم ینقل ابن هشام هذا الخبر ، لکن المؤسف هو أنّ البخاریّ أورده فی کتابه إلاّ أنّه لم یورد الحشو الّذی فی آخره .

والحقّ هو أنّ أحادیث کثیرة تنقض الخبر المذکور . ویضاف إلیها أنّه رُوی بشکلٍ محدودٍ جدّا ولم یجد له صدیً فی النّصوص الحدیثیّة . وکان فیه دسٌّ أیضا إذ نلحظ أنّه یرفع زید بن عمرو بن نفیل - کرفعه ورقة بن نوفل - إلی درجة أنّه یُبعث أمّةً وحده یوم القیامة کإبراهیم ! علما أنّه کان من قبیلة بنی عَدیّ ، وهی قبیلة عمر بن الخطّاب .

ونطالع أحادیث تنزّه النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم من کلّ شائبة من شوائب الشّرک . فقد روی أبو نعیم عن علیٍّ علیه السلام أنّه قال : سُئل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : هل عبدتَ صنما ولو لمرّةٍ واحدة ؟ فقال : لا . فسئل : هل شربت خمرا ؟ قال : لا(3) . وکذلک نُقل عن ابن سعد ، وأبی نعیم ، والبیهقیّ أنّ أمّ أیمن قالت : کان البوانة صنما تجتمع عنده قریش مرّة فی السّنة . ولمّا جاء عنده أبو طالب ! مع قومه ، أرادوا من النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أن یحضر معهم ، فرفض ،

ص: 349


1- بلدح موضع فی مسیر مکّة باتّجاه الحدیبیّة .
2- سیرة ابن إسحاق : 18 ؛ کتاب البخاریّ 3 : 310 ؛ وانظر أیضا : دلائل النّبوّة ، لأبی نعیم : 146 .
3- سبل الهدی والرشاد 2 : 200 ؛ الخصائص الکبری 1 : 221 طبعة القاهرة .

وترکهم ، ثمّ قال : إنّه کلّما دنا من صنم ینهاه صوت عن مدّ یده إلیه(1) .

وکان زید بن حارثة یعیش مع النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی العصر الجاهلیّ سنین طوالاً ، ونقل عنه فقال : والّذی أکرمه بالنّبوّة وأنزل علیه الکتاب إنّه لم یمسّ صنما حتّی أکرمه اللّه بالرّسالة(2) . ونقل أیضا أنّ صنما من الصّفر یُعرف بإساف أو نائلة ، کان المشرکون یمسحونه حین الطّواف ، ولمّا طاف النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وأنا معه ، مسحتُه ، فقال صلی الله علیه و آله وسلم : لا تمسحه ! وأعدتُ مسحه ، فاعترضنی صلی الله علیه و آله وسلم وقال : ألم أنهک عنه ؟(3) وجاء فی قصّة بُحیری أیضا أنّهم عندما أقسموا علیه باللات والعزّی - وکذلک کانت تفعل قریش - ذکر صلی الله علیه و آله وسلم أنّهما أبغض الأشیاء عنده(4) .

ونُقلت نماذج کثیرة تدلّ علی النّبوّة قبل البعثة ، مع أنّنا ینبغی أن نلتفت إلی أنّ الإفراط رافقها حتّی إنّ المحدِّثین أنفسهم رفضوها(5) ، بید أنّ بینها موارد قابلة للتّأمّل . منها إنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کان متعوّدا علی الانعزال والتّعمّق والتفکّر قبل النّبوّة ، وکان ینشغل بذلک من خلال الابتعاد عن مکّة والذّهاب إلی الشّعاب والأودیة . وقیل : عندما کان یبتعد عن البیت ، ویذهب إلی شعاب الجبال ، لم یمرّ بشجرةٍ أو حجرٍ إلاّ سلّم علیه. وکان ینظر هنا وهناک فلم یر أحدا(6). النّقطة الأخری هی رغبته صلی الله علیه و آله وسلم فی التّحنّث والتّحنّف فی غار حراء ، وتبنّی ذلک سُنّةً له عدد سنین ، وکان یختلی مع ربّه فی

ص: 350


1- سبل الهدی والرّشاد 2 : 201 ؛ دلائل النّبوّة ، أبو نعیم : 144 ؛ الخصائص الکبری 1 : 221 ؛ الطّبقات الکبری 1 : 158 .
2- دلائل النّبوّة ، البیهقی 2 : 34 ؛ البدایة والنّهایة 2 : 287 ؛ الخصائص الکبری 1 : 89 .
3- دلائل النّبوّة ، البیهقیّ 2 : 34 .
4- نفسه 2 : 35 ؛ سبل الهدی والرّشاد 2 : 47 .
5- علی سبیل المثال انظر : دلائل النّبوّة ، البیهقیّ 2 : 47 .
6- الطّبقات الکبری 1 : 157 .

مکان لا أثر فیه للشّرک والصّنمیّة . ونحن نعلم أنّ النّزعة الحنیفیّة کانت من النّزعات المعروفة بخاصّة بین بنی هاشم ، وطوائف قریش الأخری ، بل بین غیرها من القبائل ، فقد کان فیها من یزعم أنّه ابراهیمیّ الملّة . وعندما یسمّی عبد المطّلب ابنه عبد اللّه ، وهو والد النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، فتلک آیة علی ولائه للّه الواحد وحده . وکیف یمکن أن توجد النّزعة الحنیفیّة بین قریش وبعض القبائل العربیّة الأُخری ، ومزیّتها المهمّة اجتناب الشّرک والتّوجّه إلی التّوحید ، ولا یتعرّف علیها النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم الّذی سیبعث فی المستقبل ، ویحیی دین إبراهیم علیه السلام الّذی هو دین التّوحید ؟ فهذا لا ینسجم مع سابقة التّحنّث فی حراء وغیرها من الأدلّة الآنفة الذکر . وحریّ بنا أن نعرف أنّ الإسلام مبدئیّا جعل الدّعوة الإبراهیمیّة أساس دعوته ، وواکب خطّ الدّین الحنیف بکلّ جدٍّ .

وعندنا أدلّة جمّة علی ذلک . وکانت النّزعة الحنیفیّة فی الجاهلیّة قد مهّدت الأرضیّة للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کی یتسنّی له أن یعرّف عمله بعد مبعثه کامتدادٍ لها ، ویقدّم الدّین الجدید کدینٍ معروفٍ عند أهل الجاهلیّة . وکان صلی الله علیه و آله وسلم یقول : «أنا دعوة أبی إبراهیم» إذ قال فی بناء الکعبة : « رَبَّنَا وَابْعَثْ فِیهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیَاتِکَ »(1) . وکان صلی الله علیه و آله وسلمیقول أیضا : بُعِثْتُ بالحنیفیّة السّمحاء ودین إبراهیم(2) . وجاء فی إحدی الآیات المکّیّة أیضا : « قُلْ إِنَّنِی هَدَانِی رَبِّی إِلَی صِرَاطٍ مُسْتَقِیمٍ دِینا قِیَما مِلَّةَ إِبْرَاهِیمَ حَنِیفا وَمَا کَانَ مِنَ الْمُشْرِکِینَ »(3) . وورد فی سورة الحجّ أیضا ، وهی سورة مدنیّة ، قوله تعالی : « وَجَاهِدُوا فِی اللّه ِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاکُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْرَاهِیمَ هُوَ سَمَّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ مِن قَبْلُ »(4) . وجاء هنا بصراحةٍ أنّ اسم المسلمین هو من إرث إبراهیم علیه السلام ، وأنّ الصراط القویم هو ملّة «أبیکم» إبراهیم . وورد فی موضع آخر

ص: 351


1- البقرة : 129 ؛ الطّبقات الکبری 1 : 149 .
2- الطّبقات الکبری 1 : 192 ؛ وفاء الوفاء 1 : 219 .
3- الأنعام : 161 .
4- الحجّ : 78 .

أیضا : « ثُمَّ أَوْحَیْنَا إِلَیْکَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِیمَ حَنِیفا وَمَا کَانَ مِنَ الْمُشْرِکِینَ »(1) .

وهذا إرث کان العرب یعرفونه ، ومن الثّابت المسلّم به أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم کان یعرفه قبل البعثة أیضا طوال حیاته ، کما أنّ أشخاصا کثیرین کانوا یعرفونه أیضا(2) . ویعتقد طه حسین أنّ الاخبار المتعلّقة بالحنفاء بعد الإسلام أکثر إفراطا ممّا کانت علیه حقیقةً(3) . وهذا الأمر طبیعیّ بین قصّاص العرب . مع هذا فی الآیات القرآنیّة دلیل قاطع علی ما نحن بصدد تبیانه .

الضرب الآخر لتعرّف المشرکین علی التّوحید هو التّعرّف علی الدّین الصّابئیّ . وعندما ظهر الإسلام اتّهم المشرکون النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم(4) وسائر المسلمین(5) بالنّزعة الصّابئیّة ، فمن الواضح حینئذٍ أنّ التّوحید کان أمرا معروفا . وکانت هذه الإرهاصات أوضح للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم الّذی أختیر للنّبوّة بسبب وجود أرضیّتها عنده . قال تعالی فی نبیّه الکریم : « اللّه ُ أَعْلَمُ حَیْثُ یَجْعَلُ رِسَالَتَهُ »(6) . ومرّ بنا أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کان یتمتّع بسابقة

ص: 352


1- النحل : 123 .
2- یضاف إلی الّنماذج الّتی ذکرناها فی البحث المرتبط بالمذهب الحنیفیّ ، انظر : الإصابة 4 : 160 أبو قیس ابن الأسلت ؛ الاستیعاب 4 : 157 ، 158 ، 160 ؛ سبل الهدی والرّشاد 3 : 275 (وردت هناک توضیحات دقیقة حول الشّخص المعهود) .
3- من تاریخ الأدب العربیّ 1 : 152 - 156 . ناقش فیه شعرا منسوبا إلی ابن أبی الصّلت وذهب إلی أنّه منحول . وأراد من ذلک الرّدّ علی «کلمان هوار» الّذی کان قد تصوّر أنّه اکتشف أحد المصادر الجاهلیّة للآیات القرآنیّة من خلال العثور علی شعر حنیفیّ منسوب إلیه . وقال طه حسین حقّا . حتّی لو افترضنا صحّة الشعر المذکور ، فإنّ الشّبه بقصص التّوراة موجود فی القرآن الکریم أیضا . وهذه التّهمة الواهیة موجودة هناک أیضا ، وهی مرفوضة طبعا . مع ذلک ، لا ریب فی أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم والقرآن الکریم أفادا من مکانة إبراهیم بین العرب کنزعة مستقلّة عن الیهودیّة والنّصرانیّة . وصرّح العلاّمة البلاغیّ أنّ الدین الحنیف بلغ النّصر الحقیقیّ بانتصار الإسلام . انظر : الرّحلة المدرسیّة : 573 ، 574 .
4- البدء والتّاریخ 4 : 148 .
5- الطّبقات الکبری 3 : 267 ؛ 4 : 100 ، 202 .
6- الأنعام : 124 .

توحیدیّة إبراهیمیّة قویّة إلی درجة أنّه کان وحده یتحنّث فی غار حراء . وهو نفسه صلی الله علیه و آله وسلم یؤکّد أنّه لم یتلوّث بمجالس اللهو والشّراب فی الجاهلیّة ، ولم یشترک فی مجالس زفافهم الّتی کانت مجالس رقص وطبل ودفّ قطّ(1) . علما أنّه لم یُبعَثْ نبیّا یومئذٍ ، ولم یکن یعرف ما یُدعی القرآن ، والإیمان المفصّل بالشّریعة الجدیدة . وهذا أمر صرّح به الباری تعالی ، فقد قال جلّ من قائل : « وَکَذلِکَ أَوْحَیْنَا إِلَیْکَ رُوحا مِنْ أَمْرِنَا مَا کُنتَ تَدْرِی مَا الْکِتَابُ وَلاَ الاْءِیمَانُ وَلکِن جَعَلْنَاهُ نُورا نَهْدِی بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّکَ لَتَهْدِی إِلَی صِرَاطٍ مُّسْتَقِیمٍ »(2) .

وثمّة نماذج أخری أیضا تدلّ علی حسن سابقته صلی الله علیه و آله وسلم قبل مبعثه . فنحن نعلم أنّ زید بن حارثة الّذی أُسر فی إحدی الحروب اشترته خدیجة غلاما لها ، ثمّ وهبتهُ النبیَّ صلی الله علیه و آله وسلم . وحین جاء أبوه إلی مکّة لیأخذه ، لم یرقه أن یترک رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، وقال : إنّ ذلّ العبودیّة عند محمّد صلی الله علیه و آله وسلم أفضل له من عزّ الحرّیّة بعیدا عنه(3) . ولمّا عزم أبو طالب علی تزویج النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بخدیجة قال : إنّ ابن أخیه محمّد لا یقاس به رجل من قریش إلاّ رجحه(4) . وکان أبو طالب یحبّه حقّا منذ صغره ، ویودّه أکثر ممّا یودّ ولده . ویضیف ابن سعد بعد نقل هذا الموضوع قائلاً : کان أبو طالب یراقبه دائما ، ویبسط فراشه إلی جانب فراشه ، ویصطحبه حیثما ذهب . وکان یؤثره علی عیاله وولده حتّی فی الطّعام . وله أخبار أخری فی هذا المجال أیضا(5) . وهذا کلّه یعود إلی أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کان محبوبا محترما ، وأنّ أبا طالب بما کان علیه من مکانة ووجاهة ، ومع شیخوخته وقف نفسه علی النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بالنّحوالّذی رأینا وشعره الرّائع فی مدحه

صلی الله علیه و آله وسلم

ص: 353


1- دلائل النّبوّة ، البیهقیّ 2 : 23 ؛ سیرة ابن اسحاق : 79 ؛ سبل الهدی والرّشاد 2 : 199 ، 200 .
2- الشّوری : 52 .
3- ربیع الأبرار 3 : 10 .
4- نثر الدّرّ 1 : 396 ؛ بحارالأنوار 16 : 14 ؛ تاریخ الیعقوبیّ 1 : 20 .
5- الطّبقات الکبری 1 : 119 .

یعبّر عن هذه المنزلة الأخلاقیّة الرفیعة فی ذلک المجتمع . فقد قال فی الثناء علیه :

فمن مثله فی الناسِ أیّ مؤمّل * إذا قاسه الحکّام عند التّفاضلِ

حلیمٌ رشیدٌ عادلٌ غیر طائشٍ * یوالی إلها لیس عنه بغافلِ(1)

إنّ من أهمّ فضائله المشهورة صلی الله علیه و آله وسلم صدقه . والتأثیر العجیب لهذه الصّفة فی قبوله بین العرب بوصفه «رسول اللّه» قابل للإثبات من الوجهة التّاریخیّة تماما . وأنشد أبو طالب فی ذلک قائلاً :

لقد علموا أنّ ابننا لا مکذَّب * لدینا ولا یُعْنی بقول الأباطل(2)

وکان المشرکون یقرّون بهذه الصّفة أیضا . قال سبحانه وتعالی فی موقفهم منه صلی الله علیه و آله وسلم مسلّیا إیّاه بألاّ یحزن من قذفهم له بالکذب : « قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَیَحْزُنُکَ الَّذِی یَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ یُکَذِّبُونَکَ وَلکِنَّ الظَّالِمِینَ بِآیَاتِ اللّه ِ یَجْحَدُونَ »(3) وأورد الطبرسیّ هذا الخبر عن أبی جهل أنّه قال للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم : «ما نتّهمک ولا نکذّبک ولکنّا نتّهم الّذی جئت به ونکذّبه»(4) . والصّدق عند عامّة النّاس أقوی وأوثق من کلّ استدلال عقلیّ ، کما أنّ حیاتهم العادیّة قائمة علیه وعلی الثّقة المتبادلة الّتی یولیها أحدهم للآخر ، وعلی أساسهما یقبل أحدهم کلام الآخر فی کثیر من الأمور بلا سند ولا مستمسک . والنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم نفسه أعلن نبوّته وطلب من الناس أن یقبلوا دعوته إلی التّوحید علی جبل الصّفا استنادا إلی ثقة النّاس بصدقه . وفی ذلک قال له المشرکون : (ما جرّبنا علیک کِذبا قطّ)(5) .

وقال شاهد بَصَرَهُ فی الجاهلیّة إنّه ما رآه صلی الله علیه و آله وسلم فی قهقهة وجهالة قطّ ، وما رآه

ص: 354


1- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 280 .
2- نفسه 1 : 80 .
3- الأنعام : 33 .
4- مجمع البیان 3 : 294 .
5- الطّبقات الکبری 1 : 200 ؛ أنساب الأشراف 1 : 99 ، 100 ، 120 ؛ سبل الهدی والرّشاد 2 : 200 .

یلعب مع الصّبیان قطّ(1) . فرزانته واتّزانه صلی الله علیه و آله وسلم ، وبعده عن الجاهلیّة والشّرک ، ووفاؤه لدین التّوحید ، دین جدّه إبراهیم وإسماعیل ، کلّ أولئک جعله یتمتّع بموقع قویّ فی المجتمع المکّیّ .

3 - النّبیّ الأمّیّ

تناول عدد من البحوث موضوع معرفة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بالکتابة والقراءة ، وهل کان ملمّا بهما أم لا . وقد ناقشنا فی الموضوعات المرتبطة بالعصر الجاهلیّ أمّیّة المجتمع المکّیّ . ومحصّلتها أنّ الأُمّیّة هی الجهل بالقراءة والکتابة . ونلحظ فی الاستعمالات التّاریخیّة أنّ هذه الکلمة قد تکرّر استعمالها کثیرا بمعنی «کان أمّیّا لا یکتب»(2) . یضاف إلی ذلک خلوّ التاریخ من معلومات واضحة تدلّ علی وجود مدارس وکتاتیب فی مکّة والمدینة والطائف(3) . مع ذلک ذُکر أفراد قلیلون فحسب کانوا یحسنون هذا العمل . وأجمعت المصادر علی أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم کان لا یعرف القراءة والکتابة إلی ما قبل البعثة. وصرّح القرآن الکریم بذلک . قال تعالی : « وَمَا کُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن کِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِیَمِینِکَ إِذا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ(4) * بَلْ هُوَ آیَاتٌ بَیِّنَاتٌ فِی صُدُورِ الَّذِینَ

ص: 355


1- تفسیر روح المعانی 30 : 161 نقلاً عن تاریخ العرب قبل الإسلام : 149 .
2- بحارالأنوار 16 : 82 ، 66 : 167 . ویستفاد من إحدی الآیات القرآنیّة أنّ استعمالها بالنسبة إلی المشرکین یعنی إطلاق «الأمّیّین» فی مقابل «أهل الکتاب» أیضا . (آل عمران : 20 ، «وقل للّذین أوتوا الکتاب والأمّیّین» . وجاء فی الخبر المرتبط بهزیمة الفرسِ الرومَ الّذی أحزن النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم والمسلمین ، ونزلت فیه الآیات الأولی من سورة الروم وفیها الوعد بغلبة الروم علی الفرس فی بضع سنین : «کان النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم یکره أن یظهر الأمّیّون من المجوس علی أهل الکتاب من الروم» ؛ فقد أطلقت هذه الکلمة علی فاقدی الکتاب . انظر : سبل الهدی والرشاد 2 : 560 . علی أیّ حال لا مانع من هذا الاستعمال للکلمة فی موضعین مترابطین أساسا .
3- بحارالأنوار 17 : 185 ، 187 .
4- الطّریف اللافت للنّظر فی الآیة الکریمة تصریحها بأنّه صلی الله علیه و آله لم یقرأ ولم یکتب ، أی : لم یظهر منه ما دلّ علیهما أو إنّه لم یزاولهما فی حیاته الشّریفة . فلیس فیها ما یهدی إلی أنّه لم یعرف القراءة والکتابة ، أو لم یستطع أن یقرأ ویکتب . فألا یخطر فی البال ویجول فی الظنّ أنّه صلی الله علیه و آله کان یعرف القراءة والکتابة متمکّناً منهما لکنّه لم یمارسهماً عملیّاً ، إمّا لا لحاجةٍ منه إلیهما أو أنّه لم یعتنِ بهما أو لم یُطلَب منه ذلک أو لم تتطلّب ظروفه قراءةً وکتابةً ، أو أنّ الحکمة الإلهیّة اقتضت ذلک لإثبات معجزته الخالدة ؟ وهو جامع المحامد کلّها ومجمع المناقب جمیعها . ولمزید البیان أنّ الرؤیة القرآنیّة فی الأُمّیّة تتمثّل فی أنّ الأُمّیّین هم من کانوا فی مقابل أهل الکتاب کما جاء فی الآیة 78 من سورة البقرة ، والآیة (20) والآیة (75) من سورة آل عمران ، وهی آیات حقیقةٌ بالتّدبّر ! وورد فی لسان العرب (12 : 34) ما نصّه : (وبعثه اللّه رسولاً وهو لا یکتب ولا یقرأ من کتاب ...) . وشتّان بین قولنا : «إنّه صلی الله علیه و آله کان لا یقرأ ولا یکتب» وقولنا : «إنّه لم یعرف القراءة والکتابة» . فحریّ بنا أن نتحرّی ونتروّی والتثبّت محمود . (المترجم)

أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا یَجْحَدُ بِآیَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ * ... أَوَ لَمْ یَکْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَیْکَ الْکِتَابَ یُتْلَی عَلَیْهِمْ إِنَّ فِی ذلِکَ لَرَحْمَةً وَذِکْرَی لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ »(1) ومن الواضح أنّ هدف القرآن من تأکید عدم القراءة والکتابة إثبات النّبوّة وإلهیّة الآیات القرآنیّة(2) . وقیل إنّ هذه الآیة تشیر إلی الوضع السّابق لنزول القرآن . مع هذا فإنّ ما حدث فی الحدیبیّة یدلّ علی أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کان لا یجید القراءة والکتابة حتّی ذلک الحین . وعندما تقرّر حذف عبارة «رسول اللّه» من معاهدة الصّلح مع المشرکین ، ولم یطق أمیرالمؤمنین علیه السلام محوها ، طلب منه النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أن یدّله علیها لیمحوها بنفسه . وفی المقابل ، نقرأ أخبارا تنصّ علی أنّه «ما مات رسول اللّه حتّی کتب وقرأ»(3) ، بید أنّنا لا نجد ما یدلّ علی أنّه کتب نصّا بیده . علی أیّ حال ، إنّ الإصرار علی عدم القراءة والکتابة فی التّحلیل القرآنیّ وسیلة لإثبات رسالته ونبوّته ومعجزة قرآنه صلی الله علیه و آله وسلم . ولعلّنا نستطیع أن نعدّ الأمّیّة هنا بمعنی الحرمان من التّربیة الکتبیّة والمدرسیّة . فالبدو الّذین لیس لهم مرکز

ص: 356


1- العنکبوت : 48 ، 49 ، 51 .
2- مثل هذه الآیة واستدلالها آیة أخری ، قال سبحانه : «قل لو شاء اللّه ُ ما تلوته علیکم ولا أدراکم به فقد لبثت فیکم عمرا من قبله أفلا تعقلون» . یونس : 16 .
3- شرح القاموس 8 : 191 ؛ نقلاً عن تاریخ العرب قبل الإسلام : 172 .

للتربیة الفکریّة هم أُمّیّون لا کتاب لهم . ومن المحتمل أنّ العرب ، حتّی فی الجاهلیّة ، کانوا یسمّون أنفسهم أمّیّین قیاسا بمن کانوا یدعونهم أهل الکتاب .

4 - النّبیّ والأخلاق

ینبغی الأخذ بعین الاعتبار دورا أساسیّا مهمّا لخُلُق النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی نشر دعوته . وکانت خصائصه الأخلاقیّة صلی الله علیه و آله وسلم قد بلغت مبلغا أنّنا یمکن أن نعتبره أسوةً تامّة کاملة للأخلاق الإنسانیّة فی مستوی رفیع عالٍ جدّا . ولنلتفت إلی أنّ الخلق ، بحجم کبیر ، خاصّیّة فردیّة ، ولطف إلهیّ نوعا ما . یضاف إلی ذلک أنّنا یجب أن نشیر إلی هذه الرّسالة الخاصّة للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم إذ قال : «إنّما بُعثتُ لأُتَمّم صالح الأخلاق»(1) . ودلّت الأخبار التّاریخیّة علی قابلیّة النّبی صلی الله علیه و آله وسلم فی استقطاب کثیر من الموالین ، واجتذاب عامّة النّاس فی مکّة ، ومن ثمّ فی المدینة ، لکن قبل ذلک کلّه نجد أنّ صراحة القرآن نفسه أفضل دلیل علی هذا الأمر . قال سبحانه : « وَإِنَّکَ لَعَلَی خُلُقٍ عَظِیمٍ »(2) . وقال : « فَبِمَ-ا رَحْمَةٍ مِنَ اللّه ِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ کُنتَ فَظّا غَلِیظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِکَ »(3) . من هنا أمره اللّه تعالی أن یتلقّی المسلمین الجدد بصدر رحیب ووجه طلق : « وَإِذَا جَاءَکَ الَّذِینَ یُؤْمِنُونَ بِآیَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَیْکُمْ کَتَبَ رَبُّکُمْ عَلَی نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ »(4) . وقال سبحانه : « وَاخْفِضْ جَنَاحَکَ لِلْمُؤْمِنِینَ »(5) .

إنّ أکثر الوصف الموجود لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم مأثور عن الإمام أمیرالمؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام عضده القدیم الحمیم ، وکانت له نظرة نافذة ثاقبة ، وکان یعرف أخاه

ص: 357


1- الطّبقات الکبری 1 : 192 [ «حسن الأخلاق» بدل «صالح الأخلاق» ] ، 193 ؛ بحارالأنوار 16 : 210 ، 67 : 372 ، 382 ؛ مجمع البیان 10 : 333 ، 334 .
2- القلم : 4 .
3- آل عمران : 159 .
4- الأنعام : 54 .
5- الحجر : 88 .

وحبیبه أکثر من أیّ شخص آخر . قال علیه السلام فی وصفه :

«لم یکن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بالطویل الممغّط ، ولا بالقصیر المتردّد ، کان ربعةً من القوم ، ولم یکن بالجعد القَطَط ولا السّبْط ، کان جعدا رَجِلاً ، ولم یکن بالمطّهم ولا المکلثم ، وکان فی وجهه تدویر أبیض مُشْرَب أدعج العینین ، أهدب الأشفار ، جلیل المُشاش والکَتِد ، أجرد ، ذا مَسْرُبة ، شثن الکفّین والقدمین ، إذا مشی تقلّع کأنّما یمشی فی صَبَب ، وإذا التفت التفت معا ، بین کتفیه خاتم النبوّة ، وهو خاتم النّبیّین ، أجود النّاس کفّا ، وأجرأ النّاس صدرا ، وأصدق النّاس لهجةً ، وأوفی النّاس بذمّة ، وألینهم عریکة ، وأکرمهم عشرة»(1) .

وجمع البیهقیّ والشّامیّ ، وآخرون کثیرون غیرهما مثل هذه الأخبار المتعلّقة بهندام رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لیس هنا موضع ذکرها(2) . وقال الإمام علیه السلام فی خلقه الاجتماعیّ :

«مَنْ رآه بدیهةً هابه ، ومَنْ خالطه معرفةً أحبّه»(3) . و«کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یقسّم لحظاته بین أصحابه ، فینظر إلی ذا وینظر إلی ذا بالسّویّة»(4) . و«إذا لقیه الرّجل فصافحه لم ینزع یده من یده حتّی یکون الرّجل هو الّذی ینزعها ، ولا یصرف وجهه عن وجهه حتّی یکون الرّجل هو الّذی ینزعها ، ولا یصرف وجهه عن وجهه حتّی یکون الرّجل هو الّذی یصرفه(5) . وکان طلق المحیّا ، ولم یکن فظّاً ولا لوّاماً ولا بذئیاً

ص: 358


1- الغارات 1 : 161 - 169 ؛ المعرفة والتّاریخ 2 : 355 ؛ أنساب الأشراف 1 : 391 ؛ الطّبقات الکبری 1 : 411 - 412 .
2- سبل الهدی والرشاد 2 : 9 - 76 ؛ دلائل النّبوّة 1 : 215 - 320 ؛ المعرفة والتّاریخ 3 : 340 - 364 ؛ الموفّقیّات : 354 ، 355 .
3- أنساب الأشراف 1 : 392 .
4- بحارالأنوار 16 : 260 .
5- الطّبقات الکبری 1 : 378 ؛ مجمع الزّوائد 9 : 15 ؛ بحارالأنوار 16 : 237 ؛ المعرفة والتّاریخ 3 : 362 .

ولا مازحاً(1) سیرته القصد ، وسنّته الرشد ، وکلامه الفصل ، وحکمه العدل»(2) .

وقال أحد أصحابه صلی الله علیه و آله وسلم : «ما رأیتُ أحدا أکثر تبسّما من رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم»(3) . وحین أسلم أبوسفیان ورأی تعامل الصّحابة مع نبیّهم صلی الله علیه و آله وسلم قال : «واللّه ما رأیتُ من قوم قطّ أشدّ حبّا لصاحبهم من أصحاب محمّد له»(4) . ووصف الإمام الحسین علیه السلام

أیضا سیرة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم مع النّاس الّذین کان لهم شغل معه وصفا جمیلاً ، نقلاً عن أبیه علیه السلام ، وذکر أنّه کان یتفقّد ذوی الحاجة من النّاس ویسألهم أن یخبروه بمن له حاجة ولم یستطع أن یصل إلیه . وکان وقته صلی الله علیه و آله وسلم فی خدمة النّاس دائما إلاّ ما کان منه للّه ولأهله . وکان دائب السّعی فی تألیف قلوب النّاس (یؤلّفهم ولا ینفّرهم) . ویکرّم کریم کلّ قوم ویولّیه علیهم . و(یتفقّد أصحابه ویسأل النّاس عمّا فی النّاس) . ویحسّن الحسن ویقوّیه ، ویقبّح القبیح ویوهنه ، معتدل الأمر غیر مختلف . ولا یقصر عن الحقّ ولا یجوزه الدین . یلونه من النّاس خیارهم ، أفضلهم عنده أعمّهم نصیحةً ، وأعظمهم عنده منزلةً أحسنهم مواساةً ومؤازرةً . لا یجلس ولا یقوم إلاّ علی ذکر ... یعطی کلّ جلسائه بنصیبه . لا یحسب جلیسه أنّ أحدا أکرم علیه منه . (ویظنّ أنّه یحبّه کثیرا بل یؤثره علی غیره)(5) . مَنْ جالسه أو قاومه فی حاجةٍ صابره حتّی یکون هو المنصرف ، ومن سأله حاجةً لم یردّه إلاّ بها أو بمیسور من القول . قد وسع الناسَ منه بسطه وخلقه ، فصار لهم أبا وصاروا فی الحقّ عنده سواء ، مجلسه مجلس حلم وحیاء وصبر

ص: 359


1- أنساب الأشراف 1 : 293 . علما أنّه صلی الله علیه و آله وسلم کان یمزح مع ضیوفه باعتدال . التراتیب الإداریّة 1 : 442 . [ لم نعثر علی مصدر هذه الصفات فتصرّفنا فی ترجمتها ]
2- نهج البلاغة ، صبحی الصّالح : 139 .
3- الطّبقات الکبری 1 : 372 - 373 .
4- الطّبقات الکبری 2 : 56 ؛ المصنّف ، ابن أبی شیبة 14 : 484 . وکان عروة بن مسعود یقول هذا أیضا . مصنّف ابن أبی شیبة 4 : 447 .
5- انظر : مجمع الزّوائد 9 : 15 للاطّلاع علی ما جاء داخل الأقواس .

وأمانة ، لا تُرفع فیه الأصوات ... وکان سهل الخلق ، لیّن الجانب ... یتغافل عمّا لا یشتهی ... لا یذمّ أحدا ولا یعیّره ، ولا یطلب عورته(1) . وکان أحسن النّاس وأسخاهم وأشجعهم(2) . قال أحد الصّحابة ؛ إذا تکلّمنا عنده عن الدّنیا شارکنا فی کلامنا ، وإذا تکلّمنا عن الآخرة تکلّم معنا عنها ، وإذا دار الحدیث عن الطّعام ، کان یتحدّث عنه أیضا(3) . وکانت عائشة تقول : کان خلقه القرآن(4) . وإذا تحدّث تبسّمت شفتاه(5) .

هذه نماذج من سیرة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم مع أصحابه . ویمکننا الآن أن ندرک کلام اللّه سبحانه أفضل ممّا سبق إذ یقول : « وَلَوْ کُنتَ فَظّا غَلِیظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِکَ » . ومع هذه الأخبار المنقولة کلّها نلحظ اشتهار روایة فی مصادر أهل السّنّة تذکر أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کان مشغولاً ذات یوم فی الکلام مع أشراف قریش . فجاءه رجل أعمی یقال له ابن أمّ مکتوم ، وکان یتوقّع منه أن یهتمّ به ویُقبل علیه . لکن النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلمعبس وتولّی وأعرض عنه ، فنزلت سورة عبس تعاتبه علی ذلک . فهذه الرّوایة نقلها محدّثو السّنّة نوعا ما ، بید أنّ العلماء الإسلامیّین حین وضعوها علی مسبار النّقد والّتمحیص بعد مدّة قلیلة ، اقتُرحت طرقٌ للتملّص منها .

یقول الشّامیّ : قال الحافظ ابن حجر : لم یتردّد علماء السّلف فی أنّ فاعل «عبس» هو رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، لکن الدّاوودیّ قال : إنّ المقصود هو الکافر . وقال آخرون

ص: 360


1- المعرفة والتّاریخ 3 : 357 - 359 ؛ الطّبقات الکبری 1 : 422 - 425 باختصار .
2- المعرفة والتّاریخ 3 : 361 .
3- المعرفة والتّاریخ 3 : 361 ؛ دلائل النّبوّة 1 : 313 . وجاء فی موضع آخر أنّ الصحابة کانوا یتناشدون الأشعار ویذکرون أشیاء من أمر الجاهلیّة فیضحکون ویتبسّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم إذا ضحکوا . الطّبقات الکبری 1 : 372 ؛ المعرفة والتّاریخ 3 : 363 ؛ سنن البیهقیّ 1 : 240 .
4- المعرفة والتّاریخ 3 : 361 .
5- نثر الدّرّ 2 : 133 .

أیضا : کان ابن أمّ مکتوم فی المدینة ولم یلق الولید بن المغیرة ، وأمیّة بن خلف ، فشکّوا فی هذه القضیّة . ولا یستصوب الشّامیّ هذا الرّأی ، لأنّ ابن أمّ مکتوم کان فی مکّة ، وعُدّ فی المهاجرین الأُوَل(1) . علی أیّ حال لم یبدر من أهل السّنّة تردید جادّ فی هذا الموضوع . ویقابل موقفهم موقف آخر للشّیعة ، فقد رفضوا الروایة المذکورة . ویعود ذلک فی الدّرجة الأُولی إلی روایة مأثورة عن الإمام الصّادق علیه السلام قال فیها :

«إنّها نزلت فی رجلٍ من بنی أُمیّة کان عند النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فجاء ابن أمّ مکتوم ، فلمّا رآه

تقذّر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه فحکی اللّه سبحانه ذلک وأنکره علیه»(2) .

ونقل الطبرسیّ عن الشّریف المرتضی أنّه قال :

«لیس فی ظاهر الآیة دلالة علی توجّهها إلی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بل هو خبر محض لم یصرّح بالمخبر عنه ، وفیها ما یدلّ علی أنّ المعنیّ بها غیره ، لأنّ العبوس لیس من صفات النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم مع الأعداء المباینین فضلاً عن المؤمنین المسترشدین . ثمّ الوصف بأنّه یتصدّی للأغنیاء ویتلهّی عن الفقراء لا یشبه أخلاقه الکریمة . ویؤیّد هذا القول قوله سبحانه فی وصفه صلی الله علیه و آله وسلم : « وَإِنَّکَ لَعَلَی خُلُقٍ عَظِیمٍ » ، وقوله : « وَلَوْ کُنتَ فَظّا غَلِیظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِکَ »(3) .

فالشخصیّة الأخلاقیّة الّتی نعرفها لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لا تؤیّد هذا الموقف .

وذهب البعض الآخر إلی أنّ تضارب الرّوایات المنقولة فی هذا الباب دلیل علی فساد أصل القصّة . ولمّا کانت الرّوایات المذکورة مرویّة عن أشخاص مثل عائشة ، وأنس ، وابن عبّاس الّذین لم یتذکّروا زمان البعثة أو لم یکونوا فی مکّة أساسا ،

ص: 361


1- سبل الهدی والرّشاد 2 : 557 ، 558 .
2- مجمع البیان 10 : 437 .
3- نفسه 10 : 437 .

فسندها ضعیف(1) . ومهما کان فالموقف نفسه فی الّتمییز بین الفقیر والغنیّ تنکره الآیات الکریمة حتّی لو کان للهدایة . « عَبَسَ وَتَوَلَّی * أَن جَاءَهُ الْأَعْمَی * وَمَا یُدْرِیکَ لَعَلَّهُ یَزَّکَّی * أَوْ یَذَّکَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّکْرَی * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَی * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّی * وَمَا عَلَیْکَ أَلاَّ یَزَّکَّی * وَأَمَّا مَن جَاءَکَ یَسْعَی * وَهُوَ یَخْشَی * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّی * کَلاَّ إِنَّهَا تَذْکِرَةٌ * فَمَن شَاءَ ذَکَرَهُ »(2) .

وقال المرحوم الطّبرسیّ ، وقد نقل روایة الإمام الصّادق علیه السلام :

فلو صحّ الخبر الأوّل ، هل یکون العبوس ذنبا أم لا ؟ فالجواب أنّ العبوس والانبساط مع الأعمی سواء إذ لا یشقّ علیه ذلک ، فلا یکون ذنبا . فیجوز أن یکون عاتب اللّه سبحانه بذلک نبیّه صلی الله علیه و آله وسلم لیأخذه بأوفر محاسن الأخلاق وینبّهه بذلک علی عظیم حال المؤمن المسترشد ، ویعرّفه أنّ تألیف المؤمن لیقیم علی إیمانه أولی من تألیف المشرک طمعا فی إیمانه»(3) .

وقال فی سبب ورود «عبس» بصیغة الغائب :

«... وفی هذا لطف من اللّه عظیم لنبیّه صلی الله علیه و آله وسلم»(4) .

علی أیّ حال حریّ بالذکر أنّ اللّه سبحانه نفسه قال فی وصف رسوله : « لَقَدْ جَاءَکُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِکُمْ عَزِیزٌ عَلَیْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِیصٌ عَلَیْکُم بِالْمُؤْمِنِینَ رَؤُوفٌ رَحِیمٌ »(5) .

5 - النّبیّ ذو العزم

أشرنا فی بدایة هذا البحث إلی مفهوم «أولی العزم» وقلنا : إنّ بعض الأنبیاء کانوا

ص: 362


1- الصّحیح من سیرة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم 2 : 78 - 85 .
2- عبس : 1 - 12 .
3- مجمع البیان 10 : 437 ، 438
4- نفسه .
5- التّوبة : 128 .

أصبر من غیرهم . ولعلّ هذا هو الّذی دعا إلی أن یکون عدد منهم أصحاب شرائع عامّة فحسب بناءً علی مصداق الرّوایة الواردة فی شرح مفهوم «أُولی العزم» . وفی ضوء المعنی المذکور فإنّهم أفضل من غیرهم لتحلّیهم ببعض الخصال الذّاتیّة . وکان نبیّنا صلی الله علیه و آله وسلم منهم . فقد کان ذا عزم وإرادة . إذ جدّ فی بثّ دعوته ، وتحمّس لها ، وعمل أکثر ممّا کُلِّف به ، وکان شدید الحرص علی إسلام النّاس . وفی مرحلة الدّعوة طُلب منه «البلاغ» لا غیره ، وهذا البلاغ کان یتحقّق بالدّعوة مرّةً واحدةً ، بید أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لم یرض بها مرّة أو مرّتین ، بل کان مکثرا فیها ، إذ عُرِف بتردّده علی الأشخاص والطّوائف المختلفة مرارا ، وکان یرید منهم الاستماع إلی دعوته الإسلامیّة . والّذین کانوا یواجهون هذا الإصرار ، یشعرون بثقته الّتی لا تتزعزع بنهجه . وکانت محصّلة هذا الشّعور مضاعفة الاهتمام بهذه الدّعوة . وحقیقة الأمر أنّهم عندما کانوا یلحظون کلّ هذا الحرص والتحمّس والإصرار ، یزید اهتمامهم بأمره . وکان سعیه صلی الله علیه و آله وسلم ، بخاصّة ما کان یحمله من روح الحرص والتحمّس الّتی تؤذیه أشد الإیذاء باطنیّا ، قد بلغ مبلغا أنّ اللّه سبحانه وتعالی کان یلطف به ویلفت نظره إلی ذلک حبّا به وتطییبا لنفسه الشّریفة المقدّسة . قال جلّ من قائل : « فَلَعَلَّکَ بَاخِعٌ نَّفْسَکَ عَلَی آثَارِهِم إِن لَّمْ یُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِیثِ أَسَفا »(1) . وقال : « أَفَمَن زُیِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنا فَإِنَّ اللّه َ یُضِلُّ مَن یَشَاءُ وَیَهْدِی مَن یَشَاءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُکَ عَلَیْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللّه َ عَلِیمٌ بِمَا یَصْنَعُونَ »(2) . وقیل لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : « إِن تَحْرِصْ عَلَی هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّه َ لاَ یَهْدِی مَن یُضِلُّ ... »(3) . وقال : « إِنَّکَ لاَ تَهْدِی مَنْ أَحْبَبْتَ وَلکِنَّ اللّه َ یَهْدِی مَن یَشَاءُ »(4) .

هذه الآیات کلّها آیات علی الحرص الخاصّ الّذی کان یشعر به النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم حیال

ص: 363


1- الکهف : 6 .
2- فاطر : 8 .
3- النّحل : 37 .
4- القَصَص : 56 .

دعوته وهدایة النّاس والإصرار علی هذا العمل . ومن الطّبیعیّ أنّ الهدایة لیست بالإصرار وحده . فهی نور یقذفه اللّه تعالی فی قلب من کان له أهلاً . ولنا أن نعدّ صمود رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وإصراره علی عمله الرّسالیّ عاملین مهمّین فی بثّ دعوته ونشرها . وحول جهوده ومساعیه العظیمة یقول أخوه وصاحبه الإمام أمیرالمؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام :

«اللهمّ ... اجعل شرائف صلواتک ونوامی برکاتک ورأفة تحنّنک علی محمّد عبدک ورسولک ونبیّک الخاتم لما سبق ، والفاتح لما انغلق ، والمعلن الحقّ بالحقّ ، والدّافع جیشات الأباطیل والدّامغ صولات الأضالیل ، کما حمّل فاضطلع قائما بأمرک لطاعتک ، مستوفزا فی مرضاتک ، غیر ناکلٍ عن قدم ، ولا واهٍ فی عزم ، واعیا لوحیک ، حافظا لعهدک ، ماضیا علی نفاذ أمرک ، حتّی أوری قبس القابس ، وأضاء الطریق للخابط ...»(1) .

مکائد المشرکین فی موقفهم من النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم

اشارة

کان ظهور الإسلام فی الوهلة الأولی بعد نزول الآیات الأولی علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم . فکان صلی الله علیه و آله وسلم یصلّی عند الکعبة إلی بیت المقدس ومعه عدد من أتباعه کعلیّ ابن أبی طالب علیه السلام ، وخدیجة ، وزید بن حارثة . ومن الواضح أنّ المشرکین کانوا علی علم بهذا العمل وممهّداته لکنّهم لم یتّخذوا موقفا حادّا منه صلی الله علیه و آله وسلم . وعزا المؤرّخون ذلک إلی ما یأتی : یقول الزّهریّ :

«دعا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم إلی الإسلام سرّا وجهرا ، فاستجاب للّه من شاء من أحداث الرّجال وضعفاء النّاس حتّی کثر مَنْ آمن به ، وکفّار قریش غیر منکرین لما یقول .

ص: 364


1- الغارات 1 : 159 ، 160 .

فکان إذا مرّ علیهم فی مجالسهم یشیرون إلیه أنّ غلام بنی عبد المطّلب لیُکلَّم من السّماء ، فکان ذلک حتّی عاب اللّه آلهتهم الّتی یعبدونها دونه ، وذکر هلاک آبائهم الّذین ماتوا علی الکفر ، فَشَنِفوا لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عند ذلک وعادَوْهُ»(1) .

ویبدو أنّ المشرکین لم یتّخذوا موقفا من الدّعوة فی مرحلتها الأولی لأنّ قریشا لم تکن حسّاسةً حیال عبادة الأصنام أو تغییر دین بعض أفرادها . بل کانت تثار وتمتعض إذا تعرّض أحدٌ لآلهتها (أصنامها) أو لآبائها وأجدادها بسوء وامتهان(2) . وفی فترة لاحقة کانت تقترح علی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أن یدع آلهتها ، وهم یترکونه وإلهه(3) . وتدهورت علاقات المشرکین بالنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وصحابته بعد إعلان حقیقة رسالته وهی الانفصال عنهم ، وتوحید اللّه ، ورفض عبادة الأصنام ، وذمّها البالغ . وبعد ذلک حاولت قریش أن تحول دون انتشار الإسلام وامتداده المتعاظم بما کانت تمتلکه من وسائل وأدوات .

إنّ التّرکیبة القبلیّة لتلک البیئة دفع قریشا إلی الاصطدام بالنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی إطار خاصّ . فلم تستطع إیذاءه مباشرة لدعم آل عبد المطّلب له . من هنا کان علیها أن

ص: 365


1- أنساب الأشراف 1 : 115 ، 116 ؛ الطّبقات الکبری 1 : 199 ؛ السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 262 ، 264 .
2- کان هذا الموضوع عسیرا علی بعض المشرکین إلی درجة أنّهم لم یتحمّلوا البقاء فی مکّة إبّان سنین البعثة ، وغادروها إلی الطّائف کی لا یسمعوا إساءةً إلی آبائهم وآلهتهم . انظر : الطّبقات الکبری 4 : 100 ، [ قال أحیحة حین أسلم ابنه ولم یستطع إرجاعه : «لأعتزلنّ فی مالی لا أسمع شتم آبائی ولا عیب آلهتی هو أحبّ إلیّ من المقام مع هؤلاء الصباة» . والصباة جمع صابئیّ ، اسم وضعه المشرکون للمسلمین ، وکان فی الأصل اسما لفرقة تُدعی «الصّابئین» ] .
3- أنساب الأشراف 1 : 231 . کرّر المشرکون تعبیر أبی جهل بشأن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم . وکان قد قال فیه معدّدا أعماله ضدّهم : عیب دیننا وشتم آبائنا وتسفیه أحلامنا وشتم إلهنا . انظر : السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 298 ؛ أنساب الأشراف 1 : 141 .

تفکّر بأُسلوب یطلق لها العنان فی ما تریده . وتطرّقنا سابقا إلی أحد أسالیبها وهو إیذاء المسلمین واضطهادهم . ویتسنّی لنا مناقشة هذه الأسالیب والمواقف فی شکلین : الأوّل : استعراض المسار التّاریخیّ لها . الثّانی : الحدیث عنها موضوعیّا . وسنتناولها بهذا الحدیث الموضوعیّ مشیرین إلی موردها التّاریخیّ ومراعین بذلک إیجاز الکتاب .

1 - المساومة

کان موقع قریش فی مکّة ، کقبیلة متاجرة تحتاج إلی الهدوء لمواصلة عملها ، یفرض علیها أن تُنهی قضیّة الإسلام باتّئاد . یضاف إلی ذلک أنّ القضاء علی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم - کما مرّ بنا سلفا - کان متعذّرا لاستتباعه حربا دمویّة لاحدّ لها داخل قریش نفسها . من هنا کانت منذ البدایة حتّی عزمها علی قتله تفکّر بالموادعة والمساومة ، وتطرح ذلک بین تارةٍ وأخری . ومن الجدیر ذکره أنّها لم تکن مستعدّة قطّ لایجاد اشتباکات واصطدامات بین بطونها بخاصّة علی قضایا جزئیّة أو علی قضایا کانت تحسبها جزئیّة(1) . وبشأن الاقتراحات التساومیّة یمکن الإشارة إلی اقتراحاتها بتقدیم المال والمنصب . قال ابن إسحاق : نزلت الآیة « قُلْ مَا سَأَلْتُکُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَکُمْ إِنْ أَجْرِیَ إِلاَّ عَلَی اللّه ِ »(2) فی ردّ العروض المالیّة للمشرکین(3) . ونقل أنّ أشراف قریش بعثوا وراء رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، وطلبوا التفاوض معه فأتاهم ، فقالوا له : (إنّا قد بعثنا إلیک لنکلّمک ، وإنّا واللّه ما نعلم رجلاً من العرب أدخل علی قومه مثل ما أدخلتَ علی قومک . لقد شتمتَ الآباء ، وعبتَ الدّین ، وشتمتَ الآلهة ، وسفّهت الأحلام ، وفرّقتَ الجماعة ، فما بقی أمرٌ قبیح إلاّ قد جئته فیما بیننا وبینک ... فإنْ کنتَ إنّما جئتَ

ص: 366


1- انظر بهذا الشأن قصّة مفصّلة نقلها ابن هشام السّیرة النّبویّة 1 : 412 ، 413 .
2- سبأ : 47 .
3- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 313 .

بهذا الحدیث تطلب به مالاً جمعنا لک من أموالنا حتّی تکون أکثرنا مالاً ، وإن کنتَ إنّما تطلب به الشّرف فینا فنحن نسوّدک علینا ، وإنْ کنت ترید به ملکنا ملّکناک علینا ، وإن کان هذا الّذی یأتیک رَئیّا تراه قد غلب علیک - وکانوا یسمّون التّابع من الجنّ رئیّا - فربّما کان ذلک بذلنا لک أموالنا فی طلب الطّبّ لک حتّی نبرئک منه أو نُعذر فیک . فقال لهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : «ما بی ما تقولون ، ما جئتُ بما جئتکم به أطلب أموالکم ولا الشّرفَ فیکم ، ولا الملک علیکم ، ولکنّ اللّه بعثنی إلیکم رسولاً ، وأنزل علَیّ کتابا ... فإن تقبلوا منّی ما جئتکم به فهو حظّکم فی الدّنیا والآخرة ، وإن تردّوه علَیّ أصبر لأمر اللّه حتّی یحکم اللّه بینی وبینکم» .)(1)

وورد فی خبر آخر عن جابر أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قرأ علیهم الآیات الأولی من سورة «فصّلت» حین عرضوا علیه المال والسّؤدد وغیرهما حتّی بلغ قوله تعالی : « فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُکُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ »(2) . وتحیّر عتبة بن ربیعة أمام هذه الآیات ورجع . وأضاف البلاذریّ علی لسانه أنّه قال لقریش : خلّوا بین هذا الرّجل وبین ما هو فیه فاعتزلوه ، وإنّه لن یتخلّی عمّا هو فیه(3) . وهو نفسه صلی الله علیه و آله وسلم کان یقول : «لو وضعوا الشمس فی یمینی ، والقمر فی یساری علی أن أترک هذا الأمر حتّی یُظهره اللّه أو أُهلک فیه ، ما ترکتُه»(4) .

وکان الاقتراح التّساومیّ الآخر للمشرکین إسکات النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم مبدئیّا عندما لم

ص: 367


1- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 295 ، 296 .
2- فصّلت : 13 .
3- المصنّف ، ابن أبی شیبة 7 : 331 ؛ أنساب الأشراف 1 : 151 ؛ تاریخ یحیی بن معین 1 : 54 ، 55 الرّوایة هنا مفصّلة ؛ السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 293 ؛ عیون الأثر 1 : 196 ، 197 ؛ سبل الهدی والرّشاد 2 : 447 - 449 .
4- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 266 ؛ أنساب الأشراف 1 : 230 .

یعلن صلی الله علیه و آله وسلم دعوته ، ولم یُدِن عقائد المشرکین ، فإنّهم قد ترکوه وشأنه . بید أنّهم اتّخذوا موقفهم المعروف منه حین صدع بدعوته إلی التّوحید وعاب عقائد الصنمیّة وأدانها . وبعد ذلک بدأ الاصطدام ، لکنّ المشرکین کانوا مصرّین علی أن یحجّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عن عمله ، ویترکهم وآلهتهم . وفی ضوء ما نقل کتّاب السِّیَر والمفسّرون ، فإنّ سورة «الکافرون» نزلت فی نفر من أشراف قریش ، وفیهم : الحارث بن قیس السّهمیّ ، والعاص بن أبی وائل ، والولید بن المغیرة ، وأمیّة بن خلف .

«قالوا : هلمّ یا محمّد فاتّبع دیننا نتّبع دینک ونشرکک فی أمرنا کلّه . تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهک سنةً . فإن کان الّذی جئت به خیرا ممّا بأیدینا کنّا قد شرکناک فیه وأخذنا بحظّنا منه . وإن کان الّذی بأیدینا خیرا ممّا فی یدیک کنت قد شرکتنا فی أمرنا وأخذت بحظّک منه ، فقال صلی الله علیه و آله وسلم : معاذ اللّه أن أشرک به غیره ، قالوا : فاستلم بعض آلهتنا نصدّقک ونعبد إلهک . فقال : حتّی أنظر ما یأتی من عند ربّی ، فنزل : «قل یا أیّها الکافرون» السّورة ، فعدل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم إلی المسجد الحرام ..»(1) .

قال ابن عبّاس : لمّا اشتکی أبو طالب وکان فی الأیّام الأخیرة من حیاته ، استغلّت قریش جاهه ، فاعتزمت إجبار النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم علی تحجیم دعوته .

«قالوا لأبی طالب : ... وقد علمتَ الّذی بیننا وبین ابن أخیک ، فادعه ، فخذ له منّا ، وخذ لنا منه ، لیکفّ عنّا ، ونکفّ عنه ، ولیدعنا ودیننا ، وندعه ودینه . فبعث إلیه أبو طالب ، فجاءه ، فقال : یا ابن أخی : هؤلاء أشراف قومک ، قد اجتمعوا لک لیعطوک ، ولیأخذوا منک . فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : نعم ، کلمة واحدة تعطونیها تملکون بها العرب ، وتدین لکم بها العجم ، فقال أبو جهل : نعم وأبیک ، وعشر کلمات ؛ قال :

ص: 368


1- مجمع البیان 10 : 552 ؛ السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 362 ؛ أنساب الأشراف 1 : 134 ، رقم 275 ؛ عیون الأثر 1 : 197 ؛ سبل الهدی والرشاد 2 : 559 .

تقولون : لا إله إلاّ اللّه ، وتخلعون ما تعبدون من دونه . قال : فصفّقوا بأیدیهم ... إنّ أمرک لعجب ... ثمّ تفرّقوا»(1) .

وکانت خطوات المشرکین من أجل جرّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم إلی التّساوم مکثّفة ، وکانوا یطمحون إلی تقلیص اندفاعه باقتراحاتهم المتعدّدة مهما کلّفهم ذلک . وهمّوا بخداعه أیضا . وهو ما ذکره القرآن الکریم . فقد نُقل عن الإمام الباقر علیه السلام أنّ آیات من سورة الإسراء ، کسورة «الکافرون» ، نزلت بشأن الاقتراحات الّتی کان قد عرضها الکافرون(2) . قال تعالی فی هذه السّورة : « وَإِن کَادُوا لَیَفْتِنُونَکَ عَنِ الَّذِی أَوْحَیْنَا إِلَیْکَ لِتَفْتَرِیَ عَلَیْنَا غَیْرَهُ وَإِذا لاَتَّخَذُوکَ خَلِیلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاکَ لَقَدْ کِدتَّ تَرْکَنُ إِلَیْهِمْ شَیْئا قَلِیلاً * إِذا لَأَذَقْنَاکَ ضِعْفَ الْحَیَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَکَ عَلَیْنَا نَصِیرا »(3) . وذکر الطّبرسیّ خمسة موارد فی شأن نزول هذه الآیات ، وکلّها تُنبئ عن إصرار المشرکین علی ضربٍ من التّساوم العبادیّ(4) . وطلبوا منه صلی الله علیه و آله وسلم أن یعبد آلهتهم بذریعة أنّ عبادتها کانت دین آبائه ، فمنعه اللّه تعالی من ذلک بصراحة وقال : « قُلْ أَفَغَیْرَ اللّه ِ تَأْمُرُونِّی أَعْبُدُ أَیُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِیَ إِلَیْکَ وَإِلَی الَّذِینَ مِن قَبْلِکَ لَئِنْ أَشْرَکْتَ لَیَحْبَطَنَّ عَمَلُکَ وَلَتَکُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِینَ »(5) . وفی موضع آخر طلب اللّه سبحانه من رسوله ألاّ یرضخ لأیّ هویً من أهواء المشرکین، قال تعالی : « ثُمَّ جَعَلْنَاکَ عَلَی شَرِیعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِینَ لاَ یَعْلَمُونَ »(6) . وقال تارةً أُخری : « فَلاَ تُطِعِ الْمُکَذِّبِینَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَیُدْهِنُونَ * وَلاَ تُطِعْ کُلَّ حَلاَّفٍ مَهِینٍ »(7) .

ص: 369


1- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 417 ؛ أنساب الأشراف 1 : 231 ؛ الطّبقات الکبری 1 : 202 ؛ المصنّف ، ابن أبی شیبة 7 : 322 .
2- تفسیر فرات : 611 ، رقم 768 .
3- الإسراء : 73 - 75 .
4- مجمع البیان 6 : 431 .
5- الزمر : 64 ، 65 .
6- الجاثیة : 18 .
7- القلم : 8 - 10 .

الآیات الأخیرة بخاصّة تصرّح بأنّ قریشا کانت تنوی تقلیل التّوتّر بینها وبین الرّسول صلی الله علیه و آله وسلم . وقال سبحانه فی موضع آخر : « فَاسْتَقِمْ کَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَکَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِیرٌ * وَلاَ تَرْکَنُوا إِلَی الَّذِینَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّکُمُ النَّارُ وَمَا لَکُم مِن دُونِ اللّه ِ مِنْ أَوْلِیَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ »(1) وقال تبارک شأنه : « فَلِذلِکَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ کَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ »(2) . وأمر تعالی رسوله صلی الله علیه و آله وسلم أنْ یبتعد عنهم وقال : « وَاهْجُرْهُمْ هَجْرا جَمِیلاً »(3) . وهذا الأمر کان منذ بدایة الدّعوة . ومن المحتمل أنّه ورد من أجل تمییز طریق التّوحید عن طریق الشّرک تماما . ولم یرغب المشرکون کثیرا فی زیادة التّفاوت بین توحید النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وشرکهم لئلاّ یحدث انشقاق فی المجتمع المکّیّ . وکان قد قیل لأبی بکر إنّه إذا بقی فی بیته وعَبَدَ اللّه فلا شغل للمشرکین به(4) . فهذه هی سیاسة المشرکین .

2 - المواقف النّفسیّة

إنّ أحد الأسالیب الّتی انتهجها المشرکون فی تعاملهم مع النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم اتّخاذهم المواقف السّاخرة لإیذائه . وکان هدفهم الأصلیّ الحطّ من شخصیّته وعزله . وکانوا یسخرون منه بأشکال مختلفة مستهدفین عزله وامتهان شخصیّته . وکان طبیعیّا من جرّاء ذلک أنّه لا اعتناء للنّاس به ، ولا هو یستطیع البروز فی المجتمع . ولا یمکن أن یکون التأثیر الروحیّ لهذا الموقف قلیلاً علی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وهو المعروف بنجابته ونزاهته وصدقه ، بید أنّه صمد أمام ضروب السخریة والاستهزاء جمیعها بفضل ما عُرِفَ به من الصّفات المذکورة . واهتمّ کُتّاب السِّیَر بالاستهزاء کفصل مهمّ فی أخبار

ص: 370


1- هود : 112 ، 113 .
2- الشّوری : 15 .
3- المزّمّل : 10 .
4- البدء والتاریخ 4 - 6 : 151 .

عصر البعثة . وذکر ابن سعد ، وابن إسحاق ، والبلاذریّ فهرسا بأسماء المستهزئین(1) . ومن بین عشرات الأسماء الّتی أوردها ابن سعد ، أسلم شخصان منهم فحسب ، أمّا الباقون فقد هلکوا فی الغزوات أو ماتوا قبل فتح مکّة(2) . وذهب کُتّاب السِّیَر إلی أنّ هذا یعود إلی دعاء النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم علیهم(3) .

وأبرز هؤلاء أبو جهل ، وأبو لهب ، والأسود بن عبد یغوث ، والولید بن المغیرة ، والعاص بن وائل ، وعقبة بن أبی معیط ، وأبو سفیان . وکان أبو لهب (عبد العزّی بن عبد المطّلب) أحد الهاشمِیَّین المخالِفَین لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، ولم یأل جهدا فی الحؤول دون انتشار الإسلام علی طول عصر البعثة . ونقل البلاذریّ أنّه کان قبل البعثة سیّئ العلاقة برسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم إذ ورد أنّ أبا لهب وأبا طالب تشاجرا یوما، وجلس أبولهب علی صدر أبی طالب فأزاحه رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، ثمّ جلس أبو طالب علی صدره(4) . وکان أبو لهب یقول فی سبب مخالفته : یا بنی عبد المطّلب ، هذا الأمر (الإسلام) أمر سوء فحولوا دونه قبل أن یحول غیرکم دونه ؛ لأنّکم إذا أسلمتم فستذلّون بین العرب ، وإذا ذدتم عنه تُقتلون . وجاء فیه أنّه کان یخشی علی بنی عبد المطّلب أن یکونوا طرفا أمام قریش والعرب جمیعها(5) .

علی أیّ حال ، عندما تمّ الإعلان عن الدّعوة بذل أبو لهب وزوجته أمّ جمیل قصاراهما من أجل التّبلیغ ضدّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ومناهضته حتّی بلغا فی ذلک درجة أنّ

ص: 371


1- الطّبقات الکبری 1 : 200 ، 201 ؛ السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 408 - 410 ؛ أنساب الأشراف 1 : 124 .
2- انظر : الطّبقات الکبری 1 : 201 ؛ مجمع البیان 6 : 346 ، 347 .
3- دلائل النّبوّة ، البیهقیّ 2 : 335 - 339 ؛ تثبیت دلائل النّبوّة : 344 ، 345 ؛ مجمع البیان 6 : 346 ؛ عیون الأثر 1 : 202 ، 203 ، 206 .
4- أنساب الأشراف 1 : 130 ، رقم 263 .
5- نفسه 1 : 119 .

القرآن الکریم ذکرهما وحدهما من بین الأعداء . وبدأ أبو لهب عداءه للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بتطلیق بنتیه اللّتین کان قد عقدهما لابنَیْه(1) . وعندما کان صلی الله علیه و آله وسلم یدعو النّاس إلی التّوحید ، کان أبو لهب یلاحقه ویرمیه بالحجارة ویقول للنّاس : لا تطیعوه ، إنّه صابئیّ ، إنّه کذّاب(2) !

واشتدّ إیذاؤه للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم حتّی قال تعالی فیه وفی زوجته أمّ جمیل : « تَبَّتْ یَدَا أَبِی لَهَبٍ وَتَبَّ * ... وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِی جِیدِهَا حَبْلٌ مِن مَسَدٍ »(3) .

وقیل : إنّ اللّه تعالی سمّاها حمّالة الحطب لأنّها کانت تلقی الشّوک فی طریق رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم(4) . وعندما سمعت نزول آیات فیها وفی زوجها أنشدت شعرا فی هجاء النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم قالت فیه :

مذمَّما عصینا * وأمره أبینا

ودینه قَلَیْنَا(5)

کان المشرکون یستعملون کلمة «مذمَّم» ، ولعلّهم افتعلوها فی مقابل اسم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم(6). وکان أبو سفیان بن الحارث بن عبد المطّلب من أقارب النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم الآخرین الّذین کانوا شدیدی العداء له ، وکان یهجو الإسلام والمسلمین بشعره . وأسلم فی فتح مکّة(7) . وکان أُمیّة بن خلف فی عداد المستهزئین أیضا . ونقل کُتّاب

ص: 372


1- أنساب الأشراف 1 : 122 ، 123 .
2- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 423 ؛ تاریخ یحیی بن معین 1 : 238 ؛ کنز العمّال 6 : 302 ؛ المستدرک 1 : 15 ؛ عیون الأثر 1 : 190 ؛ المصنّف ، ابن أبی شیبة 7 : 332 .
3- المسد 1 ، 4 ، 5 .
4- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 355 . حول شأن النزول المتعدّد الوالد فیها ، انظر : أنساب الأشراف 1 : 120 ، 121 .
5- نفسه 1 : 356 ؛ نفسه 1 : 122 .
6- انظر : السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 356 .
7- الطّبقات الکبری 4 : 49 ، 50 .

السِّیَر والمحدِّثون أنّ اللّه تعالی أنزل سورة الهُمَزَة فی وصفه(1) .

من الحریّ بالعلم أنّ نزول الآیات القرآنیّة بشأن المشرکین کان یُغضبهم ، إذ کانت هذه الآیات تُقرأ باستمرار . وکانت بین عقبة بن أبی معیط وأُبیّ بن خلف صداقة أکیدة . وحین سمع أُبیّ مرّة أنّ عقبة جالس عند رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم حنق ، وقال له : لا أکلّمک إلاّ إذا جاء محمّد وبزقتَ فی وجهه ، ففعل ذلک(2) . وقال سبحانه تعالی فیه : « وَیَوْمَ یَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَی یَدَیْهِ یَقُولُ یَا لَیْتَنِی اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِیلاً * یَا وَیْلَتَی لَیْتَنِی لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنا خَلِیلاً »(3) . وذات مرّة ماطل أبو جهل دائنا له ، فاستغاث ، فقال له المشرکون هازئین ساخرین : ارجع إلی الرجل الجالس عند المسجد وخذ منه حقّک . وذلک الرّجل هو النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . فقام صلی الله علیه و آله وسلم صدفةً وذهب إلی باب دار أبی جهل وطلب منه أن یُعطی الرجل حقّه . ففعل أبو جهل ذلک لا شعوریّا(4) .

وکانت ضروب السّخریة کثیرة حتّی قال تعالی : « إِنَّا کَفَیْنَاکَ الْمُسْتَهْزِئِینَ »(5) وقیل : إنّها نزلت فی الأسود بن عبد یغوث الّذی کان یستهزئ بالمسلمین ، وکان یقول إذا رآهم : جاء الملوک علی الأرض ! وعندما کان یری رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یقول له : یا محمّد ، هل تحدّث الیوم معک أحد من السّماء ؟ وقیل : إنّه مات شرَّ میتةٍ(6) . وقال تعالی

ص: 373


1- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 356 . ونقل الطّبرسیّ خبرین یفیدان أنّ السورة نزلت فی الولید بن المغیرة ، والأخنس بن شریق ؛ مجمع البیان 10 : 538 . وأورد روایة عن الإمام الباقر علیه السلام قال فیها : «إنّ الکفّار والمشرکین یعیّرون أهل التّوحید فی النّار ویقولون : ما نری توحیدکم أغنی عنکم شیئا وما نحن وأنتم إلاّ سواء . قال : فیأنف لهم الربّ تعالی ...» .
2- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 361 ؛ مجمع البیان 7 : 166 .
3- الفرقان : 27 ، 28
4- أنساب الأشراف 1 : 128 ، 129 ؛ السّیرة النّبویّة : 389 ، 390 ؛ عیون الأثر 1 : 204 ، 205 .
5- الحجر : 95 .
6- أنساب الأشراف 1 : 131 ، 132 ، وانظر 1 : 148 ، 149 .

بعد الآیة السّابقة واصفا المستهزئین بالشّرک : « الَّذِینَ یَجْعَلُونَ مَعَ اللّه ِ إِلها آخَرَ فَسَوْفَ یَعْلَمُونَ »(1) . ثمّ قال بعدها : « وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّکَ یَضِیقُ صَدْرُکَ بِمَا یَقُولُونَ »(2) . وفی آیات أُخری لاطف اللّه سبحانه رسوله صلی الله علیه و آله وسلم وسلاّه عن استهزاء المشرکین . قال تعالی : « وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِن قَبْلِکَ »(3) . وتکرّرت هذه الآیة ثلاث مرّات . ویضاف إلی ما تستهدفه من تهدئة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وتسکینه أنّها تحمل تهدیدا للمستهزئین أیضا ، إذ جاء فی تتمّة الآیة السّابقة : « فَحَاقَ بِالَّذِینَ سَخِرُوا مِنْهُم مَا کَانُوا بِهِ یَسْتَهْزِءُونَ »(4) . وهذه السّخریة کان یرافقها إطلاق لکلمة «کذّاب» و«ساحر» وأسوأ منهما کلمة «مجنون» . وکان المشرکون یهمّون بسلب القداسة من الآیات القرآنیّة ، ووصف الرّسول صلی الله علیه و آله وسلم بالجنون والکذب . وحین سأل عدد من الوافدین قریشا عن عمل النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم جعلته فی عداد السّحرة والشّعراء(5) . وأراد اللّه تعالی تسلیة رسوله وتطییب نفسه المقدّسة فوجّه نظره إلی ما حدث للأُمم السّابقة . قال جلّ شأنه : « کَذلِکَ مَا أَتَی الَّذِینَ مِن قَبْلِهِم مِن رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ »(6) . وقال فی موضع آخر : « مَا یُقَالُ لَکَ إِلاَّ مَا قَدْ قِیلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِکَ »(7) . وقال فی الأنواع الأخری لهزئهم وسخریتهم : « وَإِذَا رَأَوْکَ إِن یَتَّخِذُونَکَ إِلاَّ هُزُوا أَهذَا الَّذِی بَعَثَ اللّه ُ رَسُولاً »(8) ! وذکر بعد هذه الآیة أنّ المشرکین مسرورون

ص: 374


1- الحجر : 96 .
2- الحجر : 97 .
3- الأنعام : 10 ؛ الرعد : 33 ؛ الأنبیاء : 41 . وانظر : السّیرة النّبویّة 1 : 395 ، 396 . وقیل هنا : نزلت الآیة المذکورة بعد استهزاء المستهزئین من قریش ، وینهج القرآن الکریم من الوجهة التّاریخیّة أسلوب المقایسة بین الأُمور الّتی حدثت للأنبیاء السّابقین علیهم السلام ولنبیّنا صلی الله علیه و آله وسلم .
4- الأنعام : 10 .
5- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 270 ، 271 ؛ عیون الأثر 1 : 191 .
6- الذّاریات : 52 - 54 .
7- فصّلت : 43 .
8- الفرقان : 41 .

لبقائهم صابرین علی شرکهم أمام النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم .

وکان من الضّروب الأخری لاستهزائهم أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أبتر لیس له ابن . والمستهزئ بذلک هو العاص بن وائل (أبو عمرو بن العاص) . فأنزل اللّه تعالی سورة الکوثر فی جواب ذلک الوضیع ، ووصفه فیها بالأبتر « إِنَّ شَانِئَکَ هُوَ الْأَبْتَرُ »(1) . ومن المستهزئین الآخرین الحکم بن أبی العاص الّذی کان یسیر خلف النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ویصنع بعض الحرکات(2) . ونُقل فی بعض المواضع أیضا أنّه عدّ الاعتقاد بالمعاد خُداعا من رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، لذا کان یستهزئ به(3) .

علی أیّ حال عبّأت قریش سفهاءها للاستهزاء برسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم(4) مستهدفةً الهزء به صلی الله علیه و آله وسلم وعزله. وکانت تُسمّیه ابن أبی کبشة استهزاءً وسخریةً . وقیل : إنّ هذا الرجل کان لا یرعی حرمة الحرم الإلهیّ ، من هنا کانوا یشبّهون رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلمبه(5) .

3 - المواقف السّیاسیّة

یمکننا أن نعثر علی نماذج من هذه المواقف فی الموضوع السّابق المذکور تحت عنوان : «المواقف النّفسیّة» . ونذکر هنا أمثلة خاصّة . فقد کانت لقاءات المشرکین جمیعها بأبی طالب وإصرارهم علی ممارسة الضغوط ضدّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بواسطته فی عداد المواقف السّیاسیّة لهم . وأورد ابن إسحاق فهرسا لهذه المواقف . قال : قال المشرکون لأبی طالب فی أوّل لقاءٍ لهم به : إنّ ابن أخیک قام بخطوات غیر صالحة

ص: 375


1- أنساب الأشراف 1 : 138 ، 139 ؛ السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 393 ؛ مجمع البیان 10 : 549 .
2- أنساب الأشراف 1 : 151 .
3- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 313 ؛ أنساب الأشراف 1 : 132 ، 137
4- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 289 ؛ وانظر : دلائل النّبوّة 2 : 275 ؛ وأنساب الأشراف 1 : 138 .
5- أنساب الأشراف 1 : 91 .

وغیر صائبة «قد سبّ آلهتنا وعاب دیننا وسفّه أحلامنا وضلّل آباءنا» فقال لهم قولاً رفیقا ... فانصرفوا(1) . بعد ذلک مضی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی العمل من أجل دعوته حتّی قوی أمره . وذهبت قریش عند أبی طالب مرّة أخری وعاتبته علی عدم صدّه النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم قائلة له : إنّ لک سنّا وشرفا ومنزلةً فینا . ثمّ هدّدوا بأنّهم لا یتحمّلون مواقف النّبیّ ، فإمّا یکفّه عنهم ، أو ینازلوه ، وإیّاه ... فبعث أبو طالب إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فقال له : إنّ قومک قد جاءونی ... فأبْقِ علیّ وعلی نفسک ، ولا تحمّلنی من الأمر ما لا أُطیق . فظنّ صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قد بدا لعمّه فیه بداء أنّه خاذله ومُسلمه ، وأنّه قد ضعف عن نصرته .. فأخبره أنّه لا یترک دعوته أبدا .. ثمّ استعبر صلی الله علیه و آله وسلم فبکی .. ولمّا رآه أبو طالب بهذه الحالة ناداه : اذهب یا ابن أخی فقل ما أحببتَ ، فو اللّه لا أُسلمک لشیء أبدا(2) . وحین عرفت قریش موقف أبی طالب مشت إلیه مرّة ثالثة ومعها عُمارة بن الولید ، وعرضت علیه أن یأخذه له ویعطیها محمّدا صلی الله علیه و آله وسلم مکانه ، فامتعض أبو طالب من ذلک بشدّة وقال : واللّه لبئس ما تسوموننی ! أتعطوننی ابنکم أغذوه لکم ، وأعطیکم ابنی تقتلونه ؟ هذا واللّه ما لا یکون أبدا(3) . ویضیف ابن إسحاق قائلاً : حین رأت قریش ذلک تذامرت بینها علی مَن فی القبائل منهم .. الذین أسلموا ، فوثبت کلّ قبیلة علی من فیهم من المسلمین یعذّبونهم ویفتنونهم عن دینهم(4) .

ص: 376


1- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 265 ؛ وانظر : المصنّف ، ابن أبی شیبة 7 : 331 ؛ السّیرة النّبویّة ، ابن کثیر 1 : 273 ، 274 ؛ الطّبقات الکبری 1 : 202 ؛ عیون الأثر 1 : 188 ، 189 ؛ سبل الهدی والرشاد 2 : 436 .
2- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 266 ؛ عیون الأثر 1 : 189 ؛ سبل الهدی والرّشاد 2 : 437 .
3- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 267 ؛ أنساب الأشراف 1 : 231 ؛ الطّبقات الکبری 1 : 202 ؛ عیون الأثر 1 : 189 ، 190 ؛ سبل الهدی والرّشاد 2 : 438 .
4- السّیرة النّبویّة 1 : 268 ، 269 .

ینبغی أن نقول : إنّ مواقف أبی طالب من سیاسة قریش کانت فی غایة الرّزانة والاتّزان . فقد کان یکثر من تمجید النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، ویحاول بأشعاره الرّائعة أن یردع قریشا عن مواقفها العدائیّة منه ، وفی نفس الوقت کان یکتم إسلامه . کما ذمّ فی أشعار أخری من خذله من بنی عبد مناف ولحق بغیره(1) . وخاطب قریشا وقال لها : فخرکِ کلّه ببنی عبد مناف، وشرف بنی عبد مناف ببنی هاشم، وفخر بنیهاشم بمحمّد صلی الله علیه و آله وسلم:

وإنْ فَخَرتْ یوما فإنّ محمّدا * هو المصطفی مَنْ سرّها وکریمُها(2)

وموقف أبی طالب هذا أوجد فجوةً وصدعا فی صفوف قریش ذات التّرکیبة القبلیّة .

وکان أحد المواقف الّتی وقفتها قریش من النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم زعمها أنّه سبب إثارة النّفاق والتّشتّت فی المجتمع المکّیّ بخاصّة بین قریش . وکانت قریش تقیم وزنا کبیرا لوحدتها الّتی کانت أمرا ضروریّا لحفظ القبیلة ومصالحها التّجاریّة وأبّهتها السّیاسیّة والعبادیّة(3) . من هنا کانت تسعی فی وصفه بالإنسان المفرِّق ، فتجعله معزولاً من الوجهة السّیاسیّة . وکانت تقول لأبی طالب : «ابن أخیک شتّتَ أمرنا ، وفرّق جماعتنا»(4) . وقالت مثل ذلک للحارث بن عبد العزّی أبیه من الرّضاعة ، وطلبت منه أن ینصحه(5) . وکان أبو جهل یقول لتوجیه موقفه المتعنّت منه صلی الله علیه و آله وسلم : «إنّما یرید محمّد أن یُلقی بینکم العداوة»(6) . وجاء فی مصدر آخر أیضا أنّ قریشا کانت تراه سببا فی

ص: 377


1- السیرة النبویّة : 267 - 269 ؛ سبل الهدی والرّشاد 2 : 438 .
2- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 269 ؛ دیوان شیخ الأباطح أبی طالب : 71 ، وانظر : ص149 ؛ سبل الهدی والرشاد 2 : 439 .
3- انظر : أنساب الأشراف 1 : 135 .
4- نفسه 1 : 135 ؛ السّیرة النّبویّة ، ابن کثیر 1 : 471 ؛ المصنّف ، ابن أبی شیبة 7 : 331 ؛ السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 293 - 395 ؛ سبل الهدی والرّشاد 2 : 447 .
5- سیرة ابن إسحاق : 234 .
6- أنساب الأشراف 1 : 151 .

هلاک قومه وعشیرته ، وفی فساد قریش وضیاعها(1) . وکانت تصرّح بأنّه أهلک أولادها ونساءها(2) .

ومن الأسالیب السّیاسیّة الّتی انتهجتها ضدّه تألیب النّاس علیه . وکانوا یحبّون أصنامهم ، فیشقّ علیهم إهانتها . وکان أشراف قریش یحاولون أن یجعلوه طرفا مع سفهاء مکّة من خلال تأکیدهم أنّه یعیب الاعتقاد بالأصنام ، ویسفّه أحلامهم ، ویضلّل آباءهم ویراهم فی النّار . وکان أبو جهل یقول : یا معشر قریش إنّ محمّدا قد أبی إلاّ ما ترون من عیب دیننا ، وشتم آبائنا ، وتسفیه أحلامنا ، وسبّ آلهتنا(3) . وکان أبو لهب یتبعه فی سوق ذی المجاز لیُحبط دعوته ، ویمنع الناس من قبولها ، ویقول لهم : یا أیّها النّاس لا یغرّنکم هذا عن دینکم فإنّما یرید أن تترکوا عبادة اللات والعزّی(4) . والطّریف أنّهم کانوا یخوّفونه صلی الله علیه و آله وسلم بأصنامهم أن تُنزل علیه البلاء(5) .

یضاف إلی هذا أنّ قریشا کانت تری أنّ الدّعوة الجدیدة تقیّد الحیاة الجاهلیّة ، فکانت تقول لکلّ وافدٍ جدید علی مکّة إنّ هذا النّبیّ یحرّم الخمر ، ویحظر الزّنا ، ویحجُر کلّ ما تفعله العرب ، فارجع ، فإذا کان علیک ذنب بسبب الرجوع وعدم الدّخول فی هذا الدّین فنحن نتحمّله . وقیل نزل بموقف المشرکین هذا قوله تعالی : « وَلَیَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ »(6) . ومن الجدیر بالذکر أنّ قریشا استطاعت عبر هذه المواقف أن تکهرب الجوّ فی مکّة ضدّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وتصدّه عن هدفه . وما

ص: 378


1- دلائل النّبوّة 2 : 313 .
2- عیون الأثر 1 : 222 .
3- السّیرة النّبویّة ، ابن کثیر 1 : 464 ، 471 .
4- نفسه 1 : 462 . وهذا مثل کلام فرعون للنّاس فی موسی علیه السلام : «إنّی أخاف أن یبدّل دینکم أو أنْ یُظهر فی الأرض الفساد» . غافر : 26 .
5- الزمر : 29 «ألیس اللّه ُ بکافٍ عبده ویخوّفونک بالّذین من دونه» .
6- المصنّف ، ابن أبی شیبة 7 : 333 ؛ الدرّ المنثور 5 : 142 .

کانت تتّصف به قریش من السّیادة والوجاهة ، وانقطاع النّاس إلی أولی المکانة والمنزلة ، ومعرفة قریش بالأسالیب السّیاسیّة ، کلّ أولئک أدّی إلی أن لا یکون للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم نفوذ شعبیّ فی مکّة ، ولا یستطیع أن یستقطب عامّة النّاس إلی الإسلام .

4 - الاضطهاد البدنیّ

أشرنا سابقا إلی أنّ النّظام القبلیّ کان یُعجِز المعارضین لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم من تعذیبه بسهولة کما کانوا یفعلون مع بلال وعمّار . وکذلک فإنّ اتّخاذ القرار بقتله لم یکن یسیرا قطّ . ویعود ذلک إلی الدعم القاطع لأبی طالب وبنی عبد المطّلب الآخرین إیّاه . ومع هذا فقد کان الاضطهاد البدنیّ یُمارَس ضدّه بشکل غیر منظّم . واشتدّ ذلک بعد وفاة أبی طالب . ویؤکّد کتّاب السّیر أنّ المشرکین ما تطاولوا علی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم إلاّ بعد وفاة أبی طالب(1) . وقبل ذلک کان علیهم أن یُقنعوه بتسلیمه إیّاهم . وأرادوا منه مرّةً أن یسلّمه إیّاهم بکلّ وقاحة وصلافة لیقتلوه . فلم یستجب لهم . وفی لیلة ذلک الیوم اختفی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم عن الأنظار ، فاجتمع أبو طالب وسائر بنی عبد المطّلب . وأعطی أبو طالب کلّ واحدٍ منهم حدیدةً حادّة وطلب منهم أن یدخلوا المسجد الحرام معه ، ویجلس کلّ منهم إلی جانب صندید من صنادید قریش وفیهم أبو جهل ، فإذا قُتِل محمّد صلی الله علیه و آله وسلم فلا یسلم منهم أحد . وفعلوا ذلک حتّی جاء زید بن حارثة وأخبرهم أنّه کان معه صلی الله علیه و آله وسلم . فقال أبو طالب : لا أدخل بیتی أبدا حتّی أراه . فخرج زید سریعا حتّی أتی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وهو فی بیت عند الصّفا ومعه أصحابه یتحدّثون ، فأخبره الخبر ... فلمّا أصبح أبو طالب أخبر قریشا بما کان قد عزم علیه ، وقال : واللّه لو قتلتموه ما بقّیت منکم أحدا حتّی نتفانی نحن وأنتم ، فانکسر القوم وکان أشدّهم

ص: 379


1- الطّبقات الکبری 1 : 211 ؛ السّیرة النّبویّة ، ابن کثیر 1 : 276 ؛ السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 416 .

انکسارا أبو جهل(1) .

مع هذا ، مرّ بنا أنّ التّاریخ نقل لنا حالات من الاضطهاد البدنیّ ، الّتی یحتمل أنّ بعضها کان قبل وفاة أبی طالب ، ومعظمها بعد وفاته . ولمّا کنّا لا نعرف تاریخها علی وجه الدقّة ، فإنّا نقوّمها بالنظر إلی ما سبق . فقد جاء أنّ عُقبة بن أبی معیط تجاسر مرّة علی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، وألقی علیه عباءته وضغط علیه حتّی کادت روحه أن تزهق(2) . ولمّا أُسر المذکور فی معرکة بدر أمر صلی الله علیه و آله وسلم بقتله ، وذکر أنّ سبب ذلک هو عداؤه الشّدید للإسلام بمکّة . وقال : لمّا کنتُ أسجد کان یضغط علی حلقی ضغطة أشعر فیها أنّ عینیّ قد خرجتا من حدقتهما(3) . ونُقل أیضا أنّ عقبة وأبا لهب کانا یلقیان العَذَرة والأوساخ علی باب داره صلی الله علیه و آله وسلم(4) . وکان صلی الله علیه و آله وسلم یقول : «کنتُ بین شرّ جارین ، بین أبی لهب وعقبة بن أبی مُعیط ، إن کانا لَیأتیان بالفُرُوث فیطرحانها علی بابی» . وتضیف عائشة ، وهی راویة هذا الحدیث ، فتقول : فیخرج به رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فیقول : یا بنی عَبدِ مَناف أیّ جوارٍ هذا ؟(5)

وقُتِل طعیمة بن عدیّ(6) ، والنّضر بن الحارث لنفس السبب الّذی قُتِل به عقبة بعد أسره . وکانا ممّن یؤذی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کثیرا . وعزم أبو جهل علی قتله صلی الله علیه و آله وسلم عدّة مرّات فلم یفلح فی مراده(7) . وأقسمت قریش مرّة أنّها لا تسلّمه بنی عبد مناف أبدا إذا

ص: 380


1- الطّبقات الکبری 1 : 202 ، 203 . انظر : لامیّة أبی طالب الّتی تحدّث فیها عن أذی قریش للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، وعزمه علی الذّبّ عنه صلی الله علیه و آله وسلم . انظر : السّیرة النّبویّة 1 : 272 .
2- المصنّف ، ابن أبی شیبة 7 : 331 .
3- أنساب الأشراف 1 : 148 .
4- نفسه 1 : 137 - 141 .
5- الطّبقات الکبری 1 : 201 .
6- أنساب الأشراف 1 : 153 ، 154 .
7- انظر : عیون الأثر 1 : 192 ، 193 . ووردت فی هاتین الصّفحتین روایتان تدلاّن علی أنّ عجز المخالفین یعود إلی رعایة غیبیّة . وقد جاء هذا فی أخبار أخری أیضا ، لکن من الجدیر بالعلم أنّ هاتین الحالتین فی الأقل تفقدان الاعتبار السّندیّ اللازم کما ذکر المصحّح ذلک فی الهامش .

قتلته(1) . وکان إلقاء الفروث علیه صلی الله علیه و آله وسلم وهو فی سجوده أحد أسالیب الاضطهاد البدنیّ الّتی انتهجها المشرکون ضدّه(2) . وذات مرّة أُلقی التراب علی رأسه صلی الله علیه و آله وسلم ، فذهب إلی بیته ، وغسلت إحدی بناته رأسه وهی تبکی . وجاء فی هذا الخبر أنّ قریشا فعلت هذا معه بعد وفاة أبی طالب علی ما نُقل عنه صلی الله علیه و آله وسلم(3) . وهکذا یستبین أنّ المواقف القُرَشیّة هذه کانت بعد وفاة أبی طالب . وورد فی خبر آخر أنّ أبا جهل کان یحول دون صلاة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . فقال سبحانه وتعالی فیه : « أَرَأَیْتَ الَّذِی یَنْهَی * عَبْدا إِذَا صَلَّی »(4) . وعزم المشرکون بجدٍّ علی قتله صلی الله علیه و آله وسلم . وذکر اللّه تعالی خطّتهم هذه فی سورة الأنفال الّتی نزلت فی المدینة ، ونقل أنّهم یمکرون به لیُثبتوه ، أو یقتلوه ، أو یُخرجوه من مکّة(5) . وانتهی مکرهم إلی قتله صلی الله علیه و آله وسلم . وذکر أبو جهل فی توجیه عدم إخراجه من مکّة أنّه إذا خرج وسمع عدّة من الفتیان کلامه من لسانه الحلو تبعوه ، وعند ذلک لن نأمنهم علی أنفسنا(6) . وطرح أیضا موضوع دعم أُسرته صلی الله علیه و آله وسلم إیّاه . ونحن نعلم أنّ اللّه تعالی ذکر فی موضع آخر من کتابه مکر قریش بإخراجه صلی الله علیه و آله وسلم من مکّة . قال سبحانه : « وَإِن کَادُوا لَیَسْتَفِزُّونَکَ مِنَ الْأَرْضِ لِیُخْرِجُوکَ مِنْهَا »(7) .

ونقل ابن هشام أنّ أشدّ یومٍ کان علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم هو یوم خرج من بیته ، وکلّ من لاقاه حرّا کان أم عبدا کذّبه وآذاه . وأورد ابن هشام أیضا أنّه صلی الله علیه و آله وسلم جاء

ص: 381


1- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 298 ، 299 ؛ عیون الأثر 1 : 199 .
2- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 416 ؛ أنساب الأشراف 1 : 125 .
3- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 416 . وجاء فی خبر آخر أیضا : عندما کانوا یلقون فرث الحیوانات المذبوحة علی ظهره صلی الله علیه و آله وسلم ، کانت فاطمة تُزیحه . دلائل النّبوّة 2 : 278 . انظر : ص279 ؛ المصنّف ، ابن أبی شیبة 7 : 332 . وینبغی أن یعود هذا الخبر إلی زمن ما قبل البعثة بعامین ، إذ کانت فاطمة علیهاالسلام بنت ستّ أو سبع سنین کحدّ أدنی (علی أساس ولادتها فی السّنة الخامسة للبعثة) .
4- العلق : 9 - 10 ؛ أنساب الأشراف 1 : 126 .
5- الأنفال : 30 .
6- أنساب الأشراف 1 : 127 .
7- الإسراء : 76 .

إلی بیته مضطربا وادّثر بلباسٍ ، فنزلت علیه سورة المدّثّر هناک(1) . ومن الجدیر بالقول أنّ اشتداد أذی المشرکین فی السّنین الأخیرة إذا کان بسبب وفاة أبی طالب ، فإنّ هذا جزءا منه إذ یضاف إلیه تصاعد عمله صلی الله علیه و آله وسلم فی تبلیغ دعوته بین القبائل أیضا ، وهو ما ذکره کتّاب السّیرة تحت عنوان «عرض نفسه علی القبائل» فی تلک السّنین .

5 - المواقف العلمیّة

کانت قریش تفقد القدرة اللازمة لاتّخاذ موقف علمیّ من الدّعوة الجدیدة ، لأنّ الأفکار الجاهلیّة أساسا کانت أضعف من أن توجد روح التّفکیر والتّعقّل فی المجتمع الجاهلیّ . مع هذا کانت قریش تطرق الأبواب وتستمدّ کلّ شیء للحؤول دون تنامی الإسلام المتزاید . وفی هذا المضمار ، لم یتمالکوا عن اتّخاذ المواقف العلمیّة الظّاهریّة أیضا ولو باستغلال یهود المدینة . ویمکننا الإشارة فی هذا المجال إلی نماذج من هذه المواقف . فقد زعمت قریش إنکارا لنبوّة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أنّ ما یقرأه صلی الله علیه و آله وسلم علیهم بوصفه وحیا هو فی الأصل لیس وحیا إلهیّا بل أمورا علّمها إیّاه أهل الکتاب . ویقال هنا موضوعان ؛ الأوّل : یدور حول علاقات النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ببعض المطالب الّتی سمعتها قریش من الیهود ، وموضوعها القصص المرتبط بالأُمم الماضیة . وذکر القرآن الکریم موقف قریش هذا وأجاب عنه . قال تعالی : « وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ یَقُولُونَ إِنَّمَا یُعَلِّمُهُ بَشَرٌ »(2) . ونقل المؤرّخون معلومات حول الشّخص الّذی تقصده قریش ، فقد وردت روایة بسند ضعیف وهی

ص: 382


1- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 291 . انظر : مجمع البیان ، ذیل الآیات ذات العلاقة للاطّلاع علی الأقوال الأخری الواردة بشأن نزول الآیات الأولی من سورة المدّثّر .
2- النّحل : 103 .

تذکر شخصا أعجمیّا یُدعی بلعام ، کان فی مکّة ، وزعمت قریش أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم

کان یتردّد علیه . وذهبت روایة أُخری إلی أنّ ذلک الشّخص هو «اُعبدة بن الحضرمیّ» وکان من أهل الکتاب . وذکر عکرمة أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کان یقرأ القرآن علی غلامٍ من بنی المغیرة اسمه مقیس . وجاء فی روایة أخری أنّ مقیسا هذا هو ابن الحضرمیّ السّابق نفسه . وذُکر فی خبر آخر أنّه سلمان الفارسیّ ، ولا ینبغی أن یکون صحیحا ، لأنّ سلمان تعرّف علی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی المدینة فی حین أنّ سورة النّحل من السور المکّیّة . ویحکی خبر آخر أنّ أهل مکّة لمّا آذوا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، دخل علی عبد بنی المغیرة ، وکان یقال له : أبو الیسر ، وکان عالما بالتّوراة والإنجیل . وحین رأی المشرکون ذلک اتّهموه بتعلیمه(1) .

إذا أنعمنا النّظر فی الأخبار المتقدّمة رأینا أنّها تدلّ علی أنّ شخصین کانا معنیّین بهذا الأمر : أحدهما بلعام ، والآخر عبد من بنی المغیرة . وذهب ابن إسحاق إلی أنّ الشّخص المعهود هو «جَبْر» ، وأضاف أنّه عبد لبنی الحضرمیّ(2) . ولا بدّ أن یکون هذا النّقل مرتبطا بعبد بنی المغیرة أیضا ، إذ ذُکر فی هذه الأخبار بشکل متفاوت . ویدلّ هذا الاضطراب فی الاسم علی أنّ ذلک العبد المسکین کان أوکس إلی درجةٍ أنّه لم یعرف ، فکیف استطاع أن یُبدع مثل هذه الأفکار ؟ وذکر ابن إسحاق فی خبر آخر أنّ المشرکین کانوا یقولون للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ شخصا فی الیمامة یقال له : «رحمان» علّمک هذه الآیات(3) . وعلّق السّهیلیّ علی هذا الخبر فذکر أنّ شخصا من المعمّرین یُدعی مسیلمة بن حبیب ، کان یقال له : «رحمان» . وکان هذا الاسم له قبل أن یولد أبو

ص: 383


1- الدرّ المنثور 4 : 131 .
2- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 393 ؛ یضاف إلی هذه کلّها ذِکْرُ شخصٍ باسم عداس مولی حویطب بن عبد العزّی أیضا . انظر : مجمع البیان 7 : 160 ، 161 .
3- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 311 ؛ وانظر : أنساب الأشراف 1 : 140 ، 141 .

النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم(1) .

وأجاب القرآن الکریم عن هذه الشّبهة الّتی أثارها المشرکون جوابا علمیّا عقلیّا ، فقال سبحانه فی دحضها : « لِسَانُ الَّذِی یُلْحِدُونَ إِلَیْهِ أَعْجَمِیٌّ وَهذَا لِسَانٌ عَرَبِیٌّ مُبِینٌ »(2) . ونستفید من هذه الآیة أنّ الرّجل الّذی یقصده المشرکون کان أعجمیّا - ویبدو أنّه کان رومیّا - والملحوظ أنّ أهم بعدٍ فی القرآن الکریم هو بُعدهُ الأدبیّ ، من هنا لا یستشرع قدح المشرکین فی عزوه إلی شخص أعجمیّ . والحقّ أنّ سعة الموضوعات الّتی تطرّق إلیها القرآن الکریم خارجة عن الحدّ الّذی یتسنّی معه لأحد أن یعزوه إلی رجل نصرانیّ مقیم فی مکّة ، لم یرد له ذکر فی الآثار الجاهلیّة .

ومن الأشیاء الّتی کان المشرکون یضربون علی وترها مشابهة القرآن الکریم للتّوراة فی قصص الأنبیاء . قال تعالی : « وَقَالَ الَّذِینَ کَفَرُوا إِنْ هذَا إِلاَّ إِفْکٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَیْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْما وَزُورا * وَقَالُوا أَسَاطِیرُ الْأَوَّلِینَ اکْتَتَبَهَا فَهِیَ تُمْلَی عَلَیْهِ بُکْرَةً وَأَصِیلاً »(3) . وتدلّ الآیة الثّانیة علی ارتباط أساطیر الأوّلین بالأشخاص الّذین زعم المشرکون أنّهم کانوا یعلّمون النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . وکانت قریش تخال أنّ القَصص القرآنیّ یماثل قصص أهل الکتاب الّذین کانت تعرفهم علی أنّهم «أهل الکتاب الأوّل»(4) . وینبغی أن نقول فی مشابهة قصص القرآن بما جاء فی التّوراة : کلا الکتابین سماویّ فوجود المشابهة بینهما أمر طبیعیّ ، بید أنّ المهمّ هو التّفاوت بین القصص فیهما . ویُلحظ هذا التّفاوت أوّلاً فی الموضوعات الّتی ذکراها حول الأنبیاء . وثانیا : فی موقفهما من عصمة الأنبیاء وهو تفاوت أساس مهمّ بینهما فی هذه النّقطة . فالموضوعات غیر الصّحیحة الّتی نسبتها التّوراة إلی الأنبیاء لم ترد فی القرآن الکریم

ص: 384


1- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام ، الهامش ، 1 : 311 عن الروض الأنف .
2- النّحل : 103 .
3- الفرقان : 4 ، 5 .
4- دلائل النّبوّة 1 : 270 .

قطّ ، والدّعوة إلی التّوحید فی القرآن أصرح وأوضح وأبین کثیرا ممّا هی فی التّوراة(1) . وکان عدم معرفة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بالکتابة والقراءة من أجل ردّ هذه التّهم الواهیة . یضاف إلی ذلک أنّ القسم الأعظم من الآیات القرآنیّة ، بخاصّة فیما یتعلّق بقصص الأنبیاء نزل بمکّة فی وقتٍ لم تکن للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أدنی معرفةٍ بثقافة یهود المدینة . وکانت قریش ملتفتة إلی أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یبشّر بدینٍ هو فی الحقیقة من ضرب الأدیان السّماویّة ، فهمّت بالإفادة من الیهود . وأرسلت النّضر بن الحارث - الّذی ینبغی أن نعدّه أحد شخصیّاتها الثّقافیّة - إلی یهود المدینة لیطرح علیهم الموضوع . وتوجّه النضر إلیهم مع عُقْبَة بن أبی معیط ووصفا لهم رسولَ اللّه صلی الله علیه و آله وسلم . فقالوا : اسألوه عن ثلاثة أشیاء ، إن أجابکم عنها فهو نبیّ اللّه ، وإلاّ فهو مفترٍ . الأوّل : جماعة کانوا فی الدهر الأوّل وأمرهم عجیب . الثّانی : شخص جاب شرق العالم وغربه . الثّالث : الرّوح . أمّا السّؤال الأوّل فالمقصود منه أصحاب الکهف ، والسّؤال الثّانی فالمقصود منه ذو القرنین فقد نزلت فیهما سورة الکهف . وأمّا السّؤال الثالث الّذی یُحتمل أنّ المراد منه جبرئیل الّذی کان یأتی بالوحی إلی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، وذکره القرآن الکریم بالرّوح فقد نزلت فیه آیة فی سورة الإسراء(2) . ومن الحریّ بالعلم أنّ قریشا لم تجدّ فی فهم حقیقة الإسلام وصحّته ، وإنّما کانت تجدّ - بل تمکر بتعبیر القرآن الکریم - من أجل إحباط الجهود

ص: 385


1- للاستزادة انظر : المنار 11 : 186 - 190 ؛ المیزان 1 : 62
2- انظر : السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 301 - 307 ؛ أنساب الأشراف 1 : 142 ؛ عیون الأثر 1 : 199 ، 200 ؛ سبل الهدی والرشاد 2 : 460 ، 461 ؛ دلائل النّبوّة ، البیهقیّ 2 : 269 - 270 ؛ الإسراء : 85 . ونقل البخاریّ حدیثا عن عبد اللّه بن مسعود یذهب فیه إلی أنّ آیة الرّوح تعود إلی الآی المدنیّ . انظر : دلائل النّبوّة ، البیهقیّ 2 : 271 ؛ ومن المحتمل أنّ ما طرح فی المدینة هو سؤال الیهود عن القسم الثّانی من الآیة المتعلّقة بالرّوح : «وما اُوتیتم من العلم إلاّ قلیلاً» . انظر : السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 308 ؛ وانظر : سبل الهدی والرّشاد 2 : 466 للاطّلاع علی الأقوال الأُخری .

التّبلیغیّة للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . ومنها النّضر بن الحارث الّذی قال اللّه تعالی فیه : « وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن کَانَ هذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِکَ فَأَمْطِرْ عَلَیْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِیمٍ »(1) . وکان المشرکون یستصعبون الاعتقاد بالمعاد أکثر من الاعتقاد بالتّوحید . وانعکس امتراؤهم فی المعاد وتعجّبهم من الحیاة بعد الموت فی عدد من الآیات . وکانوا یسألون رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عن القیامة . وقد طُرح هذا الموضوع فی موضعین من القرآن الکریم . وجواب اللّه تعالی عن سؤال المشرکین هو « إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّی »(2) .

الموقف العلمیّ الآخر الوارد فی السّیرة هو موقف ابن الزِبَعری(3) . فحینما نزلت الآیة الکریمة : « إِنَّکُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دوُنِ اللّه ِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ »(4) ، اعترض المذکور وقال : إذا کان ذلک کذلک فإنّا نعبد الملائکة أیضا ، وعبد الیهود عُزیر والنّصاری المسیح ، فهم فی جهنّم لا محالة . فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إنّه کذلک ، إذا أحبّوا أن یکونوا أربابا من دون اللّه فسیُحشرون مع من یعبدونهم ، وهم فی جهنّم . قال تعالی دفعا لهذا التّوهّم : « إِنَّ الَّذِینَ سَبَقَتْ لَهُم مِنَّا الْحُسْنَی أُولئِکَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ »(5) . إنّ القصد من هذه الآیة فی الأصل الأصنام ونظائرها الّتی وصفها اللّه تعالی بالعجز عن القیام بکلّ عمل ، بل عن دخول جهنّم أیضا ، ولابدّ من شمول الآیة طواغیت مثل فرعون ، ممّن کانوا یرون أنفسهم أربابا من دون اللّه باطلاً .

تأثیر القرآن الکریم تاریخیّا

1 - أثر الآیات القرآنیّة

یتعیّن أن نقول بلا تردّد : إنّ أهمّ وسیلةٍ کانت بید رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أمام المشرکین

ص: 386


1- الأنفال : 32 .
2- الأعراف : 187 .
3- انظر بشأنه : دائرة المعارف بزرگ اسلامی [ دائرة المعارف الإسلامیّة الکبری ] 3 : 614 - 616 .
4- الأنبیاء : 98 .
5- الأنبیاء : 101 .

طول البعثة هی الآیات القرآنیّة . ویتجلّی هذا الأمر أکثر فی السّنین الأُولی من البعثة . فالتّعالیم الّتی تشرق بها الآیات القرآنیّة کانت تنزل علی رؤوس المشرکین کالصّاعقة ، وتجعلهم معازیل أمام الدّعوة الإسلامیّة . والنّظم القرآنیّ المتناغم وأدبه القویّ وأُسلوب الآیات ، کلّ اولئک زاد جذّابیّة تعالیمه ، وأعجز المشرکین عن تحدّیه . وهکذا استطاع القرآن الکریم بشکله ومحتواه معا أن ینشر التّوحید فی صفوف المجتمع المشرک ، ویفتن النّاس ویخلبهم . وکان المشرکون عاجزین عن إبداء أیّ نوعٍ من الانتقاد الجادّ للآیات القرآنیّة والشّیء الوحید الّذی قاموا به هو أنّهم مارسوا الضغط علی المسلمین وضیّقوا علیهم لیحدّوا من امتداد هذا الدّین المقدّس .

إنّ التّطوّر التّاریخیّ الّذی بدأ بالمبعث النّبویّ الشّریف وإعلان النبوّة استطاع مستضیئا بالآیات القرآنیّة أن یوسّع فکره فی جمیع زوایا المجتمع الجاهلیّ ، ویتقدّم نحو ثورة أساسیّة. وقد ولّدت الآیات القرآنیّة تأثیرا عمیقا من الوجهة الفکریّة ، وکان لها دورها الملحوظ فی إفقاد القیم الجاهلیّة وزنها وشأنها من خلال مهاجمتها والتعرّض لها .

إنّ تأثیر القرآن علی النّاس جدیر بالدّراسة والتّحلیل من جهات مختلفة ؛ والاهتمام باتّجاه الآیات الأُولی النّازلة یمکن أن یدلّ علی جانب من تأثیر القرآن علی النّاس . ونحن نعلم أنّ کثیرا من النّاس کانوا یُسلمون بسماع عدد من الآیات . وأقدم السّور النّازلة هی «العَلَق» و«المدّثّر» ، و«المزّمّل» ، و«الضُّحی» ، و«القلم»(1) .

وجاء فی سورة العلق : « اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّکَ الَّذِی خَلَقَ * خَلَقَ الاْءِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّکَ الْأَکْرَمُ * الَّذِی عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الاْءِنسَانَ مَا لَمْ یَعْلَمْ * کَلاَّ إِنَّ الاْءِنسَانَ لَیَطْغَی * أَن رَآهُ اسْتَغْنَی * إِنَّ إِلَی رَبِّکَ الرُّجْعَی * أَرَأَیْتَ الَّذِی یَنْهَی * عَبْدا إِذَا صَلَّی * أَرَأَیْتَ إِن

ص: 387


1- انظر : الدرّ المنثور 6 : 368 .

کَانَ عَلَی الْهُدَی * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَی * أَرَأَیْتَ إِن کَذَّبَ وَتَوَلَّی * أَلَمْ یَعْلَمْ بِأَنَّ اللّه َ یَرَی * کَلاَّ لَئِن لَّمْ یَنتَهِ لَنَسْفَعا بِالنَّاصِیَةِ * نَاصِیَةٍ کَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْیَدْعُ نَادِیَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِیَةَ * کَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ » .

یدلّ التّاریخ علی أنّ الآیات الأولی من هذه السّورة کانت أوّل الآیات الّتی نزلت علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی غار حراء بإجماع المحدّثین وکتّاب السّیر . وفی السّورة إشارة إلی شخصٍ کان ینهی عبدا من عباد اللّه عن الصّلاة . وقیل : شأن نزولها أبو جهل . فعندما کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یصلّی عند الکعبة ، کان أبو جهل یمنعه منها(1) . ورسالات اللّه تعالی فی هذه السّورة کما یأتی تبدأ باسم اللّه ، ثمّ تذکر خلق الإنسان وتعلیمه

بالقلم ، بعد ذلک تری أنّ طغیانه ناتج من شعوره بالاستغناء والجموح ، إلی أن یقف أمام رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، ولا یعبد اللّه ، ولیس هذا فحسب ، بل یمنع الآخرین من عبادته أیضا. یتلو ذلک أنّ اللّه سبحانه یقایس وضعین متفاوتین للإنسان ، الأوّل : حین یکون علی الهدی . والآخر : حین یکذّب ویتولّی . فعندئذٍ ینتظره عذاب اللّه وخذلانه .

إنّ الخطابات الواردة فی سورة المدّثّر جدیرة بالملاحظة من أجل معرفة التّعالیم القرآنیّة الأُولی . ونذکر فیما یأتی قسما من آیاتها : « یَا أَیُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّکَ فَکَبِّرْ * وَثِیَابَکَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * ... فَإِذَا نُقِرَ فِی النَّاقُورِ * فَذلِکَ یَوْمَئِذٍ یَوْمٌ عَسِیرٌ * عَلَی الْکَافِرِینَ غَیْرُ یَسِیرٍ * ذَرْنِی وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِیدا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودا * وَبَنِینَ شُهُودا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِیدا * ثُمَّ یَطْمَعُ أَنْ أَزِیدَ * کَلاَّ إِنَّهُ کَانَ لاِیَاتِنَا عَنِیدا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودا * إِنَّهُ فَکَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ کَیْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ کَیْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَکْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هذَا إِلاَّ سِحْرٌ یُؤْثَرُ * إِنْ هذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِیهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاکَ مَا سَقَرُ * لاَ تُبْقِی وَلاَ تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * ... کَلاَّ وَالْقَمَرِ *

ص: 388


1- الدرّ المنثور 6 : 369 ، 370

وَالَّیْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لاَءِحْدَی الْکُبَرِ * نَذِیرا لِلْبَشَرِ * لِمَن شَاءَ مِنکُمْ أَن یَتَقَدَّمَ أَوْ یَتَأَخَّرَ * کُلُّ نَفْسٍ بِمَا کَسَبَتْ رَهِینَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ الْیَ-مِینِ * فِی جَنَّاتٍ یَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُ-جْرِمِینَ * مَا سَلَکَکُمْ فِی سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَکُ مِنَ الْمُصَلِّینَ * وَلَمْ نَکُ نُطْعِمُ الْمِسْکِینَ * وَکُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضینَ * وَکُنَّا نُکَذِّبُ بِیَوْمِ الدِّینِ * حَتَّی أَتَانَا الْیَقِینُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِینَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْکِرَةِ مُعْرِضِینَ * کَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ * ... کَلاَّ إِنَّهُ تَذْکِرَةٌ * فَمَن شَاءَ ذَکَرَهُ * وَمَا یَذْکُرُونَ إِلاَّ أَن یَشَاءَ اللّه ُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَی وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ » .

إنّ أهمّ إشارة تاریخیّة فی هذه السّورة هی الإشارة إلی عمل النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بعد نزول الآیات الأُولی علیه . فاللّه تعالی یرید منه أن یقوم من مکانه ، ویطهّر ثیابه ، ویهجر الرجز ، ویؤدّی رسالته .

وتضمّ السّورة إشارة تاریخیّة أخری ترتبط بالولید بن المغیرة . فقد قیل : إنّه تردّد فی تحلیل مصدر الآیات القرآنیّة بعد سماعها . واجتذبه القرآن إلیه من جهة ، ومن جهة أُخری حالت مسایرة المشرکین والاستکبار دون قبوله له . وذکر اللّه تعالی شکّه وتردّده ، وتسمیته القرآنَ سحرا بجهله(1) . وذکر سبحانه أنّ جمیع الأموال والأولاد والنّعم من اللّه ، وأنّ الإنسان یطمع فی المزید ، لکنّه فی الحقیقة فرد مجرّد ، وإذا ما عاند الآیات الإلهیّة فإنّ جهنّم من ورائه .

وکانت آیات الإنذار شدیدة دامغة للمشرکین بخاصّة للمترفین من قریش . والآیات الأخیرة تراهم یستحقّون جهنّم لترکهم الصّلاة ، وإمساکهم عن الإنفاق ، وخوضهم مع الخائضین فی الباطل . وطلب اللّه تعالی من رسوله فی سورة الضّحی ألاّ ینهر السّائل ، وأن یحدّث بنعمة ربّه ، قال سبحانه : « وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ

ص: 389


1- انظر : مجمع البیان 10 : 387 .

رَبِّکَ فَحَدِّثْ » .

ونلحظ أنّ القرآن الکریم یؤکّد المبادئ الإنسانیّة منذ البدایة . ویبدو مناسبا هنا أن نُلقی نظرةً علی التّعلیمات الأساسیّة الّتی تحملها سورة الإسراء وهی من السّور المکّیّة المهمّة . فقد أشارت فی البدایة إلی معراج النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . ثمّ انتقلت إلی بنی اسرائیل ، وأکّدت أنّ کلّ قومٍ أحسنوا فإحسانهم لأنفسهم ، وإذا أساءوا فإساءتهم علی أنفسهم . ثمّ وصفت القرآن فقالت :

« إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ یَهْدِی لِلَّتِی هِیَ أَقْوَمُ » . وأکّدت مرّة أخری أنّ کلّ إنسان مسؤول عن أعماله ، وهو الّذی یحصل علی نتیجتها حسنةً کانت أم سیّئةً . قال تعالی : « مَنِ اهْتَدَی فَإِنَّمَا یَهْتَدِی لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّما یَضِلُّ عَلَیْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَی »(1) . وللّه تعالی تخویفان أو إنذاران عادةً : أحدهما : یرتبط بالعواقب الدّنیویّة لفساد قریش من خلال الإشارة إلی قصص الأنبیاء السّابقین وأقوامهم . والآخر : یرتبط بجهنّم ، أی : إنذار من جهنّم . قال سبحانه : « وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِکَ قَرْیَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِیهَا فَفَسَقُوا فِیهَا فَحَقَّ عَلَیْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِیرا * وَکَمْ أَهْلَکْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ ... »(2) وتکرّرت فی القرآن الکریم الإنذارات لقریش من مغبّة أعمالهم الدّنیویّة . مثلاً ینذر الظّالمین بالعذاب من خلال ذکره کلام المعارضین للأنبیاء إذ کانوا یقولون لرسلهم : « لَنُخْرِجَنَّکُم مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِی مِلَّتِنَا »(3) .

ونقرأ فی سورة الإسراء فصلاً من القواعد الأخلاقیّة للحیاة ، بخاصّة فیما یخصّ احترام الوالدین ، والاهتمام بالمساکین والفقراء ، وذمّ الإسراف الّذی کان یمارسه أشراف قریش. وهکذا یصف الإسلام نفسه کمدافع عن الفقراء ومناهض للمسرفین.

ص: 390


1- الإسراء : 15 .
2- الإسراء : 16 ، 17 .
3- إبراهیم : 13 ؛ وکذلک انظر : النّحل : 26 ، 35 للاطّلاع علی نموذجین آخرین .

وجاء اهتمام القرآن بقواعد الأخلاق الإنسانیّة بتفصیل أکثر فی «عدم قتل الأولاد» ، و«الابتعاد عن الفحشاء» - والزّنا نموذجها الماثل - و«عدم الاقتراب من مال الیتیم» - فضلاً عن التّصرّف فیه بلا حقّ - و«رعایة العدالة فی الکیل والمیزان» - وذلک من الأخلاقیّات الإنسانیّة للإسلام(1) - و«توضیح عن معارضة المشرکین للقرآن وعدم اعتنائهم بسماع الآیات» ، وغیر ذلک . وجاء فی هذه السّورة أیضا استهزاء المشرکین بعقیدة المعاد الوارد فی سور أخری غیرها . ویفنّد القرآن عقیدة المشرکین بالأصنام أیضا . قال تعالی : « قُلِ ادْعُوا الَّذِینَ زَعَمْتُم مِن دُونِهِ فَلاَ یَمْلِکُون کَشْفَ الضُّرِّ عَنکُمْ وَلاَ تَحْوِیلاً »(2) .

ثمّ یتحدّث عن الأقوام الّتی عارضت الأنبیاء ورُزئت بالعذاب الإلهیّ . ویقدّم صورة عن دور اللّه تعالی فی هدایة النّاس ودور الشّیطان فی إضلالهم ، کما یذکر ماضی الشّیطان فی عناده للّه سبحانه ، لکنّه یؤکّد أنّ الشّیطان لا سلطان له علی عباد اللّه . ویحذّر النبیَّ صلی الله علیه و آله وسلم من التأثّر بالمشرکین ، ویشیر إلی تآمرهم فی إخراجه . ویوصی بالصّلاة فجرا وظهرا وعصرا ، ممّا یدلّ علی وجود هذه الصّلوات فی عصر البعثة . ویُحتمل أنّ سورة الإسراء کانت آخر السّور النازلة بمکّة وذلک من خلال الآیات الواردة بشأن المعراج ، والإشارة إلی إخراج النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، وقوله تعالی : « وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ » . وفی هذه السّورة سؤال المشرکین عن الرّوح وهو جبرئیل ، وجوابه . ومن الإشارات التّاریخیّة للقرآن فیها إلی الظروف السّائدة آنذاک : تأکید تحدّی القرآن ، وإصرار المشرکین علی إتیان النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بمعجزات محسوسة . وهذه السّورة ونظائرها النّازلة فی مکّة والمتحدّثة عن الموضوعات السّابقة تعبّر عن موقف قرآنیّ حیال العقائد الجاهلیّة وتصرّفات الجاهلین المشرکین .

ص: 391


1- الإسراء : 31 - 35 .
2- الإسراء : 56 .

علی أیّ حال تتّخذ الآیات القرآنیّة الموزونة لاسیّما المکّیّة منها موقعا خاصّا فی الذّهنیّة الأدبیّة المتمیّزة لعرب مکّة وأطرافها . وثمّة أخبار جمّة تدور حول هذا التّأثیر شکلاً ومحتویً . ویتباهی القرآن الکریم بأُسلوبه الأدبیّ ویتحدّی الآخرین به ویطلب منهم أن یأتوا بمثله(1) ، أو بعشر سورٍ کسِوَرِهِ(2) ، أو بسورةٍ واحدةٍ فی الأقلّ(3) . بید أنّ أیّ محاولة جادّة لم تُبذَلْ فی هذا المجال إلاّ بضع مواضع استهزاء ، وورد دائما أنّ المشرکین کانوا معجَبین بجاذبیّة القرآن ، وما حال بینهم وبین اعتناقهم الإسلام إلاّ الاستکبار . ویری القرآن أنّ هذا التّحدّیّ دلیل علی أحقّیّته ، وکان یطلب منهم أن یقبلوه إذا عجزوا عن مقابلته . وفی جوّ مکّة الملوّث ، وفی خضمّ الجهل والضّلالة کان یدعو الناس إلی الابتعاد عن الرّجس ، والإقبال علی المبادئ الإنسانیّة ، ومعرفة حقیقتهم وحقیقة الوجود ، والالتفات إلی قیمتهم الحقیقیّة . وکانت هذه الدّعوة لهم - وهم أولو فطرةٍ نقیّة - من أکثر الدّعوات جاذبیّة لهم ، لذا کانوا یبادرون إلی قبولها بلا تأخیر . وذات مرّة قدم طفیل بن عمرو الدّوسیّ - وکان حلیفا لقریش - مکّة فطلب منه أشراف قریش أن یتجنّب محمّد صلی الله علیه و آله وسلم ولایسمع کلامه لأنّه کالسّحر وقد أدّی إلی تفرقة النّاس واختلافهم فی مکّة . فعزم علی ذلک . وجاء المسجد الحرام یوما ورأی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم مشغولاً فی صلاته ، وأنصت إلی آیات کان یتلوها ، وشعر بحلاوتها ، فقال فی نفسه : إنّه قادر علی تمییز الکلام الجمیل من القبیح . فذهب عند رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، فقرأ علیه آیاتٍ من القرآن ، فقال : لم أسمع أحسن منها وأعدل . ثمّ اعتنق الإسلام .

وذهب إلی قبیلته ، فأسلم کثیر منها بسبب وجاهته فیها(4) .

وجاء ضماد الأزدیّ إلی مکّة أیضا وسمع مَن یقول : محمّد مجنون . فقال : لعلّی أُبرئه

ص: 392


1- الإسراء : 88 .
2- هود : 13 .
3- البقرة : 23 .
4- الطّبقات الکبری 4 : 237 - 239 ؛ السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 382 - 384 .

من علّته . وذهب إلیه وأخبره بما عزم علیه . فتلا صلی الله علیه و آله وسلم آیاتٍ من القرآن فدُهش وطلب منه أن یعیدها علیه ، فأعادها . فقال : لم أسمع مثلها حتّی هذا الحین . فتشهّد ، وأسلم ، وبایع عن نفسه وقومه(1) .

وورد فی خبر أنّ الولید بن المغیرة ذهب عند النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، وقال له : اقرأ علیّ من القرآن ، فقرأ : « إِنَّ اللّه َ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالاْءِحْسَانِ وَإِیتَاءِ ذِی الْقُرْبَی وَیَنْهَی عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنکَرِ وَالْبَغْیِ یَعِظُکُمْ لَعَلَّکُمْ تَذَکَّرُونَ »(2) . فقال : اقرأ . فأعاد علیه الآیات . فقال : ما أحلاها ! هذا لیس من کلام البشر(3) . وکانوا جمیعهم ملمّین بالشّعر ، ویشعرون أنّ الکلام القرآنیّ لیس شعرا کما لا علاقة له بالسّحر والکهانة ، فآیاته من سنخ آخر . ومع ذلک کلّه کانوا یستثقلون رسالة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، فیُمنَون بالتّناقض .

واشتهر کثیرا أنّ عددا من صنادید قریش کانوا یأتون قریبا من بیت النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم

فی بعض اللیالی لیلتذّوا بسماع صوته العذب السّارّ حین التّلاوة(4) . وکان عتبة بن ربیعة یقرّ أیضا بأنّ الآیات القرآنیّة لیست شعرا ولا سحرا وهو أحد المعارضین الأشدّاء للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم(5) . ویُحتمل أنّ عددا من الآیات الواردة فی سورة الذّاریات وهی قوله تعالی : « وَالسَّماءِ ذَاتِ الْحُبُکِ * إِنَّکُمْ لَفِی قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * یُؤْفَکُ عَنْهُ مَنْ أُفِکَ * قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ »(6) نزل فی بلبلة بال هؤلاء وکلماتهم المتناقضة حول القرآن . ومن المناسب أن نُشیر هنا إلی أنّ الملحوظ فی آیاتٍ من سورة المدّثّر ، والضّحی ، وکذا

ص: 393


1- الطّبقات الکبری 4 : 241 .
2- النّحل : 90 .
3- دلائل النّبوّة ، البیهقیّ 2 : 198 ، 199 .
4- نفسه 2 : 206 ؛ السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 315 ؛ سبل الهدی والرّشاد 2 : 470 ، 471 ؛ وانظر : المعرفة والتّاریخ 3 : 445 - 454 .
5- تفسیر القرطبیّ 15 : 337 ؛ دلائل النّبوّة ، البیهقیّ 2 : 204 ، 205 .
6- الذّاریات : 7 - 10 .

الآیات المذکورة من سورة الذاریات ، وکثیرٍ غیرها هو القسم بالظّواهر الطّبیعیّة الجمیلة الرائعة کطلوع الفجر ، والسماء المزیّنة بالکواکب ، وهی من الوجهة الأدبیّة فی غایة الحُسن ولفت النّظر والجاذبیّة .

2 - التّأثیر التّاریخیّ لتنزیل القرآن الکریم

کان النّزول التّدریجیّ للقرآن الکریم وآیات منه مرتبطا بأحداث وأقوال محلّها مکّة ، ثمّ المدینة . وهذا الضّرب من النّزول أفضی إلی تأثیر القرآن فی المجتمع آنذاک لأسبابٍ متنوّعة . وکان المشرکون یعترضون علی النّزول التّدریجیّ للقرآن ویسألون عن سبب عدم نزوله دفعةً واحدةً . فأجابهم اللّه تعالی مبیّنا العلّة من وراء ذلک . وفی الجواب ملاحظتان ترتبطان بالموضوع . قال تعالی :

« وَقَالَ الَّذِینَ کَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَیْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً کَذلِکَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَکَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِیلاً »(1) . فکان النّزول التّدریجیّ للآیات القرآنیّة إذا أداةً بالغة الأهمّیّة لتثبیت فؤاد النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، وأفئدة صحابته کما نحتمل . وکلّما کانت تنزل آیات جدیدة ، فإنّها تأتی بتوجیهات جدیدة وتزید أمل النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وصحابته بالنّصر . یضاف إلی ذلک أنّ النّزول التّدریجیّ کان یؤدّی إلی قراءة القرآن علی النّاس بمکثٍ وترتیل . وکان هذا الأُسلوب عملیّا میَسِّرا للعرب الأُمّیّین من أجل فهم الآیات القرآنیّة . وکان رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یقرأ الآیات النّازلة علی الرّجال أوّلاً ، ثمّ علی النّساء(2) .

وأکّد الباری سبحانه هاتین الملاحظتین فی آیتین أُخریین فقال جلّ من قائل : « وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَن یَقُولُ أَیُّکُمْ زَادَتْهُ هذِهِ إِیمَانا فَأَمَّا الَّذِینَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِیمَانا وَهُمْ یَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسا إِلَی رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا

ص: 394


1- الفرقان : 32 .
2- سیرة ابن إسحاق : 147 .

وَهُمْ کَافِرُونَ * ... وَإِذا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَی بَعْضٍ هَلْ یَرَاکُم مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللّه ُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ یَفْقَهُونَ »(1) .

وهکذا فإنّ نزول کلّ سورة یزید إیمان المؤمنین . فیزداد تبعا له حجم الإیمان والاعتقاد الدّینیّ فی المجتمع ککلّ . وقال سبحانه فی موضع آخر : « وَقُرْآنا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَی النَّاسِ عَلَی مُکْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِیلاً * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا یُتْلَی عَلَیْهِمْ یَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدا * وَیَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن کَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَیَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ یَبْکُونَ وَیَزِیدُهُمْ خُشُوعا »(2) ونلحظ فی هذه الآیات کلا الموضوعین : قراءة القرآن بتأمّل وتأنٍّ ؛ وتأثیر الآیات النّازلة کلّ مرحلة فی زیادة الإیمان وخشوع المؤمنین .

ویمکن القول إنّ النّزول التّدریجیّ کان یتوخّی أهدافا أُخری أیضا من أهمّها بیان أُسس الدّین بالتّرتیب وعلی أساس منوال منطقیّ . وقد راعی القرآن الکریم نوعا من التّدریج فی تبیان أُسس الدّین . ولنا أن نعدّ عرض أُصول الدّین وفروعه أهمّ وجه لهذا النّزول التّدریجیّ ، وفی هذا الضّوء تتفارق الآیات المکّیّة والمدنیّة . إذ اهتمّت الآیات المکّیّة بأُسس العقائد ، بینما اهتمّت الآیات المدنیّة بالفروع العملیّة غالبا . وینبغی الالتفات إلی أنّ التّدریج نفسه ذو أهمّیّة بالغة فی تعلیم العقائد الدّینیّة . فالمجتمع الجاهلیّ الهابط یستطیع بالتّعلیم التّدریجیّ أن یُرسی دعائم حضارة راسخة وطیدة . والصّحابة الّذین ربّاهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، وکثیر منهم کان علی درجة عالیة من الفهم الدّینیّ ، قد أُعدّوا یومئذٍ بواسطة التّعلیم التّدریجیّ للقرآن الکریم . وکان النّزول التّدریجیّ للقرآن یولّد نوعا من الانتظار لدی المسلمین . فالصّحابة ینتظرون نزول الآیات والتّعالیم الجدیدة فی کلّ لحظة ، من هنا کان لهم حضور ملموس أکثر

ص: 395


1- التّوبة : 124 ، 125 ، 127 .
2- الإسراء : 106 - 109 .

فاعلیّة فی مسرح التطوّرات الحاصلة أیّام البعثة والهجرة . ومن النّتائج الأُخری للنّزول التّدریجیّ خوف المشرکین والمنافقین من نزول آیات بحقّهم ، إذ تتداولها الألسن وتکون فی متناول أیدی الجمیع بعد نزولها . وهذا نفسه یشکلّ عقبة أمام المنافقین ، وأحیانا المشرکین ، من القیام بعمل مضادّ(1) .

3 - القرآن أمام التحجّر الفکریّ الجاهلیّ

کان المجتمع الجاهلیّ فی شبه الجزیرة العربیّة مجتمعا مغلقا مغلولاً بالرکود والجمود . خالیا من معالم الثّقافة والفکر . وإذا استثنینا بعض الآداب والعادات السّائدة فیه ، فلا نجد وسائل تربویّة فکریّة فی أوساطه نحو المدرسة والمکتبة وغیرهما . وکانت حیاته مدینة لتقلید الغابرین . والتّقلید هو الجسر الّذی یوصل قیم الأجیال الخالیة إلی الأجیال الجدیدة . وتعلّقهم بالماضی دلیل علی حقّانیّتهم . وکان ذلک الجمود عقبة کبیرة فی طریق تقدّمهم ورفعتهم ، ولم یرضوا بالتّغییر والتّبدیل ، وهذا هو عین الجمود .

وکان أحد الحواجز الماثلة الّتی تقف حجر عثرة فی طریق التقدّم الفکریّ للعرب فی العصر الجاهلیّ هو نظرتهم الحسّیّة وفقدان التفکّر العقلیّ عندهم . فکانوا لا یقبلون إلاّ ما یرونه بأمّ أعینهم محرومین من الحقائق القابلة للإدراک والرّؤیة بالعقل . من هنا ضربوا عن عقیدة أبیهم إبراهیم علیه السلامصفحا ورضوا بعبادة حفنة من التماثیل المصنوعة من الشّجر والحجر .

وفی ضوء هذه النّظرة المادّیّة الّتی کانوا یتبنّونها یبرّر الدکتور جواد علی إعراضهم

ص: 396


1- مثل ذلک مثل الشّعر عندما یُنشد فی هجاء أحد فإنّ الأطفال یستظهرونه أیضا .

عن عقیدة التّوحید وإقبالهم علی عبادة أصنامٍ محسوسة ملموسة(1) . وحاول القرآن الکریم أن ینقل نظرتهم الحسّیّة إلی مستوی أعلی ، ویوجد لدیهم أرضیّة التّعقّل والتّفکّر ، ومن ثمّ یعرّفهم علی الآیات الآفاقیّة والأنفسیّة . فعرض الاعتقاد بالغیب إلی جانب الاعتقاد بالشّهادة ، وعزّز أساس الدّین المتمثّل بالاعتقاد بالغیب . علما أنّه لم یُهمل النّظرة الحسّیّة بل رشّدها بنحو من الأنحاء لیستقوی العقل ویهتدی إلی اللّه والغیب عن طریق التأمّل فیها . ونعرف فی القرآن آیات کثیرة تدعو النّاس إلی معرفة الآیات الآفاقیّة . وللقرآن نفسه کمعجزة فکریّة تأثیر باهر فی توطید أبعاد التفکّر والتعقّل . وعندما کان المشرکون یطلبون معجزات حسّیّة ، یجیبهم اللّه سبحانه طالبا منهم التأمّل فی القرآن نفسه والوقوف علی حقّانیّة الإسلام(2) . وما تعظیم القرآن للعلم والمعرفة ، واستعماله مفاهیم واسعة تدور حول الفهم والدّرایة(3) إلاّ آیة علی الحرکة التبلیغیّة المکثّفة للقرآن فی فتح طریق التفکّر والتعقّل ، وهو الطّریق الّذی أبدع التمدّن الإسلامیّ العظیم فی نهایة المطاف .

وقیل : إنّ تقلید الأوّلین والشّأن الّذی کان یولیه المشرکون لثقافتهم القدیمة یشکّلان عقبة کبیرة فی طریق تقدّم المجتمع وتطوّره . وکانت شخصیّة القبیلة رهینة بحفظ میراثها وسابقتها التّاریخیّة . من هنا کان أهمّ ما یتذرّع به المشرکون فی معاداة الإسلام هو قول رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ آباءهم وأجدادهم کانوا فی ضلالٍ ، فهم فی النّار(4) . وهاجم القرآن هذا الضّرب من التّقلید فی العقائد والقیم الفارغة الواهیة ، وطالبهم أن یجعلوا «العلم» و«البرهان» أساسا لممارساتهم وعزائمهم . قال تعالی : « وَلاَ

ص: 397


1- المفصّل فی تاریخ العرب قبل الإسلام 1 : 286 .
2- العنکبوت : 51 .
3- علی سبیل المثال انظر : الزُّمَر : 42 ؛ الجاثیة : 3 ؛ الأنعام : 32 ؛ الأعراف : 169 ؛ یوسف : 109 ؛ آل عمران : 191 .
4- انظر : أنساب الأشراف 1 : 115 ، 116 .

تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ کُلُّ أُولئِکَ کَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً »(1) .

ونقل سبحانه عن المشرکین فقال : « وَإِذَا قِیلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللّه ُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَیْنَا عَلَیْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ کَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ یَعْقِلُونَ شَیْئا وَلاَ یَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِینَ کَفَرُوا کَمَثَلِ الَّذِی یَنْعِقُ بِمَا لاَ یَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُکْمٌ عُمْیٌ فَهُمْ لاَ یَعْقِلُونَ »(2) . ومن المناسب أن نشیر هنا إلی تأکید القرآن الکریم الحکمةً . وهی الحکمة الّتی علّمها الأنبیاء الناسَ، وعلّمها رجل مثل لقمان الحکیم - وهو لیس من الأنبیاء - ابنه . فالحکمة هی القدرة علی تمییز الحسن من القبیح ، أی : المصالح والمفاسد ، والصّحیح من السّقیم فی نطاق العقل النّظریّ والعملیّ . بعبارة أخری الحکمة فی قسم العقائد ، وفی قسم الأخلاق علی حدٍّ سواء ، من أهمّ المفاهیم العلمیّة الّتی أکّدها القرآن الکریم وطلب من النّاس أن یتعلّموها .

وکان التعلّق القائم بین الأشخاص المنتسبین إلی القبیلة باعثا علی إیجاد الرّوح الجماعیّة بینهم . وکانت قوّة الأواصر العائلیّة من مرحلة العشیرة إلی مرحلة القبیلة قد ضبطت الجمیع فی إطارٍ خاصٍّ یصعب علیهم التخلّص منه ، ویستحیل علی ضعفاء القبیلة ذلک أیضا . فکلّهم یرون أنفسهم محمیّین فی ظلّ الرّوح الجماعیّة القبلیّة ، ولم یستعدّوا للانفصال منها قطّ . ومن الواضح أنّ الشخص الّذی یتخلّی عن العقائد القدیمة ، یفقد تعلّقه بماضی القبیلة وحاضرها . وحینئذٍ من سیکون المدافع عنه ؟ وکانت العقائد الدّینیّة واختیار الأصنام فی إطار العلاقات القبلیّة أیضا . وفی ضوء هذه الرّوح الجماعیّة کان کلّ قرارٍ یُتّخذ یخصّ القبیلة جمعاء . وإذا قُتل أحد أفراد القبیلة فإنّ القبیلة بأسرها تنهض للدفاع حقّا کان أم باطلاً . وهکذا لم یتمتّع أفراد القبیلة بشخصیّة فکریّة مستقلّة ولیس لهم أن یفکّروا خارج الإطار القبلیّ . وحاول

ص: 398


1- الإسراء : 36 .
2- البقرة : 170 ، 171 .

القرآن الکریم أن یقلّل شأن التّضامن القبلیّ ، ویحثّ أفراد القبیلة علی جعل الحقّ والباطل مقیاسا لأعمالهم وعلاقاتهم . ومن منظاره فإنّ کلّ شخص مسؤول عن عمله ولا ارتباط لعمله بالقبیلة ، أو بالعکس إذا ارتکب أحد خطأً فلیس لقبیلته أن تدعمه بلا مسوّغ . وأکّد هذه الشّخصیّة الفکریّة المستقلّة کثیرا . من هنا قیل للنّاس : « وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَی »(1) . وقال سبحانه : « وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَی کَمَا خَلَقْنَاکُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَکْتُم مَا خَوَّلْنَاکُمْ وَرَاءَ ظُهُورِکُمْ وَمَا نَرَی مَعَکُمْ شُفَعَاءَکُمُ الَّذِینَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِیکُمْ شُرَکَاءُ لَقَد تَقَطَّعَ بَیْنَکُمْ وَضَلَّ عَنکُم مَاکُنتُمْ تَزْعُمُونَ »(2) وکان المشرکون یقولون للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم : لو کانت قیامة وأراد ربّک أن یلقینا فی جهنّم فإنّنا مع أقاربنا نقف أمامه ولا نمکّنه من أنفسنا(3) . من هنا قال تعالی : « لَن تَنفَعَکُمْ أَرْحَامُکُمْ وَلاَ أَوْلاَدُکُمْ یَوْمَ الْقِیَامَةِ یَفْصِلُ بَیْنَکُمْ وَاللّه ُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِیرٌ »(4) وذکر الکافر فی موضع آخر من القرآن فقال سبحانه : « أَفَرَأیْتَ الَّذِی کَفَرَ بِآیَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَیَنَ مَالاً وَوَلَدا »(5) ثمّ قال : « وَنَرِثُهُ مَا یَقُولُ وَیَأْتِینَا فَرْدا »(6) .

وعلی أساس هذه الآیات یمکن أن نقول إنّ اللّه سبحانه أراد فی آیاته أن یجعل کلّ شخص مسؤولاً عن عمله خارج التبعیّة القبلیّة . وهنا ینبغی أن نشیر إلی آیةٍ بالغة الأهمّیّة ، وهی تطلب من المشرکین أن یفکّروا برسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بدون أن یتأثّروا بالآخرین سواءً کانوا أشراف قریش أم أُسرتهم . قال تعالی : « قُلْ إِنَّمَا أَعِظُکُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَی وَفُرَادَی ثُمَّ تَتَفَکَّرُوا مَا بِصَاحِبِکُم مِن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِیرٌ لَّکُم بَیْنَ یَدَیْ عَذَابٍ شَدِیدٍ »(7) .

ص: 399


1- الزّمر : 7 ؛ فاطر : 18 .
2- الأنعام : 94 .
3- انظر بهذا الشأن : السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 313 .
4- الممتحنة : 3 .
5- مریم : 77 .
6- مریم : 80 .
7- سبأ : 46 .

یدعو اللّه سبحانه النّاس إلی عظة واحدة «أن تقوموا» بمعنی أن یعتزموا الإصلاح . ثمّ یبتعدوا عن المنحرفین والمشرکین الّذین یرمون النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بالجنون دون أیّ دلیل ویشیعون ذلک . ولیکونوا وحدهم أو مع شخصٍ آخر بعیدین عن التأثّر بالجمع ، ثمّ یتفکّروا . ویؤکّد الزمخشریّ أنّ مآل هذه العظة هو أنّ الاجتماع [ لاسیّما اجتماع المشرکین ] ممّا یشوّش الخواطر ، ویُعمی البصائر ، ویمنع من الرویّة ، ویخلط القول ، ومع ذلک یقلّ الإنصاف ، ویکثر الاعتساف ، ویثور عجاج التعصّب ، ولا یسمع إلاّ نصرة المذهب(1) . بید أنّه إذا کان وحده فإنّه یستطیع التأمّل ، والتفکّر برسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، وعندئذٍ یقف علی زیف التّهم الّتی یبثّها المشرکون . وبهذه التّربیة یترک الشّخص التعلّق الفئویّ والطّائفیّ من أجل التّفکّر . وحینئذٍ یدرک فکرة التّوحید فی الإسلام ببالٍ أکثر رخاءً . ومن المؤسف أنّ النّظام القبلیّ کان من أهمّ العقبات فی طریق تحکیم الحقّ والباطل معیارا فی فکر المسلمین الأوائل وعملهم . مع هذا أفلح النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی تغییر ذلک النّظام إلی حدٍّ کبیر ، وفی تعریف المسلمین بمعیار الحقیقة حتّی بلغ الأمر بالمسلم أن یقف أمام أبیه فی الحرب(2) .

إنّ انغلاق المجتمع الجاهلیّ النّاجم - نوعا ما - عن طبیعة النّظام القبلیّ ، ولسببٍ ما ، عن فقدان الارتباط الثّقافیّ الوثیق بسائر الشّعوب أدّی إلی جموده . فی حین أنّ بعض التجّار من قریش کانوا یرحلون هنا وهناک بید أنّ رحلاتهم هذه لم تؤثّر تأثیرا کبیرا فی التّطوّر الفکریّ لشبه الجزیرة العربیّة . وکانت مکّة وحدها قد تأثّرت بنماذج من الأفکار الیهودیّة أو المجوسیّة . وکسرا لذلک الجمود الفکریّ کان علی الإسلام أن یوسّع الأفق الفکریّ لأهل تلک الدّیار . وعلیهم أن یبتعدوا عمّا تبنّوه من نهجٍ وهموا

ص: 400


1- انظر : الکشّاف 3 : 294 . کان سقراط یقول : أنا أتحدّث مع شخص واحد فحسب ، ولا أتحدّث إلی الغوغاء . فهم لا یفهمون الکلام ویقتلون قائله .
2- المعرفة والتاریخ 1 : 343 .

أنّه سبیلهم الوحید ، وأنّه هو الحقیقة بعینها ، وأن ینفتحوا علی سائر الأفکار . وإذا کان الاتّصال بسائر الأُمم متعذّرا ، فلا یتعذّر تعریفهم بالمساجلات الفکریّة - من خلال التّاریخ - وجعل الاستدلالات المتنوعّة علی مسبار التّجربة عبر ذلک الطّریق ونحن نعلم أنّ قسما کبیرا من آیات السّور المکّیّة ذو صبغة تاریخیّة ، إذ تتحدّث الآیات المذکورة عن طبیعة النضال الّذی کان قائما بین الشّرک والتّوحید ، وعن تجربة الأُمم الغابرة . وهذه التّجارب کانت تفتح الأفق الفکریّ للمجتمع الجاهلیّ وتدلّه علی أنّ النّضال بین محمّد صلی الله علیه و آله وسلم وبینهم نضال ضارب فی أعماق التّاریخ . والملاحظة الرّائعة فی هذه الآیات التّاریخیّة هی دعم القرآن الکریم لفکرة التّوحید وتعریفها کفکرة أصیلة فی التّاریخ . وکان الشّرک بوصفه عقیدةً واهیة یجرّ إلیه النّاس الّذین یتّبعون الظّنّ لا البرهان . وأتباع التّوحید رجال أتقیاء أولو ألبابٍ وبصائر ، أمّا أتباع الشّرک فإنّهم رمز الفسق والفجور ، وأولو بلادة فطریّة وعقلیّة . علی أیّ حال کان للدّعوات القرآنیّة المتکرّرة لمعرفة الأمم الأُخری أن تُخرج المجتمع الجاهلیّ من رتابته وتعدّه لقبول الدّین الجدید . وقصص الأنبیاء فی القرآن الکریم تستهدف کذلک إحیاء الأمل فی نفوس المؤمنین وتثبیت قلب النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . وکان یقال للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أنّ المشاکل الّتی یلاقیها فی طریق نشر دعوته کان یلاقیها الأنبیاء من قبله أیضا ، وعلیه أن یکون مثلهم فی رجاء النّصر الإلهیّ . قال تعالی : « وَکُلاًّ نَقُصُّ عَلَیْکَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَکَ وَجَاءَکَ فِی هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِکْرَی لِلْمُؤْمِنِینَ »(1) . وفی الآیات التّاریخیّة أیضا

تفصیل لأنواع العذاب الّذی نزل بالأُمم السّابقة . وهذه الموضوعات وردت أساسا لتهدید المشرکین « لَعَلَّهُمْ یَتَّقُونَ أَوْ یُحْدِثُ لَهُمْ ذِکْرا »(2) .

وکانت لمقارعة القرآن المتواصلة للشّرک وعبادة الأصنام ، وتأکیده التّوحید فی

ص: 401


1- هود : 120 .
2- طه : 113 .

الأفعال باستثمار ممهّداته الموجودة فی المجتمع دور مؤثّر فی النّهوض بأهداف النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . وسنذکر هذه الأُمور فی موضع آخر یناسبها إن شاء اللّه .

4 - الدّفاع عن المحرومین من تعالیم القرآن الجوهریّة

من الضّروریّ الإشارة إلی التّعلیم المرتبط بدعم المحرومین فی المجتمع الطّبقیّ بمکّة عند استعراض الدّور التّاریخیّ للقرآن الکریم . فقد کانت فی مکّة شریحة من الأشراف تقود القوافل التّجاریّة الّثمینة جدّا إلی مختلف الأرجاء ، وکانت فی ذروة الغنی والثّروة . کما کانت هناک طبقة من الرّقیق والفقراء ، وطبقة متوسّطة(1) . وأدّت العلاقات الاقتصادیّة السّیّئة إلی حرمان عدد کبیر منهم . ولم یکن هذا الحرمان اقتصادیّا فحسب بل کان ذا جانب قِیَمیّ واجتماعیّ أیضا . فقد حُرِمَ الأحباش والرّقیق الرّومان من أیّ موقع فی المجتمع . إذ کانوا یعیشون فی ذلّ تامّ ویعامَلون معاملة الحیوانات ، مضافا إلی الرّقّ الّذی کانوا یعانون منه . واتّخذ القرآن الکریم فی هذا المجال موقفا صارما . فقد جعل اللّه سبحانه فی آیاتٍ نزلت فی الأنبیاء السّابقین - وهی مکّیّة - الضّعفاء والمحرومین إلی جانب الأنبیاء ، والأشراف والمترفین فی نقطة مقابلة لهم . وورد هذا الموضوع فی کثیر من الآیات التّاریخیّة ، وهو آیةٌ علی روح القرآن المتعاطفة مع الضّعفاء فی المجتمع .

« وَکَذلِکَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِکَ فِی قَرْیَةٍ مِن نَذِیرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَی أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَی آثَارِهِم مُقْتَدُونَ »(2) ، « وَمَا أَرْسَلْنَا فِی قَرْیَةٍ مِن نَذِیرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ کَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَکْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِینَ »(3) .

ص: 402


1- المفصّل فی تاریخ العرب قبل الإسلام 4 : 123 .
2- الزخرف : 23 .
3- سبأ : 34 ، 35 .

إنّ أهمّ معطیات هذه التّعالیم إقبال قسم کبیر من أفراد الطبقة الوسطی والسّفلی علی الإسلام ، ولو أنّ بعض أبناء المترفین قد أسلموا أیضا فی حالات معیّنة . وتحدّثنا فی موضع آخر عن الدور الأخلاقیّ الإترافیّ فی معارضة قریش للإسلام ، بید أنّ تأکیدنا هنا هو أنّ الدّعوة الإسلامیّة برمّتها ترکّز علی استخلاف المستضعفین واستبدالهم بالمستکبرین ، وجعل المستضعفین هم الوارثین . وتتجلّی التّجربة التّاریخیّة لهذا الموضوع فی دعوة موسی علیه السلام ، وحوار نوح علیه السلام مع المترفین دلیل آخر علی ما نقول . وکان رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یبشّر المسلمین الضعفاء منذ کان فی مکّة أنّهم سیرثون قیصر وکسری . وهذا ما دعا المشرکین إلی الاستهزاء بهم ، حتّی إنّهم عندما کانوا یرون بلالاً وخبّابا وصهیبا یقولون ساخرین : «جاءکم ملوک الأرض !»(1) وبلغ موقف القرآن الکریم من الصّرامة مبلغا أنّه لم یرتضِ امتهان الإنسان المؤمن والتّلهّی عنه وإن کان مثل ابن أُمّ مکتوم أیضا(2) .

وکانت أخلاق رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی معاشرة الفقراء ورفاقتهم مؤثّرة فی استقطابهم . منها أنّه کان لا یترک «الأکل علی الأرض مع العبید»(3) . والتّعلیم الأهمّ فی القرآن الکریم هو أنّه جعل التّقوی معیارا للتّفاضل بین النّاس(4) . وفی ضوئه استطاع کثیر من الفقراء أن یتخلّصوا من الحرمان القِیَمیّ والاجتماعیّ ، ویجدوا قیمتهم الحقیقیّة فی المجتمع . وعندما کتب عمر حکمه بتولیة عمّار علی الکوفة قال : ذلک لقول اللّه سبحانه : « وَنُرِیدُ أَن نَّمُنَّ عَلَی الَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا فِی الْأَرْضِ »(5) . وقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : «بُعثتُ لرفع قومٍ ووضع آخرین»(6) .

ص: 403


1- انظر : تثبیت دلائل النّبوّة 1 : 317 .
2- انظر : تفسیر سورة عبس . وفی موضعٍ آخر من هذا الکتاب ذکرنا بعض التوضیحات فی هذا المجال .
3- بحارالأنوار 16 : 215 ، 220 ، 225 .
4- الحجرات : 13 .
5- القصص : 5 ؛ أنساب الأشراف : 163 .
6- الطّبقات الکبری 1 : 192 .

مناهضة المشرکین للقرآن

عزم المشرکون علی مناهضة الإسلام بسبب امتداد تأثیر القرآن الکریم واتّساع نطاقه. وجهدوا فی العثور علی السُّبل المؤدّیة إلی مواجهة القرآن والحدّ من تأثیره علی أفکار النّاس . ونلقی هنا نظرةً علی مواقفهم منه .

إنّ من أهمّ المشکلات الّتی کان یواجهها المشرکون البعد الأدبیّ للقرآن وجاذبیّته . فنثره الرّصین المنطوی علی مضامین تُناغی القلب قد وجّه أذهانهم إلیه ، بخاصّة أنّه جاء علی لسان من لم تکن له سابقة فی عرض هذه الموضوعات ولم یُعْرَفْ بهذه الصّفة . وبدا للمشرکین أن یحسبوا القرآن شعرا . وکان للشعر جانب عاطفیّ متدفّق ، وأساسه جمال الصّورة . والخیال أهمّ أرکانه ، والنّزعة الجمالیّة للإنسان أهمّ باعث علی نموّه وتطوّره . بید أنّ المتّفق علیه تقریبا هو أنّه بقدر ما یتّصف به من جاذبیّة

الصّورة ، فإنّه یخلو من العناصر الاستدلالیّة والعقلانیّة . وما فتئ أداةً للتّعبیر عن المشاعر والعواطف ، وقلّما اختُدم للتّعبیر عن الآراء العقلیّة والمنطقیّة . وقیل فیه : «أجمله أکذبه»(1) ، إذ کلّما هدرت عاطفته قلّ بعده العقلیّ والواقعیّ . وهذه الأرضیّة المزدوجة للشّعر حملت المشرکین علی عدّ القرآن شعرا . وهذه النّسبة فی الوقت الّذی یمکن أن توجّه جاذبیّته الظّاهریّة ، فإنّها تُضعف جانبه الواقعیّ .

ولم تکن للرسول صلی الله علیه و آله وسلم قریحة شعریّة ، کما لم یرغب فیه کثیرا إلاّ فی حالات قلیلة . فهو تابع لکلام ربّه سبحانه إذ یقول : « وَالشُّعَرَاءُ یَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِی کُلِّ وَادٍ یَهِیمُونَ * وَأَنَّهُمْ یَقُولُونَ مَا لاَ یَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَکَرُوا

ص: 404


1- وجاء فی موضع آخر : «أعذب الشّعر أکذبه» . انظر : التفسیر المنیر 23 : 45 ، 46 .

اللّه َ کَثِیرا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا »(1) . أی : إنّ الأنبیاء کانوا أُولی إیمانٍ وعمل .

وخال المشرکون القرآنَ شعرا . أی : ما تنتجه قریحة الإنسان . « بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ »(2) . « وَیَقُولُونَ ءَإِنَّا لَتَارِکُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ »(3) ؟« أَمْ یَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَیْبَ الْمَنُونِ »(4) . وفی مقابل یؤکّد اللّه تعالی أنّ رسوله لیس بشاعرٍ : « وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا یَنبَغِی لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِکْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِینٌ * لِیُنذِرَ مَن کَانَ حَیّا

وَیَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَی الْکَافِرِینَ »(5) . وقال سبحانه : « فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ کَرِیمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ »(6) . ومن الطّبیعیّ أنّه کان واضحا للجمیع أنّ للشّعر وزنا وقافیة یخلو منها القرآن الکریم ، لکنّه ذو نثر موزون مسجّع فی بعض مواضعه . والمهمّ أنّه یتحدّث من منطق واقعیّ عملیّ . وما یوصی به هو مواعظ عملیّة ومفاهیم عقلیّة ثابتة ، لا نثرا مبتنیا علی الخیال . وهذا أمر فی غایة الوضوح واعترف به المشرکون مرارا ، وهم ملمّون بالشّعر ، وعرفوا أنّ هذا النثر لا یمکن أن یکون شعرا أبدا . مثال ذلک أنیس أخو أبی ذرّ ، فقد کان شاعرا ونصّ علی أنّ کلام محمّد صلی الله علیه و آله وسلم لا یُشبه الشّعر(7) . ومن الحریّ بالعلم أنّ الشّعر قد انزوی فی مقابل القرآن الکریم ، وقلّما کان ینشده أحد فی عصر الرّسالة إلاّ ما حظی منه بدعم النّبیّ

صلی الله علیه و آله وسلم . وما برح المتدیّنون والصّالحون لا یقیمون له وزنا(8) . علما أنّ الشّعر

ص: 405


1- الشّعراء : 224 - 227 .
2- الأنبیاء : 5 .
3- الصّافّات : 36 .
4- الطّور : 30 .
5- یس : 69 ، 70 .
6- الحاقّة : 38 - 41 .
7- دلائل النّبوّة ، البیهقی 2 : 208 ؛ تفسیر القرطبیّ 1 : 73 .
8- من المناسب أن ننقل هنا عبارة للعالم الشّیعیّ عبد الجلیل الرازیّ القزوینیّ الّذی کان یعیش فی القرن السّادس الهجریّ ، فقد قال : لا بدّ أنّک سمعتَ أنّ قول الشّعر منهیّ عنه عند الشّیعة حتّی إنّ محقّقیهم من أمثال الخواجة الإمام رشید المتکلّم وغیره صرّحوا بأنّه لا یجوز علی الأئمّة علیهم السلام ولا علی الأنبیاء علیهم السلامقول الشّعر . ونُسب إلی المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه استشهد فی حیاته کلّها بشطر بیتٍ لا غیره ، وهو : ستُبدی لک الأیّام ما کنت جاهلاً . ولم یقل کلامه الباقی علی سبیل نظم الشّعر لئلاّ یکون شعارا . وقال الباری تعالی فی مدح القرآن : «وما هو بقول شاعر قلیلاً ما تؤمنون» . ویُجمع علماء الشّیعة علی أنّ الإمام الصّادق علیه السلام قال : إذا کنت صائما فلا تقل الشّعر لأنّه منقصة للصوم . قیل : وإن کان حقّا ؟ قال : «وإن کان حقّا» ، کتاب نقض : 577 . بشأن الأبیات القلیلة الّتی کان یتمثّل بها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، انظر : التفسیر المنیر 23 : 46 .

الحَسَن مستثنی دائما . ومن الطّبیعیّ أنّ بحث «النّبیّ والشّعر» بحث مفصّل لیس هنا موضع ذکره .

الموضوع الآخر الّذی کان المشرکون یطرحونه هو أنّ القرآن سحر ، والنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ساحر . ویستشفّ من القرآن أنّ هذا الموضوع کان مطروحا أیضا بشأن الأنبیاء السّابقین ومعجزاتهم . بعبارة أخری کان المشرکون والکفّار ینظرون إلی بیّنات الأنبیاء علی أنّها «سحر مبین»(1) . وقال تعالی فی موضع آخر من القرآن : « کَذلِکَ مَا أَتَی الَّذِینَ مِن قَبْلِهِم مِن رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ »(2) .

فالمشرکون إذا کانوا یتذرّعون بهذا الموضوع دائما من أجل الحطّ من شأن الأنبیاء. وکان إطلاق السّحر علی معجزات سائر الأنبیاء یتناسب مع إعجازهم المادّیّ . أمّا مشرکو مکّة فما حملهم علی وصف القرآن سحرا ؟ « وَإِذَا تُتْلَی عَلَیْهِمْ آیَاتُنَا بَیِّنَاتٍ قَالَ الَّذِینَ کَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هذَا سِحْرٌ مُبِینٌ »(3) . ویبدو أنّ المشرکین کانوا یحاولون توجیه جاذبیّة القرآن ، لاسیّما جاذبیّته السحریّة . وکانوا فی حیرةٍ ممّا یتّصف به القرآن من خصائص جذبت النّاس إلیه وجعلتهم یرغبون فی سماع ترتیلاته . وأنّ تشبیه القرآن بالسّحر أو قذف النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بالسّحر بالقرآن کورد من الأوراد یستهدف

ص: 406


1- انظر : الصّفّ : 6 . «فلمّا جاءهم بالبیّنات قالوا هذا سحرٌ مبین» .
2- الذّاریات : 52 ، 53 .
3- الأحقاف : 7 .

الإجابة عن هذا الوضع . ومن الواضح أنّ هذه التّهم کانت من أجل إلهاء عامّة النّاس . ومن الطّبیعیّ أنّها کانت تترک أثرها علیهم . بید أنّ المترفین أنفسهم وأشخاصا کالولید بن المغیرة صرّحوا بأنّ القرآن لیس سحرا . والولید هذا صرّح بذلک اعتمادا علی تجربته المتمثّلة برؤیة السّحرة وأعمالهم . لکنّه هو نفسه وصفه بالسّحر من وحی الإدبار والاستکبار کما أشار القرآن إلی ذلک(1) .

ویستشفّ من أخبار أُخری أنّ إطلاق السّحر علی کلمات النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم یعود إلی ما زعموا أنّها تسبّب الخلاف والانشقاق فی العائلة الواحدة کالسّحر . وقال المشرکون للطفیل بن عمرو : «إنّک قدمت بلادنا وهذا الرجل الّذی بین أظهرنا قد أعضل بنا ، وفرّق جماعتنا ، وشتّت أمرنا . وإنّما قوله کالسّحر یفرّق بین الرجل وبین أبیه ، وبین الرّجل وبین أخیه ، وبین الرّجل وبین زوجته»(2) .

کیف کان السّحر سببا فی خلافهم ونفاقهم ؟ من المحتمل أنّ فی ذلک إشارة إلی عمل أشخاص کانوا یلجأون إلی السّحر من أجل بثّ الخلاف بین العوائل ، کما فی زماننا هذا . ولعلّهم وصفوا القرآن بالسّحر من هذا المنطلق أیضا . ومن الحریّ بالعلم أنّ هذه التّهمة معلم علی جاذبیّة القرآن الفائقة بین النّاس . وإذا نظرنا إلی الآیات الّتی نقلت وصف المشرکین القرآن بالسّحر نجدها أکثر بکثیر من الآیات الّتی نقلت وصفهم إیّاه بالشّعر . ولابدّ أن یدلّ هذا علی بذلهم جهدا أکبر فی هذا المجال .

ووصف المشرکون - بمقیاس أقلّ - النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بأنّه کاهن ، وکانوا یرون الآیات القرآنیّة ککلمات الکهّان . والکهّان شریحة فی الجاهلیّة کانت تزعم أنّها تعلم الغیوب ، وتقضی علی أساس زعمها هذا . وکانت تنطلق بکلمات مسجّعة تجذب السّامع ،

ص: 407


1- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 270 ؛ عیون الأثر 1 : 190 ، 191 . «ثمّ أدبر واستکبر فقال إن هذا إلاّ سحرٌ یُؤثَر» .
2- الطّبقات الکبری 4 : 237 .

وتُحدث جاذبیّة خاصّة فی کلامها عن هذا الطّریق . وکان بعض الکهّان یهودا(1) . وفی فترة لاحقة حین أبدی الإسلام معارضته الجادّة للکهانة ، فإنّها ضعفت ضعفا شدیدا ، وإن کان عوامّ النّاس یمهّدون الأرضیّة لتنامی هذه الاتّجاهات غیر الشّرعیّة . ولعلّ المشرکون شبّهوا القرآن بکلام الکهّان لأنّ آیاته کانت تخبر عن الغیب من جهة ، وأنّ نثره کان مسجوعا إلی حدٍّ ما من جهة أُخری . وکان المشرکون یحاولون أساسا أن یضفوا طابعا بشریّا علی الوحی ، ویعدّوه «قول بشر» لا کلام اللّه تعالی ، وذلک من خلال التّهم الّتی کانوا یلصقونها به مثل تهمة السّحر والشّعر . ولسان حالهم : « فَقَالَ إِنْ هذَا إِلاَّ سِحْرٌ یُؤْثَرُ * إِنْ هذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ »(2) . وقال تعالی لرسوله فی مقابل کلامهم : « فَذَکِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّکَ بِکَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ »(3) وقال سبحانه فی موضع آخر : « وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِیلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ کَاهِنٍ قَلِیلاً مَا تَذَکَّرُونَ * تَنزِیلٌ مِن رَبِّ الْعَالَمِینَ »(4) .

الموضوع الآخر الّذی طرحه المشرکون هو وصف القرآن بأساطیر الأوّلین . وجاءت الأسطورة فی کتب اللغة بمعنی الأباطیل والأکاذیب والکلمات الّتی لا نظام لها(5) . وفی البدایة ینبغی الالتفات إلی أنّ قصدهم من ذلک هو القصص القرآنیّ باحتمال کبیر . إذ إنّ لجذر الکلمة (اسطور) استعمالاً قصصیّا وتاریخیّا کمعادلها فی الإنجلیزیّة والیونانیّة . فکلمة «Historia» باللاتینیّة ، و«History» بالإنجلیزیّة ، و«Istoriya» بالیونانیّة تدور حول محور القصص والتّاریخ(6) . وینبغی الالتفات أیضا إلی أنّ کلمة (أساطیر) لم ترد وحدها فی الآی الحکیم بل أردفت بکلمة (الأوّلین) .

ص: 408


1- لسان العرب ، ذیل کلمة کهن 12 : 181 ؛ وانظر : تاریخ الأدب العربیّ ، العصر الجاهلیّ : 420 .
2- المدَّثِّر : 24 ، 25 .
3- الطّور : 29 .
4- الحاقّة 41 - 43 .
5- تاج العروس ، ذیل کلمة سطر 12 : 25 .
6- تاریخ العرب فی الإسلام : 176 .

وأساطیر الأوّلین یعنی المتقدّمین ، وفی خاتمة المطاف تعنی الأخبار التّاریخیّة أو القصص التّاریخیّة للسّابقین . ووردت التّهمة المذکورة فی تسعة مواضع من القرآن الکریم(1). وجاءت فی أغلب المواضع بیانا لزعم المشرکین بأنّ القرآن أساطیرالأوّلین. أمّا فی سورة الفرقان ، فقد جاء قوله تعالی : « وَقَالَ الَّذِینَ کَفَرُوا إِنْ هذَا إِلاَّ إِفْکٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَیْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْما وَزُورا * وَقَالُوا أَسَاطِیرُ الْأَوَّلِینَ اکْتَتَبَهَا فَهِیَ تُمْلَی عَلَیْهِ بُکْرَةً وَأَصِیلاً »(2) . إذا ینبغی أن یکون قصدهم قصصا معیّنة .

یقول الدکتور جواد علی : کانت هذه الأساطیر مکتوبات یعرفها عرب الجاهلیّة . فقد أخذوا لفظها الیونانیّ واستعملوه بالشّکل المذکور . ویضیف أنّه لا یستبعد وجود هذه الکتب بالیونانیّة أو اللاتینیّة فی مکّة ؛ وکان الرقیق الرومان فی مکّة ویقرأونها بهاتین اللغتین ویتکلّمون بها(3). وفی ضوء ذلک یلتقی هذا الموضوع مع التّهمة الأُخری الّتی قذف بها المشرکون النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، وهی أنّ الآیات القرآنیّة مأخوذة من أقوال الآخرین . أمّا المکتوبات الّتی کانت فی مکّة فکلام جواد علی فیها تخمین محض . وأمّا سماع العرب فی الجاهلیّة أخبار الأمم السّابقة عن طریق الیهود والنّصاری فأمر محتمل تماما . ومرّ بنا أنّ القرآن دحض تهمتهم وعدّها باطلةً بالنّظر إلی نقطتین : الأولی : لسان أُولئک أعجمیّ ولسان القرآن عربیّ مبین . یضاف إلی ذلک أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لم یقدر علی القراءة والکتابة فیکتب ما یُملی علیه بزعمهم . وجاء فی آیة أُخری أیضا أنّ المشرکین قالوا : آیات القرآن «إفک قدیم»(4) . ولعلّهم یقصدون أنّ هذه الآیات قصص تاریخیّة قدیمة غیر حقیقیّة . وما یُحتمَل أکثر من غیره هو القصص الیهودیّة الّتی کانت موضع اهتمام المشرکین . وأورد أهل السّیرة نقلاً عن أحد

ص: 409


1- الأنعام : 25 ؛ الأنفال : 31 ؛ النّحل : 24 ؛ المؤمنون : 83 ؛ الفرقان : 5 ؛ الّنمل : 68 ؛ الأحقاف : 17 ؛ القلم : 15 ؛ المطفّفین : 13 .
2- الفرقان : 4 ، 5 .
3- تاریخ العرب فی الإسلام : 176 .
4- الأحقاف : 11 .

المشرکین أنّه کان یقول للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم : «إنّما یعلّمک أهل الکتاب أساطیرهم»(1) .

وجاء فی أخبار السّیرة أنّ هذه التّهمة ألقاها النّضر بن الحارث . وهو الّذی کان ینقل من الحیرة إلی مکّة قصص الفرس العامّیّة کقصّة رستم واسفندیار وملوک فارس ، ویطلب من النّاس أن یسمعوا قصصه الّتی هی أفضل من قصص محمّد صلی الله علیه و آله وسلم !(2) وقیل إنّ الآیة الآتیة نزلت بشأن عمله هذا : « وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللّه ِ بِغَیْرِ عِلْمٍ وَیَتَّخِذَهَا هُزُوا أُولئِکَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِینٌ »(3) . وینبغی الالتفات إلی أنّ مواقف المشرکین الّتی تبدو علیها مسحة علمیّة لم تَحُلْ دون تأثیر الإسلام وإن ترکت تأثیرها علی بعض الجهلاء . ومن هنا لجأ المشرکون إلی أسالیب عملیّة أُخری کی یحولوا دون تأثیر القرآن علی النّاس . وأشار القرآن إلی بعض هذه المواقف فقال : « وَقَالَ الَّذِینَ کَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِیهِ لَعَلَّکُمْ تَغْلِبُونَ »(4) .

وعندما عزم ابن مسعود أن یجهر بالقرآن ، انقضّ علیه المشرکون وراغوا علیه ضربا(5) . وقیل : إنّ الآیة الکریمة الآتیة : « وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِکَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَیْنَ ذلِکَ سَبیلاً »(6) نزلت عندما کان یجهر النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بصلاته ویسمع المشرکون صوت الآیات فیسبّوا ویشتموا . فطلب اللّه منه ألاّ یجهر فیسبّوا ، ولا یخافت فلا ینتفع

صحابته(7) . وکان الّذین أُترفوا من قریش یحذّرون الوافدین إلی مکّة من الاقتراب

ص: 410


1- أنساب الأشراف 1 : 150 ؛ وانظر : ص140 ، 141 .
2- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 300 - 308 ؛ سبل الهدی والرّشاد 2 : 460 .
3- لقمان : 6 ؛ مجمع البیان 8 : 313 .
4- فصّلت : 26 ؛ وانظر : السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 313 ؛ عیون الأثر 1 : 202 .
5- سبل الهدی والرشاد 2 : 469 .
6- الإسراء : 110 .
7- سبل الهدی والرّشاد 2 : 468 .

إلی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم والاستماع إلی کلماته الّتی هی آیات إلهیّة(1) .

وکان الاستهزاء بالآیات القرآنیّة أُسلوبا آخر انتهجه المشرکون لإفقاد الآیات القرآنیّة شأنها . وحینما نزلت الآیات الکریمة : « إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِیمِ * کَالْمُهْلِ یَغْلِی فِی الْبُطُونِ * کَغَلْیِ الْحَمِیمِ »(2) ، أمر أبو جهل أن یُؤتی إلیه بمقدار من الزّبد والّتمر . ثمّ قال : اصنعوا منها زقّوما . نحن لا نعرف زقّوما غیر هذا . فنزلت آیات أخری فی وصف الزّقّوم ، قال تعالی : « إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِی أَصْلِ الْجَحِیمِ * طَلْعُهَا کَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّیَاطِینِ »(3) . فقالت قریش مستهزئةً : وهل تنبت شجرة من النّار ؟ ونُقل هذا الخبر أیضا بشأن الآیة الحادیة والخمسین من سورة الواقعة الّتی تحدّثت عن الزّقّوم أیضا(4) . کما ذکر اللّه سبحانه عن المشرکین قولهم ساخرین : « ... قُلُوبُنَا غُلْفٌ » ، فواصل تعالی قوله: « بَلْ لَعَنَهُمُ اللّه ُ بِکُفْرِهِمْ فَقَلِیلاً مَا یُؤْمِنُونَ »(5) . وکفرهم هذا هو الّذی غلّف قلوبهم « وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَیْنَکَ وَبَیْنَ الَّذِینَ لاَ یُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ حِجَابا مَسْتُورا * وَجَعَلْنَا عَلَی قُلُوبِهِمْ أَکِنَّةً أَن یَفْقَهُوهُ وَفِی آذَانِهِمْ وَقْرا وَإِذَا ذَکَرْتَ رَبَّکَ فِی الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَی أَدْبَارِهِمْ نُفُورا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا یَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ یَسْتَمِعُونَ إِلَیْکَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَی إِذْ یَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُورا »(6) . وورد التذکیر أیضا بإعراض المشرکین عن الآیات الإلهیّة فی عدد من الآیات الأُخری(7) .

ص: 411


1- من المحتمل أنّ الآیة 91 و92 من سورة الحجر نزلتا فیهم . انظر : دلائل النّبوّة ، البیهقیّ 2 : 200 .
2- الدخان : 43 - 45
3- الصّافات : 64 ، 65 .
4- أنساب الأشراف 1 : 127 ؛ مجمع البیان 8 : 313 .
5- البقرة : 88 .
6- الاسراء : 45 - 47 ؛ وانظر : السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 316 ، 317 .
7- الأنبیاء : 2 ؛ الکهف : 56 ؛ الجاثیة : 9 .

الدّعوة الإسلامیّة ومراحلها

طوت الدعوة الإسلامیّة عدّة مراحل فی مسیرتها منذ أن أُوحیت الآیات القرآنیّة الأُولی إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، وعرّف صلی الله علیه و آله وسلم النّاس بالمعارف الجدیدة إلی أن فارق الحیاة . وکان تنظیم هذه المراحل قائما علی أساس الآیات النّازلة فی کلّ مرحلة ، والسّیاسة العملیّة للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی توسیع نطاق الدعوة الإسلامیّة . وکان لهذا التنظیم رکن ثالث أیضا یتمثّل فی الحقائق العملیّة الموجودة فی المجتمع . وتتطلّب هذه الحقائق ضرورات لا بدّ منها ، کما تستلزم تعالیم جدیدة فی کلّ مرحلة بعد انقضاء المرحلة السّابقة . وکان موقف القرآن من الشّرک یشتدّ بالتّدریج ، کما أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم لم یعجل فی إعلان البراءة من الشّرک رسمیّا فی السّنین الأُولی من الدّعوة . ثمّ أخذت الهجمات تشتدّ تدریجا ، وکان هذا فی وقت قد اعتنق فیه قسم کبیر من المجتمع الجاهلیّ الإسلام ، وألفت مسامع الآخرین الرسالات الجدیدة بشأن الشّرک .

ویدلّ التفاوت المحسوس بین الآیات المکّیّة والمدنیّة علی وجود مرحلتین فی الدّعوة الإسلامیّة أساسا . نجد فی الأولی خطابات قرآنیّة لجمیع النّاس ، ومحتواها الأصلیّ تبیان العقائد الدّینیّة ، ومجادلات فکریّة بین الشّرک والتّوحید ، ومباحث مرتبطة بالقیامة . ومن مواصفات السّور المکّیّة : آیاتها تبدأ ب «یا أیّها النّاس» ، وفیها کلمة (کلاّ) للتّوبیخ والتّقریع ؛ وفیها آیات السّجدة ، وقصص الأنبیاء ، وقصّة آدم والشّیطان ، علما أنّ الفقرتین الأخیرتین قد وردتا فی سورة البقرة أیضا ، فهی إذا مستثناة منها . أمّا السّور المدنیّة فینبغی أن نقول : إنّ جمیع السّور الّتی ذکرت المنافقین مدنیّة تقریبا(1) ، وکذلک السّور الّتی تحدّثت عن الجهاد المسلّح مع المشرکین ، أو بیّنت الحدود ، والفرائض ، والحقوق الشّخصیّة والأحکام الشّرعیّة(2) . وهذا التّفاوت بین

ص: 412


1- ثمّة خلاف یسیر بهذا الشّأن .
2- تاریخ قرآن [ تاریخ القرآن ] ، رامیار 605 - 607 .

الآیات المکّیّة والمدنیّة یقدّم لنا مبدأً یتمثّل فی أنّ موقف القرآن فی مکّة کان عَقَدِیّا ، وموقفه فی المدینة کان فقهیّا .

وشغل إصلاح الفکر فی الحقیقة المرحلة الأُولی ، وبعد ولادة المجتمع الدّینیّ کان إصلاح الآداب والقیم الاجتماعیّة وتبیان الأحکام الشّرعیّة بوصفه مبدأً . والتّفاوت بین هاتین المرحلتین من حیث الحقیقة العملیّة عامل مهمّ فی ثنائیّة مرحلیّة الدّعوة الإسلامیّة . ومن المؤسف أنّ بعض المستشرقین عدّ هذا التّفاوت نوعا من الازدواجیّة فی الدّعوة الإسلامیّة وفی شخصیّة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أیضا . وأجاب «غیب» جوابا مناسبا عن هذا الرأی ، فقال : إنّ التّضارب القاطع الّذی یرونه عادةً بین النّبیّ المغمور المضطهد فی مکّة وبین رئیس الحکومة الدّینیّة المقاتل فی المدینة لا یقبل التّوجیه تاریخیّا . فلم یدر فی خلد محمّد شکّ فی رسالته یوما . وکان واضحا أنّ النّهضة الإسلامیّة اتّخذت طابعا جدیدا وأنشأت مجتمعا معیّنا فی المجال السّیاسیّ یرأسه شخص واحد ... وما کان جدیدا فی المدینة هو أنّ المجتمع الدّینیّ قد تطوّر من الجانب النّظریّ إلی الجانب العملیّ(1) . ومرّت الإشارة إلی أنّ المطالب الّتی کان یفرضها المجتمع الجاهلیّ فی مکّة هی غیر الّتی یقتضیها المجتمع الدینیّ - السّیاسیّ فی المدینة .

مع هذا ینبغی أن نقول : نزلت فی مکّة آیات تتحدّث عن الأخلاق الفردیّة والاجتماعیّة وأصبحت فیما بعد قاعدة لبعض الأحکام الشّرعیّة . وهذه الآیات الفقهیّة قابلة للتّحلیل والمناقشة من جهتین : الأولی : إنّها عرضت جمیع الأهداف الأخلاقیّة والفقهیّة للإسلام ، وشکّلت إطارا لمجموعة فقهیّة نزلت بعد ذلک فی المدینة مفصّلاً . الأُخری : إنّ الأحکام النّازلة فی مکّة أحکام ذات بعدٍ عاطفیّ وفطریّ غالبا . وتشتمل علی مبادئ أخلاقیّة ترتضیها الفطرة الإنسانیّة . وهی أحکام لا تحتاج إلی تبیین

ص: 413


1- اسلام ، بررسی تاریخی [ الإسلام : دراسة تاریخیّة ] : 45 .

وتوجیه ، وتعتبر من الّنماذج الواضحة لتشخیص العقل . ومن الطّبیعیّ أنّ الإسلام قد بیّن أهدافه العامّة وعرض أمثلةً من أحکامه الفقهیّة منذ السّنین الأولی للبعثة لا محالة . وکان لهذه الأحکام تأثیر ملحوظ فی معنویّات النّاس نظرا إلی المشکلات الأخلاقیّة للمجتمع الجاهلیّ . ونقدّم فیما یأتی عددا من الأمثلة القرآنیّة والتّاریخیّة :

قال تعالی فی سورة الإسراء الّتی تعدّ من السّور المکّیّة : « وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَکُمْ خَشْیَةَ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِیَّاکُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ کَانَ خِطْ-ٔ کَبِیرا * وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَی إِنَّهُ کَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِیلاً * وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِی حَرَّمَ اللّه ُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوما فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِیِّهِ سُلْطَانا فَلاَ یُسْرِف فِی الْقَتْلِ إِنَّهُ کَانَ مَنصُورا * وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْیَتِیمِ إِلاَّ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ حَتَّی یَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ کَانَ مَسْؤولاً * وَأَوْفُوا الْکَیْلَ إِذَا کِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِیمِ ذلِکَ خَیْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِیلاً »(1) . وجاءت هذه الموضوعات نفسها فی سورة الأنعام المکّیّة أیضا . وذُکرت فیها کمحرّمات إلهیّة . ووردت کلمة (الفواحش) بدل کلمة (الزّنی) ، قال سبحانه : « وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ » . وجاء فی آخرها : « وَأَنَّ هذَا صِرَاطِی مُسْتَقِیما فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِکُمْ عَن سَبِیلِهِ ذلِکُمْ وَصَّاکُم بِهِ لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ »(2) .

إنّ تأکید اللّه تعالی تعبیر «کبائر الإثم» و«الفواحش» فی آیات مثل قوله : « وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ »(3) ، أو قوله : « قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّیَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْیَ بِغَیْرِ الْحَقِّ »(4) ، أو قوله : « وَالَّذِینَ یَجْتَنِبُونَ کَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ »(5) ، أو قوله : « الَّذِینَ یَجْتَنِبُونَ کَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّکَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ »(6) کلّ ذلک یدلّ علی أنّ فی الآیات المکّیّة قیما أخلاقیّة ، کما أنّها عرضت أهداف

ص: 414


1- الإسراء : 31 - 35 .
2- الأنعام : 151 - 153 .
3- الأنعام : 120 .
4- الأعراف : 33 .
5- الشّوری : 37 .
6- النّجم : 32 .

الإسلام کواجبات فقهیّة .

وکانت هذه کلّها تمثّل الرّسالة الأساسیّة للدّعوة الإسلامیّة لکلّ من کان یتعرّف علی الإسلام لأوّل مرّة سواءً کان فی مکّة أم فی المدینة . ولمّا قدم أخو أبی ذرّ مکّة لیطّلع علی خبر النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ویُبلغه أبا ذرّ ، قال حین رجع : رأیت رجلاً یدعو إلی الخیر وینهی عن الشّرّ ویأمر بمکارم الأخلاق(1) . وجاء فی روایة أُخری أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم دعا مفروق بن عمرو إلی الإسلام. فسأله مفروق: یا أخا قریش ! لأیّ شیءٍ تدعو النّاس؟ فتلا علیه رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم الآیات الّتی أوردناها سلفا من سورة الأنعام، فقال : ما سمعتُ کلاما أجمل من هذا . فقرأ علیه النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم هذه الآیة مرّة أخری ، وهی قوله تعالی : « إِنَّ اللّه َ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِیتَاءِ ذِی الْقُرْبَی وَیَنْهَی عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنکَرِ وَالْبَغْیِ یَعِظُکُمْ لَعَلَّکُمْ تَذَکَّرُونَ »(2) . فقال مفروق : یا أخا قریش ! إنّک تدعو الناس إلی مکارم الأخلاق ومحاسن الأعمال(3). وبعد مدّة حین وصل کتاب النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم إلی الأحنف بن قیس رئیس بنی تمیم ، سأل الأحنف : إلی_'feمَ یدعو ؟ فقیل له : إلی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر . فقال : کلام حسن(4) . وکان عبد اللّه بن سلام یقول : لمّا قدم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم المدینة فإنّ أوّل ما سمعت منه هو قوله : «أفشوا السّلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام»(5) . وقال آخر فی جواب سائل قال : إلی_'feمَ یدعو هذا النّبیّ ؟ «یأمرنا بالصّلاة والزّکاة والعفاف والصّلة»(6) . والزّکاة هنا هی الصدقة طبعا .

ص: 415


1- الطّبقات الکبری 4 : 224 ؛ سبل الهدی والرّشاد 2 : 421 .
2- النحل : 90 .
3- دلائل النّبوّة 2 : 424 ؛ عیون الأثر 1 : 203 ؛ مختصر تاریخ دمشق 8 : 202 ؛ نهایة الإرب 16 : 308 ، 309 .
4- طبقات المحدّثین بإصبهان 1 : 297 .
5- المصنّف ، لابن أبی شیبة 14 : 95 ؛ الأوائل ، ابن أبی عاصم : 49 .
6- المصنّف ، عبدالرزّاق 5 : 346 .

إنّ الأحکام الفقهیّة النّازلة فی مکّة لم تنه عن «الإثم» ، و«الفحشاء» و«البغی» فحسب ، بل کانت تطرح مسائل أخری أیضا . وردت فی السّور المکّیّة منها : إنّ اللّه سبحانه نهی فی سورة الأنعام عن أکل الذّبیحة الّتی لم یُذکَر اسمُ اللّه علیها ، وکانت تُذبح للأصنام(1) . وهذه المسألة کانت أمرا معروفا عند الحنفاء ، وهی من السّنن الإبراهیمیّة الّتی کانت الصنمیّة قد نسختها . ووردت إقامة الصّلاة وإیتاء الزّکاة عدّة مرّات فی السّور المکّیّة حتّی فی سورة المزّمّل الّتی تعدّ من السّور الأولی(2) . والحکم الشّرعیّ لإیتاء الزّکاة طُرح من النّاحیة التنفیذیّة فی السّنة التّاسعة من الهجرة فحسب . ومن الطّبیعیّ أنّ ذکرها فی السّور المکّیّة نوع من الإعداد أو بمعنی دفع الصّدقة لتطهیر الأموال . ونال احترام الوالدین اهتماما فی عدد السّور المکّیّة أیضا . وینبغی أن نعدّ هذا من مصادیق الاهتمام المبدئیّ للإسلام بصلة الرّحم والقواعد الأخلاقیّة الأُولی . وثمّة موضوعات أخلاقیّة أخری کالنهی عن الکبر والغرور ورعایة التّواضع وردت فی سورة لقمان(3) الّتی تعدّ من السّور المکّیّة .

ومن الحریّ بالعلم أنّ بعض المفسّرین ذکر أنّ اللّه حرّم شرب الخمر فی أربع مراحل تدریجا(4) . فقال فی أوّل سورة النحل وهی سورة مکّیّة : « وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِیلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَکَرا وَرِزْقا حَسَنا إِنَّ فِی ذلِکَ لاَیَةً لِقَوْمٍ یَعْقِلُونَ »(5) . ونلحظ هنا أنّ «المسکرات» قد فُصلت عن «الرزق الحسن» . وجاء فی موضع آخر : « یَسْأَلُونَکَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَیْسِرِ قُلْ فِیهَا إِثْمٌ کَبِیرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَکْبَرُ مِن نَفْعِهِمَا »(6) . ونجد هنا أنّ الإثم یقابل الضّرر ، وعُبِّر عن الخمر بالإثم مکان التحریم . ولفظ الإثم جدُّ

ص: 416


1- الأنعام : 21 .
2- النمل : 30 ؛ فصّلت : 7 ؛ المزّمّل : 20 .
3- لقمان : 18 ، 19 .
4- التفسیر المنیر 2 : 270 ، 271 .
5- النّحل : 67 .
6- البقرة : 219 .

قریب من التّحریم . ونقرأ فی موضع ثالث : « یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُکَارَی »(1) . وفی نهایة المطاف جاء فی سورة المائدة الّتی کانت آخر السّور النّازلة أو ما قبل آخرها : « یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَیْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالْأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّیْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا یُرِیدُ الشَّیْطَانُ أَنْ یُوقِعَ بَیْنَکُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِی الْخَمْرِ وَالْمَیْسِرِ وَیَصُدَّکُمْ عَن ذِکْرِ اللّه ِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ »(2) ؟ ونقل عن عائشة أیضا أنّ أوّل ما نزل من السور هی السّور الّتی ذکرت فیها الجنّة والنّار ، ثمّ نزلت آیات فیها أحکام الحلال والحرام . ولو کانت آیة تحریم الخمر والزنا قد نزلت من البدایة لخالفها النّاس(3) . وهذا التّدریج مرفوض من منظار بعض الباحثین(4) لوجود أدلّة علی تحریم الخمر قبل الهجرة . منها أنّ أبا جهل کان یقول فی إرجافه ضدّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم : إنّه کاذب ، ویحرّم الخمر والزّنا(5) . وإنّ إطلاق الإثم علی الخمر یدحض التّدریج المذکور بالنظر إلی أنّ الإثم عُدَّ من المحرّمات الإلهیّة فی آیات أُخری ، وإن ذهب البعض إلی عدم حرمة الإثم مطلقا ، فأجاب عن الإشکال المذکور(6) . ونظرا إلی أنّ الخمر کانت فی عداد الأمور الظّاهرة الفساد ، وأنّ أشخاصا کثیرین حرّموها علی أنفسهم فی الجاهلیّة ، فلا یتسنّی لنا أن نتبنّی الرأی القائل بأنّ الإسلام أرجأ تحریمها .

وینبغی أن نضیف إلی ما ذکرناه أنّ اللّه تعالی عبّر عن موارد من الأحکام الّتی أنزلها فی مکّة والمدینة «بالموعظة» ، و«التذکّر» ، وإذا کان قد حرّمها بصراحة ، فقد بیّن فلسفة حکمها نوعا ما . ونظرة نلقیها علی آیات أشرنا إلیها سابقا من سورة

ص: 417


1- النساء : 43 .
2- المائدة : 90 ، 91
3- صحیح البخاریّ 3 : 227 .
4- الصّحیح من سیرة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم 4 : 48 - 52 ؛ وانظر : المیزان 16 : 163 .
5- الثّقات ، ابن حبّان 1 : 69 .
6- تفسیر القرطبیّ 3 : 60 .

الأنعام تدعم هذه النّقطة . إذ ورد بعد کلّ آیة قوله تعالی : « لَعَلَّکُمْ تَعْقِلُونَ » و« لَعَلَّکُمْ تَذَکَّرُونَ » و« لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ »(1) . وفی آیة تحریم الخمر أیضا قوله : « لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ » وقوله : « وَیَصُدَّکُمْ عَن ذِکْرِ اللّه ِ »(2) فی فلسفة التّحریم .

الظّروف السّیاسیّة والاجتماعیّة والفکریّة لمکّة وتأثیرها فی تقدّم الإسلام

کان للعلاقات الخاصّة الّتی تربط النّاس فی شبه الجزیرة العربیّة علی الصّعید الاجتماعیّ والسّیاسیّ أن تعدّ البیئة - من جهاتٍ - لتوسیع نطاق الإسلام لا إرادیّا . ویمکن لنا أن نوضّح هذا الموضوع فی عدد من النقاط الآتیة :

1 - إنّ الوضع السّیاسیّ فی شبه الجزیرة العربیّة عبارة عن حیاة القبائل المختلفة الّتی لم تخضع لسلطان سیاسیّ واحد قطّ . فکان لکلّ قبیلة سیادتها المستقلّة عن سائر القبائل . ویتسنّی لنا أن نعدّ نظامها الحکومیّ نظاما إقطاعیّا ، من هنا کانت سلطتها متشتّتة فاقدة لزعیم واحد . وأدّی هذا الوضع إلی غیاب عقبة کبیرة کانت وما تزال موجودة باسم «الامبراطور» أو «الملک» أو «السّلطة المرکزیّة ، وهی تقف فی وجه النّهضات الشعبیّة . ونحن نشهد فی التّاریخ أنّ هذه القوی المتسلّطة تراقب کلّ تحرّک من خلال مراکزها المتسلسلة المنبثّة فی جمیع المناطق الخاضعة لها . بید أنّ شبه الجزیرة العربیّة کانت یومئذٍ بعیدة عن هذا الخطر . وکان للقبائل المختلفة سلطاتها المستقلّة بعضها عن بعض . کما کانت بینها منازعات ومنافسات للحصول علی امتیازات معیّنة .

واتّسع نطاق الإسلام فی وقتٍ لم یواجه فیه من النّاحیة السّیاسیّة إلاّ سلطة قریش . وکانت قریش منقسمة إلی طوائف متعدّدة ، ولم یقف منها فی وجه النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم

ص: 418


1- الأنعام : 151 - 153 .
2- المائدة : 91 .

إلاّ طائفة خاصّة . ویؤکّد الدکتور جواد علی أنّ أیّ حکومة مرکزیّة لم تکن فی مکّة ، بل کانت الحکومة للرؤساء والمتنفّذین الّذین کانوا مطاعین بین النّاس بسبب وجاهتهم وشرفهم(1) . والخلافات الموجودة فی هذا الوضع السّیاسیّ بمکّة کانت فی مصلحة الدّعوة النّبویّة ، إذ لم یواجه الإسلام بسببها مشکلة فی انتشاره بین القبائل الأُخری . وأدّت المدینة قسطا وافرا فی امتداد الإسلام ، لأنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم عندما أسّس الحکومة ، رحّبت بها جمیع القبائل لحلّ خلافاتها . وأعداء الحکومة الإسلامیّة القائمة فی المدینة هم القبائل المتفرّقة الّتی وإن کانت تتّحد أحیانا بید أنّ آصرةً لم تربطها عادةً ، من هنا لم یستطیعوا أن ینهضوا بعملٍ ما .

2 - النقطة الأخری المهمّة من منظار سیاسیّ هی فقدان السّلطة الأجنبیّة فی الحجاز . فلم تکن هناک سلطة تتدخّل فی الشّؤون الداخلیّة للعرب وتحول دون اقتدار المعارضین لنفوذها ، وذلک من أجل حفظ مصالحها . وکانت الأقسام الأصلیّة فی شبه الجزیرة العربیّة تعدّ مناطق حرّة علی عکس بعض المناطق الّتی کانت خاضعة لسلطة فارس أو الروم کالیمن ، والعراق ، والشّام . وهذا یعود إلی عدم وجود شیءٍ باسم «المصالح» فی تلک المنطقة . ووقف الجاحظ علی هذه النقطة وأکّد أن لیس لأحد رغبة فی السّیطرة علی مکّة(2) . وهذه الأرضیّة هی تمهّدت للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فاستثمر غیاب السّلطة فی الحجاز واستطاع أن یقیم نظاما حکومیّا قویّا بعیدا عن عیون تلک القوی . ذلک النظام المقتدر الّذی تمکّن فی الفرصة المناسبة أن یقوّض تلک القوی فی عقر دارها . ومن الطّبیعیّ أنّ تلک القوی لو کانت تعلم قوّة الإسلام لحالت دون تقدّمه منذ البدایة . بید أنّ موقع شبه الجزیرة العربیّة کان بنحوٍ استطاع الإسلام أن یمتدّ وینتشر

ص: 419


1- المفصّل فی تاریخ العرب قبل الإسلام 4 : 48 .
2- رسائل الجاحظ 1 : 187 (تحقیق عبد السّلام هارون) .

ویصبح مقتدرا فیها بعیدا عن مطامع تلک القوی .

3 - ومن القضایا المهمّة فی هذا المجال الموقع الاجتماعیّ لشبه الجزیرة العربیّة آنذاک ؛ وأهمّ مزیّة من مزایا الحیاة الاجتماعیّة لمجتمعها هی الحیاة القبلیّة ، فکان الأشخاص یعیشون فی کنف قبائلهم ، ولیس لأحد السّیطرة علیهم إلاّ رؤساء القبائل . وکلّ شخص کان یتعرّض للاعتداء من القبائل الأخری فإنّ الهجوم علی القبیلة المعتدیة کان أمرا طبیعیّا ونتیجةً قاطعةً لتلک الحادثة . وعندما انتشر الإسلام اعتنقه کثیر من أفراد القبائل المختلفة . وکان لکلّ منهم طائفته وقبیلته ولم تکن قریش طلیقة فی اضطهاد الأشخاص من سائر القبائل والضغط علیهم . وفی الأثناء کان کثیر من القبائل لا یدرک خطر الدّین الجدید علی عقائده القبلیّة ، من هنا کانوا لا یحولون دون اعتناق بعض أفرادهم الدین الجدید . وفی هذه الظروف کان مختلف المسلمین مصونین فی کنف عشائرهم وقبائلهم ، إلاّ من کان لیس له طائفة وقبیلة وحمایة فی مکّة کبلال ، وعمّار ، وخبّاب بن الارتّ فإنّهم کانوا یتعرّضون للاضطهاد والتعذیب(1) ، مع أنّه کان ممکنا أن تقوم أسرة الشّخص الّذی یُسلم جدیدا بتعذیبه وسجنه .

وکان رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نفسه مصونا بسبب دعم بنی هاشم بخاصّة الدعم الشّجاع لأبی طالب علیه السلام . وکان أبو طالب مؤمنا مضحّیا حازما . وقد هبّ لدعم النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی لباس التقیّة . وقیل عندما عزمت قریش علی تشدید عدائها للنّبی صلی الله علیه و آله وسلم ، واضطرّ المسلمون من بنی هاشم إلی شعب أبی طالب ، فإنّ غیر المسلمین منهم لحقوا بهم فی الشِعب أیضا ، وهذا یعود إلی علاقاتهم القبلیّة برسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم(2) . یقول أمیرالمؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام فی هذا المجال :

ص: 420


1- أنساب الأشراف 1 : 156 - 197 ؛ الطّبقات الکبری 3 : 248 ؛ شرح نهج البلاغة ، ابن أبی الحدید 13 : 255 .
2- شرح نهج البلاغة ، ابن أبی الحدید 14 : 65 ؛ أنساب الأشراف 1 : 230 .

«واضطرّونا [ قریش ] إلی جبل وعر ، وأوقدوا لنا نار الحرب ، فعزم اللّه لنا علی الذّبّ عن حوزته ، والرمی من وراء حرمته ؛ مؤمننا یبغی بذلک الأجر ، وکافرنا یُحامی عن الأصل . ومن أسلم من قریش خلوٌ ممّا نحن فیه بحلفٍ یمنعه ، أو عشیرةٍ تقوم دونه ، فهو من القتل بمکانٍ أمنٍ»(1) .

علی أیّ حال کان الدعم التامّ لبنی هاشم - إلاّ أبا لهب وأبا سفیان بن الحارث بن عبد المطّلب - باعثا علی أمن النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وحصانته . ولمّا مات أبو طالب فی السّنة العاشرة من البعثة (عام الحزن) ، واجه النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم مشکلات کثیرة جادّة(2) . ولعلّ اللّه تعالی حین أمر رسوله بدعوة عشیرته الأقربین إلی الإسلام وإنذارهم فی بدء الدّعوة الإسلامیّة(3) أراد من قبولهم الإسلام أن یدعموا نبیّه بوصفه عضوا منهم مضافا إلی دعمه بوصفه نبیّا من أنبیاء اللّه . ومهما کان فإنّ العلاقات القبلیّة فی النظام الجاهلیّ کانت تعدّ سببا فی المحافظة علی أرواح الناس ، وإلی جانب ذلک - کما أشار أمیرالمؤمنین علیه السلام - فإنّ الأحلاف المعقودة بین مختلف الأشخاص والقبائل الأخری أفضت إلی أن یکونوا بمأمن من تعذیب قریش واضطهادها إیّاهم(4) .

4 - کان رئیس القبیلة أسوة النّاس فی النّظام الاجتماعیّ للعرب . ویضاف إلی دور الجانب الوراثیّ فی اختیاره رئیسا للقبیلة أنّ السّخاء ، والشّجاعة ، والعلم وأمثالها صفات مؤثّرة فی الاختیار أیضا . فاختیار أفراد القبیلة یتبع رئیسهم إذا وأنّی سار تبعوه . وفی قبولهم الإسلام أو رفضه کانوا ینظرون إلیه . وإذا أعرض رؤساء القبائل

ص: 421


1- نهج البلاغة ، الکتاب التّاسع .
2- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام : 416 ؛ شرح نهج البلاغة ، ابن أبی الحدید 14 : 61 ؛ تاریخ الیعقوبیّ 2 : 36 ؛ الصحیح من سیرة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم 2 : 124 ، 125 ؛ سیرة ابن إسحاق : 243 .
3- آیة «وأنذر عشیرتک الأقربین» ، الشعراء : 214 .
4- انظر : تفسیر المنار 10 : 149 .

عن الدّین الجدید ولم یعتنقوه ، فإنّ أفراد القبائل العادیّین لم یُبدوا رغبةً فیه . وهذا

الوضع یمکن أن یکون مؤثّرا فی ابتعاد النّاس عن الإسلام ، کما یمکن أن یکون مؤثّرا فی قبولهم إیّاه أیضا بنفس الحجم .

وکان الجانب السلبیّ لهذا التأثیر أکثر طرحا من غیره إبّان البعثة حتّی فتح مکّة ، إذ إنّ معظم رؤساء القبائل کانوا ینظرون إلی قریش ، فلم یستسلموا ما دامت قریش تناهض الإسلام . علما أنّنا نشهد تأثیر اعتناق بعض الرؤساء فی اعتناق الناس الإسلام آنذاک . ونُقل هذا الموضوع بشکل ملحوظ فی إسلام سعد بن معاذ وأثره علی أفراد قبیلته(1) . وفی الأیّام الأخیرة لانهیار قریش فی مکّة دانت القبائل المختلفة بالإسلام . وفی السّنة التّاسعة والعاشرة من الهجرة وفد رؤساء القبائل علی النّبی صلی الله علیه و آله وسلم واعتنقوا الإسلام ، وإن لم یُسَمِّ القرآن الکریم هذه الحالة إیمانا بل سمّاها إسلاما(2) .

5 - صار حقّ الجوار فی بعض الظّروف وسیلة للمحافظة علی أرواح بعض المسلمین . وعندما کان أحد الأشخاص یطلب من أحد الأشراف حقّ الجوار ویجیبه فلا یستطیع کلّ شخص أن یؤذیه . وقیل : عندما عاد بعض مهاجری الحبشة إلی مکّة ، لجأ قسم منهم إلی بعض الأشراف فی مکّة بعدما رأوا قساوة الظّروف . فصار عثمان بن عفّان فی جوار أبی أُحیحة ، وأبو حذیفة بن عتبة فی جوار أُمیّة ، ومصعب بن عمیر فی جوار النضر بن الحارث (أو فی جوار أخیه أبی عزیز بن عمیر) ، والزّبیر بن العوّام فی جوار زمعة بن مسعود ، وابن عوف فی جوار الأسود بن عبد یغوث . وفی هؤلاء عثمان بن مظعون الّذی کان قد صار فی جوار الولید بن المغیرة ، آثر شرف الإسلام علی جوار المشرک . وقاسی من العذاب والاضطهاد بعد رفضه الجوار(3) .

ص: 422


1- الصّحیح من سیرة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم 2 : 200 ؛ حیاة الصّحابة 1 : 170 من البدایة والنّهایة 3 : 152 ؛ وفاء الوفاء 1 : 27 .
2- الحجرات : 14 .
3- أنساب الأشراف 1 : 227 .

وینبغی أن نضیف الأحلاف الموجودة بین القبائل ، والطوائف ، والأفراد إلی حقّ الجوار(1) .

ومن الأخلاق السّیاسیّة للعرب فی الجاهلیّة العهد الّذی کان یتمسّک به الأشخاص فی مقابل بیعتهم لرئیس القبیلة . وهذا العهد مع القبائل الحلیفة کان موجودا ومرعیّا ما دام الطّرف المقابل ملتزما به . ومعظم الّذین کانوا یسلمون یعلنون عن دعمهم للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم من خلال بیعتهم له . وقد تحقّق هذا العقد (الّذی کان یتبیّن موضوعه أیضا فی کثیر من الحالات) بین النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وصحابته عدّة مرّات خلال ثلاث وعشرین سنةً . ویضاف إلی البیعة الفردیّة الّتی کانت تتحقّق بینهم ، العقود والبیعات الجماعیّة کبیعة «العقبة الأولی» ، و«العقبة الثّانیة» ، و«بیعة الرّضوان» . وفی بیعة «العقبة الثّانیة» عیّن النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم اثنی عشر ممثّلاً منهم . وهذا یعنی أنّ بیعتهم الجماعیّة قد تحقّقت بحضورهم وبمشارکة اثنی عشر من وجهائهم . وعلیهم أن یُبرزوا دورهم فی العمل جیّدا ، ویکونوا مجیبین حقیقیّین للعمل بهذا العهد . وکانت للبیعة وأهمّیّتها عند العرب نتیجتها المتمثّلة بالتزامهم بدعم البیعة وإسنادها حتّی لو کانت باطلاً . وسنتحدّث عن الموضوع بتفصیل أکثر فی الصّفحات القادمة .

وکان للتعصّب العربیّ موقعه الخاصّ فی النظام الاجتماعیّ القبلیّ ، والتعصّب لحفظ شخصیّة القبیلة معلم علی ردّ الفعل فی دعم أفراد القبیلة ، وبالجملة المحافظة علی علاقات قبیلتهم . وکان التعصّب - خارجا عن العلاقات القبلیّة - قائما فی حیاة العرب کلّها کمبدأ ، وهذا التعصّب نفسه سُخِّر فیما بعد لخدمة الإسلام إلی حدٍّ ما ، إذ أصبح فی خدمة العقیدة الجدیدة . والمنافسة بین القبائل فی عهد النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وبعده کانت باعثا علی التقدّم فی جهات معیّنة نوعا ما . وکانت المنافسة بین الأوس والخزرج فی المدینة

ص: 423


1- نهج البلاغة ، الکتاب التّاسع .

مدعاةً إلی أن یقوم أحدهما بمهمّة عسکریّة فی کلّ فترة ، فیطلب الآخر القیام بمهمّة مماثلة . ولهذه النقاط الثلاث الأخیرة تأثیر محدود فی تقدّم الإسلام ، وفی بعض الحالات تحول دون تقدّمه أیضا .

وعاد التعصّب الجاهلیّ والقبلیّ بعد برهةٍ من جدید ، فولّد للإسلام مصاعب عدیدة . وما المشکلات المرتبطة بموضوع القیادة بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم إلاّ واحدة منها ، فقد کان لها جذور فی الأخلاق السّیاسیّة لعرب الجاهلیّة وعصبیّاتهم القبلیّة الواهیة إلی حدٍّ ما .

الفراغ الفکریّ والعقیدیّ

اشارة

یمکن القول أنّ البیئة الحجازیّة کانت تعانی من ضروب الفراغ الفکریّ والثّقافیّ . وأحدها الفراغ العقائدیّ . فنظرة علی الوضع الفکریّ للبیئة الّتی بزغت فیها شمس الإسلام تدلّ علی أنّ فی ترکیبة العقائد الّتی کان یتبنّاها العرب فی الجاهلیّة نوعا من الضعف بل أنواعا منه . وهذا الضعف ناتج عن خلوّ تلک العقائد من البعد الاستدلالیّ والمنطقیّ حتّی فی أدنی مراحل الفکر . وکان الوضع الثّقافیّ للجزیرة العربیّة بنحوٍ لا یستطیع معه العرب أن تکون لهم عقائد دینیّة علی وتیرة واحدة، وأن یتقصّوا الأسس الاستدلالیّة ، والمعقولة ظاهرا ، لأفکارهم . وکانت النّزعة الدّینیّة للجزیرة العربیّة نزعة توحیدیّة وقتا ما ، ثمّ تحوّلت إلی الصنمیّة ، بید أنّه لم تکن هناک رؤیة محدّدة بالشکل الّذی یمکن أن یرتضیه الجمیع . مبدئیّا کانت النّزعة الحنفیّة المطروحة متأخّرا معلما علی نوعٍ من التضعضع . وکان رصید المحافظة علی ذلک الوضع أساسا العادة والتّقلید لا الاستدلال والعقل . ومن منطلق التّقلید الأعمی ، وبسبب الإدمان علی الصنمیّة مدّةً طویلة ظهرت علاقة مقدّسة بین العرب والأصنام ، وهذا هو سند احترامهم لعقائدهم . وکان إلغاء هذه العقائد لا یعنی عندهم سحق العقل والاستدلال

ص: 424

بل یعنی إلغاء قیم الآباء والأجداد . وإذا أفلح أحد فی محو هذه القداسة ، فلا استدلال یبقی لدیمومة العقائد المذکورة وثباتها ، فی حین أنّ کثیرا من الأفکار الأُخری الّتی کانت قائمة فی العالم یومئذٍ رافقها التفکیر المنطقیّ مضافا إلی القداسة ، علی سبیل المثال نزعة کالمسیحیّة ، فعلی الرغم من التّحریفات الّتی أصابتها ، وفقدانها جاذبیّتها الذّاتیّة فی تقدیم رؤیة شاملة للأجیال الجدیدة ، لکنّها کانت تمثّل فی الأساس تفکیرا فطریّا ومصدرها هو اللّه سبحانه . وکذلک عقائد الفرس فقد کانت علی هذا المنوال إلی حدٍّ ما وإن کانت أضعف من المسیحیّة أضعافا . وهکذا لم یواجه الإسلام فی الجزیرة العربیّة تفکیرا مستدلاًّ بل واجه تقالید وعادات مألوفة وما علیه إلاّ أن یرفع هذا الحاجز . وبانهیار قواعد هذا الحاجز لم یبق معقل للعقائد الجاهلیّة . والصنمیّة أساسا نزعة واهیة غیر قابلة للاستدلال ، وهذا ممّا یُیسّر مقارعتها .

وتقوم مقارعة القرآن الفکریّة للعقائد المذکورة علی تصویر الأصنام تافهة وضیعة فی أعین عبدتها لیدلّ بذلک علی أنّها لا تستحقّ أن تکون آلهةً للنّاس ، بل هی عاجزة عن القیام بکلّ عمل ، ولا خاصّیّة فیها ولا شأن . قال تعالی : « وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَ یَخْلُقُونَ شَیْئا وَهُمْ یُخْلَقُونَ وَلاَ یَمْلِکُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّا وَلاَ نَفْعا وَلاَ یَمْلِکُونَ مَوْتا وَلاَ حَیَاةً وَلاَ نُشُورا »(1) . وطلب سبحانه من المشرکین أن یبیّنوا دور الأصنام فی إنشاء العالم ، وإذا کان لها کتاب مقدّس وثقافة معروفة فلیُبدوها ، قال تعالی : « قُلْ أَرَأَیْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّه ِ أَرُونِی مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْکٌ فِی السَّموَاتِ ائْتُونِی بِکِتَابٍ مِن قَبْلِ هذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِن کُنتُمْ صَادِقِینَ * وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن یَدْعُوا مِن دُونِ اللّه ِ مَن لاَ یَسْتَجِیبُ لَهُ إِلَی یَوْمِ الْقِیَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ »(2) . ومحاربة القرآن الکریم للصنمیّة فی آیات أُخری منها : ما دلیل المشرکین علی اعتقادهم بإلوهیّة الأصنام ؟

ص: 425


1- الفرقان : 3 .
2- الأحقاف : 3 ، 4 .

ومنها : کیف یُتصوَّر أنّ للأصنام ضرّا ونفعا ؟ تأکید منه علی عدم ضرّها ونفعها(1) . وبیّن اللّه سبحانه العقائد الواهیة السّخیفة للجاهلیّة ، وعبّر عن تعجّبه منها .

ومن هذه العقائد امتعاض العرب وقلقهم من أن تکون لهم بنات فی حین یتوهّمون أنّ للّه سبحانه وتعالی بنات . قال تعالی : « أَلَکُمُ الذَّکَرُ وَلَهُ الأُنثَی * تِلْکَ إِذا قِسْمَةٌ ضِیزَی »(2) ! وفی موضع آخر یسخر بهذه العقیدة أیضا ویقول : « أَفَأَصْفَاکُمْ رَبُّکُم بِالْبَنِینَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلاَئِکَةِ إِنَاثا إِنَّکُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِیما »(3) . وکان العرب فی الجاهلیّة حین یسمعون هذه الکلمات یرون أسس عقائدهم هشّةً واهیة . ونقل القرآن الکریم فی موضع آخر کلام إبراهیم علیه السلام فقال : « إِذْ قَالَ لِأَبِیهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاما فَنَظَلُّ لَهَا عَاکِفِینَ * قَالَ هَلْ یَسْمَعُونَکُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ یَنفَعُونَکُمْ أَوْ یَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آباءَنَا کَذلِکَ یَفْعَلُونَ »(4) .

وکان الأسلوب الّذی انتهجه الصّحابة فی محاربة العقائد الملوّثة بالشّرک یماثل حرکة إبراهیم علیه السلام فی تحطیم الأصنام وترک الفأس علی عاتق کبیرهم وهی حرکة کان لها أن تضعضع الأسس العقیدیّة لعَبَدة الأصنام بسهولة . وکان لعمرو بن الجموح أحد رؤساء بنی سلمة صنم من خشب فی بیته یعبده کما کان یفعل الأشراف . وأسلم بعض أبنائه مع جماعة من بنی سلمة . وأخذوا صنمه ذات لیلة وألقوه فی حفرة ملیئة بالقاذورات . وفی غد تلک اللیلة بذل جهده فأخرجه وطهّره ووضعه فی مکانه الأولّ . وکرّروا ما فعلوه فی اللیلة التالیة ، وقام بنفس ما قام به من قبل . وفی المرّة الثّالثة وضع سیفه فی عنق الصّنم وقال له : لا أدری من تعرّض لک بسوء . فإذا کان فیک خیر فدافع عن نفسک وهذا السیف معک . وفی تلک اللیلة أخذه المسلمون وألقوه مع کلب میّت فی الحفرة نفسها . فلمّا أصبح ترک عبادة الأصنام وأسلم . وقال یخاطب صنمه :

ص: 426


1- طه : 89 ؛ المائدة : 76 ؛ الحجّ : 13 .
2- النجم : 21 ، 22 .
3- الإسراء : 40 .
4- الشّعراء : 70 - 74 .

واللّه ِ إنْ کنتَ إلها لم تکن * أنت وکلبٌ وَسطَ بئرٍ فی قَرَن(1)

وعندما بعث رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عمرو بن العاص بعد فتح مکّة لکسر صنم سواع الّذی کان لهذیل ، قال حارسه : إنّک لا تقدر علی کسره ! بید أنّه لمّا رآه قد کسره ولم یحدث شیء ، قال : أسلمتُ للّه (2) .

وبالنظر إلی هذه الظّروف الفکریّة یستبین الفراغ العقائدیّ ، وهو الفراغ الّذی أفضی إلی أن لا یواجه الإسلام مشکلات عقائدیّة تُذکَر علما أنّ هذا لا یعنی عجز الإسلام عن مواجهة الأفکار الباطلة ولو کانت استدلالیّة فی ظاهرها ، کما لا یعنی أنّه لم یواجه أیّ مشکلة قطّ ، بل کما مرّ بنا أنّ التّقلید والعادة والقداسة مشکلات أحدثت عقبة کبیرة فی طریق الإسلام ، وما یعنینا هنا هو أنّ المشکلات العقائدیّة کانت قابلة للعلاج بنحو أیسر وأسرع قیاسا بالمشکلات الأُخری .

الفراغ القانونیّ

خلت حیاة العرب فی الجاهلیّة من أیّ قانون یستطیع أن یحدّ من أعمالهم وتصرّفاتهم ، فکانوا یجدون أنفسهم أحرارا فی کلّ عمل یمارسونه إلاّ سنّةَ الأجداد الّتی تمثّلت - یا للأسف - فی القتال والجدال . وفی أجواء هذه الحرّیّة کانوا لا یخشون إلاّ من هجوم یبید وجودهم ، لکنّ تمرّسهم علی القتال أزال هذا الخوف من نفوسهم . وبسبب انعدام القانون سادت الفوضی الاجتماعیّة والسّیاسیّة وعمّت جمیع الأرجاء ، وفی کلّ لحظة کان یُحتَمل نشوب حرب مدمّرة تهدّد کلّ أُسرة بالفناء . ومرّ بنا سابقا أنّ نوعا من الحرّیّة المفرطة کان موجودا فی العصر الجاهلیّ بالحجم الّذی کان یُمنی فیه المجتمع بالاضطراب والفوضی . وفی مثل هذه البیئة المضطربة کان الناس علی

ص: 427


1- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 452 - 453 ؛ وفاء الوفاء 1 : 234 .
2- المغازی 2 : 870 .

استعداد أن یتحمّلوا القیود بما فیها القیود الّتی تحدّ من حیاتهم ، وذلک من أجل الرّخاء والهدوء . تلک القیود والضوابط الّتی تنقذ دارهم وبیئتهم من التخلخل والاضطراب وتتحفهم بالصفاء والصّدق والنّزاهة والسّلام .

الفراغ الأخلاقیّ

یضاف إلی الفراغ العقائدیّ والقانونیّ أنّ المجتمع الجاهلیّ فی مکّة کان مجتمعا غیر أخلاقیّ . وکان لفقدان القیم الأخلاقیّة دور کبیر فی دمار أُسس المجتمع . ویستشفّ دور النساء فی ضیاع ذلک المجتمع من الآیة الثانیة عشرة من سورة الممتحنة الّتی تحدّثت عن بیعة النّساء . وجاء فی أحد الأخبار أیضا أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم حین ذکر هذه الأشیاء للبیعة قالت له هند بنت عتبة : واللّه إنّ البهتان قبیح وما تأمرنا إلاّ بالرّشد ومکارم الأخلاق(1) . وذکرنا قبل هذا مفردات من اعتراف المشرکین بدعوة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم إلی مکارم الأخلاق . والنموذج الآخر هو موقف جعفر بن أبی طالب أمام ملک الحبشة . فقد قال فی حدیثه عن الوضع الاجتماعیّ والأخلاقیّ لمجتمعه ، وبیان أهمّیّة الرّسالة النّبویّة یومذاک :

«أیّها الملک ! کنّا أهل جاهلیّة ، نعبد الأوثان ، ونأکل المیتة ، ونرتکب الفواحش ولا نصل الرحم ، ونسیء الجوار ، ویأکل قویّنا ضعیفنا . فبعث اللّه إلینا نبیّا من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته ونسبه فدعانا إلی أن نعبد اللّه وحده لا شریک له ، ونخلع ما کنّا نعبد من دونه من الحجارة والأوثان . وأمرنا بصدق الحدیث ، وأداء الأمانة ، وصلة الأرحام ، وحُسنِ الجوار ، والکفّ عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ...»(2) .

ص: 428


1- مجمع البیان 5 : 276 ؛ مستدرک الوسائل 14 : 280 .
2- السّیرة النّبویّة ، ابن کثیر 2 : 19 .

ویستشفّ من کلامه هذا أنّ النّاس أنفسهم کانوا یعانون من غیاب القوانین والضّوابط الّتی تنقذ حیاتهم من الفوضی والاضطراب ، ولمّا رأوا الإسلام ومبادئه الإنسانیّة وجدوا أنفسهم بحاجةٍ إلیه . وکان الإسلام نعمةً حقیقیّةً لهم حقّا .

موقع مکّة

بدأت رسالة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی مکّة ، وکانت مکّة مهادا مناسبا لتبلیغ الإسلام وامتداده فی حین کانت المناطق الأخری فی العالم تفتقدها أو أنّ نصیبها قلیل منها . ویمکن أن تکون الخصائص الّتی تتّصف بها مکّة مؤثّرة فی تکامل الإسلام وتقدّمه بین النّاس لأسباب متنوّعة .

وأوّل قضیّة هنا هی قداسة الکعبة عند العرب . الکعبة الّتی بناها إبراهیم علیه السلام ، وکانت بیتا ومعبدا محترما یتوجّه إلیه الجمیع قبل البعثة بقرون ، کما کان یضفی علی مکّة قداسةً خاصّة حتّی غدت بلدا آمنا فی ظلاله . وتفیدنا کتب التّاریخ أنّ الکعبة کانت محترمة عند معظم الأمم منذ القدیم . وکان الصّابئون من الفرس والآشوریّون یعدّونها أحد البیوت السّبعة المعظّمة فی العالم . ولمّا کانت موغلة فی القدم فقد اعتبرها البعض بیت «زُحَل» .

وکان الفرس یعتقدون بأنّ روح «هرمز» قد حلّت فی الکعبة ، وکان بعضهم یحجّ إلیها أحیانا . وکان الیهود یحترمون الکعبة أیضا ویعبدون اللّه فیها علی أساس دین إبراهیم علیه السلام . وکانت فیها صورة إبراهیم وإسماعیل علیهماالسلام وفی أیدیهما الأزلام ، وکذلک کانت فیها صورة مریم والمسیح علیهماالسلام . وهذا مَعْلَم علی أنّ النّصاری کانوا یحترمون الکعبة أیضا کالیهود . ونقل الزمخشریّ حکایة فی تسمیة زمزم ، وذُکر فیها قدوم بابک

ص: 429

ابن ساسان إلی مکّة . ونقلها المسعودیّ والحمویّ أیضا بتفاوت یسیر(1) . وکان العرب وهم یعتقدون أنّ الکعبة بیت اللّه الّذی بناه إبراهیم الخلیل علیه السلام یحترمونها احتراما خاصّا ، ویفدون إلی مکّة من کلّ حدبٍ وصوبٍ لأداء الحجّ . وبقیت هذه السّنّة من دین إبراهیم علیه السلام بین ظهرانیهم . ونُقل أیضا أنّ الهنود کانوا یحترمون الکعبة بخاصّة «الحجر الأسود»(2) .

والقضیّة الثّانیة هی أنّ مکّة کانت مرکزا تجاریّا ، ویضاف إلی أنّ المکّیّین کانوا أهل تجارةٍ(3) ، ویذهبون إلی الشّام والیمن والحبشة للتجارة مرّتین فی کلّ سنة ، أنّ مکّة نفسها کانت مرکزا لتردّد القوافل القادمة من الشّمال إلی الجنوب أو من الغرب إلی الشّرق ، من هنا کانت موضعا لوفود کثیر من التجّار یومذاک .

والقضیّة الثّالثة هی أنّ مکّة کانت حرما . ولمّا جاء إبراهیم علیه السلام إلی هذه المنطقة غیر ذی زرع(4) ، بادر إلی بناء بیت(5) اتّخذ اسم «بیت اللّه الحرام» . وبعد بنائه علیه السلام الکعبة دعا اللّه تعالی أن تکون مکّة بلدا آمنا(6) ، فاستجاب سبحانه دعاءه وجعلها حرما آمنا(7) ، کما أقسم تبارک اسمه بها(8) . ویضاف إلی حرمة مکّة أنّ الأشهر الحرم کانت باعثا علی ذهاب القبائل فیها إلی مکّة والأسواق الواقعة فی أطرافها ببال رخیّ من عدم هجوم القبائل الأُخری(9) .

والقضیّة الرّابعة تتمثّل فی الموقع الجغرافیّ لمدینة مکّة بالنسبة إلی العالم آنذاک . فقد

ص: 430


1- ربیع الأبرار 1 : 224 ؛ مروج الذّهب 1 : 265 ؛ معجم البلدان 4 : 400 .
2- تفسیر المنار 10 : 420 ؛ المیزان 3 : 398 .
3- مجمع البیان 10 : 545 .
4- إبراهیم : 37 .
5- البقرة : 127 .
6- إبراهیم : 35 ؛ البقرة : 126 .
7- العنکبوت : 67 .
8- التّین : 4 .
9- انظر : سنن النسائیّ 2 : 333 ؛ مسند أحمد 1 : 228 ، 361 وانظر : الصّحیح من سیرة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم3 : 308 .

کانت وسطا بین بلاد فارس والرّوم فی الشّرق والغرب ، بخاصّة أنّها أدّت فیما بعد دورا مهمّا فی امتداد الدّعوة الإسلامیّة فی کلا الطرفین من العالم(1) .

وهذه المزایا المذکورة لمدینة مکّة أفضت إلی أن تؤدّی هذه المدینة دورا مهمّا فی توسیع النّهضة الإسلامیّة من الوجهة الإعلامیّة والعملیّة علی حدٍّ سواء . ومن الواضح أنّ مهمّة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کانت تتجسّد فی تبلیغ الإسلام للنّاس(2) . والتکثیف الإعلامیّ للإسلام من هذه النّقطة إلی أرجاء العالم والمناطق النائیة عن الجزیرة العربیّة تطبیق لهذه المهمّة الکبیرة . وللأمان الّذی کانت تحظی به مکّة وتراعیه العرب اقتداءً بإبراهیم علیه السلام قسط وافر فی نشر الدّعوة الإسلامیّة . ونشیر فیما یأتی إلی نماذج من هذا التأثیر :

لمّا کان العرب یفدون إلی مکّة من أرجاء الجزیرة فی أیّام الحجّ فقد کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یستثمر هذه الفرصة ویتّصل برؤساء القبائل المختلفة ویدعوهم إلی الإسلام ؛ وکان یذهب عند القبائل ویعرض علیهم الإسلام ، ویتبعه أبو لهب لیحبط محاولاته والتقی صلی الله علیه و آله وسلم بقبائل «بنی صعصعة» و«بنی حنیفة» ، و«کندة» و«کلب» ودعاهم إلی الإسلام(3) . وفی أحد هذه اللقاءات دعا صلی الله علیه و آله وسلم جماعة من أهل الیمن إلی الإسلام(4) . وتمهّدت الأرضیّة لأهل یثرب أن یسلموا فی الاتّصالات الّتی کانت جاریة خلال موسم الحجّ . وتعرّفت شریحة منهم علی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وسمعت دعوته فی مراسیم الحجّ . وکانوا فی البدایة ستّة ، ثمّ صاروا فی بیعة العقبة الأولی اثنی عشر ، وفی السّنة الّتی تلتها

ص: 431


1- فقه السّیرة : 30 نقلاً عن الصّحیح من سیرة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم 1 : 166 .
2- آل عمران : 20 ؛ المائدة : 92 ، 99 ؛ النّحل : 35 ، 82 ؛ النّور : 54 ؛ العنکبوت : 18 ؛ یس : 17 ؛ التغابن : 12 .
3- أنساب الأشراف 1 : 238 ، 239 .
4- نفسه 1 : 67 ؛ المصنّف ، ابن أبی شیبة 7 : 336 .

التقی به صلی الله علیه و آله وسلم بضع وسبعون من المسلمین المدنیّین فی موسم الحجّ(1) .

ویتبیّن تأثیر هذه الاتّصالات فی نشر الإسلام من ذُعر قریش فی موسم الحجّ . فقد کانت تعقد الاجتماعات قبل شروع المناسک وتتشاور وتتبادل الآراء للحؤول دون الدّعوة الإسلامیّة . فواحد منها کان یقول : الأفضل أن نقول : محمّد مجنون ! وآخر یقول : هو شاعر ! وثالث یقول : هو ساحر !...(2)

ونُقل عن کعب بن مالک أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم جهر بدعوته بعد ثلاث سنین من مرحلتها

السّرّیّة ، وکان یذهب فی أیّام الحجّ إلی بیوت الحجّاج ویدعوهم إلی الإسلام ، وبعد مدّة یسأل عن قبائلهم ویذهب إلیها قبیلةً قبیلة(3) .

وکانت تقام فی أیّام الحجّ الأسواق المعروفة «عکاظ» ، و«المجنّة» ، و«ذی المجاز» حینا ما فیقصدها النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ویدعو النّاس فیها إلی الإسلام . ویقدّم غیب صورة لمدینة مکّة وتأثیرها فی نجاح الرّسول صلی الله علیه و آله وسلم فیقول : لم تکن مکّة فی عهده عشر کور خاملة بعیدة عن ضوضاء العالم ، بل کانت مدینةً تجاریّة ثریّة مکتظّة بالنّاس . واستأثرت بموقع تجاریّ وسط تقریبا بین المحیط الهندیّ والبحر الأبیض المتوسّط ... وفی الوقت الّذی کان سکّان مکّة یحافظون علی نوعٍ من البساطة العربیّة الأصیلة فی آدابهم وتقالیدهم وأوضاعهم ، فقد حصلوا علی معلومات واسعة عن المدائن المختلفة وأهالیها عبر علاقاتهم التّجاریّة والسّیاسیّة بالقبائل العربیّة والسّلطات الرومیّة . وهذه التجارب ساعدت علی تعزیز القوی الفکریّة والعقلیّة لقادتهم وإثارتها وکذلک تعزیز سجایاهم الأخلاقیّة کالحزم وضبط النّفس اللذین قلّما کانا موجودَین عند أهل الحجاز . والتفوّق الأخلاقیّ الّذی حاز علیه المکّیّون عن هذا الطّریق قیاسا

ص: 432


1- أنساب الأشراف 1 : 239 ؛ وفاء الوفاء 1 : 222 .
2- أنساب الأشراف 1 : 133 ؛ بحار الأنوار 18 : 198 ؛ السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 270 ، 271 ؛ عیون الأثر 1 : 191 .
3- انظر : حیاة الصّحابة 1 : 65 - 81 .

بأفراد القبائل الأُخری قد توطّد أیضا بفضل وجود عدد من المعابد والأماکن المقدّسة فی مکّة وأطرافها . ویتسنّی لنا أن نلحظ تأثیر هذه الأرضیّة الاستثنائیّة فی حیاة محمّد صلی الله علیه و آله وسلم بأسرها . وإذا أردنا أن نناقش هذا الموضوع من منطلق بشریّ محض فلا بدّ لنا أن نقول : إنّ رمز نجاح محمّد صلی الله علیه و آله وسلم یکمن فی انتمائه المکّیّ . بید أنّ مکّة نفسها إذا أصابت حظّا من ضیاء السّعادة فقد کان لها حظّها من ظلام الشقاء والتّعاسة أیضا.

ویتمثّل هذا الظلام بالمفاسد الخاصّة لمجتمع تجاریّ ثریّ ، ووجود غایة الفقر من جهة ، وغایة الغنی من جهة أُخری(1) .

وهذا الکلام دلیل علی وجود عقبات کؤودة کانت قائمة فی طریق الرّسالة النّبویّة .

ص: 433


1- اسلام ، بررسی تاریخی [ الإسلام ، دراسة تاریخیّة ] : 42 ، 43 .

أخلاق العرب فی الجاهلیّة

إنّ البیئة الّتی عاش فیها عرب الجاهلیّة أفضت إلی تنامی خصال خاصّة عندهم وربّتهم بنحو خاصّ . کما أنّ الحیاة القبلیّة العسیرة فرضت ضغوطا معیّنةً علی أفراد القبیلة ، وأوجدت الضّرورات الجغرافیّة والاقتصادیّة حاجاتٍ وظروف خاصّة . فتربّی العرب فی هذه الظّروف وبرزوا فی الاتّصاف ببعض الخصال والسجایا . وعلی الرغم من استغلال هذه الخصال والقابلیّات للمفاسد والمآرب المطابقة للمعاییر الجاهلیّة ، بید أنّ منبعها کان بمقدوره أن یصبّ فی اتّجاهات أُخری أیضا . کما أنّ بعضها کان فی عداد القیم الأخلاقیّة الموجبة . واستطاع رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بجهوده الدؤوبة أن یُحِلَّ ذلک الهدف السّامی الّذی یدعو الإسلام الإنسان إلیه فی نفوس الصّحابة ، ویستثمر الخصال الموجودة بما یرتبط بذلک الهدف الرفیع ، وهکذا تمکّنت الخصال المذکورة أن تشکّل الأرضیّة لتقدّم الإسلام .

ومن خصال العرب فی الجاهلیّة قدرتهم علی تحمّل الشّدائد . ولهذه الخصلة دورها العملیّ الجادّ فی تربیة القوم وإعدادهم لمواجهة المصاعب والمشکلات . واستثمر النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم هذه الخصلة الموجودة فی أصحابه استثمارا وافیا لمواجهة المشرکین والأشراف والقبائل البدویّة ، وکذلک لخوض الحروب الطّویلة معهم فی المدینة . إذ إنّ المسلمین مُنوا بمشکلات کثیرة فی تلک الظّروف . لکن لمّا کان العرب یعیشون فی بیئة الحجاز الحارّة المحرقة وظروف عصیبة بلا ماء ولا عشب ، وکانوا قد ألفوا المصاعب وتطبّعوا علیها ، فقد تمکّنوا من المقاومة مع النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی ضروب الحرمان ، وتحمّلوا شتّی الضغوط والشّدائد . والحیاة بلا رفاهیة فی الجاهلیّة - وکان یعیشها أکثر من 90% من النّاس - منحت العرب صلابةً خاصّة ، وولّدت فیهم الاستعداد لمقاومة کلّ شیء حتّی الجفاف وفقدان الماء . ومطالعة السّیرة تدلّ علی أنّ الصّحابة قلّما کانوا

ص: 434

یعترضون علی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بالرّغم من وجود المشکلات الکثیرة . والعرب - أساسا - بخاصّة الصّحابة منهم لم یکونوا مترفین ، بل کان معظمهم من المحرومین والعادیّین ، ولم أجد فی حدود الکتب الّتی طالتعها إلاّ موضعا واحدا اعترض فیه شخص من أهل الصُّفّة فی مسجد المدینة الّذی کان یأتیه الفقراء عادةً فقال : کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یقسم مقدارا من التمر علی الأشخاص . وکان مشغولاً بصلاته ذات یوم فصاح رجل : یا رسول اللّه ! أکلنا التمر حتّی احترقت بطوننا . فقال صلی الله علیه و آله وسلم : «واللّه الّذی لا إله إلاّ هو ، لو کنت قادرا علی الخبز واللحم لهیّئته لکم»(1) .

الخصلة الأُخری للعرب معرفتهم بالحرب بل تمرّسهم علیها . فالحروب المتواصلة بین القبائل فی الجاهلیّة علی الماء ، والمرتع ، وغیرهما منحتهم بخاصّة سکّان البادیة منهم روحا خاصّةً . والحروب الّتی دامت عشرین سنة أو أربعین سنة ، لاسیّما بین قبیلتین معیّنتین لم تتجاوز نفوسهما الآلاف ، دلیل علی لجاجتهم الحربیّة الشّدیدة . ومن الطّبیعی أنّ الرجال لم یستبسلوا وحدهم بل استبسلت النساء والأطفال الّذین نشأوا فی أجواء القتال وألفوها حتّی استطاعوا أن یصمدوا بوجه العدوّ ویتحمّلوا مصائب الحرب بسهولة . وبعد حین عندما أراد رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم الجهاد لتقویض الحکومات الظّالمة والدّفاع عن کیان الإسلام ، واضطُرّ لخوض أکثر من ثمانین «غزوة» و«سریّة» خلال عقد من الزمن فی المدینة ، فإنّه استثمر هذه الرّوح القتالیّة عند العرب ؛ إذ من البیّن أنّ النّاس الجبناء المذعورین الّذین لایتحمّلون جرحا طفیفا یصابون به عاجزون عن القیام بمثل هذه التحرّکات العسکریّة المکثّفة المتواترة خلال فترات قصیرة . بید أنّ العرب الّذین کانوا قد تمرّسوا علی القتال وخبروا الحروب فی الجاهلیّة استطاعوا إبّان ظهور الإسلام أن یقدّموا خدمات جلیلة لتوسیع نطاقة أکثر فأکثر فی المناطق

ص: 435


1- المعرفة والتّاریخ 1 : 277 .

المختلفة للجزیرة العربیّة . وکان لهذه الرّوح القتالیّة مفعولها أیضا فی حروب المسلمین المختلفة ضدّ الرّوم والفرس . ولابدّ أن نعطیها دورها فی عداد أسباب النّصر والفتح . علما أنّنا ینبغی ألاّ نغفل عن أنّ عددا یسیرا منهم عُرف بشجاعته الفذّة فی الحروب المهمّة الّتی جرت فی عصر صدر الإسلام فاستطاع أن یهزم العدوّ ، ویجب ألاّ ننسی أنّ بعضهم ترک ساحة القتال مرّتین کحدٍّ أدنی ، مرّة فی أُحد ، والأُخری فی حُنین .

ومن الصّفات البارزة الأُخری لعرب الجاهلیّة «إقراء الضّیف» . فمع أنّهم کانوا فی سعی دائم من أجل تأمین مصادر العیش ، وکانوا یقاتلون منافسیهم لبلوغها ، لکنّ نفوسهم تطیب للضّیف وإقرائه وحمایته تماما . واستطاعت هذه الصّفة أن تساعد المسلمین فی بعض الحالات وتنقذهم من عناء الغربة والوحدة . فعندما قدم المهاجرون من مکّة إلی المدینة احتضنهم أهل المدینة بفضل ما کانوا یتمتّعون به من روح الضیافة وآثروهم علی أنفسهم حتّی إنّهم کانوا یقترعون لأخذهم إلی بیوتهم مع أنّ عددهم کان کبیرا قیاسا بالقدرة الاقتصادیّة لأهل المدینة(1) . وذکر القرآن الکریم هذا الإیثار أیضا(2) . وهذه الروح لم تکن موجودة عند الأنصار فحسب بل کانت موجودة عند جمیع المسلمین . وکان للإسلام دور مؤثّر فی تعزیزها وإن کانت من تراث الجاهلیّة . وقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی سیاق کلام له :

«أیّها النّاس ! إنّ اللّه تبارک وتعالی رضی لکم الإسلام دینا فأحسنوا صحبته بالسّخاء وحسن الخلق . ألا إنّ السّخاء شجرة من أشجار الجنّة لها أغصان متدلّیة فی الدنیا . فمن کان سخیّا تعلّق بغصن من أغصانها ، فساقه ذلک الغصن إلی الجنّة» .

وإنّ وجود مثل هذه الرّوح بین المسلمین فی بدایة تأسیس الحکومة فی المدینة أفضی إلی اقتلاع الفقر من المجتمع بنحو إعجازیّ ، وأحیا الأمل فی نفوس الجمیع ، الأمل بالنظّام وتأثیره فی حلّ المشکلات .

ص: 436


1- الطّبقات الکبری 3 : 396 .
2- الحشر : 19 .

4- الإسلام أمام ضغوط قریش

اشارة

ص: 437

المشرکون أمام الإسلام

الّذین عارضوا الإسلام تشبّثوا بتسویغات معیّنة لمعارضتهم . وحدیثنا هنا جواب عن السّؤال الآتی : لماذا أحجم هؤلاء عن اعتناق الإسلام ؟ ونقول : وردت فی الآیات القرآنیّة والأخبار التّاریخیّة مطالب کثیرة فی هذا المجال ، ویمکن أن تدلّ علی أسباب تلک المعارضة . وبعض المطالب المذکورة ذو جانب اجتماعیّ وسیاسیّ ، وبعضها الآخر ذو جانب فکریّ وثقافیّ . وعرضها مفید من منظار التعرّف علی جوهر التّعارض بین الإسلام والمشرکین بل هو ضروریّ لفهم التطوّر الّذی أدّی إلی غلبة الإسلام وانتصاره علی المجتمع الجاهلیّ بصورة صحیحة .

1 - عجب المشرکین من التوحید : صحیح أنّ الإسلام کان یری نفسه امتدادا للملّة الحنیفیّة ، بید أنّه لإصراره المکثّف علی التّوحید بخاصّة إلغاء جمیع المعبودین عرض کلاما جدیدا . وهذا الکلام کان یجهله أشراف قریش وعرب الجاهلیّة مبدئیّا.

فقد اتّخذ هؤلاء الأصنام آلهة یعبدونها أو رمزا لمعبودهم الأصلیّ . وإذا رضوا الإسلام دینا فلا بدّ أن یترکوا إدمانهم الفکریّ جانبا . وقبول الدین الجدید یصعب حتّی علی الّذین یعیشون فی مجتمع منفتح فضلاً عن المجتمع الجاهلیّ . علی أیّ حال ، عرض التّوحید الخالص أثار إعجابهم وحداهم علی المعارضة . قال تعالی فی کتابه الحکیم : « وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْکَافِرُونَ هذَا سَاحِرٌ کَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ

ص: 438

إِلهاً وَاحِدا إِنَّ هذَا لَشَیْ ءٌ عُجَابٌ »(1) . فهم لم یعجبوا من التوحید ویصرّحوا بجهلهم إیّاه فحسب بل زعموا أنّ هذا التّوحید لم یطرحه أحد من قبل حتّی المسیح علیه السلام : « وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَی آلِهَتِکُمْ إِنَّ هذَا لَشَیْءٌ یُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهذَا فِی الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ »(2) . وکان اعتراض المشرکین علی المسلمین الجدد قولهم : أتدعون دین آبائکم وتصبون إلی الدّین الجدید ؟(3) وکان أبو جهل یقول فی بدر : «اللّهمّ ربّنا دیننا القدیم ودین محمّد الحدیث فأیّ الدّینین کان أحبّ إلیک وأرضی عندک فانصر أهله الیوم»(4) وقال اللّه تعالی فی جواب المشرکین إذ قالوا إنّهم لم یسمعوا فی دین المسیح کلاما ککلام رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : « قُلْ مَا کُنتُ بِدْعا مِنَ الرُّسُلِ »(5) . وکان لجهد النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی إثبات حنیفیّته أن یمثّل علاجا لهذه المشکلة . وللإسلام أن یقاوم فی هذه المنطقة لفترة حتّی یألفه النّاس . ورفعا للمشکلة المذکورة کان الإسلام یصرّ علی جذوره التّاریخیّة القویّة ، ومن خلال ربط نفسه برسالة مَنْ سلف من الأنبیاء ، عرض التوحید کتیّار مبدئیّ فی تاریخ الحیاة الفکریّة للإنسان .

2 - الخوف من فقدان العرب سیادتها : تمکّنت قریش من سیادة العرب بشکل طبیعیّ بسبب سیطرتها علی مکّة ومسکها بزمام تجارتها . وکانت تری أنّها راعیة للنّظام الدّینیّ الجاهلیّ من خلال تسمیة نفسها «أهل الحُمس» وتشدّدها فی دینها . وکان قبولها الإسلام یؤدّی إلی فقدانها سیادتها حتّی حینٍ کحدّ أدنی إلی أن تستطیع استعادة سیطرتها بمؤازرة الإسلام ، ومستقبل ذلک کان مجهولاً یومئذٍ . وعند اعتناقها الدّین الجدید لم تفقد سیادتها فحسب ، بل تجعل نفسها أمام القبائل الأُخری الّتی یُحتمل أنّها کانت تهمّ بمنافستها أیضا . وکان رجالها یقولون لأبی طالب : «أعطنا

ص: 439


1- ص : 4 ، 5 .
2- ص : 6 ، 7 ؛ أنساب الأشراف 1 : 231 .
3- أنساب الأشراف 5 : 2 ؛ الطّبقات الکبری 3 : 55 ؛ المصنّف ، ابن أبی شیبه 7 : 332 .
4- مجمع البیان ، ج4 ، ص531 .
5- الأحقاف : 9 .

محمّدا نقتله لئلاّ یغیّر دیننا ویعرّضنا لقتال العرب»(1) وکانوا یقولون للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم : لم نجد بین العرب أشأم منک لقومه ؛ فرّقتَ جماعتنا ، وشتّت أمرنا ، وعبت دیننا ، وفضحتنا بین العرب حتّی قیل : فی قریش ساحر وکاهن !(2)

3 - منافسة طوائف قریش لبنی هاشم : کانت بین قریش طوائف مختلفة تقسّم مناصب مکّة بینها طبیعیّا ، وأحیانا تعاقدیّا . مع هذا کانت بینها بعض المنافسات . وکان کلّ منها یسعی إلی البروز وکسب الجاه الأکبر بین العرب من وحی التّنافس القائم بینها . وکان بنو هاشم أسرة بارزة متنفّذة ، وعلی الرغم من أنّ بعض وجوهها لم یکن فی أیّامه الأخیرة ذا ثروة تذکر ، إلاّ أنّهم کانوا أفضل طوائف قریش بفضل دعم هاشم وعبد المطّلب وما لهما من نسلٍ کثیر . وأکثر من هذا کان بنو عبد مناف الّذین ینتمی إلیهم بنو هاشم ، یحظون بموقع مرموق . وحین بزغت شمس الإسلام علی ربوع بنی هاشم کان جلیّا للجمیع أنّ هذا التحرّک إذا أثمر فإنّه یُفضی إلی تفوّق بنی هاشم أکثر فأکثر . وکان بنو أمیّة یقفون أمامهم ، ورؤساء طوائف قریش المختلفة أمام بنی عبد مناف . وکان أبو جهل یقول : «تنازعنا نحن وبنو عبد مناف فی الشّرف . أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطینا حتّی إذا تجاثینا علی الرکب وکنّا کفرسی رهان قالوا : منّا نبیّ یأتیه الوحی من السّماء ، فمتی ندرک هذه ، واللّه لا یؤمن به أبدا ولا نصدّقه»(3) . وینقل المغیرة بن شعبة أنّه کان یوما مع أبی جهل فی مکّة فلقیا النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، فدعاه إلی الإسلام ، فقال : لا أتّبعه حتّی لو علمتُ أنّه حقّ . یقول المغیرة : بعد ذلک قال لی أبو جهل : أعلم أنّه یقول حقّا ، لکن أولاد قصیّ قالوا : سدانة الکعبة لنا ، فرضینا . وقالوا : النّدوة بیننا ، فرضینا . وقالوا : الرّایة بأیدینا ، فوافقنا . ثمّ أطعموا

ص: 440


1- نثر الدرّ 1 : 398 .
2- مصنّف ابن أبی شیبة 14 : 296 الهند .
3- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 316 ؛ عیون الأثر 1 : 204 ؛ الدرّ المنثور 4 : 187 .

فأطعمنا حتّی تساوینا ، إلی أن قالوا : منّا نبیّ ! لا واللّه ، لا أفعل(1) . وکان أبو جهل یقول لأبی سفیان مشیرا إلی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم : هذا نبیّکم یا بنی عبد شمس !(2)

وکان أشراف قریش یشعرون بالضّعة والحقارة إذ یرون یتیم بنی هاشم یدّعی النّبوّة ، فلم یریدوا أن یقبلوا ذلک . وهم فی الحقیقة کانوا یحسدون النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وقال منبّه ونبیه ابنا الحجّاج السّهمیّ لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : «أما وجد اللّه من یبعثه غیرک ؟ إنّ هاهنا من هو أسنّ منک وأیسر ... وإذا ذکراه قالا : «مُعلَّم مجنون ، یعلّمه أهل الکتاب ما یأتی به»(3) . وکم کان الاعتراض علی نبوّة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بین جمیع الناس الّذین کانوا یعیشون فی مکّة والطّائف . وفی سورة الزخرف إشارة إلی کثیر من دعاوی المشرکین . قال تعالی : « وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلَی رَجُلٍ مِنَ الْقَرْیَتَیْنِ عَظِیمٍ * أَهُمْ یَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّکَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَیْنَهُم مَعِیشَتَهُمْ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِیَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضا سُخْرِیّا وَرَحْمَتُ رَبِّکَ خَیْرٌ مِمَّا یَجْمَعُونَ »(4) . وذکر سبحانه هذا الشّعور الّذی کان یحمله أکابر المجرمین بین الأقوام الخالیة فقال : « وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آیَةٌ قَالُوا لَن نُؤْمِنَ حَتَّی نُؤْتَی مِثْلَ مَا أُوتِیَ رُسُلُ اللّه ِ اللّه ُ أَعْلَمُ حَیْثُ یَجْعَلُ رِسَالَتَهُ »(5) . ولم یحملوا هذا الشعور حیال النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فحسب ، بل کانوا یحملونه حیال من کان معه . قال تعالی : « وَقَالَ الَّذِینَ کَفَرُوا لِلَّذِینَ آمَنُوا لَوْ کَانَ خَیْرا مَا سَبَقُونَا

ص: 441


1- دلائل النّبوّة 2 : 207 ؛ البدایة والنّهایة 3 : 64 ؛ المصنّف ، ابن أبی شیبة 14 : 91 ، 92 .
2- دلائل النّبوّة 2 : 284 ؛ البدایة والنّهایة 3 : 65 .
3- أنساب الأشراف 1 : 144 ؛ وجاء فی الآیة 14 من سورة الدخان : «ثمّ تولّوا وقالوا معلّم مجنون» . وقُتل هذان الأخوان اللّذین دعا علیهما رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قتلهما علیّ بن أبی طالب علیه السلام .
4- الزّخرف 31 ، 32 ؛ السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 361 .
5- الأنعام : 124 .

إِلَیْهِ »(1) . وکان المشرکون یتوهّمون من وحی کبرهم أنّهم معیار الحقّ ، وأنّ الضّعفاء معیار بطلان الإسلام . قال سبحانه : « وَکَذلِکَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِیَقُولُوا أَهؤُلاَءِ مَنَّ اللّه ُ عَلَیْهِمْ مِن بَیْنِنَا أَلَیْسَ اللّه ُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاکِرِینَ »(2) . وحین کان یمرّ صهیب ، وعمّار ، وخبّاب علی قریش ، تسخر منهم ، وتقول : هؤلاء جلساء محمّد(3) .

وکانت قریش تعتقد أنّ ضعفة النّاس وحدهم تبعوه(4) . قال تعالی فی سخریة قریش من المؤمنین : « إِنَّ الَّذِینَ أَجْرَمُوا کَانُوا مِنَ الَّذِینَ آمَنُوا یَضْحَکُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ یَتَغَامَزُونَ »(5) . وأمر سبحانه نبیّه صلی الله علیه و آله وسلم أن یرعی هؤلاء الضعفاء ، بل المؤمنین فقال جلّ شأنه : « وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِینَ یَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِیِّ یُرِیدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَیْکَ مِنْ حِسَابِهِم مِن شَیْ ءٍ وَمَا مِن حِسَابِکَ عَلَیْهِمْ مِن شَیْ ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَکُونَ مِنَ الظَّالِمِینَ »(6) . ویصف سبحانه صورةً لموقف المشرکین من النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وصحابته فی مرآة تاریخ الأنبیاء مع قومهم . وهذا البعد من القضیّة ورد نوعا ما فی قصّة نوح علیه السلام ، حین قال له مشرکو قومه : « قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَکَ وَاتَّبَعَکَ الأَرْذَلُونَ ... (فقال :) ... وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِینَ »(7) . وجاء فی موضع آخر من القرآن قوله تعالی : « فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِینَ کَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاکَ إِلاَّ بَشَرا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاکَ اتَّبَعَکَ إِلاَّ الَّذِینَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِیَ الرَّأْیِ »(8) . وکان جوابه علیه السلام هو نفس الجواب وهو أنّه لا یطرد الّذین آمنوا(9) .

4 - الخوف من فقدان مکّة أمنها وهدوءها : النّقطة الأُخری هی أنّ الإسلام

ص: 442


1- الأحقاف : 11 . هذا کلام أبی جهل . أنساب الأشراف 1 : 196 .
2- الأنعام : 53 .
3- أنساب الأشراف 1 : 184 .
4- المصنّف ، ابن أبی شیبة 7 : 347 .
5- المطفّفین : 29 ، 30 ؛ أنساب الأشراف 1 : 197 ؛ مجمع البیان 3 : 306 .
6- الأنعام : 52 .
7- الشّعراء : 111 ، 114 .
8- هود : 27 .
9- هود : 29 .

عرّض الهدوء الطبیعیّ لمدینة مکّة لأزمةٍ حقیقیّة . وشمل ذلک الهدوءَ السّیاسیّ ، وبخاصّة الهدوء الفکریّ للمجتمع . فقد کان أهلها وأهل سائر المناطق قد أقاموا علاقاتهم الاجتماعیّة والقیمیّة فی ظلّ الکیان الجاهلیّ القدیم . وفی غضون ذلک أدّی النّظام الدّینیّ الجاهلیّ دورا مهمّا فی تبلور هذه العلاقات ، وعلاقاتهم الاقتصادیّة أیضا . فتقویض هذا النظام القدیم لا یستتبع إلاّ التّخلخل والتّشتّت فی المجتمع . وهذا الوضع لا یمکن أن یُطیقه من ألف تلک العلاقات وبنی شخصیّته الفردیّة والاجتماعیّة علی أساسها . وکانوا قد اتّخذوا الأصنام رمزا لعزّتهم وعظمتهم ، « وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّه ِ آلِهَةً لِّیَکُونُوا لَهُمْ عِزّا »(1) . وارتبط النّظام الصّنمیّ بنظامهم الأخلاقیّ والقیمیّ ، حتّی جاء علی لسان إبراهیم علیه السلام فی قوله لقومه : « ... إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِن دُونِ اللّه ِ أَوْثَانا مَّوَدَّةَ بَیْنِکُمْ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا »(2) . علما أنّ المجتمع الفتیّ فی مکّة وکذلک من مُنی بالحرمان فی نظامها القدیم کانوا مستعدّین لمناغاة الحرکة الثّوریّة الجدیدة . وقیل : إنّ قریشا کانت تخاف علی فتیانها من اللحاق بمحمّد صلی الله علیه و آله وسلم . وقال مروان بن الحکم ذات مرّة لشیخ کبیر : یا شیخ ، ألا تدبّرت فی إسلامک حتّی سبقک الفتیان ؟ فقال : عزمتُ علیه کثیرا لکنّ أباک (الحکم بن أبی العاص) یمنعنی فی کلّ مرّة ویقول : أتتنازل عن شرفک وتترک دین آبائک لأجل الدّین الجدید ؟(3) علی أیّ حال ، هذه مشکلة کلّ حرکة أساسیّة تقلب النّظام القدیم فی المجتمع . وکان الکبراء یحولون دون إسلام الجماهیر الرّازحة تحت وطأة الظّلم وضغط العلاقات الجائرة للنّظام السّابق . وکلّ فرد فی المجتمع القبلیّ عضو فی القبیلة . من هنا ، لا یتسنّی قبول الإسلام ؛ إذ ینبغی بهذا العمل أن یجرّ عداء کبراء القبیلة لنفسه . وکان مَیْسَرة بن مسروق یقول للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم :

ص: 443


1- مریم : 81 .
2- العنکبوت : 25 .
3- المنتخب من ذیل المذیل : 517 ؛ أنساب الأشراف 1 : 362 .

ما أحسن کلامک ! لکنّ قومی یخالفوننی ، والإنسان وقومه . إذا خذلوه ، فلن ینصره أحد(1) . مع هذا ، کان هناک رجال شجعوا ولم یتهیّبوا وانفصلوا عن قومهم ، بل حاربوهم . وقال أمیرالمؤمنین علیّ بن أبیطالب علیه السلام فی خطبة له :

«ولقد کنّا مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا ، ما یزیدنا ذلک إلاّ إیمانا وتسلیما»(2) .

وأکّد القرآن الکریم ذلک أیضا(3) . فشخص مثل مصعب بن عمیر کان فرحا لأسر أخیه فی بدر ، وقال للمسلم الّذی أسره : أمسک أسیرک فإنّ عنده مالاً کثیرا فی مکّة ! وقال حین اعترض أخوه : المسلم الّذی أسرک هو أخی حقّا(4) . من هنا اتّهم المشرکون رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بأنّه مزّق الأُسَر وشتّتها(5) .

5 - التصوّر الخاطئ عن النبوّة : لا بدّ أنّ التّصوّر المبتور الّذی حمله المشرکون عن الرّسالة مأخوذ ممّا کان یقوله النّصاری فی المسیح علیه السلام . یضاف إلی ذلک أنّ أذهان العرب کانت ملیئة بالاعتقاد بالملائکة والجنّ ، ویرونهم معبودین إلی جانب الأصنام . وهذه کلّها إلی جانب الاعتقاد بإله ظلّ مجهولاً فی تضاعیف تلک الآلهة المصطنعة جمیعها . وإذا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یعرض نفسه رسولاً لذلک الإله المجهول - أو کحدٍّ أدنی المجهول نوعا ما - وکان العرب یتساءلون عن سبب عدم اختیار مَلَکٍ من الملائکة للرّسالة علی فرض وجودها - مع أنّه فی ضوء تصوّرهم - کان طبیعیّا أنّ الحامل للرّسالة من اللّه یتّصف بصفات اللّه إلی حدٍّ ما . بید أنّ المدّعی لهذه الرسالة الآن بشرٌ

ص: 444


1- حیاة الصّحابة 1 : 65 ؛ دلائل النّبوّة ، أبو نعیم 1 : 294 ، رقم 220 .
2- نهج البلاغة ، الخطبة 56 ؛ وانظر : الخطبة 122 ؛ ربیع الأبرار 3 : 312 .
3- المجادلة : 22 .
4- حیاة الصّحابة 2 : 294 عن نصب الرّایة 3 : 3 ، 4 .
5- دلائل النّبوّة ، البیهقیّ 2 : 313 ؛ عیون الأثر 1 : 222 .

مثلهم ، ولیس له أن یتّصل باللّه فی زعمهم . وهذا التّصوّر کان قد أوجد مشکلةً مهمّةً للمشرکین إلی درجة أنّ اللّه سبحانه عدّها عقبة کبیرةً تحول دون إسلامهم . قال تعالی: « وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن یُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَی إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللّه ُ بَشَرا رَسُولاً »(1) . وذکر أیضا تعجّبهم من اختیار رسولٍ من بینهم(2) . علما أنّ هذه المشکلة کانت موجودة أیضا فی عصر مَن سلف من الأنبیاء . وهی تدلّ علی أنّ الذّهن العادیّ للإنسان یتعذّر علیه أن یدرک هذا الموضوع فی الوهلة الأولی(3) . من هنا کان الأنبیاء یبادرون إلی إبداء معجزاتهم . ولم یتوقّع المشرکون أنّ الرّسول الّذی یبعثه اللّه ، یکون مثلهم یأکل الطّعام ویمشی فی الأسواق ، فکانوا ینظرون إلی هذه التّصرّفات بدهشة وذهول(4) . ویجیب اللّه تعالی هؤلاء فیقول : أوّلاً : « وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَکَ مِنَ الْمُرْسَلِینَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَیَأْکُلُونَ الطَّعَامَ وَیَمْشُونَ فِی الأَسْوَاقِ »(5) . ثانیا : «الرّسول یناسب من تکون له الرسالة لا من أرسله بها» . ولو کان فی الأرض ملائکة لکان رسولهم مَلَکا منهم ، فی حین لا یمکن أن یعیش علی الارض ملک کما یعیش الإنسان علیها . « قُل لَوْ کَانَ فِی الأَرْضِ مَلاَئِکَةٌ یَمْشُونَ مُطْمَئِنِّینَ لَنَزَّلْنَا عَلَیْهم مِنَ السَّماءِ مَلَکا رَسُولاً »(6) . وهبوط الملک مع الاحتفاظ بصفته المَلَکیّة لیس من مصلحة أهل الأرض : « وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَیْهِ مَلَکٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَکا لَقُضِیَ الأَمْرُ ثُمَّ لاَ یُنْظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَکا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَیْهِم مَا یَلْبِسُونَ »(7) . ویشیر القسم الأخیر من الآیة إلی أنّ الرّسول حتّی لو کان مَلَکا فلا بدّ أن یکون بصورة إنسان ، وهکذا تظلّ المشکلة قائمة أیضا . وهذا صحیح

ص: 445


1- الإسراء : 93 .
2- ص : 4 ؛ یونس : 2 .
3- إبراهیم : 10 ؛ الأنبیاء : 3 ؛ المؤمنون : 23 ، 24 ؛ الشعراء : 154 ، 186 ؛ یس : 15 ؛ التغابن : 6 ؛ القمر : 24 ، 27 .
4- الفرقان : 7 .
5- الفرقان : 20 .
6- الإسراء : 95 .
7- الأنعام : 8 ، 9 .

إذ إنّ التّصوّر المذکور یمثّل مشکلة فکریّة ، لکنّه أصبح ذریعةً بید المشرکین . وکان هذا بعد عرض الأدلّة الوافیة لإثبات الرّسالة . قال تعالی : « وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَیْهِمُ الْمَلاَئِکَةَ وَکَلَّمَهُمُ الْمَوْتَی وَحَشَرْنَا عَلَیْهِمْ کُلَّ شَیْ ءٍ قُبُلاً مَا کَانُوا لِیُؤْمِنُوا »(1) . وینبغی أن نقول : إنّ اللّه تعالی یصرّ علی بشریّة رسوله لیُزیل کلّ تصوّر غیر بشریٍّ عنه . فهو بشر فحسب ولا یأتی بمعجزةٍ إلاّ بإذن اللّه سبحانه .

6 - طلب الأمور الخارقة : فی ضوء التّصوّر الّذی عرضناه فی الفقرة السّابقة کان المشرکون یطلبون أعمالاً خارقة . ومبدئیّا کان علی الأنبیاء أن یأتوا بمعجزةٍ لإثبات رسالتهم . وأشار القرآن الکریم فی طبیعة حیاة الرّسل إلی معجزاتهم أیضا . من هنا لعلّنا نستطیع أن نقول : إنّ الإتیان بمعجزة من منظار القرآن کان أمرا عامّا للأنبیاء . بید أنّ القرآن نفسه جعل العب ء الأصلیّ للاستدلال علی رسالة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم قائما علی آیاته ، وطلب من أولئک أن یتدبّروا فیها للوقوف علی صحّة رسالته صلی الله علیه و آله وسلم . وهکذا نلحظ أنّ التّفاوت بین النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وغیره من الأنبیاء فی الإتیان بمعجزة النّبوّة نابع من القرآن عینه . لکنّ المشرکین کانوا یصرّون علی أن یروا معجزة مادّیّة محسوسة من النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . واللّه سبحانه لم تتعلّق مشیئته بذلک ، کما أنّ هذا الأمر لیس من شأن محمّد صلی الله علیه و آله وسلم الّذی هو بشر مبعوث من اللّه فحسب « وَقَالُوا لَن نُؤْمِنَ لَکَ حَتَّی تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ یَنْبُوعا * أَوْ تَکُونَ لَکَ جَنَّةٌ مِن نَّخِیلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِیرا * أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ کَمَا زَعَمْتَ عَلَیْنَا کِسَفا(2) أَوْ تَأْتِیَ بِاللَّهِ وَالْمَلاَئِکَةِ قَبِیلاً * أَوْ یَکُونَ لَکَ بَیْتٌ مِن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَی فِی السَّماءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِیِّکَ حَتَّی تُنَزِّلَ عَلَیْنَا کِتَابا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّی هَلْ کُنتُ إِلاَّ بَشَرا رَسُولاً »(3) . وجاء فی موضع آخر : « وَقَالُوا مَالِ هذَا الرَّسُولِ یَأْکُلُ

ص: 446


1- الأنعام : 111 .
2- إشارة إلی الآیة التّاسعة من سورة سبأ «إنّ نشأ نخسف بهم الأرض أو نُسقط علیهم کِسَفا من السّماء» .
3- الإسراء : 90 - 93 ؛ عیون الأثر 1 : 198 ، 199 و201 .

الطَّعَامَ وَیَمْشِی فِی الأَسْوَاقِ لَوْلاَ أُنزِلَ إِلَیْهِ مَلَکٌ فَیَکُونَ مَعَهُ نَذِیرا * أَوْ یُلْقَی إِلَیْهِ کَنزٌ أَوْ تَکُونُ لَهُ جَنَّةٌ یَأْکُلُ مِنْهَا »(1) . وأراد المشرکون أیضا أن یکلّمهم اللّه مباشرةً أو یرسل إلیهم آیةً ، مثلهم بذلک مثل من سبقهم من القرون الّذین طلبوا من أنبیائهم شبهَهُ . وسبب ذلک أنّهم « تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ »(2) . وبلغ إصرار المشرکین مبلغا أمعض النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فهدّأه ربّه سبحانه ولطّفه بقوله : « فَلَعَلَّکَ تَارِکٌ بَعْضَ مَا یُوحَی إِلَیْکَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُکَ أَن یَقُولُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَیْهِ کَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَکٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذیرٌ وَاللّه ُ عَلَی کُلِّ شَیْ ءٍ وَکِیلٌ »(3) . وبعد هذه الآیة طلب منه أن یتحدّی بالقرآن فقال جلّ اسمه : « أَمْ یَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَیَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِن دُونِ اللّه ِ إِن کُنتُمْ صَادِقِینَ * فَإِلَّمْ یَسْتَجِیبُوا لَکُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلمِ اللّه ِ وَأَن لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُسْلِمُونَ »(4) . وقال فی موضع آخر مجیبا عن سؤال المشرکین حین قالوا : « لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَیْهِ آیَاتٌ مِن رَّبِّهِ ... * أَوَ لَمْ یَکْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَیْکَ الْکِتَابَ یُتْلَی عَلَیْهِمْ إِنَّ فِی ذلِکَ لَرَحْمَةً وَذِکْرَی لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ »(5) . علی أیّ حال نطاق هذا البحث واسع فی القرآن ، وهو معلَم علی تکرار المشرکین له . وهذا مبدئیّا إشکال عقیم مع وجود القرآن ؛ ذلک أنّ کبراء قریش الّذین کانوا یرون سذاجة مثل هذه الإشکالات، یصرّون علیها ، فی حین أنّ اللّه تعالی یشهد أنّهم لا یفکّرون بالإیمان : « وَأَقْسَمُوا بِاللّه ِ جَهْدَ أَیْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آیَةٌ لَیُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآیَاتُ عِندَ اللّه ِ وَمَایُشْعِرُکُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ یُؤْمِنُونَ »(6) . وکم ذکر سبحانه أنّهم یُعرضون عن کلّ آیة یرونها(7) ، ویستهزئون ویسخرون منها(8) ، ولا یؤمنون بها(9) .

ص: 447


1- الفرقان : 7 ، 8 ؛ السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 395 .
2- البقرة : 118 ؛ وانظر : الأنعام : 37 ؛ الرعد : 7 ، 27 ؛ یونس : 20 ؛ طه : 133 ؛ الشّعراء : 154 .
3- هود : 12 .
4- هود : 13 ، 14 .
5- العنکبوت : 50 ، 51 .
6- الأنعام : 109 .
7- الأنعام : 124 .
8- الصّافّات : 14 .
9- الأعراف : 146 ؛ الأنعام : 25 .

وأورد الشّامیّ ما جری بین النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وبینهم فی فصل خاصّ مفصّلاً(1) .

7 - جبریّة المشرکین : الکلام الآخر الّذی نُقل عن المشرکین فی سبب کفرهم باللّه هو أنّ اللّه سبحانه کتب علیهم أن یکونوا عبدةَ أصنام . وحینئذٍ فإیمانهم وکفرهم لیسا بأیدیهم فیقرّروا ما یریدون . « وَقَالَ الَّذِینَ أَشْرَکُوا لَوْ شَاءَ اللّه ُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَیْءٍ نَحْنُ وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَی ءٍ کَذلِکَ فَعَلَ الَّذِینَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَی الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِینُ »(2) . « وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَا لَهُم بِذلِکَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ یَخْرُصُونَ »(3) . ومن المحتمل أنّ الالتزام بعقیدة الجبر مأخوذ من العقائد الّتی کانت سائدة فی العصرالجاهلیّ بید أنّنا نحتمل أیضا أنّهم عرضوا هذا الکلام لإصرار القرآن الکریم علی أنّ اللّه هو الّذی یهدی من یشاء من النّاس . وفی هذه الحالة ینبغی أن نقول إنّه یستشفّ من الآیتین المذکورتین أنّ اللّه تعالی لا یقبل تأویل الجبر ممّا قاله فی الهدایة . ففی أمرها یقع علی عاتق النّاس قسم من القرار بشأنها ، والقسم الآخر یتعلّق باللطف الإلهیّ . وأکّد القرآن الکریم أنّ اللّه تعالی ترک للإنسان اختیار طریق الفجور أو التّقوی(4) . وهکذا فالإنسان بنحو من الأنحاء ، واللّه تعالی بنحو آخر شریکان فی تحدید طریق الهدایة . علما أنّ دور الإنسان یکمن فی القدرة الّتی ألهمها اللّه إیّاه . وصارت عقیدة الجبر فی العهود المتأخّرة من المباحث الکلامیّة الإسلامیّة المهمّة ، وکان لها تأثیرها الوافر فی الحیاة الاجتماعیّة والسّیاسیّة للمسلمین .

8 - التمسّک بالسنن القبلیّة : کانت الحیاة القبلیّة قائمةً علی رعایة سنن الآباء والأجداد والقیم المرتبطة بماضی القبیلة . ودعم هذه السّنن مهمّة ضروریّة تقع علی عاتق أفراد القبیلة جمیعهم ذلک أنّ الرّوح المسیطرة علی القبیلة امتدّت وضمنت حیاة

ص: 448


1- سبل الهدی والرّشاد 2 : 451 - 459 .
2- النّحل : 35 ؛ الأنعام : 148 .
3- الزّخرف : 20 .
4- الشّمس : 7 - 9 .

القبیلة بالمحافظة علی هذه السّنن . وصواب السّنّة أو سقمها یعودان إلی أنّها کانت موجودة أو معدومة فی ماضی القبیلة وحیاتها . ومن الطّبیعیّ أنّ من یتحرّک خلافا لتلک السّنن ، ویعدّها باطلةً ، ویُضلّل طریق آبائه وأجداده فإنّه یشکّل خطرا حقیقیّا للقبیلة ونظامها . ینطبق هذا الأمر بخاصّة علی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم الّذی کان یسعی من أجل تغییر التّرکیبة القبلیّة وإنشاء نظام واحد قائم علی الاعتقاد بإلهٍ واحد وقِیَمٍ واحدةٍ . وفی ضوء الرّؤیة المسیطرة علی المجتمع الجاهلیّ یکفی فی رفض دینه تضلیلُه آباء المشرکین وأجدادهم . وفی المفاوضات الّتی جرت بین أبی طالب والمشرکین کان من قلق المشرکین أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ضلّل آباءهم وقال إنّهم فی النّار(1) . وعندما کان یذهب النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بین القبائل ویدعوهم إلی الإسلام ، کان أبو لهب یقول : هذا الرجل یرید منکم أن تترکوا دین آبائکم(2) . ونقل القرآن الکریم هذا الموضوع عن المشرکین فی موقفهم من هود علیه السلام : « قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّه َ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا کَانَ یَعْبُدُ آبَاؤُنَا »(3) . « بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَی أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَی آثَارِهِم مُهْتَدُونَ * وَکَذلِکَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِکَ فِی قَرْیَةٍ مِن نَذِیرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَی أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَی آثَارِهِم مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُکُم بِأَهْدَی مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَیْهِ آبَاءَکُم قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ کَافِرُونَ »(4) . وطُرح هذا الموضوع فی آیات أُخری أیضا ، وأجاب القرآن أنّهم ینبغی ألاّ یتّبعوا آباءهم الضالّین الّذین لا یعقلون(5) . وفی هذا الاتّجاه ، کانت عضویّة الفرد فی القبیلة - بالمواصفات المعروفة للقبیلة - تجعل إسلامه متعذّرا إلی حدٍّ ما . فقد قال أحد المشرکین من بنی المصطلق للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم مرّةً : لا أدین بدینک حتّی أری ماذا یفعل قومی . فإذا أسلموا أُسلم وإلاّ فإنّی واحد منهم(6) .

ص: 449


1- انظر : أنساب الأشراف 1 : 128 ، 141 .
2- عیون الأثر 1 : 257 .
3- الأعراف : 70 .
4- الزّخرف : 22 - 24
5- المائدة : 104 ؛ البقرة : 170 .
6- المغازی 1 : 406 .

9 - مصارعة الحقّ : التبریرات الفکریّة والاجتماعیّة غطاء للمآرب الباطنیّة وحبّ الدّنیا . ویحاول الإنسان فرارا من التّوحید أن یتملّص من عبادة اللّه ویجعل لنفسه هیمنة یستحوذ بها علی الآخرین ، إذ لعبادة اللّه تبعات کثیرة فی الحیاة الدّنیا من الوجهة الرّوحیّة . ومن منظار القرآن الکریم ، کان المشرکون یستهدفون رفض ولایة اللّه واستبدال ولایة الطّاغوت بها . وهذا الهدف نابع من توجّهاتهم المطمعیّة والاستعلائیّة ولیس له أیّ أرضیّة عقلیّة فکریّة . وکانوا ینکرون معجزة موسی علیه السلامفی حین کانوا یبطنون الاعتقاد بها . قال تعالی : « وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَیْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْما وَعُلُوّا فَانظُرْ کَیْفَ کَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِینَ »(1) . ویؤکّد القرآن الکریم أنّ الحسّ الاستعلائیّ لمشرکی مکّة هو الحائل دون إیمانهم . فقد کانوا یزعمون الإلوهیّة والاستکبار فی مقابل التّوحید . قال سبحانه : « إِنَّهُمْ کَانُوا إِذَا قِیلَ لَهُمْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ یَسْتَکْبِرُونَ * وَیَقُولُونَ ءَإِنَّا لَتَارِکُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ »(2) . وهکذا لم یطق المشرکون دعوة التّوحید « کَبُرَ عَلَی الْمُشْرِکِینَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَیْهِ »(3) . وهذا هو الاستکبار نفسه « وَیْلٌ لِکُلِّ أَفَّاکٍ أَثِیمٍ * یَسْمَعُ آیَاتِ اللّه ِ تُتْلَی عَلَیْهِ ثُمَّ یُصِرُّ مُسْتَکْبِرا کَأَن لَمْ یَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِیمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آیَاتِنَا شَیْئا اتَّخَذَهَا هُزُوا أُولئِکَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِینٌ »(4) . وحبّ الدّنیا من ضرورات الحسّ الاستعلائیّ وحبّ المزید أیضا . وقد ذمّ الإسلام المشرکین وعنّفهم لتعلّقهم الشّدید بالدّنیا . والحیاة الدّنیا من منظار القرآن الکریم لا یمکن أن تکون أساسا یُرکَن إلیه ، کما لا یتیسّر الاستمتاع بها إلاّ للآخرة ومصلحتها ، وإلاّ فهی لغوٌ وعبث . وقد شقّ علی المشرکین هذا الموقف القرآنیّ . وحین کانوا یسمعون آیات القیامة کانوا یتأفّفون من القرآن « وَإِذَا ذُکِرَ اللّه ُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِینَ لاَ یُؤْمِنُونَ

ص: 450


1- الّنمل : 14 .
2- الصّافّات : 35 ، 36 .
3- الشّوری : 13 .
4- الجاثیة : 7 - 9 .

بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُکِرَ الَّذِینَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ یَسْتَبْشِرُونَ »(1) . وکانوا یعتقدون أنّهم لا یُعذَّبون

ثقةً منهم بأموالهم وأولادهم . وقد ذمّهم اللّه سبحانه وقرّعهم فقال : « وَیْلٌ لِکُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِی جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * یَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ »(2) . « اعْلَمُوا أَ نَّمَا الْحَیَاةُ الدُّنْیَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِینَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَیْنَکُمْ وَتَکَاثُرٌ فِی الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ »(3) . وعلی أیّ حال ، کان الباعث الأصلیّ للمشرکین علی مخالفتهم هو استکبارهم وحبّ المزید فی نفوسهم ، وهو ما أُشیر إلیه فی آیات أُخری أیضا . قال تعالی : « إِنَّ الَّذِینَ یُجَادِلُونَ فِی آیَاتِ اللّه ِ بِغَیْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِی صُدُورِهِمْ إِلاَّ کِبْرٌ مَا هُم بِبَالِغِیهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ »(4) .

ردّ فعل المسلمین حیال أذی المشرکین

کان طبیعیّا أنّ بین کثیر من المسلمین الّذین تحمّلوا ألوان العذاب أفرادا لم یطیقوا العذاب والاضطهاد . وهؤلاء لم یثبتوا فی التّعذیب الّذی کان یُمارَس ضدّهم . لذا کانوا یعبّرون عن ندمهم وارتدادهم . وبینهم من کان یتّقی ، ویُخفی عقیدته فی التّوحید ، بید أنّ بعضهم کان یرتدّ بشکل جادّ . وتدلّ أخبار السّیرة علی الموقفین کلیهما . وأسلوب التّقیّة کان أسلوبا منطقیّا لمن لا یری فی نفسه طاقةً علی الصمود ، لکنّه کان یعتقد بالدّین . وإن کنّا نستطیع أن نقول : من الوجهة الدینیّة یتسنّی حتّی للأشخاص الّذین کانت لهم قدرة علی الصّمود أن یفیدوا من هذا الأُسلوب الشّرعیّ . وکان هناک أشخاص قد عرّضوا أنفسهم للسّجن ، والتّعذیب ، والاستشهاد أحیانا من خلال صمودهم . وشاع فی کتب السّیرة اصطلاحان فی هذه المواقف . أحدهما : «الفتنة» ،

ص: 451


1- الزمر : 45 .
2- الهمزة : 1 - 3 .
3- الحدید : 20 .
4- المؤمن : 56 .

والآخر «الاستضعاف» . واستعمل کتّاب السِّیَر الاصطلاح الأوّل بشأن الظّروف العصیبة الّتی أوجدها المشرکون واستغلّوها لإعادة المسلمین إلی الشّرک(1) . وکان عنوان الاستضعاف یُطلَق علی المسلمین الّذین کانوا عرضةً لهذه الظّروف ، وکانوا یعانون من ضغط المشرکین، ویُهدّدون بترک عقائدهم التّوحیدیّة(2) . وکان الأشخاص الّذین یعیشون فی مکّة عادةً إمّا من الأشراف الّذین یشکّلون رؤساء القبائل وأثریائها ووجهائها ممّن کانوا یتمتّعون بوضع مالیّ اعتیادیّ ، أو من الضعفاء والمعدمین . وکان المشرکون یهدّدون الأشراف بإذلالهم وقذفهم بالحماقة والسّفاهة ، ویهدّدون الأثریاء بإکساد تجارتهم وتبدید أموالهم ، ویضطهدون الضّعفاء ، ویحرّضون الآخرین ضدّهم أو یخدعونهم(3) . وهذا التّعذیب - کما نقل ابن عبّاس - کان علی درجةٍ لم یکن للمسلمین حیلة معها فی ترک الإسلام .

وکانوا یضربون الضّعفاء ویعطّشونهم ویجوّعونهم حتّی لم یقووا علی الجلوس . ثمّ یطلبون منهم أن یعتقدوا باللات والعُزّی بدل اللّه . وکانوا یکرهونهم علی أن یقولوا إنّهم لا یرضون اللّه إلها لهم ، ویرضون هبل(4) . وکان النّظام القبلیّ یفرض علی أشراف کلّ قبیلة أن یعذّبوا من أسلم منهم ، إذ لیس للقبائل الأُخری أن تضیّق علی المسلمین من سائر القبائل .

ص: 452


1- قیل : إنّ تعبیر «فتنة النّاس» فی الآیة العاشرة من سورة العنکبوت بهذا المعنی . انظر : مجمع البیان 7 : 273 .
2- یقول عروة فی صهیب : کان من المستضعفین ، ومن المؤمنین الّذین عُذّبوا فی سبیل اللّه ؛ أنساب الأشراف 1 : 181 ؛ وانظر : ص185 حول بلال ، وص194 حول عامر بن فُهیرة ؛ وانظر أیضا : سبل الهدی والرّشاد 2 : 480 . وجاء فی عمّار بن یاسر ما نصّه : «کان عمّار بن یاسر من المستضعفین الّذین یُعذّبون بمکّة لیرجع عن دینه ، الطّبقات الکبری 3 : 248 .
3- سیرة ابن هشام 1 : 320 ؛ أنساب الأشراف 1 : 198 .
4- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 320 ؛ أنساب الأشراف 1 : 197 ؛ السّیرة النّبویّة ، الذهبیّ : 219 .

یقول ابن إسحاق : قامت کلّ قبیلة بإیذاء من أسلم منها ، وحبسوهم أو عذّبوهم ، وجوّعوهم وعطّشوهم . وکانوا یجعلونهم علی الرمضاء فی شدّة الحرّ . فارتدّ عن دینه من کان ضعیفا منهم ، ومات بعضهم ، وبعضهم الآخر قد أمن منهم(1) . وجاء فی خبر آخر أنّه لمّا انتشر الإسلام بین رجال مکّة ونسائها قامت قریش بحبس عدد منهم ، وخدیعة عدد آخر(2) . وکان بلال یعذّب علی ید أمیّة بن خلف(3) . وکانت امرأة من إماء بنی عدیّ تُعذَّب علی ید عمر بن الخطّاب الّذی کان مشرکا یومذاک(4) . وعُذِّب عمّار وأبواه واضطهدوا علی ید بنی مخزوم الّذین کانوا یعذّبونهم تحت حرارة الشّمس . واستُشهدت الأمّ التی صمدت علی إسلامها(5) ونالت وسام أوّل شهیدةٍ فی الإسلام(6) . وکان أشخاص من بنی مخزوم یطلبون من هشام بن الولید أن یأذن لهم بالضّغط علی أخیه الولید بن الولید لأنّهم کانوا یحتملون انتشار الإسلام بین بنی مخزوم . فأذن لهم ، لکنّه قال لهم : عذّبوه وحده وإیّاکم أن تُزهقوه ، لأنّی سأقتل أشرفکم ثأرا له ، فترکوه

وذهبوا خشیة أن یموت فی التّعذیب(7) .

وهذا یدلّ علی أنّ النّظام القبلیّ کان یشعر بالمسؤولیّة حیال تعذیب الّذین

ص: 453


1- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 317 .
2- نفسه 1 : 294 .
3- انظر : أنساب الأشراف 1 : 184 للاطّلاع علی أسلوب تعذیبه إذ کانوا یمدّونه علی الرّمضاء ویضعون الحجر علی صدره ؛ وعلّقوا فی عنقه حبلاً وأعطوه الصّبیان لیجرّوه بین جبال مکّة . أنساب الأشراف 1 : 185 . یقول بلال : ترکونی ظامئا یوما کاملاً ثمّ أضجعونی علی حجارةٍ حارّة . أنساب الأشراف 1 : 186 ؛ سبل الهدی والرّشاد 2 : 277 .
4- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 319 ؛ أنساب الأشراف 1 : 195 ؛ سبل الهدی والرّشاد 2 : 482 .
5- انظر : السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 320 .
6- أنساب الأشراف 1 : 158 ؛ السّیرة النّبویّة ، الذّهبیّ : 218 ؛ دلائل النّبوّة 2 : 282 ؛ سبل الهدی والرّشاد 2 : 481 .
7- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 321 ؛ السّیرة النّبویّة ، الذّهبیّ : 219 .

یسلمون من القبیلة والمحافظة علی أرواحهم فی آنٍ واحد . ونصّ أصحاب السِّیَر علی أنّ التّعذیب کان یُمارَس بحقّ من لا دعم لهم من إحدی القبائل (عُذِّب قومٌ لا عشائر لهم ولا مانع)(1) . ونحن نعلم أنّ هؤلاء یشکّلون عددا کبیرا من الصّحابة . وکان أبو سفیان یقول : إنّ أکثر أصحاب محمّد صلی الله علیه و آله وسلم من النّساء والضّعفاء(2) . فمن الطّبیعیّ أنّ کثیرا من الصّحابة الّذین کانوا من هذه الشّریحة تعرّضوا لضغط الأشراف واضطهادهم . وکانت آثار التّعذیب شدیدة إلی درجة أنّها تظلّ بادیةً عدد سنین کما کانت فی ظهر عمّار بن یاسر(3) الّذی تظاهر بالتخلّی عن التّوحید بعد استشهاد أُمّه وتحمّل الأذی الکثیر . ونقل أصحاب السّیر والمحدِّثون أنّ الآیة السّادسة والمئة من سورة النّحل نزلت فی جواب سؤاله الّذی طرحه علی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم حول صواب موقفه أو عدم صوابه(4) . « مَن کَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِیمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُکْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِیمَانِ وَلکِن مَّن شَرَحَ بِالْکُفْرِ صَدْرا فَعَلَیْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّه ِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِیمٌ »(5) . وموقف عمّار المذکور عُرف بعد ذلک بالتّقیّة . وهذا الاصطلاح مأخوذ من الآیة الثّامنة والعشرین من سورة آل عمران : « إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً » .

ولم یقتصر هذا الموقف علی عمّار وحده بل اتّخذه جمع من المسلمین أیضا . ونصّ ابن الجوزیّ علی أنّ المسلمین کانوا یُخفون إیمانهم إلاّ من ذهب منهم إلی الحبشة(6) .

ص: 454


1- أنساب الأشراف 1 : 197 ؛ وانظر : شرح نهج البلاغة ، ابن أبی الحدید 13 : 255 .
2- المصنّف ، ابن أبی شیبة 7 : 347 .
3- أنساب الأشراف 1 : 158 . وکذلک خبّاب بن الأرتّ ، انظر : أنساب الأشراف 1 : 177 ؛ سبل الهدی والرّشاد 2 : 481 .
4- أنساب الأشراف 1 : 159 ، 160 ؛ یقول : أمر رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عمّارا أن یفعل ذلک مع المشرکین لیتخلّص منهم .
5- النّحل : 106 .
6- المنتظم 2 : 374 .

وحین أسلم مصعب بن عمیر أخفی إسلامه علی أبویه وقومه ، ولمّا أُخبر أهله بإسلامه حبسوه إلی أن هاجر إلی الحبشة(1) . وتعرّض خالد بن سعید للتّعذیب أیضا حتّی هاجر إلی الحبشة(2) . وممّن کتم إسلامه فی مکّة سهیل بن بیضاء(3) ونعیم بن عبد اللّه بن أُسید(4) . وکان عبد اللّه بن سهیل بن عمرو من المهاجرین إلی الحبشة ، وبعد هجرة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم إلی المدینة جاء إلی مکّة لیذهب إلی المدینة ، فحبسه أبوه . وأظهر الارتداد ، وکان یقسو علی المسلمین ویعنف بهم ، إلی أن ذهب معهم إلی غزوة بدر ، وعندما تقابل الجیشان لحق بالمسلمین قبل نشوب القتال ، فغضب علیه أبوه بشدّة(5) . وأُسر سهل بن بیضاء أیضا وکان قد شهد بدرا مع المشرکین مکرَها . وشهد عبد اللّه ابن مسعود علی أنّه رآه یصلّی فی مکّة . من هنا استُثنی من دفع الفدیة(6) .

وکان سجن المسلمین من أسالیب المشرکین الشّائعة فی تعاملهم مع المسلمین . علما أنّه لم تکن فی مکّة حکومة فیکون لها سجن عامّ . لذا کان الشّخص یُسجَن فی مکانٍ من بیته بواسطة أبیه أو قومه . وکان أبو جندل الابن الآخر لسهیل بن عمرو سجینا عند أبیه ، واستطاع أن یتخلّص من قیده ویأتی إلی النّبی صلی الله علیه و آله وسلم فی إرهاصات صلح الحدیبیّة ، ولکن لمّا انعقد الصّلح (السّنة السّادسة للهجرة) أُعید إلی مکّة(7) . ومزیّة الحبس من منظار المشرکین أنّ من یُسلم من القبیلة فی الوقت الّذی یسلم فیه من القتل لا یستطیع الذّهاب عند النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أیضا . والمسلمون الّذین عادوا من الحبشة تعرّضوا للسّجن نوعا ما(8) . وسبق أن ذکرنا أنّ البعض قد ارتدّ عن الدّین

ص: 455


1- الطّبقات الکبری 3 : 116 .
2- نفسه 4 : 95 .
3- نفسه 4 : 213 .
4- نفسه 4 : 138 .
5- أنساب الأشراف 1 : 219 ، 220 .
6- أنساب الأشراف 1 : 225 .
7- نفسه 1 : 220 .
8- نفسه 1 : 215 . وفیه نموذجان : أحدهما هشام أخو عمرو بن العاص ، الّذی کان سجینا حتّی بعد موت أبیه . وتمکّن من اللحاق بالنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بعد غزوة الخندق . وعبّر عنه البلاذریّ فی ص197 أنّه أحد الأشراف الّذین أسلموا ثمّ ارتدّوا .

الجدید بسبب ما لاقاه من الأذی . وذکر الکلبیّ عددا من أشراف مکّة الّذین أسلموا ثمّ ارتدّوا . وفیهم سلمة بن هشام ، والولید بن الولید بن المغیرة(1) . وکان ابن عبّاس یری ذلک التّعذیب علی درجةٍ لا مناص معها من ارتداد البعض(2) . وذُکر عیّاش بن أبی ربیعة فی عداد مَنْ فُتنوا وارتدّوا عن دینهم(3) . وذهب المقریزیّ إلی أنّ عدد الّذین ارتدّوا عن الإسلام خمسة ، وهم أبو قیس بن المغیرة ، وأبو قیس بن فاکه بن المغیرة ،

والعاص بن منبّه ، والحارث بن زمعة ، والولید بن المغیرة(4) .

ویستشفّ ممّا حدث فی تلک السّنین أنّ مقاومة المسلمین کانت بحدٍّ ضمن بقاء الإسلام فی مکّة . ومن أمثلة ضغوط المشرکین أنّ العاص بن وائل لم یدفع دَینا علیه إلاّ أن یرجع الدّائن عن الإسلام ، لکنّ الدّائن لم یفعل(5) . وذکر المؤرّخون أنّ آیةً نزلت فی وصف المؤمنین الصّامدین وهی قوله تعالی : « وَالَّذِینَ هَاجَرُوا فِی اللّه ِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُم فِی الدُّنْیَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَکْبَرُ لَوْ کَانُوا یَعْلَمُونَ * (من المحتمل أنّ المقصود هو الهجرة إلی الحبشة لأنّ سورة النّحل مکّیّة) الَّذِینَ صَبَرُوا وَعَلَی رَبِّهِمْ یَتَوَکَّلُونَ »(6) . وذهب الطّبرسیّ إلی أنّ الآیة المذکورة نزلت فی بلال ، وخبّاب ،

ص: 456


1- أنساب الأشراف 1 : 197 .
2- نفسه 1 : 197 .
3- مجمع البیان 7 : 272 نقلاً عن الکلبیّ ؛ انظر : أنساب الأشراف 1 : 220 ؛ قیل : إنّ الآیة العاشرة من سورة العنکبوت نزلت فیه .
4- إمتاع الأسماع 1 : 20 . یقول المصحّح فی الهامش : وصحیحه ما جاء فی سیرة ابن هشام انّه علیّ بن أُمیّة بن خلف .
5- دلائل النّبوّة 2 : 280 ، 281 ؛ صحیح البخاریّ 3 : 157 ، 158
6- النّحل 41 ، 42 ؛ وانظر : أنساب الأشراف 1 : 158 ، 159 . ویحوم حولها الشّکّ فی أنّ قسما منها مکّیّ ، وقسما آخر مدنیّ .

وصهیب ، وعمّار . وعندما کان عمر یعطی أحدا من هؤلاء المهاجرین عطاءً یقول : خذ هذا ما وعدک اللّه فی الدّنیا ...(1) .

وکان تهدید المشرکین الجادّ سببا فی تفکیر النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بحیلة أخری لإنقاذ المؤمنین وإیمانهم ، فکانت الهجرة إلی الحبشة .

الهجرة إلی الحبشة

اشارة

یطرح عدد من القضایا حول هجرة طائفةٍ من المسلمین إلی الحبشة . وقبل کلّ موضوع ینبغی أن نعلم بأنّ المؤرّخین أجمعین سمّوا هذه الحرکة هجرةً . والمنطلق فی ذلک هو أنّ القرآن الکریم ذکرها بهذا الاسم أیضا فی الآیة الحادیة والأربعین من سورة النّحل المکّیّة المشار إلیها سابقا ، وکذلک سمّاها النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم .

1 - سبب الهجرة

حین تحدّث جعفر بن أبی طالب أمام النّجاشیّ ذکر أنّ سبب الهجرة هو ضغط المشرکین علی المسلمین لیردّوهم عن دینهم(2) . یقول الزّهریّ : (لمّا کثر المسلمون وظهر الإیمان وتُحُدّث به ثار ناس کثیر من المشرکین من کفّار قریش بمن آمن من قبائلهم فعذّبوهم وسجنوهم وأرادوا فتنتهم عن دینهم . فقال لهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : «تفرّقوا فی الأرض» فقالوا : أین نذهب یا رسول اللّه ؟ قال : «هاهنا» وأشار إلی الحبشة ... فهاجر ناس ذوو عدد من المسلمین منهم من هاجر معه بأهله ، ومنهم من

ص: 457


1- مجمع البیان 5 : 361 .
2- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 336 . وکان من المسلمین من عانی من تعذیب المشرکین حتّی هاجروا ، انظر : الطّبقات الکبری 4 : 123 .

هاجر بنفسه ، حتّی قدموا أرض الحبشة)(1) . ونقل رواة السّیرة هذه النّقطة أیضا وأکّدوا أنّ السّبب الأصلیّ للهجرة إلی الحبشة إنقاذ المسلمین من أذی المشرکین والمحافظة علی إیمانهم . وبرّر عروة بن الزبیر ضرورة هذه الهجرة من خلال الإشارة إلی ارتداد بعض المسلمین فی أجواء التّعذیب والاضطهاد(2) . وکلام ابن إسحاق هو أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم کان مصونا من أذی المشرکین بلطف اللّه تعالی ودعم عمّه ، بید أنّ أصحابه کانوا فی ورطةٍ ولم یقدر أن یدافع عنهم ، لذا أمرهم بالهجرة إلی الحبشة . فذهبوا إلیها خوفَ الفتنة - الرجوع إلی الصّنمیّة - وفرارا إلی اللّه تعالی من أجل حفظ دینهم ، فکانت هذه الهجرة أوّل هجرة فی الإسلام(3) . وقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : اللهمّ اقبل هجرة أصحابی ولا ترجعهم إلی جاهلیّتهم(4) .

ویبدو متعذّرا أنّ نخال لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم هدفا آخر من الهجرة فی تلک الظّروف . لکنّا نستطیع الإشارة إلی موضوع یرتبط بوقائع مکّة وهو أنّ استمرار هذه الوقائع ووجود المسلمین فیها یمکن أن یؤدّیا إلی اصطدام المسلمین بالمشرکین . وهذا أمر کان یتوقّاه النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . فخروج أکثر من ثمانین مسلما من مکّة یخفّف من حدّة هذا التّوتّر(5) . مضافا إلی أنّ قریشا تشعر بخطرٍ أقلّ فی الظّروف الجدیدة . وصحیح أنّ ذهاب المهاجرین ینطوی علی امتهان لهم ، بید أنّ غیاب هذا العدد من المسلمین یقلّص من شدّة حسّاسیّتهم ، فیتعاملوا مع عدد أقلّ من المسلمین .

ص: 458


1- الطّبقات الکبری 1 : 204 ؛ ووردت الصّورة التّامة لکلام الزّهریّ المأثور عن أمّ سلمة ، وهی نفسها من المهاجرین ، فی دلائل النّبوّة للبیهقیّ 2 : 301 ؛ وانظر : عیون الأثر 1 : 209 .
2- مغازی عروة بن الزّبیر : 104 ؛ الدّرر : 21 .
3- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 320 ؛ سبل الهدی والرّشاد 2 : 485 .
4- أنساب الأشراف 1 : 222 .
5- جاء فی خلاصة (سیرة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم) ، ص69 ، 70 : لمّا کان السّیّد علیه السلام یری الصّحابة یعانون من عذاب الکافرین ، ولم تنزل آیة القتال بعد ، أذن لهم بالتّوجّه إلی الحبشة .

وتمثّل الموضوع الآخر فی أنّ الإسلام کان مهدّدا فی مکّة . من هنا کان محتملاً أن یتعرّض المجتمع الإیمانیّ الصّغیر إلی ضغطٍ شدید یمارسه المشرکون ضدّهم فیفضی إلی فنائهم وإبادتهم ألبتة . فکان إشخاص جمع من المسلمین إلی بیئة نائیة ، وفیهم مشاهیر کجعفر بن أبی طالب ، وعثمان بن مظعون ، خطوة وقائیّة لصدّ هذا الخطر المحتمَل. علما أنّ مثل هذه الفکرة لم ترد فی النّصوص التّاریخیّة ، لکنّ هناک دلیلاً قویّا علی صحّتها . وعندما هاجر المسلمون مع نبیّهم صلی الله علیه و آله وسلم إلی المدینة ، کان عدد من مهاجری الحبشة ، بخاصّة قائدهم جعفر ، لم یزالوا فی الحبشة . وإنّما أمرهم النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أن یعودوا إلی المدینة بعد صلح الحدیبیّة حین حصل الإسلام علی ضمان قاطع لحفظ کیانه ، فی حین أنّ المدینة کانت قبل ذلک بحاجة ماسّة إلی طاقة بشریّة . من جهة أُخری ینبغی التنبیه علی أنّ جمیع المهاجرین لم یکونوا فی عداد المستضعفین فیستطیع المشرکون إیذاءَهم . ومثال ذلک جعفر نفسه إذ کان فی کنف أبی طالب . وثمّة نماذج أخری نحو الزّبیر ، وعثمان ، وعبد الرحمن بن عوف(1) . من هنا فإنّ إشخاصهم لا یمکن أن یکون للخلاص من أذی المشرکین فحسب ، وإن کان الذّهاب إلی مکان طلقٍ بعیدٍ عن الذّلّ الّذی عانوا منه فی مکّة یروقهم کثیرا . والتخلّص من الظّلم والذّلّ أساسا لا بدّ أن یُعَدّ أحد الأدلّة الأصلیّة علی تیک الهجرة . وأشار سبحانه وتعالی فی سورة النّحل إلی هجرة هی هجرة الحبشة لا محالة بسبب مکّیّة السّورة المذکورة . قال تعالی : « وَالَّذِینَ هَاجَرُوا فِی اللّه ِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُم فِی الدُّنْیَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَکْبَرُ لَوْ کَانُوا یَعْلَمُونَ »(2) . وأنشد عبد اللّه بن الحارث وهو أحد المهاجرین شعرا فی هذا المجال

ص: 459


1- ذهب القاضی عبد الجبّار إلی أنّ ذهاب عثمان ، والزّبیر ، وجعفر کان بسبب الظّروف العصیبة فی مکّة . تثبیت دلائل النّبوّة : 350 .
2- النّحل : 41 . وتحدّثت الآیة 110 عن الهجرة والجهاد . ومن المحتمل أنّها هجرة المدینة . وهذا لا ینسجم مع مکّیّة السّورة إلاّ أن یکون قسما منها أو الآیة المذکورة مدنیّا . وثمّة أقوال تذهب إلی مدنیّة قسم من الآیات . انظر : مجمع البیان 6 : 347 .

قال فیه :

کلّ امرئٍ من عباد اللّه مضطهَدٌ * ببطنِ مکّة مقهورٍ ومفتونِ

إنّا وجدنا بلاد اللّه ِ واسعةً * تُنجی من الذّلِ والمخزاة والهونِ(1)

والتأکید أنّ بعث النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم تلک الجماعة للتبلیغ کسببٍ للهجرة لا مجال له هنا ، بل یمکن أن یمثّل نتیجةً للهجرة فحسب . والحریّ بالعلم أنّ الحبشة لم تجرّب الإسلام لقرون ، وما هم إلاّ التجّار المسلمون الّذین نشروا الإسلام فیها إلی حدٍّ ما فی القرون اللاحقة .

2 - تاریخ الهجرة

وترتبط هذه القضیّة - إلی حدٍّ ما - بعدد المرّات التی کانت فیها الهجرة وزمانها ، فکم کان عددها ؟ ومتی کان کلّ منها ؟ والمعلومات التّاریخیّة الّتی تبنّاها المؤرّخون المتأخّرون نسبیّا تُنبئ أنّ الهجرة إلی الحبشة کانت مرّتین ، الأولی منهما فی رجب من السّنة الخامسة للبعثة ، وهاجر فیها قرابة اثنی عشر إلی سبعة عشر رجلاً وامرأةً علی اختلاف الأخبار . وجاء فی هذا الخبر أنّهم لبثوا هناک شهر شعبان ورمضان إلی أن حدثت واقعة السّجدة أو ما تُسمّی بحادثة الغرانیق (یرجی الالتفات إلی تتمّة الحدیث) ، فعادوا حین سمعوا إسلام المکیّین . لکنّهم لمّا لحظوا خللاً فی إسلام أشراف مکّة دخلوا المدینة علی کُرهٍ ، وبعد مضیّ مدّة لم تُحدّد علی وجه الدقّة ، حدثت الهجرة

ص: 460


1- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 331 ؛ السّیرة النّبویّة ، الذّهبیّ : 185 . وذهب فی شعر آخر له إلی أنّ هذه الخطوة تمثّل نوعا من الإبعاد القسریّ الّذی مارسته قریش ، وذکر الحبشة کمحلّ یتسنّی فیه عبادة ربّ محمّد صلی الله علیه و آله وسلم ببالٍ رخیّ .

الثّانیة . وکان عدد المهاجرین فیها أکثر من ثمانین ، وفیهم جعفر(1) . وهذا الخبر ذکره الواقدیّ ونقله ابن سعد عنه(2) ، وتبنّاه عروة بن الزّبیر أیضا(3) . والمشکلة الرئیسة فی هذا الخبر حکایة الغرانیق الّتی قیل إنّها کانت السّبب فی رجوع المهاجرین الأُوَل إلی مکّة . وسنتحدّث عن هذه الحکایة مجملاً .

تحدّث ابن إسحاق فی أحد عناوین کتابه عن «الهجرة الأُولی» . وتناول فی ذیل هذا العنوان - الّذی لا یُعلَم علی وجه الدّقّة هل هو منه أو من ابن هشام أو من شخص آخر - الهجرة العامّة للمسلمین البالغ عددهم ثمانین . وذهب إلی أنّهم جمیعا کانوا من الّذین هاجروا إلی الحبشة فی الهجرة الأولی . مع هذا تابع کلامه قائلاً : [ ثمّ خرج جعفر بن أبی طالب رضی اللّه عنه ، وتتابع المسلمون حتّی اجتمعوا بأرض الحبشة (4)] . وذکر أسماءهم ثمّ قال : إذا کان عمّار بن یاسر معهم - وفی ذلک شکّ - فهم ثمانیة وثمانون . وبعد ذلک أشار إلی قدوم وفد قریش لإعادة المهاجرین ، وحکومة النّجاشیّ فی الحبشة وخروج الأحباش علیه . ثمّ ذکر إسلام عمر ، وخبر الصّحیفة ، وذهاب بنی هاشم إلی الشّعب ، وأعقبه بخبر رجوع عدد من المهاجرین إلی مکّة ، وعدّد أسماءهم ، ونصّ علی أنّ ثلاثة وثلاثین منهم عادوا إلی مکّة(5) . وأورد ابن إسحاق هذا الخبر بعد خبر ذهاب بنی هاشم إلی الشِّعب ، وقبل نقله الخبر المرتبط بنقض عهد المشرکین . ولو کان [ مع احتمال تحریف ابن هشام ] قد راعی التّرتیب التّاریخیّ للبحث لرفض الخبر المنقول عن طریق الواقدیّ ، الشّائع بین المتأخّرین . فهو لا یذکر حکایة الغرانیق الّتی نقلها جمیع المؤرّخین المتأخّرین سببا لعودة

ص: 461


1- حول هذا الخبر انظر : سبل الهدی والرّشاد 2 : 487 - 489 ؛ المنتظم 2 : 374 ، 375 .
2- الطّبقات الکبری 1 : 203 - 208
3- مغازی عروة بن الزبیر : 105 - 111 .
4- انظر : السّیرة النّبویّة 1 : 321 ، 322 .
5- نفسه 1 : 369 .

المهاجرین الأُوَل(1) . وموضوع الرجوع الّذی ذکره هو رجوع ثلاثة وثلاثین مهاجرا ، ولا صلة له بما قاله الآخرون فی المرحلة الأولی للهجرة (إذ کان المهاجرون فیها خمسة عشر کحدّ أعلی) إنّ عددا منهم قد رجع ، ثمّ کانت المرحلة الثّانیة للهجرة . من هنا یمکن أن نقول إنّ ابن إسحاق لا یذهب إلی وجود هجرتین کما یذهب إلیه الآخرون . وثمّة نقطة واحدة یتسنّی لنا أن نذکرها وهی أنّ أوّل مجموعة خرجت من مکّة کانت اثنی عشر أو سبعة عشر شخصا . وبعد ذلک خرج المسلمون منها علی التّوالی فی مجموعات صغیرة . وکانت هجرة جعفر بعد ذهاب المجموعة الأولی ، ومن المحتمل احتمالاً قویّا أنّ الفترة لم تطل بینهما . وذکر ابن إسحاق هذا الخروج التّدریجیّ(2) . مع هذا کلّه ینبغی ألاّ نخال هذا التصوّر غالطا ، وهو أنّ المدّة قد طالت بعد خروج المجموعة الأُولی حتّی هاجرت المجموعة أو المجموعات الأخری بالتناوب والتّدریج ، إذ تحدّثت جمیع المصادر بما فیها سیرة ابن إسحاق - ولو مجملاً - عن هاتین المرحلتین

من الهجرة(3) . ویشیر البلاذریّ فی ذیل أسماء المهاجرین إلی هجرة شخص معهود فی

ص: 462


1- لم ترد الحکایة المذکورة فی سیرة ابن هشام إلاّ أنّ البیهقیّ نقلها فی دلائل النّبوّة ج2 ، ص296 ، والطّبریّ (ج2 ، ص328) عن ابن إسحاق . ومن المحتمل أنّ ابن هشام قد حذفها . ولعلّ ابن إسحاق نفسه نقلها فی إملاءٍ لکتابه ، ولم ینقلها فی إملاءٍ آخر . وهذا یعود إلی ما قاله فی بنیة البحث عن الهجرة ورجوع ثلاثة وثلاثین مهاجرا - لا کما رآه غیره فی الغرانیق کسبب لرجوع الطائفة الأولی وهجرة الطّائفة الثّانیة - ویستبین أنّ أصل الخبر غیر موجود فی النّصّ الّذی وصل إلی ابن هشام من ابن إسحاق . وذکره الطّبریّ فی تاریخه ج2 ، ص338 - 341 نقلاً عن ابن إسحاق . وفیه أنّ الغرانیق لیست سببا لرجوع الطّائفة الّتی کانت هاجرت فی المرحلة الأُولی ، بل کانت قد طُرحت بعد الخروج من الشِّعب .
2- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 323 ؛ تاریخ الطّبریّ 2 : 330 ، 331 . ویبدو أنّ خروج هؤلاء الأشخاص کان تدریجیّا لئلاّ تعلم قریش بهم ؛ انظر : فقه السّیرة ، الغزالیّ : 115 .
3- حول سبب هذا الإجمال انظر : سیرة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، زریاب : 155 ، 156 .

المرّة الأُولی أو الثّانیة(1) . وورد النّصّ علی هجرة بعض الصّحابة فی الهجرتین أیضا(2) . وحینئذٍ یکون القصد من الهجرة الثّانیة - فی الأقلّ - هو العام أو العامین أو حتّی الأعوام الثلاثة اللاحقة . ویشرح البیهقیّ واقعة الهجرة بوصفها الهجرة الثّانیة إلی الحبشة نقلاً عن الواقدیّ وعلی لسان عبد اللّه بن مسعود(3). ویقول عبد اللّه بن مسعود فی هذا الخبر : کان المهاجرون ثمانین ، وکان معنا جعفر بن أبی طالب . وهذا الخبر کخبرٍ لا یتناول الهجرة الأولی والثّانیة بید أنّ الواقدیّ ذکره بوصفه المرحلة الثّانیة للهجرة . والمشکلة الأُخری فی تاریخ الهجرة إلی الحبشة کلام موسی بن عقبة الّذی کان یری أنّ زمانها وقت دخول النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم الشِّعب مع آل عبد المطّلب(4) . ویقول ابن عبد البرّ أیضا : لمّا دخل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم الشِّعب أمر المؤمنین الّذین کانوا بمکّة أن یهاجروا إلی الحبشة(5) . مع هذا ذهب المؤرّخون إلی أنّ السّنة الخامسة للبعثة هی سنة الهجرة إلی الحبشة . وهل یمکن أن تتمّ المرحلة الثّانیة من الهجرة فی الأیّام الأُولی من دخول النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم الشِّعب بعد مضیّ مدّة من ذهاب مجموعة تتراوح بین عشرة إلی خمسة عشر شخصا ؟ ومن الضّروریّ أن نذکّر بأنّ المشرکین کتبوا الصّحیفة وفرضوا الحصار علی بنی هاشم فی الشِّعب بعد أن رأوا أمن المسلمین وطمأنینتهم فی الحبشة .

3 - اختیار الحبشة

لماذا أمر النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم المسلمین بالهجرة إلی الحبشة لا إلی مکان آخر ؟ والجواب

نجده فی کلام منسوب إلی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، جاء فیه أنّ فی الحبشة ملکا لا یظلم أحدا ، وهی أرض صدق(6) . وذکر المؤرّخون أنّ الحبشة کانت من المراکز الّتی تقصدها

ص: 463


1- أنساب الأشراف 1 : 198 - 227 .
2- الطّبقات الکبری 3 : 84 .
3- دلائل النّبوّة 2 : 298 .
4- نفسه 2 : 285 .
5- الدّرر : 27 .
6- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 321 .

قریش للتّجارة(1) . ومن الطّبیعیّ أنّها کانت بلدةً معروفةً وتحظی بموقع ممتاز قیاسا بالمناطق الأخری وحکّامها . وثبت هذا عملیّا ؛ إذ إنّ النّجاشیّ رفض إعادة المهاجرین . وتقع الحبشة (اثیوبیا الحالیّة) علی الطرف الآخر من ساحل البحر الأحمر قبالة الیمن . وکانت السّفن التجاریّة تقطع هذا الطّریق ، فدخلها المسلمون بواسطتها . وکلمة (الحبش) مأخوذة من اسم أمّة عرفت أرضها باسمها . ولم تتواصل فتوحات المسلمین فی أفریقیة فتبلغ هذه الحدود . وعلی الرّغم من نفوذ الإسلام الشّامل فی أطرافها ظلّت متشدّدةً فی نصرانیّتها(2) . ویری السّمعانیّ أنّ المنسوبین إلیها أحباش ، ویذکرهم مع طوائف أخری کالزّنج ، والنّوبة ، وغیرهم . ویذهب إلی أنّ بلالاً کان منهم(3) . ونحن نعلم أنّ الأحابیش سیطروا علی الیمن ردحا من الزّمن . فلا جرم أنّ منهم من بقی فیها . ومهما کان فالحبشة کانت معروفة عند المسلمین وقریش . وما کان مهمّا للمسلمین هو أنّهم لا یُخرجَون منها . ولم تکن هذه المزیّة للشّام أو الطّائف أو غیرهما من المناطق الّتی یمکن أن تستجیب لقریش وتلبّی طلبها . وعاش المسلمون فی الحبشة متنعّمین بخفض العیش . ولم ترد فی المعلومات التّاریخیّة أیّ إشارةٍ إلی إیذاء

مسلم من المسلمین المهاجرین . بل بالعکس حظوا بدعم مطلق من النّجاشیّ علی ما ذکر رواة أخبار الهجرة إلی الحبشة بخاصّة من کان متفاعلاً مع الحادثة . ولا جرم أنّ المسلمین عاشوا حیاة دَعةٍ فی کنف النّجاشیّ(4) . وحول عملهم فیها لدینا خبر

ص: 464


1- المنتظم 1 : 374 .
2- انظر : معجم معالم الجغرافیة فی السّیرة النّبویّة : 91 .
3- الأنساب 2 : 167 .
4- دلائل النّبوّة ، البیهقیّ 2 : 301 [ فنزلنا خیر دارٍ والی خیر جارٍ آمنّا علی دیننا ولم نخش منه ظلما ] . وانظر : سیرة ابن هشام 1 : 334 ؛ سبل الهدی والرّشاد 2 : 517 .

واحد فحسب ، وفیه أنّ عبد اللّه بن مسعود وجماعة آخرین کانوا یتعیّشون . «وکان لهم سوق یبیعون ویشترون»(1) .

4 - مبادرة قریش وإخفاقها

وقریش ، إذ حارت حیال هذه الخطوة ، وشعرت بالخجل أمام الأحباش - علی ما نحتمل بقوّة - عزمت علی استردادهم . ومن المحتمل أنّ قریشا کانت تخشی من نفوذ الإسلام فی الحبشة أیضا . وجاء فی قسم من الرّوایات التّاریخیّة أنّ عمرو بن العاص ، وعبد اللّه بن أبی ربیعة ذهبا إلی الحبشة موفَدَین من قریش ، وورد فی أخبار أخری أنّ عمرو بن العاص ، وعمارة بن الولید تولّیا هذه المهمّة . وذکر ابن سیّد النّاس فی الجمع بین هذین القولین أنّ قریشا أوفدت رجالها مرّتین ، إحداهما بعد هجرتهم إلی الحبشة ، والأُخری بعد غزوة بدر(2) . والبلاذریّ الّذی وقف علی تناقض الخبرین أکّد ذهاب عبد اللّه بن أبیربیعة مع عمرو بن العاص، وأضاف أنّ عمروبن العاص وعمارة ابن الولید ذهبا بعد ذلک إلی الحبشة للتّجارة ، وحدث بینهما نزاع . ومن الحریّ بالقول أنّ الجانب القصصیّ لهذا الخبر یغلب علی جانبه الواقعیّ(3) . ودخل بعض هذه القصص، کعلاقة عمارة بامرأة النّجاشیّ فی القضایا المرتبطة بإرجاع مهاجری الحبشة .

علی أیّ حال ، لم یثمر سفر عمرو بن العاص وعبد اللّه بن أبی ربیعة مع هدایاهم الکثیرة إلی الحبشة . ویعود ذلک إلی وعی جعفر بن أبی طالب وشجاعته ، وکان

ص: 465


1- دلائل النّبوّة ، البیهقیّ 2 : 298 .
2- عیون الأثر 1 : 209 ؛ وانظر : مکاتیب الرّسول 1 : 126 ؛ ونقل فی سیرة الحلبیّ 2 : 212 بعد الهزیمة فی بدر فکّرت قریش بالثأر من المسلمین ، وبإیفادها ممثّلین عنها إلی الحبشة أرادت عودتهم .
3- أنساب الأشراف 1 : 232 ، 233 ؛ وذکر الیعقوبیّ فی تاریخه 2 : 29 ذهاب عمارة بن الولید مع عمرو بن العاص .

النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم قد أمّره علی المهاجرین(1) . وتحدّث جعفر فی کلامه أمام النّجاشیّ عن سابقة الفسق والفجور والظّلم الموجود فی المجتمع الجاهلیّ ، وذکر دور الإسلام فی إخراجهم من عبادة الأصنام ، والدّعوة إلی التّوحید ، والأمر بالصّدق ، والأمانة ، وصلة الأرحام ، ورعایة حقوق الجار ، وحقن الدّماء ، واجتناب الفواحش وأکل مال الیتیم . ثمّ تطرّق إلی دور قریش فی إکراههم علی ترک الإسلام ، وأضاف قائلاً : لمّا جاروا علینا وضیّقوا علینا الخناق لجأنا إلی بلادک لنکون فی جوارک . ونرجو ألاّ نظلم عندک . وحین تحدّث وفد قریش عن عقیدة المسلمین فی المسیح وأمّه مریم لتحریض النّجاشیّ ضدّهم ، تلا آیات من سورة مریم بطلب من النّجاشیّ نفسه . وهذه الآیات الّتی اختارها بشأن مریم وتزکیتها من تهم الیهود ترکت تأثیرا عمیقا فی نفس النّجاشیّ . وأعاد عمرو بن العاص کلامه حول عقیدة المسلمین فی عیسی علیه السلام وأنّهم یقولون : هو عبد اللّه . فقال جعفر هنا بلا وجل : «هو عبد اللّه ورسوله وروحه وکلمته ألقاها إلی مریم العذراء البتول» . فسُرّ النّجاشیّ لهذا الکلام وأیّده وقال : هذا هو الاعتقاد الصّحیح .

وذکر المؤرّخون المسلمون هذه القضیّة کقضیّة سبّبت للنّجاشیّ مصاعب معیّنة إذ یبدو أنّه کان یعانی من مشکلات سیاسیّة أخری فی الحبشة ، وقد أُشیر إلیها فی روایة أمّ سلمة ، وفیها أنّ المهاجرین کانوا یتمنّون نصر النّجاشیّ علی مناوئیه(2) . وهذه الأخبار مفصّلة . ولمّا لم تکن لها صلة بکتابنا صدفنا عن ذکرها . ویضاف إلیه أنّنا

ص: 466


1- یقول الواقدیّ : رووا لنا أنّ الأمیر علی مهاجری الحبشة کان جعفر بن أبی طالب . الطّبقات الکبری 4 : 34 .
2- انظر : سبل الهدی والرّشاد 2 : 519 - 524 [ جمیع الأخبار فی هذه الصّفحات قد عُرضت متراکبةً ] وانظر : سیرة ابن هشام 1 : 334 - 338 . وأضاف الیعقوبیّ 2 : 29 أنّ وفد قریش قال للنّجاشیّ : إنّ هؤلاء یمکن أن یقضوا علی دینک .

لا یتسنّی لنا إبداء رأی جازم فی تلک الحوادث بمحض وجود هذه الرّوایات .

إنّ ما ینبغی أن نقوله فی النّجاشیّ هو أنّ هذا اللقب کان یُطلق علی ملوک الحبشة(1) . وذکرت بعض المصادر النّجاشیّ الأوّل والنّجاشیّ الثّانی . والنّجاشیّ الأوّل هو الّذی دعم المهاجرین ، وجاء فی بعض المصادر الإسلامیّة أنّه أسلم . ومات قبل فتح مکّة وصلّی علیه النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وهو فی المدینة . وتولّی النّجاشیّ الثّانی الأمر بعده ، وهو الّذی خرق کتاب النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم حین تسلّمه(2) وکان الکتاب الأوّل الّذی بعثه النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم یشتمل علی تأییده صلی الله علیه و آله وسلم أنّ عیسی روح اللّه ، وتحدّث فیه عن نبوّته، وقال مواصلاً کلامه فیه : «وقد بعثتُ إلیکم ابن عمّی جعفرا ومعه نفر من المسلمین ؛ فإذا جاءوک فأقر ودع التجبّر وإنّی أدعوک وجنودک إلی اللّه عزّ وجلّ وقد بلغتُ ونصحتُ ...»(3) . ویُستشفّ من هذا الکتاب أنّه کُتب فی نفس السّنة الّتی ذهب فیها المهاجرون إلی الحبشة ، مع أنّ الّذی یتبیّن من نقل بعض کتّاب السِّیَر أنّه کُتب أثناء مراسلته صلی الله علیه و آله وسلم ملوک العالم . وما نعمله هو أنّ أبا طالب حین سمع بذهاب وفد قریش إلی الحبشة أنشد شعرا فی مدح النّجاشیّ لإیوائه المهاجرین(4) .

ص: 467


1- نقل البیهقیّ 2 : 310 عن ابن إسحاق أنّ اسم النّجاشیّ کان مصحمة ، وعربیّة عطیّة . وأضاف البیهقیّ أنّ أصحم أصحّ إذ جاء فی حدیث جابر أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم صلّی علی أصحمة النّجاشیّ ؛ وفی تاریخ الیعقوبیّ (2 : 30) أصحبة أیضا .
2- انظر : مکاتیب الرّسول 1 : 123 ، 124 .
3- نفسه 1 : 121 نقلاً عن أعلام الوری : 30 ؛ البدایة والنّهایة 3 : 83 ، ومصادر أُخری . وانظر : دلائل النّبوّة للبیهقیّ 2 : 309 .
4- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 333 ، 334 تعلَّم ، أبیتَ اللعنَ ، أنّک ماجدٌ * کریم فلا یشقی لدیک المجانب تعلّم بأنّ اللّه زادک بسطةً * وأسباب خیر محلها بک لازب

5 - عودة المهاجرین من الحبشة

وعاد قسم من المهاجرین تدریجا . وکان رجوعهم تدریجیّا . وقدم عدد منهم مکّة ، وتوجّه عدد آخر إلی المدینة بعد هجرة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم إلیها . ولم یُلْحَظْ فی الأخبار المنقولة أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم لامَ أحدا علی رجوعه . والّذین رجعوا کانوا مقسورین علی تحمّل الظّروف الصّعبة لمدینة مکّة . وإذا کانوا هم الرّاغبین فی الرّجوع ، فلا حیلة لمن أراد . ومع هذا لم یعترض النّبی صلی الله علیه و آله وسلم علی عودتهم إلی المدینة أیضا ، إلاّ ما دلّ علیه ظاهر التّاریخ من أنّ المهاجرین الباقین کانوا ینتظرون أمره صلی الله علیه و آله وسلم بالرّجوع . وفی السّنة السّابعة للهجرة أمرهم بالعودة إلی المدینة . یقول الواقدیّ :

«وکان عدّة من خرج فی هذه الهجرة من الرّجال ثلاثة وثمانین رجلاً ، ومن النسّاء إحدی عشرة امرأة قرشیّة ، وسبع غرائب . فأقام المهاجرون بأرض الحبشة عند النّجاشیّ بأحسن جوار . فلمّا سمعوا بمهاجَر رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم إلی المدینة رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً ، ومن النساء ثمانی نسوة ، فمات منهم رجلان بمکّة ، وحُبس بمکّة سبعة نفر ، وشهد بدرا منهم أربعة وعشرون رجلاً . فلمّا کان شهر ربیع الأوّل سنة سبع من هجرة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم إلی المدینة، کتب رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم إلی النّجاشیّ کتابا یدعوه فیه إلی الإسلام ... وکتب إلیه أن یبعث إلیه من بقی عنده من أصحابه ویحملهم»(1) .

بید أنّ رجوع المهاجرین لم ینحصر فی الفترة الّتی هاجر فیها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم إلی المدینة . وتحدّث المؤرّخون الّذین ذهبوا إلی أنّ الهجرة إلی الحبشة تمّت فی مرحلتین عن رجوع عدد من مهاجری المرحلة الأولی . وإذا کان ذلک الخبر غیر صحیحٍ نوعا ما ، فإنّ عددا من المهاجرین رجع إلی مکّة بعد أن زادوا علی ثمانین ، وواجهوا فیها

ص: 468


1- الطّبقات الکبری 1 : 207 ، 208 .

بعض التّعقیدات أیضا . وماله أهمّیّة هنا هو معرفة الباعث علی رجوعهم إلی مکّة ، فما هو ذلک الباعث ؟

قصّة الغرانیق

قصّة الغرانیق(1)

انتشر اصطلاح «الآیات الشّیطانیّة» فی جمیع أرجاء العالم بعد قضیّة سلمان رشدی . وعلینا أن نتحدّث الآن عمّا نُقل حول الغرانیق أو الآیات الشّیطانیّة بإیجاز . وجاءت هذه القصّة فی المصادر التّاریخیّة لتوجیه سبب رجوع المهاجرین من الحبشة ، وفی المصادر التّفسیریّة عند شرح آیاتٍ من سورة النّجم ، وآیة من سورة الحجّ . وفیما یأتی روایة محمّد بن کعب القرظیّ الّتی نقلها الطبریّ عن ابن إسحاق(2) بواسطة یزید ابن زیاد عن القرظیّ باختصار : کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم حریصا علی أن یعطف المشرکین إلیه وتمنّی فی نفسه أن یأتیه من اللّه ما یقارب بینه وبین قومه ... فأنزل اللّه عزّ وجلّ « وَالنَّجْمِ إِذَا هَوی » ... فلمّا انتهی إلی قوله : « أَفَرَأَیْتُمُ اللاّتَ وَالْعُزّی * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْری » ألقی الشّیطان علی لسانه ... «تلک الغرانیق العُلی وإنّ شفاعتهنّ لتُرتضی (أو لتُرتجی)» . فلمّا سمعت قریش فرحوا ... فلمّا انتهی إلی السّجدة منها وختم

السّورة سجد فیها فسجد المسلمون والمشرکون .. فلم یبق فی المسجد مؤمن ولا کافر إلاّ سجد إلاّ الولید بن المغیرة فإنّه کان شیخا کبیرا فلم یستطع السّجود فأخذ بیده حفنة من البطحاء فسجد علیها ... وأتی جبریلُ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فقال : ... لقد تلوتَ

ص: 469


1- اسم کان یطلق علی الأصنام ، وقیل إنّ معناه «طیر الماء» . وهو طیر ذو عنق طویل کالکُرکیّ . ولمّا کان یحلّق فی السّماء ، شُبّهت به الأصنام فی العلوّ والرّفعة . انظر : السّیرة النّبویّة 1 : 325 .
2- أشرنا سابقا إلی أنّ هذا الخبر لم یرد فی سیرة ابن هشام . ومن المحتمل أنّ ابن هشام حذفه ، کما یحتمل أنّ ابن إسحاق لم یذکره عند املاء کتابه . وهذا هو الأرجح عندی ؛ إذ بلغ من الأهمّیّة أنّ ابن هشام لو کان قد حذفه لنبّه علیه .

علی النّاس ما لم آتک به عن اللّه عزّ وجلّ ... فأنزل اللّه عزّ وجلّ: « وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِکَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِیٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّی أَلْقَی الشَّیْطَانُ فِی أُمْنِیَّتِهِ فَیَنسَخُ اللّه ُ مَا یُلْقِی الشَّیْطَانُ ... » وبعد ذلک تتمّة الآیات من سورة النّجم: « إِنْ هِیَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّیْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُکُم ... » وأقبل أولئک النّفر من أصحاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم الّذین خرجوا من أرض الحبشة لما بلغهم من إسلام أهل مکّة ... حتّی إذا دنوا من مکّة بلغهم أنّ الّذی کانوا تحدّثوا به من إسلام أهل مکّة کان باطلاً فلم یدخل منهم أحد إلاّ بجوارٍ أو مستخفیا(1) .

وجاءت هذه الرّوایة فی عدد من مصادر السّیرة والتّفسیر القدیمة ، أمّا المصادر الّتی تتشدّد فی السّند فلم ترد فیها أو وردت فیها مجملاً کما فی صحیح البخاریّ وهی لا تنسجم أبدا مع هذه الحکایة المفصّلة والقصصیّة إلی حدٍّ ما . ومن البیّن أنّنا لا یمکن أن نتوفّر علی نقدها مفصّلاً ، بید أنّنا نناقشها مجملاً من عدّة وجوه(2) . فما دام الموضوع یرتبط بالقرآن نفسه ، فلا بدّ من الالتفات إلی أنّ اللّه تعالی قال فی الآیات الأولی من هذه السّورة : « وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَی * مَا ضَلَّ صَاحِبُکُمْ وَمَا غَوَی * وَمَا یَنطِقُ عَنِ الْهَوَی » فکیف یمکن أن تحدث مثل هذه الواقعة عند تتابع الآیات وهذا هو منطق الآیات ؟ یضاف إلیه أنّه ورد فی موضع آخر من القرآن الکریم قوله تعالی : « وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَیْنَا بَعْضَ الأَقَاوِیلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْیَ-مِینِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِینَ »(3) . وفی موضع آخر یخاطب الشّیطان بقوله : « إِنَّ عِبَادِی لَیْسَ لَکَ عَلَیْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَکَ مِنَ الْغَاوِینَ »(4) . وفیه : « إِنَّهُ لَیْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَی الَّذِینَ آمَنُوا وَعَلَی رَبِّهِمْ یَتَوَکَّلُونَ * إِنَّمَا

ص: 470


1- انظر : تاریخ الطّبریّ 2 : 338 - 340 .
2- بعض هذه النقود موجّهة لأشخاص یعتقدون بالإسلام وأُسسه ، وبعضها نقود مبدئیّة ، وهی مُقنعة حتّی للأشخاص الّذین لا یعتقدون بالإسلام .
3- الحاقّة : 44 - 46 .
4- الحجر : 42 .

سُلْطَانُهُ عَلَی الَّذِینَ یَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِینَ هُم بِهِ مُشْرِکُونَ »(1) . من هنا لا تثبت صحّة الواقعة المذکورة ، ویرفضها کلّ مسلم معتقد . وحول الآیة الواردة فی سورة الحجّ فیضاف إلی الإشکالات الموجودة فی تطبیقها مع الواقعة أنّ سورة الحجّ مدنیّة بالإجماع ، ولا یمکن أن تکون لها صلة بالواقعة المذکورة(2) . ومن المؤسف أنّنا ینبغی أن نقول : إنّ الکتب التّفسیریّة - الرّوائیّة فی القرن الأوّل الهجریّ کانت تنظر إلی أقلّ مشابهة لفظیّة بین الآیة والواقعة فتعدّ الآیة نازلة فی شأن الواقعة . حتّی إنّها نسیت مدنیّة الآیة ومکّیّة النّقل التّاریخیّ . ومن منظار السّند ینبغی أن ننبّه علی أنّ الرّوایة المذکورة وإنْ نقلها بعض الأخباریّین من السّنّة بید أنّنا لا نجدها فی کتبهم ذات الشّأن والاعتبار . وجدیر بالالتفات إلی أنّ آثار الأخباریّین وأُولی القصص ملیئة بالأخبار الّتی تتّسم بطابع

قصصیّ . وحول هذه القصص یجب أن ننتبه إلی أنّ الحادثة کلّما غلب علیها الطّابع القصصیّ قلّ شأنها واعتبارها وهذا الخبر المهمّ الّذی نقله الطّبریّ عن ابن إسحاق ینتهی بمحمّد بن کعب القرظیّ الّذی عُدّ من القصّاصین المعروفین الّذین کانوا یبدّلون حدیث الشّبر بالذّراع ، وکان هذا الرجل من بقایا یهود بنی قریظة (لذا عُرف بالقرظیّ) ، وهو مصدر القَصَص فی عالم الإسلام(3) . علما أنّ للحدیث طرقا أخری بلغت التّابعین نوعا ما وهی ما یُسمّی مرسلة . وینسب أحدهما إلی ابن عبّاس الّذی لا یمکن اعتبار کلامه بشأن أحداث مکّة حجّةً فی الاصطلاح العلمیّ لأنّه لم یولد

ص: 471


1- النّحل : 99 ، 100 .
2- للاطّلاع علی توضیح أکثر حول محتوی الآیة انظر : الهدی إلی دین المصطفی 1 : 133 ؛ تنزیه الأنبیاء : 107 ، 108 .
3- حول القصّاصین ومحمّد بن کعب القرظیّ انظر : قصّه خوانان در تاریخ اسلام [ القصّاصون فی التّاریخ الإسلامیّ ] : 68 ، 69 ؛ وانظر أیضا : ربیع الأبرار 2 : 843 ، 844 .

بعدُ(1) . وأشرنا فی موضع آخر إلی أنّ ابن هشام أو ابن إسحاق نفسه قد أسقط هذه الحکایة من سیرته فی إملاءٍ لها ، والیوم لا نجدها فی سیرة ابن هشام الّتی کانت تعدّ من أشهر السِّیَر منذ القدیم . ولم یذکرها ابن عبد البرّ (م 463) أیضا فی الدّرر . وهذا یدلّ علی أنّ هؤلاء ما کانوا یعرفون سندا صحیحا لها . ولا جرم أنّ هذا الخبر کما قال ابن خزیمة من موضوعات الزّنادقة(2) . وذهب القاضی عبد الجبّار إلی أنّه من موضوعات الملحدین(3) . ویقول السّهیلیّ الّذی شرح سیرة ابن هشام أیضا : «أهل الأصول یدفعون هذا الحدیث بالحجّة»(4) . ونُقل عن البیهقیّ (م 458) أیضا أنّه لم یثبت من جهة النقل(5) . ووردت فی سیرة الحلبیّ أیضا أخبار عن بعض منکریه(6) . واضطرب ابن حزم (م 456) منه بشدّة ، ویراه کذبا صرفا ، ویعجب من عقل یسع فیه هذا الحمق ، وهذا لا یجوز إلاّ علی سکران ... یهذی ویتکلّم بما لا یدری ولا یعرفه(7) . والّذین حلّلوا الطرق المتعدّدة للحدیث قدّموا فهرسا بالاختلافات الّتی تکتنف هذا الخبر(8) . ویدلّ هذا الاضطراب والتّشویش علی أنّ قسما کبیرا من الخبر وضعه القصّاصون بعد اختلاق أصله لترویج سوق أخبارهم وکتبهم .

علی أیّ حال ذهب عدد کبیر من العلماء القدامی والجدد إلی أنّ الخبر موضوع .

ص: 472


1- انظر : الهدی إلی دین المصطفی 1 : 130 ؛ وأُشیر فیه إلی ضعف سند الواقعة نقلاً عن قول النسفیّ صاحب تفسیر الخازن ؛ وانظر : الصّحیح من سیرة النّبیّ 2 : 66 ؛ وجاء عن عیّاض أنّ هذا الحدیث لم یخرجه أحد من أهل الصحّة ، انظر : الشّفاء 2 : 126 .
2- انظر : فتح القدیر للشّوکانیّ 3 : 462 .
3- تنزیه القرآن عن المطاعن : 243 .
4- انظر : سبل الهدی والرشاد 2 : 488 الهامش ؛ قصّه خوانان در تاریخ اسلام [ القصّاصون فی التاریخ الإسلامیّ ] : 68 ، 69 .
5- انظر : السّیرة النّبویّة للذّهبیّ : 187 الهامش عن دلائل النبوّة 2 : 62 .
6- السّیرة الحلبیّة 1 : 326 .
7- رسائل ابن حزم 3 : 228 .
8- انظر : الصحیح من سیرة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم 2 : 66 ، 67 ؛ الهدی إلی دین المصطفی 1 : 130 ، 131

وألّف المحدّث السّنّیّ المعاصر البانی کتابا بعنوان نصب المجانیق لنسف قصّة الغرانیق . وأفرد محمّد حسین هیکل فی کتابه حیاة محمّد صلی الله علیه و آله وسلم(1) فصلاً مشبعا حول سقم الخبر . وذکر أدلّة عدیدة فی الردّ علی المستشرق مویر الّذی ذهب إلی صحّته(2) . ومرّ بنا أنّ المرحوم البلاغیّ(3) خصّص فصلاً فی دحضه أیضا . کما أنّ مصحّح دلائل النّبوّة أورد نفس الأدلّة(4) . وذکر الدکتور زریاب خوئی أدلّة فی تفنیده أیضا(5) . ولعلّ أکثر الدراسات تفصیلاً فی هذا المجال هی دراسة المرحوم الدکتور رامیار(6) . وتوفّر الغزالیّ علی نقده فی فقه السّیرة(7) . وأکّد أنّه کیف یمکن أن یصدر مثل هذه الآیات الّتی تمزج التّوحید بالشّرک عن عاقل فضلاً عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم الّذی هو أعقل النّاس ومؤسّس مثل هذه المدرسة التّوحیدیّة . وذهب إلی أنّ هذا الخبر وأمثاله من الإسرائیلیّات . والإسرائیلیّات ثقافة نابعة من الکتب الیهودیّة والنّصرانیّة فی الإسلام . وترکت تأثیرها علی الآثار التّاریخیّة والحدیثیّة .

ویقول أُستاذنا العلاّمة جعفر مرتضی تحت عنوان «حقیقة الأمر» : (والظّاهر هو أنّ حقیقة ما جری هو ما قیل من أنّ الکفّار کانوا یکثرون اللغو واللغط حین قراءته صلی الله علیه و آله وسلم حتّی لا یسمع أحد ما یقرأ قال تعالی : « وَقَالَ الَّذِینَ کَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِیهِ لَعَلَّکُمْ تَغْلِبُونَ »(8) فحینما قرأ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم سورة النّجم ، وانتهی إلی

ص: 473


1- حیاة محمّد صلی الله علیه و آله وسلم : 172 - 182 .
2- نقل الدکتور رامیار أنّ کایتانی یعتقد بسقم الخبر ، انظر : تاریخ قرآن : 165 .
3- الهدی إلی دین المصطفی 1 : 130 - 137 .
4- دلائل النّبوّة 2 : 287 - 291 (نقل المحقّق فی الهامش قسما من أدلّة هیکل ، وکذلک فعل مصحّح مغازی عروة بن الزّبیر ، انظر : ص106 - 108 .
5- سیرة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : 162 - 166 .
6- تاریخ قرآن : 165 - 167 .
7- فقه السّیرة : 116 - 118 .
8- فصّلت : 26 .

هذا المورد ، قال المشرکون تلک الغرانیق العُلی ... والدّلیل علی هذا الخبر ما قاله الکلبیّ فی الأصنام أنّ عرب الجاهلیّة کانوا یقولون مثل هذه الکلمات فی مدح أصنامهم(1) .

ومهما کانت القصّة فهی لا تنسجم وعصمة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أساسا . ومن المؤسف أنّ مصادر الأخباریّة الحشویّة تضمّ مثل هذه الأخبار غیر قلیلةٍ ، ولا یُعلم متی یتمّ تهذیبها علی حدّ تعبیر الغزالیّ(2) . أمّا بشأن السبب الّذی دعا إلی رجوع عدد من مهاجری الحبشة إلی مکّة ، فینبغی أن نقول : لعلّ بثّ المشرکین الإشاعة - الّتی شکّلت أساس هذا الخبر فیما بعد - خدعة لإعادة المسلمین المهاجرین . وکانت قریش تستغلّ کلّ ما یمکن لإعادتهم .

ومن الواضح أنّ أصل الخبر حتّی لو صحّ فلا یمکن أن یصل إلی الحبشة ، إذ جاء فی تلک الأخبار نفسها أنّ ذلک الإشکال قد رُفع لیلة ذلک الیوم وکذّب رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قرآنیّة تلک المهملات . من هنا یتعذّر وصول مثل هذا الخبر إلی الحبشة . ومن الممکن أنّ أصل الواقعة متوکّئ علی إشاعة مبثوثة . ولعلّ لرجوع المهاجرین أسبابا أخری أیضا . ونحن نعلم أنّ عددا منهم قد رجع قبل هجرة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم إلی المدینة بقلیل . ومن المحتمل أنّهم شعروا بأنّ الضغط علی المسلمین قد خفّت وطأته بعد الشِعب وموافقة المشرکین علی خروج بنی هاشم من الحصار . والخبر الّذی لعلّه یمثّل إشارةً إلی هذا الموضوع هو قول المقریزیّ عن جماعةٍ إنّ رجوع المهاجرین إلی مکّة کان بعد خروج بنی هاشم من الشِعب(3) .

ص: 474


1- الصحیح من سیرة النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم 2 : 71 ؛ سیرة رسول اللّه ، زریاب : 165 ؛ انظر : الأصنام : 19 .
2- فقه السّیرة : 117 .
3- إمتاع الأسماع 1 : 27 .

شِعب أبی طالب

مدینة مکّة مدینة محاطة بجبال کثیرة وبینها سفوح وودیان صغیرة یسمّیها العرب الشِّعاب . وهی مملوءة بها . وکان هذا المثل مشهورا منذ القدیم «أهل مکّة أعلم بشعابها». وهذه الشّعاب کانت موضعا لسکن أهلها الّذین کانوا من طوائف مختلفة(1). من هنا کان یُعرف کلُّ شعبٍ باسم الطائفة الّتی تسکن فیه . وما اشتهر بشِعب أبی طالب کان معروفا فی البدایة بشعب أبی یوسف . ویبدو أنّه اتّخذ اسم أبی طالب فی عصر البعثة ، ثمّ سُمّی بعد ذلک بشعب بنی هاشم ، ویُعرَف الآنَ بشعب علیٍّ علیه السلام ، ویقع فی شرق الکعبة المعظّمة بین جبل أبی قبیس وشعب ابن عامر(2) ، ویبعد عنها حوالی مائتین إلی ثلاثمائة متر . وتحدّث المؤرّخون بعد ذکر الهجرة إلی الحبشة عن شِعب أبی

طالب وحصار بنی هاشم فیه .

وفیهم ابن سعد الّذی ذکر تاریخا دقیقا لبدء الحصار - الّذی سنوضّح معناه أثناء الکلام - وهو الأوّل من المحرَّم فی السّنة السّابعة للبعثة(3) . وفی متناول أیدینا عدد من الرّوایات حول هذه القصّة ، ونحتمل أنّ أتمّها هی روایة موسی بن عُقبة عن الزُهریّ عن قطّان . وتحدّث ابن إسحاق عن هذه الحادثة ، وضمّ ابن سعد عددا من الأخبار بعضها إلی بعض ، وذکر محصّلة الحادثة بإیجاز .

والموضوع الأوّل هو سبب مبادرة قریش إلی قطع العلاقات مع بنی هاشم . یقول قطّان : لمّا شعرت قریش أنّها غیر مفلحة فی التّضییق علی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم همّت بقتله . ولم یتیسّر لها هذا إلاّ - إذا رضی به بنو هاشم وعلی رأسهم أبو طالب . فإذا لم یرضوا فإنّ

ص: 475


1- انظر : أخبار مکّة ج1 و2 فهرس الأماکن ، ذیل عنوان «شِعب» .
2- معجم المعالم الجغرافیّة فی السّیرة النّبویّة : 168 . کما أُشیر فی المتن أنّ شعب علیّ هو باسم الإمام علیّ علیه السلام . انظر : أخبار مکّة 2 : 278 .
3- الطّبقات الکبری 1 : 209 .

قریشا ستمنی بحرب لا حدّ لها . من هنا طلبوا من أبی طالب أن یأخذ منهم ضعف دیة قتله ، ویقتله رجل من غیر قریش(1) [ لئلاّ تظهر مشکلة بین قریش ] . فرفض أبو طالب طلبهم رفضا شدیدا ، وأمر بنی عبد المطّلب أن یدخلوا فی الشِّعب ویذودوا عن النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، فاستجابوا کلّهم إلاّ أبا لهب ، وأبا سفیان الحارث بن عبد المطّلب إذ لم یدخلا فی الشِّعب(2) . وحینئذٍ عزمت قریش علی قطع علاقاتها الاقتصادیّة ، والعائلیّة ، والودّیّة بهم . وکتبوا حلفا تعاهدوا فیه علی رفض أیّ صلحٍ من بنی هاشم ، وألاّ یرأفوا بهم ویعاشروهم إلاّ إذا سلّموهم النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم لیقتلوه(3) . ویدلّ هذا الخبر علی أنّ الهدف الأصلیّ لقریش وحلفائها (کنانة)(4) فی هذا الأمر الضغط علی بنی هاشم کی یسلّموا لهم النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . وهکذا کان أبو طالب نفسه صاحب القرار فی الذّهاب داخل الشِعب ، وهدفه الرئیس منه هو المحافظة علی حیاة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم والتعبیر عن وحدة بنی عبد المطّلب فی الدّفاع عنه .

وفیما یأتی روایة ابن إسحاق : ... فلمّا رأت قریش أنّ أصحاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قد أمنوا واطمأنّوا بأرض الحبشة ، وأنّهم قد أصابوا بها دارا وقرارا ... هذا من جهة ، ومن جهة أُخری أسلم رجال مثل عمر وحمزة ، والإسلام آخذ بالانتشار بین القبائل، أقامت مجلسا عزمت فیه علی عقد حلف ضدّ بنی هاشم وبنی عبد المطّلب ، فلا یناکحوهم [لا یزوّجوهم ولا یتزوّجون منهم ] ولا یبایعوهم. ویضیف ابن إسحاق أنّ هذا الأمر دفع بنی هاشم إلی أن یذهبوا عند أبی طالب ویجتمعوا فی شِعبه . واعتزل

ص: 476


1- الدرر فی اختصار المغازی والسِّیر : 27 .
2- قال أبو لهب : یرید أن ینصر اللات والعزّی بعمله هذا ، انظر : سیرة ابن هشام 1 : 351 . وانظر بشأن أبی سفیان : المغازی 2 : 806 .
3- دلائل النّبوّة 2 : 311 ، 312 .
4- انظر : الدّرر : 30 .

منهم أبو لهب ولحق بقریش(1) . والفرق الیسیر بین الخبرین واضح . فلم یرد فی کلام ابن إسحاق موضوع قتل النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . ومن الثّابت أنّ بنی هاشم أنفسهم ذهبوا إلی الشِّعب(2) . یضاف إلی ذلک أنّ نصّ الحلف الّذی عقدته قریش یخلو من موضوع الحصار الجغرافیّ .

ولا بدّ لهذا الأمر من سبب خاصّ . وأحد أسبابه أنّهم لم تکن لهم حیلة إلاّ الذّهاب داخل الشِّعب ، إذ لم یتیسّر لهم بعد ذلک الحلف معاشرة أحدٍ وبناء علاقة معه . وثمّة سبب أهمّ وهو الدّفاع عن النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . وجاء فی خبر البیهقیّ وکذلک عروة ابن الزّبیر أنّ أبا طالب کان یُضجع النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی فراشه لیلاً ، کما یُضجع رجالاً من بنی هاشم فی فراش النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، ویُرسل النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم إلی فراشهم(3) . وهذه الخطوات تدعم الموضوع القائل أنّ قریشا کانت عازمة علی قتل النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . ویدلّ خبر البلاذریّ وکذلک روایة عروة بن الزبیر علی مؤامرة قتله صلی الله علیه و آله وسلم کخبر دلائل النّبوّة عن قطّان . وفی خبرهما أنّ أبا طالب حین رأی إصرارهم علی قتله ، خاف علیه ، ثمّ أخذ بنی هاشم إلی الشِّعب(4) . وذهب ابن سعد إلی أنّ عزم قریش کان نابعا من غیظها لما لقیه المهاجرون من دَعَة فی الحبشة لذا همّت بالتّضییق علی بنی هاشم(5) . ومن الواضح أنّهم کانوا فی غیظٍ شدید من موضوع الحبشة . وأشرنا إلی أنّ بنی هاشم

ص: 477


1- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 350 ، 351 ؛ تاریخ الطّبریّ 2 : 335 ، 336 ؛ سبل الهدی والرّشاد 2 : 502 .
2- من الثّابت أنّ موضوع الإخراج لم یرد فی الخبر الأوّل حقّا . انظر : السّیرة الحلبیّة 1 : 337 . ویصحّ هذا الموضوع فی الخبر الثّانی أیضا .
3- دلائل النّبوّة 2 : 312 ؛ مغازی رسول اللّه لعروة بن الزبیر : 114 ؛ الدّرر : 28 .
4- أنساب الأشراف 1 : 230 ؛ مغازی رسول اللّه لعروة بن الزبیر : 114 . بعد ذلک ذکر البلاذریّ خبر القتل بوصفه خبرا آخر فی تبیان السّبب الآخر لدخول الشِّعب ، انظر : أنساب الأشراف 1 : 232 .
5- الطّبقات الکبری 1 : 208 ؛ أنساب الأشراف 1 : 23 .

وبنی عبد المطّلب وحدهم کانوا فی داخل الشّعب لا جمیع المسلمین . والعنوان الّذی ذکره البیهقیّ لهذا القسم یدلّ علی أنّ بقیّة الصّحابة کانوا فی داخل الشّعب أیضا . لکنّه غیر صحیح(1) .

وذکر عدد من أرباب السِّیَر وجود مصاعب داخل الشِّعب . فالّذین کانوا فیه لم یستطیعوا أن یهیّئوا ما یحتاجون إلیه ؛ إذ لم یرغب أحد فی التّعامل معهم . ویضاف إلیه وجود تهدیدات أُخری أیضا فی تلک الظّروف العصیبة . وجاء فی فضیلة هاشم بن عمرو أنّه کان یضع الطعام علی راحلته ویذهب قریبا من الشِّعب لیلاً ، ویُخرج لجام دابّته من رأسها ویشدّه علی جنبه لیدخل الشّعب(2) . وکانت مشکلة الطّعام سببا فی معاناة أصحاب الشِّعب من الجوع . وورد فی أخبار أُخری أنّ قریشا «قطعوا عنهم المادّة والمیرة»(3) . وذکر البلاذریّ ، وابن سعد أنّهم لم یستطیعوا أن یخرجوا من الشّعب طول السّنین الثلاث الّتی کانوا فیها إلاّ فی موسم الحجّ . کما أنّ أولادهم لاقوا من العنت والمشقّة فیه حتّی إنّ أنینهم کان یُسمع من خارجه(4) . ولمّا خرج العبّاس من الشّعب مرّة لشراء الطّعام أراد أبو جهل أن یوقع به فأنجاه اللّه (5) . ولم یُسلم العبّاس یومئذٍ . وإنّما دخل الشّعب لدعم النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم من وحی القُربی کما فعل بعض آخر من بنی هاشم .

ص: 478


1- دلائل النبوّة 2 : 311 [باب دخول النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم مع من بقی من أصحابه شعب أبی طالب ] . فما لوحظ هو أنّ خبرا آخر لا یسند هذا العنوان . وذکر الإسکافیّ المعتزلیّ أنّه فی الوقت الذی کان فیه علیّ علیه السلام فی الشعب مع بنی هاشم کان ابو بکر مع أهله فی دعة وطمأنینة . انظر : المعیار والموازنة : 88 .
2- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 375 ؛ أنساب الأشراف 1 : 235 ؛ سبل الهدی والرشاد 2 : 543 . ذکر خبرا أکثر تفصیلاً عن ابن سعد فیه وفی موقف قریش منه .
3- أنساب الأشراف 1 : 234 ؛ وانظر : إمتاع الأسماع 1 : 25 .
4- أنساب الأشراف 1 : 234 ؛ الطّبقات الکبری 1 : 209 .
5- أنساب الأشراف 1 : 235 .

ویُستشفّ من خبر آخر للبلاذریّ أنّ قریشا وبخاصّة أبا جهل کانوا یراقبون الوضع لئلاّ یُباع علیهم شیء . وأرسلت خدیجة إلی زمعة بن الأسود تخبره أنّ أبا جهل یمنعهم من الشّراء(1) . وهذا الموضوع وأنّات الصّغار هی الّتی ألانت قلوب البعض من أعیان قریش . ونقل الإسکافیّ أنّ علیّا علیه السلام کان یحمل المیرة سرّا إلی داخل الشِّعب . وجاء فی خبر البیهقیّ أنّ کلّ طعام یعرضه المسافرون فی أسواق مکّة یشترونه بأسرع ما یکون لئلاّ یصل إلی بنی هاشم(2) . وذکر ابن إسحاق أنّ بعض قریش کان یرسل إلیهم شیئا سرّا بقصد صلة الأرحام(3) . وقال أمیرالمؤمنین علیه السلام فی أحد کتبه إلی معاویة :

«فأراد قومنا (قریش) قتلَ نبیّنا ، واجتیاح أصلنا، وهمّوا بنا الهموم ، وفعلوا بنا الأفاعیل ، ومنعونا العَذْبَ ، وأحلسونا الخوفَ ، واضطرّونا إلی جبلٍ وعرٍ ، وأوقدوا لنا نار الحرب . فعزم اللّه لنا علی الذّبِّ عن حوزته ، والرّمی عن وراء حُرمته . مؤمننا یبغی بذلک الأجر ، وکافرنا یُحامی عن الأصل»(4) .

ودام هذا الوضع ثلاث سنین ، وقیل : سنتین کما فی بعض المصادر . ویحتمل أنّه تصحیف لکلمة «سنین»(5) . ویقوم النّظام القبلیّ فی الأصل علی قاعدة النّسب والقُربی . ولم یکن لقریش ، بخاصّة لبعض بطونها ، مع عدائها للإسلام أن تقف مکتوفة الأیدی مطلقا أمام بنی عبد المطّلب من منطلق المسائل القبلیّة . والآن بعد مضیّ ثلاث سنین کان بینهم من شعر بالامتعاض وتأنیب الضّمیر. وأورد کتّاب السِّیَر عددا ممّن عزم علی إنقاذ بنی عبد المطّلب من هذا الوضع المؤلم . وکان سیر الواقعة

ص: 479


1- المعیار والموازنة : 88 .
2- دلائل النّبوّة 2 : 312 ؛ الدّرر : 28 .
3- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 353 .
4- نهج البلاغة ، الکتاب التّاسع .
5- الطّبقات الکبری 1 : 210 ؛ السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 353 ؛ وذهب القاضی عبد الجبّار إلی أنّ مدّة مکوثهم فی الشِّعب أربع سنین ، انظر : تثبیت دلائل النّبوّة : 362 .

قد دلّ أیضا علی أنّ عمل المشرکین هذا لم یکن له دور فی إکراه أبی طالب علی تسلیم النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، فهو وبنو هاشم جمیعهم یذبّون عنه بکلّ وجودهم . وهذا کان یعنی أنّ السّیاسة المذکورة منهزمة ، ولم تدع لقریش إلاّ تعنیفا أخلاقیّا ، وأیّ قریش ؟ قریش الّتی کانت تدّعی السّیادة علی العرب جمیعهم والسّخاء قیاسا بهم(1) . وتزامنا مع هذا الشّعور أخبر النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أبا طالب بأکل الصحیفة الّتی قیل إنّها کانت معلّقة فی داخل الکعبة . وهذه من المعجزات النّبویّة الواضحة . وکان أبو طالب یثق ثقة تامّة بکلامه صلی الله علیه و آله وسلم ، لذا عندما سمعه قال : «أشهد أنّک لا تقول إلاّ حقّا»(2) وأخبر المشرکین فأخرجوا الصّحیفة . ولمّا شاهدوها مأکولةً إلاّ «باسمک اللّهمّ» حاروا ودُهشوا ، وقذفوا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بالسّحر(3) . وهذه الأُمور مجتمعةً أفضت إلی زوال الصّحیفة . وقیل : إنّ معارضیها من قریش همّوا بالذّود عن بنی هاشم عسکریّا(4) . وهکذا نلحظ أنّ استمرار هذه الواقعة ألقی الخلاف بین المشرکین أنفسهم ، حتّی أُکرِهَ بعضُهم علی السّکوت کأبی جهل(5) . وجاء فی خبر ابن إسحاق أنّ أبا جهل وقف أمام المعارضین فی البدایة ، فقال له زهیر بن أبی أمیّة : کنّا کارهین لها مُذ کُتبت . فأیّده من کان

حاضرا(6) . فأثنی أبو طالب علی أمثال هؤلاء فی شعرٍ له ، وهو الّذی دافع عن النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بکلّ ما یستطیع . ومن شعره قوله :

ص: 480


1- جاء فی خبر ابن إسحاق (السّیرة النّبویّة 1 : 377 ؛ سبل الهدی والرشاد 2 : 544) أنّ مخالفی الصحیفة قالوا لأهل مکّة : «یا أهل مکّة ، أنأکل الطّعام ، ونلبس الثّیابَ ، وبنو هاشم هلکی لا یُباع ولا یُبتاع منهم ؟! واللّه لا أقعد حتّی تُشَقُّ هذه الصحیفةُ القاطعة الظّالمة» .
2- أنساب الأشراف 1 : 234 .
3- دلائل النّبوّة 2 : 313 .
4- الطّبقات الکبری 1 : 210 .
5- لمّا رأی أبو جهل حکیمَ بن حزام یحمل الطّعام إلی داخل الشِّعب نَهَرَهُ . فدافع عنه أبو البختریّ وقال : یحمله إلی عمّته [ خدیجة ] . فتنازعا ، فضرب أبو البختریّ رأس أبی جهل ، ولم یرفعا أصواتهما لئلاّ یشمت بهما المسلمون . انظر : سبل الهُدی والرّشاد 2 : 504 .
6- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 1 : 376 .

ألا هل أتی بحریَّنا صنع ربّنا * علی نأیهم واللّه ُ بالنّاسِ أرودُ

فیخبرهم أنّ الصّحیفةَ مُزّقت * وأنْ کل ما لم یرضه اللّه ُ مُفْسَدُ(1)

وقبل ذلک کان قد ذمّ قریشا فی بدایة انعقاد عهدها ، وعبّر عن اعتقاده العمیق بنبوّة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، واعتقاده هذا هو الّذی دفعه إلی الذّود عنه . قال :

ألم تعلموا أنّا وجدنا محمّدا * نبیّا کموسی خُطَّ فی أوّل الکتبِ

فلسنا وربّ البیتِ نُسلم أحمدا * لِعزّاءَ من عضّ الزّمانِ ولا کربِ

علی أیّ حال ، مضی هذا العهد لسبیله وخرج بنو هاشم لیخالطوا الناس ویعاشروهم بمکّة(2) . وکان هذا الأمر نصرا عظیما علی حدّ تعبیر القاضی عبد الجبّار(3) . وبعد الخروج من الشِّعب بفترة قصیرة توفّی اثنان من أودّ الأحبّة وأعزّهم عند رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وهما أبو طالب ، وخدیجة . فأبوطالب توفّی فی الأوّل من ذی القعدة أو فی النّصف من شوّال السّنة العاشرة للبعثة وله من العمر بضع وثمانون . ولحقته خدیجة بعد خمسة وثلاثین یوما أو خمسة وعشرین ، أو خمسة ، أو ثلاثة أیّام کما هو محتمَل . ودُفنا فی مقبرة المعلَّی قرب قبور کبار بنی هاشم کعبد المطّلب . وأخبار السّیرة جمیعها فی عصر البعثة حتّی السّنة العاشرة منها قد التحمت باسم أبی طالب . فکلّ مکان یشهد بدوره فی دعم النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ونقرأ فی سیرة ابن إسحاق وغیرها شعره الکثیر فی نصرته ، والتّعبیر عن حبّه للإسلام وذمّ صنادید قریش(4) . وجاء فی بعضها

ص: 481


1- الاستیعاب 2 : 92 ؛ تاریخ دمشق 19 : 43 نقلاً عن دیوان أبی طالب : 47 .
2- السّیرة النّبویّة : ابن هشام 1 : 352 ؛ سبل الهدی والرشاد 2 : 503 .
3- تثبیت دلائل النّبوّة : 363 .
4- جمع عبد اللّه بن أحمد المهزمیّ أشعار أبی طالب فی القرن الرّابع الهجریّ ، وطبعت بتحقیق الأُستاذ الشّیخ محمّد باقر المحمودیّ تحت عنوان دیوان شیخ الأباطح أبی طالب .

الّذی مضی وسواه إقراره الصّریح بنبوّة النّبی صلی الله علیه و آله وسلم ورسالته(1) . ونقل ابن عبد البرّ وغیره أنّه کان یمضی اللیل فی مراقبة الشِّعب لئلاّ یصل إلیه سوءٌ طول المدّة الّتی کان فیها صلی الله علیه و آله وسلم رهین الشّعب(2) . وهذا دلیل علی روحه العالیة خلال السّنین العشر کلّها . وتدلّ لامیّته علی ذروة دعمه للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم(3) . وأورد ابن عبد البرّ أیضا أنّ سفهاء قریش بدأوا یؤذونه صلی الله علیه و آله وسلم بعد وفاة أبی طالب علیه الصّلاة والسّلام ورحمة اللّه (4) .

ص: 482


1- دیوان أبی طالب : 69 ، 70 .
2- الدّرر : 28 ؛ سبل الهدی والرّشاد 2 : 504 .
3- انظر : سبل الهدی والرّشاد 2 : 506 - 508 .
4- الدّرر : 32 ؛ عیون الأثر 1 : 225 .

5- الإسلام فی المدینة

اشارة

ص: 483

یثرب قبل الإسلام

ذُکر أنّ یثربَ اسم حفید من أحفاد نوح علیه السلام [ یثرب بن قانیة بن مهائیل ... ] کما وُضع لها معنیً لغویّ خاصّ وهو «اللوم والفساد والعیب» . من هنا قیل إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أمر بعد دخولها ألاّ تُستعمَل ، فسُمّیت «طابة» ، و«طیبة»(1) . وقیل إنّ یثرب کانت قسما من منطقة دُعیت بعد هجرته صلی الله علیه و آله وسلم «مدینة الرّسول» أو «المدینة» بإیجاز(2) . علما أنّها کانت تُدعی بعد الهجرة باسمها القدیم بین حین وآخر . من ذلک ما جاء فی القرآن الکریم علی لسان المنافقین - فی السّنة الخامسة للهجرة أو بعدها بقلیل - إذ کانوا یخاطبون أهلها بقولهم : « یَا أَهْلَ یَثْرِبَ »(3) . وذُکر اسمها أیضا فی شعرٍ أنشدته زوجة عثمان بعد مقتله(4) . وورد اسمها کذلک فی شعر الصّحابة(5) .

ولم تُعرف هذه المنطقة قبل الإسلام کمدینة مرکزیّة ، بل کانت تتألّف من واحات بعضها فی السّهول ، وبعضها الآخر فی الرّوابی ، وبعض منها بین الشِّعاب . وهی فی الحقیقة سلسلتان من الحرّة ، أی : الجبال الصّخریّة ذات الصّخور السوداء الّتی تبدو کأنّها محروقة بالنّار ، وتمتدّ غربها وشرقها جغرافیّا . فالحرّة الشّرقیّة الّتی تعرف «بحرّة

ص: 484


1- تاج العروس 2 : 85 . وجاء فی القرآن : « لاَ تَثْرِیبَ عَلَیْکُمُ الْیَوْمَ یَغْفِرُ اللّه ُ لَکُمْ » ، یوسف : 92 ؛ وانظر : مفردات : 75 .
2- معجم البلدان 6 : 430 ؛ تاج العروس 2 : 85 .
3- الأحزاب : 13 ، 33 .
4- معجم البلدان 6 : 430 ، عن ابن عبّاس .
5- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 4 : 384 .

واقم» تنتهی فی الشمال بجبل أُحد ، وتمتدّ إلی الجنوب تقریباً . أمّا الحرّة الغربیّة التی تُعرف بحرّة الوبرة فهی تمتدّ حتّی بئر رومة شمالاً ، وتحاذی محلّة قبا جنوبا . وتعدّ هاتان الحرّتان تحصینا للمدینة . وتُلحظ هذه الصّخور فی الجنوب أیضا نوعا ما . وهکذا ینبغی أن نقول : إنّ المنطقة الوحیدة من المدینة ، الّتی تتّصل بخارجها من خلال أرض سهلیّة هی شمالها . وکان معظم الیهود یقطنون فی الحرّة الغربیّة والواحات المنتهیة بها . وهذه المنطقة الّتی کان یسکنها أکثر الأوس أیضا تُسمّی یثرب ، مع أنّنا یجب أن نلتفت إلی أنّ هذه الکلمة أُطلقت علی جمیع هذه المناطق بسرعة ، مع الاحتفاظ بأسمائها الخاصّة .

وکان أکثر المناطق السّکنیّة فی المدینة عبارة عن دور عادیّة من الحجر ، والآجرّ ، واللبن . ومن المحتمل أنّ لکلّ طائفة ، بخاصّة الیهود ، حصونا وقلعا تعرف بالأُطُم مضافا إلی بیوتها المألوفة . وکان یستفاد منها فی الأوقات الضّروریّة (الحروب) ، أمّا المدینة نفسها فلیس لها سور (ثمّ أُحیط القسم الأصلیّ منها الّذی یمثّل المناطق السکنیّة المحدقة بالمسجد النّبویّ الشّریف بسورٍ علی مرّ التاریخ) . ونُقلت أخبار حول سکّانها القدامی لا یوثق بها کثیرا(1) . وما یستشفّ منها إجمالاً هو أنّ بنی اسرائیل هاجموها مرارا لأسباب دینیّة وسیاسیّة ، واستولوا علیها وفرّقوا أهلها . ولیس بأیدینا معلومات دقیقة حول طبیعة الهجمات المذکورة وزمانها الدّقیق . بید أنّ ما ذهب إلیه المؤرّخون مفترِضین هو أنّ الیهود القاطنین فی المدینة إبّان البعثة کانوا فیها قبل العرب الّذین سکنوها من الأوس والخزرج . ومن المحتمل أنّ هؤلاء المهاجرین لجأوا إلی الحجاز فی القرون المیلادیّة الأولی أثناء هجوم الروم علی القدس(2) .

ص: 485


1- انظر : المفصّل فی تاریخ العرب قبل الإسلام 4 : 133 .
2- ذکر دیورانت خبر انتشار الیهود فی مناطق البحر الأبیض المتوسّط ، ومنها شبه الجزیرة العربیّة ، وأسباب ذلک قصّة الحضارة 14 : 433 .

ولم تکن لهذه المنطقة حکومة قطّ ، ولأُولئک القادمین أن یعیشوا هناک متوکّئین علی طاقاتهم المحلّیّة کغیرهم من القبائل ، بخاصّة أنّ بعدهم عن سطوة الروم المعادین للیهودیّة یمنحهم الدّعة والطمأنینة . ومن الطّبیعیّ أنّهم توطّنوا أفضل البقاع - زراعیّا - بین الحرّتین الشّرقیّة والغربیّة لغیاب سلطةٍ یُعتَدُّ بها آنذاک .

ونقل المؤرّخون أخبارا کثیرةً حول السّبب الّذی دعاهم إلی اختیار تلک المناطق سکنا لهم ، ویتمثّل فی المعلومات الّتی کانت عندهم من التّوراة حول ظهور النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فیها(1) . وکانت سکناهم غالبا فی جانب الحرّة الشّرقیّة . ومن الثّابت أنّ یهود هذه المناطق لیسوا من العنصر العربیّ بل کانوا من بقایا یهود بنی إسرائیل . ویتسنّی لنا أن نعدّ هذا الأمر ثابتا من الإشارات المتواصلة إلی بنی إسرائیل فی القرآن الکریم وتطبیقها علی یهود المدینة . یضاف إلی ذلک أنّ المصادر مجمعة علی أنّ لغتهم الدّینیّة هی اللغة العبریّة ، کما أنّ المؤرّخین والنسّابة العرب - الّذین قد یضعون نسبا عربیّا لکافّة السّاکنین - لم یذکروا لهم نسبا عربیّا . ویدلّ هذا علی أنّ عجمتهم کانت محرزة للجمیع . والعرب الّذین کانوا یُعرَفون باسم الأوس والخزرج - ثمّ عُرفوا باسم الأنصار - هم من المهاجرین الّذین هاجروا إلی هذه المنطقة قادمین من جنوب الجزیرة العربیّة . والأوس والخزرج کانا ولدَین لأب واحد هو حارثة بن ثعلبة(2) . وولد لأوس ولد واحد یدعی مالک بن أوس الّذی وُلد له خمسة أولاد مثّلوا البطون الخمس الّتی اشتهرت بین الأوس ، وکان لکلّ منها عدد من الأُسر والطّوائف . وکان لخزرج خمسة أولاد تبلورت منهم خمس بطون فی داخل قبیلة الخزرج ، وعند ظهور الإسلام کانت کلٌّ منها تشتمل علی عدد من الأُسر والعشائر . علی سبیل المثال

ص: 486


1- [ إنّ علماءهم کانوا یجدون فی التّوراة صفة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وأنّه یهاجر إلی بلد فیه نخل بین حرّتین فأقبلوا من الشّام یطلبون الصفّة ] معجم البلدان 6 : 84 .
2- کان الأوس والخزرج یعرفون ببنی قیلة . وجاء فی خبرٍ أنّ قیلة کانت أمّهما .

تکوّنت من نسل نجّار بن ثعلبة بن خزرج أربع عشائر هی مالک بن نجّار ، وعدیّ بن نجّار ، ومازن بن نجّار ، ودینار بن نجّار . وکانوا یعیشون بین الحرّتین الشّرقیّة والغربیّة . وهناک نزل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وفیها شیّد المسجد أیضا . وکان بنو النجّار أخوال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم . والأماکن الّتی سکنها الأوس کانت تقع حوالی المناطق الیهودیّة من المدینة فی الحرّة الشّرقیّة وضواحی قبا . وکانت هذه الأماکن تتمتّع بأراضٍ خصبة صالحة للزّراعة . وللأوس أحلاف مع بنی قریظة .

وکان التّاریخ الّذی هاجرت فیه هذه القبائل الیمانیّة إلی شمال الجزیرة ، وأسباب الهجرة مثار اهتمام الأخباریّین والمؤرّخین . ویترکّز معظم هذا الاهتمام علی سیل العرم ودمار سدّ مأرب الذی استتبعه هجرة عدد کبیر من قبائل الجنوب إلی شتّی مناطق الجزیرة (منها هجرة خزاعة إلی مکّة) . وحام الشّکّ حول الرأی القائل بهجرة الأوس والخزرج بعد سیل العرم . وقیل إنّ هذه الهجرة یمکن أن تکون لها أسبابها السیاسیّة والعسکریّة - النّزاعات بین القبائل وحبّ السلطة عند الأحباش والحکّام المحلّیّین فی تلک النّقاط - وکذلک الاقتصادیّة(1) .

وثمّة تخمین حول تاریخ هذه الهجرة ، وهو أنّها تحقّقت حوالی سنة 347 م ، فی حین کان سیل العرم بین سنة 450 و477م تقریبا . وهکذا کانت هجرتهم قبل سیل العرم بسنین . مع أنّه لا یُستبعَد وجود سیل آخر دفعهم إلی الهجرة(2) . وکان لهجرة هذه القبائل إلی یثرب واستیطانها فیها أن تسبّب مشاکل للیهود هناک . وقیل إنّها أقامت فی البدایة علاقات مناسبة معهم عبر المعاهدات الّتی وقّعوها فیما بینهم ، بید أنّها تفوّقت علیهم تدریجا لتکاثر العرب ، وأصبح الیهود أقلّیّة ، لکنّها أقلّیّة قویّة . ثمّ شهد

ص: 487


1- حول أسباب هجرتهم انظر : یثرب قبل الإسلام : 67 - 72 .
2- انظر : یثرب قبل الإسلام : 72 ، 73 .

تواتر الأیّام نزاعا بین جمیع الطّوائف الیهودیّة والعربیّة لأسباب اقتصادیّة ، وعصبیّات قبلیّة ، وساد ما کان قائما بین القبائل من حرب وحلف فی أرجاء الجزیرة العربیّة بأسرها . ونشبت بین الأوس والخزرج حروب کثیرة ، ومن المحتمل أنّها کانت بتحریض الیهود الّذین کانوا یرون أنفسهم مغلوبین .

ومن أولی الحروب الّتی شُنّت بینهما ما اشتهر عند المؤرّخین «بیوم سمیر» [ أو سمیعة ] . وتلته اشتباکات أخری (کان بعضها فی الأشهر الحرم فاتّخذ اسم الفجّار [ غیر حروب الفجّار فی مکّة وأطرافها ]) . وآخرها حرب البُعاث (اسم منطقة قریبة من الحرّة الشّرقیّة) الّتی کانت حربا طاحنةً بینهما . وقُتل فی هذه الحرب الّتی یُحتمَل أنّها وقعت قبل السّنة الأولی للهجرة بخمس سنین کثیر من أکابرهم . وذهبت عائشة إلی أنّ هذه الحرب ومقتل سادتهم فیها مقدّمة لظهور الإسلام فی المدینة(1) .

ونقل أبو الفرج الإصفهانیّ التّفاصیل المتعلّقة بواقعة البُعاث(2) . وفی هذه الحرب انتصر الأوس علی الخزرج (علی الرغم من مقتل حضیر الکتائب [ والد الصّحابیّ أُسید بن حضیر ] الّذی کان رئیسهم) .

ولم یفرط الأوس فی قتل الخزرج مع هزیمة هؤلاء . وهمّوا بتفضیلهم - وهم إخوتهم - علی الثّعالب . ولعلّ هذا التّعبیر یشیر إلی الیهود الروّاغین(3) . وهذا الضّرب من الحروب یمکن أن ینبع فی البدایة من حسد الخزرج للأوس علی الأراضی الخصبة الّتی کانت تحت تصرّفهم (وتصرّف حلفائهم الیهود)(4) ، ثمّ یتواصل بثارات متکرّرة

ص: 488


1- البخاری 2 : 309 و320 (ومصادر أُخری ستأتی فی الحدیث عن أسباب الانتشار السّریع للإسلام فی المدینة) .
2- الأغانی 17 : 117 - 128 .
3- نفسه 17 : 125 . [ یا معشر الأوس أسجحوا ولا تهلکوا إخوتکم فجورا هم خیرٌ من جوار الثّعالب ] أسجحوا أی : أحسنوا العفو .
4- جاء علی لسان زعیم من الخزرج أنّ بیاضة بن عمرو أنزلکم منزل سوء . واللّه لا یمسّ رأسی غسلاً حتّی أنزلکم منازل بنی قریظة والنّضیر ... وکان لهم غزار المیاه وکرام النّخل . انظر : وفاء الوفاء 1 : 217 .

ینادی بها الفریقان . وحریّ بالقول أنّ الخزرج کانوا ضعف الأوس تقریبا . ویتبیّن هذا من إحصاء المبایعین منهما فی العقبة الثانیة ، وکذلک من أسماء شهداء أُحد . ومن المحتمل أنّ بعض الطّوائف من الخزرج أو الأوس لم یشترک فی بعض الحروب الجاهلیّة . وکان للأوس حلف مع یهود بنی قریظة ، وقد ترک آثاره فی التاریخ الإسلامیّ لاحقا ، وذلک فی غزوة بنی قریظة . کما کان لرجال من الخزرج علاقات ودّیّة بیهود بنی النّضیر ، واستبانت آثارها أیضا فی غزوة بنی النّضیر . وفی الوقت نفسه ثمّة أدلّة علی تحریضات الیهود لإثارة الخلاف بین الأوس والخزرج قبل الإسلام وبعده(1) . وکان بعض القبائل العربیّة - خلا الأوس والخزرج - یعیش فی أطراف المدینة . منها قبیلة «مُزینة» ، و«سلیم» اللّتان کانتا تسکنان فی شرق المدینة ، ولهما حلف مع بعض بطون الأوس . وکذلک کانت قبیلة «جهینة» حلیفةً لبعض الخزرج ، وتوطّنت فی غرب المدینة . وکانت قبیلة «أشجع» فی شمالها ، وتحالفت مع بعض الخزرج(2) .

من منظار دینیّ کانت القبائل القاطنة فی یثرب بأسرها صنمیّة ، أو مشرکة فی الاصطلاح القرآنیّ . من هنا کانت أواصرها بمکّة المقدّسة ومشرکیها جِدَّ وطیدة . ویمکن أن نقول : إنّهم کانوا یراعون جمیع الآداب الصنمیّة عند قریش والشّعائر المنحرفة المتبقّیة من ملّة إبراهیم علیه السلام ، الّتی کان یراعیها المکّیّون . وهکذا کانت أواصرهم الثّقافیّة بمکّة واسعةً جدّا . وفی مقابل ذلک لم تربطهم آصرة فکریّة بیهود

ص: 489


1- انظر : تفسیر الطبریّ 7 : 55 . وجاء فیه علی لسان شاس بن قیس الیهودیّ حین رأی وحدة الأوس والخزرج فی ظلّ الإسلام : «قد اجتمع ملأ بنی قیلة بهذه البلاد ، لا واللّه ، ما لنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار» . ورُویت أخبار حول تحریضات الیهود لإثارة الخلاف عند الحدیث عن قوله تعالی : « یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنْ تُطِیعُوا فَرِیقا مِنْ أَهْلِ الْکِتَابِ یَرُدُّوکُمْ بَعْدَ إِیمَانِکُمْ کَافِرِینَ » آل عمران : 100 ، انظر : أسباب النّزول : 77 .
2- یثرب قبل الإسلام : 133 .

المدینة ولم یخضعوا لأدنی تأثیر بهم قطّ . وکذا الحال بالنسبة إلی النّصاری الّذین لم یکن لهم وجود فی مدینتهم طبعا ، مع أنّ قوافلهم التّجاریّة کانت تتردّد علی منطقتهم قادمةً من نجران أو الیمن متّجهةً صوب الشّمال(1) . وإنّ غیاب تأثیر الیهود الواسع علی العرب یعود معظمه إلی إهمال الیهود نشر دعوتهم . وهم الّذین کانوا یرون أنفسهم شعب اللّه المختار ، وأضفوا علی دینهم صبغةً عنصریّة . یضاف إلیه أنّ تصوّر الأوس والخزرج یتمثّل فی أنّ الدّین المحلّیّ للمنطقة هو عبادة الأصنام فلا ینبغی أن یکترثوا بدین آخر دخیل علیهم . مع هذا ذکر الیعقوبیّ أنّ جمعا من الأوس والخزرج قد تهوّدوا بسبب مجاورتهم لیهود خیبر ، وبنی قریظة ، وبنی النّضیر(2) .

ولمّا کان لکلّ قبیلة من القبائل العربیّة صنم خاصّ بها تُقبل علیه - وتحترم سائر الأصنام أیضا - فإنّ الأوس والخزرج کانوا یتوجّهون إلی صنم مناة ویعبدونه . ویقع الصّنم المذکور قریبا من البحر الأحمر فی منطقة قدید - جنوب غرب یثرب - وکان عرب یثرب یُکنّون له احتراما بالغا(3) . وقیل إنّ الأوس والخزرج کانوا یتوجّهون إلی مکّة لأداء مناسک الحجّ ، بید أنّهم یذهبون عند «مناة» لحلق رؤوسهم ، وبذلک یرون حجّهم تامّا مقبولاً(4) . وسنشیر لاحقا إلی أنّ مفردات من الرؤیة الحنیفیّة

ص: 490


1- من الطّبیعیّ یمکن أن نجد أشخاصا فی القبائل العربیّة قد تنصّروا . وورد کلام حول تأثّر یثرب وبعض توابعها کوادی القری بالنّصرانیّة تأثّرا محدودا . انظر : یثرب قبل الإسلام : 110 . وعلی الرغم من النّصوص التّاریخیّة الصّریحة علی أنّ الأوس والخزرج کانوا یعبدون الأصنام ذهب شیخو إلی أنّهم کانوا یدینون بالنصرانیّة ، وذلک من خلال عرضِهِ تخمینات بعیدة عن الأذهان . انظر : النّصرانیّة وآدابها بین عرب الجاهلیّة : 114 ، 115 .
2- تاریخ الیعقوبیّ 1 : 257 ؛ ووردت أسماء جملة من الطّوائف الیهودیّة من القبائل العربیّة فی الحلف العامّ للنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم مع المسلمین والیهود .
3- حول الأصنام الخاصّة بالقبائل ومحلّ نصبها انظر : أطلس تاریخ الإسلام : 100 ، وخارطة 37 .
4- انظر : الأصنام : 12 ، 14 ؛ المحبّر : 313 - 316 .

کانت قائمةً بیثرب أیضا . ویمکن أن یعود هذا إلی تأثیر حنفاء مکّة أکثر ممّا یعود إلی تأثیر الیهود الموحّدین المدنیّین علیها . مع أنّنا ینبغی أن نقرّ بأنّ للیهود تأثیرهم علی الأوس والخزرج لکونهم مثقّفین . وحدّه الأدنی هو علم الأوس والخزرج بظهور نبیٍّ جدید ، وقد عُدّ هذا من الأسباب الّتی دعت أهل یثرب إلی تبنّی الإسلام . [ انظر : البحوث القادمة ] . وکانت بیئة یثرب تختلف عن بیئة مکّة من الوجهة الاقتصادیّة ، مع أنّ التّجارة کانت موجودة هنا أیضا لکنّها لیست کتجارة المکّیّین الّذین کانت لهم قوافل تجاریّة صیفیّة وشتویّة . وکان اقتصاد المدینة قائما علی الزّراعة والنّخیل الّتی کانت موجودة فی مناطقها المختلفة(1) . وکان الّتمر من محاصیلها الّتی تسدّ قسما من حاجة النّاس إلی الغذاء ، وإن کان شِبَع المسلمین منه قد تحقّق بعد فتح خیبر(2) . وکان الماء یتحصّل بوفرة فی المدینة ، بید أنّ حفر الآبار والحصول علی ماء عذب کانا متعذّرین فی جمیع مناطقها(3) . وجملة القول إنّها قیاسا بمکّة کانت تتمتّع بقدرة اقتصادیّة کامنة ، من هنا تمیّزت علیها بمزیّة ملحوظة .

ونلحظ بین سکّان یثرب أنّ الیهود ذوو قدرة اقتصادیّة أکثر من غیرهم ، لذا کانوا یحتکرون البضائع ویرابون . یضاف إلیه أنّهم عرفوا بالصّناعة لاسیّما صناعة السّیوف ، والرماح ، والسّهام ممّا یدرّ علیهم بدخل ملحوظ مع الأخذ بعین الاعتبار الحروب المتواصلة . وینبغی أن نعدّ إهمال العرب هذه الأمور نتیجة لروحهم العربیّة واهتمامهم بالأُصول البدویّة . وأهل یثرب وإن کانوا مدنیّین إلی حدٍّ ما لکنّ السّجایا العربیّة

ص: 491


1- بالنّظر إلی الآیة 99 و141 من سورة الأنعام یمکن أن نتعرّف علی بعض المحاصیل الّتی کانت قریبة المنال لعرب الحجاز .
2- فتح الباری 7 : 495 [ کانت عائشة تقول : ما شبعنا حتّی فتحت خیبر ] .
3- حول بیع الیهود ماء بئر رومة انظر : وفاء الوفاء 3 : 970 ؛ وأیضا الصّحیح من سیرة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم 3 : 113 - 119 . ویری الأستاذ العاملیّ فیه أنّ عثمان هو الّذی اشتری البئر المذکورة أیّام خلافته .

البدویّة (الّتی کانت شائعة فی تلک البیئة) قد ترکت أثرها علیهم أیضا . وما الحروب المتوالیة للأوس والخزرج إلاّ تعبیر عن هذه الرّوح(1) .

المسلمون الأُوَل فی یثرب

اختلف المؤرّخون حول المسلمین الأُوَل فی یثرب . ولا بدّ أن یکون تردّد أهلها علی مکّة قد أطلعهم علی أصل رسالة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، بید أنّنا یندر أن نجد خبرا حول من رغب فی الإسلام منهم قبل السّنة العاشرة للبعثة . وتدلّ روایة لابن إسحاق علی أنّ سوید بن الصامت - الّذی کان یعدّ نموذجا من النماذج الکاملة بین أهل یثرب(2) - قد التقی برسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی أحد أسفاره إلی مکّة لأداء مناسک الحجّ أو العمرة . فدعاه إلی الإسلام ، فأخبره بوجود «مجلّة لقمان»(3) لدیه ، ولعلّ عنده مثلها . فقال صلی الله علیه و آله وسلم حین سمعه : کلام حَسَن لکن القرآن منه أحسن . فقال سوید لمّا سمع القرآن : کلام حَسَن . ولم یستبعد صحّته . ثمّ عاد إلی یثرب ، وقُتل قبل واقعة بُعاث . ثمّ زعم قومه بعد ذلک أنّه کان مسلما(4) . ولمّا کانت الواقعة المذکورة قد حدثت قبل الهجرة بخمس سنین ، فإنّ مقتله لا بدّ أن یکون فی إحدی السّنین الّتی سبقت السّنة الثّامنة للبعثة . ویبدو أنّ إسلامه لم یُؤَیَّدْ .

وجاء فی روایة أُخری عن ابن إسحاق أیضا أنّ جماعة من الأوس جاءوا إلی مکّة

ص: 492


1- المفصّل 4 : 140 ، 141 .
2- انظر : الطّبقات الکبری 3 : 450 ، 465 ، 498 ، 522 ، 526 ، 531 ، 536 ، 604 ، 613 . کانت للأشخاص الکَمَل صفات خاصّة منها القدرة علی القراءة والکتابة .
3- المجلّة بمعنی «الصحیفة» و«الحکمة» . فی خبر البلاذریّ : «الحکمة» بدل «المجلّة» أنساب الأشراف 1 : 238 .
4- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 2 : 426 ، 427 ؛ دلائل النّبوّة 2 : 419 .

مرّةً لکسب دعم قریش ضدّ الخزرج . فدعاهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم إلی الإسلام فی فرصة مناسبة ، واستجاب منهم إیاس بن معاذ الّذی أبدی رغبته فیه ، فحذّره الآخرون منه . ویستشفّ من خبر ابن إسحاق أنّ واقعة بُعاث حدثت بعد ذلک بقلیل ، ومات إیاس أیضا بسرعةٍ . وقیل : إنّه کان یهلّل اللّه ویکبّره ویحمده عند موته(1) . وما من خبرٍ مألوف یُرکَن إلیه حول إسلامه . وثمّة خبر آخر عن السمهودیّ یذکر قدوم جماعة من الأوس إلی مکّة لکسب حلفاء لهم فیها ، وبعد دعوتهم إلی الإسلام قال عمرو بن الجموح : هذا خیرٌ لکم ممّا جئتم لأجله ، فلم یوافقوه(2) .

ویضیف البلاذریّ فی سیاق الإشارة إلی الخبرین الأوّلین أنّ رجالاً من الأنصار کانوا یأتون بعد ذلک إلی مکّة لإنجاز أعمالهم ، ویدعوهم النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فیخبرونه أنّهم لم یأتوا لأجل ذلک ، ومنهم من سکت ولم یقل شیئا . وقدم قیس بن حطیم حینا ودعاه النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم إلی الإسلام . فقال إنّه سمع کلاما عجیبا ، وأراد أن یفکّر حتّی تلک السّنة ویعود ، لکنّه مات فیها(3) . ونظرا إلی هذه الأخبار یمکننا أن نقرّ بوجود میول إلی اعتناق الإسلام فی یثرب قبل السّنة العاشرة من البعثة وإنْ لم یکن له دعم رسمیّ فیها یومئذٍ . والحدّ الأدنی لذلک وجود معلومات متناثرة عن الإسلام بین أهل یثرب . وفی متناول أیدینا خبر (هاتفیّ) أیضا هنا . فقد قیل إنّ هاتفا کان ینادی علی جبل

ص: 493


1- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 2 : 428 ؛ دلائل النّبوّة 2 : 420 ؛ عیون الأثر 1 : 260 ؛ السّیرة النّبویّة ، ابن کثیر 2 : 174 ، 175 ؛ نهایة الإرب 16 : 305 . واکتفی البلاذریّ فی أنساب الأشراف 1 : 238 بالإشارة إلی رغبة بعض هؤلاء فی الإسلام .
2- وفاء الوفاء 1 : 221 .
3- أنساب الأشراف 1 : 238 ؛ وذکره ابن حجر فی الإصابة 3 : 281 ، ونقل ما أوردناه فی النّصّ ، وأشار إلی وجود أشعار کثیرة له بشأن حرب بُعاث . فلا بدّ إذا أن یکون الخبر المذکور بعد السّنة الثّامنة للبعثة ، الّتی کانت فیها حرب بُعاث .

أبی قبیس آنذاک ویقول : إذا أسلم السّعدان ، فلا یخشی محمّد أحدا یخالفه . وکان أبو سفیان متردّدا حول هذین السّعدین . وأنشد هاتف أیضا شعرا آخر فی اللیلة التالیة . فأقسم أبو سفیان حینئذٍ أنّ السّعدین هما سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة(1) . وینبغی أن نقول إنّ هذا الخبر کان بعد إظهار المذکورین إسلامهما فی المدینة ونُسب إلی الهاتف .

ویحوم خلاف حول من رضیالإسلام دینا . فروایة تذهب إلی أنّ شخصین رضیاه دینا فی البدایة وهما أسعد بن زرارة ، وذکوان بن قیس . وجاء المذکوران إلی مکّة لکسب دعم عتبة بن ربیعة ، بید أنّه لمّح إلی أنّهما مبتلیان الآن بمحمّد صلی الله علیه و آله وسلم . وورد فی هذا الخبر أنّ أسعد بن زرارة ، وأبا الهیثم بن التیّهان کانا [ یتکلّمان بالتّوحید بیثرب ] . ثمّ إنّ أسعد . وذکوان جاءا إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وأسلما . وعندما رجعا إلی یثرب أسلم ابن التیّهان أیضا(2) . وذهب الواقدیّ إلی أنّ هذا الخبر غیر صحیح إذ لم یسلم أحد من أهل یثرب قبل تلک الجماعة السّداسیّة - وسنتطرّق إلی ذلک(3) . ونقل ابن سعد روایة أخری أیضا وملخّصها أنّ رافع بن مالک الزُرَقیّ ومعاذ بن (حارث المشهور بابن) عفراء قدما مکّة للعمرة قبل أولئک السّتّة ، وذهبا عند رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وأسلما بعد دعوته إیّاهما . من هنا قیل إنّ «مسجد بنی زریق» أوّل مسجد فی المدینة قُرئ فیه

ص: 494


1- تاریخ الطّبریّ 2 : 380 ، 381 ؛ تاریخ الإسلام ؛ السّیرة النّبویّة : 289 .
2- الطّبقات الکبری 1 : 219 ؛ وفاء الوفاء 1 : 223 . حول ذکوان وخبر إسلامه واستشهاده فی أحد انظر : ج3 ، ص593 . وحول أسعد بن زرارة انظر : ج3 ، ص608 ؛ إعلام الوری : 55 ، 56 ، تحدّث عن إسلام أسعد وذکوان بتفصیل أکثر ، لکنّه ذکر بعد ذلک أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بعث مصعبا معهما إلی المدینة . ونحن نعلم أنّ مصعبا ذهب الیها بعد بیعة العقبة الأولی .
3- الطّبقات الکبری 1 : 219 ؛ وذهب الواقدیّ إلی أنّ هذا الخبر مجمع علیه . وانظر : الطّبقات الکبری 3 : 609 ؛ تاریخ المدینة المنوّرة : 77 ، وفیه أنّ المسجد المذکور «أوّل مسجد قرئ فیه القرآن» .

القرآن(1) . وهذا الخبر لا ینسجم مع رأی الواقدیّ ، لذا أورد ابن سعد کلام الواقدیّ نفسه بعد الخبر المذکور .

إنّ ما یصرّ علیه الواقدیّ هو أنّ أوّل من أسلم من أهل یثرب هم الستّة الّذین أسلموا علی ید النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بمکّة فی السّنة الحادیة عشرة للبعثة . [ وأمر السّتّة النفر أثبت الأقاویل عندنا واللّه أعلم (2)] . ونقرأ فی خبر ابن إسحاق أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم حین کان مشغولاً بدعوة القبائل فی موسم الحجّ ، التقی بطائفة من الخزرج فی العقبة ، فطلب

منهم أن یجلسوا عنده لیحدّثهم ، فرضوا بذلک . فعرض علیهم أساس دعوته وقرأ علیهم آیات من القرآن الکریم ، وکانوا قبل ذلک قد سمعوا من الیهود خبر ظهور نبیّ جدید ، فاعتقدوا أنّه هو المقصود ، وقبلوا دعوته . وقالوا إنّهم ترکوا قومهم بأسوأ حال من العداوة والبغضاء والفتن ، ورجوا أن یکونوا متّحدین بعضهم ببعض بعد قبول دعوة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم(3) . وهؤلاء هم أسعد بن زرارة ، وعوف بن الحارث ، ورافع ابن مالک ، وقطبة بن عامر ، وعقبة بن عامر ، وجابر بن عبد اللّه بن رئاب(4) .

ومرّت الإشارة إلی أنّ هؤلاء کانوا أوّل من أسلم من أهل یثرب فی ضوء رأی ابن إسحاق ، والواقدیّ . وأورد ابن سعد قبل نقل هذا الخبر أنّ ثمانیة نفر التقوا

ص: 495


1- الطّبقات الکبری 1 : 218 ؛ 3 : 622 . وذهب البلاذریّ فی أنساب الأشراف 1 : 245 إلی أنّه أوّل مسلم من الأنصار ؛ الإصابة 1 : 499 ؛ وفاء الوفاء : 857 . ونقل النویریّ هذه الجملة عن الواقدیّ ، انظر : نهایة الإرب 16 : 312 . من هنا ینبغی أن نفسّر رأی الواقدیّ بنحو یرتبط بإسلام الشّخص المذکور . ویتمثّل خبر الزبیر بن بکّار فی أنّه حین أسلم علّمه النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کلّ ما أُنزل علیه ، وکان نفسه یقرأه علی النّاس فی مسجده ، انظر : الإصابة 1 : 499 .
2- الطّبقات الکبری 3 : 622 .
3- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 2 : 428 ، 429 ؛ تاریخ الطّبریّ 2 : 354 ؛ الطّبقات الکبری 1 : 219 ؛ دلائل النّبوّة ، البیهقیّ 2 : 434 ، 435 ؛ مجمع الزوائد 5 : 42 ؛ وفاء الوفاء 1 : 223 .
4- الطّبقات الکبری 1 : 219 ؛ السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 2 : 429 ، 430 .

بالنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بمنی وأظهروا الإسلام ، وهم معاذ بن عفراء ، وأسعد بن زرارة ، ورافع بن مالک ، وذکوان بن قیس ، وعبادة بن الصّامت ، وعبد الرّحمن بن یزید ، وأبو الهیثم بن التیّهان ، وعُویم بن ساعدة . وقالوا : سنعمل للّه وللرسول . ونحن متخاصمون ، إذ لم تمرّ علی بُعاث الّتی قُتل فیها رجال منّا إلاّ سنة واحدة ، فإذا جئتنا الآن فلا یجتمع علیک أحد ، أمهلنا نرجع إلی أهلینا ، وسیصلح اللّه بیننا إن شاء ، وموعدنا وإیّاک العام المقبل فی موسم الحجّ(1) . ولم یرد هذا فی الخبر الأوّل الّذی کان ابن إسحاق رواه ، وفیه أسماء الستّة ، لکن ورد ما یُشبهه فی خبر آخر یعبّر عن هذا الخبر أیضا(2) . وذکر محمّد بن صالح الشّامیّ أنّ الخبر الوارد عن ابن إسحاق هو خبر السّتّة ، إلاّ أنّنا نلحظ فی نقل جریر بن أبی حازم عنه اسم معاذ بن عفراء مکان عقبة بن عامر . ویضیف أنّ ما جاء فی نقل موسی بن عقبة عن الزّهریّ عن عروة بن الزّبیر(3) هو أنّهم کانوا ثمانیة . ثمّ ذکر أسماءهم(4). ولابدّ أن یکون النقل السّابق لابن سعد هو روایة الزّهریّ عن عروة. ویبدو أنّ روایة ابن إسحاق والواقدیّ أدقّ من الخبر المرویّ عن موسی بن عقبة . والفهرس الّذی عرضه یُشبه کثیرا قائمة من حضر فی بیعة العقبة الأولی - الوفد الّذی ضمّ اثنی عشر شخصا(5) . وهکذا یُحتمَل الخلط بین أولئک الأشخاص وبین الوفد السُّداسیّ الأوّل(6) . ونقرأ فی خبر آخر أنّ هذا الوفد کان سُباعیّا ، إذ نجد اسم عامر

ص: 496


1- الطّبقات الکبری 1 : 218 ، 219 .
2- سبل الهدی والرشاد 3 : 268 .
3- مغازی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، عروة بن الزّبیر : 121 - 123 ؛ مجمع الزّوائد 5 : 40 ؛ تاریخ الإسلام ، السّیرة النّبویّة : 294 .
4- سبل الهدی والرشاد 3 : 268 و269 ؛ دلائل النّبوّة ، البیهقیّ 2 : 430 و431 .
5- انظر : نفسه : 270 .
6- دلائل النّبوّة ، البیهقیّ 2 : 433 . وبعد ذکره ما نقل موسی بن عقبة من روایة ابن إسحاق ذهب إلی أنّها أصحّ من غیرها کما فعل ابن کثیر فی السّیرة النّبویّة 1 : 178 .

ابن عبد حارثة مع الستّة المذکورین(1) . وبعد إسلام هؤلاء ورجوعهم إلی یثرب تغلغل الإسلام فی أعماق الطّوائف المختلفة للأوس والخزرج . وذکر ابن إسحاق أنّه لم یبق بیت إلاّ وفیه کلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم(2) .

بیعة أهل یثرب للنبیّ صلی الله علیه و آله وسلم

1 - البیعة الأُولی لمسلمی یثرب مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم

لمّا انتشر خبر الإسلام فی یثرب أسلم عدد آخر من أهلها مضافا إلی من أسلم منهم بمکّة . والتقی اثنا عشر منهم بالنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی العقبة فی موسم السّنة المقبلة - السّنة الثانیة عشرة للبعثة - (المقصود من العقبة جمرة العقبة بمنی حیث یقع مسجد البیعة فی جانبه ، وذکره المؤرّخون المتأخّرون)(3) ، وکان عشرة منهم خزرجیّین(4) ، واثنان أوسیّین(5) . (وذهب المقریزیّ إلی أنّ تسعة منهم خزرجیّون ، وثلاثة أوسیّون)(6) . وهؤلاء بایعوا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عند لقائهم به . واشتهرت هذه البیعة ببیعة النّساء . وهذا الاسم مأخوذ من محتوی البیعة الّتی أُخذت من النّساء بعد الفتح علی أساس الآیة الثّانیة عشرة من سورة الممتحنة کما نقل السمهودیّ ذلک [ اقرأ ما بعد

ص: 497


1- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 2 : 430 ؛ الطّبقات الکبری 1 : 219 ؛ دلائل النّبوّة 2 : 435 .
2- عیون التواریخ 1 : 90 .
3- سبل الهدی والرّشاد 3 : 269 ؛ معجم البلدان 4 : 134 .
4- وهم أسعد بن زرارة ، وعوف بن الحارث ، ومُعاذ بن الحارث ، وذکوان بن عبد قیس ، ورافع بن مالک ، وعبادة بن الصّامت ، ویزید بن ثعلبة ، والعبّاس بن عبادة ، وعقبة بن عامر ، وقطبة بن عامر . وفی خبر آخر اسم جابر بن عبد اللّه مکان عبادة بن الصّامت ، الدرر : 38 .
5- وهما أبو الهیثم بن التیّهان ، وعویم بن ساعدة .
6- عدّ منهم البراء بن معرور الأوسیّ إمتاع الأسماع 1 : 33 .

الحدیبیّة (1)] . ولمّا کانت هذه السّورة نزلت بعد صلح الحدیبیّة (إذا کان عنوان «بیعة النساء» مأخوذا من هذه الآیة) فلا جرم أنّ المؤرّخین اختاروا العنوان المذکور لتلک البیعة لاحقا . والثّابت هنا هو أنّ حکم الجهاد لم یُشرّع وقتئذٍ [ ولم یُفْرَضْ یومئذٍ القتالُ (2)] . وفسّر بعض الباحثین بیعة النساء بالبیعة الّتی لم یُفرَضْ فیها القتال (من المحتمل أنّ هذا الرّأی یستند إلی خلوّ البیعة من اسم القتال)(3) . ومحتواها أنّ المسلمین یتعهّدون بألاّ یشرکوا باللّه ، ولا یسرقوا ولا یزنوا ، ولا یقتلوا أولادهم ، ولا یکذبوا فی مولود یوجد [ بنسبته إلی غیر أبیه افتراءً (4)] ، ولا یعصوا فی معروف . «فمن وفی

ذلک فأجره علی اللّه» [ وفی لفظ آخر : «فله الجنّة» ] . ومن لم یَفِ یعذِّبْه اللّه أو یعفو عنه [ وجاء فی نقل آخر: «ومن أصاب من ذلک شیئا فعوقب به فی الدّنیا فهو له کفّارة وطهور ، ومن أصاب من ذلک ] شیئا ] فستره اللّه فأمره إلی اللّه إن شاء عذّب وإن شاء غفر» (5)] . وإذا استثنینا التفاصیل الأخری فإنّ محتوی البیعة هو عین ما جاء فی الآیة الثانیة عشرة من سورة الممتحنة(6) . وتعرف هذه البیعة ببیعة «العقبة الأولی» أو بیعة «العقبة الصّغری» .

ونُقل محتوی البیعة عن عبادة بن الصّامت بشکل آخر . وذکره الذّهبیّ فی تاریخ

ص: 498


1- وفاء الوفاء 1 : 224 ؛ وانظر : أنساب الأشراف 1 : 239 ؛ سبل الهدی والرشاد 3 : 271 ؛ السّیرة النبویّة ، ابن کثیر 2 : 180 . تعبیر السمهودیّ «بعد الفتح» ، ولابدّ أن یکون خطأً إذ إنّ الآیة علی ما ذکر المفسّرون تتناول هجرة النساء بعد صلح الحدیبیّة مجمع البیان 9 : 274 .
2- الطّبقات الکبری 1 : 220 .
3- الصحیح من سیرة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم 1 : 199 .
4- مجمع البیان 9 : 276 ؛ وانظر أیضا : السیرة الحلبیّة 2 : 7 .
5- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 2 : 433 ؛ سبل الهدی والرّشاد 3 : 270 ؛ تاریخ الطّبریّ 2 : 356 .
6- « یَا أَیُّهَا النَّبِیُّ إذَا جَاءَکَ الْمُؤْمِنَاتُ یُبَایِعْنَکَ عَلَی أَن لاَ یُشْرِکْنَ بِاللَّهِ شَیْئاً وَلاَ یَسْرِقْنَ وَلاَ یَزْنِینَ وَلاَ یَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ یَأْتِینَ بِبُهْتَانٍ یَفْتَرِینَهُ بَیْنَ أَیْدِیهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ یَعْصِینَکَ فِی مَعْرُوفٍ فَبَایِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِیمٌ » .

الإسلام [ السّیرة النبویّة ] فی بیعة العقبة الأُولی ، ولابدّ أن یکون سهوا . وهذا الخبر یتعلّق بأُمور طُرحت فی البیعة الثّانیة . وأشار السمهودیّ إلی أنّ حکم القتال (الجهاد) لم ینزل یومئذٍ ، وأضاف أنّه لم ینزل قبل هذه البیعة إلاّ حکم الصّلاة والتوحید(1) . والحقیقة هی أنّ محتوی هذه البیعة نزول عدد من الأحکام الطّبیعیّة والفطریّة . فالزنا لا یمکن أن یکون محمودا عند العرب (وعند غیرهم من الأقوام الأخری) . وکذلک السّرقة ، وقتل الأولاد ، والکذب بشدّة أکثر . وحینئذٍ ینبغی أن نقول : إنّ حدیثی العهد بالإسلام من أهل یثرب بایعوا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم علی الأُصول الفطریّة . ویجب ألاّ نغفل جاذبیّة مثل هذه الخطوة . فهؤلاء عادوا إلی یثرب و«قدموا علی قومٍ قابلین للإسلام»(2) ، حتّی امتدّ الإسلام هناک واتّسع نطاقه . وفی هذا المجال یحوم خلاف حول إیفاد النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم مصعب بن عمیر إلی المدینة بدعوة مسلمیها ، هل کان وقت ذهاب المبایعین المذکورین ، أو بعد حین ؟ فقد ذهب ابن إسحاق إلی الرأی الأوّل(3) ، مع أنّ الرأی الثّانی روی عنه أیضا(4) . أمّا البلاذریّ ، وابن سعد فقد ذکرا أنّ أهل یثرب کتبوا إلی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وطلبوا منه أن یبعث إلیهم مصعب بن عمیر لیعلّمهم القرآن ، وذلک بعد مضیّ مدّةٍ(5) .

وجاء فی خبر ابن شهاب أنّهم أرسلوا إلیه معاذ بن عفراء ، ورافع بن مالک لیبعث إلیهم من یعلّمهم الدّین(6) . ویبدو أنّ هذا الرأی أصوب من غیره . ویعضده عدد من الأخبار الآتیة : قیل : إنّ أسعد بن زرارة کان «أوّل من جمع النّاس بالمدینة» . وذکر

ص: 499


1- وفاء الوفاء 1 : 224 .
2- أنساب الأشراف 1 : 239 .
3- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 2 : 434 ؛ تاریخ الطّبریّ 2 : 357 عن ابن إسحاق ؛ إمتاع الأسماع 1 : 35 ؛ عیون الأثر 1 : 208 .
4- دلائل النبوّة ، البیهقیّ 2 : 437 .
5- الطّبقات الکبری 1 : 220 ؛ أنساب الأشراف 1 : 239 ؛ السّیرة الحلبیّة 2 : 8 .
6- السّیرة النّبویّة ، الذّهبیّ : 294 .

السهیلیّ بشأن هذا «الاجتماع فی الجمعة» أنّه کان قبل نزول حکم (صلاة) الجمعة ، وأنّه نزل بعد هجرة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فحسب . ونقل المؤرّخون أنّ الأوس والخزرج لمّا کانوا یکرهون أن یؤمّ أحدٌ منهم [ بسبب الخلافات القبلیّة ] ، أرادوا أن یتولّی مصعب ابن عمیر إمامتهم(1) . مع أنّ السّمهودیّ ذهب فی هذا الخبر إلی أنّه کان أوّل من «أجمع النّاس فی الجمعة» ، لکن یمکن أن نقول : کان هذا الأمر بعد أن جمع أسعد النّاس ، وطُرحت قضیّة الإمامة فی أوساطهم ، فطلبوا من النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أن یبعث إلیهم مصعبا . وإذا کان مصعب أوّل من أقام الاجتماع الأوّل فی الجمعة ، فلا معنی لذکر أسعد بن زرارة فی المصادر الأُخری ، مع أنّه لا ینبغی أن تطول هذه المدّة .

وذکر البیهقیّ أنّ الجمع بین الخبرین یتلخّص فی أنّ مصعبا کان أوّل من أقام الجمعة بحمایة أسعد(2) . وقال ابن سعد فی مصعب أیضا : «أوّل من جمع فی النّاس جمعة»(3) ونُصَّ فی خبر آخر علی «یوم الجمعة»(4) .

وجاء فی روایةٍ أنّ عدد هؤلاء الأفراد فی الجمعة الأولی (أو أحد الاجتماعات الأُولی) أربعون شخصا(5) . وکانوا یجتمعون فی القسم المسطّح من حرّةٍ تُعرَفُ بحرّة نقیع الخضمات(6) (یبدو أن ذلک کان للاختباء) . والثّابت هو إضافة عدد من الأشخاص إلی النفر الموجودین بنحو سریع ، وقیام مصعب بخطوات کثیرة فی بثّ الإسلام بین أهل یثرب بدعم من أسعد الّذی کان یعیش مصعب عنده . والسّبب

ص: 500


1- وفاء الوفاء 1 : 224 ؛ السّیرة النّبویّة ، ابن کثیر 2 : 181 عن ابن إسحاق ؛ عیون الأثر 1 : 208 .
2- دلائل النّبوّة ، البیهقیّ 2 : 441 ؛ وفاء الوفاء 1 : 224 عن البیهقیّ مع توضیحات أکثر .
3- الطّبقات الکبری 3 : 118 ، 119 . ونقل القول المتعلّق بأسعد أیضا .
4- الأوائل ، ابن أبی عاصم : 40 .
5- دلائل النّبوّة ، البیهقیّ 2 : 441 ؛ وفاء الوفاء 1 : 224 .
6- إمتاع الأسماع 1 : 35 .

الآخر لإرسال مصعب - بعد قدوم الاثنی عشر إلی یثرب روایة عن عروة ؛ وجاء فیها أنّهم کتبوا إلی النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بإرسال شخص من قبله یدعو النّاس إلی کتاب اللّه [ فإنّه أدنی أن یُتَّبَع ] . وأضاف أنّهم کانوا یدعون النّاس خفیةً(1) . والأُسلوب الأکثر استعمالاً فی الدّعوة هو قراءة القرآن . من هنا کان مصعب بن عمیر یُعرَف بالمقرئ(2) .

ونقل البلاذریّ خبر تولّی أسعد إمامة الصّلاة قبل قدوم مصعب عن جماعة ذکروا أنّه کان یقرأ القرآن فحسب حتّی بعد مجیء مصعب . وکان أسعد یؤمّ النّاس فی الصّلاة قبل قدوم سالم مولی حذیفة ، بعد بدء الهجرة(3) .

و ذکر الواقدیّ أیضا أنّ الرّوایة الصّحیحة هی أنّ مصعبا کان یقرأ القرآن ، وأسعد یؤمّ النّاس فی الصّلاة(4) . ولا تنسجم هذه الرّوایة مع الرّوایات السّابقة الّتی یقول بعضها إنّ الأوس والخزرج کانوا فی نزاع حول إمامة شخص منهما . وورد فی خبر آخر (عن ابن عبّاس) أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کتب إلی مصعب بعد قدومه إلی المدینة أن یقیم الجمعة(5) . ونلحظ أنّ الاختلاف فی الرّوایات المذکورة نابع إلی حدٍّ ما من التّعارض بین أخبار الرّواة المدنیّین والمکّیّین (القرشیّین) . وبغضّ النّظر عن هذا الاختلاف ، فإنّ ما تتّفق علیه الرّوایات المعهودة هو الدور الّذی قام به الاثنان فی بثّ الإسلام بیثرب(6) . وجاء فی خبر آخر أنّ ابن أمّ مکتوم أُرسل إلی المدینة مع مصعب(7) .

ص: 501


1- مجمع الزّوائد 6 : 41 عن معجم الطّبرانیّ ؛ وفاء الوفاء 1 : 225 ؛ مغازی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، عروة بن الزبیر : 123 .
2- مجمع الزّوائد 6 : 42 .
3- أنساب الأشراف 1 : 239 .
4- أنساب الأشراف 1 : 243 .
5- وفاء الوفاء 1 : 225 عن سنن الدارقطنی ؛ السّیرة النّبویّة ، ابن کثیر 2 : 181 ؛ واستُفید من هذه الرّوایة أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أذن لهم بإقامة الجمعة . انظر : 1 : 209 .
6- أنساب الأشراف 1 : 243 ؛ أکّد دور سعد [ اجتهد فی دعاء النّاس إلی الإسلام حتّی فشی بالمدینة وکثر ، فکان یجمع بهم فی المدینة کلّ جمعة ] . وتوفّی بعد الهجرة بتسعة أشهر .
7- الدرر : 39 ؛ عیون الأثر 1 : 265 ؛ إمتاع الأسماع 1 : 34 ؛ السّیرة الحلبیّة 2 : 8 ؛ جوامع السّیرة النّبویّة ، ابن حزم : 57 .

ولا ینبغی أن یکون هذا الخبر صحیحا نوعا ما ، مع أنّنا نعلم أنّ الشّخص المذکور یُعَدُّ أوّل مهاجر إلی المدینة بعد مصعب .

وکان أهمّ إنجاز قام به مصعب وأسعد هو إدخالهما سعد بن معاذ فی الإسلام . ونقل ابن إسحاق أنّهما استقرّا قرب بیوت بنی عبد الأشهل ، وبنی ظفر . وحین علم سعد بن معاذ وأُسید بن حضیر بهما همّا بإخراجهما من ذلک المکان (وکان أسعد ابن خالة سعد ابن معاذ) . فأتاهما أسید بن حضیر أوّلاً ، لکنّه تفاعل مع آیات من القرآن سمعها منهما فأسلم ، وتلاه سعد بن معاذ فکان من أمره ما کان من أمر صاحبه .

وقدم سعد بعد إسلامه إلی بنی عبد الأشهل ، وبوصفه سیّدهم وکبیرهم فقد طلب منهم أن یُسلموا . فلبّوا دعوته ، وأسلم بنو عبد الأشهل رجالهم ونساؤهم أجمعین(1) . وأفضی هذا الإقبال إلی تغلغل الإسلام فی بیوتات الأوس الأخری - إلاّ بعضها - ومن ثمّ دخل الإسلام فی معظم الأُسر الیثربیّة . وذکر ابن إسحاق أنّ الّذی حال دون إسلام بعض الأوس هو وجود أبی قیس بن الأسلت بین ظهرانیهم . وهو الّذی کان یُبدی میولاً حنیفیّة أیضا(2) . وأورد الشّامیّ توضیحات أکثر عن مغازی سعید بن یحیی الأمویّ(3) . وجاء فی ذیل ترجمة أبی قیس أنّه کان متأثّرا بعبد اللّه بن أُبیّ . والأخبار المتعلّقة به ، وهل أسلم أم لا ، غیر واضحة إلی حدٍّ ما(4) .

ص: 502


1- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 2 : 437 ؛ السّیرة النّبویّة ، الذّهبیّ : 295 - 297 ؛ سبل الهدی والرّشاد 3 : 273 ، 274 .
2- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 2 : 437 انظر : الهامش الآتی .
3- سبل الهدی والرشاد 3 : 275 ؛ أنکر محقّق الکتاب أن یکون أبو قیس من المتألّهین فی الجاهلیّة . وذکر أنّ هذا الأمر یرتبط بأبی قیس صرمة بن أبی أنس . انظر : الاستیعاب 4 : 157 ، 158 . ولا ینسجم هذا الموضوع مع ما ذکره ابن إسحاق ، ص438 .
4- انظر : الإصابة 4 : 161 ؛ الاستیعاب 4 : 160 .

وأشار ابن عبد البرّ إلی أنّ عددا کبیرا من النّاس أسلم بدعوة مصعب ، وأنّ بنی عبد الأشهل کلّهم أسلموا فی یوم واحد ، وذهب إلی أنّ مخالفة بعض الأوس تعود إلی أبی قیس بن الأسلت ، بید أنّه (کابن إسحاق) ذکر أنّه أسلم بعد الخندق(1) . وجاء فی بعض الأخبار أنّ مصعبا ذهب بعد مدّة إلی مکّة للحجّ ومعه سبعون من مسلمی یثرب . وما یستشفّ ممّا نقله ابن إسحاق ، والبلاذریّ(2) ، وابن کثیر(3) ، والبیهقیّ(4) ، وابن سعد(5) أنّ البیعة تحقّقت مرّتین . الأولی بیعة العقبة الأولی أو الصّغری، والأُخری بیعة العقبة الثّانیة . لکنّ بعض الکتب ذکرت هذا التقسیم بنحو آخر . فقد ذهب ابن عبد البرّ مثلاً إلی أنّ العقبة الأُولی ضمّت ستّة من الخزرج ، والثّانیة اثنی عشر ، والثّالثة سبعین منهم(6) .

وکذلک فعل صاحب کتاب سبل الهدی والرّشاد ، وکتاب عیون الأثر(7) . وذکر السّمهودیّ العقبة الصّغری والکبری ، وقال فی ذیل العنوان الثّانی : یسمّیها البعض العقبة الثّانیة ، لکن لا ینبغی أن تُسمّی الثّالثة بناءً علی ما سلف(8) . ویبدو أنّ سهوا قد حصل بالنسبة إلی الجماعة الثّانیة . وصحیح أنّهم التقوا ثلاث مرّات فی ثلاث جماعات بید أنّ البیعة قد تحقّقت مرّتین فحسب - بیعة الاثنی عشر ، وبیعة السّبعین . ولم تذکر بیعة الجماعة الأولی فی الأخبار التّاریخیّة(9) . ولا بدّ من التذکیر أنّ لقاءً کان قد جری فی العقبة أوّلاً .

ص: 503


1- الدّرر : 39 ، 40 ؛ وانظر : السّیرة النّبویّة ، ابن کثیر 2 : 185 - 191 . یبدو أنّه خلط بین أبی قیس بن الأسلت ، وأبی قیس صرمة بن أنس .
2- أنساب الأشراف 1 : 239 .
3- السّیرة النّبویّة ، ابن کثیر 2 : 179 و192 .
4- دلائل النّبوّة 2 : 430 و442 .
5- الطّبقات الکبری 1 : 219 و221 .
6- الدّرر : 38 - 40 .
7- سبل الهدی والرّشاد 3 : 267 ، 270 ، 277 ؛ عیون الأثر 1 : 262 ، 263 .
8- وفاء الوفاء 1 : 228 .
9- قال الحلبیّ : «فلم یقع لهؤلاء السّتّة أو الّثمانیة» . (السّیرة الحلبیّة 2 : 7 . وفی نفس الوقت نقل قولاً یذهب إلی أنّها العقبة الأولی) .

2 - بیعة العقبة الثّانیة

أثمرت الجهود الّتی بذلها المسلمون الأُوَل فی یثرب ، وکذلک مصعب بن عمیر رسول رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی تغلغل الإسلام فی قلوب عدد کبیر من أهل تلک المنطقة . وکان هذا التّغلغل بفضل قراءة القرآن علیهم فحسب . وهکذا عزم المسلمون علی أن یأتوا مکّة فی قافلة خلال موسم الحجّ القادم ، ویبایعوا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم . وکان من بواعثهم علی هذا العمل أن یخلّصوا النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم من العنت والشّدائد الّتی یلاقیها فی مکّة(1) . وکانوا خمسمائة وبینهم سبعون مسلما . وذکر البلاذریّ أنّ عدد المبایعین فی العقبة سبعون رجلاً وامرأتان(2) . أمّا ابن إسحاق فقد أورد أنّهم کانوا ثلاثة وسبعین رجلاً وامرأتین(3) . وذهب هشام الکلبیّ إلی أنّ سبب الاختلاف هو أنّ بعض المذکورین وصلوا فی وقت کانت البیعة قد تمّت فیه . لکنّ أهلهم زعموا بعد ذلک أنّهم کانوا من أهل العقبة . ولمّا کان مقرّرا ألاّ یتجاوز العدد سبعین ، فقد حُذف بعضهم ، وحلّ محلّهم آخرون(4) .

ومهما کان فقد التقی بعضهم بالنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی مکّة ، ومنهم : عویم بن ساعدة ، وسعد ابن خیثمة وغیرهما(5). وتقرّر أن یلتقوا به فی العقبة خلال مکوث الحجّاج بمنی. وکان مسلمو یثرب إلی جانب سائر الحجّاج الیثربیّین فی اللیلة الموعودة . فلمّا مضی شطر من اللیل ، وأمنوا ألاّ یراهم أحد من أبناء مدینتهم تحرّکوا فرادی صوب العقبة ،

ص: 504


1- السّیرة النّبویّة ، الذّهبیّ : 298 ؛ کانوا یقولون : «حتّی متی نَذَرُ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یطوف فی جبال مکّة ویخاف» .
2- أنساب الأشراف 1 : 251 .
3- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 2 : 441 . ذکر ابن حزم فی جوامع السّیرة النّبویّة : 59 أنّ مجموع المشارکین من الأوس کان أحد عشر رجلاً .
4- أنساب الأشراف 1 : 253 .
5- نفسه .

لیلتقوا فی الشِّعب الّذی کان واقعا هناک . وذکر الواقدیّ أنّهم تواعدوا أن یجتمعوا فی الیوم الثّانی من أیّام التّشریق لیلاً فی الشّعب المذکور ، إلی یمین القادم من منی نحو أسفل العقبة بعد مضی الثّلث الأوّل من اللیل . وأضاف : فی المکان الّذی هو الآن مسجد «البیعة» . وقال لهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : علیهم ألاّ یوقظوا أحدا ، ولا ینتظروا غائبا . وبعد ذلک سار الأنصار فرادی معجّلین نحو هذه المنطقة(1) . والّذی دفعهم علی اختیار هذه اللیلة من أیّام منی هو أنّهم کانوا یستطیعون مغادرة مکّة والتّوجّه إلی یثرب فی الیوم التّالی .

وجاء فی روایة ابن إسحاق (المنقولة عن کعب بن مالک) أنّ العبّاس عمّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کان معه صلی الله علیه و آله وسلم . وتردّد أحد الباحثین فی هذا المجال . ویعود ذلک إلی أنّ الکلام الّذی نُسب إلی العبّاس فی ذلک المجلس جدیر بالتأمّل من جهتین : 1 - توکّأ علی قضیّة الهجرة ، وطلب من الأنصار أن یلتزموا بالمحافظة علی ابن أخیه الّذی یرید التوجّه إلیهم ، فی حین أنّ موضوع الهجرة کان غیر واضح آنذاک . 2 - العبارات الأخری المنقولة تُظهر العبّاس کشخص مؤمن تماما ، بینما ورد فی الرّوایة المنقولة نفسها أنّه کان لا یزال علی دین قومه . وفی أغلب الظنّ (کما أشار الباحث المذکور أیضا) أنّ رجلاً من الأنصار یُدعی العبّاس بن عبادة بن نضلة الأنصاریّ کان حاضرا فی ذلک المجلس أیضا وتحدّث إلیهم . وحدیثه یُشبه کثیرا ما نُسب إلی العبّاس . ومن المحتمل ذِکر اسم العبّاس بن عبد المطّلب فی الأخبار عمدا ، أو فی الأقلّ سهوا . والحدّ الأدنی هو أنّ العبّاس حتّی لو کان حاضرا ، فإنّه لم یقل ما نُسب إلیه .

وجاء اسم الإمام علیّ علیه السلام فی بعض الأخبار أیضا(2) . وذهب الحلبیّ الّذی نقل ذلک إلی عدم وجود تعارض بین هذا الخبر وبین الرّوایة الّتی تقول إنّه لم یکن إلاّ

ص: 505


1- أنساب الأشراف 1 : 253 ؛ الطبقات 1 : 221 .
2- إعلام الوری : 60 ، 61 ؛ بحار الأنوار 19 : 13 .

العبّاس ؛ إذ جاء فی الرّوایة أنّ العبّاس جعل علیّا علیه السلام فی أوّل الشّعب (وجعل أبا بکر أیضا فی آخره) لیرقبوا الوضع(1) . وورد فی روایة کعب بن مالک أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قام بعد کلام العبّاس ، وتلا آیات من القرآن الکریم ، ودعا الناس إلی اللّه ، ورغّبهم فی الإسلام . ثمّ قال فی البیعة : «أُبایعکم علی أن تمنعونی ممّا تمنعون منهُ نساءکم وأبناءکم» . وقال البراء بن معرور : «لنمنعنّک ممّا نمنع به أُزُرَنا ... فنحن واللّه أبناء الحروب وأهل الحلقة» . فعرض ابن التیّهان نقطة أخری قبل البیعة ، وقال : «... إنّ بیننا وبین الرجال حبالاً ، وإنّا قاطعوها - یعنی الیهود - فهل عسیتَ إن نحن فعلنا ذلک ثمّ أظهرک اللّه أن ترجع إلی قومک وتَدَعنا ؟ فتبسّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، ثمّ قال : «الدم الدم ، والهدم الهدم [ یعنی الحرمة ] ، [ أی : ذمّتی ذمّتکم ، وحرمتی حرمتکم ] أنا منکم وأنتم منّی ، أُحارب من حاربتم ، وأُسالم من سالمتم»(2) . ثمّ عاد صلی الله علیه و آله وسلم إلی المدینة بعد فتح مکّة ، وهکذا صدق ما عاهد علیه .

واتّخذ الأنصار فی تلک اللیلة قرارا بالغ الأهمّیّة . وینبغی أن نقول إنّ عددا منهم کان علی علم بأهمّیّة القرار المذکور جیّدا . وبعد ذلک صاروا أمام فریقین مهمّین وهما الیهود وقریش . ولم یحسب أحد نتائج هذه المواجهة بسهولةٍ . وقام العبّاس بن عبادة الأنصاریّ (الّذی استُشهد بأُحد) فی ذلک الجمع وخاطبهم قائلاً : («... هل تدرون علامَ تبایعون هذا الرجل ؟ قالوا : نعم ؛ قال : إنّکم تبایعونه علی حرب الأحمر والأسود من النّاس ، (کنایة عن جمیع الفرق والطّوائف) فإن کنتم ترون أنّکم إذا نُهکت أموالکم مصیبة، وأشرافکم قتلاً أسلمتموه . فمن الآن ، فهو واللّه إن فعلتم خزی الدّنیا والآخرة . وإن کنتم ترون أنّکم وافون له بما دعوتموه إلیه علی نهکة الأموال ، وقتل الأشراف ، فخذوه ، فهو واللّه خیر الدنیا والآخرة» ؛ قالوا : فإنّا نأخذه علی

ص: 506


1- السّیرة الحلبیّة 2 : 16 .
2- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 2 : 442 ، 443 .

مصیبة الأموال ، وقتل الأشراف ؛ فما لنا بذلک یا رسول اللّه إن نحن وفینا [ بذلک ] ؟ قال : الجنّة . قالوا : ابسط یدک ؛ فبسط یده فبایعوه)(1) . وقیل : سُمع فی تلک الحال صوت فی العقبة (یخاطب المشرکین) یقول : «هل لکم فی مذَمَّم والصباة معه ؟ قد اجتمعوا علی حربکم» . فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : «هذا أزبُّ العقبة» (أزب : اسم شیطان). ثمّ قال : «ارفضّوا إلی رحالکم» . فأکّد العبّاس أن لو شاء رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لمالوا علی أهل منیً غدا بأسیافهم . بید أنّه صلی الله علیه و آله وسلم لم یأذن بذلک فرجعوا إلی محلّ قوافلهم(2) .

إنّ العمل المهمّ الّذی قام به رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لإقرار الانضباط بین الأنصار هو أنّه اختار اثنی عشر رجلاً منهم کنقباء لیضبطوا الآخرین ویکون النّاس علی اتّصال بهم . وکانوا یعدّون قیّمین علی من تحت أیدیهم فی الحقیقة . وأکّد صلی الله علیه و آله وسلم أنّه اختار هذا العدد تأسّیا بموسی علیه السلام حین اختار اثنی عشر نقیبا من بنی اسرائیل(3) . وشبّههم بحواریّی عیسی علیه السلام وقال : أنتم علی قومکم بما فیهم کفلاء ککفالة الحواریّین لعیسی ابن

ص: 507


1- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 2 : 446 ؛ تاریخ الطبریّ 2 : 363 ، 364 . ویحوم خلاف حول أوّل مبایع أکان أسعد بن زرارة ، أَمْ أبا الهیثم بن التیّهان ، أَمْ البراء بن معرور . الطّبقات الکبری 1 : 222 .
2- الطبریّ 2 : 365 ؛ السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 2 : 448 ؛ الطّبقات الکبری 1 : 223 .
3- أنساب الأشراف 1 : 254 [ إنّ موسی علیه السلام أخذ من بنی اسرائیل اثنی عشر نقیبا وإنّی آخذ منکم اثنی عشر ] الطّبقات الکبری 1 : 222 . وقال تعالی أیضا : « وَلَقَدْ أَخَذَ اللّه ُ مِیثَاقَ بَنِی إسْرائِیلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَیْ عَشَرَ نَقِیبا » . المائدة : 12 . والجدیر بالالتفات إلی أنّ سورة المائدة لم تنزل یومئذٍ - وقیل کانت من آخر السور النازلة . وعدّ البلاذریّ المبایعین ، وذکرهم مستقلّین علی أساس الانتماء الأُسریّ ، وأورد کلّ فریق من النقباء الّذین کانوا بین الطّوائف . فمن الأوس 12 بینهم ثلاثة نقباء ، ومن بنی النجّار بن حارثة (9) بینهم نقیب واحد ، ومن بنی الحارث بن خزرج (7) بینهم نقیبان ، ومن بنی زریق (7) بینهم نقیب واحد ، ومن بنی سلمة بن سعد (28) رجلاً وامرأة بینهم نقیبان ، ومن بنی ساعدة رجلان وامرأة والرجلان هما النقیبان . ومن بنی عوف (5) أحدهم نقیب علیهم . انظر : أنساب الأشراف : 240 - 251 .

مریم علیه السلام(1) . وجاء فی هذا الخبر أنّ جبریل هو الّذی اختارهم فلا یمتعض أحد . والنقباء من الأوس هم أُسید بن حُضَیر ، وأبو الهیثم مالک بن التیّهان (ذکر البعض رفاعة بن عبد المنذر مکانه)(2) ، وسعد بن خیثمة . أمّا من الخزرج فهم أسعد بن زرارة، ورافع بن مالک ، وسعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو ، والبراء بن معرور ، وسعد ابن الرّبیع ، وعبد اللّه بن رواحة ، وعبد اللّه بن عمرو ، وعبادة بن الصّامت(3) (الّذی ذکر البعض جابر بن عبد اللّه مکانه) . وأمّا المرأتان المشارکتان فهما أمّ عمارة نسیبة بنت کعب ، وأم منیع أسماء بنت عمرو بن عدیّ . واختیر أسعد بن زرارة لمنصب «نقیب النقباء» . وهذا یعود إلی جهوده المکثّفة فی نشر الإسلام بالمدینة . ونقل الواقدیّ أنّه توفّی بعد الهجرة بستّة أشهر (وقیل : تسعة أشهر) .

إنّ ما یتّسم بالأهمّیّة فی هذه البیعة هو الدّفاع عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، وکان صلی الله علیه و آله وسلم معرّضا لتهدید المشرکین بشدّة . وقبل ذلک کان یهمّ فی بثّ الإسلام بالطّائف واللجوء إلیها . بید أنّ العلاقة الوثیقة لأهلها بالمکّیّین حالت دون هذا التّغییر . ولیثرب أن تمثّل نقطة مهمّة فی هذه البیعة من خلال تبنّیها الإسلامَ وقبولها الالتزام بالدفاع عنه صلی الله علیه و آله وسلم ، الّذی یعنی الدفاع عن الإسلام . والنصّ الّذی نقله عبادة بن الصّامت وفیه محتوی هذه البیعة یضمّ نقاطا أخری أیضا : «بایعنا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم علی السّمع والطّاعة فی العُسر والیُسر والمکره والمنشط وألاّ ننازع الأمر أهله وأن نقول بالحقّ حیث کان ولا نخاف لومة لائم»(4) . ونلحظ فی هذا النّصّ ، مضافا إلی الطّاعة والاتّباع فی الشّدّة والرّخاء

ص: 508


1- أنساب الأشراف 1 : 253 ؛ السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 2 : 446 .
2- جوامع السّیرة النّبویّة : 60 .
3- أنساب الأشراف 1 : 254 ؛ السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 2 : 443 ، 444 ؛ الاستیعاب 1 : 83 .
4- أنساب الأشراف 1 : 253 ؛ الموطّأ ، مالک بن أنس مطبوع مع تنویر الحوالک 2 : 4 .

والإکراه والنشاط ، تعبیر «ألاّ ننازع الأمر أهله» الّذی ذکر السّیوطیّ فی شرحه أنّه الإمارة والحکومة(1) .

ومرّ بنا سلفا أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لمّا دعا بنیعامر بن صعصعة إلی الإسلام أجابوه علی شرط أن تنتقل الحکومة بعده إلیهم ، فلم یوافقهم علی ذلک . ومن المحتمل أنّ مثل هذا التعهّد یعود إلی تلک القضیّة أیضا(2) . ویبدو أنّ هجرة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم قد طُرحت فی هذا الاجتماع أیضا . إذ یضاف إلی أنّ الدّفاع عنه صلی الله علیه و آله وسلم یدخل فی هذا المعنی ، ما ذکره ابن حزم أنّ إحدی الفقرات الّتی لم یُبایَع علیها هی [ أن یرحل إلیهم هو وأصحابه (3)].

ولمّا حان غد تلک اللیلة ذهبت قریش - الّتی کانت قد سمعت الخبر - عند الأوس والخزرج ، واعترضت علی ما ینوونه من إخراج النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم من مکّة ، ومبایعته علی حربها . فأشهد مسلمو یثرب مشرکی الأوس والخزرج علی أنّ هذا الخبر غیر صحیح . ثمّ توجّهت نحو عبد اللّه بن أُبیّ الّذی کان له موقعه عند القبیلتین ، وسألته ، فأنکر علمه بذلک وقال لهم : إنّه لا یحسب قومه یقومون بذلک العمل دون إخباره . ومع هذا ظلّت تجوس بعض الأکابر الّذین أسلموا من الأوس والخزرج. فقبضت علی سعد بن عبادة فی منطقة «الأذاخر» بمکّة ، وکالته ضربا وشتما . وحین سمع جبیر بن مطعم(4) خبره طلب منها إطلاقه لما کان له من دور فی المحافظة علی تجارتهم بیثرب وطریق الشّام(5) . ویضیف ابن سعد أنّ الأنصار حین قلقوا علی سعد حاولوا أن یقوموا بعملٍ لخلاصه لکنّهم ذهبوا جمیعهم إلی المدینة بعد قدومه إلیهم ، فانتشر الإسلام فیها بشکل واسع بعد رجوعهم إلیها .

ص: 509


1- تنویر الحوالک 2 : 4 ؛ الصّحیح 2 : 204 عنه .
2- انظر : الصّحیح 2 : 175 - 177 .
3- جوامع السّیرة النّبویّة : 58 .
4- جاء فی الطبقات 1 : 223 ؛ وأنساب البلاذریّ : مطعم بن عدیّ .
5- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 2 : 449 ، 450 ؛ أنساب الأشراف 1 : 254 ؛ الطّبقات الکبری 1 : 223 .

3 - ماهیّة البیعة

ذکرت البیعة لأوّل مرّة فی قضیّة إنذار العشیرة الأقربین . وجاءت کلمة البیعة بصراحة فی بعض الأخبار . ونقرأ فی بعض المواضع «الصّفق علی الید» تعبیرا عن البیعة(1) . ومن الطبیعیّ أنّ أشخاصا آخرین ممّن کانوا یعتنقون الإسلام کانوا یبایعون رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم . بید أنّ الثّابت هو أنّ البیعة طُرحت بشکل عامّ وجادّ فی العقبة الأولی والثّانیة . وبعد ذلک سُنَّتِ البیعة لکلّ مسلم جدید .

ومتابعة هذا الموضوع فی السّیرة النّبویّة یدلّ علی أنّ مفهوم البیعة کان أحد المفاهیم السّیاسیّة الأساسیّة . وهو المفهوم الّذی یربط أفراد المجتمع بقائدهم ، ویحدّد التزاماتهم فیما بینهم . ومن المناسب فی البدایة أن نوضّح المعنی اللفظیّ للمفهوم المذکور أکثر . فالبیع والبائع یطلقان علی المشتری والبائع علی حدٍّ سواء ، بعبارة أخری البیع معاوضة ومبادلة . واستعمال هذا اللفظ فی البیعة یعنی وجود نوع من المعاملة هنا . وذکر ابن الأثیر أنّ البیعة علی الإسلام هی المعاقدة والمعاهدة علی الإسلام ، إذ «کأن کلّ واحد منها باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخیلة أمره»(2). وکانت هذه المعاملة تجری بین العرب بصفق الید علی الید . والمبایعة نوع من المعاقدة . فیتقبّل الطرفان تعهّدا فیما بینهما (طبعا عقد بین طرفین) . وکان هذا التّقلید سائدا فی الجاهلیّة بین أفراد القبیلة ورئیسها ، لاسیّما وقت الحرب ، إذ یتعهّد الأفراد بطاعة رئیس قبیلتهم طاعةً تامّةً . وهو أیضا فی مقام رئاسته یعدّ المدافع عنهم بشکل

طبیعیّ .

ص: 510


1- حول هذه الرّوایة ومصادرها انظر : الغدیر 2 : 278 - 283 .
2- النّهایة 1 : 174 ؛ لسان العرب 1 : 558 ؛ تاج العروس 20 : 370 .

وعُرضت تعاریف کثیرة للبیعة الاصطلاحیّة(1) . وما نرومه فی هذه المباحث هو استعراض التطوّرات التّاریخیّة للبیعة . فالبیعة الّتی جرت فی العقبة الأولی والثّانیة بین المسلمین ونبیّهم صلی الله علیه و آله وسلم کانت تعهّدا بقبول الشّروط الّتی طرحها النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم من جهة ، وتلقّیا لضمانه صلی الله علیه و آله وسلم لهم الجنّة من جهة أخری . وإذا اعتبرنا عنصر «الإطاعة» جدّیّا فی البیعة (والشروط الأخری فروعه) فلا بدّ أن نعدّ القاعدة الأُولی لتشکیل الحکومة (بمعنی إقرار الانضباط السّیاسیّ بین النّاس وقائدهم) هی بیعة العقبة الأولی والثّانیة . ومع أنّ کلّ مسلم - قبل ذلک - قد رضی بمثل هذا التعهّد بنحو عامّ من خلال إظهاره الإسلام (لا بمعناه السّیاسیّ علی وجه التّحدید) ، لکن ینبغی الالتفات إلی ضرورة التدقیق فی ما تتمّ البیعة علیه . وما دام الأمر مرتبطا بأهل مکّة وأوّل المخاطبین بالدعوة الإسلامیّة ، فإنّ أهمّ أمر هنا هو اعتناق الإسلام وترک عبادة الأصنام وأرجاس الجاهلیّة . ولا یتسنّی لنا أن نذکر الأعمال الّتی أُنجزت قبل بیعة العقبة الأُولی والثّانیة کأعمالٍ سیاسیّة ، مع أنّ رأیا نحو هذا قد أُبدی بشأن الهجرة إلی الحبشة إذ تمّ ذلک علی أساس الحزم السّیاسیّ لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم . بید أنّ الحریَّ بالعلم هناک هو أنّ الدّافع علی تلک الهجرة إنقاذ ثلّة ضعیفة من تحکّم النّظام الجاهلیّ ، ومن المحتمل أنّ الحزم السّیاسیّ المذکور کان بعد ذلک ، أی : بعد الهجرة وحدها ، إذ یظلّ المهاجرون بالحبشة عدد سنین ، لیتمکّنوا بعدها أن یمثّلوا قاعدة مضمونة عند الضّرورة .

ویمکننا أن نتحدّث عن الخطوات الأولی للتنظیم السّیاسیّ مع بدء نفوذ الإسلام واتّساع نطاقه فی یثرب . وکان أوّل اتّصال جاد قد تحقّق فی بیعة العقبة الأولی فی السّنة الثانیة عشرة للبعثة . ولهذه البیعة طابع دینیّ ، مع أنّ همسا بنوع من التّنظیم

ص: 511


1- البیعة فی النظام السّیاسیّ : 32 ، 33 .

السّیاسیّ کان یُلحَظ فیها أیضا . وطلب المسلمون الجدد من النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أن یرسل إلیهم مبلّغا ، وسرعان ما انتشر الإسلام فی المدینة بعد ذلک . وتسمیة البیعة المذکورة ببیعة النساء - لخلوّها من القتال والحرب علی ما یُحتَمل - تدلّ علی طابعها الدّینیّ لا العسکریّ . ویضاف إلی ذلک أنّ الموادّ الّتی تمّت البیعة فی ضوئها تتمثّل فی قبول أصل الدّین وحده دون ذکر النّضال والدفاع أو التنظیم السّیاسیّ الخاصّ . وکان أصل البیعة قد طُرح أیضا قبل بیعة العقبة ، وذلک فی حدیث الإنذار « وَأَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ » ، ودعوة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أقاربه(1) . وبالنّظر إلی موادّ البیعة یمکن أن نقول إنّ القضیّة کانت ذا طابع دینیّ فحسب . ویتمثّل محتوی البیعة فی مضمون الآیة الثّانیة عشرة من سورة الممتحنة تقریبا . وانتشر الإسلام بالمدینة استمرارا لهذه البیعة . ویضاف إلی إقامة صلاة الجماعة أنّ صلاة الجمعة قد أُقیمت أیضا باحتمال ضعیف .

وکانت المدینة آنذاک تعانی من مشکلة سیاسیّة مهمّة علاجها رهین بإنشاء جهاز قیادیّ مرکزیّ . فالحروب الطویلة بین الأوس والخزرج دفعتهم إلی التفکیر بتتویج شخص ظلّ محایدا فی تلک الحروب . وکانت الممهِّدات قد أُعدّت لمثل هذا العمل إذ دخل الإسلام یثرب ، فکان البدیل لتلک الفکرة . من هنا طلب أهل المدینة من النّبی صلی الله علیه و آله وسلم أن یهاجر إلیهم . وعُرِض هذا الطّلب فی بیعة العقبة الثّانیة . وفی السّنة الثّالثة عشرة للبعثة جاءت مکّةَ قافلةٌ مؤلّفة من خمسمائة شخص من أهل یثرب . وبینهم قرابة سبعین مسلما ، والتقوا بالنّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وبایعوه قرب الجمرات حیث مسجد البیعة الآن . والنقطة الجدیدة فی هذه البیعة هی الدّفاع عن حیاة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم بعد قدومه إلی یثرب . ودار فی اللقاء المذکور کلام کثیر ، منه أنّ بعض الأنصار تحدّث عن قطع علاقاته بالیهود ، وسألوه صلی الله علیه و آله وسلم هل یبقی بعد النّصر معهم ؟ فأجابهم أنّ ذمّته

ص: 512


1- الغدیر 2 : 283 - 287 .

ذمّتهم وحرمته حرمتهم ، وهو منهم وهم منه ، وأنّه یعادی من عادوا ویوالی من والوا(1) . وکان شرط البیعة فی هذا اللقاء أنّ مسلمی یثرب یدافعون عنه کما یدافعون عن أرواحهم وأموالهم وأهلیهم . وقال البراء بن عازب : نحن أبناء الحرب والسّلاح ، وسندافع عنک کما ندافع عن أعراضنا .

وهکذا أُضیف عنصر جدید فی البیعة الثّانیة ، وهو عنصر «الدّفاع» . وسیتلوه نوع من التّنظیم العسکریّ لحراسة قیادة الدّین الجدید . ولن یکون القائد فی مثل هذا التّنظیم إلاّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم . ولهذا الضّرب من البیعة سوابق فی الماضی أیضا . فقد کان أفراد القبیلة یبایعون قائدهم وقت الحرب . والنّقطة الجدیدة هذه المرّة هی أنّ القضیّة خلت من الطّابع القبلیّ ، وأنّ الّذین أسلموا من جمیع القبائل کانوا یشکّلون جبهةً دینیّةً سیاسیّة واحدة . وقام العبّاس بن عبادة الأنصاریّ فی ذلک الجمع وخاطب مسلمی یثرب قائلاً : «یا معشر الخزرج ، هل تدرون علامَ تبایعون هذا الرجل ؟ قالوا : نعم . قال : إنّکم تبایعونه علی حرب الأحمر والأسود من النّاس (کنایة

عن جمیع طوائف الکفر) . فإنْ کنتم ترون أنّکم إذا نُهکت أموالکم مصیبة ، وأشرافکم قتلاً أسلمتموه ، فمن الآن ، فهو واللّه إنْ فعلتم خزی الدّنیا والآخرة . وإن کنتم ترون أنّکم وافون له بما دعوتموه إلیه علی نهکة الأموال ، وقتل الأشراف ، فخذوه ، فهو واللّه خیر الدّنیا والآخرة»(2) .

وکانت أوّل خطوة لإقرار الانضباط والتّنظیم السّیاسیّ تلک اللیلة قد تحقّقت بمبادرة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، إذ اختار من بین السّبعین الحاضرین اثنی عشر رجلاً بوصفهم نقباء بعدد النقباء الاثنی عشر الّذین اختارهم موسی علیه السلام من أکابر بنی إسرائیل(3) .

ص: 513


1- السّیرة النّبویّة ، ابن هشام 2 : 442 ، 443 .
2- نفسه 2 : 446 .
3- أنساب الأشراف 1 : 254 .

وشبّههم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بحواریّی عیسی علیه السلام وقال : یتکفّلوا قومهم(1) . وعُیِّن أسعد ابن زرارة نقیب النّقباء . وکان من أوائل المسلمین الّذین بذلوا جهودا مکثّفة فی بثّ الإسلام بیثرب . وبعد ذلک مارس النّقیب دورا مهمّا فی إقرار الاتّصال بین القبائل والجهاز الحکومیّ . والمهمّة الّتی خوّلها النّبی صلی الله علیه و آله وسلم النقیبَ هی «لیأخذوا علیهم الإسلام ویعرّفوهم شرائطه» . وبعدها ترادفت کلمة «النّقیب» مع کلمة «العریف» ، أی : مقدّم القوم والمتفقّد أحوالهم . وذهب البعض إلی أنّ النّقیب یعنی الرئیس الکبیر أیضا . والحقیقة أنّ کلمة «النّقیب» قد اشتقّت من «النقب» ، وهو الّذی ینقّب فی شؤون قومه وقبیلته ویَخبرُها .

وکان إحداث منصب النّقابة یعالج مشکلة أساسیّة للحکومة والنّظام المرکزیّ وتتمثّل هذه المشکلة فی أنّ القبیلة ما زالت تحافظ علی تماسکها . وحینئذٍ کیف یتسنّی إخضاعهم لسیادة الحکومة ؟ فالنّقیب هنا یؤدّی دور الوسیط ، إذ یعدّ من القبیلة وأحد رؤسائها من جهة ، کما یعتبر مسؤولاً أمام الحکومة والنّظام من جهة أُخری . وکان منصب النّقابة للقبائل وبعض الشّرائح الاجتماعیّة المنظّمة قائما طوال الخلافة الإسلامیّة . وکان للعلویّین بوصفهم شریحة متمیّزة لهم أواصرهم القبلیّة کما لهم مزیّة

شریحة اجتماعیّة بارزة ، نقیب خاصّ بهم ، ونقیب النقباء أیضا . وهو الّذی یعیّنه الخلیفة عادةً لینظر فی الشّؤون المتعلّقة بارتباط العلویّین بالسّلطة .

التّعبیر الآخر الّذی طُرح فی بیعة العقبة الثّانیة هو أنّنا بایعنا «علی السّمع والطّاعة فی العُسر والیُسر والمکره والمنشط وألاّ ننازع الأمر أهله»(2) . والقسم الأخیر من التّعبیر ، أی : عدم منازعة أهل الأمر تأکید الرضا بحکومة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم مهما کانت الظّروف . وهکذا فإنّ مفهوم الإطاعة وترک النّزاع مع أصحاب الأمر (قایسه بتعبیر

ص: 514


1- أنساب الأشراف 1 : 253 .
2- نفسه 1 : 253 .

«أولی الأمر» فی القرآن الکریم) الّذی یعدّ من القواعد الأساسیّة للسّیادة والحاکمیّة قد طُرح واتُّفق علیه فی لیلة البیعة تلک . وکلّ من کان یبایع فی العصر المدنیّ لم یُصبح مسلما فحسب ، بل یکون عضوا فی المجتمع الإسلامیّ بکلّ التزاماته . ولا بدّ من الإشارة قبل ذلک إلی أنّ الإسلام یؤیّد شرعیّة البیعة بشرط أن یتوکّأ محتواها علی أساس الإسلام . وکانت البیعة تقلیدا مألوفا فی الجاهلیّة ، وتعدّ أُسلوبا لإقرار النّظم السّیاسیّ مبدئیّا .

وکلّ من کان ینضوی فی زمرة المسملین منذ بیعة العقبة الأُولی فما تلاها علیه أن یبایع رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم . ویمکن أن یکون لهذه البیعة طابعها السّیاسیّ والطّاعویّ ، بخاصّة فی اللحظات الحسّاسة کبیعة الرّضوان مثلاً . وتتجلّی الممهِّدات الفکریّة لمثل هذه البیعة فی القرآن الکریم فی مفهوم «العهد» و«العقد» . ولنا أن نقول : إنّ البیعة نفسها من مصادیق العهد ، أو هما سواء(1) . وکانت رعایة العهد والعقد من أمّهات المبادئ الّتی یعمل بها المرء المسلم . وتکرّر هذا الموضوع فی القرآن الکریم ، واستخدمت فیه ألفاظ حادّة حول نقض العهد بخاصّة مع اللّه تعالی(2) . وکما تحدّث القرآن الکریم عن بیع الأنفس للّه (3) (نوع من البیع) ، فکذلک تحدّث عن أصل المبایعة للّه . وذکر الّذین یبایعون رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم « إِنَّ الَّذِینَ یُبَایِعُونَکَ إِنَّمَا یُبَایِعُونَ اللّه َ »(4) ، وتطرّق أیضا إلی النّساء المبایعات (فی ضوء الأُصول المطروحة فی بیعة العقبة الأُولی)(5) .

ص: 515


1- تحدّثت الآیة العاشرة من سورة الفتح فی بدایتها عن البیعة ، ثمّ تطرّقت إلی الوفاء بالعهد .
2- « الَّذِینَ یَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِیثَاقِهِ وَیَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ یُوصَلَ وَیُفْسِدُونَ فِی الْأَرْضِ أُولئِکَ هُمُ الْخَاسِرُونَ » البقرة : 27 ؛ وانظر : الرّعد : 20 ، 25 .
3- « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ یَشْرِی نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه ِ » . البقرة : 207 .
4- الفتح : 10 .
5- الممتحنة : 17 .

إنّ المهمّ فی البیعة علی عهد النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم هو محتوی البیعة نفسها . وبیعتهم إیّاه معلَم علی تمسّک المبایع والتزامه بالعمل بالمسائل الدّینیّة وطاعة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم . وکانت البیعة فی عصر الرّسالة تعنی أنّ المشرک کان یقرّ بالإسلام طواعیة . ولمّا کان علیه أن یکون ملتزما بهذا الإقرار الاختیاریّ ، فإنّه یبایع رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم . ویتلو ذلک صیرورته عضوا فی المجتمع ، أی : کما کان یستمتع ببعض الحقوق ، فعلیه أن یقبل ببعض القیود (فیقول ما یقوله الشّرع مباشرةً ، وینفّذ ما تریده الحکومة ، فی إطار الطّاعة طبعا لا فی إطار معصیة الحقّ) . وبعد ذلک حین لم یکن الإعراض عن الشّرک والإقبال علی الإسلام مطروحا ، کانت البیعة تحمل معنی قبول السّیادة الجدیدة(1) .

إنّ الموضوع المهمّ الّذی ینبغی الالتفات إلیه هنا هو هل کانت البیعة بمعنی التّصویت ؟ فالثّابت هو أنّ هذا الأمر لا ینطبق علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ولا علی کلّ شخص آخر یتمتّع بقدرة اللّه تعالی . وإذا فسّر أحدٌ البیعة بالتّصویت ، والحقّ الطّبیعیّ للفرد(2) ، فسوف یُمنی بإشکالٍ فی ما یخصّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم والبیعة المذکورة فی القرآن الکریم . ومهما کان جواب السّؤال المذکور ، فلا تأثیر له فی هذا الأمر ، إذ إنّ المعنی الواضح للبیعة فی عصر الرّسالة هو الموافقة والإعراب عن الرّضا بالإسلام فی الدّرجة الأُولی ، وبعد ذلک قبول حکومة النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، أی : حکومة من أحرز شرعیّتها بأمر اللّه سبحانه (القرآن الکریم) « أَطِیعُوا اللّه َ وَأَطِیعُوا الرّسُولَ » . وتُعَدُّ البیعة

ص: 516


1- تعریف ابن خلدون هو : «إنّ البیعة هی العهد علی الطّاعة کأنّ المبایع یعاهد أمیره علی أن یسلم له النظر فی أمر نفسه وأمور المسلمین لا ینازعه فی شیء من ذلک ویطیعه فی ما یکلّفه به من الأمر علی المنشط والمکره» . المقدّمة : 719 ، 720 ؛ وانظر أیضا : التّراتیب الإداریّة 1 : 22 .
2- النّظریات السّیاسیّة الإسلامیّة ، السنهوریّ : 165 ، 166 ، نقلاً عن نظام الحکم فی الإسلام ، النبهان : 436 . مبدئیّا إنّ استعمال کلمة البیعة فی العهد الوارد فی القرآن یدلّ إلی حدّ کبیر علی خطأ تفسیره بالتّصویت .

فی تلک الفترة ، مضافا إلی اعتناق الاسءلام ، نوعا من ولاء المسلم وتمسّکه بالإسلام لاأکثر . وبعامّة بایع رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم النّاس بیعة عامّة مرّتین (وبعبارة أخری ثلاث مرّات)(1) . إحداهما فی العقبة ، والأُخری فی صلح الحدیبیّة ، وهی الّتی تُعرف ببیعة الرّضوان . بید أنّا کما ذکرنا سابقا أنّ کلّ مشرک کان یسلم ، کان یبایع النّبیّ صلی الله علیه و آله وسلم منفردا .

والبیعات الّتی تحقّقت خلال هذه السّنین تشمل حالات عدّة . ونشیر إلیها فی ما یأتی مجملاً : مرّ أنّ البیعة تمّت فی العقبة الأُولی لأُمور وردت فی الآیة المتعلّقة ببیعة النّساء ، وهی ، ألاّ یُشرَک باللّه ، ولا یُسرق ، ولا یُزنی ، ولا یُقتَل الأولاد ، ولا یؤتی ببهتان (فی الابن المولود وأبیه) ، ولا یُعصی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی المعروف(2) . أمّا البیعة الثّانیة (علی ما نقل عبادة بن الصّامت) فقد کانت بیعة علی الطّاعة فی العُسر والیُسر ، والإکراه والاختیار ، وترک منازعة أولی الأمر (الحکومة) ، والجهر بالحقّ وعدم الخوف من کلّ شیء(3) . ویضاف إلی ذلک أنّ البیعة قائمة علی أساس أنّ الدّفاع عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم هو کالدفاع عن أنفسهم وأولادهم ، وهذا من الفقرات الأصلیّة فی البیعة المذکورة . وأمّا البیعات المفردة التالیة فقد کانت متوکّئةً علی الإسلام ، والهجرة ، والجهاد نوعا ما(4) . وبعد فتح مکّة کانت علی الإسلام والجهاد فحسب(5) . ومن الواضح أنّ البیعة فی جمیع هذه الحالات کانت قائمة علی قاعدة الإسلام(6)البخاریّ 2 : 143 ؛ مسند أحمد 3 : 170 ، 187 ، 205 ، 252 ، 288 ؛ وجاء فی مغازی الواقدیّ 2 : 453 «الجهاد» مکان «الإسلام» . و ثمّه

ص: 517


1- التراتیب الإداریّة 1 : 222 . نقل عن القرطبیّ قوله : «کانت مبایعته صلی الله علیه و آله وسلم لأصحابه بحسب ما یحتاج إلیه من تجدید عهدٍ أو توکید أمرٍ» .
2- الممتحنة : 12 .
3- أنساب الأشراف 1 : 253 ؛ البخاریّ 4 : 245 ؛ النّسائیّ 7 : 139 .
4- مسند أحمد 3 : 349 ، 350 ، 372 .
5- صحیح البخاریّ 2 : 163 .
6- کان الصّحابة ینشدون عند حفر الخندق : نحن الّذین بایعوا محمّدا * علی الإسلام ما بقینا أبدا

خلاف حول فقرات البيعة في صلح الحديبيّة . فقد قيل : «بايعناه على الموت» أي الصّمود حتّى الاستشهاد(1) . ورفض البعض هذا الخبر وقال : «بايعناه على أن لا نفرّ» أي : البيعة على ألاّ يفرّوا من ساحة القتال(2) . وورد في خبر آخر أيضا : البيعة على الصبر لا على الموت(3) . وفي خبر غيره : «على ما يطيقون»(4) . وجاء لفظ «حدّ الاستطاعة» في أخبار أُخرى أيضا(5) . وكانت النّساء تُبايَع بشرط «أن لا يقعدن مع الرّجال في خلاء وأن لا يحدّثن من الرّجال إلاّ محرما»(6) .

وذُكر «النّصح لكلّ مسلم» في سياق هذه الأخبار أيضا(6) . وجاء القول بالعدل (وفي روايةٍ القول بالحقّ) في رواية عبادة بن الصّامت(7) . ولفظ «على فراق المشرك» ، الّذي يمكن أن يعني الهجرة ، من الموادّ الّتي بويع عليها(8) . وإقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة من الموادّ الّتي بويع عليها أيضا(9) . وفي بيعة العقبة الثّانية بويعت امرأتان أيضا . وجاءت بيعة النّساء في بعض الكتب كصحيح البخاريّ(10) ، وسنن النّسائيّ(11) بوصفها فصلاً خاصّا . واهتمّ الآخرون بهذا الموضوع أيضا ونقلوا عشرات الرّوايات في هذا المجال .

ص: 518


1- (1)أنساب الأشراف 1 : 351 ؛ البخاري 2 : 163 ؛ مسند أحمد 4 : 47 ، 51 ، 54 .
2- (2) سنن الدارمي 2 : 220 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 99 ، 100 ؛ سنن النّسائيّ 7 : 141 .
3- (3) البخاريّ 2 : 163 .
4- (4) نفسه .
5- (5) نفسه 4 : 245 ؛ سنن النّسائيّ 7 : 147 .
6- (7) البخاريّ 4 : 245 ؛ سنن النسائيّ 7 : 140 .
7- (8) سنن النّسائيّ 7 : 139 .
8- (9) نفسه 7 : 148 .
9- (10) نفسه .
10- (11) البخاريّ 4 : 247 .
11- (12) سنن النّسائيّ 7 : 149 .

ويتجسّد التّفاوت الرّئيس في أُسلوب البيعة الّتي لم تكن عن طريق المصافحة ، وبعد ذلك حين صار أخذ البيعة من النّاس إجباريّا ، وشاع نقض العهد ، كان الخلفاء يطلبون من النّاس أيمانا مغلظة مع البيعة . ولم يستشرع مالك بن أنس هذا العمل فوبّخته الحكومة واضطهدته(1) . وظلّ هذا التقليد قائما لقرون كسنّة سياسيّة للخلافة ، وكانت له آدابه وتقاليده الإداريّة الخاصّة به . منها أنّ نصوصا كثيرة كانت تعدّ مكتوبةً ، وتتمّ البيعة في ضوئها . وأورد القلقشنديّ بحوثا ناشئة للبيعة وآدابها وأسبابها في كتابه صبح الأعشى(2) .

أسباب الانتشار السّريع للإسلام في المدينة

إنّ نظرةً على كيفيّة انتشار الإسلام في المدينة تدلّ على أنّه قد امتدّ فيها منذ السّنين الأُولى (من السّنة الثانية عشرة للبعثة حتّى الهجرة النّبويّة) ، وقد اعتنقه النّاس بعد الهجرة إلاّ طوائف محدودة . ولا يقاس هذا الامتداد بطريقة امتداده في مكّة أبدا . من هنا لا بدّ أن تكون له أسبابه الخاصّة . ويمكن أن نشير إلى عدد من القضايا الّتي قد يشكّل بعضها حالةً خاصّة ، لكنّا نستطيع تعميمه إلى حدٍّ ما . وللحالات الأُخرى بُعد تحليليّ عامّ .

أ - إنّ من القضايا الّتي يمكن أن تشكّل حالةً خاصّة كما يمكن أن تكون لها قاعدة تحليليّة عامّة هي أنّ أهل المدينة كانوا على استعداد أكبر للتّفاعل مع القرآن الكريم . وينبغي أن ننظر إلى هذا الاستعداد في معنويّاتهم والموقع الخاصّ لمجتمعهم . وسنتحدّث في الأقسام التّالية عن قسم من هذه الظّروف وفوارقها عن وضع مكّة .

ص: 519


1- (1) التراتيب الاداريّة 1 : 223 ؛ نظام الحكم في الإسلام للنبهان : 435 (نقلاً عن مقدّمة ابن خلدون : 719 ، 720) .
2- (2) صبح الأعشى 9 : 273 - 309 .

ولابدّ لنا هنا أن نتوكّأ على القرآن نفسه بوصفه معجزة . وكان أوّل خطوة في تعرّف النّاس على الإسلام في سياق الدّعوة النّبويّة تلاوة آيات قرآنيّة . كما أنّ بثّ الإسلام في المدينة قد تحقّق بفضل رسول رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم مصعب بن عمير عبر تلاوة القرآن . وبلغ هذا التأثير مبلغا أنّه نُقل عن النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم قوله : «فُتِحت المدينة بالقرآن»(1) . وأهمّ عامل في إسلام سعد بن معاذ ، وأُسيد بن حُضَير هو آي القرآن الكريم كما ذكرت ذلك جميع المصادر .

ب - إنّ مجاورة اليهود وسماع الأخبار الّتي كانت تبشّر بظهور نبيّ جديد عاملان مؤثّران في انتشار الإسلام وتقدّمه بين أهل المدينة . ونقل ابن إسحاق أنّ اليهود الّذين كانوا يعيشون مع عرب الأوس والخزرج في هذا البلد ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، يهدّدون من ينازعهم من العرب بظهور نبيّ فيهم ، ويعدونهم أنّهم سيتّبعونه ويقتلونهم قتل عاد و إرم(2) . وهذا ما أدّى إلى أن يقول بعض الأنصار لغيرهم منذ أوّل يومٍ دُعوا فيه إلى الإسلام : «هذا هو الرّسول الّذي كان يبشّر اليهود بظهوره ، فلا يسبقوكم إليه»(3) .

وذكر البلاذريّ أيضا أنّهم كانوا قبل ذلك قد سمعوا باسمه وصفاته من اليهود(4) . ونقرأ في القرآن الكريم آيات بيّنة حول علم يهود المدينة بالرّسالة المحمّديّة . وهي تدلّ على أنّها كانت مُثارة تماما في تلك الظّروف . وذُكر بهذا الشّأن إسلام عبد اللّه بن سلام أحد أحبار اليهود بيثرب . ويحوم خلاف حول تاريخ إسلامه . ويبدو أنّ هناك

ص: 520


1- (1) فتوح البلدان : 21 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 428 ، 429 (بتلخيص) ؛ تاريخ الطّبريّ 2 : 353 ، 354 ؛ سبل الهدى والرشاد 3 : 267 .
3- (3) دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 2 : 434 ؛ جوامع السّيرة النّبويّة : 56 ؛ وفاء الوفاء ، السّمهوديّ 1 : 221 - 223 .
4- (4) أنساب الأشراف 1 : 239 .

من ضخّمه وهوّله (إمّا لدور إسلامه أو لدوره الّذي أدّاه فيما بعد في الحديث والسّياسة [ لا سيّما في أحداث عثمان ] بوصفه كان يهوديّا ثمّ أسلم . وذهب الشّعبيّ إلى أنّه أسلم في السّنة الثّامنة للهجرة(1) ، ولم تنزل فيه آية قطّ(2) . وانظر في المصدر المذكور في الهامش للاطّلاع على كيفيّة إسلامه(3) . وما تُجمع عليه المصادر هو أنّه أسلم استنادا إلى ما كان في يده من أخبار التّوراة وغيرها من آثار اليهود حول ظهور نبيّنا صلى الله عليه و آله وسلم . وكذلك كان إسلام سلمان الفارسيّ إذ توكّأ على الأخبار نفسها(4) . ونحن هنا في سياق قبولنا الأدلّة الثّابتة المسوقة لا نستبعد احتمال وجود بعض الأخبار الموضوعة في هذا المجال أيضا . بخاصّة إذا كان رواتها من اليهود الّذين أسلموا ، وبنقلهم لها يرومون التّغلغل في ثقافة المسلمين ، وقد حقّقوا بعض النّجاح أيضا . ويضاف إليه أنّ الطّابع القصصيّ قد ألقى ظلاله على مثل هذه الأخبار ، فلا بدّ من التّأمّل الأكثر فيها للظّفر بحقائقها . وممّا يُثير العجب هو ما زُعم في بعض الأخبار القصصيّة باشتمال الكتب السّماويّة ليس على اسم النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أو صفاته فحسب ، بل أسماء أو صفات الخلفاء فردا فردا ، بل النّاس العاديّين حتّى نهاية القرن الأوّل . وهذا أساسا بحث ينبغي مواكبته في المباحث الاعتقاديّة [ مبحث النّبوّة الخاصّة] .

ج - إنّ من الأسباب البيّنة الّتي أدلى بها المؤرّخون حول امتداد الإسلام في المدينة هو الوضع المتأزّم المتوتّر في يثرب للخلافات القبليّة . وقد تحدّثنا سلفا عن طبيعة علاقات الأوس والخزرج، وكذلك اليهود ، وأسباب تكتّلاتهم وكيفيّتها . وما كان مهمّا عند سكّان المدينة هو نيل الوحدة والموادعة . وفي هذا المجال تهيّأت مقدّمات معيّنة ، بيد أنّ ظهور الإسلام وعرضه في المدينة مهّد الطريق لإقرار سلام حقيقيّ دائم . وأوّل

ص: 521


1- (1) الإصابة 2 : 320 .
2- (2) مشكل الآثار 1 : 137 .
3- (3) الصّحيح 3 : 11 - 15 .
4- (4) انظر : دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 2 : 82 - 100 .

مجموعة التقت برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم - وهي المجموعة الخزرجيّة السداسيّة - قالت له : إنّا قد تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشّرّ ما بينهم ، فعسى أن يجمعهم اللّه بك . فسنقدم عليهم ، فندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الّذي أجبناك إليه من هذا الدّين ، فإنْ يجمعهم اللّه عليه فلا رجل أعزّ منك(1) .

وجاء في خبر آخر (عن عروة) أنّهم طلبوا من النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أن يمهلهم تلك السّنة نظرا إلى الوضع المتوتّر الحافل بالخلافات في يثرب ، ليعودوا ريثما تهدأ الأجواء (بعد حرب بُعاث بين الأوس والخزرج) ، ثمّ يلتقوا به في السّنة القادمة في موسم الحجّ(2) .

وتدلّ رواية عن عائشة بصراحة على أنّ الخلافات السّابقة ، بخاصّة يوم بُعاث كانت ممهّدا مهمّا لنشر الدّعوة الإسلاميّة في المدينة . تقول : «كان يوم بُعاث يوما قدّمه اللّه لرسوله صلى الله عليه و آله وسلم ، فقَدِم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وقد افترق ملؤهم ، وقُتلت سرواتهم وجُرِّحوا ، فقدّمه اللّه لرسوله صلى الله عليه و آله وسلم في دخولهم في الإسلام» .

وتوثّقت آصرة الأوس والخزرج بعد هجرة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم . وعلى الرغم من وجود بعض ممهّدات الخلاف وتآمر بعض المنافقين ، لم ينشب بينهما نزاع وخلاف مادام رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم حيّا .

د - إنّ من الأُمور الخاصّة الّتي رغّبت بني عبد الأشهل قاطبة في الإسلام وجعلتهم يعتقدون به هو دور سعد بن معاذ . فقد أسلم هذا الرجل الّذي كان سريّهم على يد مصعب بن عمير بعد سماعه آيات من القرآن الكريم . ثمّ جاءهم وسألهم عن رأيهم فيه ، فقالوا : «سيّدنا وأفضلنا رأيا وأيمَنُنا نقيبةً . قال : فإنّ كلام رجالكم ونسائكم عليَّ

ص: 522


1- (1) دلائل النبوّة ، البيهقيّ 2 : 434 ؛ تاريخ الطبريّ 2 : 354 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 429 ؛ نهاية الإرب 16 : 311 ؛ جوامع السّيرة النّبويّة : 56 ؛ عيون الأثر 1 : 205 ، 206 ؛ وفاء الوفاء ، السّمهوديّ 1 : 223 .
2- (2) مجمع الزّوائد 6 : 40 ؛ مغازي رسول اللّه لعروة بن الزبير : 123 ؛ سبل الهدى والرّشاد 3 : 267 .

حرام حتّى تؤمنوا باللّه ورسوله ... فواللّه ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلاّ مسلما أو مسلمةً ، حاشا الأُصيرم ، وهو عمرو بن ثابت بن وقش فإنّه تأخّر إسلامه إلى يوم أُحد فأسلم واستُشهد ولم يسجد للّه سجدةً»(1) .

وحينما تشدّد بنو النجّار - بعد العقبة الأُولى - على أسعد بن زرارة ذهب مصعب ابن عمير عند سعد بن معاذ واستمدّه ، فواصل جهوده التبليغيّة بمعاضدته(2) . واستطاع سعد بوجاهته عند بني عبد الأشهل ونفوذه المعنويّ فيهم أن يخطو خطوة مهمّة في بثّ الإسلام بيثرب . ومن الحريّ بالعلم أنّ التّركيبة القبليّة القائمة على تبعيّة الأشخاص لشرفاء قومهم كانت عقبة كؤودا في طريق انتشار الإسلام بين العرب لسنين ، مع وجود بعض الاستثناءات كنفوذ سعد في بني عبد الأشهل ، الّذي أدّى إلى إسلامهم . وكذلك حريّ بالعلم أنّ أحد الأسباب الّتي أفضت إلى بقاء المكّيّين على كفرهم هو الموقف المضادّ لهذا التوجّه في بني عبد الأشهل .

ه - كان لوجود الأفكار التّوحيديّة في المدينة ، الّتي تمثّل امتدادا للنّزعة الحنيفيّة في مكّة أن يشكّل أرضيّة مناسبة لبثّ الإسلام . وكانت أفكار الحنفاء تتّفق مع الإسلام تماما في أمر التّوحيد ، فيمكن أن تكون قاعدة مناسبة لتنامي الإسلام .

وكان أبوقيس صرمة بن أبي أنس (الّذي وهم بعض كتّاب السِّيَر فظنّوه أبا قبيس صيفي بن الأسلت)(3) أحد الحنفاء المدنيّين . وذكر ابن قُتيبة أنّه كان من بني النجّار وقد ترهبن ، وترك عبادة الأصنام ، حتّى عزم على أن يتنصّر ، لكنّه امتنع عن قبولها في نهاية الأمر . وكان يقول إنّه يعبد ربّ إبراهيم .

ويضيف قائلاً : لمّا هاجر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إلى المدينة أسلم أبو قيس . وله شعر في الجاهليّة قال فيه :

ص: 523


1- (1) سبل الهدى والرشاد 3 : 274 ؛ عيون الأثر 1 : 212 .
2- (2) دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 2 : 432 ؛ السّيرة النّبويّة ، الذّهبيّ : 295 .
3- (3) انظر : سبل الهدى والرّشاد 3 : 275 .

سَبَّحوا شرقَ كلِّ صباح * طلعت شمسه وكلَّ هلال

ونقل ابن قُتيبة شعرا له في مدح رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم (1) .

وهذا مثال رائع لوجود الأفكار التّوحيديّة في يثرب قبل الإسلام(2) . وحضور مثلها يمثّل الأرضيّة التّوحيديّة الموجودة بيثرب لقبول الإسلام الّذي كان يروّج للدّعوة الإبراهيميّة . وجاء في أسعد بن زرارة ، وأبي الهيثم بن التيّهان أيضا أنّهما كانا «يتكلّمان بالتّوحيد بيثرب»(3) .

و - كان الأساس الواهي للشّرك والصنميّة عاملاً آخر في عدم مقاومة المشركين أمام الإسلام والدّفاع عن الصنميّة . وكان للمكّيّين رغبة أكثر في الأصنام ، بخاصّة أنّ لها علاقة وثيقة بمصالحهم الاقتصاديّة والسّياسيّة . أمّا اليثربيّون (نظرا إلى قربهم من اليهود كأُولي دين سماويّ توحيديّ)(4) فلا ينبغي أن تكون لهم تلك العلاقة الوثيقة بالصنميّة كالمكّيّين(5) ، طبعا لا بالحجم الّذي يمكن أن ينزعوا عنه ببساطة .

ويُلحَظ نموذج رائع عن وجود الفراغ الفكريّ - العقائديّ في المدينة ، ذلك الفراغ الّذي يمكن أن يتنازل بسهولة أمام رؤية توحيديّة أصيلة (بخاصّة أنّها عربيّة لا إسرائيليّة كرؤية اليهود) . وخبر إسلام عمرو بن الجموح مصداق للفراغ المذكور . فقد كان الرجل شيخا من شيوخ بني سلمة ، وقد ظلّ على شركه حتّى بعد عودة المبايعين في العقبة الثّانية . وكانت شيخوخته تتطلّب ذلك . وقام فتيان من قبيلته كمعاذ بن جبل ، ومعاذ بن عمرو ليلاً بإلقاء صنم كان يحتفظ به في بيته في حفرة بها عَذِر النّاس . فوجده عمرو في غد تلك الليلة وطهّره . ثمّ ألقياه مرّة أُخرى . فعثر عليه أيضاً

ص: 524


1- (1) المعارف ، ابن قتيبة : 61 .
2- (2) انظر : سبل الهدى والرّشاد 3 : 275 .
3- (3) الطّبقات الكبرى 1 : 218 .
4- (4) انظر : من تاريخ الأدب العربيّ ، طه حسين 1 : 156 .
5- (5) انظر بهذا الشّأن : الصّحيح 2 : 194 .

وطهّره . وفي الليلة الثّالثة قال له : «إنّي واللّه ما أعلم من يصنع بك ما أرى ، فإنْ كان فيك خير فامتنع فهذا السّيف معك !» وعاد إليه المعاذان وألقياه في الحفرة أيضا بعدما قرنا به كلبا ميّتا بحبل ، فلمّا رآه عمرو هذه المرّة «أبصر شأنه» فأسلم وأنشد مخاطبا الصنم :

واللّه لو كنتَ إلها لم تكن * أنت وكلب وسطَ بئرٍ في قَرَنْ

... الحمد للّه العليّ ذي المِنَن* الواهب الرزّاق ديّان الدِّيَنْ(1)

ورضي الإسلام دينا بكلّ وجوده ، وشهد أحدا على عرجته واستُشهد فيها . وينبغي أن نعدّ موقف الفتيَين المسلمَين من صنم عمرو استلهاما من موقف إبراهيم عليه السلام حيال أصنام قومه .

ز - إنّ من النقاط الّتي كانت تحول دون إسلام المكّيّين هي وجود الإتراف الماليّ في مكّة . وأسبغ هذا الإتراف ملحقا به الإتراف القبليّ صبغةً على مكّة لم يكن لها نظير في سائر المراكز والقبائل . وهذا الإتراف الّذي ورد ذكره في القرآن الكريم ، وأصحابه المترفون ، كان يرى الإسلام معارضا لكيانه . وإصرار القرآن على مخالفة المترفين للأنبياء(2) آية على الوضع السّائد بمكّة . ومثل هذا الإتراف لم يكن له وجود في المدينة لأنّها ما كانت مدينة تجاريّة . علما أنّ حسّ انعدام الإتراف ، بمعنى أنّه كان عاملاً مهمّا يمكن عبر نفوذه في النّاس أن يحول دون إسلامهم ، لم يكن في تلك البيئة . وهذا نفسه ممهِّد لامتداد الإسلام بين أهل المدينة أسرع ما يكون . وفي مقابل ذلك ، نقول بكلمة واحدة (كما مرّ سلفا) : إنّ المتنفّذين في يثرب كانوا أوّل من أسلم .

ح - ينبغي أن نضع في حسابنا الخصائص القبليّة أيضا . فكانت القبائل الشماليّة أو

ص: 525


1- (1) سبل الهدى والرّشاد 3 : 309 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 452 ، 453 .
2- (2) سبأ : 34 . « وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِن نَذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ »وانظر : سورة الزخرف : 23 ، 43 .

العدنانيّة (ومنها قريش) تتميّز على القبائل الجنوبيّة أو القحطانيّة (ومنها الأوس والخزرج) بأنّها أكثر أعرابيّة منها وكان التعصّب والقسوة عندها أكثر من عرب الجنوب . ولعلّ هذا يعود إلى التفوّق الحضاريّ الّذي كان موجودا في جنوب الجزيرة العربيّة .

ويمكن أن ندرك هذه الرّوح الهادئة لعرب الجنوب بنحو أفضل ، مضافا إلى عمل عرب المدينة - في بساتين النّخل وأحيانا الزّراعة - في مقابل المكّيّين الّذين كانوا يعملون في التّجارة(1) . وكان لأهل المدينة تعامل أكثر فطريّة وطبيعيّة ممّا يترك تأثيره في قبول الإسلام . ونُقل عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قوله في أهل اليمن : «أهل اليمن أضعف قلوبا وأرقّ أفئدةً»(2) .

وينبغي أن نضع في حسابنا أيضا تنافس عرب الجنوب والشّمال . فحينما ذهب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بين الأنصار كان جليّا أنّهم بسبب منافستهم الأُصوليّة لعرب الشّمال لن يسلموه لهم أبدا . وكان لهذا الأمر أثره في تعميق التّوجّه الإسلاميّ بالمدينة أكثر فأكثر .

ودلّ النموّ السّريع للإسلام بالمدينة على أنّ الدّعوة الإسلاميّة لم تتّخذ الطابع القبليّ قطّ ، بخاصّة من نوعه القرشيّ ، بل كانت دعوة إلهيّة رغب فيها أُولو الفطرة النقيّة الّذين لم تربطهم بصاحب الدعوة أيّة وشيجة قبليّة . بينما نلحظ في المقابل أنّ قريشا الّتي كانت أهله وعشيرته قد انبرت له ووقفت بوجهه عدد سنين . وهذه كانت خسارة من جهات ، لكنّها كانت دليلاً ساطعا وافيا على صواب الدعوة الإسلاميّة وسلامة باطنها .

ص: 526


1- (1) من هنا ذهب جواد عليّ إلى أنّهم ألين عريكة وأوسع صدرا ، انظر : المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام 4 : 132 .
2- (2) البخاريّ 3 : 81 .

الهجرة إلى المدينة وقضاياها

1 - مفهوم الهجرة

«الهَجْر» في اللّغة ضدّ «الوصل» . بعبارة أخرى يشكّل «الفصل والتّرك» المعنى الأصليّ لهذه الكلمة سواءً كان باللسان أم بالقلب أم بالبدن(1) . وهَجَر الشّرك أي : ابتعد عنه . وكذلك الآية « وَاهْجُرْهُمْ هَجْرا جَمِيلاً »(2) بهذا المعنى . و«المهاجرة» في الأصل مفارقة الغير وتركه(3) . وعند العرب «خروج البدويّ من البادية إلى الحاضرة» . ويقال لمن ترك مسكنه وذهب إلى قوم آخرين : هاجر قومه(4) . من هنا ، فإنّ استعمالات «الهَجْر» في الأصل بمعنى الابتعاد والتّرك . وجاء في القرآن الكريم قوله تعالى : « إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورا »(5) . وقوله سبحانه : « وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ »(6) . لكنّ أكثر استعمالاته في التّرك المكانيّ . والمعنى الاصطلاحيّ لهذه الكلمة الهجرة من مكّة وسائر نقاط (دار الشّرك) إلى المدينة (دار الإسلام) . ومن المحتمل أنّ لقوله : « إِنّى مُهَاجِرٌ إِلى رَبِّى »(7) معنىً مكانيّا ومعنويّا . ووردت الهجرة في الرّوايات بمعنى هجر الرجس والإثم «الهجرة أن تهجُر الفواحش»(8) . وحين سُئل رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عن أفضل الهجرة ، قال : «أنْ تَهْجُرَ ما كَرِهَ رَبُّكَ»(9) . وجاء أيضا : «المهاجر من هَجَرَ السيّئات وترك ما حرّم اللّه»(10) . وقيل في مهاجري المدينة : «هاجِروا ولا تهجّروا»(11) . ونستبين هنا مسارا لموضوع الهجرة وتبعاتها .

ص: 527


1- (1) انظر : تاج العروس 14 : 396 ؛ المفردات : 534 .
2- (2) المزّمّل : 10 .
3- (3) المفردات : 534 .
4- (4) تاج العروس 14 : 396 .
5- (5) الفرقان : 30 .
6- (6) المدّثّر : 5 .
7- (7) العنكبوت : 26 .
8- (8) مجمع الزّوائد 5 : 252 ، 253 .
9- (9) سنن النّسائيّ 7 : 144 .
10- (10) الكافي 2 : 235 .
11- (11) المفردات : 535 .

2 - بدء الهجرة

شعرت قريش بالخطر وزادت ضغوطها على المسلمين بعد انتشار الإسلام بين أهل المدينة . وقيل إنّ تشدّدها لم يسبق له مثيل حتّى ذلك الحين . ويعود ذلك إلى امتداد الإسلام في مدينة كيثرب ، ودعم أهلها العسكريّ للنّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم (1) .

وبعد هذا التشدّد وإعداد الأرضيّة للهجرة طلب المسلمون الهجرة إلى المدينة . وقد جُرِّبت هذه الهجرة قبل ذلك حين هاجر المسلمون إلى الحبشة . وكان تشدّد قريش أيضا من الأسباب الأساسيّة لخروج المسلمين إليها . وكان قد وقع الذّهاب من مكّة إلى المدينة قبل أمر النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، وتلك هي هجرة أبي سلمة بن عبد الأسد . وهذا الرّجل كان من المهاجرين إلى الحبشة ، وعاد إلى مكّة . وحين رأى اضطهاد قريش لجأ إلى يثرب . وبعد ذلك ذهبت زوجته أمّ سلمة - الّتي تزوّجها النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بعد استشهاده - مع النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وابنها إلى يثرب . وبناءً على ما ذكره ابن هشام وابن سعد كان أوّل مهاجر توجّه إلى يثرب قبل بيعة العقبة بعامٍ(2) . وذهب البلاذريّ إلى أنّه ثالث مهاجرٍ بعد مصعب بن عمير وابن أمّ مكتوم(3) . ويبدو أنّ الرّأي الأوّل هو الأصوب . مع افتقارنا إلى الدّليل على أنّ تجربته كانت مؤثّرةً في قرار رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إذ إنّ أرضيّة الهجرة تمهّدت بعد بيعة العقبة والقضايا الّتي اتّفق عليها الأوس والخزرج(4) . وينبغي أن نعدّ هذه النّقطة هي الأساس لاختيار يثرب دارا للهجرة ،

ص: 528


1- (1) الطّبقات الكبرى 1 : 225 ، 226 ؛ أنساب الأشراف 1 : 257 . قال ابن سعد : [ وجعل البلاء يشتدّ على المسلمين من المشركين لما يعلمون من الخروج فضيّقوا على أصحابه وتعبّثوا بهم ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالون من الشّتم والأذى ] .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 468 ؛ الطّبقات الكبرى 1 : 226 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن كثير 2 : 315 .
3- (3) أنساب الأشراف 1 : 257 .
4- (4) سبل الهدى والرّشاد 3 : 319 .

لأنّ مثل هذا الدّعم من أُناس كهؤلاء يمكن أن يكون مؤثّرا في اختيارها بسهولة . ويضاف إلى ذلك أنّ يثرب نفسها كانت منطقة معروفة ومألوفة لدى المسلمين . كما أنّنا نعلم أنّ والِدَي النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم كانا مدفونَين في الأبواء وهي من القرى التّابعة للمدينة . وقال صلى الله عليه و آله وسلم للمسلمين بعد أمره بالهجرة : «فإنّ البلاد قريبة وأنتم بها عارفون»(1) . من هنا فإنّ «قرب يثرب من مكّة» ، و«معرفة أهل مكّة بها» عاملان لهما أهمّيّتهما في اختيار يثرب . بيد أنّ الأهمّ هو رسوخ الإسلام فيها . وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في هذا الصّدد : «إنّ اللّه - عزّ وجلّ - قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها»(2) . وذكر بعض الباحثين نقاطا أخرى منها أهمّيّة يثرب الزّراعيّة في تكوين بنية اقتصاديّة قويّة ، ومنها يمانيّة الأوس والخزرج وقحطانيّتهما - مع الأخذ بعين الاعتبار منافستهم للعدنانيّين وامتناعهم من تسليم اللاجئين إلى خصومهم - ومنها تعذّر الهجرة إلى مناطق أخرى كالطّائف مثلاً (الّتي كانت قد أعربت من معارضتها للدّعوة النّبويّة رسميّا) وكذلك مناطق نائية كبلاد فارس ، والروم ، والحبشة(3) ، الّتي كانت قبل ذلك مأمنا مناسبا لعدد من المسلمين على النحو المؤقّت . وجاء في روايةٍ أنّ البحرين ، وقُنَّسْرين (مدينة في الشّام) كانتا من المناطق المحتملة أيضا . لكنّ الاختيار وقع على المدينة(4) .

وكانت الفترة بين بيعة العقبة والهجرة النّبويّة تتراوح بين سبعين يوما إلى ثلاثة أشهر . وهاجر خلالها معظم المسلمين تاركين مكّة ميمّمين المدينة . وبذل المشركون جهدهم في صدّ المسلمين عن الذهاب ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً (وبعضهم كان قادرا على ذلك) ، وحبسوا عددا منهم . وكان هؤلاء عادةً ممّن وافقت أُسرُهم على

ص: 529


1- (1) أنساب الأشراف 1 : 257 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 468 ؛ تاريخ الطّبريّ 2 : 369 .
3- (3) الصّحيح من سيرة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم 2 : 228 - 252 .
4- (4) دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 2 : 458 ؛ سنن التّرمذيّ 5 : 721 .

اضطهادهم والضّغط عليهم ، وكانوا أنفسهم يسجنونهم في بيوتهم ويصفّدونهم بأغلالهم ووسائلهم الأُخرى(1) . على سبيل المثال ، لمّا ذهب أبو سلمة فإنّ أهل زوجته أمّ سلمة - وهم بنو المغيرة - حالوا دون ذهابها عاما كاملاً ، ولم يوافقوا على ذلك إلاّ بعد أن رأوا شدّة امتعاضها وانزعاجها(2) . وهاجرت بعض الأُسر الّتي كان جميع أعضائها أو جلّهم مسلمين . وهاجر آل جَحْش [ بنو غَنمْ ] رجالهم ونساؤهم جميعا بعد أن أغلقوا باب دارهم(3) . وكان أبو جهل وطائفة من قريش يمرّون عليها مع العبّاس عمّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم . وقال العبّاس : هذا عمل ابن أخي ، فرّق جماعتنا ، وشتّت أمورنا ، وألقى بيننا التّفرقة(4) . وكانت بنتُ أبي سفيان زوجةَ عبد اللّه بن جحش ، وباعت دارهم بعد هجرتهم(5) . وجاء في خبر آخر أنّ مسلمي مكّة كانوا يغادرونها إلى المدينة فوجا فوجا(6) . وغادرها أبناء بكير الأربعة أيضا مع مواليهم من بني سعد ابن ليث(7) .

وسكن جُلّ هؤلاء المهاجرين - كما يُستشفّ من سيرة ابن هشام - في قُبا عند قبيلة بني عمرو بن عوف . وكان أبو سلمة أوّل مهاجر في قُبا ، وتلاه بنو جحش وخلق كثير آخر ، وأقاموا في قُبا(8) . وشعر المشركون بالخطر حين رأوا هذه الهجرة العامّة للمسلمين ، وبدأوا بإجراءات تحول دونها . منها أنّهم سجنوا عددا منهم . ولمّا

ص: 530


1- (1) هاجر لفيف منهم بعد تحمّل ضروب الأذى . قال تعالى : « ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ » . النّحل : 110 . وانظر : بحارالأنوار 19 : 35 .
2- (2) أنساب الأشراف 1 : 259 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 469 .
3- (3) الطّبقات الكبرى 3 : 90 .
4- (4) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 471 .
5- (5) مجمع الزّوائد 6 : 63 .
6- (6) تاريخ الطّبريّ 2 : 369 .
7- (7) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 477 ؛ تاريخ الطّبريّ 2 : 259 ؛ الطّبقات الكبرى 3 : 388 .
8- (8) انظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 472 ، 474 ، 477 ، 478 ؛ الدّرر : 46 ، 47 .

هاجر عيّاش بن أبي ربيعة [ من بني مخزوم ] قدم أبوجهل وأخوه الحارث إلى يثرب ، وخدعاه عبر استفزازه بقلق أمّه عليه من خلال بكائها المتواصل ، وجلوسها تحت الشمس ، وإبائها الجلوس في الظّلّ . وبعد قطعهما شوطا من الطّريق صفّداه وحبساهُ في مكّة . وعندما جاءا إلى مكّة طلبا من أهلها أن يتعاملوا مع سفهائهم بهذا النّحو . وفي وقت لاحق أشخص النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم الوليد بن الوليد بن المغيرة إلى مكّة ، فأفلح في إطلاقهم سرّا وأتى بهم إليه صلى الله عليه و آله وسلم (1) . ويدلّ خبر آخر على أنّ المشركين أرغموا صهيب الرّوميّ الّذي كان يهمّ بالهجرة أن يدفع إليهم كلّ ما ادّخره ، وحينئذٍ يستطيع أن يغادر مكّة . وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : ربح صهيب ! ربح صهيب(2) ! وقيل : كلّ من كان قادرا على الهجرة يمّم المدينة إلاّ أفرادا قلائل منهم كالنّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، وأميرالمؤمنين عليه السلام ، وأبي بكر . ويضاف إلى ذلك أنّنا ينبغي أن نعدّ المسلمين المستضعفين ومَن كان خاضعا لقيود أسرته في عداد الباقين(3) . وقيل إنّ الآية الكريمة : « إِنّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ »(4) نزلت في المهاجرين الّذين بكت أزواجهم وذراريهم ليحولوا دون هجرتهم(5) .

3 - هجرة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم

ذُعر المشركون بخروج المسلمين من مكّة لأنّهم شعروا أنّ طائفةً من المسلمين قد

ص: 531


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 474 - 476 ؛ وانظر : دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 2 : 460 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 477 ؛ فقه السّيرة : 166 ؛ عن المستدرك على الصحيحين 3 : 3983 ؛ مجمع الزّوائد 6 : 60 ؛ تاريخ المدينة 2 : 480 ؛ الطّبقات الكبرى 3 : 227 ، 228 .
3- (3) الطّبقات الكبرى 1 : 228 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 480 .
4- (4) التّغابن : 14 .
5- (5) تاريخ المدينة 2 : 490 ، 491 ؛ مجمع البيان 10 : 300 (عن ابن عبّاس ، ومجاهد) .

تهيّأت في إحدى المدن ، ويمكن أن تشكّل خطرا جادّا عليهم وعلى قوافلهم التّجاريّة . من هنا عزموا على أن يتّخذوا قرارا حازما بشأن النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم الّذي ما زال في مكّة(1) . ولم يفكّروا حتّى ذلك الحين بقتله صلى الله عليه و آله وسلم إذ كانوا يُحسّون أنّ ذلك يؤدّي إلى الخلاف ، ويمكن أن يُفضي إلى نزاعٍ لا تُعرف عُقباه . ومن الطّبيعيّ أنّ مكّة كانت حاضرةً تجاريّة ، وبقاء التّجارة رهين بالأمن والهدوء اللّذين كانا فيها . فإذا فُقدا تخلخلت . لذا كلّما يُطرح كلام في هذا المجال فإنّه إمّا يعبّر عن فكرة فرديّة غير قابلة للتّطبيق ، وإمّا ينبري له جمع منهم في حينه . بيد أنّ هذه التّجارة نفسها (بغضّ النّظر عن مبدأ عداء الكفر والإيمان) أضحت عرضةً للتّهديد الآن لخطر يثرب على القوافل . وعقدت قريش اجتماعا في دار النّدوة الّتي كانت محلاًّ لمشاورة الكبراء للتداول بهذا الشّأن . وسمّى المؤرّخون ذلك اليوم «يوم الزّحمة» . وكانت قريش تدرك أنّ المسلمين لن يسكتوا أمام المشركين بعد الانفتاح التّامّ ليثرب على الإسلام وذهاب المهاجرين إليها . فالأفضل لها أن تحول دون رحيل النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم الّذي كان يتولّى قيادة التيّار . ولم يدر في خلدهم بادئ ذي بدء أن يقتلوه صلى الله عليه و آله وسلم بل كان الكلام يدور حول إخراجه أو سجنه. فأبو البختريّ بن هشام رأى سجنه ، والأسود بن الرّبيع رأى إخراجه(2) . ومن الطّبيعيّ أنّ القرارَين ، لا سيّما الأوّل ، لم يكن لهما أن يحلاّ مشكلتهم ، إذ إنّ مغادرته مكّة يمكن أن تجعل جبهة يثرب على أهبة الاستعداد لمواجهتهم . أمّا سجنه فيمكن أن يحرّض المسلمين على إنقاذه . فرأوا أنّ المناسب هو قتله وقطع أمل المسلمين به . وأخبر اللّه تعالى في سورة الأنفال (وهي سورة مدنيّة) عن عزمهم على ذلك فقال جلّ من قائل : « وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّه ُ وَاللّه ُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ »(3) .

ص: 532


1- (1) عيون التّواريخ 1 : 97 (فلمّا رأت قريش ذلك حذروا خروج رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ) .
2- (2) السّيرة الحلبيّة 2 : 25 ، 26 .
3- (3) الأنفال : 30 .

قال ابن إسحاق : نزلت في ذلك اليوم(1) . لكنّا أشرنا من قبل إلى أنّ سورة الأنفال من السّور المدنيّة . ومن المحتمل أنّ اللّه سبحانه أخبر عن قرارٍ اتّخذه المشركون وقتا ما . ومعظم الأخبار المتعلّقة بجلسة دار النّدوة تُجمع على أنّ أبا جهل هو الّذي اقترح القتل . وجاء في هذه الأخبار نفسها أنّ شيخا نجديّا كان حاضرا في الاجتماع دعم اقتراح أبي جهل برفضه اقتراحات الآخرين . وقيل إنّ الشّيطان ظهر في هيئة رجل نجديّ . ولا يمكن أن نجد دليلاً يسند شيطانيّته [ إبليسيّته ] . علما أنّ المسلمين لم يستطيعوا في وقت لاحق أن يتصوّروا ذلك الشّيخ الّذي يوجّه الاجتماع إلاّ الشّيطان(2). وعرض أبو جهل خطّة للحؤول دون نشوب نزاعٍ داخليّ بين قريش وهي اشتراك جميع الأسر القُرَشِيّة حتّى أبي لهب في هذه المؤامرة فلا يستطيع بنو هاشم إذا طالبوا بدمه أن يقفوا أمامها قاطبةً . وحينئذٍ سيرضون بالدّية وتنتهي القضيّة(3) . وامتدّ نفوذ أبي لهب في بني هاشم تلك الفترة (بعد وفاة أبي طالب) . ولعدائه المسلَّم لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم زال ذلك الاتّحاد السّابق لبني هاشم ، الّذي كان أبو طالب عليه السلام سندَهُ ، في الدّفاع عنه صلى الله عليه و آله وسلم . وجاء في كثير من المصادر أنّ جبرئيل عليه السلام أخبره صلى الله عليه و آله وسلم بمؤامرتهم ،

ص: 533


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 484 .
2- (2) التصوّر الآخر هو أنّ حضور الشّيطان في هيئة النّجديّ يمكن أن يكون له جذور في أفكار العصر الجاهليّ . قيل : عندما وُضع الحجر الأسود في مكانه باقتراح محمّد صلى الله عليه و آله وسلم لرفع النزاع (كان ابن خمس وثلاثين) صاح الشّيخ النجديّ المذكور : لِمَ أذنتم لهذا الغلام يضع الحجر في مكانه وتركتم أشرافكم وكباركم ؟ واختيار النّجديّ لهذا الخبر يعود إلى أنّ أهل تهامة كانوا يرغبون في حماية محمّد صلى الله عليه و آله وسلم . السّيرة الحلبيّة 2 : 25 . يقول المقدسيّ في إبليس والبيتين المنسوبين إليه : لا نعجب لكلام إبليس إذ قد يقال لمن يعمل عمله : إبليس . البدء والتّاريخ 4 : 174 . ومرّت لنا توضيحات في القسم الأوّل من الكتاب بهذا الشأن .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 482 ؛ أنساب الأشراف 1 : 260 .

وحذّره من النّوم في بيته تلك الليلة الموعودة(1) . ونقل ابن سعد أنّ رُقَيعة بن أبي صيفي [ ابن هاشم ] أخبره صلى الله عليه و آله وسلم باجتماع قريش وعزمهم على قتله في الليلة الموعودة(2) . وهذان الخبران لا يتنافيان .

وقام أربعون من قريش (وفي رواية خمسة عشر ، وفي أُخرى مائة)(3) بتطويق داره صلى الله عليه و آله وسلم في بداية الليلة الموعودة .

ولا علم لنا بشكل البناء الّذي كان عليه داره ، بيد أنّ ما يُستشفّ ممّا نُقل هو أنّ منامه صلى الله عليه و آله وسلم كان بمرأى منهم . وذكر السّهيليّ وآخرون أنّ الّذي منعهم من دخول الدار ومهاجمته هو أنّهم سمعوا صوت امرأةٍ من داخل الدار . وبعد ذلك قال بعضهم إنّهم يشقّ عليهم أن تقول العرب فيهم أنّهم هتكوا حرمة بني عمّهم ، فمكثوا حتّى يخرج صلى الله عليه و آله وسلم من الدار(4) . وفي الوقت نفسه كانوا يراقبونه ألاّ يفرّ منها . وفي هذا المجال كان صلى الله عليه و آله وسلم قد وضع خطّةً ، وطلب من عليّ عليه السلام أن ينام في مكانه ، ويلتحف ببرده اليمانيّ الأخضر الّذي كان يرتديه صلى الله عليه و آله وسلم (5) . وبعد ذلك خرج صلى الله عليه و آله وسلم من الدار بعناية اللّه سبحانه ، وتوجّه نحو جنوب مكّة على عكس طريق يثرب . ومن الثّابت أنّ المرور على أربعين شخصا لا يمكن أن يتحقّق بغير عون إلهيّ مباشر . وهذا أمر ذكرته المصادر المعنيّة مرارا . وكان صلى الله عليه و آله وسلم حين خرج يتلو الآيات الأولى من سورة «يسآ» ومنها قوله تعالى : « وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ

ص: 534


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 483 ؛ أنساب الأشراف 1 : 260 .
2- (2) الطّبقات الكبرى 8 : 223 ؛ الإصابة 4 : 303 .
3- (3) وفاء الوفاء 1 : 236 .
4- (4) نقلاً عن هامش السّيرة النّبويّة لابن هشام 2 : 483 ؛ السّيرة الحلبيّة 2 : 28 ؛ سبل الهدى والرّشاد 3 : 330 ؛ سمط النجوم العوالي ، العصاميّ 1 : 292 .
5- (5) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 483 ؛ الطّبقات الكبرى 1 : 228 .

يُبْصِرُونَ »(1) . وكانوا ما زالوا ينتظرون خروجه وهم يظنّون أنّ النّائم هو نفسه صلى الله عليه و آله وسلم . وذكر البلاذريّ وغيره أنّهم رشقوه بالنبال (أو بالحجارة)(2) . وكان الإمام يتقلّب أحيانا لكنّه لم يُخرج رأسه(3) إلى أن أصبح (كما قال ابن هشام) وقام من مكانه ، فعرفوا أنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم قد أفلت من أيديهم . وحين سألوا الإمام عليه السلام عنه قال : لا أدري أين ذهب ! ويتحتّم علينا أن نعدّ هذا التّفادي من أعظم مناقب الإمام عليه السلام وأكثرها قيمةً . وروى الحاكم النيسابوريّ عن الإمام السّجّاد عليه السلام أنّ أوّل من فدّى نفسه لمرضاة اللّه هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام (4) . ونقل عن الإمام عليّ عليه السلام شعرا بهذا الشّأن نذكر منه البيتين الآتيين :

وبات رسول اللّه في الغار آمنا * موقّىً وفي حفظ الإلهِ وفي سترِ

وبتّ أُراعيهم ولم يتّهمونني * وقد وطّنت نفسي على القتل والأسرِ(5)

وروي عن الإمام الباقر عليه السلام عن ابن عبّاس وعمر بن شبّه أنّ قوله تعالى : « وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه ِ »(6) نزل ليلة المبيت بشأن أميرالمؤمنين عليه السلام

ص: 535


1- (1) يسآ : 9 .
2- (2) أنساب الأشراف 1 : 260 ؛ وانظر : تفسير فرات : 421 عن ابن عبّاس ؛ تاريخ دمشق «ترجمة الإمام عليّ عليه السلام » 1 : 154 ؛ بحارالأنوار 19 : 87 ؛ إعلام الورى : 190 (نقلاً عن ابن عبّاس) ؛ سبل الهدى والرّشاد 3 : 327 .
3- (3) أمالي الشّيخ الطّوسيّ 2 : 82 ، 83 ؛ الصّحيح 2 : 240 ، عن الطّوسيّ .
4- (4) المستدرك على الصحيحين 3 : 4 ؛ سبل الهدى والرّشاد 3 : 327 ؛ أمالي ابن الشّيخ : 286 ؛ بحار الأنوار 19 : 54 ، 55 ، عن ابن الشّيخ (نقلاً عن الإمام السّجّاد عليه السلام ) .
5- (5) المستدرك على الصحيحين 3 : 4 ؛ سمط النّجوم العوالي 1 : 292 ، 293 ؛ سبل الهدى والرّشاد 3 : 328 ؛ بحارالأنوار 19 : 63 ، (عن أمالي ابن الشّيخ) ؛ الغدير 2 : 48 ، عن الفصول المهمّة : 33 ؛ المناقب ، الخوارزميّ : 49 ؛ تذكرة الخواصّ : 21 ؛ نور الأبصار : 86 .
6- (6) البقرة : 207 .

الّذي بات في فراش النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم (1) .

ونقل الطّبريّ عن بعض الرّواة أنّ أبا بكر أتى عليّا عليه السلام وسأله عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم فأخبره أنّه لحق بالغار من ثور ، وقال : إن كان لك فيه حاجة فألحقه . فخرج أبوبكر مسرعا فلحق نبيّ اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في الطريق . فسمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم جرس أبي بكر في ظلمة الليل ، فحسبه من المشركين ، فأسرع صلى الله عليه و آله وسلم المشي فانقطع قبال نعله ففلق إبهامَه حَجَرٌ فكثر دمها وأسرع السعي ، فخاف أبو بكر أن يشقّ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم فرفع صوته وتكلّم فعرفه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم فقام حتّى أتاه فانطلقا ورجل رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم تستنّ دما حتّى انتهى إلى الغار مع الصبح فدخلاه . وأصبح الرهط الّذين كانوا يرصدون رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم فدخلوا الدار . وقام عليّ عليه السلام عن فراشه فلمّا دنوا منه عرفوه ، فقالوا له : أين صاحبك ؟ قال : لا أدري ... وأخرجوه إلى المسجد فحبسوه ساعةً ثمّ تركوه(2) . ونُقل عنه عليه السلام في بعض الرّوايات أنّه ضُرب ضربا مبرّحا

ص: 536


1- (1) التبيان 2 : 183 ؛ مجمع البيان 2 : 301 ؛ الإرشاد : 31 ؛ تاريخ دمشق «ترجمة الإمام عليّ عليه السلام » 1 : 153 ، 154 ؛ تفسير العيّاشيّ 1 : 101 ؛ بحارالأنوار 19 : 78 (عن العيّاشيّ) ؛ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد 3 : 270 ؛ الغدير 2 : 47 عن الإسكافيّ في شرح ابن أبي الحديد . وجاءت رواية ليلة المبيت فيه عن تفسير الثّعلبيّ . وقيل : نقلها الغزاليّ عن الثّعلبيّ في إحياء العلوم 3 : 238 . وانظر : مصادر أُخرى وردت في الغدير 2 : 47 ، 48 .
2- (2) تاريخ الطّبريّ 2 : 374 ؛ البرهان 1 : 207 ؛ تفسير العيّاشيّ 1 : 101 ؛ بحار الأنوار 19 : 78 ؛ السّيرة الحلبيّة 2 : 36 (باختصار) ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن كثير 2 : 235 . نقله عن الطّبريّ وعدّه غريبا . ولابدّ أن يكون السبب هو التأكيد التامّ للروايات الأُخرى وجود برنامج مشترك للهجرة ، وهذا الخبر يدحض تلك الرّوايات المشكوكة . ونقل الحلبيّ القسم الأخير من الرواية حول حبس الإمام في المسجد 2 : 28 . وذكر المقدسيّ أيضا أنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ذهب وحده وأوصى عليّا عليه السلام أن يخبر أبا بكر إذا جاء أنّه ذهب نحو ثور . البدء والتاريخ 4 : 170 . وهكذا فهما لم يذهبا معا أو لم يذهبا من دار أبي بكر كما نقلوا . وانظر في حبس الإمام وضربه أيضا : عيون التواريخ 1 : 98 .

حتّى قارب القتل(1) .

ومن المؤسف أنّ بعض المحسوبين على الخليفة الأوّل مثل بنتيه أسماء وعائشة (أو غيرهما عنهما) نقلوا روايات توخّوا منها اختلاق فضائل معيّنة . وتدلّ هذه الرّوايات على أنّ أُسرة أبي بكر كلّها شملتها الهجرة ، في حين أنّ هذا الأمر مضافا إلى تضاربه مع الخبر المذكور يبدو أنّه لا يراعي الاحتياط أيضا .

ويضاف إلى ذلك ، وهو ما مرّ في الحديث عن أسباب التّحريف في السّيرة ، أنّ جوّ تلك الروايات المنقولة عن أسماء بنت أبي بكر يشير إلى أنّ أحد الجنّ قرأ شعرا في مكّة وسمعه النّاس جميعهم دون أن يروه ! وذلك الجنّيّ مجّد النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وأبا بكر في شعره ، بل دلّ على مخبأهما(2) . ومرّ بنا أنّ الجنّ حقيقة بيد أنّ ما يقال أنّه جاء بين النّاس وذهب من أسفل مكّة إلى أعلاها وسمع النّاس صوته دون أن يروه وبلا شهادة من أحدٍ أمر مرفوض(3) .

4 - من مكّة إلى المدينة

خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم من بيته في السّاعات الأُولى من الليل ، وتوجّه تلقاء جنوب مكّة في طريق يعاكس اتّجاه المدينة . وفعل ذلك ليترك المشركين الّذين تُحتمل ملاحقتهم إيّاه في طريق يثرب حيارى لفترة أكثر ، ومن ثمّ يمّم يثرب في فرصة مناسبة . وجاء في رواية مرّت بنا أنّ أبا بكر قصده صلى الله عليه و آله وسلم ، وكان قد سمع خبر هجرته من الإمام عليّ عليه السلام . (ومن المحتمل أنّه تلقّى خبر مسيره) ، والتحق به . وهؤلاء في

ص: 537


1- (1) الخصال 2 : 123 ، 124 ؛ بحارالأنوار 19 : 92 .
2- (2) الطّبقات الكبرى 1 : 229 ، 231 . ذكرنا سابقا مصادر أكثر لهذا الموضوع .
3- (3) انظر : موضوع أسباب التّحريف في السّيرة .

الحقيقة كانوا المطّلعين وحدهم على موضوع الهجرة بهذا الشّكل . وجاء صلى الله عليه و آله وسلم إلى جبل ثور واختفى في غارٍ كان عليه . ومن جهة أخرى قصّهُ المشركون مسرعين حين علموا بخروجه من بيته بعد ساعات مرّت عليه . وقصدوا كلّ جهة ، ومنها المسير المذكور ، ووصلوا قريبا من الغار أيضا . وتدلّ روايات كثيرة على أنّهم اقتربوا من الغار كثيرا حتّى إنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم كان يسمع صوتهم . وذكر اللّه تعالى في سورة التّوبة نصره لنبيّه صلى الله عليه و آله وسلم في تلك اللحظة الحرجة . وعوتب النّاس في البداية على تقاعسهم عن الجهاد حين دُعوا إليه ، ثمّ جاء التهديد بالعذاب الأليم واستبدال غيرهم بهم إذا لم يسرعوا إلى الجهاد . بعد ذلك قال سبحانه : « إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّه ُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِىَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّه َ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللّه ُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللّه ِ هِىَ الْعُلْيَا وَاللّه ُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ »(1) .

وهكذا يحدّثنا اللّه تعالى عن دعمه الصريح لرسوله صلى الله عليه و آله وسلم وإنزاله السّكينة عليه وتأييده بجنود لا يُرَون(2) . وتحقّقت هذه النّصرة بنسائج العنكبوت على باب الغار كما نطقت بذلك الرّوايات التّاريخيّة ، حتّى إنّ المشركين اطمأنّوا إلى أنّه لم يدخل الغار . وأضاف البعض أنّ حمامتين قد عشّشتا هناك أيضا ، بحيث لو أنّ أحدا كان ذهب داخل الغار فلا يتسنّى لهما العيش بهذا الشّكل . ويضاف إليه أنّ صوتا علا في السماء

ص: 538


1- (1) التوبة : 40 .
2- (2) ذهب البعض إلى خلاف ما صرّحت به الآية الكريمة وقال : إنّ السّكينة كانت على أبي بكر لا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لأنّها كانت قد نزلت عليه قبل ذلك . وظاهر الآية الّتي تذكر نزول السّكينة مصاحَبة بنصره بجنود لا يُرَون يغاير هذا الرأي . ويضاف إلى ذلك أنّ نزول السّكينة عليه صلى الله عليه و آله وسلم جاء في آيات أخرى أيضا .

ينادي أنّ محمّدا صلى الله عليه و آله وسلم ليس هاهنا فاطلبوه في شعاب مكّة (1) . وقال أميّة بن خلف في باب الغار : هذا النّسج كان قبل أن يولد محمّد . وعيّنت قريش مئة بعير جائزة لمن يلقى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ويسلّمه لهم(2) . وذكرت بعض الأخبار أنّه صلى الله عليه و آله وسلم وصاحبه مكثا ثلاثة أيّام في الغار كي ييأس المشركون الّذين أتعبهم البحث منه وينصرفوا عنه . ونقل الطبرسيّ أنّه صلى الله عليه و آله وسلم طلب من عبد اللّه بن أريقط(3) أن يذهب إلى عليّ عليه السلام ويأتيه بزاد . وكذلك طلب منه أبو بكر أن يذهب إلى بنته أسماء ويأتيه منها بزادٍ أيضا(4) .

ومن النقاط الرّائعة في ذهاب النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم المراعاة التّامّة للقضايا الأمنيّة ، ومنها تركه الإمامَ في بيته لإضلال المشركين ، وذهابه إلى جنوب مكّة مع أنّ المسير كان باتّجاه الشّمال ، وأخذه عامر بن فهيرة الّذي كان يسوق الأغنام خلفه ليمحو أثر أقدامه ، واعتماده على دليل موثوق لكنّه مشرك كي لا يُثير أحدا . ويضاف إلى هذا كلّه سيره ليلاً واختفاؤه نهارا(5) .

وفي رواية نقلها ابن عساكر عن أبي رافع : «كان عليّ يجهّز النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم حين كان في الغار يأتيه الطعام والشّراب» ويضيف أنّ الإمام استأجر ثلاثا من الإبل ليركبها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وأبو بكر ، ودليلهما ، ويتحرّكوا صوب يثرب(6) . وكان الدّليل خبيرا

ص: 539


1- (1) مجمع البيان 5 : 31 ؛ إعلام الورى : 63 ؛ السّيرة الحلبيّة 2 : 37 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 486 ؛ أنساب الأشراف 1 : 263 .
3- (3) جاء في بعض المصادر كسيرة ابن هشام : «أُرْقَط» ، 2 : 491 .
4- (4) إعلام الورى : 63 .
5- (5) انظر : عيون التّواريخ 1 : 100 (الهامش) .
6- (6) تاريخ دمشق «ترجمة الإمام عليّ عليه السلام » 1 : 154 ؛ إعلام الورى : 190 . هذه الرّواية وإن كانت نُقلت من طرق أهل السُّنّة أيضا لكنّها وردت في مصادرهم العامّة . وفيها أنّ أبا بكر بعث شخصا ليأتوه ببعيرين . وفي الوقت نفسه يُلحظ في هذه الرّوايات أنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم دفع ثمن بعيره ثمّ ركب وقال : «لا أركبُ بعيرا ليس هو لي» . وقيل في توجيه ذلك أنّه كان لا يحبّ أن يهاجر إلاّ على ما كان من ماله فحسب . وفاء الوفاء 1 : 237 .

بالطّرق تماما ، فسار بهما إلى يثرب على غير الطّريق . ووصلوا إلى قبا في العقد الأوّل من ربيع الأوّل(1) ، وكان الثّاني عشر من ربيع الأوّل مصادفا في اليوم الرّابع والعشرين من أيلول سنة 622م حسب تقويم وستنفلد. وكان طريق الهجرة غيرالطّريق الطّبيعيّ إلاّ أنّهما كانا يلتقيان في بعض النّقاط . وهذا في الحقيقة احتياط لابدّ منه حتّى لا يظفر المشركون برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم .

ووقعت في الطريق حادثتان مهمّتان : الأولى : إنّ مشركا يُدعى سراقة بن مالك علم بتحرّك النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ومن معه . فركب جواده لعلّه يعثر عليه فيسلّمه لقريش ويأخذ منها مئة البعير . لكنّه مُني ببعض العقبات كما تدلّ روايات كثيرة على ذلك ، منها أنّ قوائم فرسه ساخت في الأرض ثلاثا . فشعر أنّ شيئا يردعه عن الوصول إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . وفي هذه الحال نادى النّبيَّ صلى الله عليه و آله وسلم اطمئنانا منه إلى وجود قوّة غيبيّة تحميه وتعضده ، وشعورا منه بغلبته في المستقبل القريب ، وطلب منه أن يكتب له كتاب الأمان(2) . وفي طريقه صلى الله عليه و آله وسلم وصل إلى امرأةٍ في منطقة قُديد تُدعى أمّ معبد وهي تعيش في خيمة . فطلب منها أن تبيعهم لحما أو تمرا إن كان عندها ، فقالت : إنّها لا تملك شيئا من ذلك . فطلب منها أن تأذن له بحلب شاةٍ كانت لها ! فقالت : هذه الشّاة تخلّفت عن القطيع لضعفها . فأمر أن يؤتى بها ، فمسح عليها ، فدرّت لبنا كثيرا وظلّت كذلك لسنين ببركة يده الشّريفة صلى الله عليه و آله وسلم (3) . وبعد ذهابه صلى الله عليه و آله وسلم جاء زوجها فوصفت له شمائله . ووصفها هذا من أفضل الأوصاف الّتي نُقلت لمحيّاه الشّريف بدقّة مناسبة(4) .

ص: 540


1- (1) أنساب الأشراف 1 : 263 .
2- (2) المستدرك 3 : 6 ، 7 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 489 . حول الطرق المختلفة لهذه الرّواية انظر : دلائل النّبوّة للبيهقي 2 : 483 - 489 .
3- (3) الطّبقات الكبرى 1 : 230 ، 231 .
4- (4) المستدرك 3 : 9 ؛ الطّبقات الكبرى 1 : 230 ، 231 .

رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في قباء

رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في قباء(1)

طويت المسافة بين مكّة ويثرب من غير الطّريق المألوف . ومن الثّابت أنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم لاقى بعض المصاعب في طريقه . ووصل إلى قبا متأخّرا بعد الوقت الّذي كان ضروريّا لسيره الطّبيعيّ . وذكر المقدسيّ أنّ رحلته منذ خروجه من مكّة إلى أن وصل قبا استغرقت خمسة عشر يوما(2) . وتبعد قبا عن مركز المدينة (حيث المسجد النّبويّ الشّريف الآن) ستّة كيلومترات ، وتقع إلى الجنوب منه(3) . وحريّ بالعلم أنّ المدينة لم تكن حاضرة مركزيّة آنذاك بل كانت تتألّف من عدد من المراكز الحياتيّة لشتّى الطوائف العربيّة واليهوديّة ، وكانت واسعة نسبيّا(4) .

وأشرنا قبل ذلك إلى أنّ عددا كبيرا من المهاجرين سكن في قبا . وكان بنو عمرو ابن عوف من الأوس يسكنون فيها. ومن المحتمل أنّهم كانوا يجهدون كثيرا في استقبال الضّيوف الّذين منهم . ويقول البلاذريّ : لمّا قدم المهاجرون من مكّة إلى المدينة سكنوا في قبا(5) . ووصل رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إلى قبا يوم الاثنين ، ولبث فيها حتّى الجمعة وجاء في بعض الرّوايات أنّه مكث ثلاثا وعشرين ليلةً فيها(6) . وفي بدء دخوله ، قال أحد اليهود الّذي كان علم بمجيئه قبل غيره : أي بني قيل ! (اسم كان للأوس والخزرج) : جاء صاحبكم . ودخل صلى الله عليه و آله وسلم بيت كلثوم بن هدم في قبا . وجاء في خبر آخر أنّه

ص: 541


1- (1) حول تلفّظ (قبا) بلا همزة ، أو (قباء) بالهمزة انظر : معجم البلدان لياقوت 4 : 320 .
2- (2) البدء والتاريخ 4 : 175 .
3- (3) اتّصلت المدينة بقبا الآن . ومنطقة قبا عامرة مليئة بالبساتين . انظر : معجم المعالم الجغرافيّة في السّيرة النّبويّة : 248 ، 249 .
4- (4) البدء والتّاريخ 4 : 176 .
5- (5) أنساب الأشراف 1 : 264 ؛ معجم البلدان 4 : 302 .
6- (6) أنساب الأشراف 1 : 263 . ولمّا مكث صلى الله عليه و آله وسلم في قبا حتّى قدوم عليّ عليه السلام ، فإنّ هذا الرأي يبدو مقبولاً أكثر من غيره .

سكن في منزل سعد بن خيثمة . وذكر البلاذريّ أنّ القول الثاني نابع من تردّده الكثير صلى الله عليه و آله وسلم على سعد(1) . لكنّه كان في دار كلثوم بن هدم أساسا . وقيل : كان سعد ابن خيثمة أعزب ، واختير بيته للقاءات النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بأصحابه(2) . وكان الصّحابة العُزب يسكنون فيه أيضا(3) وقبل قدومه صلى الله عليه و آله وسلم أعدّ المسلمون مسجدا كانوا يصلّون فيه .

لا جرم أنّ الأخبار المرويّة في كتب السّيرة حول انتظار أهل المدينة ترتبط بدخوله صلى الله عليه و آله وسلم إلى قبا ، لا إلى يثرب ؛ وحين وصل خبر دخوله إليها بُعث أحد أفراد البادية إلى الطوائف الّتي كانت في سائر مناطق المدينة ليخبرها . ولمّا أنبأها بادر خمسمائة من الأنصار إلى استقباله(4) . علما أنّه عندما لبث في قبا أيّاما كان أهل يثرب يتردّدون عليه أيضا . ورُوي عن أبي بكر أنّ شعار النّاس حين الدخول في يثرب : اللّه أكبر جاء رسول اللّه ؛ اللّه أكبر جاء محمّد . وكذلك نُقل أنّهم كانوا ينشدون الأشعار آنئذٍ ، ومنها :

طلع البدر علينا * من ثنيّات الوداع

وَجَبَ الشكرُ علينا * ما دعا للّه داع

أيّها المبعوث فينا * جئتَ بالأمر المطاع(5)

وذهب البعض إلى قوّة الاحتمال القائل أنّ الشّعر المذكور لم يُنشد عند دخول رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إلى قبا ؛ لأنّ «ثنيّات الوداع» في طريق الشّام إلى المدينة لا في طريق

ص: 542


1- (1) أنساب الأشراف 1 : 263 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن كثير 2 : 270 ؛ تاريخ الطّبريّ 2 : 382 .
2- (2) السّيرة الحلبيّة 2 : 52 .
3- (3) تاريخ الطّبريّ 2 : 382 .
4- (4) السّيرة النّبويّة ، ابن كثير 2 : 269 ؛ السّيرة النّبويّة ، الذّهبيّ : 333 .
5- (5) السّيرة النّبويّة ، ابن كثير 2 : 269 ؛ السّيرة النّبويّة ، الذّهبيّ : 333 .

مكّة إليها(1) . ولعلّها أُنشدت وقُرأت عند رجوعه صلى الله عليه و آله وسلم من تبوك إلى المدينة .

واستقبله المسلمون جميعهم مسلّحين ، ومنهم الأنصار أيضا(2) . ولعلّ ذلك يعود إلى أنّ أهل المدينة كانوا قد تعهّدوا في الدّفاع عنه حين جرت بيعة العقبة الثّانية . وكانت الهجرة في الحقيقة بداية تشكيل الحكومة الإسلاميّة الّتي تعتبر القوّة من اللوازم الأصليّة لتبلورها . وكان أوّل عملٍ قام به النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم هو كسر الأصنام(3) .

وورد اسم عمّار بن ياسر في بناء مسجد قبا . فقد نقل الحكم بن عيينة أنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم حين نزل قبا ، قال عمّار : علينا أن نبني له سقيفة يستريح تحتها ويصلّي . ثمّ هبّ يجمع الحجر ليبني به المسجد المذكور . وجمع الحجر وبنى النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم المسجد ، وأكمله عمّار . من هنا كان عمّار أوّل من بنى مسجدا لعامّة المسلمين(4) . وسنتحدّث عن دوره في بناء مسجد المدينة لاحقا . وقال ابن هشام أيضا : «أوّل مَن بنى مسجدا عمّار بن ياسر»(5) . في ضوء ذلك لابدّ أن يكون مسجد قبا أوّل مسجد يشهد صلاة جماعة للمسلمين بإمامة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم . وبعد ذلك لمّا بنى المنافقون مسجد ضرار في السّنة التّاسعة للهجرة ، منع اللّه تعالى رسوله صلى الله عليه و آله وسلم من إقامة الصّلاة فيه ، قال سبحانه : « لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا »(6) .

ص: 543


1- (1) وفاء الوفاء 4 : 1170 ؛ زاد المعاد 3 : 10 ؛ نقلاً عن الصحيح 2 : 312 .
2- (2) الطّبقات الكبرى 1 : 233 (وتلبّس المسلمون السّلاح) .
3- (3) البدء والتّاريخ 4 : 176 ، 177 .
4- (4) السّيرة الحلبيّة 2 : 55 ؛ وفاء الوفاء 1 : 250 ؛ سبل الهدى والرّشاد 3 : 380 (عن يونس بن بكير) . ويضيف المؤلّف : «وهو في التّحقيق أوّل مسجد صلّى فيه بأصحابه جماعةً» .
5- (5) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 498 . نقل محقّق السّيرة الرّواية المذكورة عن السّهيليّ في الروض الأنف مشيرا إلى قيام عمّار ببناء مسجد قبا .
6- (6)التّوبه: 108 .

تحدّثت الآية عن أوّل «مسجد أُسّس على التقوى» ، و«فيه رجال يحبّون أن يتطهّروا». وذهبت روايات كثيرة إلى أنّ مصداق الآية هو مسجد قبا . وأشار عدد من الروايات إلى مسجد النّبيّ(1) . وكلمة «أوّل» لا تثبت تقدّما وتأخّرا ، بل الآية في مقام بيان منزلة مسجدٍ أُسّس على التّقوى من «أوّل يومٍ»(2) . بيد أنّنا إذا انطلقنا من المصداق أمكننا أن نقول اعتمادا على بعض القرائن إنّ المقصود هو مسجد قبا . ويقول الطّبرسيّ : «إنّ بني عمرو بن عوف اتّخذوا مسجد قبا وبعثوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أن يأتيهم فأتاهم وصلّى فيه فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غنم بن عوف فقالوا نبني مسجدا فنصلّي فيه ...» وطلبوا من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أن يصلّي فيه ، وذلك هو مسجد ضرار(3) . ففي ضوء هذه القرينة ، لابدّ أن ترتبط مقايسة اللّه تعالى بهذين المسجدين . (وتمّت المقايسة بدقّة في الآية «110» من سورة التّوبة) وذكر ياقوت في القرن السّابع أنّ أنقاض مسجد ضرار ما زالت في مكانها ويقوم الناس بهدمها قصدا للثّواب(4). والخلوص الّذي كان عليه المهاجرون الأُوَل بعد تحمّل تلك المشاقّ ووعثاء السّفر وترك البيوت قد انعكس في الآية المذكورة . وكان النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم يكثر الذّهاب إلى مسجد قبا والصّلاة فيه(5) . ولا جَرَمَ أنّ هذا كان احتراما لأهل قبا الّذين أخلصوا في

ص: 544


1- (1) انظر : الدرّ المنثور 3 : 277 ، 278 .
2- (2) ثمّة رأي آخر بهذا الشّأن أيضا . وملخّصه أنّ «أوّل يوم» هو اليوم الأوّل لدخول النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم إلى المدينة . انظر : الرّوض الأنف 2 : 246 ؛ إرشاد السّاري 6 : 234 ؛ وفاء الوفاء 1 : 248 ؛ فتح الباري 7 : 208 - 209 ؛ الصّحيح 3 : 38 - 40 .
3- (3)تاريخ المدينة 1 : 52 - 54 ؛ فتوح البلدان : 18 ؛ مجمع البيان 5 : 72 (كان بناء مسجد قبا في السّنة التّاسعة) .
4- (4)معجم الأدباء 4 : 302 .
5- (5)عن ابن عمر : كان رسول اللّه يكثر الاختلاف إلى قبا راكبا وماشيا . الدرّ المنثور 3 : 278 . ونُقلت روايات كثيرة في فضيلة الصّلاة في مسجد قبا (انظر : تاريخ المدينة 1 : 40 - 44) . ورُوي أيضا أنّه صلى الله عليه و آله وسلم كان يأتي مسجد قبا صبح السابع عشر من رمضان (تاريخ المدينة 1 : 44) . ورُوي أنّه كان يأتيه كلّ اثنين (نفسه : 45) .

خدمة الإسلام . ومن المحتمل أيضا أنّهم أنفسهم طلبوا من النّبي صلى الله عليه و آله وسلم ذلك .

ومن النّقاط التّاريخيّة الأُخرى حول زمان حضور النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في قبا ورود الإمام أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام هناك في ذلك الحين . وقيل إنّ من أسباب مكوث النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في قبا انتظاره الإمامَ عليه السلام وأولاده صلى الله عليه و آله وسلم الّذين يأتي بهم معه . وبعد رحيله صلى الله عليه و آله وسلم عن مكّة وقف الإمام عليه السلام في الأبطح (محلّة في مكّة) وصاح قائلاً : من كانت له أمانة عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم فليأتِ ويأخذها . وحين أدّى الأمانات إلى أهلها ، استلم كتابا من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يأمره فيه بالهجرة إلى المدينة مع الفواطم (وهنّ فاطمة الزّهراء عليهاالسلام ، وفاطمة بنت أسد ، وفاطمة بنت الزّبير بن عبد المطّلب) وكذلك أمّ أيمن وابنها أيمن وجمع من ضعفاء مكّة(1) . وقيل : إنّ سودة زوج رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وأمّ كلثوم بنته كانتا مع الإمام عليه السلام أيضا . ونقل الحلبيّ أنّه عليه السلام كان يسير ليلاً ويختفي نهارا . ولمّا قطع ذلك الطريق ماشيا فقد ورمت رجلاه وتقرّحتا ونزف منهما الدّم . وحين رآه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم احتضنه وبكى(2) . وأقام الإمام عليه السلام بقبا في دار كلثوم بن هدم (الّذي كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قد أقام في داره أيضا)(3) .

ص: 545


1- (1) بحارالأنوار 19 : 65 (عن أمالي ابن الشّيخ) .
2- (2) انظر : السّيرة الحلبيّة 2 : 53 (نقل قسما من الرّواية عن المقريزيّ في إمتاع الأسماع . وبشأن القسم الأخير من الرّواية أيضا انظر : تاريخ دمشق «ترجمة الإمام عليّ عليه السلام » 1 : 154 ؛ وفي هامشه عن أُسد الغابة 4 : 19 ؛ معرفة الصّحابة 1 : ورقة 21 - ب ؛ والاختصاص : 146 ، 147 ؛ وإعلام الورى : 191 ؛ بحارالأنوار 19 : 85 ؛ وعيون التّواريخ 1 : 102 ؛ تاريخ اليعقوبيّ 2 : 41 : «وقدم عليّ بن أبي طالب بفاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ... وكان يسير اللّيل ويكمن النهار» . وحول هجرة الإمام عليه السلام بالفواطم انظر أيضا : كشف الغمّة 11 : 406 ، 407 (عن الزّمخشري في الكشّاف) .
3- (3) تاريخ الطّبريّ 2 : 382 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 493 ؛ تاريخ دمشق «ترجمة الإمام عليّ عليه السلام » 1 : 155 . والعجيب أنّ أبا بكر ذهب إلى سُنح فور وصوله (على ما نقل ابن هشام) وهي محلّة كان يسكنها بنو الحارث من قبيلة الخزرج . انظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 493 ؛ وجوامع السّيرة لابن حزم : 72 . وورد فيه العنوان سهوا [ منزل أبي بكر بقبا ] إذ ذكر في النّصّ منطقة سُنح الواقعة شمال شرق المسجد النّبويّ لا قبا الواقعة جنوبه على بعد (6) كيلومترات عنه . انظر : بحار الأنوار 19 : 116 (عن روضة الكافي : 337) .

6 - استقرار رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم والمهاجرين في المدينة

ثمّة خلاف حول عدد الأيّام الّتي لبث خلالها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بقبا . فقد ذهب البعض إلى أنّها كانت ثلاثة ، وذكر آخرون أنّها أكثر من ذلك (حتّى بلغوا بها ثلاثةً وعشرين) . وكانت يثرب يومئذٍ منطقة تسكن شتّى الطّوائف من الأوس والخزرج وأيضا اليهود بين حرّتيها الشّرقيّة والغربيّة . وتحيط بها الصّخور والأحجار السوداء والصلبة (الحرّة) من ثلاث جهات ، ولها طريق واحد إلى أحد من الشّمال فحسب . وكانت قبا تقع في الحرّة الغربيّة . وغادرها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إلى مركز هذه المنطقة حيث كان يسكن بنو النّجّار . وكانت كثافة السّكّان هناك أكثر من غيرها(1) .

وكانت هذه المنطقة كلّها ، أو - على قولٍ - قسم منها يُدعى يثربا قبل هجرة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم إليها ، وليس لها معنىً حَسَن(2) . من هنا تغيّر اسمها فورا إلى مدينة الرّسول أو طَيبة وأسماء أخرى كثيرة(3) . وتحرّك رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يوم الجمعة ، وصلّى صلاة الجمعة في منطقة وادي رانوناء . وذهب بعض المؤرّخين إلى أنّ هذه الصّلاة كانت أوّل صلاة جمعة له ، بيد أنّ البعض الآخر قال إنّه كان صلاّها في قبا(4) . وفي الحقيقة إذا كانت مدّة إقامته في قبا أكثر من خمسة أيّام أو كما ذكر البعض ثلاثةً وعشرين يوما

ص: 546


1- (1) أمّ عبد المطّلب هي سلمى بنت عمرو من بني النجّار . السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 495 . ولم ينزل النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم عند بني عديّ بن النّجّار الّذين كانوا أخواله ، بل نزل عند بني مالك بن النجّار الّذين كانوا بعدهم بقليل .
2- (2) معجم البلدان 5 : 430 .
3- (3) معجم البلدان 5 : 83 .
4- (4) وفاء الوفاء 1 : 256 ؛ 3 : 819 - 821 .

فمن الطّبيعيّ أنّ الجمعة كانت تقام في قبا . وشيّد في المكان الّذي صلّى فيه الجمعة بوادي رانوناء مسجد باسم «مسجد الجمعة» ، وقد جُدِّد بناؤه الآن بشكل رائع .

وأجمعت المصادر على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لم يعزم على اختيار مكانٍ لإقامته مباشرةً وإنّما كان يقول للأنصار الّذين أرادوا نزوله عندهم ما مضمونه : سأنزل حيث بركت ناقتي . «خلّوا سبيلها فإنّها مأمورة»(1) . والجواب الأوضح الّذي نطق به حيال طلباتهم : «إنّي أُمرتُ بقريةٍ تأكل القرى»(2) فكان في الحقيقة يتطلّع إلى منطقةٍ أكثر استيعابا ولها قابليّة ذاتيّة على أن تتبدّل إلى حاضرةٍ تحتضن المهاجرين برمّتهم .

وكان الأنصار على اختلاف طوائفهم يتوقون إلى التشرّف باستضافته صلى الله عليه و آله وسلم . وفي نهاية المطاف بركت ناقته عند بني مالك بن النجّار . وسبق أبو أيّوب الأنصاريّ في هذه الحال إلى نقل أثاثه صلى الله عليه و آله وسلم إلى بيته ، فقال صلى الله عليه و آله وسلم لمن حوله من الطالبين نزوله عندهم : كلٌّ وأثاثه . وهكذا نزل في بيت أبي أيّوب الّذي كان فيه حجرتان (إحداهما على الأُخرى) ، وأقام فيه سبعة أشهر(3) . وكان في الحجرة السُّفلى ، وأبو أيّوب وزوجه في الحجرة العليا(4) .

وقيل إنّ مبرك الناقة أرض ليتيمين ، وكانت تستعمل لتجفيف الّتمر . وسرعان ما أصبح هذا المكان مسجدا للمسلمين . وذهب الطّبريّ إلى أنّ الأرض المذكورة كانت لبني النّجّار . وكان فيها نخل ، كما ضمّت قبور المشركين أيضا . واشتراها النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم

ص: 547


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 495 .
2- (2) وفاء الوفاء 1 : 256 (عن كتاب أخبار المدينة لمؤلّفه يحيى الحسينيّ) .
3- (3) أنساب الأشراف 1 : 267 ، 268 ؛ الطّبقات الكبرى 1 : 236 ؛ وفاء الوفاء 1 : 265 . وثمّة قول آخر عن بقائه سنة واحدة . كما يذهب رأي ثالث إلى مكوثه شهرا واحدا فحسب . وهو ما ارتضاه أُستاذنا العلاّمة جعفر مرتضى . واحتمل أنّ مسجده صلى الله عليه و آله وسلم ومنزله قد شيّدا خلاله بجهود شعبيّة مكثّفة . انظر : الصّحيح 3 : 10 ، 11 .
4- (4) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 498 .

وصارت مسجدا بعد تسويتها(1) .

وسمّى اللّه تعالى استقبال الأنصار للمهاجرين وإيوائهم في بيوتهم إيثارا . والأنصار في الحقيقة نصروا الإسلام ، بيد أنّهم بادروا في مرحلة أوطأ إلى رفد المهاجرين الّذين تركوا ثرواتهم إن كانت لهم ثروة وجاءوا إلى المدينة بأيدٍ خالية . وفيهم قال سبحانه : « وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ وَالاْءِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »(2) . وقيل في نزول هذه الآية أنّ غنائم بني النّضير لمّا صارت تحت تصرّف النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم طلب من الأنصار أن يقبلوا أحد الخيارين ، إمّا إعطاء الغنائم للمهاجرين ، ويخرجون من ديار الأنصار ، وإمّا تقسيمها بين جميع المسلمين ، ويبقى المهاجرون في ديار الأنصار . فأجاب الأنصار قائلين : «بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها»(3) .

وتتوفّر أدلّة كثيرة على هذا الإيثار . يذكر زيد بن ثابت حول عيش النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في دار أبي أيّوب أنّه لم تمرّ ليلة إلاّ ويأتي ثلاثة أو أربعة بطعام لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم (4) . ويقول شاعر أنصاريّ مشيرا إلى إعراض المكّيّين عن دعمه صلى الله عليه و آله وسلم ما كان فيهم :

بذلنا له الأموال من جُلِّ ما لنا وأنفسنا عند الوغى والتآسيا(5)

ويقول كعب بن مالك في شعر له أيضا :

اللّه ُ أكرمنا بنصر نبيّنا * وبنا أقام دعائمَ الإسلامِ

ص: 548


1- (1) انظر : تاريخ الطّبريّ 2 : 396 ، 397 .
2- (2) الحشر : 9 .
3- (3) تاريخ المدينة 2 : 489 ؛ مجمع البيان 9 : 258 .
4- (4) الطّبقات الكبرى 1 : 237 ؛ وفاء الوفاء 1 : 266 .
5- (5) دلائل النبوّة ، البيهقيّ 2 : 514 ؛ تاريخ الطّبريّ 2 : 385 ؛ السّيرة النّبويّة ، الذّهبيّ : 337 ؛ المعارف : 61 (ثمّة خلاف في الشعر المنقول إذ إنّ عددا منها إمّا لحسّان أو لصرمة بن أبي أنس الأنصاريّ) .

وبنا أعزّ نبيّهُ ووليّهُ * وأعزّنا بالنّصر والأقدامِ(1)

وحين آخى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بين عبد الرّحمن بن عوف وسعد بن الرّبيع الأنصاريّ ، قال له سعد : أنا أثرى أهل المدينة ، فخذ لك من أموالي شيئا(2) . وجاء في خبرآخر أنّ الأنصار تنازعوا حول أخذ المهاجرين إلى بيوتهم ، ثمّ اقترعوا فقسموهم بينهم ؛ وهذا يعود إلى رغبتهم في إقراء المهاجرين(3) . وذكر البلاذريّ أنّهم أهدوا النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ما زاد من أراضيهم وطلبوا منه أن يأخذ بيوتهم أيضا إذا شاء . فسلّم صلى الله عليه و آله وسلم المهاجرين قطعا منها ومن الأراضي الّتي لا مالك لها . وأضاف أنّهم كانوا في شوق بالغ لاستضافة المهاجرين(4) . وفي مثل هذه الظّروف كانت الأكثريّة السّاحقة منهم فقيرة ، إذ حتّى لو كانت لهم ثروة ، فإنّهم لم يستطيعوا حملها معهم إلى المدينة . ولولا همّة الأنصار ما كان للمدينة أن تُضيف هذا العدد من المهاجرين ، وإن كان عدد منهم قد سكن المسجد فيما بعد، وذلك لكثرتهم. وهؤلاء هم الّذين عُرفوا بأهل الصفّة.

وكان تبلور مفهومي الأنصار والمهاجرين من نتائج الهجرة(5) ، وخاطب القرآن الكريم مسلمي المدينة بهما أيضا(6) . واستدامت هذه الآصرة الأولى بين المهاجرين والأنصار لسنين ، وكانت ثمرة لتغيير باطنيّ فيهم . لكنّها تخلخلت بعد فتح مكّة و دخول الأمويّين في الإسلام كرها ، إذ قام هؤلاء بإثارة الخلاف بينهما ، وولّدت المنافسة الناشبة فيهما مشكلات كثيرة في مقابل اتّحادهما الأوّل . ومن الجدير ذكره أنّ

ص: 549


1- (1) أنساب الأشراف 1 : 267 .
2- (2) الطّبقات الكبرى 3 : 126 ؛ صحيح البخاريّ 2 : 309 ، 310 .
3- (3) السّيرة الحلبيّة 2 : 64 .
4- (4) أنساب الأشراف 1 : 270 ؛ فتوح البلدان 6 : 86 .
5- (5) أُطلق مصطلح المهاجرين الأوّلين على الّذين جاءوا إلى المدينة قبل تغيير القبلة . انظر : ابن أبي شيبة 7 : 346 ؛ تاريخ المدينة 2 : 491 ، 492 .
6- (6) التوبة : 100 ، 101 .

إحدى هذه المشكلات ظهور تيّار السقيفة الّذي كان حصيلة لخوف الأنصار من المهاجرين ، أو بكلمة أُخرى قريش السّياسيّة ، خوفا مشوبا بالحذر . وفي أيّام تسلّط الأمويّين أخذ عداء قريش السّياسيّة - الّتي كانت ترى نفسها وارثة للمهاجرين - للأنصار يشتدّ على مرّ الأيّام(1) . وسنتحدّث في الفصول القادمة عن جهود النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في غرس المؤاخاة بينهما ومحاولات المنافقين زرعَ الخلاف في صفوفهما .

7 - استمرار وجوب الهجرة حتّى فتح مكّة

اتّخذت الهجرة من مكّة إلى المدينة طابع الوجوب الشّرعيّ مضافا إلى أنّها كانت تعدّ تكليفا سياسيّا . وقيل : إنّ اللّه تعالى أمر رسوله أن يهاجر ويقرأ هذه الآية : « رَبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِى مِن لَدُنكَ سُلْطَانا نَصِيرا »(2) . وقبل ذلك كان النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم قد كلّف بعض الصّحابة بالهجرة إلى المدينة . وبعد هجرته صلى الله عليه و آله وسلم وتزامنا مع تبلور عاصمة للأمّة الإسلاميّة أُمر المسلمون الآخرون بالهجرة إلى المدينة أيضا . وثمّة أدلّة كثيرة على وجود مثل هذا التكليف ، كما أنّ أحدا إذا لم يهاجر فإنّ عمله هذا يمكن أن يعدّ بقاءً على الكفر . ولدينا أدلّة على ذلك . قال تعالى : « وَدُّوا [ أولئك الذين آمنوا ظاهريّا ولم يهاجروا بل ظلّوا إلى جانب الكفر ] لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِى سَبِيلِ اللّه ِ فَإِن تَوَلَّوا [ كسائر الكفّار ] فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم »(3) وجاء في سورة

ص: 550


1- (1) انظر : الموفّقيّات : 227 ، 228 ، 376 ، 594 ؛ الأغاني 16 : 35 ، 36 ، 37 ، 42 ، 48 .
2- (2) المستدرك على الصحيحين 3 : 3 . ونُقل عن قتادة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم علم أنّه لا يستطيع أن يقيم الفرائض الدّينيّة وكتاب اللّه بغير سلطان ، فطلبه . انظر : دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 2 : 517 . ويبدو أنّ تطبيقها على الهجرة تطبيق ذهنيّ محض ككثير من أنواع شأن النزول الأخرى الّتي نُقلت ليسير شبَهٍ بين الآية والواقعة . وسورة الإسراء مكّيّة .
3- (3) النساء : 89 .

الأنفال أيضا : « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللّه ِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِن وَلاَيَتِهِم مِن شَىْ ءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا »(1) . وورد في سورة النساء مرّة أخرى قوله سبحانه : « إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِى أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّه ِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً »(2) وهكذا يستبين أنّ لزوم الهجرة إلى المدينة قد طُرح في ثلاث حالات كحدٍّ أدنى ، وأنّ غير المهاجرين قد قُذفوا بالكفر . واستُثني من ذلك الأشخاص الذين لم تكن لهم قدرة على الهجرة لأسباب منها مخالفة الكفّار وممانعتهم . ويضاف إلى ذلك أنّ القرآن الكريم كلّما تحدّث عن «الإيمان ، والهجرة ، والجهاد»(3) ، نبّه على أهمّيّة الهجرة إلى المدينة . وقيل بشأن الآيتين 97 و98 من سورة النساء المشار إليهما سلفا إنّهما نزلتا فيمن ادّعوا الإسلام لكنّ الكافرين أحضروهم في معركة بدر عنوةً . وقيل أيضا إنّ العبّاس عمّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، وعقيلاً ، وغيرهما حين أُسروا ، فُرض عليهم دفع الفدية وعندما قال أحدهم أنّه كان يصلّي ، تلا عليه النّبي صلى الله عليه و آله وسلم قوله تعالى : « أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّه ِ وَاسِعَةً » . وجاء في هذا الخبر أنّ الآية لمّا نزلت كان الحكم أنّ «كلّ من أسلم ولم يهاجر فهو كافر إلاّ أن يهاجر»(4) . وكانت الهجرة مفروضة في جميع سنين العصر المدنيّ حتّى فتح مكّة (السّنة الثّامنة) . وهذا الحكم قابل للفهم جيّدا في ضوء ما ذُكر من الآي القرآنيّ . وذكر ابن عربيّ أنّ الحكم بالهجرة كان أمرا واجبا في زمن

ص: 551


1- (1) الأنفال : 72 .
2- (2) النساء : 97 ، 98 .
3- (3) انظر على سبيل المثال : البقرة : 218 ؛ آل عمران : 195 ؛ الأنفال : 72 ، 74 ، 75 ؛ التّوبة : 200 ؛ النحل : 41 ، 110 ؛ الحجّ : 58 .
4- (4) الدرّ المنثور 2 : 206 ؛ وانظر : التبيان 3 : 303 .

النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم (1) . وورد في خبر آخر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كان يوصي من يرسلهم قُوّادا للحرب بوصايا منها أن يبدأوا من يلتقون بهم من المشركين بالدّعوة إلى الإسلام ، فإذا استجابوا فلا يقاتلوهم ؛ ثمّ يدعوهم إلى التحوّل من منازلهم إلى دار المهاجرين ، فإذا أبوا أعلموهم أنّ حكمهم حكم «أعراب المسلمين» ولا سهم لهم من الفيء والغنائم إلاّ إذا جاهدوا في سبيل اللّه (2) . ومن كان يسلم منهم خلال تلك السّنين ، فإنّهم علاوةً على الإسلام ، يبايعون على الهجرة أيضا(3) . ولمّا كان هذا الحكم ، مضافا إلى شرعيّته ، يرتبط برأي النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، وله بوصفه حاكما للمسلمين أن يعفو عمّن كان في عسرٍ عن القيام بهذا العمل ، فقد أُذن للبعض أن يبقوا في منطقتهم . وذات مرّة مُني أحد الصّحابة الّذين كانوا بايعوا على الهجرة بمشكلة في استعمال ماء المدينة وذكر أنّه إذا شرب من ماء «بطحان» شُفي من مرضه . فأذن صلى الله عليه و آله وسلم له أن يرجع وقال له : «أنت مهاجر حيث كنتَ»(4) وكان هذا الإذن لبعض الأشخاص ، وممّن أُذن له منهم «سلمة بن الأكوع» . وقد أُتّهم هذا الشّخص أنّه تخطّى حكم الهجرة بسبب تركه المدينة ، لكنّه دُوفع عنه للإذن الّذي كان له من النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم (5) . وقال شخص يُدعى فديكا أنّه أتى النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وقال له : إنّ هؤلاء يزعمون أنّ من لا يهاجر يهلك ! فقال صلى الله عليه و آله وسلم : أقم الصّلاة ، وآتِ الزكاة ، وابتعد عن القبيح ، وامكث في أرض قومك ، فستكون مهاجرا(6) . ولعلّه سمع هذا الجواب بعد فتح مكّة ، إذ لم تجب الهجرة يومئذٍ .

مع أنّ البعض قد مُني بمثل هذا الغموض بسبب الحكم الّذي كان قبل فتح مكّة .

ص: 552


1- (1) أحكام القرآن 2 : 872 .
2- (2) المصنّف ، عبد الرّزّاق 5 : 218 .
3- (3) جاء في أمر الخندق أنّهم كانوا يبايعونه صلى الله عليه و آله وسلم على الهجرة ، مسند احمد بن حنبل 3 : 429 .
4- (4) مجمع الزّوائد 5 : 254 .
5- (5) نفسه : 5 : 253 ، 254 .
6- (6) انظر : الاستيعاب 3 : 1268 ؛ أسد الغابة 4 : 351 ؛ مجمع الزّوائد 5 : 255 ؛ مختصر تاريخ دمشق 7 : 179 .

وحدث هذا لصفوان بن أُميّة الّذي كان من أشراف مكّة وأسلم بعد فتحها . فقد قيل له : «لا دين لمن لا هجرة له» . فأتى النّبيَّ صلى الله عليه و آله وسلم ، فقال صلى الله عليه و آله وسلم له : لك أن تسكن بمكّة(1). وهذا في الحقيقة ليس إذنا بعدم الهجرة ، بل لأنّ وجوب الهجرة قد رُفع بعد الفتح . وجاء بلال بن الحارث المزنيّ إلى النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في السّنة الخامسة من الهجرة وقال إنّ له أموالاً في منطقته ولا يستطيع أن يُديرها أحد غيره ، فإذا كان الإسلام لا يتحقّق إلاّ بالهجرة فإنّه يبيعها ويأتي المدينة . فقال له ما مضمونه : إذا اتّقيت اللّه أينما كنت فلا ينقص من أعمالك شيء(2) . وهذا يمكن أن يكون استثناءً آخر أيضا . وثمّة نماذج أخرى كذلك ومن المحتمل أنّها كانت بعد الفتح(3) . بيد أنّ الّنموذج الذي كان قبل الفتح قطعا هو وفد قبيلة مزينة حين جاء أربعمائة منهم إلى المدينة في رجب سنة 5 ه ، فجعل النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم «الهجرة في دارهم» وقال لهم ما مضمونه : أنتم مهاجرون حيث كنتم ، فارجعوا إلى أموالكم(4) . والّذين كانوا يهاجرون إلى المدينة لم يُؤذَن لهم تركها . وإذا تخلّفوا كانوا أعرابا . بعبارة أخرى ، إذا رجعوا مُنوا ب- «التعرّب بعد الهجرة» . وكان هذا التعرّب بمنزلة الكفر . وذكر الزّبيديّ أنّنا لا يمكن أن نسمّي المهاجرين أعرابا ، بل هم عرب(5) . ونُقل عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قوله : «من بدا جفا»(6) ونقل عنه أيضا أنّه لعن من تعرّب بعد الهجرة إلاّ أن تكون فتنة ، فالذّهاب إلى البادية أفضل من البقاء في الفتنة(7) . وذهب ابن مسعود إلى أنّ من جملة الملعونين على لسان النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم

ص: 553


1- (1) مختصر تاريخ دمشق 11 : 89 ؛ تاريخ المدينة المنوّرة 2 : 483 .
2- (2) تهذيب الكمال 4 : 284 .
3- (3) مجمع الزّوائد 5 : 253 ؛ المصنّف ، عبد الرّزّاق 11 : 129 ؛ سنن النسائيّ 7 : 143 ، 144 ؛ صحيح البخاريّ 2 : 337 .
4- (4) الطّبقات الكبرى 1 : 291 .
5- (5) تاج العروس 3 : 334 .
6- (6) مجمع الزّوائد 5 : 254 .
7- (7) نفسه .

«الأعرابي المرتدّ الّذي تعرّب بعد الهجرة»(1) . وعُدَّ التّعرّب بعد الهجرة في حديث آخر عنه صلى الله عليه و آله وسلم من الكبائر . وأضاف ابن منظور في ذيل الحديث : «هو أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب ، بعد أن كان مهاجرا . وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدّونه كالمرتدّ»(2) . وقال الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام في ذمّ أهل الكوفة إذ ابتعدوا عن الإسلام الحقيقيّ : «صِرتُم بعد الهجرة أعرابا»(3) . ويدلّ هذا على غاية الأهمّيّة الّتي بلغتها الهجرة .

وذكر بعض الأخبار هجرتين هما «هجرة البادي» ، و«هجرة الحاضر» . وجاء في حديث نبويّ يشير إلى الهجرتين أنّ هجرة البادي هي هجرة المسلم الّذي إذا دُعي أجاب ، وإذا أُمر أطاع ؛ أمّا هجرة الحاضر ففيها واجبات أعسر وأجر أكثر(4) . وورد في خبر آخر أنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم رأى رجلاً في المسجد كان قَدِمَ المدينة حديثا . فسأله عمّا جاء به ؟ فقال : مهاجرا إلى اللّه ورسوله . فقال صلى الله عليه و آله وسلم : هجرة إقامة أو رجعة ؟ قال : إقامة . فبايعه(5) . وفي خبر آخر حين قال واثلة بن الأسقع للنّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم : أنا مهاجر . سأله : هجرة البادي أو هجرة التّألّه الّذي هو التعبّد والتنسّك ؟ قال : أيّهما أفضل ؟ قال : هجرة التألّه ؛ أي : البقاء عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم (6) .

ويبدو أنّ شدّة هذا الحكم قد قلّت في الفترة الأخيرة . ومن المحتمل أيضا أنّ المجيء إلى المدينة حتّى بعد فتح مكّة كان يعدّ امتيازا ، ولا خلاق للّذين كانوا في البادية ولم

ص: 554


1- (1) المصنّف ، عبد الرّزّاق 3 : 144 ، 145 .
2- (2) لسان العرب 2 : 76 . وكذلك عُدَّ «التعرّب بعد الهجرة» من الكبائر في روايات أهل البيت عليهم السلام . انظر : الكافي : 2 : 277 ، 278 ، 280 ، 281 ؛ معاني الأخبار : 265 .
3- (3) نهج البلاغة : الخطبة 192 .
4- (4) سنن النّسائيّ 7 : 144 ؛ مجمع الزّوائد 5 : 252 .
5- (5) تاريخ المدينة المنوّرة 2 : 484 ، 485 .
6- (6) نفسه .

يتحمّلوا ما تحمّله المهاجرون من المشاقّ ، من تلك الامتيازات(1) . وجاء في رواية عن الإمام الكاظم عليه السلام أن لا سهم للأعراب [ غير المهاجرين ] حتّى لو اشتركوا في الجهاد ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم صالحهم هكذا ليبقوا في ديارهم [ ويهتمّوا بحياتهم المادّيّة طبعا ] ولا يهاجروا. ولكن إذا نشب القتال، فعليهم أن يشتركوا فيه، ولا نصيب لهم من الغنائم(2).

ويعود هذا كما أشرنا إلى أنّ المهاجرين تنازلوا عن جميع أموالهم ، وهاجروا في تلك السّنين قصدا للجهاد فحسب . وإذا كانت غنيمة في الحرب فلهم خاصّة . ويحرم منها حتّى الأنصار في بعض الحالات ، وذلك من أجل أن يتمكّن المهاجرون من تمشية أمورهم وتنظيم حياتهم دون الاعتماد على الأنصار . واستدام حكم الهجرة حتّى فتح مكّة ، ثمّ أُلغي بعد استبدال دار الإسلام بدار الشّرك مكّة . وهكذا لم يجب على المسلمين بعد الفتح أن يأتوا المدينة ، أو يكونوا مهاجرين إذا أتوها . ونقل عدد من الصّحابة حديث «لا هجرة بعد الفتح» . منهم جابر بن عبد اللّه (3) ، وعائشة(4) ، وأبو سعيد الخدريّ(5) ، وصفوان بن أُميّة(6) ، وأنس بن مالك(7) ، وعبد اللّه بن عبّاس(8) ، والمجاشع بن مسعود(9) ، وأميرالمؤمنين(10) ، وعبد اللّه بن عمر(11) . ولم يرق الأمويّين هذا

الحديث لأنّهم أسلموا إبّان فتح مكّة ، وما قدموا المدينة إلاّ ليحسبوا أنفسهم من المهاجرين . وحين قرأ أبو سعيد الخدريّ حديث «لا هجرة بعد الفتح» بمحضر مروان

ص: 555


1- (1) انظر بهذا الشّأن : تاج العروس 3 : 334 .
2- (2) الكافي 1 : 541 .
3- (3) المصنّف ، عبدالرّزّاق 7 : 464 ؛ 8 : 465 .
4- (4) نفسه 8 : 474 ؛ المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 408 ؛ صحيح البخاريّ 2 : 330 .
5- (5) المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 407 ؛ دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 5 : 109 ؛ مجمع الزّوائد 5 : 250 .
6- (6) سنن النسائيّ 7 : 147 .
7- (7) المصنّف ، عبد الرزّاق 5 : 309 .
8- (8) نفسه .
9- (9) المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 408 ؛ مجمع الزّوائد 5 : 250 .
10- (10) نهج البلاغة ، الكتاب 64 .
11- (11) صحيح البخاريّ 2 : 330 .

(الّذي حكم من سنة 65 إلى سنة 66 ه) ثارت ثائرته واتّهمه بالكذب حتّى همّ بضربه(1) .

وكتب الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام أيضا إلى معاوية قائلاً له : «وذكرتَ أنّك زائري في المهاجرين والأنصار . وقد انقطعت الهجرة يوم أُسِرَ أخوك»(2) . وأخوه المقصود في كلام الإمام عليه السلام هو يزيد بن أبي سفيان الّذي أُسر في فتح مكّة(3) .

ومن غير الواضح سبب ما رُوي عن الخليفة الثّاني قوله : «لا هجرة بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم »(4) . وإذا صحّت هذه الرّواية فالطّلقاء سيكونون في عداد المهاجرين. ومن المحتمل أنّ الأمويّين هم الّذين وضعوها على لسان الخليفة . وتدلّ أخبار أخرى أيضا على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كان يبايع على الإسلام والجهاد فحسب بعد فتح مكّة(5). ونصّ الحاكم النيسابوريّ على أنّ الّذين جاءوا بعد فتح مكّة ليسوا من المهاجرين(6) . وجاء في إحدى الرّوايات أنّ رجلاً أصرّ بعد الفتح على أن يبايع هو وأبوه على الهجرة لكنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم رفض ذلك حتّى مع إلحاح عمّه العبّاس(7) . وفي مقابل هذه الأخبار نُقل عدد من الأحاديث الدالّة على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قال : «لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفّار» . وهذا الكلام النّبويّ نقله عبد اللّه بن واقد السّعديّ وقال : سئل صلى الله عليه و آله وسلم في ذلك فقال : «لا تنقطع ...»(8) ونقل جنادة بن أبي أميّة مثله(9) .

ص: 556


1- (1) دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 5 : 109 ، 110 ؛ مجمع الزّوائد 5 : 250 ؛ المصنّف ، ابن أبي شيبة ، 7 : 407 .
2- (2) نهج البلاغة : الكتاب 64 .
3- (3) شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد 17 : 257 .
4- (4) سنن النسائيّ 7 : 146 .
5- (5) دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 5 : 109 ؛ المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 408 ؛ المعرفة والتاريخ ، الفسويّ ، 1 : 400 ؛ سنن النّسائيّ 7 : 145 ؛ مجمع الزّوائد 5 : 250 .
6- (6) المستدرك على الصّحيحين 3 : 18 .
7- (7) مسند أحمد بن حنبل 3 : 430 ، 431 .
8- (8) سنن النّسائيّ 7 : 147 ؛ مجمع الزّوائد 5 : 250 .
9- (9) مختصر تاريخ دمشق 6 : 119 ؛ مجمع الزّوائد 5 : 251 .

كما نقله الرجاء بن حيوة وهو من وعّاظ السّلاطين الأمويّين(1) . ولا جرم أنّه سقيم إلاّ أن يراد منه المعنى العامّ للهجرة من أجل الجهاد خارجا من المعنى المصطلح للمهاجرين والهجرة إلى المدينة . واصطلاح دار الهجرة في الأصل مصداق لدار الإسلام قياسا بدار الشّرك . وهذا الاصطلاح أطلقه - فيما بعد - الخوارج الّذين كانوا يكفّرون سائر المسلمين على كلّ مدينة أو منطقة يجتمعون فيها ، ويأمرون الخوارج الآخرين بالهجرة إليها . من هنا أكّد الفقه الإسلاميّ وجوب الهجرة المتمثّلة بخروج المسلمين من دار الشّرك بخاصّة دار الحرب إلى دار الإسلام(2) .

وهذا الموضوع ، بغضّ النّظر عن أنّه يمكن أن يكون مؤثّرا في التّربية الدّينيّة للشّخص المسلم ، ويجعله عرضةً لخطر الارتداد(3) ، ذو أخطار تطرأ في الحرب أيضا . وفي مثل هذه الظّروف لا يضمن الحاكم الإسلاميّ حياة المسلم الّذي يعيش في دار الحرب . ورُوي عن قيس بن حازم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بعث جيشا إلى خثعم ، فلمّا غشيهم استعصموا بالسجود ، [ ليبدوا إسلامهم ويأمنوا على أنفسهم ] فقتل بعضهم [ إذ لم يُعلَم إسلامهم ] . فبلغ ذلك النّبيَّ صلى الله عليه و آله وسلم فقال : أعطوا الورثة نصف العقل بصلاتهم ؛ وقال : ألا إنّي بريء من كلّ مسلم نزل مع مشرك في دار الحرب(4) .

ص: 557


1- (1) مجمع الزّوائد 5 : 251 .
2- (2) انظر : أحكام القرآن 2 : 877 وعنه : تفسير القرطبيّ 5 : 350 وفقه السّيرة : 176 .
3- (3) يُذكَر هذا الارتداد بعنوان الابتلاء بالفتنة ، يقول عطاء : سألنا عائشة عن الهجرة فقالت : لا هجرة اليوم (ويومئذٍ) كان المؤمنون يهاجرون إلى اللّه ورسوله لحفظ دينهم مخافة أن يفتن عليه . أمّا اليوم فقد أظهر اللّه دينه ، وكلّ أحد يستطيع أن يعبد اللّه حيث أراد . انظر : صحيح البخاريّ 2 : 330 .
4- (4) المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 347 ؛ فروع الكافي 1 : 339 ؛ تهذيب الأحكام ، الطّوسيّ 2 : 50 ؛ دعائم الإسلام 1 : 376 ؛ مجمع الزّوائد 5 : 253 .

كان الإقبال على الهجرة من أجل تربية المسلمين(1) ودفع الخطر عنهم(2) من جهة ، ومن جهة أُخرى يمكن أن يكون مؤثّرا في تعزيز بنية المدينة الّتي أصبحت مركزا للإسلام . وكان للمسلمين بهجرتهم من دار الشّرك إلى دار الإسلام أن يعزّزوا البنية العسكريّة والسّياسيّة للحكومة الإسلاميّة والمجتمع الإسلاميّ(3) .

وفي الحقيقة ينبغي الالتفات إلى أنّ أحد البواعث الأصليّة على الهجرة هو تعذّر تشكيل الحكومة في مكّة . من هنا قيل في تفسير قوله تعالى : « وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّى مِن لَدُنكَ سُلْطَانا نَصِيرا »(4) ، أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم طلب أن يُعطى سلطة تمكّنه من تطبيق الشّريعة الإسلاميّة «فسأل سلطانا نصيرا لكتاب اللّه وحدوده وفرائضه ولإقامة كتاب اللّه فإنّ السّلطان عزّة من اللّه جعلها بين أظهر عباده لولا ذلك لأغار بعضهم على بعض»(5) .

ومسك الختام لموضوعنا هذا أن ننقل الحديث الآتي: يقول أبوفاطمة: قلتُ لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم حدّثني بعملٍ أستقيم عليه وأعمله . فقال : «عليك بالهجرة فإنّه لا مثل لها»(6) .

8 - الهجرة بداية التّاريخ الإسلاميّ

إنّ امتلاك شعب لتاريخٍ له بداءة محدّدة ، وينوء بعب ء مئات أو آلاف السنين ليس

ص: 558


1- (1) ذكر القرآن الكريم سعة الأرض للعبادة ورعاية التّقوى في موضعين . قال تعالى : « يَا عِبَادِىَ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ أَرْضِى واسِعَةٌ فَإيَّاىَ فَاعْبُدُونِ » (العنكبوت : 56) وقال سبحانه : « قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِى هذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ »(الزمر : 10) .
2- (2) وردت آية في القرآن الكريم بشأن الهجرة في مقابل الظلم الموجود في المجتمع . قال تعالى : « وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُم فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلاَءَجْرُ الاْآخِرَةِ أَكْبَرُ »(النحل : 41) .
3- (3) انظر : فقه السّيرة : 163 .
4- (4) الإسراء : 80 .
5- (5) دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 2 : 516 ، 517 ؛ تفسير القرطبيّ 10 : 312 .
6- (6) سنن النسائيّ 7 : 145 .

امتيازا سهل المنال في العالم القديم . وهو أصعب بخاصّة للعرب الّذين كانوا يعيشون حياة البداوة ولم ينضووا تحت كيان سياسيّ موحّد . علما أنّ الحاجة إلى محاسبة سنويّة ضروريّة حتّى بالنسبة إلى الحياة الاعتياديّة ، لكنّ هذه المحاسبة كانت متيسّرة بالنظر إلى الظّروف الطّبيعيّة للّيل والنهار ودوران الأرض والقمر ، إلاّ أنّها تحدّد السّنة فحسب ، وكان فرضا أن يُجعل للسّنة وقت لبدئها أيضا . وكان المحرّم أوّل شهور السّنة في الجاهليّة . ويبدو أنّ هذا يعود إلى أنّ الحجّ مراسيم سنويّة إذا اختتمت في شهر ذي الحجّة فإنّ العرب يصبحون على مشارف المحرّم(1) . أمّا حول بداءة يمكن أن تحسب عشرات السّنين أو أكثر ، فإنّ التوكّؤ كان على الأحداث المهمّة مثل عام الفيل ، أو عام تجديد بناء الكعبة(2) (قبل البعثة بخمس سنين) .

وما كان عند المسلمين بوصفه تاريخا إبّان البعثة هو الذّهاب إلى دار الأرقم . فيقولون كانت الحادثة الفلانيّة قبل الدخول في دار الأرقم أو بعده(3) . وبعد تكوين المجتمع الإسلامي والحكومة الإسلاميّة أجمعوا على هجرة الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم إلى المدينة بوصفها بدء التّاريخ الإسلاميّ . ويعود ذلك إلى أهمّيّة الهجرة في الفكر القرآنيّ ودورها في إيجاد تطوّر عظيم في توسيع رقعة الإسلام . كما أنّ اتّخاذها تاريخا كان مؤثّرا في تعزيز فكرة الهجرة . ويدور خلاف حول الوقت الّذي اتّخذت فيه الهجرة تاريخا . ومعظم ما يُروى هو أنّ الخليفة الثّاني عزم في السّنة السّابعة عشرة للهجرة (لأسباب ذُكرت مختلفةً) على أن يضع تاريخا . فعُرضت عليه اقتراحات شتّى ، فمنهم

ص: 559


1- (1) وكان هذا استدلالاً طرحه عمر فيما بعد ليجعل المحرّم أوّل السّنة . انظر : الإعلان بالتّوبيخ في كتاب تاريخ كتابة التاريخ في الإسلام 2 : 200 .
2- (2) بشأن بعض هذه البدايات الزّمنيّة انظر : تاريخ الطّبريّ 2 : 391 ، 392 .
3- (3) مثلاً قيل في زمن إسلام عبيدة بن الحارث أنّه أسلم قبل الدخول إلى دار الأرقم . انظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 253 ؛ وذكرنا نماذج أُخرى سلفا .

من قال ميلاد النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، ومنهم من قال بعثته ، وذهب البعض إلى وفاته ، بيد أنّ أميرالمؤمنين عليّا عليه السلام اقترح الهجرة أساسا للتاريخ فقُبل(1) .

وثمّة رأي آخر (صرّح به ابن شهاب الزّهريّ) مفاده أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم نفسه أمر بجعل الهجرة أساسا لتعيين التّاريخ منذ دخل المدينة(2) . وتتوفّر أدلّة أُخرى يمكن أن تؤيّد الرأي الثّاني . وذكر الأُستاذ الباحث العلاّمة جعفر مرتضى العامليّ عددا منها(3) . وهو يعتقد أنّ ما جرت الاستشارة فيه أيّام الخليفة الثّاني هو تعيين المحرّم مكان ربيع الأوّل (الّذي وقعت الهجرة في عقده الأوّل)(4) .

وقيل في هذا المجال إنّ المحرّم لمّا كان واقعا بعد مناسك الحجّ فمن الأفضل أن يكون أوّل السّنة . وكانت الاقتراحات الأخرى تدور حول رجب ورمضان ورفضها عمر . وأهمّ دليل على اتّخاذ الهجرة أساسا للتّاريخ منذ عصر النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم هو كلام الزّهريّ ، وكذلك عهدان منسوبان إلى تلك الفترة . فقد ضُبط في آخر العهد الّذي كُتب إلى إحدى القبائل تاريخ السّنة التّاسعة للهجرة . كما ورد التّاريخ نفسه في كتاب آخر لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كتبه بطلبٍ من أحد المسلمين لدعوة أخيه إلى الإسلام(5) .

إنّ ما يستشفّ من مجموع الموضوعات المنقولة في هذا المجال هو أنّ الهجرة

ص: 560


1- (1) البداية والنّهاية 7 : 73 ، 74 ومصادر أُخرى وردت في الصّحيح 3 : 33 ، 34 . ونقل بعض المصادر هذا الخبر خاليا من ذكر الإمام عليّ عليه السلام . ونسب بعضها ذلك إلى الخليفة نفسه لكنّ معظمها أورده باقتراح الإمام عليه السلام .
2- (2) تاريخ الطّبريّ 2 : 388 (إنّ النّبيّ لمّا قدم المدينة - وقدمها في شهر ربيع الاوّل - أمر بالتّاريخ) . وانظر : الصّحيح 2 : 41 .
3- (3) الصّحيح 2 : 37 - 55 .
4- (4) ذهب الواقدي في المغازي 1 : 2 إلى أنّه الثاني عشر من ربيع الأوّل الموافق (24) ايلول 623 م . واليوم الأوّل من المحرّم في السّنة الأولى من الهجرة يصادف الخامس عشر من تمّوز سنة 622 م .
5- (5) بشأن العهد الأوّل انظر : فتوح البلدان : 67 . وورد الكتاب الثاني في أخبار إصفهان 1 : 52 ، 53 . وحول دلالتهما انظر : الصّحيح 2 : 45 ، 46 .

بوصفها تطوّرا مهمّا في عصر النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم كانت تعدّ المنطلق للأحداث الواقعة . بيد أنّ المحتمل هو أنّ أهمّيّتها قد تقلّصت أو غمرتها لجّة النّسيان بعد وفاة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وظهور أحداث أخرى . وفي هذا الشّأن حديث مأثور عن ابن عبّاس له دلالته . فقد نقل أنّ النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم حين وطأت قدماه أرض المدينة ، لم يكن فيها تاريخ . وبعد مضيّ شهر أو شهرين على قدومه صلى الله عليه و آله وسلم عمل الناس بتاريخٍ [ ولابدّ أن تكون الهجرة منطلقة ] . واستمرّ هذا التّاريخ حتّى وفاته صلى الله عليه و آله وسلم ، ثمّ قُطع . ولم يك تاريخ أيّام أبي بكر والسّنين الأربع الأولى من حكومة عمر ، بعد ذلك وُضع التّاريخ (الهجريّ)(1) .

وهكذا يمكن التّوفيق بين الرأيين . فقد تحقّق بدء الهجرة في حياة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بنحو طبيعيّ (أو بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ) . وهذا يمثّل - بالتّبع - القاعدة السّابقة الّتي تتجسّد في الحوادث المهمّة في بدء التّاريخ . لكنّه طوي بملفّ النّسيان بعد رحيل الرّسول الأعظم صلى الله عليه و آله وسلم ! ثمّ استعاد حياته بعد سنين نظرا إلى الشعور بالحاجة إليه ، وذلك باقتراح الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام [ الّذي كان يهتمّ اهتماما خاصّا بالسّير على سنّة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم ] .

يضاف إلى ذلك - ولعلّه من المؤسف - أن يستبدل المحرّم بربيع الأوّل - شهر الهجرة - الّذي ينبغي أن يكون المنطلق لبدء السنة الهجريّة أساسا(2) . وحريّ بالذكر أنّ السّنين في عصر النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم كانت تسمّى بالحوادث المهمّة الواقعة فيها ، نحو عام

ص: 561


1- (1) الإعلان بالتّوبيخ (في كتاب تاريخ كتابة التاريخ في الإسلام 2 : 201) .
2- (2) وهكذا أُضيف على السّنة الهجريّة شهران . أي : قُدِّم أوّل التّاريخ على ربيع الأوّل شهرين . مع هذا يبدو أنّه كان من حسب التّاريخ الهجريّ من المحرّم الواقع في السّنة التّالية . أي : إنّهم تغاضوا عن عشرة أشهر . وتحدّث البيهقيّ مشيرا إلى هذا الرأي عن السبب الّذي دعا البعض إلى اعتبار حرب الأحزاب في السّنة الرّابعة والمشهور هو أنّها كانت في السّنة الخامسة . وذهب إلى أنّ الفسويّ كان من المعتقدين بهذا الرأي . انظر : دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 396 .

الحزن - العام العاشر للبعثة - الّذي كانت فيه وفاة خديجة وأبي طالب عليهماالسلام ، وعام الإذن - العام الأوّل للهجرة - الّذي كان فيه الاستئذان للهجرة [ أو للقتال ] ، وسمّيت السّنة الثّانية سنة الأمر بالقتال ، والسّنة الثّالثة سنة الّتمحيص [ لمناسبة حرب أُحُد (1)].

أعمال النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بعد الاستقرار في المدينة

1 - بناء المسجد

ينبغي أن نعدّ بناء المسجد أوّل الأعمال الّتي قام بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في المدينة . وقد أُقيم هذا المسجد الّذي كان قد بُني مثله في قبا بأبسط الإمكانيّات ، وأدّى فيما تلا دورا مهمّا في الثّقافة والحضارة الإسلاميّة . والأخبار الّتي وصلت إلينا حول بناء المسجد متضاربة وإن كانت مفصّلة . وقيل إنّ أسعد بن زرارة ومعه جماعة من المسلمين اتّخذوا الأرض الّتي كانت حوالي دار أبي أيّوب الأنصاريّ - مسكن النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم - مسجدا قبل قدوم النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم إليها(2) . وكان إلى جانب تلك الأرض مِرْبَد متّصل بها ، وهو عبارة عن أرض يحفظون فيها الحيوانات الأليفة . ونقل بعض الأخبار أنّ هذه الأرض كان في زاوية منها بقعة ذات نخيل متروكة ، وفيها قبور للمشركين فاشتراها النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وأنشأ عليها مسجده بعد تسطيحها . وفي رواية أنّها كانت ليتيمين [ باسم سهل وسهيل ] يرعاهما معاذ بن عفراء - وفي خبرٍ ، أسعد بن

ص: 562


1- (1) الاعلان (في كتاب تاريخ كتابة التاريخ في الإسلام 2 : 203) وسمّيت السنة الرابعة : الترفئة ، والخامسة : الزلزال (ربّما لوقوع حرب الأحزاب فيها كما جاء في سورة الأحزاب) ، والسّادسة : الاستئناس ، والسّابعة : الاستغلاب ، والثامنة : الاستواء ، والتاسعة : البراءة ، والعاشرة : الوداع . انظر : گاهنامه تطبيقى (التقويم المقارن) ، أحمد بي رشك : 217 .
2- (2) انظر : فتوح البلدان : 20 ؛ سبل الهدى والرّشاد 3 : 485 .

زرارة(1) . ومع رضاهما بتقديمها لكنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم لم يرض إلاّ بشرائها . ونقل الطّبريّ هذه الرّواية ، وذهب إلى أنّ الصّحيح هو أنّ الأرض كانت لبني النجّار ، وبعد تقديمهم إيّاها قام النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بتسطيحها وبنى عليها مسجده . وذكر أنّه صلى الله عليه و آله وسلم كان قبل بناء المسجد يصلّي في أرض مسطّحة كانت تُحفظ فيها الأغنام قبل ذلك(2) . ولم يرد فيما نقله ذكر لليتيمين مع أنّ المحتمل هو انطباق الخبر الّذي يذهب إلى كَون الأرض لبني النجّار مع الخبر الّذي يراها لليتيمين .

ومن المحتمل أيضا أنّ هذه الخلافات في الأخبار المتعلّقة بالمسجد (مضافا إلى أنّ بعضها يذهب إلى بنائه مرّتين في الأقلّ : مرّة في السّنة الأولى ، وأخرى في السّنة السّابعة ؛ وتداخل بعضها في بعض) نابعة من كَونه بُني على قطع من الأرض ، ولكلّ قطعة شكلها . فقِسمٌ المِربَد [ أو المُربد ] ، وآخر بستان نخيل متروك ، وثالث مقبرة المشركين . وقيل في هذه القبور إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أمر بتخريبها ودفن رفاتها في مكان آخر . وأُقيم في البداية جدار لا سقف له ثمّ جُعلت له أعمدة من النّخيل وغُطّي السّقف بالسّعف حتّى إذا مطرت يتطيّن سطح المسجد ، وتتلطّخ جبهة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم والنّاس به عند السّجود . وكانت القبلة يومئذٍ إلى الشمال [ بيت المقدس ] . وقيل في مساحته الأولى إنّ طوله (70) ذراعا من الشمال إلى الجنوب ، وعرضه (60) ذراعا من الغرب إلى الشّرق(3) . ونقل المؤرّخون أنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم نفسه شارك في بنائه من قريب(4) . وذكر ابن سعد أنّه كان يساعدهم في نقل الحجر ويترنّم هامسا :

ص: 563


1- (1) دلائل النّبوّة 2 : 538 .
2- (2) تاريخ الطّبريّ 2 : 396 ، 397 ؛ دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 2 : 539 ، 540 ؛ فتح الباري 7 : 295 ؛ الطّبقات الكبرى 1 : 240 .
3- (3) انظر : مدينه شناسى (معرفة المدينة) 1 : 30 - 32 ؛ مساحة المسجد 4200 ذراع يعادل 186/2071 مترا .
4- (4) تاريخ الطّبريّ 2 : 397 .

اللّهمّ لا عيش إلاّ عيش الآخرة * فاغفر الأنصار والمهاجرة

وكان للمسجد النّبويّ بناؤه الأوّل حتّى السّنة السّابعة . وفيها توسّع بعد عودة المسلمين من خيبر وازدياد عددهم(1) . وكان المسجد في حياته صلى الله عليه و آله وسلم مركزا عباديّا عسكريّا سياسيّا ؛ ونظرا إلى الجوّ الّذي أوجده الإسلام في فكر المجتمع الجاهليّ وعمله ، فقد كان له دوره الأساس في تكوين المجتمع الإسلاميّ الجديد . من هنا ينبغي أن نعدّ بناءه من الخطوات الأولى لبناء المجتمع الجديد . وشاد النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم إلى جانبه بيتين ببساطة جدرانه [ في الحقيقة حجرتين ] لزوجاته . وأُنشئ بيت لعليّ وفاطمة عليهماالسلام . كما قام سائر الصّحابة ببناء دور لهم في أطرافه ، ولها أبواب إليه أيضا(2) .

2 - عقد المؤاخاة بين المسلمين

ومن أُولى أعماله الأُخرى صلى الله عليه و آله وسلم في المدينة - أو مكّة في روايةٍ - عقد المؤاخاة بين المسلمين مثنى . وذكره معظم كتّاب السِّيَر بعد بناء المسجد . ويحوم خلاف حول وقته الدقيق . فذهب البعض إلى أنّه كان بعد الهجرة بخمسة أشهر . وقال آخرون : تسعة أشهر . ومنهم من جعله متزامنا مع بناء المسجد أو قبله ، وفيهم من ذكر أنّه كان بعد الهجرة بعام(3) .

ص: 564


1- (1) الطّبقات الكبرى 1 : 240 . انظر : المسار التاريخيّ لتغيير المسجد وتطوّراته في كتابنا الآخر آثار اسلامى مكّة ومدينة (الآثار الإسلاميّة لمكّة والمدينة) ، طهران ، نشر مشعر (إصدارات مشعر) ، 1418ه .
2- (2) أمر النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم (بوحي من السماء) بسدّ جميع الأبواب بعد غزوة بدر إلاّ باب عليّ عليه السلام [ سدّوا الأبواب إلاّ باب عليّ عليه السلام ] . انظر : الصّحيح 4 : 94 ؛ دلائل الصّدق 1 : 21 ، 22 .
3- (3) سبل الهدى والرّشاد 3 : 533 .

كما يحوم خلاف آخر أيضا حول موضوع العقد هل كان بين المهاجرين والأنصار ، أو بين المهاجرين فحسب . فقد ذكر ابن إسحاق أنّه كان بين المهاجرين والأنصار(1) . ويُلحَظ بين المتآخين مهاجريّان تارةً ، وأنصاريّ ومهاجريّ تارةً أُخرى . ويبدو [ كما قال بعض المؤرّخين ] أنّ عقد المؤاخاة أُبرم مرّتين . الأُولى في مكّة بين المهاجرين كالمؤاخاة بين أبي بكر وعمر(2) ، وحمزة وزيد بن حارثة ، وعثمان وعبد الرحمن بن عوف(3) ، والزّبير وابن مسعود ، وعبيدة بن الحارث وبلال ... ورسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم نفسه وعليّ بن أبي طالب عليه السلام (4) ، والأخرى في المدينة بين الأنصار والمهاجرين(5) .

إنّ المعاناة الّتي كان يعيشها المهاجرون في مكّة ، وهم قطعوا علاقاتهم القبليّة إلى حدٍّ ما ، فرضت عقد المؤاخاة بينهم . وفي غضون ذلك نلحظ أنّ الأشخاص الّذين تآخوا في مكّة ، وإن وجدوا لهم إخوةً من الأنصار في المدينة ، لكنّ معظمهم حافظ على أواصر الإخوّة السّابقة(6) .

وهذه الأواصر الّتي عُقدت على أساس القواسم المشتركة بينهم ظلّت محفوظة فيما بعد . ونشهد آثارها في الرّوابط السّياسيّة بين أبي بكر وعمر ، وعثمان وعبد الرّحمن بن عوف (في الشّورى الّتي كانت بعد وفاة عمر) وكذلك بين الزّبير وابن مسعود . وقد

ص: 565


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 504 ، 505 .
2- (2) انظر : تاريخ جرجان : 96 ؛ مختصر تاريخ دمشق 9 : 139 .
3- (3) انظر : الطّبقات الكبرى 3 : 56 .
4- (4) وفاء الوفاء 1 : 268 ؛ المستدرك 3 : 14 ؛ المعجم الكبير 24 : 137 .
5- (5) جاء تقسيم المؤاخاة مرّتين في سبل الهدى والرّشاد 3 : 527 ؛ تاريخ الخميس 1 : 353 (عن فتح الباري وابن عبد البرّ) .
6- (6) أدام بعضهم إخوّته مع إخوانه الأنصار . بشأن بلال وأبي رويحة الأنصاريّ انظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 507 ، في تاريخ المدينة 3 : 1054 - 1056 .

دافع الزّبير عن ابن مسعود حين اصطدم بعثمان . ولمّا مات عبد اللّه صلّى عليه الزّبير لا عثمان(1) .

ولا مِرية في عقد الأخوّة بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وأميرالمؤمنين عليه السلام (2) . وما امترى فيه إلاّ ابن تيميّة الّذي أنكر عقد الأخوّة بين المهاجرين وقال : كانت المؤاخاة لتأليف القلوب بعضها مع بعض فلا معنى أن يؤاخي رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أحدا . وينبغي الالتفات هنا إلى أنّ ابن تيميّة ذاتا ينكر أكثر فضائل إمام المتّقين عليّ بن أبي طالب عليه الصّلاة والسّلام . وقد اعترض عليه أهل السّنّة بشدّة منهم السمهوديّ ، والشّاميّ ، والعسقلانيّ وغيرهم . ومضافا إلى عشرات النصوص التّاريخيّة ، فإنّه لجأ إلى القياس في مقابل النصّ(3) .

وأشار البلاذريّ إلى المتآخين ، وذكر في البداية «الإخوان المهاجرين» ، ثمّ أورد «الإخوان المهاجرين والأنصار»(4) . وهذا دعم للرأي القائل بوقوع المؤاخاة مرّتين . ويُستشفّ من أخبار المؤرّخين أنّ قرابة (45) أنصاريّا تآخوا مع (45) مهاجريّا في مجلس واحد بالمدينة ، مع أنّ هذه المؤاخاة قد استدامت بدخول مهاجرين جدد . وذهب البلاذريّ إلى أنّ أيّ مهاجريّ لم يبق بلا أخٍ(5) . وفي أيدينا أخبار حول عقدٍ للمؤاخاة بين النساء المؤمنات أيضا . فقد قيل إنّ فاطمة عليهاالسلام تآخت مع أم سليم(6) .

ص: 566


1- (1) نفسه .
2- (2) روى ابن إسحاق أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قال : «تآخوا في اللّه أخوين ثمّ أخذ بيد عليّ بن أبي طالب فقال : هذا أخي» . السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 505 (انظر : تتمّة الحديث) .
3- (3) انظر : وفاء الوفاء 1 : 128 ؛ السّيرة الحلبيّة 2 : 20 ؛ سبل الهدى والرّشاد 3 : 534 ؛ الصّحيح 3 : 61 - 63 (وما ورد فيه من إرجاع إلى المصادر المعنيّة) ؛ الغدير 3 : 112 - 125 (وما فيه من إرجاع) . ونصّ ابن عبّاس على أنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم اختار عليّا عليه السلام في المدينة لأخوّته . انظر : سبل الهدى والرشاد 3 : 528 .
4- (4) أنساب الأشراف 1 : 270 .
5- (5) نفسه : 271 .
6- (6) تهذيب تاريخ دمشق 6 : 10 ، 11 .

وفي خبر آخر عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أنّ الأخوات المؤمنات هنّ ميمونة بنت الحارث ، وأمّ الفضل سلمى ، وأسماء(1) .

وتمّ هذا العقد على أساس «الحقّ والمواساة» . وجاء في أكثر الأخبار أنّ إحدى القواعد الأُخرى لهذه الأخوّة إقرار «التوارث» بينهم «يتوارثون بعد الممات دون ذوي الأرحام»(2) . ورُوي عن الإمام الباقر عليه السلام أيضا أنّه قال : «إنّهم كانوا يتوارثون بالمؤاخاة»(3) ولمثل هذا العقد أن يكون وثيقا وطيدا . وقيل : إنّ التّوارث أُلغي فيما بعد ، وحلّ محلّه «ذوو الأرحام» . والواقع الطّبيعيّ للقضيّة هو هذا نفسه ، إذ إنّ معظم المهاجرين رفض في البداية أواصره مع الأرحام المشركين ، لكنّ هذه الأواصر قد تعزّزت شيئا فشيئا بإسلامهم وهجرتهم إلى المدينة . ويضاف إلى ذلك أنّ الإسلام ، وإن كان حاول إزالة الأواصر القبليّة والأحلاف الجاهليّة ، رسّخ أساس الأُسرة ، وعدّ تعزيزه ضروريّا . وذكر ابن سعد أنّ الآية الكريمة « وأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ اللّه ِ إِنَّ اللّه َ بِكُلِّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ »(4) حين نزلت نسخت الحكم السّابق ، وانتفت المؤاخاة في الميراث ، وأُرجع كلّ أحدٍ إلى نسبه وورثته(5) . وانقطع هذا الموضوع في بدر . ويبدو أنّ الواقديّ زعم أنّ المؤاخاة لم تتحقّق بعد بدر قطّ - في حين قد استمرّت إلى وقت متأخّر - من هنا عدّ مؤاخاة سلمان وأبي الدرداء(6) ملغيّةً ، لأنّ

ص: 567


1- (1) الاستيعاب : 400 ، 401 .
2- (2) الطّبقات الكبرى 1 : 238 .
3- (3) مجمع البيان 4 : 561 .
4- (4) الأنفال : 75 .
5- (5) الطّبقات الكبرى 1 : 238 ؛ سبل الهدى والرّشاد 3 : 528 . وينبغي الالتفات إلى أنّه جاء في القسم الأوّل من هذه الآية قوله سبحانه : « وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنكُمْ »أي : تأكيد أنّهم منكم وإن كان لأُولي الأرحام حكمهم الخاصّ بهم .
6- (6) نقل ثقة الإسلام الكلينيّ رواية عن الإمام الصّادق عليه السلام قال : «آخى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بين سلمان وأبي ذرّ ، واشترط على أبي ذرّ أن لا يعصي سلمان» . روضة الكافي : 162 . انظر بشأنها : الصّحيح 3 : 68 ، 69 .

سلمان أسلم في الفترة الواقعة بين أُحد والخندق(1) . والصّحيح هو أنّ التّوارث قد رُفع ، بيد أنّ أصل المؤاخاة ظلّ قائما(2) . مع أنّنا لابدّ أن نقول إنّها ليست بسيرتها الأولى ، وكانت بصورة مثنى مثنى ، ولم تكن لها ضرورة تُذكَر أيضا .

إنّ الذي كان له شأن أكبر من ذلك هو إخوّة المؤمنين جميعهم ، الّتي تمّ تأكيدها في سورة الحجرات في السّنة التّاسعة للهجرة « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ »(3) . وللأسرة حكمها الخاصّ بها ولأخوّة المؤمنين مكانها أيضا . قال سبحانه في سورة الأحزاب بعد أن سمّى أزواج النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أمّهات المؤمنين : « وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ اللّه ِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ »(4) . وذهب بعضهم إلى أنّ الآية تنفي التوارث في المؤاخاة .

وكانت أهمّيّة عقد المؤاخاة في ظروف السّنة الأُولى للهجرة قابلة للإدراك تماما . وهذا العقد في الدرجة الأُولى لدعم المهاجرين الذين لا مأوى لهم . لذا نُقل أنّه «آخى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بين أصحابه ، آخى بين الفقير والغنيّ ليردّ الغنيّ على الفقير»(5) . وحين تآخى سعد بن الرّبيع الأنصاريّ وعبد الرّحمن بن عوف اقترح عليه «أن يناصفه أهله وماله»(6) . وللسهيليّ تحليل رائع للمؤاخاة . يقول فيه : «آخى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بين أصحابه حين نزلوا المدينة ليذهب عنهم وحشة الغربة ويؤنسهم من

ص: 568


1- (1) أنساب الأشراف 1 : 271 .
2- (2) يقول ابن عبّاس : بقي النّصر والنّصيحة بعد ذلك . انظر : سبل الهدى والرّشاد 3 : 535 .
3- (3) الحجرات : 10 .
4- (4) الأحزاب : 6 ؛ وانظر : مجمع البيان 8 : 339 . نزلت سورة الأحزاب في السّنة الخامسة من الهجرة . علما أنّ الوصيّة قد استُثنيت ، كما نجد أنّ حمزة جعل زيد بن حارثة الّذي كان قد آخاه وصيّه في غزوة أُحُد . انظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 505 .
5- (5) الكامل في ضعفاء الرّجال 6 : 118 .
6- (6) صحيح البخاريّ 2 : 2 .

مفارقة الأهل والعشيرة ، ويشدّ أزر بعضهم ببعض ، فلمّا عزّ الإسلام واجتمع الشمل ، وذهبت الوحشة أنزل اللّه سبحانه « وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ اللّه ِ »(1) .

ومن أهمّ أهداف هذه المؤاخاة إيجاد الأخوّة النّابعة من الإيمان باللّه تعالى . وكان لهذا الموضوع أهمّيّة بالغة في تقليل قدرة الأحلاف الجاهليّة ، بخاصّة أنّ عقد المؤاخاة كان قائما على أساس الحقّ في حين أنّ الأحلاف الجاهليّة تخلو من تعريف خاصّ للحقّ ولم تفكّر إلاّ بالمصالح القبليّة (اللهمّ إلاّ حلف الفضول) . ومن العطاءات الأكيدة للمؤاخاة زرع روح التّعاون ، وتأكيد الأُلفة الجماعيّة ، واتّحاد المجتمع على أساس الأخوّة الإسلاميّة . ولنا في الحقيقة أن نعدّ هذه الخطوة ثاني خطوة ضروريّة لتعزيز بنيّة المجتمع الإسلاميّ بعد بناء المسجد (بيت اللّه ولجميع الناس والقبائل) . ويعتبر مثل هذا الانتقال من مجتمع قبليّ جاهليّ إلى أمّة إسلاميّة أهمّ موضوع للنّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في دعوته الإسلاميّة .

3 - الدستور الأوّل للأُمّة الواحدة

كان وجود القبائل المختلفة والطّوائف المتعدّدة الّتي تعيش في المدينة وفقا للسنن الجاهليّة مدعاةً للنّزاع والخلاف . ويضاف إليه أنّ القبائل اليهوديّة ، علاوةً على القضايا القبليّة، تمثّل تعارضا جديدا للمسلمين، وقد زادت مجالات الخلاف والمناوءة. وكان لا بدّ لهذه الخلافات أن تزول كي يتيسّر تشكيل الحكومة . وفي بعض الحالات ينبغي أن يقطع دابرها . وهذه الحالات هي الخلافات القائمة بين القبائل المسلمة . كما يتحتّم في حالات أُخرى أن تُسوّى على أساس المصالح السّياسيّة أو السياسات

ص: 569


1- (1) الروض الأنف 4 : 297 ؛ سبل الهدى والرّشاد 3 : 553 عنه .

المبدئيّة الّتي كان الإسلام يعرضها بالنّسبة إلى الأديان الأخرى . وفي هذا القسم كان اليهود في الدرجة الأولى ، ويتلوهم مشركو المدينة الّذين لم يسلموا ، ومن ثمّ نصارى نجران . وتشكيل مثل هذه الحكومة الّتي تستطيع أن تحتفظ بقدرتها المتفوّقة في بيئة منعوتة بتشتّتها مشروط بإقرار الوئام بين النّاس . وهم المسلمون في البداية ، وبعد ذلك الاتّفاق مع اليهود .

وما دام الأمر مرتبطا بالإسلام والمسلمين ، فإنّ التّعاليم الإسلاميّة تعدّ أهمّ ركن للاتّحاد ، مع أنّ الإسلام لمّا كان في بداية الطّريق ، فلا يحسن التشدّد كثيرا . وأهمّ تعليم من تعاليمه تعزيز النّزعة التّوحيديّة في المجتمع ، وإيجاد عقيدة مشتركة باللّه . علما أنّ التّوحيد لا يعني قبول ذات واحدة وعبادتها فحسب ، بل يعني أنّ اللّه هو الحاكم وصاحب الولاية ، وأنّه بعث رسولاً لتطبيق هذا الحكم والولاية بين النّاس . وفي هذا الضوء على المسلمين أن يطيعوا اللّه ورسوله . وتعدّ هذه الطاعة أهمّ ثمرة سياسيّة لعقيدة التوحيد ، وأعظم مبدأ لإقرار الوحدة . وكان عطاء هذه الوحدة تبلور الأمّة(1) الواحدة . وتبلورها أمر في غاية الضّرورة لتشكيل الحكومة والنّظام . وكان قد تمّ تأكيد الوحدة المذكورة قبل ذلك في عقد المؤاخاة ، وقبله في بناء المسجد . والمسجد موضع للّه سبحانه ، وبعده لجميع المؤمنين بلا امتياز قبليّ أو غيره لأحد .

إنّ الجانب المثبت في النّزعة التّوحيديّة ترسيخ رابطة المؤمنين جميعهم باللّه سبحانه ، والجانب المنفيّ فيها يرتبط بتقليص نفوذ المعايير القبليّة . وهذا المعنى القائل

ص: 570


1- (1) لم يستعمل هذا الاصطلاح في النّصوص الجاهليّة إلاّ في موضع واحد . انظر : W. Montgomery, watt Islamic Political Thougth, P. 10. لكنّه تكرّر استعماله في القرآن الكريم مرّة بمعنى الدّين ، ومرّات بمعنى «الجماعة على دين واحد ، وتتحرّك نحو نقطة واحدة ، ولها هدف واحد» . ومركز الثقل في تعدّد استعماله إلغاء التّفرقة ، والوحدة في الحركة واتّخاذ القرار .

«إنّ الحكم للّه وحده» قد أكّدته السّور المكّيّة أيضا(1) . ثمّ نبّهت عليه الآيات المدنيّة في ألفاظ شتّى . قال تعالى : « أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّه ِ حُكْما لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ »(2) . وقال : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه َ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه ِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّه ِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً »(3) . وقال : « وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّه ُ وَرَسُولُهُ أَمْرا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّه َ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينا »(4) . وتكرّر تعبير « أَطِيعُوا اللّه َ وَرَسُولَهُ »(5) وأمثاله(6) في القرآن الكريم كثيرا .

في غضون ذلك إنّ ما كان يحظى بأهمّيّة بالغة هو تسوية الخلافات بردّها إلى اللّه والرسول لا إلى الرؤساء والوجهاء المحلّيّين . وتوليد مثل هذه النّزعة عند قبائل لم تجرّب الحكومة قطّ أمر عويص ويحتاج إلى فرصة طويلة . ونحن نعلم أنّ كثيرا من القبائل لم يستطع أن يدرك بعد مضيّ عشر سنين على تأسيس الحكومة ، ومن ثمّ وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله وسلم سلطةً تبسط نفوذها في المدينة كحكومةٍ لها سطوتها ، ولم يرتضِ هذه الفكرة ، بينما كانت الإجراءات النّبويّة على درجةٍ من العمق ، بل كانت ممّا يحتاج إليها المجتمع العربيّ يومذاك ، حتّى ترسّخت الحكومة الإسلاميّة وتغلّبت على شتّى القبائل مع وجود الخلافات القبليّة الممتدّة .

ويتسنّى لنا الأمل بقوام الحكومة من خلال هذه التعاليم ، والتّوكّؤ عليها وحدها فحسب . وينبغي للحكومة أن تضع تعليمات معيّنة أيضا ، وتسيطر على التّيّار العمليّ للمجتمع في ضوئها . وتنفيذا لهذا العمل تحتاج إلى قوّة ، كما تحتاج إلى قوانين معيّنة تنظّم بها الحياة العمليّة للقبائل الّتي أسلمت . فالحكومة تعلم ماذا تفعل ، والجماهير

ص: 571


1- (1) الأنعام : 57 ؛ يوسف : 40 ، 67 .
2- (2) المائدة : 50 .
3- (3) النساء : 59 .
4- (4) الأحزاب : 36 .
5- (5) الأنفال : 20 ، 46 .
6- (6) الفتح : 17 ؛ الحجرات : 15 .

المؤمنة تعرف واجبها على حدّ سواء . والمجتمع يحتاج إلى الفقه ، والفقه يعني القانون . وبغضّ النّظر عمّا حصل ، يتطلّب الانتقال - طبيعيّا - من مجتمع قبليّ إلى حكومة قانونا يأخذ بعين الاعتبار مصالح فوق التركيبة القبليّة في الحقيقة . ولابدّ أن ينسجم القانون الجديد مع مطالب أناس تجمّعوا من قبائل شتّى . ومضافا إلى موضوع الحياة والعَيش ، فإنّ لأهدافهم وعقائدهم الدّينيّة وإيمانهم بأهداف معيّنة أهمّيّة في تبلور القانون المذكور .

ويتآصر قسم من هذا القانون بالدّين في المجتمع الدّينيّ الجديد . وهذا التآصر من جهتين . الأُولى : إنّ بعض القوانين يؤخذ من الدّين . الثانية : إنّ سائر القوانين ينبغي أن يكون بشكلٍ يضمن المصالح العامّة للدّين والمحافظة عليها وحراستها . بعبارة أخرى ، الفقه المتبلور تركيب من أوامر اللّه تعالى ورسوله صلى الله عليه و آله وسلم والأحكام الحكوميّة الّتي يعرضها الحاكم ، نبيّا كان أم غيره ، للحياة الاجتماعيّة المتمحورة حول الدّين على أساس المصالح الواقعيّة .

إلى هنا ، كان القرآن موجودا ، كما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إلى جانبه يسنّ القوانين لإدارة المجتمع الجديد . بيد أنّه إذا كان الأمر متّصلاً بأصل الشّرع بعنوان وضع لقوانين ثابتة ، فذلك غير مفروغ منه . فالمجتمع آنذاك كانت له قضاياه الخاصّة به ، ومن الضّروريّ أن تؤخذ ظروفه ومصالحه المؤقّتة على أساس قوانين قرآنيّة نبويّة ، وتوضع له قوانين بشكل منضبط . والدّين الّذي لا بدّ من العمل به مهما كانت الظّروف قسم منه أحكام وفقه حكوميّ يأخذ بنظر الاعتبار الأهداف بالفعل . وعلى أيّ حال ، من الصّحيح أنّ القرآن الكريم كان في متناول اليد ، لكن ينبغي أن تُدوَّن على أساسه مجموعة من القوانين يتمكّن من خلالها أن يقيم عماد المجتمع فيما يتعلّق بهذه الحكومة ، ومن جهة أخرى يمهّد الطريق لتربية النّاس بنحو أفضل .

وكان العهد العام الّذي أمضاه النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في السّنة الأولى من الهجرة بين

ص: 572

المسلمين ، واليهود ، والمشركين بيثرب أوّل خطوة لإقرار دستور قائم على القرآن الكريم . وتلك حركة يجب أن تستمرّ على امتداد الحضارة الإسلاميّة ، وتصبح رصيدا عظيما لفكر سياسيّ في هذه الحضارة .

وأورد أرباب السِّيَر نصّ العهد المذكور بشكل تامّ(1) . ونقله الأستاذ أحمدي ميانجي عن مصادر عديدة ، وشرحه(2) . واتّخذ العهد طابع النصّ المدوَّن . ورضيه جميع المسلمين واليهود الّذين ذكرت أسماؤهم فيه . وتتعلّق أقسام منه بالقضايا الداخليّة للمسلمين ، وقسم منه يعود إلى التعامل الثّنائيّ لليهود والمسلمين ، كما تناولت نقطة أو نقطتان منه مشركي المدينة .

وجاء في أوّله أنّ هذا كتاب من محمّد صلى الله عليه و آله وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم . إنّهم أمّة واحدة . من هنا تمّ تأكيد مفهوم أساس في البداية ، وهذا المفهوم يشكّل قاعدة الحكومة الإسلاميّة .

مع هذا كانت التركيبة القبليّة في المجتمع الجاهليّ أمرا أساسيّا ، ولم يتيسّر تغييرها على أساس الأمّة الواحدة بهذه البساطة . لذا ذكرت القبائل واحدة واحدة في عقيبه ، وتمّ التّنبيه على نظم القبيلة وتماسكها الداخليّ في إطار الأُمّة الواحدة . «إنّهم أمّة واحدة على رباعتهم» . أي : ستكون كلّ قبيلة على رباعها . «يريد أنّهم على أمرهم الّذي كانوا عليه»(3) . وكان هذا بخاصّة في أمر «المعاقل» أو «الديات» ؛ أي : يعملون

ص: 573


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 501 - 504 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن كثير 2 : 320 - 323 ؛ السّيرة الحلبيّة 2 : 96 ؛ إعلام الورى : 45 ؛ عيون الأثر 1 : 260 - 262 ؛ الأموال ، أبو عبيد (القاهرة ، 1353 ه) : 202 - 206 ؛ مجموعة الوثائق السّياسيّة في العهد النّبويّ والخلافة الرّاشدة : 1 - 7 ؛ نثر الدّرّ 1 : 222 ، 223 .
2- (2) مكاتيب الرّسول 1 : 241 - 263 .
3- (3) «القوم على رباعتهم» أي : على استقامتهم . انظر : مكاتيب الرّسول 1 : 242 .

في ضوء صور الدّفع السّابقة في الدية [ حاليّا (1)] . وأُعقب بالتأكيد أنّ «كلّ طائفة منهم تَفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين» .

وتتكرّر هذه الألفاظ بذكر القبائل وبطونها واحدة واحدة . وهذا التكرار يعني مشاركتهم الرّسميّة كلّهم في هذا العهد . بعد ذلك ذكرت الأُصول العامّة بين المؤمنين : «وأنّ المؤمنين لا يتركون مغرما بينهم ، أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل ، ولا يحالف مؤمن مولى(2) مؤمن دونه ، وأنّ المؤمنين المتّقين (أيديهم) على (كلّ) من بغى منهم ، أو ابتغى دسيسة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين ، وأنّ أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم»(3) .

وهذا الأصل بخاصّة في تفضيل المعايير الإسلاميّة على الأواصر النّسبيّة يتألّق تألّقا خاصّا . «ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافرٍ ، ولا ينصر كافرا على مؤمن . وإنّ ذمّة اللّه واحدة» . وكلّ من أسلم يتمتّع بما يتمتّع به سائر المسلمين من حقوق . ومن آمن مسلما فأمانه كذمّة اللّه ، وهو مقبول . «وإنّه من تبعنا من يهود فإنّ له النّصر والمعروف والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم» . وهذا تأكيد بأنّ كلّ من أسلم مهما كان دينه فله جميع حقوق الإنسان المسلم . «وإنّ سلم المؤمنين واحدة ولا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل اللّه إلاّ على سواءٍ وعدلٍ بينهم» .

وهذا القرار سيقع على عاتق القيادة عمليّا ، إذ إنّ اتّخاذ القرار لا يتيسّر «عن ملاءٍ» إلاّ بواسطة زعيم الأمّة الّذي يتولّى هداية الأمّة الواحدة «وأنّ كلّ غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا» . فالقتال في الحقيقة مهمّة الجميع لا طائفة خاصّة ، لذا

ص: 574


1- (1) انظر : مكاتيب الرّسول 1 : 243 .
2- (2) مولى القوم أي : ليس من القبيلة بلحاظ النّسب . لكنّه يعرف مولىً لقوم بالعقد أو بعتق القبيلة إيّاه . قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : مولى القوم منهم . وكان هذا التكليف على أساس ذلك الكلام أيضا .
3- (3) هذا هو مفهوم الآية الكريمة : « وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا » الحجرات : 9 .

تشترك فيه جميع الفصائل كلّ حسب دورها . «وإنّ المؤمنين يُبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل اللّه» لا أنّ أكثر الشّهداء من جماعة خاصّة . «وإنّ المؤمنين المتّقين على أحسن هدىً وأقومه» . وهذا معيار أساس إذ هو المسبار الوحيد لتقويم الإيمان والتّقوى(1) .

وعلى المسلم أن يظلّ وفيّا لهذا الأصل القيميّ . «وإنّه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن» . «وإنّه من اعتبط مؤمنا قتلاً عن بيّنةٍ فإنّه قود به ، إلاّ أن يرضى وليّ المقتول (بالعقل) ، وإنّ المؤمنين عليه كافّة . وإنّه لا يحلّ لهم إلاّ قيام عليه» .

«وإنّه لا يحلّ لمؤمن أقرّ بما في هذه الصّحيفة وآمن باللّه واليوم الآخر أن ينصر مُحدِثا ولا يؤويه . وإنّه من نصره وآواه فإنّ عليه لعنة اللّه وغضبه إلى يوم القيامة . ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل . وإنّكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإنّ مردّه إلى اللّه عزّ وجلّ وإلى محمّد (الرسول) صلى الله عليه و آله وسلم » وهذا الأصل كما مرّ من قبل أهمّ تعليم لإيجاد الأُمّة الواحدة . وتلته أُصول تتعلّق باليهود . «وإنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين (ضدّ الّذين يُغيرون على المدينة) . وإنّ يهود بني عوف أمّة مع المؤمنين» . وبعد ذلك لليهود من سائر القبائل العربيّة كيهود بني ساعدة ، ويهود بني جُشَم ، ويهود بني الأوس ، ويهود بني ثعلبة ، ويهود بني شطبية ما ليهود بني عوف ، أي : إنّهم يشكّلون أمّة واحدة مع المسلمين .

وفي هذه الأمّة الواحدة «لليهود دينهم وللمسلمين دينهم» . وهذا ضمان عام «إلاّ من ظلم وأثم فإنّه لا يوتغ إلاّ نفسه وأهل بيته ... وإنّ البرّ دون الإثم . وإنّ موالي ثعلبة كأنفسهم ، وإنّ بطانة يهود كأنفسهم وإنّه لا يخرج منهم أحد إلاّ بإذن محمّد صلى الله عليه و آله وسلم ؛

ص: 575


1- (1) قوام هذا الأصل قوله تعالى : « إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّه ِ أَتْقَاكُمْ » . الحجرات : 13 .

وان لا ينحجز على ثأر جرح . إنّه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته إلاّ من ظلم» وما هذا إلاّ من أجل أن يتمتّع الجميع بضمان تامّ ، بخاصّة إذا كان الكلام يدور حول عدم الصّفح عن جرح بسيط ، فإنّه تأكيد لهذا الضّمان العامّ . واستثناء من ظلم عامل للتّهديد بالظّلم والعدوان (تهديد اليهود) . «وإنّ اللّه على أبرّ هذا .

وإنّ على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم ، وإنّ بينهم النّصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ، وإنّ بينهم النّصح والنّصيحة ؛ والبرّ دون الإثم . وإنّه لم يأثم امرؤ بحليفه ، وإنّ النّصر للمظلوم ؛ وإنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين» . ولهذا التأكيد أهمّيّته فيما يرتبط باليهود الّذين كانوا مشهورين بنقض العهود . «وإنّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصّحيفة» . وليس هذا إلاّ إثبات لحرمة المدينة بمعنى أنّه يجب ألاّ تنشب حرب بين الفريقين مهما كانت الظّروف .

والنّقطة الأخرى هي «إنّ الجار كالنّفس غير مضارّ ولا آثم» . «وإنّه ما كان بين أهل هذه الصّحيفة [ الرّاضين بها ] من حدث أو اشتجار يُخاف فساده ، فإنّ مردّه إلى اللّه عزّ وجلّ وإلى محمّد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وإنّ اللّه على أتقى ما في هذه الصّحيفة وأبرّه» . «وإنّه لا تجّار قريش ولا من نصرها ؛ وإنّ بينهم النّصر على من دهم يثرب ؛ وإذا دعوا (اليهود) إلى صلح (حليف لهم فإنّهم) يصالحونه ويلبسونه ، وإنّهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنّه لهم على المؤمنين إلاّ من حارب في الدّين ، وعلى كلّ أُناس حصّتهم من جانبهم الّذي قبلهم ... وإنّه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم ، وإنّه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلاّ من ظلم وأثم ، وإنّ اللّه جار لمن برّ وأتقى ومحمّد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم » .

ويمكن أن تشكّل هذا الصّحيفة عونا كبيرا للحكومة الحديثة العهد . والقسم الأعظم منها للحؤول دون مناوءة اليهود للمسلمين وتحجيمهم لمنعهم من إثارة النّفاق والخلاف بين المسلمين . وقد صُدّوا عن الاحتكاك بالمشركين وتجارتهم . وهكذا

ص: 576

وجدت عقبة مهمّة في طريق اتّحاد قريش واليهود ضدّ الإسلام . وكان هذا العهد يعدّ فرصة مناسبة لنشر الدعوة الإسلاميّة(1) .

من جهة أُخرى ، المسلمون الّذين كانوا قبل ذلك يتبعون رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم من وحي إيمانهم فحسب ، أبدوا الآن ولاءهم للأُصول المعلومة ، ومن الوجهة الرّوحيّة كان لهم استعداد أكثر للعمل في ضوء الضّوابط الجديدة . ولابدّ من الالتفات إلى فقدان العهد المذكور عنوان الحكومة الإسلاميّة . بيد أنّ تعبير «المؤمنين» يدلّ على وجود مجتمع إسلاميّ بقيادة الرسول صلى الله عليه و آله وسلم . والتعهّدات المؤيّدة والمعارضة في العهد المذكور تدور في الحقيقة حول محور المؤمنين .

وللقبائل العربيّة الّتي منها يهود بني النجّار ، ويهود بني الحارث ، ويهود بني ساعدة ، ويهود بني جُشَم ، ويهود بني الأوس ، ويهود بني ثعلبة ، ويهود بني شطبيه ما ليهود بني عوف . أي : إنّهم يشكّلون أمّة واحدة مع المسلمين . وفي هذه الأمّة الواحدة «لليهود دينهم وللمسلمين دينهم» . وهذا ضمان عام «إلاّ من ظلم وأثم ، فإنّه لا يوتغ إلاّ نفسه وأهل بيته ... وإنّ البرّ دون الإثم . وأنّ موالي ثعلبة كأنفسهم ، وإنّ بطانة يهود كأنفسهم ، وإنّه لا يخرج منهم أحد إلاّ بإذن محمّد صلى الله عليه و آله وسلم » . «وأن لا ينحجز على ثأر جرح . وإنّه من فتك (قتل خفيةً غيلةً (أن يأتي الرجل صاحبه وهو غارّ غافل) فبنفسه فتك وأهل بيته إلاّ من ظلم» .

إنّ الهدف من هذه الأُصول هو تمتّع الجميع بضمان تامّ بخاصّة حين لا يُتغاضى عن القصاص حتّى لو كان الموضوع أبسط جراحة . واستثناء الظّلم نفسه عامل لتهديد (اليهود) بالظّلم والعدوان . «وإنّ اللّه على أبرّ هذا ، وإنّ على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم . وإنّ بينهم النّصر على من حارب أهل هذه الصّحيفة ، وإنّ بينهم

ص: 577


1- (1) مكاتيب الرسول 1 : 261 .

النّصح والنّصيحة ؛ والبرّ دون الإثم ، وإنّه لم يأثم امرؤ بحليفه ، وإنّ النّصر للمظلوم ، وإنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين» ولهذا التأكيد أهمّيّته فيما يرتبط باليهود الّذين كانوا مشهورين بنكث العهود .

«وإنّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصّحيفة» . وليس هذا إلاّ إثبات حرمة المدينة ، بمعنى عدم نشوب حرب بين الفريقين مهما كانت الظّروف . «وإنّ الجار كالنّفس غير مضارّ ولا آثم» . «وإنّه ما كان بين أهل هذه الصّحيفة من حدث أو اشتجار يُخاف فساده ، فإنّ مردّه إلى اللّه عزّ وجلّ وإلى محمّد رسول اللّه ، وإنّ اللّه على أتقى ما في هذه الصّحيفة وأبرّه» «وإنّه لا تُجار قريش ولا من نصرها ؛ وإنّ بينهم النّصر على من دهم يثرب ؛ وإذا دعوا (اليهود) إلى صلح (حليف لهم فإنّهم) يصالحونه ويلبسونه ، وإنّهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنّه لهم على المؤمنين ، إلاّ من حارب في الدّين . وعلى كلّ أناس حصّتهم من جانبهم الّذي قبلهم» . «وإنّه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم . وإنّه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلاّ من ظلم وأثم . وإنّ اللّه جار لمن برّ واتّقى ومحمّد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم » .

ص: 578

6- غزوات النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم حتّى السّنة الخامسة للهجرة

اشارة

ص: 579

أُسلوب بثّ الدّعوة الإسلاميّة

يتسنّى لنا أن نتعرّف على عدد من الأساليب المعلومة في دعوة النّاس إلى الإسلام من خلال السّيرة النّبويّة العمليّة وفي ضوء آيات قرآنيّة كثيرة . وأوّلها وأكثرها أصالةً هو الأسلوب القائم على أساس «الهداية الفكريّة» للنّاس عبر الاستدلال وتعزيز روح التفكّر والتعمّق في أنفسهم . وأُنتُهج هذا الأسلوب في مرحلة مكّة كلّها بقوّة . وما دعوة القرآن المكرّرة أيضا إلى التأمّل والتّدبّر ، وتوصية النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أن يدعو «بالحكمة والموعظة الحسنة» ويجادل «بالّتي هي أحسن» إلاّ آية على مواصلة هذا المسير حتّى الأخير . واستطاع النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بهذا الأسلوب أن يدعو عددا غفيرا من النّاس إلى الإسلام. ورضي أهل المدينة بالإسلام عن طريق التعرّف على هذه الدّعوة، ونشر الآيات القرآنيّة بنحوٍ محضٍ حتّى اشتهر القول : «فُتحت المدينة بالقرآن»(1) .

وعندما بلغت الغزوات والسّرايا ذروتها ، كانت الدعوة الإسلاميّة متواصلة وتوجّه خالد بن الوليد إلى اليمن من أجل دعوة أهلها ، ولمّا لم يعمل شيئا بُعث الإمام عليّ عليه السلام لذلك ، وبدعوته أسلم كثير من سكّانها(2) . ونقل ابن سعد أنّ

ص: 580


1- (1) فتوح البلدان : 7 . إشارة إلى قدوم مصعب بن عمير المدينة قبل هجرة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم إليها ودعوة أهلها إلى الإسلام بالقرآن .
2- (2) حول إرسال الإمام عليه السلام إلى اليمن ، انظر : الطّبقات الكبرى 2 : 337 ؛ أنساب الأشراف 1 : 384 ؛ نهج البلاغة ، صبحي الصّالح : 463 ، 464 .

رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بعث خالد بن الوليد في موضوع فتح مكّة لدعوة بني جَذيمة إلى الإسلام لا لقتالهم «داعيا إلى الإسلام ولم يبعثه مقاتلاً» . بيد أنّه قاتلهم وأسر منهم جماعة . فتبرّأ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم من فعله الشّنيع هذا ، وبعث عليّا عليه السلام لِيَدِيَ مقتوليهم ويجبر ما فات منهم(1) . وأصبح موضوع الدّعوة إلى الإسلام أصلاً مسلّما به في «فقه الجهاد» منذ بداية الحرب . وسئل الإمام السّجّاد عليه السلام عن كيفيّة الدّعوة إلى الإسلام قبل بداية الحرب ، فقال :

«تقول : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم . أدعوكم إلى اللّه عزّ وجلّ وإلى دينه ، وجماعه أمران : أحدهما معرفة اللّه عزّ وجلّ والآخرالعمل برضوانه . وإنّ معرفة اللّه عزّ وجلّ أن يُعرَف بالوحدانيّة والرّأفة والرّحمة والعزّة والعلم والقدرة والعلوّ على كلّ شيء وأنّه النّافع الضّارّ ، القاهر لكلّ شيء ، الّذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ؛ وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، وأنّ ما جاء به هو الحقّ من عند اللّه عزّ وجلّ ، وما سواه هو الباطل . فإذا أجابوا إلى ذلك فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين»(2) .

وعلى هذا الأساس لم يحقّ للمسلمين جهاد المشركين إلاّ بعد دعوتهم إلى التّوحيد والنّبوّة(3) . والتزم بهذا الأمراء الّذين عيّنهم النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم إلاّ من شذّ منهم كخالد - وقد تقدّم ذكره(4) .(5) ولمّا دخل الإمام عليّ عليه السلام منطقة قبيلة مذحج باليمن على رأس كتيبة قوامها ثلاثمائة بوصفهم أوّل جيش إسلاميّ ، دعا النّاس إلى الإسلام في البداية

ص: 581


1- (1) الطّبقات الكبرى 2 : 147 .
2- (2) فروع الكافي 1 : 337 ؛ التّهذيب 2 : 47 .
3- (3) مستدرك الوسائل 11 : 31 . (ولا تقاتلوهم حتّى تحتجّوا عليهم بأن تدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّدا رسول اللّه والإقرار بما جاء به من عند اللّه) . وانظر : دعائم الإسلام 1 : 269 ، 270 .
4- (4) ذهب خالد مرّة أخرى إلى إحدى الطّوائف ، فقالوا له : «صبأنا صبأنا» مكان أن يقولوا أسلمنا ، مشيرين بتلك الكلمة إلى اعتناقهم الإسلام ، إذ إنّ المشركين كانوا يدعون من أسلم صابئا . مع هذا هاجمهم خالد وقتل منهم جماعة . ولمّا وافى النّبيَّ صلى الله عليه و آله وسلم وأخبره بما صنع قال : «اللّهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد» . انظر : المصنّف ، عبد الرزّاق 5 : 221 ، 222 .
5- (5) الطّبقات الكبرى 2 : 163 .

فأجابوه بالنّبل والحجارة . فنظّم جيشه وهاجم المشركين فقتل منهم عشرين ، ثمّ وقف مرّة أخرى ودعاهم إلى الإسلام أيضا فأجابوه وبايعه عدد من رؤسائهم على الإسلام(1) .

وجاء في كتب الحديث في باب الجهاد باب بعنوان (دعاء العدوّ) ونقلت فيه مطالب من السّيرة النّبويّة في هذا المجال . منها أنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم حين بعث معاذا إلى اليمن ، أمره أن يدعو أهل الكتاب إلى التّوحيد ، فإذا استجابوا ، يدعوهم إلى الصّلوات اليوميّة ، ثمّ صيام شهر رمضان . وإذا قبلوا ذلك كلّه يطلب منهم دفع الزّكاة(2) .

ومنها أنّه صلى الله عليه و آله وسلم دعا بني قُريظة إلى الإسلام قبل قتالهم(3) . وهكذا فعل في غزوة بني المصطلق الّتي كانت مع جماعة من قبيلة خزاعة . ونُقل عن بُريدة الأسلميّ(4) أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم حين كان يؤمّر أميرا على جيش أو سريّة يوصيه في خاصّة نفسه بتقوى اللّه ، وبمن معه من المسلمين خيرا ، ثمّ يقول له :

«اغزوا باسم اللّه في سبيل اللّه ، فقاتلوا من كفر باللّه ، اغزوا ولا تغدروا ، ولا تمثّلوا ، ولا تغُلُّوا ، ولا تقتلوا وليدا ، إذا أنت لقيت عدوّك من المشركين ، فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال . فأيّتهن ما أجابوك منها ، فاقبل منهم ، وكفّ عنهم ، وادعهم إلى الإسلام . فإن هم أجابوا فاقبل منهم وكفّ عنهم . ثمّ ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم أنّ لهم ما للمهاجرين ، وعليهم ما على المهاجرين . فإن هم أبوا أن يتحوّلوا من دارهم إلى دار المهاجرين، فأخبرهم أنّهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم اللّه الّذي يجري على المؤمنين . ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء إلاّ أن يجاهدوا مع المسلمين . فإن هم أبوا أن يدخلوا في الإسلام ، فسلهم إعطاء الجزية . فإن فعلوا فاقبل منهم ، وكفّ عنهم ، فإن أبوا فاستعن باللّه وقاتلهم»(5) .

ص: 582


1- (1) الطّبقات الكبرى 2 : 170 .
2- (2) المصنّف ، عبد الرزّاق 5 : 216 .
3- (3) نفسه .
4- (4) أنساب الأشراف 1 : 341 .
5- (5) المصنّف ، عبد الرزّاق 5 : 218 - 221 ؛ سبل الهدى والرّشاد 6 : 17 ، 231 .

ونلحظ أنّ أمر القرآن الصّريح هو قوله تعالى : « وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّه ِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ »(1) . حتّى في ذروة تشدّد المسلمين على المشركين بعد إعلان البراءة في السّنة التّاسعة للهجرة . ولمّا أُتي بأسرى إلى النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم سأل من معهم : أعرضتم عليهم الإسلام ؟ قالوا : لا ، قال : خذوهم إلى مأمنهم ، ثمّ تلا قوله تعالى : « يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدا وَمُبَشِّرا وَنَذِيرا * وَدَاعِيا إِلَى اللّه ِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجا مُّنِيرا »(2) .

ومهما يكن من شيء فإنّ الدّعوة قائمة على أساس هداية النّاس إلى التّوحيد . من هنا وقبل كلّ شيء كان هدف النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم تعريف النّاس بالتّوحيد والنّبوّة . وكانت قريش في عداد من عرض صلى الله عليه و آله وسلم عليهم الإسلام وتلا لهم آيات القرآن سنين متمادية . فإذا سُلّ سيف غضب المسلمين عليهم فإنّ قرابة ثلاث عشرة سنة قد مضت على الدّعوة الفكريّة والإرشاديّة . مع هذا لمّا كان الهدف هدايتهم أوّلاً ، وأنّ المشركين لبثوا عمرا في الشّرك ثانيا ، ومن الطّبيعيّ أنّ الانتقال يتطلّب تدرّجا وصبرا ، فقد كان صلى الله عليه و آله وسلم مستعدّا أن يتلمّس الطّرق السّلميّة بعد ممارسة شيء من الضّغط على المشركين . من هنا كان صلى الله عليه و آله وسلم يقبل أصل المداراة والتّعامل السّلميّ بنفس السّرعة الّتي يقبل فيها الحرب . وعلى هذا الأساس قبل صلح الحديبيّة إبّان تفوّقه على المشركين .

وفي مستوى المداخلات الفكريّة لم يهتمّ المشركون بالاستدلال والفكر ، كما لم يرغبوا في حرب الإسلام إلى جانب ذلك . ومورست معهم سياسة «تأليف القلوب» الّتي تمثّل نوعا من التّواضع لتلطيف قلوبهم . وهذه السّياسة لا تعني أداء الأتاوة والخنوع كما لم يكن باعثها الخوف من المشركين(3) ، بل كانت لترغيبهم في الإسلام إذ

ص: 583


1- (1) التّوبة : 6 .
2- (2) الأحزاب : 45 ، 46 ؛ حياة الصّحابة 1 : 166 .
3- (3) قطع الخليفة الثّاني سهم هؤلاء فيما بعد إذ كان يتصوّر أنّ الإسلام ما عاد يخشى سطوتهم !

كانوا على الشّرك ، ولا يمكن أن نتوقّع منهم تطوّرا آنيّا أو نعدّهم جميعا من أتباع المعقولات . ونقل عن الإمام العسكريّ عليه السلام في ذيل الآية الكريمة « وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنا »(1) أنّ النّاس عامّة سواءً المؤمنين وغيرهم . فالقول للمؤمنين بالبشاشة ، ولغيرهم من المخالفين بالمداراة ليدينوا بالإسلام(2) . ويقوم هذا التّعامل التّأليفيّ على أساس الآية القرآنيّة الكريمة الّتي جعلت سهما من الزّكاة لل « مُؤَلِّفَةِ قُلُوبهم »(3) . وهؤلاء من الكفّار الذين يُخصّص لهم مالٌ من أجل دعوتهم إلى الإسلام والجهاد مع المسلمين . وفي المرحلة التّالية يُساعَد المسلمون الضعيفو العقيدة لكسب قلوبهم(4) .

ويضاف إلى الزّكاة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم دفع مبلغا طائلاً من خمس غنائم حنين الّتي كانت له خاصّة بوصفه حاكم المسلمين إلى الكفّار والمسلمين الجدد . وذكرت المصادر التّاريخيّة فهرسها مع أسماء المؤلّفة قلوبهم(5) . وأشهرهم كبراء قريش كأبي سفيان وأبنائه الّذين لم يُسلموا إلاّ في فتح مكّة ، بل إنّ بعضهم لم يُسلم حتّى بعد الفتح بمدّة . واعترض عدد من المسلمين على الخطوة النّبويّة المذكورة ، فقال صلى الله عليه و آله وسلم في جوابهم :

«إنّي اُعطي الرجل وأدَع الرجل ، والذي أدعه أحبّ إليّ من الذي اُعطيه . اُعطي أقواما لما في قلوبهم من الجزع والهلع وأكِلُ أقواما إلى ما جعل اللّه في قلوبهم من الغنى والخير»(6) .

ص: 584


1- (1) البقرة : 83 . وقيل إنّ الآية المذكورة لم تُنسخ بآية الجهاد ، إذ يتسنّى ، مع قبول الجهاد ، دعوة العدوّ إلى الإسلام قبل ذلك بالكلام الحَسَن . انظر : مجمع البيان 1 : 150 .
2- (2) تفسير الإمام العسكريّ عليه السلام : 142 ؛ مستدرك الوسائل 12 : 260 .
3- (3) التّوبة : 60 .
4- (4) تحرير الوسيلة 1 : 336 .
5- (5) انظر : مختصر تاريخ دمشق 5 : 17 .
6- (6) المعرفة والتّاريخ 1 : 330 . وقال للأنصار : «أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول اللّه إلى رحالكم ؟» انظر : المصنّف ، ابن أبي شيبة 14 : 523 ، 524 .

وكانت مداراته صلى الله عليه و آله وسلم كأصلٍ من الأُصول قد نالت اهتمامه على طول عصر الهجرة . وانتهج هذه السّياسة وهو في بداية الطريق على الرغم من إرجافات المنافقين الكثيرة . وفي الوقت الّذي كان يسيطر فيه على الأوضاع لم يتعامل مع هؤلاء بشدّةٍ وعنفٍ . إذ كان يخشى أن يقال : محمّد يقتل أصحابه ، لأنّ المنافقين كانوا في الظّاهر مع المؤمنين على أيّ حال .

بيد أنّ رأي النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم على أساس التّكاليف الشّرعيّة والقرآنيّة لم يكن بعيدا عن النّظرة الواقعيّة ، فقد كان يهبّ إلى قتال العدوّ بقوّة في الحالات اللازمة . علما أنّ العدوّ المذكور هو العدوّ الّذي لا يُؤمل هداه عن طريق الفكر والمداراة . وهو المقصود بقوله تعالى عند دعوة المؤمنين إلى الجهاد : « إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّه ِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللّه ُ فِيهِمْ خَيْرا لاَءَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ »(1) .

وإذ جرى الحديث عن هذا الموضوع نستعرض فيما يأتي رؤية الإسلام في استثمار الجهاد لبثّ الدّعوة الإسلاميّة .

الإسلام داعية السّلام

يتحدّث التّاريخ الغابر للبشريّة عن وجود الاختلاف والخصومة بين أبناء البشر على صعيد واسع . وعلى الرّغم من أنّ جبلّة البشر عُجنت من خمير الوحدة ، وتكوينه قائم على أساس الفطرة الإلهيّة بيد أنّ الاختلاف ظهر بينهم منذ الأيّام الأولى . وكانت أرضيّة هذا الاختلاف مودعة في غريزتهم ، لكنّ الشّيطان ضرب على وترها(2) . بعبارة أخرى ، في الوقت الّذي كانت فيه القواعد الأساسيّة للوحدة مثبّتة في نفوس النّاس ، كان الاختلاف سائدا بينهم بوصفه أمرا عرضيّا دائميّا ، وباتّساع نطاقه تصدّع

ص: 585


1- (1) الأنفال : 22 ، 23 .
2- (2) آل عمران : 91 .

السّلام والهدوء اللذان يعدّان شرطا للحركة البشريّة نحو اللّه سبحانه ، وطمع البشر في فرض سيطرته على الآخرين بالنّظر إلى بواعث الاختلاف الموجودة فيهم ، وبدأ التّناحر بينهم بعد ذلك . ونظرا إلى هذه الأمور انقسم النّاس فريقين : مفسدٍ ، ومصلحٍ . فمن أثار الاختلافات فهو مفسد . ومن همّ بفضّها فضّا صحيحا فهو مصلح(1) . وفي هذا الاتّجاه ، إنّ من أهمّ مهامّ الأنبياء الإصلاح بين النّاس والتحرّك لإزالة الاختلاف . والمهمّ هنا هو التحرّك لإلغاء الاختلاف على أساس بثّ الثّقافة التّوحيديّة ، لا إلغاء الاختلاف وإقرار وحدة قائمة على التّناقض والتّناحر وتربّص الدوائر .

وجاء في القرآن الكريم قوله تعالى : « وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ »(2) . وقوله : « وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُوا فِيهِ »(3) . وقوله : « وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللّه ِ »(4) . وقوله : « فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه ِ وَالرَّسُولِ »(5) . فالهدف الّتمهيديّ للأنبياء عليهم السلام إقرار أرضيّة الهداية وتحكيم السّلم والسّلام ، بحيث تصرف الطّاقات البشريّة في صراط اللّه ، لا أن تهدر حياتها لأهداف باطلة من خلال تناحرها وتنازعها .

والتّعبير المهمّ الآخر الّذي تكرّر ذكره في القرآن الكريم هو «الفساد ومكافحته» ، وهو الموضوع الّذي يقف في الطّرف المقابل «للسّلم والسّلام» . وحاكميّة المفسد من منظار القرآن الكريم تستتبع هلاك «الحرث والنّسل»(6) ، ومن هذا المنظار نفسه نلحظ أنّ حاكميّة الأهواء النفسيّة لا تستتبع هلاك الإنسان فحسب ، بل تخلخل النّظام الكونيّ كلّه(7) . ونقيض حكومة المفسدين حكومة الأنبياء والمصلحين الّذين يتولّون

ص: 586


1- (1) انظر : البقرة : 220 ؛ هود : 117 ؛ الشّعراء : 152 ؛ الأعراف : 142 .
2- (2) البقرة : 213 .
3- (3) النّحل : 64 .
4- (4) الشّورى : 10 .
5- (5) النّساء : 59 .
6- (6) البقرة : 204 .
7- (7) الحجّ : 71 .

القضاء على الفساد ومجالاته ، ويقدّمون الأصول والمبادئ للحركة الصّحيحة السّليمة من الاختلاف باتّجاه السّعادة .

وبالنّظر إلى هذا الكلام يبدو من الطّبيعيّ أنّ أكثر أُصول الإسلام أصوليّة هو تحقيق السّلم . لكن أيّ سلم ؟ وإذا قُدّر القضاء على الاختلاف ، فلا بدّ أن يقوم على قاعدة تُزيل الاختلاف حقّا وتُحلّ محلّه السّلم والصّفاء . ومن منظار الإسلام ، السّلم الوحيد الّذي يمكن أن يكون واقعيّا هو «التّسليم للّه وحده» . أي : إنّ المجتمع الّذي يتمتّع بعقيدة التّوحيد هو الّذي يرى وجه السّلام غير منازَع . وجاء في القرآن الكريم قوله تعالى : « يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِى السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ »(1) . وفي هذه ثلاث نقاط هي : 1 - خطاب اللّه تعالى والإسلام لجميع المؤمنين . 2 - دعوتهم إلى السّلم . 3 - دعوتهم إلى عدم اتّباع طريق الشّيطان . أي : على المؤمنين أن يحقّقوا السّلم في مجتمعهم ، وألاّ يتّبعوا طريق الشّيطان المثير للاختلاف ، وذلك في ظلّ إيمانهم . ووردت آية أخرى أيضا بهذا المضمون ، قال سبحانه : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه َ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ... * فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللّه ُ مَعَكُمْ »(2) . ويستشفّ من هذه الآية أيضا أنّ هذا السّلم ينبغي أن يتحقّق في ظلّ علوّ الإسلام ، وإلاّ فلن تجوز الدّعوة إلى السّلم . وقال تبارك اسمه : « وَاللّه ُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ »(3) . وهو حقّه سبحانه وحده أن يدعو البشر هذه الدّعوة من خلال إرسال الرّسل وإنزال الكتب .

وفي ضوء الآيات المذكورة وكأصل مسلَّم به ينبغي أن نقول : إنّ تحقيق السّلم بمعناه الحقيقيّ لا يتيسّر في الرؤية الإسلاميّة إلاّ على أساس الإيمان باللّه ورسوله صلى الله عليه و آله وسلم

ص: 587


1- (1) البقرة : 208 .
2- (2) محمّد صلى الله عليه و آله وسلم : 33 - 35 .
3- (3) يونس : 25 .

ولا سبيل غيره لتحقيقه إلاّ اتّباع خطوات الشّيطان ، لذلك لا شأن له ولا بال من منظار الإسلام . وليس إلاّ تطبيق تعاليم الإسلام ضمانة لإقرار السّلم الحقيقيّ . وكلّ نداء لرفع الاختلافات وفضّ النّزاعات بين أبناء البشر لا يُكتَب له الثّبات ، كما يفتقد القيمة والمنطق في ظلّ أيّ قانون لا يرتضيه الإسلام . وما هو إلاّ قوله تعالى : « لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ » مجلبة للسّلم لا غيره . ويتوخّى الإسلام تحقيق هذا الأمر لا دفع الشّرّ فحسب كما يخال البعض(1) .

ونلحظ سلما مزيّفا أيضا في مقابل هذا السّلم الحقيقيّ ، بيد أنّه لتغطية الاختلافات المستعصية الّتي تُبذَل الجهود لإقامتها بوجوم لأسباب متنوّعة . وفي غضون ذلك نجد أنّ الأشخاص الّذين يتمسّكون بهذا الضّرب من السّلم هم الّذين يرون مصالحهم في وجود هذه الاختلافات عادةً ، وبسكوتهم السّطحيّ يُرغمون الآخرين على التّنازل عن حقّهم . وهذا السّلم هو الّذي تنشده القوى المستكبرة هذا اليوم وتريد من الشّعوب أن تضحّي بمصالحها من أجلها ، ولا تعارضها ، لأنّ السّلم مهدّد بالخطر بزعمها ! وإذا لم يفعل أحد ذلك فسوف يُتَّهم بخلخلة السّلم ، والدّعوة إلى الحرب ، مع أنّهم إذا تطلّب الأمر ولاحظوا عُقم السّلم السّطحيّ عَدَوا في الوقت المناسب وعدّوا عدوانهم هذا أداةً لحفظ مصالحهم .

الحرب أداةٌ لتحقيق السِّلم

قلنا في السِّلم إنّه انقياد ذو جانب واحد . والسِّلم الّذي يرتضيه الإسلام هو استسلام جماعة المؤمنين قطعةً واحدةً للّه ورسوله صلى الله عليه و آله وسلم . ويثار هنا سؤال مفاده إذا كان الإسلام قائما على السِّلم ، فَعَلاَمَ يقبل الحرب أيضا ؟ وفي ضوء هذا السّؤال

ص: 588


1- (1) آثار الحرب : 656 ، 657 .

سترون أنّ في جعل الحرب والسِّلم في الفقه الإسلاميّ اختيار البعض الشّقّ الثّاني . في حين أنّ هذين الموضوعين يتفاوتان تماما . وصحيح أنّ الإسلام هو من أجل السّلم ، ولكن أيّ سلم ؟ السّلم الّذي يطرح على الشّعوب من خلال قبول الإسلام ، فما هي الوسائل لامتداد الإسلام وبثّه ؟ وإذا تحقّق السّلم عبر الإسلام ، فكيف نطبّق الإسلام في المجتمعات ؟

ويتجلّى الجواب في عرض الوسائل الّتي يختدمها الإسلام في هداية النّاس . وقد مرّ أنّ هذه الوسائل تنسجم مع مستوى الأفكار وإمكانيّة التّعامل المنطقيّ مع الأمم والشّعوب المختلفة . والمنطق والعقل هما للنّاس الّذين يُدركون ويتمتّعون بفهمٍ وافٍ ، وهؤلاء ممّن يتيسّر للمسلمين الاحتكاك بهم . ولكن كيف يكون التّعامل مع من ذكرهم القرآن الكريم : « وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللّه ِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُم مُّعْرِضُونَ »(1) . وقوله : « وَلَوْ عَلِمَ اللّه ُ فِيهِمْ خَيْرا لاَءَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ »(2) ؟ ونقرأ في السّيرة النّبويّة الشّريفة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وجد بعد ثلاث عشرة سنة من التبليغ في مكّة ، وثماني سنين من الصمود أمام ظلم قريش وعدوانها أنّ الطّريق الوحيد لنشر الإسلام في السنين الأخيرة هو إعلان البراءة من المشركين وتهديدهم ، ولهؤلاء أن يدخلوا في نطاق السّلم عن هذا الطريق وحده ، وكحدّ أدنى لا يفسدوا ولا يزعزعوا سلم المجتمع في ظلّ سيادة الإسلام ، حتّى لو قدّر أنّ الإسلام يحادد الفساد والظّلم ، فإنّ عقائدهم الملوّثة بالشّرك أكبر ظلم من منظار القرآن الكريم(3) . وهذه العقائد أهمّ ممهِّد للفساد وفرض العدوان على السّلم في العالم حقّا . ومن الطّبيعيّ أنّ الرسالة الّتي تدّعي تحقيق السِّلم لا يمكنها أن تنسجم مع الآراء المضادّة للسّلم وتطيق وجودها .

ص: 589


1- (1) النّور : 48 .
2- (2) الأنفال : 23 .
3- (3) « إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم » . لقمان : 13 .

من هنا نلحظ أنّ من وسائل تحقيق السِّلم للّذين لا يجدي معهم المنطق شيئا ، ولهم آراء فاسدة باطلة توسيع نطاق السّيادة الإسلاميّة عليهم وتطبيق القوانين اللازمة لإقرار السّلم الحقيقيّ . ولن تتحقّق هذه السّيادة في مجالات كثيرة إلاّ بالحرب . ومن الواضح أنّ هذه الحرب ستكون في غاية القداسة إذ تستهدف تحقيق الإسلام أيضا . وإذا قال القرآن الكريم في موطنٍ : « ادْخُلُوا فِى السِّلْمِ كَافَّةً » ، فلا ينافي آيات الجهاد الّتي منها قوله سبحانه : « قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ » ، لأنّ الحرب لدفع الفتنة أيضا ، وهو أمر سيستتبعه السّلم والصّلح .

ومن منظار القرآن إذا لم يتحقّق مثل هذا الجهاد فستكون فتنة وفساد كبير : « تَكُن فِتْنَةٌ فِى الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ »(1) . ومن منظوره أيضا كانت حرب داود مع جالوت في هذا الاتّجاه أيضا : « فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّه ِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّه ُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّه ِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ »(2) . وجاء هذا الموضوع بنحو طبيعيّ وبمستوى عالٍ في قوله تعالى : « وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ »(3) ، وإلاّ ففسادهم سيبلغ حدّه « لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّه ِ »(4) . وحينئذٍ ستضمحلّ جميع العلاقات الدّينيّة . فما أفضل ذا القرنين إذ يستعين النّاس على اجتثاث شرّ يأجوج ومأجوج وفسادهما فيريحهم منهما(5) ! ويشمل تشدّد القرآن هذا سائر المفسدين - الّذين يُدعون محاربين أيضا - وسُنّت أحكام في غاية الشدّة لمعاقبتهم(6) . وفي هذا الإطار يجد «الحديد»(7) ومنافعه الكثيرة للنّاس مفهومها الأصليّ . والهدف الأساس في هذه الحرب طبعا هو السّلم

ص: 590


1- (1) الأنفال : 73 .
2- (2) البقرة : 251 .
3- (3) البقرة : 193 ؛ الأنفال : 39 .
4- (4) الحجّ : 40 .
5- (5) الكهف : 95 .
6- (6) المائدة : 33 .
7- (7) الحديد : 25 .

نفسه الّذي تعدّ الدّعوة إليه بمنزلة الدّعوة إلى إعادة الحياة(1) . ومن خلال معرفتنا لتوجّهات المفسدين في التّاريخ الغابر والمعاصر نشعر أنّه من السّذاجة بمكان أن نخال بأنّنا نستطيع بكلامنا أن نرغمهم على ترك العدوان . ويرى القرآن الكريم أنّ أئمّة الكفر لا يكفّون عن العدوان وإثارة الفساد إلاّ بالحرب لا بالعهد والحلف(2) . وأوّل يومٍ فرّطنا فيه حيال المفسدين « إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ »(3) ، يريدون منّا أن نكفر مضافا إلى نهبهم وقرصنتهم وطعنهم في الدّين .

والإسلام لا يريد إقرار السّلم المزيّف الّذي يظلّ فيه المظلوم قاعدا عن إحقاق حقّه في ظلّ الصّمت . والسّلم الحقيقيّ لا يتحقّق في ظلّ تهديد أعداء اللّه والمسلمين(4) فحسب ، بل لا بدّ أن يقوم سلم الإسلام على قاعدة تقويض القوى المتفرعنة . وينبغي أن يقوم السّلم على قاعدة السّيادة المطلقة لدين اللّه بحيث لا يجرؤ الآخرون على إبداء المعارضة ، وتزول مجالات الفساد جهد المستطاع . ولا يشمل هذا الأمر العقائد العدوانيّة فحسب ، بل يشمل أصل الشّرك الّذي يُنتج التّفرقة والاختلاف . ولا يتحقّق السّلم الحقيقيّ إلاّ على أساس الوحدة الحقيقيّة في ظلّ الاعتقاد بتوحيد اللّه . وبالنظر إلى الآيات القرآنيّة الّتي لا تُحصى بشأن فلسفة الجهاد ، وما ذكرته من الأهداف الدّينيّة والإنسانيّة للحرب ، فقد أجحف من عدّ الحرب في الإسلام لإشباع غريزة حبّ الحرب عند عرب الجاهليّة . ومفهوم الجهاد الدّينيّ الّذي يعني إنقاذ النّاس من قيود الظّلم ، واسترجاع الحقوق الحقّة من خلال القضاء على الانتهاك والاعتداء إلى جانب النهي عن الاعتداء ، وعشرات الأحكام الأخرى يدلّ على مدى غفلة الذين

ص: 591


1- (1) الأنفال : 24 .
2- (2) التّوبة : 12 .
3- (3) الممتحنة : 2 .
4- (4) « تُرهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّه ِ وَعَدُوّكُم » . الأنفال : 60 .

أبدوا مثل هذه الآراء عن الأدلّة القرآنيّة والتّاريخيّة القاطعة مثل مونتغمري واط . ويرى الإسلام أنّ حياة النّاس رهينة بدعوة اللّه ورسوله إلى الجهاد « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ »(1) .

ويستشفّ من التّوضيحات المتقدّمة أنّ الإسلام سلميّ بطبيعته ، لكنّه لا يحاول أن يُخفي رأيه في الجهاد والدّفاع ، فيقترح نوعا من السّلم غير الحقيقيّ . وهذه مشكلة كان يثيرها الملاحدة(2) والنّصارى على الإسلام غالبا. وتعود هذه القضيّة ، بغضّ النّظر عن التوجّهات التّاريخيّة للنّصرانيّة ، إلى الحرب وسابقتها في القرون الوسطى ، وإلى البنية الداخليّة للعقائد النّصرانيّة والإسلاميّة في القرون الحديثة . ونظرا إلى أهمّيّة هذا البحث من الضّروريّ أن ننقل فيما يأتي ملاحظات مستنيرة لأحد الباحثين وإن كانت مفصّلة :

هذه التّهمة [ الإسلام دين السّيف ] ثقيلة الوطأة ، فلا بدّ من التّوفّر على تفصيلها(3) . أجل ، من الصّحيح أنّ للإسلام أحكامه في الحرب أيضا . في مقابل ذلك تأمر النّصرانيّة النّاس أن إذا صفع أحدٌ أحدا منهم على خدّه الأيسر فليدر له خدّه الأيمن . وتتّصف تعاليم النّصرانيّة بالمرونة والاعتدال . بيد أنّ الّذي يُنسى في غضون ذلك هو إمّا دين سُنَّ للأولياء والزهّاد (يقول السيّد المسيح عليه السلام : «ما مملكتي من هذا العالم») . فحينئذٍ يضرب عن الأمور السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة صفحا ، ويعدّ أتباعه بمنزلة المقدّسين بالقوّة ، ويستطيع أن يصمد ويعمل في مجتمع مؤلّف من الزّهّاد وأولياء الحقّ فحسب . وإمّا دين يحاول أن يستوعب الحياة الإنسانيّة بجميع أبعادها ،

ص: 592


1- (1) الأنفال : 24 . الآية المذكورة بعد الآيات المتعلّقة بوقعة بدر .
2- (2) سبل الهدى والرشاد 4 : 15 .
3- (3) وضع ديورانت في كتابه قصّة الحضارة 4 : 241 «سيف الإسلام» عنوانا للفصل المتعلّق بتاريخ حوادث الإسلام من سنة 11 ه فما بعدها .

فلا بدّ له أن يأخذ بعين الاعتبار الفطرة البشريّة بكلّ ما لها من نقائص ونقاط ضعف ومثالب . وعلى مثل هذا الدّين أن يسنّ القوانين الّتي تحكم الحياة السّياسيّة والاقتصاديّة للنّاس ، كما عليه أن يضع الأحكام الّتي تنظّم الجوانب الدّينيّة المحضة في حياتهم على حدٍّ سواء . ومع أنّ النّصرانيّة جعلت تعاليمها للأولياء والمقدّسين بالقوّة ، لكنّها من دون شكّ لا هي قادرة على إزالة الوجوه غير النّزيهة للفطرة الإنسانيّة بين أتباعها ، ولا هي بمستوى من يستطيع أن يُقصي الحرب عن عالم المسيحيّة . والحقيقة أنّ النّصرانيّة اضطرّت منذ اللحظة الّتي تحوّلت فيها إلى حضارة وامبراطوريّة كبيرة أن تحمل السّيف لتكون قادرة على مواصلة الحياة والثّبات . وعليها أن تتّخذ قرارها في لحظة من لحظات التّاريخ ، فهل تريد أن تظلّ على دين الرّهبان أو تستبدل به دين الحضارة العظيمة ؟ ومن البديهيّ أنّ اختيار الطّريق الثّاني يصطحب الحكم والقتال أيضا . وكان ملوك النّصارى مثل شارل الكبير أو لويس التّاسع - الملقّب بلويس المقدّس - يخوضون الحرب بنفس الشدّة والعنف الّذي يخوض به هذا الملك المسلم أو ذاك . ولم يكن المقاتلون النّصارى في ساحات القتال بألين وأوسع نظرا من أقرانهم المسلمين . وخضعت إسبانيا والأناضول لسلطة النّصارى والمسلمين متزامنتين تقريبا ، إلاّ أنّ المسلمين جميعهم إمّا قُتلوا في إسبانيا أو طُردوا منها ، حتّى لم يبق فيها مسلم واحد حيّا آنذاك . في حين أنّ مقرّ الكنيسة الأرثوذكسيّة ما زال قائما في تركيا . أجل ، إنّ قذف الإسلام بأنّه دين الّسيف تهمة واهية من أساسها . وقد وضع الإسلام للحرب حدودها من خلال القوانين الّتي شرّعها لها . ونلحظ في مقابل ذلك أنّ النّصرانيّة جعلت الحرب خارج نطاق صلاحيّاتها وتأمّلاتها . وليس بصدفةٍ أن تبدأ الحروب الشّاملة الشّعواء كلّها في قرننا هذا من الغرب حيث تسيطر النّصرانيّة الّتي تمثّل القوّة الدينيّة هناك . ومكان أن يتغاضى الإسلام عن الحرب بوصفها ظاهرة ليس لها وجود خارجيّ ، فإنّه تحدّث عنها وسنّ لها قوانين دينيّة ليحول بذلك دون اتّساعها

ص: 593

وتبعاتها المشؤومة جهد المستطاع . وفي الحدّ الأدنى يمكن أن نقول : إنّ أضرى الحروب وأشنعها في هذاالقرن لم تنطلق من العالم الإسلاميّ ، بل من حيث ما يسمّيه البعض الغرب فوق المسيحيّ . وما نقوله هنا لا يعني إلقاء التّبعة على النّصرانيّة في شنّ الحروب المذكورة ؛ إذ نعلم جيّدا أنّ هذه الحروب انطلقت من مجتمع طالما تمرّد على النّصرانيّة وطغى عليها بأشكالٍ شتّى . بيد أنّ النّصرانيّة لمّا كانت تخلو من الأحكام الإلهيّة الّتي تنظّم الحياة الظّاهريّة والمادّيّة للإنسان - كالّتي تنظّم حياته الباطنيّة والمعنويّة - فقد يسّرت إضفاء الطّابع الدّنيويّ على الحياة السّياسيّة والاجتماعيّة للمجتمع وعزله عن المبادئ الماثلة ، وهو من جهة أُخرى أفضى إلى تغييرات أساسيّة عظيمة في العصر الحديث(1) . ومن الواضح أنّ هذا الموجز لا يستوعب تفصيلاً أكثر ممّا ذكرنا . ويبدو أنّ ما تقدّم كافٍ في هذا المجال .

حروب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : جهاد أم دفاع ؟

حدثت غزوات وسرايا كثيرة في العقد الهجريّ الأوّل . أَفَكانت دفاعا عن كيان الإسلام أم اصطداما هجوميّا ضدّ المشركين ؟ ونلحظ في المباحث الفقهيّة للجهاد أنّ الحرب في الإسلام تنقسم عادةً إلى «حرب هجوميّة» أو الجهاد الابتدائيّ ، و«حرب

ص: 594


1- (1) متفكران مسلمان و مدرنيسم (المفكّرون المسلمون والحداثة) ، الدكتور السيّد حسين نصر نقلاً عن مجلّة نشر دانش (نشر العلم) السّنة 14 ، العدد 2 (مقالة خسرو نافذ) ص : 43 ، 44 . وانظر أيضا : روح اسلام ، أمير عليّ ، ص : 203 . وحول الحرب والمسيحيّة انظر : تأثير اسلام در اروپا (تأثير الإسلام في أوربّا) مونتغمري واط ، ص : 92 . وحول رؤية الإسلام في الحرب انظر : بازشناسى جنبه هاى تجاوز و دفاع (جوانب العدوان والدفاع : تعرّف متجدّد) ج 1 (مقالات المؤتمر العالميّ للعدوان والدّفاع) .

دفاعيّة» . ولكلٍّ منهما أحكامه الفقهيّة الخاصّة(1) . وتدلّ مطابقة البحوث المذكورة مع آيات الجهاد على أنّ التّقسيم المتقدّم ليس دقيقا كثيرا . وقد أُجيز القتال أو الجهاد في القرآن الكريم بأشكال متنوّعة . بعبارة أخرى ، أجاز اللّه تعالى الحرب في حالات خاصّة ، وألزم المسلمين بها في حالات أُخرى . وتتطابق الحالات المذكورة مع الدفاع كمصطلح فقهيّ تارةً ، ومع الجهاد الابتدائيّ المصطلح في الفقه تارةً أُخرى ، لكنّها قد لا تتطابق معهما في بعض الحالات أيضا . وسنستعرض هنا الأسباب الدّاعية إلى جواز الحرب في القرآن الكريم على نحو الإشارة ، بخاصّة أنّ الآيات القرآنيّة المعنيّة تتعلّق بالتطوّرات الحاصلة إبّان العصر المدنيّ الممتدّ عقدا من الزّمن . ولا ننوي استقصاء الحالات جميعها .

1 - الجواز بل الأمر بقتال من يقاتل المسلمين : « وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللّه ِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللّه َ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ »(2) . « أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللّه َ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ »(3) .

2 - القتال للقضاء على الفتنة ، ولا يمكن أن نتحدّث عن الفتنة بشكلٍ دقيق مع أنّ الآية الآتية تبيّن المعنى المقابل للفتنة نوعا ما ، وهو السّيطرة التامّة لدين اللّه : « وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ »(4) .

3 - الدّفاع عن المستضعفين أمام المستكبرين : « وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللّه ِ

ص: 595


1- (1) ذكر المرحوم كاشف الغطاء أربعة فروق بين أحكام الجهاد الابتدائيّ والجهاد الدّفاعيّ . انظر : كشف الغطاء : 382 . وذهب البعض إلى أنّ الجهاد الابتدائيّ بحكم أهدافه هو الجهاد الدّفاعيّ في الأصل . ومن البيّن أنّ هذا يتفاوت مع الاصطلاح المتداول للدّفاع في الفقه .
2- (2) البقرة : 190 .
3- (3) الحجّ : 39 .
4- (4) البقرة : 193 .

وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِن لَدُنْكَ وَلِيّا وَاجْعَلْ لَنَا مِن لَدُنكَ نَصِيرا »(1) .

4 - عند نكث العدوّ عهده وطعنه في دين المسلمين : « وَإِن نَكَثُوا أَيْمَانَهُم مِن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِى دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْما نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ »(2) .

5 - تقويض الشّرك : « بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه ِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُم مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِى الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ »(3) ... « فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ »(4) . والإخراج من البلد مسوّغ آخر للقتال(5) . وإذا استقصينا أكثر فإنّه يقدّم لنا نماذج أُخرى أيضا .

ومن الواضح أنّ الأمثلة المذكورة تستوعب مرحلة الدّفاع أمام اعتداء العدوّ حتّى الجهاد لبثّ التّوحيد . وقد وقف النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أمام المشركين في جميع المراحل استهداءً بالآيات المتقدّمة . وكانت هجماته الأُولى على قوافلهم التّجاريّة أهمّ موقف من مواقفه وأكثرها حسّاسيّة . واستعان في معظمها بالمهاجرين ، وأهمّ دليل على تسويغ ذلك ما مارسه المشركون من ظلمٍ بحقّهم . وقيل إنّ الآية التاسعة والثلاثين من سورة الحجّ ، الّتي أذنت بالقتال ضدّ رموز الظّلم كانت أوّل آية نزلت بشأن القتال(6) . وجاء بعدها بشأن المظلومين : « الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللّه ُ »(7) . وقال

ص: 596


1- (1) النساء : 75 .
2- (2) التّوبة : 12 ، 13 .
3- (3) التّوبة : 1 ، 2 .
4- (4) التوبة : 5 .
5- (5) البقرة : 246 ؛ الحجّ : 39 .
6- (6) أنساب الأشراف 1 : 286 ؛ وإذا قيل إنّ سورة البقرة نزلت قبل سورة الأنفال - وذلك يقال - فحريّ بالعلم أنّ الآيات 191 ، 192 ، 193 من البقرة تصرّح بالأمر بمقاتلة المشركين .
7- (7) الحجّ : 40 .

الإمام الباقر عليه السلام : إنّها نزلت في المهاجرين(1) . وكلّ من كان يؤتى به من المسلمين إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم مجروحا أو مضروبا بمكّة كان يشكو من الكفّار ، ولم يأذن صلى الله عليه و آله وسلم بالقتال ، ثمّ أذنت الآية به(2) .

ولا شكّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كان مهتمّا بنشر الإسلام ، وأنّ قريشا كانت عقبةً عسكريّةً واقتصاديّةً كؤودا في طريقه مضافا إلى ما مارسته من أنواع الظّلم والاضطهاد سابقا . وكانت بدر تجربةً لاختبار قوّات المسلمين والمشركين في حكم الحجاز . وكانت أحد والخندق امتدادا لهذه التّجربة إلى أن تحقّق توازن صوريّ في الحديبيّة ، وتلاه انتصار المسلمين السّاحق في فتح مكّة .

الأحداث قبل بدر

عندما تبلور المجتمع الإسلاميّ في المدينة ، وخضع اليهود وبقايا المشركين لسيطرة الدّين في سياق بعض الالتزامات ، فكّر النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بالخارج . وكان صلى الله عليه و آله وسلم قد استطاع أن يحكم قبضته على المدينة بما أوتي من حزمٍ وبصيرة مع تفرّق قبائلها وطوائفها ، بل مع قوّة اليهود اللافتة للنّظر فيها . وتمكّن من أن يجعلها قطعة واحدة خاضعة لحكومة مركزيّة على أساس ضوابط منطقيّة . وكانت هذه الأعمال كلّها من أجل التمهيد للاصطدام بأخطر عدوّ ، وهو قريش مضافا إلى القضاء على المقاومة الداخليّة . وكان المهاجرون الّذين بلغ عددهم قرابة مئتين قد فقدوا دورهم ومآويهم ، وعلى الرّغم من مساعدة الأنصار إيّاهم لم تنتظم حياتهم . ولم يفكّروا قطّ بالبقاء في المدينة إلى الأبد . من هنا كان عليهم أن يواجهوا قريشا . وفي حدود معلوماتنا أنّ قريشا لم تفكّر بالحرب آنذاك لانشغالها بالتّجارة . وكانت تجارتها مع سورية تتيسّر من جانب

ص: 597


1- (1) مجمع البيان 7 : 87 .
2- (2) نفسه .

المدينة بمسافة قليلة فحسب . ولم يكن بوسعها أن تتملّص من هذه الحقيقة ، كما لم تسطع أن تخترع طريقا آخر ! إذن ، نقطة ضعفها كانت جليّةً تماما . وهذا ما وضع النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم إصبعه عليه . فعليها الآن أن تستلم جواب انتهاكاتها واعتداءاتها الّتي دامت عدد سنين ضدّ المسلمين .

وقد سبق بدرا عدد من الحوادث البسيطة الّتي لم تأبه لها قريش كثيرا لعلّها تستطيع بنحوٍ أن تتخلّص من قيودها ؛ بيد أنّ المسلمين لم يتركوها وحالها ، لاسيّما المهاجرون منهم الّذين فقدوا كلّ ما عندهم بمكّة وعاشوا محنة ضغوطها الجائرة لسنين . وذكر الواقديّ في فهرس الغزوات الّتي سبقت بدرا عددا من حملات المسلمين على قافلتها التّجاريّة ، وكان الهدف منها التّضييق والضغط عليها عادةً .

وأوّل حملةٍ - برواية الواقديّ - كانت بعد الهجرة بسبعة أشهر بقيادة حمزة ، وقوامها ثلاثون . فتعرّضوا لقافلة قريش بقيادة أبي جهل ، وعدد من معه ثلاثمائة ، وكانوا قاصدين مكّة من الشّام. وأوشك أن يتقاتلوا لولا تدخّل مجدي بن عمرو الّذي كان حليفا للفريقين ، فصرفهما عن القتال . وبعد ذلك قال للنّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم : لم أرَ في الحرب نفعا للمسلمين فتدخّلت بينهما ، فعامله النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ومرافقيه بما يناسب المقام(1) .

ومن الواضح أنّ قتال ثلاثين لم يكن في مصلحة المسلمين . ودار خلاف حول حمزة ، فهل كان أوّل أمير للحرب أم لا ؟ فذهب الواقديّ إلى أنّه كان . أمّا ابن إسحاق ، وهو يرى أنّ عبيدة بن الحارث كان أوّل أمير أمّره النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، فقد نقل قول «بعض الناس» أنّ راية حمزة كانت أوّل راية رفرفت وقال به . وذهب إلى أنّ سبب هذا الوهم هو تزامن إيفادهما تقريبا . كما أنّه لم يستبعد أن يكون السبب هو الشّعر المنسوب إلى حمزة الّذي يذكر فيه أنّ رايته كانت أوّل راية رفرفت في الإسلام .

ص: 598


1- (1) المغازي 1 : 9 ، 10 ؛ إسلامه غير معلوم طبعا . انظر : سبل الهدى والرّشاد 6 : 23 .

وأورد أن الشّعر إذا كان لحمزة فقد صحّ الرّأي المذكور . وأضاف ابن هشام أنّ أهل العلم ينكرون نسبته إلى حمزة(1) . ونحن نضيف أنّه حتّى لو لم يكن لحمزة فالمستبان هو أنّ الّذين ذكروا فيه لسان حال حمزة ، ذهبوا إلى أنّه آية على صحّة الرأي المذكور منذ البداية . وهذا أيضا هو رأي عروة بن الزّبير ، وموسى بن عقبة ، ومحمّد بن سعد ، والبيهقيّ ، وعدد آخر غيرهم(2) .

والكلام الآخر بشأن حضور الأنصار إلى جانب حمزة يتمثّل في ما نقله الواقديّ . فقد ذهب في بداية نقله إلى حضورهم ، ثمّ أكّد ناقدا أنّهم لم يشهدوا الحملات الّتي سبقت بدرا . وجاء في خبر ابن إسحاق أيضا : «ليس فيهم من الأنصار أحد»(3) . ولعلّ ذلك يعود إلى أنّهم كانوا قد تعهّدوا بالدفاع عن النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم فحسب(4) . وإلاّ لو كان صلى الله عليه و آله وسلم قد أمرهم لحضروا ، بيد أنّه صلى الله عليه و آله وسلم لم يرغب في أن يأمرهم بأمر لا تعهّد لهم به ، اللّهمّ إلاّ أن يرغبوا فيه عن طواعية .

ولعلّ من المناسب هنا تأكيد أنّ قسما من الواجبات الاجتماعيّة للنّاس ، وبالمقابل ، بعض حقوقهم قائم على نوع من الالتزام الثّنائيّ الّذي كان سائدا حتّى بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم والمؤمنين من المهاجرين والأنصار . والبيعة في الأصل تعبّر عن الالتزام المذكور إلى حدٍّ ما ، وإن كان وراء ذلك أن يدين المؤمنون لأوامر النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم . والبيعة تعني أنّهم يتّبعون أوامره فيستمتعون بحقوق المواطنة إزاء ذلك . ومهما كان فالأنصار تعهّدوا بالدّفاع ولم يرد النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أن يعمل خلاف هذا التعهّد .

والشّعر الّذي نسبه ابن إسحاق إلى حمزة - وأنكره ابن هشام عليه ؛ بل هو لسان

ص: 599


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 595 .
2- (2) سبل الهدى والرشاد 6 : 21 .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام : 595 .
4- (4) قال الواقديّ : «لأنّهم شرطوا له أن يمنعوه في دارهم» . 1 : 11 .

حال الرجل (باعتقادنا كحدٍّ أدنى) ولعلّه له(1) - يركّز على :

«كأنّا تبلناهم ولا تبل عندنا * لهم غير أمرٍ بالعفافِ وبالعدلِ

وأمر بإسلامٍ فلا يقبلونه * وينزل منهم مثل منزلة الهزلِ

وخاطب لؤيّ بن غالب قائلاً :

فيا للؤيّ لا تطيعوا غواتكم * وفيئوا إلى الإسلامِ والمنهج السهلِ

فإنّي أخاف أن يصبّ عليكم * عذابٌ فتدعوا بالنّدامة والثّكلِ»(2)

وهكذا ينبغي أن نقول إنّ المقاتلين المسلمين كانوا على بيّنةٍ تامّة من رسالتهم منذ اللحظات الأُولى للرسالة . ونلحظ في مقابل ذلك أنّ أبا جهل يتّهم المسلمين في شعره بأنّهم أثاروا الخلاف بين قومهم بعد إنكار قريش رسالة محمّد صلى الله عليه و آله وسلم . ويهدّدهم أنّهم إذا لم يرجعوا عن قولهم فسيجعلهم كقشر الشّجرة الّتي لا أصل لها .

وروى الواقديّ أنّ عبيدة بن الحارث (بن المطّلب بن عبد مناف) ذهب بعد شهر مضى على ذلك ، أي : في الشّهر الثّامن من الهجرة ، مع ستّين (أو كما نقل ابن إسحاق ثمانين كاحتمال ثانٍ) قاصدين جماعة من قريش كانوا قرابة مئتين . ولم تكن بينهما وقعة مع أنّهما كانا متأهبَين للقتال على ما نقل أرباب السِّير . ولم يستبن سبب إحجامهما عن القتال . وقيل إنّ سعد بن أبي وقّاص وحده كان أوّل من رمى المشركين بسهم . وهذا أوّل سهم أُطلق في الإسلام(3) . وفي ضوء ما نعرفه من الحياة القبليّة هو أنّه إذا أُطلق سهم نشبت الحرب ، فكيف إذا أُطلق عشرون سهما قتل كلٌّ منها أحدا أو جرحه(4) ،

ص: 600


1- (1) والدليل على ذلك جواب أبي جهل إيّاه في شعر آخر . وأنكر ابن هشام طبعا نسبة الشّعر المذكور إلى أبي جهل على لسان أهل العلم . كما أنكر مثله في سريّة عبيدة بن الحارث ، وكان بين أبي بكر من جهة ، وابن الزّبعرى من جهة أخرى .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 596 ، 597 .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 591 .
4- (4) المغازي 1 : 10 ؛ ونقل شعرا في هذا الشأن أيضا ، سبل الهدى والرشاد 6 : 23 .

ولم تكن وقعة أيضا . وفي هذه الوقعة بتأكيد ابن إسحاق ليس فيهم من الأنصار أحد(1) .

ويستشفّ من خبر ابن إسحاق أنّ المشركين كانوا قد خرجوا من مكّة لمواجهة المسلمين . ولم يُشر إلى أنّ قريشا كانت تمرّ في قالب قافلة تجاريّة . وأضاف أنّ عددا من مسلمي مكّة - وفيهم المقداد بن عمرو ، وعتبة بن غزوان - الّذين كانوا ينوون اللحاق بمسلمي المدينة جاءوا مع المشركين من أجل الالتحاق بالمسلمين(2) . وتوجّهت جماعة صغيرة أخرى بقيادة سعد بن أبي وقّاص إلى منطقة الخرّار - وفي بعض المصادر : الحزار والخزاز - قرب غدير خمّ في الشّهر التّاسع للهجرة لتعترض الطريق الّذي تسير فيه قافلة قريش . وكان المسلمون عشرين أو واحدا وعشرين ، وعندما وافوا المنطقة المعهودة كانت القافلة قد اجتازتها قبل موافاتهم بيوم ، لذا لم تكن وقعة تذكر .

ويبدو مناسبا هنا أن نذكر هذه النّقطة وهي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كان يُشخص إلى الحرب في بعض المواقف مجموعةً بقيادة أحد الصّحابة ، ويطلق على هذا البعث اسم «السَريّة» . وفي حالات أُخرى كان يحضر بنفسه في الحرب ، فتُسمّى الوقعة الّتي يشهدها «الغزوة» . واستُثنيت مؤتة على ما يظهر فسُمّيت «غزوة» في حين لم يحضرها النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم . ويُلحَظ احتمالان في معنى السَريّة . أحدهما أنّها تُطلق على الجند إذا بلغوا أربعمائة . وبكلمةٍ أنّهم صفوة الجند وزبدتهم . والآخر هو الجند إذا أُوفدوا سرّا . وقيل إنّ هذا الاحتمال لا يصحّ لأنّ السّرّ هو غير السري من الوجهة اللّغويّة(3) . ومن

ص: 601


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 591 .
2- (2) نفسه 1 : 592 ؛ ولم يُشر الواقديّ إلى هذا الموضوع .
3- (3) النهاية 2 : 159 ؛ سبل الهدى والرّشاد 6 : 12 . وهناك احتمالات أُخرى أيضا . وبالإشارة إلى كلام ابن الأثير فإنّ أفضل معنى عُرف لها هو «تَسْري في خفية» .

الواضح أنّ الغزوة كانت أبلغ أهمّيّةً من غيرها لوجود رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم فيها ولاتّساع نطاقها . وعلى أيّ حال كانت السّرايا تماثل حرب العصابات والهجمات الفرعيّة .

ويضاف إلى بعض السّرايا الّتي مرّ ذكرها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم نفسه كان يشترك في بعض العمليات العسكريّة أيضا قبل بدر . وكانت أربع غزوات قبل بدر لمهاجمة قوافل قريش ولم تحقّق نصرا . وأوّلها غزوة الأبواء في منطقةٍ بهذا الاسم ، واسمها الآخر غزوة ودّان . وودّان على مسافة قريبة من الأبواء . وانتهت هذه الحملة الّتي جرت في الأوّل من صفر بعد الهجرة على قول البلاذريّ والواقديّ بعقد حلف بني ضمرة بن كنانة الّذي تقرّر بموجبه ألاّ يتقاتلان ، ولا يحميان عدوّا ضدّ محمّد صلى الله عليه و آله وسلم .

والغزوة الأُخرى هي غزوة بواط - وبواط موضع في منطقة جبل رضوى قرب يَنْبُع - الّتي كانت في ربيع الأوّل ، أي : بعد الهجرة بعام(1) ؛ والهدف منها على حدّ تعبير أرباب السِّير قافلة قريش ، بيد أنّها «لم تلق كيدا» أي : لم يقع فيها قتال .

وتلتها غزوة ذات العُشيرة(2) الّتي كانت في جمادى الآخرة من السّنة الثّانية ، وتوخّت نفس الهدف . وهو مهاجمة قافلة كانت قادمة من مكّة إلى الشّام ، وفيها أموال قريش كلّها ، ولم يحدث فيها قتال . فعزم النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم حينئذٍ على زعزعة الأمن في الطّريق التّجاريّ لقريش . ولمّا علم المشركون ذلك حاولوا أن يسلكوا طرقا أُخرى غير مألوفة ليأمنوا على أنفسهم وتجارتهم . وقام كرز بن جابر الفهريّ بهجومٍ سرّيّ على المدينة في غضون ذلك ، فلاحقه النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم حتّى بدر ، بيد أنّه لم يظفر به . ومن المحتمل أنّه انبرى بتحريض قريش .

والأعمال المذكورة تدلّ على أنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم كان مستعدّا للاشتباك مع قريش . ومن

ص: 602


1- (1) نحن نعلم أنّ الهجرة كانت في هذا الشّهر لكنّ السّنة الهجريّة بدأت بعد ذلك من المحرّم ممّا أدّى إلى إضافة شهرين على السّنة الهجريّة بالقياس إلى بدئها الّذي كان في ربيع الأوّل .
2- (2) منطقة قريبة من ينبع .

الطّبيعيّ أنّ القبائل الأُخرى ينبغي أن تحسب حسابها . وفي غزوة ذات العُشيرة استقبل بنو مدلج النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ومن معه استقبالاً رائعا . وكان برفقته مئتان . وبسبب لبثهم هناك نأت القافلة عن تعرّض المسلمين ، ولعلّ هذا قد تمّ خفيةً بدافعٍ سياسيّ . ولم يصرّح بهذا الموضوع أحد . وفي ضوء ما نقله جمع غفير من المؤرّخين كُنِّيَ الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام بأبي تراب في هذه الغزوة . يقول عمّار بن ياسر : ذهبتُ مع عليّ عليه السلام إلى نخيل بني مدلج فنمنا على التّراب حتّى جاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم فنادى عليّا بأبي تراب(1) .

وكانت آخر سريّة قبل غزوة بدر بشهر ونصف تقريبا هي سريّة النّخلة بقيادة عبد اللّه بن جحش . وهي السريّة الوحيدة ، أو بعبارةٍ أُخرى ، العمليّات الوحيدة الّتي حالفها التّوفيق . ودفع إليه النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم رسالة مغلقة ، وأوصاه أن يفتحها مع جماعة بعد مضيّ يومين على تحرّكهم ويعمل بما فيها ، إلاّ أنّه لا يحقّ له أن يُجبر جنده على العمل بها . ومن المحتمل أنّ هذا كان من أجل إخفاء العمليّات ، إذ كانت قريش تعلم قبل ذلك بمبادرته صلى الله عليه و آله وسلم هذه نوعا ما . ولمّا قرأ عبد اللّه الرّسالة عرف أنّ الموضع الأصليّ للعمليّات هو منطقة النّخلة ، فعليه أن يكمن لقافلة من قوافل قريش كانت تحمل الزّبيب والجلود للتّجارة . واطّلعت قريش على وجود المسلمين ، بيد أنّ أحد المرافقين لعبد اللّه كان قد حلق رأسه ليوهم أنّه يريد العمرة ، فهدأ روع قريش .

وكانت هنا مشكلة إذ صادف ذلك اليوم آخر رجب ، وهو من الأشهر الحرم ، فلا ينبغي للمسلمين أن يبدأوا بقتال ، لأنّ الوقت وقت حرام . ومن جهةٍ أُخرى ، لو صبر أولئك حتّى غد ذلك اليوم ، وهدأوا مع قريش لدخلوا الحرم . وشكّ جماعة في

ص: 603


1- (1) انظر : الصّحيح من سيرة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم 3 : 141 للاطّلاع على مصادر كلام عمّار . وورد فيه كلام مفصّل يدور حول حكاية أُخرى موضوعة نقلتها بعض المصادر حول الكنية المذكورة .

أنّ ذلك اليوم كان الآخر من رجب أو الأوّل من شعبان ، لكنّهم عزموا في نهاية المطاف على القتال . فقُتل المسؤول عن القافلة ، وأُسر اثنان ، وتمّ الاستيلاء على أموال القافلة ، وعاد المسلمون إلى المدينة . ولمّا عادوا قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إنّهم لم يؤذن لهم بالقتال في الشّهر الحرام . حتّى قيل إنّ ما حملته رسالة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم إلى أولئك النفر هو جمع المعلومات وإيصال الأخبار(1) . وتلاوم المشركون بمكّة أيضا ، ونالوا من النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بأنّه هتك حرمة الشّهر بسفك الدماء ، والاستيلاء على الأموال .

وهذه المشكلة الطّارئة أدّت إلى أن ينتظر الجميع حكم اللّه تعالى . ومثلها في السّيرة كثير ؛ إذ تطرأ معضلة فينتظر الجميع بما فيهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم حكم اللّه سبحانه . وكان النّاس حتّى ذلك الحين يخبرون تعظيم الأشهر الحرم ويرعون حرمتها ، بيد أنّهم الآن يتساءلون عن رأي الإسلام فيها ، وفي القتال خلالها : « قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّه ِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّه ِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ »(2) . فقد رعى اللّه تعالى حرمة الشّهر الحرام لكنّه عنّف المشركين الّذين ارتكبوا جرائم أكبر من ذلك . منها أنّهم صدّوا عن المسجد الحرام ؛ ومنها أنّهم فتنوا المؤمنين عن دينهم بالأذى والاضطهاد ، ومنها - وهو أهمّ من ذلك كلّه - أنّهم جميعا على الشّرك . وبشأن المشركين، ما دام الأمر يرتبط بأذاهم وتعذيبهم فلا حرمة في البَين ، لكنّهم حين تعرّضوا لحادثة من الحوادث رفعوا عقيرتهم ونادوا بالقانون والحرمة.

وذكرهم اللّه تعالى في تتمّة الآية المتقدّمة فقال : « وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا » . ثمّ أثنى على المجاهدين من المسلمين فقال سبحانه : « إِنَّ

ص: 604


1- (1) المغازي 1 : 16 .
2- (2) البقرة : 217 . عدّ أرباب السّير والمحدّثون الآية المذكورة نازلةً بشأن سريّة عبد اللّه بن جحش .

الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللّه ِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللّه ِ وَاللّه ُ غَفُورٌ رَحِيمٌ » . ويعني هذا أنّهم لمّا كانوا أهل هجرة وجهاد فإنّهم يرجون رحمة اللّه ، واللّه يغفر لهم خطأهم . ومهما كان فإنّ الآية المذكورة تنبّه على خطأ المسلمين ، وإن عدّت جرم العدوّ أكبر من ذلك الخطأ . فهي هنا قد اتّخذت موقفا رائعا من الوجهة الإعلاميّة(1) .

وقسم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم غنائم هذه الوقعة على أساس قانون الخمس لأوّل مرّة . وكان قانون المرباع سائدا في الجاهليّة(2) ، وهو تخصيص ربع الغنائم لشيخ القبيلة . وأراد النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أن يطلق أسيرين من أسرى العدوّ في مقابل الفدية غير أنّه صبر حتّى عاد اثنان من أصحابه كانا قد انفصلا عن السريّة المذكورة ، وبعد أن اطمأنّ على عودتهما أطلق الأسيرين المذكورين .

ومن المفيد أن نعرف أنّ عبارة «أميرالمؤمنين» أطلقت لأوّل مرّة في هذه الغزوة على عبد اللّه بن جحش(3) . ويبدو أنّ هذا هو الموضع الوحيد الّذي يُطلق فيه مثل هذا العنوان على أمير من الأمراء - ولعلّ المسلمين هم الّذين سمّوه به - وبعد ذلك حين استوسق أمر الخلافة في عهد عمر ، دُعي الخليفة به ، وليس له استعمال في إمرة الجيش . ومن الجدير بالذكر ما قيل في فضائل الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام أنّ من الألقاب الّتي لقّبه بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم هو هذا اللقب .

ص: 605


1- (1) نقل الغزاليّ الموضوع المذكور في فقه السّيرة : 231 ، 232 بنحوٍ لا يُشمّ منه حصول خطأ . وجاء في نقل الواقديّ 1 : 14 أنّ حبّ الدنيا هو الّذي دفع المسلمين إلى شنّ الحرب ذلك اليوم . وذهب العلاّمة الطّباطبائيّ إلى أنّ الآية المذكورة تدلّ على أنّ شخصا إذا قام بعملٍ قربةً إلى اللّه ، وكان خطأً ، فإنّه لم يرتكب ذنبا . وتدلّ الآية أيضا على وجود المغفرة بدون ارتكاب ذنبٍ ما . الميزان 2 : 199 . وهذا طبعا خلاف الظّاهر .
2- (2) المغازي 1 : 17 .
3- (3) نفسه 1 : 19 .

العلاقات باليهود إلى ما قبل بدر

وردت في الحلف الّذي ذكرناه آنفا ، بوصفه أوّل دستور وُضع ، معايير تحكم العلاقات المتبادلة بين اليهود والمسلمين ، بيد أنّ الواضح هو رغبة اليهود عن إقامة علاقات ودّيّة مع المسلمين . لأنّهم شهدوا سيطرة الإسلام على تلك المناطق جميعها ، كما كانوا يرون مستقبلهم مهدّدا بالأخطار ؛ هذا أوّلاً ، وثانيا إنّ الإسلام من الوجهة الدّينيّة كان ينتقد اليهوديّة ويقدح فيها من الأساس . وقبل ذلك وردت بمكّة آيات كثيرة في قصص الأنبياء وهي توبّخ بني إسرائيل وتعنّفهم على أعمالهم المشينة حيال الأنبياء . فكيف يسكت اليهود أمام الدّين الجديد الّذي يتحدّاهم ؟ وينبغي الالتفات إلى أنّهم كانوا الفرقة الوحيدة الّتي انبرت للإسلام والمسلمين بالجدل الدّينيّ بجدّ . وأشار ابن إسحاق إلى حسدهم بسبب ظهور نبيٍّ بين العرب ، وذكر أنّهم كانوا يسألون النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم دائما من وحي اللجاج والعناد لتلبيس الحقّ بالباطل . ونزلت آيات كثيرة للإجابة عن أسئلتهم(1) . وخصّص كتّاب السِّير بعد الحديث عن الهجرة فصلاً طويلاً للتحدّث عن مواقف القرآن الكريم من اليهود وذلك في بداية كتبهم . وهذا معلم على أنّ أهمّيّة الموقف من اليهود في رؤية كتّاب السِّيَر القدامى كانت مشهورة ومشهودة منذ بداية الهجرة . وقبل كلّ نقطة حريّ بالعلم أنّ لمّة من اليهود بعدد الأصابع قد اعتنقت الإسلام ومنهم عبد اللّه بن سلام الّذي كان من يهود بني قَيْنُقاع . وقيل أيضا إنّ أفرادا آخرين منهم قد اعتنقوه إلاّ أنّ إسلام هؤلاء إلاّ عبد اللّه ابن سلام غير ثابت(2) .

ص: 606


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 513 .
2- (2) انظر : المصدر نفسه 1 : 527 ؛ سبل الهدى والرّشاد 3 : 558 .

وجاء فهرس لمواقفهم الفكريّة والاجتماعيّة الّتي لا تعود إلى الفترة الواقعة بين الهجرة وبدر بالضّرورة ، في السّور المدنيّة بخاصّة البقرة الّتي يبدو أنّها أوّل سورة مدنيّة على ما شاع عنها في الأخبار التّاريخيّة . وورد في الآية التّاسعة والثّلاثين خطاب لبني إسرائيل أن يذكروا نعم اللّه ، ويؤمنوا بما أُنزل وما تصدّقه التّوراة ، ولا يلبسوا الحقّ بالباطل ، ويذكروا نعم اللّه وتفضيله إيّاهم على العالمين ، وإنجائهم من آل فرعون ؛ وتتحدّث الآيات الّتي تلتها عن فرار بني إسرائيل من فرعون ، وغرق فرعون ، واتّخاذهم العجل ، وطلبهم رؤية اللّه جهرةً ، وما منّ اللّه تعالى به عليهم من النّعم السّماويّة أيضا .

وجاء استعراض لمواقف بني إسرائيل التّحجّجيّة من موسى عليه السلام في الآيات الّتي تتواصل . قال تعالى على لسانهم : « ... فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ... » وأدّت هذه الطّلبات إلى أن يبوءوا بالذّلّ والمسكنة وغضب اللّه . قال سبحانه : « وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّه ِ » . وهذا مصير قوم كان اللّه قد اصطفاهم في عصرهم . ثمّ خاطب تعالى أهل الكتاب فقال جلّ من قائل : « مَنْ آمَنَ بِاللّه ِ وَالْيَوْمِ الاْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ » . وبعد ذلك عرض قصّة البقرة . فيقول موسى : اذبحوا بقرة ، وبنو إسرائيل يوجّهون إليه الأسئلة المتواصلة عن سنّها ولونها ومواصفاتها الأُخرى . وهذه الأشياء كلّها تُفضي إلى قسوة قلوبهم .

بعد ذلك يدور الكلام حول تحريف اليهود كلام اللّه ، ونفاقهم . ويُذكَر جهلهم بقوله تعالى : « وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ... » ويتلوها قوله : « فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّه ِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنا قَلِيلاً » . ثمّ يتناول تولّيهم عن أوامر اللّه سبحانه القاضية بعبادته وحده ، والإحسان إلى الوالدين والفقراء إلاّ قليلاً منهم . وحام الكلام بعده حول نزاعاتهم الدّاخليّة وتظاهرهم بالإثم والعدوان ، وذُمّوا

ص: 607

لإيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعضه الآخر . ثمّ تحدّث القرآن الكريم عن الأنبياء بعد موسى عليه السلام بخاصّة عيسى عليه السلام ، وبعد ذلك خاطب اليهود قائلاً : « أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ » .

وجاءت قصّة عبادتهم العجل مرّة أخرى في آيات أُخر موصّلة « وَأُشْرِبُوا فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ » ، وبعد جهود موسى عليه السلام « اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ » . وسُخر من تصوّرهم أنّهم إذا دخلوا جهنّم فلن تمسّهم النّار إلاّ أيّاما معدودة ، وأُكِّد أنّهم « أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا » . وجاء نقضهم للعهود في آيات من هذه السّورة (البقرة) ، وطلب اللّه تعالى منهم مرارا أن يفوا بها . « أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ » .

وتحدّث القرآن الكريم عن رغبة أهل الكتاب في ارتداد المسلمين عن الإسلام ، وأنّهم لا يودّون أن ينزل على المسلمين خيرٌ من ربّهم . ومن الطّبيعيّ أنّ اليهود والنّصارى أنفسهم لا يريان أحدهما (الطّرف المقابل) على حقٍّ « وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَىْ ءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْ ءٍ » . وورد الخطاب للرّسول صلى الله عليه و آله وسلم أنّه « وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ » . وتتواصل هذه الموضوعات حتّى الآية الثّانية والعشرين والمئة الّتي يتكرّر فيها ما جاء في الآية التّاسعة والثلاثين أن « يَا بَنِى إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ » . وينتهي البحث . وكان عسيرا على اليهود تحمّل مثل هذا الموقف الّذي يعدّ نوعا من الفضيحة التّاريخيّة لبني إسرائيل واليهود ، إذ كشف عن سجاياهم الفكريّة والأخلاقيّة بهذا النّحو المذكور ، بخاصّة في كتاب مقدّس كالقرآن الّذي يحفظ أهل المدينة آياته ويكرّرونها . وهكذا فاليهود ، بغضّ النّظر عن عهدهم مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، لم يرعووا عن هجومهم الفكريّ . وحينما اصطدمت سريّة عبد اللّه بن جحش بقريش لأوّل مرّة في آخر رجب ، وقُتل رجلٌ من قريش طفقوا يطعنون

ص: 608

ويقدحون ويستفزّون الآخرين . وقالوا : قُتِلَ حضرميّ من قريش ، أي : «حضرت الحرب» . وهذا تطيّر بالنسبة إلى المسلمين(1) .

تغيير القبلة واعتراض اليهود

كان طعنهم الآخر في قبلة المسلمين ، وأُشير إليه في سورة البقرة أيضا . ونقرأ في الآية الرابعة والأربعين والمئة من السورة المذكورة كلاما عن اليهود وأهل الكتاب مرّة أخرى . وأوّل ما نلحظ هو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كان قلقا من طعن اليهود في هذا المجال إذ لِمَ يصلّي إلى قبلتهم وهي محلّ الصّخرة من بيت المَقدس ؟ وهذا ما ولّد نوعا من الامتعاض في نفسه المقدّسة صلى الله عليه و آله وسلم . قال تعالى : « قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ »(2) . وتغيير القبلة هذا كان لطعن اليهود على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إذ قالوا : «يخالفنا ويصلّي إلى قبلتنا»(3) . وكَبُر عليهم تغييرها من بيت المَقدس ، - اتّجاه الشّام شمال المدينة - إلى الكعبة في الجنوب . وقلقوا هذه المرّة لأنّ ذلك نكسة لهم ، واستقلالاً للمسلمين . بيد أنّهم في الوقت نفسه طعنوا على المسلمين أيضا بسبب تغيير قبلتهم . « سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ » . ومضافا إلى رغبة الرّسول صلى الله عليه و آله وسلم في تغيير القبلة - وهو ما صرّحت به الآية - أنّ اللّه سبحانه جعل السّبب واحدا أيضا « وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ » . ومن المحتمل أنّ الآية تشير إلى المنافقين الّذين كانوا بين المسلمين إذ فاهوا

ص: 609


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 604 .
2- (2) البقرة : 144 .
3- (3) سبل الهدى والرّشاد 3 : 538 .

بالاعتراض ، وحاكوا اليهود في هزئهم بتغيير القبلة من الشّمال إلى الجنوب . ويمكن لهذا الكلام أن يهدّئ أولي الشّكّ أيضا ويحول دون اعتراضهم على تغيير القبلة . وتحويل القبلة بوصفها محور العبادة الأصليّة وهي الصّلاة يمكن أن يبعث على الشّكّ طبيعيّا ، فلا بدّ من رفعه بنحو من الأنحاء . قال سبحانه : « وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّه ُ »(1) (يعني تغيير القبلة) . وخاطب نبيّه صلى الله عليه و آله وسلم أيضا قائلاً : « الْحَقُّ مِن رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ »(2) وجاء في الآية التّاسعة والأربعين والمئة قوله تعالى : « وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَبِّكَ » . وورد في الآية الخمسين والمئة قوله : « فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى » .

وكان اليهود راغبين في رجوع قبلة المسلمين إلى بيت المقدس . من هنا جاء عدد من كبرائهم إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وطلبوا منه ذلك ، وقالوا له إنّه إذا فعل فسيتّبعونه(3) . قال تعالى : « وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذا لَمِنَ الظَّالِمِينَ »(4) .

وطُمئِنَ المؤمنون أيضا أنّ أعمالهم السّابقة لا تضيع بتغيير القبلة ، ومن ثمّ ما كانت هناك حاجة إلى الإعادة .

وحدثت هذه الواقعة بعد مضيّ ستّة عشر أو سبعة عشر شهرا على الهجرة . وهي تدلّ على تأزّم العلاقات بين المسلمين واليهود . وفي سياق ذلك حريّ بالعلم أنّ تغيير القبلة إلى الكعبة كان لافتا لنظر العرب في شبه الجزيرة ، إذ كانوا يقيمون وزنا خاصّا للكعبة . علما أنّ الإسلام كان قد طرح اعتبار الكعبة في السّور المكّيّة ، بل في سورة

ص: 610


1- (1) البقرة : 143 .
2- (2) البقرة : 147 .
3- (3) سبل الهدى والرّشاد 3 : 541 .
4- (4) البقرة : 145 .

البقرة نفسها قبل الآيات المذكورة ، بيد أنّ أرضيّة جديدة قد تمهّدت لاستقطاب العرب من خلال جعلها قبلةً(1) .

وهكذا اتّسعت الشُّقّة بين المسلمين واليهود ، وحين أسلم بعض اليهود ككعب الأحبار كانوا يحاولون أن يجعلوا لبيت المقدس فضيلة أكثر من الكعبة . وهذا أنكره أئمّة الشّيعة عليهم السلام بوصفهم حفّاظ السّنّة الإسلاميّة الأصيلة(2) . كما أنّ هذا التّوجّه لا ينسجم مع الآيات القرآنيّة الكثيرة بشأن الكعبة . وجاء شخص إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في فتح مكّة وأخبره أنّه نذر أن يصلّي في بيت المقدس بعد فتح مكّة . فأمره أن يصلّي عند الكعبة لأنّ ثوابها أكثر .

معركة بدر

كانت أوّل مواجهة جادّة للمسلمين مع قريش في يوم الجمعة السّابع عشر من شهر رمضان السّنة الثّانية للهجرة ببدر(3) . ولا جرم أنّنا ينبغي أن نعدّها من أعظم الحوادث في عصر صدر الإسلام . فقد كانت قافلة قريش تحمل أموالاً طائلة ساهم

ص: 611


1- (1) هذا احتمال طرحه بعض المفسّرين إذ رغب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في تغيير القبلة لنزوعٍ خاصٍّ في نفسه الشّريفة إلى استقطاب العرب وإسلامهم . انظر : مجمع البيان 1 : 227 .
2- (2) ذهب الإمام الباقر عليه السلام إلى كذب الخبر الّذي نقله كعب الأحبار إذ نقل أنّ الكعبة تسجد لبيت المقدس كلّ صباح . انظر : الكافي 4 : 239 ؛ بحارالأنوار 46 : 354 .
3- (3) تقع المنطقة المذكورة الّتي شيدت فيها مدينة الآن على بعد (155) كيلومترا عن المدينة ، و(310) كيلومترات عن ساحل البحر الأحمر ، وهي بعيدة الآن عن الطريق العامّ الّذي يربط المدينة بمكّة . قيل سمّيت بذلك على اسم «بدر بن مخلد» ، وقيل «بدر بن حارث» . وأنكرت قبيلة بني غفّار ملكيّتها لأحد إلاّ لها ، ولم تجد اسمها مأخوذا من اسم شخصٍ معيّن ، بل ترى أنّ بدرا اسم فحسب . انظر بهذا الشّأن : سبل الهدى والرّشاد 4 : 120 .

فيها رجالهم ونساؤهم جميعا(1) ، وهي تقصد الشّام ، منطقة غزّة(2) . ولمّا تحرّكت ، علم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بخبرها ، وكان يترصّدها ليعترض طريقها(3) . من هنا كلّف عددا من أصحابه ليجمعوا الأخبار حول مسيرها . وعندما بلغه اقترابها شدّ الرّحال . وكان أبو سفيان يدرك الخطر ، فأشخص من تبوك رجلاً إلى مكّة ليدعو قريشا إلى حماية أموالها . وقيل : إنّه علم بتأهّب المسلمين لمهاجمتها حين كان بالشّام(4) . بيد أنّ من المحتمل هو أنّه لم يكن لديه خبر دقيق عنها ، لذا عندما رجع جاء حتّى وصل قريبا من عين بدر أيضا . وقبل قدوم ضمضم الغفاريّ موفدا من قبله رأت عاتكة بنت عبد المطّلب رؤيا . فقالت إنّها رأت رجلاً جاء مكّة ونادى أيّها النّاس ! أنتم تنفرون إلى مصارعكم بعد ثلاثة أيّام . وكرّر ذلك ثلاثا ، ووقف على الكعبة وجبل أبي قبيس وصاح ، ثمّ ألقى صخرةً دخلت ذرّاتها دور قريش كلّها إلاّ بني هاشم وبني زهرة . ففزع أبو جهل حين سمع الرّؤيا ، وقال : «يا بني عبد المطّلب ، أما رضيتم أن يتنبّأ رجالكم حتّى تتنبّأ نساؤكم»(5) ! وهو الّذي قال حين اعترضه رجل من بني هاشم : «إنّا استبقنا المجد وأنتم فقلتم : فينا السّقاية ... فينا الرفادة ... قلتم : منّا نبيّ ... لا كان هذا أبدا ... إنّي جحدتُ ذلك»(6) . ودوّت صيحات ضمضم بن عمرو الغفاريّ للاستغاثة في اليوم الثّالث من رؤيا عاتكة بمكّة . فعمّ الخوف قريشا مشوبا بخلافاتٍ ظهرت بينها ، وتغلّب عليها أبو جهل . وكان الاستقسام بالأزلام من نوعه الجاهليّ

ص: 612


1- (1) تقدّر بخمسين ألف دينار (سكّة ذهب) . وجاء في خبر آخر : «وكانت العير ألف بعير» . أنساب الأشراف 1 : 288 .
2- (2) المغازي 1 : 28 .
3- (3) نفسه .
4- (4) الطّبقات الكبرى 2 : 12 ، 13 .
5- (5) المغازي 1 : 29 ، 30 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 607 ، 608 ؛ سبل الهدى والرّشاد 4 : 32 - 34 .
6- (6) المغازي 1 : 30 .

يعبّر عن كراهة التّوجّه إلى هذا السَّفر(1) . بيد أنّ المكّيّين اضطُرّوا إلى الخروج دفاعا عن أموالهم. وبعضهم أُرغم على ذلك؛ وكلّ من لم يخرج يبعث مكانه أحدا على نفقته.

وينبغي الالتفات إلى أنّ مهاجمة المسلمين للقافلة والاستيلاء عليها ، مضافا إلى بعدها المادّيّ ، تمسّ كرامة قريش ؛ إذ يُفهم منها أنّ محمّدا ومعه عدد من الفتيان الّذين صبأوا - اصطلاح كان المشركون يطلقونه على المسلمين - قد غلبوا قريشا(2) . بخاصّة أنّ أموالاً لها قد وقعت بيده قبل فترة ، فلم ترد أن يتكرّر مثلها(3) . وتأهّبت قريش سريعا . وتبرّع كثير من كبرائها بأموال طائلة لتجهيز الجند ، وعبّأت جيشا لذلك(4) . ورضي أبو لهب الّذي كان قد أفزعته رؤيا عاتكة أن يرسل أحدا مكانه بعُسرٍ وصعوبةٍ ، فذهب الموفَد لدَينٍ عليه لأبي لهب(5) . وذُكر «عدّاس» النّصرانيّ الّذي كان غلاما لعتبة وشيبة ، ونهاهما عن قتال محمّد صلى الله عليه و آله وسلم ، لكنّهما ذهبا وقُتلا ، وهو نفسه مُني بنفس المصير(6) . على أيّ حال كان أهل الرأي من قريش فزعين من الذّهاب على حدّ تعبير الواقديّ ، إلاّ أنّ الّذي يبدو هو أنّهم لا حيلة لهم إلاّ الخروج ، بخاصّة أنّهم كانوا متّهمين بالجُبن دائما(7) . وهذا ما لا تطيقه الرّوح العربيّة القبليّة . وتحدّث أرباب السير في موضوع خروج قريش عن دور الشّيطان مرارا إذ ظهر في صورة سراقة بن جُعشم المُدلجيّ وحثّ قريشا على الخروج(8) . وسقنا الكلام قبل ذلك حول مثل هذه

ص: 613


1- (1) المغازي 1 : 33 ، 34 .
2- (2) نفسه 1 : 32 ؛ سبل الهدى والرشاد 3 : 35 .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 609 ؛ سبل الهدى والرشاد 2 : 35 .
4- (4) أنساب الأشراف 1 : 292 .
5- (5) المغازي 1 : 33 .
6- (6) قال الواقديّ إنّه لم يشهد بدرا مع أنّ خبرا آخر يذكر هلاكه في تلك الواقعة . وكان عدّاس من أهل الكتاب الّذين حامت حولهم بعض الأخبار الموضوعة . المغازي 1 : 35 .
7- (7) أنساب الأشراف 1 : 292 . ولمّا اتّهم أميّة بن خلف الّذي كان بدينا ولم يرغب في الخروح بأنّه كالنساء خرج مكرها . انظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 610 .
8- (8) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 616 .

الأخبار في السّيرة عند حديثنا عن التّحريف في تدوين السِّيرة .

وتحرّك عسكر قريش وقوامه قرابة تسعمائة وخمسين مقاتلاً مجهّزا بكافّة الإمكانيّات ، وأصحاب الدفوف والطّبول . وغنّت قيانهم في الطّريق . واصطحبوا معهم الأحابيش يتقاذفون بالحراب لتحريض الجيش(1) . وكان أبو جهل واثقا من النصر ، وهو يقول : أيظنّ محمّد أن يُصيب منّا ما أصاب بنخلة - قضيّة سريّة عبد اللّه بن جحش - وأصحابُه(2) ؟!

من جهة أُخرى تحرّك رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم من المدينة في الثّاني عشر من رمضان بعد أن بلغه خبر اقتراب القافلة ، وتوقّف في محلّة السُّقيا قرب المدينة لتنظيم الجيش . وتخلّف عنه عدد من المسلمين . يقول الواقديّ : تخلّف عنه كثير من الصّحابة وكرهوا الخروج معه . «وكان فيه كلام كثير واختلاف . وكان من تخلّف لم يُلَمْ ! لأنّهم ما خرجوا على قتال ، وإنّما خرجوا للعِير»(3) . مع هذا يُستشفّ من القرآن الكريم أنّ عددا منهم تخلّف لأسباب أخرى . قال تعالى : « كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِى الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ »(4) . وهذا الّتمثيل يدلّ على أنّ كُره بعضهم بلغ ذروته إذ يسيرون متباطئين .

ووقف صلى الله عليه و آله وسلم في السّقيا متأمّلاً ؛ وكان اسمها قبل ذلك «حُسَيْكة» ، وغيّر النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم اسمها ، وسمّاها السُّقيا(5) . وهذا ما كان فعله صلى الله عليه و آله وسلم في تغيير أسماء الأشخاص أيضا ، فقد

ص: 614


1- (1) المغازي 1 : 39 . في النّسخة البدل : «جيش» ، مكان «حبش» ، وهي ما رجّحناه على ما في النّسخة البدل .
2- (2) نفسه .
3- (3) المغازي 1 : 21 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 12 (أبطأ عنه بَشَرٌ كثير) .
4- (4) الأنفال : 5 ، 6 .
5- (5) المغازي 1 : 23 . لمّا حججنا سنة 1414 ه وزرنا المدينة ، ذهبنا ذاتَ يومٍ إلى مسجد السُّقيا . وكان واقعا في ساحة محطّة السّكك الحديديّة القديمة بالمدينة المنوّرة . ومن المؤسف أنّه قد أُهمل تماما حتّى غدا كمزبلة .

استبدل الأسماء الجميلة بالأسماء القبيحة(1) .

وعرض صلى الله عليه و آله وسلم المقاتلة واحدا واحدا ، فردّ صغار السّنّ الّذين لا يتناسب سنّهم والحرب إلى المدينة . وفيهم عبد اللّه بن عمر ، وأُسامة بن زيد ، وزيد بن أرقم ، وآخرين غيرهم . وكان عمير بن أبي وقّاص يتوارى لئلاّ يُرْجَعَ وهو ابن ستّ عشرة سنةً . ثمّ «عُرض على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم فاستصغره ، فقال : ارجع ! فبكى ، فأجازه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ... فقُتل ببدر(2) . وأمر صلى الله عليه و آله وسلم أن يَعُدُّوا الجيش(3) ، ومن ثمّ تحرّك المسلمون بأقلّ الإمكانيّات ، بحيث جلس كلّ ثلاثة على جملٍ واحد ، حتّى جلس النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وعليّ بن أبي طالب ، ومَرْثد (أو زيد بن حارثة) على جمل واحد أيضا(4) .

وكان الجيش كلّه يمتلك حصانين أحدهما للمقداد ، والآخر لمرثد بن أبي مرثد الغنويّ . وتحرّك النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم مرحلةً مرحلةً حتّى وصل إلى عرق الظبية في الرّابع عشر من شهر رمضان . وهو المكان الّذي كان يبعد عن «الروحاء» (الّتي كانت تبعد عن المدينة 75 كيلومترا) قرابة ثلاثة كيلومترات ، وهو موضع لاستراحة القافلة .

ص: 615


1- (1) تاريخ أبي ذرعة الدمشقيّ 2 : 635 ؛ المغازي 1 : 82 . ونقلت حكاية بهذا الشّأن مفادها أنّ اسم عبد الرحمن بن عوف قبل الإسلام كان عبد عمرو ، وعندما أسلم سمّى نفسه عبد الرحمن . ولمّا كان المشركون يكرهون كلمة «رحمان» فقد امتنعوا عن مناداته بهذا الاسم ، ومنهم أميّة بن خلف الّذي كان صديقه إذ كان يخاطبه باسمه القديم ولم يجبه ، إلى أن خاطبه بآسم عبد الإله فأجابه . وكان المشركون يعتقدون بالإله في الجاهليّة . انظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 623 .
2- (2) المغازي 1 : 21 .
3- (3) نفسه 1 : 26 . وجاء في كتاب سبل الهدى والرّشاد 4 : 40 أنّ الصّحابة لمّا عُدّوا كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر . فسُرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم حين سمع العدد ، وقال : بعدد أصحاب طالوت .
4- (4) المغازي 1 : 24 ؛ أنساب الأشراف 1 : 289 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 613 ؛ سبل الهدى والرشاد 4 : 39 .

وأشخص اثنين من أصحابه إلى عين بدر للاستطلاع . فعلما من كلام دار بين بنتين أنّ القافلة بلغت الروحاء فعادا مسرعين . وكان أبو سفيان الّذي أصابه ذعر شديد يستخبر مجدي بن عمرو عن جيش محمّد صلى الله عليه و آله وسلم إذ كان يسكن هناك . وقد توقّع وجود المبعوثين من جيشه صلى الله عليه و آله وسلم قريبا منهم وذلك عبر ما شاهده من فضلات جَمَلَيْهِما اللذين كانا يحملان نوى التمر - وهو معلَم على أنّهما من أهل المدينة - لذا سرعان ما عاد إلى القافلة ووجّهها من منطقة بدر إلى ساحل البحر ، فابتعد عن مرمى المسلمين تماما(1) .

وبعد أن أفلتت القافلة من تهديد المسلمين بعث أبو سفيان إلى قريش من يُبلغها نجاة القافلة فلا تعرّض نفسها للقتل على يد أهل يثرب . لكنّ أبا جهل رفض الرّجوع ، ويبدو أنّ كلّ شيءٍ كان يتهيّأ لحرب شاملة بين أهل مكّة ومسلمي المدينة بإصراره . علما أنّ النساء أُرجعت بطلب أبي سفيان لئلاّ تصيب قريشا فضيحة أُخرى إذا هي هُزمت !

وأصرّ أبو جهل على ذهاب الجيش حتّى بدر ؛ إذ كانت هذه المنطقة موسما من مواسم الجاهليّة يجتمع فيها العرب ، ولها بها سوقٌ أيضا(2) . وقال : «نقيم ثلاثا على بدر ننحر الجُزُر ، ونُطعم الطّعام ، ونشرب الخمر ، وتعزف القيان علينا ، فلن تزال العرب تهابُنا أبدا»(3) . ثمّ تعرف جميع القبائل مقاومتهم وبسالتهم أمام أهل المدينة ، وترى عظمتهم . ورجع بعضهم على الرغم من إصرار أبي جهل الّذي سمّاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم فرعون الأُمّة(4) . وبان بنو زُهرة - الّذين قيل إنّهم كانوا قرابة مئة - عن

ص: 616


1- (1) سبل الهدى والرّشاد 4 : 46 .
2- (2) الطّبقات الكبرى 1 : 13 .
3- (3) المغازي 1 : 44 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 618 ، 619 .
4- (4) المغازي 1 : 46 ؛ أنساب الأشراف 1 : 298 ؛ سبل الهدى والرّشاد 4 : 79 ، 80 (إنّ لكلّ أمّة فرعونا وفرعون هذه الأمّة أبو جهل) .

قريش بحيلةٍ خاصّة وعادوا إلى مكّة . وقالوا إنّهم جاءوا للذّود عن القافلة . ورفضوا أن يشاركوا في قتل ابن أُختهم - لأنّ أمّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم كانت منهم - حتّى لو لم يكن نبيّا(1) . يقول الشّاميّ : شهد هذه الوقعة اثنان من أعمام مسلم بن شهاب الزّهريّ وقُتلا على كفرهما(2) . وقيل إنّ بني عَديّ بانوا عن قريش أيضا وتوجّهوا نحو ساحل البحر ولقوا أبا سفيان بالظّهران . وذكروا أنّهم رجعوا بأمر أبيسفيان(3) .

وعندما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عازما على المسير إلى بدر ، رأى اثنين من المشركين كانا يرافقانه . أحدهما خُبيب بن يساف(4) ، والآخر قيس بن محرّث . فسألهما عمّا أخرجهما معه . فقالا : أنت ابن أُختنا - من بني النّجّار - وجارنا ، وخرجنا مع قومنا للغنيمة . فقال صلى الله عليه و آله وسلم : «لا يخرجنّ معنا رجلٌ ليس على ديننا» . فتحدّثا عن شجاعتهما ، فلم يقبل منهما ذلك حتّى أسلم خُبيب . ورجع قيس بن محرّث ، ثمّ أسلم بعد ذلك وشهد أُحدا واستُشهد فيها(5) . والنّقطة الأُخرى هي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أفطر لكنّ جماعة لم يفطروا حتّى نادى مناديه : يا معشر العُصاة إنّي مفطرٌ فأفطِروا . وذلك أنّه قد كان قال لهم قبل ذلك : «أفطروا» فلم يفعلوا(6) ! وهذا خبر طريف للتعرّف على شخصيّة الصّحابة .

وبلغ المسلمين أثناء سيرهم تلقاء بدرتوجّه قريش نحوها . وكانوا لا يعلمون بخبر ابتعاد القافلة . مع هذا انقلب الوضع تماما بسماعهم الخبر . وكانوا يتهيّأون لمهاجمة القافلة ، فهل بمقدورهم الصّمود الآن أمام جيش مسلّح يفوقهم ثلاثة أضعاف ؟

ص: 617


1- (1) المغازي 1 : 44 ، 45 .
2- (2) سبل الهدى والرّشاد 4 : 47 .
3- (3) حول رجوع بني زهرة وبني عديّ ، انظر : الطّبقات الكبرى 1 : 14 ؛ أنساب الأشراف 1 : 291 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 619 .
4- (4) ويقال أيضا : إساف .
5- (5) المغازي 1 : 47 ؛ أنساب الأشراف 1 : 288 ؛ سبل الهدى والرّشاد 4 : 38 .
6- (6) المغازي 1 : 47 ، 48 ؛ أنساب الأشراف 1 : 292 ، 293 .

فليس من قتالٍ في مهاجمة القافلة ، لكنّهم الآن أمام حربٍ أيِّ حربٍ . وعزم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم على أن يسأل أصحابه عن استعدادهم للقتال في مثل هذه الظّروف . يقول الواقديّ : قام أبو بكر وقال وأحسن (ولم ينقل أحد ماذا قال)(1) . ثمّ قام عمر و قال : يا رسول اللّه ! إنّها قريش وعزّها ، واللّه ما ذلّت منذ عزّت ، وما آمنت منذ كفرت ، واللّه لا تُسلم عزّها أبدا ، ولتُقاتلنّك . فاتّهب لذلك أُهبته وأعدّ لذلك عدّته ! وهذا الكلام الّذي نقله الواقديّ وغيره(2) يُنبئ عن ذُعرٍ ووعيد أيضا . ولعلّه هو الّذي دفع ابن إسحاق إلى أن يكتفي بقوله : «فقال وأحسن»(3) ! ثمّ قام المقداد بن عمرو وقال : يا رسول اللّه ، امض لأمر اللّه فنحن معك . واللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيّها : « فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ »(4) ، ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون(5) .

ثمّ التفت صلى الله عليه و آله وسلم إلى النّاس وقال : «أشيروا عليّ أيّها النّاس» . وكان خطابه موجّها إلى الأنصار أساسا ، لأنّه كان يظنّ أنّهم ينصرونه في دارهم فحسب عملاً بما تعهّدوا به في بيعة العقبة الثّانية . فقد جاء فيه : «إنّا برآءٌ من ذمامك حتّى تصل إلى دارنا ، فإذا وصلتَ إلينا فأنت في ذمّتنا ، نمنع منك ممّا نمنع منه آباءنا ونساءنا»(6) .

ص: 618


1- (1) جاء في صحيح مسلم أنّ أبا بكر تكلّم وأعرض عنه النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، وتكلّم عمر وأعرض عنه أيضا . انظر : سبل الهدى والرّشاد 4 : 121 ؛ صحيح مسلم 2 : 84 .
2- (2) سبل الهدى والرشاد 4 : 42 .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 615 .
4- (4) المائدة : 24 . وهذه السّورة هي آخر ما نزل من القرآن . ولم يستبنْ كيف قرأ المقداد الآية المذكورة قبل وقعة بدر في السّنة الثّانية للهجرة ، اللّهمّ إلاّ أن يكون قد سمع القصّة بنحو من الأنحاء ، وذكر مضمونها . وحريّ بالذكر أنّ أرباب السِّيَر نقلوا كلامه هذا نفسه في صلح الحديبيّة أيضا . ويبدو أنّه فيها أصوب من الّذي قبله . انظر : المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 381 .
5- (5) المغازي 1 : 48 ؛ أنساب الأشراف 1 : 293 ؛ سبل الهدى والرّشاد 4 : 42 .
6- (6) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 615 .

وذكر أرباب السِّيَر أنّه صلى الله عليه و آله وسلم لم يستعن بأحد من الأنصار في الحروب قبل ذلك(1) . وبالنظر إلى هذا الأمر يتبيّن أنّ تعبير «أشيروا» أو «استشار» الّذي أورده ابن سعد لم يُصطَلح عليه بمعنى المشورة ، بل هو لرفع مشكلة مع الأنصار ، وإن كانت المشورة عملاً محمودا في جميع الأُمور ولاسيّما أمر الحرب الّذي ينوء الناس بعبئه الأكبر ، وكانت مواطن استشارته صلى الله عليه و آله وسلم في الحروب أيضا . وفطن سعد بن معاذ للأمر ، فقال : «أنا أُجيب عن الأنصار ؛ كأنّك يا رسول اللّه تريدنا ! قال : أجل . قال : إنّك عسى أن تكون خرجت عن أمر قد أُوحي إليك في غيره ، وإنّا قد آمنّا بك وصدّقناك ، وشهدنا أنّ كلّ ما جئتَ به حقّ ، وأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السّمع والطّاعة ؛ فامضِ يا نبيّ اللّه ، فو الّذي بعثك بالحقّ لو استعرضتَ هذا البحر فخُضته لخضناه معك»(2) . وأعلن سعد بكلامه هذا - المفصّل في المصادر المعنيّة - عن استعداد الأنصار التامّ للتضحية بأنفسهم وأموالهم . ثمّ قال : «إنّا قد خلّفنا من قومنا قوما ما نحن بأشدّ حبّا لك منهم ... ولو ظنّوا يا رسول اللّه أنّك ملاقٍ عدوّا ما تخلّفوا ...»(3) . ولمّا فرغ من كلامه أمر النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بالسّير وقال : «... فإنّ اللّه قد وعدني إحدى الطّائفتين»(4) .

وهنا رفرفت راية الحرب فحسب . وذكر أرباب السّير مسير حركة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم منطقة منطقة(5) . ووصل صلى الله عليه و آله وسلم إلى منطقة بدر ليلة الجمعة السّابع عشر من رمضان . وكانت المسافة بين المسلمين والمشركين تلالاً من الرمل . وكانوا لا يعلمون بوجود

ص: 619


1- (1) الطّبقات الكبرى 2 : 12 .
2- (2) المغازي 1 : 49 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 615 .
3- (3) نفسه .
4- (4) نفسه .
5- (5) الطّبقات الكبرى 1 : 13 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 613 ، 614 ؛ سبل الهدى والرشاد 4 : 41 . سقيا ، تُربان ، عرق الظبية ، سَجْسج وهي بئر الروحاء نفسها ، نازية ، وادي رحقان ، مضيق الصّفراء ، وادي ذفران ، ثنية الأصافر ، الدبّة ، بدر .

كلٍّ منهما في منطقة واحدة . والتقى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بسفيان الضّمريّ في الطّريق . وسأله عن عسكر قريش وعسكر محمّد صلى الله عليه و آله وسلم بدون أن يعرّفه نفسه . فقال : بلغني أنّ قريشا خرجت يوم كذا وكذا من مكّة . فإنْ كان الذي أخبرني صادقا فإنّهم بجنب هذا الوادي . وذكر أيضا أنّه بلغه أنّ محمّدا وأصحابه خرجوا من يثرب يوم كذا وكذا ، فإن كان المخبِر صادقا فهم بجانب هذا الوادي . ومن الطّريف أنّه صلى الله عليه و آله وسلم كان قد تعهّد للرجل المذكور أن يجيب عن أسئلته أيضا في مقابل إجابته عن أسئلته صلى الله عليه و آله وسلم . فسأل سفيان : فمن أنتم ؟ فقال صلى الله عليه و آله وسلم : نحن من ماء . وأشار بيده نحو العراق ، أي : الشّمال حيث كانت المدينة في ذلك المسير(1) !

وذهب عليّ عليه السلام ، والزّبير ، وسعد بن أبي وقّاص إلى بئر بالظُّريب يتحسّسون على الماء . فأسروا اثنين من سُقّاء قريش . وفرّ أحدهما وأخبر قريشا عن وجود الجيش الإسلاميّ لأوّل مرّة . وكان أسر هذين السقّاءَين أوّل ضربةٍ تتلقّاها قريش ، ويضاف إليه أنّه زوّد المسلمين بمعلوماتٍ عن وضع العدوّ . وذكر الواقديّ أن ذعرا شديدا سيطر على قريش في تلك اللّيلة المطيرة . وإنّما كان أبو جهل يسعى أن يصوّر الوضع طبيعيّا ، والنّصر على المسلمين ميسّرا . ولمّا أُتي بالسقّاءَين إلى النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم كان مشغولاً بالصّلاة . وكان المسلمون ينوون أن يحصلوا منهما على خبر القافلة ، لكنّهما قالا إنّهما من قريش . فكرهوا ذلك ولم يرغبوا في سماعه ظانّين أنّهما يكذبان فطفقوا يضربونهم . وفرغ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم من صلاته ، وصدّق كلامهما وأمر المسلمين ألاّ يؤذوهما . وحين علم صلى الله عليه و آله وسلم بخبر قريش قال : «هذه مكّة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها»(2) .

وسأل الحباب بن المنذر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قائلاً : «يا رسول اللّه ، أرأيتَ هذا المنزل ،

ص: 620


1- (1) المغازي 1 : 50 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 616 ؛ سبل الهدى والرّشاد 4 : 44 .
2- (2) المغازي 1 : 53 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 617 ؛ سبل الهدى والرّشاد 4 : 44 ، 45 .

أمنزل أنزلكه اللّه ... أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : بل هو الرأي ، والحرب ، والمكيدة ... ثمّ قال الحباب : انطلق بنا إلى أدنى ماء القوم ... بها قليب قد عرفت عذوبة مائه ... ثمّ نبني عليها حوضا ونقذف فيه الآنية ، فنشرب ونقاتل ...»(1) .

ووقع رأيه موقع القبول ، فتوقّفوا عند القليب . وكان بين الفريقين تلّ من الرّمل(2) . وفي تلك الليلة أخذ المسلمين نعاسٌ فناموا نوما مريحا حتّى الصّباح كما صرّح القرآن الكريم بذلك. يقول الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام : نام الجميع تلك الليلة إلاّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم فقد كان منشغلاً بالصّلاة تحت شجرة حتّى الفجر(3) .

ويدلّ خبر إرسال عمّار بن ياسر وعبد اللّه بن مسعود اللذين أطافا بالقوم عن اضطراب قريش اضطرابا تامّا حتّى إنّهم لم يتحمّلوا سماع صهيل خيولهم إذ كانوا يضربونها لتسكت . ومع أنّهم نحروا عشر جزائر وشووها لكنّهم لم يجرُؤا على أكلها من الخوف وباتوا جائعين(4) . وقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بتنظيم الصفوف في أوّل الصّباح حتّى أقبلت قريش . وقيل إنّ لواء المهاجرين في تلك الوقعة كان بيد مصعب بن عمير . كما كانت رايتان ، حمل الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام إحداهما ، وتدعى «عقاب» ؛ وحمل الأخرى رجل من الأنصار(5) . وجاء في خبر آخر أنّ المعروف هو انّ لواء المهاجرين في بدر كان بيد عليّ بن أبي طالب(6) . واستدبر المسلمون الشّمس مواجهين مغربها ، فاضطرّت قريش إلى استقبالها مواجهة مشرقها .

ص: 621


1- (1) المغازي 1 : 53 ، 54 ؛ الطّبقات الكبرى 1 : 15 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 620 ؛ سبل الهدى والرشاد 2 : 48 ، 49 .
2- (2) الطّبقات الكبرى 1 : 15 . (وإنّما بينهم قَوز من الرّمل) .
3- (3) سبل الهدى والرّشاد 1 : 48 .
4- (4) المغازي 1 : 55 .
5- (5) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 612 ، 613 ؛ سبل الهدى والرّشاد 4 : 39 .
6- (6) سبل الهدى والرّشاد 4 : 39 .

وضرب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بطن سوّاد بن غزيّة بعصاه أثناء تسوية الصّفوف ، فعتب عليه من الألم وطلب القصاص ، فرفع صلى الله عليه و آله وسلم قميصه وقال له : استقد . فقبّل سوّاد بطنه صلى الله عليه و آله وسلم مكان القصاص(1) . وورد في خبرٍ أنّ أبا بكر كان على الميمنة ، وآخر كان على الميسرة ؛ وفي جيش المشركين أيضا ... ، في حين ينصّ الواقديّ على أنّه ما كان على ميمنته صلى الله عليه و آله وسلم يوم بدر ولا على ميسرته أحد يسمّى ؛ وكذلك ميمنة المشركين وميسرتهم(2) . وحريّ بالعلم أنّ مثل هذه الأخبار الموضوعة المختلقة لفضائل الأشخاص ، بخاصّة الشّخص المذكور في السّيرة كثير . وخطب النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في صبيحة يوم بدر فدعا المسلمين إلى اتّباع الحقّ ، وأكّد لهم أنّ الصبر في مثل هذه المواطن العصيبة مفتاح النّجاة ووسيلة يفرّج اللّه بها الهمّ عن الإنسان وينجّيه بها من الغمّ . ولمّا رأى صلى الله عليه و آله وسلم طليعة جيش العدوّ طلب من اللّه أن ينزل عليه نصره الّذي وعده به(3) .

ويستشفّ من بعض الإشارات التّاريخيّة أنّ قريشا كانت تروم تدارك ما جرى لها في سريّة عبد اللّه بن جحش بالنّخلة ! وفي الوقت نفسه مرّ بنا أنّها - مبدئيّا - لم تطلب حربا ، حتّى إنّ أبا جهل كان يرى أنّ مجيئهم إلى منطقة بدر يستهدف تهديد القبائل . والمشكلة الأخرى الّتي كانت تواجهها قريش هي أنّها لا بدّ لها أن تحول دون هجمات المسلمين على قوافلها التّجاريّة . من هنا لمّا أعلمها أبو سفيان بنجاة القافلة وطلب منها الرجوع ، قال رجالها : لا ندع محمّدا ومن صبا معه أن يتعرّضوا بعد ذلك لأموالنا وتجارتنا(4) . وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أيضا راغبا في أن لا تقع حرب . من هنا بعث إلى قريش من يخبرها بأن يلي هذا الأمر منه غيرهم أحبّ إليه من أن يلوه منه ، فلم يستجب أبو جهل ، ولم يَرُق له ترك القتال ، وقال : لا نطلب أثرا بعد عين(5) ! وأتى

ص: 622


1- (1) المغازي 1 : 56 ، 57 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 626 ؛ سبل الهدى والرشاد 4 : 55 .
2- (2) المغازي 1 : 58 .
3- (3) نفسه 1 : 59 .
4- (4) أنساب الأشراف 1 : 291 .
5- (5) المغازي 1 : 61 .

الماءَ شِرذمةٌ من المشركين ، وهمّ بعض المسلمين بتحلئتهم عنه لكنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أذن لهم أن يشربوا منه .

وأطاف عمير بن وهب ، وهو من المشركين ، حول المسلمين لعلّه يرى آخرين منهم غيرهم مختفين في تلك الأنحاء . فلم يجد أحدا . وحين رجع طمأن قريشا وقال : لا مدد ولا كمين . مع هذا كلّه ، ليس للقوم مَنَعَة ولا ملجأ إلاّ سيوفهم . ألا ترونهم خُرسا لا يتكلّمون ، يتلمّظون تلمّظ الأفاعي ؟ واللّه ، ما أرى أن يُقتَل منهم رجلٌ حتّى يَقتُل منّا رجلاً فطلب من قريش أن تتريّث أكثر في حربها مع هؤلاء الرّجال(1) . وذهب أبو سلمة الجشميّ يتقصّى ، وكلامه الأصليّ أنّ المسلمين لا يرجعون إلى دورهم مع قلّة سلاحهم ، وفيهم من ينتظر الموت فحسب ، وقد عوّلوا على سيوفهم .

وتردّد في هذه اللحظة رجال كحكيم بن حزام. وطلب من عتبة بن ربيعة أن يحمل دم مَن قُتل بالنّخلة ، وما أصاب المسلمين من العِير فيها ، فيحول دون نشوب الحرب(2) . فوافق عتبة وطلب من قريش أن لا تقاتل ، وقال : إن يك محمّد كاذبا يكفيكموه ذؤبان العرب . وإن يك ملكا أكلتم في ملك ابن أخيكم . وإن يك نبيّا كنتم أسعد النّاس به(3) . فاعترضه أبو جهل . ثمّ حرّض عامر بن الحضرميّ أخي المقتول بنخلة ليمنع عتبة بن ربيعة حليفه من الرجوع . وكذلك اتّهم المخالفين بالجُبن ، وألقاهم في التهلكة مثيرا العصبيّة العربيّة فيهم(4) .

ص: 623


1- (1) الطّبقات الكبرى 1 : 16 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 622 ؛ سبل الهدى والرشاد 4 : 51 .
2- (2) المغازي 1 : 16 ؛ سبل الهدى والرشاد 4 : 51 ، 52 . يستشفّ من هذا الخبر وأخبار أخرى غيره أنّ وقعة بدر بدأت بإصرار المشركين ، وسببها الثأر لحادثة النخلة التي قتل فيها رجل من قريش .
3- (3) المصنّف ، عبد الرزّاق 5 : 350 .
4- (4) المغازي 1 : 63 ، 64؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 622 ، 623 ؛ سبل الهدى والرّشاد 4 : 52 ، 53.

وكان عامر بن الحضرميّ أوّل من حمل على المسلمين ، فتكون قريش هي الّتي بدأت الحرب . واشتبك عامر مع أحد المسلمين - ويُدعى مهجعا - فقتله . من هنا لا شكّ أنّ قريشا هي الّتي أصرّت على هذه الحرب ، وهي الّتي بدأتها . وكان مسعارها أبا جهل أيضا . وأشرنا سابقا إلى أنّ قريشا لم ترغب كثيرا في الحرب ، ومبدئيّا لم تكن من أهلها في السّنين الأخيرة من حياتها لانشغالها بالتّجارة ولدورها المعنويّ المتفوّق .

ومهما كان فقد تقدّم العدوّ ، ودخل عتبة بن ربيعة ساحة الحرب طالبا مبارزا ، وكان قد تعرّض لطعون قريش الحادّة ، وعلى رأسها أبو جهل . وكان على المسلمين ألاّ يسلّوا سيوفهم ما لم يحاصرهم العدوّ ، وإنّما يتأهّبون للرّمي بقسيّهم(1) . ودنا الأسود بن عبد الأسد المخزوميّ من الحوض وقال : أعاهد اللّه لأشربنّ من حوضهم ، أو لأهدمنّه ، أو لأموتنّ دونه ... فاستقبله حمزة بن عبد المطّلب ، فضربه فأطنّ قدمه ، فزحف الأسود حتّى وقع في الحوض ، فهدمه برجله الصّحيحة ، وشرب منه ، وأتبعه حمزة فضربه في الحوض فقتله(2) .

وفي ضوء التّقاليد العربيّة كانت الحرب تبدأ بطلب أحد المقاتلين البراز . فبرز ثلاثة من قريش وهم شيبة ، وعتبة ، وابنه الوليد إلى ثلاثة من بني هاشم . بل سبق هؤلاء ثلاثةٌ من الأنصار . ونقل ابن سعد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لم يرغب في أن يكون الأنصار طرفا في أوّل مواجهة مع المشركين . لذا انتدب لأولئك حمزة ، وعليّا عليه السلام ، وعبيدة بن الحارث . فقتل حمزة ، وعليّ عتبة ، وابنه الوليد . أمّا شيبة فقد ضرب رجل

ص: 624


1- (1) المغازي 1 : 67 ، 68 .
2- (2) نفسه 1 : 68 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 624 .

عبيدة وقطعها(1) . فأسرع علي ، وحمزة لنجدته ، وقتلا شيبة(2) .

وكَبُر ذلك على قريش . أمّا أبو جهل فقد قال : لا يهولنا مقتل عتبة وشيبة والوليد ، فإنّهم عجلوا . وأطلق شعاره : «إنّ لنا العزّى ولا عزّى لكم» . وقال المسلمون : «اللّه مولانا ولا مولى لكم»(3) . وكان يوصي بأسر الكثيرين منهم ليعرّفهم بالّذي صنعوا لمفارقتهم دينهم ورغبتهم عمّا كان يعبد آباؤهم(4) . وسنرى أنّ المسلمين كانوا مكلّفين ألاّ يأسروا أحدا أثناء القتال ، ولم يفعلوا فعاتبهم القرآن الكريم . وبدأت الحرب العامّة واشتبك الجيشان من جانبين . وكان أشخاص معيّنون من المسلمين يهمّون بقتل مشركين معروفين لأنّهم كانوا من وجوه قريش البارزة ، ولهم دور في تعذيب المسلمين . وكان بين المسلمين من يتمتّع بقدرة عالية . منهم حمزة بن عبد المطّلب وعليّ بن أبي طالب عليهماالسلام من المهاجرين(5) ، وأبو دجانة من الأنصار . ونقل البلاذريّ أنّ تسعة عشر من صرعى قريش قتلهم عليّ عليه السلام (6) . وحدّثنا القرآن الكريم

ص: 625


1- (1) عدّ عبيدة نفسه حين استشهاده مصداقا جديرا لشعرٍ خاطب به أبو طالب عليه السلام المشركين ؛ وذكره الواقديّ (المغازي 1 : 70) كذبتم وبيتِ اللّه نخلي محمّدا * ولمّا نطاعنْ دونه ونناضل ونُسلمه حتّى نصرَّع حوله * ونذهل عن أبنائنا والحلائل واستشهد عبيدة بالصفراء عند رجوعه . انظر : سبل الهدى والرشاد 4 : 96 . وتقابل ثلاثة من الأنصار وأولئك الثلاثة ؛ ونقل ابن سعد أنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم لم يرغب في أن يكون الأنصار طرفا في أوّل مواجهة للمسلمين مع المشركين . الطّبقات الكبرى 1 : 17 ؛ سبل الهدى والرّشاد 4 : 57 .
2- (2) نُقل عن الإمام عليّ عليه السلام أنّ قوله تعالى : « هذانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِى رَبِّهِمْ » (الحجّ : 19) نزل في نزاعهم مع الثلاثة من المشركين . انظر : سبل الهدى والرشاد 4 : 58 .
3- (3) سبل الهدى والرّشاد 4 : 59 .
4- (4) المغازي 1 : 71 .
5- (5) كان حمزة مُعلِما يوم بدر بريشة نعامة ، وعليّ عليه السلام مُعلِما بصوفة بيضاء على خوذته ، والزّبير مُعلِما بعصابة صفراء . وهم دون غيرهم كانوا مُعلمين يوم بدر .
6- (6) أنساب الأشراف 1 : 297 - 301 . نلحظ في فهرس الذين أَسَروا المشركين ، اسمَ الإمام عليّ عليه السلام قد جاء مرّةً واحدةً . وهو يدلّ على أنّه كان مطيعا لأوامر النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في إفناء المشركين . وما قيل عمّن حضر ببدر أنّ فيهم «أهل الشجاعة» ، وفيهم «أهل الضعف» قد انعكس في أخبارها . انظر : المغازي 1 : 99 .

عن اشتراك الملائكة مع المسلمين في القتال ، كما نقلت ذلك أخبار لا تُحصى . وبعد ذلك أيّد كثير من المسلمين أنّهم شهدوا قتال الملائكة ضدّ المشركين . وأورد الواقديّ خطبة للإمام عليّ عليه السلام بالكوفة بسط فيها حضور الملائكة ببدر(1) .

واشترك رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم نفسه في القتال بنحو فاعل . ونُقل عن الإمام عليّ عليه السلام قوله : «كنّا إذا اشتدّ القتال يوم بدر لذنا برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . وكان من أشدّ الناس بأسا يومئذٍ ، وما كان أحدٌ أقربَ إلى المشركين منه»(2) .

وطلب النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم من المسلمين قبل الحرب ألاّ يقتلوا من كان ساعده في مكّة بنحو من الأنحاء أو جيء به إلى بدر مكرَها ، وكان بنو هاشم منهم(3) . وفيهم أبو البختريّ الّذي كان يحول دون إيذاء النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وقتا ما(4) ؛ مع هذا لم يعرفه قاتله وقتله . كما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قد نهى عن قتل الحارث بن عمر بن نوفل ، إذ أُتي به مرغَما . وقد قُتل أيضا(5) .

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ينتظر خبر قتل أبي جهل . وحين بلغه خبره قال : لهو أحبّ إلىَّ من حُمر النّعم . وكان قتل أبي جهل الّذي سمّاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم «فرعون الأمّة» و«رأس أئمّة الكفر» مهمّا أيّ أهمّيّة حتّى قال صلى الله عليه و آله وسلم : اللّهمّ قد أنجزتَ ما وعدتَني(6) . وكان قتله في تلك الحرب يعني أنّ كلّ شيء قد انتهى(7) . ودعا النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ربّه أن

ص: 626


1- (1) المغازي 1 : 57 .
2- (2) الطّبقات الكبرى 1 : 23 ؛ سبل الهدى والرشاد 4 : 71 ؛ مسند احمد ، الحديث 1042 (طبع دار المعارف) .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 629 ؛ سبل الهدى والرّشاد 4 : 76 .
4- (4) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 629 .
5- (5) المغازي 1 : 81 .
6- (6) نفسه 1 : 91 .
7- (7) الطّبقات الكبرى 4 : 43 .

يكفيه نوفل بن خويلد . ولمّا أسره أحد الأنصار سار إليه عليّ عليه السلام وقتله ، فحمد صلى الله عليه و آله وسلم ربّه على إجابة دعائه(1) .

ولمّا قُتل صناديد قريش ، وهلك سبعون منها وأُسر مثلهم ، انهزم الجيش وتفرّق . والحقيقة أنّ الحرب وضعت أوزارها حين زالت الشّمس بنصر المسلمين وهزيمة العدوّ(2) . وتفرّقوا في الفلوات ، وأُسر عدد منهم إثر ملاحقة المسلمين إيّاهم ، وكانوا يعدّون اللحظات لحلول الليل ليتخلّصوا من أيدي المسلمين . وبعد الفراغ اجتمع الأسرى الّذين أُسر كلّ واحد منهم بيد أحد المسلمين ، مع الغنائم الباقية الّتي كان معظمها تجهيزات عسكريّة . وهكذا كان يوم بدر من أخلد أيّام صدر الإسلام وانتهى بنصر باهر حاسم عجيب للمسلمين . واستشهد من المسلمين أربعة عشر(3) . وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم :

«ما رؤي الشّيطان يوما هو فيه أصغر ، ولا أحقر ، ولا أغيظ منه في يوم عرفة - وما ذاك إلاّ لما رأى من تنزّل الرحمة ، وتجاوز اللّه عن الذنوب العظام - إلاّ ما رأى يوم بدر»(4) .

وقال صلى الله عليه و آله وسلم في موضع آخر : «وكانت أوّل غزوةٍ أعزّ اللّه فيها الإسلام ، وأذلّ فيها أهل الشّرك»(5) .

وكانت غنائمها أكثر من مئة وخمسين بعيرا ، وعشر أفراس ، وشيء من الجلود

ص: 627


1- (1) المغازي 1 : 92 .
2- (2) نفسه 1 : 112 . ونقل ابن سعد في طبقاته 2 : 23 أنّ ذلك اليوم كان حارّا ؛ على الرغم من المطر الّذي كان ليلاً . وهو أمر طبيعيّ بالنسبة إلى جوّ الحجاز .
3- (3) الطّبقات الكبرى 1 : 17 ، 18 ؛ ستّة من المهاجرين وثمانية من الأنصار . واشترك فيها أكثر من ستّين مهاجرا ، ومئتين وأربعين أنصاريّا . انظر : الطّبقات الكبرى 1 : 19 ، 20 . وقيل : اشتركت فيها قريش أو حلفاؤها أو مواليها فحسب ، كما اشترك فيها الأنصار أو حلفاؤهم أو مواليهم ، ولم يكن فيها غيرهم . انظر : أنساب الأشراف 1 : 290 .
4- (4) المغازي 1 : 78 .
5- (5) نفسه 1 : 21 .

والأقمشة وآلات الحرب . وكانوا لا يأخذون إلاّ ما وقع في أيديهم من المقتولين . كما كان لهم نصيب في التقسيم العامّ للغنائم . ويستفاد من الآيات القرآنيّة والأخبار التّاريخيّة أنّ خلافات ظهرت عند تقسيم الغنائم . وكان أمرا طبيعيّا ؛ إذ لم يكن هناك قانون معيّن لهذا العمل حتّى تلك الفترة . ويضاف إلى ذلك أنّ الحوافز المادّيّة الّتي كان عليها مثل هؤلاء المؤمنين يمكن أن تؤدّي إلى الخلاف أيضا بشكل محدود . وكان واضحا أنّ الخلاف المذكور قد عولج بسرعة لوجود الرّسول صلى الله عليه و آله وسلم ونزول الآيات القرآنيّة بهذا الشّأن . ودفع صلى الله عليه و آله وسلم سهما من الغنائم لمن استخلفه على المدينة وقبا . وأخذ سعد بن عبادة سهمه إذ كان له دور في حثّ الأنصار على المشاركة في هذه الواقعة الّتي لم يشهدها لأنّ حيّة لدغته قبل مجيئه بقليل . وأخذ عدد آخر من المسلمين سهمه أيضا لملاحقتهم القافلة أو لقيامهم بأعمال أخرى ولم يشهدوا الوقعة لأسباب معيّنة(1) . وقيل إنّ الرّسول صلى الله عليه و آله وسلم جعل سهما لجعفر بن أبي طالب الّذي كان بالحبشة يومئذٍ .

وأُطلق اصطلاح الأنفال لأوّل مرّة على غنائم هذه الحرب . وهي في الحقيقة أوّل الأشياء الّتي اتّخذت اسم الأنفال كأموال عامّة . وتخالَفَ أشخاص حول الأثاث الباقي وكانوا يأتون رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم باستمرار ليحلّ لهم مشكلتهم . والآية الأُولى من سورة الأنفال تعبّر عن هذا السؤال . وفوّض اللّه تعالى اختيار ذلك كلّه إلى رسوله ليقسمه . من هنا كلّ من كان قد أخذ شيئا كُلِّف بإرجاعه إلى مكانه .

والموضوع الآخر هو موضوع الأسرى فقد ظهر خلاف بين المسلمين حول كيفيّة التّعامل معهم . وقتل الرّسول صلى الله عليه و آله وسلم اثنين منهم . وهما عُقبة بن أبي مُعَيط ، والنّضر بن الحارث . وكانا من أنشط المشركين عملاً ضدّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم والمسلمين على امتداد عصر

ص: 628


1- (1) المغازي 1 : 101 .

البعثة . وقُتلا(1) بأمر مباشر من النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم نفسه وبسيف عليّ بن أبي طالب عليه السلام . وحين شعر النّضر بدنوّ أجله من نظرة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم إليه توسّل بمُصعب بن عمير واستشفعه قائلاً : لو أسرتك قريش ما قُتلتَ أبدا وأنا حيّ .

قال مصعب : ... قطع الإسلام العهود(2) . وبشأن سائر الأسرى كان بعض الصّحابة يرى أن يُقتَلوا كلّهم(3) . بيد أنّ بعضهم الآخر من المهاجرين والأنصار كان يصرّ على أخذ الفداء منهم ودليلهم هو قرابتهم من النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم .

وعُدّت آية من سورة الأنفال نازلةً بشأن هذا الخلاف ، وقيل إنّ اللّه تعالى أيّد حكم قتل الأسرى . ورضي الفداء أيضا . قال سبحانه : « مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّه ُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّه ُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ »(4) .

ص: 629


1- (1) مصنّف ، عبدالرزّاق 1 : 352 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 644 ؛ سبل الهدى والرشاد 4 : 97 (ويرى ابن إسحاق أنّ عاصم بن ثابت قتل عقبة ، في حين يذهب ابن هشام إلى أنّ عليّا عليه السلام قتله) . وجاء في مصادر أُخرى أنّ معاوية كان يقول للوليد بن عقبة من أجل تحريضه على الخروج معه إلى صفّين : عليّ هو الذي قتل أباك ببدر . انظر : الفتوح 3 : 191 ؛ وقعة صفّين : 417 .
2- (2) المغازي 1 : 106 ، 107 .
3- (3) جاء في الأخبار التّاريخيّة أنّ سعد بن معاذ وعمر بن الخطّاب كانا يصرّان على قتل الأسرى أكثر من غيرهما . وحريّ بالعلم أنّه بغضّ النّظر عن الآيات القرآنيّة كانت الأخلاق السياسيّة لعمر تقتضي مثل هذا التشدّد أساسا . وكان المهمّ هنا هو التكليف الّذي عيّنه اللّه تعالى ورسوله صلى الله عليه و آله وسلم للأسرى . بيد أنّ عمر كان من البداية يصرّ على من بيده أسير أن يقتله (المغازي 1 : 105) . وحين أُتي بسهيل بن عمرو أسيرا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قال له عمر : انزع ثنيّتيه يُدلَع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا أبدا ! فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : لا أُمثِّل به (المغازي 1 : 107) . وأسلم سهيل هذا في فتح مكّة وقيل : إنّه حال بخطبته دون ارتداد المكّيّين بعد وفاة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم . أنساب الأشراف 1 : 304 . وانظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 649 . والطّريف أنّ عمر طلب من النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أن يأمر عليّا عليه السلام بقتل عقيل ، وحمزة بقتل العبّاس . سبل الهدى والرشاد 4 : 92 . هذا في وقت لم يشترك أحد من آل عمر من بني عديّ في حرب بدر . وهو نفسه لم يأسر أحدا فيها !
4- (4) الأنفال : 67 .

وقيل إنّ الباعث على ترجيح قتل الأسرى هو أنّ معظمهم كانوا من شخصيّات قريش ، فالقضاء عليهم كان يذلّ قريشا أكثر . ويضاف إلى ذلك أنّه معلم على ترفّع المسلمين عن الأطماع الدنيويّة ، وأنّهم كانوا مستعدّين لبلوغ أهدافهم أن يتنازلوا عن حفنة مالٍ يُطلق به عدوّ دينهم . وكان محرزا أيضا أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كان راضياً بحرب قبيلته وليس هذا فحسب ، بل بقتل أسراها أيضاً ، بل ليس لأحد أن يخال أنّه كان يرغب في بقائهم ، مع شركهم بسبب وشيجة القُربى . وفي الآن ذاته كان الأنصار واثقين أنّه صلى الله عليه و آله وسلم لم يفكّر إلاّ بالإسلام والعقيدة ، لا بقومه وطائفته(1) .

ومع جميع الّذي تقدّم نلحظ أنّ نقطة ثابتة عند فقهاء الشّيعة وهي أنّ الأسر أسران : أحدهما الأسر عند نشوب الحرب ، والآخر بعد انتهائها . أمّا في الأوّل فإنّ الرسول صلى الله عليه و آله وسلم أو الحاكم مخيّر في قتله . وأمّا في الثّاني فالتخيير بين الإطلاق ، والفداء ، والاسترقاق(2) . علما أنّ الحاكم في هذه الحالة إذا شخّص خطر أحدٍ فله أن يقتله . والمهمّ بالنّظر إلى آية الأنفال هو معنى قوله : « حَتَّى يُثْخِنَ(3) فِى الأَرْضِ » . فليس للرّسول صلى الله عليه و آله وسلم أن يأسر أحدا حتّى يثبت في الأرض ويتمكّن فيها . وإذا وضعنا هذه الآية إلى جانب آية أُخرى في سورة محمّد صلى الله عليه و آله وسلم فإنّ معناها يستبين لنا ، قال تعالى : « فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا »(4) . ونلحظ هنا قيد « حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا » . ويتبيّن من المقايسة بين الآيتين بالنّظر إلى كلمة (أثخنتموهم) الواردة في الآية الثّانية ، وكذلك ممّا أُثر عن الإمام الباقر عليه السلام قوله : «إذا كانت الحرب قائمة لم تضع

ص: 630


1- (1) الصحيح من سيرة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم 3 : 248 ، 249 .
2- (2) انظر : الخلاف 2 : 332 ؛ النّهاية : 296 ؛ دراسات في ولاية الفقيه 3 : 259 - 263 .
3- (3) الثخين هو الغليظ الّذي لا يسيل . وهو كناية عن الثّبات .
4- (4) محمّد : 4 .

أوزارها ولم يثخن أهلها» أنّ المقصود عدم استصواب الأسر حين الحرب بقصد أخذ الفدية ، لا الخلاف على حكمها التّالي ، إذ يجوز الفداء . وخاطب اللّه رسوله ألاّ يأخذ أسيرا أثناء الحرب .

وكان المسلمون ببدر يقلّون من قتل المشركين ، ويأسرونهم أملاً بأخذ الفدية منهم بعد انتهاء الحرب . وهذا العمل بالغ خطره في الحرب . ومن الطّبيعيّ أنّ حكم هذا الأسير من منظار الفقه يختلف عن حكم الأسير الّذي يؤسر بعد الحرب ، حتّى بعد انتهاء الحرب ؛ إذ للحاكم أن يقتله . وهذا مبدئيّا أصل عقليّ فلا ينبغي التفكير بأسر أحد أثناء الحرب بل بتقويض قوّة العدوّ وتبديدها . من هنا ، وبالنظر إلى ما مرّ توضيحه يتبيّن عكس ما قاله البعض أنّ في سورة الأنفال حكما بقتل الأسرى كلّهم ، ثمّ نُسخ في سورة محمّد(1) . بل عُرض حكم واحد في الحالتين كلتيهما وهو ألاّ يؤسر أحد ريثما يثبت وضع القوّات الإسلاميّة . وكان بعض الأشخاص يهمّ بالأسر . على سبيل المثال أسر ابنُ عوفٍ أميّةَ بن خلف ونجله لكن وصل بلال فقتل أميّة(2) .

وكان بين الأسرى عقيل بن أبي طالب ، والعبّاس عمّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم . وأُخذ من العبّاس ثمانمائة أو ألف وستّمائة مثقال ذهب . وقيل بعد ذلك برواية أحد أحفاده(3) أنّه كان أسلم قبل بدر خفيةً ، ولعلّ ذلك كان لتطييب قلوب بني العبّاس . بيد أنّ تعامل النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم معه في بدر وغيرها يدلّ على أنّه لم يسلم إلاّ في فتح مكّة وإن كان يمالئ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ويتعاطف معه(4) .

ص: 631


1- (1) سبل الهدى والرشاد 4 : 93 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 632 ؛ سبل الهدى والرشاد 4 : 73 .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 646 . وسند إسلام عبّاس كما يأتي : قال ابن إسحاق : حدّثني حسين بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن عبّاس ، عن عكرمة مولى ابن عبّاس !
4- (4) انظر : الصحيح من سيرة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم 1 : 253 .

وأمر صلى الله عليه و آله وسلم بعد انتهاء الحرب أن تُطمّ عيون بدر وتُلقى فيها قتلى المشركين . وكان جسد أميّة بن خلف ثقيلاً فانتفخ في ذلك الجوّ الحارّ ، ولمّا أرادوا جرّه على الأرض تفسّخ لحمه فتركوه . ثمّ وقف صلى الله عليه و آله وسلم على حافّة البئر فقال : «يا عتبة بن ربيعة ، يا شيبة ... ، يا أبا جهل ! هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّا ؟ فإنّي قد وجدتُ ما وعدني ربّي حقّا . بئس القوم كنتم لنبيّكم ! كذّبتموني وصدّقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ...»(1) . ونظر أبو حذيفة بن عتبة إلى وجه أبيه في تلك اللحظة وكان يُجرّ ليُلقى في القليب ، فساءه ذلك . فقال له النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم : يا أبا حذيفة كأنّك ساءك ما أصاب أباك . قال : لا واللّه يا رسول اللّه ، ولكنّي رأيت لأبي عقلاً وشرفا ، كنت أرجو أن يهديه اللّه إلى الإسلام ، فلمّا أخطأه ذلك ورأيتُ ما أصابه غاظني(2) .

والحقيقة هي أنّ حرب بدر كان يُنظَر إليها كحرب داخليّة عائليّة بالنسبة إلى المهاجرين . وهو شيء لم تعهده العرب بهذا المستوى من قبل . فقد تقابل أبناء الأعمام بعضُهم أمام بعض ، وكذلك الأولاد أمام آبائهم(3) . وعبّر النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم مرّةً أُخرى عن

ص: 632


1- (1) المغازي 1 : 112 ؛ سبل الهدى والرّشاد 4 : 84 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 638 ، 639 . وأنشد حسّان شعرا في بدر القتال ، وقال في إلقاء أجساد المشركين في القليب : يناديهم رسولُ اللّه لمّا * قذفناهم كباكب في القليبِ ألم تجدوا كلامي كان حقّا * وأمر اللّه يأخذ بالقلوبِ فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا * صدقتَ وكنتَ ذا رأيٍ مصيبِ وفي تلك اللحظة سُئل صلى الله عليه و آله وسلم : هل يعون ما تقول ؟ فقال : قد علموا أنّ ما قلته حقّ ؛ سبل الهدى والرّشاد 4 : 85 . وبشأن ما قاله صلى الله عليه و آله وسلم على نحو الدقّة حين سأله أصحابه عن كلامه مع القتلى خلاف كثير في النقل . انظر : سبل الهدى والرّشاد 4 : 127 - 129 .
2- (2) سبل الهدى والرّشاد 4 : 87 ؛ المغازي 1 : 111 ، 112 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 640 ، 641 .
3- (3) نصح عتبة قريشا قبل بدر أن تدع الحرب مع محمّد صلى الله عليه و آله وسلم ؛ لأنّها إذا تمكّنت منه فسوف يظهر الخلاف فيما بينها بسبب قتل بني الأعمام . انظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 623 .

رضاه لقتل أبي جهل ، وشكر اللّه على ذلك . وكان صلى الله عليه و آله وسلم يرى أنّ المقتولين هم الملأ من قريش(1) ، وهم الّذين ذكر اللّه شيطنتهم مرارا . وفي الأحد التاسع عشر من رمضان بلغ المدينةَ خبرٌ لا يصدّق ، وهو هزيمة قريش ، وقتل أبي جهل ، وأُميّة بن خلف ، وعتبة بن ربيعة ، وأسر سهيل بن عمرو . ولم يصدّق أحد هذا الخبر في الوهلة الأولى حتّى إنّهم عدّوا زيد بن حارثة الّذي أتى به فارّا منهزما من الحرب(2) . وكان المنافقون واليهود يحاولون أكثر من غيرهم ألاّ يصدّقوا هذه الهزيمة ، وأن يلقوا الرعب في قلوب سائر الناس(3) .

وتوجّه الناس لاستقبال الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ، وقال سلمة بن سلامة : لا تهنئة بقتل عجائز صُلع . فقال صلى الله عليه و آله وسلم : «أولئك الملأ ، لو رأيتهم لهبتهم ، ولو أمروك لأطعتهم» . فاغتنم سلمة الفرصة وسأله قائلاً : «إنّك يا رسول اللّه لم تزل عنّي معرضا منذ كنّا بالرّوحاء في بدأتنا» . فقال صلى الله عليه و آله وسلم : «أما قلتَ للأعرابيّ - الّذي جاءني وسألني : إذا كنتَ نبيّا فقل لي : ماذا تلد ناقتي ؟ - وقعتَ على ناقتك فهي حبلى منك ؟ ففحشت ، وقلتَ ما لا علم لك به» ! فاعتذر إليه صلى الله عليه و آله وسلم وقبل منه معذرته(4) . وتدلّ هذه الحكاية على نوع السلوك الّذي كان يسلكه صلى الله عليه و آله وسلم في تأديب أصحابه . ودخل المدينة يوم الأربعاء الثّاني والعشرين من رمضان ، واستقبله الفتيان وهم ينشدون : طلع البدر علينا(5) . وقدم بالأسرى . فقال أبو العاص بن الرّبيع ، وكان فيهم : «كنتُ مع رهط من

ص: 633


1- (1) المغازي 1 : 116 .
2- (2) نفسه 1 : 115 .
3- (3) قال أحد المنافقين لأسامة - وكان حدثا يومئذٍ : قُتل محمّد وأصحابه كلّهم . وقال آخر لأبي لبابة : تفرّق أصحابكم ولم يجتمعوا قطّ ، وقُتل محمّد وهذا بعيره أعرفه . انظر : أنساب الأشراف 1 : 294 ؛ سبل الهدى والرّشاد 4 : 89 .
4- (4) انظر : المغازي 1 : 46 ، 116 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 613 ، 643 ، 644 .
5- (5) سبل الهدى والرّشاد 4 : 98 .

الأنصار جزاهم اللّه خيرا ، كنّا إذا تعشّينا أو تغدّينا آثروني بالخبز وأكلوا الّتمر . والخبز معهم قليل والّتمر زادهم» . وقال الوليد بن المغيرة المخزوميّ أيضا : «وكانوا يحملوننا ويمشون»(1) . ومن أبرز الأسرى سهيل بن عمرو الّذي همّ بالفرار مرّةً في منتصف الطّريق بذريعة قضاء الحاجة ، ثمّ وقع بأيدي المسلمين مرّة أخرى . وأُتي به إلى المدينة مربوطةً يداهُ إلى عُنُقه . وهذه ذلّة بالغة لقريش ، حتّى إنّ سودة زوج الرّسول صلى الله عليه و آله وسلم لمّا رأته على تلك الحال فزعت وقالت له : ألا مُتّم كراما ؟ فلامها النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم على كلامها وقال لها : «يا سودة أعلى اللّه وعلى رسوله ؟» فاعتذرت(2) .

وكانت هزيمة قريش مخزية متفشّيّة إلى درجة أنّهم قالوا : نُقل شعر عن فَتَيَينِ متخلّفين عن بدر ذكرا أنّهما سمعاه ولم يريا قائله(3) . وهذا الشّعر هو :

أزار الحنيفيّون(4) بدرا مصيبةً * سينقضّ منها ركنُ كسرى وقيصرا

أرنّت لها صُمّ الجبال وأفزعت * قبائل ما بين الوتير(5) وخيبرا

أجازت جبالَ الأخشَبَين(6) وجُرّدت * حرائرُ يضربن الترائبَ(7) حُسّرا(8)

وتدلّ هذه الأبيات على عمق الأهمّيّة الّتي كانت لوقعة بدر في قلوب المكّيّين والقبائل المجاورة . وكانت أوّل ضربة لأركان كسرى وقيصر حقّا . وفي خبر نقله

ص: 634


1- (1) المغازي 1 : 119 . وبشأن أحكام الأسرى انظر أيضا : مجمع الزّوائد 6 : 86 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 645 .
2- (2) المغازي 1 : 118 ؛ أنساب الأشراف 1 : 303 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 645 .
3- (3) مثل هذه الأخبار الّتي سُمِعَ فيها صوتُ هاتفٍ ولم يُرَ كثير . وألّف ابن أبي الدنيا كتابا عنوانه «الهواتف» جمع فيه تلك الأخبار .
4- (4) وهم الحنفاء أي : الموحّدون . وجاء في توضيح الواقديّ أيضا أنّهم هم المقصودون .
5- (5) الوتير موضع في ديار خزاعة .
6- (6) جبلا مكّة وهما أبو قبيس ، والأحمر .
7- (7) الترائب : عظام الصدر .
8- (8) المغازي 1 : 88 ؛ وانظر : سبل الهدى والرّشاد 4 : 100 .

الواقديّ أنّ النّجاشيّ لمّا بلغه ظفرُ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم دعا جعفر بن أبي طالب وسائر المهاجرين معه وأنبأهم الخبر ، وعدّ ذلك نعمةً من اللّه سبحانه(1) .

وبُهِتَ له المشركون والمنافقون في المدينة أيضا . يقول الواقديّ : «ولم يبق بالمدينة يهوديّ ولا منافق إلاّ خضد عنقه (ثناه) لوقعة بدر . وقالت اليهود : واللّه لا تُرفع له راية بعد اليوم إلاّ ظهرت . وقال كعب بن الأشرف (وهو من سُراتهم) : بطن الأرض اليوم خيرٌ من ظهرها . هؤلاء أشراف الناس وساداتهم ، وملوك العرب ، وأهل الحرم والأمن ، قد أُصيبوا»(2) . وقال في شعر يرثي به قتلى بدر :

قُتلت سَراة الناس حول حياضه (بدر) ...

صدقوا فليت الأرض ساعة قُتِّلوا * ظلّت تسيخ بأهلها وتصدّع

وكانت قريش حتّى تلك اللحظة إذ مضى شهر على الوقيعة لم ترثِ قتلاها بأمر أبي سفيان لتمسك عقدتها وتكظم غيظها . ثمّ بدأ النياح بمكّة بعد مرثية كعب(3) .

وأخذ المسلمون أربعة آلاف درهم إلى ألف درهم مقابل إطلاق الأسرى سوى ما غنموه ببدر . وأُطلق من ليس له مال أيضا بمَنِّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم (4) . وأرسلت زينب بنت النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم قلادة ، كانت أمّها خديجة أعطتها إيّاها ، إلى المدينة فديةً لإطلاق زوجها أبي العاص بن الرّبيع . وأطلقه المسلمون كرامةً للنّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وأُرجعت القلادة . ونقل الشّعبيّ أنّ من كان قادرا على الكتابة علّمها الأنصار مقابل إطلاقه . وجاء في خبر آخر أنّ كلّ واحد يعلّم عشرةً الكتابة . وكان زيد بن ثابت ممّن تعلّمها في تلك الوقعة . وورد في خبر أنّ أهل مكّة كانوا قادرين على الكتابة أمّا أهل المدينة فلم

ص: 635


1- (1) المغازي 1 : 120 ، 121 .
2- (2) نفسه : 121 .
3- (3) نفسه : 123 ، 124 .
4- (4) ذكر ابن إسحاق أسماء الذين أُطلقوا منّا من الرّسول صلى الله عليه و آله وسلم . انظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 659 ، 660 .

يكونوا كذلك . من هنا ، كلّ أسير يعلّم عشرةً من أطفال المسلمين الكتابة يُطلق بعد إحراز مهارتهم الكافية فيها(1) . وأُسر أبو عزيز أخو مصعب بن عمير ببدر . والتقى بأخيه في الطريق واستعانه ، فقال له مصعب إنّ أخاه هو المسلم الّذي أسره . ثمّ التفت إلى ذلك الأنصاريّ المسلم وقال له : شدّ وثاقه فإنّ أهله أصحاب ثروة(2) . وذكر حسّان في شعر له أنّ كثيرا من الأسرى أُطلق بلا مالٍ «كم من أسير فككناه بلا ثمن»(3) .

معركة بدر في القرآن الكريم

تطرّق القرآن الكريم إلى عدد من الأحداث المهمّة ، واهتمّ بنقل الوقائع وتحليلها بنحو خاصّ . وكانت واقعة بدر في عدادها ، ولعلّها أبرزها . فقد نزل القسم الأكبر من آيات سورة الأنفال بشأنها وتحليلها ، وكذلك الجوانب الفقهيّة والتّربويّة فيها . ونستعرض فيما يأتي الآيات النازلة بشأن بدر :

جاء في أوّلها قوله تعالى : « يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ » . وذهب عدد من المفسّرين إلى أنّ الأنفال في هذه الآية هي غنائم الحرب . ونُقل عن عبادة بن الصّامت قوله : اختلفنا في النّفل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه اللّه من أيدينا فجعلها إلى رسوله صلى الله عليه و آله وسلم (4) . ثمّ لسوء صنيعهم أوصاهم اللّه تعالى بالتّقوى وإصلاح ذات بينهم . فقال سبحانه : « كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ *

ص: 636


1- (1) الطّبقات الكبرى 2 : 20 (الأخبار الثلاثة في المصدر المذكور) وانظر : 26 .
2- (2) أنساب الأشراف 1 : 302 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 646 ؛ مجمع الزّوائد 6 : 86 .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 132 .
4- (4) مجمع البيان 4 : 518 ؛ وانظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 642 .

يُجَادِلُونَكَ فِى الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ » . يقول الواقديّ : كَرِهَ خروجَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أقوام من أصحابه إلى بدر ، قالوا : نحن قليل وما الخروج برأي(1) . ومن أسباب هذا الجدال أنّهم قالوا : كيف خرجنا من المدينة ونحن لم نعلم أللقافلة جئنا أم للقتال ! وذكر اللّه سبحانه في الآية التالية وعده لرسوله بالنّصر على إحدى الطّائفتين - القافلة أو الجيش : « وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّه ُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ » . ثمّ أورد تعالى إرادته بقطع يد المشركين ، مكرّرا لها في غير موطن من السّورة ومذكّرا المسلمين بأنّ بدرا كانت عذابا إلهيّا وُعِدَ به المشركون : « وَيُرِيدُ اللّه ُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ(2) وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ » . ثمّ ذكر في الآية التّاسعة استغاثة المسلمين وعلى رأسهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وكذلك استجابة دعائهم . قال جلّ من قائل : « إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّى مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللّه ُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّه ِ إِنَّ اللّه َ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » . ثمّ عرض جلّ شأنه في الآية الثّانية عشرة كيفيّة إغاثة الملائكة للمؤمنين فقال عزّ اسمه : « إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ » .

وتتحدّث الآية الحادية عشرة عن الوضع الرّوحي الجيّد للمسلمين ليلة السّابع عشر من شهر رمضان ، أي : يوم بدر . قال تعالى : « إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ

ص: 637


1- (1) المغازي 1 : 131 ؛ وانظر : مجمع البيان 4 : 520 ، 521 .
2- (2) لعلّ مفهوم الكلمات هنا عدات اللّه سبحانه بالنّصر لأنبيائه في قوله : « وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادُنَا الْمُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ » ؛ مجمع البيان 4 : 521 . ولعلّها أيضاً فعل اللّه ونتيجة عمله وإرادته سبحانه ، ومعجزة عرفت بوصفها كلمات اللّه .

وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ » . ونلحظ في الآية أنّ نزول المطر إمداد غيبيّ ، ومن أهدافه « لِيُطَهِّرَكُم بِهِ » . وهكذا نجد أنّ ظاهر الآية ينافي ما جاء في أخبار السّيرة من سيطرة المسلمين على عيون بدر . فقد ذكر بعض الأخبار التّاريخيّة أنّ المشركين سبقوا المسلمين إلى الماء ، فأصاب المسلمين الظمأ ووسوس إليهم الشّيطان فقال : إنّ عدوّكم قد سبقكم إلى الماء وأنتم ترون أنفسكم أولياء اللّه . فنزل مطر كاف وتطهّروا وتلبّدت به أرضهم ورسخت فيها أقدامهم وهي رمل(1) .

ولم يرد في الآية المذكورة أنّ المطر كان في ليلة الواقعة . ومن المحتمل أنّه كان في الليلة أو في النهار الّذي سبقها . وتدلّ أخبار تاريخيّة كثيرة على أنّ المسلمين سيطروا على عيون بدر بعد وصولهم إليها . وكذلك يمكن أن يقال إنّه لم يكن ثمّة ماء كاف للغسل والتّطهير ، فسُقوا ماء المطر الغزير . ونُقل عن الإمام الباقر عليه السلام أيضا أنّ قوله تعالى « وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ » إشارة إلى نزول المطر وتلبّد الرّمل تحت أقدامهم(2) . وأشار سبحانه في الآية الثّامنة عشرة مرّة أخرى إلى كيده في شنّ الحرب ببدر فقال : « فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللّه َ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللّه َ رَمَى » .

إنّ حرب بدر في الحقيقة نقلت المسلمين من موقع الضّعف إذ تُحتمل إبادتهم تماما إلى موقع القوّة والثّبات . لذا قال تعالى في الآية السّادسة والعشرين : « وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِى الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » .

ومرّ بنا أنّ الحرب المذكورة كانت وعدا بالعذاب وعده اللّه المشركين من قبل ، كما قال رسوله الكريم صلى الله عليه و آله وسلم على عين بدر حين خاطب المشركين . من هنا قال سبحانه

ص: 638


1- (1) سبل الهدى والرّشاد 4 : 48 ؛ مجمع البيان 4 : 526 ؛ الميزان 9 : 18 ، 19 .
2- (2) مجمع البيان 4 : 525 .

بعد الواقعة : « وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّه ُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ » .

وكان أشخاص كثر ينحرون إبلهم لجند قريش ويتولّون مصاريفهم وطعامهم. قال تعالى في الآية السّادسة والثلاثين : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللّه ِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ » . وفي الآية الأُولى من السّورة جُعلت الأنفال للّه وللرّسول ، وفي الآية الحادية والأربعين يستبين وضع الغنائم وكيفيّة تقسيمها . قال سبحانه : « وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَىْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ » .

تبيّن هذه الآية حكم الخمس للمؤمنين ، ويعقبها قوله جلّ وعلا مخاطبا إيّاهم : « إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّه ِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ » . وفي إطلاق «يوم الفرقان» على يوم بدر احتمالان : الأوّل : أشرنا إليه في موضع آخر وقلنا إنّ اللّه سبحانه عدّ يوم السّابع عشر من رمضان يوم الفرقان على ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام وما قاله ابن إسحاق ، أي : اليوم الّذي نزل فيه القرآن أوّل مرّة . ويقوم هذا الافتراض على أساس أنّ الفرقان استُعمل بمعنى القرآن . والآخر : إنّ يوم بدر اتّخذ اسم الفرقان لثبوت الحقّ ، وإنجاز الوعد الإلهيّ ، وإبطال الباطل بما مُني به من عذاب اللّه فيه. ومهما كان فالثابت هوأنّ شأن يوم بدر يعود إلى تمييز الحقّ عن الباطل يومئذٍ.

وبعد ذلك نلحظ في الآية الثّانية والأربعين صورةً لموقع المسلمين والمشركين يوم بدر ، قال تعالى : « إِذْ أَنْتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ » . ونُقل عن ابن عبّاس أنّه فسّر الدُّنيا والقُصوى بالنسبة إلى المدينة(1) ، وكان المسلمون

ص: 639


1- (1) مجمع البيان 4 : 546 ؛ وانظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 620 .

والمشركون في جانبي الوادي . ففئة جاءت من المدينة وهي في شفير الوادي الأقرب إلى المدينة ، وفئة قدمت من الجنوب وهي في الشفير الأقصى من المدينة ، وكانت القافلة تمرّ شرقهم قريبا من البحر .

أمّا الهدف الأصليّ من هذا التّعبير فقد جاء في سياق قوله سبحانه : « وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِى الْمِيعَادِ وَلكِن لِيَقْضِىَ اللّه ُ أَمْرا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّه َ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ » . من هنا فالخطّة الأصليّة كانت من اللّه تعالى . وبعد ذلك ذكر جلّ شأنه إمدادا من إمداداته الغيبيّة يوم بدر فقال : « إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّه ُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِى الأَمْرِ وَلكِنَّ اللّه َ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ اللّه ُ أَمْرا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّه ِ تُرْجَعُ الأُمُورُ » . ومن الواضح أنّه هيّأ جميع الظّروف لتحقيق ما كان وعده .

ويوازن تعالى في الآية السّابعة والأربعين والثّامنة والأربعين بين الفريقين في الأهداف الّتي كانوا يتوخّونها من الحرب . « وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّه ِ وَاللّه ُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ » وكان المشركون يخالون أنّهم يغلبون المسلمين بسهولة . « وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّى جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّى بَرِى ءٌ مِنكُمْ » .

وكان المنافقون في المدينة يفسّرون عشق المسلمين لدينهم وحسّ تفانيهم وتضحيتهم في سبيل اللّه تفسيرا غالطا ويقولون : « غَرَّ هؤُلاَءِ دِينُهُمْ » . واسترسلت الآيات فطلبت من المؤمنين أن يصمدوا في الحرب ويثبتوا حتّى لو كان عددهم نصف المشركين فسيغلبون . ولو كانوا عُشرَ المشركين وصمدوا فسينتصرون على الكافرين ، بيد أنّه سبحانه لم يلزم المؤمنين بهذا الرّقم كتكليف ، وعرض مقاومتهم حتّى مستوى

ص: 640

النّصف كتكليف شرعيّ مع حُرمة الفرار من الحرب .

وقيل للنّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في الآية السّابعة والسّتّين ألاّ يكون له أسرى إبّان الحرب إلاّ أن تتوقّف الحرب بغلبة المسلمين . ويثبّت المسلمون موقعهم . وأشرنا إلى هذه الآية قبل ذلك وعُرضت فيها بعض الرّؤى . وجاء في الأسرى الّذين دفعوا مالاً لإطلاقهم قوله تعالى : « يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لِمَن فِى أَيْدِيكُم مِنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّه ُ فِى قُلُوبِكُمْ خَيْرا يُؤْتِكُمْ خَيْرا مِمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِر لَكُمْ وَاللّه ُ غَفُورٌ رَحِيمٌ » وعدّت الآية الثّانية والسّبعون الهجرة شرطا لإيمان المسلمين من أهل المدينة فقالت : « وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِن وَلاَيَتِهِم مِن شَىْ ءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا » .

الأحداث الواقعة بين بدر وأُحُد

1 - الموقف من شعراء الكافرين واليهود

شهدت المدينة وما حولها أحداثا جمّة في الفترة الواقعة بين رمضان السّنة الثانية وشوّال السّنة الثّالثة . ونشير هنا إلى بعضها . فأوّل حدث تناوله كتّاب السِّيَر مقتل امرأةٍ تُدعى عصماء على يد مسلم يعرف بعمير بن عديّ .

نقل الواقديّ أنّ المرأة المذكورة كانت تحرّض الأوس والخزرج على النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في شعرها وتقول لهم : لِمَ أطعتم غريبا لا من بني مراد ولا من بني مذحج(1) ؟ فعزم عمير ابن عديّ الّذي كانت عصماء زوجة رجلٍ من طائفته بني خطمة على قتلها . قال الواقديّ : «ورسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يومئذٍ ببدر» . وهذا الموضوع لا ينسجم وشعر عصماء

ص: 641


1- (1) كانت مراد ومذحج من قبائل اليمن القحطانيّة . وكان الأنصار يمانيّين أيضا في حين كان النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم عدنانيّا . من هنا همّت المرأة المذكورة بأن تدفع اليمانيّين إلى أن يُمسكوا عن دعم عدنانيّ غريب . ومن أفعالها المشينة إلقاؤها خِرق الحيض في مسجد بني خطمة . انظر : سبل الهدى والرّشاد 6 : 26 .

الّذي تخاطب به أهل المدينة وتقول : «ترجّونه بعد قتل الرؤوس»(1) وجاء في خبر ابن إسحاق أنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم سمع شعرها وطلب من النّاس أن يكفوه شرّها(2) . علما أنّ الصّحابة كانوا لا يُقدمون على قتل أحد ما لم يستأذنوه صلى الله عليه و آله وسلم . ويذكر البلاذريّ أيضا أنّ عميرا لمّا عزم على قتلها كان المسلمون ببدر . فصبر حتّى عاد النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم واستأذنه فقتلها(3) .

وأثنى حسّان بن ثابت في شعر له على عمل هذا الشّاب الغيور وقال :

فضرّجها من نجيع الدماء * قُبيل الصباحِ ولم يحرجِ

ودعا له بقوله :

فأوردك اللّه برد الجنان * جذلانَ في نعمة المولجِ(4)

وبعد ذلك أعلن رجال من بني خطمة عن إيمانهم بعد أن ظلّوا على شركهم برهةً خوفا .

ويماثل هذا الحدث ما ذكره ابن إسحاق عن مقتل أبي عَفَك اليهوديّ قبل مقتل عصماء(5) . وكان من بني عمرو بن عوف(6) . وكان يحرّض أهل المدينة على النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في شعره من غير أن يسلم . ويقول : «فسلّبهم أمرهم راكب» . وخاطب قومه قائلاً :

فلو كان بالملك صدّقتم * وبالنّصر تابعتم تُبّعا

ص: 642


1- (1) المغازي 1 : 172 ، 173 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 637 . [ ألا أخذ لي من ابنة مروان ؟ ]
3- (3) أنساب الأشراف 1 : 373 .
4- (4) المغازي 1 : 173 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 637 ؛ انظر : إمتاع الأسماع : 102 .
5- (5) وَصْفُهُ باليهوديّ جاء من ابن سعد والمقريزيّ . انظر : الطّبقات الكبرى 1 : 28 ؛ إمتاع الأسماع : 103 ؛ يقول البلاذريّ : وقيل عفك أيضا . أنساب الأشراف 1 : 373 .
6- (6) وكانت فئة من الخزرج وفئة من الأوس تعرف بهذا الاسم . انظر : معجم قبائل العرب 2 : 834 .

ولم يُشر الواقديّ هنا إلى طلب النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أن يُكفى شرّه في حين جاء ذلك في خبر ابن إسحاق . على أيّ حال قتله سالم بن عمير الّذي كان من هذه الطّائفة أيضا(1)، مع أنّ البلاذريّ يورد خبرا آخر بقتل الإمام عليّ عليه السلام إيّاه(2) . وأنشدت امرأة مسلمة شعرا تمدح فيه قاتله وتعدّه حنيفيّا وتودّ لو أنّها تعرفه أكان من الإنس أم من الجنّ(3) .

وقُتل شاعر آخر في تلك الفترة أيضا . وكان من أعيان اليهود بالمدينة ، وهو كعب بن الأشرف . طائيّ الَمحتد لكنّ أمّه كانت من يهود بني النّضير(4) . يقول ابن شهاب : كانت في المدينة طوائف شتّى . أمّا المسلمون فقد التفّوا حول النّبي صلى الله عليه و آله وسلم . وأمّا اليهود فقد كان فيهم أهل سلاح وحصون ، وبعضهم كان حليفا للأوس والخزرج . وأمّا المشركون فقد ظلّوا على أصنامهم عاكفين . وجهد النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أن يقرّ الأُلفة والمودّة فيما بينهم(5) . وفي مقابل هؤلاء ، كان هناك بعض المشركين واليهود الّذين يؤذون رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم والمسلمين . وأشار القرآن الكريم إلى هذا الأذى . قال تعالى : « لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيرا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ »(6) .

وكان كعب بن الأشرف من البارزين في أذى النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم . وذهب إلى مكّة بعد بدر . وأنشد شعرا في رثاء القتلى من قريش وحرّضها على المسلمين . ومن الطّريف أنّه كان إذا نزل على قومٍ ، هبّ حسّان إلى هجائهم بأمر النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم . ولمّا كانت

ص: 643


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 435 ، 436 ؛ المغازي 1 : 175 ، 176 .
2- (2) أنساب الأشراف 1 : 374 .
3- (3) المغازي 1 : 175 .
4- (4) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 51 .
5- (5) تاريخ المدينة المنوّرة 2 : 459 .
6- (6) آل عمران : 186 . ونزلت هذه السّورة في السّنة الثّالثة من الهجرة لتتناول غزوة أُحد . حول الآية المذكورة انظر : سبل الهدى والرّشاد 6 : 40 .

قصائده الهجائيّة قويّة ، فإنّ من نزل عندهم كعب يطردونه كي لا يتعرّضوا لهجاءٍ أكثر . وتكرّر هذا الأمر مرّات حتّى عاد كعب إلى المدينة بدون أن يجد له مأمنا . وقد حان الوقت ليتخلّص المسلمون من شرّه(1) .

وذكر ابن اسحاق ما أنشده من شعر شبّب فيه بالنساء مضافا إلى ما مارسه من أعمال ضدّ الإسلام(2) . ولم يكن قتله باليسير إذ ما انفكّ يرقب نفسه ، وكان يعيش في بيت كحصنٍ بين يهود بني النّضير(3) . فالمشكلة الأصليّة هي إخراجه وقتله(4) . وعزم محمّد بن مسلمة وأبو نائلة أن يُخرجاه من داره بمكيدة ، فطفق أبو نائلة يستأذن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لخديعته(5) .

وإذ كان أبو نائلة أخا محمّد بن مسلمة ، وكعب بن الأشرف من الرّضاعة ، فقد ذهب إلى كعب وقال له في خلوةٍ بينهما : كان قدوم هذا الرّجل - رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم - علينا من البلاء ، وحاربتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة ، وتقطّعت السُّبُلُ عنّا حتّى جهدت الأنفس وضاع العيال . وأخبره أنّه يريد إذلال النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم . ثمّ قال له إنّه يريد أن يشتري من تمره وليس معه مال ، لكنّه مستعدّ أن يرهن عنده أسلحةً . وهذا في الأصل مكرٌ مَكَرَهُ المسلمون حتّى إذا جاءوا في وقت آخر بأسلحتهم يأمنهم كعب إذ كان يشعربالذُّعر طبيعيّا. فتوجّه المسلمون ليلاً وشايعهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم حتّى البقيع.

ص: 644


1- (1) المغازي 1 : 187 ؛ أنساب الأشراف 1 : 374 . وأشرنا من قبل أنّه كم للشّعر من وَقْعٍ ولا سيّما الهجائيّ منه ، وهو ما كان يتحاماه الكثيرون ، حتّى إنّ المشركين أنفسهم ، لهجاء حسّان بن ثابت إيّاهم ، لم يطيقوا وجود كعب بن الأشرف الّذي كان يرثي قتلاهم . من هنا تظهر حسّاسيّة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم حين يُقْتَلُ مثل هؤلاء الشّعراء الّذين كانوا يحرّضون الكفّار على المسلمين .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 54 .
3- (3) كانت آثار حصنه الّذي يدلّ على إحكامه باديةً قبل سنين قليلة (1397 ه) . انظر : مدينة شناسى [ علم المدنيّات ] 246 - 248 .
4- (4) تاريخ المدينة المنوّرة 3 : 456 .
5- (5) نفسه 2 : 457 .

وطرق أبو نائلة باب كعب فخرج إليه كعب . فحالت زوجته دونه قائلةً له : إنّك رجل محارب ، ولا ينزل مثلك في هذه السّاعة . فلم يلتفت إليها ، وخرج . فتحدّثوا ساعةً ، وبعد موافقته مشوا إلى موضع يُدعى «شرج العجوز» وفي الطريق مسح أبو نائلة شعر كعب بيده ، ومدح عطره الّذي كان متعطّرا به . وفعل ذلك مرّة أُخرى حتّى اطمأنّ إليه . وفي المرّة الثّالثة سلسلت يداه في شعره وأخذ بقرون رأسه ، وطرحه أرضا وقال لأصحابه : اقتلوا عدوّ اللّه ! ثمّ تركوا حيّ بني النضير الّذين كانوا قد أوقدوا النار على سطوح دورهم حين سمعوا صيحة كعب ، وأتوا المسجد مسرعين . وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم مشغولاً بالصّلاة . وعندما سمع تكبيرهم خرج يستقبلهم(1) .

وذكر عبّاد بن بشر القصّة الجميلة لمقتل كعب بن الأشرف في شعر له يؤكّد فيه أنّهم كانوا خمسة سادسهم اللّه سبحانه . وأرعب قتله يهود المدينة . وقال النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في غد ذلك اليوم : من ظفرتم به من رجال اليهود فاقتلوه . فلم يطلع عظيم من عظمائهم(2) . وفي شعر أنشده كعب بن مالك في واقعة بني النضير أشار إلى أنّ قتله [ قبل ذلك ] أذلّ بني النّضير . وأكّد أنّه كان بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم (3) . وفي شعر حول غزوة بني النضير ونسبه ابن إسحاق إلى الإمام عليّ عليه السلام وشكّ ابن هشام في نسبته إليه إشارة إلى قتل كعب بن الأشرف وكيفيّة وقوع الحادثة(4) .

ولمّا رأى الخزرج أنّ الأوس حازوا على شرف قتل كعب استأذنوا النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في

ص: 645


1- (1) المغازي 1 : 187 - 189 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 55 - 57 .
2- (2) نفسه 1 : 191 ؛ نفسه 3 : 56 .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 57 ، 199 . فغودر منهم كعبٌ صريعا * فذلّت بعد مَصْرعه النّضيرُ بأمر محمّد إذ دسّ ليلاً * إلى كعب أخا كعبٍ يسيرُ
4- (4) نفسه 3 : 197 .

قتل ابن أبي الحقيق اليهوديّ وقتلوه . ونُقل عن حسّان شعر حَسَن في مدح الأنصار لقتلهم ذينك الشّخصين(1) . ونقل ابن سعد أنّ اليهود أتوا النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بعد قتل كعب ، وقالوا له أنّ رفيقهم قُتل فتكا ، فذكّرهم بأفعاله وطلب منهم عقد حلف جديد معه ، فعقدوا . وذكر ابن سعد أنّ ذلك الحلف كان عند عليٍّ عليه السلام (2) .

وكانت جريرة كعب العظمى في الأصل ذهابه إلى مكّة وتحريضه قريشا على الإسلام ، مضافا إلى أنّه كان شاعرا هجّاءً للدّين . وكان يهود المدينة قد تعهّدوا ألاّ يعاشروا قريشا ، ولا يتعاونوا معها أبدا . وقبل ذلك جاء في حلف أهل المدينة ، وفيهم اليهود، مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أنّ من ظلم أو ارتكب خطيئةً فسوف يعاقَب(3). وجريرته الأخرى ذكره أسماء بعض النّساء المسلمات في أشعاره ممّا يسبّب الأذى لهنّ .

يقول ابن إسحاق : لمّا أمر النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بقتل من يُظفَر به من رجال اليهود ، قام محيصة بن مسعود ، وهو من الأوس ، بقتل أحد تجّار اليهود الّذي كان طرفا في تجارته . فاعترضه أخوه فقال له محيصة : لو كان النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أمر بقتلك وأنت أخي لقتلتُكَ . فقال محيصة : هذا الدين الّذي بلغ بك إلى هذا الأمر لعجيب . وهذا الموضوع مهد لإسلام محيصة(4) .

2 - الموقف من المشركين

ندرك حسّاسيّة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في قتل الشّعراء الّذين كانوا يهجون الإسلام والمسلمين وشخصه صلى الله عليه و آله وسلم بنحو أفضل إذا عرفنا تأثير الشعر على عرب الجاهليّة . وكان هذا

ص: 646


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 276 .
2- (2) المصنّف ، عبد الرزّاق 5 : 204 ؛ تاريخ المدينة المنوّرة 2 : 461 ؛ سبل الهدى والرّشاد 6 : 46 .
3- (3) انظر : موضوع أوّل دستور للأمّة الواحدة .
4- (4) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 58 ؛ وجاء فيه خبر آخر حول إسلامه .

التأثير بالغا بشكلٍ لا حدّ له ، ويُذاع مباشرة فيملأ الأرجاء . ونقل المؤرّخون أنّ يهوديّا يُدعى يسير بن رزام - أو رازم - كان بخيبر ، وقد حرّض غطفان على مهاجمة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، فوجّه إليه كتيبةً بقيادة عبد اللّه بن رواحة فقتله(1) .

وكانت بين بدر وأحد غزوات صغيرة لم يحدث فيها قتال . وتوجّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إلى قبيلة بني سُلَيم بعد مضيّ سبع ليالٍ على بدر . ومكث هناك ثلاث ليالٍ ثمّ قفل راجعا بلا قتال . وجاء أبو سفيان المدينة في الخامس من ذي الحجّة سنة (2) هجريّة ومعه مئتان من أصحابه ، وكان قد نذر ألاّ يبدأ حياته العاديّة ما لم يقاتل محمّدا صلى الله عليه و آله وسلم . فذهب عند بني النضير سرّا . فلم يفتح له حيّ بن أخطب الباب . فقصد سلاّم بن مشكم من يهود بني النّضير ، وكان صاحب كنزٍ على حدّ تعبير ابن إسحاق - أي : كانت بينهما علاقات تجاريّة - فرفضه . ثمّ رحل إلى «العُرَيض» في المدينة ، فأحرق فيها نخلاً ودارَين ، وقتل أنصاريّا مع أجيره ، وذهب . ولمّا بلغ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم خبره عبّأ جيشا وأشخصه إليهم . فتركت قريش متاعها بما فيه القمح وتوجّهت بسرعة . من هنا سمّيت هذه الغزوة غزوة السّويق . وصار مقدار كبير من السّويق (قمح أو شعير) للمسلمين(2) . ودلّت هذه الحادثة على أنّ اليهود كانوا يشكّلون خطرا مهمّا . وكانت قريش تؤمّلهم . وخطر قريش نفسها كان جديّا كما في السّابق ، ولابدّ من مراقبتها .

وبعد مضيّ خمسة أيّام نحر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم شاةً أو اثنتين في العاشر من ذي الحجّة فطرح بذلك عنوان عيد الأضحى . ويضاف إليه أنّ أحكام الديات والقصاص دُوِّنت في تلك السّنة أيضا ، وعلّقها النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بمقبض سيفه(3) . وكانت قبيلتا غَطَفَان وسُلَيم

ص: 647


1- (1) أنساب الأشراف 1 : 285 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 44 ، 45 ؛ المغازي 1 : 181 ، 182 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 30 .
3- (3) إمتاع الأسماع 1 : 106 ، 107 .

من ألدّ أعداء الإسلام . وبلغ النّبيَّ صلى الله عليه و آله وسلم خبرُ تأهّبهما للقتال . فسار إليهما على رأس مئتين فلم يجد أحدا . وغنم منهما خمسمائة من الإبل ، فأخذ خمسها وقسم الباقي على المقاتلين . وكانت القبيلتان حليفتين لقريش . وأعتق النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم راعي الإبل حين رآه يصلّي(1) .

وعُرفت هذه الغزوة بقرقرة الكُدْر . وكانت هذه المنطقة على طريق المدينة ، وتبعد عن خيبر نفسها شمال المدينة على بعد (165) كيلومترا عنها . وفي تلك الفترة ذهب النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم حتّى منطقة «فُرُع» على بعد (150) كيلومترا جنوب المدينة يريد قريشا ، لكنّه لم يلق أحدا(2) . وهذا يدلّ على أنّه كان مصرّا على الحدّ من سطوة قريش .

ولمّا عجزت قريش عن مواصلة أعمالها التجاريّة لخطر طريق الشّام بسبب المسلمين وموادعة أهل السّاحل للنّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم (3) قصدت العراق . وأنفذ صلى الله عليه و آله وسلم في الشّهر الأوّل من السّنة الثالثة للهجرة جيشا إلى نجد بقيادة زيد بن حارثة . وكانت قافلة قريش مشغولة بتجارة الذّهب والفضّة ، وكانت الثانية «عُظْم تجارتهم» على حدّ قول ابن إسحاق .

ونزل زيد عليهم في منطقة القَرَدَة ، فغنم أموالهم وعاد إلى المدينة . وكان معه أسير فأسلم . وأنشد حسّان بن ثابت بيتين في هذه الحادثة(4) . وأشار فيهما إلى أنّ طريق الشّام غير آمن ، كما أنّ طريق العراق غير آمن لهم أيضا على عكس ما يظنّون .

3 - الموقف من يهود بني القَينُقاع

وكانت الحادثة الأخرى بعد بدر حرب يهود بني القينقاع . وكانوا يعيشون داخل

ص: 648


1- (1) الطّبقات الكبرى 2 : 31 ؛ المغازي 1 : 182 ، 183 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 46 .
3- (3) المغازي 1 : 197 .
4- (4) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 50 ، 51 ؛ سبل الهدى والرّشاد 6 : 51 - 53 .

المدينة في الحدّ الفاصل بين الحرّة الشّرقيّة والغربيّة ، وهم طائفة مقتدرة من طوائف اليهود . ولم تكن لهم مزرعة وأعمال زراعيّة ، بل كانوا يعملون في الصّياغة والصّناعة(1) . وكانوا في عداد من حضر الحلف أو ما سُمّي الصّحيفة ، وتعهّدوا بالعمل بها ، وأسلم منهم نفر إسلاما ظاهريّا لكنّهم كانوا في زمرة المنافقين(2) .

وروى الواقديّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم حين شعر بعد بدر أنّهم يريدون الفتنة ، جمعهم ودعاهم إلى الإسلام قبل أن يوقع اللّه بهم مثل وقعة قريش ، فقالوا : إنّك قهرتَ في الحرب قوما أغمارا ، إنّا أصحاب الحرب . وحدث مرّة أن جلست امرأة ، وهي زوجة لأحد الأنصار ، في سوق بني قينقاع ، فجاء رجل من يهودهم فجلس من ورائها ولا تشعر فرفع أسفل ثوبها إلى الأعلى بشوكة ... وقُتل بسبب هذه الحادثة واحد من المسلمين وواحد من اليهود .

وهذا العمل الّذي دلّ على بداية إيقاد اليهود الفتنة كان ينذر بخيانة أكبر . ونبّهت آية من سورة الأنفال - نزلت بعد بدر مباشرة - على الخوف من الخيانة ، ووضّحت ما يفعله النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في ذلك . قال تعالى : « وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللّه َ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ »(3) . وذكر الواقديّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم سار إليهم بهذه الآية(4) .

وحوصر حصنهم خمس عشرة ليلة إلى أن نزلوا على حكم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . واستسلموا فأمر بهم فرُبطوا . وبدأ الحصار يوم السّبت النّصف من شوّال وانتهى في الأوّل من ذي القعدة السّنة الثّانية من الهجرة . وكان بنو القينقاع حلفاء الخزرج في

ص: 649


1- (1) المغازي 1 : 179 ؛ أنساب الأشراف 1 : 309 .
2- (2) أنساب الأشراف 1 : 285 . وكان مالك بن أبي قوقل أحدهم إذ عمل جاسوسا لليهود وهو عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم .
3- (3) الأنفال : 58 .
4- (4) المغازي 1 : 177 ؛ وانظر : الطّبقات الكبرى 1 : 29 ؛ أنساب الأشراف 1 : 309 .

الجاهليّة . أمّا المسلمون المؤمنون فإنّهم تبرّأوا من كلّ حلفٍ في الجاهليّة لأجل الإسلام ، لكنّ عبد اللّه بن أُبيّ المنافق الخزرجيّ اعترض على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وقال : كم أبلوا في الجاهليّة له ولطائفته . وظُنَّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أراد بربطهم قتلهم . ومهما كان فإنّه صلى الله عليه و آله وسلم حكم بإجلاء بني القينقاع . وأصرّ عبد اللّه على أن يتكلّم مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في أمرهم لكنّ عويم بن ساعدة الّذي كان في بيت النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ردّه . فصاح عبد اللّه مخاطبا بني قينقاع أن يقاوموا ، بيد أنّهم لمّا رأوه مدمىً لإصراره على الذّهاب عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قالوا له : لا نُقيم أبدا بدارٍ أصاب وجهك فيها هذا . فخرجوا من المدينة بدون أن يرموا بسهمٍ على المسلمين ، وتركوا أسلحة كثيرة .

وكُلِّف عبادة بن الصّامت الّذي كان حليفا لهم بإجلائهم . فوبّخه عبد اللّه المنافق . لكنّ عبادة قال : لمّا حاربتم جئتُ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم فقلتُ : يا رسول اللّه إنّي أبرأ إليك منهم ومن حلفهم . وخاطب عبد اللّه قائلاً له : يا أبا الحباب ! تغيّرت القلوب ومحى الإسلام العهود(1) . على أيّ حال كان الظنّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عفا عنهم لتحالفهم مع الخزرج وإصرار عبد اللّه بن أُبيّ . ومن بين الطوائف اليهوديّة الثلاث بالمدينة طائفة تركت المدينة إلى الشّام ، وسكنت في منطقة أذرعات(2) . وليس في متناول أيدينا ما حدث لهم بعد ذلك .

ص: 650


1- (1) المغازي 1 : 177 - 179 . وذهب ابن إسحاق إلى أنّ آيات من سورة المائدة ، وهي آخر ما نزل من القرآن ، نزلت بشأن عبادة بن ثابت . وهذا غير صحيح ، وهو يدلّ على أنّ كتّاب السِّيَر ، لمجرّد تشابه صوريّ بين الآية والواقعة ، يربطون بينهما .
2- (2) هذه المنطقة الآن في سوريا قرب مدينة درعا . انظر : معالم الأثيرة في السنّة والسيرة : 25 .

موقعة أُحُد

يبعد جبل أحد عن المدينة ستّة كيلومترات ، وامتدّت المدينة الآن حتّى سفحه . وقيل أنّه عُرف بهذا الاسم لتفرّده عن الجبال الأخرى في المنطقة ، وقيل إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم سمّاه التّوحيد(1) لتعلّقه بالتّوحيد ورغبته في بثّه . وحدثت عنده في السّابع من شوّال سنة (3) هجريّة إحدى المعارك المهمّة في عصر صدر الإسلام ، وهي معركة أحد الّتي خلّفت تجربةً مرّةً لكنّها تربويّة . وتعدّ استثناءً بين غزوات صدر الإسلام .

وعزمت قريش الّتي جرحتها بدر على الثّأر لقتلاها . ومرّ أنّ أبا سفيان مع مئتين من أصحابه قصدوا المدينة للغارة فلم يتيسّر لهم إلاّ قتل اثنين وحرق بعض البيوت . وهذه الخطوة أرضت قريشا . من هنا أوقفت قافلة قريش العظيمة في دار النّدوة واتّفق القريشيّون على صرف أرباح ما في القافلة البالغ ألف بعير وخمسين ألف دينار في قتال المسلمين بعد دفع رؤوس أموال الأشخاص(2) . وقيل إنّ قريشا ارتضت ذلك عن طيب نفس ، ومسك أبو سفيان زمام القيادة بوصفه ثائرا(3) . ولم يكن لقريش عدد كاف من النّفير لشنّ حرب شاملة على المسلمين ، لكنّها حرّضت عددا من القبائل لدعمها بما كان لها من نفوذ ملحوظ بين ظهرانيها(4) .

وهكذا بادر عدد من عبد مناة أو بتعبير آخر الكنانيّين ، والأحابيش - من العرب

ص: 651


1- (1) الروض الأُنُف 5 : 449 ، 450 . يقول السهيليّ : غيّر رسول اللّه كثيرا من الأسماء القبيحة للأماكن والأشخاص . ويبدو أنّ جبل أُحد كان يسمّى في الجاهليّة عنقدا وسمّاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أحدا (تاريخ المدينة المنوّرة 1 : 85) . وقيل في تسميته إنّه لانفراده عن سائر الجبال عُرف بهذا الاسم .
2- (2) الطّبقات الكبرى 2 : 37 . الآيتان 8 و38 من سورة الأنفال تتحدّثان عن إنفاق المشركين للصدّ عن سبيل اللّه . وذهب البعض إلى أنّ شأن نزولهما بدر ، وقال آخرون : أُحد .
3- (3) المغازي 1 : 200 .
4- (4) انظر بهذا الشّأن : سبل الهدى والرّشاد 6 : 54 .

الّذين كانوا يسكنون بمكّة وحلفاء قريش(1) - وطائفة من ثقيف إلى نصر قريش(2) بتحريض أبي سفيان وشعر بعض شعرائها . نحو أبي عزّة الجمحيّ شاعر قريش الّذي منّ عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وأطلقه ببدر ، وكان قد تعهّد أن لا يقوم بعمل ضدّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، لكنّه دعا العرب إلى إسناد قريش في شعر له . وكان تأكيده في شعره قد تمثّل في قوله : «لا تُسلموني لا يحلّ إسلامْ» . أي إنّ العرب إذا قصّرت عن إسناد قريش فإنّ الإسلام سيعمّ الأرجاء(3) .

ونشب خلاف بين قريش حول أخذ النّساء إلى الحرب . وكان أخذهنّ معلما على عزم الجيش على القتال ، إذ تقع بيد العدوّ عند الهزيمة . كما كان لهنّ وقعهنّ في تحريض الجيش أيضا . وكنّ يحفّزن الجيش بدفوفهنّ وأشعارهنّ في رثاء قتلى بدر(4) . وكان البعض يؤيّد خروجهنّ مع الجيش ، والبعض الآخر يعارض ذلك ، لكنّ الأكثريّة كانت تؤيّده . وأعلنت هند زوجة أبي سفيان عن استعدادها للحضور في ميدان القتال . ولمّا رأى أبو سفيان الوضع كما كان عليه قال إنّه من قريش ولا يخالفها(5) . ويدلّ هذا الخبر على نظام القيادة عند عرب الجاهليّة . ويشاور رؤساء القبائل وهم

ص: 652


1- (1) وهم بنو الهون ، وبنو الحارث بن كنانة ؛ وبنو المصطلق من خزاعة . تحبّشوا أي : تجمّعوا . انظر : تاج العروس 17 : 127 ، 128 ؛ ذيل (حبش) . انظر : المغازي 1 : 201 . وفي موضع من شعر حسّان بن ثابت حكم على الأحابيش بأنّهم لا حسب لهم «جمعتموها أحابيشا بلا حَسَب» . السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 132 .
2- (2) على سبيل المثال مائة من ثقيف . انظر : المغازي 1 : 203 .
3- (3) أنساب الأشراف 1 : 312 ؛ المغازي 1 : 201 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 61 .
4- (4) المغازي 1 : 206 . ولمّا سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم خروج النساء بالدفوف والطبول قال : أردن أن يحرّضن القوم ويذكّرنهم قتلى بدر . انظر : المغازي 1 : 208 .
5- (5) المغازي 1 : 202 . تلا ذلك إخراج رؤساء قريش نساءهم وأحيانا أمّهاتهم . للاطّلاع على أسمائهنّ انظر : أنساب الأشراف 1 : 312 ، 313 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 63 ؛ المغازي 1 : 202 ، 203 .

الوجهاء عندها الناس ولا يخالف أحد منهم كلامها .

وكان قوام الجيش ثلاثة آلاف مع تجهيزات كافية - ثلاثة آلاف بعير ومئتي فَرَس(1) - وتحرّك نحو المدينة وطبول النساء ودفوفهنّ تصحبه . ونقل المؤرّخون أنّ العبّاس بن عبد المطّلب كتب إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يُعلمه بتحرّك قريش ويعرّفه عدد جندها . وأعطى الكتاب رجلاً من بني غفّار . فأسرع فيه ، وسلّمه لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بقُباء . وأُمر أُبيّ بن كعب الّذي قرأه للنّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بالسّكوت(2) .

مع هذا سرعان ما انتشر الخبر في المدينة . ويضاف إلى مبعوث العبّاس قدوم نفر من قبيلة خزاعة - حليفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم - إلى المدينة بسُرعة وإخبارهم النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بتحرّك قريش ، ثمّ رجوعهم بسرعة . وحين انصرفوا وجدوا قريشا ببطن رابغ على أربع ليال من المدينة . وعرفت قريش لكنّها لم تهتمّ كثيرا بكتمان الخبر ، إذ كانت تفكّر باقتراحين : إمّا بقاء المسلمين داخل المدينة في بيوتهم وقلاعهم ، وحينئذٍ تعمد إلى قطع نخلهم ، وإمّا يصحرون لها ، ووقتئذٍ تعتقد أنّها ستهزمهم لأنّ عددها وسلاحها أكثر من عددهم وسلاحهم(3) .

وواصلت قريش مسيرها إلى أن استقرّت في سفح أحد قرب «كوه عينين» . وكانت المسافة بين الجرف قرب المدينة حتّى وطاء قرب أحد أراضي زراعيّة تُروى بالجمال النّاضحة . ولمّا سمع المسلمون خبر قريش جمعوا أدواتهم وعُدَدهم وأُجراءهم من المنطقة المذكورة . وقيل إنّ زرع المسلمين كان جاهزا للحصاد(4) .

ص: 653


1- (1) الطّبقات الكبرى 2 : 37 ؛ أنساب الأشراف 1 : 313 .
2- (2) أنساب الأشراف 1 : 313 ، 314 .
3- (3) المغازي 1 : 205 .
4- (4) المغازي 1 : 207 . وكانت أحد في الأوّل من شوّال سنة (3) للهجرة . وصادف يوم الأحد (17) من آذار سنة 624 م . واليوم السّابع من شوّال الّذي نقل الواقديّ وقوع معركة أحد فيه (وذهب ابن إسحاق إلى أنّ الوقعة كانت يوم السبت النصف من شوّال . انظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 100 ؛ وذهب قتادة إلى أنّها كانت في (11) شوّال ، انظر : دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 201) كان يصادف يوم السبت (23) من آذار . من هنا تتطابق أيّام الأسبوع مع ما ذكره كتّاب السِّيَر دقيقا . وكانت حرارة الجوّ في المدينة يومئذٍ كافية لحلول وقت الحصاد .

إنّ الموضع الّذي ذهب الواقديّ إلى أنّه مقرّ قريش كان جنوب جبل أحد على بعد كيلومتر إلى كيلومتر ونصف في أقوى الاحتمالات . ومن الجدير ذكره أنّ مدخل المدينة كان متيسّرا من شمالها فحسب . من هنا دارت قريش حولها وكانت قد جاءت من الجنوب ودخلتها من الشّمال بحذاء جبل أُحد .

وقام المسلمون بالحراسة ليلاً حول المسجد لاحتمال شنّ العدوّ الغارة ليلة الجمعة(1) . وما كانت تفكّر به قريش من الاقتراحين هما الآن ممّا أصبحا أمام المسلمين أيضا ؛ فماذا عليهم أن يفعلوا ؟ أهل يبقون في المدينة ويدافعون عنها أم يُصحرون للعدوّ ؟ ودار حوار مفصّل بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وصحابته يوم الجمعة بعد الصّلاة . ومن بين أهل المدينة كان عبد اللّه بن أُبيّ يصرّ على البقاء في المدينة مستدلاًّ على أنّ النّساء يستطعن عند البقاء أن يساعدنهم في رمي العدوّ بالحجارة . وقال : «وما خرجنا إلى عدوٍّ قطّ إلاّ أصاب منّا ، وما دخل علينا قطّ إلاّ أصبناه»(2) .

وقال الواقديّ بعد نقل هذا الكلام : «وكان رأي رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم مع رأي ابن أُبيّ ، وكان ذلك رأي الأكابر من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم من المهاجرين والأنصار» . لكنّه لم يذكر أحدا غير عبد اللّه بن أُبيّ يصرّ على البقاء فيها(3) . وهذا ما رواه ابن إسحاق أيضا(4) . وفي مقابل ذلك يذكر الإثنان إصرار الصّحابة على الخروج من المدينة ولقاء العدوّ . ورأى فتيان أحداث لم يشهدوا بدرا الخروج إلى عدوّهم . كما رأى ذلك رجالٌ

ص: 654


1- (1) الطّبقات الكبرى 2 : 37 .
2- (2) المصنّف ، عبد الرزّاق 5 : 364 .
3- (3) المغازي 1 : 209 ، 210 .
4- (4) الطّبقات الكبرى 3 : 63 .

من أهل السّنّ ، مثل حمزة بن عبد المطّلب ، وسعد بن عبادة وغيرهما خشية أن يظنّ العدوّ فيهم جُبنا(1) ، فيكون هذا جرأةً من قريش عليهم . وأكّد هذا آخرون أيضا وذكروا أنّ البدو في الجاهليّة حين كانوا يهاجمون المدينة وهم فيها ، لم ينقطع طمعهم فيها قطّ ، وكان مالك بن سنان أكثر إصرارا على القتال لينال إحدى الحُسنيين إمّا النّصر وإمّا الشّهادة . وقال حمزة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : والّذي أنزل عليك الكتاب ، لا أطعم اليوم طعاما حتّى أجالدهم بسيفي خارجا من المدينة . وقال النعمان بن مالك إنّه في نظم الشّهداء فلم يحرمه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم من الشّهادة(2) ؟ ويقول المؤرّخون : وكان النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم يرى البقاء في المدينة ، لكنّه لمّا رأى إصرار القوم على الخروج استجاب . ثمّ وعظهم وأوصاهم بالجدّ والجهاد . وبعد أن صلّى العصر ذهب إلى البيت . ولمّا شعر الصحابة وقتئذٍ أنّهم خالفوا ما أراده رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قلقوا ، وعندما رأوه لابسا لأمة الحرب ، خارجا من البيت ، أتوه وقالوا : يا رسول اللّه ، ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك . فقال صلى الله عليه و آله وسلم : لا ينبغي لنّبيّ إذا لبس لأمته أن يضعها . ثمّ قال : امضوا على اسم اللّه فلكم النّصر ما صبرتم(3) !

ولم يشكّ كتّاب السِّيَر في أنّ رأي رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بادئَ الأمر هو البقاء في المدينة إلاّ كاتبا معاصرا عرض الموضوع على سبيل الحدس ، وأُجيب جوابا مناسبا(4) . ويثار هنا سؤال وهو : أكانَ البقاء في المدينة وحيا إلهيّا أم رأيا خاصّا لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ؟ والجواب هو أنّنا لا نجد في الأخبار التّاريخيّة الشّائعة إشارة إلى كونه وحيا ، إلاّ ما قاله الصّحابة حين رأوا نبيّهم صلى الله عليه و آله وسلم لابسا لأمته : ما كان لنا أن نلحّ على

ص: 655


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 63 .
2- (2) المغازي 1 : 211 - 213 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 1 : 63 .
3- (3) المغازي 1 : 214 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 38 . انظر : الصّحيح من سيرة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم 4 : 186 - 190 .
4- (4) انظر : الصّحيح من سيرة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم 4 : 186 - 190 .

رسول اللّه في أمر يهوى خلافه لأنّ الأمر بيد اللّه ، ثمّ بيد رسوله . وورد تعبير قالوه فيما بينهم أيضا ، وهو قولهم : «والأمر ينزل عليه من السماء»(1) . بيد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم نفسه لم يصرّ على رأيه باعتباره أمرا إلهيّا . ولو كان كذلك لأظهره .

ورأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ليلة الجمعة كأنّه في درع حصينة ، وكأنّ سيفه ذا الفقار قد انفصم من عند ظُبته ، وكأنّ بقرا تُذَبّح ، وكأنّه مُردِف كبشا ، فأخبر بها أصحابه ، وأوّلها فقال : أمّا الدّرع الحصينة فالمدينة ... فكان رأي رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أن لا يخرج من المدينة لهذه الرؤيا(2) . مع هذا قال الصحابة الّذين أصرّوا على الخروج إنّهم هم البقر المذبّح ، وعلموا أنّهم يُستشهدون ، فأصرّوا على الخروج . على أيّ حال ، يمكننا أن نقول : لو كان الحكم بالبقاء في المدينة حكما إلهيّا لثبت عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، أو في الأقلّ لظلّ فيها بعد رجوع رؤساء الأنصار عن إصرارهم الّذي كان في غير محلّه .

ويبدو أنّ رأي رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم الشّخصيّ هو البقاء في المدينة . لكنّه لمّا عرف أنّ الأكثريّة يريدون الخروج منها ما أحبّ أن يخالفهم . وبعد أن أدرك الأنصار خطأهم ، قال صلى الله عليه و آله وسلم : «... ولا ينبغي لنّبيّ إذا لبس لأمته أن يضعها» . وسبب ذلك أنّ اتّخاذ القرار في هذه الأُمور لا يمكن أن يكون في جوٍّ من الشّك والتّرديد ، ويخضع للتّغيير والتّبديل في كلّ لحظة . وكان النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم يأخذ رأي النّاس بعين الاعتبار في موضوع الحرب ، لأنّ تحمّل خسائر الحرب لم يكن أمرا يسيرا ، وإذا كان النّاس قد وافقوا على عملٍ وأصرّوا عليه، فإنّهم يرون تبعاتِه نابعةً من قرارهم. ويضاف إليه أنّ مراعاة مشاعرهم في مثل هذا الموضوع المهمّ يربط جأشهم في الحرب(3) .

ص: 656


1- (1) المغازي 1 : 213 ، 214 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 38 .
2- (2) الطّبقات الكبرى 2 : 38 .
3- (3) من نافلة القول أنّ معركة أُحُد مصداق لتولّي الصّحابة عن أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم .فعصيانهم هنا وفيما تلاه خلال الحرب سبّب هذه المصائب حقّا . وقد يصحّ أنّهم كانوا يرون أنفسهم مكلّفين بالطّاعة ، لكن المخالفات كانت تنتابهم إلى حدٍّ ما . ولا يمكن أن نمرّ مرورا عابرا على رجوع ثلاثمائة من أفراد الجيش الإسلاميّ البالغ ألفا . فهؤلاء الثلاثمائة كانوا من المسلمين المنافقين - ولو بمعنى ضعيفي الإيمان - وكانوا يعيشون بالمدينة . وفي الوقت نفسه نجد كعب بن مالك يفتخر أمام العدوّ بأنّ للمسلمين نبيّا يطيعونه في كلّ حال . فقد قال في شعر أنشده في غزوة أُحُد (السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 133) : وفينا رسول اللّه نتبع أمره * إذا قال فينا القولَ لا نتطلّع تدلّى عليه الروح من عند ربّه * يُنَزَّل من جوّ السماءِ ويُرفَع نشاوره فيما نريد وقصرنا * إذا ما اشتهى أنّا نطيع ونسمعُ

وتحرّك الجيش الإسلاميّ عصر الجمعة ، وتوقّف للاستراحة في منطقة تعرف بشيخين(1) وفيها استعرض رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم الجند واحدا واحدا ، وعزل الصّغار عن الجيش . وكان عبد اللّه بن أُبي قد جاء أيضا مع عدد من حلفائه اليهود . فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : «لا يُستنصَرُ بأهل الشّرك على أهل الشّرك»(2) . وحين توقّف صلى الله عليه و آله وسلم في شيخين فارقه عبد اللّه مع شرذمة من المنافقين ، واختار له منزلاً في جانب آخر . وتحرّك الجيش الإسلاميّ منتصف اللّيل وصلّى المسلمون الصّبح في أحد . واختاروا طريقا أمرهم به رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كي لا يصطدموا بالمشركين(3) ويسيروا به إلى سفح أُحُد . وفي هذه اللحظة رجع عبد اللّه بن أُبيّ أدراجه ومعه ثلاثمائة من مرافقيه المنافقين(4) . بيد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم مضى ولم يلتفت وراءه . وهكذا بقي من الألف الّذين كانوا معه سبعمائة(5) . وكان عبد اللّه يقول في توجيه رجوعه : نحن شرطنا له أن نذبّ عنه وننصره في مدينتنا لا خارجها . وأشرنا عليه أن يبقى في داخلها ويقاتل فأبى إلاّ طواعية الغلمان !

ص: 657


1- (1) كان هناك حصنان صغيران يسمّى كلٌّ منهما «أُطُم» اصطلاحا . وكان يعيش فيهما شيخ وعجوز ، لذا عرفت المنطقة بشيخَين .
2- (2) الطّبقات الكبرى 2 : 39 ، 48 .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 65 .
4- (4) جاء في خبر ابن إسحاق أنّ ثلث الجيش قد رجع بين الطريق حتّى أُحُد بحماية عبد اللّه بن أُبيّ . السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 64 .
5- (5) الطّبقات الكبرى 2 : 390 ؛ أنساب الأشراف 1 : 315 .

وقدّم لنا كتّاب السِّير معلومات ضروريّة عن الموضع الّذي استقرّ فيه المسلمون والمشركون ، إلاّ أنّ الموضع الدقيق لبعض الأسماء الواردة في السّيرة غير محدّد بشكل يُركن إليه . وجدير بالذكر أنّ المشركين نزلوا من سفح أحد ، وأنّ المسلمين مرّوا من جانبهم - يسارا - وصعدوا نحو الجبل واستقرّوا في شِعب من أحد على حافّة الوادي(1) . وكان إلى يسارهم جبل صغير يُدعى عينين ثمّ سُمّي بعد ذلك جبل الرُّماة . وهكذا كان جبل أُحُد خلف النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، وعينين عن يساره ، واستقبل المدينة(2) . هذا في وقت كانت المدينة خلف قريش ، وبينها وبين أحد مسافة طويلة . وجعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عبد اللّه بن جُبَيْر على جبل عينين مع خمسين من أصحابه . ومن المحتمل احتمالاً قويّا أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كان عن يمين جبل عينين وتقدّم قليلاً عليه . وكانت المسافة بين عينين وأُحد قبل ذلك أقلّ ، لكن صغر الجبل الآن بسبب العمارة وشقّ الشّوارع ، فزادت المسافة بينهما . وكان هذا الموضع في الحقيقة مدخل المدينة . وتكرّر بناء الحصون وتدميرها على جبل عينين (الرّماة) كثيرا ممّا أدّى إلى تآكله وصغره(3) .

وقيل خرج مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قُرابة ألف ، لكن كما ذكرنا رجع منهم مع ابن أُبيّ حوالي ثلاثمائة(4) . وكان لواء المهاجرين بيد عليّ بن أبي طالب عليه السلام (5) . ولواء الأنصار

ص: 658


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 64 (ومضى رسول اللّه حتّى نزل الشّعب من أُحُد في عدوة الوادي إلى الجبل) .
2- (2) المغازي 1 : 221 (فجعل أُحُدا خلف ظهره ، واستقبل المدينة وجعل عينين عن يساره) .
3- (3) كتبنا في ذلك مقالة مستقلّة طبعت في المقالات التّاريخيّة ، الدفتر الأوّل .
4- (4) أنشد كعب بن مالك شعرا فيه بيت يذكر العدد بصراحة . (انظر : دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 209) ثلاثة آلاف ونحن نصية * ثلاث مئين إن كَثُرْنا وأربعُ
5- (5) كانت إحدى فضائل الصحابة أن يكون اللواء أو الرّاية بيد أحدهم . وكان الإمام عليّ عليه السلام هو صاحب اللواء أو الراية عادةً لشجاعته . بيد أنّ بعض الرّواة ذوي الميول العثمانيّة يحاولون في كلّ مرّة طمس هذه الفضيلة . فممّا يذكرونه أنّ لواء المهاجرين كان بيد عليّ ، وقيل أيضا إنّه كان بيد مصعب بن عمير ! وأطرف من ذلك كلّه ما رواه البيهقيّ عن مغازي موسى بن عقبة وجاء فيه أنّ حامل لواء المهاجرين كان أحد الصّحابة ، وكان يقول : أنا عاصم ما في يدي . فقال له طلحة بن أبي طلحة : أي عاصم ، أجئتَ لقتالي ؟ قال : بلى . ثمّ قتل طلحة . انظر : دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 210 . فمع أنّه واضح تاريخيّا أنّ ذلك الشّخص لم يكن إلاّ عليّا عليه السلام لكن الراوي للخبر أحجم عن ذكر اسمه . وبشأن الأدلّة الّتي تُثبت أنّ لواء المهاجرين كان بيد الإمام عليّ عليه السلام يوم أُحُد ، انظر : الصحيح من سيرة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم 4 : 193 - 197 .

من الأوس بيد أُسيد بن حُضير ، ومن الخزرج بيد الحُباب بن المنذر(1) . وكانت الوجوه البارزة لجيش المشركين خالد بن الوليد ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أُميّة ، وعبد اللّه بن أبي ربيعة . ونقل الواقديّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم صفّ الجند وساوى الصفوف(2) . وخطب بعد ذلك وأوصى النّاس بالعمل بأحكام اللّه والتّناهي عن محارمه ، وعدّ ذلك اليوم يوم أجر وذخر لمن ذكر الّذي عليه ثمّ وطّن نفسه له على الصّبر ، واليقين ، والجدّ ، والنّشاط . وذكر أنّ جهاد العدوّ شديد كربُه لا يُيسّره إلاّ الصّبر ، وقال صلى الله عليه و آله وسلم : «... فإنّ الاختلاف والتّنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف ممّا لا يحبّ اللّه»(3) .

وكانت وصيّته صلى الله عليه و آله وسلم للرُّماة على جبل عينين أن «احموا لنا ظهورنا ، فإنّا نخاف أن نؤتى من ورائنا ، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه ؛ وإن رأيتمونا نهزمهم حتّى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم ؛ وإن رأيتمونا نُقتل فلا تُعينونا ولا تدفعوا عنّا . اللّهمّ إنّي أُشهدك عليهم» . وأكّد أنّ احتمال هجوم الخيل من ورائهم قائم ، لكن لا تُقدم

ص: 659


1- (1) المغازي 1 : 215 .
2- (2) أنساب الأشراف 1 : 316 .
3- (3) المغازي 1 : 222 ، 223 . وفي شعر كعب بن مالك إشارات إلى أوامر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وفي غضونها ذُكرت هذه النقطة وهي أن يَدَعوا الخوف من الموت جانبا ويكونوا خالصين للّه : قال رسول اللّه لمّا بدوا لنا * ذروا عنكم هول المنيّات واطمعوا وكونوا كمن يشري الحياة تقرّبا * إلى ملك يُحيا لديه ويُرْجَعُ انظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 133 .

الخيل على النّبل(1) . وإنّ ما كان يخافه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ووقع هو أنّ خيل قريش تحرّكت من جنوب جبل عينين نحو الشّرق ، وأحاطت بعينين ، وحملت على المسلمين الّذين كانوا في سفح أُحُد في الحدّ الفاصل بين أُحُد وعينين . وكانت المنطقة مفتوحةً بشكلٍ كانوا يرون فيه جبل عينين من بعيد ، وفي اللحظة الّتي نزل فيها الجنود من على الجبل ، تحرّكت الخيل نحوهم .

واشتدّ الرمي بالنبال بين الجانبين في البداية ، وفي غضونه تراجعت قبيلة هوازن من المشركين(2) . كما شهد القتال شخص يُدعى أبا عامر من الأوس وكان قد لحق بقريش مع خمسين من قومه حين قدم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم المدينة . وكان يُعرف في الجاهليّة بأبي عامر الرّاهب وسمّاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أبا عامر الفاسق . وانبرى يرشق المسلمين بالحجارة مع عصبة من عُبدان العدوّ . وحدث أوّل اصطدام حين دعا طلحة بن أبي طلحة صاحب لواء المشركين ومن بني عبد الدار إلى البراز ، فخرج إليه أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام ، وبعد قتال يسير ، ضربه الإمام على رأسه ، «فمضى السّيف حتّى فلق هامته حتّى انتهى إلى لحيته ، فوقع ، وانصرف عليّ عليه السلام » ؛ فقيل له : ألا حززت رأسه ؟ «قال : إنّه لمّا صُرع استقبلتني عورته فعطفني عليه الرحم ، وقد علمتُ أنّ اللّه تبارك وتعالى سيقتله - هو كبش الكتبية»(3) .

وسُرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم حينئذٍ وكبّر . وحمل أخوه عثمان اللواء بعده . وحمل عليه حمزة فضربه بالسّيف على كاهله فقطع يده وكتفه حتّى بدت رئته .

ثمّ صار اللواء بيد أبي سعد بن أبي طلحة الّذي قتله الإمام عليه السلام أيضا على ما نقله

ص: 660


1- (1) المغازي 1 : 225 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 40 .
2- (2) الطّبقات الكبرى 2 : 40 .
3- (3) المغازي 1 : 226 (إشارة إلى الرؤيا الّتي رآها النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم من قبل) .

بعض الأخبار(1) . ووقعت حملات أُخرى كذلك قُتِل فيها عدد من المشركين ، قتلهم عليّ عليه السلام ، وطلحة بن عبيد اللّه ، والزّبير(2) . وكان هذا النصر العجيب في السّاعات الأولى من الحرب يبشّر بأملٍ كبيرٍ . كما خلخل الإجراءات المذكورة لجيش العدوّ . وتفرّقت نساء قريش اللائي كنّ يحرّضن الجيش ، ولم يوبّخن الفارّين(3) . وفي غضون ذلك أراد خالد أن يحمل من جهة جبل عينين مرارا فجوبه بالرُّماة ولم يقدر على التغلغل(4) . وتواصل هذا الوضع حتّى لاحق المسلمون العدوّ ودخلوا معسكره(5) . ويدلّ كلام لنسطاس الّذي كان يومئذٍ مولىً لصفوان بن أميّة وخُلِّف في العسكر على أنّ المسلمين تقدّموا حتّى أسروه واستولوا على أموال العسكر(6) .

مع هذا ينبغي ألاّ نتصوّر أنّ العدوّ قد تفرّق وانهزم في تلك اللحظة بشكل تامّ . والدليل على ذلك هو هجوم خالد بالخيل من صوب شرق عينين ودورانهم حوله وعبورهم من الحدّ الفاصل بين أُحُد وجبل عينين . وفي اللحظة الّتي توجّه فيها المسلمون نحو المعسكر ظنَّ الرُّماة أنّ عملهم قد انتهى ، فنزلوا من الجبل لئلاّ يُحرموا

ص: 661


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 127 ؛ المغازي 1 : 227 . وقُتل في أُحُد تسعة من بني عبد الدّار كانوا يصرّون على أن يكون اللواء بأيديهم تبعا لسنّة جاهليّة . انظر : المغازي 1 : 307 ، 308 .
2- (2) الطّبقات الكبرى 2 : 41 .
3- (3) بشأن شعرهنّ في تحريض المشركين انظر : الطّبقات الكبرى 1 : 40 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 68 ؛ أنساب الأشراف 1 : 317 : نحن بناتُ طارق * نمشي على الّنمارق إن تُقبلوا نعانق * أو تُدبروا نفارق ف-راق غي-ر وام-ق
4- (4) انظر : مجمع البيان 2 : 496 .
5- (5) أنساب الأشراف 1 : 318 .
6- (6) المغازي 1 : 230 .

من الغنائم على الرغم من إصرار قائدهم على البقاء(1) . ولمّا عرف خالد أنّ الجبل خلا من الرُّماة حمل(2) ، فقاومه عبد اللّه بن جُبير مع أصحابه الّذين كانوا أقلّ من عشرة حتّى استشهدوا . وبعد ذلك انقضّ العدوّ على المسلمين المتفرّقين الّذين لم يكونوا متأهّبين للقتال قطّ . يقول نسطاس : كنّا قد استسلمنا للمسلمين وإذا الجبل خلا ورأيتُ أصحابنا يكرّون على المسلمين . ويقول : رأيتُ رُماة المسلمين قبل ذلك وقد نزلوا من الجبل متأبّطي قِسيّهم وجعابهم ، وكلّ رجل منهم في يديه أو حضنه شيء قد أخذه ! وحين بدأ كرّ خالد فرّ المسلمون من كلّ جهة وأكثرهم فرّ إلى جبل أُحُد ، وبعضهم ذهب إلى المدينة(3) .

واضطربت الأوضاع بنحوٍ كان المسلمون يضرب بعضهم بعضا ويجرح أحدهم الآخر دون أن يشعروا حتّى قُتل أحدهم بسيف مسلم آخر(4) . واستُشهد مصعب بن عُمير في تلك اللحظة ، قتله المشركون . والّذي قتله ظنّ أنّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم فصاح : قُتل محمّد(5) . فزاد من تفرّق المسلمين ، وترك كثير منهم ساحة الحرب لهذا السّبب(6) . يقول كعب بن مالك : رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم فجعلتُ أصيح ، وأشار إليّ باصبعه على فيه أن أسكت(7) . وظنّ المشركون أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قُتل فتراخوا عن القتال

ص: 662


1- (1) نزلوا من الجبل منادين : الغنيمة ، الغنيمة . انظر : دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 267 .
2- (2) الطّبقات الكبرى 2 : 41 ؛ أنساب الأشراف 1 : 318 ؛ المغازي 1 : 232 . وجاء في تعبير الواقديّ : نظر خالد بن الوليد إلى خلأ الجبل وقلّة أهله . وفسّر بعض المترجمين خلأ الجبل بالمضيق في حين لم يرد موضوع المضيق أساسا .
3- (3) المغازي 1 : 231 .
4- (4) هو اليمان والد حُذيفة بن اليمان . وجُرح أُسَيد بن حُضَير بيد أحد الأنصار ؛ انظر : أنساب الأشراف 1 : 322 . ولمّا كان أكثرهم قد غطّوا رؤوسهم ووجوههم ، لذلك قلّما كانوا يُعرَفون .
5- (5) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 142 ؛ أنساب الأشراف 1 : 323 .
6- (6) المغازي 1 : 280 ، 281 .
7- (7) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 83 ؛ المغازي 1 : 235 ، 236 .

وملاحقة المسلمين . وسأل أبو سفيان : أيّكم قتل محمّدا ؟ قال ابن قميئة : أنا قتلتُه . قال نُسوِّرك كما تفعل الأعاجم بأبطالها(1) .

وجعل أبو سفيان يبحث عن النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بين القتلى . ولمّا لم يجده عرف أنّ ابن قميئة قد كذب ؛ وقال خالد أيضا إنّه رآه أقبل في نفر من أصحابه مصعدين في الجبل . ودام القتال حتّى أسفل الجبل ، وفيه استُشهد آخر الصحابة . ثمّ صعد المسلمون الجبل وانفضّ الاشتباك(2) . وكان لوجود الشّعب في الجبل تأثير كبير في حفظ حياة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ونجاة عدد من الصحابة . لذا قال ابن الزبعرى في شعره : ولولا علوه الشعب غادرن أحمدا(3) .

وبلغ تفرّق المسلمين واضطرابهم مبلغا أنّ محمّد بن مسلمة كان يقول : أبصرت عينايَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وإنّه ليقول : إليّ يا فلان ، إليّ يا فلان ، أنا رسول اللّه ! فما عرّج منهما واحد عليه ومضيا(4) . وكان خالد بن الوليد يقول بعد ذلك : إنّه رأى عمر حين كان ينهزم نحو الجبل ، فنكب عنه وخشي أن يغري به من معه أن يصمدوا له(5) . وفرّ بعضهم حتّى وصل إلى محلّة المنقّى قريبا من المدينة(6) . وقال نملة بن أبي نملة : لمّا انكشف المسلمون ذلك اليوم نظرتُ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وما معه أحد إلاّ نُفَير ... وإنّ كتائب المشركين لتحوشهم مقبلةً ومدبرةً في الوادي ، يلتقون ويفترقون ، ما يرون أحدا من النّاس يردّهم(7) .

ومثّل المشركون بأكثر الشّهداء ومنهم حمزة سيّد الشّهداء . وكانت المثلة ببعضهم

ص: 663


1- (1) المغازي 1 : 236 ؛ أنساب الأشراف 1 : 323 .
2- (2) المغازي 1 : 281 .
3- (3) مجمع البيان 2 : 513 .
4- (4) المغازي 1 : 237 .
5- (5) نفسه .
6- (6) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 87 .
7- (7) المغازي 1 : 240 .

كعمرو بن الجموح بحدٍّ فصلت فيه أعضاؤه بعضها عن بعض حتّى غدا لا يُعرف(1) . وجاء في خبر أنّ هندا والنساء الأُخريات قد مثّلن بجميع الشّهداء إلاّ حنظلة إذ كان أبوه مع المشركين وهو الّذي منعهنّ من الّتمثيل بابنه(2) . وذكرت هند زوجة أبي سفيان أنّ ما دفعها إلى التمثيل بحمزة هو التشفّي منه لقتلى قريش .

شفيتُ من حمزةَ نفسي بأُحُد * حتّى بقرتُ بطنه عن الكَبد(3)

ويتحدّث المقداد عن صمود رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، ومقاومته مع أربعة عشر من أصحابه حتّى اللحظة الأخيرة ، ومن ثمّ كرّه على العدوّ بالنّبل والحجارة في وقت فرّ النّاس عنه(4) . وقد التفّ بعضهم حول رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم مرّة أُخرى بُعيد الفرار ثمّ زاد

ص: 664


1- (1) المغازي 1 : 267 .
2- (2) نفسه 1 : 274 .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 92 .
4- (4) المغازي 1 : 240 . تدور خلافات حول أسماء الفارّين ، وهي لا تخلو من التّحريف عادةً . وقد رسخ هذا التّحريف في متن المغازي للواقديّ ، ذلك أنّه عندما أُشير إلى الفارّين في النسخة الّتي طُبع الكتاب على أساسها ، جاء فيها : «فلان وفلان شخص كانا من الفارّين . وذكر المصحّح في الهامش أنّ ما جاء في النصّ المذكور في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد نقلاً عن الواقديّ هو اسم عمر وعثمان مكان فلان و فلان . (انظر : ص227 ، وانظر أيضا : دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 310) . وقال سعد بن أبي وقّاص في روايةٍ : «لزم طلحة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وكنّا نتفرّق عنه ثمّ نثوب إليه» . انظر : المغازي 1 : 254 . وذهب بعض الفارّين إلى المدينة ، وبعضهم صعد حتّى سفح الجبل . يقول الواقديّ : «أتينا عمر بن الخطّاب في رهطٍ من المسلمين قعودا ، ومرّ بهم أنس بن النضر ... فقال : ما يقعدكم ؟ قالوا : قُتل رسول اللّه . قال : فما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه» . المغازي 1 : 280 . وذكر مثله ابن إسحاق أيضا ، وقال في سياقه : كان عمر ، وطلحة ، ونفر من المهاجرين والأنصار قاعدين . انظر : دلائل النّبوّة 3 : 254 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 83 . ويتبيّن من هذا أنّ طلحة كان من الفارّين أيضا . وكان عمر يقول أيضا : إنّي أرقى في الجبل كأنّي أُرْويه حتّى انتهيتُ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . (المغازي 1 : 321) ولا يُعلَم متى لقي النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم . وتحدّث الأستاذ السيّد جعفر مرتضى عن الفارّين في أُحد مفصّلاً . انظر : الصحيح من سيرة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم 3 : 241 - 250 . وجدير بالذكر أنّ اللّه تعالى عفا عن هذه الكبيرة الّتي ارتكبها الصحابة .

عددهم تدريجا . يقول الواقديّ : أوّل نفر بلغوا بني حارثة ورجعوا سراعا طائفة من الأنصار . وفي كرّتهم صادفوا المشركين فدخلوا في حومتهم ، وما أفلت منهم رجل حتّى قُتلوا(1) . ويحدّث ضرار بن الخطّاب الّذي كان في عداد المشركين أنّ جمعا من الأنصار رجعوا بعد الهزيمة ، فقتلناهم وكانوا قد صبروا لنا(2) . وكانت الهجمات المتجدّدة لبعض المسلمين قد أدّت إلى تحسّن الأوضاع نوعا ما ، لكنّ قريشا أخذت ثأرها . ويبدو أنّ قيادتها لم تُرد في تلك الظّروف أكثر ممّا وقع . ولو كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قد استُشهد لكان خيرا لهم . على أيّ حال عزموا على الرّجوع .

وكان للجهود الفرديّة الّتي بذلها بعض الصّحابة تأثير كبير في المحافظة على حياة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم والسّيطرة على الوضع بالحجم الّذي ظلّ فيه الإسلام قائما . وكان الإمام عليّ عليه السلام في نظم أفضل من صمد إذ لم يفارق رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم حتّى اللحظة الأخيرة . وتحدّث عليه السلام في البصرة مشيرا إلى وقعة أُحد ، والظّروف العصيبة يومئذٍ ، وقتاله العدوّ(3) . وجاء في خبر ابن هشام أنّ ابن أبي نجيح قال : سُمع يوم أحد نداء

لا فتى إلاّ عليّ * لا سيف إلاّ ذوالفَقار(4)

وقيل إنّ الإمام عليه السلام جُرح ذلك اليوم سبعين جراحةً(5) . ونقل ابن هشام شعرا للحجّاج بن علاط السُلَميّ يمدح فيه شهامة الإمام عليه السلام وشجاعته في قتل طلحة بن أبي طلحة وإخوته الآخرين الّذين كانوا حَمَلَة لواء العدوّ(6) . ومهما كان فالإمام عليه السلام نفسه كان راضيا عن سيفه في هذه الحرب ، ذلك السّيف الّذي كان يقطر دما وقد

ص: 665


1- (1) المغازي 1 : 257 .
2- (2) نفسه 1 : 283 .
3- (3) نفسه 1 : 256 .
4- (4) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 100 ؛ مجمع البيان 2 : 497 .
5- (5) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 47 ؛ دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 234 .
6- (6) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 151 .

اعوجّ بعد الحرب(1) . وعنّف نساء المدينة أحد المنافقين واسمه قزمان وكان رجع إلى المدينة مع عبد اللّه بن أُبيّ ، ثمّ التحق برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم مرّة أُخرى . وكان شجاعا وكرّ على العدوّ بشدّة وقتل واحدا أو اثنين إلى أن جُرح ، فوصل إليه قتادة بن النّعمان وقال له : هنيئا لك الشّهادة ! قال قزمان : ما قاتلتُ على دينٍ ، ما قاتلتُ إلاّ على الحِفاظ أن تسير قريش إلينا حتّى تطأ سَعَفَنا . (وجاء في بعض الأخبار : قدمتُ الحرب لأذبّ عن الحسب) . ولمّا سمع ذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قال : من أهل النّار(2) . وكان هدفه صلى الله عليه و آله وسلم إضفاء الصّبغة الدّينيّة على الحركة الجهاديّة بنحو تامّ . لذا عندما أنشد كعب بن مالك : مجالدنا عن جِذمنا كلّ فخمةٍ ، قال صلى الله عليه و آله وسلم : لو قلتَ : مجالدنا عن ديننا كلّ فخمة لكان أفضل(3) . ونجد في مقابل قزمان رجلاً مثل عمرو بن ثابت الّذي أسلم ذلك اليوم واستُشهد في الحرب دون أن يصلّي صلاةً واحدةً(4) .

وجُرح رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في وجهه وفمه - وطعن أُبيّ بن خلف بحربته فجرحه ، ثمّ مات في رجوع قريش إلى مكّة(5) . وأثنى صلى الله عليه و آله وسلم على قتال ثلّة من أصحابه : عليّ عليه السلام ، وسهل بن حُنيف ، وأبي دجانة ، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصمّة(6). وكان قرب المدينة من موضع القتال - وكذلك فرار بعض الأشخاص إلى المدينة ووصول أخبار الحرب إلى أهل المدينة - باعثا على قدوم عدد من أهلها إلى أُحُد . وأسرعت بعض

ص: 666


1- (1) دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 283 .
2- (2) المغازي 1 : 224 ، 225 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 88 . بعد جرحه أخذ السّيف فاتّكأ عليه حتّى خرج من ظهره . انظر : المغازي 1 : 264 .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 135 ، 136 .
4- (4) المغازي 1 : 262 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 90 . قالوا : وكان مخيريق اليهوديّ من أحبار اليهود لحق برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ذلك اليوم وأوصى بأن تكون أمواله كلّها لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . انظر : المغازي 1 : 262 ، 263 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 88 ؛ أنساب الأشراف 1 : 325 .
5- (5) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 84 ؛ أنشد حسّان بن ثابت شعرا جميلاً في ذلك . انظر : المصدر نفسه : 85 .
6- (6) نفسه 3 : 100 ؛ المغازي 1 : 249 .

النساء المسلمات إلى العطشى فسقينهم ، وإلى المجروحين فداوينهم(1) . واصطدم بعضهنّ بالعدوّ وجرحن مثل نسيبة الّتي كانت في ميدان القتال منذ الصّباح(2) . وذكر الواقديّ أخبار سائر النساء اللاّئي كنّ في أُحُد مفصّلاً(3) . وأخذ أبو دجانة في بداية الحرب سيفا من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ومشى بين الصفّين متبخترا . فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : «إنّ هذه لمشية يُبغضها اللّه عزّ وجلّ إلاّ عند القتال»(4) .

وكان الشّهداء من المسلمين سبعين . وفقد كثير من نساء الأنصار عددا من أقاربهنّ . وحملت زوجة عمرو بن الجموح جنازة زوجها ، وابنها ، وأخيها على بعير لها قاصدة المدينة ، وكانت تقول : «أمّا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم فصالح ، وكلّ مصيبةٍ بعده جَلَل» . وكان بعيرها يبرك في ذهابه إلى المدينة ، وعندما توجّهه راجعة إلى أُحُد يُسرع . ودفنهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في أُحد(5) . ولقي صلى الله عليه و آله وسلم في الطريق حَمْته بنت جحش ، فعزّاها باستشهاد أخيها عبد اللّه ، وصبرت . ثمّ عزّاها باستشهاد خالها حمزة ، وبعد ذلك عزّاها ببعلها مصعب بن عمير ، فصاحت ، فقال صلى الله عليه و آله وسلم : إنّ للزوج من المرأة مكانا ما هو لأحدٍ(6) .

ولمّا كان لهذه الحرب بعد ثأريّ (كان أبو سفيان يقول : يوم بيوم بدر) فإنّ بعض الأشخاص كانوا يبحثون عن قتلة آبائهم . فقد كُلِّف وحشيّ الّذي قيل إنّه كان غلاما لجبير بن مطعم أو لبنت الحارث بن عامر بقتل عليّ عليه السلام أو حمزة عليه السلام . فكان يبحث

ص: 667


1- (1) المغازي 1 : 249 ، 250 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 81 ، 82 ؛ المغازي 1 : 268 ، 269 .
3- (3) انظر : المغازي 1 : 269 - 273 .
4- (4) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 67 ؛ دلائل النّبوّة 3 : 234 .
5- (5) المغازي 1 : 265 . كان كثير من المفجوعين يهدأ روعه إذا سمع سلامة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . انظر : المغازي 1 : 291 ، 292 .
6- (6) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 98 .

عن حمزة في ميدان القتال حتّى إذا وجده ضربه بحربته فقضى عليه ، ومُثّل بجسده الطاهر(1) . وأعدّ الواقديّ كلّ ما سمعه عن هذا الحرب ، ولابدّ من القول إنّه أخبرنا بأفضل أخبارها .

ولمّا كانت معركة أُحُد معركة الشّهادة فإنّ الحكايات عن جَلَد النساء ، وشجاعة الرّجال ، ولقطات الإخلاص الحماسيّة كثيرة فيها . وعندما بلغ المسلمون سعد بن الرّبيع وفيه اثنتا عشرة طعنة بالحربة قال مخاطبا الأنصار وهو في أنفاسه الأخيرة : اللّه ، اللّه ، وما عاهدتم عليه رسول اللّه ليلة العقبة ! واللّه ما لكم عذر عند اللّه إن خُلص إلى نبيّكم ومنكم عين تطرف(2) !

وعندما وضعت الحرب أوزارها ذهب أبو سفيان عند الجبل واقترب من الشِّعب الّذي كان فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وأصحابه ، وقال : أين ابن أبي كبشة ؟ وهو لقب لقّب به المشركون رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . ثمّ قال : يوم بيوم بدر ، وحنظلة بحنظلة(3) ؛ (كناية عن استشهاد حنظلة غسيل الملائكة في مقابل حنظلة بن أبي سفيان ببدر) . ثمّ سأل : هل قُتِل محمّد ؟ فقيل له : لا . وسُرّ بنصر هُبَل ، ورأى أنّ حادثة أُحد دليل على حقّانيّة الأصنام(4) . وتحدّث عن الّتمثيل بالشّهداء ، وأنّ هذا العمل ليس بأمر الأكابر ، مع ذلك

ص: 668


1- (1) المغازي 1 : 285 ، 286 ؛ وقيل : هو الّذي قتل مسيلمة الكذّاب ؛ لكنّه حُدّ في زمن عمر مرارا بسبب شربه الخمر إلى أن حذف عمر اسمه من الديوان . وكان عمر يقول : كنتُ أعلم أنّ اللّه لا يدع قاتل حمزة . انظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 73 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 95 ؛ المغازي 1 : 293 .
3- (3) قال ابن الزِّبعرى في شعره أيضا : (انظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 137) فقتلنا الضّعفَ من أشرافهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل
4- (4) ولمّا عاد إلى مكّة أيضا ذهب إلى هُبَل قبل بيته ، وشكره على ظفرهم ، وحلق رأسه ؛ المغازي 1 : 299 .

لم يمتعض منه(1) ! وأضاف : ألا إنّ موعدكم بدر على رأس الحول ! فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أن يجيبوه بالايجاب .

وبعد ذلك توجّه جيش قريش إلى مكّة . وذكر ابن إسحاق أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أوفد الإمام عليّا عليه السلام ليرى أهل ذهبوا حقّا أم هي مكيدةٌ منهم(2) . لكنّ ما ظهر دلّ على ذهابهم . ويبدو أنّ بعض المشركين كانوا ينوون نهب المدينة بيد أنّ رجالاً حالوا دون ذلك ، وممّا قالوه أنّ لديهم عوائل ولا يعلمون ماذا سيحدث لهم بعد ذلك ، كما أنّ المسلمين لم يلاحقوا الفارّين منّا ببدر . وذكر الواقديّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بعث سعد بن أبي وقّاص ليأتيه بخبر القوم فذهب ورجع يخبر بابتعادهم ووجهه منكسر . وخلا به رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وسأله : حقّا ما تقول ؟ قال : نعم . ثمّ سأله : ما لي رأيتك منكسرا ؟ قال : كرهتُ أن آتي المسلمين فرحا بقفولهم إلى بلادهم(3) .

طبيعيّا كانت قريش تحتمل أيضا جمع المسلمين قواهم مرّةً أُخرى ومواجهتهم لهم بخاصّة أنّ كثيرا من الأوس والخزرج تخلّفوا عن الحرب لسبب أو آخر ، ويُحتَمل التحاقهم بالجيش الإسلاميّ مرّة أُخرى . والخسائر الّتي تكبّدها العدوّ لم تكن قليلة

ص: 669


1- (1) ذكر ابن إسحاق أنّ الحُلَيس بن زبان الّذي كان رئيس الأحابيش اعترض على أبي سفيان لتمثيلهم بحمزة ، فطلب منه أبو سفيان ألاّ يحدّث بذلك إذ كان خطأً منهم . انظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 93 ، 94 ؛ المصنّف لعبد الرزّاق 5 : 366 ؛ دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 213 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 94 .
3- (3) المغازي 1 : 296 - 298 . ويمكن أن يكون رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قد بعث شخصين في مرحلتين مختلفتين . مع هذا إنّ من الملاحظات اللافتة للنظر في غزوة أُحُد هي أنّ بعض الأعمال تُنسَب إلى الإمام عليّ عليه السلام تارةً ، وإلى سعد بن أبي وقّاص أو الزبير تارةً أُخرى . وليس هذا ببدع لأنّ الرّواة المدنيّين متّهمون في مثل هذه المجالات . ومن المناسب هنا أن ننقل رواية عن صلح الحديبيّة : يقول ابن عبّاس : كاتب الصّلح هو عليّ عليه السلام . ويقول معمّر سألتُ الزّهريّ في ذلك ، فضحك وقال : الكاتب عليّ عليه السلام لكن لو سألت بني أميّة لقالوا : عثمان . المصنّف ، عبد الرزّاق 5 : 343 .

لا سيّما أنّ المنطقة هي منطقة المسلمين . كما أنّ من مشكلات قريش هي أنّ أكثر خيولهم قد عُقرت من النّبل ولا قدرة لها على الحرب(1) . ويبدو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم رجع إلى المدينة في أوّل الليل وصلّى بالمسلمين المغرب والعشاء . وكان الأنصار يحرسون مسجده وبيته صلى الله عليه و آله وسلم تلك الليلة حتّى الصّباح إذ كان من المحتمل رجوع قريش أو في الأقلّ قيام جماعة منها بشنّ الغارة .

وكان الشهداء أربعا وسبعين . وبينهم وجوه بارزة من المهاجرين والأنصار منهم حمزة ومصعب بن عمير . واستُشهد من بني عبد الأشهل الّذين كانت مساكنهم قريبة من أُحُد اثنا عشر . وقال ابن الزّبعرى في قتلى المسلمين :

ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل

حين حكّت بقباء بركها * واستحرّ القتلُ في عبد الأشل(2)

يريد من تشبيهه الحرب بالجمل الواضع صدره على الأرض بقُباء أنّ عددا كبيرا من شهداء المسلمين كانوا من قُباء وواصل كلامه عن مقتل بني عبد الأشهل .

ومن الشهداء مجذَّر بن زياد ، قتله الحارث بن سُوَيد الّذي كان من المسلمين أيضا . وقصّتهما أنّ مجذّرا قتل سُوَيد بن الصّامت في مكانٍ شاغر أيّام حروب الأوس والخزرج في الجاهليّة . ثمّ أسلم الحارث بن سويد ومجذَّر لكنّ الحارث كان يفكّر بالثّأر لأبيه ، ولم يستطع أن يثأر له ببدر إلى أن نشبت حرب أُحُد ، فاستغلّ تفرّق المسلمين وقتله غيلةً . ونقل الواقديّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عرف ذلك بعد واقعة أُحُد بأيّام إذ أخبره جبرئيل عليه السلام بها . فركب صلى الله عليه و آله وسلم إلى قباء في اليوم الّذي أخبره جبرئيل ، في يوم حارّ ، وكان لا يذهب إلى قباء إلاّ يوم السّبت والاثنين ، للصّلاة في مسجدها . فعرف أهلها أنّ قدومه صلى الله عليه و آله وسلم إليها في غير الوقت المألوف يدلّ على حادثة غير طيّبة .

ص: 670


1- (1) المغازي 1 : 299 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 137 .

ودعا صلى الله عليه و آله وسلم عويم بن ساعدة وقال له : قدّم الحارث بن سويد إلى باب المسجد واضرب عُنقه . فحاول الحارث أن يوصل نفسه إليه صلى الله عليه و آله وسلم وأعرب عن ندمه وقال إنّه مسلم حقّا لكنّ هوى النّفس غلب عليه ، وأعلن عن استعداده لدفع ديته ، وأن يُعتق رقبةً ، ويصوم شهرين متتابعين ، ويُطعم ستّين مسكينا . فقال النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم : قدّمه يا عويم فاضرب عنقه(1) ! وكانت هذه الواقعة درسا تربويّا للمسلمين قاطبةً . كان عليهم أن ينسوا الجاهليّة . وبهذا العمل دلّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم على أنّه غير مستعدّ أن يتعدّى حدود اللّه تعالى في تنفيذ حكمٍ بحقّ مجرمٍ ارتكب خلافا ، بل لم يسمع توسّله وأنينه وتوبته .

وقُتل من المشركين ثلاثة وعشرون أو أربعة وعشرون . ونقل ابن إسحاق أنّ ستّة منهم قتلهم الإمام عليّ عليه السلام (2) . ومن هؤلاء أبو عزّة الجمحيّ الّذي كان الأسير الوحيد في غزوة أُحُد . وكان قد أُسر ببدر من قبل لكنّه توسّل برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم واستغاث به أن يمنّ عليه بفدائه لكثرة عياله . ثمّ اتّفق أن يؤسر بأُحد ، وفي هذه المرّة طلب من النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أن يمنّ عليه أيضا فقال صلى الله عليه و آله وسلم : «إنّ المؤمن لا يلدغ من جُحرٍ مرّتين . ولا ترجع إلى مكّة تمسح عارِضَيك تقول : سخرتُ بمحمّد مرّتين» . ثمّ أمر أن تُضرَب عُنُقه(3) . وكان أُبي بن خلف في عداد القتلى ، جرحه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بحربته ، ثمّ هلك في طريق رجوعه إلى مكّة .

ودُفِن عدد من الشّهداء في أُحُد ، وأُتي بثُلّة أُخرى منهم إلى المدينة ودفنوا بالبقيع ،

ص: 671


1- (1) المغازي 1 : 305 ؛ أنساب الأشراف 1 : 322 - 331 . ويختلف ما نقله الواقديّ عمّا ذكره ابن إسحاق ثمّ صحّحه ابن هشام . انظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 89 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 127 (حول بعضهم خلاف) . انظر : دلائل النّبوّة 3 : 238 .
3- (3) المغازي 1 : 309 ؛ أنساب الأشراف 1 : 35 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 43 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 104 .

ووُريَ اثنان منهم في قباء . وجرى هذا العمل من غير علم النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، بيد أنّه علم به في وقتٍ كان نقلهم إلى أُحُد متعذّرا . وكان أكثر الشّهداء يُدفَنون اثنين اثنين في قبر واحد ، وأحيانا ثلاثة ثلاثة . وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عند دفن مصعب الّذي كان من أولاد أشراف مكّة : «لقد رأيتُك بمكّة وما بها أحد أرقّ حلّةً ولا أحسن لمّة منك . ثمّ أنت شعث الرأس في بردة»(1) ! ونقل الواقديّ أنّ بعض الشهداء دُفنوا بالصحراء متفرّقين ، ولم تعرف إلاّ بقبور بعضهم كحمزة بن عبد المطّلب ، وسهيل بن قيس ، وعبد اللّه بن عمرو ابن حزّام ، وعمرو بن الجموح(2) . وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يذهب إلى زيارة قبورهم في كلّ عام ، وإذا بلغ أوّل القبور قال : «السّلام عليكم بما صبرتم فنعم عُقبى الدار» . وهذه سيرة عمل بها الخلفاء من بعده أيضا(3) .

وكانت السّيّدة فاطمة الزّهراء عليهاالسلام تذهب إلى زيارة قبورهم كلّ ثلاثة أيّام(4) . وهي الّتي أعلمت قبر حمزة بصخرةٍ(5) . ويذكر الواقديّ كثيرا من الصّحابة الّذين كانوا يذهبون إلى زيارة قبر حمزة وسائر الشّهداء من أُحُد . وبعد مضيّ ستّ وأربعين سنة أراد معاوية حفر قناة في أُحُد فطلب أن تحضر عوائل الشّهداء . وظهرت أجساد

ص: 672


1- (1) الطّبقات الكبرى 3 : 90 .
2- (2) كانت قبور بعض الشّهداء تبعد عن قبر حمزة خمسمائة متر . انظر : تاريخ المدينة المنوّرة 1 : 129 ، 130 ، 131 .
3- (3) تاريخ المدينة المنوّرة 1 : 132 ؛ دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 306 - 308 . وكان عليّ عليه السلام يسلّم على شهداء أُحُد أيضا ؛ انظر : دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 309 ؛ وفاء الوفاء 3 : 933 ؛ وكان النّاس يصلّون عند قبر حمزة أيضا ؛ انظر : دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 308 ؛ البداية والنّهاية 4 : 45 ؛ (ليلتفت الوهّابيّة) .
4- (4) المغازي 1 : 313 ؛ وفاء الوفاء 3 : 932 ؛ دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 309 .
5- (5) تاريخ المدينة المنوّرة 1 : 132 .

بعضهم عند الحفر حتّى أُجبروا على تغيير موضع قبر بعضهم . وقيل إنّ الأجساد كانت سالمة تماما(1) .

ولمّا يمّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم المدينة قادما من أُحُد لقي أمّ سعد بن معاذ فعزّاها بعمرو ابنها . ثمّ قال : «يا أمّ سعد أبشري وبشّري أهليهم أنّ قتلاهم قد ترافقوا في الجنّة جميعا - وهم اثنا عشر رجلاً - وقد شُفِّعوا في أهليهم» . قالت : رضينا يا رسول اللّه ، ومن يبكي عليهم بعد هذا(2) ؟ وكان هناك من دفعه ضعف إيمانه إلى الاعتراض . ولمّا جُرح يزيد بن حاطب ووسِّد في المدينة محتضرا بشّره المسلمون بالجنّة ، فقال أبوه : تعدونه جنّة يدخل فيها ؟ غررتموه من نفسه حتّى خرج(3) ! ومثل هذه الحالات كان قليلاً .

وجلس أهل المدينة لاسيّما نساؤهم للعزاء ، ولمّا رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عزاء نساء الأنصار قال : أمّا حمزة فلا بواكي له(4) ، لذا كنّ يأتين بيته بعد صلاة المغرب ويبكينه ، وهنّ نساء الأنصار ويقصدن العزاء على حمزة وتطييب قلب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم الّذي كان يحبّ حمزة . وكلّما جلسن للعزاء بعد ذلك يبدأن بحمزة(5) . وأنشد شعراء الأنصار شعرا كثيرا في رثائه ، ونقله ابن إسحاق(6) . وجُرح ثلاثون من المسلمين ، وظلّوا في بيوتهم ، يداويهم الآخرون .

وفي هذه الأجواء طفق المنافقون واليهود يلومون المسلمين . وكان عبد اللّه بن أُبيّ الّذي جُرح ابنه في أُحد يقول : عصاني محمّد وأطاع الولدان . مع هذا وحفاظا على

ص: 673


1- (1) انظر : المغازي 1 : 267 - 268 ؛ تاريخ المدينة المنوّرة 1 : 128 ؛ وفاء الوفاء 3 : 936 - 939 .
2- (2) المغازي 1 : 316 .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 88 .
4- (4) الطّبقات الكبرى 2 : 44 .
5- (5) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 99 ؛ دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 216 - 301 ؛ المغازي 1 : 316 ، 317 ؛ الطّبقات الكبرى 1 : 44 .
6- (6) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 151 - 163 .

منزلته في المسجد وتفوّقه قام بحضور رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وقال : هذا رسول اللّه بين أظهركم، قد أكرمكم اللّه به ؛ انصروه وأطيعوه . ولكن لخبثه الّذي ظهر في أُحُد قام إليه المسلمون وصاحوا : اجلس يا عدوّ اللّه ! وجعل أبو أيّوب يأخذ بلحيته ، وعبادة بن الصّامت يدفع في رقبته ، ويقولان له : لستَ لهذا المقام بأهلٍ(1) ! وذكر ابن إسحاق أنّ يوم أُحُد كان يوم بلاء ومحنة واختبار إذ عرّف اللّه المؤمنين والمنافقين ، المنافقين الّذين يُظهرون الإيمان بألسنتهم ويبطنون الكفر في قلوبهم ، وكان يوما منّ اللّه به على أهل ولايته الّذين أراد بالشّهادة(2).

وكانت الواقعة المسمّاة بغزوة حمراء الأسد تتمّة لغزوة أُحُد . قالوا : لمّا جاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم المدينة بلغه أنّ المشركين ندموا على تركهم المدينة ورجوعهم إلى مكّة ، فأمر صلى الله عليه و آله وسلم أن يتأهّب الصّحابة الّذين شهدوا أُحُدا ، حتّى المجروحون الّذين لهم طاقة على المشي ، للمسير إلى المشركين . والآية (172) من سورة آل عمران تتحدّث عن إجابة هؤلاء أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، حتّى بعد جرحهم، إذ استجابوا لدعوة اللّه ورسوله.

وجاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم حتّى منطقة حمراء الأسد(3) وهذه المنطقة على الطّريق بين المدينة ومكّة ، وتبعد عن المدينة عشرين كيلومترا . وذهب الواقديّ إلى أنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم تحرّك يوم الأحد ، أي : في غد يوم أُحُد . وأعطى الراية عليّا عليه السلام (4) ، ثمّ تحرّك . ولم يبعد عنهم العدوّ كثيرا وقتئذٍ . وأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ليلة الاثنين أن توقد النار في خمسمائة موضع . ومرّ معبد بن أبي معبد الخزاعيّ - وهو يومئذٍ مشرك لكنّه

ص: 674


1- (1) المغازي 1 : 318 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 105 ؛ دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 274 ؛ نقل اللفظ المذكور عن الآخرين .
3- (3) دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 217 ؛ المغازي 1 : 340 .
4- (4) ونقل الواقديّ هنا قولاً آخر أيضا وهو أنّها دُفعت إلى أبي بكر ! انظر : المغازي 1 : 336 . وأشرنا في أحد الهوامش المتقدّمة إلى فلسفة مثل هذا الاختلاف في الأخبار .

من خزاعة حليفة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم - على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم حتّى وصل إلى أبي سفيان بالروحاء ، فقال له : أهل المدينة مجمعون على ألاّ يرجعوا حتّى يثأروا لقتلاهم . وقيل : إنّ أبا سفيان نفسه لم يوافق على الرجوع ، وكان يحتمل اتّحاد الأوس والخزرج ، ومقاومتهم بشدّة ، حتّى من تخلّف منهم في أُحُد(1) .

وسار المشركون نحو مكّة بسرعة وكانوا قد خشوا اجتماع أهل المدينة . ووصل خبرهم إلى المدينة . ورجع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إلى المدينة بعد ثلاثة أيّام أمضاها في حمراء الأسد(2) . ومهما كان فالتّحرّك المذكور خطوة وقائيّة مهمّة لصدّ الهجوم القرشيّ على المدينة ، ويضاف إليه أنّه يمثّل نوعا من تعزيز المعنويّات لأناس كانوا قد هُزموا بشدّةٍ أمس .

موقعة أُحد في القرآن الكريم

قال ابن عوف لشخص سأله عن أُحد : «يا ابن أخي عُدَّ بعد العشرين ومائة من آل عمران فكأنّك حضرتنا»(3) . وذكر ابن إسحاق أيضا أنّ ستّين آيةً من سورة آل عمران خاصّة بأُحُد(4) . ويتحدّث عدد من آياتها عن وقائع أحد بصراحة ، وبعضها يشير إلى نقاط عامّة بشكل غير صريح .

تخاطب الآية (120) المؤمنين فتقول : « إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا » . وهكذا تهيّؤهم من الناحية الرّوحيّة لصبر أكثر من أجل الخلاص من مكر المشركين ، وتحول دون قلقهم من شماتة العدوّ .

ص: 675


1- (1) المغازي 1 : 339 .
2- (2) دلائل النّبوّة ، ابن هشام 3 : 315 .
3- (3) المغازي 1 : 319 ؛ أنساب الأشراف 1 : 327 .
4- (4) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 106 .

وتذكّر الآية الّتي تتلوها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بيوم خروجه من أهله ، وتعبئته المؤمنين لخوض الحرب . قال تعالى : « وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّه ُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » . وهذه الآية معدودة في الآيات النازلة بشأن أحد . لكنّ قوله : (غدوتَ) المترجَم بالصبح لا ينسجم مع ذهاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إلى أُحُد عصر يوم الجمعة . والّذي يرفع الإشكال هو تفسير «الغداة» بمطلق الخروج ، كما أنّ «الرّواح» مطلق الرّجوع . فالمعنى هو ليس الصبح ، على عكس ما ورد في مختلف التّرجمات(1) .

وتذكر الآية (122) الطّائفتين اللّتين لم تعزما على حضور الحرب . وذهب المفسّرون إلى أنّهما بنو حارثة وبنو سلمة من الأنصار ، بيد أنّ الّذي يُستشفّ من قوله : « وَاللّه ُ وَلِيُّهُمَا » هو أنّهما كانتا من أهل ولاية اللّه بمستوى تحضران فيه القتال مع سائر المؤمنين . وجاء في آخر الآية قوله : « وَعَلَى اللّه ِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ » .

ويُثار للمؤمنين هنا سؤال مفاده إنّ اللّه تعالى لِمَ لَمْ ينصرهم في أُحُد . ويبدو أنّ الجواب عن هذا السؤال يتمثّل في أنّ اللّه سبحانه يبيّن شروط نصره بذكر غزوة بدر . قال تعالى : « وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه ُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللّه َ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةٍ مُنزَلِينَ * بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِن فَوْرِهِمْ هذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللّه ُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّه ِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ » . ويستبين من ظاهر الآيات أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كان يُذكّرهم بإمداد اللّه إيّاهم ببدر ، وذلك قبل وقوع حرب أُحُد ، ويقول : إن تصبروا وتتّقوا يزيدكم اللّه إمدادا أكثر من

ص: 676


1- (1) وجاء هذا التعبير أيضا في قصيدة كعب بن مالك الّتي رثى بها حمزة (السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 139) غداةَ أجابت بأسيافها * جميعا بنو الأوسِ والخزرج

بدر . فالصمود على أيّ حال من الشّروط الأصليّة للإمداد الإلهيّ(1) . يقول الواقديّ : «فلم يصبروا وانكشفوا فلم يُمَدّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بمَلَكٍ واحد يوم أُحُد»(2) .

ثمّ تأتي آيات لا علاقة لها بموقعة أُحُد إلاّ الآية «132» الّتي تؤكّد إطاعة اللّه ورسوله . ومرّة أُخرى تتناول الآية «139» فما تلاها ما حدث في أُحُد . وسبقتها إشارة إلى السنن الإلهيّة في التّاريخ في إبادة أقوام اتّهموا رسلهم بالكذب ، وأنّ النظر فيما حدث ونتائجه بيان للناس وهدًى وموعظة للمتّقين . ثمّ قال تعالى في الضربة الّتي تلقّاها المسلمون بأُحد : « إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّه ُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّه ُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ » . وكثير من المسلمين الّذين لم يشهدوا بدرا كانوا يتمنّون الشّهادة بعد ذلك(3) .

وقال سبحانه : « وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ »وكانت ذريعة كثير من الفارّين يوم أُحُد خبر قتل النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم . قال تعالى في الآية «144» : « وَمَا مُحمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّه َ شَيْئا وَسَيَجْزِى اللّه ُ الشَّاكِرِينَ » .

وكان كثير من ضعفاء الإيمان والمنافقون يزعمون أنّ المسلمين يُقتَلون في غير سَدَد . قال تعالى في الآية «145» : « وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه ِ كِتَابا مُؤَجَّلاً » وبعد ذلك يضرب مثالاً على مقاومة أصحاب الأنبياء السّابقين في الحروب فيقول : « وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِىٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللّه ِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللّه ُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * ... فَآتَاهُمُ اللّه ُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ » .

ويتحدّث في الآية «152» عمّا يرتبط بوعده سبحانه ونصره ، وفرار المسلمين من

ص: 677


1- (1) انظر : مجمع البيان 2 : 499 ؛ ويقول الواقديّ أيضا : إذ تقول هذا يوم أُحُد ؛ المغازي 1 : 319 .
2- (2) المغازي 1 : 320 .
3- (3) المغازي 1 : 321 ؛ مجمع البيان 2 : 511 .

ساحة القتال ، ومن ثمّ هزيمتهم : « وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّه ُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَا تُحِبُّونَ مِنكُم مَن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ(1) وَاللّه ُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ » . وتدلّ هذه الآية على ماهيّة الصّحابة بصراحة إذ يميل بعضهم إلى الدّنيا ، وبعضهم إلى الآخرة . وتمثّل هذه التّوجيهات الّتي تترافق مع ظاهرة النفاق السّائدة في المدينة هزّة لمن يعتقد بنظريّة عدول الصّحابة كلّهم . والطّريف في هذه الآية أنّها أثارت دهشة البعض واستغرابهم حتّى قال قائلهم أنّه ما كان يحسب أنّ أحدا من صحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يطلب الدّنيا حتّى نزلت الآية(2) .

ثمّ أشار سبحانه إلى فرار المسلمين فقال جلّ شأنه : « إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّه ُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ » . وبغضّ النّظر عن الآراء المختلفة في شرح هذين الغمّين(3) إنّ الآية تُشير إلى ما فُقد منهم وما نزل بهم من المصائب والقروح . ولعلّ المقصود من اللفظ المذكور هو ازدياد الغمّ بعد الغمّ في كلّ لحظةٍ بعد الفرار . فقد أضاعوا ما كان في أيديهم من النّصر . واستُشهد كثير منهم . والخبر الّذي شاع في أوساطهم هو مقتل رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم .

وقال تعالى : « ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُم مِن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسا يَغْشَى طَائِفَةً مِنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّه ِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَى ءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَى ءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِىَ اللّه ُ

ص: 678


1- (1) انظر الاحتمالات الواردة في تفسير هذه الفقرة من الآية في تفسير مجمع البيان 2 : 514 .
2- (2) دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 228 ، 229 .
3- (3) مجمع البيان 1 : 523 .

مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَاللّه ُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ » . وتمّ تأكيد هذا الموضوع نفسه في الآية (156) أيضا .

وقال سبحانه في الآية (155) بشأن الفارّين : « إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللّه ُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّه َ غَفُورٌ حَلِيمٌ » .

وعفا تعالى عن الفارّين الّذين ارتكبوا كبيرةً بفرارهم وقال لرسوله : « فَبِمَ-ا رَحْمَةٍ مِنَ اللّه ِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه ِ إِنَّ اللّه َ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ » . وقوله : « وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ » في الفارّين من الحرب ، هو من أجل جذب قلوبهم لا محالةً ، لذا قال بعدها « فَإِذَا عَزَمْتَ » ممّا يشير إلى أنّ صاحب القرار هو رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . وفي الوقت نفسه ينبغي أن نقول : إنّ مشاورة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم الصّحابة في الخروج من المدينة لا علاقة لها بالهزيمة . فما كان مهمّا هو أهواء بعض الصحابة ، الّتي جعلت الشّيطان يغويهم . وفي كلّ الأحوال إنّ ما حدث هو نتيجة أعمال النّاس أنفسهم .

قال تعالى في الآية (165) : « أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّه َ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ » . فجملة القول إنّ كلّ شيءٍ يتحقّق بإذن اللّه تعالى . أي : كان متيسّرا أن يحول سبحانه من عالم الغيب دون هذا الحادث . لكنّه لا يفعل خلاف السُّنن الّتي وضعها في الكون إلاّ لمصلحةٍ أكبر ، وهي نفسها سنّة أُخرى . والمصلحة هنا تستلزم إذنه تعالى للمؤمنين والمنافقين أن يبدو كلّ ما عندهم ، لذا قال في الآيات 166 - 168 : « وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّه ِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللّه ِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ(1) هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلاْءِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَا لَيْسَ فِى

ص: 679


1- (1) لعلّهم لا يقصدون أنّهم لو كانوا يعلمون قتالاً لاَتَّبعوهم ، إذ كان واضحاً أنّ الحرب تنشب في كلّ حال : فكان قصدهم أنّ هذه الحرب جائرة وغير حقيقيّة ؛ وكانوا يقولون : ما ندري على ما نقتل أنفسنا ؛ فهذا انتحار . انظر : أنساب الأشراف 1 : 315 .

قُلُوبِهِمْ وَاللّه ُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لاِءِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ » . وهذه الآيات نزلت في المنافقين خصوصا جماعة عبد اللّه بن أُبيّ .

ونحن نعلم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم جهّز جيشه بعد أُحد ليجعله على أهبة الاستعداد ويهدّد به المشركين ، وجاء حتّى حمراء الأسد . ولمّا بلغه أنّ المشركين ذهبوا ولا ينوون الرجوع عاد إلى المدينة . قال سبحانه بشأنهم في الآية (172) و(173) من آل عمران : « الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّه ُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ » .

معالم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في أُحُد

نلحظ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم منذ أن دخل المدينة ، وأقام الصلاة في قباء بادئ الأمر ، ثمّ بنى مسجدها إلى أن فارق الدنيا خلّف ذكرياته في عشرات المواضع الّتي تبرّكت بصلاته فيها ، فصارت مساجد للمسلمين . سار صلى الله عليه و آله وسلم بهذه السّيرة في كلّ حيّ ، وبين كلّ قوم وقبيلة . وكان النّاس في كلّ منطقةٍ يدعونه بشوقٍ إلى تأسيس مسجد وإقامة الصّلاة فيه . وبلغ تعلّق النّاس به صلى الله عليه و آله وسلم أنّه حيثما ذهب وصلّى ، حتّى لو صلّى معه أحد ، اتُّخذت البقعة الّتي يصلّي فيها مسجدا ، كما تتبرّك وتُقدَّس كلّ عين كان يشرب منها الماء ، وتحظى باحترام الجميع . وكانت سنّة التّبرّك جارية بجدٍّ وشرعيّة بين الصّحابة والتّابعين ، وتتوفّر مئات الأدلّة لإثبات ذلك(1) . وأورد ابن شبّه فهرسا للمساجد الّتي

ص: 680


1- (1) وردت هذه الأدلّة مفصّلاً في كتاب التبرّك الثمين للأستاذ آية اللّه أحمدي ميانجي .

أقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم فيها الصّلاة(1) .

منها في غزوتَي أُحد والخندق إذ اتُّخذت بعض الأماكن الّتي صلّى فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، أو جلس، أو لبث فيها قليلاً مساجد للصلاة. وعندما صعد صلى الله عليه و آله وسلم إلى شعب جرار في سفح أُحد وصلّى فيه الظهر والعصر اتُّخذ ذلك المكان مسجدا عُرف بمسجد الفسح . وقيل إنّ هذه التّسمية تعود إلى أنّ المكان المذكور كان ضيّقا لحضور الصّحابة في الجماعة ونحن نعلم أنّ اللّه سبحانه أمر المؤمنين أن يتفسّحوا في المجالس إذا دخل عليهم أحد واحتاج إلى مكان يجلس فيه(2) . وروى ابن شبّه عن رافع بن خديج أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم صلّى في مسجد صغير ملاصق لجبل أحد في شعب جرار(3) . وشِيد مسجد آخرفي الموضع الّذي تكسّرت فيه ثنايا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، فعُرف بقبّة الثنايا(4).

وأشرنا من قبل إلى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لمّا تحرّك من المدينة إلى أُحُد توقّف في حصن الشّيخين ، فبُني عنده مسجد يعرف بمسجد الشّيخين أو مسجد البدائع(5) . وفي رجوعه من أُحد مكث في الطريق هنيئةً ليستريح فبُني مسجد الاستراحة . وهو الآن على الشّارع ، وتمّ ترميمه بشكل رائع(6) . وقبل ذلك كان صلى الله عليه و آله وسلم قد توقّف في طريق بدر بمحلّة سقيا . فأُنشئ فيها بعد ذلك مسجد سقيا أيضا .

ص: 681


1- (1) تاريخ المدينة المنوّرة 1 : 75 - 79 .
2- (2) المجادلة : 11 .
3- (3) تاريخ المدينة المنوّرة 1 : 57 ؛ انظر : معالم الأثيرة : 150 . وحول وضعه الحالي انظر : مجلّة ميقات ، العدد 7 ، ص135 .
4- (4) انظر : ميقات ، العدد7 ، ص137 .
5- (5) معالم الأثيرة : 254 ؛ وانظر : ص264 عن ابن شبّه .
6- (6) تشرّفنا بزيارة هذا المسجد سنة 1414 ه .

الوقائع الحادثة بين أُحُد والأحزاب

لا ريب في أنّ غزوة أُحد كانت ضربة فادحة للكيان الإسلاميّ . فاستشهاد سبعين من جيش قوامه سبعمائة يعني أنّ عُشر الجيش قد أُبيد . وجُرح كثيرون أيضا وظلّوا يعانون من جروحهم مدّةً . وأدّت غزوة حمراء الأسد الناشبة في غد يوم أُحد إلى تعزيز معنويّات المسلمين قليلاً . بيد أنّ أكبر هدف توخّته الغزوة المذكورة هو صرف قريش عن مهاجمة المدينة .

ومن الحريّ بالعلم أنّ عدوّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لم يكن قريشا وحدها ، بل كان المنافقون واليهود داخل المدينة في عداد ألدّ الأعداء للإسلام . وسنقدّم بعض التّوضيحات حول اليهود . أمّا المنافقون فأوّل ملاحظةٍ عنهم هي أنّ العقبة الرئيسة في طريقهم تتمثّل في المؤمنين الّذين كانوا يعيشون داخل طوائفهم ولم يحيدوا قيد أنملة عن سبيل رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . وكانوا يراقبون المنافقين بشدّة ، ويفرضون عليهم قيودا خاصّة . يضاف إلى ذلك أنّهم لم يكونوا من طائفةٍ خاصّة لذا لم يتيسّر لهم أن يحيكوا المؤامرات كجيش منظّم . ويجب ألاّ ننسى أنّ القرآن الكريم هاجمهم وفضحهم في أكثر السّور المدنيّة . مع هذا كان لهم دور مهمّ في إضعاف معنويّات المسلمين كما سنرى ذلك في غزوة الخندق . وهذا أمضى سلاحٍ كان بأيديهم . علاوة على ذلك أنّ إثارتهم الفرقة بين المسلمين ، وتحريضهم الأنصار على المهاجرين ، والأهمّ إحياءهم الأحقاد الّتي كانت بين الأوس والخزرج كلّ أولئك كان من أساليبهم السّياسيّة الأصليّة لإضعاف الإسلام . لكنّ التحرّك النّبويّ الرّصين أمام هذه الأساليب ، ونزول الآيات القرآنيّة بشأنهم قد ضَيّقا عليهم العرصة حتّى أنّنا لا نجد في السّيرة عملاً جادّا قاموا به على الصعيد العمليّ . وعند ما نجد أنّ ابن عبد اللّه بن أبيّ يستأذن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في قتل أبيه - ولم يأذن له طبعا - يتسنّى لنا أن نتصوّر مدى التّضييق الّذي كان على المنافقين

ص: 682

حتّى في بيوتهم ، مع أنّنا لا نَخَلْ أنّ عددهم كان قليلاً ، ذلك أنّ ثلثمائة منهم تبعوا عبد اللّه بن أبيّ في أُحُد نفسها .

على أيّ حال ، ومرّ بنا سلفا ، أنّ غزوة أحد ضاعفت لوم المنافقين ، وانتشرت شبهاتهم أكثر من ذي قبل ؛ مع هذا ، ومن حسن الحظّ ، أنّ حادثة أُحُد لم تكن على درجة من التّأثير المُفضي إلى مواجهة الإسلام لمشكلة أساسيّة . وصحيح أنّ سبعمائة من المسلمين انهزموا أمام جيش قوامه ثلاثة آلاف في تلك العمليّات - وكان ذلك طبعا بعد ظفرهم الأوّل وبسبب خطأ قابل للتّفادي - بيد أنّه لم تكن هنالك قوّة أقدر من قوّة الإسلام في المدينة وأطرافها . ويضاف إلى المنافقين واليهود أنّ القبائل المحيطة بالمدينة - بغضّ النّظر - عن علاقاتها بقريش - لطمعها في أموال أهل المدينة ، كانت عدوّ المسلمين بالقوّة وبالفعل . منها قبيلة بني أسد . فإنّ هذه القبيلة الّتي كانت تعيش على بعد (300) كيلومتر شمال شرق المدينة (باتّجاه منطقة القصيم) فكّرت بمهاجمة المدينة في المحرّم سنة (4) للهجرة بعد مضيّ ثلاثة أشهر على واقعة أُحُد . وتجهّز منها الأخَوَان طُلَيْحَةَ وسَلَمة ابنا خويلد (أسلم الأوّل منهما بعد ذلك ، ثمّ ارتدّ بعد وفاة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وادّعى النّبوّة ، وفرّ في إحدى الحروب ، ثمّ أسلم مرّة أخرى) لمهاجمة المدينة مع قُرابة ثلاثمائة من طائفة بني أسد . والّذي دفعهم إلى ذلك أنّ ماشية أهل المدينة كانت في خارجها ولهم أن يهاجموها اعتمادا على خيول سريعة ويحصلوا على غنائم منها ثمّ يفرّوا بلا اصطدام . وإذا واجههم المسلمون فإنّهم سيتمكّنون منهم بسبب ما عندهم من الخيول والإبل السّريعة . يضاف إلى ذلك أنّ المسلمين قد خُذلوا في حربهم الأخيرة مع قريش ، ولا يستطيعون أن ينظّموا قواهم إلى مدّة من الزّمان .

وجاء في خبر الواقديّ أنّ شخصا من بني أسد قال : «واللّه ما هذا برأي ! ما لنا قِبَلهم وترٌ وما هم نُهبة لمنتهب ؛ إنّ دارنا لبعيدة من يثرب ، وما لنا جمع كجمع قريش . مكثت قريش دهرا تسير في العرب تستنصرها ولهم وِتر يطلبونه ، ثمّ ساروا ... ثلاثة

ص: 683

آلاف مقاتل» . فلم يؤثّر كلامه على ما يبدو . وذكر خبره شخص من قبيلة طيء - وكانت تعيش في تلك المنطقة أيضا بعيدة قليلاً - كان قد قدم المدينة لزيارة أحد أقاربه ، وأعلم زوجه ، وبلغ خبره رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم (1) .

ولم ينتظر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم مجيء بني أسد في حين أنّ هذا العمل يمكن أن يقضي عليهم دفعة واحدة ، فبادر صلى الله عليه و آله وسلم إلى إيفاد مئة وخمسين من أصحابه إليهم ، وأميرهم أبو سلمة بن عبد الأسد ، ودليلهم هو ذلك الطّائيّ الّذي سلك بهم غير الطّريق خلال أربعة أيّام حتّى بلغ بهم قطنا (على بعد (300) كم عن المدينة) حيث بئر من آبار العدوّ . وهاجموا إبلاً لبني أسد ، وغنموها مع ثلاثة من العُبدان . وفرّ باقي العُبدان وأخبروا بني أسد بهجوم المسلمين ، وتفرّقوا بعد ذلك . ومكث أبو سلمة يوما واحدا هناك ، واستولى على ما كان من الإبل ورجع إلى المدينة . ويدلّ خبر آخر على وقوع اشتباك طفيف فرّ على أثره بنو أسد تاركين القتال(2) .

وكان أبو سلمة الّذي جُرح بأُحُد يظنّ أنّه شُفي من جرحه تماما ، لكنّه انفتح مرّة أُخرى وما لبث أن استُشهد بسببه . وعدّه أرباب السِّير في نظم شهداء أُحُد .

والعمل الآخر الّذي قام به رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم هو القضاء على أحد الوجوه المعاندة المتنفّذة من قبيلة هُذَيل. فقد ذكر ابن سعد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أُخبربتأهّب سفيان بن خالد الهذليّ - من طائفة لحيان - لحرب المسلمين ، فبعث صلى الله عليه و آله وسلم عبد اللّه بن أنيس في المحرّم من السّنة الرّابعة ليقتله . فجاءه عبد اللّه وقال له إنّه سمع بتجهيزه جيشا لحرب محمّد صلى الله عليه و آله وسلم ، وهو راغب في الالتحاق به . وبعد أن سارا قليلاً وتفرّق عنه أصحابه قتله وفرّ إلى المدينة(3) . ولم يُشِر ابن إسحاق إلى هذه الحادثة وتاريخها(4) . كما أنّ

ص: 684


1- (1) المغازي 1 : 341 ، 342 .
2- (2) نفسه 1 : 345 - 346 .
3- (3) الطّبقات الكبرى 2 : 50 ، 51 .
4- (4) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 619 ، 620 .

الواقديّ لم يتطرّق إليها في حوادث السّنة الرّابعة(1) . ووقعت الحادثة المذكورة في منطقة عرنة قريبا من مكّة - على مسير يوم واحد(2) . وأنشد عبد اللّه بن أنيس شعرا في ذلك وعدّ نفسه فيه حنيفيّا فقال :

وَقُلتُ له خذها بضربة ماجدٍ حنيفٍ على دين النّبيّ محمّدِ(3)

وينبغي عدّ الحادثة المذكورة في الحوادث الّتي همّت فيها قبائل الحجاز دون قريش ، أو بتحريضها ، بمعاداة الإسلام .

وعلى هذا المنوال ينبغي أن نذكر حادثَتي الرجيع ، وبئر معونة اللّتين تدلاّن على عداء القبائل البدويّة للإسلام ، ولابدّ من الإشارة تمهيدا إلى أنّ الحادثتين المذكورتين قياسا بالحوادث الأُخرى الواقعة في التّاريخ الإسلاميّ مُنيتا بطابع قصصيّ إلى حدّ كبير . وأدّى هذا الأمر إلى اختلاف كثير في الأخبار المتعلّقة بهذه الوقائع ، كما ولّد شكّا جدّيّا في كثير من التفاصيل المرتبطة بها .

وكانت الرجيع عين ماء لقبيلة هُذيل على بعد سبعين كيلومترا شمال مدينة مكّة . ونقل بعض المؤرّخين أنّ حادثة الرجيع وقعت في صفر من السّنة الرّابعة للهجرة (الشّهر السّادس والثّلاثين من الهجرة ، وذكر آخرون غيرهم أنّها كانت في السّنة الثالثة بُعَيد أُحُد . ونقل الواقديّ عن عروة بن الزّبير ، قال : «بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أصحاب الرّجيع عيونا إلى مكّة ليخبروه خبر قريش ، فسلكوا على النّجويّة حتّى كانوا بالرّجيع فاعترضت لهم بنو لحيان»(4) . وذكر خبر آخر أنّ بني لحيان أرادوا من قبيلتَي عضل وقارة [ اللتين كانتا من قبيلة بني هون بن خزيمة بن مدركة ] أن يذهبوا

ص: 685


1- (1) جاء خبر السريّة المذكور في كتاب سبل الهدى والرشاد نقلاً عن الواقديّ . انظر : 6 : 57 .
2- (2) انظر بشأن وادي عرنة أو نخلة - إذ ذكرت نخلة في هذه الحادثة أيضا ء معجم معالم الجغرافية في السّيرة النّبويّة : 205 .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 621 .
4- (4) المغازي 1 : 354 .

معا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في مؤامرة مشتركة بذريعة الإسلام وطلب مبلغ من المال . وبعد ذلك قُبِض على الذّاهبين وسُلِّموا إلى قريش - ويضاف إليه أن يقتلوا شخصا في مقابل قتل سفيان بن خالد الهذليّ الّذي قتله عبد اللّه بن أنيس(1) .

ومهما كان السّبب - وعُدّ هذا العمل غدرا وخيانةً في المنقولات التّاريخيّة وفي شعر حسّان أيضا(2) - فقد ذهب ستّة أو سبعة من الصّحابة إلى منطقة الرجيع ، ومُنوا ببني لحيان . ولم يرضخ ثلاثة أو أربعة منهم للأسر فاستشهدوا . وأُسر الآخرون وأُخذوا إلى مكّة . وفيهم عبد اللّه بن طارق الّذي تمكّن من فكّ قيده في مرّ الظّهران وسلّ سيفه ليقاتلهم . فرجمه أعداء الإسلام وقتلوه . والآخران هما حبيب بن عديّ ، وزيد بن الدّثنة ، اللذان فُوِّض أمرهما إلى مشركي مكّة فقتلوهما ثأرا لقتلاهم ببدر(3) .

وقيل إنّهما قاوما وصمدا حتّى النّفس الأخير أمام إصرار المشركين على ارتدادهما عن الإسلام(4) .

وكانت هذه الحادثة ضربة أخرى للمسلمين ، إذ استُشهد عدد منهم على يد قريش وسائر القبائل ، ممّا أدّى إلى اجترائهم على المسلمين . ومثّلت السّنة الرّابعة والخامسة في الحقيقة ذروة العداء الّذي تُرصده القبائل للإسلام ، ومسايرتها لقريش .

ص: 686


1- (1) المغازي 1 : 354 ، 355 . وجاء في بعض الأخبار أنّ خالد بن سفيان نفسه كان ضالعا في هذه المؤامرة آنئذٍ . وإذا كانت واقعة الرجيع قد حدثت بعد أُحُد وفي السّنة الثّالثة فقد صحّ هذا الأمر ، إذ كان قتل خالد في السّنة الرّابعة .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 181 : هم غدروا يوم الرّجيع وأسلمت * أمانتهم ذا عفّةٍ ومكارمِ
3- (3) ناقش أُستاذنا العلاّمة السّيّد جعفر مرتضى في الصّحيح 5 : 182 - 243 هذه الحادثة . وفي سياق استقصائه للتضارب في أخبارها يصرّح أنّ القسم الأكبر من تفاصيلها مشكوك ولا يمكن قبوله في الأغلب ؛ والمتبنّى هو مجمل القضيّة المتمثّلة باستشهاد ثلّة احتبلتهم مؤامرة المشركين .
4- (4) المغازي 1 : 361 ، 362 .

وكانت هُذيل الّتي منها بنو لحيان من أسوئها ، ولحسّان بن ثابت شعر كثير في هجائها، منه أنّه أشار مرّة إلى طلبها من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أن يحلّل لها الزّنا حتّى تُسلم:

سألت هذيلُ رسولَ اللّه فاحشةً * ضلّت هُذيل بما سألت ولم تُصبِ(1)

والحادثة الأُخرى الّتي تماثل واقعة الرّجيع ، ووقتها قريب غاية القرب منها - وذكر الواقديّ أنّها كانت في صفر من السّنة الرّابعة - هي حادثة «بئر معونة» . وكانت هذه المنطقة في نجد ، والبئر المذكورة تعود إلى بني سُلَيم . وكان بنو عامر بن صعصعة ، وهم السبب الأصليّ لهذه الحادثة ، يعيشون في المنطقة نفسها . وكانت هذه القبيلة إحدى القبائل العربيّة المهمّة الذائع صيتها في البلاد العربيّة منذ العصر الجاهليّ حتّى قرون بعد الإسلام بوصفها قبيلة متميّزة معروفة(2) . ويدور خلاف حول السّبب الّذي دعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إلى بعث عدد من صحابته ، الّذين قيل إنّهم كانوا بين أربعين إلى سبعين(3) ، إلى تلك المنطقة . وهنا في الأقلّ روايتان أشهرهما أنّ أبا براء الّذي كان من زعمائها قدم المدينة - أو أوفد إليها أحدا - وطلب من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أن يرسل عددا من أصحابه إليها لتعريف أهل نجد(4). وتعهّد بالمحافظة عليهم بعد أن رأى تردّده صلى الله عليه و آله وسلم . فذهبوا إلى هناك ، وتدلّ الرّواية الأُخرى على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بعث الجماعة المذكورة إلى نجد لتقصّي الأخبار(5) . ولا ينسجم هذا النّقل مع ما قيل في غدر العدوّ

ص: 687


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 180 [ سالت = سألت ] .
2- (2) انظر : معجم قبائل العرب 2 : 708 - 710 .
3- (3) وجاء في أخبار أُخرى عشرة ، أو عشرون ، أو عدد من الأشخاص ، وأرقام أُخرى غيرها . انظر : الصّحيح 5 : 257 . وقال الواقديّ : «ورأيتُ الثّبت على أنّهم كانوا أربعين . انظر : المغازي 1 : 347 .
4- (4) دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 338 ، 339 .
5- (5) مجمع الزّوائد 6 : 127 ؛ المغازي ، الذهبيّ : 192 ؛ وبشأن الأسباب الأُخرى انظر : الصّحيح 5 : 254 - 256 ؛ ومضافا إلى ما جاء هناك انظر : دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 348 ؛ يقول أنس : استمدّت قبائل رعل ، وذكوان ، وبنو لحيان على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . ويبدو أنّ هذا مستبعدٌ .

إبّان تلك الحادثة ، ذلك أنّ من الواضح هو أنّ الغدر يدلّ على نوعٍ من حلف سابق . ولحسّان بن ثابت شعر في رثاء شهداء بئر معونة يتّهم فيه العدوّ بالغدر والخيانة ، مع أنّه لم يُشر فيه إلى مهمّتهم التّبليغيّة .

أصابهم الفناءُ بعقد قومٍ * تُخوّن عقد حبلهم بغَدرِ(1)

ومهما كان السّبب ، فإنّ عامر بن الطّفيل الّذي كان من سراة عامر علم بحضورهم ، فحاصرهم مستعينا بقبائل بني سليم ، ورعل ، وذكوان ، وأبادهم . وقيل إنّه قبل مواجهته لهم قتل أحد الصّحابة بعد ما جاءه بكتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم الّذي يدعوه فيه إلى الإسلام . ثمّ توجّه نحوهم وقتلهم كلّهم في مواجهةٍ جرت بينهم . واستثنى بعض الأخبار أحدهم إذ جُرح فنجا . يضاف إلى ذلك أنّ أحد الاثنين (أو الثلاثة في بعض الأخبار) شهد الحادثة حين علم بخبرها وكان قد ظلّ عند متاعه - أو كما قيل كان يبحث عن بعيره الضّائع - واستُشهد بعد اشتباكه بالعدوّ . وكان النّاجي - ويُحتمل معه شخص آخر - وهو عمرو بن أُميّة الضمريّ الّذي أخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بالواقعة . وقيل إنّ عامر بن الطفيل أسره ، ولمّا علم أنّه مُضَريّ أطلقه . وفي طريق عودته لقي اثنين من بني عامر ، وعندهما كتاب أمانٍ من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لم يعلم به فقتلهما . وذكر كتّاب السِّير أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم توجّه نحو بني النضير لدفع ديتهما ، ومن هنا بدأ النزاع مع هؤلاء اليهود (انظر : المباحث الآتية) .

وأشرنا قبل ذلك إلى أنّ حادثة الرّجيع مُنيت بنوع من الطّابع القصصيّ . ولم تسلم بئر معونة من هذا الأمر . وأدّى الطّابع القصصيّ إلى زيادة الاختلافات في الأخبار المنقولة ، على سبيل المثال ، قيل في قوام السّريّة المذكورة أنّه عشرة ، وقيل أكثر من ذلك حتّى بلغ سبعين . ومنها أنّ عامر بن فهيرة الّذي كان من قتلاها قام من الأرض

ص: 688


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 189 .

تدريجا بمرأى من العدوّ وصعد إلى السّماء(1) . ومن الواضح أنّ نقل خبر ضعيف بهذا الشّأن لا يمكن أن يدعم مثل هذا الخبر المنقول . وبعد السّريّتين الظافرتين اللتين تمثّلتا في الهجوم على بني أسد ، وفي مقتل سفيان بن خالد ، مرّت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم حادثتان مؤلمتان فقد فيهما عددا من صحابته .

وكانت قبائل أُخرى تعيش حوالي المدينة تراودها فكرة الهجوم عليها بين حين وآخر . وقال رجل كان قد جاءها لبيع بضاعته في السّنة الرّابعة نفسها أنّه قدم من نجد ورأى في طريقه رجالاً يتجهّزون للحرب ، وهم من بني محارب ، وبني ثعلب (وكلاهما من غطفان)(2) . فتوجّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إلى المنطقة المنظورة المسمّاة ذات الرّقاع على رأس أربعمائة - وقيل سبعمائة أو ثمانمائة . وتقع هذه المنطقة على بعد (85) كيلومترا عن المدينة تقريبا(3) .

وبعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كتائب من جيشه إلى تلك الأرجاء ، بيد أنّ العدوّ لجأ إلى قمم الجبال . وقيل إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم صلّى صلاة الخوف لأوّل مرّة في سفره هذا . وفيها صلّى بعضهم الركعة الأولى جماعةً ، والركعة الأُخرى فرادى ، وكانت ثلّة منهم تراقب الأوضاع في كلّ مرّة .

وكان العمل الآخر للقبائل غير القرشيّة محاولة جمع من قبيلة قضاعة وغسّان حرب الحجاز . وكانوا في خارجها على طريق الشّام . يقول الواقديّ في سبب ذهاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : «وقد ذُكر له أنّ بدومة الجندل جمعا كثيرا وأنّهم يظلمون من مَرّ بهم من الضّافطة (من يجلب الميرة والمتاع إلى المدن) ... وضوى إليهم قوم من العرب

ص: 689


1- (1) دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 353 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 203 .
3- (3) معالم الأثيرة في السّنّة والسّيرة : 128 . وذُكر في تسميتها ذات الرقاع أسباب منها أنّ شجرةً كانت هناك باسم الرقاع . ومنها أنّ جبلاً فيها بهذا الاسم . ومنها أنّ على جبالها بقعا بيضاء وسوداء ، وأسباب أخرى ؛ انظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 204 .

كثير ، وهم يريدون أن يدنوا من المدينة»(1) . فتحرّك صلى الله عليه و آله وسلم في ربيع الأوّل من السّنة الرّابعة على رأس ألف نحوها ، وكانت على بُعد خمسة أيّام عن دمشق ، وخمسة عشر يوما عن المدينة(2) .

وخرج المسلمون من المدينة في الخامس والعشرين من ربيع الأوّل ، ورجعوا إليها في العشرين من ربيع الآخر . ولم يصطدموا بأحد إذ كان أولئك قد فرّوا قبل وصول المسلمين إليهم . ومهما كان فإنّ مثل هذه الأعمال تضمن استعداد المسلمين لمواجهة كلّ تحرّك ، وتردع القبائل القاطنة في أطراف المدينة عن التفكير بالهجوم أو التحدّث به ، إذ كان كافياً أن يبلغ المدينة خبر كلامهم في التآمر ، فحينئذٍ تتحرّك كتيبة من المسلمين نحوهم . ولعلّ هذا هو الّذي أدّى إلى معاهدة أو معاهدات مع القبائل المذكورة خلال هذه الغزوات ومنها الغزوة المتقدّم ذكرها(3) .

الموقف من أهل الكتاب

نزلت سورة آل عمران بعد أحُد وقبل الخندق(4) . وتحدّث عدد من آياتها عن معركة أحُد ، وهو ما ذكرناه سابقا . وآيات أُخرى منها تناولت أهل الكتاب ، وبعضها في اليهود ، والآخر في النّصارى . ولمّا كانت الآيات النازلة بشأنهم متفرّقة في السّورة المذكورة ، نورد فيما يأتي ما جاء في القرآن الكريم مرتّبا .

نلحظ في بعض الحالات كحدّ أدنى أنّ اصطلاح «أهل الكتاب» يقابل اصطلاح

ص: 690


1- (1) المغازي 1 : 403 .
2- (2) عيون الأثر 2 : 83 .
3- (3) انظر : الطّبقات الكبرى 4 : 62 ، 63 ؛ وعُقِدَ هذا الحِلف مع عُيينة بن حصن الّذي مالأ الأحزاب في غزوة الخندق لاحقا . انظر : عيون الأثر 2 : 86 .
4- (4) نزلت آل عمران بعد الأنفال وقبل الأحزاب . انظر : التّمهيد في علوم القرآن 1 : 137 ، 138 .

«الأُمّيّين» . وكان قسم من السكّان العرب وغير العرب في الحجاز ، وأهل الكتاب وطائفة أُخرى من النّاس أُمّيّين ، أي : لا كتاب لهم . وكان كلا الاصطلاحَين موجودا قبل الإسلام واستعملهما القرآن الكريم أيضا . فقد جاء في الآية العشرين من آل عمران : « فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ » . وقيل إنّ هذه الآية كانت في مواجهة وفد نجران(1) .

وكان سكّان هذه المدينة الواقعة في جنوب الجزيرة العربيّة على بعد (910) كيلومترات عن مكّة ، نصارى . والآية تخاطب أهل الكتاب . وتشير الآية الثّالثة والعشرون والرابعة والعشرون إلى اليهود ، فتقول : « أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّه ِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُم مُعْرِضُونَ * ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاما مَعْدُودَاتٍ » . وكان اليهود يرون أنفسهم أفضل من غيرهم ، فليس مهمّا عندهم أن يعملوا بكتاب اللّه لأنّهم على أيّ حال سيدخلون الجنّة بعد أيّام . وذكرت فلسفة الاصطفاء من منظار الدين بعد عدد من الآيات . قال تعالى: « إِنَّ اللّه َ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ » .

تلا ذلك حديث مفصّل عن ولادة مريم ، وكفالة زكريّا إيّاها ، وإنجاب زكريّا ، وولادة عيسى ابن مريم . والهدف الرئيس من هذه الآيات إثبات نبوّة عيسى عليه السلام وإبراز الحقيقة القائلة إنّ الّدين ليس إلاّ الإخلاص والتّسليم التامّ للّه ، وترك الشّرك . تقول الآية (52) من آل عمران : « فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِى إلَى اللّه ِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللّه ِ آمَنَّا بِاللّه ِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ » . وتبيّن هذه الآية الموقف من وفد نجران .

ص: 691


1- (1) مجمع البيان 2 : 422 .

وهكذا يقدّم الإسلام رُؤاه في الأقرار بعيسى عليه السلام ، وكذلك التّوراة والإنجيل ، ويرى نفسه امتدادا لهما . بيد أنّ النّصارى لا يقرّون بذلك . والنّصارى غير اليهود ، فهم أولو قلوب سليمة . وهم إذ لم يقرّوا بهذه الآراء في حجاجهم مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، فهل هم متمسّكون بحقّانيّة عقائدهم إلى الحدّ الّذي يقبلون فيه المباهلة ؟(1) وقال تعالى في الآية الحادية والستّين من هذه السّورة في المباهلة : « فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ(2) ثُمَّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّه ِ عَلَى الْكَاذِبِينَ » . وحضر المباهلة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، والسيّدة فاطمة الزّهراء عليهاالسلام ، وعليّ المرتضى ، والحسنان عليهم السلام . ولمّا رآهم النصارى استحسنوا ترك المباهلة واستحبّوا الجزية عليها(3) .

ص: 692


1- (1) المباهلة هي الملاعنة . وفي الاصطلاح هي أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا : لعنة اللّه على الظّالم منّا . انظر : لسان العرب 2 : 522 ، ذيل بهل .
2- (2) قيل إنّ المراد من أنفسنا عليّ عليه السلام . بعبارة أُخرى ، عليّ عليه السلام في هذه الآية نفس النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ؛ انظر : مجمع البيان 2 : 453 .
3- (3) الآية والأحاديث المأثورة فيها تدلّ على فضيلة من فضائل أهل البيت النّبويّ الكريم عليهم السلام . فقد أخذ صلى الله عليه و آله وسلم أعزّ أعزّته ممّا دفع أسقف النّصارى إلى الانصراف عن المباهلة وقوله : «إنّي لأرى وجوها لو سألوا اللّه أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله» . ونظرا إلى الآيات الواردة في سورة آل عمران بشأن أُحُد ، فإنّ السّورة المذكورة تتعلّق بما بعد أُحد ، أي السّنة الثالثة فصاعدا . فلا ينبغي أن تكون بعد سورة الأحزاب ، أي : بعد السّنة الخامسة . وفي هذا الضوء لابدّ أن تكون المباهلة قد جرت في هذه السّنين . وذكرها ابن سعد ضمن الوفود (الطّبقات الكبرى 1 : 357 ، 358) ولكن يتبيّن ممّا أورده أنّها كانت بعد فتح مكّة . وحينئذٍ إمّا نقول إنّ آية المباهلة لا تتعلّق بوفد نجران ، أو إنّ سورة آل عمران نزلت في السنة التّاسعة ، أو إنّ نصارى نجران جاءوا للحوار مرّةً ، وأفضى مجيئهم إلى المباهلة ، وبعد ذلك قدموا إلى المدينة مع الوفود مرّة أخرى في السّنة التّاسعة أو العاشرة . وينبغي أن نقول : لا مراء في الأحاديث المأثورة في المباهلة وآيتها وشأن نزولها . وللاطّلاع على المصادر الكثيرة الّتي ذكرتها انظر : مكاتيب الرّسول 1 : 180 ، 181 ؛ وانظر أيضا : تاريخ المدينة المنوّرة 1 : 582 ، 583 . وبشأن الآية من المحتمل أنّها نزلت في السّنة التّاسعة . ثمّ وُضعت في سورة آل عمران بأمر النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم .

مبدئيّا ، يتّسم موقف القرآن الكريم من النّصارى باللين والهدوء ، وهذا غير انتقاده الشّديد للشّرك . ويركّز الباري تعالى في الآية الرّابعة والستّين فما بعدها على ثقافة إبراهيم التوحيديّة ويخاطب أهل الكتاب بقوله : « قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّه َ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضا أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّه ِ » . وكان النصارى واليهود يرون إبراهيم منهم . قال سبحانه : « يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِى إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * ... مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلكِن كَانَ حَنِيفا مُسْلِما وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِىُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا » . من هنا يتمثّل القرآن في تأكيده التّوحيد الخالص ، والإخلاص للّه وحده ، وهذه هي رسالة القرآن إلى أهل الكتاب ، بخّاصة النّصارى في تلك الفترة . وتتحدّث الآية التّاسعة والستّون عن رغبة أهل الكتاب في إضلال المؤمنين ، ثمّ تقول لهم : « يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ » . وكان أسلوبهم في إضلال المؤمنين أنّهم يؤمنون بالآيات النازلة أوّل النّهار ، وينكرونها آخره . وبهذا الأُسلوب يتظاهرون بأنّهم أُولو منطق سليم على ما يزعمون ، إذ يدركون أنّها غير صحيحة بعد الإيمان بها والتّأمّل الكافي فيها ! وينقل سبحانه هذا الأُسلوب عن طائفةٍ منهم . وجاء في الأخبار التّاريخيّة أنّ شرذمة من أحبار اليهود أرادت أن تفعل هكذا لكي يشكّ المسلمون على أيّ حال(1) . وطبيعيّا أنّ أهل الكتاب جميعهم لم يكونوا صفّا واحدا . وذكرت الآية الخامسة والسّبعون أمانة بعضهم في مقابل رغبة البعض الآخر في الخيانة . وقيل إنّها تتضمّن مدح النصارى في أمانتهم قياسا بسيرة اليهود في حبّهم الدنيا . وسبب

ص: 693


1- (1) مجمع البيان 2 : 460 .

ميل اليهود إلى الخيانة في الأمانة هو أنّهم كانوا يقولون على ما نقل اللّه تعالى عنهم : « لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ » . أي : كانوا يرون أنفسهم أهل الكتاب وأفضل من غيرهم ، ويجيزون لأنفسهم أكل أموال الآخرين لاسيّما الأُمّيّين(1) .

وينسب القرآن الكريم في الآية الثّامنة والسّبعين التّحريف إلى طائفة من أهل الكتاب ، بخاصّة في شكله المستقبح المشين فيقول : « وإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّه ِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّه ِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّه ِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ » . ويتواصل الكلام فيؤكّد سبحانه التّسليم الخالص ، ويقول بعد الإشارة إلى أنّه لم يأمر باتّخاذ الملائكة والنّبيّين أربابا : « أَفَغَيْرَ دِينِ اللّه ِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِى السَّمَ-وَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعا وَكَرْها وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ » . وتؤكّد الآية التّالية لها عدم وجود فرق بين أحدٍ من الأنبياء . ثمّ يقول تعالى : « وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ » . فالتّسليم والإخلاص المحض يتجسّدان في دين الإسلام التّوحيديّ حقّا . ويحذّر سبحانه المؤمنين في الآية المائة ويقول : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ » . ومن المؤسف أنّ بعض المسلمين كانوا مهتمّين بقراءة التّوراة وغيرها من آثار اليهود، فأنكر عليهم النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ذلك إنكارا شديدا(2) . وجاء في الآية 113 : « لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّه ِ آنَاءَ الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّه ِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ » . وهذه الآية في النّصارى الّذين كانوا راغبين في الإسلام ، والّذين كانوا يبكون عند سماع الآيات القرآنيّة(3) . ومن الطبيعيّ والمحتمل أنّهم أسلموا مباشرةً .

ص: 694


1- (1) انظر : مجمع البيان 2 : 463 ؛ حسبوا أنفسهم مؤمنين ، وحسبوا الأمّيّين خارجين من دينهم ، فأجازوا لأنفسهم الاستيلاء على أموالهم .
2- (2) انظر : مصنّف ، عبد الرّزّاق 11 : 111 ؛ لسان الميزان 2 : 408 ؛ البداية والنّهاية 2 : 133 ؛ نثر الدّرّ 1 : 207 .
3- (3) المائدة : 83 .

غزوة بني النّضير

تمثّل الاصطدام الآخر باليهود في اصطدام النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بيهود بني النّضير . وأشرنا في المباحث الماضية إلى رأي القرآن الكريم في اليهود . ومحصّلتها أنّه يراهم والمشركين أشدّ عداوةً للمؤمنين ، في حين يذكر النصارى بتلطّف ولين(1) . ومن الطبيعيّ فانّ اليهود لم يَدَعوا فرصةً للقضاء على الإسلام ونبيّه صلى الله عليه و آله وسلم ؛ وفي الوقت نفسه أنّهم لمّا كانوا أقلّيّة فإنّهم عقدوا معاهدة الصلح مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم منذ بداية هجرته .

وكانت الطّوائف اليهوديّة الثّلاث بنو قَيْنُقاع ، وبنو النّضير ، وبنو قُريظة تعيش في الشّمال الشّرقي من محلّة قبا على شكل مثلّث تقريباً . وكان بنو النّضير أقربها إلى قباء . وكان الاصطدام بهم وإخراجهم على ما روى الواقديّ في ربيع الأوّل من السّنة الرّابعة للهجرة (سبعة وثلاثون شهرا للهجرة) . بيد أنّ ابن شهاب الزّهريّ كان يعتقد أنّ إخراجهم كان بعد بدر وقبل أُحد(2) . وقيل في سبب اصطدام النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ببني النّضير أنّ عمرو بن أميّة أحد الصحابة الّذين كانوا يبلّغون بيان النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم قتل في طريق عودته من بئر معونة اثنين من قبيلة بني عامر ، وهذه القبيلة كانت وراء قتل الصّحابة بالرّجيع .

ص: 695


1- (1) المائدة : 82 .
2- (2) دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 176 ، 354 . وتبنّى أُستاذنا العلاّمة السيّد جعفر مرتضى - حفظه اللّه وأبقاه - الرأي الثّاني ، وأقام الأدلّة على إثباته . انظر : الصّحيح من سيرة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم 6 : 34 - 39 . والحقيقة هي أنّ الأدلّة المذكورة لا تكفي . ورأي ابن شهاب يستند إلى رواية عن عائشة في حين أنّ عروة بن الزّبير ، وابن إسحاق وموسى بن عقبه ، وعاصم بن عمرو بن قتادة ، ومحمّد بن عمر الواقديّ ، وهم من أركان المغازي يذهبون إلى أنّ غزوة بني النّضير كانت بعد أُحُد ؛ دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 180 ، 183 . ويدلّ شعر سماك اليهوديّ الّذي أنشده في رثاء بني النضير على أنّ الواقعة المذكورة كانت بعد أُحُد .

وحدث هذا في وقت كان للرّجلين المذكورين «أمان وعهد» من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم (1). وما مضى إلاّ قليل حتّى بعث عامر بن الطّفيل رسولاً إليه صلى الله عليه و آله وسلم طالبا منه الدّية . فعزم صلى الله عليه و آله وسلم على استغاثة بني النّضير حلفاء عامر لدفع الدية ! لذا سار بعدد من أصحابه وأتى قباء فصلّى فيها ، ثمّ ذهب عندهم ، فأغاثوه بدفع الدية . وفي نفس الوقت ظنّ عدد من أكابرهم أنّ الفرصة مناسبة لقتله عند جدار حصنهم الذي كانوا جالسين إزاءه . وكانوا يرون أنّ أصحابه يتفرّقون بقتله ، وتعود قريش إلى مكّة ، وهم أيضا يرجعون إلى أحلافهم السّابقة مع الأوس والخزرج(2) .

وتقول المصادر : علم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم الأمر عن طريق الوحي فعاد إلى المدينة بدون أن يخبر أحدا من أصحابه الّذين انتظروه فترةً ثمّ قدموا المدينة بعد أن عرفوا أنّه لا يرجع . وبعد ذلك أشخص صلى الله عليه و آله وسلم إلى اليهود محمّد بن مسلمة الّذي كان من الأوس المتحالِفة معهم هذه الطّائفة اليهوديّة في الجاهليّة ، وقال : عليهم أن يخرجوا من المدينة . فتعجّبوا من مجيء رجل أوسيّ لكنّه قال لهم : «تغيّرت القلوب»(3) .

ص: 696


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 186 .
2- (2) المغازي 1 : 364 . ذُكر في رواية موسى بن عقبة اسم شخصين كلابيّين يبدو أنّ المتصوَّر هو أنّ قريشا حين جاءت إلى أحد تمالأت معهما ، ولذا كانا قُتلا . انظر : دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 180 . وقيل إنّ السبب الآخر لبدء الحرب مع بني النّضير هو أنّ المشركين كاتبوا يهود المدينة بعد بدر ، وطلبوا منهم في سياق تهديدهم أن يحاربوا النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم . فأرسلوا إليه أن يبعث إليهم ثلاثين من أصحابه ليتباحثوا ، وهم أيضا أعدّوا ثلاثين منهم لذلك . واتّفقوا بعدها على أن يتباحث ثلاثة منهم وثلاثة من المسلمين . وكان هدفهم قتل رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم الّذي أبلغته به امرأة يهوديّة بواسطة أخيها . وهذا ما دعاه صلى الله عليه و آله وسلم إلى الاصطدام باليهود . انظر : دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 179 ؛ الدرّ المنثور 6 : 189 ؛ وانظر أيضا : الصّحيح 6 : 39 - 43 . والحقّ أن التّضارب في نقل الأخبار المتعلّقة بغزوة بني النّضير بلغ مبلغا أنّ كلّ قسم منها مُني بالاختلاف أيضا . وما نقلناه نحن يعتمد على ما أورده الواقديّ المتخصّص في السّيرة ، وإن كنّا قد أشرنا إلى بعض الأخبار المنقولة عن غيره في بعض المواطن .
3- (3) المغازي 1 : 367 .

فرضوا بالذّهاب أوّل مرّة ، ثمّ فتروا بعد وصول رسول عبد اللّه بن أبيّ إلى حُيَيّ بن أخطب يطلب منه أن يدافع عنهم مع حلفائه . وأرسل عبد اللّه بن أُبيّ إلى بني قريظة أن يشهدوا ذلك فرفضوا وقالوا : إنّهم لا ينكثون العهد .

ونشأ الخلاف بين اليهود من الركون إلى كلام عبد اللّه أو عدم الركون إليه . وكان المعارضون يقولون : لا يُركن إلى ابن أُبيّ ، فإنّه وعد بني القينقاع بنفس الوعود لكنّه لم يفعل لهم شيئا ، وهو خزرجيّ على أيّ حال ، ونحن كنّا في الجاهليّة نقاتل طائفته إلى جانب الأوس . كما أنّه ليس يهوديّا ، ولا مسلما ، ولا على دين قومه ، لذا لا يمكن الاعتماد عليه . وهذا العمل سيؤدّي إلى ذهاب أموالنا ، وشرفنا ، وسباء ذرارينا ، وقتل مقاتلينا(1) . وكان نفوذ حُيَيّ بن أخطب في بني النّضير باعثا على مقاومتهم . وكتب إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يخبره أنّهم لا يبرحون مكانهم . وذهب رسوله إلى عبد اللّه يطلب منه تهيئة مساعدته . فرأى بكلّ تعجّب مناديا ينادي في الأزقّة ويدعوا إلى الحرب . واتّفق أنّ ابن عبد اللّه أخذ سلاحه أمام أبيه وهو يريد اللحاق برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم (2) .

وحاصر المسلون حصن بني النضير ، فجعل بنو النّضير يرمونهم بالنّبل والحجارة . وقد استعمل رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عليّا على العسكر(3) عشاءً ، وعاد إلى المدينة ، ثمّ غادرها صباحا . وكانت قبّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم من خشب وعليها مُسوح (كساء من شعر) ، وقد ضُربت له قرب مسجد بني خطمة . وأصابها يهوديّ يقال له عزوك بنبلة ، فحوِّلت إلى مسجد الفضيخ(4) . وما زال هذا المسجد ماثلاً اليوم ، وهو من مساجد

ص: 697


1- (1) المغازي : 369 .
2- (2) نفسه 1 : 370 .
3- (3) وقال الواقديّ هنا أيضا بعد نقل الخبر : «ويُقال أبا بكر» . والحقيقة أنّ هذا الضرب من الفضائل المتعلّقة بالحرب والجهاد لا يتناسب مع شخصيّة أبي بكر . ويضاف إليه أنّ كبار كتّاب السِّيَر ذكروا أنّ الراية كانت بيد الإمام عليّ عليه السلام . الصحيح من سيرة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم 16 : 72 - 74 .
4- (4) المغازي 1 : 371 ؛ انظر بهذا الشأن : الصحيح من سيرة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم 6 : 89 .

الشّيعة في محلّة قباء(1) . وفي ليلة من ليالي الحصار فُقِد الإمام عليّ عليه السلام ، فأخبر الصّحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : «دعوه ، فإنّه في بعض شأنكم» ! فلم يلبث أن جاء برأس عَزْوَك ، فطرحه بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وأخبره بكيفيّة عثوره عليه وقتله . وكان الإمام عليه السلام قلقا من عزوك الّذي كان شجاعا ، لذا كمن له عدد ليالٍ ، فجاء مع نفر من اليهود ، فشدّ عليه الإمام فقتله . ولمّا جاء عليه السلام إلى النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم طلب منه أن يبعث معه نفرا من أصحابه ليظفروا بأصحاب عزوك الّذين كانوا هناك ، فبعث معه عددا من أصحابه، فأدركوهم ، فقتلوهم(2) .

وكلّف صلى الله عليه و آله وسلم واحدا أو اثنين من أصحابه ليقطع أفضل نخيل بني النّضير . فضجّت نساء اليهود ورجالهم . فأرسل حييّ بن أخطب إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قائلاً : إنّك كنتَ تنهى عن الفساد ، لم تقطع النخل ؟ فنزلت آيات قرآنيّة تبيّن أنّ عمله صلى الله عليه و آله وسلم كان بإذن اللّه . والثّابت هو أنّ قطع النّخيل يدلّ على جدّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في محاصرتهم وإجلائهم ، وعلى استبدال يأسهم بأملهم في البقاء . ودام الحصار خمسة عشر يوما(3) . واقتنع اليهود بثبات رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وصموده في أمره ، لذا رضوا بالرّحيل . بيد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أمر هذه المرّة أن لا يأخذوا معهم سلاحا ، ولا متاعا آخر إلاّ حمل بعير . وجاء في بعض الأخبار أنّهم يستطيعون أخذ كلّ شيء عائدٍ لهم إلاّ السّلاح . وقبلوا ذلك ، وغادروا المدينة بعد انتهاء الموعد المقرّر لتصفية حساباتهم الماليّة مع أهلها . وخربوا بيوتهم بأيديهم آنذاك ، وكذلك فعل المسلمون .

وبلغت علاقات الأوس ببني النّضير ، لاسيّما تعاضدهم الجاهليّ ، إنّ المنافقين

ص: 698


1- (1) زرنا هذا المسجد سنة 1413ه و 1414ه وكان في السّنة الأولى خربا وسخا ، لكنّه في السّنة الثانية كان نظيفا مصبوغا !
2- (2) المغازي 1 : 372 .
3- (3) وقيل : ستّة أيّام ، وقيل : واحد وعشرين يوما . الصّحيح من سيرة النّبيّ 6 : 24 . وذهب ابن هشام إلى أنّه دام ستّة أيّام . انظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 191 .

وشخصا مثل حسّان بن ثابت عبّروا عن مواساتهم لهم عند رحيلهم . وارتفع ضجيج بعض المنافقين قائلين : من يسقينا الشّراب بعدهم ؟ ومن يطعم الشّحم فوق اللحم ؟(1) وركب بنو النّضير على ستّمائة بعير ، وأظهر نساؤهم حليهنّ وزينتهنّ ، ورفع أكثرهنّ النّقاب من وجوههنّ . وكان مقصدهم خيبرا الواقعة على بعد (165) كيلومترا شمال المدينة على طريق الشّام . ومن الطّبيعيّ أنّ سرورهم يعود إلى استقرارهم في خيبر إلى جانب حلفائهم اليهود آملين أن يعودوا يوما إلى المدينة مرّة أُخرى . ولعلّ إصرار المسلمين على تخريب دورهم هو لقطع أملهم الواهي هذا . وهم أنفسهم كانوا يخربون بيوتهم لأخذ أثاثها وأُطر أبوابها . وذكر ابن إسحاق أنّ عددا منهم ذهب إلى الشّام أيضا .

وكان من الغنائم الباقية مقدار من السّلاح الّذي يضمّ خمسين درعا ، وخمسين خوذةً ، وثلاثمائة سيف وأشياء أُخرى(2) . ومن الثّابت أنّ هذا المقدار كان جدَّ قليل من أسلحتهم . لذا يضيف الواقديّ قائلاً : «ويقال : غيّبوا بعض سلاحهم وخرجوا به»(3) . وتمثّل أصل الغنائم بالنّخيل والأراضي الخصبة الّتي كانت بأيدي اليهود ، ثمّ صارت لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لأنّها وقعت بأيدي المسلمين بدون قتال . بعبارة أُخرى : الأموال المذكورة لم تعدّ في غنائم الحرب كي تُخَمَّس ، ويكون خمسها لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، بل كانت كلّها تحت تصرّفه صلى الله عليه و آله وسلم . وخصّص صلى الله عليه و آله وسلم قسما من عائداتها لأهله، وصرف الباقي في شراء السّلاح والإبل(4) . وصار ما خُلِّفَ منها للمهاجرين بعد كسب تأييد الأنصار بشرط ألاّ يكونوا عالةً على الأنصار من الوجهة الاقتصاديّة . وكان الاقتراح الآخر هو تقسيم الأموال بين المهاجرين والأنصار وبقاء المهاجرين عند الأنصار .

ص: 699


1- (1) المغازي 1 : 375 ؛ وذكر الواقديّ أسماء هؤلاء الأشخاص وعويلهم .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 191 .
3- (3) المغازي 1 : 377 .
4- (4) نفسه 1 : 377 ، 378 .

وقال الأنصار : لا تُدفع الأموال المذكورة للمهاجرين فحسب ، بل لهم أن يصيبوا حظّا من أموال الأنصار كما هو الوضع سابقا . وأثنى اللّه سبحانه على إيثارهم في القرآن الكريم(1) . ويبدوا أنّ اثنين من الأنصار أخذا سهمهما ، وكانا فقيرين ، وأحدهما سهل ابن حُنيف ، والآخر أبو دُجانة(2) .

وكان إخراج بني النّضير من المدينة مهمّا لأمنها نظرا إلى شوكتهم . كما أنّه يُعدّ ضربة قاصمة لقريش الّتي كانت عقدت الآمال على اليهود من بعيد . وقال ابن لقيم العبسيّ مشيرا إلى الواقعة المذكورة :

فمن مُبلغٌ عنّي قريشا رِسالةً * فهل بعدهم في المجد من متكرَّمِ

وللإمام عليّ عليه السلام شعر أيضا في مقتل كعب بن الأشرف وإجلاء بني النّضير - وإن كان ابن هشام يرى أنّه لصحابيّ آخر - وفي سياق إشارته إلى طغيان كعب وتشبيهه بالجمل الناكب عن الطريق ، تطرّق إلى وحي اللّه في قتله ، وذكر إخراج بني النّضير الذليل :

وأجلى النّضير إلى غربةٍ * وكانوا بدارٍ ذوي زُخرفِ

وذهب عليه السلام إلى أنّ المكان الّذي ذهبوا إليه هو أذرعات بالشّام(3) . وأُشير قبل ذلك إلى أنّ جماعة ذهبت إلى خيبر ، وأخزى إلى الشّام . وهدّد سماك اليهوديّ في الردّ على هذا الشّعر أنّه سيمضي إلى قتال المسلمين مع أبي سفيان ، فقال :

مع القوم صخر وأشياعه * إذا غاور القوم لم يضعفِ(4)

وأشار كعب بن مالك في شعر له إلى ذلّة بني النّضير بعد قتل كعب بن الأشرف ، كما ذكر خيانتهم وتغلّب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عليهم ، فقال :

ص: 700


1- (1) تاريخ المدينة المنوَّرة 2 : 489 .
2- (2) نفسه 2 : 490 .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 197 .
4- (4) نفسه 3 : 198 .

فلمّا أشربوا غدرا وكفرا * وحاد بهم عن الحقّ النفور

أرى اللّه ُ النّبيّ برأي صدقٍ * وكان اللّه يحكم لا بجورِ

وأجابه سماك اليهوديّ وذكر أنّ كعب بن الأشرف هو سيّد الأحبار . وتطرّق إلى أُحد وما مُني به المسلمون من محن وشدائد وقال :

كما لاقيتم من بأس صخر * باُحد حيث ليس لكم نصير(1)

وتعتبر واقعة إخراج بني النّضير وتبعاتها من الوقائع الّتي تحدّث عنها القرآن الكريم بنحو مفصّل إلى حدٍّ ما . فالقسم الأكبر من سورة الحشر يتناول هذه الواقعة . قال تعالى : « هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لاِءَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِى الأَبْصَارِ * وَلَوْ لاَ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * مَا قَطَعْتُم مِن لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِىَ الْفَاسِقِينَ » .

وقال في الغنائم المكتسبة : « وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ * مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَىْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمَوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ » . ثمّ قال في فضيلة الأنصار : « وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ

ص: 701


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 200 . المقصود من صخر هو أبو سفيان .

إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » .

وقال سبحانه في موضوع المنافقين في هذه الغزوة : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لاِءِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدا أَبَدا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ » . وقال تعالى في الوضع الروحيّ للمشركين : « لاَءَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِم مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ * لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعا إِلاَّ فِى قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعا وقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بَأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ »(1) .

وكان أحد قادة بني النّضير سلاّم بن أبي الحُقَيق ، وتوجّه مع ابن أخيه كنانة ، وحُييّ بن أخطب إلى خيبر . فاحتفى بهم أهلها بعد وصولهم إليها(2) . وكان لهم دور مهمّ في تحريض الأحزاب على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم (3) . وكان لسلاّم شخصيّة بارزة بينهم ، وكما ذكر الواقديّ فإنّه «قد أجلب في غطفان ومن حوله من مشركي العرب ، وجعل لهم الجُعل العظيم لحرب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم »(4) . من هنا بعث النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم خمسة أشخاص لقتل سلاّم بخيبر . وأميرهم عبد اللّه بن عتيك ، وكان يعرف العبريّة ، كما أنّ أمّه من الرضاعة كانت تعيش بخيبر . واستطاعوا أن يتغلغلوا في خيبر بخطّة دقيقة ، وبمساعدة أمّ عبد اللّه ، فقتلوا سلاّما في بيته ، وبذل اليهود قصاراهم للعثور عليهم فلم يفلحوا .

وهكذا قُتِلَ واحد من بني النّضير ، وكان أحد المحرِّضين لقبائل العرب ضدّ

ص: 702


1- (1) الحشر 13 ، 14 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 191 .
3- (3) نفسه 3 : 214 .
4- (4) المغازي 1 : 394 .

الإسلام . والقيام بهذا العمل نظرا إلى بعد طريق خيبر عن المدينة (165 كم) ، بخاصّة بين آلاف من اليهود ، أمر في غاية الرّوعة والعجب حتّى إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قدّرهم وثمّن عملهم كثيرا بعد قدومهم . وفي الحقيقة كانت لسلاّم منزلة كمنزلة كعب بن الأشرف ، وذكره حسّان في مصافّه فقال :

للّه درّ عصابةٍ لاقيتهم * يابن الحُقَيق وأنت يابن الأشرفِ

وعبّر حسّان عن فرحه وسروره لقيام المسلمين بقتلهم في عقر دارهم وحصنهم ، فقال :

حتّى أتوكم في محلّ بلادكم * فسقوكم حتفا ببيضٍ ذُفَّفِ

مستنصرين لنصر دين نبيّهم * مستصغرين لكلّ أمر مُجحفِ(1)

وذهب الواقديّ إلى أنّ قتل ابن أبي الحقيق كان قبل الخندق بينما ذكر ابن إسحاق أنّه كان بعدها وبعد غزوة بني قُريظة . وحريّ بالذكر أنّ الأوس هم الّذين تولّوا قتل كعب بن الأشرف. ونافسهم الخزرج في كسب الامتياز منافسة دفعتهم إلى قصد سلاّم وقتله(2) .

بدر الموعد

في ضوء عِدَة أبي سفيان منتهى حرب أُحُد ، يُفترض أن يُنازل المشركون المسلمين في منطقة بدر بعد الحرب المذكورة بعامٍ واحدٍ . وَرضِيَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بذلك . وكان مثل هذه العدات مألوفا عند العرب . فقد كانت الحروب الطويلة تنشب بينهم في كلّ سنة . وتشفّى المشركون بالثّأر في أُحُد ، ومن هنا لم يكن لهم حافز حقيقيّ

ص: 703


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 57 ، 276 . البيض هي السّيوف . الذُفَّف أي تقتل بسرعة .
2- (2) نفسه 3 : 274 .

على إتيان بدر ، وكان عداؤهم للمسلمين طبيعيّا ، لكنّ هزيمتهم في بدر ، ونصرهم الّذي حدث صُدفةً في أُحد سلبا منهم الإقدام على الحرب . وبعد ذلك وقعت حرب الأحزاب في وقتٍ صحب قريشا إلى المدينة عشرة آلاف من العرب . وفي مقابل هذا كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم والمسلمون على أُهبة الاستعداد للتوجّه نحو بدر . ونقل الواقديّ أنّ المسلمين ، وعددهم ألف وخمسمائة ، حضروا بدرا في الأيّام الثمانية الأُولى من شهر ذي القعدة للسّنة الرّابعة(1) . وذهب ابن إسحاق إلى أنّ هذه الغزوة وقعت في شهر شعبان(2) . وذكر موسى بن عقبة أيضا أنّها كانت في شعبان إلاّ أنّه أورد كما يبدو شعبان من السّنة الثّالثة تاريخا لبدر الموعد سهوا(3) .

وكانت بدر الّتي شهدت نزالاً بين المسلمين والمشركين في السّنة الثّانية للهجرة سوقا للعرب يعرضون فيها بضائعهم . ووقتها كان الأيّام الثمانية الأُولى من شهر ذي القعدة. وعزم أبو سفيان على منع المسلمين من حضور بدر بتحريض نعيم بن مسعود، وهو نفسه لم يقصد حضورها في تلك السّنة ، وأحد دواعيه الرئيسة هو الجفاف ، وحينئذٍ لم يكن المتخلّف عنها وحده . في حين كان مجيء المسلمين يسبّب خزي قريش وجرأة المسلمين أكثر . وجاء نعيم من مكّة إلى المدينة وحذّر المسلمين من

ص: 704


1- (1) وبه قال ابن سعد في الطّبقات الكبرى 2 : 59 ؛ وفي أنساب الأشراف أيضا 1 : 340 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 209 .
3- (3) سبل الهدى والرّشاد 4 : 478 ؛ لو قُدِّر أن تقع حرب بعد أُحد بسنةٍ ، فلا بدّ أن تكون بدر الموعد في شوّال أيضا لوقوع أُحُد في شوّال ، وهذا ما لا يدّعيه أَحَدٌ . وحينئذٍ وبهذا الاستدلال المتمثّل بنشوب الحرب بعد سنة لا يتسنّى لنا أن نقول : إنّ رأي ابن إسحاق صحيح إذ ذهب إلى وقوع بدر الموعد في شعبان (قبل التّاريخ المذكور بشهرين) . وإذا كانت في ذي القعدة ، ففيه إشكال آخر يتمثّل في أنّ هذا الشّهر من الأشهر الحرم ، فلا ينبغي لطرفي الحرب أن يحدّدا موعدا كهذا . من جهة أُخرى الدليل الصحيح على تاريخ ذي القعدة هو قيام أسواق العرب في مثله . وسنلحظ أنّ قدوم المسلمين كان في أيّام السّوق هذه . ولذا كان مع بعضهم بضاعة كعثمان الّذي قال : «ربحتُ للدينار دينارا» .

جيش قريش الجرّار ، وشجّعهم على البقاء في بيوتهم إذ هو أفضل لهم بالنظر إلى تجربة أُحُد . وولّدت هذه التّهديدات شكوكا عند المسلمين بيد أنّ عزيمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم رجحت ، فتحرّك المسلمون لحرب قريش وحضور سوق بدر . «وكان يحمل لواء رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم الأعظم يومئذٍ عليّ بن أبيطالب عليه السلام »(1) .

وأخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم النّاس حين رأى شكوكهم أنّه سيذهب إلى بدر حتّى لو كان وحده . وانتهى أبو سفيان إلى مَجَنَّة - موضع على أميال يسيرة من مكّة - ومعه ألفان ليتظاهر أنّه قام بعملٍ على أيّ حال ، لكنّه رجع متذرّعا بأنّ ذلك العام هو عام الجدب . وحين انتشر خبر المسلمين وحضورهم ببدر أتّهمت قريش بخلف الوعد والخوف ، فعزمت على التأهّب لخوض حرب شاملة - حرب الأحزاب - ضدّ المسلمين . وذكر الواقديّ أنّها استجلبت مَنْ حولها من العرب ، وجمعت الأموال العظام - الّتي قيل أنّ أهل مكّة كلّهم شاركوا في تهيئتها(2) . وعاب المسلمون قريشا على خلفها الوعد . قال كعب بن مالك :

وعدنا أبا سفيان بدرا فلم نجد * لموعده صدقا وما كان وافيا(3)

معركة الأحزاب

مرّ أنّ قريشا لم تحضر بدرا على عدتها ، بيد أنّها نشطت بجدٍّ للتّلافي ، وإطفاء نور الإسلام بالمرّة . وما ازدياد عدد المشركين في الأحزاب - إذ كان ثلاثة أضعاف ما كان في أُحد - إلاّ دليل على جدّهم في هذه الحرب . ويضاف إليه أنّ قريشا لم تكن وحدها

ص: 705


1- (1) المغازي 1 : 388 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 59 .
2- (2) المغازي 1 : 389 . الأموال المذكورة في رواية البيهقيّ هي من أجل قدوم المشركين إلى مَجَنَّة ، ويجب ألاّ تكون صحيحة . دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 386 .
3- (3) المغازي 1 : 389 ؛ وفي هامش دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 387 ورد الشّعر المذكور لعبد اللّه بن رواحة .

تريد إطفاء نور الإسلام بل إنّ القبائل الأخرى أيضا كانت كذلك إذ أدركت خلال هذه المدّة أنّه أصبح خطرا حقيقيّا يهدّد وجودها . كما أنّ اليهود كانت تكنّ حقدا كبيرا على الإسلام بسبب أحداث بني القينقاع وبني النّضير ، وقتل بعض سراتهم ككعب بن الأشرف . من هنا أجمعت الأحزاب برمّتها على مهاجمة المدينة الّتي كان سكّانها من الرجال والنساء ، والكبار والصغار قرابة عشرة آلاف ، والقضاء على الإسلام عبر تعبئة عامّة . ومن المحتمل بقوّة أنّ شبه الجزيرة العربيّة لم تشهد مثل هذا النّفير في حروبها القبليّة يومئذٍ قطُّ .

وذهب الواقديّ ، وابن سعد ، والبلاذريّ إلى أنّ معركة الأحزاب تمتدّ من يوم الثلاثاء الثّامن من ذي القعدة حتّى يوم الأربعاء الثّالث والعشرين منها في السّنة الخامسة للهجرة(1) . وذهب ابن إسحاق إلى أنّها كانت في شوّال من السّنة المذكورة(2) . وفي مقابل هذين الرأيين يرى موسى بن عقبة نقلاً عن الزّهريّ ، ومالك بن أنس أنّها كانت في السّنة الرّابعة(3) . ونقل البيهقيّ آراء مختلفة . وعرض توجيهين لإثبات عدم التّعارض بين القولين ، الأوّل : عند ما يقال إنّ بدرا كانت في السنة الثانية ، فإنّ هذا يعني أنّها كانت بعد الهجرة بسنة ونصف ، وكذلك أُحُد فإنّها كانت بعدها بسنتين ونصف ، فحينئذٍ تكون الأحزاب بعد أربع سنين وقبل خمس سنين(4) . ومن هنا يمكن القول أنّ الأحزاب كانت في السّنة الرّابعة بناءً على رؤيةٍ ، والتّوجيه الآخر هو أنّ بعض المؤرّخين يبدأ تاريخه من المحرّم بعد ربيع الأوّل - شهر الهجرة - أي : يتركون عشرة أشهر من السّنة الهجريّة عمليّا . واعتمادا على هذا الحساب فإنّ معركة

ص: 706


1- (1) المغازي 2 : 441 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 65 ؛ أنساب الأشراف : 343 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 214 ؛ زاد المعاد 3 : 269 . وذهب إلى أنّ هذا الرأي هو «أصحّ القولين» .
3- (3) دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 393 .
4- (4) نفسه 3 : 395 .

الأحزاب وقعت في السّنة الرّابعة . ويرى البيهقيّ أنّ يوسف بن سفيان الفسويّ صاحب كتاب «المعرفة والتّاريخ» من هؤلاء(1) .

على أيّ حال يتمثّل رأي البيهقيّ في وقوع الأحزاب العام الخامس من الهجرة إذ إنّ ما ذُكر من توجيه هو توجيه صوريّ لقول آخر فحسب . ونقل البلاذريّ في رواية عن الزّهريّ أنّ الأحزاب كانت بعد أُحُد بعامين . فلا بدّ أنّه يرى وقوعها في السّنة الخامسة أيضا . ومن الأدلّة على إثبات السّنة الخامسة كلام أبي سفيان الّذي قال بعد أُحُد : موعدنا العام القادم ، ولم يحضر المشركون في بدر الموعد ، ولا يمكن ، بالنظر إلى استدلال أبي سفيان بجدب السّنة الرابعة سببا في الغياب عن بدر ، أن يكون جاء بعد شهرين . فلا جرم أنّنا ينبغي أن نقول إنّ الأحزاب قدمت المدينة في السّنة اللاحقة ، أي : السّنة الخامسة(2) .

وذهب أرباب السِّيَر إلى أنّ اليهود هم السّبب الأصليّ لنشوب حرب الأحزاب . فقد جاء رؤساؤهم الّذين كانوا ذهبوا إلى خيبر بعد واقعة بني النّضير إلى قريش وطلبوا منهم التّحالف والتّوجّه لحرب المدينة من أجل القضاء على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم (3). ولم ترغب قريش في هذا التّحالف كثيرا مع أنّها كانت جالسة بمكّة ، لذا أجاب أبو سفيان اليهود أنّ أحبّ الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمّد(4) . وقيل إنّ قريشا حين رأت رؤساء اليهود حاولت أن تسألهم عن صحّة دينها وتفوّقه على الإسلام . وتحدّثنا سابقا عن الهيمنة الثّقافيّة لأهل الكتاب على عرب الجاهليّة . وكان العرب - كما جاء هنا أيضا - يسمّون اليهود «أهل العلم والكتاب الأوّل» . وسألت قريش :

ص: 707


1- (1) المغازي 2 : 441 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 65 ؛ أنساب الأشراف : 343 .
2- (2) أنساب الأشراف 1 : 345 .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن كثير 3 : 180 . وقيل بهذا الشأن موضوع آخر أيضا ليس لنا أن نتعرّض له هنا . انظر : سبل الهدى والرّشاد 4 : 561 ؛ زاد المعاد 3 : 269 ، 270 .
4- (4) المغازي 2 : 441 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 214 [ لنستأصل محمّدا ]

ديننا خير أم دين محمّد ؟ فنحن عمّار البيت ، وننحر الكوم ، ونسقي الحجيج ، ونعبد الأصنام . فأجابهم اليهود النفعيّون : أنتم أولى بالحقّ منه ، إنّكم لتعظّمون هذا البيت ، وتقومون على السقاية ، وتنحرون البُدنَ (للإطعام) ، وتعبدون ما كان عليه آباؤكم(1) . ولم تكتف اليهود بتحريض قريش ، بل دعت قبيلة بني سُلَيم ، وغطفان المعروفتين بعدائهما للإسلام لمظاهرتها(2) . وتعهّدت لغطفان أن تعطيها نصف تمر خيبر (وفي خبرٍ جميع ما يُجنى منه خلال سنةٍ واحدة)(3) . واستمدّت قريش حلفاءها أيضا . وشكّلت هي والأحابيش جيشا قوامه أربعة آلاف مع ثلاثمائة حصان . فسبعمائة من بني سُليم بقيادة سفيان بن عبد شمس(4) ، وبنو فزارة كلّهم بإمرة عيينة بن حصن(5) ، وأربعمائة من قبيلة أشجع ، وأربعمائة من بني مرّة ، وبنو أسد بقيادة طليحة بن خويلد ، وجملة القول إنّهم سيّروا جيشا عظيما لحرب الإسلام . وصحب قريشا خلقٌ كثير من غطفان حتّى قيل إنّ قوام جيش الشّرك بلغ عشرة آلاف(6) ، وساروا نحو المدينة ثلاثة عساكر(7) .

وهذه المرّة أيضا بلغ المدينة خبر أتى به جماعة من قبيلة خزاعة حليفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم حول استعداد المشركين . واستشار رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم المسلمين في قتال المشركين . وتحدّثنا سابقا عن استشارة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم الناس في أمر الحرب ؛ ومن

ص: 708


1- (1) المغازي 2 : 442 .
2- (2) نفسه . وقيل : إنّ الآية الحادية والخمسين من سورة النّساء نزلت في هذا الشّأن ، وهي تتّفق تماما مع الموضوع المذكور . السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 215 .
3- (3) نفسه 2 : 442 ، 443 .
4- (4) دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 398 ، 399 .
5- (5) هو أبو أبي الأعور السّلميّ الّذي قاتل أمير المؤمنين عليه السلام مع الأحزاب البغاة بصفّين إلى جانب معاوية . وهكذا كانت الأحزاب في عصرها الجاهليّ ، وفي عصر ما بعد الإسلام جنبا إلى جنب لذا كان أميرالمؤمنين عليه السلام يقول في تحريض أهل الكوفة على القاسطين : «سيروا إلى بقيّة الأحزاب» .
6- (6) المغازي 2 : 443 ، 444 .
7- (7) الطّبقات الكبرى 2 : 66 .

الاتّفاق تأكيد الواقديّ هنا بقوله «وكان رسول اللّه يُكثر مشاورتهم في الحرب»(1) . ومن الممكن أن نقول : إنّه كان يستشيرهم في الحرب فحسب . ولم يتحدّث كتّاب السِّيَر عن الاقتراحات المطروحة بدقّة . وذكر الواقديّ أنّ جماعة قالت إنّها تقف بين ثنية الوداع ، والجُرف ، وبُعاث . وهذا المكان في موضع حُفر فيه الخندق تقريبا . ومهما يكن فإنّ سلمان تحدّث عن تجربة الفُرس . وكان الرأي هو حفر الخندق عند الخوف من خيل العدوّ. ورحّب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بهذا الرأي وما لبث أن شرع فيه(2). وأضاف البلاذريّ أنّ العرب لم تعرف هذا الفنّ العسكريّ المتمثّل بحفر الخندق(3) .

وما كان مهمّا في هذا المجال هو أن يُحفَر خندق يسدّ جميع المنافذ إلى المدينة . ويُعيق العدوّ . وعلينا أن نلتفت إلى ما قلناه سابقا حول الموقع الجغرافيّ للمدينة . فقد كانت المدينة تقع بين الحرّة الشّرقيّة والحرّة الغربيّة . والحرّة منطقة صخريّة ذات حجارة سوداء حادّة وعلى شكل تلال صغيرة في صعيد واسع . وأحاطت هاتان الحرّتان بالمدينة تماما ، وغطّتا القسم الجنوبيّ تقريبا ، وإن كانت هناك منافذ محدودة من تلك الجهة . وفي غضون ذلك كان القسم الشّمالي وحده أرضا زراعيّة ومسطّحة . وفي المسافة الواقعة بين رأس الحرّة الشّرقيّة (الواقع جبل أُحُد في شمال غربها) حتّى جبل سلع الواقع قرب القسم الأخير من الحرّة الغربيّة أرض سهلة خالية من الحجارة . ولو قُدِّر للعدوّ أن يأتي المدينة فإنّ المنفذ الوحيد إليها هو القسم الشّمالي هذا ، لأنّ جيشا قوامه الآلاف لا يمكن أن يجتاز الصخور بسهولة في الأقسام الأُخرى . وكانت الصّخور في قبا أقلّ من غيرها ، لذا كان هناك احتمال ضعيف أن تتمكّن مجموعات صغيرة من الدّخول في نطاق يثرب . وسار المشركون من مكّة في

ص: 709


1- (1) المغازي 2 : 445 .
2- (2) نفسه .
3- (3) أنساب الأشراف 1 : 343 .

السّنة الثّالثة وداروا حول المدينة واستقرّوا على سفح أُحُد . ويعود ذلك إلى تعذّر عبور الجيش عن طريق قباء ، أي : الجنوب ، الّذي كان الطريق المعتاد لسفر أهل المدينة إلى مكّة .

ولننظر الآن أين حُفر الخندق ؟ يقول الواقديّ : «فكان أعجب المنازل إليه [ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ] أن يجعل سَلعا خلف ظهره [ التقدّم قليلاً ] ، ويخندق من المذاد [ اسم اُطم لبني حرام من بني سلمة غربيّ مسجد الفتح ] إلى ذباب ، إلى راتج»(1) . وراتج على الحرّة الشّرقيّة ، وذُباب جبيل في الحرّة الغربيّة عند جبل سلع . فالخندق حُفر في الحقيقة بين الحرّتين متقدّما قليلاً على جبل سلع الّذي كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم مستقرّا عنده . ويقع مسجد الفتح على جبل سلع الآن . ويضاف إلى ذلك أنّه نُصبت قبّة للنّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم على جبل ذُباب أيضا(2) . وكانت ذباب داخل نطاق المدينة في هذه الجهة من الخندق . ويقال للمنطقة الّتي توسّط سلع وذُباب ثنية الوداع ، وهو المكان الّذي كان يُستقبَل فيه النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ويودَّع عند دخوله المدينة أو خروجه منها(3) . ويقول الواقديّ في موضع آخر من كتابه حول موضع الخندق : «قالوا : وكان الخندق ما بين جبل بني عبيد بِخُربى إلى راتج . فكان للمهاجرين من ذُباب إلى راتج ، وكان للأنصار ما بين ذُباب إلى خربى» . وخُربى قرب مسجد القبلتين(4) الواقع غرب جبل سلع . ويضيف الواقديّ : «وخندقت بنو عبد الأشهل [ الّذين كانوا يسكنون في الحرّة الشّرقيّة ] عليها بما يلي راتج إلى خلفها [ أسفل ممّا هو باتّجاه مركز المدينة [حتّى جاء الخندق من وراء مسجد النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم [ جانبه الشّرقيّ طبعا ]» .

ص: 710


1- (1) انظر : المغازي 2 : 445 . قيل : مذاد اسم اُطم بني سلمة ؛ وانظر أيضا : الحجاز في صدر الإسلام : 543 .
2- (2) تاريخ المدينة المنوّرة 1 : 61 ، 62 .
3- (3) المعالم الأثيرة : 120 ؛ الثنية طريق العبور بين جبلين . انظر : معجم المعالم الجغرافيّة : 71 .
4- (4) نفسه : 108 .

يضاف إلى هذا كلّه أنّ احتياطات أُخرى قد تحقّقت أيضا . ويواصل الواقديّ كلامه فيقول : «وشبّكوا المدينة بالبنيان من كلّ ناحية وهي كالحصن»(1) .

واستقرّت النساء والأطفال في الآطام . وحفر الخندق في قباء حول بعض الحصون . وأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عددا من رجال القبائل الّذين كانوا يعيشون حوالي يهود بني قريظة أن يتسلّحوا عند تنقّلهم إذ كان يخاف عليهم من اليهود . وكانوا يتردّدون بين جبهة الحرب ومناطق سكنهم . وذات مرّة التقى جماعة من المسلمين كانوا متّجهين نحو قباء بشرذمة من يهود بني قريظة في الطّريق ، فرماهم اليهود ، وردّ عليهم المسلمون ، وجُرح منهما رجالٌ . وذكر النّاقل أنّه لم يُرَ لليهود جمع بعد ذلك(2) .

إنّ ما ينبغي أن نقوله كنتيجة - وذهب الواقديّ إلى أنّه أصحّ الأقوال - هو أنّ الخندق كان يمتدّ من جبل أبي عبيد إلى راتج . ومن المحتمل أنّ أعمالاً أُخرى تحقّقت في بعض المناطق احتياطا ، منها ما قيل في بني عبد الأشهل . من هنا يسّر السّور الطّبيعيّ للمدينة بواسطة الحرّة عمل المسلمين ، وإنّما حُفِر خندق في القسم الشّماليّ من المدينة . وكان عمقه بمقدار قامة الإنسان(3) . وعرضه بمقدارٍ - لعلّه أربعة أمتار كحدّ متوسّط - يتعذّر معه عبور المشاة فضلاً عن الخيّالة إلاّ في مواضع استثنائيّة تتمثّل في أماكن ضيّقة منه .

وأخبار الواقديّ الدقيقة حول عمل الصّحابة في حفر الخندق لافتة للنّظر . ومجملها أنّ المسلمين الّذين كانوا يحفرون الخندق حذاء جبل سلع يملأون مكاتلهم بالتّراب ويرتقون سلعا لإلقائه هناك ، وبعد إلقائه يملأونها حجرا ليجمعوه في مكان

ص: 711


1- (1) المغازي 3 : 450 ، 451 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 66 ، 67 .
2- (2) المغازي 2 : 451 .
3- (3) نفسه 2 : 446 ؛ ذكر البعض أنّه كان ثلاثة أمتار ، انظر : الإدارة العسكريّة في حروب الرّسول محمّد صلى الله عليه و آله وسلم : 217 . وقال : إنّ طوله كيلومتران .

واحد فيفيدوا منه عند هجوم العدوّ . وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يحمل التّراب في المكاتل أيضا ويطرحه هناك .

وإذا ضعف أحد ذلك اليوم فالجميع يضحكون عليه . وكان سلمان قويّا عارفا بحفر الخنادق . وقال الأنصار : سلمان منّا ، وقال المهاجرون : سلمان منّا ، وطلبوا منه أن يكون معهم . فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : «سلمان منّا أهل البيت»(1) . وكان يعمل عمل عشرة رجال . وعُيّنت له منطقة سعتها خمسة أذرع في خمسة أذرع ، وكان يحفرها وحده .

وكان جُعَيل بن سراقة منهمكا في العمل ، وهناك غيّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم اسمه إلى عمرو . وأخذ أحد المسلمين سلاح زيد بن ثابت الّذي كان نام في الخندق لفرط التعب . ولمّا أفاق أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أن يُرجع إليه سلاحه . ونهى صلى الله عليه و آله وسلم أن يُروَّع المسلم ، أو يؤخَذ متاعه لاعبا جادّا . وقيل : ما كان في المسلمين يومئذٍ أحد إلاّ يحفر في الخندق . وكان أبو بكر وعمر لا يتفرّقان في عمل ، ولا مسير ، ولا منزل ينقلان التراب في ثيابهما إذ لم يجدا مكاتل يحملانه به . قال البراء بن عازب : لبس رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم حلّة حمراء ، ولمّا كان صلى الله عليه و آله وسلم أبيض الوجه فإنّ الحلّة ناسبته كثيرا . وكان يحمل التراب على ظهره وشعره مُرسَل على أكتافه . وقال أبو سعيد الخُدريّ : كان صلى الله عليه و آله وسلم يقول وهو يحمل التّراب :

اللّهمّ لولا أنت ما اهتدينا * ولا تَصَدَّقْنا ولا صَلَّينا(2)

وكان المهاجرون والأنصار يرتجزون قائلين :

نحن الّذين بايعوا محمّدا * على الجهاد ما بقينا أبدا

ص: 712


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 224 ؛ المغازي 2 : 446 ، 447 ؛ دلائل النّبوّة ، البيهقي 3 : 400 .
2- (2) الطّبقات الكبرى 2 : 71 ؛ المغازي 2 : 449 ؛ دلائل النّبوة ، البيهقي 3 : 413 ؛ وورد هناك بيتان آخران أيضا على قياس البيت المذكور .

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يقول أيضا :

اللّهمّ لا خيرَ إلاّ خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة(1)

وكان عدد المسلمين في هذه الحرب ثلاثة آلاف . وحضرها جميع البالغين الّذين كانوا بالمدينة . وبذلوا قصاراهم فهيّأوا الخندق خلال ستّة أيّام(2) . واتّخذ صلى الله عليه و آله وسلم جبل سلع - الّذي عُرف بجبل الأحزاب فيما بعد - مقرّا له . وضرب قبّة من أدم في القسم المقابل للخندق(3) .

واستقرّ جيش قريش بوادي العقيق - منطقة فسيحة شمال المدينة باتّجاه ذيالحليفة - في وقت كان الخندق مُهَيَّئا . وسرّحوا إبلهم في البادية ، لكن لم يوجد فيها شيء للأكل إلاّ العضاه ، إذ إنّ موسم الحصاد قد تصرّم . ويضاف إلى ذلك أنّ مطرا لم ينزل تلك الأيّام ، وأطراف المدينة جديبة ممّا أدّى إلى هزال الإبل هزالاً شديدا(4) .

وأشارت أخبار السّيرة إلى البرد مرارا . وسبق حييّ بن أخطب الّذي شبّهه أحد المحدِّثين بأبي جهل في كبره وأنانيّته ونخوته قريشا في دخول المدينة . وذهب عند كعب بن أسد رئيس بني قُريظة والموقّع على المعاهدة مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . وقال له إنّه أتى بجيش غفير يشمل قريشا ، وغطفان ، وكنانة ، وقوامه عشرة آلاف ، واستقرّ في وادي العقيق ، وزغابة قرب أُحد - ورومة ، وسيريحهم من محمّد هذه المرّة . ورفض كعب أن يدخله في بيته بادئ الأمر لأنّ هذا العمل يعتبر نكثاً للعهد . وأصرّ حييّ

ص: 713


1- (1) الطّبقات الكبرى 2 : 70 ؛ المغازي 2 : 453 ؛ دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 410 ، 411 ؛ ونقل بعض الأخبار كلمة «الإسلام» مكان كلمة «الجهاد» الواردة في جواب الأنصار في عجز البيت . وأكّد أنس بن مالك أنّ الصّحابة كانوا ينشدون شعرهم في البيعة على الإسلام يوم الخندق .
2- (2) الطّبقات الكبرى 2 : 67 . وجاء في أخبار أخرى ستّة عشر يوما ، وسبعة عشر يوما ، بل أربعة وعشرون يوما . انظر : عيون الأثر 2 : 87 .
3- (3) المغازي 2 : 454 .
4- (4) المغازي 2 : 444 .

حتّى دخل البيت . فقال له كعب : واللّه لم أر أوفى من محمّد . ولم يلزمنا الأخذ بدينه ، ولم يغتصب أموالنا(1) ، لكنّه أصرّ حتّى رضي كعب ، وأعطاه العهد الّذي كان وقّعه مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم فشقّه حييّ . وكانت مشكلة اليهود أساسا هو خشيتها من عجز قريش وسائر القبائل عن القيام بعمل ما ، وتركها المنطقة ، وحينئذٍ لا يستطيع بنو قريظة مواجهة المسلمين ، وحلف حييّ أنّه سيبقى معهم(2) .

ولمّا بلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم نكثُ بني قريظة أرسل من يأتيه بخبرهم . فأتاه وأخبره أنّهم مشغولون بإصلاح حصونهم وطرقهم ، وأنّهم جمعوا ماشيتهم كلّها . فبعث صلى الله عليه و آله وسلم وفدا من كبارالأنصار ضمّ سعد بن معاذ - الّذي كان حليفا لبني قريظة قبل الإسلام - وسعد بن عبادة ، وأُسيد بن حُضَير ، وعددا آخر غيرهم إلى كعب بن أسد ، وأقسم عليه أن يفي بعهده ، لكنّ كعبا واليهود سبّوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وسعدا مع إشارتهم إلى إخراج بني النّضير(3) . وقال كعب إنّه يقطعه (العهد) كما يقطع قِبال النّعل (شِسعه)(4) . وأفزع المسلمين نكث بني قريظة عهدهم ، بيد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وعدهم بالنّصر .

وظهر يومئذٍ نفاق المنافقين الّذين كان فيهم عدد كبير من ضعفاء الإيمان والمذبذبين ، وطفقوا يهدّدون المسلمين ويسخرون من كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم (5) . وفي مقابل ذلك وعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم المسلمين بالنصر وقال إنّه يرجو أن يطوف حول البيت العتيق آمنا ، ويهلك اللّه كسرى وقيصر ، وينفق أموالهم في سبيل اللّه(6) . وسنرى أنّ القرآن الكريم يشير إلى دور المنافقين في هذه الحرب إشارات خاصّة . وجاء في

ص: 714


1- (1) دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 401 .
2- (2) المغازي 2 : 455 - 457 .
3- (3) دلائل النبوّة ، البيهقي 3 : 403 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 222 .
4- (4) المغازي 2 : 457 ، 458 .
5- (5) كان أحد المنافقين يقول : يَعِدُنا محمّد كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى حاجته !
6- (6) دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 402 .

خبر آخر أنّهم كانوا يتباطؤون في حفرالخندق قبل وصول المشركين، وكانوا يرجعون إلى بيوتهم بلا إذن من النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وعلمه(1) . على أيّ حال الوضع كان متأزّما متوتّرا . فإذا دخل جيش العدوّ المدينة وقوامه عشرة آلاف ، مع سبعمائة من مقاتلي بني قُريظة ، فإنّهم يضيّقون على المسلمين بسهولة ، ومن ثمّ يبيدونهم إبادة جماعيّة .

ولمّا كان محتملاً أن يُخرِجَ المشركون مجموعات - ولو بمشقّة - من يهود بني قريظة من حصنهم ويُدخلوهم المدينة ، وكذلك سُمعت أخبار عن رغبة كعب في التحاق ألفين أو ثلاثة آلاف شخص من المشركين به ليهجموا على المسلمين من الداخل ، فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم جعل خمسمائة من أصحابه على بيوت المدينة للمحافظة عليها . ومع وجود الخندق أمام جيش المشركين ، فإنّ خوف المسلمين من بني قريظة ، الّذين كانت منازلهم جنب منازل المسلمين ، كان أكثر . وأرسل النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أحد الصّحابة إلى حصن بني قُريظة لتقصّي أخبارهم، لكنّه غلبه النوم بعد ساعات من مراقبة الأوضاع، ولمّا استيقظ وجد نفسه أسيرا بيد أحدهم . فقال له : ولدت بقرتك عجلاً سمينا ! فانتزع ذلك الصّحابي وهو خوّات معول اليهوديّ بذكاء ووجأ به بطنه ثمّ فرّ بسرعة . ورُئي يهوديّ مرّةً في أطراف أحد الحصون الّذي كان فيه نساء المسلمين ، ومعهنّ حسّان بن ثابت الّذي قيل إنّه كان جبانا . فنزلت صفيّة عمّة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم فقتلته(2) .

وفي متناول أيدينا أخبار عن بدء الأعمال التخريبيّة لبني قريظة بالمدينة(3) ، وهي تدلّ على أنّهم بدأوا نشاطهم ، وكانوا يترصّدون الفرصة لتدخل قريش المدينة ، فيبدأون عملهم من الداخل . وكان قيامهم بتحرّك عسكريّ واسع متعذّرا قبل وصول الإمدادات .

ص: 715


1- (1) دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 402 .
2- (2) دلائل النّبوّة ، البيهقي 3 : 442 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 228 ؛ أنساب الأشراف 1 : 347 .
3- (3) المغازي 2 : 462 .

وانصبّ جهد المشركين على عبور الخندق . وكانوا يتقصّون موضعا قليل العرض منه ليتسنّى لهم عبوره . وعثر أبو سفيان ومعه لمّة من المشركين على مكان منه مرّةً وحاولوا العبور ، لكنّهم أُجبروا على التقهقر إذ جوبهوا بسهام المسلمين وحجارتهم . وفي مرّة أُخرى حاول عمرو بن العاص العبور مع مئة من أصحابه فأرغمهم حُماة الخندق على التقهقر إذ رموهم بالسّهام والحجارة . وقيل إنّ ابن العاص وخالد بن الوليد حاولا كثيرا فلم يُفلحا . وبلغا شفير الخندق أمام قبّة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم مرّةً ورميا لكنّهما لم يستطيعا العبور(1) . وتكرّر هذا الوضع ، وفي كلّ مرّة كان يجرح جماعة من الطّرفين بسبب الرمي .

وكان المسلمون يراقبون الخندق من جميع أرجائه ممّا أدّى إلى إعاقة قريش أيّاما حسوما . وكانوا يتوقّعون هجوم بني قريظة على المدينة من الداخل ، لكن - كما مرّ سابقا - عددهم لا يكفي لهجوم حاسم . والخوف منهم طبعا دفع المسلمين إلى حراسة المدينة ، وكانوا يكبّرون حتّى الصّباح ، وإنّما فعلوا ذلك لرفع الخوف عن أنفسهم(2) . وأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم المسلمين الذين كانوا يسكنون قريبا من بنيقريظة أن يتسلّحوا عند تنقّلهم(3). وقيل إنّ عُبّاد بن بِشر ومعه ثلّة من الصّحابة بذلوا جهودا كبيرةً لحراسة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . وكانوا مجبَرين على السّهر ليلاً . وذكر خبر آخر أنّ المشركين كانوا يبعثون إلى الخندق في كلّ يوم كتيبةً بقيادة أحد أمرائهم ؛ وتبدأ الكتيبة بالرمي لعلّها تستطيع العبور ، لكنّها ترجع ليلاً وهي خائبة(4) . وفي إحدى هذه الهجمات أُصيب سعد بن معاذ ، ثمّ استُشهد بعد أيّام مضت وكانت فيها نهاية بني قريظة . وكان حصار المدينة بنحو استقرّ فيه العدوّ في جميع مواضع الخندق أحيانا(5) .

ص: 716


1- (1) المغازي 2 : 465 ، 466 ؛ وانظر : ص 267 .
2- (2) الطّبقات الكبرى 2 : 67 ؛ المغازي 2 : 267 .
3- (3) المغازي 2 : 472 .
4- (4) نفسه 1 : 469 .
5- (5) نفسه 1 : 472 .

وشهد أحد الأيّام هجوم عسكر عظيم فيه رؤساء قريش ، وبنو أسد ، وغطفان ، وسائر القبائل ، واستطاع عدد منهم عبور الخندق من موضع ضيّق فيه ، وفيهم عمرو ابن عبد وَدّ(1) ، وعكرمة بن أبي جهل ، ونوفل بن عبد اللّه ، وضرار بن الخطّاب . وطلب عمرو أن يبرز إليه أحد المسلمين - وكان قد شهد بدرا وجُرح فيها ، فلم يشهد أُحدا لذلك ، وأراد أن يثأر لنفسه - وكرّر نداءه ثلاث مرّات ، ولم يقم إليه في كلّ مرّة أحد من شجعان العرب إلاّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام . ويشهد تاريخ صدر الإسلام على أنّ الصّحابة كلّهم لم يكونوا كعليّ في شجاعته ، والبراز إلى عمرو يتطلّب شجاعة خاصّة حقّا . ووضع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم العمامة بيده الشّريفة على رأس الإمام ودعا له ، وسيّره إلى عمرو .

وقال عمرو للإمام إنّه لا يريد قتاله لأنّه صديق أبيه في الجاهليّة ، بيد أنّ الإمام عليه السلام أجابه إنّه يرغب في قتله . وفي الوقت نفسه طلب منه الإمام أن يعمل بما قاله في الجاهليّة : إنّه إذا أراد منه أحد ثلاثة أشياء في البراز يقبل واحدا منها . فطلب عليه السلام منه أن يسلم ، أو يعتزل القتال ، أو ينزل من فرسه للبراز ، فرفض الأوّلين ، وعزم على المبارزة . فبدأت المناوشات بينهما حتّى ثار الغبار فلم يرهما أحد إلى أن علا صوت الإمام بالتكبير . وهذه آية على أنّ عمرو قد قُتل . فذُعر الآخرون حين رأوا ذلك ذعرا شديدا ولاذوا بالفرار . وفيهم نوفل بن عبد اللّه إذ سقط في الخندق فرُمي بالحجارة حتّى هلك(2) . وأنشد الإمام عليه السلام بعد مقتل عمرو قائلاً :

ص: 717


1- (1) وَدّ اسم صنم ذُكر في الآية (23) من سورة نوح .
2- (2) المغازي 2 : 472 ؛ دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 437 ؛ ونصّت أخبار أخرى أيضا على أنّ الإمام عليّا عليه السلام هو الّذي قتله . انظر : دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 438 ؛ المغازي 2 : 496 . ومن الجدير ذكره أنّ خبرا يدلّ على أنّ عمرا جرح رأس الإمام عليه السلام . انظر : أنساب الأشراف 1 : 345 . ورويت أشعار رائعة عن الإمام جوابا عمّا ارتجزه عمرو . انظر : دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 438 ، 439 ؛ عيون الأثر 2 : 93 .

نَصَرَ الحجارةَ من سفاهة رأيه * ونصرتُ ربّ محمّدٍ بصوابي

لا تحسبنّ اللّه خاذلَ دينه * ونبيّه يا معشر الأحزابِ(1)

وضعضعت هذه الحادثة معنويّات العدوّ بشدّة ، وكانت البداية لتردّد المشركين في البقاء وراء الخندق . واصطدمت في إحدى الليالي مجموعتان من المسلمين ، وكلّ منهما تظنّ أنّ الأخرى هي العدوّ ، فترامتا ، وكانت بينهما جراحة وقتل . من هنا كان المسلمون ينادون بشعار «حم لا يُنصَرون» لئلاّ يتكرّر مثلها(2) .

وعلاوة على الضربة الّتي مُنيت بها قريش في عبور عدد من أفرادها الخندق وجود أمور أُخرى زادت تردّد الأحزاب في البقاء أو الذّهاب . فتموين عشرة آلاف شخص مع آلاف من الإبل ، الّتي تحتاج إلى علف كثير يوميّا ، في أطراف الخندق عمل بالغ العسر والصعوبة ، حتّى إنّ الإبل أشرفت على الموت بعد مضيّ أيّام بسبب الجوع(3) . ويضاف إلى ذلك أنّ ليلةً عاصفةً مرّت بهم فأطفأت النار مواقد طعامهم ، وبعثرت أثاثهم ، وضاعفت ذعرهم . وأشار كعب بن مالك في شعر له إلى دور العواصف ، فقال :

بريحٍ عاصفٍ هبّت عليكم * فكنتم تحتها مُتكمَّهينا(4)

وكانت غطفان ، وهي من جياع العرب ، تعاني كثيرا . وقيل - وتصويبه يحتاج إلى مزيد تحقيق - إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عرض على غطفان أن تأخذ ثلث تمر المدينة وترجع مستهدفا بذلك تفريق وحدة العدوّ . لكنّها طلبت نصفه فرفض صلى الله عليه و آله وسلم طلبها

ص: 718


1- (1) السّيرة النّبويّة 3 : 225 ؛ عيون الأثر 2 : 93 .
2- (2) الطّبقات الكبرى 2 : 72 ؛ مستدرك الحاكم 2 : 107 ؛ المغازي 2 : 474 .
3- (3) المغازي 2 : 480 .
4- (4) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 356 . المتكمّه : الأعمى .

واقتنعت بالثلث(1) . ولمّا جاء عُيينَة بن حصن والحارث بن عوف للتفاوض ، لم يُبدِ زعماء الأنصار رغبةً في ذلك . وقالوا لهما إن كان هذا العمل بأمر اللّه فافعلا ما تؤمران به ، وإذ كنتما فيه راغبين فنحن مطيعون ، ولكن إذا جئتما للتشاور فليس عندنا إلاّ السّيف(2) . وأراد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أن يفصل هذه المجموعة عن الآخرين بعد رؤية الأحزاب المتّحدة . على أيّ حال رجع عُيينة بن حصن . وقال لو عرفت قريش هذا التّفاوض لعلمت أنّنا أذللناها ، ولا نحميها(3) . ولم يرد الأنصار أوسهم وخزرجهم أن يستسلموا لقبيلة كغطفان ذات الوضع الاقتصاديّ الذليل في مقابل الأوس والخزرج وذلك للحُرمة الّتي تراها لنفسها في الجاهليّة . والموقف الصارم للأنصار ، ثمّ لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم آيس غطفان من التّغلّب على الأنصار إذ عرفوا أنّ الأنصار سيصمدون حتّى لو بقي منهم شخص واحد . ونُقل عن غطفان وبني سليم قولهم إنّ محمّدا صلى الله عليه و آله وسلم خير لهم من اليهود فَلِمَ يؤذونه(4) . ولعلّ هذا يعود إلى شعورهم العربيّ أمام اليهود .

ويضاف إلى ما مرّ أنّ نعيم بن مسعود الذي شارك الأحزاب في حرب النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم

ص: 719


1- (1) وكانت غطفان الجائعة قد وُعدت بتمر خيبر سنة كاملة . وعدها اليهود في قضيّة الالتحاق بالأحزاب . أنساب الأشراف 1 : 343 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 223 .
3- (3) بغضّ النّظر عن تقويم الخبر المذكور بدقّة من الوجهة التّاريخيّة ، لابدّ من مراعاة الملاحظات الكلاميّة . فقول النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وفعله حجّة شرعيّة من منظار المذاهب الإسلاميّة جميعها . وهذا يعني أنّ ذلك كلّه معيار العمل الشّرعيّ للمسلمين . وإذا قدِّر أنّ بعض الأفعال الّتي يمارسها النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم تفقد الحجّيّة لأنّها ليست وحيا ، فما هو المعيار حينئذٍ لتمييز ما هو حجّة منها ممّا هو غير حجّة ؟ ونظرا إلى هذه النقطة ربّما يقال إنّ ما ورد في المتن وما شابهه من أخبار لا يمكن قبوله من منظار ما هو متّفق عليه بين المسلمين ، بخاصّة إذا علمنا أنّ في الصّحابة من كان ينوي نشر هذا الرأي ويعتقد أنّ حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ليس حجّة ! (انظر بهذا الشّأن : تاريخ تحوّل دولت وخلافت : 100 - 103) [ تاريخ تطوّر الحكومة والخلافة ] ولعلّنا نستطيع أن نبرّر مثل هذه المشاورات بالنّظر إلى اجتذاب قلوب الأنصار ، والرّوح القبليّة السائدة فيهم ، وكون الناس حديثي عهد بالإسلام ، وأمور مماثلة كالّتي أشرنا إليها في المشورة حين الحرب .
4- (4) أنساب الأشراف 1 : 345 .

آنذاك - وهو القائل إنّ اللّه تعالى قذف نور الإسلام في قلبه - قدم إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وأعلن إسلامه(1) . وسأل ماذا يمكنه أن يقوم به ؟ وكان تفريق الأحزاب وتخذيلها أهمّ موضوعٍ يومئذ ، فطلب منه النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أن يبذل قصاراه في هذا المجال . وبدأ نعيم جهوده ببني قريظة الذين كانت تربطه بهم مودّة ، فأكّد علاقته السّابقة بهم وأخبرهم أنّ شيئا قد بدا له ، وإذا لم يتّهموه ذكره لهم . فأيّدوا مودّته لهم . فقال مشيرا إلى أنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أصبح بلاءً عليهم : رأيتم أنّه أجلى بني القينقاع وبني النّضير . والآن جئنا لنصرتكم بتحريض كنانة بن أبي الحقيق إلاّ أنّ أيّام البقاء طالت وعسرت . فإذا لم يتحقّق ما نريد ، فإنّ وضع قريش وغطفان ليس كوضعكم ، إنّهم يرجعون إلى مكانهم ومسكنهم . وليس هنا إلاّ أنتم مع ذراريكم في مقابل جند محمّد صلى الله عليه و آله وسلم . ورأيتم كيف لبثوا أمس من أوّل النهار حتّى الليل ، وقتل عمرو بن عبد ودّ من صناديدهم . فطلبت منه قريظة رأيا تعمل به ، فقال تأخذون من قريش وغطفان رهنا لكي يمكثوا حتّى آخر الأمر . فقبلوا منه . ثمّ ذهب إلى قريش وحدّثها عن ندم قريظة ، وعزمها على ارتهان عدد من رجالها وتسليمهم محمّدا صلى الله عليه و آله وسلم .

وتركت كلماته تأثيرها في الجانبين وألقت التفرقة في صفوف العدوّ وعزم أبو سفيان على الرجوع وقال لقريش : إنّ الجناب قد أجدب ، وهلك الكُراع والخفّ ، وغدرت اليهود وكذبت ، وليس هذا بحين مُقام ثمّ بعث عِكرمة إلى بني قريظة ليلاً ليستيقن خبرهم . فقال لهم : إنّه قد طال المكث ، ولابدّ من مناجزة عدوّكم . فقالوا : غدا السبت لا نقاتل . فإذا أرسلت قريش رهانا من رجالها إليهم فالقتال الأحد(2) . ورجع عكرمة وقال لأبي سفيان : إنّ الخبر الّذي جاء به نعيم حقّ . وحاول حيّي بن

ص: 720


1- (1) جاء في بعض الأخبار أنّه كان في صلحٍ مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، لا أنّه كان أسلم .
2- (2) دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 405 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 230 ، 231 .

أخطب أن يجرّ بني قريظة للحرب فلم يفلح . وكان يقول لأبي سفيان إنّ بني قريظة ليسوا أهل غدرٍ ، إنّهم أعدى أعداء محمّد[ صلى الله عليه و آله وسلم ] . وتيقّن أبو سفيان غدر بني قريظة ونكثهم العهد ، فغلظ على حييّ بن أخطب حتّى خاف على نفسه . وفي تلك اللحظة بدأ جيش الشّرك تحرّكه وسار نحو مكّة . ونقل الواقديّ بعد هذه المطالب روايات تدلّ على أنّ حييّ بن أخطب كان قد وعد كعب بن أسد رئيس يهود بني قريظة بأخذ الرهن منذ البداية كي يقنعه بنكث العهد . وجاء في هذا الخبر أنّ حُييّا لم يُطلع قريشا على هذا الموضوع . وورد في خبر آخر أنّ البيهقيّ نقل عن موسى بن عقبة(1) - وذكره الواقديّ أيضا - أنّه أطلع قريشا وغطفان عليه ، بل كتبوا له موعدا . وأُثر في خبرٍ أنّ نعيما كان جالسا عند أبي سفيان إذ أتاه خبر بني قريظة . وكانوا قد كتبوا إليه أن ابدأ الحرب ، ونحن نُغير على المدينة من الخلف . فجاء نعيم إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وأخبره ، فقال صلى الله عليه و آله وسلم : «فلعلّنا أمرناهم بذلك !» وقيل إنّ نعيما لا يكتم شيئا . وإنّما قال صلى الله عليه و آله وسلم ذلك بمصداق «الحرب خدعة». وأخبر نعيم قريشا بذلك ممّا أدّى إلى تدهور العلاقات بين قريش واليهود(2) .

وورد هذا الموضوع في خبر موسى بن عقبة لكن قيل إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لمّا أخذ من نعيم عهدا أن لا يُفشي شيئا قال : كتب إلينا بنو قريظة أن يوادعونا بشرط إرجاع بني النّضير(3) . وحين بلغ المشركين ذلك شعروا بأنّ اليهود خانوهم . وجاء في خبر ابن عقبة أنّ قريشا امتنعت من إرسال رهائنها حين سمعت الخبر . والأشخاص الّذين كان من المقرّر ذهابهم إلى بني قريظة أعلنوا عن عدم استعدادهم للذهاب إلى حصونهم .

ص: 721


1- (1) دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 401 .
2- (2) انظر : المغازي 2 : 485 ، 486 . وذهب الواقديّ إلى أنّ الخبر الأوّل أصحّ .
3- (3) دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 405 - 447 ؛ صحيح البخاري ، كتاب الجهاد ، رقم 157 [ باب الحرب خدعة ] وانظر : صحيح مسلم ، كتاب الجهاد ، رقم 18 .

على أيّ حال لا بدّ من الالتفات إلى أنّ قبول الحكاية الجميلة المتعلّقة بنعيم الواردة في أوّل الموضوع يبدو عسيرا نوعا ما ، مع أنّ الواقديّ ذهب إلى صوابها ، وابن إسحاق أوردها وحدها دون غيرها نقلاً عن نعيم(1) . وما يستشفّ من جملة المرويّات أنّ خلافا ظهر بين اليهود والمشركين ، وكلاما طُرح حول الرّهن ، والنتيجة هي أنّ بعضهم اتّهم البعض الآخر بالغدر، وأفضى اتّحاد الأحزاب إلى الخلاف .

أمّا المسلمون فقد عراهم الخوف ، والجوع ، والبرد في بعض الليالي خلال تلك المدّة . وفي الليلة الّتي همّ العدوّ فيها بترك المدينة طلب النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم من أصحابه أن يقوم أحدهم وينظر ماذا يفعل العدوّ . يقول حذيفة : ... وما قام رجل واحد من شدّة الجوع والقرّ والخوف ... [ إلى أن ] دعاني ، وأمرني أن آتي العدوّ وأرجع إليه بخبرهم . يقول : رأيتهم يصطلون على نيرانهم ، وإنّ الريح تفعل بهم ما تفعل ، لا تقرّ لهم قرارا ولا بناءً ؛ وقال أبو سفيان لعسكره في تلك اللحظة : إنّكم واللّه لستم بدار مقام ؛ لقد هلك الخُفُّ والكُراع ، وأجدب الجناب ، وأخلفتنا بنو قريظة ، وقد لقينا من الرّيح ما ترون ، ما يثبت لنا بناء ولا تطمئنّ لنا قِدر . فارتحلوا فإنّي مُرتحل . فجعل الناس يرتحلون . وأقامت قريش عمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد في مائتي فارس ليأمنوا من طلب المسلمين(2) . وذهب سائر الأحزاب مترافقين ليطمئنّوا من ورائهم ، ثمّ تفرّقوا ويمّموا منازلهم .

ص: 722


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 229 ، 230 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 232 ؛ المغازي 2 : 489 ، 490 ؛ دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 449 ، 454 ؛ صحيح مسلم ، كتاب الجهاد ، باب غزوة الأحزاب ، رقم 99 . ونعرف في مواضع من السّيرة طاعة الصحابة التّامة المطلقة لنبيّهم صلى الله عليه و آله وسلم ، في حين نلحظ في مواضع أُخرى أنّهم يعارضون بأسرهم أو يعصون أمرا من أوامره صلى الله عليه و آله وسلم ، ومنها ما نقله حذيفة في هذا المجال ، وهو ما وضع البيهقيّ إصبعه عليه في الجزء الثالث من دلائله ، ص 454 نقلاً عن حذيفة ، فأحجم الصحابة في موضع شرط فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لمن يذهب مرافقته في الجنّة ، ولم يبرح أحد منهم مكانه . وسنرى موضعا مهمّا آخر مثله في الحديبيّة أيضا .

وخلت المنطقة من العدوّ صباح ذلك اليوم ، فقد رحلوا برمّتهم . وأذن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم للمسلمين بالرجوع أيضا . ودام حصار المدينة خمسة عشر يوما أو أكثر حتّى عشرين يوما على قولٍ ، وذهب الواقديّ إلى أنّ الصحيح هو خمسة عشر يوما(1) . بيد أنّ ابن الزّبعرى ذهب في شعر له إلى أنّه دام أربعين يوما . فقد قال :

حتّى إذا وردوا المدينة وارتدوا * للموتِ كلّ مجرّب قضابِ

شهرا وعشرا قاهرين محمّدا * وصحابه في الحرب خير صحابِ

لولا الخنادق غادروا من جمعهم * قتلى لطيرٍ سغّب وذئابِ(2)

وقيل إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم فكّر بعد رجوع المسلمين أن يتأمّلوا قليلاً لئلاّ يطّلع بنو قريظة على رجوعهم جميعا . ويقول عبد اللّه بن عمر : أنا أخبرت المسلمين بما أراده رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، فلم يرجع منهم أحد(3) .

وقيل إنّ أبا سفيان حين شارف الرحيل كتب إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كتابا يحمل التّهديد والوعيد . وقال فيه : «... فإنّي أحلف باللات والعزّى ، لقد سرتُ إليك في جمعنا ، وإنّا نريد ألاّ نعود إليك أبدا حتّى نستأصلك ، فرأيتك قد كرهتَ لقاءنا ، وجعلتَ مضائق وخنادق ، فليت شعري من علّمك هذا ؟ فإن نرجع عنكم فلكم منّا يوم كيوم أُحُد» . فردّ عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قائلاً : «... أمّا بعد ، فقديما غرّك باللّه الغرور ، أما ما ذكرت أنّك سرتَ إلينا في جمعكم ، وأنّك لا تريد أن تعود حتّى تستأصلنا ، فذلك أمر اللّه يحول بينك وبينه ، ويجعل لنا العاقبة حتّى لا تذكر اللات

ص: 723


1- (1) في بعض الأقوال ، ومنها قول ابن القيّم في زاد المعاد ، دام الحصار شهرا . انظر سبل الهدى والرشاد 4 : 562 .
2- (2) عيون الأثر 2 : 100 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 258 . وأجابه حسّان بن ثابت بشعر جميل رائع .
3- (3) المغازي 2 : 490 - 492 ؛ وقام جابر بالمهمّة نفسها لكنّه لم يستطع أن يُرجع أحدا . يقول جابر : أخبرتُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في بني حرام ، فضحك .

والعزّى . وأمّا قولك : «مَنْ عَلَّمك الّذي صنعنا من الخندق ؟» فإنّ اللّه تعالى ألهمني ذلك لِما أراد من غيظك به وغيظ أصحابك . وليأتينّ عليك يوم تدافعني بالراح ، وليأتينّ عليك يوم أكسر فيه اللات ، والعزّى ، وإساف ، ونائلة ، وهُبل ، حتّى أذكّرك ذلك» . وقيل إنّ أبا سفيان كان ذكر في كتابه أنّ قريشا هُزمت في بدر لأنّه لم يشهدها ، ولكنّه حين شهد وقعة أُحُد غزا المسلمين في عقر دارهم ، وقتل ، وحرق ، أمّا في الخندق فإنّه أتاها والمسلمون خلف الخنادق والصياصي(1) .

ومهما كان فإنّ الأحزاب لم تستطع أن تواجه تلك الخطّة العسكريّة بخطّة أُخرى . وحاول أبو سفيان أن يبرّر هزيمته باتّهام المسلمين بالخوف . وقال شاعر من ملأه :

فلولا خندق كانوا لديه * لدمّرنا عليهم أجمعينا(2)

واستشهد من المسلمين ستّة بسهام أعدائهم ، وأبرزهم سعد بن معاذ . وقُتل من المشركين ثلاثة أحدهم عمرو بن عبد بن أبي قيس بن عبد ودّ ، والآخر نوفل بن عبد اللّه بن نوفل ، قتلهما عليّ بن أبي طالب عليه السلام (3) .

وكانت وقعة الأحزاب آخر محاولة للمشركين في إيجاد جبهة قويّة عامّة ضدّ الإسلام . وأخذت قوّة قريش تتبدّد بعدها . وأدّت الهجمات المتكرّرة الّتي قام بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم على القبائل المجاورة ، بخاصّة الّتي كان يراودها هوى المناوءة والعزم على مهاجمة المدينة ، دورها في ردع الجميع وإيقافهم عند حدّهم . وقال رسول

ص: 724


1- (1) المغازي 2 : 492 ، 493 ؛ وانظر أيضا : أنساب الأشراف 1 : 344 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 255 .
3- (3) المغازي 2 : 496 . ثمّة خلاف حول قاتل نوفل أعليّ عليه السلام قتله أم الزبير . وكانت نسبة فضائل الإمام عليه السلام إلى غيره أمرا شائعا عند أرباب السير ذوي الميول العثمانيّة . وحدّها الأدنى إثارة التشكيك في النّقل الصحيح بذكر كلمة «قيل» !

اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بعد رحيل المشركين : «الآن نغزوهم ولا يغزوننا»(1) .

معركة الأحزاب في القرآن الكريم

تحدّث اللّه تعالى في سورة الأحزاب عن بعض الحوادث الواقعة في الحرب ، ومعنويّات المسلمين والمشركين . وجاء في الآية التّاسعة بشأن الإمدادات الغيبيّة في الحرب قوله سبحانه : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحا وَجُنُودا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرا » . وتحدّثت الآية الّتي تلتها عن الهجوم الشّامل الّذي شنّه العدوّ اليهود والمشركون . قال تعالى : « إِذْ جَآءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا » . وذكرت هذه الآية الخوف العجيب الّذي مُني به عدد كبير من النّاس . وأشارت الآيات التالية إلى الاختبار الإلهيّ ومعرفة المنافقين . قال سبحانه : « هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدا » .

وأمام هذا التهديد انقسم الناس فريقين : منافقين ، ومؤمنين . وينقل لنا تعالى رؤيتهما حول تلك الظّروف المستقلّة . فالمنافقون أوّلاً ومنطقهم : « وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورا * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِنْ أقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لاَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ

ص: 725


1- (1) المعرفة والتاريخ 2 : 622 ؛ حلية الأولياء 4 : 345 ؛ عيون الأثر 2 : 99 ؛ دلائل النّبوّة ، البيهقيّ 3 : 457 ، 458 ؛ وفي هامشه عن كتاب البخاريّ 5 : 48 .

مَسْؤُولاً * قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذا لاَ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً » .

ويستشفّ من الآية الثامنة عشرة أنّ أشخاصا لم يشهدوا الحرب ، وأنّهم كانوا يحرّضون الآخرين ألاّ يشهدوها . قال تعالى : « قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لاِءِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً » .

ويصف سبحانه في الآية التاسعة عشرة ذعرهم في الحرب ، إلى جانب روح مطالبتهم حين تنتهي الحرب ويكون الانتصار ويحين تقسيم الغنائم . قال سبحانه : « أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرا » . وقال في المنافقين : « يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً » .

والفريق الآخر هم المؤمنون الّذين كانوا يفكّرون بنمط آخر : « وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانا وَتَسْلِيما * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِّيَجْزِىَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّه كَانَ غَفُورا رَّحِيما » . بيد أنّ نتيجة الحرب هي هزيمة الأحزاب : « وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّا عَزِيزا » .

وأشرنا في موضع آخر إلى أنّ مثل هذه الحوادث يمكن أن يساعدنا في التّعرّف على وجوه وجدت لها مكانا بين المسلمين متظاهرةً بأنّها منهم . وهؤلاء ليسوا قليلين بل كانوا كُثرا منبثّين على نطاق واسع بين من نعرفهم بالصّحابة .

ص: 726

غزوة بني قريظة

إنّ خبث اليهود من بني قريظة في قضيّة حصار جيش المشركين المؤلّف من عشرة آلاف عمل لا يُغتفَر . وفي غد رحيل المشركين طلب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بأمر اللّه تعالى من المسلمين أن يصلّوا العصر حوالي حصن بني قريظة . فاقتربوا منه ، كما روى ابن إسحاق ، والراية بيد عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، وحين رآهم اليهود بدأوا يشتمون رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم (1) .

واستقرّ صلى الله عليه و آله وسلم قرب بئر أُبيّ وهي من آبار بنيقريظة دون حرّتهم . وكان بنو قريظة يسكنون في القسم الأعلى من المدينة ، في حين أنّ مركزها ومسجد النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في القسم الأسفل منها . ودعاهم النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم إلى الإسلام في البداية فلم يقبلوا(2) ، فدام الحصار . ونقل ابن إسحاق أنّه استغرق خمسةً وعشرين يوما ، في حين نقل الواقديّ أنّه طال خمسة عشر يوما (من الأربعاء (23) ذي القعدة إلى الخميس (7) ذي الحجّة سنة خمس)(3) .

وترامى الجانبان خلال تلك الفترة ، ورجا اليهود أن يكفّ المسلمون عن حصارهم بمقاومتهم . واشتدّ الرمي من جانب المسلمين حتّى ظنّ اليهود أنّ المسلمين مخلّدون . من هنا بعثوا من يعلن عن استعدادهم للخروج من المدينة بنفس الشّروط الّتي خرج بها بنو النّضير منها ، فلم يرض رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بذلك . ثمّ عاودوا الكرّة معلنين أنّهم لا يأخذون من أموالهم حتّى جملاً واحدا ، فلم يرض أيضا وأمر أن

ص: 727


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 234 ؛ المغازي 2 : 499 .
2- (2) المصنّف ، عبد الرزّاق 5 : 370 .
3- (3) المغازي 2 : 496 .

يستسلموا وينزلوا على حكمه من غير شرط(1) . وكان على اليهود أن ينهجوا عددا من الطرق ، وذكر أرباب السّير أنّهم كانوا يتشاورون لاختيار إحداها ، منها أن يسلموا ، ولم يقع هذا موقع القبول . ومنها أن يقتلوا نساءَهم وذراريهم ثمّ يهاجموا المسلمين . فإذا انتصروا استأنفوا حياتهم ثانيةً ، وإذا قتلوا فليس لهم أُسَرٌ يسبيها المسلمون . ورُفِض هذا أيضا . ومنها أن يُغيروا على المسلمين ليلاً وليلة الغارة هي ليلة السّبت أيضا ، وتشاوروا على ذلك ، ولم يلق قبولاً من أحدهم . فاحتدم الخلاف بينهم ، وعاشوا هم و نساؤهم في وضع نفسيّ عصيب . ونزل عدد منهم - وهم ليسوا من قريظة ولا من النّضير - من الحصن ، وأسلموا ، وأنقذوا أنفسهم(2) .

وطلب اليهود من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أن يأذن لهم بمشاورة أبي لبابة الّذي كان من الأوس ، حلفاء بني قريظة في الجاهليّة . وذهب أبو لبابة إلى بني قريظة بإذن النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم . وذكّره اليهود برفقتهم القديمة ومساعدتهم للأوس ضدّ الخزرج في الجاهليّة ، وسألوه ماذا يصنعون ؟ وما هو المصير الّذي ينتظرهم ؟ وقالوا : إنّ محمّدا قد أبى إلاّ أن ننزل على حكمه ، أفننزل ؟ قال : نعم ، فانزلوا - وأومأ إلى حلقه ، هو الذبح . وبهذا أعلمهم بالمصير الّذي ينتظرهم(3) .

وجواب أبي لبابة هذا - وقد التفت إليه عاجلاً - دفع بني قريظة إلى عدم التّسليم . وخرج أبو لبابة من حصن بني قريظة ، وتوجّه نحو مسجد النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم مكان أن يأتي رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم نفسه، وربط نفسه بإحدى اسطوانات المسجد، وطفق يستغفر لخيانته رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . ولازم الاسطوانة الّتي عرفت فيما بعد بأُسطوانة التّوبة أيّاما - وقيل ستّة أيّام - ولم يفارقها حتّى نزلت آيات قبل اللّه تعالى فيها توبته . وذكر ابن إسحاق

ص: 728


1- (1) المغازي 2 : 501 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 238 ؛ المغازي 2 : 504 .
3- (3) المغازي 2 : 506 .

أنّ الآية السّابعة والعشرين من سورة الأنفال نزلت فيه(1) . لكنّ الواقديّ وابن هشام ذهبا إلى أنّ الآية الثانية والمئة من سورة التّوبة نزلت فيه(2) : قال تعالى : « وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا وَآخَرَ سَيِّئا عَسَى اللّه ُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّه َ غَفُورٌ رَحِيمٌ » .

ولم يجد بنو قريظة بدا إلاّ التّسليم لحكم النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم راجين أن يتوسّط الأوس لهم . وأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بجمع أثاثهم وأسلحتهم . وقال ابن هشام : «حدّثني بعض من أثق به من أهل العلم أنّ عليّ بن أبي طالب صاح وهم محاصرو بني قريظة : يا كتيبة الإيمان ... وقال : واللّه لأذوقنّ ما ذاق حمزة أو لأفتحنّ حصنهم ؛ فقالوا : يا محمّد ، ننزل على حكم سعد بن معاذ»(3) .

وكان الأوس قد لمسوا صفح النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم عن بني القينقاع فيما مضى ظنّا منهم أنّ ذلك كان لأجل الخزرج ، فطلبوا منه صلى الله عليه و آله وسلم أن يصفح هذه المرّة عن بني قريظة لأجلهم . وبعد إصرارهم وافق صلى الله عليه و آله وسلم على ما يحكم به سعد بن معاذ أحد وجهاء الأوس . فرضي الأوس بذلك . وكان سعد بن معاذ قد أُصيب في حصار الأحزاب ، وأُرقد في خيمة بالمسجد حيث كانت امرأة من أسلم تداوي الجرحى(4) . وحين حان التّحكيم طلب منه الأوس أن يُحسن إلى بني قريظة كما فعل عبد اللّه بن أُبيّ في بني القينقاع . فقال سعد : «قد آن لسعد ألاّ تأخذه في اللّه لومة لائم» . وأخذ من اليهود

ص: 729


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 237 .
2- (2) المغازي 2 : 509 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 238 . وقال البعض أيضا أنّ الآية الحادية والأربعين من سورة المائدة نزلت في أبي لبابة . والمستبان هو أنّها كلّها خالية من التّصريح ، وأنّها تخمينات يتوكّأ أكثرها على ظاهر الآية . ونحن نعلم أنّ اللّه تعالى قلّما يشير إلى المصداق في مثل هذه المواطن ، ويتحدّث بصورة عامّة .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 240 .
4- (4) نفسه 3 : 239 .

عهدا أن يرضوا بما يحكم به مهما كان ، فرضوا . فقال : «فإنّي أحكم فيهم أن يُقتل من جرت عليه الموسَى ، وتُسبى النّساء والذّرّيّة ، وتقسم الأموال . فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : لقد حكمتَ بحكم اللّه عزّ وجلّ»(1) .

وحدث ذلك فقُتل الرجال من بني قُريظة في غد ذلك اليوم ، كما قُتلت امرأة كانت السّبب في قتل أحد المسلمين(2) . وكان في القتلى حُييّ بن أخطب المحرّض الأصلي على حرب الأحزاب ، والمتعهّد لكعب بن أسد في البقاء معهم إذا ذهب الأحزاب . وكان عليه حُلّة تضرب إلى الحمرة قد شقّها عليه من كلّ ناحية قدر أنملة لئلاّ يُسْلبها . فلمّا نظر إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قال : أما واللّه ما لمتُ نفسي في عداوتك ، ولكنّه من يخذل اللّه يُخذَل . ثمّ أقبل على الناس ، فقال : أيّها الناس ، إنّه لا بأس بأمر اللّه ، كتاب وقدر وملحمة كتبها اللّه على بني إسرائيل ، ثمّ جلس فضُربت عنقه(3) . وهكذا طَهُرت المدينة من دَنَس اليهود .

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عفا عنهم مرّتين حتّى ذلك الحين لنكثهم العهد . ثمّ إنّ خطأ بني القينقاع وبني النّضير لم يبلغ جرم بني قريظة . فقد نكثوا عهدهم في أسوأ الظّروف ، وأهانوا المسلمين واستخفّوا برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . ولو قُدِّر لهم النّصر لما تركوا ، ومعهم المشركون ، مسلما واحدا حيّا بالمدينة ، فآن لهم أن يذلّوا ويُخذَلوا . وكانت الحياة السياسيّة للإسلام مبدئيّا رهينة بحفظ المعاهدات الّتي تربطه بالقبائل . فالنكث المتواصل ، وعفو النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم عن النّاكثين يهيّئان الأرضيّة لنكث متكرّر . وفي مثل هذه الظروف يتعذّر على المسلمين الحياة في المدينة الّتي تمثّل قاعدتهم الوحيدة .

وفقدت قريش بعملها هذا ناصرا مهمّا لها في المدينة ، ونصر المسلمين ليس على

ص: 730


1- (1) المغازي 2 : 512 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 240 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 242 .
3- (3) نفسه 3 : 240 .

اليهود فحسب، بل على المشركين أيضا . وذكر حسّان بن ثابت واقعة بني النّضير بوصفها إنذارا لقريش(1) . وقال اللّه تعالى في الآية السّادسة والعشرين والسّابعة والعشرين من سورة الأحزاب في سياق الآيات النازلة في معركة الأحزاب : « وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضا لَّمْ تَطَؤُوها وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ قَدِيرا »(2) .

وصارت المدينة برمّتها في تصرّف المسلمين ، واليهود قاطبة نكثوا عهدهم فكان مصيرهم القتل أو مغادرة المدينة . وقسمت الغنائم الباقية بين المسلمين بعد أخذ خمسها . وبلغ النساء اللاتي كنّ يساعدن المسلمين أيّام الحرب سهمٌ منها . واستُشهد سعد بن معاذ بعد أيّام من قطع عصب في يده لسهم أصابه في حصار الأحزاب . وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يحبّه حبّا جمّا ، وحضر تجهيزه وتشييعه ودفنه ، ودعا له على قبره .

ولمّا بلغ يهودَ خيبر خبر بني قريظة علموا أنّ لحظة من التأمّل تعني أنّ أمر اليهود قد انتهى في الحجاز . فعزموا على استجلاب يهود تيماء ، ووادي القرى ، وفدك لحرب المسلمين(3) .

مقاتلة القبائل وثبات المدينة

اشارة

كان يهمّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أمران خطيران ، أحدهما الحؤول دون اعتداءات القبائل الصّغيرة والكبيرة القاطنة في ضواحي الحجاز . والآخر تمهيد الأرضية لقبول الإسلام .

ص: 731


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 273 .
2- (2) بالنظر إلى هذه الآية وما ذكره عامّة أرباب السِّيَر في مصير بني قريظة ، لا يبقى مجال للشّك في إبادة رجالهم . ويبدو أنّ بعض المتأخّرين شكّ في ذلك وأجاب الباحثين عن هذا التشكيك بأدلّة تاريخيّة . انظر : مجلّة نور علم ، العدد 12 ، 13 .
3- (3) المغازي 2 : 530 .

ومن الحريّ بالذكر فيما يخصّ الثاني هو أنّ بدو الحجاز لم يتطيّبوا برائحة الثّقافة الرّبانيّة والإنسانيّة ، إذ ألفوا حياة البداوة ومردوا على حفنة من الآداب والتقاليد الجاهليّة . وكان عملهم الأصليّ هو البحث عن لقمة الخبز والّتمر ، ولم يتأبّوا عن القتل ونهب القبائل الأُخرى . فبأيّ منطق يتيسّر إقناعهم ليكفّوا عن الاعتداء والنّهب ، ويأتوا المدينة ويُسلموا ؟ لا جرم أنّ أكثرهم لا يفهم منطق الدّعوة ، ولا يُرضخه إلاّ منطق القوّة . وعليهم أن يدركوا أهمّيّة المدينة وحكومتها الحديثة العهد ، فلا يجرأوا على انتهاكها خوفا . بل يحافظوا على أنفسهم من اعتداءات الآخرين من وحي رجائهم الاستظلال بحمايتها . ولهم أن يتمتّعوا بحقوق أيّ مسلم آخر بعد النطق بالشّهادتين فحسب ، ومن ثمّ يدافع سائر المسلمين عنهم وعن حقوقهم كإخوةٍ لهم . وتركيبة الحياة في النظام الجديد ليست تركيبة قبليّة وعنصريّة فلا يستطيع أحد أن يلتحق بقبيلة أخرى ، بل نطق الشّهادتين وحدهما يكفي لتمتّع الأعرابيّ مهما كانت قبيلته وطائفته بحقوق أيّ مسلم آخر .

وفي ضوء هذه السّياسة المتمثّلة بالحؤول دون الاعتداءات ، وكذلك توسيع نطاق الإسلام ، كان المسلمون يتوجّهون كلّ حين إلى المنطقة الّتي يأمرهم النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بالذّهاب إليها . وكانوا يستهدفون القبائل الّتي كانت تنوي محاربة المسلمين بنحو من الأنحاء ، أو ترافق أعداء الإسلام في اعتداء مخطّط له من قبل . وسنجمل الحديث فيما يأتي عن عدد من هذه الغزوات والسّرايا الّتي وقعت في الفترة الواقعة بين حرب الأحزاب وصلح الحديبيّة .

غزوة القُرطاء

توجّه محمّد بن مسلمة في ثلّة من الصّحابة إلى موضع من نجد كانت تسكنه

ص: 732

القُرطاء ، وهي بطن من هوازن(1) . وأفلح في قتل نفر من المشركين وأصاب غنائم منهم(2) . وقيل إنّ ثُمامة بن أُثال الّذي كانوا يدعونه سيّد أهل اليمامة أُسر في هذه الحرب . وكلّمه النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بالإسلام ثلاثةً فأسلم في اليوم الثالث . ولمّا قصد مكّة للعمرة ولبّى جهرةً ، أراد المشركون قتله ، لكنّهم أحجموا عن ذلك وأطلقوه لنفوذه في اليمامة ، وخوفهم من قطع قمحها عنهم . وسألوه : أَصَبَأْتَ ؟ قال : لا ، بل أسلمت واخترت أحسن الأديان . وحين رجع إلى اليمامة حال دون إرسال القمح إلى مكّة ، حتّى كتب أبو سفيان إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : قتلتَ الآباء بالسّيف والأبناء بالجوع . فأمر صلى الله عليه و آله وسلم ثمامة أن يترك الطريق مفتوحا أمام القافلة إلى مكّة(3) .

غزوة بني لحيان

غزوة بني لحيان(4)

كانت طائفة بني لحيان من مساعير حادثة الرّجيع(5) . وتحرّك رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في البداية من شمال المدينة باتّجاه الشّام لئلاّ يبلغ بني لحيان خبرُه . ثمّ غيّر مسيره في البادية بسرعة وقصدهم . وحين سمعوا به هربوا في رؤوس الجبال ، فلم يظفر بأحد منهم . وكان هذا في ربيع الأوّل سنة ستّ(6) . وأشار كعب بن مالك في شعر أنشده إلى هروبهم المذكور(7) .

ص: 733


1- (1) ذكرت هذه الطائفة في الشعر المنشَد في واقعة بئر معونة . انظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 189 .
2- (2) المغازي 2 : 534 .
3- (3) سبل الهدى والرشاد 6 : 112 - 115 .
4- (4) لحيان بن هذيل بن مدركة .
5- (5) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 279 ؛ وانظر : ص 179 - 183 . وفي هامش المغازي 2 : 535 كلام حول بئر معونة ، وهو وهمٌ .
6- (6) ذهب الواقديّ إلى أنّها في ربيع الأوّل ، بيد أنّه أشار في سياقها إلى حوادث يبدو أنّ أيّامها كانت في الأشهر الحُرُم . انظر : المغازي 2 : 536 ، 537 .
7- (7) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 281 ؛ سبل الهدى والرّشاد 5 : 50 .

غزوة ذي قرد أو الغابة

غزوة ذي قرد أو الغابة(1)

تقع منطقة الغابة شمال غرب المدينة على ستّة كيلومترات عنها . وكانت نياق رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم تؤخذ للرعي فيها . وكان أشخاص يقومون بحراستها . وفي الثالث من ربيع الآخر سنة ستّ زحف عُيينة بن حصن عليها في أربعين فارسا واستاقها(2) . فتبعهم النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في ثمانية فرسان كما جاء في شعر حسّان(3) . واستُشهد أحد الصّحابة في هذه الواقعة ، وهلك أربعة من العدوّ أحدهم حبيب بن عُيينة ، وأُرجع عدد من النياق أيضا . ونحن نعرف أنّ عيينة كان من غطفان جياع الجزيرة ، وكانت تأتي إلى يثرب في الجاهليّة لإشباع بطنها . ويقول ابن الأكوع : لحقتُ القوم فجعلت أرميهم بالنبل وأقول : قفوا قليلاً ! يلحقكم المهاجرون والأنصار من أدباركم ، فيزدادون عليّ حنقا(4) .

وبعد ذهاب الفرسان الأوائل تحرّك أهل المدينة إلى المنطقة تدريجا إلى أن تهيّأ جيش قوامه بين خمسمائة وسبعمائة في منطقة ذي قرد على بعد (35) كيلومترا عن المدينة. وقيل إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم صلّى هناك صلاة الخوف . من جهة أُخرى كان سعد ابن عبادة يحرس المدينة في ثلاثمائة . وقيل إنّ سعد بن زيد الأشهليّ كان أمير الفرسان لكنّ حسّان بن ثابت ذكر المقداد بن عمرو مكانه ، واعترض عليه سعد

ص: 734


1- (1) وقيل لليوم الّذي وقعت فيه الغزوة : «يوم السّرح» أيضا . المغازي 2 : 545 .
2- (2) يحوم خلاف حول زمان الغزوة هل كانت قبل الحديبيّة أو بعدها . انظر : سبل الهدى والرشاد 5 : 166 ، 167 .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 286 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 163 ؛ كنّا ثمانية وكانوا جحفلاً . الجحفل : الجيش الكبير . إشارة إلى العدوّ الّذي كان عدد أفراده أربعين .
4- (4) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 283 ؛ جاء في نصّ ابن إسحاق : «من أدباركم» . وفي المغازي 2 : 541 : «من أربابكم المهاجرين والأنصار» .

لذكره المقداد مكانه ، فقال له حسّان : «واللّه ما أردتُ إلاّ القافية»(1) ! وكانت قصيدته داليّة وورد اسم المقداد في نهاية أحد أبياتها . ثمّ أنشد شعرا في وصف سعد لإرضائه(2). علما أنّ ابن سعد ، والواقديّ ذكرا أنّ اللواء كان معقودا في رمح المقداد(3).

وتدلّ غزوة ذي قَرَد على أنّ الأعراب كانوا يطمعون في المدينة ، ولم يرعووا عن شنّ الغارات الليليّة لضرب الإسلام . من هنا كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم محقّا إذ يتوجّه نحو المشركين كلّ حين بمجرّد سماعه أدنى خبر عن تحرّكهم .

غزوة بني المصطلق أو المريسع

بنو المصطلق طائفة من خزاعة ، والمُرَيْسُع منطقة اصطدم فيها المسلمون بهم . وهي في وسط الطّريق بين مكّة والمدينة ، وتبعد عن ساحل البحر ثمانين كيلومترا . وذهب الواقديّ إلى أنّ تاريخ هذه الغزوة شعبان سنة خمس ، لذا ذكرها قبل حرب الأحزاب . في حين ذهب ابن إسحاق ، وخليفة بن الخيّاط ، والطبرسيّ إلى أنّها كانت في شعبان سنة ستّ(4) . وفيها أنّ الحارث بن أبي ضرار رئيس بني المصطلق عبّأ قومه وآخرين من العرب لحرب الإسلام . ولمّا بلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم الخبر بعث بُريدة بن الحُصَيب يعلم علم ذلك . فذهب عند الحارث وقال له : قدمتُ لمّا بلغني عن جمعكم لهذا الرجل ، فأسير في قومي ومن أطاعني فتكون يدنا واحدة . فقال الحارث : فعجّل

ص: 735


1- (1) المغازي 2 : 547 ، 548 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 286 ، 287 .
3- (3) انظر : سبل الهدى والرشاد 5 : 153 .
4- (4) انظر : سبل الهدى والرشاد 4 : 502 ؛ وذهب قتادة ، وعروة بن الزّبير إلى أنّها كانت في سنة خمس . وجاء في كتاب البخاريّ 5 : 54 أنّها كانت في سنة أربع ، ولم يقل بهذا أحد ، انظر : سبل الهدى والرشاد : 502 ؛ وممّا ينبغي ذكره أنّ معلومات البخاريّ التّاريخيّة قليلة ، وهذا ما يُستشفّ من مغازي كتابه .

علينا . فرجع بُريدة إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وأخبره . وبعد ذلك انطلق رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في جيشه نحو بني المصطلق . ويضيف الواقديّ أنّ عددا كبيرا من المنافقين صحبوه في هذه الحرب طمعا في الغنائم ولقرب الطريق(1) .

والتقوا في الطريق بأحد جواسيس العدوّ ، فأخبرهم بجمع الحارث جيشا كثيرا وتأهّبه لحربهم . فأراد منه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أن يسلم ، فأجاب أنّه تابع قومٍ . فأمر صلى الله عليه و آله وسلم أن تضرب عنقه . وهزّ خبر مقتله العدوّ وأفزعه فزعا شديدا ، وفرّق جماعة من الأعراب عن الحارث(2) .

ونزل المسلمون في المريسيع ، وكان لواء المهاجرين بيد عمّار ، ولواء الأنصار بيد سعد بن عبادة(3) . واستعدّ العدوّ للقتال أيضا ، وكان الرمي بالنّبال ساعةً ، ثمّ بدأت الحرب منازلةً . فانهار العدوّ سريعا ، وقُتل عشرة منه وأُسر الباقون . وكان شعار المسلمين في هذه الحرب كشعارهم في حرب بدر ، وهو «يا منصور ، أمِت ، أمِت»(4) . وبعد انتهاء الحرب صارت أموال بني المصطلق جميعها غنائم ، وقسّمت أغنام وجمال كثيرة بين المحاربين . وكانت جويريّة بنت الحارث في الأسرى ، ثمّ تزوّجها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بعد انتهاء الحرب ، ولهذا السّبب أطلق المسلمون أسرى بني المصطلق بلا فدية أو بفدية يسيرة(5) . وما لبث أن التحق النساء والأطفال كلّهم بآبائهم . وهكذا سرعان ما انتهى تمرّد آخر للعرب ، وتحسّن الوضع الاقتصاديّ للمسلمين بفضل الغنائم الحربيّة .

وقالوا : تنازع سنان بن وَبَر وجهجاه بن مسعود بعد الحرب على الاستقاء من عينٍ . فنادى سنان الأنصار ، ونادى جهجاه المهاجرين (لعلّ النداء كان يا قريش !) .

ص: 736


1- (1) المغازي 1 : 405 .
2- (2) سبل الهدى والرّشاد 4 : 487 .
3- (3) المغازي 1 : 407 ؛ وقيل هنا أيضا : كان لواء المهاجرين بيد أبي بكر !
4- (4) نفسه ؛ وقيل : منصور اسم مَلَك .
5- (5) انظر : سبل الهدى والرّشاد 4 : 490 .

وجمع سلاح من الفريقين . فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : هذه استغاثة جاهليّة ! فالمسلم هو من يغيث أخاه المظلوم(1) . وبعد أن هدأ الوضع قال عبد اللّه بن أُبيّ لمن حوله من المنافقين : هذا ما فعلتم بأنفسكم ! أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، فقللتم وكثروا . لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم . « لَئِن رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ » . فسمع ذلك زيد بن أرقم ، وكان غلاما ، فمشى به إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . فشاع بين الجيش ، وحلف بن أبيّ باللّه أنّه لم يقل ما قاله زيد . وكان حديث الناس طول الطريق . ورحل رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عن المريسيع معجّلاً كي يمنع الناس من الخوض فيه . ومشى بالنّاس يومهم ذلك حتّى أمسى ، وليلتهم حتّى أصبح ، وصَدْر يومهم ذلك حتّى آذتهم الشّمس ، ثمّ نزل بالناس ، فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياما(2) . وفي طريق الرجوع إلى المدينة نزلت سورة (المنافقون) على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم (3) .

وقبل ذلك طلب بعض الأشخاص من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أن يأذن بضرب عنق بن أبيّ ، فقال صلى الله عليه و آله وسلم : «لا يتحدّث الناس أنّ محمّدا قتل أصحابه»(4) . علما أنّ أشخاصا آخرين أرادوا منه صلى الله عليه و آله وسلم قبل نزول سورة «المنافقون» أن يرفق به . ذلك أنّه كان قبل قدوم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بلغ مبلغا أنّ خرز تتويجه قد أُعدّت إلاّ واحدة منها ، وبقدوم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ذهب ذلك كلّه .

وتحدّث اللّه تعالى في السورة المذكورة عن أيمان المنافقين فقال : « إِذَا جَاءَكَ

ص: 737


1- (1) وردت أحكام فقهيّة خاصّة بشأن من يطلق مثل هذه الاستغاثة . وفيها آراء ، أحدها أنّ من يلبّي هذه الاستغاثة يعزّر بخمسين سوطا ؛ والآخر : يعزّر بعشرة أسواط ؛ والثالث أنّ عددها منوط باجتهاد الإمام . انظر : سبل الهدى والرشاد 4 : 504 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 292 .
3- (3) المغازي 2 : 419 .
4- (4) المغازي 2 : 418 ؛ سبل الهدى والرشاد 4 : 494 .

الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ » . وبعد أن حذّر نبيّه أن يبتعد عنهم قال سبحانه : « هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَ-وَاتِ وَالأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِن رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ »(1)

وكان تيّار النّفاق مستطيراً في المدينة ، مع أنّ رمزه البارز هو عبد اللّه بن أبيّ . ومسك رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بزمام المدينة عبر هداية النّاس ، وتمكّن من إخضاع المنافقين لسيطرته بسهولة . وقال صلى الله عليه و آله وسلم في هذه الواقعة : «لو أمرتُهم بقتله قتلوه»(2) . لكن كما مرّ سابقا لم يرغب صلى الله عليه و آله وسلم في أن ينعكس صدى القائل : «محمّد يقتل أصحابه» في أجواء المدينة .

وكان الأمر هكذا إذ إنّ نزول آية أو آيات في لوم أحدٍ يشقّ عليه كثيرا ، لأنّها تكرّر مرارا ولا ينسى أحد فعله(3) . وقال عبادة بن الصّامت لابن أُبيّ قبل نزول سورة (المنافقون) : تنزل فيك آيات تقرأ في الصلاة كرارا(4) . وبعد تلك الآيات نزلت سورة (المنافقون) ، وقراءتها في صلاة الجمعة مستحبّة .

ورغب المسلمون في المدينة عنه ، بل لم يسلّموا عليه . وجاء ولده إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لشدّة إخلاصه وكان سمع إصرار جماعة على قتل أبيه ، فقال : «إن كنت تريد أن تقتل أبي فيما بلغك عنه فَمُرني ... لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبرّ بوالدٍ منّي ... وإنّي لأخشى يا رسول اللّه أن تأمر غيري فيقتله ، فلا تدعني نفسي أنظر إلى

ص: 738


1- (1) المنافقون : 7 ، 8 .
2- (2) المغازي 2 : 418 .
3- (3) قال تعالى في الآية 64 من سورة التوبة : « يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِى قُلُوبِهِمْ » .
4- (4) سبل الهدى والرشاد 4 : 501 .

قاتل أبي يمشي في النّاس ، فأقتله فأدخل النّار ...» فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : «ما أردتُ قتله وما أُمرتُ به ، ولنُحسننّ صحبته ما كان بين أظهرنا»(1) . وفي هذه السّفرة نفسها ، وقرب المدينة حال عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبيّ دون دخول أبيه المدينة وقال : لا أدعك تدخلها حتّى يأذن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم فتعلم من الأعزّ ومن الأذلّ . فبلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم خبره، فأمره أن يضرب عن طريق أبيه صفحا(2). ونجد أنّه كان لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم مثل هؤلاء الصّحابة في مقابل شرذمة من المنافقين العُمي البصائر الذين كانوا يقفون أمام الأوامر النّبويّة . ومن المؤسف أنّ ظاهرة النفاق كانت قويّة في ذلك المجتمع بدرجة يتعذّر معها التخلّص منها إلى الأبد .

ص: 739


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 293 ؛ سبل الهدى والرشاد 4 : 494 ، 495 ؛ المغازي 2 : 420 . وأنشد شعرا في إصرار عمر ، الذي كان في غير محلّه وبلا مشورة ، على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في مقابل قتل أبيه ، ونقله الواقديّ في ص 421 من مغازيه . ولو كان نجل عبد اللّه قد قرأ سيرة ابن إسحاق ومغازي الواقديّ ولاحظ كيف استأذن عمر عشر مرّات في ضرب عنقه لما تعامل مع الموضوع بجدٍّ يُذكر .
2- (2) سبل الهدى والرشاد 4 : 498 .

ص: 740

7- باتّجاه النّصر على الحجاز

اشارة

ص: 741

صلح الحُديبيّة

مرّ بنا أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قال بعد غزوة الأحزاب ما مضمونه : لن يأتوا إلى قتالنا وإنّما نحن الذين نذهب إلى قتالهم . وعقيدته صلى الله عليه و آله وسلم أنّ قريشا لا تفكّر بمهاجمة الإسلام إذ فقدت قوّتها لهزيمتها في الأحزاب ، مضافا إلى جميع التجارب السّالفة خلال قرابة عشرين سنة منذ البعثة . وعلاوةً على ذلك أنّها ليست كالبدو الّذين لا يفكّرون إلاّ بالحرب ، بل يمكنها أن تفكّر بالسّلم أيضا . ولو قُدّر أن تنشب حرب عقيمة بكلّ ما تستتليه من نتائج صعبة منها قطع الطريق التّجاريّ على قريش ، فكم يحسن التخطيط للسّلم أيضا. على أيّ حال كان سراة قريش على درجة من النضج السّياسيّ يدركون معها أنّهم لا قِبَلَ لهم بقتال المسلمين ، لا سيّما إذا كان بهدف الأطاحة بهم . ولمّا جاء بُديل بن ورقاء الحديبيّة كان ممّا قاله رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : «وقريش قوم قد أضرّت بهم الحرب ونهكتهم(1) . وقال سهيل بن عمرو في مفاوضاته أيضا : «وكان [القتال] من سفهائنا»(2) .

وعزم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم على التّوجه تلقاء مكّة للعمرة في شوّال سنة ستّ بالنّظر إلى معرفته العميقة بمعنويّات العدوّ . ومنطلق عزمه هذا رؤيا رآها . فقد رأى صلى الله عليه و آله وسلم في النوم أنّه دخل البيت ، وحلّق رأسه ، وأخذ مفتاح البيت . وبعد ذلك دعا الناس إلى أن

ص: 742


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 309 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 61 - 71 ؛ المغازي 2 : 592 .
2- (2) المغازي 2 : 604 .

يتهيّأوا للعُمرة . فأعدّوا عدّة السفر . و ذُكر أنّ المسلمين لم يشكّوا في الفتح(1) .

وأمر صلى الله عليه و آله وسلم المسلمين أن يخرجوا بغير سلاح إلاّ السّيوف في القُرُب ، ليثبت للعرب كلّهم ولقريش أيضا أنّه لم يرد إلاّ العمرة ولا شغل له في الحرب . وطلب منه سعد بن عبادة ، وعمر أن يحملا السّلاح احتياطا حتّى إذا رأيا من العدوّ ريبا كانا مُعِدَّين له . فقال صلى الله عليه و آله وسلم : لستُ أُحبّ أحمل السّلاح معتمرا(2) .

وتوجّه صلى الله عليه و آله وسلم نحو مكّة مع ألفٍ وأربعمائة إلى ستّمائة من أصحابه . وسبق ذلك إرساله رجلاً يأتيه بخبر قريش ، ومجموعة مكوّنة من عشرين فارسا طليعة للجيش . وأحرم في مسجد الشجرة . وجعل يمرّ بالأعراب فيستنفرهم . وأحجموا عن تلبية دعوته . ولعلّ جُلّ خوفهم يعود إلى ما يظهر من عدم احتياط المسلمين في إقدامهم بلا سلاح . وكانوا يظنّون أنّ المسلمين لن يرجعوا ، لأنّهم يذهبون إلى قوم مسلّحين حديث عهدهم بمن أُصيب منهم ببدر(3) .

وخرج صلى الله عليه و آله وسلم من المدينة يوم الأثنين الأوّل من ذي القعدة الحرام . ولقي في الطريق جماعة من بني نهد ، فدعاهم إلى الإسلام ، فلم يستجيبوا . وأرسلوا إليه لبنا ، فأبى صلى الله عليه و آله وسلم أن يقبل منهم وقال : لا أقبل هديّة مشرك ثمّ اشتراه منهم ، فسُرّوا(4) .

يقول الواقديّ : خطب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بالجُحفة ، وكان ممّا قاله : وقد تركت فيكم كتاب اللّه وسنّة نبيّه(5) . ومن المؤسف حقّا أنّ بعض المحدّثين والرّواة نقلوا الحديث المذكور في مقابل حديث الثّقلين المتواتر المقطوع به الّذي أكّد على «القرآن» و«العترة» ، وذلك تبعا للأحاديث الموضوعة في العصر الأمويّ . في حين أنّ سنّة

ص: 743


1- (1) المغازي 2 : 572 .
2- (2) المغازي : 573 ؛ إمتاع الأسماع 1 : 275 .
3- (3) المغازي 2 : 574 ، 575 ؛ إمتاع الأسماع 1 : 276 ؛ سبل الهدى والرّشاد 5 : 57 .
4- (4) المغازي 2 : 575 ؛ إمتاع الأسماع 1 : 276 ، 277 .
5- (5) المغازي 2 : 579 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 59 .

رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم القائمة على أساس الآيات القرآنيّة الّتي تأمر النّاس بطاعته صلى الله عليه و آله وسلم ، وتعرّفه كأسوة ، حجّة على النّاس . ويضاف إلى ذلك أنّه صلى الله عليه و آله وسلم على رأس العترة . وما أكّده صلى الله عليه و آله وسلم في حديث الثقلين هو القرآن ، والعترة . ولا ننقل هنا مصادر حديث الثقلين لأنّ كتبا ومقالات مفصّلة دوِّنت في هذا المجال ، وللقرّاء أن يرجعوا إليها .

والملاحظة الجديرة بالاهتمام هي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كان بعد الحديبيّة يكثر من تأكيد موقع أهل البيت ، ودام إصراره عليه حتّى الأيّام الأخيرة من حياته . ومن الحريّ بالذكر أنّ موضع الإعلان عنه عرفة ، وذهب البعض إلى أنّه كان بالمدينة في الأيّام الأخيرة من حياته صلى الله عليه و آله وسلم ، وقال آخرون كان ذلك أثناء الرجوع من الطّائف(1) . وليس ببعيد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أكدّه في الحديبيّة ، إلاّ أنّ الواقديّ أورد نصّه المحرّف . ونقل الطبرانيّ عن زيد بن أرقم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم نزل بالجحفة ، ثمّ نقل حديث الثقلين ، وكذلك الغدير عنه(2) . ويخلو نقل الطّبرانيّ من إشارة إلى الحديبيّة طبعا ، لكن بالنّظر إلى ذكر الجحفة ، وإلى ما نقله الواقديّ في هذا الخبر ، يُحتَمل أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قاله في سفر الحديبيّة .

ولمّا بلغ قريشا خبر اقتراب المسلمين جعلوا يتشاورون ، وعزموا على صدّه صلى الله عليه و آله وسلم عن الدخول إلى مكّة ظانّين أنّ دخول المسلمين إليها ، ولو للعمرة ، مسّ لكرامتهم ، وضربة لشأنهم ، وذلك للوضع الحربيّ الّذي يسود علاقاتهم به صلى الله عليه و آله وسلم ، وحينئذٍ سيتصوّر العرب أنّ المسلمين بلغوا من القوّة مبلغا أنّهم يستطيعون معها الدخول إلى مكّة بسهولة . من هنا استنصروا حلفاءهم كثقيف ، والأحابيش . وبعثوا خالد بن الوليد على رأس مئتي فارسٍ إلى منطقة الغميم . وأخرجوا أطفالهم وأسكنوهم وادي بَلْدح في طريق الخروج من مكّة إلى الحديبيّة . وجعلوا الجواسيس على الجبال

ص: 744


1- (1) انظر : حديث الثقلين ، تواتره - فقهه : 33 .
2- (2) المعجم الكبير 5 : 186 ، 187 .

ليرقبوا هجوم المسلمين من أرجاء شتّى(1) . ونحرت قريش بدنا كثيرةً وأطعمت العرب في أربع نقاط من مكّة(2) . وكان لهذا العمل تأثيره الكبير في استجلابهم بمكّة .

وطفق رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يشاور أصحابه حين بلغه الخبر . وجاء في هذا النقل أنّ أبا هريرة قال : «فلم أر أحدا كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وكانت مشاورته أصحابه في الحرب فقط»(3) . والمشاورة هي أيمضون ويصطدمون بفرسان العدوّ ، أم يتركونهم لحالهم ويقصدون من كان بالمدينة ؟ والرأي العامّ هو الذهاب إلى مكّة للعمرة ، ومن صدّهم قاتلوه . ونزل صلى الله عليه و آله وسلم في منطقة الحديبيّة الواقعة في طريق جُدَّة على بعد (22) كم غرب مكّة بعد أن اجتاز طرقا وعرة بهدف الابتعاد عن فرسان العدوّ . واستقرّ فرسان العدوّ قريبا منهم أيضا .

وصلّى صلى الله عليه و آله وسلم صلاة الخوف بسبب دنوّ العدوّ منهم . وقيل إنّ الآية الثانية والمئة من سورة النّساء نزلت في هذا الشّأن . قال تعالى : « وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُم مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَيْلَةً وَاحِدَةً » .

وهذه الآية والآيات الّتي تتلوها تدور حول الاهتمام بالجهاد والصّلاة إذا تقارنا . وعلى المسلمين ألاّ يغفلوا عنهما معا . « فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللّه َ قِيَاما وَقُعُودا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابا مَوْقُوتا »(4) .

وكان لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم حلفاء من خزاعة في نطاق مكّة . وحصل منهم على معلومات جمّة خلال حروبه مع قريش(5) . ومن قادتهم بُديل بن ورقاء الخزاعيّ ،

ص: 745


1- (1) المغازي 2 : 579 ؛ إمتاع الأسماع 1 : 278 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 61 .
2- (2) إمتاع الأسماع 1 : 280 .
3- (3) المغازي 2 : 580 .
4- (4) النساء : 103 .
5- (5) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 312 .

وكانت له اتّصالات بالنّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أيّام استقراره في الحديبيّة . وفي تلك الأيّام أهدى عمرو بن سالم الخزاعيّ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وسائرَ أصحابه عددا من الشّاء . فأمر صلى الله عليه و آله وسلم بنحرها وتقسيم لحمها بين المسلمين . وأتاه غلام من خزاعة بهدايا ، ثمّ طلب منه أن يأذن له بتقبيل يده . فلم يأذن له ثمّ مسح صلى الله عليه و آله وسلم على رأسه ، وقال : بارك اللّه فيك(1) . وتزخر السيرة النبويّة بمثل الّذي مرّ من حالات التّبرّك . قالوا : وفي هذه الأيّام وقف صلى الله عليه و آله وسلم على بئر قليل ماؤها . وشكا المسلمون يومئذٍ من شحّة الماء . فأخرج سهما من كنانته ودفعه إلى أحد أصحابه ليضعه في أسفل البئر ، ففارت بالماء(2) . وحين حلّق صلى الله عليه و آله وسلم رأسه بعد نحر البُدن أخذ المسلمون طاقات من شعره المبارك(3) . وكانت خزاعة - ومنهم المسلم ، ومنهم الموادع - عينَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في تهامة ولم تُخْفِ عليه شيئا(4) .

وكان الوضع في الحديبيّة كما يأتي : قصد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم مكّة مع ثلّة من المسلمين ليعتمروا ، وهم بلا سلاح إلاّ السّيوف في أغمادها . فلم يريدوا قتالاً ، كما لم يرغبوا في البقاء بمكّة . من جهة أُخرى ، حالت قريش بشدّة دون دخوله ، إذ لم تطمئنّ لقدومه معتمرا فحسب . فربّما يظلّ فيها ويحارب أهلها . وفي نفس الوقت لم تقصد قريش حربا ابتدائيّة مع المسلمين أيضا . من هنا كان ضروريّا أن يتفاوضوا ، ويُنهوا هذه المشكلة بنحوٍ يرضى فيه كلّ منهما مطلب الآخر . والسّلم أساسا هو الطّريق الوحيد للجانبين ، بيد أنّه عسيرٌ على قريش نوعا ما .

ص: 746


1- (1) المغازي 2 : 592 .
2- (2) نفسه 2 : 589 . نلحظ أنّ كتب السّيرة والحديث مليئة بمئات الأمثلة من حالات التبرّك ، لكنّ الوهّابيّين الّذين يرون أنفسهم أتباع السّلف وأهل الحديث اتّفاقا لا يقرّون بهذه العقيدة . انظر بهذا الشأن كتاب التبرّك الثمين للأستاذ العلاّمة أحمدي ميانجي .
3- (3) نفسه 2 : 615 .
4- (4) نفسه 2 : 593 .

وأعلن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عن قبول شروط فُرضت قاصدا تذليل قريش واستئذانها للعمرة . ووافاه في ذلك الحين بُديل بن ورقاء مخبرا إيّاه عن تأهّب قريش للدفاع عن مكّة ، وأن لا طريق لدخولها إلاّ بإبادة جماعتها . فقال صلى الله عليه و آله وسلم إنّه والمسلمون لم يأتوا لقتال أحد ، لكن من صدّهم قاتلوه .

وعرض وقتها اقتراحا منطقيّا يتلخّص في أنّ الحرب أضرّت بقريش ونهكتهم ، وإنّه يستطيع أن يعقد معهم اتّفاقا طويلاً يأمنون فيه . ويخلّون بينه وبين النّاس ، في حين أنّ أكثر النّاس منهم . فإن ظهر فلقريش أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس أو يقاتلوا . وليجهدنّ على أمره هذا ما كان به رمق(1) .

وعاد بُديل إلى مكّة لنقل الاقتراح . ولم تُبدِ قريش في البداية رغبة في سماعه وهو ينقل أخبار المسلمين . ثمّ طلبت منه أن يقول ما سمعه . فنقل اقتراح السّلم المؤقّت .

وكان عُروة بن مسعود الثّقفيّ إلى جانب قريش يومئذٍ . وتحدّث عن نصره السّابق لهم وطلب منهم أن يُرسلوه إلى محمّد صلى الله عليه و آله وسلم ليأتيهم بخبره . فبعثوه فجاء النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وسمع منه نفس الجواب الّذي أجاب به بُديلاً من قبل. وحين رجع عُروة قال لقريش:

«... وإنّي واللّه ما رأيتُ ملكا قطّ أطوع فيمن هو بين ظهرانَيه من محمّد في أصحابه ، واللّه ما يُشدّون إليه النظر ، وما يرفعون عنده الصوت ، وما يكفيه إلاّ أن يُشير إلى أمرٍ فيُفعل ، وما يتنخّم وما يبصق إلاّ وقعت في يدي رجل منهم يمسح بها جلده ، وما يتوضّأ إلاّ ازدحموا عليه أيّهم يظفر منه بشيءٍ ... فروا رأيكم»(2) .

ص: 747


1- (1) المغازي 2 : 594 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 309 . وجاء في هذا المصدر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قال ذلك لبشر [ أو بسر ] بن سفيان الكعبيّ ؛ عيون التواريخ 1 : 238 ، 239 ؛ سبل الهدى والرّشاد 5 : 62 ؛ إمتاع الأسماع 1 : 286 .
2- (2) المصنّف ، عبد الرزّاق 5 : 336 ؛ المغازي 2 : 598 ؛ المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 382 ، 388 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 314 ؛ عيون التواريخ 1 : 240 ؛ إمتاع الأسماع 1 : 278 ؛ سبل الهدى والرّشاد 5 : 74 ، 75 . وتحدّثنا في السّياق عن تلكّؤ بعض الصحابة في طاعة الأوامر النبويّة السياسيّة .

وأصرّت قريش على موقفها في صدّ المسلمين عن الدخول إلى مكّة ذلك العام . ثمّ بعثت مكرز بن حفص مندوبا عنها إليه صلى الله عليه و آله وسلم ، فلم يحصل إلاّ على ما قيل سلفا . فأرسلت الحليس بن علقمة سيّد الأحابيش . فلمّا طلع قال صلى الله عليه و آله وسلم : «هذا من قوم يعظّمون الهديَ ويتألّهون . ابعثوا الهديَ في وجهه حتّى يراهُ» . فبعثوا الهديَ وعليه القلائد الّتي تدلّ على استعدادهم للنحر ، وطفق المسلمون يلبّون . فرجع ولم يصل إلى النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وقال لقريش إنّه رأى ما لا يحلّ صدّه ، رأى رجالاً عازمين على الطّواف . وأضاف قائلاً : «ما على هذا حالفناكم ، ولا عاقدناكم على أن تصدّوا عن بيت اللّه من جاء معظِّما لحرمته مؤدّيا لحقّه» . ثمّ هدّدهم : «... لتخلّنّ بينه وبين ما جاء به ، أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد» . فقالت قريش : «إنّما كلّ ما رأيتَ مكيدةً من محمّد وأصحابه . فاكفُف عنّاحتّى نأخذ لأنفسنا بعض ما نرضى به»(1) .

وبعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم خراش بن أُميّة إلى قريش لأوّل مرّة من أجل إفهامها طلبه ، لكنّ عكرمة بن أبي جهل ذبح بُدن خراش العائدة إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم واستطاع خراش أن ينقذ نفسه بفضل الأحابيش(2) . وأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عمر أن يذهب إلى مكّة ويتحدّث مع قريش . فذكر أنّه يخافها على نفسه لعداوتها له وليس بمكّة من بني عديّ فيذبّ عنه(3) . ولم يقل صلى الله عليه و آله وسلم شيئا ، وعمر نفسه اقترح أن يذهب عثمان لوجود أقاربه من بني أميّة بمكّة . فأمره أن يذهب ويخبرها أنّه لم يأت لقتال

ص: 748


1- (1) المغازي 2 : 599 ، 600 ؛ عيون التواريخ 1 : 240 ، 241 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 96 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 312 ؛ إمتاع الأسماع 1 : 288 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 75 ، 76 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 314 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 77 .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 315 ؛ عيون التواريخ 1 : 241 .

أحد ، وإنّما لزيارة البيت وتعظيم حرمته ، ومعه الهديَ ينحره وينصرف . فلقي عثمان قريشا في بَلْدَح ، وأبلغها كلام النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، ومنه إنّ الحرب قد نهكتكم وأذهبت بالأماثل منكم . فقالوا له : ارجع من حيث جئتَ وقل لمحمّد إنّه لا يصل إلينا .

وفي تلك اللحظة رحّب به أبان بن سعيد بن العاص ، وهو من أشراف مكّة ، وآواه وردفه وراءه على فرسه لئلاّ يصل إليه سوء ، وأدخله مكّة ، وتحدّث عثمان مع أشرافهم رجلاً رجلاً ، لكن لم يثمر كلامه شيئا .

قالوا : مكث عثمان بمكّة ثلاثة أيّام يدعو قريشا إلى الصّلح . لكن لم يتّضح بدقّة كيف ولماذا تركته قريش يعمل فيها ما يشاء . فإمّا كان راغبا في زيارة أقاربه عادةً كما كان بعض المسلمين يستأذنون رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لزيارة أقاربهم ، أو أنّ قريشا فرضت عليه البقاء بالقوّة . وهذا الرأي مرفوض لأنّه كان من بني أميّة ، وله في مكّة مدافعون كثر . يضاف إلى ذلك أنّه - كما مرّ - كان في حمى أبان بن سعيد بن العاص منذ دخوله مكّة(1) . وذكر الواقديّ عشرة من المهاجرين دخلوا مكّة لزيارة عوائلهم(2) .

إنّ طول الفترة الزمنيّة لمهمّة عثمان ، وموافاة بعض الأخبار المقلقة حول المهاجرين الّذين كانوا ذهبوا داخل المدينة(3) ، وإصرار قريش على صدّ المسلمين عن دخول مكّة ، كلّ ذلك مهّد لضرورة بيعة عامّة . وسمّيت هذه البيعة «بيعة الرّضوان» ، و«بيعة الشّجرة» أيضا . لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بايع النّاس تحت شجرةٍ ، وتلك هي الشجرة

ص: 749


1- (1) عيون التواريخ 1 : 241 ؛ المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 386 ؛ ونصّ على أنّ عثمان لم يذهب إلى مكّة لمفاوضة العدوّ بل ذهب إليها لإبلاغ المسلمين المحصورين فيها رسالة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم .
2- (2) المغازي 2 : 602 ، 603 ؛ إمتاع الأسماع 1 : 290 .
3- (3) أوقف المشركون هؤلاء الأشخاص ، وفي الجانب الآخر أسر المسلمون عددا من فرسان المشركين . وتقرّر في بداية المفاوضات أن يُطلق الجانبان أسراهما .

الّتي كان يصلّي عندها الحجّاج عدد سنين(1) .

واُخذ اسم الرّضوان من الآية الّتي نزلت بهذا الشأن . وكانت هذه البيعة قد جرت في ظروف خاصّة طرأت حينئذٍ ، ومن هنا كان موضوعها الجهاد . وكان على المسلمين أن يبايعوه صلى الله عليه و آله وسلم على الاستقامة والمقاومة والجهاد . ويلحظ اختلاف في الأخبار المنقولة حول مضمون ما تمّت البيعة عليه . ونُقل شيئان أساسا : الأوّل : بايع المسلمون على أن لا يفرّوا وقت الحرب ، «بايعناه على أن لا نفرّ» . الثاني : يقاتلون ويصمدون حتّى الموت ، «بايعهم على الموت» . وأشار الواقديّ إلى القولين كليهما(2) ، لكنّ بعض الصّحابة أكّدوا بعد ذلك أنّ البيعة تمّت على الثّبات فحسب ، وكان جابر يقول : كنّا في الحديبيّة ألفا وأربعمائة وبايعنا على أن لا نفرّ ، لا على الموت(3) .

والحقيقة هي أنّ البيعة لو كانت على الثّبات وحده ، فلا قيمة لها حتّى الموت . ولعلّ ثلّة من الصّحابة بايعوا على المضمون الأوّل ، وثلّة بايعوا على المضمون الثّاني . وقال الواقديّ : قال سنان بن أبي سنان لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : أُبايعك على ما في نفسك(4) . وبايع سلمة بن الأكوع ثلاث مرّات . وقيل إنّه لمّا كان شجاعا ، دعاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إلى تجديد البيعة(5) . ورضي اللّه سبحانه عن البيعة فقال جلّ شأنه : « إِنَّ الَّذِينَ

ص: 750


1- (1) الطّبقات الكبرى 2 : 99 . ولمّا سمع عمر هذا الأمر أمر بقطع الشجرة . الطّبقات الكبرى 2 : 100 ؛ سبل الهدى والرّشاد 5 : 84 . وقال جابر في أيّام كفّ بصره : لو أبصرت عيني لأريتكم مكان الشجرة . سبل الهدى والرّشاد 5 : 122 .
2- (2) المغازي 2 : 603 . حول البيعة على الموت انظر : أنساب الأشراف 1 : 351 ؛ الدرّ المنثور 6 : 74 .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 315 ؛ وانظر : سنن الدارميّ 2 : 220 ؛ المعرفة والتّاريخ 3 : 288 ؛ عيون التّواريخ 1 : 242 ؛ الدرّ المنثور 6 : 74 . قال معقل بن يسار إنّه كان واقفا على رأس النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم يومئذٍ وبايعه النّاس على أن لا يفرّوا ، لا على الموت . انظر : مجمع البيان 9 : 117 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 99 ، 100 .
4- (4) المغازي 2 : 603 ؛ الدرّ المنثور 6 : 74 .
5- (5) سبل الهدى والرّشاد 5 : 121 .

يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ(1)... لَقَدْ رَضِىَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزا حَكِيما »(2) .

وتلا البيعة التّي تمّت بحضور عدد من المشركين ، وحثّتهم على التفاوض(3) ، إرسالهم سهيل بن عمرو مندوبا عنهم إلى الرسول صلى الله عليه و آله وسلم . وحريّ بالقول إنّهم فزعوا من خوض القتال مع المسلمين. وقال سهيل لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : «من قاتلك لم يكن من رأي ذوي رأينا ولا ذوي الأحلام منّا ، بل كنّا له كارهين حين بلغنا ولم نعلم به ، وكان من سفهائنا(4) . فابعث إلينا بأصحابنا الّذين أسرتهم» . فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : «إنّي غير مُرسلهم حتّى تُرسل أصحابي» . يقصد بذلك من ذهب إلى مكّة لزيارة أُسَرهم ، وأمسكتهم قريش .

ثمّ رجع سهيل إلى مكّة . واتّفقت قريش على أن ينصرف النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم عامه ويرجع قابِلَ ، فيُقيم ثلاثا وينحر هديه ويعتمر ثمّ ينصرف .

ص: 751


1- (1) الفتح : 10 .
2- (2) الفتح : 18 ، 19 . ومن المفيد أن نشير إلى ما جاء في صحيح البخاريّ ونقله الشّاميّ عنه (سبل الهدى والرشاد 5 : 82) وفيه قال نافع : أسلم عبد اللّه بن عمر قبل أبيه (كان عبد اللّه ابن خمس عشرة سنة يوم الخندق) . قال :هذا لا يصحّ ، فالمراد من إسلام ابن عمر قبل أبيه أنّ عمر بعث وراء عبد اللّه الذي كان عند أحد الأنصار ، وجاء عبد اللّه وراء الإبل ورأى النّاس يبايعون النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم تحت الشجرة فبايع ورجع . ثمّ أخذ عبد اللّه الفرس إلى أبيه وأخبره ببيعة النّاس . ولا يستبين أساس هذا التوجيه ومنبع هذا الكلام . ونحن نعلم أنّ البعض يرى أنّ إسلام عمر كان قبل الهجرة بقليل . ومن النقاط الطريفة أنّه على الرغم ممّا جاء في الخبر السّابق وغيره فإنّ عمر عرف بيعة النّاس متأخّرا . ونقلت رواية تذكر أنّه أخذ بيد النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم عند بيعة الناس !
3- (3) انظر : المغازي 2 : 604 ، 605 ؛ إمتاع الأسماع 1 : 291 .
4- (4) سبل الهدى والرشاد 5 : 80 .

وإصرارهم على صدّه ذلك العام يعود إلى ما يتعلّق بكرامتهم . والسبب في الحقيقة هو أنّهم لم يريدوا أن يتصوّر العرب أنّه صلى الله عليه و آله وسلم دخل مكّة بالقوّة(1) .

وكان دخوله صلى الله عليه و آله وسلم تلك السّنة يعني أنّه أرغم قريشا على أن تفتح له الطريق إليها . لكنّ قدومه في السّنة القادمة لا يضرّها ، لأنّه يتحقّق على أساس معاهدة موقّعة . بيد أنّ لها مشكلة أُخرى في رفض الصّلح . فقد كانت ترى نفسها سادنة الكعبة ، ولمّا لم تأذن لأحدٍ بالدخول مهما كانت الظروف ، فإنّ العرب ينحون باللائمة عليها(2) ، كما نبّه على ذلك رئيس الأحابيش تماما . ورجع سهيل بن عمرو وجرت المفاوضات وتقرّر أن يُعَدّ نصّ مكتوب .

في مقابل ذلك ، كان الصّلح أمرا بديعا بالنسبة إلى المسلمين . فالخطط كلّها جرت على أساس القتال والحرب مع المشركين حتّى الآن ، ولعلّ المسلمين لم يحسبوا أنّهم يصالحون المشركين يوما ما . من هنا ، أبدى بعض الصحابة شكّهم في موقف النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بعد قبول الصّلح .

يقول الواقديّ :

فلمّا اصطلحوا فلم يبق إلاّ الكتاب ، وثب عمر إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم فقال : يا رسول اللّه ، ألسنا بالمسلمين ؟ قال : بلى . قال : فعلامَ نُعطي الدّنيّة في ديننا ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : أنا عبد اللّه ورسوله ، ولن أُخالف أمره ، ولن يضيّعني . ويضيف الواقديّ قائلاً إنّ عمر - ولم يذهب شكّه بعد - ذهب إلى أبي بكر بعد ذلك وقال له ما قال لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وأجابه أبوبكر بنفس الجواب. ولقي عمر من القضيّة أمرا كبيرا وكان يقول : علام نُعطي الدنيّة في ديننا ؟ يقول ابن عبّاس : قال لي عمر في خلافته : ارتبتُ ارتيابا لم أرتبه منذ

ص: 752


1- (1) قال سهيل بن عمرو : «فواللّه لا يتحدّث العرب أنّك دخلتَ علينا عنوةً» . انظر : المغازي 2 : 605 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 311 - 316 .
2- (2) المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 382 .

أسلمتُ إلاّ يومئذٍ ، ولو وجدتُ ذلك اليوم شيعةً تخرج عنهم رغبةً عن القضيّة لخرجتُ(1) !

والحقيقة هي أنّ عمر كان عصبيّا متطرّفا حادّ المزاج ، وفهمه للدّين فهم متطرّف مُفرِط غير متّزنٍ . وكان يراه شديدا ، وقلّما كان يتسامح أو يتساهل . وتحدّثنا في تاريخ الخلفاء عن هذه الروح الّتي كان يحملها وعن أفكاره وآرائه مفصّلاً . وكان تصوّره في الحديبيّة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وقد رأى قريشا قانعة إلى هذا الحدّ ، رضي بالصّلح دون حرب وقتال محافظةً منه على سلطته . ويبدوا أنّه كما قال لابن عبّاس ظنّ أنّ الإسلام ذريعة بيد النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم لاستلام السلطة(2) . مع أنّه يقول إن اللّه تعالى نجّاه من هذه التهلكة . ونلحظ في المباحث الكلاميّة المرتبطة بالإمامة أنّ علماء الشّيعة يذهبون إلى أنّ موقفه في الحديبيّة يمثّل نقطة ضعفٍ مهمّة في عصيانه أمر النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم (3) . ودلّ بموقفه هذا على أنّه لم يثق بقرارات الرسول صلى الله عليه و آله وسلم . ويمكن أن نقرّ بأنّه وقف نفس الموقف في الغدير أيضا .

إنّ مخالفة المعاهدة لم تقتصر على عمر وحده . مع أنّ المصادر المعنيّة ذكرت أنّه كان الشخص الوحيد الّذي رفع عقيرته بالاعتراض وامترى . ولمّا حُرّرت وثيقة الصّلح أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم الناس أن ينحروا هديهم ويحلقوا رؤوسهم . لكن لم يقم أحد من

ص: 753


1- (1) المغازي 2 : 606 ، 607 ؛ الدرّ المنثور 6 : 77 ؛ المصنّف ، عبدالرّزّاق 5 : 339 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 76 ، 77 ؛ حول أصل الاعتراض انظر : صحيح البخاريّ ، كتاب الشروط 2 : 122 ؛ الطبقات الكبرى 2 : 101 ؛ المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 384 ، 385 ؛ إمتاع الأسماع 1 : 293 ؛ السّيرة النّبويّة ، إبن هشام 3 : 317 ؛ عيون التّواريخ 1 : 243 ، 244 .
2- (2) ويبدو أنّ دليله على أيّ حال هو أليس قد رأى النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أنّه يدخل الكعبة ، فَلِمَ يرضى أن يرجع ذلك العام ؟ ومن الطّريف أنّه قلّما أبدى شجاعةً في ساحة الحرب ، مع ما كان يحمله من روح متطرّفة .
3- (3) النّص والاجتهاد ، رقم 17 .

مكانه وأعاد ذلك فلم يُجبه أحد . وفي المرّة الثالثة إذ لم يتّبعوا أمره صلى الله عليه و آله وسلم دخل على أمّ سلمة مغضَبا شديد الغضب . فقالت له : «يا رسول اللّه ، انطلق أنت إلى هديك فانحره ، فإنّهم سيقتدون بك» ! ففعل صلى الله عليه و آله وسلم ما أشارت به عليه(1) . ويدلّ هذا العمل على كثرة السّاخطين ، لكنّه صلى الله عليه و آله وسلم لم يعر اهتماما بكلامهم ، وعقد معاهدة الصّلح متوكّئا على نبوّته ، وعلى اعتقاده بأنّ اللّه لا يضيّعه .

ويدلّ التوجّه المذكور الّذي أشرنا إلى نموذج آخر منه في موضوع حرب الأحزاب على غياب الإخلاص عند بعض الصحابة حيال الأوامر النبويّة . بعبارة أُخرى ، يدلّ مثل هذه الحوادث بخاصّة على منابذات للقرارات النّبويّة السّياسيّة . كما تفيد الحادثة المذكورة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم غير مستعدّ أن يترك ما يرى فيه المصلحة حتّى لو اعترض أكثر الصحابة عليه . وكان على النّاس أن يصبروا حتّى فتح مكّة لإدراك صحّة القرار الّذي اتّخذه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . ولمّا أخذ صلى الله عليه و آله وسلم مفتاح الكعبة ، دعا عمر ، وقال مشيرا إلى اعتراضه في الحديبيّة يومئذ : «هذا الّذي وعدتكم»(2) وكان المخالفون قد اعترضوا ذلك اليوم على خُلف الوعد بالفتح القريب الّذي وُعدوا به إذ أُكرهوا على الرجوع إلى المدينة قبل أداء العُمرة .

وتقرّر بعد التّفاوض أن يُكتَب نصّ المعاهدة . وقبل صلى الله عليه و آله وسلم شروط قريش من أجل

ص: 754


1- (1) المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 383 - 389 ؛ إمتاع الأسماع 1 : 299 ؛ صحيح البخاريّ ، كتاب الشروط 2 : 2 ، 12 ؛ مسند أحمد 4 : 326 ؛ المغازي 2 : 613 ؛ الدرّ المنثور 6 : 77 ؛ المصنّف ، عبد الرّزّاق 5 : 340 ؛ سبل الهدى والرّشاد 5 : 92 ، 126 . (قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لأمّ سلمة : ألا ترين إلى النّاس بالأمر فلا يفعلونه وهم يسمعون كلامي وينظرون في وجهي . مع وجود هذا الكلام ذكر مؤلّف سبل الهدى والرشاد توجيها واهيا للدّفاع عن الصّحابة . مثلاً لعلّ أمره صلى الله عليه و آله وسلم كان مستحبّا ! أو لم يلزم العمل بأمره صلى الله عليه و آله وسلم فورا ! والنّقطة الطريفة الّتي التفت إليها المؤلّف المذكور (126) هي مشاورة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أم سلمة . ويقول بأنّ المستفاد من هذا الخبر هو جواز مشاورة المرأة الفاضلة .
2- (2) المغازي 2 : 609 .

الدخول في مرحلة جديدة من دعوته ، ووافق على إرجاع المسلم الّذي يفرّ إلى المدينة ، إلى مكّة . وفي ذلك الحين وقبل تدوين المعاهدة جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو - الّذي كان أسلم منذ مدّة وأبوه يراقبه - إلى مكّة خفيةً ولحق بالمسلمين . فاعترض سهيل وقال لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : لا أُكاتبك على شيء حتّى تردّه إليّ . فردّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وقال له : «اصبر واحتسب فإنّ اللّه جاعلٌ لك ولمن معك فرجا ومخرجا» . فبكى المسلمون . وجاء في خبر من الأخبار أنّ عمر اعترض هنا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أيضا ، وجواب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم هو نفس الجواب الّذي مرّ آنفا(1) .

وتقرّر بعد مناقشات كثيرة أن تُكتَب المعاهدة وكُلِّف الإمام عليّ عليه السلام بتحرير وثيقة الصلح(2) . وقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في البداية : «اكتب : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم» . فقال سهيل : لا أعرف الرحمان ، وكان المشركون قبل ذلك يثيرون حسّاسيّة بالنّسبة إلى كلمة «الرحمن» ويصرّحون بأنّهم لا يعرفونها(3) . وبعد إصرار سهيل اكتفوا بكتابة «باسمك اللّهمّ» التّي اتّفق عليها الجانبان . والجملة الّتي تلتها هي : هذا ما اصطلح عليه رسول اللّه ... فاعترض سهيل على كتابة «رسول اللّه» وقال : لو أعلم أنّك رسول اللّه ما خالفتك ... أفترغب عن اسمك واسم أبيك ... ؟ فضجّ المسلمون . وكان اعتراض سهيل في محلّه وفقا لمعاهدة يتّفق عليها الجانبان .لذا أسكتهم

ص: 755


1- (1) المغازي 2 : 608 ، 609 ؛ إمتاع الأسماع 1 : 295 ، 296 ؛ وجاء في هذا الخبر أنّه صلى الله عليه و آله وسلم قال بعد اعتراض عمر : «أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أُخراكم ؟ أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم ... وأنقذكم اللّه ...أ ... ؛ وانظر : مجمع البيان 9 : 118 ، 119 .
2- (2) يقول معمّر : سألت الزُهريّ عمّن كتب معاهدة الحديبيّة ، فضحك وقال : عليّ بن أبي طالب عليه السلام لكن إذا سألتَ هؤلاء (بني أُميّة) يقولون لك : عثمان . المصنّف ، عبد الرزّاق 5 : 343 ؛ قرّت عين الزّهريّ إذا وهي ترى البعض يقول : الكاتب محمّد بن مسلمة . سبل الهدى والرّشاد 5 : 123 .
3- (3) الفرقان : 60 .

رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وأمر أن تكتب عبارة «محمّد بن عبد اللّه»(1) . وفيما يأتي عدد من الموادّ الّتي اتّفق عليها الجانبان :

الف - وضع الحرب عشر سنين (هُدنة) يأمن فيها النّاس ويكفّ بعضهم عن بعض ، على أنّه لا إسلال (سرقة خفيّة) ، ولا إغلال (خيانة) .

ب - من أحبّ أن يدخل في عهد محمّد صلى الله عليه و آله وسلم وعقده ، أو عهد قريش وعقدها فعل .

ج - من أتى محمّدا صلى الله عليه و آله وسلم منهم (قريش) بغير إذن وليّه ردّه إليه ، ومن أتى قريشا من أصحاب محمّد صلى الله عليه و آله وسلم لم تردّه .

د - يرجع محمّد صلى الله عليه و آله وسلم بأصحابه إلى المدينة عامه هذا ، ويدخل عليهم قابِلَ (في السنة القادمة) في أصحابه فيُقيم ثلاثا ، لا يدخل عليهم بسلاح إلاّ سلاح المسافر ، والسيوف في القُرُب(2) . وجاء في نقل آخر تصريح في سياق المعاهدة بأنّ كلّ من يأتي من أصحاب محمّد صلى الله عليه و آله وسلم مكّة للحجّ أو للعمرة ، فسوف يأمن ، كما أنّ كلّ قُرَشيّ يمرّ بالمدينة قاصدا الشام أو مصر ، فله ولماله الأمان(3) .

وكُتبت نسختان أخذ كلّ منهما نسخته . ونلحظ في هذا العقد مزيّتين لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم تشترك قريش معه في إحداهما . الأولى : الأمن عشر سنين ، فقريش تزاول

ص: 756


1- (1) المغازي 2 : 610 . وإلى هذه الواقعة استند أميرالمؤمنين عليه السلام في وقعة صفّين فأجاب أصحابه حين اعترضوا على حذف كلمة «أميرالمؤمنين» من عقد الصلح الّذي عقده مع معاوية ومدّته سنة واحدة ، وفي الحديبيّة أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم الإمام أن يمحو عبارة «رسول اللّه» من المعاهدة . فقال إنّ يده لا تطاوعه . فطلب منه أن يدلّه على مكانها ليمحوها بنفسه ، ففعل . انظر : مجمع البيان 9 : 118 ؛ المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 383 ؛ سبل الهدى والرّشاد 5 : 123 .
2- (2) انظر : أنساب الأشراف 1 : 350 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 97 ؛ مجمع البيان 9 : 118 ؛ إعلام الورى : 51 ؛ مكاتيب الرّسول 1 : 275 .
3- (3) المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 385 ؛ أنساب الأشراف 1 : 351 .

فيها تجارتها ، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يجد فيها فرصة مؤاتية لبثّ دعوته في سائر نقاط الجزيرة العربيّة وخارجها . والمزيّة الأُخرى الإذن بدخول مكّة لأداء العُمرة ، وقد أُرجئ - طبعا - إلى السنة القادمة . من هنا - ومنذ ذلك الحين - استطاع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم والمسلمون أن يأتوا مكّة للعمرة بلا قتال . وعلاوة على مزاولة الشّعائر الدينيّة أنّهم أروا العرب تعظيمهم للكعبة أيضا ، وأنّهم ليسوا حفنة من الطغام والمتسكّعين أو من طبقة الصعاليك كما كانت قريش تَسِمُهُم بذلك . وفي السنة السّابعة من الهجرة أُتيحت له صلى الله عليه و آله وسلم الفرصة لأداء «عمرة القضاء» مع عدد كبير من أصحابه .

بيد أنّ الأهمّ هو أنّ الصلح يمثّل اجتيازا لمرحلة معيّنة . واعترفت قريش بالكيان السياسيّ لحكومة المدينة . والى ما قبل ذلك كانت قريش تفكّر بالقضاء على المسلمين ، أمّا الآن فإنّها أذعنت بأنّ الإطاحة بالإسلام أمر غير يسير ، وما عليها إلاّ الاعتراف به كحقيقة واضحة . ورأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بحزمه الخاصّ أنّ هذا التحرّك بداية لفتح مكّة ، ووصفه اللّه سبحانه في القرآن الكريم بأنّه الفتح المبين . ويقول جابر : لا نرى فتح مكّة إلاّ يوم الحديبيّة(1) . وقالوا : نزلت سورة الفتح في صلح الحديبيّة ، وآيات منها في بيعة الرّضوان كما مرّ سلفا . وأوّلها « إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحا مُبِينا » . وفي الآيتين الحادية عشرة والثانية عشرة منها إشارة إلى الأعراب الّذين كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يلتقي بهم طول الطريق ويدعوهم إليه ، لكنّهم زعموا أنّ أموالهم وأهليهم شغلتهم ظانّين بأنّهم لن يعودوا إلى بيوتهم(2) . « سَيَقُولُ لَكَ الْمُ-خَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِنَ اللَّهِ شَيْئا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا * بَلْ ظَنَنتُمْ

ص: 757


1- (1) مجمع البيان 1 : 109 .
2- (2) انظر : الدرّ المنثور 6 : 72 ؛ مجمع البيان 9 : 114 .

أَن لَن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدا وَزُيِّنَ ذلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْما بُورا » .

وسمّى اللّه سبحانه ، في سياق الآيات ، ثواب المبايعين الّذين رضي عنهم «فتحا قريبا» ، ويرى معظم المفسّرين أنّ خيبرا مصداق ذلك(1) . ويضاف إليه ذكر الغنائم الكثيرة الّتي أصابها المسلمون في أعقاب الصّلح . قال تعالى : « وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطا مُسْتَقِيما * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ قَدِيرا »(2) .

وقال سبحانه في صدق الرؤيا الّتي رآها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : « لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذلِكَ فَتْحا قَرِيبا »(3) . وموضوع هذه الآية فتح مكّة الّذي يمثّل تفسير الرؤيا المذكورة . وذلك الفتح القريب الّذي كان قبل دخول المسجد كما تصرّح به الآية إشارة إلى خيبر .

ووصف سبحانه سلسلة التطوّرات المتعلّقة بصلح الحديبيّة حتّى فتح مكّة أنّها مقدّمة «للفتح المبين» ، و«الفتح القريب» . وكما أشرنا كان جابر أيضا يقول : لا نرى فتح مكّة إلاّ يوم الحديبيّة(4) . ونُقل عن الإمام الصّادق عليه السلام أنّ الإسلام نما واتّسع بعد مضيّ مدّة على الصّلح حتّى كاد يستولي على مكّة . واختلط المسلمون والمشركون ، وتمكّن الإسلام من قلوبهم . وبعد ثلاث سنين - حتّى السّنة الثّامنة - أسلم ما لا يُحصى

ص: 758


1- (1) مجمع البيان 9 : 116 .
2- (2) الفتح : 20 ، 21 .
3- (3) الفتح : 27 . ويبدو أنّ قسما من سورة الفتح في الرجوع من الحديبيّة على سبيل الاحتمال - كما قالوا ذلك - وقسما آخر بعد فتح مكّة .
4- (4) إعلام الورى : 61 ؛ مكاتيب الرسول 1 : 285 .

من الناس ، فزاد جماعة المسلمين(1) .

يقول الواقديّ : كانت الحرب قد حجزت بين الناس وانقطع الكلام ... فلمّا كانت الهُدنة وضعت الحرب أوزارها وآمن الناس بعضهم بعضا ، فلم يكن أحد تكلّم بالإسلام يعقل شيئا إلاّ دخل في الإسلام حتّى دخل في تلك الهدنة صناديد المشركين الذين يقومون بالشّرك وبالحرب - عمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد ، وأشباه لهم(2) ، من هذا المنظار ، كان الإختلاط المذكور في الظّروف الّتي أصبح الإسلام فيها قوّة متفوّقة مؤثّرا في إسلام المشركين . وقال البرّاء بن عازب أيضا : أنتم ترون فتح مكّة فتحا ، ونحن نرى بيعة الرّضوان فتحا(3) .

وما جاء من أنّ لكلّ قبيلة أن تتحالف مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كان عمليّا في علاج المشاكل الخارجيّة ، كما كان مزيّة للمسلمين ، إذ كانت هناك قبائل - على أيّ حال - لم تقترب من النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم خوفا من قريش، والآن هي حرّة في أن تتحالف معه . وبوجود هذا المبدأ ليس لقريش أن تدخل في حرب معها ، أو تناصر عدوّها . وفي أعقاب المبدأ المذكور أعلنت خزاعة أنّها حليفة محمّد صلى الله عليه و آله وسلم . كما أعلنت بكر عن تحالفها مع قريش ! والقلق المهمّ في ميثاق الصلح يتمثّل في إرجاع المسلمين الّذين تخلّصوا من أيدي أُسَرهم المشركة وفرّوا إلى المدينة بمشقّة . وهذا الموضوع كان مهمّا للمسلمين من الوجهة العاطفيّة ، لكنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قال في قضيّة أبي جندل بن سهيل بن عمرو إنّه ليس من أهل الغدر ، وإنّه يبقى وفيّا لهذا المبدأ . وعُرض هذا الموضوع في

ص: 759


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 322 ؛ مجمع البيان 9 : 109 . ويذكر ابن هشام بعد نقل كلام الزهريّ أنّ الدليل على صواب كلام الزّهريّ هو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم دخل مكّة في الحديبيّة بألف وأربعمائة ، في حين دخلها في فتح مكّة بعشرة آلاف . السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 322 ؛ وانظر : عيون التاريخ 1 : 246 ؛ الكامل في التاريخ 1 : 78 ؛ مكاتيب الرسول 1 : 285 .
2- (2) المغازي 2 : 624 .
3- (3) مجمع البيان 9 : 110 .

سورة الأنفال قبل ذلك بسنين إذ قال سبحانه في المسلمين الذين كانوا في أسر مكة : « وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِى الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْر إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِيثَاقٌ وَاللّه ُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ »(1) .

إنّ إرجاع الرّجال بعد معاهدة الحديبيّة ليس فيه إشكال فقهيّ خاصّ ، بيد أنّ الموضوع يتفاوت فيما يخصّ النساء . ولم تُشر المعاهدة إليهنّ ، لكن لمّا نزلت آيات حكمت بالطّلاق القطعيّ إذا كان أحد الزّوجين كافرا ، فإنّ المسلمات الباقيات واجهن بعض المشاكل في مكّة . من هنا ، طلب سبحانه من رسوله بصراحة ألاّ يُرجع النساء المسلمات المهاجرات إلى الكفّار . قال تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَا أَنفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ »(2) .

إنّ دفع المهر لمثل هؤلاء النّساء ، سواء كان من المسلمين إلى الكفّار لأجل النساء اللاّئي أسلمن ، أم لفصل الرجال المسلمين عن نسائهم الكوافر اللاّتي كنّ بمكّة أو رجعن إليها كمرتدّات(3) ، يعدّ مزيّة متبادلة للجانبين كليهما . يقول الزهريّ : «لولا الهدنة لم يردّ إلى المشركين الصداق كما كان يُفعل قبل»(4) . وبلغت أهمّيّة الأواصر العائليّة درجةً أنّ الحكم بفصل النساء المسلمات عن أزواجهنّ يتحقّق في اختبارهنّ « امْتَحِنُوهُنَّ » وبعد ذلك يبايعن على رعاية الحرام والحلال في الدّين كما جاء في الآية الثانية عشرة من سورة الممتحنة . من هنا خرج حكم النّساء المسلمات من دائرة

ص: 760


1- (1) الأنفال : 72 .
2- (2) الممتحنة : 10 .
3- (3) ذكر الزُّهريّ أسماء ستٍّ منهنّ . انظر : مجمع البيان 9 : 275 .
4- (4) نفسه 9 : 274 .

المعاهدة ، وبعد هذا كان مسير عدد كبير منهنّ إلى المدينة ، وفي هذا الاتّجاه طُلِّقت الكوافر المعلّقة اللّواتي كان أزواجهنّ في المدينة ، وتزوّجن الكفّار(1) .

وتمّ حلّ مشكلة الرجال المهاجرين بسرعةٍ أيضا . ذلك أنّ من استطاع منهم أن يفرّ من مكّة ، لم يأت المدينة ، بل استقرّ منهم بشكل منظّم وجماعيّ قُرابة سبعين رجلاً في الطرق التجاريّة لقريش ، وكانوا ينالون منها نيلاً(2) . وفعلوا ذلك لمّا رأوا ما جرى لأبي بصير مع أحد مرافقيه إذ قتله ، وكان جاء لإرجاعه من المدينة إلى مكّة . ولمّا رأت قريش الوضع هكذا تغاضت مكرَهةً عن امتيازها الّذي كانت جعلته وسيلةً للحؤول دون تنامي الإسلام بمكّة .

دعوة الملوك والطوائف إلى الإسلام

فكّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ببثّ الدعوة الإسلاميّة خارج حدود الحجاز بعد أن أوقف انتهاكات قريش وراء صلح الحديبيّة . وكان صلى الله عليه و آله وسلم مصداقا لقوله تعالى « رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ »(3) وبوصفه « خَاتَمَ النَّبِيِّينَ »(4) كان يحمل رسالةً تفوق حدود الحجاز والعرب . ولم يكن هذا الموضوع ليطرحه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في العصر المدنيّ ، لاسيّما بعد صلح الحديبيّة ، بل كان يعد المسلمون بكنوز كسرى وقيصر منذ بدء نبوّته ، وفي مكّة نفسها كان المشركون يخاطبون المسلمين الحفاة بأنّهم ورثة كسرى وقيصر ساخرين بهم . ومهما كان ، بدأ العمل الدّعوتيّ بعد الحديبيّة . وفي المقابل راسل النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ثلاث شرائح متنفّذة . الأولى : ملوك الدول العظمى آنذاك . الثانية : الأقطاب الدينيّة

ص: 761


1- (1) مجمع البيان 9 : 273 ، 274 . ذكر أمثلة عديدة ؛ وانظر أيضا الاستيعاب 4 : 1488 (في حاشية الإصابة) .
2- (2) المغازي 2 : 627 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 323 ، 324 .
3- (3) الأنبياء : 107 .
4- (4) الأحزاب : 40 .

للنّصارى . الثالثة : رؤساء القبائل الكبيرة المعروفة في شتّى مناطق الجزيرة العربيّة والشّام . وسنتحدّث عن هذه الرسائل بإجمال ومصدرنا الأصليّ - لا محالة - كتاب مكاتيب الرسول الثمين .

كان أحد المخاطَبين الملك السّاسانيّ خسرو برويز الّذي قُتل في السّجن سنة 628 م(السّنة السّابعة للهجرة) . وكان من الملوك المترفين ، هزمه هرقل في حروب متعدّدة هزائم نكراء . وبناءً على سنة قتله ، من المفروض أن تكون رسالة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وافته في السّنة الأخيرة من حكومته . وعبّر عنه النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم «بعظيم فارس» وطلب منه فيها أن يشهد بوحدانيّة اللّه ونبوّة محمّد صلى الله عليه و آله وسلم وإلاّ فعليه إثم المجوس .

أمّا موقف كسرى فقد جاء أنّه مزّق الرسالة ، وكتب إلى باذان واليه على اليمن أن يستتيب قُرَشيّاً ادّعى النبوّة بمكّة ، وإلاّ يأتيه برأسه . وورد في خبر اليعقوبيّ - على عكس الأخبار الأخرى المنقولة - أنّه قرأ الرّسالة وبعث بعض الهدايا إليه صلى الله عليه و آله وسلم (1) ! وكان حامل الرسالة عبد اللّه بن حذافة السهميّ .

وكانت الرسالة الأخرى هي رسالته صلى الله عليه و آله وسلم إلى المُقَوْقِسْ حاكم مصر ، وخاطبه فيها بعنوان «عظيم القبط» . وفي خبر آخر «صاحب مصر» . وكانت مصر آنذاك خاضعة للحكم الرومانيّ الشّرقيّ وعاصمته القسطنطينيّة . وكان يحكم الإسكندريّة حاكم يُسمّى كروس وكان نصرانيّا . دعاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إلى الإسلام ، وكتب إليه في آخر الرسالة قوله تعالى : « قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّه َ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضا أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّه ِ » . وهذه الرسالة بلّغها حاطب بن أبي بَلْتَعَة .

ونقلت المصادر التّاريخيّة حوار حاطب والمقوقس . وأشار حاطب فيه إلى مصير

ص: 762


1- (1) مكاتيب الرسول 1 : 90 - 93 .

فرعون الّذي كان يحكم مصر قبله ، وتحدّث عن دعوة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم والعداء المشترك الّذي تكنّه قريش واليهود له ، وأكّد أنّ النصارى أقرب الناس إلى الإسلام . وقرأ المقوقس الرسالة ببالغ الإحترام ورحّب بحاطب . وطلبه مرّةً وسأله عن فحوى الدّعوة النّبويّة . كما أراد منه أن يصف رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم له . ثمّ ذكر أنّه ينتظر ظهور نبيٍّ ، لكنّه كان يظنّ أنّه يظهر بالشّام لأنّها مهد الأنبياء السّابقين . وأخبره أنّ أهل مصر لن يتّبعوه في هذا . فإذا تمكّن من سائر البلاد ، فسوف يصل سلطانه إلى هنا أيضا. وبعد ذلك كتب رسالةً وبعثها إليه صلى الله عليه و آله وسلم ومعها جاريتان ، إحداهما مارية القبطيّة الّتي أعتقها وتزوّجها وهي أمّ إبراهيم . والأخرى سيرين أختها ، وصارت لحسّان بن ثابت ، ومكث حاطب خمسة أيّام في بلاط المقوقس ثمّ عاد إلى المدينة(1) .

وكانت رسالته الثالثة إلى الهلال حاكم البحرين . وليس من معلومات تُذكَر حوله . ولم يُشِر إلى رسالته إلاّ ابن سعد(2) . وسنرى أنّ أفرادا آخرين أيضا دُعوا إلى الإسلام في البحرين .

وكانت رسالته الرابعة إلى قيصر الرّوم . وتبدأ هذه الرسائل بتعبير «سلام على من اتّبع الهدى» عادةً . ويستعمل هذا التّعبير في مخاطبة الكافرين . وكان العرب يعرفون قيصر الروم على أنّه هرقل . وكان حامل الرسالة إلى قيصر دحية بن خليفة الكلبيّ وهو صحابيّ جميل المحيّا ، وجاء في الروايات أنّ جبرائيل عليه السلام كان يظهر في صورته . وقال البعض : كان المقرّر أن يُعطي دحية الرسالة حاكم بُصرى ليوصلها إلى قيصر الرّوم .

ونُقل نصّ الرسالة بأشكال متباينة . ففي أحدها كانت الدعوة إلى الإسلام

ص: 763


1- (1) مكاتيب الرسول 1 : 97 - 101 .
2- (2) الطّبقات الكبرى 1 : 275 .

فحسب ، ثمّ جاء قوله تعالى « قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا... » بعدها(1) . وفي الآخر طُلب منه أن يُسلم ، وإلاّ يدفع الجزية ، ثمّ ذكرت آية الجزية(2)(3) . قالوا : وافته الرّسالة وهو في الشام إذ ذهب إلى زيارة بيت المقدس من أجل الشّكر على انتصاره على قوى الفرس . وهناك سأل عمّن كان حاضرا من أهل مكّة ليزوّده بالمعلومات عن محمّد صلى الله عليه و آله وسلم . وكان أبو سفيان يومئذٍ في الشّام - وهو لم يزل على شركه - وأُخذ إلى هرقل لتقديم التّوضيحات - ووصفت المصادر الإسلاميّة موقف هرقل بشكل يبدو فيه أنّه لم يرد قبول الإسلام خوفا على ملكه ، في حين أنّه كان في الأصل ينتظر ظهور مثل هذا النّبيّ . وكذلك ورد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كتب إلى قيصر عندما كان في تبوك . وجواب قيصر الوارد في المصادر الإسلاميّة الموجودة قرين بالتّودّد وإرسال الهدايا(4) . وعلاوة على قيصر ، كتب صلى الله عليه و آله وسلم إلى الأسقف الأعظم للروم أيضا ، وأشار فيه إلى مريم وعيسى وذكر إيمانه بجميع الأنبياء السابقين(5) .

ومن الذين كاتبهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم النّجاشيّ حاكم الحبشة وحامل رسالته إليه هو عمرو بن أُميّة الضّمريّ وجاء في النّص الّذي يعدّ أكثر من بعض النصوص الأُخرى تفصيلاً أنّ عيسى ابن مريم روح اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم فحملت بعيسى ، كما خلق آدم بيده ونفخه . وهذا هو مضمون الآيات القرآنيّة . وجاء في كتابه صلى الله عليه و آله وسلم : «وقد بعثت إليكم ابن عمّي جعفرا ومعه نفر من المسلمين فإذا جاءوك فأقرّ ودع التجبّر» .

ويستشفّ من هذه الفقرة أنّ هذه الرّسالة كانت في سنة هجرة المسلمين إلى الحبشة ، أي : السنة الخامسة للبعثة ، في حين كانت دعوة الملوك والأمراء بعد الحديبيّة ، ونقل الرّواة أنّ الرّسالة المذكورة هي نفس الرّسالة الّتي أخذها عمرو بن

ص: 764


1- (1) مكاتيب الرسول 1 : 105 .
2- (2) التوبة : 29 .
3- (3) مجموعة الوثائق السياسيّة : 82 .
4- (4) مكاتيب الرسول 1 : 105 - 114 .
5- (5) الطّبقات الكبرى 1 : 276 .

أميّة إلى الحبشة . ويمكن أن تكون الفقرة الأخيرة منها توصية جديدة بالتّعامل اللّين مع المهاجرين . وينبغي الالتفات إلى أنّ المهاجرين رجعوا في السّنة السابعة ، من هنا ، وبالنّظر إلى ما جاء في آخر الرسالة ، يمكن أن تكون توصيات عمرو بن أُميّة والرّسالة المذكورة بعد بدر ، حين أعادت قريش محاولتها لإرجاع المهاجرين .

ويحوم خلاف حول نجاشيّي الحبشة في السنين الأولى من البعثة ، وأواخر عصر الهجرة من كانوا ؟ فقد قيل : إنّ أحدهم هو النّجاشي الذي استقبل المهاجرين بحفاوة ، وقبل دعوة الإسلام ، وبعد وفاته صلّى عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم من المدينة . أمّا النّجاشيّ الّذي جاء بعده فقد ردّ على رسالة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بعد أن مزّقها(1) . ووردت أخبار كثيرة في المصادر الإسلاميّة حول النّجاشيّ الّذي أسلم ، وسلوكه مع المهاجرين وحبّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وهو الّذي بعث هدايا كثيرة إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في جوابه له .

ومن الملوك الآخرين الّذين دُعوا إلى الإسلام الحاكم الغسّانيّ للشّام الحارث بن أبي شمر الّذي كان يحكم دمشق وأعمالها من قبل قيصر الرّوم ، ومقرّه الجولان .

بسم اللّه الرحمن الرحيم . إلى الحارث بن أبي شمر . سلام على من اتّبع الهدى وآمن به وصدّق . وإنّي أدعوك أن تؤمن باللّه وحده لا شريك له ، يبقى ملكك(2) .

وحمل شجاع بن وهب الأسديّ هذه الرّسالة إلى الحارث ، وغضب الحارث من الجملة الأخيرة فيها وهدّد أن يأتيه بجيش حتّى لو كان باليمن .

وراسل صلى الله عليه و آله وسلم هوذة بن عليّ الحنفيّ (المفروض أن يكون من بني حنيفة) ملك اليمامة . ودعاه إلى قبول الإسلام ، وأشار إلى ظهور دينه في المستقبل . طلب منه أن يسلم ويجعل له ما تحت يديه . وكان حامل الرسالة إليه سليط بن عمرو . وأجاب

ص: 765


1- (1) مكاتيب الرسول 1 : 118 - 128 . ونقلت رسائل أخرى لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بعثها إلى النّجاشيّ .
2- (2) السيرة الحلبيّة 3 : 286 ؛ مكاتيب الرسول 1 : 134 .

هوذة مشيرا إلى قوّته الأدبيّة ، وقال : ... والعرب تهاب مكاني ، فاجعل لي بعض الأمر أتّبعك(1) . ورغبته في إشراكه تقوم على أساس تصوّر غالط يحمله هوذة عن النبوّة ، وهو الّذي أراده مسيلمة الكذّاب بعد ذلك .

وخاطب صلى الله عليه و آله وسلم المنذر بن ساوى أحد أشراف البحرين بواسطة العلاء بن الحضرميّ . وكان المنذر متأثّرا بالدّين المجوسيّ . وأجابه المنذر قائلاً : «أمّا بعد يا رسول اللّه فإنّي قرأتُ كتابك على أهل البحرين . فمنهم من أحبّ الإسلام وأعجبه ودخل فيه ؛ ومنهم من كرهه فلم يدخل فيه . وبأرضي يهود ومجوس ، فاحدث إليّ أمرك في ذلك» . ومهما كان فالمنذر هذا في عداد من قبلوا دعوة الرسول صلى الله عليه و آله وسلم .

ودُعي جيفر وعبد ابنا الجلنديّ مَلِكا عمان إلى الإسلام سنة ثمان من الهجرة . وحامل الرسالة إليهما أبو زيد أو عمرو بن العاص . ونُقل خبر مفصّل عن حوار عمرو ابن العاص معهما ، وجاء في ختامه أنّهما أسلما . ويظهر من الخبر المذكور أنّهما كانا يرغبان في معرفة موقف قريش من الإسلام . وهناك قال عمرو : تبعوه (تبعوا الإسلام) إمّا راغب في الدّين أو راهب مقهور بالسّيف . وتلاشت مقاومة قريش(2) .

وكانت شبه الجزيرة العربيّة تخلو من نظام ملكيّ ، وإنّما كان في مناطقها المختلفة رؤساء بعض القبائل وهم في حكم الحاكم المحلّيّ ، بخاصّة إذا كانت الحكومة الساسانيّة تدعمهم وتعزّزهم . وكانت الرسائل التي كُتبت إلى هؤلاء ذات مردود إيجابيّ . ومن المحتمل أنّ عندهم أخبارا لافتة للنظر عن قوّة الإسلام . وكحدٍّ أدنى أرادوا انتهاج سبيل الاحتياط . وينطبق هذا الموضوع على بعض حكّام العرب في مناطق الشّام أيضا .

ومن هؤلاء فروة بن عمرو الجذاميّ حاكم مَعان . فقد أسلم وأرسل إلى رسول

ص: 766


1- (1) مكاتيب الرسول 1 : 138 .
2- (2) نفسه 1 : 149 - 151 .

اللّه صلى الله عليه و آله وسلم هدايا . ويستفاد من نصّ الرسالة أنّه أشخص مندوبا عنه إلى النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم قبل أن يبعث إليه النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم . رسالةً . وفيما يأتي نصّ الرسالة :

من محمّد رسول اللّه إلى فروة بن عمرو ؛ أمّا بعد ، فقد قدم علينا رسولك وبلّغ ما أرسلت به ، وخبر عمّا قِبلكم ، وأتانا بإسلامك ، وأنّ اللّه هداك بهدى إن أصلحت وأطعت اللّه وأقمت الصلاة وآتيت الزكاة(1) .

وكتب صلى الله عليه و آله وسلم إلى أُسقف نجران :

باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ؛ من محمّد النّبيّ رسول اللّه إلى أسقف نجران ، أسلم أنت ، فإنّي أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، أمّا بعد : فإنّي أدعوكم إلى عبادة اللّه من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية اللّه من ولاية العباد ، وإن أبيتم فالجزية ، فإن أبيتم آذنتكم بحربٍ والسلام(2) .

وأرسلت رسائل كثيرة لدعوة القبائل المهمّة والأشخاص المتنفّذين إلى الإسلام . ومن هؤلاء أكثم بن صيفيّ أحد رؤساء بني تميم(3) . ودُعي زياد بن جمهور وهو من لخم بالشام إلى الإسلام ، وكان من وجهائها(4) . وتلقّت قبيلة بكر بن وائل دعوة لم يستطع أحد منهم قراءتها بسبب أُمّيّتهم حتّى جاء رجل من بني ضبيعة فقرأها لهم ! ثمّ سمّي نسله بني الكاتب ! ونقلت منها جملة قصيرة لعلّها هي الرسالة جميعها : من محمّد رسول اللّه إلى بكر بن وائل أسلوا تسلموا(5) .

ص: 767


1- (1) الطّبقات الكبرى 1 : 281 ؛ مكاتيب الرسول 1 : 152 ، 153 .
2- (2) البداية والنّهاية 5 : 53 ؛ مكاتيب الرسول 1 : 175 .
3- (3) مكاتيب الرسول 1 : 155 .
4- (4) نفسه 1 : 165 .
5- (5) نفسه : 166 .

خيبر آخر خندق ليهود الحجاز

خيبر منطقة خصبة ذات ماء وعمران كثير ، وهي من أفضل مناطق الحجاز . والتمر أكثر محاصيلها ووفرته بحدٍّ يُعاب معه نقله إليها(1) . وتقع شمال المدينة - في طريق الشّام - على بعد (165) كيلومترا عنها ، ومركزها اليوم «الشُّرَيف»(2) . ولمّا جاء اليهود إلى شبه الجزيرة العربيّة ، سكن قسم منهم في خيبر . وأصبحوا ذوي سطوة قويّة فيها بسبب إمكانيّاتها الاقتصاديّة . وبنوا فيها حصونا حصينة ، وجعلوا من أنفسهم قوّة مقاومة لا تُقهر من خلال ادّخار الطعام والسّلاح الكثير . وكان للمنطقة سوق سنويّ يقام في الأيّام الأُولى من شهر ربيع الأوّل وعنوانه «سوق نطات خيبر» . وكانت غطفان تعيش قريبا منهم . وهي من حُماة السوق المذكور إذ كانت توفّر أسباب الأمن لمن يرتاده(3) .

وكان طبيعيّا وجود تزاور وتواصل بين يهود خيبر ويهود المدينة . كما أنّ عددا منهم وعلى رأسهم حيّي بن أخطب ظلّوا خيبريّين بعد إجلاء بني النضير . وفي واقعة الأحزاب أسر حييّ مع بني قريظه ، ثمّ هلك . وكان أفراد آخرون من بني النّضير ضالعين في وقعة الأحزاب ، ثمّ رجعوا إلى خيبر . ومن هؤلاء سلام بن أبي الحقيق الّذي قتله جماعة من مسلمة الخزرج داخل خيبر(4) . وتحدّثنا عن قتله سابقا . وأنشد حسّان بن ثابت شعراً في تغلغل المسلمين في عمق التراب اليهوديّ ، وقتل ابن أبي الحقيق ، فقال :

ص: 768


1- (1) كنقل الكمّون إلى كرمان . [ هذا مَثَلٌ فارسيّ يقابله في العربيّة قولهم : كناقل الّتمر إلى هَجَر . ] المترجم وهجر مدينة في البحرين مشهورة بتمورها .
2- (2) انظر : معجم المعالم الجغرافيّة في السّيرة النّبويّة : 118 . بين المدينة والشّريف 163 كم .
3- (3) في شمال غرب الجزيرة ، حمد جاسر : 236 .
4- (4) انظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 273 ؛ سبل الهدى والرّشاد 6 : 162 - 164 .

حتّى أتوكم في محلّ بلادكم * فسقوكم حتفا ببيضٍ ذُفَّفِ(1)

من هنا، بدأ اشتباك مسلمي المدينة بأهل خيبر بعد حرب الأحزاب، وهم أنفسهم همّوا بمواجهة المسلمين . وأصبح اليهود في وضع أعسر من السّابق ، لأنّهم فقدوا إمكانيّة الاستعانة بقوّة قريش أو حلفائها . مع هذا اتّفقت معهم بعض القبائل العربيّة الّتي كانت حوالي خيبر في معاداة الإسلام ، وجرت بينها وبين أهل خيبر مفاوضات في هذا الوقت . ومن هذه القبائل قبيلة بني سعد الّتي كانت تسكن حوالِ خيبر .

وروى الواقديّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم علم بمرافقتهم لأهل خيبر، وسمع أنّهم يريدون أن يمدّوا اليهود . وبعد ذلك بعث في رمضان سنة ستّ عليّا عليه السلام إليهم في مائة رجل فسار حتّى انتهى إلى الهَمَج (ماء بين خيبر وفدك) ، فأصاب عينا (جاسوسا) . واضطرّ هذا الجاسوس أن يدلّ المسلمين على مرعى بني سعد خوفا على نفسه . فأغاروا على نَعَمٍ وشاءٍ لهم ، فغنموها . وهي خمسمائة بعير ، وألفا شاةٍ . وأخبر الرّعاة الفارّون بني سعد بهجوم المسلمين ، وتفرّقوا وجاء في هذا الخبر أنّ الجاسوس المذكور كان ابن أخي رئيس قبيلة بني سعد . وكان متوجّها إلى خيبر لإبلاغ رسالته . وورد في خبر عن رئيس طائفة بني سعد أنّه لم يتصوّر هجوم المسلمين على خيبر حتّى بعد الحملة المعهودة ، وذلك لوجود حصون حصينة لا يُنفذ منها(2) . وكان هذا التحرّك ضربة أُخرى ليهود خيبر .

وكانت الخطوة الأُخرى للمسلمين في خيبر إيفاد مجموعة ثلاثيّة لكسب المعلومات عن وضع خيبر . فقد بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عبد اللّه بن رواحة مع رجلين ، واستطاعوا أن يحصلوا على بعض المعلومات خلال مكثهم الّذي طال ثلاثة أيّام . وفي

ص: 769


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 276 .
2- (2) المغازي 2 : 562 ، 563 ؛ سبل الهدى والرّشاد 6 : 154 ، 155 .

ذلك الوقت حاول يسير أو أسير بن زارم(1) أن يفرض حربا على المدينة من خلال تحريض قبيلة غطفان الّتي كانت تسكن قريبا من خيبر . ولمّا بلغ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ذلك بعث عبد اللّه بن رواحة إلى خيبر مع ثلاثين . فذهبوا عند أسير بعد الاستئمان وأخبروه أن لو أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لولاّه على خيبر . فقبل وخالفه بعض اليهود ، وتوجّه إلى المدينة مع جمع من اليهود . وندم أُسير بعد أن ابتعد عن خيبر قليلاً . وكان عبد اللّه بن أنيس ينظر إليه ، وما إن رأى آثار النّدم في وجهه استلّ سيفه وحمل عليه . وطفق المسلمون يقاتلون . وبعد انتهاء القتال تمكّن يهوديّ واحد فحسب من الفرار(2). وهكذا قتل واحد من زعماء اليهود .

وهذه الإجراءات كانت قبل صلح الحديبيّة . أمّا بعد توقيع معاهدة الصّلح ، فقد اهتمّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بموضوع يهود خيبر الّذين كانوا يمثّلون إسنادا ليهود المدينة طوال السّنين السّابقة ، وذلك بسكينة أكثر . فسار صلى الله عليه و آله وسلم إليها في صفر سنة سبع - أو في الأوّل من جمادى الأولى(3) ، أو المحرّم(4) من تلك السّنة - على رأس جيش . ولم يتوقّع اليهود أن يهاجمهم النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بسبب قواهم العسكريّة الكثيرة وحصونهم الحصينة . ولمّا تحرّك صلى الله عليه و آله وسلم من المدينة والمسلمون معه ، منعهم يهود المدينة - الّذين لم ينقضوا عهدهم مع المسلمين حتّى ذلك الحين - من الذّهاب إلى خيبر . ومن الطبيعيّ أنّهم لم يريدوا أن يزول آخر خندق لليهود في الحجاز(5) .

وسار رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم مع جنده من طريق الشّمال وكان اللواء بيد عليّ بن أبي

ص: 770


1- (1) عند ابن هشام : يسير ، وعند الواقديّ أسير .
2- (2) المغازي 2 : 566 - 568 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 618 ؛ سبل الهدى والرّشاد 6 : 176 ، 177 .
3- (3) انظر : الطّبقات الكبرى 2 : 106 .
4- (4) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 328 .
5- (5) المغازي 2 : 634 ، 637 .

طالب عليه السلام ، ورايتان إحداهما بيد الحباب بن المنذر ، والأخرى بيد سعد بن عبادة(1) . وفي الطريق أمر صلى الله عليه و آله وسلم عبد اللّه بن رواحة الّذي كان شاعرا وذا صوت شجيّ أن يشوّق الركب بأرجاز ، فقال رضوان اللّه عليه :

واللّه لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدّقنا ولا صلّينا

فانزلن سكينةً علينا * وثبّت الأقدام أن لاقينا

والمشركون قد بَغَوْا علينا(2)

وصحبه صلى الله عليه و آله وسلم ستّ عشرة من نساء المسلمين لإسعاف الجرحى(3) . وفي ضوء إحصاء زيد بن ثابت في آخر الحرب كان المسلمون ألفا وأربعمائة بينهم مئتا فارس(4) .

ولمّا كانت خيبر مرغوبة من الوجهة الاقتصاديّة وذات غنائم لا تحصى ، فقد قصد البعض أن يسيروا مع النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم رجاء الغنيمة ، لكنّه قال : لا تخرجوا معي إلاّ راغبين في الجهاد(5) .

ويبدوا أنّ الآية الخامسة عشرة من سورة الفتح إشارة إلى الأعراب الّذين تخلّفوا في الحديبيّة ، لأنّهم كانوا يخافون من مواجهة قريش ، لكن لمّا ذهب المسلمون إلى خيبر وكان بيّنا تقريبا أنّ سفرهم سيكون مصحوبا بالغنائم ، أعلنوا عن استعدادهم للسّفر . ويستشفّ من الآية رفض رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم طلبهم . وكان النّهب مبدئيّا من

ص: 771


1- (1) الطّبقات الكبرى 2 : 106 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 187 .
2- (2) المغازي 2 : 639 . وارتجز سلمة بن الأكوع بشعر مثله أيضا . المغازي 2 : 638 ؛ سبل الهدى والرّشاد 5 : 182 .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 342 ؛ المغازي 2 : 684 ، 685 .
4- (4) المغازي 2 : 689 .
5- (5) الطّبقات الكبرى 2 : 104 ؛ المغازي 2 : 634 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 180 .

أُصول الحياة البدويّة للأعراب ، وبغضّ النظر عن كونهم مسلمين همّوا بالخروج معهم طلبا للغنائم . ولمّا كانت نيّة الجهاد وحدها - أي : الحركة التحرّريّة الإسلاميّة - موضع اهتمام النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم فقد تغاضى عن المساعدة المحتملة لهذا الصنف من الناس وحال دون مجيئهم للغنيمة ، إلاّ أن يأتوا بنيّة الجهاد لا غيرها .

ويمّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم خيبرا مستعينا بدليلين من قبيلة أشجع ، غير أنّه طلب منهما أن يختارا طريقا يجعل المسلمين في منطقة بين الشّام وخيبر .

ويعود ذلك إلى أنّه صلى الله عليه و آله وسلم أراد أن يستقرّ بين قبيلة غطفان حليفة يهود خيبر وحصون خيبر كي لا يسمح لهم بدخول الحصون . والتقى المسلمون في الطريق بأحد جواسيس اليهود ، فقال في البداية : فجاءوا [ يهود خيبر ] معدّين مؤيّدين بالكراع والسلاح ، ... وطعام كثير لو حُصروا لسنين لكفاهم ، وبعثوا وراء غطفان فأتوهم . بيد أنّه اعترف بعد تحقيق أكثر أنّه ذكر ذلك بأمر اليهود ليسترهب المسلمين . وعلى العكس ، فزع أهل خيبر بشدّة من مجيء المسلمين(1) .

وفي سياق عدد من الأخبار أشار الواقديّ إلى وجود عشرة آلاف مسلّح ليهود خيبر(2) . ولكنّه مستبعد على ما يبدو . وجدير بالذكر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم حين وصل إلى خيبر كان اليهود خرجوا من حصونهم للعمل ففوجئوا بالمسلمين(3) . وهذا يدلّ على جهلهم بقدوم الجيش . وكتم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم خبر التّحرّك ، وحافظ على كتمانه بدقّة . وكان يهود خيبر وعدوا الغطفانيّين بأن يعطوهم نصف تمر خيبر لسنة إذا شهدوا معهم القتال . وقيل إنّهم تأهّبوا وتقدّموا مرحلةً بعد سماعهم خبر الحملة ،

ص: 772


1- (1) المغازي 2 : 640 ، 641 .
2- (2) ذكر اليعقوبيّ عشرات الآلاف . وهو رقم لا يمكن قبوله بسهولة . تاريخ اليعقوبيّ 2 : 56 .
3- (3) الطّبقات الكبرى 2 : 106 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 2 : 329 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 185 .

لكنّهم رجعوا حين شعروا بالخطر على عوائلهم(1) . وجاء في خبر الواقديّ - على رواية - أنّ عيينة تقدّم مع جنده حتّى دخل أحد الحصون فناداه سعد بن عبادة وكلّمه وعرض عليه تمر خيبر لسنةٍ بعد الفتح كي يغادر ذلك المكان ، فرفض . ووجّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أصحابه نحو الحصن الّذي فيه غطفان ، فرُعبوا وخافوا على أهليهم فانصرفوا عن المكان(2) .

وكانت خيبر منطقة واسعة ذات نخيل لا يُحصى وضمّت قلاعا متباعدة فيما بينها يُطلق عليها الحصون(3) . وبعضها كبير إلى درجة أنّه يسع حصونا أصغر فيه . ويمكن أن نقول : إنّ مجموعة من الحصون قد تشكّل حصنا كبيرا . وكان «النَّطاة» اسما يطلق على حصون ناعم ، والصَّعب بن مُعاذ ، والزبير(4) . كما قيل إنّ حصن مرحب كان داخل النّطاة . والنّطاة أوّل حصن هاجمه المسلمون . ثمّ ثنّوا بمنطقة الشّقّ الّتي تشتمل على حصن أُبيّ ، ونزار . وفُتح حصن الصّعب بن معاذ بوجه المسلمين بعد ثلاثة أيّام من الحصار إذ كان من الحصون المنيعة جدّا(5) . وكان ذا آطامٍ عدّة ، أي : حصون صغيرة(6) . والأطم يقال للبيت الكبير ذي الجُدُر المرتفعة كالحصن .

ونقل الواقديّ أخبارا كثيرة عن حصن الصعب بن معاذ ، وهي تدلّ على ضخامته ووفرة غنائمه . وبعد فتح حصون النّطاة - ومنها حصن ناعم ، وحصن الصّعب بن

ص: 773


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 330 ؛ المغازي 2 : 600 .
2- (2) المغازي 2 : 651 .
3- (3) حصون اليهود هي : القموص ، وأُبيّ ، والأخبية ، والبزاة ، والزبير ، والسلالم ، والصعف ، والظهار ، والكتيبة ، والمنزال ، وناعم ، والنزار ، والنطاة ، وجدة ، وطيح .
4- (4) المغازي 2 : 648 ، 658 . ذكر الشّاميّ حصن الصّعب بقوله : حصن الصّعب بن معاذ بن نطاة ؛ انظر : سبل الهدى والرشاد 5 : 189 .
5- (5) المغازي 2 : 660 .
6- (6) نفسه 2 : 664 .

مُعاذ - تحوّل اليهود إلى حصن الزّبير . وحوصر هذا الحصن ثلاثة أيّام ، ثم فُتح بمساعدة أحد اليهود . وبفتحه تكون حصون النّطاة قد فُتحت كلّها . وأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بتغيير موضع العسكر(1) . وهكذا يستبين وجود مسافة بين النّطاة والشّقّ بحيث إنّ تغيير الموضع كان ضروريّا .

وتلا تغيير الموضع مسير المسلمين إلى الشّقّ وفيها حصون ذات عدد . وأوّلها حصن أُبيّ . وفيه دعا بعض اليهود إلى البراز ، فخرج إليهم الحباب بن المنذر وأبو دجانة وقتلاهم ، وبعد ذلك هاجم المسلمون الحصن المذكور ، ففرّ اليهود إلى حصن النِّزار الّذي كان في الجانب الآخر من الشّقّ وأغلقوا بابه بإحكام(2) .

وذُكر هؤلاء بوصفهم «أشدّ أهل الشّقّ» إذ كانوا يقاومون بشدّة ، وهزموا أخيرا بعد قتال شديد . وكان هذا الحصن آخر حصن وقع بيد المسلمين في قتالٍ . وفيه أُسرت صفيّة بنت حييّ بن أخطب ، ثمّ أُطلقت وتزوّجها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . ويعود أسر صفيّة ومن معها وحدهم في حصن النّزار إلى أنّ اليهود كانوا أخرجوا نساءهم وذراريهم من النّطاة ، ووقفوه على الحرب ، ونقلوهم إلى الكتيبة بعد إخلائه تماما . وفي غضون ذلك قام بنو الحقيق بنقل عدد من النساء والأطفال - وفيهم صفيّة - إلى النِّزار لأنّهم كانوا يخالون أنّه منيع حصين . من هنا أُسر المذكورون وحدهم(3) .

وتوجّه المسلمون إلى الكتيبة ، والوطيح ، والسّلالم بعد سقوط النِّزار . والحصنان الأخيران لبني الحقيق ، وهما والقموص في عداد حصون الكتيبة(4) . وحينما تأهّب المسلمون لمهاجمة الحصون المذكورة ، وأيقن أهلها بالهزيمة ، طلبوا الموادعة . وسلّموا كلّ شيء عندهم ، وأمنوا . وعندما عُثر على أموال ابنَي أبي الحقيق - وهي حِلي في

ص: 774


1- (1) المغازي 2 : 667 ؛ سبل الهدى والرّشاد 5 : 191 - 193 .
2- (2) المغازي 2 : 668 .
3- (3) نفسه 2 : 669 .
4- (4) الطّبقات الكبرى 2 : 106 [وحصون الكتيبة منها القموص ، والوطيح ، والسلالم]

جلد جمل - قُتلا ، وكانا أخفيا كثيرا من أموالهما ، وأقسما أنّهما لا يملكان شيئا على الرغم من طلب النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم المتكرّر وتهديدهما بسلب الأمن منهما عند العثور على أموالهما . وكان هذان الابنان من زعماء اليهود الّذين جهدوا في تحريض العرب واليهود ضدّ الإسلام عدد سنين . وسُلِّم كنانة بن أبي الحقيق لمحمّد بن مسلمة ليقتله بأخيه الذي استُشهد في إحدى الحملات على الحصون(1) .

وكانت غزوة خيبر مسرحا آخر لشجاعة الإمام عليّ عليه السلام . وتجسيد الشّجاعة المذكورة هذه المرّة كان بنحوٍ تظلّ فيه فضيلة الإمام وتفوّقه ودوره الأكبر في تطوّرات عصر صدر الإسلام عالقةً في الأذهان قياسا بسائر الصحابة . وفي فتح أحد الحصون الّذي يجب أن يكون حصن النِّزار لإشارة الخبر المذكور إلى أسر صفيّة بنت حييّ بن أخطب(2) فيه - أمّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أبا بكر صبحا ، لكنّ الحصن المذكور لم يُفتح حتّى الليل . ثمّ دفع الراية إلى عمر في ذلك اليوم ، ولم يُفتح الحصن أيضا . وفي الليلة الثالثة قال صلى الله عليه و آله وسلم : «لأعطينّ الراية غدا رجلاً يُحبُّ اللّه َ ورسولَه ويحبّه اللّه ُ ورسولُه(3)» . وفي صباح اليوم الثالث سار الإمام عليّ عليه السلام بالجيش وفتح حصن اليهود(4) .

ص: 775


1- (1) المغازي 2 : 672 .
2- (2) أنساب الأشراف 2 : 94 .
3- (3) لم ينكر هذا الكلام النّبويّ بحقّ الإمام حتّى أشدّ النّاس نصبا وعداءً له . وأُثر عن مئات الطرق الروائيّة . ونقل صاحب الطّبقات الكبرى 2 : 110 أنّ عمر قال بعد سماعه : فما أحببت الإمارة قبل يومئذٍ فتطاولتُ لها واستشرفتُ رجاء أن يدفعها إليّ . وجاء في نقل ابن أبي شيبة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قال : لأبعثنّ رجلاً ... حتّى يفتح اللّه له ، ليس بفرّار . انظر : المصنّف 7 : 396 ؛ لعلّ في كلامه كناية عن فرار الآخرين .
4- (4) المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 393 ، 394 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 193 ، 194 ؛ السيرة الحلبيّة 3 : 43 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 334 . وجاء الخبر بهذا النّحو في مصادر عديدة . وفي خبر الواقديّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم دفع لواءه إلى رجل من أصحابه من المهاجرين ... ثمّ دفعه إلى آخر ... فذكر كلمة رجل مكان اسم أبيبكر وعمر إذ لم يصرّح باسميهما . انظر : المغازي 2 : 653 . لكنّه ذكر الإمام عليّا عليه السلام وفتح خيبر في حديثه عن غزوة خيبر .

ونقل ابن إسحاق عن أبي رافع أنّه كان مع عليّ عليه السلام حين اشتبك مع يهوديّ وسقط تُرسه من يده . فتناول باب الحصن فترس به عن نفسه ، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتّى فتح اللّه عليه . قال أبو رافع : «فلقد رأيتني في نفر سبعة معي ، أنا ثامنهم ، نجهد على أن نقلب ذلك الباب ، فما نقلبه»(1) . ومن شجاعة الإمام وبسالته في هذه الحرب قتل مرحب اليهوديّ الّذي كان من أشجع أهل خيبر . وكان خرج بعد سقوط حصن السلالم والوطيح(2) فقتله الإمام . وعلى الرغم ممّا ذكره البعض أنّ محمّد بن مسلمة هو الّذي قتله ، لكنّ مسلما ، وأحمد بن حنبل ، وغيرهما ، ذكروا أنّ الخبر الصحيح هو أنّ الإمام عليه السلام قتله . وكذلك نصّ عليه ابن شاكر(3) . وقتل عليه السلام الحارث أخا مرحب أيضا . وبعد ذلك برز عامر اليهوديّ وألحقه الإمام عليه السلام بهما أيضا(4) . واستشهد من المسلمين خمسة عشر(5) .

ويبدو أنّ الالتفات إلى حادثتين صغيرتين ، لكنّهما ذواتا قيمة ، في فتح خيبر أمر مناسب . الأولى : عندما هوجم حصن ناعم الّذي كان في حصن النّطاة ، نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عن القتال حتّى يأذن لهم . فعمد رجلٌ من أشجع فحمل على يهوديّ ، وحمل عليه مرحب فقتله . فقال الناس : يا رسول اللّه ، استُشهد فلان . فقال صلى الله عليه و آله وسلم : «أبعد

ص: 776


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 335 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 200 ؛ عيون التواريخ 1 : 267 .
2- (2) سبل الهدى والرشاد 5 : 195 ، 196 .
3- (3) عيون التواريخ 2 : 266 ، 267 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 197 ، 198 . ورواية مسلم وأحمد بن حنبل هكذا أيضا إذ ذكرا أنّ الإمام عليه السلام قتل مرحبا . انظر : سبل الهدى والرشاد 5 : 197 - 200 ؛ وانظر ايضا : الطّبقات الكبرى 2 : 112 ؛ المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 393 .
4- (4) عيون التواريخ : 165 .
5- (5) الطّبقات الكبرى 2 : 107 ؛ المغازي 2 : 669 .

ما نهيتُ عن القتال ؟» فقالوا : نعم ... فنادى : «لا تحلّ الجنّة لعاصٍ»(1) .

وجاء في خبر آخر أنّ غلاما حبشيّا من اليهود لحق برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أثناء الحصار ، وأسلم . وكان راعيا لأغنام ، وبعد إسلامه قال : إنّ غنمي هذه وديعة . فأمره رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أن يسوقها ويرجعها إلى صاحبها(2) .

ولمّا وضعت الحرب أوزارها وقعت الغنائم بيد المسلمين فقُسمت بينهم وبقي خمسها لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . ووافق يهود خيبر حسب عهدٍ معيّن أن يعملوا على الأرض ويتعاهدوا النخيل . وهكذا ظلّت المنطقة المذكورة بيد أهل خيبر ، وكلِّفوا بإرسال مقدار من محصولهم إلى المدينة سنويّا . وبعد أن أصبح نصف المحصول لليهود وفق العهد المذكور ، كان بعض المسلمين يقعون في حرثهم وبقلهم ، فشكوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، فجمع النّاس وقال لهم : «... وقد أمّنّاهم على دمائهم وعلى أموالهم والّذي في أيديهم من أراضيهم ، وعاملناهم ، وإنّه لا تحلّ أموال المعاهدَين إلاّ بحقّها» . وكان المسلمون لا يأخذون من بقولهم شيئا إلاّ بثمنٍ(3) .

وصار حصن الكتيبة في تخميس الأموال الباقية سهما للّه ، وبهذا كان مصرف أمواله في تصرّف النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم (4) . وجعل صلى الله عليه و آله وسلم لبني عبد المطّلب سهما مهمّا من غنائم الكتيبة(5) . ونقل الواقديّ أنّ جُبير بن مطعم ، وعثمان بن عفّان جاءا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وعتبا عليه ذلك ، فقال : «إنّ بني عبد المطّلب لم يفارقوني في الجاهليّة والإسلام ؛ دخلوا معنا في الشِّعب(6)» (شعب أبي طالب) .

ص: 777


1- (1) المغازي 2 : 649 .
2- (2) نفسه .
3- (3) نفسه 2 : 691 .
4- (4) مكاتيب الرسول 2 : 537 .
5- (5) الطّبقات الكبرى 2 : 108 .
6- (6) المصنّف ، ابن ابي شيبة 7 : 393 ؛ المغازي 2 : 696 ؛ البداية والنّهاية 4 : 200 .

وكانت أموال الكتيبة على تقسيم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لبني هاشم . وبعد ذلك قرّر عمر أن يعطي يتاماهم من عائداتها . يقول ابن عبّاس : «فأبينا عليه إلاّ أن يسلّمه كلّه»(1) . وكان بنو هاشم يرون أنّ هذه الأموال سهمهم المحتوم . وعندما سأل نجدة الخارجيّ ابن عبّاس عن الخمس ، قال : نحن نرى أنّ هذه الأموال حقّ لنا ، لكنّ قومنا أبوا علينا ذلك وصبرنا(2) .

وكانت فدك من مراكز اليهود ، ولا تبعد عن خيبر إلاّ قليلاً . وتقع هذه المنطقة الّتي هي اليوم منطقة عامرة واسمها «الحائط»(3) جنوب خيبر . وتزامنا مع غزوة خيبر ، بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم من يدعو أهل فدك إلى الإسلام . فمكثوا قليلاً ليروا ماذا يحلّ بخيبر . وحين عرفوا مصيرها وادعوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بلا قتال يذكر . ولمّا كانت فدك وقعت بيد النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم سلما ، لم تقسّم بين المسلمين كسائر الغنائم ، وأصبحت خالصةً لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم (4) .

وبعد وفاة النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم طالبت فاطمة الزهراء عليهاالسلام أبا بكر أن يُرجع لها فدكا محتجّة عليه بأنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم كان نحلها إيّاها بشهادة أمّ أيمن ، وعليّ بن أبيطالب عليه السلام ، وابنَيْها عليهماالسلام ، فأبى عليها ذلك . وظلّت هذه المشكلة قائمة بين السّلاطين والعلويّين لقرون إلى أن حثّ المأمون فقهاء عصره بالإفتاء بملكيّة العلويّين لها بناءً على شهادة الأشخاص المذكورين(5) . بيد أنّ المتوكّل استرجعها منهم بعد مدّة .

وحين انتهت غزوة خيبر عاد مهاجرو الحبشة إلى المدينة بقيادة جعفر بن أبيطالب عليه السلام بعد خمس عشرة سنة . وكانت عودتهم إليها في أعقاب كتاب كتبه

ص: 778


1- (1) المغازي 2 : 697 .
2- (2) أحكام القرآن ، الجصّاص 3 : 78 .
3- (3) المعالم الأثيرة : 215 .
4- (4) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 353 .
5- (5) تاريخ اليعقوبيّ 2 : 469 . وذكر ياقوت الحمويّ ما جرى لفدك ، وأشار إلى أمر المأمون بإرجاعها إلى أولاد فاطمة عليهاالسلام . انظر : معجم البلدان 4 : 240 . لمزيد الاطّلاع انظر : فدك في التاريخ للشّهيد الصّدر . وانظر أيضا : النّص والاجتهاد : 35 ؛ مكاتيب الرسول 2 : 578 - 580 .

رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إلى النّجاشيّ وطلب منه فيه أن يهيّئ أسباب عودتهم . ولمّا نظر صلى الله عليه و آله وسلم إلى جعفر سلام اللّه عليه قال : «ما أدري بأيّهما أنا أُسرّ ، بقدوم جعفر أو فتح خيبر ؟» ثمّ ضمّه رسول اللّه وقبّل بين عينيه(1) .

وجاء عمر إلى بيت بنته حفصة بعد مدّة مضت ، وهناك قال لأسماء زوجة جعفر : سبقناكم إلى الهجرة . فنحن أولى بالنّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم . فغضبت عليه و قالت : كنتم عند النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم يُشبع جياعكم ويعلّم جهّالكم . لكنّا كنّا في أرض بعيدة ، وتحمّلنا للّه وللرسول . وواللّه لا آكل ولا أشرب شيئا حتّى أُخبر النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بمقالتك . وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم حين سمع كلامهما : هو ليس أولى بي منكم . فقد هاجر هو وأصحابه هجرة واحدة . وأنتم لكم هجرتان(2) .

الحوادث بعد فتح خيبر إلى فتح مكّة

اشارة

أتاح صلح الحديبيّة للمسلمين فرصةً للجهاد ضدّ قبائل الحجاز ، كما مهد الطّريق لتوسيع نطاق الدعوة الإسلاميّة . وذكر أرباب السِّير عددا من السّرايا الّتي حدثت خلال الفترة الواقعة بين فتح خيبر وفتح مكّة . ومنها سريّة بشير بن سعد الّذي ذهب إلى بني مرّة مع ثلاثين . وكانت هذه القبيلة تعيش قريبا من فدك . وفي البداية أفلح المسلمون في غَنْمِ شاءٍ ونَعَم ، لكنّهم هوجموا في الطّريق ففرّوا إلاّ بشيرا الّذي انتهى إلى فدك ، وبعد أيّام رجع إلى المدينة . ثمّ بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم غالب بن عبد اللّه في مئتي رجل ، فهزموا العدوّ .

ص: 779


1- (1) المغازي 2 : 683 ؛ تاريخ اليعقوبيّ 2 : 56 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 108 .
2- (2) أُسد الغابة 5 : 396 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 211 ؛ المعجم الكبير 24 : 140 . وجاء في الصفحة 153 أنّ أسماء قالت لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إنّ قوما يزعمون أنّا لسنا من المهاجرين . فقال : كذب ذاك ، لكم هجرتان ، هاجرتم إلى النجاشيّ وهاجرتم إليّ .

وفي هذه السريّة لاحق أُسامة بن زيد رجلاً ، ولمّا وصل إليه قتله مع أنّه كان أظهر إسلامه . وحين سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم الخبر لامه لوما شديدا . فقال أُسامة : أظهر إسلامه خوفا من القتل . فقال صلى الله عليه و آله وسلم : «ألا شققت قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب ؟»(1)

ومن المهمّ هنا الالتفات إلى نقطتين : الأولى : إنّ كلّ كافر يشهد الشهادتين يأمن على نفسه وماله ، وليس لأحد أن يمسّه بسوء . بعبارة أخرى ، كلّ كافر يشهد الشّهادتين يتمتّع بكلّ ما يتمتّع به المسلم من حقوق . الأُخرى : وَهْم أُسامة في إفادته غير الصحيحة من هذه التجربة . فقد ذكر أنّه لن يقاتل من شهد الشهادتين . وطرح هذا الموضوع كتبريرٍ لغيابه عن غزوات أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام مع مناوئيه . ومثل هذه النتيجة غير سديد لأنّ اللّه تعالى يأمر في سورة الحجرات بالوقوف أمام الباغي من الطائفتين المؤمنتين ومقاتلته حتّى يقبل حكم اللّه . وطرح سائر القاعدين استدلال أُسامة هذا(2) .

وقاد غالب بن عبد اللّه سريّة أُخرى تضمّ مئةً وثلاثين رجلاً لمهاجمة بني عبد بن ثعلبة . وهلك فيها جماعة من العدوّ وأصاب المسلمون فيها غنائم لهم . وكان هؤلاء يسكنون في نجد . وذكر ابن سعد أنّ الذي حصل لأسامة بن زيد كان في هذه السريّة(3) . وقاد بشير بن سعد سريّة نحو الجناب قريبا من خيبر ووادي القرى . وأُرسلت هذا السريّة إثر خبر أتى به رجل من قبيلة أشجع إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . فقد أنبأه أنّ جمعا من غطفان يهمّون بمهاجمة المدينة مع آخرين غيرهم بتحريض من عيينة . فبعث صلى الله عليه و آله وسلم هذه السريّة المكوّنة من ثلثمائة رجل مع دليل معهم وأفلحوا في هزيمة عدد من أفراد العدوّ ونيل الغنائم منهم ، لكنّهم لمّا وصلوا إلى الموضع الأصليّ للعدوّ وجدوهم قد لجأوا إلى الجبال وتفرّقوا(4) .

ص: 780


1- (1) المغازي 2 : 723 - 725 .
2- (2) انظر : تاريخ تحولات دولت وخلافت [تاريخ التطوّرات في الحكومة والخلافة] 143 - 146 .
3- (3) الطّبقات الكبرى 2 : 119 .
4- (4) نفسه 2 : 120 ؛ المغازي 2 : 728 ، 729 .

عمرة القضاء

عزم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم على عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع لصدّ قريش المسلمين عن العمرة سنة ستّ . وأمر صلى الله عليه و آله وسلم المسلمين أن يهيّؤا مئة فرس و سلاح كثير ويسيروا . ولمّا سئل صلى الله عليه و آله وسلم عن حمل السّلاح مع وجود معاهدة الحديبيّة قال : «إنّا لا نُدخلها عليهم الحرم ، ولكن تكون قريبا منّا ، فإنْ هاجنا هيج من القوم كان السّلاح قريبا منّا»(1) . ونقل صلى الله عليه و آله وسلم الأسلحة قريبا من المكان المنصوبة عنده علامات الحرم . وجعل عليها مئتين يحرسونها ودخل الحرم(2) . وحين سمع المشركون قدوم المسلمين عزموا على الذّهاب إلى أعالي جبال مكّة كي لا ينظروا إلى المسلمين نظرة واحدة أيضا(3) . مع هذا اصطفّ عدد منهم عند دار الندوة ليروا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم (4) . ودخل صلى الله عليه و آله وسلم مكّة في جمع من أصحابه في وقت كانوا يحرسونه بشدّة(5) . وأخذ عبد اللّه بن رواحة بزمام ناقته وهو يقول :

خلّوا بني الكفّار عن سبيله * إنّي شهدتُ أنّه رسوله

حقّا وكلّ الخير في سبيله * نحن قتلناكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله * ضربا يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله(6)

ص: 781


1- (1) المغازي 2 : 733 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 289 .
2- (2) بعد أن أدّى المسلمون العمرة أُوفد مئتان مكانهم لحراسة الأسلحة . انظر : المغازي 2 : 740 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 294 .
3- (3) المغازي 2 : 734 .
4- (4) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 369 .
5- (5) الطّبقات الكبرى 2 : 121 [والمسلمون متوحّشون السّيوف محدقون برسول اللّه]
6- (6) المغازي 2 : 736 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 121 ، 122 . وقال الواقديّ وابن سعد : اعترض عمر على قراءتها في الحرم ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : يا عمر إنّي أسمع ! ووهم الترمذيّ وهما آخر إذ ذكر أنّ الأمر يرتبط بكعب بن مالك لأنّ عبد اللّه بن رواحة استشهد في مؤتة غافلاً عن أنّ مؤتة كانت بعد عمرة القضاء . انظر : سبل الهدى والرشاد 2 : 299 .

ونقل ابن إسحاق الأبيات المذكورة باختلاف يسير . وأضاف ابن هشام أنّ قوله «نحن قتلناكم على تأويله» إلى آخر الأبيات هي لعمّار بن ياسر قالها في يوم غير هذا اليوم [نحن نعلم أنّ عمّارا أنشدها في صفّين ولم يرد ابن هشام أن يذكر ذلك] . وأضاف أيضا أنّ دليله هو أنّ قصد ابن رواحة المشركون وهم لم يقبلوا التنزيل . ومن الطبيعيّ أنّه يقاتل على التأويل من يقبل التنزيل(1) . وجاءت الأبيات المذكورة في مصادر أخرى أيضا(2) .

وذكر محقّق كتاب طبقات فحول الشعراء أنّ المقصود من التأويل «ما يؤول إليه نبأ اللّه» لا تأويل القرآن . وحينئذٍ لا توجيه لإشكال ابن هشام . ومن الثّابت أنّ عمّارا قرأ الأبيات المذكورة أيضا أمام جند معاوية في واقعة صفّين(3) .

وكان المشركون يقولون : يأتي مكّة قومٌ أنهكهم حرّ يثرب ، ولذا أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أصحابه أن يهرولوا ثلاثة أشواطٍ في الطّواف ليرى المشركون قوّتهم(4) .

ودخل صلى الله عليه و آله وسلم الكعبة بعد الطواف والسّعي إلى أن أذّن بلال على سطحها . وفي تلك اللحظة قال عكرمة بن أبي جهل : لقد أكرم اللّه أبا الحكم حيث لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول . وأمّا سهيل بن عمرو ورجال معه ، فحين سمعوا ذلك غطّوا وجوههم

ص: 782


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 371 ، 372 .
2- (2) طبقات فحول الشعراء 1 : 224 ؛ مختصر تاريخ دمشق 12 : 154 .
3- (3) وقعة صفّين : 341 .
4- (4) الطّبقات الكبرى 2 : 123 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 292 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 371 . وقال صلى الله عليه و آله وسلم : رحم اللّه من أظهر القوّة من نفسه .

من الغيظ أو الحياء(1) . وبعد انتهاء المهلة ، جاء سهيل إلى النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وطلب منه أن يترك مكّة . وتلا ذلك أنّه صلى الله عليه و آله وسلم أمر أبا رافع أن يعلن الرّحيل عنها ، ولا يبقى فيها أحد(2) .

وبعث صلى الله عليه و آله وسلم أبا رافع إلى مكّة قبل خروجه من المدينة ليعقد له على ميمونة(3) . وبعد انتهاء المناسك طلب من المشركين أن يأذنوا له بصنع وليمة لهم فرفضوا وطلبوا منه أن يعجّل بالخروج من مكّة . ونقل ابن هشام عن عبيدة أنّ الآية (24) من سورة الفتح نزلت في هذه العمرة الّتي أدّاها النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم (4) . وكانت العمرة المذكورة تحقيقا لرؤيا رآها صلى الله عليه و آله وسلم قبل تحرّكه من المدينة إلى الحديبيّة .

وأُرسل عدد من السّرايا إلى مناطق شتّى بعد عمرة القضاء . منها سريّة مؤلّفة من خمسة عشر بقيادة كعب بن عمير الغفاريّ إلى منطقة «ذات أطلاح» . وقيل إنّ المنطقة كانت حوالي خيبر في الجانب الآخر من وادي القرى ، أي : منطقة شمال الحجاز . وبالنظر إلى وجود منطقة بهذا الاسم في فلسطين فقد ذهب البعض إلى أنّ موضع السّريّة المذكورة كان هناك(5) . واستشهد أفراد هذه السريّة إلاّ واحدا منهم في اصطدام بعدوّ لم تُشر كتب السيرة إلى هويّته(6) . ولا بدّ أن يكون هؤلاء طلائع موقعة مؤتة بالشّام .

ص: 783


1- (1) المغازي 2 : 738 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 294 . وجاء في بعض الأخبار أنّهم لم يأذنوا بدخول الكعبة وإن كان بلال قد أذّن على سطحها مرّة .
2- (2) وأمر بلالاً أيضا أن يخبر المسلمين بالخروج من مكّة قبل غروب الشّمس ، وألاّ يبقى فيها أحد منهم ؛ المنتخب من ذيل المذيل : 517 .
3- (3) كانت إحدى أزواجه صلى الله عليه و آله وسلم وعمّرت حتّى سنة 61 ه .
4- (4) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 272 ، 273 .
5- (5) المعالم الأثيرة : 30 .
6- (6) الطّبقات الكبرى 2 : 127 ؛ المغازي 2 : 752 ، 753 ؛ وانظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 621 .

وكانت قبيلة هوازن من القبائل المتمرّدة المتآمرة ضدّ الإسلام . وبلغ عنادها مبلغا أنّها واصلت مقاومتها حتّى بعد فتح مكّة . وبعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في ربيع الأوّل سنة ثمان سريّة قوامها خمسة وعشرون رجلاً بقيادة شجاع بن وهب الأسديّ إلى طائفة بني عامر لينزلوا بهم ضربتهم ويرجعوا ، وهكذا فعلوا(1) . وكان شجاع من رسُل النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم إلى الملك الغسّانيّ جبلّة بن الأيهم .

سريّة مؤتة

ذكرها الواقديّ بهذا الاسم ، لكنّ ابن سعد أعطاها عنوان الغزوة في طبقاته . ولمّا كان هذا العمل العسكريّ قد قامت به قوّة قوامها ثلاثة آلاف فقد خرج من عنوان السريّة التي تعبّر عن عمل عسكريّ فدائيّ محدود . ومؤتة الآن مدينة عامرة ، وكانت في شرق الأردن ، وتبعد عن مدينة كرك الصغيرة أحد عشر كيلومترا . وكانت هذه المنطقة في نطاق الشّام ، والعمليّات العسكريّة فيها تعدّ أوّل خطوة قاطعة في تلك المناطق بعد ما قيل بشأن ذات أطلاح . وإلى ما قبل الحديبيّة لم يستطع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أن يخلي المدينة من قوّة عسكريّة ويرسل قوّاته إلى المناطق البعيدة إلاّ في حالة واحدة أو حالتين محدودتين . لكنّه تحرّك بعدها صوب الشّمال حتّى بلغ خيبرا ووادي القرى بمسافة (160) كيلومترا .

وعزم صلى الله عليه و آله وسلم بعد غزوة خيبر أن يذهب إلى مناطق أُخرى في أقصى الشّمال ويبثّ الإسلام بين القبائل العربيّة القاطنة فيها . وكانت الشّام بالغة الأهمّيّة له صلى الله عليه و آله وسلم إذ لم يبذل جهوده لتغلغل الإسلام فيها عبر موقعة مؤتة فحسب بل عبر تبوك أيضا . ونُقلت أسباب محدودة لإيفاد جيش مؤتة لكنّها لا تمثّل الباعث الأساس على إرسال

ص: 784


1- (1) الطّبقات الكبرى 2 : 127 ؛ المغازي 2 : 753 ؛ إمتاع الأسماع 1 : 344 .

مثله . وقيل في هذا المجال إنّ شُرَحْبيل بن عمرو الغسّانيّ قام بإغلاق الطّريق بوجه أحد الرّسل الذين أشخصهم النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم إلى منطقة مؤتة . وهذا الرّسول هو الحارث ابن عمير الأزديّ الّذي حمل رسالة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم إلى ملك بصرى . فأمر شرحبيل أن يوثق رباطا ثمّ قدّمه فضرب عنقه . ولم يقتل لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم رسول غيره . فبلغه الخبر فاشتدّ عليه وأمر بتعبئة الجيش وتحرّكه إلى هناك . فعسكر ثلاثة آلاف من المسلمين في الجرف متأهّبين للذّهاب(1) .

ولم يتحدّث ابن إسحاق عن سبب قيام غزوة مؤتة . أمّا الواقديّ فقد قدّم في مغازيه تفاصيل أكثر عنها . وعيّن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ثلاثة أمراء على الجيش يحلّ أحدهم محلّ الآخر عند استشهاده . وهم جعفر بن أبيطالب عليه السلام ، وزيد بن حارثة ، وعبد اللّه بن رواحة . ودار خلاف حول الأوّليّة في الإمارة أكانت لجعفر أم لزيد ؟ فكتب السّيرة عند أهل السّنّة تقدّم زيدا ، أمّا كتب الشّيعة فتذهب إلى أنّ جعفرا هو الأمير الأوّل للجيش(2) . وقال ابن أبي الحديد مشيرا إلى عقيدة الشّيعة إنّ الأبيات الّتي ذكرها له ابن إسحاق تدلّ على عقيدة الشيعة(3) . وذكر اليعقوبيّ في البداية أنّ جعفرا كان الأمير الأوّل للجيش ثمّ أشار إلى القول الآخر أيضا(4) . وأورد أستاذنا العلاّمة مرتضى أدلّة على تقدّم جعفر على زيد في مقالة قصيرة له . منها رواية عن الإمام الصادق عليه السلام (5) . وفي نقل عن كتاب ابن سعد قال أحد الشّهود إنّ جعفرا هو

ص: 785


1- (1) المغازي 2 : 755 ، 756 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 128 ؛ إمتاع الأسماع 1 : 345 .
2- (2) المبعث والمغازي ، أبان بن عثمان الأحمر : 92 - 94 .
3- (3) شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد 15 : 62 .
4- (4) تاريخ اليعقوبيّ 2 : 65 .
5- (5) بحار الأنوار 21 : 55 ؛ دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام 2 : 240 (طبعة جديدة) .

أوّل من حمل السلاح وقاتل واستشهد ، ثمّ تلاه زيد(1) . ومن منظار تاريخيّ يدلّ شعر لحسان بن ثابت ، وأشار إليه ابن أبي الحديد ، على هذا الرأي ، قال :

فلا يبعدنّ اللّه قتلى تتابعوا * منهم ذو الجناحين جعفر

وزيد وعبد اللّه حيث تتابعوا * جميعا وأصحاب المنيّة تخطر(2)

وذُكر جعفر أكثر من زيد في شعر لكعب بن مالك وشاعر آخر كان في مؤتة(3) . وخرج جيش مؤتة من ثنيّة الوداع بالمدينة في جمادى الأولى سنة ثمان قاصدا الموضع المعهود ، وقد شَيَّعَهُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . وأوصى الجند بتقوى اللّه ، وطلب منهم أن يدعوا المشركين إلى الإسلام في البداية ، فإذا أجابوا ، يدعوهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين، وإلاّ فهم كأعراب المسلمين الذين اختاروا الإسلام لكنّهم بقوا في أرضهم. ولا يكون لهم في الفيء ولا في القسمة شيء إلاّ أن يجاهدوا مع المسلمين . وإن أبوا ، يدعوهم إلى إعطاء الجزية فإن أبوا يُقاتَلوا بعد الاستعانة باللّه وإن أرادوا أن تُجعل لهم ذمّة اللّه وذمّة رسوله ، فلا تجعل لهم ، ولكن تُجعَل لهم ذمّة الشّخص الّذي يعطيهم الأمان ، إذ عند نكث الأمان ، تُخفر ذمّة الآمن ، وذلك أفضل من أن تُخفَر ذمّة اللّه وذمّة رسوله . وأوصاهم ألاّ يتعرّضوا لمن كان في الصّوامع ، ولا للنساء ، والصّغار ، والشّيوخ الكبار ، وألاّ يقطعوا شجرا ، ولا يهدموا بيتا(4) .

وعلم العدوّ بتحرّك الجيش الإسلاميّ الّذي كان ذا حجم كبير تقريبا ، إذ إنّ قوامه ثلاثة آلاف . ولبث المسلمون في وادي القرى فترة ، ثمّ تقدّموا بعد ذلك صوب «معان»(5) وبلغ المسلمين إعداد هرقل جيشا قوامه مئة ألف ، وتوجيهه إليهم بقيادة

ص: 786


1- (1) الطّبقات الكبرى 2 : 130 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 384 .
3- (3) نفسه 4 : 388 ؛ وانظر : دراسات ... 2 : 242 .
4- (4) المغازي 2 : 757 ، 758 ؛ إمتاع الأسماع 1 : 345 ، 346 .
5- (5) مدينة جنوب عمّان على بعد (212) كيلومترا عنها في الطريق الّذي يربط المدينة بعمّان . انظر : المعالم الأثيرة : 275 .

رجل يدعى مالكا ، وهو مؤلّف من الروم(1) والقبائل العربيّة بالشّام . وغير واضح مدى حقيقة هذا الخبر لاسيّما عدد أفراد الجيش ، لكن على أيّ حال ، ارتاب المسلمون في أمر الحرب وعزموا على مكاتبة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، وإذا عبد اللّه بن رواحة يشجّعهم على قتال العدوّ ، وهو أحد قادة الجيش الثلاثة ، وكان شاعرا وخطيبا بليغا(2) . وبدأت الحرب ، واستشهد القادة الثلاثة للمسلمين في اليوم الأوّل منها . وشعر المسلمون بالهزيمة ، وتراجعوا بعد استشهاد عبد اللّه بن رواحة(3) . وعاد إلى المدينة ليلاً واللواء بيد خالد بن الوليد الّذي كان حديث عهد بالإسلام .

وتدلّ الأخبار جميعها على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كان شديد الحزن على جعفر الّذي قدم المدينة من قريب بعد خمس عشرة سنة من الجهاد والبعاد(4) . وقال صلى الله عليه و آله وسلم ما مضمونه : أبدله اللّه بيديه جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة . من هنا سمّي ذا الجناحين(5) . ولا يُعلم لماذا استُشهد في هذه الحرب ثمانية أو عشرة على قولٍ ، وقفل الباقون راجعين إلى المدينة . علما أنّه إذا صحّت الإحصائيّة المتعلّقة بجيش العدوّ فليس للمسلمين حلّ إلاّ الرجوع ، مع أنّه ينبغي أن نقول : لو أنّ حربا شاملةً

ص: 787


1- (1) عبّر جعفر عن جيش العدوّ بالروم وذلك في ارتجازه بمؤتة ، قال : والروم روم قد دنا عذابها * كافرة بعيدة أنسابها
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 375 ؛ المغازي 2 : 760 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 129 ؛ إمتاع الأسماع 1 : 348 .
3- (3) المغازي 2 : 763 . وعندما جاءوا إلى المدينة جعل النّاس يحثون في وجوههم التراب ويقولون : يا فرّار . فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : ليسوا بفرّار ، ولكنّهم كرّار إن شاء اللّه ! الطّبقات الكبرى 2 : 129 ؛ إمتاع الأسماع 1 : 349 .
4- (4) حينما رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بكاء السيّدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام على جعفر قال : على مثل جعفر فلتبك البواكي . إمتاع الأسماع 1 : 351 .
5- (5) المبعث والمغازي ، أبان بن عثمان : 94 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 130 ؛ إمتاع الأسماع 1 : 350 .

قد شُنّت يومئذٍ ، وكانت الهزيمة للمسلمين فإنّ عدد شهداء المسلمين يزداد أكثر من العدد المذكور .

وإنّ استشهاد ثلاثة من الوجوه البارزة للمسلمين ترك حرقة شديدة في قلوب المسلمين ، وأنشد الصّحابة الشّعراء كحسّان بن ثابت وكعب بن مالك شعرا كثيرا في مدحهم لاسيّما في مدح جعفر(1) . وبعد ذلك حين فتح المسلمون الشّام عمروا قبورهم ، وهي الآن مزارات يرتادها أهل تلك الديار وغيرهم زائرين لها .

وبعد موقعة مؤتة أُوفد جيش إلى ذات السلاسل بقيادة عمرو بن العاص . وليس في أيدينا معلومات دقيقة عن هذه المنطقة(2) ، إلاّ ما قيل أنّها كانت في مناطق تبوك وحدود الشّام . وكانت هذه الحملة لصدّ حملة قبيلة قضاعة وبليّ . وعلى الرغم من

ص: 788


1- (1) كان حسّان من الشّعراء الّذين سجّلوا كثيرا من ذكريات صدر الإسلام شعرا . وانحاز إلى عثمان بعد ذلك بيد أنّه لم يستطع أن يمحو شعره السّابق ، وينكر واقعيّته في عصر النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم . وفي شعرٍ له قاله في جعفر ذكر بني هاشم ودورهم الرفيع في بزوغ شمس الإسلام (السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 384 ، 385) وكنّا نرى في جعفر من محمّد وفاءً وأمرا حازما حين يأمرُ فما زال في الإسلام من آل هاشم * دعائم عزّ لا يزلن ومفخرُ هم جبل الإسلام والناس حولهم * رضامٌ إلى طودٍ يروق ويقهرُ بهاليلُ منهم جعفر وابن أمّه * عليّ ومنهم أحمد المتخيّرُ وحمزة والعبّاس منهم ومنهم * عقيل وماء العودِ من حيث يُعصرُ هم أولياءُ اللّه أنزل حكمه * عليهم وفيهم ذا الكتاب المطهّرُ ونلحظ في البيت الثالث أنّه شبّه الناس حول بني هاشم بالصخور المتراكمة حول الجبل . والبهاليل جمع بهلول وهو السيّد الحسن الوجه . وجاء بعدها شعر كعب بن مالك في مدح بني هاشم (السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 386) : قومٌ بهم عصم الإله عبادَهُ * وعليهم نزل الكتاب المنزَلُ وبهديهم رضى الإلهُ لخلقه * وبجدّهم نُصر النّبيّ المُرسلُ
2- (2) المعالم الأثيرة : 142 .

الخبر المتعلّق باجتماع هؤلاء وإسفاره عن إرسال جيش آخر لإسناد جيش ابن العاص ، لم تقع حادثة مهمّة تُذكَر إلاّ اشتباك بسيط(1) .

وتحرّكت سريّة أُخرى بقيادة أبي قتادة الأنصاريّ متوجّهة نحو منطقة الحَضيرة في نجد ، وبعد ضربتها لغطفان وحصولها على الغنائم رجعت(2) .

وتمّ إيفاد سريّة أُخرى إلى منطقة «بطن إضَم» بقيادة أبي قتادة نفسه . يقول ابن سعد : وكانت هذه الحادثة قبل الإعداد لفتح مكّة ، وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يريد أن يُظهر أنّه يقصدها(3) . وكان المهمّ الذي حدث فيها هو أنّ عامر بن أضبط الأشجعيّ قد مرّ على المسلمين وسلّم بتحيّتهم ، فأحجم الجيش عن مهاجمته ، إلاّ أنّ أحد المسلمين وطمعا منه في الغنيمة حمل عليه بذريعة كفره وقتله . فنزل قوله تعالى(4) : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللّه ِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّه ِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِنْ قَبلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيكُم فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللّه َ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا »(5) .

وكانت شخصيّة العرب في الجاهليّة شخصيّةَ سلبٍ ونهبٍ ، فمنّ اللّه تعالى عليهم وهداهم إلى الإسلام ، ورسالتهم في هذه الرؤية الجديدة الجهاد في سبيل اللّه والاعتقاد بهذا الأصل وهو أنّ عند اللّه مغانم كثيرة . ومع وجود هذه الآية ، يجانب الإنصاف من يشبّه حروب صدر الإسلام بغارات العرب في الجاهليّة ، كما فعل المستشرقون .

ص: 789


1- (1) المغازي 2 : 769 - 771 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 131 .
2- (2) المغازي 2 : 777 - 779 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 132 .
3- (3) الطّبقات الكبرى 2 : 133 .
4- (4) نفسه .
5- (5) النساء : 94 .

فتح مكّة نهاية القوّة السياسيّة للمشركين في الحجاز

لمّا نكثت قريش عهدها بعد مرور اثنين وعشرين شهرا على صلح الحديبيّة عزم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم على أن يُنهي أمر مكّة ويقوّض السّيادة السّياسيّة للشّرك . وكان لخزاعة حلف مع عبد المطّلب منذ عصر ما قبل الإسلام ممّا أدّى إلى توثيق أواصرهم ببني هاشم(1) ، وكما مرّ بنا سابقا كان الخزاعيّون عيون النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في مكّة وحواليها . ومن جهة أخرى كانت خزاعة على عداءٍ وخصومة مع بني بكر بن عبد منات ، ونشبت نزاعات بينهما قبل بزوغ فجر الإسلام . ثمّ انشغلوا عنها بعد مجيء الإسلام حتّى حان صلح الحديبيّة . ومرّ أنّ من أُصول المعاهدة المذكورة حرّيّة القبائل في التّحالف مع أيّ طرفٍ من الطرفين ، أي : قريش ورسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . ولمّا كانت خزاعة حليفة بني هاشم سنين متمادية ، فقد جدّدت عهدها السّابق بعد الحديبيّة ، وعقدت بنو بكر حلفا مع قريش أيضا .

والمفهوم الواضح لمعاهدة الحديبيّة هو إذا تنازع حلفاء الجانبين فلا قريش يحقّ لها إغاثة حليفها ، ولا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، لأنّ مدلول هذا العمل هو أنّ الجانبين أنفسهما في نزاع . والتّقليد المتّبع في الحروب القبليّة هو وقوف الحليف في جبهة واحدة . ومن الطبيعيّ أنّ قريشا أو رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لو تدخّلا في نزاع خزاعة وبني بكر ، فإنّ ذلك يعني نكث معاهدة الصّلح .

ولمّا هدأت الأوضاع اعتزم طوائف من بني بكر أن يحملوا على جماعة من خزاعة. وكان رجال من قريش يشتركون في الحرب سرّا وهم متنكّرون منتقبون ليلاً مضافا

ص: 790


1- (1) ذكر الواقديّ نصّ الحلف 2 : 781 . وأشار إلى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أيّده وجعله أساسا لحلفه الجديد مع خزاعة .

إلى إرسالهم السّلاح(1) . قالوا : إنّ من أسباب بروز فتنتهم هو أنّ أنس بن زُنيم من بني بكر هجا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، فاعترض عليه غلام من خُزاعة ، فوقع به فشجَّهُ(2) .

ونشبت الحرب بين بني بكر وخزاعة في وقت لم تكن خزاعة على علم بما جرى قطّ . وبعد هجوم العدوّ توجّهت خزاعة إلى الحرم ، لكنّ بني بكر لم يرعوا حرمة الحرم ، فلاحقوها . وفرّت إلى مكّة ونزلت في دار بديل بن ورقاء الخزاعيّ(3) . وقُتل في هذه الحرب ثلاثة وعشرون منها(4) .

ولم يدرك سفهاء قريش تبعات الحادثة الواقعة ، بيد أنّ أبا سفيان الّذي كان يعدّ عقل قريش أدرك أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لن يصفح عن هذه الحادثة . ولا جرم أنّه صلى الله عليه و آله وسلم كان يرتقب هذه الفرصة إذ يتسنّى له بعد مضيّ قرابة عامين على المعاهدة ، واعتناق جمع غفير من الناس الإسلام - وفيهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص اللذان كانا من الوجوه البارزة بين قريش - وزوال السّطوة اليهوديّة ، أن يستولي على مكّة بيُسر . واعتزم أبو سفيان أن يذهب إلى المدينة قبل ذهاب خزاعة إليها ليجدّد العهد مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، ويثنيه عن التوجّه إلى مكّة سلفا . وكانت قريش تتوقّع أن يطالب النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بدية خزاعة أو يطلب منها أن تَدَعَ دعم بني نفاثة - طائفة من بني بكر أوقدت نار الحرب مع خزاعة (وحينئذٍ ستذهب خزاعة ومحمّد صلى الله عليه و آله وسلم إلى حرب بني نفاثة) ، أو تعلن نبذها لمعاهدة الحديبيّة . وكان لكلّ اقتراحٍ معارضون . وهمّ أبو سفيان بإنكار التعاون الّذي أبدته قريش من الأساس ، وآل الأمر إلى تجديد عهد

ص: 791


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 390 ؛ المغازي 2 : 783 .
2- (2) المغازي 2 : 782 . ولمّا بلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم خبرُ هجاء أنس إيّاه ، أهدر دمه . فجاء المدينة وأنشد شعرا في مدح رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وكذّب فيه أنّه هجاه قبل . المغازي 2 : 789 ، 790 .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 390 ، 391 ؛ المغازي 2 : 783 .
4- (4) المغازي 2 : 787 .

الحديبيّة مشفوعا بالاعتذار(1) .

وتوجّه عمرو بن سالم الخزاعيّ إلى المدينة مع أربعين راكبا من خزاعة ، وشكوا من قريش قبل أن يذهب إليها أبو سفيان . وقام عمرو في المسجد بين المسلمين ، واستأذن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في أن يقرأ شعرا مضمونه استغاثة حلفائهم الأقدمين ، وفيه إشارة إلى غارة بني بكر وقريش على خزاعة :

إنّ قُريشا أخلفوك موعدا * ونقضوا ميثاقك المؤكَّدا

وأضاف أنّها بيّتتهم بالوتير هُجّدا يتلون القرآن ركّعا وسجّدا(2) . فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وهو يجرّ طرف ردائه - وعائشة تقول : لم أره أشدّ غضبا من ذلك اليوم : «لا نُصرتُ إن لم أنصر بني كعب (من خزاعة)»(3) . وهكذا اتّخذ قراره بقتال قريش . ورأى أنّ نقض قريش العهد لأمر يريده اللّه تعالى بهم . وليس قصده من ذلك إلاّ فتح مكّة .

ولقي أبو سفيان في طريقه جماعة من خزاعة ، وعرف أنّ خبر نقض العهد بلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . فجاء المدينة وطلب منه صلى الله عليه و آله وسلم أن يجدّد العهد ويشدّه . فقال : «هل كان قبلكم حدث ؟» فأنكر ذلك أبو سفيان . فقال صلى الله عليه و آله وسلم : «فنحن على مدّتنا وصلحنا يوم الحديبيّة» . وبذلك لم يُبد في الحقيقة رغبةً في تجديد العهد .

والطّريف في غضون ذلك أنّ أبا سفيان ذهب إلى بيت بنته أمّ حبيبة زوجة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، فلم تأذن له أن يجلس على فراش رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قائلة له : أنت امرؤ نَجَس مشرك . ثمّ عنّفته على عبادة الأصنام ، وهو يكرّر لها استدلاله القديم أنّه كيف

ص: 792


1- (1) نفسه 2 : 787 ، 788 . وذكر الواقديّ في خبر - يقرّ فيه أنّ أحدا لم يقبله منه - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بعث إلى مكّة رجلاً ليبلغ أهلها بالاقتراحات المذكورة ؛ ويبدو - كما أورده الواقديّ أيضا - أنّ هذه الاقتراحات ظنون خالتها قريش لنفسها . وكانوا يحسبون أنّ محمّدا صلى الله عليه و آله وسلم يطرحها .
2- (2) المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 401 ؛ المغازي 2 : 789 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 394 ، 395 .
3- (3) مجمع الزّوائد 6 : 161 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 309 .

يترك ما كان يعبد آباؤه ويتّبع دين محمّد صلى الله عليه و آله وسلم ؟(1)

ثمّ ذهب إلى بيت فاطمة وطلب منها أن تجيره . فقالت عليهاالسلام : «ذلك إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم » . فقال : مُري أحد بنيك يجيرني . قالت : «إنّهما صبيّان ، وليس مثلهما يجير» . فأتى عليّا عليه السلام ، وقال : أجر بين الناس وكلّم محمّدا يزيد في المدّة . فقال عليه السلام : « ... إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عزم ألاّ يفعل ، وليس أحد يستطيع أن يكلّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في شيء يكرهه ... ما أجد لك شيئا أمثل من أن تقوم فتُجير بين الناس ...» قال أبو سفيان : تُرى ذلك مغنيا عنّي شيئا ؟ قال عليه السلام : «لا أظنّ ذلك» . فقام بين ظَهَري النّاس فصاح : ألا إنّي قد أجرتُ بين النّاس ، ولا أظنّ محمّدا يُخفرني . ثمّ جاء سعد بن عبادة وذكّره بعلاقاتهما قبل الإسلام ، وطلب منه أن يُجير بين النّاس ، ويزيد في المدّة بوصفه ممثّل أهل المدينة . فقال سعد : جواري في جوار رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، ما يُجير أحد على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم (2) . ورجع أبو سفيان إلى مكّة بلا نتيجة ؛ وظلّت قريش - وهي عاجزة عن اتّخاذ أيّ قرار - تنتظر خبرا جديدا ، وما هو إلاّ هجوم المسلمين عليها .

وأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أن يتجهّز النّاس للمسير ، لكنّه لم يُفصح عن قصده . ويبدو أنّ عددا من الأهداف يمكن تصوّرها لهذا السفر : السفر إلى الشّام ، أو الطائف ، أو هوازن ، أو مكّة ! وأمر صلى الله عليه و آله وسلم بمراقبة الطّرق الّتي تؤدّي إلى مكّة ، للحؤول دون ذهاب الأشخاص المشبوهين إليها . ويضاف إلى ذلك ، كما مرّ سابقا ، أنّه بعث سريّة إلى «بطن إضم» ليُتَصَوَّر أنّه صلى الله عليه و آله وسلم لا يريد مكّة .

وكتب حاطب بن أبي بلتعة الّذي كان من البدريّين اتّفاقا إلى قريش يخبرها بعزم

ص: 793


1- (1) المغازي 2 : 792 ، 793 ؛ المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 401 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 396 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 313 .
2- (2) المغازي 2 : 794 ، 795 . وبشأن الذهاب إلى عليّ وفاطمة عليهماالسلام انظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 396 ؛ 5 : 314 .

المسلمين على التّوجّه إلى مكّة . ووقع كتابه الّذي تقرّر أن تأخذه امرأة إلى مكّة بيد المسلمين . و لمّا استدعى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم حاطبا وسأله عمّا حمله على ما صنع ، قال إنّه ما زال على إيمانه لم يغيّر ولم يبدّل ، ولكنّ أهله بمكّة ، وأراد أن يصانع قريشا لأجل ذلك . فطلب عمر على عادته من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أن يأذن له بضرب عنقه فلم يأذن له . وقيل إنّ اللّه تعالى أنزل هذه الآيات فيه :(1)

« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُم خَرَجْتُمْ جِهَادا فِى سَبِيلى وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ » ، ولعلّ الآية الآتية نزلت في توجيه حاطب حول أهله وعياله : «لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ »(2) .

وأرسل رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إلى أهل البادية وإلى من حوله من المسلمين يقول لهم : من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة. وبعث رسولاً في كلّ ناحية لتعبئة القبائل . وذكر الواقديّ فهرسا بأسماء المبعوثين(3) . وعدد المسلمين المفيد لمعرفة

ص: 794


1- (1) مجمع البيان 10 : 269 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 399 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 318 ، 319 . بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عمّارا ، وعليّا عليه السلام ، وعمر ، والمقداد ، فالتمسوا الكتاب في رحلها فلم يجدوا شيئا . فعزموا على الرجوع ، فقال عليٌّ عليه السلام : إنّا نحلف باللّه ما كُذب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ولا كُذبنا . وسلّ سيفه وقال : أخرجي الكتاب . فخافت المرأة وأعطته إيّاه . واسم هذه المرأة سارة جاءت المدينة لفقرها وترمّلها بمكّة ، وكان النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم قد أمر بتأمين معيشتها . ونصّ كتاب حاطب : «إنّ رسول اللّه قد أذّن في الناس بالغزو ، ولا أراه يريد غيركم ، وقد أحببت أن تكون لي عندكم يد بكتابي إليكم» . المغازي 2 : 798 .
2- (2) الممتحنة : 1 - 3 .
3- (3) المغازي 2 : 799 .

التركيبة الاجتماعيّة لمجتمع المدينة وغيرها من الأمور كالآتي : المهاجرون سبعمائة ؛ الأنصار أربعة آلاف ؛ مُزينة ألف ؛ أسلم أربعمائة ؛ جُهينة ثمانمائة ؛ بنو كعب بن عمرو خمسمائة ، وعدد آخر .

وكان قوام الجيش الإسلاميّ عشرة آلاف(1) . وحدث أن جاء المشركون لحرب المدينة فيالأحزاب وهم عشرة آلاف ، وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بعد ذهابهم ما مضمونه: سنأتيهم بعد ذلك . فكان عدد المسلمين في فتح مكّة نفس العدد ، إلاّ أنّ مكة عاجزة عن أيّ مقاومة .

وتقدّم الجيش إلى منطقة مرّ الظّهران على مسافة عشرات الكيلومترات عن مكّة ، ولم يستبن لأحد هدفه الأصليّ بعدُ(2) . أهوازن ، أم ثقيف ، أم قريش ؟! وأنشد كعب ابن مالك شعرا أمام رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وذكر في سياقه أنّهم (المسلمون) قضوا من تهامة وخيبركلّ ريب ، ثمّ أراحوا السيوف . والآن هم مستعدّون لقطع خيام ثقيف ودورها . وأراد بشعره هذا أن يسمع شيئا من لسان النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، لكنّه صلى الله عليه و آله وسلم تبسّم ولم يزد على ذلك ، فما حصل كعب على شيء(3) . وكان عيينة بن حصن الفزاريّ من رؤساء غطفان ، وحضر عند النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم مرّات ، وحين سمع بتحرّكه قدم المدينة ، فوجده قد خرج قبله . وعاد فلقيه بالطريق ، فأراد أن يعرف نَواه ، بيد أنّه صلى الله عليه و آله وسلم لم يقل شيئا(4) .

ص: 795


1- (1) المغازي 2 : 799 - 801 . والتحق بنو سليم برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في القُديد وهم تسعمائة . نفسه : 812 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 400 .
3- (3) المغازي 2 : 802 . قضينا من تهامة كلّ ريبٍ * وخيبر ثمّ أَجْمَمْنا السّيوفا
4- (4) المغازي 2 : 803 ، 804 . وكان عيينة من البدو ، بلا حياء ولا أدب . وارتدّ بعد وفاة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ثمّ أسلم مرّة أُخرى . انظر بشأنه : أسد الغابة 4 : 166 ، 167 .

ولم يحمل جند الإسلام أيّة راية حتّى منطقة القُديد الّتي تبعد عن مكّة (120) كيلومترا . ولم تكن لهم سيما عسكريّة . ثمّ رفرفت الرايات بعد ذلك ، وكان لواء المهاجرين بيد عليّ بن أبيطالب عليه السلام (1) . وأدّى غموض الهدف إلى أن تتأهّب هوازن وثقيف للدفاع عن نفسها . وكانوا على اتّصال فيما بينهم(2) . وكانت قريش ، وثقيف ، وهوازن في الحقيقة الفصائل المشركة الوحيدة ذات الشأن فيالحجاز . وقريش أضعفها يومئذٍ لأنّ موقعة بدر أسقطتها ، وعلى الرغم من نصرها بأُحد ، لم يستقم لها عود . وليس لكبرائها ومشركيها الذين عادوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عدد سنين أن يخوضوا قتالاً الآن ، إذ لا قوّة لهم ولا محفّز على الحرب .

وكان أبو سفيان بن الحارث حفيد عبد المطّلب إلى جانب أبي لهب شديد العداء لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وانبرى لهجاء الإسلام والمسلمين . وبلغ في محادّته حدّا أهدر فيه النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم دمه . وما إن كاد المسلمون يصلون إلى مكّة ، حتّى ذهب عند النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، وعلى الرغم من إعراضه صلى الله عليه و آله وسلم عنه حتّى حرب حنين فقد أُكره على تحمّل الوضع إلى أن رضي عنه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في نهاية المطاف(3) . وظلّ العبّاس بن عبد المطّلب بمكّة حتى ذلك الحين ثمّ التحق بالنّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بالجُحفة ، مع أنّه لم يخاصمه وكان في الشعب خلال الأيّام العصيبة كسائر بني هاشم(4) . وما قيل عنه أنّه أسلم خفيةً أمر مرفوض ، إذ لم ينقل أيّ من المؤرّ خين أنّه لبث هناك بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم .

وإلى أن وافى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم مرّ الظّهران لم تعلم قريش بهدف الجيش الإسلاميّ المتمثّل بفتح مكّة(5) . وأمر صلى الله عليه و آله وسلم أن توقد النار في نقاط كثيرة . وجاء أبو سفيان ،

ص: 796


1- (1) مجمع الزوائد 6 : 171 .
2- (2) نبّه على هذا الموضوع جاسوس من هوازن وقع أسيرا بأيدي المسلمين . انظر : المغازي 2 : 805 .
3- (3) نقل إسلامه بشكلين ؛ انظر : المغازي 2 : 807 - 810 .
4- (4) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 400 .
5- (5) سبل الهدى والرشاد 4 : 324 .

وحكيم بن حزام ، وبُديل بن ورقاء لتقصّي الأخبار . فلمّا رأوا النار خافوا وخالوا أنّ هوازن تريد مهاجمتهم . وحينما اقترب أبو سفيان أكثر ، رأى الجيش ولقي العبّاس بن عبد المطّلب (أو بعث إليه ، أو أُسر وأغاثه العبّاس) ، فطلب منه العبّاس أن يسلم . وكان عمر واقفا ، فقال لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم على عادته : اضرب عنق عدوّ اللّه . فقال العبّاس لعمر : لو كان من بني عديّ لما قلت هذا(1) !

وشهد أبو سفيان بالتّوحيد بادئ الأمر ، لكن لمّا طلب منه أن يشهد بالنّبوّة والرّسالة ، توقّف وقال : ما زال في نفسي منها شيء ، أمهلوني حتّى الغداة . وحين علا صوت الأذان في صباح تلك الليلة سأل : ما هذا ؟ قالوا : وقت الصّلاة . فسأل : كم نصلّي في الليل والنهار ؟ قالوا : خمس مرّات . فقال : واللّه كثير ! ثمّ جاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وشهد بنبوّته .

ولمّا كانت الثّقافة الجاهليّة قد ملأت كيان أبي سفيان ، ولم يزل متشرّبا فيها ، فقد اعترض وقال: «جئت بأوباش الناس إلى عشيرتك وأصلك»؟ فقال صلى الله عليه و آله وسلم : «أنت أظلم وأفجر . غدرتم بعهد الحديبيّة وظاهرتم على بني كعب بالإثم والعدوان في حرم اللّه وأمنه» . فقال أبو سفيان : ... لوكنتَ جعلتَ حدّتك ومكيدتك بهوازن ... فقال صلى الله عليه و آله وسلم : «إنّي لأرجوا من ربّي أن يجمع ذلك لي كلّه بفتح مكّة»(2) . وكما توقّع صلى الله عليه و آله وسلم فإنّ لفتح مكّة أن يجعل الحجاز في قبضة الإسلام حتّى لوقامت بعض القبائل بمقاومة يسيرة .

وطلب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم من العبّاس أن يوقف أبا سفيان في مكانٍ ليرى كتائب اللّه وعظمتها . ومرّت القبائل أمامهما واحدة تلو الأُخرى . والعبّاس يعرّفها لأبي سفيان ،

ص: 797


1- (1) مجمع الزوائد 6 : 166 .
2- (2) المغازي 2 : 815 ، 816 ، 818 . وعلى ما روى ابن أبي شيبة (المصنّف 7 : 402) قال أبو سفيان حين شهد الصلاة ورأى ركوع المسلمين وسجودهم المنظّمَين : ما رأيتُ كاليوم طاعة قوم . جمعهم من هاهنا وهاهنا ولا فارس ولا روم ... بأطوع منهم له .

وهو يقول في كلٍّ منها شيئا . ثمّ مرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أمامه ومعه جمع كثير من المهاجرين والأنصار ، فقال أبو سفيان : ما رأيت مثل هذه الكتيبة قطّ ... ما لأحد بهذه طاقة ولا يدان . ثمّ قال : لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما ! فقال العبّاس : ويحك يا أبا سفيان ، ليس بملك ولكنّها نبوّة(1) . وأشرنا قبل ذلك في موقف المشركين من الإسلام إلى أنّ أكابر قريش كانوا يزعمون أنّ بني هاشم بادّعائهم النّبوّة يريدون الملك . وعلى هذه النظرة كان أبو سفيان حتّى تلك اللحظة ، بل ما بعدها ، بل حتّى آخر عمره . وهو - في كلّ حال - أظهر إسلامه وأنشد شعرا ذكر فيه أنّه شرّد بمن هداه في الآفاق(2) . ويقصد أنّه كيف صنع بالنّبيّ ، وكيف صنع النّبيّ به .

وكما مرّ فإنّ إسلام أبي سفيان كان بإصرار العبّاس قبل دخوله مكّة وكان العبّاس راغبا في أن يعجّل أبو سفيان وسائر قريش في الإسلام لتصوّره أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إذا دخل مكّة مقاتلاً فستهلك قريش إلى الأبد(3) ، ويضاف إليه أنّ تجارة مكّة تفنى والعبّاس نفسه يهلك أيضا .

من جهة أُخرى ، دعا سهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل النّاس إلى حرب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، واستجاب لهما رجال من قريش ، وبني بكر ، بني هُذيل ، وأقسموا ألاّ يسمحوا له بدخول مكّة عنوةً .

وتوقّف صلى الله عليه و آله وسلم بذي الطوى الواقعة اليوم في نطاق مكّة ، ثمّ قسّم جيشه وبعث كلّ قسم إلى داخل مكّة من إحدى المناطق . وجُوبه دخول الجيش بالمقاومة في المنطقة الّتي كان يتولّى خالد بن الوليد إمارتها . وأسفر اشتباك المسلمين بالمشركين عن أربعة

ص: 798


1- (1) المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 399 ؛ المغازي 2 : 822 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 404 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 401 .
3- (3) نفسه 4 : 402 ؛ مجمع الزوائد 6 : 165 .

وعشرين قتيلاً من قريش ، وواحد من هُذيل(1) ، ولاذ الآخرون بالفرار . وأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أن يُعلَن بأنّ كلّ من لزم بيته أو ذهب إلى المسجد أو دخل دار أبي سفيان فهو آمن . ويهدف هذا الإعلان إلى إبادة المشركين وسلب المقاومة . وحضّ أبو سفيان الناس أيضا على الذّهاب إلى بيوتهم ، وترك أسلحتهم عبر صيحاته . ويمكن أن نقول : إنّ هزيمة المقاومة وشخصيّة أبي سفيان قبل فتح مكّة قد ضعضعتا أكثر من نصف الجيش .

وأهدرالنّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم دم عدد محدود من المشركين والمشركات . وأمر المسلمين بقتلهم أنّى كانوا ، ولو متعلّقين بأستار الكعبة . وفيهم عدد من النساء . ومن الرجال : عكرمة ابن أبي جهل (عُفي عنه) ، وهبّار بن الأسود (عُفي عنه) ، وعبد اللّه بن سعد بن أبي سرح (عفي عنه) وكان أسلم ثمّ ارتدّ ، ومقيس بن صبابة اللّيثيّ (قُتل في فتح مكّة) ، والحويرث بن النُقيذ(2) ، وعبد اللّه بن هلال الأدرميّ ، ووحشي قاتل حمزه (عُفي عنه) ، والحويرث بن الطلال الخزاعيّ (قتله الإمام عليّ عليه السلام )(3) . ومن النساء : هند بنت عتبة ابن ربيعة وزوجة أبي سفيان (عُفي عنها) ، وسارة مولاة عمرو بن هاشم ، وجاريتان مغنّيتان تُدعيان قُرَيبة وقرينا (قُتلت إحداهما ، وفرّت الأُخرى ثمّ أُومنت)(4) وكلتاهما لأبي الأخطل(5) . وكان فيهم عبد اللّه بن الأخطل أيضا ، قُتل وهو متعلّق بأستار الكعبة . وكان من المرتدّين ، وله شعر في هجاء الإسلام ، وكان يعطيه جواريه ليُغَنّين

ص: 799


1- (1) المغازي 2 : 825 ، 826 . وقتل من المسلمين في فتح مكّة اثنان كانا قد أخطآ طريقهما . نفسه : 828 .
2- (2) قتله الإمام عليّ عليه السلام بعد تقصّيه وملاحقته . انظر : المغازي 2 : 857
3- (3) سبل الهدى والرّشاد 5 : 340 .
4- (4) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 411 . وكان اسم إحداهما قريبة ، والأخرى فَرَتنى . وظلّت الثانية حيّة وأسلمت ؛ انظر : سبل الهدى والرّشاد 5 : 341 .
5- (5) انظر : المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 404 .

به . ويمكن أن نلحظ في السّيرة النّبويّة كلّها أنّه صلى الله عليه و آله وسلم لم يغفل عن دور المرجفين من العدوّ إذ كلّما سنحت له الفرصة قتلهم . فالتّلاعب بمشاعر النّاس في تحريضهم ضدّ الحقّ أمر خطر لا يُغْتَفَر عنده صلى الله عليه و آله وسلم .

وشهدت فاطمة الزّهراء عليهاالسلام فتح مكّة . وحين آوت أمّ هانئ أخت الإمام عليّ عليه السلام اثنين من المشركين الأرجاس ، دخل الإمام بيتها ليقتلهما ، فحالت دونهما . ثمّ جاءت رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم تستجير به ، فرأت فاطمة عليهاالسلام ، فعاتبتها على ما صنع الإمام بها . تقول أمّ هانئ : فكانت أشدّ عليّ من زوجها ، وقالت لي : تجيرين المشركين ؟ ولبّى صلى الله عليه و آله وسلم طلبها وقال لها احتراما : «قد أَمَّنَا من أمَّنتِ ، وأجرنا من أجرتِ»(1) .

ولمّا دخل صلى الله عليه و آله وسلم المسجد لأوّل مرّة كبّر ، وكبّر معه المسلمون . وكان بعض المشركين يرى هذا المشهد من على الجبال . وطاف صلى الله عليه و آله وسلم ، ثمّ قصد الأصنام ، وكانت ثلاثمائة وستّين على الكعبة وأكبرها هُبَل . وكان صلى الله عليه و آله وسلم يضربها بعصاه ، ويُلقيها على الأرض(2) وهو يتلو قوله تعالى : « جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ »(3) . وبعد دخوله الكعبة أمربمحو صور إبراهيم ، والملائكة ، ومريم عليهم السلام الّتي كانت على جدرانها من الداخل(4).

وذكر ابن أبي شيبة ، والحاكم النيسابوريّ نقلاً عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال [ويومئذٍ] رفعني رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وأخذني قريبا من الكعبة ، ثمّ قال لي : إجلس ، فجلستُ . ثمّ صعد على كتفي وقال لي : قم ؛ ولمّا رأى ضعفي عن القيام قال : إجلس ، فجلستُ ، فنزل وجلس وقال لي : إصعد على كتفي فصعدتُ ، وقام ، وقال : ألقِ صنم قريش الكبير . وكان من النحاس ورُبط في الأرض بمسامير . وطلب منّي أن أهزّه

ص: 800


1- (1) المغازي 2 : 830 . ولم يشر ابن أبي شيبة في مصنّفه (7 : 407) إلى موقف فاطمة عليهاالسلام لكنّه ذكر حضورها في فتح مكّة ؛ وانظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 411 .
2- (2) المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 397 ، 403 .
3- (3) الإسراء : 81 .
4- (4) المغازي 2 : 834 .

وألقيه على الأرض ، ففعلتُ(1) ! وجاء في خبر أنّه طهّر المسجد أو أزال عنه كلّ أثر من آثار الشّرك(2) . وغسل صلى الله عليه و آله وسلم رأسه الشريف بماء زمزم بعد الطّواف . وكان المسلمون الذين حوله يأخذون قطرات من ذلك الماء الّذي يسيل منه و يمسحون بها أجسامهم تبرّكا(3) .

وخطب صلى الله عليه و آله وسلم بمكّة . وفي سياق عدد من المواعظ والنّصائح الأخلاقيّة مع بيان بعض الأحكام الشرعيّة ، وقف القسم الأصليّ من خطبته على تبيان التفاوت في الحقوق بين النّاس قبل الإسلام وبعده . وذكر أنّ على الأمّة أن تنسى الماضي وتبدأ حياة جديدة .

«ألا إنّ كلّ ربا في الجاهليّة ، أو دمٍ ، أو مالٍ ، أو مأثُرةٍ ، فهو تحت قدميّ هاتين إلاّ سدانة البيت وسقاية الحاجّ . ألا وفي قتيل العصا والسّوط الخطأ شبه العمد ، الدّية مغلَّظة مائة ناقة ، منها أربعون في بطونها أولادها . إنّ اللّه قد أذهب نخوة الجاهليّة وتكبّرها بآبائها . كلّكم من آدم وآدم من تراب . وأكرمكم عند اللّه أتقاكم . ألا إنّ اللّه قد حرّم مكّة يوم خلق السّماوات والأرض ، فهي حرام بحرمة اللّه ، لم تحلّ لأحدٍ قبلي ، ولا تحلّ لأحدٍ كائن بعدي ، ولم تحلّ لي إلاّ ساعةً من النّهار» .

ثمّ ذكر عددا من الأحكام الّتي تتعلّق بالأُسرة ، وقال بعد ذلك :

«المسلم أخو المسلم ، والمسلمون إخوةٌ ، والمسلمون يدٌ واحدةٌ على من سواهم ، تتكافأ دماؤهم ، يردّ عليهم أقصاهم ، ويعقد عليهم أدناهم ، ومشدّهم على مضعفهم»(4) .

ص: 801


1- (1) المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 403 ، 404 ؛ سبل الهدى والرّشاد 5 : 356 ، 357 . نقلاً عن الحاكم النيسابوريّ وابن أبي شيبة .
2- (2) المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 406 .
3- (3) نفسه : 405 .
4- (4) سبل الهدى والرشاد 5 : 364 ، 365 (تفصيلاً ومن مصادر مختلفة) ؛ المغازي 2 : 836 ؛ المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 398 ؛ وانظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 412 .

ثمّ بين عددا آخر من الأحكام العائليّة أيضا .

ولمّا خطب صلى الله عليه و آله وسلم طلب منه مسلم يُدعى أبا شاة أن يكتب له ما قاله . فأمر صلى الله عليه و آله وسلم أن يُكتب له(1) . وهذا الخبر أحد الأدلّة على جواز تدوين الحديث الّذي منعه بعضهم في صدر الإسلام ، وجاء بعدهم بقليل من ناب عنهم فوضعوا أحاديث تزعم أنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم نفسه لم يأذن بتدوين الحديث !

وحين أذّن بلال على سطح الكعبة سمعته قريش من فوق الجبال وداخل البيوت ، وعبّر كلٌّ منها عن أسفه . وقالت جويرية بنت أبي جهل : «قد لعمري رفع لك ذكرك ! [حين قال بلال : «أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه»] . أمّا الصلاة فسنُصلّي ، واللّه لا نحبّ من قتل الأحبّة أبدا» . وقال الحارث بن هشام : «وا ثكلاه ! ليتني متّ قبل هذا اليوم ولا أسمع بلالاً ينهق فوق الكعبة» ! وقال أبو سفيان : «أمّا أنا فلا أقول شيئا . لو قلتُ شيئا لاَءَخْبَرْتهُ [رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ] هذه الحصباء»(2) . وكانت التجربة أثبتت أنّ كثيرا من الكلام الّذي أسرّه المشركون والمنافقون أظهرته الآيات القرآنيّة الكريمة .

وعفا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يومئذٍ عن المشركين كافّة إلاّ من ذكرناهم سابقا ، ومن عُفي عنه منهم . وعُفي أيضا عن وحشي قاتل حمزة ، وهند الّتي مثّلتْ به ، وعبد اللّه بن سعد ابن أبي سرح المرتدّ الّذي تلقّى العفو بإصرار عثمان(3) . وعُفي عن رجال مثل سهيل بن

ص: 802


1- (1) المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 406 . للاطّلاع على ما كُتب له موجزا انظر : مكاتيب الرّسول 1 : 521 عن مصادر مختلفة ؛ سبل الهدى والرّشاد 5 : 366 .
2- (2) المغازي 2 : 846 ، 847 .
3- (3) المغازي 2 : 855 . وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يرغب في قتله . ولمّا أتى به عثمان عنده للأمان ، استأذنه ثلاثا في أن يبايع ، فرفض صلى الله عليه و آله وسلم في الأُولَيين ، وقبل في الثالثة . ثمّ التفت إلى أصحابه وقال : «ما منعكم أن يقوم رجل منكم إلى هذا الكلب فيقتله ؟» أو قال : «الفاسق» . قالوا : ألا أومأت إلينا يا رسول اللّه ؟ فقال صلى الله عليه و آله وسلم : «إنّي لا أقتل بالإشارة» . وانظر : المغازي 2 : 856 ، 857 ؛ يقول ابن هشام في سيرته 4 : 409 : ثمّ استعمله عمر ، وعثمان أيضا .

عمرو الّذي شهد حروب قريش كلّها ضدّ المسلمين ، ووقف أسوأ المواقف من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في الحديبيّة . وكان شعار النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أمام أهل مكّة «الإسلام يَجُبُّ ما قبله»(1) . فما يُسلم أحد إلاّ ويُغضى عن ماضيه .

إنّ عنوان «الطلقاء» الّذي يعبّر عن القرشيّين الّذين كانوا أسرى النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم إشارة إلى منّته صلى الله عليه و آله وسلم عليهم في إطلاقهم . ومثّل العنوان المذكور سابقة سيّئة لم تبرح ملفّ المشركين المعاندين بمكّة من الذين أسلموا عام الفتح أو العام الّذي تلاه(2) . والعنوان الآخر هو«المؤلَّفة قلوبهم» وهم الّذين قدّم لهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم مساعدةً ماليّة لكسب مودّتهم . وهذا التعبير ينطق عن شخصيّتهم .

وكانت هند زوجة أبي سفيان ممّن أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في البداية بقتلها ، لكنّها قدمت مع نساء أُخريات إليه صلى الله عليه و آله وسلم وأسلمت . وفرّ كثير من المشركين إلى اليمن ، ونجران ، ونقاط أُخرى ، ثمّ عادوا تدريجا وأسلموا . يقول أحدهم : فررنا خوفا على أنفسنا حتّى بلغنا أنّ التشهّد بالشّهادتين أمان لنا ولأموالنا ، فرجعنا وأسلمنا(3) . وكان عكرمة بن أبي جهل في الفارّين إلى اليمن ،وبعد مدّةٍ أسلم . وحينما جاء عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم سأل : «إلى ما تدعو يا محمّد ؟» قال : «أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلاّ اللّه ... وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ...» . فقال عكرمة : «واللّه ما دعوتَ إلاّ إلى الحقّ وأمر حسن

ص: 803


1- (1) قاله صلى الله عليه و آله وسلم عند ما أظهر ابن الزّبعرى إسلامه وهو شاعر قريش ومحرّض الناس ضدّ الإسلام . انظر : المغازي 2 : 849 .
2- (2) انظر : تاريخ تحوّل دولت وخلافت [تاريخ تطوّر الحكومة والخلافة] : 116 ، 136 ، 193 . وأشار حسّان بن ثابت في شعره يوم الفتح إلى أنّ سيوف الأنصار أذلّت أبا سفيان وجعلته عبدا بمكّة ، وجعلت بني عبد الدار إماءً . السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 426 .
3- (3) الطّبقات الكبرى 7 : 138 ، 139 .

جميل» .فقال صلى الله عليه و آله وسلم : «... اللّهمّ اغفر له كلّ عداوة عادانيها»(1) . وفي غضون ذلك عفا صلى الله عليه و آله وسلم حتّى عن هبّار بن الأسود الّذي كان يتغيّظ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كلّما ذُكر عنده ، وكان هبّار قد استُثنيَ من الطلقاء في فتح مكّة(2) .

ولمّا فتح رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم مكّة بثّ السرايا لهدم ما تبقّى من أصنام القبائل . فبعث عمرو بن العاص مع جماعة إلى صنم هُذيل ، سواع ، فهدمه . وقال سادنه : لا تقدر على هدمه ! لكنّه كسره وهدم بيت خزانته . فقال السّادن وهو يرى تكسّره حادثةً مفاجئةً له : «أسلمتُ للّه»(3) . ومن الأصنام الأُخرى الّتي هدمها المبعوثون ذو الكفّين صنم قبيلة عمرو بن حُمَمَة ، وصنم مناة بالمشلّل . ولم يكن بمكّة بيت إلاّ وفيه صنم . فنادى منادي رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : من كان يؤمن باللّه وبرسوله فلا يَدَعَنَّ في بيته صنما إلاّ كسره أو حرقه(4) .

وهكذا تقوّضت القوّة السّياسيّة للشّرك ، وانضوت مكّة تحت راية الإسلام بحنكة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وحزمه بعد مقاومة دامت عقدين من الزّمن . والمصداق البارز لهذه الحنكة أنّ مكّة فُتحت بلا إراقة دمٍ ، لاسيّما وأنّ ذلك قد تمّ في حادثةٍ كبرى كفتح مكّة وبين عدوّين قَدُمَ عداؤهما وأُثخن بالجراح وخلّف وراءه حوادث مثل بدر وأُحد . وتحدّثت الآية القرآنيّة الّتي قيل إنّها نزلت في هذا الشأن(5) عن الحادثة المذكورة : « وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرا »(6) . ويعلم اللّه تعالى أنّ كفّ أيدي المسلمين عنهم مع عدائهم الشديد لهم يعود إلى أنّ بينهم مسلمين يكتمون إيمانهم ، وإذا ما نشبت الحرب فلعلّهم

ص: 804


1- (1) المغازي 2 : 852 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 379 .
2- (2) المغازي 2 : 858 .
3- (3) نفسه 2 : 870 .
4- (4) نفسه 2 : 870 ، 871 .
5- (5) المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 405 .
6- (6) الفتح : 24 .

يفنَون ، ويرتكب المسلمون - غير عامدين - خطأً . قال سبحانه : « هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِنْهُم مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابا أَلِيما »(1) .

ولم يُكره رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أحدا على قبول الإسلام في فتح مكّة ، وكلّ من أسلم فباختياره، مع أنّ كثيرا من المشركين ذوي الماضي السّيّئ أسلموا طمعا في الصّفح عن ماضيهم والأمن على نفوسهم . بيد أنّ لمّا منهم ظلّوا على شركهم حتّى السّنة التّاسعة وقليل بعدها . ولم يسكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بيتا خلال مكثه بمكّة بل أمضى وقته في خيمة ، إذ جعل خيمته في الحُجون ، وكان يذهب إلى المسجد الحرام لإقامة الصّلاة(2) . ويبدو أنّ عقيلاً كان قد استولى على بيته بعد هجرته صلى الله عليه و آله وسلم . من هنا لمّا أُريد منه أن يسكن بيته قال : وهل ترك لي عقيل بيتا ؟

ولعلّ أحد الأسباب التي دعت إلى رغبته عن اللبث بمكّة والسكن في بيت من بيوتها هو لئلاّ يتوهّم الأنصار أنّه تركهم . وقال لهم ذات مرّةٍ : «هاجرتُ إلى اللّه وإليكم ، حياتي حياتكم ومماتي مماتكم»(3) . والتحق قرابة ألفين من أهل مكّة

ص: 805


1- (1) الفتح : 25 .
2- (2) سبل الهدى والرّشاد 5 : 349 .
3- (3) المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 397 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 369 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 416 . ونشير هنا بإجمال إلى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بذل قصاراه لتعزيز موقع الأنصار أمام قريش ، لكنّ تحايُل قريش - كما كان متوقّعا - غيَّرَ الأوضاع . ونُلمع هنا إلى أنّ ما جاء في سياق الأخبار المرتبطة بحوادث الفتح يدلّ على محاولتين لتمييع شخصيّة سعد بن عبادة . وذلك لتمثيله الأنصار ، وموقفه في السقيفة . على سبيل المثال قالوا : غضب عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لكلام صدر عنه وأخذ منه الراية ودفعها إلى ابنه (المغازي 2 : 821 ، 822) في حين ورد في خبر آخر أنّه هو الّذي دفع الرّاية إليه (المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 399) . ونقل ابن إسحاق ذلك في سيرته 4 : 406 ، 407 عن قول بعضهم . وقال : بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عليّا عليه السلام ليأخذ الراية منه . وجاء في أخبار أُخرى أنّ الراية أُخذت منه ودُفعت إلى الزبير (سبل الهدى والرّشاد 5 : 337). ومن الواضح أنّ اللبس يكتنف الخبر المذكور . وأعجب من هذا كلّه أنّ الجمع بين هذه الأخبار متضارب ! انظر : سبل الهدى والرشاد 5 : 337 . وبشأن المورد الثاني انظر : المغازي 2 : 866 ، 867 .

بالمسلمين إبّان الفتح . وكأنّهم جميعهم لم يكونوا مسلمين ، غير أنّه كان واضحا أنّهم سيُسلمون . ومهما كان فإسلامهم هذا ليس كإسلام ما قبل الفتح قيمةً وشأنا . وبيّن اللّه تعالى هذا الموضوع بصراحة وقال في كتابه الحكيم : « وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَ-وَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ »(1) .

والسّبب في هذا التفضيل واضح أيضا . وأدّى فتح مكّة إلى حرمان المسلمين الجدد من مزيّة أُخرى وهي الهجرة . وفصّلنا الكلام قبل ذلك في الحديث النّبويّ القائل : «لا هجرة بعد الفتح»(2) .

وكان فتح مكّة بداية النموّ التّصاعديّ للإسلام في شبه الجزيرة العربيّة . وكان مستحيلاً عند العرب أن يسيطر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم على مكّة . وبدت قريش بقوّتها الموصوفة المشفوعة بدعم القبائل الكثيرة أنّها لا تُقهر ،بخاصّة أنّها تذرّعت بعنوان القداسة ، وكانت ترى نفسها صاحبة الحرم . فعلى اللّه والآلهة أن يدافعوا عنها ولم يفعلوا طبعا . وقيل إنّ العرب كانت تقول إبّان الفتح : انظروا ! إذا غلب محمّد قريشا فهو صادق . ويقول الناقل لهذا الكلام : حين بلغنا خبر الفتح بادرت القبائل جميعها إلى الإسلام(3) . ولمّا أراد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم من ذي الجوشن الضبابيّ أن يسلم قال : لا

ص: 806


1- (1) الحديد : 10 .
2- (2) انظر : المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 407 ، 408 ، 409 ؛ سبل الهدى والرّشاد 5 : 389 .
3- (3) الطّبقات الكبرى 1 : 336 .

أُسلم حتّى يتمكّن الإسلام من الكعبة(1) . وجاءت قبيلة بني عبد بن عديّ عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لتسلم ، وذلك قبل الفتح بزمنٍ . وأعلمت رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم باستعدادها للقتال إذا قاتل غير قريش إذ هي لا تقاتل قريشا(2) . ويذكرالمسعوديّ هذه الحقيقة بتعبير واضح يقول فيه : «فلمّا فتح رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم مكّة ودانت له قريش ،انقادت له العرب إلى الإسلام»(3) . وقيل في موضع آخر : «لا تذلّ العرب حتّى يذلّ أهل مكّة»(4) . ورأى فضالة الّذي أسلم يوم الفتح أنّ ذلك اليوم هو يوم فناء الشّرك . وأنشد قائلاً :

لرأيتَ دينَ اللّه أضحى بيّنا * والشّرك يغشى وجهه الأظلامُ(5)

وأورد ابن إسحاق بعض التوضيحات في هذا المجال(6) .

وعندما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بمكّة - فترة تتراوح بين خمسة عشر إلى عشرين يوما - أشخص خالد بن الوليد في جماعة معه إلى قبيلة بني جذيمة يدعوهم إلى الإسلام . وكانت هذه القبيلة تسكن في منطقة يَلَمْلَم . وحين رأوا خالدا مع جمع من المسلمين - ثلاثمائة وخمسين - اطمأنّوا معتمدين على إسلامهم وأذانهم ومسجدهم . ووقف خالد أمامهم وسألهم عن سبب حملهم للسّلاح فقالوا : نذود به المخالفين عن الإسلام . وفي خبر آخر : نذود به عدوّنا عن أنفسنا(7) . وبعد ذلك وضعوا سلاحهم على الأرض بأمر خالد ، فأسرهم وربط بعضهم ببعض . وفي تلك اللحظة دار خلاف بين المسلمين إلى أن نادى منادي خالد في منتصف الليل : كلٌّ يقتل أسيرَهُ ! فقام

ص: 807


1- (1) مجمع الزوائد 6 : 162 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 39 .
2- (2) الطّبقات الكبرى 1 : 306 .
3- (3) التنبيه والإشراف : 239 .
4- (4) المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 410 .
5- (5) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 417 . ونقل ابن إسحاق شعرا كثيرا في فتح مكّة بعضه جميل .
6- (6) نفسه 4 : 560 .
7- (7) انظر : الطّبقات الكبرى 1 : 147 .

رجال من بني سليم كانوا معه بقتل أسراهم ، لكنّ المهاجرين والأنصار لم يطيعوه(1) . وحين وافوا مكّة قال له عمر وعبد الرحمن بن عوف : فعلتَ ذلك ثأرا لعمّك فاكه الّذي قتله بنو جذيمة في الجاهليّة(2) .

وغضب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم على خالد حين بلغه الخبر وأعرض بوجهه عنه . وكان خالد يقول : بعثني رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم للحرب . وقد كذب لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم نفسه يقول : «ما أمرتُ خالدا بالقتل ، إنّما أمرته بالدعاء»(3) . يضاف إلى ذلك أنّ أفراد السريّة جميعهم رأوا مسجد بني جذيمة وسمعوا أذانهم . قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : «اللّهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا فعل خالد»(4) .

وغلظ عمّار على خالد في ذلك المجلس ، وردّه خالد بالمثل . فقال صلى الله عليه و آله وسلم : «مه يا خالد ! لا تقع بأبي اليقظان ، فإنّه من يعاده يعاده اللّه ، ومن يبغضه يبغضه اللّه ...» بعد ذلك أعطى الإمام عليّا عليه السلام مالاً لينطلق إلى بني جذيمة ، ويَدِيهم(5) ، ويسلّيهم . وكان خالد ذا روح عسكريّة بحتة ، ولم تكن له الشّخصيّة الفكريّة الأخلاقيّة المطلوبة . وينبغي أن نتحسّس الصورة الحقيقيّة لخالد في التطوّرات الّتي تلت وفاة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم . ولكن ذكر هذه الملاحظة - قبل ذلك - لا يخلو من ثمرةٍ ، وهي أنّه قتل امرأةً عجوزا في وقعة حُنين أيضا ، واعترض عليه النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم (6) .

ص: 808


1- (1) المغازي 3 : 876 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 341 . وجاء فيه نزاع قريش مع بني جذيمة .
3- (3) المغازي 3 : 883 ؛ وانظر : الطّبقات الكبرى 2 : 147 .
4- (4) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 429 ، 430 .
5- (5) المغازي 3 : 881 ، 882 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 430 .
6- (6) المغازي 3 : 912 .

نحو حُنين

لمّا كان الفتح غُلبت قريش الّتي مثّلت أخطر عدوٍّ للنّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم من بين الأعداء الثلاثة الناشطين بجدٍّ . والآخران هما هوازن الّتي تأهّبت حين بلغها خبر تحرّك النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم من المدينة . وثقيف الّتي كانت مستقرّة بالطّائف . وهاتان الفرقتان عزمتا على التمرّد بعد فتح مكّة . من هنا لا بدّ للنّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم من إخماد تمرّدهما قبل مغادرته مكّة .

وكانت قيادة هوازن بيد مالك بن عوف النصريّ الّذي لم يتجاوز الثلاثين من عمره ، وكان متكبّرا(1) . وقد بادر إلى تعبئة جيشٍ في منطقة أوطاس على الرغم من مخالفة شيوخ القبيلة وتخلّف بعض طوائفها عنه(2) . وأمر الجند كلّهم أن يأتوا بنسائهم وأبنائهم وكذلك جمالهم وأبقارهم وأغنامهم . وباعثه على هذا العمل هو ليعلم الجميع أنّهم يذودون عن أنفسهم وأعراضهم وأموالهم(3) . وشهد الوقعةَ ثقيف ، ونَصْر ، وجُشَم ، وسعد بن بكر ، وجماعة من بني هلال(4) . وتوجّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إلى حنين ومعه اثنا عشر ألفا بعد أن خلف عتّاب بن أُسيد على مكّة(5) .

إنّ أوّل ما يلفت النظر هو كثرة المسلمين . ونقل الواقديّ ، وابن سعد ، والبلاذريّ أنّ أبا بكر حين نظر إلى كثرتهم قال للنّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم : لا نُهزم اليوم من قلّةٍ . ثمّ نزلت هذه

ص: 809


1- (1) قيل فيه : كان مسبلاً . وهو من يرتدي لباسا طويلاً بحيث يجرّه على الأرض . وكان يفعل ذلك لغطرسته .
2- (2) يقول عاتق في معجم المعالم الجغرافيّة : 34 : أوطاس منطقة مسطّحة في شرق مكّة على مئة وتسعين كيلومترا عنها . ولذا لا صلة لهذا الموضع بحنين الّتي تبعد ثلاثين كيلومترا عن مكّة على طريق الطّائف . وبالضرورة لا يمكن أن تكون أوطاس الّتي تكرّر ذكرها في أخبار وقعة حنين .
3- (3) المغازي 3 : 887 ، 888 .
4- (4) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 437 .
5- (5) كان ابن عشرين يومئذٍ .

الآية : « لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه ُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ... »(1) وهذه الآية نزلت بعد الحرب أساسا ، لكنّها تشير إلى كلام أبي بكر وأمثاله(2) . وكان عدد كبير من المسلمين حديثي عهد بالإسلام إذ أسلموا خلال العامين اللذين تَلَوَا الحديبيّة . فلم تكن لهم معرفة بالمعارف الدينيّة وعمق الرؤية التوحيديّة . كما لم يكن لهم الاستعداد الكافي لأداء رسالتهم الدينيّة من الوجهة الروحيّة . والدليل على ذلك واقعة طرأت في طريق حُنين .

وكان من الأشياء المقدّسة عند المشركين في الجاهليّة شجرة يسمّونها «ذات أنواط» . وتعود هذه التسمية إلى أنّهم كانوا يعلّقون عليها أسلحتهم ويعكفون حولها لقداستها(3) . وجاء في رواية الواقديّ أنّهم كانوا ينحرون عندها قرابينهم ويعكفون عليها يوما . وإذا جاءوها وضعوا رداءهم وتوجّهوا إليها(4) .

وعندما كان المسلمون في طريق حُنين ظهرت شجرة كبيرة . يقول ناقل الحادثة : قلنا لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . فكبّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم مرّتين وقال : «والّذي نفسي بيده قلتم كما قال قوم موسى ؛ ثمّ تلا قوله تعالى :

ص: 810


1- (1) التوبة : 25 ؛ المغازي 3 : 889 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 150 ؛ أنساب الأشراف 1 : 365 ؛ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد 15 : 106 .
2- (2) لم تذكر بعض الأخبار الحادّ محتواها نوعا ما اسم القائل . ونقل عن يونس بن بكير أنّه قال : قال رجل يوم حنين : لا نُهزم اليوم من قلّةٍ . فعزّ ذلك على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وأدّى إلى الهزيمة (سبل الهدى والرشاد 5 : 469) . وهناك من نسب الكلام إلى فتىً من الأنصار ، وهناك من نسبه إلى النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم نفسه . قال الشّاميّ : الصحيح هو أنّ قائله غير رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، ونقل عن ابن إسحاق أنّ البعض قال : بعض من بني بكر قال كذا . وأيّد ابن عبد البرّ نقل الواقديّ أنّ أبا بكر هو القائل . (انظر : سبل الهدى والرشاد 5 : 469 ، 470) وانظر : شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد 15 : 106 .
3- (3) تاج العروس ، ذيل «نوط : ينوطون بها سلاحهم - أي : يُعقلون - ويعكفون حولها» .
4- (4) المغازي 3 : 890 ، 891 .

« وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ »(1) . وتدلّ هذه الواقعة على جهل بعض الصحابة بحقيقة التّوحيد الّذي هو أساس الدعوة النبويّة . وعلى الرغم من تأكيداتنا السابقة التّبرّك ، نؤكّد أنّ التّبرّك بمثل ذات أنواط يقرّب المسلم من الشّرك ويرغّبه عن التّوحيد .

وكان أهل مكّة مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في غزوة حُنين أيضا . وكانوا غير راغبين في غلبته ، وإنّما تبعوه لينظروا لمن تكون الدائرة فيصيبون من الغنائم(2) . وكان هذا التّوجّه مشكلة مهمّة للجيش . فحسبه أن يفرّ عدد منهم تاركين القتال ، وحينئذٍ ينهار الجيش كلّه .

واستقرّ جيش هوازن بقيادة مالك بن عوف في وادي حنين على بعد ثلاثين كيلومترا عن مكّة . يقول أنس بن مالك أحد رواة الأخبار المتعلّقة بحنين : كان رجال هوازن في المقدّمة ، تتلوهم إبلهم وأغنامهم ، ونساؤهم فوق الإبل ، وعن هذا الطريق عبّأوا عسكرا عظيما . ويضيف أنّ وادي حنين كثير الشعاب والمضائق . واختفى فيها جماعات مختلفة من هوازن . وكان المسلمون يسيرون بترتيب وتنظيم . وإذا هم بوغتوا بحملة من بين الشِعاب المذكورة . ولاذ بنو سليم بالفرار وكانوا في مقدّمة الجيش وأميرهم خالد بن الوليد(3) ، فتبعهم سائر النّاس . وكانت حملة المشركين قبل طلوع الشّمس في الساعات الأخيرة من الليل .

ص: 811


1- (1) الأعراف : 138 ؛ المغازي 3 : 890 ، 891 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 465 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 442 .
2- (2) المغازي 3 : 894 ، 895 .
3- (3) قتل خالد في هذه الحرب امرأةً أيضا ممّا أثار اعتراض رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عليه . المغازي 3 : 912 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 493 . وكان فرار بني سليم الّذي يبدو أنّهم تعمّدوه نوعا ما - لقرابتهم من هوازن - أحد المشكلات الأصليّة الّتي سبّبت فرار النّاس من الحرب . انظر : المغازي 3 : 897 .

يقول العبّاس بن عبد المطّلب : رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وما معه إلاّ أبو سفيان بن الحارث آخذا بزمام بغلته صلى الله عليه و آله وسلم . ويقول : حين رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم من الناس ما رأى ، قال : يا عبّاس ، إصرخ : يا معاشر الأنصار ، يا أصحاب السَّمُرَة(1) . فأقبلوا كأنّهم الإبل إذا حنّت إلى أولادها(2) . وكان أمل رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في أصحاب الشّجرة والأنصار لا في المسلمين الجدد الذين أسلموا بعد الحديبيّة . وجاء في الخبر المذكور أنّ العبّاس أثنى على صدق الأنصار وثباتهم وصمودهم في الحرب . وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم نفسه ينادي : يا معشر النّاس ! هلمّوا إليَّ ، أنا رسول اللّه ، أنا محمّد بن عبد اللّه ، لا يتخلّفْ أحد عنّي(3) . وورد في خبر آخر أنّ المسلمين انهزموا إلاّ قليلاً من المهاجرين والأنصار . وممّن ثبت معه من أهل بيته عليّ عليه السلام (4) ، والعبّاس ، وأبو سفيان بن الحارث ، وآخرون لم يتجاوزوا ثلاثة .

ونقل ابن أبي شيبة عن الحكم بن عتيبة أنّ النّاس لمّا فرّوا في حنين ، لم يبق مع النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم إلاّ أربعة منهم ، ثلاثة من بني هاشم ، وواحد من غيرهم(5) . وجاء في شعر العبّاس بن عبد المطّلب أيضا قال فيه : كنّا تسعة مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وفرّ الباقون(6) . وقام حارثة بن النعمان بإحصاء من فرّوا امتثالاً لأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ! ويذكر أنّه نصب في حزرهم فبلغوا قرابة مئةٍ . وقيل إنّ ثلاثة وثلاثين كانوا من المهاجرين ،

ص: 812


1- (1) شجرة كانت بيعة الرضوان تحتها .
2- (2) المغازي 3 : 898 ، 899 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 476 ، 477 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 445 .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 443 .
4- (4) يقول أنس : وكان عليّ يومئذٍ أشدّ النّاس قتالاً بين يديه . سبل الهدى والرشاد 5 : 478 ؛ نقلاً عن الطّبرانيّ وأبي يعلى .
5- (5) سبل الهدى والرشاد 5 : 485 .
6- (6) نفسه 5 : 511 .

وسبعة وستّين من الأنصار(1) . ويلحظ هنا توفّر الأرضية لوضع الأخبار ، إذ إنّ الطائفتين جهدتا ألاّ تكونا من الفارّين .

ومهما كان فإنّ صمود تلك الثلّة ، ورجوع عدد من المهاجرين والأنصار ومقاومتهم ألحق الهزيمة بهوازن . وأُسر جماعة منهم . وكانت أمّ حارث مع زوجها ، فأخذت بخطام الجمل ، وهي تخاطبه : تترك رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ؟ وتقول هذه المرأة : فمرّ بي عمر ، فقلتُ : يا عمر ! ما هذا ؟ قال : أمر اللّه !(2)

وبعد انهزام العدوّ ، قام بعض المسلمين بقتل الذرّيّة ، فساء رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ذلك العمل بشدّة . فقال بعض المسلمين : أليسوا إنّما هم أولاد المشركين ؟ فقال صلى الله عليه و آله وسلم : «أو ليس خياركم أولاد المشركين ؟ كلّ نسمةٍ تولد على الفطرة حتّى يُعرب عنها لسانها ، فأبواها يهوّدانها أو ينصّرانها»(3) .

وكان نصر المسلمين في حنين بعد فرارهم بتأييد ربّانيّ فحسب . وهذه ملاحظة ثبّتها اللّه سبحانه ووردت في الأخبار التّاريخيّة أيضا . وكان العامل الأساس للفرار وجود منافقي مكّة وكفّارها الّذين صحبوا الجيش ، وكانوا يحرّضون النّاس عليه . وطفق أبو سفيان يقول أثناء فرار النّاس : «لا تنتهي هزيمتهم دون البحر» . وقال أخو صفوان لأمّه : «ألا بَطَلَ السحر اليوم» . فوبّخه صفوان وهو يرى أنّ ربّا من قريش يربّيه خير له من أن يربّيه ربّ من هوازن(4) . ومهما كان فقد غلب المسلمون ، وأنشدت امرأة منهم فقالت :

ص: 813


1- (1) المغازي 3 : 900 ، 901 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 485 .
2- (2) المغازي 3 : 904 ؛ وسأل أبو قتادة عمر حين رآه عن سبب فرار النّاس ، فقال : قضاء اللّه . انظر : نفس المصدر : 908 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 487 . ومع وجود هذه الأخبار ذكر ابن إسحاق أنّه كان ممّن ثبتوا . انظر : السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 443 .
3- (3) المغازي 3 : 905 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 488 .
4- (4) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4: 443 ، 444 ؛ المغازي 3 : 910 ؛ سبل الهدى والرّشاد 5 : 472 ، 473.

غلبت خيلُ اللّه خيلَ اللاتِ * واللّه ُ أحَقُّ بالثّباتِ(1)

ومرّ أنّ خالد بن الوليد قتل امرأةً أيضا . فنهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عن قتل الأطفال ، والنساء والعبيد(2) . وبعد أن أسلم شاعر من هوازن قال في شعرٍ له مضمونه أنّ هوازن قاتلت يوم حنين قتالاً شديدا فلم يبق مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أحد ؛ وبعد ذلك جاء جبريل لإغاثة المسلمين ، فأُسر جماعة منّا . ولولا جبريل ، لذبّت سيوفنا عنّا(3) . وقُتل من ثقيف الّتي كانت مع هوازن سبعون ، وفرّ الباقون إلى الطائف(4) .

قال سبحانه في نصره للمسلمين يومئذٍ : « لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه ُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللّه ُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ »(5) . وقال بُحير بن زهير في شعرٍ له إنّه لولا نصر اللّه لانهزم المسلمون(6) . وأحسن ما قيل في هذه الغزوة هو شعر العبّاس بن مرداس الّذي أورده ابن إسحاق مفصّلاً(7) .

ولمّا كان مشركو هوازن قد أتوا بنسائهم وأولادهم وأموالهم ، فقد استولى عليها المسلمون بعد فرارهم . وأُرسلت الغنائم المذكورة والأسرى إلى الجعرانة لتُقسّم بين المسلمين فيما بعد .

ص: 814


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 449 ؛ المغازي 3 : 912 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 489 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 458 .
3- (3) نفسه 4 : 475 .
4- (4) سبل الهدى والرشاد 5 : 492 .
5- (5) التوبة : 25 ، 26 .
6- (6) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 459 ؛ سبل الهدى والرّشاد 5 : 502 . لولا الإلهُ وعبده ولّيتم * حين استخفّ الرُّعبُ كلَّ جبانِ
7- (7) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 460 - 470 ؛ سبل الهدى والرّشاد 5 : 503 - 507 . وأكثر ما أكّد هذا الشّعر هو دور بني سليم الذين شاء القدر أن يكونوا أوّل الفارّين .

حصار الطّائف

لمّا انهزم المشركون ، فرّوا في مجموعات إلى عدد من المناطق . فمنهم من توجّه إلى داخل الطّائف وفيهم مالك بن عوف رئيس هوازن ، وأكثر هؤلاء من ثقيف الّتي اشتركت في الحرب . ومنهم من فرّ إلى «النخلة» ، وذهب جماعة إلى «أوطاس» الّتي كانت معسكرهم الأوّل(1) . وبعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم مجموعات تلاحقهم، فأسروا عددا منهم . وتوجّه صلى الله عليه و آله وسلم نفسه إلى الطائف أيضا .

وكانت الطائف من أفضل مناطق الحجاز مناخا ، وهي مواطن ثقيف . ولهذه القبيلة علاقات بقريش . وهي من قبائل الحجاز المشهورة . ومنها شخصيّتان مهمّتان بعد الإسلام . أحدهما المختار الشّيعيّ ، والآخر الحجّاج الأمويّ . وهذا الخندق آخر ما كان يسيطر عليه المشركون . وإن كان على أهل الطّائف أن يروا رأيهم عاجلاً أم آجلاً بعد فتح مكّة .

وسار المسلمون . وبنى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم مسجدا في الموضع الّذي أقام فيه صلاة الظّهر(2) . ثمّ توجّه بهم إلى الطائف ، فحاصرها . وكان ذلك في شوّال سنة ثمان . ومن وجوه ثقيف البارزة عروة بن مسعود الّذي أشار إليه مشركو مكّة وقتا ما حين عتبوا على اللّه جلّ شأنه إذ لم ينزل القرآن على رجل من القريتين عظيم . وهو الّذي كان ذهب إلى اليمن مع غيدن بن سلمة ليتعلّما المنجنيق والدّبّابات(3) .

وعمر أهل الطّائف سورهم وذخروا مِيرةً تكفيهم لسنةٍ . وأشار عبّاس بن مرداس

ص: 815


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 453 .
2- (2) المغازي 3 : 924 .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 478 . الدّبّابات هنا هي المدرّعات الحالية . وهي آلة تُتّخذ في الحصار كانوا يدخلون في جوفها ثمّ تُدفَع في أصل الحصن فينقبونه وهم في جوفها .

في شعر أنشده في حرب هوازن وثقيف إلى ثقيف بقوله : «هم رأس العدوّ من أهل نجد»(1) .

واستقرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في منطقة مرتفعة خارج الطّائف ، وهي الّتي بنت فيها ثقيف مسجد الطّائف(2) . وحوصرت المدينة المذكورة أيّاما - خمسة عشر أو ثمانية عشر أو تسعة عشر يوما - وهاجم بعض المسلمين ذات مرّة سور الطائف متترّسين بتُرسين . واحترق التُرسان المذكوران اللذان كانا من جلود البقر بسكك حديد محماة للمشركين ، ورجع المسلمون . وأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أن يُقطع عدد من أشجار العنب العائدة لثقيف وذلك لممارسة الضغط عليهم(3) . ومن جهة أُخرى نادى منادي رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : أيّما عبدٍ نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حرّ . فخرج من الحصن رجال ، بضعة عشر رجلاً . وبغضّ النظر عن مجيء هؤلاء ، فإنّ أهل الطّائف واجهوا مشكلة جديدة داخل المدينة ، إذ ما عادوا يثقون بعبيدهم(4) .

ويُستشفّ من الأوضاع بعد مضيّ خمسة عشر يوما أن بقاء الجيش هنا لا يُجدي كثيرا ، لأنّه كما قال نوفل بن معاوية للنبيّ صلى الله عليه و آله وسلم واصفا ثقيفا بأنّها ثعلب في جُحر ، إن أقمتَ عليه أخذته ؛ وإن تركته لم يضرّك شيئا(5) . ولم يتسنّ لثقيف أن تظلّ في الحجاز - الّذي يسيطر الإسلام على جميع أرجائه - كقوّة عسكريّة تهاجم مكّة أو المدينة . وما عليها إلاّ الاستسلام للظروف الجديدة عاجلاً أم آجلاً . وحين تحدّث بعض المسلمين بالانصراف، خالفهم جماعة ، وذهب جماعة إلى عمر ، لكنّه قال - وكان قد شهد تجربة الحديبيّة - : «قد رأينا الحديبيّة ، ودخلني في الحديبيّة من الشّكّ ما لا يعلمه إلاّ اللّه ،

ص: 816


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 460 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 503 .
2- (2) سبل الهدى والرّشاد 5 : 558 .
3- (3) المغازي 3 : 928 .
4- (4) مستدرك الوسائل 11 : 97 ؛ المغازي 3 : 931 .
5- (5) نفسه 3 : 937 .

وراجعتُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يومئذٍ بكلام ليت إنّي لم أفعل»(1) . ومهما كان فقد غادر صلى الله عليه و آله وسلم الطّائف، وبعد مدّة قدم إليه وفدها في المدينة ، ثمّ انتشر الإسلام بين ثقيف.

وثمّة حوادث وملاحظات جديرة بالذكر أثناء حصار الطّائف . منها أنّ حكم القصاص أُجري لأوّل مرّة فيها . فقد قتل رجل من بني ليث رجلاً من هُذيل عمدا ، فنفّذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم فيه حكم القصاص . وإذا صحّ ما قيل : «فكان أوّل دمٍ أُقيد به في الإسلام»(2) ، فيستبين منه أنّ الحكم المذكور كان غير مطبّق بالمدينة قبل ذلك .

ومنها حادثة تتعلّق برجلٍ يُدعى ماتعا من موالي خالة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم . فقد بلغه صلى الله عليه و آله وسلم أنّه قال لخالد بن الوليد : «إن افتتح رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم الطّائف غدا فلا تفلتنّ منك بادية بنت غيلان فهي كما قال الشاعر : «من نظر إليها استغرقت طرفه وبصره ، ووجهها ليس كثير اللحم ، وفي بياضه حمرةٌ» . فلمّا سمع صلى الله عليه و آله وسلم كلامه أمر أن يُجلى إلى منطقة بعيدة عن المدينة . وحين شكيا الحاجة أذن لهما أن ينزلا كلّ جمعة . وظلاّ هناك إلى آخر خلافة عمر ، ولمّا ولي عثمان رجعا(3) .

ومنها ما نقله الفَسَويّ عن عبد الرحمن بن عوف أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لمّا افتتح مكّة انصرف إلى الطّائف فحاصرهم تسع عشرة ليلة أو ثمان عشرة ، فلم يفتحها ... فقام في الناس خطيبا فقال :

«أيّها النّاس إنّي لكم فَرَطٌ . أُوصيكم بعترتي خيرا ، فإنّ موعدكم الحوض . والّذي نفسي بيده لتُقيمُنَّ الصلاة ولتُؤتُنَّ الزكاة ، أو لأبعثنّ إليكم رجلاً منّي أو كنفسي فليضربنَّ أعناق مقاتلتكم وليسبينَّ ذراريكم» .

قال : فرأى النّاس أنّه أبو بكر أو عمر !! فأخذ بيد عليّ رضي اللّه عنه ، فقال : «هذا»(4) .

ص: 817


1- (1) المغازي 3 : 936 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 482 ؛ المغازي 3 : 927 ؛ سبل الهدى والرشاد 5 : 557 .
3- (3) المغازي 3 : 933 ، 934 .
4- (4) المعرفة والتّاريخ 1 : 283 .

وتوجّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إلى الجعرانة بعد فكّ الحصار عن الطّائف . وفيها أسرى حنين وغنائمها . وكان عدد الأسرى قرابة ستّة آلاف من النساء والصّغار والكبار ، وشملت الغنائم أربعة وعشرين ألف بعير ، وعدداً لا يحصى من الأغنام(1) الّتي أتت بها هوازن إلى ميدان الحرب . ولمّا رأى رؤساء هوازن الفارّون هذا الوضع ، جاءوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في وفدٍ وهم يستعفونه ويطلبون منه إطلاق أسراهم . فخيّرهم بين الأموال والأسرى ، فاختاروا الأسرى عادةً . ثمّ قال صلى الله عليه و آله وسلم : «أمّا ما لي ولبني عبد المطّلب فهو لكم ... وإذا صلّيتُ الظّهر بالنّاس فقولوا : إنّا لنستشفع برسول اللّه إلى المسلمين ، وبالمسلمين إلى رسول اللّه» . وفعلوا ذلك بعد الصّلاة ، فتنازل صلى الله عليه و آله وسلم عن حقّه ، وكذلك فعل المهاجرون والأنصار بعده(2) .

ولم يرغب في ذلك المسلمون الجدد مثل عُيينة رئيس فزارة ، والأقرع بن حابس من بني تميم ، وعبّاس بن مرداس من بني سليم إذ لم يتنازلوا عن حقّهم ، إلاّ أنّ قبائلهم تنازلت لأجل رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم على الرغم منهم ، فرضوا . وسأل رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عن مالك بن عوف أحد رؤساء هوازن . وحين بلغه أنّه في الطّائف قال ما مضمونه : قولوا له إن أسلم فسنعيد له أهله مع مئة من الإبل . وبعد أن أسلم قال في شعرٍ له أنّه لم يَرَ بين النّاس أحدا كمحمّد صلى الله عليه و آله وسلم . وجعله رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم رئيس مَن كان أسلم من قومه(3) .

وسار رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بعد أن التحق أسرى حنين بقبائلهم . وكان النّاس يطلبون منه أن يقسّم عليهم الإبل والغنم الباقية . وألحّوا عليه كثيرا حتّى سقط رداؤه من كتفه . ثمّ وقف وقال ما مضمونه : ما يحلّ لي إلاّ الخمس ، وكلّ من أخذ شيئا ،

ص: 818


1- (1) المغازي 3 : 943 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 489 ؛ المغازي 3 : 951 .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 491 .

ولو صغيرا ، فليردّه في مكانه(1) . وقسّم الأموال بين الناس ، وجعل للمشركين أو المسلمين الجدد الّذين تمكّن الشّرك من نفوسهم سهما خاصّا . وعرفوا ب-المؤلّفة قلوبهم . وسرد ابن إسحاق وابن سعد فهرسا بأسمائهم وهم من طوائف مختلفة . ومن هؤلاء أبو سفيان، وابناه يزيد ومعاوية ، وحويطب بن عبد العزّى ، وعُيينة بن حصن ، وحكيم بن حزام، وصفوان بن أُميّة(2). وسهم كلٍّ منهم مئة بعيرٍ مع مقدارٍ من الذّهب.

ولمّا أُعطي عبّاس بن مرداس أربعة أبعرة لام النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في شعرٍ أنشده . فقال صلى الله عليه و آله وسلم : «اقطعوا لسانه عنّي» . فأعطوه مئةً من الإبل(3) . وفي موضع آخر اعترض بعضهم عليه صلى الله عليه و آله وسلم أنّه أعطى عيينة وأمثاله سهما وترك جُعيل بن سُراقة فقال : «... ولكنّي تألّفتهما ليُسلما ، ووكلتُ جُعيل بن سراقة إلى إسلامه(4)» . وإنّ عنوان المؤلّفة قلوبهم المذكور سلفا أُخذ من القرآن الكريم . ثمّ إنّه لم يمثّل سابقةً حسنةً لهم .

وتتطلّب طبيعة الأمور أن يعطي صلى الله عليه و آله وسلم الأشخاص المذكورين ما بقي تحت تصرّفه كخمس بعد تقسيم سهم المقاتلين . ولم ينصّ على ذلك أحد فيما رأيناه . ويذكر الواقديّ أنّ كل رجل بعد إحصاء النّاس أُعطي أربعا من الإبل أو أربعين شاةً(5) . وقيل : قام ذو الخويصرة الّذي تزعّم الخوارج في عهد أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام وقال : اعدل يا رسول اللّه ! فقال صلى الله عليه و آله وسلم : «ويلك فَمن يعدل إذا لم أعدل ؟»(6)

وتمثّلت المشكلة الأُخرى بالأنصار . فقد شعروا أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم اعتنى بقريش

ص: 819


1- (1) المغازي 3 : 943 .
2- (2) انظر : الطّبقات الكبرى 2 : 152 ، 153 .
3- (3) المغازي 3 : 947 .
4- (4) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 495 ، 496 ؛ المغازي 3 : 948 .
5- (5) المغازي 3 : 949 .
6- (6) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 496 ، 497 . وروى ابن إسحاق هذا الخبر أيضا عن الإمام الباقر عليه السلام . وانظر : المغازي 3 : 948 .

أكثر منهم ، وتركهم بعد عقدٍ من قتالهم وجهادهم معه . حتّى إنّ حسّان بن ثابت عبّر عن هذا الشعور في شعرٍ له . وذكر فيه تعجّبه من تقديم بني سُليم بسوابقهم المعروفة على من آوى النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ونصره وأيّده ، وهم الّذين سمّاهم اللّه تعالى الأنصار ، لأنّهم نصروا دينه في حروب متعدّدة(1) . وبلغ الأمر مبلغا أنّ سعد بن عبادة أتى النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم مندوبا عنهم وأبلغه اعتراضهم ، وذكر أنّه هو نفسه أحد قومه ! فأمر بجمعهم ، فاجتمعوا ، ثمّ قال :

يا معشر الأنصار ، مقالة بلغتني عنكم ... ألم آتكم ضلاّلاً فهداكم اللّه ، وعالةً فأغناكم اللّه ، وأعداءً فألّف اللّه بين قلوبكم ... ألا تجيبوني ؟

قالوا : وماذا نُجيبك يا رسول اللّه ، ولرسول اللّه المنّ والفضل ؟ قال :

أما واللّه لو شئتم قلتم فصدقتم : أتيتنا مكذَّبا فصدَّقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وطريدا فآويناك ! ... وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في شيء من الدنيا تألّفت به قوما ليُسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم . أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشّاء والبعير وترجعوا برسول اللّه إلى رحالكم ؟ والّذي نفس محمّد بيده ، لولا الهجرة لكنتُ امرأً من الأنصار ، ولو سلك الناس شِعبا ، وسلكت الأنصار شِعبا لسلكتُ شِعبَ الأنصار ... اللّهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار .

قال : فبكى القوم حتّى أخضلوا لحاهم ، وقالوا : رضينا يا رسول اللّه حظّا وقسما(2) . فقد أثّر كلامه صلى الله عليه و آله وسلم فيهم تأثيرا بالغا وهدّأهم . وبعد ذلك توجّه صلى الله عليه و آله وسلم إلى مكّة لأداء العمرة ثمّ قفل راجعا إلى المدينة .

ص: 820


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 497 ، 498 .
2- (2) نفسه 4 : 499 - 500 ؛ المغازي 3 : 957 - 958 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 154 .

غزوة تبوك (رجب سنة تسع) [ منافقو المدينة في مرآة سورة التّوبة ]

تقع بلاد الشام في شمال الجزيرة العربيّة ، وكانت لقريش قياسا بغيرها معرفة وافية بها لتردّدها عليها . من هنا لو كان قُدِّر للإسلام أن ينتشر ، فهي أوّل منطقة مقصودة ، أو كحدّ أدنى أقسام منها كانت تقع شمال الحجاز . ونحن نعلم أنّ اصطلاح الشّام يضمّ منطقة فسيحة تشمل اليوم سورية ، والأردن ، وفلسطين ، ولبنان . وكانت هناك مبادرة محدودة نسبيّا قبل تبوك تمثّلت في موقعة مؤتة الّتي لم تُثمر شيئا . ولمّا فُتحت مكّة أصبح ضروريّا أن يسير إليها جيش عظيم يعبّر عن حضور قاطع للحجاز الإسلاميّ فيها ، بخاصّة أنّ أخبارها الّتي ينقلها بعض التّجّار الأنباط - الّذين يأتون المدينة بالدقيق الأبيض والزّيت - إلى المدينة تُنبئ عن جهود هرقلها في تعبئة جيش من القبائل العربيّة ، ذلك الجيش الّذي لا بدّ من إعداده لحرب الحجاز .

وينبغي ألاّ نغفل عن أنّ الشّام كانت منطقة عربيّة خاضعة لسيطرة الرومان ، فالمؤمَّل منها أن تتجاوب مع حركة عربيّة تلتقي معها . وأهمّ القبائل العربيّة في الشّام لخم ، وجذام ، وغسّان ، وعاملة(1) . مع هذا اشتهر بين المسلمين أنّ هذه الحرب هي مع «بني الأصفر»(2) والمقصود من «بني الأصفر» هم الرّوم .

وكان هذا الخبر مقلقا نوعا ما للمسلمين الّذين كانوا يمثّلون قوّة ضئيلة أمام جيش الشّام . فما عليهم إلاّ أن يعبّئوا جيشا عظيما مناسبا للمواجهة ومن الطبيعيّ أنّ

ص: 821


1- (1) المغازي 3 : 990 .
2- (2) المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 423 . وذُكرت وجوه مختلفة في تسميتهم بهذا الاسم ، منها أنّهم أولاد صفر ابن روم بن يعصو . انظر : تاج العروس 12 : 336 .

مثل هذا العمل لا يمكن أن يظلّ مخفيّا(1) . وبعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم مندوبين إلى مناطق مختلفة ، منها مكّة كي يتهيّأ الناس لهذا السفر . وأبان عن المقصد ، وطلب من المسلمين المشاركة بوصفه واجبا شرعيّا .

وبغضّ النظر عمّا يتعلّق بقتال الروم ، فإنّ غزوة تبوك كانت - لدواعٍ - اختبارا للمسلمين ، وكشف نيّاتهم . ويعود ذلك إلى أنّ السّفر المذكور كان في فصلٍ شديد الحرارة ، وطريقٍ طويلٍ طويلٍ مع مشقّات كثيرة ، وتزامن مع نضج المحاصيل ، ورغبة الناس في الاستظلال(2) . وبلغ من العُسر مبلغا أنّ الجيش عُرف فيه بجيش العُسرة حقّا .

ولمّا أُعلن النّفير العامّ ، انبرى له بعض المسلمين من ضعفاء الإيمان . ونشط المنافقون الّذين كانوا يومئذٍ أكثر من ذي قبل . وتذرّع المتذرّعون بأنواع الذّرائع للتملّص من هذه المهمّة وحاولوا استئذان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في البقاء بالمدينة . وتحدّث القرآن الكريم في سورة التوبة عن هذه الجهود ، وفصّل الكلام عن الّذين كانت قلوبهم مع النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أو الذين كانوا يبحثون عن مناصٍ للتخلّص من مسؤوليّة هذا السّفر . ونقل الآيات المرتبطة بهذا الموضوع أفضل من كلّ إشارة تاريخيّة أُخرى .

وتبدأ المطالب المتعلّقة بتبوك والنّفير العامّ فيها من الآية الثامنة والثّلاثين من السّورة المذكورة . قال تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِى سَبِيلِ اللّه ِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِى الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابا أَلِيما وَيَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئا وَاللّه ُ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ *... انفِرُوا خِفَافا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللّه ِ ذلِكُمْ

ص: 822


1- (1) يقول كعب بن مالك : «كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لا يغزو غزوة إلاّ ورّى بغيرها حتّى كانت غزوة تبوك ... فجلّى للنّاس أمرهم ليتأهّبوا لذلك أُهبة غزوهم» . الطّبقات الكبرى 2 : 167 ؛ المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 422 ؛ المغازي 3 : 990 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 516 .

خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * لَوْ كَانَ عَرَضا قَرِيبا وَسَفَرا قَاصِدا لاَتّبَعُوكَ وَلكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّه ِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللّه ُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ » .

تدلّ هذه الآيات على الروح المسيطرة على المسلمين في تلك الفترة التي كانت تمثّل السنين الأخيرة من حياة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم . وأذن صلى الله عليه و آله وسلم لمن أراد بالبقاء إشفاقا عليهم ، فخاطبه ربّه بسبب هذا الإذن قائلاً : « عَفَا اللّه ُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبينَ * لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّه ِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللّه ُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّه ِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ » .

ورأى اللّه سبحانه المصلحة في بقاء أمثال هؤلاء الضعفاء الإيمان في بيوتهم ، لأنّهم لو ذهبوا لأدّى ذهابهم إلى إضعاف معنويّة المسلمين . قال تعالى في الآية السّادسة والأربعين : « وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لاَءَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِن كَرِهَ اللّه ُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ *... لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّه ِ وَهُمْ كَارِهُونَ » .

وكانت معاذير بعضهم طريفة ، كالجدّ بن قيس الّذي كان متموّلاً ؛ فقد امتنع من الخروج ، وعذره أنّه سيُفتتن بالجميلات من الرّوم ولا يصبر عنهنّ(1) . « وَمِنْهُم مَن يَقُولُ ائْذَن لِى وَلاَ تَفْتِنِّى أَلاَ فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ » . وهؤلاء وأمثالهم كانوا من منافقي المدينة، وعددهم كبير. وجاء في الآية الخمسين : « إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ » .

وأخبر سبحانه أنّ هؤلاء حتّى لو أنفقوا لا يُتقبّل منهم ، لأنّهم كافرون باللّه في

ص: 823


1- (1) المغازي 3 : 992 ؛ الاستيعاب 1 : 251 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 516 .

أعماق قلوبهم . « وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّه ِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ » . وهؤلاء كانوا عادةً من المترفين في المدينة . لذا قال تعالى لنبيّه : « فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللّه ُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ » وقال في منافقي المدينة أيضا : « وَيَحْلِفُونَ بِاللّه ِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُمْ مِنكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ * وَمِنْهُمْ مَن يَلْمِزُكَ فِى الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ » .

ونقل سبحانه في الآية الستّين من سورة التّوبة اعتراض هؤلاء المترفين الّذين أرادوا أن تُدفَع إليهم الصّدقات والزكوات أيضا ، فذكر أنّ مصرفها « لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللّه ِ وَابْنِ السَّبِيلِ » . وبعد ذلك تحدّث عن قيام المنافقين بإيذاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، ووردت آياتٌ عن الروح الّتي يحملونها .

إنّ المنافقين ، في الوقت الّذي كانوا يتناجون بعضهم مع بعض ، كانوا قلقين من أن تنزل فيهم آيات تخزيهم وتُخجلهم ، وكان بعضهم يترصّد في «العقبة» وسط طريق تبوك ليفتك برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عند رجوعه . وأخبره جبريل عليه السلام بذلك . فبعث صلى الله عليه و آله وسلم مَنْ يطردهم من المكان الّذي يترصّدون فيه . وعرف حذيفة الّذي كان معه صلى الله عليه و آله وسلم بعضهم ، كما عرّف صلى الله عليه و آله وسلم بعضهم الآخر أيضا . وسأل حذيفة : ألا تقتلهم ؟ فقال صلى الله عليه و آله وسلم ما مضمونه : أكره أن تقول العرب : إنّ محمّدا لمّا انقضت الحرب وضع يده في قتل أصحابه . ويضيف الطَبْرسيّ أنّ هذا نُقل عن الإمام الباقر عليه السلام أيضا إلاّ إنّ ما ورد فيه هو أنّهم كانوا في عسكرهم يتحدّثون عن قتل رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم .

ص: 824

وتشير الآية الرابعة والستوّن والخامسة والستّون من سورة التوبة إلى كلامهم(1) : « يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِى قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتُهْزِءُوا إِنَّ اللّه َ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّه ِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * ...الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللّه َ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ » . وكان المنافقون يسخرون من الّذين كانوا ينفقون(2) . لذا قال تعالى : « اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّه ُ لَهُم » .

وتحدّثت الآية الحادية والثمانون مرّة أُخرى عن الّذين تخلّفوا في تبوك ، وأشارت إلى أنّ معاذيرهم حرارة الجوّ : « فَرِحَ الْمُ-خَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّه ِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللّه ِ وَقَالُوا لاَ تَنْفِرُوا فِى الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ » . ثمّ قال سبحانه في الآية الرابعة والثمانين : « وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَدا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّه ِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ *... وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللّه ِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ * ...وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللّه َ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ » .

وأذن لبعضهم بالبقاء. وهؤلاء هم الضعفاء والمرضى ومن كان غيرقادر على تأمين نفقات سفره . وفيهم من اشتدّ حزنه لعجزه عن الذّهاب . وبشأنهم قال تعالى في الآية الثانية والتسعين إلى الآية الثانية بعد المئة من السورة المذكورة : « وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا

ص: 825


1- (1) مجمع البيان 5 : 46 . وبشأن الأقوال الأُخرى انظر : المغازي 3 : 1004 .
2- (2) التوبة : 79 .

أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّه ُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لاَ تَعْتَذِرُوا لَن نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّه ُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ... * ... سَيَحْلِفُونَ بِاللّه ِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّه َ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرا وَنِفَاقا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللّه ُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّه ُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَما وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوءِ وَاللّه ُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّه ِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّه ِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّه ُ فِى رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّه َ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِىَ اللّه ُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدا ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ * وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا وَآخَرَ سَيِّئا عَسَى اللّه ُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّه َ غَفُورٌ رَحِيمٌ » .

وجاء في الآية السابعة عشرة والمئة : « لَقَد تَابَ اللّه ُ عَلَى النَّبِىِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِمَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ » .

وأشارت الآية الثامنة عشرة بعد المئة إلى ثلاثة من الصّحابة الّذين لا يُتَوقّع منهم التخلّف البتّة . وأحدهم كعب بن مالك شاعر الرسول صلى الله عليه و آله وسلم في الحروب الذي طالما افتخر بطاعته المطلقة لأوامر الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ، ونقلنا شيئا من شعره في موضعٍ من هذا الكتاب . والآخران هما مرارة بن الربيع ، وهلال بن أُميّة اللذان لم يرضيا بالخروج

ص: 826

حتّى بعد إصرار النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم . ولم يكلّمهم صلى الله عليه و آله وسلم بعد رجوعه عملاً بأمر اللّه سبحانه إذ أمره أن يعرض عنهم . كما أُمر سائر المؤمنين بالابتعاد عنهم . علما أنّهم لم يكونوا في عداد المنافقين ، بل فعلوا ما فعلوا إهمالاً لأمره صلى الله عليه و آله وسلم وحبّا للدّنيا .

ولمّا عاد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم والمسلمون لجأ أولئك إلى الجبال مكرهين . وكانت عوائلهم تأخذ إليهم الطعام دون أن تتحدّث معهم إلى أن قبل اللّه توبتهم(1) « وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَ مَلْجَأَ مِنَ اللّه ِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللّه َ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ » .

والآيات الأُخرى من هذه السّورة شأنها «مسجد ضرار» . فعندما بنى الصحابة وبنو عمرو بن عوف مسجد قباء ، وصلّى فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، قام بنو غنم بن عوف ببناء مسجد إلى جانبه بدافع النفاق والحسد ، وطلبوا منه صلى الله عليه و آله وسلم أن يصلّي فيه . وكان يتجهّز إلى تبوك فوعدهم بالصلاة فيه بعد رجوعه ، لكنّ اللّه سبحانه نهاه عن الصلاة في ذلك المسجد الّذي سمّاه «مسجد ضرار» وقال : « وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدا ضِرَارا وَكُفْرا وَتَفْرِيقا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادا لِمَنْ حَارَبَ اللّه َ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّه ُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ [ مسجد قباء ] أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللّه ُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ » . فأمر صلى الله عليه و آله وسلم بحرقه بعد عودته(2) .

ويذكر ابن إسحاق أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أمر قبل الذّهاب إلى تبوك بحرق بيت لأحد اليهود يُدعى سويلم ، وكان قاعدة للمنافقين(3) .

ص: 827


1- (1) مجمع البيان 5 : 79 ؛ المغازي 3 : 1052 ، 1053 ؛ المصنّف ، ابن أبي شيبة 7 : 423 . يقول كعب : أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أن «لا يكلّمنا أحد ولا يسلّم علينا أحد ولا يردّ علينا سلام» ودام هذا الوضع أربعين يوما .
2- (2) المغازي 2 : 1046 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 530 .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 517 .

على أيّ حال ، بعد تبليغ كثير تجهّز قرابة ثلاثين ألفا إلى تبوك ومعهم عشرة آلاف من الخيول(1) . وخلّف صلى الله عليه و آله وسلم عليّا عليه السلام مكانه وخرج من المدينة . وكان واضحا أنّ السفر إلى تبوك كان طويلاً من جهة ، وتخلّف منافقون كُثر في المدينة من جهة أُخرى . من هنا كان ضروريّا أن يبقى فيها رجل كالإمام عليه السلام للمحافظة عليها. بيد أنّ المنافقين أرجفوا بأنّه تركه فيها رغبةً عن مصاحبته إيّاه ، ممّا دفع الإمام عليه السلام إلى أن يأتيه صلى الله عليه و آله وسلم ويطلب منه أن يأخذه معه ، فقال صلى الله عليه و آله وسلم : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي»(2) . وهذا حديث متواتر ثابت لم يُنكره أحد من كتّاب السِّير والمحدِّثين والمؤرّخين قطّ . ويرى الشيعة أنّ هذا الحديث أحد الأدلّة على إثبات إمامة الإمام عليّ عليه السلام .

وحيثما صلّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في طريقه إلى تبوك بُني في ذلك الموضع مسجد . وتحدّثنا قبل ذلك عن تبرّك الصّحابة بمصلاّه صلى الله عليه و آله وسلم وبناء المسجد . وذكر ابن إسحاق والواقديّ سبعة عشر مسجدا بأسمائها الّتي تعبّر عن المناطق الّتي كانت فيها الصلاة(3) .

وبقي أبوذرّ في وسط الطّريق لهزال بعيره ، ثمّ لحق برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بعد أيّامٍ ماشيا . فقال البعض : تخلّف أبوذرّ عن العسكر لكنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قال حين وافاه : «مرحبا بأبي ذرّ ! يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويُبعث وحده»(4) .

وضلّت في بعض المنازل ناقة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم القصواء . فقال أحد المنافقين : أليس محمّد يزعم أنّه نبيّ ويخبركم عن خبر السّماء ، وهو لا يدري أين ناقته ؟ فقال صلى الله عليه و آله وسلم :

ص: 828


1- (1) المغازي 2 : 1002 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 519 ، 520 .
3- (3) المغازي 3 : 999 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 531 . ذكر الواقديّ خمسة عشر ، وابن إسحاق سبعة عشر .
4- (4) المغازي 3 : 1001 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 524 . ونقل ابن إسحاق خبر وفاة أبي ذرّ بالربذة .

«إنّ منافقا يقول ... وإنّي واللّه ما أعلم إلاّ ما علّمني اللّه ، وقد دلّني عليها ، وهي في الواديّ في شعب كذا وكذا - الشعب أشار لهم إليه - حبستها شجرة بزمامها»(1) . وتدلّ هذه الحكاية على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لم يبنِ حياته العاديّة على علم الغيب . والقول أنّه لا يعلم الغيب أي : لا يعلم شيئا مستقلاًّ عن اللّه ، فقد ثبت وكان متيسّرا أنّ اللّه سبحانه علّمه شيئا من الغيوب .

ولبث رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في تبوك عشرين يوما . ثمّ رجع إلى المدينة بدون أن يحدث أيّ اصطدام بالعدوّ . وعندما كان صلى الله عليه و آله وسلم في تبوك بعث سريّة إلى دومة الجندل(2) . وكان عليها الأُكيدر بن عبد الملك من قبيلة كندة ، وكان نصرانيّا تابعا لملوك الغساسنة بالشام . وأفلح خالد بأخذه إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم (3) . وبعد ذلك كتب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كتابا إلى أهل دومة الجندل . وهذا الكتاب كالكتب الّتي كانت تكتب لوفود القبائل ومن النّقاط الأصليّة في الكتاب أحكام الزكاة ، وشموليّة ذمّة اللّه والرسول لمن يكتب لهم - ويعني ذلك دفاعه صلى الله عليه و آله وسلم عنهم وحفظ حرمة أرواحهم وأموالهم - وإقامة الصّلاة وإيتاء الزكاة(4) .

ويدلّ ظاهر الكتاب على أنّ الأُكيدر أسلم ، مع خلافٍ بين المصادر في هذا الشّأن . ولو صحّ نصّ الكتاب فلا ريب في إسلام الأُكيدر ، مع هذا تُشير رواية الواقديّ إلى أنّه صلى الله عليه و آله وسلم اتّفق معه فيإعطاء الجزية(5) . ومن المحتمل أنّ الكتابين الواردين في المكاتيب

ص: 829


1- (1) المغازي 6 : 1010 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 523 .
2- (2) منطقة في شمال السعوديّة على مسافة (450) كيلومترا عن تيماء .
3- (3) المغازي 3 : 1027 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 166 . ينصّ هذا الخبر على أنّ خالدا جاء بالأُكيدر إلى المدينة .
4- (4) في الكتاب ومصادره انظر : مكاتيب الرسول 2 : 387 - 393 . وذُكر فيه الكتابان .
5- (5) المغازي 3 : 1027 .

يعودان إلى الزّمن الّذي اعتنق فيه أهل دومة الجندل الإسلام كسائر القبائل . والعجيب أنّ الواقديّ نفسه ذكر كتابا صُرِّح فيه بإسلامه(1) .

وجاء في هذا السّفر حاكم أيلة - وهي اليوم من مناطق الأردن وتعرف بالعقبة - واسمه يُحَنّة بن رؤبة ، وكان نصرانيّا ، إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بعد أن كتب صلى الله عليه و آله وسلم له كتابا يحمل التهديد والوعيد ، وعقد معه معاهدةً على إعطاء الجزية(2) . ونقل الواقديّ نصّ هذه المعاهدة وأهمّ ما فيها هو طلبهم الأمان لسفنهم وقوافلهم التجاريّة وصرّح فيها بحلّيّة مال من يُثير الفتنة(3) .

وكتب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لأهل جرباء ، وأذرح كتابا بأنّهم آمنون بأمان اللّه ورسوله ، وأنّ عليهم مئة دينار في كلّ رجب(4) . وكتب مثله لأهل مقنا الّذين كانوا يسكنون قريبا من أيلة . والطّريف في هذا الكتاب أنّه جعل واليهم منهم أو من «أهل رسول اللّه»(5). ونقل بعض المصادر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كتب من تبوك كتابا إلى قيصر - الّذي كان يُحتَمل أنّه حاكم الشام - ودعاه إلى الإسلام أو دفع الجزية(6) . وهكذا استطاع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في سياق غزوة تبوك أن يقيم علاقات مع القبائل العربيّة المسيحيّة في جنوب الشّام ، ويوقّع معهم معاهدات من موقع القوّة . وكان لإمكانيّة تغلغل الإسلام بين القبائل العربيّة القاطنة في تلك المناطق ممهِّدات كثيرة . إذ على

ص: 830


1- (1) المغازي 3 : 1030 .
2- (2) مكاتيب الرسول 1 : 161 - 164 .
3- (3) المغازي 3 : 1031 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 526 .
4- (4) المغازي 3 : 1032 .
5- (5) انظر في ذلك : مكاتيب الرسول 1 : 288 - 291 . ووُضع كتاب نُسب إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في أهل مقنا أيضا . وناقش الأُستاذ أحمدي - دامت إفاضاته العالية - أدلّة وضعه واختلاقه في صص292 - 294 من مكاتيبه .
6- (6) الأموال أبو عبيد : 22 نقلاً عن مكاتيب الرسول 1 : 116 .

الرغم من قوّة النصرانيّة فيها لعدّة قرون ، فانّ العرب كانوا يرون أنفسهم خاضعين لسلطة الروم بشكل طبيعيّ . ويمكن أن يولّد هذا ردّ فعل ايجابيّ لمصلحة الإسلام في تيك الأرجاء . ونحن نعلم أيضا أنّنا إذا استثنينا القوّة العسكريّة المتفوّقة للروم على العرب ، فإنّ مقاومة المناطق المذكورة للإسلام كانت في غاية الضآلة(1) .

انتشار الإسلام في شبه الجزيرة العربيّة إبّان السّنة التاسعة والعاشرة

انتشر الإسلام بين القبائل العربيّة والأعرابيّة بعد فتح مكّة بأسرع ما يكون . وأسلمت قريش سادنة الحرم ، واستظلّت مكّة بظلّ الإسلام . فلا عقبة يؤبه لها بعد ذلك في طريق إسلام القبائل العربيّة . وبعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كتبا إلى كثير من رؤساء القبائل المهمّة وأراد منهم أن يُسلموا . واستسلم آخرون كثر منهم للظروف الجديدة ، واعتنقوا الإسلام عمليّا . ونُقل عن بعضهم أنّهم لمّا رأوا وفود العرب قد أسلمت بأسرها أسلموا لئلاّ يُعرفوا بأنّهم شرّ العرب(2) .

وكان واضحا أنّ مثل هذا الإسلام لم ينطلق منطلق صدقٍ قطّ ، بل إنّ معظم القبائل - بالنظر إلى الوضع الجديد - لم يجد بُدّا إلاّ اعتناق الإسلام . من جانب آخر ، فرّق رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بين إسلام هؤلاء ، والإيمان الحقيقيّ . فهم كانوا اَسلموا فحسب ، ولم يعرفوا الإسلام من عمق عقولهم ، بل لم يرضوه في أعماق قلوبهم(3) . وما ارتداد كثير

ص: 831


1- (1) ومن المفيد أيضا الالتفات -- كما مرّ سابقا - إلى أنّ القسم الأكبر من كتب الدعوة بعثها النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم إلى نصارى الشام ، ومصر ، والحبشة ، والروم .
2- (2) الطّبقات الكبرى 1 : 338 .
3- (3) قال تعالى في الآية (14) من سورة الحجرات متحدّثا عن الأعراب الحديثي عهد بالإسلام : «قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُم مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» .

من القبائل بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إلاّ شاهد على كفر الأعراب الحديثي عهد بالإسلام . وكان العام التّاسع عام إسلام القبائل أو عام الوفود ، أي : حضور مندوبي القبائل عند النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم لإعلان الإسلام . وصنّف كتّاب السِّير فهرسا بأسماء هذه الوفود . ومن المناسب أن نذكر بعضها وطريقة تعاملها مع النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بإجمال .

كان وفد ثقيف من أهمّ الوفود المذكورة . وموطنها الطائف . ووقفت أمام الهجوم الّذي شنّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم على مدينتهم . وبعد مضيّ شهورٍ لم يجدوا حيلةً أمامهم إلاّ اعتناق الإسلام . وكانوا يشعرون أنّهم لا يستطيعون الخروج من حصنهم قدما واحدةً ما لم يسلموا(1) ، فما عليهم إلاّ أن يخطّطوا في هذا المجال بأسرع ما يكون . وقبل أن يتّخذوا قرارا ما أسلم عروة بن مسعود ورجع إلى الطائف . بيد أنّهم قتلوه لأنّ الأجواء ما زالت ضدّه . وبعد تبدّل الظّروف توجّه وفد من ثقيف إلى المدينة برئاسة عبد ياليل بن عمرو . وبدأوا بالمغيرة بن شعبة الّذي كان من ثقيف ، فأخذهم إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . وسُرَّ صلى الله عليه و آله وسلم بمقدمهم واحتفى بهم . ونُصبت لهم خيام عند المسجد ، فشهدوا صلاة الصحابة وتهجّدهم في اللّيل أيّاما .

وبعد ذلك ، عرض وفد ثقيف عددا من الشّروط لقبول الإسلام(2) . منها استحلال الزنا ، فخالف رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم هذا الشّرط بشدّة ، وتلا قوله تعالى : « وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً »(3) ثمّ استحلال الرّبا ، فتلا صلى الله عليه و آله وسلم الآية (278) من سورة البقرة وأخبرهم أنّ اللّه سبحانه حرّمه ولا سبيل إلى استحلاله . ثمّ سألوه استحلال الخمر ، فقرأ عليهم الآية (90) من سورة المائدة . ثمّ استأذنوه أن يَدَعَ لهم وثنهم الرَّبَّة لا يهدمه ، فأبى . فكلّموه أن يدعه لهم سنتين أو ثلاث سنين ، فأبى . فذكروا أنّ

ص: 832


1- (1) المغازي 3 : 962 .
2- (2) وهو ما ذكره سبحانه في سورة الحجرات أنّهم يمنّون على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بإسلامهم في حين أنّ اللّه تعالى هو الّذي يمنّ عليهم بهدايتهم .
3- (3) الإسراء : 32 .

مشكلتهم هي سفهاؤهم ونساؤهم وصبيانهم ، فإن كان لا بدّ من هدمه ، فلا يهدموه بأيديهم . فقبل ذلك منهم ، وبعث إلى الطّائف من يهدمه . وبهذا أسلمت مدينة أخرى من مدن الحجاز وهي الطائف(1) .

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يحترم رؤساء القبائل الّذين كانوا وجهاء قومهم وصفوة قبائلهم في الخصال الإنسانيّة . وكانت الوفود الوافدة عليه صلى الله عليه و آله وسلم تشمل الرؤساء المذكورين عادةً . وكان هؤلاء ضيوفه صلى الله عليه و آله وسلم خلال الأيّام الّتي كانوا يمكثون خلالها بالمدينة . وإذا ما ذهبوا يقدّم لهم بعض الهدايا الّتي قد تكون ذهبا أو فضّة أحيانا(2) . وهذا التكريم جعلهم يتعلّقون به صلى الله عليه و آله وسلم . وكان يكفي أن يُسلم رئيس القبيلة ، فيتبعه أفراد قبيلته جميعهم(3) . وبلغ إلطافه صلى الله عليه و آله وسلم ببعض القبائل مبلغا أنّه جعل لها مرتعا . وكان طبيعيّا أن ليس لأحد حقّ انتهاكه على سبيل المثال ، أعطى بني عقيل منطقة العقيق وكتب لهم :

«بسم اللّه الرحمن الرحيم . هذا ما وهبه محمّد رسول اللّه لربيعة ، ومطرّف ، وأنس . وهبهم العقيق ليُقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ويطيعوا»(4) . وجاء في النّصّ الّذي كتبه لوائل بن حجر من وفد حضرموت أنّي جعلت لك ما في يدك من الأراضي والحصون ...(5) وطُرح إقطاع الأراضي لرؤساء الطوائف عند كثير من الوفود ، وحُرّرت كتب بوصفها وثائق احتفظ بها أحفادهم لقرون ، ولمّا جاء وفد بني البكّاء طلب معاوية بن ثور من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أن يمسح بيده على رأس ابنه تبرّكا ففعل صلى الله عليه و آله وسلم . وأنشد أحد أحفاده شعرا قال فيه :

ص: 833


1- (1) المغازي 1 : 963 - 968 ؛ إمتاع الأسماع 1 : 490 - 493 ؛ الطّبقات الكبرى 1 : 312 ، 313 .
2- (2) الطّبقات الكبرى 1 : 298 (وفد ثعلبة) .
3- (3) نفسه 1 : 299 (وفد سعد بن بكر) .
4- (4) نفسه 1 : 302 ، وانظر : ص 317 ، 319 ، 324 .
5- (5) نفسه 1 : 349 .

وأبي الّذي مسح الرسول برأسه ودعا له بالخير والبركاتِ(1)

وكان في هذا الوفد شخص يُدعى عبد عمرو، فسمّاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عبد الرحمن(2). وبغضّ النظر عن أخذ الأرض والهدايا ، كانوا يأخذون الأمان منه صلى الله عليه و آله وسلم . وهذا الأمان يعني أنّ القبيلة المعهودة أسلمت ولها حقوق المسلمين . وليس للمسلمين أن يهاجموها ، بل عليهم أن يدافعوا عنها إذا تعرّضت للعدوان . وكان صلى الله عليه و آله وسلم يكتب لعدد من الوفود أحكام الإسلام وشرائعه(3) .

وطلب منه وفد خثعم أن يكتب لهم كتابا ليتّبعوا ما فيه(4) . وكان وفد عامر بن صعصعة أحد الوفود . وقال رئيسهم عامر بن الطفيل في بدء قدومه : يا محمّد ! إذا أنا أسلمتُ فما عليَّ ؟ فقال صلى الله عليه و آله وسلم : «لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين» . قال : هل تجعل لي الأمر بعدك ؟ قال صلى الله عليه و آله وسلم : «الأمرُ للّه يضعه حيث يشاء» . فرجع عامر ولم يسلم ، إلاّ أنّ قبيلته أسلمت بعد هلاكه .

وجاء ذات مرّة وفد بني تغلب وفيهم المسلم والنصرانيّ ، فتقرّر أن يبقى النّصارى على نصرانيّتهم ، لكنّهم لا ينصّروا أولادهم(5) . وأثناء المدّة التي كان يمكث فيها رؤساء الوفود بالمدينة ، كان بعض الصّحابة يعلّمونهم القرآن وأحكام الشّريعة بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم (6). وكلّ من أحسن تلاوة القرآن منهم يجعله رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إماما لجماعتهم. ولمّا جاء وفد جعفي المدينة ، كان أفراده لا يجيزون أكل القلب ، فقال صلى الله عليه و آله وسلم

ص: 834


1- (1) الطبقات الكبرى 1 : 304 ، ونموذج آخر ص 310 ، ونموذج ثالث ص 350 . وهكذا يستبين أنّ المسح والتّبرّك برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كان تقليدا مألوفا .
2- (2) وكان شخص آخر أيضا يدعى غاوي بن عبد العزّى وسمّاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم راشد بن عبد اللّه ، نفسه 1 : 308 . كما دُعي (بنو غيان) «بني رشدان» . نفسه 1 : 333 .
3- (3) نفسه 1 : 307 .
4- (4) نفسه 1 : 348 .
5- (5) نفسه 1 : 316 .
6- (6) نفسه 1 : 324 .

ما مضمونه : لا يتمّ إسلامكم إلاّ بأكل القلب ، فأُتي لهم بقلب مشويّ . وحين مدّ رئيسهم سلمة بن يزيد ليأكل ، ارتعدت يده ، فقال صلى الله عليه و آله وسلم : كُل ، فأكل ، وأنشد يقول :

على أنّي أكلتُ القلبَ كَرها * وَتُرعَدُ حين مسّته بناني(1)

وكان من الأعمال الّتي يقوم بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم نصب رئيس للقبيلة الوافدة . ويُختار من بين الوجهاء . وهكذا كان صلى الله عليه و آله وسلم يوطّد السّيادة السّياسيّة للمدينة على القبائل . وجاء في كتابٍ كُتب لوفد جُعفي تعبير : إنّي استعملك على مرّان و ... والمخاطب هو قيس بن سلمة(2) . وورد في صُرَد بن عبد اللّه الأزديّ أيضا أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم جعله حاكما على مسلمي قومه(3) . وصار قيس بن حُصَين حاكما على قبيلة بني حارث بن كعب بتنصيب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم (4) .

وكان أمن القبائل الّذي أشرنا له من قبل بالغ الأهمّيّة لها . فقد كان رجالها يطلبون «أمان اللّه وأمان رسوله» و «ذمّة اللّه وذمّة رسوله» . واهتمّت الكتب الّتي كُتبت لها بهذه القضيّة عادةً . وجاء في تعبير آخر ورد في كتابٍ كُتب لوفد مَهرة : «هذا كتاب من محمّد رسول اللّه لمهري بن الأبيض على من آمن به من مَهرة ألاّ يؤكلوا ... ومن آمن به فله ذمّة اللّه وذمّة رسوله(5) . وجاء في معنى «لا يؤكلوا» : «أي : لا يُغار عليهم» . وذلك هو الأمن الّذي كانت تنشده القبائل الحديثة عهد بالإسلام .

إعلان البراءة من المشركين

شهدت مكّة بحلول موسم الحجّ في السنة التاسعة حضور عدد كبير من المسلمين

ص: 835


1- (1) الطبقات الكبرى 1 : 324 ، 325 . إنّهم لم يستطيعوا أن يتحمّلوا ذلك بخاصّة عندما سألوه صلى الله عليه و آله وسلم عن مكان أمّهم إذ كانت وأدت بناتها مع خيرهم الكثير . فقال صلى الله عليه و آله وسلم : جهنّم . فارتدّوا بعد رجوعهم إلى ديارهم .
2- (2) نفسه : 325 . وانظر أيضا : 327 .
3- (3) نفسه 1 : 338 .
4- (4) نفسه 1 : 340 .
5- (5) نفسه 1 : 355 .

والمشركين الّذين كان كلٌّ منهم يؤدّي مناسك الحجّ على دينه . ومن الجدير ذكره أنّ الأحكام الفقهيّة للحجّ على طريقة الفقه الإسلاميّ كانت ما زالت غير واضحة ، لأنّ أهمّ أحكام الحجّ أُخذ من المناسك الّتي أدّاها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في السّنة العاشرة للهجرة . ولم يكن تعيين أمير للحجّاج مألوفا يومئذٍ . إذ كانت كلّ قبيلة تأتي إلى مكّة وتؤدّي مناسكها ، إلاّ أنّ الأصنام كانت تُجمَع في الموسم ، وكان المشركون يعيشون مشكلةً فيما يرتبط بالأعمال المتّصلة بالأصنام . وفي نفس الوقت ظلّت بعض التقاليد الجاهليّة على حالها كطوافهم عراةً . وعزم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم على تقويض الشّرك في شبه الجزيرة العربيّة بأمر اللّه سبحانه . وكانت مكّة وموسم الحجّ مكانا ووقتا مناسبين لإعلان ذلك وتنفيذه . من هنا أُذن أن يُعلَن مضمون الآيات الأولى من سورة براءة (أو سورة التوبة) كمبادئ للعرب جميعهم .

وتقرّر في البداية أن يعلنها أبو بكر بمكّة نيابة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . وبعد تحركّه بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عليّا عليه السلام خلفه ليأخذها منه ويقرأها على النّاس في مكّة . وأدّت هذه القضيّة إلى إثارة الجدل حول الخبر في الكتب الكلاميّة والمباحث المتعلّقة بالإمامة . فقال أهل السّنّة : تعهّد أبو بكر ذلك العام بمناسك الحجّ والإعلان المذكور ، لكن تقرّر بعد أمر النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أن يعلنها عليّ عليه السلام ، في حين ظلّت مسؤوليّة الحجّ على عاتق أبي بكر . وأشرنا قبل ذلك إلى أنّ عنوان مسؤوليّة الحجّ لم يكن موجودا آنذاك، وإنّما كان بعد وفاة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم . ويبدو أنّ مقام أمير الحاجّ قد ذُكر لأبي بكر كي لا يبقى الموضوع شينا ، وجاء في خبر ابن إسحاق أنّ المشركين عرفوا منازلهم على النسق الجاهليّ في ذلك العام(1) . ومن الطبيعيّ أنّ مناسك جديدة لم تعرف يومئذٍ فيبيّنها أحدٌ للناس ما عدا التلبية وأصل التّوحيد . ومرّ أنّ مناسك الحجّ الإسلاميّ

ص: 836


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 543 ، 546 .

مأخوذة من حجّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في السّنة العاشرة للهجرة .

ونقل عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال ما مضمونه : لمّا نزلت الآيات العشر الأولى من سورة براءة أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أبا بكر لقراءتها في مكّة . ثمّ بعثني فأخذتها منه بالجُحفة(1) . فرجع ووافى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وقال : هل نزل فيّ شيء من القرآن ؟ فقال صلى الله عليه و آله وسلم : لا ، ولكن جاءني جبرئيل فقال : لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك(2) . وأُثر هذا الحديث بطريق كثيرة جدّا ، وجمع العلاّمة الأمينيّ القسم الأعظم منها(3) . ونلحظ في جميع الأخبار المنقولة تقريبا أنّ أخذها من أبي بكر وإعطاءها الإمام عليّا عليه السلام كانا بأمر جبرئيل عليه السلام ، ولو أنّ المناوئين لهذه الفضيلة ذكروا أنّ ذلك كان على السّنن القبليّ إمّا يؤدّيه النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أو أحد من قُرباه . وأُشير إلى أنَّ قوله صلى الله عليه و آله وسلم «أُمرْتُ أنْ أُبلّغها أنا أو رجلٌ من أهل بيتي» يربط الموضوع بالوحي(4) .

والأصول المعلنة هي أن ليس لمشرك حضور الحجّ من السّنة القادمة . ولا يحقّ لأحد الطّواف عاريا في المسجد . وكلّ من له عهد مع النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم فعهده إلى مدّته . وأكّد كذلك أنّ المؤمن وحده يدخل الجنّة . وبهذا تمهّدت الأرضيّة لتقويض أركان الشّرك في الحجاز ، ثمّ شبه الجزيرة تدريجا . وورد في سورة براءة أنّ للمشركين أربعة أشهر في اتّخاذ قرارهم إمّا القتال أو اعتناق الإسلام ، وبعد ذلك يجب أن يُقضى على الشّرك ويُباد تماما . ويرى الإسلام أنّ لأهل الكتاب الحقّ في التعايش مع المسلمين في

ص: 837


1- (1) جاء في إمتاع الأسماع 1 : 499 أنّه وافاه في منطقة ضجنان .
2- (2) الغدير 6 : 341 عن الدرّ المنثور 3 : 209 ؛ كنز العمّال 1 : 247 ؛ البداية والنّهاية 5 : 38 ، 7 : 357 ؛ تفسير ابن كثير 2 : 333 ؛ مجمع الزوائد 7 : 29 .
3- (3) الغدير 6 : 341 - 350 .
4- (4) نقل ابن أبي الحديد في شرحه على النّهج (17 : 195 - 201) البحوث الكلاميّة والمجادلات المتعلّقة بحديث البراءة على لسان المؤيّدين والمعارضين .

المجتمع الإسلاميّ ، بيد أنّه لا يرى ذلك للمشركين عبدة الأصنام .

وصرّحت الآيات الأولى من سورة التوبة بالبراءة من الشّرك . قال تعالى : « بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه ِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُم مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِى الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ(1) وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللّه ِ وَأَنَّ اللّه َ مُخْزِى الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللّه ِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّه َ بَرِى ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللّه ِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّه َ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الْصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّه َ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّه ِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ »(2) .

وحضّ اللّه تعالى المسلمين على المشركين الّذين نقضوا عهدهم بشدّة وأمرهم أن يقاتلوا أئمّة الكفر . وينبغي أن نقول في دخول المؤمن وحده الجنّة : المراد من يعمر مساجد اللّه وهو على شركه وكفره . وأخبر سبحانه بأنّ هذا العمل لا ثمرة لهم فيه . « مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللّه ِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِى النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ »(3) .

إنّ قيمة مسلم مجاهد في سبيل اللّه هي أعلى من قيمة من يتولّى سدانة الكعبة ويسقي الحجيج وكان العبّاس بن عبد المطّلب ، وطلحة بن شيبة جالِسَين مع الإمام

ص: 838


1- (1) يستبين من سياق الآيات أنّ المقصودين هم المشركون الّذين نكثوا عهدهم .
2- (2) وكتب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لوفد جذام في وقت آخر : من أسلم فهو من حزب اللّه . ومن أعرض فله الأمان شهرين (الطّبقات الكبرى 1 : 354) . وهذه فرصة لتفكير أكثر عادةً .
3- (3) التوبة : 17 .

عليّ عليه السلام . فقال طلحة : أنا سادن الكعبة ، ولو شئتُ لبتُّ فيها . وقال العبّاس : أنا ساقي الحجيج . فقال الإمام عليه السلام : لا أدري ما تقولون ، لكنّي صلّيتُ قبل المسلمين بستّة أشهر ، وأنا صاحب الجهاد(1) . فنزل قوله تعالى : « أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّه ِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللّه ِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّه ِ وَاللّه ُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدَوا فِى سَبِيلِ اللّه ِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّه ِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ »(2) .

وتزامن إعلان البراءة وإعلان كثير من القبائل إسلامها في العام التاسع الهجريّ الّذي عُرف بعام الوفود . وأسلمت قبائل جديدة من أقصى الأرض وأدناها في العام العاشر بعد براءة بمحضر النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وقد تكرّر هذا .

السرايا الأخيرة

اشارة

لمّا فتحت مكّة ، وزال عدد من الأصنام ، كانت بعض القبائل النائية عاكفة للوثنيّة ، ولبعضها أوثان مشهورة . ومن هذه القبائل قبيلة طيّ الّتي تعود شهرتها إلى حاتم الطّائيّ وموضعها شمال المدينة ، حوالي دومة الجندل ، وتيماء ، وسكاكة(3) .

وكان صنم طيّ يُعرف بفلس ، ورئيسها يومئذٍ عديّ بن حاتم الطّائيّ . وبعث رسول اللّه عليه السلام في ربيع الآخر من السّنة التاسعة سريّة بقيادة الإمام عليّ عليه السلام ومعه مئة وخمسون من الأنصار قاصدين طيّا(4) . ولم يكن بينهم مهاجريّ واحد . وتوجّهوا حتّى

ص: 839


1- (1) مجمع البيان 5 : 14 ، 15 . ونُقل موقف بعض الأشخاص من الإمام عليه السلام في خبر آخر . ومهما كان فإنّ هذه الآية من فضائله عليه السلام الّتي لا يأتي عليها الإحصاء .
2- (2) التوبة : 19 ، 20 .
3- (3) معالم الأثيرة : 176 ، 177 .
4- (4) مع تصريح المصادر بقيادة الإمام للسريّة ، هناك من ذهب إلى أنّ خالد بن الوليد كان آمر السّريّة ! انظر : الطّبقات الكبرى 1 : 322 .

بلغوا موضعا قريبا من مقرّهم . ورأوا هناك غلاما أسود استبان بعد السّؤال أنّه كان رصدا يستعلم هجوما محتملاً يمكن أن يشنّه أصحاب محمّد صلى الله عليه و آله وسلم . واعتسف بهم الطريق في البداية ، ثمّ دلّهم بعد التهديد . فكان الهجوم المباغت الّذي فاجأهم به الإمام عليه السلام سببا في أسر عدد كبير منهم ، وغنيمة إبلٍ وأغنام كثيرة . وفي الأسرى أُخت عديّ بن حاتم ، وجيء بها إلى المدينة . وذهب الإمام عليه السلام بعد غلبه إلى موضع الأصنام فكسر فُلسا وغنم ثلاثة سيوف ثمينة . وأُسكنت أُخت عديّ في دار رملة بنت الحارث(1) .

وكلّما مرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم على ذلك المكان للصّلاة ، كانت تستصفحه بإشارةٍ من الإمام عليه السلام ، حتّى صفح عنها ولطف بها . ولمّا مضت مدّة جاء أخوها عديّ إلى المدينة بطلبٍ منها وأسلم ؛ وكان فرّ إلى الشّام عند الحملة(2) . وجاء في خبر ابن إسحاق أنّه كان يقول : كنتُ قبل الإسلام على النصرانيّة(3) . وصار عديّ هذا من أقرب أصحاب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إليه بعد ذلك . وقدّم أولاده في صفّين دفاعا عن أهدافه عليه السلام واستشهدوا ، كما فقد إحدى عينيه فيها .

وعندما جاء المدينة ، ذهب عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وعرّف نفسه . فأخذه معه إلى بيته . يقول عديّ : فلقيته امرأة عجوز في الطّريق كان لها شغل ، فتحدّث معها مليّا .

ص: 840


1- (1) كانت دارها القريبة من المسجد مأوىً للمجروحين ، وأحيانا الأسرى والضيوف . انظر بشأن الضيوف : الطّبقات الكبرى 1 : 315 . وضيِّف وفد عبد القيس فيها . وكذلك وفد تغلب . انظر : ص316 ؛ وخولان ص324 .
2- (2) المغازي 3 : 984 - 989 .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 578 - 581 . وجاء في ص 580 أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم سأله : ألستَ من الركوسيّة ؟ قال : بلى . وقال محقّق السّيرة في الهامش : هؤلاء قوم دينهم وسط بين النّصارى والصّابئين . ومهما كان فمن المحتمل أنّ أفرادا من طيّ مالوا إلى النّصرانيّة أو غيرها من الفرق الأُخرى بغضّ النظر عن أنّ سوادهم كان يعبد الأصنام .

فقلتُ في نفسي : ليس هذا ملكا . وأجلسني في بيته على موضع مفروش ، وجلس على الأرض .

ومن السّرايا الأُخرى سريّة علقمة بن مجزِّز المدلجيّ . يقول الواقديّ : «بلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أنّ ناسا من الحبشة تراياهم أهل الشُّعَيْبَة (على بعد (68) كيلومترا جنوب جدّة في ساحل البحر) في مراكب ؛ فبلغ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، فبعث علقمة في ثلاثمائة رجل حتّى انتهى إلى جزيرة في البحر ، فخاض إليهم ، فهربوا منه . ثمّ انصرف ، فلمّا كان ببعض المنازل استأذنه بعض الجيش في الانصراف حيث لم يلقوا كيدا ، فأذن لهم وأمّر عليهم عبد اللّه بن حُذافة ... .

وأوقد القوم نارا يصطلون عليها ويصطنعون الطّعام . فقال عبد اللّه بن حذافة : ألستُ أميركم ؟ وإلاّ فما عليكم إلاّ أن تطيعوني . عزمتُ عليكم ألاّ تواثبتم في هذه النّار . فقام بعض القوم فتحاجزوا حتّى ظنّ أنّهم واثبون فيها ، فقال : اجلسوا . إنّما كنتُ أضحك معكم ! فذُكر ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، فقال : «من أمركم بمعصيةٍ لا تُطيعوه !»(1) ويبدو أنّ هذه الحادثة هي الأساس في كلامه صلى الله عليه و آله وسلم : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» .

ومنها سريّة عُيَيْنَة بن حصن إلى بني تميم . وكانت هذه القبيلة من قبائل الحجاز ، وفي ما بعد من قبائل العراق . ولها دور مشهور في التطوّرات الحاصلة أيّام الخلفاء . وكان من أمرهم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بعث بعد فتح مكّة مجموعةً من أصحابه إلى القبائل المسلمة لجمع الزّكاة لأوّل مرّة . ومنهم ثلاثة ساروا لجمع زكاة بني كعب الّذين كانوا من خزاعة وكانت طوائف من بني تميم تسكن قريبا منهم يومئذٍ ، وهم ما زالوا على شركهم .

ص: 841


1- (1) المغازي 3 : 982 - 984 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 640 . لم يُشر ابن إسحاق إلى مجيء الأحباش .

وعندما جمعت خزاعة زكاتها وأرادت أن تدفعها إلى مبعوثي رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، منعها بنو تميم . وتأهّبوا للحرب وسلّوا سيوفهم وذكروا أنّهم لن يأذنوا بأخذ جملٍ واحد كزكاةٍ . فشعر المصدّق وهو بُسْر بن سفيان أنّ عاقبة بقائه القتل ، فرجع إلى المدينة بأسرع ما يكون . وبعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عُيينة بن حصن في خمسين فارسا . فلمّا رأوهم ولّوا ، وتركت خُزاعة المكان . ولاحق عُيينة بني تميم ، وهجم عليهم في لحظة . ففرّ كثير من رجالهم ، وأُسر عدد من نسائهم وأطفالهم وبعض رجالهم ، وسيقوا إلى المدينة .

وجاء المدينة رؤساؤهم ، ومنهم قيس بن عاصم ، والأقرع بن حابس . والتقوا برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في المسجد بعد صلاة الظّهر . وتحدّث خطيبهم عن مفاخر قبيلته . فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ثابت بن قيس أن يتكلّم . فتكلّم عن بعثة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وهداية الناس به ، وبالتّوحيد . وقام شاعر بني تميم وقال :

نحن الملوك فلا حيّ يقاربنا * فينا الملوك وفينا تُنصَب البِيَعُ

وكم قسرنا من الأحياء كلّهم * عند النِّهاب وفضلُ الخير يُتَّبَعُ

فأجابه حسّان بشعرجميل مدح فيه رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وصحابته وجهادهم في سبيل اللّه ودعم الأنصار له . وبعد أن أسلموا ردّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عليهم السّبي والأسرى ، وأمر لهم بجوائز(1) .

وكان بنو تميم بدويّين ذوي طبيعة فظّة مع لجاجةٍ وتكبّر . وكانوا يفضّلون قبيلتهم على كلّ شيء وكلّ أحد ، ولم يرضوا بأيّ حكومة تحكمهم . وكانوا في زمرة المرتدّين بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ثمّ رجعوا وأسلموا مرّةً أُخرى . وعندما لبثوا بالمدينة كانوا ينادون النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم من وراء باب بيته ، ويصرّون على ذلك . وقيل إنّ آياتٍ من سورة

ص: 842


1- (1) المغازي 1 : 970 - 973 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 560 - 567 .

الحجرات نزلت فيهم(1) : « إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ »(2) .

وكان إيتاء الزكاة عسيرا على القبائل البدويّة . بيد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم - من جهة أُخرى - عدّها والصّلاة من أكثر شروط الإيمان والإسلام مبدئيّة وجوهريّة. وتحدّثت الآيات القرآنيّة عن «إقامة الصّلاة وإيتاء الزكاة» منذ العصر المكّيّ ، وهذا مفهوم معروف عند المسلمين . وأُرجئ العمل به إلى ما بعد الفتح . وحين حان عام الفتح أُوفد بعض الصّحابة إلى القبائل تدريجا من أجل جمع صدقاتها ، وهي الزّكاة طبعا . وكانت وصيّة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم للموفَدين هي أن يتركوا كرائم المال لأفراد القبيلة أنفسهم ، ويرضوا بما يُذكَر لهم من عدد الضأن والإبل ، ويتعاملوا مع الناس بلينٍ . وأُخذت الزّكاة من الأغنياء في بعض المواطن وقُسمت بين الفقراء(3) ، وهذه نقطة مهمّة لتبليغ الإسلام . وعندما جاءت القبائل المختلفة إلى المدينة لاعتناق الإسلام ، عُرّفت الشّرطَ اللازم لإيتاء الزّكاة .

وهكذا أصبح للحكومة الجديدة عائد ثابت بعد تغلغل الإسلام بين القبائل . وقبل ذلك كانت غنائم الحروب وحدها تسدّ قسما من الحاجات الماليّة للحكومة والمهاجرين والأنصار . أمّا اليوم فإنّ الصدقات تؤدّي ذلك الدور بنحو دائم . وكانت القبائل والمناطق المهمّة الّتي أُوفد إليها المبعوثون هي صنعاء ، وحضرموت ، والبحرين ، ونجران ، وقبيلة طيّ ، وبني أسد ، وبني حنظلة . وتوجّه الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام إلى نجران لجمع صدقاتها(4) .

ص: 843


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 560 ؛ الطّبقات الكبرى 1 : 294 .
2- (2) الحجرات : 4 ، 5 .
3- (3) الطّبقات الكبرى 1 : 300 .
4- (4) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 3 : 600 .

ومن الملاحظات الطّريفة في جمع الصّدقات ، واهتمّ بها القرآن الكريم أيضا ، هي إيفاد الوليد بن عقبة بن أبي المُعيط لجمع زكاة بني المصطلق . ولمّا دنا منهم استقبله رجال منهم بإبل وشاءٍ . لكنّه فرّ إلى المدينة وأخبر رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أنّهم جاءوا لحربه ، فدُهش بنو المصطلق وبعثوا رجالاً منهم إلى المدينة ليطلعوا رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله وسلم على حقيقة الموضوع . وفي هذا الشأن نزلت آية تُفسِّق الوليد ، وتطلب من النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ألاّ يثق بخبر الفاسق(1) . قال سبحانه : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْما بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ »(2) .

وصار دفع الزكاة معضلة بعد وفاة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، بل قبلها أيضا ، وأدّى إلى ارتداد بعض القبائل ، حتّى إنّها اصطدمت بالسّلطة الإسلاميّة مدّةً ، ثمّ أعلنت عن استعدادها لدفعها إلى الحكومة الجديدة .

إيفاد الإمام عليّ عليه السلام إلى اليمن

ومن السرايا الأُخرى إيفاد الإمام عليه السلام إلى اليمن لدعوة أهلها إلى الإسلام . وذكر ابن سعد أنّ الإمام أُوفد إليها مرّتين ، عدّ إحداهما في شهر رمضان سنة عشر ، ولم يورد الأُخرى(3). ونقل البيهقيّ عن البراء بن عازب أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بعث خالد بن الوليد إليها . وأشار البراء إلى أنّهم لبثوا ستّة أشهر ، ولم يسلم أحد . ثمّ بعث عليّ بن أبي طالب عليه السلام . وحين وصل إليها وقرأ كتابَ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم على قبيلة هَمْدان(4) ، أسلمت

ص: 844


1- (1) المغازي 3 : 980 ، 981 . لا وجود لأدنى شكٍّ في كتب الحديث والتّاريخ في أنّ الآية المذكورة نزلت في الوليد بن عقبة .
2- (2) الحجرات : 5 .
3- (3) الطّبقات الكبرى 2 : 169 .
4- (4) وهي من القبائل اليمانيّة ولا صلة لها بمدينة هَمَدان الإيرانيّة .

جميعها . فكتب إليه صلى الله عليه و آله وسلم يخبره بإسلام الهمدانيّين ، فقال مرّتين : «السّلام على هَمْدان»(1) .

والسّريّة الأخرى الّتي رواها الواقديّ ، وابن سعد وغيرهما - وكانت في شهر رمضان سنة عشر - هي سريّة الإمام عليّ عليه السلام إلى اليمن . فقد عمّمه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وأمره أن يمضي ولا يلتفت . وجاء في نصائحه صلى الله عليه و آله وسلم له عليه السلام ألاّ يبدأهم بقتال حتّى يقاتلوه . فإن قاتلوه وقُتل منهم (من المسلمين) أحد فليتأنّ . ثمّ يقول لهم : هل لكم إلى أن تقولوا لا إله إلاّ اللّه ؟ فإن قالوا : نعم ، فقل : هل لكم أن تُصلّوا ؟ فإن قالوا : نعم ، فقل : هل لكم أن تُخرجوا من أموالكم صدقةً تردّونها على فقرائكم ؟ فإن قالوا : نعم ، فلا تبغ منهم غير ذلك . وخرج عليه السلام في ثلاثمائة فارس . فلمّا لقي مِذْحج دعاهم إلى الإسلام ، فأبوا . ثمّ حمل عليهم فقتل منهم عشرين رجلاً . ثمّ مكث قليلاً ، وأعاد دعوته ، فأجابوا . وجمع غنائمهم وعزل الخمس ، وفرّق الباقي على الجند . وبعد ذلك كتب إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يخبره بالواقعة ، وبعث إليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يأمره أن يلتحق به في الحجّ - حجّة الوداع - فالتحق به(2) .

ولا يستبين كثيرا كيف كانت طبيعة السّفرتين المذكورتين على نحو الدّقّة . ورُوي خبران في خُمس السّريّتين ، ومن المناسب أن ننقلهما هنا . فقد ذُكر أنّ الإمام عليّا عليه السلام خمّس الغنائم الموجودة في سفرته الأُولى . وكان فيها جارية من سهم الخمس ، أي : سهم اللّه . فاختصّ بها لنفسه مستندا إلى أنّ الخمس هو لأهل البيت . فكتب خالد بن الوليد إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم معاتبا . وجاء في أحد الأخبار أنّ بريدة بن الحصيب - وفي خبر آخر البراء - ذكر أنّه استاء من الإمام عليه السلام بشدّة . وعندما دفع كتاب خالد إلى

ص: 845


1- (1) البخاريّ ، باب الجهاد ، باب بعث عليّ بن أبي طالب وخالد إلى اليمن . سبل الهدى والرشاد 6 : 358 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن كثير 4 : 203 .
2- (2) المغازي 3 : 1080 - 1082 ؛ الطّبقات الكبرى 1 : 169 ، 170 .

النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم غضب صلى الله عليه و آله وسلم على خالد واحمرّ وجهه ، وقال : «مَنْ كُنتُ وليُّهُ فعليٌّ وليُّه» . ثمّ قال لي : لعليّ في الخمس أكثر من هذا(1) . وصرّحت بعض الأخبار المتعلّقة بالسّفرة الأُولى أنّ الإمام عليه السلام أُوفد لأخذ الخمس(2) . بيد أنّا ذكرنا سابقا أنّ الدعوة الإسلاميّة كان لها وجودها ، وأسلمت قبيلة هَمْدان جميعها بدعوة الإمام عليه السلام .

أمّا الخبر الآخر فيعود إلى السّفرة الثانية . وجاء فيه أنّ الإمام عليه السلام خمّس الغنائم بعد الحرب ، ثمّ عزل الخمس ، وأعطى المسلمين حصصهم . وورد فيه أيضا أنّ الأُمراء كانوا قبل ذلك يهبونهم قسما من الخمس أحيانا ، لكنّ الإمام عليه السلام قال أمام طلب المسلمين : إنّ الخمس سهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ولن يعطيه أحدا إلاّ بإذنه ، ويضاف إلى ذلك أنّه منعهم ركوب الإبل الّتي أُخذت كزكاة ، لأنّ المسلمين كلّهم فيها شركاء . وعند الرجوع إلى مكّة سبق الآخرين في لحاقه برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وأودع الخمس أبا رافع . وأخذ الناس منه ثيابا كانت في الخمس . ولمّا بلغ الإمامَ ذلك لامه ، وجرّد بعضهم منها ، وكانوا قد أحرموا بها ، فشكوه إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم (3) .

وذكر أبو سعيد الخُدريّ عتاب النّاس لشدّة غلظة الإمام عليه السلام . وذكر أنّ سعد بن مالك شكاه إلى النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بالمدينة ، فقال صلى الله عليه و آله وسلم ما مضمونه : واللّه إنّ عليّا خشن في ذات اللّه (4) .

ونحن نعلم أنّ الخمس متعلّق أساسا برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وأهل بيته عليهم السلام ، إذ لا تحلّ لهم الصّدقات والزكوات . وكان الخيار فيه إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم نفسه ، وله أن يعطي

ص: 846


1- (1) ونقل هذا الخبر بكثير من التّفاصيل - بنحو متفاوت - في سنن النسائيّ ، والترمذيّ ، ومسند أحمد ، ومستدرك الحاكم ؛ انظر : سبل الهدى والرّشاد 6 : 358 ، 359 .
2- (2) السّيرة النّبويّة ، ابن كثير 4 : 201 .
3- (3) انظر : المغازي 3 : 1081 ؛ سبل الهدى والرشاد 6 : 362 ، 363 .
4- (4) السّيرة النّبويّة ، ابن كثير 4 : 204 ، 205 .

منه من يشاء من المحتاجين ، أو الذين في إعطائهم مصلحة .

إنّ ما يلفت النظر في سفرتَي الإمام عليه السلام إلى اليمن هو أنّ أهل اليمن لا سيّما قبيلة هَمْدان ومِذْحج تعلّقوا به عليه السلام منذ ذلك الحين . ثمّ صاروا من أقرب المقرّبين إليه في الكوفة(1) . وجاء في كثير من الأخبار أيضا أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بعث الإمام عليه السلام إلى اليمن قاضيا ، ولعلّ ذلك كان في إحدى السّفرتين . وورد في خبر أنّه صلى الله عليه و آله وسلم بعثه إلى اليمن ، ودعا له قائلاً : «اللّهمّ اهد قلبه وثبّت لسانه»(2) . ثمّ زوّده بوصاياه حول القضاء بين النّاس(3) . ونُقلت أمثلة من قضائه عليه السلام ، وأمضاها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم (4) .

مشكلات الحكومة الإسلاميّة في السّنة العاشرة

كان فتح مكّة أحد المراحل المهمّة في عصر الرسول صلى الله عليه و آله وسلم . فبدخولها في دار الإسلام ، دخلت قريش في الإسلام ، إلاّ أنّ إسلامها لم ينبع - في بعض المواطن - من صميم القلب وأعماقه . ورُفع الأمر بالهجرة إلى المدينة منذ ذلك الحين ، وكان للمسلمين أن يعيشوا خارجها . وأسلم كثير من القبائل حوالي المدينة بعد الهزيمة القاطعة الّتي مُنيت بها قريش . ويتسنّى لنا أن نقول : قلّما بقيت قبيلة من القبائل

ص: 847


1- (1) انظر : الشّيعة في إيران - دراسة تاريخيّة : . من هنا قال أمير المؤمنين عليه السلام في شعر له حول هَمْدان : فلو كنتُ بوّابا على باب جنّةٍ * لقلتُ لهَمْدان ادخلوا بسلامِ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد 2 : 239 . وذكر الأُستاذ أحمدي ميانجي أنّه رأى في كتاب فتوح الشام للواقديّ أنّ مالك الأشتر رضوان اللّه عليه حين قدم المدينة من اليمن ، نزل في بيت الإمام عليه السلام . ويدلّ هذا على معرفته به عليه السلام منذ كان في اليمن .
2- (2) شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد 1 : 16 .
3- (3) السّيرة النّبويّة ، ابن كثير 4 : 208 .
4- (4) سبل الهدى والرشاد 6 : 364 ؛ البداية والنّهاية 5 : 107 ، 108 ؛ السّيرة النّبويّة ، ابن كثير 4 : 209 ، 210 ؛ المغازي 3 : 1086 .

العربيّة المعروفة إلاّ أسلمت عند دنوّ أجل النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم . ودخلت أفواج من الناس في الإسلام مع احتفاظها بتركيباتها القبليّة ، وأعرافها العربيّة الجاهليّة ، وبدوافع سطحيّة متزعزعة غالبا ، وينبغي للمدينة أن تحكمهم وتدير شؤونهم . وأهمّ قضيّة كانت تراودهم هي أن تعترف بهم حكومة المدينة القويّة وتقرّ إسلامهم ، حتّى يأمنوا على أراضيهم وأموالهم من خطر الاستيلاء عليها . وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يتعهّد لهم بذلك في مقابل عهودٍ يلتزمون بها أيضا .

وعلاوةً على اعتناقهم الإسلام وتمسّكهم به كان عليهم أن يرسلوا زكوات أموالهم إلى المدينة ، وإن كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يأمر في بعض الحالات أن تبدأ القبائل بإعطاء فقرائها من صدقاتها . وكان صلى الله عليه و آله وسلم يبعث في السّنة التّاسعة والعاشرة إلى القبائل من يجمع صدقاتها(1) . ويضاف إلى ذلك أنّه كان يرسل إليهم أشخاصا يعلّمونهم القرآن والأحكام ، ويعيّن لهم ولاةً معظمهم من الرؤساء السّابقين للقبائل نفسها . وهكذا مارست المدينة سلطتها عليهم عن هذا الطريق بوصفها حكومةً لها هيمنتها ، وكانت تدافع عنهم وتحميهم من عدوان القبائل الأُخرى وانتهاكاتها .

ومن المشاكل الّتي واجهتها الحكومة المذكورة حسد بعض القبائل المكينة الّتي كانت تخال انتصارَ الإسلام انتصار قبيلة خاصّة على القبائل الأُخرى ؛ وهذا بالضبط هو نفس التصوّر الّذي كان يحمله بعض القرشيّين إذ كانوا يحسبون أنّ عرض الإسلام ذريعة تشبّث بها بنو هاشم للتغلّب على سائر البطون من قريش(2) . وانبرى بعض القبائل المذكورة للإسلام في السّنة الأخيرة . وأهمّ تمرّد كان هو تمرّد الأسود العنسيّ ومُسيلمة . وتدلّ الإشارة إلى كتابيهما على مدى المشكلات الّتي كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم

ص: 848


1- (1) انظر : الكامل في التاريخ 2 : 301 للاطّلاع على فهرس أسمائهم .
2- (2) الدرّ المنثور 4 : 187 ؛ المصنّف ، ابن أبي شيبة 14 : 91 ، 92 .

يواجهها فيما يتعلّق بالسّلطة المركزيّة . فقد خاطبه مسيلمة بقوله : «أمّا بعد ، فإنّي شريكك في الأمر ؛ ونصف الأرض لنا ، إلاّ أنّ قريشا قوم لا يعدلون» . فأجابه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : أمّا بعد « فَإِنَّ الاْءَرْضَ للّه ِِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ »(1) . ويستبين من هذا الكتاب أنّهم كانوا يرون غَلَبَ الإسلام غَلَبَ قريش ، في حين كانت قريش ندّا للإسلام حتّى تلك الفترة . وكانوا يمثّلون الجاهليّة ، ووقفوا أمام الإسلام الّذي كان يُلغي النّظام الجاهليّ .

أمّا مشكلة الأسود العنسيّ فقد تمثّلت في الزكاة ، إذ كتب إلى عمّال الحكومة الّذين ذهبوا لجمع الزّكاة قائلاً : «أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا ، ووفّروا ما جمعتم ، فنحن أولى به وأنتم على ما أنتم عليه»(2) . وولّدت الزكاة مشكلات كثيرة للقبائل الّتي كانت تحمل روح الاستقلال ، ولم تستعدّ لطاعة سائر القبائل . وبدأت الاعتراضات في الحقيقة حين عرف الناس مرض النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بعد رجوعه من حجّة الوداع(3) . ولمّا توفّي صلى الله عليه و آله وسلم ظهرت في أنواع التمرّد الّذي عُرف بالارتداد ، وسنقدّم بعض التّوضيحات في هذا المجال لاحقا .

وكانت هذه مشكلات أثارتها القبائل الساكنة حوالي المدينة وأعراب البادية . من جهة أُخرى ، كانت تُلحظ في داخل المدينة ومكّة مشكلات تدور حول مستقبل الحكومة . وتتناول روايات أهل السنّة - بقدر ما يتعلّق بعقائدهم الخاصّة - الوضع السياسيّ في السّنين الأخيرة من حياة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بنحوٍ كأنّه لم يتحدّث فيه أحد عن مستقبل الحكومة وموضوع الخلافة ، وكأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وأهل بيته ، وصحابته ، وجميع الّذين يهمّهم الأمر لم ينبسوا ببنت شفةٍ فيها(4) !! وإنّما حكوا عن أبي بكر أنّه

ص: 849


1- (1) الكامل في التاريخ 2 : 300 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 37 ، 38 .
2- (2) تاريخ الطبريّ 3 : 229 .
3- (3) نفسه 3 : 184 ، 185 .
4- (4) دع عنك ما اختلقه الوضّاعون ، الّذين كانوا ينكرون النّصّ النّبويّ على الإمامة ، فيما بعد من أحاديث في خلافة أبي بكر وغيره على الرغم من جميع الأخبار الدّالّة على إمامة أهل البيت عليهم السلام . انظر : الغدير : 5 ، بحث سلسلة الموضوعات في الخلافة : 333 - 356 . وبشأن الأدلّة على نفي صحّة الأحاديث المذكورة ، انظر : 357 - 375 .

قال عند موته : وددت لو أنّي كنت سألتُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عنها(1) ! ويبدو مستبعَدا أنّ أحدا لم يطرح موضوع الخلافة . والفرضيّة الأخرى كلام الشّيعة إذ كان الموضوع واضحا تماما عندهم ، وعلى ما نقله ابن إسحاق أنّ عامّة المهاجرين وجميع الأنصار لم يشكّوا قطّ في أنّ عليّا عليه السلام سيكون صاحب الأمر بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم (2) . ومن الثّابت أنّ هذه المنافسات العلنيّة والسّريّة كانت جارية بينهم ، ومن الصِدفة والاتّفاق أنّ عِليةَ الصّحابة كانوا يفكّرون بهذا الأمر .

ومن المناسب ، قبل الإشارة إلى بعض القضايا الّتي تمخّض بها ذلك العصر ، أن نعرض موقف إحدى القبائل من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إبّان العهد المكّيّ . فقد سار إلى بني عامر بن صعصعة مرّةً ودعاهم إلى الإسلام . فقال أحدهم : إذا اتّبعناك وأظفرك اللّه على أعدائك ، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ فقال صلى الله عليه و آله وسلم : «الأمر إلى اللّه يضعه حيث يشاء»(3) . وهكذا ينبغي أن نقول : إنّ بعض القبائل كبني عامر كانوا يفكّرون بخلافة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم منذ أوان البعثة . ففي مثل هذه الحالة كيف يمكن أن نتصوّر أنّ أحدا لم يسأل عنها ، أو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لم يقل فيها شيئا خلال السنين العشر من الهجرة ؟ ولا يبدو هذا الأمر معقولاً إلاّ إذا حصرنا دور النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بدور الإنسان الداعي فحسب ، في حين أنّه لم يكن كذلك كما مرّ بنا ، فقد أقام حكومةً ، وكان صلى الله عليه و آله وسلم على رأسها ، وشرع يُنشئ بعض الأجهزة لإدارة الشّؤون العامّة للنّاس ؛ وحينئذٍ يتعذّر علينا قبول مثل الأمر .

ص: 850


1- (1) تاريخ الطّبريّ 3 : 431 .
2- (2) الموفّقيّات : 580 ؛ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد 2 : 273 .
3- (3) تاريخ الطّبريّ 2 : 350 .

إنّ ما قيل في القضايا الحادثة في السّنة الأخيرة من حياته صلى الله عليه و آله وسلم يشتمل على مباحث في قسمين . الأوّل ويتضمّن مطالب فيما يجب أن يتحقّق وكان موضع اهتمام الرسول صلى الله عليه و آله وسلم . الآخر ويتضمّن مطالب فيما تحقّق عمليّا . ونقطة الالتقاء بين هذه المباحث إجراءات اتُّخذت لنقل الحقيقة إلى الواقع . ومن الطّبيعيّ أنّ جزءا من مباحث القسم الأوّل يرتبط بمباحث كلاميّة وأحيانا تاريخيّة تدور حول الإمامة ، ولا نذكرها هنا - مع أنّنا سنوضّح في البحوث القادمة بعض الآراء - بل نذكر منها بقدر ما يستبين الوضع المتمثّل بتبلور الحكومة . وكانت التّركيبة السّياسيّة لجماعة المؤمنين بالمدينة في السّنة الأخيرة من حياة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم كالآتي : الأنصار وهم الأغلبيّة ، وكانوا سكّان المدينة وأهلها المحلّيّين ؛ والمهاجرون وهم أقلّيّة ، لكنّهم ذوو نفوذ وسطوة . ومنهم من هاجر إليها من مكّة ، ومنهم من أمّها من مناطق أُخرى ، واستوطنها . وفي السّنين الأُولى من الهجرة حتّى فتح مكّة وحّدتهم ضرورة الجهاد ضدّ الكفّار ، أمّا بعد الفتح وانتشار الإسلام بين القبائل ، وزوال الخطر المتوقَّع من الكفّار فإنّهم اهتمّوا بشؤونهم الداخليّة ، وتتمثّل هذه الشّؤون بمنافسة سكّان المدينة القدامى للمهاجرين الجدد إلى حدٍّ ما .

وعندما قسّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم غنائم حُنين على المسلمين الجدد من غير المدنيّين ، اعترض الأنصار ، وما قرّت أنفسهم إلاّ بالكلام الملطِّف الّذي تحدّث به رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وعدّ نفسه الشّريفة من الأنصار(1) . ولا جرم أنّ الأنصار والمهاجرين كليهما كانا قلقين على وضعهما بعد وفاة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم . وبلغ ارتباك الأنصار مبلغا أنّهم بادروا إلى تشكيل السّقيفة بعد سماعهم خبر وفاته صلى الله عليه و آله وسلم مباشرةً . وذهولهم هذا مبتنٍ على أرضيّة سابقة . وبين الأنصار ذاتهم مشكلات أهمّها المنافسة القديمة بين الأوس

ص: 851


1- (1) السّيرة النّبويّة ، ابن هشام 4 : 498 ، 499 .

والخزرج . وأبناء الأعمام من الخزرج أنفسهم كانوا يعيشون تناحرات تحول دون اتّحادهم .

أمّا المهاجرون أو بتعبير أفضل سكّان المدينة غير الأصليّين فقد كانوا قريشا وعددا غفيرا من سائر القبائل العربيّة . وتتميّز قريش بموقع أفضل بينهم لماضي سيطرتها ولقرابتها من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، بيد أنّها كانت مُنيت بالتّشتّت والتشذّر إبّان سنين البعثة والهجرة . وكانت هناك مناحرات بين بني هاشم وبني أُميّة حتّى قبل أن يكون الإسلام سببا في الانشقاقات الّتي طرأت في الصّفّ القرشيّ . وإنّ ظهور النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بين بني هاشم لم يدفع بني أميّة وحدهم إلى الحسد ، بل دفع سائر الطوائف القرشيّة المهمّة في مكّة إلى ذلك أيضا . وبلغ ذلك الحسد مبلغا أنّهم اعترضوا على نبوّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ورأوا غيره أهلاً لها(1) . فهذه أمور سابقة حدت قريشا ، أو بتعبير آخر أغلبيّة قريش ، أو بتعبير أفضل بني أميّة ، وبعض حلفائهم كبني مخزوم على مواجهة الإسلام . فهؤلاء الذين كان يمثّلهم أبو سفيان - بعد مقتل صناديدهم ببدر - أسلموا في فتح مكّة ، وكان بيّنا أنّ الظّروف الزّمنيّة وحدها آنذاك هي الّتي دفعتهم إلى اعتناق الإسلام . وكانوا يُدعَون «الطّلقاء» وهو اسم اختاره رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لهم .

وكان هذا قسما من قوّة قريش ، ولم يكن له موقع في السّنة الأخيرة من حياة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وما عداه ، فإنّ كثيرا منها كان أسلم ، وفيهم عثمان بن عفّان الأُمويّ ، وهؤلاء يعدّون من مسلمي عهد البعثة . وينبغي أن نذكر أبا بكر وعمر في عدادهم أيضا ، وهما من بطنين قرشيّين : تيم وعَدِيّ . وكانت جميع الأطراف القرشيّة ساخطةً على بني هاشم من بين المهاجرين . ويعود هذا السّخط - مضافا إلى السوابق التاريخيّة قبل الإسلام - إلى أنّ عددا كبيرا من أعضاء الأُسر المذكورة كان قد لقي

ص: 852


1- (1) الزخرف : 32 ؛ الأحقاف : 11 ، 53 ؛ وانظر : أنساب الأشراف 1 : 184 ، 196 ، 197 .

حتفه على يد عليّ بن أبيطالب عليه السلام ، وحمزة سلام اللّه عليه . ولا يمكن أن نقبل بأنّ هذا الفعل لم يستتبع ردّ فعل عند أقارب هؤلاء ، مع الأخذ بنظر الاعتبار الأواصر القبليّة والأُسريّة الوثيقة . وقال عثمان في أيّام خلافته للإمام عليّ عليه السلام مرّة : إن كانت قريش لا تحبّك فما ذنبي ؟ ولقد قتلتَ رجالاً كثيرين منهم كانت وجوههم تسطع كالذهب(1) . وكانت الزهراء عليهاالسلام ترى أنّ الأمر مرتبط بسيف عليّ عليه السلام ، وأنّ خوف قريش يعود إلى موقفه عليه السلام من كفّارها في حروبها مع النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم (2) .

ويتجلّى سخط قريش على بني هاشم في السّنة الأخيرة من حياة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله وسلم من خلال رواية منقولة عن العبّاس بن عبد المطّلب . فقد قال للنّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ذات مرّةٍ : حين تتلاقى قريش بعضها ببعض ، تتلاقى بالبِشر ، ولكن حين تلقانا ، نرى وجوها لا نعرفها ! قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ما مضمونه : «والّذي نفس محمّد بيده ، لا يدخل الإيمان قلبَ رجلٍ حتّى يحبّكم للّه ورسوله»(3) . وكانت الأوضاع بنحو عانى فيه بنو هاشم ما عانوا لأجل ذلك ، بل إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم نفسه كان يخشى الجهر بأمر اللّه سبحانه في إمامة عليّ عليه السلام . ولم تكن لقريش المناوئة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم - أي : بني أُميّة وحلفائها - قاعدة تذكر بسبب مناوآتها الّتي دامت عدد سنين . وهكذا أخذ الجناح المعتدل من قريش زمام الأُمور وسيطر على السّلطة السياسيّة بتمهيداته الخاصّة مستغلاًّ المناحرات والخلافات الّتي كانت قائمة يومئذٍ .

ويبدو مناسبا أن نستعرض عددا من الأحداث المهمّة الّتي وقعت في الأشهر

ص: 853


1- (1) نثر الدرّ 2 : 68 ؛ معرفة الصّحابة ، أبو نعيم الإصفهانيّ 1 : 301 ؛ مسائل الإمامة : 56 ؛ الوافدات من النساء على معاوية : 30 .
2- (2) نثر الدّرّ 4 : 14 . وذكر ابن أبي الحديد أيضا أنّ قريشا كانت ترى عليّا عليه السلام قاتل أعزّتها ، وأنّ الدّماء التي سالت ، وإن كانت للإسلام ، لكنّها كانت تقطر من سيفه عليه السلام . انظر : شرح نهج البلاغة 13 : 300 .
3- (3) المعرفة والتاريخ 1 : 295 ؛ البداية والنّهاية 2 : 257 .

الأخيرة من حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . وأوّلها واقعة الغدير الّتي قيل فيها الكثير حتّى الآن . فإنّ معظم المحدِّثين والمؤرّخين المسلمين يقرّون بأصل الواقعة ، حتّى إنّ مؤرّخا معروفا كالطّبريّ لم يذكرها في تاريخه الكبير ، بيد أنّه صنّف فيما بعد كتابا مستقلاًّ فيها بعنوان «طرق حديث الولاية» ، ويؤسفنا أنّه ليس في متناول أيدينا الآن ، وإن كان يقتنيه بعض العلماء حتّى القرن الثّامن الهجريّ(1) . ويجب أن نقول إنّ تعصّب بعض أهل الحديث حال دون ذكره في كتبٍ اتّخذت عنوان «صحيح البخاريّ» و «صحيح مسلم» في حين وردت في هذين الكتابين عشرات الأحاديث الّتي نقلها صحابيّ واحد فحسب ، مع أنّ عشرات الصّحابة نقلوا حديث الغدير(2) ، ولم يرد له ذكر فيهما . وفي ضوء ما جاء بشأن نزول قوله تعالى : « يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ...» الآية 67 من سورة المائدة، أمر سبحانه نبيّه صلى الله عليه و آله وسلم أن ينصّب عليّا عليه السلام خليفةً له(3) . ويُستشفّ من الآية أنّه صلى الله عليه و آله وسلم كان يخشى الإعلان عنها « وَاللّه ُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ » . ودلّت هذه الخشية على نفسها من خلال ما حدث في المراحل اللاحقة . وبعد أن أعلن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عن ولاية عليّ عليه السلام بايعه جميع الحاضرين . ومن الطّريف أنّ الطّبريّ روى حديث الغدير في كتابه عن عمر بن الخطّاب ، وأورده ابن كثير عن كتاب الطّبريّ (نقلاً عن الجزء الأوّل من كتابه «الولاية»)(4) .

والحادثة الثانية الّتي وقعت في الشّهرين الأخيرين من حياة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم تتمثّل في

ص: 854


1- (1) انظر بشأنه : رجال النجاشيّ : 225 ؛ الفهرست للشيخ الطّوسيّ : 150 ؛ تذكرة الحفّاظ للذّهبيّ 2 : 713 ؛ معجم الأدباء 17 : 81 ؛ مجلّة تراثنا ، العدد 21 ، مقالة : الغدير في التراث الإسلاميّ 172 ، 173 .
2- (2) انظر : الغدير ، بحث رواة حديث الغدير من الصّحابة 1 : 14 - 16 .
3- (3) انظر في شأن نزول الآية المذكورة في واقعة الغدير كتاب الغدير ، بحث : الغدير في الكتاب ، آية التبليغ ، 1 : 214 - 229 .
4- (4) البداية والنّهاية 5 : 213 .

الواقعة المعروفة بواقعة «يوم الخميس» . وأجمع المؤرّخون والمحدّثون على روايتها . وفيهم البخاريّ الّذي : ذكرها في مواضع من صحيحه ، منها «كتاب العلم» ، و «باب قول المريض : قوموا عنّي...»(1) . وجاء فيها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قال : «ائتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده» . فقام عمر وقال : إنّ الرجل [ نُفِثَ على لسان هذا الرّجل فنطق بما لا يليق وأقذع ، ففرِّط في جنب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ولم يرعَ رحمته ولم يدرك قداسته ، فيا للأسى وحاشا لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عمّا تفوّه به ! وكلّ مسلم غيور يحاشيه صلى الله عليه و آله وسلم أن يقول غير الحقّ ] قد غلبه الوجع [ وإنّه ليهجر ] حسبنا كتاب اللّه(2) . وبالنظر إلى الدور الحسّاس الّذي مارسه الخليفة في الأحداث الواقعة في بداية الخلافة ، فإنّ هذه المعارضة الّتي أبداها لا ينبغي أن تنال حظّها من الإهمال وعدم الاهتمام . وبعد هذا الاعتراض قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : «قوموا عنّي لا ينبغي عند نبيّ نزاع» . وعلى ما نقله البخاريّ ، وابن سعد فإنّ ابن عبّاس كان يقول ودموعه تجري على خدّه : «الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم . وقالوا : إنّه يهجر»(3) .

ونقل ابن أبي الحديد عن كتاب تاريخ بغداد لأحمد بن أبي طاهر طيفور عن ابن عبّاس مسندا أنّه قال : «دخلتُ على عمر في أوّل خلافته ، وقد أُلقيَ له صاعٌ من تمرٍ على خَصَفة ، فدعاني إلى الأكل ، فأكلتُ تمرةً واحدةً ... ثمّ قال : من أين جئتَ يا عبد اللّه ؟ قلتُ : من المسجد . قال : كيف خلّفت ابن عمّك ؟ فظننتُه يعني عبد اللّه بن جعفر .

ص: 855


1- (1) البخاريّ ، كتاب العلم ، باب كتابة العلم 1 : 22 ، 23 ، باب جوائز الوفد من كتاب الجهاد 2 : 120 .
2- (2) الطّبقات الكبرى 2 : 242 - 245 ؛ مسند أحمد 1 : 325 ؛ الأمالي في آثار الصّحابة : 38 ؛ وللاطّلاع على مصادر أكثر انظر : مكاتيب الرّسول 2 : 618 - 626 .
3- (3) انظر : تاريخ الطّبريّ 3 : 193 . ومن الُمخجل ما قيل إنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أراد أن يكتب اسم أبي بكر . انظر : تاريخ الإسلام ، عهد الخلفاء الراشدين : 111 .

قلتُ : خلّفته يلعب مع أترابه . قال : لم أعنِ ذلك ، إنّما عنيتُ عظيمكم أهل البيت . قلتُ : خلّفته يمتح بالغَرْب على نُخيلاتٍ من فلان ، وهو يقرأ القرآن . قال : ... هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة ؟ قلت : نعم . قال : أيزعم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم نصّ عليه ؟ قلتُ : نعم . وأزيدك : سألت أبي عمّا يدّعيه ، فقال : صَدَقَ . فقال عمر : لقد كان من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في أمره ذَرْوٌ من قولٍ لا يُثبت حجّةً ... ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه ، فمنعتُ من ذلك إشفاقا وحيطةً على الإسلام ... لا تجتمع عليه قريش أبدا ! ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها . فعلم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أنّي علمتُ ما في نفسه ، فأمسك ...»(1) .

ولا جرم أنّ عمر كان يعبّر عن واقعة يوم الخميس . ونحن نعرف أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أمسك عن التّصريح باسم عليّ عليه السلام لأنّه لم يُرد أن يحدث نزاع عنده . وبشأن مطلب قريش ، ينبغي أن نقول : إنّ مناوءة المناوئين للإمام عليه السلام كانت واسعة بيد أنّها لم تقم دليلاً على إنكار النصّ النّبويّ ، بل لعلّ دعم الإمام عليه السلام يزيل المناوءات . ويستشفّ من هذا الخبر أنّ الخليفة كان يرى الأمر النّبويّ خلافا للمصلحة ، وغير قابل للطّاعة طبعا . وينسجم هذا الأمر مع كثير ممّا قيل في الخليفة . وهو معلَم على صحّة ما ذُكر من أنّ طاعة الأوامر النّبويّة غير واجبة عنده في مواضع عديدة . وسُئل مرّةً عن سبب الموقف السّلبيّ من الإمام عليّ عليه السلام ، فقال : صغر سنّه وحبّه بني عبد المطّلب(2) . وسنزيد التّوضيح في هذا المجال لاحقا .

ص: 856


1- (1) شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد 12 : 21 . إنّ الحسد الّذي كانت تكنّه بطون قريش المختلفة لبني هاشم لا يُغَضُّ الطّرف عنه . وتدلّ عليه السّابقة التاريخيّة لتدهور العلاقات . وقال عمر لابن عبّاس مرّةً : أبى قومكم أن تجتمع النّبوّة والخلافة في بيت واحد . انظر : نثر الدرّ 2 : 28 ؛ وهكذا لم يتعلّق هذا الأمر بمعارضة العرب ، بل كانت قريش هي صاحبة القرار فيه .
2- (2) شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد 12 : 82 .

ويعتقد أبو جعفر النقيب أُستاذ ابن أبي الحديد أنّ الصحابة [ وعلى رأسهم أبو بكر وعمر كما نرى ] لم يروا الخلافة من معالم الدّين كالصّلاة والصّيام ، كما لم يُلزموا أنفسهم باتّباع «نصّ رسول اللّه» في هذه الحالات عند تشخيصهم عدم المصلحة في طاعتها . ويضيف أنّ الصّحابة أهملوا كثيرا من النّصوص النّبويّة متّفقين بالنظر إلى المصلحة الّتي كانوا يرونها(1) . وينبغي الالتفات إلى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كان قد أوصى في الشّهور الأخيرة بالتمسّك بأهل بيته إلى جانب القرآن الكريم مرارا [ حديث الثقلين ] وهو ما رواه ابن سعد(2) . وجمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم الناس بعد مرجعه من الطّائف أيضا ، وأوصاهم بأهل بيته ما يلزم من الوصايا(3) .

وأمّا الحادثة الثالثة فهي عزم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم على إيفاد جيش أُسامة إلى مؤتة عند الرجوع من حجّة الوداع في السّنة العاشرة من الهجرة . وتزامن هذا الإيفاد مع بدء اعتلال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وشروع المعارضة الّتي أبداها المتنبّئون كطليحة في بني أسد ، ومسيلمة في بني حنيفة ، والأسود العنسيّ في اليمن ، وسجاح في بني تميم .

وسنشير هنا إلى هذه الحادثة فحسب . فقد كان قائد الجيش شابّا يتراوح عمره بين السابعة عشرة والعشرين في حين كان جيشه يتألّف من سابقي الصحابة ومتأخّريهم . وروى ابن سعد أنّ جميع الصّحابة الأُوَل والأنصار تهيّأوا للخروج ، وفيهم أبو بكر ، وعمر ، وأبو عبيدة بن الجرّاح [ ولم يذكر اسم عليّ عليه السلام بينهم قطّ ، كما لم يذكره سائر المؤرّخين أيضا ] . وأضاف أنّ جماعة اعترضوا على صغر سنّه ، فغضب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وقال : «إنّه لخليق بها» . وكان تجهيز الجيش في السادس والعشرين من صفر ، أي : قبل وفاته صلى الله عليه و آله وسلم ببضعة أيّام . وكان صلى الله عليه و آله وسلم يقول وهو في شدّة المرض :

ص: 857


1- (1) شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد 82 ، 83 .
2- (2) الطّبقات الكبرى 2 : 194 .
3- (3) المعرفة والتاريخ 1 : 283 .

«انفذوا جيش أُسامة»(1) . فتثاقلوا من الذّهاب حتّى توفّي صلى الله عليه و آله وسلم . ولا يوجد أدنى شكّ في أنّ كبار الصّحابة ومنهم الخليفتان كانوا في عداد الجيش(2) . ولا يمكن أن يعترض على سنّ أُسامة إلاّ عمر وحده ، لأنّه ظلّ على رأيه في الاعتراض على سنّه وإمارته حتّى بعد استخلاف أبيبكر وإيفاد الجيش(3) ، مع أنّه ينقل هذا الموضوع عن الأنصار. وجاء في كلماتٍ لأميرالمؤمنين عليه السلام أنّ الهدف من إيفاد الجيش هو تثبيت ولايته عليه السلام (4).

وثمّة حادثة أُخرى تزامنت مع وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وهي إنكار الخليفة الثاني وفاته صلى الله عليه و آله وسلم . وحين عمّ الخبر ، سلّ سيفه ، وقال : من زعم أنّه مات فسأقتله(5) . وبرّر ابن أبي الحديد وهو سنّيّ معتزليّ ، ذلك بأنّه كان يتحاشى وقوع الفتنة(6) . بيد أنّ أهل السّنة - نوعيّا - يذهبون إلى أنّه كان يعتقد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لا يموت إلاّ بعد أن يموت جميع أصحابه(7) . ولمّا وصل أبو بكر ، وقرأ عليه الآية « إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَيِّتُونَ » رضي بذلك(8) !

ومن المناسب أن ننقل هنا خبرا آخر حول الدور الّذي أدّته زوجات النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في التطوّرات السّياسيّة للخلافة . ويروي ابن عبّاس أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أرسل [ وهو على فراش المرض ] وراء عليّ عليه السلام . فقالت عائشة : ماذا لو أرسلت وراء أبي بكر ؟ وقالت حفصة : ماذا لو أرسلتَ وراء عمر ؟ فاجتمعوا كلّهم ، فقال صلى الله عليه و آله وسلم ما مضمونه :

ص: 858


1- (1) الطّبقات الكبرى 2 : 189 ، 190 .
2- (2) مسائل الإمامة : 53 ؛ أنساب الأشراف 2 : 384 ؛ الطّبقات الكبرى 2 : 249 .
3- (3) الكامل في التاريخ 2 : 335 .
4- (4) بحار الأنوار 38 : 173 [ نقلاً عن خصال الصدوق ] .
5- (5) انظر : الطّبقات الكبرى 2 : 266 ، 267 ؛ أنساب الأشراف 1 : 565 ، 567 .
6- (6) شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد 2 : 42 ، 43 .
7- (7) الفائق في غريب الحديث 1 : 408 ، 409 .
8- (8) الطّبقات الكبرى 2 : 267 ؛ تاريخ الطّبريّ 3 : 200 ، 201 .

لا بأس ، اذهبوا ، إذا شئت أرسلتُ وراءكم(1) . والحادثة الأُخرى رواية صلاة أبي بكر في المسجد مكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . وهي الرواية الّتي نقلها أهل السّنّة كثيرا ، وناقشناها في موضع آخر بإيجاز(2) . ونكتفي بالإشارة إلى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يعتقد أنّ عائشة هي الّتي نقلت عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أن يصلّي أبو بكر مكانه على ما يبدو ، وهذه ملاحظة كان الإمام عليه السلام يذكرها لأصحابه مرارا(3) . ويضاف إلى ذلك أنّنا نعلم أنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم جاء إلى المسجد وهو معتلّ ، وتقدّم على أبي بكر . وقالوا في توجيه هذا الأمر إنّ أبا بكر اقتدى برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، واقتدى النّاس بأبي بكر ! وكان الشّافعيّ يعتقد أنّ صلاة واحدة فحسب كانت هكذا(4) ، ويستبين من التوضيح المتقدّم إلى أيّ مدى بلغ الأمر . ويصرّح الدكتور أحمد محمود صبحي أنّ قصّة صلاة أبي بكر والاستناد إليها لإثبات خلافته من موضوعات العصر المتأخّر ، إذ رمى بعض الأشخاص من أنصاره إلى وضع نصٍّ لإثبات خلافته(5) .

وتدلّ هذه الأحداث على اضطراب الأوضاع السّياسيّة فيما يخصّ الخلافة . ولا ريب في أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم نصّب عليّا عليه السلام في الغدير ، وأعلن النّصّ على إمامته بأمر اللّه تبارك وتعالى ، إلاّ أنّ جهوده ذهبت سدىً ، إذ نشطت ثلّة من الناس فحالت دون تنفيذ النّصّ(6) . ومن مجموع المباحث المتقدّمة بدايتها حتّى الآن يمكن أن نركّز على

ص: 859


1- (1) تاريخ الطّبريّ 3 : 196 .
2- (2) تاريخ سياسى اسلام تا سال چهلم هجرى [ التاريخ السياسيّ للإسلام حتّى السّنة الأربعين من الهجرة ] : 234 - 238 .
3- (3) شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد 9 : 197 ، 198 .
4- (4) إرشاد السّاري 2 : 49 .
5- (5) نظرية الإمامة عند الاثني عشريّة : 22 .
6- (6) وللسُدآباديّ تقسيم رائع لفئات النّاس المختلفة يومئذٍ : 1 - فئة قتل عليّ عليه السلام آباءها وإخوتها وأقاربها . 2 - فئة ارتدّت من العرب . 3 - فئة حاسدة لبني هاشم . 4 - فئة مُنيت بحبّ الدنيا ولم تشعر بالمسؤوليّة أمام اللّه . 5 - فئة من الهمج الرعاع كالأنعام تميل مع من تشاء . 6 - فئة مستضعفة كانت تعرف الحقّ لكنّها لم تستطع أن تفعل شيئا . انظر : المقنع : 112 .

عددٍ من النقاط بإيجاز . كانت مهمّة الرّسول صلى الله عليه و آله وسلم بالدرجة الأولى مهمّة رساليّة ، وبعد أن انتظم أمر الرسالة ، جمع المسلمين كلّهم في المدينة وأنشأ حكومة إسلاميّة وبدأت هذه الحكومة عملها بشكل متماسك من خلال معاهدةٍ عامّة ارتكزت على مفهوم الأُمّة ، وأُخذت من التعاليم الفكريّة والفقهيّة للإسلام .

وأدّت الهجرة والجهاد دورهما في إرساء دعائم الحكومة النّبويّة في المجتمع . وبعد نزول الآيات الفقهيّة الّتي كانت معايير للمعاملات الفرديّة والاجتماعيّة ، تحدّد إطار «النظام السياسيّ والاجتماعيّ» للمدينة تدريجا . وكان الركن الأصليّ لهذه الحكومة هو رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم نفسه . وكان صلى الله عليه و آله وسلم مطاعا في أُمّته ، في حربها ، وسلمها ، وشؤونها الماليّة ، وتسوية دعاواها . والقاعدة الأصليّة لهذه الطّاعة آيات قرآنيّة عديدة أمرت الناس باتّباعه . ولم تُقَيَّد الآيات المذكورة بشيء إلاّ أنّها طلبت من الرسول صلى الله عليه و آله وسلم أن يحكم حسب الآيات الإلهيّة . وأُثني على النّاس لبيعتهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وذُكِّروا بأن يكونوا مسؤولين أمام بيعتهم وعهدهم ، وأن يعلموا بأنّهم مسؤولون أمام اللّه سبحانه ، وهو سائلهم .

والسّؤال المهمّ هو كيف كانت حكومة الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ؟ وهل يتكرّر مثلها أو لا ؟ والإجابة عن هذين السّؤالين ونظائرهما ليست بسيطةً . فإذا كانت حكومته صلى الله عليه و آله وسلم قوامها «النصّ» و «البيعة» - مع أنّ النّصّ في الأصل شرعيّ مُلزم بشرعيّته ؛ والبيعة ضمان الناس للطّاعة ؛ وإذا لم يعطوا مثل هذا الضمان ، فإنّ ذلك يستتبع مشكلةً تنفيذيّة ، أو تطبيقيّة كما تُسمّى - فإنّنا نستطيع أن نعتبرها نظريّة «الإمامة الشيعيّة» نفسها الّتي يُعدّ النّصّ الإلهيّ أهمّ دعامةٍ لها . ويعتقد الشّيعة الإماميّة بهذا المبدأ . من هنا فهم

ص: 860

يرون أنّه يتكرّر في الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام . وإنّ الاعتقاد بالنّصّ في شرعيّة الحاكم ، بشكل خاصّ ، لم يُطرح في أيّ نظريّة من النظريّات المألوفة المعروفة في الفكر السّياسيّ الغربيّ ، مع أنّه نوقش بشكل عامّ تحت عنوان الثيوقراطيّة الّتي تعني حكومة اللّه على النّاس .

وهكذا ينبغي الالتفات إلى أنّ الخلافة الّتي يريدها أهل السّنّة تعرف أيضا باسم حكومة اللّه على النّاس . والحكومة الثيوقراطيّة في الحقيقة هي حكومة تطالب بتطبيق الأحكام الإلهيّة على النّاس ، وترى نفسها مختارةً باختيار اللّه في الحكم على النّاس . ويعدّ القيد الثّاني (تطبيق الأحكام الإلهيّة) المرحلة الثانية في الثيوقراطيّة (بعد مبدأ حاكميّة قانون اللّه على النّاس) ، ومرحلتها الثالثة الاعتقاد بالنصّ الصريح في شرعيّة الحاكم . وكان النّاس يتّبعون رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لقوله تعالى : « أَطِيعُوا اللّه َ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ » وكان الخلفاء أيضا يرون أنفسهم مصاديق لأولي الأمر ، إلاّ أنّ هناك تفاوتا بيّنا بين الاثنين يتمثّل في أنّ مصداق الرسول هو محمّد بن عبد اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وحده لا غيره ، أمّا مصداق أولي الأمر ، فيمكن أن ينطبق على كلّ من يمسك بزمام الخلافة ، ولكن كيف يكون ذلك ؟ وعن أيّ طريق يتحقّق ؟ فالشّيعة تذهب إلى أنّ مصداق أولي الأمر المتمثّلين بأصحاب الأمر من اللّه تعالى حصرا هم الأئمّة الاثنا عشر عليهم السلام فحسب . وحينئذٍ فالعقيدة الّتي ترى تكرار مثال الحكومة الدينيّة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم من الرؤية النّظريّة هي عقيدة الشّيعة الإماميّة .

ويبدو أنّ محاولة بعض العلماء من أهل السّنّة لتعزيز الرؤية القائلة أنّ لشرعيّة الخلفاء ورسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم منطلقا معيّنا (أي : البيعة) مرفوضة . إذ إنّ بيعة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، بالنظر إلى تطبيقها في عصره ، لم تكن وسيلةً لإضفاء الشّرعيّة قطّ ، بل وسيلة لولاء النّاس للإسلام ولطاعته صلى الله عليه و آله وسلم . وبغضّ النظر عن مبدأ الشّرعيّة الإلهيّة لحكومة الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ، فإنّ القضيّة ترتبط بطريقته صلى الله عليه و آله وسلم في الحكم أيضا .

ص: 861

ومن المؤسف أنّ هذين الجانبين يختلط بعضهما بالآخر في بعض الحالات . فما يُقال إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كان يداريالناس ، ويستشيرهم ويفيد من آرائهم في أمر الحكومة لا علاقة له أبدا بالجانب الأوّل من البحث المتمثّل بالنّصّ والشّرعيّة المستحصلة منه . والحكومة ، مبدئيّا للنّاس ، وضرورة إبقائهم في السّاحة إشراكهم في إدارة الأُمور . وكما يختار الناس أشخاصا لإدارة شؤونهم ، ويُستفاد من سلطتهم لتنظيم شؤونهم الحياتيّة ، فينبغي أن يُفاد من عقول الناس لمثل هذا العمل أيضا . وهذا مبدأ قرآنيّ « وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ » ، لكن لا علاقة له بالشّرعيّة ، لأنّنا نعلم - موقنين - أنّ شرعيّته صلى الله عليه و آله وسلم مستمدّة من النصوص القرآنيّة . ويمكن في هذا القسم أن نفيد من القدرة الفكريّة والتطبيقيّة للنّاس بأشكال مختلفة ، وندير أعمالهم في كلّ زمان بالمشورة تبعا لنطاق حياتهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة .

الأيّام الأخيرة

لا ريب في أنّ الأيّام الأخيرة من حياة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم كانت محفوفة بالقلق على مستقبل المسلمين . وفي الوقت نفسه كان قسم من شؤونه الخاصّة ذا بعد شخصيّ ، بل ذا بعد تربويّ نوعا ما للمسلمين من أجل مواجهة الموت وتبعاته يوم ملاقاة اللّه سبحانه .

ومن الأخبار الّتي نقلت حول الأيّام الأخيرة من عمره الشريف صلى الله عليه و آله وسلم تردّده على البقيع أكثر من السّابق . وكان فيه كثير من أصحابه الّذين استُشهدوا أو ماتوا خلال السنين العشر الماضية . فكان يذهب إلى البقيع لزيارتهم بانتظام . يضاف إلى ذلك أنّ دنوّ الأجل كان يحدو به على الذهاب إلى البقيع أكثر من ذي قبل . وكان يخاطب

ص: 862

أصحابه الثاوين في قبورهم قائلاً : «السّلام عليكم دار قومٍ مؤمنين ، أنتم لنا فَرَطٌ وإنّا بكم لاحقون(1) .

واعتلّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم شيئا فشيئا . وظهرت عليه أعراض المرض في حمّىً شديدةٍ . وبلغت الحمّى من الشدّة مبلغا أنّ الّذين كانوا يضعون أيديهم على جسمه الشريف يشعرون أنّه لا طاقة له من شدّة الحمّى(2) . وكان صلى الله عليه و آله وسلم يقول إنّ مرض المؤمن كفّارة لذنوبه . ومع هذا لم يترك صلاة الجماعة ولمّا تقدّم أبو بكر للصّلاة بلا استئذان ، رفع صلى الله عليه و آله وسلم ستارة الحجرة ورآه ، وحينئذٍ جاء إلى المسجد ، وتقدّم وأمّ الناس(3) ، وكان دعاؤه الأخير في أيّامه الأخيرة قوله : «اللّهمّ اغفر لي وارحمني وألحقني بالرّفيق .

ووصل إليه في يوم من أيّامه الأخيرة مقدار من المال ، فوزّع قسما منه على النّاس ، وأودع إحدى زوجاته ستّة دنانير متبقيّة . بيد أنّ عينه لم تر النوم حتّى سألها عنها . فجاءته بها ، فقسم خمسةً منها بين خمسة من أُسر الأنصار ، وطلب ممّن حوله إنفاق الدينار المتبقّي . ثمّ قال : «الآنَ استرحتُ»(4) . ورأوه مرّة ذاهباً إلى بيته مسرعا ، فسُئل عن سبب ذلك ، فقال ما مضمونه : كان عندي ذهب وما أردتُ أن أنام وهو عندي ، فأمرتُ بتقسيمه(5) .

ومن الأمور الأُخرى المنقولة أنّه لم يُرد أن يبقى أقلّ دَينٍ - بكلّ ما للكلمة من معنى - في ذمّة أحدٍ . ونقرأ في هذا المجال حديثا شائقا أُثر عنه .

«عن جابر بن عبد اللّه وابن عبّاس : لمّا نزلت « إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ » إلى آخر السورة ، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : يا جبرئيل ، نفسي قد نعيت . قال جبرئيل : « وَلَلاْآخِرَةُ

ص: 863


1- (1) الطّبقات الكبرى 2 : 203 .
2- (2) نفسه 2 : 208 .
3- (3) نفسه 2 : 215 (وجاء في هذا اللفظ أنّه صلى الله عليه و آله وسلم بعثه للصّلاة ، لكنّه جاء وتقدّم وصلّى صلى الله عليه و آله وسلم !)
4- (4) الطّبقات الكبرى 2 : 237 .
5- (5) نفسه 2 : 238 .

خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى »(1) . فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بلالاً أن ينادي بالصلاة جامعةً ، فاجتمع المهاجرون والأنصار إلى مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، فصلّى بالناس ، ثمّ صعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ خطب خطبةً وجلت منها القلوب ، وبكت منها العيون ، ثمّ قال : أيّها النّاس ، أيّ نبيّ كنتُ لكم ؟ فقالوا : جزاك اللّه من نبيّ خيرا . فقد كنت لنا كالأب الرحيم ، وكالأخ الناصح المشفق ، أدّيت رسالات اللّه ، وأبلغتنا وحيه ، ودعوتَ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة ، فجزاك اللّه عنّا أفضل ما جازى نبيّا عن أُمّته . فقال لهم : معاشر المسلمين ، أنا أُنشدكم اللّه وبحقّي عليكم ، من كان منكم له قبلي مظلمة فليقُم فليقتصّ منّي . فلم يقم إليه أحد . فناشدهم الثانية ، فلم يقم إليه أحد . فناشدهم الثالثة ... فقام من بين المسلمين شيخ كبير يقال له : عكاشة ، فتخطّى المسلمين حتّى وقف بين يدي النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم فقال : فداك أبي وأمّي لولا أنّك ناشدتنا مرّةً بعد أُخرى ما كنت بالذي أتقدّم على شيء منك ؛ كنتُ معك في غزاة ، فلمّا فتح اللّه علينا ، ونصر نبيّه صلى الله عليه و آله وسلم ، [ وأردتَ [ الانصراف ، حاذت ناقتي ناقتك ، فنزلتُ عن الناقة ، ودنوتُ منك لأُقبّل فخذك ، فرفعت القضيب فضربتَ خاصرتي ، فلا أدري أكان عمدا منك أم أردتَ ضرب الناقة ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : يا عكاشة ، أُعيذك بجلال اللّه أن يتعمّدك رسول اللّه بالضرب ؛ يا بلال ، انطلق إلى منزل فاطمة فائتني بالقضيب الممشوق ، فخرج بلال من المسجد ويده على أمّ رأسه وهو ينادي : هذا رسول اللّه يعطي القصاص من نفسه ، فقرع الباب على فاطمة ، فقال : يا ابنة رسول اللّه ، ناوليني القضيب الممشوق . فقالت فاطمة : يا بلال ، وما يصنع أبي بالقضيب وليس هذا يوم حجّ ولا [ ... ] ؟ فقال : يا فاطمة ، ما أغفلك عمّا فيه أبوك ! إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يودّع الدين ويفارق الدنيا ،

ص: 864


1- (1) الضُّحى : 4 ، 5 .

ويعطي القصاص من نفسه . فقالت فاطمة عليهاالسلام : يا بلال ، ومن تطيب نفسه أن يقتصّ من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ؟ يا بلال ادنُ وقل للحسن والحسين يقومان إلى هذا الرجل فيقتصّ منهما ، ولا يدعانه يقتصّ من رسول اللّه . ودخل بلال المسجد ، ودفع القضيب إلى عكاشة ... وقام الحسن والحسين فقالا : يا عكاشة ، ألست تعلم أنّا سبطا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، والقصاص [ منّا ] كالقصاص من رسول اللّه ؟ فقال لهما النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم : اقعدا يا قرّة عيني ، لا نسي اللّه لكما هذا المقام . ثمّ قال عليه الصلاة والسلام : يا عكاشة اضرب إن كنت ضاربا . فقال : ... ضربتني وأنا حاسر عن بطني . فكشف عن بطنه ... وصاح المسلمون وقالوا : أترى عكاشة ضاربا بطن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ؟ فلمّا نظر عكاشة إلى بياض بطنه صلى الله عليه و آله وسلم كأنّه القَباطيّ ، لم يملك أن أكبّ عليه ، فقبّل بطنه وهو يقول : فداك أبي وأمّي ، ومن تطيق نفسه أن يقتصّ منك ؟! فقال له النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم : إمّا أن تضرب ، وإمّا أن تعفو . فقال : قد عفوت عنك رجاء أن يعفو اللّه عنّي يوم القيامة . فقال النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم : من سرّه أن ينظر إلى رفيقي في الجنّة فلينظر إلى هذا الشيخ . فقام المسلمون فجمعوا يقبّلون ما بين عيني عكاشة ويقولون : طوباك طوباك نلت درجات العلى بمرافقة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم .

ومن الوقائع الأليمة الأخرى الّتي حدثت في تلك الأيّام قضيّة الكتاب الّذي أراد صلى الله عليه و آله وسلم أن يكتبه ، فحال بعض الأشخاص دون ذلك . وذكرنا هذه الحادثة في موضع آخر من كتابنا . وفي مصافّ الواقعة المذكورة موضوع بعث أُسامة الّذي آذى النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بشدّة ، لأنّه كلّما أصرّ على ذهاب المهاجرين والأنصار معه ، تخلّف بعضهم ، بل حالوا دون ذهاب الآخرين أيضا .

وكانت فاطمة وعليّ عليهماالسلام أقرب الناس إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . ورأى صلى الله عليه و آله وسلم فاطمةَ تبكي بشدّة ، فدعاها إليه . فهمس في أُذنها ، فزاد بكاؤها . ثمّ قال لها شيئا فتبسّمت . وحين سئلت عن ذلك ، قالت : أخبرني أنّه سيموت في مرضه ، ثمّ أخبرني أنّي أوّل من ألحق به من أهل بيته .

ص: 865

ومن وصاياه الأكيدة الأخرى صلى الله عليه و آله وسلم وصيّته المهاجرين بالأنصار . وكان طبيعيّا أنّ المهاجرين سيسيطرون على الوضع ، وسيعيش الأنصار مظلومين في بلدهم . واغتسل صلى الله عليه و آله وسلم في يوم من الأيّام الّتي تحسّنت فيها حاله نوعا ما ، وصلّى ، ثمّ خطب خطبةً استغفر فيها لشهداء أُحد ، وأوصى بالأنصار ، وأخبر المهاجرين بأنّهم سيعلو كعبهم ، وأنّ الأنصار يظلّون على ما هم عليه . وأنّهم سنده الذي يستند إليه ، وليُحسَن إلى محسنهم ، ويُعفَ عن مسيئهم . وروى أبو سعيد الخُدريّ أنّه أوصى بأهل بيته ثمّ أوصى بالأنصار(1) . مع هذا كان أكثر وصيّته بالصّلاة . وأوصى أيضا بالإماء اللاتي تعرّضن لصنوف الظّلم . ونُقل عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه صلى الله عليه و آله وسلم وضع رأسه في حجر أميرالمؤمنين عليه السلام وهو يكرّر قوله : «الصلاة الصلاة»(2) .

وتتّفق المصادر كلّها على أنّ وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كانت في يوم الاثنين . وقيل أيضا أنّه دُفن يوم الثلاثاء أو يوم الأربعاء(3) . ونلحظ آراءً متفاوتة حول يوم الوفاة بناءً على استقصاء لأحد الباحثين . أوّلها : أنّه كان يوم الثامن والعشرين من صفر ، وهو المشهور عند الشّيعة ، لكن لا توجد رواية - ولو ضعيفة - تدلّ على هذا التّاريخ ، على أنّ الشيخ المفيد والشيخ الطّوسيّ يذهبان إلى هذا الرأي ، وهو ما أُقرّ بعدهما تبعا لهما . الثاني : أنّه كان في الثاني من ربيع الآخر . وهو ما ذهب إليه بعض الفقهاء من الحجاز وعدد من المؤرّخين كأبي مخنف ، والزهريّ(4) . وفي أيدينا أحاديث مأثورة عن الإمام الباقر ، والإمام الصّادق ، والإمام الرضا عليهم السلام تؤيّد الرأي الثالث . الثالث : أنّه كان في الثاني عشر من ربيع الأوّل ، وهو الأشهر عند أهل السّنّة ، ورواه ابن إسحاق ، والواقديّ ، والكلينيّ . ويرى الباحث المذكور أنّ الثامن والعشرين من صفر

ص: 866


1- (1) الطّبقات الكبرى 2 : 251 ، 252 .
2- (2) نفسه 2 : 262 .
3- (3) نفسه 2 : 273 .
4- (4) نفسه 2 : 273 .

لا يمكن قبوله ، والصحيح هو أنّ يوم وفاته صلى الله عليه و آله وسلم كان في الثاني من ربيع الأوّل سنة 11 ه(1) . وإذا قبلنا الثاني عشر من ربيع الأوّل تاريخا لدخوله صلى الله عليه و آله وسلم المدينة عند الهجرة ، فإنّه كان فيها عشر سنين إلاّ عشرة أيّام .

وتوفّي صلى الله عليه و آله وسلم واجتمع رجال بعده في السقيفة ونقل ابن سعد أنّ عليّ بن أبيطالب ، والفضل بن عبّاس ، وأُسامة بن زيد تولّوا غسله . وغسله عليّ بن أبيطالب في لباسه ، وهو يناجيه قائلاً : «فداك أبي وأمّي ، طبتَ ميّتا وحيّا»(2) . ونصّ ابن سعد على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم نفسه أراد من عليّ أن يتولّى غسله(3) . ثمّ وُضع صلى الله عليه و آله وسلم على سريرٍ ، وكان النّاس يأتون جماعةً جماعةً ويصلّون عليه . وقيل لم يكن إمام في الصّلاة ، وأوّل من صلّى عليه بنو هاشم ، ثمّ المهاجرون والأنصار وسائر الناس .

وثار خلاف حول مدفنه صلى الله عليه و آله وسلم . وقُرِّر أن يُدفَن في بيته . ذلك البيت الّذي ادّعت به عائشة . وزعمت أنّه ملك لها مستغلّةً نفوذها في سلطة أبيها ورفيقه . ويبدو أنّه دُفن صلى الله عليه و آله وسلم في بيته ، في القسم الّذي يتوسّط بيت الزهراء والحجرة الّتي كانت تسكن فيها عائشة . [ صلوات اللّه وسلامه وتحيّاته عليه وعلى أهل بيته الطّاهرين ] .

ص: 867


1- (1) مجلّة تراثنا ، العدد 21 ، ص 43 - 57 .
2- (2) الطّبقات الكبرى 2 : 277 .
3- (3) نفسه 2 : 281 .

ص: 868

فهرس الموضوعات

عرض قاصد واعد للمترجم... 5

توطئة... 40

(1)

كتابة التّاريخ عند المسلمين

43 - 223

المسلمون وكتابة التّاريخ... 44

التّراث التّاريخي للعرب في الجاهليّة... 44

تأثير المباحث التّاريخيّة للقرآن الكريم... 47

ضرورة الاستهداء بالسّنّة النّبويّة... 48

إهتمام الحكّام بالتّاريخ... 49

تأثير الكتابات التّاريخيّة لسائر الأقوام على العرب... 51

الأنماط المتنوّعة لكتابة التّاريخ عند المسلمين... 53

كتابة السّيرة والتّرجمة... 53

النّظرة الأُحاديّة الموضوع في تدوين الوقائع المهمّة... 56

كتابة التّاريخ العامّ والتّقويميّ... 58

كتابة التّاريخ على أساس علم الأنساب... 59

ص: 869

الأُسلوب الحديثيّ المسنَد... 61

كتابة التّاريخ الإقليميّ... 62

كتابة التّاريخ الثّقافيّ والاجتماعيّ... 69

تدوين السيرة وكتّابها... 71

تدوين السيرة قبل ابن إسحاق... 71

تدوين السيرة النبويّة في المدينة... 78

موسى بن عُقْبة (م 141)... 81

محمّد بن إسحاق (81 - 85 / 150 - 151)... 83

أبان بن عثمان البجليّ (م ح 170)... 92

محمّد بن عمر الواقديّ (130 - 207)... 100

محمّد بن سعد (168 - 230)... 104

أبو سعد الخرگوشيّ (م 407)... 108

البيهقيّ (384 - 458)... 109

تدوين السيرة بعد القرن الخامس... 111

تحريف السّيرة... 114

معاداة الأنصار وتحريف السيرة... 118

تأثير كتّاب السّيرة في التحريف... 119

الصّور القصصيّة في السّيرة... 120

التّطوّر في تدوين السّيرة... 125

الشيعة وتدوين السيرة... 128

كتابة التاريخ والمؤرّخون من البداية حتّى القرن الخامس... 136

أبو مِخْنَف (ح 90 - 157)... 137

نصر بن مزاحم المِنقَريّ (م 212)... 140

ص: 870

هشام بن محمّد الكلبيّ (204 - 206)... 141

هيثم بن عديّ (م 207)... 144

أبو عبيدة معمر بن المثنّى (110 - 209 أو 211 - 213)... 146

أبو الحسن المدائنيّ (135 - 228)... 147

خليفة بن الخيّاط (م 240)... 149

محمّد بن حبيب (م 245)... 153

الأزرقيّ (م 248)... 157

الزبير بن بكّار (م 256)... 158

عمر بن شبّه (173 - 262)... 163

ابن قتيبة (213 - 276)... 165

يعقوب بن سفيان الفَسَويّ (حوالي 195 - 277)... 169

محمّد بن إسحاق الفاكهيّ (217 - 272 إلى 278)... 171

أحمد بن يحيى البلاذريّ (170 إلى 180 - 279)... 173

أبو حنيفة الدِينَوَريّ (م 282)... 176

أبو إسحاق الثقفيّ (م 283)... 178

أخبار الدولة العبّاسيّة (القرن الثالث)... 180

اليعقوبيّ (م 284)... 183

محمّد بن جرير الطبريّ (5 - 224 / 310)... 188

أحمد بن أعثم الكوفيّ (م ح 314)... 194

أبوبكر الجوهريّ (م 323)... 198

قدامة بن جعفر (م 337 ؟)... 200

محمّد بن أحمد التميميّ (م 333)... 202

عليّ بن الحسين المسعوديّ (م 346)... 203

ص: 871

أبو الفرج الإصفهانيّ (284 - 356)... 210

أبو نصر المقدسيّ (منتصف القرن الرابع)... 212

الشيخ المفيد (م 336 - 413)... 217

أبو عليّ أحمد بن محمّد بن مسكويه (320 - 421)... 220

(2)

العصر الجاهليّ

225 - 313

تمهيد في مفهوم الجاهليّة... 226

الفصل الأوّل : الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة... 229

الأوضاع السياسيّة الدّاخليّة والعلاقات الخارجيّة... 229

طبيعة القبيلة وقضاياها... 232

الحياة في الحاضرة والبادية... 241

الأحلاف السّياسيّة بين القبائل... 245

الحرب والنّزاع بين القبائل... 250

قبيلة قريش... 252

سُمعة قريش... 254

الفصل الثّاني : دين الناس وتديّنهم في الجاهليّة... 260

السّوابق الدينيّة لجزيرة العرب... 260

دين إبراهيم عليه السلام ... 265

حول الحنيفيّة... 268

الشّرك وأبعاده في شبه الجزيرة العربيّة... 271

شركاء للّه... 275

ص: 872

المشركون والمعاد... 277

الكعبة ، والدّين ، والوضع المعيشيّ للنّاس... 278

الشريعة الدينيّة عند العرب... 280

المستوى الإيمانيّ للعرب المشركين... 283

اليهود في شبه الجزيرة العربيّة... 286

النّصرانيّة في شبه الجزيرة العربيّة... 291

الفصل الثالث : الثقافة والعلم في العصر الجاهليّ... 293

الثقافة والمعارف العلميّة... 293

القراءة والكتابة... 294

الشّعر والخطابة... 300

علم الأنساب... 306

علم الأيّام... 309

ثقافة أهل الكتاب عند العرب... 311

(3)

بداية الإسلام

315 - 436

بداية الوحي... 316

الخطوات الأولى لبثّ الإسلام وتوسيع نطاقه... 328

تأثير النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم تاريخيّا... 342

1 - ارتباط النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بقريش والعرب... 342

2 - السّابقة الدّينيّة للنّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ... 346

3 - النّبيّ الأمّيّ... 355

ص: 873

4 - النّبيّ والأخلاق... 357

5 - النّبيّ ذو العزم... 362

مكائد المشركين في موقفهم من النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ... 364

1 - المساومة... 366

2 - المواقف النّفسيّة... 370

3 - المواقف السّياسيّة... 375

4 - الاضطهاد البدنيّ... 379

5 - المواقف العلميّة... 382

تأثير القرآن الكريم تاريخيّا... 386

1 - أثر الآيات القرآنيّة... 386

2 - التّأثير التّاريخيّ لتنزيل القرآن الكريم... 394

3 - القرآن أمام التحجّر الفكريّ الجاهليّ... 396

4 - الدّفاع عن المحرومين من تعاليم القرآن الجوهريّة... 402

مناهضة المشركين للقرآن... 404

الدّعوة الإسلاميّة ومراحلها... 412

الظّروف السّياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة لمكّة وتأثيرها في تقدّم الإسلام... 418

الفراغ الفكريّ والعقيديّ... 424

الفراغ القانونيّ... 427

الفراغ الأخلاقيّ... 428

موقع مكّة... 429

أخلاق العرب في الجاهليّة... 434

ص: 874

(4)

الإسلام أمام ضغوط قريش

437 - 482

المشركون أمام الإسلام... 438

ردّ فعل المسلمين حيال أذى المشركين... 451

الهجرة إلى الحبشة... 457

1 - سبب الهجرة... 457

2 - تاريخ الهجرة... 460

3 - اختيار الحبشة... 463

4 - مبادرة قريش وإخفاقها... 465

5 - عودة المهاجرين من الحبشة... 468

قصّة الغرانيق... 469

شِعب أبي طالب... 475

(5)

الإسلام في المدينة

483 - 578

يثرب قبل الإسلام... 484

المسلمون الأُوَل في يثرب... 492

بيعة أهل يثرب للنبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ... 497

1 - البيعة الأُولى لمسلمي يثرب مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ... 497

2 - بيعة العقبة الثّانية... 504

3 - ماهيّة البيعة... 510

ص: 875

أسباب الانتشار السّريع للإسلام في المدينة... 519

الهجرة إلى المدينة وقضاياها... 527

1 - مفهوم الهجرة... 527

2 - بدء الهجرة... 528

3 - هجرة النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ... 531

4 - من مكّة إلى المدينة... 537

رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في قباء... 541

6 - استقرار رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم والمهاجرين في المدينة... 546

7 - استمرار وجوب الهجرة حتّى فتح مكّة... 550

8 - الهجرة بداية التّاريخ الإسلاميّ... 558

أعمال النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بعد الاستقرار في المدينة... 562

1 - بناء المسجد... 562

2 - عقد المؤاخاة بين المسلمين... 564

3 - الدستور الأوّل للأُمّة الواحدة... 569

(6)

غزوات النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم حتّى السّنة الخامسة للهجرة

579 - 739

أُسلوب بثّ الدّعوة الإسلاميّة... 580

الإسلام داعية السّلام... 585

الحرب أداةٌ لتحقيق السِّلم... 588

حروب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : جهاد أم دفاع ؟... 594

الأحداث قبل بدر... 597

ص: 876

العلاقات باليهود إلى ما قبل بدر... 606

تغيير القبلة واعتراض اليهود... 609

معركة بدر... 611

معركة بدر في القرآن الكريم... 636

الأحداث الواقعة بين بدر وأُحُد... 641

1 - الموقف من شعراء الكافرين واليهود... 641

2 - الموقف من المشركين... 646

3 - الموقف من يهود بني القَينُقاع... 648

موقعة أُحُد... 651

موقعة أُحد في القرآن الكريم... 675

معالم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في أُحُد... 680

الوقائع الحادثة بين أُحُد والأحزاب... 682

الموقف من أهل الكتاب... 690

غزوة بني النّضير... 695

بدر الموعد... 703

معركة الأحزاب... 705

معركة الأحزاب في القرآن الكريم... 725

غزوة بني قريظة... 727

مقاتلة القبائل وثبات المدينة... 731

غزوة القُرطاء... 732

غزوة بني لحيان... 733

غزوة ذي قرد أو الغابة... 734

غزوة بني المصطلق أو المريسع... 735

ص: 877

(7)

باتّجاه النّصر على الحجاز

741 - 867

صلح الحُديبيّة... 742

دعوة الملوك والطوائف إلى الإسلام... 761

خيبر آخر خندق ليهود الحجاز... 768

الحوادث بعد فتح خيبر إلى فتح مكّة... 779

عمرة القضاء... 781

سريّة مؤتة... 784

فتح مكّة نهاية القوّة السياسيّة للمشركين في الحجاز... 790

نحو حُنين... 809

حصار الطّائف... 815

غزوة تبوك (رجب سنة تسع) [ منافقو المدينة في مرآة سورة التّوبة ]... 821

انتشار الإسلام في شبه الجزيرة العربيّة إبّان السّنة التاسعة والعاشرة... 831

إعلان البراءة من المشركين... 835

السرايا الأخيرة... 839

إيفاد الإمام عليّ عليه السلام إلى اليمن... 844

مشكلات الحكومة الإسلاميّة في السّنة العاشرة... 847

الأيّام الأخيرة... 862

ص: 878

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.